انوار الفقاهة

اشارة

سرشناسه : مکارم شیرازی ناصر، - 1305 عنوان و نام پديدآور : انوار الفقاهه کتاب الحدود و التعزیرات مکارم شیرازی حققه و علق علیه ابراهیم البهادری مشخصات نشر : [قم : مدرسه الامام علی بن ابی طالب (ع ، 1418ق = - 1376. شابک : 10000ریال ج 1) ؛ 10000ریال ج 1) يادداشت : عربی یادداشت : کتابنامه موضوع : حدود (فقه موضوع : تعزیرات (فقه شناسه افزوده : بهادری ابراهیم محقق شناسه افزوده : مدرسه الامام علی بن ابی طالب (ع رده بندی کنگره : ‮ BP195/6 /م 7‮الف 8 1376 رده بندی دیویی : ‮ 297/375 شماره کتابشناسی ملی : م 78-2504

كتاب البيع (الجزء الأول)

[المدخل

أنوار الفقاهة كتاب البيع الجزء الأوّل آية اللّه العظمى ناصر مكارم الشّيرازىّ (مدّ ظلّه)

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 2

هوية الكتاب اسم الكتاب: انوار الفقاهة (كتاب البيع) مؤلّف: آية اللّه العظمى مكارم الشّيرازي الطّبعة: الاولى (المنقّحة) تاريخ النّشر: 1425 ه عدد النسخ: 1000 نسخة رقم الصّفحات و القطع: 584 صفحة/ وزيري المطبعة: أمير المؤمنين عليه السّلام- قم النّاشر: مدرسة الإمام علي بن ابي طالب عليه السّلام عنوان النّاشر: ايران- قم- شارع شهداء- فرع 22- تلفكس: 7732478- 251- 98 ردمك: 4- 16- 8139- 964 السّعر: 2000 تومان انوار الفقاهة، ج 1، ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم

[مقدمة المؤلف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كلمة المؤلف في المقدمة يحسن التنبيه على امور:

1- الفقه الإسلامي يتكفل بيان جميع الأحكام التي تمسّ علاقات الإنسان في حركة الحياة بنحو من الانحاء، علاقته مع اللّه، علاقته مع الناس، علاقته مع عالم الخلقة و الطبيعة، علاقته مع نفسه، فعلى هذا لا يخلو شي ء من أعمال الإنسان صغيرها و كبيرها، حتى نواياه الباطنية، عن حكم فقهي.

و هذه الدائرة الواسعة جدّا للفقه الإسلامي تكشف عن عظمته من جانب، و عن معضلات الفقهاء و المجتهدين و جهودهم في حلّ مشاكله من جانب آخر، و إليه يشير ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في بعض كلماته: «الاجتهاد هو أشدّ من طول الجهاد ...»!

فعلى جميع من يقصد ورد هذا الميدان التهيؤ للجهاد الشديد و ذلك بوقف العمر و جميع القوى الجسمانية و الروحانية في هذا السبيل، مع تحمل مرارة العيش و المشاق الكثيرة، و من الواضح أنّ النتائج المترتبة عليه أيضا عظيمة، و مقترنة بالعنايات الإلهية و التأييدات الربانيّة.

2- إنّما تدوم عظمة الفقه الإسلامي و يتقدم و ينمو في ضوء فتح باب الاجتهاد

في جميع الأعصار، و عدم حصره بزمن معين و جمع خاص من المتقدمين، كما تدلّ عليه جميع الأدلة الواردة في الكتاب و السنّة الناظرة إلى هذا المعنى، فليس فيها أي أثر من مزعمة حصر الاجتهاد و استنباط الأحكام عن أدلتها في قوم أو أفراد معينين.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 6

و معه يتمكن العلماء الكبار المتضلعون في الفقه على الغور في مسائله، و كشف النقاب عن حقائقه، و الوصول إلى دقائق لم يصل إليها المتقدمون منهم (جزاهم اللّه عن الإسلام خير الجزاء) و يتقدم هذا العلم بمرور الزمان كتقدم سائر العلوم الإسلامية و غيرها.

و لذا نرى الذين أغلقوا باب الاجتهاد في الفقه على أنفسهم، و حصروه في أئمّتهم الأربعة، و منعوا الآخرين أن يحوموا حول هذا الحمى، إنّهم لم يتقدموا في هذا العلم إن لم نقل أنّه مال عندهم إلى الغروب و الافول، بينما نرى الفقهاء الذين اقتدوا بأنوار أهل بيت النبي صلّى اللّه عليه و آله قد ازدهر الفقه عندهم قرنا بعد قرن و عصرا بعد عصر، حتى بلغ إلى كثير من غاياته و أثمرت أغصانه، و طلعت أنواره، هذا و في الآونة الأخيرة شوهدت- و الحمد للّه- معالم حركة من قبل فقهاء الطائفة الاولى نحو التجاوب مع فقهاء أهل البيت عليه السّلام لفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، و لعل اللّه يحدث بعد ذلك أمرا!

و من الجدير بالذكر أنّ فقهاء أهل البيت عليه السّلام لم يقنعوا بفتح باب الاجتهاد فحسب، بل أتّفقوا في ضوء إرشادات الأئمة المعصومين عليه السّلام على عدم جواز تقليد الفقهاء الماضين ابتداء، و فرضوا على الناس تقليد العلماء الأحياء فقط، فصار هذا عندهم رمز حياة الفقه و حركته المطّردة، مع ظهور آفاق

جديدة في جميع شئونه و مسائله.

3- لا شكّ في أنا نواجه اليوم مسائل كثيرة مستحدثة في أبواب المعاملات و العبادات لا بدّ من الجواب عنها، لأنّ الإسلام دين خالد و أحكامه خالدة إلى الأبد و قد أكمل اللّه لنا دينه و أتمّ علينا نعمته، و من المعلوم عندنا أنّ شيئا من هذه الأسئلة لا يبقى بلا جواب، بل وردت أحكامها في الاصول الكليّة و القواعد العامّة في الكتاب و السنّة و الإجماع و دليل العقل، و في ضوء الاهتداء بهذه الأنوار الإلهية (لا سيما الكتاب و السنة) يتمّ كشف النقاب عنها، أ لم تسمع ما ورد في خطبة حجّة الوداع عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أيّها الناس ما من شي ء يقرّبكم إلى الجنّة و يباعدكم عن النّار إلّا و قد أمرتكم به، و ما من شي ء يقربكم إلى النار و يباعدكم عن الجنّة إلّا و قد نهيتكم عنه» بل قد وردت روايات كثيرة عن أئمّة أهل البيت عليه السّلام أنّه: ما من شي ء تحتاجه إليه الامّة إلى يوم القيامة إلّا و قد ورد فيه نصّ حتّى أرش الخدش!

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 7

و لذلك فانّ مهمّة المجتهدين و الفقهاء لا تدخل في دائرة تشريع الأحكام، و وضع القوانين، و إنّما وظيفتهم هي استنباط أحكام المسائل المستحدثة عن مداركها الدينية و استخراجها من منابعها الشرعية، فلا ترى موضوعا من الموضوعات ممّا لا نصّ فيه حتى تصل النوبة إلى الاجتهاد بمعناه الخاص (أي تشريع حكم فيه بالقياس أو الاستحسان أو غيرهما) بل كلّها واردة في النصوص الخاصة أو الأدلة العامّة و القوانين الكليّة.

4- ممّا يلفت النظر في الفقه في بدء الأمر أنّ المجتمعات البشرية تتبدل و

تتحول كلّ يوم، إلّا أنّ اصول الأحكام الإسلامية ثابتة و لا تتغيّر، و حلال محمّد صلّى اللّه عليه و آله حلال إلى يوم القيامة و حرامه حرام إلى يوم القيامة، و مع ذلك تنطبق هذه الاصول الثابتة الخالدة على تلك الحاجات المتغيرّة دائما!

و ليس ذلك إلّا من جهة عموم تلك الاصول و شمولها و جامعيتها، كيف و قد صدرت من ناحية الخالق الحكيم العالم بعواقب الامور، الخبير بحاجات نوع الإنسان على الأيّام و الدهور، كما هو الحال في القوانين الطبيعة الإلهية الثابتة طيلة آلاف، بل ملايين سنة و لكن الإنسان مع ذلك يوافق نفسه في حياته المتغيّرة في كل عصر و زمان مع تلك القوانين الثابتة.

5- إنّ فقهاءنا الأعلام (قدّس اللّه أسرارهم) و إن ألّفوا مئات بل آلاف الكتب في جميع أبواب الفقه، من الطهارة إلى الديات، و من العبادات إلى المعاملات إلّا أنّ ذلك لا يعني بلوغ الفقه إلى غايته، و وصوله إلى نهايته، و عدم الحاجة إلى تأليف جديد في هذا العلم، فكم ترك الأول لآخر، و كم بلغ المتأخر إلى ما لم يصل إليه المتقدم، و لكلّ إنسان حظّه من العلم و الحكمة، فإنّ العلم ليس مقصورا على قوم خاص، فلا يغرنّك وسوسة بعض القاصرين في ترك الجد و الاجتهاد في كلّ مسألة من مسائله، حتى ما يعدّ من الواضحات المشهورات، فقد يستخرج بالغوص في هذه البحار من الجواهر الثمينة و الدرر القيمة ما لم يستخرجه الأوائل!

و على هذه الفكرة و بهذه الامنية بدأنا في هذا الكتاب- أعني كتاب البيع من أنوار

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 8

الفقاهة- و إن كتبت في هذا الباب كتب كثيرة عسى اللّه أن يجري على قلمي ما ينفع

به هذه الامّة، و يفتح لها بعض الأبواب المغلقة، فإنّه ليس هذا على اللّه بعزيز، و ترى فيها بحمد اللّه أبحاثا جديدة في مسائل مهمة من مسائل المعاملات.

اللّهمّ اجعله لنا ذخرا و كرامة و مزيدا، و الحمد للّه ربّ العالمين.

قم المشرفة- الحوزة العلمية ناصر مكارم الشيرازي رمضان المبارك 1411 ه.

كتاب البيع

تعريف البيع لغة و عرفا تعريفه في كلمات الفقهاء

اشارة

و لنذكر أولا ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في بدء كلامه في المقام تيمنا به، و استمدادا من نفسه القدسيّة، و مقدمة لما يبنى عليه من الأبحاث الآتية.

فنقول: و منه سبحانه و تعالى نستمد التوفيق و الهداية: قال في صدر البحث عند بيان معناه اللغوي و العرفي ما حاصله:

إنّ البيع في الأصل- كما عن المصباح المنير- مبادلة مال بمال.

ثم قال: الظاهر اختصاص المعوض بالأعيان، فلا يطلق البيع على أبدال المنافع إلّا مجازا و مسامحة، كالتعبير ببيع خدمة العبد المدبّر، و بيع سكنى الدار، و بيع الأراضي الخراجية، ثمّ قال: هذا بالنسبة إلى المعوّض، أمّا العوض فلا يخلو عن امور أربعة:

1- العين. 2- المنافع. 3- عمل الحر. 4- الحقوق.

أمّا الأوّل فلا شك في صحته، و أمّا المنافع فكذلك، كما صرّح به غير واحد منهم، و ما يقال من أنّ البيع لنقل الأعيان يراد به بيان المبيع، و أمّا عمل الحر فهو يبنى على كونه مالا قبل المعاوضة عليه، و فيه إشكال.

و أمّا الحقوق فهي على أقسام:

1- ما لا يقبل النقل و الاسقاط (كحق الولاية)، فلا إشكال في عدم وقوعه ثمنا، و دليله ظاهر.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 10

2- ما يقبل الاسقاط فقط (كحق الخيار و حق الشفعة) فهو أيضا كذلك، للزوم كون الثمن ممّا يقبل النقل إلى البائع.

3- ما يقبل الانتقال (كحق التحجير) ففيه إشكال، لأخذ

المال في عوضي البيع لغة و عرفا، و ظهور كلمات الفقهاء في ذلك.

و ذكر في الجواهر عدم الخلاف و الإشكال في اعتبار كون المبيع عينا، و لكن جوّز وقوع الثمن عينا أو منفعة أو حقّا قابلا للنقل أو الاسقاط بعد ما حكى عن استاذه منع وقوع حقّا «1».

و للمحقق اليزدي و الخراساني قدّس سرّهما كلام في المقام ستأتي الإشارة إليه.

هذا و تحقيق ما ذكره يحتاج إلى بسط الكلام في امور
اشارة

: 1- كيف نشأ البيع و المعاملات بين أبناء البشر؟ و ما هو مصدر الثمن و القيمة؟

2- هل اللازم كون المثمن من الأعيان دائما؟ و عليه كيف يجوز بيع السرقفلية و بيع ما يسمى بامتياز مشروع الماء و الكهرباء و أمثال ذلك ممّا هو متداول اليوم بين العقلاء و العرف؟

3- ما المراد بالعين؟ هل هو العين الخارجية، أو أعم ممّا في الذمة، و الكلّي المشاع، و الكلي في المعين و غير ذلك؟

4- إذا كان كلّ من العوضين من العروض أو من الأثمان، فهل تكون المعاملة بيعا أو معاوضة اخرى؟

5- هل يصحّ جعل المنفعة ثمنا؟

6- هل يكون عمل الحرّ مالا؟

7- الحقوق و دورها في البيع و الشراء.

1- كيف نشأت البيوع و المعاملات؟

الذي يظهر من مراجعة المجتمعات البدوية و الموجودة في زماننا أيضا، أنّ البيع عندهم يكون بمبادلة الأعيان بالأعيان، مثلا من كانت عنده كميّة كبيرة من الحنطة زائدة عن حاجته، فإنّه يعطي بعضها لغيره، ليأخذ ما عنده من الثياب أو غيرها، فالبيع يكون بهدف الحصول على ما يحتاج الإنسان إليه من خلال بذل ما يحتاج إلى غيره و أخذ ما يحتاجه منه.

و لكن هذه العملية تستبطن مشاكل جمّة على مستوى التبادل التجاري بين الناس:

«منها» مشكلة عدم توفّر العوض الذي يحتاج إليه صاحب الحنطة مثلا أحيانا لعدم حاجة صاحب الثياب إليها، لأنّ المعاملات على هذا الفرض تدور مدار حاجة الطرفين فقط، فلا تجري في غير هذه الموارد.

و «منها» مشكلة ادخار كميات كبيرة من أجناس مختلفة للتوصّل إلى ما يحتاج إليه في عملية المبادلة بواحد منها، و غير ذلك من المشاكل.

نعم لما كانت مبادلة العين بالعين تتضمّن هذه المشاكل العظيمة، مسّت الحاجة إلى ما يكون قليل الحجم، كثير القيمة، لا يندرس بسرعة

و يمكن حمله بسهولة ليجعل عوضا في جميع المعاملات، فوجدوا الذهب و الفضة جامعتين لهذه الصفات، فجعلوا الأول للمبادلات الخطيرة، و الثاني لليسيرة، و أيسر منهما النقود المتخذة من سائر المعادن.

و لما كثر حجم المعاملات، و اتسع نطاقها، و زادت عددها، رأوا أنّ الدراهم و الدنانير أيضا لا تقومان بما يحتاج إليه الإنسان في هذا المجال، لما فيهما من كثرة الحجم في المعاملات الخطيرة، مثلا إذا كان ثمن معاملة مليون درهما، فإنّها قد تربو على ألفين كيلو بحسب الوزن قريبا.

هذا مع ما في نقلهما من أنواع المشقّة و الخطر في السفر و في ادخارهما في الحضر، بل قد لا يكون في بعض الاصقاع الكمية اللازمة من الذهب و الفضة للمعاملات الخطيرة

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 12

جدّا، و غير ذلك، فأوجب ذلك الفحص عن طريقة للخلاص من هذه المشاكل، فرأوا ادخارهما في حرز منيع، ثم يكتبوا الحوالة إليها، و دارت المعاملات مدار الحوالة، و من هنا ظهرت النقود الورقية!

فهي في الحقيقة لم تكن مالا في بدء الأمر، بل معرفا لما يحال عليه من الأموال ممّا سمّوه «غطاء و رصيدا» «1».

هذا و كانت هذه النقود الورقية قابلة للتبديل بما يحاذيها من الدرهم و الدينار في أوائل ظهورها، لكن لم يقف الأمر إلى هنا، حتى احتاجت السلطات الحاكمة إلى نقود و رقية أكثر من الرصد المدّخر، فطبعوا أوراقا و فرضوا على ذمتهم ما يحاذيها من الذهب و الفضة، و سمّوه الاستقراض من البنك المركزي (أي مركز ادخار الرصيد).

و صار هذا سببا لانحياز هذه الأوراق عن الرصيد انحيازا تدريجيا.

أضف إلى ذلك أن أحدا من الناس لم يكن يرجع إلى البنك ليأخذ ما يعادل النقود الورقية من الذهب و الفضة، و

على فرض الرجوع لم يقبل هذا الأمر منه.

مضافا إلى أنّ نفس هذا الاستقراض- الذي لا يتمّ تسديده إلى سنين بل قد لا يسدّد أبدا- أوجب كون الرصيد أمرا صوريا لا واقع بإزائه، و من هنا أصبحت هذه النقود نقدا رائجا بذاتها لا بشي ء آخر ورائها!

و لا عجب في ذلك بعد كون الملكيّة بذاتها أمرا اعتباريا، بل إنّ مالية كثير من الأشياء ليست إلّا اعتبارية، فهل الجواهر الثمينة التي لا نفع فيها لحياة الإنسان، أو الأشياء الأثرية التي هي كذلك، أو أسوأ حالا منها، و كذلك الطوابع التي مرّ عليها زمان كثير، هل تكون ماليتها بغير الاعتبار العقلائي؟ بل كثير ما تكون منافعها وهمية خيالية لا يقبلها بعض العقلاء، فكيف بالنقود الورقية التي لها إمكانية حل مشاكل البيوع و المعاملات؟

و من أوضح ما يدل على استقلال هذه الأوراق فعلا أنّه إذا استدان شخص مبلغا منها من غيره، كألف تومان مثلا، ثم مرّ عليه عدّة أعوام و ارتفعت قيمة الذهب و الفضة كثيرا في انوار الفقاهة، ج 1، ص: 13

هذه المدّة، فانّه لا يرى نفسه ملزما بأداء أكثر من ألف تومان، و لا يفتي فقيه بغير ذلك، و كذلك في الصداق الذي يدور مدار هذه النقود الرائجة إذا مرّت عليه عدّة أعوام، و لو كانت النقود الورقية إشارة إليها للزم تغيير مقدار الدين.

و هذا أمر ظاهر واضح، و على هذا يمكن الحكم عليها بمثل الحكم على الدراهم و الدنانير و ليست حوالة عليها.

و ليكن هذا على ذكر منك يفيدك في كثير من المباحث الآتية و المسائل الفقهيّة، و سنتلو عليك إن شاء اللّه منه ذكرا.

2- هل اللازم كون المبيع من الاعيان؟

صرّح الشيخ الأعظم و صاحب الجواهر قدّس سرّهما بلزوم كونه من الأعيان، بل

ادعى الأوّل منهما استقرار اصطلاح الفقهاء عليه.

و قال صاحب الجواهر قدّس سرّه: لا خلاف و لا إشكال في اعتبار كون المبيع عينا، و لذلك اشتهر بينهم أن البيع لنقل الأعيان، كاشتهار كون الإجارة لنقل المنافع، و يظهر ذلك من بعض كلمات الشهيد الثاني قدّس سرّه في المسالك، و قد استدل له السيّد قدّس سرّه في الحاشية بالتبادر و صحة السلب عن تمليك المنفعة بعوض، و هما علامة كونه كذلك في العرف، الكاشف عن كونه كذلك لغة «1»، ثم أجاب عن اطلاق كلام المصباح المنير (مبادلة مال بمال) بانه مبنيّ على المسامحة.

و قال في مصباح الفقاهة: الظاهر أنّه لا ريب في اشتراط كونه من الأعيان، بداهة اختصاص مفهوم البيع عند أهل العرف بتمليك الأعيان فلا يعم تمليك المنافع ... ثم حكي عن بعض المالكية و الحنابلة جواز اطلاق البيع على تمليك المنافع، ثم قال: و لكنه على خلاف المرتكزات العرفية «2».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 14

نعم، ورد اطلاق البيع في الروايات على تمليك المنافع:

منها: بيع خدمة العبد المدبّر، ففي الباب الثالث من أبواب التدبير توجد روايات عديدة أطلق البيع فيها على المنافع، مثل ما روى عن القسم بن محمد عن علي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل أعتق جارية له عن دبر في حياته، قال: «إن أراد بيعها باع خدمتها في حياته» الحديث «1».

و ما روى السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي عليه السّلام قال: «باع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خدمة المدبّر و لم يبع رقبته» «2».

و منها: ما ورد في بيع سكنى الدار، مثل ما روى اسحاق بن عمار عن عبد صالح قال:

سألته عن رجل في يده

دار ليست له: قال: «ما أحبّ أن يبيع ما ليس له. قلت: فيبيع سكناها أو مكانها في يده فيقول: أبيعك سكناي و تكون في يدك كما هي في يدي، قال:

نعم يبيعها على هذا» «3».

و لكن الإنصاف أنّ الأخير أشبه شي ء ببيع «السرقفلية» و لذا ليس فيه تعيين لمقدار مدّة المنافع كما في الإجارة.

و كذا ما ورد في الأراضي الخراجية و بيعها مثل رواية زرارة قال، قال عليه السّلام: «لا بأس بأن يشتري أرض أهل الذمّة إذا عملوها و أحيوها فهي لهم» «4».

فإنّها أيضا أشبه شي ء بمسألة «السرقفلية» أعني من قبيل بيع نوع من حق الأولوية كما لا يخفى، فتأمل.

نعم بيع خدمة العبد من قبيل بيع المنافع، و لا دليل على أنّ اطلاق البيع عليها من قبيل المجاز، نعم اطلاقه منصرف عن مثله فتأمل، و لا تستعمل الإجارة هنا لعدم معلومية مقدار عمر العبد، و لا تعتبر في البيع ذلك فتأمل.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 15

هذا كلّه في المنافع، أمّا بيع الحقوق فهو ممّا لا ينبغي انكاره، مثل ما ذكرنا آنفا من بيع حق الانشعاب في الكهرباء و الماء، و بيع حقّ التليفون، فهو ليس بيع لنفس الهاتف أو الأنابيب و الأسلاك، بل بيع حقّ الانشعاب و إن خلي عن جميع ذلك، و كذلك بيع «السرقفلية» المتداول بين العقلاء في عصرنا، إذا هو نوع من حقّ الأولوية.

بالجملة لا يمكن منع إجراء أحكام البيع على بيع أمثال هذه الحقوق كما لا يخفى بعد شيوعها بين أهل العرف شيوعا تامّا يعلمه الصغير و الكبير، و لا مانع من كونها بيعا، و عمومات الكتاب و السنّة تشملها.

3- ما المراد من العين؟

لا إشكال في جواز وقوع العين ثمنا و مثمنا في البيع، و لكن

الكلام في أقسامه فإنّ العين تارة تكون على نحو شخصي، و اخرى على نحو كلّي.

و الكلّي أيضا على أقسام:

1- الكلّي في ذمّة الإنسان نفسه.

2- الكلّي في ذمّة غيره (الدّين)

3- الكلّي المشاع.

4- الكلّي في العين.

و العين الشخصي تارة تكون بالفعل و اخرى بالقوة كما في الأثمار المتجددة في بيع الثمرة على الشجرة الداخلة في البيع للأعيان الموجودة.

فتحصّل لدينا ستة أقسام، و لا إشكال في العين الشخصي الموجود، و أمّا الشخصي بالقوة فهو أيضا لا إشكال فيه بعد صحّة بيع الثمرة على الشجرة، مضافا إلى ما يحصل بعده، و الوجه فيه اعتبار العقلاء له بمنزلة الموجود فيتعلق به الإضافة الاعتبارية.

و أمّا الكلّي في الذمّة فهو أيضا ممّا لا ينبغي الإشكال فيه بعد صحّة بيع السلف.

نعم هنا إشكالات ذكرها السيّد قدّس سرّه في الحاشية و لا بدّ من الجواب عنها:

1- إنّ الملكية تحتاج إلى محل لعروضها عليه، و هو هنا غير موجود.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 16

2- إنّ الكلّي في الذمّة قبل تحقق العقد لا يعدّ مالا، فلا يقال فلان ذو مال باعتبار فرض الكلّي في ذمّته.

3- كيف يبيع الإنسان ما لا يملكه؟

و الجواب: عن الأول واضح، لأنّ الملكية من الامور الاعتبارية، و هي قائمة بأمر اعتباري، و هو الكلي الذي يعتبر في الذمّة، كما أنّ الأمر في الاجارة بالنسبة إلى المنافع المستقبلة و الثمرة المتجددة على الشجرة كذلك، بل هي أسوأ حالا منه من بعض الجهات كما لا يخفى.

و ليست الملكية من الأعراض، و الملكية التي تعدّ من الأعراض في أبواب الجوهر و العرض هي أمر تكويني لا ربط له بالمقام.

و يمكن الجواب عن الثاني بأنّ المالية هنا ثابتة لأنّ مائة منّ من الحنطة مثلا في الذمّة مال

يبذل بإزائه المال، و المالية تدور مدار نظر العرف و العقلاء، و هي حاصلة هنا.

و عن الثالث بأنّ ملكية الإنسان لما في ذمّته ثابتة على نحو الإجمال و بالقوة، فله أن يملكه غيره، و لذا إذا لم يقدر أحد على شي ء قطعا لا يعتبر ذمّته، كما إذا باع إنسان ألف طنّ من الحنطة مع عدم قدرته على اكتساب طنّ منها، فانّ هذا البيع فاسد عند العقلاء، لعدم اعتبارهم ذمّته بهذا المقدار، لعدم قدرته عليه، و هكذا غيره من أشباهه.

و بالجملة القدرة القريبة من الفعل تجعل الإنسان مالكا للشي ء بالقوة، نظير المنافع المتجددة للأعيان في الإجارة، و الثمرات المتجددة لأشجار في بيع الثمرة على الشجرة.

هذا كلّه في الكلّي في الذمّة (ذمّة الإنسان نفسه)، و أمّا إذا كان في ذمّة الغير فهذا أوضح و أحسن حالا، لأنّه مال قطعا و ملك كذلك، فلا يأتي فيه واحد من الإشكالات الثلاثة و قد مرّ جوابها.

أمّا الكلّي المشاع، و كذا الكلّي في العين، فهما أيضا ظاهران، و الأول، مثل أن يبيع نصف الدار، فإنّه كلّي، أو صاعا من صبرة، و لا يأتي فيهما شي ء من الإشكالات السابقة.

و ذكر في الجواهر: أنّ الكلّي في الذمّة على قسمين: كلّي مضمون كما في السلم، و كلّي موصوف حالا، (و كلا القسمين متداول بين العقلاء).

4- حكم ما إذا كان كلّ من العوضين من الأثمان أو العروض

قد يقال: إذا كان أحد العوضين من الأعراض، و الآخر من النقود، فالأمر فيه واضح، فإنّه بيع قطعا، و باذل السعلة بايع، كما أنّ باذل النقود مشتر، و يجري عليهما أحكامهما.

أمّا إذا كانا من العروض أو من النقدين، فقد يفصّل بين ما إذا أراد أحدهما الربح و الآخر رفع حاجته، فالأول بايع و الثاني مشتر، و أمّا إذا أراد

منهما الربح أو رفع حاجته، فليس بيعا، و لا بايع هناك و لا مشتر، بل نوع تجارة داخلة في قوله تعالى: تِجارَةً عَنْ تَراضٍ.

و فيه: أولا: أنّه لا دليل على ما ذكره من التفصيل، و لا من الشرع و لا من العرف و العقلاء.

و ثانيا: الظاهر من الصورة الثانية أنّ كلّا منهما بايع من جهة و مشتر من جهة، و لا يبعد جريان أحكام كلّ منهما عليه، و لكن لا بدّ من ملاحظة الأدلة في كلّ مقام و شمولها أو انصرافها عن هذا المصداق، فتدبر جيدا.

5- هل يصحّ جعل المنفعة ثمنا؟

قد عرفت تصريح شيخنا الأعظم قدّس سرّه و غيره بجواز وقوعها ثمنا، بل قد ادّعى عدم الخلاف فيه، و لكن صاحب الجواهر نقل عن بعض المتأخرين، اعتبار كون العوضين من الأعيان، و لعل المراد من كلام الشيخ من نسبته إلى بعض الأعيان لزوم كون الثمن عينا، و يحكي أنّه المحقق الوحيد البهبهاني قدّس سرّه، و على كلّ حال لا دليل عليه بعد شمول مفهوم البيع للجميع عدا امور مذكورة في كلماتهم:

منها: أنّ المشهور بينهم أنّ الإجارة لنقل المنافع كما أنّ البيع لنقل الأعيان.

و أجيب عنه: بأنّ النظر في هذا الكلام إلى المبيع فقط بقرينة الإجارة، فانّ المنافع إنّما تكون في المستأجر لا العوض كما هو ظاهر.

و منها: أنّ وقوع المنفعة ثمنا أمر نادر تنصرف اطلاقات البيع عنه.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 18

و فيه: إنّ ندرته ليست بحيث تنصرف الاطلاقات عنه بعد قبوله من ناحية العقلاء و العلم بعدم الخصوصية هنا، فقد تباع بعض الأراضي الزراعية لبعض الزراع و يجعل الثمن أو بعضه، عمله فيها لصاحب الأرض.

و منها: أنّ المنافع لم توجد بعد، فكيف تجعل ملكا للبائع في مقابل تمليك العين؟

و

فيه: ما عرفت آنفا من أنّها موجودة بالقوّة، و لذا نفع عليها الإجارة و تكون مهرا كما في قصة موسى و شعيب عليهما السّلام، و مثل هذا في الامور الاعتبارية غير نادر، و بالجملة لا ينبغي الإشكال من هذه الناحية.

6- هل يكون عمل الحر ثمنا في البيع؟

قد عرفت إشكال الشيخ قدّس سرّه في كون عمل الحرّ مالا، فإذا لم تثبت ماليته لا يمكن وقوعه ثمنا لاعتبار المالية في المتعاوضين.

و لكن ما ذكره مشكل أو ممنوع.

توضيح ذلك: إنّ محل الكلام عمل الحر قبل وقوع المعاملة عليه، و أمّا بعد وقوعها فلا إشكال في كونه مالا و ملكا، كما إذا آجر الإنسان نفسه سنة في مقابل عوض، فانّ المستأجر يملك عمله، و يجري عليه جميع أحكام الملك من الغنى و الاستطاعة و غيرهما.

و أمّا قبله يستشكل فيه من ناحية المالية تارة، و الملكية اخرى.

و الانصاف أنّ ماليته ممّا لا ينبغي الكلام فيها، لبذل العقلاء المال في مقابله.

و أمّا ملكيته فإنّها و إن لم تكن بالفعل لكنها بالقوّة، و لذا يحصل به الغنى، و لا يبعد حصول الاستطاعة به، بل و لا يبعد الضمان لو اتلفه عليه متلف، كما لو حبسه إذا كان كاسبا فتدبر.

و قد صرّح المحقق الخراساني قدّس سرّه بأنّه لا إشكال في كون عمل الحرّ من الأموال، لأنّه يبذل بإزائه المال، و كون ممّا يرغب فيه، و إن كان قبل المعاوضة لا يكون ملكا، بخلاف انوار الفقاهة، ج 1، ص: 19

عمل العبد، ثم قال: لا شبهة في عدم اعتبار الملكية قبلها، لوضوح جعل الكلّي عوضا في البيع مع عدم كونه ملكا قبله، انتهى «1».

7- الحقوق و دورها في البيع و الشراء

و الكلام فيها تارة يكون من حيث حقيقة الحق و الفرق بينه و بين الملك و الحكم.

و اخرى من حيث أقسامه.

و ثالثة من حيث وقوعه عوضا.

أمّا الأوّل: فذكروا في تعريفه عبارات مختلفة:

فقال السيّد المحقق اليزدي قدّس سرّه: «الحق نوع من السلطنة على شي ء متعلق بعين، أو غيرها، كالعقد أو على شخص، و هو مرتبة ضعيفة من الملك بل

نوع منه» (و مثّل للأول بحق التحجير، و للثاني بحقّ الخيار، و للثالث بحقّ القصاص) «2».

و كأنّه أخذه من بعض كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه حيث قال: إنّ مثل هذا الحق سلطنة فعلية (أشار إلى حق الشفعة و الخيار).

و لكن المحقق الخراساني قدّس سرّه قال في حاشيته: إنّ الحق بنفسه ليس سلطنة، و إنّما كانت السلطنة من آثاره، كما أنّها من آثار الملك، و إنّما هو اعتبار خاص له آثار مخصوصة، منها السلطنة على الفسخ كما في حقّ الخيار، أو التملك بالعوض كما في حق الشفعة، أو بلا عوض كما في حق التحجير.

و ذكر في مصباح الفقاهة: «إنّ حقيقة الحق و الحكم واحد كلّها من اعتبارات الشرع» «3».

و الانصاف: أنّ الحق في مصطلح الفقهاء و عبارات أهل الشرع هو سلطنة على فعل خاص، فالملك سلطنة على عين أو منفعة، و الحق سلطنة على فعل غالبا أو دائما، فحق انوار الفقاهة، ج 1، ص: 20

الخيار سلطنة على فسخ العقد، و حق الشفعة سلطنة على أخذ سهم الشريك بعوض، أحق التحجير و إن كان سلطنة على عين ظاهرا، و لكن يمكن ارجاعه إلى الفعل أيضا فتدبر، و حق الولاية سلطنة على التصرف في أموال المولّى عليه و غير ذلك، لذا يقال إنّه أولى بالتصرف فيه من غيره، و لعل حق التحجير أيضا من باب الأولوية في التصرف من غيره، و قد قال صلّى اللّه عليه و آله في خطبة الغدير: «أ لست أولى بكم من أنفسكم».

و من هنا يظهر الفرق بينه و بين الملك من جانب، و بينه و بين الحكم من جانب آخر، أمّا الأول فقد عرفته، و أمّا الثاني فحاصله: إنّ الحكم مجرّد تشريع

من ناحيته تعالى من دون اعتبار تسليط فيه، بخلاف الحكم فانّه يجعله مسلطا على فعل من الأفعال.

و من هنا يظهر أنّ نفي الفرق بينهما مخالف للتحقيق، كما أنّ ما أفاده المحقق الخراساني قدّس سرّه من أنّه ليس سلطنة، و إنّما كانت السلطنة من آثاره، و إنّما هو اعتبار خاص له آثار مخصوصة، فهو ممّا لا يسمن و لا يغني أيضا، فانّه تعريف بأمر مبهم من جميع الجهات مع أنّ التعريف لا بدّ أن يكون بأمر واضح.

و يحقّ لنا أن نتساءل: إنّ الاعتبار له أنواع معلومة معروفة، فما هذا الاعتبار الخاص و ما هو حقيقته و مفاده مغزاه؟

و إن شئت قلت: الحق يوجب نفعا لذي الحق غالبا مع أنّ الحكم مختلف جدّا، و كذلك الحق لا يكون فيه إلزام في الغالب بل لصاحبه الانتفاع به و تركه، و الحكم ليس كذلك، فتحصل أنّ الفرق بينهما يكون في امور ثلاثة.

إن قلت: حق الولاية على الصغير ليس فيه نفع لوليه، و ليس له تركها، فليس بحق.

قلت: إن تمّ ما ادعيته فليس حقّا، بل نقول أنّه من الأحكام الإلزامية على الولي و لكن ليس كذلك على مذاق المشهور، فتدبّر.

و ليعلم أنّ النزاع في مفهوم الحق إنّما يثمر إذا كانت هناك أدلة اخذ في موضوعها كلمة الحق بقول مطلق أو إجمالا كما فيما هو المشهور من أن «ما تركه الميت من مال أو حق فلوارثه»، و ذكر صاحب الجواهر قدّس سرّه في كتاب الشفعة الاستدلال بالمرسل في المسالك و غيرها عنه صلّى اللّه عليه و آله: «ما تركه الميت من مال أو حق فلوارثه» و ذكر بعض شراحه أنّه لم يعثر

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 21

على مصدر لهذا المرسل في كتب

أخبار الخاصّة و العامّة، و إنّما اشتهر على ألسنة الفقهاء فراجع «1».

أمّا الثاني: فقد ذكروا للحق أقساما كثيرة:

1- ما لا يقبل الاسقاط و النقل بل و لا الانتقال القهري بالموت أيضا، و مثّل له بحق الولاية للحاكم و حق الاستمتاع للزوج.

2- ما يجوز اسقاطه و لا يقبل النقل و لا الانتقال بالموت، كحق الغيبة بناء على وجوب ارضاء صاحبه.

3- ما يجوز اسقاطه و انتقاله بالموت و لكن لا يجوز نقله، كحق الشفعة على وجه.

4- ما يجوز اسقاطه بعوض و اسقاطه، و ينتقل بالموت، كحق الخيار.

5- ما يجوز اسقاطه و نقله لا بعوض، كحق القسم للزوجة على ما ذكره جماعة فيجوز نقله إلى سائر الزوجات (و لا ينتقل بالموت).

6- ما هو محل الشك من حيث صحّة الاسقاط أو النقل و الانتقال، و عدّ من ذلك حق الرجوع في العدّة الرجعية، هذا ملخص ما ذكره السيد في الحاشية «2».

و العمدة في المقام أن يقال: إنّ الحقّ له معنيان: معنى عام، شامل للملك و الحكم أيضا، مثل حق اللّه على عباده، و حق الراعي على الرعية، و حق الرعية على الراعي و غير ذلك ممّا ورد في رسالة الحقوق لسيد الساجدين و زين العابدين علي بن الحسين عليه السّلام.

و له معنى خاص في مقابل الملك و الحكم، و هو بهذا المعنى سلطنة على فعل كما عرفت، سواء كان متعلّقا بعين، أو عقد، أو شخص، أو غير ذلك، و من آثاره أحد الامور على سبيل منع الخلو:

1- جواز اسقاطه.

2- جواز نقله بعوض أو بغير عوض.

3- جواز انتقاله القهري بارث أو شبهه.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 22

و أمّا ما ليس فيه شي ء من هذه الامور فليس بحق، بل هو نوع من

الحكم كولاية الأب على ابنه و حق الاستمتاع، فإنّ الأول يرجع إلى جواز تصرف الأب في أموال الولد مع مراعاة المصلحة أو وجوبه، و الثاني إلى جواز التمتع بها، كما أنّ الملك، و هو السلطنة على المال، يظهر أثره في النقل و الانتقال، بل و الإعراض الذي هو كالإسقاط في الحق.

و لو كان هناك ملك ليس فيه هذه الآثار، فهو من قبيل الحكم لا الملك، فحسب التصور في مقام الثبوت يوجد فيه أنواع سبعة:

1- ما يقبل الاسقاط و النقل (بعوض أو بغير عوض) و الانتقال.

2- ما يقبل الاسقاط فقط.

3- ما يقبل النقل فقط.

4- ما يقبل الانتقال فقط.

5- ما يقبل الاسقاط و النقل.

6- ما يقبل الاسقاط و الانتقال.

7- ما يقبل النقل و الانتقال.

و أمّا مصاديقها، فنتساءل: هل يوجد لجميعها مصداق، أو يكون لبعضها فقط؟ فبحسب مقام الإثبات هناك مصاديق مشكوكة، بل بعض المصاديق مشكوكة بين الحق و الحكم، و لا ينبغي خلط مقام الإثبات و الثبوت هذا، و لكن بحسب مقام الإثبات، فقد يوجد لبعضها مصداق، فإنّ ما يقبل الانتقال بالموت لعله يقبل النقل بغيره.

هذا و لو شكّ في كون شي ء حقا أو حكما، أو شكّ في كونه قابلا للإسقاط أو النقل أو الانتقال بعد العلم بكونه حقّا (و إن علم بجواز أحد هذه الامور إجمالا)، فما هو مقتضى الاصول؟

أمّا الأوّل: فلا شكّ أن مقتضى الأصل عدم كونه حقّا، أي لا يجري عليه أحد الأحكام الثلاثة.

أمّا إذا علم بكونه حقا، و شكّ أنّها من الحقوق القابلة للإسقاط، فالأصل عدم سقوطه بالاسقاط، و كذا إذا شكّ في كونه من الحقوق القابلة للنقل أو الانتقال فاصالة عدمهما

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 23

أيضا حاكم، و العلم الإجمالي بجواز بعضها بمقتضى

كونه من الحقوق غير مفيد إلّا نادرا.

نعم، إذا كان شي ء من الحقوق المعتبرة عند العرف و العقلاء القابلة لهذه الامور الثلاثة أو بعضها عندهم، أمكن القول بامضائها من ناحية الشرع بعد عدم الردع عنه، فلو كان حق الشفعة مثلا قابلا للإسقاط و الانتقال، و شك في جواز ذلك شرعا يمكن القول بجوازه كذلك.

أمّا في غير هذا المورد، فلا دليل على الجواز، و ليس هنا محل التمسك بأوفوا بالعقود و أحلّ اللّه البيع، و الصلح جائز بين المسلمين، لأنّه من قبيل الشبهات المصداقية، كما أنه مع ثبوت هذه الخصوصيات عرفا، لا حاجة إلى هذه العمومات كما لا يخفى.

نعم، قد يكون هناك بعض القرائن الدالة على عدم جواز النقل أو الانتقال كما في حق الوصاية أو الولاية (لو قلنا بكونهما من الحقوق لا من المناصب) فإنّ مثل هذه الحقوق قائمة بالشخص لا تتعدى منه إلى غيره، أو مثل حق ولاية الفقيه فإنّه قائم بعنوان الفقيه الجامع للشرائط و لا ينقل و لا يورث.

أمّا في غير ذلك ممّا يكون بحكم العرف قابلا لأحد هذه الامور على سبيل منع الخلو، فالأصل ثبوته في الشرع إلّا ما خرج بالدليل التعبدي.

الثالث: في جواز كون المبيع أو الثمن من الحقوق و عدمه.

ظاهر كلام الجواهر جواز وقوعها ثمنا.

و ظاهر كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه عدم جواز وقوعها ثمنا و لا مثمنا، و قد عرفت أنّه قسّمه إلى ثلاثة أقسام: ما لا يقبل حتى الاسقاط فلا معنى لكونه عوضا و ما يقبل ذلك، و لا يقبل غيره، فلا يكون عوضا، لأنّ البيع تمليك في مقابل تمليك لا في مقابل الاسقاط.

و أمّا ما يقبل النقل فإنّه و إن أمكن كونه مبيعا أو ثمنا و لكنه

خلاف ما يظهر من اشتراط كون العوض مالا، و الحق ليس كذلك.

و لكن يرد عليه: أولا: إنّ ما لا يقبل الاسقاط و النقل فليس بحق، كما عرفت، بل هو من الأحكام لعدم الفرق بينه و بينها.

و ثانيا: إنّ الحقوق من الأموال لأنّها ممّا يرغب فيها و يبذل بإزائها المال، فلو كانت انوار الفقاهة، ج 1، ص: 24

قابلة للنقل فلا إشكال في وقوعها عوضا، و ذلك كمن يبيع كتبا أو ثيابا له، في مقابل حق انشعاب الماء و الكهرباء و التليفون، أو في مقابل حق تحجير أرض له، أو غير ذلك، و لا مانع من شمول عمومات البيع له.

يبقى الكلام في ما يقبل الاسقاط فقط، فإن قلنا البيع تمليك في مقابل تمليك فلا يصحّ وقوعه عوضا، و إن قلنا هو تمليك في مقابل عوض فهذا يمكن وقوعه عوضا، و إمّا بأن يكون العوض نفس الفعل، أعني الاسقاط، أو بأن تكون سائر الأفعال عوضا، كما إذا باعه كتاب في مقابل خياطة ثوب، أو بأن يكون العوض الدين مثلا، على وجه الاسقاط لا النقل.

و ثالثا: لا مانع من كون الحقوق القابلة للنقل عوضا، و كون «الحق سلطنة فعلية و لا يعقل أن يتسلط الإنسان على نفسه»، لا دخل له بما نحن بصدده، لأنّ الحق المنتقل إليه قد يكون مثل حق التحجير الذي هو تسلط على العين، أو حق الخيار الذي هو تسلط على الغير و أمثال ذلك.

و بالجملة لا نجد مانعا من شي ء من ذلك.

و من هنا يظهر جواز وقوع الحق مثمنا أيضا إذا كان قابلا للتمليك كحق «السرقفلية» و حق انشعاب الماء و الكهرباء، فتدبر جيدا فانّ المقام من مزال الأقدام.

عود إلى تعريف البيع:
اشارة

قد عرفت الإشارة إلى تعريفه من بعض

أهل اللغة، و لكنه تعريف شرح الاسم ظاهرا، و لذا تصدى فقهاؤنا الأعلام منذ العصر الأول لإيجاد صياغة دقيقة في تعريفه، بعد قبول عدم ثبوت الحقيقة الشرعية فيه، بل حكي عن مصابيح العلّامة الطباطبائي قدّس سرّه الاتفاق على عدم ثبوت الحقيقة الشرعية فيه.

و عرّفوه بتعاريف كثيرة، و إليك نماذج منها:

1- هو انتقال عين مملوكة من شخص إلى غيره بعوض مقدّر على وجه التراضي (عن انوار الفقاهة، ج 1، ص: 25

مبسوط و السرائر و غير واحد من كتب العلّامة قدّس سرّه كالتذكرة و التحرير و القواعد و غيرها).

2- نقل الملك من مالك إلى غيره بصيغة مخصوصة (عن المحقق الكركي قدّس سرّه).

3- أنّه العقد الدال على الانتقال المذكور (عن الوسيلة و المختلف).

4- أنّه عقد يقتضي استحقاق التصرف في المبيع و الثمن و تسليمهما (كما حكي عن الكافي لأبي الصلاح).

5- أنّه اللفظ الدال على نقل الملك من مالك إلى آخر بعوض معلوم (كما اختاره في الشرائع).

إلى غير ذلك ممّا ذكروه في كلماتهم (قدّس اللّه أسرارهم).

و قد ذكر في الجواهر أنّ تعاريف القوم على اختلافها في القيود ترجع إلى أحد الامور الثلاثة: «النقل، و الانتقال، و العقد».

أقول: التعاريف التي ذكرها المحققون من بعده أيضا كذلك من قبيل:

1- أنّه إنشاء تمليك عين بمال (ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه).

2- أنّه تمليك إنشائي (كما أفاده السيد قدّس سرّه في الحاشية).

و الظاهر أنّه ناظر إلى تعريف شيخنا الانصاري قدّس سرّه فمراده «أنّه تمليك إنشائي لعين بمال».

3- أنّه إنشاء تبديل شي ء من الأعيان بعوض في جهة الاضافة (كما ذكره في مصباح الفقاهة).

و مراده من جهة الاضافة ما ذكره في مقام آخر أنّه مقابل للمبادلة في المكان و اللبس و الركوب إلى غير ذلك

من المبادلات التكوينية «1».

فاللازم أن نتكلم في المحور الأصلي للبيع، ثم نتكلم في قيوده، فهل أنّ المحور الأصلي هو الإنشاء و العقد، أو النقل أو الانتقال؟

و الإنصاف أنّ الأصل في حقيقة البيع بحسب متفاهم العرف و ما يتبادر منه، هو: إنشاء

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 26

التمليك، و لكن بما له من الأثر، و إن شئت قلت: هو التمليك الإنشائي كما اشير إلى سابقا، فليس البيع نفس الإنشاء بماله من المعنى المصدري (و لا العقد كذلك) بل لا العقد بما له من معنى اسم المصدر، بل بإيجاد الملكية بسبب العقد و الإنشاء و إن شئت قلت: هو التسبب بالإنشاء إلى المنشأ.

و بعبارة أخرى: قد يقسم البيع إلى: البيع السببي و المسببي، و الأول هو الإنشاء، و الثاني هو الأثر الحاصل منه، و حقيقة البيع ليس هذا و لا ذاك، بل هو التسبب بالانشاء نحو المسبب.

و لعل من قال أنّه العقد نظر إلى ذلك، كما أنّ من قال أنّه النقل ناظر إليه، و أمّا القائل بأنّه الانتقال، فإن كان مراده النقل، فهو كذلك، و إن كان بمعنى الأثر الحاصل بعد النقل، أو ما هو معنى المطاوعة، فلا شك أنّه أجنبي منه.

و بالجملة لا أظن وجود خلاف كثير بينهم و إن اختلفت التعبيرات.

و أمّا قيوده، فالظاهر عدم اعتبار أزيد من المالية في العوضين، فيقال: «هو تمليك مال بعوض».

لما عرفت من عدم لزوم كون المثمن و لا الثمن من الأعيان، بل يجوز كونهما من الحقوق، و كون الثمن من المنافع، نعم إذا كان البيع منفعة كان من الاجارة لا من البيع.

و بقي الكلام في ما أورد عليه من الإشكالات الخمس التي ذكرها شيخنا الانصاري قدّس سرّه و أجاب عنها:

أولها: إنّ

لازمه جواز إنشاء البيع بلفظ، ملكت، و أجيب عنه: بأنا نلتزمه و لا مانع منه.

ثانيها: أنّه لا يشمل بيع الدين على من هو عليه، لأنّ الإنسان لا يملك على نفسه شيئا.

و أجيب: بجواز ذلك آنا ما، و أثره سقوط الدين.

ثالثها: شموله للمعاطاة مع أنّه ليس ببيع عندهم، و لكن سيأتي إن شاء اللّه أنّ الأصل في البيع- على خلاف ما هو المعروف في الأذهان- هو المعاطاة، و إنّما نشأ البيع بالصيغة بعدها، فإن الناس في أول أمرهم كانوا يبادلون أموالهم من خلال المعاطاة و لم يكن هناك إنشاء لفظي، ثمّ لمّا نشأت القوانين الإلهية و العرفية بينهم، جعلوا له صياغة قانونية إنشائية

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 27

بالالفاظ أو بالكتابة كما لا يخفى على الخبير.

و كيف لا تكون المعاطاة بيعا، و أكثر ما يقع في البيع هو من هذا الباب، حتى أنّ البيع بالصيغة عندهم قليل بالنسبة إليه، و لذا ذهب جمع من الأكابر إلى كون بيعا لازما.

رابعها: صدقه على الشراء، فانه أيضا تمليك مال بمال (أو تمليك عين بمال).

و أجيب عنه: بأنّ حقيقة الشراء التملك في مقابل العوض، فالتمليك فيه تبعي، و التملك أصلي، و هو غير بعيد.

(و منه يعلم الفرق بين البائع و المشتري إذا كان كلّ من الثمن و المثمن من العروض).

و قد أورد على هذا الوجه في مصباح الفقاهة بما حاصله: إنّ التمليك الضمني ليس له معنى محصل، و لا معنى لكون أحد التمليكين أصلا و الآخر تبعيا، فانّ التمليكين من ناحية البائع أو المشتري يتحققان في مرتبة واحدة، و إذن فلا أصالة و لا تبعية في المقام، و ظهور لفظ الإيجاب و القبول في ذلك غير مفيد، لأنّه يرجع إلى مقام الإثبات،

فلا يوجب فرقا بينهما في مقام اللب و الثبوت.

أقول: لا شك في أنّ ألفاظ الإيجاب و القبول تحكي عن كيفية اعتبار المعتبر لهما، و مقام الإثبات حاك عن مقام الثبوت، و إن شئت قلت: إنّ حقيقة اعتبار البيع هو تمليك شي ء بعوض، و حقيقة اعتبار الشراء هو تملّك شي ء بعوض، فماهية الأول أولا و بالذات التمليك، و أمّا التملك فهو تبع في كيفية الاعتبار و الإنشاء، كما أنّ ذلك في الشراء بالعكس، سواء تقدم القبول على الإيجاب أو تأخر عنه.

و لا يوجد مشتر يملك الثمن ليتملك المثمن، فليست الأصالة و التبعية بحسب مقام الإثبات فقط، بل اللب و كيفية الاعتبار.

هذا و يمكن أن يقال: بأنّ الصادر عن البائع إنشاءان، إنشاء تمليك المبيع للمشتري و إنشاء تملك الثمن لنفسه، و الذي يصدر عن المشتري هو قبول ذلك فقط، لا أقول القبول ليس من قوام الإيجاب، بل أقول إنّ حقيقة أحد الاعتبارين شبيه الفعل، و الاخرى شبيه الانفعال، و لا في اللفظ فقط، بل نحو الاعتبار، و هذا التفاوت يوجب أحكاما مختلفة و لا مانع من ذلك.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 28

و في الحقيقة فان هذا المورد يشابه صورة العمل الخارجي بالنسبة إلى عالم الاعتبار، فكما أنّ من يبيع الخبز بالدراهم يعطي الخبز ليأخذ الدرهم، و المشتري يقبله منه في مقابله، فكذا في كيفية الاعتبار، و تقديم القبول أحيانا مثل تقديم دفع النقود لا يكون مغيّرا لهذه الحقيقة.

خامسها: انتقاض طرده بالصلح و الهبة المعوضة، و اجيب عن الأول بأنّ حقيقة الصلح ليست هي التمليك على وجه المقابلة، بل معناه الأصلي التسالم على شي ء، و هذا غير منطبق على ما عرفت من تعريف البيع.

أقول: قد وقع الكلام في مفتتح

كتاب الصلح في الفقه في مقامين:

الأول: في أنّه هل يعتبر في حقيقة الصلح التجاذب و التنازع أم لا؟ حكي عن ظاهر الأصحاب الاتفاق على عدم اعتباره، و إن حكي عن بعض أهل الخلاف اعتباره.

قال في المسالك: إنّ الحكمة فيه و إن كانت رفع الخلاف و النزاع، و لكن الحكمة ليست لازمة في جمع الأفراد، كما في المشقة في السفر، و عدم تداخل المياه في العدّة، و ذلك لعموم أدلة الصلح، مثل قوله عليه السّلام: «الصلح جائز بين المسلمين» أو قوله صلّى اللّه عليه و آله: «الصلح جائز بين المسلمين إلّا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا» «1».

هذا و الإنصاف أنّ اطلاق أدلة الصلح محل إشكال أو منع بعد كون التنازع و التجاذب مأخوذا في مفهوم هذه الكلمة عرفا، و أنّه ممّا لا ينبغي الشك فيه.

و يمكن أن يقال- كما يظهر من بعض- إنّ كون شي ء ممّا يترقب منه النزاع مظنة للتجاذب أيضا كاف في ذلك، لا سيما أنّ العقود إنّما شرعت في الشرع و العرف لأغراض لا يتأتى من غيرها، فلو كان للصلح أثر البيع و الاجارة و غيرها، فأي داع في تشريعها، بل الظاهر أنّه لا بدّ فيه من وجود نوع من الخلف و لو بالقوّة، كما في الحقوق المبهمة و الدعاوي المشكوكة و الديون غير الثابتة، أو الثابتة غير معلومة المقدار أو غير ذلك، و تمام الكلام في محله.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 29

الثاني: هل الصلح عقد مستقل برأسه، أو هو فرع لغيره كما اختاره الشيخ قدّس سرّه في المبسوط حيث قال: إنّه فرع على عقود خمسة (البيع و الإجارة و الهبة و العارية و الابراء)، و هو مذهب الشافعي أيضا، و لكن المعروف

من الأصحاب هو الأول.

و لعلّ القول بفرعيته نشأ من عدم اعتبار التجاذب و الخلف في ماهيته، فلا يكون حينئذ عقدا برأسه، و أمّا لو قلنا بأنّه شرع لدفع الخلف في موارد الشك و الابهام و مظنّة تضارب الحقوق، ممّا لا تتمّ فيه شرائط البيع و الإجارة و غيرهما حيث إنّها تقع على امور معلومة محققة، كان الفرق بين الصلح و غيره و كونه عقدا مستقلا واضحا، فتدبر فإنّه حقيق به.

إذا عرفت ذلك ظهر لك عدم الإشكال على طرد التعريف بانتقاضه بالصلح.

و أمّا انتقاضه بالهبة المعوضة، فقد اجيب عنه بأنّه ليس تمليكا بعوض، بل كل واحد تمليك مستقل من دون عوض، و لكن تخلف «المشروط عليه» عن الشرط يوجب جواز الرجوع للمشروط له في هبته.

أقول: الهبة المشروطة المعوضة على أقسام:

1- ما يكون فيه العوض من دون اشتراط، و ذلك كما ورد في الحديث الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إذا عوض صاحب الهبة فليس له ان يرجع» «1» بناء على أنّ المراد اعطاء العوض من دون شرط أو كونه أعم.

و أظهر منه ما رواه عبد اللّه بن سليمان و عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن الصادق عليه السّلام عند السؤال عن جواز الرجوع في الهبة: «تجوز الهبة لذوي القرابة و الذي يثاب عن هبته، و يرجع في غير ذلك إن شاء» «2».

و هذا القسم لا دخل له بما نحن بصدده.

2- ما ذكر فيه العوض بعنوان شرط الفعل.

و هذا أيضا ليس فيه معاوضة كما هو ظاهر.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 30

3- ما ذكر فيه بعنوان شرط النتيجة، و هذا شبيه المعاوضة، و لكن الإنصاف يقتضي التأمل في أصل صحة هذه الهبة و كونه من هذا الباب.

و

سادسها: بانتقاضه بالقرض، فإنّه أيضا تمليك بعوض، و اجيب عنه بأنّه ليس من باب التمليك بعوض، بل من باب التمليك على وجه الضمان، و لذا لا تجري فيه أحكام المعاوضات مثل ربا المعاوضة و لا الغرر فيها، و لا ذكر العوض و لا العلم به فتأمل.

أقول: و يمكن تطرق الإشكال إليه بأن التمليك على وجه الضمان إن كان المراد منه كون نفس العين المقترضة في الضمان، فلازمه عدم اشتغال ذمّة المقترض بشي ء، و هو مخالف للإجماع ظاهرا، و إن كان بمعنى ضمان المثل، فهو عين التمليك بعوض لأنّ معناه تمليك عين في مقابل تملك ما في ذمته من المثل.

إن قلت: معنى القرض هو تمليك المقرض ما له للمقترض على وجه ضمان المثل (كما في مصباح الفقاهة).

قلت: ضمان العين ما دامت موجودة إنّما يكون بنفسها، نعم عند فقدانه يتنزل إلى المثل، و مع فقدانه إلى القيمة، و أمّا ضمان المثل مع وجود العين فليس إلّا بمعنى تمليك مال في مقابل مال، اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ للمالك أن لا يطالب الضامن بخصوصيات العين، بل يطالب خصوصياتها النوعيه أو ماليتها.

و بعبارة اخرى: لكل عين ثلاث مراتب: مرتبة الأوصاف الشخصية، و مرتبة الأوصاف النوعية، و مرتبة المالية، و يجوز للمالك تضمين الغير بكل واحد منها، فإن ضمنه بأوصافه الشخصية، فعلى الضامن ردّ عينه و إن لم يطالبه بذلك بل ضمنه بأوصافه النوعية، فعلية ردّ مثله، و إن ضمنه بماليته، فعليه أداء قيمته.

و على هذا يكون القرض من هذا القبيل، و منه يعلم جواز تخيير المقترض يوم الأداء بمثله أو بعينه.

و لعل ما هو المتداول اليوم من ايداع النقود في البنوك أيضا كذلك، لأن اللازم في الوديعة حفظ عينه،

إلّا أنّ المالك قد لا يكون مراده وديعة العين بل وديعة ماليته فقط،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 31

و هذا و إن لم يكن معروفا عند فقهائنا، و لكن لا مانع منه بعد جريانه عند العقلاء.

و إن شئت قلت: لا شك في عدم وجوب حفظ عين النقود على البنك و ردّها على صاحبه، فإن هذا مخالف لارتكاز العرف و مقاصد الطرفين، بل يجب عليه ردّ مثل النقود فقط، بحسب المالية.

و حينئذ إمّا أن يكون من قبيل الإقراض للبنك، أو من قبيل وديعته، و الأول مخالف للارتكاز العرفي، فيتعين الثاني، و لكن وديعته بماليته لا بشخصه. و إن كان أثرهما واحدا دائما أو غالبا فتدبر.

بقى الكلام فيما ذكره قدّس سرّه من آثار عدم كون القرض معاوضة، أمّا عدم ذكر العوض و عدم العلم به في القرض فهو كما ترى، لأنّ العوض معلوم لا يحتاج إلى ذكر بل عنوان القرض كاف.

أمّا جواز الغرر فيه، فهو مبني على صحة القرض بمقدار مجهول، و هو محل للإشكال في كتاب القرض، فجوّزه جماعة و منعه آخرون نظرا إلى أدلّة نفى الغرر، و اختصاص رواية النهي بالبيع «نهى النبي صلّى اللّه عليه و آله عن بيع الغرر» لا ينافي عموم الحكم لما ذكرنا في محله فتأمل، فجريان نفي الغرر فيه و عدم جواز القرض بصخرة مجهولة مثلا، لا ربط له بكون القرض من المعاوضات و عدمه، بل هو فرع عموم دليل نفي الغرر لكل معاوضة و عدمه.

و أمّا عدم جريان ربا المعاوضة فيه، فمعناه أنّ الربا فيه محرم من دون اشتراط بالمكيل و الموزون، و وحدة الجنس، ففي القيميات لا تكون وحدة الجنس، و في الأوراق النقدية لا يكون هناك مكيل و موزون،

و لكن الربا جار فيهما عند القرض.

و قد أورد عليه: بإمكان تفاوت أنواع المعاوضة بحسب الأحكام و لو كان القرض من المعاوضات، و هذا كلام متين.

أضف إلى ذلك أنّ الإقراض في القيميات غير معمول عرفا، و إن صرح بجوازه فقهاؤنا، و لكن في النفس منه شي ء، و تمام الكلام فيه في محله.

بقي هنا امور:
1- في معاني البيع:

الظاهر أنّ للبيع معنيان معروفان:

«أحدهما» ما عرفت تعريفه، و هو المقابل للشراء.

«ثانيهما» الايجاب المتعقب للقبول، و هو المراد فيما لم يكن فيه مقابلة، بل اريد منه البيع المؤثر.

و الإنصاف أنّ اطلاقه على كليهما أمر شائع ذايع، و قد يكون من قبيل الاشتراك اللفظى أو المعنوي، و الجامع بينهما هو التمليك بعوض لا بشرط لحوق القبول، و لكن ينصرف إليه أحيانا بقرينة الحال أو المقال إذا اريد ما هو المؤثر في النقل و الانتقال، كما اختاره شيخنا الأعظم قدّس سرّه قال: «القيد مستفاد من الخارج لا أن البيع مستعمل في الايجاب المتعقب للقبول، نعم تحقق القبول شرط للانتقال في الخارج لا في نظر الناقل، إذا التأثير لا ينفك عن الأثر فالبيع و ما يساويه من قبيل الايجاب و الوجوب لا الكسر و الانكسار كما تخيله بعض، فتأمل» انتهى ملخصا.

أقول: الإنصاف أنّ استعمال البيع في المعنى الثاني كثير، بل هو العمدة من موارد استعمالاته، بل هو المتبادر منه غالبا، بحيث يعلم أنّه من معانيه الحقيقية، بل الظاهر أنّه لم يستعمل في القرآن الكريم إلّا فيه (و قد ذكر فيه سبع مرات) قال اللّه تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا «1».

و قال تعالى: وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا «2».

و قال تعالى: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ «3».

و

قال تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ «4».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 33

إلى غير ذلك ممّا هو كالصريح في كون المراد منه الايجاب المتعقب للقبول، بل الظاهر أنّ القبول داخل فيه بعنوان التركّب، لا بعنوان الشرط، فهو مركب من البيع و الشراء.

نعم، إذا ذكر في مقابل الشراء، كان ظاهرا في خصوص فعل الموجب، و كذا في مشتقاته عند الإنشاء مثل «بعت»، هذا أولا.

و أمّا ثانيا: ما ذكره من أن تعقب القبول شرط في الخارج لا في نظر الناقل.

فيرد عليه: أنّ الناقل يعلم أنّه بصدد العقد و أنّ الأثر أثر للعقد، و العقد لا يكون إلّا بفعل الاثنين، ففي الحقيقة أنّ الموجب يتمّ الأمر من ناحية نفسه، و ينتظر تكميله من الجانب المقابل، لا أنّه يرى العقد و الأثر تاما كاملا، فإن هذا ممّا لا معنى له بعد العلم بترتب الأثر على العقد الكامل، و إلّا كان من الايقاعات.

و ثالثا: ما أفاده من أنّه من قبيل الإيجاب و الوجوب لا الكسر و الانكسار، إن كان مراده أنّ الايجاب كما لا ينفك عن الوجوب في نظر الموجب و إن انفك عنه في الخارج لعدم تحقق شرطه فكذلك إنشاء البيع، لا أنّه من قبيل الكسر و الانكسار بحيث لا ينفكان خارجا و وجود أحدهما ملازم دائما للآخر.

فقد أورد عليه: بأنّه دعوى جزافية، إذ الايجاب أيضا لا ينفك عن الوجوب، إلّا أنّ عدم انفكاك أحدهما عن الآخر في نظر الموجب فقط لا في الخارج. «1».

قلت: و كفى بذلك فرقا بينهما، مضافا إلى ما عرفت آنفا، هذا و لكن الانصاف أنّ البيع ليس من هذا القبيل، و لا من قبيل الكسر و الانكسار

بعد كونه من العقود لا من الايقاعات، و البائع عالم بذلك، فتدبّر جيدا.

هذا و قد ذكر للبيع معنيان آخران:

«أحدهما»: نفس العقد المركب من الايجاب و القبول كما عرفت في بعض التعاريف المذكورة في صدر الكلام.

«ثانيهما»: الأثر الحاصل من الايجاب و القبول، و هو الانتقال، و قد عرفت في التعاريف ما يشهد له.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 34

هذا و الانصاف أنّ شيئا منهما ليس من معاني البيع، بل الأول من قبيل مقدماته و الثاني من قبيل نتائجه، و إلّا ليس العقد مع قطع النظر عن محتواه و تأثيره بيعا بالضرورة، كما أنّ الانتقال بمفهوم اسم المصدر ليس البيع الذي يشتق منه المشتقات الفعلية.

2- هل البيع و شبهه موضوع للصحيح أو الأعم؟

و هذه هي المسألة التي أشار إليها شيخنا الأعظم قدّس سرّه في ذيل كلامه في المقام أنّها جزئي من جزئيات مسألة الصحيح و الأعم، و هي محررة في الاصول و ليس هنا مقام بيانها، إلّا أنا نشير إليها إشارة إجمالية و حاصلها:

«الف» المراد من الصحيح كما حققناه في محله هو ما يترتب عليه الأثر المترقب منه و لو بالقوة القريبة من الفعل، سواء اجتمعت فيه جميع الأجزاء و الشرائط المتعارفة أو الواجبة، أم لا؟ فالسراج الصحيح هو ما يستفاد منه في مقابل الظلمة لمشاهدة الأشياء، و الساعة لتعيين الوقت، و السيارة للركوب فيها و الانتقال من محل إلى آخر غير ذلك حتى لو كان بعض أجزائها مكسورا أو معيبا، نعم إذا انعدمت الاستفادة منه بالمرة، لم يكن مصداقا للصحيح بالمعنى الذي ذكرنا، و هو المقابل للفاسد لا للمعيوب.

«ب» الحق هو وضع الأسامي للصحيح، سواء في الحقائق التكوينية، أو الاعتبارات العرفية أو الشرعية، للتبادر، و صحة السلب عن الفاسد، و الاطراد (لأنّه عندنا من علائم

الحقيقة)، و حكمة الوضع، و تمام الكلام في محله.

«ج» بما أنّ الصحة في العرف و الشرع في مثل البيع و غيره من العقود متفاوتة، فإذا ذكرها أهل العرف بما أنّهم كذلك انصرف الذهن إلى الصحيح العرفي، و إذا ذكره أهل الشرع و المسلمون بما أنّهم معتقدون باصول الإسلام و تشريعاته، انصرف الذهن إلى الصحيح الشرعي، و في الدعاوي و الاقرارات أيضا تتبع هذه القاعدة.

«د» كيف يجوز التمسك بالاطلاقات على القول بالصحيح عند الشك في اعتبار شي ء شطرا أو شرطا في بعض العقود مع أنّه من قبيل الأخذ بالعام في الشبهات المصداقية، مثلا إذا شككنا في اعتبار الصيغة في البيع، فكيف يصحّ لنا الأخذ بعموم أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ مع أنّ انوار الفقاهة، ج 1، ص: 35

البيع موضوع للصحيح، و هو هناك مشكوك؟

و الجواب عنه: إنّ القرينة هنا قائمة على أنّ المراد منه البيع هو الصحيح عند العقلاء و أهل العرف، فإنّه لا معنى لأن يقول: «أحلّ اللّه البيع الصحيح شرعا» فإنّ هذا تحصيل الحاصل (أولا) و إحالة على المجهول (ثانيا)، بل الذي يفيد هو أن يقول: «إنّ اللّه أحلّ البيع الصحيح عند العقلاء إلّا ما خرج بالدليل الشرعي».

و أمّا ما أفاده شيخنا الأعظم قدّس سرّه في وجه تمسك العلماء بالاطلاقات هنا، من أنّ الخطابات صدرت على طبق العرف، فغير كاف، لأن خطابات الشرع لا بدّ أن تكون على النحو الصحيح الشرعي لا العرفي، و لكن القرينة التي عرفتها تدلنا على ذلك.

و هنا كلام لبعض أعلام العصر ذكره في كتاب بيعه و حاصله: إنّ البيع و نحوه لو كان موضوعا للمسببات، فلا تتصف بالصحة و الفساد، بل أمرها دائر بين الوجود و العدم.

و على فرض وضعها للأسباب فالتحقيق

أنّها موضوعة للأعم من الصحيح منها، و لو فرض وضعها للصحيح، فلا شبهة في عدم وضعها للصحيح الشرعي، لعدم الحقيقة الشرعية فيها.

و لو فرض وضعها للصحيح عنده، فلا ينبغي التأمل في لزوم كون اختلافه مع العرف في المفهوم، لأنّه مع اتفاقهما في المفهوم لا يعقل الردع و التخطئة في المصداق.

و على فرض وضعها للأسباب الصحيحة الراجعة إلى الاختلاف في المفهوم لا يصحّ التمسك بالاطلاق إذا شك في اعتبار و قيد أو شرط، انتهى ملخصا «1».

أقول: و في كلامه مواقع للنظر:

أولا: قد عرفت أنّ الألفاظ، سواء ألفاظ العبادات و المعاملات بل الموضوعات العرفية كلها، وضعت للصحيح المؤثر للأثر المرغوب منه، و هو الذي يكون محلا للابتلاء في جميع الأحوال و جميع شئون الحياة، بل هو الداعي لوضع الألفاظ بطبيعة الحال، و أمّا الفاسد فهو شي ء خارج عن محط الأغراض و الأنظار، و قد يبتلى به أحيانا، فالصحيح هو الأصل، و الفاسد هو الفرع، و الموضوع له هو الأول بحكم التبادر و غيره ممّا عرفت.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 36

ثانيا: الموضوع له بناء على المختار- و هو الصحيح- عبارة عمّا يكون مؤثرا للأثر، أعني النقل و الانتقال في مثال البيع، و غاية الأمر أنّ الشارع لا يرى بيع الربا مصداقا لهذا العنوان، و أهل العرف يرونه مصداقا، فليس الخلاف بينهما في المفهوم الكلي، أعني الصحيح المؤثر للأثر، بل في المصداق.

نعم، ليس للبيع الذي هو أمر اعتباري، واقع ثابت في الخارج حتى يكون ردع الشارع من باب التخطئة كما هو كذلك في التكوينيات، بل باعدام الموضوع، أعني الصحيح في افق اعتباراته، بينما يراه العرف مصداقا له.

ثالثا: التمسك بالاطلاقات صحيح على كل حال، ففي حال كون المفهوم واحدا، فهو ظاهر،

لما قد عرفت، أمّا لو كان المفهوم متعددا، فالقرينة قائمة على أنّ الاطلاقات ناظرة إلى المفهوم العرفي من البيع، و إلّا فلا معنى لقوله: أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ أو قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ لأنّه من قبيل الإحالة على المجهول، بل و من قبيل تحصيل الحاصل كما لا يخفى على الخبير.

3- ما هي حقيقة الإنشاء؟

المعروف أنّ الإنشاء هو: إيجاد المعنى باللفظ، و لكن أورد عليه بعض أعاظم العصر بما حاصله: إنّ الإيجاد إن كان بمعنى الإيجاد الخارجي، فهو ضروري البطلان، بداهة أنّ الموجودات الخارجية مستندة إلى عللها الخاصة التكوينية.

و إن كان المراد الإيجاد الاعتباري في نفس المتكلم، فهو واضح الفساد أيضا لأن الاعتبار النفساني الذي هو من أفعال النفس لا حاجة له إى الألفاظ أساسا.

و إن كان المراد منه اعتبار العقلاء، فهو مترتب على تحقق الإنشاء أولا من المنشئ حتى يعتبره العقلاء و الشرع.

و بالجملة لا يعقل معنى محصل لتعريف الإنشاء بإيجاد معنى باللفظ، و التحقيق أنّه ابراز الاعتبار النفساني بمبرز خارجي، كما أنّ الخبر عبارة عن إبراز قصد الحكاية، (انتهى ملخصا) «1».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 37

أقول: أولا: إنّ كون الإنشاء أمرا إيجاديا هو أمر وجداني، سواء في البيع و الهبة و النكاح أو النداء و التمني و الترجّي و غيرها، فالوجدان أصدق شاهد بأنا عند ذكرنا هذه الصيغ نوجد أمرا اعتباريا، لا أنا نعتبر شيئا في أنفسنا ثم نخبر و نكشف عنه.

و ثانيا: أنّه لو كان الإنشاء إبراز الاعتبار النفساني، كان كالخبر يحتمل الصدق و الكذب، فإن الذي ينفي عن الإنشاء احتمال الصدق و الكذب، إنّما هو كونه إيجاديا، و عند إنكاره يكون كالخبر بعينه.

إن قلت: بينهما فرق واضح، فإنّه ليس في الإنشاء وراء الاعتبار النفساني شي ء بخلاف الإخبار

الذي يحكي عمّا بإزائه في الخارج.

قلت: نعم، و لكن إذا ذكر المبرز (بالكسر) و لم يطابق المبرز (بالفتح) و لم يكن أمرا ثابتا في النفس، كان كاذبا في إبرازه و اظهاره.

و ثالثا:- و هو العمدة- أنّ حقيقة الإنشاء ليست مجرّد الاعتبار النفساني، و لا مجرّد الألفاظ، بل اعتبار عقلائي يوجد بما دلّ عليه مع النّية و القصد.

توضيح ذلك: إنّ حقيقة الملكية في بدء الأمر هي السلطنة الخارجية على شي ء، و تمليك الغير عبارة عن تسليطه عليه خارجا، ثم لما أخذت المجتمعات البشرية تتسع و تتنوع تبدلت هذه السلطنة بشكل اعتباري قانوني، و قام الإنشاء مقام الاعطاء الفعلي الخارجي، فمجرّد الاعتبار النفساني لا أثر له عند العقلاء، و لا يوجد السلطة الاعتبارية القانونية، و إنّما توجد هذه السلطة بالفاظ أو أفعال وضعت لها، مع قصد إيجادها، فإنشاء الملكية هو إيجاد اعتبار عقلائي قانوني بأسبابه، لا إيجاد أمر تكويني، و لا إيجاد أمر نفساني حتى لا يحتاج إلى الألفاظ و شبهها، بل إيجاد سلطة قانونية عقلائية و هو يحتاج إلى أسباب خاصة عندهم، و كذلك الطلاق مثلا، هو إيجاد فرقة قانونية عقلائية بأسبابه، و هكذا في سائر الإنشائيات من العقود و الايقاعات، فتدبّر فإنّه حقيق به.

بيع المعاطاة و أحكامها

اشارة

وقع الكلام بين الأعلام أولا: في صحة بيع المعاطاة و عدمها من العصر الأول إلى زماننا هذا، و في المراد منه ثانيا، و في معنى صحته ثالثا.

و الحق أنّه بيع صحيح لازم لا يجوز فسخه إلّا بأحد الخيارات الثابتة في البيع، و بسط الكلام فيه يقع في مقامات:

المقام الأول: في الأقوال في المسألة
اشارة

و حكي فيها سبعة أقوال:

1- أنّه بيع لازم مطلقا، سواء كان ما دلّ على التراضي هو اللفظ (غير الصيغة المخصوصة)، أو الفعل الخالي عن اللفظ، نسب ذلك إلى المفيد قدّس سرّه حيث قال في المقنعة:

«و البيع ينعقد على تراض بين الاثنين فيما يملكان التبايع له إذا عرفاه جميعا و تراضيا بالبيع و تقابضاه و افتراقا بالأبدان» فقد ذكر خمسة شرائط للبيع و لم يعد الإنشاء اللفظي منها، و لكن قد يقال: إنّه أوكل الأمر إلى وضوحه و اشتهاره بين الأصحاب (و فيه ما فيه).

و صرّح في المختلف بأنّ كلام الشيخ المفيد قدّس سرّه غير صريح و لا ظاهر فيه بل يتوهّم منه «1».

و حكي عن بعض علماء العامّة أيضا ذلك، و لكن عن الشافعية عدم صحته إلّا باللفظ، و عن أبي حنيفة صحته في المحقرات.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 40

2- أنّه بيع لازم إذا كان الدال على المعاملة لفظا (أي ما دلّ على التراضي) نسبه في الحدائق إلى المحقق الأردبيلي قدّس سرّه في شرح الإرشاد و صاحب الكفاية و الفيض في المفاتيح و جمع من المحدثين.

و قد نقله الشهيد الثاني قدّس سرّه عن بعض مشايخه، و لكن الذي حكاه في مفتاح الكرامة هكذا: و في الكفاية أن قول المفيد غير بعيد، و هو خيرة مجمع البرهان و المفاتيح و نقله في الحدائق عن الشيخ سليمان البحراني «1».

3- إنّها

تفيد الملكية الجائزة لا اللازمة، و إنّما يحصل اللزوم بذهاب العينين أو أحدهما، و أول من نسب إليه هذا القول هو المحقق الثاني قدّس سرّه، و قد حمل كلمات القائلين بالاباحة عليه، و أتعب نفسه الشريفة في تأييد مباني هذا القول و دفع إشكالاته، و لكن الإنصاف أنّ حمل كلمات القائلين بالاباحة عليه مشكل جدّا.

4- إنّها تفيد الإباحة فقط، و بما أنّ هذه الاباحة تشمل جميع التصرفات حتى التصرفات المتوقفة على الملك، فقد ذهب بعضهم إلى حصول الملك آنا ما قبل هذه التصرفات، و نسب هذا القول إلى المشهور بين الأصحاب، و هو صريح المبسوط و الجواهر و الغنية و السرائر و الشرائع و المسالك و غيرها «2».

5- إنّها تفيد إباحة جميع التصرفات ما عدا التصرفات المتوقفة على الملكية، كالبيع و الوطي في الأمة و الوقف و شبهها، و حكي هذا عن حواشي الشهيد قدّس سرّه على القواعد.

6- إنّه بيع فاسد، كما حكي عن العلّامة قدّس سرّه في النهاية، و لكن حكي عنه رجوعه عنه في كتبه المتأخرة، و لازمه عدم جواز أي تصرف فيهما.

7- قال السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه بعد ذلك: و هنا قول سابع، و هو أنّها معاملة مستقلة مفيدة للملكية و ليست بيعا و إن كانت في مقامه، و قد حكي هذا عن الشيخ الكبير الشيخ جعفر قدّس سرّه «3».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 41

و هذا و لكن لمّا كان المشهور بين الأصحاب (رضوان اللّه عليهم) القول بالاباحة دون الملك، وقع بين أعاظم المتأخرين حوار شديد، و معركة عظيمة في هذا المقام لأنّ مراد المتعاطيين كان هو الملكية، و لم تقع بل وقع ما لم يقصداه، و هو الاباحة، فما قصد لم

يقع و ما وقع لم يقصد.

مضافا إلى أنّ ظاهر هم جواز التصرفات الناقلة و المتوقفة على الملك، و كيف يصحّ مثل الوقف و البيع و الوطي في الأمة و شبه ذلك و ليس مملوكا؟

و عمدة المعركة بين ثلاث من كبار اساطين الفقه و هم المحقق الثاني، و صاحب الجواهر، و شيخنا العلّامة الأنصاري (قدس اللّه أسرارهم).

فقال الأول منهم بأنّ مراد المشهور من الإباحة، الملك الجائز دون اللازم، قال: و ما يوجد في عبارة جمع من متأخري الأصحاب من أنّها تفيد الاباحة و تلزم بذهاب إحدى العينين، يريدون به عدم اللزوم في أول الأمر، و بالذهاب يتحقق اللزوم، لامتناع إرادة الاباحة المجرّدة عن أصل الملك، إذ المقصود للمتعاطيين إنّما هو الملك، فإذا لم يحصل كانت فاسدة، و لم يجز التصرف في العين، و كافة الأصحاب على خلافه (انتهى) «1».

و قال في الجواهر بعد أن استجود هذا المقال في كلام طويل له: إن حمل كلمات قدماء الأصحاب على ما ذكرناه من أنّ مرادهم بيان قابلية الأفعال للإباحة لو قصداها و أنّ ذلك مشروع دون التمليك البيعي مثلا، خير من ذلك «2».

و بهذا الاعتبار جعل محل النزاع ما لو قصدا الإباحة.

و قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه بعد ذكر كلمات جمع من الأصحاب (الظاهر أو الصريحة أنّ محل الكلام ما لو قصدا الملك دون الاباحة كما أنّ مرادهم من الاباحة هو نفس الاباحة لا الملك الجائز، بل بعض عباراتهم صريح أو كالصريح في ذلك): إنّ الاولى إبقاء كلماتهم في المقامين على ظاهرها و نجتهد في حلّ مشكلات هذه الإباحة (انتهى محل الحاجة).

و الانصاف أنّ ما ذكره أحسن و أوجه ممّا ذكره العلمان السابقان، و إن كان لا يخلو

انوار الفقاهة،

ج 1، ص: 42

أيضا من مشكلات و معضلات، و عمدتها أمران:

الأول: كيف تحصل الاباحة مع عدم قصدها، فما قصداه و هو الملك لم يقع، و ما لم يقصداه و هي الاباحة وقعت.

قال في الجواهر: ليس له وجه فضلا عن نسبته إلى المشهور أو الإجماع، ضرورة أنّهم إن أرادوا أنّها من المالك، فالفرض عدمها لكون المقصود له أمرا خاصا لم يحصل، فارتفع الجنس بارتفاعه.

و إن أرادوا إباحة شرعية، فهو مع أنّه من الغرائب بعد أن جعل الشارع أمر المال إلى مالكه، لا دليل عليها (انتهى محل الحاجة).

الثاني: حصول الملك بالتصرفات الناقلة مقارنا لها أو آنا مّا قبلها.

هذا، و لكن قد ذكر في وجه الاباحة هنا أمران:

1- الإجماع كما أشار إليه، في مصباح الفقاهة آخذا من كلام الشهيد قدّس سرّه في القواعد و غيره حيث ادعوا الإجماع على افادتها الاباحة دون الملك.

و لكن يرد عليه: أنّ التعبد المحض في هذه الأبواب بعيد جدّا بعد كون بناء الشارع على امضاء بناء العقلاء فيها، و امضاء مقصود المتبايعين، كما أشار إليه في الجواهر، مضافا إلى أنّ ظاهر كلامهم عدم استنادهم فيه إلى نص.

2- ما أفاده شيخنا الأعظم قدّس سرّه حيث قال: إنّ الاباحة لم تحصل بإنشاء ابتداء، و إنّما حصلت- كما اعترف به في المسالك- من استلزام اعطاء كل منهما سلعته مسلطا عليها، مع الاذن في التصرف فيه بوجوه التصرفات (انتهى).

و هذا و إن كان صحيحا في الغالب، و لكن توجد مصاديق ليس فيها اباحة بدون الملك من ناحية مالكه، و حينئذ يشكل الأمر فيها.

و إن شئت جعلت هذا من وجوه ضعف قول المشهور.

و أظنّ أنّ الذي دعاهم إلى ذلك، أنّهم رأوا عدم بناء العقلاء و أهل العرف و الشرع

على الاقدام على البيع في الامور الخطيرة، كالضياع و العقار و البيت و غيرها من الامور المهمّة إلّا بإنشاء لفظي أو كتبي أو كليهما، هذا من ناحية، و من ناحية اخرى رأوا أنّ العرف لا

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 43

يعتني بشرائط البيع في الامور اليسيرة جدّا، كإعطاء قطعة من النقود إلى البقال أو السقاء في مقابل أخذ شي ء من البقل أو الماء من دون العلم بمقدار العوض و سائر شرائط (كما مثل به كثير منهم).

فمن هنا قالوا باعتبار الإيجاب و القبول اللفظي في البيع، و كون المعاطاة في الامور اليسيرة مفيدة لمجرّد الاباحة، مضافا إلى ما نعرف منهم من البناء على الاحتياط في أبواب الفقه.

هذا و لكن يرد عليهم أنّ ما بين هذين، بيوع و تجارات كثيرة- و ما أكثرها- متداولة بين أهل العرف، و هم يرون أنفسهم ملزمين برعاية شرائط البيع من تعيين الثمن و المثمن و غيره من دون الالتزام بشي ء من الألفاظ في الإنشاء كما في الثياب و اللحم و الفواكه و الحبوب و سائر ما يحتاجون إليه، مع أنّهم يرونها بيعا مملكا و يتعاملون معه معاملة الملك في جميع تصرفاتهم.

ما يلزم القول بالاباحة من الإشكالات:

هذا و ممّا يلزم على القول بالاباحة ما ذكره المحقق كاشف الغطاء قدّس سرّه من لزوم تأسيس قواعد جديدة على هذا القول، ثم ذكر هنا ثمانية إشكالات لا بأس بذكرها (و إن كانت عمدتها ما عرفت) و ذكر ما اجيب عنها حيث نرى أنّها مجرّد استبعادات، أو امور يمكن أن تذكر بعنوان الدليل، فنقول و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية:

الإشكال الأول: إنّ العقود و ما قام مقامها، تتبع القصود، و لازم القول بالاباحة هدم هذه القاعدة.

و ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه

في جوابه أمرين:

أولا: إنّ المعاطاة عند القائل بالاباحة ليست من العقود، لأنّ الإنشاء الفعلي لا يقوم مقام الإنشاء القولي عندهم، و أمّا الاباحة فهي حكم شرعي دلّ الدليل عليه.

ثانيا: إنّ تخلف العقود عن القصود كثير، ثمّ ذكر أمثلة خمسة له:

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 44

1- تأثير العقد الفاسد لضمان قيمة المثل مع أنّ المتبايعين قصدا قيمة المسمى.

2- الشرط الفاسد، فإنّه ليس مفسدا عند أكثر القدماء مع أنّ العاقد لم يقصد العقد إلّا مقرونا به.

3- بيع ما يملك و ما لا يملك، و كذا ما يملك و ما لا يملك الذي ذكروا صحته فيما يملك أو فيما يملك دون غيره.

4- بيع الغاصب لنفسه، حيث ذكروا دخوله في البيع الفضولي مع أنّه لم يقصد المالك الأصلي.

5- إن ترك ذكر الأجل في المتعة يوجب انقلابها عقد دائما مع أنّهما لم يقصداه (انتهى ملخصا).

أقول: و يرد عليه: إنّ مفروض كلام المحقق قدّس سرّه المذكور، كون الاباحة مملّكة، لأنّ الاباحة الشرعية من دون إذن المالك في باب الأموال عجيب، كما ذكره صاحب الجواهر قدّس سرّه، فإذا فرض أنّ الاباحة مالكية، لزم تخلف العقود عن القصود.

و الإنصاف أنّ هذا التخلف و إن لم يكن محالا عقلا، و لكن إثباته شرعا يحتاج إلى دليل قوى يصلح لتأسيس مثل هذه القاعدة الجديدة.

و أمّا الموارد التي أشار إليها و جعلها من مصاديق التخلف، فلا يتمّ شي ء منها، بل أمرها دائر بين ما هو ثابت (و ليس من التخلف) و ما هو غير ثابت و إن كان من مصاديقه.

«توضيحه»: أنّه لا ينبغي الإشكال في كون الضمان في العقد الفاسد- كما حققناه في محله- مستندا إلى مسألة الاقدام و اليد، فلا دخل له بمسألة تخلف العقود عن

القصود.

أمّا مسألة شرط الفاسد فقد يقال أنّها من قبيل الالتزام في الالتزام، و فساد أحد الالتزامين لا يسري إلى الآخر، و لكن التحقيق أنّ أحد الالتزامين مقيد بالآخر، و إنّما لا يسري فساده إليه لأنّه في نظر العرف من قبيل تعدد المطلوب، نعم لا يبعد الالتزام بالخيار عند فساده.

و منه يظهر الحال في بيع ما يملك و ما لا يملك، فإنّه أيضا من هذا الباب و لو فرض كونه في بعض المقامات من قبيل وحدة المطلوب بنظر العرف و العقلاء، فسوف يسري الفساد منه إليه.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 45

و أمّا مسألة بيع الغاصب لنفسه، فيمكن الجواب عنه:

أولا: بأنّ الغاصب يرى نفسه مالكا ادعاء، فإذا اشترى لنفسه اشترى للمالك واقعا.

ثانيا: بأنّ أركان البيع هي العوضان، و أمّا المالكان فليسا من أركانه، بخلاف النكاح و الوكالة و شبههما ممّا يدور مدار الأشخاص.

و أمّا مسألة المتعة فالمشهور كما في المسالك انعقادها دائما بترك ذكر الأجل، و استدل عليه بما رواه ابن بكير عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ سمّى الأجل فهو متعة، و إن لم يسمّ الأجل فهو نكاح ثابت» «1».

و يمكن أيضا الاستدلال له بروايتي أبان بن تغلب و هشام بن سالم المذكورتين في نفس الباب «2».

و لكن الإنصاف أنّ هذا الحكم ممنوع جدّا، لعدم قيام دليل عام و لا خاص عليه، و النص إنّما هو دليل على أنّ تفاوت العقد الدائم و المتعة إنّما هو بذكر الأجل و عدم ذكره، و لا تعرض له لما إذا قصدا المتعة و نسيا ذكر الأجل.

و في المسألة قولان آخران يقومان على أساس التفصيل بين الموارد، فراجع الجواهر و المسالك.

فتحصل من جميع ما ذكرنا عدم وجود نقض واحد لقاعدة تبعية

العقود للقصود.

و بالجملة هذا الإشكال و إن لم يكن دليلا قطعيا على بطلان القول بالاباحة و لكنه من المبعدات القوية له.

الإشكال الثاني: حصول الملك بالتصرفات الناقلة، و لازمه كون إرادة التصرف مملكا، فإذا أراد وقف ما أخذه بالمعاطاة مثلا أو هبته أو بيعه صار بمجرّد إرادته القريبة من العمل ملكا له، و كذا إذا تصرف فيه بالاتلاف، فان جواز الاتلاف و إن كان لا يلزم الملكية إذا كان برضا مالكه أو باجازة مالك الملوك، و لكن المفروض ضمانه بالمسمى لا بالقيمة، و هذا غير ممكن بدون دخول العوض في ملكه.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 46

هذا و قد أجاب عنه شيخنا الأنصاري قدّس سرّه و تبعه عليه غيره بأنّه لا مانع من التزامه إذا كان مقتضى الجمع بين الأصل، و دليل جواز التصرف المطلق، و أدلة توقف بعض- التصرفات على الملك، كتصرف ذي الخيار و الواهب فيما انتقل عنهما بالوطي و البيع و العتق و شبهها.

أقول: إن أراد أنّه لا مانع منه عقلا فهو صحيح، و إن أراد أن لا مانع منه شرعا فهو قابل للإشكال، فانّ مثل هذا من الغرائب في أحكام الشرع لا يمكن المسير إليه إلّا بدليل قوى، لما ذكرنا في محله من أنّ إثبات مثل هذه الأحكام الغريبة لا يمكن بمجرّد أصل أو خبر واحد و لو كان صحيحا.

و أمّا ما ذكره من الأمثلة فهي أجنبية عمّا نحن فيه، فانّ تصرف ذي الخيار منطبق على موازين القواعد و هو الفسخ العملي و إعمال الخيار، و كذا في الواهب و شبهه، و اين هو ممّا لا ينطبق على شي ء من القواعد بل هو تعبد صرف.

الإشكال الثالث: و ممّا يلزم هذا القول من الامور المخالفة

للقواعد المعروفة تعلق الأخماس و الزكوات و الاستطاعة و الديون و المواريث بما في اليد مع العلم ببقاء مقابله و عدم التصرف فيه.

و أجاب عنه شيخنا الأعظم قدّس سرّه: بأنّه استبعاد محض، و دفعه بمخالفته للسيرة رجوع إليها (أي الاستدلال بالسيرة لا بما ذكره).

أقول: لبّ الكلام، أنّ تعلق الخمس و الزكاة و ... بما هو مباح للإنسان و ليس ملكا له، ممّا لم يعرف له دليل في الشرع، بل جميع الأدلة دالة على تعلقها بالأملاك.

فهذا أيضا ممّا لا يعرف أهل الشرع شبيها له في الفقه، و إثبات مثل هذا الحكم المخالف لكثير من قواعده دونه خرط القتاد، و كذا بالنسبة إلى الإرث و شبهه.

و لهذا كان ترك بعض الأدلة الضعيفة الدالة على قول المشهور، و إن بلغت بعض مراتب الحجّية (لو كان لهم دليل كذلك) أولى من ارتكاب هذه الامور التي لا تناسب قواعد الفقه و الاصول المعروفة من المذهب.

الإشكال الرابع: كون التصرف من جانب مملّكا للجانب الآخر.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 47

و أجاب عنه في المكاسب بأنّه ظهر جوابه.

أقول: كأنّ مراده أنّه مجرّد استبعاد بعد ما اقتضى الجمع بين الأدلة ذلك.

و أنت خبير أنّه أيضا مخالف للقواعد المعروفة من الشرع المقدس، و لا يمكن المسير إليه بسهولة، و لم يعرف مثل هذا الحكم في موضع آخر، و هذا ممّا يوجب الظنّ القوي المتاخم للعلم للفقيه، على أنّ مسيره في هذا الحكم غير صحيح و إلّا لما انتهى إلى هذه الأحكام العجيبة المخالفة لأصول المذهب من كل جانب.

الإشكال الخامس: إنّ التلف المساوي من جانب، مملّك للجانب الآخر، و التلف من الجانبين مع التفريط (أو الاتلاف من الجانبين) معين للمسمى، و لا رجوع إلى قيمة المثل حتى

يكون له الرجوع بالتفاوت.

و أجاب عنه في المكاسب بما حاصله: إنّ الجمع بين الأدلة الثلاثة (أصالة عدم الملك إلّا في الزمان المتيقن، و عموم على اليد، و الإجماع على الاباحة) يقتضي كون كل منهما مضمونا بعوضه لا بالمثل، فيقدر كلّ منهما آنا ما قبل التلف في ملك من بيده، فينتج كونه مضمونا بعوضه، نظير تلف المبيع قبل قبضه فإنّه من مال بايعه و يكون مضمونا بعوضه لا بالمثل.

قلت: أمّا تلف المبيع قبل قبضه، فهو في الواقع شبيه الفسخ القهري، لأنّ الاقباض من تمام البيع، فإذا لم يحصل، لم يتمّ البيع و انفسخ قهرا، بخلاف المقام، فإنّ التلف يوجب ملك كل منهما لما في يده، و هذا ممّا لا يناسب قواعد المذهب و لم يعرف له نظير.

نعم، بالنسبة إلى غصب الغاصب الذي ذكره في كلامه، يمكن قبول جواز مطالبة كل من المالك و المباح له، و حكم تلفه في يد الغاصب حكم التلف في يد المباح له، و الكلام هو الكلام فيما سبق.

و الإنصاف أنّ بعض هذه الوجوه يرجع إلى بعض آخر.

الإشكال السادس: إن التصرف لو كان من النوافل القهرية بدون النّية فهو بعيد، و إن كان متوقفا على النّية، كان الواطئ للجارية بدون نيّة التملك، واطيا بالشبهة.

و العجب أنّ شيخنا الأعظم قدّس سرّه لم يجب عنه، و أجاب على ما بعده و لعله أو كله إلى انوار الفقاهة، ج 1، ص: 48

وضوحه عنده، و أنّ سبيله سبيل ما مرّ من أنّه مقتضى الجمع بين الأدلة و أنّ الملك يحصل هنا و لو بدون النّية.

و أنت خبير بأن حصول الملك بمجرّد التصرف المتوقف على الملك حتى بدون أي نيّة من الغرائب التي لم نعرف لها شبيها في

الفقه، و ليس هذا مجرّد استبعاد، بل المراد أنّه حكم مخالف لقواعد الفقه لا يثبت إلّا بدليل قوى لا نجده في المقام.

الإشكال السابع: و من المشكلات المترتبة على هذا القول، حكم النماء، فإنّه لا شك في حلية النماء الحاصل من العين المأخوذة بالمعاطاة، مع أنّه لو قيل بأنّ حدوثه مملك له دون العين كان بعيدا و معها كذلك، و كلاهما مخالف لظاهر الأكثر (فإنّ ظاهر هم ليس ملكية النماءات مع أنّ السيرة مستمرة على معاملة الملك معها) و شمول الاذن له خفي.

و أجيب عنه: أولا: بأنّ ظاهر المحكي عن بعض أنّ القائل بالاباحة لا يقوم بتملك النماءات، بل يرى حكمها حكم أصل العين، يعني مجرّد الاباحة.

ثانيا: يحتمل أن يحدث النماء في ملكه بمجرّد الاباحة (ذكرهما في المكاسب).

ثالثا: إنّ النماء و أصله يصيران ملكا للمباح له بمجرّد حصول النماء، و ذلك لأنّ مقتضى كون المعاطاة بيعا عرفيا حصول الملكية من أول الأمر، و لكن يمنعنا الإجماع، حيث إنّه دليل لبّي يقتصر على القدر المتيقن، و هو ما إذا لم يحصل النماء، فإذا حصل كان كلامهما ملكا له (ذكره مصباح الفقاهة).

أقول: حاصل الجواب الأول: أنّ الأصل إذا كان مباحا و مأذونا كان النماء الذي فرعه كذلك، لا ملكا، و لكنك خبير بأنّه يعامل مع النماءات معاملة الملك، فاللبن الحاصل من البقرة المأخوذة بالمعاطاة، و كذا الثمرة الحاصلة من الشجرة تحسب ملكا و يتصرف فيها المشتري تصرف المالك في ملكه.

لكن يمكن أن يقال: بأنّ النماء يصير ملكا بإرادة التصرف، فالكلام فيه كما في سابقه، نعم يلزم هنا زيادة الفرع على الأصل كما لا يخفى.

و أمّا الثاني فيرد عليه، بأنّ كون اباحة الأصل سببا لملك الفرع ممّا لا نعرف

له وجها، بل النماء تابع للأصل.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 49

و أمّا الثالث فهو من العجائب، فإنّ لازمه صيرورة كثير من الأعيان المأخوذة بالمعاطاة ملكا، بزمان يسير، لظهور النماء فيه، و هذا لا يوافق ظاهر كلمات المشهور كما لا يخفى.

و الإنصاف أنّ يقال: إنّ هذا أيضا من الغرائب و لا تساعده القواعد المعروفة في الفقه، بأن تكون النماءات ملكا و لو كان الأصل مباحا غير ملك.

الإشكال الثامن: و آخر ما ذكره من هذا الباب، أن يكون المتصرف في المباح له، موجبا قابلا، لأنّه يملكه لنفسه باذن المالك، ثم يقبله اصالة فيكون موجبا قابلا، و إذا جاز ذلك فلم لا يجوز هذا في نفس القبض عند التعاطي؟ بل هو أولى من سائر التصرفات لأنّه مقرون بقصد التمليك (هذا مفاد كلامه).

و لكن التحقيق أنّ هذا لا يعدّ إشكالا جديدا بعد إشكال كون إرادة التصرف مملّكا، و إنّما يرد هذا على من يقرر الجواب من إشكال التصرف من طريق الاذن في الإيجاب من قبل المالك، ثمّ القبول من قبل نفسه، لا على الجميع.

و بالجملة هذه الإشكالات الثمانية و إن رجع بعضها إلى بعض و كانت في الواقع أقل عددا من هذا، و لكنها في المجموع تعدّ إشكالا قويّا على القول بالاباحة، و حاصله أنّ الالتزام بلوازم الاباحة مشكل جدّا لا يمكن المصير إليه إلّا بأدلة قوية قادرة على تخصيص القواعد المعروفة في الفقه، و هي مفقودة في المقام، بل ليس لهم إلّا دعوى الإجماع، و هو ضعيف جدّا، و أمّا تسليط المالك المباح له على ملكه، فالظاهر أنّه فرع علمه بكونه مالكا من طريق التعاطي لا مطلقا.

فتحصل من جميع ذلك أنّ القول بالاباحة يقوم عليه دليل، بل هناك ما

يدلّ على خلافه، و فيه معضلات و عويصات يشكل حلّها.

[المقام الثاني في الأدلة]
أدلة صحة المعاطاة:

أمّا أدلة القول بكون المعاطاة بيعا شرعيا موجبا للملك فهي كثيرة:

الأول: و هو العمدة، شمول اطلاقات أدلّة البيع و عموماتها، فإنّها بيع عرفي بلا إشكال انوار الفقاهة، ج 1، ص: 50

و تجارة عن تراض، و مصداق للعقد بما له من المعنى العرفي و اللغوي، و هو العهد أو ما في معناه، فيشملها قوله تعالى: أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ «1» و تِجارَةً عَنْ تَراضٍ «2» و أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «3» بل و اطلاقات بعض الروايات الواردة في أبواب المعاملات الواردة على عنوان البيع أو عنوان التجارة أو غير ذلك من أشباهها، فإنّها جميعا عامّة شاملة للمعاطاة و غيرها، و إنكار كونها بيعا أو تجارة و عقدا عرفا، مكابرة واضحة، كيف و جلّ معاملات الناس و تجاراتهم من هذا القبيل، بل قد عرفت أنّ الأصل في البيع كان بصورة المعاطاة و إنما حدث البيع بالصيغة بعد ذلك.

و إن شئت قلت: الإنشاء العقدي و إن لم يكن بصراحة الإنشاء اللفظي من بعض الجهات، و لكن أصرح منه من جهات اخرى، كما لا يخفى على الخبير.

و الحاصل: أنّ المسألة من قبيل الشك في اشتراط شي ء في صحة المعاملة، فكما يتمسك بالعمومات لنفي سائر ما يشك فيها، فكذا بالنسبة إلى الإنشاء اللفظي.

الثاني: السيرة المستمرة من زمن النبي الأكرام صلّى اللّه عليه و آله إلى زماننا هذا، بل و قبله، فلا يزالون يتعاملون بالمعاطاة و يرتبون جميع آثار الملك عليها و يرونها بيعا مملّكا من غير حاجة إلى الإنشاء اللفظي.

بل و كذا في غير البيع من الهدايا التي تهدى إلى المؤمنين و أهل العلم و غيرهم، و كذا إجازة المساكن و المراكب و غيرها،

و إنكار استقرار سيرة العقلاء و أهل الشرع طرا على ذلك مكابرة واضحة.

و من أعجب ما يمكن أن يقال في المقام القول بأنّ هذه السيرة نشأت من قلة المبالاة في الدين، مع العمل بها من أرباب التقوى و الصلاح، بل لو لم تقبل السيرة المستمرة الواضحة الظاهرة هنا لن تقبل في أي مورد آخر.

و لم يردع عنه الشارع المقدس بل أمضاه قطعا، و لو وردت هنا رواية ناهية لشاعت و ذاعت، لتوفر الدواعي على نقلها.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 51

بل جعله بعض الأكابر دليلا مستقلا، قال: إنّه لو كان الإنشاء اللفظي شرطا بحكم الشرع وجب على الشارع بيانه، و لو كان لبان، فعدم الدليل في مثل هذه المسألة دليل على العدم.

الثالث: إجماعهم على جواز التصرفات الموقوفة على الملك، و قد عرفت أنّ صحة هذه التصرفات غير ممكنة على القول بالاباحة إلّا بتكلّفات بعيدة و تعسفات عجيبة، و توجيهات ضعيفة جدّا، حتى أنّه قال السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه في بعض حواشيه: لا ينبغي صدورها عن الفقيه.

و لذا رجع شيخنا الأعظم قدّس سرّه في ذيل كلامه و اختار القول بالملك بعد ذكره التوجيهات السابقة لهذا القول.

أضف إلى ذلك ما عرفت من أنّ القول بالاباحة تعبدا من الشارع مع قصد المتعاطيين للملك، من البعد بمكان لا يوجد نظير له في الفقه، بل المتراءى منه جعل أمر الملك في المعاملات بيد مالكه، و الاباحة المالكية أيضا مفقودة، إلّا ببعض التوجيهات الضعيفة.

أدلّة القائلين ببطلان المعاطاة:

الأول: الروايات التي قد يتوهّم دلالتها على اعتبار الإنشاء اللفظي في البيع، أو على كونه متداولا في أعصار المعصومين عليهم السّلام، منها ما ورد في أبواب بيع المصحف من قبيل:

1- ما رواه عبد الرحمن بن سيابة عن أبي

عبد اللّه عليه السّلام قال سمعته يقول: «إنّ المصاحف لن تشترى فإذا اشتريت فقل إنّما اشتري منك الورق» «1» الحديث.

2- ما رواه سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال سألته عن بيع المصاحف و شرائها فقال: «لا تشتر كتاب اللّه و لكن اشتر الحديد و الورق و الدفتين و قل اشتري منك هذا بكذا و كذا» «2».

3- ما رواه عثمان بن عيسى قال: سألته عن بيع المصاحف و شرائها فقال: «لا تشتر كلام انوار الفقاهة، ج 1، ص: 52

اللّه و لكن اشتر الحديد و الجلود و الدفتر و قل اشتري هذا منك بكذا و كذا» «1».

4- ما رواه عبد اللّه بن سليمان قال: سألته عن شراء المصاحف فقال «إذا أردت أن تشتري فقل أشتري منك ورقه و أديمه و عمل يدك بكذا و كذا» «2».

لكن الإنصاف أنّ هذه الطائفة لا دلالة لها على ما ذكر أصلا، بل المراد منه حفظ حرمة المصاحف، فإنّه إذا أعطى الثمن في مقابلها معاطاة، فظاهر العمل كونه في مقابل تمام المصحف، و إنّما ينفصل حكم الجلد و الأديم عن الخطوط بالتصريح به لفظا.

و لا دلالة فيها أصلا على كون ذلك في مقام إنشاء البيع، بل يكفي كونها في المقاولة، حتى تكون المعاطاة مبنية عليها، و يشهد له أو يؤيده تقديم الإنشاء بالشراء في جميعها.

5- ما ورد في جواز بيع بعض ما في الأنبار مثل ما رواه بريد بن معاوية عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في رجل اشترى من رجل عشرة آلاف طن قصب في أنبار بعضه على بعضه من أجمة واحدة، و الأنبار فيه ثلاثون ألف طن فقال البائع: قد بعتك من هذا القصب عشرة آلاف طن، فقال المشتري:

قد قبلت و اشتريت و رضيت، فأعطاه من ثمنه ألف درهم و وكّل المشتري من يقبضه فأصبحوا و قد وقع النار في القصب فاحترق منه عشرون ألف طن و بقي عشرة آلاف طن، فقال عليه السّلام: العشرة آلاف طن التي بقيت هي للمشتري و العشرون التي احترقت من مال البائع» «3».

و لكن الظاهر أنّه أيضا أجنبي عمّا نحن فيه، بل هو قبيل بيع الكلي في المعين، و حيث لا يمكن المعاطاة فيه، لا محيص عن ذكره باللفظ، و إن شئت قلت: ليس فيها ما يدل على حصر صحة البيع بالإنشاء اللفظي، بل و ليس في مقام البيان من هذه الناحية.

6- ما رواه سماعة (في باب بيع الثمار قبل بدو الصلاح مع الضميمة) قال: سألته عن بيع الثمرة هل يصلح شراؤها قبل أن يخرج طلعها؟ فقال: «لا، إلّا أن يشتري معها شيئا من انوار الفقاهة، ج 1، ص: 53

غيرها رطبة أو بقلا فيقول: أشتري منك هذه الرطبة ... بكذا و كذا» «1».

و هذا أيضا لا دلالة له على حصر البيع في ما ينشأ بالالفاظ، بل مورده ممّا لا يمكن فيه المعاطاة، أو يشكل ذلك فيه، فان الثمر الذي لم يخرج طلعه لا يمكن في البيع، فإذا ضمّ إلى الموجود لا يتأتى بيعه إلّا بالكلام.

7- و هو العمدة، ما دلّ على حصر المحلل و المحرم في الكلام، و هو ما رواه يحيى بن الحجاج (أو يحيى بن نجيح) عن خالد بن الحجاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام الرجل يجي ء فيقول: أشتري هذا الثوب و اربحك كذا و كذا، قال عليه السّلام: «أ ليس إن شاء ترك و إن شاء أخذ؟

قلت: بلى، قال: لا بأس به إنّما يحلل الكلام و يحرم الكلام» «2».

و قد ذكر فيه شيخنا الأعظم قدّس سرّه احتمالات أربعة حاصلها:

1- المراد، حصر المحلل و المحرم في الكلام، و حينئذ تدلّ على المطلوب.

2- أن يكون تعبير محللا و تعبير آخر محرما، كعقد النكاح بلفظ النكاح أو التمليك.

3- كون كلام واحد في مقام محللا و في مقام آخر محرما، كإنشاء بيع ما لا يملك قبل تملكه، و إنشاءه بعده.

4- كون المقاولة محللا و الإيجاب محرما، في بيع ما ليس عنده.

فالأول دليل على عدم صحة المعاطاة، و الثاني لا ربط له بها، و الأخيران هما المرادان من هذه الرواية، بقرينة المقام، و بقرينة سائر ما ورد في هذا الباب من الروايات.

أقول: الإنصاف أنّ الرواية مع ضعف سندها لجهالة ابن الحجاج أو ابن نجيح كليهما، لا دلالة لها على بطلان بيع المعاطاة، أو عدم إفادته الملكية أو عدم لزومها أصلا، بل هي أجنبية عمّا نحن بصدده، و ليس مفادها إلّا الاحتمال الرابع بقرينة قوله عليه السّلام: «أ ليس إن شاء ترك، و إن شاء أخذ، قال لا بأس به»، و هذا كالصريح في أنّ بعض أنواع الكلام يحلل، (و هو المقاولة) و بعضها يحرم و (هو إنشاء عقد البيع).

نعم قد يستدل بها بطريق آخر، و هو أنّ حصر المحلل في الكلام على كلّ حال، دليل انوار الفقاهة، ج 1، ص: 54

على حصر البيع المحلل فيما ينشأ بالصيغة اللفظية.

و لكن يجاب عنه: بأنّ المقام ممّا لا يتأتى فيه المعاطاة عادة، لأنّ المفروض عدم حضور المتاع قبلا، فلا يمكن اعطائه.

إن قلت: تجوز المعاطاة و لو باعطاء الثمن، كما سيأتي إن شاء اللّه.

قلت: نعم و لكن هذا غير متعارف في

بيع ما ليس عنده، كما لا يخفى على من راجع العرف هنا، فلا يبقى إلّا المقاولة أو الإنشاء اللفظي من دون عقد البيع.

هذا و ذكر شيخنا العلّامة الأنصاري قدّس سرّه في المتأخر: إنّ الاحتمال الأول من الأربع (الذي يمكن التوسل به لنفي صحة المعاطاة) مضافا إلى عدم ارتباطه بمورد الحديث و صدره، يوجب تخصيص الأكثر، لأنّ المحلل و المحرم في الشريعة لا ينحصران في الكلام (فكثير من أسباب التحريم في باب النكاح و المآكل و المشارب و غيرها لا ربط لها بالكلام).

و قد أورد عليه بعض الأكابر في كتاب البيع: بعدم لزوم تخصيص الأكثر، لأنّ جميع المحرمات و المحللات ترجع إلى سببية الكلام لهما، حتى أنّ المعاطاة حلال لقوله تعالى:

أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، فهذا الكلام موجب للحلية بعد اندراج المعاطاة في عنوان العقد «1».

هذا و في كلامه مواقع للنظر:

أولا: و هو العمدة، إنّ سببية الكلام هنا للحلية و الحرمة من قبيل العلية أو ما يشبه العلية لا الكشف، مع أنّ كلام الشارع أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أو غيره من أدلّة الشرع كاشف عن الحلية و الحرمة لا علّة لهما، كما هو ظاهر، فقد وقع الخلط هنا بين «السببيّة» و «الكاشفية» كما لا يخفى.

ثانيا: بناء على ما ذكره لا يبقى مورد للمفهوم، لأنّ جميع المحرمان غير اللفظية ترجع بالأخرة إلى حكم الشارع و ألفاظه، إلّا أن يكون المراد حصر الحلال و الحرام في خصوص مورد التصريح به في الشرع، و هو بعيد جدّا عن مساق الرواية.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 55

و بالجملة هذه الرواية لا دلالة لها و لا إشعار على بطلان بيع المعاطاة.

و يشهد لذلك ما ورد في هذا الباب بعينه من رواية اخرى ليحيى بن الحجاج قال:

«سألت أبا عبد

اللّه عليه السّلام عن رجل قال لي اشتر هذا الثوب و هذه الدابة و بعينها اربحك فيها كذا و كذا قال: لا بأس بذلك اشترها و لا تواجبه البيع قبل أن تستوجبها أو تشتريها» «1».

و ما رواه منصور بن حازم قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل طلب من رجل ثوابا بعينه قال: ليس عندي، هذه دراهم فخذها، فاشتر بها، فأخذها فاشترى بها ثوبا كما يريد، ثم جاء به،، أ يشتريه منه؟ فقال: «أ ليس إن ذهب الثوب فمن مال الذي أعطاه الدراهم؟ قلت بلى، قال: إن شاء اشترى و إن شاء لم يشتر؟ قلت: نعم قال: لا بأس به» «2».

و ما رواه إسماعيل بن عبد الخالق قال: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن العينة ... فقال: أ ليس أنّه لو شاء لم يفعل لو شئت أنت لم تزد؟ فقلت: بلى، لو أنّه هلك فمن مالي، قال: لا بأس بهذا» «3».

و هي رواية طويلة شاهدة على أنّ المراد كون المقاولة سببا للحلية، و الإيجاب اللفظي في بيع ما ليس عنده سببا للحرمة.

و كذا ما رواه فضالة عن العلاء قال: «قلت: لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل يبيع البيع فيقول أبيعه بده دوازده أو ده يازده، فقال: لا بأس إنّما هذه المراوضة، فإذا جمع البيع جعله جملة واحدة» «4».

و ممّا يستدلّ به على عدم صحة المعاطاة ما ورد من النهي عن بيع «المنابذة» و «الملامسة» و بيع «الحصاة» كما أشار إليه ابن زهرة في محكي الغنية و قال: و لما ذكرنا (أي عدم انعقاد البيع بالمعاطاة) نهى صلّى اللّه عليه و آله عن بيع المنابذة و الملامسة و عن بيع الحصاة

انوار الفقاهة، ج 1، ص:

56

على التأويل الآخر، ثم قال: معنى ذلك أنّ يجعل اللمس بشي ء، و النبذ له، و إلقاء الحصاة، بيعا موجبا، انتهى.

أقول: فقد لا حظت بعض كلماتهم في معنى هذه البيوع و هي لا تخلو عن إجمال و إبهام، فإن كان النهي عن هذه البيوع لمجرّد كون الإيجاب باللمس و النبذ و إلقاء الحصاة، كان دليلا أو مؤيدا لهذا القول بلا إشكال، و لكن الذي يظهر بالتأمل فيما روى في هذا المعنى في الأحاديث و تفسيرها، أنّ النهي عنها كان للجهل و الغرر لا غير، فحينئذ لا تدل على المطلوب أصلا.

ففي سنن البيهقي عن أبي هريرة: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نهى عن بيع الغرر و عن بيع الحصاة» «1».

فإن عطفهما في كلام واحد دليل على ما ذكرنا.

و فيه أيضا عن أبي سعيد الخدري عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أنّه نهى عن لبستين و بيعتين، نهى عن الملامسة و المنابذة في البيع، و الملامسة لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو النهار لا يقلّبه إلّا ذلك، و المنابذة أن ينبذ الرجل ثوبه و ينبذ الآخر ثوبه، و يكون ذلك بيعهما من غير نظر و لا تراض» الحديث، ثم فسّر البيتين «2».

إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا المعنى.

و بالجملة لا دلالة لهذا النهي على المنع عن بيع المعاطاة، و لا أقل من ابهامه و أنّه بسبب الغرر، و هو كاف في عدم دلالته.

و تلخص من جميع ما ذكرنا أنّ بيع المعاطاة موجب للملك، و يترتب عليه جميع أحكام النقل و الانتقال، بل يظهر ممّا ذكرنا «كونه بيعا لازما» لأنّه مقتضى جريان سيرة العقلاء، و أهل الشرع، مضافا إلى ظهور قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ

في ذلك، بعد كونه عقدا، و كذلك غيره ممّا استدل به على أصالة اللزوم في المعاملات، مثل قوله صلّى اللّه عليه و آله:

«الناس مسلطون على أموالهم» و أنّه «لا يحلّ مال امرئ إلّا عن طيب نفسه» إلى غير ذلك.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 57

و دعوى الإجماع على عدم اللزوم كما ترى، لعدم الاعتداد الإجماع في أمثال المقام لو كان ثابتا، كيف و لم يثبت؟

بقي هنا شي ء: و هو أنّك قد عرفت أنّ بيع المعاطاة و إن كان أمرا شايعا، بل أشدّ شيوعا من البيع بالصيغة عند العقلاء، إلّا أنّه غير متعارف في البيع الخطيرة جدّا، فلا يتعارف بيع الدار أو الضياع و العقار بمجرّد التعاطي، بل المتعارف فيها إنشاء البيع لصيغ، أو التوقيع كتبا، أو كليهما، فالاكتفاء بالمعاطاة في أمثال ذلك لا يخلو عن إشكال بعد انصراف اطلاق الأدلة إلى ما هو المتعارف من العقود.

و بهذا يمكن الجمع بين بعض كلمات الأصحاب التي يظهر منها الخلاف، و ذكر المثال باعطاء الدرهم للبقل و شبهه لعله ناظر إلى ذلك، فتأمل.

[المقام الثالث في تنبيهات
التنبيه الأوّل: هل يعتبر في المعاطاة جميع شروط البيع؟

الجواب عن هذا السؤال يختلف باختلاف المباني في مسألة المعاطاة.

و توضيح ذلك: أنّ المسألة لا تخلو من وجوه:

الوجه الأول: إن قلنا بأنّ المعاطاة مفيدة للملك بعد أن قصد بها ذلك و أنّ الذي يدور عليه رحى المعاملات المتعارفة غالبا هو هذا المعنى- كما هو المختار بل قد عرفت أنّها تفيد اللزوم أيضا- فلا ينبغي الكلام في كونها بيعا عرفا و شرعا و يشترط فيها جميع شرائط البيع، ما عدا الصيغة اللفظية: من عدم جهالة العوضين، و القدرة على التسليم، و غير ذلك، بل يحرم فيها الربا، و يجري فيها الخيارات كلّها، و سيأتي إن شاء اللّه أنّ

الإشكال في جريان بعضها فيه في غير محله.

هذا و قد يقال: إنّها «معاوضة مستقلة» كما حكاه السيد قدّس سرّه في الحاشية عن مفتاح انوار الفقاهة، ج 1، ص: 58

الكرامة «1» و نسبه إلى ظاهر العلماء، فلا يشترط فيها شروط البيع، و لكنه بعيد جدّا و لعله مبني على القول بالاباحة.

الوجه الثاني: إذا قلنا بأنّ المقصود من المعاطاة، التي هي مورد كلام الأصحاب، الاباحة و نتيجتها أيضا اباحة التصرفات، أو قلنا إنّ المعاطاة على نوعين، و ما يراد به الاباحة نوع منها، فحينئذ لا ينبغي الشك في عدم صدق عنوان البيع عليها، لا عرفا و لا شرعا، لما عرفت في تعريف البيع في أوّل هذه المباحث، و أنّه تمليك مال بعوض، و المفروض أنّ المعاطاة ليست كذلك، فحينئذ لا وجه للأخذ باطلاقات أدلّة الشروط، و لا الإجماعات فيها، و لا الأحكام و الآثار المترتبة على البيع، من الخيارات، و أحكام الصرف و السلم، و غيرها، و لعلها تكون معاوضة مستقلة حينئذ، و على كلّ حال المرجع عند الشك هو الأدلة الدالة على صحة هذه الاباحة المعوضة، و قد ذكر شيخنا الأعظم الأنصاري قدّس سرّه أنّه لو تمسكنا فيها بالسيرة لزم الاقتصار على القدر المتيقن، فكلّ شرط شك فيه لا بدّ من اعتباره.

و أمّا إذا أخذ باطلاق أدلّة السلطنة، كان مقتضى القاعدة نفي جميع الشروط عنه إلّا ما ثبت بدليل (فلا يعتبر فيه معلومية العوضين و لا غير ذلك من أشباهه، أمّا حكم الربا و شبهه فسيأتي إن شاء اللّه).

و قد أورد عليه في «مصباح الفقاهة»:

أولا: بأنّ دليل السلطنة ضعيف السند.

ثانيا: بأنّ مفاده لا يثبت موضوعه، فإنّه يدلّ على عدم منع المالك من كلّ تصرف مشروع في أمواله،

و أمّا أنّ هذا التصرف مشروع أم لا؟ فلا دلالة عليه.

و ثالثا: إنّ السيرة إن كانت عقلائية فلا تصحّ إلّا بعد امضاء الشرع، و إن كانت سيرة المتشرعة فلا إشكال في قيامها على أصل اباحة التصرف، أمّا إذا شك في جواز بعض التصرفات كالتصرفات المتوقفة على الملك فلا بدّ أن يرجع في كلّ تصرف شك في جوازه إلى دليل صحته.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 59

أقول: الحق كما ذكرنا في محله- من القواعد الفقهية- أنّ دليل السلطنة تام لا غبار عليه، هذا أولا.

و ثانيا: فهو و إن كان لا يثبت موضوعه، إلّا أنّه إذا كان التصرفات الكذائية مباحة عند العقلاء، فلا ريب في شمول دليل السلطنة لها، و إن شئت قلت: إنّ قاعدة السلطنة كانت موجودة عند العقلاء قبل الشرع، و قد امضاها الشارع بما لها من السعة- إلّا ما خرج بدليل الخاص، فيجوز العمل بها فيما ثبت عند العقلاء.

و ثالثا: السيرة العقلائية ممضاة بسكوت الشارع (مع قطع النظر عن دليل السلطنة) و أمّا سيرة المتشرعة فقد جرت أيضا على جواز جميع التصرفات فلا حاجة إلى دليل آخر.

فتلخص من جميع ذلك أنّ للمالك اباحة ما له بما هو متعارف بين العرف و العقلاء، و من المعلوم أنّ اباحة التصرفات المتلفة و الناقلة رائجة بينهم في المعاطاة، اللّهم إلّا أنّ يقال: إنّه اذن في التملك و ليس ببعيد في بعض المقامات.

الوجه الثالث: المفروض أنّ مقصودها هو التمليك و البيع، و لكن لما كان فاقدا للصيغة حكم بفساده شرعا، ثم قام الإجماع على اباحة التصرفات، فعلى هذا «ما قصد لم يقع و ما وقع لم يقصد» و لازم ذلك الأخذ بالقدر المتيقن، أعني ما اجتمع فيه جميع شرائط البيع،

و المعلومة منها و المشكوكة، لأنّ المفروض عدم كون الاباحة مالكية لتؤخذ بدليل السلطنة، أو بناء العقلاء و سيرتهم، بل الاباحة الشرعية ثابتة بالإجماع و هو دليل لبّي يؤخذ منه بالقدر المعلوم، و هو واضح.

أمّا حكم الربا، فهو أيضا يختلف على المباني، فان قلنا أنّ المعاطاة تفيد الملك، فلا إشكال في كونها بيعا يجري فيها الربا، و كذا إن قلنا أنّها تفيد الاباحة و لكنّها معاوضة مستقلة، بناء على جريان الربا في جميع المعاوضات كما هو المشهور، و أمّا لو قلنا أنّ المقصود هو الملك و إنّما حصلت الاباحة تعبدا، فليست بيعا و لا معاوضة، و حينئذ يشكل جريان الربا فيها، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ الربا يجري فيما يفيد فائدة المعاوضة و إن لم يكن كذلك فتأمل.

أمّا الخيارات، فهل تجري في المعاطاة مطلقا، أو تجري كذلك، أو يفصل بين ما ثبت انوار الفقاهة، ج 1، ص: 60

بدليل خاص فلا يجري (مثل خيار المجلس) و ما ثبت بدليل عام يجري (مثل خيار الشرط و الغبن) وجوه، و الإنصاف هنا أيضا ابتناء الحكم على المباني السابقة ...

فإن قلنا بالملكية و اللزوم، فمن المعلوم أنّها بيع تجري فيه جميع أحكامه و منها الخيارات عموما و خصوصا.

و أمّا لو قلنا أنّها لا تفيد إلّا الاباحة، فقد يقال بصدق البيع عليها عرفا و إن قام الإجماع على عدم تأثيرها شرعا، فتكون مشمولة للعمومات، و حينئذ إن قلنا أنّ الخيار هو التسلط على الفسخ فعلا، فلا شك أنّها غير مشمولة لها، و أمّا إن قلنا أنّ ثبوت الخيار بمعنى إلغاء ما يكون بالقوة مؤثرا في النقل و الانتقال، فشمول أدلّته لها ممكن.

أقول: فيه نظر من وجوه:

أمّا أولا: فلأنّ صدق البيع عليها

عرفا مع ابطاله من ناحية الشرع و منعه منها لا يبقى لها أثر أو فائدة، و القول بشمول العمومات لها حينئذ عجيب جدّا.

و امّا ثانيا: إنّ الاباحة هنا إن كانت مالكية فهي منوطة برضا المالك، فترتفع بارتفاع رضاه من غير حاجة إلى الفسخ، و إن كانت اباحة شرعية فلا معنى لدخول الخيار فيها، اللّهم إلّا أن يقال: «الاباحة المعوضة نوع معاوضة يجري فيها الخيار فليست الاباحة لوحدها دائرة مدار رضى المالك، بل هي معاوضة تحققت بين المالكين».

و ثالثا: سلمنا أنّها بيع، أو أنّها معاوضة مستقلة، لكن الانصاف أنّ أدلة الخيار منصرفة عن عقد لا يبتني على اللزوم بحسب ذاته، و إنّما تجري فيما يكون لازما ذاتا، لا أقول: لا يعقل جريان الخيار في مثله من جهة اللغوية، حتى يجاب بظهور أثره في ما إذا حصل أحد ملزمات المعاطاة، بل أقول: إنّ ظاهر أدلة الخيارات إثبات حق الفسخ فيما ليس في طبيعته ذلك، و أمّا ما كان من طبيعته الجواز فلا تشمله و إن آل أمره أحيانا إلى اللزوم.

هذا مضافا إلى لزوم التفصيل بين الخيارات الخاصة بالبيع و غيرها، لأنّ هذه المعاوضة المستقلة لا يصدق عليها عنوان البيع على الفرض.

و أمّا إن قلنا بأنّها تفيد الملكية الجائزة، فلا إشكال في صدق البيع عليها، لذا قد يقال بشموله أدلّة الخيارات لها، و دعوى اللغوية ممنوعة لظهور أثر الخيار عند ظهور الملزمات،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 61

و لذا لا مانع من ثبوت أنواع الخيارات في عرض واحد، كخيار المجلس و الشرط و الحيوان و غيرها مع أنّ الإشكال واحد.

هذا و لكن قد عرفت أنّ انصراف أدلّة الخيارات إلى العقد المبنى على اللزوم بحسب ذاته قوي، و حينئذ قياس تعدد

الخيارات على ما نحن فيه قياس مع الفارق، لأنّ عقد البيع المبني على اللزوم يقتضي جريان أنواع المجوزات للفسخ فيه، و أمّا ما بني على الجواز بحسب طبيعته فلا تشمله أدلة الخيارات كما مر.

فحصل من جميع ما ذكرنا أنّ شمول أدلّتها للمعاطاة ممنوع مطلقا إلّا على القول بلزومها كما هو المختار.

نعم إذا حصل السبب (سبب الخيار) بعد وجود أحد الملزمات أمكن القول بشمولها لها، فتدبر جيدا.

التنبيه الثاني: هل المعاطاة مشروطة بالتعاطي من الطرفين، أم لا؟

لا إشكال في حصولها بتعاطي الثمن و المثمن من الجانبين من ناحية المالكين، إنّما الكلام في غيره، و هو على أقسام:

تارة: تكون المعاطاة نسية باعطاء المثمن فقط.

و اخرى: سلفا باعطاء الثمن فقط.

و ثالثة: بأنّ يباع كلّي حاضر كما إذا وقعت المقاولة على بيع منّ من حنطة فأعطاه ثمنه أو بالعكس.

و رابعة: بايصال الثمن و المثمن كما هو المتعارف في أيّامنا من وضع النقود في صندوق موضوع لهذا الغرض، ثم أخذ المتاع منه بواسطة أجهزة كهربائية أو في الأزمنة السابقة بوضع الفلوس عند محل السقاء إذا كان غائبا أو نائما و أخذ الماء من إنائه و أشباهه.

و خامسة: إذا وقعت المقاولة فقط أو وقعت صيغة فاقدة للشرائط على بيع حاضر مع رضى الطرفين به، من غير اعطاء و أخذ في الحال.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 62

سادسة: إذا كان واحد منهما عين عند صاحبه، كالوديعة مثلا فتقاولا ثم قصد كلّ منهما أن يكون ما عنده بازاء ما عند صاحبه، فهذه ستة أقسام، و مع قسم التعاطي من الجانبين تكون سبعة أقسام:

و السؤال هو: هل هذه كلّها من أقسام المعاطاة، أو يصحّ بعضها دون بعض؟

لا إشكال في صحة القسمين الأولين و إن لم يصدق عليهما عنوان المعاطاة، فإنّه ليس هناك دليل لفظي يدور

مدار هذه اللفظة، إنّما المهم صدق البيع عليهما عرفا و هو ثابت، فإنّ البيع نسية أو سلفا بدون الصيغة أمر شايع ذايع بينهم، من دون شك، و بهذا يدخل تحت العمومات الدالة على الصحة.

مضافا إلى أنّ نفس السيرة العقلائية من الأدلّة بعد عدم ردع الشارع عنها، و هكذا الكلام في القسم الثالث لعين ما ذكر.

و أمّا القسم الرابع فالانصاف أنّه داخل في التعاطي، غاية الأمر أنّه ليس بالمباشرة بل بنوع من التسبب، فإنّ الاعطاء لا ينحصر بما يوضع في يد الآخر، بل بما إذا وضعه في محل يكون في دائرة تصرفه، كما لو وضعه في الصندوق الخاص أو المكان المعدّ له.

و من هنا يظهر الإشكال فيما حكاه شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المقام عن المحقق الأردبيلي قدّس سرّه كما يظهر الإشكال في ما ذكره في «مصباح الفقاهة» من الإشكال على جميع الأمثلة لهذا الأمر، حيث جعل أخذ الماء عن محل السقاء و جعل الثمن في محله من قبيل الاباحة بالعوض، لعدم معلومية مقدار ما يرتوي به، فلو كان بيعا كان غرريا.

و كذا جعل اجرة الحمامي على طاولته لعدم معلومية مقدار الماء الذي يستعمله بل و لا مقدار مكثه في الحمام، فلا يصحّ بيعا و لا اجارة.

و أمّا أخذ المتاع المعين من بعض الدكاكين و جعل ثمنه في محله، فهو من قبيل توكيل المشتري، ثم نقل عن بعض الأعلام القول بعدم صحة هذا التوكيل لعدم معلولية شخص الوكيل، ثم أجاب بأنّ المعلومية إنّما تعتبر في الوكيل الشخصي دون النوعي، كمن و كلّ علماء النجف مثلا على بيع متاعه أو ايجار داره، انتهى ملخصا.

و أنت خبير بما فيه:

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 63

أمّا الأول: فلما عرفت أنّ ذلك

كلّه من قبيل البيع بالتعاطي، و لا يلزم في التعاطي الأخذ باليد، بل يكفي جعله في المحل المعدّ له، فإنّه أخذ عرفا.

و ثانيا: إنّ هذا المقدار من الجهل مغتفر قطعا، و إن شئت قلت: إنّ المقدار المتعارف لارتواء الضمآن أو الغسل أو المكث في الحمام معيّن عند العرف، و إن كان يدور بين الأقل و الأكثر، و لكن هذا المقدار من الاختلاف لا يوجب الغرر، و إلّا اشكل الأمر في جميع الاجارات أو غالبها، نعم لو خرج عن المتعارف كمن مكث في الحمام ساعات كثيرة أو اغتسل بكر من الماء أو شبه ذلك، بل و أقل منه، لم يجز قطعا بالمبلغ المتعارف، بل لا بدّ من قيمة المثل أو اجرة المثل.

و ثالثا: الوكالة لا تصحّ إلّا بالمعين، سواء كان شخصا أو عدّة أشخاص و الوكالة النوعية لا دليل على صحتها مضافا إلى كونها مخالفة لما هو المتعارف عند العقلاء، و ما ذكره من توكيل علماء النجف مع عدم معرفة عددهم و أشخاصهم، مشكل جدّا.

و أمّا الخامس: فالمقاولة بذاتها غير مفيدة ما لم يكن هناك إنشاء لفظي أو فعلي، و كلاهما مفقودان هنا على الفرض.

و أمّا إذا كانت الصيغة غير جامعة عندهم لشرائط الصحة، فإن كانت ظاهرة في الإنشاء فهي معتبرة على كلّ حال، و إن لم تكن ظاهرة، لم تكف في مقام الإنشاء، فليس هناك صيغة لفظية و لا إنشاء عملي، فيبطل البيع لعدم صدق عنوانه.

و أمّا السادس: فإن كان ابقاء العينين عندهما ظاهرا في الإنشاء الفعلي (و لو بعد المقاولة) كما هو غير بعيد، فيصدق عليه عنوان البيع و يجري عليه أحكامه، و إلّا خرجت هذه الصورة عن المعاطاة.

هذا كلّه على القول بقصد الملكية

في المعاطاة و حصول الملك عقبيه، إمّا لازما أو جائزا، أمّا على القول بافادتها الاباحة، أو مع قصد الاباحة و أنّ دليل الصحة هو الإجماع أو السيرة، فلا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقن من هذه الصور، و لا يبعد جريانه في الصور الثلاثة الاولى، أمّا غيرها فمحل تأمل.

فتلخص من جميع ما ذكرنا: أنّ الملاك على المختار هو إنشاء البيع بأي قول و أي فعل انوار الفقاهة، ج 1، ص: 64

كان، حتى ابقاء العين عند غير مالكه، أو جعله في المحل المعدّ له، أو شبه ذلك، و لا يدور الأمر مدار الاعطاء و الأخذ فضلا عن التعاطي من الطرفين، و اللّه العالم.

التنبيه الثالث: طريق تمييز البائع من المشتري في المعاطاة

و قد يشتبه الحال في بعض مصاديق المعاطاة و لا يعرف البائع من المشتري حتى يجري عليهما أحكامهما الخاصة التي وردت في بعض الموارد لعدم وجود لفظ صريح فيها.

توضيح ذلك: إنّ بيع المعاطاة من هذه الناحية على أقسام:

1- ما يعلم المشتري من البائع بسبب المقاولة الخاصة قبلا

2- ما يعلم فيه ذلك بسبب اعطاء المتاع أو النقود، فالذي يعطي النقد هو المشتري و المعطي للمتاع بايع.

3- ما يكون العوضان فيه كلاهما من العروض أو من النقود و لكن يقصد بأحدهما بدل النقد، فصاحبه المشتري و مقابله البائع.

4- ما لا يقصد به ذلك، أو يجعل كلاهما بدلا عن النقود و لكن أحدهما يقصد بالبيع رفع حاجته، و الثاني تنمية ماله، فقد يقال «1»: إنّ الأول هو المشتري بسبب متفاهم العرف، و الثاني هو البائع، و هو و إن كان كذلك في الغالب لكن عمومه محل نظر، لأنّ البائع لمتاعه قد يكون بحاجة إلى متاع الآخر أو إلى نقوده كما لا يخفى على من راجع العرف.

5- ما

إذا أراد كلّ منهما رفع حاجته بالمتاع، أو أراد كلّ منهما تنمية مال و لم يكن فيه شي ء آخر من علامات البائع و المشتري، فيشكل الأمر معرفتهما فقد ذكر فيه وجوه:

أحدهما: كونه بيعا و اشتراء بالنسبة إلى كلّ منهما لصدق تعريفهما عليهما، فإن البيع مبادلة مال بمال، و الاشتراء ترك شي ء و التمسك بغيره، و كلاهما صادقان عليهما جميعا، و إن لم تترتب عليه الأحكام الخاصة للبائع و المشتري لانصراف أدلّتها عنهما.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 65

ثانيها: كون المعطي أولا هو البائع، و الأخير هو المشتري.

ثالثها: كونها صلحا معاطاتيا لا بيع معاطاة.

رابعها: كونها معاوضة مستقلة.

و قد أورد على الأول السيد قدّس سرّه في الحاشية، و بعض الأعلام في مصباح الفقاهة، بأنّ لازمه صدق البائع و المشتري على الطرفين جميعا في جميع البيوع و هو باطل.

و أضاف إليه السيد قدّس سرّه أنّ هذا معنى آخر للبيع و الشراء لا معناهما المعروف، لأنّ البائع هو المملّك ماله بعوض، و المشتري هو المتملك، و هما لا يجتمعان في مورد واحد «1».

هذا و لكن صرّح بعض الأكابر في كتاب البيع بعدم اعتبار كون المشتري منشأ للقبول بل القبول بالحمل الشائع لازم في البيع، و كلّ منهما موجب باعتبار و قابل اعتبار آخر، ثمّ قال:

إنّ انصراف أدلّة أحكامهما عنهما هنا أيضا محل إشكال «2».

أقول: لا شكّ أنّ الأحكام الخاصة بكلّ واحد منهما إنّما تلحقه فيما إذا كان أحدهما متّصفا بوصف البائع في مقابل الآخر، ليمتازا موضوعا و حكما، و أمّا إذا كان كلّ منهما موصوفا بهذا الوصف، فلا تلحق أحكامه الخاصة، فالنزاع في صدق العنوانين عليهما و عدمه قليل الجدوى.

أمّا الثاني: أعني كون المعطي أولا هو البائع، و هو الذي اختاره

شيخنا الأعظم قدّس سرّه، فقد أورد عليه بأنّه لا يتمّ بناء على جواز تقديم القبول على الايجاب، و لكن يمكن دفعه بأن تقديمه عليه و إن كان جائزا و لكنه مخالف للظاهر، إلّا إذا ثبت بالدليل فتأمل.

هذا و لكن يرد عليه بأنّه أخص من المدعي لإمكان التبادل معا، أو كون كلّ من العينين عند الآخر، فنويا في آن واحد تملكه بإزاء الآخر.

أمّا الثالث: فقد عرفت أن الصلح إنّما يصحّ فيما كان مظنة للخلاف و النزاع و لو بالقوة، و ليس كلّ تراض صلحا، و تمام الكلام في محله.

أمّا الرابع: فهو الذي قواه السيد السند في التعليقة و بعض الأعلام في مصباح الفقاهة،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 66

و لكنه لا يخلو من إشكال، لأنّ أثره أثر البيع عرفا و لا يعدّ عندهم شيئا غيره، و الظاهر أن عناوين المعاملات المختلفة نشأت من حاجة خاصة إليها إذا لم يوجد إليها طريق آخر.

مثلا: تارة يريد الإنسان تمليك ماله، و اخرى تمليك منافعه، و ثالثة تمليك انتفاعه، و رابعة اباحته له من غير تمليك شي ء من أصله أو منافعه، إلى غير ذلك فاخترعوا لكلّ واحد من هذه الأغراض عنوانا، و يبعد اختراع عنوان خاص يمكن تحصيل غرضه بالعناوين الموجودة الاخرى.

و بما أنّ البيع بماله من الغرض و المعنى- و هو تمليك مال بعوض عام- يشمل ما نحن فيه، فاختراع عنوان مستقل آخر يفيد فائدته بعينه يكون لغوا.

فالانصاف أنّ القول بصدق عنوان البائع و المشتري على كل منهما (و إنّ لم يترتب عليهما الأحكام الخاصة بالبايع أو المشتري لما عرفت من الانصراف) قوي في المقام.

التنبيه الرابع: أقسام المعاطاة

كان الكلام في الأمر الثاني في تقسيم المعاطاة بحسب المورد، و هنا بحسب قصد المتعاطيين، و

حاصل الكلام هنا أنّه يتصور فيها وجوه، عمدتها و جهان:

1- أن ينوي كلّ منهما تمليك ماله بازاء مال الآخر.

2- أن يقصد اباحة ماله بعوض، أي إباحة في مقابل تمليك.

و ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه صورتين آخرين و أنهاهما إلى أربعة صور، و هما:

3- أن يقصدا تمليك مال في مقابل تمليك آخر، ففي الاولى المقابلة بين الملكين، و هنا المقابلة بين التمليكين.

4- أن يقصد اباحة مقابل اباحة.

هذا و يتصور هنا صور اخرى أيضا في مقام التصور و إن قلّ وقوعها خارجا مثل ما يلي:

5- أن يقصد الباذل تمليك ماله بازاء اباحة الآخر.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 67

6- أنّ يقصد اباحة في مقابل تمليك لا في مقابل عوض، و إن شئت قلت: اباحة بشرط التمليك لا بشرط العوض.

و قال السيد قدّس سرّه في التعليقة: إنّ المقابلة إمّا أن تكون بين المالين على وجه الملكية أو على وجه الاباحة، و إمّا أن تكون بين الفعلين على وجه التمليك بأن يكون تمليك بازاء تمليك، و إمّا أن يكون بينهما على وجه الاباحة بأن تكون الاباحة في مقابل الاباحة، و إمّا أن يكون أحدهما مالا و الآخر فعلا ... إلى غير ذلك ممّا ذكره «1».

و لا يهمنا تكثير الأقسام بعد كون محل الحاجة و البلوى أقساما خاصة، فلنرجع إلى بيان أحكامها و نقول و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية.

أمّا الصورة الاولى، و هي المعمولة في المعاطاة كما عرفت، فقد يقصد فيه الإيجاب و القبول بدفع العين الاولى، و تتمّ المعاطاة به و يكون دفع العين الثانية من باب الوفاء، و اخرى يكون بدفع العينين، فيقصد بدفع الأولى الإيجاب، و بدفع الثانية القبول و لا مانع منه.

و من هنا يرد على

شيخنا الأعظم قدّس سرّه حصره هذا القسم بالصورة الاولى، أعني ما قصد بدفع العين الاولى و أخذها الإيجاب و القبول، و لم نفهم وجها لإصراره على ذلك، بل يرد عليه ما ذكره المحقق النائيني قدّس سرّه فيما حكي عنه من منافاته لما ذكره سابقا: من أنّ المتيقن من المعاطاة صورة التعاطي من الجانبين، و ما أجاب عنه بعض تلامذته غير تام «2».

و على كلّ حال لا إشكال في صحة هذا النوع من المعاطاة بكلا شقيه و كونه بيعا لازما على المختار.

أمّا الصورة الثالثة (و سيأتي حكم الثانية إن شاء اللّه) فقد يقال: إنّها غير معقولة لأنّ مبادلة السلطنتين، أي التمليك بازاء التمليك، تحتاج إلى سلطنة اخرى، و هكذا يتسلسل.

و لكن يرد عليه: أنّه ليس المراد انتقال سلطنته إلى غيره في مقابلة نقل سلطنته إليه، بل المراد تمليك بشرط تمليك، أعني يملكه ماله بشرط فعل الآخر مثله، فكلّ من الفعلين انوار الفقاهة، ج 1، ص: 68

مشروط بالآخر و اين هذا من التسلسل و المحال؟!

و أمّا حكم هذا القسم فالظاهر أنّه لا يدخل في البيع، لعدم صدق تعريفه عليه بعد عدم كون المبادلة بين المالين.

و لا تعريف الهبة المعوضة عليه، لأنّ الهبة إنّما يعتبر فيها المجانية، و كونها معوضة، إمّا بحسب الداعي أو بدون الداعي و لكن الموهوب له يعوضه بشي ء بعد هبته به مجانا، كما لا يخفى على من راجع كتاب الهبة و رواياتها.

كما أنّ صدق عنوان الصلح أيضا عليه مشكل بعد ما عرفت من اختصاصه بموارد وقع فيها النزاع بالفعل أو بالقوة، فيبقى كونه عقدا جديدا و معوضة مستقلة، و قد عرفت أنّ هذا أيضا لا يخلو عن إشكال و عدم كونه متداولا بين العقلاء و

كفاية البيع عنه، و عدم الحاجة إلى تأسيس مثل هذا العقد، و أنّ العقود و عناوين المعاملات إنّما وجدت لأغراض دعت إليها لا لمجرّد اقتراح المتعاملين و قصدهم، فالحكم بالصحة هنا ما لم يرجع إلى عقد البيع مشكل.

أمّا الصورة الثانية، أعني الاباحة في مقابل العوض، و كذا الصورة الرابعة، أي الاباحة في مقابل الاباحة، فالكلام فيهما من جهات:

الاولى: في جواز الاباحة المطلقة، أعني اباحة جميع التصرفات حتى المتوقفة على الملك كالعتق و البيع و الوقف و أشباهها.

الثانية: و هي مختصة بالقسم الأول، و هي الإشكال في صحة الاباحة بالعوض لتركب العقد من اباحة و تمليك.

و الثالثة: في الدليل على صحة الاباحة في مقابل الاباحة بعد عدم دخوله في العقود المعروفة

أمّا الاولى: فعمدة الإشكال فيها أنّ اباحة المالك الناشئة عن تسلطه على أمواله لا تكون مشروعة، و قضية قاعدة التسلط هي جواز كلّ فعل و تسليط مشروع بحكم العقلاء و الشرع، فلا يشمل ما هو ممنوع أو مشكوك، و منه اباحة البيع و الوقف لغير المالك، نعم لو دلّ دليل خاص في مورد على جواز بعض هذه التصرفات لغير المالك فلا محيص من انوار الفقاهة، ج 1، ص: 69

الالتزام بالملكية آنا ما قبل البيع أو العتق جمعا بين الأدلّة، و كذا يجوز توكيل المالك لغيره في بيعه عن المالك و تمليك ثمنه لنفسه، أو تمليكه أولا لنفسه ثم بيعه لنفسه، و كل ذلك مفروض العدم في المقام، فلا وجه لا باحة جميع التصرفات.

أقول: هذا كلّه حق لو ثبت عدم صحة البيع إلّا لمالكه، و كذا العتق و الوقف، و لكن لقائل أن يقول بجواز بيع ملك غيره لنفسه، و لكن بأذن مالكه و كذا العتق و الوقف

باذن مالكه.

و ذلك لأنّ قوله عليه السّلام: «لا بيع إلّا في ملك» إنّما ورد في مقام المنع عن بيع ما ليس عنده، أو البيع بغير اذن مالكه، و كذا العتق و الوقف فتأمل، فعلى هذا يمكن أن يقال بصحة قول القائل:

«خذ هذا الدرهم و اشتر خبزا لنفسك أو ثوبا لك» و أنّه ليس توكيلا للمأمور في تملك الثمن أو المثمن، و كذا الوقف و العتق و شبهها، و هذا أمر واقع في العرف ولدى العقلاء، و لكن مع ذلك لا يخلو عن إشكال، لا من ناحية عدم صحته عقلا نظرا إلى أنّ حقيقة البيع تبديل الاضافات، أي جعل اضافة الثمن إلى البائع بدل اضافة المثمن إلى المشتري، لإمكان منع هذا المعنى، بل العمدة فيه عدم الدليل على جواز هذه الامور، فلو قام دليل على جواز اشتراء شي ء لنفسه بمال غيره مع اجازته قلنا بصحته، و لم يناف حقيقة البيع، و لكن قد عرفت الإشكال في ثبوته في العرف و الشرع و إن كان هناك بعض الشواهد لما يتراءى في العرف من تجويز ذلك أحيانا، و لكن تفسيره بالتوكيل غير بعيد.

أمّا المقام الثاني فالانصاف أنّ الاباحة في مقابل العوض أمر رائج بين العقلاء، نعم ليست داخلة في عناوين البيع و الصلح و الهبة لما عرفت آنفا، بل هو معاوضة مستقلة متداولة و هو معمول في ما يؤتى في الفنادق و المطاعم من الأغذية، و كذا في الحمامات و شبهها، كلّها داخلة في الاباحة، و لكن لا اباحة مجانية، بل اباحة العين أو المنفعة في مقابل العوض.

إن قلت: إنّ هذا كله اباحة مع الضمان، فليس هناك معاوضة بل جواز الاتلاف مع ضمان المثل.

قلت: كثيرا ما يكون مثليا

مع عدم التزامهم بغير القيمة، و هذا دليل على المعاوضة كما لا يخفى.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 70

و لكن هنا إشكال آخر من ناحية عدم العلم بالعوض في كثير من هذه الأمثلة، فتبطل من ناحية الغرر، اللّهم إلّا أن يقال حدود القيمة و العوض معلوم غالبا، و المسألة غير صافية عن الإشكال و احتمال كونها اباحة مضمونة أيضا غير بعيد.

و من هنا يظهر الكلام في المقام الثالث، فإنّ المعاوضة بين الاباحتين غير معروفة عند العقلاء، و التمسك بأدلة وجوب الوفاء بالعقود أو المؤمنون عند شروطهم مشكل إذا لم يكن العقد معروفا عندهم كما عرفت آنفا، نعم يجوز لكل منهما التصرف فيما عنده برضا مالكه، و لا ينافي ما ذكره صحة العقود المستحدثة عندهم و شمول أدلة وجوب الوفاء لها لما عرفت من عدم كونها معروفة عندهم.

التنبيه الخامس: جريان المعاطاة في سائر العقود
اشارة

هل المعاطاة جارية في غير البيع من سائر العقود كالإجارة و الهبة و الرهن و الوقف و غيرها، أو لا تجرى فيها مطلقا، أو يفصّل بين ما لا يتصور فيه العقد الجائز كالرهن، لمنافاة الجواز لكون المال وثيقة، و كالوقف لعدم معروفية الوقف الجائز، و بين غيرها؟ وجوه أو أقوال:

لم نر لقدماء الأصحاب و متأخريهم حكما عاما بجريان المعاطاة في جميع أبواب العقود، و إنّما هو قول مال إليه المعاصرون أو افتوا به.

نعم في كلام المحقق الثاني قدّس سرّه و غيره جريانها في بعض العقود غير البيع من دون التعرض للعموم.

و أمّا التفصيل الذي ذكرناه فيظهر أيضا من بعض كلمات المحقق الثاني قدّس سرّه.

و هناك تفصيل آخر يمكن أن يعدّ قولا رابعا في المسألة، و هو الفرق بين العقود التي يمكن المعاطاة فيها بالفعل، كالبيع و الهبة و الإجارة، و

بين ما لا يمكن فيها كالوصية و الضمان و ما أشبههما.

هذا و مقتضى القاعدة عند القائلين باعتبار اللفظ في صحة العقود بطلان المعاطاة في انوار الفقاهة، ج 1، ص: 71

غير ما ثبت اعتبارها بالإجماع أو السيرة كالبيع، أو الإجارة و الهبة أيضا، و أمّا ما عداها مشكل.

و لكن على المختار من جواز إنشاء المعاوضات باللفظ أو بكل عمل دل عليها فالظاهر صحة المعاطاة في جميعها إلّا ما خرج بالخصوص، كما ستأتي الإشارة إليها، هذا مضافا إلى جريان السيرة في الهبة و العارية و الاجارة و في الفنادق و الخانات بل المساكن أيضا، و كذا في وقف الكتب و الفراش و السراج على المساجد و كذا في الرهن باعطائه بيد المرتهن، فان جميعها من قبيل المعاطاة، نعم قد يكون أمر الأجير بفعل و علمه بعد ذلك كالإباحة بالعوض أو استيفاء المنفعة مع الضمان إذا لم تكن مال الإجارة معلوما فيها، لما حققناه في محلة من بطلان الاجارة الغررية، و لكن وقوع هذا في بعض الموارد لا يمنع من صحة المعاطاة فيها عند اجتماع الشرائط فيها.

و بالجملة لما كانت المعاطاة موافقة للقواعد جرت في جميع أبواب العقود إلّا ما خرج بالدليل.

هذا و قد عرفت كون العقد المعاطاتي لازما، و لا يعبأ بدعوى الإجماع على اعتبار اللفظ في العقود اللازمة بعد ما عرفت من أن المقام ليس مقام دعوى الإجماع.

فعلى هذا لا مانع من جريانها في الرهن المبنى على اللزوم لكونه وثيقة، و في الوقف بعد عدم معروفية الوقف الجائز.

و من هنا أيضا يظهر أن تفصيل المحقق النائيني قدّس سرّه فيما حكي عنه بين ما لا يمكن إنشاؤه بغير الألفاظ مثل الضمان و الوصية و غيرها، ممّا لا وجه

له، بعد كونه من قبيل الانتفاء بانتفاء موضوعه، أضف إلى ذلك أنّ الكتابة و الإشارة في نظرهم بحكم المعاطاة، و كذا الصيغ غير المعتبرة، و هذا ممكن في الضمان و الوصية فتدبّر.

بقي هنا امور:
الأول: المعروف بين الأصحاب بل حكي الاتفاق و الإجماع على اعتبار- اللفظ في [النكاح

النكاح، بل حكي في الجواهر اتفاقهم على العربية و عدم كفاية العقد بالفارسية و غيرها، إلّا مع العجز عنها، فحينئذ لا تأتي المعاطاة فيه.

و هذا و قد يقال: بأنّ جريان المعاطاة فيه ملازم لضده، و هو الزنا، و من البين أنّه لا يمكن إنشاء شي ء من الامور الإنشائية بضده، فان المعاطاة في النكاح ليس إلّا الزنا!

أقول: الفرق بين «الزنا» و «النكاح» ليس في كون أحدهما إنشاء فعليا و الآخر قوليا، بل الفرق بينهما أن الزنا لا يقصد فيه إلّا التمتع من دون عقد الزوجية لا قولا و لا فعلا، و النكاح يقصد به التمتع من طريق الزوجية بأحكامها الخاصة سواء كانت الزوجية دائمة، أو مؤقتة، و من المعلوم أنّ الزوجيه حقيقة وراء التمتع المجرّد عن كل شي ء الموجود في الزنا.

و تظهر الثمرة فيها إذا قصد عقد النكاح و اكتفى بمجرّد الكتابة و التوقيع كما هو المتداول بين البعض، أو كان المبرز للقصد و الإنشاء أمرا وراء الإنشاء اللفظي.

فالعمدة في عدم صحة المعاطاة في النكاح هو الإجماع على اعتبار الصيغة فيه و ارتكاز المتشرعة أيضا.

هذا مضافا إلى أنّ النكاح فيه شوب من العبادة التوقيفية، كما صرّح به في الجواهر و غيره «1».

و المراد منه ليس اعتبار قصد القربة فيه، لأنّه واضح الفساد، بل المراد أنّ الأحكام التوقيفية غالبة عليه، فهو من هذه الجهة شبيه العبادات، لا سائر المعاملات، فاللازم فيه الأخذ بالمتيقن.

و إن شئت قلت: إنّ الشارع لم يتصرف في سائر المعاملات الرائجة بين

العقلاء كتصرفه في أمر النكاح و شئونه المختلفة، و كذا الطلاق، فيشبهان الامور العبادية، فلا يصح هنا الرجوع إلى عرف العقلاء و سيرتهم و الأخذ به بدعوى أنّ عدم الردع امضاء له، بل اللازم الاكتفاء بالقدر المتيقن كما عرفت.

الثاني: قد يقال بعدم جريان المعاطاة في «الرهن» و «الوقف»

نظرا إلى أنّ ماهيتهما مبنية على اللزوم، فالرهن لا يكون وثيقة بدونه، و أمّا الوقف فحيث إنّه للّه، و ما كان للّه فلا يرجع فيها أبدا- كما في الحديث- فلا يتصور فيه الجواز أيضا، و حيث قد عرفت أنّ المعاطاة لا تفيد اللزوم فلا تجري فيهما.

الجواب عنه: ما عرفت آنفا من أنّ المعاطاة لازمة، و الإجماع المدعي على عدم اللزوم ممنوع جدّا، لأنّه نشأ عن شبهة حصلت للمجمعين أولا كما مرّ، و لا تطمئن النفس بكشفه عن قول المعصوم ثانيا، نعم العقود التي طبعها الجواز كالهبة المعاطاة فيها تفيد الجواز أيضا.

الثالث: قد يقال بعدم جريانها أيضا في «القرض» و شبهه

لاشتراط القبض فيها، فالقبض لا يمكن أن يكون مصداقا لإنشاء أصل العقد و لشرطه، للزوم الجمع بين «المقتضى» و «الشرط» و هما متباينان.

و يرد عليه: أنّه من باب الخلط بين الحقائق و الاعتبارات، فإنّ المقتضى و الشرط في الامور الاعتبارية يرجعان إلى الدواعي جعل المولى، و شرائط موضوعه و قيوده، فلا مانع من اجتماعهما في شي ء واحد، و لا دليل على لزوم كون القبض بعد العقد في هذه العقود، مضافا إلى إمكان القول بكون القبض إنشاء للعقد بحدوثه و تحققا للشرط ببقائه.

الرابع: الظاهر جريان المعاطاة في الايقاعات أيضا

، مثل العتق، فمن أطلق سراح عبد، و أنشأ عتقه بهذا العمل، صحّ عتقه، و كذا الوقف لو قلنا أنّه من الايقاعات، و كذا الابراء و شبهه.

قال في الجواهر بعد ذكر عنوان المسألة في العقود و الايقاعات جميعا، و الاعتراف بعدم كونها محررة في كلماتهم، و عدم ورود نص خاص فيها، ما نصه: «إنّه يمكن دعوى حصولها (السيرة) في جميع على وجه يلحقها اسم تلك المعاملة القائمة مقامها محكمها، عدا ما كان بالصيغة منها كاللزوم ... فينكشف بذلك حينئذ عدم اعتبار الصيغة في أصل الصحة» «1».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 74

و قال أيضا في كلام آخر له في المقام ما حاصله: إنّ القول بالزوم في غير البيع أيضا غير بعيد، لعدم قيام دليل على خلافه، إن رجع عنه في أواخر كلامه و لم يستقر على هذا الفتوى خوفا من قيام الإجماع ظاهرا على اعتبار الصيغ في صحتها أو مسمّاها «1».

و هذا و قد عرفت أنّ الخوف من هذا الإجماع لا وجه له، لعدم اشتماله على شرائط الحجية، لجريان السيرة العملية على خلافه، فالقول بالصحة بل اللزوم في الايقاعات أيضا هو الأقوى عدا ما خرج

بالدليل كالطلاق، و اللّه العالم.

التنبيه السادس: في ملزمات المعاطاة (و اصالة اللزوم في جميع المعاملات)
اشارة

قد عرفت أنّ المعروف بينهم عدم لزوم عقد المعاطاة، بل هو إمّا مفيد للإباحة أو الملكية الجائزة، و لم ينقل كونها لازمة إلّا عن ظاهر المفيد رحمه اللّه، و لكن عرفت أيضا أنّ الحق كونها لازمة كالبيع بالصيغة، و كذا في غير البيع من العقود اللازمة، و نزيدك هنا بأن الأصل في جميع المعاملات الصحيحة هو اللزوم كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه «2» و غيره.

و استدل على ذلك بوجوه ثمانية معروفة لا بدّ من ذكرها و ذكر ما عندنا فيها على سبيل الإجمال:

1- الاستصحاب

الاستصحاب الجاري بعد اجراء الفسخ المشكوك تأثيره على الفرض، و بعد رجوع المالك الأصلي، و قد وقع الكلام فيه بأنّه من قبيل الاستصحاب الكليّ أو الشخصي؟ و لو كان كليا فهل هو من قبيل القسم الأول من الكلّي، أو من القسم الثاني؟ و لو كان من قبيل القسم الثاني، فهل هو حجّة في المقام كما في سائر المقامات، أو للمقام خصوصية تسقطه عن الحجية؟ و قد تكلّم بعضهم في جميع ذلك، و أكثر فيه إكثارا يمكن الاستغناء عن كثير منه و صرف العمر فيما هو ألزم و أنفع!

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 75

و عصارة البحث فيها ما يلي:

لا ينبغي الشك في كون الاستصحاب هنا من قبيل الاستصحاب الشخصي، لأنّ حقيقة الملك لا تتفاوت بتفاوت جواز فسخه و عدمه، و لقد اجاد شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المقام حيث قال: «إنّ المحسوس بالوجدان أن إنشاء الملك في الهبة اللازمة و غيرها على نهج واحد» «1» فالاختلاف بين القسمين، أعني الملك اللازم و الجائز و إنّما هو في أحكامهما، لا ما يرجع إلى ماهيتهما، فكما أنّ جعل الخيار في بعض العقود لا يجعله قسما

آخر في مقابل ما لم يجعل فيه الخيار، كذلك ما كان جائزا لفسخ بحكم الشرع من دون جعل خيار.

و بالجملة لا ينبغي الشك في كون المقام من الاستصحاب الشخصي.

و لو سلمنا أنّه من الكلي، لكنه من قبيل القسم الثاني من الكلّي الذي يدور أمر المستصحب فيه بين ما هو طويل العمر أو قصيره، كمن علم بوجود حيوان في الدار لا يدري هل عصفور أو غراب، و كمن يعلم بخروج بلل منه تردد أمره بين البول و المني، فإذا توضأ شك في بقاء الحدث و ارتفاعه فيستصحب.

و قد أورد عليه أولا: بمعارضته ببقاء علقة المالك الأول في ما نحن فيه.

و ثانيا: بعدم حجيّة القسم الثاني من الكلّي، لأنّ أمره دائر بين قصير العمر فارتفع قطعا، و طويل العمر و هو مشكوك الوجود من أول الأمر، و الأصل عدم وجوده.

و لكن يجاب عن الأول: بأنّ العلقة إن كانت بمعنى الملكية فقد زالت قطعا، و إن كانت شيئا آخر فلا نعقل له معنى، و إن كان بمعنى حكم الشارع بجوازه فهو حكم شرعي مشكوك من أول الأمر، ليس موردا للاستصحاب بل المورد له هو موضوع حكم.

و عن الثاني: بما ذكر في محله من أنّ أصالة عدم الفرد الطويل لا يثبت عدم الكلّي لأنّه من اللوازم العقلية لأمرين: انعدام الفرد القصير بعد وجوده قطعا، و عدم الفرد الطويل من أول أمره.

فالاستصحاب هنا لا غبار عليه، سواء كان شخصيا أو كليّا.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 76

بل يمكن إجراء الاستصحاب على نحو آخر، و هو الاستصحاب الحكمي بأنّ يقال: إنّ هذا المال كان جائز التصرف للمشتري و ممنوعا للبائع، و بعد الرجوع و الفسخ يشك في بقاء هذا الحكم و عدمه فيستصحب،

اللّهم إلّا أن يقال بأنّه بعد الشك في بقاء موضوع الملك لا وجه لجريانه، فتأمل.

هذا و قد يورد على الاستصحاب الشخصي هنا أولا: بأنّه لا يتمّ على مبنى القائلين بعدم حجيّته في الشك في المقتضى، فإنّ الشك هنا في مقدار اقتضاء الملكية للبقاء و أنّه هل كان ملكا لازما له اقتضاء البقاء و لو بعد الرجوع و الفسخ، أو ملك جائز قصير عمره؟

لكن هذا الكلام أيضا مبني على تخيل تفاوت الملك الجائز و اللازم بحسب الماهية، مع أنّه ليس كذلك كما عرفت، بل الملك إذا حصل فانه يبقى إلى الأبد إلّا أن يرفعه رافع، فالشك هنا على كل حال في الرافع.

و ثانيا: إنّ هذا الاستصحاب محكوم لاستصحاب خيار المجلس الثابت في كل بيع.

و فيه: إنّ أصالة اللزوم لا تختص بالبيع و لا بموارد ثبوت خيار المجلس، بل هي قاعدة عامة في جميع العقود التي يشك في لزومها.

مضافا إلى أنّ خيار المجلس يرتفع بافتراق المتبايعين قطعا بصريح روايات الباب، فلو بقي الجواز بعد ذلك لبقي في ضمن حكم آخر غير حكم خيار المجلس، فلو جرى فيه الاستصحاب كان من قبل القسم الثالث من الكلي، و قد حقق في محله عدم حجيّته لعدم اتحاد القضية المشكوكة و المتيقنة فيه، فتأمل.

و ثالثا: و هو العمدة في هذا الباب، إنّ الاستصحاب لا يجري في الشبهات الحكمية- على المختار- و المقام منها فيسقط من الاعتبار، فلا يمكن الركون إليه في إثبات اللزوم في شي ء من المعاملات بالمعنى الأعم من البيع.

2- التمسك بآية الوفاء بالعقود
اشارة

و ممّا استدل به لقاعدة اللزوم قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «1».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 77

و العقد بأي معنى فسّر يشمل جميع المعاملات من البيع و غيرها،

سواء قلنا أنّه «العهد» أو «العهد المشدد».

قال الراغب: العقد الجمع بين أطراف الشي ء و ذلك في الأجسام الصلبة كعقد الحبل، ثم يستعار ذلك للمعاني نحو عقد البيع و العهد ... و قال تعالى: بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ و منه قيل لفلان عقيدة، و قيل للقلادة عقد ... و العقدة اسم لما يعقد من نكاح.

و لا يخفى على من راجع موارد استعمال هذه الكلمة في الكتاب العزيز أنّها غير شاملة للمعاملة الاذنية التي تتبع اذن صاحبها و تبقى ما دام الاذن موجودا.

و الأمر بالوفاء و إن كان حكما تكليفيا في بدء النظر إلّا أنّه في أمثال المقام ظاهر في الحكم الوضعي، فان وجوب الوفاء بالعقد دليل على اعتباره و لزومه وضعا، كما هو ظاهر.

نعم، قد يقال بعدم إمكان الأخذ بعمومها و إن كان الجمع المحلّى باللام ظاهرا في العموم لا سيما مع كونه في مقام البيان و الاطلاق، و ذلك للزوم تخصيص الأكثر بعد خروج المعاملات الجائزة، و هي كثيرة، و خروج البيع و شبهه بأنواع الخيارات.

و لكن الانصاف عدم وجود مانع من هذه الناحية، فان العقد الذي هو متحد مفهوما مع العهد بل المعاهدة، لا تشمل العقود الجائزة الاذنية إلّا مجازا، و إن شئت قلت: مفهومه التزام في مقابل التزام، و هذا المعنى غير موجود في مثل الهبة و العارية و الوديعة و شبهها، فهي خارجة عن الآية رأسا، و أمّا اشتمال البيع و شبهه على كثير من الخيارات، فهي و إن كانت كذلك، و لكن زمان تزلزل البيع بالخيار في مقابل زمان لزومه قصير جدّا، فأكثر البيوع في أكثر الأوقات لازمة، و إنّما الجواز يقع في فترات يسيرة كما لا يخفى.

بقي هنا شي ء:

و حاصله أنّ الأمر

بوجوب الوفاء بالعقود مسلّم، و لكن بعد الفسخ يكون من قبيل الشبهة المصداقية، للشك في بقاء العقد، و فيه: أنّه ناش عن عدم تحقيق معنى الوفاء، فان الظاهر من الأمر بالوفاء هو الأمر المولوي الذي لازمه الحكم الوضعي بلزوم العقد، و هذا الأمر بنفسه ينفى أثر الفسخ، فان إرجاع العين و تجديد النظر في العقد مناف للوفاء، فلا يجوز استرجاع العين بهذا الفسخ.

3 و 4- التمسك بآية حرمة أكل المال بالباطل:

و قد دلّ الكتاب العزيز على حرمة أكل المال بالباطل إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ «1»، فالفسخ عند الشك في صحته يقع مصداقا لحرمة أكل المال بالباطل، كما أنّه مصداق لعدم كون التجارة عن تراض.

فقال تعالى شانه: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ «2».

و قد استدل بصدر الآية على المطلوب تارة و بذيلها اخرى.

امّا الأول: فلأن أخذ أموال الناس بغير رضاهم بعد الانتقال إليهم بعقد من العقود هو أكل للمال بالباطل، فهو منهي عنه، فما لم يثبت حق الرجوع شرعا كان الفسخ باطلا، فهو نظير ما ورد في الآية 188 من سورة البقرة: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ الخ، و مثل ذم اليهود في قوله تعالى: وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ «3».

و أمّا الثاني: فلأن ذيلها يدل على اعتبار كون التجارة عن تراض في جواز الأكل، و من الواضح أنّ الفسخ و الرجوع من جانب واحد ليس تجارة عن تراض بينهما.

و قد أورد على الوجه الأول بما يسقط الاستدلال بالوجه الثاني أيضا، و حاصله: أنّ الآية بصدد المنع عن الباطل الواقعي، لا الباطل العرفي، فإذا شك في شي ء أنّه باطل واقعا و

عند اللّه أم لا؟ لم يجز التمسك بعموم الآية، لأنّه من قبيل التمسك بعموم العام في الشبهات المصداقية «4».

أقول: و هو عجيب، لأنّ الأصحاب لا يزالون يحملون الالفاظ الواردة في أبواب المعاملات على مفاهيمها العرفية، و لو لا ذلك لم يجز الاستدلال بالعمومات الواردة فيها مطلقا.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 79

أضف إلى ذلك أنّه لو كان المراد منه الباطل الواقعي، كانت الآية قليل الفائدة جدّا في ذاتها، لعدم طريق إليه إلّا بدليل آخر يغني عنها.

و بالجملة المراد بالآية النهي عن أكل المال بكل ما يعد باطلا عرفا، كالغصب و الرشاء و التطفيف و غيرها، و من المعلوم أنّه إذا باع شيئا ببيع المعاطاة، ثم أراد استرجاعه بغير رضا المشتري كان أكلا بالباطل عرفا، و لم يكن مصداقا للتجارة عن تراض، و بالجملة كل ذلك امضاء لما عند العقلاء من الأحكام.

و العمدة في الاستدلال بالآية و غيرها من أشباهها كون الفسخ في المقام مردودا عند العقلاء و باطلا عندهم، فلا يلزم التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية.

هذا و لكن يرد على الاستدلال بها أمران آخران:

أحدهما: أنّه يختص بباب الأموال و لا يشمل العقود جميعا، فلا تثبت أصالة اللزوم كقاعدة كلية في جميع أبوابها، نعم يفيد في المقام أعني المعاطاة.

ثانيهما: إنّ حصر سبب الحلية في «التجارة عن تراض» موجب لتخصيص الأكثر لتكثر أسبابها من الاباحة و الإرث و الهدية و الوصية و الجعالة و غيرها من أشباهها و هذا كاشف عن كون الحصر إضافيا، فحينئذ يشكل الاستدلال بذيلها و يكون الذيل من قبيل ذكر مصداق لما ليس بالباطل المذكور في صدرها.

5- التمسك بآية حلية البيع:

و استدل للقاعدة أيضا بقوله تعالى: أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا «1».

و صدر الآية يدلّ على أن

قيام المرابين في الحشر كقيام المصروع و من مسّه الشيطان بالجنون، لا يقدرون على المشي و يتخبطون فيه، كما أن قيامهم في الدنيا أيضا كذلك، فلهم جنون جمع الثروات من أي طريق، و لو بظلم أحوج الناس و افقرهم، و ما هناك تجسم لما هنا.

ثم تقول الآية: إنّ عذابهم هذا ناش عن قولهم «إنّما البيع مثل الربا» زعما منهم أنّ كليهما

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 80

تجارة عن تراض من الطرفين، فما الفرق بين معاملة و معاملة؟ ثم يجيب القرآن عنه بأنّه أي فرق أوضح من أن اللّه «أحل البيع» و «حرم الربا» و فعل اللّه مشحون بالحكم و المصالح العالية.

و هذه المصالح أيضا لا تخفى على الخبير إجمالا، فالانسان العاقل إذا نظر بعين البصيرة يرى الفرق العظيم بينهما، فالبيع فيه نفع للبائع و المشتري في الغالب، بينما الربا فيه ضرر على المدين و نفع للدائن دائما، و يترتب عليه استثمار الناس، و حلول الأزمات الاقتصادية، و تكريس العداوة و البغضاء، و ترك اصطناع الناس المعروف «و هو القرض الحسن» كما ورد في الحديث، و مفاسد عظيمة اخرى لا تخفى.

هذا و معنى الحلية هنا إمّا الحلية التكليفية بالنسبة إلى ما يستفاد من البيع من الأموال، أو الحلية الوضعية التي من آثارها الحلية التكليفية.

و الثاني أظهر، و الاستدلال بالآية لأصالة اللزوم في البيوع على الثاني ظاهر لا غبار عليه، لأنّ هذه الحلية بمعنى نفوذ أمر البيع و امضائه على ما عند العقلاء، و قد عرفت أنّ بنائهم على اللزوم حتى في المعاطاة، فلا يجيزون انفراد أحد الطرفين بالفسخ، و قول الشارع «أحل اللّه البيع» امضاء له.

و الإشكال عليه: بأنّه من قبيل التمسك بالعام في الشبهات المصداقية، قد عرفت

الجواب عنه، و أنّ نفس إمضاء البيع بما عندهم من الأحكام ينفى احتمال تأثير الفسخ.

هذا و الذي يوجب الإشكال في الاستدلال بها أمر آخر، و هو أن الآية ليست في مقام البيان من ناحية حلية البيع مطلقا، بل في مقام بيان الفرق بين البيع و الربا إجمالا، و هذا كقول القائل: إنّ ذبيحة المسلم حلال و ذبيحة الكافر حرام، في جواب من يسأل عنهما، و من الواضح أنّه لا اطلاق فيه من سائر الجهات، فلو شككنا في اعتبار الاستقبال أو البسملة في الذبيحة فلا يمكن نفيهما عنها بهذا الاطلاق.

6- حديث التسلط:

و استدل له أيضا بقوله صلّى اللّه عليه و آله: «الناس مسلطون على أموالهم».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 81

و تقريب الاستدلال به بحيث يندفع عنه الإشكال: إنّ مقتضى تسلط الناس على أموالهم أن أمرها بيدهم، فلا يجوز للغير التصرف بها بدون رضاهم، فرجوع المالك الأصلي بعد انتقاله عنه و قطع تسلطه، ممنوع، و تفرده بالفسخ غير مجاز، فلا تصل النوبة إلى الشبهة المصداقية كما هو ظاهر لا ريب فيه.

و قد أورد عليه: تارة بضعف السند، و اخرى بضعف الدلالة نظرا إلى أنّ مفاد الحديث استقلال المالك بالتصرفات المشروعة و عدم كونه محجورا عنها، فلا دلالة له على امضاء جميع تصرفاته، كما أنّه لا دلالة له على استمرار السلطنة الفعلية للمالك و بقائها حتى بعد رجوع المالك الأول في مورد المعاطاة «1».

أقول: أمّا الأول فلا ريب في انجباره بالشهرة، مضافا إلى ورود روايات كثيرة مشتملة على هذا المضمون و لو لم يكن بلفظ التسلط (فراجع القواعد الفقهية قاعدة التسلط ج 2 و تأمل فيها فانه حقيق به).

و أمّا الثاني: فلما عرفت غيره مرّة من أنّ إمضاء التصرفات المشروعة

عند العقلاء كاف فيما نحن بصدده، لأنّ منها عدم جواز تفرد أحد الطرفين بالفسخ، و أمّا استمرار تلك السلطنة فهو مقتضى الاطلاق، و أمّا عدم تأثير الرجوع فلما عرفت من منافاة التأثير لتسلط الناس على أموالهم، فالحديث من أوضح ما يدل على المقصود.

7- التمسك بلزوم الوفاء بالشروط

و ممّا استدل به على القاعدة، الرواية المشهورة عنه صلّى اللّه عليه و آله: «المؤمنون عند شروطهم»، و قد رواه في الوسائل بطرق مختلفة عن عبد اللّه بن سنان «2» تارة و عن اسحاق بن عمار «3»

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 82

اخرى، بعضها صحيحة، و إن كان بعضها الآخر محلا للكلام.

هذا مضافا إلى أنّه ورد في بعضها «المسلمون» بدل «المؤمنون» و الأمر فيه سهل، ففي رواية منصور بزرج «المؤمنون عند شروطهم» «1».

هذا مضافا إلى اشتهار سند الرواية اشتهارا تامّا يغنينا عن البحث في سندها.

و أمّا دلالتها فيتوقف على فهم معنى «الشرط»، فإن قلنا أنّه بحسب اللغة بمعنى مطلق الالتزام اللفظي و العملي، الابتدائي و في ضمن العقد، كان كل عقد داخلا فيه، سواء البيع المعاطاتي أو الصلح المعاطاتي أو غير ذلك إلّا ما خرج بالدليل.

و أمّا إن قلنا: إنّ الشرط هو الالتزام التابع لالتزام آخر (كما عن القاموس: إنّ الشرط هو الالتزام في بيع، و نحوه ما يظهر من غير واحد من كتب اللغة، بل يظهر ذلك من موارد استعماله في الأخبار و كلمات العرف أيضا) فحينئذ يشكل الاستدلال بها على غير ما وقع ضمن العقد، و لا يشمل نفس الالتزامات العقدية، و لا أقل من الشك في ذلك فيسقط الاستدلال بها.

اللّهم إلّا أن يقال: إذا كان الشرط الذي هو أمر تبعي لازم المراعاة، فأصل المعاملة كذلك بطريق أولى.

نعم، قد يورد عليه بايراد

آخر و إن كان غير وارد عليه ظاهرا، و هو أنّه لا يستفاد منه إلّا الالتزام التكليفي و لا يراد منه الالتزام الوضعي، و على هذا فشأن الرواية شأن قولنا «المؤمن عند عدته» «2».

أقول: لا ينبغي الشك في أنّه يستفاد من هذه التكاليف في أبواب المعاملات ثبوت الحق، و ثبوت الحق دليل على الحكم الوضعي، و أمّا التكليف المجرّد عن الحق ففي، هذه الأبواب غير مأنوس، فلو حكم الشارع بوجوب الوفاء بالعقد، أو وجوب ردّ الثمن أو

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 83

شبهه، دلّ على ثبوت حكم وضعي، فان طبيعة المعاملات قائمة على ذلك، و ليست من قبيل سائر الأفعال، فتدبّر جيدا.

8- الاستدلال بعدم حل مال الغير إلّا برضاه
اشارة

و قد يستدل له أيضا بقوله (عجل اللّه تعالى له الفرج): «لا يحلّ لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير إذنه» الوارد في التوقيع المعروف الذي وصل إلى الشيخ محمد بن عثمان العمري رضى اللّه عنه، وكيل الناحية المقدسة، فيما رواه الصدوق قدّس سرّه في اكمال الدين باسناده عنه «1».

و نفي الحلية هنا إنّما هو عن التصرف في الأموال بدون الاذن، و لكن في رواية «زيد الشحام» و «سماعة» عن الصادق عليه السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حديث حجة الوداع: «أنّه لا يحل دم امرئ مسلم و لا ماله إلّا بطيب نفسه» «2».

و نفي الحلية هنا عن نفس المال و الدم لا عن خصوص التصرف فيهما.

و مثله ما رواه محمد بن زيد الطبري ممّا كتبه مولانا أبو الحسن الرضا عليه السّلام في جواب رجل من تجار فارس يسأله الاذن في الخمس، و فيه: «لا يحل مال إلّا من وجه أحله اللّه» «3».

و قريب من هذه الروايات، روايات مرسلة عن غوالي

اللئالي و تحف العقول و بعض اسناد هذه الأحاديث مثل الرواية الثانية معتبرة مضافا إلى تظافرها، و شهرتها رواية و فتوى.

و أمّا وجه الاستدلال بها: فهو أنّ أصل الحل في اللغة هو حل العقدة، قال الراغب في «المفردات»: أصل الحل حل العقدة ... و حللت نزلت، أصله من حل الاحمال عند النزول (بالمكان) ثم جرد استعماله للنزول ... عن حل العقدة استعير قولهم «حل الشي ء حلا».

و قال ابن فارس في «مقاييس اللغة»: «أصلها كلها عندي فتح الشي ء لا يشذ عنه انوار الفقاهة، ج 1، ص: 84

شي ء» ثم ارجع جميع معانيه من حل العقدة و الحلول بالمكان و الإحليل و المحلة و تحله اليمين و الحل مقابل الحرم و الحل بمعنى الحلال، إليه.

هذا و «الحلية» في مقابل «الحرمة» في الأحكام قد تستعمل في الحكم الوضعي، مثل أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ، و قد تستعمل في الحكم التكليفي مثل أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ و اخرى في كليهما مثل أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا على احتمال آخر.

و من المعلوم و لو بقرينة ما ورد في الأحاديث السابقة أنّ المراد منها هنا الأعم من الوضع و التكليف، فان من يسأل الإمام عليه السّلام أن يجعله في حل من الخمس لا يريد الحلية التكليفية فقط، بل يريد افراغ ذمته و أن يعامل مع الخمس معاملة سائر أمواله (و هكذا غيره).

و ما قد يظهر من بعض، أنّه فرق بين قوله: «لا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره» و بين قوله: «لا يحل مال امرئ إلّا بطيب نفسه» فان الأول معلق على التصرف، و الثاني على المال، فالأول ناظر إلى الحكم التكليفي دون الثاني، تفصيل غير صحيح، فان التصرف أيضا له معنى عام

يشمل التصرفات الناقلة و غيرها فيشمل الوضع و التكليف.

و قد أورد على الاستدلال بها بأمور:

أولا: إنّ التمسك بها من قبيل التمسك بالعام في الشبهات المصداقية، لأنّه بعد الفسخ يشك في تأثيره فيشك في كون المال من مالكه.

و قد عرفت غير مرّة أن الحديث أو أشباهه بنفسه يمنع عن تأثير الفسخ إلّا برضا صاحبه، فان الفسخ بنفسه تصرف في مال غيره، فلا يحل و لا يجوز إلّا برضاه.

ثانيا: إنّ الحلية تشمل الوضع و التكليف، لكن في كل مورد بحسبه و بمناسبة متعلقاته، ففي المقام، المناسب لحلية المال هو حلية التصرفات الواقعة فيه من الأكل و الشرب، كما أنّ المراد من حلية المأكولات حلية استعمالها كذلك، فالرواية أجنبية عن ما نحن فيه.

و أنت خبير بأنّ ما ذكره لا شاهد عليه، لأنّ المناسب للمال أنواع التصرفات الناقلة و شبهها، فكيف لا تشمل الوضع و التكليف كليهما؟ مضافا إلى ما عرفت من محل ورود الحديث فراجع.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 85

ثالثا: و قد يقال: إنّ الجمع بين الحكم التكليفي و الوضعي لا يجوز في استعمال واحد، ففي المقام إمّا يراد الوضعي فقط، أو التكليفي، و حيث لا يجوز إخراج التكليفي منه، فلا دلالة له على الحكم الوضعي.

و فيه: أولا: أنّه قد حقّقنا في محله جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

و ثانيا: إنّ المعنيين يعودان إلى جامع، فالاشتراك هنا معنوي لا لفظي، فان الحل- كما عرفت آنفا- في الأصل هو حل العقدة و جواز المضي في الأمر، و لا فرق فيه بين الجواز الوضعي و التكليفي.

و إن شئت قلت: إنّ هذه الرواية امضاء لما عند العقلاء من عدم تجويزهم للتصرفات بغير رضا المالك إلّا في موارد ثبت من قوانينهم جوازها، و من الواضح أنّه لا

فرق عندهم بين التصرفات الوضعية و التكليفية هنا.

9- رواية «البيعان بالخيار ما لم يفترقا»

و من أقوى ما يدل على أصالة اللزوم (في خصوص البيع دون غيره من المعاملات) الأخبار الكثيرة الواردة في أبواب خيار المجلس (بل و خيار الحيوان أيضا) و هي روايات كثيرة متضافرة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عن علي عليه السّلام و عن الصادق عليه السّلام و عن الامام على بن موسى الرضا عليه السّلام، حتى أنّ شيخنا الأعظم قدّس سرّه ذكر في بعض كلماته أنّها متواترة، و إن ذكر في غيره أنّها مستفيضة «1».

و قد رواها الجمهور أيضا في صحاحهم المعتبرة عندهم بطرق شتى، و قد عقد له «ابن ماجه» في سننه بابا، روى فيه عدّة روايات «2».

و من هنا لا يبعد دعوى التواتر فيها بملاحظة مجموع ما رواه الخاصة و العامة. و أمّا دلالتها فظاهرة، لأنّ صدق البيع على المعاطاة بناء على القول بالملكية (كما هو الأقوى) واضح، فبعد انقضاء المجلس يجب البيع و لا يجوز فسخه.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 86

و من محاسن هذا الدليل أنّه لا يجري فيه إشكال التمسك بعموم العام في الشبهات المصداقية فان الحكم هنا ثابت بعنوان البيّعان، و هذا المعنى ثابت لهما لا يزول، فانه بمعنى أحداث البيع بلا إشكال.

و لكن قد يورد عليه: بأنّ المراد منها الحكم باللزوم من ناحية خيار المجلس بعد افتراقهما، فهي ناظرة إلى خيار المجلس إثباتا و نفيا، و لا دلالة لها على لزوم البيع من سائر النواحي.

و هذا الإشكال ممنوع جدّا بعد اطلاق الأحاديث و عدم وجود أي قرينة فيها على اختصاصها بهذا الخيار، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ عدم ذكر سائر الخيارات فيها من العيب و الشرط و الغبن

و ... قرينة عليه.

و فيه: إنّ كل عام و مطلق قابل للتخصيص و التقييد، فلما ذا لا تسقط سائر العمومات و المطلقات عن العموم و الاطلاق في سائر المقامات بورود ذلك عليه؟

و بالجملة هذا الإيراد ممّا لا نجد له وجها، نعم الإشكال الوحيد عليها أنّها أخص من المدعى لو كان المدعى هو أصالة اللزوم كقاعدة كلية، و لو كان الكلام مقصورا على البيع تمّت دلالتها و قامت حجتها و لا غبار عليها.

10- بناء العقلاء على اللزوم:

لا ينبغي الشك في أنّ بناء العقود عندهم على اللزوم، فالبيع و النكاح و الإجارة و غيرها من أشباهها لازمة لا تفسخ إلّا بدليل قائم على حق الفسخ، فالخيارات عندهم استثناءات في هذه القاعدة الثابتة اللازمة عندهم.

بل يمكن أن يقال: إنّ ذلك مأخوذ في طبيعة العقد و ماهيته، فلو لم يكن العقد لازم المراعاة لم يكن بمثابة العهد الذي يعتمدون عليه، فالعهود و العقود كلها تعهدات في مقابل تعهدات تلزم الطرفين بمراعاتها، و عدم التعدي عن طورها، فلو كان لكل واحد منهما رفضها و تركها متى ما أراد، و جاز الخروج عن مقتضى وظيفتها، لم تفد أي فائدة، بل لم تكن معاهدة في الحقيقة، نعم لكل منهما اشتراط الخيار كاستثناء في لزوم العقد إلى مدّة معلومة.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 87

و لا يقاس ذلك بالعقود الاذنية كالوكالة و العارية و الهبة و الوديعة و الأمانة و ما أشبهها، فان لها ماهية وراء البيع و شبهه، فهي اعطاء من أحد الجانبين مع الاحتفاظ بحق المنع كلما أراد منعه، لا اعطاء شي ء في مقابل شي ء يتعهد الطرفان بمراعاته، و الحاصل: أنّ بناء العقلاء و الشرع على اللزوم في المعاملات ناشئ في الحقيقة عن طبيعتها و هويتها

لا أنّ اللزوم حكم ثبت لها من الخارج، فتدبّر فانه حقيق به.

فتحصل من جميع ما ذكرنا امور:

الأول: إنّ الأصل في جميع العقود و المعاهدات، اللزوم من دون تفاوت بين البيع و غيره.

الثاني: إنّ الأدلة التي أقاموها على هذا الأصل بعضها ضعيفة، و لكن في الباقي من الآيات و الروايات الكثيرة غني و كفاية، بل قد عرفت أن ذلك مقتضى طبيعة العقد بحسب اعتبار العقلاء و الشرع الذي هو رئيسهم.

الثالث: إنّ مقتضى بعضها أصالة اللزوم في جميع المعاملات و العقود، و لكن مقتضى بعضها اللزوم في خصوص البيع.

الرابع: إنّ أكثرها يجري على القول بالملكية في المعاطاة، نعم بعضها مثل «المؤمنون عند شروطهم» يجري في الاباحة المعوضة أيضا.

و أمّا إن كانت الاباحة بحكم الإجماع لم يجر فيها إلّا الاستصحاب الذي عرفت حاله.

عود إلى ملزمات المعاطاة:

إذا عرفت أنّ الأصل في المعاملات هو اللزوم، و أنّ الجواز فيها أمر عارض، فلو قلنا أنّ المعاطاة عقد لازم- كما هو المختار- فلا كلام، و إن قلنا أنّها عقد جائز فينبغي الكلام فيما يوجب لزومها، و إن كان هذا المعنى قليل الفائدة بعد اختيار اللزوم كما عرفت، و لكن مع مراعاة جانب الاختصار نقول و منه جل ثناؤه نستمد التوفيق:

إنّ عمدة ما يتعرض له في هذا الباب امور:

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 88

1- تلف العينين.

2- تلف أحدهما.

3- نقل العينين أو أحدهما بعقد لازم.

4- امتزاجهما بغيرهما من أموال البائع و المشتري امتزاجا يمنع إمكانية الرجوع، أو امتزاج أحدهما كذلك.

5- التصرف المغير للصورة كطحن الحنطة و قصّ الثوب- كل ذلك على مبني الملكية الجائزة أو الاباحة- و الأصل في جميع ذلك أنّ الدليل الدال على عدم اللزوم على القول بالملكية في المعاطاة أو الاباحة ما هو؟ و

ما مقدار دلالته؟

فان قلنا بأنّ الإجماع انعقد على اعتبار اللفظ في العقود اللازمة، فإذا لم يكن هناك عقد لفظي كان عقدا جائزا، فاللازم إجراء جميع أحكام العقد الجائز عليه، و أمّا إن قلنا بأنّ الإجماع- أو القدر المتيقن منه- دلّ على جواز الرجوع في العينين في المعاطاة، فكلّما أمكن الرجوع قلنا بجوازه، و إذا لم يمكن، إمّا من ناحية انعدام العينين أو أحدهما أو نقل أحدهما بناقل لازم أو غير ذلك، كان مقتضى اطلاق أدلة اللزوم لزومها، خرج صورة إمكان التراد و بقي الباقي تحتها.

و لكن هذا إنّما يتمّ بناء على القول بأنّ لها عموما أو اطلاقا بحسب الأزمان، و إلّا كان المقام مقام إجراء استصحاب حكم المخصص (بناء على جواز إجرائه في الشبهات الحكمية) و بما أنّ المعروف ثبوت العموم الزماني لها لم يكن هناك مانع.

أضف إلى ذلك أنّه لا يبعد دعوى قيام الإجماع أو السيرة القاطعة على عدم الرجوع في المعاطاة بعد تلف العينين أو أحدهما، أو النقل بناقل لازم، و ألّا وقع التشاجر الدائم بين الناس، و لو كان ذلك لبان و لم يخف على أحد، و هذا أمر ظاهر لا غبار عليه.

و هكذا حكم الامتزاج، و الحكم بالشركة كما احتمله بعض بعيد جدّا، فإنه مخالف للسيرة المستمرة و ارتكاز العقلاء و اطلاقات أدلة اللزوم.

و كذا إذا تصرف فيه تصرفا مغيرا للصورة، و التمسك باستصحاب جواز التراد مشكل، لا لتبدل الموضوع فقط بل لما عرفت في سابقه من الأدلة.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 89

هذا كلّه على القول بالملكية، و أمّا على القول بالاباحة فان قلنا إنّ الاباحة اباحة معوضة مالكية فلا يبعد لزومها، لأدلة اللزوم و اطلاقاته فتأمل، و القدر المتيقن الخارج منه

صورة إمكان التراد، و أمّا غيره فلا دليل عليه.

بل يمكن القول بالملكية آنا ما عند التصرفات الناقلة و شبهها، و كون التلف في موارد التلف من مال مالكه الأصلي لأنّه كان باذنه، فلا معنى للتراد.

و إن قلنا بأنّها اباحة شرعية ثبتت بحكم الشارع المقدس، كان العينان باقيين على ملك مالكهما و لا تجري فيه أصالة اللزوم، و جاز رجوع المالك متى ما أراد، إلّا إذا تصرف فيه تصرفا موجبا للتلف، أو موجبا للنقل، فان القول بالملكية آنا ما ممّا لا محيص عنه.

و هذا تمام الكلام في أنواع هذه التصرفات و لا نحتاج إلى التفصيل في كل واحد مستقلا كما وقع من بعضهم بعد اشتراك الملاك، و الموضوع، و الأدلة.

التنبيه السابع: جريان أحكام الخيار في المعاطاة

قد مضى شطر من الكلام في جريان أحكام الخيار في المعاطاة عند الكلام في التنبيه الأول في جريان شرائط البيع و أحكامه عليها مطلقا، أو يفصل في ذلك، و لكن ينبغي هنا تكميل هذا ببيان آخر، و حاصل الكلام فيه أنّ المباني في المعاطاة مختلفة كما أنّ الخيارات أيضا مختلفة.

فإمّا أن نقول في المعاطاة بالملكية اللازمة، أو الملكية الجائزة، أو الاباحة المعوضة اللازمة، أو الجائزة (سواء كانت من ناحية المالك أو بالاباحة الشرعية).

و الخيارات أيضا إمّا تدور مدار عنوان البيع، كخيار المجلس و الحيوان، أو هي عامة تشمل المعاوضات كلّها، مثل خيار الشرط، أو التخلف عن الشرط، أو خيار الغبن بل العيب في وجه، فان دليلها عموم «المؤمنون عند شروطهم» بل الغبن أيضا يرجع إلى شرط ضمني، و هو مساواة العوضين إجمالا، و كذا العيب، أو دليل لا ضرر أو شبه ذلك، و هي تشمل المعاوضات كلّها.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 90

إذا عرفت ذلك فاعلم:

إنّه إذا قلنا

بأنّ المعاطاة عقد لازم، صدق عليه عنوان البيع بلا إشكال، و جرى فيها جميع أحكامه، و منها الخيارات العامة و الخاصة.

و أمّا إذا قلنا: بأنّها تقتضي الملك الجائز، فعنوان البيع و إن شملها أيضا إلّا أنّ الكلام في ظهور أدلة الخيارات، فان قوله في روايات متعددة «و إذا افترقا وجب البيع» ظاهر في البيع المبني على اللزوم بحيث إذا انقضى زمن خيار المجلس كان لازما.

و ما قد يقال من أنّ اللزوم هنا إضافي بالنسبة إلى خصوص خيار المجلس، و لذا لا ينافي وجود خيار الحيوان و الشرط و غيرهما.

مدفوع: بأنّ الظاهر بناء طبيعة البيع على اللزوم، و أنّ خيار المجلس كالاستثناء فيه، و وجود استثناء آخر لا ينافي ما ذكره، فظهور أدلة الخيارات كلّها في جريانها في بيع مبني على اللزوم بحسب طبيعته، ممّا لا ينكر، و لا نقول بالاستحالة أو اللغوية حتى يقال بظهور أثره عند وجود الملزمات، بل نقول بانصراف ظواهر هذه الأدلة إلى ما ذكر.

نعم إذا صارت المعاطاة لازمة بأحد الملزمات، كما إذا تلف الثمن في الثلاثة في خيار الحيوان، أو ظهر الغبن بعد تلف أحد العينين بناء على كون ظهور الغبن سببا للخيار، فحينئذ لا يبعد القول بشمول الاطلاقات له.

و إن قلنا بأنّ مقتضاها هو الاباحة المعوضة اللازمة و لم نستوحش من القول بوجود مثل هذه الاباحة، جرى فيها الخيارات العامة غير المختصة بعنوان البيع كما لا يخفى، و لا يجري فيها مثل خيار المجلس و الحيوان، و أمّا إن قلنا بأنّ الاباحة هنا اباحة جائزة (شرعية أم مالكية) لم يجر فيها شي ء من الخيارات.

نعم لو آل أمر المعاطاة إلى اللزوم بأحد الملزمات الخمس، أمكن القول بجريان بعض الخيارات أو جميعها

على بعض المباني فيها.

التنبيه الثامن: هل البيع الفاسد بحكم المعاطاة؟
اشارة

الحق، كما يأتي إن شاء اللّه، أنّ البيع بالصيغة لا يعتبر فيه أزيد من الصيغ الظاهرة في أداء

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 91

المقصود و إنشاء البيع، و جميع ما ذكر فيه من الشرائط الزائدة على هذه ممّا لا دليل عليه، نعم لا يجوز بالكنايات و المجازات التي لا ظهور لها ظهورا عرفيا.

و أمّا لو قلنا باشتراط شرائط فيها مضافا إلى ما ذكر، أو أجرى العقد بما لا صراحة و لا ظهور لها من الصيغ، فآل أمر البيع إلى الفساد، ثم وقع التعاطي بعده أو لم يقع فهل هو بحكم بيع المعاطاة أو لا؟

فيه أقوال:

1- أنّه بحكم المعاطاة مطلقا كما يظهر من غير واحد منهم.

2- أنّه بيع فاسد لا أثر له مطلقا كما يحكى عن بعض آخر.

3- التفصيل بين ما إذا استمر الرضا و وقع التقابض مع هذا الرضا فتصحّ المعاطاة و تجري عليه أحكامها، و بين ما إذا لم يحصل ذلك فيكون بيعا فاسدا، و ذكر شيخنا الأعظم رحمه اللّه بعد كلام طويل له أنّ للمسألة صورا أربعة، و حاصل ما ذكره أنّ التقابض بعد العقد يقع على أنحاء:

الأول: أن يقع بغير رضى منهما بل بالقهر بعنوان الوفاء بالعقد السابق الفاسد.

الثاني: أن يقع باختيارهما زعما منهما لزوم العقد بحيث لو علما فساده لم يقدما عليه أو أقدما تشريعا لصحته.

الثالث: أن يقع بعنوان إنشاء جديد بعد الاعراض عن العقد السابق أو نسيانه بالمرة.

الرابع: أن يقع لا بعنوان إنشاء جديد؛ بل برضى منهما الحاصل من استمرار الرضا السابق، و بعبارة اخرى: كان كلّ منهما راضيا بتصرف الآخر فيما انتقل إليه بعد العلم بفساد العقد، بل و مع عدم العلم بالفساد و لكن كانا بحيث لو علما به كان

الرضا منهما موجودا، و هذا هو الرضا التقديري.

ثم حكم بفساد الأولين و حرمة التصرف في المقبوض فيهما لعدم صحتهما على المفروض و عدم أولهما إلى المعاطاة، كما حكم بصحة الصورة الثالثة بلا إشكال لأنّه عقد جديد معاطاتي، لكن بنى صحة الرابعة على أمرين:

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 92

«أحدهما»: كفاية الرضا التقديري الحاصل في بعض شقوقه، و لم يستبعده لصدق طيب النفس عليه.

«ثانيهما»: عدم اشتراط الإنشاء في المعاطاة، لا إنشاء الاباحة و لا التمليك، بل يكفي فيها مجرّد الرضا مع وصول كلّ من العوضين إلى الآخر.

و لكن أشكل عليه على القول بالملكية في المعاطاة و لم يستبعده على القول بالاباحة.

أقول: الانصاف أنّ ما ذكره في الصور الثلاث الاولى حق لا ريب فيها، و أمّا الصوره الأخيرة فالرضا التقديري فيها بحكم الرضا الفعلي بلا إشكال، و الشاهد عليه استقرار سيرة العرف و العقلاء على الاكتفاء به في كل ما يعتبر فيه الرضا و لعل الأكل من بيوت من تضمنته الآية الشريفة من القرابة و الصديق من هذا الباب، و كذا التصرف في أموال كثير من الناس في غيبتهم، و كذا إذا علم بخطإ المالك في العنوان، كما إذا زعم أنّ الداخل في البيت رجل أجنبي، فزجره و أظهر عدم الرضا، و الحال أنّه ولده، فان من الواضح أنّ الولد لا يعتني بهذا الزجر بل يعلم منه الرضا الباطني الشأني الذي يتبدل بالفعلي بعد كشف عنوان الموضوع، سواء طال الزمان أم قصر.

و أمّا كفاية مجرّد هذا الرضا في المعاطاة فممنوع جدّا، سواء قلنا بالملك فيها أو بالاباحة المعوضة، نعم الإباحة المجرّدة عن عنوان المعاوضة حاصلة، و لكن مثلها خارج عن عنوان المعاطاة، و لا ينبغي عدّها منها.

و الحاصل: أنّ

العمدة في المسألة أنّ المتبع صدق عنوان البيع، أو قيام الإجماع على الصحة، أمّا الأول فهو غير حاصل بدون قصد الإنشاء، و أمّا الثاني فلم يثبت على الصحة في موارد الرضا الخالي عن قصد الإنشاء، و ما قد يظهر من بعض الكلمات من استقرار السيرة على القناعة بمثل هذا الرضا المرتكز في النفوس كما في صاحب الحمام و غيره ممن لا يحضر عن المعاملة، ففيه ما قد عرفت سابقا من أنّ الإنشاء في أمثال ذلك موجود، فمن يفتح باب دكانه أو حمامه و يأذن لكل أحد أن يأخذ شيئا معينا بازاء وجه معلوم، فقد انشأ إنشاء عاما فعليا لهذه المعاملة، و يجوز للمشتري قبوله بفعله و عمله، فتتم أركان البيع أو الاجارة المعاطاتية أو غيرهما.

و هذا بخلاف الرضا الحاصل بعد إنشاء البيع الفاسد، سواء كان رضى فعليا أو تقديريا.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 93

و الحاصل: أنّ المعاملة مع العقود الفاسدة معاملة المعاطاة ممّا لا وجه لها إلّا فيما عرفت من الصور الخارجة عن محل البحث موضعا، و اللّه العالم.

التنبيه التاسع: هل الكتابة ملحقة بالمعاطاة أم لا؟

ظاهر كلمات الأصحاب في الأبواب المختلفة من البيع و النكاح و الطلاق أنّ الكتابة غير كافية في مقام الإنشاء، حتى أنّهم جعلوها بدلا عن الإشارة للأخرس عند العجز عنها، فهي سواء حالا عندهم عن الإشارة أيضا، بل يظهر من بعض الكلمات في كتاب الوصية أنّه لو كتب إنسان كتابا مشتملا على وصاياه، ثم قال: هذه وصيتي. لا يقبل حتى يتكلم بها واحدا بعد الآخر.

بل حكى صاحب الجواهر قدّس سرّه في كتاب الوصية عن صريح الحلي عن الفاضل و ولده و الشهيدين و المحقق الثاني و القطيفي «قدّس اللّه أسرارهم»، عدم الاكتفاء بالكتابة في حال الاختيار، و انحصار

صحتها بحال العجز، و عن السرائر نفي الخلاف فيه «1».

نعم، حكي عن التذكرة احتمال الاكتفاء بها في الوصية في بعض كلماته، و عن الرياض أنّه لا يخلو عن قوّة.

و إذا كان أمر الكتابة في القيود الجائزة مثل الوصية بهذه الصعوبة، فكيف حال البيع و غيرها؟

هذا و لكن يشكل الاعتماد على مثل هذه الشهرة أو دعوى الإجماع بعد كون الكتابة من أظهر مصاديق الإنشاء، و لعلها لم تكن بهذه المثابة في الأعصار السابقة، لعدم معرفة أكثر الناس بها، و الامور العرفية تابعة لما يتعارف و يتداول بينهم، و الموضوعات تتخذ من العرف، و الأحكام من الشرع، و على كل حال هي من أظهر ما يتمّ به إنشاء العقود في عصرنا، لأنّ جميع أسناد المعاملات إنّما يتمّ بالتوقيع عليها، بل قد لا يعد مجرّد الإنشاء اللفظي في الامور الهامة شيئا أزيد من المقاولة، و الإنشاء الحقيقي عندهم إنّما هو بالكتابة و التوقيع.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 94

و قد دلّت روايات متعددة على الاهتمام بالكتابة في الوصية، و أنّ المؤمن لا يبيت إلّا و وصيته تحت رأسه، و حديث الدواة و الكتف عند ما أراد النبي صلّى اللّه عليه و آله الكتابة في أمر الخلافة و منع بعض المخالفين عنها، و كلامه الجارح للقلب و الجالب للهمّ، معروف في كتب العامة و الخاصة.

أضف إلى ذلك أنّ أطول آية في كتاب اللّه، آية الكتابة «1»، و هي و إن لم تكن في مقام بيان حكم إنشاء العقد، و لكنّها شاهدة على اهتمام الشارع بأمر الكتابة و مؤيدة لما سبق.

و بالجملة فانّ إجراء حكم المعاطاة على الكتابة و سلب أحكام العقد اللفظي منه مشكل جدّا، و لا دليل عليه من العقل

و النقل، و لا يساعده الاعتبار و لا إجماع عليه، فالحق الاكتفاء بالكتابة في مقام الإنشاء، نعم يشكل في مثل النكاح لما عرفت من أنّه كالأمور التوقيفية شبيه العبادت أو فيه شائبة ذلك، فلا يجوز إجراؤه إلّا بما ثبت في الشرع، و لم يثبت جوازه بالكتابة.

التنبيه العاشر: حكم النماء

لا شك أنّ النماء بناء على القول بالملكية اللازمة ملك، لكن انتقل إليه، فنماء الثمن للبائع و نماء المثمن للمشتري، و كذا على القول بالملك الجائز، لأنّ النماء تابع للملك.

و إذا فسخ كان الفسخ من حينه لا من أصل العقد، فلا تعود النماءات المنفصلة، نعم النماءات المتصلة تعود إلى ملك المالك الأول.

و أمّا بناء على الاباحة الجائزة فالظاهر أنّ النماءات لصاحب المال، نعم يجوز التصرف فيها متصلة كانت أو منفصلة، لأنّها تابعة لها في الاباحة، و إذا عاد في العين اعيدت معها، نعم لا ضمان عليه بالنسبة إلى ما أتلفه منها لأنّه يكون مجازا في ذلك على المفروض.

عقد البيع و ألفاظه

اشارة

البيع كما يصحّ بالمعاطاة يصحّ بالصيغة، بل المشهور بين الأصحاب أنّ هو الأصل في الإنشاء، و إن كان فيه ما عرفت من أنّ الأصل في البيع هو المعاطاة، و البيع بالصيغة فرع لها، فيصحّ إنشاء المعاملة بكلّ من القول و الفعل، و حينئذ يقع الكلام فيما يعتبر في الإنشاء اللفظي من خصوصيات اللفظ من حيث المادة و الهيئة و سائر الامور المرتبطة بها.

و لكن قبل التكلم في هذا الموضوع لا بدّ من بيان أنّ العاجز عن الألفاظ كالأخرس هل يكتفي عن الألفاظ بالإشارة، أم لا؟ و أنّ غيره هل يمكنه ذلك أيضا و إن قلنا بخروج عقده عن العقد اللفظي و دخوله في المعاطاة أم لا؟

الظاهر أنّ غير الأخرس لا يكتفي بالإشارة، لعدم ظهورها منه ظهورا عرفيا في أداء المقصود، بل تكون الإشارة من غير الأخرس كالكتابة التي لا يعتمد عليها في باب العقود و العهود على قول المشهور، و إن كان فيه ما عرفت.

اللّهم إلّا أن يكون له ظهور تام من دون أيّ ابهام في أداء

المقصود، كما إذا تكلّم المشتري و قال: أنا آخذ هذه السلعة بهذه القيمة و أعطيك ثمنها غدا مثلا، فأشار المالك برأسه أو بيده إشارة مفهمة بأنّه راض بهذه المعاملة.

و كذا إذا كان هناك محذور عن بيان المقاصد صريحا، و إن لم يكن خرس في اللسان، كما إذا خاف من اطلاع اللصوص على سلعته، فأشار البائع أو المشتري إشارة مفهمة مقصده في البيع و الشراء، و أشار بأصابعه مثلا إلى مقدار الثمن و مقدار المثمن، أو كانت لغة البائع تختلف عن لغة المشتري و لم يفهما صيغة البيع و الشراء من ألفاظهما، فأشار كلّ انوار الفقاهة، ج 1، ص: 96

منهما إلى مقصده من البيع و الشراء و مقدار السلعة، و مقدار الثمن، بإشارات مفهمة- كما هو المتداول في أيّامنا في موسم الحج بين الحجاج من البلاد المختلفة و بين أهل مكّة و مدينة- و كذا الحال بالنسبة إلى الأصم.

ففي هذه الصور الأربع و شبهها لا يبعد جواز ايقاع العقد بالإشارة، أو أداء بعض الخصوصيات باللفظ و بعضها بإشارة اليد و عقود الأصابع، و لكن إذا لم يوجد شي ء من هذه الضرورات يشكل الاكتفاء بالإشارة، لأنّه لا تعدّ حينئذ عقدا متعارفا بين العقلاء.

و على كل حال يدخل هذا العقد في المعاطاة، و لا تشمله أحكام الإنشاء اللفظي لو فرض له أحكام خاصة، هذا و لقد أجاد المحقق قدّس سرّه حيث قال في الشرائع: «و يقوم مقام اللفظ، الإشارة من العذر» و في معناه كلام الشهيدين قدّس سرّهما في اللمعة و شرحها، و لعله لعدم حكم خاص للألفاظ عدا النقل و الانتقال.

و هذا و لكن مع ذلك كله لا يمكن الركون إليها في الأشياء الخطيرة كبيع الدور و المزارع

و المعامل و شبهها لعدم الاعتناء بها عند العقلاء و أهل العرف في هذه الامور، و من الواضح أنّ أدلة الصحة منصرفة إلى ما يتعارف.

و أمّا الأخرس فقد ادّعى الإجماع أو عدم الخلاف على جواز اكتفائه و كون عقده بالإشارة جاريا مجرى العقد بالصيغة لا داخلا في المعاطاة.

و يشهد لذلك مضافا إلى أنّه المتعارف بين أهل العرف و العقلاء بالنسبة إليهم، ما ورد في بعض النصوص، مثل ما ورد في أبواب الطلاق كرواية البزنطي أنّه: «سأل أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن الرجل تكون عنده المرأة يصمت و لا يتكلم، قال: أخرس هو؟ قلت: نعم، يعلم منه بغض لامرأته و كراهة لها، أ يجوز أن يطلق عنه وليه؟ قال: لا، و لكن يكتب و يشهد على ذلك، قلت: فإنّه لا يكتب و لا يسمع كيف يطلقها؟ قال: بالذي يعرف به من أفعاله مثل ما ذكرت من كراهته و بغضه لها» «1».

و أيضا ما رواه أبان بن عثمان قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن طلاق الخرساء قال:

يلفّ قناعها على رأسها و يجذبه» «2».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 97

و ما رواه النوفلي عن السكوني قال: «طلاق الأخرس أن يأخذ مقنعتها و يضعها على رأسها و يعتزلها» «1».

و ما رواه أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «طلاق الأخرس أن يأخذ مقنعتها و يضعها على رأسها ثم يعتزلها»»

.فإنّ الجواز في مثل الطلاق الذي هو أهم من البيع و أشباهه في نظر الشارع دليل على جواز الإشارة في غيره.

و قد ورد ذلك في أبواب الوصية أيضا، مثل ما رواه عبد اللّه بن الحسن عن علي بن جعفر عن أخيه قال: «سألته عن رجل اعتقل لسانه عند

الموت، أو امرأة، فجعل أهاليها يسائله: اعتقت فلانا و فلانا؟ فيؤمي برأسه (أو تؤمي برأسها) في بعض نعم و في بعض لا، و في الصدقة مثل ذلك؟ قال: نعم هو جائز» «3» و كذا سائر ما ورد في هذا الباب، نعم هي عقد جائز و أمره أسهل من العقود اللازمة.

و ما ورد فيها من التصريح ببعض الإشارات المعينة مثل لف المقنعة على رأسها في الطلاق لا خصوصية لها، بل المراد ما يفهم منه المقصد بوضوح.

ثم ليعلم أنّ لجماعة الأخرسين في زماننا لسانا خاصا يتركب من إشارات خاصة يتكلّمون بها فيما بينهم، و الظاهر اعتبار الاستفادة منها في بلدان يتعارف فيها هذا اللسان، و التعدي منه إلى إشارات اخرى لا تخلو من إشكال بعد تعارفها بينهم كالألفاظ فيما بيننا كما لا يخفى على الخبير بلسانهم.

ثمّ إنّه هل يعتبر العجز عن الوكالة في جواز عقد الأخرس بالإشارة أم لا؟ ظاهر ما عرفت من الروايات الكثيرة السابقة عدم اشتراط ذلك فيه، لإطلاقها و عدم تقييدها بشي ء، بل التصريح في بعضها بذلك (كما عرفت).

مضافا إلى ما حكي عن عدم الخلاف فيه، أضف إلى ذلك أنّه ينقل الكلام في توكيل انوار الفقاهة، ج 1، ص: 98

الغير و أنّه لا يكون إلّا بالإشارة، فالأمر ينتهي إليها لا محالة، اللّهم إلّا أنّ يقال: إنّ الوكالة لما كانت من العقود الجائزة كان أمرها أسهل من العقود اللازمة.

أو يكتفي باجازة الفضولي هنا من طريق الإشارة، و لكنه أيضا كما ترى، نعم إذا شك في شي ء من هذا كانت أصالة الفساد حاكمة.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ هنا مقامات:

المقام الأول: في مواد الصيغة

اعلم أنّ المنقول من كلمات الأصحاب في هذا الباب مختلف جدّا بحسب الظاهر و إليك نموذج منها:

1- «العقود

الشرعية بما هي متلقاة من الشارع لا ينعقد بلفظ آخر ليس جنسها» (عن جامع المقاصد).

و مثله ما عن فخر المحققين: «إنّ كل عقد لازم وضع له الشارع صيغة معينة فلا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقن» و كذا ما عن كنز العرفان من أنّ «اللازم العقد اللفظي المتلقى من النص لأنّه حكم شرعي حادث يحتاج إلى الدليل».

و ظاهر هذه العبارات لزوم الاكتفاء بالعناوين الواردة في النصوص المشتملة لبيان أحكام هذه العقود، ففي البيع بعنوان «البيع» و في النكاح بعنوان «النكاح» إلى غير ذلك.

2- يشترط فيها «الحقيقة» و لا تكفي المجازات سواء القريبة و البعيدة (حكي عن بعض من دون تسمية باسمه).

3- يجوز بالمجازات القريبة دون البعيدة (حكي عن بعض في مقام الجمع بين كلمات القوم).

4- يعتبر في إنشاء العقود كون الصيغة صريحة فلا تنعقد بالكنايات (عن التذكرة).

5- تعتبر الدلالة الوضعية اللفظية، فالمجازات التي تعتمد على قرينة لفظية يجوز الإنشاء بها دون ما تعتمد على القرائن الحالية و شبهها (احتمله الشيخ الأعظم الأنصاري قدّس سرّه في بعض كلماته في المقام).

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 99

6- المعتبر فيها كل لفظ له ظهور عرفي في أداء المقصود من العقود من غير فرق بين عناوينها الخاصة و غيرها، و بين الحقائق و المجازات (حكي عن جماعة من المتأخرين).

و هذا هو الحق، لعدم الدليل على أزيد منه، و لصدق عنوان البيع بكل ما يكون ظاهرا في هذا المعنى بحسب متفاهم العرف، و يؤدي هذا المقصود بالألفاظ الظاهرة فيها، فيصدق أنّه باع أو اشترى و تترتب عليه أحكامها.

و هكذا جميع عناوين العقود، من الإجارة و الجعالة و المضاربة و الهبة و غيرها، بل لا يبعد ذلك النكاح و الطلاق و إن كان

فيهما إشكال من حيث التوقيفية و شائبة العبادة كما عرفت قريبا.

«و من هنا يظهر حال سائر الأقوال و الاحتمالات في المسألة»، و ما استدل به عليها، و هي امور تستنبط من كلماتهم:

1- الاستدلال بأصالة الفساد و الأخذ بالقدر المتيقن.

و فيه: أنّه لا وجه له بعد العمومات الواردة في لسان الآيات و الروايات في بيان أحكام هذه العقود، و أمّا الموضوعات من البيع و غيره فهي امور عرفية عقلائية تصدق بكل لفظ يكون ظاهرا في إنشائها.

2- الاستدلال على لزوم خصوص ألفاظ عناوين هذه المعاملات بورودها في لسان الشارع، فلا يجوز في البيع الإنشاء بعنوان «ملكتك بكذا» و في الشراء بعنوان «تملكت» و هكذا.

و فيه: أنّه إذا أمكن بيان معناه و مؤداه بألفاظ اخر، و لو بسبب القرائن الموجودة فيه أو من الخارج، فسوف تشمله عمومات أدلة الأحكام و اطلاقاتها.

3- و من هنا يظهر الإشكال أيضا في ما احتمله العلّامة الأنصاري قدّس سرّه من لزوم الاقتصار على الدلالة اللفظية، فلا يكفي القرائن الحالية، و ذلك لأنّ الإجماع على اعتبار اللفظ في العقود اللازمة- لو فرض وجوده- فالقدر المتيقن منه إنّما هو بالنسبة إلى أداء أصل المقصود إجمالا، فلا مانع من الاعتماد على القرائن الحالية، و لا يخرج بذلك عن العقد اللفظي المنشأ بالكلام.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 100

فتلخص من جميع ما ذكرنا أنّه لا دليل لنا في أبواب صيغ العقود غير اعتبار إنشائها بألفاظ ظاهرة في أداء المقصود ظهورا عرفيا، سواء كان بنفس عناوينها أو بغيرها، و سواء كان بألفاظ حقيقة أو مجازية، و اللّه العالم.

و ممّا يؤيد قويا جواز الاعتماد على القرائن الحالية، نفس الإنشاء بالفعل الماضي أو المضارع، فإنّهما وضعا أولا و بالذات للإخبار، و استعمالها

في الإنشاء أيضا و إن كان بعنوان الحقيقة، لكثرة استعمالهما في ذلك حتى بلغا حدّ الحقيقة، و لكن كون المتكلم في مقام الإنشاء أو الإخبار لا يعلم إلّا بقرائن الحال، فالاعتماد على القرائن الحالية ممكن في الجملة.

و يؤيده أيضا أنّ النكاح الذي هو أشد من جميع العقود في دائرة اهتمام الشارع ينشأ بألفاظ كنائية مشتملة على القرائن الحالية أو المقالية، فإنّ لفظ التمتع من الكنايات قطعا، بل الزواج و النكاح أيضا، في الأصل وضعا لمعان اخر، و لو سلم نقل النكاح عن معناه الأصلي (و هو مأخوذ من نكحه الدواء إذا خامره و غلبه) لا نسلم ذلك في «التمتع» و «الزواج» فإنّ الأول لمطلق الانتفاع بشي ء، و الثاني لمطلق المقاربة بين شيئين، إلّا أنّهما إذا ذكرا في مقام خاص يعلم بالقرائن هذا العقد المعين، كما أنّ الألفاظ المستعملة في معنى الجماع كلها كنايات كما لا يخفى.

المقام الثاني: الألفاظ الخاصة لإنشاء البيع
اشارة

و إذ عرفت الأصل الكلي في هذا المقام، فلنعد إلى عدّ ما ذكروه من الألفاظ الخاصة لإنشاء البيع أو الشراء فنقول (و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية): قبل كلّ شي ء لا بدّ من التنبيه على أمر، و هو أنّ الظاهر في بادي النظر عدم كون تعيين هذه الألفاظ من وظائف الفقيه، لأنّ ذلك من الموضوعات، و وظيفة الفقيه بيان أحكام الشرع.

و إن شئت قلت: إنّه بعد كون الحكم الشرعي هنا، الاكتفاء بكل ما هو ظاهر في أداء المقصود من الألفاظ، يرجع إلى العرف في تشخيصها، و هذا أمر يفهمه المقلدون و ليس الفقيه بأعرف من المقلد فيها، فلما ذا وقع هذا الكلام الطويل في تعيين هذه الألفاظ؟

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 101

و لعله لهذه الجهة حكي عن الشيخ و

الديلمي و القاضي و الحلبي و غيرهم الاقتصار على الايجاب و القبول من دون ذكر لفظ أصلا.

و حكي عن جمع آخرين كالعلّامة قدّس سرّه في غير واحد من كتبه، و الشهيد الأول و الثاني قدّس سرّهما ذكر بعض الألفاظ بعنوان المثال، حتى أن «المحقق» في «الشرائع» و «الشهيد الثاني» في «المسالك» لم يحوما حول هذه المباحث، بل أو كلوا أمرها إلى العرف عملا.

هذا و لكن يمكن أن يكون عذر المتأخرين في طرح هذه المباحث أنّ أهل العرف كثيرا ما يحصل لهم الشك في هذا الأمر، و لا يتبيّن لهم حال هذه الألفاظ، و ليس لجميعهم دقّة تسلط على هذه الامور كما لا يخفى على من راجع كثيرا من الناس، لا سيما الاميين منهم، فلذا ينوب عنهم الفقيه في تشخيص هذه الموضوعات بأخذها من أعماق أذهانهم و يردها إليهم بوضوح و صراحة و لا غرو في ذلك.

فاذن لا فرق في مسألة رجوع الجاهل إلى العالم، و المقلّد إلى المجتهد، بين الأحكام و الموضوعات المشكلة لاتحاد الدليل.

مضافا إلى استقرار سيرة فقهائنا (رضوان اللّه عليهم) على ذلك، فكم من موضوع تصدوا لبيانه و شرحه في كتب الفقه، مثل ما عرفت في صدق عنوان البيع و التجارة على المعاطاة، بل التعاطي من جانب واحد، و كذا في صدق عنوان «الاعانة» في أبواب بيع العنب ممن يعمله خمرا، و التولي من قبل الظالم، و في صدق المال على بعض الأشياء، و صدق «المأكول» و «الملبوس» في أبواب ما يسجد عليه، على كثير من الأشياء، إلى غير ذلك ممّا لا يحصى كثرة في جميع الأبواب، و فرعوا عليها فروعا كثيرة كما لا يخفى.

و إذا تبين لك هذا فاعلم: أن الألفاظ التي

ذكروها في باب إيجاب البيع امور:

1- الإيجاب

بلفظ «بعت» و قد حكي عن جميع أهل اللغة: كما في محكي مصابيح الطباطبائي قدّس سرّه على انوار الفقاهة، ج 1، ص: 102

ما حكاه عنه في الجواهر «1» اشتراكه بين البيع و الشراء و أنّه من الاضداد، و لكن القرائن توجب ظهوره في الإيجاب و القبول، و لذا حكي الشهرة العظيمة بل كادت أن تكون إجماعا على جواز الإيجاب به.

و هل هو مشترك لفظي كما صرّح به في «مصباح الفقاهة» و كثرة استعماله في البيع فقط توجب انصرافه إليه عند الاطلاق «2»، أو مشترك معنوي كما ذكره السيد قدّس سرّه في «الحاشية» فيكون بمعنى التمليك بالعوض، سواء كان بالتصريح بالعوض، كما في البائع، أو تمليكا ضمنيا، كما في المشتري؟

أقول: إنشاء القبول بلفظ «بعت» لا يخلو عن إشكال، نعم لا مانع من إنشائه بلفظ «ابتعت» و لو كان مشتركا في الازمنة السابقة فلعلّه اختص بأحد الطرفين، و من العجب أنّه بصرافة أذهانهم ذكروا في عباراتهم في المقام (كما في العبارة الذي ذكرناها عن المصابيح) ما يظهر منه كون عنوان «البائع» في مقابل عنوان «المشتري» فلا يصدق هذا العنوان على كليهما، و مع ذلك ذكروا أنّ عنوان «البيع» من الاضداد و مشترك لفظي أو معنوي.

نعم صيغة الثلاثي المجرّد ظاهر في الموجب، و باب الافتعال في المشتري، و لعله لم يستعمل في الكتاب العزيز البيع إلّا في أحد أمرين:

البيع في مقابل الشراء، مثل قوله تعالى: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ «3» و البيع بمعنى مجموع البيع و الشراء، كما في قوله تعالى: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ «4» و كذا في قوله عليه السّلام: «البيعان بالخيار ما لم يفترقا» استعمل في مجموع

البيع و الشراء.

و الحاصل: أنّ القبول بلفظ «بعت» مشكل جدّا، نعم لا إشكال في جواز إيجاب البيع بهذا اللفظ.

2- الشراء

و قد صرّحوا أيضا باشتراكه بينهما أيضا، كما حكي عن كثير من أهل اللغة بل حكي عن مصابيح الطباطبائي قدّس سرّه عدم خلافهم في ذلك.

فيجوز على هذا المبنى إنشاء البيع بصيغة «شريت» و كذا قبوله بهذه الصيغة نفسها، أمّا إنشاء إيجاب البيع به فلا ريب في جوازه، بل لم يستعمل هذا اللفظ في القرآن الكريم إلّا في هذا المعنى، مثل قوله تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ «1».

و قوله تعالى: وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ «2» إلى غير ذلك، و قد ورد استعماله في الكتاب العزيز في أربعة مواضع:

اثنان منهما قد مرّا، و الباقي قوله تعالى: وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ «3».

و قوله تعالى: فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ «4».

و لكن ذكر في الجواهر و غيرها أنّه قد ادّعى هجر ذلك في العرف المتأخر، و لكنه ممنوع، و في المكاسب استوجه الشيخ قدّس سرّه احتياجه إلى القرينة لعدم نقل الإيجاب به في الأخبار، و كلمات القدماء، و قلّة استعماله عرفا في البيع.

و قال في مصباح الفقاهة؛ أنّه ليس لكلامه قدّس سرّه معنى محصل بعد الاعتراف بأن لفظ «شريت» لم يستعمل في القرآن المجيد إلّا في البيع، لأنا لا نسلم وقوع الاستعمالات العرفية على خلاف القرآن، ثم لا نسلم تقديم الاستعمالات العرفية على القرآنية «5».

أقول: و هذا الكلام منه عجيب، لأنّ القرآن نزل بلسان القوم، و يمكن أن يكون استعمال لفظ في زمن نزوله في معنى خاص شايعا، ثم في الاعصار المتأخرة نقل إلى معنى جديد، و

هجر المعنى السابق، و هذا لا يمسّ كرامة القرآن بشي ء، و لا ربط له انوار الفقاهة، ج 1، ص: 104

بأحكامه و تعليماته حتى يقال لا نسلم تقديم الاستعمالات العرفية على القرآنية، نعم للبحث في الصغرى مجال، و لكن لا ينبغي الإشكال في الكبرى بعد قبول لزوم الإنشاء بما هو متفاهم العرف في كل عصر و زمان، فتدبّر جيدا.

ألا ترى أنّ لفظ «المكروه» في عرف القرآن يطلق على أكبر المحارم، كما ورد في قوله تعالى: كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً «1». بعد ذكر أكبر المحرمات كالزنا و قتل النفوس الأبرياء، و أكل مال اليتامى، في الآيات السابقة عليها، مع أنّ هذه الكلمة صارت حقيقة في المكروه في مقابل الحرام، في عرف أهل الشرع في الاعصار المتأخرة، و على كل حال فالانصاف أنّ إيجاب البيع بلفظ «شريت» بدون ذكر قرينة مشكل في هذه الأعصار.

هذا و احتمل جواز الإيجاب بلفظ «اشتريت» و حكاه في مفتاح الكرامة عن بعض نسخ التذكرة، و تعليق الإرشاد، و هذا أشكل من سابقه جدّا، لأنّ الاشتراء في القرآن المجيد لم يستعمل إلّا في مقابل البيع، فقد ورد واحد و عشرون مرّة في القرآن بصيغة «اشترى» و «اشتروا» و «تشتروا» و «يشترون» و غير ذلك كلها بالمعنى الذي ذكرنا، غير مورد واحد و هو قوله تعالى: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ «2».

فان ظاهر الآية كما ذكر جمع من المفسرين أنّه بمعنى «البيع» فقد باعوا أنفسهم الكريمة بثمن قليل من متاع الدنيا و زخارفها، مع أنّه ليس لها ثمن إلّا الجنّة كما قال به أمير المؤمنين على عليه السّلام في ما ورد في نهج البلاغة «3».

و لكن ناقش فيه في

«المصباح» بما حاصله: إنّ علماء اليهود اشتروا أنفس العوام بثمن بخس، و هو التوادّ و التحاب إليهم، كما أنّ العوام اشتروا أنفسهم علماءهم بثمن زهيد، و هو ما منحوهم من البر و الصلة و متاع الدنيا، فصار كل منهما مشتريا لنفوس الآخرين «4».

و لا يخفى ما فيه من التكليف و التعسف الشديد المخالف لظاهر الآية الموجب لعدم انوار الفقاهة، ج 1، ص: 105

اتحاد مرجع الضمائر، هذا و لكن مجرّد استعمال واحد غير كاف في المقام كما هو ظاهر.

3- ملكت

و من الألفاظ التي يصح إنشاء إيجاب البيع به «ملكت» و ذكر في الجواهر أن المشهور جواز الإيجاب به، بل حكي عن جامع المقاصد ما يشعر بالإجماع عليه.

نعم أورد عليه تارة بأنّه ظاهر في التمليك مجانا، فلا يجوز إنشاء البيع به، و اخرى احتماله غير البيع من الصلح و غيره، و لا يجدي ذكر العوض، لإمكانه في الهبة و الصلح.

و يرد على الأول: أنّه لا ظهور له في التمليك المجاني إلّا إذا خلا عن ذكر العوض، و على الثاني: بإمكان تعيين البيع بقرائن لفظية أو حالية، و قد عرفت جواز ذلك مطلقا.

مضافا إلى ما قد يقال أنّ الأصل في التمليك بالعوض هو البيع (و الأصل هنا بمعنى الغالب الذي ينصرف إلى الكلام) و هو الأقوى.

هذا مضافا إلى ما عرفت سابقا من أنّ حقيقة الصلح أمر وراء البيع، و لا يمكن التمليك بالعوض بعنوان الصلح إلّا إذا كان المقام مظنة للخلف، فيتصالح فيه، أو كان الخلاف فعليا.

كما أنّه عرفت أنّ حقيقة الهبة هي التمليك الجاني، و لذا ذكر المحقق قدّس سرّه في الشرائع في تعريفها: «هي العقد المقتضي تمليك العين من غير العوض ...» و أمّا الهبة المعوضة فيمكن

أن يكون ما يعوض عنها بعد إنشاء الهبة لا في ضمن العقد، و إن كان ظاهر كلماتهم جواز أخذ العوض في العقد، و لكنّه لا يخلو عن إشكال، لمنافاته لما يتبادر من أخذ المجانية في مفهومها عرفا، كما لا يخفى على من راجعهم إلّا إذا كان العوض بعنوان الشرط لا المقابلة في العقد، و حينئذ يتفاوت مع التمليك بالعوض الذي هو حقيقة البيع.

و بالجملة إنشاء التمليك بالعوض بعنوان المقابلة بقصد الهبة مشكل جدّا، و روايات الباب لا تنافي ما ذكرنا، و تمام الكلام فيه في محله.

و بالجملة لا ينبغي الإشكال في جواز إنشاء البيع بالتمليك مع ذكر العوض، و هو كالصيغ الصريحة فيه، و الوسوسة في ذلك عجيب بحسب متفاهم أهل العرف.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 106

أمّا القبول: فالحق أنّه من حيث الأصل الكلي شبيه بالإيجاب- كما أشار إليه في الجواهر- فلا بدّ فيه أيضا الظهور العرفي على المختار، كما أنّ اللازم على سائر المباني ما يليق بها.

و قد صرّح شيخنا الأعظم قدّس سرّه بعدم الإشكال في وقوعه بلفظ «قبلت» و «رضيت» و «اشتريت» و «شريت» و «ابتعت» و «تملكت» و «ملكت» مخففا انتهى.

و لكن كل ذلك مقبول عندنا إلّا «شريت» لما عرفت من استعماله كثيرا في البيع، مضافا إلى كونه مهجورا في الاستعمالات المتداولة اليوم، فلا يطلق الشاري على المشتري.

و أوضح إشكالا منه إنشاء القبول بلفظ «بعت» لكونه حقيقة في البيع مقابل الشراء، و لو سلّمنا كونه من الألفاظ المشتركة، فلا شك في كونه مهجورا بالنسبة إلى الشراء إلّا إذا بني على الافتعال.

ثمّ إنّه قدّس سرّه ذكر أنّ في انعقاد القبول بأمضيت، و أجرت، و أنفذت وجهين، من دون أي شرح لذلك.

و عن المحقق الأصفهاني

قدّس سرّه الإشكال على ذلك بما حاصله: أنّ هذه العناوين إنّما تتعلق بما له المضي و الجواز و النفوذ، أي السبب التام، و هو العقد المركب من الإيجاب و القبول، كالإجارة في الفضولي، و لا معنى لكونها في جزء السبب.

و أجيب عنه: بأنّ المعاملة الفضولية أيضا لا تزيد على الإيجاب الساذج لكون الإجارة ركنا.

و هذا و الانصاف وجود التفاوت بين الفضولي و الإيجاب بدون القبول، لأنّ الإنشاء قد تمّ هناك إيجابا و قبولا و لكن مع ذلك، الحق جواز إنشاء القبول بهذه الصيغ الثلاث إذا ظهر من القرينة كونها في مقام إنشاء القبول.

المقام الثالث: اعتبار العربية في العقد و عدمها
اشارة

و ممّا وقع الكلام في اعتباره من حيث مادة الإنشاء بل و هيئته، اعتبار العربية، فقد حكي انوار الفقاهة، ج 1، ص: 107

عن المحقق و الشهيد الثانيين و الفاضل المقداد (رحمهم اللّه) و بعض آخر اعتبار ذلك، بل حكي عن المبسوط و التذكرة الإجماع على عدم الصحة بغير العربية في صيغة النكاح مع القدرة.

و عن ابن حمزة استحباب العربية.

و ذهب كثير من المحققين و المتأخرين و المعاصرين إلى عدم اعتبار ذلك بل و ظاهرهم عدم استحبابه أيضا و هو المختار.

دليلنا: اطلاقات أدلة صحة العقد، حلية التجارة عن تراض، و المؤمنون عند شروطهم و غير ذلك، و من الواضح المقطوع به صدق هذه العناوين على كل عقد سواء كان ألفاظ عربية أو غيرها، بل يمكن دعوى استقرار السيرة عليه بالنسبة إلى البيع و الإجارة و شبهها، لعدم التزام المتشرعة بخصوص الألفاظ العربية.

نعم قد استدلّ على اعتبارها بوجوه ضعيفة جدّا:

أحدها: و هو الأظهر من بينها، التمسك بأصالة الفساد بعد عدم الدليل على الاكتفاء بغيرها، انصراف الآية و غيرها إلى العقد بالألفاظ العربية.

ذكره في الجواهر و

عقبه بقوله: «كغير المقام ممّا علق الشارع الحكم فيه على الألفاظ المنصرفة إلى العربية ... و لذا كان القرآن و غيره من الأدعية و الأذكار الموظفة عربية» «1».

و هذا منه قدّس سرّه عجيب مع سعة اطّلاعه و وفور علمه و احاطته بعموم مسائل الفقه، فانّ حقيقة العقد و التجارة و البيع و الإجارة ليست من الألفاظ، بل هي امور اعتبارية تنشأ بالألفاظ، و الألفاظ آلات لها، و العقود و العهود الموجودة بين سائر الأقوام البشرية هي عقود و عهود معتبرة قطعا مع عدم كونها بالعربية، و قياسها على القرآن و الأدعية قياس مع الفارق بعد كون الألفاظ في كلام اللّه لها موضوعية، لأنّ النازل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عين هذه الألفاظ لا مجرّد المعاني، أضف إلى ذلك أنّ العبارات و منها الأدعية امور توقيفية و لا دخل لها بما نحن فيه.

و لو أراد قياس العقود على شي ء فلما ذا لا يقيسها على الشهادة عند القاضي و غيره،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 108

و القذف و شبهه، فهل هناك فرق بين الألسنة المختلفة في إجراء أحكامها؟ و بالجملة هذا الدليل و هذا القياس ضعيفان جدّا.

ثانيها: و هو أضعف و أعجب، إنّ العقد لا يصدق على العقد بغير العربية مع التمكن من العربية!

و ليت شعري أ و ليس العقد مطلق العهد أو العهد المشدد بين شخصين؟ أو ليس هذا من مقولة المعنى؟ فأي ربط له بهذا اللفظ دون ذاك؟

ثمّ إنّ لازمه بطلان عقود جميع الأقوام في العالم ما عدا العرب، و هو عجيب.

ثالثها: إنّ التأسي بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و بالأئمّة عليهم السّلام و أصحابهم يقتضي ذلك، و هو أيضا في الضعف مثل

سابقه، إذ التأسي إنّما هو في الشرعيات، من العبادات و الأدعية و الواجبات و المستحبات، لا في العرفيات و الموضوعات الخارجية، فهل التأسي بهم صلوات اللّه عليهم أجمعين يوجب التكلم بالعربية لجميع الناس؟ هل الاقتداء بهداهم عليهم السّلام يقتضي لبس ما لبسوا و أكل ما أكلوا ممّا لا صلة له بأحكام الشرع من الواجب و المستحب و آداب الإسلام؟

رابعها: إنّ عدم صحة العقد بالعربية بغير الماضي يدلّ بطريق أولى على عدم صحة بغير العربية، و هو أهون من الجميع، لأنّ غير الماضي على القول بعدم جوازه في مقام الإنشاء إنّما هو للاختلال بصراحة اللفظ، أو ظهوره في هذا المقام، و أين هذا من اللفظ الظاهر أو الصريح في الإنشاء إذا كان بغير العربية؟!

و بالجملة قلّما يرى في فرع من الفروع الفقهية استدلالات بهذه المثابة من الوهن، مع مالهم (قدس اللّه أسرارهم) من دقّة النظر و عمق الفكر و البصيرة، و لكن الجواد قد يكبو، و لعل الذي دعاهم إلى ذلك شدّة الاحتياط و تأثير محيط المجتمع، و على كل حال لا ينبغي الشك في جواز العقد بأي لسان.

نعم ذكر في الشرائع في باب النكاح أنّه لا يجوز العدول إلى ترجمة ألفاظ العقد بغير العربية، و ادّعى في الجواهر أنّه مورد الاتفاق كما في المبسوط و التذكرة.

و لو لا كون النكاح ممّا فيه شائبة العبادة و التوقيفية لقلنا فيه أيضا الجواز لو هن هذا

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 109

الإجماع المدعى، بما عرفت من استنادهم إلى أدلة ضعيفة، و لكن الاحتياط لا يترك في خصوص النكاح و الطلاق، و لقد أجاد السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه في ما ذكره في المقام حيث قال: لا ينبغي الإشكال فيه (في

صحته بغير العربية) و إلّا لاشتهر اشتهار الشمس في رابعة النهار (الصحيح رائعة النهار، و الرائعة بمعنى الضحى أي حين يرتفع النهار و هو مثل يضرب لغاية الشهرة) إذ كان الواجب على جميع أهالي الأمصار في جميع الأعصار تعلم الصيغة العربية لكل معاملة، كتعلمهم للحمد و السورة، إذ كثرة الابتلاء بالمعاملات ممّا لا يكاد يخفى مع أنّه لم يرد في خبر من الأخبار و لا أثر من الآثار ذلك و لو على سبيل الإشارة، إلى أن قال: نعم حكي عن المبسوط و التذكرة الاتفاق على عدم كفاية غير العربي في النكاح لمن كان متمكنا منه، فانّ تمّ و إلّا فالاقوى جوازه فيها أيضا «1».

بقي هنا امور:

الأول: هل يجوز الإنشاء بالعربي الملحون من حيث المادة أو الهيئة أو الاعراب أم لا؟

الأقوى: التفصيل بين ما هو مغير المعنى، أو مسقط له، و ما ليس كذلك، بحيث يبقى ظهوره ثابتا، فيجوز في الثاني دون الأول، لما عرفت من أنّ المعيار على الظهور العرفي، فالاغلاط المشهورة التي يتداول التكلم و التفاهم بها يجوز استعمالها في مقام الإنشاء، و القدر المتيقن من أدلة اعتبار الإنشاء ليس أزيد منه فيؤخذ بالاطلاقات.

نعم لو قلنا باعتبارها من ناحية كونها القدر المتيقن من الصحة و تجري أصالة الفساد في غيرها، أمكن القول بأنّ المتيقن هنا العربي الصحيح لا الملحون، و لكن فيه ما لا يخفى.

و هكذا الكلام بالنسبة إلى اللحن في الفارسية و غيرها من الألفاظ، فما يتكلم به العوام من اللغات الدارجة الظاهرة في أداء المقصود كاف في مقام الإنشاء و إن كان غلطا بحسب موازين اللغة و الادب.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 110

فإذن لا ينحصر البحث عن المحلون باعتبار كون الصيغة عربية بل يجري

في سائر فروض المسألة كما لا يخفى.

و من هنا يعلم أنّه لا فرق بين أن يكون للملحون معنى صحيح آخر أم لا.

الثاني: هل يعتبر العربية على القول بها في ذكر المتعلقات، أم يكفي فيها الفارسية و غيرها، أو يفصل بين القول لزوم ذكرها في البيع و عدمه؟

و الانصاف هو ما عرفت من كفاية الانفهام العرفي و الظهور المتعارف، فلو ذكر جميع المتعلقات في المقاولة أو كتب في كتاب ثم قال البائع مشيرا إليها: بعت، و قال المشتري:

اشتريت، كفى، و لا يحتاج إلى ذكر العوضين و الشروط فضلا عن كونها بالعربية أو الفارسية.

نعم لو قلنا بلزوم ذكرها، قلنا أنّ الأصل في العقود الفساد، كان اللازم ذكر جميعها بالعربية، كما أنّه لو كان الدليل على اعتبارها التأسي و شبهه كان المتيقن منه ذكر الجميع بالعربية، و لكن فيه ما عرفت.

الثالث: هل يعتبر العمل بتفاصيل المعاني و وقوع أي جزء من اللفظ بازاء أي جزء من المعنى، أو لا يعتبر؟ مثلا إذا علم أنّ قولنا «بعت هذا بهذا» إجمالا بمعنى «اين جنس را به آن قيمت فروختم» من دون معرفة الجزئيات، فالظاهر صحة الإنشاء أولا، و كونه عربيا ثانيا، بناء على الاعتبار العربية، لصدقها عليه قطعا، فما استظهره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من لوزم كونه عارفا بالفرق بين «بعت» و «أبيع» و «و أنا بايع» لم يقم عليه دليل، و كذلك الكلام في صيغة النكاح و سائر العقود، و اختار هذا القول السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه في حاشيته «1» و بعض الأعلام في مصباح الفقاهة «2».

الرابع: هل يعتبر العلم بحقيقة الإنشاء؟ الظاهر عدم اعتبار ذلك تفصيلا بالفرق بين الامور الاعتبارية و التكوينية، و كيفية الاعتبار في البيع

و النكاح، و الفرق بين البيع و الصلح و الهبة المعوضة و أشباه ذلك، بل المعتبر العلم الإجمالي، فمن وهب ماله لغيره، قال هذا لك، قاصدا لإنشاء الهبة، كفى. و هذا على إجماله واضح للعوام و الخواص، و مثله انوار الفقاهة، ج 1، ص: 111

إنشاء البيع و النكاح، فما يقع فيه من بعضهم من الوسوسة و القول بعدم جواز إجراء الصيغة من العوام لأنّهم لا يعرفون معنى الإنشاء فاسد لا دليل عليه.

و إن شئت قلت: إنّ حقيقة الإنشاء هي الإيجاد (خلافا لما ذكره بعض الأعلام العصر أنّ حقيقته هو ابراز ما في النفس من الاعتبار) و لكنه إيجاد في عالم الاعتبار، أعني الاعتبار العقلائي بأسبابه (كما عرفت سابقا) و اللازم أن يعرف المنشئ للعقد أنّه ليس بصدد الإخبار، بل هو بصدد إيجاد التمليك أو علاقة الزوجية أو غير ذلك و يفرق بين الإخبار و الإنشاء إجمالا، و أمّا أزيد من ذلك ممّا لا يعلمه إلّا العلماء الأعلام فغير لازم قطعا، و المعنى الإجمالي منه معروف لغالب الناس و إن كان لا يعرف معناه التفصيلي إلّا الأوحدي.

المقام الرابع: هل يشترط الماضوية؟

قال في القواعد: لا بدّ من صيغة الماضي، فلو قال اشتر، و ابتع أو أبيعك لم ينعقد و حكي اختيار هذا القول عن الإرشاد و شرحه لفخر المحققين و الروضة و المسالك.

و ادّعى في مجمع البرهان أنّه المشهور، و كذا عن المفاتيح و عن التذكرة الإجماع عليه، و نسب إلى الشيخ قدّس سرّه و غيره الفتوى به، و إن قال في مفتاح الكرامة لم أجد في الخلاف و المبسوط تصريحا بذلك «1».

و قال في مفتاح الكرامة في كلام آخر له في المسألة: «إن كان الإجماع منعقدا على اشتراط الماضوية كان

الإجماع قرينة على عدم تسمية الخالي عنها عقدا في زمانهم عليهم السّلام و إلّا فالشهرة معلومة و منقولة، فيحصل لنا بسببها الشك في كونه عقدا في ذلك الزمان، و الشك كاف في المقام، و كون ذلك عقدا الآن لا يجزي كما هو الشأن في المكيل و الموزون فتأمل جيدا» «2».

و عن غير واحد من القدماء و المتأخرين جوازه بغير الماضي أيضا، و هو الأقوى إذا كان له ظهور عرفي.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 112

و عمدة ما استدل به المخالفون عدم صراحة المضارع أو الأمر في الإنشاء، و احتمالهما الوعد أو الاستدعاء، هذا أولا، و العلم بعدم صدق العقد عليهما و لا أقل من الشك، و الشك كاف في الحكم بالفساد ثانيا، و نقل الإجماع عليه ثالثا.

و يجاب عن الأول: بعدم اعتبار الصراحة في صيغ العقود، بل يكفي الظهور العرفي، و هو حاصل مع وجود القرائن، بل قد عرفت أنّ الماضي أيضا ليس بصريح، بل و لا ظاهر فيه ما لم تكن هناك قرينة دالة على أنّه ليس في مقام الأخبار بل الإنشاء لاشتراك الماضي بينهما.

و منه يظهر الجواب عن الثاني لصدق العقد عليه قطعا بعد كونه ظاهرا في أداء المقصود.

و أمّا الإجماع المدعى فهو ضعيف لوجود المخالف أولا، و عدم استكشاف قول المعصوم منه ثانيا، بعد ما عرفت من وجود أدلة اخرى في المسألة.

أضف إلى ذلك كلّه ورود الإنشاء بالمضارع في روايات كثيرة مثل ما روى عبد الرحمن بن سيابة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سمعته يقول: إنّ المصاحف لن تشترى فإذا اشتريت فقل: إنّما اشتري منك الورق» «1».

و ما روى سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن بيع المصاحف و

شرائها فقال: لا تشتر كتاب اللّه و لكن اشتر الحديد و الورق و الدفتين، و قل: أشتري منك هذا بكذا و كذا» «2».

و كذا روايات اخرى وردت في باب بيع المصحف و أيضا مثل ما روى عثمان بن عيسى عن سماعة قال: «سألته عن بيع الثمرة هل يصلح شراؤها قبل أن يخرج طلعها فقال عليه السّلام: لا إلّا أن يشتري معها شيئا من غيرها رطبة أو بقلا فيقول: أشتري منك هذا الرطبة ...» «3».

و ما ورد في أبواب النكاح الذي أمرها أشدّ من البيع و أحوط من جواز الإنشاء

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 113

بالمضارع مثل ما روى أبان بن تغلب قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: كيف أقول لها إذا خلوت بها؟ قال تقول: أتزوجك متعة ... الحديث» «1».

و ما روى هشام بن سالم قال: «قلت كيف يتزوج المتعة؟ قال: يقول: أتزوجك كذا و كذا ... الحديث» «2».

و كذا الحديث 2 و 4 و 6 من نفس الباب.

و قد ورد الإنشاء بصيغة الأمر أيضا مثل ما رواه الأحول قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام قلت: ما أدنى ما يتزوج الرجل به المتعة؟ قال: كف من بر يقول لها: زوجيني نفسك متعة على كتاب اللّه ...» «3».

إلى غير ذلك ممّا هو كثير، و العجب مع وجود هذه الأخبار الكثيرة المتفرقة في مختلف الأبواب من دعوى الشهرة أو الإجماع على عدم جواز الإنشاء بغير الماضي.

و ليعلم أنّ الإنشاء بالمضارع أكثر من الإنشاء بصيغة الأمر، بل لم نر في أخبار إنشاء البيع الإنشاء به، نعم في النكاح بعض ما يظهر منه ذلك مثل ما عرفت و ما رواه سهل الساعدي في المشهورة (رواه في المستدرك، ج 2،

ص 65).

بقي هنا شي ء: و هو أنّه هل يجوز الإنشاء بالجملة الخبرية مثل قول البائع «هو لك بكذا و كذا»؟ الظاهر ذلك إذا كان بقصد الإنشاء، بل هو أكثر و أشهر من الإنشاء بصيغة الأمر، و له نظائر في الأبواب الآخر، مثل باب العتق: «أنت حرّ لوجه اللّه» و باب الطلاق «هي طالق» و باب الوقف «هي صدقة في سبيل اللّه» و باب النذر «للّه علىّ كذا» و باب الضمان «أنا به زعيم» و كذلك الوصية «أنت وصيي» كما ورد في الآيات أو الروايات، فلا تختص الجمل الخبرية بباب دون باب كما قد يتوهم.

المقام الخامس: تقديم الإيجاب على القبول
اشارة

قال العلّامة قدّس سرّه في القواعد: و في اشتراط تقديم الإيجاب نظر.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 114

و عن المختلف: إنّ الأشهر اشتراطه، و نسب إلى الشيخ قدّس سرّه في المبسوط و الاشتراط خيرة الخلاف و الوسيلة و السرائر، و في التذكرة و الايضاح و التنقيح أنّه الأقوى، و في جامع المقصد و صيغ العقود أنّه الأصح.

و اختار جماعة عدم الاشتراط، كما في الشرائع و المسالك و نهاية الأحكام و في اللمعة و الروضة و مجمع البرهان و غيرها، بل نسب ذلك إلى كل من لم يتعرض لذكر هذا الشرط.

و قد استدلوا للاشتراط بأدلة ضعيفة:

1- إنّ الأصل عدم تمام العقد و بقاء الملك على ما كان، و حاصله أصالة الفساد في المعاملات ما لم تثبت الصحة.

2- القبول إضافة فلا يصح تقديمها على أحد المضافين.

3- القبول فرع الإيجاب، فلا يصح تقديمه و لا يصحّ إلحاقه بالنكاح لمكان الحياء في النكاح.

هذا ملخص ما ذكره في مفتاح الكرامة من الأدلة التي ذكرها في المسألة «1».

و لكن اللازم قبل كل شي ء التحقيق في حقيقة القبول في البيع

و غيره و ماهيته، فقد ذكر فيه وجوه:

الأول: أنّ حقيقته تقرير ما أوجد الموجب و تثبيته، و أنّه من قبيل «شكر اللّه سعيك» الذي يقال لمن أوجد فعلا «2».

الثاني: ما حكي عن بعض الأعاظم و حاصله: أنّ الموجب ينشئ التمليك بالمطابقة و التملك بالتبع، و القابل بالعكس ينشئ التملك بالأصالة و التمليك بالتبع.

الثالث: أنّه الرضا بالإيجاب على وجه يتضمّن إنشاء نقل ما له في الحال إلى الموجب على وجه العوضية.

هذا و الانصاف أنّ العقد أمر يقوم بطرفين لا يتمّ بفعل أحدهما، فما ذكر في الوجه الأول من أنّ عمل القابل هو تثبت ما فعله الموجب غير تام، لأنّ الموجب لا يعمل شيئا

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 115

إلّا من قبل نفسه، و إن شئت قلت: الموجب يبني العقد من قبل نفسه فقط، ثم يتبعه القابل، فيتمّ أمر العقد المتوقف على الطرفين، فليس فعل القابل مثل «شكر اللّه سعيك» الذي يقال بعد تمام العمل.

إلّا أنّ القابل لما كان يعطف عهده إلى عهده، و إنشاءه إلى إنشائه، فلا يحتاج إلى ذكر إنشاء العقد بجميع خصوصياته، و إلّا فلا فرق في الواقع بين فعلهما، و إن افترقا في اللفظ و الظاهر، و كان أحدهما كالفاعل و الآخر كالقابل.

و الحاصل: إنّ كلّا منهما «مملك» و «متملك» و طرف للمعاقدة و المعاهدة، لا ينقص أحدهما عن الآخر شيئا، لأنّه مقتضى معنى المعاهدة و المعاقدة، لأنّه أمر بين اثنين كل واحد منهما طرف له من دون أي تفاوت من هذه الجهة.

نعم، في مقام البيان و شرح هذا المعنى، فالقابل يعطف إنشاءه على إنشاء البائع من غير حاجة إلى بيان أكثر، فيقول: قبلت هذا العقد، أو قبلت هكذا، أو قبلت، مجرّدا عن كل شي ء.

و

من هنا يظهر النظر في جميع الوجوه الثلاثة المذكورة و عدم تمامية شي ء منها.

هذا كله على فرض القول بوجوب تركب العقد من الإيجاب و القبول و كون الثاني كالمطاوع لفعل الأول، و لكنه بعد محل إشكال بل منع، لإمكان تركّبه من إنشاءين متشابهين، سواء سمّيته إيجابين أم لا، بأن يقول كل منهما: ملكتك ملكي هذا بازاء ملكك، أو جعلت هذا المال بازاء هذا المال، أو قالا: قبلنا المبادلة بين المالين.

و السرّ في ذلك كلّه ما عرفت من أنّ حقيقة العقد معاهدة بين الطرفين لا يفترق أحدهما من الآخر من هذه الجهة- و تفاوت البائع و المشتري من بعض الجهات لا دخل له بأصل العقد- و لا يلزم أن يكون إنشاء أحدهما بلفظ القبول دائما حتى يشبه المطاوعة، بل للثاني أن ينشئ بلفظ القبول و يعطف إنشاءه على إنشاء الأول، أو ينشئ بلفظ آخر و يذكر فيه جميع خصوصيات العقد، فيقول الأول: ملكتك مالي هذا بازاء مالك، و يقول الثاني: أنا أيضا ملكتك مالي هذا بازاء مالك، فتدبّر فانه حقيق به.

و بهذا تنحل عقدة الإشكال في إنشاء النكاح بقول الزوج «أتزوجك على كتاب اللّه انوار الفقاهة، ج 1، ص: 116

و سنة نبيّه» إلى آخر ما ورد في الأخبار الكثيرة، فانّه ليس فيه من المطاوعة عين و لا أثر، و كذا ما ورد في البيع بقوله: اشتري منك كذا بكذا، و لا يجتري أحد على رد هذه الأخبار الكثيرة.

فتلخص من جميع ذلك أن تركب العقد من الإيجاب و القبول و إن كان جائزا إلّا أنّه ليس بلازم بل يجوز تركبه من إنشاءين متماثلين يدلان على المعاهدة.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ شيخنا الأعظم قدّس سرّه قسم ألفاظ القبول هاهنا

إلى ثلاثة أقسام:

الأول: أن يكون بلفظ قبلت و رضيت.

الثاني: أن يكون بطريق الأمر و الاستيجاب نحو: بعني، فيقول المخاطب: بعتك.

الثالث: أن يكون بلفظ اشتريت و ملكت محققا.

ثم ذكر في الأول ما حاصله عدم جواز تقديمه بل حكي عن بعضهم عدم الخلاف فيه، ثم استدل له بكونه خلاف المتعارف. أولا، و كون القبول فرع الايجاب. ثانيا، و ليس القبول مجرّد الرضا بشي ء حتى يمكن تعلقه بالمستقبل، بل هو عبارة عن الرضا بالإيجاب على وجه يتضمّن الإنشاء.

ثم أشكل على الثاني أيضا بما أورده على تقديم القبول المنشأ بلفظ قبلت، و ذكر أنّ غاية ما يستفاد من الأمر و طلب المعاوضة هو الدلالة على الرضا بها، و لكن ليس فيه إنشاء و نقل في الحال.

ثم أورد على الاستدلال بالفحوى بالنسبة إلى النكاح بمنع الفحوى، و قصور دلالة الروايات عليه في النكاح أيضا.

و لكن اختار الجواز في الثالث نظرا إلى تضمنه إنشاء المعاوضة كالبائع، غاية الأمر أن البائع ينشئ ملكية ماله لصاحبه بازاء ماله، و المشتري ينشئ عكس ذلك، و وجود معنى المطاوعة في القبول غير لازم، و لكن تردد فيه في آخر كلامه نظرا إلى أنّ المعهود المتعارف من الصيغة تقديم الإيجاب فقال: الحكم لا يخلو عن شوب الإشكال (انتهى ملخصا).

هذا و لكن يظهر من بعض المحشّين أنّ القسمين الأخيرين لا ينبغي أن يكونا محطّ

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 117

الكلام، أمّا بالنسبة إلى القسم الثالث فإن قول المشتري: اشتريت كذا بكذا، إيجاب من قبله و لا يبقى بعده محل لا يجاب البائع، بل يبقى قبول البائع و تنفيذ ما أوجبه المشتري.

و أمّا القسم الثاني ففي الحقيقة هو إذن بايقاع العقد بعده، و حقيقة المعاملة تحصل بالإيجاب فقط بعد ما

كان بإذن المشتري، فلا يبقى إلّا الأول، ثم قال: و التحقيق جواز تقديمه عليه لأنّه و إن كان مطاوعة إلّا أنّه يمكن إنشاؤه مقدما على نحوين:

أحدهما: بنحو الاشتراط نظير الواجب المشروط بأن يقول: إن ملكتني هذا بهذا قبلت.

و الثاني: أن يكون على نحو الواجب المعلق فإنشاؤه حالي و المنشأ استقبالي (انتهى ملخصا) «1».

أقول: و في ما أفاده مواقع للنظر:

1- الصورة الاولى التي ذكرها من جواز الإنشاء على نحو الواجب المشروط ليس من قبيله، بل من قبيل التعليق في الإنشاء الذي يأتي بطلانه.

2- الصورة الثانية، أعني الإنشاء على نحو الواجب المعلق، فهو أيضا باطل لما ذكرنا في محله من فساد المبني، و أن الواجب المعلق يعود إلى التناقض في الإنشاء، و هو غير جائز.

3- سلمنا جواز ذلك كله، و لكن مثل هذا الإنشاء، أعني تقديم القبول بلفظ قبلت، ممّا لا يعرفه العقلاء من أهل العرف، مع أن عموم «أوفوا» منصرف إلى ما هو المعروف المتداول بينهم قطعا، و إلّا جاز لكل أحد اختراع عقد لنفسه و لزميله و المعاملة على وفقه من دون أن يعرف لدى العقلاء و يتداول بينهم، و لا أظن الالتزام به من أحد.

4- و أشكل من الجميع الاكتفاء بالإيجاب فقط بعد الاذن، فهل يجوز لمن اذن له في أمر النكاح أن يقول «زوجت فلانة لنفسي» و يتمّ الأمر من دون إنشاء القبول، و هذا منه مبني على توهّم كون الإنشاء تاما من قبل الموجب، و أنّ موقف القبول موقف «شكر اللّه سعيك» و أمثاله، و لكنك عرفت بطلان هذا المبنى فيما مرّ آنفا و أنّ العقد و المعاهدة أمر قائم بطرفين.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 118

5- أنّه لا يعتبر في حقيقة العقد المطاوعة

من أحد الجانبين، بل الظاهر كما عرفت إمكان تركب العقد من جملتين يدلان على إنشاء العقد من الجانبين و المعاهدة و التوافق و الالتزام بأمر ترتبط بكليهما و إن لم يكن أحدهما من قبيل المطاوعة، كما إذا قال أحدهما:

ملكتك هذا بهذا، و قال الآخر، أنا أيضا ملكتك هذا بهذا.

و الذي يتحصل من جميع ما ذكرنا أن تقديم القبول بلفظ «قبلت» و شبهه مشكل جدّا بل ممنوع لما عرفت من صدق العقد عليه عرفا، لعدم تعارفه عندهم قطعا و عدم اعتدادهم بمثله، فلا تشمله عمومات وجوب الوفاء بالعقود و شبهها.

و ما ذكر في توجيهه بمشابهته للواجب المشروط أو المعلق على فرض صحته لا يفيد في ما ذكر.

و أمّا تقديمه بصورة الأمر و الاستيجاب، فلو لا وروده في بعض أخبار أبواب النكاح أو البيع لأمكن الإشكال عليه أيضا، بمثل ما مر في قبلت، مضافا إلى ظهوره في الاستدعاء كما لا يخفى على من تدبّر.

و أمّا ما ورد في هذا المعنى في روايات النكاح من حديث سهل الساعدي فدلالته لا بأس به، و ليس فيه أثر من قبول الرجل بعد تزويج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إيّاه وكالة عن قبل المرأة، و لو كان لنقل إلينا عادة، و هذا المقدار من الفصل بين الإيجاب و القبول غير قادح كما سيأتي إن شاء اللّه عن قريب.

نعم فيه إشكال ظاهر من حيث السند نظرا إلى أنّه مرسلة عوالي اللئالي «1» و لكن بمضمونه رواية اخرى عن الإمام الباقر عليه السّلام يحكى قصة امرأة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تشبه ما ورد في رواية سهل، بتفاوت يسير، و هي معتبرة الاسناد ظاهرا «2» و ليس في

سندها من يتكلم فيه.

و أوضح من هذه الرواية، دلالة ما ورد في موثقة سماعة (و قد وصفه المحقق اليزدي قدّس سرّه في تعليقته بالصحة)»

في أبواب البيع في بيع اللبن في الضرع و أنّه لا يصح حتى يضم إليه انوار الفقاهة، ج 1، ص: 119

شيئا مثل أن يحلب في الاسكرجه فيبيعه مع ما في الضرع و يقول اشتر مني هذا اللبن الخ «1».

فقد ورد الإنشاء فيه بلفظ الأمر، و سند الحديث معتبر، و في مصباح الفقاهة نقل هذه الرواية بلفظ المضارع لا الأمر، و الظاهر أنّه خطأ منه، فان المذكور في الرواية أنّه من قول صاحب اللبن، و ذكر بعده لفظة «مني»، و هذا كالصريح في كونه «اشتر» بلفظ الأمر لا بلفظ المضارع.

و مع ذلك يشكل نفي الجواز، بل قد عرفت أنّه مقتضى القواعد أيضا إذا كان محفوفا بالقرائن الدالة على أنّ الأمر ليس بصدد الاستدعاء بل ورد في مقام الإنشاء.

و أمّا الإنشاء بقوله «اشتريت»، فالانصاف أنّه لا غبار عليه، بل يصح عدّة إيجابا من ناحية المشتري يتعقبه القبول من ناحية البائع، و لا دليل على لزوم كون البائع موجبا دائما و المشتري قابلا، كما أنّه لا دليل على وجوب كون الزوج قابلا دائما، بل يجوز بالعكس كما ورد في كثير من روايات باب النكاح، و قد مرت الإشارة إليها و هي روايات كثيرة.

بقي هنا أمران:

الأمر الأول: إنّ العلّامة الأنصاري قدّس سرّه ذكر في آخر كلامه في المقام أنّ العقود على قسمين، ثم قسم كلّا منهما إلى قسمين، و محصل ما ذكره في الأقسام الأربعة ما يلي:

الأوّل: ما يكون فيه التزامان متساويان (كالصلح).

الثاني: ما يكون فيه التزامان مختلفان (كالبيع و الإجارة) فان التزام البائع يغاير التزام المشتري، و

كذا الموجر و المستأجر.

الثالث: ما لا يكون في قبوله إلّا الرضا مع مطاوعة الإيجاب (كما في الرهن و الهبة و القرض).

الرابع: ما لا يكون فيه سوى الرضا بالإيجاب (كما في الوكالة و العارية و شبهها).

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 120

و ذكر بعد هذه التقسيم أنّ «تقديم الإيجاب على القبول لا يكون إلّا في القسم الثاني من القسمين» يعني القسم الثاني و الرابع ممّا ذكرنا، و لم يذكر فيه أزيد ممّا عرفت، و الظاهر بقرينة ما سبق في كلامه أنّ الأول، أي المصالحة و شبهها، لا يتصور فيها تقديم القبول على الإيجاب لأنّ إنشاءهما سيان.

و في الثالث لا يتصور تقدم القبول لما عرفت من لزوم المطاوعة فيه، فلا يبقى إلّا الثاني و الرابع، و يجوز فيهما تقدم القبول بلفظ «اشتريت» في مثل البيع، و بلفظ «رضيت» في مثل الوكالة و العارية و أشباههما.

هذا و ما أفاده و إن كان جيدا من بعض الجهات إلّا أنّه لا يخلو عن بعض الإشكالات لجواز تقديم القبول في القسم الثالث أيضا على الأقوى، إذا لم يكن الإنشاء بما يشتمل على مفهوم المطاوعة بأنّ يقول المرتهن: أخذت هذا منك بعنوان الرهن، و كان في مقام الإنشاء، قول الراهن: أعطيتك هذا بعنوان الرهن، أو أعطيتك إيّاه كذلك.

فيتحصل من ذلك جواز تقديم القبول في جميع هذه العقود إذا لم يكن بلفظ «قبلت» و ما أشبهه، و يشكل في ما كان بهذا اللفظ و شبهه لما عرفت من عدم عرفيته.

الأمر الثاني: أنّه قد تقسم العقود إلى قسمين: «عهدية» و «إذنية».

فالعهدية ما تحتاج إلى إنشاء القبول، و الاذنية ما لا تحتاج إلّا إلى الرضا بالإيجاب فقط، بلا حاجة إلى إنشاء آخر غير ما صدر من الموجب.

و

مثّلوا للأول بالبيع و النكاح و غيرهما من أشباههما، و للثاني بالوديعة و العارية بل الوصية أيضا، و صرّح بعضهم بأنّ الوكالة على قسمين: عهدية: و هي من العقود تحتاج إلى الإيجاب و القبول، إذنية: و هي ما إذا أذن المالك لزيد مثلا في بيع داره صحّ له بيعها، و لكن لا يترتب عليه أحكام الوكالة العهدية، ثم ذكر عدم حاجة شي ء من العقود الاذنية إلى اعتبار تقدم الإيجاب على القبول «1».

قلت: أمّا حكم القبول في العقود المختلفة فقد عرفته، و أمّا كون شي ء من العقود لا يحتاج إلى إنشاء غير الإيجاب، فهو محل إشكال بل منع، فانّ العقد أيّا ما كان أمر دائر بين انوار الفقاهة، ج 1، ص: 121

اثنين، و يحتاج إلى إنشاءين، لأنّه من الامور القائمة بطرفين، و لا معنى للمعاهدة القائمة بطرف واحد، كما يظهر بمراجعة أهل العرف في فهم معنى العقد و المعاهدة و ما يسمّى في الفارسية ب «قرارداد».

و أمّا الوديعة، فهي التزام في مقابل التزام، لأنّ الودعي يلتزم بحفظ الوديعة، و لذا قد لا يقبلها، و لا يلتزم بحفظها و كذلك العارية و شبهها.

و المتهب أيضا ينشأ قبول الهبة، أوضح منه الوكالة، و أمّا لو أجاز المالك التصرف في ماله بالبيع و نحوه أو بالانتفاع منه، فهذا ليس من العقود قطعا بل مجرّد اباحة مالكية تستلزم اباحة شرعية، فيجوز للمأذون له التصرف فيه شرعا بل يجوز بيعه إذا أجاز، و عمله يكون من قبيل الأعمال التسببية للمالك و إن لم يكن هناك وكالة.

فكأنّ الخلط هنا نشأ من الخلط بين «الاباحة المالكية» و «العقدية» فتدبّر جيدا، و الجملة فالعقد أمر يدور بين اثنين يتوافقان على شي ء و ينشئان العقد عليه،

و لا معنى لتركبه من إنشاء واحد و رضى به.

المقام السادس: اعتبار الموالاة في العقد

هل يعتبر التوالي بين الإيجاب و القبول و عدم الفصل الطويل بينهما، أم لا؟ عن جماعة من أكابر الفقهاء اعتباره.

و من العجب أنّ المحقق قدّس سرّه لم يتعرض له في البيع في الشرائع و لا في النكاح، و لم يذكر صاحب الجواهر قدّس سرّه هنا إلّا كلاما موجزا للغاية، فانّه بعد نقل اعتبار الاتصال عن جماعة قال: «قلت: المدار في هذه الموالاة على العرف فإنّه الحافظ للهيئة المتعارفة سابقا في العقد، الذي نزلنا الآية عليه، فإنّ الظاهر عدم تغيرها» انتهى. «1»

و على كل حال فغاية ما استدل أو يمكن الاستدلال به على هذا الشرط امور:

الأمر الأول: و هو العمدة، عدم صدق العقد إذا كان هناك فصل مفرط بين الإيجاب انوار الفقاهة، ج 1، ص: 122

و القبول، لأنّ للعقد هيئة اتصالية في نظر العرف، بل هو بطرفيه (الإيجاب و القبول) بمنزلة كلام واحد يرتبط بعضه ببعض، فكما لا يجوز الفصل الطويل بين أجزاء كلام واحد و إلّا لم يصدق عليه كلام واحد، فكذلك العقد.

هذا و قد أورد عليه بوجهين:

أحدهما: إنّ الدليل على صحة المعاملات عموما و البيع خصوصا، ليس خصوص وجوب الوفاء بالعقود، بل يجوز التمسك بما دلّ على حلية البيع و التجارة و صدقهما مع الفصل ظاهر.

ثانيهما: المنع من عدم صدق العقد على ما كان فيه فصل بين الإيجاب و القبول، و ذلك لأنّ العقد ليس اسما للفظ المركب منهما، بل هو عبارة عن الأمر النفساني الذي هو العهد، و هذا لا ينفصم بمجرّد الفصل بين الإيجاب و القبول، غاية الأمر أنّ الاعتبار القائم بالنفس يحتاج إلى مظهر، و إن شئت قلت: العقد عبارة عن اتصال

الالتزامين، و هذا المعنى حاصل ما لم يرجع الموجب عن التزامه، مهما كانت الفاصلة (انتهى ملخصا).

هذا و لكن الانصاف أنّ شيئا منهما غير صالح للجواب، لأنّ البيع و إن كان بعنوان المعاطاة كان خارجا عن محل الكلام، و إن كان بعنوان العقد اللفظي و البيع بالصيغة أمكن المنع عن صدق البيع، إذا قال البائع: بعت هذه الدار بهذا المبلغ، فقال المشتري بعد شهر في مجلس رأى البائع فيه: قبلت ما ذكرت قبل أو سنة، فإن صدق البيع و التجارة على مثل ذلك محل منع أو محل شك، و إن بقي البائع على نيّته و اعتباره.

و أمّا حديث كون الإنشاء اعتبارا مبرزا فقد عرفت الإشكال فيه بما لا يحتاج إلى التكرار، و أنّ حقيقة الإنشاء إيجاد الاعتبارات العقلائية بأسبابها، فإنّهم يعتبرون الملكية لمن اشترى شيئا و أوجدها في عالم الاعتبار بأسبابها، فليست الملكية أمرا تكوينيا كما أنّه ليس مجرّد اعتبار في نفس المنشئ بل هي اعتبار عند العقلاء و أهل العرف يوجد بأسبابه.

فالعقد هو هذا الإنشاء اللفظي أو الكتبي أو غير ذلك بماله من المعنى، و لكن بعد ما حصل الإنشاء بأسبابها يرون له بقاء، و لذلك يجعلون للعقد تاريخا معينا، و إن شئت قلت: العقد اسم للعقد السببي.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 123

سلّمنا، و لكن هذا الأمر النفساني بمجرّده لا يصدق عليه العقد إذا لم ينظم إليه إنشاء القبول في زمن مناسب، و لا أقول: إنّ الالتزام النفساني ينعدم، بل أقول: إنّ وجوده غير كاف في صدق العقد بدون الانضمام في زمن قريب، و إن شئت اختبر نفسك في ما إذا انشأت بيعا، بعد عدّة شهور أو سنين جاء المشتري و قبله، فهل تراه عقدا يجب

الوفاء به بحكم الشرع و العقلاء؟

الأمر الثاني: عموم وجوب الوفاء منصرف إلى العقود المتعارفة، سلّمنا صدق العقد على المنفصل في الجملة لكنه خارج عن منصرف العموم لأنّه متعارف، و هذا هو الذي أشار إليه صاحب الجواهر قدّس سرّه فيما عرفت، و الانصاف أنّه كذلك حيث ينصرف الذهن في هذه الاطلاقات و العمومات بما دارت بين العقلاء من عقودهم و بيوعهم و تجاراتهم إلّا ما خرج بالدليل، و المعمول بينهم هو العقد المتصل عرفا.

الأمر الثالث: ما حكي عن بعض المشايخ من أنّ حقيقة البيع و ما يشبهه من العقود هي من قبيل الخلع و اللبس، فإذا وقع خلع لا بدّ أن يقاربه لبس و لا يتأخر عنه.

و فيه: إنّ هذا كلام شعري لا يساعد عليه دليل، مضافا إلى أنّ الخلع لا يكون بفعل الموجب، و اللبس بفعل القابل، بل الخلع و اللبس كلاهما يقعان في آن واحد بمجموع العقد، أعني الإيجاب و القبول كليهما.

هذا و قد يستدل على عدم اعتبار الموالاة بالسيرة القطعية على ارسال الهدايا من البلاد النائية و وصولها إلى أيدي المهدى إليهم بعد شهر أو شهور، و لم يسمع من أحد الإشكال فيها للفصل الطويل بين الإيجاب و القبول.

و كذا ما يقع بين التجار من البيع و الشراء بالكتابة و شبهها مع ما بين الإيجاب و القبول فيها من الفصل الطويل و لم يناقش فيها أحد من أهل العرف.

و استدل أيضا بقصة مارية القبطية الموهوبة للنبي صلّى اللّه عليه و آله من النجاشي بعد إسلامه و لا فرق بين الهبة و غيرها (انتهى ملخصا).

و أنت خبير بأنّ شيئا من ذلك لا يسمن و لا يغني، بل هي أجنبية عمّا نحن بصدده.

أمّا مسألة الهدايا،

و منها حديث مارية زوجة النبي صلّى اللّه عليه و آله فلا شك إنّها هبة معاطاتية و ليس بين إيجابها و قبولها فصل و لو بلحظة، إنّ إيجابها إنّما يتمّ عند وصولها إلى يد

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 124

المهدى إليه، الذي هو قبول من ناحيته، و في لحظة واحد يتمّ الإيجاب و القبول باعطائها و قبولها.

و كأنّه زعم أنّ إيجابها إخراجها من يد مالكها و إن لم تصل إلى يد المهدى إليه، بل كان بيد وكيل المهدي أو رسوله، مع أنّه ممّا لا ينبغي التفوه به، و ما قد يقال من أن المهدي قد يكون في لحظة الوصول غافلا أو نائما، غير مانع قطعا، بعد كون يد الرسول أو الوكيل كيده، و كفاية كون قصد التمليك في صقع نفسه و كمون إرادته.

و أمّا قياس مسألة الكتابة على الألفاظ، فإنّه قياس مع الفارق جدّا، لأنّ الكتابة بعينها أمر باق حتى تصل إلى يد الطرف الآخر، فيوقع عليها، و يحصل الربط المعتبر في العقد و الانسجام اللازم بينهما، و أمّا ألفاظ الإيجاب فإنّها تنعدم بمجرّد التكلم بها، فلو لم تقع ألفاظ القبول بعده بلا فصل طويل فسوف يخلّ بالهيئة الاتصالية المعتبرة في العقد عند العرف.

و الحاصل: أنّ العرف يرى الإيجاب الحاصل بالكتابة أمرا باقيا فلذلك لا مانع عندهم في رجوع أحد الطرفين- بعد تمام المقاولة- إلى مكاتب الاسناد الرسمية و يتمّ توقيعه، و الآخر يرجع إليه بعد يوم أو أيّام مثلا و يوقع عليه، و أمّا الألفاظ فليست عندهم بهذه المثابة كما هو ظاهر لمن راجعهم في ذلك.

و تلخص ممّا ذكرنا أنّ اعتبار الموالاة في العقود اللفظية ممّا لا ينبغي الريب فيه، و ما قد يدعى من الإجماع

عليه أيضا راجع إلى ما عرفت، لا أنّه إجماع تعبدي كما يظهر أنّ مقدار الفصل المعتبر فيه هو أن لا يضر بالهيئة الاتصالية المتعارفة بين العقلاء في العقود اللفظية فتدبّر جديا.

و من يعرف أنّ الموالاة المعتبرة بين إيجاب العقد و متعلقاته أضيق نطاقا ممّا يعتبر بينه و بين القبول، كما هو كذلك بالنسبة إلى آيات السورة، و كلمات نفس الآية و حروف كلمة واحدة، و لعل ذكر المستثنى و المستثنى منه في كلام الشهيد قدّس سرّه في القواعد بعنوان الأصل لهذه المسألة، ناظر إلى شدّة ارتباطها من بين أجزاء الكلام كما لا يخفى.

المقام السابع: اعتبار التنجيز في العقد
اشارة

قد وقع الكلام بينهم في اعتبار التنجيز في العقود و عدمه، فعن المشهور، بل ادّعى عليه انوار الفقاهة، ج 1، ص: 125

الإجماع غير واحد من الأصحاب رضوان اللّه عليهم، اعتباره، نعم حكي التأمل في البطلان عن المحقق الأردبيلي و المحقق السبزواري (رحمهم اللّه)، بل عن المحقق القمي قدّس سرّه الجزم بالصحة في الوكالة المعلقة، و اختاره بعض أكابر المعاصرين أيضا في جميع العقود «1» و عن جماعة من العامة أيضا عدم اعتباره.

و قد تعرض الأصحاب للمسألة في أبواب الوكالة، و الوقف، و النكاح أكثر من البيع، و الظاهر أنّ ذلك لعموم البلوى بها في تلك الأبواب دون البيع، فانّ الإنسان كثيرا ما لا يريد اتخاذ الوكيل في كل حال بل يريده في حال خاص لا يمكنه القيام بفعل من الأفعال، كما أنّه قد لا يريد الوقف حاليا و بدون شرط بل يريده استقباليا أو مع الشرط.

و هكذا في أبواب النكاح كما لا يخفى، و التعليق في إنشاء البيع أقلّ منه.

و كيف كان فقد صرّح باعتبار الشرط المذكور العلّامة قدّس سرّه في القواعد في

كتاب الوقوف و العطايا «2»، و كذلك في كتاب النكاح «3» و في كتاب الوكالة «4».

و ذكر المحقق قدّس سرّه في الشرائع، التنجيز من الشرائط الأربعة للوقف في كتاب الوقف، و من شرائط الوكالة كذلك.

و ذكر المحقق الثاني قدّس سرّه أيضا في كتاب الوكالة و ادّعى إجماع علمائنا حيث قال:

«يجب أن تكون الوكالة منجزة عند جميع علمائنا فلو علّقها على شرط و هو ما جاز وقوعه كدخول الدار، أو صفة و هي ما كان وجوده محققا كطلوع الشمس لم يصحّ، و ذهب جمع من العامة إلى جوازها معلقة لأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال في غزاة مؤته: «أميركم جعفر، فإن قتل فزيد بن حارثة ...» و التأمير في معنى التوكيل، و لأنّه لو قال: أنت وكيلي في بيع عبدي إذا قدم الحاج صحّ إجماعا» «5» و ذكر هو هذا الشرط في كتاب الوقف أيضا «6» و كذا في النكاح «7».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 126

و ذكره في المسالك و شرح الإرشاد و غاية المرام و غيرها مع دعوى الإجماع أو عدم الخلاف في بعضها، كما حكى عنهم.

هذا و الذي يظهر من كلماتهم أنّه ليس كل تعليق في كل عقد عندهم موجبا للفساد أو مجمعا على بطلانه، و لذا صرّح غير واحد باستثناء بعض صور التعليق عن هذا الحكم.

فالأولى استعراض الصور المتصورة في المقام، ثم التعرض إلى أدلة هذا الحكم و البحث في مقدار دلالتها على المطلوب، فنقول (و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية):

إنّ الصور التي ذكرها شيخنا الأعظم قدّس سرّه تبلغ ست عشر صورة، فان التعليق إمّا أن يكون على أمر معلوم التحقق، و إمّا أن يكون محتمل التحقق، و على كل تقدير

إمّا يكون تحققه في الحال أو المستقبل، فيكون لدينا أربع صور، و أمثلتها واضحة، فالأول: كأن يقول: إن كان هذا اليوم يوم الجمعة فقد بعته (مع كون الجمعة معلوم التحقق)، و الثاني: كأن يقول: إذا جاء يوم الجمعة فقد بعته منك، و الثالث: كأن يقول: إن كان والدي راضيا الآن فقد بعته، مع الشك في رضاه.

و الرابع: كأن يقول: إذا رضي والدي في المستقبل فقد بعته منك.

و كل هذه الصور إمّا أن يكون الشرط مأخوذا في مفهوم العقد، أو مصححا له، مثل أن يقول: إنّ كان هذا لي فقد بعته، أو إن كانت هي زوجتي فقد طلقتها، أو إن كنت تقبل هذا البيع فقد بعته منك، و إمّا أن لا يكون كذلك، كأن يقول: إن رضي والدي بهذا فقد بعته أو اشتريته منك.

فهذه ثمانية صور، كل واحد إمّا مصرّح به كالأمثلة المذكورة، أو غير مصرّح به، بل هو لازم الكلام كأن يقول: ملكتك هذا بهذا يوم الجمعة، يريد به التعليق.

أدلّة بطلان التعليق في الإنشاء:

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى ما قيل أو يمكن أن يقال في دليل البطلان، فقد ذكر فيه وجوها خمسة:

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 127

الوجه الأول: إنّ التعليق في الإنشاء محال و غير معقول، فانّ الإنشاء بمعنى الإيجاد في عالم الاعتبار، فهو أمر إمّا يوجد أو لا يوجد، و لا معنى لكون شي ء موجودا على تقدير و معدوما على تقدير آخر.

و إن شئت قلت: الإنشاء نوع من الإيجاد و هو متحد مع الوجود، و الاختلاف بينهما إنّما هو بالاعتبار، و بالنسبة إلى الفاعل تارة و القابل اخرى، و من الواضح أنّ الوجود في الخارج لا يتصور فيه تعليق.

و أجاب عنه شيخنا الأعظم قدّس سرّه: بأنّ التعليق في

الإنشاء بمعنى إنشاء الملكية المتحققة على تقدير دون آخر، أمر متصور واقع في العرف و الشرع كثيرا في أبواب الأوامر و العقود و الايقاعات (انتهى).

و ظاهر كلامه هذا ارجاع التعليق إلى المتعلق لا إلى نفس الإنشاء، و كأنه اعترف بعدم إمكان التعليق فيه، و هذا نظير ما اختاره هو بنفسه في ما حكى عنه في تقريراته في بحث الواجب المشروط من أنّ القيد (أي الشرط) راجع إلى المادة لا الهيئة، فكان الواجب المشروط عنده مساوقا للواجب المعلق الذي ذكره صاحب الفصول قدّس سرّه.

و لعله من هنا أخذ عنه مصباح الفقاهة، و صرّح بأنّ المستحيل إنّما هو التعليق في الإنشاء بداهة أنّ الإنشاء- بأي معنى كان- قد فرض وجوده في الخارج، و عليه فلا يعقل تعليقه على شي ء ما (انتهى).

و الظاهر أنّ مبني على مختاره من أنّه ليس الإنشاء بمعنى الإيجاد، بل «هو ابراز لأمر نفساني من اعتبار الملكية أو شي ء آخر» و كما يمكن اعتبار الوجوب أو الملكية الفعلية، يمكن اعتبار الملكية أو الوجوب على تقرير، و اين هذا من تخلف الإيجاد عن الوجود «1».

أقول: هذه مسألة عويصة غامضة في بابي «الأوامر» و «المعاملات» و حلّها يتوقف على تحقيق امور:

1- إنّ الظاهر بحسب القواعد العربية، أو قواعد سائر الألسنة، أن الشرط في القضية

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 128

الشرطية قيد للهيئة، أي الوجوب في الواجب المشروط في مثل قولك: «إنّ استطعت فحج» و للتمليك في قولك: «إن جاء زيد فهذا لك» لا أنّه قيد «للملكية» المنشأة أو الواجب، أي «الحج» بأن يكون المعنى: يجب عليك الحج المقيد بالاستطاعة، أو: جعلت لك الملكية المقيدة بمجي ء زيد.

فصرف هذه الكلمات عن ظاهرها يحتاج إلى دليل قاطع، مع أنّ الوجدان أصدق

شاهد على كون المعلق عليه نفس الوجوب أو التمليك لا غير، و لا يرى بالوجدان في هذا التعليق أمر محال بل و لا مشكل.

فجميع ما قيل بارجاع القيد إلى المادة أو المنشأ، غير قابل للقبول، و ما يدعي من الدليل على استحالة التعليق في الإنشاء، و شبهة في مقابل صريح الوجدان لا بدّ من حلّها و سنكشف النقاب عنها.

2- و من ناحية اخرى فانّ الدليل المذكور على استحالة التعليق في الإنشاء صحيح في بادي النظر، لأنّ الإنشاء إيجاد، و الإيجاد لا يمكن أن يكون معلقا على شي ء، بل أمره دائر بين الوجود و العدم.

و ما ذكره بعض الأكابر- فرارا عن هذا الإشكال و أشباهه- من أنّ الإنشاء ليس أمرا إيجاديا، بل هو ابراز ما في الضمير من الإرادة أو الاعتبار النفساني أيضا، و مخالف للوجدان كما لا يخفى، لأنّ كلّ واحد يرى في نفسه أنّه إذا أنشأ عقد البيع أو النكاح أو غيره أنّه يوجد شيئا لم يكن من قبل، لا أنّه كان موجودا من قبل فأظهره، و هذا أمر ظاهر بمراجعة الوجدان الصريح.

و ما قد يقال من أنّ الإيجاد هنا بأي معنى كان لا وجه له، أمّا الإيجاد في التكوين فغير معقول هنا، و في نفس المنشئ لا يحتاج إلى ألفاظ و صيغ، فقد عرفت جوابه و أنّ الإنشاء إيجاد في اعتبار العقلاء، لأنّهم اعتبروا الملكية لكل من يتوصل إليها بأسبابها المعروفة عند العقلاء، فتدبّر فانه حقيق به.

3- و بعد ذلك كله نقول: إنّ مفتاح حلّ هذه المشكلة هو كشف معنى الشرط، فما حقيقة معناه، و ما حقيقة مفهوم «إن» الشرطية؟

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 129

الذي يظهر بالمتأمل أنّ مفهومها و مفهوم أدوات الشرط هو

نوع من الفرض و التقدير بمعناه الحرفي، فإذا قال المخبر: إذا طلعت الشمس فالنهار موجود، فانّه يفرض طلوع الشمس أولا، ثمّ يرى وجود النهار عقيبه فيخبر عنه، و إذا قال الآمر: إن استطعت فحج، فقد فرض الاستطاعة موجودة، فبعث نحو الحج عقيب هذا الفرض.

و الحاصل: أنّ الإنشاء كالإخبار المشروط أمر متحقق في عالمه، و لكن كل واحد عقيب فرض و مرتبط به، فالإنشاء بمعنى الإيجاد حاصل، و لكن لما كان عقيب فرض خاص لا أثر له في بعث المكلّف إلّا بعد تحقق ذاك الفرض، فالمولى في الواجب المشروط يفرض نفسه عند استطاعة العبد فيأمره بالحج في هذا الظرف.

و كذا المخبر بوجود النهار عند طلوع الشمس يفرض أنّ الشمس قد طلعت فيحكم بوجود النهار حينئذ، و الحاصل أنّ حقيقة الاشتراط و التعليق حكم إخباري أو إنشائي جزمي لكن بعد فرض خاص يفرضه.

و بهذا تنحل مشكلة الواجب المشروط و إمكان التعليق في نفس الإنشاء في المعاملات جميعا، فتدبّر.

4- لا بدّ لنا أن نقوم بتحليل معنى القضية الحقيقة و بيان محتواها أيضا، و الفرق بينها و بين القضية الخارجية، فنقول، و منه عزّ اسمه نستمد التوفيق: إنّ القضية الحقيقية التي يدور الحكم فيها مدار موضوع مفروض الوجود ترجع بالمآل إلى قضية شرطية كما صرّح به المنطقيون، كما أنّ القضايا الشرطية تعود إلى قضية حقيقية أحيانا، فقول القائل، إن استطعت فحج، يطابق قول: يجب الحج على المستطيع، لا فرق بينهما أصلا، كما أنّ قولنا «الكر من الماء لا ينجسه شي ء» في قوّة قولنا «إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شي ء».

فعنوان الموضوع في هذه القضايا ينحل إلى شرط و أداته، و المحمول يكون بمنزلة جزائه، و تعبيرهم بأنّ الموضوع

في القضايا الحقيقية مفروض الوجود أيضا يؤكد ما ذكرنا.

فإذا أراد القائل الإخبار عن الموضوع الموجود الخارجي أشار إليه بأي عنوان أراد و ذكر حكمه.

أمّا إذا أراد حكما عاما يشمل الموجود و مقدر الوجود أخذ عنوانا شاملا لما هو

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 130

موجود أو سيوجد، و فرضه في افق حكمه أمرا موجودا، فأجرى الحكم على الجميع على نحو واحد.

فتلخص من جميع ما ذكرنا أنّ التعليق في الإنشاء فضلا عن التعليق في المنشأ أمر معقول واقع في الخارج في أبواب الأوامر و النواهي و العقود و الايقاعات، و لا ينبغي التأمل في إمكانه و عدم استحالته، فالتمسك بالاستحالة لبطلان التعليق في العقود لا وجه له.

الوجه الثاني: ممّا استدل به غير واحد منهم على اعتبار التنجيز في العقود إنّها متلقاة من الشارع، يقتصر فيها على ما هو المعلوم من الشرع، و لم تثبت الصحة في غير ما هو منجز.

و فيه: ما عرفت كرارا من أنّها امور عقلائية قبل أن تكون في الشرع، و أنّ الشارع امضاها مع قيود خاصة، فاطلاقات أدلّة الامضاء و عموماتها شاملة للجميع إلّا ما خرج بالدليل، نعم لا يبعد صحة دعوى التوقيفية في خصوص «النكاح» و «الطلاق» لتصرف الشارع فيها تصرفا كثيرا أخرجهما عمّا هو دارج في العرف و الحقهما بالتوقيفيات، و لذا يقال: إنّ فيهما شائبة العبادة!

الوجه الثالث: إن التعليق على الشرط تعليق على أمر مجهول، و هو ينافي الجزم المعتبر في المعاملات.

و يظهر ذلك من كلام العلّامة قدّس سرّه في التذكرة حيث قال:

«إنّ التعليق مناف للجزم حال الإنشاء، إلى أن قال: فلو علق العقد على شرط لم يصحّ، و إن كان الشرط المشيّة للجهل بثبوتها حال العقد و بقائها» انتهى.

و فيه: مضافا

إلى أنّه يقتضي البطلان في خصوص بعض فروض المسألة، و هو صورة الجهل بتحقق الشرط لا ما هو معلوم في حال أو المستقبل، أنّه مصادرة بالمطلوب و دعوى بلا برهان، لعدم استناده في اعتبار الجزم و لزومه في العقد إلى ركن وثيق.

الوجه الرابع: إنّ ظاهر أدلّة سببية العقد لآثاره أنّه تترتب عليه تلك الآثار حين وقوعه و لكن التعليق يوجب انفكاكه عنها.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 131

و قد أجيب عنه بوجوه: أحسنها أن ترتب الأثر على كل عقد ممّا لا شك فيه، و لكن ذلك تابع لمدلول العقد و محتواه، فلو كان منجزا كان أثره كذلك، و لو كان معلّقا كان أثره معلّقا.

و أمّا لو اريد لزوم الأثر المنجز في كل عقد كان هذا مصادرة واضحة.

أضف إلى ذلك أنّ هذا الدليل أخص من المدعى لخروج التعليق على الشرط الحالي خارجا منه كما هو ظاهر.

الوجه الخامس: إنّ التعليق في إنشاء العقود خلاف ما تعارف بين أهل العرف و العقلاء في عقودهم، لأنا لا نرى من يبيع ماله معلّقا على مجي ء يوم الجمعة، أو قدوم الحاج، أو تزويج امرأة معلّقا على شهر فلان أو غير ذلك من أشباهه.

و من المعلوم انصراف أدلّة صحة العقود و حليّة البيع و التجارة إلى ما هو المتعارف بين العقلاء كما مرّ مرارا.

و لعمري هذا من أحسن الأدلة في المقام، و كأن ما يرى في كلماتهم ممّا يشبه المصادرة على المطلوب من تسلّم اعتبار التنجيز في العقد، نشأ من هذا الارتكاز العرفي الموجود في ذهن هؤلاء الأعلام.

نعم التعليق في بعض العقود أو الايقاعات متعارف، بل لعله جزء لمفهوم بعضها، كالتدبير، فانّه عبارة عن العتق معلقا على وفاة المولى، أو أعم منه، على كلام

فيه في محله، و يظهر من كلماتهم في التدبير أنّه خرج عن حكم بطلان التعليق للنصوص الواردة فيه، و لذا اقتصروا فيه بالنسبة إلى جميع خصوصياته على القدر المتيقن منه «1».

و كذا الوصية التمليكية (بل العهدية من بعض الجهات) أيضا تمليك معلق على الوفاة، و لذا قال في صاحب الجواهر قدّس سرّه في بعض كلماته في كتاب الوصية: «إنّ التعليق ممنوع في البيع لا في الوصية التي مبناها على ذلك» «2».

و لكن مع ذلك لم يرخصوا ظاهرا التعليق فيها و في التدبير بالنسبة إلى غير ما هو

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 132

مقتضى طبيعتهما، قال المحقق قدّس سرّه في باب التدبير من الشرائع: «الشرط الثاني (من شرطي صيغة التدبير) تجريدها عن الشرط و الصفة في قول مشهور للأصحاب فلو قال: «إن قدم المسافر فأنت حر بعد وفاتي» أو إذا أهلّ شهر رمضان مثلا، لم ينعقد» انتهى. و كذا الأمر في النذر شكرا أو زجرا، كأن يقول: إن عافاني اللّه فللّه عليّ كذا، أو إن فعلت هذا الأمر فللّه على كذا (لا النذر تبرعا من دون شرط) بل قد يقال: إنّ الصحيح من النذر هو الأولان، و أمّا النذر التبرعي فهو أمر مشكوك فيه.

و الحاصل: إنّ بعض العقود بطبيعة ذاته مشتمل على التعليق في الإنشاء لا يمكن تجريده منه، و من المعلوم أنّه لا يضرّه ذلك، و لكن غيره ممّا ليس كذلك، بل و لا نفس هذه العقود بالنسبة إلى الشرائط الزائدة لا يجوز فيها التعليق ارتكاز الفقهاء المأخوذ ظاهرا من ارتكاز العرف في ذلك.

و لعل السرّ فيه أنّ المعاقدة و المعاهدة إنّما شرعت لحلّ مشاكل الناس في الامور التي لها صلة بأموالهم و حقوقهم، و هذه المشاكل

لا تنحل بالعقود المعلقة على شروط مختلفة، لا سيما المجهولة منها، و لا سيما المستقبلة، بل تزيدهم مشاكل جديدة، فتأمل جيدا.

الوجه السادس: الإجماع المدعى في كلمات الأكابر، و الظاهر أنّه ثابت، و لا يعبأ بخلاف شاذ، أو تردده فيه، هذا و لكن الإشكال كله في كشفه عن قول المعصوم عليه السّلام و الظاهر أنّه غير كاشف بعد احتمال استناد المجمعين إلى ما سبق من الأدلّة، مع عدم وروده في شي ء من آثارهم، و لكن الأمر سهل بعد ما عرفت من الأدلّة السابقة أنّ بعضها تام لا ريب فيه.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى تفصيل الحكم المزبور فنقول: إنّ حكم الأقسام السابقة يتفاوت بحسب الأدلّة، و القدر المتيقن من الجميع أنّ التعليق على أمر مستقبل مجهول لا دخل له في العقد، كما إذا علق العقد على مجي ء والده، أو الاستغناء عن المتاع في المستقبل، أو غير ذلك مع كونه مشكوكا.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 133

و أمّا إذا كان التعليق على المستقبل المعلوم كحلول شهر فلان، أو تمام الموسم فإنّه لا يفسد على قول من استند إلى عدم جواز الجهل بوقوع العقد، و يفسد على المختار لعدم تعارف ذلك أيضا، بل الظاهر أنّه داخل في معقد الإجماع.

أمّا الأمر المشكوك الحالي، فهو باطل على مبنى القائل بقدح الجهل، و كذا على كثير من الأدلّة الاخرى، دون من يستند إلى عدم جواز انفكاك أثر العقد عنه، فإنّه يصححه.

و أمّا المعلوم الحالي فأقل إشكالا منه، و لكن الظاهر دخوله في معقد الإجماع، و كذلك ما اخترناه من الدليل.

يبقى الكلام فيما هو معلق عليه في الواقع، و هو على أقسام ثلاثة:

1- ما يكون من أركان إنشاء العقد، مثل تعليقه على قبول المشتري.

2- ما

يكون من شرائط صحته، كالملكية في البيع و الزوجية في الطلاق.

3- ما لا يكون شيئا من ذلك، و لكن يكون من آثار العقد، كالتعليق على الوفاء بالعقد.

و قد يقال بصحة الجميع لأنّه لا يزيد شيئا على العقد، فهي امور ثابتة ذكرت أم لم تذكر، و لكن الانصاف أنّها أيضا لا تخلو عن إشكال، نعم بالنسبة إلى الشرائط كالملكية و الزوجية، و أشبههما، و لا يبعد الجواز لتعارفها، لا سيما في موارد الجهل، و إلّا اشكل الأمر في العقود التي يؤتى بها احتياطا، كالصلح فيما يشك في وجود الملك فيه، لا في ما يعلم بوجوده و يشك في مقداره.

و كذا الطلاق في موارد الشك في الزوجية و الهبة في موارد الشك في الملكية، و كذا غيره.

و ما قد يقال من أنّ الطريق في الاحتياط في أمثال ذلك هو الإنشاء على سبيل التنجيز لا التعليق، و الإنشاء خفيف المئونة، كما ترى، لأنّ مثل هذا الإنشاء البات لا يصدر من الشاك كما يظهر بمراجعة الوجدان (و اللّه العالم بحقائق الامور).

المقام الثامن: التطابق بين الإيجاب و القبول

و المراد به التطابق بينهما من جميع الجهات، و هو أمر واضح ظاهر يستفاد من التدبير في انوار الفقاهة، ج 1، ص: 134

مفهوم العقد، و عناوين المعاملات، و شبه ذلك، و لعله لذلك لم يتعرض له الأكثرون على الظاهر.

توضيح ذلك: إنّ حقيقة المعاهدة و المعاقدة لا تحصل إلّا بالتوافق على أمر واحد، فلو اختلفا في شي ء من اصولها و فروعها لم تتحقق مفاهيمها.

و هي تجتمع في امور ثلاثة:

1- التطابق في ماهية العقد، فلو أنشأ الموجب، البيع، و قبل القابل بعنوان الهبة أو الإجارة أو الصلح أو غير ذلك، بطل.

2- التطابق في أركان المعاملة من البائع و المشتري و المتاع،

و حينه و مقداره و وصفه، فلو باع من زيد فقبل عمرو لم يصحّ، أو باع الكتاب فقبل الثياب لم يصحّ، أو باع مأئة طنّ من الحنطة فقبل خمسين طنا لم يصحّ، أو باع الحنطة المستحصلة من البلد الفلاني، فقبل غيرها لم يصحّ، و هكذا غيرها من أشباهها.

3- التطابق في الشرائط، فلو باع بشرط تحويل الثمن إلى زمن كذا، فقبل إلى زمن آخر لم يصحّ، أو باع بشرط خياطة ثوبه أيضا فقبل بدونه لم يصحّ، كل ذلك معلوم ظاهر، و لذا قيل إنّ هذا الشرط من القضايا التي قياساتها معها، و دليل المسألة هنا هو ما يستفاد من معنى المعاقدة و المعاهدة و عناوين المعاملات.

المقام التاسع: بقاء أهلية المتعاقدين إلى آخر العقد

و هذا الشرط أيضا من الشرائط التي قلّما تعرضوا له، و أكثر ما ورد الكلام عنه إنّما هو في كتب المتأخرين و المعاصرين، و لكن مع ذلك فيه أقوال:

1- ما أفاده شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه من اعتبار ذلك مطلقا، و لزوم كون كل من البائع و المشتري حائزا لجميع شرائط الصحة و الأهلية من أول العقد إلى آخره بل جعل المحقق الثاني قدّس سرّه من القضايا التي قياساتها معها.

2- عدم اعتبار هذا الشرط مطلقا، ذكره بعضهم في كتاب البيع.

3- التفصيل بين ما لو كان المشتري في حال إيجاب البائع غير قابل للتخاطب من انوار الفقاهة، ج 1، ص: 135

جهة الإغماء أو الجنون أو النوم فلا يصحّ، و أمّا غير هذه الامور فيصحّ، ذكره المحقق الطباطبائي قدّس سرّه في حواشيه على مكاسب الشيخ قدّس سرّه.

4- التفصيل بين ما إذا لم يكن للمشتري أهلية الإنشاء حال الإيجاب، فهو صحيح، و إذا كان الأمر بالعكس فهو فاسد، ذكره بعض الأعاظم في حواشيه.

هذا

و للمسألة شقوق مختلفة:

فتارة يكون فقدان الشرائط بالخروج عن أهلية التخاطب و التملك كالموت، و اخرى بالخروج عن أهلية التخاطب فقط من دون الموت كالإغماء و النوم، و ثالثة بالخروج عن أهلية التصرف لسفه أو مثل ذلك أو عدم كونه أهلا له بعد كالصغر.

هذا و العمدة في المقام كما يظهر من مراجعة كلماتهم هو الإشكال في صدق المعاقدة عرفا بدون هذه الأهلية، فلذا صرّح بعضهم بعدم تحقق معنى المعاقدة عرفا بدونها، و بعض آخر أنّ الربط اللازم بين المتعاقدين لا يحصل بدونه، و لكن صرّح ثالث بحصولها بدونه، فالأمر يدور مدار الصدق العرفي هنا.

و الانصاف عدم صدقها في صورة الخروج عن الأهلية بالموت، و العجب ممّا ورد في كتاب البيع لبعض الأعلام «من أنّه لو مات صحت معاوضته و إن احتاجت إلى امضاء الورثة، لأنّ المال قبل القبول انتقل إليهم، و الورثة قائمون مقامه في ذلك فتأمل».

و فيه: ما عرفت سابقا من لزوم التطابق بين الإيجاب و القبول بمقتضى مفهوم العقد، و هو هنا غير حاصل، و البائع لا يتعاقد مع مالك المال أي شخص كان بعنوان القضية الحقيقية كما هو ظاهر.

و أمّا لو خرج عن قابلية التخاطب بالنوم أو الإغماء، فهو أيضا كذلك، سواء كان البائع أو المشتري، و إن كان الأمر في المشتري أوضح من البائع، و لا أقل من الشك و هو كاف في المقام، لعدم إمكان الأخذ بالعمومات حينئذ، و أمّا انتفاء سائر الشروط فهو أيضا لا يخلو عن الإشكال بل المنع، و إن لم تكن بتلك المثابة، فمن عقد مع صغير محجور ثم صار بالغا عند القبول أو خرج البائع عن الأهلية بالحجر بعد الإيجاب، يشكل تحقق مفهوم العقد معه،

و الشك هنا كاف في المنع، فاعتبار هذا الشرط في جميع فروض المسألة قوي جدّا.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 136

و أمّا التمسك بالسيرة في مثل مكاتبة التجار و الحال أنّ الكتاب قد يصل إلى الطرف الآخر و الكاتب نائم، ممنوع بالفرق بين الإنشاء بالكتابة و الإنشاء اللفظي، و كفى في الفرق بينهما التعارف في أحدهما دون الآخر، و قد مرّ مرارا خروج ما لم يتعارف من العقود بين العقلاء عن العمومات و الاطلاقات.

المقام العاشر: اختلاف المتعاقدين اجتهادا أو تقليدا
اشارة

و هنا مسألة اخرى لها صلة بما مرّ من اختلاف المتعاقدين من شروط العقد، و هي أنّه قد يكون كلاهما واجدين للشرائط المعتبرة في المتعاقدين، كل واحد بحسب اجتهاد أو تقليده و لكنه لا يتوافق بحسب اجتهاد الآخر أو تقليده بالنسبة إلى شروط العقد أو العوضين أو الشروط، و الأمثلة هنا كثيرة، فمن جهة شروط المتعاقدين مثلا قد يكون البائع بالغا في نظره و بحسب تكليفه، و ليس بالغا في نظر المشتري لاختلافهما في السنّ المعتبر في البلوغ اجتهادا و تقليدا.

و قد يكون الاختلاف من جهة شرائط العقد، فقد يصحح البالغ مثلا العقد بالفارسية و لا يصححه المشتري.

أو من جهة العوضين، فقد يكون شي ء موزونا في نظر البائع مثلا دون المشتري، أو من جهة الشروط، فقد لا يرى البائع الشرط الفلاني مخالفا لمقتضى العقد و يراه المشتري كذلك، و هكذا أشباهه، و هذه مسألة سيالة لا تختص بباب العقود و المعاملات بل تجري في العبادات و الشهادات و القضاء و غيرها، مثلا قد يختلف رأي الإمام و المأموم في مسائل الصلاة أو شرائط الجماعة، فتكون صلاة الإمام غير صحيحة بنظر المأموم، كمن صلى في اللباس المشكوك أو صلّى بغير أذان و لا إقامة

أو اكتفى في التسبيحات بمرّة واحدة، بينما لا يرى المأموم صحة هذه الصلاة بحسب فتواه أو فتوى مقلّده.

و أمثلته كثيرة كذلك في أبواب الشهادة و شرائطها و كيفية أدائها، و في باب الوقف و شرائط تملك الأشياء بعد ما أراد وقف هذا الملك، أو هبته أو وصيته لغيره، و كذا في أبواب الطهارات، فقد لا يرى شخص نجاسة أهل الكتاب و لا يجتنب عنهم و يعاشر غيره انوار الفقاهة، ج 1، ص: 137

ممن يرى نجاستهم، إلى غير ذلك ممّا هو كثير في أبواب الفقه، و يعمّ به البلوى، و يتفرع عليها فروع كثيرة و أحكام مختلفة.

و قد تعرض للمسألة المحقق اليزدي قدّس سرّه في أبواب صلاة الجماعة في المسألة 31 من فصل «أحكام الجماعة» من العروة الوثقى.

و قد فصّل هناك بين ما يتعلق بالقراءة نفسها التي يأتي بها الإمام عن الجميع، و ما لا يتعلق بها، و كذلك بين صورة علم المأموم بالبطلان و ظنّه بحسب الأحكام الظاهرية الظنيّة.

و قد ذكرنا في تعليقاتنا أنّه لا دليل يعتمد عليه في القول بالصحة في باب الجماعة من دون فرق بين القراءة و غيرها و العلم و الظن، و لا سيما أنّه قد يقال بأنّه ليس في أبواب الجماعة عمومات تدل على الصحة تمسك بها عند الشك، و هذا هو العمدة.

نعم، عند الشك في اختلاف الفتاوى، أو الشك في العمل بمحل الخلاف مع العلم الإجمالى بوجوده إجمالا، لا يبعد جواز الاقتداء عملا بالسيرة المستمرة من زماننا إلى زمن الأئمّة عليهم السّلام.

نعم، قد ورد الدليل الخاص على جواز الاقتداء بأهل الخلاف، فلو قلنا بصحة الصلاة حينئذ و عدم الحاجة إلى الإعادة كان اطلاق هذه الأخبار دليلا على جوازه حتى مع

العلم بإتيانهم لبعض ما نراه مفسدا للصلاة، كترك البسملة أو الجهر بها في الجهرية و قول آمين و التكفير و غيرها، و لكنه نوع تقية و إن لم تكن تقية من موقع الخوف بل من موقع التودد، و اين هو ممّا نحن بصدده؟

و أمّا في أبواب البيع و شبهها فقد ذكر فيه وجوه أو أقوال:

1- جواز اكتفاء كل من المتبايعين بما يقتضيه مذهبه مطلقا.

2- عدم جوازه كذلك.

3- اشتراط أن لا يكون العقد المركب منهما ممّا لا قائل بكونه سببا للنقل، كما إذا كان مذهب أحدهما جواز العقد بغير العربية، و الآخر جوازه بغير الماضي، و لم يكن أحد يقول بجوازه بالمضارع غير العربي، و الحال أنّ العقد وقع كذلك.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 138

4- التفصيل بين العلم بالبطلان من ناحية أحدهما إذا أتى بمقتضى مذهب الآخر، و بين مجرّد الظن الحاصل من الأمارات فيبطل في الأوّل فقط.

5- التفصيل بينما ثبت الحكم فيه من طريق الاصول العمليّة فيصح، و بين الأمارات الشرعية فلا يصح، و لازمه البطلان من ناحية المقلد دائما، لأنّه يعتمد على الأمارة، و هي قول الفقيه المجتهد.

و هذه الأقوال تبنى على ما ذكر في محله من باب الإجزاء، و اختلاف الأقوال فيه فاللازم الإشارة إلى تلك المباني إجمالا فنقول (و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية).

إن شيخنا الأعظم قدّس سرّه بنى المسألة على أن الأحكام الظاهرية التي اجتهد فيها بمنزلة الأحكام الواقعية الاضطرارية، كصلاة المتيمم أو كإشارة الأخرس في باب البيع، أو أحكام عذرية لا يعذر فيها إلّا من اجتهد فيها أو قلّد.

و قد أورد عليه المحقق الطباطبائي قدّس سرّه: بأن لازمه القول بالتصويب (لكون الواقع تابعا لاجتهاد المجتهد بناء على هذا القول).

و قد

ذبّ عنه في كتاب البيع بأنّه ليس المراد تبعية الواقع لظن المجتهد، بل المراد أنّ المستفاد من أدلة اعتبار الاصول و الأمارات هو لزوم ترتب آثار الواقع عند الشك، فالعقد الفارسي عند الشك في اعتبار العربية بمنزلة العقد بالعربية في لزوم ترتيب الآثار عليه، فهو بمنزلة الواقع في الأثر «1».

هذا و لكن التوجيه المذكور مضافا إلى كونه مخالفا لظاهر كلام الشيخ الأعظم قدّس سرّه لا سيما ما ذكره من مثال الأخرس و المتيمم، أنّ ترتيب آثار الواقع عند الشك إنّما هو لمن قامت عنده الأمارة و الأصل، لا لمن يعلم ببطلانه لعدم قيامه عنده كما لا يخفى.

أضف إلى ذلك أنّ مجرّد وجود الحكم الظاهري غير كاف في الحكم بالصحة بعد كونه مخالفا للواقع بنظر الآخر، و أمّا حديث حكومة أدلة الأحكام الظاهرية على أدلة اعتبار الشرط فسيأتي الكلام فيه قريبا إن شاء اللّه.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 139

فالأولى أن يقال: إنّ المسألة مبنيّة على أنّ الحكم الظاهري الثابت لبعض المكلّفين هل هو ثابت لغير قام عنده أم لا؟ و هل هو معتبر في حقه أم لا؟

و حينئذ نقول: إنّ الجواب بالنفي و أنّه لا حجّية بالنسبة إلى من لم يقم عنده لعدم شمول أدلته له قطعا، فالحكم الظاهري الثابت عند كل واحد منهم لا يجري إلّا في حقّه، كما هو واضح، لأنّ المفروض أنّ الأمارات المعتبرة أو الأصل المعتبر حصل عنده لا عند غيره، فكيف يكون حجّة في حق الغير؟

هذا و قد يتوهّم أنّ ما ذكروه من التفصيل في باب الإجزاء بين الاصول و الأمارات، من القول بالإجزاء في الأول كمن صلّى اعتمادا على أصالة الطهارة، و عدم الإجزاء في الثاني كما إذا صلّى اعتمادا على

قول البينة، آت هنا.

و هو توهّم فاسد، لأنّ القول بالصحة في الاصول هناك أنّما هو في موارد يكون الأصل حاكما على أدلة الشرطية لا مطلقا حتى يكون قوله «كل شي ء طاهر» حاكما على «لا صلاة إلّا بطهور» مثلا، و سببا للتوسعة دائرة الشرط.

و من البعيد أن يقول أحد بأنّ حديث الرفع الجاري في حق من يشك في اعتبار شي ء من الشروط البيع حاكما على دليل الشرطية، لأنّه ليس في مقام توسعة أدلة الشرائط قطعا بل هو حكم ظاهري يعذر من عمل به لا غير.

و الحاصل: أنّ مجرّد اشتمال الأصل على الحكم الظاهري (دون الأمارة) لا يوجب حكومته على أدلة اعتبار الشرائط، بل لا بدّ أن يكون ناظرا إلى توسعتها كما في دليل أصالة الطهارة مع قوله قدّس سرّه «لا صلاة إلّا بطهور» (بناء على ما اختاره المحقق الخراساني قدّس سرّه و من تبعه) لا مطلقا.

نعم، هنا شي ء آخر ذكرناه في مبحث الإجزاء، و مبحث تبدل رأي المجتهد، و هو أنّ أدلة حجّية الأمارات و الاصول يشكل شمولها للوقائع السابقة التي قامت أمارة أو أصل فيها، فهي منصرفة إلى الحال و المستقبل، و لعل سيرة العقلاء في أماراتهم أيضا مستقرة على ذلك، فلا يعتقدون بشمول الأمارات و الاصول للوقائع الماضية و لما سبق من أعمالهم، و لذا قلنا بالإجزاء في الأحكام الظاهرية المستفادة من الأمارات و الاصول، من انوار الفقاهة، ج 1، ص: 140

دون فرق بين ما قام في خصوص الشرائط أو غيرها، و عليه بنينا عدم وجوب الإعادة و القضاء بعد تبدل رأي المجتهد.

و لكن هذا المعنى أيضا لا يجري في محل الكلام من شرائط البيع و شبهه عند اختلاف رأي المتعاقدين كما هو ظاهر.

فتحصل من

جميع ما ذكرنا أنّ طريق الاكتفاء بأعمال خالفت الأمارة الموجودة عند المكلّف فعلا أو الأصل كذلك و الاجتزاء بها، أحد امور ثلاثة، بعضها فاسدة و بعضها لا يجري في المقام:

أولها: كون الأحكام الظاهرية الاجتهادية بمنزلة الأحكام الواقعية الاضطرارية، و قد عرفت أنّه لا دليل عليه، لو لم نقل بأن الدليل على خلافه، نظرا إلى أنّ فيه نوعا من التصويب.

ثانيها: حكومة أدلة الاصول على أدلّة الشروط، و قد عرفت عدم تماميتها أيضا إلّا في موارد خاصة.

ثالثها: عدم شمول أدلة الاصول و الأمارات للوقائع المجتهد فيها من قبل، و قد مرّ أن هذا و إن كان صحيحا، إلّا أنّه لا أثر له في اختلاف المتعاقدين و إن كان مفيدا في مباحث تبدل رأي المجتهد.

بقي هنا امور:

1- لا ينبغي الشك في أنّ هذا النزاع إنّما يجري في غير الشرائط التي تقوم بفعل المتبايعين، مثل الموالاة و تطابق الإيجاب و القبول بل التعليق في الإنشاء، فان كل واحد من هذه الشرائط تكون من فعلهما لا فعل واحد منهما و معه لا يصح لمن يعتقد بطلان عقد فاقد لبعض شرائطه من ناحية ترتيب الآثار عليه كما هو واضح، و الإشكال في بعض مصاديق هذا الأمر لا دخل له في أصل المقصود و الكبرى الكلية.

2- الاكتفاء بالحكم الظاهري الثابت في حق الآخرين- لو قلنا به- فإنّما هو إذا لم انوار الفقاهة، ج 1، ص: 141

يحصل القطع بفساد الأصل و الأمارة، و أمّا في صورة العلم بالخلاف فالأمر فيه أشكل، بل لا دليل عليه مطلقا إلّا على القول بحكومة الاصول هنا على أدلة الشرط فيكون الشرط أعم من الظاهري و الواقعي.

3- هناك موارد قد يدعى جريان السيرة المستمرة على قبول الأحكام الظاهرية الثابتة للبعض،

في حق الآخرين، و هي كثيرة:

منها: ما إذا اعتقد صحة العقد بصيغة المضارع أو الأمر، أو بالفارسية، أو مع التعليق في الإنشاء، أو مع بعض شرائط خاصة العقد أو غير ذلك، فتزوج امرأة بمقتضى الفتوى بينما، اعتقد شخص آخر بطلان هذا العقد.

فهل يمكن له العقد على هذه المرأة بعقد جديد لنفسه صحيح عنده؟ و هل يتفوه أحد بجواز ذلك؟!

و منها: ما يرى في بعض المذاهب الإسلامية من جواز بيع أشياء نحكم بحرمة بيعها، كبيع جلد الميتة بعد الدباغة أو بيع الحيتان المحرمة عندنا و أشباه ذلك، فلو علمنا بأنّه حصل على أموال كثيرة من خلال هذا البيع فهل يجوز قبول هداياه من ذاك المال و أخذه ثمنا للبيع؟ لا يبعد ذلك.

و منها: من لا يعتقد الخمس مطلقا إلّا في غنائم الحرب من علماء العامة، أو في بعض الأشياء كالهبة و الهداية و شبهها من الخاصة، فهل يمكن الحكم بعدم جواز أخذ بعض أمواله هدية أو ثمنا للإجارة و البيع و بعنوان المهر، الظاهر جوازه بحسب السيرة كما أنّه يشكل أخذ الخمس منه جبرا مع عدم اعتقاده.

و منها: إذا وصى بوصية أو وقف مالا على أشخاص، و كانت الوصية و الوقف صحيحة باجتهاده و باجتهاد الموصي و الموقوف عليهم، و لكن لم تكن صحيحة في اجتهادنا، لا ينبغي الشك في جريان السيرة على التعامل بالحلّية مع أموالهم.

إلى غير ذلك.

بل و لو لا ذلك أشكل الأمر في معاشرة أتباع المذاهب الإسلامية المختلفة بعضهم مع بعض، و فسدت معاملاتهم، بل في أتباع المذاهب الواحد إذا اختلف الآراء و الاجتهادات،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 142

كما في اتباع المراجع الدينية المختلفين في الفتاوي عندنا.

و من هنا يمكن التمسك بقاعدة نفى العسر

و الحرج، و القول بعدم لزوم العسر و الحرج مطلقا لعدم العلم التفصيلي و الإجمالى في محل الابتلاء لا يصدر إلّا ممن لا خبرة له بالآراء و المذهب المختلفة و ما يلزمها من اللوازم.

هذا مضافا إلى السيرة المستمرة من لدن أعصار الأئمّة قدّس سرّه إلى زماننا هذا و لا سيما في معاشرة أصحابهم مع أهل الخلاف.

بل يمكن القول بعدم الدليل على الحكم بفساد هذه العقود و شبهها بمقتضى اجتهاد من كان أجنبيا عنها، فان القدر المتيقن صحة اجتهاده في نفسه و مقلديه لا في حق غيره، لانصراف الأدلة عنه، فيلقي الحكم بالصحة و حجة اليد و غير ذلك حاكما على أموالهم و ازواجهم و غير ذلك ممّا صدر عنهم.

فالدليل ذلك لا ينحصر بالسيرة بل الدليل الأخير أيضا حقيق بالتصديق، القول بأن أدلة حجية الإمارات و الاصول مطلقة لا تنحصر ببعض دون بعض فإذا قامت عنده شملت المجتهد و من خالفه في ذاك الاجتهاد و كذا مقلديه و غيره، ممنوع، بل الانصراف هنا قوي كما لا يخفي.

أحكام العقد الفاسد

اشارة

كان الكلام في المباحث السابقة في أحكام العقد الصحيح و شرائطه، و نبدأ هنا بعون اللّه تعالى في بيان أحكام العقد غير الجامع لشرائط الصحة فنقول: فيه مسائل و أحكام كثيرة:

المسألة الاولى: الضمان
اشارة

و هي أن البيع الفاسد لا يوجب ملكا، و يكون كل من البائع و المشتري ضامنا لما أخذه بعنوان الثمن أو المثمن.

أمّا عدم الملك، فهو من الواضحات و القضايا التي قياساتها معها، و أمّا كونه ضامنا لما أخذه فهو المعروف بين الأصحاب، بل حكي الإجماع عليه عن بعضهم، و هذا الحكم من جزئيات القاعدة المعروفة «كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» كما أن «كل عقد لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» فاللازم بسط الكلام في أصل القاعدة و عكسها حتى يظهر حال البيع بعنوان مصداق لها، و تمام الكلام فيها يستدعي رسم امور:

الأول: من تعرض للمسألة

اعلم أنّها من القواعد المشهورة المتداولة على ألسن المتأخرين و المعاصرين، و لكن من المعلوم كما صرّح به جمع من أعاظم المعاصرين أو ممن قارب عصرنا أنّها لم توجد بهذه العبارة في كلمات أصحابنا الأقدمين، و لا في معقد إجماع و لا في متن رواية.

نعم حكي عن الشيخ قدّس سرّه في مبسوطه ما يقرب منه أو يفيد معناه حيث علل الضمان في انوار الفقاهة، ج 1، ص: 144

واحد من العقود بانّه «دخل على أن يكون المال مضمونا عليه».

هذا و لكن كثر الاستدلال بها بعين العبارة المذكورة في كلمات المعاصرين بل المتأخرين، و في مقدمهم الفقيه البارع صاحب الجواهر قدّس سرّه فقد استدل بها أو بعكسها بنفس العبارة في طيات كتب الفقه: منها كتاب «التجارة» في بحث المقبوض بالعقد الفاسد، و كتاب «الإجارة» في مسألة اشتراط سقوط الاجرة، و كتاب «العارية» في مسألة تلف العين في يد المستعير، و كتاب «الشركة» في مسألة قسمة الربح على المالين، و في كتاب «السبق» في شرح قول المحقق قدّس سرّه: إذا فسد عقد السبق.

إلى غير ذلك ممّا

ذكرناه بعين عبارته في كتابنا «القواعد الفقهية» فلا نعيده هنا «1».

هذا و لم ينقل إنكار من أحد فيما رأينا و إن حكي من بعض كلمات الشهيد الثاني قدّس سرّه في المسالك الترديد فيها في بعض كلماته.

الثاني: مفاد القاعدة

و قد تصدى شيخنا الأعظم قدّس سرّه لتنقيح مفاد القاعدة من شتى الجهات و النواحي.

فمن ناحية أنّ العقد في قولنا: كل عقد يضمن ... يشمل جميع العقود، بل ما يشبه الايقاع كالجعالة.

و من ناحية أنّ المراد بالعقد هل هو أنواعه، أو أصنافه، أو أشخاصه؟ و من أن المراد بالضمان ما ذا؟ و هل هو ضمان المسمى أو المثل؟

و من أنّ المراد بالباء في قولنا «بصحيحه» أو «بفاسده» للظرفية أو السببية؟

و من أن اقتضاء الصحيح للضمان هل هو اقتضائه بذاته، أو يشمل ما إذا كان بسبب الشرط أيضا (كالهبة المعوضة أو العارية المضمونة)؟ إلى غير ذلك.

هذا و لكن الإنصاف كما أشار إليه جمع من المحققين أنّه لا ينبغي اتعاب النفس في هذا الطريق، لما عرفت من أنّ القاعدة بهذه العبارة لم ترد في نص الكتاب أو السنة أو معقد

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 145

إجماع، بل و لا في فتاوى المتقدمين من أصحابنا، فالبحث عن هذه الخصوصيات ممّا لا طائل تحته، بل الأولى التصدي للأدلة حتى يعلم منها مقدار دلالتها على هذه القاعدة فإنّها المعيار الوحيد في هذا المجال سعة و ضيقا و إثباتا و نفيا كما يخفي.

الثالث: مدارك القاعدة

لقد استدل الشيخ قدّس سرّه في المبسوط بقاعدة الاقدام، و الشهيد الثاني قدّس سرّه في المسالك أضاف إليها قاعدة على اليد، فصار الدليل عليها أمرين: «قاعدة الاقدام» و «اليد» ثم اضيفت إليها أدلة اخرى، فنذكر الجميع مع ما هو المختار الذي هو اس الأساس في المسألة، و إن أهمله كثير منهم، فنقول: يمكن الاستدلال على المطلوب بما يلي:

الدليل الأول: و هو العمدة عندنا، قاعدة احترام الأموال و المنافع و الأعمال التي جرت عليها سيرة العقلاء جميعا، في جميع الأعصار و

الأمكنة، فان من حصل له مال أو منافع من طريق مشروعة قانونية، أو كان له عمل مشروع، لا يرخصون لأحد التغلب عليها و التصرف فيها بغير أذنه و رضاه (إلّا في موارد خاص تقتضي قوانينهم ذلك لضرورت تدعو إليها) و يفرضون على من اتلفها أو تغلب عليها و تلفت في يده تداركها بمثلها أو قيمتها.

و الظاهر أن هذه القاعدة نتيجة معنى الملكية و السلطنة و مفهومها، فان حقيقتها ليست إلّا اختصاص شخص بشي ء على نحو خاص يمنع غيره عنه تكليفا و وضعا بحيث لو تسلط عليه بدون رضاه كان عليه ردّه في أول زمان ممكن، و إن لم يقدر عليه لتلف أو اتلاف وجب عليه دركه.

و هكذا بالنسبة إلى المنافع التي تحت ملكه و سلطنته شرعا أو بحسب القوانين العقلائية، و كذا أعماله (عند استيفائه منه).

و الظاهر أن جميع ما ورد في روايات المعصومين عليهم السّلام من أنّه «لا يحل مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفسه».

و أن «حرمة مال المؤمن كحرمة دمه».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 146

و أنّه «لا يصلح ذهاب حق أحد».

و قوله عليه السّلام: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» و غير ذلك، كلّها تشير إلى امضاء هذا البناء العريق العقلائي، و ليست أحكاما تأسيسية، كما أنّها ليست أدلة اخرى مستقلة على المطلوب كما يظهر من كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه، و مصباح الفقاهة و غيرها، حتى يتكلم فيها بالنقض و الإبرام كما فعلوه.

كما أنّ السيرة المدعاة في المقام ليست سيرة المسلمين و المتشرعة فحسب، بل سيرة العقلاء جميعا، من قدم الأيام و قبل طلوع شمس الإسلام و بزوغها إلى زماننا هذا، و هذه السيرة مأخوذة- كما عرفت- من حقيقة معنى الملكية و السلطنة.

و

الحاصل: أنّ قاعدة الاحترام وليدة الاعتراف بأصل الملكية الشخصية و شئونها كما لا يخفي، و قد أمضاها الشارع، و لكن هناك أمران ينبغي التنبيه عليها:

أحدهما: إن قاعدة «ما يضمن» أوسع نطاقا من قاعدة «الاحترام» لأنّها تجري في الأموال و المنافع و غيرها حتى في مثل النكاح، و لكن قاعدة الاحترام غير جارية في بعضها، اللّهم إلّا أن يقال باندراج النكاح و مثله في المنافع فتأمل.

ثانيهما: إن تلف العين أو المنافع يكون على أربعة أقسام:

فتارة: يكون بالاتلاف، عمدا أو غير عمد.

و اخرى: من ناحية التفريط في حفظها.

و ثالثها: ما يكون بمتلف سماوي من غير تفريط و لكن لو لم يكن عنده لما تلف كما إذا سرقه سارق من بيته مع سائر أمواله من دون أي تفريط.

و رابعة: ما يكون بمتلف سماوي خاص أو عام و كان التلف في هذا المال حتميا سواء كان عنده أم لم يكن.

و التلف السماوي الخاص مثل أن يكون الحيوان مريضا بمرض يموت به، سواء كان عند صاحبه الأصلي أو عند المشتري أو في البيع الفاسد أو عند الغاصب، الثاني: و هو التلف العام مثل وقوع زلزلة أو سيل في قرية فاتلف الأموال جميعا، أموال البائع و المشتري، المفروضين في محل الكلام، و في ضمنه المقبوض بالعقد الفاسد.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 147

و الذي يمكن القول باستقرار بناء العقلاء على تداركه هو الصور الثلاث الاولى، أمّا الصورة الأخيرة فلا دليل على لزوم تداركه و إن كان ظاهر كلمات الفقهاء (قدس اللّه اسراهم) عاما شاملا للجميع، و الظاهر انصراف قوله عليه السّلام: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» عن ذلك، نعم لو كان هذا الحكم حكما تعبديا أمكن الأخذ باطلاق الحديث لعدم قصور فيه،

و لكن لما كان امضاء لبناء العقلاء، و قد عرفت عدم بنائهم على ذلك ظاهرا، فيشكل إلّا بهذا الإطلاق، بل يمكن الترديد في بناء الفقهاء على ذلك، و لعل محل كلامهم غير هذه الصورة فتأمل.

و سيأتي إن شاء اللّه مزيد توضيح ذلك.

الدليل الثاني: قاعدة الاقدام التي استند إليها الشيخ قدّس سرّه في ما عرفت من المبسوط و حاصلها: أن البائع أو مثله إذا دخل في المعاملة على أن يكون ضامنا للعين بالعوض المسمى فقد أقدم على ضمانه، و رضي بذلك، و لما كان البيع فاسدا و لم يتمّ المسمى يكون الضمان بالمثل أو القيمة ثابتا لازما.

أقول: الاقدام بحسب الصغرى و إن كان معلوما لا ريب فيه، و لكن الإشكال في كبراه، فان كون الإقدام سببا للضمان ممّا لم يدلّ عليه دليل عقلي و لا شرعي.

نعم: إذا كان الإقدام من الطريق المعروفة الصحيحة عند الشرع و العقلاء، أعني من طريق البيع الصحيح و نحوه، كانت أدلة صحة البيع و نحوه دليلا على المقصود، لكن المفروض كون البيع أو العقد فاسدا فيما نحن فيه.

اللّهم إلّا أن ترجع هذه إلى قاعدة احترام المال و المنافع و الأعمال، و لكن الإنصاف أنّ قاعدة الاحترام تقضي الضمان و إن لم يكن من قصده الاقدام على الضمان.

و بعبارة اخرى: تمام الموضوع في قاعدة الاحترام هو التسلط على مال الغير أو منافعه و المزاحمة في سلطانه بغير إذنه و رضاه، سواء قصد الضمان أو لم يقصد بل قصد المجانية، فرجوع الاقدام إليها بعيد جيدا.

هذا و قد أورد عليها: بإنكار الصغرى تارة، و عدم كونها جامعة مانعة ثانيا.

أمّا الاولى: فإنّه أقدم على المسمى و لم يتحقق، و أمّا الضمان بالمثل فلم يقدم عليه

فالاقدام منتف.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 148

و أمّا الثاني: فللنقض على جمعه بتلف المبيع قبل قبضه، فقد أقدم المشتري الى الضمان مع أنّ التلف حينئذ من مال البائع، و النقض على طرده بالبيع بلا ثمن و مثله فان الاقدام على الضمان منتف فيه مع أنّ الضمان ثابت قطعا.

قلت: و كلاهما قابلان للمنع، أمّا الأول فلأنّ الاقدام هنا من قبيل الاقدام على العقد مع شرط فاسد (بناء على عدم كونه مفسدا) أو بيع ما يملك و ما لا يملك، الذي ينحل بحسب بناء العقلاء بأمرين، و فساد أحدهما لا يسرى إلى الآخر، و الحاصل: أنّ الاقدام هنا وقع على أمرين بحسب القصد النوعي المعتبر في أمثال المقام:

«أحدهما» أصل الضمان، «ثانيهما» كونه بمقدار خاص، و عدم المضاء الثاني لا يكون دليلا على نفي امضاء الأول.

و أمّا الثاني فلفساد كلا النقضين، أمّا الأول فلأنا لا نسلّم كون التلف قبل القبض من قبيل الاقدام على الضمان، فإنّ الضمان في البيع و نحوه ليس بمجرد الانشاء عند العقلاء بل الإنشاء مع القبض.

و أمّا الثاني فلأنّ البيع بلا ثمن من قبيل التناقض، لصحة سلب مفهوم البيع عنه، فان كان بيعا فلا معنى لكونه بلا ثمن، و إن كان بلا ثمن لم يكن بيعا، بل كان من قبيل الهبة، و حينئذ لا نسلّم كونه من باب الاقدام على الضمان، بل هو أشبه شي ء بالهبة التي لا ضمان فيها.

الدليل الثالث: و استدل عليه أيضا بقاعدة الضرر، فان الحكم بعدم الضمان المأخوذ بالبيع الفاسد و نحوه ضرر على البائع قطعا، و كذا على المشتري بالنسبة إلى الثمن، و قد أورد عليه بوجوه.

الوجه الأول: ما هو المعروف بين المتأخرين من أنّ قاعدة نفي الضرر إنّما تنفي

الأحكام الضررية، و لا تكون مبدء لإثبات حكم كالضمان فيما نحن فيه.

هذا و لكن ذكرنا في كتابنا «القواعد الفقهية» وجوها ثلاثة لعموم القاعدة و شمولها للعدميات أيضا، و اختار العموم شيخنا الأعظم قدّس سرّه في رسالته المعمولة في المسألة.

و العمدة من هذه الوجوه أنّ مفاد لا ضرر إمّا نفى الضرر من ناحية الشرع على المكلّفين، أو من ناحية بعضهم على بعض، و لعل ظاهر المشهور هو الأول، و المختار هو

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 149

الثاني، و على كل حال لا مانع من عمومها و شمولها لنفي الأحكام و إثباتها.

أمّا على الثاني و هو المختار فظاهر، فانّ جواز أخذ البيع في العقد الفاسد بلا تداركه بالمثل أو القيمة ضرر عظيم من ناحية المكلّفين بعضهم على بعض، لا يرخصه الشارع الأقدس، و معناه هو الضمان لا محالة.

و على الأول فمعنى القاعدة أنّ الشارع لا يفعل شيئا في محيط التشريع يوجب الضرر، سواء في أحكامه و تشريعاته، أو ترك تشريعه لما يترقب منه تشريعه، و السر في ذلك أن محيط التشريع بجميع شئونه محط حكومة الشارع، و الأمر فيه بالنسبة إلى جميع أعمال المكلّفين و حركاتهم و سكناتهم إليه، فما ينشأ من اهمال جعل بعض الأحكام من الضرر مستند إليه، كأحكامه المجعولة، من دون أي تفاوت في هذه النسبة.

و الحاصل: أن اسناد الضرر إلى الشارع لا فرق فيه بين جعل الأحكام الضررية، أو عدم جعل ما ينفي الضرر.

الوجه الثاني: أنّه قد يعارض هذا الضرر بالضرر الحاصل من الجانب الآخر، لأنّ قيمة المثل قد يكون أكثر من المسمى بكثير مع أنّه لم يقدم عليه.

و فيه: أنّ الضرر هنا في الجانب الآخر ممنوع جدّا، لأنّ المفروض أنّه أخذ ما يعادل هذه

القيمة، و عدم اقدامه على هذا الضمان لا ينافي ما ذكرناه من عدم الضرر، و بالجملة الضرر إنّما يصدق إذا لم يصل ما يعادله إليه و لا ربط له بمسألة الاقدام، فتدبّر تعرف.

الوجه الثالث: إن قاعدة نفي الضرر أخص من المطلوب لعدم شمولها لما إذا وقع التلف بمتلف سماوي من غير تفريط، لأنّه لم يقع ضرر على البائع مثلا من ناحية المشتري، نعم هي حاكمة في فرض الإتلاف و شبهه.

أقول: قد عرفت أنّ الضمان في هذه الصورة (و هي القسم الرابع من الأقسام الأربعة المتقدمة) غير ثابت عندنا، لا سيما إذا كان العذر عاما، و إن كان ظاهر المشهور ذلك (فراجع).

الدليل الرابع: الإجماع المدعى في المقام في كلمات غير واحد منهم، في ثبوت قاعدة ما يضمن، و الإنصاف أن الاستدلال به في أمثال المقام ممّا يتوفر فيه أدلة اخرى مشكل انوار الفقاهة، ج 1، ص: 150

جدّا، لعدم إمكان حدس قول المعصوم منه، مضافا إلى أنّ الإجماع قابل للمناقشة.

الدليل الخامس: و استدل أيضا بما ورد في باب الأمة المسروقة من الروايات الكثيرة الدالة على أنّه لو سرقت الأمة فبيعت من دون علم المشتري فأولدها ترد إلى صاحبها و أن الولد له بالقيمة، مثل ما رواه جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في رجل اشتري جارية فأولدها فوجدت الجارية مسروقة قال: «يأخذ الجارية صاحبها و يأخذ الرجل ولده بقيمته» «1».

و حيث قلنا بالضمان في المنافع التي لم يستوفها، ففي العين بطريق أولى، و الرواية مرسلة، و كون جميل من أصحاب الإجماع لا يوجب انجبارها كما ذكرنا في محله، و لكن العمدة مضمونها متظافر و مؤيد بروايات اخرى في نفس الباب، مثل ما

رواه زرارة قال:

قلت لأبي جعفر عليه السّلام: الرجل يشتري الجارية من السوق فيولدها ثم يجي ء الرجل فيقيم البينة على أنّها جاريته: لم تبع و لم تهب، فقال: «يرد إليه جاريته و يعوضه بما انتفع» «2».

و ما روى جميل بن دراج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الرجل يشتري الجارية من السوق فيولدها ثم يجي ء مستحق الجارية قال: «يأخذ الجارية المستحق و يدفع إليه المبتاع قيمة الولد» الحديث «3».

فالإشكال في اسنادها ممّا لا وجه له، إنّما الإشكال في دلالتها و هو من ناحيتين:

الاولى: أنّها ناظرة إلى بيع الغاصب، و أين هو ممّا نحن فيه، أي المأخوذ بالبيع الفاسد، و لا يجوز التمسك بالأولوية و لا إلغاء الخصوصية بل الأولوية على العكس.

الثانية: إن الاستيلاد من قبيل استيفاء المنفعة و اتلافها، و هذا خارج عما نحن بصدده، لأنّ الكلام هنا في التلف، و أمّا الإتلاف فحكمه واضح بمقتضى قاعدة من اتلف.

أقول: يمكن الجواب عن الأول بأن مفروض الروايات عدم علم المشتري بالغصب، و حينئذ لا يتفاوت حاله عن المأخوذ بالعقد الفاسد، بل اطلاقها يشمل لما إذا كان البائع انوار الفقاهة، ج 1، ص: 151

أيضا غير عالم بالغصب، و حينئذ يكون الأمر واضح.

و إن شئت قلت: إنّ المأخوذ بالعقد الفاسد أعم من أن يكون لعدم مالكية البائع للبيع أو انتفاء غيره من شرائط العقد و أركانه.

و أمّا الثاني: فلأنّ الاستيلاد كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه بمعنى جعل الولد غير داخل في ملك أحد، لأنّ المفروض أنّه يكون حرّا فليس هو من الاستيفاء أو الإتلاف.

إن قلت: نطفة الأمة أيضا دخيلة في تكوّن الولد، و كذا رحمها، فالاستيلاد اتلاف لنطفة المرأة و كذا إتلاف لمنافع الرحم (كذا قيل).

قلت: مضافا إلى

أن هذه تدقيقات عقلية لا يساعد عليها العرف، فان لازمها إعطاء قيمة نطفة المرأة أو منافع الرحم، لا قيمة الولد كما هو صريح الرواية فتأمل.

هذا مضافا إلى أنّه لا فرق بين «التلف» و «الإتلاف» فيما نحن فيه، و شمول قاعدة الإتلاف لأحدهما، و قاعدة على اليد للآخر، لا يكون فارقا، لأنّ هاتين القاعدتين كلاهما من شئون قاعدة الاحترام كما لا يخفى على الخبير.

فكون الاستيلاد من قبيل الاستيفاء لا يمنع من الاستدلال بالروايات.

إن قلت: في الروايات زرارة أنّه يعوضه بما انتفع «1» و في رواية اخرى له أيضا «يعوضه في قيمة ما أصاب من لبنها و خدمتها «2»» و هما غير قيمة الولد.

قلت: أمّا قوله «يعوضه بما انتفع» فهو شامل لقيمة الولد، بل قد ورد التصريح بذلك في تفسير مذكور في ذيل الرواية، و إن كان لا يعلم أنّ هذا التفسير من زرارة أو غيره، و لكنه مؤيد للمقصود على كل حال.

و أمّا اعطاء قيمة اللبن و الخدمة فهو غير مناف لا عطاء قيمة الولد، و يمكن الجمع بينهما فتأمل.

و الحاصل: أنّ الاستدلال بهذه الروايات على المقصود وجيه و إن كان مفادها بعض المطلوب.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 152

فتحصل من جميع ما ذكرنا أن العمدة في الاستدلال على القاعدة امور ثلاثة: قاعدة الاحترام، و لا ضرر، و الروايات الواردة في الأمة المسروقة، و إن كان مضمون الأخير أخص من المدعى كما هو واضح.

فالحكم هنا يدور مدار مقدار دلالة هذه الأدلة فإذا لم يكن هناك إضرار و لم يكن داخلا في حريم قاعدة الاحترام و الروايات المذكورة لم يكن وجه للضمان.

و من هنا يعلم أنّ مثل عقد المسابقة الفاسدة يشكل القول بالضمان فيها و إن كان صحيحها مضمون،

لعدم شمول شي ء من هذه الأدلة لها، لعدم ما فيه هتك احترام المال أو العمل، فان احترام العمل معناه أنّه لو استفاد منه أو أتى به بأمره كان ضامنا لقيمته، لا في مثل المسابقة، لا سيما إذا كانا عالمين بالفساد، أو كان السابق عالما به.

نعم لو كان الدليل الإجماع أو الاقدام و شبهه أمكن القول بدخولها تحت القاعدة.

وجوه البيع الفاسد و صوره:

بقي هنا شي ء: و هو أنّ بيع الفاسد (بعنوان المثال) يتصور على وجوه:

«أحدها»: أن يكون البائع و المشتري كلاهما عالمين بالفساد و مع ذلك أقداما عليه.

«ثانيها»: أن يكونا جاهلين.

«ثالثها»: أن يكون أحدهما عالما و الآخر جاهلا.

أمّا صورة جهلهما فالحكم فيه واضح.

و أمّا في صورة علمهما فقد يتوهّم عدم ضمانهما، لأنّهما سلطا غيرهما على مالهما مع علمهما بفساد العقد و عدم تأثير، فهل هذا إلّا التسليط المجاني؟ فلو بقيت العين كان له أخذها، أمّا لو تلفت في يد أحدهما لم يكن ضامنا نظرا إلى هذا التسليط المجاني، و لكن إشكاله واضح، لأن التسليط المجاني غير معقول بل التسليط يتحقّق منهما بناء على الصحة لعدم المبالاة بحكم الشارع فيكتفيا بالصحة عند العقلاء أو عندهما فقط، و لذا لا يرضيان بأي نقص في مقدار الثمن و المتاع و لو درهما أو مثقالا، فكيف يكون تسليطهما مجانيا؟

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 153

و توهّم كونه من قبيل ضمان الأمين كما ترى، لأنّه لم يعطه المال بعنوان الأمانة بل بعنوان الوفاء بالعقد المبني على الصحة غير مبال بالفساد كما هو ظاهر.

و أمّا في صورة علم أحدهما و جهل الآخر، ففيه إشكال الغرور، فان الجاهل أقدم على المعاملة بزعم أنّ الضمان بقيمة المسمى- و كانت قيمة المثل أكثر منه بأضعاف مثلا- فتسليط البائع العالم له

على المال مع علمه بالفساد هو الذي أوجب غروره و وقوعه في هذا الضرر، فلو قلنا بضمانه جاز رجوعه إلى البائع الغار بتفاوت ما بين المسمى و المثل لا أقل، و وقع التهاتر بين دينه من ناحية الضمان و حقه من ناحية الغرور، أو بالنسبة إلى الجميع لأنّه مغرور في الكل.

هذا و لكن غروره في الكل واضح الفساد، لعدم كونه مغرورا بالنسبة إلى المسمى، لأنّ المفروض دخوله في المعاملة لا على نحو المجانية.

و أمّا بالنسبة إلى التفاوت فهو إنّما يصح إذا كان البائع هو الباعث له في إلقائه في هذا الضرر، مثل ما إذا قال البائع له: تعال و اشتر هذا المتاع مني و البيع صحيح شرعا، و لا نلتزم بغير المسمى.

أمّا إذا جاءه المشتري و لم يسأله عن صحة المعاملة شرعا و فسادها، و أقدم هو بنفسه على المعاملة فكونه مصداقا لقاعدة الغرور محل إشكال ظاهر.

عكس القاعدة:

هذا كله في أصل القاعدة، أمّا عكس القاعدة: و هو «كل عقد لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» فقد استدل له أيضا بامور:

1- الإجماع: و فيه ما مر في أصل القاعدة، من عدم حجيته في أمثال المقام لو سلّم قيام الإجماع صغرويا.

2- الأولوية: و قد أشار إليها الشيخ قدّس سرّه في ما حكي من رهن المبسوط، و حاصلها: أنّ العقد الصحيح مثل الهبة أو الإجارة إذا لم يقتض الضمان و وقع مجانيا ففاسده لا يقتضي ذلك انوار الفقاهة، ج 1، ص: 154

بطريق أولى، و الوجه فيه على ما أفاده شيخنا الأعظم قدّس سرّه أنّ سبب الضمان إما الاقدام أو حكم الشارع، أمّا الاقدام فالمفروض عدمه في المقام، و أمّا حكم الشارع فهو أيضا منفي، لأنّ العقد الفاسد بحكم العدم.

و

أمّا وجه الأولوية فالصحيح إذا كان مفيدا للضمان، يمكن أن لا يكون فاسده موجبا له، لأنّه كالعدم، و الاقدام إنّما وقع على المسمى و هو غير حاصل، و أمّا المثل فلم يقدم عليه، فإذا لم يكن الصحيح موجبا له فالباطل لا يكون موجبا بطريق أولى.

لكن الإنصاف أن الأولية هنا بالعكس، فان نفي الضمان عن الهبة الصحيحة أو الإجارة مثلا إنّما هو لاقتضاء الصحة ذلك، بعد تراضي الطرفين و حكم الشارع و إمضائه، و أمّا إذا كان فاسدا فلا وجه لنفيه مع أن مقتضي اليد هو الضمان.

هذا مضافا إلى ما قد عرفت من أن قاعدة الاقدام لا دليل عليها من رأس و أنّ الاقدام ما لم ينضم إلى إمضاء الشارع لا أثر له.

3- و هو العمدة في المقام لإثبات عدم الضمان، و هو عدم جريان الأدلة السابقة الدالة على الضمان هنا، و عدم وجود دليل آخر عليه، و الأصل ينفيه.

توضيحه: إن قاعدة احترام الأموال غير شاملة لما إذا كان التسليط المجاني من ناحية المالك كالهبة، و لو كانت فاسدة، و كذلك إذا رضى بعدم الضمان كالإجارة الفاسدة بالنسبة إلى العين و كذا الأمة الفاسدة.

و أمّا قاعدة الضرر فهي أيضا غير شاملة إذا كان برضى المالك و إجازته، و أمّا عدم شمول روايات الأمة المسروقة للمقام فهو أوضح من أن يخفى.

و كذلك قاعدتا «على اليد» و «الإتلاف» و قد عرفت رجوعهما إلى قاعدة الاحترام بل هما من شئونها، فحينئذ لا يبقى وجه لضمان العقد الفاسد لا يضمن بصحيحه، و الأصل عند الشك عدم الضمان.

نعم، يمكن استثناء صورة واحدة و هي ما إذا كان المالك جاهلا بالفساد، و كان تسليطه على المال بظن صحة العقد، بحيث لو كان

عالما بالفساد لم يكن يسلط الغير على ماله، و كان الآخذ عالما بذلك، ففي هذه الصورة يشكل الحكم بنفي الضمان، أمّا إذا كانا عالمين انوار الفقاهة، ج 1، ص: 155

أو كان المالك عالما، أو كان جاهلا لكن لو علم بالفساد كان راضيا بالتسليط، كان الحكم بنفي الضمان قويا.

4- و قد يستدل بقاعدة الاستيمان و أنّ من استأمنه المالك على ملكه فهو غير ضامن، و هذه قاعدة مستفادة من بناء العقلاء و النصوص الكثيرة الواردة في أبواب مختلفة من الإجارات و غيرها.

و لا بأس به، و لكنه في الحقيقة من قبيل الاستثناء لقاعدة احترام الأموال، فان عدم الضمان عند استيمان المالك لا ينافي الاحترام، و لذا يمكن القول بخروجه تخصصا أيضا.

نعم، الاستثناء السابق و هو صورة جهل المالك و عدم رضاه على فرض العلم جار هنا، و لعل كلام الأصحاب أيضا غير ناظر إلى هذه الصورة.

و من هنا يظهر أنّه لا فرق بين مورد العقد و غيره، و الأول مثل الهبة، و الثاني مثل الإجارة، فان مورد الإجارة هو المنافع، و أمّا ضمان العين و عدمه خارج عنه، و لكن الحكم جار في الصورتين، و ذلك لا تحاد الدليل في البابين.

المسألة الثانية: وجوب الرد

هذا الحكم، أعني وجوب ردّ المقبوض بالعقد الفاسد فورا، ممّا ادعى عدم الخلاف فيه، بناء على عدم جواز التصرف في المقبوض بالعقد الفاسد، فاللازم أولا التكلم في جواز التصرف فيه و عدمه، فنقول «و منه سبحانه نستمد التوفيق»:

إنّ الحكم بعدم جواز التصرف أمر ظاهر في بدو الأمر، نظرا إلى أنّه مال الغير، و إنّما أراد نقله إلى غيره بعقد فاسد لا أثر فيه، و المفروض أنّه لم يؤذن له بالتصرف فيه على غير هذا الوجه.

و إذا

استدل له بما ورد من أنّه «لا يجوز لأحد أن يتصرف في مال غيره إلّا باذنه» «1».

أو «لا يحل مال امرئ مسلم لأخيه إلّا بطيبة نفسه»، و قد عرفت أن جميع ذلك من شئون انوار الفقاهة، ج 1، ص: 156

قاعدة الاحترام المعروفة عند العقلاء، و قد أمضاها الشرع، و هي أيضا من شئون السلطنة على الأموال المتولدة من مفهوم الملكية الشخصية.

و قد أورد على الاستدلال- و الظاهر أنّ الموارد المحقق الخراساني قدّس سرّه في تعليقة: بأن الاستدلال على وجوب الردّ بحرمة الإمساك مبني على أنّ النهي عن الشي ء يقتضي الأمر بضده، و هو خلاف التحقيق، كما أنّ الأمر بالشي ء أيضا لا يقتضي النهي عن ضده.

و فيه إشكال ظاهر، فانّ المسألة غير مبنيّة على دلالة الأمر و النهي، بل لما كان الأمر دائرا بين ضدين لا ثالث لهما كان طريق الخلاص عن الحرام التوصل إلى ضده بحكم العقل، بل لا يبعد دلالته عليه بالدلالة الالتزامية العرفية كما لا يخفي، و تمام الكلام في محله.

هذا و قد فصّل المحقق اليزدي قدّس سرّه في تعليقته بين صورة جهل الدافع و علمه، و قال: لا ينبغي الإشكال في عدم جواز التصرف فيه مع جهل الدافع، أمّا مع علمه فيمكن الإشكال فيه و إن كان باقيا على ملكه، و ذلك للإذن فيه، في ضمن التمليك.

و قد أورد عليه في «مصباح الفقاهة» بما حاصله: إن هذا الإذن كان مبنيّا على صحة المعاملة لا أنّه اذن جديد بالتصرف في هذا المال.

و هذا البيان وجيه في بادي الأمر، و قد مرّ نظيره سابقا، و لكن يرد عليه: أنّه إذا علم الدافع بعدم صحة هذا العقد شرعا و مع ذلك اعطاه العين، فلا محالة يكون

اقدامه بأحد أمرين: إمّا بعنوان التشريع، أو بعنوان عدم المبالاة بحكم الشرع و الاكتفاء بحكم العقلاء، أمّا الأول فهو نادر جدّا، و أمّا الثاني فمعناه رضاه بالتصرف في هذا المال بازاء التصرف في عوضه، فان العلم بالفساد لا ينفك منه، فعلى هذا لا يبعد جواز تصرف كل منهما انتقل فيما انتقل منه في مقابل تصرف الآخر فيه، لا مطلقا حتى يحتاج إلى إذن جديد يكون المفروض عدمه.

إن قلت: ما قلت من رضاه بالتصرف في ماله بازاء التصرف في مال الآخر ممنوع، فان المفروض أنّ هذا الرضا كان معلقا على عنوان الملك، و هو غير حاصل «1».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 157

قلت: نعم لكن المفروض أنّه سلّط الغير على ماله و هو يعلم أنّه ليس بمالك شرعا فلم هذا التناقض؟ فليس هناك إلّا أنّه إمّا قصد التشريع و المفروض عدمه، أو الاكتفاء بالملكية العرفية و الرضا به و إن لم يأذن به الشرع، و هو حاصل، فيجوز لكل منها التصرف فيما انتقل إليه.

إن قلت: يمكن القول بالجواز من جهة أن الملكية من قبيل الداعى لا العنوان، و من المعلوم أن تخلف الداعي غير قادح بخلاف تخلف العنوان.

قلت: كلّا، بل المسألة من قبيل العنوان، فهو يدفع العين للقابض بعنوان أنّه مالك لا غير، فالوجه في الصحة ما ذكرناه.

فالتفصيل بين صورة العلم و الجهل غير بعيد، و ممّا ذكرناه ظهر أن الاعتماد في حرمة التصرف على «أن الإذن إنّما تعلق بعنوان الملكية لا مطلقا و ليس هنا إذن جديد على الفرض»، لا ينفع مع علم الدافع بعدم حصول الملك، و إن شئت اختبره بما إذا اذن واحد للوارد عليه بالتصرف في ماله بعنوان أنّه أخ له مع علمه بعدم

كونه أخا فالاذن حينئذ لا يكون إلّا بادعاء كونه أخا و ما أشبه ذلك، و إلّا فكيف يجمع الإذن مع العلم بنفي العنوان؟

و أظهر ممّا ذكرنا، الإذن في العقود التي لا تشتمل على المعاوضة، كما إذا وهبه بهبة فاسدة، فان كان جاهلا لم يجز التصرف بلا إشكال إلّا باذن جديد أو العلم برضاه حتى مع العلم بالفساد، و أمّا إن كان عالما بالفساد جاز له بغير إشكال، لأنّه المفروض اكتفائه بالملكية بحسب بناء العقلاء و هو حاصل، أو بتشريعه في نيته، و إن كان قصد التشريع في المعاملات الفاسدة نادر جدّا.

فتحصل من جميع ما ذكرنا:

أولا: إنّ التصرف في المقبوض بالعقد الفاسد لا يجوز إلّا مع علم الدافع بالفساد، أو جهله بالفساد، و لكن لو علم به رضي به.

ثانيا: أنّ الدليل على الجواز في هذه الصور، الرضا الناشئ عن اعتبار القابض مالكا في عرف العقلاء مع علمه بعدم كونه كذلك في عرف الشرع، و الرضا التقديري في أمثال انوار الفقاهة، ج 1، ص: 158

المقام كالرضا الفعلي كما حققناه في محله.

ثالثا: أنّ عمدة الدليل على حرمة التصرف هو قاعدة احترام الأموال، و كذلك ما ورد في إمضائه من الروايات.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى حكم وجوب الردّ- فقد عرفت دعوى عدم الخلاف في وجوب الردّ و استدل له تارة: بما دلّ على عدم جواز التصرف في مال الغير بغير إذنه، و اخرى: بما دل على عدم حلية مال امرئ إلّا بطيبة نفسه، و ثالثه: بقاعدة على اليد، و له بيانان:

أحدهما: أنّه يعمّ الحكم التكليفي و الوضعي كليهما، فمفاده وجوب ردّ العين مع وجوده، و ردّ بدله مع تلفه (و هذا محكي عن المحقق الإيرواني قدّس سرّه).

ثانيهما: إنّ مفادها ليس

إلّا الحكم الوضعي بالدلالة المطابقية، و لكن يستفاد منه الحكم التكليفي، أعني وجوب الردّ بالدلالة الالتزامية (و هذا محكي عن المحقق النائيني قدّس سرّه).

هذا و قد يناقش في الجميع، أمّا في الأول: فلعدم صدق التصرف على مجرّد الإمساك، و على الثاني: بأن مجرّد عدم الحلية لا يدل على حرمة الإمساك، و على الثالث: بعدم دلالته إلّا على الحكم الوضعي و أكثر منه ممنوع.

و الإنصاف أنّ وجوب الردّ في الجملة ممّا لا ينبغي الشك فيه، لأنّ إمساك مال الغير بغير اذنه و رضاه مناف لقاعدة احترام الأموال الثابتة عند العقلاء، و إمضاء الشارع المقدس بما دلّ على حرمة التصرف في مال الغير، قاعدة على اليد و غير ذلك من أشباهها.

و لكن لا بدّ من تفصيل في المسألة ..

فتارة: يكون كلاهما جاهلين بالفساد، فإذا تجدد للقابض علم له فعليه ردّه إليه و لا أقل من تخلية اليد و اعلامه بذلك، فان الردّ في المقام أعم من ذلك، فحينئذ لا يتعين عليه دفعه إليه فضلا عن كون مؤنته عليه.

و اخرى: يكون مع علم الدافع سواء علم القابض أم لا و هنا أيضا لا يجب عليه إلّا التخلية و عدم المزاحمة للمالك أي منعه عن أخذ ماله مهما أراده.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 159

و ثالثة: يكون مع علم القابض و جهل الدافع بالفساد فالواجب عليه حينئذ أن لا يأخذ من أول الأمر، و لو أخذه فعل حراما و عليه ردّه إلى صاحبه، و لا يكفي هنا مجرّد الإعلام و تخلية اليد، لأنه السبب في خروج المال عن يد مالكه بعد كونه عالما و المالك جاهلا، فعليه أن يرده إلى صاحبه، بل مؤنة الردّ عليه أيضا، سواء كان كثيرا أو قليلا

و لا تشمله أدلة نفي الضرر، للأقدام.

المسألة الثالثة: حكم المنافع المستوفاة و غير المستوفاة
اشارة

من أحكام العقد الفاسد «ضمان المنافع المستوفاة» كما هو المحكي عن المشهور، و المراد به المنافع التي استوفاها المشتري من البيع و البائع من الثمن، سواء كان من قبيل سكنى الدار و ركوب الحيوان، أو من قبيل اللبن و النتاج و ثمرة الشجرة.

و لكن أختار «ابن حمزة» في «الوسيلة» عدم الضمان، و إليك نص عبارته: قال في ما حكي عنه في حكم البيع الفاسد:

«فإذا باع أحد بيعا فاسدا و انتفع به المبتاع و لم يعلما بفساده ثم عرفا و استرد البائع المبيع لم يكن له استرداد ثمن ما انتقع به، أو استرداد الولد إن حملت الام عنده و ولدت، لأنّه لو تلف لكان من ماله و الخراج بالضمان» (انتهى).

هذا و مقتضى قاعدة احترام الأموال التي مرّت الإشارة إليها غير مرّة و عرفت مبانيها في الشرع و بين العقلاء، و هو الضمان، لأن المفروض فساد البيع، و عدم نقل العوضين عن ملك صاحبهما، فبقيت المنافع على ملك صاحبها و لم يجز استيفاؤها و لو استوفاها كان عليه عوضها، و قد عرفت أنّ حديث «على اليد» و «لا يحل» و «لا يجوز» و أشباهها كلها إمضاء لهذه القاعدة.

نعم، يمكن استثناء صورة واحدة و هي ما إذا علم المالك بالفساد و مع ذلك رضي بالقبض و الإقباض، و قد عرفت أنّ هذا دليل رضاه بالبيع الصورى العرفي، و إن لم يكن شرعيا، إمّا تشريعا أو تركا لحكم الشرع لعدم المبالاة في الدين، و لكن مقتضاه الرضى انوار الفقاهة، ج 1، ص: 160

بالتصرف فيه في مقابل التصرف في بدله.

و إن شئت قلت: إنّه من قبيل الإباحة المعوضة بالنسبة إلى المنافع.

فالضمان ثابت على كل

حال، و إنّما التفاوت في ضمان المسمى أو المثل، ففي صورة الجهل يثبت ضمان المثل، و في صورة علمهما و رضاهما يثبت ضمان المسمى، (فتدبّر).

اشارة إلى قاعدة «الخراج بالضمان»:

هذا و الدليل على القول الثاني، أعني الضمان، و هو القاعدة المعروفة عند المخالفين غير الثابتة عندنا: «الخراج بالضمان» و قد ذكرناها بالتفصيل في كتابنا «القواعد الفقهية» و نشير هنا إلى ملخصها:

فنقول: إن مفاد هذه القاعدة و مغزاها أنّ «كل من ضمن شيئا و انتفع به كانت هذه المنافع له بغير عوض، في مقابل ضمانه لأصل العين».

هذا هو المشهور بين العامة، و لكن الخاصة لم يوافقوا عليه إلّا في موارد خاصة تدل عليها أدلة اخرى، ستأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه، و يظهر ممّا حكي عن أبي حنيفة و غيره، عموم القاعدة عندهم حتى في موارد الغصب و البيع الفاسد، كما صرّح به في قضية أبي ولاد المعروفة في قصة «كراء البغل» الذي جاوز به الحد الذي أجازه المالك.

و على كل حال يمكن الاستدلال لهذه القاعدة بطائفتين من الروايات:

الطائفة الاولى: ما حكي عن طريق الجمهور من قضائه قدّس سرّه «الخراج بالضمان» الذي رووه بطريق مختلفة «1» كلها تنتهى إلى «عائشة»، و في طريقها «عروة بن الزبير» و لكنها رويت تارة مجرّدة عن كل شي ء، مثل ما رواه أحمد في مسنده عنها عن النبي قدّس سرّه قال:

«الخراج بالضمان» «2».

و اخرى في ذيل مسألة بيع المعيب، مثل ما روته هي: أن رجلا اشترى عبدا فاستغله ثم وجد به عيبا فردّه، فقال: يا رسول اللّه قدّس سرّه إنّه قد استغل غلامي. فقال رسول اللّه قدّس سرّه:

«الخراج بالضمان» «3».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 161

و الظاهر أنّهما و غير هما من طريق الحديث و متونه كلها

ناظرة إلى موضوع واحد و قضية واحدة، فالقدر المعلوم ورودها ذيل بيع المعيب، و من الواضح أنّ هذا البيع صحيح، و بمقتضى صحته تكون المنافع لمن المنتقل إليه، و المراد بالضمان هنا تلفه في ملكه، و هذا موافق للقواعد، بخلاف ما إذا كان البيع فاسدا، أو كان الكلام في المغصوب.

إن قلت: لفظ الحديث عام و إن ورد في مورد خاص.

قلنا: نعم لو كانت الألف و للأم للجنس، أمّا لو كانت للعهد المذكور في الرواية فلا، هذا كله مضافا إلى ضعف اسناد هذه الأحاديث عندنا.

إن قلت: قد ثبت في محله أنّ التلف في زمن الخيار ممن لا خيار له، و هذا ينافي كون التلف من المشتري عند خيار العيب.

قلت: أولا: قد ذكرناه في محله من بحث القواعد أنّ تلك القاعدة لما كانت بنفسها مخالفة للقواعد، فانه يقتصر فيها على المقدار الثابت شرعا، و القدر المعلوم من أدلتها هو ثبوت القاعدة في خيار الحيوان أو الشرط إذا كان المبيع حيوانا.

ثانيا: أنّه فرع كون العيب بنفسه موجبا للخيار لا بظهوره، و هو محل الكلام في محله.

أمّا الطائفة الثانية: و ما ورد من طريق الخاصة، و هي عدّة روايات:

1- ما رواه في دعائم الإسلام نظير ما ورد في كتب العامة «1».

2- ما رواه اسحاق بن عمار «2»، قال: «حدثني من سمع أبا عبد اللّه عليه السّلام و سأله رجل و أنا عنده فقال: رجل مسلم احتاج إلى بيع داره فجاء إلى أخيه فقال: أبيعك داري هذه، و تكون لك أحبّ إلي من أن تكون لغيرك، على أن تشترط لي إن أنا جئتك بثمنها إلى سنة أن ترد عليّ، فقال: لا بأس بهذا، إن جاء بثمنها إلى سنة ردّها عليه

قلت: فانّها كانت فيها غلة كثيرة فأخذ الغلة، لمن تكون الغلة؟ فقال الغلة للمشتري، ألا ترى أنّه لو احترقت لكانت من ماله؟».

و سند الحديث معتبر إلّا أنّه يظهر من العلّامة قدّس سرّه في الخلاصة عدم الاعتماد على ما

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 162

ينفرد به «اسحاق» نظرا إلى أنّه فطحي، و لكن الإنصاف وثاقته كما صرّح به جمع من أعاظم علماء الرجل و لا يضرّ كونه فطحيا، و باقي السند لا غبار عليه.

إن قلت: ورد فيه أنّ اسحاق رواه عن بعض من سمع الصادق عليه السّلام، و هذا نوع ارسال.

قلت: التصريح بأنه سمعه عنه عليه السّلام دليل على اعتماده بالرجل كما لا يخفى، و نظيره ما يظهر من الفرق في مرسلات الصدوق قدّس سرّه بين ما يذكره بقوله: روي عن الصادق عليه السّلام و بين قوله: قال الصادق عليه السّلام فتأمل.

3- ما رواه معاوية بن مسيرة قال: «سمعت أبا الجارود يسأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل باع دارا له من رجل و كان بينه و بين الرجل الذي اشتري منه الدار حاصر فشرط أنك إن أتيتي بمالي ما بين ثلاث سنين فالدار دارك، فأتاه بماله. قال: له شرطه، قال أبو الجارود: فان ذلك الرجل قد أصاب في ذلك المال في ثلاث سنين. قال: هو ماله، و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أ رأيت لو أنّ الدار احترقت من مال من كانت تكون الدار دار المشتري» «1».

أبو الجارود و إن كان ضعيفا ينسب إليه مذهب الجارودية و لكن الظاهر أن «معاوية بن مسيرة» كان حاضرا عند سؤاله عنه عليه السّلام، فلا يضرّ عدم وثاقته، و لكن معاوية نفسه مجهول لا يعتمد على روايته.

هذا و الاستدلال

بها مبني على كون «قوله ألا ترى أنّه لو احترقت كان من ماله» بمنزلة العامة و يؤدي معنى «الخراج بالضمان» و إن لم يكن بلفظة، و لكن الإنصاف أنّه و إن لم يخل عن إشعار بذلك لكن يحتمل أن يكون المراد منه بيان الدليل على كونه مالكا للغلة لذكر ما يدل على كونه مالكا لأنّه إذا كان الاحتراق من ماله ثبت كونه مالا له منتقلا إليه بالبيع، فالمنافع له على كل حال.

و مع هذا الاحتمال لا يصح الاستدلال بها.

و قد يستدل مضافا إلى ما ذكر بما رواه اسحاق بن عمار عن أبي ابراهيم عليه السّلام: «الرجل انوار الفقاهة، ج 1، ص: 163

يرهن الغلام و الدار فتصيبه الآفة على من يكون؟ قال: على مولاه» الحديث «1».

و الرواية و إن كانت معتبرة ظاهرا بحسب السند، و لكن يمكن أن يناقش في دلالتها بأن الكلام فيها من ناحية الزيادة السوقية، أعني زيادة قيمة العين في السوق، و هذا غير المنافع المستوفاة، و قياسها عليها بالأولوية كما ترى.

و على فرض دلالتها يأتي فيها ما مرّ في ما قبله من احتمال كونها ناظرة إلى بيان كون المنافع تابعة للملك حيثما كانت.

فتبيّن من ذلك كله أن شيئا من روايات القاعدة النافية لضمان المنافع لا تقوم بإثباتها بعنوان كل يشمل البيع الفاسد أو المعيوب.

فلا يبقي هنا إلّا أحكام الضمان بحسب قاعدة احترام الأموال.

بقي هنا شي ء: و هو أنّه ما المراد من لفظي «الخراج» «و الضمان»؟

و قد ذكر فيهما وجوه:

الأول: المراد من الخراج ما هو المعروف في الأراضي الخراجية من الضريبة على الأرض و شبهها.

و من الضمان ما يحصل بسبب تقبل الأرض أو الإجارة، أي إجارة الأرض توجب الخراج (و كأن الباء هنا للسببية

لا المقابلة).

الثاني: أنّ المراد بالخراج ما ذكر، أعني المضروب على الأراضي أو الرؤوس، و المراد من الضمان تكفّل والي المسلمين لنظم امورهم و تدبيرهم في مقابل ذلك (و الباء للمقابلة).

الثالث: المراد من الخراج الخسارة الحاصلة للضامن بالنسبة إلى المنافع، كخسارة منافع العبد، و بالضمان ضمان رقبته، يعنى أنّ خسارة المنافع تتبع ضمان العين، و لما لم يكن في مسألة العبد المعيوب ضمان العين، فليس هناك ضمان للمنافع المستوفاة «2» (و الباء للسببية).

و هذه الاحتمالات الثلاث كلها بعيدة لا شاهد عليها لا سيما الأول و إن جعله في انوار الفقاهة، ج 1، ص: 164

«مصباح الفقاهة» أقرب ما يحتمل في معنى الحديث، و هو عجيب.

أمّا الأول: فلأنّه لا يتصور في الأراضي الخراجية ضمان، و أمّا التقبل أو الإجارة ليست إلّا قبول الخراج و تعهده، فيتحدان.

و أمّا الثاني: فلأن تعهد والي المسلمين في تدبير الامور ليس أمرا يصح اطلاق الضمان عليه إلّا بنوع من المجاز و الكناية كما هو ظاهر.

و الثالث: أبعد من الجميع، فان ضمان المنافع لا يسمى خراجا، مضافا إلى أنّه ليس بسبب ضمان العين بل هما معلولان لعلة ثالثة، و هو التسلط على العين بغير رضاه صاحبه، أضف إليه أن الاحتمالين الأولين لا يساعدان مورد الحديث و شأن و روده في منافع الغلام في بيع المعيوب، و قد عرفت أنّ الظاهر أنّها حكاية لقضية واحدة رواتها عائشة تارة مستقلة عن موردها، و اخرى مع بيان موردها.

الرابع: المراد من الخراج «المنافع المستوفاة»، و من الضمان «الضمان الحاصل في العقود الصحيحة» فقط، أي هذه المنافع إنّما حصلت له و ابيحت لإقدامه على البيع و قبول الضمان و تعهد الثمن.

و هذا أقرب الاحتمالات بحسب مورد الحديث كما عرفت، و

إن كان اطلاق الضمان على ما يحصل بسبب البيع الصحيح، ليس ممّا ينصرف إليه الذهن في بدء النظر، و لكن مع وجود القرينة الظاهرة الواضحة لا محيص عنه.

الخامس: المراد من الخراج المنافع المستوفاة، و من الضمان أعم من الضمان الحاصل في العقود الصحيحة أو الفاسدة أو الغصب، و هذا العموم و أن أمرا محتملا في نفسه و لكن لما لم يدل عليه دليل لا يمكن المساعدة عليه كما هو ظاهر.

فتحصل من جميع ما ذكرنا أن الاستدلال بالرواية على نفي الضمان للمنافع المستوفاة في البيع الفاسد لا يصح على كل حال، و أنّه لا دليل آخر على نفي هذا الضمان الثالث بأدلته، فالضمان ثابت على كل حال، نعم إذا علم البائع بالفساد، و رضي بالبيع الصوري العرفي، فقد رضي باتلاف المنافع و استيفائها في مقابل التسلط على الثمن، و الضمان حينئذ مشكل جدّا.

حكم المنافع غير المستوفاة:

هذا كلّه في حكم المنافع المستوفاة، و أمّا «غير المستوفاة» كما إذا اشترى دارا أو دابة و قبضها و لم ينتفع بمنافعها و مضي عليها مدّة طويلة أو قصيرة، فهل هو ضامن لكراء الدار أو الدابة، أو ليس بضامن؟

المشهور بل ادعي عليه الإجماع في محكي التذكرة و السرائر الضمان بالنسبة إلى المغصوب، و لكن بعبارات قد يلحق به البيع الفاسد أيضا، و إن كان الإلحاق لا يخلو عن إشكال.

قال في التذكرة: إن منافع الأموال من العبد و الثياب و العقار و غيرها مضمونة بالتفويت و الفوات تحت اليد العادية، فلو غصب عبدا أو جارية أو عقارا أو حيوانا مملوكا ضمن منافعه، اتلفها بأن استعملها أو فاتت تحت يده، بأن بقيت مدّة لا يستعملها عند علمائنا أجمع (انتهى).

و لكن إلحاق البيع الفاسد بالغصب و

اليد العادية ممنوع.

و مع ذلك في المسألة أقوال ثلاثة:

الأول: ما عرفت من الضمان مطلقا.

الثاني: عدم الضمان مطلقا كما أختاره في إيضاح القواعد.

الثالث: التفصيل بين صورة العلم بالفساد (فلا يضمن) و عدمه (فيضمن) كما حكي عن بعض، و أمّا التوقف فليس قولا، و شيخنا الأعظم قدّس سرّه رجح عدم الضمان في أول كلامه، ثم مال إلى التوقف، و مال أخيرا إلى الضمان، و لكن لم يستقر عليه أيضا.

و الذي يدل على الأوّل، مضافا إلى ما مرّ من دعوى الإجماع الذي عرفت الإشكال فيه، قاعدة الاحترام في الأموال، فانها تقتضي عدم التسلط على مال الغير بغير إذنه، و ضمانه لمنافعه لو تسلط عليه، و الاذن الموجود هنا مبني على فرض صحة البيع و كونه مالكا لا مطلقا، فهو غير كاف.

و قد يستدل بقاعدتي الاتلاف و على اليد، و لكن الجميع قابل للإيراد.

أمّا الأوّل (و هو العمدة في هذه الأبواب) فبناء العقلاء بالنسبة إلى المنافع غير

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 166

المستوفاة غير ثابت، حتى في مورد الغصب، فلو غصب كتابا أو فرشا أو حليا ثم ردّه عليه لا يؤخذ منه كراء الكتاب و الفرش و الحلي.

نعم إذا كان معدا للكراء و الانتفاع بمنافعها من هذا الطريق، كالعبد الكسوب و الدابة المعدّة للكراء أو الآنية و الكتب و الفرش و السيارات التي هي كذلك، فيمكن القول بضمان منافعها و يؤخذ مثل الكراء منه.

و الظاهر صدق الاتلاف عليه في هذه الصورة أيضا.

و منه يظهر الإشكال في التمسك بقاعدة الاتلاف و أنّه لا يصح إلّا في هذا الفرض.

و اما قاعدة على اليد فالظاهر عدم شمولها لغير الأعيان، لانصراف عنوان «الأخذ» و «الاداء» عنه، و اطلاقهما عليه ببعض التمحلات غير كاف في مقام

الأخذ بالظهور.

فالتفصيل بين الأعيان المعدّة للكسب و الانتفاع بها بعنوان الكراء و شبهه، و بين غيرها، قريب جدّا، و إن لم نر من ذهب إليه، و الظاهر أنّ الحكم في المغصوب أيضا كذلك.

و إن كان يظهر من بعضهم عدم القول به، و لكن لا يكون هذا إجماعا، و لو فرض الإجماع فيه كان مستندا بحسب الظاهر إلى تلك القواعد المعروفة و شبهها بل يكفى احتمال ذلك.

هذا كلّه في الجاهل، أمّا لو كان البائع عالما بالفساد و اكتفى بالبيع الصوري العرفي و رضي بالتصرفات في مقابل التصرف في العوض أشكل الحكم بالضمان هنا كما عرفت في سابقه.

فيتحصل من ذلك قول رابع في المسألة، و هو التفصيل بين الأعيان المعدة للانتفاع بكرائها، مع الجهل بالفساد، فتضمن منافعها غير المستوفاة، و بين ما ليس كذلك، فالضمان مشروط بشرطين: الجهل و كون العين معدّة لما ذكر.

و قد يستدل على عدم الضمان هنا بامور:

الأول: سكوت الروايات الواردة في بيع الجارية المسروقة عن ضمان منافعها غير المستوفاة، مع أنّها في مقام البيان من هذه الجهة، و قد عرفت اعتبار اسنادها في الجملة،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 167

ففي بعضها الاقتصار على ردّ ثمن الولد إذا استولدها المشتري، مثل ما روى جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في رجل اشترى جارية فأولدها فوجدت الجارية مسروقة، قال: يأخذ الجارية صاحبها، و يأخذ الرجل ولده بقيمته» «1».

و أيضا ما رواه جميل بن دراج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الرجل يشتري الجارية من السوق فيولدها ثم يجي ء مستحق الجارية، قال: يأخذ الجارية المستحق، و يدفع إليه المبتاع قيمة الولد»، الحديث»

.و في بعضها: يعوضه في قيمة ما أصاب من لبنها و خدمتها مثل روى زرارة قال:

«قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام رجل: اشترى جارية من سوق المسلمين فخرج بها إلى أرضه فولدت منه أولادا ثم إن أباها يزعم أنّها له و أقام على ذلك البيّنة، قال يقبض ولده و يدفع إليه الجارية، و يعوضه في قيمة ما أصاب من لبنها و خدمتها» «3». و في بعضها الآخر: يعوضه بما انتفع «4».

و كل ذلك دليل على نفع الضمان عن غير المستوفاة من المنافع.

و الظاهر أنّها لا تنافي ما ذكرناه من التفصيل بالشرطين المذكورين.

الثاني: صحيحة أبي ولاد حيث حكم عليه السّلام بلزوم رد المنافع المستوفاة إلى صاحب البغل دون غيره «5»، و هذا السكوت أيضا دليل على المطلوب.

هذا و لكن فرض المنافع غير المستوفاة في هذه القضية غير ثابت بعد كون أبي ولاد دائما في طلب غريمه من بلد إلى بلد، هذا مضافا إلى ما قيل من عدم الفتوى بذلك في المغصوب، و لكنه سهل لو تمّت دلالة الحديث على الحكم.

الثالث: و استدل أيضا بقاعدة «كل عقد لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» فانّ انوار الفقاهة، ج 1، ص: 168

المنافع الفائتة بغير استيفاء لا تضمن في البيع الصحيح لأنّها ملك المشتري مجانا، فلا تضمن بفاسده.

إن قلت: يجرى هذا الدليل في المستوفاة أيضا.

قلت: نعم و لكنّها داخلة في قاعدة الاتلاف بخلاف غير المستوفاة.

إن قلت: لازمه القول بعدم الضمان في الغصب أيضا لعدم الفرق بينه و بين العقد الفاسد.

قلت: كلّا و قياس أحدهما على الآخر قياس مع الفارق، و إلحاق العقد الفاسد بالغصب إنّما هو من بعض الجهات لا من جميعها.

هذا و لكن الانصاف أن المنافع سواء ما استوفاه و ما لم يستوفه ليست مجانا في العقد الصحيح بعد كونها تابعة للملك الذي مضمون بالعوض،

ففي الحقيقة يعطى العوض على المنافع، و إلّا فنفس الملك لا قيمة له مع قطع النظر عن منافعه، فتأمل.

المسألة الرابعة: ضمان المثلي و القيمي بالقيمة
اشارة

و من أحكام البيع الفاسد بعد ما عرفت من ثبوت أصل الضمان فيه، هو ضمان المبيع أو الثمن إذا تلف بمثله إن كان مثليا، و بالقيمة إن قيميا، و الكلام هنا يتمّ في مقامين:

الأوّل: في أصل الحكم كبرويا.

الثاني: في موضوعه صغرويا.

أمّا الأوّل فقد ادعى الإجماع فيه إلّا عن شاذ، و قد اعتمد عليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه بحيث رأى نفسه غنيا عن إقامة الرهان عليه لوضوحه، و بعد اشارة قصيرة إلى أصل الحكم تكلم في موضوعه و شرحه شرحا وافيا.

و الظاهر أنّ المسألة من الواضحات و إن تكلف بعض المحشين بإقامة دلائل كثيرة عليه، و الايراد على كل واحد واحد منها، و ذلك لأنّ مقتضى قاعدة احترام الأموال ردّها لو أخذها بغير اذن صاحبها، فيجب ردّ عينها إن أمكن، و إن لم يمكن ردّ العين لتلفها، وجب ردّ ما يكون أقرب إليها فالأقرب، و لا شك في أنّ المثل أقرب إليها إذا وجد لها مثل، و إلّا

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 169

فالمتعين القيمة، و لهذا استقر عليه بناء أهل العرف و العقلاء عليه في أحكامهم كما لا يخفى على من راجعهم، و لا يبعد أنّ الإجماع أيضا نشأ من هنا.

هذا و يمكن الاستدلال عليه، مضافا إلى ما ذكر، بالروايات المختلفة الواردة في أبواب الضمانات، مثل صحيحة أبي ولاد «1» بالنسبة إلى ضمان البغل بقيمته.

و ضمان قيمة الولد في الأمة المسروقة، مثل ما روى جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «في رجل اشترى جارية فأولدها فوجدت الجارية مسروقة قال: يأخذ

الجارية صاحبها و يأخذ الرجل ولده بقيمته» «2».

و غيرها ممّا ورد في نفس الباب.

و ما ورد في باب اقتراض الخبز و الجوز الذي يظهر منه أنّها من المثليات مثل ما روى الصباح بن سيابة، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إن عبد اللّه بن أبي يعفور أمرني أن أسألك قال: انا نستقرض الخبز من الجيران فنرد أصغر منه أو أكبر، فقال عليه السّلام نحن نستقرض الجوز الستين و السبعين عددا، فيكون فيه الكبيرة و الصغيرة فلا بأس» «3».

و ما روى اسحاق بن عمار قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام استقرض الرغيف من الجيران و نأخذ كبيرا و نعطى صغيرا، و نأخذ صغيرا و نعطى كبيرا، قال: لا بأس» «4».

و ما ورد في أبواب ضمان المستأجر، مثل ما ورد في ضمان الزيت روى الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سئل رجل جمّال استكرى منه ابلا، و بعث معه بزيت إلى أرض، فزعم أن بعض زقاق الزيت انخرق فاهرق ما فيه، فقال: إن شاء أخذ الزيت»، الحديث «5».

إلى غير ذلك ممّا يعثر عليه الخبير المتتبع.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 170

و قد يستدل عليه أيضا بقوله تعالى و أنّه: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ «1» و صدرها ناظر إلى حكم القتال في الشهر الحرام و أنّه حرام إلّا بعنوان المقابلة و القصاص، فقال اللّه تعالى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ أي إن كان عملكم نقضا لحرمة الشهر الحرام فإنّما هو في مقابل نقضهم لذلك، و الحرمات قصاص، أي حرمة الشهر و حرمة البلاد و حرمة الاحرام إن توقفت فإنّ توقفت قصاصا لنقضهم (و في الآية تفسيرات اخرى و لعل ما ذكرنا أظهر

من الجميع) فالحرمات قصاص بمنزلة التعليل لقوله تعالى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ و أمّا قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى ... فهو تفريع على ما ذكر و اجازة للمقابلة بالمثل في فرض الاعتداء حتى لا يتجاسر العدو على الغارة على المسلمين بظن عدم اقدامهم على الحرب في هذه الأشهر.

و «ما» في قوله تعالى: «ما اعتدى» أما «مصدرية» فهو يعطى المماثلة بين الاعتدائين و يدخل فيه مورد الآية، أعني نقض احترام الشهر الحرام و كذا جميع ما يؤتى به بعنوان قصاص النفس و الاطراف، لعموم الحكم و إن كان المورد خاصا.

و أما «موصولة» فيدخل فيه الأموال و الأفعال، و لكن التعبير بالقصاص أو الاعتداء عليه بالمثل يناسب الأفعال، فانّه يجوز فيها «النفس بالنفس و الجروح قصاص» و أمّا الأموال فلا يجوز اتلاف المال في مقابل اتلافه، و أخذ المثل و القيمة لا يعد قصاصا كما هو ظاهر، و لا يصدق عليه الاعتداء عليه بمثل ما اعتدى، هذا أولا.

و ثانيا: أنّه لو سلمنا دلالتها على ما نحن بصدده كان مفادها لزوم المثل دائما، و تخصيصه باخراج القيميات لو لم يكن تخصيص الأكثر، لا أقل من أنّه تخصيص مستهجن لأن المستثنى لا بدّ أن يكون قليلا بالنسبة إلى المستثنى منه، مع أنّ القيميات ليست قليلة، لا بحسب الأفراد و لا العناوين فتأمل.

و ثالثا: سلّمنا، لكن يبقى هذا الدليل ناقصا بالنسبة إلى تمام المطلوب كما هو ظاهر.

و قد يورد على الاستدلال به أيضا بأن المراد المماثلة في أصل الاعتداء، لا في انوار الفقاهة، ج 1، ص: 171

مقداره، يعنى كما أنّهم يعتدون عليكم فاعتدوا عليهم.

و استشهد له بأن الحرب على كل تقدير داخلة في مورد الآية و لا يمكن إرادة المماثلة في مورده

لأنّ العدو إذا قتل من المسلمين عددا معينا لا يلزم عليهم قتل هذا العدد منهم في الحروب.

و لكن ما ذكره مخالف لظاهر الآية، و المماثلة في موردها هي المماثلة في نقض حكم الشهر الحرام كما عرفت.

و على كل حال هذه المسألة أوضح من أن تحتاج إلى هذه التكلّفات.

ما هو المثلي و القيمي؟

هذا كله في ناحية الكبرى، أمّا صغرى المسألة:

فقد عرّف «المثلي» و «القيمي» بتعاريف كثيرة تبلغ سبع تعريفات في كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه، و ربّما تبلغ اثنى عشر تعريفا من طرق الخاصة و تعريفا واحدا من طرق العامة في كلمات صاحب الجواهر قدّس سرّه في كتاب الغصب «1» و لكنّها متقارب المضمون و عمدتها ثلاث تعريفات:

1- «المثلي ما تتساوى أجزاؤه من حيث القيمة» و هذا هو المحكي عن المشهور.

2- «أنّه ما قدر بالكيل و الوزن».

3- «ما هو كذلك و يجوز بيعه سلما».

و من الواضح أنّ هذين اللفظين لم يردا في نص آية أو رواية حتى يتكلم في مفهومهما، نعم ذكرا في معقد الإجماعات، و لكن قد عرفت الإشكال في دعوى الإجماع في مثل هذه المسائل.

و من هنا يعلم أن الطريقة التي اختارها شيخنا الأعظم قدّس سرّه و من تبعه و اقتدى به، من انوار الفقاهة، ج 1، ص: 172

الأخذ بالقدر المتيقن في المسألة و هو المجمع عليه، و الرجوع في غيره إلى الأصل، أيضا غير تام بعد عدم الاعتماد على الإجماع (فتأمل).

كما أنّ القول بأن هذه التعاريف كلها تعاريف «شرح اسميه» لا تعاريف «حقيقية» ينافي جسدا ما ذكروه في نقضها و طردها و سدّ الخلل فيها باضافة بعض القيود أو نقصه، فانّ هذه الامور لا تجري في تعريف يبنى على شرح الاسم كما هو ظاهر، بل هي دليل

واضح على أنّهم تلقوها بعنوان تعاريف حقيقية.

و قد صرّح بذلك في الجواهر حيث قال: لا وقع لما اعتذر به الكركي عن التعريف المزبور بأن الظاهر منه إرادة ضبط المثلي بحيث يتميز فضل تميز ... ضرورة أنّك قد عرفت كون المراد بالتعريف المزبور ما لا يحتاج إلى الاعتذار المذكور «1».

هذا و الأمر سهل بعد ما كان المبدأ في هذا الحكم قاعدة احترام الأموال و سيرة العقلاء و شهادة العرف و الذي يظهر من الرجوع إلى هذا الدليل، أنّ المعتبر عند أهل العرف و العقلاء ردّ العين مهما أمكن، و إلّا فيرّد الأقرب فالأقرب. و من الواضح أنّ المثل أقرب إليه من القيمة، و لكن المثل قد لا يوجد إلّا نادرا، و التزام الضامن بوجدان هنا الفرد النادر غير متعارف بينهم، فالزموا الضامن بالمثل إذا وجد بمقدار معتد به، و هذا هو المثلي أي ما يوجد مثله كثيرا، و لا أقل أنه ليس مثله من الأفراد النادرة، و القيمي بخلافه.

ثم ليعلم أنّ المراد من المماثلة، هو التقارب في الصفات التي يختلف فيه الرغبات و يختلف بها القيمة لا ما ليس كذلك كما هو ظاهر.

و يحتمل قويا رجوع جميع التعاريف الاثنى عشر أو الثلاث عشر أيضا إلى ذلك، فانّ التعريف المشهور بين فقهائنا رضوان اللّه عليهم و هو أنّه «ما يتساوى قيمة أجزائه» الذي أشار إليه المحقق قدّس سرّه في الشرائع في «كتاب الغصب» حاصله أنّه يوجد له أجزاء أو أفراد متماثلة في القيمة و الأوصاف التي تختلف بها الرغبات، و من الواضح أنّ المراد من التساوى هو التقارب، و إلّا قلّما يوجد ما يستاوى بالدقة العقلية، كما أنّ المراد من انوار الفقاهة، ج 1، ص: 173

الأجزاء هو الأفراد،

أو الأجزاء التي يصدق عليها اسم النوع، ففي الحنطة، هي ما يسمى حنطة من الحبات لا القشور أو الألباب فقط، كما أنّ الظاهر أنّ مرادهم من ذلك هو ملاحظة الاصناف من كل نوع مع ما هو من صنفه، و إلّا فالأصناف المختلفة من نوع واحد كالحنطة من هذا البلد و ذاك البلد، و الحنطة من بذر فلان و بذر فلان تختلف جدّا و لا تكون مثلية.

فبالنظر إلى هذه التفسيرات الثلاث التي تفهم من أمثلتهم في المقام يظهر أن الإيراد على التعريف بمثل ما اعترضه في المسالك من أنّه «إن اريد بالأجزاء كل ما تركب عنه الشي ء لزم أن لا تكون الحبوب مثلية لتركبها من القشور و الألباب، و إن اريد الأجزاء التي يقع عليها اسم الجملة لزم أن لا تكون الدراهم و الدنانير مثلية لما يقع في الصحاح من الاختلاف في الوزن و الهيئة» (انتهى ملخصا).

و ذلك لأنّ المراد كما عرفت ما يقع عليه الاسم، كما أنّ المراد هو الأصناف ففي الدراهم من الصنف الواحد لا اختلاف في الوزن، كما أنّ الهيئات غير المؤثرة في القيمة لا أثر له كما عرفت.

بقي هنا امور تتعلق بالمثلي و القيمي:
الأمر الأول: اختلاف المثلي و القيمي باختلاف الأزمان

لا ينبغي الشك في اختلاف المثلي و القيمي باختلاف الأزمان، ففي الأزمنة السابقة كانت الفرش و الألبسة و الأحذية و أشباعها من القيميات، و كذا الآنية المصنوعة من أنواع الفلزات أو الخزف و غيرها، و كذا ما كان يصنع من الأخشاب من السرير و الباب و أنواع ما يستعمل في البيوت، و ذلك لأنّها كانت مصنوعة بالأيدي.

و من المعلوم عدم المساواة بين مصنوعات أرباب هذه المشاغل، بل بين مصنوعات صانع واحد غالبا، و لو وجد المثل له كان قليلا لا كثيرا.

و أمّا في زماننا

هذا حيث اتسعت فيه عملية نسج الملابس أو صناعة الأحذية

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 174

بالمكائن الحديثة، و كذا الأبواب و السرر، و ما ينتفع منها في البيوت من أنواع الآنية و غيرها فقد لا يكون بين مئات من أفرادها أي تفاوت بحيث يشتبه بأدنى سبب، و لا يمكن تشخيص أحدها من غيره، بل قد يكون تماثلها أشد و أكثر من تماثل حبوب الحنطة و الشعير و غيرهما كما هو واضح.

و لا شك أنّها مثلية عندئذ بشرط صنعها في معمل واحد على نهج واحد، لا في معامل مختلفة على مناهج متفاوتة.

بل يمكن أن يقال: إن أنواع الحيوان التي كانت كلها على الظاهر قيمية، تكون في زماننا من المثليات كالدجاج الذي يتم انتاجه في المصانع الحديثة، بل و بعض أنواع الغنم، لا سيما إذا كان يرغب فيها باعتبار اللحم فقط، و كذا المراكب الحديثة من أنواع السيارات و غيرها.

و ذلك كلّه لانطباق ما عرفت من تعريف المثلي على ذلك أجمع، بل و سائر ما ذكره القوم من التعاريف.

الأمر الثاني: هل يجوز للمالك أن يطلب من الضمان القيمة بدل المثل؟

و هل يجب عليه قبوله، أو يجوز له الامتناع منه و الاكتفاء باداء المثل؟ لم أر من تعرض له، و لكن الظاهر أنّه لا يلزم بغير المثل في المثلي، و أن كانت القيمة أنفع للمالك فانّه حكم نوعي لا شخصي، و القول بأن أداء المثل لمراعاة حال المالك لكونه أقرب إلى التالف من القيمة، فإذا لم يرض به بل رضي بالقيمة كان على الضامن أداؤها، هو كما تري.

فانّ الدواعي الشخصية غير معتبرة في باب الضمانات، بل المعاملات كلها تدور مدار الأغراض النوعية، و كذا الكلام في عكسه، و هو ما إذا قال الضامن: خذ منّي المثل بدل القيمة في القيميات،

فانّه و إن كان أقرب إلى العين منها و لكن لا يجبر المالك على قبولها، بل له إلزام الضامن في القيميات، لما عرفت من أن المدار في هذه الامور الأغراض النوعية التي استقرت عليها سيرة العقلاء، و اقتضتها قاعدة الاحترام في الأموال.

الأمر الثالث: بعض الاشياء في بعض البلاد مثليا و في بلد آخر قيميا

يمكن أن يكون بعض الأشياء في بعض البلاد مثليا و في بلد آخر قيميا، و ذلك إمّا لوفور المثل في بلد دون آخر، أو عدم الاعتداد ببعض الصفات في تفاضل العين في مكان دون مكان، ففي البلد الذي لا يراد من الشاة إلّا لحمها مثلا تكون قيمية، و في البلد الذي يرغب في سائر أوصافها فهي مثلية.

الأمر الرابع: قد يكون شي ء مثليا في بعض فصول السنة

قد يختلف شي ء باختلاف الزمان في عصر واحد فقد يكون شي ء مثليا في بعض فصول السنة، إمّا لوفور مثله في ذلك الزمان أو عدم الاعتداد ببعض الصفات النادرة فيها، و عدمه في زمان آخر.

و الظاهر معاملة كل مكان أو زمان بما يقتضيه.

و لا مانع من اختلاف الأمكنة و الأزمنة في ذلك، بعد كون جميع ذلك تابعا للاعتبار و سيرة العقلاء في ذلك، لا عجب في اختلاف سيرهم باختلاف الأزمنة و الأمكنة كما لا يخفي.

الأمر الخامس: إذا شك في شي ء أنّه مثلي أو قيمي

إذا شك في بعض الأشياء أنّه مثلي أو قيمي، فما هو مقتضى الأصل و القاعدة فيه؟ كبعض الحيوان و الفرش و الألبسة و الأثواب التي لا يعلم أنّها مثلية أو قيمية.

الانصاف أنّ موارد الشك كثيرة في المقام، فلا بدّ من تبيين مقتضى الأصل و القاعدة في ذلك فنقول، و منه عزّ اسمه التوفيق:

ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المسألة وجوها أربعة:

1- الضمان بالمثل.

2- الضمان بالقيمة.

3- تخيير المالك.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 176

4- تخيير الضمان.

و قد يذكر هنا وجهان آخران:

«أحدهما»: الرجوع إلى القرعة.

«ثانيهما»: الرجوع إلى الحاكم ليصلح بينها صلحا، و لكنهما ضعيفان جدّا، أمّا القرعة فانّما هي للموضوعات المشتبهة الخارجية التي لا طريق إلى حلّها من الأمارات و الاصول، و هنا ليس كذلك لأنّه من الشبهة في الحكم، و لو جاز القرعة في مثله رجع المجتهد إلى القرعة في جميع ما يشك فيه من الأحكام! و هو واضح البطلان، هذا أولا، و ثانيا للمسألة طريق حل اخرى من الاصول العملية أو غيرها كما سيأتي إن شاء اللّه، و معه لا يبقى مجال للقرعة.

و أمّا الثاني، أي الرجوع إلى الحاكم، فهو أيضا كذلك، لأنّ الرجوع إليه للصلح إنّما هو في الشبهات الموضوعة التي هي

محل الخلاف بعد وضوح الحكم، و هنا نشك في أصل حكم الشرع.

و استدل للأول من الصور الأربع بأن اشتغال ذمّة الضامن يقتضي ذلك، لأن المثل أقرب إلى التالف و إنّما يتنزل منه إلى القيمة لقيام الدليل فيه، و هو سيرة العقلاء و شبهها، فالأصل عدم براءة ذمّة الضامن إلّا بالمثل، فهو مقتضى قاعدة الاشتغال.

كما أنّه يمكن الاستدلال للثاني بأصالة براءة ذمّة الضامن عمّا زاد على القيمة، أو أنّ المقام من قبيل دوران الأمر بين الأقل و الأكثر، لأنّ المثل يشتمل على القيمة و الأوصاف.

و يمكن الاستدلال على تخيير المالك بين المطالبة بالمثل أو القيمة بأنّ ذمّة الضامن مشغولة بأحدهما بحسب العلم الإجمالي، و لا تفرغ إلّا بالاحتياط أو تخيير المالك و رضاه به، و لما لم يكن الأول واجبا بالإجماع بقي الثاني.

و أمّا تخيير الضامن بين أداء القيمة أو المثل فلأن العلم الإجمالي باشتغال ذمته بأحدهما و إن كان يقتضي الجمع، و كان لما كان الجمع غير واجب بالإجماع كان مخيرا بينهما.

هذا إذا قلنا إن المثل و القيمة من قبيل المتباينين، أمّا إن قلنا إنّهما من قبيل الأقل انوار الفقاهة، ج 1، ص: 177

و الأكثر لاشتمال المثل على القيمة مع إضافة الأوصاف كان مقتضى القاعدة الأخذ بالأقل و هو القيمة.

هذا و الأقوى من بين هذا الوجوه هو القول بتخيير المالك، و ذلك لأنّ المقام من موارد قاعدة الاشتغال، لأن شغل الذمّة بالعين التالف معلوم، و لا بدّ من الخروج عن عهدته، و لا يعلم الخروج منه بأداء المثل أو القيمة، و لا يجب عليه الاحتياط بالجمع بينهما لقاعدة نفي الضرر، و لا تحصل البراءة بتخيير الضامن، فلا يبقي إلّا تخيير المالك، و إن شئت قلت: إذا

جعل الضامن المثل و القيمة تحت اختيار المالك، و قال: اختر ما شئت، فقد برئت ذمّته ممّا عليه من الضامن على كل تقدير.

هذا و لكن يرد الإشكال عليه: بأن الضامن و إن كانت ذمته تبرأ بذلك، و لكن كيف يجوز للمالك أن يختار مالا يعمله أنّه حقه؟ فعلى الضامن أن يخيّره، و على المالك أن لا يختار!

فلا يبقي طريق لتخلصهما عما عليهما من الوظيفة إلّا بالتصالح بأحدهما.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ قاعدة الأقرب إلى التالف فالأقرب الجارية في ضمان التالف تقتضي المثل أولا، إنّما يتعدى منه إلى القيمة إذا ثبت كونه قيميا، و حيث لم يثبت في المقام فالأصل هو الأخذ بالمثل، و هذا هو الأحوط لو لم يكن أقوى.

الأمر السادس: إذا لم يوجد المثل إلّا بأكثر من قيمته

المثل قد يوجد بأقل من المثل، و قد يوجد بأكثر منه ممّا يكون مجحفا أو غير مجحف، و قد يكون ساقطا عن القيمة لوفوره كالماء على الشاطي، فهذه صور ثلاث.

لا ينبغي الشك في عدم كفاية المثل في الأخير لأنّه لا يقوم مقام التالف قطعا و وجوده كالعدم، لكثرة الوجود، و حينئذ ينتقل إلى القيمة، و لا يبعد قيمة يوم التلف كما سيأتي إن شاء اللّه، و ما احتمله بعضهم من كفاية المثل حينئذ كما ترى.

أمّا إذا وجد بأقل منه لنقصان القيمة السوقية، فالظاهر كفايته في الجملة، و قد ذكر السيد قدّس سرّه في الحاشية: «أنّ الظاهر إجماعهم على ذلك، و أنّه مطابق للقاعدة أيضا، إذ لا فرق بين المقام و سائر الموارد التي يكون في ذمّته كلي من حنطة أو شعير أو نحو ذلك انوار الفقاهة، ج 1، ص: 178

قرضا أو ثمنا للمبيع أو مثمنا أو نحو ذلك، و كان مما طلا في أدائه زمان علوّ

قيمته ثم أعطاه في زمان نقص قيمته، فانّه لا شي ء عليه غيره، و كذا الحال لو نقص قيمة العين مع بقائها، فانّه لا ينتقل إلى البدل و لا يضمن التفاوت نعم يشكل الحال في بعض الصور، كما إذا صدق عليه أنّه فوت عليه مقدارا من مالية ماله، و هذا إنّما يكون فيما لو كان بانيا على بيع غيره، عينه في حال زيادة قيمتها فغصبها منه ثم ردّها بعد ما نقصت لكن الظاهر عدم التزامهم بذلك فانّهم صرّحوا بعدم ضمان تفاوت القيمة من غير تفصيل، و من غير خلاف بينهم» «1».

و حاصل ما أفاده أنّ العين إذا كانت كليا في الذمّة، سواء كان بسبب البيع أو القرض، أو بسبب ضمان التالف، فعليه أداء المثل سواء نقصت قيمة أو لا، و كذلك إذا كانت العين الخارجية موجودة عنده فلا يضمن نقصان القيمة مطلقا و لو كان غاصبا.

و الانصاف أنّه مشكل جدّا إذا لزم منه الضرر، كالمثال الذي ذكره، و غيره من أشباهه، كما إذا غصب منه شاة يوم العيد في منى مع وجود الباذل للقيمة الغالية و قد هيأ شياهه للبيع ذاك اليوم، ثم ردّها عليه بعد تلك الأيّام التي لا يشترى فيها الغنم بعشر قيمته، لعدم الباذل و عدم الطالب لها مثلا.

و كذا إذا اشترى منه الشياه في الذمّة بثمن غال (بناء على صحة السلم في مثل ذلك كما قالوا) و كان وقت تسليمها قبل العيد مثلا لبيعها إلى الحجاج، لكنه سلّمها إليه بعد تلك الأيّام مما لا تشترى فيها بعشر قيمتها أو بنصفها، و كذا سائر ما تعد للموسم و غيره (و كذا لو كان من قبل الدين).

الظاهر صدق الإضرار هنا، لا سيما إذا كان

متعمدا، فيشملها أدلة نفي الضرر نعم يمكن دفع الضرر في السلم بفسخ البيع، و لكنه لا يجري في مثل القرض أو صورة غصب نفس العين، فالقول بلزوم اعطاء التفاوت و تدارك الضرر حينئذ لو لم يكن أقوى فلا أقل أنّه أحوط، و دعوى الإجماع في هذه المسائل مشكلة جدّا.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 179

و أمّا إذا وجد بأكثر من قيمة المثل، إما لزيادة القيمة السوقية، أو لأجل عدم وجدانه إلّا عند من لا يعطيه إلّا بأزيد ممّا يرغب الناس فيه، فقد نفى شيخنا الأعظم قدّس سرّه الإشكال في وجوب اعطاء المثل في الصورة الاولى، بل و قد ذكر عدم الخلاف فيه و نقل الإجماع عليه.

ثم احتمل شمول أدلة نفي الضرر للثاني، ثم رجع عنه و قوى وجوب الشراء، و الإنصاف هنا أيضا التفصيل بين ما إذا طالب المالك بأداء المثل و لم يعطه الضامن أو ما طل في أدائه، فحصل هنا ضرر من جهة انحطاط القيمة جدّا، فشمول أدلة لا ضرر له غير بعيد و لا أقل أنّه أحوط، بخلاف ما إذا لم يكن قصور من ناحية الضامن بل كانت المسامحة من المالك أو لعلل اخرى.

و ليعلم أنّ ما ذكرنا لا يجري في تفاوت القيم السوقية المتعارفة، فان السوق قد يزداد و قد ينقص و هذا حاله دائما، إنّما الكلام في غير ذلك.

الأمر السابع: حكم تعذر المثل في المثلي
اشارة

لو تعذر المثل في المثلي، إمّا لكون المبيع ممّا يتغير حاله في فصول السنة كالفواكه (إذا قلنا بأنّها مثلية أو بعضها على الأقل) أو لكونه ممّا يؤتي به من خارج البلاد، و انقطع الطريق للحرب أو السيل أو عدم أمن السبيل و أمثال ذلك، فهنا صورتان:

الاولى: إذا رضي المالك بالصبر إلى حصول المثل

و القدرة عليه، الظاهر عدم جواز إجبار المالك بأخذ القيمة و افراغ ذمة الضامن، كما صرّح به غير واحد منهم، و لا ينافيه كلمات الآخرين، و الدليل على ذلك أنّه مشغول الذمة بالمثل (بل بأصل العين على احتمال) و لا دليل على تبدله بالقيمة إذا لم يطالب بحقّه، فالأصل بقاء اشتغال ذمته و عدم الفراغ منه بالقيمة كما لا يخفي.

الثانية: إذا طالب بحقّه، فلا شك في الانتقال إلى القيمة حينئذ لأنّها أقرب الأشياء إلى العين في هذا الحال و لا طريق آخر إلى اعطاء ذي الحق حقّه.

و هذا أوضح من أن يحتاج إلى الاستدلال له بقوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 180

عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ (نظرا إلى أنّ الاعتداء بالمثل هنا هو بأخذ القيمة) كما فعله شيخنا الأعظم قدّس سرّه، و ذلك لما عرفت من عدم شمول الآية لغير أبواب القصاص و ما أشبهها، مضافا إلى أنّ اطلاق المثل على القيمة هنا لا يخلو عن شي ء، و إن كان المراد منه معناه اللغوي.

هذا كله واضح، إنّما الكلام في أنّ المدار عند اختلاف القيم «قيمة يوم الدافع» لأنّه يوم الانتقال إلى القيمة و قبله يكون المثل في ذمته ...

أو «قيمة يوم المطالبة» لأنّه زمان التكليف بالاداء ...

أو «قيمة يوم الإعواز» و تعذر المثل لأنّه وقت الانتقال إلى القيمة ...

أو «أعلى القيم من زمان الإعواز إلى زمن المطالبة» ...

أو «أعلى القيم من زمان الاعواز إلى زمن الدافع» لأنّ الغاصب يؤخذ باشق الأحوال؟

فهذه عمدة الوجوه المتصورة في المقام (وجوه خمسة).

و ذكر بعضهم وجها آخرا و هو الاعتبار بقيمة يوم تلف العين، كما ذكره بعنوان الاحتمال في «مصباح الفقاهة» و الإنصاف أنّه لا وجه له

بعد فرض المثل موجودا حين التلف، فكان عليه اعطائه، و لم يكن هناك دليل على الانتقال إلى قيمة حينئذ.

و الإنصاف أنّ الأقوى من بينها هو «قيمة يوم الدفع» لعدم الدليل على الانتقال إلى القيمة في أي زمن قبله، لا في زمن التعذر و الإعواز، و لا في زمن المطالبة، بل اشتغال الذمة باق إلى زمن الأداء و لذا لو صبر المالك إلى زمن حصول المثل كان حقّه باقيا.

تنبيهات:
«الأول»: إذا تعذر المثل من أول الأمر

، أعني من حين التلف، فهل الحكم فيه أيضا ما مرّ في صورة التعذر بعد التلف، من الانتقال إلى قيمة المثل حين الأداء، أو المدار فيه على القيمة حين التلف؟

الذي يظهر من تقييد غير واحد منهم كالعلّامة في التذكرة و الشهيد الثاني قدّس سرّه في المسالك، بكون التلف بعد الإعواز، هو الفرق بينها.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 181

بل حكي عن جامع المقاصد استظهار دفع قيمة التالف في هذا الفرض.

و استدل له بأن المال يصير قيميا حين التلف لفقد مثله، و لعله لمنافاة ضمان المثل مع تعذره.

و قد ناقشه في الجواهر في كتاب الغصب بعدم المنافاة بين ثبوت المثل في الذمة، و بين تعذر أدائه في ذلك الوقت، و دعوى صيرورته قيميا واضحة المنع «1».

و يمكن الجواب عن هذه الدعوي بوجهين:

أولا: لازمه الحكم بذلك في المسألة السابقة أعني صورة تعذر المثل بعد التلف، مع أنّك قد عرفت أنّ المشهور و المختار تلك الصورة هو وجوب قيمة يوم الأداء، لا يوم الإعواز.

ثانيا: لازم ذلك عدم وجوب أداء المثل لو تعذر عند التلف ثم وجد مثله قبل الأداء مع أنّه لا يقول به من أحد حسب الظاهر.

و القول بأنّه صار قيميا بالاعواز، ثم صار مثليا بعد الوفور غير مفيد، لأنّه إذا

اشتغل ذمّته بالقيمة عند الإعواز فكيف يتبدل بالمثل؟ لعدم تحقق سبب الضمان و هو التلف مجددا، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ استقرار القيمة في الذمّة كان لأنّه أقرب إلى التالف عند ذاك، فإذا وجد ما هو أقرب منها و هو المثل استقر في الذمّة.

و العمدة هنا أنّ المثل لا ينقلب عن كونه مثليا بهذه العوارض الخاصة، بل يبقي بحاله، و لذا لو صبر المالك إلى حين وجدان المثل لم يضره و كان له ذلك، فالأقوى لزوم قيمة يوم الأداء على كل حال، و يشهد لذلك أنّه لو استقرض مقدارا من الحنطة مثلا أو دراهم و دنانير ممّا هو مثلي استقر في ذمته المثل، و كان عليه قيمة يوم الأداء سواء كان تعذر المثل حينه أو بعده.

و لعله لذلك كله لم يفرق بين المسألتين في المقام الشيخ قدّس سرّه في المبسوط، و العلّامة قدّس سرّه في الإرشاد، و الشهيد قدّس سرّه في الدروس و كذا المحقق قدّس سرّه في الشرائع في كتاب الغصب، و صاحب الجواهر أيضا.

«الثاني» ما المراد بالاعواز في أمثال المقام؟

فيه وجوه أو أقول:

«احدهما» ما حكاه في الجواهر عن التذكرة و المسالك من أنّ المراد بالفقدان أن لا يوجد في ذلك البلد و ما حوله.

«ثانيها» ما عن جامع المقاصد من أنّ المراجع فيه العرف.

«ثالثها» أنّ المراد فقدانه مطلقا و لو في البلاد النائية.

و حيث لا يوجد في المسألة نص و لا دليل إلّا الرجوع إلى سيرة العقلاء، فاللازم الرجوع إليها، و الظاهر أنّها مستقرة على ما ذكره العلّامة و الشهيد الثاني قدّس سرّه و لا يلزمون الضمان على تحصيل المثل من البلاد النائية بل يكلّفونه بأداء القيمة.

نعم، في زماننا هذا الذي يسهل النقل من بلد إلى بلد فالمدار فيه

على ما يشكل نقله منه إليه عادة، و لا يمكن الوصول إلى المثل بسهولة، و حينئذ القول بوجوب تحصيله بأى صورة كانت، لا سيما إذا كان غاصبا يؤخذ بأشق الأحوال، كما ترى.

«الثالث» كيف يمكن معرفة القيمة مع عدم وجود المثل

، و هل المراد فرضه موجودا في غاية القلة، أو في غاية الوفور، أو المتوسط بين ذلك؟ الظاهر أنّ خير هذه الوجوه هو الأخير كما يعرف من أشباهه في الفقه و سيرة العقلاء، لعدم وجود دليل هنا إلّا سيرتهم، و لو شك في بعض المصاديق فاصالة الاشتغال محكّمة كما لا يخفى.

الأمر الثامن: حكم القيمي و مدار القيمة.
اشارة

قد عرفت أنّ القيميات مضمونة بالقيمة، كما عرفت الدليل عليه من الأخبار و بناء العقلاء في ذلك، و قد أمضاه الشرع، و ما يحكى من الخلاف في ذلك من بعض، لا يعبأ به، و الظاهر أنّه لا فرق بين وجود المثل له اتفاقا كمن يملك فرسين توأمين شبيهين من جميع الجهات، فباع أحدهما ثم اتلفه بعد الاقباض، فهل يمكن إلزامه بتداركه بما عنده من الفرد الآخر الذي يكون مثله في جميع الجهات؟ لا يبعد عدم الإلزام، كما أنّه لا يمكن إلزام المشتري بقبوله، فانّ الأحكام في هذه الامور تدور مدار الأنواع لا الأفراد الخاصة كما يظهر بمراجعة سيرة العقلاء في أمثاله.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 183

و لكن مع ذلك لا يترك الاحتياط فيه، لا سيما مع ملاحظة قاعدة الأقرب فالأقرب، و مع ملاحظة ما ورد من طريق أهل الخلاف من «أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله أخذ قصعة امرأة كسرت قصعة اخرى» «1» مع أن القصعة في ذلك الزمان كانت قيمية و الظاهر أنّه أخذه صلّى اللّه عليه و آله لمشابهة القصعتين، و كذلك ما روى من حكمة صلّى اللّه عليه و آله بضمان عائشة إناء حفصة و طعامها بمثله (الذي يظهر من سنن البيهقي أنّها كانت صفية لا حفصة و كانت من أحسن النساء طبخا كما اعترفت به عائشه).

«2». و إذا قال المحقق

قدّس سرّه في الشرائع في كتاب القرض «و لو قيل يثبت مثله (في القيمي) أيضا كان حسنا».

و قال في محكي التذكرة «مال القراض إن كان مثليا وجب ردّ مثله إجماعا، و إن لم يكن مثليا فان كان ممّا ينضبط بالوصف و هو ما يصح السلف فيه كالحيوان أو الثياب، فالأقرب أنّه يضمن بمثله من حيث الصورة» ثم استدل له بأن النبي صلّى اللّه عليه و آله استقرض بكرا و أمر برد مثله «3».

و لقد أجاد صاحب الجواهر قدّس سرّه في كتاب القرض بعد ذكر أقوال المخالفين: إنّ الإنصاف عدم خلو القول به من قوة ... فالاحتياط فيه لا يترك «4».

بل الظاهر تعميم الحكم بغير القرض، فلا يترك الاحتياط في أبواب الضمانات كلّها عند وجدان مثل للقيمي.

ثم إن المهم في المقام تعيين مدار القيمة، و أنّ المعتبر هل قيمة يوم الضمان، أو التلف، أو المطالبة، أو الأداء، أو أعلى القيم؟ (فهذه وجوه خمسة)، و المحكي عن الأكثر هو الاعتبار بقيمة يوم الضمان، كما أشار إليه المحقق قدّس سرّه في الشرائع في كتاب الغصب و إن انوار الفقاهة، ج 1، ص: 184

وقع الترديد فيه من صاحب الجواهر قدّس سرّه، و عن جماعة كثيرة من قدماء الأصحاب و المتأخرين منهم الشيخ قدّس سرّه في الخلاف و المبسوط و ابن ادريس و الشهيد الأول و العلّامة «أعلى القيم من زمان الغصب إلى حين التلف» و لكن هذا بالنسبة إلى الغاصب المأخوذ بأشق الأحوال، و أمّا غيره فلعل نظرهم إلى حين التلف.

و ذكروا لأعلى القيم وجوه لا يهمنا التعرض لها بعد ضعف أصله.

و على كل حال اللازم التعرض لمقتضى القاعدة، ثم الرجوع إلى ما يقتضيه النص في الباب.

فنقول، منه سبحانه نستمد

التوفيق: إن مقتضى القاعدة يختلف باختلاف الأنظار، فأمّا أن نقول بأن المستقر في الذمّة هو العين، و عدم إمكان تداركها بشخصها لا ينافي استقرارها في الذمّة لوجود الأثر لهذا الأمر الاعتباري (و قد ذهب إليه بعض أعاظم المحشين على المكاسب و هو السيد السند المحقق اليزدي قدّس سرّه).

أو نقول بأن الذمّة مشغولة دائما بالمثل، سواء في المثلي أو القيمي كما يظهر من بعضهم.

فعلى هذين الفرضين تجب قيمة يوم الأداء لأنّه يوم الانتقال إلى البدل، و البدل الذي يسد فراغها عندئذ هو قيمة ذاك اليوم.

و أمّا لو قلنا بأن المستقر في الذمّة هو القيمة في القيميات، فلا ينبغي الشك في أنّها قيمة يوم التلف، و بما أن الأقوى هو الأخير، لأنّ استقرار نفس «العين» في الذمة ممّا لا محصل له، فالخارج المعدوم لا يمكن جعله في الذمّة، بل و لا الخارج الموجود، لأنّ المستقر في الذمّة دائما أمر كلي و ذلك لا يتصور إلّا في المثل لا «العين» و أمّا المثل فقد عرفت أنّه خلاف التحقيق في القيميات.

أضف إلى ذلك أنّ اللازم تدارك الخسارة يوم حصلت و تداركها يومئذ لا يكون إلّا بقيمة ذلك اليوم إن كان قيميا، و بمثله إن كان مثليا.

فمقتضى القاعدة هو قيمة يوم التلف، و هو يوم الانتقال إلى القيمة و جبران الخسارة.

و أمّا بالنظر إلى روايات الباب فالعمدة فيها هو صحيحة أبي ولاد، و يمكن الإشكال في كونها صحيحة باعتراف في متن الحديث يكونه غاصبا للبغل، و لرضاه بالرجوع في انوار الفقاهة، ج 1، ص: 185

القضاء إلى من لا يصلح له، اللّهم إلّا أن يقال أنّه كان يعلم بشاهد الحال برضا صاحب البغل باعطائه ما يرضاه من الثمن، و الرجوع إلى ما

لا يصلح لتصدى القضاء كان بسبب التقية فتأمل.

هذا و لكن الوثاقة في الحديث لا تلازم العدالة، مضافا إلى أن الأصحاب تلقوها بالقبول.

و أمّا دلالتها فانّها مشتملة على أحكام كثيرة نافعة تبلغ سبعة أحكام.

و لكن محل الاستشهاد به هو قوله «نعم قيمة بغل يوم خالفته» في جواب سؤال أبي ولاد «أ رأيت لو عطب البغل أو نفق أ ليس كان يلزمني»؟! و لكن في بعض نسخ الحديث «نعم قيمة البغل يوم خالفه».

و استدل القائلون باعتبار قيمة يوم الضمان بهذه الفقرة، و طريق الاستدلال بها من وجوه:

«الأول»: القيمة مضافا إلى البغل، ثم اضيفت ثانيا إلى اليوم، و حاصله وجوب قيمة البغل يوم المخالفة (كأنّه قال: نعم قيمة بغل، قيمة يوم خالفته).

«و فيه»: أنّ إضافة شي ء مرتين غير مأنوس في كلام العرب و غير معروف في كلمات أهل الأدب.

«الثاني»: اليوم ظرف و قيد للاختصاص المفهوم من إضافة «القيمة» إلى «البغل»، و حاصله القيمة المختصة للبغل يوم المخالفة.

و هذا أحسن من السابق، و لكن يرد عليه أنّ ذكر البغل بصورة النكرة على هذا ممّا لا يرى وجه، و المفروض أنّ البغل نفسه موجود يوم المخالفة، غير معدوم حتى يفرض مثله.

بل يستشم منها كون القيمي مضمونا بالمثل الذي هو خلاف القاعدة و خلاف متفاهم الأصحاب، مضافا إلى أنّ البغل إذا كان نكرة شمل أي بغل و لو لم يكن مثله، اللّهم إلّا أن يقال بانصرافه إلى مثله و ليس ببعيد.

«الثالث»: القيمة مضافا إلى البغل، و المجموع مضاف إلى اليوم، فحذف اللام في البغل للإضافة فيكون مثل قولنا «خاتم فضة عمرو» أو «ماء ورد زيد» فليس لزيد في هذا

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 186

المثال ورد بل «ماء ورد» و لا لعمر و

فضة بل «خاتم فضة».

و فيه: أنّه و إن كان ممكنا بحسب قواعد اللغة، و لكنه تركيب غير مأنوس، يشكل حمل الرواية عليه، و لا أقل أنّه ليس من الاحتمالات الظاهرة فيها.

«الرابع»: اليوم ظرف للقيمة بأن يكون للقيمة معنى حدثيا، و معناه أنّه يقوّم البغل يوم المخالفة.

و فيه: إن استفادة معنى الحدثية من القيمة بعيد جدّا، لا يساعده الذوق العرفي.

«الخامس»: أن يكون القيمة مضافا إلى البغل، و البغل مضافا إلى اليوم فيكون من تتابع الإضافات يعنى تعتبر قيمة البغل في يوم المخالفة.

و فيه: إن اضافة البغل إلى اليوم بأن يقال: بغل هذا اليوم، و بغل أمس، و بغل غد، أيضا غير مأنوس و مخالف للظاهر.

و الحاصل: أنّ الاستدلال بها لهذا القول لا يساعده ظاهر الصحيحة بأي احتمال من احتمالات.

و قد يؤيد الاستدلال بها بفقرة اخرى منها، و هو قوله: «أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين اكترى كذا و كذا فيلزمك» حيث إنّ ظاهره لزوم قيمة يوم الإجارة، و لكنه لما لم يقل له واحد، و الغالب أنّ الاكتراء لمثل هذه المسافة القريبة التي كان أبو ولّاد بصددها (و هي المسافة بين الكوفة و ابن هبيرة) يكون في زمن قريب للسفر، كما أنّ مفروض الرواية وقوع التخلف في أول يوم من سفره، و من الواضح عدم تغيير القيمة في هذه المدّة القليلة بحسب العادة، فينطبق على قيمة يوم الضمان لا محالة، فالفقرتان متوافقتان بالمآل.

هذا و لكن يمكن أن يقال بأن ذكر يوم الاكتراء إنّما هو من باب إمكان إقامة الشهود عليه لكونه بمرئى و منظر من جماعة، ثم بعد ذلك تستصحب على ما كان.

هذا، و لعل الأظهر في معنى الفقرة الأولى من الرواية

كون «نعم» بمعنى «يلزمك» و «كون اليوم» ظرفا له فيكون مفهوم الجملة نعم يلزمك في يوم المخالفة قيمة البغل لو عطب أو هلك.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 187

و هذا و إن كان ساكتا عن ملاك التقويم و لكنه ينصرف إلى قيمة يوم التلف لا يوم المخالفة، لأنّه إذا قيل: يلزمك قيمة العين إذا تلف، يفهم منه قيمة ذلك اليوم لا سيما بملاحظة سيرة العقلاء المستقرة على ذلك، و لأنّ تلك القيمة قائمة مقام العين التالفة.

و يؤيد هذا المعنى امور:

1- المحكي عن بعض النسخ هو ذكر «البغل» مع الألف و اللام، و هو ظاهر فيما ذكرنا كما لا يخفى.

2- من البعيد إلزام الشارع في هذه الأبواب بحكم تعبدي على خلاف سيرة العقلاء و لا سيما أنّهم لا يرون قيمة يوم المخالفة تداركا للمال التالف، و موجبا لجبران خسارة إذا فرض كون القيمة يوم التلف أكثر من يوم المخالفة و لازمه عدم وجوب تدارك التالف تعبدا، و هو و إن لم يكن محالا إذا قام الدليل عليه، و لكن احتماله بعيد في أمثال المقام.

3- الظاهر عدم تفاوت قيمة البغل في خلال هذه المدّة القليلة (خمسة عشر يوما) إلّا أن تحدث حادثة مهمّة كما إذا هلك كثير من البغال، أو وقعت حرب يحتاج فيها إلى البغال، أو شبه ذلك ممّا هو نادر، فليست الرواية ناظرة إلى خصوصية هذه الأيّام المختلفة و إنّما ينصرف إلى ما ذكرنا لما عرفت من السيرة.

4- قد ورد في ذيل الحديث قوله: «عليك قيمة ما بين الصحة و العيب يوم تردّه عليه» في جواب سؤال «أبي ولّاد» عن حكم العيوب الواردة على البغل و هذه الفقرة دليل على أن الاعتبار بيوم الرّد مطلقا في العيوب

و غيرها، لعدم الفرق بين ضمان العيوب و ضمان أصل المال، و هذا لا يساعد القول باعتبار يوم الضمان فينافي صدر الحديث، و لكنه ينافي القول باعتبار قيمة بغل يوم التلف، أيضا فلا بدّ من حمل هذه الفقرة على كون «يوم ترده» ظرفا لقوله عليه السّلام «عليك» (بمعنى يلزمك) فيكون شاهدا لكون اليوم في قوله عليه السّلام: «قيمة بغل يوم خالفته» أيضا كذلك فتكون الرواية بصدرها و ذيلها بصدد بيان أصل الضمان، و أمّا ملاك القيمة فيعرف من سيرة العقلاء التي أمضاها الشرع، و هو قيمة يوم التلف فتدبّر جيدا.

هذا و لكن الذي يسهل الخطب عدم ورود كلمة «يوم» في بعض النسخ بل ورد فيه انوار الفقاهة، ج 1، ص: 188

«عليك قيمة ما بين الصحة و العيب تردّه عليه» من دون ذكر اليوم.

هذا مضافا إلى إمكان كون اليوم قيدا للعيب، لأنّ العيب لو تناقض لم يبعد كون العبرة بيوم الردّ لا يوم حدوثه، خلافا لما أفاده شيخنا الأعظم قدّس سرّه، و تمام الكلام فيه في محله.

و الحاصل: أنّ الاستدلال بها على اعتبار يوم الضمان مشكل جدّا و لا أقل من كونها مجملة، لو لم نقل بظهورها في اعتبار يوم التلف بما عرفت بيانه، فالاستدلال بها لاعتبار يوم الضمان مشكل جدّا.

إشكالات ترد على صحيحة أبي ولاد:

ثم إنّه على نفس الرواية إشكالات اخرى من نواح آخر، و طريق دفعها ربّما يؤيد بعض الأقوال السابقة:

1- إذا وقع الخلاف بين المالك و الضامن في مقدار القيمة فظاهر الصحيحة كون القول قول المالك مع يمينه، مع أنّه مدع للزيادة و الضامن منكر لها، و القاعدة تقتضي كون القول قول الضامن.

هذا مضافا إلى أنّ ظاهرها تخيير المالك بين إقامته البيّنة و الحلف، و هذا أيضا ممّا

لا تساعده القواعد، لأنّ من كان القول قوله بحلفه، فالبيّنة بيّنة صاحبه.

و الحاصل: أنّ «البيّنة للمدعي» «و الحلف لمن أنكر» و الجمع بينهما غريب لا يساعده القواعد المعروفة في أبواب القضاء.

و قد اجيب عنه: تارة بأنّ البيّنة هنا على القاعدة لأنّه مدع، و أمّا الحلف فليس حلفا قضائيا، بل حلف متعارف لإثبات الامور، كما هو المعمول من قول أحد المتحالفين للآخر أحلف على هذا الأمر و خذ المال، و به يختم النزاع.

و لكنه مخالف للظاهر كما لا يخفى، لا سيما مع رجوع المتخاصمين هنا إلى القاضي في ما هو أقل منه و هو الكراء، فكيف يحمل الحلف على غير القضاء؟

«و اخرى» بأنّه تعبد خاص ورد في خصوص الدابة المغصوبة، أو مطلق القيمي، لإمكان تخصيص القواعد بنص خاص.

و الانصاف أنّ تخصيص القواعد العامة الجارية في مواردها بمثل هذا مشكل جدّا،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 189

لا سيما مع عدم ظهور استقرار فتوى الأصحاب عليه، مضافا إلى أنّ ذلك يكون دائما ذريعة لدعوى المالك إلى كل زيادة أرادها، و هو بعيد جدّا من مذاق الشرع، و كون الضامن غاصبا هنا لا يرخص ذلك.

«و ثالثة» بأنّ البيّنة إنّما هي على القاعدة فيما يدعي صاحب البغل الزيادة، و أمّا الحلف فانّما هو فيما إذا اتفقا على قيمته سابقا ثم اختلفا في تنزيل قيمته بعد ذلك، فانّ القول قول مدعى عدم النقصان، فيكون مساعدا للقول بكون القيمة قيمة يوم التلف، لأنّه قد ينفك عن يوم الاجارة، و أمّا يوم المخالفة و الضمان المفروض في مورد الرواية اتحاده معه أو قربه منه جدّا.

هذا و لكن ظاهر الصحيحة تخيير المالك بين الأمرين لا اختصاص كل واحد من الحلف و البيّنة بصورة خاصّة، مضافا إلى

أنّه يبقى بعض صور الاختلاف لم يذكر حكمه فيها، كما إذا ادعى المالك زيادة قيمة يوم التلف على يوم الاجارة، و لا يمكن توجيهه إلّا ببعض التكلّفات.

و الاولى ترك العمل بذيلها و ردّ علمه إلى أهله، أو القول بأنّ الذيل ممّا يضعّف الركون على أصل الرواية.

2- حكمه بأنّ العلف على المستأجر لأنّه كان غاصبا عند المخالفة مع أنّ العلف عليه و إن لم يكن غاصبا.

و يمكن الجواب عنه بأنّه لعل المتعارف في تلك الأزمنة كون العلف على المالك في الاجارات الصحيحة و كان يحسبه المستأجر من الكراء فتأمل، أو يقال بأنّ التعليل بكونه غاصبا في مقابل الأمين الذي يجوز له حفظ الدابة بتعليفها ثم أخذ قيمة العلف من صاحبها، كما صرح به غير واحد منهم في كتاب اللقطة.

3- ظاهر الصحيحة كون الاجارة بحسب طي مسافة الدابة، لا بحسب مقدار زمانها، مع أنّ المتعارف خلافه.

و يمكن أن يقال بعدم التفاوت بينهما في مورد الرواية، أو أنّ المدار عليهما جميعا و الأمر فيه سهل.

القول بضمان أعلى القيم:
اشارة

بقي الكلام فيما عرفت سابقا من أنّ جماعة من الأصحاب (منهم الشيخ قدّس سرّه في الخلاف و ابن ادريس قدّس سرّه في السرائر و صاحب الوسيلة و الغنية، و جماعة من متأخري الأصحاب كالشهيد و العلّامة و ولده الفاضل (قدّس اللّه اسرارهم) اختاروا ضمان أعلى القيم من حين الغصب إلى حين التلف، و مال إليه المحقق و الشهيد الثاني قدّس سرّهما في الشرائع و المسالك.

و استدل له بامور عمدتها:

1- أنّه مقتضى القاعدة، لأنّ العين في ضمان الضامن في جميع الحالات إلى يوم التلف، و من جملتها أعلى القيم، مضافا إلى أخذ الغاصب بأشق الأحوال (إذا فرض الكلام في الغصب).

و فيه: أنّه من قبيل

الخلط بين الضمان التقديري الحاصل عند ثبوت العين و الضمان الفعلي عند فقدانه، و الأوّل لا أثر له إذا لم يتلف العين فارتفاع القيمة غير مضمون إلّا إذا وقع التلف حينه، و لو كان ضمانه لارتفاع القيمة فعليا لزم ردّه إلى المالك مع ردّ العين، و هو ممّا لم يقل به أحد كما صرح به في الجواهر في «كتاب الغصب».

و أخذ الغاصب بأشق الأحوال لا دليل له، بل هو مأخوذ بما يقتضي العدالة من تدارك العين و الخسارات الحاصلة، و قد عرفت أنّه يتمّ بأداء قيمة يوم التلف.

و لقد أجاد الشهيد الثاني قدّس سرّه في ما قال في المسالك «و مؤاخذة الغاصب بالاشق لا يجوز بغير دليل يقتضيه و قد تبيّن ضعفه» «1».

2- إنّ الغاصب أو الضامن حاصل بين المالك و العين بما له من المالية في كل زمان، و من تلك الأزمنة زمان ارتفاع القيمة السوقية، فهو ضامن لهذه القيمة و الباقي مندرج تحتها.

و فيه: إنّ مدار الضمان الفعلي هو التلف و مجرّد الحيلولة حرام تكليفي لا يوجب ضمانا إلّا تقديرا، أعني على تقدير التلف، نعم قد تدخل المسألة في «قاعدة لا ضرر» كما

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 191

إذا كان العين في معرض التجارة و المعاملة الحاضرة بأعلى القيم فمنعه الظالم الغاصب، و لكن هذا فرض خاص لا دخل له بجميع فروض المسألة.

3- التمسك بقاعدة الاشتغال للشك في براءة الذمّة بغير أعلى القيم، أو استصحاب بقاء العين في ضمانه بدونه.

و فيه: التمسك بالأصل إنّما هو على فرض الشك، و نحن نعلم أنّ الضامن غير مأمور بما عدا تدارك العين على فرض التلف، و تداركه إنّما هو بقيمة يوم التلف لا غير.

4- و قد استدل بصحيحة

أبي ولاد أيضا كما أشار إليه الشهيد الثاني قدّس سرّه في المسالك و شرح اللمعة، و أحسن ما يمكن أن يقال في توجيه الرواية و دلالتها على هذا المعنى إنّما هو من ناحية قوله: «نعم قيمة بغل يوم خالفته» لأنّ يوم المخالفة و هو يوم الغصب، و الضمان ليس خصوص اليوم الأوّل، بل جميع هذه الأيّام إلى يوم التلف مصداق ليوم المخالفة و تكون نتيجته أعلى القيم.

و إن شئت قلت: ذكر يوم المخالفة في الحقيقة من قبيل تعليق الحكم على الوصف، فالمخالفة كانت سببا للضمان، و هذا المعنى حاصل في سائر الأيّام إلى التلف و لا خصوصية لليوم الأوّل.

و لكن الانصاف أنّه أيضا لا يخلو عن تكلف و ارتكاب لخلاف الظاهر، مضافا إلى ما عرفت من الإشكال في أصل دلالة الحديث على أنّ المدار هو يوم المخالفة.

فالقول بأعلى القيم ضعيف هنا و في جميع أبواب الضمانات.

و العجب أنّه ذكر في المسالك بعد تقوية القول بكون المدار على قيمة يوم التلف، ما نصه: إلّا أنّ في صحيحة أبي ولّاد فيمن اكترى البغل و تجاوز به محل الشرط ما يدل على وجوب أعلى القيم بين الوقتين و لولاها لما كان عن هذا القول عدول «1».

و قد عرفت ما يمكن توجيهه به و الا يراد عليه فتوقفه في الفتوى بيوم التلف نظرا إلى اشعار ضعيف في الصحيحة غير صحيح.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 192

فتحصل من جميع ما ذكرنا عدم وجود دليل يدل على أعلى القيم و إن كان الاحتياط حسنا في كل باب، و ربّما استدل عليه بامور ضعيفة اخرى نحن في غنى عنه بعد ما عرفت و اللّه العالم.

و هنا فرعان:
الأوّل: كل ما مرّ في ارتفاع القيمة و انخفاضها كان بحسب الأزمنة و الأيّام المختلفة

فلو كان الاختلاف بحسب الأمكنة بأن كانت قيمة العين

في مكان الضمان مقدارا، و في مكان التلف مقدارا آخر، و كذا في محل المطالبة، أو الأداء، فهل المدار على مكان التلف، أو غيره، أو أعلى القيم؟ فإذا كان قيمته في الكوفة مثلا مائة، و في بغداد عند تلفه مائة و خمسين، و في البصرة عند المطالبة أو الأداء مائتين فالواجب عليه أداء أيّ هذه القيم؟ لم أر كلاما للأصحاب هنا و لكن ذكروا نظيره في باب المثلي.

و كلمات الأصحاب هناك مختلفة، فعن ابن ادريس أنّه لو ظفر المالك بالغاصب في غير مكان الاتلاف فله إلزامه به في ذلك المكان، و إن كان أعلى قيمته من مكان الغصب، لأنّه الذي تقتضيه عدالة الإسلام و الأدلة و اصول المذهب.

و قد حكى ذلك عن الشهيد و العلّامة و فخر المحققين و المحقق الثاني (قدس اللّه اسرارهم)، و استدلوا عليه بأنّ وجوب ردّ المظلمة فوري.

و لكن عن القاضي و الشيخ في المبسوط، الاعتبار ببلد الغصب.

و لكن الانصاف أنّ الأمر في المثلي واضح، فانّ الذمّة، مشغولة بالمثل فللمالك مطالبته في أي مكان كان، نعم يشكل القول بجواز إلزام المالك بقبوله إذا استلزم عليه الضرر لسقوط القيمة في ذاك المكان، لأدلة نفي الضرر، و أمّا القيمي فالظاهر أنّه يختلف على المباني.

فمقتضى القاعدة العقلائية السابقة هو تدارك العين بقيمته في نفس زمان التلف و مكانه فانّها هي التي تقوم مقامه و تسد فراغه.

و لكن بناء على كون المدار قيمة يوم المخالفة استنادا إلى صحيحة أبي ولاد فلا يبعد الاعتبار بمكان المخالفة، لأنّ اطلاق الحديث يقتضيه كما لا يخفى.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 193

و لكن قد عرفت ضعف الاستدلال بها هناك فكيف هنا، بل الانصاف أنّها ليست في مقام البيان من هذه الجهة

حتى يؤخذ باطلاقها.

هذا و لكن لم يثبت لنا طريقة خاصة للعقلاء عند اختلاف هذه القيم حتى تكون سيرة أمضاها الشرع بل لو غصبه غاصب و قيمته غال جدّا، ثم أتاها في مكان يكون قيمته رخيصا، ثم تلف هناك (كما إذا أتى الماء على فرض كونه قيميا، من «المفاوز» إلى «قريب الشاطي» لا نفسه حتى يسقط عن القيمة بالمرة) لم يكن أداء القيمة الرخيصة كافيا في جبران خسارة العين عندهم قطعا، كما أنّه لو كان الأمر بالعكس فغصب الماء من قريب الشاطئ ثم ذهب به إلى مفازة يكون قيمته غاليا جدّا فتلف، فهنا يشكل إلزامه بأداء الغالي لأنّ الخسارة الواردة على المالك لا تكون بهذا المقدار، فلذا لا يبعد أن يكون المدار هنا بقيمة يوم الضمان أو الغصب. و الفارق بينه و بين اختلاف الأزمنة أنّ الأوّل حصل بفعل الضامن، و الثاني كان بدون دخالته.

و لكن كفاية هذا المقدار في الفرق لا يخلو عن تأمل، فلا يترك الاحتياط بالمصالحة بينهما.

الثاني: إذا زادت قيمة العين لا لارتفاع القيمة السوقية بل لزيادة نفس العين، فهل يضمنها أم لا؟

قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه بأنّ الظاهر عدم الخلاف في ضمان أعلى القيم هنا لأجل الزيادة العينية الحاصلة فيه النازلة منزلة الجزء الفائت.

و قال المحقق النحرير صاحب الجواهر قدّس سرّه في كتاب الغصب: إذا استند نقصان القيمة إلى حدوث نقص في العين ثم تلفت فان الأعلى مضمون اجماعا «1».

و الظاهر أنّ محل كلامه غير ما ذكره الشيخ قدّس سرّه، فلو كان إجماعه مستندا إلى ما أفاده في الجواهر كان محلا للإشكال و لكنه بعيد.

و قال بعض الأعاظم في «مصباح الفقاهة»: «كما أنّ العين مضمونة على الغاصب كذلك انوار الفقاهة، ج 1، ص: 194

أوصافها الدخيلة في مالية العين أيضا مضمونة، سواء في ذلك أوصاف الصحة و أوصاف الكمال»

«1».

أقول: الحق أنّ وصف الزيادة على أنحاء مختلفة، تارة تكون الزياده باقية حال تلف العين و لا كلام في كونها مضمونة، و اخرى تكون في ما هو معرض للبيع من ناحية المالك، و الغاصب حال بينه و بين المالك حتى زالت، و هذه أيضا مضمونة على الظاهر، و ثالثة يكون زوالها بسبب غصب الغاصب و مستندا إليه مع كونها ثابتة من أول الأمر و هذه أيضا مضمونة، و رابعة ما إذا زادت العين عند الغاصب ثم زالت بمقتضى طبيعتها كالحيوانات التي تزداد في بعض فصول السنة و تنقص في فصل آخر، و لم تكن معرضا للبيع، فان الحكم بضمان مثله و اطلاق الضرر عليه لا يخلو عن إشكال، و اللّه العالم.

الأمر التاسع: أحكام بدل الحيلولة:
اشارة

إذا غصب شي ء أو ضمنه فله ثلاث حالات:

1- إذا كان العين موجودة و لم يكن هناك مانع من ردّها فالواجب على الضامن فيه ردّها، و الحكم بضمانه يكون من قبيل الضمان التقديري، بمعنى أنّه لو هلك كان عليه مثله أو قيمته، لا غير.

2- إذا هلكت العين و الحكم هنا دفع العوض من المثل أو القيمة، و يلحق به ما إذا تعذر ردّه بحيث يلحق عرفا بالتلف، كما إذا سرقه سارق لا يرجى ردّه أبدا، أو ألقي في بحر لا يمكن اخراجه منه عادة، فهذا كله ملحق بالتلف.

3- ما إذا كان موجودا و لكن يتعذر ردّه فعلا مع أنّه يعلم أو يرجى القدرة عليه في مستقبل قريب أو بعيد، بحيث لا يراه العرف تالفا، فظاهر كلمات الأصحاب هنا عدم الخلاف في وجوب ردّ بدله حتى يتمكن من أصله فيردّه و يسترد البدل.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 195

و هو المسمى عندهم ببدل الحيلولة، و صرح به الشيخ

و ابن ادريس و العلّامة و الشهيد و المحقق الكركي (قدس اللّه اسرارهم) و في الخلاف و الغنية فيما حكي عنهم، بل يظهر عن غير واحد نفي الخلاف فيه أو دعوى الإجماع عليه.

و اللازم أولا التكلم في أصل هذا الحكم، ثم في الفروع الكثيرة المتفرعة عليه، فنقول:

إنّ الدليل على أصل الحكم على ما يظهر من كثير منهم، كالمسالك و الجواهر و مكاسب الشيخ و كلمات المحشين و الشارحين امور (بعد ضمّ بعض كلماتهم إلى بعض):

1- عدم الخلاف، بل الإجماع و ارسال الحكم ارسال المسلمات، و الانصاف أنّ المسألة و إن كانت كذلك، و ارسلوها ارسال المسلمات، بل قد يدعى كون الحكم كذلك عند أهل الخلاف أيضا، و لكن كشفه عن فتوى المعصوم عليه السّلام بعيد، بعد وجود أدلة اخرى في المسألة كما لا يخفى.

2- الروايات الكثيرة الواردة في أبواب العارية و الوديعة و الاجارة و غيرها و كان نظرهم إلى ما يلي و اشباهه، مثل ما روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «سألته عن العارية يستعيرها الإنسان فتهلك أو تسرق، فقال: إن كان أمينا فلا غرم عليه» «1».

و ما روى أبان مثله و زاد قال: «و سألته عن الذي يستبضع المال فيهلك أو يسرق أعلى صاحبه ضمان؟ فقال عليه السّلام: ليس عليه غرم بعد أن يكون الرجل أمينا» «2».

و ما روى مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمد عليه السّلام قال: «سمعته يقول: لا غرم على مستعير عارية إذا هلكت أو سرقت أو ضاعت إذا كان المستعير مأمونا» «3».

و أيضا ما روى يحيى عن محمد بن الحسن قال: «كتبت إلى أبي محمد عليه السّلام رجل دفع إلى رجل وديعة، و أمره

أن يضعها في منزله أو لم يأمره، فوضعها في منزل جاره فضاعت، هل يجب عليه إذا خالف أمره و أخرجها عن ملكه؟ فوقع عليه السّلام: هو ضامن لها ان شاء اللّه» «4».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 196

و ما روى اسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه أنّ عليا عليه السّلام كان يقول: «لا ضمان على صاحب الحمام فيما ذهب من الثياب لأنه إنّما أخذ الجعل على الحمام و لم يأخذ على الثياب» «1».

و ما روى أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن قصار دفعت إليه ثوبا فزعم أنّه سرق من بين متاعه، قال: فعليه أن يقيم البيّنة أنّه سرق من بين متاعه و ليس عليه شي ء فان سرق متاعه كلّه فليس عليه شي ء» «2».

إلى غير ذلك ممّا يدل على لزوم البدل عند السرقة و الضياع عند التفريط (منطوقا أو مفهوما) و لكن الانصاف أنّها ناظرة إلى صورة الحاق المسروق أو الضائع بالهلاك لا فيما يرجي عوده.

3- قاعدة «لا ضرر» نظرا إلى أنّ قطع سلطنة المالك عن ملكه و لو في زمن قصير ضرر عليه بلا إشكال، و لا يندفع إلّا بالبدل حتى يرجع إليه متاعه، و لكن أورد عليه:

أولا: بأن لا ضرر ينفي الأحكام الضررية لا أنّه يثبت حكما شرعيا كوجوب أداء البدل وقت التعذر.

و ثانيا: بأنّ ضرر المالك معارض بضرر الضامن حيث يجب عليه ردّ العين عند القدرة و ردّ بدله وقت التعذر، لا سيما بناء على ملكية البدل مع بقاء المبدل في ملكه كما هو المشهور.

و ثالثا: بأنّ نسبة أدلة نفي الضرر مع ما نحن بصدده نسبة العموم من وجه، لأنّ الصبر قد لا يوجب ضررا، فالدليل لا ينطبق على

المدعى.

و لكن يمكن الجواب عن الجميع، أمّا عن الأوّل: فبما عرفت سابقا من أنّ لا ضرر يثبت الحكم كما ينفي الأحكام الضررية كما حققناه في محله.

و عن الثاني: بأنّ ضرر الضامن إنّما أتى من قبل نفسه، لأنّه هو الذي قطع سلطنة المالك عن ملكه، و إلّا كان كل غرامة على غارم ضرر عليه منفي بأدلة نفي الضرر و لا يقول به أحد.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 197

و عن الثالث: بأن قطع سلطة المالك عن ملكه ضرر دائما، و لا أقل من أنّه لا يقدر على بيعه و تمليكه لغيره مع تسليمه إليه، فالاستدلال بلا ضرر في محله.

و ذكر السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه في حواشيه إشكالا آخر، و هو أنّ قاعدة لا ضرر ساكتة عن كون الأخذ من باب الغرامة (بل يمكن أن يقال: غاية ما يستفاد منها جواز مطالبة مالية المال بالمصالحة أو البيع، فيجبر الغاصب على المصالحة إن أرادها المالك لا أن يؤخذ الغرامة حتى يبقى إشكال الجمع بين العوض و المعوض، و دعوى تخيير المالك بين أخذه بعنوان الغرامة أو بعنوان المصالحة، أو البيع الاجباري، أيضا مدفوعة بأن القدر المتيقن بعد إجمال لسانها هو ما إذا كان بعنوان أحد المعاملات مع إمكان التمسك بحرمة أكل المال بالباطل هنا (انتهى ملخصا) «1».

و فيه أولا: إن أخذ البدل إنّما هو للجمع بين حق المالك و الضامن، أمّا المالك فلأنّه قد لا يصرف النظر عن أصل ماله عند رجاء حصوله بعد مدّة، مع إرادة الانتفاع ببدله في هذه المدّة أيضا، و هذا لا يتحقق مع البيع أو المصالحة أو غير ذلك كما هو ظاهر.

ثانيا: إشكال الجمع بين العوض و المعوض سيأتي جوابه إن شاء اللّه، و

حاصله: إنّ البدل إنّما يكون ملكا موقتا للانتفاع به، فهو قائم مقام العين في الانتفاع في هذه البرهة من الزمان لا في أصل المال مطلقا.

ثالثا: الأخذ بالقدر المتيقن غير تام بعد ما عرفت من عدم حصول حق المالك بالمعاملة و المصالحة كما عرفت.

رابعا: ما ذكره من كون المال هنا من الأكل بالباطل ممنوع جدّا بعد كونه لإحقاق حق المالك الذي لا يحصل حقه إلّا به.

و من هنا يظهر الجواب عن إشكال آخر في المقام، و هو أنّه كما يمكن استيفاء حق المالك بتمليك البدل يمكن جبران المنافع الفائتة منه بأداء غرامتها.

و ذلك لأنّ أداء غرامة المنافع غير كاف، لأنّه قد يريد بيع متاعه أو هبته أو غير ذلك،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 198

و هذا لا يحصل ببدل قيمة المنفعة فقط (فتدبّر جيدا).

4- قوله صلّى اللّه عليه و آله: «على اليد ما أخذت حتى تؤدي» فان مقتضاه وجوب أداء المالية إذا لم يمكن أداء نفس العين، و إن شئت قلت: إنّ الضمان المستفاد منه أعم من صورة التلف و صورة التعذر في برهة من الزمان.

و لكن يمكن الجواب عنه: بأنّ ظاهرة وجوب ردّ العين عند وجوده، و ردّ بدله عند تلفه، و لا دلالة له على حكم صوره التعذر الموقت.

و أمّا الإشكال على سنده فهو ضعيف جدّا بعد اشتهاره غاية الاشتهار.

5- قاعدة من اتلف، فان الضامن قد اتلف سلطنة المالك على ماله، فلا بدّ له من اعادتها، و حيث إنّه لا يمكن بعينها فلا أقل أن يكون ببدلها.

هذا و لكن الانصاف أنّها أيضا ناظرة إلى تلف العين أو المنافع، و أمّا غير ذلك فلا دلالة لها عليه كما لا يخفى، فهو ضامن لتدارك العين عند التلف، و

المنافع عند فوتها، و أمّا تبديلها بعين اخرى و لو في زمن موقت فلا.

6- قاعدة تسلط الناس على أموالهم و هي مقتضية لمطالبة العين، فلما تعذرت فاللازم جعل البدل مكانها.

و فيه: إن معنى التسلط على المال التقلب فيه كيف يشاء و أخذه حيثما وجده، و هو ساكت عن فرض التعذر، حتى أنّه لا دلالة له على جواز اخذ العوض عند التلف بل لا بدّ من التمسك بقاعدة الاتلاف و شبهها.

و قد أورد عليه السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه بمثل ما عرفت في قاعدة لا ضرر من عدم دلالته على أزيد من اجبار الغاصب بالمصالحة أو البيع.

و فيه ما عرفت من أنّه لا يتدارك معه خسارة المالك و حقوقه من جميع الجهات كما عرفت نظيره هناك.

7- التمسك بقاعدة احترام الأموال، بضميمة الجمع بين الحقوق، فانّها تقتضي جبران خسارات المالك مع ردّ ماله إليه عند التمكن منه، و ذلك لا يكون إلّا باعطاء البدل و لو موقتا.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 199

و أمّا بذل قيمة المنافع، أو المصالحة و البيع الاجباري مع الضامن، فهو غير كاف في جبران الخسارة كما عرفت.

فتحصل أنّ المعتمد من بين هذه الأدلة هو خصوص الدليل الأخير مع قاعدة لا ضرر بالبيان الذي عرفته، هذا بالنسبة إلى أصل الحكم.

بقي هنا امور:
1- مورد بدل الحيلولة:

إن تعذر الوصول إلى العين تارة يكون مع العلم بعدم الظفر عليها ابدا أو في زمن بعيد جدّا بحيث يلحق بالعدم، و اخرى مع الظن، المعبر عنه بعدم رجاء الوصول إليها، و ثالثة مع العلم أو الظن الغالب أو احتمال معتد به في عودها و التمكن منها.

كلام غير واحد من الأصحاب و إن كان أعم، و لكن الظاهر أن مرادهم ما إذا كان يرجى عودها،

قال المحقق قدّس سرّه في الشرائع في كتاب الغصب: «و إذا تعذر تسليم المغصوب، دفع الغاصب البدل، و يملكه المغصوب منه، و لا يملك الغاصب العين المضمونة، و لو عادت كان لكل منهما الرجوع».

و تعبيره بقوله «و لا يملك ...» ظاهر فيما إذا لم يحلق عرفا بالتلف، فتأمل.

و كيف كان، لا إشكال في كون الأولين خارجين عن محل الكلام في بدل الحيلولة و ملحقان بالتلف في أحكامه التي مرّت سابقا، و لا يظهر من كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه ما ينافي ذلك كما يظهر لك بالدقّة في كلامه، و إن نسبه إليه بعض، فحمل الكلام هنا لا يصحّ إلّا على الصورة الأخيرة، و ذلك لما مر من الأدلة، و الحاصل إن اعطاء البدل الموقت فرع رجاء عودة لعين أو العلم بها و هذه من القضايا التي قياساتها معها و لا تحتاج إلى مزيد بيان و إقامة برهان، و أمّا إذا كانت عرفا ملحقة بالتلف فالبدل بدل التالف لا بدل الحيلولة.

نعم، لا بدّ أن يكون فقد العين في زمان معتد به، فلو كان الزمان قصيرا جدّا لا دليل على لزوم التدارك ببدل الحيلولة، لعدم شمول أدلته لهذه الصورة.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 200

نعم، لا فرق في الزمان المعتد به بين ما يكون عوده خارجا عن اختيار الضامن أو ما يكون باختياره، و لكن اعداد المقدمات له يحتاج إلى الزمان، لا تحاد الدليل في البابين.

2- هل يملك البدل الذي يعطى للحيولة؟

ظاهر كلمات الأصحاب كما حكي عنهم ملكية البدل، بل قد يدعى الإجماع عليه و لكن استشكل عليه المحقق الثاني و الشهيد الثاني قدّس سرّهما في «جامع المقاصد» و «المسالك» بما حاصله «أنّه كيف يدل البدل في ملكه، مع أنّه لم يخرج المبدل عن

ملكه، فلازمه أن لا يكون البدل مقابلا للعين، و يلزم الجمع بين العوض و المعوض».

و عن المحقق القمي قدّس سرّه في أجوبة مسألة القول بكون البدل مباحا له اباحة مطلقة لا يدخل في ملكه إلّا بالتلف، أي تلف العين.

و لكن الموجودة في جامع الشتات (الذي هو أجوبة مسألة) خلاف ذلك، بل صرح بأن البدل ملك محض له من جميع الجهات، و إن كان ملكا متزلزلا و مراعى بظهور العين المغصوبة (انتهى ملخصا) «1».

و عن صاحب الكفاية الميل إلى كون البدل ملكا لمالك العين و المبدل ملكا للغاصب ملكية متزلزلة من الجانبين لا تستقر إلّا بالتلف.

ففي المسألة أقوال ثلاثة و إن كان المشهور المعروف هو الأول.

و عمدة ما كان سببا للعدول عن الملكية إلى الإباحة هو الإشكال الجميع بين العوض المذكور في كلمات المحقق الثاني و الشهيد الثاني قدّس سرّهما و لكن أجاب عنه في الجواهر بأن البدل غرامة، الدليل الشرعي «2» إشارة إلى أنّه ليس بدلا حتى يجري أحكامه بل هو حكم تعبدي من باب الغرامة.

و أجاب عنه شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المكاسب بطريق آخر، حاصله: إنّ ملكية البدل إنما هي لتحقق السلطنة الفائتة على العين، فالواجب إعادة تلك السلطنة، و لكن لما كان انوار الفقاهة، ج 1، ص: 201

عودها متوقفا على الملك كان ملكا له مقدمة لذلك.

أقول: الأوفق بما عرفت من الأدلة المعتبرة الدالة على أصل الحكم هو القول بالاباحة المطلقة لانتفاع الضرر بها، و كفايتها في احترام المال، و الجمع بين الحقوق، اللّهم إلّا أن يقال، إنّ القول بالملكية آنا ما هنا قبل التصرفات الناقلة المتوقفة على الملك- مثل ما ذكره بعضهم في المعاطاة- بعيد جدّا، قلما يوجد له نظير في الفقه، و

كون الإرادة من المملكات أعجب، فالقول بالاباحة مشكل من هذه الناحية، و المسألة لا تخلو من شائبة و طريق الاحتياط معلوم، و هو ترتيب آثار الإباحة عليه فقط.

نعم، أو قلنا بالإجماع أمكن الحكم بالملكية فتدبّر.

3- ما هو حكم النماءات هنا؟

الظاهر أنّ البدل إنّما هو للمالك لا للضامن، بل هو من الأغراض المهمّة لدفع البدل، و هذا الحكم إن قلنا بالملكية واضح، و أن قلنا بالاباحة المطلقة فالظاهر أن النماءات مباحة له أيضا كإباحة أصل العين، تدخل في ملكه بالتصرفات المتوقفة على الملك آنا ما قبله، أو يقال بتمليك المنافع و إن كانت العين مباحة.

و أمّا نماء أصل العين فالظاهر أنّها غير مضمونة على الغاصب، لأنّ المفروض دفع بدله، نعم لو بقي نتاجه و نماؤه إلى حين التمكن منه أمكن القول بدخوله في ملك المالك، و وجوب دفع المثل أو القيمة بالنسبة إلى المنافع التي استوفاها عن البدل، أو فاتت تحت يده، فتأمل يده، فتأمل فانّه حقيق به.

4- هل يضمن ارتفاع القيمة بعد أداء البدل؟

الظاهر أنّه لا يضمن ارتفاع القيمة بعد اعطاء البدل، لأنّ الغرض من دفع البدل الخروج عن مثله، اللّهم إلّا أن يقال إنّه بدل عن السلطنة الفائتة غير، هذا إذا قلنا بالملكية، و لو قلنا بالاباحة لم يبعد الضمان، و المسألة لا تخلو من الإشكال، و الاحتياط سبيل النجاة.

5- إذا تمكن من ردّ العين وجب ردّها فورا.

لقاعدة على اليد، و كون البدل بدلا موقتا لا دائما، نعم يجب على المالك أيضا ردّ البدل، و الظاهر جواز حبسه من ناحية الغاصب ذريعة للتراد، و العجب من شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه حيث منع من ذلك و قال: إنّ العين بنفسها ليست عوضا و لا معوضا، و لذا تحقق للمالك الجمع بينها و بين ملك الغرامة، فالمالك مسلط عليها، و المعوض للغرامة هو السلطنة الفائتة التي هي في معرض العود بالتراد، اللّهم إلّا أن يقال، له حبس العين من حيث تضمنه لحبس مبدل الغرامة، و هي السلطنة الفائتة، و الأقوى الأول «1».

و الظاهر أنّه في ذلك صاحب الجواهر قدّس سرّه حيث قال: «الأقوى خلافه (أي لا يجوز حبس الغاصب العين إلى أن يقبض ما دفعه بدلا) ضرورة عدم المعاوضة التي مقتضاها ذلك في المقام هي معاوضة معنوية، فليست هي إلّا نحو من كانت عنده عين لمن له عنده كذلك» «2».

قلت: المفروض أنّ السلطنة على البدل عوض عن السلطنة على المبدل كما أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه، فلا يجوز له الجمع بينهما بحفظ البدل، و مطالبة المبدل فلا مناص عن التراد، فيجوز حبس العين حتى يسترد البدل، هذا على القول بالملك و أمّا على القول بالاباحة فهو كذلك، هذا مضافا إلى جوازه من باب التقاص فتدبّر.

هذا و قد يتوهّم بقاء البدل على ملك مالك

العين دائما! فيكون كلاهما له، نظرا إلى كونه بدلا عن السلطنة الفائتة، و هو توهم فاسدا جدّا، و التفوه به عجيب لأن السلطنة الفائتة كانت محدودة بمدّة معينة، و كان البدل أيضا محدودا بها، فإذا عادت عاد، كما هو واضح.

6- هل يدخل العين في ملك الغاصب

قد يتوهّم ذلك نظرا إلى تحقق المبادلة بينها، فيكون البدل ملكا لمالك العين و العين ملكا للغاصب و لو موقتا.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 203

هذا و لكن التوهم المذكور إنّما نشأ من شبهة الجمع بين العوض و المعوض التي عرفت الجواب عنها، فالانصاف أنّ كليها داخلتان في ملك المالك بناء على القول بالملك، و إن كانت أحدهما موقتا، و أمّا بناء على الإباحة فالأمر أوضح.

7- إذا تصرف المالك في البدل تصرفا يخرجه عن الملكية

كما إذا باعه أو وهبه أو أوقفه، فان ذلك يصح له بل الغرض من بذل البدل أن يكون قادرا عليه لو شاء، فإذا تمكن من العين استردّه و ردّ عوض البدل، و يمكن القول بلزوم البدل و عدم جواز استرداد العين نظرا إلى لزوم البيع و ابدية الوقف، و قد يقال أنّه مخالف لما عرفت من الدليل على أصل الحكم.

8- إن كان المالك قادرا على أخذ العين و الغاصب عاجزا

كما إذا ألقاه في قعر بحر أو نهر يقدر المالك على اخراجه دون الغاصب، فالظاهر عدم دخوله في مسألة بدل الحيلولة، نعم لو كان اخراجه يحتاج إلى مؤنة كانت على من ألقاه سواء كان هو البائع أو غيره.

شرائط المتعاقدين

اشارة

بعد تمام الكلام في شرائط العقد فالآن نشرع في شرائط المتعاقدين و المتبايعين، فنقول و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية:

الشرط الأول: «البلوغ»
اشارة

و اشتراطه في الجملة مجمع عليه بين الأصحاب، بل بين علماء الإسلام، و إن اختلفوا في تفاصيله، قال في الجواهر بعد كلام له في الصبى البالغ عشر سنين ما نصه:

«فصحّ حينئذ للفقيه نفي الخلاف في المسألة على الإطلاق، بل صحّ له دعوى تحصيل الإجماع على ذلك، كما وقع من بعضهم، بل ربّما كان كالضروري و خصوصا بعد ملاحظة كلام الأصحاب و ارسالهم لذلك ارسال المسلمات، حتى ترك جماعة منهم الاستدلال عليه اتكالا على معلوميته» «1».

ثم استغرب من كلام المحقق الأردبيلي قدّس سرّه و بعض من تأخر عنه، حيث اطنبوا في تصحيح عقد من بلغ عشرا بل ربّما كان ظاهر عبارته عدم الفرق بين بلوغه عشرا و عدمه، ثم قال: و هو مع سبقه بالإجماع بل و لحوقه، محجوج بالأصل المزبور (و الظاهر أصالة الفساد) «2».

و ذكر في الحدائق: «إنّ ظاهر كلام جمهور الأصحاب أنّه لا يصحّ بيع الصبي و لا

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 206

شراؤه، و أنّه لا فرق بين الصبي المميز و غيره، و لا فرق بين كون المال له أو للولي أو لغيرهما، أذن مالكه أو لم يأذن» «1».

و عن العلّامة قدّس سرّه: «إن الصغير محجور عليه بالإجماع، سواء كان مميزا أو لا في جميع التصرفات إلّا ما استثنى، كعباداته و إسلامه و احرامه و تدبيره و وصيته و ايصال الهداية و إذنه في دخول الدار على خلاف في ذلك».

و أمّا العامة، فمن الشافعية بطلان عقده مطلقا، و عن الحنابلة الحكم بفساد تصرف غير المميّز أيضا، إلّا إذا أذن الولي، و يقرب منه

قول المالكية.

و أمّا الحنفية، فقد قالوا بفساد عقد غير المميز مطلقا، و أمّا المميز فقد ذكروا أنّه على ثلاثة أقسام: إن كان تصرفه ضارا فلا شبهة في عدم نفوذه، و إن كان نافعا كقبول الهدية و دخول الإسلام يقع صحيحا قطعا، و إن تردد أمره فهو موقوف على اجازة الولي «2».

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الكلام يقع في مقامات:

الأول: استقلال الصبي بالتصرف في أمواله.

الثاني: تصرفه في ماله باذن وليه.

الثالث: تصرفه في مال غيره باذنه و اذن وليه.

الرابع: قبول شي ء كالهدايا و الهبات و الوصايا.

الخامس: اجراء صيغة العقد لغيره أو لنفسه.

السادس: إسلامه.

السابع: عباداته.

المقام الأول: استقلال الصبي بالتصرف في أمواله

أمّا «المقام الأول»- فلا إشكال و لا نزاع في فساده و بطلانه، و قد أجمع الكل عليه و إن وقع الكلام في مستنده، و يدل عليه قبل كل شي ء السيرة المستمرة بين العقلاء على حجر

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 207

الصبي عن جميع تصرفاته المالية، و عن استقلاله في أمواله من دون فرق بين أرباب الديانات و غيرها و بين القديم و الحديث إلى يومنا هذا، فانّهم لا يزالون يعتبرون حدّا معينا من السّن القانوني و إن اختلف حدّه بين المجتمعات المختلفة. و الشارع المقدس أمضى هذه الطريقة إجمالا، و لكنه جعل حدّا خاصا لسنّ البلوغ ذكره الفقهاء رضوان اللّه عليهم في كتاب الحجر.

و ممّا يؤكد هذا المعنى أنّه لم يسأل في الأخبار المختلفة الواردة في هذا الباب عن هذا الحكم، و إنّما وقع السؤال عن حدّه، و ذلك يدلّ على كون أصل اعتبار السنّ القانوني من الواضحات عند الروايات أيضا، فتدبّر جيدا.

و يدلّ عليه، مضافا إلى ما ذكر، قوله تعالى: وَ ابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ

«1».

و ظاهرها اعتبار أمرين: بلوغ حدّ النكاح بالاحتلام و تكوّن المني، و ايناس الرشد.

و الظاهر أنّ كلّا منهما معتبر في هذا الحكم، و له موضوعية، لا أنّ بلوغ النكاح طريق للرشد، حتى يقال بكفايته و لو حصل قبل البلوغ كما توهمه بعض الشراح للمكاسب.

و قد يقال: إن الآية على خلاف المطلوب أدل، لأنّ ظاهرها وقوع الابتلاء قبل البلوغ و هذا لا يكون إلّا بتصديه للبيع و الشراء مستقلا.

و فيه: أولا: إنّ الابتلاء لا يكون بهذا، بل يمكن اختباره بمقدمات البيع و يمكن أن يكون بنفسه تحت اشراف الولي من دون استقلاله، قال في كنز العرفان: «اختلف في معني ابتلائهم، قال أبو حنيفة: هو أن يدفع إليه ما يتصرف فيه، و قال أصحابنا و الشافعي و مالك:

هو تتبع أحواله في ضبط أمواله و حسن تصرفه بأن يكل إليه مقدمات البيع» «2».

و يظهر من رواية عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّ المراد القدرة على حفظ الأموال فقد سئل عنه عن قول اللّه عز و جل: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ قال عليه السّلام:

«ايناس الرشد حفظ المال» «3».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 208

و ثانيا: الروايات الدالة على أنّه لا يجوز أمر الغلام أو الجارية حتى يبلغ كذا و كذا، و اطلاقها دليل على عدم نفوذ أمرها في أي شي ء من الأشياء و أي عقد من العقود مثل ما يلي:

منها: عن الإمام الباقر عليه السّلام قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام قلت له: متى يجب على الغلام أن يؤخذ بالحدود التامة، و يقام عليه و يؤخذ بها؟ قال: إذا خرج عنه اليتم و أدرك ... و الغلام لا يجوز أمره في الشراء و البيع و لا يخرج من

اليتم حتى يبلغ خمس عشرة سنة، أو يحلم، أو يشعر أو ينبت قبل ذلك» «1».

و منها: مرسلة الصدوق قال قدّس سرّه: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «إذا بلغت الجارية تسع سنين دفع إليها مالها و جاز أمرها في مالها، و أقيمت الحدود التامة لها و عليها» «2».

و منها: ما رواه أبو الحسين بياع اللؤلؤ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سأله أبي و أنا حاضر عن اليتيم متى يجوز أمره؟ قال: حتى يبلغ أشدّه قال: و ما أشدّه؟ قال: احتلامه، قال:

قلت قد يكون الغلام ابن عشرة سنة أو أقل أو أكثر و لم يحتلم، قال: إذا بلغ و كتب عليه الشي ء (و نبت عليه الشعر- ظ) جاز أمره» «3» الحديث.

و منها: ما رواه زرارة عن الباقر عليه السّلام قال: «إذا أتى على الغلام عشر سنين فانه يجوز له ماله ما أعتق أو تصدق أو أوصى على حد معروف و حق فهو جائز» «4».

و منها: ما رواه عبد اللّه بن سنان عن الصادق عليه السّلام قال: «سأله أبي و أنا حاضر عن قول اللّه عز و جل «حتى إذا بلغ أشده» قال: الاحتلام، قال: فقال يحتلم في ست عشرة، و سبع عشرة سنة و نحوها، فقال: لا إذا أتت عليه ثلاث عشرة سنة كتبت له الحسنات و كتبت عليه السيئات و جاز أمره إلّا أن يكون سفيها أو ضعيفا» «5» (الحديث).

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 209

و منها: ما رواه هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «انقطاع يتم اليتيم الاحتلام و هو أشدّه» «1».

و الظاهر أنّ دلالتها على عدم صحة عقود الصبي و استقلاله في أمواله ظاهرة جدا لظهور نفي جواز أمره

في ذلك.

نعم، بعضها ضعيف من حيث السند، و بعضها محدود من حيث الدلالة، و لكن إذا ضم بعضها إلى بعض لم يبق إشكال لا في سندها و لا في دلالتها.

و ثالثا: ما دل على أنّ «عمد الصبي خطاء»، و هي عدة روايات ما بين صحيحة و ضعيفة.

فمنها: ما رواه محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «عمد الصبي و خطاه واحد» «2».

و منها: ما رواه اسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه أن عليّا عليه السّلام كان يقول: «عمد الصبيان خطاء، يحمل على العاقلة» «3».

إلّا أنّ المذكور فيها حمل عمد الصبيان على عاقلتهم، فلو كان توضيحا «لقوله عمد الصبيان خطاء» اختصت بأبواب الجنايات، و لم يكن لها دخل بما نحن بصدده من معاملات الصبي، و إن كان من قبيل ذكر الخاص بعد العام، كان باطلاقها دليلا على المقصود، و لكنه مشكل و لا أقل من إجمالها لو لم نقل بظهورها في خصوص باب الجنايات.

و منها: ما رواه أبو البختري عن جعفر عن أبيه عن علي عليه السّلام أنّه كان يقول في المجنون و المعتوه الذي لا يفيق و الصبي الذي لم يبلغ: «عمدهما خطاء تحمله العاقلة»، و قد رفع عنها القلم «4».

و كيفية الاستدلال بها مثل ما سبق في ما قبلة، فانّه عليه السّلام دية المحنون و المعتوه- أي انوار الفقاهة، ج 1، ص: 210

ناقص العقل- و الصبي غير البالغ على عاقلتهم، و ظاهرها أنّه تفسير لكون عمدهم بمنزلة الخطاء، إلّا أن فيها شيئا زائدا ربّما يقوى الاستدلال بها، و هو قوله «قد رفع عنهما القلم» (أي المجنون و من يلحق به و الصبي) و احتمل فيه شيخنا الأعظم قدّس سرّه أن يكون

علة للحكم (أي ثبوت الدية على العاقلة) أو معلولة لقوله «عمدها خطأ» (أي كان قصدهما بمنزلة العدم فقد رفع الشارع القلم عنهما).

فعلى الأول يكون بمنزلة أن يقول «لأنّه رفع عنهما القلم»، و على الثاني بمنزلة قوله «و لذا رفع عنهما القلم».

و على كل تقدير لا يستقيم الاستدلال إلّا أن يكون رفع القلم أعم من رفع المؤاخذة حتى يشمل الأحكام الوضعية، و حينئذ يكون عمومها دليلا على المقصود إلى بطلان معاملاته و عقوده.

و الحاصل: أنّ هذه الفقرة دليل على كون مضمونها عاما شاملا.

هذا و لكنه يرد عليه أولا: ليس من الاستدلال بقوله «عمدهما خطأ» بل من الاستدلال بحديث رفع القلم، غاية الأمر أنّه يستفاد من قرينة المقام كون رفع القلم أعم من رفع قلم المؤاخذة.

ثانيا: إنّها ضعيفة السند بأبي البخترى.

فلم يبق إلّا صحيحة محمد بن مسلم، و العمل باطلاقها مشكل بعد إمكان حملها على خصوص باب الجنايات، لا أقول ذكرها في هذه الأبواب دليل عليه، لأنّ ذكر رواية في باب خاص مستند إلى استنباط الجامعين لروايات أهل البيت عليهم السّلام و لا يكون دليلا على شي ء بعد كون مضمون الحديث عاما، بل أقول كون هذا التعبير ناظرا إلى أحكام الجنايات في غير هذه الروايات بل و في أحكام المجنون (راجع الحديث ابن الباب 11 من العاقلة) و أحكام الأعمى (الحديث 1 من الباب 10) شاهد قوى على تخصيص هذه العبارة بأحكام الجنايات و ظهورها فيها.

فالاستدلال بعمومها مشكل جدّا لا سيما أن العبارة في الجميع واحد كما لا يخفى على من راجعها و تأملها.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 211

أضف إلى ذلك أنّ هذا التعبير غير متعارف في أبواب العقود و الإيقاعات، و التعبير بالعمد و الخطأ معمول في

أبواب الجنايات.

ثم إنّه قد أورد على الاستدلال بها في مصباح الفقاهة «1» بأمرين يمكن الذبّ عنهما:

1- إنّ العمل لها يوجب تأسيس فقه جديد، لأن لازمه عدم بطلان صوم الصبي بالمفطرات المعهودة، لأنّ عمده بمنزلة الخطأ، و كذا صلاته بالتعمد بترك سجدة واحدة مثلا ممّا لا يوجب البطلان إذا صدر سهوا من البالغين، هذا من ناحية.

و من ناحية اخرى يلزم بطلان جميع عباداته، لاعتبار النيّة فيها عن إرادة و اختيار، و قد فرض كون إرادته كالعدم، فعباداته باطلة خالية عن النيّة.

و فيه: أنّه حكم امتناني و لا منّة في بطلان عبادته كما هو ظاهر، و أمّا بالنسبة إلى المفطرات و قواطع الصلاة فالانصاف انصرافه عنها كما هو ظاهر، و بعبارة اخرى: ظاهر الأدلة مطابقة عبادات الصبي للبالغين في جميع أجزائها و شرائطها و موانعها.

2- إن تنزيل عمد الصبي بمنزلة خطأه على وجه الإطلاق يقتضي أن يكون هنا أثر خاص لكل منهما، و من الواضح أنّه لا مصداق لهذه الكبرى إلّا في أبواب الجنايات لا غير.

و فيه: إن تنزيله يمكن أن يكون من حيث عدم الأثر للخطأ كأن يقول إن اختيار الصبي في أبواب العقد كالإكراه، أي لا أثر له كعقد المكره، و مثل هذا التعبير صحيح قطعا، و لا يعتبر في تنزيل شي ء بمنزلة آخر أن يكون لكل واحد منهما أثر فعلى بل يكفي كون أحدهما لا أثر له، و تنزيله بمنزلته إنّما هو من جهة عدم التأثير كما لا يخفي.

المقام الثاني: تصرف الصبي في أمواله بأذن الولي و أجازته

و الظاهر أنّه أيضا ممنوع و داخل في اطلاقات كلمات القوم، و لذا ذكر في الجواهر الإجماع بقسميه عليه أي على عدم صحة بيع الصبي و لو اذن له الولي قبل البيع أو بعده «2».

انوار

الفقاهة، ج 1، ص: 212

و يدل عليه: مضافا إلى ذلك، ما عرفت سابقا من آية سورة النساء، حيث تدل على منع اليتامى من أموالهم قبل البلوغ و إيناس الرشد منهم، و هو عام يشمل ما كان مع اذن الولي.

و هكذا اطلاقات ما دلّ على عدم جواز أمر الصبي في عقوده و معاملاته، و كذلك حديث رفع القلم عنه، بناء على شموله لقلم التكليف و الوضع، و قد مرّ بيانه لا سيما مع ذكره في ذيل حكم جناية الصبي في رواية أبي البختري.

المقام الثالث: في تصرفه في مال غيره بإذنه
اشارة

و منه يظهر الكلام في «المقام الثالث» و هو تصرفه في مال غيره بإذنه بعنوان الوكالة، فان أيضا باطل، و يشمله اطلاق كلمات الأصحاب و فتاواهم بعدم صحة تصرفات الصبي.

و آية اليتامى و إن كانت تختص بأموالهم و لا تشمل أموال غيرهم، إلّا أنّ اطلاق ما دلّ على رفع القلم منه و عدم جواز أمره يشمله أيضا.

نعم، في بعضها مثل رواية حمران «1» التعبير بقوله «دفع إليها مالها» و كذلك غيرها «2» و لكن غير واحد منها مطلقة لا تختص بماله فتدبّر.

هذا مضافا إلى ما عرفت من بناء العقلاء و إمضاء الشارع له، و الظاهر شموله لما نحن بصدده.

و قد ذهب بعض أعلام العصر في «مصباح الفقاهة» إلى القول بالجواز، نظرا إلى العمومات و الاطلاقات الدالة على الصحة. و فيه أنّ اللازم رفع اليد عنها بعد ما دلّ على منعه، مضافا إلى أن انصراف العمومات و الاطلاقات منه قوى جدّا.

بقي هنا شي ء:

و هو أنّه صرّح بعض الأصحاب بالفرق بين المعاملات الخطيرة و اليسيرة، فأجاز تصرفات الصغير في الأخير، كما ذكره المحدث الكاشاني قدّس سرّه فيما حكي انوار الفقاهة، ج 1، ص: 213

عنه، بل ادعى في الرياض إجماع المسلمين عليه حيث قال: «الأظهر جوازه فيما كان بمنزلة الآلة لمن له أهليته، لتداوله في الأعصار و الأمصار السابقة و اللاحقة من غير نكر، بحيث يعد مثله إجماعا من المسلمين كافة».

و أجيب عنه بأمور:

1- عدم الاعتبار بهذه السيرة لعدم اتصالها بزمن المعصومين عليهم السّلام و احتمال نشؤها عن التساهل في الدين، كما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه، و احتمله صاحب الجواهر قدّس سرّه في كلامه «1».

2- كون الآخذ عن الصبي هنا موجبا قابلا، كما استقربه كاشف الغطاء قدّس سرّه فيما حكي عنه.

3- كون الصبي من قبيل الآلة هنا، فيكون نوع معاطاة و لو على القول بالملك تجري بين البالغين، و قد تصح المعاطاة بما يكون أقل من ذلك كما في دخول الحمام و جعل الاجرة في صندوق الحمامي، أو أخذ باقة بقل و جعل الثمن في المحل المعدّ له، كما يظهر من كلمات الرياض و غيره.

4- كونه مجرّد الإباحة بالعوض تدور مدار رضاه المالكين البالغين.

أقول: يرد على الأوّل: إنّ انكار مثل هذه السيرة بالنسبة إلى شراء الخبز و الماء و البقل و شبهها، إنكار لأمر واضح، فقد جرت السيرة على ذلك حتى فيما قبل الإسلام و في جميع الأعصار بحسب طباع الناس، و لا يتوقف أحد في إرجاع هذه الامور إلى الصبي حتى يبلغ، و لو ردع عنه الشارع لظهر و بان قطعا، و لا تختص هذه السيرة بالمتساهلين في الدين بل يجري عليه أهل الإيمان و اليقين أيضا.

أمّا الثاني:

فهو مخالف للوجدان، غير معمول عند الناس الذين استقر عليه سيرتهم، و لا يكون ذلك على فرض وجوده إلّا عند الفقهاء منهم.

أمّا الثالث: فلازمه المنع عن التصرفات المتوقفة على الملك، أو القول بالملكية آنا ما قبلها، و كلاهما بعيد لا تساعد عليهما القواعد.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 214

فلم يبق إلّا الرابع، و هو قوي.

إن قلت: إنّما يصح ذلك في خصوص الموارد التي يكون الثمن و المثمن و البائع و المشتري معلومة كما في اشتراء البقل أو اجرة الحمامي و ليس جميع الموارد كذلك، فقد لا يكون البائع أو المشتري معينا بل و لا مقدار الثمن كما لا يخفي.

قلت: أمّا معلومية البائع و المشتري بشخصهما فغير لازم، كما إذا لم يكن الحمامي حاضر و كذا صاحب البقل، و أمّا معلومية العوضين فهي حاصلة إلّا في بعض الموارد، و فيه أيضا يعلم بعد رجوع الصبي إلى وليه و أعلامه بالحال، و حينئذ يتحقق منه الإنشاء و يكون الصبي في هذا الحال كالآلة، و الإنشاء الفعلي حاصل هنا من الطرفين، و لا يرد عليه الإشكال من ناحية الموالاة بين الإيجاب و القبول بعد ما عرفت في المباحث السابقة من كفاية هذا المقدار.

و قد يستدل هنا أيضا بروايتين:

إحداهما: مروية من طريق العامة من أن أبا الدرداء اشترى عصفورا من صبي فأرسله، و لذا ذهبت الحنابلة إلى صحة بيع الصبي في الأشياء اليسيرة و لو لم يأذن وليه، كما حكي عنهم و حكي عن الشافعية خلافه.

و فيه: إن فعل أبي الدرداء لا يكون دليلا، مضافا إلى عدم صحة سند الحديث و يمكن حمله على عدم كون الصبي مالكا، بناء على عدم تأثير حيازته، و إنّما اشتراه ظاهرا ليطيب قلبه.

ثانيهما: ما ورد

من النهي عن كسب الغلام الصغير الذي لا يحسن صناعة بيده معللا بأنّه «إن لم يجد سرق» و هو ما رواه النوفلي عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن كسب الإماء فانّها أن لم تجد زنت، إلّا أمة قد عرفت بصنعة يد، و نهى عن كسب الغلام الصغير الذي لا يحسن صناعة بيده فانه أن لم يجد سرق» «1».

و فيه: أولا: أنّ في سنده النوفلي و السكوني و كلاهما محل كلام.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 215

و ثانيا: يمكن أن يكون المراد من الكسب فيه الكسب باليد، لا البيع و الشراء بقرينة قوله عليه السّلام: «لا يحسن صناعة بيده»، و ليس في المقام البيان من ناحية اخرى، فتأمل.

ثالثا: يمكن أن يكون المراد من الغلام، العبد، لقرينة ذكره في مقابل الأمة فيكون المراد بكسبه إجارته، فانّها لا تصح إلّا باذن المولى.

المقام الرابع: في حكم قبول الصبي للهدايا و الهبات و شبهها

قال في المكاسب إنّ مقتضى ما تقدم من الإجماع المحكي في البيع و غيره من العقود و الأخبار المتقدمة بعد انضمام بعضها إلى بعض، عدم الاعتبار بما يصدر من الصبي من الأفعال المعتبر فيها القصد إلى مقتضاها، كإنشاء العقود أصالة و وكالة، و القبض و الإقباض، و كل التزام على نفسه من ضمان أو اقرار أو نذر أو ايجاد (انتهى).

أقول: يمكن أن يقال: إنّ قبول الهدايا و الهبات ليس التزاما على نفسه بشي ء و لا يوجب ضررا عليه، و هي من العقود الاذنية، فلا إشكال فيهما، و ليس هذا من قبيل اعطاء أمواله بيده، و لكن الإنصاف شمول أدلة نفي جواز أمره و رفع القلم عنه، و لأن قبول الهدية و غيرها قد يكون منقصة و

ضررا عليه من بعض الجهات و لا يدرك ذلك إلّا وليّه.

المقام الخامس: وكالته عن غيره في اجراء صيغ العقود

مقتضى ما عرفت من كلام الشيخ الأعظم قدّس سرّه عدم الجواز أيضا، و ذهب بعض أعلام المحشين إلى عدم المنع منه، نظرا إلى العمومات و الاطلاعات مع عدم دليل على التخصيص أو التقييد، فيجوز للصبي اجراء العقود لغيره، بل على مال نفسه إذا كان بأذن الولي، و كان الصبي وكيلا في اجراء الصيغة فقط كما يجوز استقلاله بهذا النحو في مال غيره (انتهى).

و الإنصاف أنّ شيئا من ذلك غير جائز بعد اطلاق عدم جواز أمر الصبي، و قد عرفت عدم اختصاصه بماله «1».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 216

هذا و الوكيل في إجراء الصيغة وكيل في نفس البيع، و لا معنى لكونه وكيلا في إجرائها فقط، نعم هو وكيل في المعاملة بقيودها و شروطها المعينة من قبل المالك و إلّا فلا معنى للوكالة في مجرّد الصيغة فقط، فتدبّر فانّه حقيق به.

المقام السادس: من أحكام الصبي «في حكم إسلامه»

الصبي إمّا مميز أو غير مميز، و المراد من المميز هنا تمييز الإسلام و الكفر و قبول أحدهما عن علم و بيّنة بحسب حاله، أمّا غير المميز فلا ينبغي الإشكال في إلحاقه بأبويه، كما صرّح به كثير منهم في أحكام النجاسات في باب نجاسة الكافر، منهم الشيخ قدّس سرّه في المبسوط، و صاحب الايضاح، و نهاية الأحكام، و العلّامة قدّس سرّه في التذكرة، و الشهيد قدّس سرّه في الذكرى، فيما حكى عنهم بل قد يدعى عدم الخلاف أو الإجماع عليه.

و هو المعروف بينهم في أحكام النجاسة، و الأسر، و الاسترقاق، و غيرها.

و اختلف كلمات العامة هنا.

فعن الحنفية إن تصرف الصبي على ثلاثة أقسام:

«الأول»: أن يتصرف تصرفا ضارا بماله و هذا لا ينعقد.

«الثاني»: أن يتصرف تصرفا نافعا بيّنا كقبول الهبة و الدخول في الإسلام، و هذا ينعقد

و ينفذ و لو لم يجزه الولي.

«الثالث»: أن يتردد بين النفع و الضرر، كالبيع و الشراء، و هذا القسم ينعقد موقوفا على أجازة الولي «1».

و عن الشافعية: لا يصحّ تصرف الصبي سواء كان مميزا أو غير مميز، فلا تنعقد منه عبارة، و لا تصح له ولاية، لأنّه مسلوب العبارة و الولاية، فإذا نطق الصبي من أبوين كافرين بالإسلام، فلا ينفع إسلامه «2».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 217

و لم ينقل من الحنابلة و المالكية هنا كلام في هذا المعنى.

و العمدة فيه السيرة المستمرة بين العقلاء و قد أمضاها لشرع عند عدّهم في عداد آبائهم عند عدّ الكفار و المسلمين، فلا يزالون يقولون عدد اليهود كذا، و عدد المسلمين كذا، و يعدّون أولادهم في عدادهم، و هذا أمر ثابت في جميع البلاد و الأعصار من غير فرق بين جميع الفرق.

مضافا إلى ما ذكره صاحب الجواهر قدّس سرّه من دعوى الإجماع أو التسالم.

و كذا الكلام بالنسبة إلى المميز إذا لم يختر مذهبا أو اختار مذهب أبيه مثلا، و أمّا إذا أختار مذهبا على خلاف مذهب أبيه، كما إذا أسلم ولد الكافر أو كفر ولد المسلم، و هو غير بالغ، و لكن كان ذلك عن علم و قصد، فهل يحكم عليه بأحكام الإسلام و الكفر، و هو المعنون في كلماتهم بقبول اسلام الصبي، أو عدمه فيكون تابعا لأبويه حتى يبلغ أشده؟

غاية ما يمكن الاستدلال به على قبوله امور:

1- شمول العمومات و الإطلاقات له، و قد ورد في غير واحد من الروايات أن حقيقة الإسلام شهادة أن لا إله إلّا اللّه و التصديق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «1».

نعم، قد ورد في غير واحد منها التصريح بحقن الدماء الذي

يكون قرينة على كون الكلام في البالغين، لأنّ غير البالغ لا يجري عليه حكم عدم الحقن بعد عمومية رفع القلم عنه، كما هو واضح، و لكن في بعضها الآخر الذي ليس فيه هذه القرينة الصارفة غنى و كفاية.

2- إنّ الإسلام و الكفر ليسا من الامور التعبدية حتى يحتاج إلى العمومات و الإطلاقات، بل هما ينشأن عن اعتقاد هذا أو هذا، و قبوله كعقيدة و إيمان، و هذا أمر حاصل من المميز بالمعنى الذي ذكرنا.

3- ما ورد من كون علي عليه السّلام أول الناس إيمانا، و النصوص به كثيرة مع أنّ المعروف كونه عليه السّلام ابن عشر سنين حينئذ، و النبي صلّى اللّه عليه و آله لم يقنع بقبوله إسلامه و هو صبي فقط، بل جعله انوار الفقاهة، ج 1، ص: 218

وزيرا له و وصية صلّى اللّه عليه و آله كما هو المعروف من حديث الدار، و هذا من أقوى الأدلة على قبول إسلام الصبي.

و القول بأنّ قبول إسلامهم من خواصه عليه السّلام كما عن صاحب الجواهر قدّس سرّه لا دليل عليه، مضافا إلى أنّ المخالف لا يقبل هذا الاستثناء لو كان الاستدلال في مقابله.

4- أضف إلى ذلك كله أنّ العمدة في الحكم بالتبعية هو ما عرفت من السيرة المستمرة بين العقلاء، و هذه السيرة غير ثابتة في الصبي الذي يتخلف عن أبويه في إسلامه أو كفره، و هو عالم بما يقبله، و مميز له غاية التمييز، و إن لم يجر عليه الأحكام التكليفية و الحدود و شبهها نظرا إلى حديث رفع القلم و شبهه.

و قد يستدل على عدم القبول بامور:

الأمر الأول: اطلاق ما دلّ على دخول أولاد الكفار و المشركين و كذا المؤمنين مداخل آبائهم «1».

و

يمكن الجواب عنها، أولا: بأنّها شاذة مخالفة للعقل، و عدالته تعالى و حكمته إن كان المراد بدخولهم مداخل آبائهم دخول أولاد الكفار في جهنم كما هو ظاهرها.

و ثانيا: إنّها منصرفة عما إذا اختار الولد مذهبا غير مذهب أبويه كما هو ظاهر.

و ثالثا: إنّها معارضة بغيرها، فقد ورد في هذا الباب طوائف ثلاثة من الروايات.

«الاولى» ما عرفت.

«الثانية» ما يدل على أنّ اللّه أعلم بما كانوا عاملين «2».

فان كان المراد أنّه يجازيهم على ما كانوا يعلمون لو بقوا في الدنيا فهذا أيضا لا يمكن المساعدة عليه، لأن من ضروريات المذاهب عدم جواز المجازاة بمجرد الشأنية لا سيما مع عدم سبق نيّة منهم كما في المقام.

الثالثة: ما يدلّ على تأجيج نار يوم القيامة و أمرهم بدخولها فمن دخلها كانت عليه انوار الفقاهة، ج 1، ص: 219

بردا سلاما و دخل الجنّة، و من عصى دخل النار «1».

و قد جمع بينهما في الوافي بحمل إلحاق الأولاد بالآباء على البرزخ، و حمل هذه على يوم القيامة، و هو كما ترى، و القول بأنّ يوم القيامة ليس يوم عمل بل يوم حساب، يمكن الجواب عنه بجواز الاستثناء فيه.

و على كل حال فالظاهر انصراف جميعها عمن أسلم أو كفر عن بصيرة و تمييز على خلاف أبويه.

الأمر الثاني: حديث رفع القلم، فانّه باطلاقه يدل على رفع جميع الأحكام الاصولية و الفرعية، فلا أثر لإسلام الصبي و لا لكفره، فان هذه الامور مرفوعة عنه كلها، و لكن الإنصاف أنّ اطلاقه محل إشكال و منع، لأنّه يدل بمقتضى كونه في مقام الامتنان على رفع الأحكام الإلزامية التكليفية، و أمّا غير الإلزامية، و كذا بعض الأحكام الوضعية غير مرفوعة عنه.

فلو كفر الصبي لم يعذب، و كذا لو ارتد

لا يجرى عليه حدّ الارتداد، لكن لا يبعد أبانة زوجته و توريث أمواله، بل قد يقال بعدم ذلك أيضا، و لعله لانصراف الأدلة، لأنّ ذلك أيضا من قبيل المجازات المرفوعة عنه فتأمل.

و تظهر ثمرة المسألة في امور:

1- طهارة بدن الصبي بعد إسلامه بناء على القول بنجاسة الكفار.

2- صحة عباداته بعد ذلك من الصلاة و الصيام و الحج و احرامه، و لكن في جواز استيجاره أو الاكتفاء بصلاته على الميت إشكال مذكور في محله، و ذلك لعدم ملازمة الصحة للاكتفاء به.

3- عدم جواز أسره و استرقاقه و إن كان في دار الحرب إذا لم يحارب المسلمين بعد ما أسلم، إلى غير ذلك.

المقام السابع: في شرعية عبادات الصبي

و اعلم أنّه وقع الكلام في كون عباداته شرعية أو تمرينية، و حكي في الجواهر في أبواب الصوم قولا ثالثا عن الشهيد الثاني قدّس سرّه، و هو الاعتراف بصحة عباداته و إن لم تكن شرعية، نظرا إلى أنّ الصحة لا تستلزم كون صومه شرعيا لأنّها من خطاب الواضح و هو لا يتوقف على التكليف «1».

أقول: الظاهر أنّ مراده أنّ صومه غير مأمور به بأمر تكليفي و إن كان محكوما بالصحة بعنوان حكم وضعي، و لكن يرد عليه: إنّ الشرطية و الجزئية في العبادات لا تنتزع إلّا من الأحكام التكليفية، و إن شئت قلت: الحكم الوضعي، أي الصحة هنا، إنّما ينتزع من مطابقة الأمر، لا أنّه حكم مستقل برأسه.

نعم، في غير هذا الباب قد يكون الحكم الوضعي مستقلا في الجعل لكن هنا ليس كذلك، و تمام الكلام في محله من مباحث الاستصحاب (مباحث الحكم الوضعي).

و على كل حال فالأقوال هنا ثلاثة: أحدها: إنّها صحيحة و مأمور بها، الثاني: صحيحة ليست مأمورا بها، الثالث: ليست صحيحة

و ليست مأمورا بها بل هي مأمور بها بأمر تمريني لا واقعي.

ثم إنّ القول بكونها شرعية لا يلازم القول بسقوط الفرض به كما إذا بلغ الصبي في أثناء الوقت بعد ما صلّى، فلذا حكم في الشرائع بعدم الاكتفاء به مع أنّه قائل بشرعية عبادات الصبي، كما يظهر من كلماته في أبواب الصيام بل حكي عدم الاكتفاء به من أكثر الأصحاب، و صرح صاحب الجواهر قدّس سرّه بشرعية عباداته مع أنّه أشكل في الاكتفاء به إذا بلغ في أثنائها أو في الوقت فراجع «2».

و الحق شرعية عباداته و صحتها، و أستدل القائلون بها تارة بالاطلاقات و الأدلة العامّة، و اخرى بالادلة الخاصة الواردة في المسألة.

أمّا الأدلة العامة، أعني اطلاقات الصلاة و الصيام و غيرها فلا دلالة فيها على خصوص انوار الفقاهة، ج 1، ص: 221

حكم البالغين بل تشمل غيرهم أيضا كما في قوله تعالى: وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ «1».

و كذا قوله تعالى: وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ* «2» و شبهه، و كذا ما دلّ على أنّ الصلاة خير موضوع من شاء استقل و من شاء استكثر و ...

و دعوى الانصراف في جميعها إلى البالغين لا يخلو من إشكال، و إن كان في بعضها مقبولا، و يجمع بينها و بين ما دلّ على رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم بالحمل على الاستيجاب، لأن القلم قلم الإلزام.

و لكن أورد عليه: بأن الإلزام ليس مركبا من طلب الفعل و المنع من الترك حتى يرتفع أحدهما بأدلة رفع القلم و يبقى الباقي و هو الطلب، بل هو أمر بسيط إمّا موجود و إمّا مرفوع.

و فيه: إنّ مقتضى الجمع العرفي هو الحمل على الاستحباب و هذا أمر شايع في أبواب الفقه و لا

ربط له بمسألة التركب.

و اخرى بالأدلة الخاصة الواردة في خصوص الصبي، و هي طوائف:

الطائفة الاولى: ما يدلّ على وجوبها عليهم في سنين خاصة قبل البلوغ حيث تحمل على الاستحباب جمعا بينها و بين ما يدلّ على عدم وجوبها قبل أوان البلوغ.

مثل ما روى محمد بن مسلم عن أحدهما عليه السّلام: «في الصبي متى يصلي؟ قال: إذا عقل الصلاة، قلت: متى يعقل الصلاة و تجب عليه؟ قال: لست سنين» «3».

و ما روى العمركي عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى عليه السّلام قال «سألته عن الغلام متى يجب عليه الصوم و الصلاة؟ قال: إذا راهق الحلم و عرف الصلاة و الصوم» «4».

و أيضا ما روى اسحاق بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و حسن بن قارون عن الرضا في نفس هذا الباب.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 222

و كذا ما ورد في أبواب صلاة الجنائز مثل ما روى زرارة و الحلبي جميعا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّه سئل عن الصلاة على الصبي متى يصلى عليه؟ قال إذا عقل الصلاة قلت: متى تجب الصلاة عليه؟ فقال إذا كان ابن ست سنين و الصيام إذا طاقه» «1».

و ما روى الصدوق في مرسلة قال «و سئل أبو جعفر عليه السّلام متى تجب الصلاة عليه؟ فقال إذا عقل الصلاة و كان ابن ست سنين» «2».

و ما روى زرارة قال: «مات ابن لأبي جعفر عليه السّلام فأخبر بموته فأمر به فغسل و كفن و مشى معه و صلى عليه و طرحت خمرة فقام عليها، ثم قام على قبره حتى فرغ منه، ثم انصرف و انصرفت معه حتى أني لأمشي معه، فقال: أمّا أنّه لم يكن يصلي على مثل هذا

و كان ابن ثلاث سنين، كان علي عليه السّلام يأمر به فيدفن و لا يصلى عليه و لكن الناس صنعوا شيئا فنحن نصنع مثله، قال قلت: فمتى تجب عليه الصلاة؟ فقال: إذا عقل الصلاة و كان ابن ست سنين» الحديث «3».

و لكنها قابلة للحمل على الصلاة على الطفل الميت.

و كذا ما ورد في أبواب من يصحّ منه الصوم مثل ما روى سماعة قال «سألته عن الصبي متى يصوم؟ قال: إذا قوي على الصيام» «4».

و ما روى إسحاق بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث قال: «إذا أطاق الصبي الصوم وجب عليه الصيام» «5».

و أيضا ما روى السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و ما روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام و ما روى سماعة عن الصادق عليه السّلام في نفس الباب المذكور.

و دلالتها من حيث المجموع على المقصود واضحة فانّها تدل على شرعيتها التي تساوق الصحة.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 223

الطائفة الثانية: ما دلّ على أمرهم بها و أخذهم عليها، مثل ما روى معاوية بن وهب قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام في كم يؤخذ الصبي بالصلاة؟ فقال: فيما بين سبع سنين و ست سنين» (الحديث) «1».

و كذا ما روى محمد ابن أبي نصر عن الرضا عليه السّلام قال: «يؤخذ الغلام بالصلاة و هو ابن سبع سنين، و لا تغطي المرأة شعرها منه حتى يحتلم» «2».

و ما روى عيسى بن زيد يرفعه إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «يثغر الغلام لسبع سنين و يؤمر بالصلاة لتسع، يفرق بينهم في المضاجع لعشر» (الحديث) «3».

و ما روى ابن القداح، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «أنا نأمر الصبيان

أن يجمعوا بين الصلاتين الاولى و العصر، و بين المغرب و العشاء الآخرة ما داموا على وضوء قبل أن يشتغلوا» «4».

و هي أيضا تدل على المقصود، لأن الأمر بالأمر، أمر (كما ذكر في محله).

و مثل ما روى معاوية بن وهب في حديث قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام في كم يؤخذ الصبي بالصيام؟ قال: ما بينه و بين خمس عشرة سنة» «5».

و ما روى الزهري عن علي بن الحسين عليه السّلام في حديث قال: «و أمّا صوم التأديب فأن يؤخذ الصبي إذا راهق بالصوم تأديبا و ليس بفرض» «6».

و دلالة الأخيرين لا تخلو عن تأمل.

الطائفة الثالثة: ما هي ظاهرة في التمرين و أنّها غير صحيحة، مثل ما دلّ على صيامهم بمقدار يقدروا عليه اليوم الذي لا يكون صياما صحيحا قطعا.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 224

مثل ما روى الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث: قال: «أنا نأمر صبياننا بالصيام إذا كانوا بني سبع سنين بما أطاقوا من صيام اليوم» (الحديث) «1».

و ما روى الصدوق قدّس سرّه، قال الصادق عليه السّلام: «الصبي يؤخذ بالصيام إذا بلغ تسع سنين على قدر ما يطيقه» الحديث «2».

إلى غير ذلك، و لكن الإنصاف أنّها لا تعارض ما مرّ، لعدم المنافاة بين تمرينهم إذا لم يقدروا على الصيام كاملا، و استحباب فعلهم ذلك إذا اطاقوه.

و كذا لا منافاة بين تمرين الوضوء بغسل بعض اعضائه كما يظهر من رواية عبد اللّه بن فضالة عن أبي عبد اللّه أو أبي جعفر عليه السّلام قال: «سمعة يقول: يترك الغلام حتى يتم له سبع سنين، فإذا تمّ له سبع سنين قيل له اغسل وجهك و كفيك، فإذا غسلهما قيل له: صلّ ثم يترك

حتى يتمّ له تسع سنين، فإذا تمّت له علّم الوضوء و ضرب عليه، و امر بالصلاة و ضرب عليها» «3». و بين فعل الصلاة و الوضوء تاما، و ذلك باختلاف سني عمرهم و على حسب استعداداتهم.

بقي هنا امور:

1- إنّ ظاهر كلماتهم و فتاواهم (قدس اللّه اسرارهم) و إن كان رفع جميع التكاليف الإلزامية منهم، و لكن يشكل الأمر بالنسبة إلى بعض الكبائر الفاحشة إذا كان له عقل تام و رشد كامل، مثل قتل النفوس البريئة و احراق الدور و قطع الحرث و النسل و ما أشبهها الاستقلال عقله بقبحها و استلزام الفتوى بالجواز، ترغيبه إلى هذه الامور، فالأحوط لو لا الأقوى حرمة ذلك عليهم إذا كانوا شاعرين عاقلين.

2- اختلاف الروايات بحسب ما ذكر فيها من السنين من الست في بعضها، و السبع انوار الفقاهة، ج 1، ص: 225

و التسع، و المراهق في بعضها الآخر، أمّا يكون بتفاوت درجات الاستحباب أو تفاوت الصبيان في ذلك بحسب استعدادهم.

3- لا ينبغي الشك في شمول أدلة الأحكام الوضعية له مثل إحداث الوضوء، و وجوب الغسل بمس الميت و الجناية، كما ذكروه في باب عرق الجنب من الحرام، و يصح منه الغسل، و كذا أدلة الضمانات و الديات، إلّا إذا كان أدلتها منصرفة إلى خصوص البالغين.

4- و في شمول أدلة الخمس له إشكال، و يمكن أن يقال، فرق بين ما دلّ على أن في المعدن الخمس (مثلا) و ما فيه أمر بأداء الخمس، و الثاني ظاهر في خصوص البالغين دون الأول، فتأمل.

الشرط الثاني: «العقل و الرشد»:

ذكر في الشرائع اعتبار العقل في المتعاقدين بعد ذكر البلوغ و أدعى في الجواهر الإجماع عليه بقسميه، ثم قال: لا لعدم القصد فانّه قد يفرض في بعض أفراد المجنون بل لعدم اعتبار قصده، و كون لفظه لفظ النائم.

أقول: المسألة إجماعية قطعا و يدل عليه مضافا إلى ذلك امور:

1- بناء العقلاء من غير نكير و قد أمضاه الشارع المقدس لا بعدم الردع بل بالامضاء أيضا، فهم قائلون

بخروج المجنون كالصبي عن دائرة الأحكام و القوانين و المعاقدات و لا يرون لعقدهم و عهدهم و تصرفاتهم المالية اعتبارا.

2- ما دلّ على عدم جواز ايتاء الأموال للسفهاء سواء اليتامى و غيرهم مثل قوله تعالى:

وَ ابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ «1».

و قوله تعالى: وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ «2».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 226

و قوله تعالى: فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ «1». فإذا لم يجز العقود بالنسبة إلى السفهاء ففي المجانين بطريق أولى.

فاللازم «الرشد» مضافا إلى «العقل» و من الواضح أنّ المدار على الرشد المالي لا الرشد في سائر الامور، فربّ رشيد في غير الأموال غير رشيد فيه.

3- ما دلّ على رفع القلم عن المجنون حتى يفيق، فان رفع القلم إشارة إلى خروجه عن حكم العقلاء الذين هم مشمولون للأحكام الإلزامية مطلقا حتى الناشئة عن العقود و الإيقاعات، بل هم خارجون عن دائرة شمول أمثال هذه القوانين بحكمهم، فهذا إمضاء له، و لا فرق بين المجنون المطلق و الأدواري في دور جنونه، كما هو واضح.

و لعل وضوح هذه المعاني دعى شيخنا الأعظم قدّس سرّه على ترك البحث عنه في مكاسبه، و لكن الصبي أيضا كذلك في كثير من أحكامه، هذا و لا يأتي في المجنون ما مرّ في الصبي من وكالته في إنشاء العقد فقط أو وكالته عن غيره و إن كان يجرى بالنسبة إلى السفيه.

الشرط الثالث: «القصد»

و قد صرحوا باعتبار القصد، تارة باعتباره في شرائط المتعاقدين، و اخرى في قوام مفهوم العقد، و كلاهما صحيح.

و المراد به

القصد الجدي إلى إنشاء مفهوم العقد، و ينعدم بأحد امور:

1- عدم القصد إلى اللفظ، كما إذا أراد النكاح، فسبق لسانه إلى البيع غلطا في الالفاظ.

2- ما إذا قصد اللفظ و لكن لم يرد معناه الإنشائي بل أراد منه الإخبار و شبهه.

3- ما إذا قصد الإنشاء و لكن لم يكن عن جد، بل كان هازلا في كلامه.

هذا بالنسبة إلى مقام الثبوت، أمّا مقام الإثبات فلا يقبل منه هذه الدعاوى إذا لم تكن عليها قرينة، و كان ظاهر الحال القصد و الجدّ.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 227

و اعتبار القصد بهذا المعنى من القضايا التي قياساتها معها، لعدم تحقق المعاقدة و المعاهدة بدون ذلك، فلا يصدق عنوان العقد و غيره من عناوين البيع و شبهه، حتى يشمله أدلة وجوب الوفاء بها كما هو ظاهر.

بل لا بدّ أن يكون القصد إلى ما هو مبين في الشرع، أو دائر بين العقلاء من أهل العرف و لم يردع عنه، و ما ذكره بعض أعاظم المحشين «من أن حقيقة البيع عبارة عن الاعتبار النفساني المظهر بمبرز خارجي سواء أمضاه العرف و الشرع أم لا و سواء كان في العالم شرع و عرف أم لا» كما ترى، لعدم صدق هذه العناوين قطعا بدون ما ذكرناه.

الشرط الرابع: «في اعتبار تعيين المالك و من له العقد»

ذكر المحقق الأنصاري قدّس سرّه هنا كلاما عن صاحب المقاييس في تعيين المالك و من له العقد، و حاصله التفصيل بين صور المسألة، فتارة لا يتعدد وجه وقوعه كما إذا قال: بعت عن موكلي، و كان وكيلا عن واحد، و اخرى يتعدد وجه وقوع العقد كما إذا كان وكيلا أو وليا عن اثنين، فحينئذ يجب التعيين، و ثالثة يكون له انصراف كما إذا اشترى أو باع شيئا في الذمة

و لم يعين أنّه لنفسه، أو لموكله فحينئذ ينصرف إلى نفسه، أمّا إذا لم يكن معينا في الواقع، و لا عينه بنفسه، و لم يكن هناك انصراف، وقع باطلا، و لا يجوز ايقاع العقد مبهما و تعيينه بعد العقد.

و استدل عليه: بأنه لو لم يعين لزم كون الملك بلا مالك، و لازمه أيضا عدم الجزم بشي ء من العقود، و لا فائدة في التعيين بعد العقد (انتهى ملخصا).

و أورد عليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه و غيره بما حاصله: إنّ تعيين العوضين كاف من دون حاجة إلى تعيين المالكين فإن كان العوض شخصيا وقع البيع و الشراء لمالكه، و إن كان كليا فما لم يكن مضافا إلى شخص، لم يصح بيعه و لا شرائه لأن الكلي إنّما يكون مالا إذا أضيف إلى ذمة معينة و إلّا فلا.

أقول: هذا مبني على عدم جواز بيع شي ء لغير مالكه، أو اشتراء شي ء لغير مالك الثمن،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 228

كما إذا قال: بيع هذا الفرس لنفسك، بأن يكون الثمن له بمجرّد البيع، أو اشتر بهذه النقود خبزا لنفسك، بأن يكون المثمن له بنفس العقد، و قد أدعي وضوح بطلانه، لأن حقيقة البيع هي خروج الثمن عن ملك من دخل في ملكه المثمن، و بالعكس و إنّما مبادلة مال بمال و إنّما تبديل العلقتين.

و لكن الانصاف كما ذكرنا في محله أنّه لا يخلو من إشكال بعد وجود موارد كثيرة في العرف على خلافه، مثل ما إذا قال: أشتر بهذا الثمن خبزا لنفسك، و يتصور ذلك في أموال بين المال و مال الزواج عند صرفه في حق الزوجة أو غير ذلك، و أي دليل على لزوم توجيهه بالتوكيل في العقد، ثم نقل المثمن

إلى نفسه بعد العقد، أو الهبة له قبله؟ و أي استحالة عقلية في جواز ذلك بعد كون المسألة من الامور الاعتبارية التي أمرها وسيع جدّا؟

و تعريف البيع بمبادلة مال بمال ناظر إلى الغالب، و مضافا إلى أنّه لا ينافي ذلك فإنّها أيضا مبادلة في الواقع، و المسألة تحتاج إلى مزيد تأمل.

بقى الكلام في حكم تعيين من يكون طرفا للعقد و أنّه لازم أو لا؟

توضيح ذلك: إنّ البائع قد يبيع لنفسه تارة، و اخرى يبيع لموكله و يقصده فضولا و كذلك المشتري، فحينئذ يقع الكلام في أنّه هل يجب على كل منهما أن يعلم من يكون طرفا لعقده، أو يكفي الخطاب الأعم بأن يقصد وقوع المعاملة لمن قصده المشتري، لنفسه أو لموكله أو لمن يشتري له فضولا.

صرّح بعضهم بلزوم تعيين طرف العقد، إلّا أن يعلم من الخارج أنّه لا خصوصية له، كما في غالب البيوع و الإجارات، حيث إنّها تعقد مع المخاطب من غير إرادة خصوص نفسه أو من يكون وكيلا من عنده.

قلت: كأنّه وقع الخلط هنا بين أصل لزوم التعيين و صورة تعيين شخص على خلاف تعيين الآخر.

توضيحه: أنّه تارة يكون الكلام في لزوم تعيين من يكون في الواقع طرفا للعقد، و الظاهر أنّه لا يجب في مثل البيع بل يكفي العلم به إجمالا، و لا يجب تفصيلا، فلو أوقع انوار الفقاهة، ج 1، ص: 229

العقد مع المخاطب من دون علمه بأنّه أصيل أو وكيل أو فضولي لم يكن إشكال في العقد، نعم لا يجوز ذلك في مثل النكاح و الوصاية و شبهها التي تدور الحكم مدار الأشخاص.

و اخرى يكون فيما إذا قصد كل منهما شيئا مخالفا للآخر، بأن قصد المشتري الاشتراء لموكّله، و قصد البائع

تمليكه لخصوص نفسه، أو بالعكس قصد المشتري أن يكون البيع له، و قصد البائع لموكّله، و لا ينبغي الإشكال حينئذ في فساد المعاملة لعدم التطابق بين الإيجاب و القبول، لأنّ هذا يقصد تمليك شخص و هو يقبل من غيره.

هذا مضافا إلى ما يرتبط بنفس العوضين، فانّه إذا قصد خصوص المشتري مثلا كان الثمن في ذمته، و إذا قصد موكله كان في ذمّة موكله (بناء على عدم جواز خروج المعوض عن ملك أحد و دخول عوضه في ملك آخر).

فالفساد ينشأ من عدم التطابق بين الإيجاب و القبول و عدم تعيين المالك و الملكين، و هنا يعلم ربط هذه المسألة بالمسألة السابقة و عدم انفكاكهما أصلا.

الشرط الخامس: «اعتبار الرضا من المتعاقدين»
اشارة

المذكور في عبارات الأصحاب و غيرهم عنوان المسألة بعنوان اعتبار «الاختيار» في العقد في مقابل «الإكراه» مع أن عنوان «الرضا» أبلغ و أحسن، و ليس ذلك إلّا لكونه في مقابل الإكراه.

و أكثر ما ورد ذكر هذه المسألة هو في أبواب النكاح، فهذا شيخ الطائفة قدّس سرّه عنونه بعنوان عام في كتاب الطلاق من الخلاف حيث قال:

«طلاق المكره و عتقه و سائر العقود التي يكره عليها لا يقع منه، و به قال الشافعي و مالك و الأوزاعي، و قال أبو حنيفة و أصحابه طلاق المكره و عتاقه واقع، و كذلك كل عقد يلحقه فسخ، فأمّا ما لا يلحقه فسخ مثل البيع و الصلح و الإجارة فانّه إذا أكره عليه ينعقد عقدا موقوفا فان أجازها، و إلّا بطلت».

ثم استدل عليه الشيخ قدّس سرّه بإجماع الفرقة، و أخبارهم، و أصالة البراءة، و حديث الرفع، رواها عن ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه و آله «1».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 230

و الظاهر أنّ ذكر المسألة

في باب الطلاق لشدّة الابتلاء بها هناك، كما أنّ ظاهر كلام أبي حنيفة صحة الإيقاعات من المكره، و كذا العقود الجائزة، و كأنه اعتبر الرضا في خصوص العقود التي لا يمكن جبران الكراهة فيها بالفسخ و إن كان قوله باطلا قطعا.

و سيأتي أنّ كلمات القوم غير محررة في المقام، و أنّ الذي يفقده المكره هو القصد إلى مدلول العقد، أو قصد الجدّ، أو خصوص الرضا؟ و من هنا وقع التضارب و التهافت في كلماتهم حتى لمثل الفقيه الماهر صاحب الجواهر قدّس سرّه.

و لكن لا بدّ من أن نتكلم أولا في دليل المسألة، ثم نبحث عن الذي يفقده عقد المكره، فنقول و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية:

استدلوا على اعتبار هذا الشرط، أي الاختيار بعد الإجماع بأمور:

1- قوله تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ «1».

دلّ صريحا على اعتبار الرضا و أنّ ما ليس كذلك كان من الأكل بالباطل، فيدلّ على المقصود باعتبار الاستثناء و المستثنى منه كليهما، و الظاهر أن الاستثناء هنا منقطع، لأنّ فيه الرضا ليس أكلا بالباطل.

2- النهي عن أكل المال بالباطل من دون ذكر التراضي في قوله تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ «2» و ذمّه تعالى اليهود على أكلهم أموال الناس بالباطل «3» و كذا الأحبار و الرهبان و أنّهم: لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ «4».

كل ذلك شاهد على المطلوب.

3- ما دلّ على اعتبار طيب النفس و الرضا في حلّية أموال مثل قوله صلّى اللّه عليه و آله في الحديث المعروف: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفسه».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 231

و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «لا يحل مال أمراء مسلم إلّا

عن طيب نفسه».

و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «لا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير أذنه» «1».

4- حديث الرفع الذي وصفه الشيخ الأنصاري قدّس سرّه بأنّه حديث متفق عليه بين المسلمين و قد عرفت استدلال شيخ الطائفة قدّس سرّه به و روايته عن طريق الجمهور عن ابن عباس، في عبارة الخلاف.

فان قوله «رفع ما اكرهوا عليه» (أو ما استكرهوا عليه) دال على المقصود، إمّا بنفسه لإطلاق الحديث و شموله للأحكام الوضعية و التكليفية، أو لبعض الروايات المعتبرة الذي استدل فيها بالحديث لنفى بعض الأحكام الوضعية المستكره عليها كما سيأتي إن شاء اللّه.

توضيح ذلك: إنّ الحديث دليل على رفع هذه الامور، في مقابل وضعها، و قد يقال: إنّ هذه الامور المرفوعة هو خصوص الموضوعات المجهولة أو المنسية أو المكره عليها، بقرينة ذكر الإكراه، و الاضطرار و ما لا يطاق، فان هذه الامور الثلاثة لا يتصور إلّا في الموضوعات لعدم معقولية الإكراه على الأحكام، و كذا الاضطرار و شبهه.

و لكن الانصاف أنّ هذا المقدار من وحدة السياق لا يمنع من الأخذ بالعموم فيما يتصور فيه العموم، لأنّ مفاد «ما» الموصولة وسيع، يؤخذ بعمومه أو اطلاقه، في كل موضع بحسبه، فتدبّر.

و لنا بيان آخر للعموم هنا، و حاصله: أنّ «الرفع» في مقابل «الوضع»، و الظاهر أنّ الموضوع و المرفوع في باب الأحكام أيضا هو نفس المتعلقات، قال اللّه تعالى: لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ «2».

و قال تعالى: وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ «3».

و قال تعالى: وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ «4». إلى غير ذلك ممّا لا يحصى انوار الفقاهة، ج 1، ص: 232

في الأخبار الواردة عنهم، فالموضوع على عاتق المكلّف هو نفس الحج، لا

وجوبه، و نفس الرزق و الكسوة، لا وجوبهما كما هو صريح الآيات، و كأن الأفعال ذات ثقل توضع على عاتق المكلّفين، و الوجوب منتزع من وضعها عليهم، لا أنّ الوجوب و الحرمة بأنفسهما توضعان على المكلّف، فالرفع أيضا بهذه العناية، و من هنا يظهر أنّ العمومية في الرواية لا تنافي تعلق الرفع و الوضع بالمتعلقات، فلا يكون الرفع في الأحكام متعلقا بنفس الحكم و في الموضوعات متعلقا بالموضوع حتى يكون التخالف بينهما، بل الرفع و الوضع في الجميع باعتبار المتعلقات، و لكنهما تارة يكون من الأحكام الكلية و اخرى في الجزئية و هي الشبهات الموضوعية.

و لو تدبّرت فيما ذكرنا من عناية الوضع و الرفع في الحديث لوجدت الحكم بالعموم في الحديث قريبا جدّا فتدبّر.

هذا و لكن الأمر سهل بالنسبة إلى مورد الإكراه، لانحصاره- كما عرفت- بالموضوعات، و لكن هل الرفع و الوضع المتعلقان بالموضوعات بعناية رفع المؤاخذة (بأن تكون نتيجتها هي رفع العقاب فقط)، أو يعم الأحكام الوضعية بحسب مفاده؟ لا يبعد العموم، و لا يكون هذا من قبيل اللفظ في أكثر من معنى واحد بعد وجود الجامع القريب بينهما، هذا مضافا إلى الاستدلال به في كلام الصادق عليه السّلام في ما رواه محمد بن عيسى في نوادره عن أبي الحسن عليه السّلام قال: «سألته عن الرجل يكره على اليمين فيحلف بالطلاق و العتاق و صدقة ما يملك أ يلزمه ذلك؟ فقال: لا، ثم قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وضع عن امتي ما اكرهوا عليه و ما لم يطيقوا و ما أخطئوا» «1».

و الحلف بالطلاق و العتاق و إن كان باطلا في نفسه لعدم الأثر له عندنا، بل ليس من الحلف

في شي ء، إلّا أن استدلاله عليه السّلام بحديث الرفع دليل على عمومه و الاستناد إليه مع بطلانه ذاتا إنّما هو لكون هذا الاستدلال مقبولا عند الكل، فتدبّر.

5- و يدلّ على ما ذكرنا أيضا بناء العقلاء على بطلان عقود المكره، من دون فرق بين انوار الفقاهة، ج 1، ص: 233

المؤمن بالمذهب و المخالف له، من أي فرقة من الفرق، بل الأصل في المسألة هو هذا، و قد أمضاه الشارع المقدس لا بعدم الردع، بل بالتصريح بالنهي عنه، و قد عقد في الوسائل بابا لعدم صحة اليمين في الإكراه روى فيه روايات كثيرة «1» و كذا عقد بابا في عدم صحة طلاق المكره روى فيه أيضا روايات كثيرة «2».

و هاهنا مسألتان:
الاولى: هل المكره فاقد للقصد؟

كما يظهر من غير واحد من أصحابنا حتى أنه في الشرائع عطف المكره على المجنون و الصبي، الذين لا قصد لهما أو قصدهما كالعدم حيث قال: «أمّا الشروط فمنها ما يتعلق بالمتعاقدين، و هو البلوغ و العقل و الاختيار، فلا يصح بيع الصبي و لا شراؤه و كذا المجنون و المغمى عليه و السكران غير المميز، و المكره»، و لكن صرّح بعد ذلك بأنّه و لو رضي كل منهم بما فعل بعد زوال عذره (لما يصحّ) عدا المكره للوثوق بعبارته.

و قال في الجواهر بعد نقل هذا الكلام: «إنّه إن لم تكن المسألة إجماعية فللنظر فيها مجال، كما اعترف به في جامع المقاصد ضرورة عدم اندراجه في العقود بعد فرض فقدان قصد العقدية و إن صدور اللفظ فيه كصدوره من الهازل و المجنون و نحوهما و قصد نفس اللفظ بمعنى الصوت غير مجد» «3».

ثم ذكر في أواخر كلامه أنّه لو تصور قصد المكره معنى اللفظ مع عدم الرضا منه و

قلنا أن الإكراه لا يخرجه عن صلاحية التأثير جرى عليه حكم الفضولي، و عليه حمل كلمات الأصحاب في صحة عقد المكره بعد لحقوق الرضا.

و صرح شيخنا العلّامة الأنصاري قدّس سرّه أنّ المراد بعدم قصد المكره إلى اللفظ الوارد في انوار الفقاهة، ج 1، ص: 234

كلمات جماعة منهم الشهيدان قدّس سرّهما عدم القصد إلى وقوع مضمون العقد في الخارج، و أن الداعي إلى الإنشاء ليس قصد وقوع مضمونه في الخارج (فراجع المكاسب).

أقول: اللازم في العقد امور:

1- قصد اللفظ (في مقابل الغالط).

2- قصد معناه الإنشائي (في مقابل اللافظ من غير قصده كمن يريد اصلاح مخارج الحروف).

3- قصد الجدّ (في مقابل الهازل و العاقد صوريا كما في بيع التلجئة الذي ذكره العلّامة و غيره للنجاة عن الظالم).

4- الرضا بمضمون العقد (في مقابل الإكراه).

و الظاهر أن الذي يفقده المكره هو الأخير.

إن قلت: إنّ المكره غير مكره على القصد، لأنّه خارج عن دائرة الإكراه بل الإكراه يتعلق بالالفاظ فقط.

قلت: نعم و لكن الغالب أنّ المكره- لا سيما إذا كان من العوام- لا يقدر على تفكيك الألفاظ عن معانيها، فيسرى الإكراه على الألفاظ، إلى الإكراه على قصد المعنى، كما لا يخفى على من راجع موارد الإكراه في العرف ليتضح ذلك كمال الوضوح، و الحاصل أنّ هذا إذا لم يقدر على تخلية ألفاظ العقود عن معانيها كما هو كذلك في كثير من الناس، فانّهم إذا اجبروا على صيغة الطلاق لم يمكنهم ذكر ألفاظه بدون قصد معناه غالبا، لعدم قدرتهم على التورية، أو عدم انتقالهم إليها و إن قدروا عليها، و أمّا القادر و العالم بذلك فيمكنه رفع أثر الإكراه من هذه الطرق.

فالانصاف أنّ المكره على قسمين: قسم يفقد الرضا فقط، فهذا الذي ذكره

الأصحاب في كلماتهم و أنّه يصحّ عقده بالرضا كالفضولي و هو الغالب من مصاديقه، و قسم يفقد الجدّ أو قصد الإنشاء و المعنى، فهذا لا يصح عقده و لو لحقه الرضا.

و يشهد لذلك استدلال غير واحد منهم بأن الذي ليس في عقد المكره هو الرضا، فلو حصل بعده كان كافيا، لعدم وجود دليل على لزوم مقارنته للعقد، و كذا الاستدلال له بما

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 235

دلّ على لزوم الرضا في العقود، و حكمهم بعدم وجوب التورية عليه، فلا مناص عن التفصيل في المسألة فتدبّر جيدا، و إن كان الغالب من مصاديقها ما فيه قصد المعنى.

و من هنا يظهر النظر في ما ذكره صاحب الحدائق قدّس سرّه، فقد أورد عليهم في هذا المقام إشكالا و هو أنّهم قد حكموا بفساد عقد الهازل و لم يذكروا لزومه لو لحقه الرضى، مع أنّ ظاهر حاله أنّه قاصد إلى اللفظ دون مدلوله، كما في المكره لأنّه بالغ عاقل، فاللازم حينئذ إمّا الحاقه بالمكره في لزوم عقده مع لحوق الرضا به، أو بيان وجه الفرق بينهما.

ثم قال: و دعوى كونه غير قاصد اللفظ، بعيدة عن جادة الصواب، انتهى «1».

قلت: قياس المكره على الهازل عجيب بعد ما عرفت من وجود الجد في المكره غالبا دون الهازل، و لو كان الأمر كما ذكره كان الحكم بالبطلان و لو بعد لحوق الرضا من الواضحات مع أنّ الأصحاب لم يقولوا به.

الثانية: في حقيقة الإكراه

اعلم أنّ الدليل على اعتبار هذا الشرط في البيع لو كان هو أدلة اشتراط الرضا دار الأمر مداره، سواء صدق الإكراه عليه أم لا، كان هناك تخويف بالضرر أم لا، و كانت التورية و سائر طرق التخلص ممكنة أم لا، لدوران الأمر مدار

طيب النفس و الرضا الباطني، فلا نحتاج حينئذ إلى التكلم في معنى الإكراه.

و أمّا لو كان المستند حديث الرفع و شبهه ممّا يدل على بطلان عقد المكره، فسيأتي الكلام في حقيقة الإكراه لغة و عرفا.

و يظهر من كلام شيخنا العلّامة الأنصاري قدّس سرّه اعتبار امور فيها:

«أولها»: وجود حامل له على فعله، أي المكره بالكسر.

«ثانيها»: اقترانه بوعيد منه مظنون الترتب مضر بحال الفاعل أو من يتعلق به أو ما يتعلق به.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 236

«ثالثها»: عدم إمكان التفصي و التخلص عن الضرر المتوعد به بطريق آخر (على تفصيل فيه).

و لازم الأوّل أنّه لو خاف من ضرر السلطان أو غيره مثلا من دون تخويف و أتى بالعمل، لم يصدق عليه عنوان الإكراه، و الانصاف إلحاقه به حكما لو لم نقل بالحاقه به موضوعا، لوحدة الملاك في نظر أهل العرف كما لا يخفى، فما ذكره السيد قدّس سرّه في بعض حواشيه «من أنّ الاقدام على العقد قبل اطلاع الجائر بتخيل أنّه إذا اطلع على الترك أوصل إليه الضرر لا يعدّ من الإكراه» منظور فيه، لأنّه إكراه في نظر العرف حكما لو لم نقل بالحاقة به موضوعا، فأدلة رفع الإكراه تشمله.

و إن شئت قلت: قد يكون الاقتران بالوعيد بالفعل، و قد يكون بالقوة القريبة من الفعل، و في هذا القسم أيضا يصدق عنوان الإكراه موضوعا، مضافا إلى الحاقه به حكما.

ثم اعلم أنّه لا يعتبر في صدقه، العلم بتحقق الوعيد، بل يكفي الظن بل الاحتمال العقلائي، و لو لم يكن على حدّ الظن كما في الموارد المشابهة له من عنوان الخوف و غيره.

و لازم الثاني أنّه لو لم يقترن بوعيد منه و لكن علم من الخارج أنّ الوعيد يكون لا

محالة، أو كان الوعيد من حواشيه و تابعيه من غير تصريح به، أو كان الوعيد عذاب إلهي ينزل عليه لم يصدق الإكراه، و الأخير و إن كان صحيحا، إلّا أن الوعيد المقدر المعلوم من الخارج من ناحيته أو من يكون له صلة كاف في صدق عنوانه.

و لو كان الوعيد بحق كالتهديد بالقصاص، أو أخذ الدين منه حاليا، أو العذاب الإلهي، لم يصدق الإكراه كما لا يخفى، و ليس الكلام هنا في طيب النفس و الرضا الباطني كما يظهر من كلمات بعض الأعاظم «1» بل الكلام في نفس عنوان الإكراه مع قطع النظر عن عنوان الرضا كما عرفت، و لا ينبغي الخلط بينهما لما عرفت من اختلاف الأدلة في المسألة، و إلّا لو كان المدار على الرضا و عدمه كان الأمر واضحا و لا يحتاج إلى هذه التفصيلات.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 237

و لازم الثالث أنّه لو أمكن التفصي لم يصدق عنوان الإكراه، أو يصدق عنوانه و لكنه خارج عنه حكما.

توضيح ذلك: أنّه قد اضطربت كلماتهم في اعتبار هذا الشرط و عدمه أو التفصيل بين التورية و غيرها أو بين المعاملات و غيرها (مثل الإكراه على شرب الخمر)، و الظاهر أنّ الوجه فيه تضارب الأدلة هنا، فمن ناحية ترى عدم صدق عنوان الإكراه مع القدرة على دفع ضرر المكره (بالكسر)، فمن كان له خدم أو أعوان يمكنه دعوتهم على نصره و دفع ضرر المكره، و لكن لا يدعوهم إلى ذلك بغير محذور لا يصدق في حقه عنوان الإكراه، و كذا لو كان له طريق إلى الفرار عن ذلك المكان و الخروج إلى غيره بسهولة، و لذا لو حصل ذلك في موارد الإكراه على المعاصي لا يجوز ارتكابها

و الاعتذار بأنّه كان مكرها عليها بعد إمكان دفع المكره بما عنده أو بمن عنده.

و من ناحية اخرى لم يرد في روايات الباب من حديث الرفع و الأحاديث الكثيرة الواردة في باب طلاق المكره و غيره تقييدها بعدم القدرة على التورية، مع أن باب التورية مفتوح غالبا، و هذا دليل على عدم اشتراط عدم القدرة على التخلص في باب الإكراه.

هذا مضافا إلى ما ورد في رواية عبد اللّه بن سنان قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «لا يمين في غضب و لا في قطيعة رحم و لا في جبر و لا في إكراه، قال: قلت: أصلحك اللّه فما فرق بين الجبر و الإكراه؟ فقال: الجبر من السلطان و يكون الإكراه من الزوجة و الام و الأب و ليس ذلك بشي ء» «1».

و ظاهرها صدق عنوان الإكراه على ما كان من ناحية الأب و الام و الزوجة مع أن التفصي فيها ممكن (و إن كانت الرواية ضعيف بعبد اللّه بن القاسم).

و من هنا يظهر من كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه تارة التفصيل بين التورية و غيرها من طرق التفصي، و اخرى التفصيل بين المعاملات و غيرها (كالإكراه على شرب الخمر و سائر المعاصي).

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 238

أقول: الانصاف أنّه وقع الخلط هنا بين معاني الإكراه و كذا بين أدلة اعتبار الرضا في المعاملات، و توضيحه:

1- لا ينبغي الشك في عدم صدق الإكراه (بمعنى الإلزام بشي ء مع الايعاد على تركه بضرر) في كل مورد يقدر على دفع المكره و ضرره، بما لا يلزم منه محذور آخر، و لذا لا يجوز ارتكاب شي ء من المعاصي إذا كان الاجبار و الإكراه ممكن الدفع، و هذا أمر ظاهر لا غبار

عليه و لا كلام فيه.

2- لو كان دليل بطلان المعاملات مع الإكراه منحصرا بما دلّ على رفع الإكراه كان الحكم بالصحة في جميع موارد القدرة على التفصي ممّا لا ينبغي الشك فيه، و لكن المهم أنّ دليله غير منحصر فيه بل العمدة في هذا الشرط ما دلّ على اعتبار الرضا، و نحن نعلم أنّ مفاد هذا الدليل أعم، فربّ إنسان لا يرضى بمعاملة مع عدم الإكراه المتوعد على تركه الضرر، كما إذا أكرهه زوجته أو أبوه أو امّه على شي ء و هو لا يرضى به في قلبه مع عدم ايعادهم الضرر على تركه.

و الحاصل: أنّ النسبة بين ما دلّ على اعتبار الرضا، و ما دلّ على نفى الإكراه عموم مطلق، و الخلط بينهما يكون منشأ لتخيل عدم اعتبار العجز عن التفصي في معنى الإكراه، مع أنّ العجز عن ذلك غير معتبر في ما دلّ على اعتبار الرضا، لا ما دلّ على نفى الإكراه، لاعتباره في مفهومه قطعا.

3- الإكراه- على ما يظهر من موارد استعماله- له معنيان:

أحدهما: حمل المكره (بالفتح) على فعل يكرهه و لا يرضى به، و إن لم يكن هناك اجبار و ايعاد على الضرر، و هذا المعنى هو الذي يستفاد من رواية ابن سنان، و قد جعل الإكراه فيها مقابلا للإجبار.

ثانيهما: و هو المعروف من معناه في الفقه، و هو حمله على ما يكرهه مع ايعاده على الضرر، و الخلط بينهما كان سببا للاستدلال برواية ابن سنان فيما نحن فيه.

و إن شئت قلت: الإكراه في الرواية مساوق لعدم الرضا و الكراهة الباطنية القلبية، لا الكراهة المعروفة المذكورة في كلمات الفقهاء الواردة في حديث الرفع، و الأوّل راجع إلى انوار الفقاهة، ج 1، ص: 239

اعتبار

الرضا في المعاملات، و الثاني مفهوم أخص منه، بل الظاهر من الرواية أنّ الإجبار الوارد فيه هو أمر مساوق للإكراه بمعناه المشهور عند الفقهاء المأخوذ من حديث الرفع.

4- قد مرّ في أبواب الكذب أنّ حقيقة «التورية» التي تكون في اللغة بمعنى «الاخفاء» و الستر (من مادة الوراء) ليست مطلق ذكر اللفظ و إرادة معنى غير ما هو ظاهر فيه عرفا، بل اللازم أن يكون اللفظ قابلا لإرادة ذلك المعنى و محتملا له، سواء كان اللفظ بذاته مشتركا لفظيا أو معنويا، أو قابلا لهما من ناحية القرائن كما في القضية المعروفة أنّه سئل بعض العلماء من كان خليفة النبي صلّى اللّه عليه و آله بعده قال «من بنته في بيته» أو كان له معنى ظاهر منصرف إليه اللفظ مع إمكان إرادة غيره منه بحسب عرف اللغة و ارباب اللسان، كما إذا دقّ الباب رجل و قال: هل فلان في البيت؟ فقيل له: ما هو هنا (الذي ظاهره عدم كونه في البيت، مع أنّه يشير بموضع خلف الباب و يريد عدم كونه هناك).

و الحاصل: أنّ التورية لا تجري في جميع الكلمات و الجمل و لا تصحّ في كل عبارة، بل في خصوص عبارات تحتمل معنيين مختلفين في عرض واحد، أو كان أحدهما أظهر و الآخر غير أظهر مع إمكان استعماله فيه، و هذا إنّما يكون في عبارات خاصة و لا يقدر الإنسان عليه في كل زمان و كل محاورة.

و من هنا يظهر لك أنّ التورية ليس من الكذب، لاحتمال الكلام له، كما أنّه يظهر أنّ كل كلام لا يحتمل التورية، و أنّها ترد في مقامات خاصة و عبارات محدودة معينة، كما أنّ كل إنسان لا يقدر عليها،

بل تحتاج إلى لطف قريحة و مزيد عناية، كما هو المنقول من كلمات أمثال عبد اللّه بن جبير و غيره في مقابل الحجاج و غيره من الجبارين و أنّه عمل بالتورية في كلامه بلطف قريحته، فتوهّم إمكان التورية في كل كلام و لكل أحد توهّم باطل، و عدم ذكرها بعنوان الاستثناء في روايات طلاق المكره و غيرها لعله من هذه الجهة، حتى أنّ قول البائع «بعت داري لك» لا يمكن فيه التورية بأن ينوي الأخبار لا الإنشاء، لأنّ الأخبار به كثيرا ما يكون كذبا لعدم بيع داره من غيره.

فتلخص ممّا ذكرنا: أولا: أنّه لا فرق في مفهوم الإكراه الوارد في حديث الرفع و شبهه بين العقود و غيرها

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 240

كالمحرمات و لا يجوز التفصيل بينهما.

ثانيا: لا يصدق عنوانه فيما إذا أمكن التخلص بطريق لا ضرر فيه و لا حرج شديد.

ثالثا: لا فرق بين إمكان التخلص بالتورية و غيرها من انحاء طرق التخلص.

رابعا: أنّ العقود قد لا يشملها عنوان الإكراه و لكن يشمله عنوان عدم الرضا و عدم طيب النفس فيفسد من هذه الناحية، فتأمل جيدا.

بقي هنا امور:

أحدها: أنّه إذا اكره على أحد العقدين، فاختار أحدهما دفعا للضرر وقع باطلا، كما إذا أكرهه على بيع أحد أمواله، أو طلاق إحدى زوجته، كما هو المعروف بين أصحابنا، و ما يرى من بعضهم من الحكم بالصحة لا بدّ من توجيهه لوضوح فساده، لأنّ المفروض عدم طيب نفسه ببيع شي ء من أمواله، و طلاق زوجاته أبدا، فكيف يصح مع عدم الرضا؟ مضافا إلى صدق عنوان الإكراه قطعا بحسب متفاهم العرف، و بناء العقلاء أيضا على البطلان في هذه الموارد، و القول بأنّه يختار أحدهما بطيب نفسه فاسد جدّا،

لأنّ طيب النفس بالخصوصية لا يدل على طيب النفس بأصل المعاملة، مضافا إلى أن اختيار أحد الضررين قد يكون لكونه أقل ضررا من غيره، لا لعدم كونه مضرّا أصلا، فلذا لو اكره على شرب أحد الخمرين كان معذورا قطعا.

ثانيها: إذا أكره أحد الشخصين أو الأشخاص على أمر محرم أو بيع شي ء أو طلاق امرأة كان الحكم كذلك أيضا لعين ما مرّ في الإكراه على أحد الأمرين، لصدق عنوان الإكراه لغة و عرفا قطعا، و لعدم طيب نفس واحد منهما بالفعل، نعم اللازم عليهما التأخير إلى آخر زمن الإمكان في المحرمات كشرب الخمر، و حينئذ كل من تقدم كان جائزا، و أمّا في العقود فإذا لم يكن طيب النفس حاصلا كان باطلا تقدم أو تأخر.

ثالثها: إذا أكره على إجراء الصيغة لغيره فقصد العقد و أنشأه صح العقد، لأنّ اعتبار الرضا إنّما هو في نقل المال و شبهه لا في صحة الإنشاء، كما أنّ حديث رفع الإكراه بحكم كونه في مقام الامتنان لا يشمله، بل هو مع قطع النظر عنه منصرف إلى الامور التي لها ثقل انوار الفقاهة، ج 1، ص: 241

على المكلف، و من المعلوم أنّ مجرّد إنشاء الصيغة و لو من قبل الغير لا ثقل له عليه من ناحية حكمه الوضعي.

رابعها: إذا رضي المكره بعد العقد بلا فصل، أو مع الفصل القصير، أو الطويل، فهل يصح العقد أم لا؟ فيه كلام بينهم، المشهور نقلا أو تحصيلا، كما عن بعضهم، الصحة، بل عن الرياض و الحدائق أنّ ظاهرهم الاتفاق عليه، و لكن مع ذلك ذكر المحقق الثاني في جامع المقاصد و صاحب الجواهر في الجواهر أن المسألة لو لم تكن إجماعية فللنظر فيها مجال.

و الظاهر أنّ عمدة

الإشكال فيه من جهات:

الاولى: من ناحية عدم اندراجه في عنوان العقود بعد فقدان قصد العقد في المكره (بناء على إشكالهم في صحة قصد المكره و أنّه كالهازل عندهم) و هذا الذي أشار إليه في الجواهر و اعتمد عليه في كثير من عباراته، و لكن قد عرفت فساده و أنّ المكره قاصد لحقيقة العقد غالبا، و إن لم يكن راضيا بمفاده.

الثانية: من ناحية عدم اقترانه للرضا، و هو من الشرائط المقارنة، و اجيب عنه: بأنّ المستفاد من أدلة اعتباره إنّما هو لزومه في تأثير العقد، أمّا مقارنته له فلا دليل عليه، و لذا حكموا بصحة عقد الفضولي مع أنّ الرضا فيه لا يكون إلّا بعده و لو شك في اشتراط المقارنة فالاطلاقات تدفعها كما لا يخفى.

الثالثة: إنّ عدم الرضا إذا بقى بعد زوال الإكراه كان في حكم الفسخ، كما إذا فسخ في الفضولي (و ردّ العقد بعد العلم به) ثم أجازه فانه لا تصح الإجازة بعد الرد و كذلك ما نحن بصدده.

و فيه: أنّه لو سلّمنا عدم كفاية الإجازة بعد الردّ في الفضولي و شبهه لا نسلم كون مجرّد عدم الرضا الباقي بعد زوال الإكراه بحكم الرد الإنشائي، هذا مضافا إلى أنّه لا يشمل جميع صور المسألة.

هذا و لكن مع ذلك كله في النفس شي ء من أصل المسألة، نظرا إلى أنّه غير معروف عند العقلاء من أهل العرف و أنّهم لا يرون مجرّد الرضا زوال الإكراه كافيا إلّا أن يرجع إلى عقد جديد- و هو ممّا لا كلام فيه- و من الواضح أنّ العمومات و الاطلاقات ناظرة إلى ما عند

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 242

العقلاء من أهل العرف في ذلك، فتدبّر.

و الظاهر أنّه يتفاوت مع الفضولي كما

سيأتي إن شاء اللّه.

بقي هنا شي ء: و هو أنّه لو سلّمنا صحته بالرضا اللاحق، فهل هو ناقل، أو كاشف مقتضى القاعدة هو الأوّل؟ و ذلك لأنّ أدلة اعتبار الرضا ظاهرة في عدم الانتقال قبله فإذا رضى صح العقد و انتقل الملك، و أمّا قبله فلا، و لكن قد يقال: إنّ ظاهر صحيحة «أبي عبيدة» أو «محمد بن قيس» الآتية في البيع الفضولي هو الكشف، و تمام الكلام في البيع الفضولي إن شاء اللّه.

[الشرط السادس أن يكونا مالكين أو مأذونين من قبل المالك
بيع الفضولي
[في صحة بيع الفضولي و بطلانه
المسألة الاولى: عدم صحة عقد الفضولي و وقوفه على الإجازة
اشارة

و من الشرائط المعتبرة في المتعاقدين أن يكونا مالكين أو مأذونين من قبل المالك أو الشارع، و الأوّل معلوم، و الثاني كالولي و الحاكم الشرعي و المقتص و غير ذلك مع شرائطه.

و فرّعوا على ذلك عدم صحة عقد الفضولي و وقوفه على الإجازة، و قد بسط القول فيه المتأخرون بعد إجماله عند القدماء، و قبل الورود في البحث لا بدّ من تقديم امور:

1- الفضولي: على ما ذكره بعض أرباب اللغة- هو من يتعرض لما لا يعنيه، و المراد هنا من يتعرض لعقد أو ايقاع لا يتسلط عليه شرعا، و هو منسوب إلى الفضول و هي الزوائد، فاضافة العقد إليه من قبيل الاضافة إلى الفاعل، لا من قبيل الوصف و الموصوف.

و قد يجعل وصفا للعقد و يقال أنّه تسامح، و لكن لا يبعد صحته بدون التسامح نظرا إلى كفاية أدنى مناسبة في الاضافة، فتأمل.

2- المراد بعدم الصحة هنا عدم ترتب الأثر عليه بدون الإجازة، لا عدم صحته مطلقا، فهو مساوق للقول بتوقفه عليها، و إن شئت قلت: إنّ عقد الفضولي من قبيل جزء المؤثر، لا تمام العلّة، فإذا انضمّ إليه الجزء الآخر و هو الإجازة تمّ العقد، و هذا هو معنى عدم صحته

بنفسه، و ما في كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أنّ معنى عدم الصحة عدم ترتب اللزوم، فيه تسامح واضح، للاتفاق منه و من غيره على عدم النقل بدون الإجازة (سواء قلنا بالكشف أو النقل) لا أنّه ينقل من غير لزوم.

3- ينبغي أن يكون محل الكلام ما يتعارف الفضولي فيه عند العقلاء، مثل ما نراه في انوار الفقاهة، ج 1، ص: 244

الدلال أو الوكيل المأذون في شي ء إذا تعداه إلى غيره، ثم يخبر الموكل و يستأذنه، أو الأب يتزوج ابنته ثم يستأذنها، أو العكس، تتزوج البنت ثم تخبر الأب و تستأذنه، بناء على اشتراط اذنه في الصحة، و هكذا الأمر في مثل بيع الراهن بغير اجازة المرتهن، و بيع العبد بدون اذن السيد، أو الصديق مال صديقه ثم اخباره و استيذانه.

أمّا ما لا يتعارف فيه ذلك كمن يبيع دار رجل اجنبي لا يرتبط به في شي ء و لا يمسّه أبدا و ينكح صبية أجنبي لا صلة بينهما أصلا ثم يخبره و يستأذنه، فجريان أحكام الفضولي فيه لا يخلو عن إشكال، نظرا إلى عدم عدّه عقدا عند العقلاء بل يشكل صدور القصد الجدي من مثله، فتأمل.

4- ظهر ممّا ذكرنا، أنّ محل الكلام وسيع جدّا لا ينحصر بالبيع، بل يجري في سائر العقود أيضا، و كذا لا يختص بغير المالك، بل يجري في كل من لا يملك الاذن التام من جميع الجهات و لو كان مالكا كالراهن و شبهه، لأنّ الملاك في الجميع واحد، سواء شمله عناوين كلماتهم أم لا، لوحدة الدليل لا يخفى، فعقد الراهن بغير اذن المرتهن، و كذا المحجور بدون اذن الغرماء داخلان في محل النزاع، و كذا عقد البنت بدون اذن الأب على قول.

5-

قد ادعى شيخنا الأعظم قدّس سرّه خروج الايقاعات كلّها عن حريم البحث للإجماع على بطلانها، و تبع في ذلك الشهيد قدّس سرّه في غاية المراد.

و لكن قد وقع التشكيك في ثبوت هذا الإجماع مطلقا، أو في غير العتق و الطلاق عن غير واحد ممن تأخر عن الشيخ قدّس سرّه.

و الانصاف أنّ دعوى الإجماع في هذه المسألة و أمثالها مشكل جدّا، بعد احتمال استنادهم فيها إلى نصوص تأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه، بل قد استند بعضهم في بطلان طلاق الفضولي و عتقه بقوله «لا عتق إلّا في ملك» و قوله «الطلاق بيد من اخذ بالساق».

فالحكم بالبطلان لا بدّ أن يستند إلى دليل آخر، و إن قلنا بأنّ صحة الفضولي في العقود إنّما هي على القاعدة أخذا بعمومات صحة العقود و شبهها لم يبعد دعوى مثله في الايقاعات لإطلاق أدلة صحتها أو عمومها.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 245

نعم، لو استند فيها إلى رواية عروة البارقي أو روايات خاصة اخرى وردت في البيع أو النكاح أو شبههما، لم يمكن التعدى منها إلى الايقاعات، بل و لا غيرها من العقود.

قال السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه في الحاشية في أول كلامه بثبوت الإجماع في خصوص العتق و الطلاق، و لكن رجع عنه في ذيل كلامه و استشكل في ثبوته فيهما أيضا نظرا إلى إمكان استناد المجمعين إلى بعض الروايات، ثم قال: نحن إلى الآن لم نجد دليلا على بطلان الفضولي في الايقاعات بعد كون صحته على القواعد، و لكن لمّا كان مختاره قدّس سرّه كون صحة الفضولي على خلاف القاعدة، أشكل في الحاق الايقاعات بالبيع «1».

و سيأتي تتمة الكلام في ذلك إن شاء اللّه بعد ايراد روايات الباب و توضيح

مقتضى القواعد في العقود فانتظر.

و قال في الشرائع في كتاب العتق، لو اعتق غير المالك لم ينفذ عتقه و لو أجازه المالك، و قال في الجواهر في شرحه: «على المشهور كما في المسالك بل في كشف اللثام و الرياض نفى الخلاف فيه بل في الروضة الإجماع عليه قيل لقوله صلّى اللّه عليه و آله: «لا عتق إلّا بعد ملك ...» و لأنّه عبادة أو فيه شائبة العبادة و هي لا يقبل الفضولي» ثم أشكل على الجميع «2».

أقول: و الجواب عن جميع ذلك ظاهر، فان كون العتق بعد الملك لا ينافي صحة الفضولي، و لذا لا نقول بتأثيره إلّا بعد اجازة المالك كما هو كذلك في قوله: لا بيع إلّا في ملك، أو قوله: لا تبع ما ليس عندك.

و كونه عبادة أيضا لا ينافي ذلك لأن المفروض أنّه لا يتمّ أمر العتق إلّا بعد اجازة المالك، فهو ينوي القربة بفعله و لا يحصل العتق إلّا بعده، و إن هو إلّا نظير التوكيل في العتق أو أداء الزكاة و الخمس الذي لا ريب في جوازه مع كونها عبادة، و قد يقال في بعض روايات الطلاق إشارة إلى صحة الفضولي فيه، و لكن لم نظفر بمثل هذه الرواية عاجلا.

6- حكم الرضا بدون الإجازة- فقد يكون المالك راضيا بالعقد، سواء علم به الفضولي أولا و لكن لم يصدر منه إنشاء الإجازة، فهل يخرج بمجرّد ذلك عن الفضولية،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 246

و يصح بلا حاجة إلى الإجازة، أو هو داخل في الفضولي يحتاج إليها، أو يفصل بين ما كان العقد صادرا من غير المالك، و ما كان صادرا عن مالكه و لكن كان موقوفا على رضا غيره، كما في بيع

الراهن بدون اذن المرتهن أو نكاح العبد و الباكرة بدون اذن السيد و الولي؟ فيه وجوه أو أقوال:

ظاهر كثير من كلماتهم هو الثاني، و مال شيخنا الأعظم قدّس سرّه إلى الأوّل، و اختار التفصيل السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه في الحاشية و هو الأقوى.

و استدل للأول، أعني دخوله في الفضولي، بعدم ملك التصرف بمجرّد العلم بالرضا من دون أذن صريح أو فحوى، و بما يظهر من حديث العروة، لاستدلالهم به على صحة بيع الفضولي، مع أنّ الظاهر علمه برضاه صلّى اللّه عليه و آله و إلّا لم يجز له التصرف في العوضين و لم يصح تقريره صلّى اللّه عليه و آله له، و كلا الوجهين ضعيفان، أمّا الأوّل: فلأن ملك التصرف حاصل بالرضا و لا يحتاج إلى الأذن (إلّا أن يرجع إلى ما سنذكره من الدليل) و أمّا الثاني؛ فلأنّه لا يبعد علم عروة البارقي بالرضا بهذا المقدار من التصرف فقط من ناحية النبي صلّى اللّه عليه و آله و البائع لعلمه بتعقبه للإجازة، فلم يكن حراما.

مضافا إلى أنّه لا يتمّ على مبنى الكشف كما هو ظاهر.

و العمدة في ذلك أنّ معنى «وجوب الوفاء بالعقد» هو إلزام كل إنسان بما يلزمه على نفسه، فهو من قبيل قوله صلّى اللّه عليه و آله: «المؤمنون عند شروطهم» و من قبيل قوله تعالى: وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ «1» أي ما جعلوه على أنفسهم بإنشاء العقد أو النذر لا مجرّد الرضا.

و الوجه فيه مضافا إلى التبادر منه، أنّ قاعدة وجوب الوفاء بالعقد قاعدة عقلائية معروفة بينهم قبل أن تكون قاعدة شرعية و لكن أمضاها الشارع المقدس، و من الواضح أنّهم يلزمون كل إنسان بما صدر منه من العهود و العقود

و المواثيق و الالتزامات، فالواجب وفاء كل إنسان بعقده لا مجرّد ما رضي في قلبه من دون عهد و عقد.

و حينئذ لا بدّ من استناد العقد إلى كل إنسان في وجوب الوفاء عليه، و لا يكون ذلك إلّا

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 247

أن يكون قد صدر منه العقد مباشرة أو تسبيبا، و المباشرة منتفية هنا على الفرض، و التسبيب يتوقف على الاذن أو التوكيل أو الإجازة بعد العقد، و لا يصح بمجرّد الرضا، فلا يقال «بنى الأمير الحديقة» بمجرّد رضاه به قلبا، من دون أي إذن و أمر، نعم إذا أظهر الرضا بقصد إنشاء الاذن صحّ، و ما ورد من صحة اسناد أعمال العصاة إلى غيرهم من الراضين بأفعالهم كما ورد في تفسير قوله تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها «1»، إنّما هو ناظر إلى الشركة في العقاب لا كونهم فاعلين حقيقة، و هل يصح أن يقال لمن رضي الآن بفعل يزيد أنّه قاتل الحسين عليه السّلام؟ نعم يصح اسناد القتل إلى يزيد و من هو مثله ممن أمر بقتل سلالة النبي صلّى اللّه عليه و آله و كان سببا له.

و بالجملة لا ينبغي الشك في عدم صحة اسناد الفعل إلى غير فاعله بمجرّد رضاه به، بل يحتاج إلى تسبيبه من طريق الاذن أو الأمر أو التوكيل، و في باب العقود من طريق الإجازة بقاء.

و من هنا يعلم أنّه إذا صدر العقد من المالك للعقد غير المستقل فيه، بل يتوقف على رضا غيره، كما في بيع الراهن بدون اذن المرتهن، و نكاح العبد بدون اذن سيده، كفى الرضا الباطني في الصحّة، لأنّ الاستناد قد حصل، غاية الأمر أنّه كان متعلقا لحق الغير، و مع رضاه يرتفع المانع و يحصل

شرطه و هو التصرف برضاه.

و من هنا يرجح القول بالتفصيل.

و من هنا أيضا يظهر الإشكال في ما استدل به العلّامة الأنصاري قدّس سرّه لما اختاره من كفاية الرضا الباطني في الخروج عن الفضولية بعموم وجوب الوفاء بالعقود، خرج منه ما إذا لم يرض به المالك و بقي الباقي، و لقوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ «2» و كذا ما دل على «عدم حلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفسه».

ثم أضاف إلى هذه العمومات بعض الروايات الخاصة، مثل رواية عروة البارقي، حيث إنّه قبض المتاع و اقبض الثمن، و لو كان فضوليا يحتاج إلى إجازة المالك لم يجز التصرف انوار الفقاهة، ج 1، ص: 248

قبلها بلا إشكال، مع أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قرره على ما فعل، و هذا كله دليل على كفاية الرضا في حصول الملك.

و مثل ما دلّ على أنّ علم المولى بنكاح العبد و سكوته إقرار منه «1» (انتهى محل الحاجة).

و لكن في جميعها النظر، أمّا عمومات «أوفوا بالعقود» فقد عرفت الجواب عنه بلا مزيد، و حاصله أنّ الواجب الوفاء بالعقد الذي قصده الإنسان و تعهده و التزمه، و ينسب إليه تسبيبا لا كل عقد صدر من أي شخص، و مجرّد الرضا الباطني غير كاف في الاسناد كما عرفت.

و لبعض المحشين (في كتاب البيع) هنا كلام حاصله «إنّ الاذن و الرخصة لا يوجب أن يصير العقد عقده لا بالتسبيب و لا بالمباشرة، و الاذن غير الوكالة و غير الأمر المولوي من القاهر الغالب بل الإجازة عبارة عن تثبيت ما صدر من الغير، فاعتبرها ملازم لصدور الفعل من الغير، و بنفسها تدفع انتساب الفعل إلى المجيز» (انتهى ملخصا) «2».

أقول: حقيقة

الاذن و الإجازة في الامور الاعتبارية كالعقود هي قبول التعهد الذي أنشأه الغير و الالتزام به، و من الواضح أنّه بعد قبول هذا التعهد و إمضائه يكون العقد عقده، و ان هو إلّا من قبيل أن يكتب إنسان كتابا أو يصدر بيانا أو مقالة ثم يوقّع عليه غيره، و من الواضح أنّ التوقيع على تلك المقالة أو ذلك البيان و الكتاب يجعله بحكم كتابه و مقالته، و الأصيل لا ينفّذ عقد الفضولي بما هو عقد صادر منه بل ينفذ أصل العقد و يجعله عقد نفسه بعد الإمضاء، و لا أدري كيف غفل عن هذا الأمر.

و أمّا عموم التجارة عن تراض فهو أيضا فرع تحقق التجارة، و هي لا تكون إلّا بالتزام المالك بها، و التزام الأجنبي لا اثر له، ما لم يكن التزامه بإنشاء الإجازة.

و أمّا حديث عروة، فقد عرفت الجواب عنه و أنّه لما كان عالما بتحقق الإجازة من النبي صلّى اللّه عليه و آله بعده، كان عالما أيضا برضاه صلّى اللّه عليه و آله بهذا المقدار من التصرف مقدمة في ماله صلّى اللّه عليه و آله،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 249

و كذا في مال البائع كما هو كذلك عادة في أشباهه أيضا من أمر الدلال و الوكيل الذي يتعدى عن حدود الوكالة مع علمه برضا المالك و إمضائه و يتمّ الأمر.

و أمّا مسألة نكاح العبد فقد عرفت أنّه مالك لأمر العقد و إنشائه لنفسه، غاية الأمر حيث كان التصرف في ما يتعلق بالمولى كان منوطا برضاه، و بالجملة طرف العقد هو العبد لا المولى، و إنّما يعتبر رضاه لتعلق حقه بالموارد، و هو نظير بيع الرهن بدون إذن المرتهن مع لحوق الرضا بعده.

و قد

عثرت بعد ذلك على بعض الروايات التي قد يظهر منها كفاية مجرّد الرضا في صحة العقد استدل بها المحقق الخوانساري قدّس سرّه في جامع المدارك «1»، و هي رواية الحميري أنّه كتب إلى صاحب الزمان عليه السّلام أنّ بعض أصحابنا له ضيعة جديدة بجنب ضيعة خراب للسلطان ... فأجابه: الضيعة لا يجوز ابتياعها إلّا من مالكها أو بأمره رضى منه «2».

و صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث قال: «سأله رجل من أهل النيل عن أرض اشتراها بفم النيل، و أهل الأرض يقولون: هي أرضهم، و أهل الاسنان يقولون: هي من أرضنا، فقال: لا تشترها إلّا برضا أهلها» «3».

و لكن شي ء منها لا دلالة له على ذلك، لأنّ المستفاد منهما هو اعتبار الرضا في صحة البيع و لا ينكره أحد، و اعتبار شي ء في الصحة غير الاكتفاء به فقط، و هو نضير قوله صلّى اللّه عليه و آله:

«لا صلاة إلّا بطهور» حيث يدل على اعتبار الطهور لا على الاكتفاء به فقط.

و العجب من المحقق المذكور حيث قال: «لا بدّ من توجيههما لعدم إمكان الالتزام بظاهرهما». (انتهى) مع أنّك قد عرفت عدم ظهور لهما فيما ذكر.

بقي هنا أمران:
1- ذكر في المكاسب أنّ الاذن قد يكون صريحا، و اخرى فحوى

، و كلاهما كاف في انوار الفقاهة، ج 1، ص: 250

معني العقد، و المراد بالفحوى هنا أن يكون قد أجاره في ما هو أهم و أعظم من ذلك.

و قد أضاف إليه السيد قدّس سرّه في الحاشية «شاهد الحال» و اخراجه من الفضولي أيضا، و أورد على الشيخ قدّس سرّه من جهة عدم ذكره له و جعله دليلا على عدم اكتفائه به.

و المراد منه ظهور حال المالك ظهورا قائما مقام الإنشاء اللفظي، فان الحال أيضا له لسان قد

يكون أقوى من لسان القال: مثل ما يكون بين بعض الاخوة مع بعض في أموالهم و حقوقهم و ما يرى في مثل الخانات و الفنادق و الحمامات.

أقول: هذا كله صحيح إذا رجع إلى إنشاء الإذن.

2- ذكر الشيخ قدّس سرّه في ذيل كلامه في المكاسب أنّه لو سلم كون هذا الفرض فضوليا، و لكن ليس كل فضولي يتوقف لزومه على الإجازة

انتهى.

قلت: هذا منه عجيب، لأنّ النزاع ليس في اطلاق لفظ الفضولي الذي لم يرد في أي حديث أو آية، إنّما الكلام كله في الحاجة إلى الإجازة و عدمها، فإذا لم يتوقف على الإجازة كان خارجا عن الفضولي الذي هو محل الكلام للأعلام.

إذا عرفت هذا فلنعد إلى أصل المسألة فنقول:

إنّ المعروف و المتداول من الفضولي هو ما إذا باع للمالك من دون سبق إجازة أو منع منه، و لكن هناك صورتان اخريان: «إحداهما»: ما إذا باع للمالك مع منعه منه «ثانيتهما»: ما إذا باع لنفسه كالغاصب.

فلنتكلم في الاولى أولا، ثم نبين حال المسألتين الأخريين فنقول و منه جل سبحانه التوفيق و الهداية:

حاصل أقوال العلماء في المسألة كالآتي:

قال في جامع المدارك نقلا عن المحقق قدّس سرّه في المختصر النافع: لو باع الفضولي فقولان:

اشبههما وقوفه على الإجازة «1».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 251

و قال في القواعد: بيع الفضولي موقوف على الإجازة على رأي «1».

و يظهر منهما كون المسألة مختلف فيها جدّا.

و حكى في المفتاح عن المسالك و المفاتيح، أنّ وقوفه على الإجازة قول الأكثر و أنّه المشهور كما في مجمع البرهان و الكفاية بل كاد أن يكون إجماعا كما في الحدائق.

و أشهر القولين كما في الروضة و إيضاح النافع و ظاهر التذكرة في موضع منها الإجماع عليه حيث قال: أنّه جائز عندنا و لكنه موقوف على الإجازة «2».

و لكن مع ذلك يظهر من غير واحد من أكابر الفقهاء البطلان و لو مع الإجازة.

قال في

الخلاف: إذا باع إنسان ملك غيره كان البيع باطلا، و به قال الشافعي و قال أبو حنيفة ينعقد البيع و يقف على إجازة صاحبه، و به قال قوم من أصحابنا، دليلنا إجماع الفرقة، و من خالف لا يعتد بقوله، و لأنّه لا خلاف في أنّه ممنوع التصرف في ملك غيره و البيع تصرف (انتهى) «3».

و يظهر من هذا الكلام أنّ القول بالصحة كان قولا شاذا عند الشيعة، حتى ادعى الإجماع على خلافه، و إن اشتهر بعد ذلك، و لكن كانت المسألة بين العامة خلافية.

و ممن حكي عنه البطلان أيضا صاحب الغنية (مع دعوى الإجماع) و صاحب الحدائق و إيضاح القواعد و المحقق الأردبيلي قدّس سرّه في مجمع البرهان.

و العجب أنّه حكي عن الشيخ قدّس سرّه في النهاية الصحة، مع ما عرفت من دعواه الإجماع على البطلان في الخلاف!

و يتخلص من جميع ذلك أنّ القول بالصحة كان قليلا في العصر الأوّل و لكن أشتهر و كثر بعد ذلك، و لا سيما بين المتأخرين، و لكن لا يمكن دعوى الإجماع على شي ء من القولين كما هو ظاهر.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه استدل على صحة الفضولي تارة بالقواعد و اخرى بالأدلة الخاصة.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 252

أمّا الاولى: فقد عرفت بيانها، و نزيدك وضوحا: إنّ المدار في وجوب الوفاء بالعقد المستفاد من قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ استناد العقد إلى إنسان بحيث يكون من تعهداته و التزاماته، فانّه يجب على كل إنسان الوفاء بما التزامه على نفسه و تعهده في مقابل غيره في عقد، و عقد الفضولي و إن لم يكن مستندا إلى المالك ابتداء و لكن بعد الإجازة يستند إليه.

فهو من قبيل سند أو كتاب صدر إنشاؤه من واحد،

ثم جاء آخر فوقع عليه و أمضاه فصار سندا كاملا و كتابا كذلك، و عدّ بحكم كتابه و سنده.

و لكن يظهر من غير واحد منهم عدم الالتزام بكونه موافقا للقاعدة، و لو لحقته الإجازة.

منهم السيد اليزدي قدّس سرّه في حاشيته، و ملخص كلامه «إنّ الإجازة لا تغير ما وقع عليه بحيث تنقلب النسبة، ألا ترى أنّه لو أمر بضرب أحد فضربه و اطلع عليه إنسان بعد ذلك فرضي به لا يصدق أنّه ضربه» «1».

و ذكر في كلام آخر له في المقام أنّ المستفاد من أدلة اعتبار الرضا اعتبار المقارنة، فالمراد العقد الصادر من الرضا كما هو المفهوم من الشرط في سائر المقامات كقوله صلّى اللّه عليه و آله:

«لا عمل إلّا بالنيّة و لا صلاة إلّا بطهور» فالمقارنة شرط «2».

و يجاب عن الأول، بالفرق الواضح بين الضرب و غيره من الامور التكوينية و بين الامور الإنشائية، فانّها إذا وجدت كان لها نوع بقاء في وعاء الاعتبار، يمكن لحوق الرضا به في كل حال و آن، فقد يكتب الإنسان كتابا إلى آخر و يوقعه بنفسه و يريد أن يشترك معه آخر في هذا الأمر، و يطلب منه أيضا التوقيع عليه، فإذا وقّع عليه اسند الكتاب إليها معا، و هكذا بالنسبة إلى الثالث و الرابع و العقد المنشأ من الفضولي هكذا، و العجب منه أنّه قاسه على الامور الخارجية التكوينية.

و منه يظهر الجواب عن الإشكال الثاني فانّ المقارنة مع الرضا و ان لم تكن حدوثا و لكنها حاصلة بقاء و عند صحة اسناده إليه، فهو يوقع على العقد الصادر من غيره توقيعا

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 253

مقارنا للرضا، فيصدق عليه أنّه عقد مع الرضا، و بالجملة اسناد العقد الفضولي

إليه مقارن للرضا كما لا يخفى، فحينئذ لا نحتاج إلى القول بأن أدلة اعتبار الرضا عام يشمل الرضا اللاحق و السابق فتدبّر.

و يظهر من بعض آخر إشكال ثالث على الاستدلال حاصله: أنّ العمومات منصرفة إلى المتعارف، و الفضولي ليس متعارفا. و أجيب بأن الانصراف بدوي.

أقول: و أولى منه في الجواب أن يقال: الفضولي متعارف في محله أعني فيما كانت صلة بين المالك و بين غيره تقتضي ذلك، و من أوضح الشواهد على ذلك قضية عروة البارقي التي تأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه و لا تختص بعروة، مثلها كثير رائج بين أهل العرف و العقلاء فيما يصدر عن الدلال و الوكلاء إذا جاوزوا حدّ الوكالة كما في قضية عروة، و كذلك في الأولياء إذا جازوا حدود ولايتهم.

بل يمكن جعل هذا دليلا مستقلا على المطلوب بأن يقال: قد جرت السيرة العقلائية على العقود الفضولية في كثير من المقامات و لم يردع عنها الشارع و هذا دليل على إمضائه.

نعم، لو صدر العقد الفضولي من أجنبي لا مساس له بالمالك أصلا خرج هذا عن المتعارف، و قد ذكرنا أنّ الالتزام بصحته مشكل جدّا، بل صدور الإنشاء الجدي من هذا الشخص بعيد.

و هنا إشكال رابع يستفاد من كلمات بعض الأعاظم و حاصله: أن الإنشاء الصادر عن الفضولي قبل الإمضاء ليس اعتبارا عقلائيا لعدم تحقق النقل و الانتقال فليس هنا شي ء بتعلق به الإمضاء و الإجازة «1».

أقول: و يمكن دفعه أيضا بأنّ البيع و النقل و الانتقال حاصل بحسب اعتبار الفضولي و إنشائه و لكن العقلاء لا يرونه مبدأ للآثار حتى تحصل الإجازة من المالك، فالاجازة متعلقة بذلك العقد و الاعتبار الحاصل من الفضولي.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 254

و هنا إشكال

خامس ذكره في الحدائق، فقد ذكر أولا استدلال المسالك على الصحة بوجود المقتضي للصحة و عدم المانع منها، ثم عقبه بذكر دليل المختلف من أن العقد صدر عن أهله في محله (و من المعلوم أنهما في الحقيقة دليل واحد و هو التمسك بالعمومات على نحو مرّ ذكره).

ثم أورد على كل واحد منها بأمر يرجع الجميع إلى شي ء واحد، و هو أن أهل العقد هو المالك لا غيره، و العقد الصادر عن غيره مفيد، و لحوق الرضا غير كاف، بل لا بدّ من الاقتران (هذا ملخص كلامه).

و لكن قد عرفت سابقا الجواب عنه و أنّ العقد بعد الإجازة يكون عقد المالك منسوبا إليه، مقارنا لرضاه، غير منفك عنه، فليس هنا أي مخالفة للقواعد، و لذا نقول: إنّ مقتضى القاعدة في تأثير الإجازة هو النقل لا الكشف، فتدبّر جيدا.

فتلخص من جميع ذلك أنّ تصحيح الفضولي على القواعد ممكن جدّا.

الأدلة الخاصة على صحة الفضولي:
الاولى: رواية عروة البارقى

فاشهرها رواية «عروة البارقي» التي رواها الفريقان في كتبهم المعروفة، و إليك اسانيدها قبل البحث في مغزاها:

1- روى في عوالي اللئالي عن عروة بن الجعد البارقي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله أعطاه دينارا ليشتري به شاة، فاشترى به شاتين، ثم باع إحداهما بدينار في الطريق، قال: فأتيت النبي صلّى اللّه عليه و آله بالدينار و الشاة فاخبرته فقال صلّى اللّه عليه و آله: «بارك اللّه لك في صفقة يمينك» «1».

و روى مثله في المستدرك عن الشيخ الطوسي قدّس سرّه عن عروة و لكن في آخر بعده قوله:

ثم أتيت النبي صلّى اللّه عليه و آله بشاة و دينار، قوله فرده عليّ و قال: «بارك اللّه لك في صفقة يمينك» «2».

و هذا السند مرسل على كل حال.

انوار الفقاهة،

ج 1، ص: 255

2- روى المجلسي قدّس سرّه في البحار بسنده عن «حكيم بن حزام» أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله بعث معه بدينار يشتري له اضحية، فاشتراها بدينار و باعها بدينارين فرجع فاشترى اضحية بدينار و جاء بدينار إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله فتصدق به النبي صلّى اللّه عليه و آله و دعا أن يبارك له تجارته «1».

و لكن سند الحديث يشتمل على بعض المجاهيل.

3- و من طريق العامة ما رواه أحمد في مسنده.

هذا و لكن سند الحديث غير معتبر عندنا، أمّا عروة فهو رجل مجهول بحسب رجال الشيعة فقد ذكره في رجال الكبير من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من دون إضافة شي ء آخر نعم ذكر في أسد الغابة ما ملخصه:

إنّ عروة بن الجعد، و قيل ابن الجعد البارقي و قيل الأزدي ... سكن الكوفة روى عنه الشعبي ... و كان ممن سيره عثمان إلى الشام من أهل الكوفة و كان مرابطا و معه عدّة أفراس، و قال: شبيب بن غرقدة رأيت في دار عروة بن الجعد سبعين فرسا مربوطة للجهاد في سبيل اللّه، و تسميته بالبارقي إنّما هو لاسم بعض أجداده، و هو بارق بن عدي، و إنّما قيل بارق لأنّه نزل عند جبل اسمه بارق فنسب إليه «2».

و أمّا «حكيم بن حزام» أو «حكم بن حزام» ففي جامع الرواة هو أبو خالد عم الزبير بن العوام مات سنة 60 و كان له 120 سنة و في هامش كنز العمال أسلم يوم الفتح و مولده قبل عام الفيل بثلاث عشر سنة و عاش مأئة و عشرين سنة «3».

أقول: لو كانت وفاته عام 60 كان عمره أكثر من

120 سنة على هذا الحساب و على كل حال لا يمكن تصحيح سند الحديث من طريق رجاله، و لكن الرواية مشهورة عند أرباب الحديث، و استدل به كثير من فقهائنا في باب الفضولي، حتى قال: صاحب الجواهر قدّس سرّه: «مضافا إلى خبر عروة البارقي الذي اغنت شهرته عند الفريقين عن النظر في سنده» «4».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 256

و لا يبعد الركون على هذه الشهرة في جبر ضعف اسناده.

و أمّا دلالتها من جهة اشتمالها على بيعين فضوليين فظاهرة، و كذا رواية حكيم، و لكن قد يقال: ليس في رواية عروة إلّا فضولي واحد فانّ جواز اشتراء اضحيتين بدينار يفهم من إجازة النبي صلّى اللّه عليه و آله بالفحوى، و فيه إشكال ظاهر، و لو سلّمنا لم يمنع عن الاستدلال به.

و لكن مع ذلك فقد ذكر فبهما احتمالات و إشكالات:

1- منها ما حكاه في «جامع المدارك» من احتمال كون عروة وكيلا مفوضا إليه، و لا أقل من أنّه قضية واقعة لا يمكن الاستناد إليه، و لكن الإنصاف أنّ كونه وكيلا مفوضا خلاف ظاهر الحديث، و كونها قضية في واقعة غير مانع عن الاستدلال به بعد ظهوره فيما هو المراد كما في نظائره.

2- الظاهر أنّ كلا من العقدين كان مقرونا برضا المالك، و هذا يخرجه عن الفضولية (ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في بعض كلماته في المقام).

و فيه: ما عرفت سابقا من أنّ مجرّد الرضا الباطني غير كاف في اخراجه عن الفضولية ما لم يكن هناك إنشاء إذن أو اجازة.

3- لا يجوز في عقد الفضولي التصرف في العوضين قبل الإجازة إلّا على القول بالكشف الحقيقي مع العلم بلحوق الرضا، و فيه ما فيه، فكيف قرره النبي صلّى اللّه

عليه و آله على تصرفاته.

أقول: و يدفعه ما عرفت من علمه عادة برضاه صلّى اللّه عليه و آله و رضى المشتري بهذا المقدار من التصرف الذي تتعقبه الإجازة و صحة البيع، و هذا أمر ظاهر لا سترة عليه كما يظهر من الرجوع إلى نظائره من امور الوكلاء إذا تجاوزوا عن حد الوكالة إلى بعض ما هو أنفع منه.

4- كان هناك إذن فحوى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله بالنسبة إلى جميع أعماله، فلا يكون فضوليا، و فيه أيضا إنّ هذا المقدار لا يدخل في إذن الفحوى، فإذا إذن زيد لعمرو، و وكله في شراء طعام معين له نفع فيه، ثم وجد الوكيل لباسا هو أنفع له من الطعام قطعا، فهل يكون لبيعه له بيعا صادرا عن الوكالة؟ و كذا لو وجد طعاما آخر غيره أنفع له.

و قد عرفت أنّ مجرّد الرضا غير كاف في استناد العقد إلى إنسان بل لا بدّ من إنشاء الإذن و الإجازة.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 257

و ذكر صاحب الجواهر قدّس سرّه في كتاب الوكالة: «بعد قول المحقق لو خالف لم يصح و وقف على اجازة المالك»: بل قد يقال: ذلك (وجوب مراعاة المصلحة) فيما لو عين له البيع بمقدار و الشراء كذلك، فاتفق حصول الباذل للأزيد و الأنقص حملا للتعيين على ما هو المتعارف من عدم وجود الباذل، اللّهم إلّا أن يحتمل الغرض له به، و لعله على ذلك ينزل خبر عروة البارقي لا على الفضولية «1».

و هذا مناقص صريح لما ذكره في كتاب البيع من عدم الإشكال في دلالة الخبر على المطلوب (و هو صحة الفضولي مع الإجازة) «2» و أنّ الفحوى لا تجزي في الوكالة قطعا لعدم الإنشاء

و عدم الرضا فعلا «3».

و غاية ما يمكن أن يقال: انصراف اجازة الوكالة إلى ما لم يكن باذل بالأزيد في البيع، و الأنقص في الشراء فيما إذا عين المثمن، أمّا جوازهما بالفحوى فلا، فتدبّر في المقام فانّه من مزال الإقدام.

و هناك روايات اخرى استدل بها للصحة أو ذكر تأييدا لها:

الاولى: ما رواه محمد بن قيس عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام قال: «قضى في وليدة باعها ابن سيدها، و أبوه غائب، فاشتراها رجل فولدت منه غلاما، ثم قدم سيدها الأول، فخاصم سيدها الأخير، فقال: هذه وليدتي باعها ابني بغير أذني، فقال: خذ وليدتك و ابنها فنا شده المشتري، فقال: خذ ابنه، يعنى الذي باع الوليدة حتى ينفذ لك ما باعك، فلما أخذ البيع (المشتري) الابن قال: أرسل ابني، فقال: لا أرسل ابنك حتى ترسل ابني، فلما رأى ذلك سيد الوليدة أجاز بيع ابنه» «4».

و الرواية معتبرة الإسناد رواها المحمدون الثلاث في الكتب الأربعة، و المتون متفاوتة

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 258

في كثير من جملاتها، و المحتوى واحد، و لكن في فقه الحديث إشكالات لا بدّ من حلّها أولا:

1- منها إنّها ظاهرة في صحة الإجازة بعد الردّ مع دعوى الإجماع على فساده.

2- و منها أنّ الولد هنا حر لتولده من حر و لو من طريق الشبهة، فكيف يمكن أخذه من ناحية مالك الوليدة؟

3- و منها كيف يجوز أخذ ولد المالك- أي البائع فضولا- و هو حر و إنّما المجاز أخذ الغرامة منه للتدليس و الغرور بالنسبة إلى المشتري و إرائته أنّه ملكه؟

4- و منها أنّه ما المراد بالوليدة هنا؟ فإن كانت بمعنى أم الولد فلا إشكال في بطلان بيعها، و إن كانت بمعنى ما سيأتي و يؤول

إليه كان مجازا، و لكن العمدة الإشكال الأول، لأنّ الجواب عن غيرها سهل.

أمّا عن الثاني: فلأن أخذ الابن لعله كان للتقويم لأنّ المشتري قد فوته على المالك، فلا بدّ من اعطاء قيمته فتأمل، أو يقال: بأن المشتري كان عالما بحقيقة الحال و فيه إشكال.

و عن الثالث: بأن أخذ ولد المالك إنّما هو لأخذ الغرامة حيث لم يكن له طريق سواه.

و عن الرابع: بأن المراد من الوليدة من تولد في بيته من عبد و أمة أو كانت أم ولد له كانت في مورد يجوز بيع أم الولد (كما إذا مات ولدها و ..).

و أجيب عن الأول: بعدم التصريح أيضا بالفسخ ورد البيع و إنّما كان ذلك في العمل، و لم يحصل منه إنشاء الرد.

و لكن في أصل الحكم، أعني بطلان الإجازة بعد الردّ، إشكال سيأتي الإشارة إليه إن شاء اللّه.

و قد يقال: إن الاستناد إليها كقاعدة كلية لا ينافي وجود هذه الإشكالات فيها بعنوان حكم جزئي، و هو كما ترى، فانّ أمثال هذا التفكيك في مضمون أخبار الآحاد غير معروف عند العقلاء من أهل العرف، الذين هم الأساس لحجية خبر الواحد، كما لا يخفى.

فلو لم تنحل إشكالات الرواية يشكل الأخذ بها، و لكن قد عرفت إمكان دفعها و إن كان دفع بعضها لا يخلو عن صعوبة، و قد أورد عليها السيد قدّس سرّه بايرادات اخرى و أجاب انوار الفقاهة، ج 1، ص: 259

عنها، لا بأس بالإشارة إلى بعضها:

5- منها تعليم الإمام عليه السّلام الحيلة لبعض أطراف الدعوى، مع أنّ ذلك ليس من وظيفة الحاكم.

و أجاب عنه: بأن ذلك لعله كان من باب مصلحة يقتضيها المقام.

و الأولى أن يقال: إنّ تعليم الحيلة كان بعد القضاء لإحقاق حق صاحب

الحق بقي هنا شي ء: و هو أنّ ظاهر الصحيحة هو القول بالكشف في الفضولي، لأنّه لو كان الحكم هو القول بالنقل ظهرت ثمرته في النماء المتخلل (و هو الولد فيما نحن فيه) و كان النماء للبائع مع حكمه عليه السّلام بكونه للمشتري، و سيأتي تحقيق ذلك و البحث عن الفرق بين الكشف الحقيقي و الحكمي و غيرها.

الثانية: ما ورد في باب النكاح

1- ما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «أنّه سأله عن رجل زوّجته امه و هو غائب، قال: النكاح جائز إن شاء المتزوج قبل، و إن شاء ترك» (الحديث) «1».

2- منها ما ورد في باب نكاح العبد بغير أذن مولاه، مثل ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «سألته عن مملوك تزوج بغير إذن سيده، فقال: ذاك إلى سيده إن شاء أجازه و إن شاء فرق بينهما» الحديث «2».

و أيضا ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «سألته عن رجل تزوج عبده «امرأة» بغير إذنه فدخل بها، ثم اطلع على ذلك مولاه، فقال: ذاك لمولاه إن شاء فرق بينهما و إن شاء أجاز نكاحهما» (الحديث) «3».

3- منها ما رواه أبو عبيدة عن الباقر عليه السّلام قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن غلام و جارية زوجهما وليان لهما، و هما غير مدركين، قال: فقال: النكاح جائز، أيّهما أدرك كان له انوار الفقاهة، ج 1، ص: 260

الخيار فان ماتا قبل أن يدركا، فلا ميراث بينهما، و لا مهر إلّا أن يكونا قد أدركا و رضيا» «1».

أقول: أمّا الأول: و هو رواية الكاهلي (و هو عبد اللّه بن يحيى لم ينقل في حاله توثيق صريح، نعم حكي له من موسى بن جعفر عليه السّلام

إلى على بن يقطين، و كذا حكي بشارته عليه السّلام له بأنّه من شيعته بعد إخباره بموته في سنته، و يستفاد من جميعه مدح قوى له) رواه عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام أنّه سأله عن رجل الخ.

و لكن الذي يرد عليها تضمنها لزوم المهر الام التي قد اقدمت على نكاح ولده و حمل على دعواها الوكالة، و يمكن حملها على ما إذا دخلها من أجل هذا النكاح ضرر بمقدار المهر فتأمل، غاية الأمر التفكيك بين الصدر و الذيل، و هذا أمر شايع في السنة العلماء و لكن لا يخلو عن إشكال كما عرفت.

و أمّا الثاني: فهو أيضا لا إشكال في دلالته، و المراد بالولي في أوّله هو الولي العرفي لا الشرعي، بقرينة ما ورد في آخره، و هو معمول به في أبواب النكاح (و قد تعرض لها في الشرائع في المسألة الثامنة من أحكام أولياء العقد و ذكره صاحب الجواهر أيضا) «2».

و لكن مع ذلك لا يخلو الحديث عن الإشكال من جهات عديدة، منها أنّ مثل هذا العقد الذي مات أحد طرفيه من قبل و ليس لإجازته أثر فعلي إلّا بالنسبة إلى ما سبق و انقضى و خرج عن محل البلوى، غير معروف عند العقلاء- و العقود امور عرفية لا تعبدية- فلا يمكن تصحيح هذا الحكم إلّا بالتعبد المحض و لا يخلو عن صعوبة إذا لم يكن إجماعيا.

هذا مضافا إلى أنّه أي مانع في أن يكون الداعي إلى اجازة العقد بعض آثاره مثل الميراث؟ اللّهم إلّا أن تكون الإجازة صورية غير واقعية، مضافا إلى أنّه لا يتمّ إلّا على القول بالكشف مع كفاية الإجازة و لو عند خروج أحد طرفي

العقد عن قابلية العقد، و هو مشكل آخر فتأمل جيدا.

أمّا الثالث: أعني ما دلّ على صحة عقد بدون إذن مولاه إذا لحقته إجازته أو رضاه،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 261

فالاستدلال بها واضح إذا كان الحكم في باب الإجازة و الرضا واحدا، و قد عرفت و هو الإشكال فيه فيما سبق.

بقي هنا شي ء: و هو أنّه لا يصح الاستدلال بهذه الروايات الواردة في أبواب النكاح بالنسبة إلى البيع و غيره من أشباهه إلّا بضميمة قياس الأولوية قال في الرياض: «مضافا إلى ثبوت الفضولي في النكاح مطلقا بالإجماعات المحكية المستفيضة بل المتواترة، فان ثبوته فيه بناء الأمر فيه على الاحتياط التام كما يستفاد من النصوص و إجماع العلماء الاعلام مستلزم لثبوته هنا بطريق أولى لأضعفيته عنه جدّا».

ثم قال: «و لعمري أنّها من أقوى الأدلة هنا، و لولاه لأشكل المصير إلى هذا القول.

و بمثل هذا الفحوى استدل جماعة من أصحابنا في مقامات عديدة منها: عدم اشتراط تقديم الإيجاب على القبول في الصيغة» (انتهى محل الحاجة) «1».

و لكن مع ذلك كله أورد على هذا الفحوى شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المكاسب بوهن الفحوى بما ورد في أبواب الوكالة من النص الوارد في الردّ على العامة الذين فرّقوا بين تزويج الوكيل المعزول مع جهله بالعزل و بين بيعه، بالصحة في الثاني لأنّ المال له عوض، و البطلان في الاول لأنّ البضع ليس له عوض، قال: الإمام عليه السّلام في مقام ردّهم في وجه الفرق: سبحان اللّه! ما أجور هذا الحكم و أفسده؟ فان النكاح أولى و اجدر أن يحتاط فيه، لأنّه الفرج و يكون منه الولد ... (انتهى محل الحاجة).

و هو إشارة إلى ما رواه في الوسائل في أبواب الوكالة من

حديث العلاء بن سيابة «2» و لكن الحديث ضعيف بجهالة العلاء، مضافا إلى أن قياس ما نحن فيه على باب الوكالة قياس مع الفارق كما لا يخفى، و الإنصاف أنّ الأخذ بالأولوية و التعدي من صحة الفضولي في النكاح إلى صحته في البيع قريب جدّا، و ما في الحديث المذكور إنّما هو من قبيل الجدل في مقابل الخصم، حيث إنّهم حكموا بعدم صحة النكاح في مورده احتياطا في الفروج، و يقولون إنّ المال منه عوض لصاحبه و الفرج ليس منه عوض إذا وقع منه ولد، فأجاب عنهم بأنّ انوار الفقاهة، ج 1، ص: 262

الاحتياط هنا إنّما هو في الحكم بالصحة، لئلا يلزم منه الزنا بذات البعل، فقد استندوا إلى قياس ظني في المقام فأشار عليه السّلام إلى ما هو أولى منه، و إلّا ليس مبدأ الحكم هنا شي ء من ذلك، بل الأصل عدم عزل الوكيل إلّا بالاعلام، و هذا حكم إلهي كما يظهر من نقل قضاء أمير المؤمنين عليه السّلام فيه.

الثالثة: في أبواب المضاربة

الأحاديث الكثيرة المتظافرة الواردة في أبواب المضاربة الدالة على أنّ العامل إذا تعدى عن الشرائط ضمن المال لو تلف، و لو ربح كان الربح بينهما على الشرط (أو كان الربح بينهما من دون تقييده بذلك).

مثل ما روى محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام قال: «سألته عن الرجل يعطي المال مضاربة و ينهى أن يخرج به، فخرج قال: يضمن المال و الربح بينهما» «1».

و مثل ما روى الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «في الرجل يعطي المال فيقول له:

رأيت أرض كذا و كذا و لا تجاوزها و اشتر منها، قال: فان جاوزها و هلك المال فهو ضامن و إن اشترى متاعا فوضع

فيه فهو عليه و إن ربح فهو بينهما» «2».

و أيضا أحاديث رقم 5، 6، 9، 10، 11، من نفس هذا الباب فلا ينحصر الدليل في خصوص موثقة جميل.

و من الواضح أنّ هذا من أوضح مصاديق بيع الفضولي و لذا يجوز له ردّ المعاملة.

أقول: و يمكن الجواب عنه بأنّ نفس المعاملة لم تقع فضوليا إنّما خالف الشرط في خروجه بالمال من البلد و جعله معرضا للآفات، أو خروجه إلى أرض خاص غير مطمئنة في نظر المالك، فضمنه، و يشهد له التصريح بعدم اخراجه إلى أرض كذا و شبهه في أكثر هذه الروايات، فلا دلالة لها على المطلوب أصلا، و الشاهد على ذلك التصريح بأن الربح انوار الفقاهة، ج 1، ص: 263

بينهما على الشرط يعني السهام التي ذكراها، و لو كان البيع فضوليا خارجا عن حدود المضاربة الواقعة بينهما لم يكن وجه لهذا القيد، بل للمالك إمضاء المعاملة على شرط آخر، بل جاز له أخذ تمام المنفعة لعدم استحقاق العامل شيئا بعد مخالفته للمضاربة كما لا يخفى.

و يؤيد ما ذكرنا، ما نسب إلى ظاهر الأصحاب من عدم توقف ملك الربح هنا على الإجازة و أنّه خارج عن الفضولي بالنص (تعبدا) كما عن المسالك و غيره، و لكن قد عرفت أنّه ليس خارجا عن القواعد حتى يحتاج إلى نص تعبدي، بل هو جار على القاعدة، من غير حاجة إلى الإجازة، لأنّ العامل عمل بما هو وظيفته في البيع و الشراء و إنّما خالف في شرط ناظر إلى حفظ المال، فلا أثر لهذه المخالفة إلّا الضمان لو تلف.

و إن شئت قلت: هنا مطلوبان: أحدهما: حفظ المال، و الثاني: التجارة به، و الشرط ناظر إلى الأول، فليس في هذه دلالة بل

و لا أشعار و استيناس لحكم الفضولي أصلا خلافا لما أفاده شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

الرابعة: في الاتجار بمال اليتيم

الروايات الواردة في الاتجار بمال اليتيم، و أنّه إن ربح كان لليتيم و إن تلف كان عليه، رواها في الوسائل تارة في الباب 75 من أبواب ما يكتسب به «1».

و اخرى في أبواب من تجب عليه الزكاة «2».

بناء على أن التجارة وقعت بغير إذن الولي، فإذا ظهر الربح تلحقه الإجازة عادة فهو حينئذ من أظهر مصاديق الفضولي.

أقول: و لكن الإنصاف ظهور أكثرها أو جميعها في تجارة الولي أو الوصي بمال اليتيم،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 264

و هذا مأذون من قبل الشرع بشرطين: أحدهما: أن يكون الربح لليتيم، و الثاني: أن يكون للتاجر مال لو تلف خرج عن عهدة ضمانه، فلا ربط له بالفضولي أصلا.

و توضيح ذلك: أنّ جماعة من الأصحاب فهموا من هذه الروايات الكثيرة بعد ضم بعضها إلى بعض امورا ثلاثة:

أحدها: أنّ يتجرد الولي بمال اليتيم لليتيم، فالربح له و يستجب الزكاة منه.

ثانيهما: أن يقترض ماله و يتجرد به لنفسه و كان مليّا، كان الربح به و يستجب عليه الزكاة.

ثالثها: الصورة بحالها إلّا أنّه لا يكون مليّا، أو لم يكن وليا رأسا كان ضامنا و كان الربح لليتيم و لا زكاة هاهنا.

و من الواضح أنّ الأولين ليستا من الفضولي من شي ء، غاية ما يتوهم فيه ذلك هي الصورة الثالثة، و لا يبعد أن يكون هذا بأذن إلهي يخرجه عن الفضولي، أضف إلى ذلك أنّ فهم هذه الصور من روايات الباب لا يخلو عن صعوبة بل أكثرها كما عرفت ناظرة إلى صورة تجارة الولي لنفسه أو لليتيم، و يمكن حمل غيرها عليها، فالاستدلال بها لما نحن مشكل جدّا، و تمام الكلام

فيه في أبواب الزكاة في شرائط وجوبها و منها البلوغ «1».

الخامسة: ما روى في العبد المأذون

ما رواه ابن اشيم في العبد المأذون الذي دفع إليه مال ليشتري به نسمة و يعتقها و يحجه عن أبيه، فاشترى أباه و اعتقه ثم تنازع مولى المأذون و مولى الأب و ورثة الدافع و ادعى كل منهم أنّه اشتراه بماله، فقال: أبو جعفر عليه السّلام يرد المملوك رقّا لمولاه و أي الفريقين أقاموا البيّنة بعد ذلك على أنّه اشتراه بماله كان رقا له «2».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 265

نظرا إلى أن إقامته الدعوى دليل على الإجازة بالنسبة إلى البيع الفضولي الذي وقع على ماله، و تظهر ثمرته في خصوص مولى المأذون، و أمّا مولى الأب فهو مدع لفساد البيع لأن اشتراء عبده بماله موجب للفساد، و أمّا الدافع فقد كان بيعه من قبيل بيع الأصيل فلا يبقى إلّا مولى المأذون.

هذا و يجوز أن يكون المراد منه كونه وكيلا من قبله، فانّ اشترائه من ماله لا يكون إلّا بكون ماله عنده، و هذا يتحقق مع التوكيل غالبا، و كون العبد مأذونا شاهد عليه، بل ظاهر الحديث أنّه كان مأذونا في البيع و الشراء من قبل أقوام مختلفة و كانت أموالهم عنده و كان يتجر لهم.

مضافا إلى ما في سنده من جهة ذكره في كتاب العوالي، مع كون الراوي ابن أشيم و هو موسى ابن أشيم ظاهرا، و لم يوثق في الرجال، بل ورد رواية في ذمه و أنّه كان من أصحاب أبي الخطاب المعروف، و سنده في الوسائل (نقلا عن التهذيب) أيضا يتصل بابن أشيم و فيها إشكالات اخرى:

منها: أنّه كيف حكم بعود المعتق رقا مع أنّ الأصل في المعاملة و العتق الصحة و لا

يقبل قول مدعى الفساد، اللّهم إلّا أن يقال: يظهر من رواية الوسائل أن اشتراء الأب كان بعد فوت الدافع، فكان البيع من قبل ورثته فضوليا.

و منها: أنّه كيف لم يسأل عن العبد المأذون مع أنّه صاحب اليد و هو اعرف بنيته من غيره، و لعله لجميع ذلك أو لبعضه قال السيد قدّس سرّه في الحاشية: لم يعمل بها المشهور.

السادسة: صحيحة الحلبى

صحيحة الحلبي المروية عن الصادق عليه السّلام قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل اشترى ثوبا و لم يشترط على صاحبه شيئا فكرهه، ثم ردّه على صاحبه، فأبى أن يقيله (يقبله) إلّا بوضيعة، قال: يصلح له أن يأخذه بوضيعة، فان جهل فأخذه فباعه بأكثر من ثمنه ردّ على الأول ما زاد» «1».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 266

و ظاهرها بطلان الفسخ و الاقالة لأنّها لا تصح إلّا بنفس الثمن لا يزيد و لا ينقص، و هذا هو معنى الفسخ و إلّا كان بيعا جديدا، فاذن تكون العين باقية على ملك المشتري و يكون البيع فضوليا و يصح له بعد إجازته.

و لكن يرد عليه: أنّه ليس فيها أثر من الإجازة، و القول بأنّه يرضى عادة بعد ظهور النفع و يجيز البيع الثاني، مدفوع بأن التفاوت قد يكون أقل من الوضعية فلا يرضى إلّا بالفسخ.

مضافا إلى أنّ اللازم ردّ الوضعية على المشتري أيضا بعد بطلان الإقامة مع أنّه لم يصرّح به في الرواية مع كونها في مقام البيان، و لكن الإنصاف إمكان الاستدلال بالصحيحة، و دفع هذه الإشكالات ممكن.

السابعة: ما ورد حول السمسار

ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه «1» عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن السمسار أ يشتري بالأجر فيدفع إليه الورق و يشترط عليه أنّك تأتي بما تشتري، فما شئت أخذته، و ما شئت تركته، فيذهب فيشتري ثم يأتي بالمتاع فيقول: خذ ما رضيت، ودع ما كرهت؟ قال عليه السّلام: لا بأس» «2».

و ذكر فيه احتمالات ثلاثة: «أحدها»: اقتراض السمسار على نفسه ثم البيع لنفسه و جعله تحت اختيار المقرض.

«ثانيها»: اشترائه لصاحب المال وكالة مع الخيار.

«ثالثها»: البيع له فضوليا

فما شاء أخذه و اجازه و ما شاء تركه و ردّه و ترك استفصال الإمام عليه السّلام دليل على العموم.

و فيه: إن ظاهر قوله يشتري بالأجر كونه وكيلا عن صاحب المال، فيشتري وكالة مع الخيار، و حمله على بيان أصل حرفته لا خصوص مورد السؤال، تكلّف محض، لا سيما

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 267

مع ذكر جميع الأفعال فيه بصورة المضارع الدال على الاستمرار.

هذا مضافا إلى ذكر عنوان السمسار، فانّه- كما في لسان العرب- هو الذي يتوكل من الحاضرة للبادية فيبيع لهم ما يجلبونه. (انتهى) (و هو الذي يعرف بالدلال عندنا).

أضف إلى ذلك أنّه يحتمل أن يكون الموضوع معروفا عندهم في تلك الأزمنة، فكيف يستفاد من ترك الاستفصال فيه العموم؟

الثامنة: ما ورد من التعليل في الباب نكاح العبد بغير إذن مولاه

ورد أنّه لم يعص اللّه بل عصى سيده، فإذا أجازة جاز (دلّ على أنّ المانع هو عصيان اللّه، و أمّا رضا السيد فيجوز احرازه بعدا) مثل ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام و رواية اخرى له في نفس الباب «1».

و الأولى منهما الصحيحة، و هذا التعليل جار في الفضولي بعينه فانّه لم يعص اللّه (بعد عدم إتيانه ببيع محرم) فيصح البيع باجازة المالك و رضاه.

و فيه: ما عرفت سابقا من أنّ العقد هنا صدر عن مالك العقد و هو الزوج و إن كان الحمل متعلقا لحق الغير، بخلاف عقد الفضولي فانّه صدر عن غير مالكه و لا يصح قياس أحدهما على الآخر.

التاسعة: النصوص الواردة في الباب الخمس

و هي ما أشار إليه في الجواهر من النصوص الواردة في الباب الخمس المشتمل بعضها على التصرف فيه من بعض الشيعة و طلب الإجازة من الإمام عليه السّلام فاجازه عليه السّلام أو غيرها من النصوص التي هي كذلك في غير الخمس ممّا لهم الولاية فيه، بل في نصوص المناكح و المساكن أنّهم عليه السّلام اجازوا ذلك لجميع شيعتهم «2».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 268

و محل الشاهد منه قوله عليه السّلام بعد قول الراوي: «إن أبي كان ممن سباه بنو امية و قد علمت أن بني امية لم يكن لهم أن يحرموا و لا يحللوا و إنّما ذلك لكم، فإذا ذكرت الذي كنت فيه دخلني من ذلك ما يكاد يفسد عليّ عقلي ما أنا فيه، قال: أنت في حل ممّا كان من ذلك و كل من كان في مثل حالك من ورائي فهو في حل ذلك». (انتهى محل الحاجة منها).

و يمكن حمل جميع ذلك على الإذن السابق بالنسبة إلى من يتصرف في المستقبل،

إلّا أنّ ذلك لا يخلو عن بعد بالنسبة إلى بعضها مثل ما اشرنا إليه من روايات الأنفال الواردة في النكاح كما لا يخفى بل ظاهرها كون الإجازة كاشفة.

العاشرة: ما دلّ على أنّ من خان في الوديعة و أنكرها

من خان في الودية و أنكرها، ثم جاء بها بعد سنين مع ربح ربحه في مال الوديعة يجوز أخذ ربحه منه، و من المعلوم أنّه لا يتمّ إلّا على صحة الفضولي.

مثل ما روى أبو سيار قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أني كنت استودعت رجلا مالا فجحدنيه و حلف لي عليه ثم جاء بعد ذلك سنين بالمال الذي كنت استودعته إيّاه، فقال: هذا مالك فخذه، و هذه أربعة آلاف درهم ربحتها في مالك فهي لك مع مالك ...

و أتيت حتى استطلع رأيك فما ترى؟ قال: فقال عليه السّلام: خذ الربح و أعطه النصف و أحله» الحديث «1».

و دلالته على المقصود واضحة ظاهرة و لكن في سنده «الحسن بن عمارة» و هو مجهول في رجالنا.

الحادية عشرة: ما ورد في امضاء الورثة الوصية الزائدة على الثلث بعد وفات الميت

و من المعلوم أنّها ليست إلّا من قبيل الفضولي.

مثل ما روى أحمد بن محمد قال: «كتب أحمد بن اسحاق إلى أبي الحسن عليه السّلام أنّ ردة بنت مقاتل توفيت و تركت ضيعة أشقاصا في مواضع، و أوصت لسيدنا في أشقاصها بما يبلغ أكثر من الثلث، إلى أن قال: فكتب عليه السّلام بخطه: ليس يجب لها في تركتها إلّا الثلث و إن تفضلتم و كنتم الورثة كان جائزا لكم إن شاء اللّه» «1».

و هي رواية صحيحة ظاهرا و في سندها جمع من الاجلاء منهم أحمد بن اسحاق القمي من خاصة أبي محمد العسكري عليه السّلام و شيخ القميين و كان ممن رأى صاحب الأمر عليه آلاف التحية و الثناء.

و دلالتها على المقصود ظاهرة، إلّا أنّ التعدي من موردها إلى غيره مع أن أمر الوصية أسهل لا يخلو عن إشكال.

الثانية عشرة: ما ورد في جواز التصدق بمجهول المالك

و أنّه إذا جاء صاحبها و رضى كانت الصدقة له مثل ما روى على بن جعفر عن أخيه قال:

«و سألته عن الرجل يصيب اللقطة فيعرّفها سنة ثم يتصدق بها فيأتي صاحبها، ما حال الذي تصدق بها ... قال عليه السّلام: هو ضامن لها و الأجر له إلّا أن يرضى صاحبها فيدعها و الأجر له» «2» و يدل عليه الحديث الأوّل من الباب 18 منه أيضا.

و لا أقل من صحة سند الحديث الأوّل، و ظاهرها في بدو النظر أنّه لو رضي بالصدقة كانت الصدقة له فانّ الأجر لا يكون له بدون إمضاء الصدقة بعد وقوعها، و هذا دليل على صحة الفضولي أيضا، مضافا إلى أنّ الضمان لا يرتفع عن اللاقط إلّا بذلك.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 270

نعم، يمكن أن يقال بأن المراد منه إبراء الضامن من ضمانه في مقابل

اهداء أجر الصدقة له، و لكنه بعيد عن لحن الحديث و يحتاج إلى تكلّف، فالاستدلال به ليس ببعيد سندا و دلالة.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ التعدي عن الصدقة إلى البيع و غيره من أشباهه غير ثابت هذا و إلغاء الخصوصية ليس ببعيد بعد عدم كون أبواب العقود من الامور التعبدية المحضة.

إلى غير ذلك ممّا يعثر عليه المتتبع.

هذا غاية ما أردنا ذكره في المقام، و يتحصل من جميع ما ذكرنا أنّ العمدة في المقام مضافا إلى كون صحة الفضولي موافقا للقواعد الثابتة من الشريعة امور:

1- حديث عروة البارقي.

2- فحوى ما ورد في النكاح (ذكرناه تحت الرقم الثالث).

3- صحيحة الحلبي (ذكرناها تحت الرقم السادس).

4- ما ورد في باب تحليل الخمس (ذكرناها تحت الرقم التاسع).

5- ما ورد في الوديعة، مع قطع النظر عن ضعف السند (الرقم العاشر).

6- ما ورد في صدقة مجهول المالك (الرقم الثاني عشر).

بقي هنا شي ء: و هو أنّه يجوز الاستدلال لصحة الفضولي بجريان السيرة المستمرة بين العقلاء من أهل الشرع و غيرهم أيضا و جعلها دليلا مستقلا على المقصود، لأنا نجد موارد كثيرة يقع فيها البيع الفضولي و غيره ثم تلحقها الإجازة، و ذلك كثيرا ما يكون من ناحية الوكيل أو العامل أو الولي إذا خرجوا عن حدود وكالتهم و ولايتهم و عقد المضاربة و شبهها كما وقع ذلك من عروة البارقي، و بالنسبة إلى ما كان متعلقا لحق الغير كما في مورد بيع العين المرهونة، أو تصرف المحجور في أمواله، و بالنسبة إلى الوصية الزائدة على الثلث و ما أشبهها و هو كثير جدّا لا يكاد ينكر.

و لم يرد هناك ردع من ناحية الشارع المقدس قطعا بل قد عرفت إمضائه بشتى البيان و إن

لم يكن إليه حاجة.

فالمسألة بحمد اللّه خالية عن شوب الإشكال و صافية عن النقص و الإبهام.

أدلة القائلين ببطلان الفضولي

و استدل القائلون بفساده- و قد عرفت أنّهم أفراد قليلون- بامور:

1- «الأصل» و هو اصالة الفساد الثابتة في جميع أبواب المعاملات، فانّ الأصل يقتضي عدم النقل و الانتقال إلّا بسبب معلوم.

و فيه: أنّه منتقض بالأدلة الكثيرة السابقة لا سيما العمومات الناقضة له.

2- «الإجماع» المذكور في كلمات الشيخ الطوسي قدّس سرّه و غير، قال في الخلاف ما لفظه:

«إذا باع إنسان ملك غيره بغير اذنه كان البيع باطلا ... دليلنا إجماع الفرقة، و من خالف منهم لا يعتد بقوله، و لأنّه لا خلاف انه ممنوع من التصرف في ملك غيره و البيع تصرف (انتهى محل الحاجة) «1».

و الأوّل إجماع على خصوص محل الكلام، و الثاني من قبيل الإجماع على القاعدة، و قد ذكر الإجماع في مفتاح الكرامة في عداد أدلة القائلين بالبطلان «2».

و كلاهما كما ترى، أمّا الأوّل فلما عرفت من ذهاب المعظم إلى الصحة بل الشيخ نفسه أفتى في بعض كتبه بذلك، و أمّا الثاني فلأن مجرّد إجراء الصيغة مع انتظار رضى المالك ليس من التصرفات الممنوعة، إنّما الممنوع التصرف الخارجي أو إجراء الصيغة بلا انتظار رضا مالكه مع إشكال فيه أيضا.

3- «الآية» الدالة على لزوم كون التجارة عن تراض «3».

فانّها ظاهرة في وجوب كون التجارة صادقة عن الرضا من الطرفين، فإذا لم تكن كذلك كانت باطلة و إن لحقها الرضا بعد ذلك.

و قد أجاب عنها شيخنا الأعظم قدّس سرّه بوجهين:

أحدهما: أنّه لا دلالة على الحصر بعد كون الاستثناء منقطعا، و لو كان الاستدلال بمفهوم الوصف في مقام التحديد في قوله تعالى: تِجارَةً عَنْ تَراضٍ أمكن حمله على القيد

انوار الفقاهة،

ج 1، ص: 272

الغالبي، مضافا إلى إمكان حمله على كون «عن تراض» خبرا بعد خبر فلا دلالة له على مطلوبهم.

ثانيهما: إنّ الخطاب للمالكين و العقد إنّما يكون عقدا للمالك بعد إجازته و العمدة هو الأخير، و حاصله ما عرفت سابقا من أنّ أدلة لزوم الوفاء بالعقود و شبهها إنّما تشمل العقد المستند إلى كل إنسان، و من الواضح أنّ عقد الفضولي لا يكون عقد للمالك إلّا بعد إجازته، و حينئذ يكون ناشئا عن رضاه كما هو ظاهر.

و أمّا ظهور الآية في الحصر فلا ينكر و إن كان الاستثناء منقطعا، و كذا كون «عن تراض» وصفا في مقام الاحتراز و احتمال كونه خبرا بعد خبر بعيد جدّا.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ طريق الحلية و نفي كون الأكل أكلا للباطل لا ينحصر في التجارة بل الهبة و القرض و الجعالة و الصلح و الإرث و الوقف و غيرها من أشباهها طريق الحلية، فلو حمل على الحصر لزم تخصيص الأكثر.

و يمكن الجواب عنه بأنّ الحصر ناظر إلى تداول الأموال بين المسلمين من طريق الكسب و الاكتساب و عمدتها هي التجارة، و أمّا الهبة و شبهها امور نادرة بالنسبة إليها ليست من طريق الكسب و الاكتساب العام.

4- «أنّه تصرف في ملك الغير» و هذا التصرف قبيح عقلا و داخل في عنوان الظلم، كما أشرنا إليه إجمالا عند ذكر الإجماع، و قد أخذ هنا كدليل عقلي على المطلوب.

و فيه: ما قد عرفت من عدم القبح في مجرّد إجراء الصيغة لمن ينتظر إجازة المالك كما هو محل البحث، بل و لو لم يكن منتظرا لإجازته كما في بيع الغاصب لنفسه و تسليم قبحه كما قد يظهر من بعض كلمات شيخنا الأعظم قدّس

سرّه فانّه دليل، إلّا من باب التجري على القول بقبحه، و أمّا التصرفات الاخرى فالمفروض عدمها قبل تحقّق الرضا كما لا يخفى.

و قد يجاب عنه أيضا بأنّ الحرمة على فرض ثبوتها لا تدلّ على الفساد في باب المعاملات، مع أنّه لو دلت عليه لدلّت على الفساد بمعنى بطلان البيع مع استقلاله و هو مفروغ عنه بين الجميع، و أمّا مع الرضا و الإجازة فلا.

و لكن يرد على الوجه الأول: أنّ المختار دلالة النهي في المعاملات على الفساد إذا كان انوار الفقاهة، ج 1، ص: 273

راجعا إلى المسبب أو التسبيب، لأنّ الشارع الحكيم إذا أبغض شيئا من هذه الامور الاعتبارية لا يمضيها، و من الواضح أنّ القبح هنا إنّما هو من جهة تسبيب العقد للملكية، فالنهي فيه يدل على الفساد.

و أمّا عن الوجه الثاني: فلأنّ النهي عنه يدل على الفساد بمعنى عدم صلاحيته للحوق الرضا لا عدم تأثيره باستقلاله، لأنّ هذا ليس من آثاره قبل النهي، حتى يرتفع بالنهي، و الحاصل أنّ الحرمة مانعة عن الصحة التأهلية لا الاستقلالية، لعدم الترقب منه حتى مع قطع النظر عن الحرمة، فتأمل.

5- «ما حكاه في مفتاح الكرامة و غيره» أنّ من شرائط صحة البيع قدرة البائع على التسليم و هي هنا غير حاصلة «1».

و ممن استدل به «ابن قدامة» في «المغني» حيث ذكر في دليل البطلان بعد حديث حكيم بن حزام قوله: «و لأنّه باع ما لا يقدر على تسليمه، فاشبه ببيع الطير في الهواء» «2».

و الجواب عنه ظاهر، أمّا أولا: فانّ على التسليم إنّما تكون معتبرة عند حصول النقل و الانتقال، لا عند إجراء صيغة العقد إذا لم يتمّ شرائط الانتقال، لعدم الدليل على أزيد منه، فيكون كبيع السلف،

فهل يشترط فيه القدرة عند العقد، أو عند الأداء؟ و كذا في غير من أشباهه من الإجارة على فعل شي ء بل النذر و أشباهه.

و قد نقض عليه بما إذا كان قادرا على تسليمه لنفوذ رأيه في المالك و قبوله منه قطعا.

و فيه: إنّ هذا قضية خاصة لا يصح الركون عليه في حكم كلي مثل ما في المقام.

6- «الأحاديث الواردة في المسألة»:

منها: ما حكاه الفريقين في كتبهم عن «حكيم بن حزام» أنّه نهى النبي صلّى اللّه عليه و آله عن بيع ما ليس عنده.

ذكره ابن ماجة في سننه «3» و كذا الترمذي في صحيحه «4».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 274

و حكاه المحقق العاملي قدّس سرّه في مفتاح الكرامة بعنوان أخبار عامية «1».

و النراقي قدّس سرّه في المستند «2».

و قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه النبوي المستفيض: و هو قوله: صلّى اللّه عليه و آله لحكيم بن حزام «لا تبع ما ليس عندك».

و الظاهر أنّهم تلقوه بالقبول، و لعل هذا كاف في انجبار سنده.

و قد روى هذا من طرقنا أيضا عن الحسين بن زيد عن الصادق عليه السّلام في مناهي النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «و نهى عن بيع ما ليس عندك و نهى عن بيع و سلف» «3».

و عن سليمان بن صالح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، إلى أن قال:

«نهى عن بيع ما ليس عندك» «4».

و لعل المراد من النهي عن «بيع و سلف»، أن يبيع شيئا كليا سلفا مع عين شخص ليس عنده، و بيان الاستدلال به أنّ عدم الحضور عنده كناية عن عدم كونه مالكا له.

و الجواب عنه: أنّه يحتمل امورا:

أحدها: أن

يبيع شيئا بعينه، يكون ملكا لآخر ثم يذهب ليشتري منه و يبيعه، و هذا باطل قطعا للغرر و غيره.

ثانيها: أن يبيع مثل السمك في الماء و الطير في الهواء ممّا ليس عنده، و هو أيضا باطل.

ثالثها: أن يبيع بيعا كليا حاليا مع أنّه ليس شي ء من أفراد الكلي عنده، بل يريد شراءه من غيره و قد لا يبيعه و لا يقدر على تسليمه، و هو أيضا قابل للكلام.

و جميع ذلك إنّما هو في ما إذا باع شيئا لنفسه ليس يملكه، و أمّا البيع لمالكه مع انتظار إجازته فهو خارج عن نطاقه، فلا دخل لهذه الروايات بمسألة الفضولي.

و إن شئت قلت: البيع الفضولي لا يكون بيعا تاما إلّا مع الإجازة فإذا تمّ و كمل انوار الفقاهة، ج 1، ص: 275

و انتسب إلى المالك دخل في بيع ما هو موجود عنده، فلا يشمله ما دلّ على النهي عن بيع ما ليس عنده مطلقا.

و ممّا يدل على صحة بيع الكلي الذي عنده سواء كان حالا أو سلفا و يكون قرينة على أنّ المراد بالبيع في الروايات السابقة خصوص بيع عين شخصي ليس عنده لنفسه، ما روى اسحاق بن عمار و عبد الرحمن بن الحجاج جميعا قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يشتري الطعام من الرجل ليس عنده، فيشتري منه حالا، قال: ليس به بأس، قلت:

إنّهم يفسدونه عندنا، قال: و أي شي ء يقولون في السلم؟ قلت: لا يرون به بأسا» الحديث «1».

و ما روى عبد الرحمن بن الحجاج قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل يجيئني يطلب المتاع فأقاوله على الربح ثم أشتريه فأبيعه منه، فقال: أ ليس إن شاء أخذ و إن شاء ترك؟

قلت: بلى،

قال: فلا بأس به» الحديث «2».

و ما رواه أبو الصباح الكناني عن الصادق عليه السّلام «في رجل اشترى من رجل مائة منّ صفرا بكذا و كذا و ليس عنده ما اشترى منه قال: لا بأس به إذا وفاه الذي اشترط عليه» «3».

و منها: ما رواه المخالفون في كتبهم من قوله صلّى اللّه عليه و آله: «لا طلاق إلّا فيما يملك و لا عتق إلّا فيما يملك و لا بيع إلّا فيما يملك».

رواه في الخلاف في كتاب البيع في المسألة 275 عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عنه صلّى اللّه عليه و آله و اعتمد عليه في إثبات مدعاه في بطلان الفضولي مع أدلة اخرى.

و في معناه روايات متظافرة وردت من طرقنا:

منها: ما رواه محمد بن القاسم بن الفضيل عن أبي الحسن الأول و في آخره: ليمنعها أشد المنع فانّها باعته ما لم تملكه «4».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 276

و منها: ما رواه اسحاق بن عمار عن عبد الصالح عليه السّلام و في ذيلها «ما أحبّ أن يبيع ما ليس له» «1».

و منها: مكاتبة الحميري إلى صاحب الزمان (عليه آلاف التحية و الثناء) و في ذيلها «الضيعة لا يجوز ابتياعها إلّا من مالكها أو بأمره أو رضى منه» «2».

منها: مكاتبة محمد بن الحسن الصفار إلى العسكري عليه السّلام و في ذيلها «لا يجوز بيع ما ليس يملك و قد وجب الشراء من البائع على ما يملك» «3».

و تظافرها يغنى عن ملاحظة اسنادها.

و أمّا تقريب الاستدلال بها فهو أنّ الفضولي يبيع ما ليس يملكه و ما ليس له، فهو باطل.

و جوابه يظهر ممّا مرّ في سابقها، و هو أن مورد جميعها بيع العين المملوكة من قبل

من لا يملكها، حتى الحديث النبوي، بقرينة ذكر الطلاق و العتق اللذين لا يتعلقان بالكلي قطعا، فالمراد منها أنّه لا يجوز بيع عين مملوكة من قبل من لا يملكها لنفسه، بل صريح كثير منها و ظاهر بعضها أنّه باع شي ء لنفسه من دون أن يملكه بعد ذلك، و فساده ظاهر، بل و إن ملكه و إجازة كان خارجا عن محل الكلام، فانه فيما إذا باع للمالك متوقعا لإجازته ثم أجازه بعد ذلك، و لا دخل لهذه الإخبار به قطعا.

إلى هنا تمّ الكلام في المسألة الاولى من مسائل الفضولي.

المسألة الثانية: إذا سبق المنع من المالك

و هي ما إذا سبق من المالك المنع عنه، ثم رضي المالك فأجاز المعاملة، و حكى عن المشهور صحتها أيضا، و لكن عن فخر المحققين قدّس سرّه حكاية القول بالبطلان عن بعض من لم يسمه، و أمّا ما استظهره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه من المنع من كلام العلّامة قدّس سرّه في انوار الفقاهة، ج 1، ص: 277

التذكرة بقوله و يلوح إليه ما عن التذكرة في باب النكاح من جملة النبوي «أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر» بعد تضعيف السند على أنّه نكح بعد مولاه و كراهته فانّه يقع باطلا (انتهى) فالانصاف أنّه لا دلالة على مخالفته في المسألة بل لعل مراده نهى المولى عنه مطلقا و عدم اجازته بعد ذلك، و النكاح معه واضح البطلان.

و على كل حال فالمعدة في المسألة ملاحظة الأدلة السابقة حتى يعلم أيّها عام يشملها أيضا، و أيّها مختص بالمسألة الاولى، و هي ما لم ينه عنه المالك.

فنقول: و منه جل سبحانه التوفيق و الهداية: أمّا القاعدة المستفادة من العمومات فالظاهر أنّها شاملة لما نحن بصدده، لأنّ العمدة فيها هو

لحوق الإجازة و انتساب العقد إلى المالك و المنع السابق لا أثر له في هذا الأمر، بل كثيرا ما يتفق في الخارج أن المالك يمنع عن بيع لكن الدلال أو شبهه يساوم و يعاقد البيع مع المشتري علما بانّه إذا علم به المالك يرضى و يجيز، و هكذا بالنسبة إلى عقد الباكرة الرشيدة أو غير الرشيدة بالنسبة إلى اجازة الولي لو قلنا باشتراطه بها، و كذلك العبد بالنسبة إلى مولاه.

و أمّا الروايات الخاصة الواردة في الفضولي فرواية «عروة» «و حكيم بن حزام» الظاهر اختصاصهما بغير ما نحن فيه.

أمّا رواية «محمد بن قيس» فليس فيها تصريح بالنهي، إلّا أن ردّ البيع الفضولي قد يكشف عنه فتأمل، مضافا إلى أن الردّ اللاحق إذا لم يكن مانعا فالنهي السابق بطريق أولى.

أمّا روايات النكاح الفضولي فما كان ناظرا إلى نكاح العبد بغير إذن سيده لعله شامل لمحل الكلام لا سيما مع التعليل بقوله إنّما عصى سيده و لم يعص اللّه فإذا أجاز فهو له جائز «1».

قد يقال: أنّه يدل عليه أيضا روايات باب المضاربة، فان العامل إذا اشترط عليه شي ء و خالفه كان من مصاديق النهي عن المعاملة بدونه، و لكن قد عرفت عدم دلالتها على صحة

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 278

الفضولي، و أنّ أصل المعاملة ليست فضوليا لأنّ مخالفته للشرط إنّما هي من جهة اخراجه المال عن البلد مثلا و جعله معرضا للتلف الذي هو موجب للضمان، و لا دخل له بأصل المعاملة، فراجع ما ذكرناه آنفا.

و يمكن الاستدلال له أيضا بما ورد في روايات تحليل الخمس، فان موردها تصرف الخمس من ناحية الغاصبين من بني امية و نظرائهم، و هو من أظهر مصاديق المسألة، بل و يمكن الاستدلال

من حكم الغاصب على ما نحن فيه بالأولوية كما لا يخفى.

و كذا يستدل له بما ورد في باب من خان في الوديعة و أنكرها، ثم اتجر بها ثم تاب و جاء بها مع ربحها، لأن هذا الخائن كان ممنوعا و منهيا عن المعاملة معها و لو بشهادة الحال، و لكن قد عرفت ضعف سندها بالحسن بن عمارة فراجع «1».

و ممّا يمكن الاستيناس منه على المقصود، صحة عقد المكره بعد لحوق الرضا فان المالك كان كارها عند العقد بل و ما بعده إلى أن لحقه الرضا، اللّهم إلّا أن يقال: فرق ظاهر بينه و بين ما نحن فيه، لأن العقد صدر من أهله مستندا إليه و إنّما فقد بعض شرائطه و هو الرضا، بخلاف ما نحن بصدده، لأن العقد غير مستند إلى المالك أصلا إلّا بالاجازة اللاحقة و تأثيرها محل كلام، فتأمل.

إن قلت: قد اجمعوا على أنّ الإجازة بعد الردّ غير نافعة لأنّه من قبيل الفسخ، و إذا نهى المالك و كان مستمرا إلى ما بعد العقد و لو آنا ما، كان في حكم الردّ فلا تنفعه الإجازة اللاحقة.

قلنا: أولا: الإجماع هنا غير ثابت كما سيأتي إن شاء اللّه و كون الردّ مانعا، غير ثابت.

و ثانيا: هذا إذا كان بعنوان إنشاء فسخ و ابطال، لا مجرّد الكراهة الباقية عن النهي السابق، و الحاصل إن صحة الفضولي هنا أيضا ظاهرة.

المسألة الثالثة: بيع الفضولي لنفسه
اشارة

و قد ذكروا هذه المسألة غالبا تحت عنوان «بيع الغاصب» و لكن قد يتصور فيه الغاصب كالمشتبه.

و الأكثر كما حكاه في مفتاح الكرامة عن الإيضاح أن بيع الغاصب من أفراد الفضولي، و به صرح في التذكرة و المختلف و نهاية الأحكام و الدروس و حواشي الشهيد و

التنقيح و جامع المقاصد و غيرها «1».

و قال: ابن قدامة «المغنى» «تصرفات الغاصب كتصرفات الفضولي على ما ذكرنا من الروايتين، أحدهما بطلانها و الثانية صحتها و وقوفها على اجازة المالك».

ثم حكى عن أبي الخطاب: «إن في تصرفات الغاصب الحكمية رواية أنّها تقع صحيحة و سواء في ذلك العبادات ... أو العقود كالبيع و الإجارة و النكاح، و هذا ينبغي أن يتقيد في العقود بما لم يبطله المالك، و أمّا ما لم يدركه المالك فوجه التصحيح فيه أنّ الغاصب تطول مدّته و تكثير تصرفاته ففي القضاء ببطلانها ضرر كثير و ربّما عاد الضرر على المالك، فان الحكم بصحتها يقتضي كون الربح للمالك و العوض بنمائه و زيادته له، و الحكم ببطلانه يمنع ذلك» «2».

و كيف كان، التعبير في كلام الإيضاح بالأكثر دليل على مخالفة جماعة في خصوص هذا القسم كما يظهر من بعض العبارات التفصيل بين صورة علم المشتري بالغصبية فلا تصح، و بين صورة جهله فتصح، فاذن المسألة ذات أقوال ثلاثة: القول بالصحة في المقامين، و القول بالبطلان كذلك، و التفصيل بين صورتي الجهل و العلم.

فلنرجع إلى الأدلة: الإنصاف أنّ كثيرا من «الأدلة السبعة» التي اخترناها في الفضولي يجرى هنا، أمّا القاعدة فالظاهر أنّها شاملة بعد كون هذا العقد من مصاديق العقود بعد لحوق اجازة المالك، لما قد عرفت من أنّ العمدة أنّ الإنشاء صدر صحيحا، و بعد لحوق الإجازة يصح استناده إلى المالك فيكون العقد عقده.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 280

أمّا حديث «عروة» و «حكيم بن حزام» فلا يشملان المقام، و كذا صحيحة «الحلبي» و ما ورد في صدقة مجهول المالك.

أمّا صحيحة محمد بن قيس فالمورد من مصاديقه الظاهرة، لكون الابن غاصبا قطعا، و كذا

ما ورد في باب تحليل الخمس بالنسبة إلى ما غصبه الغاصبون من بني امية و نظرائهم لعنة اللّه عليهم أجمعين، إذا وقع في أيدي المؤمنين بعد وقوع البيع عليه و كذلك ما ورد في باب الخيانة في الوديعة.

و ما استدل به للبطلان امور:

الأوّل: و هو العمدة- أنّ الفضولي غير قاصد لحقيقة البيع، لأنّ البيع هو اخراج المعوض عن ملك من يدخل في ملكه العوض، و بعبارة اخرى: تبديل علاقة الملكية و استقرار كل في محل الآخر، لأنّ حقيقة المعاوضة و المبادلة لا تتحقق إلّا بذلك، و هذا المعنى غير موجود في البيع لنفسه، فما وقع لم يقصد و ما قصد لم يقع.

و لذا قال: بعض الأعلام في مكاسبه ما لفظه: «إن ماهية البيع عبارة عن تبادل المالين في الملكية أو تمليك العين بالعوض ... و لا يمكن للفضولي في البيع لنفسه قصد هذا المعنى جدّا لا التمليك الجدي فعلا و لا تملك الثمن كذلك».

و أجاب عن الإشكال شيخنا العلّامة الأنصاري قدّس سرّه بما حاصله: «إن الغاصب و إن كان يقصد وقوع المعاملة لنفسه و لكنه بعد جعل نفسه مالكا ادعاء ففي الحقيقة يبيع للمالك و لكن يرى نفسه مصداقا له».

و أورد عليه السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه بأنّ هذا الجعل و لو كان غالبيا و لكن ليس دائما فلا بدّ من الحكم بالفساد عند العلم بعدم هذا الجعل مع أنّه لم ير هذا التفصيل من أحد من القائلين به، مضافا إلى أنّه لا بدّ من احرازه عند الشك، و هو مشكل لعدم إمكان حمل فعله على الصحة.

ثم ذكر في طريق حل المسألة أنّ حقيقة البيع هي مبادلة مال بمال، و هذا هو الذي انوار الفقاهة، ج 1، ص: 281

يعتبر في

قوامه، و أمّا المال فممن ينتقل؟ و إلى من ينتقل؟ فلا دخل له في حقيقتها و لذا لا يعتبر احراز كون البائع مالكا أو وكيلا أو وليا على المالك (و لو لا ذلك وجب احرازه).

قلت: الاتصاف أنّ هذا الجعل أمرا كثير المئونة، بل كل غاصب إذا كان في مقام البيع يرى نفسه مالكا، و إن شئت قلت: لا شك في أنّ الغاصب عند بيعه يكون قاصدا جدّا للبيع، و ليس هازلا، و لا قاصدا للبيع، الصوري، و هذا لا ينفك عن الجعل المذكور لو قلنا بأن حقيقة البيع هي دخول العوض في ملك من خرج عن ملكه المعوض، و قد عرفت أن هذا الجعل أمر خفيف المئونة جدّا.

نعم، ما أفاده من أنّ حقيقة البيع ليست إلّا مبادلة مال بمال، أمر ظاهر لا ينكر و لكن بما أنّ المال هنا بمعنى الملك و الملكية لا تنفك عن مالك، كان لازمه ادخال العوض في ملك من خرج عن ملكه المعوض كما لا يخفى على المتدبر.

هذا كله إذا قلنا بأنّه لا يمكن دخول العوض في غير ملك من خرج المعوض عن ملكه، أمّا لو قلنا بجواز ذلك مثل ما إذا قال: اشتر بهذا الدينار لباسا لنفسك، أشكل الأمر هنا، لأنّ الفضولي إذا قصد نفسه مالكا للعوض من هذا الطريق لم يمكن لحوق الإجازة، و لكن صحة هذا المعنى محل نظر، مضافا إلى أنّ الفضولي الغاصب ليس كذلك بل يرى نفسه مالكا.

فتلخص من جميع ما ذكر إمكان تصحيح بيع الفضولي إذا قصد لنفسه من طريقين؛ من طريق ادعاء الغاصب كونه مالكا للمعوض و جعل نفسه بمنزلة المالك (و أوضح حالا منه المشتبه الذي يرى نفسه مالكا) و من طريق

كون حقيقة البيع مبادلة مال بمال من دون نظر إلى المالكين و إن كان يشملهما بالدلالة الالتزامية.

هذا كله إذا كان المتاع غاصبا، و لو كان المشتري غاصبا و البائع أصيلا، فقال المشتري: تملكت هذا المتاع منك بهذه الدراهم فقد يستشكل في صحته بعد اجازة المالك، لأنّ المشتري إنّما قصد التملك لنفسه، و الانصاف أنّه لا فرق بينه و بين الصورة السابقة، و كذا لا فرق بين قول المشتري «تملكت ...» و قول البائع الأصيل «ملكتك هذا بهذه الدراهم» و يجري ما ذكرنا من تصحيح المعاملة بالوجهين السابقين فيهما أيضا، من انوار الفقاهة، ج 1، ص: 282

دون أي فرق بينهما و بين غيرهما كما لا يخفى.

الثاني: أن هذا المسألة داخلة فيما سبق من صدور المعاملة بعد نهي المالك، لأن الغصب امارة النهي و عدم الرضا و لو بشهادة الحال.

و فيه: مضافا إلى أنّ هذا الدليل أخص من المدعى، ما عرفت سابقا من صحة الفضولي على ذلك النحو أيضا إذا لحقته الإجازة.

الثالث: الأخبار الكثيرة التي استدل بها القائلون ببطلان الفضولي تارة في المسألة الاولى، أعني ما إذا باع الفضولي للمالك، و اخرى في هذا المسألة اعني ما إذا باع انفسه.

و قد تفطن لذلك صاحب الحدائق حيث أورد على نفسه بعد ذكر هذه الأخبار بقوله «إن قلت: إن البيع الفضولي عند الأصحاب هو أن يبيع مال غيره أو يشتري بأن يكون ذلك البيع و الشراء للمالك لكنه من غير اذنه و لا رضاه و ما دلت عليه هذه الأخبار إنّما هو البيع أو الشراء لنفسه لا للمالك».

ثم أجاب عن الإشكال: أولا: بأن محل نزاع الأصحاب أعم، و ثانيا: بأن السؤالات الواردة في الأخبار و إن كانت في خصوص هذه

الصورة، و لكن يستفاد من الجواب الأعم منه «1».

و على كل حال هذه الروايات كثيرة.

1- منها ما رواه محمد بن الحسن الصفار أنّه كتب إلى أبي محمد الحسن بن على العسكري عليه السّلام «في رجل له قطاع أرضين فيحضره الخروج إلى مكّة، و القرية على مراحل من منزله و لم يكن له من المقام ما يأتي بحدود أرضه، و عرّف حدود القرية الأربعة فقال للشهود: اشهدوا أني قد بعت فلانا يعني المشتري جميع القرية الّتي حدّ منها كذا ... فوقع عليه السّلام: لا يجوز بيع ما ليس يملك، و قد وجب الشراء من البائع على ما يملك» «2».

2- ما رواه محمد بن القاسم بن الفضل قال: «سألت أبا الحسن الأول عليه السّلام عن رجل انوار الفقاهة، ج 1، ص: 283

اشترى من امرأة من آل فلان بعض قطائعهم، و كتب عليها كتابا بأنّها قد قبضت المال و لم يقبضه، فيعطيها المال أ يمنعها؟ قال عليه السّلام: قل (فليقل) له ليمنعها أشد المنع فانّها باعته ما لم تملكه» «1».

3- ما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث قال: «سأله رجل من أهل النيل عن أرض اشتراها بفم النيل، و أهل الأرض يقولون: هي أرضهم ... فقال لا تشترها إلّا برضا أهلها» «2».

4- و ما رواه الحميري أنّه كتب إلى صاحب الزمان عليه السّلام: «أن بعض أصحابنا له ضيعة جديدة بجنب ضيعة خراب للسلطان ... فأجابه الضيعة لا يجوز ابتياعها إلّا من مالكها أو بأمره أو رضى منه» «3».

5- ما رواه شعيب بن واقد عن الحسن بن زيد عن الصادق عن آبائه عليه السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حديث المناهي

قال: «و من اشترى خيانة و هو يعلم فهو كالذي خانها» «4».

6- ما رواه أبو بصير قال: «سألت أحدهما عليه السّلام عن شراء الخيانة و السرقة، قال لا إلّا أن يكون قد اختلط معه غيره فأما السرقة بعينها فلا» الحديث «5».

7- ما رواه جراح المدائني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا يصلح شراء السرقة و الخيانة إذا عرفت» «6».

8- و ما رواه على بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام قال: «سألته عن رجل سرق جارية ثم باعها يحل فرجها لمن اشتراها؟ قال: إذا أنبأهم أنّها سرقة فلا يحل و إن لم يعلم فلا بأس» «7».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 284

9- ما رواه سماعة في نفس الباب.

10- ما رواه زريق عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث طويل مذكور في الباب الثالث من أبواب عقد البيع فليراجع.

فهذه عشر روايات استدل بها في الحدائق على البطلان في المسألتين، و إنّما أشار شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه إلى شي ء قليل منها فقط و لم يذكر الباقي.

و لكن الجواب عن جميعها ظاهر، فانّها بأجمعها ناظرة إلى بيع الغاصب أو المشتبه مال غيره لنفسه، و أنّه لا يقع له و يكون باطلا من هذه الجهة، من دون أن تكون ناظرة إلى لحوق الإجازة و وقوع البيع للمالك، و العجب أن صاحب الحدائق (قدس سره الشريف) لم يتفطن له حتى زعم أن الأصحاب غفلوا عن ذلك.

بقي هنا امور:
الأوّل: قد ظهر ما ذكرنا أنّه لا فرق بين كون الغاصب الفضولي بايعا لمال غيره أو مشتريا بمال غيره شيئا

، كما أنّه لا فرق بين أن يكون إنشاء المشتري هنا بقول: تملكت منك هذا بهذا، و بين غيره من عبارات الإنشاء، و القول بأنه قصد تملك نفسه، فلا يبقى مجال لإجازة المالك مدفوع، لما عرفت من أنّه يجعل

نفسه مالكا ادعائيا، فهو يشتري في الواقع لمالك الثمن لا لنفسه بالخصوص، و إلّا لم يصدر منه قصد إنشاء البيع.

مضافا إلى ما عرفت من أنّ حقيقة البيع مبادلة بين المالين و إنّما يتعين المالكان بتعين المالين.

فلا فرق أصلا بين البائع الفضولي و المشتري الفضولي، و العجب من شيخنا الأعظم قدّس سرّه حيث فرق بينهما في بعض كلماته و اطنب الكلام هنا بما لا يحتاج إليه بعد عدم الفرق بين الصورتين أصلا.

الثاني: و قد حكي عن بعض الأصحاب طريق آخر لحل مشكل عدم تطابق الإجازة

و العقد الواقع (نظرا إلى أن العقد وقع للفضولي و الإجازة تقع للمالك) و هو أنّ الإجازة إنّما تتضمن تبديل العقد السابق و يجعله للمالك بعد أن كان للفضولي، فهي في الواقع عقد مستأنف (حكى ذلك عن بعض كلمات المحقق القمي قدّس سرّه).

و فيه: «أولا»: أنّه خارج عن محل الكلام بين الأعلام، لأنّ المراد لحوق الإجازة بالعقد السابق و جعله عقدا تاما، و أمّا العقد الجديد فلا يحتاج إلى هذه التفاصيل و لا ينبغي وقوع الخلاف فيه.

و ثانيا: لو كانت الإجازة عقدا جديدا كانت بحكم الايجاب و احتاج العقد إلى قبول جديد، لأنّ القبول السابق لا ينفع كما هو ظاهر.

الثالث: هل يصح اجازة عقد الفضولي، البائع لنفسه أو المشتري لنفسه

، حتى يتمّ العقد لنفس الفضولي (لا للمالك) أم لا؟

حكي عن بعض الأعاظم من شراح القواعد جواز ذلك، و ذكر بعضهم في توجيهه أمرين:

«أحدهما»: إنّ الإجازة كما تكون إجازة للعقد، تكون تمليكا ضمنيا للمال بحيث ينتقل المال إلى الفضولي أولا ثم ينتقل عن ملكه.

«ثانيهما»: أنّه ما المانع عن انتقال المال إلى ملك من لم ينتقل العوض عن ملكه؟ مثل أن يقال: اشتر بهذه الدراهم طعاما أو لباسا لنفسك (انتهى ملخصا).

لكن فساد الوجه الأوّل ظاهر، لأن الإجازة لو تضمنت تمليكا احتاج إلى القبول من ناحية الفضولي و المفروض عدم وجود قبول له لا قبلا و لا بعدا، هذا أولا.

و أمّا ثانيا: إنّ اللازم صدور الإجازة حينئذ من الفضولي نفسه، لأنّه باع ثم ملك فعلية الإجازة حتى يقع البيع له، و لا دخل لإجازة المالك الاصلي لأنّه صار كالأجنبي بعد تمليكه المال للفضولي، و أمّا الوجه الثاني فهو غير بعيد لما عرفت من أنّه أمر واقع بين أهل العرف و العقلاء و له مصاديق كثيرة، و كثيرا

ما يأخذ الغني بيد الفقير و يذهب به إلى السوق و يشتري له بماله لباسا أو قميصا أو نعلا أو شبه ذلك له، أو يذهب به إلى دفتر الاسناد

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 286

و يشتري له دارا بتوقيعه السند و هو يعطي ثمنه.

و القول بأنّه يشتري أولا لنفسه ثم يملكه، أو يعطيه الوكالة في التملك قبل البيع أو بعد تملك الثمن أو تملك المثمن، خلاف مرتكز العرف.

و لكن المسألة غير خالية من الإشكال و تحتاج إلى مزيد تأمل كما مرّ.

الرابع: و قد يورد إشكال آخر هنا على صحة بيع الفضولي لنفسه

إذا كان المشتري جاهلا بأنّه غاصب، فانه يقصد تمليك نفس البائع الغاصب، فلا تنفعه الإجازة بعد ذلك، فاللازم التفصيل في المسألة.

و الجواب: يعلم ممّا سبق فانّ المشتري لا يقصد الفضولي بشخصه، بل بما أنّه مصداق للمالك، ففي الحقيقة طرف المعاملة هو المالك، و لذا ترى الوكلاء و الأوصياء و الأولياء لا يزالون يبيعون أو يشترون لمن لهم الولاية أو الوكالة من قبلهم، لا لأنفسهم مع جهل الطرف المقابل بذلك، و لا شك أنّ معاملاتهم صحيحة، و ليس ذلك إلّا لأنّ قصد الطرف المقابل التمليك للمالك الواقعي لا لشخص البائع.

الخامس: و هاهنا تفصيل آخر عكس التفصيل السابق في مسألة الفضولي الغاصب البائع لنفسه

، بين صورة علم المشتري بالحال و جهله، ففي صورة الجهل يصح مع الإجازة، و أمّا في صورة علمه لا يصح، لأنّه يسلط البائع الغاصب على الثمن مع علمه بعدم تملكه، فيكون تسلطا مجانيا، فيكون الثمن له، و حينئذ كيف تصح بعده الإجازة لأنّه يصبح البيع حينئذ بلا ثمن فلا تنفع الإجازة.

و الجواب: يظهر أيضا ممّا تقدم لأن المشتري لا يعطي الثمن إلّا بناء على كون البائع مالكا و إن علم بالغصب، فالاعطاء إنّما هو بعد هذا البناء كما أن إنشاء البيع من قبل الغاصب أيضا يكون بعد هذا البناء.

فكما أنّ الإشكال مندفع في طرف البائع ببنائه على الملكية الادعائية، فكذلك من قبل تسليط المشتري إيّاه على الثمن، و من هنا يعلم أنّ ما يظهر من بعض الأصحاب من عدم كون البائع هنا ضامنا للثمن بعد التسليط المجاني من قبل المشتري كما ترى،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 287

و سنزيدك وضوحا إن شاء اللّه في المباحث الآتية.

السادس: لا إشكال في جريان الفضولي في العين الخارجي، و أمّا الكلي في الذمّة

فان اضيف إلى شخص البائع أو أطلق و كان منصرفا إليه كما هو كذلك، فلا كلام و لا دخل له بالفضولي و أمّا إن اضيف إلى غيره، كما إذا قال: بعتك كذا و كذا من الحنطة في ذمّة زيد بكذا درهما، فهو داخل في الفضولي قطعا، و كذا بالنسبة إلى الثمن إذا اضيف إلى ذمة غير المشتري.

و حينئذ إن أجاز صاحب الذمّة، فالبيع يقع له، و تشمله أدلة صحة الفضولي، لعدم الفرق بين الذمة و العين الشخصي الخارجي في شي ء من أحكامه، و مجرّد كون روايات صحة الفضولي واردة في الاعيان الشخصية لا يضرنا كما هو ظاهر.

إنّما الكلام فيما إذا ردّ صاحب الذمة، فهل تقع المعاملة فاسدة، أو تلزم شخص

البائع و يكون في ذمته؟ و الكلام قد يقع في مقام الإثبات و اخرى في مقام الثبوت ...

اما مقام الإثبات: فان لم يضف الفضولي الذمة إلى غيره صريحا و أطلق في ظاهر كلامه، فلا شك إنّه يلزم ظاهرا، لانصراف الذمة المطلقة إليه، و لا يصغى إلى دعواه أنّه قصد المعاملة لغيره، و لا يدخل فيما لا يعلم من قبله بعد ظهور كلامه في إرادة نفسه، و إلّا لم يتم ظهور في شي ء عن الأقارير و شبهها.

قال المحقق قدّس سرّه في الشرائع في كتاب المضاربة: «و كذا يجب أن يشتري بعين المال و لو اشترى في الذمّة لم يصح البيع إلّا مع الاذن، و لو اشترى في الذمة لا معه و لم يذكره تعلق الثمن بذمته ظاهرا».

و ذكر في نفس الكتاب ما نصه: «و إن كان في الذمة (أي شراء العامل) وقع الشراء للعامل إلّا أن يذكر رب المال» و ذكر في الجواهر في شرح هذا الكلام عند قوله «وقع الشراء للعامل» قوله ظاهرا و باطنا، ثم قال ما حاصله: إنّه لو نوى المالك واقعا يكون فضوليا و إن الزم به ظاهرا «1».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 288

و أمّا بالنسبة إلى مقام الثبوت: فلا شك في أن مقتضى القاعدة الفساد إذا اضاف الذمة إلى غيره و لو في ذهنه بعد عدم اجازة الغير بل ردّه.

و لكن يظهر من كلمات بعض أساطين الفقه صحته و لزومه للبائع و أن الذمة تنصرف إليه قهرا.

قال العلّامة قدّس سرّه في القواعد في كتاب المضاربة: «و لا يشتري (أي العامل) إلّا بعين المال، فان اشترى في الذمة من دون اذن وقع له إن لم يذكر المالك و إلّا بطل» «1».

و ظاهرا العبارة

الوقف له ظاهرا و باطنا، و اظهر منه ما حكي عن تذكرته حيث قال:

«و ان كان- أي الشراء فضولا- في الذمة لغيره، و أطلق اللفظ، قال علماؤنا يقف على الإجازة، فان أجاز صح و لزم أداء الثمن، و إن ردّ نفذ عن المباشر ... و إنّما يصح الشراء لأنّه تصرف في ذمته لا في مال غيره ... فان أجاز لزم و إن ردّه لزم من اشتراه» «2».

هذا و لا ينبغي الشك في عدم نفوذه عن المباشر واقعا إذا قصد الغير، و عدم القدرة على إثباته لا ينافي فساده فيما بينه و بين اللّه، و ثمرته أن الطرف المقابل إن علم بذلك من قرائن خارجية لزم، و لا أثر للحكم الصادر من الحاكم المبني على الظاهر.

كذلك لا ينبغي الشك في أنّه إذا لم يضف الذمة إلى أحد بل أطلقه و لو في قصده و لكن قصد و لكن المعاملة للغير، فان الذمة تضاف إليه قهرا، إمّا لكون حقيقة المبادلة دخول الغوض في ملك من خرج عن ملكه المعوض، و إمّا لانصرافها إلى ذلك و لو قلنا بجواز غيره.

و ما يظهر من بعض العبائر من الترديد فيما ذكر ليس في محله، و أمّا التعليل الوارد في عبارة التذكرة من أنّه تصرف في ذمة الغير لا في ماله فان أجازه لزمه و إلّا لزم من اشتراه، فلم يعلم وجهه.

و الأولى حمل جميع هذه على الصحة الظاهرية، و قد ذكر مثل هذه المعاني في كتاب الوكالة فراجع القواعد و مفتاح الكرامة و الجواهر «3».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 289

فرع: لو جمع بين المتنافيين بأن قال: اشتريت هذا القميص لفلان بدرهم في ذمتي، أو قال: اشتريت هذا القميص لنفسي بدرهم في

ذمة فلان، فلا محيص عن البطلان في الأوّل، بناء على أن حقيقة المعاوضة كون العوض ملكا لمالك المعوض لتنافي القيدين، و تصحيح المعاملة بالغاء أحد القيدين لا وجه له و ترجيح بلا مرجح.

و أمّا الثاني فهو أيضا كذلك، و ما يتراءى من بعض كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه من إمكان دخوله في الفضولي فيقع البيع للغير بعد اجازته و لكن بشرط بنائه على مالكيته في ذمة غيره درهما كما ترى، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ المبادلة تكون بين المالين فيكون المعوض لمن أضيف إليه الذمة و يلغي سائر القيود، و حينئذ تصح في الصورتين و تقع لصاحب الذمة، فتأمل جيدا.

السابع: هل تجري المعاطاة في الفضولي أو يختص بالبيع العقدي؟

الظاهر أنّ العمومات التي بني عليها صحة الفضولي شاملة لها من دون أي فرق، كما أن اطلاق الروايات الكثيرة الدالة على صحة أيضا تشملها، لعدم الفصل فيها بينهما، حتى أنّ رواية عروة كذلك، و القول بأنّها ظاهرة في خصوص المعاطاة- كما في بعض كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه- لم نعلم له وجها إلّا أن يقال نظره إلى كون غالب البيوع معاطاتيا.

نعم ربّما تردد في صحتها بعض الأكابر، و يمكن أن يكون ذلك لأمرين:

1- إن المعاطاة تكون بالتراضي و قصد الإباحة أو التمليك، و هذا لا يكون إلّا من المالكين.

2- إنّ المعاطاة لا تكن إلّا بالاعطاء من الطرفين، و هو حرام من ناحية الفضولي فيكون فاسدا.

و لكن يجاب عن الأول: بأنّ مدار المعاطاة كما عرفت في محلها على جعل الإنشاء الفعل بدل الإنشاء القولي و هذا هو قوامها، و الرضا شرط لتأثير هذا الإنشاء، و الفضولي يدور مدار أمرين: صدور الإنشاء من أجنبي، و الإجازة من المالك بعد ذلك، و قد مرّ أنّ الإنشاء الفعلي قد

يكون باعطاء أحد الطرفين، و لذا تجري المعاطاة في النسية و السلم،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 290

فإذا اقبض الأصيل المال و قبضه الفضولي ثم أجاز المالك الأصيل تمّ البيع، و كذا يمكن أن يكون الإنشاء بالكتابة بناء على كونها بمنزلة المعاطاة أو بالألفاظ غير المعتبرة.

و يجاب عن الثاني: أولا: بمثل ما اجيب عن الأول، و ثانيا: بأنه يمكن أن يكون الإقباض مجازا، إمّا ظاهرا كما إذا كان الفضولي مشتبها (كما في رواية الإقالة مع الوضعية) أو عالما برضاء المالك بالقبض فقط إلى أن يتأمل فيه لعله يرضى، أو رضاه بالبيع، بناء على ما عرفت من أنّ مجرّد الرضا لا يعدّ اجازة، بل المعتبر فيه الإنشاء، و ثالثا:

النهي التكليفي المولوي في المعاملة لا يكون سببا للفساد كما هو المشهور.

و بالجملة لا فرق بين العقد اللفظي و المعاطاة في مسألة الفضولي و كلاهما صحيحان مع شرائطه.

الكلام في الإجازة
اشارة

و لنبدء أولا بذكر أحكام نفس الإجازة، ثم نتبعها بأحكام المجيز، ثم المجاز.

فنقول و منه جلّ ثناؤه التوفيق و الهداية: إن الكلام في الاجازة يقع في امور:

1- هل هي كاشفة أو ناقلة؟ و المراد بالأول أنّه بعد تحققها تكشف عن صحة العقد حين وقوعه، و تأثيره لجميع آثاره، و بالثاني أنّه يؤثر من حين تحقق الإجازة و الثمرة بينهما ظاهرة.

و المسألة ذات قولين و إن كان الكشف له معان عديدة، منها الكشف الحقيقي، و الكشف الحكمي، و الكشف الانقلابي، كما سيأتي إن شاء اللّه.

و أمّا ما ذكره المحقق القمي قدّس سرّه في «جامع الشتات» من أن المسألة ذات أقوال ثلاثه، و جعل ثالثها القول بكون الإجازة عقدا جديدا، فهو كما ترى، لأنّه خارج عن محل الكلام قطعا، و لو كانت الإجازة عقدا

جديدا لم يختلف في صحة الفضولي أحد من الفقهاء.

هذا و يظهر من الرياض أنّ الأشهر القول بكونها كاشفة، و عن مجمع البرهان أنّه مذهب الأكثر، و صرح بهذا القول الشهيدان قدّس سرّهما فيما حكي عنهما و غيرهما و قواه في الجواهر.

و حكى اختيار كونها ناقلة عن مجمع البرهان و الإيضاح، و عن بعضهم التوقف في المسألة كالمحقق الثاني قدّس سرّه.

و الذي استقر عليه رأي شيخنا الأعظم قدّس سرّه أنّ الأنسب بحسب العمومات هو النقل ثم بعده الكشف الحكمي، و أمّا الأخبار الخاصة الآتية فلا ظهور فيها في الكشف الحقيقي فيحتمل الكشف الحكمي انتهى.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 292

و ظاهر هذا الكلام الترديد في المسألة كما ذهب إليه بعض المعاصرين أيضا و لازمه الاحتياط، فاللازم ذكر الأدلة من الجانبين حتى تظهر حقيقة الحال.

أمّا الدليل للقول بالكشف فهو على قسمين: من ناحية القواعد و من ناحية الأدلة الخاصة، أمّا الأول فهو امور:

1- متعلق الإجازة هو العقد، و من الواضح أنّه يقتضي نقل العوضين عن زمن وقوعه، فإذا تمّ بلحوق الإجازة أثّر أثره من حينه، لا من حين الإجازة، و هذا هو القول بالكشف.

و يمكن تقريبه بوجه آخر، و هو أن الشارع أمر بالوفاء بالعقود بعد استكمال شرائطها، و من المعلوم أن الوفاء بالعقد ليس إلّا العمل بمقتضاه، أعني النقل و الانتقال من حين وقوعه.

2- إن العقد سبب تام للملك لقوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، و بعد لحوق الإجازة يعلم كونه تاما و أنّه أثّر من زمن وقوعه، و لو لا ذلك لم يكن موضوع الوفاء خصوص العقد بل العقد مع شي ء آخر.

3- إن الإجازة لو لم تكن كاشفة لزم تأثير المعدوم، و هو العقد في الموجود و هو انتقال

العوضين.

و الجواب عنها: إنّ ضعف الوجه الأخير ظاهر جدّا، و هو أن العقد بألفاظه و إن صار معدوما بعد تمام الإنشاء و لكن نتيجة العقد، و هو المنشأ، باق في عالم الاعتبار و في وعائه، فله استقرار بعد إنشائه بألفاظه كما هو واضح.

و أمّا الثاني، فهو أيضا لا محصل له لأنّ الإجازة و رضا المالك إمّا أن يكون له أثر في تمام العقد أم لا؟ فان قيل أنّه لا أثر له فهو خلاف الضرورة من الفقه، و إن قيل بكون الإجازة مؤثرة لم تحصل النقل و لا انتقال إلّا بعده، و إن شئت قلت: لا معنى لكون الإجازة كاشفة عن تمامية العقد من قبل، لأنّه ليس هنا أمر خفى يكشف عنها.

و بالجملة العقد ليس علة تامّة للأثر، بل الإجازة من أجزاء المؤثر، بل من أهمها، فما معنى كشفها عن كون العقد تاما من قبل؟!

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 293

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ المراد كونها من قبيل الشرط المتأخر فالشرط في الحقيقة تعقب العقد للإجازة، فإذا حصلت يكشف عن كون العقد تاما من قبل لأنّ صفة التعقب كانت حاصلة و إن لم نعلم له.

و هذا المعنى و إن كان ممكنا إلّا أنّه مخالف جدّا لظواهر الأدلة التي يصرح باعتبار الإجازة و الرضا، بل مخالف لحكم العقلاء في هذا المجال كما هو ظاهر، لأنّ الشرط عندهم هو الإجازة لا صفة التعقب.

و من هنا يظهر الإشكال في ما حكاه في مفتاح الكرامة من احتجاج القائلين بالكشف بأنّ السبب الناقل للملك هو العقد المشروط بشرائط، و كلها كانت حاصلة إلّا رضاه المالك، فإذا حصل الشرط عمل السبب التام عمله، لعموم الأمر بالوفاء بالعقود، فلو توقف العقد على أمر آخر

لزم أن لا يكون الوفاء بالعقد خاصة، بل هو مع الأمر الآخر «1».

و لا يكاد ينقضي تعجبي من قولهم أولا بأن رضى المالك من الشرائط، مع قولهم أخيرا أنّه إذا حصل الشرط عمل السبب التام عمله، فإن كان السبب تاما فأي معنى للاشتراط؟

و إن كان مشروطا فلم يتمّ إلّا بعد وجود الشرط، إلّا أن يرجع قولهم هذا إلى الدليل الأوّل و سيأتي جوابه.

فلم يبق إلّا الأمر الأوّل، و هو العمدة في المقام و استند إليها في الجواهر بقوله: الأقوى كون الإجازة كاشفة ... لأنّها رضى بمقتضى العقد الذي هو النقل من حينه بل هي من الحقيقة رضى برضى الفضولي الذي كان مقارنا للعقد، فينكشف حينئذ بذلك كون العقد تام الشرائط غير متوقف حينئذ تأثير على شي ء آخر، إذ المالك لم يصدر منه إلّا الرضا بما وقع من العقد، الدال على رضى العاقد بنقل المال بما صدر منه من العقد حينه (انتهى) «2».

و بعض هذا التعبيرات و إن كان يستشم منه الدليل الثاني و لكن ظاهر الجميع هو الأوّل.

و يمكن الجواب عنه: بأنّ عقد البيع و ما أشبهه من العقود لا يدخل فيه الزمان بعنوان القيدية، نعم الزمان ظرف له، و كلما اجتمع فيه شرائط الصحة تؤثر أثرها فليس مفاد عقد

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 294

البيع النقل من حين العقد، إلّا أنّه لو كانت الشرائط مجتمعة كان له هذا الأثر من حينه، كما أنّ الأمر كذلك في العلل التكوينية فلا تكون علّية النار للإحراق مقيدة بزمان خاص دون زمان، و لكن إذا تحققت النار و اجتمعت الشرائط و ارتفعت الموانع كانت مؤثرة من حينها.

و علل الشرائع و أسبابها و إن كانت في الحقيقة من قبيل القيود لموضوعات

الأحكام لا عللا حقيقية، لكنها مشتركة مع العلل التكوينية من هذه الجهة كما لا يخفى.

و بالجملة لا اعتبار بتاريخ العقد بل الاعتبار بتاريخ الإجازة، و إن شئت قلت: إن شمول عموم أوفوا للمالك إنّما هو من حين استناد العقد إلى المالك الحقيقي، و لا يكون الاستناد إلّا بعد الإجازة و العقد بذاته خال عن الزمان.

و يشهد لذلك امور:

منها: أنّ القبول متأخر من الايجاب مع أنّه يؤثر من أنّه حين القبول و لا سيما أنّه قد يكون تأخره كثيرا بناء على ما مرّ من جواز إنشاء العقد بالكتابة، فإذا كتب الموجب من بلد إلى بلد بإنشاء البيع، فقبله و أمضاه بعد اسبوع أو شبهه، فلا شك في أنّه يحصل النقل و الانتقال من حين تمام البيع بالايجاب و القبول معا، فلو كان الإيجاب مقيدا بزمان الحال وجب النقل من حينه.

و منها: الملك في الصرف و السلم على المشهور لا يكون إلّا بعد القبض.

و منها: الفسخ على المعروف بينهم يقع من حينه لا من أصل العقد مع أنّ الإجازة و الفسخ مشتركان من هذه الناحية، أحدهما ابرام و الثاني نقض للعقد.

و الحاصل: أنّ هذا الدليل أيضا كسابقيه ضعيف لا يثبت القول بالكشف.

هذا كله بحسب القواعد العامة و أمّا بحسب الروايات الخاصة فالظاهر من صحيحة أبي عبيدة الحذاء هو الكشف، قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن غلام و جارية زوّجهما وليان لهما و هما غير مدركين، قال: فقال: نكاح جائز، أيّهما أدرك كان له الخيار، فان ماتا قبل أن يدركا فلا ميراث بينهما، و لا مهر، إلّا أن يكونا قد أدركا و رضيا، قلت: فان أدرك انوار الفقاهة، ج 1، ص: 295

أحدهما قبل الآخر. قال: يجوز ذلك عليه

أن هو رضى، قلت: فان كان الرجل الذي أدرك قبل الجارية و رضي النكاح ثم مات قبل أن تدرك الجارية أ ترثه؟ قال: يعزل ميراثها منه حتى تدرك و تحلف باللّه ما دعاها إلى أخذ الميراث إلّا رضاها بالتزويج، ثم يدفع إليها الميراث» (الحديث) «1».

فان المفروض فيها نكاح الصغيرين من ناحية غير الولي الشرعي (و الوالي المذكور فيها هو الولي العرفي بقرينة ذيل الرواية) ثم أدرك أحدهما و أجاز و حينئذ يعزل بمقدار ميراث الآخر حتى يدرك، فان أجاز و حلف أنّه ما دعاه إلى الإجازة أخذ الميراث بل رضاه بالتزويج كان الميراث له، و هذا لا يصح إلّا على القول بالكشف.

هذا و لكن الصحيحة مشتملة على حكم تعبدي لا يوافق القواعد، فان الرضا بالنكاح الفضولي بعد فوت أحد الزوجين ممّا لا يعهد بين العرف العقلاء و لا تشمله عمومات النكاح قطعا، و لكن بما أنّ الحديث في موردها معمول به بين الأصحاب حتى ادعى في الجواهر في كتاب الفرائض أنّه لم يجد فيه خلافا «2» جاز العمل به في مورده، و لكن يشكل التعدي منه إلى غيره، و لذا ذكر المحقق الخوانسارى قدّس سرّه في «جامع المدارك» بل لو لا التعبد لا شكل اعتبار الازدواج مع الميت بعد موته، و الشاهد عليه اعتبار الحلف و اشتراطه في الوراثة «3».

أي لو لم يكن الحكم تعبديا لم يحتج إلى الحلف، لأنّ كون الميراث هو الداعي إلى اجازة النكاح لا مانع له، كما يجوز النكاح مثلا مع امرأة عجوز كثيرة المال و إن كان الداعي إليه أخذ ميراثها بعد موتها (إذا قصد الجد في النكاح).

و الحاصل: أنّ دلالتها على الكشف ظاهرة، لأنّ عزل الميراث لا معنى له

على القول بالنقل بل لا يجوز اجازة النكاح هنا على النقل، لاستلزامه النكاح مع الميت بعد موته، و لكن لا بدّ من الاقتصار على مورد الرواية كما عرفت.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 296

و يدلّ على القول بالكشف أيضا صحيحة «محمد بن قيس» الواردة في وليدة باعها ابن المولى بغير أذنه:

«قال: قضى في وليدة باعها ابن سيدها و أبوه غائب، فاشتراها رجل فولدت منه غلاما، ثم قدم سيدها الأوّل فخاصم سيدها الأخير، فقال: هذه وليدتي باعها ابني بغير أذني، فقال: خذ وليدتك و ابنها، فنا شده المشتري، فقال: خذ ابنه يعنى الذي باع الوليدة حتى ينفذ لك ما باعك، فلما أخذ البيع الابن قال: أبوه أرسل ابني فقال: لا أرسل ابنك حتى ترسل ابني! فلما رأى ذلك سيد الوليدة الأوّل أجاز بيع ابنه «1».

فان الحكم بحرية الغلام، و الحاقه بأبيه بعد الإجازة، لا يصح إلّا على القول بالكشف، فانّه نماء للوليدة ظهر بعد عقد الفضولي و قبل الإجارة، فعلى النقل يجب عليه قيمة الولد.

اللّهم إلّا أن يقال: إن التعدي عن موردها أيضا غير ثابت، و لكن الإنصاف أنّه لا وجه للاقتصار على موردها بعد عدم الخصوصية فيه، و يدل عليه أيضا ما مرّ في روايات الفضولي من الحكم برد المنافع إذا خان في الوديعة و اتّجر بها، و كذا الحكم برد المنافع فيمن أقال إقالة فاسدة ثم اتّجر بالمال.

و كذا رواية «عروة البارقي» و ما رواه «حكيم بن حزام» لأنّ الإجازة على القول بالنقل إنّما تصحح البيع الأوّل، و أمّا البيع الثاني أو الثالث أو غيرهما التي وقعت على العوض فلا يمكن تصحيحها بالاجازة اللاحقة لأنّها وقعت على ملك إنسان آخر إلّا على القول بصحة بيع من

باع ثم ملك ثم أجاز، نعم على الكشف تكون واقعة على ملك المجيز، فيجوز له اجازتها كلها كما لا يخفى.

و هكذا حكمهم عليهم السّلام و اجازتهم للخمس، لتطيب الولادة بعد تحققها فتأمل، و بالجملة دلالة كثير من أحاديث الباب على الكشف و جواز التعدي منها ممّا لا ينبغي أن ينكر.

فتخلص من جميع ما ذكرنا أنّ القول بالكشف هو الأظهر بحسب الأدلة الخاصة.

معنى الكشف و اقسامه:

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه ذكر للكشف معان و أقسام مختلفة، أنهاها السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه إلى ست وجوه، و لكن الظاهر أن اصولها ثلاثة لا غير: الكشف الحقيقي، و الكشف الانقلابي، و الكشف الحكمي، و أمّا الوجوه الاخر فهي تقريبات مختلفة للكشف فنقول:

الأوّل: «الكشف الحقيقي» و معناه كون النقل و الانتقال حاصل من زمن العقد (من يوم الجمعة مثلا إذا فرضنا كونه زمان العقد) و إن خفي علينا، و بعد الإجازة (يوم السبت مثلا) نعلم بذلك، من دون أن يحصل أي تغيير في البيع بعد حدوث الإجازة، و لكن الجمع بينه و بين اشتراط الرضا بل الإجازة و كونها من أركان العقد لما كان مشكلا، ذكروا له وجوها كثيرة بعضها لا يليق بالذكر، و اللائق منها احتمالات:

1- كون الإجازة من قبيل الشرط المتأخر، و لكن إثبات جواز الشرط المتأخر دونه خرط القتاد، كما ذكر في محله، مضافا إلى ما عرفت من أنّها ركن العقد و بها ينتسب إلى المالك و يكون مشمولا لعموم «أوفوا»، و مثله خارج عن نطاق الشرط المتأخر كما لا يخفى.

2- إن الشرط هو وصف «التعقب» و هذا المعنى حاصل من زمن العقد، كما هو ظاهر، و فيه: إنّه مخالف لظواهر أدلة اعتبار الرضا جدّا من الآية و

الروايات، مضافا إلى ما عرفت من أنّ نفس الإجازة من الأركان، و لا معنى لهذا التوجيه فيها.

و الحاصل: أنّ هذا المعنى و إن كان معقولا إلّا أنّه مخالف لظواهر الأدلة جدّا، و العجب من المحقق اليزدي قدّس سرّه حيث جعله غير معقول، قال في بعض كلماته: «إذا لم يعقل الشرط المتأخر فلا فرق بين أن يكون المشروط العقد أو الملكية أو وصف التعقب، و هذا أمر واضح جدّا» (انتهى) «1».

أقول: وصف التعقب من قبيل الشرط لا المشروط، و هو أمر ذو إضافة إلى الإجازة المستقبلة، و لا مانع من تحقق الامور ذات الإضافة التي يكون طرف إضافتها أمرا

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 298

استقباليا، مثل «تقديم اليوم على غد» و «تقديم هذا الشهر على الشهر القادم» فكون الشرط المتأخر غير معقول لا دخل له بكون الشرط صفة التعقب، فانه أمر معقول.

3- إنّ الشرط هو الرضا المقارن الأعم من «الفعلي» و «التقديري»، و هذا أمر حاصل، لأنّ المالك راض بالعقد لو علم.

و فيه: مضافا إلى عدم كفاية مجرّد الرضا الباطني حتى الفعلي منه، فكيف بالتقديري بل المعتبر إنشاء الإجازة الذي يقوم مقام الايجاب من طرف المالك، أنّ الرضا التقديري كثيرا ما لا يكون موجودا حال العقد، فهذا أخص من المدعى.

4- إنّ العقد مشروط بأمر واقعي لا نعرفه، و يكون ذلك الأمر ملازما للإجازة الاستقبالية، فتكون دليلا على حصول ذلك الشرط، من غير أن يكون لها دخل في التأثير، و ذلك الأمر المكشوف عنه مقارن للعقد «1».

و هذا الاحتمال عجيب جدّا، فان العقود ليست من قبيل الطلسمات و العلوم الغريبة الخفية، بل هي امور عقلائية أمضاها الشارع، و الإجازة أو الرضا من أركان صحتها، و ليس الشرط أمر خفي

في الواقع تكشف عنه الإجازة.

و ليت شعري كيف يرضى هذا القائل: إن الإجازة لا دخل لها في صحة العقد أبدا بل المؤثر الأمر الواقعي المجهول؟! أ لم يسمع قوله تعالى: تِجارَةً عَنْ تَراضٍ «2».

أ لم يسمع قوله عليه السّلام: «لا يحل مال امرئ إلّا عن طيب نفسه» و غير ذلك؟

5- إنّه ليس هناك شرط للعقد أصلا، لا الإجازة و لا الرضا و لا شي ء آخر، و لكن الشارع رتب الأثر على خصوص هذا القسم من العقد لا على القسم الآخر تعبدا.

و فيه أولا: أنّه أعجب ممّا قبله، و هل يكون فعل اللّه جزافا؟ أو ليست الأحكام تابعة للمصالح و المفاسد؟

و ثانيا: أنّه مخالف لظاهر أدلة اعتبار الرضا بل صريحها كما هو واضح، و كيف يرضى هذا القائل بقوله: إن الرضا أو الإجازة لا دخل له في صحة العقد أبدا، مع اعتبارها عند

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 299

جميع العقلاء في العقود و إمضاء الشارع به، و الأدلة السمعية طافحة بذلك؟

فتلخص من جميع ما ذكر أنّ القول بالكشف الحقيقي إمّا غير معقول، أو ممّا لا يوافق ظواهر أدلة الشرع، و لا يمكن توجيهه حتى ينطبق عليها، و العمدة في ذلك أنّ اعتبار الإجازة ليس أمرا تعبديا، بل هو معلوم عند العقلاء و إمضاء الشرع، و لا يكون العقد مستندا إلى المالك بدونها، و لا معنى لوجوب وفاء المالك بعقد لم يصدر منه.

الثاني: «الكشف الانقلابي»، و المراد منه تأثير الإجازة بعد وجودها في العقد الواقع على صفة عدم التأثير في الماضي و جعله مؤثرا من زمن وجوده (أي وجود العقد) فتؤثر الإجازة في الماضي فينقلب عما كان عليه!

و قد أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه في بعض كلماته، بل

استظهره السيد المحشي من بعض كلمات صاحب الجواهر رحمه اللّه، حيث قال: «الثاني: أن يكون الرضا المتأخر مؤثرا في نقل المال في السابق كما سمعناه من بعض مشايخنا» و قد سماه السيد قدّس سرّه في التعليقة بالكشف الحكمي، بمعنى أنّ الإجازة تقلب العقد مؤثرا من الأوّل، ثم أضاف إليه: و لعله مراد من قال أنّها ناقلة إلّا أنّه يجري عليه جميع أحكام الكشف «1».

قلت: التسمية و إن كان لا مشاحة فيها، و لكن المذكور ليس من الكشف الحكمي، بل هو قسم آخر من الكشف، لتأثيرها فيما سبق حقيقة، فتجعل العقد نافذا في الماضي بعد أن لم يكن كذلك لا أنّه يجري عليه أحكام النفوذ فقط، فالاولى ما عرفت من تسميته بالكشف الانقلابي.

و لكن الانصاف أنّ هذا القسم أيضا غير معقول، لأنّ الواقع لا ينقلب عما وقع عليه، و لازمه الجمع بين النقيضين، لأن قلب الماضي عمّا وقع عليه مفهومه كون الشي ء في الماضي موجودا و معدوما، و هذا ما عرفت من الجمع بين وجود الشي ء و عدمه.

إن قلت: هذا إنّما هو في التكوينية، و لكن الامور الاعتبارية أمرها سهل.

قلت: المعتبر و إن كان اعتباريا، و لكن نفس الاعتبار أمر حقيقي تكويني قائم بالذهن،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 300

و ذلك كالوجودات الذهنية و نفس الذهن، فان نفسه ليس ذهنيا بل هو أمر خارجي تكويني، و حينئذ كيف يمكن وجود الاعتبار و عدمه في الماضي؟ و كيف ينقلب ما كان فاقدا للاعتبار في الماضي إلى كونه واجدا له؟ نعم يمكن انقلابه بقاء، و أمّا حدوثا فلا فهذا القسم لا بدّ من الشطب عليه بخط البطلان.

و قال السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه بعد حكمه ببداهة بطلان هذا القسم: بأن

لازمه اجتماع مالكين على ملك واحد و هو كذلك، لا يقال: زمانهما مختلف. لأنا نقول ليس كذلك، فان المفروض تأثيره بعد حدوثه في الماضي، فاعتبار الملكية موجوده في الماضي مع كونه معدوما، فيجتمع مالكان على ملك واحد، و الإنصاف أنّ بطلان هذا القسم أوضح من أن يحتاج إلى مثل ذلك.

الثالث: «الكشف الحكمي»، بمعنى إجراء أحكام الكشف عليه بمقدار الإمكان، فالملك لم ينتقل من المالك إلى المشتري إلّا من حين الإجازة كما في صورة النقل، و لكن إذا أجاز رتّب آثار الملكية من أول الأمر بمقدار ما يمكن.

و يظهر ذلك بملاحظة الفرق بينه و بين الكشف الحقيقي، لأنّه على الحقيقي لو كان عالما بكون الإجازة واقعة في المستقبل جاز له التصرفات و كانت مباحة، بخلافه على الحكمي، و كذا يجوز للمالك الأصلي نقله و انتقاله إلى ثالث لأنّه ملكه يتصرف فيه كيف يشاء (على الكشف الحكمي) و لكن بعد الإجازة يترتب عليه آثار ملكية المشتري، و لازمه الحكم بأداء المثل أو القيمة إذا نقله عن ملكه لا فساد البيع السابق، لأنّه صدر من أهله و وقع في محله، بحسب قواعد الشرع، لا نقول: الحكم بفساد البيع الثاني من حين الإجازة محال، بل نقول بعدم الموجب له على القول بالكشف الحكمي، و عدم إمكان استظهاره من الأدلة فتأمل.

أمّا على الكشف الحقيقي فهذه التصرفات كانت واقعة في ملك غيره و فضوليا، و الحاصل أنّه تظهر الثمرة بين القسمين في التصرفات الواقعة بين العقد و الإجازة بحسب حكمها التكليفي أو الوضعي.

القول بكون الإجازة ناقلة:

أمّا القول بالنقل فقد ذكروا له وجوها كثيرة كما يظهر لمن راجع المستند للنراقي قدّس سرّه «1».

و الانصاف أنّ جميعها راجعة إلى أمر واحد، و هو أنّ الآيات

و الروايات الدلالة على اعتبار الرضا و الإجازة في صحة المعاملة، و عدم جواز أكل المال بالباطل، تدل على أنّ العقد لا يحصل بدونه، و أنّه لا يحصل النقل و الانتقال إلّا بتمام السبب الناقل، و من اجزائه رضاه المالك و اجازته.

بل قد عرفت أنّ الإجازة من أركانه، فما لم تحصل لم تتمّ الأركان، و لم يكن المالك مخاطبا بقوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «2» لعدم كون العقد عقدا له.

و هذا أمر واضح بحسب العمومات و الاطلاقات، لو لا ظهور الروايات الخاصة الماضية في الكشف.

و تحصل من جميع ما ذكرنا أنّ القاعدة تقتضي القول بالنقل، و لكن الظاهر من غير واحد من الروايات الكشف و الأظهر من بين معاني الكشف هو الكشف الحكمي.

هذا و لا يبعد التفصيل في الكشف بين ما إذا وقع القبض و الاقباض من الجانبين كما في رواية عروة، و صحيحة محمد بن قيس و غيرهما، فان هذا هو المتيقن من الأخبار، أمّا لو لم يكن هناك قبض و اقباض فيشكل الكشف، و القياس ممنوع، و الفرق ظاهر.

ثمرة القول بالكشف و النقل:

اعلم أنّهم ذكروا للكشف و النقل ثمرات، و إليك أهمها.

1- النماء المتخلل بين العقد و الإجازة، قال في مفتاح الكرامة: الثمرة ظاهرة في النماء «3»، و صرّح به جمع كثير من فقهائنا، و الوجه فيه ظاهر، لأنّ نماء الثمن للمالك المجيز،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 302

و نماء المثمن للمشتري الأصيل على القول بالكشف بجميع معانيه، و لكن على النقل كل لمالكه الأصلي، نماء الثمن للمشتري و المثمن للبائع و هنا كلام معروف عن الشهيد الثاني قدّس سرّه وقع البحث في توجيهه، و المراد منه و هو قوله: و تظهر الفائدة في النماء، فان جعلناها كاشفة فالنماء

المنفصل المتخلل بين العقد و الإجازة الحاصل من المبيع، للمشتري، و نماء الثمن المعين للبائع، و لو جعلناها ناقلة فهما للمالك المجيز (انتهى) و يرد الإشكال على ظاهره، لأنّه على النقل لا يمكن جمع النماءين للمالك المجيز بل يكون كل لمالكه الأصلي.

و قد ذكر في توجيهه في مفتاح الكرامة بعد قوله: و فيه خفاء «أمّا نماء المبيع فظاهر، و أمّا الثمن فلأنّه انتقل عن المشتري من حين العقد بقبوله و تصرف المشتري في ملكه لا يتوقف على اجازة غيره» «1».

أقول: هذا التوجيه عجيب، لأنّ المشتري إنّما رضى بالمبادلة لا بالهبة، و كيف ينتقل الثمن من ملكه مع عدم انتقال المثمن إلى ملكه؟

و لذا ذكر شيخنا العلّامة الأنصاري قدّس سرّه بعد ذكر كلام الشهيد الثاني قدّس سرّه: أنّ توجيه المراد منها كما فعله بعض، أولى من توجيه حكم ظاهرها، كما تكلّفه آخر.

و مراده أنّ حمل هذا الكلام على خلاف الظاهر أهون من حمله على ظاهره و الاستدلال له بما مرّ في كلام المفتاح و شبهه.

و حمله على خلاف الظاهر- كما قيل- إنّما يمكن لو كان من «المالك المجيز» الجنس، و فرض الكلام في الفضوليين، و لكن الانصاف أنّ هذا التوجيه أيضا بعيد، فالأولى طرح هذا الكلام و صرف النظر عنه مع التصريح بعدم صحته بحسب ظاهره (و الجواد قد يكبو).

2- فسخ الأصيل بعد العقد و قبل الإجازة مؤثر على القول بالنقل غير مؤثر على الكشف.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 303

قال في مفتاح الكرامة: منها أنّه على القول بالكشف ليس للمشتري الفسخ قبل الإجازة و هي ثمرة نافعة (انتهى).

و الوجه فيه غير ظاهر لو كان المراد فساده على القول بالكشف، ظاهرا و باطنا، لأنّ أصالة عدم لحقوق الإجازة

كافية في جواز فسخه ظاهرا، نعم إذا لحقته الإجازة كشفت عن صحة العقد من أول أمره و عدم تأثير الفسخ، اللّهم إلّا أن يفرض الكلام في مورد العلم بلحوقها.

و كون الاستصحاب هنا في الامور المستقبلة ممّا لا ضير فيه كما ذكر في محله، بل أصالة السلامة التي هي من مصاديق الاستصحاب العقلائي، كثيرا ما يكون بالنسبة إلى الامور المستقبلة كمن يريد الحج و يحتمل الموت قبل الوصول إلى الميقات و شبهه، فانّه لا يعتني بهذا الاحتمال اعتمادا على أصالة السلامة.

3- حكم تصرفات الأصيل في ما انتقل عنه، فقد يقال بجوازها على النقل و عدم جوازها على الكشف، أمّا الأوّل فهو ظاهر، فلو تصرف في الثمن بالاتلاف أو التصرفات الناقلة لم يبق محل للإجازة، و أمّا غيرهما من التصرفات فهو غير مناف لها فلا تمنع الإجازة.

أمّا عدم تصرفه على القول بالكشف فلما قيل من أنّ العقد تام من ناحية الأصيل فيشمله دليل وجوب الوفاء بالعقد، فكل تصرف يعدّ نقضا لعقد المبادلة فهو غير جائز.

هذا و قد عرفت أنّ العقد قائم بطرفين، و هو أمر بسيط حاصل من الالتزامين: التزام البائع و التزام المشتري، لا أنّه أمر مركب منهما، بل وحداني يبتني عليهما، و لو فرض التركيب فكل واحد مشروط بالآخر، و على كل حال لا معنى لوجوب الوفاء من ناحية الأصيل دون وجوب الوفاء على صاحبه، فانّه لم يلتزم بانتقال المال منه من دون عوض، بل التزم بالمبادلة، فيجب الوفاء بها فقط مع أنّها غير معلومة ما لم تلحق الإجازة، فحينئذ يجوز التمسك باستصحاب جواز تصرفه في ماله بل استصحاب عدم لحقوق الإجازة في المستقبل (و قد عرفت صحة هذا الاستصحاب) فيجوز له جميع التصرفات حتى

بالاتلاف و النقل، نعم إذا تحققت الإجازة كشفت عن بطلان جميع تصرفاته.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 304

إن قلت: هذا صحيح على مذهب من جعل العقد مشروطا بتعقبه بالاجازة لعدم احراز هذا الشرط، فلا يجب الوفاء و أمّا على المشهور في معنى الكشف من كون نفس الإجازة المتأخرة شرطا لكون العقد السابق بنفسه تاما مؤثرا، فالذي يجب الوفاء به هو نفس العقد من غير تقييد، و قد تحقق فيجب على الأصيل الالتزام به (هذا ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه).

قلت: أولا: معنى الشرط المتأخر، أنّه بوجوده في ظرفه الآتي مؤثر فيما قبله و لذا نفاه كثير و قالوا بعدم معقوليته لا أنّه لا اثر له أصلا، و إلّا لم يكن شرطا.

ثانيا: القول بأن الإجازة شرط، يناقض صريحا القول بأن العقد سبب تام مؤثر و ليت شعري كيف يرضى بقوله «نفس الإجازة المتأخرة شرط لكون العقد السابق تاما مؤثرا بنفسه»؟! يعني من دون أي تأثير للإجازة، فهل هذا إلّا تناقض محض؟

نعم لو قيل بأنّ الإجازة ليست شرطا أبدا و إنّما هي كاشفة عن حكم الشارع تعبدا أو كاشفة عن أمر مؤثر مجهول يقارن العقد، ارتفع التناقض.

و بالجملة كيف يجب على الأصيل الوفاء بالعقد مع أنّه لم يرض بانتقال الثمن عن ملكه بلا عوض بل إنّما رضي بالمبادلة لا غير؟

ثالثا: إنّ أصالة عدم لحوق الإجازة، بل استصحاب جواز تصرفه في ماله تقتضي جواز تصرف الأصيل، و لا يعارضها أصالة عدم الردّ كما في الجواهر حتى يتردد المال بينهما لأنّه حينئذ مال لا يعلم أنّه لأيّهما، للبائع أو المشتري «1».

و ذلك لأنّ الردّ لا أثر له من هذه الجهة، فانّ مجرّد عدم الردّ غير كاف في انتقال المال

إلى الطرف المقابل، بل الانتقال يدور مدار الإجازة نفيا و إثباتا، إلّا أن يقال: لازم عدم الرد هو الإجازة.

و فيه: أولا: أنه من الأصل المثبت.

ثانيا: قد لا تحقق الإجازة و لا الردّ حتى يخرج العقد عن صلاحية لحقوق الإجازة.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 305

و العجب أنّه قدّس سرّه قال في موضع آخر: «يحرم عليه التصرف في المال لدورانه بين كونه ماله و مال غيره فيجب اجتنابه ... و بذلك ينقطع استصحاب الجواز السابق» «1».

و يرد عليه: إنّ استصحاب الجواز حاكم على الاحتياط كما هو كذلك في اطراف العلم الإجمالي، بل هنا استصحاب عدم الإجازة حاكم، لأنّه من قبيل الأصل الموضوعي، نعم يمكن أن يقال: إن احتمال تحقق الإجازة في المستقبل كاف في لزوم الاحتياط على الأصيل على القول بالكشف، فان من يلتزم بمثل هذا العقد فعليه رعاية جانبه و الاحتياط فيه.

و إن شئت قلت: هذا من قبيل اللوازم العرفية لالتزام الأصيل، كما يمكن القول به في من نذر التصدق بمال معلقا على شرط، فانّ الأصيل و إن اقتضى عدم تحقق الشرط فيجوز له التصرف في المال قبل ذلك، و لكن لازم هذا النذر عرفا، إبقاء المال على حاله بحيث لو تصرف فيه بالاتلاف يرونه متجاوزا عن حده و مخالفا لنذره، و بالجملة هذا ممّا يجب فيه الاحتياط، بل يمكن أن يقال: «نذر صدقة شي ء معلقا على شرط» معناه نذر ابقائه و جعله صدقة لو حصل الشرط، و كذلك ما نحن فيه، فتأمل فهذا هو الطريق الوحيد لإثبات المطلوب.

قال المحقق النائيني قدّس سرّه في «منية الطالب»: إن الحق في جميع أقسام النذر عدم جواز التصرف (في مورده) لا لتعلق حق الفقراء أو غيرهم به ... بل لأنّ

الناذر بسبب النذر سلب عن نفسه حق جميع تصرفاته في المنذور سوى تصرفه في جهة نذره «2».

4- إذا تلف أحد العوضين قبل الإجازة فعلى الكشف تصح المعاملة دون النقل. لعدم بقاء مورد له، و كذا إذا مات أحد المتبايعين، أو خرج عن صلاحية الملك لعروض جنون أو سفه أو فقد بعض الشروط، لكن لو لم يقبض المتاع في بعض الصور كان من قبيل تلف المبيع قبل قبضه، فهو من مال بايعه، و كذا إذا كان بعض هذه الامور مفقودا عند العقد ثم تجدد.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 306

و الحاصل: أنّه تظهر الثمرة بين الكشف و النقل في صورتين: إذا فقد بعض أركان العقد من البائع و المشتري و المثمن و الثمن، أو فقد بعض شروطها، أو تجدد بعد فقدانها.

لكن قال في الجواهر: قيل تظهر الثمرة أيضا فيما انسلخت قابلية الملك عن أحدهما بموته قبل اجازة الآخر، أو بعروض كفر بارتداد فطري أو غيره، مع كون المبيع مسلما أو مصحفا، فتصح حينئذ على الكشف دون النقل «1».

ثم أورد عليه: بأنّه و إن كان يمكن الاستشهاد عليه بخبر الصغيرين و لكن يشكل التعدي عنه، و يمكن دعوى عدم الجواز في غيره حتى بناء على الكشف، ضرورة أنّه يمكن دعوى ظهور الأدلة في اعتبار القابلية حاله كالنقل (انتهى) و لازمه انكار هذه الثمرة و القول ببطلان العقد على كلا القولين الكشف و النقل.

و يظهر من بعض آخر انكار هذه الثمرة مع القول بصحة العقد في الصورتين و يظهر من ثالث التفصيل بين الثمرات، مثل ما يظهر عن شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه حيث وافق على وجود الثمرة في صورة تلف المنقول أو خروجه عن قابلية الملك، كعروض النجاسة

للمائعات المضافة، ثم أجاب عن اعتراض صاحب الجواهر.

و لكن ردّ الثمرة فيما تجدد قابلية الملك أو قارن العقد فقد بعض الشروط، ثم حصل قبل الإجازة (كما إذا كان البائع سفيها ثم صار رشيدا) لبطلان العقد على القولين.

أقول: الانصاف بطلان هذه الثمرة بجميع شقوقها و إشكالها إلّا ما سيأتي، و ذلك لأنّ الظاهر من أدلة اعتبار هذه الشروط و الصفات و الأركان بقاؤها من أول العقد إلى زمن الإجازة، و لا أقل من عدم وجود الدليل على أكثر من ذلك و لو على القول بالكشف، و لذا قال قدّس سرّه في التعليقة تبعا لصاحب الجواهر قدّس سرّه: «لا يخفى قوة ما ذكره لأنّ أدلة صحة الفضولي قاصرة عن شمول الصورتي، أعني انسلاخ القابلية عن أحد المتعاقدين، أو أحد العوضين، قبل الإجازة و لو جعلناها كاشفة» «2».

و الاستناد إلى رواية الصغيرين، مع ما عرفت من عدم إمكان التعدي عن موردها،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 307

و كونها متزلزلة حتى في موردها لو لم يكن الإجماع على وفاقها، كما ترى، لما عرفت من أنّ المعاملات امور عرفية أمضاها الشارع مع تصرفات يسيرة في بعض نواحيها، و الرضا بزوجية الميت أمر لا يعرفه أهل العرف، بل يستنكرها، و لكن نقبله و نؤمن به تعبدا في موردها لما يظهر من دعوى الإجماع عليه، و لكن التعدي منه إلى غير مورده مشكل جدّا.

و أمّا الاستناد إلى رواية عروة البارقي لعدم الاستفصال فيها من بقاء الشاة أو ذبحها فهو أيضا كما ترى، لأن الاستصحاب قاض ببقائه لا سيما في هذه المدّة القليلة.

مضافا إلى أنّها قضية في واقعة، و عدم علم النبي صلّى اللّه عليه و آله ببقاء الشاة الأولى غير ثابت، فالاستدلال بها على

الصحة ممنوع.

نعم، هنا تفصيل من بعض المحشين (قدس اللّه اسرارهم) في الصورة الأخيرة، أعني في صورة تجدد الشرائط فبعض الشرائط كإسلام المشتري إذا كان المبيع مصحفا يكفي تجدده بعد ذلك، فإذا أسلم المشتري حين الإجازة و قلنا بالنقل كفى و إن كان كافرا حين العقد بخلاف البلوغ و العقل، فيمكن جعل هذه الثمرة في بعض صورها ثمرة للمسألة.

و لا بأس به نظرا إلى أنّ الممنوع تملك الكافر للمصحف أو العبد المسلم، و هو هنا غير حاصل على النقل دون الكشف، فتلخص أنّ هذه الثمرة لا تتمّ إلّا في بعض الصور.

5- «مسألة سلسلة العقود»- قال في المفتاح: «أمّا مسألة سلسلة العقود على المثمن فصحة العقود اللاحقة للمجاز مبنية على أنّ الإجازة كاشفة ليظهر ملك كل بايع متأخر حين بيعه و إن كان في ثاني الحال، و أمّا لو جعلناها ناقلة للملك من حين الإجازة فالبائع لم يكن مالكا حين بيعه و إنّما ملك بعده» «1».

و قال في الجواهر: «و ربّما تظهر الثمرة أيضا فيما لو ترتبت العقود على المبيع أو الثمن أو عليهما فضولا، و لا ريب في أنّ للمالك تتبع العقود و رعاية المصلحة له فيجيز ما شاء» «2» و أشار إلى ذلك شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه حيث قال:

«و هذه الثمرة ظاهرة و سيأتي الكلام فيها إن شاء اللّه، و لذا جوزنا التمسك برواية عروة

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 308

البارقي دليلا على الكشف، و هكذا رواية الخيانة في الأمانة التي وقع بيوع كثيرة مترتبة على مال الغير فضولا فيها، كل ذلك لأنّ البيع الثاني و غيره يقع عن قبل مالكه على القول بالكشف، بخلافه على القول بالنقل، فانّه من قبيل من باع ثم أجاز

كما لا يخفى».

6- و تظهر الثمرة أيضا في تعلق الخيارات و احتساب مبدئها، فعلى القول بالكشف يكون مبدؤها حين العقد، و على القول بالنقل يكون من حين الإجازة، فلو كان المبيع صحيحا في حال العقد ثم صار معيبا عند الإجازة فقد يقال بخيار العيب على النقل دون الكشف، و هكذا بالنسبة إلى الغبن، بأن كان الغبن حاصلا بحسب قيمة المتاع عند العقد دون زمن الإجازة أو بالعكس، و لكن ليعلم أنّ الثمرة في خيار العيب إنّما يتصور إذا حصل القبض و الاقباض، و إلّا لو تعيب المتاع قبل قبضه فلا يبعد كونه من مال بايعه، كما أن تلف المبيع قبل قبضه فهو من مال بايعه.

و أمّا خيار المجلس فظاهر كلام السيد قدّس سرّه ثبوته على الكشف و النقل، لكن مبدئه على الأوّل من زمن العقد، و على الثاني من زمن الإجازة، و لكن المحقق النائيني قدّس سرّه في «منية الطالب» أنكره حيث قال: «لا يبعد سقوط خيار المجلس في المقام، لأن مجلس العقد لا اعتبار به و لو على الكشف، إلّا الكشف بمعنى عدم دخل الإجازة في التأثير أصلا، و ذلك لاعتبار الإجازة في تأثير العقد، و مجلس الإجازة أيضا لا اعتبار به لأنّه ليس مجلس العقد، فلو بقي المجلس إلى زمان الإجازة فهو، و إلّا يصير مجلس العقد كمجلس الوكيلين لإجراء الصيغة» «1».

قلت: أمّا على القول بالكشف فالظاهر أنّ المجلس هو مجلس العقد لأنّ العقد تام، و النقل و الانتقال حاصل، سواء كانت الإجازة شرطا متأخرا أو غير ذلك و الاعتبار إنّما هو بالتمسك من الجانبين فما أفاده قدّس سرّه غير وجيه.

و كذا على القول لو كان الأصيل حاضرا في مجلس الإجازة فالظاهر تعلق

الخيار من حينها، لأنّ تمام العقد لا يكون إلّا بها، بل قد عرفت أنّها أحد ركني العقد.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 309

و لم يقنع هو قدّس سرّه بذلك حتى استشكل على مجلس الصرف و السلم أيضا، فان القبض المعتبر فيهما لا يمكن الالتزام به في مجلس العقد و لو على الكشف و لا باعتباره في مجلس الإجازة و لو على النقل «1».

و الانصاف إمكان القبض في مجلس العقد على الكشف لو علم بتحقق الإجازة في المستقبل، بل و لو لم يعلم على احتمال، و كذا يصح في مجلس الإجازة على النقل لأنّ تمام العقد بها كما عرفت.

7- و قد يقال بظهور الثمرة أيضا في العقود الجائزة كالمعاطاة، بناء على القول بها، فلو اشترى بالمعاطاة شيئا فباعه فضولي من آخر، فأجازه بعد رجوع الطرف المقابل في المعاطاة، فلو قلنا بالكشف كانت المعاملة الثانية قبل الرجوع فتكون المعاطاة لازمة، و لا يصح الرجوع، و لو قلنا بالنقل فالرجوع صحيح و الإجازة باطلة، نعم يمكن أن يقال: يجوز للمالك الأوّل اجازة الفضولي هنا بناء على صحة بيع من باع ثم ملك ثم اجاز، فتدبّر جيدا.

تنبيهات
التنبيه الأوّل: «الفاظ الإجازة»

1- هل يعتبر في الإجازة أن تكون باللفظ الصريح الدال عليها، أو تكفي الكتابة أو الفعل الدال عليها، أو مجرّد الرضا و إن لم يكن هناك إنشاء، فيه وجوه أو أقوال:

أولها: اعتبار الإنشاء الصريح كما يظهر من المحقق القمي قدّس سرّه في جامع الشتات «2».

ثانيها: كفاية الكنايات.

ثالثها: كفاية الإنشاء الفعلي كما يظهر من السيد قدّس سرّه في تعليقته «3».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 310

رابعها: الغاء الإنشاء و الاكتفاء بالرضا الباطني كما قد يظهر من بعض كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه و بعض المحشين.

قال في مفتاح

الكرامة في كتاب الوكالة: «و هذا يقتضي بأنّه لا يحتاج في الفضولي إلى قول المالك: أجزت و أمضيت البيع، بل يكفي الألفاظ التي يستفاد منها ذلك، و أمّا العلم بالرضا من دون اللفظ فلا يكفي» «1».

و لكن ذكر في كتاب المتاجر في شرح قول العلّامة قدّس سرّه: «و لا يكفى في الإجازة السكوت مع العلم و لا مع حضور العقد» ما لفظه: «و أنت خبير بأنّه إن كان المدار على الرضا فلو علم الرضا يقينا كفي ... و لا يحتاج إلى التصريح، و كلامهم قد ينزل على عدم العلم بالرضا.

و الأصح أنّه لا بدّ من اللفظ كما هو صريح جماعة و ظاهر آخرين كما أنّ الردّ لا بدّ فيه من اللفظ» «2».

ثم أشار إلى بعض ما يظهر منه كفاية الرضا في أبواب نكاح العبيد و الاماء و سكوت البكر، ثم قال: و التأمل في الكل ممكن.

أقول: مقتضى القاعدة لزوم الإنشاء لأنّ العقد لا يكون عقدا للمالك إلّا بانشائه و مجرّد الرضا لا يعد إنشاء، كما أنّ مجرّد الكراهة لا يعدّ ردّا، و إن شئت قلت: العقد بتركب من إنشاءين: إنشاء الايجاب، و إنشاء القبول، و من الواضح أنّ الإنشاء الصادر من الفضولي غير كاف مستقلا لعدم كونه مالكا و لا وكيلا عن المالك، و إنّما يستند إلى المالك بإنشاء انفاذه كما يستند إليه بإنشاء التوكيل.

ثم إنّك قد عرفت في مباحث المعاطاة عدم اعتبار الإنشاء القولي في العقود بل يكفي الإنشاء الفعلي أيضا، و الإجازة ليست أقوى من الايجاب و القبول، فيكفي فيها الإنشاء الفعلي أيضا، فلو أتى الفضولي المالك و قال: بعت سلعتك و هذا ثمنه، فأخذ الثمن المالك بقصد الإجازة كفى و لا يحتاج

إلى قول، كما أنّه يكفي الإنشاء اللفظي الظاهر فيه و لو كان انوار الفقاهة، ج 1، ص: 311

بالكنايات الظاهرة كقوله صلّى اللّه عليه و آله: «بارك اللّه لك في صفقة يمينك».

نعم، قد يقال: يظهر من بعض الروايات جواز الاكتفاء بمجرّد الرضا، مثل ما ورد في أبواب نكاح العبيد و الاماء من أن اطلاع أولياء العبد على نكاحه و سكوتهم و عدم اعتراضهم و رضاهم به كاف في الصحة.

و فيه: ما عرفت سابقا من أنّ ولي العقد في الواقع الزوجان، و لكن العبد لما كان تصرفاته في متعلق حق الغير لزم رضاه به، فإذا رضي كفى، و أمّا الزوج و الزوجة لا يقبل منهما إلّا إنشاء، و هو حاصل في المقام و كذلك البائع و المشتري.

و منها: ما ورد في من زوجت نفسها في حال السكر و أنّها إذا أقامت معه بعد ما أفاقت فهو رضا منها و يجوز ذلك التزويج عليها «1».

و منها: ما ورد تزويج البكر و أنّ العاقد يؤامرها فان سكتت فهو إقرارها «2».

و ما ورد في تزويج سيدة النساء عليه السّلام من أمير المؤمنين عليه السّلام و قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «اللّه أكبر سكوتها إقرارها» «3».

و لكن لازم هذا القول كفاية الرضا في القبول مطلقا و عدم الحاجة إلى إنشاء القبول من ناحية القابل. فينعقد العقد بإنشاء واحد (و هو إنشاء الإيجاب) مع الرضا من الطرف المقابل و يشكل الالتزام به.

و الحق أنّ العقد لا بدّ فيه من إنشاءين: إنشاء الإيجاب و إنشاء القبول، و لكن قد يكون السكوت ظاهرا في إنشاء القبول عملا و لو بقرائن الحال، و قد عرفت كفاية الإنشاء الفعلي أيضا.

كما أنّ إقامة الزوجة مع

زوجها قد تكون إنشاء فعليا، و إلا لزم جواز العقد بالرضا من الجانبين لعدم الفرق بينهما، و لو كان ذلك مجرّد الرضا الباطني من دون إظهار، و لا أظن أحدا يلتزم به.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 312

و منها: ما ورد من أن تصرف ذي الخيار رضا منه، مثل ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «أن امير المؤمنين عليه السّلام قضى في رجل اشترى ثوبا بشرط إلى نصف النهار فعرض له ربح فأراد بيعه، قال: ليشهد أنّه قد رضيه فاستوجبه ثم يبعه إن شاء، فان أقامه في السوق و لم يبع فقد وجب عليه» «1».

و فيه: إنّ البيع الخياري تام من جهة الإيجاب و القبول و يمكن اسقاط خياره بمجرّد رضى منه، و أين هذا من الإيجاب و القبول أو الإجازة القائمة مقامهما؟ بل قد يظهر من نفس هذه الرواية أيضا لزوم الإنشاء و لو في اسقاط الخيار، فراجع و تأمل.

و من أقوى ما يدل على عدم كفاية الرضا الباطني بدون الإنشاء أنّه لو كفى الرضا في الصحة كفت الكراهة الباطنية في الفسخ و البطلان، و لازمه وقوع بيع المكره فاسدا من أول أمره، و لعله لا يلتزم به أحد، و لذا مال شيخنا الأعظم قدّس سرّه في آخر كلامه إلى عدم كفاية الرضا و لكن احتمل الفرق بين الكراهة و الرضا، و لكن هذا الاحتمال عجيب لا دليل عليه بعد كونهما من واد واحد.

و الحاصل: أنّ المعتبر هو الإنشاء في الإجازة سواء كان بالقول أو بالفعل.

التنبيه الثاني: جواز العقد مطلقا

إذا أجاز العقد مطلقا فالكلام فيه ما عرفت في القول بالكشف و النقل، أمّا لو أجاز المالك العقد مقيدا بوقوعه حين صدروه مع قولنا بالنقل، أو مقيدا

بحين الإجازة مع قولنا بالكشف، فهل يصح العقد كذلك، أو يبطل، أو يصح على وفق المختار في الكشف و النقل، و يبطل الشرط فقط؟ فيه وجوه:

الأقوى هو الأخير، لأن صحة الإجازة كشفا أو نقلا إنّما هو بحسب حكم الشرع لا بحسب بناء الطرفين حتى يمكن تغييره بالشرط و شبهه، نعم من استدل على الكشف بأن الظاهر من العقد، كون النقل من حينه، و المجيز إنّما أجاز بهذه الكيفية، يمكنه القول بانّه لو

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 313

أجاز بغير هذا الوجه كان صحيحا، كمن أجاز بعض بيع الفضولي أو أجازه مع حذف بعض الشروط، بناء على إمكان التبعيض من هذه الجهات، و أمّا إذا استند في القول بالكشف إلى سائر الوجوه كعدم إمكان تأثير المعدوم- أي العقد- في الموجود، أي الانتقال من حين الإجازة، أو كون العقد علة تامة، فلا يصح تقييد الإجازة بكونه من زمانها لا من زمن العقد كما هو واضح.

و كذلك القائل بالنقل الذي يدعى استحالة القول بالكشف كيف يمكنه اجازة العقد من حين وقوعه؟

و أمّا عدم فساد أصل العقد لو خالف و أجاز بخلاف ما اختاره، مع فساد الشرط لكونه لغوا، فلأنّه لا يزيد على الشرط الفاسد، و قد قرر في محله أنّه لا يوجب الفساد و أنّ كل قيد ليس من مقومات العوضين يعامل معه معاملة تعدد المطلوب مع القول بالخيار أحيانا فراجع.

و يظهر من «منية الطالب» أن الإجازة من الإيقاعات، و الأمر في الإيقاع أظهر، لأنّ وقوع الأثر المترتب عليه لا يناط بالشرط.

أقول: أولا: إنّ الإجازة ليست من الايقاعات، و في الواقع متممة للإيجاب أو القبول، بل هي العمدة في صيرورة المالك طرفا للعقد كما عرفت غير مرّة.

ثانيا: أنّه لا فرق

بين العقد و الايقاع من هذه الجهة، فلو قلنا بأنّ التعليق الحاصل من الشرط يوجب الفساد عند عدم المعلق عليه، أو قلنا بأنّه لا يوجب الفساد لأنّه من قبيل تعدد المطلوب، لم يكن هناك فرق.

التنبيه الثالث: هل يعتبر في الإجازة أن لا يسبقها رد؟

صريح كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه ذلك، بل ادعى الإجماع، و لكن يظهر من بعض الأعاظم كالسيد قدّس سرّه في الحاشية عدم اعتباره، و غاية ما يمكن الاستناد إليه في إثبات هذا الشرط امور.

1- الإجماع المدعى.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 314

2- من شروط الصيغة أنّ لا يحصل بين الإيجاب و القبول ما يسقطهما عن صدق العقد الذي هو في معنى المعاهدة، و من المعلوم أنّ الإجازة تجعل المجيز أحد طرفي العقد، فالردّ قبلها كالفسخ المتخلل بين الإيجاب و القبول، و إن شئت قلت: (كما في منية الطالب) بعد بطلان العقد و ذهاب أثره، ليس هناك موضوع للإجازة «1».

3- مقتضى سلطنة الناس على أموالهم تأثير الردّ في قطع علاقة الطرف الآخر عن ملكه.

4- الفضولي على خلاف الأصل، و يقتصر على المتيقّن منه، و هو ما لم يسبق الإجازة، الرد «2».

أقول: أمّا حال الإجماع في المسألة فمعلوم بعد وجود أدلة اخرى فيها يمكن استناد المجمعين إليها، فلا يكشف عن قول المعصوم.

و إمّا مسألة عدم الفصل بين الايجاب و القبول ففيه أولا: لو سلم فهو غير ما نحن فيه، لأنّ الإجازة و إن كانت تجعل المالك المجيز أحد طرفي العقد، و لكن صورة العقد قد حصلت من قبل و لم يفصل بينهما فاصل، فالعقد صادق في الجملة.

ثانيا: إنّ القدر المسلم من الإجماع بطلان العقد إذا رجع الموجب عن ايجاد ثم قبل القابل، و هو غير محتاج إلى الاجماع لانتفاء العقد برجوع الموجب عن ايجابه،

فلا يبقى محل للقبول، أمّا في نحن فيه فالمفروض أنّ الأصيل (بايعا كان أو مشتريا) باق على تعهده و لم يرجع عنه حتى ينتفي العقد، و إنّما الرد وقع من ناحية الطرف الآخر، فيمكن أن يقال: ما دام الأوّل باق على عهده فالثاني يمكن أن يلحقه، سواء ردّ ثم قبله أو لم يردّ أصلا، و هذا أمر ينبغي أن يتأمل فيه جدّا و هو موافق للقاعدة.

و أمّا حديث سلطنة الناس على أموالهم، فقد عرفت في أصل مسألة الفضولي أنّ مجرّد إنشاء الفضولي على المال ليس تصرفا فيه و لا يعد سلطنة عليه، و لا يوجب علقة حتى يقال بأن للمالك قطعها.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 315

و إن شئت قلت: إن مجرّد الإنشاء الصادر من الفضولي لو كان منافيا لسلطنة المالك فلا يؤثر من أول أمره، و إن لم يكن منافيا لها فلا يقدر المالك على ازالته، و الحق أن الإجازة توجب استعداد القبول، و هذا الاستعداد باق ما لم يرجع الأصيل عن عهده أو لم يتحقق فصل طويل ماح لصورة العقد.

و قد اجيب عنه بوجهين آخرين:

أحدهما: إنّ قاعدة السلطنة متعارضة بمثلها، لأنّ مقتضاها جواز الإجازة بعد الردّ.

ثانيهما: إنّ القاعدة ليست مشرّعة، و إنّما تثبت نفوذ التصرفات الثابتة في الشرع كالبيع و الهبة و غيرهما، و ما نحن فيه ليس منها (ذكرهما السيد قدّس سرّه في تعليقته مع ما يقرب من الأدلة).

و يمكن دفع الأوّل منها: بأن مقتضى القاعدة تأثير السابق، فلا يبقى محل للاحق و دفع الثاني بأنّه تصرف عقلائي لم يمنع منه الشرع، فتأمل.

و قد مرّ في بعض المباحث السابقة في كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أنّ ذلك لو كان تصرفا، كان تصرفا جائزا،

كالاستضاءة بنور الغير و الاصطلاء بناره.

و الحق أنّه ليس تصرفا مطلقا حتى مثل الاستضاءة و شبهها.

و ممّا ذكرنا سابقا يظهر الجواب عن الدليل الرابع أيضا، فانّك قد عرفت أنّ الفضولي موافق للقاعدة فيؤخذ باطلاق الأدلة هنا و لا مجال للأخذ بالقدر المتيقن.

التنبيه الرابع: هل الإجازة تورّث أم لا؟

و هو مبني على كونها من الحقوق كحق الخيار و شبهه، أو من الأحكام، لكن من الواضح أنّها من الأحكام، فانّ المالك له أن يجيز ما وقع على ماله من العقد الفضولي أو لا يجيز، و إن شئت قلت: هذا من آثار الملك و أحكامه، فما دام مالكا، له الإجازة، فإذا مات و انتقل المال منه إلى آخر انتقل هذا الأثر بطبيعة الحال إليه، هذا إذا قلنا بجواز كون المالك في زمان الإجازة غير المالك في زمان العقد، كما يظهر من مسألة من باع ثم ملك ثم أجاز.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 316

و قد اختار هذا المعنى شيخنا الأعظم قدّس سرّه و السيد قدّس سرّه و المحقق النائيني قدّس سرّه، و يحكى عن العلّامة الاصفهاني قدّس سرّه في حواشيهم على المكاسب.

و يظهر الأثر بين ارث المال، و وارث الإجازة أنّه على الأوّل يملكها كل من وقع المال في سهمه عند تقسيم الارث، فهو الذي يمكنه اجازة البيع الفضولي الواقع على سهمه دون الباقين، و على الثاني يملكها الجميع، و كذا تظهر الثمرة في بعض ما تكون الزوجة محرومة عنه من الأموال.

التنبيه الخامس: هل القبض شرطا في صحة العقد؟

إذا باع الفضولي و قبض الثمن و اقبض المثمن فانّ المالك قد يجيز أصل العقد دون القبض و الاقباض، و اخرى معه أو مع أحدهما، و قد يكون القبض شرطا في الصحة كالصرف و السلم، و اخرى لا يكون، و الثمن قد يكون عينا شخصيا قبضه، و اخرى يكون كليا في ذمة المشتري الأصيل، فهذه وجوه مختلفة.

فان أجاز نفس العقد دون ما لحقه من القبض و الاقباض، فيصح نفس العقد دون غيره، فلا يسقط ضمان المشتري بالنسبة إلى الثمن و ضمان البائع بالنسبة إلى المثمن

و كذا لو اجاز قبض الثمن فقط أو اقباض المثمن فقط.

نعم، فيما يكون القبض شرطا و كان عالما بهذا الحكم فأجازه، كانت اجازة العقد دالة على اجازة القبض بدلالة الاقتضاء، دون ما إذا كان جاهلا بالحكم.

و هكذا الحال إذا كان الثمن كليا، فأجاز المالك أصل العقد و أجاز أيضا تعيين الكلي في مصداق و قبضه من ناحية الفضولي.

و لكن يظهر من كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المقام أن تصحيح وقوع قبض الكلي و تشخيصه من ناحية الفضولي بمجرّد اجازة المالك مشكل، للإشكال في شمول أدلة صحة الفضولي له.

و فيه: إنّه إذا رضي المالك بقاء كون الثمن مشخصا في المصداق الكذائي الموجود عند

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 317

الفضولي كان جائزا، و تشمله أدلة الفضولي و لا مانع منه.

بقي هنا شي ء: و هو أنّ اجازة القبض سواء كانت صريحة أو مستفادة من دلالة الاقتضاء ليست من باب التوكيل، لعدم إنشاء الوكالة سابقا حتى يجيزها، و الواقع لا ينقلب عما هو عليه، بل من باب الرضا بكون الثمن أو المثمن الشخصي عند الفضولي أو المشتري الأصيل، و يترتب عليه سقوط ضمانهما، فليس ذلك من باب اسقاط الضمان مستقيما و بلا واسطة، كما لعله يظهر من كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه، بل من باب الرضا ببقاء آثار القبض و الاقباض، فيسقط الضمان بسببه، و إن شئت قلت: القبض و الاقباض فعل خارجي و ليس من العقود أو الايقاعات حتى يتغير بالاجازة بل الرضا بالبقاء مع حصوله عنده، كاف.

التنبيه السادس: هل الإجازة على الفور أو لا؟

صرّح جماعة بعدم كونه على الفور و يمكن الاستدلال له بأمرين:

1- العمومات الدالة على صحة الفضولي، فقد عرفت أنّها موافقة للقاعدة و ليس فيها ما يقتضي الفور، و لعل هذا مراد

المحقق القمي قدّس سرّه في جامع الشتات من الاستدلال بالأصل، و إلّا فالأصل في المعاملات على الفساد.

2- كثير من الروايات الخاصة الدالة على صحة الفضولي تدل على صحة و لو كانت الإجازة متراخية، كصحيحة محمد بن قيس، لأنّها صريحة في وقوع التراخى بسبب المشاجرات بين مالك الوليدة، و المشتري الأصيل.

و كرواية النكاح بين الصغيرين، لأنّها صريحة في وقوع الفصل الطويل بين العقد و الإجازة حتى بين اجازة أحد الزوجين و الآخر، و كذا روايات الخيانة في الامانة، و الاقالة الفاسدة، و روايات الخمس (و قد مر ذكرها).

و لا فرق بين التراخى بعد علم المالك بوقوع الفضولي، و قبل علمه، لجريان غير واحد ممّا ذكر، في صورة العلم أيضا.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 318

و أمّا استدلال المحقق القمي قدّس سرّه بالاستصحاب هنا فلم نعرف وجهه، إلّا أن يكون المراد منه استصحاب صحة الإجازة لو صدرت منه سابقا، و لكنه من قبيل الاستصحاب التعليقي، مضافا إلى أنّه من الأصل المثبت ظاهرا فتأمل.

بقي هنا شي ء: و هو أنّه لو لم يجز المالك و لم يرد، فهل للأصيل إلزامه بأحد الأمرين، أوله الخيار بين الفسخ و الإنشاء، أو هو مخير بين الإلزام و الفسخ، أو ليس له حق مطلقا؟

فيه وجوه أربعة على ما ذكره بعض الأعاظم.

قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المكاسب: أنّه لو تضرر الأصيل من التراخي على القول بالكشف فالأقوى تداركه بالخيار، أو اجبار المالك على أحد الأمرين انتهى، و هذا مبني على لزوم العقد من جانب الأصيل.

و قد عرفت سابقا أنّ وجوب الصبر على الأصيل على القول بالكشف من قبيل منذور التصدق من جهة الدلالة الالتزامية، و إلّا فمقتضى اصالة عدم الإجازة في المستقبل هو صحة التصرف

و إلّا فلا دليل على لزوم العقد من قبله.

هذا و الانصاف أنّه لا يحتاج إلى الاجبار و لا الخيار، بل له التصرف بدون ذلك لما عرفت من أنّ أصالة عدم الإجازة فيما سيأتي كاف، و إنّما منع عنه الدلالة الالتزامية، و هي غير شاملة لما إذا تضرر المالك من التأخير.

نعم له الفسخ و الرجوع عن تعهده، لانصراف أدلة وجوب الوفاء عنه، فلا تؤثر الإجازة في المستقبل، أمّا لو لم يفسخ و لم يكن التراخي مناف لصحة العقد عرفا و أجاز في المستقبل و كان العين موجودا أثر العقد أثره، بل يمكن القول بتعلقه بالبدل على فرض تلفها.

هذا كله على الكشف، و أمّا على النقل فلا مانع من تصرفاته، لجواز رجوع الموجب عن ايجابه قبل قبول الآخر و كذا المشتري الأصيل هنا، و ما يظهر من بعض كلمات المحقق النائيني قدّس سرّه من جريان النزاع على القولين، لا وجه له.

التنبيه السابع: هل يجب مطابقة الإجازة مع العقد؟

هل يجب مطابقة الإجازة مع العقد، أو يجوز اجازة بعضه دون بعض، من ناحية اجزاء البيع و الثمن، أو من ناحية الشرائط، أو اجازته مع إضافة بعض الشرائط؟ فيه كلام بين الاعلام قدّس سرّه.

و قال: شيخنا الأعظم قدّس سرّه بالتفصيل بين الأجزاء، و الشرائط، و أنّه يجوز تبعيض الصفقة، و ضرر التبعيض على المشتري يجبر بالخيار، و أمّا بالنسبة إلى الشرائط فلا يجوز، لعدم قابلية العقد للتبعيض من حيث الشرط.

و أمّا إذا أضاف المالك المجيز شرطا في اجازته، فقيه وجوه.

و الأقوى بطلان الإجازة، انتهى.

هذا و الأصل في المقام هو تطابقهما، لما عرفت من أنّ الإجازة تقوم مقام أحد ركني العقد، و من الواضح لزوم المطابقة بين الايجاب و القبول لاعتبارها في مفهوم «المعاقدة» كما لا يخفى.

فعلى

هذا لو أجاز البعض دون غيره لم يكن هناك توافق على عقد و معاهدة بين الطرفين: نعم إذا توافقا على أمر و لكن كان هناك مانع تأثير العقد في بعض متعلقه، كما إذا باع ما يملك و ما لا يملك، و كما في الشرط الفاسد، أمكن القول بتأثير في البعض، و ضرر التبعيض يجبر بالخيار، لتعدد مراتب المطلوب، و لا يقاس بما نحن فيه، فانّ العقد فيه غير تام بعد التخالف بين الإنشاءين، و بالجملة فرق ظاهر بين عدم المطابقة و بين الايجاب و القبول أو ما يقوم مقامهما، و بين وجود الموانع الآخر من تأثيره بعد تمامية العقد من حيث أركانه و شرائطه.

نعم إذا كان العقد في حكم عقدين و بيعين حصلا بإنشاء واحد أمكن التفكيك بينهما، كما إذا كان هناك سلعتان كل واحد بثمن، و لا يكفي تعدد السلعة فقط، أو تعدد الثمن كذلك، كما لعله يظهر من بعض كلمات السيد قدّس سرّه في المقام، و حينئذ يجوز له اجازة أحدهما دون الآخر لأنّه في قوّة معاملتين.

و من هنا يظهر أنّه لا يصح التفكيك بين الشرط و المشروط مطلقا، لعدم استقلال انوار الفقاهة، ج 1، ص: 320

الشرط في المعاملة، و عدم وقوع الثمن في مقابله مطلقا.

هذا كله إذا أراد المالك المجيز ترك المطابقة من دون مراجعة جديدة إلى المالك الأصيل، فلو أجاز بعض العقد أو بعض الشروط أو أضاف شرطا أو شيئا على الثمن أو المثمن، ثم أخبر الأصيل بذلك، فرضي، لم يبعد الصحة، و في كفاية مجرّد الرضا إشكال ظاهر، بل لا بدّ من إنشاء جديد قولا أو فعلا من ناحية الأصيل فيكون في الواقع عقدا جديدا و خارجا عن نطاق البحث.

شرائط المجيز
اشارة

و

هاهنا مسائل ثلاث:

الأوّل: في وجوب كون المجيز جامعا للشرائط حال الإجازة.

الثانية: في اشتراط وجود مجيز حال العقد.

الثالثة: في كون المجيز حال الإجازة جامعا للشرائط و مجازا للتصرف حال العقد.

و الفرق بينه و بين المسألة الثانية أنّه يمكن وجود مجيز جامع للشرائط حال العقد ثم ينتقل منه المال إلى آخر، فيجيز العقد، فالعقد و إن كان له مجيز جامع للشرائط حين صدوره و لكن الذي يجيزه في نهاية الأمر مالك آخر لم يكن جامعا لشرائط المجيز حال العقد، و إن شئت قلت: مآل هذا الشرط إلى أنّه هل يعتبر وحدة المجيز في الحالتين أم لا؟

و هذا أوضح.

و بتعبير آخر: إن قلنا بعدم اعتبار وجود مجيز حال العقد فلا تصل النوبة إلى المسألة الثالثة، و إن قلنا باعتباره فيقع الكلام في أنّه هل يجب وحدة المجيز حال العقد مع المجيز حال الإجازة أم لا؟

المسألة الاولى: أعني اجتماع شرائط التصرف في المجيز حال الإجازة، فهذا من القضايا التي قياساتها معها، فانّ المفروض أنّ الإجازة من أركان العقد على المختار، و من شرائطها على قول بعضهم، و على كل تقدير لا بدّ أن يكون صادرا من أهله، و لا تتمّ الأهلية إلّا بالبلوغ و العقل و عدم السفه و عدم الحجر حتى عدم مرض الموت بناء على القول بكون منجزات المريض من الثلث إذا كان مورد العقد زائدا عليه، و بالجملة يشمله انوار الفقاهة، ج 1، ص: 322

أدلة اعتبار هذه الشرائط.

المسألة الثانية: أعني اشتراط وجود مجيز حال العقد، ففيه خلاف بين الأعلام قال في القواعد:

«و الأقرب اشتراط كون العقد، له مجيز في الحال، فلو باع الطفل فبلغ و أجاز لم ينفذ على إشكال».

و قال في مفتاح الكرامة في شرح هذه

العبارة:

«هذا شرط شرطه أبو حنيفة، و قال الشهيد و ابن المتوج على ما نقل عنه و الفاضل المقداد و المحقق الثاني في الشرح أنّه لا يشترط».

ثم نقل عن بعضهم التوقف في المسألة كإيضاح القواعد و تعليق الارشاد «1».

أقول: كلام القواعد أيضا محتمل الوجهين، فانّ كان الإشكال في أصل وجود المجيز كان من المتوقفين في المسألة، و إن كان في اجتماع شرائط التصرف فيه كان الإشكال في المسألة الآتية، و لكن الأظهر هو الثاني كما فهمه المحقق القمي قدّس سرّه على ما ذكره في جامع الشتات «2».

و كيف كان فقد ذكروا للمسألة مثالا، و هو ما إذا بيع مال اليتيم لغير مصلحة، فلو بلغ و أجاز أو صار ذا مصلحة فأجازه الولي كان فاسدا، بناء على اشتراط وجود المجيز حال العقد، هذا و لكن المجيز بمعنى المالك موجود هنا و هو الصبي، و لكنه غير جامع للشرائط لاشتراط البلوغ في صحة التصرفات، كاشتراط الملكية و غيرها، و صرّح في الجواهر أيضا بعدم اعتبار هذا الاشتراط لما سيأتي الإشارة إليه.

و على كل حال غاية ما استدل به على هذا الشرط على ما ذكره في مفتاح الكرامة أمران: «أحدهما»: إنّ صحة العقد ممتنعة عند عدم المجيز حاله، و إذا امتنع في زمان امتنع دائما (و لعله إشارة إلى استصحاب عدم الصحة و إلّا لا يندرج تحت دليل).

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 323

«ثانيهما»: حصول الضرر على المشتري لعدم قدرته على التصرف في المثمن و الثمن، أمّا الأول فواضح، و أمّا الثاني لإمكان الإجازة فيكون قد خرج عن ملكه (و هذا إنّما يصحّ على الكشف).

و لكن الأقوى وفاقا لجمع من المحققين، من المتأخرين و المعاصرين، عدم اعتبار هذا الشرط، لأنّ القاعدة

الشاملة للفضولي تشمله، لكفاية وجود المجيز حال الإجازة في تحقق أركان العقد و شرائطه، و عدم قيام دليل تعبدي على غير ذلك، مضافا إلى ما ورد في تزويج الصغيرين، و إن كان من بعض الجهات على خلاف المرتكز في الأذهان، و لكنه بالنسبة إلى صحة التزويج بعد الموت و بطلان المحل، لا بالنسبة إلى ما نحن فيه.

أمّا ما استدل به على العدم، فيدفع الأول بأنّ الاستصحاب هنا ممنوع بعد وجود المجيز و حصول شرائطه في المستقبل، لتبدل الموضوع، و أمّا الثاني فبأنّ الضرر لو حصل فانّه إنّما حصل باقدامه، و قد قرر في محله أنّ الضرر الناشي من الاقدام غير ممنوع، مضافا إلى أنّه لا يصحّ إلّا على الكشف، فالأقوى عدم اعتبار هذا الشرط.

المسألة الثالثة: هل يعتبر كون المجيز جائز التصرف حال العقد؟ و ذكر لها صورتان:

إحداهما: كونه لأجل وجود بعض الموانع مع كونه مالكا، كما إذا كان محجورا أو كانت العين مرهونة.

ثانيتهما: كون عدم جواز التصرف لأجل عدم الملكية.

أمّا الأولى: فالكلام فيه تارة في صحة العقد، كما إذا باع المحجور بعض أمواله، أو باع الراهن العين المرهونة، ثم ارتفع الحجر، أو أجاز الغرماء، أو فك الرهن، أو أجاز المرتهن.

و الحق فيه صحة البيع و سائر التصرفات على ما مرّ في الفضولي، بل هو أولى منه، لصدور العقد عن المالك و استناده إليه، و المانع حق الغير و قد زال.

و اخرى من جهة حاجة إلى الإجازة، و الأقوى عدم الحاجة إليها، لما عرفت من أنّ الإجازة إنّما يحتاج إليها إذا صدر العقد من الفضولي، و المفروض صدورها هنا من المالك، فاستناد العقد إليه حاصل من دون حاجة إلى إجازة جديدة.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 324

و هل

يجرى نزاع الكشف و النقل هنا؟ يحكى عن المحقق الثاني قدّس سرّه مع توغله في مسألة الكشف نفي القول به هنا.

و قد أصرّ المحقق النائيني قدّس سرّه في بعض كلماته في جريانه هنا أيضا، و ذكر فيه كلاما طويلا لا يهمنا نقله لأنّه رجع عنه في بعض حواشيه على منية الطالب «1».

و الانصاف أنّ عدم جريانه في أمثال المقام ظاهر، لأنّ اسقاط حق الرهانة و شبه ذلك ليس إلّا من قبيل ارتفاع المانع، فلو فرض كون إنشاء العقد مقيدا بزمان صدوره كان ارتقاع المانع فيما بعد سببا لتأثيره من زمن ارتفاعه، و لا معنى لتأثيره فيما قبل.

أما الثاني: أعني ما إذا تجددت الملكية للمجيز بعد أن لم تكن. و قد ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه لها «ثمان صور» لأنّ غير المالك إمّا أن يبيع لنفسه، أو يبيع لمالكه، و على كل تقدير إمّا أن يكون انتقال الملك إليه بسبب اختياري كالبيع، أو قهري كالإرث، فهذه أربع صور و على كل تقدير إمّا أن يجيز بعد ما ملك، أو لا يجيز بل يقتصر على البيع السابق.

ثم قال: إنّ العمدة صورتان: ما إذا باع ثم ملك ثم أجاز، و ما لو باع ملك و لم يجز، و الاولى جعلهما مسألة واحدة، و هي ما إذا باع ثم ملك، و أمثاله ما إذا باع شيئا معينا شخصيا يكون ملكا آخر لنفسه غفلة أو ادعاء، ثم ملكه بالبيع أو الارث أو غير ذلك، و مثله ما إذا باع مالك النصاب جميع العين التي تعلق بها الزكاة، ثم أدى الزكاة من مال آخر، فملك حصة الفقراء.

و فيه خلاف بين الأعلام، فذهب بعضهم إلى صحته مطلقا، و بعض إلى فساده كذلك

و بعضهم إلى الصحة بشرط الإجازة، و مقتضى القواعد الصحة لجريان ما مرّ في باب الفضولي فيه، كما لا يخفى.

نعم، يجري فيه الإشكال السابق في بيع الغاصب لنفسه و أنّه كيف يقصد البيع لنفسه مع أنّه ليس بمالك، و هذا مناف لحقيقة المعاوضة؟

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 325

و قد مرّ توجيهه من طريق الملكية الادعائية، فهنا أيضا كذلك، و قد يكون ملكية وهمية كما إذا تخيل ملكيته لجميع النصاب، غافلا عن حكم الزكاة و حصة الفقراء و على كل حال لا مانع من تحقيق القصد إلى حقيقة البيع هنا، فتدخل تحت عمومات الصحة، و لكن بالنسبة إلى غير الغافل و الغاصب المدعي للمالكية مشكل.

هذا و قد صرّح في التذكرة بعدم صحة مثل هذا البيع حيث قال: «لا يجوز أن يبيع عينا لا يملكها و يمضى ليشتريها و يسلمها، و به قال الشافعي و أحمد، و لا نعلم فيه خلافا، ثم استدل للبطلان ببعض الروايات الآتية و بالغرر» «1».

هذا و قد ذكر في وجه البطلان امور كثيرة عمدتها:

الروايات المتظافرة الواردة في المسألة، من طريق العامة و الخاصة و هي مستفيضة جدّا أمّا من طريق الخاصة:

1- ما رواه عبد الرحمن بن الحجاج، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل يجيئني يطلب المتاع، فأقاوله على الربح ثم أشتريه فأبيعه منه، فقال: أ ليس إن شاء أخذ و إن شاء ترك؟ قلت: بلى، قال: فلا بأس به» (الحديث) «2».

2- و ما رواه الحسين بن يزيد عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عليه السّلام في مناهي النبي صلّى اللّه عليه و آله قال:

«و نهى عن بيع ما ليس عندك، و نهى عن بيع و سلف» «3».

3- و ما رواه خالد

بن الحجاج قال: «قلت: لأبي عبد اللّه عليه السّلام الرجل يجي ء فيقول: اشتر هذا الثوب و أربحك كذا و كذا، قال: أ ليس إن شاء ترك و إن شاء أخذ؟ قلت: بلى، قال:

لا بأس به، إنّما يحل الكلام و يحرم الكلام» «4».

4- و ما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «سألته عن رجل أتاه رجل فقال:

ابتع لي متاعا لعلي أشتريه منك بنقد أو نسية فابتاعه الرجل من أجله. قال: ليس به بأس انوار الفقاهة، ج 1، ص: 326

إنّما يشتريه منه بعد ما يملكه» «1».

5- و ما رواه منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «في رجل أمر رجلا يشتري له متاعا فيشتريه منه، قال: لا بأس بذلك إنّما البيع بعد ما يشتريه» «2».

6- و ما رواه معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: يجيئني الرجل يطلب «مني» بيع الحرير و ليس عندي منه شي ء فيقاولني عليه و أقاوله في الربح و الأجل حتى نجتمع على شي ء، ثم أذهب فأشتري له الحرير فأدعوه إليه» «3».

7- و ما رواه عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن العينة، فقلت: يأتيني الرجل فيقول: اشتر المتاع و اربح فيه كذا و كذا فأراوضه على الشي ء من الربح، فنتراضى به، ثم أنطلق فأشترى المتاع من أجله لو لا مكانه لم أرده، ثم آتيه به فأبيعه، فقال: ما أرى بهذا بأسا لو هلك منه المتاع قبل أن تبيعه إيّاه كان من مالك، و هذا عليك بالخيار إن شاء اشتراه منك بعد ما تأتيه و إن شاء رده

فلست أرى به بأسا» «4».

8- و ما رواه منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل يريد أن يتعين من الرجل عينة فيقول له الرجل: أنا أبصر بحاجتي منك فاعطني حتى أشتري فيأخذ الدراهم فيشتري حاجته ثم يجي ء بها إلى الرجل الذي له المال فيدفعه إليه فقال: أ ليس إن شاء اشتري و إن شاء ترك و إن شاء البائع باعه و إن شاء لم يبع قلت:

نعم قال عليه السّلام: لا بأس» «5».

9- و ما رواه منصور بن حازم أيضا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل طلب من رجل ثوبا بعينة، قال ليس عندي، هذه دراهم فخذها فاشتر بها، فأخذها

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 327

فاشترى بها ثوبا كما يريد ثم جاء به أ يشتريه منه فقال: أ ليس إن ذهب الثوب فمن مال الذي أعطاه الدراهم؟ قلت: بلى قال عليه السّلام: إن شاء اشترى و إن شاء لم يشتر قلت: نعم قال: لا بأس به» «1».

10- و ما رواه يحيى بن الحجاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل قال لى: اشتر هذا الثوب و هذه الدابة و بعينها أربحك فيها كذا و كذا قال: لا بأس بذلك» الحديث «2».

إلى غير ذلك ممّا يدلّ أو يشعر بذلك من طريق الأصحاب، و يدلّ عليه أيضا من طريق الجمهور ما يلى:

1- ما رواه حكيم بن حزام قال: «نهي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن أبيع ما ليس عندي أو أبيع سلعة ليست عندي» «3».

2- و عنه أيضا: قال «قلت يا

رسول اللّه الرجل يطلب مني البيع و ليس عندي أفا بيعه له، فقال: لا تبع ما ليس عندك» «4».

3- ما رواه عباس قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعتاب ابن اسيد: إني قد بعثتك إلى أهل اللّه و أهل مكة فأنهاهم عن بيع ما لم يقبض» «5».

4- و ما رواه حكيم بن حزام أيضا قال: «قلت يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أني رجل اشتري بيوعا فما يحل منها و ما يحرم؟ قال: يا بن أخي إذا اشتريت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه» «6».

و مثله رواية اخرى عنه بتفاوت يسير.

و مقتضى هذه الروايات- التي وردت بعضها في العين الشخصية و بعضها في بيع الكلي حالا إذا انضم بعضها ببعض- أنّه لا يجوز بيع العين الشخصية التي لا يملكها بل الكلي انوار الفقاهة، ج 1، ص: 328

الذي لا يوجد عنده ثم يمضي ليشتريه و يقبضه، و لكن لا مانع من المقاولة من قبل و تعيين الثمن و المثمن و غير ذلك بشرط أن يكون كل من طرفي المعاملة مختارا في قبول ما تقاولا عليه و تركه، بمعنى عدم الإلزام من ناحية واحد منهما، و النهي عن البيع بدون القبض في غير واحد منهما لعله كناية عن النهي بدون تمام الملكية و التسلط على الاقباض.

كلام المحقق الأنصاري في هذه الأخبار:

لقد قسّم قدّس سرّه هذه الأخبار إلى ما هو عام يدل على النهي عن بيع ما ليس عنده مطلقا، و إلى أخبار خاصة تدل على بطلان البيع قبل تملك المتاع، ثم أجاب عن الجميع بأنّ غاية ما يستفاد منها هو عدم ترتب الأثر المقصود من النقل و الانتقال على هذا البيع، لا أنّه لغو و باطل من رأس

و لا يصح حتى مع الإجازة المالية، و بالجملة هي دالة على عدم تمام البيع قبله لا على كون الإنشاء كالعدم ثم أورد على نفسه بأن مقتضى التعليل الوارد في رواية خالد بن الحجاج «1» بأن المشتري إن شاء أخذ و إن شاء ترك، ثبوت البأس بمجرّد لزومه على الاصيل، و هذا محقق فيما نحن فيه بناء على أنّه ليس للأصيل ردّ العقد قبل اجازة المالك.

فأجاب عنه: بأنّ المراد منه أنّ اللزوم من الطرفين ممنوع.

و قد رجع عن هذا البيان ثانيا و قال: بأنّ اطلاق النهي عن مثل هذا البيع دليل على فساده مطلقا، و إلّا كان اللازم النهي عنه مقيدا بعدم لحوق الإجازة.

فالانصاف أنّ ظاهرها عدم وقوع البيع قبل التملك و عدم ترتب أثر الإنشاء عليه و لو مع الإجازة، ثم رجع عن هذا ثالثا إلى الإثبات، نظرا إلى أنّ كثيرا من هذه الأخبار وردت في البيع الكلي مع أنّ المذهب جواز بيع الكلي قبل تملك شي ء من مصاديقه (سلفا

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 329

و حالا) فيقوى في النفس حملها، و كذا حمل ما هو ظاهر في البيع الشخصي على الكراهة أو على التقية، نظرا إلى أنّ المنع عن بيع الكلي حالا من عدم وجوده عنده مذهب جماعة من العامة، مستندين في ذلك إلى عمومات النهي عن بيع ما ليس عنده.

ثم استقر رأيه الشريف رابعا و أخيرا على المنع، و قال: إنّ الاعتماد على هذا المقدار من الوهن في رفع اليد عن الروايتين الواردين في البيع الشخصي، و عموم المفهوم في التعليلات الواردة في البيع الكلي، مع حمل موردها على التقية خلاف الانصاف.

فالأقوى العمل بالروايات و الفتوى بالمنع (يعنى في خصوص بيع العين الشخصية) انتهى

ملخصا.

تحقيق في معنى «ما دل على النهي عن بيع ما ليس عنده»:

أقول: هذه الروايات في الحقيقة على طوائف:

1- كثير منها مطلقة تشمل الشخصي و الكلي، مثل ما رود من طرق العامة «1».

2- ما دلّ على الشخصي فقط، مثل رواية خالد بن الحجاج «2» و يحيى بن الحجاج «3».

3- و بعضها في خصوص الكلي، و هو ظاهر أكثرها كما مرّ.

4- ما يكون ظاهر في الوكالة في الاشتراء لصاحب المال ثم شراؤه منه بعد ذلك مثل ما رواه منصور «4».

5- و هناك طائفة اخرى تدل على جواز بيع ما ليس عنده إذا كان كليا، مثل ما رواه اسحاق بن عمار و عبد الرحمن ابن الحجاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الصحيح «5». و فيه انوار الفقاهة، ج 1، ص: 330

التصريح بجواز البيع حالا كليا، و كونه أولى من بيع السلف، و كذلك ذيل رواية اخرى من عبد الرحمن بن الحجاج و هي أيضا صحيحة قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام الرجل يجيئني يطلب المتاع فأقاوله على الربح ثم أشتريه فأبيعه منه، فقال: أ ليس إن شاء أخذ و إن شاء ترك؟ قلت: بلى قال: لا بأس به» الحديث «1» و لكنها متهافتة صدرا و ذيلا و كأن ذيلها من رواية اخرى منه، وقع بينها و بين رواية اخرى من ناحية الراوي، فراجع و تأمل فيها.

و ما رواه أبو الصباح الكناني «2» و ظاهره وقوع البيع من قبل.

و الجمع بين هذه الروايات يمكن بأحد وجوه:

1- الحمل على الكراهة بالنسبة إلى الجميع.

2- الحمل على التقية بالنسبة إلى الجميع.

3- التفصيل بين الشخصي و الكلي فيحرم في الشخصي و يكره في الكلي.

4- الحمل على عدم الإجازة.

و الأقوى هو التفصيل لا سيما أنّ البيع الشخصي كذلك غير متعارف بين أهل

العرف و العقلاء و مناف لحقيقة المعاوضة، لأنّ بيع المتاع الخاص الذي هو ملك غيره لنفسه- مع أنّه ليس بغاصب- غير معمول إلّا بظن الملكية، فشمول ادلة الصحة له غير معلوم من أصله، مضافا إلى أنّ القدرة على التسليم الذي هو من شرائط الصحة غير حاصل غالبا.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّما يكون ذلك في مورد يعلم أو يظن على قدرته على اشترائه و تسليمه إلى المشتري الأوّل، أو يقال: إن القدرة على التسليم ناظرة إلى نفي صحة بيع الطير في الهواء و السمك في الماء و شبه ذلك، لا مثل ما نحن فيه.

هذا و لكن لا ينبغي ترك الاحتياط في البيع الكلي أيضا إذا لم يكن مصداقه عنده لكثرة الروايات الدالة على منعه من طرق الفريقين كما لا يخفى.

و العجب من السيد قدّس سرّه في تعليقاته، حيث قال: إن غالب هذه الروايات و إن كانت واردة في البيع الكلي، إلّا أنّ الظاهر منها صورة كون المبيع هو الشخص الذي يشتريه بعد

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 331

ذلك كما يظهر من قوله عليه السّلام: «أ رأيت لو وجد هو بيعا أحب إليه ...» و مثل هذه الصورة ليس المذهب جوازه ... بل هو يرجع في الحقيقة إلى الشخصي لا الكلي في الذمة «1».

قلت: هذا أمر غير متعارف جدّا لا داعي إليه بوجه، بل الأمر دائر بين بيع العين الشخصية ممّا يتعلق به الرغبة، أو الكلي في الذمّة و يكون ما يعطيه بعد ذلك من قبيل المصداق له، و ما ذكره من الشاهد لا دلالة فيه على مقصوده.

و العجب أيضا من المحقق النائيني قدّس سرّه حيث أنكر ظهور أكثر هذه الإخبار في البيع الكلي إلّا خصوص صحيحة معاوية بن

عمار، الواردة في بيع الحرير «2» مع أن ظهورها فيه ممّا لا ينبغي أن ينكر.

هذا و لو قلنا بالجواز أمكن القول بعدم الحاجة إلى الإجازة، لأنّ البيع قائم بين شخصين كل منهما أصيل و ليس فضوليا من قبل مالكه حتى يحتاج إلى اجازته، فلو قلنا بمعقولية مثل هذه المعاملة و كان عالما بحقيقة الحال، لا الجاهل الذي يظن أنّ مال الغير ماله، تمّت المعاقدة من الجانبين، فتدبّر جيدا.

الجواب عن الإشكالات الستة:

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى الإشكالات الستة التي ذكرها شيخنا العلّامة قدّس سرّه في مكاسبه حكاها عن بعض مقاربي عصره (و هو المحقق التستري قدّس سرّه صاحب المقابيس).

أولها: أنّه قد باع مال الغير لنفسه فلا يصح، و أجاب عنه هو قدّس سرّه بأنّه مرّ الجواب عنه و ربّما لا يجري فيه بعض ما ذكر هناك من الإشكالات (إي في بيع الغاصب لنفسه) و كلامه هذا اشارة إلى أنّ الإجازة توافق ما قصده المتعاقدان، لأنّ الفضولي قصد البيع لنفسه ثم أجازه كذلك بعد ما ملكه.

أقول: الانصاف أنّ هذا الإشكال وارد عليه مع عدم كونه غاصبا لما عرفت من أن هذا

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 332

البيع مع العلم بانّه مال الغير غير متعارف بين أهل العرف و العقلاء بل مناف لحقيقة المعاوضة، فكيف يبيع إنسان مال غيره لنفسه! بخلاف الغاصب الذي يدعي كونه مالكا و يرى السلطنة على الشي ء دليلا على مالكيه، فبطلان بيع من باع ثم ملك في العين الشخصية مطابق للقاعدة، و موافق للنصوص التي عرفت، و تصحيح قصد المعاوضة فيه مشكل جدّا، إلّا أن يكون غاصبا أو مشتبها و هما خارجان عن كلماتهم.

ثانيها: إنّ من شرائط البيع الملكية و القدرة على التسليم، و هما حاصلان في الفضولي

دون المقام، لعدم ملكية البائع و لا قدرته، و المالك و إن كان قادرا أو لكنه لم يجز البيع.

و بالجملة فرق بين الفضولي و محل الكلام، لأنّ المالك حين العقد هو الذي يجيز في زمن الإجازة، بخلافه هنا.

و اجيب: بأنّه إنّما تعتبر الملكية و القدرة على التسليم عند تمام البيع و حصول النقل و الانتقال، و أمّا عند العقد فلا يعتبر ذلك.

ثالثها: أنّه على القول بالكشف يلزم خروج العين عن ملك البائع قبل دخوله في ملكه.

رابعها: يلزم منه كون المال الواحد ملكا لمالكه الأوّل و المشتري في زمان واحد لأنّ مقتضى صحة العقد الأوّل هو كونه ملكا للمشتري من حين العقد الأوّل، و مقتضى صحة العقد الثاني كونه ملكا لمالكه إلى زمن العقد الثاني، ففي الفاصلة بين العقدين يكون ملكا للمالك الأوّل و للمشتري كليهما.

خامسها: يلزم منه الدور، فانّ الإجازة إذا كشف عن ملكية المشتري من زمن العقد الأوّل كان المال ماله فلا يصح البيع الثاني إلّا باجازته، فلا بدّ من إجازة المشتري في البيع الثاني حتى يصح و يلزم، مع أنّه لا يكون مالكا إلّا باجازة الفضولي الذي يكون مالكا بعد البيع الثاني، فكون المشتري مالكا يتوقف على إجازته، و كون الفضولي مالكا يتوقف على إجازة المشتري، فكل من الإجازتين تتوقف على الآخر!

هذا و الجواب عن الجميع و ما أشبهه واحد، و هو أنّه قدّس سرّه زعم أنّ الكشف لو قلنا به إنّما يكون من زمن العقد الأوّل، مع أنّه لا يكون إلّا زمن العقد الثاني، لعدم كونه مالكا قبله، فكيف يؤثر إجازته في مالكية غيره؟ و الكشف في كل مقام إنّما يكون بمقدار قابلية

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 333

المحل، كما هو ظاهر، و لو

حصل الملك زمن العقد الثاني لا يلزم شي ء من المحذورات الثلاث و لا غيرها ممّا هو متصور في المقام، و في الحقيقة هذه الإشكالات من قبيل اللازم و الملزوم و ليست امورا متعددة روحها دخول المال في ملك المشتري في الفاصلة بين العقدين. هذا أولا.

و يرد عليها ثانيا: أنّه يلزم ذلك للكشف الحقيقي دون الكشف الحكمي و محاذير الكشف الحقيقي كثيرة غير منحصرة بهذه الامور.

سادسها: إن البيع الثاني فسخ للبيع الأوّل، لأنّ فعل المنافي مصداق للفسخ كما ذكر في العقود الجائزة، فإذا تصرف في الموهوب تصرفا منافيا للهبة كان مبطلا لها، فإذا باع المالك المال للفضولي هنا فقد أبطل العقد الأوّل.

و اجيب عنه: بأنّ الفسخ لا يكون إلّا بإنشاء الردّ، و هو هنا غير موجود، و التصرف المنافي إنّما يكون مفوتا لمحل الإجازة بالنسبة إلى المالك فقط، لا بالنسبة إلى الفضولي، فكأنّ المالك سد باب العقد الأوّل بالنسبة إلى نفسه بسبب العقد الثاني، و أمّا بالنسبة إلى الفضولي فلا.

أقول: و الانصاف أنّه إذا فرضنا أنّ العقد الأوّل قصد وقوعه للمالك، و المفروض أن المالك قدم على العقد الثاني فقد أبطله بالمرة، لا بالنسبة إلى نفسه فقط، لعدم تعدد المالك في وقت واحد، و إن شئت قلت: إنّ العقد لا يقصد وقوعه لكلي المالك الذي يصدق في كل زمان على شخص (تارة المالك الأوّل و اخرى الفضولي الذي صار مالكا بعده) بل لمصداقه الخارجي، و المفروض أنّه لم يكن هناك إلّا المالك حين العقد، فإذا تصرف تصرفا منافيا لم يبق محل للإجازة.

فهذا الإشكال و الإشكال الأوّل واردان.

و أمّا الإشكالات الأربعة الاخرى فيمكن دفعها و الحمد اللّه.

بقي هنا امور:
1- إذا قلنا بصحة هذه المعاملة، فهل تحتاج إلى الإجازة اللاحقة بعد ملكيته للمبيع

أو يكفى رضاه السابق و عقده مع المشتري من قبل؟

الذي يظهر من العلّامة قدّس سرّه في التذكرة من دعوى الإجماع على البطلان فلعل مراده ما لو لم تلحقه الإجازة، بل اكتفى بمجرد الشراء كما ذكره المحقق القمي قدّس سرّه في جامع الشتات، و لكن حكي عن ظاهر الدروس و الصيمري و الفاضل المقداد الصحة بدون الحاجة إلى الإجازة، و يلوح عن الشهيد الثاني قدّس سرّه في هبة المالك، و رجّحه فخر الدين في الايضاح فيما حكي عنهما.

و غاية ما يمكن الاستدلال به لاشتراط الإجازة قاعدة السلطنة، و توقف حلية المال على الرضا و طيب النفس، و أمّا رضاه أو طيب نفسه السابق فغير مفيد. لأنّه لم يكن مالكا حينئذ، مضافا إلى شمول الأخبار الناهية عن بيع ما ليس عنده، و إلى فحوى ما ورد نكاح العبد و أنّه لو لا سكوت الموالي لا يكفي مجرّد عتق العبد بعد ذلك و صيرورته مالكا لأمر نفسه «1».

لكن يمكن الاستدلال على الصحة بدونها بأنّه عقد البيع لنفسه و تمّ اسناده إليه، بانيا على اشترائه و اقباضه، فيشمله عمومات وجوب الوفاء.

و القول بأنّه لا يصح بيع مال الغير، لازمه الحكم بالفساد من أصله، و المفروض أنا صححنا البيع، فلو قلنا بالصحة لم يكن هناك بد من القول بعدم الحاجة إلى الإجازة اللاحقة، لأنّه تمّ اسناد العقد إليه، و أمّا الأخبار الناهية فقد عرفت دلالتها على الفساد مطلقا، و رواية العبد ناظرة إلى تصحيح النكاح من أول أمره حتى لا يحتاج إلى القول بالصحة بعد عتقه، بل لعله دليل على بطلان عقده حتى مع الإجازة لمكان سؤاله عن تجديد النكاح الظاهر في لزوم إجراء الصيغة الجديدة.

نعم، يمكن أن يقال: ظاهر أدلة طيب النفس، طيبها بعد صيرورته مالكا، فلا بدّ

هنا من طيب النفس بعد الملكية و لو لم نقل بلزوم إنشاء الإجازة.

إن قلت: هو غير مأمور بالوفاء قبل الملك فيستصحب، و المقام مقام استصحاب حكم المخصص لا غير.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 335

قلت: بل هو مأمور بالوفاء بمقتضى عقده إذا قدر عليه، و إنّما يمنعه عدم القدرة قبل كونه مالكا، كما إذا منعه مانع مع كونه مالكا، فإذا حصلت القدرة وجب عليه الوفاء.

و بالجملة إذا صححنا أصل هذا العقد، فلا مناص من الحكم بعدم الحاجة إلى الإجازة اللاحقة فتأمل، و لعمري أنّ هذا أيضا ممّا يشهد على فساد هذه المعاملة من أصله، لأنّ الالتزام به مشكل.

2- قد ورد في الروايات الباب الإشارة إلى «العينة»

، و هي نوع من المعاملة و لا بدّ تحقيق معناه للإحاطة بمفاد أخبار الباب فنقول:

قال في لسان العرب «العين و العينة الربا، و عين التاجر أخذ بالعينة أو أعطى بها و العينة السلف».

و قال أيضا: «و ذلك إذا باع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل، ثم اشتراه منه بأقل من المثمن الذي باعها به، و قد كره العينة أكثر الفقهاء.

فان اشترى التاجر بحضرة طالب العينة سلعة من آخر بثمن معلوم و قبضها ثم باعها من طالب العينة بثمن أكثر ممّا اشتراه، إلى أجل مسمى، ثم باعها المشتري من البائع الأوّل بالنقد بأقل من الثمن الذي اشتراها به، فهذه عينة و هي أهون من الاولى و أكثر الفقهاء على اجازتها على كراهة من بعضهم لها.

و إن اشتراها المتعين بشرط أن يبيعها من بايعها الأوّل، فالبيع فاسد عند جميعهم و سميت عينة لحصول النقد لطالب العينة و ذلك أن العينة اشتقاقها من العين، و هو النقد الحاضر» «1».

و قال ابن قدّامة في المعنى: «روى عن أحمد قال، العينة أن

يكون عند الرجل مال فلا يبيعه إلّا بنسية».

و قال الطريحي في مجمع البحرين: «و العينة بالكسر السلعة، و قد جاء ذكرها في الحديث، و اختلف في تفسيرها فقال: ابن ادريس في السرائر:

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 336

العينة معناها في الشريعة هو أن يشتري سلعة بثمن مؤجل يبيعها بدون ذلك الثمن نقدا ليقضي دينا عليه لمن قد حل له عليه و يكون الدين الثاني، و هو العينة، من صاحب الدين الأوّل مأخوذ من العين و هو النقد الحاضر.

و قال في التحرير: العينة، الجائزة.

و قال: في الصحاح هي السلف» «1».

و في المنجد: بيع العينة مقابلة انتظار الثمن.

و في الحدائق تعرض للمسألة و قال: قد تكاثرت الروايات بذكر العينة و لم أقف في الكتب الفقهية على من تعرض لذكرها بهذا العنوان إلّا ما سيأتي من نقل كلام لابن ادريس في السرائر.

ثم ذكر كلام ابن الأثير في النهاية، و ذكر المعنيين اللذين ذكرهما في لسان العرب «2».

(و كأنّ لسان العرب أخذ منه).

و قد أشار إليه في الجواهر أيضا في باب النقد و النسية فراجع «3».

أقول: و يظهر من ذلك كله:

أولا: إن أصل العينة من العين، و هو النقد الحاضر، و تسمية النسية أو السلف بالعينة لأنّ صاحبها يتوسل إليه حتى يحصل له النقد الحاضر.

و ثانيا: إنّ ذلك كان منهم تارة للحصول على متاع حاضر بدون رد ثمنه فعلا فكان الرجل يأتي التاجر الذي لا يكون المتاع عنده فيشتري التاجر المتاع له نقدا بثمن ثم يبيعه نسية منه بثمن أزيد في مقابل الأجل، بل قد لا يشتري التاجر بنفسه و يعطي الثمن النقد للمشتري و يوكله في اشتراء المتاع له، ثم إذا اتى به باعه بأكثر من ثمن النقد إلى أجل،

كما يظهر من روايتي منصور بن حازم «4».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 337

و حاصل هذا جواز البيع إلى أجل بثمن أكثر من ثمن النقد، و هذا لا أشكال فيه، نعم إذا لم يكن المتاع عند التاجر فلا يبيع ما ليس عنده، بل يشتري أولا ثم يبيعه منه.

و اخرى كان بعنوان الفرار من الربا، بأن يكون الزيادة في ضمن بيع، فيأتي من يريد القرض عند التاجر، فيشتري له متاعا نقدا بثمن و يبيعه منه نسية بأكثر، ثم يأخذ المشتري المتاع و يأتي البائع الأوّل فيبيعه له بعين الثمن الذي اشترى التاجر منه أو بأقل، و يأخذ النقد لحاجة، و هذا إن كان بيعا حقيقيا جدّيا من الطرفين كان صحيحا، و إن كان صورة فرارا عن الربا فهو غير صحيح، و إليه يشير ما ورد في رواية حسين بن منذر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «1»، و ما في رواية اسماعيل بن عبد الخالق «2»، فراجع و تدبّر جيدا.

3- لو باع معتقدا لكونه غير جائز التصرف، ثم بان كونه جائز التصرف، فهل تصح المعاملة

بدون الإجازة أو معها أم لا؟ و هذه المسألة و إن جعلها في المكاسب ثالث المسائل في المقام، إلّا أنّ الظاهر أنّها مغايرة لما سبق بالمرة، و أمر مستقل بنفسه، و لقد أجاد المحقق الايرواني قدّس سرّه حيث قال: هذه المسألة أجنبية عن مسائل «عدم كون العاقد جائز التصرف حال العقد، ثم صيرورته جائز التصرف» فذكرها في عدادها بلا وجه «3».

و على كل حال فقد ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه لها صورا أربع:

1- أن يبيع للمالك فانكشف كونه وليا عنه.

2- أن يبيع لنفسه فانكشف كونه وليا.

3- أن يبيع للمالك فانكشف كونه مالكا.

4- أن يبيع لنفسه فانكشف كونه مالكا.

و في الحقيقة ترجع هذه الصور إلى صورتين:

إحداهما: أن يكون تصرفه

مطابقا للواقع و ما هو الجائز له، كما إذا باع لنفسه و كان مالكا، أو باع لغيره و كان وليا أو وكيلا و لكن لا يعلمه.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 338

ثانيتهما: أن لا يكون مطابقا لما هو الجائز له واقعا، كما إذا باع لنفسه و كان وليا، أو باع لغيره و كان مالكا.

أمّا الصورة الثانية، ففي الواقع خارجة عن محل الكلام و مندرجة في سائر أقسام الفضولي، لأنّ المروض أن ما قصد غير موافق للواقع و مجرّد كونه وليا أو مالكا مع عدم مطابقة ما قصده لما وقع لا يخرجه عن الفضولي، فقد أنشأ عقدا لم يكن مجازا فيه، أو لم يكن راضيا به، فيجري فيه ما جرى في الفضولي.

و قد مثلوا له بما إذا باع مال أبيه لأبيه بظن حياته فبان كونه ميتا و المال ماله، و ذكروا فيه أقوالا:

1- صحة من دون حاجة إلى الإجازة كما عن غير واحد.

2- صحة مع الحاجة إلى الإجازة كما عن المحقق و الشهيد الثاني قدّس سرّه.

3- البطلان كما احتمله العلّامة قدّس سرّه في النهاية و الشهيد قدّس سرّه في قواعده فيما حكى عنهما، و لكن الوسط هو الأوسط.

أمّا صحته، فلوقوع الإنشاء صحيحا، و قصد الغير لا يضره كما مرّ عكسه فيما إذا باع مال الغير لنفسه ثم اذن الغير، و أمّا حاجته إلى الإجازة، فلأنّه لم يطب نفسه بخروج المال عن ملكه، بل طاب نفسه بخروجه عن ملك أبيه، فهو أيضا من قبيل الفضولي و إن لم يكن من الفضولي حقيقة.

و الذي ينبغي الكلام فيه هي الصورة الاولى بأن وافق قصده للواقع مع عدم علمه به، فهل تخرج بذلك عن الفضولي بحيث لا تحتاج إلى إجازة جديدة، أو

لا؟ و ذلك كما إذا قصد البيع باعتقاد عدم كونه وكيلا فبان كونه وكيلا، أو قصد لنفسه باعتقاد عدم كونه مالكا فبان كونه مالكا. ففي الشق الأوّل كان صحيحا لازما لصدوره عن أهله و وقوعه في محله، و مجرّد اعتقاد عدم الوكالة لا يضر بشي ء من أركان العقد، و إن شئت قلت: الوكالة ليست أمرا قصديا، بل هي أمر واقعي و هو حاصل على الفرض.

و قد أوجب الإجازة هنا السيد قدّس سرّه في تعليقته، و هو ضعيف لا وجه له يعتد به بعد ما عرفت.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 339

و كذا الشق الثاني، لكنه موقوف على الإجازة، لأنّ الرضا لا بدّ أن يكون متعلقا بخروج المال عن ملكه، و المفروض عدم كونه كذلك، بل رضي بخروجه عن ملكه غيره في الواقع، و لذا قد يبيعه بثمن بخس و لو كان ملك نفسه لم يكن كذلك.

و إن شئت قلت: أنّه و إن قصد البيع لنفسه و كان المال له واقعا و لكنه كان يظن حياة أبيه مثلا و أنّ المال ماله و أنّه يبيع هذا المال غصبا عليه، فالرضا الباطني و طيب النفس المعتبر في التجارة غير حاصل هنا، إلّا أن يكون في الباطن راضيا على كل تقدير فتدبّر.

الكلام في أحكام «العقد المجاز»
اشارة

و المراد منه العقد الواقع عليه الإجازة، و الكلام فيه يقع في مسائل:

المسألة الاولى: لا ينبغي الشك في اعتبار جميع الشرائط المعتبرة في غير الفضولي فيه، لعدم فرق من هذه الناحية، إنّما الكلام في أنّه هل يشترط أن تكون جميع الشرائط موجودة حين العقد، أو حين الإجازة، أو حينهما و إن فقدت في البين، أو من حين العقد إلى تمام الإجازة؟ (هنا احتمالات أربعة).

هذا و الانصاف أن يفرق

بين هذه الشرائط فانّها مختلفة جدّا، لكل منها حكمه فهي على طوائف:

1- ما هو من شرائط الإنشاء كالصراحة أو الظهور، و التنجيز و قصد الإنشاء، و الماضوية على القول به و غير ذلك، و كلام في اعتبارها في نفس العقد.

2- ما هو من شرائط العوضين كالمعلومية و الملكية و الطلقية و غير ذلك، فلا يصح البيع على المجهول، و لا على الخمر و شبهها ممّا لا يملك، و لا الوقف، و لا ما لا يقدر على تسليمه كالسمك في البحار و الطير في الهواء و غير ذلك.

3- منها ما يكون شرطا في المتعاقدين كالعقل و البلوغ و عدم السفه و الحجر و شبهها.

أمّا الاولى: فقد عرفت وضوح اعتبارها.

و أمّا الثانية: فلو كان شي ء مجهولا في ظرف إنشاء العقد، معلوما عند الإجازة، فالظاهر عدم صحة العقد الواقع عليه لظهور أدلة اعتبار العلم في ذلك. سواء قلنا بالكشف أو النقل، و إن كان الحال أظهر على الكشف، لا سيما أنّ المفروض كون أحد الطرفين أصيلا، بل لو

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 342

فرض الفضولي من الجانبين كان العلم أيضا معتبرا حال العقد، للنهي عن بيع الغرر، اللّهم إلّا أن يقال: إن الإنشاء و إن كان غرريا و لكنه يكفي زواله عند الإجازة فتأمل.

و هكذا إذا كان الثمن أو المثمن خمرا أو شبهها عند العقد و صار خلا عند الإجازة أو كان عصيرا طاهرا عند العقد، ثم صار خمرا نجسا بين العقد و الإجازة ثم صار خلا عند الإجازة فالظاهر بطلان العقد في جميع هذه الصور لظهور اعتبار الشرائط من حين العقد إلى زمان الإجازة.

أمّا على النقل فواضح، لكون الإجازة أحد ركني العقد و لازمه كون المبيع خمرا بين زماني

الإيجاب و القبول، و أمّا على الكشف فكذلك أيضا لأنّها شرط على كل حال و لا يتمّ العقد إلّا بها و إن كشفت عن تأثير العقد من زمن حصوله فتأمل.

و كذا لو كان مالا موقوفا خاصا عند العقد، فخرج عنه لبعض الجهات التي ذكروها في باب الوقف فصار طلقا عند الإجازة، لظهور الأدلة في ذلك، و كذا لو كان طلقا عند العقد ثم صار وقفا ثم صار طلقا حين الإجازة، لأنّ ظاهر أدلة الشرائط ثبوتها من حين الإيجاب إلى تمام القبول.

نعم إذا لم يقدر على تسليمه كالعبد الآبق فباعه بدون ضميمة مع علمه بالقدرة على تسليمه حين الإجازة، أو مع عدم العلم ثم صار مقدورا من باب الاتفاق فانّه لا يبعد صحته، لأنّ المستفاد من أدلة اعتبارها بملاحظة مناسبة الحكم و الموضوع هو اعتبارها لتحقق الوفاء بالقبض و الاقباض و إن كان لا يخلو عن إشكال.

و هكذا لو كان المشتري للمصحف كافرا حين العقد ثم أسلم حين الإجازة، أو كان مسلما حينه ثم ارتد بعده ثم أسلم و تاب حين الإجازة.

و الحاصل: أنّ الدليل في جميع ذلك اطلاق أدلة هذه الشرائط، الشاملة من حين ابتداء العقد إلى تمام الإجازة، من غير فرق بين القول بالكشف أو النقل، إلّا ما كان منصرفا إلى خصوص حال النقل و الانتقال فيكون حين الإجازة على النقل و بعد تمام العقد على الكشف الحقيقي.

و أمّا الثالثة: أعني شرائط المتعاقدين فيجري فيها الوجوه الأربعة السابقة من اعتبارها

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 343

حين العقد، أو حين الإجازة، أو حينهما مع عدم اعتبار ما بينهما، أو جميع ذلك أي من أول زمن العقد إلى آخر زمن الإجازة.

أمّا النسبة إلى العاقد الفضولي فالظاهر أنّه لا

يعتبر فيه ما عدا العقل لأنّه في الحقيقة مجر للصيغة، فكونه سفيها في الامور المالية، أو محجورا، أو صبيا لم يضره بعد علمه و قدرته على إنشاء العقد، فإذا اجازة المالك بعد ذلك كان صحيحا.

أمّا المالك فقد يكون جامعا للشرائط حين العقد فقط من العقل و البلوغ و الرشد و عدم الحجر و غير ذلك، و اخرى حين الإجازة فقط، و ثالثة في الحالتين من دون وجود الصفات أو بعضها في الاثناء في الموارد التي يتصور فيها ذلك.

و قد مر بعض الكلام فيها في بعض المباحث السابقة و أنّه هل يشترط وجود المجيز، أي من يصلح للإجازة حال العقد أم لا؟

و نزيدك هنا أنّه لا ينبغي الشك في لزوم تحقيق هذه الشرائط عنده الإجازة بناء على كونها أحد أركان العقد، و لو على القول بالكشف، لما عرفت من أنّ عدم اعتبارها مطلقا و كون تمام العلة هو العقد الفضولي ممّا لا يمكن التفوه به و إن كان يظهر من بعض العبارات.

و أمّا لزومها في الأثناء (أي بين العقد و الإجازة) و كذا حال العقد مبني على استفادة الاطلاق من ادلتها، و قد عرفت سابقا عدم الدليل عليه، و أنّه يكفي اجتماعها في المجيز حال الإجازة على جميع الأقوال، و لكن يظهر من بعض كلمات صاحب الجواهر قدّس سرّه اعتبار وجودها إجمالا من أول زمن العقد إلى آخر زمن الإجازة، حتى أنّه ذكر مسألة تزويج الصغيرين المصرح به في النصوص بأنّه على خلاف القاعدة و قال بعدم التعدي منه إلى غيره و لكن التحقيق ما عرفت من عدم الدليل على هذا الاشتراط.

المسألة الثانية: هل يعتبر في العقد المجاز أن يكون معلوما بالتفصيل للمجيز أم لا؟ فيه

كلام بينهم.

و الجهالة قد تكون بخصوصيات المبيع و الثمن مع معلومية كونه بيعا، و اخرى يكون في انوار الفقاهة، ج 1، ص: 344

جنس العقد و نوعه كالبيع و الصلح و غيرهما، و ثالثة يكون الشك و الجهل في أصل وقوع العقد فيجيزه على تقدير وقوعه.

قد يقال بالصحة في الجميع كما في تعليقة السيد قدّس سرّه نظرا إلى أنّ الإجازة كالتوكيل و قد حقق في محله أنّه يجوز مطلقا إلّا في الأمر المبهم أو المردد كأن يقول: وكلتك في شي ء، أو في التصرف في مالي، أو في أحد الأمرين من البيع أو النكاح، مع إرادة الترديد لا التخيير، فكما لا يضر الجهل في التوكيل، فكذا في الإجازة، و أمّا في الجهل بأصل وقوع المعاملة فهو أيضا صحيح لمنع كونه راجعا إلى التعليق، و على فرضه لا دليل على بطلانه مطلقا، و العمدة فيه الإجماع و هو غير شامل لما نحن فيه (انتهى ملخصا).

و قد يفصل بين الجهل بخصوصيات العوضين و العقد، و الجهل بأصل المعاملة نظرا إلى أن الأوّل كالوكالة، و هي جائزة مع الجهل بالخصوصيات، و الثاني كالتعليق في الإنشاء، و هو باطل.

و قد يقال بالبطلان في الجميع كما ذكر المحقق النائيني قدّس سرّه، لأن المفروض وقوع المعاملة و صدورها و أنّ الإجازة من قبيل الايقاعات، و لا يجوز التعليق في الايقاع قطعا (انتهى ملخصا).

أقول: لا بدّ قبل كل شي ء من تحليل حقيقة الإجازة و مغزاها، و هل هي شي ء كالوكالة، كما ذكره السيد قدّس سرّه أو من قبيل الايقاع كما ذكره المحقق النائيني قدّس سرّه أو كأحد ركني العقد كما يظهر من كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

الحق هو الأخير، و ذلك لما عرفت من أنّ

المجيز يكون بالاجازة أحد طرفي العقد، و أن عقد الفضولي مجرّد إنشاء يستعد لانتسابه إلى المالك، و بالاجازة يتمّ الأمر، و أمّا الوكالة فانّما تكون قبل العمل، و لا معنى للتوكيل بعده، بل لا يبقى محل إلّا للتنفيذ، و كذلك لا معنى لجعل الإجازة من الايقاعات لعدم كونها أمرا مستقلا برأسها، مع أنّ كل ايقاع مستقل كالإبراء و شبهه، و المفروض أن العقد لم يتمّ بعد و إنّما يتمّ بعد ورود الإجازة و بالاجازة يكون المجيز أحد طرفي العقد.

و الحاصل: أنّ الإجازة في الحقيقة تنفيذ للعقد الواقع، فهي أشبه شي ء بالايجاب و لا يجوز تعليقها بالمجهول.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 345

و لنعم ما قاله المحقق الأصفهاني قدّس سرّه في توجيه الفساد مع الجهل بقوله: «وجه الفساد مع عدم العلم التفصيلي، كون الإجازة أحد طرفي المعاهدة الحقيقية و إن لم تكن أحد طرفي العقد الإنشائي، و يدل عليه أنّ المخاطب بالوفاء هو العاقد بالحقيقية، و ما لم تتحقق الإجازة من المالك لا يخاطب بالوفاء، فيعلم أنّه باجازته يكون عقدا، عليه الوفاء «1» هذا أولا.

و أمّا الثاني: فانّ الجهل غير المضر في الوكالة إنّما هو في الخصوصيات لا في النوع، فلا يجوز الترديد بين البيع و الإجازة أو النكاح و الطلاق (بعنوان الترديد)، نعم يجوز التعميم بأن يجعل له وكالة مطلقة تشمل البيع و الإجازة و غيرهما، و في الحقيقة هذا وكالة في امور كثيرة. كل ذلك لعدم لدليل عليه، و اطلاقات أدلة الوكالة ناظرة إلى إمضائها عند العقلاء كما في سائر المقامات، لا ما يرونه باطلا، و السر في ذلك مسيس الحاجة إلى التوكيل في امور لا يمكن ذكر خصوصياتها من قبل.

و لقد أجاد العلّامة قدّس سرّه

في التذكرة حيث قال: «لا يشترط في متعلق الوكالة و هو ما و كل فيها أن يكون معلوما من كل جهة، فان الوكالة إنّما جوزت لعموم الحاجة و ذلك يقتضي المسامحة فيها» «2» و هذا لا يشمل الترديد بين أنواع المعاملات كما لا يشمل الإجازة في الفضولي.

و بالجملة فانّ الشارع أمضى ما عند العقلاء هنا، و القدر المتيقن عندهم هو ما إذا جهل خصوصيات نوع من المعاملة لا ما كان هناك ترديد بين أنواع المعاملات.

في ترتب العقود

المسألة الثالثة: إذا ترتبت العقود الفضولية على المثمن أو الثمن أو عليهما، فان أجاز الجميع فلا كلام، و أمّا إن أجازة واحدا منهما، فالمشهور أنّه إن كان العقد الواقع على المثمن صح و ما بعده، و إن كان العقد الواقع على الثمن صح و ما قبله.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 346

و الوجه فيه ظاهر، فانّ المثمن إذا صح بيعه كان ما بعده من البيوع صحيحة لا ما قبله، لعدم الإجازة، و أمّا الثمن إذا صح بيعه لا يمكن إلّا بصحة ما قبله، و لازمه فساد ما بعده لأنّه أخذه ثمنا، فلم يقبل العقود الاخرى الواقعة عليه.

و هذا هو المسمى عندهم بترامي العقود أو ترتبها، أو تعاقب الأيدي.

و المسألة إن فرضت بسيطة فان وقعت عقود مترتبة على خصوص المثمن، أو على خصوص الثمن فحكمها إجمالا واضح كما عرفت، و الأوّل كما إذا باع الفضولي دارا بألف نقدا، و باعه المشتري بألفين إلى سنة، و باعه المشتري الثاني بثلاث آلاف إلى سنتين، فان أجاز المالك العقد الأولى صحّ جميع ما بعده لأنّه انتقل إلى المشتري فكان بيعه صحيحا، و كذلك بالنسبة إلى إجازة الثانية و الثالثة (هذا مع قطع النظر عن مسألة من

باع ثم ملك، و مع قطع النظر مسألة الكشف و النقل).

و الثاني كما إذا باع الفضولي العبد بفرس، ثم باع هو نفسه الفرس بدرهم ثم باع الدرهم برغيف، ثم باع الرغيف بعسل (و جميع هذا المعاملات الواقعة على الثمن وقعت من الفضولي واحد بخلاف المعاملات الواقعة على المثمن فانّها تقع من اشخاص متعددة).

فحينئذ إذا أجاز المالك أحد هذا العقود فصحة يتوقف على صحة ما قبله حتى يتمّ له أخذ هذا الثمن.

و الحاصل: إنّ الكلام في العقود الطولية الواقعة على المثمن أو الثمن تارة يقع من اشخاص متعددين (و ذلك في ترتب العقود على المثمن) و اخرى من شخص واحد (و ذلك في ترتبها على الثمن).

و لكن قد تتركب العقود الواقعة عليهما، فتزيد أمثلته اغلاقا، و إن كان حكمها ظاهر، و قد فرض الشيخ قدّس سرّه مثال الجميع فيما يلي:

«باع الفضولي عبد المالك بفرس، ثم باعه المشتري بكتاب، ثم باعه الثالث بدينار.

و باع الفضولي الفرس بدرهم، ثم الدرهم بالرغيف، ثم الرغيف بالعسل.

ثم باع الثالث الدينار بالجارية.

و باع صاحب الدرهم (الذي وصل إليه في مقابل رغيفه) الدرهم بحمار».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 347

و هي مركبة عن أربع صور (صورة بسيطة للمثمن و اخرى للثمن، و صورتان مركبتان)، صورته الواضحة كما يلى:

العبد/ بالفرس/ ثم العبد بالكتاب/ ثم العبد بالدينار

العبد/ بالدرهم/ بالحمار/ بالجارية

العبد/ بالرغيف/

العبد/ بالعسل/

و غرضه من هذا المثال فرض جميع صور التركيب فيه.

و لنعد إلى حكم المسألة و أنّه هل يجوز إجازة واحد منها حتى يتمّ ما أشرنا إليه من صحته و ما بعده في المثمن، و صحته و ما قبله في الثمن أو لا؟

قال في مفتاح الكرامة: «و أمّا أنّه للمالك تتبع العقود و رعاية مصلحته فلا ريب

فيه، و قد نص عليه في نهاية الأحكام و التذكرة و الايضاح و الدروس أنّه إن جاز عقدا على المبيع صح و ما بعده خاصة، و في الثمن منعكس، و قد اعتراض عليهما المحقق الثاني قدّس سرّه، و تبعه الشهيد الثاني قدّس سرّه في جامع المقاصد و المسالك و الروضة بأن ذلك غير مستقيم» «1».

و الذي يظهر من جامع المقاصد أنّ عمدة الإشكال في المسألة من ناحيتين:

أولا: من ناحية المثمن فان الحكم بصحة العقود التالية بناء على الكشف واضح لأنّ كل واحد منهم باع ما كان له، و إن قلنا بالنقل يأتي فيه وجوه ثلاثة مضى ذكرها:

1- البطلان لتعذر الإجازة، لانحصارها في المالك.

2- الصحة بدون الحاجة إلى الإجازة.

3- توقفه على إجازته.

و في ناحية الثمن إنّما يصح عليه و ما قبله من باب حمل كلام المسلم على الصحة، و لكنه يستقيم إذا جرت العقود على الثمن، ثم على ثمنه، فلو جرت على الثمن الأوّل خاصة، مرارا (كما إذا جرت على خصوص الفرس مرارا) فأجاز واحدا منها يصح و ما بعده لا ما قبله (انتهى ملخص كلامه).

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 348

و تبعه في ذلك صاحب الجواهر قدّس سرّه و ذكر ما يقرب من كلامه فراجع «1».

أقول: الاولى أن يقال: أمّا بالنسبة إلى العقود الواقعة على المثمن مرارا فعلى القول بالكشف فواضح، و على القول بالنقل دخل ما بعده في مسألة من باع ثم ملك، فان قلنا بالصحة بدون الحاجة إلى الإجازة، كانت الجميع تامة، و إن قلنا الإجازة لازمة كان اللازم إجازة كل واحد منهم على الترتيب، بأن يجيز بايع العبد بالكتاب (بعد إجازة المالك الاصلي) ثم يجيز بايع العبد بالدينار، و لو اجازوا في زمن واحد

لم يكف، و حيث أنا ابطلنا مسألة من باع ثم ملك في الأعيان الشخصية فالبطلان هنا ثابت.

و أمّا في ناحية الثمن، فالحكم بصحة العقود المترتبة المتقدمة إنّما يتم من باب الملازمة العرفية، لأنّ المفروض أنّ المالك عالم بها إجمالا، فيجيزها حتى يتمّ له الثمن الذي أجازه، و لا دخل له بمسألة من باع ثم ملك كما هو ظاهر، و أمّا الاستثناء الذي ذكره جامع المقاصد من أنّ ذلك إنّما يتمّ إذا لم تجر البيوع على الثمن مرارا فهذا خارج عن محط كلامهم، لأنّه على هذا الفرض عومل مع الثمن معاملة المثمن، فحينئذ يتمّ فيه و فيما بعده لا فيما قبله، فتدبّر جيدا فان المقام من مزال الاقدام.

في أحكام الرد
اشارة

و فيه مسائل:

المسألة الأولى: بما ذا يتحقق الردّ؟
اشارة

الرّد قد يكون بالقول، و اخرى بالفعل، و هو على خمسة أقسام:

أحدهما: ما يكون بفعل قائم مقام القول و يقصد به إنشاء الرد، كما إذا أخذ المتاع من يد المشتري أو الفضولي بهذا القصد.

ثانيها: إذا لم يقصد إنشاء الردّ به، و لكن كان متلفا للموضوع حقيقة أو حكما، و الأوّل:

كما إذا كان طعاما و أكله المالك، و الثاني: كما إذا استولد الامة لعدم بقاء محل للإجازة، لأنّه بحكم المتلف، و العجب من بعض الأعاظم حيث ذكره بعنوان المثال لما لم يخرج عن قابلية الإجازة، مع أنّ الاستيلاد مانع عن البيع و اجازة الفضولي.

ثالثها: ما إذا أخرجه عن ملكه بالبيع و الوقف و الهبة أو أمثالها.

رابعها: إذا لم يخرجه عن ملكه و لكن استوفى منافعه بالإجازة و نحوها.

و خامسها: التصرفات غير المخرجة عن الملك و لا المتلفة مع كونها منافية للإجازة، كتعريضه للبيع، فيصير مع القسم الأوّل ستة أقسام.

و قبل ذكر أحكامها لا بدّ من التنبيه على أمر، و هو أنّ هذا البحث فرع بطلان عقد الفضولي بالرّد، إما لأنّه مجمع عليه، أو لأنّ العقد يخرج عرفا عن صلاحية الإجازة بعد وقوع الردّ لعدم بقاء معنى المعاقدة، و لكن قد عرفت الإشكال في كليهما سابقا، و أنّ الإجماع غير ثابت، و أن المعاقدة باقية ما دام الأصيل باق على تعهده و التزامه، و لم يكن انوار الفقاهة، ج 1، ص: 350

هناك فصل طويل يخرجه عن صدق العقد، و لذا ورد الحكم بالصحة في صحيحة «محمد بن قيس» بعد إجازة المالك، مع وقوع الإجازة فيها بعد الرّد قطعا، و القول بأن الرد في مورد الصحيحة غير ثابت بعد وقوع تلك المنازعات من صاحب الوليدة عجيب!

و

العجب من المحقق اليزدي قدّس سرّه حيث قال في بعض كلماته في المقام: قد مرّ سابقا أن الرّد موجب لانفساخ العقد بحيث لا يقبل الإجازة بعد ذلك لعدم بقاء المعاقدة و المعاهدة معا «1».

مع أنّه ذكر في بعض كلماته السابقة ما هذا لفظه: الحق أنّ الردّ من المالك غير مانع من الإجازة بعد ذلك و لا يوجب الفسخ انتهى «2».

اللّهم إلّا أن يكون ناظرا إلى مذهب المشهور فتأمل.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى أحكام هذا الاقسام (بناء على تأثير الرد) فنقول و منه جل سبحانه التوفيق و الهداية:

أمّا الرد القولي فيكفي فيه كل ما يكون صريحا أو ظاهرا في إنشاء الفسخ و الرد، و ما يظهر من كلام شيخنا الأنصاري قدّس سرّه من اعتبار الصراحة لا نعرف له وجها بعد كفاية الظهور العرفي في جميع أبواب العقود و الايقاعات، و هكذا.

و أمّا الرد الفعلي، فعلى أقسام:

القسم الأوّل: من الفعلي، أعني الفعل القائم مقامه.

القسم الثاني: أعني العمل الموجب للإتلاف إذا كان مع العلم بالعقد الواقع من الفضولي فهو لا ينفك عن الردّ، نعم لو كان مع الجهل فقد يتوهّم أنّه لا يمنع عن الإجازة بناء على الكشف، لأنّ إجازته و الحال هذه يكشف عن بطلان تصرفاته المتلفة، فيضمن العين المتلفة.

و فيه: إن الكشف فرع صحة الإجازة، و الإجازة فرع كونه مالكا، مع أنّ الاتلاف يوجب فناء موضوع الملك كما لا يخفى.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 351

و منه يظهر الكلام في القسم الثالث، فانّه إذا أخرجه عن ملكه بالبيع و الوقف و الهبة فهو ليس مالكا لشي ء حتى يجيز عقده و لو على القول بالكشف الحقيقي.

و القول بأنّ صحة البيع فرع عدم صحة الإجازة، و عدم صحتها فرع صحة

البيع، فيوجب الدور، كما ترى، فان هذا الكلام بعينه جار في صحة الإجازة، لأنّ صحتها فرع بطلان البيع، و بطلانه فرع صحة الإجازة، و الانصاف أنّ البيع أمر صادر عن أهله واقع في محله، فلا وجه للقول بفساده، فتبطل محلّ الإجازة.

القسم الرابع: و هو ما إذا تصرف في العين تصرفا غير مخرج من الملك كإجارة الملك، فمن الواضح أنّه غير مانع عن الإجازة، لأن الملك ينتقل إلى المشتري مسلوب المنافع في مدّة الإجازة، أمّا على النقل فواضح، و أمّا على الكشف فيمكن القول بكون الإجازة فاسدة.

القسم الخامس: أعني ما إذا تصرف فيه تصرفات غير متلفة و لا ناقلة لها و لا لمنافعها بل تصرف فيها تصرفا منافيا للإجازة كجعلها معرضا للبيع و شبهه، و قد قسمها شيخنا الأعظم قدّس سرّه أيضا على قسمين: لأنّه أمّا يقع في حال التفات المالك إلى وقوع العقد من الفضولي على ماله، أو في حال عدم الالتفات، ثم جعل القسم الأوّل كافيا في مقام الردّ و استدل له بأمور ثلاثة.

1- صدق عنوان الردّ عليه الوارد (هو أو شبهه) في روايات نكاح العبد بغير إذن مولاه.

2- خروج المالك بذلك عن كونه بمنزلة أحد طرفي العقد.

3- فحوى الإجماع المدعى على حصول فسخ ذي الخيار بالفعل كالوطي و العتق و البيع.

و اختار في القسم الثاني عدم الكفاية لعدم صدق عنوان الردّ و عدم منافاته للإجازة اللاحقة، ثم استشكل فيه و في ما قبله ببعض الإشكالات ثم رجع و مال إلى التفصيل المذكور.

أقول: و الإنصاف أنّه إن كان فعل المنافي بقصد إنشاء الفسخ و الرد- كما يظهر من بعض كلماته قدّس سرّه و استظهره السيد المحشي من بعض كلماته- فهو، و إلّا فالحق عدم

الكفاية

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 352

و عدم تمامية شي ء من الأدلة المذكورة، أمّا صدق الرّد فممنوع بدون قصد الإنشاء، و أمّا الروايات الواردة في نكاح العبد، فالظاهر أنّها ناظرة إلى مجرّد كون اختيار الفسخ بيد المولى، لا غير، و أمّا الفسخ في العقود الجائزة بمجرّد الفعل من دون قصد الإنشاء فهو أيضا أول الكلام، و ما ذكره المحقق النائيني قدّس سرّه في بعض كلماته في المقام أنّ قياس أحدهما على الآخر مع الفارق لعدم الجامع بينهما «1». محل إشكال، لأنّ الظاهر أنّهما من واد واحد و أنّ اللازم في كليهما قصد إنشاء الفسخ، و الظاهر أنّ هنا أمرين قد يقع الخلط بينهما:

«أحدهما» حكم المسألة في مقام الثبوت، و الأقوى لزوم قصد الإنشاء في الرد، و «الثاني» حكم مقام الإثبات و أنّ مجرّد الفعل المنافي هل يدل على قصد الردّ أم لا؟ و الظاهر دلالته عند الالتفات و عدم دلالته مع الجهل بوقوع العقد أو الغفلة عنه.

هذا و قد أورد بعض المحققين في حاشيته على المكاسب على شيخنا الأنصاري قدّس سرّه بما حاصله، إن ما ذكره هنا ينافي ما ذكره في جواب صاحب المقاييس في الدليل السادس حيث صرّح بأن الفعل المنافي لمعنى العقد ليس فسخا، خصوصا مع عدم التفاته إلى وقوع عقد الفضولي، غاية ما في الباب أن الفعل المنافي لمعنى العقد مفوت لحمل الإجازة (إذا كان بيعا صحيحا أو شبهه) فإذا فرض وقوعه صحيحا فات محل الإجازة، نعم لو فرضنا قصد المالك من ذلك الفعل فسخ العقد بحيث يعد فسخا فعليا لم يبعد كونه كالإنشاء بالقول «2».

قلت: هذا أيضا ممّا يؤكد أن مراد الشيخ في المقام من الفعل المنافي مع الالتفات، الفعل الذي قصد به

إنشاء الفسخ لا غير، فراجع و تأمل.

بقي هنا فروع:

أشار إليها السيد قدّس سرّه في تعليقاته لا بأس بذكرها و الإشارة إلى أدلتها:

الأوّل: إذا ردّ قبل تحقق العقد، فقال مثلا: كل ما تبيع من أموالي فهو مردود عندي،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 353

فالظاهر عدم تأثيره، و مثله ما إذا نهى عنه، لأنّ الفسخ قبل العقد لا معنى له، و توهّم خروجه بذلك من أن يكون أحد طرفي العقد و لو في المستقبل، ظاهر البطلان، لأن هذا لا يمنع عن صحة إنشاء الفضولي فيما بعد.

هذا و لكن قد عرفت أنّ الفسخ فيما بعد أيضا لا يؤثر في ابطال العقد، لأنّ المالك لم يكن أحد طرفي العقد حتى يفسخه و يبطله، و مجرّد الإنشاء الحاصل من الفضولي ليس تصرفا في ماله حتى يكون له حق ابطاله، فلذا قلنا إن العقد يبقى بحاله ما لم يفسخه الأصيل.

الثاني: إذا وقع العقد من ناحية المالك، أو وقع من ناحية الفضولي فأجاز أصل العقد، و لكن قبض الفضولي الثمن و لم يصدر منه عمل غير قبض الثمن، فرد المالك هذا القبض و لم يقبله، ثم أجازه بعد ذلك، فالظاهر صحة هذا القبض، و ذلك لأنّه ليس القبض من العقود حتى يبطل بالرد، اللّهم إلّا أن يكون ذلك من الفضولي بعنوان إنشاء الوكالة لنفسه ثم قبوله، و هو كما ترى.

الثالث: هل للفضولي فسخ العقد قبل لحوق الإجازة من المالك أو لا؟ أو فيه تفصيل بين الغاصب البائع بالخيار إذا فسخه، و بين غيره؟ وجوه اختار السيد قدّس سرّه الثاني ثم احتمل الثالث.

و الانصاف هو الثاني، لأنّ الفضولي بالنسبة إلى العقد الصادر منه كالأجنبي لا حق له على شي ء، و إن هو إلّا كمن يكون وكيلا

في عقد، فليس له فسخه و لا تصرف آخر سواء كان هو الغاصب أو غيره، لأنّ دعوى الملكية من ناحية الغاصب لا أثر له و ليس زائدا على الفضولي كما لا يخفي.

الرابع: إذا باع الفضولي بالخيار، ثم قال المالك فسخت بالخيار، فهل هو إجازة للفضولي أولا و فسخ له ثانيا، أو يفصل بين القول بالكشف الحقيقي و غيره؟ قال رحمة اللّه بالأخير لاختلاف متعلقي الإجازة و الفسخ، لأنّ الإجازة تعلقت بالعقد من حين صدور العقد، و الفسخ من حين وقوعه، و لا مانع من إنشائهما بلفظ واحد إذا كان المتعلقان مختلفين، أمّا على النقل أو الكشف الحكمي فلا، لاتحاد زمانهما و لا يعقل كون شي ء واحد سببا للنقيضين.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 354

قلت: الاولى أن يعلل بأنّه أمر لغو، و إلّا يمكن رفع التناقض باختلاف زمانهما آنا ما كما يقال به في أمثال المقام، فتدبّر.

هذا مضافا إلى أنّ هذا البحث قد يتصور ثبوتيا و اخرى إثباتيا، و لا يخفى عليك مقتضى البحث في كل منهما.

الخامس: لا يعتبر في الرد العلم بالخصوصيات، لعدم الدليل على اعتبار العلم به، نعم يشكل الأمر في الإجازة نظرا إلى لزوم الغرر و الجهل لصيرورته بالاجازة أحد طرفي العقد.

السادس: لو اختلفا في وقوع الرد حتى لا تكون الإجازة مؤثرة، و عدمه، فلا شك أنّ القول قول المالك لأنّه منكر لوقوع الردّ، و على المدعي إثباته، و لو انعكس الأمر فرد المالك و ادعى المشتري أنّه أجاز قبل ذلك، فلا أثر للردّ، فالقول قول المالك أيضا لأنّه منكر للإجازة.

نعم إذا كانت الإجازة ثابتة و ادعى المالك أنّه ردّ قبلها، أو كان الرد ثابتا و ادعى أنّه أجاز قبله فالقول قول المشتري الأصيل، لأنّه

منكر و الأصل عدم وقوع غير ما ثبت.

المسألة الثانية: من أحكام الرد

إنّه إذا لم يجز المالك فان كان الثمن أو المثمن عند صاحبهما الأصلي فلا كلام، و أمّا إن وقع القبض و الاقباض من أحد الجانبين أو من كليهما، فيقع الكلام تارة في حكم رجوع المالك إلى الفضولي الغاصب، و اخرى في حكم رجوعه إلى المشتري، و ثالثة في حكم رجوع المشتري الأصيل إلى الفضولي الغاصب، و قد جعل شيخنا الأعظم قدّس سرّه للأخير صورتين أيضا، إحداهما: رجوع المشتري إليه بالثمن، و الثاني: رجوعه بما اغترم للمالك، فتكون للمسألة صور أربع:

1 و 2- إذا ردّ المالك فلا إشكال في جواز رجوعه إلى الغاصب لو كان المال عنده، و إلى المشتري كذلك، لأنّ الملك ملكه، و لو تلف عند الأول أو الثاني كان عوضه عليه،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 355

و كذا عوض جميع المنافع المستوفاة و غير المستوفاة، بل الزيادات العينية التي فاتت يده، كما إذا سمن الحيوان عنده ثم زال السمن، لدخوله تحت عنوان «على اليد ما أخذت» و هذا ظاهر.

3- رجوع المشتري على الغاصب بالثمن له صورتان: صورة بقائه و صورة تلفه، و كل منهما إمّا مع علمه بكون البائع غاصبا أو مع جهله، أمّا في صورة الجهل فلا كلام، لضمان البائع الغاصب و عدم وجود ما يمنع منه، و إنّما دفعه المشتري إليه اغترارا بظاهر حاله من ملك المثمن.

و أمّا في صورة العلم فان كان باقيا يجوز استرداده كما صرّح به جمع من المحققين.

و عن الشهيد الثاني قدّس سرّه المسالك أن في حكم الثمن أقوال ثلاثة:

1- ما عليه المشهور من عدم الرجوع به عليه باقيا كان أو تالفا.

2- الرجوع مطلقا كما عن المحقق في بعض تحقيقاته.

3- التفصيل

بالتلف و عدمه، فيرجع على الثاني دون الأوّل، و ظاهر المسالك، الميل إليه «1».

و استدل شيخنا الأعظم قدّس سرّه للرجوع في صورة وجوده، في المكاسب بأمرين:

«أحدهما»: إن مجرّد التسليط عليه لو كان موجبا لانتقاله لزم الانتقال في البيع الفاسد أيضا (مع عدم القول به).

«ثانيهما»: إنّ المشهور هو الحكم بصحة البيع لو أجاز المالك، مع أن تملك الغاصب للثمن موجب لفوات محل الإجازة.

و أورد المحقق النائيني قدّس سرّه على الأوّل بالفرق بين العقد الفاسد من جهة الثمن و غيره (كأنّه أراد بذلك عدم الرجوع في العقد الفاسد إذا كان من جهة الثمن).

و على الثاني أنّه يمكن القول بعدم قابلية مثل هذه الصورة للإجازة، ثم استدل هو نفسه بأن التسليط على الثمن ليس أزيد من الهبة المجانية، فيجوز الرجوع فيه «2».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 356

أقول: أصل الدليل في المقام هو ما ذكره الشيخ قدّس سرّه في أول كلامه و هو «أنّه لم يحصل منه ما يوجب انتقاله عنه شرعا».

و هو كذلك، لأنّ الانتقال إلى الغير يحتاج إلى أسباب لا يوجد أحدها في المقام، و مجرّد التسليط على الثمن بانيا على كونه عوضا عن المبيع لا يوجب تملكه له، و ليس من قبيل الهبة المجانية قطعا، بل قد لا يرضى المشتري باعطائه فلسا مجانا بل يحسب الثمن حسابا دقيقا، و يناقش البائع الغاصب الفضولي مثل ما يناقش البائع الأصيل، من دون أي فرق بينهما، و مجرّد علمه بعدم كونه مالكا لا ينافي ذلك بعد بنائه على الملكية الادعائية، أو انتظاره لإجازة المالك الأصيل لو لم يكن غاصبا، و بالجملة الحكم بعدم جواز رجوعه في الثمن هنا عجيب و إن كان يظهر من جماعة من الأصحاب و لا نرى

له وجها وجيها.

أمّا إذا كان تالفا فالمحكي عن المشهور عدم جواز الرجوع بل ادّعى عليه الإجماع، قال العلّامة قدّس سرّه في «المختلف»: «إذا رجع المالك على المشتري العالم (بالغصب) لم يكن للمشتري الرجوع على الغاصب البائع، لأنّه علم بالغصب فيكون دافعا للمال بغير عوض، و اطلقوا القول في ذلك، و الوجه عندي التفصيل، و هو أنّ الثمن إن كان موجودا قائما بعينه كان للمشتري الرجوع به، و إن كان تالفا فالحق ما قاله علماؤنا» «1».

و قال في «الرياض»: «و هل يرجع بالثمن؟ المشهور، لا، مطلقا، لأنّه دفعه إليه و سلطه عليه مع علمه بعدم استحقاقه، فيكون بمنزلة الاباحة، و قيد الشهيد الثاني بما إذا تلف، أمّا مع بقائه فله الرجوع لأنّه ماله ... ثم قال: بل يحتمل الرجوع مطلقا، وفاقا للمحقق في بعض فتاواه، لتحريم تصرف البائع فيه لأنّه أكل مال بالباطل فيكون مضمونا عليه» «2».

و قال المحقق القمي قدّس سرّه في «جامع الشتات»: «إنّما الكلام في رجوع المشتري إلى البائع ... و كيف كان فالأظهر الرجوع مع بقاء العين، و عدمه مع التلف» «3».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 357

أقول: يظهر من هذه الكلمات أنّ المشهور عندهم عدم جواز الرجوع مطلقا كما يظهر منها أن عدم الرجوع عند التلف أكثر قائلا منه عند البقاء، و يظهر أيضا أن العمدة عندهم هو تسليط البائع الغاصب على الثمن مع العلم بعدم حق له فيه، فليس هنا إجماع تعبدي (لو ثبت الإجماع) بعد استنادهم إلى هذا، و للشهيد الثاني قدّس سرّه هنا كلام ينبغي الإشارة إليه، و هذا نصه:

قال: (بعد قول المحقق قدّس سرّه قيل لا يرجع بالثمن مع العلم بالغصب): «هذا هو المشهور بين الأصحاب، مطلقين الحكم فيه،

الشامل لكون الثمن باقيا و تالفا، و وجهوه بكون المشتري قد دفعه و سلطه عليه مع علمه بعدم استحقاقه له، فيكون بمنزلة الاباحة و هذا يتمّ مع تلفه، أمّا مع بقائه فلا، لأنّه ماله و هو مسلط عليه بمقتضى الخبر، و لم يحصل منه ما يوجب نقله عن ملكه، لأنّه إنّما دفعه عوضا عن شي ء لا يسلم له، لا مجانا، فمع تلفه يكون إذنا فيه، أمّا مع بقائه فله أخذه، لعموم النصوص الدالة على ذلك».

ثم اضاف إليه: «بل يحتمل الرجوع بالمثمن مطلقا، و هو الذي اختاره المصنف في بعض تحقيقاته، لتحريم تصرف البائع فيه، حيث إنّه أكل مال بالباطل، فيكون مضمونا عليه، و لو لا ادعاء العلّامة قدّس سرّه في التذكرة الإجماع على عدم الرجوع مع التلف لكان في غاية القوة، و حيث لا إجماع عليه مع بقاء العين فليكن القول به متعينا ... إلى أن قال- بعد الايراد على نفسه بأن اللازم إمّا جواز تصرفه أو جواز الرجوع إليه مطلقا-: قلنا: هذا الالتزام في محله، و من ثم قلنا إن القول بالرجوع مطلقا متجه لكن لما اجمعوا على عدمه مع التلف كان هو الحجة، و حينئذ نقول إن تحقق الإجماع فالأمر واضح، و إلّا فمن الجائز أن يكون عدم جواز رجوع المشتري العالم عقوبة له حيث دفع ماله معاوضا به على محرم (انتهى محل الحاجة) «1».

و يظهر منه أنّه قدّس سرّه كان بالنسبة إلى دعوى الإجماع بين الخوف و الرجاء فلم تكن نفسه تطمئن إليه، كما أنّ مخالفته كان صعبا عليه.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 358

و لكن صاحب الحدائق قدّس سرّه أورد على الإجماع بما قضى عليه، حيث قال: «أمّا اعتماده على الإجماع في أمثال

المقام فهو مردود بما حققه في رسالة صلاة الجمعة كما قدمنا ذكره في كتاب الصلاة في باب صلاة الجمعة، حيث إنّه قد مزقه تمزيقا و جعله حريقا» «1».

و العجب من المحقق النائيني قدّس سرّه حيث قال: في بعض كلماته في مقام «أمّا في صورة التلف فالاقوى هو التفصيل بين العلم و الجهل، فلو كان عالما فقد ظهر في مبحث ترتب العقود أنّه ليس له الرجوع إليه بالمثل أو القيمة، و أمّا لو كان جاهلا فله الرجوع كما هو المشهور» «2».

و قال السيد قدّس سرّه بالضمان إلّا في بعض الموارد النادرة تأتي الإشارة إليها.

المسألة الثالثة: ما استدل به لعدم ضمان الغاصب:
اشارة

إذا عرفت ذلك فاعلم أن عمدة ما استدل به لعدم الضمان هو امور:

الأوّل: ما أفاده شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أنّ منشأ الضمان أحد أمرين، و شي ء منهما غير حاصل في المقام:

1- قاعدة على اليد.

2- قاعدة الاقدام.

أمّا الأوّل: فقد استثنى منه ما إذا كانت اليد أمينة، كما في الوديعة و الإجازة و العارية، و ما نحن فيه أولى منها، لتسليط المالك إيّاه على التصرف فيه و اتلافه.

و كذا الثاني: لعدم اقدامه على الضمان بعد علمهما بعدم كون الغاصب مالكا للمتاع، ثم أتعب نفسه الزكية في الدفاع و الذب عنه في مقابل الإشكال المعروف و هو أن تسليم الثمن للغاصب إنّما كان لبنائهما على كونه مالكا، و به صححنا البيع الفضولي الصادر منه، و لكن لم انوار الفقاهة، ج 1، ص: 359

يأت بشي ء يروى الغيل، و كأنّه أراد بذلك توجيها علميا منطقيا لما حكي عن المشهور أو ادعى الإجماع عليه من «عدم الضمان».

و الظاهر أنّ هذا الإشكال لا جواب له و أنّ القبض و الاقباض في أمثال المقام يقع مبنيا على مالكية الغاصب لا

مجانا، و هذا أمر واضح، و هكذا الكلام في العقد الفاسد مع علم المتبايعين بالفساد فانّه إنّما يقع القبض و الاقباض بعنوان صحة العقد إمّا خطأ أو بناء منهما عليها.

و ما ذكره قدّس سرّه من الفرق بين المقامين من حيث إنّ التضمين الحقيقي حاصل في العقد الفاسد، لأنّ المال ماله، بخلاف الغاصب كما ترى، و ليت شعري إذا كان يعلم بفساد العقد و عدم تأثيره أصلا كيف ينوى التضمين إلّا من طريق البناء على عدم الاعتناء بحكم الشرع في فساد المعاملة، و نظيره جار في الغاصب بعينه فانّه يعني على كونه مالكا، غير مبال بحكم الشارع المقدس، فيبيع و يشتري.

و لكنه قدّس سرّه اعلم و اكيس من أن لا يعلم أنّ هذا المدافعات لا تنفع، و لذا ذكر في آخر كلامه أن مستند المشهور في المسألة لا يخلو من غموض.

و قد ركن إلى هذا الدليل المحقق النائيني قدّس سرّه أيضا في منية الطالب حيث قال: «إن التسليم و إن كان وقع مبنيا على المعاوضة، إلّا أنّه حيث يعلم بأنّه ليس مالكا و يسلمه إليه فهو مقدم على المجانية، لما عرفت من أنّ التسليم الخارجي لا يمكن تقييده بالتسليم إلى المالك الحقيقي، لأنّ البناء و العدوان مصححة للمعاوضة، لا للفعل الخارجي» (انتهى موضع الحاجة) «1».

هذا و لكن نطالبه بأنّه كيف لا يمكن تقييد الفعل الخارجي بهذا القيد مع أنا نعلم بأنّ تسليم مال إلى الغير على انحاء مختلفة، تارة يكون بعنوان أداء الدين، و اخرى بعنوان الزكاة، و ثالثة بعنوان الهبة، و رابعة الهداية، إلى غير ذلك، و ليس التفاوت بينها إلّا بالقصد، فكيف لا يمكن تقييد التسليط الخارجي بقصد اقباض الثمن إلى مالكه الادعائي؟ و

لعمري لو راجعنا

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 360

إلى العرف الغير المبالين بأحكام الشرع نراهم لا يقصدون في أمثال المقام إلّا هذا.

الثاني: ما ورد في كلام الشهيد الثاني قدّس سرّه و غيره أنّ من الجائز أن يكون عدم ضمان البائع الغاصب عقوبة للمشتري العالم حيث أقدم على معاوضة محرمة كما مرّ آنفا.

و الجواب عنه ظاهر: فانّ هذا و أمثاله إنّما يصلح حكمة للحكم لو ثبت من دليل قطعي آخر، و لا يمكن إثبات الحكم بمثله، و لقد أجاد صاحب الحدائق قدّس سرّه حيث ذكر بعد نقل كلام الشهيد قدّس سرّه: «إن أمثال هذه التحليلات لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية بل المدار إنّما هو نصوص الحلية و أحاديث المعصومين عليهم السّلام» «1».

الثالث: ما ذكره صاحب الجواهر قدّس سرّه في بعض كلماته و حاصله: إنّ المنشأ للتلف هو الاباحة من ناحية المالك، و لا منافاة بينها و بين الحرمة الشرعية للتصرف فيه، لعدم الملازمة بين الحرمة الشرعية و الحرمة المالكية، فالشارع حرّم التصرف فيه بعنوان عوض للمغصوب، و لكن عدم ضمان الغاصب إنّما هو باعتبار الاباحة من ناحية المالك التي هي المدار في أمثال المقام. انتهى ملخصا «2».

أقول: لا يخفى أنّ إحدى الحرمتين في محل الكلام موضوع للحرمة الاخرى، فكيف لا تتلازمان؟ فإذا صحت الاباحة المالكية فكيف يحرم عليه التصرف في المال شرعا؟! و إذا حكى في بعض كلماته في المقام من المحقق الكركى قدّس سرّه و غيره جواز التصرف للغاصب فيه، و إن أورد عليه بأنّه مناف لما هو كالمعلوم ضرورة من الشرع.

و بالجملة لا يمكن الجمع بين حرمة تصرفه في الثمن شرعا، و عدم كونه ضامنا، و كل ما ذكر لتوجيهه تكلّفات لا يمكن الاعتماد عليها، و

الظاهر أنّ ما ذكره يعود إلى ما أفاده غيره من الاستدلال بالتسليط المجاني كما لا يخفى، كل ذلك من توجيهات لمقالة المشهور، توجيهات غير وجيهة.

الرابع: ما أفاده قدّس سرّه أيضا و ركن إليه في جملة السيد قدّس سرّه في بعض تعليقاته: إن المالك هتك حرمة ماله باذنه في الاتلاف و نحوه فلا يكون الغاصب ضامنا.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 361

و قال للسيد قدّس سرّه في تعليقته: «مقتضى القاعدتين: (قاعدة الاتلاف و قاعدة اليد) الضمان في المقام، بل في مطلق العقود الفاسدة، إلّا إذا صدق عنوان اسقاط الاحترام ... و صدق هذا العنوان مختلف باختلاف المقامات، فليس كل غاصب ممّا يصدق عليه ذلك فإذا كان الغاصب قاهرا، أو كان المالك للمثمن جاهلا بالمال بحيث صح من المتعاقدين القصد إلى المعاوضة حقيقة لم يصدق هتك الاحترام، أمّا إذا كان المشتري غير واثق بذلك و يحتمل رجوع المالك إليه كل آن فيأخذ ما عنده من متاعه، فالمشتري هاتك للثمن حينئذ، و كذلك البيع بلا عوض، أو عوض لا يعدّ مالا عند العقلاء و اشباهه» انتهى ملخصا «1».

أقول: أنّه لا محصل لعنوان الهتك، و ليس هو من الامور النافية للضمان و المخصصة لقاعدتي الاتلاف و على اليد، نعم الاعراض ربّما يكون مخرجا للملك عن الملكية و لكن الهتك للمال لم نعرف له دليلا، نعم يمكن يقال: بأنه إذا كان المال معرض الزوال بمراجعة مالكه إلى المشتري و أخذه منه لعلمه و قدرته عليه فانّ ذلك لا يتمشى منهما مع قصد المعاوضة حقيقة و البناء على مالكية الغاصب، كما أنّ البيع بلا ثمن أو بثمن لا يعد مالا قابلا لكونه عوضا عند العقلاء أيضا كذلك، فكيف يتمشى القصد إلى المعاوضة بلا

عوض؟

فكذلك ما نحن فيه لأنّ المفروض أنّه ليس عوضا بحكم الشرع، و لا يمكن بناء المتعاملين عليه لكونه في معرض الزوال، و لكنه مخالف للوجدان، فان نرى صدور القصد من الناس في المقام، و على كل حال هذا دليل آخر غير دليل الهتك، و بالجملة لا يمكن الاعتماد على عنوان الهتك كدليل على تخصيص القاعدتين.

الخامس: ما أفاده في الجواهر أيضا من أنّ الحكم تعبدي محض في خصوص المقام و في خصوص المتيقن، و لعله الأوفق بالقواعد و كلام الأصحاب «2».

و ما ذكره أحسن ما يقال في المقام لو ثبت هنا إجماع معتبر، و لكن قد عرفت الإشكال في الإجماع، و مع عدم مساعدة القواعد لا يمكن المسير إلى ما ذكره المشهور.

السادس: ما أفاده في جامع الشتات من منع اقتضاء قاعدة الاتلاف هنا الضمان (لعله انوار الفقاهة، ج 1، ص: 362

لانصرافه عن صورة اذن المالك في الاتلاف) و كذا قاعدة اليد فانّها لا تدل إلّا على أداء العين و لا منافاة بين حرمة الأكل من جهة بطلان المعاملة و عدم الضمان، و هذا يحتاج إلى تأمل و لطف قريحة «1».

أقول: أمّا قاعدة الاتلاف فانصرافها عمّا نحن فيه بعيد جدّا، بعد عدم بناء المتعاملين على المجانية بل بنائهم على البيع غير مبالين بحكم الشرع، و كذا الكلام في قاعدة اليد فانّها كما قرر في محلها تدلّ على الخروج من عهدة ما على اليد، فان كان موجودا يردّه، و إلّا فبمثله لو كان مثليا، و بقيمته لو كان قيميا، فانّهما أيضا من مراحل أداء العين، و كذا لا يزال الفقهاء الامجاد يستدلون بها للضمان في فرض التلف السماوي.

و أشكل من الجميع، الجمع بين حرمة التصرف و عدم الضمان، فانّ

عدم الضمان مبني على كون التسليط مجانيا، و لازمه جواز التصرفات، و بالجملة لا يمكن التفكيك بين الاباحة المالكية و الشرعية في أمثال المقام.

و للمحقق الايرواني قدّس سرّه تفصيل في المقام، حاصله: عدم ضمان الثمن فيما إذا لم يقهره المالك برد العين، و الضمان فيما قهره، نظرا إلى أن الاذن في التصرف فيه مجانا إنّما كان في فرض سلامة العين المغصوبة له، أمّا إذا اخذت، أخذ الثمن «2».

أقول: هذا التفصيل حسن على فرض قبول كون التسليط هنا مجانيا، و لكن قد عرفت أنّه لا يقصد التسليط مجانا على كل حال، و ما أفاده من التفصيل أقوى دليل على عدم كون التسليط مجانيا كما لا يخفى.

فذلكة الكلام في ضمان الغاصب:

فتحصل من جميع ما ذكرنا أنّ الحكم بالضمان أوفق بالقواعد المعروفة في الفقه كما هو كذلك في البيع الفاسد، إلّا في مورد لا يتمشى من المتعاقدين القصد إلى حقيقة البيع كالبيع انوار الفقاهة، ج 1، ص: 363

بلا ثمن أو بشي ء لا يعد ثمنا في عرف العقلاء.

و يؤيد ما ذكرنا أو يدل عليه أنّ الثمن في معاملة الخمر و الخنزير و اجرة الزانية و نحوها مضمونة على آخذها، مع أنّ لازم ما ذكر عدم كونها كذلك كما- أشار إليه المحقق الخونسارى قدّس سرّه- في جامع المدارك «1».

و العجب من شيخنا الأعظم قدّس سرّه حيث قال: في المقام ما نصه: «نعم لو كان فساد العقد لعدم قبول العوض للملك كالخمر و الخنزير و الحر قوى اطراد ما ذكرنا فيه من عدم ضمان عوضها المملوك مع علم المالك بالحال» «2» و لكن اعترف في ذيل كلامه بأن مقتضى اطلاق كلماتهم في ضمان العقد الفاسد هو الضمان.

قلت: و هو الموافق لما استقرت السيرة عليه و

اشتهر بينهم من الحكم بالضمان في ثمن الخمر و أشباهها في البيوع الفاسدة و شبهها، و قد عرفت وجه الجميع و أنّه لا يعطي الثمن في شي ء من هذه المقامات مجانا بل بانيا على كون البائع مالكا و لو معصية للشارع المقدس.

بقي هنا امور:

1- إذا باع للمالك لا لنفسه، و دفع المشتري الثمن إليه لكونه واسطة في الايصال إلى المالك، فلا يبقى الشك في ضمانه على كل حال، لعدم دفعه إليه بعنوان المجانية كما هو ظاهر.

2- إذا كان المشتري جاهلا بالحال، فالحكم بضمان البائع واضح، لعدم جريان ما سبق فيه.

3- إذا أخذ البائع الغاصب الثمن بنفسه بدون اذن المشتري، بل بعنوان صحة العقد و كونه مالكا له، فهو أيضا ضامن بلا إشكال، لعدم جريان أدلة القائلين بعدم الضمان فيه.

4- إذا اشترط المشتري على البائع أنّه لو أخذ المالك العين رجع إليه بالثمن كان البائع ضامنا في هذا الفرض بلا إشكال، لأنّ تسليطه المجاني- لو قلنا به- كان مقيدا بهذا الشرط، فلا يجري في غيره.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 364

5- إذا كان البيع كليا من ناحية الثمن، فاعطاه المشتري بعض أفراده، فالحكم فيه كالثمن الشخصي، لجريان جميع ما سبق فيه، و دعوى كون المتيقن من معاقد إجماعهم المدعى هو صورة الثمن الشخصي كما ترى.

المسألة الرابعة: في الغرامات:
اشارة

في حكم ما اغترم المشتري للمالك غير الثمن، و هو المسمى بمسألة الغرامات، و هو على أقسام:

1- ما يكون في مقابل العين، كما إذا كانت قيمة المثل أكثر من قيمة المسمى، بأن كان الثمن الفا، و قيمة المثل الفان (كما هو كذلك غالبا في البيع الغاصب مع العلم به).

2- ما يكون في مقابل الزيادة العينية التي حصلت عنده ثم زالت بناء على كونه مضمونا.

3- ما يكون في مقابل المنافع التي استوفاها.

4- ما يكون في مقابل المنافع غير المستوفاة.

5- ما يكون في مقابل المصارف التي صرفها في العين، تارة لحفظها من التلف كعلف الدابة، و اخرى لزيادة نمائها كحفر الآبار، و ثالثة لمسائل رفاهية كبناء بعض البيوت

فيه ممّا لا يمكن قلعها، و ليعلم أن محل الكلام هنا ما إذا كان المشتري جاهلا حتى تجري في حقه قاعدة الغرور، أمّا العالم فلا كلام في عدم جواز رجوعه إلى الغاصب، لإقدامه على الضمان عالما و عدم كونه مغرورا بعد علمه.

فنقول، و منه جل سبحانه التوفيق و الهداية: إن المعروف بينهم التفصيل بين ما حصل في مقابل نفع و ما لم يحصل، قال المحقق قدّس سرّه في «النافع»: «و لو كان جاهلا دفع العين إلى مالكها و رجع بالثمن على البائع، و بجميع ما غرمه ممّا لم يحصل له في مقابل عوض، كقيمة الولد، و في الرجوع بما يضمن من المنافع تردد» «1».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 365

و لكن يظهر من بعضهم الرجوع في الجميع، قال المحقق قدّس سرّه في «الشرائع، في كتاب الغصب»: «أمّا ما حصل للمشتري في مقابلته نفع كسكنى الدار و ثمرة الشجر و الصوف و اللين فقد قيل يضمنه الغاصب لا غير، لأنّه سبب الاتلاف، و مباشرة المشتري مع الغرور ضعيفة، فيكون السبب أقوى كما لو غصب طعاما و أطعمه المالك، و قيل له إلزام أيّهما شاء، أمّا الغاصب فلمكان الحيلولة، و أمّا المشتري فلمباشرة الاتلاف، فان رجع على الغاصب رجع على المشتري لاستقرار التلف في يده، و إن رجع على المشتري لم يرجع على الغاصب، و الأوّل أشبه» «1».

و لكن يظهر من صاحب «الجواهر» الميل إلى عدم الضمان هنا لمنع قاعدة الغرور، فراجع «2».

و كيف كان فان لم يحصل للمشتري نفع كالقسم الخامس و الرابع و الثاني فقد حكي الشهرة بل عدم الخلاف في جواز رجوع المشتري الجاهل على الغاصب و إن كان للمالك الرجوع إلى كل واحد منهما، و

قد استدل له بامور:

1- قاعدة الغرور.

2- قاعدة لا ضرر.

3- قاعدة التسبيب.

4- بعض الروايات.

أمّا الأوّل: فواضح، لأنّه من أوضح مصاديق الغرور، و لكن أورد على قاعدتي الضرر و التسبيب المحقق النائيني قدّس سرّه في منية الطالب بما حاصله: أمّا على الضرر فلأنّه لا يثبت بها حكم شرعي، بل ينفي به الحكم الضرري، و لو ثبت بها حكم لزم فقه جديد، و لم يستقر حجر على حجر، و لزم تدارك كل ضرر من بيت المال أو من مال الاغنياء.

و أمّا الثاني: فلأنّ قاعدة التسبيب مسلّمة إذا لم يتوسط فعل فاعل مختار، كفتح قفص الطائر و فتح فم قربة السمن في مقابل الشمس، لا مثل ما نحن فيه الذي حصل فيه فعل فاعل مختار» (انتهى).

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 366

أقول: يرد على الأوّل أنّه لا مانع من إثبات الحكم بدليل لا ضرر كما يجوز نفيه، و قد حققناه في قاعدة لا ضرر من «القواعد الفقهية» و لا يلزم منه فقه جديد و لا عدم استقرار حجر على حجر، و إنّما يلزم ذلك من تخيل لزوم نفي كل ضرر يوجد في العالم كالإضرار الحاصلة من السيل و الزلزلة و نقص الأموال و الأنفس و الثمرات، و لكن المستفاد من القاعدة بناء على التعميم إنّما هو نفي الضرر الحاصل من ناحية تشريعات الشارع إثباتا و نفيا، لا الاضرار غير المستندة إليه، و لكن الايراد الثاني وارد عليه، لأن المدار في التسبيب كون المباشر بحيث لا يسند إليه الفعل، و من الواضح أنّ الفعل يستند إلى المشتري هنا أيضا و إن كان مغرورا، و لو لم يستند إليه الفعل لما صح الرجوع إليه مطلقا، بل كان اللازم الرجوع إلى الغاصب فقط، و

إن كان يظهر من المحقق قدّس سرّه في الشرائع فيما عرفت من قوله «و قيل يضمنه الغاصب لا غير لأنّه سبب الاتلاف و مباشرة المشتري مع الغرور ضعيفة فيكون السبب أقوى» وجود قول بذلك.

و لكن صرّح في مفتاح الكرامة «بأنه لم يجد هذا القول لأحد من أصحابنا بعد التتبع، و إنّما هو قول الشافعي في القديم و بعض كتب الجديد ... و المشهور عند الشافعي الأوّل» «1».

و لازم هذا القول اتحاد موردي قاعدة الغرور مع التسبيب و كان كل غار سببا دون المغرور، و هو بعيد جدّا.

فتلخص أنّ العمدة هو قاعدة الغرور و الضرر، أمّا عبارة «المغرور يرجع إلى من غرّه» و إن لم يثبت كونه حديثا كما أشرنا إليه في محله (عدا ما يستفاد من بعض عبائر صاحب الجواهر و المحقق الثاني قدّس سرّهما و لكن يبعد عثورهما على ما لم يعثر عليه غيرها).

و لكن تستفاد هذه القاعدة من أحاديث خاصة واردة في مختلف أبواب الفقه، مضافا إلى بناء العقلاء عليه و دعوى الإجماع، و توضيح هذا الكلام في كتاب القواعد (القاعدة 13).

أمّا الروايات، فيدل عليه ما رواه جميل بن دراج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الرجل يشتري الجارية من السوق فيولدها ثم يجي ء مستحق الجارية، قال: يأخذ الجارية

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 367

المستحق، و يدفع إليه المبتاع قيمة الولد و يرجع على من باعه بثمن الجارية و قيمة الولد التي أخذت منه» «1».

و هو يدل على المطلوب بظاهره إن قلنا أنّ حرية الولد ليست من المنافع المستوفاة، و يدل عليه بالأولوية إن قلنا به، و لكن في عبارة المكاسب التعبير عنه بالروايات و لعله يوهم ضعفها، مع أنّ الظاهر أنّها رواية معتبرة

لصحة اسناد الشيخ إلى الصفار كما في جامع الرواة، و رجال السند، و هم معاوية بن حكيم، و ابن عمير، و جميل، كلهم ثقات.

نعم بعضهم رمى معاوية بكونه فطحيا عدلا و لكن لا يضرنا بعد التصريح بعدالته و وثاقته.

نعم بعض الروايات ساكتة عن رجوع المشتري إلى البائع في أمثال المقام مثل رواية اخرى مرسلة عن جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في رجل اشترى جارية فأولدها فوجدت الجارية مسروقة قال: يأخذ الجارية صاحبها و يأخذ الرجل ولده بقيمته» «2».

و ما رواه زرارة قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: رجل اشترى جارية من سوق المسلمين فخرج بها إلى أرضه فولدت منه أولادا ثم أنّ أباها يزعم أنّها له و أقام على ذلك البينة قال: يقبض ولده و يدفع إليه الجارية و يعوضه في قيمة ما أصاب من لبنها و خدمتها» «3».

و ما رواه زريق قال: «كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام إذ دخل عليه رجلان- إلى أن قال- فقال أحدهما: إنّه كان عليّ مال لرجل من بني عمّار و له بذلك ذكر حق و شهود فأخذ المال و لم استرجع منه الذكر بالحق ... فمات و تهاون بذلك و لم يمزقها و عقب هذا، إن طالبني بالمال وراثه و حاكموني و أخرجوا بذلك الذكر بالحق و أقاموا العدول فشهدوا عند الحاكم فأخذت بالمال ... ثم إن ورثة الميت أقروا أنّ المال كان أبوهم قد قبضه و قد سألوه أن يرد على معيشتي و يعطونه في أنجم معلومة، فقال: أني احب أن تسأل أبا

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 368

عبد اللّه عليه السّلام عن هذا، فقال الرجل- يعنى المشتري- جعلني اللّه

فداك كيف أصنع؟ فقال:

تصنع أن ترجع بمالك على الورثة و ترد المعيشة إلى صاحبها و تخرج يدك عنها، قال:

فإذا أنا فعلت ذلك له أن يطالبني بغير هذا؟ قال: نعم له أن يأخذ منك ما أخذت من الغلة ثمن الثمار»، الحديث «1».

و لعله عليه السّلام لم يكن في مقام البيان من هذه الجهة لا سيما أنّ الظاهر من رواية زرارة ارتحاله إلى بلد آخر يشكل العود إليه عادة، و لا سيما في تلك الأزمنة، و ظاهر رواية زريق أنّه كان عالما بالغصب لأنّه أخذه بحكم قضاة الجور، و من تحاكم إليه كان كمن تحاكم إلى الجبت و الطاغوت و ما أخذه منه كان سحتا كما في الحديث.

و أمّا رواية جميل الثانية فلعلها متحدة مع ما سبقها فعدم ذكر الغرامة فيها من باب التقطيع.

بل يظهر من صحيحة محمد بن قيس المعروفة أيضا ما ذكرنا بناء على كون أخذ أبي مولى الوليدة لأخذ ما يغرمه من صاحب الوليدة عنه، و إلّا فلا وجه له فتأمل.

أمّا في الصور التي انتفع منها كالمنافع المستوفاة، مثل سكنى الدار أو الاثمار و اللبن الصوف و غيرها، ففيه خلاف.

قال في المبسوط: «و إن كان غرم ما دخل على أنّه له بغير بدل (كالمنافع) و قد حصل في مقابله نفع و هو اجرة و هو الخدامة، فهل يرجع بذلك على الغاصب أم لا؟ فيه قولان: أحدهما:

يرجع لأنّه غرم، و الثاني: لا يرجع، و هو الأقوى لأنّه و إن غرم فقد انتفع بالاستخدام» «2».

و قال العلّامة قدّس سرّه في القواعد: «و في رجوع المشتري بقيمة منفعة استوفاها خلاف».

و قال في شرح هذه العبارة في مفتاح: «فالشيخ في خلاف و المبسوط في موضع منه و الآبى

في كشف الرموز و شيخنا في الرياض و ظاهر السرائر أنّه لا يرجع، للأصل، و لأنّه مباشر الاتلاف فكان كقيمة الجارية، و لأنّه لما حصل له نفع و حصل عنده كسكنى الدار و أكل الثمرة و شرب اللبن كان كأنّه قد اشترى و استكرى فلم يحصل عليه ضرر، و الإجماع انوار الفقاهة، ج 1، ص: 369

على ترتب الضمان على الغار لا نعلم تناوله لما إذا لم يلحقه ضرر كما هو المفروض، ثم القول الثاني عن جماعة كثيرة منهم المحقق و فخر الإسلام و الشهيدان و المحقق الثاني و العلّامة (قدس اللّه اسرارهم) بل الشيخ في موضع آخر من المبسوط و غيرهم بل عن التنقيح أن عليه الفتوى، و استدل له بقاعدة الغرر و لأنّه سلطه ليأكله مجانا، ثم نقل عن بعض، التوقف في المسألة» «1».

و العمدة في المقام ملاحظة شمول الأدلة الأربعة السابقة له و عدمه فنقول:

أمّا قاعدة التسبيب فقد عرفت أنّها أجنبية عن المقام، لأنّ المباشر ليس ضعيفا بحيث لا يسند إليه الفعل، و إلّا لم يجز الرجوع مطلقا، بل كان الرجوع إلى الغاصب فقط.

و أمّا قاعدة الضرر فالانصاف أنّ المقامات مختلفة، فقد لا يشمله كما إذا كان انتفع بالثمرة و شبهها بمقدار له الحاجة إليه، و لم يكن ينتفع بالثمن في هذه المدّة شيئا أو اشترى العين نسية، و أمّا إذا كان الانتفاع بما لا حاجة له إليه عادة، أو كان ينتفع بالثمن مثله أو أزيد منه، كان صدق الضرر ظاهرا.

و هكذا قاعدة الغرور فانّ المقامات أيضا مختلفة، فقد يكون المشتري بحيث لا يريد الانتفاع بأمثال هذه المنافع و لا حاجة له إليها، نعم إذا وجدها مجانا انتفع منها، بخلاف ما إذا كان بإزاء

عوض، فالتفصيل بين موارد صدق الغرور و الضرر و عدمه قوى جدّا.

ثم إن يظهر من رواية زريق جواز أخذ المصارف التي صرفها في إصلاح المال، من مالكه، حيث قال عليه السّلام: «و يجب على صاحب الأرض كلّما خرج منه في إصلاح المعيشة من قيمة غرس أو بناء أو نفقة في مصلحة المعيشة و دفع النوائب كل ذلك فهو مردود إليه» «2».

و لكن الكلام بعد في سند الرواية من طريق الشيخ في كتاب المجالس و الأخبار، و في زريق، فانّه إن كان زريق بن مرزوق (أو رزيق بتقديم الراء فلا يبعد كونه ثقة لتوثيق النجاشي و العلّامة له (تحت عنوان رزيق) و إن كان غيره فهو مجهول، و هذا يحتاج إلى مزيد

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 370

تأمل، و لكن القاعدة تقتضي عدم جواز رجوعه إلى المالك لأنّه لم يكن بذل هذه الأموال في إصلاح المتاع بإذنه، و لعله لا يريد هذه المصارف أو يريدها إذا كان من طريق نفسه لا غيره.

و المسألة لا تخلو عن إشكال، و الاحتياط سبيل النجاة، و العدل و الانصاف يقتضيان نوع مصالحة بينهما.

بقي هنا امور:
الأوّل: انحاء ما يغرمه المشتري في مقابل العين

منها: ما يغرمه في مقابل العين من جهة زيادة الثمن، أي ثمن المثل بالنسبة إلى المسمى.

و منها: ما يغرمه بازاء بعض أجزائه التالفة، أو بازاء وصف الصحة.

و منها: ما يغرمه بازاء بعض أوصافه غير وصف الصحة التي تقابل بالمال كما إذا نسي العبد الكتابة عنده، فانّها و إن كانت لا تقابل بالمال أنّها دخيلة في زيادة قيمة العين.

أمّا الأوّل فلا ينبغي الشك في جواز رجوع المالك إلى المشتري، لأنّ المفروض بطلان المعاملة، فيضمن العين بمثله أو قيمته، و الظاهر جواز رجوع المشتري إلى البائع الغاصب عند جهله لأنّه مغرور

بالنسبة إلى الزيادة.

و أمّا ما يغرمه بازاء الأجزاء التالفة إذا لم يزد عن قيمة المثل فلا رجوع لعدم الضرر و الغرر، و كذا وصف الصحة، بل و كذا سائر الأوصاف، لأنّ المفروض أنّ المشتري أقدم على ضمان جميع ذلك، نعم لو زاد قيمة المثل عن المسمى فالظاهر أنّه مغرور، و إلّا فلا، و العجب من شيخنا الأعظم قدّس سرّه حيث قال: «أمّا ما يغرمه بازاء أوصافه فان كان ممّا لا يقسط عليه الثمن، كما عدا وصف الصحة من الأوصاف التي تتفاوت بها القيمة ... فالظاهر رجوع المشتري على البائع لأنّه لم يقدم على ضمان ذلك».

أقول: بل أقدم على ضمانه، لأنّه اشتراه بمائة مثلا عالما بأنّه لو زال عنه الكتابة عنده مثلا لم يزد قيمته على خمسين، و ليس هذا إلّا كتلف بعض أجزائه عنده، و إن لم يقابل بالمال.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 371

نعم هنا شي ء و هو أنّ الانصاف- كما ذكره السيد قدّس سرّه في بعض حواشيه «1»- أنّه لا فرق في الاوصاف في عدم مقابلتها بالمال حتى وصف الصحة، فلا يتقسط عليها شي ء من الثمن، نعم يتفاوت قيمة العين بها، فلا يقال قيمة الشاة كذا و قيمة سلامتها عن العيوب كذا، بل يقال قيمتها صحيحة كذا و غير صحيحة كذا من دون تقسيط، و لهذا لا يجب أن يكون الأرش جزء من الثمن بعينة و لو كان يتقسط الثمن على وصف الصحة لكان الواجب أن يكون جزء منه، و لكن قد عرفت أنّ الأقوى عدم رجوع المشتري في شي ء من الأوصاف إلى البائع الغاصب للأقدام.

الثاني: لو كان البيع فاسدا من جهة اخرى:

لو كان البيع فاسدا من جهة اخرى، فقد يقال بعدم جواز رجوع المشتري إلى البائع حينئذ، لعدم صدق الغرور،

لأنّ فساد المعاملة كاف في ضمانه بالمنافع و غيرها، كما لا يخفى.

أقول: و هو كذلك، و لكن قد يستشكل عليه بأنّ هناك سببين، كل واحد منهما كاف في الضمان، أحدهما: كون المعاملة فاسدة، و الثاني: الغرور الحاصل من دعوى البائع الملكية أو ظهور حاله في كونه مالكا، فلا أقل من استناد ذلك إليهما فيوجب التشريك، كما إذا كان شخصان علة لإتلاف شي ء، بحيث كان كل واحد علة مستقلة لو لا الآخر، و لكن أجيب عنه بمنع صدق الغرور حينئذ، و لعل الوجه فيه أنّ الغرور يعتبر في مفهومه الاستقلال فإذا لم يكن جاهلا بفساد البيع من ناحية اخرى لم يصدق أصلا، و هو جيد.

الثالث: رجوع المشتري على البائع في الغرمات قبل أدائها

هل يجوز رجوع المشتري على البائع في الغرامات قبل أدائها إلى البائع؟

الظاهر عدم جوازه، سواء كان مدرك الحكم قاعدة الغرور، أو الضرر أمّا الأوّل فلأنّ قاعدة الغرور إنّما تفيد إذا كان سببا لورود ضرر عليه، لا أقول مدرك هذه القاعدة هو قاعدة

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 372

لا ضرر، بل أقول موردها لا ينفك منها، و أمّا الثاني، أي الضرر، فهو منفي على الفرض قبل أداء الغرامة، و كونه بالقوة غير كاف.

الرابع: بعض أحكام تعاقب الايدي
اشارة

إذا رجع المالك إلى البائع بقيمة العين يجوز للبائع الغاصب الرجوع إلى المشتري بها ما لم تزد على المسمى، و إن كان المشتري جاهلا بالغصب، و كان حسب الفرض قد باعه نسية أو حالا و لم يأخذ الثمن بعد، و ذلك لإقدام المشتري على ضمان المتاع بثمنه كما هو المفروض، فليس مغرورا من هذه الجهة.

ثم إنّ هنا إشكالا معروفا، و هو أنّه إذا تلف المتاع في يد المشتري و رجع المالك إلى البائع بالثمن، فكيف يجوز رجوع البائع إلى المشتري به مع أنّهما يتساويان في الضمان لا فرق بينهما، فيجوز رجوع المالك إلى كل واحد منهما بمقتضى قاعدة اليد، و لا يصح رجوع البائع إلى المشتري إذا رجع المالك إليه؟

و حل هذا الإشكال يتوقف على حلّ إشكال آخر و ذلك في تصوير كيفية كون شي ء واحد في ذمم متعددة، و أنّه هل يصح ذلك؟ فنقول و منه تعالى نستمد التوفيق و الهداية:

اختلفوا في جواز ضمان الاثنين لشي ء واحد على أقوال:

«أحدهما»: جوازه في عرض واحد كما لعله يظهر من كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المقام و اختاره السيد في الحاشية «1» و في الجواهر: قيل إنّ الفقهاء جزموا به في باب الديات فيما إذا قالا:

ألق متاعك في البحر و على كل واحد منا ضمانه.

«ثانيها»: جوازه طوليا كما صرّح به المحقق النائيني قدّس سرّه في المقام حيث قال: أمّا الضمان طولا على أزيد من شخص واحد في زمان واحد فيمكن ثبوتا و دلت عليه الأدلة إثباتا.

ثم قال: هذا مثل ضمان الغار ما يغترمه المغرور، و كتعاقب الأيدي الغاصبة فالغاصب انوار الفقاهة، ج 1، ص: 373

الأوّل ضامن للمالك ما يضمنه الثاني، أي يجب أن يخرج من كيس الثاني ما يغترمه الأوّل، فالغاصب الثاني ضامن لما يضمنه الأوّل «1».

و لعله يظهر من بعض آخر من كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه أيضا.

«ثالثها»: ما عن صاحب الجواهر قدّس سرّه في كتاب الضمان من أنّه يستحيل شغل ذمتين لمال واحد، فالمشغول بالضمان في تعاقب الأيدي على المغصوب ذمة واحدة، و هو من تلف في يده، و إن جاز رجوع المالك على كل واحد، و لكنه في كتاب الغصب ادعى عدم الدليل على ذلك (و كأنّه لم يره محالا) فالخطاب بالأداء بالنسبة إلى غير من تلف في يده حكم تكليفي، و بالنسبة إلى من تلف في يده حكم وضعي.

«رابعها»: الصحة بالنسبة إلى من رضي به المضمون له، و مع الرضا بهما يكون المال عليهما بالاشتراك و هو ضعيف.

فلنرجع أولا إلى تصوير القول بالجواز إمّا عرضيا أو طوليا، و لنذكر ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مقام الذي قد يستظهر منه القول الأوّل، و هو امور:

1- معنى كون العين الواحدة في العهدات المتعددة لزوم خروج كل واحد عن العهدة عند تلفه، فهو يملك ما في ذمة كل منهم على البدل، بمعنى أنّه إذا استوفي أحدها سقط الباقي، لعدم صدق التدارك عليها، فالمالك إنّما يملك البدل على سبيل

البدلية، و يستحيل اتصاف شي ء منها بالبدلية بعد صيرورة أحدها بدلا عن التالف.

2- يمكن أن يكون نظير «ضمان المال» على مذهب العامة (أي ضم ذمة إلى ذمة) و نظير ضمان الأعيان المضمونة، و نظير ضمان شخصين لمال واحد على سبيل الاستقلال، لا الاشتراك فيكون كالواجب الكفائي في التكاليف.

3- السابق يشتغل ذمّته بالبدل، و أمّا اللاحق فيشتغل ذمّته بشي ء له البدل، فضمان الثاني في الواقع يرجع إلى ضمان واحد من البدل و المبدل، فإذا تلف المال في يد الثاني كان ضامنا لأحد الشخصين على البدل، أي المالك إلى من سبقه في اليد، فيجب عليه إمّا تدارك العين أو

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 374

تدارك بدله رجع المالك إلى من سبقه (انتهى ملخصا) و الأنصاف أنّه ظاهر في الضمان الطولي بقرينة آثار، و الامثلة التي ذكرها شاهد عليه، خلافا لما يظهر من بعض كلمات المحقق النائيني قدّس سرّه في المقام «1».

و كيف كان فقد أورد عليه السيد المحقق اليزدي قدّس سرّه في الحاشية سبع إشكالات أهمها ثلاثة:

الأوّل: يصدق على الأوّل أنّه أيضا ضامن لشي ء له البدل، فانّه و إن لم يكن كذلك حدوثا و لكنه صار كذلك بقاء، و المناط حال البقاء.

الثاني: ضمان العين الذي له البدل يقتضي كون الثاني ضامنا للمالك، لا للأول فان البدل الذي في ذمة الأوّل إنّما هو للمالك أيضا لا لنفسه.

الثالث: لازمه جواز رجوع الأوّل إلى الثاني حتى قبل دفع البدل إلى المالك (لأنّ ذمة الثاني مشغول بأحد الأمرين) «2».

هذا و لكن السيد قدّس سرّه نفسه اختار القول بجواز ضمان الاثنين لواحد في عرض واحد، لأنّ عموم الأدلة يقتضيه، و لا مانع منه، أمّا الأوّل فالظاهر أنّها اشارة إلى عموم على اليد، و الثاني

إشارة إلى ضعف دعوى الاستحالة من صاحب الجواهر قدّس سرّه و أنّه ليس مستحيلا «3» و إن هو إلّا نظير الواجب الكفائي في باب الحكم التكليفي، و أنّه لا فرق بين اشتغال الذمة بالأفعال أو الأموال في جواز تعلقها بالمتعدد على سبيل البدلية، فكما يتصور الواجب التخييري و الكفائي في التكاليف فكذلك في باب الحكم الوصفي و الذمم، لعدم الفرق بين الدين الإلهي و الخلقي، و دعوى أن المال لا يكون إلّا في ذمة واحدة كما ترى.

أقول: هنا حكمان: «أحدهما» جواز رجوع المالك إلى كل واحد من الأيدي الجارية على ملكه. «الثاني» قرار الضمان على من تلف في يده إلّا إذا كان مغرورا، فانّه يرجع على من غرّه.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 375

أمّا الأوّل فأمره سهل لعموم أدلة الضمان و مساواة الجميع بالنسبة إلى المالك، و لكن الكلام في تصوير ضمان الاثنين استقلاله لشي ء واحد، و ليس الإشكال فيه من ناحية عموم على اليد، فانّه ظاهر واضح بعد فرض كون الأيدي غير أمينة، إنّما الإشكال في إمكان كون مال واحد شخصي في ذمم متعددة، فقد يقال: إن هذا محال إذا كان ذلك في فرض واحد لأنّ الشي ء الواحد الشخصي لا يقبل الوجود إلّا في مكان واحد.

و لكن يمكن أن يجاب عنه: بأن الاستحالة إنّما هو في الوجود الحقيقي لا الاعتباري، لأنّ الاعتبار تابع لمنشإه، و هو هنا سبب الضمان، فلما كان على اليد منطبقا على كل من ذوي الأيدي المتعاقبة، كان موجبا لاشتغال الذمة بالنسبة إليهم جميعا، و لازم ذلك براءة ذمة الجميع إذا أدى واحد منهم، لأن المفروض أنّه ليس هناك أموال متعددة بل مال واحد في ذمم متعددة، فإذا أدى إلى صاحبه فقد حصلت

البراءة للجميع.

و الانصاف أنّ تشبيه بالواجبات الكفائية أيضا في محله لا سيما بناء على المختار من أنّ الفعل (مثل دفن الميت المعين) واجب على كل واحد لا على البدل، و لا على نحو التشريك، بل على نحو الاستقلال و لكن إذا دفنه واحد منهم يحصل الغرض، فلا يبقى موضوع للأمر فيسقط عن الجميع، كذا في محل الكلام.

و حينئذ الأمر من ناحية جواز رجوع المالك إلى كل واحد و كذا سقوط عن الجميع بعد أداء واحد منهم أمر ظاهر.

إنّما الإشكال في استقرار الضمان على من تلف في يده، فقد ذكر في مفتاح الكرامة بعد نقله عن التذكرة و جامع المقاصد و المسالك و الروضة و الكفاية و غيرهم، في بيان دليل هذا الحكم: أنّه ظالم بامساك مال الغير في يده مع علمه بأنّه له، و قد حصل التلف في يده، فكانا متساويين في كون كل منهما غاصبا و انفرد الثاني بزيادة، و هي كون التلف في يده، فيختص ببدله، فلو رجع على الأوّل استحق الرجوع عليه دون العكس «1».

هذا و لا يخفى أنّه مصادرة بالمطلوب، لأن كون مجرّد التلف (لا الاتلاف) في يده زيادة

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 376

تقتضي قرار الضمان على من تلف عنده دون غيره بعد مساواة الجميع في الغصب و الضمان، و كون التلف سماويا أول الكلام.

و يبقى توجيهات اخرى لهذا الحكم ذكرها الأعلام:

1- ما أفاده شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه من أنّ الثاني ضامن لأحد شخصين على البدل: المالك و الضامن الأوّل.

و قد عرفت أنّه لا دليل على ذلك، بل الدليل على خلافه، لأنّه لا وجه لكون الثاني ضامنا لأحدهما بعد كون المال لواحد معين، و هو المالك، و لم يحصل هنا

حق للأول على المال، لا حق الملكية و لا غيره، كيف و هو غاصب على الفرض، فلا يكون الثاني ضامنا لأحد شخصين، فهذا التوجيه غير كاف.

2- ما ذكره صاحب الجواهر قدّس سرّه، و حاصله انحصار اشتغال الذمّة بمن تلف في يده، و إن كان يجوز للمالك أن يرجع إلى غيره باعتبار الغصب، فلو رجع إلى غيره من تلف عنده (كالضامن الأوّل في مورد الكلام) و أخذ البدل منه ملك ذمته الثاني (أي من تلف عنده) بالمعاوضة الشرعية القهرية، فيجوز رجوعه إليه بعد ذلك.

و فيه: أولا: ما عرفت من أنّ الضمان على الجميع، لا خصوص الأخيرة بعد عموم الأدلة، و عدم المانع له، و شمول على اليد للجميع.

ثانيا: كون وجوب الأداء على الأخير وضعيا و على الباقي تكليفيا لا يساعد عليه شي ء من الأدلة بعد مساواة الجميع في اليد العادية.

ثالثا: أي دليل على هذه المعاوضة القهرية الشرعية بعد رجوع المالك إلى الأوّل، نعم لو كان هناك دليل قطعي على أصل الحكم و لم يمكن توجيهه من طريق آخر و انحصر الطريق فيما ذكره أمكن القول به، و لكن أنى لنا بذلك، فتدبّر جيدا.

3- ما ذكره السيد قدّس سرّه- و هو قريب من كلام الجواهر- و حاصله وقوع المعاوضة القهرية بين العين التالفة ما يؤدّيه الضامن الأوّل للمالك، فيقوم مقام المالك في مالكيته العين التالفة، و يكون ملكا لدافع البدل، فله أن يرجع إلى كل واحد من الأيدي المتأخرة.

و كأنّه قدّس سرّه رجح هذا الوجه نظرا إلى أنّ السابق، له أن يرجع إلى كل من لحقه مع أن توجيه انوار الفقاهة، ج 1، ص: 377

صاحب الجواهر قدّس سرّه يقتضي الرجوع إلى من تلف في يده فقط.

هذا و الانصاف

أنّه غير تام أيضا:

أمّا «أولا»: فلأنّه لا معنى محصل لتملك العين التالفة بعد تلفه و انعدامه حتى يقوم معطي البدل مقام المالك الأصلي.

و «ثانيا»: إنّ هذه المعاوضة القهرية ممّا لا دليل عليه نعم يمكن القول به لو انحصر الطريق فيه و لكن ليس كذلك.

و «ثالثا»: إنّ الذي دعاه إلى اختيار هذا الوجه هو جواز رجوع السابق إلى كل واحد من اللاحقين بالإجماع، و لكنه غير ثابت عندنا، لعدم الإجماع عليه، و عدم حجيته في هذه المقامات لو كان هناك إجماع.

4- ما حكي عن بعضهم من أنّ رجوع السابق إلى اللاحق و إن لم يكن من مقتضيات اطلاق أدلة الضمان، لكنه مبني على بناء العرف و أمضاه الشارع المقدس بعدم الردع عنه «1».

و فيه: أنّه اعتراف بالعجز عن حل المسألة من ناحية القواعد المعروفة الشرعية و العقلائية.

5- ما اختاره سيدنا الحكيم قدّس سرّه في بعض كلماته من التشكيك في أصل الحكم، و هو أنّ رجوع السابق إلى اللاحق غير واضح المأخذ، إلّا إذا أخذه الثاني منه قهرا، و حينئذ لا يبعد ثبوت الرجوع عرفا، و بناء العقلاء عليه.

و كأنّه اقتصر على هذا المورد اعتمادا على حكم العرف و امضاء الشرع، و فيه ما مرّ في سابقه.

التحقيق في حل مشكلة تعاقب الأيدي:

6- ما هو التحقيق في المقام كما يتبادر إلى نظري القاصر و هو يتوقف على مقدمات:

«احداها»: أنّ المستفاد من قوله عليه السّلام: «على اليد» هو الحكم الوضعي فقط، و هو الضمان لو

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 378

تلف، فلا يستفاد منه حكم تكليفي بالنسبة إلى أداء المال إلى صاحبه، بل مفاده الضمان لو لا الأداء، و أمّا وجوب الأداء فهو مستفاد من أدلة حرمة التصرف في مال الغير إذنه (و من التصرف

امساكه بغير رضاه)، و هذا الحكم مستفاد من أدلة كثيرة عقلية و نقلية، و هذا سهل.

«ثانيها»: أنّ الضمان بمعنى كون شي ء في ذمّة الإنسان لا معنى له عند وجود العين إلّا بعنوان الشأنية، و أمّا الضمان الفعلي فلا يكون إلّا بعد التلف، فمعنى قوله: على اليد ... أنّه لو تلف كان المثل أو القيمة في ذمته.

«ثالثها»: قد يكون علة التلف السماوي عاما يشمل العين أينما كانت، كما إذا انهدمت قرية بسبب السيل أو الزلزلة و تلفت جميع الأموال الموجودة فيها و منها العين المغصوبة، و كانت تتلف في أي مكان كانت من غير فرق بين بيت المالك و الغاصب و غيره، أو وقعت آفة في الحيوانات في منطقة، و كان تلف الحيوان المغصوب في ضمنها بحيث إنّه كان يتلف في أي مكان كان من تلك المنطقة سواء في دار المالك أو غيره، ففي شمول اطلاق على اليد لمثل هذا غموض، لا سيما إذا كان الضمان لغير الغاصب كالمقبوض بالعقد الفاسد مع علمهما بالفساد أو جهلهما، فتدبّر.

و اخرى تكون علة التلف أمرا خاصا، و هذا أيضا على أقسام:

1- ما إذا كان في العين علة موجبة لفسادها و هلاكها أينما كانت، كما إذا علم يقينا بأن الحيوان كان مريضا بمرض يموت فيه قطعا، ففي شمول على اليد له أيضا غموض، لا سيما إذا لم يكن الضامن غاصبا كالمقبوض بالعقد الفاسد.

2- ما يعلم أنّه لو كان عند مالكه لم يهلك.

3- ما يعلم أنّه قصر في حفظه فهلك.

4- ما لا يعلم أنّه من أي هذين القسمين الأخيرين أو غيرهما، و الظاهر شمول أدلة الضمان لهذه الأقسام أيضا عرفا و شرعا سواء الغاصب و غيره.

إذا عرفت هذا فاعلم: أنّه لو

اغمضنا عمّا ذكره الأصحاب (رض) و ادعوا الإجماع عليه فإذا كان الضمان الأوّل دفعه إلى الثاني باختياره كان شريكا له في علة التلف، سواء كانت العلة التفريط في الحفظ أو مجرّد الكون عنده أو غير ذلك، فعدم رجوعه إليه في هذه الصورة

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 379

وجيه، لأن يد الثاني بمنزلة يد الأوّل بعد أن كان باذنه و اجازته، فكيف يمكنه الرجوع إليه؟

فلا فرق بينه و بين الذي تلف المال في يده من هذه الجهة، و هذا غير الاتلاف.

نعم يمكن أن يقال: إنّ المالك و إن كان له الرجوع إلى أيّ واحد منهم و أخذ جميع البدل منه و لكن الخسارة توزع عليهم عند علمهم جميعا، لاشتراك الجميع في الضمان، و عدم استناد التلف إلى خصوص الأخير.

هذا كله إذا لم يأخذه الثاني منه قهرا، و أمّا إذا أخذه منه قهرا فيمكن القول بذلك أيضا، فان كون العين في يد الأوّل كان من أسباب أخذه منه و من مقدماته، فتأمل.

و يتحصل ممّا ذكرنا امور:

«الأوّل»: أنّه يجب على كل واحد من الأيدي الضامنة ردّ المال إلى مالكه وجوبا تكليفا، و أنّ الضمان بمعنى اشتغال الذمة بأداء المثل أو البدل لا يستقر على واحد قبل التلف.

«الثاني»: يجوز رجوع المالك إلى كل واحد منهم بمقتضى قاعدة اليد.

«الثالث»: أنّه إذا تلف المال استقر الضمان على جميع الأيدي و أنّهم يشتركون في ذلك، و إن كان المالك الرجوع إلى كل واحد منهم، و كل واحد منهم أدّاه إلى المالك يجوز رجوعه إلى الباقين بالنسبة إلى سهامهم، و يدل على اشتراكهم في اليد العادية و الضامنة و عدم كون التلف بفعل من تلف في يده بالخصوص كما هو المفروض، نعم لو كان هو

المتلف له أمكن الأخذ بقاعدة الاتلاف في حقه خاصة، فلا فرق فيما ذكرنا بين السابق و اللاحق.

«الرابع»: إنّ أصل الضمان في بعض فروض المسألة محل تأمل، كما إذا كان بالحيوان داء يموت به على كل حال، أو إذا حدث هناك بلاء عام لا يفترق فيه المالك و غيره.

هذا و لكن الفتاوى المشهورة لا تساعد على بعض ما ذكرنا، و إن كان احتمال استنادهم إلى قاعدة اليد و أشباهها قويا، فليس هنا إجماع، و لو لم يكن كاشفا عن قول المعصوم عليه السّلام، و لكن مخالفتهم أيضا مشكل، فالاحوط التصالح في هذه الموارد.

و ممّا ذكرنا يظهر أنّه لا فرق بين الغاصب و المشتري الجاهل، لأنّ المفروض أنّه ضامن للعين و ليس مغرورا بالنسبة إلى ضمانه، إلّا إذا كان ثمن المثل أكثر من الثمن المسمى كما لا يخفي و اللّه العالم.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 380

فرعان: أشار إليهما في نهج الفقاهة «1».

الأوّل: أنّه إذا ابرء المالك واحد من ذوي الأيدي المتعاقبة، فهل له الرجوع إلى غيره أم لا؟ و ذكر فيه و جهان «أحدهما»: براءة الجميع، لأنّ الحق فيه واحد لا تفكيك فيه، فإذا ابرء واحدا برئ الجميع.

«ثانيهما»: أنّه يمكن التمليك بينهما لأنّه من الأحكام الارفاقية و يساعده ارتكاز العقلاء.

أقول: هذا إنّما يتصور عند التلف العين، و إلّا فقد عرفت أنّه لا ضمان فعليا عند وجودها، نعم له الرجوع و المطالبة، و عليهم أداؤها، و لكن هذا حكم تكليفي لا يقبل الاسقاط، و أمّا بعد التلف فان قلنا بتشريك الجميع بالنسبة إلى الخسارة كما قويناه من بعض الجهات فيما مرّ، فابراء بعضهم دون بعض ممّا لا إشكال فيه، و أمّا إن قلنا بضمان واحد على البدل فاسقاطه عن

بعضهم دون بعض مشكل جدّا، لأنّ الحكم واحد، و مجرّد كونه ارفاقيا لا أثر له في المقصود، كما أنّ مساعدة ارتكاز العقلاء عليه غير ثابت.

و أمّا لو قلنا باشتغال ذمّة كل واحد مستقلا (و إن كان يسقط بفعل البعض لحصول الغرض كما في الواجب الكفائي على وجه قوى) فحينئذ لا يبعد التفكيك، فهنا ثلاث مبان كل واحد له حكم مختص به.

الثاني: إذا انتقل المضمون من المالك إلى غيره بطريق مشروع، إمّا بعوض أو بغير عوض بهبة أو غير ذلك، فهو يقوم مقام المالك الأوّل في جميع ما ذكر من الأحكام، فيرجع إلى كل واحد منهم إذا أراده و لو رجع إلى السابق فيأتي فيه الأحكام الماضية، نعم إذا كان المنتقل إليه احدى الأيدي الضامنة لا يصح رجوعه إلى السابق على القول المشهور، لأنّه لو رجع إليه كان للسابق حق الرجوع إليه و كان هذا لغوا، نعم بناء على ما قويناه من التشريك جاز الرجوع إلى كل واحد منهم بالنسبة إلى سهمه و سقط سهم نفسه.

الكلام في بيع ما يملك و ما لا يملك
اشارة

و من فروع الفضولي ما إذا باع ملكه مع ملك غيره، فان البيع بالنسبة إلى ملك غيره فضولي، و لكن فيه إشكالات اخرى ناشئة من بيع ملك نفسه مع ملك غيره ستأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه.

قال في التذكرة: إذا باع عبده و عبد غيره صفقة واحدة صح البيع في عبده و لا يقع البيع باطلا فيه، و يقف العقد في عبد الغير، فان أجاز البيع فيه لزم، و إن فسخ بطل، و يتخير المشتري حينئذ بين فسخ البيع في الجميع و بين أخذ عبده بقسطه من الثمن، ذهب إليه علماؤنا و هو أحد قولي الشافعي، و به قال مالك

و أبو حنيفة «1».

ثم استدل عليه بأمور:

أحدها: إنّ هذا حكم كل واحد بانفراده، فإذا جمع بينهما كان لكل حكمه لوجود علة الحكم بعينها.

ثانيهما: إنّ المعاملة اشتملت على صحيح و فاسد، فانعقد صحيحا في الصحيح و باطلا في الفاسد، و مثّل له و شبهه بما إذا شهد عادل و فاسق على شي ء واحد.

ثالثها: صحيحة الصفار أنّه كتب إلى أبي محمد الحسن بن على العسكري عليه السّلام في رجل له قطاع ارضين (أرض- خ) فيحضره الخروج إلى مكة، و القرية على مراحل من منزلة و لم يكن له من المقام ما يأتي بحدود أرضه، و عرف حدود القرية الأربعة فقال: للشهود: اشهدوا

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 382

أنّي قد بعت فلانا، يعني المشتري جميع القرية التي حدّ منها كذا، و الثاني و الثالث و الرابع (كذا) و إنّما له في هذه القرية قطاع أرضين، فهل يصلح للمشتري ذلك ... فوقع عليه السّلام: «لا يجوز بيع ما ليس يملك و قد وجب الشراء من البائع على ما يملك» «1».

و قد صرّح بالصحة كثير من أعاظم الأصحاب و أساطين الفقه بل ذكر في الجواهر أنّ ظاهر الأصحاب الإجماع عليه كما اعترف به في الرياض و حكاه أيضا عن استاده (كاشف الغطاء، و صاحب الغنية) «2».

نعم عن المحقق الأردبيلي قدّس سرّه احتمال البطلان من رأس.

و يظهر من بعض الكلمات التفصيل بين صورة علم المشتري و جهله، فيصح في الثاني دون الأوّل، فاذن تكون المسألة ذات أقوال ثلاثة.

و الأقوى: الصحة مطلقا، أمّا إذا أجاز المالك الآخر فلا كلام، و أمّا إذا ردّه صحّ في ما يملك أيضا مطلقا دون ما لا يملك، لأنّها موافقة للقاعدة و النص.

أمّا الاولى فلأنّ المقتضي للصحة موجود و

المانع مفقود، أمّا المقتضي فلدلالة العمومات عليها، و أمّا المانع فغاية ما ذكر فيه امور:

«أولها»: لزوم الجهل بالثمن بل بالعوضين، و من الواضح اعتبار العلم بهما.

«ثانيها»: أنّ لازمه وقوع ما لم يقصد و عدم وقوع ما قصد.

«ثالثها»: ما عن أصحاب الشافعي من أنّ اللفظة واحدة لا يتأتى تبعيضها.

«رابعها» أنّه قد يتضرر المشتري من التبعيض و الأخذ بالبعض.

و يجاب عن الأوّل بأنّ المعتبر من العلم بالعوضين ليس أزيد من هذا المقدار، أعني العلم التفصيلي بالمجموع في مقابل المجموع، و العلم الإجماعي بقسط من الثمن يناسب المثمن و لا دليل على اعتبار أكثر منه.

و عن الثاني بأنّه من قبيل تعدد المطلوب، فوقوع البيع في كل من المالين مطلوب للمشتري بحصة من الثمن، فإذا وقع في واحد دون الآخر فكان ما وقع موافقا للقصد.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 383

و ليس الوحدة و التعدد هنا بحسب الأغراض الشخصية بل بحسب الأغراض النوعية للعقلاء في أمثال المقام، و الحكم يدور مداره، كما في بيع المعيوب، فانّه قد يكون الغرض الشخصي للمشتري العين الصحيحة و لا يفيده غيره أبدا، كمن أراد شاة للأضحية مثلا أو أداء النذر بوصف الصحة فانّه لا فائدة له في غيره، و الإشكال في صحة البيع مع الخيار أو الأرش كما هو ظاهر.

و من هنا يظهر ما أفاده في «جامع المدارك» من الإشكال بأنّه قد يكون قصد المشتري مقيدا بتملك المجموع، و ربّما لا ينتفع بالمقدار المملوك، كما لو كان المقدار المملوك للبائع العشر «1».

و فيه: أنّه لا أثر لقصد خصوص المشتري في هذه الأبواب أبدا، و إلّا وجب التفصيل في باب خيار العيب و الشروط الفاسدة و شبهها، مع أنا نعلم بعدم التفصيل فيها

و أمّا الثالث: فالجواب

عنه ظاهر، لأنّ وحدة اللفظ لا أثر له بعد كون المنشأ و المقصود متعددا، فالاعتبار إنّما هو بالمنشإ لا الإنشاء، و وحدة الإنشاء لا تضر بعد تعدد المنشأ كما لا يخفي.

و أمّا الرابع: فضرره مجبور بالخيار الذي صرح به غير واحد من الأصحاب، في المقام و يسمى بخيار تبعض الصفقة.

و أمّا النص: فهو صحيحة الصفار الماضية و قد أفتى بمضمونها الأصحاب، و لكنها أيضا لا تخلو عن الإشكال من بعض الجهات:

«أحدها»: من ناحية إبهام سؤال الراوي و أنّ مراده فرض بيع حصته مع حصة غيره بثمن واحد، و هذا لا يناسب كونه على جناح سفر مكة و إنّما دعاه إلى ذلك عدم وضوح حدود أرضه، أو أنّ المراد إرادة خصوص ملكه و لكن لم يقدر على تبيين حدودها إلّا بذكر حدود القرية، فحينئذ ليس من قبيل بيع ما يملك مع ما لا يملك، و لكن الانصاف أنّ الأظهر منها بقرينة قوله: «جميع القرية» قصد إنشاء البيع بالنسبة إلى المجموع، و يؤيد ذيله «و إنّما له انوار الفقاهة، ج 1، ص: 384

بعض القرية و قد أقرّ له بكلها» و كونه على جناح سفر الحج مناف له كمالا يخفي على من سبر أحوال العوام في أمثال هذه الامور من المعاملات، بل و في عباداتهم، و على كل حال لا إبهام في الجواب لو كان إبهام في السؤال.

«ثانيها»: من ناحية عدم ذكر التخصيص، أعني تخصيص الصحة في ما يملك بحصة من الثمن و لعله لوضوحه.

«ثالثها»: عدم ذكر خيار التبعض فيها، و لعله لعدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة و كونها بصدد بيان أصل صحة البيع.

هذا و دلالة الرواية بعد ذلك كله لا سيما من ناحية جواب عليه

السّلام غير قابل للإنكار، و لذا استدل بها الأصحاب فهي كافية في إثبات المراد.

بقي هنا امور:
احدها: في حكم الخيار هنا

. و الظاهر ثبوته عند جهل المشتري بالواقع، و يدل عليه قاعدة لا ضرر، و سيأتي الكلام فيه مستوفي إنشاء اللّه في أحكام الخيارات.

و قال صاحب الحدائق قدّس سرّه: إنّ ظاهر الصحيحة المذكورة أنّ الحكم على ما ذكره عليه السّلام أعم من أن يكون المشتري عالما أو جاهلا، و حينئذ فما ذكروه من الخيار في صورة الجهل لتبعض الصفقة مشكل «1».

و كأنّه نظر إلى قوله «و قد وجب الشراء فيما يملك»، و لكن الانصاف أنّ المراد بالوجوب هنا هو الصحة أو اللزوم من ناحية البائع، لأنّ السؤال إنّما هو بالنسبة إليه فلا ينافي كون المشتري بالخيار إذا كان جاهلا، بل ظاهر الصحيحة هو عدم علم المشتري بواقع الحال.

الثاني: في طريق التقسيط

أي تقسيط الثمن على «ما يملك» و «ما لا يملك»، و قد ذكر له وجوه ثلاثة:

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 385

1- ما عن المشهور من أنّه يقوم المجموع من حيث المجموع، ثم يقوّم أحدهما (ما يملك) ثم يلاحظ النسبة بينهما، فان كان قيمة المجموع عشرا، و قيمة ما يملك اثنان، يؤخذ خمس الثمن و يدفع أربعة أخماس للمشتري هذا و لكن من البعيد أن يكون اطلاق كلامهم شاملا لما إذا كأم لوصف الاجتماع دخلا في زيادة القيمة، فانّه يوجب القول بالتفاوت بين شيئين، أي ما يملك و ما لا يملك، لا تفاوت بينهما أصلا كما لا يخفي.

2- ما ذكره غير واحد من الأصحاب من لزوم تقويم كل واحد مستقلا، ثم ملاحظة النسبة بينه و بين مجموع القيمتين، فإذا كان أحدهما يسوى اثنتين و الآخر الأربعة كان الثمن بينهما اثلاثا: ثلث للأول، و ثلثان للثاني، و لا يرد عليه ما أوردناه على سابقه.

3- أن يقوم كل واحد منهما في

حال انضمامه إلى الآخر، ثم يلاحظ قيمة كل منهما إلى مجموع القيمتين (أو يقال يلاحظ نسبة كل منهما إلى الآخر) و مثلوا لو ببيع الجارية مع ابنها، إذا زادت قيمة الابن مع الانضمام، و نقصت قيمة الجارية كذلك و هذا أمر واقع غالبا، فانّ الجارية إذا كانت منحازة عن ابنها كانت قيمتها أكثر، و لو ضمت إليه كانت قيمتها أقل لاشتغالها بأمر الابن، بخلاف الابن فانّه إذا لم ينضم إلى امها احتاج إلى من يراقبه إذا كان صغيرا بخلاف ما لو انضمّ إليها حيث تكون قيمته أكثر.

فإذا كانت قيمة الابن في حال الانضمام ستة مثلا، و في حال الاستقلال أربعة، و قيمة الام بالعكس و كان مجموع القيمتين الحال عشرة، فلا بدّ من أخذ ثلاثة أخماس للابن و خمسين للأم، مع أنّ الأمر على عكس ذلك لو لوحظ كل منهما مستقلا، كما في الوجه الثاني «1».

و الحاصل: أنّه إذا لم يكن لوصف الاجتماع أثر في زيادة القيمة أو نقصانها فمقتضى الطريق الثلاثة واحدة، لا تفاوت بينهما، و لكن إن كان الوصف الاجتماع أثر في زيادة القيمة حصل الفرق بين الطريق الأوّل و الثاني، لأن مقتضى الوجه الأوّل في المثال المذكور (أعني انوار الفقاهة، ج 1، ص: 386

كون كل واحد منفردا يعادل دينارين و مجتمعا مع الآخر عشرة دنانير) أخذ خمس الثمن، و لكن مقتضى الطريق الثاني أخذ نصف الثمن.

و إن كان للانضمام أثر في نقصان القيمة افترق طريق الأخير عن الأولين، كما ذكرنا.

و لعل اطلاق كلمات أساطين الفقه منزل على ما إذا لم يكن لوصف الانضمام أثر كما أشار إليه سابقا.

و على كل حال الأقرب إلى العدل و الانصاف و ملاحظة الحقوق الثابتة للمالكين هو الأخذ

بالطريق الثاني فقط، للزوم الظلم على البائع على الطريق الأوّل إذا زادت القيمة عند الاجتماع، لأنّ المفروض أن كلّا من العبدين بانفراده يساوي الآخر و إن كان بوصف الاجتماع تزداد قيمة، فلا بدّ من تصحيح البيع بنصف الثمن لا بخمسه.

كما أنّه يلزم الظلم على المشتري إذا فرض تأثير الاجتماع في نقصان القيمة كما إذا كانت قيمة كل منهما منفردا تساوي الآخر، و كانت قيمة ما يملكه البائع عند الاجتماع أكثر، و قيمة ما لا يملكه أقل، فحينئذ يؤخذ له أكثر من النصف، مع أن المفروض تساويهما في القيمة عند الانفراد.

إن قلت: الظلم حاصل حينئذ عند زيادة القيمة بالاجتماع أو نقصانه، فان المفروض أن البيع يؤثر في واحد منهما منفردا دون الآخر، و قد لوحظ في الثمن وصف الاجتماع الذي قد يوجب الزيادة و قد يوجب النقصان، فما يأخذه المشتري فاقد لوصف الاجتماع مع أنّ القيمة التي يؤديها قيمة للعين مع اتصافها بهذا الوصف.

قلنا: الاوصاف بذاتها لا تقابل بالمال كما عرفت بل توجب زيادة قيمة العين و ضرر المشتري هنا منجبر بالخيار من ناحية المشتري، و أمّا البائع فقد اقدم على ضرره إذا كان عالما بالحال، و لو لم يكن عالما بالحال أمكن القول بخياره أيضا، من باب الغبن إذا كان لوصف الاجتماع دخلا في نقصان قيمة ماله.

الثالث: إنّ الحكم بصحة بيع ما يملك و ما لا يملك فيما إذا كان المتاعان كالخفين

و مصراعي الباب الذي لا قيمة لواحد منهما بانفراد أو قيمته قليل جدّا، مشكل غاية الإشكال، فعدم شمول الأدلة له، و عدم إمكان حمله على تعدد المطلوب، و لو بحسب انوار الفقاهة، ج 1، ص: 387

الاغراض النوعية العقلائية، كما لا يخفى، و إن شئت قلت: الواحد من الخفين أو مصراعي الباب لا يكون بعضا من الصفقة واقعا، و إن

كان كذلك ظاهرا، فانّ المراد من البعض ما يقوم به بعض الآثار و لو بحسب الغالب، و من المعلوم أنّ الخف الواحد لا فائدة له تقريبا، فهما من الامور التي تعدان شيئا واحدا بحسب الأثر لا شيئان.

الرابع: ما ذكرناه من الأحكام جارية في ملك المشاع

، كما إذا كان ثلث الدار له و ثلثاه لغيره، و كذا في المثلي كما إذا كان ثلث صبرة له و ثلثاها لغيره، فيصح البيع فيما يملك و يبطل فيما لا يملك إذا لم يجزه مالكه، و يكون ذلك بحصة من الثمن، و لكن لا يتوهم أن التقسيط بالنسبة إلى الثمن يكون دائما على نحو الكسر المشاع الموجود في نفس العين، و ذلك لأنّ الثلث بانفراده قد يكون أقل قيمة من الثلثين، لقلة الرغبات فيه، و قد يكون بالعكس لكثيرة الرغبات فيه، بل الأمر كذلك حتى في ناحية المثلي، فثمن منّ من الحنطة قد لا يساوي ثمن مائة منّ و لو بحسب النسبة، لتفاوت الرغبات في بيع القليل من الشي ء و كثيرة، و المدار دائما على تقويم كل واحد من الملكين مستقلا، ثم ملاحظة كل منهما مع مجموع القيمتين، سواء كان الملكين من جنس واحد أو جنسين، من القيمي أو المثلي، من المشاع أو المفروز، و تفاوت القيمة في جميع ذلك أمر ممكن، و ما قد يظهر من بعض كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المقام من خلاف ذلك ممنوع، كما نبّه إليه المحقق النائيني قدّس سرّه في بعض كلماته في المقام «1».

الخامس: إنّ انضمام الشيئين كما أنّه قد يوجب زياد القيمتين أو نقصهانهما، و قد يكون بحيث يوجب زيادة في أحدهما فقط دون الاخر

، أو نقصانا كذلك، بحيث لا يكون للانضمام أثر في قيمة أحدهما، و لكنه يكون مؤثرا في تفاوت قيمة الآخر، كما أنّه قد يكون أثر الانضمام في الزيادة و النقصان متفاوتا، مثلا يزيد أحدهما بالانضمام ضعفين، و الآخر ثلاثة أضعاف، و كذلك في النقصان ينقص من قيمة أحدهما عشرا، و من الآخر عشران، و الحكم في الجميع ما عرفت من تقويم كل واحد مستقلا ثم ملاحظة قيمة مع مجموع القيمتين و اللّه

العالم.

السادس: صحة البيع فيما يملك إنّما في ذاتها، و مع قطع النظر عن الطوارى

، فلو لزم منه الربا، أو بيع الآبق بغير ضميمة بعد بطلان البيع فيما لا يملك أو غير ذلك ممّا هو محظور، فالإشكال فيها قائم كما هو واضح.

مسألة: لو باع من له نصف الدار مشاعا نصف تلك الدار من دون اشارة إلى أنّه نصفه أو نصف المجموع من حقه و حق غيره، فهل يصح البيع في نصفه فيكون ماضيا كله، أو يكون مشاعا في مجموع الحقين، فيصح في ربعه و يتوقف في ربع غيره على الإجازة، و كذا غير الدار من الأعيان المختلفة.

و هذه المسألة مصداق من مصاديق المسألة السابقة (بيع ما يملك مع ما لا يملك) على بعض فروضها.

قال العلّامة قدّس سرّه في القواعد: «لو باع مالك النصف، النصف، انصراف إلى نصيبه، و يحتمل الاشاعة ...»، و قال في مفتاح الكرامة في شرح هذا الكلام: «هذان الاحتمالان ذكرا في نهاية الأحكام و الايضاح و جامع المقاصد في موضعين منه، أي الأخير، في البيع و الوصايا، مع حكمه فيهما بأن الاحتمال الأوّل هو الأصح، و في باب الصلح جزم بالأول، و في المسالك في باب الصلح نسبه إلى الأصحاب و قد أخذ مسلما في غصب جامع المقاصد و المسالك» «1».

و قال في الجواهر: «لو باع مالك النصف مثلا النصف انصرف إلى نصيبه، كما صرّح به جميع من تعرض لذلك، ثم نقل ارساله ارسال المسلمات عن غصب جامع المقاصد و المسالك» «2».

أقول: و المسألة غير محرّرة في كلام الأصحاب من جهة أنّها ناظرة إلى مقام الثبوت أو الإثبات، و إن كان الأوّل أظهر في كلماتهم، و لكن مثال بعضهم بالاقرار في ذيل المسألة يرشد إلى الثاني، و كذا بعض أدلتهم، و كيف كان لا بدّ

من التكلم في المقامين فنقول و منه جل ثنائه نستمد التوفيق و الهداية:

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 389

إن كان الكلام في مقام الثبوت بأن علم قصد البائع و أنّه لم يقصد إلّا مفهوم النصف المشاع من غيره تقييده بشي ء من ماله غيره أو مشترك بينهما (الاشتراك يتصور على نحو التساوي و غير التساوي بأن يكون مثلا ثلثا منه و ثلثان من غيره و كذا العكس) فحينئذ يقع الكلام في أنّ النصف المشاع منصرف بحسب القصد إلى النصف المشاع في مجموع الحصتين أو لا ينصرف؟ فان قلنا بعدم انصرافه إلى ذلك بل مفاده بحسب قصد التكلم هو مطلق نصف المال، فحينئذ يبقي ظهور انصراف البيع إلى نفسه و في حقه خاليا عن المعارض، و إلّا وقع التعارض بينهما (و ليس التعارض هنا بحسب مقام الدلالة و الإثبات بل بحسب مقام الإرادة و الثبوت).

و بما أن انصراف النصف إلى خصوص النصف المشاع بين الحقين غير ثابت، بل الانصاف انصرافه إلى نصف الجموع من دون فرق بين كونه مشتركا أو مختصا، و لو ثبت هذا الانصراف كان ضعيفا في مقابل انصراف البيع لنفسه، كان الحق ما ذكره المشهور من حمله على نصفه المشاع.

و منه يظهر الكلام في مقام الإثبات، و أنّه لا يسمع دعواه في قصد البيع لغير نفسه مطلقا بل مقام الإثبات أوضح و أظهر.

و هذا هو العمدة و لكن ذكر في الايضاح في توجيه كلام المشهور امورا لا تخلو عن الإشكال:

1- منها أنّ الأصل في البيع اللزوم، و لهذا يحكم به عند الاطلاق و عدم العلم بالموانع.

2- و منها أنّه لو قال: بعتك غانما (و هو اسم مشترك بين عبده و عبد غيره) حمل على عبده إجماعا

(فكذا في المقام).

3- و منها أنّه لو أوصى بنصف المشترك صحّ في نصيبه «1».

قلت: أمّا التمسك بالأصل فالظاهر أنّه في غير محله، لأنّه ينفع إذا كان الشك في الحكم، و الحال أنّ محل الكلام من الشك في الموضوع، و أمّا الثاني فهو أيضا مغاير لما نحن فيه لأنّه انوار الفقاهة، ج 1، ص: 390

غير قابل للحصتين، و أمّا الثالث فهو أيضا خارج عن محل الكلام لأنّه لا تجوز الوصية في مال الغير و إن أجاز، فتأمل.

بقي هنا شي ء

و هو أنّ السيد الطباطبائي قدّس سرّه ذكر في تعليقاته أنّ التكلم في المسألة في مقامين:

«أحدهما»: ما إذا علم كون مراد البائع من النصف شيئا معينا من نصفه المختص أو المشاع بين الحصتين و يكون الغرض تشخيص مراده.

و «الثاني»: ما إذا علم أنّه لم يقصد إلّا مفهوم النصف من غير نظر إلى مال أو مال غيره، ثم قال: الظاهر أنّ محل كلامهم هو الأوّل، و استدل له بأنّ استدلالهم بظهور المقام أو غيره في مقابل ظهور النصف في الاشاعة لا يناسب إلّا المقام الأوّل، إذ الرجوع إلى الظهور إنّما هو لتشخيص المرادات.

أقول: الرجوع إلى الظهورات قد يكون لكشف المراد الإجمالي في مقابل المراد التفصيلي، توضيح ذلك: إنّ المراد من اللفظ قد يكون محتملا منهما بحسب اللحاظ البدوي حتى نظر القائل، و لكن عند الدقّة و التأمل يتبيّن أنّ مراده في عمق الذهن فرد خاص، و من قصد بيع النصف من دون ذكر قيد إن كان مراده بحسب الاخطار بالبال مطلق النصف، و لكن حيث إنّ الإنسان لا يبيع إلّا لنفسه (إلّا أن يكون وكيلا أو وليا أو غاصبا لا يعتني بحكم الشرع) فهو قاصد في الواقع بيع حصته إجمالا و

إن لم يبيّنه تفصيلا، و إن هو إلّا نظير تفاوت الداعي و الاخطار بالبال في مسألة النية في أبواب العبادات، و الظاهر أنّ مثل هذا القصد الإجمالي كاف في صحة البيع، كما يكفي في العبادات و إن كان بينهما تفاوت من جهات اخرى.

و الظاهر أنّ الرجوع إلى الظهورات هنا إنّما هو لكشف هذا القصد الإجمالي و لو كان مرادهم ما ذكره قدّس سرّه لم يناسب المقام، بل كان أشبه بمباحث المنازعات و الدعاوي.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 391

مسألة: إذا باع ما يملك مع ما لا يقبل الملك، كالخمر و الأعيان النجسة فهل يصح البيع فيما يملك أم لا؟

المشهور هو الصحة فيما يقبل الملك (بصحة من الثمن) بل ادعى الإجماع عليه و يجوز الاستدلال له بما مرّ في المسألة السابقة من العمومات، مثل أحل اللّه البيع، و أوفوا بالعقود، و أمّا الاستدلال له بحديث الصفار فمشكل جدّا، و إن ركن إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه، و ذلك لعدم تصور ما لا يقبل الملك في أراضي القرية، و الموقوفة ملك لكن لا يصح بيعها، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ ذلك يتصور في الأراضي الموات و لكن شمول الكلام في مفروض الرواية لها مشكل جدّا، و الظاهر إنّها منصرفة إلى القرية العامرة، و لا أقل من عدم الاطلاق فيها، نعم يمكن أن يقال بإلغاء الخصوصية منها، فتأمل.

و أمّا المانع هنا فهو عين ما مرّ في المسألة السابقة (بيع ما يملك مع ما لا يملك) من لزوم عدم تبعية العقود للقصود، و الجهل بالعوض، و حصول الضرر، و عدم جواز التفكيك في الإنشاء، و قد عرفت الجواب عن الجميع، و أنّ القصد هنا حاصل لتعدد المطلوب، و المقدار للازم من

العلم بالعوضين هو العلم بالمجموع من حيث المجموع و هو حاصل و الضرر مندفع بالخيار، و التفكيك هنا في المنشأ لا الإنشاء.

بقي هنا أمران:
أولهما: إذا علم المشتري بالحال و بأن البيع لا يصح في ما لا يملك شرعا

، فقد ذكروا أقوالا:

1- البطلان كما عن العلّامة قدّس سرّه في التذكرة نظرا إلى ما عرفت من لزوم الجهل بالعوض و قد عرفت جوابه.

2- الصحة مع كون الثمن كله بازاء المملوك نظرا إلى أنّه يعلم بعدم وقوع شي ء من الثمن في مقابله، و قد حكي هذا القول عن الشهيد قدّس سرّه في بعض حواشيه، و لكن قد عرفت أنّ العرف كثيرا ما يبني على مالية هذه الاشياء و لا يعتني بحكم الشرع.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 392

3- الصحة مع التقسيط و هذا هو الأقوى، و لعله ظاهر المشهور و هو نظير بيع المغصوب المبني على الملكية الادعائية كما يتراءى من حال الغاصبين.

ثانيهما: في كيفية تقويم الخمر و الخنزير و غيرهما، ممّا لا مالية لها

، فالمعروف الرجوع إلى قيمتها عند مستحليها، و من بحكمهم من عصاة المسلمين، كما صرّح به في الجواهر «1» لكن لا بمعنى قبول قولهم، بل معنى تحصيل العلم بذلك الحاصل من التواتر أو القرائن أو شهادة عدلين ممن عاشرهم، أو كان منهم و قد تاب و رجع، بل العدل الواحد بناء على ما هو الأقوى من قبول قوله في الموضوعات أيضا، أو الاطمينان القائم مقام العلم عرفا.

و قد نقل المحقق المامقاني قدّس سرّه في «غاية الآمال» عن بعض الاساتذة أنّه لو اختلف التقويم عند المستحلين من الكفار و المسلمين فقد احتمل فيه:

1- تخيير البائع.

2- تخيير المشتري.

3- القرعة.

4- تقديم الكفار، لأنّهم أخبر، أو المسلمين لأنّهم أوثق، و قد حكي ترجيح الأخير عنه «2».

أقول: مرجع المسألة في الحقيقة إلى الاختلاف في مقدار الثمن المقابل للمملوك مع معلومية المثمن و حينئذ لا وجه لشي ء من الاحتمالات المذكورة، بل الظاهر أن الحكم هو البطلان لو رجع إلى التداعي و التحالف، أمّا بدون التداعي- كما إذا كان كل منهما

في شك و كان طالبا لما هو حكمه الواقعي- لا يبعد الأخذ بالأقل لأنّ انتقال المثمن قطعي، إنّما الشك في الزائد من الثمن، و الأصل عدمه و المسألة تحتاج إلى مزيد تأمل.

هذا إذا كان الاختلاف من المتبايعين في التقويم عندهم، أمّا إذا اختلفت القيمة عند أهله، فالظاهر أنّه يؤخذ بما هو الأوسط، فتدبّر.

و قد أشار «السيد الطباطبائي قدّس سرّه» هنا إلى نكتة ينبغي الإشارة إليها و إن كانت ظاهرة في الجملة، و هي أنّ المدار على قيمتهما في مكان البيع، لا في بلاد الكفر و حينئذ قد لا يكون انوار الفقاهة، ج 1، ص: 393

لهما في بلاد الإسلام التي هي مكان البيع قيمة أصلا، لعدم وجود كافر أو فاسق راغب فيها ...

فيكون البيع باطلا في الكل لعدم إمكان تعين ما بإزاء البعض المملوك «1».

قلت: ما ذكره حق، و لكن الاولى أن يعلل بعدم القيمة لغير المملوك لا بعدم إمكان تعيينها، فيبطل البيع لعدم القصد إلى الثمن الكذائي بازاء خصوص المملوك قطعا.

هذا و يمكن أن يقال بأن اقدامهما دليل على كون كل منهما مالا في نظرهما، فيرجع إليهما في نسبة كل مع الآخر و يؤخذ من المجموع بهذا النسبة، فتأمل.

الكلام في أولياء العقد

اشارة

قال في الحدائق: «كما يصح العقد من المالك كذا يصح من القائم مقامه، و هم ستة على ما ذكره الأصحاب، و سبعة على ما يستفاد من الأخبار، و به صرّحوا أيضا في غير هذا الموضع:

الأب، و الجد له لا الام، و الوصي، و الوكيل من المالك، أو ممن له الولاية، و المالك الشرعي حيث فقد الأربعة المتقدمة، و أمينه و هو المنصوب من قبله لذلك أو لما هو الأعمّ، و عدول المؤمنين مع تعذر الحاكم أو تعذر

الوصول إليه» (انتهى ملخصا) «1».

و قد ذكر العلّامة قدّس سرّه الستة الاولى مع المالك في عبارة القواعد، و قال في المفتاح بعد هذا، ما نصه: «اشتراط كون البائع أحد هذه السبعة ممّا طفحت به عبارة الأصحاب كالشيخ و أبي المكارم و الحلي و من تأخر عنهم إلّا من شذ، و الأشهر الاظهر بين الطائفة كما في الرياض مع زيادة عدول المؤمنين مع فقد هؤلاء، و في الرياض بعد ذكر السبعة: لا خلاف في الولاية لهؤلاء، بل الظاهر الإجماع عليه و هو الحجة كالأخبار المتواترة» «2».

و الظاهر أنّه كذلك، أعني الحكم في هذه الموارد السبعة ممّا لا كلام فيه في الجملة، و إنّما الكلام في خصوصياتها و إليك شرح كل منها:

«الأوّل» «و الثاني» ولاية الأب و الجد:
اشارة

الظاهر المصرح به في كلمات كثير منهم ولاية الأب و الجد على التصرف في أموال انوار الفقاهة، ج 1، ص: 396

الطفل بالبيع و الشراء و نحوهما في الجملة، و قد تعرض الفقهاء للمسألة هنا و في أبواب الحجر، و في كتاب النكاح أيضا إشارة إليه.

قال في مفتاح الكرامة: «لا خلاف و لا نزاع في جواز البيع و الشراء و سائر التصرفات للأطفال و المجانين المتصل جنونهم و سفههم بالبلوغ من الأب و الجد» «1».

و قال في كتاب الحجر: «و قد نص في المبسوط و الشرائع و النافع و التذكرة و التبصرة و التحرير و الإرشاد و اللمعة و جامع المقاصد و الروضة و المسالك و مجمع البرهان و الكفاية و غيرها، أنّ الولاية في مال الطفل و المجنون، لأبيه وجده و إن علا» «2».

و بالجملة الظاهر اتفاق آرائهم في ذلك، و يدل عليه مضافا إلى ما ذكره، و إلى الروايات الآتية، استقرار السيرة عليه من أهل

الشرع، بل العقلاء كلهم، في حفظ أموال أولادهم و التصرف فيها بما هو صلاحهم بأنواع التصرفات.

و هذا من أهم أدلة المسألة و إن لم يتعرضوا له غالبا.

و الظاهر أنّ هذه السيرة لا تختص بقوم دون قوم و ملّة دون ملّة، فقد نرى الجميع يجعلون الولاية للأب أو هو مع الجد على الطفل بجميع شئونه، و يرون من شئون تربية الطفل حفظه بنفسه و أمواله و بما أنّ الشارع لم يردع عنه بل أكّده و قرره و أمضاه، فلا يبقى إشكال في المسألة، بل لا يحتاج إلى الامضاء إذا كانت السيرة بعنوان أهل الشرع، فسيرة أهل الشرع بنفسها دليل على الحكم، و سيرة العقلاء بعد إمضاء الشرع و لو بعدم الردع كما لا يخفى.

و أمّا الروايات الدالة على الحكم فهي على طوائف:

الطائفة الاولى: الروايات الدالة على جواز الوصية بأموال الصغار، فلو لم يكن للأب ولاية على أموال طفله كيف يصح له جعلها بيد الوصي، و هي روايات كثيرة متفرعة في أبواب الوصايا و غيرها مثل:

و ما رواه محمد بن عيسى عمن رواه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «في رجل مات و أوصى إلى رجل و له ابن صغير فأدرك الغلام و ذهب إلى الوصي و قال له: ردّ علىّ مالي انوار الفقاهة، ج 1، ص: 397

لأتزوج فأبي عليه فذهب حتى زنى، فقال: يلزم ثلثي إثم زنا هذا الرجل ذلك الوصي الذي منعه المال» الحديث «1».

و ما رواه سعد بن إسماعيل عن أبيه قال: «سألت الرضا عليه السّلام عن وصي ايتام يدرك أيتامه فيعرض عليهم أن يأخذوا الذي لهم فيأبون عليه كيف يصنع؟ قال: يردّ عليهم و يكرههم عليه» «2».

إلى غير ذلك ممّا في هذا المعنى

التي وردت في أبواب الوصايا و أحكام عقد البيع.

الطائفة الثانية: ما ورد في الاتّجار بمال اليتيم، و قد صرّح في بعضها بولاية الأب على أموال الصغير، مثل ما روى محمد بن الفضيل قال: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن صبية صغار لهم مال بيد أبيهم أو أخيهم هل يجب على مالهم زكاة؟ فقال: لا يجب في مالهم زكاة حتى يعمل به، فإذا عمل به وجب الزكاة، فأمّا إذا كان موقوفا فلا زكاة عليه» «3».

و ما رواه أبو الربيع قال: «سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل في يديه مال الأخ له يتيم و هو وصيه أ يصلح له أن يعمل به؟ قال: نعم كما يعمل بمال غيره و الربح بينهما، قال قلت: فهل عليه الضمان؟ قال: إذا كان ناظرا له» «4».

و كذا ما دل على جواز الاقتراض من مال اليتيم، مثل ما روى منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في رجل ولي مال يتيم أ يستقرض منه؟ فقال: إنّ علي بن الحسين عليه السّلام قد كان يستقرض من مال أيتام كانوا في حجر، فلا بأس بذلك» «5».

الطائفة الثالثة: ما دلّ على جواز التصرف في مال الولد بتقويم جاريته و أخذها لنفسه إن شاء مثل ما رواه داود بن سرحان قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: رجل يكون لبعض ولده جارية و ولده صغار، قال: لا يصلح له أن يطأها حتى يقوّمها قيمة عدل، ثم يأخذها و يكون لولده عليه ثمنها» «6».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 398

إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا المعنى و فيها بعض المعارضات.

هذا و لكن لا دلالة لها على جواز التصرف في أمواله مطلقا لنفسه و

لا له، و الظاهر أنّ للجارية خصوصية كما لا يخفى على من راجع هذه الروايات.

الطائفة الرابعة: ما دلّ على ولاية الأب على تزويج الصغير و الصغيرة، و يستفاد منها حكم الأموال بالأولوية مثل ما رواه ابن بزيع قال: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الصبية يزوجها أبوها ثم يموت و هي صغيرة فتكبر قبل أن يدخل بها زوجها يجوز عليها التزويج أو الأمر إليها؟ قال: يجوز عليها تزويج أبيها» «1».

و ما رواه محمد بن مسلم قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الصبي يزوج الصبية قال: إن كان أبواهما اللذان زوجاهما فنعم جائز، و لكن لهما الخيار إذا أدركا، فان رضيا بعد ذلك فان المهر على الأب» «2».

إلى غير ذلك ممّا يدل عليه، و لكن المستفاد من غير واحد منها كون الابن أو الابنة بالخيار بعد بلوغه أو بلوغها و لكن ذلك لا ينافي صحة النكاح و نفوذه- هذا و لكن الانصاف أنّ الأخذ بالأولوية غير ظاهر و لعل للنكاح خصوصية تقتضي هذه الولاية مع كون الشائع بينهم في تلك الأعصار تزويج أولادهم في صغرهم لبعض المصالح المعلومة عندهم، فتدبّر.

الطائفة الخامسة: ما دلّ على كون الولد و ماله لأبيه، ممّا يستفاد منه جواز التصرف منه لنفسه، فكيف للولد، و هي كثيرة:

منها: ما يدلّ على جواز أخذه من مال ولده مطلقا، للحج و غيره.

مثل ما روى محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن الرجل يحتاج إلى مال ابنه قال: يأكل منه ما شاء من غير سرف» «3».

و ما رواه سعيد بن يسار قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أ يحج الرجل من مال ابنه و هو صغير؟ قال: نعم قلت

يحج حجة الإسلام و ينفق منه؟ قال: نعم بالمعروف ثم قال: نعم انوار الفقاهة، ج 1، ص: 399

يحج منه و ينفق منه، إن مال الولد للوالد» «1».

و ما رواه ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الرجل يكون لولده مال فأحب أنّ يأخذ منه، قال: فليأخذ» «2».

و منها: ما يدل على جواز أخذه من مال ولده إذا كان له حاجة لغير اسراف لا مطلقا، مثل ما رواه الثمالي عن أبي جعفر عليه السّلام: «إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لرجل: أنت و مالك لأبيك، ثم قال أبو جعفر عليه السّلام: ما أحب أن يأخذ من مال ابنه إلّا ما احتاج إليه ممّا لا بدّ منه، إن اللّه لا يحب الفساد» «3».

و ما رواه علي بن جعفر عن أبي ابراهيم عليه السّلام قال: «سألته عن الرجل يأكل من مال ولده؟

قال: لا، إلّا أن يضطر إليه، فيأكل منه بالمعروف» «4».

إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا الباب و في أبواب النكاح و الحج.

و منها: ما رواه زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «أني لذات يوم عند زياد بن عبد اللّه إذا جاء رجل يستعدي على أبيه، فقال: أصلح اللّه الامير أنّ أبي زوج ابنتي بغير أذني، فقال زياد لجلسائه الذين عنده: ما تقولون فيما يقول الرجل؟ فقالوا:، نكاحه باطل، قال: ثم أقبل عليّ فقال ما تقول يا أبا عبد اللّه؟ فلما سألني أقبلت على الذين أجابوه فقلت: نعم، أ ليس فيما تروون أنتم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن رجلا جاء يستعديه على أبيه في مثل هذا، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنت و

مالك لأبيك؟ قالوا: بلى، فقلت: فكيف يكون هذا و ماله لأبيه و لا يجوز نكاحه؟» «5».

و ما رواه سعيد بن يسار قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام الرجل يحج من مال ابنه و هو صغير؟ قال: نعم يحج منه حجة الإسلام، قلت: و ينفق منه؟ قال: نعم ثم قال: إنّ مال انوار الفقاهة، ج 1، ص: 400

الولد لوالده، أن رجلا اختصم هو و والده إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله، فقضى أنّ المال و الولد للوالد» «1».

و الروايات في هذا المعنى مروية من طريق العامة أيضا، مثل ما رواه أحمد في مسنده:

«أنّ أعرابيا أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال: إن لي مالا و والدا، و إن والدي يريد أن يجتاح (اجتاح أي افنى) مالي، فقال: أنت و مالك لوالدك، إن أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من كسب أولادكم» «2».

و قريب منه ما رواه هو أيضا عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أنت و مالك لوالدك، إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، و أن أموال أولادكم من كسبكم فكلوه هنيئا» «3».

و التحقيق في مفاد هذه الروايات أن يقال: إمّا هي محمولة على حكم اخلاقي و هو أنّه لا ينبغي للولد أن يماكس في حق والده، و أن يكون بنفسه و بماله في اختياره كما يساعد عليه الاستدلال الإمام الرضا عليه السّلام في ما رواه محمد بن سنان أن الرضا عليه السّلام كتب إليه فيما كتب من جواب مسألة: و علة تحليل مال الولد لوالده بغير أذنه و ليس ذلك للولد، لأنّ الولد موهوب للوالد في قوله عزّ و جل: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ «4».

و ممّا يلوح منه آثار

الاستحباب هو الاستيناس للحكم ببعض الاشارات الواردة في القرآن الكريم، لوضوح أنّ التعبير بقوله تعالى يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً ... إلى آخرها ليست الهبة التمليكية، و كذلك قوله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ في ذيل الرواية و هذه تعبيرات تناسب ذلك الحكم الاستحبابي الاخلاقي لا غير.

أو يحتمل على الضرورة و الحاجة، فيدخل في مسألة نفقة الأب في مال الابن (كما يشهد له رواية 2 و 6 و 8 من الباب 78 من أبواب ما يكتسب به من، ج 12).

أمّا رواية سعيد بن يسار فقد حملها بعضهم على جواز الاقتراض من مال الولد أو على انوار الفقاهة، ج 1، ص: 401

كون نفقة السفر مثل نفقة الحضر مع كون الأب محتاجا.

و قد صرّح المحققون بأنّ المشهور بين الأصحاب عدم الجواز، و ذكر الشيخ قدّس سرّه في ا لخلاف عن أهل الخلاف منعهم عنه جميعا «1»، و لعل الأرجح بحسب القواعد أيضا تقديم روايات المنع لموافقتها للكتاب و السنة مع معارضتها بقول المشهور.

و بالجملة لا يمكن رفع اليد عن الاصول الثابتة في الشرع من عدم جواز التصرف في مال الغير إلّا بإذنه بمثل هذه الروايات التي يمكن حملها على وجوه شتى و فيها قرائن على هذه المحامل فتدبّر جيدا.

و خلاصة القول فيها أنّ اللام في «أنت و مالك لأبيك» لا يمكن حملها على الملكية، لعدم كون الولد رقا لأبيه بالضرورة، فلا بدّ أن يحمل إمّا على السلطنة و جواز الانتفاع، و حينئذ نقول إنّ حملناها على الحكم الأخلاقي كما يكون دارجا في كلمات أهل العرف أيضا حيث يقول بعض الأحبة لبعض آخر: أنا عبدك و العبد و ما في يده لمولاه، أو على جواز أخذ مقدار النفقة عند الحاجة و شبه

ذلك فلا كلام.

و إلّا كانت الروايات متعارضة من الجانبين، و لا ينبغي الشك في ترجيح الروايات المانعة عند تعارضها لمرجحات شتى، من موافقة كتاب اللّه و السنة، و الاصول المستفادة منها، و موافقة الشهرة، و أمّا مجرّد مخالفة العامة في الروايات الجواز فلا يقاوم لما مرّ كما هو ظاهر.

بقي هنا امور:
1- هل يعتبر في تصرفاتهما رعاية الغبطة و المصلحة؟

أو يكفي عدم المضرة، أو يجوز و لو مع الضرر؟

المعروف بين الأصحاب بل أدعى الإجماع عليه اعتبار المصلحة، و مراعاة حفظ

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 402

الصبي، و لكن صرح شيخنا الأعظم قدّس سرّه بكفاية عدم المفسدة، وفاقا لجمع من الاساطين، و يظهر من بعض الروايات السابقة جواز المضرة أيضا.

قلت: أمّا احتمال جواز التصرف و لو مع الضرر على الولد فهو مبني على ما عرفت من القول بكون الولد و ماله للوالد، و قد عرفت عدم إمكان المساعدة معها، و أنّه حكم استحبابي أخلاقي، أو محمول على حال الضرورة و الحاجة التي يجوز فيها للأب أخذ نفقته من مال ولده.

فيبقي القولان الأولان، و الظاهر أنّ مقتضى القاعدة عدم جواز التصرف في غير مورد المصلحة، لأن الأصل عدم الولاية، مضافا إلى ما قد عرفت من أنّ أصل هذا الحكم مأخوذ من بناء العقلاء و إمضاء الشارع، و من المعلوم أنّ ملاكه عندهم حفظ مصالح الولد، لا مصالح الأب و الجد، فكل ما ليس لا يكون في مصلحة فهو غير نافذ، نعم قد اجيز للناظر في أموال اليتامى أن يأكل منه بالمعروف (كما يظهر من الآية و الروايات) ففي الأب بطريق أولى.

لكن الظاهر أنّه أيضا من باب حفظ مصلحة اليتيم لئلا يكون عمل القائم بأمره خاليا عن العوض فيرغب عن حفظ أمواله، و لعل ما ورد من جواز الاستقراض من

مال اليتيم أو الاتّجار بماله أيضا من هذا الباب «1». و من هنا يظهر أنّ الأخذ باطلاق روايات الولاية لإثبات جواز التصرف بغير مفسدة كما يظهر من بعض كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه في غير محله بعد انصرافها إلى ما عند العقلاء و بالجملة لو لم يكن هذا الشرط أقوى فلا أقل من أنّه أحوط.

و قد يستدل له أيضا بقوله تعالى: وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ*

«2». لأنّها تشمل الجدّ إذا كان الطفل يتيما، و لكن النسبة بينها و بين روايات الباب بناء على اطلاقها عموم من وجه، و لعل الترجيح مع الاطلاق، فتأمل.

و يدلّ على أصل الحكم أيضا اطلاق ما ورد في باب الحجر، مثل:

و ما روى هشام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «انقطاع يتم اليتيم بالاحتلام و هو أشده، و إن احتلم و لم يؤنس منه رشده و كان سفيها أو ضعيفا فليمسك عنه وليّه ماله» «3».

2- هل تعتبر العدالة في الولي؟

مقتضى الأصل اعتباره خلافا لما أفاده في المكاسب، لأنّ الأصل عدم ولاية أحد على أحد، و لكن اطلاق بعض ما مرّ من الأحاديث السابقة كأحاديث الوصية الظاهرة في عدم اعتبار العدالة في الوصي، و كذا الموصي، و غير ذلك ممّا مرّ ذكره، دليل على المقصود، مضافا إلى ما عرفت من أنّ أصل الحكم مأخوذ من سيرة العقلاء التي أمضاها الشرع، و من الواضح أنّهم لا يعتبرون العدالة في حقّه.

و عدم اعتبار العدالة في الوصي الذي هو فرع وجود الموصي أيضا شاهد عليه و الظاهر أنّ سيرة أهل الشرع أيضا مستقرة على ذلك لأنّهم لا يمنعون الآباء عن التصرف في أموال أولادهم بمجرّد صدور بعض المعاصي عنهم.

و استدل المحقق النائيني قدّس سرّه

أيضا بما روى هشام في الحديث الأوّل من باب الأوّل من كتاب الحجر و لكن الظاهر أنّه في مقام بيان حكم آخر، و هو حدّ البلوغ، فهو أجنبي عمّا نحن بصدده.

و استدل للقول بعدم الجواز تارة بحكمة الصانع و أنّه لا يجعل الفاسق أمينا يقبل اقراراته و اخباراته عن غيره، و اخرى بنص القرآن الكريم على خلافه (كما عن الايضاح).

و يردّ الأوّل أنّه يمكن كون الفاسق أمينا من جهة الأموال كما هو الغالب في الآباء بالنسبة إلى أولادهم.

و الثاني بأنّه لو كان المراد من نص القرآن آية الركون إلى الظالمين، فالظاهر أنّ المراد منه الركون إليهم في ظلمهم، فلا يشمل المقام، مضافا إلى أنّ الأقرب في النظر أن يكون المراد آية النبأ بقرينة قوله: «يقبل اقراراته و اخباراته عن غير».

و الجواب عنه حينئذ إن تعطيل الآية لا تشمل الثقة، و ظهور التعليل مقدم، مع أنّ الكلام ليس في الاقرارات و الأخبارات بل في نفس التصرفات.

و كذا يمكن أن يكون المراد آية النهي عن إيتاء السفهاء الأموال «1» بقرينة الروايات انوار الفقاهة، ج 1، ص: 404

المتعددة الواردة في تفسيرها من أنّ «شارب الخمر» أو «من لا تثق به» فاسق.

و الجواب عنه أنّه لا يستفاد منها سوى الوثوق لو قلنا به، هذا و لو كان الأب مفسدا لأموال الطفل وجب على الحاكم منعه لولايته العامة كما هو ظاهر.

ثم أنّه ذكر بعضهم أنّه لا تظهر ثمرة عملية لاعتبار هذا الشرط، بناء على اعتبار رعاية المصلحة أو عدم المفسدة إلّا بناء على اعتبار العدالة موضوعيا كما في إمام الجماعة.

و لكن تظهر الثمرة في منع الحاكم عنه إذا لم تعلم المصلحة.

و قد يقال بمنع ولاية الوالد الكافر على الولد المسلم، لكونه

تابعا لأمه المسلمة «و لن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا و ليس ببعيد».

3- هل أنّ ولاية الأب و الجدّ في عرض واحد؟

لا إشكال في ولاية الجدّ في الجملة، و يدل عليه غير واحد ممّا سبق، و المعروف أنّه في عرض الأب و لكنه غير ظاهر إن كان الأصل في الحكم سيرة العقلاء، و الأولوية في الارث مؤيدة للإشكال.

نعم يظهر من الروايات الواردة في أبواب النكاح (الباب 11 من أبواب عقد النكاح من، ج 14) أنّ الأب و الجد في عرض واحد، فأيّهما سبق في النكاح كان عقده صحيحا، بل يظهر من غير واحد منها أولوية الجد إذا هوى أبوها أحدا و هوى جدها شخصا آخر.

و لكن قد عرفت أنّ التعدي منها إلى البيع لا يخلو عن أشكال، فالأحوط عدم تصرف الجد مع وجوب الأب إلّا بإذنه، و أمّا إذا فقد الأب فقد يقال بأن الجد القريب أولى كما في الارث لآية «أولى الارحام»، و لكن ذكرنا في محله مستوفى أنّ الآية لا دلالة لها على الأولوية من هذه الناحية فراجع ما ذكرناه في أبواب الارث و في تفسيرنا (تفسير الأمثل) و الحمد اللّه.

[الثالث ولاية الفقيه و وظائفه
اشارة

لما وصل البحث في كتاب البيع إلى هنا (أولياء عقد البيع) طلب مني كثير من الاخوة التكلم في مسألة ولاية الفقيه بشي ء من التفصيل، فأجبت دعوتهم لكون المسألة ممّا تعم بها البلوى، لا سيما اليوم، بل البلوى بها أشدّ من كثير من المسائل الفرعية لابتناء الحكومة الإسلامية عليها فنقول و نستمد من اللّه تبارك و تعالى التوفيق و الهداية إلى ما يرضاه و يرضى رسوله و الائمة الهادون من أهل بيته عليهم السّلام:

المقام الاول: مناصب الفقيه
اشارة

إنّما عبّرنا بهذا العنوان (مناصب الفقيه ...) بدلا عمّا هو المعروف من مسألة ولاية الفقيه، لكونه أعم و أتم كما سيظهر لك في مطاوي البحث، و اعلم أنّ له مناصب مختلفة:

المنصب الأوّل: منصب الافتاء
اشارة

قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه:

للفقيه الجامع للشرائط مناصب ثلاثة، أحدها: الافتاء فيما يحتاج إليها العامي في عمله، و مورده المسائل الفرعية و الموضوعات الاستنباطية من حيث ترتب حكم شرعي عليها.

أقول: الافتاء كما أنّه من مناصب الفقيه فانّه من وظائفه أيضا، و بجب عليه وجوبا كفائيا، و للعوام أنّ يقلدوه، و لا بأس بالإشارة إلى دليل جواز التقليد هنا إجمالا و إن كان شرحه موكولا إلى محله.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 406

و العمدة فيه قبل الآيات و الروايات سيرة العقلاء عموما، و سيرة أهل الشرع خصوصا في رجوع الجاهل إلى العالم، و الأولى حجة بعد إمضاء الشرع و لو بعدم الردع، و الثانية حجة من دون حاجة إلى أمر آخر.

أمّا الأولى فهي ظاهرة لمن نظر في امور العقلاء، لأنّ المتداول بينهم من قديم الأيّام إلى حديثه، و من أرباب الديانات إلى غيرهم، رجوع كل جاهل في علم و فن إلى عالمه، لا تجد له نكيرا و لا تسمع فيه خلافا.

و السّر فيه أن العلوم و الفنون كثيرة، متشعبة بشعب مختلفة، لا يقدر كل إنسان- أي إنسان كان- على الاجتهاد في جميعها، بل و لا في عشر من أعشارها، و لذا قد يكون مجتهدا في علم أو علمين، في فن أو فنين دون غيرها، فالطريق له هو الأخذ بقول من هو مجتهد فيها، فالمهندس يرجع إلى الطبيب إذا مرض، كما أن الطبيب يرجع إليه إذا أراد بناء بيت أو مستشفى، و لا يستغني واحد منهما

عن الآخر، و كذا أرباب الحرف و الصنائع و العلوم، و هذا أمر واضح.

و أمّا العمل بالاحتياط فغير ممكن إلّا لبعض الاوحدي من أهل الفضل، و لا في جميع المسائل، فانّ الأمر في بعضها يدور بين المحذورين لا بدّ من الاجتهاد فيها، كما إذا نذر الصوم في السفر لا يدري أنّه صحيح حتى يكون واجبا أو باطل حتى يكون حراما، و كذا إذا حكم الحاكم بأن اليوم يوم عيد، فانّ قلنا باعتبار حكم الحاكم في الهلال فيحرم عليه الصيام، و إلّا فيجب عليه إلى غير ذلك من اشباهه.

و ما قد يقال- كما قال به شرذمة قليلة- من أنّ التقليد حرام و أنّه يمكن لجميع الناس الرجوع إلى كتاب اللّه و كتب الحديث و أخذ الأحكام فيها و العمل بها، فاسد جدّا، لا يمكن التفوه به إلّا من غافل عن كيفية استنباط الأحكام من الكتاب و السنة، فانّه يحتاج إلى معرفة اللغة و العلوم الأدبية و التفسير و الحديث و الرجال و علم الاصول و غير ذلك، و معرفة الناسخ من المنسوخ، و الحاكم من المحكوم، و العام من الخاص، و المطلق من المقيد، و معرفة أحكام المتعارضين، و طريق الجمع بينهما، و كيف يقدر جميع الناس على ذلك، حتى إذا فرضنا اقبالهم على الفقه و ترك جميع التجارات و الزراعات و الصنائع و الحرف، الذي ينتهى إلى انوار الفقاهة، ج 1، ص: 407

اختلال النظام، لعدم استعداد جميعهم لذلك، حتى أنا نرى في بعض الحوزات العلمية اناسا يدرسون أكثر من عشرين سنة لا يقدرون على الاجتهاد و لو في مسألة واحدة مهمّة فقهية، فكيف بغيرهم، و الحق أنّ الاجتهاد أشد من طول الجهاد كما أشار إليه شيخنا

الأعظم الأنصاري قدّس سرّه في بعض كلماته.

و هل يقدر جميع الناس إذا مرضوا بأمراض مختلفة أن يراجعوا بأنفسهم الكتب الطبية و يعملون بها؟ و كذا إذا أرادوا بناء دار أو مدرسة أو سوق أو غيرها يطالعون كتب الهندسة و يستغنون بها عن مراجعة أهل الخبرة، و هذا أمر واضح ظاهر.

و أمّا سيرة أهل الشرع: فقد استقرت من زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله على رجوع الناس في المسائل الشرعية إلى فقهاء الامة فكان صلّى اللّه عليه و آله إذا فتح بلدا أرسل إليه أميرا و قاضيا فالأمير لنظم البلد، و القاضي للفتوى القضاء، و لم يكن القضاء في تلك الأيّام أمرا مستقلا عن الافتاء، فإذا جهلوا بالحكم سألوه عنه، و إذا اختلفوا و تنازعوا في الحقوق رجعوا إليه للقضاء بينهم.

و قد كان بعضهم جامعا بين مقام الامارة و الفتوى و إن كان هذا قليلا بينهم، و من هنا يتّضح حال مقبولة عمر بن حنظلة و أنّه لا عجب لو كان صدره في القضاء و ذيله في الافتاء.

ثم أنّه لما اتسع نطاق الفقه و العلم انفصل مقام القضاء عن الافتاء، فقد كان هناك فقهاء عارفون بالأحكام يراجعهم الناس في كل بلد و إن لم يكونوا من القضاة فقد قال الصادق عليه السّلام- كما في الحديث- لبعض أصحابه: أحب أن تجلس في مسجد المدينة و تفتي الناس.

نعم الاجتهاد في تلك الأعصار كان بسيطا جدّا بالنسبة إلى عصرنا حيث يكفيه معرفة اللغة و معرفة الحديث و الرواية و حكم التعارض بين الأحاديث و شبه ذلك.

و ما قد يتوهّم من أن الاجتهاد و الاستنباط لم يكن في تلك الأيّام بل كانوا يكتفون بنقل الأحاديث المأثورة باطل جدّا، لأنّ

الأحاديث قد كانت متعارضة، و كلمات أهل اللغة في تفسير بعض الآيات كانت متضاربة، إلى غير ذلك ممّا يحتاج إليه في الاحاطة بمسائل الاصول و الفقه و اللغة و غيرها و من ينكره إنّما ينكره باللسان و قلبه مطمئن بالإيمان.

هذا كلّه بالنسبة إلى الأحكام.

أمّا الموضوعات: فالحق فيها على أقسام ثلاثة:

1- الموضوعات المستنبطة:

كالمركبات الشرعية مثل الصلاة الصيام و الحج التي تستفاد أجزائها و شرائطها و موانعها، و قد حقق في الحقيقة البحث عن هذه الموضوعات يعود إلى البحث عن أحكام الشرعية الواردة في مواردها من الأمر و النهي، لا أنّها مجعولة بذاتها، فالتقليد فيها تقليد في الأحكام واقعا.

2- الموضوعات العرفية غير المستنبطة:

و هي على قسمين: قسم منها ظاهرة واضحة يقدر المقلد على معرفتها كالماء المطلق و المضاف و الدم و البول و أشباهها، و لا شك أنّ معرفة حالها بيد المقلد الذي هو من أهل العرف، و حتى لو خالف علمه علم المرجع و المفتي يعمل بعمله، و لا يعتني بقوله، و الوجه فيه أنّه لا فرق في ذلك بينه و بين مرجعه، فإذا خالفه في علمه بالموضوع لزمه العمل بعلم نفسه فقط.

و قسم آخر الموضوعات العرفية الخفية ممّا تحتاج في فهمها و فهم مصاديقها إلى دقّة النظر، و سلامة الذوق، و الممارسة و الإحاطة بهذه الامور، فهذا أيضا يرجع المقلد فيه إلى مجتهده، و كثير من المسائل الفرعية في الكتب الفقهية و الرسائل العملية من هذا القبيل، فليس فيها كشفا لحكم شرعي، و استنباطا من الأدلة الشرعية بل يكون من قبيل تطبيق الكلي على أفراده و تعيين الموضوعات الخفية، و لو لم يجز التقليد في أمثالها كان ذكر هذه الفرع في الرسائل العملية لغوا بل اغراء بالجهل.

مثلا ورد غير واحد من الأحاديث أن السجود جائز على الأرض و ما أنبتت الأرض إلّا ما أكل و لبس «1».

و الحكم مطلق و اللفظ عام شامل و مفهومه ظاهر، و لكن مع ذلك فقد وقع الشك في شمولها لبعض الأمر كقشر الفواكه و الأدوية و العقاقير و الشاي قبل أن يطبخ و

ما يكون انوار الفقاهة، ج 1، ص: 409

مأكولا في بلد دون بلد، أو ملبوسا كذلك، و كذا في ما ليس كذلك بالفعل و لكن يكون مأكولا أو ملبوسا بالقوة، إلى غير ذلك من الفروع الكثيرة التي أوردوها في الكتب، و لا يقدر العامي على استنباط أحكامها، فعلى الفقيه ملاحظة حال هذه الفروع و صدق هذين العنوانين عليها و عدمه، فان غالب العوام غير قادرين على الدقة في هذه الامور، و لكن الفقيه لمزاولته هذه الفروع و أمثالها قادر على استجلاء حقيقة هذه الامور من أعماق أذهان أهل العرف و ردّها إليهم، و لا عجب في ذلك، فتدبّر جيدا.

و كذلك لا شك أنّ مسافة القصر ثمانية فراسخ كما دلت عليه النصوص، و لكن في صدقها على الثمانية الدورية أو المرتفع في الجو أو في أعماق الأرض غموضا يتصدى لرفعه الفقيه.

و كذا يظهر من بعض الروايات كفاية المحاذاة للمواقيت و قد أفتى به الأصحاب، و لكن وقع الكلام في أنّ المواقيت الخمسة (مسجد الشجرة و الجحفة و قرن المنازل و يلملم و العقيق) محيطة بالحرم بحيث ينتهى كل طريق إلى أحدها، أو ما يحاذيها، أو لا تكون كذلك، حتى يقع الكلام في حكم مثل هذا الشخص و أنّه هل يجب عليه الاحرام من أدنى الحل أو غيرها؟ فهذه و إن كان من الموضوعات الخارجية و لكن إدراكها لأكثر العوام مشكل، فعلى الفقيه بذل الجهد فيها و لو بالرجوع إلى أهل الخبرة ثم الفتوى بما تقتضيه الأدلة بعد احراز الموضوع، إلى غير ذلك ممّا هو كثير.

بقي هنا شي ء:

و هو أنّه هل الافتاء للفقيه من المناصب أو من الأحكام؟ كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه صريح أنّه من المناصب كالقضاء و الولاية،

و لازمه أن يكون موكولا إلى نصب ولي الأمر و لكن لا دليل عليه بل ظاهر الآيات مثل آية الذكر و غيرها و الروايات الكثيرة مثل قوله «فللعوام أن يقلدوه» و غيرها كونه حكما، فالجاهل في جميع الحرف و الصنائع و العلوم يرجع إلى العلماء فيها من دون حاجة إلى نصبهم لهذا المنصب من طريق الحكومة، و كذلك في أحكام الدين.

المنصب الثاني: القضاء و الحكم بين الناس
اشارة

فهذا أيضا من مناصب الفقيه و وظائفه الواجبة عليه كفاية، و قد يكون واجبا عينيا، و لا بأس بأن نشير إلى دليله إجمالا و إن كان الكلام فيه مستوفي موكول إلى محله من كتاب القضاء.

فنقول أنّه ثابت له عقلا و نقلا.

أمّا العقل: فلأنّ وقوع المنازعة و الخصومة في الجوامع البشرية ممّا لا يمكن التجنب عنه ما لم تصل إلى مستوى عال من الإيمان و التقوى و الثقافة العالية الدينية و لا بدّ حينئذ من طريق إلى فصلها، كي لا يتسع نطاقها و يذهب بالنظام كلها و يقع الهرج و المرج و إراقة الدماء و غيرها، فيجب التصدي لفصل الخصومات و الحكم بين الناس لجماعة من العلماء وجوبا كفائيا، و أحق الناس به و أولاهم بل القدر المتيقن من بينهم هو الفقيه الجامع للشرائط، العالم بأحكام الإسلام، و شرائط القضاء و الحقوق الواجبة لكل أحد كما لا يخفى، فانّه الذي يرجى منه تحقيق هذا الأمر المهم لا غيره.

و أمّا النقل: فالمعروف بين الأصحاب بل حكي الإجماع عليه عدم جواز التصدي للحكم لغير المجتهد الجامع لشرائط الافتاء و إن كان عالما بالأحكام و الحقوق و الحدود و أحكام القضاء و شرائطه من طريق التقليد، و هذا يكشف عن وجود نص وصل إليهم و لكن خالف فيه

شاذ من الفقهاء الأعلام (رضوان اللّه عليهم) منهم صاحب الجواهر و قد يستظهر من اطلاق الآيات الواردة في هذا الشأن مثل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ و غيرها من أشباهها، اللّهم إلّا أن يقال إنّها ليست في مقام البيان من هذه الجهة.

و بالنصوص الدالة على أن القضاء أربعة: منهم رجل قضى بالحق و هو يعلم و هو في الجنة «1» و ما أشبهها، فالمدار على الحكم بالحق سواء كان من ناحية التقليد أو الاجتهاد.

و بالسيرة من عصره صلّى اللّه عليه و آله إلى ما بعده فلم يكن جميع القضاة المنصوبين من قبلهم عليهم السّلام انوار الفقاهة، ج 1، ص: 411

بالغين مرتبة الاجتهاد في كثير من الأوقات.

و بما يظهر من رواية أبي خديجة لظهور قوله «يعلم شيئا من قضايانا» في الأعم من المجتهد المطلق «1».

و تحقيق الكلام في ذلك موكول إلى محله و لكن الذي يجب التصريح به هنا أن معنى جواز التصدي لهذا المقام لغير المجتهد ليس معناه جوازه لكل مقلد، بل اللازم العلم بجميع المسائل التي يتصدى للقضاء فيها من الحقوق، و الحدود و شرائطها، و فروعها، و العلم بجميع أحكام القضاء، و آدابه، لا يحصل ذلك إلّا لمقلد يكون تاليا للمجتهد و قريبا منه، و على كل حال ثبوت هذا المنصب للفقيه ممّا لا ريب فيه، و أمّا الزائد عنه فهو خارج عما نحن بصدده.

بقي هنا شي ء:

لا ينبغي الشك في أنّ القضاء من المناصب لا يجوز التصدي له إلّا بعد النصب له عموما أو خصوصا، و يدل عليه:

أولا: أنّه كذلك بين جميع الامم بل هو جزء من ولاية الحاكم، و شأن من

شئونه، و لا يزال ينصب القاضي من قبل رؤساء الحكومات و ولاة الامور، و السر فيه أنّهم متصدون لنظام البلاد الذي لا يتمّ إلّا بحسن القضاء بين الناس.

مضافا إلى أنّ أحكام القضاة لا تنفذ إلّا بقوة قهرية تجبر الظالم على أداء حق المظلوم، و هذا لا يتحقق إلّا إذا كان القاضي معتمدا على قوة السلطان، لأنّ الناس لا يقومون بالقسط إلّا بالحديد أحيانا، و لذا أنزله اللّه بعد انزال الكتاب و الميزان.

و ثانيا: وقع التصريح بذلك في مقبولة عمر بن حنظله في قوله عليه السّلام: «فانّي قد جعلته حاكما» «2» و قوله «فانّي قد جعلته قاضيا» في رواية أبي خديجة «3» فانّها ظاهرة بل صريحة في حاجته إلى الجعل و أنّه من المناصب الإلهية التي أمرها بيد ولى الأمر.

هذا مضافا إلى أنّ المسألة مجمع عليها بين الأصحاب، فقد اجمعوا على أنّه يشترط في ولاية القضاء إذن الإمام عليه السّلام أو من فوض إليه الإمام عليه السّلام و قد جعلوه لكل مجتهد عادل في انوار الفقاهة، ج 1، ص: 412

عصر الغيبة كما يدل عليه ما مرّ آنفا.

نعم لا يشترط ذلك في قاضي التحكيم، و هو من تراضى الخصمان بالترافع إليه و الحكم بينهما فانّ المشهور بل أدعى الإجماع عليه أنّه لا يشترط فيه النصب من قبل الإمام عليه السّلام و الكلام فيه في محله.

المنصب الثالث: الولاية
اشارة

أعني ولاية الفقيه على التصرف بأنواع التصرفات، و هي في الجملة ممّا لا ريب فيه و لا شبهة تعتريه، إنّما الكلام في حدودها و شروطها، و قد ذكر المحقق النائيني قدّس سرّه في منية الطالب أنّ للولاية مراتب ثلاثة:

«أحدها» و هي المرتبة العليا مختصة بالنبي و أوصيائه الطاهرين (صلوات اللّه عليهم أجمعين) و

غير قابلة للتفويض إلى أحد، و اثنان منها قابلتان للتفويض.

أمّا غير القابلة فهي كونهم عليهم السّلام أولى بالمؤمنين من أنفسهم بمقتضى الآية الشريفة النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، و هذه المرتبة غير قابلة للسرقة و لا يمكن أن يتقمص بها من لا يليق بها.

و أمّا القابلة للتفويض فقسم منها يرجع إلى الامور السياسية التي يرجع إلى نظم البلاد و انتظام امور العباد و سد الثغور و الجهاد مع الاعداء و الدفاع عنهم و نحو ذلك ممّا يرجع إلى وظيفة الولاة و الامراء، و قسم يرجع إلى الافتاء و القضاء و ... (انتهى محل الحاجة) «1».

و تبعه في هذه التقسيم جامع المدارك «2».

و الانصاف أنّ مراتب الولاية العامة أكثر من ذلك لكل منها محل خاص في الفقه، و يمكن إنهائها إلى سبع مراتب، بعضها أقوى من بعض لا بدّ من ذكرها ثم تحقيق حالها بحسب الأدلة و كلمات الفقهاء الأعلام (رضوان اللّه عليهم).

المراتب السبعة في ولاية الفقيه:

1- الولاية على أموال القصّر و الغيّب من الصغار الذين لا ولي لهم من الأب و الجدّ و الوصي و بعض المجانين و السفهاء، أي من لا يتصل جنونهم و سفههم بالصغر على قول مشهور، بل و كذلك من يتصل على احتمال، و كذا الغائبين الذين تكون أموالهم في خطر لا بدّ من حفظها حسبة، و شبه ذلك من الأوقاف الخاصة.

2- الولاية على أخذ الأخماس و الزكوات و الأوقاف العامة و صرفها في مصارفها على ما ذكروها في أبواب الخمس و الزكاة.

3- الولاية على إجراء الحدود الخارجة عن منصب القضاء.

4- الولاية على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فيها يتوقف على ضرب أو جرح أو قتل أحيانا، فقد ذكروا في كتاب الأمر بالمعروف

أنّ له مراحل، فما لم يبلغ إلى هذا الحد كان من وظائف عموم المؤمنين، و إذا بلغ هذا المبلغ لم يجز إلّا بنظر الحاكم.

5- الولاية على الحكومة و السياسة، من نظم البلاد و حفظ الثغور و الدفاع في مقابل الاعداء و كل ما يرتبط بنظام المجتمع و المصالح العامة التي يتوقف عليها، و سيأتي أنّها هي العمدة في عصرنا هذا في أمر الحكومة الإسلامية.

6- الولاية على الأموال و النفوس مطلقا و لو كان خارجا عمّا يحتاج إليه للمراحل السابقة.

7- الولاية على التشريع بأن يكون له حق وضح القوانين و تشريعها بحسب ما يراه من المصالح.

كل ذلك ممّا لا بدّ من البحث فيه لمعرفة ما يثبت منه بحسب الأدلة القاطعة المذكورة في أبوابها.

و قد تعرض الأصحاب لهذه المسألة تارة في كتاب البيع:، و اخرى في كتاب القضاء، و ثالثة في الزكاة و الخمس، و رابعة في الحجر، و خامسة في الأمر بالمعروف و سادسة في الجهاد، و سابعة في كتاب الحدود و غيرها.

ثم نتكلم في شرائط التصدى للولاية و كيفية حكم الفقيه و موقفه من العناوين «الاولية»

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 414

و «الثانوية» و موقف الناس و آحاد المؤمنين من أمر الحكومة و كيفية مشاركتهم مع الفقيه و حكم تعدد الفقهاء، و غير ذلك ممّا هو مهم في هذا الباب.

هذا و اللازم على القارئ أن لا يحكم بشي ء باتا في هذه المراتب، حتى يتمّ أمر الجميع فانّها مرتبطة بعضها ببعض دليلا و حجة، و العجلة ليست من شأن المؤمن العالم.

نظرة إجمالية إلى كلمات القوم في مسألة ولاية الفقيه:

و لا بأس هنا بالإشارة إلى بعض ما ذكره الأعلام هنا على سبيل الإجمال، ثم بيان حال كل مرتبة من المراتب السبعة.

1- قال صاحب الجواهر قدّس سرّه

أعلى اللّه مقامه الشريف في كتاب البيع عند البحث عن ولاية الحاكم و أمينه على القصّر و الغيّب ما نصه:

«لا يمكن استقصاء أفراد ولاية الحاكم و أمينه، لأنّ التحقيق عمومها في كل ما احتج فيه إلى ولاية في مال أو غيره اذ هو ولي من لا ولي له» «1».

هذا الكلام بقرينة التعليل ناظر إلى «الغيب» و «القصر» و أمثالهم من «الممتنع» و «العاجز» و مراده من العموم في كل ما احتيج فيه إلى الولاية عمومه لما ذكره في كلامه من أنّ الحاكم و أمينه يليان كل ممتنع أو عاجز عن عقد أو ايقاع أو تسليم حق و في الحقوق الإلهية كالنذر و العهد و اليمين وجه، و ما أشبه ذلك.

2- و قال قدّس سرّه في كتاب الخمس بعد نقل كلام العلّامة المجلسي قدّس سرّه أنّه لا تبرأ ذمة المديون بالخمس بدفع حصة الإمام عليه السّلام بنفسه، بل يجب دفعها إلى الحاكم على رأي أكثر العلماء، أنّه يمكن الفرق بين زمان الحضور و الغيبة، بأن يقال أنّه لا ولاية للإمام عليه السّلام في حال الغيبة حتى يتولاها الفقيه نيابة عنه، و فيه بحث، ثم قال ما نصه: «على أنّ ذلك لو سلم لا يجدي في ما نحن فيه من دعوى عموم ولاية الحاكم حتى لمثل المقام، الموقوفة على دليل، و ليس، و لكن انوار الفقاهة، ج 1، ص: 415

ظاهر الأصحاب عملا و فتوى في سائر الأبواب عمومها بل أصله من المسلمات أو الضروريات عندهم» «1».

و حاصل كلامه قدّس سرّه أنّه استشكل في ولاية الحاكم على الخمس في زمن الغيبة تارة بأن الكلام في أصل ولاية الإمام عليه السّلام حينئذ، و الظاهر أنّه لعدم حضوره و عدم تصرفه

بالفعل و عدم إمكانه عملا، فاستشكل فيه بقوله: فيه بحث.

ثم نقل الكلام إلى الحاكم ثانيا و أنّه لا دليل على عموم ولايته لمثل الخمس.

فاجاب: بأنّ ظاهر الأصحاب في سائر الأبواب عمومها لمثل المقام، و من الواضح أنّ غاية ما يستفاد منها عموم ولاية الفقيه لمثل أخذ الخمس و أشباهه و نظائره، و أمّا استفاد أكثر من هذا من كلامه فغير واضح كما لا يخفي.

و الظاهر أنّ مسألة ولاية الفقيه على أمر السياسة و الحكومة أظهر من أن يحتاج إلى التشبث بهذه العبارات التي لا تستهدف هذه الامور.

3- و قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه بعد تقسيم الولاية على قسمين: الولاية المستقلة، أي تصرف الولي بنفسه، و غير المستقلة، أي كون تصرف غيره منوطا بإذنه، ما ملخصه: إن القسم الأوّل ثابت للنبي صلّى اللّه عليه و آله و الأئمة المعصومين من ذريته عليهم السّلام بالأدلة الأربعة، و كذا القسم الثاني ثابت لهم بمقتضى كونهم اولى الأمر، فلا يجوز لغيرهم إجراء الحدود و التعزيرات و إلزام الناس بالخروج عن الحقوق و غير ذلك إلّا باذنهم و استدل له أيضا بروايات.

ثم بيّن ضابطة هذه الامور التي يرجع فيها إليهم و أنّها الامور التي يرجع فيها كل قوم إلى رئيسهم.

هذا كله بالنسبة إليهم عليه السّلام، أمّا الفقيه فقد نفى ولايته في القسم الأوّل فلا يستقل هو بالتصرف لعدم قيام دليل عليه، ثم ذكر بعض الأدلة و أجاب عنها، و قال في آخر كلامه في هذا القسم: «و بالجملة فإقامة الدليل على وجوب طاعة الفقيه كالإمام عليه السّلام إلّا ما خرج بالدليل، دونه خرط القتاد».

ثم جرى في بحثه نحو المقام الثاني و صرّح بولاية الفقيه في المقام الثاني، و

أن انوار الفقاهة، ج 1، ص: 416

«المستفاد من مقبولة «عمر بن حنظلة» كونه كسائر الحكام المنصوبة في زمان النبي صلّى اللّه عليه و آله و الصحابة في إلزام الناس بارجاع الامور المذكورة إليه، و الانتهاء فيها إلى نظره بل المتبادر عرفا من نصب السلطان حاكما، وجوب الرجوع في الامور العامة المطلوبة للسلطان إليه» «1».

فالمتحصّل من كلامه قدّس سرّه أن المنفي في نظره الشريف قدّس سرّه ولاية الفقيه على أموال الناس و انفسهم على نحو العموم مثل الإمام المعصوم عليه السّلام، و أمّا ولايته فيما يتصدى له السلطان و الحاكم في الامور العامة التي يرجع إليه فهو ثابت له، فالامور التي لا يمكن إهمالها مثل إقامة النظم و العدل و الأخذ بالحقوق و حفظ الثغور و غير ذلك من أشباهها لا بدّ أن يرجع فيها إلى الفقيه، بل لو لم يكن هناك فقيه لا يجوز إهمالها و لا بدّ من قيام عدول المؤمنين بها، نعم استشكل في بعض مصاديقه.

و من العجب أنّه اشتهر في الألسن أن شيخنا الأعظم قدّس سرّه مخالف في مسألة ولاية الفقيه مع أنّه صرّح بولايته في ما هو محل الابتلاء من الولاية على نظم المجتمع و إحقاق الحقوق و حفظ الثغور و الدفاع.

نعم أنكر ولايته على الأموال و الأنفس بغير ذلك، و هو أمر آخر وراء مسألة الحكومة، بل الظاهر أن كلامه أوضح و اصرح من بعض عبارات الجواهر في هذا الباب.

نعم ذكر في آخر كلامه في المقام «أنّ غاية ما يستفاد من الأدلة هو ثبوت الولاية للفقيه في الامور التي تكون مشروعية ايجادها مفروغا عنها، بحيث لو فرض عدم وجود الفقيه كان على الناس القيام بها كفاية، فلا يجوز التمسك بها فيها

يشك في أصل مشروعيته» و لكن من الواضح أنّ هذا لا يضر بالمقصود في الامور الراجعة إلى حفظ نظام المجتمع، و إحقاق الحقوق و سد الثغور و الدفاع و غير ذلك من أشباهه، فان ذلك ممّا لا يمكن تركها على كل حال، بل لو لا وجود الفقيه يجب القيام بها و لو من عدول المؤمنين، و ما في بعض كلماته من الإشكال في المسألة لعله في بعض الخصوصيات، و إلّا فالذي يظهر من صدر كلامه و ذيله موافقته في ذلك و الحمد اللّه.

و المتحصل من كلامه امور:

1- لا ولاية للفقيه في جميع الامور التي تكون الولاية فيها للإمام المعصوم عليه السّلام، مثل كونه أولى بالأموال و النفوس.

2- ولايته ثابت في امور التي لا يمكن تعطيلها في غيبة الإمام عليه السّلام و ضابطه الامور الهامة التي تتعلق بإقامة النظم و العدل التي لا يمكن إهمالها على كل حال، و يرجع فيها إلى الحاكم و السلطان و غير ذلك ممّا لا يجوز التعطيل فيها.

3- إذا شك في بعض مصاديقه فلا بدّ من إثبات مشروعيته من دليل آخر، فان الحكم لا يثبت موضوعه.

4- و لصاحب الجواهر قدّس سرّه كلام آخر في كتاب الأمر بالمعروف عند البحث عن جواز إقامة الحدود للفقيه الذي ذهب إليه مشهور الفقهاء و أن تأمل فيه شاذ، قال بعد كلام طويل له في المسألة ما نصه:

«فمن الغريب وسوسة بعض الناس في ذلك، بل كأنّه ما ذاق من طعم الفقه شيئا، و لا فهم من لحن قولهم و رموزهم أمرا، و لا تأمل المراد من قولهم (إنّي جعلته عليكم حاكما و قاضيا و حجة و خليفة) و نحو ذلك ممّا يراد منه نظم زمان الغيبة لشيعتهم في كثير

من الامور الراجعة إليهم، و لذا جزم فيما سمعته في المراسم بتفويضهم عليه السّلام لهم في ذلك».

ثم قال: «نعم لم يأذنوا لهم في زمان الغيبة ببعض الامور التي يعلمون عدم حاجتهم إليهم كجهاد الدعوة المحتاج إلى سلطان و جيوش و أمراء و نحو ذلك، ممّا يعلمون قصور اليد فيها عن ذلك فيها عن ذلك و نحوه، و إلّا لظهرت دولة الحق كما أومأ إليه الصادق عليه السّلام بقوله: «لو أنّ لي عدد هذه الشويهات و كانت أربعين لخرجت».

ثم قال: «و بالجملة فالمسألة من الواضحات التي لا تحتاج إلى أدلة» انتهى «1».

و لا ينبغي الشك أن محل كلامه ولاية الفقيه على إجراء الحدود في عصر الغيبة كما صرّح به قبل ذلك و بعد هذه العبارات أيضا، و هذا هو الذي وقعت الوسوسة فيه من ناحية

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 418

البعض «1» و لكن تعبيراته و أدلته في المقام أوسع منه تشمل شيئا كثيرا ممّا يرتبط بأمر الحكومة الإسلامية.

و بالجملة يظهر من كلامه هذا تأييدا لولاية الفقهاء في أمر الحكومة في الجملة و إن لم يشمل كلامه جميع مواردها، لفرضه عدم حصولها و قصور اليد عنها، بل لعله ظاهر في أنّه إذا أمكنت الفرصة من إقامة الحكومة الإسلامية وجبت إقامتها.

5- و قال في موضع آخر من كتاب الجهاد عند البحث عن الجهاد الابتدائي «لا خلاف بيننا بل الإجماع بقسميه عليه في أنّه إنّما يجب على الوجه المزبور بشرط وجود الإمام عليه السّلام و بسط يده أو من نصه للجهاد ... بل في المسالك و غيرها عدم الاكتفاء بنائب الغيبة، فلا يجوز له توليه، بل في الرياض نفي علم الخلاف فيه، حاكيا له عن ظاهر المنتهى و صريح الغنية

إلّا من أحمد في الأوّل ...».

ثم قال في آخر كلامه: «و لكن إن تمّ الإجماع المزبور فذاك و إلّا أمكن المناقشة فيه بعموم ولاية الفقيه في زمن الغيبة الشاملة لذلك المعتضدة بعموم أدلة الجهاد فترجح على غيرها» «2».

و المتحصل من مجموع كلماته في كتاب «البيع» و «الخمس» و «الأمر بالمعروف» و «الجهاد» (هذه الكتب الأربعة) بعد ضم بعضها إلى بعض أن عموم ولاية الفقيه كان مفروغا عنه عنده في أمر الحكومة، و إن كان قد تأمل في عمومها و شمولها لجميع ما يرتبط بذلك نظرا إلى فرضه، قصور اليد عن تحقق الحكومة الإلهية قبل ظهوره (عجل اللّه فرجه الشريف) في الخارج فتأمل جيدا.

6- و أوضح من هذه كله ما ذكره النراقي قدّس سرّه في عوائده حيث قال في بعض كلماته في المسألة: «إن كلية ما للفقيه العادل تولّيه و له الولاية فيه أمران»:

«احدهما»: كلما كان للنبي صلّى اللّه عليه و آله و الإمام عليه السّلام الذين هم سلاطين الأنام و حصون الإسلام انوار الفقاهة، ج 1، ص: 419

فيه الولاية و كان لهم فللفقيه أيضا ذلك، إلّا ما أخرجه الدليل من إجماع أو نص أو غيرهما.

«ثانيهما»: إن كل فعل متعلق بامور العباد في دينهم أو ديناهم و لا بدّ من الإتيان به و لا مفرّ منه إمّا عقلا أو عادة من جهة توقف امور المعاد أو المعاش لواحد أو جماعة عليه، و إناطة انتظام امور الدين أو الدنيا أو شرعا من جهة ورود أمر به أو إجماع أو نفي ضرر أو اضرار أو عسر أو حرج أو فساد على مسلم، أو دليل آخر أو ورد الاذن فيه من الشارع و لم يجعل وظيفة لعين واحد أو جماعة

و لا لغير معين أي واحد لا بعينه، بل علم لابدية الإتيان به أو الاذن فيه و لم يعلم المأمور به و لا المأذون فيه، وظيفة الفقيه، و له التصرف فيه و الإتيان به» ثم أخذ في الاستدلال على كل واحد منها «1».

7- و قال سيدنا الاستاد العلّامة الفقيد البروجردى قدّس سرّه في كلام طويل له في المسألة بعد ذكر مقدمات نافعة ما نصه:

«و بالجملة كون الفقيه العادل منصوبا من قبل الأئمّة عليه السّلام لمثل تلك الامور العامة المهمّة التي يبتلي بها العامة ممّا لا إشكال فيه إجمالا بعد ما بيناه و لا نحتاج في إثباته إلى مقبولة عمر بن حنظلة غاية الأمر كونها أيضا من الشواهد فتدبّر» «2».

8- و قال العلّامة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء قدّس سرّه (شيخنا في الإجازة): إنّ الولاية على الشؤون العامة و ما يحتاج إليه نظام الهيئة الاجتماعية ...

ثم قال: «و بالجملة فالعقل و النقل يدلان على ولاية الفقيه الجامع على هذه الشؤون فانّها للإمام المعصوم أولا ثم للفقيه المجتهد ثانيا بالنيابة المجعولة بقوله عليه السّلام: «و هو حجتي عليكم و أنا حجة اللّه عليكم» «3».

9- و في الحدائق في كتاب النكاح ما يظهر منه مخالفته لولاية الفقيه فيما هو أهون من ذلك حيث قال: «أنّي لم أقف بعد التتبع في الأخبار على شي ء من هذه العمومات و الاطلاقات لا في النكاح و لا في المال و إن كان ذلك مشهورا في كلامهم و مسلما بينهم انوار الفقاهة، ج 1، ص: 420

و متداولا على رءوس أقلامهم (مشيرا إلى ما مر أو شبهه من كلمات القائلين بالولاية).

ثم قال بعد كلام به: و بالجملة فانّ عدّ الحاكم الشرعي في جملة الأولياء كما

ذكروا و إن كان مسلما بينهم و متفقا عليه عندهم إلّا أنّه خال عن الدليل من الأخبار نعم يمكن تخصيص ذلك بالإمام عليه السّلام من حيث الولاية العامة و أنّه أولى بالناس من أنفسهم» «1».

10- ذكر المحقق النائيني قدّس سرّه كلاما طويلا في المقام و قال بعد المناقشة في كثير من أدلة ولاية الفقيه ما نصه:

«نعم لا بأس بالتمسك بمقبولة عمر بن حنظلة، فانّ صدرها ظاهر في ذلك حيث إن السائل جعل القاضي مقابلا للسلطان، و الإمام قرره على ذلك ... فان الحكومة ظاهرة في الولاية العامة فانّ الحاكم هو الذي يحكم بين الناس بالسيف و السوط، و ليس ذلك شأن القاضي، و لكن ختم كلامه بهذا القول، و كيف كان فإثبات الولاية العامة للفقيه بحيث تتعين صلاة الجمعة في يوم الجمعة بقيامه لها أو نصب إمام لها مشكل» «2».

و ممّا يليق بالذكر أن شيخنا الأعظم قدّس سرّه ذكر في مكاسبه في البحث الآتي من ولاية عدول المؤمنين ما يظهر منه التأكيد على الكبرى الكلية السابقة حيث قال: «ما كان تصرفا مطلوب الوجود للشارع إذا كان الفقيه متعذر الوصول فالجواز تولّيه لا حاد المؤمنين، لأنّ المفروض كونه مطلوبا للشارع غير مضاف إلى شخص» (و هذا الكلام يشمل أمر الحكومة العادلة لأنّها مطلوبا للشارع قطعا).

نعم استشكل في بعض مصاديقه و لكن الكلام في كبرى المسألة و أمّا صغرياتها فهي امور اخر قد تختلف فيه الأنظار.

و قال في كلام آخر له (و هو من آخر كلماته في المسألة): «و الذي ينبغي أن يقال: أنّك قد عرفت أنّ ولاية غير الحاكم لا تثبت إلّا في مكان يكون عموم عقلي و نقلي يدل على رجحان التصدي لذلك المعروف».

و هذا

أيضا شاهد على قبول هذه الكلمة من ناحية (أعني قيام الحاكم بامور لا يمكن انوار الفقاهة، ج 1، ص: 421

إهمالها) و من البعيد أن لا يكون حفظ نظام المجتمع الإسلامي و كذلك سد الثغور و الدفاع عن حوزة الإسلام و غير ذلك من أشباهه داخلة فيها بنظره الشريف، و هل يجوّز أحد إهمال أمر الحكومة و جعل الناس في فوضى، أو تسليمها بيد الظالمين؟

حكم المقامات السبعة في الولاية:

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى البحث عن المقامات السبعة من انحاء الولاية فنقول و منه جل شأن التوفيق و الهداية:

المقام الأوّل: ولايته على القصّر و الغيّب. و المراد منه ولايته على الأيتام عند فقد الأب و الجد و على الجنون و الصغير و المفلس و على الغائب بحفظ أولاده و أمواله عن الخطر العظيم.

قال العلّامة في القواعد: «و الحاكم و أمينه إنّما يليان المحجور عليه لصغر أو جنون أو فلس أو سفه أو الغائب» «1».

و حكي في «مفتاح الكرامة» بعد شرح هذه العبارة في كلام له عن المحقق الأردبيلي قدّس سرّه في مجمع البرهان ما نصه: «لا خلاف و لا نزاع في جواز البيع و الشراء و سائر التصرفات للأطفال و المجانين المتصل جنونهم و سفههم بالبلوغ، من الأب و الجد للأب و من وصي أحدهما مع عدمهما، ثم من الحاكم أو الذي يعينه لهم، و كذا لمن حصل له جنون إذ قد انقطعت ولايتهم بالبلوغ و الرشد».

و صرّح الشهيد الثاني قدّس سرّه في المسالك في بعض كلماته في المقام: «إنّ الحاكم ولي عام لا يحتاج إلى دليل» «2».

و قال الفقيه الماهر صاحب الجواهر قدّس سرّه في كتاب الحجر:

«فان لم يكونا (أي الأب و الجد) فللوصي، فان لم يكن فللحاكم، أي الثقة

المأمون انوار الفقاهة، ج 1، ص: 422

الجامع الشرائط، بلا خلاف أجده في ذلك بل و لا إشكال» «1».

و الحاصل: أنّه لا كلام و لا إشكال في المسألة إجمالا، و قد ارسلوها ارسال المسلمات بل ولاية الحاكم على هذه الامور من المصاديق الواضحة للكبرى الكلية السابقة من وجوب تصديقه لكل معروف لا يمكن تعطيله بلا كلام، و لذا تتصدى له الحكومات العرفية أيضا بحسب قوانينهم.

إنّما الكلام و الإشكال في بعض مصاديقه و هو المجنون، أو السفيه البالغ سواء كان سفاهته متصلة بالصغر أو منفصلة عند وجود الأب أو الجد.

فيظهر من الجواهر أن ولاية الفقيه في المنفصل من المسلمات، حيث نفى وجدان الخلاف في السفه المتجدد بعد البلوغ، عدا ما يظهر من الكفاية و الرياض، من ارسال قوله فيه، بعود ولاية الأب و الجد عليه، ثم قال: و لم نتحققه لأحد كما لم نعرف له دليلا صالحا يقطعه الأصل ... ثم قال:

و بالجملة فلا ريب في أنّ الولاية في ماله للحاكم الذي هو ولي من لا ولي له.

ثم تحدث عن المتصل سفهه ببلوغه، و استظهر من اطلاق كلام المحقق قدّس سرّه في الشرائع و اطلاق كلام غيره أن ولايته للحاكم أيضا، بل حكى نسبته إلى الاشهر و لكن مع ذلك حكى عن المفاتيح نسبة عدم الخلاف في ثبوت الولاية للأب و الجد على السفيه و المجنون مع اتصال السفه و الجنون بالصغر، و لكن صرّح في آخر كلامه هنا بعدم خلو كلمات الأصحاب هنا عن اضطراب «2».

هذا بحسب الأقوال في المسألة، و حاصله عدم الخلاف في ولاية الحاكم على المنفصل مع وجود الخلاف في المتصل.

و أمّا بحسب الأدلة فالعمدة فيمن اتصل جنونه أو سفهه في الصغر هو استصحاب

بقاء ولاية الأب و الجد بناء على اتحاد الموضوع هنا عرفا (و هو غير بعيد) بناء على جواز الاستصحاب في الشبهات الحكمية (و لكنه ممنوع على المختار).

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 423

هذا مضافا إلى ما يظهر من قوله تعالى:

وَ ابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ «1».

بناء على شمولها للجد مع فقد الأب و صدق اليتيم عليه، فتدل على استمرار ولاية الجد على اليتيم الذي فقد أبوه حتى يكون رشيدا، و يمكن استفادة حكم الأب منه من طريق الأولوية فتدبّر.

و أمّا بالنسبة إلى المنفصل فأصالة عدم ولاية الأب و الجد حاكم فيه، فيشمله عموم ولاية الفقيه الشاملة لأمثال المقام قطعا.

هذا و لكن الملاحظ من سيرة العقلاء من أهل العرف بقاء ولاية الأب و الجد على المجنون و السفيه سواء اتصل السفه و الجنون بالصغر أو لا. و معه لا تصل النوبة إلى الحاكم، و الظاهر أنّ هذه السيرة جارية من قديم الزمان إلى زماننا هذا، و بما أنّ الشارع لم يمنع منها فلا بدّ من قبولها، و لكن مخالفة الإجماع في هذه المسألة أيضا مشكلة، فلا أقل من أن لا يترك الاحتياط بالجمع بين اذن الأب أو الجد و الحاكم في المتصل و المنفصل و اللّه العالم.

المقام الثاني: ولاية الفقيه على أخذ الاخماس و الزكوات و شبهها
اشارة

ظاهر كلام الأصحاب جواز دفع الزكاة و الخمس إلى الحاكم الشرعي في عصر الغيبة، إنّما الكلام في وجوبه و عدمه.

قال شيخ الطائفة في خلاف في (المسألة 42) من مسائل زكاة الفطرة: «يستحب حمل الزكوات: زكاة الأموال الظاهرة و الباطنة و زكاة الفطرة، إلى الإمام، ليفرقها على مستحقيها، فان فرقها بنفسه جاز، و قال الشافعي: الباطنة هو بالخيار و الفطرة مثلها و الظاهرة فيها

قولان: «أحدهما» يتولاه بنفسه، و «الآخر» يحملها إلى الإمام، و منهم من قال الأفضل ان يلي انوار الفقاهة، ج 1، ص: 424

ذلك بنفسه إذا كان الإمام عارفا، فان كان الإمام جائرا فانّه يليها بنفسه قولا واحدا، و إن حملها عليه (إليه) سقط عنه فرضها، دليلنا إجماع الفرقة و اخبارهم، و أيضا قوله تعالى:

خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً يدل على ذلك، و الإمام قائم مقام النبي صلّى اللّه عليه و آله في ذلك» (انتهى).

و قال العلّامة في التذكرة: «لو تعذر الصرف إلى الإمام عليه السّلام حال الغيبة استحب دفعها إلى الفقيه المأمون من الإمامية، لأنّه أبصر بمواقعها، و لأنّه إذا دفعها إلى الإمام أو الفقيه برئ لو تلفت قبل التسليم، لأنّ الإمام أو نائبه كالوكيل لأهل السهمين، فجرى مجرى قبض المستحق، ثم قال: لو طلب الإمام الزكاة منه وجب دفعها إليه إجماعا، لأنّه معصوم يجب طاعته و تحرم مخالفته، فلو دفعه المالك إلى المستحقين بعد طلبه و إمكان دفعها إليه فقولان لعلمائنا: الإجزاء و هو الوجه عندي، لأنّه دفع المال إلى مستحقه ... و عدمه لأنّ الاخراج عبادة لم يوقعها على وجهها لوجوب الصرف إلى الإمام بالطلب، فيبقى في عهدة التكليف و لا خلاف في أنّه يأثم بذلك» «1».

و قال الشهيد الثاني قدّس سرّه في الروضة في كتاب الزكاة: «و يجب دفعها إلى الإمام عليه السّلام مع الطلب بنفسه أو بساعيه ... قيل و كذا يجب دفعها إلى الفقيه الشرعي في حال الغيبة لو طلبها بنفسه أو وكيله، لأنّه نائب الإمام، كالساعي، بل أقوى ... و دفعها إليهم ابتداء من غير طلب أفضل من تفريقها بنفسه، لأنّه أبصر بمواقعها، و أخبر بمواضعها، قيل و القائل المفيد و التقي:

يجب

دفعها ابتداء إلى الإمام أو نائبه، و مع الغيبة إلى الفقيه المأمون».

و قال القاضي ابن البراج في المذهب في مبحث زكاة الفطرة ما يدل على وجوب حملها إليه عليه السّلام و عند الغيبة إلى فقهاء الشيعة ليضعها في مواضعها، لأنّهم أعرف بذلك (انتهى ملخصا) «2».

و في الجواهر قال: بعد اختيار هذا القول، أعني وجوب دفعها إلى الفقيه عند طلبها، و الاستدلال باطلاق رواية التوقيع عن صاحب الأمر عليه السّلام: «أنّه يمكن تحصيل الإجماع عليه من الفقهاء، فانّهم لا يزالون يذكرون ولايته في مقامات عديدة، لا دليل عليها سوى الاطلاق الذي ذكرناه» «3».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 425

و معلوم أنّه من قبيل الإجماع على القاعدة لا الإجماع على خصوص المسألة.

و المحكي عن أكثر فقهاء العامة ايجاب الدفع إلى الامراء و إن علم عدم صرفها في محالها، و رووا ذلك عن أبي سعيد الخدري و عبد اللّه بن عمر و أبي هريرة و عائشة و الحسن البصري و ابراهيم النخعي و غيرهم، بل حكي عن بعضهم أنّه سئل عن الزكاة فقال: ادفعوها إلى الأمراء و لو أكلوا بها لحوم الحيات! «1».

و يتحصل من جميع ذلك أنّ في المسألة أقوالا ثلاثة:

أولها: و هو الأشهر بينهم أنّه يجب دفعها إلى الفقيه إذا طلبها، و قال السيد قدّس سرّه في العروة:

يجوز دفع الزكاة إلى الحاكم الشرعي بعنوان الوكالة عن المالك في الأداء، كما يجوز بعنوان الوكالة في الايصال، و يجوز بعنوان أنّه ولي عام على الفقراء «2».

و قد تلقاها المحشون بالقبول.

ثانيها: وجوب دفعها إليهم مطلقا كما عن المفيد و التقي.

ثالثها: عدم وجوبه مطلقا كما لعله يظهر من كلمات الاصبهاني في شرحه على الروضة على ما حكاه في الجواهر.

إذا عرفت ذلك فاعلم:

أنّ الأقوى في المسألة قول رابع فيه تفصيل ستعرفه إن شاء اللّه بعد ذكر أدلة المسألة، فنقول و منه جل ثنائه التوفيق و الهداية: إنّه لم يرد في المسألة نص خاص بل المستفاد من كلماتهم في المقام استناده في مسألة جواز دفع الزكاة أو وجوبه امور:

1- أنّه عرف بمواضعه و مصارفه كما ورد في كلام المذهب و غيره.

و فيه: إنّ مجرّد كونه أعرف بذلك لا يدلّ على وجوب الدفع إليه، بل و لا على جوازه، إلّا أن يكون الفقيه وكيلا عن المالك، و مضافا إلى أنّه لا يختص الحكم به بل بكل عارف بمصارفها و لو تقليدا.

2- أولويته من الساعي حيث يجب الدفع إليه إذا طلبها، و فيه ما حكي عن الاصبهاني انوار الفقاهة، ج 1، ص: 426

في شرحه على الروضة من أن الساعي إنّما يبلغ أمر الإمام عليه السّلام فاطاعته اطاعة الإمام عليه السّلام بخلاف الفقيه، و لا يجدي كونه أعلى رتبة انتهى، و حاصله أنّ اللازم إثبات عموم ولاية الفقيه في هذا الأمر أولا، فمجرّد كونه أعلى رتبة من الساعي لا يفيد شيئا بعد كون يد الساعي يد الإمام المعصوم عليه السّلام.

3- قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها «1» و هذا الأمر دليل على وجوب الأخذ و لا أقل من جوازه (إذا كان في المقام دفع توهّم الحظر).

و فيه: إنّ الاستدلال بها فرع ثبوت نيابة الفقيه عنه صلّى اللّه عليه و آله و معه لا يحتاج إلى هذا الاستدلال، لأنّ جواز أخذه صلّى اللّه عليه و آله الزكاة من الضروريات الغنية عن البرهان.

4- تحصيل الإجماع عليه كما عرفت في كلام الجواهر، و لكن قد عرفت أنّه من قبيل الإجماع على

القاعدة، بناء على كونه من باب الإجماع على اطلاق التوقيع و شبهه، و إلّا فالمسألة كما عرفت خلافية ذات أقوال متعددة و ليست إجماعية.

5- إن الفقيه نائب عام عن الإمام عليه السّلام في أمثال هذه الامور، و وكيل عن الفقراء و هذا هو العمدة في المقام، و توضيحه يحتاج إلى ذكر مقدمة و هي: إنّ المستفاد من أدلة تشريع الزكاة أنّها شرعت لسدّ خلة الفقراء و دفع الشدّة عنهم، مضافا إلى تأمين حوائج الحكومة الإسلامية، بل دفع النوائب عن الفقراء أيضا من حوائج الحكومة العادلة المنصوبة لإقامة العدل كما لا يخفي على الخبير.

و من أقوى الشواهد عليه المصارف التي نص عليها كتاب اللّه عز و جل، منها سهم العاملين عليها الذين هم العاملون للحكومة و المأمورون من قبلها، و كذا سهم المؤلفة قلوبهم الذين يألفهم الحكومة على موافقة المسلمين، بل يستمد من قواهم في مقابل الاعداء كما ورد في تاريخه صلّى اللّه عليه و آله من اعطاء المؤلفة قلوبهم من أهل مكة أو غيرها.

و أوضح منه سهم سبيل اللّه و القدر المتيقن منه الجهاد، و من الواضح أنّ الجنود و العساكر تكون تحت مراقبة الحكومة، و لو قلنا بأنّ مفهومه عام لكل خير يكون منفعة عامة، كان انوار الفقاهة، ج 1، ص: 427

أيضا من الامور الراجعة إلى الحكومة قبل غيرها، لأنّها المعدة لمثل هذه الامور كما لا يخفى، بل قد عرفت أنّ سهم الفقراء و المساكين ذريعة لإقامة العدل، و أحق الناس بها هو الحكومة.

و من هنا يظهر أنّ الزكاة في الحقيقة من منابع بيت المال، فانّ الحكومة لا تقوم إلّا ببيت المال، لتمويل نفقاتها و حلّ مشاكلها، و بيت المال يحتاج إلى موارد، و لعل

حكم بعض العامة بوجوب دفعها إلى الأمراء و إن لم يصرفوها في مصارفها مأخوذة من ملاحظة ماهية الزكاة و محتواها، رغم أنّهم اخطأ وا من حيث توهّم كون الدفع إليهم موضوعيا، مع أنّه طريقي، فإذا علم بعدم صرفهم إيّاها في مصارفها لا بدّ من منعها عنهم قطعا.

و يؤيد تشريع الزكاة في المدينة عند بناء الحكومة الإسلامية من ناحيته صلّى اللّه عليه و آله و كذا ما ورد في آداب المصدق و أنّه إذا أتى صاحب المال يقول لهم «... فهل للّه في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليه» «1».

و بعد ذلك نقول: إذا قلنا إن الفقيه هو الذي يتصدى للحكومة الإسلامية- كما سيأتي في المقام الخامس إن شاء اللّه- فإذا كان مبسوط اليد فيمكن القول بوجوب دفعها إليه كما ذكرنا في تعليقاتنا على العروة الوثقى بالقول: هذا (أي أفضلية نقل الزكاة إلى الفقيه) إنّما هو في زمان قبض يد الإمام عليه السّلام أو الحاكم، أمّا في زمان بسط اليد فلا يبعد وجوب دفعها إليه، لأنّه الحافظ لبيت مال المسلمين، و الإسلام ليس مجرّد فتاوى (و أحكام) و نصائح، بل الحكومة جزء منها لا ينفك، و هي تحتاج إلى بيت مال متمركز، كما يشهد له سيرة النبي صلّى اللّه عليه و آله و علي عليه السّلام و لو أن كل إنسان أعطى زكاة ماله للمستحق بنفسه فسوف لا تقوم لبيت المال و من يكون عيالا عليه، قائمة.

و الحاصل: إنّه إذا تحققت الحكومة الإسلامية العادلة الكاملة العيار، فالأقوى و لا أقل من الأحوط وجوب دفعها إليها ابتداء و لو من دون طلب، و أمّا بدون ذلك فهو أفضل، و لو طلبها لبعض المصالح و لو في زمن

قبض اليد فهو واجب أيضا بأدلة الولاية الآتية و اللّه العالم. هذا كله بالنسبة إلى حكم الزكاة.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 428

أمّا الخمس: فهو أوضح حالا من الزكاة، و لذا كان المعروف بينهم عدم جواز تصدي صاحب الخمس لصرفه (بالنسبة إلى سهم الإمام عليه السّلام) و إليك بعض كلماتهم:

1- قال العلّامة المجلسى قدّس سرّه: «أكثر العلماء قد صرّحوا بأن صاحب الخمس لو تولى دفع حصة الإمام عليه السّلام لم تبرأ ذمته بل يجب عليه دفعها إلى الحاكم، و ظني أنّ هذا الحكم جار في جميع الخمس» «1».

2- و قال شيخنا المفيد قدّس سرّه في الرسالة الغية: «و متى فقد إمام الحق و وصل إلى الإنسان ما يجب فيه الخمس فليخرجه إلى يتامى آل محمد صلّى اللّه عليه و آله و مساكينهم و ابناء سبيلهم» (انتهى).

و ظاهر هذا الكلام عدم الحاجة إلى إذن الفقيه، و لكن المحقق قدّس سرّه في المعتبر بعد نقل هذا الكلام منه قال: و ما ذكره المفيد حسن ... لكن يجب أن يتولى صرف ما يحتاجون إليه من حصة من له النيابة عنه في الأحكام، و هو الفقيه المأمون من فقهاء أهل البيت عليه السّلام.

3- قال العلّامة قدّس سرّه في المختلف في كتاب الزكاة و الخمس: «اختلف أصحابنا في مستحق الإمام عليه السّلام في حال الغيبة من الأخماس و الأنفال و غيرها ... إلى أن قال: و هل يجوز قسمته في المحاويج من الذرية كما ذهب إليه جماعة من علمائنا؟ الأقرب ذلك ... إذا ثبت هذا فانّ المتولي لتفريق ما يخصه عليه السّلام في محاويج الذرية من إليه الحكم عن الغائب عليه السّلام لأنّه قضاء حق عليه، كما يقضى عن الغائب، و هو

الفقيه المأمون الجامع لشرائط الفتوى و الحكم، فان تولى ذلك غيرها كان ضامنا» (انتهى موضع الحاجة) «2».

4- هذا و يظهر من بعضهم وجوب دفعه إلى الأعلم من العلماء مثل شيخنا كاشف الغطاء قدّس سرّه في الفردوس الأعلى حيث قال: «أمّا الدليل على لزوم اعطاء سهم الإمام عليه السّلام للمجتهد فانّه يكفي فيه كون المجتهد هو الوكيل العالم للإمام عليه السّلام فهو مال الغائب يجب دفعه إلى وكيله، و لا أقل من أنّه هو القدر المتيقن لبراءة الذمة فيجب، و الواجب دفعه إلى الأعلم، فكما يجب تقليد الأعلم كذلك يجب دفع الحق إليه ... أمّا اليوم فقد صار مال الإمام عليه السّلام كمال انوار الفقاهة، ج 1، ص: 429

الكافر الحربي! ينهبه كل من استولى عليه!» «1» و كلامه هذا دليل على شدّة تأسفه على ما آل إليه الأمر بالنسبة إلى هذا السهم المبارك في زمانه.

5- و في مقابله قول من قال بجواز صرفه من ناحية المالك بعد إحراز رضى الإمام عليه السّلام كما في المستمسك حيث قال: «نسب إلى أكثر العلماء تارة و أكثر المتأخرين اخرى ...

وجوب تولى الحاكم لحصته عليه السّلام بل عن الشهيد إجماع القائلين بوجوب الصرف للأصناف على الزمان لو تولاه غير الحاكم ...

و لا سيما إذا كان الحاكم بمرتبة عالية من العقل و العدالة و الأمانة و الاهتمام بالمصالح الدينية و القدرة على تميز الأهم و المهم منها، فانّه حينئذ يكون أبصر بواقعه و أعرف بمواضعه، فيتعين الرجوع إليه في تعيين المصرف» و لكنه مع ذلك أجاب عن كل ذلك و لم يقبله ثم قال: فإذا أحرز رضاه عليه السّلام بصرفه في جهة معينة جاز للمالك تولى ذلك بلا حاجة إلى مراجعة الحاكم

الشرعي» «2».

و هذه الكلمات كما ترى على طرفي نقيض من اعتبار الأعلمية أو عدم اعتبار شي ء حتى الاجتهاد و العدالة.

6- و لنتم هذه الكلمات بما أفاده المحقق قدّس سرّه في الشرائع في كتاب الخمس حيث قال:

«و يجب أن يتولى صرف حصة الإمام عليه السّلام في الموجودين، من إليه الحكم بحق النيابة، كما يتولى أداء ما يجب على الغائب».

و قال ثاني الشهيدين قدّس سرّهما في المسالك في شرح هذه العبارة: «و لو تولى ذلك غيره كان ضامنا عند كل من أوجب صرفه إلى الاصناف» «3».

هذه شطر من كلمات الأصحاب (رضوان اللّه عليهم) في هذا الباب، و يظهر منها أنّ الأقوال فيه أيضا مختلفة، و لكن الأشهر أو المشهور الزوم دفع سهم الإمام عليه السّلام إلى الحاكم الشرعي، و أمّا دفعه إلى الأعلم أو جواز صرفه من ناحية المالك فهو شاذ.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 430

إذا عرفت هذا فاعلم: أن هذه المسألة مبنية على أن تعلم ما الواجب في سهمه عليه السّلام في عصر الغيبة، فقد اختلفت فيه الأقوال و تضاربت تضاربا شديدا حتى أن المحقق النراقي قدّس سرّه حكى في المستند في كتاب الخمس أقوالا تسعة بالنسبة إلى سهم الإمام عليه السّلام، و أقوالا خمسة في سهم السادة فتربوا إلى أربعة عشر قولا، فراجع «1».

و ذكر في الحدائق أيضا أربعة عشر قولا في المقام «2» و عمدتها عشرة أقوال ذكرناها في التعليقة على العروة و إليك موجزها:

1- اباحتها للشيعة و سقوطها مطلقا (سهم السادة و سهم الإمام عليه السّلام) كما عن السلار و صاحب الذخيرة.

2- عزله بجميعه و الوصية به كما عن المفيد قدّس سرّه.

3- دفنه كما حكاه المفيد قدّس سرّه عن بعض من لم يسمه!

4- دفع

حق السادة إليهم و أمّا حصة الإمام عليه السّلام فيودع أو يدفن!

5- حق السادة يدفع إليهم، أمّا حصته عليه السّلام فيقسم على الذرية كما هو المشهور بين جمع من المتأخرين.

6- صرف حق السادة إليهم، و أمّا حصته عليه السّلام فهو مباح للشيعة في عصر الغيبة كما عن المدارك و غيره.

7- صرف حق السادة إليهم، أمّا سهمه عليه السّلام فيصرف في مواليه العارفين بحقه إذا كانوا فقراء كما عن ابن حمزة و غيره.

8- إن حق السادة يدفع إليهم، و أمّا خمس الأرباح فمباح مطلقا.

9- صرف حق الاصناف الثلاثة (حق السادة) إليهم، و التخيير في حصته عليه السّلام بين الدفن و الوصية وصلة الاصناف مع الاعواز، باذن الفقيه، كما عن الشهيد قدّس سرّه في الدروس.

10- و هو العمدة و المختار: دفع سهم الاصناف الثلاثة إليهم، و أمّا سهم الإمام عليه السّلام فيصرف في كل أمر يحرز به رضاه، من تعظيم شعائر الدين، و نشر العلم و تبليغ الإسلام،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 431

وصلة الاصناف و غيرهم من الفقراء و المحاويج، و غير ذلك ممّا يحرز به رضاه عليه السّلام.

و اذ قد عرف ذلك فاعلم أنّ الحق من بين هذه الأقوال هو الأخير، و السرّ فيه أنّه لا ينبغي الشك في أن تشريع حكم الخمس بالنسبة إلى حصة الإمام عليه السّلام إنّما هو لإمامته الإلهية، و كونه منصوبا للحكومة على الامة، و إلّا فسهم الإمام عليه السّلام ليس مصرفا شخصيا له لأنّه كإنسان يحتاج إلى شي ء يسير من هذه الأموال الضخمة، و من البعيد جدّا بل من الممتنع في حكمة الحكيم أن يجعل له ما لا يحتاج إليه إلّا شيئا قليلا منه جدّا، فانّ الناس لو أدّوا خمس أموالهم

في جميع أقطار الأرض بلغ سهم الإمام عليه السّلام مبلغا عظيما لا يقدر أي إنسان على مصرفه، إلّا يكون على رأس الحكومة و يصرفه في مصارفها.

لا أقول إنّ سهم الإمام عليه السّلام ملك للمقام لا لشخصه، حتى يكون تلقى الفقيه النائب له إذا كان على رأس الحكومة تلقيا استقلاليا من غير حاجة إلى وساطة الإمام المعصوم عليه السّلام، بل أقول أنّه عليه السّلام مالك له بسبب كونه مبعوثا لهذا المقام، فلو كان حاكما بالفعل صرفه في مصارفه الحكومية و المقامية، و لو منعه الظالمون من ذلك صرفه فيما يمكن أن يصرفه فيه من مصارفه، و يبيحه للشيعة أحيانا في مواقع خاصة كما ورد في غير واحد من روايات الباب، لا الاباحة المطلقة لاختلاف الأزمنة في ما يقتضيه من المصالح.

و بالجملة احتمال كونه مالكا لهذه الأموال الضخمة الجليلة الكثيرة بما أنّه شخص خاص بعيد جدّا لا يحتمله الخبير قطعا، بل بما أنّه سائس عام و حاكم إلهي على الامة.

و الفرق بينهما ظاهر، ففي الأوّل يرث هذه الأموال جميع وراثه، و في الثاني لا يرثه إلّا الإمام عليه السّلام الذي بعده، كما ورد في بعض الأحاديث.

و من الواضح أنّ غيبته عليه السّلام لا توجب إلغاء هذه المصارف، بل كثير منها باقية و لو بدون إقامة الحكومة، و كلها باقية عند إقامتها، فلا وجه لدفنها، كما لا وجه لايداعها و الوصية بها، بل اللازم صرفها في مصارفها مهما أمكن، و المأمور بهذا الصرف هو نائبه الخاص أو العام، فإذا اثبتنا ولاية الفقيه مطلقا أو في الجملة بحيث يشمل المقام كان اللازم دفعها إليه.

و بالجملة كل من حكم بدفنه أو الايصاء به، أو أن الفقيه ينظر فيه كأموال الغيّب

حسب أنّه مال شخصي له كسائر أمواله الشخصية، مع أنّه ليس كذلك قطعا، بل هو ملك له بماله من انوار الفقاهة، ج 1، ص: 432

المقام، فلو حرم الناس من لقائه عليه السّلام و تصرفه فيهم، لم يمنع ذلك من صرف هذه الأموال العظيمة في مصارفها إن كانت الحكومة الإسلامية الحقيقية قائمة، و إلّا ففيما يمكن من مصارفها من نشر العلم و تبليغ الإسلام و الحوزات العلمية و حفظ ضعفاء الشيعة، و تكميل سهم الأصناف، و غير ذلك من أشباهه، و لا يمكن تعطيل جميع ذلك في غيبته.

فالمراد من صرفه في ما يحرز به رضاه هو ذلك، فانّ رضاه يتعلق بهذه الامور و لو كان هو (أرواحنا فداه) حاضرا شاهدا صرفها فيما ذكر قطعا.

و المتكفل لهذا الصرف هو الفقيه الجامع للشرائط.

لا لأنّه ابصر بمصارفه فقط، لما عرفت أن مجرّد ابصريته غير كاف في إثبات المراد.

و لا لأنّه ولي الغائب فانّ ذلك فرع كونها أموالا شخصية.

و لا لأنّه مجهول المالك، لأنّ عدم القدرة على تسليم المال لمالكه مع كونه معلوما لا يجعله بحكم مجهول المالك، نظرا إلى اتحاد الملاك، و هو عدم إمكان الوصول إليه، فان هذا الاحتمال ضعيف جدّا لا يدل عليه أدلة حكم «مجهول المالك».

بل لأمرين آخرين: أحدهما: أدلة الولاية العامة الآتية إن شاء اللّه، فانّ القدر المسلم منها هو هذه الامور و أشباهه.

ثانيهما: اصالة اشتغال الذمّة و عدم اليقين بالبراءة بدونه، و لا اطلاق هنا يدل على البراءة و جواز صرف المالك بنفسه، و إن شئت قلت: القدر المتيقن من رضاه ذلك، و دعوى العلم برضاه و لو بدون ذلك مشكل جدّا لا يجترى عليه الخبير.

و من هنا يظهر الإشكال فيما ذكره في حدائق حيث

قال- معترضا على العلّامة المجلسي قدّس سرّه فيما عرفت من كلامه من زاد المعاد- «أنّا لم نقف له (لدفعه إلى الفقيه) على دليل، و غاية ما يستفاد من الأخبار نيابته بالنسبة إلى الترافع إليه، و الأخذ بحكمه و فتاواه، و أمّا دفع الأموال إليه فلم أقف له على دليل لا عموما و لا خصوصا، و قياسه على النواب الذين ينوبونهم ... لا دليل عليه» «1».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 433

قلت: دليله ما عرفت من شمول عموم أدلة الولاية من قبله عليه السّلام لمثله كما سيأتي إن شاء اللّه، مضافا إلى أنّ صرفه بنفسه يحتاج إلى دليل، و إلّا فاصالة الاشتعال كافية في المنع.

و لعل هذا هو مراد صاحب الرياض حيث قال: إنّ الأوّل (مباشرة الفقيه) أوفق بالاصول «1».

كما يظهر لك أنّ الجمع بين أدلة الولاية (أعني ولاية الفقيه عن الإمام عليه السّلام) و أدلة توليته التصرف في مال الغائب كما ذكره في المستند «2» أيضا لا وجه له لما عرفت من الفرق الكثير بين الولايتين، فانّ الأوّل ولاية عنه، و الثاني ولاية عليه.

بقي هنا امور:

الأول: أنّه على ما ذكرنا يمكن أن يقال: لو قامت الحكومة الإسلامية الحقيقية كان الفقيه المتصدي لها أولى من غيره بحصة الإمام عليه السّلام، لأنّ المفروض أن مصرف هذه الأموال في الواقع هو إقامة هذا الأمر، و كذلك إذا كان الفقيه كافلا للحوزات العلمية كان أولى به من غيره، و كذا إذا كان كافلا لغير ذلك ممّا يهتم به الإمام عليه السّلام من نشر الإسلام و علومه في أقطار الأرض عامة، و بلاد المسلمين خاصة.

و بالجملة كل فقيه مبسوط اليد أولى من غيره بمقدار بسط يده، بل قد يجب الدفع إليه إذا احتاج

إليه احتياجا مبرما مع كونه مبسوط اليد، فتدبّر جيدا.

و ممّا ذكرنا يظهر الحال في الأوقاف العامة، و أنّ الفقيه هو المتصرف فيها عند فقد المتولي الخاص، بل له نصب المتولي للأوقاف التي لا متولي لها، أو جعل الناظر للمتولي إذا خاف من خيانته، لأنّ أدلة الولاية تشملها، و ليست ملك الأوقاف أولى من الأخماس و الزكوات التي عرفت حالها.

الثاني: أنّه قد عرفت عند نقل كلام شيخنا كاشف الغطاء قدّس سرّه في الفردوس الأعلى حكمه انوار الفقاهة، ج 1، ص: 434

بوجوب دفع سهم الإمام عليه السّلام إلى الأعلم، و أنّه كما يجب تقليد الأعلم يجب دفع الخمس إليه، و كم فرق بينه و بين من قال بجواز صرفه في المصارف الشرعية و لو بدون الدفع إلى المجتهد.

و على كل حال فالظاهر أنّ دليله هو الأخذ بالقدر المتيقن، و لكنه كما ترى لعدم جواز الأخذ به بعد عموم أدلة الولاية و اطلاقاتها، و لو في مثل هذه الامور، كما سيأتي، و قياسه على مسألة التقليد قياس مع الفارق جدّا، لقيام الدليل على وجوب تقليد الأعلم و لو عند العلم التفصيلي أو الإجمالي بالاختلاف بينه و بين غيره في موارد الابتلاء، لبناء العقلاء على ذلك قطعا و هو المدار الأصلي في المسألة التقليد، و قد أمضاها الشرع بعدم ردعه، بل بالتصريح باعتباره بناء على دلالة مقبولة عمر بن حنظلة عليه في قوله «الحكم ما حكم به أعدلهما و افقههما ...» «1» (و فيه كلام فيه محله) و الأخماس ليس كذلك قطعا، و مجرّد كون الأعلم أبصر من غيره، غير كاف، مع أنّه لو كان أبصر بحكمه فليس أبصر بموضوعه كما لا بخفي.

الثالث: قد يرى من بعض الفقهاء أمرهم لمقلديهم

بايصال الأخماس إليهم، فهل هذا مجرّد استدعاء منهم، أو يوجب لهم تكليفا إليها في ذلك؟ الظاهر عدم الدليل على ذلك، لأنّ هذا ليس على سبيل الفتوى، فانّ الفتوى إنّما يشتمل على حكم كلي لا شخصي جزئي كما هو ظاهر، و أمّا نفوذه من باب حكم الحاكم أيضا محل تأمل لأنّ حكم الحاكم إنّما يتعلق بمصالح الامة و كون ذلك دائما مصلحة الامة أول الكلام حتى في اعتقاده، و لازم ذلك أنّه لو حكم أحد الفقهاء بدفع جميع الاخماس إليه وجب و هو كما ترى.

نعم لو كان الفقيه مبسوط اليد كان الأولى بل اللازم في بعض الفروض الدفع إليه لا سيما إذا طلبه كما عرفت، و كذلك لو علم المقلد بأن غير مقلده يصرفه فيما لا يوافق فتواه كما أو كيفا يشكل الدفع إليه، لعدم براءة ذمة المقلد (بالكسر)، طبقا لفتوى مرجعه، اللّهم إلّا أن يقال: تبرأ ذمة المقلد بمجرّد الدفع إلى أحد حكام الشرع لأنّه الولي من قبل الإمام عليه السّلام و لا

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 435

يهمه فيما يصرفه هذا الولي، و الاحتياط هنا كسائر المقامات سبيل النجاة، كما أن الاحوط للمجتهد الذي يدفع إليه الخمس أن يصرفه في ما هو المتيقن المعلوم من مصارفه إذا كان المعطى غيره مقلد له، و اللّه العالم.

المقام الثالث: اجراء الحدود الشرعية
اشارة

المعروف بين الأصحاب جواز إقامة الحدود في حال غيبة الإمام عليه السّلام للفقهاء العارفين العدول، مع الأمن من ضرر سلطان الوقت، بل يجب على الناس مساعدتهم عليه، بل قد ادّعى في الجواهر عدم وجدانه الخلاف فيه إلّا ما يحكي عن ظاهر ابني زهرة و ادريس، و لكن قال: لم نتحققه بل لعل المتحقق خلافه.

و قد حكي عن سلار ابن عبد العزيز

قولا ثالثا بالتفصيل، و هو جواز الإقامة ما لم يكن قتلا أو جرحا، و هذه النسبة أيضا غير ثابتة و لذلك كله تعجب صاحب الجواهر قدّس سرّه عن قول المحقق قدّس سرّه في الشرائع قيل يجوز للفقهاء العارفين إلى آخر ما ذكره، لأنّ نسبته إلى «قيل» بعد هذه الشهرة العظيمة ممّا لا ينبغي صدوره منه.

و اعلم أنّ هذا الحكم عنونه كثير منهم في آخر أبواب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و بعضهم في أبواب الحدود.

و قال في المسالك هذا القول مذهب الشيخين و جماعة من الأصحاب (انتهى) «1».

و على كل حال يمكن الاستدلال عليه بامور:

الأول: إنّ علة تشريع الحدود معلومة بحكم العقل، و تناسب الحكم و الموضوع و تصريح بعض الروايات الواردة في علّة تشريعها، فحد الزنا للمنع عن تداخل المياه، و حد شرب الخمر للنهي عنها، و حدّ السرقة لحفظ الأموال إلى غير ذلك.

و من الواضح أنّ هذه العلل باقية في عصر غيبة الإمام عليه السّلام بل تعطيل هذه الحدود يوجب انوار الفقاهة، ج 1، ص: 436

مفاسد عظيمة، و قد يكون سببا لاختلال نظام المجتمع الإسلامي، فلا معنى لتعطيلها بعد بقاء علتها، و ليست ممّا يدور مدار ظهوره (عجل اللّه فرجه الشريف) بل الأمر فيها أوضح من الزكوات و الأخماس التي قد عرفت عدم جواز تعطيلها بعد بقاء مصارفها.

و هذا أمر ظاهر لمن عرف الحدود و مغزاها و لا سترة عليه.

الثاني: ما ذكره في مباني تكملة المنهاج تبعا للجواهر من أنّ أدلة الحدود كتابا و سنة، مطلقة غير مقيدة بزمان دون زمان، كآيتي «الجلد» و «القطع» و ظاهرها وجوب إقامتها في كل زمان، ثم قال: «فان قلنا بجواز تصديه من كل أحد لزم الحرج

و المرج و اختلال النظام، و عدم استقرار حجر على حجر، فلا بدّ من تصدي بعض لها و القدر المتيقن منه هو الفقيه الجامع للشرائط» انتهى «1» و هو جيد.

الثالث: عمومات أدلة الولاية كما سيأتي الكلام فيها مبسوطا إن شاء اللّه من مقبولة عمر بن حنظلة أو التوقيع المبارك، أو غيرهما، فان شمولها لمثل هذه الامور ممّا لا ينبغي الكلام فيه.

الرابع: ما رواه حفص بن غياث قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام من يقيم الحدود؟ السلطان أو القاضي؟ فقال: إقامة الحدود إلى من إليه الحكم» «2».

و سند الرواية و إن كان قابلا للكلام و لكنها مجبورة بعمل الأصحاب، و بما عرفت من سائر الأدلة، و دلالتها ظاهرة بعد كون من إليه الحكم هو الفقيه الجامع للشرائط قطعا.

الخامس: إن إجراء الحدود يلازم مسألة القضاء في كثير من مواردها، لأنّها قد يكون في حقوق الناس كحد القذف و السرقة، و ما يكون من حقوق اللّه كحدّ الزنا و شبهه قد يحتاج إلى إثباته عند القاضي، و من البعيد جدّا أن يطالب من القاضي إثبات الحق دون إجرائه، لأنّ الأوّل مقدمة للثاني و لا فائدة في المقدمة بدون ذيها.

و يؤيده أيضا ما ذكره المفيد قدّس سرّه و هو في حكم رواية مرسلة قال في المقنعة فأمّا إقامة الحدود فهو إلى سلطان الإسلام المنصوب من قبل اللّه و هم أئمّة الهدى من آل محمد صلّى اللّه عليه و آله انوار الفقاهة، ج 1، ص: 437

و من نصبوه لذلك من الأمراء و الحكام (الحديث) «1».

و لكن مع ذلك كله قد يعارض ما ذكر بما رواه مرسلا في دعائم الإسلام عن الصادق عليه السّلام قال: «لا يصلح الحكم و لا الحدود

و لا الجمعة إلّا بإمام» «2» بناء على أن المراد بالإمام فيه، هو الإمام المعصوم عليه السّلام.

و يرد عليه: تارة بضعف سنده بالارسال (و ما روايته عن الأشعثيات فهو غير ثابت، مضافا إلى أنّ الإشكال فيه أكثر، لعدم ثبوت اعتبار نفس الكتاب)، و اخرى بضعف دلالته لأنّ المراد من الإمام فيه، يمكن أن يكون معنا عاما يشمل الفقيه، كما يشهد له ذكره بصورة النكرة، و يؤيده ذكر الحكم إلى القضاء فيه، بل و صلاة الجمعة مع العلم بأنّ القضاء و الحكم لا ينحصر في الإمام المعصوم عليه السّلام بل و صلاة الجمعة أيضا، سلمنا لكن أدلة الولاية تدل على قيام الفقيه مقام الإمام المعصوم عليه السّلام في أمثال ذلك، و اللّه العالم.

بقي هنا امور:

1- هل هذا الحكم على سبيل الوجوب أو الجواز، قال المحقق النراقي قدّس سرّه في العوائد:

«الظاهر من القائلين بثبوت الولاية لهم الأوّل (أي الوجوب) حيث استدلوا باطلاق الأوامر، و بافضاء ترك الحدود إلى المفاسد، و صرحوا بوجوب مساعدة الناس لهم، و هو كذلك لظاهر الإجماع المركب، و قول أمير المؤمنين عليه السّلام في رواية ميثم الطويلة التي رواها المشايخ الثلاثة الواردة في حدّ الزنا: «من عطل حدّا من حدودي فقد عاندني» «3».

أقول: مقتضى الأدلة الخمسة السابقة كلّها الوجوب، و لا بدّ في أخذ هذه الخصوصيات من الرجوع إليها، إمّا علة التشريع فواضح، و إمّا اطلاق الأوامر في باب الحدود فهو أوضح، و إمّا مقتضى أدلة الولاية و أن لم يكن الوجوب بل الجواز، و لكن من المعلوم أنّ الولي انوار الفقاهة، ج 1، ص: 438

المنصوب عموما أو خصوصا لو لم يقم بوظائفه و ما يقتضيه الغبطة فيمن ولّى عليهم فقد خان أميره، و خانهم

أيضا، و هذا غير جائز.

و أمّا إذا قلنا بأن إجراء الحدود من لوازم القضاء كثيرا، فإذا قلنا بوجوب القضاء عينا أو كفاية، فكذلك حكم إجراء الحدود، لأنّه من تمام القضاء، و كذا رواية حفص بن غياث، و بالجملة لا ينبغي الشك في المسألة، بل الظاهر أنّ من عبّر بالجواز أراد الجواز بالمعنى الأعم، و إلّا فان هذا الحكم من الأحكام التي يدور أمرها بين الحرمة و الوجوب، و لا يقبل الجواز بمعنى الاباحة كما لا يخفى.

2- هل يجب مساعدة الناس لهم في ذلك؟ الظاهر المصرح به في كلماتهم نعم، و العمدة فيه المخاطب في هذه الأوامر، مثل (أمر فاجلدوا و اقطعوا) هو الجميع إلّا أنّ الفقيه بمقتضى الأدلة السابقة مأمور بها بلا واسطة، و سائر الناس بواسطة الفقيه و إن شئت قلت: إنّها ترجع إلى الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و هو وظيفة جميع الناس، كل بحسب قدرته و إمكانه و صلاحيته.

3- هل التعزيرات أيضا داخلة فيما ذكر أم لا؟

ظاهر كلماتهم هو خصوص الحدود، لذكر هذا العنوان فيها، إلّا أنّ الانصاف عموم الحكم للأولوية أولا، و لعموم كثير من الأدلة السابقة ثانيا، و لأنّ الحدّ في كثير من المقامات معناه عام يشمل التعزير أيضا ثالثا.

4- ذكر المحقق النراقي قدّس سرّه في عوائده في مقام تأييد أصل الحكم، ما دلّ على أن «ما اخطأت القضاة، من دم أو قطع، ففي بيت مال المسلمين» «1».

و لكن الانصاف أنّه أجنبي عن محل البحث، لعدم كونه في مقام البيان من هذه الناحية، و لعله ناظر إلى من كان منصوبا من قبل الإمام عليه السّلام بالخصوص، و بالجملة ظاهره كونه بصدد بيان حكم غير ما نحن بصدده، فلا يمكن

الركون إليه في إثبات المقصود.

المقام الرابع: الولاية على الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر

لا شك أنّ وجوبهما في الجملة من ضروريات الدين، ورد التصريح به في الكتاب و السنة المتواترة، و قد ذكر الأصحاب أنّ له مراتب ثلاث: «بالقلب» و «باللسان» و «باليد» و قد صرّح بعضهم بأنّ وجوب انكار الأوّل مطلق غير مشروط بشي ء، و معناه أنّ وجوب الآخرين مشروط بالشروط الاربعة التي ذكروها، و هو العلم بالمنكر و المعروف، و احتمال التأثير، و كون الفاعل مصرا على الاستمرار و الأمن من الضرر.

و كل ذلك موكول إلى محله، إنّما الكلام في أنّ الإنكار باليد أيضا له مراتب:

1- العمل بالمعروف و ترك المنكر بحيث يكون سببا لدعوة غيره إلى ذلك.

2- الضرب من دون جرح.

3- الضرب مع الجرح إذا لم يكن الضرر مقصودا، شبه المدافعة و الممانعة التي قد يتولد منهما الضرر.

4- الضرب مع الجرح و إن كان الضرر مقصودا.

5- الإنكار باليد و لو بالقتل.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الكلام فيها «تارة» يكون في أصل وجوب هذه المراتب، و «اخرى» في ترتبها، و وجوب الاقتصار على الأيسر فالأيسر.

و «ثالثة» على اشتراط إذن الإمام عليه السّلام في المراتب الأربعة الأخيرة، دون المرتبة الاولى أي العمل بأحكام اللّه فانّه فرض على الجميع مطلقا من دون حاجة إلى الاستيذان، و لنعم ما قال صاحب الجواهر قدّس سرّه في هذا المقام حيث قال:

«من أعظم أفراد الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و أعلاها و اتقنها و أشدها تأثيرا خصوصا بالنسبة إلى رءوساء الدين أن يلبس رداء المعروف واجبه و مندوبه، و ينزع رداء المنكر محرمه و مكروهه، و يستكمل نفسه بالأخلاق الكريمة، و ينزهها عن الأخلاق الذميمة، فانّ ذلك منه سبب تام الفعل الناس المعروف و نزعهم المنكر

خصوصا إذا أكمل ذلك بالمواعظ الحسنة المرغبة و المرهبة، فانّ لكل مقام مقالا و لكل داء دواء، و طب النفوس و العقول أشد من طب الأبدان بمراتب كثيرة، و حينئذ يكون قد جاء بأعلى أفراد الأمر

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 440

بالمعروف نسأل اللّه التوفيق لهذه المراتب (انتهى) «1».

و «رابعة» في أنّ نائب الغيبة يقوم مقام الإمام عليه السّلام في جواز الاستيذان منه في المراتب الأربع.

و قبل التكلم في هذه المقامات لا بدّ من ذكر روايات الباب، ليعلم أحكام الجزئيات منها فنقول و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية:

1- منها ما رواه جابر عن الباقر عليه السّلام (في الحديث) قال: «فانكروا بقلوبكم و الفظوا بألسنتكم، و صكوا بها جباههم و لا تخافوا في اللّه لومة لائم» الحديث «2».

2- و منها ما رواه الرضي: و قد قال عليه السّلام في كلام له يجرى هذا المجرى: «فمنهم المنكر للمنكر بقلبه و لسانه و يده فذلك المستكمل لخصال الخير، و منهم المنكر بلسانه و قلبه، التارك بيده، فذلك متمسك بخصلتين من خصال الخير و مضيع خصلة» الحديث «3».

3- و منها ما رواه الطبري مرسلا في تاريخه عن عبد الرحمن ابن أبي ليلي عن علي عليه السّلام قال: «أنّي سمعت عليا عليه السّلام يقول يوم لقينا أهل الشام: أيّها المؤمنون أنّه من رأى عدوانا يعمل به و منكرا يدعى إليه فأنكره بقلبه، فقد سلم و برئ، و من أنكره بلسانه فقد أجر، و هو أفضل من صاحبه، و من أنكره بالسيف لتكون كلمة اللّه العليا و كلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى و قام على الطريق و نور في قلبه اليقين» «4».

4- و منها ما عن أبي حجيفة عن

علي عليه السّلام: يقول «إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد، و الجهاد بأيديكم، ثم بألسنتكم، ثم بقلوبكم، فمن لم يعرف بقلبه معروفا و لم ينكر منكرا قلب، فجعل أعلاه أسفله و أسفله أعلاه» «5».

5- و منها ما عن تفسير الإمام الحسن العسكري عليه السّلام فقد صرح في ذيله بهذه المراتب الثلاث «6».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 441

6- و منها ما دل على قسمين منها «اليد» و «اللسان» الذي يعلم منهما الثالث أيضا، و هو ما رواه يحيى الطويل عن الصادق عليه السّلام قال: «ما جعل اللّه بسط اللسان و كف اليد و لكن جعلهما معا و يكفان معا» «1».

و ضعف اسنادها بالارسال و الجهالة غير مضر بعد تضافرها و عمل الأصحاب بها، بل يمكن الاستدلال على مضمونها في الجملة بدليل العقل.

توضيح ذلك: إنّ الأصحاب (رضوان اللّه عليهم) اختلفوا في كون الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر واجبين بحكم العقل مضافا إلى حكم الشرع، فعن الشيخ و العلّامة و الشهيدين (قدس اللّه اسرارهم) و غيرهم استقلال العقل بوجوبهما، و لكن عن المحقق الثاني و فخر المحققين قدّس سرّهما بل نسب إلى جمهور المتكلمين و الفقهاء عدم استقلاله به، و إنّهما يجبان بحكم الشرع فقط.

قال العلّامة قدّس سرّه في القواعد على ما حكاه عنه في الايضاح: لا خلاف في وجوبهما إنّما الخلاف في مقامين:

أحدهما: إنّهما واجبان على الكفاية أو على الأعيان؟

و الثاني: إنّهما واجبان عقلا أو سمعا؟

و الأوّل في المقامين أقوى، و قال ولده في شرح كلام والده قدّس سرّهما ذهب السيد المرتضى و أبو الصلاح و ابن ادريس (قدس اللّه اسرارهم) إلى وجوبهما سمعا و إلّا لم يرتفع معروف و لم يقع منكر، أو يكون اللّه

مخلا بالواجب، و اللازم بقسميه باطل فالملزوم مثله «2».

و مراده من هذا الاستدلال هو أنّه لو وجبا بالعقل فوجبا على اللّه تعالى أيضا لاتحاد الملاك.

و فيه: منع ظاهر لأنّ وجوب شي ء عقلا على العباد لا يستلزم وجوبه على اللّه كما أن حفظ النفس واجب علينا و لا يجب عليه تعالى بل يعمل في ذلك بما يقتضيه مشيئته البالغة و حكمة العالية، كيف و نحن في بوتقة الامتحان، و قد جعلنا اللّه مختارين حتى نستكمل بالبلوى!!

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 442

و قال في اللمعة: «و هما واجبان عقلا في أصح القولين، و نقلا اجماعا».

و قال في المختلف بعد نفي الخلاف عن وجوبهما: «إنّما الخلاف في مقامين الأوّل: هل هما واجبان عقلا أو سمعا؟ فقال السيد المرتضى و أبو الصلاح و الأكثر بالثاني، و قواه الشيخ في كتاب الاقتصاد، ثم عدل إلى اختياره الأوّل، و الأقرب ما اختاره الشيخ (أي وجوبها عقلا)» «1».

و لكن الانصاف أنّ وجوبهما في الجملة بحكم العقل ممّا لا سبيل لنا إلى انكاره، و قد أرشدنا الإمام الباقر عليه السّلام إلى دليله العقلي، بقوله عليه السّلام فيما روى عنه: «إنّ الأمر بالمعروف سبيل الأنبياء و منهاج الصلحاء فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، و تأمن المذاهب، و تحل المكاسب، و ترد المظالم، و تعمر الأرض، و ينتصف من الاعداء و يستقيم الأمر» «2».

و قد أشار إليه قبل ذلك مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في بعض كلماته مشيرا إلى هذه الفريضة «إذا أدّيت و اقيمت استقامت الفرائض كلها هيّنها و صعبها» الى آخر الحديث.

و إن شئت قلت: تركهما يؤدي إلى فساد المجتمع كله و اشاعة الفحشاء و المنكر فيجبان من باب المقدمة للواجب، هذا و لكن

القدر المتيقن منه هو وجوب الانكار و الأمر باللسان و اليد، أمّا بالقلب، فلا يمكن إثباته بدليل العقل، اللّهم إلّا أن يقال: لو لم ينكر بقلبه اثّر ذلك في عمله بيده و لسانه، فوجوبه أيضا من باب المقدمة فتأمل.

هذا و قد يقال: «إنّ المراد من الانكار بالقلب ما يظهر آثاره في الوجه» و وجوبه حينئذ ظاهر.

هذا و لكن الأمر سهل بعد كون الكلام في الانكار أو الأمر باليد، و الظاهر أن وجوبهما بدليل العقل ثابت في جميع مراتبه حتى القتل في الجملة، فلو لم يرتدع الفاعل للمنكر و كان وجوده منشأ لفساد عظيم في المجتمع جاز قتله بحكم العقل، و دخل في عنوان المفسد في الأرض في الجملة.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 443

و من هنا يظهر الحال في «المقام الأوّل» و أنّ وجوب هذه المراتب باجمعها من الانكار بالقلب إلى آخر مراتب الإنكار باليد واجب باطلاق ما عرفت من الروايات الشارحة لمراتب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، بل باطلاق ما دلّ على وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أيضا.

إن قلت: ما الفائدة في ترك المنكر بالاجبار، و كذا فعل المعروف كذلك؟ و وجود الاجبار في بعض المراتب المذكورة ممّا لا يكاد ينكر؟ أو ليس المقصود من تشريع الشرائع تكميل النفوس و دعوتها إلى فعل المعروف و ترك المنكر اختيارا، و قيام الناس بالقسط و العدل؟ و أي فائدة في الجميل الاضطراري؟

قلت: العمل بهذه الوظيفة و إن أدّى إلى الاجبار في كثير من الموارد بالنسبة إلى بعض الناس، لكنه لطف بالنسبة إلى غيرهم ممن يعيش في ذلك المجتمع، فان نشر آثار الفساد و إشاعة الفحشاء ممّا يوجب ترغيب النفوس نحوه بلا ريب، بل قد يكون

لطفا أيضا في حق فاعله في الوقائع المستقبلة (إذا لم يكن النهي بقتله) و إن هو إلّا كإجراء الحدود و التعزيرات التي لا يمكن إنكار تأثيرها في تربية النفوس.

إن قلت: فوجوب هذه المراتب ثابت في أي أمر؟ فهل يجوز قتل من لا يرتدع من شرب الخمر و القمار مثلا، كما لعله ظاهر اطلاق كلماتهم.

قلت: كلّا، بل اللازم مراعات الأهم في البين و اطلاقات الآيات و الروايات منصرفة إليه كإطلاق كلماتهم، فلا يجوز الضرب و الجرح أو الكسر و القتل في كل مورد من موارد ترك المعروف و فعل المنكر بل لا بدّ من ملاحظة الأهم و المهم.

و إن شئت قلت: يقع التعارض بين أدلة وجوبهما و أدلة حرمة ايذاء المؤمن و جرحه و قتله، بل هو من قبيل التزاحم، و من المعلوم أن مقتضى القاعدة في المتزاحمين الأخذ بالأهم.

و من هنا يظهر الحال في «المقام الثاني»، و أنّه يجب الأيسر، فما دام المواعظ الحسنة مؤثرة لا يجوز الانكار بالكلمات الخشنة، و ما فيه هتك و تحقير و ايذاء، و ما دامت هذه مؤثرة لا تصل النوبة إلى الضرب، و قد يكون الضرب، و قد يكون الضرب أهون من بعض انوار الفقاهة، ج 1، ص: 444

الكمات الخشنة، و هكذا الحال في الاقدام على الجروح أو الكسر أو قتل، و يتفاوت جميع ذلك بحسب الأشخاص و المقامات.

و الدليل عليه (و إن كان بعض كلماتهم مطلقة و ظاهرة في عدم الترتب) و ما عرفت من التزاحم بين أدلة وجوبهما و أدلة حرمة الايذاء، و اللازم الأخذ بالأهم، و كذا بالأيسر ثم الأيسر.

مضافا إلى ما يظهر من الآية الشريفة في قتال طائفتين من المؤمنين فقد قال سبحانه:

وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ

الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ «1».

فقد ذكر فيها الإصلاح أولا، ثم الاقتتال إذا لم ينفع الإصلاح.

و كذا ما يظهر من بعض الروايات السابقة الظاهرة في الترتب.

و العجب من بعض أعاظم العصر حيث ذكر في بعض كلماته أنّ الترتيب غير مذكورة في الروايات الباب، و ما افيد من أنّ النسبة بينها و بين أدلة حرمة الايذاء عموم من وجه، منظور فيه، فان انحاء الأمر و النهي ذكر فيها بالواو الظاهرة في عدم الترتيب، و ليس من قبيل العموم، و أمّا الاستشهاد بالآية الشريفة فيشكل لأنّه راجع إلى المقاتلة بخلاف المقام «2».

و فيه مواقع للنظر، اما أولا: فلأنّ المقام ليس من قبيل التعارض، بل من قبيل التزاحم كما عرفت، لأنّ الملاك محرز من الجانبين، فاللازم الأخذ بأقوى الملاكين و أهم المصلحتين لا الرجوع إلى قواعد باب التعارض كما هو ظاهر.

و ثانيا: العطف بالواو لا يدل على التساوي لا سيما بعد وجود القرينة و مناسبة الحكم و الموضوع، و هي هنا موجودة مع قطع النظر عن أدلة حرمة الايذاء، فإذا كان هناك رجل مشغول بشرب الخمر يرتدع بأدنى كلمة، فأي فقيه يجوّز ضربه أو جرحه أو قتله أخذا باطلاق أدلة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر؟

و ثالثا: دلالة الآية ممّا لا ينبغي أن ينكر، فانّه لا فرق بين المقاتلة و القتل لأنّ القتل في انوار الفقاهة، ج 1، ص: 445

المقام أعم من أن يكون من طريق المقاتلة أو غيرها.

و ممّا ذكرنا يظهر أنّه لا يجوز الضرب أو الجرح أو القتل في جميع موارد المنكر أو ترك المعروف بل لا بدّ من ملاحظة الأهم و المهم في كل

مورد.

اما المقام الثالث: ففيه خلاف بينهم.

فالمحكي عن نهاية الشيخ قدّس سرّه أنّ الأمر بالمعروف باليد، بمعنى حمل الناس عليه، أمّا القتل و ضرب من الجراحات فهو لا يجوز إلّا باذن سلطان الوقت المنصوب للرئاسة العامة (أي الإمام عليه السّلام)، فالمراد باليد في الأخبار هو الجري العملي على المعروف ليتأسى به الناس.

و قد يقال: إنّ الضرب جائز، و لكن الجرح أو القتل لا يجوز إلّا باذن الإمام عليه السّلام كما عن الفخر و الشهيد و المحقق الثاني و المقداد.

بل في المسالك أنّه الأشهر بين الأصحاب.

و هنا قول ثالث، و هو أن إذن الإمام شرط فيما كان الضرر مقصود، أمّا إذا كان شبه المدافعة أو الممانعة التي قد يحصل منها ضرر غير مقصود فلا، و يظهر ذلك من المرتضى قدّس سرّه فيما رواه في المختلف عنه «1».

و قول رابع، و هو التفصيل بين الجرح و القتل و أنّ الأوّل جائز (بغير اذن الإمام عليه السّلام) دون الثاني، حكاه في الجواهر عن الشهيد الثاني «2».

و قد يظهر من بعض الكلمات قول خامس و هو عدم حاجة القتل أيضا على اذنه عليه السّلام، و أنّه إذا وجب على الإمام عليه السّلام وجب على غيره بحكم التأسي «3».

هذا و لكن الانصاف عدم جواز شي ء من الضرب و الجرح و الكسر و القتل إلّا بإذن الإمام عليه السّلام، لما في جواز ذلك على آحاد الناس من المفاسد العظيمة التي قد توجب اخلال النظام و الهرج و المرج، لا سيما إذا كان فيهم جهال لا يقفون على شي ء و لا يدرون مواقع انوار الفقاهة، ج 1، ص: 446

الامور و مقاديرها- و الجاهل إمّا مفرط أو مفرّط- فتفويض هذه الامور إليهم يكون ضررها أكثر

من نفعها، «كان ما يفسده أكثر ممّا يصلحه» (كما ورد في الحديث) بل قد يكون دخول آحاد الناس في ذلك سببا لأعمال البغضاء و الشحناء من هذا الطريق، و التطرق إلى المقاصد السيئة تحت عنوان الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، كما لا يخفى على من له خبرة بهذه الامور، فلا بدّ في جميع ذلك من الاستيذان من «ولي الأمر» و هو كما اشتهر في الألسن أنّ اليد التي يقطعها الحاكم لا دم له!

و التمسك باطلاقات الباب كالتمسك باطلاق آية «حدّ الزنا و السارق» ممنوع بقرينة المقام.

و إن شئت قلت: هناك امور تقف على اذن الحاكم في جميع الجوامع البشرية فإذا اذن الشارع المقدس في شي ء منها انصرف إليه، و ما نحن فيه من هذا القبيل، فلا اطلاق في الآيات و الروايات بعد وجود هذه القرينة الواضحة الظاهرة.

و إن هو إلّا نظير إجراء الحدود و التعزيرات، فقد عرفت أنّه لا ينبغي الشك في كونها من وظيفة الحاكم الشرعي، بل إجرائها من مصاديق الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كما لا يخفى على اللبيب.

فقد ظهر من جميع ذلك أنّ الأظهر بحسب القرائن العقلية و النقلية عدم جواز شي ء من هذه المراتب الأخيرة بغير إذن الإمام عليه السّلام أو نائبه.

نعم الانكار بالقلب، سواء كان بمعنى تنفره في قلبه عن المنكر و يكون ذلك لنفسه، أو كان المراد ظهوره في صفحات وجهه بحيث ينتفع به غيره من دون تكلم، فقد يكون لسان الحال أبلغ من لسان المقال، فهذا غير متوقف على شي ء، و كذا القول باللسان في جميع مراتبه، فادلتها مطلقة لا وجه لتخصيصها بشي ء، و كذا العمل باليد بمعنى كونه «اسوة» لفعل المعروف و الانتهاء عن المنكر،

إنّما الكلام في سائر مراتب اليد.

و أمّا «المقام الرابع» من مقامات ولاية الفقيه، أعني كفاية اذن نائب الغيبة و قيامه مقام الإمام المعصوم عليه السّلام فقد صرّح بعضهم بذلك، قال العلّامة قدّس سرّه في المختلف حاكيا عن سلار بن عبد العزيز: «أمّا القتل و الجرح في الانكار فإلى السلطان و من يأمره، فان تعذر الأمر لمانع انوار الفقاهة، ج 1، ص: 447

فقد فوضوا عليهم السّلام إلى الفقهاء إقامة الحدود و الأحكام بين الناس، بعد أن لا يتعدوا «واجبا» و لا يتجاوزوا «أحدا»، و أمر عامة الشيعة بمعاونة الفقهاء على ذلك ما استقاموا على الطريقة.

ثم قال العلّامة قدّس سرّه: «و الأقرب عندي جواز ذلك للفقهاء، ثم استدل بأن تعطيل الحدود يقتضي إلى نشر الفساد و ارتكاب المحارم، و بما رواه عمر بن حنظلة و غير ذلك من الأحاديث الشاملة لإقامة الحدود و غيرها» «1».

و الظاهر أنّهم ينظرون إلى إقامة الحدود كأحد مصاديق الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و هو كذلك، و قال الفقيه الماهر صاحب الجواهر قدّس سرّه: «في جواز ذلك (أي الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر إذا أدى إلى جرح أو قتل) لنائب الغيبة مع فرض حصول شرائطه أجمع، التي منها عدم الضرر و الفتنة و الفساد: لعموم ولايته عنهم قوّة، خصوصا مع القول بجواز إقامة الحدود له، و إن كان ذلك فرض نادر بل معدوم في مثل هذا الزمان» «2».

أقول: الحق ما ذكره هؤلاء الأعلام، لما سيأتي إن شاء اللّه من الأدلة العامة الدالة على ولايته في أمثال ذلك، مضافا إلى ما عرفت من الأدلة الدالة على جواز إجراء الحدود له، الشاملة لما نحن بصدده، بطريق أولى (و قد مر الكلام فيه آنفا

في المقام الثالث).

و ليعلم أنّ المراد بالجواز في جميع هذه المقامات هو الجواز بالمعنى الأعم الشامل للوجوب، بل مصداقه هنا هو الوجوب، لوجوب الوظيفتين كما لا يخفى.

المقام الخامس: الولاية على الحكومة
اشارة

و هذه هي العمدة في هذه الأبحاث، و إنّما تكلمنا في المقامات السابقة ليعلم أن ولاية الفقيه لا تنحصر في الولاية على الحكومة، و إن كانت هي أظهر مصاديقها في عصرنا هذا.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 448

و لنتكلم أولا في ضرورة الحكومة للناس، و أنّه لا بدّ لهم من أمير و حاكم، ثم لنتكلم عن ما يدل على أولوية الفقيه في الإسلام بهذا المقام، ثم نعقبه بشرائطها ثم حدودها، فهذه امور أربعة لا بدّ من البحث عنها.

[هنا أمور أربعة لا بد من البحث عنها]
الاول: ضرورة الحكومة للناس:

أمّا الأوّل: فيمكن إثباته من طرق:

أحدها: لا ريب في ان الحياة الإنسانية حياة تقوم على المجتمع، فلو تجرّدت حياة من هذه الخصيصة انحدر الإنسان إلى أقصى مراتب الجاهلية الجهلاء و البهيمة و الشقاء، لأنّ جميع المنافع و الآثار المطلوبة الحاصلة في المجتمع البشري من الحضارات و التقدم نحو الكمال، و الأخلاق و الآداب و العلوم المختلفة، إنّما تكون ببركة حياته الاجتماعية و ما فيها من انحاء التعاون و التعاضد بين أفراد المجتمع و ما يفضي من تكاتف القوى و تراكم الافكار و تلاقح القابليات، فالانسان إذا عاش منفردا كان كأحد الحيوانات، و إنّما أعطاه اللّه الميل و التجاذب نحو هذا اللون من الحياة كي يتحصل على هذه المنافع العظيمة، و الكمال اللائق بحاله في بعديه المعنوي و المادي، و قد أكد الشارع المقدس على الاحتفاظ بهذا النوع من الحياة، و جعله كأصل ثابت، و كحجر أساس في جميع أحكامه و قوانينه، كما لا يخفى على من سبر أحكام الإسلام بالدقة و التأمل.

ثم من الواضح أنّ حياة الإنسان في المجتمع، على رغم شتى البركات و المنافع الضرورية، لا تخلو عن منافسات و مضاربات و منازعات، لا لغلبة الشهوات على الناس

فحسب، بل لما يقع هناك من الخطأ في تشخيص الحقوق و حدودها، فلا بدّ لهم من قوانين تبيّن لهم ما يستحق كل واحد منهم، و ما هو طريق التخلص عن التزاحم ورد التعدي و التجاوز و غير ذلك، و هذه القوانين بنفسها لا أثر لها في نفي هذه الامور، حتى يكون هناك من ينفذها و يجريها، و لا يكون ذلك إلّا بايجاد الحكومة و لو بشكل ساذج بسيط.

و إذا اتفق المتكلمون من أصحابنا و غيرهم، على أنّ الإمامة واجبة بين المسلمين إلّا ما قد يحكى عن أبي بكر الأصم من العامة أنّها غير واجبة، إذا تناصفت الامة و لم تتظالم، و هو شاذ جدّا «1».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 449

و كذا اتفق العقلاء من جميع الامم على ضرورة الحكومة للمجتمعات البشرية عدا ما يلوح من الشيوعيين من عدم لزومها بعد تحقق الكمون المتكامل لأبناء البشر، و بعد طرد النظام الطبقي فانّ الحكومة إنّما شرّعت- حسب زعمهم- لحفظ منافع الطبقة الحاكمة، فإذا انتفى هذا النظام انتفت الحكومة.

و لكن هذه كلها أوهام و تخيلات واهية لا وزن لها عند ما نلمس الحقائق الراهنة في المجتمع البشري، أمّا وصول الإنسان إلى مستوى عال من الأخلاق و التقوى الذي يطرد أي اختلاف و تنازع فهو أمر بعيد المنال لا ينبغي البناء عليه في هذه الظروف التي نعيش فيها و في المستقبل على ما نعهده.

سلّمنا تحقق ذلك، و لكن هذا لا يغني عن الحكومة، لأنّها ليست لدفع التزاحمات فقط، بل هناك امور كثيرة تتعلق بحياة المجتمع ليست في عهده فرد معين أو أفراد خاصين كبناء الطرق، و جلب الارزاق و دفع الآفات و العناية بشؤون الصحة و التعليم و التربية، و

تنظيم البرامج الاقتصادية التي قد تهلك الامة بدونها، أو تقع في حرج شديد و عسر عسير، فما ذكر من بلوغ الامة إلى حد التناصف، أو بلوغها إلى حدّ حذف الطبقة الظالمة على فرض تحققها، إنّما يوجب غناء الامة عن النظام القضائي و ما يتعلق به فقط، و أمّا ما تتصدى له الآن وزارة «الصحة» و «التعليم» و «الثقافة» و «الاقتصاد» مثلا، و غير ذلك ممّا هو كثير، فضرورتها باقية ما بقي الإنسان في المجتمع، فحذف الحكومة من حياة الإنسان و هم في وهم، و خيال في خيال!

و إن شئت جعل هذا الدليل في صبغة إسلامية، فراجع كلمات المتكلّمين عند ذكر وجوب بعث الرسل و انزال الكتب، أو وجوب نصب الإمام بعد ارتحال الرسول صلّى اللّه عليه و آله من دار الدنيا، فانّه ينادي بأعلى صوته على ضرورة الحكومة في كل عصر و زمان، مثل ما ذكره العلّامة الطوسي قدّس سرّه في شرح تجريد الاعتقاد حيث قال في بحث لزوم البعثة:

«منها: أنّ النوع الإنساني خلق لا كغيره من الحيوانات، فانّه مدني بالطبع، يحتاج إلى امور كثيرة في معاشه، لا يتم نظامه إلّا بها، و هو عاجز عن فعل الأكثر منها إلّا بمشاركة و معاونة، و التقلب موجود في الطبائع البشرية، بحيث يحصل التنافر المضاد لحكمة

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 450

الاجتماع، فلا بدّ من جامع يقهرهم على الاجتماع و هو السنة و الشرع و لا بدّ للسنة من شارع يسنها و يقرر ضوابطها ... بحيث يتمّ النظام و يستقر حفظ النوع الإنساني على كماله الممكن.

و منها: أنّ مراتب الأخلاق و تفاوتها معلوم يفتقر فيه إلى مكمل لتعليم الأخلاق و السياسات بحيث تنتظم امور الإنسان بحسب بلده و منزله».

و

قال في بحث لزوم نصب الإمام عليه السّلام بعده صلّى اللّه عليه و آله:

«و استدل المصنف على وجوب نصب الإمام على اللّه تعالى بأن لطف و اللطف واجب، أمّا الصغرى فمعلومة للعقلاء، إذ العلم الضروري حاصل، بأنّ العقلاء متى كان لهم رئيس يمنعهم عن التغالب و التهاوش و يصدّهم عن المعاصي و يعدهم و يحثهم على فعل الطاعات و يبعثهم على التناصف و التعادل، كانوا إلى الصلاح أقرب و من الفساد أبعد» (انتهى محل الحاجة).

ثانيها: إنّ أحكام الإسلام لا تنحصر بالعبادات، بل فيها أحكام كثيرة ترتبط بالشئون السياسية، و الاجتماعية، و غيرها، كأحكام الجهاد و الحدود و القضاء و الزكاة و الخمس و الانفال و غيرها ممّا لا يمكن تعطيلها في أي عصر و زمان، سواء عصر غيبة الإمام عليه السّلام أو حضوره، فهل يمكن تعطيل القضاء بين الناس، مع كثرة الخلاف و التنازع بينهم؟ أو هل يمكن تعطيل الحدود و القصاص و شبهها الموجب لتجري أهل الفتنة و الفساد في الأرض؟

أو هل يمكن ترك الدفاع عن حوزة الإسلام عند هجوم الأعداء عليها من الخارج أو من أهل النفاق عن الداخل؟!.

ثم هل يمكن اعطاء كل من هذه الامور حقّها بغير تأسيس الحكومة القوية القادرة على تنفيذ الأحكام الخاصة بهذه المسائل؟ و من أنكر هذه إنّما ينكره باللسان و قلبه مطمئن بالإيمان.

فلذا نرى الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله عند ما هاجر إلى المدينة و ثبتت قدماه في أرضها أقدم على تأسيس الحكومة الإسلامية قبل كل شي ء، بتجنيد الجنود، و تعيين بيت المال، و جمع الزكوات، و ارسال الرسل، و نصب القضاة و بعث العيون، و غير ذلك، و لولاها لما ثبتت للإسلام قائمة، فانّه

لم يكن الإسلام مجرّد تبليغ الأحكام و تعليمها، و أي أثر للتعليم المجرد

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 451

عمّا يوجب انفاذ الأحكام و إجرائها، اللّهم إلّا أثرا ضعيفا، بل السرّ في نفوذ الإسلام على أكثر بقاع المعمورة من الأرض في مدّة قليلة قد لا تبلغ قرنا واحدا، هو اعتماده على تأسيس الحكومة و ايجاد نظام لأمره، كما لا يخفى على الخبير.

ثالثها: الروايات الكثيرة الدالة على ضرورتها للامة الإسلامية منها ما يلى:

1- ما رواه في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه لما سمع كلام الخوارج «لا حكم إلّا اللّه» قال: «كلمة حق يراد بها الباطل، و لكن هؤلاء يقولون «لا أمرة إلّا للّه» و انّه لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر، يعمل في أمرته المؤمن، و يستمتع فيها الكافر و يبلغ اللّه فيها الأجل، و يجمع به الفي ء، و يقاتل به العدو، و تؤمن به السبل، و يؤخذ به للضعيف من القوى» «1».

و حاصله أنّ الحكم له معنيان: أحدهما: الحكم بمعنى تشريع القانون الإلهي فهو منحصر بمشية اللّه و إرادته، و الثاني: بمعنى إجراء هذا القانون، و هذا لا يكون إلّا بسبب إنسان إن كان برّا فهو، و إلّا خلفه فاجر، و لكن الخوارج قد لبسوا على أنفسهم و على الناس بالخلط بين المعنيين، ثم أشار عليه السّلام إلى فوائد سبعة لتأسيس الحكومة و انه لا تتيسر بدونها هذه الفوائد العظيمة.

و في بعض الروايات المروية من طرق العامة أنّه لما قال عليه السّلام: لا يصلح الناس إلّا بأمير بر أو فاجر، قالوا: يا أمير المؤمنين! هذا البر، فكيف بالفاجر؟ قال: «إن الفاجر يؤمن اللّه به السبل، و يجاهد به العدو، و يجيى به الفي ء،

و يقام به الحدود و يحج به البيت، و يعبد اللّه فيه المسلم آمنا» «2».

و هذا دليل أيضا على أن حكومة الظالمين و إن كانت على خلاف ما أمر اللّه به و لكنه أحيانا يحصل بها بعض المنافع المترقبة من الحكومة العادلة، كالموارد المذكورة في الرواية، و هذا أمر ظاهر في بعض الحكومات التي نرى في شتى نواحي العالم.

2- الرواية المعروفة لفضل بن شاذان رواها في «علل الشرائع» و فيها بيان علل كثيرة

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 452

للأصول و فروع الدين و منها بيان علل جعل اولي الأمر، و قد ذكر عليه السّلام له عللا ثلاثة:

«أولها»: لزوم إجراء الحدود، و أنّه لو لا ذلك ظهر الفساد في الامة، و لا يكون ذلك إلّا بنصب ولاة الأمر.

و «ثانيها» ما نصه: «أنا لا نجد فرقة من الفرق، و لا ملّة من الملل بقوا و عاشوا إلّا بضم رئيس».

و ذكر في «الثالث» حكمة حفظ أحكام الشرع عن الاندراس، و المنع عن تغيير السنة و زيادة أهل البدع «1».

و يظهر من «الوسائل» من أبواب مختلفة، أنّه رواها عن الرضا عليه السّلام، و لكن ليس في البحار إلّا روايته عن الفضل بن شاذان من دون انتهائه إلى الإمام عليه السّلام، و لكن من البعيد جدّا رواية مثل هذه الرواية، من غير المعصوم عليه السّلام فراجع «2».

هذا مضافا إلى ما حكاه في عيون اخبار الرضا عليه السّلام فانّه بعد نقل تمام الحديث قال:

«سأله على بن محمد بن قتيبة الراوي عن الفضل إنّ هذه العلل عن استنباط منه و استخراج؟

قال: ما كنت لأعلم مراد اللّه عز و جل من ذات نفسي، بل سمعتها من مولاي أبي الحسن الرضا عليه السّلام شيئا بعد شي ء

فجمعتها» «3».

و العلل المذكورة لا تختص بالامام المعصوم عليه السّلام بل يقوم بها الفقيه أيضا ما عدا الأخير على وجه.

3- ما رواه النعماني في تفسيره عن علي عليه السّلام بعد ذكر آيات من كتاب اللّه «و في هذا أوضح دليل على أنّه لا بدّ للامة من إمام يقوم بأمرهم، فيأمرهم و ينهاهم و يقيم فيهم الحدود، و يجاهد العدو، و يقسم الغنائم، و يفرض الفرائض، و يعرفهم أبواب ما فيه صلاحهم، و يحذرهم ما فيه مضارهم، إذ كان الأمر النهي أحد أسباب بقاء الخلق، و إلّا سقطت الرغبة و الرهبة و لو يرتدع، و لفسد التدبير، و كان ذلك سببا لهلاك العباد» «4».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 453

4- و ما رواه في البحار أيضا عن الصادق عليه السّلام قال: «لا يستغني أهل كل بلد عن ثلاثة، يفزع إليه في أمر دنياهم و آخرتهم فان عدموا ذلك كانوا همجا: فقيه عالم ورع و أمير خير مطاع، و طبيب بصير ثقة» «1».

إلى غير ذلك ممّا هو ظاهر أو صريح في عدم استغناء نوع الإنسان عن الحكومة، يعثر عليها المتتبع في تضاعيف كتب الرواية.

الثاني: أولوية الفقيه
اشارة

أعني كون الفقيه الجامع للشرائط أولى بذلك من غيره، فقد يستدل له تارة بما يشبه دليلا عقليا، و اخرى بروايات كثيرة وردت في أبواب مختلفة.

أمّا الأوّل فهو ما يستفاد من كلمات بعض الأساتذة الأعلام قدّس سرّه و حاصله بتقرير منّا: إنّه لا شك- كما عرفت في المقام الأوّل- أنّه لا يمكن إهمال أمر المجتمع الإسلامى من حيث الحكومة، و أنّه لا بدّ للناس من ولي و أمير يدير امورهم و يأخذ للضعيف حقّه من القوي، و يدافع عنهم عند هجوم الأعداء، و ينتصف لهم و

منهم، و يجري الحدود، و يسوس جميع ما يحتاجون إليه في أمر دينهم و دنياهم.

كما أنّه لا ينبغي الشك في أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان بنفسه يتولى هذه الامور و من بعده كان هذا للأئمّة الهادين عليهم السّلام، و أمّا بعد غيبة ولي اللّه المنتظر عليه السّلام فإمّا أن يكون المرجع في هذه الامور خصوص الفقيه الجامع، أو يصح لكل أحد القيام بها، و القدر المتيقن من الجواز هو الأوّل، لعدم قيام دليل على الثاني، و الأصل عدم ولاية أحد على أحد، خرجنا من هذا الأصل في الفقيه، لأنّ جواز ولايته ثابت على كل حال، و إنّما الكلام في جواز غيره.

و إن شئت قلت: الحكومة الإسلامية حكومة إلهية لا تنفك سياستها عن ديانتها و تدبيرها عن تشريعها الإلهي، فالقائم بهذا الأمر لا بدّ، أن يكون عارفا بأحكامه عرفانا تاما،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 454

كما لا بدّ أن يكون عارفا بالامور السياسية و تدبير المدن، و كيف يسوغ لغير الفقيه الذي لا يعرف أحكام الشرع حق عرفانها التصدي لهذه الحكومة الإلهية؟

و بعبارة ثالثة: إنّ الحكومات على قسمين: الحكومات القائمة على أساس العقيدة و الحكومات التي ليست كذلك، و القسم الأوّل «إلهية» و «الحادية» و الإلهية كالحكومة الإسلامية، و الإلحادية كالماركسية، و في كل من هذين القسمين لا يكون الرئيس إلّا من هو عارف بتلك العقيدة عرفانا تاما، و يعرف ذاك المذهب على حد الاجتهاد فيه كما لا يخفي على من علم حال غير مسلمين أيضا في هذه الحكومات.

و بالجملة الحكومات الإلهية الإسلامية لا يمكن انفكاكها عن رئيس عالم بالمذهب و بالدين الإسلامي لا أقول أنّه يعمل فيهم بما يشاء، بل الرجوع إلى أهل الخبرة

و الاستناد إليهم، و الاستشارة في كل ما يحتاج إلى الرجوع إليهم، و سيأتي شرح هذا المعنى مستوفى إن شاء اللّه.

روايات الولاية:
اشارة

و أمّا الروايات التي استدل بها لهذا المعنى فهي كثيرة، بعضها لا يزيد عن حد الاشعار، بل لعله لا اشعار فيه، و إنّما جمعها بعضهم حرصا على تكثير الأدلة، مع أنّ تكثيرها بما لا دلالة فيها أحيانا يوجب الوهن فيما يدل، و يذهب بالاعتماد بالنسبة إلى غيره، فالأولى و الأجدر في جميع المباحث صرف النظر عن تكثير الأدلة بما يشمل الضعاف، و الاكتفاء بما يصلح للدلالة، أو يحتمل دلالتها على الطلوب، فنقول و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية، ما قيل أو يمكن القول بدلالتها على المقصود عدّة روايات:

1- مقبولة عمر بن حنظلة

و هذه المقبولة هي أشهرها في كلماتهم، رواها في الوسائل في كتاب القضاء أبواب صفات القاضي.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 455

«قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحا كما إلى السلطان و إلى القضاة أ يحل ذلك؟ قال: من تحاكم إليه في حق أو باطل فانّما تحاكم إلى الطاغوت ... قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فليرضوا به حكما فإنّي قد جعلته عليكم حاكما فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فانّما استخف بحكم اللّه و علينا ردّه، و الرادّ علينا الرادّ على اللّه و هو على حدّ الشرك باللّه» «1».

و الكلام فيها تارة من حيث السند و اخرى من حيث الدلالة.

أمّا الأوّل فالمعروف أنّ الأصحاب تلقوه بالقبول، حتى سميت في كلماتهم بالمقبولة، و إلّا يشكل الاعتماد عليها بحسب حال الرواة، و العمدة في الإشكال في سندها نفس عمر بن حنظلة لعدم ورود توثيق له في كتاب الرجال.

نعم في السند «صفوان بن يحيى»

و هو من أصحاب الإجماع، و لكن ذكرنا في محله أنّ ما هو المشهور في السنة بعض من أنّ وجود بعض أصحاب الإجماع في سند الحديث يغنينا عن ملاحظة حال من بعده، ممّا لا دليل عليه، بل لعل معنى أصحاب الإجماع كون الأصحاب مجمعين على قبول رواياتهم بأنفسهم و توثيقهم.

هذا مضافا إلى نقل روايتين في ترجمة الرجل يدلان على توثيقه، أحدهما: ما ورد في باب أوقاف الصلاة عن يزيد بن خليفة، قال: «قلت: لأبي عبد اللّه عليه السّلام إنّ عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: اذا لا يكذب علينا» «2».

و في رواية اخرى عن عمر بن حنظلة قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام القنوت يوم الجمعة فقال: أنت رسول إليهم في هذا، إذا صليتم في جماعة ففي الركعة الاولى و إذا صليتم وحدانا ففي الركعة الثانية» «3».

و ذكر المحقق المامقاني قدّس سرّه في تنقيح المقال بعد ذكر هاتين الروايتين يظهر منهما توثيقه.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 456

أقول: الاستناد إليهما في توثيق الرجل مشكل جدّا:

أمّا الأوّل فلاشتماله على «يزيد بن خليفة» و هو مجهول، و الراوي في الثاني هو نفس عمر بن حنظلة و الاستناد إليه في إثبات وثاقته دور باطل، فالأولى في تصحيح سند الحديث ما مرّ من كونه مستندا للأصحاب و مقبولا عندهم.

و من الجدير بالذكر أنّ الشهيد الثاني قدّس سرّه وثقه في درايته على ما حكاه عنه المجلسي قدّس سرّه في روضة المتقين «1».

أمّا دلالتها، فهل هي بصدد نصب الحاكم بمعنى الوالي أو القاضي، أو بصدد بيان المرجع للتقليد في الأحكام الشرعية، أو صدرها في شي ء و ذيلها في شي ء آخر؟ كل محتمل.

و غاية ما قيل أو

يمكن أن يقال في دلالتها على الحكم بالمعنى الأوّل امور:

1- إنّ لفظ الحكم، ظاهر في الحكومة بمعنى الولاية لا القضاء.

2- إنّ الرجوع إلى السلطان أو إلى القضاة (كما ورد في الحديث) يشمل المنازعات التي تحتاج إلى القضاء و ما لا تحتاج إلى ذلك، كالتنازع لأجل عدم أداء الحق من الدين أو الميراث أو غيرهما بعد ثبوت الحق، فانّ مرجعها السلاطين و الأمراء.

3- قوله «من تحاكم إليهم في حق أو باطل فانّما تحاكم إلى الطاغوت ...» أيضا ظاهر في خصوص الولاة.

4- الآية التي استشهد بها و هي قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً «2».

5- قوله عليه السّلام «فليرضوا به حكما» يكون تعيينا للحاكم مطلقا، لأنّ الرجوع إلى القضاة لا يعتبر فيه الرضا فهذا دليل على عدم إرادة خصوص القضاء.

6- عدوله عليه السّلام عن قوله: «جعلته قاضيا» إلى قوله «جعلته عليكم حاكما».

7- لا يبعد أن يكون عنوان القضاء أيضا أعم من قضاء القاضي و حكم الحاكم.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 457

8- التعبير- «على» في قوله: «جعلته عليكم حاكما» مع أنّ المناسب للقاضي أن يقول «جعلة قاضيا بينكم»، و من جميع ذلك يعلم أنّ الأظهر أنّ قوله: «فاني قد جعلته عليكم حاكما» هو جعل الفقيه حاكما في القضاء و الولاية العامة.

9- بعد ما ثبت ضرورة الحكومة في جميع الأعصار و عدم جواز تعطيلها، و دلّت المقبولة على حرمة التسليم للطواغيت و الرجوع إليهم، يظهر منها قهرا أنّ المتعين للولاية هو الواجد للصفات التي ذكرها الإمام عليه السّلام في المقبولة.

10-

القضاء من شئون الولاية، فإذا ثبت اشتراطه بالولي الفقيه فيثبت في غيره.

11- استناد بعض الفقهاء إليه في مبحث ولاية الفقيه مؤيد للمطلوب، هذا صاحب الجواهر قدّس سرّه استند إليه في الأبواب المختلفة فراجع.

12- التعبير فيها بالسلطان الظاهر في الولاية.

و هذه الوجوه ذكرناها مبسوطة و إن كان يمكن ادغام بعضها في بعض، كي نؤدي البحث حقّه، و مع ذلك فبعضها ظاهر البطلان، و بعضها غير خال عن الإشكال:

أمّا «الأوّل» فلا ينبغي الشك لمن راجع موارد استعمال كلمة «الحكم و التحكم» في القرآن الكريم و الأخبار و الآثار، أنّ الأظهر فيها هو القضاء (نعم في استعمالات الفارسية الدارجة ظاهرة في الحكومة، و لعل منشأ الاشتباه لبعض هو هذا) كالآيات الكثيرة الدالة على أنّ اللّه يحكم يوم القيامة بين الناس، و ما دلّ على مؤاخذة الكفار على ما يحكمون ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ* الواردة في الآيات المتعددة، و ما دلّ على حكم داود و حكم النبي صلّى اللّه عليه و آله في اختلاف الناس، و ما ورد في باب أبواب القضاء و أحكام القضاة و ما أكثرها و لذا ذكر الراغب في مفرداته عنه ذكرنا معنى الأصلي «إن الحكم بالشي ء أن تقضي بانّه كذا أو ليس بكذا» و هذا أمر ظاهر لمن راجع اطلاقات لفظ الحكم في الكتاب و السنة و لا أقل من عدم ظهوره في غير هذا المعنى.

و أمّا «الثاني» فلأنّ الظاهر من المنازعة: هي المنازعة التي تحتاج إلى القضاء بلا ريب.

و اما «الثالث» «و الرابع» فلأنّ الظاهر من الآية الشريفة أنّ المروي عن أكثر المفسرين كما في مجمع البيان أنّها نزلت في خصومة كانت بين يهودي و منافق، فقال اليهودي: أرضى انوار الفقاهة، ج 1، ص:

458

بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و قال المنافق بل كعب بن أشرف! لعله بانّه يقبل الرشوة، فالطاغوت بمعنى القاضي الجائز هنا.

و اما «الخامس» فلأنّه إشارة إلى قاضي التحكيم، و هو الذي يختاره الرجلان لأنّ يحكم بينهما و هو غير القاضي المنصوب، و إلّا فقوله فليرضوا به حكما لا يناسب الحكومة بمعنى الولاية لعدم اعتبار الرضا فيها كما هو ظاهر.

و يظهر الجواب من «السادس» بما مرّ في الأوّل، فانّ الحاكم هو القاضي، و اعجب من الجميع «السابع» و هو أن يكون القضاء عاما يشمل الولاية مع أنّ المتبادر منه غيره.

و أمّا «الثامن» فلأنّ العلو كما يكون في الوالي يكون في القاضي، لنفوذ حكمه، فيناسب استعمال كلمة «على».

و اما «التاسع» من اعجب هذه الوجوه، لأنّه استدل بدليل خارجي لا يرتبط بالرواية و ظهورها في المطلوب، كما لا يخفي.

و اما «العاشر» فلأنّ كون القضاء من شئون الولاية ليس دليلا على اعتبار جميع ما يعتبر فيه في الولاية، فلذا كانت القضاة في جميع الأعصار من العلماء ظاهرا، حينما كانت الولاية من غيرهم أيضا.

و أمّا «الحادي عشر» فلأنّ استناد بعضهم إليه لا يكون دليلا أصلا، بعد ما حكم كثير منهم بأن المقبولة ظاهرة في القضاء فقط.

فقد صرح المحقق الخوانساري قدّس سرّه، و كذا المحقق الايرواني قدّس سرّه، بظهور المقبولة في القضاء (راجع جامع المدارك و تعليقة المكاسب) و غيرهم كما سيأتي.

و أمّا «الثاني عشر» فسيأتي جوابه عند الكلام في المشهورة.

و الانصاف أنّ قوله «بينهما منازعة في دين أو ميراث» و قوله «من تحاكم إليهم في حق أو باطل» و قوله «ما يحكم له فانّما يأخذه سحتا» و كذا الاستدلال بالآية الشريفة (بما عرفت من شأن نزولها) و ما ورد

في ذيلها من اختلافهما قوية ظاهرة في أنّ المراد من الحكم فيها هو القضاء، و أظهر منها ما ورد في ذيل الرواية من أعمال المرجحات بين مأخذ الحكمين الذي بمعنى المستند للفتوى أو القضاء فانّه لا معنى لكون الحكم فيه بمعنى انوار الفقاهة، ج 1، ص: 459

الولاية، فهذه شواهد قوية على كونها بصدد بيان منصب القضاء و الفتوى لا غير.

و على كل حال، الانصاف أنّ ملاحظة صدر الرواية و ذيلها يدلّان دلالة صريحة على أنّها بصدد بيان تعيين القضاة العدول.

نعم يمكن أن يكون الذيل ناظرا إلى مرجع الفتوى أو القضاء في الشبهات الحكمية، فان مراجعة القضاة لا يختص بالشبهات الموضوعية، لا سيما مع ما عرفت من أنّ المتعارف في تلك الأزمنة وحدة القاضي و المفتى في كثير من الأحيان، و لذا استدل بها جمع كثير على قبول منصب القضاء للفقهاء، منهم المحقق النراقي قدّس سرّه في عوائده حيث قال: «فلهم ولاية القضاء و المرافعات، و على الرعية الترافع إليهم، و قبول أحكامهم»، ثم استدل له بمقبولة عمر بن حنظلة «1».

و قال سيدنا الاستاذ الحكيم قدّس سرّه في نهج الفقاهة:

«أمّا الحكم في المقبولة فالظاهر منه من له وظيفة الحكم، أمّا بمعنى الحكم و القضاء بين الناس، فيختص لفصل الخصومة أو مطلقا، فيشمل الفتوى كما يشير إليه العدول عن التعبير بالحكم إلى التعبير بالحاكم حيث قال عليه السّلام: «فليرضوا حكما فإنّي قد جعلته عليكم حاكما» مضافا إلى ما يأتي مثله في المشهورة، و ليس له ظهور بمعنى السلطان أو الأمير كي تكون له ولاية التصرف في الامور العامة فضلا عن أن يكون بمعنى من له الولاية المطلقة بالتصرف في النفوس و الأموال» «2».

فقد تحصل من ذلك كله عدم

دلالة المقبولة على أزيد من حكم القضاء في الشبهات الموضوعية و الحكمية جميعا.

2- مشهورة أبي خديجة

قال: بعثني أبو عبد اللّه عليه السّلام إلى أصحابنا فقال: «قل لهم، إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 460

أو تداري في شي ء من الأخذ أو العطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق، اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا و حرامنا، فإنّي قد جعلته عليكم قاضيا، و إياكم أن يخاصم بعضكم إلى السلطان الجائر» «1».

و الكلام فيه أيضا من جهة السند و الدلالة:

و أمّا الأوّل فالعمدة في جواز العمل بها شهرتها و اشتهار العمل بها بين الأصحاب، حتى سميت مشهورة، و إلّا فنفس الراوي (أبو خديجة) فهو محل للكلام، و اسمه «سالم بن مكرم» فقد صرح النجاشي بانّه ثقة بينما ضعفه الشيخ قدّس سرّه في بعض كلماته فقال: إنّه ضعيف جدّا، و عنه في بعض كلماته أنّه ثقة، و توقف العلّامة قدّس سرّه في الخلاصة في أمره لتعارض الأقوال فيه «2».

و لعل خلاف العلمين فيه ناش عمّا ذكروه في الرجل من أنّه كان في بعض أيّامه منصرفا عن الحق، تابعا لأبي الخطاب الملحد المعروف، حتى هداه اللّه و رجع عنه إلى الطريق السوى فراجع.

و حينئذ يشكل الاعتماد على أحاديثه بعد عدم معلومية كون نقل هذا الحديث في أي حالة من حالاته، و قوله «بعثني» و إن كان ظاهرا في حال سلامته و لكنه شهادة منه في حق نفسه.

و أمّا من حيث الدلالة فظهورها في حكم العدول ممّا لا ينبغي الريب فيه، و من الجدير بالذكر أنّه عنوان القضاء مع قوله «عليكم» و هذا يؤيد ما مرّ منّا في تفسير المقبولة و أنّ للقاضي أيضا علوا، و لكن ليس هذه اللفظة

في نسخة التهذيب و كذا ليس في نسخة الكافي (راجع، ج 7، ص 412) و كذا في روضة المتقين (راجع، ج، 6 ص 6 كتاب القضاء) و كذا الجواهر (راجع، ج 40، ص 1) كما أنّه ذكر في مقابل الرجوع إلى القضاة العدول، الرجوع إلى السلطان الجائر، و هذا يدل على أنّ المراد من الرجوع إليه الرجوع إليه لإرجاعه إلى القضاة أو لتصديهم لمنصب القضاء في بعض الامور كما لا يخفي على من راجع تاريخ انوار الفقاهة، ج 1، ص: 461

الخلفاء و غيرهم فقد كانوا يتصدون لبعض القضاء بأنفسهم أو باحضار القضاة و الاستشارة معهم، و كم له من مثال.

و التعبير بالخصومة و التداري في صدرها، كالتعبير بالتحاكم أيضا، شاهد ظاهر على كون الكلام في منصب القضاء، و أمّا قوله «جعلوا» ليس بمعنى قاضى التحكيم لمنافاته لقوله فإنّي قد جعلته قاضيا، بل الظاهر منه جعله بمعنى البناء العملي على الرجوع إليه، و إعلام الشيعة بأن يرجعوا إليه في خصوماتهم دون الرجوع إلى غيره.

3- التوقيع المبارك المعروف

ما رواه الصدوق في كتاب اكمال الدين، عن محمد بن محمد بن عصام عن محمد بن يعقوب، عن اسحاق بن يعقوب، قال: «سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتابا قد سألت فيه عن مسائل اشكلت علىّ، و ورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان عليه السّلام: أمّا ما سألت عنه ارشدك اللّه و ثبتك- إلى أنّ قال- و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فانهم حجتي عليكم و أنا حجة اللّه» «1» (و الحديث طويل أخذنا مقدار الحاجة و إن شئت تمام الحديث راجع بحار الأنوار، ج 53، ص 180).

و الكلام فيه إمّا من حيث السند فقد وقع الكلام في

«محمد بن محمد بن عصام» و لكنه من مشايخ الصدوق، مضافا إلى أنّ الحديث متضافر في هذه المرحلة من نقله، فقد رواه الشيخ في كتاب الغيبة عن جماعة عن جعفر بن محمد بن قولويه و أبي غالب الرازي و غيرهما، كلّهم عن محمد بن يعقوب (الكليني) و هذا التضافر لعله كاف في الاعتماد عليه مع نقله في الكتب المعتبرة.

و أمّا اسحاق بن يعقوب فلم يرد في كتب الرجال ما يدل على حاله بل لعل عمدة روايته منحصرة بهذا التوقيع، لعدم نقل حديث آخر عنه في جامع الرواة، نعم قال الأسترآبادي انوار الفقاهة، ج 1، ص: 462

صاحب الرجال الكبير بأنّه قد يستفاد من هذا التوقيع علو رتبته (و لكن الناقل له هو نفسه) اللّهم إلّا أن يكتفي بنقل الكليني عنه، و فيه ما لا يخفي.

أمّا من حيث الدلالة ففيه احتمالات:

1- الرجوع إليهم في الأحكام الكلية و الاستفتاء منهم، و قوله «إلى رواة أحاديثنا» قد يكون قرينة عليه، فانّ الرواية تكون مرجعا في الفتوى غالبا.

2- الرجوع إليهم في القضاء في المنازعات.

3- الرجوع إليهم في تدبير امور الامة و نظامها و الأحكام الولائية.

4- الرجوع إليهم في الجميع.

و لا ريب أنّ مقتضى اطلاقها هو الأخير، بل قد يقال أنّ الرجوع إليهم في الأحكام الشرعية لم يكن يخفى على مثل اسحاق بن يعقوب، و لا يناسب التعبير بالحوادث أولا، و كذا لا يناسب التعليل بكونهم حجة على الناس ثانيا فان حجية نقل الأحكام المستفادة من الكتاب و السنة لا يحتاج إلى هذا المعنى بل هي ثابتة بلا حاجة إلى جعلهم حجة على الناس.

فالحوادث إمّا ناظرة إلى مسائل القضاء أو الولاية أو أعم منها.

هذا و لكن قد يقال: إنّ متن اسئلة اسحاق

بن يعقوب غير موجودة عندنا، و لذا يشكل الاعتماد على الأجوبة لإبهامها بإبهام السؤال.

أقول: إنّ محمد بن عثمان قدّس سرّه كان الثاني من الوكلاء الأربعة لمولانا صاحب العصر و الزمان و الظاهر أنّ منه سؤاله منه عليه السّلام عن الحوادث الواقعة إشارة إلى ما أفاده شيخنا الأعظم قدّس سرّه من الحوادث التي يرجع فيها كل واحد إلى رئيسه، و لم يكن الوصول في ذاك الوقت إلى ناحيته عليه السّلام ممكنا لغالب الناس، فكان من اللازم أن يكون هناك مرجع يرجعون فيه إليه، بدلا عن الرجوع إلى ولاة الجور، و عدم وجود السؤال بأيدينا لا ينافي ذلك، بعد وضوح الجواب، بل عدم ذكر الاسئلة في كلام الراوي لعله إشارة إلى وضوحها من الجواب، بل عدم ذكر الاسئلة في كلام الراوي لعله إشارة إلى وضوحها من الجواب، و مجرّد وجود القدر المتيقن في الرواية لا يضرنا لما ذكرنا في محله من أنّه غير ضائر بالاطلاق، و لو كان مضرا لم يجز التمسك به في غالب الاطلاقات لوجود القدر المتيقن فيها غالبا.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 463

و مال جمع من الأعاظم إلى إجمال الحديث، منهم سيدنا الاستاذ الحكيم قدّس سرّه، و احتمل الرجوع إلى الرواة لمعرفة حكم الحوادث، أي الأحكام الكلية الشرعية كما ورد في حق غير واحد من أصحابهم عليه السّلام أنّهم إذا لم يقدروا الوصول إليه في كل وقت، فاللازم عليهم الرجوع إلى بعض أكابر الرواة (انتهى ملخصا) «1» و صرّح في جامع المدارك أيضا بإجمال الحديث نظرا إلى ان «اللام» في «الحوادث» للعهد و المعهود هنا غير معلوم «2».

و استظهر المحقق الايرواني قدّس سرّه في حواشيه على المكاسب كونها ناظرة إلى مجرّد أحكام الشرعية لما فيهما

من التعليل بقوله عليه السّلام: فإنّهم حجتي عليكم، فانّ الظاهر من الحجة كونه في امور التي تحتاج إلى التبليغ.

هذا و لكن الانصاف أنّ قبول الأحكام من العلماء إنّما هو من باب رجوع الجاهل إلى العالم، لا يحتاج إلى النصب، و لا إلى التصريح بكونهم حجج المعصومين عليه السّلام على الخلق، لما عرفت سابقا من أنّ جواز ذلك هو من باب الحكم و ليس من المناصب الإلهية، فهذا التعليل دليل على انه ناظر إلى القضاء و الولاية.

و احتمال العهد في الحوادث لا ينافي العموم، بعد توصيفها بالواقعة مضافا إلى أنّه لا خصوصية للحوادث، إذا جاز الرجوع في بعضها إليهم، جاز الرجوع في غيرهم فتأمل.

و الحاصل: أنّ مقتضى اطلاقها شمولها للقضاء و الولاية، و التعبير بالحادثة و الواقعة و كونهم حجة شواهد ظاهرة على ما ذكرنا، و لا يضرنا عدم وجود اسئلة اسحاق بن يعقوب بأيدينا.

و منه يظهر الإشكال في ما أفاده المحقق النائيني قدّس سرّه في منية الطالب (بعد نقل الوجوه التي ذكرها شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه) حيث قال: فلعل المراد من الحوادث هي الحوادث المعهودة بين الإمام عليه السّلام و السائل، و على فرض عمومها فالمتيقن منها هي الفروع المتجددة و الامور الراجعة إلى الافتاء لا الأعم. «3».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 464

4- حديث «مجارى الامور ...»

روى في تحف العقول في باب المختار من كلمات الحسين بن علي عليه السّلام أنّه يروى عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «اعتبروا أيّها الناس بما وعظ اللّه به أوليائه ... إلى أن قال: و أنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تشعرون ذلك، بانّ الامور و الأحكام على أيدي العلماء باللّه،

الامناء على حلاله و حرامه فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، و ما سلبتم ذلك إلّا بتفرقكم عن الحق و اختلافكم في السنة بعد البينة الواضحة، و لو صبرتم على الاذى و تحملتم المؤونة في ذات اللّه كانت امور اللّه عليكم ترد و عنكم تصدروا إليكم ترجع و لكنكم مكنتم الظلمة من منزلتكم» «1».

و الحديث ضعيف سندا بالارسال كما هو ظاهر، و أمّا بحسب الدلالة فقد ذهب بعضهم كسيدنا الاستاذ الحكيم قدّس سرّه في نهج الفقاهة إجماله.

و قال المحقق النائيني قدّس سرّه في هذا الخبر و خبر «العلماء ورثة الأنبياء» و نحوها من الأخبار الواردة في علو شأن العالم: إن من المحتمل قريبا كون العلماء فيها هم الائمة عليهم السّلام «2».

و قال المحقق الايرواني قدّس سرّه: إنّ المراد بالامور إمّا الافتاء فيما اشتبه حكمه، أو القضاء فيما اشتبه موضوعه «3».

و لكن الانصاف- كما يظهر لمن نظر صدره و ذيله- أنّ العلماء فيه هم العارفون بدين اللّه و حلاله و حرامه، كما أنّ المراد بالامور ما يشمل الولاية و الحكومة، فانّ الحديث عن أمير المؤمنين عليه السّلام و يشير إلى غلبة أهل الباطل على الولاية، و منع أهل الحق عن محالها، و لو صبروا عادت الامور إلى محالها، و تكون الحكومة بأيديهم، و لعمرى إن ذيلها كالصريح في ذلك، و ظني أنّ القائلين بأنّها ظاهرة في خصوص الافتاء أو هو و القضاء قصروا نظرهم إلى خصوص جملة «مجارى الامور» و إلّا لو نظروا سائر فقرات الحديث لكانت واضحة عندهم، فدلالتها واضحة و إن كان سندها مرسل.

5- حديث «العلماء حكام الناس».

و في غرر الحكم عن أمير المؤمنين عليه السّلام «العلماء حكام الناس» و روى المجلسي قدّس سرّه في البحار عن الصادق عليه

السّلام «الملوك حكام الناس، و العلماء حكام على المملوك» «1» و ضعف سند الحديث بالارسال ظاهر كدلالته، فانّ المراد من الحكومة بقرينة ما روى عن الصادق عليه السّلام في كلام المجلسي هو الحكومة على القلوب و الأفئدة، لا الحكومة الظاهرية و إلّا لم يناسب جعل حكومتهم على الحكام، بل لا بدّ أن يكون على الناس و هذا ظاهر.

مضافا إلى أنّ ظاهرها كونها أخبار عن وقوع هذا الأمر في الخارج لا الإنشاء و جعل هذا المنصب لهم، فتأمل.

6- حديث «الفقهاء امناء الرسل»

في الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «الفقهاء امناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، قيل يا رسول اللّه! و ما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم»! «2».

و في سند الحديث «النوفلي» و «السكوني» و فيهما كلام معروف، فالركون إليه لا يخلو عن إشكال، و ان قبله جماعة، و مع قطع النظر عن سنده لا دلالة له على المطلوب، أمّا أولا:

فلان كونهم امناء الرسل بنفسه غير كاف، لاحتمال كونهم امنائهم على الأحكام الشرعية و المعارف الدينية، بل ظاهره ذلك، و ثانيا: ما ورد في ذيل الحديث ينادي بأعلى صوته أنّ المراد منه هو الأمانة على الدين و معارف و أحكامه، و لا يمكن التمسك باطلاق الامناء، مع قوله: فاحذروهم على دينكم، فالعلماء حافظون لتراثهم هذا و امناؤهم عليه.

7- حديث «الفقهاء حصون الإسلام»

و في الكافي أيضا بسنده عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السّلام: «إن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن المدينة» «1» و في طريقه علي بن حمزة و قد ضعفه أكثر علماء الرجال و نقل ابن محبوب عنه، و هو من أصحاب الإجماع، غير كاف في تصحيح الحديث، كما أشرنا إليه غير مرّة.

و أضعف من سنده، دلالته، فانّ مجرّد كونهم حصونا لا يدل على مسألة الولاية كما هو واضح، لإمكان كونه ناظرا إلى أنّهم حافظون لأحكام اللّه و حلاله و حرامه، مثل ما رود في حق جمع من أعاظم أصحاب الأئمّة كزرارة بن أعين و نظرائه و أنّه لو لا هؤلاء لاندرست أحكام النبوة.

نعم لا يبعد أن يكون فيه اشعار بذلك، و لكن كيف يمكن إثبات مسألة مهمّة كولاية الفقيه بمثل

هذه الاشعارات؟!

8- حديث «العلماء ورثة الأنبياء»

روى في الكافي عن علي بن ابراهيم عن أبيه عن حماد بن عيسى عن القداح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: (في حديث يذكر فيه فضل العلماء): «إنّ العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا و لا درهما و لكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر» «2».

و في معناه أحاديث آخر في الكافي و البحار و غيرهم.

و أمّا سند الحديث فهو قوي و رجال السند معروفون، و المراد من القداح عبد اللّه بن ميمون، و هو ثقة كما صرّح به غير واحد.

و أمّا دلالته فقد قال في كتاب البيع: فانّ مقتضى كون الفقهاء ورثة الأنبياء- و منهم انوار الفقاهة، ج 1، ص: 467

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سائر المرسلين الذين لهم الولاية العامة على الخلق- انتقال كل ما كان لهم إليهم، إلّا ما ثبت أنّه غير ممكن الانتقال، و لا شبهة في أنّ الولاية قابلة للانتقال، كالسلطنة التي كانت عند أهل الجور موروثة خلفا عن سلف «1».

و لكن قال في نهج الفقاهة: إنّ ما ورد في شأن العلماء- مع ضعف سند بعضه- قاصر عن الدلالة على ثبوت الولاية بالمعنى المقصود، فانّ الأوّل (العلماء ورثة الأنبياء) صريح في ارث العلم «2».

و صرّح المحقق الايرواني قدّس سرّه أيضا بأنّ المراد منه وراثة العلم، كما يشهد به عنوان الموضوع، و مع الغض عنه ليست القضية مسوقة في مقام البيان، بل هي مهملة، و المتيقن ما ذكرنا، مضافا إلى أن قوله «و ان الأنبياء» إلى آخره نص فيما ذكرنا و مبين لوراثة العلم «3».

أقول: فالمستدل بها يستدل باطلاق الوراثة فتشمل الولاية العامة، و

المنكر يدعي كونها نصا في وراثة العلم أولا، و عدم كونها في مقام البيان حتى يؤخذ باطلاقها ثانيا.

و الانصاف ظهورها- لو لا صراحتها- في وراثة العلم، لما ورد في ذيلها، و حاصله أنّ ميراث الأنبياء هو العلم، و العلماء الآخذون يعلم الأنبياء وارثون لهم.

فهو إخبار عن قضية خارجية تكوينية لا قضية إنشائية تشريعية كما يظهر بمراجعة أمثاله، التي ورد في هذا المعنى، و ليس المراد منه نفي وراثتهم للمال، كما يظهر من الحديث المجعول في أمر غصب فدك، بل المراد أنّ العمدة في ميراثهم هو العلم، و لا منافاة بينه و بين ايراثهم أموالا يسيرة أحيانا، كما يظهر من لحن الحديث، و هو كونه في مقام بيان أمر خارجي تكويني لا تشريعي.

9- حديث «اللّهم ارحم خلفائي»

روى الصدوق في الفقيه عن علي عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اللّهم ارحم خلفائي، قيل يا رسول اللّه! و من خلفائك؟ قال الذين يأتون من بعدي يروون حديثي و سنتي».

و في بعض طرق الحديث زاد: ثم يعلمونها «1».

و بعض طريق الحديث مرسلة و بعضها مسندة، و للحديث اسناد مختلفة مروية في كتب متعددة، و قد يقال إنّ كثرة أسانيدها توجب الاطمينان بصدورها، و لا سيما أنّها مروية من طريق الفريقين، و قد رواه في كنز العمال مع تفاوت يسير، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «رحمة اللّه على خلفائي، قيل و من خلفائك يا رسول اللّه؟ قال الذين يحيون سنتي و يعلمونها الناس» «2».

هذا و لكن الكلام في مفاد الرواية، فقد يقال: إنّ اطلاق الخلافة فيها يشمل جميع مناصب النبي صلّى اللّه عليه و آله و قد كان له منصب تبليغ آيات اللّه، و القضاء،

و الولاية فهذه الشؤون الثلاثة تكون للعلماء من بعده، بل قد يقال بظهورها في الأخير، فان الخلافة أمر معهود من أول الإسلام ليس فيه ابهام، فلو لم تكن ظاهرة في الولاية و الحكومة فلا أقل من أنّها القدر المتيقن منها «3».

و لكن أنكر دلالته على غير نشر الأحكام و تبليغها غير واحد منهم، كالمحقق الايرواني قدّس سرّه و غيره، و الانصاف أنّ في دلالتها على المقصود إشكال من جهتين:

من جهة كون ظاهرها قضية خبرية تحكي عن الخارج، لا في مقام إنشاء الخلافة لرواة الحديث.

و من أجل أنّ قوله في ذيلها «و يعلمونها الناس» أو «و يعلمونها عباد اللّه» أو شبه ذلك، أوضح قرينة على أنّ المراد بالخلافة فيها هو تعليم الناس و هدايتهم إلى اللّه، و تبليغ أحكام الدين و معارفه، و كون الخلافة أمرا معهودا يدفعه وجوب قرينة صارفة ظاهرة في متن الرواية و هي مسألة التعليم.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 469

و فيها إشكال ثالث من حيث عدم كونها في مقام من هذه الجهة، لأنّه فرق واضح بين أن يقال «هؤلاء خلفائي»، و بين أن يقال «اللّهم ارحم خلفائي»، فانّ الأوّل يمكن أن يكون في مقام البيان من جهة انحاء الخلافة دون الثاني، فانّه في مقام الدعاء لهم بعد الفروغ عن خلافتهم.

10- حديث «السلطان ولي من لا ولي له»

و قد اشتهر في الألسن و تداول في بعض الكتب كما أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه بل نسبت روايته النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى كتب العامة و الخاصة «إن السلطان ولي من لا ولي له».

و لعل الأصل فيه من كتب العامة ما رواه البيهقي في سننه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «لا تنكح المرأة بغير

أمر وليها، فان نكحت فنكاحها باطل، ثلاث مرات، فان أصابها فلها مهر مثلها بما أصاب منها، فان اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» «1».

و يظهر من بعض الكتب أنّ الأصل فيه في كتب الخاصة ما رواه في المستدرك في باب الثاني من أبواب العاقلة الحديث الثاني عن أمير المؤمنين عليه السّلام الوارد في رجل من أهل الموصل قتل خطأ و قال في آخره ما حاصله: أنّه إن لم يكن له في الموصل ولي فانا وليه» «2».

و من الواضح أنّه أجنبي عما نحن بصدده لعدم استفادة قاعدة كلية منه.

هذا و لكن استدل بالحديث صاحب الجواهر قدّس سرّه و غيره، قال في الجواهر في مبحث أولياء النكاح في نفي كلام المشهور: «أنّه ليس للحاكم ولاية في النكاح بالأصل أنّ الأصل مقطوع بعموم ولاية الحاكم من نحو قوله صلّى اللّه عليه و آله السلطان ولي من لا ولي له» «3».

و الحاصل: أنّه لا تزيد عن حديث مرسل أو ضعيف مروى من طريق العامة، اشتهر التمسك به في بعض الكتب، و لكن لم يثبت الاشتهار بنحو يوجب انجبار السند.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 470

و أمّا الكلام في دلالتها، فتارة يكون من جهة لفظ «السلطان» و في بعض كلمات المحقق الايرواني قدّس سرّه استظهار كونه هو الإمام المعصوم عليه السّلام من بعض كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه «1».

و الانصاف أنّه عام في كل سلطان عادل و لا وجه لاستظهار خصوص المعصوم عليه السّلام منه.

و اخرى من جهة احتمال كون وردها في الميت الذي لا ولي له كما احتمله في منية الطالب «2».

و الانصاف أنّه أيضا لا دليل عليه.

و ثالثة، من جهة أنّها ناظرة إلى ثبوت الولاية للسلطان في

كل ما يحتاج إلى ولي، و الاستدلال به لما نحن فيه من ثبوت الولاية للفقيه في ذلك موقوف على عموم النيابة، كما أشار إليه في منهاج الفقاهة «3».

و الاحسن أن يقال: إنّه لا دلالة للحديث في ثبوت الولاية إلّا للغيّب و القصّر و أمثالهم فانّه ناظرا إلى اشخاص يحتاجون إلى ولي لهم، لا إلى المجتمع الإسلامي و الحكومة الإسلامية، فانّ السلطان العادل ولي جميعهم (على القول بالولاية) لا أنّه ولي من لا ولي له، و إن شئت قلت: إنّها ناظرة إلى إثبات الولاية في الامور الخاصة مثل ما ذكر، لا الامور العامة، التي لا فرق فيها بين الأفراد و الاشخاص، فالاستدلال بها في غير هذه الموارد مشكل جدّا، فانّ ظاهرها تقسيم الناس إلى قسمين: من ثبت له ولي، و من لا ولي، له، و من الواضح أن هذا التقسيم يكون في الامور الجزئية الخاصة.

و هناك روايات اخرى مرسلة أو غيرها وردت في فضل العلماء و شبهه، لا دلالة لها، أعرضنا عنها لوضوح عدم دلالتها.

و الانصاف أنّ جماعة ممن لهم و لع بجمع الأدلة في المسألة و تكثيرها، خوفا من مكابرة المخالفين، قد أفرطوا في المقام، و تشبثوا بكل ما فيه اشعار، بل و بعض ما ليس فيه اشعار

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 471

أيضا، و قد أوجب هذا الأمر الوهن في أصل المسألة، مع أنا في غنى من هذه التكلفات بعد وضوح بعض أدلة المسألة و كفايتها و الحمد اللّه.

حاصل ما يمكن الاعتماد عليه في إثبات ولاية الفقيه:

و قد تلخص ممّا ذكرنا أنّ العمدة في إثبات ولاية الفقهاء أيدهم اللّه جميعا، في أمر الحكومة و نظم البلاد و العباد، هو الدليل العقلي الذي أوردناه في أول البحث مؤيدا بسيرة النبي صلّى اللّه عليه و

آله و بعض الأئمّة الهادين عليهم السّلام.

و ما ذكروه في بحث لزوم البعثة، و لزوم نصب الإمام عليه السّلام بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله في علم الكلام.

و من بين الروايات العشر يؤيده رواية «الحوادث الواقعة» و «مجارى الامور» لوضوح دلالتها و إن كان الكلام في اسنادهما، و أمّا غيرها من الروايات فقد عرفت عدم وضوح دلالتها، و هذا المقدار بحمد اللّه كاف في إثبات الولاية بالمعنى المذكور إن شاء اللّه، و اللّه العالم بحقائق الامور.

بقي هنا امور مهمة:
الأوّل: هل يكون تعيين الفقيه لمنصب الولاية بالنصب أو بالانتخاب؟

فما هو مقتضى الأدلة السابقة؟ و ما هو مغزاها؟

أمّا الروايات العشر على القول بدلالتها أو دلالة بعضها لا تدلّ إلّا على نصب الفقيه بعنوان ولي الأمر من ناحية الإمام المعصوم عليه السّلام أو النبي صلّى اللّه عليه و آله و هو يرجع بالمآل إلى نصبه من ناحية اللّه تبارك و تعالى.

فقوله: «إني جعلته حاكما» الوارد في المقبولة، أو «إني جعلته قاضيا»، الوارد في المشهورة، أو قوله: «أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيما إلى رواة حديثنا» أو «إن مجاري الامور بيد العلماء» فانّه يدل على ثبوت هذا المنصب لهم من غير حاجة إلى انتخاب انوار الفقاهة، ج 1، ص: 472

الناس، أو بيعتهم، أو شبه ذلك، فهذا أمر ثابت لهم ثبوتا إلهيا كما هو ظاهر واضح، و ليس فيها من أمر الانتخاب عين و لا أثر.

أمّا قوله: «فليرضوا به حكما» معناه وجوب الرضا بحكومتهم، و هو على خلاف القول بالانتخاب أدل، بل صريح فيه، لا سيما مع تعليله بقوله: فإني قد جعلته حاكما، فالنصب الإلهي يفرض على الناس الرضا بحكومته.

و اما قوله: «فان كان كل واحد اختار رجلا من أصحابنا» فهذا إنّما يرجع إلى قاضي التحكيم أو التوكيل في أمر خاص، و

لا دخل له بالانتخاب في أمر عام، لأنّه لا معنى لانتخاب كل إنسان من يراه صالحا للحكومة العامة، حتى يكون كل منهم حاكما عاما و لو كان المنتخب (بالكسر) فردا واحدا، و إلّا تعددت الحكام بعدد الخلائق!

و أمّا الدليل العقلي المؤيد بسيرة النبي صلّى اللّه عليه و آله و الولي عليه السّلام فلا يدل أيضا إلّا على النصب من ناحية اللّه سبحانه، أو النصب من ناحية صلّى اللّه عليه و آله و الإمام المعصوم عليه السّلام.

أضعف إلى ذلك كله أنّه لا يرى في روايات أصحابنا و تاريخهم من أمر الانتخاب بالنسبة إلى ولاية الفقهاء عين و لا أثر، و لو كان ذلك لبان، و كم تكلموا في الأبواب المختلفة عن ولاية الفقهاء إثباتا و نفيا، و لم يتفوه بالانتخاب أحد من الأكابر و الأصاغر و لو بشطر كلمة في ذلك، و لم يتكلم أحد منهم إلّا بكون ذلك نصبا إلهيا بعنوان النيابة عليه السّلام و لذا شاع في كلماتهم تسميته بنائب الغيبة و تقسيمهم لنوابه عليه السّلام إلى النواب الخاصة، و هم أربعة أمجاد، و النواب العامة و هم غيرهم، و من المعلوم أنّ النائب سواء كان عاما أو خاصا إنّما يعينه المنوب عنه لا آحاد الناس، و قد كان للأئمّة المعصومين عليهم السّلام وكلاء منصوبون من قبلهم في كثير من الأزمنة من غير دخل للناس و كذا الحال في وكلائهم العامة.

و من العجب، مع ذلك، اصرار بعض على كون فعلية الولاية للفقهاء بانتخاب الناس، مع أنّه لم يرد ذلك في أثر صحيح، و لا في رواية ضعيفة، و لا في أي تاريخ من تواريخ أصحابنا.

توضيح ذلك: إنّ الأمر الوحيد الذي يفرق بين الشيعة و

أهل السنة في أمر الخلافة أنّ الشيعة تعتقد بان الإمام عليه السّلام و لا بدّ أن يكون معصوما منصوبا من قبل اللّه بواسطة النبي صلّى اللّه عليه و آله أو بتنصيص إمام قبله، و أهل السنة يعتقدون بأنّه صلّى اللّه عليه و آله لم ينص على أحد، فعلى الناس انتخاب انوار الفقاهة، ج 1، ص: 473

الإمام و الخليفة، فهذا هو الفارق بين المذهبين، فاختيار الناس لا دخل له في الخلافة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند شيعة أهل البيت لا قليلا و لا كثيرا.

و من عجيب الكلام (و ما عشت أرادك الدهر عجبا) اجتراء بعض في زماننا على القول بأن نصب علي عليه السّلام بالخلافة في الغدير لم يكن نصبا إلهيا بل كان اقتراحا من النبي صلّى اللّه عليه و آله ثم أجابه الناس بالبيعة له (يعنى كان للناس أن لا يبايعوه) مع أنّ آية التبليغ تنادي بأعلى صوتها بانّه لم يكن لرسول صلّى اللّه عليه و آله أيضا خيرة في هذا الأمر، فكيف بغيره؟! نعوذ باللّه من سوء الفهم.

و بالجملة ما ذكرناه من كون الإمام المعصوم عليه السّلام من قبل اللّه من ضروريات مذهب الشيعة، و قد طفحت كتبهم في علم الكلام و الحديث و التفسير و التاريخ بذلك فمن أنكره أنكر ضروريا من ضروريات هذا المذهب.

ثم يجري هذا الكلام بعينه في ولاة الأمر من غير المعصومين من بعدهم، فهم منصوبون من قبلهم، لا من قبل الناس، مأمورين بأمرهم، لا بأمر الناس، فالولاية إنّما هي للّه و لمن جعلها اللّه له، فتعينها من العالي لا من الداني.

نعم تبقي هنا مسألتان: مسألة «لزوم الهرج و المرج» و مسألة «البيعة و موقفها».

أمّا «الأولى»: فحاصلها

أنّه إن جعلت الولاية للفقهاء عامة، ولاية فعلية، فأمّا أن يكون لكل واحد منهم مستقلا بالفعل، فهذا يوجب الهرج و المرج الشديدين، و الاختلاف الكثير، لتعدد الولاة بتعدد العلماء، و هو أمر غير ممكن، لوقوع التشاجر و اختلال النظام، و إمّا أن تكون ولاية بعضهم مشروطة بولاية بعض، أو كون الولاية للمجموع من حيث المجموع و هذا ممّا لا محصل له.

فلا بدّ أن يقال: إنّ الفقهاء منصوبون لذلك شأنيا، و إنّما تكون فعلية ولايتهم بانتخاب الناس، لا غير.

أقول: عند تعدد الفقهاء لو تصدى بعضهم لأمر الولاية و تدخل فيها، فعلى الباقين قبول قوله، و حكمه كما هو كذلك في أمر القضاء أو رؤية الهلال مثلا، و لو بلغ حدّ التزاحم قبل التداخل، فلا يبعد أعمال المرجحات كما ورد المقبولة، بناء على دلالتها على المقصود، بل انوار الفقاهة، ج 1، ص: 474

يمكن التمسك بالأولوية و لو على فرض اختصاصها بأمر القضاء، و تشخيص المرجحات من العلم و الفقاهة و التدبير و الاحاطة بالامور و الوثاقة و غيرهم إنّما على أيدي أهل الخبرة، كما هو كذلك في مرجع الفتوى و التقليد، و ليس هذا من قبيل الانتخاب أبدا، بل من قبيل تشخيص المصداق الموجود في الخارج كما في تشخيص الطبيب للسلامة و المرض في أمر الصوم.

و بالجملة جميع هذه الموضوعات يرجع فيها إلى أهل الخبرة من دون الحاجة إلى الانتخاب.

و قد جرى هذا الأمر في مرجع الفتوى و استقر تعيين الأعلم في الفقاهة على أهل الخبرة من العلماء في فرد معين أو أفراد معينين في كثير من الأعصار، و لم يلزم من ذلك هرج و مرج و اختلال في نظام الامة، نعم لا ريب في أنّه فرق بين

مسألة التقليد و الولاية، و ليس مقصودنا المماثلة من جميع الجهات، بل الغرض أنّ حل مشكل التزاحم ممكن من طريق أهل الخبرة، و ليس لآحاد الناس غير العارفين بهذه الامور الانتخاب، بل ليس لأهل الخبرة أيضا حق الانتخاب، بل تشخيص المصداق كتشخيص الطبيب، و كسائر موارد الرجوع إلى أهل الخبرة.

هذا هو المعيار المتداول في الفقه الذي ينبغي للفقيه متابعته، لا الانتخاب الذي ليس له عين و لا اثر في الفقه و لا في التاريخ.

إن قلت: من اين يعرف أنّ هذا الشخص من أهل الخبرة دون ذاك؟

قلت: كما يعرف الطبيب و غيره من أهل الخبرة فيما يحتاج إليه، فهل الطبيب يكون بانتخاب الناس؟ و كذلك أهل الخبرة في عموم الدين أو معرفة زعمائه و من فيه المرجحات لتصدى الولاية.

و قد تلخص ممّا ذكرنا أنّه إن قام بعض الفقهاء اللائقين بأمر الولاية من غير معارض كان على غيره متابعته من دون الحاجة إلى الانتخاب، و ان وقع التزاحم، فاللازم الأخذ بالمرجحات كما ورد في غير مورد في أبواب الفقه، لانحصار الطريق فيه و عدم المناص عنه، و الناظر في هذا الأمر هو أهل الخبرة، و لا حاجة إلى الانتخاب، بل لا دليل عليه، لما

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 475

عرفت من عدم وجوده في رواياتنا و لا كتب فقهائنا.

إن قلت: قد جرت سيرة العقلاء من الامم على الانتخاب في أمر الولاية، و يشمله ادلة الوفاء بالعقود، و عموم تسلط الناس على أموالهم (و بالأولوية على أنفسهم).

قلت: جريان سيرتهم عليه إنّما هو لعدم اعتقادهم بتعيين إلهي من قبل الإمام المعصوم عليه السّلام، و أمّا نحن، فعدم قولنا به، وفقا للأدلة السابقة و أنّ الوظيفة هنا معلومة من قبلهم عليهم السّلام،

و أنّ الولاية من ناحية اللّه فقط فلا يبقى لنا مجال لهذا الكلام.

هذا مضافا إلى أنّ الانتخاب الذي دار بينهم إنّما هو انتخاب الأكثر، لا الجميع لعدم إمكانه عادة، بل المراد من الأكثر عندهم أكثر من يشترك في دور الانتخاب، و قد لا يشترك فيه إلّا الأقلون منهم، و قد شاهدنا في كثير من الانتخابات أنّ وكلاء الناس ينتخبون بآراء قليلة بالنسبة إلى كل المجتمع كميليون نفر من بين عشرة ملايين، و لو صحّ أمر هذه الحكومات لكانت من قبيل حكومة جمع قليل على جمع آخر كثير بغير رضى منهم، و لا توكيل.

إن قلت: إن الولي الفقيه لا يقدر على أعمال الولاية بدون مشاركة الناس في أمره، و تأييدهم له، و بذل أنفسهم في نصرته و تأييده، فالانتخاب إنّما هو لجلب مساعدتهم لذلك، و هذا هو المراد من أنّ ولاية الفقيه لا تكون إلّا اقتضائيا، و فعليتها بالانتخاب.

قلت: هذا استدلال عجيب، فانّ عدم قدرة الفقيه على أعمال الولاية بدون مساعدة الناس لا يكون دليلا على عدم فعليتها بدونه، كما في سائر الحقوق، مثل من كان مالكا لدار و غصبه منه غاصب، فانّه لا يقدر على أخذ حقه منه بدون مساعدة الناس، و اين هذا من كون مالكيته شأنيا لا فعليا؟ و بالجملة أصل الولاية غير منوط بمساعدة الناس، و إنّما المنوط بها هو أعمال الولاية، و فرق واضح بين أعمال الولاية و أصل ثبوتها.

هذا كله بالنسبة إلى ما تقتضيه العناوين الأولية في المسألة و مقتضى الروايات و الأدلة السابقة.

نعم قد تقتضي العناوين الثانوية لأمر الانتخاب، و تدعونا إليه من دون أن تكون ولاية الفقيه منوطة شرعا به، و ذلك لدفع تهمة الاستبداد و السلطة على

الناس بغير رضى منهم،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 476

مضافا إلى جلب مساعدتهم من خلال مشاركتهم في هذا الأمر، و اعتمادهم على الحكومة، و دفع وساوس الشياطين الذين يعاندون نظام الحكومة الإسلامية و غير ذلك من الامور، و لكن اين هذا من وجوب الانتخاب شرعا في أحكامه الاولية، و هذا امر ظاهر و الحمد اللّه.

[الثاني موقف البيعة من أمر الولاية:
اشارة

الثاني: إن البيعة الوارد ذكرها في كتاب و السنة بمعنى انتخاب الامة أحدا للرئاسة و الزعامة، فهل تنطبق على مسألة الانتخاب المعمول في عصرنا، أو هو أمر آخر وراءه؟

و الجواب على هذا السؤال يحتاج إلى شرح حقيقة البيعة و مغزاها، ثم بيان أحكامها.

فنقول: إنّ البيعة مأخوذة من البيع، كما صرّح به أرباب اللغة، فكما أنّ البائع يبيع سلعته من آخر، فالذي يبايع، يبيع طاعته لغيره و يبذلها له، و في مقابله يتعهد هو له ببذل النصح و الحماية و تدبير أمره، و لذا يقال «المبايعة» من باب المفاعلة.

و بناء عليه تكون البيعة من قبيل العقود المشتملة على الايجاب و القبول، و يمكن أن يقال: هي كالإيقاعات في كثير من الأوقاف، لأنّ العهد و الالتزام بالطاعة و بذل الأموال و الأنفس يكون من طريق واحد فتأمل (فراجع لسان العرب و الصحاح و المفردات و غيره).

و التصافق بالأيدي فيها كالتصافق بها في البيوع و المعاملات المتداولة، هذا هو حقيقتها.

و يستفاد من الروايات و التواريخ أنّه كان لها مراتب مختلفة، فتارة البيعة على عدم الفرار، و اخرى على المال و الولد، و ثالثة على بذل الأنفس، فإذا أعطى شيئا من ذلك لولي الأمر فلا بدّ له من الوفاء به، بناء على شمول أدلة الوفاء بالعقد أو العهد أو المؤمنون عند شروطهم، لها.

إذا عرفت ذلك فاعلم

أنّه لا يتمّ هذا البحث إلّا بالتأمّل في الامور التالية:

1- البيعة و ماهيتها

إنّ ماهية البيعة و جوهرها كما عرفت، ليست توكيل الغير على تمشية الامور و تدبيرها،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 477

بل على بذل الطاعة و المساعدة، فهي على عكس الانتخاب و الوكالة، ففي الوكالة يتعهد الوكيل على انجاز ما يريده موكله ما أبقاه في هذا المنصب، و أمّا البيعة فهي تعهد من ناحية المبايع على أن يطيع لمن بايعه و لا يتخلف عن أمره، فكأنّه يبيعه شيئا، و لا يقدر على عزله عن هذا المقام، و هذا بخلاف التوكيل فانّه يجعل الوكيل كنفسه، و تصرفاته كتصرفاته، و هذا أمر ظاهر، و من العجب وقوع الخلط بينهما في بعض الكلمات، مع الاختلاف الواضح بين مغزاهما و مفهومهما.

2- أدلة مشروعيتها

قد وردت البيعة في كتاب اللّه في سورة الفتح، في بيعة الشجرة في الآية 10 و 18 فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً.

و قال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً و ظاهر الأوّل وجوب الوفاء و عدم النكث.

و قد اشير إليها أيضا في سورة الممتحنة عند ذكر بيعة النساء فقال تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً ... فَبايِعْهُنَّ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1»، فكان صلّى اللّه عليه و آله يجعل يده في ظرف من الماء و كانت النساء يضعن أيديهن في الظرف الآخر فتقع البيعة و المبايعة بها (كما في التفاسير و التواريخ).

و ليس في كتاب اللّه غير هذه الآيات الثلاث بالنسبة

إلى البيعة، هذا و قد وقعت البيعة من الأنصار في أول إسلامهم في العقبة الاولى و الثانية، و يظهر منها أنّها كانت معروفة قبل الإسلام يعرفها العرب، و لم تكن أمرا حادثا في الإسلام.

هذا و لكن من الواضح أنّ البيعة للنبي صلّى اللّه عليه و آله لم تكن سببا لولايته على الناس، فان الآيات القرآنية صريحة في أنّ اللّه جعله صلّى اللّه عليه و آله وليا على المؤمنين و أوجب طاعته بقوله: أَطِيعُوا اللَّهَ*

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 478

وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ* و النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ «1». و لذا لم تكن البيعة للنبي صلّى اللّه عليه و آله من كل من يدخل الإسلام، فالإسلام يتحقق بالشهادتين و إظهار الإيمان بالوحدانية و النبوة لا بالبيعة.

كما يظهر من التواريخ أنّه كان يأخذ البيعة من المسلمين أحيانا، و يجددها عند وقوع بعض الحوادث الهامة ثانية و ثالثة، فبيعة الناس له لم تكن من قبيل انتخابه للولاية بل تأكيدا للطاعة و بذل الأموال و الأنفس، و هذا أمر ظاهر لا سترة عليه.

كما أنّ الأمر بالنسبة إلى وصيه عليه السّلام أيضا كان كذلك، فقد أوصى من أول أمره في وقعة الدار، إلى آخر عمره الشريف بولاية علي عليه السّلام و قد أمر بتبليغ ولايته الإلهية في الغدير، و أنّه إن لم يفعل فما بلغ رسالته، فكان أخذ البيعة له حينئذ، تأكيدا على الطاعة، لا من قبيل انتخابه و فعلية ولايته ممّا لا يتفوه به من كان له أدنى خبرة بأحاديث ولاية مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام.

و يجوز مثلها بالنسبة إلى الفقيه بعد ما جعله عليه السّلام حاكما و قاضيا على الناس، و أمر بالرجوع إليه في الحوادث الواقعة، و جعل

مجاري الامور بأيديهم، إلى غير ذلك، فالبيعة له أيضا تأكيد على ما أعطاه اللّه من المنزلة و المقام، و كذا بناء على الدليل العقلي السابق.

سلّمنا أنّ البيعة عقد مستقل بذاتها يجب الوفاء به، و لا يختص بأحد دون أحد كما قد يبدو من بعض رواياتها، و لكن الروايات الواردة في حكم البيعة ناظرة إلى وجوب العمل بها و ليست في مقام بيان شرائط من يبايعه الناس، و إن أبيت إلّا عن اطلاقها من هذه الجهة، فهي تشمل الفقيه و غير الفقيه، و تكون على خلاف المطلوب أدل، فتدلّ على جواز اختيار كل إنسان صالح بحسب الظاهر للولاية، أي شخص كان فقيها أو غير فقيه، و جازت البيعة معه، و إليك بعض ما ورد في هذا الباب:

منها: عن المفضل بن عمر قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: كيف ما سح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله النساء حين بايعهن؟ فقال: دعا بمركنه الذي كان يتوضأ فيه فصب فيه ماء ثم غمس فيه انوار الفقاهة، ج 1، ص: 479

يده اليمنى فكلّما بايع واحدة منهم، قال: اغمسي يدك كما غمس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فكان هذا مما سحته إيّاهن» «1».

و ما روى أحمد بن اسحاق عن سعدان بن مسلم قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام أ تدري كيف بايع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله النساء؟ قلت: اللّه أعلم و ابن رسوله أعلم، قال: جمعهن حوله ثم دعا بتور برام، فصب فيه نضوحا ثم غمس يده «إلى أن قال» ثم قال: اغمسن أيديكن ففعلن فكانت يد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الطاهرة أطيب من أن يمس بها كف انثى ليست

له بمحرم!» «2».

و ما روى محمد بن علي بن الحسين باسناده عن ربعي بن عبد اللّه أنّه قال: «لما بايع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله النساء و أخذ عليهن، دعا بإناء فملأه، ثم غمس يده في الإناء، ثم أخرجها ثم أمرهن أن يدخلن أيديهن فيغمسن فيه» «3».

و ما روى سعدان بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث مبايعة النبي صلّى اللّه عليه و آله النساء، أنّه قال لهن: «اسمعن يا هؤلاء أبايعكن على أن لا تشركن باللّه شيئا و لا تسرقن و لا تزنين و لا تقتلن أولادكن و لا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن و أرجلكن و لا تعصين بعولتكن في معروف، أقررتن؟ قلن: نعم» «4».

و ما روى أبان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لما فتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مكة بايع الرجال ثم جاءه النساء يبايعنه ... فقالت (أمّ حكيم): يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كيف نبايعك فقال: إني لا أصافح النساء فدعا بقدح من ماء فأدخل يده ثم أخرجها فقال: أدخلن أيديكن في هذا الماء فهي البيعة» «5».

و ما روى: مسمع بن أبي سيارة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «فيما أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله البيعة على النساء أن لا يحتبين و لا يقعدن مع الرجال في الخلاء» «6».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 480

و ما روى: ابن جنيد أنّه «روى أنّ رجلا جاء إلى أمير المؤمنين عليه السّلام ليبايعه، فقال: يا أمير المؤمنين ابسط يدك أبايعك على أن أدعو لك بلساني، أنصحك بقلبي و اجاهد معك بيدي فقال: حر أنت أم عبد؟ فقال عبد، فصفق

أمير المؤمنين عليه السّلام يده فبايعه» «1».

و ما روى: الطبرسي في (الاحتجاج) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في احتجاجه يوم الغدير: «علي عليه السّلام تفسير كتاب اللّه، و الداعي إليه، إلّا و إن الحلال و الحرام أكثر من أن أحصيهما و أعرفهما، فآمر بالحلال و أنهى عن الحرام في مقام واحد، فأمرت أن آخذ البيعة عليكم و الصفقة منكم» (الحديث) «2».

و ما روى عيسى بن المستفاد ممّا رواه في كتاب الوصية قال: «حدثنى موسى بن جعفر عليه السّلام قال: سألت أبي جعفر بن محمد عليه السّلام عن بدء الإسلام، كيف أسلم علي و كيف أسلمت خديجه؟ فقال لي أبي: أنّهما لما دعاهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا علي و يا خديجة إنّ جبرائيل عندي يدعو كما إلى بيعة الإسلام فأسلما تسلما، و أطيعا تهديا! فقالا: فعلنا و أطعنا يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله» (الحديث) «3».

و ما روى: عن موسى بن جعفر عن أبيه عليه السّلام قال: «لما هاجر النبي عليه السّلام إلى المدينة و حضر خروجه إلى بدر دعا الناس إلى البيعة فبايع كلهم على السمع و الطاعة» الحديث «4».

إن قلت: ظاهر ما رود في نهج البلاغة قبوله عليه السّلام لأمر البيعة بعنوانها معيارا لخلافة المسلمين و في حق نفسه، فكيف في حق غيره؟ و إليك نماذج منها:

1- قوله عليه السّلام: «أيّها الناس إن لي عليكم حقا و لكم علىّ حق: فأمّا حقكم علي فالنصيحة لكم و ... و أمّا حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، و النصيحة في المشهد و المغيب ...» «5».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 481

2- و قوله عليه السّلام يعنى به الزبير: «يزعم أنّه قد

بايع بيده و لم يبايع بقلبه، فقد أقر بالبيعة و ادعى الوليجة، فليأت عليها بأمر يعرف، و إلّا فليدخل فيما خرج منه» «1».

3- و قوله عليه السّلام إلى معاوية: «إنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر و عمرو عثمان على ما بايعوهم عليه فلم يكن للشاهد أن يختار و لا للغائب أن يرد ...» «2».

4- و قوله عليه السّلام إلى معاوية أيضا: «لأنّها بيعة واحدة لا يثنى فيها النظر و لا يستأنف فيها الخيار، الخارج منها طاعن و المرويّ فيها مداهن» «3».

5- و قوله عليه السّلام إلى جرير بن عبد اللّه البجلي لما أرسله إلى معاوية: «أمّا بعد فإذا أتاك كتابي فأحمل معاوية على الفصل، و خذه بالأمر الجزم ... و إن اختار السلم فخذ بيعته» «4».

6- و قوله عليه السّلام إلى طلحة و زبير: «أمّا بعد فقد علمتما، و إن كتمتما، أني لم أرد الناس حتى أرادوني، و لم أبايعهم حتى بايعوني. و إنّكما ممن أرادني و بايعني و إن العامة لم تبايعني لسلطان غالب و لا لعرض حاضر فان كنتما بايعتماني طائعين، فارجعا و توبا إلى اللّه من قريب، و إن كنتما بايعتماني كارهين، فقد جعلتما لي عليكما السبيل ...» «5».

7- و أوضح من هذه كلّه ما ورد في إرشاد المفيد عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أيّها الناس إنّكم بايعتموني على ما بويع عليه من كان قبلي، و إنّما الخيار للناس قبل أن يبايعوا فإذا بايعوا فلا خيار لهم و ... و هذه بيعة عامة من رغب عنها رغب عن دين الإسلام، و اتبع غير سبيل أهله» «6».

«قلت»: لا ينبغي الشك في أنّها كانت بعنوان الجدل و المماشاة مع الخصم بذكر ما هو

مقبول لهم و الاحتجاج بما هو مسلم عندهم، و ينادي بذلك بأعلى صوته ما ورد في الكتاب 6 من نهج البلاغة و ما حكيناه عن المفيد قدّس سرّه، فانّ خلافة الأوّل و الثاني و الثالث لم تكن انوار الفقاهة، ج 1، ص: 482

صحيحة عنده عليه السّلام كما صرّح به في الخطبة الشقشقية و غيرها من الخطب التي تدل على أنّ حقه قد غصب، و أنّ خلافته كانت بالنص وراثة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله بل كونه منصوصا من ضروريات مذهب الشيعة، فما ورد في أمر البيعة و الاستدلال بها يكون من الأخذ بما هو حجة عند الخصم، و يشهد على ذلك أنّ المخاطب في بعضها معاوية، و في آخر طلحة و الزبير، و في ثالث سعد بن أبي وقاص و انظارهم فمن تخلفوا عن بيعته (كما في رواية الإرشاد).

فالأمر دائر بين الأخذ بظاهر بعضها و رفض سائرها ما ورد في نهج البلاغة و غيرها ممّا يدل على كون الخلافة منصوصة منه صلّى اللّه عليه و آله و معينة عنه تعالى، بل رفض ما ثبت بالضرورة من مذهب الشيعة و أحاديث الغدير و غيرها، أو حملها على الجدل الثابت في المنطق و الأخذ بمسلمات الخصم و لا ريب إن المتعين هو الثاني.

و من الجدير بالذكر جدّا أنّ البيعة عند أهل السنة أيضا لا تنطبق على الانتخاب المعمول في عصرنا، بل المعيار عندهم في تعين الإمام اختيار أهل الحل و العقد، و اختلفوا في عدده، فاختار بعضهم كفاية اختيار الحاضرين منهم فقط، و بعضهم كفاية خمس نفرات، و بعضهم ثلاثة و بعضهم نفر واحد! و إليك نص ما ذكره الماوردي في «الأحكام السلطانية»:

«الإمامة تعقد من وجهين

... إلى قوله لأنّه حكم و حكم واحد نافذ»! «1».

و الحاصل: أنّ هناك قرائن كثيرة تدل على أن هذه الكلمات الواردة في الاحتجاج بالبيعة إنّما صدرت منهم احتجاجا على الخصم المعتقد بالبيعة:

أولا: ما ثبت من ضرورة المذهب من أنّ إمامته عليه السّلام كانت بنصب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و من قبل اللّه من غير حاجة إلى بيعة الناس معه، و يشهد له الحديث المتواتر الذي ورد في الغدير و غيره.

ثانيا: الروايات الواردة في نهج البلاغة نفسها تدل على أنّه عليه السّلام كان إماما بالوراثة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله من الخطبة الشقشقية و غيرها.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 483

ثالثا: الاحتجاج بالبيعة التي وقعت للخلفاء الثلاثة، و لا ريب أنّه كان من باب الجدل عنده عليه السّلام.

رابعا: كون المخاطب في غير واحد منها معاوية و طلحة و الزبير و أمثالهم من الذين كانوا لا يقبلون النص في حقّه إلى غير ذلك من القرائن، و الأمر واضح بحمد اللّه.

إن قلت: نحن نعترف بأنّ النص مقدم على كلّ شي ء فالأئمّة المعصومون منصوصون من قبل النبي صلّى اللّه عليه و آله أو من ناحية إمام معصوم قبله، و في مثل هذا لا حاجة إلى البيعة، و لو كانت هناك بيعة كانت تأكيدا كما في بيعة الشجرة و غيرها من موارد البيعة، للنبي صلّى اللّه عليه و آله، و كذا إذا ثبت النص في حق نوابهم و وكلائهم، كالنواب الأربعة، و بالنسبة إلى غيرهم، فالبيعة لها أثرها في تعيين ولاة الأمر، كما ورد في نهج البلاغة و غيرها، و لا يجوز الجدل بأمر باطل من أصل كما أنّ استدلال المخالفين بالبيعة، ممنوع صغرى و كبرى،

أمّا الكبرى فلأنّه لا فائدة في البيعة مع وجود النص على أمير المؤمنين (علي عليه السّلام)، و أمّا الصغرى فلعدم تحقق الاتفاق على غيره و لو من أهل المدينة و لو من أهل الحل و العقد منهم.

و أمّا النصوص الواردة في الفقهاء، فلا يستفاد منها إلّا الاقتضاء أمّا الفعلية (أي فعلية الولاية لهم) فإنّما تكون بالبيعة.

قلت: «أولا»: ظاهر روايات البيعة الواردة في نهج البلاغة و إرشاد المفيد و اشباهها أنّها مفيدة، مؤثرة و لو في تعيين خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلو تمّت فلا بدّ من رفض الروايات المصرحة بالنص على أمير المؤمنين علي عليه السّلام و الأئمّة المعصومين عليهم السّلام من بعده، و رفض ما ثبت بالضرورة من مذهبنا، فلا يبقى مجال إلّا لحملها على الجدل بمسلمات الخصم.

فراجع قوله عليه السّلام: «أرى تراثي نهبا» (الخطبة 3 من نهج البلاغة) و قوله عليه السّلام: «و لا يقاس بآل محمد صلّى اللّه عليه و آله ... الخ» الوارد في الخطبة 2 من تلك الخطب الجليلة.

و أمّا ما ذكرت من أنّ الجدل لا يكون بأمر باطل من جميع الجهات، فهو ممنوع، بل قد يكون كذلك إذا تمّ عند الخصم كما في احتجاج ابراهيم عليه السّلام على عبدة الاصنام بقوله: «هذا ربي» كما صرّح به كثير من المفسرين و كذا غيره من أشباهه.

و «ثانيا»: سلّمنا و لكن ظاهرها كون البيعة تمام العلة لولاية الوالي على الناس كعقد البيع انوار الفقاهة، ج 1، ص: 484

و التجارة لا يتفاوت فيه الفقيه و غيره ممن كان عادلا لا الفساق و أهل الفجور لانصراف النصوص عنهم، فهذا على خلاف المطلوب أدل.

و «ثالثا»: ظاهر الأدلة السابقة كون الفقيه منصوبا فعلا لا

اقتضاء (سواء الدليل العقلي و النصوص العشرة السابقة و غيرها) و ليس فيها من الاقتضاء عين و لا أثر.

و «رابعا»: ظاهر ما عرفت من نهج البلاغة كفاية بيعة الحاضرين بل و كفاية بيعة أهل الحل و العقد من المهاجرين و الأنصار، و لا خيار لغيرهم، فهي لا تنطبق على موضوع الانتخاب في عصرنا كما هو واضح جدّا.

و بالجملة التمسك بروايات البيعة لتصحيح الانتخاب المتداول بين أهل العصر أوهن من بيت العنكبوت.

و إذ قد ثبت بحمد اللّه أصل ولاية الفقيه بالنسبة إلى أمر الحكومة ممّا عرفت من الأدلة، فلنرجع إلى الفروع المتعلقة بها.

الثالث و الرابع: حدود نفوذ ولاية الفقيه و شرائطه
اشارة

لا أظنّك تحسب أنّ معنى ولاية الفقيه على أمر الحكومة المستفادة من الأدلة السابقة أنّه يفعل فيهم ما يشاء و يختار، و أنّ الامة من قبيل المماليك له، و أنّه يحكم فيهم بما يشاء و يفعل ما يريد، كلّا لم يرد هذا لا في دليل عقلي، بل هو أمر غير معقول لا يقول به أحد، بل لولايته حدود و شرائط و قيود ليس له أن يتعداها و لا أن يخرج من طورها:

1- مراعاة مصالح الامة

و أهمها ملاحظة مصلحة الامة و منافعها و شرفها و عزّها، فليس للفقيه الخروج عنها أبدا و إلّا خلع عنه لباس الولاية و نزل عن مقام الزعامة.

و الدليل على ذلك الأدلة السابقة الدالة على ولاية الفقيه، فانّ الفروع تؤخذ من اصولها، مضافا إلى غيرها من الأدلة.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 485

أولها: إنّ الأخذ بالقدر المتيقن يرشدنا إلى ذلك، فانه مبني على عدم جواز بقاء الناس بلا رئيس يصلح امورهم، و إلّا غلب الهرج و المرج عليهم، و اختل النظام و فسدت البيئة، و ظهر الفساد في البر و البحر، و لم يبق للدين و الدنيا زعامة و سلك الناس مسلك الانحطاط و التسافل، فلا بدّ لهم من إمام لهذه الشؤون و حيث إنّه ليس هناك دليل عام على صلوح كل أحد لذلك، فلا بدّ من الأخذ بالقدر المسلم، و حيث إنّ الفقيه الجامع للشرائط أخبر بمواقع الأحكام و مصدرها و مخرجها، و صلاح الامة و فسادها و احتمال الانحراف عن مسير الحق فيه أقل، فهو أحق من غيره.

و من الواضح أنّ هذا الدليل لا يقتضي إلّا تصديه لما فيه صلاح الامة.

و إن شئت قلت: إنّ الحكومة ليست من مخترعات الشرع، بل كانت أمرا دائرا

بين العقلاء من قديم الأيّام من زمن اختار الإنسان الحياء الاجتماعية، و الشارع المقدس أمضاها بقيود و شرائط.

و من المعلوم أنّها شرّعت بين العقلاء لحفظ مصالح المجتمع و غبطة الناس صغيرهم و كبيرهم رغم قلّة من قام بها و أدّى حقها، و لكن كل يدعي ذلك فالحكومة على هذا الأساس قد أمضاها الشرع المقدس، فلا يكون الفقيه و لا غيره مرخصا في الأخذ بغيرها ما فيه المصلحة للناس.

كما أنّ حديث «مجارى الامور» الذي هو من أحسن ما يدل على ولاية الفقه أيضا ينادي بأعلى صوته أنّ مجاري امور، إصلاح المجتمع و إقامة نظام الامة لا العمل بما يريد و إن كان فيه ضرر على الامة، أو لم يكن فيه هذا و لا ذاك.

و كذا رواية «الحوادث الواقعة» فإنّها إشارة إلى الحوادث المهمّة التي ترتبط بكيان الامة و حياتها و سعادتها، بل لو قلنا بأنّها تشمل كل حادثة فلا شك أنّ الرجوع إليهم إنّما هو لإصلاح أمر الحوادث، و الأخذ بما هو أحرى و أصلح، لا أنّ الأمر مفوّض إلى الفقيه يأتي بما يشاء و يحكم بما يريد.

و كذلك الحال في غير هاتين الروايتين.

ثانيها: إنّ سيرة النبي صلّى اللّه عليه و آله الأعظم و وصيه أمير المؤمنين عليه السّلام التي هي المبني لولاية

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 486

الفقهاء لم تستقر إلّا على ذلك، فلم نر في مورد من الموارد إلّا الأخذ بما هو صلاح الامة و ما هو أجمع لمصلحة المؤمنين، بل لم نر موردا أخذا بما فيه مصلحة شخصيهما، و كلماتهما مشحونة بما ذكرنا كما يأتي الإشارة إلى بعضها.

نعم قد ورد في روايات عديدة أنّ الدنيا (أو الأرض) كلها للّه و لرسوله و للأئمّة عليه السّلام

و عقد له في الكافي بابا «1» و لكن مع ذلك لم يعملوا بين الناس إلّا بما ورد في الشرع من الحقوق.

ثالثها: الآيات و الروايات الكثيرة الدالة على وجوب تحري الصالح أو الأصلح على أئمّة المسلمين و قادتها و أنّه لا يجوز لهم غير ذلك، و إليك الإشارة إلى بعضها:

1- قوله تعالى: وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ* الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ «2» دلّ على أنّ الحكومة ذريعة لهذه الامور الأربعة التي فيها المصالح الاخروية و الدنيوية للامة و أنّ اللّه وعد بنصر من يقوم بها.

2- قوله، حاكيا عن شعيب عليه السّلام: إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَ ما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ «3».

3- ما ورد في نهج البلاغة: «أنّه لا بدّ للناس من أمير بر أو فاجر، يعمل في أمرته المؤمن و يستمتع فيها الكافر، و يبلغ اللّه فيها الأجر، و يجمع به الفى ء، و يقاتل به العدو، تأمن به السبل، و يؤخذ به للضعيف من القوي» «4».

فهذه امور خمسة ينتظر من الوالي إجرائها.

4- ما ورد فيه أيضا: «أيّها الناس إنّ ليّ عليكم حقّا و لكم عليّ حق، فأمّا حقّكم علىّ فالنصيحة لكم و توفير فيئكم عليكم، و تعليمكم كي لا تجهلوا و تأديبكم كيما تعلموا» «5»

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 487

فقد تلخص وظائف الوالي في هذه الامور الأربعة.

5- و في كتابه إلى الاشتر: «أنصف اللّه و أنصف الناس من نفسك و من خاصة أهلك و من لك فيه هوى من رعيتك، فانّك إلّا تفعل تظلم، و من ظلم عباد اللّه كان اللّه خصمه دون

عباده» «1».

6- و قال فيه أيضا: «و أعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية و حق الرعية على الوالي فريضة ... فجعلها نظاما لألفتهم و عزّا لدينهم فليست تصلح الرعية إلّا بصلاح الولاة و لا يصلح الولاة إلّا باستقامة الرعية» «2».

فالوالي لا بدّ أن يكون سببا لنظام الامة و عزّا لدينهم و حافظا لمصالحهم، لا أن يفعل فيهم ما يشاء من دون ملاحظة هذه الامور.

7- و قد عقد في الكافي بابا لما يجب من حق الإمام على الرعية و حق الرعية على الإمام، و فيه عن أبي حمزة قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام ما حق الإمام على الناس؟ قال: حقّه عليهم أن يسمعوا له و يطيعوا. قلت: فما حقّهم عليه؟ قال: يقسم بينهم بالسوية و يعدل في الرعية» «3».

و هذا بعض ما على الوالي من الحقوق، يعلم منه و من غيره أنّ المدار على مصالح الامة لا غير.

8- و في مرفوعة عبد العزيز بن مسلم عن الرضا عليه السّلام (و هي رواية طويلة جامعة لصفات الإمام) و فيها «إن الإمامة هي منزلة الأنبياء، وارث الأوصياء، إنّ الإمامة خلافة اللّه و خلافة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و مقام أمير المؤمنين عليه السّلام و ميراث الحسن و الحسين عليه السّلام إنّ الإمامة زمام الدين و نظام المسلمين، و صلاح الدنيا و عزّ المؤمنين، إنّ الإمامة أساس الإسلام النامي، و فرعه السامي، بالإمام تمام الصلاة و الزكاة و الصيام و الحج و الجهاد» «4».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 488

إلى غير ذلك ممّا هو كثير جدّا ربّما تبلغ حدّ التواتر، و يغنينا ذلك ملاحظة أسنادها.

و يتحصل من جميع ذلك أنّه ليس الوالي و

الحاكم على المسلمين (و هو الفقيه) كالمولى للعبيد، و المالك بالنسبة إلى المملوك، بل و لا كالولي على الصغار، أو الاب مع الابن حتى يكون داخلا في قوله «أنت و مالك لأبيك» (مع أنا ذكرنا قبل ذلك أنّ الأب أيضا لا يجوز له إلّا ملاحظة مصالح ابنه، و أنّ الحديث المعروف حكم اخلاقي يبيّن وظيفة الكبار من الأولاد في مقابل أبيهم لا أنّ له حق التصرف المطلق في أموالهم و أنفسهم كيف يشاء) بل هو كالمتولي في الأوقاف العامة و الخاصة أو كوكيل إلهي لهم، يتصرف بما هو مصلحة الموقوف عليهم و الوقف، و مصالح الموكل، فليس للفقيه التصرف إلّا بما فيه مصلحة العباد و البلاد.

و يؤيد ذلك كله ما ذكروه في علم الكلام في بابا وجوب نصب الإمام بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله- كما ذكره العلّامة قدّس سرّه في شرح كلام المحقق الطوسى قدّس سرّه- قال: «إنّ الإمام لطف و اللطف واجب، أمّا الصغرى فمعلومة للعقلاء، إذا العلم الضروري حاصل بأن العقلاء متى كان لهم رئيس يمنعهم عن التغالب و التهاوش و يصدهم عن المعاصي و يعدهم و يحثهم على فعل الطاعات و يبعثهم على التناصف و التعادل، كانوا إلى الصلاح أقرب و من الفساد أبعد و هذا أمر ضروري لا يشك فيه العاقل» «1».

فإذا كان الإمام المعصوم كذلك، فما ظنك بغير المعصوم مع أنّه يظهر من غير واحد من الروايات- كما عرفت سابقا- أنّهم مالكون للأرض و ما فيها بل الدنيا ملك لهم، و مع ذلك لم نر منهم في عصر حكومتهم على الناس- عند بسط أيديهم و عند قبضها- إلّا العمل بما هو خير و صلاح للامة، لا ما هو

صلاح لأنفسهم، فالفقيه أولى بذلك.

2- الاستشارة في امور

لما كانت الحكومة على آلاف أو ملايين من المسلمين أمرا ليس بالهيّن، فهما بلغ انوار الفقاهة، ج 1، ص: 489

الإنسان مرتبة متقدمة في العلم و الفقه و العقل فغبطة المسلمين تقتضي أن لا يترك الاستشارة في اموره، لا سيما في الخطيرة منها، و إلّا فقد خرج عن وظيفته الواجبة عليه، من مراعاة الصالح بل الأصلح، و سقط عن مقامه السامي، فليس للفقيه الاستبداد برأيه في شي ء من الامور الراجعة إلى مصالح المجتمع الإسلامي، و لذا ورد في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «من أستبد برأيه هلك و من شاور الرجال شاركها في عقولها» «1».

و من المعلوم أنّ هلاك الوالي يؤدّي إلى هلاك الامة أيضا، بل و قد يؤدّي إلى هلاك الإسلام في برهة من الزمان.

و لهذا أيضا ذكر اللّه الشورى في كتابه في عداد الصلاة و الزكاة، و جعلها من علامات الإيمان، فقال عز و جل: وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* ... وَ الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَ الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ «2».

و أي أمر أهمّ من أمر الحكومة؟ بل إضافة الأمر إلى الجميع، و كذا ذكر الانتصار في مقابل البغي بعده، لو لم يوجب له ظهورا في الامور الهامة التي لها صلة بالمجتمع، فلا أقل من أنّها أظهر مصاديقها و أوضح مواردها.

بل يظهر ذلك من أمره تعالى للنبي صلّى اللّه عليه و آله بالمشاورة مع المؤمنين و جعلها في عداد العفو عنهم و الاستغفار لهم و جلب قلوبهم إلى الإسلام.

فقال تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ

كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ «3».

إنّ المشورة مع الناس من أسباب جلب القلوب و مشاركتهم للوالي في الامور، و اجتماعهم حوله و عدم انفضاضهم عنه، و ليست مشاورة النبي صلّى اللّه عليه و آله معهم (و إن كان عالما

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 490

بالامور بتعليم اللّه) أمرا صوريا ظاهريا، لما في نفس هذا الأمر من المصالح كما قد يتوهّم، بل ظاهر قوله تعالى: فَإِذا عَزَمْتَ أنّ عزمه كان بعد الشورى.

و الروايات في الحثّ على هذا الأمر كثيرة جدّا ربّما تبلغ حدّ التواتر، و كفاك في ذلك ما يلي:

الاولى: ما ورد في نهج البلاغة من قول أمير المؤمنين عليه السّلام «و الاستشارة عين الهداية قد خاطر من استغنى برأيه» «1».

فقد جعل الاستشارة عين الهداية، لا طريقا إليها! و هذا من أبلغ البيان لفوائد المشاورة، ثم أكده بقوله: إن الاستبداد علة الخطر و مبدؤه.

الثانية: قول رسول صلّى اللّه عليه و آله فيما روى الإمام علي بن موسى الرضا عليه السّلام عنه صلّى اللّه عليه و آله كما في العيون: «من جاءكم يريد أن يفرق الجماعة، و يغصب الامة أمرها، و يتولى من غير مشورة فاقتلوه فانّ اللّه قد أذن ذلك»! «2».

الثالثة: ما رواه بعض الصحابة قال: «ما رأيت أحد أكثر مشورة لأصحابه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله» «3».

و الأمر بالقتل و إن كان للأمور الثلاثة و هو تفرق الجماعة، و غصب الخلافة و ترك المشورة اجمع، و لكن عدّ ترك المشورة منها دليل على شدة اهتمامه صلّى اللّه عليه و آله بهذا الأمر، بل يكون

هو العلة في تفرق الجماعة و غصب أمر الامة كما لا يخفي على الخيبر.

فتحصل ممّا ذكرنا: أنّ المشورة للولى الفقيه ليست من قبيل المستحبات بل من أوجب الواجبات، لما عرفت من أنّه الطريق الوحيد إلى تشخيص مصالح الامة غالبا، التي ليس للفقيه أن يتعداها، مضافا إلى ما عرفت من الأوامر المؤكدة في ذلك في الكتاب و السنة التي ظاهرها الوجوب في الجملة.

و من هنا تظهر حكمة تأسيس مجلس النواب في الحكومة الإسلامية و أنّه قد تكون انوار الفقاهة، ج 1، ص: 491

مصلحة الامة في انتخاب الممثلين من الناس لمشاركتهم في كشف موارد الأحكام و موضوعاتها، و ما يكون الصالح و الأصلح لهم، و معاضدتهم للفقيه الوالي بل قد يكون تركه لذلك مظنة للهلاك و اتهامه بالاستبداد و الاستقلال في الرأي، و يوجب انفضاض الامة من حوله، مع ما في تركه من مظنة الوقوع في أنواع الخطأ في تطبيق الأحكام على صغرياتها، فتركه لهذا الأمر مخالف لمراعاة الغبطة المفروضة عليه و ينافي عدالته و ولايته.

و هذا هو العمدة في مشروعية مجلس النواب و الرجوع إلى آرائهم، و الأخذ بها عند تقنين القوانين، فآراؤهم يؤخذ بها في طريق تطبيق كبريات أحكام الشرع على صغرياتها، و تعيين الموضوعات العرفية و تشخيص الصالح و الأصلح فيما توقف الأمر عليه، لا في تشريع الأحكام، لأنّه خارج عن اختيارهم، بل و خارج عن اختيار الفقيه، قال اللّه تعالى إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ «1».

و من الواضح أن ترك هذه الطريقة في عصرنا من أهم أسباب التهمة و الفتنة و الانفضاض عن الحكومة الإسلامية، و باعث على تأثير وسوسة الشياطين و المعاندين في قلوب المؤمنين، فلا يجوز للفقيه العدول

عنها إلى غيرها.

و بقى هنا امور ترتبط بأمر المشاورة نطوي البحث عنها و نرجعها إلى محلها، و هي:

1- بيان أقسام المشهورة، فانّها تارة تكون من مقدمات عزم المستشير و إرشاده إلى ما هو الأصلح و إن كان الاختيار بيده في نهاية الأمر، و اخرى يجب الأخذ بآراء المشيرين و لا يجوز التعدي عنها، كما هو المعمول اليوم في مجلس النواب، ففي الأوّل يجوز مخالفتهم، و في الثاني لا يجوز.

و الظاهر أنّ آية آل عمران ناظرة إلى القسم الأوّل، و آية الشورى ناظرة إلى القسم الثاني.

2- صفات المشير و ما يعتبر فيه من الشرائط.

3- تعيين المواضع، التي لا بدّ فيها الاستشارة، تفصيلا و إن أشرنا إليها إجمالا.

4- شرح المواضع التي عمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في امور الحرب و غيرها- إذا لم يكن عنده انوار الفقاهة، ج 1، ص: 492

تكليف إلهي خاص إلى الشورى، و إن اشرنا إليه إجمالا أيضا، فليكن هذا على ذكر منك كي نتلو عليك منه ذكرا.

3- الرجوع إلى الخبراء

الحكومة لها عرض عريض، و شعب كثيرة، و كثيرا ما يحتاج في معرفة الموضوعات إلى انظار الخبراء، فعلى الفقيه أخذ نظرهم في ذلك إذا كانوا مؤتمنين و ليس هذا من المشاورة بل من قبل الرجوع إلى العالم، و يشبه التقليد من بعض الجهات في مثل هذه الموضوعات المعضلة الخاصة.

توضيح ذلك: إن كل حكم يحتاج إلى موضوع يتعلق به، كالمسكر و القمار و الاوثان و الاصنام، بالنسبة إلى تحريم الشرب و اللعب و العبادة و قد يفرق بين «الموضوع» و «المتعلق» فالمتعلق هو الفعل الذي يكون مهبط الحكم، كالشرب في لا تشرب الخمر، و العبادة في لا تعبد الصنم، و أمّا الموضوع هو الذي يتعلق

به الافعال «كالخمر و الصنم و آلات القمار» (و قد يطلق الموضوع على ما هو أعم منها و الأمر سهل بعد وضوح الحال).

و الموضوعات على أقسام:

«منها»: ما يكون شرعيا محضا مستنبطا من الكتاب و السنة، كالصلاة و الصيام و الحج و الطواف و غيرهم من أشباهها، و الاخرى ما ليس كذلك، بل يكون عرفيا و هو أيضا على قسمين: ما يكون معلوما لكل أحد، يعرفه العالم و الجاهل، كالماء المطلق و المضاف، و الدم و البول، و الفراسخ في باب صلاة القصر، و الغنم و البقر في أبواب الزكاة، و غيرها من أشباهها.

و قسم لا يعرفه إلّا الخبراء من أهل العلوم و الفنون المختلفة، مثل قيمة الدار عند الشك فيها و الحاجة إليها لمعرفة موضوع الغبن في البيع و عدمه، و كون الصيام ضارا أم لا، و مقدار حاجة العسكر إلى السلاح و إعداد القوى، و مقدار حاجة المسلمين إلى الأرزاق و غيرهم ممّا يكون فقدها ضررا عليهم، و كذا مقدار الثمر على الشجر عند الخرص و التخمين لأخذ الزكوات، كما كان معمولا في عصرنا النبي صلّى اللّه عليه و آله.

و بالجملة معرفة مصالح الامة يحتاج في كل خطوة إلى الخبراء العالمين بها لا سيما في انوار الفقاهة، ج 1، ص: 493

عصرنا هذا، الذي ازدهرت الحضارة البشرية فيها، و اتسع نطاق العلوم و الفنون و الصنائع و الحرف، و لا يقدر الإنسان على الخبروية في جميعها، بل و لا في شطر منها إلّا في ناحية صغيرة.

فالولي الفقيه في هذه الموارد إنّما يستنبط الحكم على موضوعه و يأمر بانفاذه، أمّا معرفة مصاديقه و موضوعاته فهو في هذا القسم خارج عن قدرته غالبا و لا بدّ له من

الرجوع إلى أهله، و لكن لا شك في اعتبار كونهم مأمونين على الدين و الدنيا و كلما يعتبر في المشير يعتبر فيهم، بل و أزيد، و ضرر الرجوع إلى الخبراء غير المأمونين قد يكون أزيد من ترك الرجوع إليهم كما لا يخفى على الخبير.

و هل يعتبر فيهم الإيمان مضافا إلى الوثاقة؟

لا شك في أنّهم إذا كانوا مؤمنين كان أحسن و أفضل، بل ما دام يمكن الوصول إلى أهل الإيمان لا ينبغي الرجوع إلى غيرهم، و لكن قد يكون الخبراء إلّا من غير أهل الإيمان مع الأمن منهم، و حينئذ لا مناص عن الرجوع إليهم و لكن مع الاحتياط و الحذر اللازم، كما ورد في التواريخ من رجوع أمير المؤمنين علي عليه السّلام عند ما ضربه اللعين، ابن الملجم إلى الطبيب النصراني «1».

و الدليل على ذلك كله أدلة وجوب التقليد و الرجوع إلى أهل الخبرة، فانّ بعضها عام يشمل الموضوعات و غيرها كبناء العقلاء على رجوع الجاهل إلى العالم و آية السؤال، مضافا إلى سيرته صلّى اللّه عليه و آله و أمره عبد اللّه بن رواحة لتخمين مقدار الثمر لأخذ الزكاة و غيرها من أمثالها.

و الدليل على ذلك كله أدلة وجوب التقليد و الرجوع إلى أهل الخبرة، فانّ بعضها عام يشمل الموضوعات و غيرها كبناء العقلاء على رجوع الجاهل إلى العالم و آية السؤال، مضافا إلى سيرته صلّى اللّه عليه و آله و أمره عبد اللّه بن رواحة لتخمين مقدار الثمر لأخذ الزكاة و غيرها من أمثالها.

4- لزوم الأخذ بأحكام الشرع في جميع اموره

الفقيه بما أنّه صاحب الفتوى و مرجع التقليد يستنبط الأحكام الشرعية عن مداركها، و لكن بما أنّه حاكم على الناس يكون مجريا لهذه الأحكام و محققا لها في الخارج،

فهو من انوار الفقاهة، ج 1، ص: 494

هذه الجهة ليس له إلّا التنفيذ، فلا يتخطى عن طور الأحكام بل لا بدّ له من التمسك بها، فان أمكنه الأخذ بالعناوين الأولية فبها، و إلّا فبالعناوين الثانوية كالأحكام الواردة على عنوان العسر و الحرج، و الضرر، و إقامة النظام و غيرها، و الحاصل أنّ وظيفة الحاكم بما أنّه حاكم هو تنفيذ الأحكام و القوانين الشرعية لا غير.

و ما قد يقال من أنّ الحكم على ثلاثة أقسام:

1- حكم أولي.

2- حكم ثانوي.

3- حكم ولائي.

فالحاكم غير مقيد بالأخذ بالأحكام الأولوية و الثانوية، بل له حكم مستقل ولائي، في عرض الأحكام الأولية و الثانوية، ناش عن الخلط بين الأحكام التشريعية و الأحكام الإجرائية، لا نقول ليس له حكم ولائي، بل هو ثابت له و لكن ليس في عرضهما بل في طولهما.

توضيح ذلك: إنّ الأحكام الأولية كوجوب الصلاة و الزكاة و الجهاد، و الثانوية كنفي الضرر و الحرج و لزوم حفظ النظام أحكام كلية إلهية، و قوانين عامة شرعية، و أمّا الحكم الولائي حكم جزئي من ناحية الحاكم، يحصل من تطبيق القوانين الكية الإلهية على مصاديقها الجزئية، مثلا: الفقيه الذي يحكم بأنّ التدخين بالتنباك في هذا اليوم بمنزلة المحاربة لصاحب الزمان (ارواحنا فداه) في الحقيقة ينظر إلى حكم كلي، و هو أنّ كل شي ء يكون سببا لتضعيف المسلمين، و كسر شوكتهم و إسارتهم في أيدي الأعداء، فهو في حكم المحاربة له عليه السّلام، و استعمال التنباك في ظروف خاصة كان بنظر الفقيه الجامع لشرائط الحكم و بحسب رأيه الصائب مصداقا لذلك، فيحكم بهذا الحكم الولائي باتا، و إذا ارتفعت العلة الموجبة له يحكم بجوازه لتبدل موضوعه، كما وقع كلاهما للسيد الأكبر الميرزا الشيرازى

قدّس سرّه.

و كذلك حكم الفقيه برؤية الهلال، و لزوم الصيام أو الافطار، إنّما ينشأ من الأخذ بالشهادة و تطبيق أدلة حجيتها على مصداق خاص، هكذا إعلام يوم الموقف بعرفات و يوم العيد الاضحى لنظم مناسك الحج.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 495

و مثله حكمه الولائي بلزوم إعداد قوى خاصة و اسلحة معينة. و أخذ مقدار من الأموال زائدا على الوجوه الثابتة الشرعية في برهة من الزمان لحرب أعداء اللّه، فانّ الحكم الكلي الشرعي في جميع هذه المقامات معلوم، و هو قوله تعالى: وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ أو وجوب مقدمة الواجب أو غير ذلك من أشباهه، و لكن الولي الفقيه يرى تحقق موضوعه في الخارج، فيتصدى لإنفاذ هذا الحكم و يحرض الناس عليه بمقتضى وظيفته و تكليفه.

و إن شئت توضيحا أكثر لهذا المسألة المهمة فاعلم أن: الأحكام الولائية (أي الأحكام التي يصدرها الوالي) على أقسام:

قسم منها يكون من قبيل نصب أمراء الجيش و القضاة و الموظفين في دائر الحكومة الإسلامية، فانّها أحكام إنشائية في مواردها تحصل من إنشاء الوالي لها، لمن فيها الصفات المعتبرة لهذه المناصب، و قسم آخر: أحكام خاصة ناشئة عن تطبيق كبريات الأحكام الأولية على مصاديقها، كالأمر بجباية الزكاة و الأخماس، و وضعها في مواضعها، و إعداد القوى لحرب العداء، و تعيين زمان الحرب و الصلح (كل ذلك بعد مراجعة الشورى و الخبراء).

و قسم ثالث: أحكام خاصة من تطبيق كبريات الأحكام الثانوية على مواردها، كإيجاب العمل بما يقتضي النظام في أمر عبور السيارات في الشوارع داخل البلاد و خارجها فانّها مقدمة لحفظ النفوس و الدماء و أمن السبل، و مقدمة الواجب من الأحكام الثانوية كما سيأتي.

و كتحريم بعض التجارات مع الأجانب، أو

ايجاب بعض الزراعات في برهة من الزمان، لكسر شوكة المعاندين، و المنع من تدخلهم في امور المسلمين، و حفظا النظام أرزاق الناس و القيام بدفع غلاء الأسعار و قحط الأرزاق، ممّا يكون تركه مضرة للناس لا سيما الفقراء و الضعفاء منهم.

و قسم رابع: ما يكون لدفع ظلم الظالمين و اعتداء بعض الناس على بعض، كالأمر بفتح مخازن المحتكرين، و بيع ما فيها على الناس، و تعيين الأسعار فيما يحتاج إليه الامة عند

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 496

مشاهدة اجحاف التجار و ذوي الصناعات و الحرف في التسعير، و ما أشبه ذلك.

و قد ورد كثير من هذه الاقسام في العهد المعروف الذي كتبه مولانا أمير المؤمنين علي عليه السّلام إلى الاشتر النخعي رضى اللّه عنه حين ولاه مصر، و له نظائر من بعض الجهات في العهود التي عهدها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأمرائه عند ارسالهم إلى مختلف بلاد المسلمين.

و لكن كل هذه الأحكام الكلية الإلهية التي وردت في الكتاب و السنة من الأحكام الأولية و الثانوية، و لا يتعداها أبدا في شي ء من مواردها و لو موردا واحدا.

فليس للوالي حكم خاص في عرض الأحكام الإلهية يسمى الحكم الولائي، بل له أحكام إجرائية في طولها و لا أظن أحدا يلتزم بغير ذلك، و ليس له حق التشريع و جعل الأحكام الكلية ممّا لم يرد في الشرع، بل ليس للإمام المعصوم عليه السّلام أيضا ذلك كما سيأتي البحث عنه مفصلا إن شاء اللّه عن قريب، فانّ اللّه قد أكمل دينه، و أتم نعمته و لم يبق شي ء إلّا و قد أنزل اللّه فيه حكما حتى أرش الخدش، و لا توجد واقعة ليس فيها حكم إلهي كما في

الأحاديث المتضافرة، و ممّا ذكرنا ظهر لك أنّ هناك فرقا واضحا بين الحكم الولائي و الأحكام التشريعية الأولية و الثانوية و إليك بعضها:

1- الأحكام الولائية أحكام إجرائية جزئيه في طريق انفاذ الأحكام الكلية الإلهية (و المراد من الجزئي هنا الجزئي الإضافي لا الجزئي الحقيقي كما هو ظاهر، فمثل المقررات التي وضعت لنظم العبور و المرور و إن كانت أحكاما كلية إلّا إنّها إنّما هي مقدمة لحفظ الدماء و النفوس و نظام المجتمع فهي جزئية بالنسبة إليها).

2- البحث عن الأحكام الولائية دائما بحث موضوعي لما عرفت أنّها في سبيل إجراء الأحكام الكلية الإلهية، بخلاف الأحكام الكلية، فوظيفة الفقيه بما أنّه مفت استنباط هذا القسم من الكتاب و السنة، و بما أنّه وال، استخراج الأوّل من طريق تطبيق الكبريات على صغرياتها.

3- الأحكام الولائية إنّما هي في طول الأحكام الشرعية الأولية و الثانوية لا في عرضها، فهذه فروق ثلاثة، يرتبط بعضها ببعض.

و إن شئت قلت: بعضها نتيجة بعض.

بحث حول العناوين الثانوية
اشارة

و لما انتهى الكلام إلى أحكام العناوين الثانوية اشتاقت نفوس جمع من الأحبة إلى تعريفها، و بيان الفرق بينها و بين غيرها، و ما يخصها من الأحكام، لا سيما و إنا لم نر من تعرض لها من الأعلام في طيات كتب «الفقه» و «الاصول» و لم نجد إلّا إشارات طفيفة في مختلف أبواب الفقه، فأحببت تفصيل الكلام فيه لما فيه من آثار كثيرة لا سيما في زماننا هذا، فنقول و منه جل ثنائه نستمد التوفيق و الهداية: لا بدّ هنا من رسم امور:

1- تعريف العناوين الثانوية و حدودها

قد عرفت أنّ الأحكام تحتاج إلى موضوع يرد عليه، و متعلق، تتعلق به، و إنّهما قد يتحدان و قد يفترقان، ففي مثل وجوب الصلاة، الموضوع و المتعلق أمر واحد، و في مثل شرب الخمر مختلفان، و ذكر بعض الاصوليين أنّ الموضوع أشبه شي ء بالمعروض في مقابل العرض، و لكنه مجرّد تشبيه، و إلّا فالأحكام امور اعتبارية لا مساس لها بالعرض الذي هو من الامور الحقيقية.

و على كل حال، العنوان المأخوذ في الموضوع قد يكون «عنوانا ثابتا له مع قطع النظر عن العوارض و الطوارئ التي يتغير الأحكام بها، فيسمى عنوانا أوليا، و اخرى يكون من العوارض و الطوارئ التي قد يلحقها و يتغير بها حكمه، فيسمى عنوانا ثانويا.

و إن شئت فانظر إلى مثل لحم الميتة و حرمتها، ثم الاضطرار إلى أكلها لبعض ما يرد على الإنسان، كالسفر إلى غير بلاد المسلمين مع عدم التمكن من ذبيحة المسلم، و مع عدم القدرة على ترك اللحم زمانا طويلا للخوف على النفس.

فلحم الميتة حرام ذاتا بما أنّها ميتة، و لكن عروض عنوان الاضطرار يوجب تغيير حكمها مؤقتا، ثم بعد زواله يرجع إلى ما كان عليه،

و كذا الكلام بالنسبة إلى حرمة الكذب، و اباحته أحيانا لما فيه من إصلاح ذات البين، فالكذب عنوان ثابت أولي للحرمة لا يتغير من هذه الناحية، و لكن عنوان «إصلاح ذات البين» أمر عارض مؤقت يوجب اباحته فعلا.

و كذا الواجب في الوضوء هو مسح الرأس و الرجلين، و لكن عروض عنوان التقية قد

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 498

يوجب تغيير حكمه و تبدله بالغسل، و إذا زالت التقية زال حكمها.

و إن شئت قلت: قد ينقسم الشي ء إلى أقسام، بذاته، كالماء المنقسم إلى الكر و القليل و المتغير بالنجاسة و غير المتغير و الطاهر و النجس، و قد ينقسم بامور خارجة عن ذاته كالماء المضطر إلى شربه و ما لم يضطر، فمثل هذه العناوين هي عناوين ثانوية فمن هذه المثلة الثلاثة و ما أشبهها و ما ذكرنا في صدر الكلام و ذيله، يعلم حال العناوين الثانوية و فرقها مع العناوين الأولية، و لا تحتاج إلى مزيد بحث في ذلك.

2- كثرة العناوين الثانوية و تنوعها
اشارة

قد ظهر ممّا ذكرنا عدم حصر هذه العناوين في الضرورة و الاضطرار كما توهّمه بعض من لا خبرة له بالفقه و الاصول، بل هي كثيرة متفرقة في أبواب الفقه، و يشكل حصرها في عدد خاص، و لكن الأشهر من بينها العناوين التالية:

1- عنوان الضرورة و الاضطرار:

و هو ما ورد في قوله تعالى: وَ ما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ «1». و ظاهره عام يشمل جميع المأكولات، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ ورودها في سياق آيات أحكام اللحوم يوجب انصرافها إليه فقط و هو بعيد.

و قد اشير إليه في آيات اخر أيضا من كتاب اللّه العزيز «2». كلها واردة في أحكام اللحوم، و لكن ملاك الحكم عام كما هو ظاهر.

و قد روى أبو بصير قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المريض هل تمسك له المرأة شيئا فيسجد عليه؟ فقال: لا إلّا أن يكون مضطرا ليس عنده غيرها، و ليس شي ء ممّا حرم اللّه إلّا و قد أحله لمن اضطر إليه» «3».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 499

و ما روى سماعة قال: «سألته عن الرجل يكون في عينيه الماء ... فقال: لا بأس بذلك، و ليس شي ء ممّا حرم اللّه إلّا و قد أحله لمن اضطرا إليه» «1».

و حكم الاضطرار و الرخصة الحاصلة منه ثابت بالأدلة الأربعة كما لا يخفى على من راجعها.

2- عنوان الضرر و الضرار:

و هو أيضا وارد في الكتاب العزيز في موارد خاصة مثل قوله تعالى: لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ «2». الواردة في حكم الرضاع و قوله تعالى: وَ لا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ «3» الواردة في حكم المطلقات و العمدة في عموم الحكم هو حديث لا ضرر و لا ضرار المعروف بين الفريقين و غيرها من أشباهه، و قد أوردنا جميعا في كتابنا «القواعد الفقهية» في قاعدة لا ضرر فراجع القاعدة الاولى من القواعد الثلاثين.

3- عنوان العسر و الحرج:

و قد ورد أيضا في كتاب اللّه في قوله تعالى: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «4» و يدل عليه الروايات الكثيرة المستفيضة التي لعلها تبلغ حد التواتر، و قد نقلنا شطرا منها في الكتاب المذكور «القاعدة الثانية من تلك القواعد».

4- عنوان التقيّة:

بما لها من الأقسام «الخوفي» و «التحبيبي» و «التقيّة المقابلة للإشاعة و إذاعة الأسرار» (بناء على كونه قسما ثالث؛ كما مال إليه بعض. و إن أخبرنا في محله أنّها راجعة إلى القسم انوار الفقاهة، ج 1، ص: 500

الخوفي) و على كل حال يدلّ على أصل هذا العنوان، الأدلة الأربعة أيضا كما يظهر بمراجعة الكتاب المذكور القاعدة، و هذا العنوان قد يوجب تحليل الحرام أو تحريم الحلال بعنوان حكم مؤقت عارض.

5- مقدمة الواجب أو الحرام:

(بناء على ما هو الحق من وجوب الأول، و حرمة الثاني كما ذكرناها في محله) و هذا العنوان هو الدليل الوحيد أو الدليل العمدة على بعض المسائل المشهورة في الفقه، مثل وجوب المكاسب و الحرف التي يتوقف عليها حفظ النظام، فإنّ حفظ النظام واجب قطعا و يمكن الاستدلال عليه بالأدلة الأربعة، بل العلة في تشريع كثير من الأحكام لا سيما الحدود و التعزيرات هو هذا، فيجب ما يكون مقدمة له.

و لعل تحريم التنباك في القضية المشهورة عن السيد الأكبر الميرزا الشيرازي قدّس سرّه من هذا القبيل، لأنّ استعماله كان سببا لمزيد اشترائه، و هو بدوره كان سببا لمزيد قوّة الدول الاستعمارية و استضعاف المسلمين و سلطة الأجانب على حياتهم (و قد يكون مصداقا لعنوان آخر و هو الاعانة على الحرام) و كذلك الكذب إذا كان مقدمة لإصلاح ذات البين، أو الغيبة مقدمة لنصح المستشير، و جميع هذه إنّما تجب أو تحرم بعنوان ثانوي و هو عنوان المقدمية.

و من هذا القبيل أيضا أخذ بعض الأموال من الناس زيادة على الحقوق الواجبة و المعروفة مقدمة لابتياع السلاح و ما يكون عدّه في مقابل الأعداء في بعض الظروف الخاصة.

6- قاعدة الأهم و المهم عند التزاحم:

و يدل عليها «العقل» و «الشرع» بل يمكن إقامة الأدلة الأربعة عليها كما لا يخفى على الخبير، كالمثال المعروف الدارج بينهم من الدخول في الأرض المغصوبة لإنقاذ الغريق، و كالأكل في المخمصة لحفظ النفس، فانّ الحكم الاولي و إن كان يقتضي عدم جواز التصرف انوار الفقاهة، ج 1، ص: 501

في أموال الناس، و لكن مزاحمة الواجب الأهم و هو حفظ النفس المحترمة تقتضي جوازه بل وجوبه بعنوان ثانوي.

بل يمكن ارجاع مسألة مستثنيات الكذب و الغيبة إليها، و كذا قاعدة الضرورة

و الاضطرار و كذا الضرر و الضرار، و هكذا مسألة التقية (سواء الخوفي و التحبيبي منها) ففي جميع هذه الموارد يدور الأمر بين مصلحتين، و يقع التزاحم بين ملاكين فيؤخذ بالأقوى منهما، و بهذا البيان يمكن ارجاع كثير من العناوين الثانوية إلى قاعدة الأهم و المهم و تزاحم الملاكين، و ليكن هذا على ذكر منك.

و ممّا لا بدّ من التأكيد عليه أنّ معرفة المصالح و المفاسد، و الأهمّ من غير الأهمّ، لا بدّ أن يكون بحسب مذاق الشرع، و ما عرفنا من لسانه أدلته من اهتمام الشارع المقدس ببعض الامور أكثر من بعض، لا بحسب مذاقنا و ما يبدو في أذهاننا من الاستحسانات.

و الحاصل: أنّ معرفة مصاديق القاعدة إنّما هو إلى الفقيه العالم بلسان الشرع لا أنّه موكول إلى الاستحسانات و العقول البادية.

7- أمر الوالد و نهيه:

سواء قلنا بوجوب اطاعته في غير الواجب و الحرام، أو قلنا إنّ المحرم هو العقوق (أي ما يوجب أذاه) فقط، قد دلّ عليه الكتاب و السنّة، فالسفر قد يكون مباحا أو مستحبا لكونه مقدمة للحج المستحب، و لكن يأمر الوالد به أو ينهى عنه فيصير واجبا أو حراما بالعنوان الثانوي مؤقتا، مع بقاء الحكم الأولى في مرحلة الإنشاء، فإذا ارتفع هذا العنوان ارتفع حكمه.

8 و 9 و 10- النذر و العهد و القسم:

الثابت بالكتاب و السنّة، جميعها من العناوين الثانوية، فكم عمل مستحب أو مباح بعنوانه الأولى يجب أو يحرم بالنذر أو العهد أو القسم، فصلاة الليل مستحب بعنوان الأولي، و لكن تجب النذر بعنوانها الثانوي، فإذا انقضى النذر انقضى هذا الحكم، و كذا الانفاق في انوار الفقاهة، ج 1، ص: 502

سبيل اللّه و شبهه و فعل بعض الامور، مكروه بعنوانه الأولى، و لكن بالنذر أو القسم على تركه يحرم و هكذا أشباهها.

فهذه عشرة عناوين من العناوين الثانوية، و لا ندعي حصرها في ذلك، و لعله يعثر المتتبع على عناوين اخرى في طيات كتب الفقه، و منه يعلم عدم حصرها في عنواني «الضرورة» و «الحرج» كما زعمه بعض، بل هناك عناوين كثيرة اخرى لا ترتبط بالضرورة أو العسر و الحرج، قد عرفت الإشارة إلى شطر منها، مثل التقية التحبيبية و أمر الوالد و النذر و القسم غيرها.

3- دور العناوين الثانوية في حياة الفقه الإسلامي و إزدهاره

هناك أصلان يعدان من الاصول المسلمة في الإسلام:

«أبديّة الإسلام» و «عالميته»، فالإسلام لا ينحصر بزمان دون زمان، و بمكان دون مكان و لا قوم دون قوم، بل يجري مجرى الشمس و القمر، مدى الدهور و الأعصار، و في مختلف أنحاء العالم، يضي ء و يشرق على الجميع إلى آخر الدنيا و في جميع الأقطار.

يدلّ عليهما ما ورد في القرآن من التعبير بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ ...*، و يا بَنِي آدَمَ ...*، و يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...*، و يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ...*، و يا عِبادِيَ ...*

في كثير من الآيات، تدلّ على أنّ المخاطب بها جميع البشر من لدن نزولها إلى آخر الدنيا، و في كلّ مكان من الأمكنة، و كلّ بقعة من بقاع الأرض.

و يدلّ على الثاني بالخصوص آية الخاتمية: ما

كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ، «1» و غير ذلك ممّا ورد في القرآن الكريم من قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «2» و شبهه.

و في السنّة روايات كثيرة ليس المقام مقام بيانها، و قد صار هذا الأصلان من الواضحات يعرفه كل من له إلمام بالإسلام.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 503

ثمّ إذا كان الإسلام دينا عالميا أبديا لنوع البشر، مع أنّ المجتمعات لا تزال في تطور و تغيير، و لا تزال حوائجهم تختلف و تزاد و تتنوع و تتشعب، مع كون قوانين الإسلام ثابتة و مؤيدة، يقع السؤال أنّه كيف ينطبق ذاك الأمر المتغير دائما، على هذه القوانين الثابتة دائما؟

و هل يمكن الجمع بينهما؟ مع أنا نرى القوانين في الجوامع الإنسانيّة- أي القوانين الموضوعة من ناحية العقول البشرية- تتغير دائما كي تنطبق على متطلباتهم، فالإسلام يجعل قوانينه ثابتة و مع ذلك يقضي بها حوائج الناس في جميع أقطار العالم و جميع الأعصار، و هذا مسألة مهمّة و عجيبة.

و قد فاز الإسلام في هذا الميدان فوزا عظيما، و السرّ فيه مضافا إلى أن واضع القانون هنا هو اللّه جلّ شأنه، العالم بالسرائر، و الوقف على الضمائر، و هو الخالق للإنسان الخبير بحاجاته المادية و المعنوية، فانّ في الإسلام اصولا كلية، و قوانين جامعة، لها شمول كثير، و دوائر واسعة، و خطوط عريضة، و تزدهر زمانا بعد زمان، و تتغير مصاديقها و تبقى ذواتها، مثل أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و «المؤمنون عند شروطهم»، و «ما حكم به العقل حكم به الشرع» و غيرها من أشباهها.

أضف إلى ذلك، القواعد الكثيرة المشتملة على العناوين الثانوية مثل «قاعدة لا ضرر» و «قاعدة لا حرج»،

و «الضرورة» و «لزوم ما يتوقف عليه حفظ النظام»، و «قاعدة الاهم و المهم عند تزاحم المصالح» و أشباهها.

فكم من مشكلة عظيمة انحلت بمعونتها، و كم من عويصة غامضة مظلمة انكشفت في ضوء أنوارها، فالحكام العناوين الثانوية من أهم أسباب الحكومة الإسلامية لحل المعضلات.

و لكن هنا أمران يجب التنبيه عليهما، و التحذير منهما كل الحذر:

الأوّل: أنّه ليس معنى هذا الكلام، اتباع الاهواء و الجرى وفق المذاق و التلاعب بالأحكام الأولية كما يشاء، بل لا بدّ من الدقة، و كمال الدقة يكون في كشف مصاديقها و الأخذ بما هو مقتضى الحزم و الاحتياط فيها، فانّ الأمر هنا صعب مستصعب، و قد خفي على بعض من لا خبرة له بالفقه حتى أصبحت أحكام اللّه تعالى تابعة لميولهم، رغم حكم انوار الفقاهة، ج 1، ص: 504

الإسلام بتبعية الميول لأحكام اللّه تعالى، و قوله تعالى: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً «1».

و قد سمعنا أنّه أتت بعض النساء من العوام بعض القضاة تدعى العسر و الحرج في البقاء مع زوجها و تطلب الطلاق بهذا العنوان بأدنى ذريعة (مثل أن زوجها له عادة سيئة عند الأكل و الشرب أو في الملبس و المشرب أو غير ذلك) و إن لم يعتن القاضي بقولها.

فلا بدّ للفقيه أن يتصدى لمثل هذه الموارد التي قد تجعل الأحكام فارغة من محتواها، فالافراط باطل، كما أنّ التفريط و ترك التمسك بهذه العناوين لحل المشاكل المختلفة الاجتماعية بدعوى التقدس و مراعات جانب الاحتياط أيضا من أهواء الشيطان و مكائده.

الثاني: إنّ عدة من العناوين الثانوية من الامور التي تختص بحالة الضرورة و شبهها و

لا يمكن الأخذ بها في كل حال و جعلها كقانون مستمر في حال الاختيار، و لا يمكن بناء أكثر أحكام الشرع عليها و حل جل المشكلات بها.

بل لا بدّ من المصير إلى العناوين الأولية و القوانين المتخذة منها، فانّها العمدة في حل المعضلات الاجتماعية، و لو بذلنا الجهد في هذا السبيل لظفرنا بالمقصود قطعا، ثم نأخذ من العناوين الثانوية لحالات خاصة و ظروف معينة.

و الحاصل: أنّ القول بأنّه لا يدور رحى المجتمعات البشرية اليوم إلّا مدار عناوين الضرورة و الاضطرار، و الضرر و الضرار، قول فاسد، و مفهومه أنّ حياة الإسلام و قوانينه (نعوذ باللّه) قد انقضت، و فائدتها قد انتهت، فيكون كالمريض الذي لا يمكن حفظ حياته إلّا بالتغذية من طريق وريده فقط.

نعم لا شك أنّه قد يكون في عمر الإنسان ساعات لا يمكن التحفظ على حياته إلّا بهذا الطريق، و لكن لو أن إنسانا لا يعيش أبدا إلّا بهذا، و لا يقدر مدى حياته على التغذية على وفق التعارف، ففي الحقيقة قد تمّت حياته و انقضت أيّامه، و لم يبق له شي ء، و كذلك قد تقع في البلاد اضطرابات لا يمكن الغلبة عليها إلّا من طريق التوصل إلى الحكومة العسكرية،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 505

و لكن هذا خاص ببرهة من الزمان، فلو أنّ بلدا من البلاد و حكومة من الحكومات لا يقوم أمرها إلّا بهذا النحو من الحكومة كان ذلك دليلا على اضمحلالها من الأصل، و على أنّ دورها قد انتهى: و هكذا الإسلام لو قلنا أنّه لم يبق منه شي ء إلّا من طريق الأحكام الثانوية الاضطرارية، و هذا أمر ظاهر لا سترة عليه.

و خلاصة الكلام أنّ ليس دور هذا القسم من العناوين الثانوية

الاضطرارية إلّا حل المشكلات الناشئة عن الأزمات الاجتماعية و الاقتصادية، و لا يمكن الأخذ بها في جميع الحالات و جميع الظروف.

و بعبارة أوضح: لو قلنا إنّ نظام الامة الإسلامية في زماننا هذا لا يتم إلّا بالأخذ بالعناوين الثانوية الاضطرارية في جميع الامور، فقد اعترفنا بنقص قوانين الإسلام و عدم استيعابها لمصالح البشر في عصرنا هذا، و إلّا كانت العناوين الأولية من أحكامه تعالى كافلة لهذه المهمة.

و هذا الاعتراف العملي، خطأ عظيم و ذنب لا يغفر، و نعوذ باللّه منه.

4- النسبة بين العناوين الثانوية و الأولية

و النسبة بينهما تارة تكون بالحكومة، كما في أدلة لا ضرر و الاضطرار، فان قوله صلّى اللّه عليه و آله: «لا ضرر و لا ضرار في الإسلام» و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و ليس شي ء ممّا حرمه اللّه إلّا و قد احله لمن اضطر إليه» و كذلك أدلة النذر و العهد و القسم كلها، بالنسبة إلى العناوين الأولية، و كل ما كان بلسانه ناظرة إلى غيره، سواء جعله موسعا أو محدودا فهو حاكم عليه و المقام من هذا القبيل.

و اخرى: يكون مقدما عليه من جهة الرجحان في الملاك عند تزاحم الواجبين أو المحرمين، كما في عنوان الأهم و المهم.

و الثالثة: من قبيل تقديم ما فيه الاقتضاء على ما ليس فيه الاقتضاء كوجوب الأمر المباح إذا كان مقدمة للواجب، و كحرمته إذا كان مقدمة للحرام، فانّ أدلة وجوب المقدمة عقلية لا

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 506

معنى لجريان الحكومة فيها، بل تقديم على أدلة المباحات لأنّها ليس فيها اقتضاء و ملاك للوجوب أو الحرمة، و بعد ما صار مقدمة للواجب أو الحرام كان فيها اقتضاء لذلك، كما لا يخفى على الخبير.

فتقديم العناوين الثانوية على الأولية إنّما يكون

لجهات شتى، في كل مقام بحسبه.

5- ولاية الفقيه بنفسها من الأحكام و العناوين الأولية

كما أنّ منصب الافتاء و منصب القضاء أيضا كذلك، فهذه المناصب الثلاثة كلها من العناوين الأولية، و لكن الكلام كله في تعلق هذه المناصب، فمنصب الافتاء يدور مدار استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها، و منصب القضاء يدور حول إحقاق الحقوق و إجراء الحدود على وفق أحكام الشرع، و الولاية تدور مدار إصلاح نظام المجتمع الإنساني من طريق تنفيذ أحكام الشرع و إجرائها، فكل هذه المناصب تدور مدار أحكام الإلهية الأولية و الثانوية لا غير، و جميع هذه في طول تلك الأحكام، فكما أنّ منصب الافتاء لا يتعدى كشف الأحكام العناوين الأولية و الثانوية، و القضاء لا يتعدى عن إحقاق الحقوق على وفق أحكام الشرع، فكذلك الولاية لا تتعداها أبدا، و إلّا لم تكن ولاية إلهية إسلامية، و من الواضح أنّه ليس للفقيه الولاية كيفما شاء و أراد كما مرّ مرارا.

كشف النقاب عن الولاية المطلقة

إن قلت: إنّه قد ورد في بعض كلمات الأعاظم (قدّس اللّه أسرارهم) أنّ ولاية الفقيه مطلقة لا تقيد فيها.

قلت: نعم هي كذلك، و لكن المراد منه أنّه لا تتقيد بالضرورة و الاضطرار و شبه هذه الامور، توضيح ذلك: أنّه قد تطلق العناوين الثانوية و يراد منها جميع ما ينطبق على التعريف الذي ذكرنا آنفا، و لها حينئذ عرض عريض يشمل العناوين العشرة السابقة و غيرها.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 507

و اخرى تطلق و يراد منها خصوص الضرورة و الاضطرار، فمعنى خروج ولاية الفقيه عن العناوين الأولية و الثانوية هو الأخير، و حينئذ لا مانع من انطباق عناوين اخرى عليه.

و الشواهد على ذلك كثيرة، أولها: ما ذكرنا في كلماتهم من الأمثلة، «منها»: حكم الفقيه بترك الحج في بعض السنين، و في بلد من البلاد، إذا كان هناك

مصالح أهم منه فانّه لا ريب في انطباقه على ما عرفت من قاعدة الأهم و المهم، فهل ترى أحدا من الفقهاء يحكم بترك الحج الواجب بل المستحب لا لمصلحة شرعية تكون في الترك، أهم و أولى من مصلحة فعلها؟ و «منها» مثالهم باحداث الشوارع أو ابداع القوانين و الأنظمة الحاكمة على مرور السيارات ما فيها من حفظ النفوس و الدماء التي تكون أهم من تخريب بعض البيوت و اعطاء قيمتها كما هو حقها (من دون اذن صاحبها) و كذلك سلب حرية الناس في الشوارع و تقيدهم ببعض القيود، فهذه كلها من مصاديق قاعدة الأهم و المهم، و لعمري أنّ هذه الأمثلة من أقوى الشواهد على ما ذكرنا.

ثانيها: إن قلنا إنّ ولاية الفقيه لا تتقيد بشي ء، فهل نقول بأنّها لا تتقيد بمراعات مصالح المسلمين ابدا، أو نقول بوجوب مراعاتها على الولي؟

و الأوّل لا يتفوه به أحد، و على الثاني فهل هذه المصلحة مشكوكة، أو مظنونة، أو قطعية تستفاد من لسان الشرع و العقل؟

و الأوّل أيضا لا يقول به أحد، و الثاني إما أن لا يترجح على ما في ارتكاب مخالفة الأحكام الأولية من المفاسد، أو يترجح.

و الأوّل أي ما كان ملاك المفسدة أهم فيه فلا يظن الالتزام به من أحد، و على الثاني يدخل في قاعدة الأهم و المهم و قد عرفت أنّه داخل في العناوين الثانوية، و هو المطلوب، فولاية الفقيه ترجع بالمآل إلى مراعاة الأهم فالأهم شرعا.

ثالثها: ما عرفت من أنّ الأحكام الولائية، أحكام إجرائية و تنفيذية لأنّها مقتضى طبيعة مسألة الولاية، و أنّها دائما ترجع إلى تشخيص الصغريات و الموضوعات، و تطبيق أحكام الشرع عليها. و تطبيقها على أحكام الشرع، و ليس للوالي

بما أنّه وال التدخل في نفس الأحكام الكلية، بل بما أنّه مفت و مرجع للفتوى، كما أنّه ليس له القضاء بما أنّه وال، بل بما

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 508

أنّه قاض، و من الواضح أنّ الفقيه بما له من منصب الافتاء ليس له استنباط الأحكام عن أدلتها و استنباطها عن منابعها، فتدبّر جيدا فانه حقيق به.

فولاية الفقيه مطلقة في حريم أحكام الشرع، لا فيما خالف أحكامه، و لا يظن بأحد القول باطلاقها في ما خالف الشريعة، لأنّه منصوب لإجرائها و تنفيذ أحكامها، و أحكامها تدور على العناوين الأولية و الثانوية فحسب، و الأمر واضح بحمد اللّه.

المقام السادس: معضلة الولاية على التشريع
اشارة

هل للفقيه ولاية على تشريع الأحكام الكلية أو الجزئية؟

أمّا الجزئية أعني الأحكام الإجرائية فلا إشكال فيه، و لكنّها كما عرفت من قبيل تطبيق الكبريات على مصاديقها، و لا ينبغي أن يسمى تشريعا، و ذلك مثل انظمة مرور السيارات فإنّها مقدمة لحفظ النفوس و الدماء و نظم البلاد.

و أمّا الكلية فالجواب عن هذا السؤال فيها و إن كان واضحا و لكن توضيحه أكثر من هذا يحتاج إلى بيان مقدمة نورد فيها انظار علماء الإسلام و آرائهم حول التشريع الإسلامى فنقول و منه نستمد الهداية:

أجمع علماء الإسلام على أنّه لا يجوز الاجتهاد في مقابل النص، فلو كان هناك نص في حكم من الأحكام لم يجز إلّا قبوله، بل هذا مرادف لقبول النبوة و الاعتقاد بها، و ما صدر من بعض الماضين مخالفا لهذا فانّما صدر غفلة و اشتباها و إلّا فالمسألة واضحة.

و أمّا في ما لا نص فيه، فقد أخذ الجمهور فيها بالقياس و الاستحسان و الاجتهاد بمعناه الخاص، و وضعوا فيها أحكاما بآرائهم، زعما منهم أنّ ما لا نص فيه لا

حكم فيه في الواقع، فلا مناص إلّا عن تشريع حكم فيها، إمّا بقياسها على غيرها من أحكام الشرع، و إمّا بالبحث و الفحص عن المصالح و المفاسد، فما ظنوا فيها المصلحة أوجبوه، و ما ظنوا فيه المفسدة حرّموه «و منع قليل منهم عن القياس و الاستحسان و لكن هذا شاذ» كل ذلك يسمى عندهم اجتهادا بالمعنى الخاص.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 509

و أمّا أصحابنا الإمامية قدّس سرّه فقد قالوا: بأنّه ليس هناك واقعة لا نص فيه و لا يوجد أمر خال عن حكم شرعي، و أن الدين قد كمل اصوله و فروعه بحيث لم يبق محل لتشريع أحد أبدا.

نعم هذه الأحكام تارة وردت في نصوص خاصة، و اخرى في ضمن أحكام كلية و قواعد عامة، و جميعها محفوظة عند الإمام المعصوم عليه السّلام، صادق بعد صادق، و عالم بعد عالم و وصلت أكثرها إلينا من طريق الكتاب و السنة و الإجماع و دليل العقل و ربّما لم يصل بعضها إلينا، و لكنه رغم ذلك فحكمها ثابت في الواقع، فعلى المجتهد الجد و الجهد في الوصول إليها، و إن يئس عن الوصول إلى بعضها أحيانا فانّما يأخذ بما هو وظيفة الشاك، من الاصول العملية التي لا تخرج عنها واقعة، و لا يشذ عنها شاذ، بل هي جامعة و شاملة لجميع الموارد المشكوكة فعلى هذا، «الفروع القانوني» غير موجود في مكتب أهل البيت عليهم السّلام و من يحذوا حذوهم، بل كلما تحتاج إليه الامة إلى يوم القيامة، في حياتهم الفردية و الاجتماعية، المادية أو المعنوية، فقد ورد فيه حكم إلهي و تشريع إسلامي، فلا فراغ و لا خلأ أصلا، فلا يبقي محل لتشريع الفقيه أو غيره.

فالذي للفقهاء دامت

شوكتهم، أمران:

الأوّل: الجهد و الاجتهاد في كشف هذه الأحكام عن أدلتها.

الثاني: تطبيقها على مصاديقها و تنفيذها بما هو حقها، و الأوّل هو الافتاء، و الثاني هو الولاية و الحكومة.

و يدل على ذلك امور:

1- آيات من كتاب اللّه:

منها: قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً «1» و كيف يكون الدين كاملا لو خلت الوقائع عن الأحكام اللازمة؟ و كيف يكون الدين خاتما و الشريعة عالمية مع عدم وجود ما يغني الإنسان إلى آخر الدهر، و في جميع أقطار العالم من الأحكام و الشرائع؟

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 510

فكما نقول بكمال الدين في اصوله بنصب ولى اللّه المعصوم عليه السّلام، فكذلك في فروعه، كما أن القول بعدم النص في الاصول و أنّه موكول إلى الناس مردود، فكذلك القول بعدمه في الفروع أيضا مردود ممنوع.

و قد ورد في تفسير الآية عن الرضا عليه السّلام في حديث طويل ما لفظه: «و ما ترك شيئا يحتاج إليه الامة إلّا بيّنه، فمن زعم أنّ اللّه عزّ و جلّ لم يكمل دينه فقد ردّ كتاب اللّه، و من رد كتاب اللّه فهو كافر» «1».

فكما أنّه لم يجعل أمر الإمامة بأيدي الناس، و إلّا لم يكن الدين كاملا، فكذا أمر الأحكام و التشريعات.

«و منها»: قوله تعالى: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ «2».

ظاهر هذه الآية الأشياء التي لها صلة بسعادة الإنسان و كرامته و صلاحه و فساده مذكور في كتاب اللّه، في عمومه أو خصوصه.

و قد ورد في تفسير الآية أحاديث كثيرة تؤكد على هذا المعنى ستأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه.

2- و من السنة الأحاديث الكثيرة الدالة على أنّ كلما يحتاج إليه الامة إلى يوم القيامة مبينة

في الشريعة المقدسة حتى ارش الخدش، و قد عقد لها في الكافي بابا مستقلا أورد فيه عشر روايات و إليك شطر منها:

الأوّل: ما رواه مرازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال «إن اللّه تبارك و تعالى أنزل في القرآن تبيان كل شي ء، حتى و اللّه ما ترك اللّه شيئا يحتاج إليه العباد، حتى لا يستطيع عبد يقول:

لو كان هذا، أنزل في القرآن، و إلّا و قد أنزله اللّه فيه» «3».

الثاني: ما رواه عمر بن قيس عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «سمعته يقول: إنّ اللّه تبارك و تعالى انوار الفقاهة، ج 1، ص: 511

لم يدع شيئا يحتاج إليه الأمة إلّا أنزله في كتابه و بيّنه لرسوله صلّى اللّه عليه و آله» «1».

الثالث: ما رواه حماد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال سمعته يقول: «ما من شي ء إلّا و فيه كتاب أو سنة» «2».

الرابع: ما رواه المعلى بن خنيس قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلّا و له أصل في كتاب اللّه عزّ و جلّ و لكن لا تبلغه عقول الرجال» «3».

الخامس: ما رواه سماعة عن أبي الحسن موسى عليه السّلام قال: «قلت له، أكل شي ء في كتاب اللّه و سنة نبيه صلّى اللّه عليه و آله أو تقولون فيه؟ قال: بل كل شي ء في كتاب اللّه و سنة نبيه صلّى اللّه عليه و آله» «4».

السادس: و أوضح من ذلك كله ما ورد في نهج البلاغة في ذم اختلاف العلماء في الفتيا، و ذم أهل الرأي و القياس، و القائلين بخلو بعض الوقائع عن الحكم و ايكال حكمها إليهم، ما نصه:

«ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام

فيحكم فيها برأيه، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آرائهم جميعا- و إلههم واحد! و نبيّهم واحد،! و كتابهم واحد! أ فأمرهم اللّه سبحانه بالاختلاف، فأطاعوه؟ أم نهاهم عنه، فعصوه؟ أم أنزل اللّه دينا ناقصا فاستعان بهم على اتمامه أم كانوا شركاء، فلهم أن يقولوا و عليه أن يرضى، أم انزل اللّه دينا تاما فقصر الرسول صلّى اللّه عليه و آله عن تبليغه و أدائه، و اللّه سبحانه يقول: ما فرّطنا في الكتاب من شي ء و فيه تبيان لكل شي ء» «5».

و دلالة الجميع على المطلوب واضحة.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 512

3- و هناك طائفة اخرى من الأخبار تدل على أنّ جميع ما ذكره الأئمّة عليهم السّلام رواية عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلم يقولوا بآرائهم شيئا، بل كان جميع ذلك في سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و هذه الطائفة كثيرة جدّا رويت في الكتاب القيم جامع أحاديث الشيعة باسنادها، في الباب الذي عقد لبيان حجية فتوى الائمّة المعصومين عليه السّلام (لأجل الاحتجاج على المخالفين بأنّهم إن انكروا إمامتهم المنصوصة فلا أقل من أنّ الواجب عليهم قبول قولهم بما هم يروون جميع علومهم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله) و هذه الأحاديث كثيرة تذكر شطرا منها يكون وافيا بالمقصود:

الأوّل: ما رواه جابر قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام إذا حدثتني بحديث فاسنده لي، فقال:

حدثني أبي عن جدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن جبرئيل عن اللّه عزّ و جلّ، و كلّما احدثك بهذا الاسناد» «1».

الثاني: ما رواه حفص بن البختري قال: «قلت لأبي

عبد اللّه عليه السّلام نسمع الحديث منك فلا أرى منك سماعه أو من أبيك، فقال: ما سمعته مني فاروه عن أبي، و ما سمعته مني فاروه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله» «2».

الثالث: ما رواه في البصائر عن عنبسة قال: «سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن مسألة فأجابه فيها، فقال الرجل: إن كان كذا و كذا ما كان القول فيها؟ فقال: له مهما أجبت فيه بشي ء فهو عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لسنا نقول برأينا في شي ء» «3».

الرابع: ما رواه في الكافي عن قتيبة، قال: «سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن مسألة فأجابه فيها، فقال الرجل: أ رأيت إن كان كذا و كذا ما يكون القول فيها؟ فقال له: مه؟ ما اجبتك فيه من شي ء فهو عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لسنا من «أ رأيت» بشي ء!» «4».

الخامس: ما رواه في البصائر عن فضيل بن يسار عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لو حدثنا برأينا ضللنا كما ضل من كان قبلنا، و لكنا حدثنا ببينة من ربّنا بيّنها لنبيّه، فبيّنها لنا» «5».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 513

إلى غير ذلك ممّا في هذا المعنى و هذه أيضا تدل بافصح بيان على أن الائمّة المعصومين عليهم السّلام لم يشرعوا حكما من الأحكام، و كلما قالوه فهي تشريعات إلهية عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فإذا كان حالهم كذلك فكيف بغيرهم من الفقهاء الأعلام؟!

كما تدل هذه أيضا على عدم وجود «الفراغ» في الأحكام الإسلامية، و ما مجال فيها إلّا كشفها عن منابعها أو الرجوع فيها إلى الاصول المقررة للشاك، التي طفحت بها الكتب الاصولية و لا

تزال مرجعا للعلماء و الفقهاء.

4- و قد عثرنا أيضا على طائفة رابعة تدل على أنّ جميع الأحكام الشرعية كانت مكتوبة في كتاب علي عليه السّلام حتى ارش الخدش.

و عبر عنه تارة بالجامعة، و اخرى بالجفر، و ثالثة بمصحف فاطمة، و رابعة بكتاب علي عليه السّلام و النتيجة واحدة، و ظاهر الجميع أنّه كان هناك كتاب جامع للأحكام الإسلامية محفوظ عندهم و إليك شطر منها:

الأوّل: ما رواه في البصائر عن عبد اللّه بن ميمون عن جعفر عن أبيه عليه السّلام قال: «في كتاب علي عليه السّلام: كل شي ء يحتاج إليه حتى الخدش و الأرش و الهرش» «1».

الثاني: ما رواه عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سمعته يقول، و ذكر ابن شبرمة في فتياه، فقال اين هو من الجامعة، أملى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خط علي عليه السّلام بيده فيها جميع- الحلال و الحرام حتى أرش الخدش فيه» «2».

الثالث: ما رواه عن جعفر بن بشر عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ما ترك علي عليه السّلام شيئا إلّا كتبه، حتى أرش الخدش» «3».

الرابع: ما رواه في الكافي عن الصير في قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «إن عندنا ما لا نحتاج معه إلى الناس، و إن الناس ليحتاجون إلينا، و إن عندنا كتابا املاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله انوار الفقاهة، ج 1، ص: 514

و خط علي عليه السّلام، صحيفة، فيها كل حلال و حرام» «1».

الخامس: ما رواه على بن سعيد عن الصادق عليه السّلام في تفسير الجفر، و فيه «أنه كتاب فيه كل ما يحتاج الناس إليه إلى يوم القيامة من حلال

و حرام، باملاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خط علي عليه السّلام» «2».

إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا المعنى، و تفسير «الجامعة» و «الجفر» و غيره و لعلها تبلغ حد التواتر، و جميعها شاهدة، على أنّ أحكام الإسلام تامة كاملة جامعة لا يبقى معها تشريع آخر، و أنّ الائمّة عليهم السّلام لا يقولون شيئا فيها برأيهم، و تشريع منهم، فلا يبقى محل لهذا السؤال:

هل يكون للفقيه ولاية على التشريع أم لا؟ و كيف يمكن أن تكون ولاية الفقيه أوسع من ولاية الأئمّة عليهم السّلام مع أنّ ولاية الفقهاء فرع من فروع تلك الولاية الجامعة الإلهية؟!

إن قلت: فهل الألفاظ التي ذكرها الأئمّة عليهم السّلام عين ألفاظ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟

قلت: الظاهر عدمه، فانّه من البعيد بعد جواز النقل بالمعنى الاقتصار عليها، بل الظاهر من غير واحد من الأخبار أنّهم عليهم السّلام كانوا يطبقون الكبريات على الصغيرات، و يردون الاصول إلى الفروع، مع صحة الاسناد إليه صلّى اللّه عليه و آله مثلا إذا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لا ضرر و لا ضرار في الإسلام» على نحو مطلق، ثم سئل الإمام عليه السّلام عن اضرار الزوج بالزوجة أو بالعكس أو بالولد، فقال: «ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نهى ذلك» كان اسنادا صحيحا قطعا و كذلك بالنسبة إلى غيره من الاصول و القواعد و توضيحها أكثر من ذلك يطلب من محالها.

5- و يدل على ما ذكرنا أيضا بوضوح ما اجمعت الأصحاب عليه، من بطلان التصويب لما فيه من خلو الواقعة عن الحكم المشترك بين العالم و الجاهل، و قد نطقت الآثار الواردة من أهل البيت

عليهم السّلام «بأن للّه في كل واقعة حكما يشترك فيه العالم و الجاهل».

توضيح ذلك: إنّ أصحابنا (رضوان اللّه عليهم) اجمعوا على أنّ المجتهد إن اصاب الحكم الواقعي فهو مصيب، و إن لم يصبها فقد اخطأ و هو معذور، فإذا اختلف الأقوال كان الصحيح من بينها قول واحد و هو ما وافق حكم اللّه الواقعي، و الباقي خطأ، خلافا لأهل الخلاف حيث انوار الفقاهة، ج 1، ص: 515

قالوا باصابة الجميع للواقع إذا كان ذلك فيما لا نص فيه و كان حكم كل واحد منهم على وفق اجتهاده (أي الاجتهاد بالمعنى الخاص) نظرا إلى اعتقادهم بإمكان خلو الواقعة في هذه الموارد من الحكم.

و هذا يعنى أنّ الفراغ التشريعي غير موجود في مكتب أهل البيت عليهم السّلام أبدا، و أنّ أحكام الشرع و قوانينه كافلة بجميع الامور التي محل حاجة الإنسان في حياته، لا يشذ منها شاذ.

6- الإمام عليه السّلام حافظ للشرع، و قد صرّح علماء الكلام بذلك عند قولهم بوجوب نصب الإمام عليه السّلام و لزوم النص عليه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و أنّه لولاه لاندرست آثار النبوة، و استدلّوا أيضا بأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لما اشتغل في برهة طويلة عن نبوّته بالغزوات، و لم تساعده الظروف على ابلاغ جميع أحكام الإسلام مع ثبوتها بقي ابلاغها على عاتق وارث علومه، و لم يستدل أحد بأن الأحكام كانت ناقصة فوجب على الإمام عليه السّلام تكميلها، هذا هو المعروف المسلم بين الأصحاب، كما ورد في نهج البلاغة عن مولانا امير المؤمنين عليه السّلام: «اللّهم بلى لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجة، إمّا ظاهرا مشهورا، أو خائفا مغمورا، لئلا تبطل حجج اللّه و

بيناته، ... يحفظ اللّه بهم حججه و بيناته، حتى يودعوها نظرائهم، و يزرعوها في قلوب أشباههم» «1».

7- ما دلّ على أنّ دين اللّه لا يصاب بالعقول، من طريق العقل و النقل، أمّا الأوّل فهو ما استدل به كثير من العلماء على أنّ رداء التقنين لا يليق إلّا باللّه، لأنّه العالم بحاجات الناس، معنوية و مادية، لأنّه هو خالقه، و هو العالم بسرائرهم، و ما كان من امورهم و ما يكون، و لا يعلم ذلك غيره، فلا يليق التشريع إلّا به، بل لا يقدر عليه غيره، و لذا نرى القوانين البشرية لا تزال تتغير يوما بعد يوم، لعدم نيلهم بما هو الصالح و الأصلح، فهم يخبطون خبط عشواء، يسلكون طريقا مظلما، و يلجون بحرا عميقا، من دون أن يكونوا أهلا لذلك، بل هذا من أهم الدلائل على وجوب ارسال الرسل و انزال الكتب.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 516

بل لو قلنا بجواز الحكم بالآراء و تشريع الشرائع بعقول الرجال لاستغنينا عن الكتب المساوية و الشرائع الإلهية، و لم نحتج اليها، و لم يقل بهذا أحد، بل لا يتفوه به فاضل، فضلا عن فقيه عالم، و من جميع ذلك يعلم أنّه لا معنى لتفويض أمر التشريع إلى الفقيه، بل وظيفته بما هو فقيه إجراء أحكام الشرع، و التوسل إلى أسباب مشروعة للوصول إليها، و لا دليل على أزيد من ذلك قطعا.

و قد تحصل ممّا ذكرنا امور هامة:

1- لا معنى للتشريع و جعل القانون فيما ورد فيه نص في التشريع الإسلامية، بل لم يقل به أحد.

2- التشريع فيما لا نص فيه مختص بالعامة، و أمّا أصحابنا الإمامية فهم معتقدون بعدم وجود الفراغ في التشريع، حتى يتصدى له الفقيه أو غيره، بل جميع ما تحتاج إليه

الامة إلى يوم القيامة مبينة في الأحكام الجزئية أو القواعد الكلية، و الاصول الواردة في الكتاب و السنة، و وظيفة الفقيه استنباطها عن أدلتها، و عند عدم وصوله إلى الأحكام الواقعية يعمل بالأحكام الظاهرية المقررة للجاهل، و لو لا ذلك كانت الشريعة ناقصة و محتاجة في تكميلها إلى عقول الرجال، معاذ اللّه عن ذلك.

3- تقنين القوانين و تشريع الأحكام لا يليق إلّا باللّه، فانّه العالم بالمصالح و المفاسد و ما يحتاج إليه خلقه في الحال و المستقبل دون غيره ممن لا احاطة له بمصالح الامور و مفاسدها نعم التقنين بمعنى تطبيق الأحكام على مصاديقها ممّا لا إشكال فيه.

4- المعصوم عليه السّلام لا يشرّع شيئا من الأحكام لعدم خلو واقعة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن الحكم، فهو حافظ للشريعة و منفذ لها، و كون الفقيه كذلك معلوم بالأولوية القطعية.

هذا ما هو المستفاد من الأدلة السابقة النقلية و العقلية.

و يبقى هنا سؤال عن أخبار التفويض و نعقد له عنوانا مستقلا و نقول:

حل معضلة اخبار التفويض:

و هناك روايات كثيرة فيها «الصحاح» و «الضعاف» تدلّ على أنّ اللّه فوض الأمر إلى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و إلى الأوصياء من بعده، فيقع السؤال أنّه ما المراد بهذا التفويض؟

أ ليس المراد منه التفويض في التشريع؟

و قبل الورود فيها لا بدّ من بيان معاني «التفويض» من غير تعرض لحكمها تفصيلا إلّا بعد هذه الأخبار، كي يكون الباحث على بصيرة منها، مع حفظ الحرية في البحث، فنقول و منه جل ثنائه التوفيق و الهداية:

التفويض له معان كثيرة (مع قطع النظر عن حكمها)،

أحدها: تفويض أمر الخلق إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله أو الأوصياء من بعده بأن يقال: إنّ

اللّه خلقهم ثم فوض أمر خلق العالم و تدبيره إليهم.

ثانيها: التفويض الجزئي في أمر الخلق بأن يقال: إنّ اللّه أقدرهم على خلق بعض الامور من المعجزات و شبهها من دون تفويض الكل إليهم.

ثالثها: تفريض أمر التشريع إليهم على نحو كلي، بأن يكون النبي صلّى اللّه عليه و آله و أوصيائه عليهم السّلام قادرين على جعل أي حكم، و على تغيير الأحكام التي أنزلهما في كتابه و نسخها و تبديلها و تغييرها بما شاءوا و أرادوا.

رابعها: التشريع الجزئي بأن يقال: لم يفوض إليه صلّى اللّه عليه و آله التشريع الكلي بل في موارد معدودة، بأن يكون النبي صلّى اللّه عليه و آله قد شرّع أحكاما خاصة في بعض الموارد قبل ورود نص فيها، و أمضاها اللّه تعالى.

خامسها: تفويض أمر الخلق إليهم من جهة الحكومة و التدبير و السياسة و تربية النفوس و حفظ النظام.

سادسها: تفويض أمر العطاء و المنع إليهم، في المواهب المالية ممّا يرجع إلى بيت المال، و غيره كما ورد في قضية سليمان عليه السّلام: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ «1» و قد

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 518

ذكره اللّه تعالى بعد ما ذكر ما أعطاه من النعم في أمر الحكومة على الناس.

سابعها: تفويض بيان الحقائق و اسرار الأحكام و ما أشبهها من العلوم إليهم فيقولون ما شاءوا (و اقتضته الحكمة) و يمسكون عمّا شاءوا في الظروف الخاصة و بالنسبة إلى الأشخاص المتفاوتة.

إذا عرفت هذا فلنعد إلى سرد الأخبار التي ذكرها في الكافي في باب التفويض و نختار في ترتيب ذكرها، غير ما ذكره الكليني، لأمور تعرفها:

1- ما رواه زيد الشحام (مجهول بصندل الخياط، فقد ذكر في الرجل من غير مدح و لا ذم،

مضافا إلى أنّه مرسل) «1».

و هذه الرواية تدل على التفويض السادس و يحتمل ذيلها أكثر منه لكنه غير واضح.

2- ما رواه موسى بن أشيم (و هو أيضا ضعف ببكار بن بكير و في جامع الرواة بكار بن أبي بكر و لم ينص عليه في كتب الرجال بمدح أو ذم) «2».

و هذه الرواية ظاهرة في التفويض بالمعنى السابع من معاني التفويض و لا دخل له بتفويض التشريع و شبهه بل يظهر منها أنّ المراد من آية ما آتاكم ... أيضا ذلك فتأمل.

3- ما رواه زرارة (و هي رواية معتبرة)

عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمد، عن الحجال عن ثعلبة، عن زرارة قال: «سمعت أبا جعفر و أبا عبد اللّه يقولان: إنّ اللّه عزّ و جل فوّض إلى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أمر خلقه لينظر كيف طاعتهم؟ ثم تلا هذه الآية: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» «3».

و هذه الرواية في بدء النظر مجمل و لكن لا يبعد دلالتها على المعنى الخامس و هو تفويض أمر الحكومة و الرئاسة العامة لقوله «فوّض إليه أمر خلقه» لظهوره في سياسة الخلق و حفظ نظام معاشهم و معادهم و المراد من الاطاعة، الاطاعة في الأوامر الولائية و الأحكام الجزئية الصادرة من وليّ الأمر فيظهر منه ما الولاية أيضا تشير إلى هذا المعنى.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 519

4- ما رواه زرارة أيضا أنّه سمع أبا جعفر و أبا عبد اللّه عليه السّلام يقولان: «إن اللّه تبارك و تعالى فوّض إلى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أمر خلقه لينظر كيف طاعتهم؟ ثم تلا هذه الآية ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» «1».

5- ما رواه

محمد بن حسن الميثمي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سمعته يقول إن اللّه عز و جل أدّب رسوله حتى قومه على ما أراد، ثم فوّض إليه فقال عزّ ذكره: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا فما فوّض اللّه إلى رسوله صلّى اللّه عليه و آله فقد فوّضه إلينا» «2».

و الرواية مجملة من حيث المراد من التفويض، و لا قرينة فيها بعينه بل و لا اطلاق أيضا كما لا يخفي.

6- ما رواه أبو اسحاق النحوي قال: «دخلت على أبي عبد اللّه عليه السّلام فسمعته يقول: إن اللّه عز و جل أدب نبيه على محبته فقال: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ثم فوّض إليه فقال عز و جل: وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا و قال عز و جل: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ قال: و إن نبي اللّه فوّض إلى علي، و ائتمنه فسلمتم، و جحد الناس، فو اللّه لنحبكم أن تقولوا إذا قلنا، و أن تصمتوا إذا صمتنا» «3».

و الرواية مجهولة بأحمد بن زاهر و قد قيل في حقه: ليس حديثه بذلك النقي و لم ينص على توثيقه و لم ينقل عنه غير هذا الحديث.

ثم إنّه لا يخلو الحديث عن إجمال أيضا، و إن كان المناسب له المعنى الخامس من معاني التفويض، أعني تفويض أمر الحكومة و السياسة، لأنّه المناسب للخلق العظيم الذي جعل مقدمة لتفويض الأمر إليه صلّى اللّه عليه و آله فصاحب هذا الخلق العظيم هو الذي يقدر على الولاية و الحكومة و سياسة العباد دون غيره.

7- ما رواه محمد بن سنان عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام

قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: لا و اللّه ما فوض اللّه إلى أحد من خلقه إلّا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و إلى الأئمّة،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 520

قال: قال عز و جل: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ و هي جارية في الأوصياء عليه السّلام» «1». (و سند الحديث محل للكلام بين الأعلام لاختلافهم في أمر محمد بن سنان).

و الظاهر أنّ المراد منه التفويض في أمر القضاء لقوله: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ.

و من المعلوم أنّ الظاهر من الحكم بين الناس هو القضاء كما يظهر بملاحظة موارد استعماله، و أمّا قوله «بما أراك اللّه» فقد ذكر المجلسي قدّس سرّه في مرآت العقول في شرح هذا الكلام ما نصه:

«ذهب أكثر المفسرين إلى أنّ المراد به، بما عرفك اللّه و أوحى إليك، و منهم من زعم أنّه يدل على جواز الاجتهاد عليه صلّى اللّه عليه و آله و لا يخفى وهنه» «2» و وجه وهنه أنّه لا يبقى معه ربط بين صدر الآية و ذيلها، فيكون مفهومها حينئذ «إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتقضي بين الناس باجتهادك» و ضعفه ظاهر بخلاف ما إذا قلنا أن المعنى «إنا انزلنا إليك الكتاب لتقضي بين الناس بما أراك في كتابه من الأحكام من طريق الوحي و تطبيقه على مصاديقه».

و أمّا الحصر الذي يستفاد من الآية في المعصومين- مع أنّ القضاء عام- فهو كالحصر الذي ورد في بعض أخبار القضاء من قوله عليه السّلام لشريح: «قد جلست مجلسا لا يجلسه إلّا نبي أو وصي نبي أو شقي» «3» و ما ورد في رواية سليمان بن

خالد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إنّ الحكومة إنّما هي للإمام، العالم بالقضاء، العادل في المسلمين، كنبي أو وصي نبي» «4» و لا مانع منه لأنّ تولي الفقيه للقضاء إنّما هو باذن الإمام المعصوم عليه السّلام و لا يستحق هذا المقام مستقلا، بل هو نائب من ناحيته.

فإلى هنا لم تكن رواية تدلّ على التفويض في التشريع، نعم في الروايات الثلاثة الآتية

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 521

ورد حكم التفويض فيه إليك نصها:

8- ما رواه فضيل بن يسار (بسند صحيح) قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول لبعض أصحاب القيس الماصر: «إنّ اللّه عزّ و جل أدّب نبيّه فأحسن أدبه فلما أكمل له الأدب قال:

إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ثم فوّض إليه أمر الدين و الامّة ليسوس عباده فقال عز و جل:

ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، و إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان مسددا موفقا مؤيدا بروح القدس، لا يزل و لا يخطئ في شي ء ممّا يسوس به الخلق، فتأدب بآداب اللّه، ثم إن اللّه عز و جل فرض الصلاة ركعتين، ركعتين، عشر ركعات فأضاف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى الركعتين، ركعتين ... ثم سنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله النوافل أربعا و ثلاثين ركعة ...

و سنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله صوم شعبان و ثلاثة أيام في كل شهر ... و حرم اللّه عز و جل الخمر بعينها و حرم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المسكر من كل شراب ... و عاف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أشياء و كرهها و لم ينه عنها نهى حرام إنّما نهى عنها

نهي اعافة و كراهة» الحديث «1».

و هذا الحديث يدل على التفويض بالمعنى الرابع، أي التفويض في التشريع الجزئي لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد ذكر فيه خمس امور:

1- فرض الركعتين الأخيرتين في الصلاة.

2- سنة النوافل.

3- سنة صوم شعبان و شبهه.

4- تحريم كل مسكر مضافا إلى الخمر التي حرّمها اللّه.

5- إعافة بعض الامور، أي جعلها مكروها من قبله صلّى اللّه عليه و آله.

و لكن فيها «امور» ينبغي التأمل فيه:

الأوّل: لا يستفاد منها إلّا كون ذلك له صلّى اللّه عليه و آله، و أمّا غيره من الأوصياء المرضيين عليه السّلام فلا دلالة فيها على تفويض ذلك إليهم، فضلا عن غيرهم، و لعله من خصائصه صلّى اللّه عليه و آله و لذا لم ينقل من أحد من الأئمّة المعصومين عليه السّلام تشريع حكم كلي أبدا، نعم قد ورد في بعض كلماتهم انوار الفقاهة، ج 1، ص: 522

أحكاما جزئية اضطرارية مؤقتة كما في جعل خمس آخر، في رواية اسماعيل بن مهزيار، و هو غير ما نحن بصدده، و لعل الفرق بين النبي صلّى اللّه عليه و آله و الوصي عليه السّلام في ذلك هو إتمام الدين و إكماله بعده.

الثاني: قد صرّح فيها بأن هذا المقام ثبت له بعد إن كان مسددا موفقا مؤيدا بروح القدس لا يزل و لا يخطئ في شي ء ممّا يسوس به الخلق.

و من الواضح أنّ هذا المعنى غير ثابت في حق الفقهاء أيدهم اللّه، فليس لهم إلى هذا المقام سبيل، و إن ثبت في شأنه صلّى اللّه عليه و آله، بل و لو قلنا به في حق الأئمّة المعصومين عليه السّلام أيضا (فرضا).

الثالث: يظهر منها أنّ هذا التشريع النبوي إنّما تم و اعتبر،

بعد ما أجازه اللّه سبحانه، و لذا صرّح فيها بالاجازة من اللّه سبحانه «أربع مرات»، و هذا لا يتصور في حق الفقهاء و لا طريق إلى إثباته، و إن أمكن تصوره في حق المعصومين عليه السّلام من طريق الإلهام.

الرابع: قد ورد التصريح في آخره بأنه ليس لأحد أن يرخّص ما لم يرخّصه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و هذا لا ينفي إمكان التشريع في حق غيره، و الترخيص فيما لم يرخصه صلّى اللّه عليه و آله.

الخامس: كل ذلك في ما لم يرد فيه نص، (كما يظهر من الأمثلة الواردة في الحديث).

و أمّا ورد فيه نص إلهي، فلا يكون له صلّى اللّه عليه و آله تشريع خاص فيه يخالف تشريعه تعالى، كما هو واضح.

فهذا النوع من التشريع المحدود، إنّما يتصور قبل نزول الشريعة بكمالها و تمامها، و أمّا بعد ذلك، أي بعد كمال الدين و اتمام النعمة و بيان ما يحتاج اليه الامة إلى يوم القيامة، فلا يبقى مظنة و لو للتشريع الجزئي المحدود.

«بقي هنا شي ء»: و هو أنّ قوله: «فكثير المسكر من الاشربة» يمكن أن يكون إشارة إلى عدد كثير من أفراد المسكر، سوى الخمر التي حرمها النبي صلّى اللّه عليه و آله كما ذكره في مرآت العقول، و أمّا احتمال كونه إشارة إلى أنّ القليل من الأشربة ليس بحرام كما ذكره بعض بعيد جدّا، و يخالفه سائر الأدلة الواردة في المسألة.

9- ما رواه اسحاق بن عمار في حديث مختلف فيه من حيث السند (لوجود محمد بن انوار الفقاهة، ج 1، ص: 523

سنان في سلسلة السند) عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إن اللّه تبارك و تعالى ادّب نبيّه صلّى اللّه عليه و

آله فلما انتهى به إلى ما أراد، قال له: إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ففوض إليه دينه فقال: وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا و إن اللّه عز و جل فرض الفرائض و لم يقسم للجد شيئا و أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أطعمه السدس فأجاز اللّه جل ذكره له ذلك، و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ» «1».

و قد صرّح فيها بأن طعمة السدس للجد ممّا سنّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أجازه اللّه تعالى و ان هذا من قبيل «هذا عطاءنا فامنن أو امسك بغير حساب» (في عالم التشريع، و إن كان أمر سليمان في عالم التكوين).

و طعمة الجد إنّما هو في فرض كون الأب و الام وارثين، فيستحب حينئذ اطعام الجد سدس المال و ليس بواجب كما هو معلوم، و قد ذكر فقهاء له شرائط من أراد الوقوف عليها فليراجع كتاب الفرائض، سهام الارث باب سهم الأب و الام «2».

و قد يقال: إنّ أصل هذا الحكم مذكور في التشريع الإلهي و هو قوله تعالى: وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً «3».

و لكن لو سلمنا ذلك فلا أقل من أنّ تحديد مقداره من تشريعه صلّى اللّه عليه و آله و الأمر سهل.

10- ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «وضع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دية العين و دية النفس و حرم النبيذ و كل مسكر، فقال له رجل: وضع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من غير أن يكون جاء

فيه شي ء؟ قال: نعم ليعلم من يطع الرسول ممن يعصيه» «4».

(و هو ضعيف بعلي بن محمد، فقد قيل في حقّه أنّه مضطرب الحديث و المذهب).

و يظهر من الحديث أيضا امور:

أحدهما: إن وضعه صلّى اللّه عليه و آله و تشريعه للأحكام كان أمرا بديعا حتى تعجب منه بعض انوار الفقاهة، ج 1، ص: 524

الحاضرين، فلو كان أمرا شايعا لما تعجب منه.

ثانيها: إنّ حكمة هذا التشريع النبوي هو امتحان الامّة ليرى المطيع عن العاصي و قد ورد هذا المعنى في بعض الروايات الاخر ممّا ورد في الباب أيضا و يدل هذا على أن تشريعه صلّى اللّه عليه و آله لم يكن جاريا في جميع الأحكام، بل في بعضها لأمر خاص اشير إلى هنا، و إلّا لم يكن وجه لعد موارد خاصة معدودة و محدودة.

و يمكن أن تكون حكمة الحكم مضافا إلى ما ذكر، بيان مقامه السامي،: و منزلته الرفيعة عند اللّه عز و جلّ، كما أشار إليه بعض.

ثالثها: إنّه قد ورد في الحديث أنّ عبد المطلب سنّ في الجاهلية خمس سنن، أجراها اللّه في الإسلام (ثم ذكر تحريم نساء الآباء على الأبناء، و مسألة الخمس في الكنز، و سقاية الحاج، و نزول الآيات القرآنية فيها، ثم قال: و سنّ في القتل مائة ابل فأجرى اللّه ذلك في الإسلام «1».

هذا التعبير دليل على أنّ اللّه أجاز ذلك بعد ما سنّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيوافق ما مرّ في الروايات الاخر و ما اشير إليه في بصائر الدرجات.

هذا و قد أورد شيخ القميين محمد بن الحسن الصفار (المتوفى سنة 290) في كتابه «بصائر الدرجات» في باب التفويض تحت عنوان «إنّ ما فوّض إلى رسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله فقد فوّض إلى الأئمّة عليهم السّلام» ثلاثة عشر حديثا أكثرها يوافق ما في الكافي، و بعضها مكرر بعبارات مختلفة، و بعضها لا دخل له بما نحن بصدده و ممّا تفرد به:

ما رواه عن رقيد مولى بان هبيرة قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إذا رأيت القائم أعطى رجلا مائة ألف، و أعطى آخر درهما، فلا يكبر في صدرك، و في رواية اخرى فلا يكبر ذلك في صدرك، فانّ الأمر مفوّض إليه» «2».

و هذا صريح في التفويض، في مسألة الاعطاء و المنع.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 525

و قد عقد بابا آخر في التفويض إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أورد فيها تسعة عشر حديثا متحد المضمون غالبا مع ما مرّ عليك من أحاديث الكافي و فيها بعض الإضافات.

منها: ما رواه عبد اللّه بن سنان عن بعض أصحابنا عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّ اللّه تبارك و تعالى أدّب محمدا صلّى اللّه عليه و آله فلما تأدب فوض إليه فقال تبارك و تعالى: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا فقال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ فكان فيما فرض في القرآن، فرائض الصلب و فرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فرائض الجد فأجاز اللّه ذلك» الحديث «1». (و لكنها مرسلة).

و منها: ما رواه عبد اللّه بن سليمان عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّ اللّه أدّب محمدا صلّى اللّه عليه و آله تأديبا ففوض إليه الأمر و قال: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا و كان ممّا أمره اللّه تعالى في كتابه فرائض الصلب و فرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

للجد، فأجاز اللّه ذلك له» «2» (و هي أيضا مرسلة).

فذلكة الكلام في مسألة التفويض:

و تلخص ممّا ذكرنا امور:

الأول: إنّ الذي يظهر من مجموع روايات الباب أنّه أعطى النبي صلّى اللّه عليه و آله الولاية على التشريع إجمالا في موارد خاصة، أعطاه اللّه ذلك امتحانا لإطاعة الخلق (أو تعظيما لمقامه الشريف، و اظهارا لمنزلته عند اللّه سبحانه) و ما ورد في روايات الباب امور محدودة معدودة و في اضافة الركعتين الأخيرتين في الصلاة، و سنة النوافل و سنة صوم شهر رمضان، و ثلاثة أيّام في كل شهر، و تحريم كل مسكر غير الخمر و كراهة بعض الأشياء و طعمة الجد، بل و فريضته على رواية، و مقدار دية العين و النفس و ما أشبهها.

و لكن ورد بعضها في الأحاديث الصحاح و بعضها في الضعاف و إثبات جميع ذلك بتلك انوار الفقاهة، ج 1، ص: 526

الأحاديث مشكل، و لكانت المسألة على إجمالها معلومة.

الثاني: إنّ ذلك لم يكن تفويضا كليا إليه صلّى اللّه عليه و آله و ممّا يدلّ على أنّه لم يكن المفوض إليه، تشريعا كليا، أنّه كثيرا ما كان ينتظر الوحي في جواب الأسئلة عن الأحكام و شبهها، حتى ينزل في القرآن الكريم، بل ذكر هذه الامور المفوّض إليه بالخصوص، و عدّها في الروايات دليل على أنّ الأصل الكلي في التشريع كان من قبل اللّه تعالى، و إنّما أذن لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله التشريع الجزئي لما كان فيه من المصلحة.

الثالث: هذه الكرامة و المقام الخاص كان باذن اللّه تعالى و أجازته أولا، و في النهاية أيضا كان بامضائه، فلا ينافي ذلك توحيد الحكم و التشريع الإلهي، و لا يكون دليلا على تعدد الشارع، بل الشارع هو اللّه تعالى

وحده و تشريع النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله في هذه الموارد إنّما هو باذنه من قبل و أجازته من بعد، لبعض المصالح التي عرفتها.

الرابع: إنّما ثبت هذا المقام للنبي صلّى اللّه عليه و آله بعد ما كان مسددا من عند اللّه سبحانه و مؤيدا بروح القدس، فلا يزيغ و لا يخطئ، فمن ليس كذلك لم يثبت ذلك في حقّه قطعا.

الخامس: الأئمّة المعصومون عليهم السّلام و إن كانوا مؤيدين بروح القدس، و لا يصدر منهم خطأ و لا زلة، و لكن لما كمل الدين و تمّت النعمة بنزول الأحكام و المعارف الإلهية كلها، و ما تحتاج إلى الامّة إلى يوم القيامة حتى أرش الخدش، لم يبق مجال لتشريع حكم من الأحكام من ناحيتهم، و ما قد يوهم خلاف ذلك من أمير المؤمنين عليه السّلام في جعل الزكاة على الخيل، و جعل بعض الخمس من أبي جعفر الجواد عليه السّلام كان من الأحكام الإجرائية الولائية المؤقتة كما سنتكلم عليه إن شاء اللّه تعالى بعد تمام هذا المقال، فما ورد في بعض الروايات من تفويض كل ما فوّض إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إليهم مثل ما ذكره في البصائر عن اسماعيل بن عبد العزيز قال: قال لي جعفر بن محمد عليه السّلام: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يفوّض إليه، إنّ اللّه تبارك و تعالى فوّض إلى سليمان ملكه فقال: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ و أنّ اللّه فوّض إلى محمد نبيّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» الحديث «1» ناظر إلى غير هذا من المعاني التي مرّ ذكرها

للتفويض، من قبيل تفويض أمر

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 527

الحكومة على الخلق، و الاعطاء و المنع في العلم و المال، أو شبه ذلك، و سنشير إلى روايات تدلّ على عدم حكمهم بغير الكتاب و السنة فانتظر.

السادس: قد عرفت أنّ للتفويض معان كثيرة، و مجرّد ذكره في بعض أحاديث الباب لا يكون دليلا على التفويض في أمر التشريع فلا بدّ في كل مقام من ملاحظة القرائن الموجودة فيه و لو لم يكن هناك قرينة معينة كان مجملا لا يصلح للاستدلال.

السابع: تحصل من جميع ذلك أنّه ليس للفقيه تشريع في شي ء من الأحكام لأمور شتى قد عرفت الإشارة إليها آنفا، من عدم كونه معصوما مؤيدا بروح القدس و كون الشريعة كاملة بعده صلّى اللّه عليه و آله و غير ذلك، مضافا إلى فقدان الدليل عليه، بل هو حافظ لأحكام الشرع و مواريث النبي صلّى اللّه عليه و آله و الأئمّة المعصومين عليهم السّلام، بل عليه استنباطها من أدلتها، ثمّ إجرائها و انفاذها، و لو بقي له شك في شي ء من الامور فعليه الرجوع إلى الاصول العملية و القواعد المقررة للجاهل الحاصرة لمجاريها.

و لا شك أنّ الأحكام الواردة في الشرع بعناوينها الأولية و الثانوية كافلة لجميع ما تحتاج إلى الامّة في أمر الدين و الدنيا، و من عمل بذلك كله و أضاف إليه الأحكام الولائية و الإجرائية فقد وفق لكل خير، و لا يخاف بخسا و لا رهقا، و لا يأتيه مكروه من بين يديه و لا من خلفه.

هذا و يؤيد ما ذكرنا من عدم وجود تشريع للإمام المعصوم فكيف بغيره ما رواه في بصائر الدرجات في باب «إنّ الأئمّة يوفقون و يسددون في ما لا يوجد في الكتاب

و السنة» و هي خمس روايات كلها دليل على المطلوب، و لكن الظاهر أنّها ترجع إلى روايات ثلاث.

أحدها: ما رواه ربعي بن خثيم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قلت له: يكون شي ء لا يكون في الكتاب و السنة؟ قال: لا، قال قلت: فان جاء شي ء قال: لا، حتى أعدت عليه مرارا، فقال: لا يجي ء، ثم قال باصبعه: بتوفيق و تسديد، ليس حيث تذهب، ليس حيث تذهب» «1».

ثانيها: ما رواه هو بواسطة سورة بن كليب، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: بأي شي ء يفتي انوار الفقاهة، ج 1، ص: 528

الإمام؟ قال: بالكتاب، قلت: فما لم يكن في الكتاب؟ قال: بالسنّة، قال: فما لم يكن في الكتاب و السنة؟ قال: ليس شي ء إلّا في الكتاب و السنّة، قال: فكررت مرّة أو اثنين، قال:

يسدد و يوفق، فأمّا ما تظن فلا» «1».

ثالثها: ما رواه حماد بن عثمان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سأله سورة و أنا شاهد، فقال:

جعلت فداك، بما يفتي الإمام؟ قال: بالكتاب، قلت: فما لم يكن في الكتاب؟ قال:

بالسنّة، قال: فما لم يكن في الكتاب و السنة؟ قال: ليس من شي ء إلّا في الكتاب و السنّة، قال ثم مكث ساعة ثم قال: يوفق و يسدد و ليس كما تظن» «2».

و المتحصل من جميع ذلك هو عدم وجود حكم لا يوجد حكمه في الكتاب و السنّة و عدم وجود تشريع للإمام عليه السّلام و أنّ اللّه تعالى يوفقه و يسدده كي يستفيد من بطون الكتاب و السنّة، و لا يعمل بالقياس و الاستحسان، كما توهمه السائل فتدبر جيدا.

بقي هنا امور:

الأول: قد يقال أنّه يستفاد من بعض الروايات الواردة في أبواب الزكاة و الخمس أنّ للإمام

عليه السّلام أيضا تشريعا في بعض الأحيان، مثل ما ورد في صحيحة محمد بن مسلم و زرارة عنهما قالا: وضع أمير المؤمنين عليه السّلام على الخيل العتاق الراعية في كل فرس، في كل عام دينارين، و على البرازين دينارا «3»، و قد أفتى بمضمونها الأصحاب كما يظهر من مفتاح الكرامة و غيرها.

و لكن الانصاف إمكان اندراجه في الأحكام الجزئية الولائية و كونه من باب تطبيق العناوين الثانوية على مصاديقها نظرا إلى وجود نوع ضرورة في ذلك الزمان إلى هذه انوار الفقاهة، ج 1، ص: 529

الأموال، لا الحكم العام من قبيل سائر ما فيه الزكاة، و يشهد لذلك عدم ذكر النصاب فيها مع أنّ المعمول في جميع أبواب الزكاة وجود النصاب فيها، من النقدين و الانعام و الغلات، و أنّ المتعارف في أبوابها كون الزكاة شيئا من المال الزكي، و لا يتقدر بمقدار معين ثابت من الدنانير، فهذا نوعا من الضرائب التي يجوز للفقيه أيضا جعلها مؤقتا لبعض الضرورات، و لإقامة نظام المجتمع الإسلامي أو لحرب الأعداء، لا من الأحكام الكلية و التشريعات الدائمة الباقية.

سلمنا، و لكنه لا يقاوم ما مرّ من نزول كل ما يحتاج إلى البشر إلى يوم القيامة حتى أرش الخذس بحيث لا يكون هناك فراغ قانوني.

و قال في الحدائق: و احتمل بعضهم أنّ هذه الزكاة إنّما هي في أموال المجوس يومئذ جزية أو عوضا عن انتفاعهم لمرعى المسلمين «1».

و لعل ذكر هذا الاحتمال بمناسبة غلبة الاستفادة من الخيول من ناحية المجوس فتأمل.

و بالجملة ظاهر هذا الحكم لا يساعد على إثبات تشريع دائمي حتى أنّه يكفي في ذلك احتمال كونه من الأحكام الجزئية الضرورية الولائية، و على مدعي كونه حكما كليا دائميا إثبات ذلك.

هذا

مضافا إلى الأحاديث الكثيرة الواردة على نفي الزكاة عن غير التسعة مع أنّ لحن حديث وضع علي عليه السّلام الزكاة على الخيل هو الوجوب، فراجع الباب الثامن من أبواب ما تجب فيه، تجده شاهد صدق على ما ذكرنا.

الثاني: ما ورد في صحيحة علي بن مهزيار قال: «كتب إليه أبو جعفر: و قرأت أنا كتابه إليه في طريق مكّة قال: إنّ الذي أوجبت في سنتي هذه و هذه سنّة عشرين و مأتين فقط لمعنى من المعاني أكره تفسير المعنى كلّه خوفا من الانتشار ... و إنّما أوجبت عليهم الخمس في سنتي هذه في الذهب و الفضة التي قد حال عليهما الحول، و لم أوجب ذلك عليهم في متاع و لا آنية و لا دواب و لا خدم و لا ربح ربحه في تجارة و لا ضيعة، إلّا في ضيعة سأفسر

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 530

لك أمرها، تخفيفا مني عن موالي و منّا مني عليهم» «1».

إشكالات صاحب المعالم على الحديث:

و ذكر صاحب المعالم قدّس سرّه في كتابه منتقى الجمان أنّه يرد على ظاهر الحديث عدّة إشكالات:

الأول: ما نصه: «إنّ المعهود و المعروف من أحوال الأئمّة عليهم السّلام أنّهم خزنة العلم و حفظة الشرع، يحكمون فيه بما استودعهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و طلعهم عليه، و أنّهم لا يغيرون الأحكام بعد انقطاع الوحي، و انسداد باب النسخ، فكيف يستقيم قوله عليه السّلام في هذا الحديث «أوجبت في سنتي و لم أوجب ذلك عليهم في كل عام» إلى غير ذلك من العبارات الدالة على أنّه عليه السّلام يحكم في هذا الأمر بما شاء و اختار» «2».

الثاني: قوله: «و لا أوجب عليهم إلّا الزكاة التي فرضها اللّه عليهم» ينافيه قوله بعد ذلك

«فأمّا الغنائم و الفوائد فهي واجبة عليهم في كل عام».

الثالث: إنّ قوله: «و إنّنا أوجب عليهم الخمس في سنتي هذه من الذهب و الفضة التي قد حال عليها الحول» خلاف المعهود إذ الحول يعتبر في وجوب الزكاة في الذهب و الفضة لا الخمس، و كذا قوله: «و لم أوجب ذلك عليهم في متاع و لا آنية و لا دواب و لا خدم» فان تعلق الخمس بهذه الأشياء غير معروف.

الرابع: إن الوجه في الاقتصار على نصف السدس غير ظاهر بعد ما علم من وجوب الخمس في الضياع التي تحصل منها المئونة «3».

و الانصاف أنّ الإشكالات الواردة على ظاهر الرواية في بدو النظر أكثر من هذا، و ربّما

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 531

تبلغ سبعا:

1- عدم كون الإمام المعصوم عليه السّلام شارعا بل حافظا مع أنّ ظاهرها التشريع.

2- لا وجه لاشتراط حلول الحول في الخمس فانّه معتبر في الزكوات لا الأخماس.

3- لا وجه لاستثناء المتاع و الآنية و الخدم و شبهها ممّا يعد من المئونة في خصوص هذا العالم، لعدم تعلق الخمس بهذه الاشياء في كل عام.

4- منافاة نفي الخمس على الارباح في بعض جملاته عليه السّلام مع إثبات وجوب الخمس في الغنائم و الفوائد في غيرها.

5- تفسير الغنائم و الفوائد بخصوص الفوائد التي تحصل من طريق الجائزة أو الميراث التي لا يحتسب أو شبهه، مع أن المعروف في تفسير كونها شاملة لجميع الارباح.

6- الحكم بملكية المال الذي يؤخذ و لا يعرف له صاحب مع وجوب اداء خمسه، ينافي ما هو المعروف من وجوب التصديق بمجهول المالك.

7- الحكم بوجوب نصف السدس في الضياع و الغلات أمر لا يعرف له نظير لا في باب الخمس و لا الزكاة.

و يمكن الجواب

عن الجميع: أمّا عن الأوّل، و هو العمدة فيما مر من أنّه ليس من قبيل تشريع الحكم، بل من قبيل حكم الحاكم، الراجع إلى تطبيق العناوين الاولية أو الثانوية على مصاديقه، ثم الحكم على وفقها لتنفيذ هذه الحكم في مواردها، و كأن المستشكل على الحديث، غفل عن مسألة الأحكام الولائية التي هي أحكام جزئية إجرائية، و من شأن الوالي الفقيه الحكم بها من دون أن تمثل تشريعا جديدا، فلعل بعض الضرورات الناشئة من سفره إلى بغداد أوجبت ذلك، فان المعروف أنّ المأمون مات سنة 218 و غصب الخلافة من بعده أخوه المعتصم، و لما استقر عليه أمر الخلافة خاف من سطوة الإمام الجواد عليه السّلام في المدينة و دعاه إلى بغداد، و دخل هو عليه السّلام بغداد في أواخر محرم 220 (العالم المذكور في حديث على بن مهزيار و قد استشهد سلام اللّه عليه في أواخر هذا العام على يد المعتصم «عليه لعنة اللّه».

فهذه الضرورة هي التي أوجبت الحكم بأداء خمس جديد من الذهب و الفضة غير خمس الارباح و الغنائم و شبهها، و غير الزكاة المفروض فيها لبعض الضرورات التي لم انوار الفقاهة، ج 1، ص: 532

يشرحها الإمام عليه السّلام خوفا من الانتشار، و هذا أمر جائز للفقيه، فكيف بالإمام المعصوم عليه السّلام و هو من قبيل الأموال التي قد تؤخذ لضرورة الحرب الواقعة بين المسلمين و الكفار أو شبه ذلك.

و منه يظهر الجواب عن «الإشكال الثاني» فانّ اشتراط الحول إنّما كان في هذا الحكم الخاص المبتني على الضرورة لا في كل خمس، و كذا «الإشكال الثالث» المنوط باستثناء المئونة و المتاع، فإنّها مستثناة من هذا الحكم الخاص، و كان له عليه السّلام أن لا

يستثنيه، و بعبارة اخرى: أراد أن يبيّن أن هذه الامور كما هي مستثناة من الخمس المعمول، مستثناة من هذا القسم الخاص أيضا.

و أمّا «الإشكال الرابع» فيجاب عنه بأنه نفى الخمس عن الأرباح في ذلك العالم و أثبته في موارد خاصة من الفوائد التي صرّح فيها، من المنافع غير المترقبة، فالذي لم يوجب عليه الخمس هو الارباح المعهودة المترقبة في المكاسب، و اما الذي أوجبه فيها فهي المنافع غير المترقبة من دون عمل مستمر.

و أمّا عن «الخامس» فبأن تفسير الغنائم و الفوائد بخصوص هذه الفوائد الحاصلة من طريق الجائزة و شبهها، فهو و إن كان ينافي بعض ما ورد من تفسير الغنائم بمطلق الفائدة و الافادة يوما بيوم (مثل ما عن الصادق عليه السّلام قال في جواب السؤال عن تفسير آية الغنيمة:

«هي و اللّه الافادة يوما بيوم» «1» إلّا أنّه يمكن حمله على أنّه عليه السّلام كان بصدد ذكر بعض المصاديق الواضحة الذي الزم الإمام عليه السّلام اداء الخمس منه، في تلك السنة دون مطلق الربح الذي حكم بنفي الوجوب عنه في ذاك العالم (فتأمل جيدا).

و أمّا عن «السادس» فبأن المقام ليس من قبيل مجهول المالك، بل من قبيل الأموال التي تؤخذ من أهل الحرب، بقرينة قوله «يؤخذ» و لا يوجد له صاحب، و بقرينة ما ذكر قبله و بعده من هذه الأموال، و لا أقل من حمله على ما ذكرنا عند الجمع بين الرواية و غيرها ممّا دلّ على وجوب التصدق بمجهول المالك.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 533

و أمّا عن «السابع» فبأن جميع الخمس للإمام عليه السّلام كما هو الحق، و له أن يبيح جميعه أو بعضه لشيعته أحيانا، فقد أباح هنا لشيعته من الضياع و

الغلات ما زاد عن نصف السدس، و لعل هذه الاباحة كانت بسبب ما يغتال السلطان من أموالهم، كما اشير في الحديث، فكانوا يأخذون منهم العشر، و الإمام عليه السّلام أمر بنصف السدس و هو أقل من العشر بقليل و المجموع يكون قريبا من الخمس الواجب عليهم.

هذا و لكن الانصاف أنّ بعض هذه الأجوبة لا يخلو عن تكلّف، و لكن لا محيص عنها عند إرادة الجمع بين هذا الحديث و بين غيره من الأحاديث، و اشكل من الجميع الأخير، لعدم معروفية عنوان نصف السدس في هذه الأبواب، نعم في رواية ابراهيم بن محمد الهمداني عن أبي الحسن (الهادي) عليه السّلام إشارة إلى أن «ايجاب نصف السدس كان من أبيه الإمام الجواد عليه السّلام على أصحاب الضياع بعد مؤنتهم و بعد خراج السلطان» «1».

و للرواية طريقان: أحدهما مصحح، و هو ما رواه في الكافي.

و الذي يسهل الخطب أنّه لا يتفاوت فيما نحن بصدده من مسألة التفويض، فان العمدة فيه هو ايجاب الإمام عليه السّلام الخمس في بعض الأموال هنا في سنة معينة، و قد عرفت أنّه ليس من التشريع في شي ء و إنّما هو من قبيل حكم الحاكم كما عرفت.

حديث التفويض إلى الائمة عليهم السّلام

قد ورد في غير واحد من الروايات أنّ ما فوّض اللّه إلى رسوله فقد فوضه إلى الائمة عليه السّلام، مثل ما رواه محمد بن الحسن الميثمي عن أبيه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سمعته يقول: إنّ اللّه أدّب رسوله صلّى اللّه عليه و آله حتى قومه على ما أراد ثم فوّض إليه، فقال: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا فما فوّض اللّه إلى رسوله فقد فوّضه إلينا» «2».

و ما رواه موسى بن

أشيم قال: «دخلت على أبي عبد اللّه عليه السّلام فسألته عن مسئلة فاجابني،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 534

فبينا أنا جالس إذ جاءه رجل فسأله عنها بعينها، فأجابه بخلاف ما أجابني ... فقال يا بن أشيم إن اللّه فوّض إلى داود عليه السّلام أمر ملكه ... فوّض إلى الائمّة منّا و إلينا ما فوّض إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله فلا تجزع» «1».

و ما رواه حمزة الثمالي قال: «سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: من أحللنا له شيئا أصابه من أعمال الظالمين فهو له حلال، لأنّ الائمّة منّا مفوض إليهم، فما أحلوا فهو حلال و ما حرموا فهو حرام» «2».

و ما رواه حسن بن زياد عن أبيه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سمعته يقول: إنّ اللّه أدّب رسوله حتى قوّمه على ما أراد ثم فوّض إليه فقال ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا فما فوض إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فوض إلينا» «3».

و ما رواه مولى ابن هبيرة قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام إذا رأيت القائم اعطى رجلا مائة ألف، و اعطى آخر درهما، فلا يكبر في صدرك، و في رواية اخرى فلا يكبر ذلك في صدرك، فانّ الأمر مفوّض إليه!» «4».

و ما رواه عبد اللّه بن سليمان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن الإمام فوّض اللّه كما فوّض إلى سليمان؟ فقال نعم، و ذلك إن رجلا سأله عن مسألة فأجابه فيها، و سأله آخر عن تلك المسألة فأجابه بغير جواب الأوّل: ثم سأله آخر من تلك المسألة فأجابه بغير جواب الأولين، ثم قال: هذا عطاؤنا فامسك أو اعط بغير حساب ...

قال: قلت

أصلحك اللّه فحين أجابهم بهذا الجواب يعرفهم الإمام فقال: سبحان اللّه أما تسمع قول اللّه يقول في كتابه، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ و هم الأئمّة» «5».

و لكن شي ء من هذه الأحاديث لا دلالة له على التفويض في أمر التشريع: أمّا الأوّل فانّه انوار الفقاهة، ج 1، ص: 535

مناسب لتفويض الحكومة لقوله عليه السّلام «قوّمه على ما اراد» و لا أقل من الإجمال.

و أمّا «الثاني» فانّه كالصريح في التفويض بمعنى الاعطاء و المنع في خصوص العلوم و المعارف و «الثالث» كذلك في خصوص الاعطاء من بيت المال أو غيره، و «الرابع» شبيه ما ورد الأوّل بعينه، و «الخامس» أيضا كالصريح في الاعطاء و المنع و «السادس» أيضا كذلك في خصوص العلوم، و هكذا غيرها ممّا ذكره صاحب بصائر الدرجات في هذا الباب، و بالجملة لم نجد حديثا يدل على تفويض الأمر في التشريع إلى الأئمّة الهادين، و لم يعرف منهم ذلك، بل كانوا حفظة للشرع المبين هذا أولا.

ثانيا: سلمنا ثبوت هذا الحق لهم عليهم السّلام، و لكنه من حيث العمل منتف بانتفاء موضوعه، بعد ما عرفت من إكمال الدين و تمام النعمة، و عدم بقاء الفراغ القانوني و عدم وجود فراغ في الفقه الإسلامي، بأوفى البيان.

ثالثا: سلمنا ثبوت ذلك للإمام المعصوم عليه السّلام المسدد المؤيد بروح القدس، الموفق من عند اللّه، كما وقع التصريح به في بعض ما مر عليك، و لكن لا دخل له بالفقيه غير المعصوم كما هو واضح.

الجواب عن مغالطة في المقام

و هنا مغالطة واضحة توجد في كلمات بعض من يميل إلى تفويض التشريع إلى الفقيه، و هي أن كمال الدين يحصل بتفويض الأمر إلى الفقيه، فإذا كان هذا التفويض من أحكام الدين فكان اللّه اكمل

دينه بهذه الطريقة، أي بتفويض جعل الأحكام إلى الفقهاء!

أقول: و هذا من اعجب ما ذكر في المقام و يرد عليه:

«أولا»: لأنّ معنى إكمال الدين تشريع قوانينه، لا تعيين من يكمله في كل عصر، فهل ترى من نفسك إذا انتخب الوكلاء و الممثلون من ناحية الشعب لتدوين القانون الأساسي أو القوانين الاخر أن تقول: إنّ القوانين قد كملت، و لم يبق هناك فراغ، لأنّ الوكلاء انتخبوا، اللّهم إلّا على سبيل المجاز، و من أوضح ما يدل على ما ذكرنا قول مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام انوار الفقاهة، ج 1، ص: 536

في نهج البلاغة في ردّ القول بجواز التشريع للفقهاء: «أم انزل اللّه دينا ناقصا فاستعان بهم على اتمامه؟ أم كانوا شركاء له، فلهم ان يقولوا و عليه أن يرضي؟ و لعمري أنّه يستفاد من هذا البيان أنّ هذا القول من أنواع الشرك لقوله «شركاء له»، نعم هو شرك في تقنين القوانين الإلهية، فتدبّر جيدا.

«ثانيا»: قد ورد التصريح في الروايات الكثيرة التي مر ذكرها أنّ تفاصيل الأحكام قد شرعت في عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله حتى ارش الخدش، و أنّها كانت عند الأئمّة الهادين في كتاب يسمى جامعة أو غيرها، و مع هذا التصريح لا يبقي لهذا الكلام مجال، و كذا ما ورد في الروايات المتظافرة أن كل ما يجرى من الأحكام على لسان الأئمّة المعصومين عليهم السّلام فهو رواية عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (و قد مر ذكر جميع ذلك آنفا).

«ثالثا»: كيف يتصدى الفقيه لتشريع الأحكام الكلية؟ و في أي موضع؟ في ما لا نص فيه؟

و قد عرفت أنّه ليس هناك ما لا نص فيه؟ أم في ما هو فيه نص؟ كما

قد يتفوه به بعض من لا خبرة له.

فان كان المراد ذلك فمعناه أن تشريع الفقيه- معاذ اللّه- مقدم على تشريعات اللّه تعالى، و حينئذ أي فائدة في ارسال الكتب السماوية و بعث الرسل بعد كون الفقيه ذا رأي مقدّم عليها و صاحب علم بالمصالح و المفاسد أرجح منها؟ و لا نظن بأحد من العلماء التفوه بهذا المقال الباطل الفاسد.

التفويض في أمر الخلقة

و لا أشكال أيضا في بطلانه، إذا كان المراد، التفويض الكلي، بمعنى أنّ اللّه خلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الأئمّة المعصومين عليهم السّلام و جعل أمر خلق العالم و نظامه و تدبيره اليهم، فانّه نوع شرك. و مخالف لآيات القرآن المجيد الظاهرة بل الصريحة في أن أمر الخلق و الرزق و الربوبية و تدبير العالم بيد اللّه تعالى لا غيره.

نعم يظهر من بعض كلمات العلّامة المجلسي قدّس سرّه معنى آخر للتفويض الكلي، و هو جريان انوار الفقاهة، ج 1، ص: 537

مشية اللّه على الخلق و الرزق مقارنا لإرادتهم و مشيتهم، و أنّه لا يمنع العقل من ذلك، و لكن صرّح بأن ظاهر الأخبار بل صريحها ذلك، و لا أقل من أن القول به قول بما لا يعلم.

قلت: بل ظاهر الآيات القرآنية مخالف له أيضا، و أنّ أمر الخلق و الرزق و الاماتة و الاحياء بيد اللّه و مشيته لا غير.

نعم ورد في بعض الروايات الضعيفة مثل خطبة البيان التي نقلها المحقق القمي قدّس سرّه في جامع الشتات مع الطعن فيه، أن أمر بيد الأئمّة عليهم السّلام أو بيد أمير المؤمنين علي عليه السّلام «1»، لكنه ضعيف جدّا مخالف لكتاب اللّه عزّ و جل.

و لكن ظاهره المعنى الأوّل الذي لا يمكن القول به، و

لا يوافق الكتاب و لا السنة، بل قد عرفت أنّه نوع من الشرك أعاذنا اللّه تعالى منه، قال اللّه تعالى: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ «2».

و إن كان و لا بدّ من توجيهها فليحمل على العلة الغائية، مثل «لولاك لما خلقت الافلاك» و «بيمنه رزق الورى» فتدبّر جيدا.

و أمّا «التفويض الجزئي» في أمر المعجزات و الكرامات إليهم، كشق القمر و احياء بعض الموتى بأيديهم و شبه ذلك فهو ممّا لا مانع منه عقلا و نقلا، و إصرار البعض على كون هذا أيضا من قبيل الدعاء و الطلب من اللّه بأن يخلق كذا عند دعائهم ممّا لا وجه له، بعد ظهور قوله تعالى: وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي «3» في كون المحيى هو المسيح عليه السّلام و لكنه بأذن من اللّه و تأييد منه تعالى.

و لنختم الكلام ببعض الروايات الواردة في المقام و كلمات أعاظم المذهب ممّا يؤكد ما ذكرنا في هذه المسألة، أي نفي التفويض في أمر الخلقة.

قال الصدوق قدّس سرّه في رسالة اعتقاد: «اعتقادنا في الغلاة و المفوضة أنّهم كفار باللّه جل انوار الفقاهة، ج 1، ص: 538

جلاله، و أنّهم شرّ من اليهود و النصارى و المجوس و القدرية و الحرورية ... إلى قوله كفارا» «1».

و نقل العلّامة المجلسي قدّس سرّه في مرآة العقول عن زرارة أنّه قال: «قلت للصادق عليه السّلام: إن رجلا من ولد عبد اللّه بن سنان يقول بالتفويض فقال: و ما التفويض؟ قلت: إن اللّه تبارك و تعالى خلق محمدا صلّى اللّه عليه و آله و عليا عليه السّلام ففوض إليهما، فخلقا و رزقا و أماتا و أحييا.

فقال عليه السّلام:

كذب عدو اللّه إذا انصرفت إليه فاتل عليه هذه الآية من سورة الرعد أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ فانصرفت إلى الرجل فأخبرته فكأنّي ألقمته حجرا، أو قال فكأنّما خرس» «2».

المقام السابع: الولاية على الأموال و الانفس و حدودها
اشارة

و لا بدّ من ملاحظة مقام النبي صلّى اللّه عليه و آله و الائمة عليهم السّلام في ذلك، ثم التكلم في حال الفقهاء، فنقول و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية:

قال اللّه تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً «3».

و هذا هو العمدة في المقام و الآية مشتملة على أحكام ثلاثة:

أحدها: أولوية النبي صلّى اللّه عليه و آله بالمؤمنين من أنفسهم.

ثانيها: كون ازواجه صلّى اللّه عليه و آله بمنزلة الامهات في حرمة النكاح، فقط، دون غيره من الأحكام كجواز النظر و الارث و حرمة تزويج بناتهن للمؤمنين، و الظاهر أنّه لم ينقل من أحد من علماء الإسلام أثر لهذه الامومة غير ما ذكرنا.

ثالثها: كون اولي الأرحام بعضهم أولى ببعض من غير الأرحام.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 539

و ذلك أنّه كان الارث في أول الأمر بين المؤمنين بالهجرة و المؤاخاة في الدين، فنسخت الآية هذا الحكم، و جعل اولي الأرحام بعضهم بالنسبة إلى البعض أولى من غيرهم، فصار الارث بالقرابة و الرحم.

و ممّا ذكر يظهر أنّ ما هو المعروف في الأذهان من أن الآية ناظرة إلى طبقات الارث، و أنّ الأقرب أولى من الأبعد غير صحيح، فانّه مبني على أن يكون «الباء» في قوله تعالى: «أولى

ببعض» بمعنى «من» حتى يكون المعنى: بعضهم أولى من بعضهم مع أنّ المفضل عليه مذكور في نفس الآية مع «من»، و هو قوله «من المؤمنين و المهاجرين» فأولو الأرحام أولى من غيرهم، فليكن هذا على ذكر منك و نرجع إلى البحث عن الحكم الأوّل.

ذكر غير واحد من المفسرين أنّ الآية نزلت عند ما أراد النبي صلّى اللّه عليه و آله غزوة تبوك و أمر الناس بالخروج، و قال ناس نشاور آبائنا و امهاتنا، فنزلت (الآية و اكدت لهم أن اتباع أمره صلّى اللّه عليه و آله مقدم على غيره مطلقا) ذكره في «روح البيان» «1».

و قريب منه في «مجمع البيان» إلّا أن فيه «نستأذن آبائنا و امهاتنا» «2».

و قد ذكر في المجمع في معنى هذه الجملة من الآية اقوالا:

«أحدها» إنّه أحق بتدبيرهم، و حكمه أنفذ عليهم من حكمهم على أنفسهم.

«ثانيها» أنّ طاعته أولى من طاعة أنفسهم و ما يميلون إليه.

«ثالثها» أنّ حكمه أنفذ عليهم من حكم بعضهم على بعض.

و هي متقاربة المضمون و تتحد في النتيجة، و حاصلها وجوب اطاعته صلّى اللّه عليه و آله في هذه الامور و ما يرتبط بمصالح المسلمين.

و هناك معنى رابع يستفاد من غير واحد من الروايات، مثل ما رواه في «تفسير القرطبى»:

«أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان لا يصلي على ميت عليه دين، فلما فتح اللّه عليه الفتوح قال أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي و عليه دين فعليّ قضاؤه، و من ترك مالا فلورثته، اخرجه الصحيحان،

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 540

و فيهما أيضا: فأيّكم ترك دينا أو ضياعا فأنا مولاه» «1».

و ما رواه في تفسير «البحر المحيط» عنه صلّى اللّه عليه و آله: «ما من مؤمن إلّا و

أنا أولى به في الدنيا و الآخرة، و اقرءوا إن شئتم النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فأيما مؤمن هلك و ترك مالا فليرثه عصبته، من كانوا، و إن ترك دينا (و ضياعا) فعليّ» «2».

و في الوسائل في باب ضمان ولاء الجريرة كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، و من ترك مالا فللوارث، و من ترك دينا أو ضياعا فاليّ و عليّ» «3».

و (قد ادعى تواتر الحديث عند أهل السنة).

و على هذا يكون معناه: أولى بهم من أنفسهم في أداء ديونهم و ضياعهم «4».

و هنا معنى «خامس» و هو أن الآية مطلقة من جميع الجهات، فهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم في كل أمر من امور الدين و الدنيا، كما ذكره غير واحد من المفسرين، منهم مؤلف «روح البيان» حيث قال: «و المعنى أن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أحرى و أجدر بالمؤمنين من أنفسهم في كل أمر من امور الدين و الدنيا كما يشهد به الاطلاق» «5».

و كما يشهد به صدر الحديث المروي عنه صلّى اللّه عليه و آله في تفسير القرطبي و قد مضى، و يقرب منه ما في تفسير «الميزان» حيث قال: «النّبيّ أولى بهم فيما يتعلق بالامور الدنيوية أو الدينية، كل ذلك لمكان الاطلاق» «6».

و لا شك أنّ لفظ الامة مطلقة شاملة لأي نوع من الولاية، و لكن الكلام في امور:

أولا: في أنّه هل هي ناظرة إلى العموم في كل ما يكون له صلة بتدبير المجتمع و ما فيه نظام الدين و الدنيا، أو هي شاملة حتى لماله صلة بأمر الفرد؟

ثانيا: على تقدير العموم هل هي منصرفة إلى ما فيه صلاح الفرد، أو

تعم و لو لم يكن فيه انوار الفقاهة، ج 1، ص: 541

صلاحه بل كان ضرره بحيث يجوز له صلّى اللّه عليه و آله الإضرار بأي مؤمن لصلاح نفسه صلّى اللّه عليه و آله لا لصلاح المجتمع؟

الانصاف قوّة انصراف الآية من الجهتين: من جهة اختصاصها بأمر المجتمع، و من جهة تقييدها بالمصالح، فلا شك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يكن يقدم على ما لم يكن فيه مصالح الامة و لا يقدم مصلحته بما أنّه شخص على مصالحهم، إنّما كلام في أنّه هل اللفظ مطلق من هذه الجهة أولا؟ و هل هي في مقام البيان أو ليس في مقامه من هذه الناحية؟ و ممّا يؤيد الانصراف، الروايات الكثيرة التي ادعى تواترها من طريق العامة و الخاصة و قد مر ذكرها ممّا ورد في شأن نزولها و غير ذلك.

ثم أنّه لو قلنا بثبوت ذلك له صلّى اللّه عليه و آله بمقتضى هذه الآية أو أدلة اخرى، و ثبوته لخلفائه المعصومين و الأئمّة الهادين عليهم السّلام و لكن اثباته للفقيه، دونه خرط القتاد، لما عرفت من أن غاية ما يدل على ولاية الفقيه هو الأخذ بالقدر المتيقن في أمر الحكومة على الناس، و من الواضح أنّه لا يدل إلّا على التصرفات التي ليس لها صلة بهذا الأمر و لا بدّ أن تكون تحت العناوين الاولية أو الثانوية من أحكام الشرع، فيصح له التصرفات في الأموال إذا كان بعنوان الزكاة و الخمس أو دعت الضرورة إلى أخذها زائدة على الزكوات و الاخماس لحفظ بيضة الإسلام في مقابل الكفار أو غير ذلك من أشباهه، و كذا يصح له الحكم بالقصاص و إجراء الحدود، و الأمر بنفر الناس إلى

ميادين الجهاد و غير ذلك، ممّا يعد تصرفا في الأموال و الأنفس، و أمّا أن يؤخذ أموال الناس، لمصلحة الشخصية، أو يطلق امرأته، أو يقتل مؤمنا متعمدا من غير انطباق عنوان شرعي عليه فلا، و ينبغي أن يكون هذا من الواضحات التي لا ريب فيها و لا شبهة تعتريها.

و من الجدير بالذكر أنا لم نسمع في رواية و لم نر في تاريخ، أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله أخذ الناس بالولاية على الأموال و النفوس في غير ما يرتبط بنظام المجتمع و الحكومة الإسلامية، و في غير نطاق أحكام الشرع، بل و لا بالنسبة إلى الأئمّة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين.

كيف تكون الأرض كلها للإمام عليه السّلام:

بقي هنا شي ء: و هو أنّه ورد في روايات كثيرة أنّ الأرض كلها اللّه و لرسوله و للأئمّة المعصومين عليهم السّلام أو شبه ذلك من التعابير.

و قد عقد له في اصول الكافي بابا أورد فيها ثمانية روايات، و هي تنقسم إلى ثلاث طوائف:

الطائفة الاولى: ما لا يدل على أكثر من ملك الأنفال للإمام عليه السّلام.

مثل ما رواه هشام بن سالم عن أبي خالد الكابلي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «وجدنا في كتاب علي عليه السّلام إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ أنا و أهل بيتي الذين أورثنا اللّه الأرض، و نحن المتقون، و الأرض كلها لنا، فمن أحيا أرضا من المسلمين فليعمرها و ليؤد خراجها إلى الإمام من أهل بيتي» «1».

و ابو خالد الكابلي اثنان «كبير» و «صغير» و الأوّل ممدوح غاية المدح، كان من حواري علي بن الحسين عليه السّلام و الثاني غير معروف، و حيث يدور الأمر بينهما أو يكون الأظهر هو الثاني يشكل الاعتماد

على سند الحديث.

و مدلول الرواية بقرينة ذيلها هو مالكية الإمام بالنسبة إلى الأنفال، و هو غير ما نحن بصدده.

و ما رواه عمر بن يزيد في الصحيح قال: «رأيت مسمعا (و هو أبو سيّار) بالمدينة و قد كان حمل إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام تلك السنة مالا فردّه أبو عبد اللّه عليه السّلام فقلت له: لم ردّ عليك أبو عبد اللّه المال الذي حملته إليه؟ ...، فقال: أو ما لنا من الأرض و ما أخرج اللّه منها إلّا الخمس يا أبا سيار؟ أنّ الأرض كلها لنا فما أخرج اللّه منها من شي ء فهو لنا» «2».

و هو أيضا ناظر إلى الأنفال فلا دخل له بما نحن بصدده.

الطائفة الثانية: ما دلّ على ملك جميع الأراضي له أعم من الأنفال و غيره.

مثل ما رواه يونس بن ظبيان أو المعلى ابن خنيس قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام ما لكم انوار الفقاهة، ج 1، ص: 543

من هذه الأرض؟ فتبسم، ثم قال: إنّ اللّه تبارك و تعالى بعث جبرئيل عليه السّلام و أمره إن يخرق بإبهامه ثمانية أنهار في الأرض، منها سيحان و جيحان و هو نهر بلخ و الخنثوع، و هو نهر الشاش، و مهران و هو نهر الهند، و نيل مصر، و دجلة، و الفرات فما سقت أو استقت فهو لنا» «1».

و هو يدل على ملكية جميع الأراضي لهم، و لكن قوله فما سقت أو استقت الذي بمنزلة التعليل و النتيجة غير واضح المعنى، فان قوله «فما سقت» إشارة إلى الأرض التي سقتها هذه الأنهار، و ما استقت لعله إشارة إلى البحار التي تسقى هذه الأنهار منها، و لكن مجرّد هذا أعني ملكية هذه المياه ليست دليلا على

مالكية الأراضي و البحار، نعم هو سبب لأجرة المثل للمياه فقط.

الطائفة الثالثة: ما دلّ على أنّ الدنيا كلها لهم، و هي عدة روايات:

منها: ما رواه محمد بن الريان عن العسكري عليه السّلام قال: «جعلت فداك روى لنا أن أن ليس لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الدنيا إلّا الخمس، فجاء الجواب: إنّ الدنيا و ما عليها لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله» «2».

و هو أيضا ضعيف سندا و لكن دلالته من أوضح الدلالات على ملكية جميع الدنيا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الظاهر ملكية الأئمّة عليهم السّلام أيضا من بعده صلّى اللّه عليه و آله لاتحاد الملاك.

و منها: ما رواه عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خلق اللّه آدم و أقطعه الدنيا قطيعة، فما كان لآدم عليه السّلام فلرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ما كان لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فهو للأئمّة من آل محمد صلّى اللّه عليه و آله» «3» و هو أيضا ضعيف سندا و لكن دلالته واضحة.

و منها: ما رواه محمد بن عبد اللّه عمن رواه قال: «الدنيا و ما فيها للّه تبارك و تعالى و لرسوله و لنا، فمن غلب على شي ء منها فليتق اللّه، و ليؤد حق اللّه تبارك و تعالى، و ليبر اخوانه، فان لم يفعل ذلك فاللّه و رسوله و نحن برآء منه» «4».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 544

و منها: ما رواه ابو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قلت له: أمّا على الإمام زكاة فقال:

أحلت يا أبا محمد! أما علمت أنّ الدنيا

و الآخرة للإمام يضعها حيث يشاء و يدفعها إلى من يشاء» «1» الحديث.

و الذي يتحصل من جميع هذه الأحاديث بعد ضم بعضها إلى بعض، و تأييد بعضها للبعض سندا و دلالة، كون العالم اللّه تعالى و بعده لرسوله صلّى اللّه عليه و آله و بعده للأئمّة الهادين عليهم السّلام يضعونها حيث شاءوا.

و لازم ذلك عدم مالكية الناس لهذه الأموال كلها بل كونها كالأمانة و الوديعة في أيديهم، يتصرفون فيها باذن مالكها الحقيقي.

هذا من جهة، و من جهة اخرى هناك أحكام كثيرة فقهية لا تصح إلّا بكون الناس مالكين لهذه الأموال التي بايديهم، كقوله صلّى اللّه عليه و آله: «الناس مسلطون على أموالهم» أو جواز «البيع» و «العتق» و «الهبة» و «الوقف» و «الوصية» باجماع علماء الإسلام بل الضرورة، مع أنّه لا تصح شي ء منها إلّا بملك، و ما ورد من التعبيرات الكثيرة بعنوان الملكية في الأخبار و الآثار و الآيات الكريمة القرآنية التي لا تحصى كثرة.

و كذلك ظاهر قوله تعالى: «فلله خمسه» الذي يفهم منها كون الباقي لهم، و قوله تعالى:

خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ ... الظاهر في كون ما عدا الزكاة لهم.

و قوله تعالى: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ ... و قوله تعالى: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ... الظاهر في كون الباقي للناس أنفسهم.

و كذلك الروايات المتواترة الواردة في أبواب الأنفال و الأخماس و أبواب الحيازة و غيرها، كالصريح في حصول الملكية للناس.

و طريق الجمع بينهما من وجهين:

أحدهما: أن يقال بالملكية الطولية التشريعية بأن يكون المالك التشريعي لجميع هذه إلّا ملاك هو اللّه تعالى، ثم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حيا أو حيا و بعد وفاته أيضا، لإمكان اعتبار الملك

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 545

له صلّى اللّه عليه و آله بل و لغيره و لو بعد الوفاة، كما ذكرنا في محله، ثم للأئمّة الهادين المعصومين عليهم السّلام ثم لمن يملكها من طريق مشروع من الحيازة أو الاحياء أو الارث أو العمل، و ما أشبه ذلك، و ما منافاة بين تعدد المالك مع وحدة الملك بلا شركة و لا اشاعة، إذا كان الملك طوليا و إن هو إلّا نظير ملك العبد و ملك المولى له و لما في يده (على ما هو المعروف).

و الملكية التشريعية أمر اعتباري و الاعتبار خفيف المئونة، نعم لا يتصور ملكية شي ء بتمامه لاثنين في عرض واحد، لأنّ مفهوم كل من الاعتبارين يضاد الآخر كما هو ظاهر.

و على كل حال لا مانع من إجراء أحكام الملكية من ناحية من كان في المرتبة الأخيرة، كما يجوز ترتيب آثارها من ناحية المقام الأعلى، و هذا كملك المولى و العبيد كما عرفت.

و يدل عليه ما ورد في رواية أبي خالد الكابلي و عمر بن يزيد (و قد مرّ ذكرهما) من ترتيب الآثار الشرعية على ملك الإمام عليه السّلام للأرض، اللّهم إلّا أن يقال إنّهما ناظرتان إلى الأنفال كما مرّ، و هي غير ما نحن فيه.

و ما في حديث «أبي بصير» و ظاهر رواية «محمد بن الريان» كما لا يخفى على الناظر فيهما.

و ممّا يدل على عدم التضاد بين هذين النحوين من الملك، أن ظاهر الروايات ثبوت الملك للّه و لرسوله و للأئمّة في زمن واحد، فليس مالكية الأئمّة بمعنى سلب الملكية عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لا مالكية رسوله صلّى اللّه عليه و آله بمعنى سلبها عن اللّه تعالى، فكلهم مالكون

على نحو طولي، فلها مراتب اربع كل واحد في طول الآخر فراجع حديث أحمد بن محمد (الحديث 2) بل لعل قول تعالى: وَ أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ «1» أيضا ناظر إليه.

هذا و لكن الظاهر أنّ سيرتهم عليهم السّلام قد استقرت على عدم الانتفاع بهذا النوع من الملكية، و لذا لم ينقل من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لا من الأئمّة الهادين الذين هم أوصيائه و خلفائه عليهم السّلام أخذ شي ء من أموال الناس بغير الطريق المعهودة في الفقه استنادا إلى أنّهم مالكون لها، كما هو ظاهر لمن راجع سيرتهم.

ثانيها: حملها على الملكية و الولاية التكوينية، فانّ اللّه له الولاية على جميع الخلق، لأنّه انوار الفقاهة، ج 1، ص: 546

خالقهم و له ولاية تشريعية يتبعها، بل هو فوق التشريع كما لا يخفى، و أمّا أولياؤه المعصومون عليهم السّلام فلهم أيضا ولاية تكوينية في أبواب المعجزات و الكرامات بل و غيرها، لأنهم غاية الخلقة (فان غاية الخلقة، الإنسان الكامل، و هم أتم مصاديقه) فاللّه ولي لأنّه العلة الفاعلية، لأنّهم علل غائية، و حينئذ لا يكون لهذه الأخبار دخل بما نحن بصدده بل هي ناظرة إلى ملكية، فوق الملكية الفقهية.

هذا و لكن هذا التوجيه لا يساعد عليه بعض هذه الأخبار ممّا صرّح فيها بجواز أنواع التصرفات تشريعا، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ هذا القسم أخبار آحاد ضعاف، فتأمل.

و على كل حال لا دليل على ثبوت هذا المقام- على القول به- للفقهاء (رفع اللّه رأيتهم و اعلى اللّه درجتهم) لعدم قيام دليل عليه مطلقا، بل الدليل إنّما قام في خصوص إقامة الحكومة الإسلامية مع شرائطها لا غير، كما عرفت مبسوطا، و اللّه الهادي إلى سواء السبيل.

بقي هنا شي ء:

قد ثبت ممّا ذكرنا بحمد اللّه ولاية الفقيه على أمر الحكومة إذا استكمل فيه شرائطها و مقدماتها و حدودها، و لكن يبقى السؤال في أنّ هذا الحكم عام لجميعهم أو خاص لبعضهم؟ و كيف يكون طريق الاختيار عند التشاح أو التعيين لو كان هناك ملاك للتعيين؟

و الاحتمالات هنا ثلاثة:

الأوّل: إنّها ثابتة لهم بعنوان العام الأفرادي الاستغراقي، فكل واحد له هذا الحق بالفعل، و لا يتوقف فعليته على أمر آخر وراء كونه فقيها جامعا للشرائط.

الثاني: إنّها ثابتة لهم بالفعل بعنوان العام المجموعي، فالمجموع من حيث المجموع لهم هذا الحق، فلا بدّ من التشاور و التعاضد من الجميع.

الثالث: إنّها ثابتة لهم بالاقتضاء بعنوان العام الأفرادي، و لا تكون فعليّة بانتخاب الامة، فالانتخاب هو الطريق الوحيد للفعلية.

و قد يورد على الأوّل باستلزامه الهرج و المرج، و نقض الغرض، فانّ الغرض الأعلى من الحكومة هو حفظ النظام، و لكن ثبوت الولاية الفعلية لكل واحد من الفقهاء مع اختلاف انوار الفقاهة، ج 1، ص: 547

الانظار و الافكار و السلائق، يؤدّي إلى اختلال النظام.

و على الثاني بأنّه لم يقل به أحد، بل استقرت سيرة المسلمين على خلافه و هذا يعني صحة الاحتمال الثالث.

أقول: أمّا القول الأخير فهو أشد مخالفة لسيرة أصحابنا من الثاني لأنا لم نسمع من أحدهم الرجوع إلى الانتخاب في إثبات ولى أمر المسلمين، فانّ الانتخاب أمر استجدّ في القرون الأخيرة، و مأخوذ من بلاد الغرب و ليس في أخبارنا عين و لا أثر و لا يوجد في أي تاريخ الإسلام كما عرفت سابقا، فكيف يقال بأن الطريق الوحيد لتعيين الوالي هو هذا؟!

و أمّا مسألة «البيعة» فقد عرفت سابقا أنّها أجنبية من مسألة الانتخاب من جهات شتى في مفهومها و

نتائجها، فقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نبيا مرسلا و واليا و حاكما باذن اللّه و اختياره تعالى، و كان يأخذ البيعة كرارا من أصحابه، و كان ذلك للتأكيد على وفائهم له، و طريقا إلى نفخ روح جديد و بعث حركة جديدة فيهم، و كذلك كان مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام.

و الفرق بين البيعة و الانتخاب لا ينحصر بهذا بل بينهما فروق كثيرة من نواح اخرى مرّ ذكرها سابقا.

نعم الانتخاب كان طريقا وحيدا، لتصدي بعض الخلفاء كالخليفة الأوّل لكن لا انتخاب الناس جميعا، و لا أهل البلد، و لا انتخاب جميع أهل الحل و العقد، بل انتخاب جماعة خاصة يسمّونه بالشورى عندهم، و هو جماعة من الصحابة حضروا في السقيفة موافقون لمقاصدهم، هذه هي حقيقة شوراهم و كيفية انتخابهم، و قد نتج ذلك للمسلمين ما نتج.

فالاحتمال الأخير منفي من جهات، نعم قد يحتاج إليه لمراعاة الغبطة كما سنشير إليه إن شاء اللّه.

و أمّا القول الثاني فهو ممّا لم يقل به أحد، و مخالف لما يظهر من الفقهاء (رضوان اللّه عليهم) قديما و حديثا من التصدي لأمر القضاء و القصاص و إجراء الحدود عند بسط اليد، و أخذ الأخماس و الزكوات، من التصدي كل فقيه جامع للشرائط في بلده إذا قدر على شي ء من ذلك من دون أن يتوقف في أمره طلبا لموافقة الباقين في البلد أو في خارجه، و هذا أمر ظاهر لا سترة عليه.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 548

و الذي استقرت على سيرة العلماء العاملين، و السلف الصالح قديما و حديثا و المعاصرين، هو الاحتمال الأول، أعني ثبوت الولاية لكل واحد بالفعل مستقلا، و لذا كان العلماء الكبار كما عرفت عند بسط

يد بعضهم في بعض الاقطار يقيمون الحدود الإلهية، و ينفذون الأحكام الإسلامية، من غير توقف علي رأي الآخرين في البلد و خارج البلد، و من دون توقف على انتخاب الامة لما عرفت من أنّه أمر مستحدث.

نعم يبقى الكلام فيما عرفت من الإشكال من لزوم التشاح و التنازع و الهرج و المرج بتصدى الجميع كل واحد مستقلا، و لكن الإنصاف إن دفع التشاح و التنازع أمر ممكن، و له نظائر في الفقع الإسلامي.

توضيحه: إنّ الظاهر من أدلة الولاية ثبوتها لكل واحد من الفقهاء مستقلا بعنوان عام أفرادي، سواء قوله «أمّا الحوادث الواقعة ...» أو «مجارى الامور.» أو قوله «أني جعلته عليكم حاكما» (على القول بدلالتها)، نعم الأخذ بالقدر المتيقن ربّما يؤيد الاحتمال الثاني، أعني ثبوت الولاية للمجموع من حيث المجموع، اللّهم إلّا أن يقال أنّه مخالف للسيرة المستمرة بين الفقهاء و هو كذلك.

فإذا ثبت أن الطريق منحصر في الأوّل، أعني ولاية كل واحد منهم فللمسألة صور مختلفة:

1- لو اقدم بعض من اجتمعت فيه الشرائط، على تأسيس الحكومة وجب على الباقين عدم الخروج عن أوامره و عدم المزاحمة له، كما هو كذلك في باب القضاء و رؤية الهلال و غيرهما.

2- إذا أقدم اثنان أو أكثر على تأسيسها و كان لكل اتباع و انصار، ثم وافقا أو وافقوا على ولاية الشورى بأن تكون الحكومة بيدهما أو بيدهم أجمعين لم يبعد صحة أعمالهم منهم على هذا النحو، بعد تأكيد الشارع المقدس على المشاورة في جميع الامور.

و ما قد يقال من أنّ إدارة شئون الامة لا سيما في المواقع المهمّة تتوقف على وحدة مركز القرار، و التعدد يوجب غالبا الفشل أو تعطيل كثير من المصالح صحيح بالنسبة إلى أمثالنا ممن

لا عهد لهم بالأعمال الجمعية، و لا يقدرون إلّا على العمل الفردي و أمّا إذا تمّت الثقافة

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 549

على التعاون و التعاضد، و الاستمرار على الجماعة حتى في قمة الحكومة- كما في بعض بلاد العالم- فلا يبعد إمكانه و جوازه، بل لو حصل الاستعداد لذلك ربّما كان أنفع و أصلح من حكومة الأفراد، و لكن المشكلة العظمى هي طريق تحصيل هذا الاستعداد الروحي و نفي الاستبداد بجميع إشكاله.

3- إذا لم يوافقوا على ولاية الشورى أو قلنا بعدم إمكانها أو عدم الاستعداد لها، أو كونها موجبة للفشل، فاراد كل منهم تصديه لها منفردا، و رأي المصلحة في ذلك، مع اجتماع الشرائط في كل منهم، فلا بدّ من الرجوع إلى المرجحات و يمكن الاستيناس لها بما ورد في باب التعادل و الترجيح من المرجحات، و أوضح حالا منه ما ورد في باب قاضي التحكيم، بل و يمكن الاستدلال له بأنّه من قبيل دوران الأمر بين التعيين و التخيير، فلا بدّ من الأخذ بالتعيين، و على كل حال يختار من فيه المرجح.

إن قلت: ما المعيار في تشخيص المرجحات؟ و من المرجع في ذلك؟

قلنا: المرجع فيه هو أهل الخبرة كما في غيره من أمثاله في أبواب الفقه، فأهل الخبرة هم المرجع الوحيد في تعيين من هو الأصلح من بين الفقهاء الصالحين و لو فرض فرضا نادرا أو محالا عاديا تساويهما من جميع الجهات أو بالكسر و الانكسار في جهات مختلف بحيث يتحير فيه أهل الخبرة، و لا يفضل واحد منهم على الآخر شيئا، يمكن الرجوع إلى القرعة، و لكن الانصاف أنّ هذا نادر جدّا، أو لا يوجد له مصداق عادة، و على فرض وجوده فما المانع من

الرجوع إليها بعد كونها مدارا لفصل الخصومات و المنازعات، و المفروض كون اطراف القرعة جميعهم صلحاء عدول لا يفضل واحد على الآخر.

نتيجة البحث في مسألة ولاية الفقيه:

فقد تحصل من جميع ما ذكرنا من أول هذه المسألة إلى هنا امور:

أحدها: أنّه لا ينبغي الشك في ولاية الفقيه على أمر الحكومة و قد دلّت عليها أدلة مختلفة.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 550

ثانيها: ولاية الفقيه إنّما هي في إجراء أحكام الشرع سواء الأحكام الثابتة بالعناوين الأولية أو الثانوية، و ليس له فيما وراء الأحكام الولائية و الامور الإجرائية بما هو وال شي ء آخر، و أمّا بما هو مجتهد مستنبط، أو قاض، فمقتضاه أمر آخر.

ثالثها: إنّ العمدة في المسألة هو التمسك بالقدر المتيقن من أدلة وجوب الولاية، و لزوم الحكومة و عدم جواز الاخلال بها، و أنّه لا بدّ للناس من أمير، مضافا إلى روايتي «مجاري الامور» و «الحوادث الواقعة».

رابعها: ولاية الفقيه مشروطة بشرائط كثيرة من قبيل وجوب رعاية غبطة المسلمين و مصلحتهم، و الرجوع إلى أهل الخبرة فيما يحتاج إلى ذلك، و المشاورة مع من هو أهل لها في المسائل المهمّة المشكلة.

أضف إلى ذلك الشرائط و الأوصاف العامة و الخاصة المعتبرة في الفقيه نفسه بحيث يكون جامعا لشرائط الحكومة من الذوق السليم و الخبرة بالامور و المديرية و التدبير و الشجاعة اللازمة و غيرها.

خامسها: ولاية الفقيه على الأموال و الأنفس كسائر ولاياته تكون على وفق الأحكام الواردة في الشرع في العناوين الأولية و الثانوية التي يدور عليها الفقه الإسلامي فليس له التصرف في الأموال و النفوس لمصلحة شخصه مثلا دون مصلحة المجتمع و السنة و الإجماع و دليل العقل.

سادسها: الأحكام الولائية الثابتة للفقيه إنّما هي أحكام جزئية إجرائية في طول الأحكام الكلية الشرعية،

لا في عرضها.

سابعها: العناوين الثانوية عناوين عرضية تعرض موضوع الحكم الاولى و توجب تغيير حكمه مؤقتا، و هي كثيرة و لا تنحصر بالضرورة و الاضطرار و العسر و الحرج، و الرجوع إليها لا يمكن أن يكون دائميا بل يكون في أوقات خاصة فقط.

ثامنها: إنّ الولاية على التشريع و تقنين القوانين إنّما هي للّه وحده، و لم يثبت ذلك لغيره، إلّا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في موارد خاصة محدودة قبل إكمال الشريعة و انقطاع الوحي، و كان ذلك باذن اللّه من قبل، و امضائه من بعد، و إمّا بعد اتمام الدين و إكماله و انقطاع الوحي لم يبق له مورد لأحد من بعده.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 551

تاسعها: يظهر من روايات كثيرة أنّ العالم كلّه ملك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و من بعده من الأئمّة المعصومين عليهم السّلام إما من باب أنّهم علل غائية للعالم (لأنّ العالم خلق للإنسان الكامل و هم أتمّ مصاديقه) فالعالم كلّه لهم، أو لهم ملكية في طول ملكية الناس لأموالهم المصرّح بها في الآيات الكثيرة و الروايات المتواترة. و على كلّ حال لم يسمع انتفاعهم بهذه الملكية الإلهية في أخذ شي ء من أموال الناس من غيره الطرق المعروفة في الفقه.

عاشرها: الولاية على الخلق و الايجاد إنّما هي للّه تعالى وحده، نعم للأنبياء و الأولياء المعصومين ولاية في المعجزات و شبهها نظير ما ورد في حق المسيح عليه السّلام أنّه كان يحيى الموتى باذن اللّه، و هذه شعبة من الولاية التكوينية لهم، و هذا و غيره يحتاج إلى بسط الكلام في مقام آخر، و تلك عشرة كاملة و الحمد للّه.

[الرابع ولاية عدول المؤمنين
اشارة

هل لعدول المؤمن ولاية عند عدم وجود

الفقيه، أو في عرضه، فيما لا يشترط فيه الفقاهة و الاجتهاد، أم لا؟

المعروف بين فقهائنا (رضوان اللّه عليهم) أنّه يجوز لهم التصدي لهذه الامور عند فقد الفقيه، قال في «مفتاح الكرامة» في كتاب البيع بعد ذكر الأولياء السبعة (المالك، و الأب، و الجد، و الحاكم، و أمينه، و الوصي، و الوكيل): «الأشهر الأظهر بين الطائفة كما في الرياض مع زيادة العدول من المؤمنين مع فقد هؤلاء، فإنّه احسان محض مع دعاء الضرورة إليه في بعض الأعيان، و فيه أخبار معتبرة» «1».

و قال في كتاب «الحجر»: «يستفاد من بعض الأخبار ثبوت الولاية للحاكم مع فقد الوصي، و للمؤمنين مع فقده، و في الحدائق نسبته إلى الأصحاب، و في مجمع البرهان الظاهر ثبوت ذلك لمن يوثق بدينه و أمانته بعد تعذر ذلك كله» ثم استدل بامور تأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه «2».

و في «الحدائق» في كتاب «الوصايا»: «لا خلاف بين الأصحاب في أنّه لو مات و لم يوص إلى أحد و كان له تركة و أموال و أطفال فان النظر في تركته للحاكم الشرعي و إنّما الخلاف في أنّه لو لم يكن ثمّة حاكم، فهل لعدول المؤمنين تولى ذلك أم لا؟ الذي صرّح الشيخ و تبعه الأكثر، الأول، و قال ابن ادريس بالثاني» ثم نقل كلام الشيخ في «النهاية» في انوار الفقاهة، ج 1، ص: 554

جواز تصدي بعض المؤمنين لذلك و كونه صحيحا ماضيا «1».

و قال الشهيد الثاني قدّس سرّه في المسالك في كتاب الوصايا في بحث الأولياء: «فانّ فقد الجميع فهل يجوز أن يتولى النظر في تركة الميت من المؤمنين من يوثق به؟ قولان «أحدهما» المنع، ذهب إليه ابن ادريس قدّس سرّه.

و «الثاني» و هو مختار

الأكثر تبعا للشيخ قدّس سرّه الجواز، ثم استدل بامور تأتي الإشارة إلى إن شاء اللّه» «2».

فتحصل من جميع ذلك الوارد في أبواب الوصايا و الحجر و البيع، أنه لم يعرف في المسألة مخالف مشهور، ما عدا ابن ادريس، فانّه بعد ما صرّح (في بحث الوصايا) بولاية فقهاء الشيعة، لأنّ الأئمّة عليهم السّلام و لو هم ذلك، أنّه «لا يجوز لمن ليس بفقيه أن يتولى ذلك بحال، فإنّ تولاه فانّه لا يمضي شي ء ممّا يفعله لأنّه ليس له ذلك بحال» «3».

هذا و قد استدل على فتوى المشهور بامور:

1- ما دلّ على الأمر بالتعاون على البر و التقوى.

2- ما دلّ على الأمر بالاحسان.

3- ما دلّ على وجوب الأمر بالمعروف، و إن كان معروف صدقة.

و يرد على الجميع أن كونها في مقام البيان من هذه الجهة، أعني جهة إثبات الحكم الوضعي، و هو الولاية لعدول المؤمنين، غير ثابت، بل يمكن دعوى عدم كونها في مقام البيان من هذه الناحية.

4- ما دلّ على فعل الخضر عليه السّلام و أنّه خرق السفينة التي كانت لمساكين يعملون في البحر و كان ورائهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا.

قال في الجواهر في كتاب الحجر: «قيل حكاية فعل الخضر عليه السّلام يقتضي ثبوتها لعدول المؤمنين» «4».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 555

فكأن الاستدلال بها من جهة أنّ الخضر عليه السّلام لم يكن نبيّا، أو كان نبيّا و لكن ذكر فعله في القرآن إرشادا إلى مثل هذا الفعل من ناحية المؤمنين أيضا.

أقول: يرد عليه «أولا»: أنه لا دلالة فيها على جواز ذلك لغير الأنبياء و من يقوم مقامهم بناء على نبوة الخضر عليه السّلام و ما ذكره وجها للتعميم غير وجيه.

«ثانيا»: الظاهر أنّ عمل الخضر عليه السّلام

كان خاصا به، و أنّه كان مأمورا بالباطن دون الظاهر، و إن شئت قلت: كان عمله في سلسلة الأسباب التكوينية لمشية اللّه كما في ملائكة قبض الأرواح و المدبرات أمرا، و لكن كان موسى عليه السّلام مأمورا بالظاهر في سلسلة المشية التشريعية، و لذا لم يمكن لهما المعاشرة و كان يعترض موسى دائما على الخضر، و كان لا يستطيع عليه صبرا، و هذان الوظيفتان مختلفتان، أو نحن مأمورون بما أمر به موسى عليه السّلام، و هذا بحث دقيق عميق نتعرض له إن شاء اللّه تعالى في محله.

5- و هاهنا روايات استدلوا بها على المطلوب:

منها: صحيحة ابن بزيع قال: «مات رجل من أصحابنا و لم يوص فوقع أمره إلى قاضي الكوفة فصير عبد الحميد القيم بماله، و كان الرجل خلف ورثة صغارا و متاعا و جواري، فباع عبد الحميد المتاع، فلما أراد بيع الجواري ضعف قلبه عن بيعهن اذ لم يكن الميت صير إليه وصيته، و كان قيامه فيها بأمر القاضي، لأنّهن فروج، قال فذكرت ذلك لأبي جعفر عليه السّلام و قلت له: يموت الرجل من أصحابنا و لا يوصي إلى أحد، و يخلف جواري فيقيم القاضي رجلا منّا ... فما ترى في ذلك؟ قال: فقال: إذا كان القيم به مثلك و مثل عبد الحميد فلا بأس» «1».

و دلالته مبنية على كون المماثلة، المماثلة في العدالة و الوثاقة، و مع احتمال كون المماثلة في الفقاهة يسقط عن الدلالة.

و منها: ما رواه اسماعيل بن سعد الاشعري قال: «سألت الرضا عليه السّلام عن رجل مات بغير وصية و ترك أولادا ذكرانا، غلمانا، صغارا و ترك جواري و مماليك هل يستقيم أن تباع انوار الفقاهة، ج 1، ص: 556

الجواري؟ قال:

نعم، و عن الرجل يموت بغير وصية و له ولد صغار و كبار، أ يحل شراء شي ء من خدمه و متاعه من غير أن يتولى القاضي بيع ذلك، فان تولاه قاض قد تراضوا به و لم يستعمله الخليفة أ يطيب الشراء منه أم لا؟ فقال:، إذا كان الأكابر من ولده معه في البيع فلا بأس إذا رضي الورثة بالبيع، و قام عدل في ذلك» «1».

و دلالته على المطلوب لا بأس به، و وجه اعتبار رضى الأكابر من ولده واضح، لأنّه ليس للولي ولاية عليهم.

و منها: ما رواه سماعة في الموثقة قال: «سألته عن رجل مات و له بنون و بنات صغار و كبار، من غير وصية، و له خدم و ممّاليك و عقد، كيف يصنع الورثة بقسمة ذلك الميراث؟ قال: إن قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كله فلا بأس» «2».

و هو دليل على كفاية مجرّد الوثاقة.

و منها: صحيحة على بن رئاب قال: «سألت أبا الحسن موسى عليه السّلام عن رجل بيني و بينه قرابة مات و ترك أولادا صغارا، و ترك مماليك له غلمانا و جواري و لم يوص فما ترى فيمن يشتري منهم الجارية فيتخذها أم ولد و ... قال: لا بأس بذلك إذا باع عليهم القيم لهم، الناظر فيما يصلحهم» «3»، و لكن يمكن الإشكال فيه بأن ذكر المولى و القيم لعله إشارة إلى مثل الجد أو من نصبهم الحاكم لذلك فيشكل دلالته على المقصود.

حاصل الكلام في ولاية عدول المؤمنين:
اشارة

و التحقيق أن يقال: إنّ الامور التي يتولاها الولي الفقيه مختلفة، «تارة» يكون ممّا لا يمكن تعطيله و لا تركه، مثل حفظ أموال اليتامى و الغيب و القصر، و كذا اجراء الحدود إذا كان تركه سببا للفساد، و

إشاعة للفحشاء (كما هو كذلك) و احقاق الحقوق، و القصاص الذي فيه انوار الفقاهة، ج 1، ص: 557

حياة الامة، و أولى من الجميع إقامة الحكومة لدفع الهرج و المرج و حفظ نظام المجتمع.

و «اخرى» لا يكون كذلك مثل التجارة بمال اليتيم، له، حتى ينمو و يزيد و يبارك فيه.

أمّا الأوّل فلا كلام في وجوبه، و لا أشكال، و إن لم يكن هناك دليل نقلي، لأنّها من الامور التي قياساتها معها، و الظاهر أنّ ما ورد في روايات الباب بالنسبة إلى أمر الصغار و الأيتام من هذا القسم فتأمل.

و بالجملة: ولاية عدول المؤمنين في هذا القسم ممّا لا ينبغي الكلام فيه، و لا شبهة تعتريه، و لا أظن من أحد الخلاف فيه، إلّا أن يكون خلافا في الصغرى، و الظاهر أن ابن ادريس أيضا غير مخالف في هذا القسم، بعد فرض عدم إمكان تعطيله، و استناده إلى الأصل أيضا مشعر بذلك، فان الأصل في المسألة و إن كان هو عدم ولاية أحد على أحد و لكنه مقطوع هنا بقيام الدليل القطعي على خلافه، لأنّ المفروض عدم إمكان صرف النظر منه.

قال في الجواب إشارة إلى قول ابن ادريس: «مراده نفيها على حسب ولاية الأب و الجد و الحاكم لا مطلقا، و حينئذ يرتفع النزاع على هذا التقدير» «1».

و لعله أيضا ناظر إلى ما ذكرنا فان ولاية الأب و الجد (و على احتمال ولاية الحاكم) لا يختص بموارد الضرورة بل يشمل غيرها أيضا.

و الذي يؤيد ذلك أنّهم صرّحوا بعدم ولاية الام و غيرها من الأقارب على كل حال يعني مثل ولاية الأب و الجد، فهذا دليل على أنّهم ناظرون إلى الصورة الثانية، و إلّا في موارد الضرورة لا إشكال

في ولايتهم عند عدم وجود من يتقدم عليهم.

قال في الجواهر في كتاب الحجر في شرح قول المحقق: «الولاية في مال الطفل و المجنون للأب و الجد» ما لفظه: «فان لم يكن الحاكم، فظاهر جملة من العبارات المعددة للأولياء عدم الولاية حينئذ لأحد، بل هو صريح المحكي عن ابن ادريس، و هو كذلك بالنسبة إلى الام و غيرها من الاخوة و الأعمام و الاخوال و غيرها بلا خلاف أجده، بل عن التذكرة الإجماع عليه في الام بل عن مجمع البرهان أنّه إجماع الامة» «2».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 558

أضف إلى ذلك أنّه من البعيد جدّا أن يحكم فقيه بترك مال الصغير حتى يفنى و يتلف، و كذلك الحكم بجواز ترك المجتمع بلا أمير، فيختل نظامهم و يفني معاشهم و معادهم.

و من هنا يعلم أنّه لا تنحصر الولاية في هذا القسم بالعدل، و أنّه إذا لم يكن الوصول إلى العدل جاز تصدى الفاسق إذا كان موثوقا به في هذا الأمر، لعين ما مرّ من الدليل.

هذا بالنسبة إلى القسم الأوّل، و أمّا القسم الثاني فمقتضى الأصل عدم ولاية العدل فيه فلا يجوز له الاتجار بمال اليتيم تنمية له، و ما أشبه ذلك، و أمّا مجرّد حسن الاحسان، و كل معروف صدقة، و المؤمنين بعضهم أولياء بعض، و غير ذلك فالظاهر قصورها عن إثبات جواز ذلك، لما عرفت من عدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة.

بل يشكل القيام به للفقيه أيضا، نعم للولي الخاص كالأب و الجد ذلك، و الحاصل لو فصلنا موارد المسألة بهذا التفصيل (بين ما لا يمكن تعطيله بحكم الشرع و العقل، و ما يمكن تعطيله) كان الحكم واضحا غاية الوضوح.

نعم قد يقال: إن بعض روايات

الباب مطلقة مثل رواية «اسماعيل بن سعد».

و قد وقع السؤال فيها عن بيع الجواري، و هو أعم من أن يكون للضرورة أو لإصلاح المال و تنميته، و كذلك صحيحة «اسماعيل بن بزيع» فان السؤال فيها أيضا مطلق بالنسبة إلى بيع الجواري، و لكن يشكل الاعتماد على هذا الاطلاق مع كون الغالب السؤال عن حفظ الأموال من الفساد و التلف، فالاحوط لو لا الأقوى عدم الجواز.

و لو فرض اطلاق في مقام يشكل القول به في سائر المقامات إذا لم يكن هناك اطلاق و الأصل عدم الولاية.

و قد تحصل ممّا ذكرنا أنّ ولاية عدول المؤمنين في الامور فيما لا يرضى الشارع بتعطيلها أمر ثابت معلوم دون غيرها، و لا نحتاج في أثبات هذا المعنى إلى دليل أزيد من كونها ممّا لا يمكن تعطيلها شرعا.

من هنا يعلم أنّه إذا لم يقدر الفقيه على تأسيس الحكومة الإسلامية إمّا لعدم خبرته بهذا الأمر، أو لعدم مساعدة الظروف له، أو عدم لعدم قبول الناس منه أحيانا، فاللازم اقدام غيره، ممن يوثق بعدالته و كفايته و تدبيره و حمايته عن الإسلام و المسلمين و يكون خبيرا بالامور، مقبولا عند الناس، على تأسيس الحكومة، فانّ ذلك أمر لا يجوز تعطيله بحال، و لا بدّ للناس انوار الفقاهة، ج 1، ص: 559

من أمير حتى أن حكومة الفاجر أحسن من عدم الحكومة غالبا كما في رواية أمير المؤمنين عليه السّلام.

بقي هنا امور:
الأمر الأوّل: في اعتبار العدالة في المؤمن الذي يتولى هذه الامور

عند فقد الفقيه، ظاهر تعبيرات القوم ب «عدول المؤمنين» اعتبارها كما صرّح به شيخنا الأعظم قدّس سرّه حيث جعله ظاهر أكثر الفتاوى.

و لكن قد يقال بكفاية الوثاقة.

و يظهر من بعض الكلمات قول ثالث، و هو كفاية أحد الأمرين من الوثاقة و العدالة كما في جامع المدارك

حيث قال بعد ذكر أحاديث الباب: و يمكن أن يكون الشرط أحد الوصفين من العدالة و الوثاقة، لأنّ الظاهر أن العدالة لا تلازم الوثاقة «1».

و على هذا يكون في المسألة أقوال ثلاثة،، و لكن لم نفهم كيف يمكن تفكيك العدالة عن الوثاقة، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ العدالة توجب مجرّد الظن بعدم ارتكاب الخلاف و الوثاقة مرحلة أعلى منه، أو يقال: إنّ العدالة تمنع التعمد بالخلاف لا الخطأ و الوثاقة يعتبر فيها عدم التخلف لا سهوا و لا عمدا (و كلاهما كما ترى)، أو يكون المراد أنّ الوثاقة لا تلازم العدالة!

هذا، و لكن لا إشكال في أن مقتضى الأصل هو عدم الولاية إلّا ما خرج بالدليل، و مقتضاه اعتبار العدالة في المقام، و لكن لعل المستفاد من الروايات غير هذا، و ذلك لأنّ قوله عليه السّلام «إن قام رجل ثقة» في موثقة سماعة «2» ظاهر في كفاية مجرّد الوثوق.

و كذلك قوله عليه السّلام «نعم» في جواب السؤال عن بيع الجواري بصورة فعل مجهول «هل يستقيم أن تباع الجواري» «3» أيضا عام يشمل العدل و غيره و القدر المتيقن تقيده بالوثوق، و أمّا الأزيد فلا دليل عليه.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 560

نعم في ظاهر بعض الأحاديث اعتبار العدالة «1».

و قد يستدل بصحيحة ابن بزيع أيضا، نظرا إلى أن قوله «إذا كان القيم مثلك و مثل عبد الحميد فلا بأس» يتحمل امورا اربعة المماثلة في الفقاهة و العدالة و الوثوق و التشيع، الأوّل لازمه بقاء المال بلا قيم عند عدم وجدان الفقيه، و القدر المتيقن من الاحتمالات الاخر هو العدالة (هكذا أفاده شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه).

و فيه: أنّه استدلال بالأصل لا بالخبر، غاية الأمر أنّ الخبر

من قبيل المحفوف بما يحتمل القرينية فيكون مجملا، فتدبّر جيدا.

و قد يقال «كما في نهج الفقاهة» «2» أن هناك قرينة على عدم عدالته، لأنّه اكتفى في سائر التصرفات بمجرّد نصب قاضي الكوفة قيّما كما يظهر من توقفه من بيع الجوارى فقط لأنهنّ فروج.

و يمكن الجواب عنه، بأنّ من المحتمل كونه من الفقهاء أو العدول و كان تصرفه بسبب هذه الأوصاف، لا بسبب نصب قاضي الكوفة فقط.

و قد يقال أيضا: إنّ في بعض نسخ التهذيب توصيف «عبد الحميد» بانّه «ابن سالم» و قد نص على توثيقه جماعة.

و لكن أورد عليه في نهج الفقاهة بخلو بعض آخر عنه، مضافا إلى أنّ الثقة هو عبد الحميد بن سالم العطار، و لم يثبت أن هذا هو العطار.

أقول: قد وقع الكلام في أنّ عبد الحميد من أصحاب الصادق عليه السّلام أو الكاظم عليه السّلام فالنجاشي ذكره من أصحاب الكاظم عليه السّلام.

وعده الشيخ قدّس سرّه في رجاله من أصحاب الصادق عليه السّلام و ذكر ابنه «محمد بن عبد الحميد» من أصحاب الرضا عليه السّلام و حينئذ كيف يمكن أن يكون هو نفسه من أصحاب أبي جعفر الجواد عليه السّلام أو في عصره، لا سيما أنّه لم يرو عنه رواية أبدا.

و من العجب أنّ بعض الأعاظم ذكر في معجم رجال الحديث احتمال سؤال «ابن بزيع»

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 561

عن هذه المسألة بعد فوت عبد الحميد، و أنت خبير بأنّه لا يوافق ظاهر الرواية لظهورها في كون هذه المسألة مبتلى بها في زمن الحال.

و الحاصل: أنّ استفادة اعتبار العدالة من هذا الحديث ضعيف من وجوه:

1- اختلاف نسخ التهذيب.

2- عدم ثبوت كون عبد الحميد بن سالم هو العطار الثقة.

3- من البعيد أن يكون مدركا

لعصر الإمام الجواد عليه السّلام لا سيما مع عدم نقل رواية عنه.

4- التصريح بوثاقته أعم من العدالة.

و الحاصل: أنّه يقع التعارض بين رواية «اسماعيل بن سعد» الظاهر في لاعتبار العدالة و موثقة «سماعة» الظاهر في كفاية الوثاقة، و يمكن الجمع الدلالي بينهما بحمل العدالة على الوثاقة، لا سيما مع ما هو المرتكز في أذهان العرف و العقلاء من كفاية الوثاقة في أمثال المقام و إن كان الأحوط العدالة مهما أمكنت.

بقي كلام في تفصيل شيخنا الأعظم الأنصاري قدّس سرّه و هو القول الرابع في المسألة، و حاصله: أنّه إن كان الكلام في مقام الثبوت و بالنسبة إلى مباشرة المكلف نفسه، فالظاهر جواز تصدي الفاسق له، فلا تعتبر العدالة و لا الوثاقة، و الدليل عليه شمول العمومات له مثل «عون الضعيف صدقة» و قوله تعالى: وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ*

، و صحيحة «ابن بزيع» محمولة على صحيحة «ابن رئاب» فتصرفات الفاسق صحيحة.

و إن كان في مقام الإثبات، و ارتباط فعل الغير بفعله، فالظاهر اشتراط العدالة فيه، و استدل له لصحيحة «اسماعيل بن سعد» بل و موثقة زرعة (سماعة) بناء على إرادة العدالة من الوثاقة. مضافا إلى عمومات فعل ذلك المعروف، بعد باقية بحالها، لعدم العلم بصحة فعل الفاسق (انتهى ملخصا).

و فيه: أولا: أنّه ليس في الواقع تفصيلا «كما أشار إليه المحقق الايرواني قدّس سرّه في بعض حواشيه» «1» و أن العدالة اعتبرت للطريقية، فلو علم بأنّ الفاسق تصرف تصرفا صحيحا جاز

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 562

فعله حتى بالنسبة إلى الغير، لإحراز الواقع هنا بالعلم فتأمل.

ثانيا: سلمنا، لكنّه مخالف لظاهر روايات الباب، فانّ ظاهرها اعتبار العدالة أو الوثاقة بعنوان شرط للصحة واقعا كاعتبارها في صحة

الطلاق و صلاة الجماعة، فان قوله في موثقة سماعة «إذا قام عدل في ذلك»، لا سيما بعد قوله «إذا رضي الورثة» (أي الكبار منهم) ظاهر في اعتبار العدالة واقعا كاعتبار رضى الكبار، و كذا قوله في صحيحة ابن بزيع «إذا كان القيم به مثلك و مثل عبد الحميد فلا بأس» (بناء على ظهوره في العدالة أو الوثاقة) فحملها على الطريقية بالنسبة إلى الغير غير واضح.

ثالثا: إنّ الأصل في المسألة كما عرفت من عدم ولاية أحد، فإثباتها في حق الفاسق يحتاج إلى دليل، و قد عرفت أنّ عمومات الاحسان، و حفظ أموال اليتامى، ليست في مقام البيان هذه الجهة، و هي مثل أدلة وجوب إجراء الحد على الزاني و السارق في قوله تعالى:

الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا ... و السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما.

و إن شئت قلت: هناك امور يكون أمرها بيد سلطان الناس و حاكمهم في جميع الامم، و الإسلام قد أمضاها، و لكن جعلها بيد السلطان العادل منها: إجراء الحدود، و إحقاق الحقوق، و حفظ أموال الغيّب و القصّر، و ليست هذه الامور من قبيل الاحسان المطلق، و الأنفال في سبيل اللّه و التعاون على البر و التقوى، فالأدلة الدالة على هذه الامور و إن كانت مطلقة و لكنها في الواقع ناظرة إلى العمل بها من ناحية من إليها الحكم، و ليست في مقام بيان من يكون له الحكم في هذه الامور بل لها أدلة اخرى ناظرة إليها.

و من هنا يعلم أنّ ما يظهر من كلمات شيخنا الأعظم قدّس سرّه قوله: «الظاهر أنّه (أي جواز تصرف عدول المؤمنين) على وجه التكليف ... على وجه النيابة من حاكم، فضلا عن كونه على وجه النصب من الإمام

عليه السّلام: ثم فرع عليه جواز المزاحمة في هذه من ناحية أشخاص آخرين ما لم يتم الأمر» في غير محله.

و ذلك لأنّ هذا التلقى من الامور الحسبية ليس على ما ينبغي، و ليس وزانها وزان الواجبات أو المستحبات الاخر، فالأمر بالمعروف و النهى عن المنكر في الامور العادية شي ء، و فيما يوجب الكسر و الجرح شي ء آخر، فالأول من قبيل الأحكام، و الثاني من قبيل انوار الفقاهة، ج 1، ص: 563

المناصب التي بيد ولي الأمر، و هكذا حفظ مال اليتامى و الغيّب إذا لم يكن هناك وليّ خاص.

و من هناك يعلم أنّ جواز تصرف عدول المؤمنين إنّما هو بإذن ولي الأمر عليه السّلام و اجازته، فهم نائبون عنه في الواقع، فلا يجوز مزاحمتهم من حيث عدم جواز المزاحمة لولي الأمر و اللّه العالم.

و لعله من هذه الجهة قال المحقق النائيني قدّس سرّه في منية الطالب بعد نقل أحاديث الباب:

«فمع وجود العدل لا شبهة في أن المتيقن نفوذ خصوص ما يقوم به، نعم مع تعذره يقوم الفساق من المؤمنين بعد عدم احتمال تعطيله لكونه ضروريا» «1».

الأمر الثاني: في اشتراط ملاحظة الغبطة في عدول المؤمنين

، أو الفساق عند عدمهم و عدمه كلام، ظاهر كلمات الأصحاب اشتراطه قال في «مفتاح الكرامة» في شرح قول العلّامة قدّس سرّه: «و إنّما يصح بيع، من له الولاية، للمولى عليه» ما نصه: «هذا الحكم إجماعي على الظاهر، و قد نسبه المصنف إلى الأصحاب فيما حكي عنه كما تسمع و أقره على ذلك القطب و الشهيد» «2».

و قال في الحدائق، بعد ذكر الأخبار الآتية و يستفاد من هذه الأخبار الشريفة جملة من الأحكام:

«منها» أنّ التصرف في أموالهم يتوقف على نوع مصلحة لهم في ذلك.

و قال العلّامة قدّس سرّه في التذكرة في

كتاب الحجر: «الضابط في تصرف المتولى لأموال اليتامى و المجانين اعتبار الغبطة و كون التصرف على وجه النظر و المصلحة إلى أن قال:

«سواء كان الولي أبا أو جدّا له، أو وصيا، أو حاكما، أو أمين حاكم إلى أن قال- «و لا يعلم فيه خلافا إلّا ما روى عن الحسن البصري» «3».

و قال في مفتاح الكرامة في كتاب الحجر بعد نقل ذلك ما لفظه: «و ظاهره أنّه ممّا لا خلاف فيه بين المسلمين».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 564

أقول: لا يخفى أنّه ليس محل الكلام خصوص أموال اليتامى بل هو عام، و العمدة فيه اصالة العدم، و قد عرفت أنّه مبنى الكلام في المقام مضافا إلى الروايات الواردة من طريق الخاصة و العامة.

1- ما رواه الكاهلي قال: قيل لأبي عبد اللّه عليه السّلام: «إنا ندخل على أخ لنا في بيت أيتام و معه خادم لهم فنقعد على بساطهم و نشرب من مائهم و يخدمنا خادمهم ... فما ترى في ذلك؟ فقال: إن كان في دخولكم عليهم منفعة لهم فلا بأس، و إن كان فيه ضرر فلا؟» «1».

و يمكن أن يقال أنّها ساكتة عن حكم عدم النفع و الضرر، و لكن التأمل فيها يعطى اشتراط النفع لهم.

2- ما رواه علي بن مغيرة قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أن لي ابنة أخ يتيمة فربّما أهدى لها الشي ء فآكل منه ثم اطعمها بعد ذلك الشي ء من مالي فأقول: يا ربّ هذا بذا، فقال:

فلا بأس» «2».

فان أكل بعض الهدية ثم اطعام اليتيمة بعد ذلك يكون مصلحة لها غالبا كما لا يخفى، و لكنه مجرّد سؤال و قيد من ناحية الراوي لا بيان شرط من ناحية الإمام عليه السّلام بخلاف الحديث

السابق.

3- و مثله ما رواه العياشي عن أبي الحسن موسى عليه السّلام قال: «قلت له: يكون لليتيم عندي الشي ء و هو في حجري انفق عليه منه، و ربّما اصيب (اصبت) ممّا يكون له من الطعام، و ما يكون مني إليه أكثر: قال لا بأس بذلك» «3».

و هنا أيضا ذكر منفعة اليتيم في سؤال الراوي لا كلام الإمام عليه السّلام فتدبّر جيدا أضف إلى ذلك قوله تعالى: وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ*

«4».

و قد ذكر فيها احتمالات كثيرة في معنى «القرب» و «الأحسن»، و لكن الانصاف أنّ انوار الفقاهة، ج 1، ص: 565

الظاهر من قوله تعالى: «لا تقربوا» عدم التصرف فيها بشي ء من التصرفات، و يلحق به ترك التصرف أيضا أحيانا إذا كان فيه ملاكه كما إذا كان ابقائه موجبا لفساده، و المراد «بالأحسن» كلما هو اصلح لليتيم و لأمواله، و بما أنّ الالتزام بالأصلح من بين جميع التصرفات لعله مخالف للسيرة القطعية، فالمراد به «الحسن» كما فسره به في «المجمع».

و على كل حال يظهر منها لزوم رعاية المصلحة، فلا يكفي مجرّد عدم المفسدة، و يظهر منها و من الأخبار أيضا جواز الاتّجار بمال اليتيم للولي أي شخص كان، لإطلاقها و اطلاق بعض الأخبار أو صريحها، و إن كان مخالفا لمقتضى الأصل، و لا مانع منه بعد وجود الدليل.

تنبيهات:

1- كثيرا ما يكون ترك الاتّجار بمال اليتيم سببا لفساده و استهلاكه و مصداقا للإفساد لا سيما إذا كان من النقود الورقية، و حينئذ لا ينبغي الشك في جوازه و لو لم يكن هذه الأخبار بأيدينا، لأنّ الولي لا بدّ أن يكون حافظا لأمواله، و هذا مناف لحفظها.

و إليه يشير ما رواه في التذكرة عن

النبي صلّى اللّه عليه و آله من طريق العامة أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «من ولي يتيما له مال، فليتجر له و لا يتركه يأكله الصدقة» (و المراد منه الزكاة، أي إذا تركه تعلقت به الزكاة و انعدم تدريجا بخلاف ما إذا اتّجر به).

و لكن يشكل العمل بها على مذهب الأصحاب، لعدم وجوب الزكاة في مال الطفل و في استحبابه كلام، و لذا قال في «مفتاح الكرامة» بعد نقل الحديث العامي «أنّه على ضعفه مخالف لما عليه أصحابنا، إذ ليس في نقديه زكاة وجوبا و لا استحبابا».

كما أن ترك المراودة لليتامى و الصغار حذرا من التصرف في أموالهم أو أكل شي ء عندهم، كما شاع عند بعض المتورعين ممن لا خبرة لهم بأحكام الدين ربّما يكون فيه مضرّة لهم، و موجبا لكسر قلوبهم و سوء حالهم، و تشتت بالهم، فالمراودة كثيرا ما تكون من أظهر مصاديق القرب بالأحسن، و ربّما يعاوضه بما هو أكثر بل لو لم يعاوضه بشي ء ربّما كان مصلحة لليتيم، فيجوز من دون عوض، و لكن الأحوط استحبابا جعل عوض في مقابلها.

2- هذا و قد مرّ سابقا أن الأولياء حتى الأب و الجد إنّما نصبوا لحفظ أموال القصّر

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 566

و الغيّب و تدبير امورهم، لا أنّ لهم حق على المال، و قوله صلّى اللّه عليه و آله «أنت و مالك لأبيك» حكم أخلاقي لا حقوقي، فاللازم في جميع الموارد ملاحظة مصلحة المولي عليهم لا غير، حتى أنّ جواز تصرف الأب و الجد منوط بالمصلحة لعدم الدليل على أزيد منه، فتدبّر.

3- إذا دار الأمر بين الصالح و الأصلح، فهل على الولي ملاحظة الأصلح؟ قد يتصور أن ظاهر قوله تعالى: إِلَّا

بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ*

هو وجوب ترجيح الأصلح كما مرّت الإشارة إليه.

و لكن لا بدّ من التفصيل بين مواردها، فان كان الأصلح حاضرا يتوسل إليه بأدنى شي ء أو بجهد يسير، فلا أشكال في وجوب الأخذ به، لأنّ تركه من قبيل الافساد و الاضرار أو بحكمه عرفا، فان كان هناك شخصان يشتريان المتاع، أحدهما يشتريه بعشر، و الثاني بعشرين، أو الذي يشتري بعشر في سوق قريب، و الذي يشتريه بعشرين في سوق آخر أبعد منه بقليل، ففي أمثال المقام لا ينبغي الشك في لزوم ترجيح الأصلح لما عرفت.

و أمّا إذا لم يكن كذلك فليس على الولي الفحص عن جميع الأسواق، حتى يجد من يشتريه بأزيد من الجميع، لما عرفت من استقرار السيرة على خلافه في الأولياء و الوكلاء و الأوصياء و متولي الأوقاف و لما فيه من العسر و الحرج احيانا.

4- مدار كلمات القوم كما عرفت في هذه الأبحاث، هو أموال اليتامى و شبههم، و لكن قد عرفت أنّ موضوع البحث عام يشمل جميع الامور الحسبية و الوظائف التي بيد الحاكم، و الامور التي لا يمكن تعطيلها بحكم الشرع، فاحقاق الحقوق و إجراء الحدود و القضاء و القصاص و الدفاع عن حوزة المسلمين و تجنيد الجنود، و بالجملة الحكومة على الناس، أيضا داخل في مورد البحث، فإذا لم يكن الوصول إلى الفقيه أو كان هناك فقيه غير نافذ الكلمة يجب على عدول المؤمنين القيام بها، و إذا وقع التشاح لا بدّ من الرجوع إلى المرجحات التي أشرنا إليها سابقا، و قلما يحتاج إلى القرعة دفعا للتنازع، لوجود المرجحات الكثيرة المعروفة لدى أهل الخبرة، يحصل بها فصل المنازعة كما لا يخفى.

إلى هنا تم الكلام في مسألة ولاية «عدول المؤمنين»

على أمر الحكومة و غيرها.

حكم بيع المصحف إلى الكافر
اشارة

قال جمع من الأصحاب بحرمة بيع المصاحف مطلقا، بل يباع الجلد و الورق، و عنونها شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المكاسب المحرمة بعد البحث عن الاجرة على الواجبات.

و عنونها أيضا في كتاب البيع تحت عنوان «بيع المصحف من الكافر» و يظهر من القواعد بطلان هذا البيع، بل حكاه في مفتاح الكرامة عن التحرير، و التذكرة، و الإرشاد، و نهاية الأحكام، و مجامع المقاصد، و المسالك و غيرها «1».

و قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المكاسب المحرمة: إنّ المشهور بين العلّامة قدّس سرّه و من تأخر عنه عدم جواز بيع المصحف من الكافر على الوجه الذي يجوز بيعه من المسلم (يعنى بيع الجلد و الأديم إن قلنا بعدم جواز بيع الورق و النقوش).

و لكن حكي عن المبسوط في باب الغنائم أنّ ما يوجد في دار الحرب من المصاحف و الكتب التي ليست بكتب الزندقة و الكفر داخل في الغنيمة فيجوز بيعها.

و لازمه تملك الكفار لها و إلّا كانت داخلة في مجهول المالك.

و قال في «نهج الفقاهة»: المشهور كما قيل عدم جواز نقل المصحف إلى الكافر «2».

أقول: الشهرة غير ثابتة إلّا بين المتأخرين، و على كل حال فقد استدل على الحرمة بامور:

1- أنّه مناف لاحترام المصحف و قد يوجب هتكه.

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 568

2- قد يكون معاونة على الإثم لو علم بأنّه يمس خطوطه.

3- الحديث المشهور: «الإسلام يعلو و لا يعلى عليه» و قد استدل به هنا.

4- فحوى حرمة بيع العبد المسلم من الكافر.

5- قوله تعالى: لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا بناء على أنّه إذا لم يجعل له سبيل على المسلم و المؤمن، فنفي سبيله على أصل الإسلام أي القرآن

واضح.

و الجواب: أمّا عن الأوّل فانّ سلطة الكافر على المصحف على أقسام، فقد يشتريه لتفحص الحق فيه، فلا ريب في عدم الهتك هناك بل لزوم بيعه، و اخرى يشتر به للإحاطة على عقائد المسلمين لأنّه من المحققين في المذاهب العالمية مثلا، و لعله ليس معتقدا بشي ء منها، و ثالثة يشتريه بعنوان أنّه سلعة و كتاب من كتب التي ينتفع نفعا وافيا ببيعه و شرائه، و يحتفظ احتفاظه على سائر الكتب، بل قد يكون القرآن من النفائس من حيث الخط و تاريخ الكتابة و قدمتها، و يحتفظ عليها كسلعة عالية، و يشتريه بأعلى الثمن، و ربّما يودعه بعض المتاحف.

و رابعة يشتري و يهينه (العياذ باللّه) إمّا لأنّه معاند أو لا يبالي بشي ء.

و من الواضح أنّ المنافي للحرمة إنّما هو الصورة الأخيرة فقط لا غير، مضافا إلى أن المسلم أيضا قد يعامل معه هذه المعاملة، فهذا الدليل أعم من وجه بالنسبة إلى المطلوب.

أضف إلى ذلك كله أن كون هذه الحرمة التكليفية منشأ للفساد قابل للمناقشة اللّهم إلّا أن يقال بعدم الانفكاك بينهما عرفا و إن وقع الانفكاك بينهما عقلا.

و منه يظهر الجواب عن الثاني أيضا، لأنّه أيضا أعم من الوجه بالنسبة إلى المقصود، مضافا إلى ما عرفت من الإشكال في وجه الفساد، و أن مجرّد حرمة الاعانة تكليفا لا تلازم الفساد وضعا فتأمل.

و أمّا الثالث، أعني حديث «العلو» مع الغض عن سنده، فالجواب عنه متوقف على ذكر احتمالات الحديث، فانّه أمّا بمعنى العلو الخارجي التكويني، بمعنى أن الكفار لا يعلون على المسلمين، فلا يفوق على الإسلام شي ء، و أمّا بمعنى العلو التشريعي، أي لا يجوز للمسلمين أن يأتوا بشي ء يوجب علو الكفار عليهم، و ثالثة بمعنى عدم

العلو بحسب المنطق انوار الفقاهة، ج 1، ص: 569

و الدليل، و الحجة و البيان، و الاستدلال به يتوقف على كون المعنى المراد هو الثاني، و لكنه بعيد جدّا، بل الأظهر كونه بالمعنى الثالث، أي عدم العلو بحسب الحجة و الدليل، أو المعنى الأوّل، و لكن لا بمعنى عدم هزيمة المسلمين في شي ء من الميادين، بل الإسلام من حيث المجموع يعلو شيئا فشيئا و يتقدم و يزدهر يوما فيوما في أقطار العالم.

و أمّا الرابع فانّ قياس المصحف على العبد قياس مع الفارق، لأنّ العبد بما هو عبد ذليل عند مولاه، موهون عنده، و ليس المصحف بما هو مصحف كذلك، بل هو كسائر الكتب التي يشتريها المشتري لأغراضه، نعم لو أراد إهانته كان شبيها له من هذه الجهة، و لكن هذا خروج عن محل الكلام، و بالجملة سلطة المولى على عبده مهانة الجهة دائما، و ليس كذلك سلطة المشتري على متاع اشتراه.

و منه و ممّا سبق في حديث العلو يظهر الجواب عن الدليل الخامس، فانّ السبيل أيضا يحتمل فيه احتمالات ثلاث: السبيل التكويني الخارجي، و السبيل المنطقي الاستدلالي، و السبيل التشريعي القانوني، و الاستدلال مبني على المعنى الثالث، و هو لا يخلو عن خفاء، بل من المحتمل هو المعنى الأوّل، أو الثاني، كما سبق في نظيره و لا سيما مع ما يظهر من صدر الآية من كونها بصدد بيان الفتح الخارجي العيني (فراجع الآية 141 من سورة النساء) اللّهم إلّا أن يقال إنّها عامة شاملة للجميع فتأمل.

بقي هنا امور:
1- لو قلنا بالحرمة فالظاهر أنّها توجب الفساد أيضا

، و إن كان النهي في المعاملات لا يوجب فسادا بحسب الطبع الاولى، و هو نظير بيع العبد المسلم من الكافر الذي قالوا فيه أيضا بالفساد كما هو المحكي عن المشهور،

و القول بصحته و لزوم اجباره على البيع ضعيف جدّا، و بعيد من جهة التشريع الإلهي، فيقبح في حكمة الحكيم امضاء مثل هذا الاشتراط ثم إلزام البائع على بيعه، و كذلك ما نحن فيه، لا سيما إذا قلنا إنّ من أدلة الحرمة هنا، قياسه على حرمته في العبد الكافر، قياسا بالأولوية.

2- إذا قلنا بالحرمة فالظاهر أنّها لا تختص بالبيع

، بل تشمل جميع انحاء التمليك، و أمّا

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 570

بالنسبة إلى الإرشاد أو الأسباب الحاصلة من قبل كما إذا ارتد و كان عنده القرآن أو العبد المسلم فيمكن القول بثبوته بمقتضى الأدلة، ثم وجوب اشترائه منه، مثل ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أتى بعبد ذمي قد أسلم، فقال: اذهبوا فبيعوه من المسلمين، و ادفعوا ثمنه إلى صاحبه، و لا تقرّوه عنده» «1».

و المسألة لا تخلو عن إشكال.

3- قال في المسالك و الروضة بجريان الحكم في أبعاض القرآن أيضا

، و هو كذلك، بناء على الأدلة السابقة لعدم وجود عنوان «القرآن» فيها، بل المدار على عناوين آخر من الهتك و الاعانة و غيرهما، مضافا إلى ما قد يقال من صدق القرآن على الكل و البعض.

نعم يشكل صدقة كصدق العناوين الآخر على الآيات الموجودة في الكتب الاخرى التي ذكرت للاستشهاد بها لمسائل خاصة، فلو كان هناك كتاب علمي استشهد فيه ببعض آيات القرآن لم يمنع عن بيعه، و إن حكمنا بالحرمة في أصله، و لا يجرى الحكم أيضا في الكتب المنسوخة المحرفة كما هو ظاهر.

4- قال في الجواهر: «ربّما حكي عن ثاني المحققين أن الكتب الحديث و الفقه في حكم المصحف

لكن عن الفاضل أن في كتب الأحاديث النبوية وجهين، بل عن فخر الإسلام جواز بيع الأحاديث النبوية على الكافر» «2».

أقول: المقامات مختلفة في ذلك، فقد يصدق الهتك و الإعانة على الاثم و أمثالهما من العناوين، و قد لا يصدق فالحكم يختلف باختلاف المقامات.

و حكي أيضا عن استاده كاشف الغطاء أنّه يقوى الحاق كتب الحديث و التفسير و المزارات و الخطب و المواعظ و الدعوات و التربة الحسينية و تراب الضرائح المقدسة و رضاض الصناديق الشريفة و ثوب الكعبة، ثم قال فيما حكى عنه،: «و أمّا بيع الأرض الشريفة (مثل أراضي مكة و المدينة و النجف و كربلاء و شبهها) و ما يصنع منها من آجر أو خزف ففيه و جهان».

انوار الفقاهة، ج 1، ص: 571

قلت: أمّا بالنسبة إلى الكتب الدينية فالالحاق- إذا صدق العناوين المذكورة- قريب، و كذا التربة و ثوب الكعبة، و أمّا في مثل بيع الخزف و الآجر من الأراضي المقدسة فصدقها بعيد جدّا، كعدم صدقها على البقول و الفواكه المتخذة منها، و الظاهر أنّه وقع الافراط في المسألة مع غموض الحكم فيها من أصله و أساسه.

5- قد يستثنى منه ما لو اشترط الوقف على المسلم

، أو علم بانتقاله إلى المسلم بمجرّد البيع، كمن يشترى ليبيع على المسلمين فورا، أو قبيل وقوعه في يده بأن كان بيد وكيله المسلم، كل ذلك لعدم صدق العناوين السابقة هنا، و هو حسن لانصراف الأدلة عنه.

و لكن ما في الجواهر من عطف المرتد الفطري على هذه المسألة إذا جوزنا معاملته و كان الوارث مسلما غير تام، لأنّ المرتد الفطري إذا اكتسب بعد ارتداده شيئا لا ينتقل إلى وارثة المسلم و يبقى في يده و تحت ملكه على الأقوى.

6- و قد يستشكل في جواز بيع ما يختص بالمؤمنين من كتب الحديث و شبهه

، من المخالفين، و كذلك التربة الحسينية و شبهها ممّا يختص بهم، و الانصاف أنّ إثبات هذه الامور بالأدلة السابقة في نهاية الإشكال، لعدم شمول «السبيل» و «العلو» لها، و كذلك قياس الأولوية بالنسبة إلى العبد المسلم، نعم لو انطبق عليها عنوان الهتك و شبهه كان الحكم به في محله.

إلى هنا تمّ الكلام في أمهات مسائل البيع إلى آخر أحكام «شرائط المتعاقدين» و يتلوه «الجزء الآتي» أن شاء اللّه في «شرائط العوضين» و ما يرتبط به من مسائل «أحكام الأرضين» على ما هو حقها أحكام بيع الوقف (و نشير بهذه المناسبة إلى امهات مسائل الوقف أيضا إلى غير ذلك من تتمة مباحث البيوع).

كما يأتي بيان أحكام المكاسب المحرمة و ما يتلوها في مجلد آخر فتتم أحكام المكاسب و المتاجر، و ما يلحق بها، في «ثلاث مجلدات» بعون اللّه تعالى.

اللّهم اجعله لنا ذخرا ليوم المعاد، و علما ينتفع به العباد، و ارزقنا ثوابه من فضلك العميم انوار الفقاهة، ج 1، ص: 572

و منّك الجسم و احسانك القديم، بكرمك يا كريم.

و قد وقع الفراغ منه في عشية يوم الأحد 17 رجب المرجب من 1411 من الهجرة النبوية على هاجرها

آلاف السلام و التحية.

قم- الحوزة العلمية ناصر مكارم الشيرازي

كتاب الخمس جزء الثاني)

وجوب الخمس

صرّح المحقق اليزدي- رضوان اللَّه تعالى عليه- في صدر كلامه في كتاب الخمس، بأنّه من الفرائض، وقد جعلها اللَّه تعالى للرسول الأكرم محمد صلى الله عليه و آله وذرّيته عوضاً عن الزكاة إكراماً لهم ... بل من كان مستحلًا لذلك كان من الكافرين.

فهنا مسائل:

اشارة

المسألة الأُولى أصل وجوبه.

المسألة الثانية: كونه عوضاً عن الزكاة.

المسألة الثالثة: كونه من الضروريات التي يوجب إنكارها، الكفر إجمالًا.

ولكن ينبغي بيان تعريف الخمس الذي هو موضوع هذا الحكم.

قال ثاني الشهيدين 0 في المسالك: «الخمس حق مالي يثبت لبني هاشم في مال مخصوص بالأصالة عوضاً عن الزكاة» «1».

واحترز بالحق المالي عن غير المالي كالولاية، وبثبوته لبني هاشم عن الزكاة وشبهها، وبقوله في مال مخصوص عن ملك الإمام عليه السلام لجميع ما في الأرض (على القول بأنّه كسائر الأملاك، ولكن في طول مالكية الأشخاص حتى لا يتناقضان) وبقوله بالأصالة عمّا ثبت لهم بالنذر والوقف.

هذا، ولكن يرد عليه: إنّ هذا تعريف لنصف الخمس لا جميعه، لأنّ سهم اللَّه تعالى انوار الفقاهة، ج 2، ص: 6

خارج وسهم النبي صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام ثابت بمقتضى كونهم ذا ولاية مطلقة إلهيّة، لا بما أنّهم من بني هاشم، ولذا يعطي سهم الإمام عليه السلام لغير بني هاشم، مضافاً إلى أنّ قوله عوضاً عن الزكاة لا يكون إلّاتأكيداً.

فالأولى أن يقال: هو حق مالي يثبّت للَّه ولرسوله والأئمّة الهادين من أهل بيته وبنى هاشم وفي مال مخصوص بالأصالة.

وذكر المحقق الخوانساري قدس سره: إنّ المراد بالحق إن كان ما هو في قبال الحكم ويكون في كثير من الموارد قابلًا للإسقاط فهو مبني على عدم كونه بعنوان الإشاعة أو الكلي في المعين وهو محل الإشكال (لأنّا نقول بملكية ذوي القربى لسهم

من الخمس بنحو الإشاعة أو بنحو الكلّي في البعض، ومن الواضح أنّهما من مصاديق الملك لا الحق) وإن كان المراد منه المال فهو غير مناسب لتوصيفه بالمالية» «1». يعني لا يصح أخذه جنساً في التعريف لأنّ التعريف سيكون هكذا: الخمس مال مالي.

أقول: عنوان الحق قد يقع في مقابل المال، فيكون قسيماً له كما في أبواب تعريف البيع والخيار، ولكن قد يكون بالمعنى الأعم منه ومن المال كما يقال: لي حق في إرث فلان أو في أرض فلان من طريق المشاركة، أو يقال: للفقراء حق في أموال الأغنياء بحيث لا ينافي شركتهم، وحينئذٍ لا مانع من توصيفه بكونه مالياً، لأنّ توصيف العام بقيد خاص لا رائة مصداق معيّن لا محذور فيه، على أنّ الحق إذا أتى به بنحو الإطلاق لا يكون إلّابالمعنى الأعم، وهو بهذا المعنى (كما عرفت) يشمل المال وغيره فيصحّ أخذه جنساً لتعريف الخمس ثم تقييده بأنّه مالي.

فلنرجع إلى المسائل الثلاث:

المسألة الأُولى أصل وجوبه

فيدلّ عليه الأدلة الثلاثة: كتاب اللَّه، والسنّة المتواترة، والإجماع.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 7

أمّا الكتاب:

قال اللَّه تعالى «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ» «1».

دلّ على وجوب الخمس في الغنائم، وأمّا المراد من الغنائم، ماذا؟ فسيأتي الكلام فيه مبسوطاً إن شاء اللَّه. وظاهر الآية مشحون بالتأكيدات: ذكر اسم اللَّه في عداد من له الخمس، وجعل الاعتقاد بالمسّ شرطاً، فإنّه تعالى قال: «... فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ...» ولم يقل:

فإنّ خمسه للَّه «2».

هذا، وقد اتفق المسلمون على وجوب الخمس في الغنائم، وإن خصّها الجمهور بما يؤخذ في الحرب،

كما قال شيخ الطائفة رحمه الله في (الخلاف) في المسألة الأُولى من كتاب الفيى ء وقسمة الغنائم: «كل ما يؤخذ بالسيف قهراً من المشركين يسمى غنيمة، بلا خلاف، وعندنا أنّ ما يستفيده الإنسان من أرباح التجارات والمكاسب والصنائع يدخل أيضاً فيه، وخالف جميع الفقهاء في ذلك»، ثم استدل بإجماع الفرقة على عموم الحكم، وبظهور الآية الشريفة وإطلاقها.

والظاهر أنّهم (العامة والخاصة) اتفقوا أيضاً على وجوب الخمس في الركاز وهو الكنز، كما صرّح في (الخلاف) في المسألة 135 من مسائل الزكاة (فإنّه ذكر مسائل الخمس، تارة، في طي مباحث الزكاة من دون إفراد باب له، وأخرى خصوص الغنائم في كتاب الفيى ء والغنائم).

كما يظهر منهم الإتفاق أيضاً على وجوبه في المعدن وإن اختلفوا في أنواع المعادن من الذهب والفضة وغيرهما، ومن المنطبع وغير المنطبع (كالياقوت والزبرجد والفيروزج).

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 8

أمّا الأخبار:

ما ورد من طرقنا المتواترة كما يظهر لمن راجع كتاب الخمس في الوسائل، فقد حكي فيه زهاء مائة رواية في أبواب مختلفة، ومن طرق أهل الخلاف، لو لم تكن متواترة، فلا أقل من أنّها متظافرة كما لا يخفى على من راجع سنن البيهقي.

وبالجملة، أصل الوجوب بحسب الحكم إجمالًا، فمما لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه، نعم في تفصيله خلاف، سيأتي إن شاء اللَّه.

المسألة الثانية: كونه عوضاً عن الزكاة

أعني كونه عوضاً عن الزكاة التي هي أوساخ أيدي الناس، فقد اشير إليه في روايات كثيرة مروية في كتاب الخمس في الباب الأول من أبواب قسمة الخمس:

منها: ما رواه سليم بن قيس، عن أميرالمؤمنين عليه السلام قال: خطب أميرالمؤمنين عليه السلام وذكر خطبة طويلة يقول فيها: «نحن واللَّه عنى (اللَّه) بذي القربى الذين قرننا اللَّه بنفسه وبرسوله، فقال: فللَّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن

السبيل، فينا خاصة (إلى أن قال) ولم يجعل لنا في سهم الصدقة نصيباً، أكرم اللَّه رسوله وأكرمنا أهل البيت أن يطعمنا من أوساخ الناس، فكذّبوا اللَّه وكذّبوا رسوله وجحدوا كتاب اللَّه الناطق بحقّنا ومنعونا فرضاً فرضه اللَّه لنا» «1».

ومنها: ما رواه الريان بن الصلت، عن الرضا عليه السلام وقال: ... فلما جاءت قصّة الصدقة نزّه نفسه ورسوله ونزّه أهل بيته، فقال: «إنّما الصدقات للفقراء والمساكين- الآية- ثم قال:

فلما نزّه نفسه عن الصدقة ونزّه رسوله ونزّه أهل بيته لا بل حرّم عليهم، لأنّ الصدقة محرّمة على محمد وآله، وهي أوساخ أيدي الناس، لا تحل لهم لأنّهم طهّروا من كل دنس و وسخ» «2».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 9

ومنها: مرفوعة الصّفار عن أحمد بن محمد عن بعض أصحابنا رفع الحديث، قال:

«الخمس من خمسة أشياء ... والذي للرسول هو لذي القربى والحجة في زمانه، فالنصف له خاصّة والنصف لليتامى والمساكين وأبناء السبيل من آل محمد- عليهم السلام- الذين لا تحلّ لهم الصدقة ولا الزكاة، عوّضهم اللَّه مكان ذلك بالخمس» «1».

ومنها: ما رواه صاحب الوسائل في أبواب الزكاة من تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام:

قال: «إنّ اللَّه لا إله إلّاهو، لما حرم علينا الصدقة أبدل لنا الخمس، فالصدقة علينا حرام، والخمس لنا فريضة والكرامة لنا حلال» «2».

(ولعل المراد من الكرامة النذر وأشباهه).

ومنها: صحيحة الفضلاء عنهما عليهما السلام، قالا: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إنّ الصدقة أوساخ أيدي الناس، وإنّ اللَّه قد حرّم عليَّ منها ومن غيرها ما قد حرّمه ...» «3».

ولعل التعبير بكونها أوساخاً مأخوذ من قوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ...» «4»

، كان في الأموال التي بأيدي الناس وسخاً ذاتياً لا تطهر

إلّابازالة الأوساخ منها، فأخذ الصدقات يوجب طهارة للنفوس وللأموال كلها، لكن المأخوذ في الواقع هو نفس الأوساخ ولأجل ذلك لا يحلّ لهم.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 10

وقد مرّ أنّه تعالى فرق في كتابه الكريم بين الخمس، فأضاف الأموال في باب الزكاة والصدقات إلى الناس وقال: «خذ من أموالهم»، ولكن في باب الخمس جعل الشركة بين أرباب الخمس وأصحاب الأموال، فقال: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ...».

إن قلت: التعبير بالأوساخ، يوجب تنفر الطباع عن أخذه هذه العطية الإلهيّة- أعني الزكاة- وهذا مناف لشأنها.

قلت: ولعل النظر تنفير الطباع منها، حتى لا يحسبها الناس أموالًا يتبرك فيها بل تكون عندهم أمراً لا يقصر إلّاعند الضرورة والحاجة الشديدة كي يرغب الناس في السعي لتحصيل معاشهم، وتبقى الزكاة للزمني واليتامى ومن لا يقدر على شي ء «1».

هذا مضافاً إلى أنّ أقرباء رؤساء الحكومات، كثيراً ما يهيمنون على أموال بيت المال وحقوق الناس، ويوجب ذلك التهمة والشين على رئيس الحكومة، وكان اللَّه تعالى أراد تنزيه ساحة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام عن الدنس فحرّم الزكاة مطلقاً على بني هاشم وهم قرباه صلى الله عليه و آله، حتى يظهر من بعض الروايات عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: إنّ أُناساً من بني هاشم أتوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فسألوه أن يستعملهم على صدقات المواشي، وقالوا: يكون لنا هذا السهم الذي جعل اللَّه عزّوجلّ للعاملين عليها فنحن أولى به، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «يا بني عبدالمطلب (هاشم) إنّ الصدقة لا تحلّ لي ولا لكم، ولكنّي قد وعدت الشفاعة» «2».

إن قلت: كيف يكون الخمس عوضاً عن الزكاة، والحال، أنّ آية

الخمس وردت في سورة الأنفال، وفيها إشارات كثيرة إلى غزوة بدر، فهي أول ما نزلت بالمدينة، وأمّا آية الزكاة: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ...» «3»

، فقد نزلت بعد فتح مكة، فهي انوار الفقاهة، ج 2، ص: 11

من آخر ما نزلت عليه؟

قلت: الظاهر أنّ تشريع الزكاة كان من قبل، وقد أُشير إليها في سائر السور القرآنية «1» ولم يكن تشريعها بعد فتح مكة، كيف، وهي من أقدم ما يلزم في تأسيس الحكومة الإسلامية وإصلاح أمر بيت المال، فآية البراءة تأكيد عليها أو نزلت بلحاظ ما فيها من الخصوصيات- كتطهيرالنفوس بالصدقات وصلاة النبي صلى الله عليه و آله، فلا مانع من كون الخمس عوضاً عن الزكاة وتشريعه مقارناً لها.

إن قلت: أليس في جعل هذه الأموال العظيمة لبني هاشم وجعل الزكاة التي قد تكون أقل منها، لجميع فقراء الناس وسائر المصارف، (نوع تبعيض) منافٍ للعدالة والمساواة التي أمرنا اللَّه تعالى بها في الإسلام؟

قلت: كلا، ليس الأمر كذلك، إذا تدبّرنا في هذه الأحكام حق التدبّر، أمّا بالنسبة إلى سهم الإمام عليه السلام (أعني السهام الثلاثة الأُولى) فلأنّه ليس من حقّ الفقراء في شي ء بل حقّ ولاية الأمر بما لها من المصارف الهامة المعلومة لكل أحد «2»، وأمّا السهام الثلاثة الباقية، فهي مختصة بفقراء بني هاشم كما أنّ الزكاة مختصة بغيرهم لا تفضل أحدهما على الآخر، فإنّ الفقير لا يجوز له أن يأخذ أكثر من قوت سنته على المختار- كما سيأتي إن شاء اللَّه- فقراء كل من الطائفتين يأخذون بمقدار قوت سنتهم لا أزيد، وزكاة الأموال- لو أدّاها الناس- كانت وافية بحاجة الفقراء، كما في الأحاديث، حقّ السادة لو عمل بها الناس، وإن زاد على حاجتهم في بعض

الأعيان، كما في الجوامع التي اتسعت فيها الصنائع والتجارات (لا خصوص الزرع والضرع) ولكن الزائد عن حاجتهم يعود إلى بيت المال، كما في الحديث المشهور الذي رواه صاحب الوسائل، في الباب 3 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 1 و 2.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 12

قال في الثاني بعد ذكر تحريم الزكاة على آل محمد صلى الله عليه و آله: «عوّضهم اللَّه مكان ذلك بالخمس فهو يعطيهم على قدر كفايتهم، فإن فضل شي ء فهو له وإن نقص عنهم ولم يكفهم أتمّه لهم من عنده، كما صار له الفضل كذلك يلزمه النقصان».

وهاتان الروايتان وإن كانتا ضعيفتي السند بالارسال والرفع، ولكنّهما موافقتان للقاعدة «1»، كما لا يخفى.

الثالث: كونه من الضروريات التي يوجب إنكارها الكفر إجمالا

وقد وقع الخلاف بين الأعلام من أنّ إنكار الضروري يوجب الكفر مطلقاً أو بشرط أن يرجع إلى إنكار الأُلوهية أو التوحيد أو الرسالة، والحقّ كما أثبتناه في محلّه، هو الثاني، والتفصيل موكول إلى هناك

الفصل الاول: في ما يجب فيه الخمس

1- غنائم دار الحرب

اشارة

المعروف بينهم أنّه يجب في سبعة أشياء:

الأول: الغنائم المأخوذة من الكفّار من أهل الحرب قهراً بالمقاتلة معهم، ولزم البحث في أصل المسألة وأدلتها ثم في خصوصياتها وشرائطها وفروعها الكثيرة ممّا يرجع إلى نوع الغنيمة ومقدارها ونوع الحرب وأقسام الكفّار وما يستثنى من الغنائم وغيرها.

أمّا الأول: فيدلّ عليه بعد الإجماع كتاب اللَّه عزّوجلّ والروايات الآتية، قال اللَّه تعالى:

«وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ ...» «1».

وقد وقع الكلام في المراد من الغنيمة، فالمشهور بين الأصحاب، كما يستفاد من كلمات شيخ الطائفة رحمه الله في (الخلاف)، هو كل ما يستفيده الإنسان (غير ما استثنى) حينما يكون اتفاق المخالفين على اختصاصها بغنائم دار الحرب، والأَولى تفصيل الكلام في هذه المسألة، وإن كان محلها من بعض الجهات، خمس أرباح المكاسب.

قال الشيخ رحمه الله في (الخلاف) في مبحث الفيى ء والغنائم، كل ما يؤخذ بالسيف قهراً من المشركين إلى آخر ما مرّ آنفاً وقال في ذيل كلامه: «وأيضاً قوله تعالى «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ» عامّ في جميع ذلك، فمن خصّصه فعليه الدلالة» «2».

وقال أمين الإسلام الطبرسي- رضوان اللَّه تعالى عليه- في تفسيره ذيل الآية الشريفة، ما نصّه:

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 16

«وقال أصحابنا: إنّ الخمس واجب في كل فائدة تحصل للإنسان من المكاسب وأرباح التجارات وفي الكنوز والمعادن والغوص وغير ذلك ممّا هو مذكور في الكتب، ويمكن أن يستدل على ذلك بهذه الآية، فإنّ في عرف اللغة يطلق على جميع ذلك اسم الغنم

والغنيمة» «1».

وقال النراقي قدس سره في المستند: «إعلم أنّ الأصل وجوب الخمس في جميع ما يستفيده الإنسان ويكتسبه ويغنمه، للآية الشريفة والأخبار، أمّا الآية فقوله سبحانه: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ ...» الآية.

فإنّ الغنيمة في أصل اللغة: الفائدة المكتسبة، صرّح به في مجمع البحرين وغيره من أهل اللغة، وليس هناك ما يخالفه، ويوجب العدول عنه، بل المتحقق ما يثبته ويوافقه من العرف وكلام الفقهاء والأخبار» «2».

وقال صاحب المدارك: «ذكر الشهيد في البيان أنّ هذه السبعة كلها مندرجة في الغنيمة» «3».

وقال صاحب الحدائق بعد نقل كلام الشهيد في البيان ما حاصله: إنّه يدلّ على هذا التعميم روايات عديدة «4».

إلى غير ذلك من كلمات الأصحاب.

نعم، يظهر من كلام صاحب الجواهر قدس سره نوع ترديد في المسألة، حيث قال بعد الاستدلال بالآية الشريفة: «سواء قلنا بكون الغنيمة في الآية والنصوص حقيقة في المفروض (أي غنائم دار الحرب) كما لعلّه الظاهر عرفاً بل و لغة كما قيل أو في الأعم منه ومن غيره ممّا أفاد الناس كما يؤمي إليه إدراج السبعة فيها في البيان، بل هو كصريح جهاد التذكرة وغيره، بل ظاهر كنز العرفان، وعن مجمع البيان نسبته إلى أصحابنا» «5».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 17

وعلى كل حال، فيمكن الاستدلال على العموم مضافاً إلى ما عرفت من شهادة الفقهاء بذلك واستظهارهم من الآية الشريفة، بكلمات أرباب اللغة والمفسّرين والأحاديث الكثيرة وموارد استعمال كلمة الغنيمة.

أمّا الأول: فقد قال الراغب في المفردات: «ثم استعمل في كل مظفور به من جهة العدى وغيرهم»، «1» وهو ظاهر في عمومية معنى الكلمة.

وقال صاحب تاج العروس في شرح القاموس: «الغنم (والغنيمة) الفوز بالشي ء بلا مشقّة»، «2» ودلالته على العموم و اضحة.

وقال ابن منظور في لسان العرب: «والغنم: الفوز

بالشي ء من غير مشقّة ... والغنم والغنيمة والمغنم: الفيى ء ... وفي الحديث الرهن لمن رهنه له غنمه وعليه غرمه، غنمه: زيادته ونماؤه وفاضل قيمته ... وغنم الشي ء غنماً: فاز به» «3».

وقال صاحب مجمع البحرين: «الغنيمة فى الأصل هي الفائدة المكتسبة» «4».

وقال صاحب المقاييس: «الغين والنون والميم أصل صحيح واحد يدلّ على إفادة شي ء لم يُملَك من قبل، ثم يختص به ما أُخذ من مال المشركين بقهرٍ وغلبة» «5» وظاهره ثبوت المعنى العام والخاص له.

والذي يظهر من مجموع كلمات أهل اللغة أنّ لها معنيين: معنى عام، وهو الأصل لهذه الكلمة، الظفر بالشي ء مطلقاً، أو الظفر به بلا مشقّة كثيرة، ومعنى خاص، وهو غنائم الحرب، واستعماله في هذا المعنى يحتاج إلى قرينة بعد كون أصل اللغة عامّاً غير مقيد بالحرب.

وأمّا الثاني: وهو كلمات أرباب التفسير في هذا الباب أيضاً فالطبرسي في مجمع البيان وإن ذكر المعنى الخاص عند تفسير هذه اللغة في بحث اللغات، إلّاأنّه صرّح فيما بعده بالمعنى العام، وأنّه في عرف اللغة يطلق على جميع المنافع اسم الغنم والنغيمة» «6».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 18

وقال صاحب تفسير الميزان: «الغنم والغنيمة، اصابة الفائدة من جهة تجارة أو عمل أو حرب، وتنطبق بحسب مورد نزول الآية على غنيمة الحرب» «1».

أمّا روايات الأصحاب في عمومية معنى الآية، فهي أيضاً كثيرة، نشير إلى ما ظفرنا به منها:

1- صحيحة على بن مهزيار، عن الإمام الجواد عليه السلام وهي رواية طويلة تأتي إن شاء اللَّه بطولها، ومحل الحاجة منها هنا قوله في تفسير قوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ ...»، فالغنائم والفوائد يرحمك اللَّه فهي الغنيمة يغنمها المرء، والفائدة يفيدها، والجائزة من الإنسان للإنسان التي لها خطر، والميراث الذي لا يحتسب

من غير أب ولا ابن ... الخ» «2»

. وهي ظاهرة الدلالة على المقصود.

2- ما رواه صاحبا التهذيب والكافي عن حكيم مؤذن بني عيس (ابن عيسى) قال:

سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن قول اللَّه تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ...». قال عليه السلام: «هى واللَّه الافادة يوماً بيوم إلّاأنّ أبي جعل شيعتنا من ذلك في حلّ ليزكوا» «3».

وحكم مؤذن بني عيس مجهول الحال، ولكن الروايات في المقام متظافرة مضافاً إلى صحة أسناد بعضها.

3- ما في الفقه الرضوي بعد ذكر الآية: «وكل ما أفاده الناس فهو غنيمة، لا فرق بين الكنوز والمعادن والغوص و ...» «4».

4- صحيحة عبداللَّه بن سنان قال: سمعت أباعبداللَّه عليه السلام يقول: «ليس الخمس إلّافي الغنائم خاصّة» «5»

. وبناء على بعض التفسيرات فقد فِسّر الخمس في بعض الكلمات بعمومية معنى الخمس، فيشمل غير الغنائم بالمعنى الأخص، ومعناه على هذا أنّه ليس الخمس إلّا

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 19

في الفوائد، أمّا أصل المال بلا فائدة، فلا.

وهنا تفسيرات أخرى له:

منها: إنّ المراد بالخمس في ظاهر القرآن الكريم، في خصوص غنائم دار الحرب، أو محمول على التقية، أضف إلى ذلك كله أنّ موارد استعمال هذه الكلمة تنادى بأعلى صوتها على أنّ معناه أعم من غنائم الحرب، وكفاك ما ورد من ذلك في روايات المعصومين (النبي الأكرم صلى الله عليه و آله والأئمّة الهادين عليهم السلام).

ومنها: ما عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «إذا أعطيتم الزكاة فلا تنسوا ثوابها أن تقولوا: اللّهم اجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرماً» «1».

ومنها: عنه صلى الله عليه و آله: «المحروم من حرم غنيمة كلب» «2».

ومنها: قول أميرالمؤمنين عليه السلام: «اغتنم المهل وبادر الأجل» «3».

ومنها: قوله عليه السلام: «إنّ

اللَّه سبحانه جعل الطاعة غنيمة الأكياس» «4».

ومنها: قوله عليه السلام: «فواللَّه ما كنزت من دنياكم تبراً ولا ادّخرت من غنائمها وفراً» «5».

ومنها: قوله عليه السلام: «ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم» «6».

ومنها: قوله عليه السلام: «لقاء الاخوان مغنم جسيم وإن قلّوا» «7».

ومنها: قوله عليه السلام: «اغتنموا الدعاء عند أربع: عند قراءة القرآن، وعند الأذان، وعند نزول الغيث، وعند التقاء الصفّين للشهادة» «8».

الظاهر، أنّ المراد من الكلب، الماشية أو الحارس أو شبههما ممّا كان له دور فاعل في حياة العرب خصوصاً في صدر الإسلام.

نعم، هذه الكلمة أو مشتقّاتها وردت في الكتاب العزيز في ستّ آيات، كلّها ناظرة إلى انوار الفقاهة، ج 2، ص: 20

غنائم الحرب- كمصداق لهذا الكلّي- ما عدا مورد واحد وهو قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا ... فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ...» «1»

. ولكنّ مجرّد استعماله في المعنى الخاص لا يدلّ على كونه حقيقة فيه فقط بعد اطّراد استعماله في الأعم منه، وقد عرفت في محلّه أن الإطّراد وكثرة الاستعمال في المعنى، دليل على كونه حقيقة فيه.

إنّ قلت: إنّ آية الغنيمة وردت في عداد آيات الجهاد، فالآية التي قبلها: «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَاتَكُونَ فِتْنَةٌ ...» «2»

، والآيات التي بعدها قوله تعالى: «إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا ...» «3»

.إلى آخر ما ورد في شرح غزوة بدر وسباياها وغنائمها، فهي محفوفة بهذه القرينة الدالة على اختصاصها بغنائم الحرب، فلو سلّمنا كون معنى الغنيمة عامّاً، لكنّها استعملت في مصداق خاص في الآية الشريفة مع القرينة.

قلت: مجرّد ذلك، لا يكون دليلًا على استعمالها في المعنى الخاص، فإنّ المورد لا يمكن أن يكون خارجاً عن الحكم المذكور فيه، لا أنّه دليل على اختصاص الحكم

به، مثلًا لو فرض نزول قوله تعالى: «يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَنْفَالِ ...» «4»

في بعض الغزوات التي أُخذت الغنائم فيها بغير حرب، لا يمنع ذلك من شمولها للأراضي الموات وشبهها، وكذلك لو نزل حكم تحريم المسكر في مورد الخمر، لا يكون دليلًا على تخصيص الحكم بالخمر خاصة، بل يمكن كون الحكم عامّاً، وإن كان المورد خاصاً، وهذا جارٍ في جميع العمومات الواردة في موارد خاصة، كما لا يخفى ..

إن قلت: لو كان المفهوم من الآية حكماً عامّاً، فلماذا لم ينقل- في رواية ولا تاريخ- أخذ الخمس في عصر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من غير غنائم الحرب أو من المعدن والكنز، وهذا من العجائب أن يكون الخمس في جميع ما يستفيده الإنسان ولم يعمل به في عصره صلى الله عليه و آله ولا في أعصار الأئمّة المعصومين عليهم السلام المتقدمين مثل علي بن أبي طالب عليه السلام والحسنين عليهما السلام وبعض آخر (سلام اللَّه عليهم أجمعين).

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 21

قلت: أولًا: هذه معضلة يجب على الجميع حلّها، لا خصوص من قال بعموم الآية، وبعبارة أُخرى كل من قال بوجوب الخمس في أرباح المكاسب، يجب عليه التصدّي لحلّ هذ الإشكال، سواء قال بدلالة الآية عليه، أم لا، فإنّ الإشكال يدور حول أصل وجوب الخمس في الأرباح، لا مدار دلالة الآية عليه.

وثانياً: سيأتي إن شاء اللَّه في محلّه، أنّ الأمر في تحليل الخمس وأخذه، أوتحليل بعضه وأخذ بعضه، بيد وليّ الأمر (رسول اللَّه والأئمّة الهادين من آله) فإذا رأى مصلحة في ترك أخذه في برهة من الزمان أحلّه لجميع الناس أو لبعضهم، وإذا كان الأمر بالعكس، أخذه كلّه.

وتؤيده الروايات الدالّة على تحليلهم الخمس من المساكن والمتاجر

و السبايا «1» لتطيب ولادتهم.

أو تحليل جميع حقوقهم في بعض الأزمنة، مثل ما رواه يونس بن يعقوب، قال: كنت عند أبي عبداللَّه عليه السلام فدخل عليه رجل من القماطين، فقال: جعلت فداك تقع لي في أيدينا الأموال والأرباح وتجارات نعلم أنّ حقّك فيها ثابت، وأنا عن ذلك مقصّرون. فقال أبوعبداللَّه عليه السلام: «ما أنصفناكم إن كلّفناكم ذلك، اليوم» «2».

ولعل الأمر كان كذلك على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فكان الناس في ضيق شديد وحرج أكيد، فأباح صلى الله عليه و آله خمس الأرباح للناس، ثم إنّه قد كثرت بعد ذلك غنائم الحروب وخراجات الأراضي، بحيث استغنى بيت المال عن خمس الأرباح، كما لا يخفى على من راجع التاريخ، فإنّه ينادي بوضوح بوفور الأرزاق ومزيد الأموال وغنى كثير من الناس، بل وصولهم إلى ما فوق حدّ الغنى أو لمصالح أُخرى قد تخفى علينا.

وبالجملة، تأكيد بعض الأئمّة عليهم السلام على أداء خمس الأرباح وعفو بعضهم عليهم السلام عنه، أوضح دليل على ما ذكر، وبه تنحل عقدة الإشكال.

وسيوافيك مزيد توضيح له- إن شاء اللَّه- عند البحث عن خمس الأرباح ومسألة التحليل، فانتظر.

هذا تمام الكلام في دلالة الآية الشريفة على المطلوب.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 22

ويدلّ على وجوبه في الغنائم أيضاً، روايات كثيرة أوردها صاحب الوسائل في الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، فقد أورد فيها 15 حديثاً لا تدلّ على المراد منها إلّا الأحاديث 3 و 13 و 14 وباقي الأحاديث تدلّ عليه ولا حاجة إلى سردها جميعاً لوضوحها.

نعم، بعضها تصرّح بأنّ الخمس ليس إلّافي الغنائم، مثل صحيحة عبداللَّه بن سنان قال:

سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: «ليس الخمس إلّافي الغنائم خاصة» «1».

ومرسلة العياشي،

عن سماعة، عن الصادق عليه السلام وعن أبي الحسن عليه السلام قال: سألت أحدهما عن الخمس؟ فقال: «ليس الخمس إلّافي الغنائم» «2».

ولكن في بعضها الآخر حصره في خمسة أشياء، مثل ما رواه حماد بن عيسى قال: رواه لي بعض أصحابنا ذكره عن العبد الصالح أبي الحسن الأول عليه السلام، قال: «الخمس من خمسة أشياء: من الغنائم ومن الغوص والكنوز ومن المعادن والملاحة» «3»

. وهو متحد السند والمضمون مع الحديث 4 من الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس.

وما رواه ابن أبي عمير قال: «إنّ الخمس على خمسة أشياء: الكنوز، والمعادن، والغوص، والغنيمة، ونسي ابن أبي عمير الخامسة» «4».

والظاهر أنّ ما نسيه هو (الملاحة) والجمع بينه وبين روايات الأربعة فإنّه ظاهر، الملاحة، وهي الأرض المملحة في الغنائم نوع من المعدن، وكذا الجمع بينهما وبين ما دلّ على أنّ الخمس منحصر في الغنائم، فإنّ الغنيمة حيث ما عرفت معنىً عامّاً.

إنّ قلت: كيف تتلائم الأخبار التي عدّت ما يجب فيه الخمس خمسة أشياء، مع التي عدّت سبعة، والحال، أنّها لم تكتف بمجرّد ذكر العدد بل عدّ الأشياء بأسمائها، فيشكل الإلتزام بالتخصيص.

قلت: قد عرفت أنّ للغنيمة معنى عامّاً يشمل جميع ما يجب فيه الخمس، وعليه فذكر بعض الموارد الواجب فيها الخمس بعدها كالغوص والكنز وغيرهما إنّما هو من باب ذكر

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 23

الخاص بعد العام، فلعلها في الأخبار التي عدّت ما يجب فيه الخمس خمسة بمعناها العام أيضاً.

على أنّ وجوب الخمس في المال المختلط بالحرام لخارج عن دائرة وجوبه في سائر الأشياء كما سيأتي، فإنّه مصالحة من الشارع مع المالك للامتنان عليه وتصفية أمواله من الحرام لكي يجوز له التصرف فيه بعد التخميس، ولذلك يصرف في الفقراء

مطلقاً سواء كانوا من بني هاشم، أم لا.

وأمّا الأرض التي اشتراها الذمّي من مسلم، فسيأتي أنّ الخمس فيها من باب الخراج وأنّه في الحقيقة عشران. ومع خروج هذين الموردين عمّا يجب فيه الخمس لا يبقى إلّا أربعة أو خمسة بأضافة الملاحة، فتدبر.

فالمسألة، بحمد اللَّه، من الواضحات، إنّما الكلام في شرائطها وحدودها وفروعها وما يلحق بها، وهي أُمور:

الأمر الأوّل: أن تكون الغنيمة مأخوذة من أهل الحرب بالمقاتلة معهم، فهل يشمل ما أُخذ منهم بغير القهر والغلبة؟

قال صاحب الجواهر رحمه الله: «منها تقييد الغنيمة الواجب فيها الخمس بإذن الإمام لإخراج المأخوذ بغير إذنه، و بالقهر والغلبة لإخراج المأخوذ بإذنه بغيرهما كالسرقة والغيلة والدعوى الباطلة والربا ونحوها، إذ الأول للإمام عليه السلام والثاني لآخذه» «1».

لكن حكي عن الروضة أنّ هذا التقييد للاخراج عن اسم الغنيمة بالمعنى المشهور، نعم، هو غنيمة بقول مطلق فيصح إخراجها منه.

وقال صاحب الحدائق رحمه الله: إنّ في المسألة قولين، أحدهما التقييد والآخر الإطلاق «2».

واستدل لعدم الوجوب في غيره مضافاً إلى الأصل بقوله في مرفوعة الصفار عن أحمد بن محمّد، قال: «حدّثنا بعض أصحابنا رفع الحديث قال: الخمس من خمسة أشياء- إلى انوار الفقاهة، ج 2، ص: 24

أن قال- والمغنم الذي يقاتل عليه» «1»

. فإنّ ظاهر القيد كونه في مقام الإحتراز، ولكن سند الرواية ضعيف بالارسال والقطع.

وكذا قوله في رواية أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام: «كلّ شي ء قوتل عليه على شهادة أن لا إله إلّااللَّه وأنّ محمّداً رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فإنّ لنا خمسه ...» «2».

اللّهمّ إلّاأن يقال: هذه الرواية في مقام اثبات الغنيمة في هذا المورد، واثبات الشي ء لا ينفي ما عداه ولا مفهومه، فالعمدة هي الأولى التي قد عرفت

ضعف سندها.

إن قلت: هذه الأشياء ممّا يتعلق به الخمس سواء كانت داخلة تحت عنوان الغنيمة بالمعنى الأخص، أو مطلق الفائدة المكتسبة وهي الغنيمة بالمعنى الأعم، فأيّ فائدة في هذا النزاع؟

قلنا: الفرق بينهما ظاهر، فإن الأوّل لا يعتبر فيها الزيادة عن مؤونة السنة في حين يعتبر ذلك في الثاني، فهذا فارق لهم، مضافاً إلى ما قد يقال من اعتبار النصاب في الغنيمة بالمعنى الخاص كما سنشير إليه إن شاء اللَّه عن قريب (وإن كان ضعيفاً).

والإنصاف، أنّ دخول ما يؤخذ منهم بالسرقة والغيلة والدعوى الباطلة وشبهها في عنوان الغنيمة بالمعنى الخاصّ بعيد جدّاً، وروايات هذا الباب منصرفة عنها، فالواجب إخراج خمسها بعد زيادتها عن مؤونة سنته، وسيأتي لذلك زيادة توضيح عند بيان حكم أخذ مال الناصب.

نعم، إذا لم يتحقق الحرب وكان الاستعداد له موجوداً وقد حضر المقاتلون في الميدان، قد يقال بكفايته في صدق الغنيمة بالمعنى الخاص المستفاد حكمه من الروايات الخاصة وبعض الروايات السابقة، وإن كان ظاهراً في فعلية المقاتلة، ولكن قد عرفت أنّها ضعيفة السند، والحق أنّه تصدق عنوان الغنيمة بالمعنى الخاص عليه.

نعم، في رواية معاوية بن وهب، ما ينافيه، قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: السرية يبعثها الإمام فيصيبون غنائم كيف يقسّم؟ قال عليه السلام: «إن قاتلوا عليها مع أمير أمره الإمام عليهم انوار الفقاهة، ج 2، ص: 25

أخرج منها الخمس للَّه تعالى وللرسول وقسّم بينهم ثلاثة أخماس وإن لم يكونوا قاتلوا عليها المشركين كان كلّ ما غنموا للإمام يجعله حيث أحبّ» «1».

وهو كالصريح في أنّه إذا لم يكن هناك قتال كانت الغنيمة جميعها للإمام عليه السلام، ولعلّه لذلك أورده صاحب الوسائل في أبواب الأنفال، ولازمه عدم كفاية مجرّد التهيؤ للقتال، بل تعتبر فعلية القتال.

وسند الرواية

صحيح لأنّ ابن محبوب وهو الحسن بن محبوب، من أجلّاء أصحاب الكاظم والرضا عليهما السلام وهو من أصحاب الإجماع، وكان يعدّ من الأركان، وروى عن ستين رجل من أصحاب أبي عبداللَّه عليه السلام.

ومعاوية بن وهب ثقة صحيح العقيدة حسن الطريقة كما ذكره النجاشي والعلّامة، وكان من أصحاب الصادق وأبي الحسن الكاظم عليهما السلام وليس في سندها من يمكن القدح فيه، وجلالة إبراهيم بن هاشم معلومة أيضاً، ومع ذلك لا أدري لِمَ عبّر عنها في المستمسك (بالمصححة) مِمّا يدلّ على نوع ترديد منه في ذلك، فتحصّل أنّ التهيؤ للمقاتلة غير كاف ونرجع به إلى ما ذكرناه في التعليقة على العروة الوثقى، ولكن قد جعل فيها للمقاتلين ثلاثة أخماس، وهو ممّا لم يقل به أحد، فإنّ لهم أربعة أخماس الغنائم، كما يدلّ عليه قوله تعالى:

«فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبى فجعل خمس الغنائم للَّه والرسول، الخ، والباقي للمقاتلين.

ولا يخفى أنّه يشكل الأخذ ببعض الرواية وترك بعضها الآخر، لجريان سيرة العقلاء على التشكيك في تمام السند الذي وجد ضعف في بعضه، فتأمل، فقد قال معلق الوسائل عند ذكر الحديث: «والصحيح كما في المصدر وكما يأتي هناك أربعة أخماس» ولكن مع ذلك كله لا يمكن الركون إليه كما سيأتي تفصيله إن شاء اللَّه، فانتظر.

الأمر الثاني: أن يكون القتال بإذن الإمام، فلو لم يكن بإذنه كان كلّه للإمام عليه السلام. قال انوار الفقاهة، ج 2، ص: 26

الشيخ رحمه الله في (الخلاف): «إذا دخل قوم دار الحرب وقاتلوا بغير إذن الإمام فغنموا، كان ذلك للإمام عليه السلام خاصة، وخالف جميع الفقهاء ذلك، دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم» «1».

وقال العلّامة رحمه الله في المنتهى: «إذا قاتل قوم من غير إذن الإمام ففتحوا، كانت الغنيمة

للإمام، ذهب إليه الشيخان والسيّد المرتضى وأتباعهم، وقال الشافعي: حكمها، حكم الغنيمة مع إذن الإمام، لكنّه مكروه، وقال أبو حنيفة: هي لهم ولا خمس ولا حمد ثلاثة أقوال: كقول الشافعي وأبي حنفية وثالثها لا شي ء لهم فيه» «2».

وادعى صاحب المستند رحمه الله: «الشهرة العظيمة المحقّقة والمحكية في كتب الجماعة، و فى الروضة أنّه لا قائل بخلافها وعن الخلاف والسرائر دعوى الإجماع عليه» «3».

ولكن مع ذلك حكى عن المدارك كونها كالغنيمة المأخوذة بإذن الإمام وقواه في المنتهى وتردد في النافع.

واستدلّ لهذا القول بامور:

الأول: وإطلاق الآية الكريمة وسائر إطلاقات أدلة الخمس في الغنيمة الواردة في روايات هذا الباب، فإنّها دالة على عموم الحكم فيشمل صورة عدم الإذن أيضاً وهو جيد لولا الدليل على التقييد، كما سيأتي إن شاء اللَّه.

الثاني: واستدلّ له أيضاً بصحيحة الحلبي أو حسنته عن أبي عبداللَّه عليه السلام في الرجل من أصحابنا يكون في لوائهم ويكون معهم فيصيب غنيمة، قال: «يؤدي خمساً ويطيب له» «4».

وكونه مصداقاً لعدم إذنهم واضح، ما ذكره صاحب الجواهر من المحامل: من احتمال التقية أو تحليل الإمام عليه السلام له خاصة أو كون الحرب بإذنهم لأنّ أصحابه عليه السلام لم يصدروا غالباً إلّابإذن منهم، كلّها مخالفة لظاهر الحديث أو إطلاقه.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 27

نعم، يمكن أن يقال: إنّ معاملة الأراضي الخراجية مع الأراضي التي أخذت في الفتوحات الإسلامية مع أنّه لولا الإذن كانت كلّها للإمام، وكذا التصريح بتحليل خمسهم من السبايا حتّى تطيب ولادتهم، كلّها دليل على إمضائهم لهذه الفتوحات كلّها، لكونها في طريق إعلاء كلمة الحقّ، وإن كانت على أيدي الغاصبين من الأمويين وغيرهم ولا يزال اللَّه يؤيد هذا الدين برجال لا خَلاق لهم.

ففي التفسير المنسوب إلى مولانا العسكري عليه السلام

عن آبائه عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «قد علمت يا رسول اللَّه أنّه سيكون بعدك ملك غضوض وجبر فيستولي على خمسي من السبي والغنائم، ويبيعونه فلا يحل لمشتريه، لأنّ نصيبي فيه، فقد وهبت نصيبي منه لكلّ من ملك شيئاً من ذلك من شيعتي لتحلّ لهم منافعهم من مأكل ومشرب، ولتطيب مواليدهم ولا يكون أولادهم أولاد حرام ...» «1»

وهو كالصريح في أنّه ليس لهم من هذه إلّاالخمس، ولا يصحّ إلّاعلى ما ذكرنا، أي، إذنهم للمقاتلين، وإلّا كانت جميعها لهم.

الثالث: واستدلّ له أيضاً بصحيحة علي بن مهزيار، الطويلة وفيها في عداد ما يجب فيه الخمس «ومثل عدوّ يصطلم فيؤخذ ماله» «2».

ولكنّها أجنبية عمّا نحن بصدده، لأنّ الكلام في ما يؤخذ بالقهر والغلبة لا بإذنهم عليهم السلام إلّا أن يقال إنّها تدلّ على المقصود بطريق أولى، فتأمل.

ولكن في مقابل هذا كلّه مرسلة العباس الورّاق عن رجل سمّاه، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال:

«إذ غزى قوم بغير إذن الإمام فغنموا، كانت الغنيمة كلّها للإمام، وإذا غزوا بأمر الإمام فغنموا، كان للإمام الخمس» «3».

ودلالتها صريحة على مذهب المشهور، وهو كون الخمس مشروطاً بإذن الإمام في الحرب، وإلّا كان جميعه من الأنفال وله عليه السلام.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 28

أمّا سندها ضعيف بالارسال، ولكن العباس، ثقة وهو العباس بن موسى، وثقه النجاشي والعلّامة، والرواية مجبورة بعمل الأصحاب، كما لا يخفى، وقد قال الشهيد رحمه الله في المسالك:

«وضعفها منجبر بالشهرة» ومن هنا يظهر أنّ الإنجبار بالشهرة كان قبل زمان الشيخ الأنصاري رحمه الله خلافاً لما قد يتوهّم من كون أكثر الإنجبارات بعد زمان الشيخ.

هذا مضافاً إلى ما أفاده صاحب الحدائق رحمه الله حيث ذكر في

أبواب الأنفال (لا في باب خمس الغنيمة) ما نصّه: «والظاهر أنّ منشأ هذا الخلاف إنّما هو من حيث إنهم لم يقفوا على دليل لهذا الحكم إلّامرسلة العباس الورّاق المتقدّمة وهي ضعيفة باصطلاحهم، سيّما مع معارضتها بظاهر حسنة الحلبي المذكورة، وأنت خبير بأنّه قد تقدّم في صحيحة معاوية بن وهب أو حسنته بإبراهيم بن هاشم (3/ 5 من الأنفال) ما يدلّ على ما دلّت عليه رواية الورّاق، وحينئذٍ، فلا يتمّ لهم الطعن في دليل القول المشهور بضعف السند، بناءً على أنّه لا دليل عليه إلّاالرواية التي ذكروها» «1» انتهى.

وكأنّه رحمه الله استدلّ بصدرها الدالّ على اعتبار قيدين، المقاتلة وإذن الإمام، حيث قال: «إن قاتلوا عليها مع أمير أمره الإمام عليهم أخرج منها الخمس للَّه وللرسول».

نعم، المذكور في ذيلها خصوص مفهوم القيد الأوّل وهو عدم المقاتلة، وأنّه حينئذٍ، كان الجميع للإمام، ولكن ظهور الصدر في المفهوم ممّا لا ينكر، وعدم ذكره في ذيل الرواية غير مانع.

ولكن الذي يوهِّن الرواية أنّ ظاهر قوله: «أخرج منها الخمس للَّه وللرّسول وقسم بينهم ثلاثة أخماس» كون خمس للَّه وخمس للرسول وثلاثة أخماس للمقاتلين، هذا شي ء لم يعرف قائل به مطلقاً بل هذا مخالف صريح لآية الخمس، فإنّها تدلّ على وجوب خمس واحد للَّه ولرسوله، الخ، لا خمسان، كما في هذه الرواية، فلا محيص إلّامن طرح الرواية وطرطها، لمخالفتها لكتاب اللَّه وللإجماع.

والقول إنّ عدم العمل ببعضها، لا ينافي العمل بالباقي، مدفوع بما عرفت سابقاً من أنّ عمدة دليل حجية خبر الواحد هو بناء العقلاء وليس بناؤهم على تقطيع أمثال هذه الروايات انوار الفقاهة، ج 2، ص: 29

والعمل ببعضها وترك بعضها الآخر، بل إنّهم إذا وجدوا في رواية أو سند وقفاً أو وصية ممّا هو باطل قطعاً، سرى

الشك إليهم في باقيها، وتوقفوا عن العمل بها.

إن قلت: الموجود في نسخة الكافي الذي هو المصدر للحديث، هو أربعة أخماس، فالخطأ إنّما هو في نسخة الوسائل، ولعلّه وقع من الناسخ.

قلت: كلّا، أكثر نسخ الكافي (على ما حكاه محققه في بعض حواشيه) هو ثلاثة أخماس وكذا النسخة الموجودة عند المجلسي رحمه الله الذي بنى عليها شرحه المعروف ب (مرآة العقول)، وكذا النسخة الموجودة عند الفيض الكاشاني التي بنى عليها كتاب (الوافي)، وكذا النسخة الموجودة عند صاحب الجواهر كما يظهر من كلامه في الجزء 16، الصفحة 127، وهكذا النسخة الموجودة عند صاحب المستند كما يظهر من قوله فيه الجزء 2 الصفحة 195، نعم عند صاحب الوسائل في أبواب الجهاد «1»، هو أربعة أخماس، ولكنّه حكاه في أبواب الخمس ثلاثة أخماس، وصاحب الحدائق حكاه أربعة «2».

وكذا سيّدنا الحكيم رحمه الله في محل الكلام من المستمسك.

والحاصل: أنّ أكثر النسخ القديمة كانت بعنوان ثلاثة أخماس كما يظهر من مجموع كلماتهم، ويؤيده عدم استدلال المشهور بها في المقام مع ظهورها في المطلوب.

سلّمنا أنّ النسخ مختلفة لا يفضل إحداها على الاخرى، ولكن هذا كافٍ في إسقاطها عن جواز الاستدلال بها.

إن قلت: قوله: «أخرج منها الخمس للَّه وللرّسول» في صدر الرواية دليل على إخراج خمس واحد منها، فيبقى أربعة أخماس، فهذا قرينة على نسخة الأربعة.

قلت: يمكن أن يكون المراد من هذه العبارة إخراج خمس للَّه وإخراج خمس للرّسول، بقرينة الذيل، ولو سلّم ظهور هذه العبارة في صدرها في الجملة، لكن يمنعه صراحة نسخ الثلاثة في ذيلها.

إن قلت: إنّ قوله عليه السلام: «إن قاتلوا عليها مع أمير أمّره الإمام» في صدر الرواية ليس في انوار الفقاهة، ج 2، ص: 30

مقام الاحتراز عن صورة عدم إذن الإمام، بل

هذه العبارة بملاحظة كون القيد مأخوذاً في كلام الراوي حيث قال: «السرية يبعثها الإمام».

قلت: هذا على عكس المطلوب، أدلّ، لأنّ إذن الإمام لو لم يكن شرطاً في الحكم لم يحتج إلى تكراره في قوله «مع أمير أمّره الإمام» بل كان عليه تركه، وهذا مثل أن يسأل الراوي عن دخوله في البلد عن السفر قبل الظهر في شهر رمضان، فقال عليه السلام في الجواب: «إن كنت دخلت البلد قبل الظهر فصم»، كان هذا القيد ظاهراً في الاحتراز.

ولذا قال المحقّق الهمداني رحمه الله في بعض كلماته في المقام: «لكن ذكر هذا القيد في الجواب مع كونه مفروضاً في السؤال مشعر بأنّ له دخلًا في الاستحقاق لو لم نقل بكونه ظاهراً في ذلك» «1».

إن قلت: فلماذا لم يذكر مفهوم هذا القيد في ذيل الرواية واكتفى بذكر مفهوم القيد الثاني وهو المقاتلة فقط؟

قلت: كأنّه أوكله إلى وضوحه، فإنّه لا يحتاج إلى ذكر مفهوم كلّ قيد قيد، ويكفي ذكر بعضها ممّا هو محلّ الحاجة كما في المقام.

فتحصّل من جميع ذلك: أنّ الأقوى ما هو المشهور من أنّ الغنيمة لو لم تكن بإذن الإمام كانت جميعها له، وتدلّ عليه مرسلة العباس الورّاق المنجبرة بعمل الأصحاب ولعلّ السرّ فيه أنّه مجازاة لهم حتّى لا يقاتلوا بغير إذنه حتّى لا يكون الطمع في الغنائم سبباً لإثارة الحروب بغير إذن وليّ أمر المسلمين، ولولا ذلك قام بعض الناس على حرب الكفّار طمعاً في غنائمهم، لا أقول، هذا دليل الحكم، بل أقول: لعلّ الحكمة كانت كذلك.

هذا مضافاً إلى ما في دعوى الخصم من الضعف والفشل.

أمّا العمومات فقد عرفت إمكان تقييدها بما عرفت من دليل المشهور، وأمّا رواية الحلبي فقد عرفت ضعف دلالتها على المطلوب، بل

سندها أيضاً ضعيف فإنّ السعد وهو سعد بن عبداللَّه وإن كان ثقة من المشائخ إلّاأنّ المروي عنه وهو علي بن إسماعيل المعروف بعلي بن السندي، محلّ إشكال، لأنا لم نر له توثيقاً في الرجال ما عدا توثيق نصر بن الصباح انوار الفقاهة، ج 2، ص: 31

عنه، ولكن النصر، أيضاً مجهول الحال، بل وردت في ذمّه بعض كلمات أهل الرجال أنّه كان غالياً. نعم كون علي بن إسماعيل من أصحاب الرضا عليه السلام وكثير الرواية مع نقل المشائخ عنه لعلّه يجعله من الممدوحين، ولكن هذا المقدار غير كافٍ في صحّة سند الرواية كما هو ظاهر.

الأمر الثالث: هل الخمس يختص بالمنقول وما حواه العسكر أو يشمل غير المنقول وما لم يحوه، من الأراضي والدور وغيرهما؟ صرّح صاحب العروة بعدم الفرق ولكن أشكل عليه كثير من المحشّين بعدم ثبوت الخمس في الأراضي أو الترديد فيه.

والمشهور، عدم الفرق بينهما، قال الشيخ رحمه الله في الخلاف: «ما لا ينقل ولا يحول من الدور والعقارات والأرضين عندنا أنّ فيه الخمس فيكون لأهله والباقي لجميع المسلمين من حضر القتال ومن لم يحضر، فيصرف إنتفاعه إلى مصالحهم؛ وعند الشافعي أنّ حكمه حكم ما ينقل ويحول، خمسه لأهل الخمس والباقي للمقاتلة الغانمين ... وذهب قوم إلى أنّ الإمام مخيّر فيه بين شيئين، بين أن يقسّمه على الغانمين وبين أن يقفه على المسلمين ...

وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنّ الإمام مخيّر فيه بين ثلاثة أشياء: بين أن يقسّمه على الغانمين وبين أن يقفه على المسلمين وبين أن يقرّ أهلها عليها ويضرب عليها الجزية باسم الخراج ... وذهب مالك إلى أنّ ذلك يصير وقفاً على المسلمين بنفس الاستغنام والأخذ ...

دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم» «1».

وظاهر هذا الكلام إجماع

الشيعة على تعلق الخمس بالأرضين أيضاً، كإجماعهم على كون الباقي ملكاً لجميع المسلمين (ملكاً شبه الوقف)، ولكن اختلف المخالفون، فهم بين قائل بمذهب الشيعة وبين قائل بالتخيير بين اثنين أو ثلاثة أو اختصاصها بالمسلمين من غير خمس.

وقال الشيخ رحمه الله في النهاية: «كل ما يغنمه المسلمون في دار الحرب من جميع الأصناف ... ممّا حواه العسكر يخرج منه الخمس، وأربعة أخماس ما يبقى يقسّم بين انوار الفقاهة، ج 2، ص: 32

المقاتلة وما لم يحوه العسكر من الأرضين والعقارات وغيرها من أنواع الغنائم، يخرج منه الخمس، والباقي تكون للمسلمين قاطبة» «1».

وقال النراقي رحمه الله في المستند: «صريح جماعة عدم الفرق في غنائم دار الحرب بين المنقول وغيره ويظهر من بعض المتأخرين التخصيص بالأوّل» «2».

وظاهر كلام صاحب الجواهر في كتاب الجهاد عدم الخمس فيها وحكى فيها عن بعض حواشي القواعد، التفصيل بين حال ظهور الإمام عليه السلام فيخرج منها الخمس، وحال الغيبة، فلا يخرج، ولعلّه ناظر إلى نصوص التحليل «3».

وممّن صرّح بعدم الخمس فيها أيضاً صاحب الحدائق، وقال: «لم يقف على مستند يدلّ على ما هو ظاهر الأصحاب من وجوب الخمس فيها إلّاظاهر الآية التي يمكن تخصيصها بالأخبار» «4».

فالمتحصّل ممّا ذكرنا أنّ الأقوال في المسألة عند الأصحاب ثلاثة:

1- تعلق الخمس بها، وهو المشهور، لا سيّما بين القدماء.

2- عدم تعلق الخمس، وهو ظاهر جمع ممّن تأخر كصاحب الجواهر والحدائق، وجمع من محشّي العروة.

3- التفصيل بين زمن الحضور والغيبة، فيجب في خصوص الأوّل وهو المحكى عن بعض حواشي القواعد.

والأقوى، هو القول بالعدم، فإنّ غاية ما استدل به على مذهب المشهور، امور:

1- أهمها إطلاق الآية الشريفة، فإنّ الغنيمة مطلقة تشمل المنقول وغيره ولا وجه لتخصيصها بالمنقول.

وفيه: أنّ ظاهرها تعلق الخمس بما

يكون أربعة أخماسه الباقية للمقاتلين، فإنّ قوله تعالى: «غنمتم» ظاهر في كون الغنيمة للمقاتلين الذين اكتسبوها، وأنّه يخرج منها الخمس انوار الفقاهة، ج 2، ص: 33

ويبقى الباقي لهم، هذا مثل أن يقال إذا اكتسبت ربحاً أدّ خمسه إلى الإمام، يعني يكون الباقي لك، وهذا أمر ظاهر، ومن المعلوم أنّ الأراضي لو قلنا بتعلق الخمس بها لا يكون باقيها للمقاتلين بالإجماع بل لجميع المسلمين، وهذه القرينة الخارجية سبب انصراف ظهور الآية واختصاصها بالمنقول.

وقد ظفرت بعد ذلك بتعبير جيد في مستند العروة في المقام، قال: «الغنيمة هي الفائدة العائدة للغانم بما هو غانم و عليه فتختص بما يقسّم بين المقاتلين وهي الغنائم المنقولة» «1».

ويؤيده أنّ المتداول بين الناس قبل الإسلام عدم تقسيم الأراضي المفتوحة بين المقاتلين، فنزلت الآية في جو كان المسلّم عندهم ذلك، وهذا يوجب انصراف الغنيمة المذكورة في الآية عن غير المنقول.

هذا، وذكر بعض الفقهاء مثل صاحب الحدائق بعد قبول ظهور الآية في العموم، أنّه يمكن تخصيصها بالأخبار الدالة على انحصار الخمس فيما ينقل ويحول «2».

وأورد عليه المحقّق الخوانساري رحمه الله بأنّ النسبة بينهما عموم من وجه ومورد الافتراق من ناحية الأخبار المتعرضة لأحكام الأراضي الخراجية هو الأراضي التي فتحت صلحاً «3».

(ومادة الاجتماع الأراضي المفتوحة عنوة).

هذا، والظاهر أنّ أكثر الأراضي الخراجية كانت من المفتوحة عنوة بحيث لا يمكن إخراجها عن عموم الأخبار الدالّة على حكمها للزوم تخصيص الأكثر، فاللازم معاملة العموم والخصوص معهما وتخصيص عموم الآية بهذه الأخبار الظاهرة في عدم الخمس، وبعبارة أُخرى بما أنّ أكثر الأراضي الخراجية كانت من المفتوحة عنوة، لو أخرجناها من تحت الأخبار وأدخلناها تحت عموم الآية ستبقى الأخبار مشتملة على أراضي الصلح فقط، فيلزم تخصيص الأكثر القبيح، وعليه، فالقاعدة

في أمثال المقام جعل النسبة عموماً مطلقاً لا من وجه.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 34

2- ما رواه أبو حمزة عن الباقر عليه السلام قال: «إنّ اللَّه جعل لنا أهل البيت سهاماً ثلاثة في جميع الفيى ء .... واللَّه يا أبا حمزة ما من أرض تفتح ولا خمس يخمس فيضرب على شي ء منه إلّاكان حراماً على من يصيبه فرجاً كان أو مالًا» «1».

3- ما رواه عمر بن يزيد عن أبي سيار مسمع بن عبدالملك (في حديث) قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: إنّي كنت وليت الغوص فأصبت أربعمأة ألف درهم، وقد جئت بخمسها ثمانين ألف درهم، وكرهت أن أحبسها عنك، وأعرض لها وهي حقّك الذي جعل اللَّه تعالى لك في أموالنا. فقال: «وما لنا من الأرض وما أخرج اللَّه منها إلّاالخمس، يا أبا سيّار! الأرض كلّها لنا، فما أخرج اللَّه منها من شي ء فهو لنا ...» «2».

4- إطلاق رواية أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: «كلّ شي ء قوتل عليه على شهادة أن لا إله إلّااللَّه، وأنّ محمّداً رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فإنّ لنا خمسه ولا يحلّ لأحد أن يشتري من الخمس شيئاً حتّى يصل إلينا حقّنا» «3».

5- إطلاق رواية أحمد بن محمّد قال: حدّثنا بعض أصحابنا رفع الحديث قال:

«الخمس من خمسة أشياء: من الكنوز والمعادن والغوص والمغنم الذي يقاتل عليه، ولم يحفظ الخامس» «4».

استدل بهذه الروايات الأربعة، المحقّق اليزدي رحمه الله في بعض حواشيه «5».

والعجب من مستند العروة حيث ذكر في وجه كون النسبة عموماً من وجه، أنّ نصوص الخراج تختص بغير المنقول، وتعمّ مقدار الخمس وغيره «6» مع أنّ النسبة لابدّ أن تلاحظ بين الموضوعين لا بين الحكمين، فلابدّ أن يكون مورد

الأخبار- أي الأراضي- أعم من وجه من مورد الآية وهو الغنائم، وهذا لا يكون إلّابإضافة أراضي الصلح إليها، وأمّا تعلق الخمس انوار الفقاهة، ج 2، ص: 35

وعدمه فهو نفس الحكم في الدليلين، فتدبّر فإنّه دقيق.

أقول: أمّا الرواية الاولى، فلا دلالة لها على المقصود، لاحتمال كونها ناظرة إلى خصوص المنقول من الغنائم بقرينة ذيلها وهو التصريح بالفرج (أي السبايا) والمال.

فالمراد من قوله «ما من أرض تفتح» الغنائم الحاصلة من الفتح ممّا ينقل ويحول.

هذا مضافاً إلى أنّ الاستدلال بآية الخمس أيضاً قرينة على ما ذكر بعد ما عرفت ظهورها في ما يكون الباقي للغانمين، ويزيدك هذا وضوحاً، مراجعة صدر الرواية فإنّها بصدد بيان حكم السبايا التي تكون من الغنائم، وهي ممّا ينقل.

هذا مضافاً إلى ضعف سند الحديث لجهالة حسن بن عبدالرحمن.

وأمّا الرواية الثانية، فلضعف دلالتها أيضاً لظهورها في كون جميع الأراضي لهم، وهذا لا يكون إلّابمعنى آخر غير ما نحن بصدده وهو ملكهم لجميع الأراضي سواء المفتوح عنوة وغيرها، هذه هي الملكية التي منحها اللَّه لهم في جميع الأراضي تبعاً لملكه تعالى لجميع السموات والأرض، أو ناظرة إلى أنّ جميع الأراضي تكون ملكيتها بالإحياء بعد ما كانت في الأصل مواتاً، والموات من الأنفال، وهي لا تملك إلّابإذن ولي الأمر، فهي أيضاً خارجة عمّا نحن بصدده، كما هو ظاهر.

أمّا بحسب السند، فرجاله وإن كان غالباً من الثقات، ولكن أبا جعفر الراوي عن الحسن بن محبوب كنية لجماعة كثيرة من الرواة ومشتركة بين عدّة كثيرة.

ولكن الظاهر، كونه أحمد بن محمّد بن عيسى (وهو ثقة) بقرينة رواية سعد، عنه، فقد قال صاحب الوسائل، عن أبي جعفر، يعني، أحمد بن محمّد بن عيسى، وهذا التفسير قرينة جيدة مضافاً إلى قرائن أخرى

منها:

ما ذكره صاحب جامع الرواة، في الفائدة الثانية، فراجع.

أمّا الحديثان الثالث والرابع، فلا يزيدان عن الاطلاق وهما من قبيل قوله: «الخمس في خمسة أشياء من الغنائم ومن الغوص والكنوز ومن المعادن والملاحة» وما أشبهه، ومن المعلوم إمكان تقييدهما بالأخبار الدالة على حكم الخراج من دون استثناء الخمس من الأراضي.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 36

هذا مضافاً إلى أنّ الرواية الثانية ضعيفة بالإرسال، والأُولى بعلي بن حمزة قائد أبي بصير وهو وإن كان كثير الرواية إلّاأنّه مذموم جدّاً، قال علماء الرجال في حقّه أنّه كذّاب أو ملعون أو أنّه أحد عمد الواقفة الذين وقفوا على أبي الحسن الكاظم عليه السلام ولم يعترفوا بإمامة الرضا عليه السلام وقال الحسن بن علي بن فضال: لا استحل نقل شي ء من رواياته.

هذا غاية ما يستدلّ به على قول المشهور، أمّا دليل القول بعدم الخمس في الأراضي وشبهها فهو أصالة العدم مضافاً إلى الروايات الواردة في باب الأراضي المفتوحة عنوة، فإنّ ظاهرها كون جميعها ملكاً للمسلمين من دون استثناء الخمس منها، وكيف يكون خمسها للإمام (وبطبيعة الحال خمس خراجها أيضاً للإمام) مع عدم وجود ذكر منه في شي ء منها، فلا عين ولا أثر من حكم الخمس فيها مع كثرتها وإطلاقها وورودها في مقام البيان، وإليك بعض ما ظفرنا به في هذا الباب (وقد أوردها صاحب الوسائل في الباب 71 و 72 و 41 من أبواب جهاد العدو والباب 21 من أبواب عقد البيع).

1- ما رواه أبو بردة بن رجا قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام كيف ترى في شراء أرض الخراج؟ قال: «ومن يبيع ذلك؟ هي أرض المسلمين. قال: قلت: يبيعها الذي هي في يده. قال: ويصنع بخراج المسلمين ماذا؟ ثمّ قال: لا

بأس اشترى حقّه منها ويحول حقّ المسلمين عليه ولعلّه يكون أقوى عليها وأملى بخراجهم منه» «1».

2- ما رواه صفوان وأحمد بن محمّد بن أبي نصر جميعاً قالا: ذكرنا له الكوفة وما وضع عليها من الخراج وما سار فيها أهل بيته، فقال: «من أسلم طوعاً تركت أرضه في يده وأخذ منه العشر ممّا سقى بالسماء والأنهار، ونصف العشر ممّا كان بالرشا فيما عمروه منها وما لم يعمروه منها أخذه الإمام فقبله ممّن يعمره، وكان للمسلمين وعلى المتقبلين في حصصهم العشر أو نصف العشر وليس في أقل من خمسة أوسق شي ء من الزكاة وما أخذ بالسيف فذلك إلى الإمام يقبله بالذي يرى، كما صنع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بخيبر قبل سوادها وبياضها، يعني أرضها ونخلها، والناس يقولون: لا تصلح قبالة الأرض والنخل وقد قبل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خيبر، قال: وعلى المتقبلين سوى قبالة الأرض انوار الفقاهة، ج 2، ص: 37

العشر ونصف العشر في حصصهم، ثمّ قال: إنّ أهل الطائف أسلموا وجعلوا عليهم العشر ونصف العشر وإنّ مكة دخلها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عنوة وكانوا أُسراء في يده فأعتقهم، وقال: إذهبوا فأنتم الطلقاء» «1».

3- ما رواه أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال: ذكرت لأبي الحسن الرضا عليه السلام الخراج وما سار به أهل بيته. فقال: «العشر ونصف العشر على من أسلم طوعاً تركت أرضه في يده وأخذ منه العشر ونصف العشر فيما عمر منها وما لم يعمر منها، أخذه الوالي فقبله ممّن يعمره، وكان للمسلمين، وليس فيما كان أقل من خمسة أوساق شي ء .... وقد قبل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خيبر وعليهم في حصصهم العشر

ونصف العشر» «2».

4- ما رواه الحلبي وهو اصرح من الجميع، قال: سئل أبو عبداللَّه عليه السلام عن السواد ما منزلته؟ فقال: «هو لجميع المسلمين لمن هو اليوم، ولمن يدخل في الإسلام بعد اليوم ولمن لم يخلق بعد. فقلت: الشراء من الدّهاقين. قال: لا يصلح إلّاأن تشري منهم على أن يصيرها للمسلمين، فإذا شاء وليّ الأمر أن يأخذها أخذها. قلت: فإن أخذها منه؟

قال: يردّ عليه رأس ماله وله ما أكل من غلّتها بما عمل» «3».

5- ما رواه أبو الربيع الشامي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «لا تشتر من أرض السواد (أراضي أهل السواد) شيئاً إلّامن كانت له ذمّة فانّما هو في ء للمسلمين» «4».

6- ما رواه محمّد بن شريح قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن شراء الأرض من أرض الخراج، فكرهه وقال: «إنّما أرض الخراج للمسلمين. فقالوا له: فإنّه يشتريها الرجل وعليه خراجها. فقال: لا بأس إلّاأن يستحيي من عيب ذلك» «5».

إلى غير ذلك ممّا قد يظفر به المتتبع، وتظافر هذه الأحاديث يغنينا عن ملاحظة أسنادها، مع أنّ فيها ما يصحّ أسنادها.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 38

فتلخّص من جميع ما ذكرنا، أنّ الأقوى عدم تعلق الخمس بالأراضي المفتوحة عنوة وغيرها من الأموال غير المنقولة من الأشجار والأبنية فإنّها لم تكن تنفك عن تلك الأراضي، كما لا يخفى، فما ذهب إليه المشهور هنا ضعيف.

بقى هنا أمران:

1- من العجب ما ذكره صاحب مستند العروة من أنّ «المشهور إنّما ذهبوا إلى التخميس في الأراضي الخراجية زعماً منهم أنّها غنيمة للمقاتلين لا باعتبار كونها غنيمة لعامة المسلمين كما لا يخفى» «1».

مع أنّه لم يقل أحد بكونها للمقاتلين بل هي للمسلمين عامة، وقد حكي الإجماع عليه جماعة من أكابر الفقهاء، وقال

صاحب الجواهر: لا أجد فيه خلافاً بيننا وإن توهّم من عبارة الكافي في تفسير الفيى ء والأنفال ... لكنه في غير محلّه» «2».

نعم، كونها للمقاتلين مذهب بعض العامة- كما مرّ عند نقل الأقوال- ولم يوافقهم أحد من أصحابنا فيما نعلم، فكيف بالمشهور.

ومن هنا يظهر أنّ السرّ في عدم تعلق الخمس بها لعلّه مقاربة مصرف الخمس والأراضي الخراجية من بعض الجهات، فإنّ سهم الإمام عليه السلام يصرف في مصالح الحكومة التي هي مصالح المسلمين كما أنّ مال الخراج أيضاً كذلك، ولا تؤخذ الماليات من الماليات.

2- هل هناك تفاوت بين عنوان المنقول وغير المنقول وعنوان ما حواه العسكر وما لم يحوه، أو هما عبارتان لموضوع واحد؟

ظاهر عبارة النهاية هو الثاني، حيث قال: «ممّا حواه العسكر ... وما لم يحوه العسكر من الأرضين والعقارات وغيرهما» «3». (والعقار كلّ ما له أصل وقرار كالأرض والدار). والظاهر أنّ «من» بيانية لا تبعيضية.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 39

وكذلك ظاهر كلام المحقّق رحمه الله في الشرائع، حيث قال: «الأوّل غنائم دار الحرب، ممّا حواه العسكر وما لم يحوه، من أرض وغيرها» «1».

ويظهر ذلك من عبارة المحقّق الهمداني رحمه الله في مصباح الفقيه «2» ويظهر ذلك من غيرهما أيضاً.

ولكن ظاهر بعض آخر هو التفاوت بينهما كالعلّامة رحمه الله في التذكرة حيث قال: «الأوّل:

الغنائم المأخوذة من دار الحرب، فما حواه العسكر وما لم يحوه، أمكن نقله كالثياب والدواب وغيرها أو لاكالأراضي والعقارات» «3».

وظاهر كلام صاحب العروة أيضاً ذلك، بل ادّعى صاحب مستند العروة، أنّه على الأوّل- أي عدم الفرق بين ما حواه العسكر وغيره- الإجماع، وعلى الثاني- أي عدم الفرق بين المنقول وغيره- هو الشهرة وهو كالصريح في الفرق.

والظاهر، أنّ مراد هؤلاء من عبارة (ممّا حواه

العسكر)، الغنائم التي وقعت في أيديهم، (وما لم يحوه) ما لم يقع في أيديهم، وإن كانت منقولة كالمواشي والأغنام الموجودة في تلك الأراضي وسائر ما فيها وفي دورهم من الأدوات.

ولكن لو كان مرادهم ذلك، أمكن الإشكال عليه، لأنّ الظاهر من عنوان «غنمتم» هو الغنائم التي وقعت بأيديهم وتحت سلطتهم بحيث يصدق عليها أنّه ممّا حواه العسكر، فانّه بمعنى القبض والإحراز، أمّا ما خرج من تحت سلطتهم فهو ما لم يحوه العسكر ويشكل صدق الغنيمة عليه بل هو باق على ملك صاحبه لو كانت تحت يده أو لا يكون ملكاً لأحد لو كان أعرض عنه، وليس هناك ما يدلّ على كونها ملكاً مطلقاً، فدعوى الإجماع عليه بعيد جدّاً.

ويؤيد ما ذكرنا، ما رواه جميل بن درّاج، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: «إنّما تضرب (تصرف) السهام على ما حوى العسكر» «4»

فالأولى تفسيرهما بمعنى واحد، حتّى لا يرد

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 40

إشكال من هذه الناحية، وعدم إجراء حكم الغنيمة على ما ليس تحت استيلاء العسكر، فتدبّر.

الأمر الرابع: المعروف بين جماعة من الأصحاب، كون الخمس بعد إخراج المؤن، واختاره صاحبا الشرائع والجواهر وغيرهما، وقال صاحب العروة (في الخمس) بعد إخراج المؤن التي انفقت على الغنيمة بعد تحصيلها بحفظ وحمل ورعى ونحوها ولم يستشكل عليه أحد من المحشّين، فيما رأينا.

وقال النراقي رحمه الله في المستند: «ويشترط في وجوب الخمس في الفوائد المكتسبة بأقسامها الخمسة وضع مؤونة التحصيل التي يحتاج إليها ... من حفظ الغنيمة ونقلها» «1».

ولكن صاحب الحدائق قال: «قد اختلفوا في تقديم الخمس على المؤن وعدمه» «2».

ويظهر من هذا الكلام وجود الخلاف في المسألة، وحكى القول بالعدم، عن صاحب الخلاف والشهيدين، وغيرهم، استناداً إلى إطلاق الآية.

وعلى كلّ حال

فيدلّ على استثنائها أُمور:

1- عدم صدق الغنيمة بمعنى الفائدة على ما يقابلها، فلو عرض كونها بمقدار الغنيمة أو أكثر منها، لم يستفد فائدة.

2- قاعدة العدل والإنصاف، فإنّه مال مشترك بين الغانمين وأرباب الخمس، فلا وجه لاختصاص المؤونة بالأوّل فقط.

3- الروايات الدالة على كون الخمس بعد المؤونة:

1- منها صحيحة البزنطي عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «كتبت إلى أبي جعفر عليه السلام: الخمس أخرجه قبل المؤونة أو بعد المؤونة؟ فكتب: «بعد المؤونة» «3».

2- ما عن إبراهيم بن محمّد الهمداني أنّ في توقيعات الرضا عليه السلام إليه: «أنّ الخمس بعد المؤونة» «4».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 41

3- مرسلة محمّد بن الحسن الأشعري، قال: كتب بعض أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام: أخبرني عن الخمس أعلى جميع ما يستفيد الرجل من قليل وكثير من جميع الضروب وعلى الصنّاع؟ وكيف ذلك؟ فكتب بخطه: «الخمس بعد المؤونة» «1».

هذا، ولكن هل المراد بالمؤونة في هذه الروايات هو مؤونة المعاش للإنسان أو أعم منه ومن مؤونة الأعمال؟ قد يدعى إطلاقها، ولا أقل من الإجمال والإبهام، فيمنع عن الأخذ بالعموم، وهل يسري هذا الإجمال إلى العام، أعني قوله تعالى: «وَاعلَمُوا انَّما غَنِمْتُمْ» الآية؟ ذهب المحقّق النراقي رحمه الله في المستند إلى السراية، فحكم بعدم جواز التمسك بالعام لإجماله، فلا يجب الخمس في مؤونة التحصيل، ولكن التحقيق خلافه، لأنّ إجمال الخاصّ إنّما يسري إلى العام، إذا كان المخصص متصلًا دون ما إذا كان منفصلًا، لانعقاد ظهور العام كما في المقام، وعليه، فلا يجوز إخراج مؤونة التحصيل، بقطع النظر عن سائر الأدلة.

هذا، ولكن الإنصاف ظهورها في مؤونة المعاش، بقرينة سائر ما ورد في هذا الباب، مثل قوله عليه السلام: «بعد مؤونته ومؤونة عياله» «2».

وقوله عليه

السلام: «بعد مؤونتهم» «3».

وقوله عليه السلام: «من كانت ضيعته تقوم بمؤونته» «4».

وقوله: «الخمس ممّا يفضل من مؤونته» «5»

إلى غير ذلك.

فالعمدة في الاستدلال، هي عدم شمول الغنيمة لها، وقاعدة العدل والإنصاف.

ثمّ إنّ المؤونة على ثلاثة أقسام:

منها: يصرف لأُمور الحرب، ولا شك أنّه ليس لتحصيل الغنيمة ولا دخل لها.

وقسم يصرف لتحصيل الغنيمة، كما إذا كانت في محل لا تصل الأيدي إليها إلّابصرف مؤونة. وقسم منها يصرف لحفظها وحملها إلى الإمام، وشبه ذلك. والأوّل مانع من صدق انوار الفقاهة، ج 2، ص: 42

الغنيمة بمقداره، وأمّا الثاني فليس بمانع لأنّه بعد صدق الغنيمة والقول بأنّه أيضاً مانع، لأنّ الانتفاع منها لا يمكن بدونه كما ترى، فإنّ الانتفاع غير معتبر في حقيقة الغنيمة ومفهومها فالأولى الاستدلال على استثنائها بقاعدة العدل والإنصاف ومقتضى حكم الشركة بين الغانمين وأرباب الخمس.

الأمر الخامس: واستثنى غير واحد منهم (الجعائل) وهو ما يجعله الإمام من الغنيمة على مصلحة من مصالح المسلمين وقد أرسله بعضهم إرسال المسلمات.

وقد أشار إليه صاحب الجواهر من دون ذكر الدليل حيث قال: عن اللمعة والروضة التصريح بإخراج الجعائل على مصلحة من مصالح المسلمين وهو قوي «1».

وقد يستدلّ له بمرسلة حمّاد بن عيسى عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح في حديث، قال: «وللإمام صفو المال ... وله أن يسد بذلك المال جميع ما ينوبه ... فإن بقي بعد ذلك شي ء أخرج الخمس منه» «2».

ولكنه مشكل لضعف الرواية بالإرسال، وإنجبارها بالشهرة، غير ثابت، مع أنّه مخالف لظاهر الآية، حيث لم يجعل للإمام عليه السلام وأرباب الخمس ما يزيد عليه، اللّهمّ إلّاأن يتمسك بكون النبي صلى الله عليه و آله أولى بالمؤمنين من أنفسهم وكذا الأئمّة المعصومين عليهم السلام.

وهل يجوز ذلك للفقيه القائم مقامه؟ لا يبعد

ذلك إذا كان مصلحة للمسلمين مصلحة أقوى وأهم من حكم الغنيمة، بحيث دخل تحت قاعدة الأهم والمهم، وإلّا كان مشكلًا.

(وهذا إذا لم يجد بداً منه كموارد الإضطرار).

الأمر السادس: كذا استثنوا صفايا الملوك، قال المحقّق رحمه الله في المعتبر: «ومن الأنفال صفايا الملوك وقطائعهم، ومعنى ذلك إذا فتحت أرض من أهل الحرب فما كان يختصّ به ملكهم ممّا ليس بغصب من مسلم يكون للإمام كما كان للنبي صلى الله عليه و آله»

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 43

ثمّ استدل على ذلك بسيرة النبي صلى الله عليه و آله أوّلًا، وبغير واحد من الروايات، ثانياً،

ثمّ حكى عن الجمهور القول ببطلانه بعد موته عليه السلام، أي لا يجوز ذلك لأحد بعده صلى الله عليه و آله «1».

وعن المنتهى أنّه ذهب إليه علماؤنا أجمع: «ما لم يضر بالعسكر» والظاهر أنّ الحكم متسالم بينهم، كما أشار إليه صاحب مستند العروة.

ويدلّ عليه غير واحد من الأحاديث.

1- ما رواه سماعة بن مهران، قال: سألته عن الأنفال، فقال: «كلّ أرض خربة أو شي ء يكون للملوك فهو خالص للإمام وليس للناس فيها سهم ...» «2».

2- وفي رواية حماد الطويله عن العبد الصالح عليه السلام: «وللإمام صفو المال» «3».

3- وفي رواية إسحاق بن عمّار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «وما كان للملوك فهو للإمام» «4».

4- وفي مرسلة المفيد، عن الصادق عليه السلام: «.. ولنا صفو المال يعني يصفوها ما أحبّ الإمام من الغنائم، واصطفاه لنفسه قبل القسمة من الجارية الحسناء والفرس الفاره والثوب الحسن وما أشبه ذلك من رقيق أو متاع ...» «5».

5- وأوضح من الكلّ، ما رواه أبو بصير، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: سألته عن صفو المال.

قال: «الإمام يأخذ الجارية الروقة والمركب الفاره والسيف

القاطع والدرع، قبل أن تقسّم الغنيمة فهذا صفو المال» «6».

والجارية الروقة، هي الجميلة جدّاً، والمركب الفاره، هو الجميل الشاب أو الماهر في العدو.

واختلاف تعبير أنّها لا يضرّ بالمقصود، فإنّ الظاهر أنّ المراد من الدرع هو الدرع النفيس الذي يعد من الصفايا، وقوله ما كان للملوك مرادف لصفو المال وكذا المصاديق المذكورة في الروايات تتحد مع هذا العنوان.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 44

والظاهر أنّ هذا الأمر كان متداولًا في الحروب قبل الإسلام، وإن كان ذلك لطمع الملوك وتجبّرهم، ولكن أمضاه الإسلام لحكمة اخرى وهي أنّ كون هذه الأُمور بأيدي الناس سبباً للتشاجر والتنازع بين الناس غالباً وكلّ يدّعى أولويته لها ويتفاخر بها على غيره.

فلم يرض الشارع المقدّس بهذا الأمر وجعل أمرها بيد إمام المسلمين، وإلّا لم يسمع انتفاع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في عصره بهذه الأُمور شخصاً، ولا شك في أنّه كان بين غنائم عصره أُمور نفيسة، لا سيّما غنائم خيبر وأمثاله، نعم تزوج صلى الله عليه و آله به جلباً لحماية اليهود ودفعاً لبغضائهم.

والحاصل، أنّ هذا حكم سياسي أمضاه الشارع لدفع الخصومات، لا غير.

الأمر السابع: ومثلها قطائع الملوك، وقد ادّعى عليه الإجماع، لكن الظاهر عدم ذكرها في كلمات كثير منهم وإن نطق بهذا الحكم غير واحد من روايات هذا الباب.

1- ما رواه داود بن فرقد قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «قطائع الملوك كلّها للإمام، وليس للناس فيها شي ء» «1»

وقد وصفه صاحب مستند العروة، بالصحة ....

2- رواية أُخرى مرسلة عن داود بن فرقد، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: قلت: وما الأنفال؟

قال: «بطون الأودية .... وقطائع الملوك» «2».

3- مرسلة الثمالي، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «ما كان للملوك فهو للإمام» «3»

. ويدلّ

عليه أيضاً بعض ما مرّ آنفاً في مبحث الصفايا.

إنّما الكلام في المراد من القطائع، وقد فسرّه بعضهم بخالصة الملوك، وقد يحتمل أنّها عبارة عمّا يقطعون من الغنيمة لغيرهم أو لأنفسهم ممّا ليس بمنقول (كما في مجتمع البحرين).

ومن الواضح أنّ الأوّل، داخل في الصفايا، والثاني في الجعائل، فليس هناك عنوانان انوار الفقاهة، ج 2، ص: 45

مختلفان ولعلّه لذلك يذكره غير واحد من أساطين الفقه، والثالث، أعني، كون القطائع من غير المنقول لا يوافق المختار من عدم الخمس في الأراضي وشبهها حتّى يحتاج إلى الاستناد.

والظاهر، أنّ النسبة بينهما عموم مطلق، فالصفايا عبارة عن كل ما يختصّ بالملوك بالفعل أو يليق أن يكون كذلك من نفائس الغنائم، وما يكون نفيساً في حدّ ذاته، وإن لم يكن خاصاً بالملوك، ولكن القطائع تختص بالأوّل فقط.

هذا ولو قيل إنّهما بمعنى واحد لم يكن بعيداً إذا أُريد من الصفايا ما يليق بهم، وإن لم يكن فعلًا لهم، والقطائع ليس شيئاً ورأى ذلك فإنّهم لا يقطعون كلّ شي ء، بل الأشياء النفيسة التي تليق بهم، نعم لو أُريد منها القطائع بالفعل، كان أخص من الصفايا، وعلى كلّ حال، لا وجه لعطفها على الصفايا في العروة بقوله: «وكذا قطائع الملوك»، فتدبّر.

وعلى كلّ حال، فالظاهر عدم اختصاصها بالإمام المعصوم، وتشمل نائب الغيبة لما مرّ من إطلاق أدلّة النيابة الشاملة لما نحن فيه، أوّلًا، ولأنّه حكم إمضائي سياسي، ثانياً، فتأمل.

ثمّ إنّه كرر البحث في العروة الوثقى عن اشتراط كون الغزوة بإذن الإمام وصرّح بأنّه: «إن كان في زمن الحضور وإمكان الاستئذان منه فالغنيمة للإمام عليه السلام وإن كان في زمن الغيبة فالأحوط إخراج خمسها من حيث الغنيمة».

أقول: أمّا في زمن الحضور، فالأمر واضح كما مرّ، والمسألة مشهورة غاية

الاشتهار، وإن لم تكن إجماعية، ويدلّ عليه ما عرفت مبسوطاً في الشرط الثاني.

وأمّا في زمن الغيبة، فإن قلنا بجواز الجهاد الإبتدائي بإذن نائب الغيبة، فالأمر أيضاً واضح، لأنّ إذنه يقوم مقام إذن الإمام عليه السلام فلو قاتلوا بغير إذنه كانت الغنيمة كلّها من الأنفال المعلوم مصرفها، وإن قلنا بعدم جوازه، فالأقوى أيضاً كونها كذلك، لأنّ ظاهر حديث الورّاق وغيره، اشتراط الإذن، فإذا انعدم، كانت الغنيمة كلّها للإمام، سواء كان لعدم وصول اليد إليه عليه السلام أو عدم إذنه مع وصولها والانصراف إلى الأوّل بدوي، والحكمة المظنونة أو المقطوعة لهذا الحكم- وهي عدم مبادرة الناس إلى الحروب بغير الإذن طمعاً في الغنائم- عامة شاملة لعصر الحضور والغيبة.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 46

نعم، إذا كانت الحرب للدفاع عن الإسلام والمسلمين كما إذا كان هناك هجوم من ناحية الكفّار، كانت الغنيمة فيها للمقاتلين ولأرباب الخمس هو الخمس لا غير، لاطلاق الآية وعدم اشتراط الإذن في الدفاع.

فالحروب التي تكون في أعصارنا، إن كانت بهذا العنوان، لم يتعلق بغنائمها غير الخمس، وإن كانت بعنوان الجهاد الإبتدائي، كانت كلّها من الأنفال، إذا قلنا بعدم جوازه في هذه الأعصار، أو قلنا بجوازه، ولم تكن بإذن نائب الغيبة.

نعم، كثيراً ما تحتاج الحروب الدفاعية أيضاً في عصرنا إلى إجازة نائب الغيبة وتجنيد الجنود وتخطيط الخطوط وتجهيز الأسباب، بحيث تكون الحرب بدونها سبباً للهزيمة، قطعاً كما في هجوم حزب بعث العراق ضد المسلمين في ايران طوال ثمان سنين، فالشروع في الدفاع لا يحتاج إلى إذن الولي الفقيه، لكن استدامته محتاجة لإذنه.

وفي هذا الحال، إذا أقدم واحد أو جماعة إلى الحرب بدون إذن الولي الفقيه، ومن طريق الخبراء في هذا الأمر، لم يبعد كون غنائمها كلّها من

الأنفال أيضاً، فتأمل. والحاصل أنّه لا يكون الخمس إلّافيما يشرع الحرب فيه بلا حاجة إلى الإذن أو مع الإذن عند الحاجة إليه.

الأمر الثامن: صرّح بعضهم بأنّ الفداء الذي يؤخذ من أهل الحرب لفك الأسارى وكذا الجزية المبذولة لتلك السرية (لا مطلق الجزية التي تأخذ من أهل الذمة) ومثله مال المصالحة، كلّها من الغنائم، إذا كان كلّ ذلك بعد القهر والغلبة عليهم، وقد حكى الأوّل عن الدروس والمسالك والجواهر والروضة وكشف الغطاء، ولا ينبغي الشك فيه، فإنّ الأسارى من الغنائم وفدائها مثلها بلا إشكال، وأمّا مال الصلح والجزية، فيمكن الإشكال فيهما لعدم ورود دليل خاص في شي ء من ذلك، والترديد في شمول الغنيمة بالمعنى الأخص لهما، لأنّ ظاهرها هو ما يؤخذ قهراً لا ما يعطونه بأنفسهم، وإن كان ذلك بعد ما قهروا في الحرب، والفرق بينهما ظاهر، نعم، لا يبعد دعوى إلغاء الخصوصية، فإنّ لفظ الغنيمة بمعناه الخاص وإن كان لا يشملهما، إلّاأنّ العرف لا يرى أي فرق بينهما وبين الغنائم المأخوذة من الكفّار وهذا كافٍ في إلغاء الخصوصية، ولكن إذا أخذ منهم والحروب قائمة لم تطفأ وإلّا فيشكل انوار الفقاهة، ج 2، ص: 47

دخولهما فيها، فتدبّر.

الأمر التاسع: هل هناك فرق بين الغنائم المأخوذة في الحروب الحديثة مع ما كان في قديم الأيّام، وهل يفترق المقاتلون فيها مع المقاتلين في تلك الحروب؟

هذه مسألة مهمّة لابدّ من كشف النقاب عنها فانّها من المسائل المبتلى بها اليوم، والإنصاف أنّ المقاتلين في عصرنا على صنوف: صنف منهم يشترك في الجهاد باختياره، وطلباً لمرضاة اللَّه، ويسمّى بالبسيج في عصرنا، وهؤلاء داخلون في الغانمين بلا إشكال، وصنف منهم ملزمون على الشركة بحكم القوانين الجارية اليوم، والظاهر أنّهم أيضاً داخلون فيهم لعدم

الفرق بينهم وبين المقاتلين في صدر الإسلام الذين كان النبي صلى الله عليه و آله يفرض عليهم الجهاد.

وصنف منهم مستأجرون وموظفون للحروب يأخذون من بيت المال أُجوراً مستمرة طول عمرهم ممّا لم يكن منه في عصر نزول القرآن عين ولا أثر، ظاهراً، ودخول هؤلاء في الغانمين لا يخلو من إشكال، لاحتمال انصراف الأدلّة عنهم وكونها ناظرة إلى من يبذل نفسه وأمواله في سبيل اللَّه بلا عوض، وهؤلاء يأخذون أجرهم في مقابل جهودهم، نعم للإمام أن يجعل لهم الجعائل «1».

إن قلت: كانت مصارف الحروب في تلك الأيّام على عهدة المقاتلين (مصارف السلاح والغذاء والمراكب) ولكنها في عصرنا يكون كلّ ذلك على الحكومات، فلا سهم من الغنيمة لواحد من هذه الأصناف بعد وجود هذا الفرق الواضح لانصراف الإطلاقات عنهم.

قلنا: كلا، لم تكن المصارف دائماً على المقاتلين بل كان الأغنياء يبذلون الأموال والأنفس، ولكن الفقراء منهم لا يبذلون إلّاأنفسهم، وكانت نفقتهم عليه صلى الله عليه و آله من الزكاة والإعانات، بل كان صلى الله عليه و آله يعطيهم السلاح والمركب أحياناً كما يظهر من قوله تعالى: «وَلَا

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 48

عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَاأَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُواْ مَايُنفِقُونَ» «1».

هذا بالنسبة إلى المقاتلين، وأمّا الغنائم فهي أيضاً على ضروب:

قسم منها، تنحصر فائدته في الحروب، ولا يمكن حيازته إلّاللحكومة- كالطائرات والدبابات والسفن الحربية والمدفعية وأشباهها- وانصراف أدلة الغنائم من مثلها قوي جدّاً، لا لعدم إمكان تقسيمها بين الغانمين، لأنّه يمكن تقسيم قيمتها بينهم، بل لأنّ شمول أدلّة الغنيمة لمثلها مشكل جدّاً.

وقسم آخر، وإن كان يمكن تقسيمها بعينها بينهم فضلًا عن قيمتها، ولكنّها أشياء ممنوعة بحسب القوانين الخاصة بالحكومة

الإسلامية الموضوعة لحفظ النظام وحفظ النفوس والدماء، كالمسدس وشبهه، وحيث يحرم حفظها والانتفاع بها بغير إذن الحكومة وفق القانون، لا تشملها عمومات الغنائم أيضاً، كما لا تشمل سائر المحرمات- سواء كانت بالذات أو بالعرض- وذلك لأنّ المفهوم العرفي من الآية هو أنّه: «وَاعْلَمُواْ أَ نَّمَا غَنِمْتُمْ» من الحلال الذي يجوز الاستفادة منه وتقسيمه بين المقاتلين شرعاً «فإنّ للَّهِ خُمُسَهُ» الآية.

وقسم ثالث منها، لا يدخل في هذا ولا ذاك، كالألبسة والأطعمة والسيارات غير الحربية والنقود والمجوهرات ومتاع البيوت وشبهها، وهذه كلّها داخلة في الغنائم، يجب تقسيمها بين الغانمين بعد إخراج خمسها (مع الشرائط السابقة) ولا مانع منه كما هو ظاهر.

ثمّ إنّ الحروب في أيّامنا قد اتسع نطاقها وصارت تأخذ منطقة وسعة جدّاً، ففي مثلها فإنّ الغنائم تختص بالمجاهدين في كلّ هجمة من الهجمات في هذه الجبهات ولا يعد الجميع عسكراً واحداً وحرباً واحداً، فالمشتبكون في كلّ هجوم يشتركون في غنائمه، ولذا قد تشب نيران الحرب في بعض نواحيها حينما يكون الهدوء حاكماً على سائر النواحي «2».

هذا كله بالنسبة إلى الكفّار المحاربين وهو واضح، أمّا المسلمون البغاة فسيأتي الكلام فيهم.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 49

الأمر العاشر: من المستثنيات من الغنيمة هو الرضخ الذي يكون للنساء والعبيد والكفّار الذين قاتلوا بإذن الإمام في صفوف المسلمين، فإنّه لا سهم لهم من الغنيمة كما ادّعى الإجماع عليه، فيبذل لهم الإمام شيئاً يسيراً قبل تقسيم الغنائم، فإنّ الرضخ في اللغة «هو إعطاء القليل من مال كثير» وكان ينبغي استثناؤه من قبل المصنّف ولكن لا نعلم لماذا لم يشر إليه.

وكيف كان، قال صاحب الجواهر في كتاب الجهاد عند قول المحقّق رحمه الله: «ثمّ (يبدء الإمام بما تحتاج الغنيمة) إليه من النفقة ... وبما

يرضخه للنساء والعبيد والكفّار إن قاتلوا بإذن الإمام» بلا خلاف أجده.

ثمّ حكى عن العلّامة رحمه الله في المنتهى والتذكرة دعوى الإجماع على حكم النساء والكفّار.

واستدل عليه بما رواه عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أحدهما عليهما السلام قال: «إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خرج بالنساء في الحرب يداون الجرحى، ولم يقسم لهنّ من الفي ء شيئاً، ولكنّه نفلهنّ» «1».

هذا ولم ينقل دليل على حكم الكافر ما عدا الإجماع، ولعلّة كذلك بعد كونهم محرومين عن القسمة، ظاهراً ....

بقي هنا مسائل (ممّا يلحق بالغنائم):

المسألة الاولى في حكم الإغارة على الكفّار وأخذ أموالهم، وحكم ما يؤخذ منهم بالسرقة والغيلة، وما يؤخذ منهم بالربا والدعوى الباطلة.

أمّا الأوّل، أعني الاغارة، فقد صرّح صاحب العروة بدخولها في الغنيمة بالمعنى الخاصّ ولكن خالفه جماعة من المحشّين.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 50

ولكن الإنصاف أنّ ظاهر أدلّة الغنيمة بمعناها الخاصّ هو ما يؤخذ في الحروب لا الغارات التي لا يصدق عليها عنوان القتال، اللّهمّ إلّاأن يقال بإلغاء الخصوصية من هذه الجهة، وهو لا يخلو من تأمل، أو يقال بالغاء الخصوصية عن أدلّة جواز أخذ مال الناصب وأنّ فيه الخمس، إن قلنا إنّه ليس من خمس الأرباح، فتشمل الكفّار الحربي أيضاً، فإنّ كليهما غير محترمي المال، وأمّا السرقة والغيلة فهما أوضح حالًا من الغارات لعدم وجود القتال فيهما أبداً مع أخذه في عنوان الغنيمة بالمعنى الخاصّ.

نعم، إلغاء الخصوصية عمّا يؤخذ من مال الناصب هنا أيضاً غير بعيد بناءً على القول به هناك، كما سيأتي الكلام فيه.

وأوضح حالًا من الجميع ما يؤخذ بالدعوى الباطلة والربا، فإنّه ليس غنيمة بالمعنى الخاصّ كما هو واضح، نعم هو داخل في الغنيمة بالمعنى الأعم ولكنه يشابه المأخوذ من الناصب، فلو قلنا فيه

بوجوب الخمس من دون ملاحظة مؤونة السنة، فكذلك هنا.

وليعلم أنّ إقامة الدعوى الباطله عليهم حرام من ناحية الكذب وقول الزور، ولكنّه حرام تكليفي ولا أثر له فيما يقع في يده من الأموال، فلا ينافي حلّيتها.

وأمّا الربا فهو جائز كما ذكر في محلّه بل يمكن أن يقال لا يكون مشابهاً لأخذ مال الناصب، فالأقوى أنّه من أرباح المكاسب، فتأمل.

المسألة الثانية (في حكم أخذ مال الناصب): وقد صرّح صاحب الحدائق فيما حكى عنه، بأنّ فيه الخمس، بل يظهر منه كونه إجماعياً بين الأصحاب فيما حكى عنه صاحب الجواهر بأنّ الأصحاب خلفاً وسلفاً حكموا بكفر الناصب وجواز أخذ ماله وقتله «1».

ولكن مع ذلك يظهر من المحقّق البروجردي (استاذنا الأعظم قدس سره) إعراض الأصحاب عن الروايتين الآتيتين في حكم جواز أخذ مال الناصب مع أداء الخمس وظاهره عدم فتوى الأصحاب بذلك، وهو مع ما ذكره صاحب الحدائق على طرفي النقيض، وسيأتي إن شاء اللَّه ما يمكن معه حلّ هذه المعضلة.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 51

وكيف كان، فلا إشكال في عدم شمول أدلّة الغنيمة بمعناها الخاصّ لمال الناصب وشبهه لأخذ عنوان القتال فيها، كما عرفت.

ولكن هناك روايات خاصة تدلّ على الحكم فيه:

1- منها صحيحة الحفص بن البختري، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «خذ مال الناصب حيثما وجدته و ادفع إلينا الخمس» «1».

2- ما رواه معلى بن خنيس، عن الصادق عليه السلام هذا المضمون مع تفاوت يسير جدّاً: قال عليه السلام: «خذ مال الناصب حيثما وجدت، و ادفع إلينا الخمس» «2».

وقد أيدهما بعضهم بمرسلة إسحاق بن عمّار قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «مال الناصب وكلّ شي ء يملكه حلال إلّاامرأته فإنّ نكاح أهل الشرك جائز ...» «3».

والمراد أنّه جائز لأهل الشرك،

فلا يجوز أخذ نسائهم إلّاأن يكون ذلك تحت شرائط السبي.

هذا، ولكن لا دلالة للأخير على مسألة الخمس الذي هو محل الكلام، غاية ما يستفاد منه هو جواز أخذ مال الناصب فقط.

وعلى كلّ حال، لا غبار في دلالة الحديثين ولا في سند أحدهما، فلذا يجب العمل بهما وإخراج الخمس منه كما يظهر من كلام صاحب الحدائق وبعض كلمات صاحب الجواهر وصريح كلام بعض محشّي العروة، ويبقى الكلام في الإعراض المدّعى في كلمات سيّدنا الاستاذ البروجردي رحمه الله حيث قال: «إنّ الناصب منتحل بالإسلام وإن كان قد أنكر ضرورياً من ضرورياته وهو حبّ أهل البيت عليهم السلام الثابت بقوله تعالى: «قُل لَّاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا ا لْمَوَدَّةَ في ا لْقُرْبَى ، ولكنه لم يعمل الأصحاب بظاهر الروايتين، ولم يقولوا بحلّية مال كلّ ناصبي لكلّ شيعي أينما وجده وكيفما أخذه، كمال الكافر الحربي» «4».

وهذه الدعوى كأنّها نشأت عن عدم التصريح بالمسألة في كلمات الأصحاب، ويمكن انوار الفقاهة، ج 2، ص: 52

أن يكون الوجه فيه اكتفاؤهم بعدّ الناصب في زمرة الكفّار في أبواب النجاسات وغيرها فلم يحتج إلى التصريح به هنا فقد ادّعى الإجماع على نجاسة الناصب كما عن الحدائق، وعن جامع المقاصد، أنّه ممّا لا خلاف فيه، وقد ورد في حكم عدم جواز نكاح المرأة العارفة بالناصب أو نجاسة غسالته غير واحد من الروايات، فكفره كان مفروغاً عنه عندهم بحيث لم يحتاجوا إلى التصريح به هنا.

ومجرّد انتحال الإسلام غير كافٍ كما في الغلاة وشبههم وكذا منكري الضروري، وكيف كان فلا نرى وجهاً في العدول عن العمل بالروايتين.

نعم، كثيراً ما تترتب على أخذ أموالهم مع كونهم مدعين للإسلام مفاسد عظيمة كثيرة، فيكون المنع حينئذٍ للعناوين الثانوية، ولابدّ للفقيه والحاكم الشرعي

أن يكون على بصيرة من هذه الأُمور.

والمراد بالناصب والقدر المتيقن منه من نصب العداوة للأئمّة عليهم السلام أو سبّهم (العياذ باللَّه) وإن لم ينصب الحرب لهم، وكذا إذا نصب العداوة للشيعة وأبغضهم لكونهم شيعة أهل البيت عليهم السلام الذي يعود إلى نصبه للعداوة لهم.

والحاصل أنّ الناصب على أقسام:

1- من يقدح في علي عليه السلام وينصب العداوة له.

2- من يقدح في الأئمّة عليهم السلام وينصب العداوة لهم.

3- من ينصب الحرب لهم عليهم السلام.

4- من يسبّهم (العياذ باللَّه).

5- من يعادي شيعتهم بما هم شيعتهم، وهذا يرجع مآلا إلى الثاني.

6- من يعاديهم زعماً منه أنّه ليس على طريقتهم عليهم السلام.

7- من ينكر فضلهم عليهم السلام على غيرهم أو يرجح غيرهم عليهم.

هذا والمنسوب إلى أكثر الأصحاب أنّه من نصب العداوة لأهل البيت عليهم السلام وحكى عن ظاهر كلام صاحب الحدائق، أنّه لا خلاف فيه. وعن العلّامة رحمه الله في (المنتهى)، أنّه الذي يقدح في علي عليه السلام، وعن القاموس، أنّه المتدين ببغض علي عليه السلام، ولا يخفى أن الأئمّة عليهم السلام انوار الفقاهة، ج 2، ص: 53

كلّهم من نور واحد فلا فرق بين علي عليه السلام وأولاده الأئمّة المعصومين عليهم السلام فما عن القاموس لعلّه من باب المثال. ثمّ لا شك في صحّة المعنى الأوّل والثاني، وأمّا الثالث فيشترط فيه كون الحرب ناشئاً عن عداوتهم عليهم السلام لا عدم المعرفة بحقّهم عليهم السلام أمّا الرابع فلا شك في أنّ السبّ علامة العداوة فيدخل في الثاني. وأمّا الخامس فيرجع إلى الثاني أيضاً، لأنّ العداوة لشيعتهم ليس إلّامن جهة انتسابهم للأئمّة عليهم السلام فهو في الحقيقة يعادي الأئمّة عليهم السلام. وأمّا السادس والسابع فيشكل عدّهما من النواصب جدّاً على أنّه لو قلنا

بالسابع ليشمل كلّ مخالف وهو واضح البطلان للدليل على طهارتهم والسيرة المستمرة على ذلك خلافاً للشاذ النادر.

ويظهر من ذلك كلّه أنّ الثابت كون الطوائف الأربع الأُولى منهم، وأمّا غيرهم فهو غير ثابت، فلا يمكن إلحاقهم بهم.

ثمّ إنّه هل يكون الواجب فيهم من باب خمس الأرباح حتّى يكون بعد المؤونة أو لا يتقيد بذلك؟ ظاهر إطلاق الروايتين هو الأخير، ولكن حيث إنّه يكون من سنخ مطلق الفائدة لا من سنخ الغنائم، فيمكن إلحاقه بأرباح المكاسب، ولكن الأحوط إخراج خمسه مطلقاً، عملًا بظاهر المطلقات ولعلّ احتياط المحقّق اليزدي رحمه الله أيضاً، ناظر إلى ذلك.

حكم غنائم البغاة:

أمّا البغاة- وهم الخارجون على الإمام عليه السلام أو الحكومة الإسلامية بالحرب كأصحاب الجمل وأشباههم، وهذا غير الباغي بتعبير القرآن حيث أطلقه على طائفة من المؤمنين في قوله تعالى: «وَإِنْ طَآئَفَتَانِ مِنَ ا لْمُؤْمِنينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَيهُمَا عَلىَ ا لْأُخْرَى فَقتِلُواْ الَّتىِ تَبْغِى حَتَّى تَفى ءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ» «1».

فهم على قسمين: قسم منهم داخلون في عنوان الناصب كمن خرج بالسيف على الإمام المعصوم عليه السلام بغضاً له، فهؤلاء لا إشكال في حلية أموالهم قبل الحرب وبعده وفي الأحوال العاديّة، لما عرفت من الدليل هناك.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 54

وقسم آخر غير داخلين تحت هذا العنوان كمن تمرد عن قول المعصوم عليه السلام طلباً للرئاسة وحرصاً على حطام الدنيا، أو من خرج عليه شبهة، ولعلّ كثيراً من أصحاب الجمل كانوا كذلك، وقد حسبوا أنّ الدفاع عن أُمّ المؤمنين عائشة يكون فريضة عليهم فسلّوا سيف البغي على إمامهم المعصوم عليه السلام وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً، أو من خرج على الفقيه العادل المتصدي للحكومة الإسلامية فهؤلاء ليسوا داخلين تحت عنوان الناصب، فحينئذٍ يقع

الكلام في جواز أخذ مالهم وفي حكم خمسه، وقد وقع الخلاف هنا فذهب الشيخ رحمه الله في (الخلاف) إلى أنّه كالكافر الحربي وادّعى إجماع الفرقة عليه وإخبارهم وتبعه في ذلك جماعة، ونسبه في محكي الروضة إلى الأكثر، ولكن عن السيّد المرتضى وابن ادريس والعلّامة رحمه الله، الإجماع على عدم الجواز.

فالإجماعان متعارضان والخلاف ثابت، وذكر المحقّق رحمه الله في (الشرائع) في كتاب الجهاد: «لا يجوز تملك شي ء من أموالهم التي لم يحوها العسكر سواء كانت ممّا تنقل كالثياب والآلات أو لا تنقل كالعقارات لتحقّق الإسلام المقتضى لحقن الدم والمال» «1».

وقال صاحب الجواهر بعد نقل هذا الكلام، بلا خلاف أجده في شي ء من ذلك ثمّ نقل عن غير واحد، الإجماع عليه «2».

وذكر صاحب الشرائع بعد نقل هذا الكلام، ما نصّه: «وهل يؤخذ ما حواه العسكر ممّا ينقل ويحول (كالسلاح والدواب وغيرهما) قيل لا» «3» (وذكر صاحب الجواهر أنّ القائل هو المرتضى وابن ادريس والفاضل والشهيد في الدروس على ما حكى عن بعضهم) لما ذكر من العلّة (يعني حقن دمائهم وأموالهم بالإسلام) وقيل نعم (وذكر صاحب الجواهر أنّ القائل هو العماني والإسكافي والشيخ في محكى (الخلاف) و (النهاية) والعلّامة في (المختلف) والشهيد الثاني والمحقّق الكركي وجماعة أخرى عملًا بسيرة علي عليه السلام وهو الأظهر «4»

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 55

والمراد من سيرة علي عليه السلام، سيرته عليه السلام في حرب الجمل، وكيف كان، فالمسألة خلافية بالنسبة إلى ما حواه العسكر (أي ما هو تحت يد المقاتلين في جبهة القتال كما يظهر من كلام المحقّق هنا) وأمّا بالنسبة إلى ما خرج عنه فالمنع إجماعي.

والعمدة فيها ما روى من سيرة علي عليه السلام في حرب الجمل مع أهل البصره بعد

هزيمتهم وقد اختلفت فيها كلماتهم وهناك روايات (وطرقها غير نقية).

ويظهر ممّا عرفت من كلام المحقّق رحمه الله أنّ سيرته عليه السلام هي تقسيم ما حواه العسكر، ولكن المحكي عن (الدروس) هو العكس حيث قال: «الأقرب، العدم عملًا بسيرة علي عليه السلام في أهل البصرة فإنّه أمر بردّ أموالهم فأخذت حتّى القدور». «1»

وقال الشيخ رحمه الله في المبسوط فيما حكى عنه: روى أصحابنا أنّ ما يحويه العسكر من الأموال فإنّه يقسم (أو يغنم). «2»

وحكى عن موضع آخر من المبسوط: أنّه روى أنّ علياً لما هزم الناس يوم الجمل، قالوا له: يا أميرالمؤمنين عليه السلام ألا نأخذ أموالهم؟ قال: لا، لأنّهم تحرموا بحرمة الإسلام، فلا يحلّ أموالهم في دار الهجرة.

وفيه أيضاً روى أبو قيس: «إنّ علياً عليه السلام نادى من وجد ماله فليأخذه فمرّ بنا رجل فعرف قدراً نطبخ فيها، فسألناه أن يصبر حتّى ينضج فلم يفعل فرمى برجله فأخذه» «3».

والتحقيق أن يقال: إنّ الروايات الناظرة إلى سيرة علي عليه السلام في البغاة من أصحاب الجمل المروية في الوسائل والمستدرك وغير واحد من الكتب الفقهية، على طوائف:

الطائفة الاولى: ما دلّ على أنّ سيرة علي عليه السلام كانت على ردّ أموالهم إليهم وعدم أخذ الغنيمة عنهم، مثل ما يلي:

1- ما رواه في التهذيب عن مروان بن الحكم قال: لمّا هزمنا علي- عليه السلام- بالبصرة ردّ على الناس أموالهم، من أقام بيّنة أعطاه، ومن لم يقم بيّنة أحلفه. قال: فقال له قائل: يا

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 56

أميرالمؤمنين أقسم الفيى ء بيننا والسبي، قال: فلمّا أكثروا عليه، قال: «أيّكم يأخذ أُمّ المؤمنين في سهمه؟ فكفّوا» «1».

2- مرسلة الصدوق، قال الصدوق: وقد روى أنّ الناس اجتمعوا إلى أميرالمؤمنين يوم البصرة فقالوا: يا

اميرالمؤمنين! أقسم بيننا غنائمهم. فقال: «أيّكم يأخذ أمّ المؤمنين في سهمه؟» «2».

3- ما رواه المفيد، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام في حديث: إنّ أميرالمؤمنين عليه السلام قال لعبداللَّه بن وهب الراسبي لما قال في شأن أصحاب الجمل: إنّهم الباغون الظالمون الكافرون المشركون، قال: «أبطلت يا ابن السوداء، ليس القوم كما تقول، لو كانوا مشركين سبينا أو غنمنا أموالهم، وما ناكحناهم ولا وارثناهم» «3».

4- ما رواه أبو قيس: «أنّ علياً نادى من وجد ماله فليأخذه، فمرّ بنا رجل فعرف قدراً نطبخ فيها، فسألناه أن يصبر حتّى ينضج، فلم يفعل ورمى برجله فأخذها» «4».

الطائفة الثانية: ما يدلّ على جواز اغتنام أموالهم دون سبي ذراريهم ما يلي:

5- ما رواه العلّامة رحمه الله في «المختلف» على ما رواه صاحب المستدرك- عن ابن أبي عقيل: أنّه روى أنّ رجلًا من عبدالقيس قام يوم الجمل فقال: يا أميرالمؤمنين ما عدلت حين تقسم بيننا أموالهم، ولا تقسم بيننا نساءَهم ولا أبناءَهم، فقال له: «إن كنت كاذباً فلا أماتك اللَّه حتّى تدرك غلام ثقيف، وذلك أنّ دار الهجرة حرمت ما فيها، وأنّ دار الشرك أحلّت ما فيها، فأيّكم يأخذ أُمّه في سهمه!؟» «5».

الطائفة الثالثة: ما يدلّ على جواز أخذ ما حواه العسكر وعدم جواز ما لم يحوه العسكر من الأموال، مثل:

6- ما رواه صاحب دعائم الإسلام: إنّه- أميرالمؤمنين عليه السلام- لما هزم أهل الجمل، جمع انوار الفقاهة، ج 2، ص: 57

كلّ ما أصابه في عسكرهم ممّا اجلبوا به عليه، فخمّسه وقسم أربعة أخماسه على أصحابه ومضى، فلمّا صار إلى البصرة قال أصحابه: يا أميرالمؤمنين أقسم بيننا ذراريهم وأموالهم، قال: «ليس لكم ذلك». قالوا: وكيف أحللت لنا دماءَهم ولم

تحلل لنا سبي ذراريهم؟

قال: حاربنا الرجال فقتلناهم فأمّا النساء فلا سبيل لنا عليهن، لأنهنّ مسلمات وفي دار هجرة فليس لكم عليهنّ من سبيل، (وما اجلبوا به) واستعانوا به على حربكم وضمّه عسكرهم وحواه فهو لكم، وما كان في دورهم فهو ميراث على فرائض اللَّه» «1».

7- ما رواه صاحب الدعائم. قال موسى بن طلحة: «كان علي عليه السلام قد اغنم أصحابه ما أجلب به أهل البصرة إلى قتاله. اجلبوا به يعني أتوا به في عسكرهم- ولم يعرض لشي ء غير ذلك لورثتهم، وخمس ما اغنمه ممّا اجلبوا به عليه، فجرت أيضاً بذلك السنّة» «2».

8- ما رواه صاحب الدعائم أيضاً في شرح الأخبار قال في ضمنه: «وما كان بالعسكر فهو لكم مغنم، وما كان في الدور فهو ميراث يقسم بينهم على فرائض اللَّه عزّ وجلّ» «3».

9- ما رواه أيضاً صاحب الدعائم عنه (أي عن علي) عليه السلام أنّه قال: «ما اجلب به أهل البغي من مال وسلاح وكراع ومتاع وحيوان وعبد وأمة وقليل وكثير فهو في ء يُخمّس ويقسّم كما تقسّم غنائم المشركين» «4».

10- ما رواه أبو بصير عن الصادق عليه السلام في حديث طويل في قضية أهل النهروان إلى أن قال: «أحللت لنا سبي الكراع والسلاح وحرّمت علينا سبي الذراري، وقلت لنا بصفّين:

اقتلوهم مدبرين ... واحللت لنا سبي الكراع والسلاح والذراري. الحديث» «5».

11- ما رواه صاحب المبسوط، قال: «روى أصحابنا أنّ ما يحويه العسكر من الأموال فإنّه يقسّم (أو يغنم)» «6».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 58

الطائفة الرابعة: ما دلّ على أنّه كان له عليه السلام اغتنام أموالهم وسبي ذراريهم، ولكنه لم يفعل لعلمه عليه السلام بغلبة القوم في المستقبل على شيعته وفعلهم مثله فلم يفعل ذلك، مثل ما يلي:

12-

ما رواه صاحب الدعائم عن علي عليه السلام أنّه سأله عمّار حين دخل البصرة فقال: يا أميرالمؤمنين بأي شي ء تسير فى هؤلاء؟ قال: «بالمنّ والعفو كما سار النبي صلى الله عليه و آله في أهل مكّة» «1».

13- ما رواه صاحب الدعائم، عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: «سار علي عليه السلام بالمنّ والعفو في عدوّه من أجل شيعته (لأنّه) كان يعلم أنّه سيظهر عليهم عدوّهم من بعده، فأحبّ أن يقتدي من جاء من بعده به، فيسير في شيعته بسيرته، ولا يجاوز فعله فيرى الناس أنّه تعدى وظلم» «2».

14- ما رواه درست بن أبي منصور، عن الوليد بن صبيح قال: سأل المعلى بن خنيس أبا عبداللَّه عليه السلام قال: جعلت فداك، حدّثني عن القائم إذا قام يسير بخلاف سيرة علي عليه السلام؟ قال:

فقال له: نعم، قال: فأعظم ذلك معلى وقال: جعلت فداك، ممّ ذاك؟ قال: فقال: «لأنّ علياً- عليه السلام- سار بالناس سيرة وهو يعلم أنّ عدوّه سيظهر على وليّه من بعده وأنّ القائم- عليه السلام- إذا قام ليس إلّاالسيف، فعودوا مرضاهم واشهدوا جنائزهم وافعلوا، فإنّه إذا كان ذاك لم تحلّ مناكحتهم ولا موارثتهم» «3».

15- ما رواه عبداللَّه بن سليمان قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: إنّ الناس يروون أنّ علياً عليه السلام قتل أهل البصرة وترك أموالهم، فقال: «إنّ دار الشرك يحلّ ما فيها وإنّ دار الإسلام لا يحلّ ما فيها. فقال: إنّ علياً عليه السلام إنّما منّ عليهم كما منّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على أهل مكّة وإنّما ترك علي عليه السلام لأنّه كان يعلم أنّه سيكون له شيعة، وإنّ دولة الباطل ستظهر عليهم، فأراد أن يقتدى به في شيعته،

وقد رأيتم آثار ذلك، وهو ذا يسار في الناس بسيرة علي عليه السلام الحديث» «4».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 59

16- ما رواه الصدوق، قال: «وقد رُوي أنّ الناس اجتمعوا إلى أميرالمؤمنين عليه السلام يوم البصرة فقالوا: يا أميرالمؤمنين أقسم بيننا غنائمهم. قال: «أيّكم يأخذ أُمّ المؤمنين في سهمه؟» «1».

وطريق الجمع بين الطوائف الثلاث الأُولى، واضح، فإن ما دلّ على حرمة أموالهم يحمل على ما لم يحوه العسكر، وما دلّ على إباحتها يحمل على ما حواه العسكر بقرينة الطائفة الثالثة المفصلة بين الأمرين، مضافاً إلى أنّه يُستبعد جدّاً أن تكون الطائفة الأُولى ناظرة إلى مثل السلاح والكراع «2» التي يكون ردّها سبباً لقوّة العدوّ واستعداده لحرب آخر، بل هي ناظرة إلى مثل القدور وشبهها.

ويؤيد ذلك بقوله عليه السلام: «إنّ دار الشرك يحلّ ما فيها وإنّ دار الإسلام لا يحلّ ما فيها» (في صدر رواية عبداللَّه بن سليمان).

ولكن التعارض بين الطائفة الرابعة وغيرها باقٍ بحاله، لأنّ ظاهر الأخير كون سبي نسائهم وأخذ أموالهم التي لم يحوها العسكر كان مباحاً له عليه السلام ولم يفعله لعلمه بغلبة الأعداء في المستقبل على شيعته، فأراد أن يكون هذا سنّة بين الناس فلو لم يكن الخوف من هذه الناحية كان من الممكن أن يأخذ جميع أموالهم ويسبي ذراريهم.

هذا، ولكن يظهر من غير واحد من روايات هذه الطائفة أنّه لا يجوز هذا لأحد حتّى يظهر المهدي عليه السلام (فراجع 1 و 2 و 3/ من الباب 25 من جهاد العدو في الوسائل).

وما رواه صاحب المستدرك «3» فهي من هذه الجهة متهافتة، متعارضة، ساقطة بنفسها.

وعلى كلّ حال فالتعارض والتهافت إنّما هو بالنسبة إلى ما لم يحوه العسكر، وأمّا بالنسبة إلى ما حواه العسكر، فجميع

الروايات متوافقة على جوازها، فلا يبقى إشكال من هذه الناحية، وأمّا بالنسبة إلى غيرها، فالتعارض ثابت فإنّ الثلاثة الأُولى بعد الجمع تنافي الطائفة الرابعة الدالة على جواز اغتنام ما لم يحوه العسكر أيضاً وأنّه عمل فيهم بالمنّ والعفو

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 60

(وجاز له ألّا يمنّ ولا يعفو) أو كان هناك مصلحة خاصة.

ومن الواضح أنّ الترجيح للطوائف الأُولى، لأنّ الأصل في أموال أهل القبلة، الحرمة، إلّا ما خرج بالدليل وأولى من ذلك بالنسبة إلى نفوسهم، وإنّما دلّ الدليل في خصوص ما حواه العسكر فهي موافقة للكتاب والسنّة القطعية من هذه الجهة.

وأمّا إطلاق قوله تعالى: «وَاعْلَمُواْ أَ نَّمَا غَنِمْتُمْ ...» فالظاهر أنّه منصرف إلى غنائم الكفّار، وتؤيده الآيات السابقة واللاحقة فإنّها صريحة في الكفّار.

هذا مضافاً إلى ضعف الطائفة الأخيرة عن اثبات الجواز لدلالة بعضها على اختصاص الجواز بولي هذا الأمر (المهدي)- عجّل اللَّه له الفرج- وهو ما رواه صاحب الوسائل عن أبي بكر الحضرمي قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: «لسيرة علي عليه السلام في أهل البصره كانت خيراً لشيعته ممّا طلعت عليه الشمس إنّه علم أنّ للقوم دولة فلو سباهم لسبيت شيعته، قلت:

فأخبرني عن القائم عليه السلام يسير بسيرته؟ قال: لا، إنّ علياً عليه السلام سار فيهم بالمنّ لما علم من دولتهم، وإنّ القائم يسير فيهم بخلاف تلك السيرة لأنّه لا دولة لهم» «1».

وعن محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن القائم إذا قام بأي سيرة يسير في الناس؟ فقال: «بسيرة ما سار به رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حتّى يظهر الإسلام. قلت: وما كانت سيرة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟ قال: أبطل ما كان في الجاهلية واستقبل

الناس بالعدل، وكذلك القائم إذا قام يبطل ما كان في الهدنة ممّا كان في أيدي الناس، ويستقبل بهم العدل» «2».

وعن الحسن بن هارون بيّاع الأنماط قال: كنت عند أبي عبداللَّه عليه السلام جالساً فسأله معلى بن خنيس: أيسير الإمام (القائم) بخلاف سيرة علي عليه السلام؟ قال: «نعم وذلك أنّ علياً عليه السلام سار بالمنّ والكفّ لأنّه علم أنّ شيعته سيظهر عليهم، وإنّ القائم عليه السلام إذا قام سار فيهم بالسيف والسبي، لأنّه يعلم أن شيعته لن يظهر عليهم، من بعده أبداً» «3».

وفي مستدرك الوسائل عن معلى بن خنيس وقد مضى سابقاً.

فتلخص من جميع ما ذكر أنّ الجواز فيما حواه العسكر ليس ببعيد ولا يضره ضعف الاسناد فيها غالباً بعد تظافرها، وإن كان الأحوط استحباباً تركه.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 61

بل يمكن التمسك بالعناوين الثانية هنا للجواز فإنّ ردّ السلاح والكراع وما هو موجود في ميدان الحرب إلى البغاة غالباً يوجب قوتهم وقدرتهم على إيقاد نار الحرب والهجمات المستقبلة.

وهذا ممّا لا يساعده العقل واصول المذهب.

هذا، ولا ينبغي ترك الاحتياط في أموال البغاة في أعصارنا من حيث إنّ جميع مصارف الحروب من السلاح والكراع وغيرها على عهدة الحكومات، بل كثيراً ما يأخذ المقاتلون أجوراً كثيرة على سعيهم في هذا الطريق، وقد مرّ الكلام فيه آنفاً.

وعلى كلّ حال فاللازم إخراج خمسه في صورة التقسيم للتصريح به في غير واحد من روايات هذا الباب، مضافاً إلى إطلاق آية الخمس بالنسبة إلى الغنائم بعد إلغاء الخصوصية عنها.

المسألة الثالثة: قد تكون الغنيمة مالًا مغصوباً، فإن كان مغصوباً من بعض أهل الحرب (وإن لم يكونوا من المقاتلين) فلا إشكال في دخوله في الغنيمة.

وكذا إذا كان أمانة أو عارية أو شبه ذلك من أهل

الحرب عند بعض المقاتلين، كما إذا أخذ سلاحه من غيره عارية أو إجارة، كلّ ذلك لإطلاق أدلة الغنيمة وعدم وجود دليل على تقييدها.

أمّا إذا كان غصباً من مسلم أو ذمي أو معاهد محترم المال، فالمحكي عن المشهور وجوب ردّه إلى مالكه، وحكى الخلاف عن شاذ من قدماء الأصحاب كالشيخ في (النهاية) والقاضي في بعض كتبه.

ولا شك في أنّ الموافق للقاعدة والاصول المعلومة من المذهب هو مقالة المشهور لاحترام مال المسلم وشبهه، فما لم يدلّ دليل قاطع على الجواز يجب حفظ حرمته.

ويدلّ على مقالة المشهور:

1- ما رواه طربال، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سئل عن رجل كان له جارية فأغار عليه المشركون فأخذوها منه ثمّ إنّ المسلمين بعد غزوهم فأخذوها فيما غنموا منهم. فقال: «إن انوار الفقاهة، ج 2، ص: 62

كانت في الغنائم وأقام البيّنة أنّ المشركين أغاروا عليهم فأخذوها منه ردّت عليه، وإن كانت قد اشتريت وخرجت من المغنم فأصابها ردّت عليه برمتها، وأعطى الذي اشتراها الثمن من المغنم من جميعه، قيل له: فإن لم يصبها حتّى تفرق الناس وقسموا جميع الغنائم فأصابها بعد؟ قال: يأخذها من الذي هي في يده إذا أقام البيّنة ويرجع الذي هي في يده إذا أقام البيّنة على أمير الجيش بالثمن» «1»

. ولكن سنده ضعيف لجهالة طربال، اللّهم إلّاأن يقال بجبره بعمل المشهور.

2- صحيحة هشام بن سالم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سأله رجل عن الترك يغزون على المسلمين فيأخذون أولادهم فيسرقون منهم أيرد عليهم؟ قال: «نعم والمسلم أخو المسلم والمسلم أحقّ بماله أينما وجده» «2».

ولكن موردها هو خصوص السرقة لا الغنيمة وقد يعارض ذلك بما رواه هشام بن سالم عن بعض أصحاب أبي عبداللَّه عليه السلام، عن أبي

عبداللَّه عليه السلام في السبي يأخذ العدو من المسلمين في القتال من أولاد المسلمين أو من مماليكهم فيحوزونه، ثمّ إنّ المسلمين بعد قاتلوهم فظفروا بهم وسبوهم وأخذوا منهم ما أخذوا من مماليك المسلمين وأولادهم الذين كانوا أخذوهم من المسلمين كيف يصنع بما كانوا أخذوه من أولاد المسلمين ومماليكهم؟ قال:

فقال: «أمّا أولاد المسلمين فلا يقامون في سهام المسلمين، ولكن يردّون إلى أبيهم وأخيهم وإلى وليهم بشهود، وأمّا المماليك فإنّهم يقامون في سهام المسلمين فيباعون وتعطى مواليهم قيمة أثمانهم من بيت مال المسلمين» «3»

. وهي دليل على استحقاق القيمة فقط. لكنها مرسلة.

وما رواه الحلبي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سألته عن رجل لقيه العدوّ وأصاب منه مالًا أو متاعاً ثمّ إنّ المسلمين أصابوا ذلك كيف يصنع بمتاع الرجل؟ فقال: «إذا كانوا أصابوه قبل أن يحوزوا متاع الرجل ردّ عليه وإن كانوا أصابوه بعد ما حازوه فهو في ء المسلمين انوار الفقاهة، ج 2، ص: 63

فهو أحق بالشفعة» «1».

4- ما رواه جميل عن رجل عن أبي عبداللَّه عليه السلام (4/ 35) وهو أيضاً دليل على ردّ الثمن إليه دون الأصل.

والمتحصّل من الجميع أنّ الطائفة الاولى دليل على وجوب أداء العين إلى صاحبه وقيمته إلى المقاتلين، والطائفة الثانية على العكس.

ومن المعلوم أنّ الترجيح مع الطائفة الاولى لموافقتها لعمومات الكتاب والسنّة الدالة على احترام مال المسلم، ولموافقتها للشهرة المحكية.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون العلم بكونه مال المسلم قبل القسمة أو بعدها كما لا يخفى.

المسألة الرابعة: هل للغنيمة نصاب؟

ظاهر المشهور وصريح كثير من الأصحاب عدمه، فيخرج منها الخمس قليلًا كان أو كثيراً.

قال صاحب الجواهر: «لا أعرف فيه خلافاً سوى ما يحكى عن ظاهر غرية المفيد من اشتراط بلوغ مقدار عشرين

ديناراً، (ثمّ قال:) وهو ضعيف جدّاً لانعرف له موافقاً ولا دليلًا» «2».

أقول: وكأنّه فهم العموم من قوله عليه السلام في صحيحة البزنطي «3» ومرسلة المفيد «4».

فإنّ قوله عليه السلام: «ما يجب الزكاة في مثله ففيه الخمس» قد يستفاد منه العموم بالنسبة إلى جميع موارد الخمس، ولكنه كما ترى لأنّ الظاهر منه هو خصوص مورد السؤال وهو الكنز، فتأمل.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 64

المسألة الخامسة: هل في السلب خمس: (وهو كما في مجمع البحرين بفتح اللام ما يسلب من المقتول من ثياب وسلاح وجبة للحرب)؟

قال الشيخ رحمه الله في الخلاف: «السلب لا يستحقه القاتل إلّاأن يشترط له الإمام وبه قال أبو حنيفة ومالك، وقال الشافعي هو للقاتل وإن لم يشترط له الإمام وبه قال الأوزاعي والثوري وأحمد بن حنبل، دليلنا أنّه إذا شرطه إستحقه بلا خلاف وإذا لم يشترط ليس على استحقاقه له دليل» «1».

ثمّ صرّح في المسألة 9 أنّه لا خمس عليه ونقل اختلاف فتاوى العامة في الخمس وعدمه. وصرّح صاحب المبسوط أيضاً بعدم اختصاص السالب بالسلب إلّاباشتراط الإمام وأنّه ليس عليه خمس حينئذٍ «2».

وقال الشهيد رحمه الله في القواعد: «قوله عليه السلام من قتل قتيلًا فله سلبه، فيه تردد من حيث كونه فتوى وعدمه فقيل، فتوى، فيعم، وهو قول ابن الجنيد، وقيل تصرف بالإمامة فيتوقف على إذن الإمام، وهو أقوى هنا» «3».

وقال صاحب الجواهر بعد ذكر كلام المحقّق رحمه الله: «السلب إذا شرطه (الإمام) للقاتل ولو لم يشترطه لم يختص به بل يكون كباقي مال الغنيمة بلا خلاف أجده في الأوّل، لعموم «المؤمنون» ولقول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوم خيبر «من قتل قتيلًا فله سلبه» وعلى المشهور في الثاني، بل لا أجد

فيه خلافاً إلّاعن الإسكافي، لعموم ما دلّ على قسمة الغنيمة بين المقاتلين الذي لا يخصصه ما يظهر من بعض نصوص الجمهور من كون ذلك جعلًا من النبي صلى الله عليه و آله لكلّ قاتل في كلّ غزوة بعد عدم ثبوت حجيته، بل إعراض المشهور، بل الجميع عداه عنه» «4».

أقول: ففي المسألة مقامان:

أحدهما: كون السلب للقاتل مطلقاً أو يكون له بالإشتراط.

ثانيهما: تعلق الخمس به على التقديرين.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 65

أمّا الأوّل: فلا دليل على كونه له مطلقاً، بعد إطلاق أدلّة الغنيمة الظاهرة في اشتراك جميع المقاتلين فيها، وعدم دليل على تخصيصها، وأمّا ما رواه الجمهور في هذا الباب فإثباته من طرقنا مشكل، كما عرفت من كلام صاحب الجواهر، مضافاً إلى أن قوله صلى الله عليه و آله:

«من قتل قتيلًا فله سلبه» يمكن أن يكون من باب الجعائل في غزوات خاصة أو غزواته صلى الله عليه و آله فهو حكم ولائي، لا حكم فتوائي دائمي، فإذا كان بحكم الغنيمة دخل في حكم الخمس أيضاً.

نعم، يجوز اشتراطه للقاتل لما عرفت من كون الجعائل بيد ولي أمر المسلمين رعاية لمصالحهم.

أمّا الثاني: (أعني تعلق الخمس به مطلقاً أو عند جعل الإمام واشتراطه) فهو أيضاً محل إشكال، نظراً إلى ما قد يقال من أنّ أدلّة خمس الغنيمة ناظرة إلى الغنائم التي يقسم خمسها بين المقاتلين لا ما يختص ببعضهم، ولذا ورد في بعض ما سبق من الروايات أنّه يُخمّس منها الخمس ثمّ يقسم الباقي «1».

هذا، ولكن الإنصاف أنّ سكوت بعضها أو ظهورها في خصوص ما يقسم من الغنائم لا يمنع عن إطلاق غيره، لصدق الغنيمة على السلب ظاهراً فيشمله قوله تعالى: «وَاعْلَمُواْ أَ نَّمَا غَنِمْتُمْ ...» ولا أقل من الاحتياط، هذا

بالنسبة إلى خمس الغنائم وأمّا خمسه من باب أرباح المكاسب، فسيأتي الكلام فيه إن شاء اللَّه.

2- المعادن

اشارة

المعروف بين الأصحاب، بل بين علماء الإسلام جميعاً، وجوب الخمس في المعادن في الجملة، إنّما الكلام في خصوصياتها.

قال شيخ الطائفة رحمه الله في الخلاف: «المعادن كلّها يجب فيها الخمس من الذهب والفضة والحديد والصفر والنحاس والرصاص ونحوها، ممّا ينطبع وممّا لا ينطبع كالياقوت والزبرجد والفيروزج ونحوها، وكذلك القير والمومياء والملح والزجاج وغيره.

وقال الشافعي: لا يجب في المعادن شي ء إلّاالذهب والفضة ... (ثمّ نقل عن أبي حنيفة، الوجوب في خصوص ما ينطبع مثل الحديد وغيره، ثمّ قال:) دليلنا إجماع الفرقة وإخبارهم» «1».

وقال المحقّق رحمه الله في المعتبر: الثاني (ممّا يجب فيه الخمس)، المعادن، وهي كلّ ما استخرج من الأرض ممّا كان فيها وهو مشتق من عدن بالمكان، إذا قام فيه ومنه، جنات عدن؛ والخمس فيها واجب على اختلافها منطبعة كانت أو غير منطبعة، أو المائعة كالنفط والغاز والكبريت، ثمّ استدل لصدق الغنيمة عليها ودخولها في عنوان الركاز، فيما رُوي عنه صلى الله عليه و آله في الركاز، الخمس وما رُوي من طرق الأصحاب «2».

وقال النراقي رحمه الله في المستند: وجوب الخمس فيها إجماعي والنصوص به مستفيضة «3».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 68

وكيف كان فاللازم قبل كلّ شي ء نقل أحاديث المعدن على اختلاف مفاهيمها ليعلم على ما يدور الحكم، ثمّ ملاحظة مفهوم المعدن والركاز في اللغة.

ثمّ ملاحظة كلمات الأصحاب في جزئياتها حتّى يظهر حال المسألة.

والروايات هنا على طوائف:

الأُولى ما دلّ على وجوب الخمس في مطلق المعادن مثل:

1- ما رواه عمّار بن مروان عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: «فيما يخرج من المعادن والبحر والغنيمة والحلال

المختلط بالحرام إذا لم يعرف صاحبه والكنوز، الخمس» «1».

2- ما رواه ابن أبي عمير عن غير واحدٍ عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «الخمس على خمسة أشياء: على الكنوز والمعادن والغوص والغنيمة، ونسى ابن أبي عمير الخامس» «2».

3- ما رواه أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، عن أبي الحسن عليه السلام قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عمّا أخرج المعدن من قليل أو كثير هل فيه شي ء؟ قال: «ليس فيه شي ء حتّى يبلغ ما يكون في مثله الزكاة عشرين ديناراً» «3»

والقول بكونها في مقام بيان النصاب فقط، فلا يصح استفادة الإطلاق منها، غير قادح على فرض التسليم لوجود أخبار كثيرة في المقام.

4- ما رواه حمّاد بن عيسى، عن بعض أصحابنا، عن العبد الصالح عليه السلام قال: «الخمس من خمسة أشياء: من الغنائم، والغوص، ومن الكنوز، ومن المعادن، والملاحة» «4».

5- ما رواه أحمد بن محمّد قال: حدّثنا بعض أصحابنا رفع الحديث قال: «الخمس من خمسة أشياء: من الكنوز والمعادن والغوص والمغنم الذي يقاتل عليه، ولم يحفظ

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 69

الخامس» «1».

6- ما رواه تفسير النعماني، عن علي عليه السلام قال: «... والخمس يخرج من أربعة وجوه:

من الغنائم التي يصيبها المسلمون من المشركين، ومن المعادن، ومن الكنوز، ومن الغوص» «2».

7- ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن المعادن ما فيها؟ فقال: «كلّ ما كان ركازاً ففيه الخمس، وقال: ما عالجته بمالك ففيه ما أخرج اللَّه سبحانه منه من حجارته، مصفى الخمس» «3».

الثانية: ما دلّ على تعلق الخمس بخمسة أشياء من المعادن من دون نفي شي ء آخر مثل:

8- ما رواه محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن معادن الذهب

والفضة والصفر والحديد والرصاص، فقال: «عليها الخمس جميعاً» «4».

9- ما رواه الحلبي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن الكنز كم فيه؟

قال: الخمس، وعن المعادن، كم فيها؟ قال: الخمس، وعن الرصاص والصفر والحديد وما كان من المعادن، كم فيها؟ قال: يؤخذ منها كما يؤخذ من معادن الذهب والفضّة «5».

وهو أيضاً من الأحاديث العامّة من جهة.

الثالثة: ما دلّ على وجوب الخمس في الملاحة (وهو معدن الملح) والكبريت (الظاهر أنّه المائع منه) والنفط، وهو:

10- ما رواه محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الملاحة؟ فقال: «وما الملاحة؟ فقال (فقلت): أرض سبخة مالحة يجتمع فيه الماء فيصير (ويصير) ملحاً، فقال: هذا المعدن، فيه الخمس. فقلت: والكبريت والنفط يخرج من الأرض. قال:

فقال: هذا وأشباهه، فيه الخمس» «6»

. ولا يخفى أنّه سأل الإمام عليه السلام عن الملاحة ليتضح أنّ انوار الفقاهة، ج 2، ص: 70

السائل يطلقها على أي شي ء حتّى لا يبقى إبهام في المراد منها، لا لجهله عليه السلام بها معاذ اللَّه، فإنه وارث علوم الأنبياء عليهم السلام.

ولكن يظهر من قوله «هذا المعدن، فيه الخمس» عموم الحكم لكلّ معدن حتّى مثل الملح وهو من هذه الجهة من الروايات العامّة.

الرابعة: ما دلّ على الخمس في معادن الذهب والفضة بالخصوص من دون نفي شي ء آخر وهو:

11- ما رواه محمّد بن علي بن أبي عبداللَّه، عن أبي الحسن عليه السلام قال: سألته عمّا يخرج من البحر من اللؤلؤ والياقوت والزبرجد وعن معادن الذهب والفضّة، هل فيها زكاة؟ فقال:

«إذا بلغ قيمته ديناراً ففيه الخمس» «1».

طريق الجمع بين هذه الأحاديث ظاهرة واضحة، وحاصلها تعلق الحكم بكلّ ما يسمّى معدناً من دون فرق بين المنطبع وغير المنطبع والجامد

والمائع والظاهر والباطن في الأرض والقليل والكثير، ولا ينافي ذلك ذكر بعضها بالخصوص في الرواية، فإنّ اثباته في شي ء لا ينافي إثباته في أشياء أخرى

فلنرجع إلى تفسير لفظ المعدن، فنقول ومن اللَّه التوفيق والهداية:

قال صاحب القاموس: «المعدن، كمجلس، منبت الجواهر من ذهب ونحوه لإقامة أهله فيه دائماً أو لإنبات اللَّه عزّوجلّ إيّاه فيه، ومكان كلّ شي ء فيه أصله (انتهى)» «2».

وظاهر وجود معنيين للمعدن، معنى خاصّ يختصّ بمعدن الجواهر (الفلز الثمين)، ومعنى عام وهو مكان كلّ شي ء فيه أصله.

وقال صاحب النهاية الأثيرية: «المعادن، المواضع التي يستخرج منها جواهر الأرض كالذهب والفضة والنحاس وغير ذلك ... والمعدن، الإقامة، والمعدن، مركز كلّ شي ء (انتهى)».

وهو أيضاً كالقاموس في إثبات معنيين للمعدن وفي اختصاص المعنى الخاصّ بالجواهر.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 71

وقال صاحب مجمع البحرين: «ومنه (من معنى الإقامة) سمّى المعدن، كمجلس، لأنّ الناس يقيمون فيه الصيف والشتاء، ومركز كلّ شي ء معدنه، والمعدن، مستقر الجواهر (انتهى)» «1».

ومفاد هذا الكلام هو ما مرّ في ما قبلهما.

وقال الراغب في المفردات: «عدن بمكان كذا: استقر. ومنه المعدن لمستقر الجواهر» «2».

وذكر له صاحب لسان العرب معاني متعددة: «مركز كلّ شي ء معدنه- المكان الذي يثبت فيه الناس، لأنّ أهله يقيمون فيه ولا يتحولون عنه شتاءً ولا صيفاً (في مقابل منازلهم في خصوص الصيف والشتاء) ... ومعدن الذهب والفضة سمّي معدناً لإنبات اللَّه فيه جوهرهما وإثباته إيّاه في الأرض» «3».

وقال صاحب منتهى الأرب (بالفارسية): «معدن، كمجلس كان جواهر از سيم وزر و جز آن، بدان جهت كه همواره أهل آن در آن قيام مى دارند يا آن كه حق تعالى جواهرات را در آن ثبات داده، وجاى باشش تابستان وزمستان، واصل ومركز هر چيزى (انتهى)».

وهو أيضاً موافق

لما سبق إجمالًا.

ويظهر من هذه الكلمات أُمور:

1- إنّهم ذكروا للمعدن معاني ثلاثة: منبت الجواهر، ومركز كلّ شي ء، ومحل الإقامة في الصيف والشتاء، وكلّها مرتبطة بمعناه الأصلي وهو الإقامة، ومن الواضح أنّ محل الكلام ناظر إلى المعنى الأوّل.

2- المعدن: اسم المحل الذي تكون فيها هذه الجواهر، وهو المناسب لمعنى أصل هذه الكلمة، وهو «عدن»، ولكن الفقهاء- رضوان اللَّه تعالى عليهم- خصّوه بما يخرج من هذه الأشياء من الأرض.

قال العلّامة رحمه الله في التذكرة: «المعادن: كلّ ما خرج من الأرض ممّا يخلق فيها من غيرها

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 72

ممّا له قيمة» ثمّ مثل له بالفلزات والياقوت وشبهه والملح والكحل وغيرهما والمائعات كالقير والنفط. ثمّ قال: «عند علمائنا أجمع» «1».

وظاهر هذا الكلام أو صريحه أنّه اسم للحال، وكذا غيره من أشباهه، وأصحاب هذا التعبير لاحظوا فيه محل ابتلائهم وحاجتهم.

3- المعدن: يختص بمنبع الجواهر عند أهل اللغة وظاهرها عدم الشمول أمثال الملح والقير وغيرهما، مع أنّ الفقهاء عمّموه لغيرها أيضاً، كما عرفت من كلام التذكرة.

ولذا ذكر صاحب المسالك أيضاً: «المعدن هنا: كلّ ما استخرج من الأرض ممّا كان منها بحيث يشتمل على خصوصية يعظم الانتفاع بها ومنها الملح والجص وطين الغسل وحجارة الرحى والمغرة» «2» (المغرة هو الطين الأحمر).

ولعلّ الفقهاء فهموا العمومية هنا من أُمور:

أحدها: ما ورد في صحيحة محمّد بن مسلم (الباب 3 من ما يجب فيه الخمس، الحديث 4، وقد سبق ذكرها) فإنّ قوله بالنسبة إلى الملاحة «هذا المعدن» دليل على عمومية المراد من لفظ المعدن، هنا، بحيث يشمل منابت الجواهر وغيرها ممّا خرج من اسم الأرض وعظم الانتفاع به (ويمكن أن يكون تركيب الجملة بعنوان المبتدأ والخبر، فهذا مبتدأ، والمعدن خبره، أو كون المعدن عطف بيان وفيه الخمس خبر).

وأمّا ما لم

يخرج منها مثل حجارة الرحى والطين الأحمر والجص قبل طبخه فإنّها من مسمّى الأرض يجوز السجود عليها والتيمم بها، هل يتعلق بها الخمس من ناحية عنوان المعدن، أم لا؟ فسيأتي الكلام فيه إن شاء اللَّه.

هذا بناءً على نسخة الشيخ رحمه الله في التهذيب، ولكن رواه الصدوق رحمه الله في الفقيه والمقنع بهذه العبارة: «هذا مثل المعدن فيه الخمس» وحينئذٍ يكون ظاهره عدم شمول موضوع المعدن له، بل يشمله حكمه وهو الخمس، فهو شبيه له من جهة حكمه وإن كان خارجاً

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 73

موضوعاً، ومن الواضح عدم الفرق من هذه الناحية في ما نحن بصدده.

ويؤيد ذلك، عدّ الملاحة في مقابل المعدن، في رواية حمّاد بن عيسى، عن بعض أصحابنا، عن العبد الصالح عليه السلام قال: «الخمس من خمسة أشياء: من الغنائم والغوص ومن الكنوز ومن المعادن والملاحة» «1»

. فإنّ المقابلة وعدّ الملاحة أمراً خامساً يجب فيه الخمس، دليل على خروجها موضوعاً، والظاهر أنّ هذا هو الذي نسيه ابن أبي عمير في روايته المعروفة، فهي أيضاً مؤيدة لخروجها موضوعاً.

ثانيها: شمول عنوان الركاز الوارد في صحيحة زرارة: «كلّ ما كان ركازاً ففيه الخمس» «2»

بناءً على ما ذكره بعضهم من أنّه «يشمل كلّ ما له ثبات وقرار ومرتكز في مكان حتّى مثل الملح» «3».

ولكنه لا يخلو من تأمل، لأنّ ارتكاز الماء المالح في بعض الأماكن ليس إلّاكارتكاز المياه في البحار، والركاز بما له من المعنى الذي سيأتي ذكره عن كتب اللغة (إن شاء اللَّه) يشكل شموله له، وأشد إشكالًا منه ما لم يخرج من اسم الأرض كحجارة الرحى أو حجر الجص قبل أن يطبخ، الذي يصحّ السجود عليه، وكذا التيمم، فإن صدق الركاز عليها مشكل جدّاً (كما ستأتي

الإشارة إليه عن قريب).

ثالثها: شمول عموم آية الخمس لها، فإنّ جميع ذلك داخل في الغنيمة بالمعنى العام لشمولها كلّ فائدة من الفوائد والمعادن منها.

ويرد عليه: إنّ المقصود هو إثبات الخمس فيها بالخصوص حتّى لا تكون المؤونة خارجة منها وبغير النصاب فيها على القول باعتباره في المعدن، ومن الواضح أنّ هذا الدليل غير كافٍ في إثبات هذا المعنى.

فتحصل من جميع ما ذكرنا: أنّ العمدة لإثبات العموم هي صحيحة محمّد بن مسلم لا غير، لكنها لا يستفاد منها أزيد من الأصناف الثلاثة (أنواع الفلزات، أنواع العقيق والفيروزج انوار الفقاهة، ج 2، ص: 74

وما أشبههما وأنواع المعادن المائعة كالنفط وشبهه) وأمّا ما لم يخرج عن اسم الأرض مطلقاً كحجر الرحى والجص والأحجار المتخذة للبناء في أيّامنا وأنواع الطين المستفاد منها للبناء والسفال والآجُر وغيرهما، فلا دليل على دخوله تحت هذا العنوان.

ولعلّه لذلك كلّه ذكر في العروة الوثقى بعد ذكر ثمانية عشرة من الأنواع الثلاثة الاولى ما نصّه: «بل والجص والنورة وطين الغسل وحجر الرحى والمغرة وهي الطين الأحمر على الأحوط وإن كان الأقوى عدم الخمس فيها من حيث المعدنية».

فهذه الأمثلة الخمسة، داخلة في النوع الرابع الذي لا دليل على دخوله في عنوان المعدن ويدخل في عمومات أرباح المكاسب «1».

بقى هنا أُمور:

1- لو شككنا في بعض هذه الأقسام ودخولها في عنوان المعدن وعدمه فلا ينبغي الشك في كون المرجع عمومات أرباح المكاسب والغنائم بالمعنى الأعم فلا يعتبر فيه النصاب ويستثنى منه مؤونة السنة، فإنّ التمسك بالعموم عند الشبهة المفهومية في المخصص المنفصل ممّا لا مانع منه كما ذكر في محلّه، نعم، لو كان المخصص متصلًا، أمكن التشكيك فيه من جهة سراية الإجمال والإبهام إلى العموم.

هذا، ولو فرض عدم العموم

هناك من حيث عدم كون المعدن منفعة مستمرة، فهل المرجع البراءة في غير ما زاد عن مؤونة السنة فيدخل المشكوك في حكم الأرباح أو لابدّ من الأخذ بالاحتياط؟ الظاهر هو الأخير، للعلم الإجمالي بأنّه لو كان داخلًا في عنوان المعدن لا يستثنى منه مؤونة السنة، ولكن يستثنى منه ما نقص عن النصاب على القول به، ولو كان داخلًا في الأرباح، استثنى منه مقدار المؤونة ولا يستثنى منه ما نقص عن النصاب، ولازم العلم الإجمالي، الاحتياط بين الأمرين، فلا يستثنى منه ما نقص من النصاب ولا مقدار

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 75

المؤونة، فتأمل.

2- لا فرق في وجوب إخراج خمس المعدن بين أن يكون في أرض مباحة أو مملوكة له وبين أن يكون تحت الأرض أو على ظهرها، كلّ ذلك لإطلاق الأدلة، بل صريح بعضها بالنسبة إلى الثاني، فإنّ الملاحة بل النفط والكبريت كانت في تلك الأيّام في ظاهر الأرض.

3- لا فرق بين أن يكون المُخرج مسلماً أو كافراً ذمّياً بل ولو حربياً، بناءً على ظهور إطلاقاتها دليلًا على تعلق الخمس بنفس المعدن، مطلقاً؛ فقوله: «هذا وأشباهه فيه الخمس» وأمثاله، دليل على وجود الخمس في أنواع المعادن من دون أي فرق بين المالكين، وبعبارة أُخرى، الخمس: حكم وضعي لا تكليفي، فالحكومة الإسلامية لو كانت قادرة على أخذ الخمس من الكفّار الذميين، لأخذت منهم وكذا الحربيين، لا بعنوان استنقاذ أموالهم، بل بعنوان الخمس، ولو استنقذ إنسان أموالهم وكانت ممّا أخرج من المعادن، وجب عليه إخراج خمسها لتعلق الخمس بالعين، كما سيأتي إن شاء اللَّه، هذا مضافاً إلى أنّ الكفّار مكلّفون بالفروع كما هم مكلّفون بالاصول، ولو أسلم الكافر والعين موجودة أُخذ منه الخمس ولو تلف واستقر الخمس في ذمّته،

أمكن الحكم بجب الإسلام عمّا سبقه.

4- وكذا، لا فرق بين أن يكون المُخرج للمعدن بالغاً أو صبياً أو مجنوناً أو عاقلًا، لأنّ ظاهر أدلة الخمس كونه حكماً وضعياً لا يختصّ بالمكلّفين فقط بل يشمل أموال الصبي والمجنون.

فقوله: «هذا وأشباهه فيه الخمس» أو قوله في الجواب عن السؤال عن المعادن وعن الرصاص والصفر والحديد و ...: «فيها الخمس» «1»

وغير ذلك ممّا هو في معناه، دليل على تعلق الخمس بهذه الأموال من دون فرق بين كون مالكها مكلّفاً بالغاً أو غير مكلّف.

وسيأتي مزيد كلام في هذا، في المسألة 75 من ما يجب فيه الخمس في باب تعلق الخمس بالعين، وفي المسألة 84 منه.

5- لا ينبغي الإشكال ظاهراً في جواز استخراج المعادن بمعونة الغير، وفي أنّه يملك انوار الفقاهة، ج 2، ص: 76

حاصله ويتعلق به الخمس دون المعيّن الذي لم يقصد بفعله تملك ما في المعدن، بل قصد غيره ذلك بمعونته، إنّما الكلام في أنّه إذا أقدمت بعض الحكومات على ذلك كما هو المتداول اليوم في استخراج النفط والبترول، بل وكثير من المعادن الأخرى بمعونة العمال والمهندسين، فهل هي تملكه ويتعلق به الخمس أم لا؟

الحقّ أنّه تملكه، لما ذكرنا في محلّه من صحّة مالكية «الجهة» و «العنوان» مثل عنوان «الحكومة» أو شركة فلان أو جمعية فلان، بل وكذا يملك المسجد أو الحسينية أشياء تتعلق بها وتهدى إليها، لأنّ الملكية أمر اعتباري عقلائي لا يعتبر فيها عندهم كون المالك شخصاً خارجياً بل يكفي كونه شخصاً حقوقياً وعنواناً اعتبارياً كالأمثلة السابقة.

وكذا لا يعتبر فيها كون المالك من ذوي العقول كما عرفت، والوسوسة في ذلك بعدما نشاهد مصاديقها الكثيرة متداولة بين العقلاء من أهل العرف، أمر غريب، كيف، وكثير من أموال العالم

لو لم نقل أكثرها، ملك الجهة- أي الحكومات- في أقطار الأرض، ومجرّد عدم وجود هذا في عصر النبي صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام، غير ضائر بالمقصود بعد أخذ الموضوعات من العرف، والأحكام من الشرع، كما هو كذلك في الموضوعات المستحدثة والمصاديق الجديدة لموضوعات الأحكام.

بل لا نسلِّم بعدم وجودها في تلك الأعصار بعد وجود الحكومات في تلك الأزمنة وعدم المعاملة مع أموالها معاملة الملك الشخصي.

وكذلك الأوقاف العامة أو الخاصة التي هي في الحقيقة ملك العنوان، فلذا لا تتوارث، بل كلّ من كان داخلًا تحت العنوان يستحقه، وإذا خرج منه خرج عن استحقاقها.

وتمليك شي ء للمسجد أو الحسينية أو الكنائس وأشباهها أمر متداول بين الناس.

والحاصل: أنّ صحّة التملك من هذه الجهة لا ينبغي الريب فيها- كما أنّه لا وجه لعدم تعلق الخمس بها- بعد إطلاقات أدلّته، فالمعدن يتعلق به الخمس من دون فرق بين أن يكون مالكه شخصاً عينياً أو عنوانياً، ولا وجه للقول بعدم شمول الإطلاقات له أو انصرافه عنه كما هو ظاهر، فيجوز للحاكم الشرعي أخذ الخمس ممّن استخرج المعادن سواء كان شخصاً أو

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 77

شركة أو حكومة.

نعم، إذا كانت الحكومة الإسلامية هي المتصدي للاستخراج فيمكن دعوى عدم شمول الخمس له، نظراً إلى عدم تعلّق الخمس بما يتملكه صاحب الخمس ويدلّ على ذلك أو يؤيده ما رواه علي بن الحسين بن عبد ربه، قال: «سرّح الرضا عليه السلام بصلة إلى أبي، فكتب إليه أبي، هل عليَّ في ما سرّحت إليَّ خمس؟ فكتب إليه: «لا خمس عليك فيما سرّح به صاحب الخمس» «1»

وإن كان في سنده إشكال.

فإذا لم يتعلق الخمس بما يعطيها صاحب الخمس فلا يتعلق بأمواله بطريق أولى، وهكذا بالنسبة إلى

تعلق الزكاة بأموال الحكومة.

أضف إلى ذلك أنّ دعوى الانصراف هنا قوية وإن هو إلّامن قبيل أخذ الماليات من أموال الحكومة، فإنّ الماليات تؤخذ لدعم الحكومة وتقويتها وتزويدها بما يعينها على مقاصدها، وحينئذٍ لا معنى لأخذ الخمس من أموال الحكومة الإسلامية وإخراجه من بعض جيوب الحكومة إلى بعضها الآخر.

إن قلت: هذا الكلام في نصف الخمس وهو سهم الإمام عليه السلام صحيح تام، فلا يتعلق بأموال الحكومة، وأمّا سهم الهاشميين وهو النصف الآخر، ليس كذلك فهو حقّهم لابدّ من أخذه من أموال الحكومة الإسلامية أيضاً.

قلت: الذي يظهر من الأدلّة هو أنّ أمر الجميع بيد الإمام عليه السلام ولذا قد يبيحه لبعض الشيعة أو لجميعهم في بعض الأعصار، فهي في الحقيقة من قبيل أموال الحكومة وإن كان مصرف النصف منها هم السادة الكرام، فتأمل.

كما أنّ سهم الفقراء غير السادة في الزكاة كذلك، ولذا لم يسمع أخذ الزكاة من أموال بيت المال ولو كانت الآلاف والملايين من الدراهم والدنانير أو في سهمه من الأراضي الخراجية أو المواشي الحاصلة لها من ناحية الخمس أو غير ذلك.

وبالجملة، انصراف أدلة الخمس عمّا نحن فيه قوي جدّاً.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 78

6- هل يعتبر النصاب في المعدن، وعلى تقديره فهل مقداره دينار أو عشرون ديناراً؟

اختلفت الأقوال في ذلك، ولقد أجاد صاحب الحدائق في كيفية جمع الأقوال في المسألة، حيث قال: «قد وقع الخلاف هنا في موضعين: أحدهما، في اعتبار النصاب وعدمه في المعدن وعلى تقدير اعتباره، فهل هو عشرون ديناراً أو دينار واحد؟

فذهب الشيخ في الخلاف إلى وجوب الخمس فيها ولا يرعى فيها النصاب وهو اختياره في الاقتصاد أيضاً، ونقل عن ابن البراج وابن ادريس مدعياً عليه الإجماع حيث قال:

إجماعهم منعقد على وجوب إخراج

الخمس من المعادن جميعها على اختلاف أجناسها قليلًا كان المعدن أو كثيراً ... وهذا إجماع منهم بغير خلاف.

1- ونقل عن ابن الجنيد وابن أبي عقيل والمفيد والسيّد المرتضى وابن زهرة وسلّار أنّهم أطلقوا وجوب الخمس وهو ظاهر في موافقة القول المتقدم.

2- واعتبر أبو الصلاح بلوغ قيمته ديناراً واحداً ورواه ابن بابويه في المقنع ومن لا يحضره الفقيه.

3- وقال الشيخ في النهاية: ومعادن الذهب والفضة لا يجب فيها الخمس إلّاإذا بلغت إلى القدر الذي يجب فيه الزكاة، ونحوه في المبسوط.

واختاره ابن حمزة وعليه جمهور المتأخرين» انتهى كلام صاحب الحدائق «1».

فتحصّل من ذلك أنّ القدماء عدا شرذمة قليلة، على عدم اعتبار النصاب فيها، وأمّا بين المتأخرين فيكون الأمر بالعكس، ومن قال باعتبار النصاب من بين القدماء، وهم، أبو الصلاح وابن بابويه والشيخ (في بعض كتبه) وابن حمزة، على قولين، فالأوّل أنّه على اعتبار دينار واحد، والأخيران على اعتبار عشرين ديناراً.

وأمّا من فقهاء الجمهور، فالحنفية قالوا: بوجوب الخمس في خصوص المنطبع من المعادن، والمالكية قالوا: بوجوب الزكاة في معادن الذهب والفضة بشروط الزكاة (منها النصاب وهو عشرون مثقالًا عندهم) وقالت الحنابلة: إنّ المعدن إن كان ذهباً أو فضة وبلغ انوار الفقاهة، ج 2، ص: 79

حدّ النصاب بعد التصفية وجب عليه الزكاة ربع العشر، وقالت الشافعية: إنّ المعدن خاص بالذهب والفضة ويجب فيه ربع العشر بشروط الزكاة «1».

وعمدة ما يدلّ على عدم اعتبار النصاب هو العمومات والإطلاقات الواردة في باب خمس المعدن، وأمّا دليل اعتبار عشرين ديناراً الذي عليه أكثر المتأخرين هو ما رواه البزنطي في الصحيح: قال: سألت الرضا عليه السلام عمّا أخرج المعدن من قليل أو كثير، هل فيه شي ء؟ قال: «ليس فيه شي ء حتّى يبلغ ما يكون

في مثله الزكاة عشرين ديناراً» «2».

وقد أورد عليها من جهات ثلاث:

1- من ناحية السند، بإعراض قدماء الأصحاب عنه، فإنّه لم ينقل العمل به إلّاعن الشيخ وابن حمزة، بل الشيخ أيضاً مخالف له في (الخلاف) بل ادّعى الإجماع فيه، وما في بعض الكلمات من أنّ المخالف بين أربعة أشخاص أو خمسة وأنّه معارض بموافقة المتأخرين «3»، كما ترى، فإنّ المخالف جميع من نقل عنه الفتاوى من القدماء، نعم، يمكن أن يكون بعض كلماتهم مطلقة لم يصرح فيه بشي ء وهذا أيضاً كافٍ، لأنّ السكوت في مقام الإفتاء والبيان يدلّ على الإعراض، وقد عرفت نقل كلماتهم في كلام صاحب الحدائق الذي يستفاد منه مخالفة أكثر من عشرة منهم، من مصرِّح بعدم النصاب، ومن قائل بوجوب الخمس في الغنيمة مطلقاً، ومن عاملٍ بخبر الدينار الواحد.

وأعجب من هذا جعل موافقة المتأخرين معارضاً لإعراض القدماء، وذلك لأنّ المدار في الإعراض والعمل هو كلمات القدماء باعتبار أنّهم كانوا قريبي العهد إلى عصر المعصومين عليهم السلام وكان عندهم كتب وقرائن ليست عندنا، وأمّا حال المتأخرين فمعلوم لنا، لا تزيد مداركهم على المدارك الموجودة عندنا.

2- أمّا من ناحية الدلالة فلعدم التصريح بمسألة الخمس فيها، فلعلّ المراد منها هو الزكاة، فتكون الرواية على نحو ما عرفت من كلمات العامة، فقد مرّ أنّ ثلاثة من أئمّتهم انوار الفقاهة، ج 2، ص: 80

الأربعة قائلون بوجوب الزكاة في المعادن، أو معادن الذهب والفضة إذا بلغ حدّ النصاب، وحينئذٍ تحمل على التقية، وهذا الاحتمال مع ملاحظة كلمات فقهائهم غير بعيد، نعم، قد يقال إنّ إطلاق المعدن في صحيحة البزنطي وعدم اختصاصه بمعادن الذهب والفضة من جانب، والتعبير بمثل قوله عليه السلام: «حتّى يبلغ ما يكون في مثله الزكاة» من جانب

آخر، دليل واضح على أنّ المراد منه الخمس لا الزكاة.

لكن يمكن الجواب عن كليهما، أمّا الأوّل: فلأنّ المماثلة إنّما تكون في خصوص الأجناس الزكوية كالذهب والفضة، وإلّا كان اللازم أن يقول حتّى يبلغ ما يكون في مقداره بحسب القيمة فإنّ الحديد ولو بلغ من الكثرة ما بلغ لا يكون في مثله زكاة أبداً كما هو ظاهر.

وأمّا الثاني: فلعلّ المراد مماثله غير المسكوك بالمسكوك فإنّ الذهب والفضة اللذين تضرب عليهما الزكاة بحسب المتعارف هو المسكوك (بل الشرط عندنا أن يكونا مسكوكين، وعندهم في بعض مصاديق غير المسكوك خلاف، فراجع) «1».

فالمعنى، إذا بلغ الذهب والفضة الخارجيين من المعدن ما يكون فيه الزكاة من الدراهم والدنانير، فتأمل.

وأمّا ذكر خصوص نصاب الذهب دون الفضة فيمكن أن يكون من باب ذكر المثال ومعلومية الفضة منه.

3- من ناحية المعارض، فقد روى البزنطي أيضاً عن محمّد بن علي بن أبي عبداللَّه عن أبي الحسن، قال: «سألته عمّا يخرج من البحر من اللؤلؤ والياقوت والزبرجد، وعن معادن الذهب والفضة هل فيها زكاة؟ فقال: إذا بلغ قيمته ديناراً ففيه الخمس» «2».

ورواه الصدوق عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام «3».

ومحمّد بن علي بن أبي عبداللَّه وإن كان مجهولًا إلّاأنّ أحمد بن محمّد بن أبي نصر لايروى إلّا عن ثقة كما حكاه سيّدنا الاستاذ العلّامة البروجردي رحمه الله عنه على ما في بعض تقريراته «4».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 81

قال الشيخ رحمه الله في عدّة الاصول: «.. ولأجل ذلك سوّت الطائفة بين ما يرويه محمّد بن أبي عمير وصفوان بن يحيى وأحمد بن محمّد بن أبي نصر وغيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنّهم لا يروون ولا يرسلون إلّاممّن يوثق به وبين ما أسنده غيرهم» «1».

فتكون الروايتان متعارضتين

وكلاهما شاذتان بحسب الفتوى وعمل القدماء ويشكل ترجيح أحدهما على الآخر بعمل المتأخرين كما عرفت.

وبعض ما ذكرنا في تضعيف الرواية من الجهات الثلاث وإن كان قابلًا للنقض والإبرام إلّا أنّ ملاحظة مجموعها يمنعنا عن الفتوى، وينبغي أن يحتاط في المسألة بعدم ترك الخمس في ما نقص عن النصاب أيضاً لا سيّما مع وجود الإطلاقات الكثيرة الواردة مورد البيان الخالية جميعها من هذا القيد مع أنّ مورد الابتلاء شديد.

إن قلت: ما يكون أقل من النصاب أمر نادر في المعادن، فلذا لم تتعرض له روايات هذا الباب إلّافي حديث واحد، فيصحّ تقييد تلك المطلقات الكثيرة برواية واحدة.

قلت: كلّا، فإنّ عشرين ديناراً يساوي 15 مثقالًا صيرفياً وهو في أيّامنا يبلغ أكثر من 75 ألف تومان وكثير من المعادن لا سيّما مثل الملح والزرنيخ والنورة وشبهها ولا سيّما في تلك الأعصار، بل الأمر بالعكس كما أشار إليه في المصباح، فإنّه قلّما يتفق هذا النصاب في مثل الملح، فالاحتياط لا ينبغي تركه.

أمّا دليل القول باعتبار دينار واحد فقد عرفت ما يدلّ عليه من حديث البزنطي أيضاً، وما فيه من إشكال في السند، وأشكل منه أنّ الرواية معرض عنها بين الأصحاب لعدم عمل القدماء والمتأخرين بها وعدم الفتوى بها إلّامن شاذٍ قليل.

بقى هنا أُمور على تقدير القول باعتبار النصاب:

أوّلها: هل الخمس على جميع المعدن أو بعد إخراج المؤونة؟ أي مؤونة الانتاج لا ينبغي الشك في كونه بعده وقد أرسله صاحب الجواهر ارسال المسلمات وهو كذلك، لأنّ ظاهر أدلة الخمس تعلقه بالمنافع الحاصلة لا سيّما إذا أدرجنا الجميع تحت عنوان الغنيمة،

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 82

ومن الواضح أنّ ما يحاذي المؤونة ليس من المنافع بل قد تكون المؤونة أكثر من منافع المعدن بحيث تكون فيه الخسارة، فهل يلتزم أحد

بوجوب الخمس في مثله.

وقد يستدلّ مضافاً إلى ذلك بقوله عليه السلام: «الخمس بعد المؤونة» وما ورد في صحيحة زرارة، حيث قال عليه السلام: (بعد السؤال عن حكم المعدن): «ما عالجته بمالك ففيه ما أخرج اللَّه سبحانه منه من حجارته مصفّى الخمس» «1».

وقد يقال: إنّه كالصريح في المقصود.

ويرد على الأوّل ما عرفت من أنّ الظاهر من مجموع ما ورد في باب كون الخمس بعد المؤونة أنّه مؤونة السنة لا مؤونة المكسب، فراجع.

أمّا الثاني فظهوره غير ثابت، فكيف بصراحته؟ وإنّما يستفاد منه أنّ الخمس يتعلق بالمصفّى، فقبله لا خمس فيه، فكأنّه بصدد بيان زمان تعلق الخمس وأنّه لا يتعلق بتراب المعدن إلّابعد التصفية فتدبّر، بل قد ذكر صاحب الجواهر ظهور الصحيحة في هذا المعنى وأنّ المراد تعلق الخمس بعد التصفية «2».

فالعمدة في المسألة ما عرفت من مناسبة الحكم والموضوع، وانصراف الإطلاقات إلى تعلق الخمس بالمنافع الناشى ء من ارتكاز ذلك عند المتشرعة، والظهور العرفي المستفاد من إطلاق أدلّة كون الخمس على المعدن فإنّ المفهوم العرفي منه أنّ ما يأتي بيد الإنسان ممّا هو داخل في ملكه يكون فيه الخمس، أمّا المصارف الذاهبة فلا خمس فيها.

ثانيها: هل النصاب على القول به بعد إخراج المؤونة أو قبلها؟ فلو كان ما أخرج من المعدن أربعون ديناراً ومصارف إخراجه ثلاثون ديناراً، فإن قلنا بملاحظة النصاب من دون كسر المصارف فهو بالغ للنصاب، وإن قلنا إنّ المدار بعد كسر المؤونة والمصارف فهو لا يكون أكثر من عشرة دنانير، فليس فيها خمس أصلًا، ولكن على الأوّل يكون في خصوص العشرة، كما لا يخفى.

قال صاحب المدارك في مبحث استثناء المؤونة عن الخمس ما نصه: «ثمّ إن قلنا

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 83

بالاستثناء فهل يعتبر النصاب بعد

المؤونة أم قبلها فيخرج منه ما بقى بعد المؤونة؟ وجهان:

أظهرهما الثاني» (أي كون ملاحظة النصاب قبل إخراج المؤونة) «1».

وقال صاحب الجواهر في هذا المقام ما نصّه: «هل يعتبر النصاب فيما اعتبر فيه من أنواع الخمس قبلها (المؤونة) أو بعدها؟ وجهان في المدارك، أقواهما فى النظر الثاني ...

وفاقاً للمنتهى والتذكرة والبيان والدروس، بل ظاهر الأولين كونه مجمعاً عليه بيننا حيث نسب الخلاف فيه فيهما إلى الشافعي واحمد، بل في المسالك نسبته إلى تصريح الأصحاب أيضاً، بل قال إنّهم لم يتعرضوا فيه لخلاف» (انتهى) «2».

واستدلّ على القول المشهور تارة بالأصل وظاهره أصالة البراءة، وأُخرى بما هو منساق من مجموع الأدلّة.

وأورد على الأوّل أنّ ثبوت الخمس فيه مقطوع به على كلّ حال ولو من باب أرباح المكاسب، وأُجيب عنه بأنّ المراد نفي وجوب الخمس من باب المعادن حتّى يكون فورياً من دون استثناء مؤونة السنة.

والظاهر أنّ مراده من منساق مجموع الأدلة هو أنّه إذا كان الخمس بعد المؤونة فلابدّ أن يكون النصاب أيضاً بعده، لأنّ الخمس يتعلق بالفوائد، فالفوائد الثابتة بعد إخراج المؤونة إذا بلغت حدّاً معيناً وجب فيها الخمس فكأنّه لا انفكاك في نظر العرف بين إخراج المؤونة عن تعلق الخمس وبين اخراجها عن تعلق النصاب، لأنّ جميع الأدلّة في هذه الأبواب نفياً وإثباتاً ناظر إلى ما تصدق عليه الفائدة فهي المدار للخمس والنصاب وغيرهما.

واستدلّ لقول (المدارك) بإطلاق صحيحة البزنطي، فإنّ قوله: «ليس فيه شي ء حتّى يبلغ ما يكون في مثله الزكاة عشرين ديناراً» مطلق لم يستثن منه مؤونة الإخراج مع أنّ الغالب وجودها في جميع المعادن.

هذا، ولكن الإنصاف أنّ هذا الإطلاق إنّما هو في النظر البدوي، وإلّا فبعد ملاحظة ما ذكرناه آنفاً لا يبقى له مجال،

فالأقوى كون النصاب بعد إخراج المؤونة، فتأمل.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 84

ثالثها: قد يكون هناك إخراجات متعددة عن معدن واحد، أو إخراجات عن معادن متعددة، أو إخراج واحد عن معدن واحد لأشخاص متعددين شركاء في ذلك، أو إخراج أجناس متعددة كالذهب والفضة عن معدن واحد، فهل النصاب يراعى بعد انضمام بعضها إلى بعض في جميع المقامات الأربعة من تعدد الإخراج والمعدن والشركاء والجنس، أم لا؟

أمّا بالنسبة إلى الأوّل فقد ذكر بعض سادة أساتذتنا فيه وجوهاً ثلاثة:

أحدها: أنّه لابدّ من أن يكون النصاب في دفعة واحدة.

والثاني: أنّه لا فرق بين أن يكون في دفعة أو دفعات.

والثالث: أن يفرق بين صورتي الإعراض وعدمه «1».

ويظهر من كلام المحقّق الهمداني رحمه الله إبداء وجه رابع، حيث قال: إنّ الإعراض المتخلل في البين إن كان على وجه عُدَّ العود إليه في العرف عملًا مستأنفاً من غير إرتباط بعضها ببعض لوحظ كلّ واحد مستقلًا في النصاب، أمّا إذا كان عوده إليه بمنزلة إعراضه عن الإعراض السابق والرجوع إلى عمله فهو بمنزلة عمل واحد، ثمّ رجع عنه وذكر في ذيل كلامه أنّ القول بكفاية بلوغ المجموع، النصاب مطلقاً إن لم يكن أقوى فهو أحوط (انتهى ملخصاً) «2».

أقول: لم يرد في النصوص دليل خاص على هذا الحكم، والمرجع هو الإطلاقات، وقد يقال- كما في الحدائق- إنّ ظاهر النصوص المتقدمة، وجوب الخمس فى هذا النوع كيف اتفق الإخراج فالتقييد بهذا الشرط (بعدم الإعراض) يحتاج إلى دليل وليس فليس «3».

واختاره بعين هذا الدليل صاحب زبدة المقال، وبه أفتى صاحب الجواهر ثمّ حكى عن العلّامة في المنتهى الفرق بين صورة الإعراض وعدمه، ثمّ قال: لم نعرف له مأخذاً معتداً به «4».

واختار الاحتياط بالانضمام مطلقاً صاحب العروة هنا،

والإنصاف أنّ المدار هنا على الصدق العرفي فكلما يُعدُّ إخراجاً واحداً يعتبر فيه النصاب، لأنّ قوله: «ما أخرج من انوار الفقاهة، ج 2، ص: 85

المعدن» ظاهر في الإخراج الواحد وإن كان بدفعات عديدة، وأمّا الإخراجات المتعددة فيعتبر فيها نصابات متعددة، والظاهر أنّ التعدد حاصل بالإعراض عرفاً، ولا أثر لما ذكره صاحب المصباح أنّه إذا رجع إلى عمله وأعرض عن إعراضه يُعدُّ شيئاً واحداً، فإنّ الإعراض العملي (في النيّة فقط) إذا حصل في الخارج لا يقيده الإعراض عن الإعراض، بل لا معنى له.

هذا بالنسبة إلى الإخراجات المتعددة، أمّا إذا كانت المعادن متعددة، ففيه كلام بين الأصحاب.

اختار صاحب الجواهر في أوّل كلامه: أنّه لا فرق بين المعدن الواحد والمعادن المتعددة وأنّ الجميع تحسب واحداً في النصاب، ثمّ نقل هذا القول عن استاذه كاشف الغطاء تبعاً لصاحب المسالك وصاحب المدارك في وجه فيهما، ثمّ قال: الإنصاف عدم خلوّه من الإشكال «1».

وحكي في المصباح عن شيخنا المرتضى قدس سره اعتبار الوحدة، وعن غير واحد، التوقف في المسألة «2».

أقول: لو كانت المعادن متقاربة في أرض واحدة بحيث يُعدُّ الجميع في العرف واحداً، فلا كلام، وإن كانت متباعدة بحيث تُعدُّ متعددة، فالإنصاف اعتبار الوحدة فيها في النصاب لظهور صحيحة البزنطي في ذلك، نعم، عند الشك يشكل الرجوع إلى الأصل كما ذكره صاحب الجواهر، الظاهر في أصالة البراءة، بل الظاهر الرجوع إلى العمومات والحكم تعلّق الخمس بموارد الشك إذا بلغ المجموع نصاباً لأنّه المتيقن.

أمّا إذا اشترك جماعة في الإخراج ولم يبلغ حصّة كلّ واحد منهم، النصاب، ولكن بلغ المجموع نصاباً، فقد قال صاحب العروة أنّ الظاهر وجوب خمسه ولم يخالفه إلّاقليل من المحشّين.

وحكى صاحب الجواهر عن غير واحد التصريح بعدم الوجوب، قال: «بل

لا أعرف فيه انوار الفقاهة، ج 2، ص: 86

مَن صرّح بخلافه» ثمّ قال: «لكن قد يقال بظهور صحيح ابن أبي نصر السابق بل وغيره من الأخبار بخلافه، كما اعترف به الشهيد في بيانه، وهو أحوط إن لم يكن أولى، بل قد يدّعى ظهور الصحيح المذكور في عدم اعتبار ذلك في المتعددين غير الشركاء أيضاً وإن كان بعيداً جدّاً إن لم يكن ممتنعاً» «1».

أقول: قد عرفت أنّ الخمس في الواقع يتعلق بالفوائد والمنافع والغنيمة بالمعيّن الأعم، ومن الواضح أنّ فائدة كلّ إنسان أمر مستقل لنفسه، وبالجملة فإنّ الخمس وإن تعلق بالمعدن ولكنّه بما هو منفعة لصاحبه، وطبيعة الحال يقتضي ملاحظة نفع كلّ إنسان بحاله.

وبالجملة: إطلاق صحيحة البزنطي منصرف إلى وجوب الخمس على كلّ إنسان إذا بلغ سهمه من المعدن بمقدار النصاب (على القول به) والظاهر أنّ عدم تصريح الأصحاب بخلافه إنّما نشأ من هذه الجهة.

وأعجب من مسألة الشركاء ما عرفت من الجواهر من كلامه الأخير من ملاحظة النصاب في المجموع، ولو لم يكن هؤلاء شركاء بل كان كلّ منهم مستقل في الإخراج عن معدن واحد.

وأمّا الرابع، فحاله أوضح من الجميع، فإنّه لابدّ من ملاحظة مجموع الأجناس المستخرجة من معدن واحد شيئاً واحداً ولحاظ النصاب فيها، لإطلاق صحيحة البزنطي من هذه الناحية.

هذا، ولكن قال المحقّق النراقي رحمه الله في المستند ما نصّه: «وفي اعتبار اتحاد النوع وجهان احتملهما في البيان، واستجود في الروضة الاعتبار وكأنّه للأصل والشك في دخول الأنواع المختلفة في الأفراد المتبادرة من الإطلاق واختار في المنتهى والتذكرة والتحرير والمدارك، العدم، لما مرّ من إطلاق النصّ وهو الأظهر لذلك (يعني للإطلاق) (انتهى)» «2».

ومن الجدير بالذكر أنّ المعادن كثيراً ما توجد مركبةً من جواهر مختلفة، فلو كان

كلّ جنس يحتاج إلى نصاب خاص لم يصحّ إطلاق الكلام في حديث البزنطي، لأنّه يلزم منه انوار الفقاهة، ج 2، ص: 87

كون الرواية ناظرة إلى الفرد النادر من المعدن المستخرج منه جنس واحد مع أنّ الغالب فيه إخراج أجناس متعددة من معدن واحد.

رابعها: قال صاحب العروة: لا يعتبر استمرار التكون ودوامه يعني إذا كان في المعدن مقداراً محدوداً من الجوهر بما يبلغ النصاب واستخرجه، وجب عليه الخمس وإن لم يوجد فيه شي ء آخر بعد ذلك، وهو أمر واضح فإنّ جميع المعادن أو غالبها فيها مقادير معيّنة من الجواهر كثيرة كانت أو قليلة، وقلّما تتكوّن الجواهر في زمان قصير بل في زمان طويل جدّاً قد يكون آلاف أو ملايين السنين أو بمقدار عمر الأرض، وعلى كلّ حال لا يعتبر في صدق المعدن أن يكون مركزاً للتكون الجديد مثل البئر بالنسبة إلى الماء، كلّ ذلك لإطلاق الأدلّة.

بقي هنا مسائل:

المسألة الأُولى: في حكم تراب المعدن قبل التصفية

قد يقع الكلام تارة في تعلق الخمس به حينئذٍ وأُخرى في جواز أداء الخمس منه.

أمّا الأوّل: فقد عرفت كلام صاحب الجواهر آنفاً وأنّه استظهر من ذيل صحيحة زرارة «1» تعلق الخمس بعد التصفية وظهور الجوهر، وحكى صاحب مصباح الفقيه أنّه في الكتاب المنسوب إلى شيخنا المرتضى، والظاهر أنّ أوّل وقته بعد التصفية فيما يحتاج إليها لظاهر صحيحة زرارة ....

ثمّ قال: فعلى هذا لو نقله إلى آخر ببيع أو صلح ونحوه قبل التصفية لا يجب الخمس على أحدهما (وكأنّه استغرب هنا) ثمّ أجاب عن رواية زرارة بأنّها ناظرة إلى بيان وجوب الخمس فيما يخرج من حجارته مصفى، لا أنّ أوّل وقته بعد التصفية «2».

أقول: الإنصاف أنّ الاستدلال بها مشكل وإن كان المراد المصفى من الحجارات لا المصفى من المؤونة كما

توهّم، وذلك لاحتمال كونه ناظراً إلى التعارف الغالب من أنّ الانتفاع بهذه المعادن إنّما يكون بعد التصفية، ويشهد لذلك جعله في مقابل الركاز في انوار الفقاهة، ج 2، ص: 88

الرواية، فكأنّه قال إن كان شيئاً ينتفع به بغير معالجة يؤخذ خمسه وإن كان يحتاج إلى العلاج فيعدّ ما يصالح ويكون قابلًا للانتفاع.

وبالجملة لا يمكن رفع اليد عن الإطلاقات الدالّة على وجوب الخمس من أوّل الاستخراج بمثل هذا الظهور الضعيف بل لعلّه لا ظهور له.

هذا، مضافاً إلى أنّ حديث الأوّل من الباب 6 من أبواب ما يجب فيه الخمس «1» كالصريح في تعلق الخمس بتراب المعدن، وإن كان سنده لا يخلو من ضعف، فلا أقلّ من تأييده للمقصود.

نعم، إذا كان إخراج خمس التراب غير متعارف أشكل الرجوع فيه إلى الإطلاقات.

إن قلت: الخمس يتعلق بالعين.

قلت: نعم، ولكنه أجاز عليه السلام بيعه الفضولي فأخذ العوض.

أمّا الثاني: أعني أداء الخمس من نفس تراب المعدن، فقد فصل صاحب العروة بين ما إذا علم بتساوي الأجزاء في الإشتمال على الجوهر أو بالزيادة فيما أخرجه، فيجوز، وما ليس كذلك، فلا يجوز، والوجه فيه التمسك بقاعدة الإشتغال ظاهراً.

لكن الإنصاف أن يفصل بين ما إذا كانت قيمة التراب متساويةً وهذا المعنى متعارف في كثير من ممالكي الأرض، فإنّهم يستخرجون أحجاراً للحديد أو الصفر أو غير ذلك من المعادن ويصدّرونها إلى بلاد أُخرى بقيم معلومة، فمثل هذا ممّا لا إشكال في جواز إخراج الخمس من ترابه، علم بتساوي الجواهر، أم لا، لأنّ المدار على مساواة القيمة فيها وهو حاصل وإن اختلفت قيمة التراب، فلابدّ من أداء ما يساوي خمس قيمتها قليلًا كان أو كثيراً بحسب الوزن والمقدار.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 89

وأمّا إن لم يكن للتراب قيمة

ولا يوجد له باذل، فأداء الخمس منه مشكل جدّاً، بل لابدّ من أدائه بعد التصفية لانصراف العمومات والإطلاقات منه كما هو ظاهر «1».

المسألة الثانية: هل الاستخراج شرط في وجوب الخمس، أم لا؟

فإذا خرج تراب المعدن وأحجاره، أو نفس الجوهر الخالص الموجود فيه بسبب طبيعي كالسيل والمطر والريح والزلازل فأخذه إنسان وتملكه، أو علم بإخراج إنسان له ولم يخرج الخمس منه، فهل على الواجد، الخمس؟

والمحكى عن كاشف الغطاء رحمه الله أنّه لو وجد شيئاً من المعدن مطروحاً في الصحراء فأخذه، فلا خمس.

ويظهر ذلك ممّا حكاه المحقّق الهمداني رحمه الله عن المحقّق الأردبيلي رحمه الله أيضاً، ولكن ظاهر العروة، وجوب الخمس في الجميع من باب الاحتياط الوجوبي.

وفصل صاحب مصباح الفقيه بين ماإذاكان الإخراج بسبب الرياح و جري السيول و شبهها، فلا يجب، وما كان بفعل إنسان غير المالك، فيجب بدعوى إلغاء خصوصية الفاعل عرفاً.

أقول: التحقيق أن يقال إنّ للمسألة صوراً:

إحداها: ما إذا كان المخرج من قبيل السيل والمطر والريح، وحينئذٍ لا يبعد القول بتعلق الخمس به لا لشمول عنوان «المعدن» أو ما يخرج عن المعادن وأشباهها للمقام، لعدم شمولها له ظاهراً بعد خروجه عن محل المعدن وكان مطروحاً في الصحراء، وأمّا الاستناد إلى التعبير بالركاز الوارد في بعض الروايات فلا يفيد أكثر ممّا يستفاد من التعبير بالمعدن، لأنّه في مقام بيان طبيعة المعدن من ارتكازه في الأرض وساكت عن اشتراط الاستخراج وعدمه، بل لإلغاء الخصوصية عرفاً عنه لأنّ العرف لا يرى فرقاً بينهما، بل صار الأمر عليه أسهل، فيجري عليه أحكام خمس المعدن لا خمس مطلق الأرباح ولا أقل من أنّه أحوط

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 90

لما عرفت من عدم اعتبار النصاب فيه.

ثانيها: ما أُخرج بيد إنسان وقصد حيازته فهو ماله والخمس عليه فإنّ عرف صاحبه أخذ منه

وإن لم يعرف كان بحكم اللقطة أو مجهول المالك وحكم خمسه يظهر ممّا يأتي.

وأمّا إذا لم يقصد حيازته كما إذا أراد حفر بئر أو بناء جدار وأخرج التراب من الأرض لبناء الأساس وكان ذلك تراب المعدن فلم يعرفه أو عرفه ولم يعتن به، يجوز لغيره أخذه ولا يبعد وجوب أداء خمسه لما عرفت من إلغاء الخصوصية.

ثالثها: وهو ما إذا قصد تملكه ثمّ أعرض عنه، وحينئذٍ يجوز تملكه لكلّ من يحوزه، لأنّ الإعراض سبب للخروج عن الملك على الأقوى، لجريان سيرة العقلاء عليه، ولكن الخمس المتعلق بالعين باقٍ فيه.

وإن شئت قلت: الإعراض يؤثر في أربعة أخماس منه، لا في الجميع، وإذا شك في أداء خمسه قبل الإعراض، أمكن حمل فعله على الصحّة، لأنّ الإعراض عنه حينئذٍ حرام، وكذا في الصور السابقة، لأنّ الخمس فوري «1».

وممّا ذكرنا، ظهر الإشكال في ظاهر عبارة صاحب العروة، حيث قال: «أو إنسان لم يخرج خمسه وجب عليه إخراج خمسه» وذلك لأنّ ذاك الإنسان إن قصد الحيازة فلا يجوز أخذ هذا المعدن حتّى يخرج خمسه وإن لم يقصد فلم يتعلق به الخمس، فأي معنى لقوله لم يخرج خمسه بعد فرض عدم الحيازة، اللّهم إلّاأن يحوزه ثمّ يعرض عنه.

المسألة الثالثة: حكم المعادن المستخرجة

في حكم المعادن المستخرجة عن الأراضي المختلفة من حيث الملكية حتّى يتعلق بها الخمس فنقول، ومنه سبحانه نستمد التوفيق والهداية.

أقسام المعادن:

1- تارة تكون في أرض مملوكة لإنسان خاص.

2- وأُخرى تكون في الأراضي المفتوحة عنوة.

والمراد منها ما كان في معمور تلك الأراضي فإنّ غير معمورها بحكم الأنفال.

3- ما كان في أرض موات.

قال صاحب الجواهر في أبواب ما حاصله: إنّه قد اختلفت كلمات الأصحاب في المعادن وهم بين من أطلق كونها من الأنفال وأنّها للإمام عليه السلام كالمفيد وعن الكليني والشيخ والديلمي والقاضي والقمي في تفسيره، واختاره في الكفاية كما عن الذخيرة، وهو ظاهر كلام كاشف الغطاء (من دون فرق بين ما كان في أرض مملوك أو غيره).

وبين مَن أطلق كونها من المباحات الأصلية وأنّ الناس فيها شرع سواء كما اختاره المحقّق رحمه الله في النافع، والشهيد رحمه الله في البيان، بل حكاه في الروضة عن جماعة.

وبين مَن فصل بين أرضه وغيرها كابن ادريس الحلّي والعلّامة في المنتهى بل والتحرير والشهيد رحمه الله في الروضة وغيرهم «1» وذكر المسألة في كتاب إحياء الموات وادّعى إنّ المشهور نقلًا وتحصيلًا على أنّ الناس فيها شرع سواء بل قيل قد يلوح من محكى المبسوط والسرائر نفي الخلاف فيه «2».

ولكن صرّح في بعض فروع المسألة أنّه: لو أحيا أرضاً وظهر فيها معدن باطن ملكه تبعاً لها بلا خلاف أجده فيه كما عن المبسوط والسرائر الإعتراف به، بل، قيل إنّ ظاهر الأوّل، بل الثاني نفيه بين المسلمين «3».

أقول: الظاهر أنّه لا توجد ثمرة مهمّة عملية بين كونها من المباحات الأصلية أو كونها من الأنفال في زماننا بعد إذنهم عليهم السلام في تملك الأنفال لمن أحياها، نعم قد تظهر الثمرة بالنسبة إلى

الحاجة إلى إذن الحكومة الإسلامية ونائب الغيبة.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 92

فالعمدة إثبات كونها من الأنفال مطلقاً أو التفصيل، فقد استدلّ على كونها من الأنفال مطلقاً بروايات عديدة:

1- موثقة إسحاق بن عمّار قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن الأنفال. فقال: «هي القرى التي قد خربت وإنجلى أهلها فهي للَّه وللرسول، وما كان للملوك فهو للإمام، وما كان من الأرض بخربة لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وكلّ أرض لا ربّ لها، والمعادن منها، ومن مات وليس له مولى فماله من الأنفال» «1».

ولكن الكلام بعد في أنّ صحيح العبارة «المعادن منها» أو «المعادن فيها» فإن كان الثاني اختصّ بالمعادن الموجودة في أراضي الأنفال، وأمّا على الأوّل فيمكن دعوى الإطلاق وإن كان أيضاً لا يخلو من إشكال، وذلك لاحتمال كون (مِنْ) تبعيضية فيصير المعنى هكذا:

والمعادن التي تكون من الأراضي الخربة تُعدّ من الأنفال فالأخذ بعموم الحديث على كلّ حال، مشكل.

2- مرسلة العياشي عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: «لنا الأنفال. قلت: وما الأنفال؟ قال: منها المعادن والآجام، وكلّ أرض لا ربّ لها، وكلّ أرض باد أهلها فهو لنا» «2».

3- مرسلته عن داود بن فرقد ورواه بطريق آخر صاحب المستدرك في الباب الأوّل من الأنفال، الحديث الأوّل من كتاب عاصم بن جميل عن أبي عبداللَّه عليه السلام (في حديث) قال:

«قلت: وما الأنفال؟ قال: بطون الأودية، ورؤوس الجبال والآجام والمعادن، وكلّ أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، وكلّ أرض ميتة قد جلا أهلها، وقطائع الملوك» «3».

فما صحّت أسناده لا دلالة فيه وما فيه دالة لا سند له، بل يمكن أن يقال إنّه لا دلالة للأخرين أيضاً لانصرافهما إلى الفرد الغالب من المعادن وهو الموجود في أراضي

الموات.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 93

أمّا القول الثاني، أي، كون الناس في المعادن شرعاً سواء، فقد استدلّ له صاحب الجواهر بأُمور:

1- الأصل. 2- السيرة. 3- إشعار إطلاق أخبار الخمس في المعادن، ضرورة أنّه لا معنى لوجوبه على الغير وهي ملك للإمام عليه السلام «1».

ومراده من الأصل، هو أصالة الإباحة أو أصالة عدم استقرار ملك أحد عليها، ومراده من السيرة، انتفاع الناس بالمعادن من دون استئذان الإمام عليه السلام، وأمّا أخبار الخمس فالأولى أن يقال إنّها ظاهرة في كون ما عدا الخمس للمستخرجين لا أنّها مشعرة، وهذا دليل على جواز تملك المعادن لكلّ أحد.

هذا، ولكن الأخيرين لا ينافيان كونها للإمام مع عموم إذنه للتصرف والتملك لكلّ أحد أحياها كما هو كذلك بالنسبة إلى الموات وشبهها.

ولكن الخروج عن الأصل بلا دليل، مشكل، وقد يقال إنّ المعادن من سنخ الأنفال، فإنّ المعمول بين جميع الدول جعل ما لا ربّ لها، خصوصاً مثل المعادن، من الأموال العامة التي أمرها بيد الحكومة.

أقول: هذا استحسان ظني لا يبلغ حدّ القطع ولا يمكن الركون إليه في الخروج عن الأصل. وأمّا ادّعاء كونه ممّا استقرت عليه سيرة العقلاء، فلا تجدى إلّاإذا ثبت استمراره إلى زمن المعصوم عليه السلام وعدم ردعه عنه، والظاهر خلافه، لأنّ المعادن في عصرهم عليهم السلام لم تكن أمرها بيد الحكومة.

وأمّا القول الثالث، أي، التفصيل فيدلّ عليه: أوّلًا: ما عرفت من تسالم القوم عليه، وعدم نقل خلاف من أحد، بل يظهر من كلماتهم إرساله إرسال المسلّمات، والأُمور المجمع عليها.

وثانياً: ما قد يقال إنّ مقتضى الإحياء هو ملك الأرض وملك المنافع بتبعها بحسب استقرار السيرة العقلائية.

ولكن يرد عليه أمران:

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 94

1- لابدّ من القصد في الحيازة والإحياء، فلو كان هناك

معدن تحت أرض وأحياها إنسان من دون علم بوجود المعدن فيها فلم يقصد حيازتها والمفروض عدم بلوغ الإحياء للمعدن، فكيف يمكن الحكم بالتبعية؟ ولذا ذكر القوم أنّه لو وجدت لؤلؤة في بطن سمكة فهو لواجدها وإن كان هو المشتري لا بائع السمك، مع أنّه الذي قصد حيازة السمكة أوّلًا، فلماذا لا يقال إنّه ملك اللؤلؤة بالتبع (وقد نطقت بهذا الحكم أخبار عديدة (رواها صاحب الوسائل) وأفتى به الأصحاب).

اللّهم إلّاأن يقال: إنّ وجود اللؤلؤة في السمكة أمر نادر خارج عن طبيعته، فلا يتوجه إليه القصد حتّى بالتبع، بخلاف وجود المعدن في الأراضي، ولذا صرّح القوم بأنّ الكنز إذا وجد في دار اشتراها من بائع قبله وعلم بأنّه ليس من أمواله، فهو لواجده، مع فتواهم بأنّ المعدن تابع للأرض المملوكة، وليس هذا إلّاللفرق الظاهر بين الكنز والمعدن.

والحاصل: أنّه لا يبعد أن يقال: إنّ المعدن يملك بالتبع ولا يحتاج إلى قصد الحيازة تفصيلًا، بل يكفيه القصد الإجمالي كما هو كذلك في المياه الموجودة تحت الأرض لا سيّما إذا كان قريباً منها، فإنّه يملكها، وإن لم يعلم بها ولم يقصد حيازتها تفصيلًا، فالقصد الإجمالي في جميع ذلك، كافٍ.

ويمكن أن يقال: إنّ مالك الأرض وإن لم يكن مالكاً لذلك المعدن لعدم إحيائه (فإنّ المعدن أيضاً يحتاج إلى الإحياء في تملكه) ولكن مالك الأرض أولى وأحقّ من غيره بذلك، وهذا المعنى قريب جدّاً.

2- لابدّ من التفصيل هنا (أوّلًا) بين المعادن التي تكون قريبة من الأرض بحيث تُعدّ تابعة لها، وما تكون بعيدة عنها بحيث لا تُعدّ في العرف تابعة لها، فالأوّل ملك لمالكه والثاني، لا، و (ثانياً) بين المعادن الصغار والكبار.

إن قلت: كيف يمكن هذا التفصيل وقد اشتهر بينهم أنّ الإنسان

إذا ملك أرضاً ملك ما فوقها إلى عنان السماء وما تحتها إلى تخوم الأرض بالتبع.

قلت: كلا، هذه من المشهورات التي لا أصل لها، فإنّ قاعدة التبعية في الملك متخذة من انوار الفقاهة، ج 2، ص: 95

العقلاء وقد أمضاها الشارع، والعقلاء يجعلون له حدّاً متعارفاً، فمن ملك أرضاً ملك ما تحتها ممّا تبلغه السراديب والآبار، وما فوقها ممّا تبلغه الغرف المبنية فوقها، بل وما يسمى اليوم بناطحات السحاب وأمّا ما وراءَها، فلا، فلو طارت طائرة من فوق الأراضي المعمورة أو البيوت في البلاد من دون إذن مالكي الأراضي والبيوت لا يُعدّ غاصباً، وكذا من حفر نقباً في عمق آلاف الأمتار مثلًا، فلا مانع من إخراج المعادن الموجودة في ذاك العمق وشبهه. وأمّا ما ورد في الكعبة من امتدادها من تخوم الأرض إلى عنان السماء فهو مختص بها وتدلّ عليه الرواية. ولو شك في ذلك فالأصل عدم التبعية، لأنّه مردد بين الأقل والأكثر، أو يقال الأصل هو الإباحة.

وهكذا المعادن الكبيرة، فإنّها لا تدخل تحت ملكية فرد خاصّ كما إذا كانت منابع النفط والبترول العظيمة تحت بعض الأراضي المملوكة، نعم، لصاحب الأرض الانتفاع بها وتملكها بمقدار جرت العادة عليه، لا وضع اليد على جميعها واختصاصها به دون الناس.

والسرّ في ذلك أنّ إحياء الموات وكذا حيازة المباحات وغيرها من أشباهها، لها حدود عقلائية، فلا يرخّصون لواحد من الناس إحياء أو تحجير ما بين البصرة والكوفة أو مكّة والمدينة ولو قدر عليه، أو حيازة جميع أسماك البحر وطيور الهواء ولو قدر عليها، بل يجعلون لكلّ إنسان سهماً يحدّه العقلاء، وكذا الأمر بالنسبة إلى حيازة المعادن أو إحيائها فله ذلك بمقدار حاجاته الضرورية أو الرفاهية وما هو متداول في الكسب «1».

بقي هنا

شي ء:

وهو أنّه لو أخرج غير المالك المعدن الموجود في أرض مملوكة (بما عرفت له من القيود) فقد صرّح صاحب العروة بأنه لا يملكه ويكون لصاحب الأرض، وعليه الخمس من دون استثناء المؤونة، لأنّه لم يصرف عليه مؤونة.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 96

أقول: هذا مبنى على كونه ملكاً لصاحب الأرض، ولكن هنا احتمال آخر ليس به بأس وهو أن يكون هو أولى من غيره بتملكه لا أنّه ملكه فعلًا، وحينئذٍ لا يملكه إلّابعد قصد حيازته فيجب عليه الخمس، مع أنّه لو قلنا بكونه مُلكاً لصاحب الأرض، وجب عليه خمسه، سواء قصد الحيازة، أم لا، وهذا هو الفرق بين القولين، وحيث إنّه يقصد حيازته بعد الاستخراج يأتي الكلام السابق في تعلّق الخمس به وعدمه لأنّه من قبيل ما أخرجه السيل أو الإنسان بدون قصد التملك، لأنّ المفروض عدم جواز تملكه للمخرج، وإن قصده كلا قصد، والأمر سهل بعدما عرفت من وجود الخمس في جميع صور المسألة.

المسألة الرابعة: معادن الأرض المعمورة المفتوحة عنوة

إذا كان المعدن في معمور الأرض المفتوحة عنوة التي هي للمسلمين فأخرجه واحد من المسلمين فهل يملكه، أم لا؟ مقتضى ما عرفت آنفاً من مسألة التبعية في كثير من المعادن هو كون المعادن الواقعة في هذه الأراضي تابعة لها وكذلك ما وقع في الأنفال، فإنّ الظاهر أنّ التبعية في الملك أمر واحد في الجميع كالمرافق الثانية للأملاك.

وما في مستند العروة من دعوى القطع بعدم التبعية وأنّ المعادن الكامنة في أجوافها ملك لمخرجها لا لعامة المسلمين، عجيب، وكأنّ سبب هذا الادّعاء هو السيرة الجارية من استخراج الناس المعادن في غير أملاكهم الشخصيّة مع عدم ورود ردع من الأئمّة عليهم السلام عليهم، لكن فيه إنّه كان بإذنهم عليهم السلام ولا غرو في عدم الإشارة

إليه ولو في رواية واحدة بعد ما عرفت من حكم العقلاء بالتبعية.

وحينئذٍ، فالظاهر وجوب استئذان الحاكم الشرعي في استخراج ما كان في معمور الأراضي الخراجية وأداء خراجها إليه لأنّ أمر تلك الأراضي بيد الحاكم يتولاها في طريق منافع المسلمين، فتأمل.

ومن هنا يعلم أنّ الأمر في أراضي الأنفال كذلك فهي للإمام عليه السلام أو من أباحها له، وحيث انوار الفقاهة، ج 2، ص: 97

إنّهم أذنوا إذناً عاماً لمن يحييها وينتفع بها لا يبقى إشكال من هذه الناحية، ولا تنحصر أخبار خمس المعادن على كثرتها على المعادن الواقعة في الأملاك الشخصية، كما ذكره صاحب مستند العروة.

أمّا إذا أخرج غير المسلم، المعادن الموجودة في الأراضي المفتوحة عنوة، فقد أشكل في العروة في تملكه، وأمّا إذا كان في أراضي الموات (الموات حال الفتح) فأجاز تملكه وعليه الخمس، ولكن كلمات الأصحاب في ذلك، مختلفة:

قال الشيخ رحمه الله في الخلاف: «الذمي إذا عمل في المعدن يمنع منه، فإن خالف وأخرج شيئاً منه ملكه ويؤخذ منه الخمس، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، إلّاأنّه قال: لا يؤخذ منه شي ء لأنّه زكاة ولا يؤخذ منه زكاة» «1».

وقال صاحب المدارك بعد نقل كلام الشيخ: «لم يدلّ دليل على منع الذمي من ذلك» انتهى «2».

وقال صاحب الجواهر: «نعم اعترف في المدارك بأنّه لم يقف له على دليل يقضي بمنع الذمي من العمل في المعدن وهو كذلك بالنسبة إلى غير ما كان في ملك الإمام عليه السلام من الأراضي الميتة ونحوها أو المسلمين، كالأراضي المفتوحة عنوة، وأمّا فيها فقد يقال بعدم ملكه أصلًا فضلًا عن منعه فقط، لعدم العلم بتحقق الإذن من الإمام عليه السلام لهم في الأوّل، وعدم كونه من المسلمين في الثاني، كما أنّه قد يقال

ببقاء المعادن على الإباحة الأصلية لسائر بني آدم نحو الحطب والماء، وإن كانت في الأراضي المذكورة، أو يقال بالفرق بين ما كان للإمام عليه السلام والمسلمين، فيلتزم بعدم الملك في الثاني دون الأوّل، لعموم إذنه عليه السلام الحاصل من قوله صلى الله عليه و آله: «من أحيى أرضاً ميتة فهي له» أو يفرق بين الذمي وغيره بإمكان التزام معاملة الذمي لذمته معاملة المسلمين في نحو ذلك دون غيره» «3».

فإذن الأقوال أو الاحتمالات في المسألة خمسة:

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 98

1- كونها كالمباحات الأصلية يجوز حيازتها وتملكها لكلّ أحد.

2- لا يجوز التصرّف فيها ولكن يملكها إذا استخرجها.

3- الفرق بين ما كان في الموات والمفتوحة عنوة، فيجوز في الأوّل دون الثاني.

4- الفرق بين الكافر الذمي والحربي فيجوز للأوّل دون الثاني.

5- القول بعدم تملكهم مطلقاً.

وقال المحقّق الهمداني رحمه الله بعدم الريب في كونها بحكم الماء والكلاء الموجودين فيها، يجوز الانتفاع بها لكلّ أحد «1».

أقول: التحقيق أن يقال أمّا بالنسبة إلى ملكية المعادن فقد عرفت أنّ مقتضى قاعدة التبعية الموجودة عند العقلاء الممضاة من قبل الشارع هو كون المعادن في الأنفال ملكاً للإمام عليه السلام والموجودة في المحياة من المفتوحة عنوة ملك لجميع المسلمين، إلّاأن يكون في أعمال الأرض، بحيث لا تشمله قاعدة التبعية، نعم إذا كانت المعادن خارجة عن هذه الأراضيى كلّها مثل ما كان في تحت البحار أو الأنهار، أو كانت في أعماق الأرض بحيث لا تشملها التبعية، كانت من المباحات الأصلية، فالقول: إنّها من المباحات مطلقاً لا سيّما مع دعوى عدم الريب فيه- كما سمعته من المحقّق الهمداني- كلام بلا دليل.

أمّا بالنسبة إلى جواز تملكها بالإحياء والاستخراج، فقد يقال، إنّ أدلّة الإذن في إحياء الموات لكلّ أحد

من آحاد الناس كما هو مقتضى إطلاق الأخبار دليل على جواز استخراجها لكلّ أحد.

قال صاحب الجواهر بعد قول المحقّق رحمه الله: «فهي (أي المعادن) تملك بالإحياء» لصدق الإحياء الذي هو سبب الملك ... فإنّ إحياء كلّ شي ء بحسبه، ومن هنا يملك البئر ببلوغه الماء الذي فيها إذ هو كالجوهر الكائن فيها ويبلغه بحفرها، وحينئذٍ فلو قهره ظالم وأخرج منه شيئاً كان ملكاً للمحيي، بل ولا أُجرة للظالم» «2».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 99

والعمدة هو ثبوت الإذن منهم عليهم السلام في ذلك: ظاهر إطلاق الصحيحة المروية على لسان سبعة من الفضلاء (زرارة ومحمّد بن مسلم وأبي بصير وفضيل وبكير وحمران وعبدالرحمن بن أبي عبداللَّه) عن أبي جعفر وأبي عبداللَّه عليهما السلام قالا: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: من أحيى أرضاً مواتاً فهي له» «1».

وكذا غيره من أشباهه مثل ما ورد في صحيحة محمّد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: «أيّما قوم أحيوا شيئاً من الأرض وعمروها فهم أحق بها وهي لهم» «2»

. وغيرها من أشباهها هو العموم من دون فرق بين أصناف الناس من المؤمن والكافر بأقسامه.

وتؤيده السيرة المستمرة، لأنّ المسلمين يعاملون مع ما يخرجه الكفّار من المعادن معاملة الملك في جميع الأعصار والأمصار، فهم لم يزالوا ولا يزالون يستخرجونها ويبيعونها في بلاد المسلمين وغيرها.

بناءً على صدق الإحياء على استخراجها، لأنّ المرجع فيها العرف كما صرّح به المحقّق رحمه الله في الشرائع، وقرّره عليه في الجواهر، بل ادّعى عدم الخلاف بين الأصحاب في ذلك «3»، وقد عرفت كلامه في كون إحياء كلّ شي ء بحسبه فيكون إحياء المعدن باخراجه.

اللّهم إلّاأن يقال إنّ ظاهر كلمة «الأرض» عدم شمولها فإنّ استخراج المعدن يُعدّ إحياء

لها لا إحياء للأرض، فلا يشمله الحديث، لأنّه صلى الله عليه و آله قال: «من أحيى أرضاً» لا معدناً، لا سيّما إذا كان المعدن من قبيل المملحة وشبهها، وحينئذٍ لا يبقى هناك دليل إلّاالسيرة المستمرة وهي غير بعيدة عن الحقّ، لكن لقائل أن يقول إنّ استخراج المعدن في الأراضي التي تصلح له دون غيره من الزراعة وأمثالها يُعدّ إحياء للأرض، فإنّ إحياء الأراضي الصالحة للزرع أو الغرس بزراعتها والغرس فيها وإحياء الأراضي المعدنية باستخراج المعدن منها، فتدبّر. نعم إذا أحيى أرضاً ميتة كان فيها معدن أمكن الحكم بملكيتها للكافر بالتبع، ولكن هذا غير كافٍ في إثبات المطلوب.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 100

هذا وقد يقال: «إنّ الأخبار المستفيضة الصادرة عن الأئمّة عليهم السلام الواردة في مقام التعريض على المخالفين كالنصّ في قصر الرخصة وإباحة ما يتعلق بهم من الأراضي وغيرها على شيعتهم» «1».

وهو إشارة إلى:

1- ما رواه مسمع بن عبدالملك (في حديث) قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: إني كنت وليت الغوص فأصبت أربعمائة ألف درهم، وقد جئت بخمسها ثمانين ألف درهم، وكرهت أن أحبسها عنك، وأعرض لها وهي حقّك الذي جعل اللَّه تعالى لك في أموالنا، فقال: «وما لنا من الأرض وما أخرج اللَّه منها إلّاالخمس، يا أبا سيّار، الأرض كلّها لنا فما أخرج اللَّه منها من شي ء فهو لنا. قال قلت له: أنا أحمل إليك المال كله. فقال لي: يا أبا سيّار قد طيّبناه لك وحللناك منه فضمّ إليك مالك وكلّ ما كان في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محلّلون، ومحلّل لهم ذلك إلى أن يقوم قائمنا فيجيبهم طسق ما كان في أيدي سواهم، فإنّ كسبهم من الأرض حرام عليهم حتّى يقوم قائمنا فيأخذ

الأرض من أيديهم ويخرجهم منها صغرة» «2»

. ولكنها إشارة إلى أنّ ملكية الأرض كلّها لهم وهو ملك في طول ملكية المالكين، ولابدّ أن يفسّر الملك فيه بمعنى آخر غير ما هو المعهود منه في الفقه، فتأمل.

2- ما رواه عمر بن يزيد قال: سمعت رجلًا من أهل الجبل يسأل أبا عبداللَّه عليه السلام عن رجل أخذ أرضاً مواتاً تركها أهلها فعمرها وكرى أنهارها وبنى فيها بيوتاً وغرس فيها نخلًا وشجراً؟ قال: فقال أبو عبداللَّه عليه السلام: «كان أميرالمؤمنين عليه السلام يقول: من أحيى أرضاً من المؤمنين فهي له وعليه طسقها يؤديه إلى الإمام في حال الهدنة، فإذا ظهر القائم فليوطن نفسه على أن تؤخذ منه» «3»

. فإنّ التقييد بالمؤمنين في مقام التحديد يدلّ على المفهوم، ولكن الظاهر أنّ الحكم فيه كان مختصاً بزمان علي عليه السلام لعدم وجوب الطسق في إحياء

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 101

أراضي الموات فعلًا، بل لعلّه لا خلاف فيه (اللّهم إلّاأن ترى الحكومة الإسلامية المشروعة ذلك، فتدبّر).

3- ما رواه الحارث بن المغيرة النصري، عن أبي جعفر عليه السلام حيث إنّه بعد ما أشار إلى الأنفال وغيرها قال: «اللّهمّ إنا قد أحللنا ذلك لشيعتنا» «1».

4- ومثل الأوّل ما رواه يونس بن ظبيان أو المعلى بن خنيس عن أبي عبداللَّه عليه السلام، فإنّها أيضاً تدلّ على أنّ الأرض كلّها للإمام وأنّ أولياءهم لفي أوسع فيما بين السماء والأرض وأنّه ليس لعدوّهم منها شي ء «2».

هذا غاية ما يدلّ على المطلوب من الروايات الواردة في المسألة، ويدلّ على هذا المعنى ما رواه أبو خالد الكابلي، عن أبي جعفر عليه السلام عن علي عليه السلام وفيها: «فمن أحيى أرضاً من المسلمين فليعمرها وليؤدّ خراجها إلى الإمام من أهل

بيتي. الحديث» «3»

. وفي هذه الأحاديث، بعض الأحاديث الصحيحة، مضافاً إلى تظافرها.

ولكن الإنصاف عدم تعارضها للروايات العامة الكثيرة الواردة في مقام البيان عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وغيره من المعصومين عليهم السلام.

لوجوه:

1- لما عرفت من أنّ هذه الروايات الكثيرة واردة في مقام البيان من دون أي قيد، فيشكل تقييدها بإخراج غير المسلمين، بل غير الشيعة منها، كما لا يخفى، فتقدّم تلك الأحاديث التي هي أوضح سنداً ودلالة عليها، مضافاً إلى موافقتها لقاعدة الإحياء.

2- هذا التقييد مخالف للسيرة المستمرة في جميع الأعصار من معاملة الملك مع المعادن المستخرجة من ناحية الكفّار في بلاد المسلمين، بل وبلادهم بعد نقلها إلى بلاد الإسلام، وأوضح من ذلك ما استخرجه المخالفون من المعادن المختلفة.

3- قد عرفت أنّ دلالة غير واحد منها مشكوكة لدلالتها على كون جميع الأرض ملكاً

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 102

لهم عليهم السلام، الذي له معنى آخر من الملك، وإلّا لا معنى لكون خصوص الأنفال ملكاً لهم أو خصوص الخمس، بل جميع الأموال والأراضي أعم من الموات والعامرة وكذا الخمس والأربعة الباقية لهم عليهم السلام، وهو حقّ بمعنى آخر ذكرناه في محلّه.

مضافاً إلى اشتمال غير واحد منها على وجوب أداء الخراج من الموات المحياة، والظاهر أنّه مخالف لما هو المشهور.

4- يمكن الجمع بينها بحمل ما دلّ على المنع على تصرف أعدائهم عليهم السلام بقرينة ما ورد في رواية يونس بن ظبيان أو المعلى «1»، فغير الأعداء يجوز لهم إخراجها وتملكها.

5- وهناك بعض ما ورد التصريح فيه بجواز إحياء الموات لغير المسلمين، مثل ما رواه أبو بصير، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن شراء الأرضين من أهل الذمّة؟ فقال: «لا بأس بأن يشتريها منهم إذا عملوها

وأحيوها فهي لهم. الحديث» «2».

إلى غير ذلك، وهو دليل على جواز إحيائهم للأراضي الموات، والرواية صحيحة لصحة طريق الشيخ إلى الحسين بن سعيد، وكون المراد من شعيب، هو شعيب العقرقوقي (العقرقوق قرية قريبة من بغداد) الذي هو من الثقات، والراوي عنه حمّاد بن عثمان وهو أيضاً ثقة. يبقى الكلام في أبي بصير، ولا يبعد أن يكون هو الليث المرادي.

فتحصّل من جميع ذلك ترجيح الأخبار المطلقة الدالّة على جواز تملك الكفّار للأراضي الموات وكذلك المعادن بناءً على كونها منها، ولو قيل إنّها من المباحات الأصلية، فالأمر أوضح، ولذا أفتى المحقّق اليزدي رحمه الله في العروة وغالب محشّيها فيما رأينا بملكية الكافر، وممّا ذكرنا يظهر الحال في الأقوال الأخرى وجوابها.

وأمّا وجوب الخمس عليه، فهو مقتضى الإطلاقات الدالّة على أنّ المعادن فيها الخمس ولا يبعد ذلك، نعم، إذا لم يؤد خمسها وباعها، جاز الشراء منه لأنّه داخل في مسألة الشراء ممّن لا يعتقد الخمس.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 103

هذا كلّه في المعادن الموجودة في الموات، وأمّا الموجودة في المفتوحة عنوة في الأراضي العامرة حال الفتح، فالظاهر أنّها أيضاً تبع لها كما عرفت، وحينئذٍ يكون أمرها بيد إمام المسلمين في أن يؤجرها ويصرف خراجها في مصالح المسلمين، ولا دليل ظاهراً على منع الكفّار عن أخذها بخراج إذا اقتضت مصالح المسلمين ذلك، نعم، لا ينبغي الشك في كون المسلمين أولى بذلك لأنّه ملكهم، ولكن إذا اقتضت المصلحة ذلك كما هو كذلك في إيجار دورهم وسياراتهم وطائراتهم لغير المسلمين أحياناً (والأراضي الخراجية أشبه شي ء بالأراضي المستأجرة، بل لعلّها منها فإنّ الخراج يشبه مال الإجارة) ويدلّ على ما ذكرنا ما ورد من إبقاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أراضي خيبر في

أيدي اليهود بسهم من محصولها.

المسألة الخامسة: استيجار الغير لاستخراج المعدن؟

هل يجوز استيجار الغير لاستخراج المعدن؟ حتّى يملكه المستأجر، أو لا؟

صرّح الشيخ رحمه الله بجوازه بشرط كون الأجرة معلومة، لا إذا كانت مجهولة، كما إذا قال لك ثلثه أو دونه «1» وذلك لأنّ مقدار ما يخرج من المعدن غير معلوم.

والأصل في ذلك أنّ عنوان الإحياء أو الحيازة أو شبههما كما يصحّ أن يكون بالمباشرة يجوز أن يكون بالتسبيب، فمن استأجر من يحوز أو يحيى له صدق عليه أنّه أحيى الأرض أو حاز المباح أو المعدن ولو بالواسطة، وإن شئت قلت: إنّ العناوين الواردة في لسان الأدلّة بعضها ظاهر في المباشرة كوجوب الصلاة والحجّ والصيام على الأحياء (وأما وجوب قضائها من الأموات فهو على خلاف الأصل، لكن ورد فيه دليل خاص) ممّا يراد به تربية النفوس أو غير ذلك ممّا يقوم به الإنسان نفسه، وبعضها ظاهر في الأعم منه كما في وجوب تطهير المسجد أو إنقاذ الغريق أو إيصال الحقوق إلى صاحبها، فإن المفهوم عند العرف من هذه الأُمور هو الأعم لحصول المقصود منها ولو بالتسبيب، ومثله ما ورد في بعض انوار الفقاهة، ج 2، ص: 104

الأحاديث أنّ مَن بنى مسجداً فله من الأجر كذا وكذا، ومن الواضح أنّه لا يشترط في تحصيل الأجر والثواب كون الباني نفسه بنّاءً.

وما نحن فيه من القسم الأخير، لأنّ المقصود يحصل ولو من طريق تسبيب الغير كما هو ظاهر، مضافاً إلى أنّ استيجار الغير للحيازة والإحياء كان متداولًا بين الناس من قديم الأيّام واستقرت السيرة العقلائية على جواز التسبيب فيهما ولم يردع عنه الشارع والمنع من ذلك يحتاج إلى دليل، والتفاوت بين القسمين يظهر بالقرائن.

وممّا ذكرنا، يظهر أنّه لا يعتبر في ملكية المؤجر هنا أن يقصد

الأجير، النيابة، أو يقصد الحيازة أو الملكية أو غير ذلك، لأنّ العمل في الواقع عمل المستأجر والقصد قصده، والأجير هنا كالآلة، كما إذا استخرج المعدن بواسطة الآلات والمكائن المستحدثة وشبه ذلك.

نعم، قد صرّح صاحب الشرائع بأنّ المستأجر يملك ما يحصل من ذلك- أي الاحتطاب والاصطياد وغيرهما- في مدّة الإجارة. وقال صاحب الجواهر: «لأنّه نماء عمله المملوك له».

ثمّ قال: «إنّه قد يشكل ذلك بأنّه لا يتمّ بناءً على عدم قبول هذه الأشياء للنيابة الذي صرّح به المصنّف في كتاب الوكالة وأنّه يملكها المحيز وإن نواها الغير».

ثمّ نقل عن جامع المقاصد أنّه إن جوّزنا التوكيل جوّزنا الإجارة، وإلّا فلا، حكاه عن صريح التذكرة ثمّ منع هو (صاحب الجواهر) عن التلازم بينهما حيث إنّ ملك المباح هنا من توابع ملك العمل بالإجارة، ثمّ قال: و «الأمر سهل عندنا بعد صحّة التوكيل» «1».

أقول: أوّلًا: لا ينبغي الإشكال في جواز النيابة في حيازة المباحات وإحياء الموات لعدم الدليل على المنع من شي ء منهما، وظاهر هذه الأُمور بحسب مفهوم العرف، قبولها للنيابة والوكالة، فتحمل الإطلاقات عليها، اللّهم إلّاأن يقال: إنّ ترتب الملك على هذه الأُمور أمر قهري لا يحتاج إلى القصد كما يظهر من قوله: (من حاز ملك) في بدو النظر، فإذا كان هذا أثراً قهرياً للاحياء والحيازة لا يبقى مجال لقصد الغير.

ولكنه توهّم فاسد لعدم حصول الملك بلا قصد الحيازة والتملك قطعاً، فلذا لا يملك انوار الفقاهة، ج 2، ص: 105

الصياد، اللؤلؤة الموجودة في بطن السمكة، بل يملكها الواجد القاصد للحيازة، مضافإ إلى أنّ سببية إحياء الموات والحيازة للملك حكم عقلائي كان دارجاً بينهم من قديم الأيّام، بل منذ عرف الإنسان نفسه، وقد أمضاه الشارع المقدّس، ومن المعلوم أنّهم يعتبرون فيه

قصد الحيازة والتملك شرطاً، وأمّا إطلاقات روايات من حاز ملكاً لغير القاصد، إطلاق بدوي يزول بأدنى تأمل.

ثانياً: الظاهر أنّه لا فرق بين الإجارة والنيابة في المقام، وما ذكره صاحب الجواهر رحمه الله من أنّ ملكية عمل الأجير توجب ملكية آثاره، غير كافٍ لو كانت الحيازة أو الإحياء سبباً لملك الحائز والمحيي من دون حاجة إلى القصد، فلا تصحّ مثل هذه الإجارة لعدم عود نفع من عمله إلى المستأجر على الفرض.

فالعمدة هي كون استخراج المعادن أو حيازة المباحات ممّا لا يعتبر فيه المباشرة، بل يكفي التسبيب.

ثالثاً: قد استقرت سيرة العقلاء على ذلك كله ولم يردع عنه الشارع المقدّس، فاستخراج المعادن بمعونة الأجراء وكذا الاستسقاء من الأنهار بسببهم، أمر متداول بينهم، بل لا يمكن استخراج المعادن العظيمة بدون ذلك.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّه لو قصد الأجير ملكية نفسه للمعدن أو الأرض المحياة أو غير ذلك، فهل يملكه، أو لا؟ صرّح صاحب العروة بعدم ملكيته، والظاهر أنّ الوجه فيه كون عمله ملكاً للغير، فلا يصحّ أن ينتفع به نفسه، بل منافعه للغير أيضاً.

ولكن هذا إنما يصحّ إذا كانت الإجارة على عمله الخاصّ لا على ما في ذمّته (مثل البيع الشخصي لا بيع الكلي في الذمّة) بل يمكن أن يقال: على فرض كونه على عمله الخاص مثل البيع الشخصي أيضاً لا مانع من تملك الأجير له إذا قصده نفسه، لأنّه في النهاية من قبيل حيازة المباح أو إخراج المعدن بآلة مغصوبة، ودليل من حاز ملكاً عامّاً يشمل من حاز ولو

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 106

بآلة مغصوبة أو فعل متعلق للغير، ولكن المسألة لا تخلو من إشكال لاحتمال انصراف العمومات من مثل هذا الأجير.

وممّا ذكرنا ظهر حال الشخص إذا كان مخرجاً

للمعدن، فلا يحتاج إلى مزيد بحث، لا سيّما مع عدم الابتلاء به في زماننا.

المسألة السادسة: العمل في جوهر المعدن

إذا قام بتصنيع جوهر المعدن تصنيعاً يوجب زيادة قيمته كما إذا ضربه ديناراً ودرهماً أو جعله حلياً، فقد صرّح صاحب الجواهر بأنّه يعتبر الخمس فيه من الأصل الذي هو المادة، وهو واضح، ثمّ قال: «وبه صرّح في المسالك والمدارك» «1».

والوجه فيه أنّ متعلق حقّ أرباب الخمس هو قيمة المادة، وأمّا الزائد فهو للمالك فقط، ولكن قال صاحب مستند العروة: إنّ الهيئة من حيث هي لا مالية لها ولا يقسط عليها الثمن ولا شأن لها إلّاازدياد مالية المادة، ولأجل ذلك لا يصحّ تعليل الحكم بأنّ الصفة لعاملها، بل الوجه فيه عدم تعلق الخمس بنفس العين بل هو حقّ متعلق بماليته، وأمّا شخصية العين فللمالك (انتهى محل الحاجة مخلصاً) «2».

قلت: لا حاجة إلى بناء المسألة على القول بعدم شركة أرباب الخمس في العين الذي هو خلاف ظاهر آية الخمس وغيرها، بل إذا زادت مالية العين ولو بسبب الهيئة كان المالك أحقّ بهذه الزيادة، وإنّما يستحقّ أرباب الخمس، خمس المادة قبل هذه الزيادة.

ولكن الكلام في جواز ذلك للمالك، فإن كان هذا التصرف الموجب لتغيير كيفيتها جائزاً له بحسب حكم الشرع كان هو أحق بما ازدادت به ماليتها، وإلّا كان الواجب إخراج الخمس انوار الفقاهة، ج 2، ص: 107

منها حالياً، لأنّه يكون كالتصرف في المال المغصوب بما يوجب ازدياد ماليته، كما إذا عمّر الدار المغصوبة أو خاط الثوب المغصوب.

وجواز هذا التصرف المستخرج للمعدن لا يكون إلّابوجهين:

الأول: أن يكون ذلك معمولًا متداولًا في مورده، كما إذا كان المعمول ضرب الذهب والفضة سكّة عند استخراجهما من المعدن بلا فاصلة، أو لم يمكن الاستخراج لبعض العلل إلّا بذلك.

الثاني: إذا

لم يوجب ذلك تأخيراً في أداء حقّ الخمس ولم يناف الفورية العرفية، لأنّه لا دليل على منع المالك عن أنواع التصرفات غير المنافية لحقّ أرباب الخمس، بل يجوز له أداء الخمس من مال آخر.

أمّا إذا اتّجرَ به قبل أن يخرج خمسه ناوياً الإخراج من مال آخر ثمّ أداه من مال آخر، فقد صرّح صاحب العروة بكون الربح للمالك فقط، نعم إذا لم يكن من نيّته الإخراج من مال آخر شاركه أرباب الخمس في الربح.

وقد أورد عليه جماعة من أعلام المحشّين- قدس اللَّه أسرارهم- بأنّ مجرّد نيّة إخراج الخمس من مال آخر لا أثر له في المقام، وهو كذلك لعدم الدليل على انتقال الخمس إلى الذمّة بمجرّد هذه النيّة بعد كونه في نفس العين (بنحو من الأنحاء)، وحينئذٍ لا يبعد شركة أرباب الخمس في الربح أيضاً بشرط إمضاء الحاكم الشرعي، ولابدّ له من إمضائه إذا كان فيه نفع أرباب الخمس، اللّهم إلّاإذا كان البيع بإذن الحاكم الشرعي للمالك بأنّ يتصرف فيه ويكون عوض الخمس في ذمّته، أو يتصرّف فيه مع كون الخمس في العين بأن يكون الربح له فقط وكان في ذلك مصلحة لحفظ متعلق حقّ أرباب الخمس أو غير ذلك، وحينئذٍ، لا مانع من كون المنافع للمالك.

المسألة السابعة: النصاب في خمس المعادن

لو قلنا باعتبار النصاب في خمس المعادن وشك في بلوغه هذا الحدّ، فالأحوط بل انوار الفقاهة، ج 2، ص: 108

الأقوى وجوب الاختبار عليه لما ذكرناه في محلّه من أنّ الفحص والبحث عن الموضوعات وإن لم يكن واجباً بحكم الإجماع وبعض الروايات الواردة في مبحث الطهارة والنجاسة وسوق المسلمين أو غير ذلك، وكذا بحكم العقلاء وبنائهم، إلّاأنّه يستثنى من ذلك موردان:

أحدهما: ما إذا كان الوقوف على واقع الأمر سهلًا جدّاً

بحيث كان علمه ببابه أو في كمه وكيسه، كما إذا شك في مقدار دَينه بزيد مثلًا وتردد أمره بين الأقل والأكثر، أو في أصل الدَّين وكان ذلك مكتوباً في دفتره يطلع عليه بسهولة فإنّ الفحص هنا واجب لانصراف إطلاقات البراءة عن مثله، وعدم شمول الإجماع له، وكون بناء العقلاء على الفحص في مثله.

ثانيهما: ما كان طبيعة الأمر فيه عدم الوصول إلى الواقع عادة بغير الفحص، مثل مسألة الاستطاعة، وربح المكسب، ومقدار النصاب، ومقدار الزكاة الواجب عليه، فإنّ هذه الأُمور لا تعلم غالباً بغير فحص، وبناء العقلاء فيها على الفحص، فلا يجوز الرجوع إلى الإطلاقات لانصرافها منه، ولا يقدر أحد على ترك الفحص.

وإن شئت قلت: عمدة الدليل على البراءة في الموضوعات قبل الفحص هو الأخذ ببناء العقلاء وما سواه إمضاء له، ومن المعلوم عدم استقرار بنائهم عليه فيما نحن فيه.

وقد يقال: إنّ الوجه في وجوب الفحص في المقام هو العلم الإجمالي بالوقوع في مخالفة الواقع كثيراً (أو في الجملة) وهو مانع عن الأخذ بالبراءة ولو كان ذلك تدريجاً، لما ذكر في محلّه من كون العلم الإجمالي منجزاً ولو في الأُمور التدريجية.

وهذا الاستدلال جيد في نفسه، ولكن الإنصاف أنّ وجوب الفحص لا ينحصر بموارد العلم الإجمالي، كمن شك في الاستطاعة ولو مرّة في تمام عمره ولم يكن له شي ء آخر يحتاج إلى الفحص، فإنّ الواجب عليه أيضاً الفحص، وليس الدليل عليه إلّاما ذكرنا.

فالأحوط، لولا الأقوى وجوب الفحص في المقام ونظائره وأشباهه، ولو قلنا بعدم وجوبه فالمرجع هو استصحاب عدم بلوغ النصاب إذا أخرج المعدن تدريجاً، وأمّا إذا استخرج في دفعة واحدة مقداراً يحتمل كونه بالغاً حدّ النصاب- كما في معادن الذهب والفضة والعقيق وغيرها- فلا يجري الاستصحاب

إلّاعلى القول بجريانه في العدم الأزلي انوار الفقاهة، ج 2، ص: 109

بأن يقال إنّه لم يكن بالغاً حدّ النصاب ولو لعدم وجوده، والآن نشك في بلوغه، ولكن قد ذكرنا مراراً عدم حجية هذا الاستصحاب لعدم اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة بعد كون السالبة في الأوّل من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع، وفي الثانية بانتفاء المحمول، هذا مضافاً إلى أنّ انتفاء الوصف بانتفاء الموصوف أمر غير مفهوم عند أهل العرف، كما لا يخفى، وحينئذٍ يمكن الرجوع إلى البراءة عن أداء الخمس، اللّهم إلّاأن يقال إنّه يشك حينئذٍ في أصل تعلق ملكه به بناءً على شركة أرباب الخمس فيه من أول الأمر، فتأمل.

3- الكنز

وممّا اتفقت كلمتهم على وجوب الخمس فيه هو الكنز ولنذكر أدلة وجوبه فيه أوّلًا، ومعنى الكنز ثانياً، وذكر دليل ملكية الكنز لواجده وشرائط تملكه ثالثاً، ونذكر أيضاً أنّه هل يصحّ للحكومة الإسلامية المنع عن تملك الكنوز وتخصيصها بنفسه أم لا؟

فنتكلم أوّلًا في بيان حكم الكنز، ثمّ نتكلم في بيان موضوعه وحدود مفهومه، خلافاً لما هو المتعارف بينهم من ذكر معنى الكنز أوّلًا، ثمّ بيان حكمه، كما في الحدائق والعروة وما سيأتي من كلام شيخ الطائفة رحمه الله وغيرهم، وإنّما نتكلم عن الأحكام قبل تحقيق حال الموضوعات- مع أنّ الموضوع بحسب طبعه مقدم على الحكم- لأنّ موضوعات الأحكام متخذة من لسان الأدلّة، فلا يصحّ لنا التكلم فيها في مقام الإثبات قبل ذكر أدلة الحكم وملاحظة أنّ المأخوذ مثلًا في لسان الدليل هو الكنز أو الركاز أو كلاهما، فالموضوع مقدم على الحكم في مقام الثبوت ومؤخر عنه في مقام الإثبات والأبحاث العلمية، كما لا يخفى.

فنقول ومنه سبحانه نستمد التوفيق والهداية: قال شيخ الطائفة رحمه الله في (الخلاف) في أواخر

كتاب الزكاة: «الركاز، هو الكنز المدفون يجب فيه الخمس بلا خلاف ويراعى عندنا فيه أن يبلغ نصاباً يجب في مثله الزكاة وهو قول الشافعي في الجديد، وقال في القديم:

يُخمّس قليله وكثيره، وبه قال مالك وأبو حنيفة، دليلنا: إجماع الفرقة وأيضاً ما اعتبرناه لا خلاف أنّ فيه الخمس وما نقص فليس عليه دليل» «1».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 112

وظاهر كلامه، الاستدلال بالإجماع والقدر المتيقن لخصوص اعتبار النصاب، وأمّا أصل وجوب الخمس في الكنز فقد جعله أمراً مفروغاً عنه كما أنّ ظاهر كلامه اتحاد عنواني الكنز والركاز مع تقييد الكنز بخصوص المدفون.

وقال صاحب الحدائق: «لا خلاف بين الأصحاب في وجوب الخمس فيه» «1».

إلى غير ذلك ممّا في هذا المعنى.

ويدلّ عليه مضافاً إلى آية الغنيمة بناءً على ما عرفت من عمومية معناها، الروايات الكثيرة المتظافرة المروية من طرقنا وطرق العامة فيها صحاح وغيرها:

1- منها صحيحة الحلبي، أنّه سأل أباعبداللَّه عليه السلام عن الكنز، كم فيه، فقال: «الخمس» «2».

2- صحيحة البزنطي عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: سألته عمّا يجب فيه الخمس من الكنز؟ فقال: «ما يجب الزكاة في مثله ففيه الخمس» «3».

3- ما ورد في وصيّة النبي صلى الله عليه و آله لعلي عليه السلام قال: «يا علي إنّ عبدالمطلب سنّ في الجاهلية خمس سنن أجراها اللَّه له في الإسلام (إلى أن قال) ووجد كنزاً فأخرج منه الخمس وتصدّق به فأنزل اللَّه: «وَاعْلَمُواْ أَ نَّمَا غَنِمْتُمْ من شي ء فإنّ للَّهِ خُمُسَهُ» الآية» «4».

4- ما رواه الحسن بن علي بن فضال في هذا المعنى أيضاً عن أبيه عن أبي الحسن الرضا عليه السلام (في حديث) قال: «كان لعبدالمطلب خمس من السنن أجراها اللَّه له في الإسلام، حرّم نساء الآباء

على الأبناء، وسنّ الدية في القتل مائة من الإبل، وكان يطوف بالبيت سبعة أشواط، ووجد كنزاً فأخرج منه الخمس وسمّى زمزم حين حفرها، سقاية الحاج» «5».

5- مرسلة المفيد، قال: سئل الرضا عليه السلام من مقدار الكنز الذي يجب فيه الخمس؟ فقال:

«ما يجب فيه الزكاة من ذلك بعينه ففيه الخمس وما لم يبلغ حدّ ما تجب فيه الزكاة فلا

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 113

خمس فيه» «1».

ويدلّ عليه أيضاً روايات كثيرة من الباب الثاني من الوسائل من أبواب ما يجب فيه الخمس، حيث عدّ الكنز ممّا يجب فيه الخمس (فراجع الروايات 2 و 4 و 9 و 11 و 12 من ذاك الباب).

نعم، في بعض الروايات ما قد يوهّم الخلاف، وهو ما رواه هارون بن خارجة عن أبي عبداللَّه عليه السلام في المال يوجد كنزاً، أيؤدي زكاته؟ «قال: لا. قلت: وإن كثر؟ قال: وإن كثر.

فاعدتها عليه ثلاث مرات» «2».

ولكن الإنصاف عدم منافاته لما مضى، لأنّ المراد منه نفي الزكاة من دون النظر إلى نفي الخمس.

هذا كلّه مضافاً إلى شمول آية الغنيمة له، لأنّ شمولها له أولى من شموله لأرباح المكاسب، لتفسير الغنيمة في بعض العبارات بما يصل إليه الإنسان بدون مشقّة، وهذا شامل للكنز، ولا يخفى أنّه قد وردت في المقام أخبار من طرق العامة كما في السنن للبيهقي في باب زكاة الركاز عن أبي هريرة يخبر عنه صلى الله عليه و آله قال: «.. وفي الركاز الخمس. وفيه أيضاً أنّ أنس بن مالك أخبره، قال: قدمنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فدخل صاحب لنا خربة يقضي فيها حاجته، فذهب ليتناول منها لبنة فانهارت عليه تبراً فأخذها فأتى بها النبي صلى الله عليه و آله

فقال:

زنها، فوزنها فإذا هي مائتي درهم. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: هذا ركاز وفيه الخمس» إلى غير ذلك من الأحاديث. فراجع «3».

أمّا المقام الثاني: أي معنى الكنز والركاز: أمّا الأوّل، فقد ذكر صاحب لسان العرب: أنّ الكنز اسم للمال إذا أحرز في وعاء، وقيل للمال المدفون «4».

وفي مجمع البحرين للطريحي: «أصل الكنز: المال المدفون لعاقبة ما، ثمّ اتسع فيه، فيقال لكلّ قينة يتخذها الإنسان كنز» «5».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 114

وقال الراغب في المفردات: «الكنز جعل المال بعضه على بعض وحفظه، وأصله من كنزت التمر في الوعاء ... والذين يكنزون الذهب والفضة، أي يدخرونها» «1».

وقال صاحب القاموس مع شرحه في تاج العروس: «الكنز: المال المدفون تحت الأرض، هذا هو الأصل، ثمّ تجوّز فيه فقيل: إذا أُخرج منه الواجب عليه لم يبق كنزاً، ولو كان مكنوزاً. ومنه الحديث: كلّ مال لا تُؤدّى زكاته فهو كنز» «2».

وقال صاحب الصحاح: «الكنز: المال المدفون. وفي الحديث: كلّ مال لاتُؤدّى زكاته فهو كنز (انتهى)» «3».

إلى غير ذلك من أشباهه، ومن الواضح أنّه ليس المراد منه في الروايات وكلمات الفقهاء هو معناه المطلق، أي كلّ مال يحرز في وعاء، ولا معناه المجازي وهو كلّ مال لا تُؤدّي زكاته الواجبة، بل المراد هو المعنى المعروف المشهور الذي يعبّر عنه في الفارسية ب «گنج» ويتبادر له خصوصيات، ويمكن أن تكون هذه الخصوصيات من جهة القصد تارة (فإن بعض الفقهاء عبّروا عنه بالمال المذخور الظاهر في كون اذخاره عن قصد). وأُخرى، من جهة الدفن، وثالثة، من جهة الجنس والكيفية، ورابعة، من جهة المقدار والكمية، وخامسة، من جهة الزمان، أي المقدمة وعدمها.

قال صاحب الشرائع: «الكنز: كلّ مال مذخور تحت الأرض» ونقله صاحب الجواهر

عن التنقيح والتذكرة والمنتهى والبيان والروضة والمسالك مع زيادة «قصداً» عن الأخيرين.

وقد صرّح الشهيد الثاني رحمه الله في المسالك بأنّه لا عبرة باستتار المال بالأرض بسبب الضياع، بل يلحق باللقطة، ويعلم ذلك بالقرائن الحالية كالوعاء «4».

وقال صاحب مصباح الفقيه: «المتبادر منه ارادة كونه عن قصد، فلا يتناول المال المستتر بالأرض لا عن قصد أو بقصد غير الادّخار كحفظه في مدّة قليلة» «5».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 115

والكلام هنا تارة، يكون من ناحية صدق الاسم- أي الكنز- وأُخرى، من ناحية تنقيح المناط من ناحية الحكم، والإنصاف أنّ المتبادر هو الأعم من المقصود وغيره وممّا كان تحت الأرض أو تحت جدار (كما في قضية يتيمين، في سورة الكهف: «فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ- إلى قوله- وَأَمَّا ا لْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى ا لْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَّهُمَا» «1»

فإنّ الظاهر أنّ الكنز لم يكن تحت الأرض، بل كان على سطح الأرض تحت الجدار، بحيث إذا سقط الجدار ظهر الكنز، فأقام الجدار كي لا ينكشف الكنز.

أو كان في نفس الجدار، أو في جوف السقف بل جوف كهف، أو جوف شجر على اشكال فيه، كلّ ذلك يُعدُّ كنزاً، وإن أبيت عن ذلك، فلا ينبغي الشك في تنقيح مناط الحكم وإلغاء الخصوصية بالنسبة إلى هذه الأُمور.

وهكذا من ناحية القصد، بل هو أظهر من السابق، لأنّه لا يشك عرفاً في صدق الكنز على ما يوجب تحت الأراضي وإن لم يعلم اذخارها قصداً، وأظهر منه، إلغاء الخصوصية، نعم، لو كان المال ظاهراً على وجه الأرض أو تحت ورق الشجر والأخشاب، يشكل صدق الكنز عليه.

وأمّا بالنسبة إلى جنس المال، فقد قال العلّامة رحمه الله في التذكرة: «ويجب الخمس في كلّ ما كان

ركازاً وهو كلّ مال مذخور تحت الأرض على اختلاف أنواعه، وبه قال مالك وأحمد والشافعي في القديم» ثمّ استدلّ عليه بقوله صلى الله عليه و آله: «وفي الركاز الخمس». وببعض ما ورد عن طرقنا مثل قول الباقر عليه السلام: «كلّ ما كان ركازاً ففيه الخمس» «2».

وما استدلّ به من رواية الباقر عليه السلام هو ما رواه زرارة عنه قال: سألته عن المعادن ما فيها؟

فقال: «كلّ ما كان ركازاً ففيه الخمس. وقال: ما عالجته بمالك ففيه ما أخرج اللَّه سبحانه منه من حجارته مصفّى الخمس» «3»

. ولكنه في جواب سؤال زرارة عن المعادن، فلا دخل له انوار الفقاهة، ج 2، ص: 116

بما نحن فيه، اللّهم إلّاأنّ يقال: إن كون الجواب بأمر أعم من المعدن والكنز ممّا لا إشكال فيه. فتأمل. وسيأتي الكلام في معنى الركاز.

وعلى كلّ حال فلا ينبغي الشك في عدم صدق عنوان الكنز على كلّ مال مدفون أو مذخور حتّى مثل الأواني عن السفال والصور المجسّمة وإن غلت قيمتها نظراً إلى قِدمها أو أُمور أخرى وهكذا، إذا كان من المواد الغذائية أو الكتاب، بل المتبادر من معنى الكنز كونه من أموال لها شأن خاص من الدراهم والدنانير والجواهر وشبهها، ولو شك فالأصل العدم، لأنّه شبهة مفهومية.

ويظهر من عبارة العروة، اختصاص عنوان الكنز بالذهب والفضة وغيرهما من الجواهر، بل يظهر من بعض المحشّين، الترديد في صدقه على الذهب والفضة غير المسكوكين.

وإلّا فالإنصاف أنّه ليس الأمر في التضييق على ما ذكروه، ولا في التوسعة على ما يظهر من ظاهر كلام التذكرة فيما عرفت، حيث يشمل كلّ مال، بل الحق أمر بين الأمرين وهو الأجناس النفيسة، ولو كان من غير أجناس الفلزات، ولا أقل من إلغاء الخصوصية

بحسب الحكم حتّى بالنسبة إلى ما له قيمة كثيرة لِقِدمها، على الأحوط.

وممّا ذكرنا، ظهر الحال فيه من جهة المقدار، فلو كان مقداره قليلًا كما إذا ظفر على سكة واحدة أو سكتين فصدق الكنز عليه مشكل جدّاً مع قطع النظر عن اعتبار النصاب، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ اعتبار النصاب فيه شرعاً إنّما هو لصدق العنوان.

وأمّا بحسب الزمان: فصدقه على ما كان زمانه جديداً، مشكل، كما إذا وجد مالًا مدفوناً من قوم أُبيدوا بسبب الزلزال في أسبوع قبله بحيث لم يبق منهم أحد، فهذا لا يسمّى كنزاً عرفاً، بل يعتبر فيه نوع مرور زمان، ولكن إلحاقه به حكماً ممّا لا ينبغي الإشكال فيه على فرض جواز تملكه، هذا كله في عنوان الكنز.

بقي هنا شي ء:

وهو: أنّه استدل بعض الأعلام لعدم شمول حكم الكنز لغير النقدين، بما ورد في صحيحة البزنطي عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: سألته عمّا يجب فيه الخمس من الكنز؟ فقال: «ما يجب الزكاة في مثله ففيه الخمس» «1»

. بناءً على كون ظاهر السؤال عن الجنس والماهية لا

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 117

عن المقدار والكمية، وحيث إنّه لا يوجد فيما يخرج من الكنوز جنس مماثل للأجناس الزكوية غير الذهب والفضة، فالخمس في الكنز منحصر فيه، والعجب أنّه لم يقنع بذلك حتّى حكم بالخمس في خصوص المسكوك منهما دون غير المسكوك «1».

أقول: قد اعترف هذا المحقّق بأنّ الحكم هنا خاصّ، وإن كان عنوان مفهوم الكنز عامّاً فيرفع اليد عن الإطلاقات بسبب صحيحة البزنطي، هذا ولكن الإنصاف أنّ المراد منه ما فهمه الأصحاب منه من الاستدلال به للنصاب، لا سيّما بقرينة ما ورد في مرسلة المفيد عن الرضا عليه السلام قال: سئل الرضا عليه السلام من

مقدار الكنز الذي يجب فيه الخمس؟ فقال: «ما يجب فيه الزكاة من ذلك بعينه ففيه الخمس ... الحديث» «2».

ولعلّهما حديث واحد لا تعدد فيهما، والثاني، من قبيل النقل بالمعنى من ناحية المفيد (رضوان اللَّه عليه) فهو أيضاً لم يفهم من الحديث إلّاهذا، مضافاً إلى ورود شبيه هذا التعبير في رواية أُخرى للبزنطي في المعدن مع كونها كالصريح في كونها بصدد بيان المقدار، قال:

سألت أبا الحسن عليه السلام عمّا أخرج المعدن من قليل أو كثير هل فيه شي ء؟ قال: «ليس فيه شي ء حتّى يبلغ ما يكون في مثله الزكاة عشرين ديناراً» «3».

وقد فرّق هذا المحقّق بين الحديثين، بما لا يخفى التكلّف فيه على المتأمل، والإنصاف أنّه لا محيص عن العمل بالإطلاقات هنا، ولا دليل على التقييد.

أمّا الركاز فقد صرّح العلّامة رحمه الله في التذكرة- فيما عرفت بعد الحكم بوجوب الخمس في الركاز- بأنّه: «هو كلّ مال مذخور تحت الأرض على اختلاف أنواعه» ثمّ حكاه عن مالك وأحمد والشافعي في القديم «4».

وقال المحقّق رحمه الله في المعتبر: «الركاز: هو الكنز المدفون وفيه الخمس بغير خلاف وهو مشتق من الركز وهو الصوت الخفي ويقال ركز رمحه في الأرض أي أخفى أسفله وقيل هو دفين الجاهلية وقيل هو المعدن» «5».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 118

والمعنيان الأولان واحد تقريباً، بخلاف الأخير.

وقال صاحب صحاح اللغة: «الركاز: دفين أهل الجاهلية كأنّه ركز في الأرض» «1».

وتفسيره بالمال المدفون في الجاهلية، في معنى، والمعدن، في معنى آخر، هو الذي ورد في مصباح المنير.

هذا، ولكن الظاهر من الراغب أنّه وضع لمعنى عام جامع بين المعنين، حيث قال:

«ركزت كذا، أي، دفنته دفناً خفياً ومنه الركاز للمال المدفون إمّا بفعل آدمي كالكنز، وإمّا بفعل إلهي كالمعدن، ويتناول الركاز

الأمرين، وفسّر قوله صلى الله عليه و آله: (وفي الركاز الخمس) بالأمرين جميعاً» «2».

وهذا المعنى هو الذي يظهر من النهاية أيضاً، حيث قال: «في حديث الصدقة (وفي الركاز الخمس) الركاز عند أهل الحجاز: كنوز الجاهلية المدفونة في الأرض، وعند أهل العراق: المعادن والقولان تحتملهما اللغة، لأنّ كلًا منهما مركوز في الأرض، أي: ثابت» «3».

ولعلّ اختلاف أهل اللغه في ذلك (بعضهم يرى الركاز بمعنى دفائن الجاهلية وبعضهم يراه بمعنى أعم يشمل المعادن أيضاً) صار سبباً لاختلاف أقوال فقهاء العامة، وإليك بعض ما ورد في ذلك في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة:

«الحنفية قالوا: المعدن والركاز: بمعنى واحد وهو شرعاً مال وجد تحت الأرض، سواء كان معدناً خلقياً ... أو كنزاً دفنه الكفّار ....

المالكية قالوا: المعدن هو ما خلقه اللَّه تعالى في الأرض من ذهب أو فضة أو غيرهما ...

وأمّا الركاز، فهو ما يوجد في الأرض من دفائن أهل الجاهلية من ذهب أو فضة أو غيرهما.

والحنابلة قالوا: المعدن: هو كلّ ما تولَّد من الأرض وكان من غير جنسها، وأمّا الركاز:

فهو دفين الجاهلية ....

والشافعية قالوا: المعدن: ما يستخرج من مكان خلقه اللَّه تعالى فيه ... وأمّا الركاز: فهو

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 119

دفين الجاهلية، ويجب فيه الخمس حالًا ...» «1».

وفي معاني الأخبار للصدوق، أيضاً كذلك، قال في تفسير قوله صلى الله عليه و آله: «وفي الركاز الخمس»: «قال أهل العراق: الركاز: المعادن كلّها، وقال أهل الحجاز: الركاز: المال المدفون خاصة ممّا كنزه بنو آدم» «2».

وفي دعائم الإسلام عن الصادق عليه السلام قال: «في الركاز من المعدن والكنز القديم، يؤخذ الخمس من كلّ واحد منهما، وباقي ذلك لمن وجد في أرضه ...» «3».

فإن كان الكنز معطوفاً على المعدن، كان الركاز عامّاً،

وإن كان معطوفاً على الركاز، كان خاصّاً. كما لا يخفى.

ويتحصّل- بحمد اللَّه- من جميع ما ذكرنا، أنّ الركاز: لفظ مشترك معنوي بمعنى المال المخفي في الأرض، من الركز وهو الصوت الخفي، ويطلق على الدفائن التي دفنها الإنسان، تارة، وعلى المعادن، أُخرى، بل يظهر من بعض الروايات، إطلاقه على المال الصامت المنقوش، أي، الدراهم والدنانير، كما في صحيحة علي بن يقطين عن الكاظم عليه السلام قال: «..

وكلّ ما لم يكن ركازاً فليس عليك فيه شي ء، قال: قلت: وما الركاز؟ قال: الصامت المنقوش ...» «4».

ولكن الظاهر أنّه معنى مجازي، لأنّنا لم نر قولًا من أصحاب اللغة يطلق على المال الموجود على سطح الأرض الخارج عن المعاملة والتجارة، ركازاً.

ويعلم ممّا ذكرنا أيضاً أنّ الاستدلال بالأحاديث النبويّة الدالة على أنّ الركاز فيه الخمس لوجوبه في الكنوز، ممّا لا غبار عليه ولا إشكال.

فلنعد إلى كلام صاحب العروة حيث قال قدس سره: «الكنز: وهو المال المذخور في الأرض أو الجبل أو الجدار أو الشجر» «5» فقد عرفت الإشكال في أخذ قيد المذخور المشعر باعتبار

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 120

القصد، بل المعتبر المدفون بأي سبب كان، كما أنّه قد عرفت أنّ المدفون في الشجر قد لا يكون مصداقاً للكنز ولكنه ملحق به حكماً.

ثمّ قال: «والمدار على الصدق العرفي سواء كان من الذهب والفضة المسكوكين أو غير المسكوكين أو غيرهما من الجواهر». وهو كلام جيد موافق للتحقيق بجميع أركانه، وأمّا زيادة القيمة الحاصلة لشي ء بسبب مرور الزمان، فالظاهر عدم كونه مشمولًا للكنز، فإنّه ظاهر في المال الذي له قيمة ذاتية لا عرضية.

إن قلت: لو شككنا في بعض المصاديق أنّه من الكنز، أو لا، فإلى أيّ شي ء نرجع؟

قلنا: المرجع هو عمومات الأرباح والمنافع والغنيمة بالمعنى

الأعم، خرج منه ما علم كونه كنزاً، وبقى الباقي تحته (فيجب فيه الخمس، ولكن مع شرائط الأرباح لا مع شرائط الكنز) وذلك لأنّه من قبيل الشبهة المفهومية، والمرجع فيه عموم العام لا الاصول العملية، لأنّه مع وجود العام لا تصل النوبة إليها.

أمّا المقام الثالث: أعني (مالكية الكنز حتّى يجب فيه الخمس وأنّه هل هو لواجده مطلقاً أو في بعض الصور خاصة)، ففيه كلام بين الأعلام، وتفصيل الكلام فيه أنّ الأصحاب قسّموا الكنز على أقسام:

فإنّه إمّا يوجد في دار الحرب أو في دار الإسلام، وعلى كلّ تقدير إمّا عليه أثر الإسلام أو لا، وفي كلّ من هذه الأقسام الأربعة، إمّا تكون الأرض التي يوجد فيها، من المباح أو الأنفال أو ملك خاصّ لمسلم.

فإن كان في دار الحرب بأقسامه الأربعة وكذا في دار الإسلام وليس عليه أثر الإسلام مع كون الأرض مباحة أو مواتاً، فقد ادّعى عدم الخلاف في كونه ملكاً لواجده، بل قد ادّعى الإجماع في جميع هذه الصور أو بعضها على الأقل.

وادّعى صاحب الجواهر عدم وجدانه الخلاف فيما وجد في دار الحرب، مطلقاً، وما وجد في دار الإسلام إذا كان في أرض مباحة أو ما ليس ملكاً لواحد من المسلمين بالخصوص ولم يكن عليه أثر الإسلام «1».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 121

وفي مصباح الفقيه، مثله، بل وفي فرض وجود أثر الإسلام عليه، أيضاً «1».

وعند صاحب الحدائق، دعوى عدم خلاف الأصحاب فيما يوجد في دار الحرب «2».

أقول: أمّا ما يوجد في دار الحرب بأقسامه، فقد استدل على كونه لواجده مضافاً إلى ما عرفت، بأمرين:

1- إنّ الأصل في الأشياء، الاباحة، فإنّ التصرف في مال الغير إنّما يحرم إذا كان ملكه محترماً، وإلّا، فلا، وهنا غير معلوم، بل ظاهر

كونه في دار الحرب أنّه مال لغير محترم، ومجرّد وجود أثر الإسلام عليه، غير مفيد، فإنّ غير المسلم أيضاً قد يملك النقود الإسلامية، ولو شك في كونه مملوكاً لمسلم، فالأصل عدمه، على أن وجدانه في دار الكفر إمارة على عدم كونه مملوكاً لمسلم، أقوى من وجود أثر الإسلام عليه.

2- وأظهر منه، الأخذ بعمومات أدلة الكنز وإطلاقاته، فإنّها ظاهرة في كونه ملكاً لواجده، فلأرباب الخمس خمسه، وأربعة أخماسة للواجد (هذا بالنسبة إلى الصور الأربع).

أمّا إذا كان في دار الإسلام ولم يكن عليه أثر الإسلام وكان في الأراضي المباحة، كان أيضاً لواجده، لعين ما مرّ بعد دعوى عدم الخلاف من الدليلين- أي إطلاقات الأدلّة وأصالة الإباحة- ودعوى عدم إجراء أصالة الإباحة في الأموال، كماترى، فإنّها في غير محلّ الكلام ممّا يحتمل عدم جريان يد مسلم عليه، نعم إذا جرت عليه يد المسلم لا يمكن الاستناد إلى أصالة الاباحة وشبه ذلك.

أمّا إذا كان في دار الإسلام في الموات وشبهها وعليه أثر الإسلام، فالظاهر أنّه كذلك أيضاً. وقد حكى ذلك عن الخلاف والسرائر والمدارك وظاهر كلام المفيد والمرتضى وغيرهم، واختاره صاحب الجواهر، لعين ما مرّ من الأدلّة السابقة.

ولكن في مقابل هذا القول، قول القائلين إنّها في حكم اللقطة، ذهب إليه أكثر المتأخرين فيما نسب إليهم، وغير واحد من قدماء الأصحاب، مثل الشيخ في المبسوط، حيث قال:

«أمّا الكنوز التي توجد في بلاد الإسلام فإن وجدت في ملك الإنسان وجب أن يعرف أهله انوار الفقاهة، ج 2، ص: 122

فإن عرفه كان له، وإن لم يعرفه أو وجدت فى أرض لا مالك لها فهي على ضربين، فإن كان عليها أثر الإسلام مثل أن يكون عليها سكة الإسلام فهي بمنزلة اللقطة سواء ... وإن

لم يكن عليها أثر الإسلام ... فإنّه يخرج منها الخمس» «1».

وقد حكى هذا القول عن القاضي والفاضلين والشهيدين أيضاً.

وقد استدلّ له في مصباح الفقيه بامور:

1- أصالة عدم التملك بمجرّد الوجدان.

2- أنّه مال ضائع في دار الإسلام وعليه أثر الإسلام فيكون لقطة كأشباهه.

3- اشتماله على أثر الإسلام إمارة قوية على كونه ملك مسلم.

4- موثقة محمّد بن قيس عن الباقر عليه السلام قال: «قضى علي عليه السلام في رجل وجد ورقاً في خربة أنّ يعرِّفها، فإن وجد من يعرفها وإلّا تمتع بها» «2».

أقول: وهناك رواية أخرى يرد على الأوّل، أنّ أصالة الإباحة حاكمة على استصحاب عدم الملكية لأنّها أصل سببي بالنسبة إليها، وأوضح حالًا من ذلك، عمومات أدلّة الكنز فإنّها مقدمة على الاستصحاب، وقد عرفت أنّها ظاهرة في كون أربعة أخماسه لواجده، بل الظاهر أنّ الخمس يتعلق بالغنائم بالمعنى الأعم، والفوائد كذلك، فما لم تكن هناك فائدة لإنسان لم يتعلق به الخمس (وسيأتي أنّ حساب المال المختلط بالحرام والأرض المشتراة من ناحية الذمّي حساب آخر). والقول «إنّها ليست في مقام بيان كون أربعة أخماسه لواجده» ليس في محلّه، لأنّ الحكم بوجوب الخمس في مال، لا ينفك عن كون الأربعة أخماس الباقية لمن وجب عليه الخمس.

وعلى الثاني، بأنّ إطلاقات اللقطة ناظرة إلى غير الكنز ومنصرفة عنه، لا سيّما مع بعد الزمان المشترط في مفهوم الكنز، على ما مرّ، فإنّ ظاهر اللقطة كونه المال الضائع غير المكنوز، سلّمنا أنّها أعمّ من المال الظاهر والمكنوز ولكن إطلاقات أدلّة الكنز مُقدّمة عليها لأنّها أخصّ منها، وقد عرفت أنّها ظاهرة في كون الأربعة أخماس الباقية للواجد.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 123

وعلى الثالث، بأنّ مجرّد وجدان أثر الإسلام عليه وإن كان قرينة ظنية

على كونه لمسلم، ولكن لا دليل على حُجيّة مثل هذا الظن، وكونها من الإمارات العقلائية، فإنّها معدودة معروفة، ليس هذا منها.

إن قلت: الأصل في جميع الأموال، الاحترام من غير إناطته بالإسلام وبالسيرة العقلائية وحكومة العقل القاضي بقبح الظلم إلّاإذا ثبت إلغاؤه والإذن فيه بدليل خاص كما يثبت في الكافر الحربي، وقد ورد في التوقيع الشريف: لا يحل لأحد أن يتصرّف في مال غيره إلّا بإذنه، ولذا لا ينبغي الشك في أنّا إذا وجدنا شخصاً مجهول الحال في بادية ولم نعلم هل هو مسلم أم كافر؟ لا يجوز لنا أخذ ماله، وكذا إذا أخفاه في مكان، لا يجوز أخذه «1».

قلت: أمّا أصالة احترام الأموال عموماً، فهو معلوم ولكنه من العام المخصص (لخروج أهل الحرب منه)، ومن المعلوم أنّه لا يجوز الرجوع إلى عموم العام في الشبهة المصداقية، وقوله: «إلّا إذا ثبت إلغاؤه والإذن فيه» مخالف لظاهر دليل التخصيص، لعدم أخذ العلم في موضوعه، فلا يجوز التمسك بأدلّة حرمة الظلم، والتوقيع الشريف بعد ما عرفت من التخصيص.

نعم، الإنصاف أنّ الأموال التي توجد في البلاد الإسلامية الأصل، كونها مالًا لمسلم، فلذا تكون لقطتهم محترمة، كما أن لقيطهم بحكم ولد المسلم، وما ذكرت من أنّه لا يجوز أخذ مال مجهول الحال، إنّما هو من هذه الناحية، لأنّ مجهول الحال فيهم بحكم المسلم فأدلّة اللقطة وكذا أدلة اللقيط دليل على احترام أموال مجهول الحال، وكذا احترام أولادهم، ولعلّ أدلّة السوق أيضاً تؤيده، فالأصل في الأموال هو الحرمة في هذه البلاد، وإن لم يكن عليه أثر الإسلام.

ولكن إجراء هذا الحكم على الكنوز المدفونة القديمة التي لا يعلم حالها وهل أنّها دفنت في عهد الإسلام أم قبل الإسلام، وكذا ما دفن بعد

ظهور الإسلام مع عدم العلم بجريان يد مسلم عليه، مشكل.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 124

ولو سلم شمول هذه الإمارة حتّى لما ذكر، فالظاهر أنّها لا تقاوم إطلاقات أدلّة الكنز وأنّ الترجيح معها، نعم، إذا كان احتمال دفنه من زمن قريب أمكن الحكم لكونها لقطة، ولكن قد عرفت أن صدق الكنز عليه مشكل بدون مضي زمان كثير.

ويرد على الرابع أنّه غير ناظر إلى ما نحن بصدده، فإن صدق الكنز على مجرّد الورِق الواحد غير ثابت، ولا ظهور في الحديث في كونه مدفوناً، فيمكن حمله على وجدانه ملقى على الأرض، ويجري عليه أحكام اللقطة.

إن قلت: كيف يصحّ له تملكه وهو لقطة؟

قلنا: الحق في اللقطة بعد اليأس من وجدان صاحبها التخيير بين أُمور أربعة: التملك، وحفظها بعنوان الأمانة، والتصدق عن مالكها، واعطائها بيد الحاكم الشرعي، فليست الموثقة من هذه الجهة مخالفة للقاعدة.

وهناك رواية أخرى في هذا المعنى وهو ما رواه إسحاق بن عمّار قال: سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن رجل نزل في بعض بيوت مكة فوجد فيه نحواً من سبعين درهماً مدفونة، فلم تزل معه ولم يذكرها حتّى قدم الكوفة، كيف يصنع؟ قال: «يسأل عنها أهل المنزل لعلّهم يعرفونها. قلت: فإن لم يعرفوها؟ قال: يتصدق بها» «1».

ولكنها يمكن حملها على ما إذا كانت مخزونة من زمان قريب كزمان موسم الحجّ، مضافاً إلى أنّ التصريح بوجدانه في بعض بيوت مكة يخرجه عن محل الكلام لأنّه من قبيل ما يوجد في ملك شخصي.

وقد عرفت اعتبار مضي زمان معتدّ به على الكنز، بحيث يعدّ من الأموال التي لا مالك لها عرفاً، فالحديثان في أنفسهما غير دالّان على ما نحن فيه.

هذا مضافاً إلى معارضتها بصحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه

السلام قال: سألته عن الدار يوجد فيها الورِق؟ فقال: «إن كانت معمورة فيها أهلها، فهي لهم، وإن كانت خربة قد جلا عنها أهلها، فالذي وجد المال أحق به» «2».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 125

وصحيحة أُخرى له عن أحدهما عليهما السلام في حديث قال: وَسَأَلَتْهُ عن الورِق يوجد في دار؟ فقال: إن كانت معمورة فهي لأهلها فإن كانت خربة فأنت أحق بما وجدت» «1»

.والظاهر أنهما حديث واحد نقل أحدهما بالمعنى، ولكن بينهما فرق من حيث التقييد بقيد «قد جلا عنها» الموجب لإلحاقه بالكنز حكماً وإن لم يلحق به موضوعاً لقلته، فتأمل.

وبعد التعارض يرجع إلى الترجيح للأخيرين سنداً أو التخيير فيثبت المطلوب.

والحاصل: إن إجراء أحكام اللقطة على محل الكلام، مشكل جدّاً.

وإن شئت قلت: إنّ اللقطة والكنز متضادان مفهوماً، وذلك لأنّ المتبادر من عنوانها والمفهوم من موارد استعمالاتها أنّه مال ضائع له صاحب لا يُعرف بعينه، والحال، أنّ الكنز في مفهوم العرف مال ليس له صاحب لطول الزمان وانقراض مالكه.

والتعبير بدفائن الجاهلية في معنى الكنز أو الركاز، إشارة إلى هذا.

وهذا أمر ينفعنا في المباحث الآتية أيضاً، فليكن على ذكر منك.

ولسيّدنا الاستاذ المحقّق البروجردي رحمه الله كلام في المقام يمكن التأييد به لبعض المقصود، فقد قال ما حاصله: «إن الكنز لم يذكر في رواية مستقلًا إلّافي رواية عبدالمطلب وأمّا في غيرها وهي العمدة ذكر مع غيره ممّا يتعلق به الخمس مثل رواية الصدوق وغيرها، فإنّها تشتمل على المعادن والغوص والغنيمة ثمّ إنّ تحصيل المال من هذه الطرق طريق عقلائي يجري عليه العقلاء خلفاً عن سلف (والشارع المقدّس أمضى ذلك وإن تصرف في بعض جهاتها سعة وضيقاً)» «2».

ومن الواضح أنّ العقلاء لا يجوّزون غصب حقّ الغير وأخذ ما هو ملك له،

بل يرونه ظلماً وجوراً فهذا أيضاً مؤيد لما ذكرنا من أنّ الكنز يُعدُّ عندهم من الأموال التي لا مالك لها فتدبّر جيّداً.

ولنعم ما أفاده المحقّق الهمداني رحمه الله فيما ذكره في المقام، حيث قال: إنّ الملكية علاقة

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 126

اعتبارية عرفية قد تنقطع إمّا اختياراً كما في صورة الإعراض أو قهراً كما في الأموال التي توجد في البلاد الخربة في الأعصار القديمة ممّا لا يحفظ إضافته إلى مالك مخصوص، وحينئذٍ يعامل معه عند العرف والعقلاء معاملة المباحات الأصلية (انتهى ملخصاً) «1».

والعمدة فيما ذكره المحقق الهمداني رحمه الله هو سيرة العقلاء في ذلك مع إمضاء الشارع المقدّس له ولو بعدم الردع عنها بل بإمضائه بأدلّة وجوب الخمس في الكنز الدالّة على جواز تملكه لما عرفت من أنّ لسان تلك الأدلّة كونه نوع غنيمة ونوع فائدة يباح تملكها، هذا تمام الكلام فيما استدلّ به على كونه لقطة.

وأمّا ما يدلّ على عدم الحاقه باللقطة، بل كونه لواجده، ما مرّ من إطلاقات أدلّة الكنز وعدم الدليل على تخصيصها، أمّا أصالة الإباحة فقد مرّ الإشكال فيها فيما يوجد في بلاد الإسلام، وكذلك استصحاب عدم جريان يد محترمة عليه، نعم، صحيحة محمّد بن مسلم، لا سيّما الثانية أيضاً، مؤيد أو دليل على المطلوب، فإنّ الورِق فيها جنس يشمل القليل والكثير، وكذلك الوجدان أعمّ من الوجدان على سطح الأرض أو تحتها.

وممّا ذكرنا، ظهر حال ما يوجد في أرض مملوكة له بالإحياء، فإنّه لواجده، وذلك لأنّ الأرض المحياة لم تكن ملكاً شخصياً لأحد قبل إحياء الواجد لها، فيدخل فيما يوجد في الأراضي المباحة من دار الإسلام.

بقي القسم السابع والثامن: أي إذا وجده في أرض مملوكة سواء كان عليه أثر الإسلام أم لم

يكن، قال صاحب الشرائع: «ولو وجده في ملك مبتاع عرّفه البائع، فإن عرفه فهو أحق به وإن جهله فهو للمشتري» «2».

وقال صاحب الجواهر قبل ذلك: «أمّا لو كانت مملوكة بابتياع أو هبة أو نحوهما ممّا لا يحصل بسببه ملك للكنز وكان عليه أثر الإسلام، ففي المنتهى والتذكرة والمسالك وغيرها عرّفه البائع، فإن عرفه وإلّا فالمالك الذي قبله، وهكذا، بل لا أجد فيه خلافاً بيننا لوجوب الحكم به له مع دعواه إيّاه إجماعاً في المنتهى قضاء لظاهر يده السابقة» «3».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 127

وقال في موضع آخر: «أمّا إذا لم يكن عليه أثر للإسلام فقضية إطلاق لقطة الكتاب (الشرائع) بل كاد يكون صريح الشهيدين في الدروس والمسالك مساواته للأوّل في وجوب التعريف أيضاً وترتيبه، بل قد يظهر من الغنية، الإجماع على تعريفه من البائع» «1».

هذا، ولكن عن المدارك، المناقشة في وجوب التعريف لذي اليد السابقة إذا احتمل عدم جريان يده عليه، لأصالة البراءة من هذا التكليف، مضافاً إلى أصالة عدم التقدّم، بل في الحدائق، لا يخلو من قرب.

وقال المحقّق النراقي رحمه الله في المستند: «المصرّح به في كلماتهم أنّه يجب تعريف الناقل فإن عرفه دفع إليه، وإلّا فهو للواجد» «2».

وفي المقام قول ثالث لبعض الأساتذة الأعلام في مستند العروة، حاصله عدم الفرق بين المالك السابق وغيره، بل حكم الكنز في الأرض المبتاعة، حكمه في الأرض الموات في أنّه أن احتمل أنّ له مالكاً محترماً موجوداً بالفعل، كان من مجهول المالك، ووجب التعريف، وإن لم يوجد مالكه فيتصدق به، وأمّا لو لم يحتمل وجود المالك الفعلي، جاز له تملكه، وعليه الخمس «3». فتلخص أنّ هناك ثلاثة أقوال:

1- وهو المشهور من أنّه يجب التعريف، فلو عرفه البائع فهو

أحق به، وإن جهله فهو للمشتري.

2- ما لعلّه يظهر من (المدارك والحقائق) من عدم وجوب التعريف.

3- ما ذكره صاحب مستند العروة من كونه كما يوجد في الأرض الموات.

أقول: ويظهر من جميع ذلك أنّ المشهور هو وجوب التعريف، والقول بعدمه شاذ، وعمدة ما استدلّ به لذلك أُمور:

1- مقتضى اليد السابقة ذلك، وقد أورد عليه أوّلًا: بأنّ حجية اليد سواء كان مستندها السيرة العقلائية أم بعض النصوص، خاصة باليد الفعلية، أمّا الزائلة، فهي ساقطة.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 128

وثانياً: أنّه لو تمّت هذه الحجّة، لوجب الحكم بملكيته لذي اليد السابقة من غير حاجة إلى تعريفه ودعواه لأنّه مالك بمقتضى يده.

ولكن يدفع الأوّل بأنّ أدلّة حجية اليد، عامّة تشمل اليد الزائله لا بالنسبة إلى الحال، بل بالنسبة إلى زمان وجودها، فليست هي في الحقيقة زائلة، بل بلحاظ زمان وجودها موجودة، فلذا لا ينبغي الشك في أنّه لو وجد شيئاً من الأموال لا بصورة الكنز كما إذا وجد صندوقاً فيه ألبسة في بعض بيوته بعد بيعه بأيّام يعلم وجودها في ذاك الزمان في البيت، يحكم بكونه لذاك المالك، بلا ريب، بل وكذا لو جاء ثالث وادّعى أنّه مالك الثمن، لكونه مالكاً للدار، لا يصغى إليه قضاء بحكم اليد السابقة.

وأمّا الثاني: فيدفعه ما مرّ آنفاً في بيان الفرق بين الكنز واللقطة، فالمقام مصداق مشكوك، فسؤاله إنّما هو لتشخيص المصداق المشكوك، بعد ما عرفت من عدم جريان أحكام الكنز على ما لم يقطع علاقة المالك به عرفاً لمرور الزمان، وعدم جريان أحكام اللقطة على ما هو مصداق للكنز الذي هو مال بلا مالك عرفاً، هذا بحسب القاعدة.

أمّا بحسب الروايات، فقد استدلّ له بروايات:

1- ما مرّ من موثقة إسحاق بن عمّار قال: سألت

أبا إبراهيم عليه السلام عن رجل نزل في بعض بيوت مكة فوجد فيه نحواً من سبعين درهماً مدفونة فلم تزل معه ولم يذكرها حتّى قدم الكوفة كيف يصنع؟ قال: «يسأل عنها أهل المنزل لعلّهم يعرفونها. قلت: فإن لم يعرفوها؟ قال: يتصدق بها» «1».

فإنّها مصداق للكنز بعد كونه مالًا كثيراً مدفوناً، والأمر بتعريفها لأهل المنزل شاهد على المقصود.

وفيه أوّلًا: إنّ المراد بوجوب التصدق بها، من أدل الأدلّة على عدم كونه كنزاً، إذ الكنز لواجده.

وثانياً: ما عرفت سابقاً من أنّ ظاهرها عدم كون المال مصداق الكنز، بل كان ممّا دفنه الحاج لعدم الأمن في حمله بقرينة كونه في بيوت مكة، فهو مصداق لمجهول المالك، لا غير.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 129

2- ما رواه محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قضى علي عليه السلام في رجل وجد ورِقاً في خربة أن يعرّفها، فإن وجد من يعرفها وإلّا تمتع بها» «1»

. وهو أحسن من سابقه من جهة التصريح بجواز التمتع به بعد عدم معرفة صاحبه، وأسوأ حالًا منه من حيث عدم صدق الكنز على وجدان ورِق واحد.

أضف إلى ذلك، أنّ التمتع به لا يدلّ على كونه مشمولًا لحكم الكنز، لجوازه في اللقطة أيضاً، إذا لم يجد صاحبها.

3- مصححة عبداللَّه بن جعفر قال: كتبت إلى الرجل عليه السلام أسأله عن رجل اشترى جزوراً أو بقرة للأضاحي، فلما ذبحها وجد في جوفها صرّة فيها دراهم أو دنانير أو جوهرة لمن يكون ذلك؟ فوقّع عليه السلام: «عرّفها البائع فإن لم يكن يعرفها فالشي ء لك رزقك اللَّه إيّاه» «2»

.وعدم التصريح باسم الإمام عليه السلام لعلّه لا يضرّ بالمطلوب بعد كون القرائن دالة عليه، وقد جعله في محكى الحدائق من المؤيدات للمسألة،

وارتضاه في الجواهر.

وتقريب دلالتها على المقصود ما ذكره المحقّق النراقي رحمه الله في المستند من عدم الفرق بين الأرض والحيوان، فإن ثبت فهو، وإلّا فمقتضى الإطلاقات كونه للواجد من غير تعريف «3».

والإنصاف أنّه لا ربط له بالمقام، لعدم شمول عنوان الكنز لما أكله الجزور، بل ولا ملاكه، فإنّه مال ضائع له صاحب لا يُعرف بعينه غير مسبوق بسابقة كثيرة، بل لم يمض عليه إلّايوم أو مثله، فهو مصداق واضح لللقطة وكونه للأضاحي- إن كان المراد منه الاضحية في مِنى كما هو ظاهرها- ممّا يوجب اليأس عادة من وجدان صاحبها لو لم يعرفها البائع لكثرة الناس هناك وعدم استقرارهم في مكان، فجعله ممّا رزقه اللَّه ليس أمراً مخالفاً للقاعدة، بل هو على وزان سائر أفراد اللقطة، ممّا إذا حصل اليأس من وجدان مالكها، جاز فيه التصدق والتملك وغيرهما، ممّا ذكر في محلّه.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 130

فالحق في المسألة، الأخذ بمقتضى القاعدة والعمل بما ذكره المشهور من تعريف البائع وما قبله، وإن لم يُعرَّف جاز له تملكه ووجب عليه الخمس.

بقي هنا أُمور:

1- قد عرفت أن تعريفه للبائع إنّما هو لكونه مصداقاً مشتبهاً للكنز واللقطة، وهذا نوع فحص لتشخيص الحال في الأموال التي بناؤها على الاحتياط، وهل يجب على البائع ذكر الإمارات الدالّة على ملكه أو إقامة البيّنة أو يعطى بمجرّد دعواه؟ ظاهر كلمات القوم، كفاية دعواه، والظاهر أنّه مقتضى اليد. اللّهم إلّاأن يقال: إنّه شبهة مصداقية للكنز القديم أو الملك الجديد، ولعلّ يده لم تجر عليه أبداً، فالأخذ بقاعدة اليد هنا لا يخلو من إشكال، ولكن الأحوط إعطاؤه ذلك، لأنّ الأمر بالنسبة إلى أربعة أخماس، دائر بين الواجد والبائع، والأحوط للواجد إعطاؤه البائع المدعى له فيما

إذا لم يكن مدعياً في الأيادي السابقة عليه (أي البائع) وإن كان وجوبه عليه بدون بيّنة محل. تأمل.

2- هل يجب تعريف البائع فقط أم مَن قبله أيضاً، ممّا تصل يده إليه؟ مقتضى القاعدة، عدم الفرق بينهم بعد وحدة الملاك وهو اليد فيهم، وقد عرفت أنّ الدليل هو اليد، وأمّا عدم ذكر غير البائع في رواية الجزور وغيره، فقد عرفت أنّه ناشى ء عن عدم التمكن من الوصول إليهم، وهذا في رواية الجزور ظاهر، وفي غيره أيضاً غير بعيد.

3- لو تنازع الملاك فيه، قال صاحب العروة: يجري عليه حكم التداعي ولازمه التقسيم بينهم: ولكن الإنصاف أنّ الترجيح مع ذي اليد الأخيرة، لأنّ استقرار يده يوجب زوال يد غيره فلذا لا شك في أنّه لو جد صندوقاً في دار ابتاعه من غيره، كان للبائع، ولو ادّعى الذي كان قبله لا يسمع منه، كما استقرت عليه سيرة العقلاء من تقديم الأخير على الأيادي السابقة عند التعارض.

4- لو ادّعاه المالك السابق إرثاً، وكان له شركاء نفوه، دفعت إليه حصته، وملك الواجد الباقي وأعطى خمسه هكذا ذكره المحقّق اليزدي رحمه الله في العروة، وهذا الحكم بالنسبة إلى انوار الفقاهة، ج 2، ص: 131

نفوذ دعوى المالك السابق في سهمه دون سهم غيره، واضح، وكذا ملك الواجد للباقي، ولكن قد عرفت آنفاً أنّ الركون إلى مجرّد دعواه بلا بيّنة أو إمارات توجب الإطمئنان، مشكل.

5- إذا وجده في أرض مستأجرة أو مستعارة أو مغصوبة أو أرض يعمل فيها للمالك فوجد فيها كنزاً، فهل هو للمالك أو الواجد أو فيه تفصيل؟ سيأتي الكلام فيه إن شاء اللَّه عند مناقشة المسائل الباقية من أحكام الكنز.

6- وهاهنا فرع مهم مبتلى به في عصرنا، وهو أنّه قد جرت عادة

الحكومات على أخذ ما يوجد من الكنوز ولا يرون في ذلك حقّاً للواجد (أو حقّاً قليلًا فقط) بل لعلّهم يجعلون لمن وجدها ولم يسلمها إلى الحكومة تعزيرات مالية أو غيرها، فهل هذا يبتنى على شي ء؟

الذي يظهر من اتفاق العلماء وإجماعهم والروايات الكثيرة أو المتواترة الواردة في الباب، أنّ الكنز للواجد بشروطه وإنّما يكون للحكومة الخمس للصرف في مصارفه لا غير، ولقد تفحصنا كلمات العامة أيضاً في هذا المقام، فرأيناهم متوافقين في هذا الحكم مع أصحابنا، وقد عرفت كلام شيخ الطائفة رحمه الله في الخلاف في المسألة 145 من كتاب الزكاة وغيره وراجعنا كتاب الفقه على المذاهب الأربعة «1» فرأيناهم متفقين على هذا الأمر، فعلى هذا، لا وجه لأخذ الكنوز من واجدها، فيكون غصباً وحراماً فيما زاد على الخمس إلّابأحد وجوه:

الأوّل: ما يلوح من بعض كلمات المعاصرين أنّ الكنوز كالمعادن، من الأنفال والأموال العامة التي أمرها بيد الحكومة (أي ولي الأمر في الإسلام) وما ورد من جواز تملكه، إنّما هو من باب إجازة النبي صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام، ولنائب الغيبة صرف النظر عن هذه الاجازة.

ويرد عليه: أنّ موارد الأنفال في رواياتنا، معيّنة معلومة وليست الكنوز منها، ولم يرد ذلك في رواية من روايات المعصومين عليهم السلام مع وجود الكنوز في تلك الأعصار ومع كون الروايات في مقام البيان من هذه الجهة، ولم يُفتِ أحد من فقهائنا بذلك، فعدّه من الأنفال عجيب.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 132

وجريان سيرة العقلاء، اليوم على عدد من الأموال العامّة، أمر مستحدث، ومن الواضح عدم حُجيّة السيرة العقلائية ما لم يرجع إلى زمن المعصومين حتّى يثبت إمضاؤها من قبلهم، وبعبارة أُخرى، قد كانت السيرة العقلائية في زمن المعصومين عليهم

السلام قائمة على كون الكنز لواجده، ثمّ تبدّلت في أيّامنا إلى عدّة من الأموال العامّة، وهذه سيرة مستحدثة لم يقم دليل على إمضاء الشارع لها.

بل ظاهر روايات هذا الباب وصريح بعضها، كونها للواجد، وأنّه ليس لبيت المال (الولي من قبل أرباب الخمس) إلّاخمسها، فتدبّر جيّداً.

الثاني: أن يكون الكنز من الأشياء المهمّة القديمة التي ترتبط بحياة ملة وحضارتهم، ويكون إبقاؤه عند الحكومة حفظاً لبعض ما يهتم الإسلام بأمره، فإنّ الكنوز في عصرنا متفاوت حالها ممّا سبق، فلا ينظر إليها من حيث المالية فقط، بل من حيث الأُمور المعنوية والثقافية.

والحاصل: أنّه لابدّ من أن يندرج تحت عنوان ثانوي قطعي لا الظنّ الاستحساني، فإن ثبت هناك، فهو، وإلّا كان الحكم ما عرفت.

وكذلك إذا كان بقاؤه تحت يد مالك شخصي مظنة لخروجه عن الحكومة الإسلامية وكان خروجه خسارة على المسلمين وبلادهم، لا يرضى الشارع المقدّس بها، ولكن في جميع ذلك لابدّ من إعطاء ثمنه للواجد، للجمع بين الحقّين، كما لا يخفى.

الثالث: قد يكون المال المدفون، غير متعلق بالأعصار الماضية، حتّى تقطع علقته عن مالكه ويثبت الإعراض القهري، فيكون من قبيل مجهول المالك الذي يكون أمره بيد الحاكم الشرعي فيتصدق به، ففي هذه الموارد أيضاً يمكن تدخل الحكومة في أمره، ولكنه خارج عن محلّ الكلام من بعض الجهات، كعدم شموله للكنوز القديمة التي هي الغالب فيها.

المقام الثالث: في مسألة النصاب، قال صاحب الحدائق: «لا خلاف بين الأصحاب في ما أعلم في اشتراط الخمس في هذا النوع ببلوغ عشرين ديناراً أو مائتي درهم وهو النصاب الأوّل من الذهب والفضة» «1».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 133

وقال الشيخ في الخلاف فيما عرفت من مسألة 146 من مسائل الزكاة: «الركاز هو الكنز المدفون يجب فيه

الخمس بلا خلاف، ويراعى فيه عندنا أن يبلغ نصاباً يجب في مثله الزكاة، وهو قول الشافعي في الجديد، وقال في القديم: يخمّس قليله وكثيره وبه قال مالك وأبوحنيفة- دليلنا إجماع الفرقة وأيضاً ما اعتبرناه لا خلاف أنّ فيه الخمس وما نقص فليس عليه دليل (انتهى)» «1».

وقد عرفت أنّ استدلاله بالإجماع، والقدر المتيقن الثابت من هذا الحكم إنّما هو لإثبات النصاب لا لإثبات أصل وجوب الخمس.

وحكى صاحب المعتبر عدم اعتبار النصاب، عن أحمد أيضاً، فلم يوافقنا في هذا الحكم من فقهائهم، ماعدا الشافعي في الجديد.

نعم، حكى صاحب الجواهر عن الغنية: «أنّه يكفي بلوغ قيمته ديناراً فصاعداً بدليل الإجماع، ثمّ قال وهو (أي أصل كلام الغنية) غريب، بل دعواه الإجماع أغرب، إذ لم نعرف له موافقاً ولا دليلًا. انتهى» «2».

ولكن المحقّق الهمداني رحمه الله قال: ما ذكره في الجواهر اشتباه نشأ من غلط النسخة المحكى عنها هذا القول، وإلّا فعبارة الغنية صريحة في خلافه، حيث قال: «ويعتبر في الكنوز بلوغ النصاب الذي يجب فيه الزكاة وفي المأخوذ بالخوض بلوغ قيمته ديناراً فصاعداً بدليل الإجماع المتكرر «3».

أقول: وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ المسألة ظاهراً إجماعية لم ينقل فيها خلاف، والعمدة فيها ما رواه البزنطي في الصحيح عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: سألته عمّا يجب فيه الخمس من الكنز؟ فقال: «ما يجب الزكاة في مثله ففيه الخمس» «4».

وتؤيده مرسلة المفيد رحمه الله في المقنعة حيث قال: سئل الرضا عليه السلام من مقدار الكنز الذي انوار الفقاهة، ج 2، ص: 134

يجب فيه الخمس؟ فقال: «ما يجب فيه الزكاة من ذلك بعينه ففيه الخمس وما لم يبلغ حدّ ما تجب فيه الزكاة فلا خمس فيه» «1».

وقد عرفت قوّة احتمال الحديثين

واحداً، وأنّ الثاني من قبيل النقل بالمعنى، ودلالة الصحيحة كسندها ظاهرة معلومة، وإن عرفت فيما سبق أنّ بعض الأساتذة الكرام، قال بعدم كونها ناظرة إلى المقدار، بل إلى الجنس، أو الأعم، فأوجب الخمس في كنوز الذهب والفضة فقط، ولكن قد عرفت أنّ هناك قرائن عديدة من فهم الأصحاب وغيره تدلّ على أنّها بصدد بيان المقدار، لا غير، فلا نعيد، ولك أن تراجع.

هذا على إجماله ممّا لا كلام فيه، إنّما الكلام في أنّ المستفاد من المماثلة هنا هو المماثلة مطلقاً أو من بعض الجهات؟ توضيح ذلك، أنّه قد يكون الكنز من النقدين المسكوكين، وأُخرى من غير المسكوكين وثالثة، من غيرهما من الجواهر والأشياء النفيسة فإن كان من أحدهما، فهل يلاحظ نصابه من نصابه في الزكاة، أم لا؟ الظاهر أنّه إن كان من الدنانير فيعتبر فيه كونه عشرين ديناراً، وإن كان من الدراهم فالمعتبر كونه مائتي درهم، ولا يكفي بلوغ كلّ منهما قيمة الآخر، وإن كان أقل من نصاب عينه، فلا يكفي كونه عشرة دنانير، وإن فرض كون قيمته تبلغ مائتي درهم أحياناً، وكذا لا يكفي كونه مائة وخمسين درهماً، وإن بلغت قيمتها عشرين ديناراً أحياناً، وذلك لعدم الإطلاق من هذه الجهة (أي من جهة القيمة) إذا كان جنس الكنز من الدراهم والدنانير.

وهكذا إذا كان الكنز من جنس الذهب والفضة، وإن كانا غير مسكوكين لانصراف الإطلاق إلى بلوغ كلّ من النوعين ما يحاذي نصابه، لا ما يعادل قيمته، بل يمكن أن يقال: إنّ هذا مقتضى المماثلة الظاهرة في المماثله من حيث الجنس، مهما أمكن.

وأمّا سائر الأجناس، فلا محيص فيها إلّاملاحظة المماثلة من حيث القيمة، ومقتضى الإطلاق، كفاية بلوغ قيمتها أقل القيمتين من عشرين ديناراً أو مائتي درهم،

فلو بلغ أحدهما دون الآخر، يصدق عليه بلوغه إلى ما يجب فيه الزكاة الوارد في الصحيحة والمرسلة.

إن قلت: قد صرّح صاحب الشرائع بأنّ المعتبر في نصاب الكنز بلوغه عشرين ديناراً،

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 135

وأقتصر على الدينار فقط، وحكاه في الجواهر عن السرائر وظاهر التذكرة والمنتهى «1» والمدارك، مع أنّ المصرّح به في صحيحة البزنطي، وكذا مرسلة المفيد، هو بلوغه ما يكون في مثله الزكاة، فمن أين نشأت هذه الفتوى؟

قلت: الظاهر أنّهم أخذوها من رواية أُخرى في باب نصاب المعدن، والمصرّحة بعشرين ديناراً، بعد قوله: «ما يكون في مثله الزكاة» ولكنه لا يخلو من بعد، أو ذكروه في المقام من باب المثال، وعلى كلّ حال، فالحقّ ما عرفت من عدم الاختصاص بعشرين ديناراً، كما هو معقد إجماع الخلاف أيضاً.

بقي هنا مسائل سبع:

الأُولى لو وجد الكنز في أرض مستأجرة، أو مستعارة وجب تعريفها وتعريف المالك أيضاً، فإن نفياه كلاهما، كان له، وعليه الخمس، وإن ادّعاه أحدهما، أعطى بلا بيّنة، وإن ادّعاه كلّ منهما، ففي تقديم قول المالك وجه، لقوّة يده، وإلّا، وجه الاختلاف بحسب المقامات في قوّة إحدى اليدين- هكذا ذكره صاحب العروة في مسألة 14 من مسائل الخمس.

أقول: أمّا وجوب تعريفه للمستأجر والمستعير فلما عرفت أنّه في مورد يحتمل جريان يده عليه، وهذا من باب الجمع بين الحقوق، حقّ واجد الكنز، وحقّ صاحب اليد، ولذا، لا يعطى بدون السؤال، ولا فرق في مسألة اليد هنا بين المالك والمستعير والمستأجر.

وأمّا اعطاؤهما بدون بيّنة، فقد عرفت الإشكال فيه فيما سبق، لأنّه من قبيل الشبهة المصداقية، وإنّما يسأل منه احتياطاً في الأموال وجمعاً بين الحقوق.

وأمّا قوّة يد المالك، فهي ليست دائمية، فقد يكون الملك له، ولم يسكنه إلّايوماً

واحداً، والحال، إنّ المستأجر والمستعير سكنه عشرة أعوام مثلًا، وقد يكون بالعكس، ومراده من ملاحظة المقامات، هو هذا، والإنصاف أنّ المدار هنا أيضاً لابدّ من أن يكون على اليد الأخيرة، لعدم الفرق بين المالك الأخير والمستأجر من هذه الجهة، كما لا يخفى «2».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 136

بقي هنا شي ء:

وهو، أنّه لو كان هناك أجير لحفر بئرٍ مثلًا، فعثر على كنز، فهل تجري عليه أحكام الواجد أم لابدّ في الواجد أن يكون صاحب اليد بالملك أو الإجارة أو الاستعارة؟

التحقيق، أنّه لا نجد فرقاً بينه وبين غيره في ملاك الحكم، لصدق الواجد عليه، وإن كان في ملك غيره، فإذا عرّفه المالك ولم يعرفه، كان له، وعليه الخمس.

بل يمكن إجراء هذا الحكم في حقّ الغاصب للأرض، لأنّ غصب الأرض لا يمنع عن إجراء حكم الواجد عليه، فهو غاصب للأرض لا للكنز، فإذا لم يعرفه المالك، كان له، وذلك لشمول الإطلاقات الواردة في الكنز، لكن المسألة لا تخلو من شوب الإشكال، وإن كان الأظهر ما ذكرنا عاجلًا.

الثانية: قد عرفت أنّ المعتبر في مفهوم الكنز، هو كونه لزمان بعيد انقطع عنه ملاكه وصار كمالٍ بلا مالك، وبتعبير آخر، يكون من قبيل الإعراض القهري، ومن هنا يظهر النظر فيما قاله صاحب العروة: «لو علم الواجد أنّه لمسلم موجود هو أو وارثه في عصره مجهول، ففي إجراء حكم الكنز أو حكم مجهول المالك عليه وجهان» (انتهى).

فإنه لا ينبغي الريب في إجراء حكم مجهول المالك عليه، بعد عدم صدق الكنز عليه.

الثالثة: قال صاحب العروة: «الكنوز المتعددة لكلّ واحد حكم نفسه في بلوغ النصاب وعدمه ... نعم المال الواحد المدفون في مكان واحد في ظروف متعددة يضم بعضه إلى بعض» «1».

ولكن قال الفقيه الماهر

صاحب الجواهر: «في إجزاء حصوله (أي النصاب) بضم بعض الكنوز إلى بعض وجه وقول تقدم نظيره في المعادن مع أنّ المصرّح به هنا في السرائر

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 137

والمنتهى والتذكرة عدمه بل لعلّه لا يخلو من قوّة» «1».

أقول: لكن من المعلوم أنّ المرجع هنا إطلاق صحيحة البزنطي، وظاهرها كونها من قبيل العام الإفرادي لا المجموعي، فكلّ ما يصدق عليه أنّه كنز لا بدّ من بلوغه بمقدار يجب فيه الزكاة، فلا يضمّ بعض الكنوز إلى بعض. نعم، الكنز الواحد ولو كان من أجناس مختلفة يضمّ بعضه إلى بعض، بأن كان مقداراً من الذهب ومقداراً من الفضة ومقداراً من غيرهما، يبلغ المجموع نصاباً يكون فيه الخمس.

الرابعة: لا يخفى أنّه لا يعتبر في تعلق الخمس بالكنز، إخراجه من محلّه، بل إذا كشفه ووضع يده عليه بقصد التملك، وجب عليه الخمس- سواء أخرجه من محلّه، أم لا- وليس الكنز من قبيل المعادن التي يعتبر في تعلق الخمس بها بحسب ظاهر الأدلّة، اخراجها، فما ذكر في العروة (والظاهر أنّه أخذه من عبارة الجواهر في المقام) أنّه لا يعتبر الإخراج دفعة بمقدار النصاب، فلو كان مجموع الدفعات بمقدار النصاب، وجب الخمس، ممّا لا مورد له، بعدما عرفت، فإن البحث عن اعتبار الدفعة أو دفعات الإخراج، مترتب على القول باعتبار الإخراج في تعلق الخمس بالكنز، وقد عرفت أنّ الصحيح خلافه.

الخامسة: إذا اشترى دابّة، ووجد في جوفها شيئاً، فقد قطع الأصحاب بوجوب الخمس فيه، كما في محكي المدارك وظاهر الكفاية الإتفاق عليه فيما حكى عنه، هذا بالنسبة إلى وجوب الخمس، وأمّا في ناحية وجوب التعريف، فقد قال صاحب الحدائق ما نصّه: «قد ذكر جملة من الأصحاب في هذا المقام أنّه لو اشترى دابّة

ووجد في جوفها شيئاً له قيمة عرفها البائع فإن عرفه فهو له وإن جهله فهو للمشتري وعليه الخمس» «2».

ولابدّ من مناقشة هذه المسألة «أوّلًا» على مقتضى القواعد وإطلاقات الأدلّة، ثمّ الرجوع إلى بعض النصوص الخاصة بالمسألة «ثانياً».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 138

أمّا الأوّل: فلا ريب في عدم صدق عنوان الكنز عليه لغة وعرفاً، كما صرّح به صاحبا الحدائق والجواهر بل قال صاحب الجواهر: «لم أعرف أحداً من الأصحاب صرّح بخلافه، نعم، قد يظهر من بعضهم إلحاقه به تنقيحاً وهو موقوف على الدليل، فإن ثبت إجماعاً كان أو غيره تعين القول به، وإلّا كان محل منع، والظاهر أنّه كذلك لعدم وصول شي ء منها إلينا» «1».

وما ذكراه، حسن، فلا يشمله عنوان الكنز، لما عرفت أنّه المال المدفون الذي مرّت عليه أعوام كثيرة، وليس شي ء من القيدين موجوداً هنا، وكذلك تنقيح المناط ليس قطعياً هنا مع أنّه من شرطه أن يكون قطعياً، وإلّا لكان قياساً باطلًا، فيكون من قبيل مجهول المالك لابدّ فيه من تعريف المالك وغيره تحرياً لوجدان مالكه، وإن لم يجده كان سبيله سبيل غيره ممّا لا يعرف صاحبه، ويحتمل إجراء حكم اللقطة عليه لأنّه مال ضائع، فيجوز تملكه بعد تعريفه بالمقدار الواجب وعدم وجدان صاحبه، لأنّ التملك مع الضمان أحد أطراف التخيير في اللقطة، (ويجوز أيضاً حفظها أمانة لصاحبها والتصدق بها ودفعها إلى الحاكم الشرعي).

ولو وجب فيه الخمس، كان من باب الأرباح، بل ومطلق الفائدة، كما سيأتي إن شاء اللَّه.

هذا بحسب القواعد، أمّا بحسب الأخبار الخاصة، فلم يرد فيه إلّاما مرّ سابقاً من صحيحة عبداللَّه بن جعفر حيث قال: كتبت إلى الرجل أسأله عن رجل اشترى جزوراً أو بقرة للأضاحي فلما ذبحها وجد في جوفها صرة

فيها دراهم أو دنانير أو جوهرة لمن يكون ذلك؟ فوقّع عليه السلام: «عرّفها البائع فإن لم يكن يعرفها فالشي ء لك، رزقك اللَّه إيّاه» «2».

وقريب منها ما رواه عبداللَّه بن جعفر الحميري، قال: سألته عليه السلام في كتاب عن رجل اشترى جزوراً أو بقرة أو شاة أو غيرها للأضاحي أو غيرها فلما ذبحها وجد في جوفها صرّة فيها دراهم أو دنانير أو جواهر أو غير ذلك من المنافع، لمن يكون ذلك؟ وكيف يعمل به؟

فوقّع عليه السلام: «عرِّفها البائع فإن لم يعرفها فالشي ء لك، رزقك اللَّه إيّاه» «3».

ولكن فيها: «وللأضاحي أو غيرها ...».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 139

ويمكن أن تكون الرواية موافقة للقاعدة بأن يكون موردها مصداقاً لللقطة، باعتبار أخذ الدابّة إيّاها من الأرض، واليأس من وجدان صاحبها بعد تعريفها للمالك وعدم معرفته لها، لا سيّما في مثل مِنى من مواقف الحجّ، وقوله أو «غيرها» في الرواية الثانية لا ينافي اشتراء الدابّة في الموسم لغير الأضحية، ولو فرض إطلاقها من هذه الجهة، بحيث تشمل ما إذا احتمل وجدان مالكها بتعريف غير البائع، فيجوز ترك تعريفها وتملكها، يشكل الاعتماد على هذا المقدار من الظهور الضعيف في ترك القواعد المعروفة وأكل أموال الناس، مع احتمال وجدان صاحبها. فتدبّر جيّداً.

أمّا لو وجد جوهرة في جوف سمكة، فالمشهور كما حكى جواز تملكها للواجد من دون تعريف، وعليه الخمس، بل من دون وجوب تعريف للبائع، لأنّ الظاهر بقاؤها على الإباحة الأصلية، فيجوز حيازتها وتملكها، لأنّ الصياد لم يقصد حيازتها بعد جهله بالحال.

وما حكى عن العلّامة رحمه الله في التذكرة من الميل إلى إلحاق السمكة بالدابّة في تعريف البائع مطلقاً، لأنّ قصد حيازتها يستلزم قصد حيازة جميع أجزائها وما يتعلق بها، ممنوع، أوّلًا: بأنّ

هذا القصد التبعي المغفول عنه، ليس كافياً، بل ليس قصداً، لأنّ المفروض هو الغفلة عمّا في جوفها، نعم، لو كان محتملًا لوجود الجوهرة فيها فقصد تملكها على فرض وجودها وكان بانياً على شق بطنها والبحث عنها، فنسي وباعها من غير بحث، أمكن الحكم بأنّها للصياد، ولكن هذا خلاف المفروض المعروف.

وثانياً: لو كان هذا القصد التبعي المغفول عنه، كافياً، كان بيعه للمشتري أيضاً كذلك، فقد باعها بجميع ما في جوفها، والمشتري أيضاً اشتراها مع هذه الصفة فملكها المشتري بالبيع.

وحكى صاحب التذكرة عن أحمد: إنّما تكون للصياد، لأنّه إذا لم يعلم ما في بطنها لم يبعه ولم يرض بزوال ملكه عنه فلم يدخل في المبيع كمن باع داراً، له مال مدفون فيها «1».

وأنت خبير بأنّ تعليله لعدم البيع بأنّه لم يعلم به يمكن أن يكون بعينه علة لعدم تملك الصياد من أصل، لأنّه إذا لم يعلم به لم يقصد تملكه، وكفاية القصد التبعي في الحيازة،

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 140

والتملك تجري في البيع أيضاً، فالبائع قصد بيعه تبعاً، والمشتري قصد اشترائه كذلك.

ومن العجب قول العلّامة رحمه الله: إنّ قول أحمد لا بأس به عندي، وأعجب منه ما حكاه عن أحمد من تفريقه بين ما يصطاد من البحر وما يصطاد من النهر والعين، بجعل الثاني لقطة «1» مع أنّه لا دليل عليه من القواعد العامّة والأدلّة الخاصة إلّاأن يحمل على فروض نادرة ستأتي الإشارة إليها، أو يحمل على كون النهر ملكاً لشخص خاص، فتأمل.

فلا ينبغي الشك في جواز تملكها، لأنّها من المباحات، بل، ولا في عدم وجوب تعريف البائع، لأنّها حصلت بتكون طبيعي إلهي لا بفعل إنسان، ولو فرض كونها في ماء محصور كما في أعصارنا، فإنّه يربّي السمك

في حياض كبيرة محصورة، أو احتمل وقوع اللؤلؤة ممّن مرّ على الماء، كان للإشكال في هذا الحكم وجه، ولكن أمثال هذه الفروض النادرة خارجة عن محل الكلام، هذا بحسب القواعد.

أمّا بحسب الروايات الخاصّة الواردة في المسألة، فقد رويت روايات متظافرة تربو على خمس روايات حاكيات لوقائع ثلاث كان أحدها في بني إسرائيل وثانيها في عصر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وثالثها في عصر الإمام علي بن الحسين عليهما السلام، وتظافرها يوجب الغض عن أسنادها، لا سيّما مع عمل الأصحاب بها واشتهارها بينهم.

منها: ما رواه أبو حمزة عن أبي جعفر عليه السلام في حديث: «إنّ رجلًا عابداً من بني إسرائيل كان محارفاً، فأخذ غزلًا فاشترى به سمكة فوجد في بطنها لؤلؤة فباعها بعشرين ألف درهم، فجاء سائل فدقّ الباب، فقال له الرجل: أدخل؟ فقال له: خذ أحد الكيسين.

فأخذ أحدهما وانطلق فلم يكن بأسرع من أن دقّ السائل الباب. فقال له الرجل: أدخل، فدخل فوضع الكيس في مكانه. ثمّ قال: كُل هنيئاً مريئاً، أنا ملك من ملائكة ربّك، إنّما أراد ربِّك أن يبلوك فوجدك شاكراً. ثمّ ذهب» «2».

وقريب منها ما رواه حفص بن غياث عن الصادق عليه السلام قال: «كان في بني إسرائيل رجلًا، وكان محتاجاً فألحّت عليه امرأته في طلب الرزق، فابتهل إلى اللَّه في الرزق،

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 141

فرأى في النوم، أيّما أحب إليك درهمان من حلّ أو ألفان من حرام؟ فقال: درهمان من حلّ. فقال: تحت رأسك، فانتبه، فرأى الدرهمين تحت رأسه فأخذهما، واشترى بدرهم سمكة وأقبل إلى منزله، فلمّا رأته المرأة أقبلت عليه كاللّائمة وأقسمت أن لا تمسّها، فقام الرجل إليها فلما شق بطنها إذا بدرّتين، فباعهما بأربعين ألف درهم» «1».

ورواية

أُخرى لأبي حمزة عن الباقر عليه السلام قال: «كان في بني إسرائيل عابد وكان محارفاً تنفق عليه امرأته، فجاعوا يوماً، فدفعت إليه غزلًا، فذهب فلا يشتري بشي ء، فجاء إلى البحر، فإذا هو بصيّاد قد اصطاد سمكاً كثيراً فأعطاه الغزل وقال: انتفع به في شبكتك، فدفع إليه سمكة، فرفعها وخرج بها إلى زوجته، فلما شقّها بدت من جوفها لؤلؤة فباعها بعشرين ألف درهم» «2».

ومنها: ما في تفسير الإمام الحسن العسكري عليه السلام في حديث طويل: «إنّ رجلًا فقيراً اشترى سمكة فوجد فيها أربعة جواهر، ثمّ جاء بها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وجاء تجار غرباء فاشتروها منه بأربعمائة ألف درهم، فقال الرجل: ما كان أعظم بركة سوقي اليوم يا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: هذا بتوقيرك محمّداً رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وتوقيرك علياً أخا رسول اللَّه ووصيّه، وهو عاجل ثواب اللَّه لك وربح عملك الذي عملته» «3».

ومنها: ما رواه الصدوق بسنده عن الزهري عن علي بن الحسين عليهما السلام في حديث: «إنّ رجلًا شكا إليه الدين والعيال، فبكى وقال: أيّ مصيبة أعظم على حرّ مؤمن من أن يرى بأخيه المؤمن خلّة فلا يمكنه سدّها، إلى أن قال علي بن الحسين عليهما السلام: قد أذن اللَّه في فَرَجِك يا جارية، احملي سحوري وفطوري، فحملت قرصتين فقال علي بن الحسين عليهما السلام للرجل: خذهما فليس عندنا غيرهما فإن اللَّه يكشف بهما عنك، ويريك خيراً واسعاً منهما، ثمّ ذكر أنّه اشترى سمكة بأحد القرصتين وبالأُخرى ملحاً، فلما شق بطن السمكة وجد فيها لؤلؤتين فاخرتين، فحمد اللَّه عليهما، فقُرع بابه فإذا صاحب السمكة

وصاحب الملح يقولان جهدنا أن نأكل من هذا الخبز فلم تعمل فيه أسناننا فقد

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 142

رددنا إليك هذا الخبز وطيّبنا لك ما أخذته منّا، فما استقر حتّى جاء رسول علي بن الحسين عليهما السلام وقال: إنّه يقول لك: إنّ اللَّه قد أتاك بالفرج فاردد إلينا طعامنا فإنّه لا يأكله غيرنا، وباع الرجل اللؤلؤتين بمال عظيم قضى منه دَينه وحسنت بعد ذلك حاله» «1».

والظاهر أنّه لا يستفاد منها شي ء يخالف القواعد المعروفة كما عرفت آنفاً، فالجوهرة لواجدها من غير حاجة إلى تعريفها إلّافي فروض نادرة، وأمّا وجوب الخمس فيها فهو مبني على عدم اختصاصه بأرباح المكاسب، بل شموله لكلّ فائدة، كما سيأتي الكلام فيه إن شاء اللَّه.

السادسة: لا ينبغي الشك في كون الخمس هنا بعد المؤونة، أي مؤونة إخراج الكنز إذا احتاج إخراجه إلى مؤونة لعدم صدق الفائدة والغنيمة بالمعنى الأعمّ عليه، وقد عرفت أنّ الخمس بجميع أنواعه يتعلق بالفوائد والمنافع (إلّا في الأرض التي اشتراها الذمّي والمال المختلط، وسيأتي إن شاء اللَّه أنّ الخمس فيهما من واد آخر، فتأمل) فإذا كان قيمة الكنز ألفاً مثلًا ومؤونة إخراجه خمسمائة، لم تصدق الفائدة إلّاعلى الخمسمائة الباقية، ولا ينافي ما ذكرنا حصول الملك بمجرّد وضع اليد عليه، وإن لم يخرجه كما لا يخفى.

وأمّا النصاب، فهل يعتبر بعد إخراج هذه المؤونة أو قبلها؟ فقد صرّح صاحب العروة بكونه بعده ووافقه عليه جمع من المحشّين، ولعلّ الوجه فيه ظهور قوله عليه السلام في صحيحة البزنطي «ما يجب الزكاة في مثله ففيه الخمس» فإنّ الخمس لا يجب في مقدار المؤونة (مؤونة الإخراج) كما عرفت، مع أن ظاهره أنّه إذا بلغ النصاب، يجب الخمس في جميعه، فلابدّ من أن يكون

المدار في النصاب، هو الذي يتعلق به الخمس، فلو وجب الخمس في الباقي، كان مدار النصاب أيضاً هذا المقدار.

ومن هنا يظهر الإشكال على ما أفاده صاحب مستند العروة، حيث أنّه لا دليل على ذلك، إذ لم ينهض دليل على تقييد إطلاق النصاب بما بعد إخراج المؤون، انتهى «2».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 143

وقد عرفت أنّه لا إطلاق له من أول الأمر، بل ظاهره كون المدار في النصاب هو ما يتعلق به الخمس، وقد اعترف بعدم وجوب الخمس في مقدار المؤونة.

السابعة: إذا اشترك جماعة في كنز، فهل يعتبر النصاب في سهم كلّ واحد أو في المجموع؟ ظاهر كلام صاحب العروة، كفاية النصاب في المجموع، وقد خالفه غير واحد من المحشّين، وكان الدليل على الكفاية هو إطلاق دليل النصاب، وفيه إشكال ظاهر، فإنّ بلوغه إلى حدّ يجب فيه الزكاة ظاهر في بلوغ سهم كلّ واحد، لأنّ الزكاة أيضاً كذلك، نعم، لو كان دليله مجملًا، وجب الأخذ بإطلاقات أدلّة الكنز، والحاصل أن تشبيهه بالنصاب في الزكاة، ظاهر في ذلك، فتدبّر.

الثامنة: كثيراً ما يستخرج في أعصارنا من أعماق الأرض ما يتعلق بالأُمم السالفة، ليس له قيمة في نفسه، ولكن من حيث تعلقه بتلك الأعصار فإنّ له قيمة عظيمة تبذل بإزائها الأموال، بل تكون أكثر قيمة من الذهب والفضة، فهل هي داخلة في عنوان الكنز، أم لا؟

الظاهر، عدم شموله لها، لأنّ مفهوم الكنز عرفاً هو ما يكون غالياً ذاتاً، لا بالامور العرضية، فلو كان هناك عظم من بعض الحيوانات القديمة يشترى للمتاحف العامّة أو الخاصّة لبعض الدراسات بقيمة عالية، لا يطلق عليه الكنز، نعم، هو داخل في عنوان الغنيمة بالمعنى العام، فيتعلق به الخمس، ولكن تستثنى منه مؤونة السنة.

4- الغوص

وممّا اتفقت

كلمات الأصحاب على وجوب الخمس فيه إجمالًا، هو ما يخرج بالغوص، وقد ادّعى صاحب الجواهر عدم الخلاف فيه، وقال صاحب الحدائق أيضاً: «لا خلاف بين الأصحاب (رضوان اللَّه عليهم) في وجوب الخمس فيه» «1».

وقال العلّامة في المنتتهى (على ما حكاه في المدارك): «إنّه قول علمائنا أجمع» «2» وكذا النراقي قدس سره في المستند «3».

وبالجملة، فإنّ اتفاق كلمات الأصحاب على وجوب الخمس فيه، ظاهر، وأمّا العامة، فالظاهر ذهاب أكثرهم إلى العدم، كما حكاه المحقّق في المعتبر، حيث قال: «الثالث الغوص وهو ما يخرج من البحر كاللؤلؤ والمرجان والعنبر، وبه قال الزهري وإحدى الروايتين عن أحمد، وأنكره الباقون» «4».

واستدل له تارة بعموم آية الغنيمة بناءً على ماعرفت من شموله لجميع أنواع المنافع، ولكن الإنصاف أنّه على خلاف المقصود أدلّ، لأنّ المقصود إثبات الخمس فيه بعنوانه الخاصّ حتّى لا يستثنى منه مؤونة السنة الثابتة في جميع المنافع.

وأُخرى- وهو العمدة- الروايات الكثيرة المحكية في الباب 7 والباب 2 من أبواب ما

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 146

يجب فيه الخمس.

منها: ما رواه الحلبي في الصحيح، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن العنبر وغوص اللؤلؤ؟

فقال: «عليه الخمس» «1»

الحديث.

ومنها: مرسلة الصدوق قال: سئل أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام عمّا يخرج من البحر من اللؤلؤ والياقوت والزبرجد وعن معادن الذهب والفضة هل فيها زكاة؟ فقال: «إذا بلغ قيمته ديناراً ففيه الخمس» «2».

ومنها: مرسلة المفيد عن الصادق عليه السلام أنّه قال: «في العنبر الخمس» «3».

ومنها: مرسلة حمّاد عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح عليه السلام قال: «الخمس من خمسة أشياء: من الغنائم، والغوص، ومن الكنوز، ومن المعادن، والملاحة» «4»

الحديث.

(والظاهر اتحادها مع مرسلة أُخرى منه حيث قال: «رواه لي بعض أصحابنا ذكره عن العبد

الصالح أبي الحسن الأوّل عليه السلام قال: «الخمس من خمسة أشياء: من الغنائم ومن الغوص والكنوز ومن المعادن والملاحة») «5».

ومنها: مقطوعة ابن أبي عمير: «إنّ الخمس على خمسة أشياء: الكنوز، والمعادن، والغوص، والغنيمة، ونسى ابن أبي عمير الخامسة» «6».

ومنها: مرفوعة محمّد بن الحسن الصفار عن أحمد بن محمّد، قال: حدّثنا بعض أصحابنا رفع الحديث قال: «الخمس من خمسة أشياء: من الكنوز والمعادن والغوص والمغنم الذي يقاتل عليه، ولم يحفظ الخامس» «7»

الحديث.

ومنها: ما رواه النعماني في تفسيره بسنده عن علي عليه السلام وفي ذيله ...: «الخمس يخرج من أربعة وجوه، من الغنائم التي يصيبها المسلمون من المشركين ومن المعادن ومن انوار الفقاهة، ج 2، ص: 147

الكنوز ومن الغوص» «1».

وإسناد كثير منها وإن كانت ضعيفة، ولكن بعضها قوي، مضافاً إلى تظافرها في نفسها وانجبارها بعمل الأصحاب أيضاً.

هذا ولكن محتواها مختلف جدّاً، ففي كثير منها «عبر بالغوص» وهي الروايات الخمس المروية في الباب 2 (من أبواب ما يجب فيه الخمس، من الوسائل).

وفي بعضها، «العنبر وغوص اللؤلؤ» (1/ 7). وفي ثالث: «ما يخرج من البحر من اللؤلؤ» (2/ 7) «والياقوت والزبرجد» (5/ 3). وفي رابع: «العنبر» فقط (3/ 7) وفي خامس: «ما يخرج من البحر» (6/ 3).

والأخير أعمّ من الجميع لشموله لما يخرج من أعماق البحر وسطحه، ثمّ عنوان الغوص لأنّه عام لجميع ما يخرج من أعماقه، وبعدهما ما صرّح فيها بعناوين خاصة من اللؤلؤ، وفي الحقيقة هناك عناوين ثلاثة (ما يخرج من البحر- الغوص- العناوين الخاصة).

وقد يقال: إنّ النسبة بين الأولين، عموم من وجه، لأنّ الغوص أعمّ من البحار والأنهار، بينما يكون ما يخرج من البحر خاصاً بالبحار، ولكنه أعم من جهة الإخراج بالغوص أو بالآلات وشبهها ثمّ يتكلم

عن طريق الجمع بينهما، وهل يكون العمل بكلّ منهما؟ فيكفي إخراج شي ء بالغوص أو بالآلة من البحار أو الأنهار، لعدم المنافاة بينهما.

أو يقيد كلّ واحد من العنوانين بالآخر فلابدّ أن يكون بالغوص وفي البحار بمقتضى قاعدة التقييد، أو يرجح عنوان الغوص، بناءً على كون الإخراج من البحر إشارة إليه، أو يرجح عنوان الإخراج من البحار بناءً على عدم خصوصيته في الغوص؟

هذه وجوه أربعة، ولكن الإنصاف أنّ الأمر لا يصل إلى المعارضة والعموم من وجه، بل لابدّ من الدقّة في هذه العناوين، وما يمكن إلغاء الخصوصية منها أوّلًا، ثمّ ملاحظة النسبة.

فنقول ومنه جلّ ثناؤه التوفيق والهداية: لا ينبغي الشك في عدم الخصوصية للبحر أو النهر فإذا أعطى هذا العنوان بيد العرف، يعرف منه حكماً عامّاً، وكذا لا ينبغي الشك في أنّ الغوص أيضاً لا ترى عندهم فيه خصوصية، بعد كون المدار عندهم على ما استفادها من انوار الفقاهة، ج 2، ص: 148

جواهر البحر- سواء أخرجه بالآلات أو بالغوص- بل لعلّ تعلق الخمس على ما يخرج بالآلات أولى، لكون الوصول إليه أسهل، والآلة طريق لا موضوعية لها في نظر العرف، وحينئذٍ يرجع كلّ من العنوانين إلى الآخر ولا يبقى بينهما معارضة.

والحاصل: أنّه لا تصل النوبة إلى ملاحظة المعارضة والجمع العرفي بينهما، بل كلّ واحد من العنوانين مع قطع النظر عن الآخر، لا دلالة له فيما ينافي الآخر.

لكن الكلام في صحّة إسناد كلّ واحد من هذين العنوانين الجامعين.

أمّا الغوص، فالظاهر أن تظافر الروايات فيه كاف في إثبات إسناد ما دلّ عليه، مضافاً إلى مرسلة ابن أبي عمير التي بمنزلة الصحيحة، ولا سيّما أنّها مروية عن غير واحد، فتدبّر.

وأمّا ما يخرج من البحر، فلم يرد إلّافي رواية واحدة وهي رواية

عمّار بن مروان، وقد يقال: إنّه مشترك بين رجلين «اليشكري»، «الثقة» و «الكليني» (أو الكلبي المجهول فإن النسخ مختلفة)، ولكن ظاهر عبارة جامع الرواة، اتحادهما حيث قال في شرح حال عمار بن مروان اليشكري: «أبو أيوب الخزاز عن عمّار بن مروان الكليني في مشيخة الفقيه في طريقه».

وقال العلّامة الممقاني رحمه الله في تنقيح المقال: «عمار بن مروان الكلبي لم أقف فيه إلّاعلى وقوعه في طريق الصدوق في باب ما يجب على المسافر في الطريق من كتاب الحجّ وفي المشيخة وليس له ذكر في كتب الرجال» «1». (انتهى).

ولعلّ عدم ذكره في كتب الرجال، دليل على اتحاده مع اليشكري الثقة، ولكن الإكتفاء بهذا المقدار في رفع الإبهام عن حال الرجل، مشكل، والذي يسهل الخطب، ما عرفت من وحدة مفهوم العنوانين (عنواني الغوص وما يخرج من البحر) بعد إلغاء الخصوصية من كلّ واحد منهما.

هذا، ويمكن أن يقال: إنّ جميع المطلقات في المسألة منصرفة إلى الجواهر التي تخرج من البحر، وقد ذكرت أمثلتها في الروايات الخاصة من اللؤلؤ والياقوت والزبرجد، وحينئذٍ، يشكل شمولها لمثل الأسماك وغيرها من الحيوانات التي تخرج من البحار، وإن غلت انوار الفقاهة، ج 2، ص: 149

أثمانها، وإن حكى عن الشيخ وبعض معاصري الشهيد الأوّل رحمه الله وغيرهما، إلحاقها بالغوص.

قال المحقّق النراقي رحمه الله في المستند: «والظاهر جريان الحكم في كلّ ما يخرج من البحر بالغوص ولو كان حيواناً ... لإطلاق المرسلتين ورواية الخصال» «1»

أقول: الغوص له معنى معروف عند أهل العرف، لا يشمل مثل هذه الأُمور، وإن كان اللفظ عامّاً، وكذلك عنوان «ما يخرج من البحر» والروايات الخاصة من أحسن الشواهد على ذلك.

نعم، في شموله للجواهر لا فرق بين ما كان من قبيل الأحجار أو النبات

أو الحيوان، فقد ثبت اليوم أنّ المرجان الذي يشبه أغصان الشجرة نوع من حيوان البحر قد خفي أمره في سابق الأيّام، وقد ثبت اليوم أنّه حيوان صغير يكسب لنفسه جداراً من النورة، وبعد موته يبقى منه بيته الذي من النورة، وقد يتراكم ويشكل جزائر مرجانية، وبيته يتكوّن من ألوان مختلفة، بعضها ثمين جدّاً كالمرجان الأحمر. (هكذا في بعض كتب دائرة المعارف).

أو كان من قبيل الأشجار البحرية كما قد يقال في ما يسمّى ب (اليُسْر) ويعمل منه (السبَح) المعروفة، وبالجملة فالمدار على كونه معدوداً من الجواهر، سواء كان من الأحجار أو الحيوان أو النبات.

وكيف كان، فلا إطلاق هناك يدلّ على وجوب الخمس في الأسماك وشبهها، ويؤيده أو يدلّ عليه استقرار، سيرة المسلمين على عدم تخميسها بمجرّد صيدها من البحر أو النهر.

فتدبّر.

وأمّا النصاب فقد اتفق الأصحاب على اعتباره، والمشهور كونه ديناراً واحداً، قال صاحب المدارك: «أمّا اعتبار النصاب فيه فهو موضع وفاق بينهم أيضاً واختلفت كلامهم في تقديره: فذهب الأكثر إلى أنّه دينار واحد ... وحكى العلّامة في (المختلف) عن المفيد في (المسائل الغرية) أنّه جعل نصابه عشرين ديناراً كالمعدن» «2».

وإليك عبارة المفيد رحمه الله في رسالته (الغرية) على ما حكاه (المختلف): «والخمس واجب انوار الفقاهة، ج 2، ص: 150

فيما يستفاد من غنائم الكفّار والكنوز والعنبر والغوص، فمن استفاد من هذه الأربعة الأصناف عشرين ديناراً أو ما قيمته ذلك كان عليه أن يخرج منه الخمس» «1».

وعن صاحب الحدائق: «اتفق الأصحاب قديماً وحديثاً على نصاب الدينار في الغوص» وكأنّه لم يعتن بمخالفة المفيد في الغرية (ولكن لم نجد هذه العبارة في الحدائق، بل وجدنا خلافه، فإنّه ادّعى الإجماع في أصل النصاب) «2».

ومستند المشهور ما رواه محمّد بن علي بن

أبي عبداللَّه عن أبي الحسن عليه السلام قال: سألته عمّا يخرج من البحر من اللؤلؤ والياقوت والزبرجد وعن معادن الذهب والفضة هل فيها زكاة؟ فقال: «إذا بلغ قيمته ديناراً ففيه الخمس» «3»

. ورواه الصدوق بعينه مرسلًا كما في الوسائل «4».

لكن هذه الرواية ضعيفة السند، لجهالة الراوي- كما في المدارك- لكن يمكن القول بجبر سندها بعمل الأصحاب، مضافاً إلى ما قد قيل كما في الرياض: إنّ الراوي عنه وهو البزنطي ممّن لا يروى إلّاعن ثقة- كما حكى عن شيخ الطائفة- لكن الذي شكل الاعتماد عليها، اشتمالها على ما يخالف المشهور من اعتبار الدينار الواحد في المعدن أيضاً، فإنّ المعروف فيه، إمّا عدم اعتبار النصاب فيه مطلقاً، ولعلّه الأقوى، أو اعتبار عشرين ديناراً، أمّا اعتبار الدينار الواحد، فلم يقل به إلّاشاذ.

ووقد عرفت الإشكال على التفكيك بين أجزاء الحديث مراراً لا سيّما إذا كان في جملة واحدة منه، ولعلّ حكم المحقّق الخوانساري في جامع المدارك «5» بعدم العمل به وحكاية رميه بالشذوذ، ناظر إلى ما ذكرنا، اللّهمّ إلّاأن يحمل حكم المعدن على نوع من التقية وشبهها ويحكم بوجوب العمل بالحديث في مورد الغوص، أو يقال قام الإجماع على اعتبار النصاب فيه أو القدر المتيقن الدينار الواحد، أي لا يجب في أقل منها، ويعمل في الأكثر بإطلاقات الوجوب، كما لا يخفى

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 151

بقي هنا أُمور:

1- لا فرق بين اتحاد النوع وتعدده، فلو أخرج في غوص واحد شيئاً من المرجان واللؤلؤ وغيرهما وكان المجموع ديناراً، وجب فيه الخمس، لإطلاق دليل النصاب من الرواية ومعاقد الإجماعات كما هو كذلك في المعدن والكنز.

2- قد يقال: لا فرق بين الدفعة والدفعات، فيضمّ بعضها إلى بعض، كما في العروة.

قال صاحب الحدائق:

«والأحوط ضمّ الجميع وإن أعرض أو طال الزمان» «1».

وقال صاحب المدارك: «والأقرب ضمّ الجميع وإن أعرض أو تباعد الزمان» «2».

وأشكل عليه بعض الاساتذة الأعلام لظهور الدليل في الإنحلال، وأنّ كلّ فرد موضوع مستقل، وهو كذلك.

3- إن اشترك جماعة في الغوص لا يبلغ نصيب كلّ واحد منهم حدّ النصاب، ولكن يبلغ المجموع حدّه، فهل المدار على المجموع أم على نصيب كلّ واحد منهم؟ صرّح صاحب العروة، بالأوّل، ووافقه غير واحد من المحشّين، ولكن لا يبعد أن يكون الاعتبار بنصاب سهم كلّ واحد، لما عرفت من أنّ الخمس يدور مدار الغنيمة لكلّ إنسان وإن كان الأوّل أحوط.

4- الخمس إنّما هو بعد إخراج المؤونة، لما عرفت من عدم صدق الفائدة والغنيمة الجامعة بين أقسامه عليه بدون ذلك، وكذا بالنسبة إلى ملاحظة النصاب، فإنّ قوله عليه السلام: «إذا بلغ قيمته ديناراً ففيه الخمس» الوارد في حديث النصاب «3» ظاهر في تعلق الخمس بجميعه بعد بلوغه حدّ النصاب، ولا يكون ذلك إلّاباخراج المؤونة قبل ملاحظة النصاب، وإلّا إذا بلغ النصاب تعلق الخمس بغير المؤونة وهو بعضه (وقد مرّ نظيره في الكنز).

5- إذا غاص وشدّه بآلة ثمّ أخرجه بعد ذلك بالآلة فلا إشكال في صدق إخراجه بالغوص عليه، وأمّا إذا أخرجه بالآلة من دون غوص، فقد صرّح غير واحد منهم بعدم تعلق خمس الغوص به، وإن تعلق به خمس المكاسب، منهم المحقّق رحمه الله في الشرائع، قال: «ولو

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 152

أخذ منه شي ء من غير غوص لم يجب الخمس فيه» «1» وحكم في المدارك عن الشهيدين، مساواة ما يؤخذ من البحر من غير غوص لما يؤخذ بالغوص «2».

والمحقّق اليزدي رحمه الله في العروة احتاط في المسألة، ولكن يظهر ممّا سبق

أن تعلق الخمس به أقوى، لأنّ أهل العرف لا يرون فرقاً بين هذه الأُمور، بل يرون التفرقة بينهما من قبيل الجمود على عبارة النصّ من دون مجوّز.

6- ممّا ذكرنا ظهر حال ما يؤخذ من وجه الماء من الأصدفق والجواهر أو على الساحل فإن المصرّح به في كلمات غير واحد منهم وإن كان عدم وجوب الخمس فيه من باب الغوص (وإن كان فيه الخمس من باب الأرباح) كما ذكره صاحب العروة ووافقه عليه كثير من المحشّين، لكن الإنصاف أنّ إلغاء الخصوصية بالنسبة إليه أيضاً قوي، وإنّ العرف يرى الغوص طريقاً ووسيلة للوصول إلى الجواهر الموجودة في قعر البحار، فإن ظفر بها اتفاقاً من طريق الأمواج التي ألقاها على الساحل أو ما أشبه ذلك، كان مشمولًا للحكم عنده، ويرى التفرقة بينها وبين غيرها من الجمود الباطل.

7- المتناول من الغواص تحت الماء، داخل في الغوص بلا إشكال، إذا لم يقصد الغواص الأوّل تملكه وحيازته، وإلّا وجب الخمس عليه وكان بالنسبة إلى الثاني من قبيل التمليك بالهبة أو شبهها، وأمّا إذا تناول منه خارج الماء بعد ما حازه الغواص، فلا إشكال أيضاً في خروجه عن هذا الحكم، نعم إن أخرجه من غير قصد ومن دون حاجة إليه فألقاه على الساحل وتملكه غيره، لا يبعد وجوب الخمس عليه، لما عرفت آنفاً.

8- إذا غاص من غير قصد للحيازة فصادف شيئاً، فإن قصد حيازته، وجب عليه الخمس من دون إشكال لإطلاق الأدلّة، ولو قيل بانصرافها إلى ما قصد الحيازة من أوّل الأمر، فلا ينبغي الشك في كونه انصرافاً بدوياً، ولا أقلّ من إلغاء الخصوصية، والعجب من العروة (وبعض محشّيها) حيث ذكر في المسألة وجهين وإن كان الأحوط عندهم إخراجه، مع أنّ الإنصاف

أنّه ليس للمسألة إلّاوجه واحد وهو شمول إطلاقات الغوص وما يخرج من البحر

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 153

له، وقد عرفت أنّ اعتبار أصل الغوص هنا ممنوع، فكيف بفروعه، وكأنّهم اعتبروا للغوص موضوعية خاصة في المسألة.

وإن لم يقصد الحيازة، فلا خمس فيه لأنّه فرع التملك كما هو واضح، ولا يمكن حمل ما أفاده صاحب العروة عليه، كما هو ظاهر.

9- إذا أخرج بالغوص حيواناً وكان في بطنه شي ء من الجواهر، فقد فصل فيه صاحب العروة بأنّه إن كان معتاداً (كالصدف بالنسبة إلى اللؤلؤ) وجب فيه الخمس، وإن كان من باب الاتفاق بأن بلع شيئاً اتفاقاً، فالظاهر عدم وجوبه، وإن كان أحوط، وقد أخذ هذا الحكم من الجواهر حيث أشكل في المسألة، إذا فرض عدم اعتياد كون الحيوان محلًا لذلك بينما نقل عن أستاذه كاشف الغطاء، تعلق الخمس به مطلقاً «1».

وكان الوجه في التفصيل انصراف الإطلاقات إلى المتعارف، وخروج غير المعتاد منها، ولكن الإنصاف أنّه أيضاً انصراف بدوي إذا كان بلع شيئاً من جواهر البحر، فأي فرق بين ما إذا أخذه من دون حيوان من قعر البحار أو أخذ حيواناً بالغوص ووجد في بطنه الجوهرة التي إلتقمها من البحر.

نعم، إذا كان الحيوان ابتلع شيئاً ألقى من الخارج في البحر، يشكل شمول الحكم له.

هذا ولو وجد الجوهرة في بطن الحيوان المأخوذ من طريق الصيد، لا الغوص، فلا خمس فيه من حيث الغوص، لا لعدم الإطلاق في أحاديث الباب فإنّه قابل للكلام، بل لما عرفت من الروايات الكثيرة الواردة في اللؤلؤة التي وجدها في بطن سمكة، فتدبّر.

10- الأنهار العظيمة كدجلة والفرات والنيل حكمها حكم البحر بالنسبة إلى ما يخرج منها إذا فرض تكون مثل ذلك فيها كالبحر (ذكره صاحب الجواهر ووافقه صاحب

العروة) واستدلّ عليه بإطلاق الأدلّة بعدحمل ذكرالبحر في بعض الأخبار «2» على الغالب، ثمّ أجاب عن القول بانصراف الإطلاقات إلى البحرخاصة، لأنّه حسب المتعارف من ندرةالوجود لاالإطلاق.

أقول: ندرة الوجود غير ثابتة أيضاً، لا سيّما بالنسبة إلى الأنهار العظيمة المتصلة بالبحار في انوار الفقاهة، ج 2، ص: 154

مصبّ ورودها بالبحر، والتفصيل بينها وبين غيرها من الأنهار مشكل، ولولا ذلك، أمكن أن تكون ندرة الوجود سبباً للإنصراف، كما ذكرنا في محلّه أنّ ندرة الوجود كثيراً ما تكون سبباً لندرة الاستعمال وسبباً للإنصراف.

والذي يسهل الخطب في المقام أنّه لو فرض قصور في إطلاقات الباب، فلا قصور من ناحية إلغاء الخصوصية، كما عرفت مراراً.

11- كثيراً ما تتفرّق الأشياء في البحار أو الأنهار ثمّ يخرجها الغواصون، فهل يصحّ تملكهم لها؟ ثمّ هل يتعلق الخمس بها، أم لا؟

قال العلّامة رحمه الله في القواعد: «ولو انكسرت سفينة في البحر فلأهله ما أخرجه البحر، وما أخرج بالغوص لمخرجه إن تركوه بنيّة الإعراض» «1».

ويظهر من مفتاح الكرامة في شرح هذا الكلام: أنّ الأصحاب اختلفوا في أنّ المخرج يملكه أو يباح له التصرّف، فبعضهم ذهب إلى الأوّل، كالعلّامة، فيما عرفت من كلامه، وبعضهم جزم بالثاني، كالشهيد الثاني والفاضل المقداد، والمحقّق الثاني رأى الاحتمال الثاني أقرب إلى الإحتياط «2».

وقال صاحب الجواهر بعد نقل كلام المحقّق (لو انكسرت سفينة في البحر فما أخرجه البحر فهو لأهله، وما أخرج بالغوص فهو لمخرجه): «على الأشهر عند الأصحاب كما في الكفاية وإن كنّا لم نتحققه» «3». أي بدون قيد الإعراض.

وقال صاحب الحدائق: «فيما يخرج بالغوص من الأموال التي عليها أثر الإسلام، إشكال».

ثمّ، بعد ذلك ذكر الروايتين الاثنتين، قال: «إنّ ظاهر الخبرين غير خال من الإشكال، لأنّ الحكم به لمخرجه مع وجود أهله من غير ناقل

شرعي، مشكل» «4».

والأولى، البحث عن مقتضى القواعد في المسألة ثمّ التكلم عن الحديثين.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 155

أمّا الأوّل: فإن كان الكلام في موارد الإعراض، أعني، إعراض مالكه عنه ولو بسبب يأسه عن إمكان استخراجه، فالحق، جواز تملكه لما ذكرناه في محلّه من خروج المال بالإعراض عن الملكية، وهل مجرّد اليأس ملازم للإعراض المنقول عن المحقّق الأردبيلي؟ ذلك ولكن استشكل عليه صاحب المفتاح بأنّ الإعراض غير اليأس، والإنصاف أنّ اليأس في الغالب سبب للإعراض، وإن كان قد ينفك منه، فالقول باتحادهما دائماً، مشكل، لا سيّما إذا كان الزمان قريباً.

أمّا إذا لم ييأس ولم يعرض عنه طبعاً، فلا يحلّ لأحد التصرّف في ذاك المال، وكان باقياً على ملك مالكه الأصلي، ولذا، لو أغرق المال غير مالكه كان ضامناً لبدل الحيلولة ما دام كذلك حتّى يردّ عينه إلى صاحبه.

ولو ألقاه البحر إلى جانبه فإن كان قبل الإعراض فهو لصاحبه، بلا إشكال، وإن كان بعده يشكل الحكم بعوده إليه ما لم يكن هناك حيازة جديدة منه وإن كان الحكم بجواز حيازته لكلّ أحد أيضاً، مشكلًا، لا سيّما إذا كان الزمان قريباً ولعلّه من جهة أنّ الإعراض كان مشروطاً، فتأمل، والأحوط هنا ردّه إلى مالكه- هذا بحسب القواعد-.

أمّا بحسب الأخبار، فقد رويت هنا روايتان إحداهما عن السكوني عن أبي عبداللَّه عليه السلام في حديث عن أميرالمؤمنين عليه السلام قال: «إذا غرقت السفينة وما فيها فأصابه الناس فما قذف به البحر على ساحله فهو لأهله وهم أحق به وما غاص عليه الناس وتركه صاحبه فهو لهم» «1».

والثاني عن الشعيري قال: سئل أبو عبداللَّه عليه السلام عن سفينة انكسرت في البحر فأخرج بعضها بالغوص وأخرج البحر بعض ما غرق فيها؟ فقال: «أمّا

ما أخرجه البحر فهو لأهله، اللَّه أخرجه، وأمّا ما أخرج بالغوص فهو لهم وهم أحقّ به» «2».

وقد ورد في بعض العبارات (الشغيري) بالغين المعجمة، واختلفت كلماتهم في أنّهما رجل واحد وهو السكوني (إسماعيل بن أبي زياد) فله لقبان، أو أنّ الشغيري تلميذ

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 156

السكوني كما قيل، وعلى كلّ حال، لا كلام في ضعف الرواية الثانية بأمية بن عمر، ولجهالته، ولكن الرواية الاولى معتبرة إن قلنا بوثاقة السكوني، ولكنه محلّ كلام وإشكال، فالركون إليها أيضاً مشكل من حيث السند.

وأمّا من حيث الدلالة فلا يستفاد من رواية السكوني شي ء ما وراء القواعد لقوله:

«وتركه صاحبه» الظاهر في الإعراض، فلو صحّت أسنادها لم تدلّ على شي ء أزيد ممّا تقتضيه القاعدة.

أمّا الثانية فهي خالية عن هذا القيد فتدلّ على الأعم من صورةالإعراض وعدمه، ولكن لا يصحّ الركون إليها أيضاً. أمّا أوّلًا: فلأن احتمال وحدتهما قوية فيفسّر بعضها بعضاً (ولا يضرّ نقل إحداهما عن الصادق عليه السلام والأخرى عنه عن أميرالمؤمنين عليه السلام، كما لا يخفى).

وثانياً: لضعيف سندها- كما مرّ- بأمية بن عمرو.

وثالثاً: لا يمكن الركون في مخالفة مثل هذه القاعدة المسلمة الثابتة في الكتاب والسنّة والعقل والإجماع، وهي عدم جواز التصرّف في مال الغير بدون رضاه، وعدم جواز أكل المال بالباطل، بخبر واحد، ولو فرض بلوغه حدّ الحُجيّة.

والعجب من صاحب الجواهر حيث احتمل في الرواية الثانية كون جميع المال لأهله (بأنّ يكون قوله أمّا ما أخرج بالغوص فهو لهم أي لملاكه لا الغواصين!) واعتذر عن التفضيل في الجواب ب «أمّا» بأنّ التفصيل إنّما هو في السبب «بإخراج اللَّه، وإخراج الغير» وإلّا فالنتيجة واحدة، كما عن بعضهم الجزم به «1».

والإنصاف أنّ الإعراض عن هذه الرواية لبعض ما ذكر سابقاً،

أولى من حملها على هذه المحامل البعيدة.

وفي بعض كلمات الشهيد الثاني رحمه الله في المسالك أنّه يجبر ضعف سند رواية الشعيري (بعد قوله باتحاد الرجلين)، بالشهرة وغيرها «2».

فإن أراد شهرة الحكم في صورة الإعراض عن المال المُغرق فهو غير بعيد، وإن أراد في انوار الفقاهة، ج 2، ص: 157

صورة عدم الإعراض عنه، فقد عرفت عدم ثبوته.

ولذا قال في آخر كلامه أنّه لا يحلّ أخذه بدون الإعراض مطلقاً، عملًا بالأصل.

بقي هنا أمران:

أحدهما: أنّه إذا شك في الإعراض وعدمه، فإن أمكن إحراز الحال من مضي الدهور والعصور، كما قد عرفت، يكون سبباً للإعراض القهري في عرف العقلاء، أو من طريق آخر، فلا كلام، وإلّا، فاللازم الحكم ببقائه على ملك صاحبه، فإن لم يعرف صاحبه كان بحكم اللقطة، ويجري عليه أحكامها كما لا يخفى.

ثانيهما: أنّه لا خمس فيه عند جواز تملكه من باب الغوص، وإن تعلق به من باب الأرباح، وذلك لأنّ الظاهر من أدلّة وجوب الخمس في الغوص أو ما يخرج من البحر هو ما يتكون فيه من الجواهر وشبهها، لا ما ألقى فيه من الخارج، وهذا هو المتبادر منها، لا سيّما بقرينة ما ذكر في هذه الروايات من الأمثلة.

12- إذا فرض معدن من العقيق والياقوت أو الذهب والفضة وشبهها في قعر البحار بحيث لا يمكن إخراجها إلّابالغوص، فلا إشكال في تعلق الخمس بها، ولكن هل هو من باب خمس المعدن أو الغوص حتّى تظهر الثمرة في نصابهما المتفاوت، استظهر صاحب العروة، الثاني- أي الغوص- ووافقه كثير من المحشّين.

وما ذكره قوي، لأنّه مقتضى إطلاق روايات الغوص، لعدم التفصيل بين المحال التي تعدّ معدناً لهذه الجواهر وما لا يُعدُّ، وقد عرفت سابقاً أنّه لا يعتبر في معنى المعدن أن

يكون دائماً تحت الأرض، فقد يكون فوق الأرض، فإذا كانت نقطة من البحر تتكون فيها الجواهرات من اللؤلؤ والمرجان بمقدار معتدّ به، كان معدناً له وهو داخل في إطلاقات الغوص، وهذا فرد شائع، فيشمله أدلته.

إن قلت: إطلاقات المعدن أيضاً كذلك أعمّ ممّا يوجد تحت الماء أو في الصحراء.

قلت: الإنصاف إطلاقاتها من هذه الناحية، ضعيفة، بل قد يدّعى انصرافها منه، ولا أقلّ أنّه ليس فرداً شائعاً للمعدن بالنسبة إلى ما يوجد في الصحارى والجبال (لا سيّما في تلك انوار الفقاهة، ج 2، ص: 158

االأزمنة) وليس كذلك إطلاقات الغوص.

وإن شككنا، ولم يكن هناك ظهور أقوى، فمقتضى القاعدة، العمل بهما، لعدم المنافاة بينهما وأنّ هو إلّامثل أن يقول المولى لعبده، أضف كلّ عالم، اليوم، وقال أيضاً: أضف كلّ عادل، اليوم وأعطه ألف درهم، فإذا انطبق العنوانان على رجل واحد وكان عالماً عادلًا، فلا مانع من العمل بمقتضى كلّ منهما في حقّه، بل هو واجب، فإضافته واجبة بمقتضى العنوانين واهداء ألف درهم أيضاً واجب بمقتضى العنوان الثاني.

وفي المقام إذا كان المخرج عشرين ديناراً، فلا كلام في وجوب الخمس عليه لانطباق العنوانين (والخمس يكون واحداً لظهور الأدلة) وإن كان أقل منه وأكثر من دينار واحد فيجب عليه الخمس لانطباق عنوان الغوص عليه. فتدبّر، جيداً.

13- لا إشكال في وجوب الخمس في العنبر، كما قال صاحب المدارك: «قد أجمع الأصحاب على وجوب الخمس فيه» «1». وهو مروي في صحيحة الحلبي عن الصادق عليه السلام قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن العنبر وغوص اللؤلؤ؟ فقال: «عليه الخمس» «2».

إنّما الكلام في أُمور ثلاثة (المراد من العنبر وأنّه من باب الغوص، ومقدار نصابه).

الأمر الأوّل: ما هو العنبر؟ اختلفت كلمات الفقهاء وأرباب اللغة في حقيقته غاية

الاختلاف، وإليك نموذج منها:

1- قال صاحب القاموس: «العنبر من الطيب: روث دابّة بحرية ...» «3».

2- قال فيه أيضاً: «أو نبع عين فيه»، حكاه الشهيد رحمه الله أيضاً في البيان عن أهل الطب.

3- وفي لسان العرب (في بعض ما ذكره في تفسيره): هي سمكة كبيره بحرية تتخذ من جلدها التراس، ويقال للترس: عنبر، وفي مجمع البحرين عن «حياة الحيوان» العنبر: سمكة بحرية يتخذ من جلدها التراس والعنبر المشموم «4».

4- وفيه أيضاً (في مجمع البحرين): «قيل إنّه يخرج من قعر البحر يأكله بعض دوابه انوار الفقاهة، ج 2، ص: 159

لدسومته فيقذفه رجيعاً فيطفوا على الماء فتلقيه الريح إلى الساحل وهو يقوي القلب نافع من الفالج واللقوة والبلغم الغليظ» «1».

5- وفي التذكرة «قال الشيخ رحمه الله: العنبر: نبات من البحر، وقيل: هو من عين في البحر، وقيل: العنبر يقذفه البحر إلى جزيرة فلا يأكله شي ء إلّامات ولا ينقله طائر بمنقاره إلّانصل منقاره وإذا وضع رجله فيه نصلت اظفاره ويموت» «2».

فهم- كماترى- بين قائل: إنّه مائع يخرج من عين في البحر، وقائل: إنّه نبات، وقائل: إنّه حيوان أو روث حيوان، ويمكن الجمع بين غير واحد منها بأن يكون نباتاً فتأكله دابّة ويكون هذا روثها، أو يخرج من عين ثمّ تأكله السمكة وتلفظها من جوفها إلى غير ذلك. ولكن القدر المسلّم به والمشهور: أنّه طيب، يؤخذ من سطح الماء، له فوائد ومنافع (إذا استعمل بمقدار لازم)، أمّا ما ذُكر أنّه يخرج من قعر البحر، أو أنّه نبات، أو روث حيوان فلا شي ء من ذلك ثابت.

وفي غياث اللغة: «أنّه نوع من الطيب يوجد في جبال الهند و الصين يكون من نوع من النحل يأكل النباتات الطيبة ويحمله السيل إلى البحار ويأكله بعض

حيوان البحر وحيث ليس قابلًا للهضم يلقيه إلى الخارج وقد شوهد فيه دباب النحل» «3».

ويدلّ أيضاً على أنّه نوع من المواد الشمعية تذاب إذا سلط عليها الحرارة.

هذا كلّه ما ذكره الفقهاء والقدماء في هذا المجال.

أمّا علماء العصر الجديد، فلهم تحقيقات أدقّ في العنبر، ففي الجزء الرابع من المعجم الزولوجي الحديث بالعربية في مادة العنبر، ما هذا نصّه: «العنبر على وزن جعفر اسم لنوع من الحِيتان تستخرج منه المادة المعروفة بالعنبر والدهن المعروف بمنّ القاطوس، ... والعنبر أورام تحدث في أمعائه، ثمّ يبترزها فتطفوا على سطح الماء ويكون لها صنان كريه ولونها أغبر فيأخذها الصيادون ويبيعونها، وقد تباع القطعة بأربعة جنيهات حسب حجمها، فتعالج بعد ذلك حتّى تطيب رائحتها ... والعنبر (أي الحوت المذكور) لا يخشى الإنسان ... سمي انوار الفقاهة، ج 2، ص: 160

بذلك لأنّه تستخرج منه المادة المعروفة بالعنبر (وقد رسم صورة هذا الحوت دقيقاً في الكتاب)» «1».

وقال صاحب المعجم الفارسي المسمّى ب «معين»: «سمك العنبر يوجد في أمعائه بسبب بعض الترشحات مادة سوداء بسبب أنّه يأكل السمك المعروف بالمداد (أي سمكة مركبة) وقد يشق وتوجد في أمعائه المادة المعروفة بالعنبر».

وقد ذكر بعض الباحثين أنّ له نوعين: نوع يطفوا على الماء (لأنّه خالص)، ونوع يرسب في قعر البحار (لأنّه مخلوط بأشياء ثقيلة) وألوانه أيضاً مختلفة، الأبيض والأزرق والأصفر والأخضر والأسود وأحسنها الأبيض وأردئها الأسود ظاهراً.

والأصح قولًا عن العنبر من الأقوال المذكورة فيها هو ما ذكره المعجم الزولوجي الحديث، الذي جمعه مؤلفه من منابع الشرق والغرب طوال عشرين سنة.

الأمر الثاني: هل هذا الموضوع هو عنوان مستقل في مسألة الخمس كما يظهر من بعض عبارات الفقهاء بل لعلّه ظاهر الصحيحة المذكورة حيث جعله في مقابل الغوص، أم

أنّه داخل في عنوان المعدن بناءً على خروجه من عين من قعر البحر، أو قلنا إنّ معدن الشي ء هو محل يتكون فيه كثيراً، وحيث إنّ العنبر يتكون في بعض مناطق البحار بكثرة سواء كان نباتاً، أم روث حيوان بحري، يصدق عليه عنوان المعدن.

لكن الأخير بعيد جدّاً، وإلّا، كان البحر معدناً للسمك، والأجمّة معدن للشجر حيث يتكون فيه كثيراً مع أنّه لا يصدق المعدن عليه إلّابمعنى مجازي أو كنائي، كما لا يخفى، وخروجه من عين في قعر البحر، غير معلوم، بل المعلوم خلافه، كما عرفت، فصدق المعدن عليه مشكل، وكذا الغوص بعد عدم حاجته إلى الغوص لأنّه يؤخذ من سطح البحار.

نعم، قد عرفت أن قسماً منه يخرج من قعر البحار، وذلك لاختلاطه بما يوجب رسوبه في الماء لكنه ليس من الجواهر حتّى يشمله عنوان الغوص، إذن لعلّه مختص بالأشياء الثمينة الموجودة في أعماق البحار مضافاً إلى التفريق بينه وبين غوص اللؤلؤ في صحيحة الحلبي حيث قال: «سألته عن العنبر وغوص اللؤلؤ» على أنّه لو صدق عليه الغوص فإنّما

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 161

صدق على قسم منه لا على تمام أقسامه.

فالأولى أن يقال: إنّه عنوان مستقل، ومن هنا يظهر الكلام في المقام.

الأمر الثالث: هل يعتبر فيه النصاب؟ ولو اعتبر فيه فما هو نصابه؟ الذي يظهر من المدارك أنّ في المسألة أقوالًا ثلاثة:

1- ما ذهبت إليه أكثر الأقوال وهو التفصيل بين ما أخرج بالغوص، فيراعى فيه نصاب الغوص وهو دينار واحد، وما يُلتقط من سطح الماء أو الساحل، كان له حكم المعدن.

2- ما يظهر من إطلاق المفيد رحمه الله في (المسائل الغرية) هو أنّ نصابه عشرون ديناراً كالكنز.

3- وجوب الخمس فيه مطلقاً، قليلًا كان أو كثيراً وهو ظاهر اختيار

الشيخ رحمه الله، وقوّاه في المدارك «1».

وحكى صاحب الجواهر عن السرائر دعوى الإجماع على هذا القول «2».

ويظهر من الفقيه سيّد أساتيذنا العلّامة البرجردي رحمه الله نقل قول رابع وهو ما نسب إلى كاشف الغطاء رحمه الله، من اعتبار نصاب الغوص فيه مطلقاً (أي سواء أخذ من سطح الماء أو بالغوص أو غير ذلك).

والظاهر، بعد ما عرفت أنّه عنوان مستقل ليس من المعادن ولا من الجواهر المأخوذة بالغوص، بل هو أشبه شي ء بالسمك الذي يصطاد من البحار، فإجراء حكم المعدن أو الغوص عليه، مشكل. اللّهم إلّاأن يقال إنّ جعله في عداد غوص اللؤلؤ دليل على أنّه ملحق به، وإلّا لم يكن وجه للجمع بينهما. والأحوط إخراج الخمس منه، قليلًا كان أو كثيراً.

5- الحلال المخلوط بالحرام

المقام الأوّل: وجوب الخمس

وجوب الخمس في هذا المال (في الجملة) هو المشهور كما في المفاتيح للفيض الكاشاني رحمه الله، وعليه أكثر العلماء، كما في المنتهى، وعليه الإجماع، كما في ظاهر الغنية أو صريحها، على ما حكاه عنهم في الجواهر «1».

وقال صاحب الحدائق: القول بوجوب الخمس هنا هو المشهور ونقل عن الشيخ المفيد وابن أبي عقيل وابن الجنيد أنّهم لم يذكروا الخمس هنا في عداد الأفراد المتقدمة كما لم يذكروه في سابق هذا المقام (أي الأرض التي اشتراها الذمّي من المسلم) «2».

وقال صاحب الغنية: «وفي المال الذي لم يتميز حلاله من حرامه وفي الأرض التي يبتاعها الذمّي من مسلمٍ، (الخمس) بدليل الإجماع المتردد» «3».

واستدلّ له صاحب الجواهر بأُمور:

1- الإجماع المذكور بعد شهادة التتبع له في الجملة.

2- اندراجه في عنوان الغنيمة.

3- صحيحة ابن مهزيار وفيها في عداد ما يجب فيه الخمس: «ومثل مال يؤخذ ولا يعرف له صاحب، وما صار إلى موالي من أموال الخرمية الفسقة» «4».

انوار الفقاهة، ج 2،

ص: 164

4- ما رواه الحسن بن زياد عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: إنّ رجلًا أتى أميرالمؤمنين عليه السلام فقال: يا أميرالمؤمنين إنّي أصبت مالًا لا أعرف حلاله من حرامه، فقال له: «أخرج الخمس من ذلك المال، فإن اللَّه عزّوجلّ قد رضى من ذلك المال بالخمس واجتنب ما كان صاحبه يعلم» «1».

5- ما رواه السكوني عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: أتى رجل أميرالمؤمنين عليه السلام فقال: إنّي كسبت مالًا أغمضت في مطالبه حلالًا وحراماً، وقد أردت التوبة ولا أدري الحلال منه والحرام وقد اختلط عليَّ، فقال أميرالمؤمنين عليه السلام: «تصدّق بخمس مالك فإنّ اللَّه قد رضى من الأشياء بالخمس وسائر المال لك حلال» «2».

6- ما أرسله الصدوق قال: جاء رجل إلى أميرالمؤمنين عليه السلام فقال: يا أميرالمؤمنين أصبت مالًا أغمضت فيه، أفلي توبة؟ قال: «ايتني خمسه فأتاه بخمسه، فقال: هو لك إنّ الرجل إذا تاب تاب ماله معه» «3».

7- ما رواه عمّار بن مروان قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: «فيما يخرج من المعادن والبحر والغنيمة والحلال المختلط بالحرام إذا لم يعرف صاحبه والكنوز، الخمس» «4».

ولكن العمدة من بينها هي الروايات الأربع الأخيرة، فإنّ الاستناد في مثل هذه المسألة بعد وجود هذه المدارك، إلى الإجماع كماترى، كما أنّ اندراج المسألة في عنوان الغنيمة، غير وافٍ بإثبات المقصود، فإنّ الغرض إثبات وجوب الخمس فيه بعنوان مستقل لا بهذا العنوان، مضافاً إلى أنّ صدق الغنيمة على الحرام لا يفي له وعلى الحلال الموجود فيه كذلك، لأنّه ربّما يكون من مال مخمّس أو مال، يتعلق به الخمس كالميراث وشبهه.

وأمّا الثالث: (صحيحة علي بن مهزيار) فهو أيضاً خارج عن المقصود، فإنّ المال الذي لا يعرف له صاحب،

ليس من المخلوط، وكذا أموال الخرمية بعد كونهم كفّاراً، يجوز أخذ

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 165

أموالهم وهو مثل سائر الغنائم، فهل الغنائم المأخوذة من الكفّار داخل تحت عنوان الأموال المختلطة بالحرام؟

والإشكال في أسناد هذه الروايات الأربع، لو تمّ لا يضرّ بالمقصود بعد تظافرها وعمل المشهور بها وكذا الإشكال بأنّ المذكور في رواية السكوني هو وجوب التصدق بالخمس أيضاً غير ضائر في هذا المقام (أعني إثبات الحكم على إجماله)، وسيأتي الكلام فيه إن شاء اللَّه.

هذا، ويستدلّ أيضاً بما رواه ابن أبي عمير، عن غير واحد عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال:

«الخمس على خمسة أشياء: على الكنوز والمعادن والغوص والغنيمة، ونسي ابن أبي عمير، الخامس» «1» بضميمة ما ذكره الصدوق في الخصال قال: «أظن أنّ الخامس الذي نسيه ابن أبي عمير مالٌ يرثه الرجل وهو يعلم أنّ فيه من الحلال والحرام ولا يعرف أصحاب الحرام فيؤديه إليهم ولا يعرف الحرام بعينه فيجتنبه فيخرج من الخمس» «2».

أقول: ولكن هذا الظن لا يغني من الحقّ شيئاً يمكن الركون إليه بمجرّده، بل يشكل إخراجه بعنوان مؤيد في المسألة بعد احتمال كون الخامس «الملاحة» الواردة صريحاً في مرسلة حمّاد «3» ومرسلته الأُخرى في نفس الباب «4»، والظاهر أنّهما رواية واحدة، ولا أقل أنّه يساوي هذا الاحتمال ما ذكره الصدوق رحمه الله الموافق احتمالًا لما رواه عمّاربن مروان «5».

وكذا قد يستدلّ له بما رواه عمّار عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: أنّه سئل عن عمل السلطان يخرج فيه الرجل؟ قال: «لا، إلّاأن لا يقدر على شي ء يأكل ولا يشرب ولا يقدر على حيلة، فإن فعل فصار في يده شي ء فليبعث بخمسه إلى أهل البيت» «6».

فإنّه يحتمل أن يكون من قبيل أرباح المكاسب، والمنع إنّما

هو من جهة الدخول في عمل السلطان، وإلّا فحلّية أمواله قد ثبتت في بحث جوائز السلطان بعد كون أمواله من قبيل انوار الفقاهة، ج 2، ص: 166

المخلوط الذي ليس تمام أطراف العلم محلّاً لابتلائه حتّى يجري عليه آثار العلم الإجمالي.

ومثله الكلام في ما رواه الحلبي عن أبي عبداللَّه (8/ 2) في الرجل من أصحابنا يكون في لوائهم ويكون معهم فيصيب غنيمة؟ قال: «يؤدي خمساً ويطيب له»، والظاهر أنّ الخمس فيها خمس الغنائم التي تكون بإذن الإمام عليه السلام، ولا دخل له بمسألة المخلوط بالحرام.

وبالجملة فلمسألة أوضح من أن تحتاج إلى هذه الاستدلالات الضعيفة.

المقام الثاني: وجوه الأموال المخلوطة بالحرام

هذه المسألة:- أي الأموال المخلوطة بالحرام- ذات وجوه أربعة، كما ذكره صاحبا المدارك ومستند الشيعة، بل وأشار إليه صاحب الحدائق إجمالًا، وحاصلها أنّه تارة: يكون مع الجهل بمقدار الحرام وصاحبه.

وأُخرى: يعلم المقدار ولا يعلم المالك.

وثالثة: يكون بالعكس يعلم المالك ولا يعلم المقدار.

ورأبعة: يعلم كليهما.

ومن الواضح أنّ الأخبار وإن كانت مطلقة ولكنها لا تشمل القسم الأخير قطعاً بعد انصرافها من هذه الصورة، ووضوح القواعد، ولزوم رد المال إلى مالكه عند معرفته، وحرمة أكل المال بالباطل.

وأمّا الصورة الاولى فهي القدر المتيقن من هذه الأخبار، وكان الشارع المقدّس أجاز مصالحة المال الحرام بهذا المقدار لتطهير أمواله.

تبقى الصورتان الثانية والثالثة، أمّا الثانية، فالمعروف والمشهور، بل قد يدّعى الإتفاق عليه، التصدق بمقدار المال الحرام عن مالكه بعد اليأس من وجدانه، وعن العلّامة وجماعة- قدس سرهم- وجوب التخميس أوّلًا، ثمّ التصدق بالزائد، وعن صاحب الحدائق القول انوار الفقاهة، ج 2، ص: 167

بالتخميس فقط، فالمسألة ذات أقوال ثلاثة.

أمّا الذي يدلّ على مذهب المشهور، أي التصدق بمقدار المال الحرام، أي مقدار كان، هو روايات عديدة واردة في مجهول المال تشمل بإطلاقها محلّ

الكلام:

1- منها ما ورد في أبواب اللقطة من مصححة يونس بن عبدالرحمن قال: سئل أبو الحسن الرضا عليه السلام وأنا حاضر إلى أن قال: فقال: رفيق كان لنا بمكّة فرحل منها إلى منزله ورحلنا إلى منازلنا، فلما أن صرنا في الطريق أصبنا بعض متاعه معنا، فأيّ شي ء نصنع به؟

قال: «تحملونه حتّى تحملوه إلى الكوفة. قال: لسنا نعرفه ولا نعرف بلده ولا نعرف كيف نصنع؟ قال: إذا كان كذا فبعه وتصدّق بثمنه. قال له: على من، جعلت فداك؟

قال: على أهل الولاية» «1».

ولا يخفى أنّ الحديث ورد في المال المتميز المجهول مالكه، والكلام في غير المتميز منه، بحيث اختلط مع سائر الأموال، لكن لا يبعد إلغاء الخصوصية العرفية.

2- ما رواه نصر بن حبيب صاحب الخان قال: كتبت إلى العبد الصالح عليه السلام: لقد وقعت عندي مائتا درهم وأربعة دراهم وأنا صاحب فندق ومات صاحبها ولم أعرف له ورثة فرأيك في إعلامي حالها وما أصنع بها فقد ضقت بها ذرعاً؟ فكتب: «اعمل فيها واخرجها صدقة قليلًا قليلًا حتّى يخرج» «2».

ولا يخفى أنّ هذا الحديث كسابقه وارد في المال المتميز، وأمّا أمره عليه السلام بالتصدق التدريجي، فلعلّه للتوسعة عليه.

3- ما رواه علي بن أبي حمزة قال: كان لي صديق من كتّاب بني أميّة، فقال لي: استأذن لي على أبي عبداللَّه عليه السلام. فاستأذنت له عليه، فأذن له، فلما أن دخل، سلم وجلس، ثمّ قال:

جعلت فداك إنّي كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم مالًا كثيراً، وأغمضت في مطالبه، فقال أبو عبداللَّه عليه السلام «لولا أنّ بني أميّة وجدوا لهم من يكتب ويجبي لهم الفي ء ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم لما سلبونا حقّنا ... قال: فقال الفتى جعلت فداك

فهل لي انوار الفقاهة، ج 2، ص: 168

مخرج منه؟ .... قال له: فاخرج من جميع ما كسبت في ديوانهم فمن عرفت منهم رددت عليه ماله ومن لم تعرف تصدقت به وأنا أضمن لك على اللَّه عزّوجلّ الجنّة ...

الحديث» «1».

ولا يضر ضعف إسناد بعضها بعد قوّة أسناد بعضها على الظاهر، وعمل الأصحاب بها، ونقلها في الكتب المعتبرة، إلى غير ذلك من المؤيدات.

وقد أشار المحقّق الهمداني رحمه الله في تأييد هذه الروايات إلى الأخبار الكثيرة الواردة في التصدق ببعض مصاديق مجهول المالك مثل ما رواه حفص بن غياث قال: سألت أباعبداللَّه عليه السلام عن رجل من المسلمين أودعه رجل من اللصوص دراهم أو متاعاً واللص مسلم، هل يردّ عليه؟ فقال: «لا يردّه فإن أمكنه أن يردّه على أصحابه فعل، وإلّا كان في يده بمنزلة اللّقطة يصيبها فيعرّفها حولًا، فإن أصاب صاحبها ردّها عليه وإلّا تصدّق بها، فإن جاء طالبها بعد ذلك خيّره بين الأجر والغرم، الحديث» «2».

وامتياز هذه الرواية أنّها وإن وردت في بعض كتب الحديث في أحكام اللقطة، لكنها ليست من اللقطة، وأمّا الأمر بالتصدق في خصوص مورد اللقطة (ولو كان بعنوان أحد أفراد التخيير في الواقع) كثير، وإن شئت فراجع الروايات 2 و 7 و 14 من الباب 2 من أبواب اللقطة.

ويؤيده أيضاً ما ورد في بيع تراب الصياغة والتصدق بثمنه، مثل ما رواه علي بن ميمون الصائغ قال: سألت أباعبداللَّه عليه السلام عمّا يكنس من التراب فأبيعه فما أصنع به؟ قال: «تصدّق به، فإمّا لك وإمّا لأهله. قال: قلت: فإنّ فيه ذهباً وفضة وحديداً فبأيّ شي ء أبيعه؟ قال:

بعه بطعام. قلت: فإن كان لي قرابة محتاج أعطيه منه؟ قال: نعم» «3».

وما رواه علي الصائغ قال: سألته

عن تراب الصواغين وإنّا نبيعه. قال: «أما تستطيع أن تستحلّه من صاحبه؟ قال: قلت: لا إذا أخبرته اتّهمني. قال: بعه. قلت: بأي شي ء نبيعه؟

قال: بطعام. قلت: فأيّ شي ء أصنع به؟ قال: تصدق به إمّا لك وإمّا لأهله. قلت: إن كان انوار الفقاهة، ج 2، ص: 169

ذا قرابة محتاجاً أصِلُهُ؟ قال: نعم» «1».

نعم، قد يورد على جميع ذلك تارة بما أاشار إليه صاحب الحدائق من أنّ روايات الصدقة وردت في المال المتميز من غيره، وهذا غير ما نحن فيه ممّا اختلط فيه الحلال بالحرام.

وأُخرى بما ورد في صحيحة ابن مهزيار في خمس الغنائم والفوائد حيث جوّز تملك مالًا يعرف صاحبه مع أداء خمسه، ولازمه عدم وجوب التصدق بل يكفي الخمس فيه.

هذا، ولكن يمكن الجواب عن الأوّل: أوّلًا: بأنّه أيّ فرق بين المتميز وغيره بعد حصول الشركة فيه (لا سيّما في مثل الدراهم والدنانير) ومعلومية حقّه من المشاع، فإلغاء الخصوصية القطعية العرفية هنا، ممّا لا غبار عليه.

ثانياً: إنّ الذي تقتضيه مناسبة الحكم والموضوع هو كون التصدق من قبل مالكه نوع إيصال إليه، فإنّه وإن لم يصل إليه بنفسه لكنه وصل إليه بثوابه، ومن الواضح أنّ هذا المعنى لا يتفاوت فيه الحال بين كون المال مفروزاً أو مشاعاً.

وثالثاً: إنّا لو سلّمنا بعدم دخول المقام في روايات التصدق، فلا نشك في عدم دخوله في روايات الخمس، إذا كان المقدار أقل منه بكثير أو أكثر منه أضعافاً مضاعفة، فكيف يمكن إلزام الخمس على من يعلم أنّ سهم الغير من ماله المشاع عشر أو نصف العشر، وكذلك، كيف يمكن الإكتفاء بمقدار الخمس مع العلم بأنّ نصف المال أو أربعة أخماسه للغير، فانصراف روايات تخميس المال المخلوط بالحرام عمّا نحن بصدده واضح لا

ريب فيه.

وأمّا الثاني، أعني صحيحة ابن مهزيار فلعلّها إشارة إلى اللقطة، فقوله يؤخذ بمعنى أخذه لقطة بقرينة قوله «ولا يعرف له صاحب» فالخمس فيه خمس الأرباح بقرينة ما قبله وما بعده (وقد ذكرنا في محلّه أنّه يجوز تملك اللقطة كما نطقت به كثير من الأخبار) هذا أوّلًا.

وثانياً: أنّ لازم ذلك، أداء خمس خصوص مجهول المالك، لا خمس جميع المال، وهذا أجنبي عمّا نحن بصدده.

الحاصل: أنّ مذهب المشهور هو المنصور، أمّا القول بوجوب دفع مقدار الخمس خمساً، والباقي صدقة، فكأنّه نشأ عن الجمع بين روايات الخمس والصدقة، ولكنه جمع تبرّعي في انوار الفقاهة، ج 2، ص: 170

غاية البعد، لا يشهد له شاهد ولا تدلّ عليه قرينة.

وقد يترائى من بعض كلمات المحقّق الهمداني رحمه الله في مصباح الفقيه، قول رابع في المسألة وهو وجوب أداء المقدار المعلوم كونه للغير خمساً (أي أدائه إلى أرباب الخمس لا في مصرف الصدقة) «1» وهو أضعف الأقوال، وكأنّ الوجه فيه جمع تبرّعي آخر بين أخبار وجوب التصدق وأخبار الخمس فيؤخذ في المقدار، بالأوّل، وفي المصرف، بالثاني، ومن الواضح أنّ أمثال هذا الجمع ممّا لا يوزن بشي ء في ميزان الفقه والفقهاء.

وأمّا الصورة الثالثة وهي ما كان المالك فيه معلوماً ومقدار الحرام مجهولًا، ففيه وجوه وأقوال:

1- الاقتصار على القدر المتيقن (كما إذا علم بأنّ سدس المال للغير قطعاً فيعطيه) فقط.

2- إعطاء أكثر ما يحتمله حتّى يعلم بالبراءة (كما إذا علم بأنّ الغير لا يملك أكثر من النصف).

3- إعطاء الأقل، وفيما بينه وبين الأكثر يرجع إلى القرعة أو قاعدة العدل والإنصاف فينصف (ففي المثال السابق يعطيه سدساً بعنوان القدر المتيقن ثمّ يقرع على السدسين أو يقال بالتنصيف بينهما).

4- يرجع في التفاوت إلى الصلح اجباراً، كما

حكى عن كاشف الغطاء رحمه الله أنّه لو عرف المالك دون المقدار وجب صلح الإجبار (حكاه في مصباح الفقيه ص 137 وما بعده).

5- يدفع الخمس فقط لصاحب المال، وكأنّه مصالحة شرعية للمقدار المجهول بهذا المقدار، حكى هذا القول عن صاحب التذكرة.

وجه الأوّل: هو الأخذ بقاعدة اليد، فإنّ المفروض كون المجموع في يده، ومقتضاها كون جميعه ملكاً له إلّاما خرج قطعاً، ولا معنى هنا للأخذ بالبراءة كما في بعض كلمات الأعلام، لا البراءة التكليفية ولا بالنسبة إلى الحكم الوضعي، لأنّ الأصل في الأموال المملوكة عدم جواز التصرف فيها إلّاماثبت كونه له، وبراءة الذمّة هنا لامعنى لها بعد كون الكلام في المال الخارجي.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 171

وجه الثاني: الرجوع إلى قاعدة الاشتغال وأصالة عدم جواز التصرف لسقوط اليد عن الحجية بعد كونها عادية، لشيوع الحرام في مجموعه.

وجه الثالث: أنّ مقدار التفاوت مال مردد بين شخصين ولا دليل على ملكية أحدهما بالخصوص، فسبيله سبيل غيره من الأموال المردد، أمّا التنصيف لقاعدة العدل والإنصاف المتبعة في هذه الموارد أو القرعة (وهي بعيدة بعد وجود القاعدة المذكورة فإنّها لكلّ أمر مجهول).

وجه الرابع: أنّ القرعة لا تجري هنا لعدم شمول أدلتها له، وكذا التنصيف ليس طريقاً ثابتاً، ومقدار التفاوت مال مشكوك بينهما، فلا محيص عن الصلح، لعدم اليقين على جواز التصرف لأحدهما إلّابذلك.

وجه الخامس: ما أورده صاحب مصباح الفقيه حيث قال: «كان مستنده دعوى دلالة الأخبار المزبورة الواردة في مجهول المالك على أنّ الخمس تحديد شرعي لمقدار الحرام الممتزج الذي لا يعرف مقداره، ولا فرق بين كون المالك مجهولًا أو معلوماً».

والعمدة في المقام هو مسألة جريان قاعدة اليد وعدمه بالنسبة إلى مقدار المشكوك (ونفرض الكلام فعلًا فيما إذا لزم من الامتزاج

الشركة والإشاعة، ودار الأمر بين الأقل والأكثر، ويأتي حكم غيره فيما بعد إن شاء اللَّه).

فلو جرت القاعدة لا تصل النوبة إلى القرعة والتنصيف والمصالحة وشبهها، وإلّا أشكل الأمر، والإنصاف أنّه لا ينبغي الإشكال في جريان القاعدة هنا، نعم قد يورد عليها من ناحية كونها عادية بالنسبة إلى المجموع لشيوع الحرام في المجموع (كما ذكره صاحب مصباح الفقيه).

وفيه: أوّلًا: أنّه قد يكون الامتزاج بالحرام من دون تقصير منه، لأنّ محلّ الكلام عام.

(فهذا الإشكال والإيراد أخص من المدعى).

وثانياً: إنّما هي عادية بالنسبة إلى مال الغير، لا المجموع، وكيف يمكن أن يقال إنّ يد الإنسان على ماله الموجود في الخارج، عادية، ومجرّد كون اليد عادية في مقدار منه، لا يمنع عن حجيّتها في المشكوك بعد إطلاق أدلتها، نعم، قد أشكلنا على حُجيّة يد السارق انوار الفقاهة، ج 2، ص: 172

وشبهه ممّن يغلب على أمواله الحرام، فليست حجّة لا بالنسبة إليه ونفسه لا بالنسبة إلى غيره، ويمكن إخراجه عن حكم المسألة.

وهنا إشكال آخر على قاعدة اليد ذكره المحقّق الخوانساري رحمه الله في جامع المدارك، وحاصله: إنّ إمارية يد الإنسان بالنسبة إلى نفسه مطلقاً محلّ إشكال لبعض الأخبار وهو ما رواه جميل بن صالح قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: رجل وجد في منزله ديناراً. قال: «يدخل منزله غيره؟ قلت: نعم كثير. قال: هذا لقطة. قلت: فرجل وجد في صندوقه ديناراً. قال:

يدخل أحد يده في صندوقه غيره أو يضع فيه شيئاً؟ قلت: لا. قال: فهو له» «1»

. (والرواية صحيحة ظاهراً، لأنّ جميل بن صالح، وثقّه غير واحد من أكابر الرجال، وباقي السند معلوم الحال). ويحتمل أن تكون يده كيد من وجد في بيته الذي يدخل فيه غيره ديناراً، والإجماع على امارية

اليد مطلقاً غير محقق» «2».

والإنصاف أنّ هذا الإشكال ضعيف أيضاً، لأنّ الرواية غير ناظرة إلى ما نحن بصدده وليس مضمونها شيئاً تعبدياً مخالفاً للقواعد العقلائية، فإنّ حُجيّة اليد عندهم إنّما هي في غير من يكون منزله محلّاً لورود أفراد مختلفة، لا ما كان محلّاً لورود نفسه غالباً، وإن كان يأتيه بعض الضيوف أحياناً، وما نحن فيه، من القسم الأخير، واليد في القسم الأخير حُجّة.

والحاصل: أنّ حُجيّة اليد ليست أمراً تعبدياً مأخوذاً من الشارع، بل أمر دارت عليه سيرة العقلاء وأمضاها الشارع المقدّس، والظاهر شمولها للمقام، ولا فرق في حُجيّة اليد بالنسبة إلى صاحبها وغيرها إلّاإذا كان صاحبها مقصّراً في ضبط مقدار حقّ الغير، ولا يبعد أن يكون الاحتمال حينئذٍ منجزاً في حقّه ووجوب تحصيل العلم بالبراءة لهذا التقصير.

فالأقوى وجوب أداء الأقل، فلا تصل النوبة إلى وجوب الاحتياط والرجوع إلى قاعدة الاشتغال، أو الرجوع إلى القرعة وقاعدة التنصيف والمصالحة الإجبارية، كما لا يخفى.

وأمّا الرجوع إلى عموم رواية الخمس في المقام بعيد جدّاً، لأنّ موردها خصوص مجهول المالك، وقياس غيره عليه، ممّا لا يوافق مباني الأصحاب.

المقام الثالث: في مصرف هذا الخمس
اشارة

هل مصرف هذا الخمس هو مصرف سائر موارده أم لا؟

قال المحقّق النراقي رحمه الله في المستند: «قال جمهور من أوجبه أنّ مصرف هذا الخمس ايضاً مصرف سائر الأخماس المتقدمة ونسبه في البيان إلى ظاهر الأصحاب» «1».

وقال صاحب جامع المقاصد: «ومصرفه مصرف الخمس عملًا بحقيقة اللفظ وفي الزيادة تردد» «2». كأنّه رحمه الله رأى أنّ الخمس صار حقيقة شرعية فيما يدفع إلى الإمام عليه السلام والسادة.

وقد نسبه صاحب الحدائق إلى جمهور الأصحاب، ونسبه شيخنا الأعظم في رسالته إلى المشهور (حكاهما في المستمسك) ولكن حكي عن جماعة من متأخري المتأخرين، كون مصرفه الفقراء،

واختاره سيّدنا الاستاذ البروجردي رحمه الله كما يظهر من بعض محاضراته «3».

والعمدة هل أنّ الخمس هنا منصرف إلى الخمس المصطلح المعروف في هذه الأبواب، أم المراد معناه اللغوي، أي خمس مجموع المال الذي يقابل الربع والثلث، فلا مانع من كون مصرفه مصرف مجهول المالك.

والذي يؤيد الأوّل أو يدلّ عليه، عدّه في عداد سائر موارد الخمس في ما رواه عمّاربن مروان، حيث قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: فيما يخرج من المعادن والبحر والغنيمة والحلال المختلط بالحرام إذا لم يعرف صاحبه والكنوز، الخمس» «4»

. انتهى.

لكن اختلفوا في وثاقة عمّار بن مروان، والظاهر أنّه غير موثّق، وكذا رواية ابن أبي عمير، لو قلنا بأنّ المنسى هو المال المختلط بالحرام، فراجع «5».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 174

فوحدة السياق، دليل على المطلوب، ويدلّ عليه أيضاً ما رواه «عمّار» عن أبي عبداللَّه عليه السلام حيث قال: «... فليبعث بخمسه إلى أهل البيت» «1».

لكن قد عرفت أنّه ليس من المال المخلوط بالحرام، لأنّ الدخول في عمل السلطان لو كان حراماً حرمت أجرته كلّه، وإن كان حلالًا حلّت أجرته كلّه، فإن العمل حلال على الفرض، وما يعطيه إنّما يعطيه من بيت المال، ولا يقصر عن جوائز السلطان التي تثبت حلّيتها.

يدلّ عليه أيضاً قوله: «ايتني بخمسه» في مرسلة الصدوق «2» لكن ذيلها لايخلو من غموض.

هذا كلّه مضافاً إلى ظهور لفظ الخمس في استعمالات الشارع في ذلك (فهذه دلائل ثلاثة).

ولكن يدلّ على الثاني أيضاً أُمور:

1- قوله: «تصدق بخمس مالك فإنّ اللَّه قد رضي من الأشياء بالخمس» «3»

لظهور الصدقة في غير الخمس، وما قد يقال: إنّ الصدقة يطلق على الخمس أيضاً لو فرض ثبوته، لا شك في كونه نادراً بالنسبة إلى غيره، ولكن رويت هذه

الرواية بعينها في الفقيه من دون ذكر عنوان الصدقة، وفيها: ... فقال علي عليه السلام: «اخرج خمس مالك فإنّ اللَّه عزّوجلّ قد رضي من الإنسان بالخمس» «4»

فلا يصح الركون إلى ظهور اللفظ لاختلاف النسخ على أنّ صحّة سند الرواية محلّ كلام.

2- الخمس المعهود إنّما هو في الغنائم والفوائد، ومن الواضح عدم كون المقام مصداقاً له، فقد يكون مقدار الحرام في الواقع أقل من الخمس، فلا يكون مصداقاً للفائدة، ورفع المنع عن أصل ماله بالخمس، لا يكون سبباً لصدق الغنيمة والفائدة إلّابالتسامح والمجاز، وإلّا فالمال هو ماله السابق من دون إضافة وتنمية.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 175

3- المعروف في حكم مجهول المالك والمرتكز متشرعياً، هو الصدقة، والسرّ فيه أنّه نوع ايصال له إلى مالكه، كما عرفت آنفاً، وقد نطقت به كثير من الأخبار، بل ظاهرها أنّه لو ظفر بمالكه ولم يقبل الأجر، ردّ إليه ماله، ومن البعيد جدّاً أن يحكم الشارع في المقام مع أنّه من قبيل مجهول المالك مصرفاً آخر من المصارف، ومجرّد الفرق بين المقامين من وضوح المقدار في أخبار مجهول المالك وعدم وضوحه هنا، لا أثر له ظاهراً، وإن شئت قلت: الذي يستفاد من أدلة الخمس هنا، تعيين المقدار المجهول في مقدار الخمس، وأمّا مصرفه، فهو على وزن سائر المقامات في مجهول المالك.

نعم، يظهر من بعض الروايات أنّ مجهول المالك للإمام عليه السلام، والصدقة إنّما هي بإذنه، فلو ثبت هذا، أمكن التصالح بين القولين ورفع التعارض بين روايات هذا الباب وأدلة الطرفين، فإنّ التصدق أيضاً يكون بأمره، فيكون من قبيل الخمس المصطلح الذي يكون أمره بيده حتّى أمر سهم بني هاشم لأنّه بنفسه منهم بل رئيس بني هاشم.

ففي رواية داود بن أبي يزيد، عن

أبي عبداللَّه عليه السلام قال: قال رجل: إنّي قد أصبت مالًا وإنّي قد خفت فيه على نفسي ولو أصبت صاحبه دفعته إليه وتخلّصت منه، قال: فقال له أبو عبداللَّه عليه السلام: «واللَّه أن لو أصبته كنت تدفعه إليه؟ قال: إي واللَّه. قال: فأنا واللَّه ما له صاحب غيري. قال: فاستحلفه أن يدفعه إلى من يأمره. قال: فحلف: فقال: فاذهب فاقسمه في إخوانك ولك الأمن ممّا خفت منه. قال: فقسمته بين إخواني» «1».

ولكن سندها لا يخلو من إشكال، لاشتراك موسى بن عمر بين ابن بزيع الثقة وابن يزيد المجهول «2»، وقد تصدّى بعض الأعلام في مستند العروة لحلّ هذه المشكلة من طريق وقوع ابن يزيد في إسناد كامل الزيارات، بناءً منه على أنّ من وقع في إسناده كان ثقة وإن سمعنا رجوعه (دام علاه) عنه أخيراً، ولكن والحال هذا يشكل الاعتماد على سندها.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 176

وقد يستدلّ أيضاً بما رواه محمّد بن القاسم بن الفضيل بن يسار، عن أبي الحسن عليه السلام: في رجل كان في يده مال لرجل ميت لا يعرف له وارثاً كيف يصنع بالمال، قال: «ما أعرفك لمن هو يعني نفسه» «1».

ولكن الحديث- مضافاً إلى ضعف سنده بعباد بن سليمان لجهالة حاله- يحتمل معنيين:

أحدهما: حمله على مجهول المالك بأن يكون له وارث لايعرف (ولو بحكم الاستصحاب).

ثانيهما: حمله على من لا وارث له، ومن المعلوم أنّه ملك الإمام ولا ربط له بمجهول المالك، ولا يبعد ترجيح الأخير، لأنّ المراد ممّن لا وارث له، هو من لا يعرف له وارث، لا من علم بعدم الوارث له، لأنّ إحراز ذلك مشكل جدّاً لا سيّما في الغرباء والعبيد الذين أُشير إليهم في روايات هذا الباب «2».

وممّا يشهد على عدم

كون مجهول المالك أو اللقطة للإمام عليه السلام ظاهراً، أنّه لو وجد صاحبه ولم يرض بالصدقة، كان الواجب تداركه، فلو كان ملكاً للإمام عليه السلام وكان التصدق بإذنه لم يكن وجه وجيه للضمان. فهذا التصالح أيضاً لا يمكن الاعتماد عليه، والأحوط صرفه في مصرف ينطبق عليه مصرف الصدقة والخمس وهو فقراء السادة لأنّهم مصرف الأمرين معاً.

إن قلت: كيف تجوز الصدقة عليهم، والمعروف أن الصدقة على آل محمّد صلى الله عليه و آله محرمة؟

قلت: الحرام هو الصدقة الواجبة بعنوانها الأولي كالزكاة، أمّا الكفّارات الواجبة التي لا يصدق عليها عنوان الصدقة وكذا الصدقات المستحبة فهي غير محرمة عليهم، وفي مجهول المال وإن كانت واجبة، ولكنّها بعنوان ثانوي، وإلّا فهو بعنوانها الأولي مستحب، وهذا من قبيل المال الذي أوصى به المالك أن يجعل صدقته في سبيل اللَّه أو نذره كذلك.

وإن شئت قلت: الذي تعطى الصدقة من قبله وهو المالك لا تجب عليه هذه الصدقة، بل تستحب في حقّه، وقد تعرضنا لذلك في أبواب أوصاف المستحقين للزكاة ذيل كلام صاحب العروة «3» وليس المقام، مقام بسط الكلام فيه.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 177

بقي هنا أمران:

1- هل يجب أن تكون الصدقة بإذن الحاكم الشرعي؟ ظاهر إطلاق روايات هذا الباب عدم الحاجة إليه. اللّهم إلّاأن يقال: أمر الإمام عليه السلام بالصدقة بنفسه مصداق الإذن، وحينئذٍ لو كان الواجب، الاستئذان من الإمام الحي أو نائبه، يشكل الأخذ بالإطلاقات المذكورة بعد عدم صدورها عن الحجّة الثاني عشر، وكونها ناظرة إلى الأزمنة السابقة.

وإن قلنا: إنّ مجهول المالك للإمام نفسه، كما مرّ في بعض الروايات السابقة، كان وجوب استئذانه أظهر، لكن قد عرفت الإشكال في إسنادها، وهناك طريق آخر للقول بوجوب استئذانه وهو أنّه بما أنّ

الإمام ولي الغائب، فهو ولي المالك المجهول، فلابدّ من استئذانه.

فالأحوط، لولا الأقوى، وجوب الاستئذان في جميع هذه المقامات ممّا يتصدق فيها مجهول المالك، واللَّه العالم.

2- هل يجوز صرفها في غير أهل الاستحقاق من فقراء المؤمنين، من سائر مصارف الخير وما ينتفع به المسلمون من بناء المستشفيات والمدارس والقناطر والمعامل أم لا؟

يجري على ألسنة بعض المعاصرين جواز صرفه في المصارف الثمانية المذكورة في الآية الشريفة، ولكن لم يقم على مدعاه دليلًا، ماعدا احتمال كون المراد بالتصدق مفهوماً عاماً يشملها جميعاً وإن كان في عرفنا ظاهراً في مفهوم خاص.

وأنت خبير بأنّه دعوى بغير بيّنة ولا برهان، بل المتبادر من عنوان الصدقة هو مفهومه الخاص، ومقتضى أصالة عدم النقل كونه كذلك في عرف الشارع أيضاً، ولو شك في ذلك، فمقتضى قاعدة الاشتغال، عدم جواز صرفه على غير المصرف الخاص.

نعم، لو كان ملكاً للإمام عليه السلام أمكن إحراز رضاه عليه السلام بالصرف في جميع ذلك، ولكن أنّى لنا بإثباته، وقد عرفت الإشكال في ما ذكره بعضهم في ذلك.

و هاهنا اثنتا عشرة مسألة:

المسألة الاولى: الاختلاط على نحوين: تارة يكون بالإشاعة، كما إذا اختلط جنس انوار الفقاهة، ج 2، ص: 178

واحد بعضه ببعض بحيث لا يتميز بينهما، كاختلاط الحنطة بالحنطة أو الدراهم بالدراهم، أو اختلاط جنسين، بحيث لا يمكن تمييزهما، كاختلاط دقيق الحنطة بدقيق الشعير، واختلاط دهن اللوز بالجوز، فإنّ ذلك كلّه يوجب الشركة والإشاعة القهرية.

وقد ذكر المحقّق اليزدي رحمه الله أنّ الشركة أربعة أقسام: «فإنّها إمّا قهرية أو اختيارية وكلّ منهما إمّا واقعية أو ظاهرية».

فالواقعية القهرية، مثل الشركة في مال الإرث.

والواقعية الاختيارية، كما إذا أحيا شخصان أرضاً مواتاً بالاشتراك.

والظاهرية القهرية، كما إذا امتزج مالهما من دون اختيارهما بحيث لا يتميز.

والظاهرية الاختيارية، كما إذا مزجا

باختيارهما من دون قصد الشركة.

ولكن ذكرنا في محلّه أنّ للشركة نوعين فقط: اختيارية وقهريه، وأنّ جميع ما ذكر من الشركة الظاهرية، عندنا واقعية، فإذا امتزج المالان بحيث لا يتميز أحدهما من الآخر حصلت الشركة واقعاً عند العرف والعقلاء، ويبطل حكم الأجزاء الواقعية، سواء كان ذلك باختيارهما أو حصل قهراً، والملكية أمر اعتباري تابع لنحو اعتباره في العرف وسيرة العقلاء وإمضاء الشارع، وتمام الكلام في محلّه.

هذا كلّه في الاختلاط الذي يوجب الشركة، وقد يكون الاختلاط بغير الشركة كاختلاط الكتب من أنواع مختلفة بعضها ببعض، لا يدري ايّ واحد ملكه وأيّ واحد ملك غيره، أو اختلاط أنواع مختلفة من متاع البيت، اكتسب بعضها من حرام وبعضها من حلال، بحيث لا يعلم الحلال من الحرام.

والظاهر أنّ إطلاقات روايات الخمس تشملها جميعاً من دون أي فرق بينها، إذا لم يعلم المقدار والمالك كما هو ظاهر، نعم، يكون الفرق بينهما في الفرض الذي يعلم المالك ولا يعلم المقدار الذي قد عرفت أنّ الواجب فيه، التصدق، لا الخمس إلى أربابه، وقد عرفت أنّ الواجب عليه إنّما هو القدر المتيقن من الحرام، وأمّا بالنسبة إلى الزائد، فتجري فيه قاعدة اليد الدالة على الملك، ولكن هذا إنّما يجري في فرض الإشاعة، فإنّها التي يمكن الأخذ فيها بالقدر المتيقن.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 179

أمّا إذا كان من القسم الثاني الذي لا يوجب الشركة، كاختلاط الكتب أو الألبسة المختلفة فقاعدة اليد في كلّ منهما، معارضة بالآخر، فتتساقطان، فهو من قبيل المال المجهول مالكه الذي دار أمره بين رجلين، وليس في يد واحد منهما، ومن الواضح أنّه لا يمكن الاستناد إلى قاعدة اليد هنا، فطريق حلّ المشكل، إمّا المصالحة وإلّا، فالقرعة، أو التقسيم من حيث القيمة بحسب

قاعدة العدل والإنصاف، ولا يترك الاحتياط بالمصالحة، فإنّها الأحوط في مقام الإفتاء، ولو أصرّ أحدهما على عدمها، فلا يبعد أن تكون القرعة هنا أولى من غيرها لعدم وضوح قاعدة العدل هنا، فتأمل.

ومن هنا يظهر الحال فيما إذا كان الاختلاط بنحو يقتضي الشركة، ولكن لم يكن في يد واحد منهما، بل في يد ثالث يكون وكيلًا من كلّ منهما مثلًا، فالأولى هناك أيضاً هو المصالحة، ولكن إجراء قاعدة العدل والإنصاف بالنسبة إلى المقدار المشكوك هنا، قوي، مثلًا: نعلم بأن ثلث المال لهذا وثلثه للآخر، ولكن نشك في الثلث الأخير، والمفروض عدم كونه في يد واحد منهما بالخصوص حتّى يستند إلى قاعدة اليد.

المسألة الثانية: إذا جهل المقدار والمالك، فقد عرفت أنّه لا إشكال في وجوب إخراج الخمس ولكن قد يعلم إجمالًا بأنّ مقدار الحرام أكثر من الخمس، مثلًا أنّه ليس أقل من الثلث، كما أنّه قد يعلم إجمالًا بأنّه أقل منه، مثلًا يعلم بأنّه لا يكون أكثر من العشر، فهل الحكم المذكور يشمل هاتين الصورتين؟

فالذي يظهر من عبارة العروة، شمول الحكم للجميع، وخالفه أكثر المحشّين فيما رأيناه.

والعمدة هل الإطلاقات هنا منصرفة عن هاتين الصورتين، فيعمل فيهما بالقواعد، أو شاملة لها، والتحليل بالخمس حكم تعبّدي من ناحية الشارع، كما قد يستظهر ممّا رواه السكوني عن أبي عبداللَّه عليه السلام وفيها قال أميرالمؤمنين عليه السلام: «تصدق بخمس مالك فإنّ اللَّه رضي من الأشياء بالخمس وسائر المال لك حلال» «1»

. ومثله رواية الحسن بن زياد «2».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 180

والإنصاف أنّ الإطلاقات منصرفة عن مثل هاتين الصورتين، لأنّ المرتكز في أذهان أهل الشرع أنّه لا يحلّ مال أُمرءٍ مسلم إلّاعن طيب نفسه، ولا يخرج من هذا تعبّداً إلّابدليل قوي جدّاً،

لا مثل الاستظهار السابق حيث صرّح صاحب الجواهر بأنّ ظاهرها عدم معرفة الحلال من الحرام عيناً وقدراً.

بل أضاف هو قدس اللَّه نفسه الزكية: «إنّه لو اكتفى بإخراج الخمس هنا لحلّ ما علم من ضرورة الدين خلافه إذا فرض زيادته عليه كما أنّه لو كلّف به مع فرض نقيصته عنه وجب عليه بذل ماله الخاص له» «1». وإن لم يكن الأمر في الشدّة على ما ذكره، لأنّه لو كان هناك دليل قوي متين، أمكن تخصيص العمومات الواردة في الشرع بها تعبداً بأمر مالك الملوك، ولكن أنّى لنا بإثباته.

هذا، ولازم ما عرفت عدم صرفه في مصارف الخمس، بل في مصارف الصدقة، لخروج المورد عن عمومات الخمس لما مرّ ذكره، ولكن يبقى هنا إشكال وهو أنّ العلم الإجمالي حاصل دائماً بمقدار قد يزيد عن الخمس وقد ينقص عنه، فلو شك في ذلك يسأل عن درهم واحد من الحرام الذي هو مقطوع به مثلًا، فيزيد حتّى يقف ولا يعلم بالأزيد، وعلى هذا لا يبقى مورد لأخبار الخمس.

قلت: ليس الأمر كذلك، فإنّ العلم الإجمالي غير حاصل لغالب الناس في موارد الاختلاط بالحرام، وإن فرض حصوله للخواص من طريق التفكر والتدبّر في الموضوع مرّة بعد أُخرى، بل بالنسبة إلى الخواص أيضاً قد يحتاج إلى فحص كثير جدّاً في جوانب الموضوع، فعلى هذا يبقى لأخبار الباب مصاديق كثيرة.

ثمّ إنّ المحقّق اليزدي رحمه الله بعد ما أفتى بكفاية الخمس ولو مع العلم الإجمالي، قال:

«والأحوط مع إخراج الخمس، المصالحة مع الحاكم الشرعي أيضاً بما يرتفع به يقين الشغل وإجراء حكم مجهول المالك عليه» وكان اللازم أن يقول: الأحوط هو الأخذ بما يعلمه إجمالًا، وأحوط منه إخراج المقدار الذي يعلم معه بالبراءة (أي الحدّ الأكثر

الذي يحتمله) وأمّا المصالحة مع الحاكم الشرعي فلا وجه لها بعد العلم الإجمالي بمقدار خاصّ، فتدبّر «2».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 181

المسألة الثالثة: قد يكون المالك المجهول مردداً بين عدد محصور، مع العلم بمقدار الحرام، فلا ينبغي الشك في خروجه عن عمومات الخمس، وعدم كفاية إخراج الخمس إلى أربابه في طهارة المال بعد كون مالكه معلوماً إجمالًا كالاثنين والثلاثة وشبه ذلك، إنّما الكلام في أنّه كيف يمكن له التخلص من الحرام، بالمصالحة أو القرعة أو القسمة أو الإحتياط بإعطاء هذا المقدار إلى كلّ واحد منهم عملًا بالإحتياط.

قال المحقّق النراقي رحمه الله في المستند: «ولو علم الصاحب (المالك) إجمالًا ... وكانوا محصورين، ففي وجوب تحصيل البراءة اليقينية، بصلح، أو غيره ولو بدفع أمثال المال إلى الجميع، أو كونه مجهول المالك، أو الرجوع إلى القرعة، أقوال، أجودها: الوسط، سيّما مع تكثر الأشخاص والاحتياط لا ينبغي أن يترك» «1».

وقال صاحب مصباح الفقيه: «إلّا وجه الإلزام بوجوب الاحتياط وتحصيل الجزم بتفريغ ذمّته بصلح ونحوه، ولو بدفع أمثال المال إلى الجميع لدى الإمكان كما صرّح به بعض بل لعلّه المشهور حيث إنّ تضرره بذلك نشأ من سوء اختياره» «2».

ففي المسألة وجوه أو أقوال خمسة نذكرها مع ما يمكن الاستدلال لها والجواب عنها.

أحدها: وجوب الخروج عن عهدة مال المالك المردد بين محصور، ببذل أمثال المال لكلّ واحد، إلّاإذا رضوا بالصلح بما دونه وهو مقتضى قاعدة اليد واشتغال الذمّة يقيناً الذي يدعو إلى البراءة كذلك.

وقد أورد عليه غير واحد منهم بأنّ ذلك ضرر منفي بالأدلّة- لا سيّما إذا كانت الأطراف متعددة، كما إذا كانوا عشرة.

ويجاب عنه: أوّلًا: بأنّه معارض بضرر المالك وإن كان ضرره أقل، فلو قلنا بتقديم الأقوى عند التعارض، كان الترجيح

لنفي ضرر صحاب المختلط.

وثانياً: أنّ هذا الضرر إنّما نشأ بسوء اختياره حيث خلط ماله بمال آخر عن علم واختيار.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 182

لكن يرد عليه: أنّ محلّ الكلام أعمّ ممّا إذا كان بسوء اختياره أو بعدم سوء اختياره فغايته التفصيل بين المقامات، هذا مضافاً إلى أنّ إلزامه ببذل مثل المال إلى عشرة أفراد ربّما لا يعدّ عند العقلاء من الطرق المعقولة للتخلص من الضمان، فهو وإن كان مقصراً في فعله، ولكن هذا ليس طريقاً للتخلص، نعم، إذا كان أطراف الاحتمال اثنين أو شبهه أمكن هذا القول مع إشكال.

ثانيها: المعاملة معه معاملة مجهول المالك، نظراً إلى أنّ العلم الإجمالي لا يعدّ علماً في هذه المقامات، لأنّ العلم يساوق التشخيص وهو منتف في المقام، بل لو كان العلم الإجمالي بالمالك علماً واقعياً لم يبق مورد لمجهول المالك، لوجود هذا العلم في كثير من الموارد، فتشمله العمومات السابقة الدالّة على وجوب التصدق بالمقدار المعلوم.

ولكن يرد عليه: بأنّ المفروض إمكان ايصال المال إلى صاحبه، ولو من طريق التقسيم أو القرعة أو الصلح أو الاحتياط، فكيف يجوز صرف النظر عنه وبذله لغير مالكه، فالإطلاقات منصرفة عنه.

ثالثها: الرجوع إلى القرعة، نظراً إلى عموم أدلّتها لكلّ أمر مجهول، ولكن قد عرفت غير مرّة أنّ شمولها للمقام الذي توجد فيه طرق أُخرى لحلّ المشكل، مشكل.

رابعها: التوزيع بينهم لقاعدة العدل والإنصاف، وأورد عليه: بعدم ثبوت عموم لهذه القاعدة.

وهنا احتمال خامس ذكره بعضهم، وحاصله التخيير بين التوزيع والقرعة لتعذر الاحتياط التام، ففي التوزيع موافقة قطعية في البعض مع المخالفة في البعض الآخر، وفي الثاني احتمال للموافقة القطعية في الكلّ مع احتمال المخالفة كذلك، ولا ترجيح بينهما.

وفيه: أنّ الأخذ بالموافقة القطعية في البعض في هذه المقامات

أولى في حكم العقل والعقلاء، فمادام يمكن العمل بالتوزيع، لا تصل النوبة إلى القرعة.

والأقوى من بين هذه الوجوه، هو وجوب التوزيع، ودليله سيرة العقلاء، فإنّها جرت على هذه القاعدة- أي قاعدة العدل والإنصاف في الأموال المشكوكة- ولم يردع عنه الشارع، بل أمضاها في بعض مواردها بالخصوص، مثل ماورد في أبواب الصلح، عن السكوني عن انوار الفقاهة، ج 2، ص: 183

الصادق عن أبيه عليهما السلام في رجل استودع رجلًا دينارين فاستودعه آخر ديناراً فضاع دينار منها، قال: «يعطي صاحب الدينارين ديناراً ويقسم الآخر بينهما نصفين» «1».

وقد أفتى به المشهور كما صرّح به صاحب (الدروس) ومعظم الأصحاب كما في الجواهر «2».

فإن كان في الرواية ضعف، ينجبر بالشهرة، ويدلّ عليه أيضاً ما ورد في المال الذي في يد رجلين مع دعواهما فيه، وهو صحيحة عبداللَّه بن المغيرة عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبداللَّه عليه السلام في رجلين كان معهما درهمان، فقال أحدهما: الدرهمان لي. وقال الآخر: هما بيني وبينك، فقال عليه السلام: «أمّا الذي قال: هما بيني وبينك فقد أقرّ بأنّ أحد الدرهمين ليس له، وأنّه لصاحبه ويقسم الآخر بينهما» «3»

. والظاهر أنّ الأصحاب أفتوا به أيضاً، بل يظهر من بعض كلماتهم، إجمالًا، أنّهم تعدوا عنهما إلى غير مواردهما، والظاهر أنّه ليس ذلك إلّالأنّهم فهموا معناً عاماً.

وهناك روايتان أُخريان واردتان في التداعي على عين واحد يشهد لعمومية القاعدة، وهي ما رواه غياث بن إبراهيم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام اختصم إليه رجلان في دابّة وكلاهما أقاما البيّنة أنّه انتجها، فقضى بها للذي في يده، وقال: «لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين» «4».

وما رواه إسحاق بن عمّار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام

أنّ رجلين اختصما إلى أميرالمؤمنين عليه السلام في دابّة في أيديهما ... فقيل له: «فلو لم تكن في يد واحد منهما وأقاما البيّنة؟ فقال:

أحلفهما فأيّهما حلف ونكل الآخر جعلتها للحالف، فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين، الحديث» «5»

. ولا يخفى أنّه وإن كان مورد الخبرين وموضوعهما واحداً إلّاأنّ تعدد الطرق يدلّ على تعدد الأحاديث.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 184

إن قلت: إنّ هذه الروايات لم ترد في موضع الضمان، فالتعدي منها إلى محلّ الكلام غير ممكن، لأنّه قياس مع الفارق.

قلت: أوّلًا: قد لا يكون هناك ضمان لعدم وقوعه تحت يده، بل اختلط الحلال والحرام بغير فعله وبلا ضمان، كما إذا كانت الأموال في بيت مشترك بينهم، فاختلطت، أو في محلّ لا يكون في يد واحد منهم.

وثانياً: يظهر من لحن الروايات وتناسب الحكم والموضوع أنّ هذا حكم المال المردد بين اثنين وشبهه من غير دخل للضمان وعدمه، أمّا كون ذلك بسوء اختياره أو عدم سوء اختياره، فهي مسألة أُخرى قد عرفت الجواب عنها.

ويؤيد ذلك، فهم الأصحاب وتعديهم عن موردها إلى موارد أخرى مخالفة لها من بعض الجهات، فهذا كلّه دليل على كونها ناظرة إلى إمضاء ما عند العقلاء من قاعدة العدل والإنصاف.

هذا كلّه إذا كان المقدار معلوماً، ومنه، وممّا سبق في المسائل السابقة يظهر حال ما إذا كان المقدار مجهولًا، فإنّ الواجب حينئذٍ، الأخذ بالقدر المتيقن كما سبق، وإن كان الاختلاط موجباً للإشاعة والاشتراك ودار الأمر بين الأقل والأكثر ثمّ المعاملة معه معاملة المقدار المعلوم من التنصيف أو غيره من المباني، وأمّا لو كان دائراً بين المتباينين، فاللازم، المصالحة معهم جميعاً على المال المشكوك ثمّ التنصيف بينهم.

والحاصل: أنّ الحكم في هذه المسألة، هو الأخذ بقاعدة العدل إلّاإذا كان

هو السبب في ابهام المالك وجهالة حاله، فحينئذٍ يحتاط.

المسألة الرابعة: هذا كلّه إذا كان الحرام في الخارج، أمّا إذا كان حقّ الغير في ذمّته، فلا يجري فيه حكم الخمس- علم صاحبه أو لم يعلم- والكلام هنا في مقامين:

المقام الأوّل: في عدم جريان حكم الخمس فيه، أمّا الأوّل: فالوجه فيه أنّ الخمس إنّما هو في فرض الإختلاط، ولا يتصور ذلك إلّافي الأعيان الخارجية، لا في الذمّة.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 185

وفي تقريرات بعض الأعاظم «1» أنّه تارة يتلف المختلط ... وأُخرى يختلط في الذمّة، بمعنى أنّه يتلف المال الحلال والحرام ولا يدري كمية واحدة منهما. (انتهى) ولم أفهم معنى محصلًا للخلط في الذمّة، فإنّ مال الحلال هو مال الرجل نفسه، ومن الواضح أن تلفه لا يوجب ضماناً (ولعلّ الخلط من المقرر).

ولكنه قدس سره ذكر في بعض كلماته في هذه المسائل طريقاً آخر عند اشتباه المالك المجهول بين أفراد محصورين، بأنّه يجعل المال المشكوك إذا كان مقداره معلوماً (أو القدر المتيقن إذا كان مجهولًا)، في محلّ يكون تحت يد الجميع، وهذا كافٍ (كما إذا كانوا مجتمعين في بيت، ويجعل المال في ذلك البيت ويعلمهم بأنّ المال لواحد منهم، بل يمكن أن يقال: إنّ أعلامهم بذلك كافٍ، لأنّه تخلية اليد وهو مصداق الأداء عند العرف) وحينئذٍ إن كان يدّعيه بعضهم أو جميعهم، يعمل على وفق أحكامه (انتهى ملخصاً).

وكيف كان، فهنا تفصيل من بعض أعلام العصر تبعاً لشيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله من الفرق بين ما إذا كان الحرام ثابتاً في الذمّة من أوّل الأمر- كمن أتلف مال الغير بعينه- وبين ما إذا اختلط الحرام والحلال في ماله أوّلًا، ثمّ تلف الجميع في يده وانتقل المال المجهول مالكه إلى الذمّة،

ففي الثاني يجري حكم الخمس، وقد بنى هذا الحكم على أنّ الاختلاط بنفسه سبب لشركة أرباب الخمس في المال، كما في سائر أنواعه من الكنز والمعدن والغوص، أو أنّه سنخ آخر، فلا شركة لأربابه في المال، بل الخمس مطهّر للمال عن الاختلاط، فالمال باقٍ على كونه مخلوطاً بالحرام قبل التلف وبعده، فينتقل مال الغير بعينه إلى الذمّة لأسهم أرباب الخمس، ثمّ قوّى الأوّل واختار الخمس في خصوص هذه الصورة.

أقول: ليس في شي ء من روايات هذا الباب ما يدلّ على شركة أرباب الخمس في المال المختلط، إلّارواية عمّار بن مروان حيث قال عليه السلام: في ما يخرج من المعادن والحلال المختلط بالحرام ... الخمس. فإنّ ظاهرها تعلق الخمس به بمجرّد الاختلاط مع جهل المالك (والمقدار)، ولكن قد عرفت الكلام في عمّار بن مروان وأنّه مشترك بين الثقة وغير الثقة.

هذا مضافاً إلى أنّ لحن سائر روايات هذا الباب، كون الخمس مطهّراً للمال، فإنّ انوار الفقاهة، ج 2، ص: 186

قوله عليه السلام: «إنّ اللَّه عزّوجلّ قد رضي من ذلك المال بالخمس ...» «1»

وقوله عليه السلام: «تصدق بخمس مالك فإنّ اللَّه رضى من الأشياء بالخمس ...» «2»

، ظاهر في هذا المعنى. نعم، أسنادهما محلّ الكلام، ولكن يمكن اخراجهما مؤيداً للمطلوب.

وأوضح من ذلك ما عرفت من أنّ الخمس المعهود إنّما هو في الغنائم خاصة بالمعنى الأعم، وليس المال المختلط، منها قطعاً، لأنّه قد يكون في الواقع أقل من الخمس، فليس هنا غنيمة، واحتمال كون جواز تصرفه فيه بعد إخراج الخمس داخلًا تحت عنوان الغنيمة مع بعده في ذاته، إنّما يكون بعد إخراجه مع أنّ عنوان الغنيمة لابدّ أن تكون صادقة قبل إخراج الخمس، لأنّه من قبيل الموضوع له.

فالمقام، من قبيل مصالحة

قهرية إلهية بين المالك للبعض والشارع المقدّس ولاية على المال المجهول، ولا دليل على حصولها قبل أدائه، ولذا لو ظهر المالك المجهول قبل أداء الخمس، كان المال ماله، ولا أظن الخلاف فيه، ولو كان بمجرّد الاختلاط، يجب فيه الخمس، لم يكن وجه لانتفائه بعد ذلك، فتأمل.

هذا، ولو شك في تعلقه به بمجرّد الاختلاط أو كون الخمس مطهّراً، فالأصل يقتضي بقاء كلّ من المالين على ملك مالكه الأصلي، كما لا يخفى.

وأمّا المقام الثاني: فقد ذكر فيه وجوه أربعة، من جهة كون الجنس والمقدار إذا كان كلاهما معلومين أو مجهولين أو الأوّل معلوماً، والثاني مجهولًا أو بالعكس، ولكن الأحسن أن يقال هنا أُمور:

1- ما كان الجنس والمقدار فيه معلومين (كمن يعلم بكون مائة كيلو من الحنطة في ذمّته).

2- ما كان الجنس فيه معلوماً والمقدار مجهولًا مردداً بين الأقلّ والأكثر (كمن علم بكون الحنطة في ذمّته ولكن لا يعلم مقدارها هو مائة أو تسعون كيلو).

3- ما لم يعلم جنسه، وكان قيمياً (كما إذا تردد التالف بين الإبل والغنم).

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 187

4- ما لم يعلم جنسه، وكان مثلياً (كما إذا شك في كونه مائة كيلو من حنطة أو شعير) وليعلم أنّه لا أثر للعلم بالمقدار وعدمه في هاتين الصورتين.

وكلّ هذه الصور إمّا لا يعرف صاحبه في عدد محصور، أو يعرفه في عدد محصور، أو يعرفه بعينه، فالصور اثنتا عشرة صورة:

أمّا الاولى من الأربع: وهي ما كان الجنس والمقدار فيه معلومين، فإن عَلِمَ مالكَه بعينه، فلا كلام في وجوب ردّه إليه وإن كان مردداً بين عدد محصور، فقد عرفت أنّ القاعدة تقتضي التوزيع بينهم، إلّاأن يكون صاحب المال هو المقصر في ذلك فلا يبعد حينئذٍ وجوب التصالح.

وإن كان في

عدد غير محصور، فمقتضى ما عرفت سابقاً لزوم التصدق به وأن يكون بإذن الحاكم، على الأحوط.

وفي الصورة الثانية: كما إذا علم أنّ المال الذي في ذمّته هو الحنطة، ولكن لا يعلم مقداره، فاللازم الأخذ بالقدر المتيقن ثمّ العمل على وفق المسألة السابقة في المالك المعلوم أو المجهول بين عدد محصور أو غير محصور.

وفي الصورة الثالثة: كما إذا علم بأنّه ضامن لأحد شيئين: إمّا الإبل، أو الغنم، فحيث إنّه قيمي ويكون الضمان بالنسبة إلى القيمة ويدور أمرها بين الأقل والأكثر، فالواجب عليه هو الأقل، ثمّ يعمل بالنسبة إلى الحالات الثلاث للمالك على طبق المسائل السابقة.

وفي الرابعة: مثل ما إذا علم بأنّه ضامن لأحد شيئين مثليين كالحنطة والشعير، فحيث إنّ الواجب أداء المثل وهو مردد بين المتباينين فمقتضى القاعدة هو الاحتياط «1»، اللّهم إلّاأن يدفع بلزوم الضرر منه، فيرجع إلى التصالح أو القرعة أو الأخذ بقاعدة العدل والإنصاف بين القيمتين، ولا يترك الاحتياط، لا سيّما إذا كان هو المقصّر في هذا الشك، ثمّ بالنسبة إلى الحالات الثلاث لصاحب هذا المال، يرجع إلى المسائل السابقة.

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّه لا أثر للعلم بالمقدار وعدمه في الصورتين الأخيرتين لمجهولية

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 188

الجنس «1»، ولأنّه يؤخذ بالأقلّ في الصورة الأُولى على كلّ حال وبالنسبة إلى المقدار في الأخيرة وإن كان يحتاط بالنسبة إلى الجنس، واللَّه العالم بحقيقة أحكامه.

أمّا إذا دار الأمر بين كونه مثلياً أو قيمياً، فهو في الحقيقة دائر بين المتباينين، فيلزم الاحتياط، فتدبّر.

المسألة الخامسة (32 من العروة): لا إشكال في جواز إعطاء خمس المعادن والأرباح وشبهها من ناحية المالك، بل الأقوى كما سيأتي في محلّه- إن شاء اللَّه- جواز إخراج سهم السادة إليهم بلا حاجة إلى إذن

الحاكم الشرعي، بل للمالك إعطاء الخمس من مال آخر غير ما تعلق به الخمس، فهل الأمر في خمس المال المختلط أيضاً كذلك، أم لا؟

مقتضى ما عرفت من احتمال كونه من باب الصدقة أو الاحتياط بإعطائه لمن يكون مصداق مصرف الصدقة وسائر الأخماس، الاستئذان من الحاكم الشرعي بناءً على وجوب الاستئذان منه في مثل هذه الصدقة، نعم، على القول بأنّ مصرفه، مصرف سائر الأخماس، يكون المالك بالخيار.

وحيث قد عرفت أنّ الاحتياط عندنا هو الاستئذان، فلا يترك هنا ذلك كما لا يترك الاحتياط بعدم تبديله بمال آخر إلّابإذن الحاكم الشرعي إذا رأى فيه مصلحة، وقد ورد في بعض روايات صدقة مجهول المالك، الأمر ببيعها بطعام فراجع «2».

المسألة السادسة (33 من العروة): لو تبين المالك بعد أداء الخمس، فهل هو ضامن كما هو المعروف في مجهول المالك في باب اللقطة، أم لا؟

صرّح صاحب العروة بالضمان مطلقاً وخالفه كثير من المحشّين، وفي الجواهر: «في الضمان وعدمه وجهان، بل قولان من إطلاق قوله صلى الله عليه و آله: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدي» ومن أنّه تصرف بإذن المالك الأصلي (وهو اللَّه تعالى) فلا يستعقب ضماناً، ولعلّ الأقوى انوار الفقاهة، ج 2، ص: 189

الأوّل وفاقاً للروضة والبيان وكشف الأستاذ» «1».

أقول: لا ينبغي الشك في أنّ مقتضى القاعدة، عدم الضمان بعد كونه بأمر الشارع المقدّس الذي هو الولي المطلق، وقاعدة على اليد تخصص بظاهر هذه الروايات لأنّها أقوى وأظهر، إلّاأن يدلّ دليل على خلافه، بل ظاهر قوله: «إنّ اللَّه رضى من الأشياء بالخمس» في روايتي الحسن بن زياد والسكوني «2».

وقوله عليه السلام: «وسائر المال لك حلال» (في الرواية الثانية) ظاهر جدّاً في كون تمام الباقي له، لا أنّه مديون بعد ذلك بمال

الناس.

وقد يقال: إنّ الأمر في جميع موارد مجهول المالك (غير اللقطة) أيضاً كذلك، لعدم ورود نصّ على الضمان فيها (قاله صاحب مستند العروة) ولكن الإنصاف ورود بعض النصوص فيه فراجع ما رواه حفص بن غياث «3»، وإن كان في «حفص» كلام.

نعم، لا ينبغي الشك في ظهور غير واحدة من روايات اللقطة في كونها ضامناً إذا وجد

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 190

صاحبه ولم يرض بالصدقة، فهل هذا الضمان موافق لقاعدة الإتلاف، أم أنّه ضمان (تعبّدي) يتحقّق بمجرّد مطالبة المالك بتعبّد من اصاحبه ولم يرض بالصدقة، فهل هذا الضمان موافق لقاعدة الإتلاف، أم أنّه ضمان (تعبّدي) يتحقّق بمجرّد مطالبة المالك بتعبّد من الشارع، فلا ضمان قبل المطالبة، ولا أثر للإتلاف الحاصل بالتصدق بعد أن كان مستنداً إلى إذن المولى «1».

أقول: هذا شي ء عجيب لا يعرف له نظير في الفقه، بأن يكون مجرّد مطالبة المالك موجباً للضمان، بعد أن لم يكن هناك سبب له، وكان الإتلاف السابق كالعدم، فإنّ بناء الشارع في المعاملات على إمضاء السيرة العقلائية لا التعبّد المحض: فالأوْلى أن يقال: إنّ هذا الضمان من شؤون الإتلاف بعنوان أحد أطراف التخيير في مسألة اللقطة، ولكنّه مُراعى ومشروط بشرط متأخر وهو أن يرضى مالكه به لو عرف بعد ذلك، وإلّا كانت البراءة على حالها، والشرط المتأخر ليس بعديم النظير في الفقه، بل له أمثلة كثيرة، كما لا يخفى. وهذا هو مقتضى الجمع بين أدلة التصدق وقاعدة على اليد.

المسألة السابعة (34 من العروة): لو علم بعد إخراج الخمس أنّ الحرام كان أزيد من الخمس أو أقل، فهل يسترد الزائد في الصورة الثانية، وهل يجب عليه التصدق بالمقدار الزائد في الصورة الاولى، أم لا؟

فيه قولان، وذكر هنا احتمال ثالث وهو:

أن يسترد الخمس من أرباب الخمس ثمّ يتصدق بالجميع (كما إذا كان الحرام الواقعي نصفاً وما أعطاه لأهله خمساً فيسترده ثمّ يتصدق بالنصف، بل يمكن إبداء وجه رابع وهو عدم استرداد الزيادة، لأنّه كان صدقة للَّه تعالى، وما كان للَّه لا يسترجع أبداً، ووجوب الصدقة بما بقي إذا كان الحرام الواقعي أكثر ممّا بذل، والمسألة مبنية على أنّ حكم الشارع هنا بالخمس عند الجهل بالمقدار، من قبيل المصالحة الواقعية بين الواقع المجهول ومقدار الخمس، وقعت بحكم المالك الحقيقي وهو الشارع المقدّس؟ أو أنّه حكم ظاهري ثابت في زمان الجهل، فإن كان من قبيل الأوّل، فلا إشكال في الإجزاء وعدم استرداد الزائد، وعدم وجوب بذل شي ء آخر، كما في سائر موارد الصلح في الأموال المجهولة بين الناس، فإذا صالح زيد وعمرو في مالهما المجهول على انوار الفقاهة، ج 2، ص: 191

شي ء، ثمّ تبيّن كون مال زيد أقل أو كثر ممّا تصالحا، به لم يسترد شي ء منه، كما هو واضح.

نعم، الأحكام الظاهرية ثابتة في حال الجهل، فإذا ارتفع الجهل ارتفعت، ولا ينافي ذلك، مسألة الإجزاء في الأحكام الظاهرية عندنا، فإن ذلك ثابت في الأوامر، لا في الأحكام الوضعية، فإذا كان شي ء طاهراً (لغسله بماء طاهر بحكم الاستصحاب) ثمّ تبيّن كون الماء نجساً، والشي ء باق حكم بنجاسته، بلا إشكال.

وحيث إنّ ظاهر روايات هذا الباب من قوله: «إنّ اللَّه رضي من الأشياء بالخمس» وقوله: «سائر المال لك حلال» بل ومناسبة الحكم والموضوع كونه من قبيل القسم الأوّل، فالأقوى هو الإجزاء.

مضافاً إلى أنّه يمكن التمسك بإطلاق أخبار الباب من إجزاء الخمس، ولو انكشف كونه أقل أو أكثر بعد ذلك، اللّهم إلّاأن يدّعى انصرافها عن صورة انكشاف الخلاف.

وكيف كان فكونه مصالحة واقعية، هو

الأظهر من الأدلة ومناسبة الحكم والموضوع، وإن كان الاحتياط، لا ينبغي تركه.

أمّا احتمال التفصيل بين صورة بذل الزائد على الخمس، فلا يسترجع، لأنّه كان للَّه وما كان للَّه فلا يرجع أبداً، بخلاف صورة بذل الأقل، فإنّ الحرام باقٍ بعد، فيدفعه، مضافاً إلى ما عرفت من المصالحة الواقعية، أنّ ما لا يرجع من الصدقة إنّما هو إذا كان بعنوان الصدقة من ناحية المالك، أمّا إذا بذله بظنّ أنّه مأمور به واقعاً، ولم يكن كذلك، وكان بذل الخمس حكماً ظاهرياً، فليس كذلك كمن ظنّ الخمس في ماله فبذله لأربابه ثمّ تبيّن عدم كونه مديوناً لأرباب الخمس وكان العين موجوداً، فلا ينبغي الريب في إعادته إذ لا يصحّ إجباره بتحميل ضرر عليه، فإنّه لم يدفع الخمس مطلقاً، بل إنّما دفعه مشروطاً باختلاط حرام بماله في الواقع، فإذا انتفى الشرط بانكشاف الخلاف، انتفى المشروط، فالأوْلى بناء المسألة على ما ذكرنا، واللَّه العالم.

المسألة الثامنة (35 من العروة): قال صاحب الجواهر: «لو خلط الحرام بالحلال عمداً، خوفاً من كثرة الحرام، ولتجتمع شرائط الخمس فيجتزي بإخراجه عصى بالفعل وأجزاه انوار الفقاهة، ج 2، ص: 192

الإخراج، ويحتمل قوياً تكليف مثله بإخراج ما يقطع معه بالبراءة إلزاماً له بأشق الأحوال ولظهور الأدلّة في غيره» «1».

وحكى عن شيخنا الأنصاري قدس سره في رسالته في المسألة في بيان وجه عدم إجزاء الخمس هنا بأنّه كمعلوم المالك، حيث إنّ مالكه الفقراء قبل التخليط، واقتبس صاحب العروة من كلام الشيخ هنا ما ذكره.

وقال صاحب المستمسك: «لا يبعد دعوى إطلاق النصوص بنحو يشمل الفرض، لأنّ الغالب في الاختلاط كونه بعد التمييز ... فتخصيص النصوص بغير الفرض غير ظاهر» «2».

(انتهى).

أقول: ينبغي الكلام أوّلًا: في إطلاق النصوص وشموله لما نحن فيه، أو الانصراف، والحقّ

انصرافها عمن تعمّد الخلط للفرار من الزائد عن الخمس، نعم لا انصراف لها عن مجرّد تعمّد الخلط بعد العلم بالحرام، لأنّ كون الحرام معلوماً قبل الخلط، فرد ظاهر لا يمكن إخراجه منه، وإن لم يكن غالبياً لكثرة المصداق من الطرفين، لكنه منصرف عن صورة التعمّد بقصد الفرار من الزائد عن الخمس، فتأمل.

فإذا لم تشمله العمومات، كان الواجب عليه الاحتياط في المقدار، وبذل الأكثر، لعدم شمول أدلّة اليد له، بعد ما عرفت، وكأنّ هذا هو مراد صاحب الجواهر من الأخذ بأشق الأحوال، وإلّا لا دليل على أخذ الغاصب بأشق الأحوال، كما ذكرنا في محلّه، بل اللازم إجراء العدالة في حقّه بحسب ظواهر أدلّة الشرع، سواء كان أخف أو أشق.

وثانياً: هل المقام من قبيل مجهول المالك أو معلومه؟ قد عرفت ذهاب العروة تبعاً للمحكي عن شيخنا الأعظم رحمه الله أنّه كمعلوم المالك، والحال أنّ المال المجهول مالكه، لا يكون ملكاً للفقير، إلّابعد التصدق به وقبضه، وإلّا فهو باقٍ على ملك مالكه الأصلي، (والمشهور أنّ القبض شرط لصحّة الهبة ومنها الصدقة).

ولذا تكلّف لتوجيهه صاحب مستند العروة بأنّ المراد كون المال الحرام المعين معلوم انوار الفقاهة، ج 2، ص: 193

المصرف لا معلوم المالك، فهو يشابه معلوم المالك من هذه الجهة «1».

وأنت خبير بأنّ مجرّد ذلك غير كافٍ في إجراء أحكام معلوم المالك عليه، والقياس ليس من مذهبنا، لا سيّما أنّه مع الفارق للفرق الكثير بين معلوم المالك ومعلوم المصرف، نعم، لنا أن نقول بانصراف إطلاق روايات هذا الباب منه، فيعود إلى الأمر الأوّل.

المسألة التاسعة (36 من العروة): لو كان المال المختلط ممّا تعلق به الخمس في نفسه، كما إذا كان حاصلًا من المعدن أو الكنز أو أرباح المكاسب، فهل يخرج

له خمساً واحداً للجهتين أم يكون هذا الخمس من جهة الإختلاط، ويبقى عليه خمس آخر من جهة الأرباح أو المعدن أو غير ذلك، فيجب عليه إخراج خمسين؟

وعلى فرض تعدد الخمس فهل اللازم إخراج خمس الاختلاط أوّلًا، ثمّ خمس الأرباح وشبهه، أم لا، وهل يكون بين الأمرين فرق؟ فقد يدّعى الاختلاف في النتيجة، كما ستأتي الإشارة إليه.

قال صاحب مصباح الفقيه: «قال شيخنا المرتضى قدس سره وفاقاً لغير واحد، ما لفظه: لو كان الحلال ممّا فيه الخمس، لم يسقط بإخراج هذا الخمس لعدم الدليل على سقوطه ...، فالقول بوحدة الخمس كما يحكى ضعيف جدّاً». انتهى «2».

وقد صرّح الشهيد الثاني رحمه الله في المسالك بأنّه: «لو كان الخليط ممّا يجب فيه الخمس، لم يكن الخمس كافياً عن خمسه، بل يخرج الخمس لأجل الحرام أوّلًا ... ثمّ يخمّس الباقي بحسبه من غوص أو مكتسب» «3».

وقال المحقّق النراقي رحمه الله في المستند: «لو كان الحلال الخليط ممّا يجب فيه الخمس، خمسه بعد إخراج الخمس بحسبه» «4».

وقال صاحب الجواهر رحمه الله في رسالته نجاة العباد، ما نصّه: «لو كان خليط الحرام ممّا فيه انوار الفقاهة، ج 2، ص: 194

الخمس أيضاً، وجب خمس آخر بعد خمس التطهير» «1».

قلت: لابدّ أن نتكلم أوّلًا عن مقتضى القاعدة، ثمّ مقتضى ظاهر نصوص الباب، ولا شك في أنّ قاعدة عدم التداخل في الأسباب، تقتضي تعدد الخمس هنا بتعدد أسبابه.

وإن شئت قلت: هذا الخمس سبب لتطهير المال عن الحرام وإخراج مال الغير من ماله بمصالحة قهرية إلهية، وبعد التطهير يكون مشمولًا لأدلّة الخمس في المعادن أو الأرباح أو شبهها، ولاوجه لسقوط الثاني بالأوّل.

هذا، ولكن الذي يظهر من روايات هذا الباب، لعلّه غير هذا «2»، فإنّ ظاهر غير واحدة

منها أنّه جمع المال من أرباح المكاسب طول مدّة مديدة، وكان مختلطاً بالحرام، فأمره الإمام عليه السلام بإخراج خمسه، وسائر المال له حلال مع أنّه مضى عليه سنة أو سنوات، ولا أقل أنّه مطلق من هذه الجهة، وكأنّه عليه السلام وهبه خمس الأرباح ببركة تطهير ماله من ناحية الحرام أو غير ذلك من الاحتمالات.

ولكن الإنصاف، أنّ فهم الإطلاق منها مشكل، بعد ما عرفت من اقتضاء القاعدة عدم التداخل، لا سيّما في الأُمور المالية، وكيف يمكن أن يقال: إنّ خمس المعدن هنا غير واجب بملاحظة تعلق الخمس من ناحية المال المختلط بالحرام؟

وإن شئت قلت: إنّ خمس المختلط، في الحقيقة، من قبيل مصالحة حقّ المالك المجهول بهذا المقدار وإفراز ماله عن ماله، وهذا لا دخل له بخمس الأرباح والمعادن وشبهها ولا يغني واحد منهما عن الآخر.

ثمّ إنّه هل يجب إخراج خمس المختلط أوّلًا، ثمّ إخراج خمس الأرباح وشبهها، أو يجوز العكس أيضاً، وهل هناك فرق بينهما؟

قال صاحب مستند العروة ما حاصله: «ظاهر العروة تقديم خمس الاختلاط على خمس الأرباح ولكن الحق تقديم التخميس بعنوان الأرباح، فإنّ المالك يعلم أن مقداراً من هذا المال هو ملك السادة، لا له، ولا من المال الحرام، فلابدّ من إخراجه أوّلًا ليتمحص المال انوار الفقاهة، ج 2، ص: 195

في كونه حلالًا مخلوطاً بالحرام، ثمّ يخمس بعدئذٍ للتحليل.

ثمّ قال: لا شك في أنّ هنا تفاوتاً بين الطريقين، فلو فرض مجموع المال 75 ديناراً، فعلى قول العروة، يخرج أوّلًا خمس المجموع للتحليل 15 ديناراً، فيبقى 60 ديناراً، ثمّ يخرج خمسه، فيبقى 48 ديناراً، أمّا على طريقتنا، يخرج خمس المتيقن كونه من الحلال (فلنفرض كونه 50 ديناراً) فيبقى 65 ديناراً، ثمّ يخرج خمس الاختلاط 13 ديناراً،

فيبقى 52 ديناراً، يتفاوت مع الطريقة السابقة بأربع دنانير». (انتهى) «1».

وفيه: أوّلًا: إنّ المفروض عدم معلومية مقدار ماله، فكيف يقدر على تخميسه؟ فلابدّ أوّلًا من إحراز ماله وهل هو كمالٍ اختلط بمال رجل آخر معروف لابدّ من المصالحة معه أو شبهه، حتّى يعرف مقدار ماله، ثمّ يخمّسه من ناحية الأرباح، فما دام ماله غير معلوم، كيف يصحّ له إخراج خمسه، نعم، بإخراج خمس الاختلاط تقع المصالحة الشرعيه مع المالك المجهول بأمر من الشارع المقدّس، فتبيّن مقدار ماله، ثمّ يخمّسه من ناحية الأرباح أو شبهها.

ثانياً: لماذا يؤخذ بالقدر المتيقن؟ فإنّ اليد إمّا حجّة هنا، فاللازم، الأخذ بالأكثر، وإن لم تكن حجّة، فإنّ الزائد من المال المجهول بين الطرفين، لا يمكن تبيين حاله إلّابالخمس.

وما اعتذر به عن هذا الإشكال في الهامش، من أنّ اليد على فرض إجرائه، دليل على الملكية، لا على كونه من الأرباح، خلاف المفروض، فإنّ المفروض كون ماله منحصراً في الأرباح مثلًا والحرام، كما هو ظاهر كثير من روايات هذا الباب.

وكذا اعتذاره بأنّ اليد لا تجري في موارد الاختلاط، وإلّا لم يحتج إلى التخميس، غير نافع، فإنّ مفهومه عدم جريان اليد في المقام، فيبقى المال مشكوكاً بينه وبين غيره، فلابدّ من تبيين حاله بالتخميس أوّلًا، ثمّ تخميسه من جهة الأرباح. ولا يجوز الأخذ بالقدر المتيقن من الحلال، لاحتمال كونه أقلّ من الحلال الواقعي، فيوجب تقليل الخمس المخرج منه (فإذا كان الحلال الواقعي 50 ديناراً، كان خمسه 10 دنانير، مع أنّه لو كان القدر المتيقن من الحلال عندئذٍ 40 ديناراً، كان خمسه 8 دنانير) وذلك يوجب تنقيصاً في حقّ أرباب انوار الفقاهة، ج 2، ص: 196

الخمس، على أنّه لا يوجد دائماً مقدار متيقن في البين، بل

قد يكون مجهولًا من رأسه.

هذا وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ ما يجري على بعض الألسن في عصرنا، لا سيّما بالنسبة إلى أموال بعض أعوان الظلمة وشركاء الطواغيت، من وجوب إخراج خمسين منها، الظاهر في إعطاء ثلاثة أخماس لأربابها وأخذ خمسين منها لبيت المال، خلاف التحقيق، بل الظاهر وجوب إخراج خمس التحليل أوّلًا، ثمّ إخراج خمس الأرباح بعد ذلك، لَعْين ما ذكرناه.

والفرق بين الأمرين ظاهر، فلو كان المال 50 ديناراً، فعلى طريقتنا يخرج خمسه فيبقى 40 ديناراً، ثمّ يخرج خمسه، فيبقى 32 ديناراً، أمّا على ما هو الجاري على الألسن، يخرج من أوّل الأمر 20 ديناراً، فيبقى 30 ديناراً، والفرق بينهما بديناران، وهذا كثير في الأموال الضخمة.

المسألة العاشرة (37 من العروة): لو كان الحرام المختلط من الخمس أو الزكاة أو الوقف الخاصّ أو العام، فهل هو كمعلوم المالك، فلا تصل النوبة إلى إخراج الخمس، (بل اللازم، العمل بما مرّ من المصالحة أو التنصيف في المقدار المجهول أو ملاحظة اليد بتفاوت المقامات) أو تجري عليه أحكام الخمس، أو يفصل بين الأوقاف، فيكون كمعلوم المالك، وبين الأخماس والزكوات، فيكون كمجهول المالك؟ وجوه وأقوال.

قال صاحب الجواهر: «لو كان الاختلاط من أخماس أو زكوات فهو كمعلوم الصاحب في وجه قوي وفي الكشف أنّ الأقوى كونه كالسابق، ولو كان الاختلاط مع الأوقاف فهو كمعلوم الصاحب في وجه قوي» «1».

واختار صاحب العروة أيضاً الإلحاق بمعلوم المالك وكذا المحشّون، فيما رأينا من كلماتهم وهو الأقوى، والوجه فيه، أمّا في الأوقاف الخاصة فإنّها ملك خاص وفي الأوقاف العامة ملك الجهة، وكذا في الأخماس، كما هو الحقّ، وأمّا في الزكاة، فإن قلنا إنّه ملك الجهة أيضاً، فلا كلام، وكذا إذا قلنا أنّه من قبيل الحقّ

فإنه يبقى على ملك مالكه مع تعلق حقّ به من ناحية الفقراء وأشباههم، فليس ملكاً لمجهول، كما هو ظاهر، والعجب من كاشف الغطاء قدس سره أنه كيف ألحقه بمجهول المالك، مع أنّه ليس كذلك قطعاً، وتعلق الملك بالجهة ممّا لا ينبغي انوار الفقاهة، ج 2، ص: 197

الريب فيه، وأي فرق بين الأوقاف العامة والأخماس وشبهها.

المسألة الحادية عشرة (38 من العروة): إذا أتلف المال المختلط قبل إخراج خمسه (أو تلف في يده على نحو يوجب الضمان) فهل الواجب عليه أداء الخمس منه، أو اللازم، إجراء حكم مجهول المالك عليه من التصدق؟ فيه خلاف. ظاهر كلام صاحب الجواهر أو صريحه هو الأوّل «1» وهو المستفاد من المحقّق الهمداني رحمه الله وبه قال صاحب العروة، ولكن صريح، غير واحد من أعلام المحشّين، هو الوجه الثاني، وهو الأقوى عندنا، وإن كان الأحوط، المصالحة مع الحاكم الشرعي في مقداره، ثمّ صرفه في ما ينطبق على المصرفين.

والمسألة مبنية على ما مرّ سابقاً من أنّ الخمس ثابت في المال المخلوط، بمجرّد الاختلاط بحيث يكون أرباب الخمس شركاء في المال (بناءً على الإشاعة في الخمس) نظير سائر موارد الخمس، أو أنّ المال الحرام المخلوط يبقى على ملك مالكه، ولكن يجب تطهيره بأداء الخمس منه، وكأنّه مصالحة شرعية قهرية تقع بإذن المولى الحكيم بالنسبة إلى المال المجهول، وحيث قد عرفت أنّ ظاهر الأدلّة هو الثاني، فاللازم، القول بانتقال المال الحرام بعينه إلى الذمّة بالإتلاف، ولا معنى حينئذٍ للاختلاط، لأنّ مال الإنسان بعد التلف لا ينتقل إلى ذمّته، فليس في ذمته إلّاالحرام، فلا يصدق عليه حينئذٍ عنوان المال المختلط، حتّى يجب فيه الخمس، فلا يبقى مجال إلّالإجراء أحكام مجهول المالك عليه، وإذا لم يعلم مقدار الحرام،

فاللازم، الرجوع إلى البراءة عن الزائد عن القدر المتيقن. اللّهم إلّاأن يقال: إنّ تقصيره في مقدمات هذا الضمان، يوجب عليه الخروج القطعي منه، لاشتغال ذمّته به، وهذا إن لم يكن أقوى، فلا أقل من أنّه أحوط.

أمّا على القول الأوّل- أي تعلق الخمس- فإن لم يعلم مقدار المختلط حتّى يحسب خمسه، فهل الواجب عليه دفع ما يتيقن به البراءة، أو يجوز الاقتصار على القدر المعلوم منه؟ قال صاحب العروة: الأحوط، الأوّل، والأقوى، الثاني، وذكر صاحب الجواهر الوجهين وأضاف إليهما وجهاً ثالثاً، وهو وجوب الصلح مع الإمام، لأنّه من هذه الجهة

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 198

كمعلوم الصاحب (فإنّ الخمس مال الإمام عليه السلام أو لأربابه تحت نظره).

أقول: لماذا تجب المصالحة، مع أنّه ليس في الذمّة، اختلاط، غاية الأمر انتقل خمس المال إلى ذمّته، ولكن لا يعلم مقداره واللازم الأخذ بالمتيقن.

المسألة الثانية عشرة: لو باع المال المختلط بالحرام قبل إخراج خمسه، يأتي فيه الخلاف المتقدم من أنّه لو قلنا بتعلق الخمس بمجرّد الاختلاط وشركة أرباب الخمس في المال، فالبيع فضولي بالنسبة إلى حصتهم، وإن قلنا: إنّ الخمس في المقام، مصالحة قهرية إلهية، لا ملكاً لأرباب الخمس، فكذلك البيع فضولي، لكن بالنسبة إلى مال المالك المجهول.

ثمّ لو أمضى الحاكم الشرعي البيع بما أنّه ولي الغيب والقصر، فقد انتقل الخمس من المبيع إلى الثمن، على القول الأوّل، وانتقل سهم مالك المجهول منه إلى الثمن، على القول الثاني.

هذا، وقد قال صاحب العروة: «إذا تصرف في المختلط قبل إخراج خمسه ضمنه، كما إذا باعه، مثلًا، فيجوز لولي الخمس، الرجوع إليه». انتهى وهذا الكلام كماترى، لا يخلو عن مناقشة، إذ المالك كان ضامناً، قبل الاختلاط، فضمانه بعده ليس شيئاً جديداً، كما قد توهمه عبارة

العروة.

ولا يخفى، أنّه يجب على الحاكم الشرعي، مراعاة مصلحة المالك المجهول، فيجوّز البيع إذا كان بمصلحته، كما إذا باعه بأعلى القيم أو باعه بقيمة قليلة، فيما إذا لم يمكن حفظه مدّة طويلة، كالخضروات والثلج.

6- الأرض التي اشتراها الذمي من المسلم

اشارة

المعروف بين الأصحاب، وجوب الخمس في الأرض التي اشتراها الذمّي من المسلم، ولكن هذه الفتوى غير معروفة عند من تقدم على الشيخ رحمه الله، ولذا قال المحقّق النراقي رحمه الله في المستند: «وجوب الخمس فيها مذهب الشيخ وأتباعه وهو المشهور بين المتأخرين وعن الغنية والمنتهى: الإجماع عليه وهو كذلك ... خلافاً لظاهر كثير من القدماء حيث لم يذكروا هذا النوع، ومال إليه الشهيد الثاني في بعض فوائده لتضعيف الرواية- وهو ضعيف- أو لمعارضتها مع ما مرّ من الأخبار الحاصرة للخمس في خمسة» «1».

لذا قال صاحب الجواهر رحمه الله بعد ذكر وجوب الخمس فيه: «عند ابني حمزة وزهرة وأكثر المتأخرين من أصحابنا، بل في الروضة، نسبته إلى الشيخ والمتأخرين أجمع» «2».

وقال صاحب المعتبر: «روى جماعة من الأصحاب أنّ الذمّي إذا اشترى أرضاً من مسلم، فإنّ عليه الخمس، ذكر ذلك الشيخان ومن تابعهما» ثمّ قال: «وقال مالك: يمنع الذمّي من شراء أرض المسلم إذا كانت عشرية، لأنّه تمنع الزكاة، فإن اشتروها ضوعف عليهم العشر، فأخذ منهم الخمس، وهو قول أهل البصرة وأبي يوسف ... وقال الشافعي وأحمد:

يجوز بيعها من الذمّي، ولا خمس عليه ولا زكاة، كما لو باع السائمة من الذمّي ... والظاهر، أنّ مراد الأصحاب، أرض الزراعة، لا المساكن» «3».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 200

وقال العلّامة رحمه الله في المنتهى: «الذمّي، إذا اشترى أرضاً من مسلم، وجب عليه الخمس، ذهب إليه علماؤنا» «1».

فقد تحصّل ممّا ذكرنا، أنّ وجوب الخمس هو المعروف بين الشيخ،

ومن تأخر عنه، ولكن غير معروف بين من تقدّم عليه، وليكن هذا على ذكر منك.

واستدلّ على هذا الحكم بصحيحة أبي عبيدة الحذّاء عن الباقر عليه السلام قال: «أيّما ذمّي اشترى من مسلم أرضاً، فإنّ عليه الخمس» «2». والرواية صحيحة الأسناد، لا وجه لتضعيفها، وقد يؤيد ذلك بمرسلة المفيد عن الصادق عليه السلام قال: «الذمّي إذا اشترى من المسلم، الأرض، فعليه فيها الخمس» «3»

. وهذه رواية أُخرى لاختلاف المروى عنه.

أقول: والذي يوجب الوهن في الاستدلال والإبهام في مفهوم الرواية، ما عرفت من ذيل كلام المحقّق رحمه الله عند نقل الأقوال، حيث يظهر منه أنّ كلام العامة واختلافهم في تعلق الخمس بهذه الأرض، إنّما هو تعلق الخمس بعوائدها، لا بعينها، وإن الكلام في الأراضي العشرية التي يؤخذ منها العشر بعنوان الزكاة، فالذمّي لا يعاف عن الزكاة، بل يؤخذ منه عشران، بدل العشر، خلافاً لبعضهم، حيث قال: لا يؤخذ منه خمس ولا عشر، ومن الواضح أنّه لا ربط له بما نحن بصدده من خمس الأعيان، والعجب أنّ المحقّق رحمه الله نقل هذه الأقوال عنهم في مقابل أقوال الأصحاب، بحيث يستفاد منه أنّ مصبّ أقوال الأصحاب أيضاً هذا، وإلّا كان عليه التنبيه على هذا الاختلاف الفاحش.

وأوضح حالًا منه ما أفاده شيخ الطائفة رحمه الله في كتاب الزكاة من الخلاف في هذا الباب في المسألة «85»: «إذا اشترى الذمّي أرضاً عشرية، وجب عليه فيها الخمس، وبه قال أبو يوسف، فإنّه قال: عليه فيها عشران. وقال محمّد: عليه عشر واحد. وقال أبو حنيفة: تنقلب خراجية. وقال الشافعي: لا عشر عليه ولا خراج».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 201

ثمّ قال: «دليلنا: إجماع الفرقة، فإنّهم لا يختلفون في هذه المسألة وهي مسطورة لهم منصوص عليها،

روى ذلك أبو عبيدة الحذّاء ...» «1».

(وفي المسألة 85 و 86 أيضاً ما يدلّ على المقصود) وظاهر هذه العبارة أنّ ما أجمع عليه الأصحاب، هو خمس عوائد الأرض، لا خمس عينها، لأنّه ذكر هذا القول، ثمّ قال: وبه قال أبو يوسف. مع أنّ قول أبي يوسف، إنّما هو في عوائد الأرض.

ولصاحب المدارك، أيضاً في المقام، كلام يؤيد ما عرفت، حيث قال: «وقال بعض العامة إنّ الذمّي إذا اشترى أرضاً من مسلم، وكانت عشرية، ضوعف عليه العشر وأخذ منه الخمس، ولعلّ ذلك هو المراد من النصّ». انتهى «2».

وللمحقّق الهمداني رحمه الله في مصباح الفقيه، كلام أوضح من هذا، حيث إنّه بعد ذكر كلام المدارك، قال: «والإنصاف أنّ هذا الاحتمال هو في حدّ ذاته- بعد الإلتفات إلى خصوصيات المورد ...- في غاية القوة» ولكن رجع عنه في آخر كلامه لإطلاق النصّ، واستلزامه للحمل على التقية الذي هو مخالف للأصل «3».

وقال صاحب المعالم رحمه الله في منتقى الجمان: «ظاهر أكثر الأصحاب، الاتفاق على أنّ المراد من الخمس في هذا الحديث، معناه المعهود، وللنظر في ذلك، مجال، ويعزى إلى مالك القول بمنع الذمّي من شراء الأرض العشرية، وأنّه إن اشتراها، ضوعف (عليه) العشر، فيجب عليه الخمس، وهذا المعنى يحتمل أرادته من الحديث ... ومع قيام هذا الاحتمال، بل قربه، لا يتجه التمسك بالحديث في إثبات ما قالوه» «4».

والعجب من بعض الأعلام في محاضراته، حيث قال: أنّ الشائع في زمن الباقر عليه السلام كان هو مذهب أبي حنيفة، على ما ذكره صاحب الحدائق، وإنّما اشتهر مذهب مالك والشافعي والحنبلي في سنة 550.

أقول: أوّلًا: قد عرفت نقل هذا القول عن أبي يوسف وهو تلميذ أبي حنيفة.

وثانياً: الأقوال الجارية على لسان أئمّتهم

الأربعة، لم تكن ممّا ظهر في خصوص انوار الفقاهة، ج 2، ص: 202

زمانهم، بل كانت جارية على ألسن فقهائهم، من قبل، غالباً، فلا يرد إشكال من هذه الناحية، مضافاً إلى أنّه ليس الكلام في خصوص الخمس، بل الكلام في أنّ مصبّ جميع فتاواهم هو على عوائد الأرض، لا رقبته، وهذا أمر لا سترة عليه.

نعم، الإشكال الذي قد يبدو في الذهن- كما أشار إليه سيّدنا الاستاذ العلّامة البروجردي- رضوان اللَّه تعالى عليه- هو أنّ كتاب المبسوط للشيخ، متأخر عن الخلاف، وقد اختار فيه كون الخمس في رقبة الأرض، كسائر الأخماس «1».

ولكن الإنصاف، أنّ كلامه في الخلاف أصرح وأوضح، فلا يمكن رفع اليد عنه، فتأمل.

وقال صاحب الحدائق بعد نقل كلام صاحب المعالم في المنتقى وذكر قرائن له، ما نصّه:

«وبالجملة فما ذكره المحقّق المشار إليه، لا يخلو عن قرب» «2».

فإشكال هؤلاء الأعلام أو تضعيفهم، إمّا هو المشهور بين المتأخرين، دليل على عدم كون الحكم إجماعياً، ولا من قبيل المسلمات بينهم، وإن فتح باب الخلاف فيه، ممكن جدّاً.

وكان المحقّق العلّامة المجلسي رحمه الله لمّا رأى هذا الاختلاف وإمكان احتمال صحيحة أبي عبيدة على وجهين مختلفين، جمع بينهما، وقال: «والظاهر أنّ الاختيار إلى الإمام أو نائبه في أخذ العين أو القيمة أو خمس الحاصل كلّ سنة، ويحتمل أن يكون الاختيار إلى الذمّي» «3».

فالخمس، يتعلق بالعين أوّلًا بالذات، بنظره، ولكن للحاكم الشرعي، عدم أخذ الخمس منه، ويبقيها بحالها، ويأخذ الخمس من عوائدها، ولا ربط لهذا الخمس بالزكاة، بل خمس منافع العين، لاشتراك أرباب الخمس فيها.

والحاصل: إنّ العمدة في المقام، هي حديث أبي عبيدة، وهو وإن كان ظاهراً في بدء النظر في المعنى المشهور للخمس، إلّاأنّ وروده في جوّ يحكم عليه ما عرفت

من فتوى العامة، يشهد على حمله على هذا المعنى.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 203

وممّا يؤيده أُمور:

1- عدم تعرض قدماء الأصحاب له، غالباً مع كونهم، في مقام بيان ما يتعلق به الخمس، فعدم ذكرهم لذلك، دليل على خلافهم في المسألة.

2- مصححة عبداللَّه بن سنان عن أبى عبداللَّه عليه السلام: «ليس الخمس إلّافي الغنائم خاصة» «1».

بناءً على كون المراد منه، المعنى الأعم، كما مرّ في صدر أبحاث الخمس، وأنّ المراد من الآية، أيضاً هو الأعم، وهذا المعنى شامل لجميع موارد الأخماس، لا يشذ منه شاذ (وقد عرفت الإشكال في كون خمس المختلط من قبيل الخمس، بالمعنى المعروف) ومن الواضح أنّ محل الكلام ليس من الغنائم والفوائد دائماً، فإنّ الذمّي، كثيراً ما لا ينتفع بالأرض، أزيد ممّا بذل في مقابلها من الثمن.

3- الروايات الحاصرة للخمس في خمسة، مثل ما رواه حمّاد بن عيسى عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح عليه السلام قال: «الخمس من خمسة أشياء: من الغنائم والغوص ومن الكنوز ومن المعادن والملاحة». الحديث «2». وظاهرها، نفي الخمس في محلّ الكلام.

ومثله ما رواه حمّاد بن عيسى قال: رواه لي بعض أصحابنا ذكره عن العبد الصالح أبي الحسن الأوّل عليه السلام قال: «الخمس من خمسة أشياء: من الغنائم ومن الغوص والكنوز ومن المعادن والملاحة» «3».

وكذا، ما رواه علي بن الحسين المرتضى، في «رسالة المحكم والمتشابه»، نقلًا عن تفسير النعماني بإسناده عن علي عليه السلام: «... والخمس يخرج من أربعة وجوه من الغنائم التي يصيبها المسلمون من المشركين ومن المعادن ومن الكنوز ومن الغوص» «4»

.(والحصر في الأخير في الأربعة، إنّما هو لاندراج الملاحة في المعادن، بمعناه الأعم).

4- ما يظهر من بعض روايات الجزية، أنّه كان من المتداول بين العامة وحكامهم،

أخذ

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 204

الخمس من أراضي أهل الذمّة (سوى الجزية المعمولة على رؤوسهم) وهي ما روى عن محمّد بن مسلم عن الصادق عليه السلام قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: أرأيت ما يأخذ هؤلاء من هذا الخمس من أرض الجزية، ويأخذ من الدهاقين جزية رؤوسهم، أما عليهم في ذلك شي ء موظف؟ فقال: «كان عليهم ما أجازوا على أنفسهم وليس للإمام أكثر من الجزية إن شاء الإمام وضع ذلك على رؤوسهم، وليس على أموالهم شي ء، وإن شاء فعلى أموالهم وليس على رؤوسهم شي ء. فقلت: فهذا الخمس؟ فقال: إنّما هذا شي ء كان صالحهم عليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله» «1».

وهذه الرواية، وإن لم تخلُ من بعض الابهامات في ناحية سندها ودلالتها، ولكن يمكن جعلها مؤيدة للمقصود.

وقد ذكر العلّامة المجلسي رحمه الله في روضة المتقين: «إنّ هذا الخمس وضعه الخليفة الثاني وأنّ قول الإمام عليه السلام: «هذا شي ء صالحهم عليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله» إنّما هو من أجل التقية.

فمن هذا كلّه، تشكل الفتوى بوجوب الخمس بمعناه المعروف في هذه الأراضي، فالأحوط، المصالحة مع الذمّي بالنسبة إلى رقبة الأرض، وبالنسبة إلى عوائدها، للعلم الإجمالي بتعلق الخمس بأحدهما من غير تعيين خاص، نعم، مقتضى الأصل، وجوب الاحتياط عليه بالجمع بينهما، ولكن مقتضى الأصل، أيضاً، عدم جواز أخذ الزائد من القدر المتيقن من قِبل الحاكم الشرعي فالطريق هو المصالحة، فتدبّر جيّداً.

ولكن الأقوى، تعلق الخمس بخصوص العوائد، لما مرّ من المؤيدات الموجبة للاطمئنان بالحكم.

بقي هنا أُمور:

قد عرفت، أنّ الحكم بوجوب الخمس في رقبة الأرض التي اشتراها الذمّي، محلّ إشكال من أصله، ويحتمل قوياً، تعلق الخمس بعوائد الأرض، أي، يضاعف عليه العشر (أي الزكاة) ويؤخذ منه الخمس،

ولكن على كلّ حال فهنا أُمور تتفرع على كلّ من القولين،

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 205

(القول بتعلقه برقبة الأرض والقول بتعلقه بعوائد الأرض) وبعضها يتفرع على القول المشهور- أي تعلقه برقبة الأرض، لابدّ من ذكرها، فنقول ومنه جلّ ثنائه نستمد التوفيق والهداية:

1- هل الحكم عام شامل لكلّ أرض- سواء كانت أرض مزرع أو مسكن أو دكان أو خان أو غيرها- أو خاصّ بأرض المزرع؟

قد يقال، كما في الجواهر: «إنّ ظاهر النصّ والفتوى، بل هو صريح جماعة، عدم الفرق بين أرض المزرع والمسكن وغيرهما، خلافاً لما عن المعتبر فخصّها بالمزرع دون المسكن، وتبعه عليه في المنتهى بعد اعترافه بأنّ إطلاق الأصحاب يقتضي العموم» ثمّ استجود الاختصاص في المدارك، كما أنّ صاحب الجواهر قوّاه أوّلًا، ثمّ رجع عنه أخيراً، وقال:

«الأولى، ثبوت الخمس سواء كانت مزرعاً أو مسكناً» «1».

وأختاره أيضاً، صاحب العروة وجمع من محشّيها، بينما اختار غير واحد منهم، التفصيل بين ما إذا وقع البيع على المسكن وشبهه بعنوان الأرض (كما إذا قال اشتريت أرض هذه الدار بكذا وكذا) وبين ما إذا وقع على عنوان الدار أو الدكان، فالمسألة ذات أقوال ثلاثة:

وحيث قد عرفت أنّ العمدة في المسألة هي صحيحة أبي عبيدة الحذّاء «2» فاللازم الرجوع إليها، والإنصاف أنّ قوله عليه السلام: «أيّما ذمّي اشترى من مسلم أرضاً فإنّ عليه الخمس»، ظاهر في شراء الأرض بعنوآنها لا بعنوان أنّها جزء من الدار أو الدكان، وهذا الظهور ممّا لا ينبغي الريب فيه.

لا أقول إنّ الأرض تبع كتبعية المسامير والأسلاك الكهربائية وشبهها حتّى يقال: إنّ الأرض ليست كذلك قطعاً، بل هي من أجزاء المثمن، ولذا يقسط عليها الثمن، ولو ظهرت مملوكة للغير تبعّضت الصفقة (كما ذكره صاحب مستند العروة «ص

177»)، بل أقول إنّ النصّ ظاهر فيما إذا كانت الأرض مستقلة في عنوان المعاملة لا جزءً لشي ء آخر.

نعم، يمكن دعوى إلغاء الخصوصية، ولكن القطع به مشكل جدّاً، لأنّ حكمة هذا الحكم انوار الفقاهة، ج 2، ص: 206

غير واضحة عندنا، فهل هي المنع عن استيلاء غير المسلمين على أراضيهم الزراعية أم هي أعمّ منها؟

نعم، إذا صرّح في المعاملة بأنّه إنّما يشتري أرض المسكن في المعاملة بكذا، فشمول الإطلاق غير مانع له.

هذا كلّه إذا قلنا بمقالة المشهور، وأمّا على المختار من كون الخمس في العوائد، فلا ريب في اختصاصه بالأراضي الزراعية كما هو ظاهر.

2- هل مصرف هذا الخمس مصرف غيره من الأخماس، أم لا؟

ظاهر فتاوى المشهور هو الأوّل كما ذكره النراقي رحمه الله في المستند حيث قال: «الأظهر- موافقاً لظاهر الأصحاب- أنّه كسائر الأخماس» «1».

وما ذكره المحقّق الهمداني رحمه الله حيث قال: «أمّا مصرفه، فالمعروف بين من أثبته هو مصرف خمس الغنيمة» «2».

ولكن مع ذلك يظهر من جماعة من متأخري المتأخرين (على ما حكاه المحقّق النراقي رحمه الله في المستند) خلافه فجوّزوا أن يكون المراد تضعيف العشر على الذمّي إذا كانت الأراضي عشرية كما هو مذهب مالك (انتهى).

واستدلّ صاحب مصباح الفقيه بانصراف إطلاق الخمس إلى إرادة الخمس المعهود، أمّا بدعوى صيرورته حقيقة فيه في عصر الصادقين عليهما السلام ... أو المعهودية الموجبة لصرف الإطلاق إليه حيث لو كان المراد غيره لوجب بيانه «3».

وما ذكره، حسن، ولكنه مبني على ما ذهب إليه المشهور من تعلق هذا الخمس بعين الأرض لا بعوائدها، وأمّا على الثاني وهو المختار، فلا ينبغي الشك في كون المصرف، مصرف الزكاة بعينه لأنّه زكاة مضاعفة فيصرف في مصارفها، فكلّ من هذين القولين ناظر إلى مبنى، ولا

ينبغي جعلهما قولين مختلفين في محلّ واحد كما يظهر من بعض ما مرّ آنفاً.

3- هل الحكم خاصّ بالاشتراء في البيع، أم يشمل مطلق المعاوضات، أم هو أعم منها

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 207

فيشمل جميع الانتقالات حتّى مثل الهبة والصلح، بلا عوض وغيرهما؟

نسب إلى ظاهر المشهور، الأوّل، والثاني، إلى كاشف الغطاء رحمه الله، والثالث، إلى ظاهر كلام الشهيدين 0.

قال صاحب مصباح الفقيه: «مقتضى الجمود على ظاهر النصّ والفتوى قصر الحكم المزبور على خصوص ما لو اشتراها الذمي من مسلم، ولكن صرّح كاشف الغطاء بعمومه لما تملكها منه بعقد معاوضة كائنة ما كانت دون الانتقال المجاني وعن ظاهر الشهيدين عمومه حتّى في الانتقال المجاني» «1».

وصرّح صاحب الحدائق بعدم جواز التعدي عن مورد النصّ، وهو ظاهر بعض محشّي العروة وإن اختار هو التعدي إلى مطلق المعاوضات.

أقول: لا ينبغي الشك في ظهور النصّ وهو صحيحة أبي عبيدة في الشراء، إنّما الكلام في أنّه هل يمكن إلغاء الخصوصية عنها وتنقيح المناط بالنسبة إلى مطلق المعاوضة، أم مطلق الانتقال؟ فإن قلنا: إنّ العلة في هذا الحكم هي عدم تسلط الكفّار على أراضي المسلمين، فالتعدي إلى مطلق المعاوضات، بل مطلق الانتقالات، ظاهر، ولكن أنى لنا إثبات ذلك بدليل قطعي، وإن كان مظنوناً، فالظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً، وحينئذٍ يشكل القول بالتعدي مطلقاً، اللّهم إلّاأن يقال: إنّ إلغاء الخصوصية العرفية هنا حاكم وإن لم يعلم المناط، فإنّ العرف لا يفرق بين الاشتراء والصلح مع العوض وشبهه ولا شغل له بمناطات الأحكام، بل بظواهر الأدلّة، فقد لا يفهم لبعض القيود ظهوراً في تقييد الحكم، بل يراه من قبيل ذكر المصداق «2».

هذا كلّه على فرض القول المشهور، وأمّا على القول المختار، فالظاهر التعدي منه إلى

مطلق الانتقال، لأنّ ظاهره حفظ حقّ الفقراء من زكاة الأرضين، فإلغاء الخصوصية أو تنقيح المناط هنا أوضح.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 208

وقد ذكر صاحب العروة، أن الأحوط اشتراط الخمس عليه في عقد الشراء، وهل يصحّ هذا الشرط؟ الظاهر أنّه لا مانع منه، ولكن هل يكفي هذا الشرط عن الخمس الواجب عليه (على القول به) أم يجب عليه خمس آخر؟ فيه إشكال «1».

فالأوْلى ترك الشرط والمصالحة مع الذمي في هذه الموارد، على القول المشهور، أمّا على المختار، فقد عرفت أنّ التعميم قوي، فتأمل.

4- هل يتعلق الخمس بالأرض فقط أم هي مع الأشجار والأبنية وغيرها؟

لا ينبغي في ظهور النصّ في الأوّل لخروجها عن معنى الأرض، فلا موجب للخمس فيها بعد كون الخمس على خلاف القاعدة، لأنّ أخذ مال الغير يحتاج إلى دليل، هذا على القول المشهور، أمّا على القول الآخر، فالأمر أوضح لأنّ الخمس فيه بمعنى الزكاة المضاعفة.

5- يتخير الذمّي بين دفع الخمس من الأرض أو من قيمتها، لجوازه في سائر موارد الخمس بما يأتي فيها من الدليل، فينصرف إليه إطلاق الحكم في المقام- سواء على قول المشهور وغيره- لكن هنا إشكال يجري على القول بوجوب الخمس في جميع الانتقالات، وهو أنّه إذا دفع الذمّي القيمة بدل العين، فقد انتقل إليه خمس الأرض، فيجب عليه خمس هذا الخمس، وهكذا.

وإن شئت قلت: أرباب الخمس يملكون هذا المقدار من العين بالإشاعة، ولكن للمالك أن يبدله بالقيمة ويتملك سهم أرباب الخمس، فهذا تملك جديد، فلو قلنا بوجوب الخمس في كلّ تملك جديد يأتي فيه ما ذكر ولا مناص له إلّاإعطاء العين في بعض المراحل، فتدبّر.

ولم أر مَن تعرض لهذه المسألة عدا المحقّق الهمداني رحمه الله حيث أشار إليها في بعض

كلماته وقال: «فهل هو بمنزلة شرائه منه ثانياً حتّى يثبت فيه الخمس، وجهان أوجههما العدم، فإنّ هذا لا يُعدّ في العرف شراء الخمس الذي هو من الأرض ... فلا يندرج عرفاً فى المعاوضات، فضلًا عن أن يطلق عليه اسم الشراء». (انتهى) «2».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 209

أقول: ما أفاده من عدم صدق الشراء عليه عرفاً حقّ لا ريب فيه، ولكن لا ريب في أنّه نوع انتقال للملك إليه بعوض، فلو قلنا بهذه المقالة في جميع الانتقالات لِمَ لا يدخل في الحكم؟ لا سيّما إذا قلنا إنّ الحكمة فيه عدم المنع عن سلطة الكفّار على أراضي المسلمين مهمّا أمكن.

وعلى كلّ حال، فإن اختار الذمّي بذل القيمة وكانت مشغولة بالزرع أو الغرس أو البناء (على القول به في مثله) تكون مشغولة بهذه الأُمور مع الأجرة لما سيأتي من عدم جواز قلعها من ناحية وليّ الخمس كما أنّه لا وجه لبقائها فيها بدون الأُجرة، فالجمع بين الحقّين يقتضي بقاءَها مع الاجرة كما هو ظاهر.

6- ليس لوليّ الخمس كما عرفت قلع أشجارها ولا تخريب بنيانها، إذا كانت هذه الأُمور فيها عند اشترائها، لأنّ المفروض أنّ الأرض انتقلت إليه مشغولة بهذه، فله حقّ فيها من هذه الجهة، فكيف يجوز له قلعها، فإذا انتقل خمس الأرض إلى أربابه، كان عليه الأُجرة، وإلّا لم يكن للأرض فائدة غالباً، نعم، لا يجوز له إحداث هذه الأُمور بعد الانتقال إليه لتعلق حقّ أرباب الخمس بها (على قول المشهور).

7- يجوز لوليّ الخمس أخذ الأرض أو قيمتها وإيصالها إلى أرباب الخمس، فهل يجوز له ابقاؤها في يد الذمّي أو غيره بعنوان الاجارة فيأخذ مال الإجارة ويوصلها إلى أرباب الخمس؟

ولا يختصّ الحكم بمحل الكلام، بل يجري في جميع

موارد الخمس من أنّ الواجب على وليّ الخمس تفريقها بين أهلها، أو يجوز له إيجارها وأخذ ارتفاعها وتقسيمها بينهم، لا سيّما إذا كانت مشغولة بشي ء ممّا ذكر.

صرّح صاحب الجواهر في المقام بتخيير الحاكم في ذلك، وصرّح غير واحد منهم أيضاً بذلك، كصاحب الحدائق والمسالك والروضة، وكاشف الغطاء والشهيد، في الحواشي المنسوبة إليه فيما حكى عنهم، إلى غير ذلك.

بل لم أر مَن خالف في ذلك عدا بعض أعلام العصر (دام ظلّه) صاحب مستند العروة حيث أشكل في هذا الحكم بالنسبة إلى سهم السادة، فإنّ سهم الإمام عليه السلام يجوز التصرف فيه انوار الفقاهة، ج 2، ص: 210

بما هو رضاه، وإحراز رضاه في هذا الأمر ممكن، أمّا بالنسبة إلى سهم السادة، فليس لوليّ الأمر إلّاالولاية عليهم في قبض حقوقهم من الأرض وصرفها فيهم، أمّا الايجار، فلم يثبت ولايته عليه، نعم لو أخّر الذمّي دفع الأرض، فله أخذ أجرة المثل منه «1».

أقول: الإنصاف كما فهمه الأصحاب، عموم أدلة الولاية من هذه الجهة، فالحاكم الشرعي بالنسبة إلى الزكوات والأخماس وأموال المسلمين من الخراج وغيره، كالوالد للولد، بل يستفاد من أدلة ولاية الفقيه أكثر من ذلك، فقد تكون المصلحة في حفظ هذه الأموال وارتزاقهم من ارتفاعها، لا تفريق نفس هذه الأموال بينهم، فعليه ملاحظة مصالحهم في كلّ مورد، بل قد يكون تفريقها بينهم سبباً لتضييعها في مدّة قليلة، بينما يكون إيجارها سبباً لبقائها مدّة طويلة مع الانتفاع بمنافعها، ولا يبعد القول بذلك حتّى في مثل زكاة الفطرة وزكاة الأموال أيضاً، فتدبّر.

والحاصل: أنّ الفقيه بما أنّه ولي المسلمين، ووليّ أرباب الخمس، فيجب عليه تدبير أُمورهم بما هو الأصلح لحالهم، وتدبير الأُمور بما هو معروف بين العقلاء من أوضح مصاديق الولاية، كما لا

يخفى وفتح هذا الباب يوجب رفع المضائق الكثيرة عن المسلمين عامة وعن الحوزات العلمية خاصة، كما لا يخفى على الخبير.

8- لا نصاب في هذا القسم من الخمس، لما عرفت من إطلاق دليله وهو صحيحة أبي عبيدة الحذّاء، سواء قلنا بمقالة المشهور، أم قلنا إنّ المراد الزكاة المضاعفة كما لا يخفى، بل لم ينقل عن أحد احتمال النصاب فيها، نعم، يجري فيه نصاب الزكاة على المختار.

9- هل يعتبر فيه نيّة القربة من ناحية الحاكم الشرعي بعد عدم إمكانها من ناحية الذمّي، لعدم إمكان التقرب له لمحل كفره؟

ظاهر كلام صاحب الجواهر رحمه الله وغيره عدم وجوبه لإطلاق الدليل، ولكن حكي عن الدروس وظاهر المسالك وغيره، وجوبه للحاكم، وظاهر العروة وأكثر حواشيها أيضاً عدم الوجوب.

نعم، احتاط بعضهم كسيّدنا الحكيم رحمه الله بوجوبها عند الدفع إلى السادة.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 211

والعمدة ما عرفت من إطلاق الدليل هنا، وعدم وجود دليل على وجوب نيّة القربة من ناحية الفقيه، بل ذكرنا في باب الزكاة التي هي الأصل في المسألة، أنّه لا دليل على وجوب نيّة القربة على الحاكم الشرعي لو أخذها من الممتنع فضلًا عن الكافر، وكونها عبادة إنّما هو بالنسبة إلى مؤديها، لا بالنسبة إلى الحاكم.

10- هل هذا الحكم ثابت في غير الذمّي من الكفّار، أم لا؟ مثلًا إذا لم يعمل أهل الكتاب الموجودون في البلاد الإسلامية بشرائط الذمّة، كدفع الجزية (على ما هو المعروف من أنّه من أهم شرائطه) أو كان هناك رجال من سائر البلاد الإسلامية بذلوا رؤوس أموالهم للتجارات والصنائع في البلاد الإسلامية ولم يكونوا حربيين، بل كانوا مهادنين يعاشرون المسلمين بالمعروف، فاشتروا بعض الأراضي لهذه المقاصد غير المحرمة، على الفرض، فهل يقتصر الحكم على الذمي

العامل بشرائط الذمة ويستثنى هؤلاء، أم يقال بشموله لهم أيضاً؟

ظاهر صحيحة أبي عبيدة في بدء النظر، الاختصاص بهم وعدم التعدي عنهم لعدم دخولهم تحته، ولكن لقائل أن يقول بشمول الحكم لهم بالأولوية القطعية، ويؤيده ما ذكروه في حكمة هذا الحكم وأنّ الغرض عدم استيلائهم على هذه الأراضي أو قلّة استيلائهم عليها، ولم أر مَن تعرض للمسألة فيما نظرته عاجلًا، ولكن الشمول ليس ببعيد من جهة الأولوية أو إلغاء الخصوصية القطعية، واللَّه العالم بحقائق أحكامه.

بقي هنا مسائل عشر أشار إليها صاحب العروة الوثقى:

المسألة الأُولى هل الحكم شامل للأراضي المفتوحة عنوة، أم لا؟

قال صاحب الشرائع: «سواء كانت ممّا فيه الخمس كالأرض المفتوحة عنوة أو ليس فيه كالأرض التي أسلم عليها أهلها» وأضاف إليه صاحب الجواهر: «حيث يصحّ بيعها كما لو باعها إمام المسلمين في مصالحهم، أو باعها أهل الخمس، إذ قد عرفت ثبوته في الأراضي من الغنائم أو غير ذلك، بل قد يقال به في المبيع منها تبعاً لآثار التصرف فيها وفاقاً للمحكى عن جمع من المتأخرين، بناءً على حصول الملك للمتصرف بذلك، وإن كان هو يزول بزوال انوار الفقاهة، ج 2، ص: 212

تلك الآثار». انتهى «1».

ولكن عن المحقّق الأردبيلي رحمه الله وصاحب المدارك، فيه إشكال، وتبعهما في ذلك بعض أعلام العصر «2».

والظاهر أن نزاعهم فيه لفظي أو قريب منه، وحاصل الكلام في المسألة أنّه إذا جاز بيعها، كما إذا كان بإذن الإمام في مصالح المسلمين، أو قلنا بوجوب الخمس في هذه الأراضي (وإن كان خلاف التحقيق) فباع السادة حقّهم منها، فلا إشكال ولا كلام في شمول الحكم لها لإطلاق الدليل وعدم القرينة على تقييده.

وأمّا في غير هذه الصور، فإن قلنا: إنّ الأرض المفتوحة عنوة تملك بتبع الآثار، فيباع كذلك، فالظاهر أيضاً شمول الحكم

له لصدق عنوان الشراء عليها، وكون الملك متزلزلًا، وتبعاً للآثار غير ضائر بعموم الحكم بعد إطلاق الدليل.

وأمّا إذا قلنا بعدم الملك لها حتّى تبعاً للآثار وأنّه ليس هناك إلّاحقّ الاختصاص، فشمول عنوان الشراء له غير واضح إلّامجازاً- كما اطلق عليه في أخبار الأراضي الخراجية- فلا يجري فيه هذا الحكم.

ومن العجب، تصريح العروة بشموله لها حتّى في هذا الفرض، اللّهم إلّاأن يقال بتنقيح المناط وشمول حكمة الحكم لها، ولكنه ضعيف جدّاً.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ المعروف بين الأصحاب أنّ هذه الأراضي ملك للمسلمين كافّة، بل قد ادّعى الإجماع عليه في الخلاف والتذكرة، وقد صرّح في روايات كثيرة بأنّها في ء للمسلمين أو أنّها للمسلمين جميعاً (لمن هو اليوم ولمن يدخل في الإسلام بعد اليوم ولمن لم يخلق بعد) وقد أفتى بها كثير من الأصحاب.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 213

ولكن حيث يعامل مع هذه الأراضي- ومنها أرض العراق- معاملة الملك ببناء المساجد وسائر الأعيان الموقوفة وبيعها وشرائها في هذه الأعصار، بل وقبلها وقع فقهاؤنا- رضوان اللَّه عليهم- في حيص وبيص.

فقال غير واحد منهم: إنّ ذلك إنّما يكون في خصوص ما إذا رأى إمام المسلمين جواز بيع بعضها لمصلحة أو في خصوص سهم السادة بناءً على ملكهم لخمس الأرض (كما هو مختار جماعة) أو أنّها كانت من الموات في حال الفتح، فإنّ أحكام المفتوحة عنوة لا تجري إلّا على المحياة حال الفتح، ولكن مع ذلك قال صاحب مفتاح الكرامة: «بجواز بيع هذه الأراضي ولو مستقلة ومن دون تبعية للآثار، بل حكاه عن ظاهر الدروس وجامع المقاصد، واستدلّ له بأنّه كان متداولًا بين المسلمين في زمن الحضور والغيبة عند الخاصة والعامة في الأراضي المشهورة بأنّها كانت مفتوحة عنوة في جميع الأعصار والأمصار

إلى عصرنا هذا من دون انكار أحد لذلك وإجراء أحكام المساجد على ما جعل مسجداً، وكذا إجراء أحكام الملكية عليها.

ثمّ قال: وحمل ما كان يتصرفون فيه منها في الأعصار السابقة على أنّ الإمام باعه لمصلحة المسلمين أو كان مواتاً حين الفتح أو أنّ ذلك كان في خمسها تعويل على الهباء واتكال على المنى» «1».

وتبعه في ذلك صاحب الحدائق وصرّح بأنّ ظاهر الأخبار جواز البيع والشراء من تلك الأراضي مع قيام المشتري بما عليها من الخراج ثمّ قال: «ويحمل ظاهر المنع الذي أشعرت به تلك الأخبار من حيث كونها فيئاً للمسلمين على الشراء على وجه يتملكه بذلك من غير وجوب دفع حقّ المسلمين منها وهو خراج الأرض المذكورة» «2».

ولكن صرّح غير واحد منهم وفاقاً لما في المسالك بأنّ عدم صحّة بيعها ووقفها وهبتها إنّما هو فيما إذا باع رقبتها مستقلة، أمّا لو فعل ذلك فيها تبعاً لآثار التصرف من بناء وغرس انوار الفقاهة، ج 2، ص: 214

وزرع فجائز على الأقوى، فإذا باعها بائع مع شي ء من هذه الآثار دخلت في البيع على سبيل التبع ... فإذا ذهبت أجمع، انقطع حقّ المشتري. هكذا ذكره جمع من المتأخرين وعليه العمل «1».

ولكن صاحب الجواهر أنكر ذلك أيضاً حيث قال: «إنّه مناف للأدلّة القاضية بأنّها ملك للمسلمين على كلّ حال بل قيل إنّ الملك مناف لترتب الخراج عليها مضافاً إلى أنّ الملك على التأييد والدوام دون الدوران مدار الآثار، أضف إلى أنّه لم يقم دليل على ملكيته تبعاً للآثار سيّما مع ملاحظه فتوى العلماء الذين هم حفاظ الشريعة». (انتهى ملخصاً) «2».

أقول: هذه معضلة عويصة، فمن ناحية تدلّ الأدلة على أنّها في ء للمسلمين وملكهم جميعاً ومن ناحية اخرى نرى بيع أراضي العراق

وشبهها دائماً- سواء فيها الدور والبساتين والأراضي الزراعية، بمرأى من علماء الدين ومسمع منهم، فكلّ منهم تخلّص منها بطريقة وأخذ مهرباً، والعمدة من بينها طرق ثلاثة:

1- بعضهم كصاحبي مفتاح الكرامة والحدائق أنكروا بقاء حكم الملكية للمسلمين من أصلها مع أنّها مشهورة معروفة وقد ورد التصريح بها في روايات كثيرة (وإن ورد التصريح بالبيع والشراء في غير واحد من الروايات أيضاً لكن لها محامل أخرى .

2- وبعضهم مال إلى القول بالملكية المؤقتة تبعاً للآثار مع ما فيه من الإشكال من جهة عدم معروفية الملكية المؤقتة بين العرف والعقلاء، وعدم ثبوت الخراج في الملك بل هو شبه مال الإجارة، مضافاً إلى عدم قيام دليل خاصّ يدلّ عليه.

أضف إلى ذلك عدم كفاية الملك المؤقت في الوقف للمسجد وشبهه.

3- وبعضهم حمل هذه التصرفات على خصوص ما كان مواتاً حال الفتح (ولا أقل من احتماله مع حمل فعل المسلم على الصحّة) أو كان من خصوص سهم السادة- بناءً على ملكيتهم لخمس الأراضي- أو في موارد رأى إمام المسلمين المصلحة في بيع بعضها.

وفيه: أيضاً من الإشكال ما لا يخفى، فإنّه لا يزال يتصرف في هذه الأراضي كأراضي انوار الفقاهة، ج 2، ص: 215

العراق وما فتحت عنوة في غرب ايران أو في الشامات وأراضي مصر وغيرها من دون فرق بين جوانبها ونواحيها.

فكلّ من هذه الطرق الثلاثة فيه مزية وإشكال.

وهناك طريق رابع لعلّه أقوى وأولى وهو أنّ الذي يشتري فيها هو حقّ الأولوية والاختصاص بها المشابه لحقّ السرقفلية في عصرنا، وأمّا إحداث المساجد فيها فهو باعتبار أنّها من مصالح المسلمين فيجوز بيعها وشراؤها لذلك ولما أشبهه وقد أذنوا عليهم السلام لشيعتهم بذلك، هذا بالنسبة إلى الروايات الدالة على جواز بيعها وشرائها، ولكن مع ذلك

لا يسقط الخراج منها وتركه وعدم رعايته بعد البيع والشراء كأنّه نشأ عن التسامح والتساهل وقلة المبالاة، والأحوط لأهل الدين والورع أن يحاسبوا خراجها ولا أقل من الاستئذان من الحاكم الشرعي بالنسبة إلى خراجها، واللَّه العالم بحقائق أحكامه.

وعلى كلّ حال تعلق الخمس بها إذا لم تدخل الأرض في المبيع ممّا لا وجه له، ومن هنا يظهر الإشكال في كلام صاحب العروة، وكذا إذا دخلت تبعاً لما عرفت من ظهور الدليل في استقلالها بالبيع وصدق شراء الأرض لا شراء الدار والدكان وشبهها.

المسألة الثانية: قال صاحب المسالك: «ولا يسقط الخمس عن الذمي ببيع الأرض قبل الإخراج (إخراج الخمس) وإن كان البيع لمسلم، ولا بإقالة المسلم له في البيع مع احتمال السقوط هنا» «1».

وقال المحقّق النراقي رحمه الله في المستند بعد التصريح بعدم سقوط الخمس بالبيع لمسلم:

«وكذا لا يسقط لو فسخ الذمّي البيع، ولو كان ذلك بخيار لأحدهما يشكل الحكم، ويحتمل انتقال الخمس أيضاً متزلزلًا» «2».

أقول: انتقالها من الذمي إلى مسلم قد يكون بالبيع ونحوه، وأُخرى بالارث، وثالثة بالإقالة، ورابعة بالفسخ بالخيار، والظاهر عدم سقوط الخمس في شي ء من هذه الفروض الخمسة لإطلاق رواية أبي عبيدة، وما ذكر من أنّ الملاك هو عدم السلطة فهو من باب انوار الفقاهة، ج 2، ص: 216

الحكمة لا العلّة كما هو واضح، هذا من ناحية، ومن ناحية أُخرى لو قلنا: إنّ الإقالة فسخ من أصل (سواء قلنا بالكشف أو الانقلاب) أشكل الحكم بوجوب الخمس عليه لانحلال العقد من أصله، وكذا الكلام في الفسخ بالخيار ولكن هذا الاحتمال بعيد في المقامين.

هذا من ناحية ثانية، ومن ناحية أُخرى قد يقال: في موارد إمكان الفسخ بالخيار فإنّ البيع متزلزل من أصله (وكذا في موارد الشفعة) والحديث

منصرف عن مثل هذا الحكم، ولكن الإنصاف أنّ رفع اليد عن الإطلاق بمثل هذه الأُمور مشكل جدّاً.

ومن ناحية رابعة قد يقال: إنّه لو باعها من مسلم شيعي دخل في مسألة من ينتقل إليه المال ممّن لا يعتقد بالخمس وأنّه لا خمس فيه فتكون المعاملة صحيحة في جميعها حتّى في مقدار الخمس، ولكن يجاب عنه بأنّ هذا لا ينافي تعلق الخمس بالذمّي فإذا انتقل مجموع الأرض إلى مسلم شيعي وجب الخمس في ذمّته.

ومن جانب خامس قد يقال كما في مستند الشيعة: «لو نقل الذمّي الأرض إلى غيره قبل أخذ الخمس (منه) لم يسقط الخمس، بل لا يصحّ النقل في قدره ويكون للمشتري الخيار إن كان النقل بالبيع ... ولو أخذ المبيع من الذمّي بشفعة فالظاهر تقسيط الثمن أخماساً» «1».

والوجه فيه تعلق الخمس بالعين على نحو الإشاعة وشبهها فيكون البيع فضولياً في سهم السادة، فالبيع فيه باطل أو منوط بإجازة وليّ الأمر، وكذا بالنسبة إلى الشفعة فإنّه لا يصحّ الأخذ بالشفعة في سهم السادة لما ذكروه في محلّه من أنّ الشفعة إنّما هي فيما إذا انتقل إليه بالبيع لا بغيره من النواقل كالهبة والأصداق والصلح ونحو ذلك «2».

فتكون الشفعة في خصوص أربعة أخماس الأرض بأربعة أخماس من الثمن، وكان مراد المحقّق النراقي رحمه الله أيضاً هذا.

هذا كلّه على تقدير القول بتعلق الخمس بالعين وأمّا على تقدير تعلقه بالمنافع فلاوقع لهذه الإشكالات، لأنّ المدار على بقائها في يده وزرعها بما يتعلق به الزكاة كما هو واضح.

المسألة الثالثة: إذا اشترى الذمي الأرض من المسلم وشرط عليه الخمس، فهو على انوار الفقاهة، ج 2، ص: 217

أنحاء ثلاثة: تارة يشترط عدم الخمس فهذا الشرط مخالف للشرع قطعاً فلا يصحّ. وثانية يشترط أن يكون الخمس على المسلم

وهو أيضاً شرط مخالف للشريعة، لأنّ الخمس بحسب حكم الشرع واجب على المشتري الذمّي لا على البائع المسلم، وهل يسري فساد الشرط في هاتين الصورتين إلى العقد أم لا؟ فيه خلاف، ولعلّ الأقوى الثاني. وثالثة يشترط في ضمن العقد أن يبذل المسلم مالًا معادلًا للخمس بقصد إبراء ذمّة المشتري الذمّي وهذا القسم لا مانع منه، لعدم مخالفته لحكم الشرع لجواز دفع الغير عمن يجب عليه الخمس، وحيث يكون بأمره واشتراطه فهو المؤدى للخمس ولو بالتسبيب (وهذا المقدار كافٍ كمن يستدعي من الغير أداء دينه) ولكن لا يسقط الخمس عنه بمجرّد هذا الاشتراط بل إنّما يسقط بعد العمل به كما لا يخفى.

المسألة الرابعة: قال صاحب العروة الوثقى (مسألة 43): «إذا اشتراها من مسلم ثمّ باعها منه أو من مسلم آخر ثمّ اشتراها ثانياً وجب عليه خمسان، خمس الأصل للشراء أوّلًا وخمس أربعة أخماس للشراء ثانياً». انتهى.

أقول: مقتضى الإطلاق وجوب الخمس على الذمّي في كلّ شراء ولا دليل على تقييده، فيجب عليه خمس مجموع الأرض في الشراء الأوّل بلا إشكال- كما ذكره صاحب العروة- لكن الكلام في وجوبه عليه في الشراء الثاني فيما إذا دفع قيمة الخمس في الأوّل بدلًا عن دفع العين فملك مجموعها فباعها ثمّ اشتراها، فهل عليه خمس المجموع أم خمس أربعة أخماسها؟ من الواضح وجوب خمس المجموع عليه لأنّه اشترى (في الشراء الثاني) مجموع الأرض لا أربعة أخماسها فقط. وعلى هذا فالصحيح أن يعلّق على ما ذكره صاحب العروة هكذا: «إلّا إذا أدّى الخمس من قيمتها ففي هذه الصورة يجب دفع خمس مجموع الأرض ثانياً». هذا كلّه فيما إذا لم يكن المشتري شيعياً، وأمّا إذا كان كذلك فقد ملك الأرض لمجموعها بشرائها من

الذمّي وذلك لشمول أدلّة التحليل للمقام فإنّه اشتراها ممّن لا يعتقد بالخمس، فإذا باعها من الذمّي وجب عليه (أعني الذمّي) خمس المجموع سواء أدفعه قبل بيعها من الشيعي من قيمتها أم لا.

المسألة الخامسة: إذا اشترى الأرض من المسلم ثمّ أسلم بعد الشراء فقد قال صاحب انوار الفقاهة، ج 2، ص: 218

العروة: «لم يسقط الخمس منه» ووافقه كثير من المحشّين، ولكن حكى في المدارك عن المحقّق رحمه الله في المعتبر في كتاب الزكاة والعلّامة رحمه الله في جملة من كتبه من أنّ الزكاة تسقط عن الكافر بالإسلام وإن كان النصاب موجوداً لقوله عليه السلام: «الإسلام يجبُّ عمّا قبله» «1»

ثمّ أورد عليه بأنّه يجب التوقف في هذا الحكم لضعف الرواية المتضمنة للسقوط سنداً ومتناً، ثمّ استدلّ بما ورد في الأخبار الصحيحة من عدم سقوط الزكاة عن المخالف إذا استبصر «2»، وبقاعدة الاشتغال، وبأنّ لازمه عدم وجوب الزكاة على الكافر لامتناع أدائها حال الكفر وسقوطها بالإسلام. انتهى «3».

وفي مفتاح الكرامة في كتاب الزكاة «4» حكى القول بسقوط الزكاة بالإسلام عن المفيد في كتاب الاشراف، والشيخ وابن إدريس وابن حمزة وسائر المتأخرين عنهم ثمّ قال: «وما وجدنا من خالف أو توقف قبل صاحب المدارك وصاحب الذخيرة» ثمّ ذكر كلام صاحب المدارك ثمّ قال: «إنّ الخبر منجبر بالشهرة في سنده وكذا دلالته على الصحيح بل بالإجماع ... وقياسه على المخالف قياس مع الفارق».

أقول: الظاهر أنّه لا فرق بين الزكاة والخمس من هذه الجهة، وأنّه لا ينبغي الإشكال في سقوطه عن الكافر أيضاً لما حققناه في محلّه من أنّ سند الحديث منجبر بالشهرة المحقّقة بل دلالته أيضاً تامّة لعمومه أو إطلاقه، بل صرّح في مصباح الفقاهة في كتاب الزكاة بعد حكاية تسالم

الأصحاب على العمل بها: «إنّ مثل الزكاة والخمس والكفّارات وأشباهها من الحقوق الثابتة في الإسلام بمنزلة القدر المتيقن منها».

والعجب من صاحب العروة حيث صرّح في كتاب الزكاة في المسألة 17 من أصل الوجوب بأنّه: «لو أسلم الكافر بعد ما وجبت عليه الزكاة سقطت عنه وإن كانت العين موجودة فإنّ الإسلام يجبُّ ما قبله ووافقه المحشّون فيما رأينا، نعم أشكل بعضهم في هذا الحكم عند وجود العين، ونطالبهم بالدليل على الفرق بين المقامين. والقول إنّ محلّ الكلام انوار الفقاهة، ج 2، ص: 219

ليس من الخمس الواجب على كلّ أحد بل على خصوص الذمي فهذا لا يسقط بالإسلام ممنوع جدّاً بعد إطلاق الدليل، بل الحكم بسقوط هذا القسم أولى فإنّه إذا سقط ما هو مشترك بين الإسلام والكفر فسقوط ما يختص بحال الكفر أولى وأنسب».

وعلى كلّ حال فالدليل على المقصود مضافاً إلى إطلاق حديث الجبّ المنجبر ضعفه بعمل الأصحاب، جريان السيرة القطعية من النبي الأكرم صلى الله عليه و آله والأئمّة الأطهار عليهم السلام القائمين مقامه من عدم مطالبة من دخل في الإسلام بأداء الزكوات والأخماس الماضية مع أنّ كثيراً من أعيانها كانت موجودة بل عند إسلام الذمّيين مع وجود بعض الأراضي المشتراة من المسلمين في أيديهم.

أمّا قياس المسألة على المخالف فقد عرفت أنّه قياس مع الفارق، وكذا تمسك صاحب المدارك بقاعدة الاشتغال بعد قيام الدليل على البراءة، فاسد.

وأمّا امتناع أدائها على الكافر لعدم صحته منه حال كفره وسقوطه عنه بالإسلام، فيرد عليه أنّ فائدة وجوبها عليه حال الكفر بعنوان حكم وضعي متعلق بأمواله، إمكان أخذه منه من ناحية الحاكم الشرعي على أنّ إشكال يجري حتّى في قضاء عباداته لعدم تأتي قصد القربة منه، فما أجيب به هناك

نجيب به هنا وحاصله حصول فائدة التكليف وعدم لغويته بترتب آثار عليه من قبيل صحّة العقاب، فتأمل.

وعلى كلّ حال فلا ينبغي الإشكال في أصل المسألة، وأوضح حالًا منه ما لو كانت المعاملة ممّا يتوقف الملك فيه على القبض (كما سيأتي) فأسلم بعد العقد وقبل القبض، فإنّ المفروض عدم حصول الملك بالإشتراء حتّى يجب عليه الخمس كما هو واضح.

إنّما الكلام في أنّه كيف يتصور اشتراط القبض هنا، وذلك يمكن من وجوه:

منها: أن يكون المسلم قد وهب الذمّي الأرض هبة معوضة أو غير معوضة، والمعروف في الهبة اشتراط القبض في حصول الملكية فقبله لا يكون ملكاً له حتّى يجب الخمس فيه، والمفروض حصولها في حال الإسلام (ولكن قد عرفت الإشكال في تملك الأرض بغير الشراء).

منها: أن يكون اشتراء الأرض بعنوان السلم- كما في بعض كلمات صاحب مستند

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 220

العروة «1»- ولكن الذي يظهر من المحقّق وصاحب الجواهر والمسالك وغيرهم عدم جوازه عندنا حيث اطلقوا عدم جواز الأسلاف في العقار والأراضي ولم ينقلوا فيه مخالفاً «2».

ولعلّه لاشتراط كونه في مبيع كلي قابل للتوصيف، ومن المستبعد جدّاً إمكان توصيف أرض كلي بصورة واضحة لاختلاف القيم تبعاً لاختلاف الأمكنة.

مضافاً إلى أنّ ظاهر دليل وجوب الخمس هنا إنّما هو اشتراء الأرض الشخصي لا أرض كلي بعنوان السلف، نعم بعد تعينها في أرض شخصي لا يبعد صدق تملك الأرض بالشراء.

ومنها: أن تكون الأرض ثمناً في السلف لعين أُخرى كما إذا باع الذمّي ثياباً سلفاً بأرض حاضرة وقبل قبض الثمن وهو الأرض قد أسلم وبعد الإسلام قبض وتملك الأرض، ولكن الإنصاف أنّه غير مفاد رواية أبي عبيدة الحذّاء فإنّ مفادها تملكها مثمناً لا ثمناً، اللّهمّ إلّاأن يقال: بالغاء الخصوصية، فتأمل.

والخلاصة إننا

لم نجد مثالًا صحيحاً لما ذكره صاحب العروة خالياً عن المناقشة، ولو أسلم فلا إشكال في سقوط الخمس عنه لعدم تحقق الملكية في حال الكفر فإنّها متوقفة على القبض والمفروض أنّ الذمي لم يبقض الأرض إلّابعد إسلامه.

هذا كلّه على القول بتعلق الخمس بالعين، أمّا لو قلنا بتعلقه بعوائدها فهو أيضاً كذلك أعني إذا أسلم لم يجب عليه إلّازكاة واحدة ولو كانت العين موجودة، بل الأمر أوضح هنا لعدم الحاجة إلى قاعدة الجبّ بعد تبدلّ العنوان فإنّ الزكاة المضاعفة واجبة على الذمّي وهو الآن مسلم.

المسألة السادسة: إذا تملك الذمّي الأرض من ذمّي آخر (أو من كافر غير ذمّي) لعقد مشروط بالقبض- كالأمثلة السابقة على إشكالاتها- فأسلم الكافر الثاني قبل القبض والاقباض، وحينئذٍ يصدق انتقال الأرض إلى الأوّل عند إسلام البائع فهل يجب على الذمّي الخمس؟ قال صاحب العروة: «فيه وجهان: أقواهما الثبوت» «3» وأشكل عليه جماعة من المحشّين.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 221

وقال صاحب مصباح الفقيه: «إنّه لا يخلو عن نظر لخروجه عن منصرف النص» «1».

لكن قال صاحب الجواهر: «الأقوى فيه الخمس» «2».

أقول: ما ذكره صاحب مصباح الفقيه من احتمال الانصراف أو قوته كما يظهر من كلام صاحب الجواهر، حسن جيد، فيشكل جعل الخمس عليه حينئذٍ والأصل عدمه.

المسألة السابعة: إذا شرط البائع المسلم على الذمي أن يبيعها بعد الشراء لمسلم، فهل يسقط الخمس منه أم لا؟

الظاهر عدم سقوطه لأنّ الملك قد حصل له بل وقد استقر، غاية الأمر أنّ هذا الشرط قد جعله في معرض الزوال (لا أنّه ملك متزلزل).

وحينئذٍ يمكن أن يقال بانصراف النصّ عنه وظهوره في ملك ليس كذلك لا سيّما إذا كانت السلطة على أملاك المسلمين علة للحكم، ولكن الانصراف ممنوع والسلطة إنّما هي

بمنزلة الحكمة لو قلنا بها لا العلة التي يدور مدارها الحكم.

ثمّ إنّ هذا الشرط من الشرائط الصحيحة لعدم مخالفتها للشرع ولا لمقتضى العقد ولا لغير ذلك من الشرائط المعتبرة في الشروط. نعم هو مخالف لإطلاق العقد وذلك جائز بلا إشكال كما هو الشأن في كلّ شرط، هذا وقد ذهب بعض إلى بطلان ما لو اشترط البائع على المشتري أن يبيعه منه ثانياً وذلك لوجود روايات خاصة لا لمخالفته لمقتضى القاعدة.

المسألة الثامنة: إذا اشترى المسلم من الذمي أرضاً ثمّ فسخ البيع بإقالة أو خيار، فقد قال صاحب العروة: في ثبوت الخمس فيه وجه ثمّ جعل الأقوى خلافه.

قلت: وجه الخمس انتقال الأرض من المسلم إلى الدمّي، لأنّ المفروض أنّها صارت للمسلم ثمّ رجعت إلى ملك الذمّي، فلو قلنا بثبوت الخمس في كلّ انتقال فهذا من مصاديقه.

ولكن قد عرفت أنّه لم يثبت الخمس في جميع الانتقالات، سلّمنا، ولكن لا يصدق عليه الانتقال إليه من مسلم بعد أن كان الفسخ بالخيار أو الإقالة هو ابطال المعاوضة السابقة لا معاوضة جديدة فيرجع الملك إلى ما كان من قبل كما هو ظاهر.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 222

المسألة التاسعة: من بحكم المسلم من اطفال المسلمين ومجانينهم فهو بحكم المسلمين، فلو اشترى الذمّي الأرض المملوكة من طفل من أطفال المسلمين بإذن وليّه وجب عليه الخمس، لجريان جميع أحكام المسلمين على أولادهم في طيات كتب الفقه، وكذا الحكم في عكسه بأن اشترى الذمّي لولده مثلًا أرضاً من مسلم فإنّه داخل في مورد الرواية (بناءً على تعلق الخمس بغير البالغين ولكنه محل للكلام) وكان الأولى لصاحب العروة ذكره أيضاً كما ذكره صاحب الجواهر قدس سره.

المسألة العاشرة: إذا بيع خمس الأرض التي اشتراها الذمي عليه أو على

ذمّي آخر وجب الخمس في ذلك الخمس وكذلك إلى أية مرحلة انتهى إليها البيع، هذا إذا كان بعد أداء الخمس إلى أربابه أو إلى الحاكم الشرعي ولو بتخلية اليد لتحقق ملك المسلم لها، أمّا إذا كان قبل الأداء فإن قلنا بتعلق الخمس بالعين على نحو الإشاعة أو الكلي في المعين فالأمر أيضاً واضح، أمّا إذا قلنا بعدم ذلك وأنّه حقّ مالي يتعلق بالعين فإذا بيع عليه يشكل تعلق الخمس بذلك العين، لعدم صدق الاشتراء بالنسبة إلى الأرض بل بالنسبة إلى الحقّ المتعلق به، فتأمل جيّداً.

7- أرباح المكاسب ممّا يتعلق به الخمس

هذا القسم أوسع نطاقاً من جميع موارد الخمس، وعليه تدور رحى كثير من الخدمات الدينية والحوزات العلمية وأمر الحكومة، وهو سبب لتنمية هذه الأُمور وستعرف أنّه من مختصات الشيعة لم يقل به أحد من فقهاء العامة، وصار هذا سبباً لاتكالهم في مصارف النشاطات الدينية على الحكومات الظالمة والحركة على وفق مراداتهم والتسليم لأوامرهم ونواهيهم من دون أي استقلال في هذه الأُمور.

أمّا شيعة أهل البيت عليهم السلام فببركة إرشاداتهم وفي ضوء هداهم، استغنوا بسبب هذا الحكم عن قرع باب الظالمين والحاجة إليهم في أُمورهم الدينية.

ويقع البحث فيه فهنا في مقامات ثلاثة:

1- أصل وجوب الخمس في الأرباح.

2- استثناء المؤونة وفروعاتها.

3- مصرفها في حال الحضور والغيبة وأنّه هل ثبت تحليلهم له مطلقاً أم في خصوص زمن الغيبة.

أمّا الثالث فالكلام فيه موكول إلى آخر مباحث الخمس في الفصل الأخير من هذا الكتاب أي فصل قسمة الخمس.

المقام الأول: أصل وجوب الخمس في الأرباح

يقع البحث في أصل وجوب الخمس في الأرباح في مقامين:

وأمّا المقام الأوّل: وجوب الخمس في الأرباح فحاصل الكلام فيه أنّ وجوب الخمس في هذا القسم من المشهورات بل ادّعى الإجماع فيه وتواتر الأخبار به.

قال الشيخ رحمه الله في الخلاف في المسألة 139 من كتاب الزكاة: «يجب الخمس في جميع المستفاد من أرباح التجارات والغلات والثمار على اختلاف أجناسها بعد إخراج حقوقها ومؤونتها وإخراج مؤونة الرجل لنفسه ومؤونة عياله سنة ولم يوافقنا على ذلك أحد من الفقهاء، دليلنا: إجماع الفرقة وإخبارهم وطريقة الاحتياط تقتضي ذلك».

وحكى صاحب الجواهر عن الغنية والتذكره والمنتهى وظاهر الانتصار والسرائر، الإجماع عليه ... ثمّ قال: «وهو الذي استقر عليه المذهب والعمل في زماننا هذا، بل وغيره من الأزمنة السابقة التي يمكن دعوى اتصالها بزمان أهل العصمة عليهم السلام» «1».

هذا ولكن

المحقّق رحمه الله في المعتبر بعد نسبة القول بذلك إلى كثير من الأصحاب قال:

«وقال ابن أبي عقيل: وقد قيل الخمس في الأموال كلّها .... لأنّ ذلك إفادة من اللَّه وغنيمة، وقال ابن الجنيد: فأمّا ما استفيد من ميراث أو كد بدن أو صلة أخ أو ربح تجارة أو نحو ذلك فالأحوط إخراجه (إخراج خمسه) لاختلاف الرواية في ذلك ... ولو لم يخرجه الإنسان لم يكن كتارك الزكاة التي لا خلاف فيها» «2».

وظاهر تعبير الأوّل ب «قيل» وتعبير الثاني ب «الأحوط» لا سيّما مع تصريحه في آخر كلامه بعدم كون تاركه مثل تارك الزكاة التردد في وجوب الخمس في هذا القسم، فهل ترددهم كان من جهة أصل وجوبه أم من جهة العفو عنه وتحليله، وعلى كلّ حال فلا يظهر منهم المخالفة بل الترديد في المسألة، ولو فرض مخالفتهم في ذلك فلا يبعد انعقاد الإجماع انوار الفقاهة، ج 2، ص: 225

على خلافهم كما عن الشهيد رحمه الله في البيان حيث قال: «وظاهر ابن الجنيد وابن أبي عقيل العفو عن هذا النوع وأنّه لا خمس فيه والأكثر على وجوبه- و هو المعتمد- لانعقاد الإجماع عليه في الأزمنة السابقه لزمانهما واشتهار الروايات فيه» «1».

والذي يدلّ على ثبوت الحكم فيه قبل كلّ شي ء هو آية الخمس، وقد مرّ أنّ الغنيمة تعم جميع المنافع ولا تختصّ بغنائم دار الحرب، وورودها في مورد آيات الجهاد لا يوجب تخصيصها بهذه الغنائم خاصة فكم من عام ورد في مورد خاص وكم من قانون كلي انطبق على مصداق جزئي، وذلك لُامور:

1- قد أشرنا سابقاً إلى كلمات أرباب اللغة والمفسرين وموارد استعمال هذه الكلمة وأنّ الغنيمة عندهم هي «كلّ مال مظفور به من جهة العدى وغيره» (كما

في المفردات).

«والغنم الفوز بالشي ء، من غير مشقة» (كما في لسان العرب).

«وأنّ الأصل فيها هو إفادة شي ء لم يملك من قبل» (كما في المقاييس).

«وأنّ الغنم والغنيمة الفوز بالشي ء بلا مشقّة» (كما في تاج العروس، وفي شرح القاموس إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا الباب وقد ورد في الكتاب العزيز «فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ» «2».

وهو ليس بمعنى غنائم الحرب كما هو واضح.

2- وقد ورد في أحاديث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «غنيمة مجالس الذكر الجنّة الجنّة» «3»، «و أسئلك الغنيمة من كلّ برّ» «4»، «اغتنموها واطلبوا المغفرة» «5»، «واغتنمت الدعوة» «6».

3- وقد ورد استعمالها في أحاديث الأئمّة المعصومين عليهم السلام في المعنى الأعم إلى ما شاء اللَّه، ففي حديث لأميرالمؤمنين عليه السلام: «لقاء الإخوان مغنم» «7».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 226

وفي حديث آخر له عليه السلام: «اغتنموا الدعاء عند أربع: عند قراءة القرآن، وعند الاذان، وعند نزول الغيث، وعند إلتقاء الصفين للشهادة» «1».

ويدلّ على ذلك أو يؤيده إطلاق الغنم على الحيوان المعروف، فإنّه إنّما اطلق عليه ذلك لكثرة منافعه وإلّا لم يكن الغنم ممّا يغنمه العرب في حروبهم حتّى يقال: كثرة أخذه بعنوان الغنيمة صارت سبباً لإطلاق هذا الاسم عليه.

قد وردت في كلمات مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام فيما حكى عنه في نهج البلاغة موارد كثيرة، منها: «الحمد للَّه ... مانح كلّ غنيمة» «2».

ومنها: «إنّ اللَّه سبحانه جعل الطاعة غنيمة الأكياس» «3».

ومنها: «من أخذ بها (شرائع الدين) لحق وغنم» «4».

ومنها: «لا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم» «5».

ومنها: «اغتنم المهل وبادر الأجل وتزود من العمل» «6».

وقد ورد التصريح بعمومية معنى الغنيمة في خصوص الآية الشريفة أيضاً روايات.

ومنها: ما رواه علي بن مهزيار في حديث طويل له

عن أبي جعفر عليه السلام وفيه: «فأمّا الغنائم والفوائد فهي واجبة عليهم في كلّ عام قال اللَّه تعالى: «وَاعْلَمُواْ أَ نَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْ ءٍ ...» والغنائم والفوائد يرحمك اللَّه فهي الغنيمة يغنمها المرء، والفائدة يفيدها، والجائزة من الإنسان للإنسان التي لها خطر ...» «7».

ومنها: ما ورد في رواية حكيم مؤذن بني عيس (ابن عيسى)، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال:

قلت له: «وَاعْلَمُواْ أَ نَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ» قال: «هي واللَّه الإفادة

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 227

يوماً بيوم إلّاأنّ أبي جعل شيعتنا من ذلك في حلّ ليزكوا» «1».

ومنها: ما رواه صاحب الفقه الرضوي بعد ذكر الآية «وكلّ ما أفاده الناس فهو غنيمة». «2»

ومنها: قول الصادق عليه السلام: «ليس الخمس إلّافي الغنائم خاصّة» «3»

إلى غير ذلك.

ومن ذلك كلّه في ما في المدارك وقد حكى متابعة صاحب الذخيرة له فيه من الإشكال في دلالة الآية، وأنّ المتبادر من الغنيمة الواقعة فيها غنيمة دار الحرب كما يدلّ عليه سياق الآيات.

وفيه ما عرفت من الشواهد الكثيرة والروايات المعتبرة الدالة على أنّها استعملت في المعنى الأعم الموافق لمعناه في اللغة واستعمالات أهل العرف.

أمّا كونها في سياق آيات الحرب فغير قادح، لعدم كون المورد مخصّصاً للحكم الوارد عليه.

المقام الثاني: الروايات الواردة فيه الروايات الكثيرة التي ادّعى تواترها فيها روايات صحيحة كثيرة وغيرها نذكر شطراً منها:

1- موثقة سماعة قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن الخمس فقال: «في كلّ ما أفاد الناس من قليل أو كثير» «4».

2- ما رواه عبداللَّه بن سنان قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «على كلّ امرى ء غنم أو اكتسب الخمس ممّا أصاب لفاطمة عليها السلام ولمن يلي أمرها من بعدها من ذرّيتها الحجج على الناس

فذلك لهم خاصّة يضعونه حيث شاؤوا ...». الحديث «5».

3- ما رواه علي بن مهزيار عن محمّد بن الحسن الأشعري قال: كتب بعض أصحابنا إلى انوار الفقاهة، ج 2، ص: 228

أبي جعفر الثاني عليه السلام أخبرني عن الخمس أعلى جميع ما يستفيد الرجل من قليل وكثير من جميع الضروب وعلى الصناع؟ وكيف ذلك؟ فكتب بخطه: «الخمس بعد المؤونة» «1».

4- ما رواه علي بن مهزيار أيضاً عن علي بن محمّد النيسابوري: أنّه سأل أبا الحسن الثالث عليه السلام عن رجل أصاب من ضيعته من الحنطة مائة كر ما يزكى فأخذ منه العشر عشرة إكرار وذهب منه بسبب عمارة الضيعة ثلاثون كراً وبقي في يده ستون كراً ما الذي يجب لك من ذلك؟ وهل يجب لأصحابه من ذلك عليه شي ء؟ فوقع لي منه: «الخمس ممّا يفضل من مؤونته» «2».

5- ما رواه علي بن مهزيار أيضاً قال: قال لي أبو علي بن راشد قلت له: أمرتني بالقيام بأمرك وأخذ حقّك فأعلمت مواليك بذلك، فقال لي بعضهم: وأيّ شي ء حقّه؟ فلم أدر ما أجيبه؟ فقال: يجب عليهم الخمس. فقلت: ففي أي شي ء؟ فقال: في أمتعتهم وصنائعهم. قلت: والتاجر عليه والصانع بيده؟ فقال: إذا أمكنهم بعد مؤونتهم» «3».

6- ما رواه علي بن مهزيار أيضاً قال: كتب إليه أبو جعفر عليه السلام وقرأت أنا كتابه إليه في طريق مكة قال: «... فالغنائم والفوائد يرحمك اللَّه فهي الغنيمة يغنمها المرء، والفائدة يفيدها، والجائزة من الإنسان للإنسان التي لها خطر، والميراث الذي لا يحتسب من غير أب ولا ابن، ومثل عدوّ يصطلم فيؤخذ ماله، ومثل مال يؤخذ ولا يعرف له صاحب، وما صار إلى مواليّ من أموال الخرمية الفسقة» «4» الحديث.

إلى غير ذلك ممّا رواه

صاحب الوسائل في الباب الثامن فقد أنهاها إلى عشر روايات، مضافاً إلى روايات كثيرة وردت في الباب الرابع من أبواب الأنفال الدالّة على تحليل التجارات والزراعات وغيرها (تحليلًا في برهة خاصة من الزمان) يدلّ بدلالته الالتزامية على وجوب الخمس في هذه الأُمور، وبعض ما ورد في الباب الثالث منه أيضاً، ولعلّ المجموع يبلغ حدّ التواتر الذي ادّعاه بعضهم.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 229

ومن هنا تعرف أنّه لا تنحصر الرواية فيما رواه علي بن مهزيار، حتّى يقال أنّها راجعة إلى خبر واحد وإن كان خبر الواحد الثقة أيضاً حجّة لا سيّما بعد عمل الأصحاب على وفقه.

كما أنّ الإشكال على صحيحة علي بن مهزيار الأخيرة بأنّها متروكة الظاهر «1» أو بأنّ فيها أحكاماً كثيرة مخالفة للمذهب «2» أو أنّ في متنها أنحاء الاضطراب المانع من الوثوق بصدوره، ولم يعتمد عليها أصحابنا من السلف والخلف «3» أو غير ذلك ممّا ذكروه، أو أنّ الرواية في غاية الإشكال ونهاية الاعضال وأجوبة صاحب المعالم مع كونها تكلفات مدخولة كما ذكرها صاحب الحدائق «4» إلى غير ذلك.

لكن الإنصاف إمكان الذبّ عن جميعها، وقد أشار صاحب المعالم إلى أربعة منها، ولكن يمكن إنهاؤها إلى ثمانية أو سبعة:

أحدها: أنّ قوله: «أوجبت ...» ممّا لا يمكن المساعدة عليه، لأنّ شأن الإمام عليه السلام حفظ الشريعة لا تشريع الأحكام وايجاب الواجبات.

ثانيها: أنّ قوله «فقط» الدالّ على انحصار الايجاب لتلك السنة- وهي سنة 220 من الهجرة- ينافي أبدية الأحكام، فإنّ الحلال حلال إلى يوم القيامة والحرام كذلك.

ويمكن دفع كلا الإشكالين بأنّ هذا الحكم ليس من الأحكام الفتوائية الكلية، بل حكم جزئي ولائي، فإنّ للإمام المعصوم عليه السلام والفقيه القائم مقامه مقامات مختلفة، مقام الفتوى ومقام القضاء ومقام

الولاية، فبالأوّل يبيّن الأحكام الكلية الشرعية وبالثاني يكون بصدد احقاق الحقوق وإجراء الحدود وبالثالث يكون في مقام إدارة شؤون المجتمع الإسلامي، وقد تكون للمجتمع مضائق توجب أحكاماً جزئية إجرائية في مقاطع خاصّة مثل ما هو المعروف عن السيّد السند الميرزا الشيرازي رحمه الله في تحريم التنباكو، والظاهر أنّ الأمر بوجوب خمس الذهب والفضة من قبل الإمام عليه السلام في سنة 220 على شيعته يكون من هذا القبيل وإن كان بعض حكمته تطهيرهم عمّا قصروا فيه من أمر الزكاة وغيره، ولكن ظاهر

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 230

الحديث أنّه بعض تفسير هذا الحكم لا تمام تفسيره، والظاهر أنّ الإمام الجواد عليه السلام كان في تلك السنة جديد العهد ببغداد وكان ضعفاء شيعته في حرج شديد وكانوا محتاجين إلى مصارف كثيرة، فلذا أوجب عليهم ذلك في تلك السنة لا في غيرها من السنوات.

وحيث اشتبه هذا الحكم الولائي بالأحكام الكلية على كثير من الأعلام، زعموا أنّ ظاهر الحديث مضطرب ومخالف للمذهب (وتمام الكلام في ذلك في محلّه من بحث ولاية الفقيه وإن كان فيما ذكرنا من الإشارة غني وكفاية للمقام).

ثالثها ورابعها: أنّه كيف خصّ الإمام عليه السلام الذهب والفضة اللتين قد حال عليهما الحول بهذا الحكم مع أنّ الحول شرط للزكاة لا الخمس فإنّه يتعلق بجميع الفوائد بمجرّد حصولها، وإن كان الواجب موسعاً نظراً إلى مؤونة السنة فالحول ليس شرطاً للوجوب فيه بل لأخذ مؤونة السنة، هذا مضافاً إلى ما في اختصاص الذهب والفضة بالحكم مع أنّ حكم الخمس عام.

والجواب عنهما: أيضاً ظاهر بعد ما عرفت أنّه حكم ولائي تابع لنظر الإمام المعصوم عليه السلام والفقيه القائم مقامه، فقد رأى المصلحة لجعله على شي ء خاصّ بشرط معين في زمن معلوم،

وليس حكماً كلياً إلهياً لمسألة الخمس.

وقد احتمل بعض أنّ هذا كان زكاة وإن كان بمقدار الخمس، فأمر الإمام عليه السلام بأخذ الزكاة في تلك السنة بدل الواحد من الأربعين (25 في المائة) خمساً (20 في المائة) لتقصير شيعته في أداء الزكاة في السنين العديدة، وكان هذا مصالحة منه بالنسبة إليه (وعلى هذا يكون في سلك الأحكام الفتوائية الثابتة لكلّ من قصّر في الزكاة) وإنّما خصّ الذهب والفضة بها لأنّ الخلفاء كانوا يأخذون الزكاة عن الأموال الظاهرة من الزراعات والأنعام، وأمّا الأموال الباطنة كالذهب والفضة لم تكن ظاهرة لهم فصار هذا سبباً لتخفيفه عليه السلام في غيرهما، وجعل الاستشهاد بآية الزكاة في الرواية شاهداً عليه.

ويرد عليه: أنّ تطهير الشيعة عن حقوقهم الواجبة كان من قبيل الحكمة، فإنّ الحكم عام في حقّ الجميع مع أنّ التقصير لم يكن في جميعهم ظاهراً وكان بعضهم يؤدون زكاة أموالهم أو كان تقصيرهم أقل من الخمس الذي يكون أكثر من الزكاة ثمان مرّات.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 231

هذا مضافاً إلى أن قوله عليه السلام: «ولم أوجب ذلك عليهم في متاع ولا آنية ولا دواب ولا خدم وربح تجارة وضيعة إلّافي ضيعة سأفسر لك أمرها تخفيفاً مني عن مواليَّ» ينافي ذلك، لعدم جريان الزكاة في هذه الأُمور فاستثناؤها ممّا لا يحتاج إلى الذكر.

وأمّا استشهاده عليه السلام بآية الزكاة، فالظاهر أنّه لاشتراك الخمس والزكاة في كونهما سبباً لتطهير النفوس وتزكيتها (وكلّ منها بدل عن الآخر فله أثره).

فالأوْلى حمل الخمس على معناه المعروف وحمله على الحكم الولائي كما ذكرنا لا الزكاة.

خامسها: أنّ ما ذكره عليه السلام في تفسير الغنائم والفوائد الذي يشمل أرباح التجارات ينافي ما أفاده قبله من تخفيفه عليه السلام فيها.

والجواب عنه: أيضاً

ظاهر بعد ما عرفت من أنّ هناك خمسين، خمس واجب عليه بعنوان حكم كلي في كلّ سنة، وخمس آخر في خصوص تلك السنة أوجبه عليهم لمصالح رآها وهو ولي المسلمين، والأخير ناظر إلى الثاني والأوّل إلى الأوّل.

سادسها: إيجاب الخمس على الميراث ممّن لا يحتسب والجائزة مع أنّه خلاف ما ثبت من الأدلة.

والجواب عنه: أنّه سيأتي إن شاء اللَّه إمكان القول بوجوب الخمس فيهما في خصوص من لا يحتسب من الميراث والجائزة التي لها خطر.

سابعها: ايجاب الخمس على «مال يؤخذ ولا يعرف له صاحب» فإنّ المجهول مالكه لا يملك، فلا يجب فيه الخمس بل الواجب التصدق به على الفقراء.

ويمكن الجواب عنه: بأنّ المذكور في بعض النسخ «يوجد» بدل «يؤخذ» فيمكن حمله على اللقطة، ومن المعلوم إمكان تملكها بعد تعريفها سنة مع ضمانها لو وجد صاحبها، وحينئذٍ تدخل في عموم المنافع والفوائد.

وأجيب بإمكان حمله على خصوص المال المحتمل كونه من المباحات الأصلية للفرق بين قوله «لا يعرف له صاحب» و «لا يعرف صاحبه» فالأول يحتمل عدم وجود صاحب له أصلًا ولكن لا يخلو من تكلف.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 232

ثامنها: ما ورد في ذيل الصحيحة وهو وجوب نصف السدس في الضياع والغلات في كلّ عام مع أنّه لا يوافق شيئاً ممّا نعرفه من الأحكام في هذا الباب ولم يفتِ به أحد.

والجواب: كما أشار إليه غير واحد من المحقّقين هو أنّ هذا من باب تخفيف الإمام عليه السلام على شيعته والمراد من كلّ عام، جميع سنوات حياته عليه السلام ويشهد لذلك مكاتبة إبراهيم بن محمّد الهمداني رحمه الله إليه (الظاهر أنّه الإمام الهادي) كتب: «أقرأني عليّ (علي بن مهزيار) كتاب أبيك فيما أوجبه على أصحاب الضياع أنّه أوجب عليهم

نصف السدس بعد المؤونة وأنّه ليس على من لم يقم ضيعته بمؤونته نصف السدس ولا غير ذلك فاختلف من قبلنا في ذلك، فقالوا: يجب على الضياع الخمس بعد المؤونة مؤونة الضيعة وخراجها لا مؤونة الرجل وعياله، فكتب وقرأه علي بن مهزيار، عليه الخمس بعد مؤونته ومؤونة عياله وبعد خراج السلطان» «1».

فإنّ ظاهرها رجوع حكم الإمام الهادي عليه السلام إلى الخمس بعد ما كان حكم أبوه الإمام الجواد عليه السلام تخفيفاً نصف السدس، وهذه المكاتبة ممّا تدلّ على جواز تحليل الإمام عليه السلام لبعض الأزمنة، دون تحليل إمام آخر عليه السلام.

ولعلّ هذا التخفيف كان بملاحظة ما يغتاله السلطان منهم كما في صدر الرواية وكان ما يغتاله العشر وهو مع نصف السدس يقرب من الخمس (فإنّ مجموعهما يكون 22 من 120 جزء بينما يكون الخمس 24 من 120 جزء).

فقد ظهر بعون اللَّه أنّ الرواية سليمة من الإشكالات قابلة للاستناد إليها في باب وجوب الخمس وسائر الأبواب ممّا يستفاد منها حكم بالنسبة إليها.

وهاهنا إشكال معروف: حاصله أنّه كيف يكون خمس الأرباح واجباً في الشريعة مع أنّه لم يعهد من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أخذه ولا جعل من يجبيه كما في جباية الزكاة والخراج، بل وكذلك في عهد الوصي أميرالمؤمنين عليه السلام والأئمّة المتقدمين ولم ينقل في تاريخ ولا رواية أخذهم لهذا القسم من الخمس، نعم أخذها الأئمّة المتأخرون عليهم السلام فكيف يكون هذا من الواجبات والأمر كذلك وكيف يمكن حلّ هذه المشكلة؟ وأجيب عنه بأُمور:

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 233

1- إنّه كان ذلك من طريق اخفاء الظالمين، فكم من حكم جلي أخفوه وكم من حكم واضح غفلوا عنه بأسباب شتى لا سيّما بسبب تخلّل عصر الأمويين

بيننا وبين عصر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، وقد ورد في صحيح أبي داود وسنن النسائي أنّ أكثر أهل الشام لم يكونوا يعرفون أعداد الفرائض «1» وليس هذا عديم المثال فإنّه قد وقع الخلاف في المسائل العامة البلوى بين الفريقين كمسائل الوضوء وبعض خصوصيات الصلاة وغيرها.

لكن الإنصاف أنّ الاقتناع بذلك مشكل إذ لا ندري ما هو الداعي للظلمة وأصحابهم على إخفاء أمر خمس الأرباح مع إمكان انتفاعهم به فاللازم طلب جواب أحسن منه.

2- لعلّ هذا الحكم كان من الأحكام الولائية التي تختلف باختلاف المقاطع والأزمنة بحسب ما يراه أولياء الأمر من المصالح والضرورات ولم يكن كالزكاة المفروضة بعنوان كلي، ولذا ترى بعض الأئمّة عليهم السلام يحللونه وبعضهم يأخذونه، وللولي الفقيه النائب عنهم أيضاً ذلك.

وفيه: أنّه لا يناسب التعبيرات الكثيرة الواردة في أخبار الباب من تفسير الآية الشريفة به وأنّها شاملة لجميع الأرباح كما مرّ ذكرها، بل وكذلك ما دلّ على أنّ الخمس حقّ ثابت لهم بعنوان قانون كلي إلهي، وبالجملة فإنّ روايات هذا الباب والآية الشريفة تأبى عن هذا الحمل كما هو ظاهر.

3- إنّه فرق كبير بين الزكاة والخمس، فإنّ الأوّل ملك للفقراء وحقّ يصرف في مصالح المسلمين وهو صلى الله عليه و آله مأمور بأخذها وجبايتها، وأمّا الخمس فهو حقّ له صلى الله عليه و آله ولأوصيائه عليهم السلام ومن هنا لم يؤمر إلّابتبليغه، بل قد لا يناسب أخذه من طريق نصب الجباة لجلالة مقامهم وعظمة شأنهم «2».

4- إنّه مبني على تدريجية الأحكام وجواز تأخير التبليغ عن عصر التشريع بإيداع بيانه من النبي الأكرم صلى الله عليه و آله إلى الإمام ليظهره في ظرفه المناسب له حسب المصالح الوقتية الباعثة على ذلك،

بل قد تكون بعض الأُمور مودعة عند الإمام المهدي عليه السلام وهو مأمور بابلاغها «3».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 234

والإنصاف أنّ هذا أيضاً تكلّف واضح لا يروي الغليل ولا يشفي العليل فإنّ الخمس أيضاً لم يكن كالأملاك الشخصية لهم عليهم السلام. أمّا سهم السادة فأمره واضح فإنّه بدل عن الزكاة المحرمة عليهم ولم يكن طلبه من الناس مخالفاً لعلو مقام الأئمّة الهادين عليهم السلام بعد كونهم أولياء للسادة المحرومين، وأمّا سهم الإمام عليه السلام فإنّه أيضاً يصرف في خدمة المجتمع الإسلامي في طريق تقوية الحكومة الإسلامية التي تعود فائدتها إلى جميع آحاد الناس.

أقول: ويمكن أن يقال في توضيح ذلك وتشييد مبانيه:

أوّلًا: أنّه لو لم تُحلّ هذه المسألة لم يضرب بأصل الحكم بعد قيام الإجماع وظهور كتاب اللَّه ودلالة الروايات المتواترة الظاهرة في المقصود المعمول بها بين الأصحاب، فكم من مسألة في باب المصالح والمفاسد وكيفية تشريع الأحكام لم تُحلّ لنا، لابدّ من إرجاع أمرها إلى أهلها من دون أن يكون ذلك سبباً للشك في أصل الحكم بعد وضوح مداركه.

ثانياً: أنّ مسألة تشريع الخمس في الإسلام لها أدوار ثلاثة: دور السكوت عنه وهو عصر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله والأئمّة المتقدّمين كأميرالمؤمنين عليه السلام والحسن والحسين وزين العابدين- عليهم أفضل صلوات المصلين-، فإنّه قل ما يرى من بيان خمس الأرباح في عصرهم عين وأثر.

والدور الثاني دور الصادقين عليهم السلام، فإنّهما تكلّما عن أصل حكمه وأكدا وأصرا عليه مع تصريحهما بابإحتهما للشيعة إيّاه نظراً إلى ظروفهم المعيّنة، مثل ما رواه يونس بن يعقوب قال: كنت عند أبي عبداللَّه عليه السلام فدخل عليه رجل من القماطين، فقال: جعلت فداك تقع في أيدينا الأموال والأرباح والتجارات نعلم أن

حقّك فيها ثابت وإنا عن ذلك مقصرون. فقال أبو عبداللَّه عليه السلام: «ما أنصفناكم إن كلّفناكم ذلك اليوم» «1».

وما رواه داود بن كثير الرقّي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام أيضاً قال: سمعته يقول: «الناس كلّهم يعيشون في فضل مظلمتنا إلّاإنّا أحللنا شيعتنا من ذلك» «2».

وما رواه حكيم مؤذن بني عيس عنه عليه السلام أيضاً مع التصريح فيها بتحليل أبيه عليه السلام قال:

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 235

قلت له: «واعلموا أنّما غنمتم من شي ء فانّ للَّه خمسه وللرسول» قال: «هي واللَّه الإفادة يوماً بيوم إلّاأن أبي جعل شيعتنا من ذلك في حلّ ليزكوا» «1».

وما رواه الحارث بن المغيرة النصري عنه عليه السلام أيضاً قال: قلت له: إنّ لنا أموالًا من غلات وتجارات ونحو ذلك، وقد علمت أنّ لك فيها حقّاً. قال: «فلم أحللنا إذا لشيعتنا إلّالتطيب ولادتهم، وكلّ من والى آبائي فهو في حلّ ممّا في أيديهم من حقّنا فليبلغ الشاهد الغائب» «2».

وما رواه في رواية أبي سيار مسمع بن عبدالملك من كون خمس الأرض وما أخرج اللَّه منه لهم (بل جميعها لهم من ناحية أُخرى) وأنّهم أحلوا ذلك لشيعتهم فراجع «3».

بل قد يشعر أو يدلّ بعض روايات هذا الباب أخذ الصادق عليه السلام إيّاه من بعض الشيعة مثل ما رواه عبداللَّه بن سنان قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «على كلّ امرى ء غنم أو اكتسب الخمس ممّا أصاب لفاطمة عليها السلام ولمن يلي أمرها من بعدها من ذرّيتها الحجج على الناس فذاك لهم خاصة يضعونه حيث شاءوا، وحرم عليهم الصدقة حتّى الخياط ليخيط قميصاً بخمسة دوانيق فلنا منه دانق إلّامن أحللناه من شيعتنا لتطيب لهم به الولادة إنّه ليس من شي ء عند اللَّه يوم القيامة أعظم من

الزنا إنّه ليقوم صاحب الخمس، فيقول: يا ربّ سل هؤلاء بما أبيحوا» «4»

. بناءً على أن يكون «من» في قوله: «إلّا من أحللناه من شيعتنا» للتبعيض (كما هو الظاهر) لا للبيان.

الدور الثالث دور أبي الحسن الرضا عليه السلام والأئمّة الهادين عليهم السلام من بعده والظاهر أنّهم كانوا يأخذونه كما تدلّ عليه الروايات الكثيره الواردة في الباب 3 من أبواب الأنفال مثل ما رواه محمّد بن زيد الطبري قال: «كتب رجل من تجار فارس من بعض موالي أبي الحسن الرضا عليه السلام يسأله الإذن في الخمس؟ فكتب إليه: «بسم اللَّه الرحمن الرحيم، إنّ اللَّه واسع كريم، ضمن على العمل الثواب وعلى الضيق الهمّ، لا يحل مال إلّامن وجه أحلّه اللَّه،

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 236

يقع البحث في أصل وجوب الخمس في الأرباح في مقامين:

وأمّا المقام الأوّل: وجوب الخمس في الأرباح فحاصل الكلام فيه أنّ وجوب الخمس في هذا القسم من المشهورات بل ادّعى الإجماع فيه وتواتر الأخبار به.

قال الشيخ رحمه الله في الخلاف في المسألة 139 من كتاب الزكاة: «يجب الخمس في جميع المستفاد من أرباح التجارات والغلات والثمار على اختلاف أجناسها بعد إخراج حقوقها ومؤونتها وإخراج مؤونة الرجل لنفسه ومؤونة عياله سنة ولم يوافقنا على ذلك أحد من الفقهاء، دليلنا: إجماع الفرقة وإخبارهم وطريقة الاحتياط تقتضي ذلك».

وحكى صاحب الجواهر عن الغنية والتذكره والمنتهى وظاهر الانتصار والسرائر، الإجماع عليه ... ثمّ قال: «وهو الذي استقر عليه المذهب والعمل في زماننا هذا، بل وغيره من الأزمنة السابقة التي يمكن دعوى اتصالها بزمان أهل العصمة عليهم السلام» «1».

هذا ولكن المحقّق رحمه الله في المعتبر بعد نسبة القول بذلك إلى كثير من الأصحاب قال:

«وقال ابن أبي عقيل: وقد قيل الخمس

في الأموال كلّها .... لأنّ ذلك إفادة من اللَّه وغنيمة، وقال ابن الجنيد: فأمّا ما استفيد من ميراث أو كد بدن أو صلة أخ أو ربح تجارة أو نحو ذلك فالأحوط إخراجه (إخراج خمسه) لاختلاف الرواية في ذلك ... ولو لم يخرجه الإنسان لم يكن كتارك الزكاة التي لا خلاف فيها» «2».

وظاهر تعبير الأوّل ب «قيل» وتعبير الثاني ب «الأحوط» لا سيّما مع تصريحه في آخر كلامه بعدم كون تاركه مثل تارك الزكاة التردد في وجوب الخمس في هذا القسم، فهل ترددهم كان من جهة أصل وجوبه أم من جهة العفو عنه وتحليله، وعلى كلّ حال فلا يظهر منهم المخالفة بل الترديد في المسألة، ولو فرض مخالفتهم في ذلك فلا يبعد انعقاد الإجماع انوار الفقاهة، ج 2، ص: 225

على خلافهم كما عن الشهيد رحمه الله في البيان حيث قال: «وظاهر ابن الجنيد وابن أبي عقيل العفو عن هذا النوع وأنّه لا خمس فيه والأكثر على وجوبه- و هو المعتمد- لانعقاد الإجماع عليه في الأزمنة السابقه لزمانهما واشتهار الروايات فيه» «1».

والذي يدلّ على ثبوت الحكم فيه قبل كلّ شي ء هو آية الخمس، وقد مرّ أنّ الغنيمة تعم جميع المنافع ولا تختصّ بغنائم دار الحرب، وورودها في مورد آيات الجهاد لا يوجب تخصيصها بهذه الغنائم خاصة فكم من عام ورد في مورد خاص وكم من قانون كلي انطبق على مصداق جزئي، وذلك لُامور:

1- قد أشرنا سابقاً إلى كلمات أرباب اللغة والمفسرين وموارد استعمال هذه الكلمة وأنّ الغنيمة عندهم هي «كلّ مال مظفور به من جهة العدى وغيره» (كما في المفردات).

«والغنم الفوز بالشي ء، من غير مشقة» (كما في لسان العرب).

«وأنّ الأصل فيها هو إفادة شي ء لم يملك من قبل»

(كما في المقاييس).

«وأنّ الغنم والغنيمة الفوز بالشي ء بلا مشقّة» (كما في تاج العروس، وفي شرح القاموس إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا الباب وقد ورد في الكتاب العزيز «فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ» «2».

وهو ليس بمعنى غنائم الحرب كما هو واضح.

2- وقد ورد في أحاديث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «غنيمة مجالس الذكر الجنّة الجنّة» «3»، «و أسئلك الغنيمة من كلّ برّ» «4»، «اغتنموها واطلبوا المغفرة» «5»، «واغتنمت الدعوة» «6».

3- وقد ورد استعمالها في أحاديث الأئمّة المعصومين عليهم السلام في المعنى الأعم إلى ما شاء اللَّه، ففي حديث لأميرالمؤمنين عليه السلام: «لقاء الإخوان مغنم» «7».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 226

وفي حديث آخر له عليه السلام: «اغتنموا الدعاء عند أربع: عند قراءة القرآن، وعند الاذان، وعند نزول الغيث، وعند إلتقاء الصفين للشهادة» «1».

ويدلّ على ذلك أو يؤيده إطلاق الغنم على الحيوان المعروف، فإنّه إنّما اطلق عليه ذلك لكثرة منافعه وإلّا لم يكن الغنم ممّا يغنمه العرب في حروبهم حتّى يقال: كثرة أخذه بعنوان الغنيمة صارت سبباً لإطلاق هذا الاسم عليه.

قد وردت في كلمات مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام فيما حكى عنه في نهج البلاغة موارد كثيرة، منها: «الحمد للَّه ... مانح كلّ غنيمة» «2».

ومنها: «إنّ اللَّه سبحانه جعل الطاعة غنيمة الأكياس» «3».

ومنها: «من أخذ بها (شرائع الدين) لحق وغنم» «4».

ومنها: «لا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم» «5».

ومنها: «اغتنم المهل وبادر الأجل وتزود من العمل» «6».

وقد ورد التصريح بعمومية معنى الغنيمة في خصوص الآية الشريفة أيضاً روايات.

ومنها: ما رواه علي بن مهزيار في حديث طويل له عن أبي جعفر عليه السلام وفيه: «فأمّا الغنائم والفوائد فهي واجبة عليهم في كلّ عام قال اللَّه تعالى: «وَاعْلَمُواْ أَ

نَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْ ءٍ ...» والغنائم والفوائد يرحمك اللَّه فهي الغنيمة يغنمها المرء، والفائدة يفيدها، والجائزة من الإنسان للإنسان التي لها خطر ...» «7».

ومنها: ما ورد في رواية حكيم مؤذن بني عيس (ابن عيسى)، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال:

قلت له: «وَاعْلَمُواْ أَ نَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ» قال: «هي واللَّه الإفادة

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 227

يوماً بيوم إلّاأنّ أبي جعل شيعتنا من ذلك في حلّ ليزكوا» «1».

ومنها: ما رواه صاحب الفقه الرضوي بعد ذكر الآية «وكلّ ما أفاده الناس فهو غنيمة». «2»

ومنها: قول الصادق عليه السلام: «ليس الخمس إلّافي الغنائم خاصّة» «3»

إلى غير ذلك.

ومن ذلك كلّه في ما في المدارك وقد حكى متابعة صاحب الذخيرة له فيه من الإشكال في دلالة الآية، وأنّ المتبادر من الغنيمة الواقعة فيها غنيمة دار الحرب كما يدلّ عليه سياق الآيات.

وفيه ما عرفت من الشواهد الكثيرة والروايات المعتبرة الدالة على أنّها استعملت في المعنى الأعم الموافق لمعناه في اللغة واستعمالات أهل العرف.

أمّا كونها في سياق آيات الحرب فغير قادح، لعدم كون المورد مخصّصاً للحكم الوارد عليه.

المقام الثاني: الروايات الواردة فيه الروايات الكثيرة التي ادّعى تواترها فيها روايات صحيحة كثيرة وغيرها نذكر شطراً منها:

1- موثقة سماعة قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن الخمس فقال: «في كلّ ما أفاد الناس من قليل أو كثير» «4».

2- ما رواه عبداللَّه بن سنان قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «على كلّ امرى ء غنم أو اكتسب الخمس ممّا أصاب لفاطمة عليها السلام ولمن يلي أمرها من بعدها من ذرّيتها الحجج على الناس فذلك لهم خاصّة يضعونه حيث شاؤوا ...». الحديث «5».

3- ما رواه علي بن مهزيار عن محمّد بن الحسن الأشعري قال:

كتب بعض أصحابنا إلى انوار الفقاهة، ج 2، ص: 228

أبي جعفر الثاني عليه السلام أخبرني عن الخمس أعلى جميع ما يستفيد الرجل من قليل وكثير من جميع الضروب وعلى الصناع؟ وكيف ذلك؟ فكتب بخطه: «الخمس بعد المؤونة» «1».

4- ما رواه علي بن مهزيار أيضاً عن علي بن محمّد النيسابوري: أنّه سأل أبا الحسن الثالث عليه السلام عن رجل أصاب من ضيعته من الحنطة مائة كر ما يزكى فأخذ منه العشر عشرة إكرار وذهب منه بسبب عمارة الضيعة ثلاثون كراً وبقي في يده ستون كراً ما الذي يجب لك من ذلك؟ وهل يجب لأصحابه من ذلك عليه شي ء؟ فوقع لي منه: «الخمس ممّا يفضل من مؤونته» «2».

5- ما رواه علي بن مهزيار أيضاً قال: قال لي أبو علي بن راشد قلت له: أمرتني بالقيام بأمرك وأخذ حقّك فأعلمت مواليك بذلك، فقال لي بعضهم: وأيّ شي ء حقّه؟ فلم أدر ما أجيبه؟ فقال: يجب عليهم الخمس. فقلت: ففي أي شي ء؟ فقال: في أمتعتهم وصنائعهم. قلت: والتاجر عليه والصانع بيده؟ فقال: إذا أمكنهم بعد مؤونتهم» «3».

6- ما رواه علي بن مهزيار أيضاً قال: كتب إليه أبو جعفر عليه السلام وقرأت أنا كتابه إليه في طريق مكة قال: «... فالغنائم والفوائد يرحمك اللَّه فهي الغنيمة يغنمها المرء، والفائدة يفيدها، والجائزة من الإنسان للإنسان التي لها خطر، والميراث الذي لا يحتسب من غير أب ولا ابن، ومثل عدوّ يصطلم فيؤخذ ماله، ومثل مال يؤخذ ولا يعرف له صاحب، وما صار إلى مواليّ من أموال الخرمية الفسقة» «4» الحديث.

إلى غير ذلك ممّا رواه صاحب الوسائل في الباب الثامن فقد أنهاها إلى عشر روايات، مضافاً إلى روايات كثيرة وردت في الباب الرابع من أبواب

الأنفال الدالّة على تحليل التجارات والزراعات وغيرها (تحليلًا في برهة خاصة من الزمان) يدلّ بدلالته الالتزامية على وجوب الخمس في هذه الأُمور، وبعض ما ورد في الباب الثالث منه أيضاً، ولعلّ المجموع يبلغ حدّ التواتر الذي ادّعاه بعضهم.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 229

ومن هنا تعرف أنّه لا تنحصر الرواية فيما رواه علي بن مهزيار، حتّى يقال أنّها راجعة إلى خبر واحد وإن كان خبر الواحد الثقة أيضاً حجّة لا سيّما بعد عمل الأصحاب على وفقه.

كما أنّ الإشكال على صحيحة علي بن مهزيار الأخيرة بأنّها متروكة الظاهر «1» أو بأنّ فيها أحكاماً كثيرة مخالفة للمذهب «2» أو أنّ في متنها أنحاء الاضطراب المانع من الوثوق بصدوره، ولم يعتمد عليها أصحابنا من السلف والخلف «3» أو غير ذلك ممّا ذكروه، أو أنّ الرواية في غاية الإشكال ونهاية الاعضال وأجوبة صاحب المعالم مع كونها تكلفات مدخولة كما ذكرها صاحب الحدائق «4» إلى غير ذلك.

لكن الإنصاف إمكان الذبّ عن جميعها، وقد أشار صاحب المعالم إلى أربعة منها، ولكن يمكن إنهاؤها إلى ثمانية أو سبعة:

أحدها: أنّ قوله: «أوجبت ...» ممّا لا يمكن المساعدة عليه، لأنّ شأن الإمام عليه السلام حفظ الشريعة لا تشريع الأحكام وايجاب الواجبات.

ثانيها: أنّ قوله «فقط» الدالّ على انحصار الايجاب لتلك السنة- وهي سنة 220 من الهجرة- ينافي أبدية الأحكام، فإنّ الحلال حلال إلى يوم القيامة والحرام كذلك.

ويمكن دفع كلا الإشكالين بأنّ هذا الحكم ليس من الأحكام الفتوائية الكلية، بل حكم جزئي ولائي، فإنّ للإمام المعصوم عليه السلام والفقيه القائم مقامه مقامات مختلفة، مقام الفتوى ومقام القضاء ومقام الولاية، فبالأوّل يبيّن الأحكام الكلية الشرعية وبالثاني يكون بصدد احقاق الحقوق وإجراء الحدود وبالثالث يكون في مقام إدارة شؤون المجتمع

الإسلامي، وقد تكون للمجتمع مضائق توجب أحكاماً جزئية إجرائية في مقاطع خاصّة مثل ما هو المعروف عن السيّد السند الميرزا الشيرازي رحمه الله في تحريم التنباكو، والظاهر أنّ الأمر بوجوب خمس الذهب والفضة من قبل الإمام عليه السلام في سنة 220 على شيعته يكون من هذا القبيل وإن كان بعض حكمته تطهيرهم عمّا قصروا فيه من أمر الزكاة وغيره، ولكن ظاهر

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 230

الحديث أنّه بعض تفسير هذا الحكم لا تمام تفسيره، والظاهر أنّ الإمام الجواد عليه السلام كان في تلك السنة جديد العهد ببغداد وكان ضعفاء شيعته في حرج شديد وكانوا محتاجين إلى مصارف كثيرة، فلذا أوجب عليهم ذلك في تلك السنة لا في غيرها من السنوات.

وحيث اشتبه هذا الحكم الولائي بالأحكام الكلية على كثير من الأعلام، زعموا أنّ ظاهر الحديث مضطرب ومخالف للمذهب (وتمام الكلام في ذلك في محلّه من بحث ولاية الفقيه وإن كان فيما ذكرنا من الإشارة غني وكفاية للمقام).

ثالثها ورابعها: أنّه كيف خصّ الإمام عليه السلام الذهب والفضة اللتين قد حال عليهما الحول بهذا الحكم مع أنّ الحول شرط للزكاة لا الخمس فإنّه يتعلق بجميع الفوائد بمجرّد حصولها، وإن كان الواجب موسعاً نظراً إلى مؤونة السنة فالحول ليس شرطاً للوجوب فيه بل لأخذ مؤونة السنة، هذا مضافاً إلى ما في اختصاص الذهب والفضة بالحكم مع أنّ حكم الخمس عام.

والجواب عنهما: أيضاً ظاهر بعد ما عرفت أنّه حكم ولائي تابع لنظر الإمام المعصوم عليه السلام والفقيه القائم مقامه، فقد رأى المصلحة لجعله على شي ء خاصّ بشرط معين في زمن معلوم، وليس حكماً كلياً إلهياً لمسألة الخمس.

وقد احتمل بعض أنّ هذا كان زكاة وإن كان بمقدار الخمس، فأمر الإمام عليه السلام

بأخذ الزكاة في تلك السنة بدل الواحد من الأربعين (25 في المائة) خمساً (20 في المائة) لتقصير شيعته في أداء الزكاة في السنين العديدة، وكان هذا مصالحة منه بالنسبة إليه (وعلى هذا يكون في سلك الأحكام الفتوائية الثابتة لكلّ من قصّر في الزكاة) وإنّما خصّ الذهب والفضة بها لأنّ الخلفاء كانوا يأخذون الزكاة عن الأموال الظاهرة من الزراعات والأنعام، وأمّا الأموال الباطنة كالذهب والفضة لم تكن ظاهرة لهم فصار هذا سبباً لتخفيفه عليه السلام في غيرهما، وجعل الاستشهاد بآية الزكاة في الرواية شاهداً عليه.

ويرد عليه: أنّ تطهير الشيعة عن حقوقهم الواجبة كان من قبيل الحكمة، فإنّ الحكم عام في حقّ الجميع مع أنّ التقصير لم يكن في جميعهم ظاهراً وكان بعضهم يؤدون زكاة أموالهم أو كان تقصيرهم أقل من الخمس الذي يكون أكثر من الزكاة ثمان مرّات.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 231

هذا مضافاً إلى أن قوله عليه السلام: «ولم أوجب ذلك عليهم في متاع ولا آنية ولا دواب ولا خدم وربح تجارة وضيعة إلّافي ضيعة سأفسر لك أمرها تخفيفاً مني عن مواليَّ» ينافي ذلك، لعدم جريان الزكاة في هذه الأُمور فاستثناؤها ممّا لا يحتاج إلى الذكر.

وأمّا استشهاده عليه السلام بآية الزكاة، فالظاهر أنّه لاشتراك الخمس والزكاة في كونهما سبباً لتطهير النفوس وتزكيتها (وكلّ منها بدل عن الآخر فله أثره).

فالأوْلى حمل الخمس على معناه المعروف وحمله على الحكم الولائي كما ذكرنا لا الزكاة.

خامسها: أنّ ما ذكره عليه السلام في تفسير الغنائم والفوائد الذي يشمل أرباح التجارات ينافي ما أفاده قبله من تخفيفه عليه السلام فيها.

والجواب عنه: أيضاً ظاهر بعد ما عرفت من أنّ هناك خمسين، خمس واجب عليه بعنوان حكم كلي في كلّ سنة، وخمس آخر في

خصوص تلك السنة أوجبه عليهم لمصالح رآها وهو ولي المسلمين، والأخير ناظر إلى الثاني والأوّل إلى الأوّل.

سادسها: إيجاب الخمس على الميراث ممّن لا يحتسب والجائزة مع أنّه خلاف ما ثبت من الأدلة.

والجواب عنه: أنّه سيأتي إن شاء اللَّه إمكان القول بوجوب الخمس فيهما في خصوص من لا يحتسب من الميراث والجائزة التي لها خطر.

سابعها: ايجاب الخمس على «مال يؤخذ ولا يعرف له صاحب» فإنّ المجهول مالكه لا يملك، فلا يجب فيه الخمس بل الواجب التصدق به على الفقراء.

ويمكن الجواب عنه: بأنّ المذكور في بعض النسخ «يوجد» بدل «يؤخذ» فيمكن حمله على اللقطة، ومن المعلوم إمكان تملكها بعد تعريفها سنة مع ضمانها لو وجد صاحبها، وحينئذٍ تدخل في عموم المنافع والفوائد.

وأجيب بإمكان حمله على خصوص المال المحتمل كونه من المباحات الأصلية للفرق بين قوله «لا يعرف له صاحب» و «لا يعرف صاحبه» فالأول يحتمل عدم وجود صاحب له أصلًا ولكن لا يخلو من تكلف.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 232

ثامنها: ما ورد في ذيل الصحيحة وهو وجوب نصف السدس في الضياع والغلات في كلّ عام مع أنّه لا يوافق شيئاً ممّا نعرفه من الأحكام في هذا الباب ولم يفتِ به أحد.

والجواب: كما أشار إليه غير واحد من المحقّقين هو أنّ هذا من باب تخفيف الإمام عليه السلام على شيعته والمراد من كلّ عام، جميع سنوات حياته عليه السلام ويشهد لذلك مكاتبة إبراهيم بن محمّد الهمداني رحمه الله إليه (الظاهر أنّه الإمام الهادي) كتب: «أقرأني عليّ (علي بن مهزيار) كتاب أبيك فيما أوجبه على أصحاب الضياع أنّه أوجب عليهم نصف السدس بعد المؤونة وأنّه ليس على من لم يقم ضيعته بمؤونته نصف السدس ولا غير ذلك فاختلف من قبلنا

في ذلك، فقالوا: يجب على الضياع الخمس بعد المؤونة مؤونة الضيعة وخراجها لا مؤونة الرجل وعياله، فكتب وقرأه علي بن مهزيار، عليه الخمس بعد مؤونته ومؤونة عياله وبعد خراج السلطان» «1».

فإنّ ظاهرها رجوع حكم الإمام الهادي عليه السلام إلى الخمس بعد ما كان حكم أبوه الإمام الجواد عليه السلام تخفيفاً نصف السدس، وهذه المكاتبة ممّا تدلّ على جواز تحليل الإمام عليه السلام لبعض الأزمنة، دون تحليل إمام آخر عليه السلام.

ولعلّ هذا التخفيف كان بملاحظة ما يغتاله السلطان منهم كما في صدر الرواية وكان ما يغتاله العشر وهو مع نصف السدس يقرب من الخمس (فإنّ مجموعهما يكون 22 من 120 جزء بينما يكون الخمس 24 من 120 جزء).

فقد ظهر بعون اللَّه أنّ الرواية سليمة من الإشكالات قابلة للاستناد إليها في باب وجوب الخمس وسائر الأبواب ممّا يستفاد منها حكم بالنسبة إليها.

وهاهنا إشكال معروف: حاصله أنّه كيف يكون خمس الأرباح واجباً في الشريعة مع أنّه لم يعهد من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أخذه ولا جعل من يجبيه كما في جباية الزكاة والخراج، بل وكذلك في عهد الوصي أميرالمؤمنين عليه السلام والأئمّة المتقدمين ولم ينقل في تاريخ ولا رواية أخذهم لهذا القسم من الخمس، نعم أخذها الأئمّة المتأخرون عليهم السلام فكيف يكون هذا من الواجبات والأمر كذلك وكيف يمكن حلّ هذه المشكلة؟ وأجيب عنه بأُمور:

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 233

1- إنّه كان ذلك من طريق اخفاء الظالمين، فكم من حكم جلي أخفوه وكم من حكم واضح غفلوا عنه بأسباب شتى لا سيّما بسبب تخلّل عصر الأمويين بيننا وبين عصر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، وقد ورد في صحيح أبي داود وسنن النسائي أنّ أكثر

أهل الشام لم يكونوا يعرفون أعداد الفرائض «1» وليس هذا عديم المثال فإنّه قد وقع الخلاف في المسائل العامة البلوى بين الفريقين كمسائل الوضوء وبعض خصوصيات الصلاة وغيرها.

لكن الإنصاف أنّ الاقتناع بذلك مشكل إذ لا ندري ما هو الداعي للظلمة وأصحابهم على إخفاء أمر خمس الأرباح مع إمكان انتفاعهم به فاللازم طلب جواب أحسن منه.

2- لعلّ هذا الحكم كان من الأحكام الولائية التي تختلف باختلاف المقاطع والأزمنة بحسب ما يراه أولياء الأمر من المصالح والضرورات ولم يكن كالزكاة المفروضة بعنوان كلي، ولذا ترى بعض الأئمّة عليهم السلام يحللونه وبعضهم يأخذونه، وللولي الفقيه النائب عنهم أيضاً ذلك.

وفيه: أنّه لا يناسب التعبيرات الكثيرة الواردة في أخبار الباب من تفسير الآية الشريفة به وأنّها شاملة لجميع الأرباح كما مرّ ذكرها، بل وكذلك ما دلّ على أنّ الخمس حقّ ثابت لهم بعنوان قانون كلي إلهي، وبالجملة فإنّ روايات هذا الباب والآية الشريفة تأبى عن هذا الحمل كما هو ظاهر.

3- إنّه فرق كبير بين الزكاة والخمس، فإنّ الأوّل ملك للفقراء وحقّ يصرف في مصالح المسلمين وهو صلى الله عليه و آله مأمور بأخذها وجبايتها، وأمّا الخمس فهو حقّ له صلى الله عليه و آله ولأوصيائه عليهم السلام ومن هنا لم يؤمر إلّابتبليغه، بل قد لا يناسب أخذه من طريق نصب الجباة لجلالة مقامهم وعظمة شأنهم «2».

4- إنّه مبني على تدريجية الأحكام وجواز تأخير التبليغ عن عصر التشريع بإيداع بيانه من النبي الأكرم صلى الله عليه و آله إلى الإمام ليظهره في ظرفه المناسب له حسب المصالح الوقتية الباعثة على ذلك، بل قد تكون بعض الأُمور مودعة عند الإمام المهدي عليه السلام وهو مأمور بابلاغها «3».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 234

والإنصاف أنّ

هذا أيضاً تكلّف واضح لا يروي الغليل ولا يشفي العليل فإنّ الخمس أيضاً لم يكن كالأملاك الشخصية لهم عليهم السلام. أمّا سهم السادة فأمره واضح فإنّه بدل عن الزكاة المحرمة عليهم ولم يكن طلبه من الناس مخالفاً لعلو مقام الأئمّة الهادين عليهم السلام بعد كونهم أولياء للسادة المحرومين، وأمّا سهم الإمام عليه السلام فإنّه أيضاً يصرف في خدمة المجتمع الإسلامي في طريق تقوية الحكومة الإسلامية التي تعود فائدتها إلى جميع آحاد الناس.

أقول: ويمكن أن يقال في توضيح ذلك وتشييد مبانيه:

أوّلًا: أنّه لو لم تُحلّ هذه المسألة لم يضرب بأصل الحكم بعد قيام الإجماع وظهور كتاب اللَّه ودلالة الروايات المتواترة الظاهرة في المقصود المعمول بها بين الأصحاب، فكم من مسألة في باب المصالح والمفاسد وكيفية تشريع الأحكام لم تُحلّ لنا، لابدّ من إرجاع أمرها إلى أهلها من دون أن يكون ذلك سبباً للشك في أصل الحكم بعد وضوح مداركه.

ثانياً: أنّ مسألة تشريع الخمس في الإسلام لها أدوار ثلاثة: دور السكوت عنه وهو عصر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله والأئمّة المتقدّمين كأميرالمؤمنين عليه السلام والحسن والحسين وزين العابدين- عليهم أفضل صلوات المصلين-، فإنّه قل ما يرى من بيان خمس الأرباح في عصرهم عين وأثر.

والدور الثاني دور الصادقين عليهم السلام، فإنّهما تكلّما عن أصل حكمه وأكدا وأصرا عليه مع تصريحهما بابإحتهما للشيعة إيّاه نظراً إلى ظروفهم المعيّنة، مثل ما رواه يونس بن يعقوب قال: كنت عند أبي عبداللَّه عليه السلام فدخل عليه رجل من القماطين، فقال: جعلت فداك تقع في أيدينا الأموال والأرباح والتجارات نعلم أن حقّك فيها ثابت وإنا عن ذلك مقصرون. فقال أبو عبداللَّه عليه السلام: «ما أنصفناكم إن كلّفناكم ذلك اليوم» «1».

وما رواه

داود بن كثير الرقّي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام أيضاً قال: سمعته يقول: «الناس كلّهم يعيشون في فضل مظلمتنا إلّاإنّا أحللنا شيعتنا من ذلك» «2».

وما رواه حكيم مؤذن بني عيس عنه عليه السلام أيضاً مع التصريح فيها بتحليل أبيه عليه السلام قال:

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 235

قلت له: «واعلموا أنّما غنمتم من شي ء فانّ للَّه خمسه وللرسول» قال: «هي واللَّه الإفادة يوماً بيوم إلّاأن أبي جعل شيعتنا من ذلك في حلّ ليزكوا» «1».

وما رواه الحارث بن المغيرة النصري عنه عليه السلام أيضاً قال: قلت له: إنّ لنا أموالًا من غلات وتجارات ونحو ذلك، وقد علمت أنّ لك فيها حقّاً. قال: «فلم أحللنا إذا لشيعتنا إلّالتطيب ولادتهم، وكلّ من والى آبائي فهو في حلّ ممّا في أيديهم من حقّنا فليبلغ الشاهد الغائب» «2».

وما رواه في رواية أبي سيار مسمع بن عبدالملك من كون خمس الأرض وما أخرج اللَّه منه لهم (بل جميعها لهم من ناحية أُخرى) وأنّهم أحلوا ذلك لشيعتهم فراجع «3».

بل قد يشعر أو يدلّ بعض روايات هذا الباب أخذ الصادق عليه السلام إيّاه من بعض الشيعة مثل ما رواه عبداللَّه بن سنان قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «على كلّ امرى ء غنم أو اكتسب الخمس ممّا أصاب لفاطمة عليها السلام ولمن يلي أمرها من بعدها من ذرّيتها الحجج على الناس فذاك لهم خاصة يضعونه حيث شاءوا، وحرم عليهم الصدقة حتّى الخياط ليخيط قميصاً بخمسة دوانيق فلنا منه دانق إلّامن أحللناه من شيعتنا لتطيب لهم به الولادة إنّه ليس من شي ء عند اللَّه يوم القيامة أعظم من الزنا إنّه ليقوم صاحب الخمس، فيقول: يا ربّ سل هؤلاء بما أبيحوا» «4»

. بناءً على أن يكون «من» في قوله:

«إلّا من أحللناه من شيعتنا» للتبعيض (كما هو الظاهر) لا للبيان.

الدور الثالث دور أبي الحسن الرضا عليه السلام والأئمّة الهادين عليهم السلام من بعده والظاهر أنّهم كانوا يأخذونه كما تدلّ عليه الروايات الكثيره الواردة في الباب 3 من أبواب الأنفال مثل ما رواه محمّد بن زيد الطبري قال: «كتب رجل من تجار فارس من بعض موالي أبي الحسن الرضا عليه السلام يسأله الإذن في الخمس؟ فكتب إليه: «بسم اللَّه الرحمن الرحيم، إنّ اللَّه واسع كريم، ضمن على العمل الثواب وعلى الضيق الهمّ، لا يحل مال إلّامن وجه أحلّه اللَّه،

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 236

إنّ الخمس عوننا على ديننا وعلى عيالنا وعلى موالينا (أموالنا) وما نبذله ونشتري من أعراضنا ممّن نخاف سطوته فلا تزووه عنّا، ولا تحرموا أنفسكم دعانا ما قدرتم عليه فإن إخراجه مفتاح رزقكم وتمحيص ذنوبكم وما تمهدون لأنفسكم ليوم فاقتكم، والمسلم من يفي للَّه بما عهد إليه وليس المسلم من أجاب باللسان وخالف بالقلب، والسلام» «1».

وما رواه محمّد بن زيد قال: قدم قوم من خراسان على أبي الحسن الرضا عليه السلام فسألوه أن يجعلهم في حلّ من الخمس، فقال: «ما أمحل هذا تمحضونا المودة بألسنتكم وتزوون عنّا حقّاً جعله اللَّه لنا وجعلنا له وهو الخمس، لا نجعل، لا نجعل، لا نجعل لأحد منكم في حلّ» «2».

وهما يدلان على أخذ الرضا عليه السلام الخمس منهم.

وما رواه حسن بن عبداللَّه بن حمدان ناصر الدولة عن عمّه الحسين (في حديث) عن صاحب الزمان عليه السلام أنّه رآه وتحته عليه السلام بغلة شهباء وهو متعمم بعمامة خضراء، يرى منه سواد عينيه، وفي رجله خفان حمراوان. فقال: «يا حسين كم ترزا على الناحية ولم تمنع أصحابي عن خمس مالك. ثمّ

قال: إذا مضيت إلى الموضع الذي تريده تدخله عفواً وكسبت ما كسبت تحمل خمسه إلى مستحقه، قال: فقلت: السمع والطاعة ثمّ ذكر في آخره أنّ العمري أتاه وأخذ خمس ماله بعد ما أخبره بما كان» «3».

وهذا يدلّ على أخذ صاحب الزمان- أرواحنا فداه- الخمس.

والروايات الواردة في الباب 8 ممّا يدلّ على أخذ الإمام الجواد والإمام الهادي عليهما السلام الخمس من الشيعة وهي كثيرة مرت الإشارة إلى كثير منها فراجع نفس الباب.

إذا عرفت هذا فاعلم: أنّ المستفاد من هذه الأخبار هو تشريع خمس الأرباح في زمن الرسول صلى الله عليه و آله بصورة عامة ضمن سائر ما يجب فيه الخمس وتبليغه بصورة تدريجية في زمن الأئمّة المتأخرين عليهم السلام حسب ما كانوا يرونها من المصالح، وهذا الأمر ليس بعزيز الوجود

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 237

في الأحكام الشرعية فإنّ الربا والخمر لم يحرما من أوّل الأمر مع كونهما محرمين في كلّ شريعة إلهيّة. وأمّا عدم أخذ الخمس في زمن علي عليه السلام فلعلّه لكثرة الخراج آنذاك بحيث كان هو العامل الرئيسي لدعم الحكومة الإسلامية طيلة سنوات عديدة كما يشهد على ذلك هبات عثمان الكثيرة بحيث كانت تبلغ آلاف الألوف وكان الأمر كذلك إلى زمن الصادقين عليهما السلام فأظهرا أمر خمس الأرباح لكنهما عليهما السلام لم يأخذاه من الشيعة لفقرهم أو للضرائب الكثيرة التي كانت الحكومات الجائرة تأخذها منهم، ولذا قال عليه السلام: «ما أنصفناكم إن كلفناكم ذلك اليوم» ثمّ في عصر الرضا عليه السلام والأئمّة من بعده بدأوا بأخذه حسب المصالح المقتضية له.

المقام الثاني: استثناء المؤونة منها

قداتفقت كلماتهم على استثناء المؤونة من هذا القسم، والمراد منها إجمالًا هو مؤونة الرجل وعياله في طول السنة وإلّا استثناء مؤونة العمل فهو ثابت في

جميع أنواع الخمس.

قال صاحب المدارك: «مذهب الأصحاب أنّ الخمس إنّما يجب في الأرباح إذا فضلت عن مؤونة السنة له ولعياله» «1».

وادّعى المحقّق النراقي رحمه الله الإجماع المحقّق عليه، وحكاه أيضاً عن السرائر والمعتبر والمنتهى والتذكرة والذخيرة وغيرها «2».

وقال المحقّق الهمداني رحمه الله: «لا إشكال ولا خلاف في أنّ الخمس إنّما يجب في الأرباح المذكورة بعد وضع المؤونة ... غير مؤونة التحصيل التي لا يختص استثناؤها بهذا القسم» «3».

وكيف كان فتدلّ عليه الأخبار الكثيرة الواردة في الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، وقد مرّت الإشارة إليها وبعضها مطلقة مثل ما رواه محمّد بن الحسن الأشعري عن أبي جعفر الثاني عليه السلام حيث قال: «الخمس بعد المؤونة» «4»

الدالة على استثناء مطلق المؤونة

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 238

من مؤونة العمل ومؤونة الرجل.

وبعضها صريحة أو ظاهرة في خصوص مؤونة الإنسان نفسه حيث أضاف المؤونة إليه، مثل ما رواه علي بن محمّد بن شجاع النيسابوري عن أبي الحسن الثالث حيث كتب في جواب السؤال عن حكم الخمس فيما يستفاد من الضيعة: «الخمس ممّا يفضل من مؤونته» «1».

وفي رواية أُخرى لعلي بن راشد: «إذا أمكنهم بعد مؤونتهم» «2».

وفي رواية إبراهيم بن محمّد الهمداني: «بعد مؤونته ومؤونة عياله وبعد خراج السلطان» «3».

ويدلّ عليه أيضاً ما رواه أبو نصر قال: كتبت إلى أبي جعفر عليه السلام: الخمس أخرجه قبل المؤونة أو بعد المؤونة؟ فكتب: «بعد المؤونة» «4».

وما رواه إبراهيم بن محمّد الهمداني عن الرضا عليه السلام أنّ في توقيعات الرضا عليه السلام إليه: «إنّ الخمس بعد المؤونة» «5».

ويدلّ عليه أيضاً بعض فقرات الرواية المعروفة الطويلة لعلي بن مهزيار وقد مرّ ذكرها «6».

وبها تقيد الاطلاقات الدالّة على وجوب الخمس في الأرباح.

ولنا هنا دليل آخر

على ذلك وهو أنّ نفقة العمال كما أنّها مستثناة من الربح، كذلك نفقة نفس التاجر وغيره ممّن يتصدى للعمل فإنّه أيضاً كالعامل من دون فرق.

وإن شئت قلت: إنّ من يتصدى لعمل يربح فيه مائة درهم في يوم و احد ولكن يصرف هذه المائة في نفقة ذهابه إلى محل العمل وإيابه وغذائه في ذاك اليوم، لا يقول ربحت اليوم مائة درهم بل يقول ما ربحت في الحقيقة شيئاً لأني انفقت كلّ ما ربحته في مصارفي.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 239

وهكذا بالنسبة إلى نفقات العيال والمسكن وغيرهما، لأنّ الإنسان لا يعيش بدون ذلك عادة ولا يقدر على الاسترباح بدون بذل هذه النفقات فتخرج هذه عن نتيجة عمله، فإنّ فضل شي ء كان ذلك ربحاً في الواقع وإلّا لم يربح شيئاً.

والحاصل: أنّ نفقات الرجل في الواقع من نفقات العمل، ولابدّ من كسرها حتّى يصدق الربح والغنيمة وغير ذلك عليه فتدبّر جيداً.

بقي هنا شي ء:

هو أنّ المعروف المشهور تقييد المؤونة بالسنة مع اعترافهم بأنّ هذا القيد لم يرد في شي ء من روايات هذا الباب، وقد صرّح إجماعية المحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة «1» بكون المسألة إجماعية، وكذلك صاحب المدارك فيما عرفت من كلامه «2».

كما مرّ نقل كلام المحقّق النراقي رحمه الله في تحصيله الإجماع المحقّق على هذا المعنى، كنقل الإجماع عن جماعة من الأكابر.

هذا وقد وقع الأصحاب في تحصيل الدليل على قيد السنة مع عدم وروده في شي ء من أحاديث الباب في حيص بيص، ولكن يمكن الاستدلال له بأُمور كثيرة:

1- صحيحة علي بن مهزيار الطويله فقد صرّح بتقييد الخمس بالعام في أربع مواضع منها، وهو قوله عليه السلام: «إنّ الذي أوجبت في سنتي هذه». وقوله عليه السلام: «وإنّما أوجبت عليهم الخمس في

سنتي هذه في الذهب والفضة ...» وقوله عليه السلام: «فأمّا الغنائم والفوائد فهي واجبة عليهم في كلّ عام» وقوله عليه السلام: «فأمّا الذي أوجب من الضياع والغلات في كلّ عام ...» «3».

وهذا التقييد وإن ورد في ايجاب الخمس المتعارف أو الخمس الخاصّ الذي أوجبه في انوار الفقاهة، ج 2، ص: 240

تلك السنة أو خصوص نصف السدس (بناءً على ما عرفت من أنّه تخفيف في الخمس) إلّا أنّه يدلّ على أنّ محاسبة خمس الأرباح إنّما هي بالنسبة إلى كلّ سنة، فإذا جمع بينهما وبيّن ما دلّ على استثناء المؤونة (في هذه الرواية وفي سائر روايات هذا الباب) يدلّ على أنّ المدار هو مؤونة السنة كما هو ظاهر.

والعجب من بعض من أتعب نفسه في أنّ قوله: «كلّ عام» قيد للجعل لا المجعول (أي قيد لنفس وجوب الخمس لا قيد للفائدة) فلا يدلّ على المطلوب.

مع أنّه لا أثر له في المقصود أصلًا لدلالته- على كلّ حال- على محاسبه خمس الأرباح في كلّ سنة فكان يجب عليهم محاسبتها كذلك وبذل الخمس منها ولكنه عليه السلام جعل في تلك السنة بالخصوص خمساً آخر عليهم فهذا كلّه يدلّ على مفروغية محاسبة هذا النوع من الخمس في كلّ سنة، فالمؤونة المستثناة منها لا تكون إلّاللسنة.

2- سيرة العرف والعقلاء في المسألة، فإنّها قد جرت على محاسبة اباحتهم ونفقاتهم في كلّ سنة، ولعلّ ذلك كان من قديم الأيّام فإنّهم كانوا يدّخرون الأقوات من سنة إلى سنة لعدم توفيرها في كلّ فصل من فصول السنة، ودورانها مدار السنة، وكانوا يحاسبون الجدب والخصب بحسب مجموع السنة، كما ورد في قصة يوسف عليه السلام وملك مصر في القرآن الكريم، وإنّما ادّخروا الأقوات لأكثر من سنة لما عرضهم من

ظروف خاصة، وهو كذلك اليوم في محاسبة مصارف الحكومات والشركات وغيرها، فإنّ برامجهم ونفقاتهم وأرباحهم كلّها تدور مدار السنة كما هو ظاهر وقد أمضاه الشرع بسكوته وعدم الردع عنه.

بل قد يدعى جريان سيرة المتشرعة بما هم أهل الشرع على محاسبة مؤونة السنة واستثنائها من قديم الأيّام إلى يومنا هذا، ولكن لا يبعد رجوع السيرتين إلى أمر واحد.

3- ملاحظة حال أرباح الزراعات، فإنّها غالباً تكون في كلّ سنة مرة واحدة فهكذا تكون المؤونة المستثناة منها بالنسبة إليها، فإذا كانت الفوائد والمؤونات تلاحظان هنا في كلّ سنة سنة، فكذلك غيرها من الأرباح لعدم الفصل بين الضياع وغيرها في هذا الحكم قطعاً (أشار إليه المحقّق البروجردي قدس سره في ما حكى عنه في زبدة المقال) «1».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 241

4- لا شك أنّ الخمس والزكاة من باب واحد، وأنّ الأوّل بدل عن الثاني حيث إنّ بني هاشم لما حرموا من الصدقات عوض اللَّه لهم الخمس، وقد ورد في روايات الزكاة أنّ المؤونة التي يجوز للفقير أخذها هي مؤونة السنة وأنّ مدار الفقر والغنى عليها.

فقد ورد في رواية يونس بن عمّار قال: سمعت أباعبداللَّه عليه السلام يقول: «تحرم الزكاة على من عنده قوت السنة، وتجب الفطرة على من عنده قوت السنة ...» «1».

وفي رواية علي بن إسماعيل الدغشي، عن أبي الحسن عليه السلام: «يأخذ- أي الفقير- وعنده قوت شهر ما يكفيه لسنته من الزكاة لأنّها إنّما هي من سنة إلى سنة» «2».

وقد أشير إليه في الرواية الاولى من ذاك الباب بعينه.

وقد ورد التصريح به أيضاً في مرسلة حمّاد عن العبد الصالح عليه السلام حيث قال في كيفية تقسيم الزكاة: «يقسم بينهم في مواضعهم بقدر ما يستغنون به في سنتهم بلاضيق

و لاتقتير» «3».

وهذا كلّه دليل على استمرار سيرتهم عليهم السلام وسيرة أصحابهم على محاسبة المؤونة بحسب السنة فإطلاقها في المقام أيضاً ينصرف إلى ذاك كما لا يخفى.

هذا كلّه مضافاً إلى ما عرفت من تسالم الأصحاب عليه وإجماعهم في المسألة وهو وإن كان مدركياً إلى أنّه مؤيد قوي للمطلوب.

ثمّ إنّ المراد من السنة هل هي السنة الهلالية أم الشمسية؟ لا ينبغي الشك في انصراف إطلاقات كلمات الأصحاب إلى خصوص الهلالية، ولكن الإنصاف جواز الأخذ بكلّ منهما لما عرفت من أن تقييد المؤونة بالسنة لم يرد في شي ء من روايات هذا الباب والمدار على ما جرت عليه سيرة العقلاء وأهل العرف في المقام ومن الواضح أنّ مدار كثير منهم على السنة الشمسية، بل من الواضح أنّ أمر الزراعات كلّها تدور على هذا المعنى.

والحاصل: أنّه لا دليل على تقييد السنة الهلالية مع اقتضاء بعض ما عرفت من الأدلة على كفاية الشمسية من استقرار سيرة العرف والعقلاء في كثير من البلاد، وكذا ما عرفت من أمر الزراعات، فالحق كفاية كلّ واحد منهما.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 242

أمّا شرح المؤونة وخصوصياتها فسيأتي في المسائل الآتية إن شاء اللَّه «1».

المقام الثالث: هل الأرباح ما يحصل بالتكسب

في المراد من الأرباح وهل هي ما يحصل بالتكسب من أنواع المكاسب أو يشمل كلّ فائدة يستفيدها الإنسان ولو لم تكن بالتكسب؟ المتيقن من كلماتهم هو الأوّل، ولكن المستفاد من تعبيرات غير واحد منهم كونها أعم، فعلى الأوّل تشمل جميع الصناعات والزراعات والإجارات وحيازة المباحات وأُجرة العمال والموظفين في جميع أنواع الأعمال، بل وأُجرة العبادات الإستيجارية، فإنّها بأجمعها داخلة في التكسب والإسترباح التي هي القدر المتيقن من الأدلة دون غيرها.

وأمّا على الثاني فيشمل ما يحصل بغير التكسب من أنواع الفوائد كالهبة والهدية

والجائزة والمال الموصى به ونحو ذلك من حاصل الوقف الخاصّ والمنذور بل الميراث أيضاً.

وقد اختلفت كلماتهم فيها، فقال شيخ الطائفة رحمه الله في الخلاف في المسألة 138 من كتاب الزكاة: «يجب الخمس في جميع المستفاد من أرباح التجارات والغلات والثمار على اختلاف أجناسها ... إلى أن قال: دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم».

وظاهره خصوص أرباح المكاسب، بل عن السرائر: التصريح بالعدم في غيرها قال فيما حكى عنه: «يجب الخمس في أرباح التجارات والمكاسب وفيما يفضل من الغلات والزراعات على اختلاف أجناسها ... وقال بعض أصحابنا إنّ الميراث والهدية والهبة فيها الخمس ذكر ذلك أبو الصلاح الحلبي في كتاب الكافي الذي صنفه ولم يذكره أحد من أصحابنا إلّاالمشار إليه ولو كان صحيحاً لنقل نقل أمثاله متواتراً والأصل براءة الذمّة».

(انتهى) «2».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 243

وصريحه عدم عمومية الحكم ولكن عن الغنية وجوب الخمس في الفاضل عن مؤونة الحول من كلّ مستفاد بتجارة أو صناعة أو زراعة أو غير ذلك من وجوه الاستفادة، أي وجه كان بدليل الإجماع المشار إليه وطريقة الاحتياط.

بل وهو ظاهر كلّ من استدلّ بآية الغنيمة وفسّرها بمطلق الفائدة، فإنّه يدلّ على عموم الحكم في المقام فلو كان مقيداً بأرباح المكاسب بخصوصها كان عليهم إقامة الدليل على التخصيص، وهذا من أظهر ما يدلّ على عموم الحكم عندهم.

وعلى كلّ حال لا تخلو كلمات الأصحاب في المقام عن إبهام وأنّ مرادهم من الأرباح مطلق الفوائد أو خصوص أرباح المكاسب وشبهها، فهم بين ساكت عن التصريح بالشمول وعدمه وبين مصرح بالعدم وبين من يظهر منه العموم، بل يشكل تعيين المشهور عن غير المشهور في المقام فالأوْلى صرف عنان البحث إلى الأدلة فنقول ومنه جلّ ثناؤه نستمد التوفيق والهداية: يدلّ على

عموم الحكم أُمور:

1- الآية الشريفة، فقد عرفت تفسير الغنيمة فيها في اللغة والعرف بكلّ فائدة لا خصوص أرباح المكاسب، سواء من فسّره بأنّها إفادة شي ء لم يملكه من قبل (كما في المقاييس) أو كلّ مال مظفور به (كما في المفردات) أو فسّر بالفوز بالشي ء من غير مشقة (كما في لسان العرب وتاج العروس) لما قد ذكرنا في محلّه من أنّ عدم المشقّة لو فرض أخذه في مفهوم الغنيمة فهو غير معتبر فيها بإجماع الأصحاب، فمفهوم الآية عام شامل لجميع المنافع سواء كانت من ناحية أرباح المكاسب أم غيرها.

أضف إليه روايات كثيرة متظافرة تدلّ على العموم أيضاً وهي:

1- موثقة سماعة قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن الخمس. فقال: «في كلّ ما أفاد الناس من قليل أو كثير» «1».

2- صحيحة علي بن مهزيار قال: كتب إليه أبو جعفر عليه السلام وقرأت أنا كتابه إليه في طريق مكة قال: «... فالغنائم والفوائد يرحمك اللَّه فهي الغنيمة يغنمها المرء، والفائدة يفيدها، والجائزة من الإنسان للإنسان التي لها خطر، والميراث الذي لا يحتسب من غير أب ولا

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 244

ابن ومثل عدو يصطلم فيؤخذ ماله، ومثل مال يؤخذ ولا يعرف له صاحب» الحديث «1».

3- ما رواه أبو بصير عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: كتبت إليه في الرجل يهدي إليه مولاه والمنقطع إليه هدية تبلغ ألفي درهم أو أقل أو أكثر هل عليه فيها الخمس؟ فكتب عليه السلام:

«الخمس في ذلك وعن الرجل يكون في داره البستان فيه الفاكهة يأكله العيال إنّما يبيع منه الشي ء بمأة درهم أو خمسين درهماً هل عليه الخمس؟ فكتب أمّا ما أكل فلا وأمّا البيع فنعم هو كسائر الضياع» «2».

4- ما رواه أحمد بن

محمّد بن عيسى عن (بن) يزيد قال: كتبت جعلت لك الفداء تعلّمني ما الفائده وما حدّها؟ رأيك أبقاك اللَّه أن تمن عليّ ببيان ذلك لكي لا أكون مقيماً على حرام لا صلاة لي ولا صوم. فكتب: «الفائدة ممّا يفيد إليك في تجارة من ربحها وحرث بعد الغرام أو جائزة» «3».

5- ما رواه عيسى بن المستفاد عن أبي الحسن موسى بن جعفر عن أبيه عليهما السلام أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال لأبي ذرّ وسلمان والمقداد: «أشهدوني على أنفسكم ... وإخراج الخمس من كلّ ما يملكه أحد من الناس حتّى يرفعه إلى وليّ المؤمنين وأميرهم ومن بعده من الأئمّة من ولده» الحديث «4».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 245

6- ما رواه السكوني عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: أتى رجل أميرالمؤمنين عليه السلام فقال: إنّي كسبت مالًا أغمضت في مطالبه حلالًا وحراماً وقد أردت التوبة ولا أدري الحلال منه والحرام وقد اختلط عليّ، فقال أميرالمؤمنين عليه السلام: «تصدّق بخمس مالك فإنّ اللَّه (قد) رضى من الأشياء بالخمس وسائر المال لك حلال» «1».

7- ما رواه علي بن الحسين بن عبد ربه قال: سرح الرضا عليه السلام بصلة إلى أبي فكتب إليه أبي هل عليّ فيما سرحت إليّ خمس؟ فكتب إليه «لا خمس عليك فيما سرح به صاحب الخمس» «2».

إلى غير ذلك ممّا يعثر عليه المتتبع، وقد عرفت صحّة بعض أسنادها وتضافرها وصحّة دلالتها، وفيها غنى وكفاية، ولم يثبت إعراض الأصحاب عنها، لأنّ أقوالهم فيها مختلفة بعضهم ساكت وبعضهم مصرّح بالعموم وبعضهم مصرّح بعدم العموم.

وممّا يؤيد قوياً ما ذكرنا أنّ ثبوت الخمس في التجارات والزراعات وغيرها، ربّما يدلّ على ثبوت في ما وصل إلى الإنسان مجاناً، فإذا

كانت من كدّ يده كان فيها الخمس فكيف بما إذا لم يكن كذلك.

والحاصل: أنّ إطلاق الآية من جانب والروايات المتظافرة الكثيرة الواضحة الدلالة (فيها بعض صحاح السند) تدلّ على المطلوب، مضافاً إلى الأولوية الظنية التي تكون مؤيدة للمطلوب ودعوى إعراض الأصحاب عن الحكم بالعموم دعوى بلا بيّنة، وقد عرفت سكوت بعضهم مع تصريح كثير منهم بالعموم بل قد عرفت أنّ ظاهر كلّ من استدلّ بالآية الشريفة هو عدم الفرق بين أرباح المكاسب وغيرها من الفوائد، والحكم بالعموم قوي جدّاً.

بقي هنا أُمور:

ذكرها المحقّق اليزدي رحمه الله في العروة نتكلم فيها ثمّ نتبعها بأُمور أخرى لم يتعرض لها.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 246

1- الهبة والهدية والجائزة فيها الخمس والظاهر أنّ الفرق بينها أنّ الهبة لها معنى عام، والهدية هي الهبة الناشئة عن المودة والمحبّة، والجائزة، هي العطاء من العالي إلى الداني، وفي وجوب الخمس فيها أقوال ثلاثة ثالثها بالتفصيل بين ما له خطر وما ليس له خطر، والأقوى هو العموم لما عرفت من الأدلة، وأمّا التقييد بكونها ممّا له خطر يمكن حمله على القيد الغالبي لأنّ الغالب أنّ ما ليس له خطر لا يبقى إلى السنة بل يصرف في المؤونة، فتأمل.

2- الميراث: وهو وإن كان داخلًا في العمومات المذكورة إلّاأنّ جريان السيرة المستمرة على عدم إعطاء الخمس منه بل مضافاً إلى المفهوم المستفاد من صحيحة علي بن مهزيار في الميراث ممّن يحتسب يكون مخصصاً للعموم في الميراث فإنّ الميراث الذي لا يحتسب قلل الابتلاء جدّاً، ولو كان الخمس فيه ثابتاً لظهر وبان لكلّ أحد لشدّة الابتلاء به.

والعجب ممّن استدلّ بهذا المعنى على العكس، وقال إنّه لو كان الميراث مستثنى من المنافع لظهر وبان لشدّة الابتلاء به وليت شعري

أنّ إثبات شي ء يحتاج إلى الدليل أو نفيه مع ما عرفت من استقرار السيرة قديماً وحديثاً على عدم دفع الخمس منه.

3- المال الموصى به في الوصية التمليكية لا العهدية فإنّها وصية بفعل ولا تمليك فيها.

أمّا التمليكية فقد ذهب بعض إلى كونها غير محتاجة إلى القبول فتكون كالميراث وبعض آخر إلى احتياجها به فتكون كالهبة.

وعلى كلّ ففيها الخمس.

4- الوقف الخاصّ وهو سواء كان عقداً أم إيقاعاً لا يحتاج تملك البطون اللاحقة فيه إلى قبول منهم، وعلى كلّ فلا إشكال في صدق الغنيمة على ما تحصل عليه هذه البطون من فوائد الوقف. وأمّا الوقف العام فالمالك فيه هو الجهة لا الأشخاص فيحتاج تملكهم لحاصله إلى قبول منهم فإذا قبلوه وجب عليهم الخمس.

5- النذر وهو محتاج إلى قبول المنذور له فيكون كالهبة مشمولًا لعمومات الخمس، وهكذا نذر النتيجة لاحتاجه إلى قبول المنذور له فإنّه ليس للناذر تمليك المنذور له بدون رضاه.

6- المهر أو الصداق: وقد استدلّ على عدم وجوب الخمس فيه بسيرة المتشرعة حيث انوار الفقاهة، ج 2، ص: 247

لم يعرف منهم أداء خمسه، وبعدم صدق الفائدة عليه إذ هو في مقابل البضع وحرية الزوجة ولا أقل من الشك في صدقها عليه فلا يشمله دليل الخمس.

اللّهمّ إلّاإذا كان المهر كثيراً جدّاً خارجاً عن الحدّ المتعارف.

ومن هنا يظهر أن عوض الخلع الذي تدفعه الزوجة لزوجها كي يطلّقها ليس ممّا يجب فيه الخمس أيضاً، وذلك لعدم صدق الفائدة عليه إذ الزوج قد حصل على شي ء (وهو عوض الخلع) وخسر شيئاً آخر (وهي زوجته).

إن قلت: على هذا لا تصدق الفائدة على أجرة العامل أيضاً، لأنّها في مقابل عمله فيحصل على شي ء وهو الأجرة ويخسر شيئاً آخر وهو عمله في ذاك اليوم مثلًا.

قلت:

عمل العامل لا يبقى أكثر من يوم واحد، فإن لم يبعه فقد ذهب من كيسه وخسر، بخلاف المرأة حيث إنّ رأس مالها قبل التزويج محفوظ فلا يجوز قياس أحدهما بالآخر.

7- الدية: وقد ظهر حكمها ممّا أسلفناه فإنّها كالمهر لا تصدق عليها الفائدة.

8- من آجر نفسه لسنين أو آجر داراً له كذلك وأخذ مال الاجارة كلّها في أوّل الأمر، فهل يتعلق الخمس بالجميع أو خصوص ما كان لسنته ممّا يفضل عن المؤونة؟

يحكى عن بعض الأعلام وجوب الخمس فيه، لأنه واجب في كلّ فائدة.

والإنصاف عدم تعلق الخمس بما زاد على فائدة السنة، لأنّ المفهوم عرفاً من روايات خمس الفوائد إذا انضمت إلى روايات المؤونة أنّ متعلق الخمس هو المنافع الباقية من سنته بعد وضع مؤونتها، وأمّا المنافع المتعلقة بالسنين الآتية فهي موقوفة متروكة لمؤونتها فإن فضل عنها فقد يتعلق به الخمس.

ويؤيد ما ذكرنا بل يدلّ عليه ما مرّ من كون وضع مؤونة الإنسان عن منافع تكسباته على القاعدة، وأنّ الفائده لا تصدق إلّابعد إخراج مؤونة الإنسان أيضاً، فإنّه بذلها حتّى يقدر على الاكتساب فهو من هذه الجهة كمؤونة الأجير الذي يأخذه في استرباح مكاسبه ومن الواضح أنّ اجارة نفسه للسنين الآتية والعمل بها لا يمكن إلّاببذل النفقات لنفسه وعياله فهذا المقدار لا يعد منفعة.

9- إذا أبيح التصرف في شي ء لإنسان، كما إذا اعطى الوالد ولده مائة دينار وقال وليكن انوار الفقاهة، ج 2، ص: 248

هذا عندك في السفر والحضر، فإن احتجت إليها فاصرفها فصرف بعضه وبقي بعضه فلا ينبغي الشك في عدم تعلق الخمس بالباقي، لأنّ المفروض عدم دخولها في ملكه، بل كان مباحاً فإذا لم يصرفها بقي على ملك صاحبه، فليس من قبيل الهدية والهبة والجائزة.

ومنه يظهر

الحال في أمر الاستنابة للحجّ، فلو أعطاه المال بعنوان الإجارة وجب الخمس فيما يفضل عنه وعن مؤونة سنته، وإن أعطاه بعنوان اباحة التصرفات فلا يجب الخمس عليه وإن كانت الاباحة مستمرة إلى أن تنفد النقود.

ولعلّ ما ورد في رواية علي بن مهزيار «1» أيضاً ناظر إلى هذا المعنى، وإلّا لم يكن له وجه ولم يفت بمضمونها ظاهراً أحد على فرض الاجارة كما لا يخفى.

10- ما يأخذه الإنسان بعنوان القرض لا يتعلق به الخمس وإن بقي سنين، لأنّه لا يعدّ فائدة وغنيمة بل هو مال يجب أداء مثله أو قيمته، نعم إنّما يتعلق به الخمس في صورتين:

الأُولى ما إذا كان من قبيل العروض- كالثياب والحبوبات وغيرها- وارتفعت قيمتها السوقية أو استقرض بيضاً وصار دجاجاً، لا ينبغي الإشكال في وجوب الخمس في الزائد.

الثانية: ما إذا كان قرضاً نجومياً فأدّى بعض نجومه من منافع تلك السنة وبقي ما بإزاء هذه النجوم إلى آخر السنة، فمثل هذا تعدّ منفعة يجب خمسها.

بقي هنا مسائل:

وهي مختلفة بعضها تيتبط بفروع الأرباح وبعضها بفروع المؤونة والقسم الأوّل عشرة مسائل.

المسألة الاولى: إذا علم أنّ مورثه لم يؤد خمس ما تركه فهو لا يخلو عن إحدى ثلاث صور: إمّا تكون العين التي تعلق بها الخمس موجودة شخصها، أو عوضها، أو لا يكون شي ء منهما موجوداً، بل يكون في الذمّة فقط.

أمّا الأوّل: فلا إشكال ولا كلام في وجوب أداء الخمس منه لما سيأتي أنّ الخمس حقّ متعلق بالمال على نحو الإشاعة أو غير ذلك، فما دام المال موجوداً يجب أداؤه منه فلا

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 249

يدخل مقداره في الخمس.

وأمّا الثاني: فجواز التبديل لا يكون إلّافي أوساط السنة، لأنّ المالك في سعة حينئذٍ من هذه الناحية

يتصرف فيه كيف يشاء، وأمّا بعد مضيها فهو أيضاً كذلك إذا لم يناف فورية الخمس، أو كان بإذن الحاكم الشرعي، وفي غير ذلك يكون البيع وسائر التصرفات المشابهة له فضولياً، فاطلاق كلام المحقّق اليزدي قدس سره في العروة بوجوب إخراج الخمس عن العوض محمول على ما ذكرنا.

وأمّا إذا تلفت العين والعوض وانتقل الخمس إلى ذمّته كان كسائر الديون التي يكون الارث بعد إخراجها بمقتضى قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَو دَينٍ» ودعوى انصراف الدين إلى غيره ممنوع، ولو فرض انصرافه إلى الديون الشخصية فلا ينبغي الارتياب في إلغاء الخصوصية وتنقيح المناط، هذا كلّه في موارد اليقين والدليل على ذلك كلّه شمول إطلاقات وجوب الخمس ثمّ إطلاق استثناء الدين من التركة، فلا تصل النوبة إلى استصحاب بقاء وجوبه عليه كما في كلمات بعضهم.

وقد يتمسك بما ورد في غير واحد من روايات التحليل من تحليل الميراث بعدم وجوب إخراج الخمس منه، مثل ما ورد في رواية أبي خديجة في سؤاله: «أو ميراثاً يصيبه» مع قوله عليه السلام في جوابه: «هذا لشيعتنا حلال» «1»

. وما ورد في رواية يونس بن يعقوب قال: كنت عند أبي عبداللَّه عليه السلام فدخل عليه رجل من القماطين فقال: جعلت فداك تقع في أيدينا الأموال والأرباح وتجارات نعلم أن حقّك فيها ثابت وإنا عن ذلك مقصرون. فقال أبو عبداللَّه عليه السلام:

«ما أنصفناكم إن كلفناكم ذلك اليوم» «2».

ورواية الحارث بن المغيرة النصري عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: قلت له: إنّ لنا أموالًا من غلات وتجارات ونحو ذلك وقد علمت أنّ لك فيها حقّاً. قال: «فلِمَ احللنا إذاً لشيعتنا إلّا لتطيب ولادتهم وكلّ من والى آبائي فهو في حلّ ممّا في أيديهم

من حقّنا فليبلغ الشاهد الغائب» «3»

. من عدم وجوب الخمس فيما يقع في أيدينا من الأموال التي نعلم بثبوت انوار الفقاهة، ج 2، ص: 250

حقّهم عليهم السلام فيها.

لكن سيأتي إن شاء اللَّه أنّ جميع ذلك ناظر إلى موارد خاصة، أمّا التحليل في المناكح كما هو ظاهر رواية أبي خديجة، أو تحليل في زمان خاصّ كما هو ظاهر رواية يونس وغيرها أو غير ذلك فانتظر.

أمّا إذا شك في تعلق الخمس بالتركة فلا شك أنّ مقتضى ظهور اليد عدمه، ولا تصل النوبة إلى الأصل حتّى يقال: الأصل عدم دخول مقدار الخمس في ملكه من أوّل الأمر (لأنّ الأصل في الأموال عدم الملكية، والخمس يكون من أول الأمر).

ولو شك في أدائه مع العلم بتعلقه بها فالاظهر أيضاً عدم وجوب أدائه منه حملًا لفعل المسلم على الصحّة وأخذاً بظاهر اليد، مضافاً إلى استقرار السيرة على عدم إخراج الخمس من الميراث، مع أنّ هذا الشك موجود في غالب موارده، فالأمر في موارد الشك سهل.

المسألة الثانية: هل يجب الخمس فيما ملك بالخمس أو الزكاة أو الصدقة المندوبة إذا اجتمع فيه شرائط الوجوب إذا زاد عن مؤونة سنته أم لا؟

صرّح صاحب العروة بعدمه عن جماعة، وخالفه كثير من المحشّين وأشكلوا عليه أو احتاطوا بوجوب الخمس فيها.

هذا وسيأتي إن شاء اللَّه أنّه لا يجوز إعطاء ما زاد على مؤونة السنة من جهة الزكاة أو خمس السادة على الأقوى، لأنّ المدار على إخراجه من الفقر إلى أوّل حدّ الغنى وهو ملك مؤونة السنة، فلا تتصور هذه المسألة إلّافي سهم الإمام عليه السلام الذي ليس ملاكها الفقر، أو فيما أعطى مقدار مؤونة سنته ثمّ قتر على نفسه، أو صار ضيفاً لغيره أو ما أشبه ذلك، بناءً

على عدم رجوع ما أخذه إلى بيت المال حينئذٍ كما هو الظاهر، فللمسألة مصاديق كثيرة حتّى على المختار.

وعلى كلّ حال فغاية ما يمكن الاستدلال به على عدم الوجوب أُمور:

1- إنّ الخمس والزكاة ملك للسادة وأربابها، فإذا دفعت إليهم كان من قبيل إعطاء الدين إلى صاحبه، فكما لا يجب الخمس في إعطاء الدين، فكذلك فيما نحن فيه، فلا تصدق انوار الفقاهة، ج 2، ص: 251

الفائدة والغنيمة عليها.

وفيه مضافاً إلى عدم جريانه في الصدقة المندوبة ولا المجهول مالكه، أنّ ملكية الزكاة أو الخمس بناءً على الإشاعة أو الكلي في المعين إنّما هو للعنوان الكلي وليس ملكاً لشخص خاصّ، فالملكية له إنّما تتجدد بالاعطاء كما لا يخفى، وحينئذٍ تصدق على تملكه الفوائد والمنافع، أضف إلى ذلك أنّه لو أخذ الطلب إذا لم يؤد خمسه من قبل، يجب عليه أداء خمسه فصدق هذا العنوان عليه لا يمنع عن صدق عنوان الفائدة عليه.

2- ليس هذا من قبيل الفائدة المكتسبة فلا يتعلق به الخمس- وفيه أنّه قد عرفت عدم اعتبار عنوان الاكتساب والاحتراف بل الموضوع مطلق الفائدة سواء كانت مكتسبة أم لا.

3- ما رواه ابن عبد ربه قال: سرّح الرضا عليه السلام بصلة إلى أبي فكتب إليه أبي: هل عليّ فيما سرّحت إليَّ خمس؟ فكتب إليه: «لا خمس عليك فيما سرّح به صاحب الخمس» «1».

وأورد عليه: أوّلًا: بضعف السند لاشتماله على سهل بن زياد، وثانياً: أنّ موردها الصلة وهي الهبة فلا دخل له بما نحن فيه وقد عرفت وجوبه في الصلة الخطيرة، وثالثاً: عدم وجوب الخمس فيه لعلّه من جهة كون الصلة من ناحية صاحب الولاية المطلقة.

أقول: والأوّل وإن كان لا يخلو من وجه، ولكن يمكن دفع الثاني والثالث بأنّ لحن الرواية يدلّ

على كون الاستدلال فيه بأمر ارتكازي وهو، أنّه لا خمس فيما يأتي من الخمس ولا زكاة في مال الزكاة، فلا يرد عليه إشكال من هذه الناحية.

4- إنّ الحكم لا يثبت موضوعه فإنّ الحكم فرع ثبوت موضوعه، بل هو من قبيل المعلول له والمعلول لا يسبق علّته، فهو من قبيل قولنا كلّ خبري كاذب فإنّه لا يشمل نفسه، فكذلك فيما نحن فيه فإنّ دليل الخمس لا يوجد موضوعه.

توضيح ذلك: إنّ الخمس قد دفع إلى أربابه بدليل الوجوب المستفاد من أدلّة الخمس فلا يمكن له أن يوجد موضوعاً جديداً لنفسه لتأخر رتبة الحكم عن رتبة الموضوع، وبعبارة اخرى هذا المال الذي دفع بعنوان الخمس إلى أربابه قد وجد بعد العمل بدليل الخمس فرتبته متأخرة عن رتبة الحكم فلا يصلح أن يكون موضوعاً جديداً لدليل الخمس، وذلك انوار الفقاهة، ج 2، ص: 252

للزوم تقدّم الموضوع على الحكم بينما هو متأخر فيما نحن فيه. (وقد تعرضوا له في باب الأخبار مع الواسطة في مبحث حجيّة خبر الواحد).

وفيه: إنّ الإشكال إنّما هو فيما إذا كانت القضية من قبيل القضايا الخارجية، أمّا إذا كانت من قبيل القضايا الحقيقية التي يجري الحكم فيها على عنوان جامع، فلا مانع من شمولها للمصاديق السابقة واللاحقة من دون أي تفاوت، وقد أجابوا به عن شبهة عدم شمول أدلة حجيّة خبر الواحدللأخبار مع الواسطة فراجع.

5- وهو العمدة من انصراف أدلّة وجوب الخمس في الأرباح والمنافع عمّا نحن بصدده، كما ذكروا نظيره في قولنا كلّ خبري كاذب، فإنّه وإن لم يكن هناك مانع عن العموم إلّاأنّ الإنصاف انصراف عنوان الخبر عن نفس هذا الخبر فانصراف عموم المنافع والفوائد عمّا ينشأ من قبل أدلّة الخمس أو الزكاة أو ما

أشبههما قريب جدّاً، ولو شك فالأصل عدمه.

ويؤيده ما مرّ في رواية ابن عبد ربه من أنّ التعليل بأمر ارتكازي في الأذهان من عدم شمول الحكم لما ينشأ من قبله لا سيّما مع ما هو الحقّ من أنّ وجوب الخمس في المنافع إنّما هو بمجرّد حصولها، وأمّا إخراج المؤونة فهو من قبيل التوسعة في الحكم وتجويز عدم المبادرة إلى تخميس الأموال إلى آخر السنة احتياط للمؤونات المتجددة، وإلّا فبمجرّد حصول الربح والفائدة يجب عليه الخمس.

فالفقير إذا أخذ شيئاً من الزكاة أو سهم السادة أو الصدقة وجب عليه الخمس من حينه، وكذا غير الفقير إذا أخذ من سهم الإمام عليه السلام فلو أراد التعجيل بإخراج خمسه كان صحيحاً.

فهل ترى من نفسك أن نقول بوجوب الخمس على كلّ فقير يأخذ من الزكاة أو الخمس أو غيرهما شيئاً بمجرّد حصوله في يده وأنّها داخلة في عموم الغنائم والفوائد وإن كان أداؤه عليه موسعاً طول السنة؟ الإنصاف أنّه لا نظن بأحد الالتزام به بعد ملاحظة هذا التعليل، فاحتمال انصراف إطلاقات أدلّة الأخماس عن محلّ الكلام قوي جدّاً.

نعم، إذا بقيت هذه الأُمور عنده ونمت نماء أمكن الحكم بوجوبه في نماءات، كما إذا انتجت غنم الصدقة عنده نتاجاً لعدم ثبوت وجه للانصراف هنا.

وبالجملة فالدليل الوحيد على إثبات الحكم هو ما ذكرناه من الانصراف مع تحليله بما

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 253

ذكر وتأييده برواية ابن عبد ربّه «1».

المسألة الثالثة: إذا اشترى شيئاً ثمّ علم أنّ البائع لم يؤد خمسه كان البيع بالنسبة إلى مقدار الخمس فضولياً، والدليل عليه ما سيأتي إن شاء اللَّه من أنّ مقدار الخمس مملوك لأربابه بالإشاعة أو الكلي في المعيّن أو أنّه حقّ مالي مثل حقّ الرهانة أو غيرها، فعلى

أي مبنى كان البيع فضولياً في مقدار الخمس، بل يمكن القول بكونه في الجميع فضولياً بناءً على القول بكون الجميع كالعين المرهونة في مقابل حقّ أرباب الخمس، وعلى كلّ حال فإن أجازه الحاكم الشرعي صحّ البيع وانتقل الخمس إلى المشتري بحصة من الثمن، وحينئذٍ إن كان البيع بثمن شخصي يرجع إلى البائع ويأخذ منه خمس الثمن، وإن كان بثمن كلي يرجع إلى المشتري فيأخذ منه مقداره ويرجع المشتري إلى البائع بمقداره لو دفعه إليه.

وعلى كلّ حال كان للمشتري مع جهله خيار تبعض الصفقة لعدم صحّة البيع في بعض الثمن، بل وفي صورة العلم على احتمال.

وهكذا الحال في غير البيع من المعاوضات، وأمّا إذا كان الانتقال منه بعنوان الهبة وشبهها بطل في مقدار الخمس إلّاأن يكون الموهوب له ممّن يستحقّه فيجوز للحاكم الشرعي إجازته بالنسبة إلى مقدار الخمس أيضاً، وأمّا إذا لم يجزه فعلى المنتقل إليه دفع عين الخمس أو بدله.

هذا كلّه إذا كان البائع ممّن يعتقد الخمس، وأمّا إذا كان ممّن لا يعتقد فسيأتي في أحكام التحليل أنّه يحل الأخذ منه بالمعاوضات وغيرها ولا يجب عليه شي ء.

بل في كلام بعض الأعلام جريان هذا الحكم في فساق الشيعة ممّن يعتقد الخمس ولا يعمل به، ولكن ستأتي المناقشة فيه إن شاء اللَّه في محلّه.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 254

المسألة الرابعة: في حكم النماءات المتصلة والمنفصلة والحكمية.

إذا كان هناك عين لا يتعلق به الخمس- كالميراث- أو تعلق به وأداه ثمّ نمت نماء، هل فيه الخمس؟

قد اضطربت فيه كلماتهم واختلفت آراؤهم، وقبل نقل الأقوال والآراء لابدّ من تحرير محلّ البحث.

فأعلم أنّ النماء على أقسام:

تارة: تكون منفصلة مستقله كنتاج الحيوانات ولبنها وفواكه الأشجار.

وأُخرى تكون متصلة بحسب الكمية كزيادة الحيوان في

السمن والأشجار في غلظة أُصولها وفروعها وامتدادها.

وثالثة: متصلة بحسب الكيفية كنضوج الأثمار التي أدّى خمسها من قبل ثمّ زادت قيمتها لنضوجها، ومن هذا القبيل ارتفاع قيمة ما يكون عتيقه مرغوباً فيه.

ورابعة: ما نسميه بالزيادة المعنوية كزيادة علم العبد وتعلم أنواع الفنون ومهارته في الطب وغيره مثلًا، وكذا الأمة في تدبير المنزل وغيره، وهكذا في الحيوانات المعلمة للصيد والحراسة وكشف الغائبات ودفع السراق ومعرفتهم لأنّه لا شك في ارتفاع قيمتها بذلك بأضعاف مضاعفة.

وخامسة: ما تكون حكمية فقط أي لم يزد في شي ء من كميته ولا كيفيته ولا معنوياته ولكن ازدادت قيمته السوقية باختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة وغير ذلك.

كلّ ذلك قد يكون في موارد قصد الاسترباح وقد لا يكون، وقد يكون قبل بيعها وقد لا يكون.

فهل يكون الجميع داخلًا في الأرباح التي يتعلق بها الخمس، أو لا يكون شي ء منها كذلك، أو يفصل بين هذه الأُمور؟

قال الشهيد الثاني قدس سره في المسالك: «ولو زاد ما لا خمس فيه زيادة متصلة أو منفصلة وجب الخمس في الزائد، وفي الزيادة لارتفاع السوق نظر وقطع العلّامة في التحرير بعدم انوار الفقاهة، ج 2، ص: 255

الوجوب فيه» «1».

وقال الفقيه الماهر صاحب الجواهر قدس سره: «ثمّ لا فرق في الربح بين النماء والتولد وارتفاع القيمة ولو للسوق كما صرّح به في الروضة وغيرها لصدق الربح والفائدة، لكن في المنتهى واستجوده في الحدائق «لو زرع غرساً فزادت قيمته لزيادة نمائه وجب عليه» الخمس في الزيادة، أمّا لو زادت قيمته السوقية من غير زيادة فيه ولم يبعه لم يجب عليه وكذا في التحرير إلّاأنّه لم يقيده بعدم البيع» «2».

وقال المحقّق الهمداني قدس سره: «وأمّا نماء الارث والهبة ونحوها فالأشبه أنّه كأصله لا يتعلق به الخمس

ما لم يقصد بابقائه الاسترباح والتكسب كما صرح به بعض خلافاً لآخرين، فكلما اتخذه للاكتساب فظهر فيه ربح بنماء أو أثمار أو انتاج تعلق به الخمس ولو أراد الاكتساب والاسترباح بفوائده لا بأصله دخلت فوائده دون زيادة أعيانه كما صرّح بهما كاشف الغطاء ولا عبرة بزيادة القيمة السوقية لأنّها أمر اعتباري لا يعدّ ربحاً بالفعل ... فمتى باعه بأكثر من رأس ماله دخلت حينئذٍ في الأرباح» «3».

إلى غير ذلك وهي كما تراها مختلفة متفاوتة.

أقول: أمّا الزيادة المنفصله فلا إشكال في دخولها في الغنائم بالمعنى الأعم والفوائد والمنافع، وقد عرفت عدم اشتراط قصد التكسب والاسترباح فيجب الخمس في نتاج الحيوان والأثمار إذا زادت عن المؤونة، وقد عرفت ما رواه أبو بصير فيمن يكون في داره البستان فيبيع من أثماره وأنّ عليه الخمس وهو باطلاقه يشمل ما نحن فيه «4».

أمّا الزيادة المتصلة المادية في الكمية والكيفية أو الزيادة المعنوية، فإن كان بقصد الاسترباح وعد من قبيل الزيادة في أموال التجارة فلا إشكال أيضاً في تعلق الخمس بها بعد مضي السنة، وإن لم يبعها فإنّه يقال كان رأس ماله كذا وكذا، والآن زاد عليه بكذا أو كذا، لأن الأغنام المعدة للاسترباح سمنت وكبرت وزاد وزنها، أو ارتفعت كيفيتها بمضي الزمان أو

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 256

العمل عليها، أو رُوّضت الدابة ترويضاً ما ارتفعت به قيمتها مع كونها معدّة لذلك وقصد بها الاسترباح فيجب حينئذٍ خمسها بمضي السنة، كلّ ذلك لصدق الفائدة.

وأمّا إذا لم يكن بقصد الاسترباح، كما إذا حصلت هذه الأُمور فيما وصل إليه من طريق الارث وشبهه فزادت فيه هذه الزيادات من دون قصد الإسترباح، فيشكل حينئذٍ صدق الفائدة فعلًا، نعم، هي فوائد بالقوّة بمعنى أنّه إذا باعها

وحصل الثمن في يده صدق عليه الفائدة، بل يمكن دعوى استقرار السيرة عليه في الجملة، فكثير من الناس يبقى لهم أموال مختلفة من آبائهم وإخوانهم وغير ذلك من أقربائهم وتكون هذه الأموال من قبيل الحيوانات أو البساتين أو شبه ذلك ومن المعلوم أنّها لا تبقى على حالها، بل كثيراً ما تنمو وتزداد زيادة في الكمية أو الكيفية فتزيد قيمتها عمّا كانت عليه، ومع ذلك لا يلزمون أنفسهم بمحاسبتها كلّ عام ليعلم مقدار زيادتها في القيمة حتّى يدفع عنها الخمس (إلّا إذا كانت كرأس المال قصد بها الاسترباح) والظاهر أنّ هذه السيرة أيضاً نشأت عن عدم صدق عنوان الفائدة عليها إلّا بالقوّة القريبة لا بالفعل، ولكن هذه السيرة على الظاهر مستمرة إلى زمن المعصومين.

وإن شئت قلت: لو كان الخمس واجباً في مثل هذه الأموال لظهر واشتهر لشدّة الابتلاء بها لا سيّما مع موارد الارث أو المهور، فإنّ كثيراً منها تكون من قبيل الأشجار والبساتين وشبهها، مع أنّه لا يحاسب كلّ عام حتّى يدفع عنها الخمس.

وما قد يقال من أنّ هذه السيرة إنّما نشأت عن قلّة المبالاة في الدين، عجيب، فإنّ جميع المبالين بالدين من المؤمنين أيضاً على هذه السيرة كما هو واضح.

وتبقى الزيادة السوقية المجردة عن زيادة الكمية أو الكيفية وقد عرفت اختلاف كلماتهم فيها، فقد صرّح العلّامة رحمه الله في التحرير بعدم وجوب الخمس في الزيادة السوقية «1».

وقيده صاحب المنتهى بعدم البيع فقال: «أمّا لو زادت قيمته السوقية من غير زيادة فيه ولم يبعه لم يجب عليه شي ء» «2».

وعن الحدائق أيضاً ترجيح الثاني.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 257

وفي المستند للنراقي رحمه الله أيضاً التفصيل بين بيعها وعدم بيعها، بل صرّح بعدم كفاية ظهور الربح حتّى في

أمتعة التجارة بل يحتاج إلى الإنقباض والبيع (أي تبديل السلعة بالأثمان) «1».

أقول: تارة يفرض الكلام فيما أريد به الاسترباح فيشتري التاجر بأموال أدّى خمسها من قبل متاعاً فيبيع بعضه ويبقى بعض إلى رأس السنة حال كونه زيدت قيمته السوقية، والإنصاف تعلق الخمس به وإن كان قبل الانضاض إذا كان قابلًا له من دون أي مانع وذلك لصدق الربح عليه قطعاً، فإنّ المتداول بين التجار عند محاسبة الأموال في كلّ سنة محاسبة الأموال الموجودة بقيمة يرغب فيها إذا كانت ممّا يمكن بيعها في الأسواق من دون مانع وعليه مدار محاسبة الربح والضرر، ولا ينتظرون في محاسبتها عند رأس السنة انضاض جميع ما في مخازنهم من الأموال، بل الانضاض بهذا الشكل نادر في أعمالهم فلا يزالون يشترون ويبيعون، وكذلك الزارع وصاحب الحيوان إذا أراد محاسبة ربح مكسبه على رأس الحول ولو مع قطع النظر عن مسألة الخمس يُقيِّم ما هو الموجود من الحنطة والشعير في مخازنه أو الأغنام في حضائرها بقيمته السوقية ثمّ يرى أنّه ربح أو خسر وبأي مقدار هذا الربح، ولا ينتظرون.

فهذا ديدنهم في محاسباتهم في ربح السنة وخسرانها مع قطع النظر عن حكم الأخماس، فليكن الأمر في الخمس وصدق الفائدة والغنيمة كذلك.

نعم، إذا لم يكن حين انضاضها فلا شك في كونها منفعة بالقوّة لا بالفعل كما سبق نظيره في المسائل السابقة.

أمّا إذا لم يرد الاسترباح بها كمن ورث من أبيه أرضاً أو بستاناً ولم يرد بيعها لعلّه يحتاج إليها في المستقبل أو يحتاج إليه أبناؤه فيبقى سنين وقد تزداد قيمته كلّ سنة، فليس من المتداول محاسبة قيمته السوقية كلّ سنة وأداء خمسه منه، ففي مثله أيضاً قد جرت سيرة الكلّ على عدم أداء الخمس

منه كذلك حتّى من المتمسّكين بأُمور الدين.

وإن شئت قلت: إنّه أيضاً لا تصدق عليه الغنيمة والمنفعة والفائدة بالفعل فلا تشمله أدلتها، نعم، هي فائدة بالقوّة فإذا باع الأرض أو غيرها صدق عليها الفائدة بالفعل ووجب انوار الفقاهة، ج 2، ص: 258

عليه خمسها لعدم قصور في العمومات من شمول أمثالها.

هذا هو القول الفصل في ازدياد القيم السوقية وليعلم أنّها تدور مدار العرض والطلب، فإن كان العرض أكثر من الطلب رخصت الأسعار وإن كان أقل غلت، وذلك قد يكون بتفاوت فصول السنة كغلاء المبردات في الصيف ومنابع الحرارة في الشتاء والألبسة المختلفة في فصولها، وقد يكون بسبب بعض الحوادث غير المترقبة كبعض الحروب الموجبة لغلاء الأسعار أو شيوع بعض الأمراض الموجبة لغلاء الأدوية الخاصة بها، إلى غير ذلك من أشباهه.

نعم هنا مسألة مهمّة:

وهي أنّه قد تزداد القيم السوقية في جميع الأجناس كلّ سنة بنسبة واحدة، أو بنسب مختلفة متقاربة، ففي المسكن أكثر مثلًا وفي غيره أقل، ويعبر عنه بأنّه قد هبطت قوّة الشراء في النقود، فهل تعدّ هذه الزيادة السوقية هنا أيضاً منفعة يجب فيها الخمس؟ أو هذه منفعة صورية أسمية لا واقعية؟ فالقيمة وإن إزدادت وحصل في يده أموال ضعف ما كان رأس ماله من قبل، ولكنّها في الواقع أمر ظاهري صوري، لأنّ جميع الأشياء أو أكثرها غلت بهذه النسبة أو ما يقاربها.

ومنشأ ذلك كلّه الاعتماد على النقود الورقية، فلو كانت المعاملات تدور مدار النقدين- الذهب والفضة- مثلًا لما كانت هذه الزيادة التي قد تكون أسرع من حركة الشمس في السماء وفي كلّ صباح ومساء.

وفي الحقيقة هذه النقود الورقية لا مالية لها إلّابالاعتبار، وليست إلّاقراطيس، فإن طبعت واخرجت بمقدار الأموال المتولدة في المصانع وغيرها كانت القيم ثابتة

في الجملة، وإن طبعت أكثر من ذلك غلت الأسعار يوماً بعد يوم، وفيه بحث طويل ليس هنا محلّ ذكره.

وعلى كلّ حال قد يشكك في صدق المنفعة على هذه الزيادة لما عرفت من أنّها ليست زيادة إلّافي الصورة لا في الواقع، بل قد يتعدى من ذلك ويقال أنّه لو كان مهر امرأة مثلًا

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 259

ثلاثة آلاف تومان في أربعين سنة من قبل فلا يمكن أداؤه بهذا المقدار، بل لابدّ من ملاحظة تفاوت قوّة الشراء في النقود فيه، وكذا في غيره من الديون.

وهذا الكلام وإن كان يساعده بعض الاعتبارات ويوافقه الطبع إجمالًا، ولكن دون الالتزام به خرط القتاد، لأنّه يتفرع عليه ما لا يظن من أحد الالتزام به في العمل.

منها: جواز أخذ الربا بمقدار هبوط قدرة الشراء في النقود، فمن أقرض واحداً ألف تومان يجوز له أخذ ألف ومائة مثلًا على رأس السنة، فإن هذا المقدار من التفاوت في قوّة الشراء أمر عادي، وهكذا في أمثال المقام من جميع الأمثلة، وفتح هذا الباب يوجب الحكم بجواز الربا في أعصارنا غالباً، لأنّ هبوط قوّة الشراء في عصرنا أمر دائمي في جميع السنين.

منها: الحكم في جميع الديون في المعاملات والاتلافات والمهور وغيرها من أشباهها أن يحاسب كلّ سنة مقدار هبوط قوّة الشراء ويؤخذ التفاوت، فمن اشترى شيئاً بعشرة آلاف تومان ولم يوفق لدفع ثمنه إلّابعد حين فعليه أن يدفع أحد عشر ألف مثلًا وفقاً لهبوط قوّة الشراء.

وكذا من كان عليه دين مطالب وقد أعسر وكان من مصاديق «فنظرة إلى ميسرة» فبعد اليسار لابدّ من أداء أكثر منه.

بل، وكذا في الديون المؤجلة فهي وإن كان التأجيل مأخوذاً فيها، ولكن لا يجوز أداؤها بمثلها في أوانها (إذا تغيرت قوّة

الشراء) لأنّ الواجب في القرض ردّ مثله والمفروض أنّه ليس محل الكلام مصداقاً لردّ المثل، بل هو انقص منه فلا يؤدي الدين به، وكذا أجرة العمال والموظفين فلابدّ من تغييرها كلّ حين.

وإن شئت قلت: المماثلة هنا ليست مماثلة في الكمية الظاهرية بل في المالية التي هي قوّة الشراء، فاللازم ملاحظة المماثلة من هذه الجهة.

إن قلت: إنّ العامل أو المؤجر للدار إذا عقد الإجارة على ثمن معلوم إلى ثلاث سنوات مثلًا، لازمه إلغاء تفاوت قوّة الشراء الحاصل كلّ سنة.

قلت: أوّلًا: إنّ طرفي المعاملة غالباً غافلان عن هذا المعنى كي يوقع العقد مبنياً عليه.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 260

وثانياً: لازم ذلك هو الغرر في عقد الاجارة، لأنّ مقدار هبوط قوّة الشراء في كلّ سنة غالباً غير معلوم لتفاوت الأحوال السياسية والاجتماعية وغيرهما في ذلك فيوجب البطلان في العقد، فلابدّ من تغيير مقدار النقود كلّ سنة بمقدار تفاوت قوّة الشراء حتّى يصحّ العقد.

إن قلت: إنّ النقود الورقية في الحقيقة حوالة إلى الذهب والفضة الموجودين في البنك المركزي المسميين بالرصيد (پشتوانه) فالتضخم يجري فيه دون النقود.

قلت: إنّ النقود الورقية الاعتبارية كما حققناه في بعض أبحاثنا ذات مالية مستقلة، ولذلك لا يلتفت العقلاء إلى الرصيد الموجود في قبالها في البنك المركزي ولا يعاملون معها كحوالة، مضافاً إلى أنّ الرصيد في الواقع هو قدرة الدولة التي أقدم على طبع النقود ولذلك لو احتلت أو خفضت على الصعيد الاقتصادي لسقطت نقودها الورقية عن الاعتبار ولو كان في مقابلها آلاف الالوف من الذهب والفضة في البنك المركزي.

وبالجملة فإنّ فتح هذا الباب يوجب الهرج والمرج في جميع المعاملات والإجارات، وأن تكون هناك جماعة مأمورين بتعيين مقدار تفاوت قوّة الشراء في كلّ سنة بل في كلّ

شهر ثمّ يؤخذ بمقتضى ارتفاعها أو انخفاضها في جميع الديون وأثمان المعاملات واجارة المساكن والعمال، وحينئذٍ لا يستقر حجر على حجر.

إن قلت: هذا المعنى حاصل اليوم، لأنّ البنوك المركزية تبيّن مقدار التورم وهبوط قوّة الشراء كلّ شهر أو كلّ سنة.

قلت: نعم، ولكن لا أثر له في الديون والقروض والأثمان وأجور العمال وغيرها وإنّما ينتفع به في المطالعات الاقتصادية والبرامج المالية.

وإن شئت قلت: هذه دقّة عقلية أو عقلائية في علم الاقتصاد، ولكن المدار على العرف، فالعرف يرى أداء الدين بمثله في الكمية لا غير.

وبتعبير أوضح هناك عرف عام وعرف خاص، فالعرف الخاص يرى مقدار ألف تومان اليوم غير مساو لمقدار ألف تومان بعد سنة حقيقة لما فيها من هبوط قوّة الشراء، ولكن العرف العام يرى الألف مساوياً للألف كما أنّه لو كان الأمر بالعكس فارتفاع قوّة الشراء لا يقبل أقل من ألف في مقابل الألف، ومن الواضح أنّ الأمر في المساواة المعتبرة في أداء

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 261

الديون وشبهها إنّما هو موكول إلى نظر العرف العام ولا أثر للعرف الخاصّ في ذلك أصلًا، وليس هذا من الأُمور التي يرجع فيها إلى أهل الخبرة بل العرف العام يرى نفسه من أهل الخبرة في تشخيص المساواة وعدمها في أبواب الديون وشبهها.

نعم، قد يقال إنّ هناك بنوك في بعض البلاد تقوم بأداء ربحين لما يودع عندها من الأموال، أحدهما: ربح صوري وهو ما يعادل هبوط قوّة الشراء. والثاني: ربح واقعي للمال بناءً على مبناهم من جواز الربا، فلو عمّت هذه الفكرة في المجتمع حتّى صارت ممّا يعرفه الصغير والكبير وأهل السوق ويبنون عليه فيما دار بينهم من المعاملات، أمكن القول بعدم كون الربح الصوري فائدة وغنيمة حقيقة، ولكن من المعلوم

أنّه لم يبلغ الأمر إلى هنا لا أقل فيما نعرفه من أهل هذه البلاد التي نشاهدها فلا يمكن بناء المعاملات عليه.

المسألة الخامسة: إذا اشترى عيناً للتكسب بها فزادت قيمتها السوقية ولم يبعها غفلة أو طلباً للزيادة ثمّ رجعت قيمتها إلى رأس مالها أو أقلّ، فقد فصل المحقّق اليزدي رحمه الله فيها في العروة بين ما إذا كان ذلك قبل تمام السنة فحكم بعدم ضمان حكم ملك الزيادة (وعلّله بعدم تحققها في الخارج) وبين ما إذا كان بعد تمام السنة واستقرار الخمس فحكم فيه بالضمان.

أقول: أمّا عدم الضمان في أثناء السنة فهو حقّ، لكن تعليله بعدم تحقق الزيادة في الخارج غير مرضي، لأنّ الزيادة قد حصلت بالفعل بعد كون المقصود بالعين التكسب بها وقد مرّ نظيره في المسائل السابقة حيث عرفت عدم اشتراط الانضاض في تحقق المنفعة، نعم، له حقّ التأخير بملاحظة استثناء مؤونة السنة منها، ولذا حمله بعض الأعلام على أنّ مراده عدم تحقق الزيادة على مؤونة السنة، ولكنه مخالف لظاهر كلامه، والمناسب لظاهر كلامه في الشق الثاني للمسألة هو أن يقال لعدم استقرار الوجوب على الزيادة (لا لعدم الزيادة).

وعلى كلّ حال فالحكم بعدم الضمان حقّ لا ريب فيه، ودليله هو عدم وجوب أداء الخمس عليه فوراً، بل موسع عليه إلى آخر السنة ومعه لا ضمان، نعم يمكن استثناء صورة واحدة من هذا الفرض وهو لو عدّ تأخيره تفريطاً بالنسبة إلى تلك المنفعة، كما إذا بأنّه انوار الفقاهة، ج 2، ص: 262

ستنقص القيمة لو لم يبعها مع حاجة الناس إليها وتوفر الدواعي مثل عدم بيع المبردات في فصل الصيف، وما هو مفيد للتسخين في فصل الشتاء أو عدم بيع الغنم في مِنى يوم العيد فلا يبعد

حينئذٍ الضمان لتعلق حقّ السادة بالمال، وجواز تأخير الخمس إلى آخر السنة احتياطاً للمؤونة إنّما يقتضي جواز تأخيره وعدم أدائه بعد بيعه وتحصيل المنفعة لا عدم بيعه وتضييع المنفعة.

وإن شئت قلت: لا دليل على جواز ترك البيع هنا بالنسبة إلى سهم السادة، مع أنّه كالقيم والولي بالنسبة إلى سهمهم، فكما أنّ الولي لو أخر بيع مال اليتيم عن أوانه فنقصت قيمته إلى حدّ كثير جدّاً مع علمه بذلك من قبل ضمن، فكذلك هنا، والقول بأنّ زيادة القيمة غير مضمون سيأتي الكلام فيه في الشق الثاني.

أما إذا كان رأس السنة فنقصت القيمة فيما لا ينافي الفورية العرفية الواجبة في أداء الخمس كان الحكم كالصورة السابقة لعدم المنع من حفظه حينئذٍ.

أمّا إذا مضى زمان ينافي الفورية ولم يؤد الخمس فنقصت القيمة، فقد يقال بعدم الضمان هنا لأنّ الضمان إنّما هو في صورة تلف العين أو بعض أوصافها أمّا تلف زيادة القيمة (أي بعض ماليتها) فلا دليل عليه، ولذا لو غصب إنسان مالًا فأبقاه عنده حتّى نزلت قيمته السوقية لم يكن ضامناً إلّالنفس العين.

نعم، حقّ السادة تتعلق بالعين بعد تمام السنة بنسبة خاصة فلو كانت قيمة العين عشرين فزادت مائة فصارت مائة وعشرين كان خمس الزيادة عشرين ديناراً، والعشرون سدس مجموع قيمة العين بالفعل (سدس مائة وعشرين) فيجب عليه دفع سدس العين الموجودة سواء نقصت قيمتها بعد ذلك أم لا.

قلت: أمّا عدم ضمان الزيادة السوقية على إطلاقه فمشكل جدّاً، ففي الأمثلة السابقة لو غصب غاصب الغنم عنه يوم العيد في منى أو المبردات في الصيف ووسائل الحرارة في الشتاء ثمّ ردّه عليه في غير فصله بما يوجب نقص ماليتها كثيراً ولم يمكن حفظها إلى السنة الآتية (فرضاً) فالإنصاف

الضمان في هذه الصورة بحكم العقلاء، بل يمكن الاستدلال عليه بأدلّة لا ضرر لأنّ الغاصب هو الذي أوجب الضرر والخسارة الشديدة عليه، وقد قلنا في انوار الفقاهة، ج 2، ص: 263

محلّه أنّ أدلّة لا ضرر كما تنفي الأحكام الضررية تثبت أحكاماً يكون الضرر في نفيها.

نعم التفاوت اليسير في القيمة السوقية لا ضمان فيه عندهم، فالأقوى هو الضمان في هذه الموارد.

وقد يقال: إنّ الضمان إنّما يدور مدار مقدار الواجب من الخمس في أوّل تعلقه، مثلًا إذا كانت قيمة العين مائة دينار فزادت قيمته عشرين ديناراً، فالواجب من العشرين أربعة دنانير بعنوان الخمس ونسبة الأربعة إلى المجموع (وهو مائة وعشرون ديناراً) هي نسبة الواحد إلى الثلاثين، فهذا الجزء المشاع من هذه العين إنّما هو لأرباب الخمس فإذا نقصت القيمة في الكلّ وجب هذا الجزء من المجموع أيضاً.

وفيه: ما قد عرفت من أنّ الضمان بالنسبة إلى مقدار الخمس بقيمته الأصلية ثابت لا وجه لتغيره فتأمل.

المسألة السادسة: إذا عمّر بستاناً وغرس فيه أشجاراً ففيه صور:

تارة يريد الاكتساب بأصل البستان ولا إشكال حينئذٍ في وجوب الخمس في نمو أشجاره، بل لا يحتاج إلى الانضاض لما عرفت سابقاً من صدق المنفعة عليها وإن لم يبعه (ولكن بلغ أوان بيعه) فالواجب في رأس السنة تقويمه وأداء خمسه.

وأُخرى، لا يريد إلّاالاكتساب بثمرها وحينئذٍ لا يجب الخمس في نمو أشجاره فعلًا، نعم، إذا باعه وجب عليه ذلك الخمس، والعجب من المحقّق اليزدي أنّه اطلق القول بعدم وجوب الخمس فيه مع أنّه صرّح في المسألة 53 بوجوبه في الزيادة المتصلة، ويمكن حمل كلامه على صورة كونها في سبيل مؤونته، وعلى كلّ حال يجب عليه الخمس في ثمرتها إذا زادت على مؤونة سنته كما هو ظاهر.

وثالثة، يريد

الانتفاع بثمرها في مؤونته كما هو المتداول بين الناس من غرس بعض الأشجار في باحات دورهم لانتفاع العيال بثمارها، وحينئذٍ لا يتعلق الخمس لا بنفس الأشجار ولا بثمارها ما لم تكن الثمرة زائدة على حاجتها لأنّها بتمامها من المؤونة، نعم، إذا كثرت الأشجار ونمت وبلغت إلى حدّ تكون ثمارها أزيد من مؤونته وجب الخمس فيها وفي ثمارها، ولكن لا يجب خمس الأشجار إلّاإذا باعها لما قد عرفت من عدم قصد

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 264

الاكتساب بها فهي منفعة بالقوّة لا بالفعل كما مرّ آنفاً.

المسألة السابعة: إذا كان له أنواع من الاكتساب والاستفادة وكان له رأس مال يتجر به وخان يؤجره وأرض يزرعها وعمل يد مثل الكتابة أو نحو ذلك، هل يلاحظ في آخر السنة ما استفاده من المجموع فيجب عليه خمس ما حصل منها بعد إخراج المؤونة، أم يكون لكلّ واحد عام مستقل برأسه؟

والحاصل: أنّه هل العام واحد في الجميع أو لكلّ واحد من أنواع تجاراته عام بعينه؟

ذهب في الدروس والحدائق وكشف الغطاء (فيما حكى عنهم) إلى الأوّل، واستجوده صاحب الجواهر، ومال إليه صاحب المدارك والسبزواري في الكفاية فيما حكى عنهما، ولكن الشهيد الثاني رحمه الله صرّح في الروضة، فالقول: «ولو حصل الربح في الحول تدريجاً اعتبر لكلّ خارج حول بانفراده، نعم توزع المؤونة في المدّة المشتركة بينه وبين ما سبق عليهما ويختص بالباقي» «1» ونحوه ما في المسالك «2».

بل يظهر من عبارته عدم الفرق بين اتحاد النوع وتعدده، فلو كان خطيباً وحصلت المنافع عنده في أيّام عاشوراء وأواخر شهري صفر ورمضان كان لكلّ حول برأسه وكذا أشباهه، أو كانت له تجارات في فترات مختلفة.

وظاهر كلام صاحب العروة كجماعة كثيرة من المحشّين هو القول الأوّل وهو

الأقوى.

وتظهر الثمرة بين القولين في كيفية توزيع المؤونة عليها- كما عرفت في كلام الشهيد رحمه الله- وفي لزوم الخمس من جميع المنفعة من دون إخراج المؤونة إذا حصلت بعض أنواعه في آخر السنة ولم تكن عليه مؤونة حينئذٍ.

وكيف كان فقد يستدلّ على المختار أعني القول الأوّل بأُمور:

الأوّل: إنّ المتعارف بين العقلاء من أهل العرف هو ذلك، فإنّهم إذا أرادوا محاسبة الربح والمصارف لكلّ إنسان حاسبوا مجموع ما انتفع به طول السنة وأخرجوا منه مصارفه وكان انوار الفقاهة، ج 2، ص: 265

الزائد ربحاً خالصاً، وكذلك بالنسبة إلى الشركات التي فرقت رأس مالها في أنواع من المكاسب فبعضها في التجارة وبعضها في التنمية الزراعية وبعضها في المصانع وغيرها فيحاسبون الجميع، ثمّ يعلنون الربح والخسران، وكذلك في مصارف الحكومات ومنافعها فإنّ المعمول فيها أيضاً محاسبة جميع المنافع طول السنة والمصارف كذلك ثمّ محاسبة كسر الميزانية.

وإطلاق قوله عليه السلام: «الخمس بعد المؤونة» يرجع إلى هذا الأمر المتداول بين أهل العرف فيما بينهم.

إن قلت: بل نراهم يحاسبون كلّ واحدمن هذه الأُمور مستقلًا من حيث الربح والخسران، فيقولون ربحنا في تجارتنا وخسرنا في زراعتنا.

قلت: هذا إذا أريد محاسبة نفس المكاسب من حيث الربح والخسران لا محاسبة ربح الإنسان وخسرانه بعنوان شخصه، ففي الأوّل يقولون خسرت هذه الصفقة وربحت تلك الصفقة، ولكن إذا أريد مصارف الشخص ومنافعه يقول ربحه طول السنة هذا ومصرفه هذا فبقي هذا المقدار الذي هو الربح الخالص الزائد، وأنت إذا راجعت أحوالهم تراهم لا يتعدون هذا الأمر.

الثاني: جريان السيرة من المتشرعة عليه، فإنا نراهم على ملاحظة المجموع من حيث المجموع دون ملاحظة كلّ فائدة برأسها، فعلى رأس السنة يحاسبون مجموع أموالهم الموجودة بعد وضع المؤونات، ويقايسونه مع رأس مالهم

في السنة الماضية فيأخذون بالتفاوت بينهما ويخمّسون أموالهم، ولكلّ واحد منهم وقت معين معلوم لتخميس أمواله في كلّ سنة.

مع أنّ كثيراً من الناس لهم أنواع مختلفة من المكاسب فعندهم زراعة وتجارة أو حرفة يدوية أو غلةدار أو دكان وغير ذلك، ولو كان لكلّ واحد من هذه الأنواع، بل لكلّ مصداق من مصاديق النوع الواحد حول برأسه (لعدم الفرق بين تعدد الأنواع أو الأفراد) لكان سنة تخميس الأموال في كلّ شهر أو كلّ اسبوع ولو كان ذلك لاشتهر وبان، لا سيّما إذا قلنا بوجوب الخمس في الهدايا، فلابدّ من ملاحظة كلّ هدية وجعل سنة خاصة لها، وهذا

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 266

مقطوع العدم بينهم.

ولذا قال صاحب الجواهر في ردّ هذا القول- فيما حكى من عبارته: «كأنّه معلوم العدم من السيرة والعمل» «1».

وعدم وقوع السؤال عنها أيضاً دليل على ما ذكرنا.

وهذه السيرة وإن كانت مأخوذة من بناء العقلاء، ولكنها دليل مستقل بعد ظهور جريانها إلى زمن المعصومين عليهم السلام.

هذا مع استلزام القول الثاني للهرج الشديد في كثير من الأوقات فإن جعل سنة خاصة لكلّ منفعة جديدة (لا سيّما إذا قلنا بعدم الفرق بين اتحاد النوع وعدم اتحاده) ثمّ توزيع مؤونة السنة على كلّ واحد في وقته بعضها على واحد منها وبعضها على اثنين وبعضها على الثلاثة مشكل جدّاً، ومن المعلوم عدم تداوله بين المتشرعة أصلًا.

الثالث: ظهور إطلاق قوله عليه السلام في صحيحة علي بن مهزيار: «فأمّا الغنائم والفوائد فهي واجبة عليهم في كلّ عام» فإنّ ظاهره ملاحظة المجموع في كلّ عام، وليس جعل عام لكلّ واحد مستقلًا وما قد يقال من عدم كونها بصدد البيان من هذه الجهة ممنوع بعد ظهور قوله:

«في كلّ عام» في محاسبة الأموال كلّ

سنة مرّة واحدة مع أنّ كثيراً من الناس لهم منافع ومداخل مختلفة من غلة دار وربح تجارة وعمل يد إلى غير ذلك، وبالجملة فإنّ ظاهر الصحيحة أنّ المال يحسب في كلّ عام مرة واحدة ويؤخذ منه الخمس سواء كان موزعاً على أعمال مختلفة أو عمل واحد.

ومن هنا يظهر الجواب عمّا استدلّ به للقول الثاني من قياس المقام بباب الغوص والمعدن والكنز تارة حيث يحسب كلّ إخراج مستقلًا والأخذ بالاطلاقات الأخرى لأنّ تقييدها بكون المجموع في سنة واحدة يحتاج إلى دليل.

وأصالة البراءة ثالثة، فإنّ مقتضاها عدم وجوب الفور في خمس ما اكتسبه في آخر السنة.

فإنّ قياس المقام عليها قياس مع الفارق (مع عدم صحّة القياس في مذهبنا) لأنّ الغوص انوار الفقاهة، ج 2، ص: 267

وشبهه لا يعتبر فيها السنة، واستثناء المؤونة حتّى يتكلم في وحدة الجمع وعدمها فلا ربط بين المقامين.

وأمّا الأخذ بالإطلاقات فهو غير تام بعدما عرفت من الدليل على التقييد، وكذا أصالة البراءة إنّما تصحّ عند فقدان الدليل على وجوب الخمس فوراً بعد مضي السنة، الظاهر في المجموع من حيث المجموع.

إن قلت: إنّ الالتزام بهذا القول قد يوجب الضرر كما إذا حصد زرعاً في آخر السنة ولم يربح منه شيئاً، لكنّه قد وجب عليه (بناءً على هذا القول) تخميسه إذ خمس المجموع يلاحظ في آخر السنة دفعة واحدة، وبهذا قد يلزم تحمل ضرر عليه بينما لو قلنا بوجوبه في كلّ مهنة على حدة لم يلزم ذلك، بل جاز له التأخير في دفع خمس الزراعة إلى مضي الحول.

قلت: مضافاً إلى أنّ هذا الكلام مجرّد استحسان وهو ليس بحجّة عندنا، أنّه لا يجب عليه دفع جميع ما حصده من الزراعة حتّى يلزم ضرراً عليه، بل إنّما

يجب تخميسه على أنّ الحاكم الشرعي مبسوط اليد في الأخذ والعفو فله أن ينظر إلى وضع المكلّف الذي وجب عليه الخمس فيهبه أو بعضه له إذا رآه مصلحة.

المسألة الثامنة: قال صاحب العروة: «يشترط في وجوب خمس الربح أو الفائدة، استقراره فلو اشترى شيئاً فيه ربح وكان للبائع الخيار لا يجب خمسه إلّابعد لزوم البيع ومضى زمن الخيار».

أقول: محل الكلام هو زيادة القيمة السوقية أو الزيادات المتصلة، أمّا المنفصلة فهي خارجة عن محلّ الكلام فإن تزلزل العقد لا يوجب تزلزلًا في ملكيتها، وعلى كلّ حال فالوجه فيما ذكره عدم صدق الفائدة على محلّ الكلام وهو كذلك بناءً على عدم جواز البيع في زمن الخيار، وأمّا لو قلنا بجوازه مع انتقال حقّ الخيار معه واعلام المشتري الثاني به وجد لهذا العين مع هذه الصفة طالب يشتريها بأكثر ممّا اشتراه به، كما إذا اشتراه بعشرين ديناراً مع الخيار للبائع فوجد من يشتريه منه بثلاثين مع هذه الصفة فإنّ المنفعة هنا صادقة بالفعل إذا كان من قصده الاسترباح بهذا المتاع، فعلى رأس السنة و بعد إخراج المؤونة

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 268

يجب عليه خمس هذه العشرة لوجود الطالب له مع وصفه هذا.

وكان كلامه مبنيّاً على عدم جواز البيع في زمن خيار البائع.

وممّا ذكرنا يظهر أنّه إذا مضى زمن الخيار ولم يفسخ واستقر الربح، صدقت المنفعة من حينه لا من حين العقد ولا معنى للكشف هنا لأنّ المفروض عدم جواز بيعه، نعم بناءً على جواز البيع في زمان الخيار كانت المنفعة صادقة من أوّل الأمر، ولبعض المحشّين تفصيلات يظهر ضعفها ممّا ذكرنا.

المسألة التاسعة: لو اشترى ما فيه ربح ببيع الخيار، فصار البيع لازماً (بمضي زمن الخيار مع عدم الفسخ) فاستقاله البائع

فأقاله لم يسقط الخمس، إلّاإذا كان من شأنه أن يقيله كما في غالب موارد بيع شرط الخيار إذا ردّ مثل الثمن (هكذا ذكره المحقّق اليزدي رحمه الله في العروة).

قلت: والوجه فيه عدم صدق الفائدة حينئذٍ، وإن شئت قلت: الفائدة وإن كانت ثابتة بحكم الشرع بلزوم البيع مع حصول الربح، كما إذا اشترى ما يساوي بألف دينار بأقل منه مع شرط الخيار وانقضى زمانه، ولكن العرف قد لا يراه منفعة لائقة بشأنه ولكن ذلك ثابت في بعض فروض المسألة لا في غالب فروضها، فإنّه إنّما يكون إذا أتى بثمنه مع تأخير قليل كيوم أو ساعة، لعدم قدرته أو لبعض الموانع غير المترقبة، أو كان التفاوت بين الثمن الواقعي للمتاع وثمن المعاملة كثيراً- كما هو المتعارف في من يريد القرض مع الفرار من الربا- فيبيع داره بثمن رخيص مع خيار الشرط لعلمه بأنّه يقدر على أداء الثمن وأخذ ماله، فلو لم يقدر عليه لبعض الموانع كان للمشتري أخذ الدار بحسب ظاهر حكم الشرع، ولكن العرف لا يرى مثل ذلك كمنفعة لائقة بشأنه بل يراه كسمّ الحيات والعقارب.

ثمّ قد يقال: إنّه لا يصحّ إقالة المشتري بعد مضي زمن الخيار بالنسبة إلى خمس المبيع، لأنّ الشارع حكم بكونه ملكاً لأرباب الخمس، فلا يجوز للمشتري الإقالة إلّابالنسبة إلى ملك نفسه وهو أربعة أخماس المبيع.

ولكن لقائل أن يقول: إنّ العرف لا يرى الزيادة الحاصله للمشتري في أمثال هذه المعاملات الخيارية (التي تنفقد في كثير من الأوقات للفرار من الربا) منفعة واقعية، بل يرى انوار الفقاهة، ج 2، ص: 269

تحصيلها من جانب المشتري وعدم إقالته البيع مخالفاً للانصاف جدّاً ويذمّه على ذلك، وحينئذٍ يجوز للمشتري إقالة المبيع بتمامه ولا يجب عليه خمس لعدم

صدق المنفعة عرفاً.

المسألة العاشرة: هل يجب خمس رأس المال أم لا؟ فيه أقوال أو احتمالات أربعة:

1- وجوب إخراجه مطلقاً كما اختاره صاحب العروة بعنوان الاحتياط أفتى به بعض المحشّين.

2- عدم وجوب إخراجه كذلك وأنّ ما يحتاج إليه الإنسان في رأس ماله من قبيل المؤونة.

3- التفصيل بين رأس مال يعادل مؤونة سنته فلا خمس فيه وبين الزائد عليه ففيه الخمس (كما اختاره صاحب مستند العروة).

4- بين ما يحتاج إليه لمؤونة سنته وما لا يحتاج إليه كما اختاره بعض آخر وهو الأقوى.

والعمدة في ذلك أنّ لفظ المؤونة في بدء النظر ظاهر فيما يصرف في مصارف الحيات من القوت والملبس والمسكن والمناكح والتداوي وعباداته وغير ذلك من أشباهه، وأمّا وسائل التنمية والتوليد والتجارة وكذلك آلاتها فليست من المؤونة، وهذا دليل القائلين بوجوب الخمس فيه إذا كان من منافع كسبه.

وأمّا دليل القول بعدم الخمس، أنّه أي فرق بين رأس المال وآلات العمل وسائر المؤونات التي يحتاج إليه في حياته، فكلّ ما يحتاج إليه الإنسان في معاشه ومعاده مؤونة، حتّى ما يحتاج إليها في السنين الآتية سواء كان مثل المأكل والملبس أم لا.

هذا ولكن الإنصاف أنّ المسألة ذات شقوق.

أحدها: إذا كان الإنسان يقدر على اجارة نفسه لبعض الأعمال ويقدر على تحصيل مؤونة سنته من هذه الناحية ولكن ليس هذا الشغل لائقاً بشأنه ولو لم يكن له رأس مال يكتسب به كان شيئاً عليه، فلا ينبغي الشك في كونه من المؤونة أو بحكم المؤونة لإلغاء الخصوصية عنها قطعاً، فبالمقدار الذي لا يرتفع الشين عنه بأقلّ منه كان مستثنى عن حكم الخمس، وأي فرق بينه وبين السيارة التي يحتاج إليها أو الدار الذي يسكنه أو الخادم أو غير

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 270

ذلك

ممّا يحفظ به عرضه وجاهه.

ثانيها: ما إذا لم يقدر على تحصيل مؤونة سنته إلّابالآلات أو برأس المال فليس له مهنة إلّا من طريق الزراعة أو الصناعة أو التجارة، فأخذ أقلّ ما يكفيه لمؤونة السنة بحيث لو كان أقل منه لم يف منافعه بمؤونة سنته فهذا أيضاً بحكم المؤونة سواء صدق عليه عنوانها أم لا.

وذلك لأنّ ظاهر أدلة استثناء المؤونة أنّ الخمس إنّما هو بعد أخذ حاجات الحياة أيّاً ما كانت، ففي المقام يكون ايجاب الخمس عليه سبباً لعدم وفاء منافعه بمؤونة سنته وصيرورته فقيراً محتاجاً إلى بيت المال أو إلى غيره من أبناء نوعه، ومن المعلوم من أدلّة استثناء المؤونة أنّها لا ترضي الشارع بذلك.

ثالثها: ما إذا كان رأس المال والآلات بمقدار لو أدّى خمسها كان قادراً على اكتساب مؤونة سنته بالباقي، كمن كان له رأس مال يعادل مائة ألف دينار لو أعطى خمسها فصارت ثمانين ألف كان قادراً على الاكتساب اللائق بشأنه بهذا المقدار، فلا إشكال حينئذٍ في وجوب الخمس عليه لصدق المنفعة على المجموع وعدم منافاة الخمس لاكتساب مؤونة سنته، فتدبّر.

المسألة الحادية عشرة: مبدأ السنة ماذا؟ هل هو ابتداء الاكتساب، أو ابتداء ظهور المنافع، أو يقال أنّ المبدأ هو زمان حصول الربح، أو التفصيل بين من كان مكتسباً؟

فالأوّل: ومن لم يكن مكتسباً كمن حصل له فائدة اتفاقاً فالثاني، أو أن مبدأه هو مبدأ السنة المتعارفة في بلاده كعيد النيروز في بلاد العجم وأوّل المحرم في بلاد العرب. والأوّل ظاهر كلام صاحب الحدائق «1» ومحكى عن شيخنا الأنصاري.

والثاني: محكي عن المدارك والروضة.

والثالث: ظاهر كلام صاحب الجواهر وغيره.

والرابع: اختاره صاحب العروة.

والخامس: مال إليه بعض المعاصرين.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 271

والأقوى هو القول الثالث الذي اختاره صاحب

الجواهر واختاره غير واحد من المحشّين على العروة، والوجه فيه أنّه لا خمس إلّافي المنفعة والغنيمة فمتى حصلت في يده وجب عليه الخمس.

وبعبارة أخرى مبدأ السنة هو ما إذا ظهر أوّل مصداق لقوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ» وذلك بحصول الربح في يده.

حقيقة المؤونة ومقدارها وفروعها:
اشارة

قد عرفت أنّ استثناء المؤونة من هذا القسم ممّا لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه، إنّما الكلام في حقيقتها وخصوصياتها فنقول ومنه سبحانه نستمد التوفيق والهداية:

المؤونة على قسمين: مؤونة التجارة والكسب ومؤونة الإنسان نفسه أمّا الأوّل فلا ينبغي الكلام في استثنائه بجميع أقسامه، ممّا يرتبط بمحل الكسب وأجرة العمال والدلال وأجرة الحمل ومصارف الماء والكهرباء بل والضرائب التي تؤخذ من التجار وغيرهم.

والدليل عليه واضح فإنّ عنوان الربح والفائدة والغنيمة الوارد في الآية والروايات لا يصدق إلّابعد إخراج هذه الأُمور، هذا مضافاً إلى ما ورد من التصريح به في بعض روايات هذا الباب مثل ما رواه إبراهيم بن محمّد الهمداني في مكاتبته إلى أبي جعفر الجواد عليه السلام حيث قال: «اختلف من قبلنا في ذلك (أي الخمس) فقالوا: يجب على الضياع الخمس بعد المؤونة، مؤونة الضيعة وخراجها لا مؤونة الرجل وعياله، فكتب وقرأه علي بن مهزيار، عليه الخمس بعد مؤونته ومؤونة عياله وبعد خراج السلطان» «1».

وقريب منه ما ورد من التعبير في رواية ابن شجاع النيسابوري من كلام الراوي في سؤاله لأبي الحسن الثالث عليه السلام أنّه: ذهب منه بسبب عمارة الضيعة ثلاثون كراً (من الحنطة)» وجوابه عليه السلام: «الخمس ممّا يفضل من مؤونته» «2»

فالراوي نفسه استثنى مؤونة الكسب حيث عبّر عن ذلك بقوله: (ذهب منه ثلاثون كرّاً) ومنه يظهر أن استثناءَها كان موضع وفاق انوار الفقاهة، ج 2، ص: 272

بين أصحاب

الأئمّة عليهم السلام فلا نحتاج للاستدلال على ذلك إلى الإطلاق فإنّه أقوى دلالة من الإطلاق. وهكذا غيرهما من الأخبار الدالة عليه.

وأمّا القسم الثاني أعني مؤونة الإنسان نفسه فهي على أقسام:

1- قد يكون من الأُمور الحيوية التي لا مناص للإنسان منها، كما يرتبط بالمأكل والمشرب والملبس والمسكن والمركب والتداوي عند المرض.

2- ما يرتبط بالحقوق اللازمة عليه، كأداء الديون وأروش الجنايات ومصارف الحجّ والوفاء بالنذر وشبهه.

3- ما يرتبط بأمر نكاح نفسه وأولاده ومن يكون في عيلولته، بل قد يكون هذا القسم من مصاديق القسم الأوّل.

4- ما يرتبط بغير حوائجه اللازمة في حياته، كالهدايا والضيافة والهبات والزيارات المستحبة والتنزه وشبهها والحلّى وأنواع التزيين، وكذا ما يصرف لأداء الاحترام إلى الأموات من الأُمور المستحبة وغير المستحبة.

فهل استثناء المؤونة يشمل جميع ذلك أم يختص ببعضها دون بعض؟

واللازم قبل كلّ شي ء الرجوع إلى معنى المؤونة ومفهومها، فإنّها العنوان الذي تدور مداره أحكام الباب، فقد صرّح باستثناء المؤونة على الاطلاق أو مؤونته ومؤونة عياله في كثير من روايات هذا الباب «1».

بل قد ورد التصريح بعدم وجوب الخمس من الفاكهة التي يأكلها العيال في حديث أبي بصير عن الصادق عليه السلام «2».

هذا والمؤونة كما ورد في كثير من كتب اللغة مثل القاموس ولسان العرب وغيرهما هي القوت (والقوت هو ما يؤكل)، فعلى هذا لا تشمل غير المأكول من حوائج الحياة من ضرورياتها وغير ضرورياتها، بل لا يشمل مثل المسكن والملبس وأشباههما، ولكن صرّح غير واحد من أكابر الأصحاب بأنّ معناه في العرف عام يشمل جميع ما ذكر.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 273

قال صاحب كشف الغطاء: كلّ ما يتعارف بين الناس صرف المال فيه فهو مؤونة.

وقال صاحبا المسالك والروضة فيما حكى عنهما: المؤونة ما ينفقه

على نفسه وعياله الواجبي النفقة وغيرهم كالضيف والهدية والصلة لإخوانه ... «1».

وقال صاحب الجواهر: «الأولى إيكاله إلى العرف» «2». وصريح كلامه أنّ مفادها في العرف عام يشمل جميع ما ينفقه على نفسه وعلى عياله.

وقال صاحب المستمسك: «المؤونة مطلق ما يحتاج إليه عرفاً في جلب المحبوب أو دفع المكروه» «3».

وقال صاحب مستند العروة: «هي كلّ ما يحتاج إليه الإنسان في جلب المنفعة أو دفع المضرة» «4».

وظاهر كلام الجميع أن مفادها في العرف عام لا يختصّ بالقوت وشبهه، والإنصاف أنّه كذلك، فإنّ المتبادر منه مفهوم عام لا يختصّ بالقوت بل يشمل جميع ما ينفقه الإنسان في حياته ممّا يتعارف صرف المنافع فيه في جميع الأقوام والملل «5».

ويدلّ على ذلك أيضاً ملاحظة أخبار الباب، فإنّها لا تقبل الحمل على خصوص القوت بل الظاهر منها إلغاء الخصوصية من هذه الجهة ولو كانت المؤونة ظاهرة في خصوص القوت.

أضف إلى ذلك ما تقدّم من مسألة كون مصارف الشخص في أبواب المكاسب من مصارف الكسب وإن هو إلّامن قبيل العمال الذين يأخذون الاجور على أعمالهم، فلو كانت نفقة صاحب الكسب في السنة ألف دينار وكانت منفعة كسبه بهذا المقدار لم يصدق عليه في الواقع أنّه حصل على منفعة أو غنيمة، فلا وجه حينئذٍ للخمس المتعلق بالغنائم.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 274

وعلى كلّ حال فالحكم عام شامل لجميع مصاديق المصارف الواجبة والمستحبة، والضروري وغير الضروري ممّا يتداول بين الناس صرف المنافع فيها.

هذا ولو شك في بعض مصاديقها ولم يعلم دخوله في عنوان المؤونة وعدمه فقد يقال مقتضى إطلاقات وجوب الخمس تعلقه به لعدم ثبوت خروجه عنها، لأنّ أمر المخصص دائر بين الأقل والأكثر فيؤخذ بالقدر المتيقن.

اللّهم إلّاأن يقال: إنّ هذه العمومات والإطلاقات من قبيل

المحفوف بما يحتمل القرينية، وبعبارة أخرى إجمال المخصص يسري إلى العام في المخصص المتصل حتّى إذا دار أمره بين الأقل والأكثر فلا يصحّ التمسك بالعموم لإجماله.

ولكن يدفعه: إنّ هناك عمومات أو إطلاقات لا تشتمل على المخصص المتصل، فلا يجري هذا الإشكال فيها، ولا مانع من الأخذ بعمومها والحكم بوجوب الخمس في موارد الشك «1».

بقي هنا أُمور:

1- قد صرّح غير واحد من الأصحاب بتقييد المؤونة بكونها لائقة بحاله موافقة لشأنه كما في مصباح الفقيه «2»، وفي الحدائق بعد ذكر مصاديق المؤونة: «كلّ ذلك ينبغي أن يكون على ما يليق بحاله وإن أسرف حسب عليه ما زاد» «3».

وقد سبقهم إلى ذلك الشهيد الثاني رحمه الله في المسالك: «ويعتبر في ذلك ما يليق بحاله عادة» «4».

ولذا صرّح المحقّق اليزدي رحمه الله في العروة الوثقى بأنّه لو زاد على ما يليق بحاله ممّا يعد سفهاً وسرفاً بالنسبة إليه لا يحسب منها.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 275

وقد أوضح ذلك سيّدنا الاستاذ البروجردي رحمه الله كما في تقريراته بأنّه: «يجب على كلّ أحد أن يراعى حدّ الاعتدال في مؤونته على ما يقتضيه شأنه بحيث لا يبلغ حدّ الاسراف والتبذير وذلك يختلف بحسب اختلاف الأشخاص بالغنى والفقر وبالمناصب على اختلاف مراتبها ... وباختلاف الأمكنة والبلدان والأزمنة والأعصار» ثمّ مثل ذلك من يكفيه من المسكن استيجاره ومن لا يكفيه بحسب شأنه إلّاتملكه انتهى ملخصاً «1».

والدليل على ذلك هو انصراف الاطلاقات إليه كما في نظائره، مثل انصراف إطلاق الوجه والأصابع في باب الوضوء إلى الوجه والأصابع المتعارفة، فلا اعتبار بمن نبت شعره من أعلى حاجبيه، أو نبت شعره من وسط رأسه، أو كانت أصابعه قصيرة بحيث لا يدور الابهام والوسطى إلّاعلى نصف وجهه عرضاً، إلى

غير ذلك ممّا ذكروه في باب الكر من حيث الأشبار والذراع في الأبواب المختلفة.

فإطلاقات المؤونة لا تشمل المسرف ولا المبذر، بل الخروج عن الشأن حتّى وإن لم يعد إسرافاً كمن اشترى داراً وسيعة لها طبقات وغرف كثيرة، خارجة من شأنها وإن لم يتلف ماله بل يمكنه بيعه بأكثر ممّا بذله عند الشراء.

ومن هنا يظهر أنّ المراد من الاعتدال ليس إلّاعدم التجاوز عن الحدّ اللائق بحاله لا الاعتدال بمعنى الأخذ بحدّ الوسط، فلو زاد على ذلك وجب عليه خمسه أيضاً، والعجب من المحقّق الهمداني رحمه الله في مصباح الفقيه حيث قال (بعد نقل التقييد بعدم الاسراف عن شيخنا الأنصاري قدس سره): «إنّ المتبادر من مثل قوله عليه السلام: «الخمس بعد المؤونة» إرادته فيما يفضل عمّا ينفقه في معاشه بالفعل ... فالعبرة على الظاهر بما يتفق حصوله في الخارج كيفما اتفق ودعوى أنّ المتبادر من الروايات إنّما هو إرادة ما ينفقه في مقاصده العقلائية على النهج المتعارف لا على سبيل الاسراف قابلة للمنع إلّاأنّه ربّما يظهر من كلماتهم دعوى الإجماع عليه» «2».

وفيه: أنّ انصراف الإطلاقات إلى الأفراد المتعارفة واضح لا يختصّ بهذا الباب، والظاهر

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 276

أنّ مستند المجمعين أيضاً ليس إلّاهذا.

2- هل هناك فرق في العيال بين واجبي النفقة وغيرها؟

قد صرّح غير واحد منهم بعدم الفرق كما في المسالك والروضه والمدارك والرياض، وحكي عن صاحب الجواهر عن السرائر أنّه اقتصر على الأوّل ولكن قال هو نفسه: «لعلّه لا فرق فيه على الظاهر بين واجبى النفقه و غيرهم مع صدق إسم العيلولة عليه عرفاً» «1» وهذا التعبير لا يخلو من إشعار بالترديد في المسألة.

ولكن الإنصاف شمول الإطلاقات للجميع من غير فرق بين القسمين لعدم وجود ما

يصلح للتقييد لا سيّما مع شيوع بذل الأموال على غير واجبي النفقة فيما بين الناس كما هو ظاهر، فلو كان قيد من هذه الناحية لوجب بيانه.

3- هل هناك فرق بين أروش الجنايات والاتلافات العمدية وغيرها أم لا؟

ظاهر كلام صاحب العروة بل صريحه عدم الفرق ووافقه المعلقون عليها فيما رأينا، ولكن الإنصاف أنّه قابل للإشكال لأنّه يمكن أن يقال: أي فرق بينه وبين الاسراف والتبذير؟

غاية الأمر أنّ الاسراف يكون في المنافع وهذه الأُمور في ما يكون جبرانه بسبب المنافع، فالأحوط لولا الأقوى عدم استثناء هذه الأُمور.

4- صرّح بعض السادة الأعلام بعدم جريان التفصيل بين اللائق بشأنه وغيره، في خصوص العبادات والأُمور القربية- كما هو ظاهر متن العروة وصريح غيرها- فإنّ شأن كلّ مسلم التصدي للمستحبات الشرعية والقيام بالأفعال القربية طلباً لمرضاته تعالى، من دون فرق بين مسلم ومسلم آخر، فلو صرف جميع منافعه بعد إعاشة نفسه في سبيل اللَّه ذخراً لآخرته في سبيل الانفاقات والحجّ والعمرة وزيارة الحسين عليه السلام وغيرها، لا يعدّ من الاسراف والتفريط والخروج عن الشأن. (انتهى ملخصاً) «2».

أقول: ما ذكره جيد في بادى ء النظر إذا ثبت الاستحباب في أمر، أمّا إذا كان مصداقاً

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 277

لقوله تعالى: «وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ ا لْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا» «1»

فلا للنهي عنه شرعاً.

هذا، وما ذكره من ظهور عبارة المتن في جريان التفصيل في هذه الأُمور أيضاً (من اللائق بالشأن وغيره) غير ظاهر، لأنّه قدس سره ناظر إلى ما يحتاج إليه في معاشه وليس في كلامه ما يدلّ على أمر المعاد فراجع، وتدبّر.

هذا، ولكن لقائل أن يقول: إنّ صرف المال في المستحبات وإن كان جائزاً من دون التقييد باللياقة بحاله فإنّه لائق لكلّ أحد، ولكن صدق

المؤونة عليه إذا كان خارجاً عن المتعارف مشكل جدّاً، بل الظاهر عدم صدق المؤونة عليه فكأنّه وقع الخلط في كلامه دام علاه بين جواز الصرف، وبين صدق المؤونة عليه.

وإن شئت قلت: وقع الخلط بين عنوان عدم الاسراف وعنوان المؤونة المتعارفة، فربّما لا يكون شيئاً اسرافاً، ولكن مع ذلك ليس من مصاديق المؤونة المتعارفة، فإذا قلنا بانصراف عنوانها إلى المتعارف لم يشمل أمثال هذه المصاديق. فهل يمكن أن يقال: مؤونة زيد في السنة آلاف الألوف لأنّه يبذل جميع أمواله الزائدة في سبيل اللَّه؟

فحينئذٍ يمكن القول بوجوب أداء الخمس الزائد إذا كان خارجاً عن المتعارف وكان المال من أرباح المكاسب، اللّهمّ إلّاأن يقال باستقرار السيرة على خلافه، وهو مشكل لندرة تحققه بين الناس فيشكل دعوى السيرة عليه، فالأحوط لولا الأقوى وجوب إخراج الخمس عن الزائد.

فهذا القول في جهة الافراط، وفي مقابله في جهة التفريط ما حكاه المحقّق النراقي رحمه الله في المستند عن بعض الأجلة من الإستشكال في احتساب الصلة والهدية اللائقتين بحاله وأنّه لا دليل على احتسابه (من المؤونة) وكذا الإشكال في مؤونة الحجّ المندوب وسائر سفر الطاعة المندوبة»، ثمّ قال: «هما في موقعهما بل الظاهر عدم كونها من المؤونة» «2».

أقول: لازم ما ذكرناه تخصيص المؤونة بالضروريات والواجبات وهو عجيب لأنّ نفقات الإنسان مركبة منهما، ولم نسمع أحداً يكتب جميع ما يصرفه من المصارف في دفتر

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 278

مخصوص ثمّ عند المحاسبة رأس السنة للخمس يحسب الواجبات والضروريات ولا يحسب الهبات والانفاقات المستحبة وأسفار الطاعة كذلك، فإن حفظ حسابه غير ممكن إلّا بالتسجيل في الدفاتر أو أداء خمس الأرباح يوماً بيوم، وكلاهما ممّا استقرت السيرة على خلافهما.

بقي هنا مسائل:

المسألة الاولى: قد مرّ آنفاً حكم رأس

المال وأنّه هل هو من المؤونة أم لا؟ ولما أعاد القول فيه صاحب العروة في المسألة 62 بغير ما مضى منه في المسألة 59 كان المناسب توضيحاً أكثر في هذه المسألة المبتلى بها لغالب الناس، فإن غالب المحن يحتاج إلى رأس مال ولا أقل من آلات مثل آلات التجارة والنسيج والزراعة، وكذا المعامل والمصانع الكبيرة والصغيرة في عصرنا فإنّها غالباً تحدث أو توسع من المنافع الحاصلة من نفس العمل، فهل جميع ذلك متعلق للخمس أم لا، أم فيه تفصيل؟

فنقول ومن اللَّه التوفيق والهداية: إنّ المسألة غير معنونة في كلمات كثير من الأصحاب ولعلّ عدم التعرض لها كان لوضوح عدم عدّ رأس المال من المؤونة عندهم أو لأمر آخر.

نعم، صرّح المحقّق النراقي رحمه الله في المستند في أحكام المؤونة بأنّه ليس من المؤونة الضياع والعقار والمواشي للانتفاع بمنافعها ولو لمؤونة السنة، ولا رأس مال تجارته لعدم التبادر وصحّة السلب ولعدم الاضطرار بها ولا اللزوم والحاجة إلى رقباتها في ذلك العام للمؤونة فيه «1».

ومن الغنائم للمحقّق القمي رحمه الله: «الظاهر أنّ تتميم رأس المال لمن احتاج إليه في المعاش من المؤونة كاشتراء الضيعة لأجل المستغل» «2» بعد أن حكم بعدم كون رأس المال من المؤونة بلا إشكال، وظاهر التفصيل بين صورة الحاجة وعدمها لمؤونة سنته.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 279

وعن رسالة شيخنا الأعظم قدس سره موافقة ما ذكره صاحب الغنائم في عدّه من رأس المال إذا احتاج إليه في سنته، بل وزاد عليه انتفاعه بمنافعه في السنين الآتية «1».

واختار هذا المسلك- أعني عدم وجوب الخمس إذا احتاج إليه لمؤونة سنته- غير واحد من أعلام المحشّين على العروة بعد أن احتاط المحقّق اليزدي رحمه الله فيه بوجوب الخمس فيه.

أقول:

وتحقيق الحال فيه أن يقال: إنّ المسألة ذات صور مختلفة لكلّ منها حكمه.

1- قد تجعل الأرباح الحاصلة من السنين السابقة رأس مال للسنة الحاضرة، أو من السنة الحاضرة للسنين المقبلة.

فهذا ممّا لا إشكال في تعلق الخمس بها سواء احتاج إلى هذا في السنة المقبلة بحيث لم يمكنه الاكتساب بدونه أم لا؟ فإنّ المفروض أنّه زائد على مؤونة سنة الربح فيجب فيه الخمس حتّى لو احتاج إليه في نفقته في اليوم الآتي بعد السنة.

2- إذا جعلت أرباح السنة رأس مال لتلك السنة وهذا على أقسام:

تارة يمكنه الإعاشة بدونه ويكون أخذ رأس المال لتوسعة منافعه من غير أن يكون محتاجاً إلى هذه التوسعة، وهذا أيضاً ممّا لا إشكال في تعلق الخمس به.

وأُخرى يمكنه الإعاشة بدون ذلك، ولكن يكون كسبه دون شأنه فمقتضى شأنه أن لا يكون مثلًا عاملًا بسيطاً بل لابدّ أن يكون له رأس مال يكتسب به ويكون المبلغ الموجود بحيث لو أدّى خمسه لم يقدر على ما ذكر، فهذا يعد من المؤونة لما عرفت من أنّ المؤونة هي جميع ما يصرفه الإنسان فيما يحتاج في حاجات حياته حتّى ما يتعلق بحفظ شؤونه ومكانته.

وثالثة ما إذا احتاج إليها لمؤونة سنته أو لتتميمها مثل ما إذا حصل له في ستة أشهر من سنته أرباح من طريق العمل باليد، ولكن في باقي السنة لا يوجد له هذا العمل ولابدّ له من أن يجعل تلك الأرباح رأس مال أو آلات حتّى يتمكن من تحصيل مؤونته في الباقي من سنته بل وفي ما بعدها من السنة المقبلة، فهل هذا ممّا يتعلق به الخمس أم لا؟

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 280

وعمدة دليل القائلين بوجوب الخمس فيها (فتوى أو احتياطاً) هو انصراف لفظ

المؤونة منها، لأنّها ظاهرة فيما يصرف عينها فعلًا أو يكون من قبيل الفرش والدار وغيرها ممّا ينتفع بها في عيشه وحياته لا ما يستفاد منه لتحصيل الربح.

هذا، ولكن يمكن الجواب عنه بأنّه وإن فرض صحّة هذا الانصراف بالاعتبار المذكور، ولكن يمكن إلغاء الخصوصية عنها بعد كونه ممّا يحتاج إليه في حياته ولو بالواسطة، وأي فرق بين ما يحتاج إليه بدون الواسطة أو يحتاج إليه بسبب أنّه سبب للمؤونة؟

بل يمكن أن يقال بصدق عنوان المؤونة لها، وإنْ هذا إلّامثل ما إذا احتاج إلى لبن الشاة أو البقرة ولا يحصل إلّابابتياع شاة أو بقرة، أو احتاج إلى غرس أشجار للانتفاع بثمرتها ولا يمكن الوصول إلى الثمرة بدونها، فهل يشك أحد في كون البقرة أو الشجرة من المؤونة وإن كان يبقى عينها وينتفع بثمرتها؟

وكذلك ما تداول في أيّامنا من الحاجة إلى رهن الدار بمبلغ كثير أو الاستئجار بقيمة قليلة بشرط قرض هذا المبلغ، فإنّ هذا المبلغ وإن كان يبقى عنه ولكنه يعدّ من المؤونة ولا يتعلق به الخمس، فكذلك رأس المال في محلّ الكلام وإن أبيت إلّاعدم صدق المؤونة على رأس المال وإن احتاج إليه، ففي إلغاء الخصوصية عنها بما عرفت غنى وكفاية.

المسألة الثانية: المؤونة على أقسام، قسم منها يصرف عينه ولا يبقى كالمأكول والمشروب، وقسم منها ينتفع بمنافعه ويبقى عينه كالدار والمركب والظروف والفرش وشبهها، وهي على أقسام:

1- قسم منها لا يبقى بعد مضي السنة كبعض الألبسة ولا كلام فيها.

2- قسم يبقى بعد ذلك ولا خمس فيه إذا احتاج إليه في المستقبل، وذلك لإطلاقات روايات استثناء المؤونة مع كون كثير من أفرادها ممّا يبقى بعد السنة، أضف إلى ذلك استقرار السيرة عليه في جميع الأعصار والأمصار.

3- قسم

منها يبقى ولكن سيستغنى عنه بعد السنة كالأشياء التي اشتراها للحجّ مثلًا ثمّ حجّ واستغنى عنها، أو حلي المرأة بعد كبر سنها واستغنائها عنها، وغير ذلك ممّا يختص انوار الفقاهة، ج 2، ص: 281

بمكان أو زمان أو ظروف خاصة، وسيأتي الكلام فيها إن شاء اللَّه عند ذكر المصنّف لها (في المسألة 67).

4- قسم منها يكون من نوع غال يبقى سنين كثيرة لا يحتاج بقاؤها إلى مثل تلك السنين، مثلًا إذا كان هناك ظروف تبقى مئات سنين وظروف تبقى مدّة حياته وكانت الاولى غالية جدّاً فاشتراها، يشكل استثناؤها من الخمس (لا أقل بالنسبة إلى ما زاد على الفرد المتعارف) وذلك لانصراف الاطلاقات عن مثله.

5- قسم منها يحتاج إليه في بعض الأوقات فقط ويمكن استئجارها حينئذٍ وكان متعارفاً بين الناس كالظروف والفرش لمجالس العرس وشبهها فاشتراها وادخرها، يشكل استثناؤها من المؤونة، اللّهم إلّاإذا كان متعارفاً أنّها ليست شؤونه.

أمّا إذا كان الاشتراء والاستئجار كلاهما متعارفين وداخلين في شؤونه كما هو كذلك في الدار فله اختيار أي واحد منهما، ففي الاستئجار يكون مال الاجارة مستثنى وفي الاشتراء يكون الثمن كذلك والوجه ظاهر.

6- إذا كان الدار وسيعاً جدّاً له غرف كثيرة لا يحتاج إليها في الحال والمستقبل القريب، كان الزائد عمّا يحتاج إليه خارجاً عن المؤونة ويحتسب في رأس السنة ويؤدّي عنها الخمس، والوجه فيه أيضاً ظاهر.

المسألة الثالثة: إذا كان له أموال بعضها ممّا يتعلق به الخمس كأرباح سنته، وبعضها ممّا لا يتعلق به الخمس كالإرث، أو تعلق به وأداها كالأرباح السابقة، فهل تؤخذ المؤونة من الأوّل، أو الثاني، أم يوزع عليهما بالنسبة، أم هو بالخيار من أي واحد أخذ؟ فإن أخذها من الأوّل فلا خمس فيها.

وقد حكى في المسألة أقوال

ثلاثة:

1- ما عن الأردبيلي رحمه الله في مجمع الفائده من وجوب الأخذ من الأموال التي لا يتعلق بها الخمس قال: الظاهر أنّ اعتبار المؤونة من الأرباح مثلًا على تقدير عدمها من غيرها، فلو

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 282

كان عنده ما يمون به من الأموال التي تصرف في المؤونة عادة فالظاهر عدم اعتبارها ممّا فيه الخمس، بل يجب الخمس من الكلّ، لأنّه أحوط ولعموم أدلة الخمس وثبوت اعتبار المؤونة عند الحاجة إليها، ولأنّه قد يؤل إلى عدم الخمس في أموال كثيرة ويحتمل التقسيط ولكنه غير مفهوم من الأخبار إلّاأنّه أحوط بالنسبة إلى إخراجها من الأرباح بالكلية (انتهى ملخصاً) «1».

2- احتسابهما من كليهما بالنسبة كما قال صاحب المسالك: «لو كان له مال آخر لا خمس فيه ... فالمؤونة مأخوذة منه في وجه، ومن الأرباح في آخر، والأوّل أحوط، والأعدل احتسابها منها بالنسبة» «2».

3- ما اختاره كاشف الغطاء من احتسابه عن الربح المكتسب فقط حيث قال:

«ويحتسب من الربح المكتسب دون غيره على أصح الأقوال» «3».

وظاهر هذه العبارة احتسابها عن أرباح السنة وإن صرف غيرها في المؤونة عملًا، فيوضع عنها مقدارها عند محاسبتها في رأس السنة.

ويظهر من المحقّق الهمداني رحمه الله في مصباح الفقيه، كون القول الثالث هو المشهور بين من تعرض للمسألة وأنّها ظاهر كلّ من عبر عن عنوان المسألة بما يفضل من الأرباح عن مؤونة سنته «4».

واختاره المحدّث البحراني في الحدائق أيضاً «5».

واختاره أيضاً صاحب الجواهر في رسالته نجاة العباد، فقال: «لو كان عنده مال آخر لا خمس فيه، فالأقوى إخراج المؤونة من الربح دونه خاصة» «6».

4- ويمكن ابداء قول رابع في المسألة وهو أنّه تابع لصرفها خارجاً، فلو أخذها من أرباح السنة تحسب منها، ولو أخذ من

مال أدّى خمسه تحسب منه، ولو وزعها كان المقدار

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 283

الذي أخذه من أرباح السنة يوضع من تلك الأرباح عند المحاسبة رأس السنة.

5- وهنا احتمال خامس وهو محاسبة ما كان موجوداً عنده من قبل من دار ونحوه من المؤونة بأن يضع من أرباح السنة بمقدارها، فإن كان له دار من ارث أبيه يساوي مائة ألف درهم واستفاد في تلك السنة بهذا المقدار لم يجب عليه خمس لأنّه يحسب مقداره من المؤونة، كما أشار إليه صاحب نجاة العباد وإن لم يقبله، فقال: «نعم، الظاهر عدم احتساب ما عنده من دار أو عبد ونحوهما ممّا هو من المؤونة مع عدمه، من الربح بل يقوى ذلك فيمن قام غير بمؤونته لوجوب أو تبرع وكذا ما بقي من مؤونة السنة الماضية ممّا كان مبنياً على الدوام كالدار» «1».

وعمدة ما يمكن أن يستدلّ به للقول المنسوب إلى المشهور أعني القول الثالث، هو قوله عليه السلام: «الخمس بعد المؤونة» الواردة في روايات عديدة بناءً على أنّ ظاهره هو البعدية في المحاسبة لا في الإخراج، نظير قوله تعالى في آيات سهام الارث: «مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ» «2»

فليس المراد ليس منه إخراج الوصية والدين أو لا من ناحية الزمان بل من ناحية المحاسبة، فلو كانت وصيته تتعلق بأمر متأخر في الوجود يجوز للوراثين أخذ سهامهم بعد محاسبة الوصية ومقدارها، وكذلك الدين لو أخّر إخراجها بسبب جاز أخذ الوراثين سهامهم، ففي المقام أيضاً يقال إنّ المراد البعدية في المحاسبة فيخرج مقدار المؤونة عن الأرباح ولو صرف مالًا آخر فيها.

ويؤيد ذلك بل يدلّ عليه ما مرّ سابقاً من أنّ استثناء المؤونة يمكن أن يكون من باب التخصص لا التخصيص، لعدم

صدق الربح إذا اشتغل بنفسه بكسب ولم ينتفع إلّابمقدار مؤونة سنته، وإنْ هو من هذه الجهة إلّاكالعمال الذين يستأجرهم لُامور تجارته وزراعته وينقص أُجورهم من أرباح السنة وليس هو نفسه أقل من أجير يستأجره.

ولكن ذلك إنّما يصحّ في خصوص ما إذا اشتغل هو بنفسه بالاكتساب، أمّا لو كان له دار مثلًا أو ضيعة من ارث أبيه وأجّرها وانتفع بثمنها من دون أي عمل فيها أو وهبه بعض انوار الفقاهة، ج 2، ص: 284

أصدقائه هبة (بناءً على وجوب الخمس في الهبة)، فهذا دليل أخص من المدعى، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ الغالب من القسم الأوّل ولاحظه الشارع في حكمه، فتأمل.

وعمدة الدليل على القول الأوّل الذي ذهب إليه المحقّق الأردبيلي رحمه الله في مجمع الفائدة هو إطلاقات أدلّة الخمس المقتصر في تخصيصها بالنسبة إلى المؤونة في صورة الحاجة إليها، وأمّا كونه أحوط، وكذلك كون القول الثالث، سبباً لعدم الخمس في أموال كثيرة مع عدم الاحتياج إلى صرفها أصلًا كما عند أكابر التجار، (وقد عرفت الاستدلال بهما في كلام المحقّق الأردبيلي رحمه الله) فهو ممّا لا يعتمد عليه لأنّ الأصل هو البراءة، والثاني مجرّد استبعاد كالقول بالتقسيط الوارد في كلام صاحبي المسالك والمدارك لكونه أعدل، فإنّه مجرّد استحسان لا يمكن الاعتماد عليه.

هذا ويمكن دفع الاطلاقات بما مرّ من ظهور قوله: «بعد المؤونة» في تقييدها بإخراج المؤونة عند المحاسبة وظهور القيد مقدم.

ويمكن الذهاب إلى القول الرابع نظراً إلى أن إخراج المؤونة بمعنى الصرف فلو لم يصرف منها تعلق به الخمس، ولكن القول الثالث أقوى.

ولا وجه للاحتمال الخامس وهو اردأ الوجوه في المسألة.

وأمّا الوجه الثاني فقد عرفت أنّ غاية ما يدلّ عليه هو قاعدة العدل، ولم تثبت هذه القاعدة في المقام

لا سيّما مع ملاحظة شمول العمومات التي عرفتها للمقام.

وممّا يمكن الاستدلال به على المطلوب هو رواية علي بن محمّد بن الشجاع النيسابوري وغيرها ممّا ورد في باب الضياع، فإن ظاهرها أخذ المؤونة بالنسبة إلى السنة الآتية عن محصول ضيعته وهو ستّون كراً من الطعام، فإن هذا هو المعمول به بالنسبة إلى الضياع بخلاف التجارات والمكاسب التي تنفع شيئاً فشيئاً كلّ يوم فتؤخذ المؤونة منها.

وإن شئت قلت: أخذ المؤونة ممّا فضل له من ضيعته أمّا ما يعادل ما صرفه في السنة الماضية، أو ما يعادل مؤونة السنة الماضية التي انفقها من مال آخر، أو ما يعادل مؤونة السنة اللاحقة كما هو المتداول بين أهل الزراعات. وعلى كلّ حال يكون استثناؤه بمعنى إخراج ما يعادله، وإن كان عنده مال آخر (كما هو الغالب ولا أقل أنّه كثير) وحينئذٍ يقوى الاعتماد

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 285

على القول الثالث.

المسألة الرابعة: هل المناط في المؤونة ما يصرف فعلًا في مصارف الحياة، أم مقدارها وإن لم يصرفه بالفعل، وتظهر النتيجة في ما إذا قام متبرع بمؤونته أو كان ضيفاً في بعض الأيّام أو الشهور، وكذلك إذا قتر على نفسه وصرف ما دون شؤونه.

صرّح كاشف الغطاء رحمه الله بالأوّل حيث قال: «ولو اقتصر في قوت أو لباس أو آلات أو مساكن أو أوضاع ولم يفعل ما يناسبه لم يحسب التفاوت من المؤونة على الأقوى» «1».

وقد صرّح بذلك أيضاً تلميذه صاحب الجواهر قدس سره «2».

وقال المحقّق الهمداني رحمه الله: «لو تبرع متبرع بنفقته فالظاهر أنّه لا يحسب له ما يقابله من الربح فضلًا عمّا لو قتر فيه كما صرّح به غير واحد من مشائخنا» «3».

ولكن حكى في صدر كلامه عن غير واحد- كالعلّامة والشهيدين

والمحقّق الثاني رحمهم الله- التصريح بأنّه لو قتر على نفسه حسب له، بل عن صاحب المناهل أنّه استظهر عدم الخلاف فيه.

وما أبعد بين ما حكاه هنا وما اختاره نفسه من نفي الاستبعاد عن تعلق الخمس بما يفضل، لو قصر في أداء بعض التكاليف الواجبة كما إذا ترك الحجّ الواجب ففضل شي ء من أرباحه وجب عليه خمسه، ولكن لو صرف في أداء ذلك الواجب لم يبق له شي ء.

وعلى كلّ حال فالعمدة فيه ما ذكروه من أنّ المتبادر من أخبار استثناء المؤونة إنّما هو استثناء ما ينفقه فعلًا- كما هو كذلك في مثل مؤونة المعادن والغوص وشبه ذلك- لا استثناء مقدارها، ولا ينافي ذلك ما مرّ من ظهور البعدية في قوله: «الخمس بعد المؤونة» في البعدية بحسب المحاسبة، فإنّ محاسبة المقدار أيضاً إنّما هي بالنسبة إلى ما يصرفه من الأموال في الآتي أو ما مرّ عليه في الماضي.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 286

فعلى هذا لو قلنا بجواز أخذ مؤونة السنة الآتية ممّا يفضل من الزراعات وشبهها- كما هو المعمول به فيها- فأخذها ثمّ لم يصرفها بسبب الامساك والتقتير، أو وجود متبرع أو حصول الرخص والخصب في البلاد، وجب عليه أداء مقدار خمس الزائد لعدم صرفه فعلًا في مؤونته.

إن قلت: المعروف في باب نفقة الزوجة أنّها لو بذل لها باذل أو قترت على نفسها أنّها تملكها على الزوج، فما الفرق بين المقامين.

قلت: كأنّهم رأوا معاوضة بين تمكينها من نفسها والنفقة، ولذا تدور مداره نفياً واثباتاً، وعدم قولهم بذلك في باب نفقة الأولاد والأبوين أيضاً شاهد على ما ذكرنا.

المسألة الخامسة (66 من العروة): قد يستقرض من ابتداء السنة لبعض مصارف كسبه فلا إشكال في وضع مقداره عند ظهور الربح، لما

عرفت من أنّ الربح لا يصدق إلّابعد إخراج جميع مؤونات الكسب، وهذا ظاهر.

أمّا إذا استقرض لمؤونة شخصه فإن كان بعد ظهور الربح وشروع سنة الخمس (ولكن لم يصرف من الربح لمصلحة بل إذا استقرض لمؤونته) فلا إشكال أيضاً في وضع مقدارها من الربح لما عرفت من أنّ الخمس بعد مؤونة الشخص.

وأمّا إذا كان قبل ظهور الربح وشروع سنة الاكتساب- لأنّ مبدء السنة وقت ظهور الربح لا الأخذ في الاكتساب على الأقوى- فهذا لا يعد من مؤونة سنة الاكتساب حتّى يوضع من ربحه، نعم، يجوز له أداء دينه من أرباحه فإن أداء الدين يعد من المؤونة وإن كان من السنين السابقة، غاية الأمر أنّه إنّما يحتسب منها إذا أداه، وأمّا إذا لم يؤده لا يمكن وضع شي ء من الربح في مقابله، بل يكون من مؤونة السنين الآتية التي تؤدي فيها لعدم الصدق العرفي بدون الأداء، اللّهم إلّاإذا كان مشتغلًا.

ومنه يظهر الحال فيما إذا أكل من رأس ماله قبل ظهور الربح.

فالمناسب للمختار أن يقال: «يجوز له صرف مقداره من الربح لا وضع مقداره من الربح».

هذا كلّه إذا كان يؤدّي الدين دفعة، أمّا لو كان يؤدّي نجوماً فإنّما يحسب النجم الحاضر

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 287

من الديون السابقة (لا من دين السنة) فإنّ الديون النجومية لا تحسب من المؤونة إلّابالنسبة إلى مقدار الحاضر منها، كما سيأتي الكلام فيها إن شاء اللَّه في المسائل الآتية عند تعرض المصنّف لمسألة أصل الدين وكونه من المؤونة.

المسألة السادسة (67 من العروة): لو زاد ما اشتراه وأدخره للمؤونة عن مؤونة سنته فإن كان ممّا يصرف- كالحنطة والشعير والإرز وسائر المأكولات- فلا إشكال في وجوب خمسه، وقال صاحب المستمسك: بلا خلاف ظاهر لعدم كونه من المؤونة وهو

كذلك، ولازم ذلك محاسبة ما يبقى حتّى من الملح وزيت السراج وشبهه من الأشياء القليلة عند تمام السنة. اللّهم إلّاأن يقال: إنّ أمثال ذلك من الأشياء اللطيفة ممّا جرت السيرة على خلافه، لكونها مغفولًا عنها فلو كان الخمس واجباً في أمثال ذلك كان اللازم على الشارع المقدّس توجيه الناس فيها، ولكن الأحوط لا سيّما لأهل الورع والتقوى محاسبة شي ء في مقابل جميع هذه الأُمور الجزئية، أمّا الأشياء الكثيرة الزائدة على المؤونة فوجوب الخمس فيها ممّا لا غبار عليه.

وأمّا إذا كان ممّا يبقى عينه- كالفرش والظروف وغيرها- فلها صورتان:

تارة: لا يستغنى عنه في السنة المقبلة كما هو كذلك في كثير من هذه الأشياء فلا ينبغي الشك أيضاً في عدم وجوب الخمس منه لاطلاق الأدلة أوّلًا، واستقرار السيرة عليه ثانياً، بل كأنه من الواضحات وإن كان قد يظهر من بعض كلمات صاحب الجواهر قدس سره وجود القول بوجوب الخمس فيها أيضاً وإنْ لم يستغن عنها، حيث قال: «نعم قد يقال إنّ ظاهر تقييد المؤونة بالسنة يقتضي وجوب إخراج خمس ما زاد منها عليها من غير فرق بين المأكل وغيره من ملبس أو فرش أو أواني أو غير ذلك إلّاالمناكح والمساكن ... ولعلّه لهذا استثنيت المناكح والمساكن» «1».

بل يظهر من كلامه هذا، المثل إلى هذا القول وليت شعري كيف يمكن انكار السيرة المستمرة من أهل الشرع على خلافه وأي فرق بين المناكح والمساكن وغيرهما من الفرش انوار الفقاهة، ج 2، ص: 288

والأواني، وما سيأتي استثناؤه في باب المناكح وشبهها لا دخل له بما ذكره.

وأُخرى: يستغنى عنه بعد حين إمّا في السنة الآتية أو في نفس سنة الخمس، وله أمثلة كثيرة:

منها: حلى النساء بعد كهولتهنّ والاستغناء عنها.

ومنها: الدور العديدة إذا

كان له أفراد أُسرة كثيرون ثمّ تزوجوا وذهبوا من عنده ولم يحتج هو نفسه إلى غير دار واحدة.

ومنها: ما إذا تبدّل شغله وكان له آلات خاصة بالشغل السابق وكانت من مؤونته ثمّ استغنى عنها في الشغل الجديد.

ومنها: ما إذا احتاج إلى ظروف الماء ومراكب للاستقاء، ثمّ بعد نصب الأنابيب واتصالها إلى داره استغنى عنها، إلى غير ذلك.

فهل يجب في جميع ذلك الخمس أم لا يجب؟ الذي يظهر من كلمات المعاصرين وبعض من تقدّم عليهم أنّ في المسألة أقوالًا ثلاثة:

أحدها: وجوب الخمس فيها مطلقاً كما يظهر من كلمات بعض المعاصرين.

ثانيها: عدم وجوبه كذلك كما هو المصرّح به في المستند «1».

ثالثها: التفصيل بين الاستغناء عنه في سنته، فيجب، والاستغناء عنه بعدها، فلا، كما يظهر من بعض الحواشي.

وعمدة دليل القول بالوجوب أمران:

أحدهما: أنّ استثناء المؤونة هو ما كان دائمياً فإذا استغنى عن بعضها دخل تحت عموم أدلة الخمس.

ثانيهما: أنّه لو شك في المقام فالمرجع عموم العام بعد اجمال المخصص وابهامه.

أقول: وكلاهما محل إشكال. أما الأوّل: لأنّه مجرّد دعوى لأنّ إطلاقات استثناء المؤونة عن أدلة الخمس ليست ناظرة إلّاإلى إخراجها عنها من غير تعرض لحال الاستغناء عنها، ومن يدّعي أنّ الحكم على ما كان دائمياً فعليه إقامة الدليل.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 289

أمّا الثاني: فما ذكر في أبواب العام والخاص أنّ المرجع في أمثال المقام إلى استصحاب حكم الخاصّ، أو الاصول العملية وهو البراءة في المقام.

توضيح ذلك: أنّ العام قد يكون له عموم زماني كما إذا قال: أكرم العلماء كلّ يوم، ثمّ قال لا تكرم زيداً يوم الخميس. ثمّ شك في يوم الجمعة وما بعده أنّه يجب إكرامه فيها أم لا؟

فالمرجع هنا هو عموم العام لأنّ المفروض كون إكرام العالم

في كلّ يوم فرداً مستقلًا للعام، أمّا إذا قال: أوفوا بالعقود. فخرج العقد الغبني أوّل ظهور الغبن منه ثمّ شككنا أنّه على الفور أم لا؟ فلا مجال للأخذ بالعموم لعدم عموم زماني فيه، بل له عموم إفرادي فإذا خرج منه عقد من العقود خرج أحد أفراده من غير فرق بين خروجه إلى الأبد أو خروجه في بعض الأحيان.

وحينئذٍ فإن قلنا بحجّية الاستصحاب فيرجع إلى استصحاب حكم المخصص وهو في المقام عدم الوجوب، وإلّا فالمرجع هو الاصول العملية وهو هنا البراءة والنتيجة واحدة.

أضف إلى ذلك كلّه أنّ وجوب الخمس لو كان ثابتاً في هذه الأُمور لوجبت الإشارة إليه في الأدلّة، لغفلة عامة الناس عنه سواء في مثل حليّ المرأة أو غيرها.

نعم، إذا استغنى عنه في السنة ولم يحتج إليه بعد ذلك أمكن القول بوجوب الخمس فيه، لأنّه في رأس السنة إذا أراد احتساب أرباحه عدّه منها لا سيّما إذا أراد بيعها، وفي هذه الصورة لو لم يكن الخمس أقوى فلا أقل من أنّه أحوط.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّه إذا لم يستغن عن بعض هذه الأشياء مثل الدار والمركب والكتاب وغيرها ولكن أراد تبديلها بما هو انفع وأليق بحاله فباع داره أو سيارته واشترى بالثمن داراً أو مركباً آخر (أو جعل هذا بعض ثمنه) فالمحكي عن بعض أعلام العصر، وجوب الخمس فيه فوراً (والظاهر أن قوله به إنّما هو بعد مضي السنة وأمّا إذا كان في وسط السنة فإنه لا يزيد على رجوعه إلى عنوان الأرباح، ومن المعلوم جواز اشتراء المؤونة من أرباح السنة).

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 290

ولازم ما ذكره وجوب الخمس من ثمن هذه الدار مثلًا، حتّى إذا لم يقدر على شراء دار آخر بباقي الثمن وبقى

محتاجاً!

وفي المسألة وجهان آخران:

أحدهما: عدم الوجوب مطلقاً سواء أراد صرف الثمن في دار آخر مثلًا أم لا.

ثانيهما: الفرق بين ما إذا أراد ذلك فلا يجب الخمس، وبين ما إذا لم يصرفه في المؤونة مجدداً فيجب (فالمسألة ذات وجوه ثلاثة).

أما القول بالوجوب فهو يبتني على ما مرّ من أحد الأمرين:

أحدهما: كون استثناء المؤونة عن حكم الخمس ما كان دائمياً فإذا خرج عن كونه مؤونة وجب الخمس فيها، وقد عرفت أنّه دعوى بلا دليل، ومجرّد كون تعليق الحكم على الوصف مشعراً بالعلية غير كاف كما هو ظاهر، مضافاً إلى أنّه لو صحت هذه الدعوى لوجب الخمس حتّى في صورة عدم الاستغناء عنها ومع عدم بيعها مثل داره ولباسه وفرشه وظروفه التي يحتاج إليها، فإنّ المستثنى من حكم الخمس هو خصوص مؤونة تلك السنة، لا السنين الآتية، والحكم على ما كان دائمياً على هذا القول فما دام يكون شي ء موصوفاً بأنّه من مؤونة السنة يجب فيه الخمس، وأمّا إذا خرج عن عنوان المؤونة مطلقاً (كما إذا باعه) أو خرج عن عنوان مؤونة السنة ودخل في مؤونة السنة الآتية وإن لم يبعه وجب فيها الخمس، مع أنّك قد عرفت أنّ القول بذلك باطل بل بطلانه كالضروري.

ثانيهما: الرجوع إلى عموم أدلة خمس الأرباح أو عموم الغنيمة (على فرض الشك) لكن قد عرفت أنّه لا يجوز التمسك بها بعد عدم وجود عموم أزماني فيها، فإنّ هذه الدار مثلًا ليس فرداً جديداً للعام بعد خروجها عن كونها مؤونة حتّى يتمسك بعموم العام.

وأوضح من ذلك ما إذا أراد مجرّد تبديله بدار آخر فإنّ العرف لا يرى هذا الثمن غنيمة وربحاً ربحه، بل يراه واسطة في تبديل دار بدار آخر ومؤونة بمؤونة أخرى

فلو قلنا: إنّ المؤونة المستمرة طول السنين- كالدار- لا يجب فيها الخمس، تكون الدار الجديدة الحاصلة من بيع داره السابقة في نظر العرف من استمرار المؤونة السابقة، وأي فرق بين ما إذا باع الدار بالدار أو باعه بثمن ثمّ اشترى بالثمن داراً آخر؟ مع أنّه لا يظن من أحد القول انوار الفقاهة، ج 2، ص: 291

بالوجوب في الصورة الاولى.

أضف إلى ذلك كلّه غفلة العامة عن مثل ذلك فإنّ أحداً منهم لا يرى الثمن هنا إلّاواسطة في التبديل لا ربحاً داخلًا في أدلة الخمس، فلو وجب الخمس فيها بمجرّد البيع لوجب البيان مع كثرة الابتلاء به، فإذا لم يبينه الشارع كشف عن عدم وجوبه، فتدبّر جيّداً.

فالأقوى عدم وجوب الخمس فيها بل الاحتياط فيها ضعيف جدّاً.

ومن هنا يظهر دليل الوجه الثاني.

وأمّا الوجه الثالث: فدليله صدق الربح في إحدى الصورتين دون الأخرى فإذا أراد التبديل لم يصدق الربح لما عرفت وإذا لم يردّه صدق عليه، والإنصاف أنّ إطلاق أدلّة الغنائم والأرباح وعمومها للمقام مشكل، سواء الصورتان، وليت شعري لو صدق على الحليّ مثلًا الربح بعد بيعها عند الاستغناء عنها فليصدق عليها ذلك حتّى قبل بيعها، فالإنصاف عدم وجوب الخمس في شي ء من هذه الصور.

وأولى ممّا ذكرنا إذا كان الاستغناء عنها مؤقتاً- كالاستغناء عن الملابس الصيفية في الشتاء وبالعكس- فلا تحاسب رأس السنة، فلا يقال إنّها من الأرباح لاستغنائه عنها في هذه السنة. وأمّا مؤونة السنة الآتية فلا يؤخذ من هذه السنة، لما عرفت من استقرار السيرة على خلافه، وانصراف إطلاقات الأرباح عن مثله، وعلى القائلين بوجوب الخمس في بيع الدار القول به هنا، وكذا الحال فيما إذا استغنى عنه سنة أو سنتين كما إذا سافر إلى بعض البلاد سنة

أو سنتين ولا يحتاج إلى بعض ألبسته هناك لأنّها مثلًا مختصة بالبلاد الباردة وتلك البلاد حارة ويعلم برجوعه بعد ذلك إلى وطنه وحاجته إليها، كلّ ذلك لا يدلّ على وجوب الخمس فيها لما عرفت من الدليل.

واللَّه العالم بحقائق أحكامه.

المسألة السابعة (68 من العروة الوثقى): إذا مات المكتسب في أثناء الحول بعد حصول الربح وقبل التمون به كلًا أو بعضاً قال في المستند: «يخمّس ما بقى منه لظهور أنّه لا مؤونة له غير ما تموّن» «1».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 292

وبه قال صاحب الجواهر أيضاً في نجاة العباد: «ولو مات المكتسب في أثناء الحول بعد الربح سقطت المؤونة في باقيه وأخرج الخمس فيه» «1».

وبه أفتى صاحب العروة وحواشيها، بل صرّح بأنّه لا يوضع من الربح مقدارها على فرض الحياة، ولم نجد من خالفه فيما رأينا عن الحواشي.

والوجه فيه ظاهر لعدم صدق المؤونة إلّاعلى ما صرفه حال حياته، والمراد من استثناء مؤونة السنة هو ما يحتاج إليه في طولها على فرض الحياة، حتّى إذا كان حيّاً ولم يحتج إليها لكونه ضيقاً لا يخرج مقدارها من أرباحه فكيف ما نحن فيه.

بل لو كان الملاك في استثناء المؤونة كونها من مؤونة الكسب غالباً وعدم صدق الربح بدون إخراجها كما ذكرناه سابقاً كان الأمر أوضح.

المسألة الثامنة (69 من العروة): إذا لم يحصل له ربح في سنة وحصل في السنة التالية فهل يخرج مؤونة السنة السابقة من اللاحقة، وهكذا إذا حصل ربح ولم يكفه لمؤونة سنته؟

فقد صرّح في العروة وحواشيها بعدم جواز الإخراج، وقال صاحب نجاة العباد: في المسألة وجهان لا يخلو ثانيهما (أي عدم الإخراج) من قوّة.

والوجه فيه عدم الدليل على إخراج المؤونة السابقة من السنة التالية، بل تخرج مؤونة كلّ

سنة من أرباحه.

أقول: لو كانت الأرباح نتيجة سعيه طول السنتين لم يبعد إخراج مؤونتهما بل مؤونة جميع السنين الماضية منها، بناءً على ما عرفت من أنّ مؤونة الشخص ترجع في الحقيقة إلى مؤونة الكسب غالباً ولا يصدق الربح بدون إخراجها.

هذا وفي أصل تصوير المسألة إشكال لأنّه إن استدان في السنة السابقة للمؤونة جاز له إخراج الدين من أرباح السنة الجديدة على كلّ حال لما ستأتي الإشارة إليها من جواز إخراج الدين الحاضر عن أرباح السنة ولو كان مبدء الدين من السابق، وإن تبرع له متبرع فقد عرفت التصريح بعدم جواز إخراج مقداره ولو كان في نفس سنة الربح، ولو صرف في انوار الفقاهة، ج 2، ص: 293

المؤونة ما لا خمس فيه في المؤونة اشكل إخراج مقداره حتّى من ربح تلك السنة.

نعم، إنّما يتصور ذلك إذا صرف مقداراً من رأس ماله في نفقاته الماضية، فقد أفتى صاحب العروة بجواز إخراجه من مؤونة نفس السنة فيبقى الكلام في إخراجه من ربح السنة الآتية ولكن خالف فيه أيضاً بعض المحشّين، فتصوير فرض المسألة لا يخلو من صعوبة على كلّ حال.

المسألة التاسعة (70 من العروة): هل تحتسب مصارف الحجّ من المؤونة أم لا؟

المسألة ذات وجوه خمسة:

1- تارة يحصل له الاستطاعة من أرباح سنته ويحجّ بها فلا شك أنّه يحسب له من مؤونته، لما عرفت من إطلاق أدلّة المؤونة وشمولها لكلّ ما يليق بحاله من الانفاقات والعبادات وغيرها، بل يجوز له الحجّ المستحب أو احجاج الغير من أرباحه وكلّها تحسب من المؤونة.

2- إذا حصل له الاستطاعة المالية من أرباح سنته ولم تحصل له الاستطاعة البدنية أو من ناحية الطريق أو الوقت (فإنّ الاستطاعة لها فروع أربعة) الاستطاعة من ناحية المال والجسم،

والطريق، والوقت، فإن انعدمت واحدة منها فلم يحجّ، فلا شك في وجوب خمس الأرباح ما يزيد من سائر نفقاته، لما عرفت أنّ المعتبر من المؤونة هي المؤونة الفعلية لا التقديرية.

3- إذا حصل له الاستطاعة من جميع الجهات ولم يحجّ عصياناً فقد احتاط صاحب العروة بوجوب إخراج الخمس منه، ولكن صرّح كثير من المحشّين بأنّ إخراجه هو الأقوى، وقد يقاس ذلك بما إذا قتر على نفسه فإنّ الواجب عليه الخمس فيما يبقى له، والوجه في جميع ذلك أنّ المعتبر في المؤونة أن تكون فعلية ومجرّد الوجوب الشرعي غير كاف فيها بل لابدّ من صرفها وإلّا يخرج منها الخمس.

أقول: هذا الحكم بإطلاقه محلّ إشكال فإنّه إذا وجب عليه الحجّ بالاستطاعة وعصى انوار الفقاهة، ج 2، ص: 294

وجب عليه الحجّ من قابل، فإن قدر على الحجّ تسكّعا «1» فلا كلام، أمّا إذا لم يقدر إلّابحفظ هذا المال إلى القابل وجب عليه حفظه ولا يجوز له إخراج خمسه، وإن هو إلّامثل نذر بعض أمواله لمصرف خاصّ ولكن لم يأت وقت صرفه وسيأتي في العام القابل، كما إذا نذره لحجاج بيت اللَّه الحرام وقد مضى وقته هذا العام (مثلًا كان النذر في وسط ذي الحجّة) أو نذره مثلًا للاطعام في أيّام العاشوراء ولم يأت وقتها.

فالواجب حينئذٍ حفظها وعدم التصرف فيها حتّى تصرف في موردها، فوجوب الوفاء بالنذر أو الحجّ به من قابل يكون بحكم مصرفه ولا يمكن قياسه على التقتير كما هو واضح، فاستثناء هذه الصورة قوي.

4- ما إذا حصلت الاستطاعة من أرباح سنين، لا شك في وجوب إخراج خمس ما حصل من السنين الماضية، لعدم المانع من شمول أدلة الخمس له، لعدم تمام الاستطاعة على المفروض وعدم صرفه بالفعل في

الحجّ، وهكذا الكلام إذا جمع أرباح السنين لاشتراء الدار أو المركب أو التزويج أو غير ذلك، فإنّ الواجب إخراج الخمس عمّا حصل من السنين السابقة.

نعم، لا يجب عليه إخراجه ممّا تمّمه من هذه السنة إلّاإذا عصى ولم يحجّ فيأتي فيه ما ذكرناه في الصورة الثالثة.

5- ما إذا توقف أمر الحجّ على إعطاء النقود مقدّماً، كما تعارف في عصرنا وبلادنا من أخذ مصارف الحجّ عن الناس ثمّ يقرع بينهم ثمّ يرسل كلّ طائفة منهم في سنة من السنين لكثرة الحجاج بحمد اللَّه، فهل يعد إخراج هذا المال من المؤونة حتّى لا يجب إخراج خمسه، أم هو من قبيل المؤونة التقديرية لا الفعلية؟ لم أر من تعرض من القدماء له لكونه من المسائل المستحدثة (إلّا بعض المعاصرين).

والإنصاف أنّه من قبيل المؤونة، لأنّ المعيار فيها صرفها وإخراج المال من يده وقد صرفه وأخرجه من يده، فلذا يحسبه في دفاتره من مصارف هذه السنة وإن حصلت آثاره انوار الفقاهة، ج 2، ص: 295

في السنين الآتية، وإن هو إلّاكمن اشترى أرضاً من أرباح هذه السنة لبناء الدار ولكن يعلم أنّه لا يقدر على بنائها إلّافي السنين المستقبلة.

لا يقال: إن المال الذي يؤديه في الحقيقة من قبيل الأمانة عندهم ولذا يقدر على استرجاعه إذا أراد.

لأنّا نقول: ليس كذلك بل هو كالثمن في البيع الجائز، ومن الواضح أنّ جواز الفسخ لا يمنع عن صدق المؤونة إذا اشتراه لحاجته، والمفروض أنّه مستطيع مستعد للحجّ ولو في سنته هذا ولو سمح له بالحجّ يحجّ فوراً.

نعم، إذا لم يكن قادراً من حيث البدن (مثلًا) وأراد الحجّ من قابل وبذل النقود من هذه السنة ليقدر عليه في القابل لم يكن من مؤونة هذه السنة.

وهكذا الكلام في أمثاله

مثل ما إذا بذل مالًا لأن يجعل في النوبة من جهة معالجة مرضه أو مرضى أهل بيته، أو في النوبة لأمر الدار فقد لا يتمكن منه إلّاببذل أموال من قبل، كلّ ذلك يعدّ من انفاقاته إذا كان محتاجاً إلى هذه الأُمور فعلًا، وهكذا بالنسبة إلى مشروع الماء والكهرباء والتلفون وما ينفق في سبيلها من قبل.

نعم، إذا لم يحتج بالفعل إلى الدار أو العلاج أو التلفون مثلًا وبذل شيئاً ليكون في النوبة لم يعد من مؤونة سنته، أمّا إذا احتاج إليه ولم يكن له طريق إلّاهذا فهو من مؤونة سنته بلا إشكال، وهكذا الكلام في أمر الحجّ فلو لم يكن مستطيعاً من ناحية البدن مثلًا وأعطى النقود وأخذ النوبة للسنين الآتية لم يجز محاسبته من مؤونة هذه السنة كما مرّ.

والعمدة أنّ هذه الأموال ليست من قبيل الأمانة بل من قبيل ما يصرف في مصارفه.

نعم، إذا كان طريق الوصول إلى حوائجه ولو في المستقبل منحصراً في بذل النقود من قبل بحيث إذا لم يبذله فاتت حوائجه عنه، أمكن عدّه من مؤونة سنته لأنّ المفروض أنّه لا يرى بداً من صرفها، فتأمل.

والحاصل: أنّ المسألة ذات شقوق ثلاثة: تارة يحتاج إلى شي ء بالفعل ولكن لا يصل إليه إلّا ببذل الأموال فعلًا وإن كان لا يقدر عليه إلّافي المستقبل، وأخرى لا يحتاج إليه إلّافي المستقبل ولكن طريق الوصول إليه منحصر في بذل المال من قبل، وثالثة لا يحتاج إليه إلّا

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 296

في المستقبل وطريقه غير منحصر في ذلك. فالأوّل لا ينبغي الشك في عدّه من المؤونة، والثاني كذلك على إشكال، والثالث لا يعد من مؤونة سنته، واللَّه العالم بحقائق أحكامه.

وهاهنا إشكال آخر في أمر الاستطاعة للحجّ مع وجوب

الخمس عليه، وحاصله أنّه إذا كان الربح بمقدار نفقة الحجّ فقط فقد يقال إنّه ليس مستطيعاً، لأنّ المفروض تعلق الخمس بالمال من لدن ظهور الربح فخمس هذا الربح ليس داخلًا في ملكه فهو مالك لأربعة أخماس فقط والمفروض عدم كفايته للحجّ.

ولكن يدفعه أنّ الاستطاعة- كما ذكرنا في محلها- لا تتوقف على ملك نفقات الحجّ، بل المراد هو الاستطاعة العرفية وهي حاصلة هنا، لأنّ المفروض جواز صرف الربح في مؤونة السنة والخمس واجب موسع مشروط ببقاء الربح إلى آخر السنة وعدم صرفه في المؤونة، فحينئذٍ لا مانع من جواز صرفه في مصارف حجّه وبذلك يكون مستطيعاً.

المسألة العاشرة (71 من العروة): وهي مسألة هامة ترتبط بالديون، وحاصلها أنّ أداء الدين هل هو من المؤونة أم لا؟ والدين على أقسام:

تارة يستدين لسنته وأُخرى باق من السنين السابقة.

وكلّ واحد منهما إمّا لأمر مؤونته أو لغيره من قبيل التوسعة في الكسب.

وكلّ من هذه الأربعة إمّا أن يكون ما يقابله موجوداً أو لا. فهذه صور ثمانية:

أما إذا كان ما يقابله باقياً، مثلًا استدان ألف درهم لمؤونة سنته أو السنين الماضية ولكن بقي خمسون درهماً منه في آخر السنة، فهذا الدين ليس من المؤونة قطعاً لعدم صرف مقابله وإمكان أدائه منه، نعم لا يعد الباقي من المنافع لعدم كونه ربحاً فلا يخرج منه الخمس كما لا يستثنى هذا الدين من سائر أرباح سنته وهذا أمر واضح.

وأولى منه ما إذا كانت الاستدانة لأمر التجارة وبقي مقابله من أموال التجارة وعروضها فهذا ليس من المؤونة في شي ء، وبذلك تخرج أربعة صور من محل الكلام.

وأمّا إذا استدان لمؤونة شخصه في سنة اكتسابه وليس في مقابله شي ء، فلا إشكال في إخراجه عند المحاسبة على رأس السنة

سواء كان الدين مُطالباً به أم لا بالفعل.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 297

أمّا على ما ذكرنا من كون مؤونة الشخص مؤونة للكسب غالباً فهو واضح، وأمّا على غير هذا القول فلظهور أدلة استثناء مؤونة السنة عن الأرباح، وأي فرق عرفاً بين إخراجها منه أو إخراج بدلها من الدين وهذا أمر واضح.

وأمّا إذا كان الدين من السنين الماضية وقد استدانه لمؤونة شخصه فيها ولم يقدر على أدائه، فالظاهر جواز أدائه من أرباح هذه السنة لصدق عنوان المؤونة عليه عرفاً، بل كثير من الناس يقدمون أداء الديون على سائر نفقاتهم حفظاً لأعراضهم، نعم يستثنى منه صورتان.

إحداهما: ما إذا كان الدين نجومياً فما حان حينه من هذه النجوم عد من المؤونة وما ليس كذلك لم يعد منها، فتدبّر.

والأخرى: ما إذا صبر على الدين ولم يخرجه من أرباح سنته فعليه أداء خمس تلك الأرباح فإنّه من قبيل من قتر على نفسه، وهذا بخلاف ما لو استدان لمؤونة السنة فإنّه يكسر من أرباحها- سواء أدّى دينه أم لا- لما عرفت من ظهور أدلة استثناء مؤونة السنة في ذلك.

أمّا إذا كان الدين لتوسعة الكسب وازدياد المنافع بأن استدان لها ولكن تلف ولم يبق مقابله وبقى الدين في ذمّته، فالظاهر أيضاً عدّها من المؤونة إذا لم يكن نجومياً، لوجوب أدائه عليه شرعاً وتوقف حفظ عرضه عليه عرفاً، وقد عرفت أنّ كلّ ما يصرف في أداء الواجبات أو حفظ الأعراض يعد من المؤونة «1».

فقد تحصّل من ذلك أنّ المسألة ذات صور مختلفة ولكلّ حكمها، فما في بعض الكلمات من عدّ الدين من المؤونة مطلقاً غير وجيه.

قال المحقّق النراقي رحمه الله في المستند: «من مؤونة الرجل ما يصرف في الأكل ... والحقوق اللازمة عليه من

النذر والكفّارات والدين ... ومنهم من قيد الدين بصورة الحاجة إليه ومنهم من قيد المتأخر عن الاكتساب الواقع في عامه بالحاجة دون المتقدم ... ولو كان لغرض غير صحيح، والكلّ لأجل اختلاف الفهم في الصدق في مصداق المؤونة والعرف يعاضد الأخير جدّاً» «2».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 298

والإنصاف أنّ استثناء الدين الذي استدانه لغرض غير صحيح- كما إذا استدان لشرب الخمور- وبقيت عليه ديونه، مشكل جدّاً وقد عرفت نظيره في دية قتل العمد إذا صولح القصاص بالدية.

وقال صاحب الجواهر في نجاة العباد: «يعتبر في احتساب الدين والنذور والكفّارة ونحوها من المؤونة سبقها على عام الربح أو حصولها فيه كغيره من المؤونة دون المتجدد منها بعد مضي الحول». (انتهى) «1» وظاهره كون الديون السابقة كدين السنة كلّها مستثناة، ولكن قد عرفت لزوم التفصيل في المسألة.

المسألة الحادية عشرة (72 من العروة): المعروف بين الأصحاب أنّه لا يعتبر الحول في شي ء من أنواع الخمس حتّى أرباح المكاسب، لكن يجوز تأخير أدائه في خصوص الأرباح إلى آخر السنة احتياطاً لتجدد بعض المؤونة وليس هذا بمعنى عدم تعلق الوجوب بل الوجوب متعلق به من لدن ظهورها.

وقد حكى صاحب الجواهر تصريح جماعة به، بل قال: «لا أجد فيه خلافاً بل الظاهر الإجماع عليه» «2».

وقال العلّامة رحمه الله في التذكرة: «ولا يراعى الحول في غيره ولا فيه (في ربح المكسب) إلّا على سبيل الرفق بالمكتسب».

وقال في عبارة أخرى له: «ولا يجب في الفوائد من الأرباح والمكاسب على الفور بل يتربص إلى تمام السنة ويخرج خمس الفاضل لعدم وجود دليل على الفورية، مع أصالة براءة الذمّة ولأنّ تحقيق قدر المؤونة إنّما يثبت بعد المدّة لجواز تجديد ما لم يكن كتزويج بنت وعمارة منزل وغيرهما

من المتجددات» «3».

فقد استدلّ في كلامه هذا بأدلة ثلاثة يأتي البحث عنها إن شاء اللَّه.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 299

قال المحقّق النراقي رحمه الله في المستند: «لا يعتبر الحول في وجوب الخمس في غير الأرباح إجماعاً محقّقاً ومحكياً ... وفي اعتباره في الأرباح وعدمه قولان: فظاهر كلام الحلي الأوّل بل ادّعى الإجماع عليه» «1».

وظاهر هذه العبارة كون المسألة خلافية، ولكن قد عرفت من كلام صاحب الجواهر خلافه.

وقد نسب إلى الحلي رحمه الله في السرائر كما عرفت من كلام صاحب المستند أنّه اعتبر الحول في تعلق الخمس بالأرباح، ولكن قال صاحب الجواهر: «إنّ عبارتها ليست بتلك الصراحة بل ولا ذلك الظهور كما اعترف به بعضهم» «2».

والأولى نقل عبارة السرائر حتّى يعلم حالها، قال: «أمّا ما عدا الكنوز والمعادن من سائر الاستفادات والأرباح والمكاسب والزراعات فلا يجب فيها الخمس بعد أخذها وحصولها بل بعد مؤونة المستفيد ومؤونة من تجب عليه مؤونته سنة هلالية ...».

ثمّ استدلّ على ذلك ب «أنّ الأصل براءة الذمّة وإخراجه على الفور أو وجوبه ذلك الوقت يحتاج إلى دليل شرعي والشرع خالٍ منه بل إجماعنا منعقد بغير خلاف أنّه لا يجب إلّابعد مؤونة الرجل طول سنته ... وأيضاً فالمؤونة لا يعلمها ولا يعلم كمّيّتها إلّابعد مضي سنته» «3».

وهذه الأدلة الثلاثة شبيهة بما ذكرها العلّامة رحمه الله في التذكرة.

أقول: ظاهر هذه العبارات كلّها عدم وجوبه فوراً لا عدم وجوبه أصلًا، نعم قوله:

إخراجه على الفور، أو وجوبه ذلك الوقت، يحتاج إلى دليل قد يشعر أو يدلّ على عدم الوجوب أصلًا قبل حلول الحول، ولكن يشكل الاعتماد على هذا الاستظهار، فالحق ما ذكره صاحب الجواهر في المقام وقد مرّ كلامه «4».

وكيف كان ينبغي التكلّم هنا في مقامات:

انوار الفقاهة،

ج 2، ص: 300

أحدها: عدم اشتراط الوجوب هنا بمضي الحول.

ثانيها: عدم وجوب أدائه فوراً، بل هو واجب موسع.

ثالثها: أنّ بقاء الوجوب إلى آخر السنة هل هو من قبيل الاشتراط بالشرط المتأخر أم غير ذلك.

أمّا المقام الأوّل: عدم اشتراط الوجوب هنا بمضي الحول

فقد استدلّ له بإطلاق أدلة وجوبه، فإنّ الآية الشريفة بناءً على ما هو الحقّ من دلالتها على وجوب الخمس في الأرباح مطلقة تدلّ على وجوب الخمس بمجرّد ظهور الربح وشمول عنوان الغنيمة، وكذا قوله عليه السلام في رواية عبداللَّه بن سنان عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «على كلّ أمرى ء غنم أو اكتسب الخمس ممّا أصاب ... حتّى الخياط ليخيط قميصاً بخمسة دوانيق فلنا منه دانق» «1».

وما رواه حكيم مؤذن بني عيس عن أبي عبداللَّه عليه السلام أيضاً قال: قلت له: «وَاعْلَمُواْ أَ نَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ» قال: «هي واللَّه الإفادة يوماً بيوم ....» «2».

وأوضح من ذلك من بعض الجهات ما رواه علي بن محمّد النيسابوري بعد سؤاله عمّا عليه فيما بقي له ممّا أصاب من ضيعته من ستين كراً من الحنطة قال عليه السلام: «الخمس ممّا يفضل من مؤونته» «3».

إلى غير ذلك من الإطلاقات.

وأمّا ورود التقييد في روايات كثيرة بأنّه بعد المؤونة فلا يدلّ على أنّ الوجوب مشروط بإخراجها، بل ظاهره كما عرفت سابقاً أنّ محاسبة مقداره إنّما هو بعد كسر مقدار المؤونة فالبعدية هي البعدية بلحاظ المحاسبة في المقدار كما فهمه الأصحاب لا البعدية في الوجوب كما هو كذلك في مسألة سهام الارث في قوله تعالى: «مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 301

ومن هنا يعلم أنّه لا يجوز التمسك بأصالة البراءة عن أصل وجوب الخمس، ولا الاستناد إلى عدم الدليل، ولا أنّ المؤونة

لا يعلم كميتها إلّابعد مضي السنة التي قد عرفت الإشارة إليها في كلام بعض الفقهاء، فإنّ الأولين ممنوعان بما عرفت من الإطلاقات.

ويجاب عن الثالث بأنّ تعيين مقدارها تخميناً أمر ممكن بل يمكن الاحتياط لها بجعل شي ء أكثر لها، بل قد يكون هناك أُناس تكون منافعهم أضعاف مضاعفة بالنسبة إلى مؤونة سنتهم، فهذا الوجه الاستحساني لا قيمة له في مقابل الإطلاقات.

نعم، قد يستند إلى قوله عليه السلام في رواية علي بن مهزيار: «أمّا الغنائم والفوائد فهي واجبة عليهم في كلّ عام» «1»

بدعوى أنّ ظاهرها كون الوجوب على رأس السنة فلا يجب من أوّل ظهور الربح.

وفيه: أنّ الناظر في تلك الصحيحة يعلم أنّ هذه العبارة ليست بصدد البيان من هذه الجهة، بل في مقابل الخمس الخاصّ الذي أوجبه عليهم في سنة خاصة إضافة إلى الخمس الواجب في كلّ عام، فهو واجب في كلّ سنة وهذا واجب في سنة خاصة، فالمقابلة إنّما وقعت بين الخمسين.

أمّا المقام الثاني: عدم وجوب أدائه فوراً، بل هو واجب موسع

فالقاعدة فيه تقتضي كون وجوبه على الفور لما ذكرنا في محلّه من أنّ الأمر ظاهر في الفور، فإذا أمر المولى عبده بشي ء كان معناه بعثه إلى الفعل في تلك الحالة، أمّا تأخيره فهو مخالف لظاهر البعث، لأنّ البعث نحو العمل يدعو إلى الانبعاث وإن هذا إلّانظير البعث الفعلي بأنّ يأخذ بيده ويبعثه نحو عمل، فكما أنّه ظاهر في الفور فكذا البعث القولي، هذا مضافاً إلى أنّ مقتضى أدلة شركة أرباب الخمس في المال عدم جواز التصرف فيه بعد ظهور الربح، بل عدم جواز إمساكه في يده بدون إذن صاحبه فهذا دليل آخر على وجوب أدائه فوراً.

هذا، ولكن ظاهر كلماتهم كون جواز التأخير في مسألة الخمس من المسلّمات عندهم،

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 302

لكن الظاهر

أنّه ليس إجماعاً تعبدياً حتّى يقال إن تمّ هذا وإلّا فمقتضى القاعدة عدم جواز التصرف فيه، بل الظاهر أنّ الإجماع مستند إلى السيرة العملية.

توضيحه: إنّ السيرة قد استمرت على حساب الأموال في كلّ سنة لا في كلّ يوم ولو كان أداء الخمس واجباً يوماً بيوم لاشتهر وبان وظهر ظهوراً تاماً لأنّه أمر يرتبط بحياة جميع الناس، ولم يعهد من وكلاء الأئمّة الهادين عليهم السلام حتّى في زمان أخذ الخمس من الناس أخذ أخماسهم يوماً بيوم، ولو كان أداء الخمس عليهم واجباً فورياً لوجب إعلام شيعتهم بذلك وأخذه منهم كي لا يكونوا مقيمين على حرام.

وبالجملة فالسيرة في المقام من أوضح المصاديق وأظهرها ولذا يظهر من الأصحاب إجماعهم عليه.

وقد يستدلّ مضافاً إلى ذلك بأُمور ضعيفة:

منها: ما مرّ من رواية علي بن مهزيار بدعوى ظهورها في كون المحاسبة كلّ عام، ولكن قد عرفت الجواب عنه آنفاً.

ومنها: التعبير ب «بعد المؤونة» خصوصاً في رواية البزنطي «1» حيث سأل هل يخرج الخمس قبل المؤونة أم بعدها؟ فقال عليه السلام: «بعد المؤونة» وفيه أيضاً ما عرفت من أنّ البعدية ليست زمانية بل بملاحظة افرازها وكسرها عن مجموع الأرباح. ولا أقل من الإجمال فلا يصحّ الاستدلال مضافاً إلى أنّ البعدية المحاسبية موافقة لإطلاق أدلة وجوب الخمس.

ومنها: أنّ المؤونة لا تعلم إلّابمضي السنة لا سيّما بالنسبة إلى الهبات والضيافات والانفاقات المستحبة اللائقة بشأنه ممّا لا يمكن تعيينها من قبل، هذا ولكن الإنصاف أنّه يمكن أن يكون من قبيل الحكمة لجواز التأخير، فإنّه أمر غالبي وليس بدائمي لجواز العلم بمقدار المؤونة وليس تخميناً من قبل.

فالمستند في المقام هو السيرة القطعية لا غير.

نعم، هنا إشكال يجب الجواب عنه وهو أنّه لو كان حقّ أرباب الخمس

متعلقاً بالمال من لدن ظهور الربح بناءً على الإشاعة لكانوا شركاء في ماله، فلو اتّجر بذاك المال تجارة

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 303

جديدة مكرّرة- كما هو معمول به عند أهل التجارة- كان تمام ربح الخمس الأوّل لأرباب الخمس بمقتضى كون المال مشتركاً، وخمس ربح الباقي أيضاً لهم، ولو اتّجر بها ثالثاً ورابعاً كانت الأخماس مضاعفة بحيث يشكل حسابها جدّاً، ونذكر هنا مثالًا واضحاً وهو أنّه: لو كان رأس ماله 1000 دينار وربح 1000 دينار في معاملة واحدة، ثمّ عامل معاملة أخرى بالمجموع وهو 2000 فربح 2000 فصار 4000 دينار، فالمعمول به في المحاسبة أنّه يؤدي خمس 3000 دينار وهو 600 دينار، أمّا بناءً على كون ربح حقّ أرباب الخمس له يزيد على ذلك ب «160» ديناراً، لأنّ الربح الأوّل يكون خمسه لهم وهو 200 دينار، وأمّا المعاملة الثانية فيكون ربح ذلك وهو 200 دينار لهم (وذلك 400 دينار) مضافاً إلى خمس الربح الجديد أعني خمس 1800 دينار وهو 360 ديناراً، فيكون المجموع على هذا الحساب 760 ديناراً فيزيد على 600 دينار ب «160» ديناراً.

هذا إذا كان هناك معاملتان فقط، ولو زادت على ذلك إزداد حقّ السادة كذلك.

وتدلّ بعض كلمات صاحب الجواهر على ميله إلى كون الربح الثاني مشتركاً بين المالك وأرباب الخمس، لأنّه ذكره تحت عنوان «بل قد يقال ...» وشرحه ولم يورد عليه شيئاً «1».

هذا، ولكن الإنصاف أنّ هذه الأخماس ساقطة جدّاً، فإنّ السيرة كما تدلّ على جواز التأخير تدلّ على عدم محاسبة الربح لأرباب الخمس، وهذا أمر واضح ظاهر لكلّ أحد ولا يرتاب فيه، فكان الشارع وهو ولي الخمس أرفق بهم في تأخير أدائه إلى آخر السنة وأرفق بهم في عدم محاسبة ربح هذا السهم عليهم،

وسيأتي مزيد بيان في شرح المسألة 77.

وأمّا المقام الثالث: هل الوجوب من قبيل الاشتراط بالشرط المتأخر؟

أعني أنّ هذا الوجوب على نحو المشروط بالشرط المتأخر أو من قبيل الواجب المعلق أو من باب رفق الشارع المقدس أو ولي الخمس في ذلك، فحاصل الكلام فيه أنّه على الأوّل يكون تجدد المؤونة كاشفاً عن عدم تعلق الخمس به من الأوّل، فهذا مع عدم الدليل عليه مخالف لظاهر ما عرفت من الاطلاقات، ومن إمكان دعوى الإجماع على جواز البدار في انوار الفقاهة، ج 2، ص: 304

إعطاء الخمس وأنّه يحسب خمساً، فتأمل «1».

وأمّا الثاني فمعناه أنّ وجوب الخمس بعد ظهور الربح وإن كان حالياً إلّاأنّ الواجب أي اعطائه لولي الخمس أو للمستحق استقبالي يكون بعد تمام الحول، وفيه مضافاً إلى ما ذكرنا في محلّه من عدم معقولية هذا القسم من الوجوب وأنّه من قبيل التناقض في الإنشاء، فإنّ قول القائل: أريد منك الآن وهو يوم السبت إكرام زيد يوم الأحد ممّا لا معنى له فإنّ البعث والانبعاث مثلًا زمان في الزمان فالبعث يوم الأحد يلازم الانبعاث فيه وكذا يوم السبت.

فالقول: إنّ الوجوب في الواجب المعلق حالي والواجب استقبالي بمنزلة أن يقال تكلّمه حالي وسماع صوته استقبالي!

اللّهمّ إلّاأن يقال: هذا كناية عن ايجاب الاستعداد للوجوب الآتي بتهيئة مقدماته.

سلّمنا كونه معقولًا، ولكنه لا دليل عليه في المقام، بل الدليل على خلافه، لظهور تسلّم الأصحاب وفاقاً لظواهر الأدلّة بجواز أداء الخمس بمجرّد ظهور الربح، وكونه امتثالًا لوجوب الخمس عليه، مع أنّه بناءً على صحّة الواجب المعلق لا يجزي دفع الخمس في أوّل السنة لكون الواجب استقبالياً لا فعلياً.

والأُوْلى هو الوجه الثالث بأن يقال إنّ الوجوب مطلق فعلي، ولكن الشارع وهو ولي الخمس أرفق بهم وأجاز لهم صرفه فيما يتجدد بعد ذلك من

المؤونة، كما أرفق بهم في غيره من المناكح وشبهها.

ولكن هذا كلّه مع قطع النظر عمّا ذكرنا سابقاً من رجوع مؤونة الشخص غالباً إلى مؤونة الكسب، وإلّا فمعه يكون من قبيل المنتفي بانتفاء الموضوع لعدم وجود الغنيمة، فتأمل.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّه كما ذكر صاحب العروة أنّ تمام الحول ليس شرطاً في وجوب الخمس وإنّما هو

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 305

رفق، ثمّ فرع عليه بأنّه لو أسرف أو أتلف ماله في أثناء الحول لم يسقط الخمس، وكذا لو وهبه أو اشترى بغبن حيلة في أثنائه.

قلت: الظاهر أنّ مراده الهبة غير اللائقة بحاله وكذا الاشتراء بالغبن، فقد يجوز بيع شي ء بأقل من قيمته كثيراً لبعض أصدقائه أو أقربائه بحيث يُعدّ من شؤونه وإن هو من هذه الجهة إلّا مثل الهبة، ويلحق بذلك كلّ ما يبذله في المعاصي كثمن الخمر والقمار وآلات اللهو والمواد المخدرة وشبهها «1»، فالخمس يتعلق بثمن كلّ ذلك سواء إذا تاب من أعماله أم لم يتب ولكن أراد أداء الخمس.

المسألة الثانية عشرة (73 من العروة الوثقى): إذا تلف بعض أمواله فإن كان من مال التجارة فسيأتي حكمه وإن لم يكن منه، وكذا لو سرق أو أخذ منه غصباً وقهراً فهل يجبر بالربح وإن كان في عامه، أم لا يجبر؟

صريح كلام صاحب العروة وظاهر كلام جماعة من المحشّين، عدم الجبران لعدم صدق المؤونة عليه، وهو كذلك لشمول عمومات خمس الأرباح للمقام، والتلف وشبهه إذا كان خارجاً عن دائرة كسبه لا يمنع عن صدق عنوان الربح عليه، نعم، إذا كان المال ممّا يحتاج إليه في حياته واشتراه من أرباحه عدّ من المؤونة، ولو لم يشتره كان من قبيل التقتير على النفس.

ولكن يظهر من حواشي سيّدنا الاستاذ الحكيم رحمه الله

الإشكال في ذلك واحتمال كونه مانعاً عن صدق الفائدة، ولكنه ممنوع جدّاً بعد خروجه عن دائرة اكتسابه وتجارته.

المسألة الثالثة عشرة (74 من العروة): لو كان له رأس مال وفرقه في نوع واحد أو أنواع من التجارة فربح بعض وخسر آخر، فللمسألة صور ثلاث:

1- إذا فرقه في أنواع من التجارة فخسر بعض أو تلف شي ء من رأس ماله.

2- إذا فرقه في نوعين مختلفين من الكسب كالتجارة والزراعة، أو التجارة والضيعة، أو غير ذلك فربح واحد وخسر الباقي.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 306

3- ما إذا كان في تجارة واحدة كما إذا اشترى خمسين سجادة معاً وباعها كذلك فخسر في عشرين منها وربح في ثلاثين، فهل يجبر خسارة بعضها ببعض؟

قد اختلفت فيها كلمات الأصحاب، فقد اطلق صاحب المدارك جبران خسارة التجارة وجعله من قبيل المؤونة المتجددة في كونها مستثناة من الربح «1».

وعن الشهيد رحمه الله في الدروس: القطع بجبران الخسارة بالربح بنحو الاطلاق «2».

وعن شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله: التفصيل بين ما إذا كان الخسران والربح في مال واحد في تجارتين متعاقبتين فيجبر، وما إذا كان في مالين ففيه إشكال أقربه ذلك (أي الجبران) «3».

وقال صاحب مصباح الفقيه: «ولا يعد على الظاهر جبر الخسارات أو تدارك النقص الوارد عليه بسرقة أو غصب ونحوه ولو في هذه السنة فضلًا عن السنين السابقة من المؤونة عرفاً، نعم قد يتجه الجبر والتدارك فيما يتعلق بتجارة واحدة لا لكونه معدوداً من المؤونة بل لعدم صدق الاستفادة والربح في تجارة إلّاإذا حصل له منها أزيد ممّا استعمله فيها ... بل لا يبعد أن يدعى أنّ المنساق إلى الذهن من مثل قوله عليه السلام: «إذا أمكنهم بعد مؤونتهم» إرادته في الزيادة الحاصلة في أموالهم بالتجارة والصناعة ممّا لا يحتاجون

إلى صرفه في معيشتهم في عامهم فيتّجه حينئذٍ جبر الخسارة والنقصان الواردة عليه في هذه السنة ولو في غير هذه التجارة، ولكنه لا يخلو عن تأمل فالأشبه ما عرفت» «4».

فقد تحصّل من ذلك أنّهم بين من أطلق الجبران ومن فصل بين صور المسألة حتّى أنّ بعضهم- كالمحقّق النراقي رحمه الله في المستند- بيّن ما إذا اشترى أشياء دفعة وإن باعها مراراً، وما إذا اشترى متعدداً وإن باعها دفعة واحتمل أو اعتقد بالجبران في الأوّل دون الثاني «5».

وصرّح كاشف الغطاء رحمه الله: «الأحوط أن لا يجبر خسران تجارة بربح أُخرى بل يقتصر على التجارة الواحدة» «6».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 307

والمحقّق اليزدي رحمه الله في العروة فصّل بين التجارة الواحدة فقوّى الجبران، وأنواع مختلفة كالتجارة والزراعة فقوّى عدم الجبران، وما إذا كان فردان من التجارة فاحتاط بعدم الجبران في خسارة أحدهما بالآخر وإن قوى ذلك أخيراً، كما أنّه يظهر من صدر كلامه الفرق بين التلف والخسارة.

أقول: العمدة في المسألة هي صدق الربح مع الخسران أو عدمه، وأنّ المدار على صدق الربح في مجموع السنة بالنسبة إلى مالك واحد أو صدقه على كلّ معاملة من معاملاته، بعبارة أُخرى: هل المدار على وحدة المعاملة وتعددها، أم وحدة المالك وتعدده؟

وحيث إنّ استثناء المؤونة في طول السنة إنّما هو بحسب المالك الواحد فحصول الربح أيضاً بحسبه كذلك، لا أقول إنّ جبران الخسارة أو التلف من المؤونة كلًا، بل أقول إنّ مسألة المؤونة قرينة على جمع جميع أرباح السنة طول السنة وملاحظتها شيئاً واحداً ثمّ إخراج المؤونة منها، فإن بقي شي ء فعليه خمسه.

وعلى هذا إذا ربح في تجارة وخسر في أُخرى أو ربح في تجارته وخسر في زراعته بمقداره لم ينتفع بشي ء في

تلك السنة ولم يكن مصداقاً لقوله تعالى: «وَاعْلَمُواْ أَ نَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْ ءٍ ...» أو قوله عليه السلام: «إذا أمكنهم بعد مؤونتهم».

فإذا كان المدار على صدق انتفاع المالك في طول السنة لا صدق الربح على نتيجة كلّ تجارة من تجاراته، لم يبق فرق بين الصور الثلاث أعني ما إذا كان الربح والخسران في تجارة واحدة أو تجارتين، أو تجارة وزراعة وغير ذلك.

هذا كلّه بالنسبة إلى الخسارات الواقعة في مكاسبه، أمّا التلف أعني تلف بعض رأس ماله بحرق أو غرق أو سرقة فإن كان بسبب التجارة وفي أثنائها، كما إذا اشترى فواكه كثيرة وباعها فربح فيها ولكن فسد بعضها عند الحمل وغيره بمقدار الربح أو كسر بعض الأمتعة التي تنكسر أحياناً، فلا يقال إنّه ربح في تجارته، فالجبران واضح.

أمّا إذا تمّت التجارة وحصلت الأرباح ثمّ جاءه سارق فسرق بعض تلك الأرباح أو رأس ماله أو تلف بالحرق أو الغرق، فالجبران محل الكلام والأحوط عدم الجبران.

وهذا بخلاف ما ذكرنا سابقاً من وقوع الخسارة في بعض أمواله الموجودة من السنين انوار الفقاهة، ج 2، ص: 308

الماضية وقد خمسها، أو لم يتعلق به الخمس أصلًا فإنّ جبران الخسارة فيها مشكلة لأنّ المفروض أنّه انتفع في تجارته ومكاسبه في هذه السنة وبقيت أرباحه بعد صرف المؤونة وإنّما الخسارة وقعت في أمواله السابقة، فتدبّر.

هذا ولو فرض الشك في هل أنّ الخسارة أو التلف تجبر من الأرباح أم لا؟ فمقتضى القاعدة هو الجبران لأصالة البراءة عن الخمس فيما يقابلها من الأرباح.

إن قلت: الأصل عدم دخول مقدار الخمس في ملكه بناءً على القول بالاشاعة بين المالك وأرباب الخمس من أول الأمر.

قلت: الأصل أن تكون النماءات تابعة للمال فإذا ملك زيد هذا المال كان له

منافعه ونماءاته- سواء كانت من الزيادات العينية أم القيمية أم غير ذلك- وشركة أرباب الخمس فيها يحتاج إلى دليل ومع عدمه تكون تابعة لأصل المال. اللّهمّ إلّاأن يقال: تعلق الخمس بالمال من أوّل ظهور الربح ثابت وسقوطه غير معلوم، فالاستصحاب هنا مقدم ولا وجه للتمسك بتلك القاعدة- أي قاعدة التبعية- ولكن الكلام في الوجوب الحاصل بنفس ظهور الربح فإنّه وجوب موسع مراعى، وكفاية مثله في المقام غير معلوم «1».

المسألة الرابعة عشرة (75 من العروة): هل الخمس يتعلق بالعين وعلى القول بتعلقه بها فما هي كيفية تعلقه والمسألة عامة في جميع أنواع الخمس لا تختص بباب الأرباح.

وهذه مسألة مهمّة ذات فروع كثيرة كما أشار إليها صاحب العروة في المسألة 75، ثمّ فرع عليها في نفس المسألة الأُمور التالية:

1- يتخير المالك بين دفع الخمس من العين أو دفع قيمته من مال آخر.

2- لا يجوز له التصرف في العين قبل أداء الخمس وأنّ خمسه في ذمّته.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 309

3- لو أتلفه بعد استقراره ضمنه.

4- لو اتّجر به قبل إخراج الخمس كانت المعاملة فضولية ثمّ رتب عليه آثار البيع الفضولي من اجازة المالك (وهو هنا الحاكم الشرعي النائب عن أرباب الخمس) وعدمها، وأخذ العين إن كانت موجودة، وأخذ قيمتها إن كانت تالفة إلى غير ذلك من أحكام البيع الفضولي.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الاحتمالات في المسألة خمسة:

1- أن يكون الخمس حكماً تكليفياً محضاً.

2- أن يكون الخمس حكماً وضعياً ثابتاً في الذمّة لا تعلق له بالعين أصلًا، مثل الدية والكفّارات.

3- أن يكون الخمس حقّاً عينياً خارجياً له تعلق بالمال من قبيل حقّ الرهانة أو غيرها على أقسامها.

4- أن يكون الخمس من باب ملكية العين على نحو الكلي في المعين.

5-

أن يكون الخمس من باب ملكية العين على نحو الإشاعة.

والفرق بين الإشاعة والكلي في المعين واضح، فعلى الإشاعة لو تلف بعض العين كان التلف من المالك وأرباب الخمس بالنسبة، وعلى فرض الكلي في المعين كان حقّ أرباب الخمس ثابتاً فيها ما دام مقدار خمس مجموع الربح باقياً. وهذا الفرق ثابت أيضاً فيما لو اشترى صاعاً من صبرة على نحو الكلي في المعين، فما دام مقدار الصاع موجوداً كان حقّه باقياً.

والإنصاف أنّ ظاهر الأدلّة هو الملكية على نحو الإشاعة، وذلك لُامور:

1- ظاهر قوله تعالى: «وَاعْلَمُواْ أَ نَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ...» وظاهر الكلام هو الملكية لا سيّما مع تعقبه بالكسر المشاع وهو قوله «خمسه» فإنّه أظهر في الملكية على نحو الإشاعة، مضافاً إلى قرينة المقابلة، فإنّه لا شك في أنّ كون أربعة أخماسه للمالك إنّما هو على نحو الملكية فالخمس أيضاً كذلك.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 310

وما قد يقال «1» من «أنّ مفاد اللام هو الاختصاص سواء كان من باب الملك أم الحق أم المصرف أو لاضافة خاصة غيرها، وظهورها في الأوّل يحتاج إلى قرينة وهي مفقودة في المقام لو لم نقل بقيامها على أنّها في مقام بيان مجرّد الاختصاص والمصرفية فقط» ففيه أنّ ظاهر كلمة اللام إذا أضيفت إلى مال هو الملكية، ولذا لو أقر واحد بأنّ هذا المال لزيد كان اقراراً بالملكية له، وحملها على الاختصاص والحق والمصرف وشبهها يحتاج إلى قرينة في أبواب الأموال.

2- الأخبار المشتملة على كلمة اللام، مثل ما ورد في رواية عبداللَّه بن سنان عن الصادق عليه السلام: «حتّى الخياط ليخيط قميصاً بخمسة دوانيق فلنا منه دانق» «2»

وكذا قوله عليه السلام في صدرها: «على كلّ امرء غنم أو

اكتسب الخمس ممّا أصاب لفاطمة عليها السلام ولمن يلي أمرها من بعدها» إلى غير ذلك، والكلام فيه إشكال وجواب كما عرفت.

3- الأخبار المشتملة على كلمة «في» وهي كثيرة، مثل الروايات الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة من الباب الثالث من أبواب ما يجب فيه الخمس، ومضمون الجميع أنّ في المعادن الخمس.

وقوله عليه السلام في ما رواه سماعة بعد سؤاله عن الخمس: «في كلّ ما أفاد الناس من قليل أو كثير» «3»

بناءً على أنّ كلمة «في» إذا استعملت في أبواب الأموال لا سيّما مع الكسر المشاع، ظاهرة في الشركة والملكية المشاعة وكلمة (وليس ببعيد) لا أقول، لا يجوز استعمال مثل هذه العبارة في الحقّ وشبهه، بل أقول ظاهره عند إطلاقه هو الملك.

4- ما يدلّ على لزوم إخراج الخمس عن أشياء مثل قول علي عليه السلام فيما رواه صاحب تفسير النعماني: «والخمس يخرج من أربعة وجوه من الغنائم ... ومن المعادن ومن انوار الفقاهة، ج 2، ص: 311

الكنوز ومن الغوص» «1».

بل وكلّ ما ورد فيه التعبير بكلمة «من» (مثل الروايات التاسعة والرابعة والحادية عشرة من الباب الثاني من أبواب ما يجب فيه الخمس وغير ذلك) بناءً على ظهور كلمة «من» في هذه المقامات في التبعيض لا سيّما بعد انضمامها إلى كلمة (وليس ببعيد).

5- ما ورد فيه عطف الأنفال على الخمس، فإنّ الأنفال ملك له عليه السلام فالخمس أيضاً ملكه لاتحاد السياق، مثل ما عن العبد الصالح عليه السلام: «وله (أي للإمام) بعد الخمس الأنفال» «2».

وكذا ما عن أبي جعفر عليه السلام حيث قال: «إنّ لنا الخمس في كتاب اللَّه ولنا الأنفال» «3».

6- ما دلّ على التعبير بالسهام، مثل قوله عليه السلام: «ويقسم بينهم الخمس على ستة أسهم سهم للَّه وسهم

لرسول اللَّه ...» إلى قوله «وله ثلاثة أسهم» «4»

. وقوله عليه السلام: «فأمّا الخمس فيقسم على ستّة أسهم» «5»

فإنّ هذا التعبير منصرف إلى سهام الملك كما لا يخفى على من راجع موارد استعمالاته، وكذا ما ورد فيه التعبير بالنصيب الظاهر في الملكية، مثل الروايتين العاشرة، والعشرين من الباب الرابع من أبواب الأنفال، فراجع.

7- ما دلت على أنّ من أكل من الخمس فهو داخل فيمن أكل مال اليتيم ونحن واللَّه اليتيم، مثل الرواية الاولى من الباب الأوّل من أبواب ما يجب فيه الخمس، فإن جعله مصداق أكل مال اليتيم ظاهر في ملكية الخمس لأربابه.

8- ما دلّ على أنّه عليه السلام صاحب الخمس وظاهر هذا التعبير الملكية، مثل ما ورد في تفسير العياشي عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إنّ أشدّ ما فيه الناس يوم القيامة إذا قام صاحب الخمس فقال: يا ربّ خمسي وإنّ شيعتنا من ذلك في حلّ» «6».

فتحصّل من جميع ذلك مع انضمام هذه الجهات الثمان بعضها ببعض، أنّ الأقوى تعلق الخمس بالأموال على نحو الملك المشاع، وأمّا احتمال كونه من قبيل الكلي في المعين فهو ضعيف جدّاً لأنّه، لا يساعد التعبير بالكسر المشاع أوّلًا، وهذا القسم من الملكية بالنسبة إلى الملك المشاع (في الأملاك المشتركة) قليل جدّاً، تنصرف عنه الاطلاقات ثانياً.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 312

وأمّا أدلة القائلين بالخلاف ممّا يظهر من كلماتهم بعد ضمّ بعضها ببعض أُمور:

1- المتبادر ممّا ذكر فيه كلمة «على» كون الخمس مفروضاً على العين فتكون حقّاً لا ملكاً، وهو مرسلة ابن أبي عمير: «أنّ الخمس على خمسة أشياء: الكنوز والمعادن والغوص والغنيمة ونسى ابن أبي عمير الخامسة» «1».

وفيه: أنّ هذه المرسلة مضافاً إلى عدم إسنادها إلى المعصوم هي بعينها

ما روى عن بعض أصحابنا رفع الحديث قال: «الخمس «من» خمسة أشياء: من الكنوز والمعادن والغوص والغنم الذي يقاتل عليه ولم يحفظ الخامس» «2»

مع ذكر «من» بدل «على» فيه، فلا يعلم أنّ أصل الحديث كان مع «من» أو «على».

وفي معناهما في ذكر الخمسة بعض أحاديث أُخر ذكر فيها «الخمس من خمسة أشياء»، مثل روايتي حمّاد «3».

2- وكذا المتبادر ممّا ذكر فيه لفظه «في» أيضاً ذلك مثل ما رواه عمّار بن مروان عن أبى عبداللَّه عليه السلام: «فيما يخرج من المعادن والبحر ... الخمس» «4».

وكذا ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السلام: سألته عن المعادن ما فيها؟ فقال: «كلّ ما كان ركازاً ففيه الخمس وقال: ما عالجته بمالك ففيه ما أخرج اللَّه سبحانه منه من حجارته مصفى الخمس» «5»

. ومحمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الملاحة ...؟ فقال: «هذا المعدن فيه الخمس. فقلت: والكبريت والنفط يخرج من الأرض؟ فقال: فقال: هذا وأشباهه فيه الخمس» «6»

. وغيرهما، فإنّ المتبادر من الظرفية تباين الظرف والمظروف.

وفيه: أنّه لو قلنا بتباين الظرف والمظروف هنا ورد الإشكال على الحقّ أيضاً، فإنّ لازمه كون الحقّ مبايناً للمال داخلًا في جوفه، مع أنّ الواضح كون المال نفسه متعلقاً للحقّ، وكم فرق بين المظروف والمتعلق.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 313

والحاصل: أنّه لا تباين هنا بينهما بل الخمس إمّا جزء للمال فبهذا الاعتبار يكون مظروفاً له، لأنّ الجزء داخل في الكلّ، أو خمس المال متعلق لحقّ أرباب الخمس فيكون أيضاً من قبيل دخول الجزء في الكلّ الذي لا تباين بينهما.

هذا، والمتبادر من ذكر الكسر المشاع في الأموال ليس إلّاالملك على نحو الشركة كما مرّ آنفاً.

3- الزكاة والخمس من واد واحد وهما

كفرسي رهان، بل الخمس بدل الزكاة ولذا يجري فيه كثير من أحكامها، فكما أنّ الزكاة حقّ ثابت في العين فكذا الخمس.

وفيه: أنّه قياس واضح ومجرّد اشتراكهما في بعض الأحكام أو كون حكمة تشريع الخمس البدلية غير كاف في إثبات ذلك لا سيّما مع اختلاف أحكامهما في كثير من الموارد، مثل اشتراط النصاب في جميع أجناس الزكاة وعدم اشتراطه في جميع أصناف الخمس، أو اعتبار الحول في كثير منها وعدم اعتباره في الخمس مطلقاً، واختلاف مصارفهما من الأصناف الثمانية في الزكاة دون الخمس، وعدم استثناء مؤونة الشخص في الزكاة دون خمس أرباح المكاسب إلى غير ذلك.

وفيه: أنّ هذا الإشكال وارد بعينه على القول بالحقّ أيضاً، فإنّه إذا تعلق حقّ زيد مثلًا بمالي وجب عليّ أداؤه- سواء كان مع قصد القربة أم لا- فاعتبار القربة فيه مخالف للقاعدة، كما أنّه لايجوز لي إخراجه بدون إذنه وكذلك تبديله بشي ء آخر كذلك.

والعجب أنّ المستشكل غفل عن ورود مثل ذلك عليه.

والإنصاف أنّ هذا من قبيل إذن ولي الخمس والزكاة وهو النبي صلى الله عليه و آله والإمام عليه السلام ولولا إذنهما لم يجز ذلك لا في الخمس ولا في الزكاة، لا على القول بالملك ولا على القول بالحقّ.

5- وممّا تمسك به بعضهم تأييد عدم الملكية في المقام: أنّ التبرعات والصدقات مطلقاً لا تتحقق الملكية فيها إلّابالقبض، بل وكذا منذور التصدق به، وكذا الهدى المتعين للذبح لا تخرج عن ملك مالكه بمجرّد ذلك «1».

قلت: وليت شعري أي ربط بين التبرعات والصدقات والهدى وبين الخمس، وهل هذا

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 314

إلّا من أظهر مصاديق القياس، بل القياس هنا قياس مع الفارق، وكم فرق بين التبرعات وشبهها وبين ما نحن فيه.

6- أنّه قد

اطلق الحقّ على الخمس في كثير من روايات هذا الباب، مثل ما رواه أبو بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: «كلّ شي ء قوتل عليه على شهادة أن لا إله إلّااللَّه، وأنّ محمّداً رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فإنّ لنا خمسه ولا يحلّ لأحد أن يشتري من الخمس شيئاً حتّى يصل إلينا حقّنا» «1»

. وهذا دليل على كونه حقّاً لا ملكاً.

وفيه: أنّ جعل الحقّ مقابلًا للملك إنّما هو من اصطلاح الفقهاء، فإنّ الحق يُطلق عندهم على ما يقابل الملك في كثير من المقامات (لا في جميعها) ولكن إطلاقه على الملك في اللغة والعرف والآيات والروايات كثير جدّاً. قال اللَّه تعالى في آية كتابة الدّين «وَلُيمْلِلِ الَّذِى عَلَيْهِ الحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ ... فَإِنْ كَانَ الَّذِى عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَايَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ ...» «2».

والحقّ هنا هو الدّين، وقال تعالى: «وَءَاتِ ذَا ا لْقُرْبَى حَقَّهُ» «3»

وقد ورد في تفسيرها روايات عديدة تدلّ على أنّها ناظرة إلى قضية فدك (أو أنّ فدك أحد مصاديقها البارزة) مع أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ملَّكها فاطمة عليها السلام.

وقد ورد في روايات الارث إطلاق الحقّ عليه مع أنّه ملك «4».

وتقسيم الحقّ إلى قسمين وإطلاق حقّ الناس على ما يكون ملكاً لهم، معروف.

7- أنّ ثبوت الحقّ في العين هو المتيقن بخلاف الملك فإنّه مشكوك والأصل عدمه، فإنّ الحقيقة والملكية من صغريات الأقل والأكثر «5».

وفيه: أنّه أوهن من الجميع، لأنّ الحقّ والملك أمران متباينان اعتباراً وحكماً، مثلًا إذا شككنا هل أنّ هذا الدار ملك لزيد أم رهن له، فقد دار الأمر بين المتباينين لا الأقلّ والأكثر، وكيف يكون حقّ الرهانة مرحلة ضعيفة من الملكية مع أنّه لا

يتعلق إلّابملك الغير ومحال أن انوار الفقاهة، ج 2، ص: 315

يتعلق بملك نفسه وهذا دليل على تباينهما، وكذا حقّ التحجير وغيره.

وبالجملة لا يجوز رفع اليد عن المحكمات التي أشرنا إليها في دليل القول الأوّل بمثل هذه الوجوه الضعيفة جدّاً، فالحقّ ما عرفت من القول بالملك على نحو المشاع.

فذلكة: وهاهنا قول آخر اختاره بعض مَن عاصرناه، وحاصله أنّ أرباب الخمس يشتركون في الملك لكن لا في خصوصيته بل في ماليته، ولذا لا يلزم على المالك أداء الخمس من نفس العين ويجوز له تبديله إلى شي ء آخر لا نحافظ المالية بذلك، وغيره من الأحكام.

واستدل له تارة: بظهور تعبيرات الأدلة في ذلك حيث عبر فيها بالمال والفائدة والربح، وهي ظاهرة في أنّ النظر هنا إلى المالية لا إلى الخصوصيات.

وأُخرى: بأنّ الارتكاز العرفي في الضرائب والماليات المأخوذة منهم إنّما هو على المالية لا الخصوصيات العينية، ويكون ذلك قرينة لصرف أدلة الخمس إليه.

وثالثة: بأنّ سيرة المتشرعة استقرت على عدم الالتزام بأداء الخمس من نفس العين، وهذه قرينة أُخرى على ما ذكر.

ورابعة: بأنّ الظاهر من أدلة الزكاة تعلقها بمالية العين لا بخصوصيتها، مثلًا قوله في خمس من الإبل شاة ينادي بذلك بعدم وجود الشياه في نفس الإبل بل تكون قيمتها في قيمته وكذلك أشباهه، فليكن الخمس أيضاً كذلك (لاتحادهما في كثير من الأحكام).

أقول: وفي كلامه مواقع للنظر:

أوّلًا: أن تفكيك المالية عن الخصوصيات العينية إنّما هو في عالم الذهن والخيال وإلّا فهما متحدان في الخارج نظير اتحاد الكلي مع أفراده ووجوده بعين وجودها، والشاهد الظاهر على ذلك أنّه لا يصحّ لمالك أن يقول وهبت خصوصية هذا الدار لزيد وماليتها لعمرو، أو وهبت ماليتها لعمرو وجعلت الخصوصية لنفسي، فإنّ هذا التفصيل والتفكيك ممّا لا

عرفية له وليس ذلك إلّالاتحادهما في الخارج، إنّما الفرق بينهما في الاغراض المترتبة على الأموال، فالتاجر ينظر إلى الثياب بما أنّها مال وتجلب له أموالًا أُخرى، ولكن المشتري ينظر إليها بما أنّه يمكن خياطة الألبسة منها وما يقي الإنسان من الحَرّ والبرد.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 316

وثانياً: فقد ظهر الجواب عن دليله الأوّل ممّا ذكرنا، فإنّ تعبيرات الروايات أيضاً ناظرة إلى الأموال بخصوصياتها لا المجرّدة عنها لعدم وجودها في الخارج.

وثالثاً: أنّ الضرائب والماليات العرفية إنّما هي من قبيل الديون في ذمّة من تعلقت به وتكون أموالهم كالعين المرهونة في مقابلها، ولذا يصرّحون عنها بالديون المالية وديون الضريبة وتراهم الحكومة مديونين وترى الماليات ديناً في ذمّتهم كما هو واضح لمن راجع تعابيرهم في ذلك وحمل جميع ذلك على المجاز كماترى.

ورابعاً: ما أفاده من السيرة حقّ لا ريب فيه كما سيأتي إن شاء اللَّه مشروحاً، ولكنّه أعم من أن يكون بسبب تعلق الخمس بمالية العين أو تعلقه بخصوصيتها، ولكن الشارع المقدّس رخص للمالك في تبديله كسائر ترخيصاته في هذه الأبواب.

وخامساً: قياس ما نحن فيه على الزكاة قياس مع الفارق (مضافاً إلى أنّ القياسات الظنية ليست من مذهبنا أصلًا) فإنّ تعلق الزكاة بالأموال ليست بعنوان الملك، بل هي نوع حقّ كما ذكرناه في محلّه.

هذا كلّه مع مخالفة هذا القول للأدلة الكثيرة التي أسلفناها عند بيان المختار من الشركة في العين على نحو الإشاعة.

وبالجملة فإنّ هذا القول مع كونه غير معقول في نفسه، لا يساعده شي ء من الأدلة.

إن قلت: كيف لا يعقل تملك المالية دون الخصوصيات العينية مع أنّ له بعض الأمثله في الفقه مثل عدم إرث الزوجة من أعيان البناء وإرثه من قيمته، وليس ذلك إلّابمعنى أنّها مالكة لماليتها

وليست مالكة لخصوصياتها.

قلت: أوّلًا: كونها مالكة لمالية العين أوّل الكلام، فقد صرّح بعضهم هناك بأنّ المرأة تملك قيمتها في ذمّة سائر الورثة، وهذا صاحب الجواهر الفقية الماهر قال في هذا المقام ما نصّه:

«الظاهر ثبوت ذلك في ذمّة الوارث من غير فرق بين بذل الوارث العين وعدمه ولا بين امتناعه من القيمة وعدمه، وإن كان مع الامتناع يبقى في ذمّته إلى أن يتمكن الحاكم من إجباره على أدائها أو البيع عليه قهراً، كغيره من الممتنعين من أداء الحقّ ولو تعذر ذلك كلّه يبقى في ذمّته إلى أن تتمكن الزوجة من تخليصه ولو مقاصة» «1».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 317

وذكره هذا المعنى مع عدم إشارته إلى قول مخالف، دليل على عدم وجدانه مخالفاً في المسألة. نعم لا يبعد كون عين المال من قبيل الرهن في مقابل هذا الحقّ، أي الدين وأين ذلك من ملك المالية.

ثانياً: لو فرضنا ظهور بعض أدلة تلك المسألة في ذلك، فاللازم صرفه إلى ما ذكر من الدين بعد عدم كون ملكية المالية معقولًا فالحقّ ما عرفت والحمد للَّه.

بقي هنا أُمور أشار إليها صاحب العروة في ذيل المسألة:

الأمر الأوّل: لا إشكال عندهم في تخيير المالك بين أداء الخمس من العين أو من قيمته، ومحلّ الكلام بعد استقرار الخمس ومضي السنة في أرباح المكاسب، وأمّا في طول السنة فلا إشكال ولا كلام.

ولا شك في أنّه على القول بالشركة على نحو الإشاعة، الأصل عدم جواز التصرف والتبديل في العين إلّابإذن ولي الخمس لعدم جواز التصرف في المال المشترك، وكذا على القول بتعلّقه به بعنوان الكلي في المعين، وكذا إذا كان بعنوان الحقّ كحقّ الرهانة وشبهها، نعم، على القول إنّه من قبيل التعلق بمالية العين، فقد يقال إنّ

الأصل في المسألة الجواز لانحفاظ المالية بذلك، لكن قد عرفت أنّ المالية بمعنى أمر كلي موجود في الخارج غير متحد مع الخصوصية العينية، غير معقول.

وعلى كلّ حال فإنّ تخيير المالك في ذلك كأنّه ممّا لا خلاف فيه بينهم.

وعن شيخنا الأنصاري رحمه الله أنّ جواز أداء القيمة مذهب الأصحاب.

هذا، ولكن المصرّح به في كلماتهم في خمس الأرض التي اشتراها الذمّي أنّ ولي الأمر مخيّر بين أخذ عين الأرض أو ارتفاعها، وهذا ينافي تخيير المالك هنا، فراجع كلماتهم في هذين البابين تجدهما متخالفين ظاهراً.

اللّهمّ إلّاأن يقال: إنّ ذلك الحكم مختص بغير المسلم، أمّا المسلم فهو مخيّر بين الأمرين ولا يجبرهما الحاكم على شي ء.

وأمّا دليل المسألة: فالدليل الوحيد الذي تمسك به صاحب المستند، هو ما استدلّ به انوار الفقاهة، ج 2، ص: 318

الفقهاء في باب الزكاة وهي صحيحة أحمد بن محمّد بن خالد البرقي قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام هل يجوز أن أخرج عمّا يجب في الحرث من الحنطة والشعير وما يجب على الذهب، دراهم قيمة ما يسوى أم لا يجوز إلّاأن يخرج من كلّ شي ء ما فيه؟

فأجاب عليه السلام: «أيّما تيسّر يخرج» «1».

نظراً إلى إطلاق قوله (وما يجب على الذهب) فإنّه يشمل الزكاة والخمس جميعاً، وكون صدرها في خصوص الزكاة لا ينافي إطلاق الذيل.

أقول: الإنصاف أنّ الذهب بما هو ذهب- أعني بهذا العنوان- لا يجب فيه شي ء إلّا الزكاة، وأمّا كونه من مصاديق المعدن أو أرباح المكاسب فهو عنوان آخر غير الذهب، وليس الحديث بصدد بيانه لا سيّما مع ملاحظة صدره فالأخذ بإطلاقه بعيد جدّاً.

وقد يتمسك بأخبار خاصة وردت في موارد معيّنة يمكن اصطياد العموم من مجموعها أو إلغاء الخصوصية من كلّ واحد منها مثل

ما يلي:

1- ما رواه ريان بن الصلت قال: كتبت إلى أبي محمّد عليه السلام، ما الذي يجب عليّ يامولاي في غلة رحى أرض في قطيعة لي وفي ثمن سمك وبردي (البردي نبات كالقصب) وقصب أبيعه من أجمة هذه القطيعة؟ فكتب عليه السلام: «يجب عليك فيه الخمس إن شاء اللَّه تعالى» «2».

2- ما ورد في خبر أبي بصير فيمن كان في داره البستان فيأكل شيئاً من الفواكه ويبيع بعضها، فسأل الصادق عليه السلام: هل يجب عليه فيه الخمس؟ فكتب عليه السلام: «أما ما أكل فلا وأمّا البيع فنعم هو كسائر الضياع» «3».

3- ما رواه أبو سيّار حين ولي الغوص ببحرين واصاب أربعمائة ألف درهم وأتى بخمسها ثمانين ألف درهم أبا عبداللَّه عليه السلام «4».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 319

4- ما رواه الحرث بن حصيرة الأزدي فيمن وجد ركازاً على عهد أميرالمؤمنين عليه السلام فأبتاعه أبي منه بثلاثمائة درهم ومائة شاة متبع ثمّ وقع التنازع بينهما، فقال عليه السلام لصاحب الركاز: «ادّ خمس ما أخذت (أي ما أخذت من القيمة) فإنّ الخمس عليك» «1».

ففي ذلك دلالة على جواز إعطاء القيمة بدل العين.

أقول: الإنصاف أنّ الأخير دليل على جواز اجازة ولي الأمر بالنسبة إلى البيع الفضولي الواقع على سهم أرباب الخمس (إذا اقتضت مصلحتهم) ولا ربط بتخيير المالك فإنّه لا إشكال في جواز البيع والشراء طول السنة، وإنّما الكلام في تبديله بعد سنة الربح وكذا الثاني، فلعلّ بيع الثمرة أيضاً كان في طول سنة الخمس وجواز بيعها وتبديلها بالثمن في هذا الحال جائز قطعاً كما عرفت.

نعم رواية أبي سيّار دليل على عدم وجوب أداء الخمس من عين المال الذي حصل بالغوص وجواز تبديله بعد إخراجه، ولكن التعدي منه إلى

غير الغوص حتّى ارباح المكاسب أوّل الكلام.

والحاصل: أنّ شيئاً منها غير رواية أبي سيّار غير واف بإثبات المطلوب، ومجرّد رواية واحدة واردة في باب الغوص لا يمكن استفادة العموم منها.

كما أنّ التمسك بجواز التبديل في باب الزكاة فيتعدى منها إلى الخمس أيضاً غير كاف بعد كونه من القياس الممنوع.

والعمدة هنا هي السيرة المستمرة الجارية على ذلك.

الثالث: وهو العمدة، استقرار سيرة المتشرعة على ذلك، فإنّ المتداول في أداء خمس المعادن أو الغوص أو مثل ذلك ليس أداء عين المعدن أو الجواهر بل المتعارف أداء قيمتها، وكذلك بالنسبة إلى أرباح مكاسب التجار بعد مضي الحول مع عدم الانضاض كما هو كثير، فليس المتعارف إخراج الثياب والفرش والظروف وغير ذلك من أشباهها بل والمواد المأكولة أيضاً، وإنّما المتعارف إخراج قيمتها.

وأوضح حالًا من الجميع ما إذا كان بلد المالك بعيداً نائياً وأراد حمل الخمس إلى انوار الفقاهة، ج 2، ص: 320

الإمام عليه السلام أو وكيله، فلا يحملون في هذه الحال إلّاالنقود لا الأعيان التي تعلق بها الخمس كما هو ظاهر.

وكذلك الكلام بالنسبة إلى ما يبقى في البيت من زيادات المواد الغذائية من الحبوبات والدهن وأمثالها، فلا يؤخذ من كلّ واحد جزء صغير بعنوان الخمس بل يؤدي مبلغاً من الجميع.

وأوضح حالًا من ذلك ما إذا كانت العين التي تعلق الخمس بها ممّا لا يمكن إخراج خمسه كثوب واحد أو كفرش كذلك.

ومن هذا كلّه نعلم بإجازة ولي الخمس في تبديله بالأموال.

إنّما الكلام في أنّه هل يجوز دفع جنس آخر غير النقود، كدفع الحنطة بدل الثياب أو بالعكس أم لا يجوز؟ صرّح غير واحد بعدم جوازه أو الإشكال فيه، وهو كذلك، لأنّ الأدلة السابقة سواء رواية البرقي، أم الروايات الخاصة أو السيرة هو

دفع القيمة من النقود فقط لا الأجناس الاخر، لا سيّما إذا لم يكن الجنس ممّا يحتاج إليه أرباب الخمس، كدفع الخمس من بعض الأدوية والآلات التي ليست ممّا تتعلق بها حاجتهم، أو دفع كتاب الجواهر لفقير يسكن البادية كما مثّل به بعض الأعلام.

وقد عرفت أنّ مقتضى القاعدة عدم الجواز، ولكن مقتضى القول بتعلقه بماليته جوازه لانحفاظ المالية بذلك.

نعم، يمكن أن يقال إذا كان لأرباب الخمس حاجة إلى شي ء معين جاز تبديله به، كما إذا كان متعلق الخمس من الفرش وكان الفقير محتاجاً إلى الحنطة جاز دفعها إليه بدله ولا يمكن أن يقال: لا يكفي هنا دفع النقود، للعلم بأنّه أولى منه، فتدبّر.

هذاوفي كلام بعض الأعلام استثناء الحلال المختلط بالحرام من مسألة تخيير المالك، حيث قال: «لا يترك الاحتياط فيه بإخراج خمس العين» «1» مع تصريحه في مصرف هذا الخمس بأنّه كمصرف غيره من أقسام ما يتعلق به الخمس «2».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 321

ولعلّ الوجه فيه ما ورد في بعض رواياته من الأمر بإخراج الخمس من ذلك المال، فإنّ اللَّه عزّوجلّ قد رضى من ذلك المال بالخمس «1» وهكذا قوله عليه السلام: «فليبعث بخمسه إلى اهل البيت عليهم السلام» «2»

إلى غير ذلك.

أو يقال: إنّ الوجه فيه كونه من قبيل مجهول المالك وقد صالحه الشارع المقدّس بالخمس وعين صرفه في مصارف الخمس، فمال الغير صار مشاعاً في هذا المال وإن وجب صرفه في ذاك المورد الخاصّ.

ولكن الإنصاف أنّ الراوي لا يفهم منه وجوب بعث خمس الحنطة والظروف والفرش لا سيّما إذا كان نائياً لا للحرج والعسر، بل يفهم منه ما يفهم من سائر موارد الخمس من تخيير المالك بين دفع العين أو القيمة، والحاصل أنّ السيرة المستمرة

التي ذكرنا تجري هنا أيضاً.

هذا ويمكن الاستشكال في أداء العين في بعض فروض المسألة وهو ما إذا علم المالك أنّ أداء العين لا يفيد أرباب الخمس ولا يمكنهم الانتفاع بها كبعض الأجناس العتيقة التي لا ينتفع بها غالب الناس، وتبديله بالقيمة أيضاً مشكل ولا يتمكن من بيعها إلّابائع العتائق، فعلى المالك هنا بذل قيمتها إذا كان يقدر على تبديلها بالقيمة بسهولة، على الأحوط.

الأمر الثاني: لا يجوز له التصرف في مجموع العين بعد مضي السنة في الأرباح وفي غيرها مطلقاً قبل أداء الخمس وإن ضمنه في ذمّته، وهذا هو المشهور بين المعاصرين ومن قارب عصرنا فيما رأينا من كلماتهم.

ولكن صاحب الجواهر في غير مورد رأى جواز ضمان الخمس وجعله في الذمّة ثمّ التصرف في مجموع المال، فقد قال في بعض كلماته: «لو ضمنه وجعله في ذمته جاز له ذلك لكن ليس في الأدلة هنا تعرض لبيان أنّ له ضمانه مطلقاً أو بشرط الملائة أو الاطمئنان من نفسه بالأداء، أو غير ذلك، بل لا تعرض فيها لأصل الضمان وجواز التأخير أعم من ذلك» «3».

ولكن الظاهر أنّه ناظر إلى التصرفات قبل مضي الحول بقرينة صدر كلامه الذي هو شرح انوار الفقاهة، ج 2، ص: 322

كلام صاحب الشرائع (لكن يؤخر ما يجب في أرباح التجارات احتياطاً للمكتسب) بل ذيل كلامه أعني قوله: «وجواز التأخير أعم» أيضاً شاهد على ما ذكرنا، فهو خارج عن محل الكلام بل جواز التصرف في أثناء الحول بلا حاجة إلى ضمان الخمس في الذمة ممّا لا ينبغي الإشكال فيه.

نعم في بعض كلماته في مسألة وجوب خمس المعادن ما يظهر منه جواز نقله إلى الذمّة حيث قال: «لكن له ضمانه على أن يؤديه من مال آخر» «1».

أقول:

تبديل الخمس بعد استقراره إلى ما في الذمّة مشكل جدّاً، أمّا بحسب القواعد فلما عرفت من أنّه من قبيل المال المشترك ولا يجوز لأحد الشريكين التصرف في جميعه ونقل السهم الآخر إلى ذمّته حتّى على القول بكونه من قبيل الكلي في المعين، أو تعلق الخمس بالمالية، بل وكذا على القول بكونه حقّاً متعلقاً بالعين أيضاً لا يجوز ذلك، لعدم الدليل عليه، بل الدليل على العدم، لعدم جواز ذلك في الحقوق.

هذا مضافاً إلى النصوص الخاصة الدالة على عدم شراء شي ء من الخمس حتّى يؤدي حقّ أربابه، فقد روى أبو بصير عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: «... لا يحلّ لأحد أن يشتري من الخمس شيئاً حتّى يصل إلينا حقّنا» «2».

وفي رواية أُخرى له قال: سمعته يقول: «من اشترى شيئاً من الخمس لم يعذره اللَّه، اشترى ما لا يحلّ له» «3».

فلو جاز ضمانه في الذمّة والتصرف في المال، لوجبت الإشارة إليه كما لا يخفى.

الأمر الثالث: قال صاحب العروة: لو أتلفه بعد استقراره ضمنه. والدليل عليه واضح لقاعدة الاتلاف الشاملة للمقام أيضاً، ولأنّه مال الغير، وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدي، وليعلم أنّ الاتلاف هنا أعمّ من العمد والخطأ لعموم أدلة الضمانات، بل هو أعمّ من صرفه في مؤونته أو اتلافه بلا فائدة فيه، لعموم الأدلة، ولكن قد مرّ سابقاً أنّه لو كان الاتلاف بلا فائدة أو في طريق المعصية كان ضامناً للخمس ولو في أثناء السنة.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 323

الأمر الرابع: لو اتّجر به قبل إخراج الخمس (كما هو المشاهد في أموال الذين لا يؤدون الأخماس فهي باقية في أموالهم يتجرون بها دائماً إلى أن تشملهم العناية الإلهية بالتوبة وأداء ما عليهم من الأخماس) قال صاحب

العروة: المعاملة فضولية بالنسبة إلى مقدار الخمس، فإن أمضاه الحاكم الشرعي أخذ العوض، وإلّا رجع بالعين بمقدار الخمس إن كانت موجودة وبقيمته إن كانت تالفة ...، هذا إذا كانت المعاملة بعين الربح، وأمّا إذا كانت في الذمّة ودفعها عوضاً، فهي صحيحة ولكن لا يبرء ذمته بمقدار الخمس، ويرجع به إلى الحاكم إن كانت العين موجودة وبقيمته إن كانت تالفة ....

كلّ ذلك موافق للقواعد بناءً على القول بالإشاعة، أو الكلي في المعين، أو كونه حقّاً متعلقاً بالعين نفسها كالعين المرهونة.

فالمعاملة تارة تكون شخصيةً بأن يكون المثمن أو الثمن عين المال الذي تعلق به الخمس (والبيع الشخصي من ناحية المبيع والمثمن كثير ولكن في ناحية الثمن غالباً كلي) وحينئذٍ تكون المعاملة فضولية تجري فيها جميع أحكام الفضولي، وليعلم أن أمضاء الحاكم لها منوط بكونها مصلحة لأرباب الخمس، وإلّا وجب عليه ردّ المعاملة وأخذ المال بعينه.

وأمّا إذا كان المثمن كلياً كمن باع مائة مَنّ من الحنطة كلياً في الذمّة ثمّ أداه من عين تعلق بها الخمس، أو الثمن كذلك بأن اشترى داراً أو لباساً أو مركباً لثمن في ذمته ثمّ أداه من مال فيه الخمس، فمن الواضح أنّ المعاملة صحيحة ليست فضولية لكونه مالكاً لذمّته، ولكن أداءَه من مال تعلق به الخمس لا يكون مبرءاً لذمته في مقدار الخمس، إلّاأن يأذن الحاكم الشرعي وكان مصلحة وحينئذٍ يؤخذ مقداره من المالك المثل في المثلي والقيمة في القيمي، وإن لم يأذن به أخذ الخمس من عين الثمن من يد البائع، وأحكام تعاقب الأيدي والرجوع إلى كلّ منها هو ما ذكروه في محلّه ليس هنا موضع ذكرها.

هذا كلّه إذا لم نقل باستثناء المتاجر في أبواب الخمس، أمّا إذا قلنا بحلية المتاجر

مطلقاً أو في خصوص من لا يعتقد بالخمس، فالبيع مع هؤلاء حلال للمسلم المعتقد به فيملك العين التي فيها الخمس ويبقى الخمس في عوضها، وذلك بإذن من ولي الخمس وهو الإمام المعصوم عليه السلام.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 324

وأمّا المعاملات المتعددة الفضولية الواقعة على ما تعلق به الخمس على فرض إذن الحاكم الشرعي وحكم أرباحها، فسيأتي الكلام فيه إن شاء اللَّه في ذيل المسألة 77.

المسألة الخامسة عشرة (76 من العروة): كان الكلام في المسألة السابقة في التصرف في جميع المال الذي تعلق به الخمس بعد استقراره بالاتجار وغيره، أمّا لو تصرف في بعضه بحيث كان مقدار الخمس باقياً، سواء كان بنيّة أدائه عمّا بقي أو غافلًا من ذلك أو بانياً على العدم، فقد صرّح صاحب العروة بجواز ذلك إذا كان قصده إخراج الخمس من البقية، لأنّ شركة أرباب الخمس مع المالك إنّما هي على وجه الكلي في المعين على مختاره.

قلت: قد عرفت أنّ الكلي في المعين إنّما هو في مقابل الكلي في الذمّة، فمن باع صاعاً من صبرته أو مائة منّ من الحنطة من مخزنه، فإنّما يبيع شيئاً خارجياً لكن يوصف بالكليّة في دائرة معيّنة فهو كلي من جهة وجزئي إضافي من جهة أُخرى، وهذا البيع جائز إذا لم يكن فيه الغرر، كما يجوز تعلق الإرادة والحب وغير ذلك من أشباهها بمثل هذا فكذلك في المعاملات، ومثل هذا جائز في الأُمور الاعتبارية وشبهها وإن لم توجد الكلي بوصف الكلية في الخارج حقيقةً، والفرق بينه وبين الشركة في العين يظهر في مقام التلف، فالكلي في المعين موجود ما دام صاع من الصبرة موجوداً مثلًا، لأنّه يوجد ولو بوجود فرد منه، ولكن في الشركة يتلف من المالين بحسب

مقدار الشركة كلّما تلف منها شي ء وهذا واضح.

إنّما الكلام في دليله في المقام، وقد عرفت أنّه لا دليل إلّاعلى الشركة على نحو الإشاعة. نعم، التعبير بقوله «فيه الخمس» أو «عليه الخمس» قد يوهم بذلك، ولكن قد عرفت أنّها بضميمة غيرها من التعبيرات دليل على الشركة.

هذا، ولو قلنا بهذا القول جاز التصرف في المال ما دام مقدار الخمس باقياً، قصد أداءَه من الباقي أم لا، إنّما الحرام هو التصرف في خصوص مقدار الخمس الباقي بعد صرف مقدار الأربعة أخماس، كما هو كذلك فيما إذا باع صاعاً من صبرة، فيجوز له التصرف فيها ما دام مقدار الصاع باقياً، فتقييده بقوله: (مع قصد إخراجه من الباقي) ممّا لا وجه له.

وهنا طريق آخر لجواز التصرف في البعض ولو على المختار من الشركة، وهو أن يقال انوار الفقاهة، ج 2، ص: 325

إنّ المالك مخير في تعيين مقدار الخمس في أي جزء من أجزاء أمواله أمّا بالعزل أو بمجرّد النية، ولكن الكلام في إقامة الدليل على هذا الاختيار لأنا لم نجد له دليلًا في أبواب الخمس، نعم قد يستدلّ ببعض الأدلة في أبواب الزكاة من جواز العزل وغيره، ولكن عرفت أنّ قياس الخمس على الزكاة في جميع الأحكام قياس ظني لا نقول به.

المسألة السادسة عشرة (77 من العروة): إذا حصل الربح في ابتداء السنة أو في أثنائها فلا مانع من الصرف فيه بالاتجار، وإذا حصل من هذا الربح ربح آخر فهل يجب خمس ما يقابل هذا الربح لأرباب الخمس، بأن يكون لهم خمس الربح الأوّل وسهم من الربح الثاني بإزاء هذا الربح وخمس الباقي أم لا؟

وقد مثلنا له سابقاً بما إذا كان له رأس مال 1000 دينار فربح 1000 دينار، ثمّ اتجر

بمجموع الألفين فربح 2000 دينار أُخرى فجاء رأس السنة فهل يجب عليه خمس 3000 دينار، لأنّ المجموع 4000 دينار يخرج منه رأس ماله الأوّل فيبقى ثلاثة آلاف وخمسه 600 دينار؟ أم يجب إخراج الخمس الأوّل 200 دينار، ثمّ يخرج من التجارة الثانية 200 دينار ربح الخمس الأوّل، فيبقى له 1800 دينار ويخرج منه خمسه 360 ديناراً، فالحاصل لأرباب الخمس من التجارة الثانية 560 ديناراً، والحاصل من الاولي 200 فيبلغ 760 ديناراً يزيد على الحساب الأوّل 160 ديناراً.

ظاهر كلمات القوم هو الأوّل، أي ملاحظة خمس مجموع الربح رأس السنة لا جعل كلّ معاملة مستقله وأخذ الربح منها ثمّ أخذ الربح من الربح لأرباب الخمس وهكذا، نعم قد يظهر من بعض كلمات صاحب الجواهر الميل إلى الأخير حيث ذكر هذا القول واستدلّ له بتبعية النّماء لأصل المال ولم يستشكل عليه، بل ذكر في آخر كلامه قوله: «فتأمل جيداً» الذي يدلّ على ارتضائه ظاهراً بهذا القول «1».

والعجب أنّه قدس سره صرّح في نجاة العباد أيضاً بذلك فقال: «ولو تحقّق الربح في أثناء الحول ثمّ اتّجر به فربح أيضاً، فالأحوط إن لم يكن أقوى إخراج ما يختصّ به الخمس من الربح انوار الفقاهة، ج 2، ص: 326

الأوّل ... ويتبعها نماؤها من الربح الثاني (مضافاً إلى خمس الباقي)» «1».

لكن قد عرفت أنّ هذا القول ممّا استمرت السيرة القطعية على خلافه، فإنا لم نجد أحداً يحاسب أرباحه رأس السنة إلّابملاحظة المجموع وإخراج رأس المال والمؤونة ثمّ أداء الخمس منه، لا محاسبة الربح وربح الربح وهكذا.

بل لو كانت المعاملات كثيرة بحيث كان يتجر أو يكتسب ويربح كلّ يوم، كان حساب هذه الأرباح المتداخلة كلّ يوم صعباً جدّاً محتاجاً إلى وقت كثير أو

استخدام الكمبيوتر.

بل ظاهر صحيحة علي بن مهزيار من وجوب إخراج خمس الفوائد كلّ عام، والروايات الأُخرى الدالّة على إخراج المؤونة الظاهرة في مؤونة السنة ليس إلّاما ذكرنا.

أمّا إذا اتّجر به بعد مضي السنة واستقرار الخمس، فقد صرّح صاحب العروة بأنّه إن حصل منه ربح كان ما يقابل الخمس من الربح لأربابه مضافاً إلى أصل الخمس فيخرجهما (أي الخمس الأوّل وربح هذا الخمس) ثمّ يخرج خمس الباقي إن زاد عن مؤونة السنة، ووافقه كثير من المحشّين وخالف فيه بعضهم.

ولازم ذلك أنّ من ترك حساب خمس أمواله سنين متعددة أو لم يؤد شيئاً في عمره ثمّ شملته العنايات الإلهية فأراد تطهير أمواله وجب ملاحظة الأخماس المضاعفة في أمواله، ومحاسبة كلّ تجارة مستقلة وربحها ثمّ يشاركه أرباب الخمس في التجارة الثانية من حيث رأس المال، مضافاً إلى وجوب خمس ربحها لهم ثمّ في المعامله الثالثة كذلك، ففي كلّ معاملة تمر عليه يكثر سهم أرباب الخمس في أمواله ويغلب عليها شيئاً فشيئاً.

ولا شك أنّه مقتضى القول بالملك على نحو الإشاعة بل على نحو الكلي في المعين أو ملك المالية، لأنّ المفروض استقرار الخمس في الجميع.

نعم، على القول بكونه حقّاً متعلقاً بالمال من دون المشاركة في الملكية، لم يجب عليه غير الخمس الأوّل.

وعلى جميع الأقوال فإنّ كلّ هذه المعاملات فضولية بالنسبة إلى حقّ أرباب الخمس، ولكن الحاكم الشرعي إذا رأى مصلحتهم ينفذها.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 327

هذا مقتضى القاعدة ولكن السيرة هنا أيضاً على خلافه، فلم نر عند محاسبة أموال الذين لم يخمِّسوا أموالهم طول سنين إلّامحاسبة رأس مالهم الأوّل ثمّ محاسبة الأرباح الحاصلة وتخميسها.

مضافاً إلى ما عرفت من الصعوبة الكثيرة، بل العسر والحرج الشديد في محاسبة هذه الأرباح المتداخلة إذا

كانت كثيرة، اللّهم إلّاأن يقال إنّ طريق حلّه واضح وهو التوسل إلى الصلح بين المالك والحاكم الشرعي الذي يكون ولياً أو وكيلًا لأرباب الخمس، والعمدة ما عرفت من كونه أيضاً مخالفاً لما هو المعهود من سيرة المتشرعة، فلعلّ هذا أيضاً من رِفق الشارع في المتاجر، ولا أقل من عدم ترك الاحتياط بالمصالحة مع المالك في هذا الأمر.

المسألة السابعة عشرة (78 من العروة): قد عرفت أنّه ليس للمالك نقل الخمس إلى ذمّته لعدم ولايته على ذلك، ولو أراد المالك التصرف في جميع المال ونقل الخمس إلى ذمّته يجوز له ذلك بالتوسل بأحد أُمور:

أحدها: إخراجه واعطاؤه بيد الحاكم الشرعي ثمّ استقراضه منه وهو المسمّى عندنا ب «دستگردان كردن» وفي الحقيقة هذا مصداق لأداء الخمس، والاستقراض من الحاكم الشرعي يوجب اشتغال ذمّته بأموال بيت المال وأرباب الخمس، وهو أمر آخر، ولكن لا يجوز ذلك للحاكم إلّاإذا اقتضت المصالح، كما إذا كان المال المتعلق به الخمس من الاعراض وتبديلها إلى النقود يحتاج إلى زمان، أو كان المالك لا يستطيع أداء الخمس مرّة واحدة ويريد أداءَه نجوماً، أو كان يقدر على ذلك ولكن نفسه تأبى عنه بحسب المال، أو لغير ذلك من الأسباب ولا يمكن للحاكم استيفاء حقّ أرباب الخمس إلّامن هذا الطريق.

ثانيها: المصالحة مع الحاكم بمعنى مصالحة الخمس الموجود في المال مع مبلغ خاصّ في ذمّته، بأن يقول له: صالحتك على هذا المقدار من الخمس مثلًا مائة مَنٍّ من الحنطة بمائة دينار في ذمّتك ويقبله المالك، وهذا أيضاً منوط بالمصلحة، وهذا هو ما ذكره صاحب العروة، وفي هاتين الصورتين تكون منافع المال في المستقبل له.

ثالثها: اجازة الحاكم الشرعي له في التصرف فيه والاتجار به، لكن يكون سهم أرباب انوار

الفقاهة، ج 2، ص: 328

الخمس من المنافع لهم كما لا يخفى.

هذا، وقد ذكر صاحب العروة بعد الحكم بجواز تصرف المالك بعد المصالحة مع الحاكم الشرعي بأنّه: «لو فرض تجدد مؤن له في أثناء الحول على وجه لا يقوم بها الربح انكشف فساد الصلح».

ومفهوم هذا الكلام غير معلوم- كما أشار إليه كثير من المحشّين- فإنّه لو كان في أثناء الحول، فهو غيرمحتاج في تصرفاته إلى المصالحة مع الحاكم الشرعي لجواز تصرف المالك قبل انقضاء السنة في أمواله كيفما كان والمنافع الحاصلة له كما عرفت آنفاً، وإن كان بعد مضي الحول لم يكن معنى لقوله: «لو فرض تجدد المؤن له في أثناء الحول».

أمّا احتمال كشف وجود مؤن في الحول الماضي مثل بعض ديونه التي لم تظهر له من قبل ثمّ علم بها فهو أيضاً بعيد جدّاً عن سياق كلامه، والأولى أن يقال: إنّه سهو من قلمه الشريف قدس سره.

المسألة الثامنة عشرة (79 من العروة): قد عرفت أنّه يجوز له تعجيل إخراج خمس الربح إذا حصل له في أثناء السنة، ولا يجب التأخير إلى آخرها (لما عرفت من أنّه من قبيل الواجب الموسع ويتضيق بعد تمام السنة) فإنّ التأخير من باب الرفق كما مرّ.

وقد فرع على ذلك صاحب العروة بأنّه: «لو أخرجه بعد تقدير المؤونة بما يظنه فبان بعد ذلك عدم كفاية الربح لتجدد مؤن لم يكن يظنّها (كما إذا مرض مرضاً شديداً يحتاج إلى مصارف كثيرة أو خربت داره في زلزلة وشبهها) كشف ذلك عن عدم صحته خمساً».

ثمّ فصل في جواز رجوعه بين ما إذا كانت العين باقية فله الرجوع لأنّ ذلك كشف عن عدم صحته خمساً، وما إذا كانت تالفة فلا يجوز (لأنّ المستحق كان مغروراً من

هذه الجهة لا يجوز رجوع المالك إليه) إلّافي صورة واحدة وهو ما إذا كان المستحقّ عالماً بالحال (يعني كان عالماً بإمكان تجدد بعض المؤن للمالك بحيث يكشف عن عدم كون هذا المال خمساً) فإنّ الظاهر ضمانه في هذه الصورة (هذا تمام كلامه مع توضيح منّا).

لكن صرّح صاحب المسالك بأنّه: «لو عجل الإخراج فزيادة المؤونة لم يرجع على انوار الفقاهة، ج 2، ص: 329

المستحق مع عدم علمه بالحال وتلف العين، وفي جواز رجوعه عليه مع بقاء العين أو علمه بالحال نظر، وقد تقدّم مثله في الزكاة إلّاأنّ عدم الرجوع هنا مطلقاً متوجه» «1».

اختاره صاحب الجواهر حيث قال: بل (لا يجوز الرجوع) مع العلم وبقاء العين في وجه قوي «2».

وعن شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله أيضاً أنّه حكم بعدم جواز الرجوع مطلقاً، فلا تسوغ له المطالبة مع بقاء العين فضلًا عن التلف (على ما حكاه عنه صاحب مستند العروة) «3».

أقول: أمّا وجه جواز الرجوع في صورة بقاء العين وفي صورة تلفه إذا لم يكن المستحق مغروراً لكونه عالماً بالحال، فهو أنّ وجوب الخمس عليه كان مشروطاً بشرط متأخر وهو عدم تجدد مؤن له والمفروض أنّ هذا الشرط لم يحصل فلا يصحّ خمساً، وبعبارة أُخرى كان وجوب الخمس عليه مراعى بعدم ذلك.

وأمّا وجه عدم جواز الرجوع فهو أنّ الخمس واجب عليه مطلقاً وجوباً موسعاً وليس مشروطاً بشرط متأخر ولا مراعى بشي ء لعدم الدليل عليه، غاية الأمر أنّه لو لم يخرجه وبقي في ماله ثمّ تجددت له مؤن جاز له صرفه فيها، وهذا هو مقتضى الوجوب الموسع، فما أخرجه قبل تجددها فهو مصداق للواجب، وبعد التجدد لم يكن الموضوع باقياً، وفي الواقع جواز تأخير الخمس رِفقاً لا أنّه مشروط بشي ء.

ولكن

يرد عليه: أنّ ظاهر الأدلة أنّ المؤونة المستثناة هي مؤونة مجموع السنة بقرينة ما مرّ في مبحث اعتبار السنة، فالواجب من أوّل الأمر مشروط ومقيد به، فانظر إلى قوله عليه السلام:

«إذا أمكنهم بعد مؤونتهم» فإنّ ظاهره اشتراط الوجوب من أوّل الأمر بما زاد على المؤونة، وكذا قوله عليه السلام: «الخمس بعدالمؤونة»، وأمّا الِرفق والوجوب الموسع فإنّما هو بالنسبة إلى ما يزيد ربحه على مؤونة مجموع سنته، فإنّه لا يجب عليه إخراج الخمس فوراً وله ابقاؤه احتياطاً لبعض ما لا يعلم به من المؤن المتجددة، فمن لم تقم أرباحه بمؤونة سنته لم يكن الخمس واجباً عليه موسعاً ولا مضيقاً، فالحكم من هذه الناحية مشروط بحسب ظاهر الأدلة.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 330

المسألة التاسعة عشرة (80 من العروة): إذا اشترى شيئاً بالربح قبل إخراج الخمس لايجوز له التصرف فيه، لما عرفت من عدم صحّة البيع بالنسبة إلى سهم أرباب الخمس، فلو كان جارية لم يجز وطؤها وإن كان لباساً لم تصحّ الصلاة فيه بناءً على بطلان الصلاة في المغصوب، وكذا إذا كان داراً أو أرضاً، وحرّم أكله لو كان مأكولًا والحرمة هنا وضعية وتكليفية كما هو ظاهر، ولذا توصلنا في المسألة 78 بطرق التخلص للمالك من هذا الأمر إذا لم تسمح له الظروف بأداء الخمس فوراً.

نعم، على القول بكون الخمس في المال من قبيل الكلي في المعين جاز له التصرفات والبيوع ما دام مقداره موجوداً- سواء قصد أداءَه منه أم لم يقصد- فما ذكره صاحب العروة من اشتراط القصد على مبناه فهو ممّا لا وجه له، وأمّا على المختار فلا يجوز مطلقاً.

بل لازم القول بتعلق الخمس بمالية المال أيضاً جوازه، لأنّ المالية محفوظة في الجنس المشترى بعد مساواتهما من

هذه الناحية والمفروض عدم تعلق الخمس بالخصوصيات.

إن قلت: إنّ الميزان في المالية هو النقود فلا يجوز تبديله إلّابها.

قلنا: هذا ممنوع لأنّ النقود إنّما هي المقياس للمالية لا الملاك لها وفرق بين المقياس والملاك، فالطول مثلًا في جميع الأشياء موجود وإن كان مقياسه الأمتار وكذا الوزن، وإن كان مقياسه خصوص الوزنة الخاصة وهو ظاهر.

هذا، وقد ذكر صاحب العروة أنّه: لو بقي منه بمقدار الخمس في يده وكان قاصداً لإخراجه منه جاز وصحّ، (انتهى) وهذا الكلام مضافاً إلى ما أوردنا عليه سابقاً من الإشكالات ممنوع بأنّ الجواز إن كان بمعنى الحكم التكليفي هنا كان مقيداً بعدم منافاته لفورية وجوب أداء الخمس بعد مضي السنة وإلّا فلا يجوز- كما لا يخفى- اللّهمّ إلّاأن يقال إنّ الحكم هنا حيثي، أي جاز من حيث التصرف في البعض.

المسألة العشرون (81 من العروة): قد مرّ أنّ مصارف الحجّ الواجب والمستحبّ وسائر الزيارات تعدّ من مؤونة السنة، إنّما الكلام في أنّ المدار على وقت إنشاء السفر فإن كان إنشاؤه في عام الربح فمصارفه من مؤونته- ذهاباً وإياباً- وإن تمّ الحول في أثناء السفر فلا

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 331

يجب إخراج خمس ما يصرفه في العام الآتي في الإياب وغيره، أو المقدار على زمان المصرف فما صرفه في عام الربح يكون من مؤونته وما صرفه بعد العام فلا، بل يجب فيه الخمس؟

ويجري مثل هذا في غير الأسفار أيضاً أحياناً ممّا يطلب مصارف تدريجية.

والظاهر أنّ دليله على ما ذكره هو عدّ الجميع عرفاً من مؤونة هذه السنة، ولكن الإنصاف أنّه ليس كذلك كما ذكره أعلام المحشّين من المعاصرين ومن قارب عصرنا.

والحق في المسألة التفصيل فإنّ هذه المصارف على أقسام:

1- ما يعطيه للحكومة أو مدير القافلة من

النقود لجميع مصارف الحجّ بحيث لا يمكنه الحجّ بدون إعطاء هذه النقود من قبل، أو يمكنه ذلك ولكن الأرفق بحاله أن لا يتصدى بنفسه لأمر المصرف بل يكون داخلًا في بعض القوافل التي تأخذ جميع الاجرة من قبل.

فهذا ممّا لا ينبغي عدّه عرفاً من مصارف العام الذي فيه إنشاء السفر، بل قد عرفت سابقاً أنّه لو احتاج للحجّ أو بعض الزيارات أن يؤدي مصارفه من قبل بسنة أو سنتين أيضاً يعدّ من مصارف سنة الأداء.

فهنا لا إشكال في عدم تعلق الخمس بالنسبة إلى ما يحاذي المصارف بعد مضي السنة.

2- ما يشتريه من المراكب أو الملابس بل وثوبي الإحرام والخيام مثلًا التي يحتاج إليها في عرفات ومنى وإن وقع حجّه بعد مضي السنة، بأن كان رأس سنة خمسه أوّل ذي الحجّة وكان إنشاء السفر مع إعداد هذه الأُمور من ذي القعدة، هذا أيضاً لا يتعلق به الخمس لصدق المؤونة عليه عرفاً، اللّهم إلّاإذا أمكنه تحصيل هذه الأُمور فيما بعد بسهولة.

3- ما يصرف تدريجاً كالطعام والكراء للسيارات والمساكن ذهاباً وإياباً وكان صرف هذه الأُمور بيده لا بيد مدير القافلة وشبهه، والحقّ أنّ المؤونة هي خصوص ما صرف في عام الربح، أمّا الزائد والباقي فيعدّ من مؤونة العام المقبل ولا وجه لعدّ الجميع من مؤونة عام الربح وإن كان هذا ممّا لابدّ منه.

وهكذا الأمر إذا سافر لبعض حوائجه فكان ذهابه في عام الربح وعوده في العام الثاني، فما صرفه في الذهاب يعدّ من مؤونة هذا العام وما يصرف في العود من مصارف العام انوار الفقاهة، ج 2، ص: 332

المقبل، وإن أخذ بطاقة الذهاب والإياب في عام الربح إلّاإذا لا يبيعونها إلّامرجّعاً.

وقد يكون الأمر في سائر الأُمور التدريجية مثل بناء الدار

كذلك، فإن كان لابدّ له من إعطاء كلّ نقوده من قبل بما يسمّى الكنترات لم يجب عليه الخمس وإن وقع بعض البناء أو الإصلاح بعد ذلك بل وإن وقع جميعه بأن أخذ منه النقود وجعله في النوبة.

أمّا إن أمكنه إعطاء النقود تدريجاً ولكن أعطاه دفعة للفرار عن الخمس أو بغير هذا القصد لم يجز له، بل وجب عليه خمس المصارف التي تكون بعد مضي السنة إلى غير ذلك من الأمثلة.

المسألة الحادية والعشرون (82 من العروة): لو جعل الغوص أو المعدن مكسباً له فهل يجب عليه خمس واحد بعنوان الفائدة، أم يجب عليه خمسان، خمس من حيث المعدن أو الغوص ولا يعتبر فيه استثناء المؤونة، وخمس آخر من حيث الكسب وتستثنى منه المؤونة.

صرّح صاحب العروة بوجوب خمس واحد ووافقه المحشّون فيما رأينا، وكان تصريح صاحب مستند العروة «خلافاً لجماعة حيث ذهبوا إلى تعدد الخمس نظراً إلى تعدد العنوان.» انتهى «1».

هذا، ولكن لم نعثر على هذه الجماعة بأعيانهم، وكيف كان فاللازم أوّلًا الرجوع إلى القواعد والعمومات الأولية وملاحظة مقتضاها، ثمّ ملاحظة ما ورد في بعض الروايات الخاصة وأدلة أُخرى.

أمّا الأوّل فإنّه وإن كان قد يدعى أنّ لازم تعدد العنوان تعدد المعنون وتعدد الأسباب يوجب تعدد المسبب على القاعدة لاستدعاء كلّ سبب مسبباً خاصاً به، ولكن الظاهر أنّ جميع عناوين الخمس تندرج في عنوان الغنيمة والفائدة، كما يدلّ او يشعر به قوله عليه السلام:

«ليس الخمس إلّافي الغنائم خاصة» «2»

وتدلّ عليه الرواية المفسرة للغنيمة بأنّها «الافادة يوماً بيوم» «3»

وكذا عطف الفوائد على الغنائم في صحيحة علي بن مهزيار «4».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 333

الظاهر في عطف التفسير، فكلّ واحدمن العناوين الخمسة للخمس، أو أكثرها أحد مصاديق هذا العنوان الجامع.

ولا ينافي

ذلك اختلاف مصاديقها في بعض الأحكام الخاصة- كالفورية- في غير أرباح المكاسب والوجوب الموسع فيها، وكذا استثناء مؤونة الشخص من الأخير دون غيره.

هذا مضافاً إلى أنّه لو كان الواجب خمسين في المعدن والغوص وغنائم الحرب لبان في أخبارهم عليهم السلام وفي سيرة أصحابهم مع أنا لم نسمع أخذ الخمسين من أحد، نعم صرّحوا بوجوب الخمسين في مسألة المال المختلط بالحرام (ذكره المصنّف في المسألة 36 وتعرضنا له هنا) ولكن قد عرفت هناك أنّ وجوب الخمس في المال المختلط ليس من جهة دخوله في المنافع والفوائد، لعدم وجود منفعة هناك، بل إنّما هو من باب المصالحة والتخليص في الأموال المشتركة كما لا يخفى، فراجع.

أضف إليه ما ورد في رواية تحف العقول عن الرضا عليه السلام في كتابه إلى المأمون، قال: «والخمس من جميع المال مرّة واحدة» «1».

وأضف إلى ذلك ما ورد في رواية أبي سيّار حيث استفاد 400 ألف درهم من الغوص، فأخذ خمسه ثمانين ألف درهم وأهداه إلى أبي عبداللَّه عليه السلام مع أنّ الغوص كان كسباً له ظاهراً فلم ينكر عليه الإمام عليه السلام بأنّ الواجب عليك إنّما هو خمسان «2».

بل الظاهر أنّ قول المحقّق اليزدي رحمه الله في العروة من فرض المسألة فيما إذا جعل الغوص أو المعدن مكسباً، له لا وجه له، فإنّ خمس أرباح المكاسب إنّما يترتب على مطلق الفائدة- سواء جعله كسباً له أو لم يجعله كسباً له- ومن هنا يمكن التمسك- لتأكيد هذه المسألة- بكثير من الروايات الواردة في باب خمس المعدن والغوص، فإنّ الراوي إذا سأل عنه وقال عليه السلام فيه خمس، فالظاهر في الخمس الواحد علم منه عدم وجوب غير هذا الخمس (لا سيّما في مثل ما

روى من وجدان رجل ركازاً- أي معدناً- على عهد أميرالمؤمنين عليه السلام وأنّه عليه السلام لم يأخذ منه إلّاالخمس).

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 334

إن قلت: هذا كلّه ليس في مقام البيان إلّامن حيث المعدن والغوص.

قلنا: لكن لو كان هناك خمسان بعنوانين، وجبت الإشارة إليه بعد عدم انفكاكهما وغفلة العامة عن مثله والمسألة بحمد اللَّه من الواضحات.

ولو شك في ذلك، فمقتضى أصالة البراءة أيضاً عدم وجوب الأزيد من الخمس لأنّه من قبيل الأقل والأكثر الاستقلاليين.

المسألة الثانية والعشرون (83 من العروة): المرأة التي تكتسب في بيت زوجها (أو في غير بيتها كما هو المتداول اليوم بالنسبة إلى كثير من النساء الموظفات في قسم التعليم أو الإدارات أو غيرها) ويتحمل زوجها مؤونتها، يجب عليها خمس ما حصلت عليه من غير اعتبار إخراج المؤونة ... إلّاأن لا يتحمل، هكذا ذكره صاحب العروة.

والوجه فيه ظاهر بعد ما عرفت من أنّ المؤونة المستثناة من الربح إنّما هي المؤونة الفعلية لا ما هي بالقوّة، ومنه يظهر الحال في الأبناء المجرّدين الذين يعيشون عند آبائهم، وكذا كلّ من كان له أرباح وكانت نفقته على غيره بالفعل وإن لم يكن واجباً عليه.

نعم، إذا لم يتحمل الزوج النفقة، أو تحمل ولكن أرادت الزوجة طعاماً أو ثياباً أو زينة بحسب شأنها فوق القدر الواجب على الزوج ممّا لا يعدّ إسرافاً في حقّها فصرفت فوائدها فيها، لم يكن عليها خمس، وكذا إذا أرادت إعانة زوجها- وإن لم يكن محتاجاً- فصرفت أرباحها في هذا الطريق، لم يكن عليها شي ء.

هذا، ولو لم يتحمل الزوج نفقتها كان في ذمّته، فإن صرفت المرأة أرباحها في النفقة فهل يجب عليها الخمس فيما تأخذه من الزوج من باب ديونه في هذا السبيل أم لا؟

لا يبعد ذلك لأنّها في الواقع بدل الأرباح التي صرفتها في نفقتها فيجب فيها الخمس، بل النفقة أيضاً فيها الخمس بذاتها إذا لم تصرفها تقتيراً على نفسها، أو لاستغنائها عن صرفها بأن تعيش مدّة في بيت أبيها مثلًا، بناءً على وجوب الخمس في مطلق المنافع لا في خصوص أرباح المكاسب.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 335

المسألة الثالثة والعشرون (84 من العروة): هل يشترط البلوغ والتكليف في الخمس أم لا يشترط، أم فيه تفصيل بين موارده؟ هنا وجوه أو أقوال:

قال صاحب الشرائع: «الخمس يجب في الكنز سواء كان الواجد له حرّاً أو عبداً، صغيراً أو كبيراً، وكذا المعادن والغوص» «1».

ويظهر منه التفصيل (لا أنّه مشعربه كما ذكره صاحب الجواهر).

وقد أشكل على ذلك صاحب الجواهر قدس سره في غير الغنيمة إن لم ينعقد الإجماع عليه نظراً إلى اشتراك الأدلة وشمولها للمكلّف وغيره، وظاهر كلامه الميل إلى وجوب الخمس في الجميع غير الغنيمة «2» مع أنّ الآية عامة، ولعلّه لعدم شركة غير المكلف بالجهاد.

وقال النراقي رحمه الله في المستند: «هل يشترط في وجوب الخمس في الأموال، البلوغ والعقل والحرية أم لا؟». «3»

صرّح أصحاب الشرائع والإرشاد والقواعد بعدم اشتراطها في خمس المعادن والكنز والغوص، وصاحب التحرير بعدمه في الأوّل (أي المعادن) وصاحب الدروس بعدمه في الأولين (أي المعادن والكنز) وفي المنتهى والتذكرة بعدمه في الثاني (أي الكنز) مدعياً في المنتهى أنّه قول أهل العلم كافة.

ثمّ ذكر في آخر كلامه أنّ الظاهر عدم ثبوت الخمس في مال اليتيم والعبد مطلقاً إلّاأن يثبت الإجماع كلياً أو في بعض الأنواع «4».

وقال صاحب مصباح الفقيه بعد ذكر بعض الأقوال والاستدلالات:

«الأظهر عدم الفرق في شي ء من هذه الأنواع بين أصناف الناس، نعم، ثبوته في الأرض المشتراة

لطفل الذمي لا يخلو عن تردّد لإنحصار مستنده في الرواية المشتملة على لفظة «على» الظاهرة في التكليف مع أنّ إطلاق الذمّي عليه مبنّي على التّوسّع، ولكنه مع ذلك لعلّه الأظهر إذ الغالب في مثل هذه الموارد استعمال لفظة «على» في مجرّد الثبوت والاستقرار

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 336

كما في قوله: عليه دين وعلى اليد ما أخذت» «1».

أقول: يظهر ممّا ذكرنا أنّ المسألة ذات أقوال كثيرة:

1- ظاهر كلام بعضهم عدم اعتبار البلوغ والتكليف في شي ء منها (كما في مصباح الفقيه) وذكر صاحب مستند العروة: «الظاهر أنّ المشهور هو ثبوت الخمس مطلقاً إمّا في هذه الثلاثة (الكنز والمعدن والغوص) أو في الجميع».

2- اشتراط التكليف مطلقاً فلا يجب في مال الصبي والمجنون خمس كما لا تجب الزكاة فيه، ذكره صاحب مستند العروة ونسبه إلى المدارك أيضاً ثمّ قال: «نعم يجب الخمس بالنسبة إلى المال المختلط بالحرام لأنّ مقداراً من المال حينئذٍ لم يكن للصبي والتخميس طريق للتطهير» «2».

3- ظاهر كلام بعض آخر عدم اعتباره فيما عدا الغنيمة (كصاحب الجواهر حيث يظهر ميله إليه).

4- ظاهر كلام آخر عدم اعتباره في خصوص الثلاثة، الكنز والغوص والمعدن كصاحب الشرائع وغيره.

5- ظاهر كلام بعض آخر استثناء خصوص الكنز.

6- ظاهر كلام بعض آخر استثناء اثنين منها- أي الكنز والمعدن- كما مرّت عليك كلماتهم والعمدة في المقام هو الاستظهار عن العمومات والإطلاقات الواردة في العناوين المختلفة ممّا يجب فيه الخمس، وإلّا لم يرد في المسألة نصّ خاصّ حتّى يتمسك به.

دليل القائلين بوجوبه في مال الصغير والمجنون مطلقاً، إطلاقات الأدلة مثل قوله: «كلّ شي ء قوتل عليه على شهادة أن لا إله إلّااللَّه وأنّ محمّداً صلى الله عليه و آله رسول اللَّه فإن لنا خمسه» «3».

وقوله عليه

السلام: «فيما يخرج من المعادن والبحر والغنيمة والحلال المختلط بالحرام إذا لم يعرف صاحبه والكنوز، الخمس» «4».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 337

وقوله عليه السلام: «الخمس على خمسة أشياء: على الكنوز والمعادن والغوص والغنيمة، ونسي ابن أبي عمير الخامس» «1».

وما عن أبي جعفرالثاني عليه السلام في جوابه عن سؤال بعض الأصحاب يسأله عن الخمس وأنّه على جميع ما يستفيده الرجل من قليل وكثير من جميع الضروب وعلى الصناع وكيف ذلك؟

فكتب: «الخمس بعد المؤونة» «2».

وغير ذلك ممّا هو كثير جدّاً تغنى كثرة الروايات فيه عن ملاحظة إسنادها، وظاهر كلام الجميع أنّ الخمس من الأحكام الوضعية التي هي متعلّقة بنفس المال، فلا فرق فيها بين المكلف وغير المكلف، كالضمانات وشبهها- بل الخمس مستقر في نفس المال، أمّا بعنوان الشركة كما هو المختار أو بعنوان الحقّ.

نعم، يشكل ذلك بالنسبة إلى الأرض التي اشتراها الذمّي، فإنّ التعبير الوارد فيها هو هذا:

«أيّما ذمّي اشترى من مسلم أرضاً فإنّ عليه الخمس» هذا ما ورد في رواية أبي عبيدة الحذّاء «3» ومثله ما ورد في مرسلة المفيد في المقنعة «4» وظاهره الوجوب التكليفي وإن كان إطلاق هذه العبارة في موارد الضمانات أيضاً غير عزيز ولكن ظهوره البدوي هو الوجوب التكليفي.

اللّهمّ إلّاأن يقال إنّ هذا الظهور إنّما هو في غير أبواب الأموال، وأمّا فيها فالتعبير ب «عليه» كالتعبير ب «له» لا يدلّ على التكليف بل على الوضع وهو غير بعيد.

وأمّا الغنيمة فإن قلنا إنّها تقسم على الأطفال كما تقسم على غيرهم كما هو ظاهر المشهور بل ادّعى صاحب الجواهر عدم الخلاف فيه فلا وجه لاستثنائها من هذا الحكم، وإن قلنا بعدم سهم للأطفال بل ينفل لهم بعنوان الرضائخ (الرضخ في الأصل بمعنى الكسر

انوار الفقاهة، ج 2،

ص: 338

ثمّ استعمل في القليل من العطايا) وإن لم أجد من أفتى بذلك فلو قلنا بخروجه عن عنوان الغنيمة بالمعنى العام فلا أقل من أنّه داخل فيها بمعناها العام.

فلا أجد وجهاً لاستثناء الغنيمة من هذا الحكم كما فعله صاحب الجواهر.

هذا، واستدلّ على عدم الوجوب مطلقاً على غير البالغ (كما في مستند العروة) بعد إسناد ثبوت الخمس إلى المشهور مطلقاً أو في خصوص الثلاثة، بأنّ المستفاد ممّا دلّ على رفع القلم عن الصبي والمجنون استثنائهما عن دفتر التشريع وعدم وضع القلم عليهما بتاتاً- كالبهائم- فلا ذكر لهما في القانون ولم يجر عليهما شي ء، ومقتضى ذلك عدم الفرق بين قلم الوضع والتكليف فترتفع عنهما الأحكام جميعاً بملاك واحد وهو الحكومة على الأدلة الأولية.

نعم، لو كان هذا منافياً للامتنان- كما في موارد الضمانات- أو ورد فيه نصّ خاصّ- كالتعزيرات الواردة في الصبي- يستثنى من ذلك، أمّا فيما عدا ذلك فلا وجه لاختصاص رفع القلم بالتكليف بعد إطلاق الدليل بل يعم الوضع أيضاً (انتهى كلامه ملخصاً).

نعم، استثنى مورداً واحداً في ذيل كلامه وهو المال المختلط بالحرام نظراً إلى أنّ المفروض عدم كون الصبي مالكاً للحرام وأنّه مال الغير، وأنّ طريق تطهير المال هو التخميس.

أقول: شمول حديث الرفع لغير التكليف من الأحكام الوضعية مشكل جدّاً، فإنّ كثيراً من الأحكام الوضعية ثابتة في حقّ الصغير كالزوجية والملكية والحرية والعبودية وأحكام المحارم النسبية والسببية والرضاع بل وحكم مس الميّت والجنابة عند الدخول وغير ذلك، فكيف يمكن استثناء جميع ذلك من هذا العموم، وكيف يناسب ذلك مع عدّهما كالبهائم فإنّ البهائم لا تجري في حقّها هذه الأحكام.

إن قلت: إنّما لا يجري في حقّهم ما ينافي الامتنان، وما ذكرته لا ينافي الامتنان كمسألة الزوجية

والملكية وشبههما إذا كان مصلحتهم ذلك.

قلنا: كلا، بل يجري في حقّه مثل حكم الجنابة ومسّ الميت والحدث الأصغر وشبه ذلك، من حرمة نساء عليه بتمام الرضاع أو بأسباب المصاهرة كحرمة زوجة أبيه عليه واخته من الرضاعة وإن كان هو صغيراً، هذا أوّلًا.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 339

وثانياً: أنّ عطف النائم عليهما دليل على أنّ المراد منه خصوص قلم التكليف فإنّ النائم لا يجري عليه قلم التكليف فقط، مثلًا إذا حصل له في حال النوم ربح أو اخرج له عماله معدناً أو غوصاً أو غير ذلك أو أسهم له سهم الغنيمة وهو في حال النوم، وكذا إذا حال حول الزكاة عليه وهو نائم أو شبه ذلك، فإنّه لا يشك أحد في جريان أحكام الوضع عليه من وجوب الخمس أو الزكاة بعنوان دين شرعي، فإذا كان حال النائم هذه، كان الأمر في الصبي والمجنون كذلك لاتحاد السياق في الجميع.

ثالثاً: لا شك أن أخذ العشور والماليات والضرائب كان مقرراً بين العقلاء من أهل العرف قبل الإسلام بين جميع الحكومات، فليس من الأحكام التأسيسية.

نعم، أمضاها الشارع المقدّس مع شرائط عادلة وفي ظروف خاصة صالحة وألغى القوانين الظالمة بينهم.

ومن المعلوم أنّهم يأخذون هذه الضرائب والماليات من الأموال من دون ملاحظة أنّ صاحبها هو الصغير أو الكبير، فيأخذون الخراج من الأراضي سواء كان ملكاً للصغير أم الكبير، وكذلك الماليات المقررة لنقل ملك الدار إلى الغير وضرائب الطرق والبلاد وغير ذلك.

نعم، الوليّ مكلّف بأدائها من مال الطفل.

وإن شئت قلت: كلّ من الأمرين (قانون الماليات والضرائب وقانون رفع القلم عن الطوائف الثلاثة) من القوانين الامضائية وإن كان سن البلوغ عندهم مغايرة لما ورد في الشريعة المقدّسة وهم غير قائلين برفع قلم الوضع عنهم كما

لا يخفى.

ويؤيد ذلك كلّه أنّ ماورد من حكمة الأخماس والزكوات وما نعلم من الخارج من فلسفة وضع هذه القوانين بين العقلاء من أهل العرف جارية في أموال غير المكلّفين، مثلًا من حكمة وضعها أن كلّ مالك يستفيد ربحاً فإنّما هو يستفيده من الضرب في الأرض مثلًا والانتفاع بالشوارع والطرق وفي ظلّ أمن البلد وبقاء نظامه، ومن الواضح أن حفظ هذه الأُمور أعني الأمن والنظم والشوارع والطرق، يحتاج إلى مصارف كثيرة من تجنيد الجنود وحفظ الثغور وإصلاح الطرق والشوارع، فالواجب على كلّ من انتفع بها أداء بعض هذه المصارف.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 340

وإن شئت قلت: هناك مصارف شخصية في المجتمع الإنساني ومصارف نوعية، والأوّل يرتبط بالأشخاص، والثاني بعموم الناس، فمن انتفع من المجتمع انتفاعاً أكثر، فعليه أداء مال أكثر.

ومن الواضح أن هذه الأموال مصارف للحكومة، ولولا الحكومة لم يمكن للتاجر التجارة وللزارع الزراعة ولغيرهما غير هذه المنافع، فعليهم أداء ما تبقى به الحكومة بنسبه انتفاعهم من وجودها، ومن المعلوم أنّه لا تفاوت بين الصغير والكبير في ذلك.

وهذا، وإن لم يمكن عدّه دليلًا ولكن يمكن جعله مؤيداً للمقصود.

ومن هنا يظهر أن أخذ هذه الأموال أيضاً منّة عليهم وأنّها لا تنافي الأحكام الامتنانية.

وأي منه أحسن من نظم البلاد وأمنها وحفظ الثغور وإصلاح الطرق وشبهها.

إن قلت: فمن يقوم بهذا الأمر مع عدم تكليف الصغير والمجنون؟

قلت: الذي يقوم بسائر مصالحهم، فعلى الولي القيام بجميع هذه الأُمور.

هذا، والذي قد يوجب التردد في مسألة وجوب الخمس هنا مطلقاً، أنّ قدماء الأصحاب- رضوان اللَّه عليهم- لم يتعرضوا للمسألة في كتبهم المعدّة لنقل فتاوى الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام تبعاً لروايات هذا الباب، فهل كان هذا عندهم بمعنى إطلاق الحكم في هذه المسألة

وعدم اشتراط الخمس بشرط من هذه الجهة فيشمل الصغير والكبير والعاقل والمجنون، أو أنّهم عطفوا المسألة على باب الزكاة فإنّ الخمس يقوم مقامها من بعض الجهات فكما أن العقل والبلوغ هناك من الشرائط فكذا في المقام، ولعلّه من هذه الجهة تشتتت الفتاوى في المقام.

ولكن اعتبارهما هناك أيضاً على إطلاقهما محل تأمل، فإنّ المشهور، بل المجمع عليه اعتبار البلوغ في الذهب والفضة.

نعم، إذا اتّجر له الولي استحبّ له إخراج الزكاة من ماله ولا يجب بلا خلاف (كما حكاه صاحب الجواهر) وأمّا في غلاته ومواشيه فقد اختلفوا فيه، فحكم بعضهم بوجوب الزكاة فيها وعدم الفرق بين الصغير والكبير، وأفتى البعض الآخر بعدم الوجوب، بل قد يقال إنّه المشهور بين الأصحاب ولعلّ المراد الشهرة بين من تأخر، ودليلهم في ذلك إطلاق الروايات انوار الفقاهة، ج 2، ص: 341

الكثيرة الدالّة على أنّه لا زكاة في مال اليتيم «1» وخصوص بعض الروايات الواردة في أبواب الغلات «2».

نعم، هناك بعض الروايات الدالّة بظاهرها على عدم وجوب الزكاة في المال الصامت، وأمّا الغلات فعليها الصدقة واجبة «3».

فلو قلنا بالأوّل أي عدم الوجوب في الغلات والمواشي كان حكم الخمس شبيهاً له من بعض الجهات، وإن قلنا بالوجوب كان أيضاً كذلك، فكأنّ الشارع المقدّس قدنفى طريقة عقلاء العرف من عدم الفرق بين الصغير والكبير، وأرفق في حقّ الصغار والمجانين.

إن قلت: ألست تقول: إنّه لا يجوز قياس أحكام الخمس على الزكاة مع الفرق بينهما من جهات شتى

قلت: نعم هو كذلك، إنّما الكلام في أنّه هل يمكن الأخذ بإطلاقات أدلة الخمس هنا والحال هذه، أم يوجب هذا تزلزلًا في الأخذ بالإطلاقات هنا؟ والمسألة لا تخلو من إشكال والأولى الأخذ بالاحتياط بأن يقال الأحوط أداؤه الخمس بعد

البلوغ، وأمّا قبله من ناحية الولي، فلا.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ جميع ذلك إنّما هو في غير المال المختلط بالحرام، وأمّا فيه فلا ينبغي الشك في وجوب الخمس نظراً إلى ما عرفت من أنّ الحرام ليس من مال اليتيم والخمس في الواقع من قبيل المصالحة عند اشتباه الحال، أمّا الأقوال المفصلة الأُخرى فهي ممّا لا وجه له معتد به لما عرفت من وجود الإطلاق في جميع موارد الخمس بلا تفاوت، والدليل الخاصّ غير موجود هنا.

الفصل الثاني: في قسمة الخمس و مستحقيه

مستحقو الخمس

اشارة

لا إشكال ولا كلام في أنّ الخمس يقسم ستة أسهم، وتعبير صاحب العروة الوثقى «بالأصح» مشعر بوجود الخلاف في المسألة مع أنّه ممّا لا خلاف فيه.

قال شيخ الطائفة رحمه الله في الخلاف: «عندنا أنّ الخمس يقسم ستة أقسام، سهم للَّه وسهم لرسوله وسهم لذي القربى، فهذه الثلاثة أسهم كانت للنبي صلى الله عليه و آله وبعده لمن يقوم مقامه من الأئمّة، وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لأبناء السبيل من آل محمّد صلى الله عليه و آله لا يشركهم فيه غيرهم، واختلف الفقهاء في ذلك؛ فذهب الشافعي إلى أنّ خمس الغنيمة يقسم على خمسة أسهم (بإسقاط سهم اللَّه كأنّه عندهم أمر تشريفي) ...» ثمّ نقل عن مالك أنّه قال: إنّ خمس الغنيمة مفوض إلى اجتهاد الإمام ليصرفه إلى من رآى أن يصرفه إليه، وحكى عن أبي العالية من فقهاء التابعين موافقته في ستة أسهم، ثمّ حكى عن أبي حنيفة إسقاط السهام الثلاثة:

سهم اللَّه وسهم رسول اللَّه وسهم ذوي القربى الذين كانوا على عهده صلى الله عليه و آله فيصرف في ثلاثة أسهم سهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لأبناء السبيل (انتهى ملخص كلامه) «1».

ففي الواقع هم مختلفون بين أربعة أقوال: من قائل بستة أسهم،

وقائل بخمسة، وقائل بثلاثة، وقائل بأنّ أمره مفوض إلى الإمام.

ويظهر من ابن قدامة في المغنى أكثر من هذه الأقوال فراجع «2».

وقال المحقّق النراقي رحمه الله في المستند: «الخمس يقسم أسداساً: للَّه ولرسوله ولذي انوار الفقاهة، ج 2، ص: 346

القربى واليتامى والمساكين وأبناء السبيل على الحقّ المعروف بين أصحابنا، بل عليه الإجماع عن صريح السيّدين والخلاف وظاهر التبيان ومجمع البيان وفقه القرآن للراوندي بل هو إجماع حقيقة لعدم ظهور قائل منّا بخلافه سوى شاذ غير معروف لا تقدح مخالفته في الإجماع» «1».

وفي بعض كلمات المحقّق الهمداني رحمه الله في مصباح الفقيه بعد نقل الإجماع عن جماعة أنّ: «ما حكى عن شاذ من أصحابنا من أنّه أسقط سهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ضعيف بل لم يعرف قائله وقد حكى عن بعض استظهار كونه ابن الجنيد واعترضه شيخنا المرتضى قدس سره بأنّ المحكى عن ابن الجنيد في المختلف موافقة المشايخ الثلثة و باقي علمائنا وربّما يظهر من عبارة المدارك أنّ هذا القائل أسقط سهم اللَّه تعالى» «2».

ومن أحسن ما قيل في المقام ما عن المحقّق الفقيه البروجردي قدس سره على ما في زبدة المقال حيث قال: «اتفقت كلمة أصحابنا الإمامية على انقسام الخمس إلى ستة أسهم ... وأنّ المراد بذي القربى هو خصوص الإمام عليه السلام فلم يرد من كلمة ذي القربى الجنس وأنّ المراد باليتامى والمساكين وابن السبيل، المتصفين بهذه الصفات من خصوص بني هاشم ... وأمّا العامة فقد خالفونا في جميع هذه الجهات» «3».

ومراده من قوله (هذه الجهات)، الجهات الثلاثة فقد أسقطوا بعض السهام الثلاثة ولم يختصوا الإمام عليه السلام سهم ذي القربى، ولم يقولوا في الثلاثة الباقية بأنّها مختصة ببني هاشم.

وكيف كان، فالحقّ ما

اختاره الأصحاب- رضوان اللَّه عليهم- والأصل في ذلك قوله تبارك وتعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ ...» وحمل بعض السهام على التشريف خلاف الظاهر كما أنّ ترك سهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعد وجود القائم مقامه لا معنى له، كما أنّ سهم اللَّه يكون لرسوله القائم بأمره تعالى.

أضف إلى ذلك، الروايات الكثيرة الواردة في هذا المعنى رواها شيخنا الحرّ العاملي في انوار الفقاهة، ج 2، ص: 347

الباب الأوّل من أبواب قسمة الخمس من الوسائل مثل رواية 2 و 7 و 8 و 9 و 12 و 13 وغيرها.

نعم، هناك رواية صحيحة عن ربعي بن عبداللَّه بن الجارود عن أبي عبداللَّه عليه السلام وهي من أحسن روايات هذا الباب سنداً تخالف جميع ما ذكرنا، قال: «كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذا أتاه المغنم أخذ صَفَوه وكان ذلك له، ثمّ يقسم ما بقي خمسة أخماس ويأخذ خمسه ثمّ يقسم أربعة أخماس بين الناس الذين قاتلوا عليه، ثمّ قسّم الخمس الذي أخذه خمسة أخماس يأخذ خمس اللَّه عزّوجلّ لنفسه، ثمّ يقسّم الأربعة أخماس بين ذوي القربى واليتامى والمساكين وأبناء السبيل يعطي كلّ واحد منهم حقّاً، وكذلك الإمام أخذ كما أخذ الرسول صلى الله عليه و آله» «1».

وحاصله: تقسيم الخمس خمسة أسهم بإسقاط سهم الرسول صلى الله عليه و آله وأخذه صلى الله عليه و آله سهم اللَّه.

وأجيب عنها بوجوه:

أوّلها: ما ذكره الشيخ في الاستبصار وحاصله أنّها حكاية فعله وجاز أن يكون أخذ دون حقّه توفيراً للباقي على المستحقين.

ولكن يرد عليه ما أورده في المدارك عليه حيث قال: «وهو بعيد جدّاً لأنّ قوله عليه السلام «وكذلك الإمام عليه السلام يأخذ كما أخذ رسول اللَّه

صلى الله عليه و آله» يأبى ذلك». (انتهى) «2».

وهو جيّد وإن قال في مصباح الفقيه أنّه: «استبعاد لغير بعيد» (انتهى) لأنّ ظاهر سائر روايات هذا الباب التي مرّت عليك تقسيم الأئمّة للخمس ستة أسهم، وهو ينافي قوله:

«الإمام يأخذ كما أخذ الرسول» كما لا يخفى.

اللّهم إلّاأن يقال: المراد من الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام فعل ذلك في حكومته (بقرينة التعبير بفعل الماضي «أخذ» كما في نسخة الوسائل بناءً على صحتها) ولكنّه أيضاً بعيد.

ثانيها: أنّها محمولة على التقية، لأنّ تقسيمه إلى خمسة أسهم هو قول معروف بينهم حكاه ابن قدامة في المغني عن جماعة مثل عطاء ومجاهد والشعبي والنخعي وقتادة وابن انوار الفقاهة، ج 2، ص: 348

جريح والشافعي.

ولكن الظاهر أنّه اسقطوا سهم اللَّه وجعلوه أمراً تشريفياً بينما تدلّ صحيحة ربعي بن عبداللَّه على اسقاط سهم الرسول صلى الله عليه و آله فكيف يمكن حملها على التقية، و الظاهر أنّ تصريح جماعة من الأكابر بذلك إنّما هو ناشى ء عن الغفلة من أنّ فتاواهم على نفي سهم اللَّه لا سهم الرسول صلى الله عليه و آله.

ثالثها: أن يقال إنّها رواية شاذة متروكة لا حجية فيها يردّ علمها إلى أهلها.

وعلى كلّ حال فلا إشكال في أنّ الأسهم الثلاثة الآن للمهدي صاحب الزمان- أرواحنا فداه- كما وقع التصريح به في روايات هذا الباب. منها ما عرفت من رواية حمّاد عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح عليه السلام قال: «... وله ثلاثة أسهم: سهمان وراثة وسهم مقسوم له من اللَّه، وله نصف الخمس كملًا» «1»

وأحسن من ذلك صحيحة البزنطي عن الرضا عليه السلام حيث قال: «... فقيل له: فما كان للَّه فلمن هو؟ فقال: لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله وما

كان لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله فهو للإمام» «2»

. إلى غير ذلك.

أمّا الشرائط المعتبرة في الأصناف الثلاثة فهي أُمور:

1- الإيمان

فلا يعطى الكافر بل ولا غير المؤمن، قال صاحب الجواهر: «لا أجد فيه خلافاً محقّقاً» «3» وحكى عن الغنية والمختلف الإجماع عليه، ولكن العجب أنّه مع ذلك قال المحقّق في الشرائع: «الإيمان معتبر في المستحقّ على تردد». «4»

وكيف كان فقد استدلّ له بأُمور:

أوّلها: الأصل، فإنّ أصالة الاشتغال يقتضي الاقتصار على المتيقن وهو المؤمن كما في الجواهر والمستمسك، اللّهم إلّاأن يقال بعدم جواز الرجوع إليه بعد ملاحظة الإطلاقات،

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 349

ولكن الإنصاف انصراف الإطلاقات عن الكافر بل عن غير المؤمن- كما لا يخفى- سيّما مع كون الخمس كرامة بل كرامة أقوى من الزكاة لأنّها أوساخ وليس هو بأوساخ فلا يستحقّه إلّا المطهرون من الكفر وعدم الإيمان.

ثانيها: ما تضمنه غير واحد من نصوص هذا الباب من مسألة بدلية الخمس عن الزكاة، وقد أجمعوا على اعتبار الإيمان في الزكاة حتّى أنّهم صرّحوا تبعاً للنصوص بأنّ غير المؤمن إذا استبصر لا يجب عليه إعادة شي ء من أعماله إلّاالزكاة لأنّه وضعها في غير مواضعها، وهذا الاستدلال جيّد.

إن قلت: ألست تقول إنّ أحكام الخمس والزكاة متفاوتة لا يمكن قياس أحدهما بالآخر، وإن كانت مسألة البدلية حقّاً في الجملة؟

قلت: نعم، لكن الظاهر أنّ اختلاف أحكامهما لا ينافي وحدة المستحقّ فيهما فإنّ الظاهر أنّ المحرومين من الطوائف الثلاث في الزكاة عوضهم اللَّه بالخمس، ومن الواضح أنّ المحرومين هم المؤمنون منهم وأمّا غيرهم فهم خارجون بالمرّة.

ثالثها: التعليل الوارد في بعض نصوص الزكاة، مثل ما ورد في رواية يونس بن يعقوب قال: قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: أعطي هؤلاء الذين يزعمون أنّ

أباك حيّ، من الزكاة شيئاً؟ قال: «لا تعطهم فإنّهم كفّار مشركون زنادقة» «1».

ويرد عليه: تارة بأنّ التعليل ليس عاماً فإنّ معنى العموم هنا أنّ كلّ من كان كافراً بأي نحو من أنحاء الكفر فهو محروم من الزكاة فلا دخل له بالخمس، اللّهم إلّاأن يرجع إلى مسألة إلغاء الخصوصية ومسألة البدلية، فهذا الوجه يرجع إلى الوجه السابق كما لا يخفى.

والحاصل: أنّ قياس المنصوص علته كالمثال المعروف: (لا تشرب الخمر لأنّه مسكر) مشتمل على كبرى محذوفة وهي كلّ مسكر حرام ويمكن التعدي بسببها إلى سائر المسكرات، والكبرى المحذوفة هنا هو أنّ كلّ كافر محروم من الزكاة سواء كان واقفياً أم فطحياً أو غير ذلك من أصناف الكفّار لا أنّه يتعدى من الزكاة إلى الخمس، وإن كان المراد التمسك بمسألة البدلية وإلغاء الخصوصية، فهذا الأمر لا يختصّ بهذا الحديث بل يجري في انوار الفقاهة، ج 2، ص: 350

سائر ما دلّ على حرمان الكافر أو غير المؤمن من الزكاة.

وأُخرى بضعف سندها بسهل بن زياد واشتمالها على محمّد بن أحمد بن الربيع الأقرع وهو مجهول.

والحاصل: أنّ الدليلين الأوّلين تامان والدليل الأخير يشك الركون إليه.

2- الفقر

هل يعتبر الفقر في المستحقين السادات أم لا؟ أمّا المساكين فهم الفقراء، وأمّا أبناء السبيل فسيأتي الكلام فيه، وأمّا اليتيم فقد قال المحقّق النراقي رحمه الله في المستند: «الحق اعتبار الفقر في مستحقّ الخمس من يتامى السادات وفاقاً لظاهر الانتصار والنافع والإرشاد بل للمشهور على ما صرّح به جماعة ... خلاف للشيخ والحلي والجامع» «1».

وصرّح الشيخ رحمه الله في المبسوط بأنّ اليتامى وابناء السبيل منهم يعطيهم مع الفقر والغنى لأنّ الظاهر يتناولهم «2» كما صرّح بذلك صاحب السرائر أيضاً «3». وكذلك في الجامع للشرائع «4».

والعجب من المحقّق

رحمه الله في الشرائع حيث قال: «وهل يراعى ذلك (أي الفقر) في اليتيم؟

قيل: نعم، وقيل: لا. والأوّل، الأحوط» «5» مع أنّ القولين ليسا بمنزلة واحدة يعبّر عن كليهما ب «قيل» بل الأوّل هو المشهور نقلًا إن لم يكن تحصيلًا كما أشار إليه صاحب الجواهر «6» وعن صاحب الدروس التوقف في المسألة.

وعن الشافعي في أحد قوليه أنّه لا يعتبر وفي الآخر شرط كما حكاه العلّامة رحمه الله في المنتهى عنه «7».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 351

وكيف كان، فما يدلّ على مقالة المشهور أُمور:

أوّلها: إنّ ابن السبيل ليس بمعنى كلّ مسافر، ولا يصدق في العرف هذا العنوان على جميع المسافرين بل المتبادر منه هو المنقطع في الطريق عن الأهل والعشيرة والمال كأنّه ليس له أب إلّاالطريق، فهذا العنوان بنفسه كاف في إثبات وصف الحاجة له.

وإن شئت قلت: لا إطلاق لهذا العنوان حتّى يحتاج إلى التقييد، بل القيد مأخوذ في ذاته، ولو تنزلنا وفرضنا الشك في مفاده وجب الأخذ بالقدر المتيقن، أعني أصالة الاشتغال بالبيان الذي مرّ في مسألة الإيمان.

ثانيها: ما عرفت من ظهور أدلّة البدلية فإنّا وإن لم نقل باتحاد الحكمين الزكاة والخمس من جميع الجهات، ولكن الإنصاف أنّ المستحقّ من السادة هو من كان مستحقّاً للزكاة لولا كونه هاشمياً، فإذا حرم بهذا السبب من الصدقات والزكوات، استحقّ الخمس.

والحاصل: إنّ المستحقّ فيهما واحد بحسب الصفات ما عدا كون أحدهما هاشمياً دون الآخر، فهذا هو المستفاد من مجموع أدلة تشريع الخمس.

ثالثها: ما يظهر من غير واحد من روايات هذا الباب، فقد روى حمّاد بن عيسى عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح عليه السلام قال: «... وإنّما جعل اللَّه هذا الخمس لهم خاصة دون مساكين الناس وأبناء سبيلهم عوضاً لهم

من صدقات الناس تنزيهاً من اللَّه لهم لقرابتهم برسول اللَّه صلى الله عليه و آله ... فجعل لهم خاصة من عنده ما يغنيهم به- وفي موضع آخر منه- وجعل للفقراء قرابة الرسول صلى الله عليه و آله نصف الخمس فاغناهم به عن صدقات الناس ... فلم يبق فقير من فقراء الناس ولم يبق فقير من فقراء قرابة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلّاوقد استغنى فلا فقير ...» «1».

ومرسلة أحمد بن محمّد رفع الحديث إلى أن قال: «فهو (أي الإمام) يعطيهم على قدر كفايتهم فإن فضل شي ء فهو له وإن نقص عنهم ولم يكفهم أتمه لهم من عنده ...» «2».

وهاتان الروايتان وإن كانتا ضعيفتي السند، ولكن يمكن إخراجهما كمؤيد في المسألة،

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 352

كما يمكن تأييدها بأنّ اليتيم إذا كان له أب ينفق عليه مؤونته ولم يكن لنفسه مال كان محروماً، فكيف لا يحرم الآن وهو صاحب الآلاف من الأموال بعد موت والده، مضافاً إلى أنّه لا معنى لإعطاء الهاشمي الغني السوي من هذا المال فيؤخذ من أفراد في حدّ أقل الغنى ويعطي أُناس في حدّ أكثر منه، كما لا يخفى.

واستدلّ للقول الثاني بإطلاق الآية وغيرها تارة، وجعله مقابلًا للمساكين أُخرى لأنّه لو كان الفقر معتبراً في اليتيم لكان داخلًا في عنوان المساكين فلا يحتاج إلى أفراده بالذكر ولم يكن قسماً مستقلًا برأسه.

ويمكن الجواب عن الأوّل بانصرافها قطعاً عن الأغنياء لا سيّما بعد الارتكاز العقلائي بأنّ وضع الماليات والضرائب إنّما هو لتأييد الحكومة ومصارفها أو حماية المستضعفين لا غير، وأمّا أخذها من بعض الأفراد واعطائها لمن هو أغنى منهم من دون أن يكونوا جناحاً للحكومة وشبه ذلك ممّا لا يعهد (ولو كان

العمل من الظالمين خلاف ذلك).

والحاصل: إنّ وزان الخمس والزكاة وزان الضرائب الحافظة للمجتمع أو جماعة المستضعفين، وإعطاء الأغنياء من أهل بيته عليهم السلام من سهم الخمس لا يعدّ كرامة للنبي صلى الله عليه و آله لو لم يكن ضد الكرامة في أنظار أهل العرف.

ومن الثاني بأنّ تخصيص اليتامى بالذكر، من بين الفقراء إنّما هو للاهتمام بشأنهم كما وقع ذلك في الكتاب العزيز، فقد صرّح باسمهم وأوصى لهم كراراً مع أنّهم داخلون في المساكين كما هو ظاهر.

3- أبناء السبيل

هذا كلّه بالنسبة إلى اليتامى، أمّا أبناء السبيل، إنّما اطلق عليهم هذا العنوان لانقطاعهم عن القوم والعشيرة والآباء والإخوة فكأنّهم ليسوا إلّاأبناء للطريق والسبيل، وهل يعتبر فيهم الحاجة في بلد التسليم وإن لم يكونوا فقراء في بلادهم؟

قال صاحب مصباح الفقيه في شرح كلام المحقّق في الشرائع: «ابن السبيل لا يعتبر فيه انوار الفقاهة، ج 2، ص: 353

الفقر بل الحاجة في بلد التسليم ولو كان غنياً في بلده»، ما نصّه: «بلا شبهة بل ولا خلاف فيه على الظاهر بل عن المنتهى دعوى الإجماع عليه» «1».

ولكن في الجواهر: «بل ربّما استظهر من إطلاق بعضهم عدم اعتبار الفقر فيه عدم اعتبار هذه الحاجة فيه أيضاً فيعطى وإن كان غير محتاج بل لعلّه كاد يكون صريح السرائر، لكن اعترف الشهيد في روضته بأنّ ظاهرهم عدم الخلاف في اشتراط ذلك فيه» «2».

أقول: الإنصاف أنّه لا ينبغي الإشكال في اعتبار الحاجة في بلد التسليم، أمّا أوّلًا: فلأنّ جعله قريناً للمساكين والأيتام الذين عرفت اعتبار الفقر فيهم قرينة قوية على أنّه إنّما يعطى بسبب حاجته وفقره في بلد التسليم ولو كان غنياً في بلده، بل إطلاق ابن السبيل عليه أيضاً يشهد بذلك، فإنّه لا يطلق هذا العنوان

على كلّ مسافر خرج من بلده إلى بلد آخر بل على من انقطع عن أمواله وإمكانياته ولم يبق له صلة إلّابالطريق والسبيل.

وثانياً: ما عرفت من الارتكاز العقلائي في وضع الضرائب والماليات وأنّه لا وجه عندهم لإعطاء المسافرين الأغنياء من أموال الناس، فهذا الارتكاز سبب لانصراف الأذهان من إطلاق أبناء السبيل إلى المحتاجين.

وثالثاً: ما عرفت أنّ مسألة البدلية من الزكاة في أمر المستحقين للخمس وقد صرّحوا في باب الزكاة باعتبار الحاجة في بلد التسليم وبأنّه لا خلاف ولا إشكال فيه، ومن المعلوم أنّ أبناء السبيل من بني هاشم إنّما يعطون من الخمس ما يعطى غيرهم من الزكاة.

ورابعاً: قد مرّ في رواية حمّاد بن عيسى، التصريح بأنّه جعل للفقراء قرابة الرسول نصف الخمس، فأغناهم به عن صدقات الناس (إلى آخر ما ورد فيها من التصريح مرّة بعد مرّة بذلك) «3».

وكذا قوله عليه السلام في مرسلة أحمد بن محمّد، فهو يعطيهم- أي الأصناف الثلاثة- على قدر كفايتهم، الخ «4» وهذا أيضاً صريح فيما ذكر كما لا يخفى.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 354

وبالجملة لا ينبغي الإشكال في اعتبار الفقر فيهم بهذا المعنى، ومن هنا يظهر عدم جواز التمسك بالإطلاقات ولا بأنّه لماذا جعل في مقابل المساكين لعين ما مرّ آنفاً في اليتامى.

وهناك مسائل أُخرى في هذا الباب قد أشرنا إليها في أبواب الزكاة ونشير هنا إليها إجمالًا.

منها: أن لا يكون قادراً على الاستقراض أو بيع بعض ما لا يحتاج إليه بالفعل كالآت الزينة والألبسة الزائدة، والدليل عليه هو انصراف الإطلاقات عن مثله، فإنّه لا يقال إنّه المنقطع في الطريق بل قد يكون له آلاف الدراهم من هذا الطريق.

ومنها: أنّه لو زاد شي ء منها فهل يملك أم يجب ردّه إلى بيت

المال؟

الظاهرهو الثاني، لأنّ المفروض أنّ المال باق وهو حاضر في وطنه.

ومنها: أنّه يجعل مقدار الحاجة ملكاً له أو يمكن جعله قرضاً؟ ظاهر الأدلة هو الأوّل وإن كان استقراضه من بيت المال أيضاً ممّا لا مانع له، فتأمل.

ومنها: أنّ الحاجة لابدّ أن تكون من ناحية السفر، فلو كان فقيراً في بلده ثمّ سافر واحتاج في السفر كاحتياجه في الحضر، لابدّ أن يعطي من سهم الفقراء لا أبناء السبيل.

ومنها: أن يكون سفره في غير معصية لأنّ اعطاءَه من الخمس كرامة له والعاصي بسفره كالسارق والقاطع للطريق، ومن يسافر لقتل مؤمن لا يستحقّ مثل هذه الكرامة.

وإن شئت قلت: إنّهم قد ذكروا اعتبار هذا الشرط في باب الزكاة وتسالموا عليه فكيف يمكن تركه هنا مع أنّك قد عرفت أنّ الخمس من ناحية المصرف، وشرائطه في المسكين واليتيم وابن السبيل واحد.

والعجب من المحقّق اليزدي رحمه الله حيث اشترط في باب الزكاة «أن لا يكون سفره في معصية. وقال هنا: لا فرق أن يكون سفره في طاعة أو معصية» مع أنّهما كما عرفت من باب واحد، ولذا خالفه جميع المحشّين فيما رأينا من كلماتهم هنا، وهم بين من احتاط بعدم إعطاء العاصي بسفره ومن أفتى به، ويدلّ عليه مضافاً إلى ما مرّ من انصراف الإطلاقات، ما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره عن العالم عليه السلام: «... (إنّ) ابن السبيل أبناء الطريق الذين يكونون في الأسفار في طاعة اللَّه فيقطع عليهم ويذهب مالهم فعلى الإمام أن يردّهم انوار الفقاهة، ج 2، ص: 355

إلى أوطانهم من مال الصدقات» «1».

وهي وإن كانت مرسلة إلّاأنّ إسناده القطعي من علي بن إبراهيم إلى الإمام عليه السلام لو لم يوجب حجّته قطعاً فلا أقلّ من جعله مؤيداً قوياً،

ومن الواضح أنّ لحن الرواية يكون على نحو لا يفترق فيه الخمس والزكاة فإنّه بصدد تفسير عنوان ابن السبيل.

والمراد من طاعة اللَّه فيها أن لا يكون في معصيته، وإلّا فلا إشكال في كفاية كون السفر مباحاً.

وقد صرّح بعض أعلام المعاصرين في حاشيته بعدم كون نفسه أيضاً في معصيته على الأحوط. (انتهى) والظاهر أنّ المراد به عدم اشتغاله بالمعاصي في سفره وإن كان نفس السفر في الطاعة كمن سافر للزيارة أو تجارة مباحة ولكن اشتغل في سفره- نعوذ باللَّه- بشرب الخمور والغناء والقمار وغير ذلك، ولكن الإنصاف أنّ اعتبار ذلك يشكل فهمه من الأدلة- كما لا يخفى- إلّاإذا اعتبرنا العدالة أو عدم التجاهر بالفسق فيما يأتي وهو أمر آخر.

4- العدالة:

هل تعتبر العدالة في مستحقي الخمس؟

قال المحقّق رحمه الله في الشرائع: «والعدالة لا تعتبر على الأظهر» «2».

وذكر صاحب المدارك في شرحه: « (إنّ) هذا مذهب الأصحاب لا أعلم فيه مخالفاً تمسكاً بإطلاق الكتاب والسنّة ... والقول باعتبار العدالة هنا مجهول القائل ولا ريب في ضعفه» «3».

وقال المحقّق الهمداني رحمه الله بعد نقل كلام الشرائع: «ربّما يستشعر من عبارة المتن حيث جعله الأظهر ولم يرسله إرسال المسلّمات وجود الخلاف فيه ولعلّه لم يقصد بهذا التعبير الإشارة إلى الخلاف بل نبّه بذلك على استناد الحكم إلى ظواهر الأدلة» ثمّ صرّح في ذيل عبارته بعدم معروفية القائل بالاشتراط «4».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 356

وقال صاحب الرياض: «ولا تعتبر العدالة هنا بلا خلاف أجده».

ثمّ قال: «نعم ربّما يظهر من الشرائع وجود مخالف في المسألة وفي المدارك أنّه مجهول، أقول ولعلّه المرتضى فإنّه وإن لم يصرّح باعتبارها هنا لكنه اعتبرها في الزكاة مستدلًا بما يجري هنا» «1».

وصرّح صاحب الجواهر قدس سره أيضاً في

شرح كلام الشرائع عدم وجدانه الخلاف في المسألة ...، لكن قد يوهم ما في المتن الخلاف فيه بل لعلّه من المرتضى لما حكى عنه من اعتبارها في الزكاة مستنداً لما يشمل المقام من النهي كتاباً وسنّة عن معونة الفساق والعصاة «2».

أقول: قد ورد التصريح باعتبار العدالة في باب الزكاة في كلمات غير واحد من أساطين الفقه منهم الشيخ الطوسي قدس سره في الخلاف في المسألة 3 من مسائل كتاب قسمة الصدقات، بل قال: «الظاهر من مذهب أصحابنا أنّ زكاة الأموال لا تعطى إلّاالعدول من أهل الولاية دون الفساق منهم» «3».

وادّعى صاحب الغنية أيضاً الإجماع عليه «4» وذكر صاحب المبسوط أيضاً اعتبار العدالة كما في المختلف «5».

ومقتضى اتحاد باب الخمس والزكاة في أوصاف المستحقين جريان الحكم في المقام، ولكنه ضعيف هنا وهناك، فإنّ غاية ما يمكن الاستناد إليه لإثبات اشتراط هذه الصفة أُمور:

أوّلها: ما عرفت من استدلال المرتضى رحمه الله بالمنع عن اعانة الفاسقين كتاباً وسنّة.

وفيه: أنّ الحرام هو إعانتهم ولو كان إعطاء الزكاة إعانة للفاسق في فسقه وعصيانه أمكن القول به، ولكن محل الكلام عام، مثلًا: زيد فاسق لارتكابه الغيبة والكذب ولكنه فقير تعطيه انوار الفقاهة، ج 2، ص: 357

من الزكاة لسد جوعه وكسوته ومسكنه واين هذا من الإعانة على الإثم.

إن قلت: قد ورد النهي في رواية صفوان المعروفة عن إكراء الإبل لسلطان الجور حتّى للحجّ.

قلت: أُجيب عنه بأنّ حرمته ليست من باب الإعانة على الإثم فإنّ الحجّ ليس إثماً، بل من باب تقوية شوكة الظالمين فكلّ ما يوجب تقوية شوكتهم ولو كان بالحضور في مجالسهم الدينية ونشر الكتب العلمية التي نشروها كان حراماً، مضافاً إلى ما فيه من تحريم حبّ بقائهم حتّى يرجعوا عن الحجّ

ويعطوا كراءَهم واين هذا ممّا نحن فيه؟

ثانيها: ما في زكاة الخلاف من أنّ دليلنا طريق الاحتياط.

وفيه: أنّه لا وجه للرجوع إليه بعد إطلاقات الأدلة، فإنّ الاطلاق دليل لفظي من قبيل الامارات ولا مجال للاحتياط الذي هو من الأُصول العملية معه.

ثالثها: ما ورد في رواية داود الصرمي قال: «سألته عن شارب الخمر يعطى من الزكاة شيئاً؟ قال: لا» «1»

وداود وإن كان مجهولًا ولكن يمكن جبر ضعف سند الحديث بعمل المشهور به، بل ادّعى الإجماع على اعتبار العدالة فتأمل.

هذا، ولكن لا يدلّ إلّاعلى حرمان شارب الخمر، غايته جواز التعدي منه إلى سائر الكبائر العظيمة لا مطلقاً.

رابعها: ما ورد في أمر تقسيم الزكاة في رواية أبي خديجة عن أبي عبداللَّه عليه السلام وفيها:

«فليقسمها في قوم ليس بهم بأس أعفّاء عن المسألة» «2»

نظراً إلى أنّ عدم البأس بهم دليل على عدم ارتكابهم المعاصي فهو ظاهر في العدالة.

وفيه: مضافاً إلى أنّ أبا خديجة- المعروف- هو سالم بن مكرم وهو مجهول لا يمكن الركون إليه. اللّهم إلّاأن يقال: يجبر ضعف السند بما عرفت، أنّ عدم البأس لا يدلّ على العدالة وعدم الذنب مطلقاً، غاية الأمر يمكن أن يقال بعدم شموله للمتجاهرين بالكبائر، مضافاً إلى أنّ الحديث مشتمل على مستحبات مثل كون الفقير عفيفاً لا يسأل الناس شيئاً، أو الأمر بعدم تقسيم جميع الزكاة في القرابة الوارد في ذيل الحديث مع أنّه ليس حراماً،

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 358

واشتماله على مثل هذه الأُمور يوجب سقوطها عن الدلالة على الوجوب.

خامسها: ما ورد في رواية محمّد بن سنان عن الرضا عليه السلام وهو حديث طويل في علّة تشريع الزكاة وفي بعض فقراته قوله: «مع ما فيه من الزيادة والرأفة والرحمة لأهل الضعف والعطف على أهل

المسكنة والحثّ لهم على المواساة وتقوية الفقراء والمعونة لهم على أمر الدين» «1».

وفيه: مع الإشكال في السند فإنّ وثاقة محمّد بن سنان محل كلام، أنّه لا دلالة له على المطلوب لأنّ إعطاء الزكاة للفاسق أيضاً قد يكون معونة له على أمر دينه أو أمر مباح، لأنّ الكلام ليس فيما يكون معونة له على الحرام كما هو ظاهر.

إلى غير ذلك ممّا قد يتمسك به ولا دلالة له على اعتبار العدالة شيئاً.

نعم، يمكن أن يقال كما أنّ دفع الزكاة إلى شارب الخمر ممنوع، فكذلك دفعه إلى سائر مرتكبي الكبائر لا سيّما مع تجاهرهم بالفسق ممنوع أيضاً. أمّا الأوّل فلما عرفت من إمكان القول بانجبار ضعف رواية داود الصرمي «2» بعمل المشهور، وأمّا الثاني فلإمكان إلغاء الخصوصية من شارب الخمر إليه ولا أقل من عدم ترك الاحتياط بذلك فتدبّر.

وكذا من يستمد منه للحرام، فإنّ في أدلة المنع عن الإعانة على الإثم في المقام وأشباهه كفاية، ولا سيّما إذا كان المنع سبباً لردعه عنه، فإنّ أدلة النهي عن المنكر أيضاً يشمله.

هذا وقد يستدلّ على عدم الفرق بين العادل والفاسق بما ورد في مرسلة علي بن محمّد عن بعض أصحابنا عن بشر بن بشار قال: قلت للرجل، يعني أبا الحسن عليه السلام (والظاهر أنّ المراد به أبو الحسن الهادي عليه السلام كما يظهر بملاحظة حال بشر بن بشار): ما حدّ المؤمن الذي يعطى من الزكاة؟ قال: يعطى المؤمن ثلاثة آلاف. ثمّ قال: أو عشرة آلاف ويعطى الفاجر بقدر، لأنّ المؤمن ينفقها في طاعة اللَّه والفاجر في معصية اللَّه» «3».

ومن الواضح أن ذكر هذا العدد الخاصّ لا يكون معياراً لكلّ زمان، بل المقصود إعطاء المؤمن بقدر مؤونة سنته على نحو لائق

بشأنه، وإعطاء الفاجر بمقدار قليل يصرفه عادة في انوار الفقاهة، ج 2، ص: 359

حوائجه الواجبة ولا يقدر على صرفه في غيرها من أصناف الفجور، وحينئذٍ يكون دليلًا على الجواز بهذا المقدار فقط لا أكثر من ذلك.

هذا ولكن الرواية ضعيفه بالإرسال، ثمّ بالجهل ببعض رواتها مثل بشير بن بشار فإنه مجهول الحال.

إن قلت: الظاهر من الحديث جواز إعطاء الفاجر شيئاً منها وإن علم أنّه يصرفه في الفجور.

قلت: كلا، بل المراد إعطاء مقدار قليل لا يزيد عن حوائجه الواجبة كي لا يقدر على صرفها في الفجور.

بقي هنا مسائل:

المسألة الاولى: أنّ مستضعف كلّ فرقة (كالصبي والمجنون) ملحق بها، والمراد به الإلحاق من حيث الإيمان والكفر لا من حيث الفسق والعدالة، لجواز إعطاء أطفال السادة الفقراء من الخمس بلا إشكال وإن كان آباؤهم فاسقين متجاهرين بالفسق، وقلنا باشتراط العدالة، أمّا الإلحاق من الجهة الاولى فهو ممّا لا ريب فيه في جميع أحكام الشرع في باب الطهارات والنكاح والمواريث وغيرها، بل عليه سيرة العقلاء في أحكامهم ففي محاسبة عدد اتباع كلّ مذهب يعدون الصغار والمجانين منهم، فيقولون مثلًا عدد المسلمين في الدنيا ألف مليون وعدد اليهود 16 مليون وكذا عدد سائر المذاهب، فيحاسبون الأطفال من كلّ فرقه من تلك الفرق.

المسألة الثانية: هل يجب البسط على الطوائف الثلاث (الايتام والمساكين وأبناء السبيل) أو يمكن إعطاء النصف لصنف واحد؟ وعلى فرض البسط هل يجب استيعاب أفراد الطائفة- أي جميع أفراد اليتامى- أم جميع أفراد المساكين؟

أمّا الأوّل فالمشهور بين الأصحاب كما في الحدائق جواز تخصيص النصف الذي انوار الفقاهة، ج 2، ص: 360

للطوائف الثلاث بواحدة منها، ثمّ قال: «وظاهر الشيخ في المبسوط المنع حيث قال: ... ولا يخصّ فريقاً منهم بذلك دون فريق بل يعطى

جميعهم على ما ذكرناه من قدر كفايتهم ويسوي بين الذكر والأنثى» ثمّ حكى عن أبي الصلاح أنّه قال: «يلزم مَن وجب عليه الخمس إخراج شطره للإمام عليه السلام والشطر الآخر للمساكين واليتامى وأبناء السبيل لكلّ صنف ثلث الشطر» «1».

وقال المحقّق النراقي قدس سره في المستند: «هل يجوز أن يخصّ بنصف الخمس الذي للطوائف الثلاث طائفة أو طائفتان منها، أم يجب البسط على الأصناف؟ المحكى عن الفاضلين ومن تأخرعنهما: الأوّل، بل هو المشهور بين المتأخرين كما صرّح به جماعة ...- ثمّ قال:- وعن المبسوط والحلبي والتنقيح: الثاني ومال إليه جمع من متأخري المتأخرين، منهم الذخيرة والحدائق وبعض شرّاح المفاتيح، وهو الأقوى» «2».

وقال صاحب الجواهر بعد ذكر كلام الشرائع، أي قوله: «هل يجوز أن يخصّ بالخمس طائفة؟ قيل نعم، وقيل لا وهو الأحوط» قال: «وإن كان الأوّل أقوى بل لعلّه لا خلاف معتدّ به فيه لعدم ظهور عبارة من حكى عنه ذلك فضلًا عن صراحتها فيه» «3».

أقول: الإنصاف ظهور عبارة المحكي عن الشيخ والحلبي 0 أو صراحتها فالمخالف في المسألة موجود وإن كان المشهور الأوّل.

وعمدة ما استدلّ به لقول المشهور أُمور:

1- الأصل: والظاهر أنّ المراد به البراءة عن وجوب بسطها على الطوائف، لكن الإنصاف أنّ الأصل هنا هو الاشتغال بمعنى أن الحقّ الواجب تعلق بالمال (بعنوان الملك أو غيره) ولا يعلم أداؤه بدون البسط عليهم جميعاً فاللازم هو البسط عليهم.

وإن شئت قلت: حقّ السادة موجود في ماله وفي ضمانه ولا يعلم أداءه بغير البسط.

2- صحيحة البزنطي عن الرضا عليه السلام: .. فقيل له: أفرأيت إن كان صنف من الأصناف أكثر وصنف أقلّ ما يصنع به؟ قال: «ذاك إلى الإمام، أرأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله

كيف يصنع؟ أليس انوار الفقاهة، ج 2، ص: 361

إنّما كان يعطي على ما يرى، كذلك الإمام» «1».

وأورد صاحب الحدائق على الاستدلال به بأنّها ناظرة إلى صورة تفاوت أفراد الطوائف كثرة وقلّة، وأنّ الإمام يعطي حينئذٍ على ما يراه من المصلحة لا جواز تخصيص طائفة بها دون الأخرى.

والإنصاف أنّ إشكاله وارد ولا أقل من إبهام الحديث فلا يصحّ التمسك به في المقام، اللّهم إلّاأن يقال: قوله عليه السلام: «يعطي على ما يرى ...» عام يشمل البسط مع التفاوت وعدمه فتدبّر.

3- السيرة المستمرة على عدم البسط، ولو كان البسط واجباً لوجب حفظ مقدار من الخمس ليوجد صاحبه من أبناء السبيل، إذا لم يكن هناك موجوداً كسائر الأموال المشتركة ومن الواضح أنّه كثيراً ما لا يوجد ابن السبيل أو لا نعرفه بعينه لو كان موجوداً مع أنّا لم نسمع أحداً ادّخر سهم ابن السبيل حتّى يلاقيه، فهذه قرينة على عدم البسط، لا سيّما إذا كان الخمس قليلًا.

4- البدلية الثابتة بالقرائن القطعية، وقد صرّحوا في أبواب الزكاة بعدم وجوب البسط بل المسألة إجماعية هناك على الظاهر، ودلّت عليه روايات كثيرة، فراجع «2»، ومقتضاه عدم البسط هنا أيضاً. اللّهم إلّاأن يقال: إنّ القدر المسلّم منه إنّما هو البدلية في المستحقين وأوصافهم، أمّا مقدار ما يعطى إليهم وأنّ الواجب البسط وعدمه فلا يمكن استفادته من أدلتها، ولكن الإنصاف أنّه يفهم منه أنّ وزان تقسيم الخمس وزان تقسيم الزكاة، فلو كان متفاوتاً معه كان الواجب التصريح به في روايات هذا الباب وحيث لم يرد يعلم أنّهما غير متفاوتين من هذه الناحية.

واستدلّ للقول الثاني بظاهر آية الخمس الدالّة على تقسيمه إلى ستة أسهم مع ما يعلم من أن نصف الخمس يتعلّق باللَّه تعالى ورسوله

صلى الله عليه و آله والإمام المعصوم عليه السلام وهذا بنفسه قرينه على البسط.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 362

وإن شئت قلت: لا شك في أنّ السهام الثلاثة الاولى من قبيل البسط وأنّه مع التسوية أيضاً وإن كان اختيارها كلّها بيد النبي صلى الله عليه و آله في حياته وبيد الإمام المعصوم عليه السلام بعده، فهذا قرينة على كونه كذلك في الثلاثة الأخيرة، ومن البعيد التفرقة بينهما من هذه الجهة.

ويمكن الجواب عنها بأنّها لو لم تكن ظاهرة في القول الأوّل فلا أقل من عدم دلالتها على الثاني وذلك لُامور:

أوّلها: أنّ الظاهر هو كون الأصناف الثلاثة الأخيرة مندرجة تحت عنوان الفقير أو ذوي الحاجة فليس اليتيم قسيماً للمسكين، وكذلك أبناء السبيل فإنّهم أيضاً فقراء في السفر وإن كانوا ذوي المكنة في أوطانهم.

ففي الواقع ينقسم الخمس إلى قسمين، نصف منه للحكومة الإسلامية التي يكون أمرها بيد النبي صلى الله عليه و آله أو الإمام عليه السلام أو نائبه بعده صلى الله عليه و آله ونصف منها لذوي الحاجة من أهل بيته عليهم السلام ومن الواضح- كما سنشير إليه إن شاء اللَّه- أنّه لا يجب استيعاب كلّ فرد من أفراد هذا العنوان، فإذن لا مانع من صرفه في بعض اليتامى فقط أو بعض المساكين أو غير ذلك.

ثانيها: أنّ أبناء السبيل قليلون في جنب الباقي جدّاً لا سيّما في جنب المساكين، ومن الواضح أنّه لا يمكن تخصيص سهم مساو لهم في مقابل الباقين، مع أنّ ظاهر الآية- كما عرفت- كون السهام الستّة متساوية فهذه قرينة أخرى على أنّ المراد من الآية ليس ما يبدو منها في بادى ء النظر.

ثالثها: أنّها كما تدلّ على لزوم البسط على الطوائف الثلاث، تدلّ على لزوم استيعاب

الطوائف الثلاث بحسب الأفراد لكونها عاماً شاملًا لجميع أفراده، وحيث لا يجب الاستيعاب قطعاً بل لا يمكن ذلك عادة، ولو أمكن فلا يكون المال كافياً لذلك غالباً، فاللازم رفع اليد عن ظاهر الآية، فهذه أيضاً قرينة على أنّ المراد ليس ظاهرها.

والعمدة من بين هذه الوجوه هو الأوّل (وهو اندراج جميع الطوائف الثلاث في واحد) واستيعاب الأفرادي غير واجب بالاتفاق.

وأمّا ما أجاب به بعضهم عن هذا الدليل بأنّها مسوقة لبيان المصرف كما في آية الزكاة.

ففيه: أنّه مخالف لظاهرها لاستلزامه القول بإمكان صرف الجميع في مصارف سهم انوار الفقاهة، ج 2، ص: 363

الإمام، أو جميع الخمس في خصوص السادة المحتاجين ولم يقل به أحد.

واستدلّ لهذا القول أيضاً برواية حمّاد بن عيسى عن بعض أصحابنا وفيها: «ونصف الخمس الباقي بين أهل بيته فسهم ليتاماهم وسهم لمساكينهم وسهم لأبناء سبيلهم، يقسم بينهم على الكتاب والسنّة (الكفاف والسعة) ما يستغنون به في سنتهم ...» «1».

وما رواه أحمد بن محمّد عن بعض أصحابنا رفع الحديث قال: «... وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لأبناء السبيل ...» «2».

وما رواه السيّد المرتضى في (رسالة المحكم والمتشابه) نقلًا عن تفسير النعماني باسناده الآتي عن علي عليه السلام قال: «... ثمّ يقسم الثلاثة السهام الباقية بين يتامى آل محمّد ومساكينهم وأبناء سبيلهم» «3».

ومثلها ما رواه إسحاق عن رجل قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن سهم الصفوة فقال: «...

وثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وأبناء السبيل يقسّمه الإمام بينهم، فإن أصابهم درهم درهم لكلّ فرقة منهم نظر الإمام بعد فجعلها في ذي القربى ...» «4».

وأنت خبير بأن هذه الروايات كلّها ضعيفة الإسناد، مهجورة عند المشهور، فلا يمكن الركون إليها، مضافاً إلى أنها وإن كانت في بادى ء النظر ظاهرة في

البسط على الأصناف الثلاثة ولكن عند الدقّة يظهر منها خلافه، ففي رواية حمّاد جعل فقراء قرابة الرسول في مقابل فقراء الناس فقال: «وإن فقراء الناس جعل أرزاقهم في أموال الناس على ثمانية أسهم لم يبق أحد منهم وجعل للفقراء من قرابة الرسول نصف الخمس فأغناهم به» ومن المعلوم أنّه لا يجب البسط هناك، فكذلك هنا، فتأمل.

مضافاً إلى أنّ ظاهر الرواية الأخيرة لزوم التقسيم بالسوية بين أفراد كلّ واحد من هذه الأصناف الذي لا يقول به أحد.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ القول بالبسط بين الطوائف الثلاث ممّا لا يمكن المساعدة عليه،

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 364

وأظهر من ذلك عدم لزوم الاستيعاب بالنسبة إلى الأفراد لعدم أمانه غالباً ومخالفته للسيرة المستمرة قطعاً ولفعل المعصومين عليهم السلام وممّا ذكرنا ظهر الحال في المقام الثاني- أعني عدم وجوب رعاية المساواة بين الأصناف- لما عرفت من التصريح به في صحيحة البزنطي.

وأمّا المقام الثالث (وهو الاستيعاب لجميع أفراد صنف واحد): فالمشهور فيه أيضاً عدم الوجوب حتّى أن المحقّق الذي احتاط في مسألة البسط على الطوائف الثلاث صرّح بعدم وجوب استيعاب أشخاص كلّ طائفة هنا، بل قد حكى عن غير واحد من الأصحاب نفي الخلاف أو الإجماع فيه، ويدلّ عليه أُمور:

1- الأصل، فإنّ مقتضاه هو البراءة عن القيد الزائد وهو وجوب الاستيعاب، ولكن قد عرفت آنفاً أنّ الأصل هنا هو الاشتغال بمعنى أنّ أرباب الخمس مالكون لسهمهم مشاعاً في المال، أو مستحقون له بنحو آخر وهو في الحقيقة أمانة بيد المالك ولا يعلم أنّه هل يؤدي بدفعه إلى بعضهم دون بعض، والقدر المتيقن من الأداء هو الاستيعاب فقاعدة على اليد وقاعدة الاشتغال تقتضي ذلك.

2- مقتضى البدلية عن الزكاة هنا أيضاً عدم الاستيعاب بالبيان الذي

مرّ آنفاً.

3- الاستيعاب غير ممكن أو متعسر فهو غير واجب.

وفيه: أنّ العسر والحرج أمر شخصي يتقدر بقدره، فاللازم الاستيعاب مهما أمكن ويسقط وجوبه عند التعذر والتعسر.

4- الجمع المحلى باللام في كتاب اللَّه بمعنى الجنس لا العموم، فقوله تعالى اليتامى والمساكين محمول على الجنس.

وفيه: أنّه مجرّد دعوى لم تثبت صحّته وإن كان الأقرب في النظر إرادة الجنس في أمثال هذه الموارد.

5- الخطاب هنا للمجموع، فالمؤمنون جميعهم مخاطبون بأداء خمسهم لمجموع اليتامى والمساكين وأبناء السبيل من بني هاشم، ولازمه التقسيم بإعطاء كلّ واحد إلى بعضهم.

وفيه: أنّه أيضاً دعوى بلا دليل، بل الأصل في العمومات الحمل على العموم الإفرادي لا

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 365

المجموعي لأنّه المتبادر إلى الذهن عند إطلاقها.

6- السيرة المستمرة الجارية على عدم الاستيعاب فإنّه لم يسمع من فعل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والأئمّة المعصومين عليهم السلام، وكذا العلماء في البلاد المختلفة استيعاب جميع بني هاشم أو من حضر منهم البلد، ولو وجب ذلك لاشتهر اشتهاراً تاماً.

7- واستدلّ له أيضاً بقوله عليه السلام كذلك الإمام (أي يعطي على ما يرى) فإنّ إطلاقه يشمل عدم الاستيعاب لآحاد المستحقين، ولكن قد عرفت أنّه يشكل الاعتماد على هذا الظهور بعد كون السؤال عن التساوي بين الأصناف الثلاثة وعدمه فلعلّ الجواب أيضاً ناظر إليه فقط، وبالجملة لولا ظهوره في ذلك فلا أقل من إجماله فلا يجوز التمسك به لما نحن بصدده.

والحاصل: أنّه لا دليل على وجوب الاستيعاب بل الدليل موجود على عدمه، ولولاه كان مقتضى الأصل الاستيعاب بحسب الأفراد مهما أمكن.

نعم، لا شك أنّه إذا كانت هناك أموال كثيرة للسادة بيد ولي الأمر وكان فيهم اناس كثيرون محتاجون غاية الحاجة فعليه تنظيم البرنامج لسد خلّتهم ورفع حاجتهم،

ويشكل إعطاؤه بعضهم تمام حاجاتهم السنوية من دون رعاية حال الباقين، بل لعلّه يعد ذلك تقصيراً منه في أمر الولاية وأداء الحقوق ونظم الأُمور، فعليه جعل النقباء واحصائهم وجعل الرواتب لهم وتقسيم حقوقهم على نحو مطلوب لا سيّما في عصرنا وزماننا الذي يعد القصور في هذه الأُمور تقصيراً في أداء أمر الولاية، وهذا هو المستفاد من أدلة ولايته.

وبالجملة لو لم يكن ذلك واجباً قطعياً عليه فلا أقل من الاحتياط الذي هو سبيل النجاة، بل الأمر في حقّ غيره أيضاً في بعض الظروف كذلك، فلو كان فيمن حضره أيتام من بني هاشم يحتاجون إلى الأوليات ممّا يحتاج إليه في أمر الحياة كاللباس والغذاء و ...، فلو أعطى الخمس كملًا لغيره ممّن يصرفه فيما يليق بشأنه من غير الضروريات كالخادم اللائق بحاله وسفر الزيارة وبعض الهدايا والصلات اللائقة بحاله، كان صرف سهم السادة في الثاني دون الأوّل في غاية الإشكال، والوجه فيه أنّا وإن قلنا بعدم لزوم الاستيعاب ولكن أدلّة الجواز منصرفة عن مثل هذه الصورة وأشباهها ويشكل البراءة عن حقّ السادة بذلك كما لا يخفى انوار الفقاهة، ج 2، ص: 366

على من دقق النظر في لسان أدلة الخمس وغيرها.

المسألة الثالثة: مستحقّ الخمس من انتسب إلى هاشم بالأبوة، فلو انتسب إليه بالامّ لم يحل له الخمس وتحلّ له الزكاة.

هذا هو المعروف والمشهور بين الأصحاب، ولكن حكى الخلاف فيه عن السيّد المرتضى وابن حمزة ولكن في كون الثاني أعني ابن حمزة قدس سره مخالفاً، كلام، فإنّ صاحب الجواهر قال: إنّ فيما حضرني من نسخة الوسيلة موافقة المشهور ويؤيده نسبة غير واحد من الأصحاب الخلاف إلى السيّد المرتضى خاصة «1».

هذاولكن صاحب الحدائق قدس سره اسند الخلاف في المسألة إلى جماعة

كثيرة من الأصحاب نظراً إلى ما ذكروه في الأبواب الاخر وإليك نصّ عبارته: «والأصحاب لم ينقلوا الخلاف هنا إلّاعن السيّد رحمه الله وابن حمزة مع أن شيخنا الشهيد الثاني في شرح المسالك في بحث ميراث أولاد الأولاد نقله عن المرتضى وابن ادريس ومعين الدين المصري. ونقله في بحث الوقف على الأولاد عن الشيخ المفيد والقاضي وابن ادريس».

ثمّ قال: «ونقل بعض أفاضل العجم في رسالة له صنفها في هذه المسألة واختار فيها مذهب السيّد، هذا القول أيضاً عن القطب الراوندي والفضل بن شاذان، ونقله المقداد في كتاب الميراث من كتابه كنز العرفان عن الراوندي والشيخ المحقّق أحمد بن المتوج البحراني الذي كثيراً ما يعبر عنه بالمعاصر، ونقله في الرسالة المشار إليها ايضاً عن ابن أبي عقيل وأبي الصلاح والشيخ الطوسي في الخلاف وابن الجنيد وابن زهرة في الغنية، ونقل عن المحقّق المولى أحمد الأردبيلي رحمه الله الميل إليه أيضاً، وهو مختار المحقّق المدقق المولى العماد مير محمّد باقر الداماد وله في المسألة رسالة جيّدة قد وقفت عليها، واختاره أيضاً المحقّق المولى محمّد صالح المازندراني في شرح الاصول والسيّد المحدّث السيّد نعمة اللَّه الجزائري وشيخنا المحدّث الصالح الشيخ عبداللَّه بن صالح البحراني».

ثمّ قال صاحب الحدائق: «وأنت خبير بأن جملة من هؤلاء المذكورين وإن لم يصرّحوا

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 367

في مسألة الخمس بما نقلناه عن السيّد المرتضى رضى الله عنه إلّاأنّهم في مسائل الميراث والوقف ونحوها لما صرّحوا بأنّ ولد البنت ولد حقيقة اقتضى ذلك إجراء حكم الولد الحقيقي عليه في جميع الأحكام التي من جملتها جواز أخذ الخمس وتحريم أخذ الزكاة» ثمّ نقل عباراتهم تفصيلًا في تلك الأبواب (انتهى محل الحاجة من كلامه) «1».

أقول: قد وقع الخلط

هنا بين مسألتين (كما أشار إليه كثير من الأعلام):

إحداهما: صدق الولد حقيقة على ولد البنت وهو ممّا لا ريب فيه عرفاً وشرعاً، فإنّ الأولاد والأسباط يتكوّنون من الجانبين من ناحية الأب والامّ، ويشهد له أنّ أحكام النكاح والارث المترتبة على النسب جارية فيهما بلا خلاف فيها بين علماء الإسلام، والسرّ فيه أن تكوّن الولد من ناحية الأب والامّ، وقد ثبت اليوم أنه لولا التركيب بين خلية من الرجل المسمّاة بالاسبر ما توزوئيد و خلية من المرأة وهي المسماة بالاوول لم تنعقد النطفة في الرحم.

نعم قد كان هناك فكر جاهلي يتجسم في شعرهم المعروف:

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد

الذي يخالف العقل والنقل من الكتاب والسنّة، ولنعم ما قال سيّدنا الاستاذ العلّامة المحقّق البروجردي رحمه الله فيما حكى عنه في محاضراته (زبدة المقال): «أنّه هل يمكن التمسك بقول شاعر مجهول هويته، فيردّ به على كتاب اللَّه وسنّة رسوله صلى الله عليه و آله، وهل هذا إلّا كدفع ما حكم به العقل السليم بتخيلات شعرية» «2».

وقوله «كتاب اللَّه» إشارة إلى ما ورد في قوله تعالى إشارة إلى إبراهيم الخليل على نبيّنا وآله وعليه السلام: «وَمِن ذُرّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيَمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِى ا لُمحْسِنِينَ* وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مّنَ الصَّالِحِينَ» «3».

فإن عيسى عليه السلام لا يكون من ذرية إبراهيم عليه السلام إلّامن قبل الامّ، وقوله «سنّة رسول اللَّه» إشارة إلى أحكام الإرث والمناكح الثابتة في السنّة.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 368

والظاهر أنّ عرب الجاهلية ومن تبعهم بعد ظهور الإسلام كانوا يعتقدون أنّ الامّ لا تكون إلّا وعاء لحفظ النطفة الحاصلة من الأب كما تكون الأرض وعاء لحفظ البذور وتنميتها، كما يقول شاعرهم.

وإنّما امّهات الناس

أوعية مستودعات وللأحساب آباء.

وقد أخذ بهذه الفكرة جمع من أعداد أهل البيت المنكرين لفضائلهم حيث كان من مفاخرهم العظيمة أنّهم أبناء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ويراهم الناس في هذا الموقف، فخالفهم المعاندون وقالوا: إنّكم منتسبون إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من ناحية الامّ أي الزهراء المرضية عليها السلام وولد البنت ليس ولداً حقيقة فأجابوهم بالكتاب والسنّة والدلائل الظاهرة.

فهذا الحكم أعني كون ولد البنت ولداً حقيقة حكم واضح يعرفه كلّ مسلم بلا ريب، وكان انكار ذلك مسألة سياسية جاهلية من ناحية الخلفاء الجائرين وأذنابهم دفعاً لأئمّة أهل البيت عليهم السلام عن حقّهم الذي جعل اللَّه تعالى لهم.

ثانيتهما: إنّ حكم الخمس يجري على أولاد هاشم أي كلّ من ينتسب إليه شرعاً وعرفاً من طريق الولادة أو خصوص من ينتسب إليه بالأبوة فقط، ومدّعى الأصحاب في المقام هو الثاني لقيام دليل خاصّ فيه لا إنكار صدق البنوة.

والشاهد القوي على ذلك نفس ما ذكره صاحب الحدائق (واتعب نفسه الزكية فيه لتأييد مذهبه والحال أنّه دليل على خلاف مذهبه) أنّهم صرّحوا في الأبواب الاخر من الفقه بعموم الحكم، ولكن قصروا هنا على خصوص من ينتسب بالأبوة فهذا دليل واضح على كون الحكم في المقام لدليل خاصّ.

وصاحب الحدائق وجماعة أُخرى حيث تخيلوا أنّ المسألتين من واد واحد قالوا بالعموم مع أنّهما مختلفتان لا تنسجان على منوال واحد.

بل قد يظهر من مستند العروة أنّ ما نسب إلى السيّد قدس سره من عموم الاستحقاق للمنتسب إلى هاشم من طرف الامّ أيضاً غير ثابت «1».

وقد بحثنا في كتب السيّد قدس سره فلم نجد هذه الفتوى في هذا المبحث، بل الذي يظهر من انوار الفقاهة، ج 2، ص: 369

كلمات غير واحد

منهم أنّ السيّد لم يصرّح بهذه المقالة في الخمس بل الذي صرّح به هو كون ولد البنت ولداً حقيقة ففرعوا عليه ذلك.

قال العلّامة قدس سره في المختلف: «اختلف في استحقاق مَن أُمّه هاشمية وأبوه غير هاشمي، فاختار الشيخ في المبسوط والنهاية المنع من الخمس ويجوز له أن يأخذ الزكاة، واختاره ابن ادريس وابن حمزة، وذهب السيّد المرتضى إلى أنّ ابن البنت ابن حقيقة، ومن أوصى بمال لولد فاطمة دخل فيه أولاد بنيها وأولاد بناتها عليها السلام حقيقة، وكذا لو أوقف على ولده دخل فيه ولد البنت لدخول ولد البنت تحت الولد» «1».

وذكر الوصية والوقف دون ذكر الزكاةوالخمس دليل على أن السيّد لم يتعرض له في المقام بل تعرض للمسألة في مقامات أخرى فاستنبطوا منه حكم المقام زعماً منهم أنّ المسألتين من باب واحد.

وقال المحقّق القمّي في الغنائم: «المشهور بين الأصحاب أيضاً اشتراط الانتساب إلى عبدالمطلب بالأب ولا يكفي الانتساب بالامّ ... وخالف في ذلك المرتضى وابن حمزة محتجاً باستعمال لفظ الابن والبنت في المنتسب بالامّ، كما في تسمية الحسنين عليهما السلام بابني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله» «2».

وهذا التعبير أيضاً شاهد على ما ذكرنا، ولعلّ اختلاف كلماتهم في ما ذهب إليه ابن حمزة فنسب العلّامة إليه فيما عرفت من كلامه مذهب المشهور، ونسب إليه المحقّق القمّي مذهب السيّد أيضاً ناشى ء من هذا الأمر، فالعلّامة رأى فتواه في مذهب الخمس والمحقّق القمّي رأى قوله أنّ ولد البنت ولد حقيقة.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ غاية ما يمكن الاستدلال به على مذهب المشهور أُمور:

1- مرسلة حمّاد (ولا يضرّها الارسال أمّا لأنه من أصحاب الإجماع وأمّا لانجبارها بعمل المشهور) عن العبد الصالح قال: «.. ومن كانت

أُمّه من بني هاشم وأبوه من سائر قريش فإن الصدقات تحلّ له وليس له من الخمس شي ء» «3».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 370

فهذا الكلام صريح في مذهب المشهور ولا يبعد استنادهم إليه لأنّه أصرح شي ء في المقام، والمفروض أنّ الحكم على خلاف القاعدة لأنّ مقتضاها العموم لأنّ ولد البنت ولد حقيقة كما عرفت، فاستناد فتواهم إليه قريب جدّاً.

2- استقرار الفتاوى في الأبواب الاخر من المناكح والمواريث وغيرها على العموم مع استقرارها على الخصوص دليل واضح على وجود دليل صالح للاستناد إليه هنا، مع شدّة الابتلاء بها فقد قال صاحب مستند العروة إنّ الحكم لو شمل المنتسب إلى هاشم بالامّ دخل غالب الناس فيه فإنّه قلما يتفق عدم استناد المسلمين إليه من هذا الطريق في طول سلسلة نسبهم.

3- ويؤيده أو يشهد له ما ذكره صاحب مصباح الفقيه أنّه لو كان الانتساب إلى بني هاشم من قبل الامّ موجباً لحرمة الصدقة وإباحة الخمس، استقرت السيرة على ضبط النسبة وحفظها من الصدر الأوّل كي لا يرتكبوا الحرام، وتحل لهم الأخماس مع أنّه ليس كذلك بعدم جريان عادة المتشرعة على حفظ هذه الأنساب وضبطها كجريان عادتهم على حفظها من طرف الأب من أقوى الشواهد على أنّه ليس لها هذا الأثر في الشريعة.

(ولا يخفى أنّ عمدة الأثر الشرعي تظهر في هذين الحكمين حكم الزكاة وحكم الخمس).

4- يمكن الاستدلال له بما ورد من التعبير في الروايات فإنّ التعابير فيها مختلفة:

ألف: في بعضها ورد التعبير ب: «آل محمّد» (راجع الرواية 9 و 12 و 16 من الباب الأوّل من أبواب قسمة الخمس).

ب: في بعضها الآخر ورد التعبير ب: «أقرباء الرسول أو أهل بيته» (راجع 1 و 2 و 5 و 10 و 13

منه).

ج: في بعضها التعبير بقوله منا خاصة أو فينا خاصة (4 و 7 منه).

وهذه التعابير كلّها شاملة عامة للجميع.

لكن المصرّح به في روايات كثيرة في أبواب الزكاة هو عنوان بني هاشم وبني عبدالمطلب بحيث يظهر منه أن الحكم يدور مدار هذا العنوان. راجع الرواية (1 و 2 و 3 من انوار الفقاهة، ج 2، ص: 371

الباب 29 من أبواب المستحقين للزكاة).

والرواية (1 و 2 و 3 و 5 و 6 و 7 و 9 من الباب 32).

والرواية (1 من الباب 33).

والرواية (1 و 2 و 4 من الباب 34).

إلى غير ذلك وظاهر كونها في مقام البيان من حيث حرمة الصدقة على بني هاشم، وهي أكثر عدداً وأقوى ظهوراً وأظهر دلالة ممّا ورد في باب الخمس- كما لا يخفى على الخبير المتدبّر- ومن المعلوم أن عنوان بني هاشم وبني عبدالمطلب لا يصدق إلّاعلى من انتسب إليهما من طريق الأب، ولعلّ الأصحاب عند الجمع بين هذه التعبيرات المختلفة رأوا أنّ الأخير أقوى من بينها فأفتوا بمقتضاه.

اللّهم إلّاأن يقال: نسبة هذه الرواية مع الروايات السابقة (أي الطوائف الثلاث الأُولى) وإن كان نسبة المطلق والمقيد إلّاأنّهما من قبيل المثبتين، ومن المعلوم عدم التقييد في مثله.

وإن شئت قلت: إثبات جواز الخمس على بني هاشم (بناءً على اختصاص هذا العنوان بمن يكون نسبته من طريق الأب) لا ينافي العموم المستفاد من قوله آل محمّد أو قرابة الرسول أو غيرها من أمثالها، فإنّ إثبات الشي ء لا ينفي ما عداه.

ولكن الإنصاف أنّ هذه الروايات الواردة في أبواب الزكاة حيث وردت في مقام بيان عنوان المستحقين يستفاد منها المفهوم، فقوله عليه السلام في صحيحة الفضلاء: «إنّ الصدقة لا تحلّ لبني عبدالمطلب» «1»

وقوله عليه السلام في صحيحة

ابن سنان: «لا تحل الصدقة لولد العبّاس ولا لنظرائهم من بني هاشم» «2»

في مقام بيان جميع من يحرم عليه الصدقة ويحلّ له الخمس طبعاً، فاستفادة المفهوم منه وتقييد تلك الروايات السابقة بها غير بعيد.

وأوضح حالًا منها قوله في مرسلة حمّاد: «إنّما جعل اللَّه هذا الخمس خاصة لهم، يعني بني عبدالمطلب عوضاً لهم من صدقات الناس» «3».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 372

إن قلت: ما الدليل على اختصاص هذا العنوان بمن يكون منسوباً من قبل الأب فقط، لأنّا نعلم أنّ الابن هنا يشمل جميع الأولاد من المذكر والمؤنث لعدم اختصاص الخمس بالرجال من بني هاشم، والانتساب إلى هاشم كما يكون من قبل الأب يكون من قبل الامّ أيضاً؟

قلت: فرق بين مسألة النسب والقرابة والرحم، وبين مسألة القبيلة والطائفة- كما لا يخفى على من راجع العرف- فالأوّل لا فرق فيه بين الانتساب من ناحية الأب والامّ، لأنّه مسألة الدم وأخذ النطفة وتكوّنها، ولكن الثاني إشارة إلى حقيقة اجتماعية تدور مدار الأب فقط كالهاشمي أو التميمي أو القرشي، (ومثله بنو هاشم وبنو تميم أيضاً وبنو أسد لأنّ هذا التعبير بين العرب إنّما يكون إشارة إلى الطائفة والقبيلة) فلو تزوج رجل من بني أسد امرأة من بني تميم، عد أبنائهما من قبيلة بني أسد أي قبيلة الزوج لا من بني تميم.

وهكذا اليوم فإنّ الرجل إذا تزوج امرأة من قبيلة أخرى يسمّى الأولاد باسم قبيلة الرجل ويأخذون الجنسية باسم قبيلة الرجل لا المرأة، والظاهر أنّه لا يختصّ هذا المعنى بالعرب والعجم في جوامعنا بل الأمر كذلك في سائر جوامع العالم حتّى اليوم.

فالمنتسب لهاشم من قبل امّه إذا كان أبوه من بني أسد مثلًا لا يسمّى هاشمياً بل أسدياً وهكذا أشباهه.

ومن هنا يظهر

أنّ الأحكام التي تدور مدار النطفة والدم- مثل المناكح والمواريث- لا يفترق الحال فيها بين الانتساب من ناحية الأب أو الامّ، وأمّا الأحكام التي تدور مدار عنوان الطائفة فلا يجري الحكم إلّامن ناحية الانتساب من طريق الأبوة.

فهذا هو السرّ في الفرق الذي يستفاد من فتاوى المشهور من أعاظم العلماء وأساطين الفقه. ولكن الغافل عن هذا التفاوت يزعم أنّهم غفلوا عن وحدة الأحكام فتدبّر جيّداً.

إن قلت: النسبة بين الروايات الدالة على أنّ الخمس لمطلق قرابة النبي صلى الله عليه و آله والروايات الكثيرة الدالّة على أنّه لبني هاشم أو بني عبدالمطلب الظاهرة في خصوص من كان منسوباً إلى هذه الطائفة من طريق الأب هو العموم من وجه، لأنّ الأوّل لا يشمل أعمام النبي ونظراءَهم والحال أنّه يشمل بني هاشم.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 373

قلت: عدم شمول تلك العناوين لأعمامه صلى الله عليه و آله ونظرائهم أوّل الكلام لا سيّما مع العلم بدخولهم من القرائن الخارجية وأنّهم داخلون في هذا الحكم بالإجماع.

سلّمنا، إذا وقع التعارض من جهة العموم من وجه فحكمه التساقط لا الرجوع إلى المرجحات، وبعد التساقط فالأصل عدم جواز التعدي عن القدر المعلوم وهو المنتسب بالأب كما عرفت.

وممّا ذكرنا يظهر الوجه في الاستدلال بقوله تعالى: «ادْعُوهُمْ لَابَائِهِم» «1»

في مرسلة حمّاد بن عيسى بعد قوله: «ومن كانت امّه من بني هاشم وأبوه من سائر قريش فإن الصدقات تحلّ له وليس له من الخمس شي ء» «2».

فإن دعاءهم باسم آبائهم من أوضح القرائن على أن المعيار في معرفة الأشخاص في ذلك المجتمع كان من ناحية الأب وكذا شمول أسم القبيلة والطائفة كما أنّ المعمول اليوم أيضاً كذلك في المجتمعات العربية فيدعون كلّ إنسان باسم أبيه فيقال مثلًا سليمان محمود،

فالأوّل اسمه والثاني اسم أبيه.

والحاصل: أنّ هناك فرقاً بين قولنا ادعوهم باسم آبائهم لا باسم امّهاتهم وبين قولنا أنّهم بنو آبائهم لا بنو أُمّهاتهم.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ صاحب الحدائق رضى الله عنه قد أتعب نفسه الزكية بإثبات شمول الحكم للمنصوبين من ناحية الامّ ودافع عن هذا القول في كتابه الحدائق المجلد الثاني عشر بما يقرب من ثلاثين صفحة «3».

ولا بأس بالنظر الاجمالي إليها كي يتبيّن حالها، والناظر في كلامه يرى فيها الأُمور التالية:

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 374

1- قسم كبير منها ناظر إلى بيان أقوال الفقهاء لا في المسألة، بل في الأبواب الاخر في إثبات أنّ ولد البنت ولد في الحقيقة كأبواب المواريث والأوقاف والوصايا.

وقد عرفت أنّها كلّها خارجة عن محل الكلام لأنّ كون ولد البنت ولداً حقيقة ممّا لا ريب فيه، ولذا يترتب عليها أحكام الولد بلا كلام في الارث والمناكح، إنّما الكلام في وجود خصوصية في باب الخمس يوجب اختصاص الحكم لمن ينتسب من قبل الأب فقط.

2- قسم كبير آخر منها ناظر إلى الروايات الدالّة على أنّ ولد البنت ولد حقيقة، وأنّ أئمّة أهل البيت الهداة المهديين عليهم السلام أولاد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حقيقة لا مجازاً.

وهذا أيضاً حقّ لا ريب فيه ولكن خارج عن محلّ الكلام.

3- قد جعل أحسن الأدلة في المقام مرسلة حمّاد، ثمّ أورد عليها بأنّها ضعيفة السند على مصطلح القوم وإن كانت صحيحة على مختاره، وأورد عليها أيضاً بأنّها مخالفة لكتاب اللَّه أوّلًا، وموافقة للعامة ثانياً.

أمّا مخالفتها لكتاب اللَّه فلأنّه دالّ على أن ابن البنت ابن حقيقة، وأمّا مخالفته للعامّة فلما ذكره السيّد المرتضى رحمه الله من أنّ مخالفينا لا يوافقوننا في تسمية ولد البنت ولداً على الحقيقة.

وفيه:

أوّلًا: أنّ المرسلة منجبرة بعمل الأصحاب كما عرفت فهي معتبرة على اصطلاحنا أيضاً.

وثانياً: أوّل المرجحات هي الشهرة كما ذكر في محلّه، والشهرة هنا موافقة لحرمان أولاد البنت.

وثالثاً: قد عرفت مراراً أنه ليس الكلام في كون ولد البنت ولداً حقيقة، وأنّ المرسلة أيضاً لا تنفي ذلك حتّى تكون مخالفة لكتاب اللَّه بل هي ناظرة إلى النسب الاجتماعي والطائفي وإنّما هو إلى الأب لا الامّ، هكذا كان الأمر في الأعصار السابقة وفي عصرنا هذا.

ورابعاً: أنّ العامّة أيضاً لا يخالفوننا في إجراء أحكام الولد على ولد البنت، وإنّما أنكر بعض المعاندين منهم تسمية الأئمّة عليهم السلام باسم أولياء رسول اللَّه انكاراً لفضلهم.

4- وأخيراً ذكر في كلامه موارد من روايات أهل البيت عليهم السلام ورد التعبير فيها بالعلوي أو المحمّدي (لا في باب الخمس واشباهه بل في مناسبات أخرى .

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 375

ولكن من الواضح أنّها ليست ناظرة إلى عشيرة أو طائفة بهذا الاسم، بل إنّما هي في مقام بيان تشريف بعض الأشخاص وعلو منزلتهم مثلما قد يقال سلمان المحمّدي بدلًا عن سلمان الفارسي.

ثمّ قال صاحب الحدائق: «الظاهر أنّ معظم الشبهة عند من منع في هذه المسألة من تسمية المنتسب بالامّ ولداً بالنسبة إلى جدّه من أُمّه هو أنّه إنّما خلق من ماء الأب، والامّ إنّما هي ظرف ووعاء» «1». ثمّ أشار إلى حديثين أحدهما في بيان اعتراض هارون الرشيد على الإمام الكاظم عليه السلام بقوله لماذا لا تمنعون شيعتكم عن خطابكم بابن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟

فأجابه عليه السلام بقوله تعالى: «فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى ا لْكَاذِبِينَ» «2»

فإنّ المراد من الأبناء هو الحسن والحسين

عليهما السلام أبناء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وبقوله تعالى في سورة الأنعام (الآية 184).

والآخر هو قصة الحجاج مع الشعبي الذي كان من علماء العامة لكن كان له ميل إلى أهل البيت عليهم السلام فاطلع الحجاج على ذلك واستعظمه فأمر بعقد مجلس من علماء مصر واعترض فيه على الشعبي اعتراضاً شديداً، فأجابه الشعبي بالآية السابقة والحديث المعروف المنقول عن الرسول صلى الله عليه و آله: «إنّ هذا ابني حسن، فبهت الذي كفر».

ثمّ استدل في الحدائق لحسم مادة الشبهة عندالمشهور (على زعمه) بقوله تعالى:

«يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآئبِ» فإنّ الصلب من الرجل والترائب من المرأة، وقوله تعالى: «إِنَّا خَلَقْنَا ا لْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ» ففسّر الامشاج بنطفة مختلطة من نطفة الأب ونطفة الامّ، وبالأحاديث القائلة بأنّه إن سبقت نطفة الأب فكان الولد شبيهاً لأبيه، وإن سبقت نطفة الامّ فكان شبيهاً لأُمّه فلا مجال لما زعمه المشهور «3».

أقول: قد سبق أن قلنا إنّ الأمر اشتبه على صاحب الحدائق- رضوان اللَّه عليه- فتوهّم أنّ الموضوع في باب الخمس هو صدق الولد على أولاد البنت ولكن عرفت أنّ الحقّ خلافه، فإنّ للإنسان نسبتين:

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 376

الاولى: نسبته إلى أبيه وامّه وعليه فلا شك أنّ ولد البنت ولد حقيقة، وهذا هو موضوع البحث في أبواب المواريث والأوقاف والنكاح.

الثانية: نسبته إلى قومه نسبة اجتماعية ولا إشكال في ملاحظة الانتساب من طريق الأب فيها دون الامّ، والإضافة الملحوظة في إطلاق الهاشمي أو بني هاشم على شخص فإنّما هي الإضافة الاجتماعية من أجل التمييز بين القبائل والأنساب.

وقد قال المجلسي الأوّل رحمه الله: الاحتياط عدم أخذ المنتسب إلى الامّ من الخمس ولا الزكاة.

لكن لا يخفى أنّ هذا خلاف الاحتياط جدّاً إذ

الخمس والزكاة شرعاً لإغناء الفقراء ورفع حوائجهم، فكيف يجوز منع كثير من الناس وهم المنتسبون إلى هاشم من ناحية الامّ عن الخمس والزكاة؟!

ثمّ هل يكون المستحقّ للخمس منحصراً في بني علي عليه السلام وبني فاطمة أو يشمل مطلق بني هاشم؟

قال صاحب الجواهر: الإجماع محصل ومنقول عليه يعني على استحقاق مطلق بني هاشم علوياً كان أو عباسياً أو عقيلياً أو غيرهم «1».

ولا يخفى أنّ ولد هاشم منحصر في عبدالمطلب وقد اختلف في عدد أولاده بين العشرة وأحد عشر واثنى عشر، وقد بقى خمسة منهم وهم عبداللَّه وأبو طالب وعبّاس وحمزة وزبير، وأمّا عبداللَّه وأبو طالب فصار نسلهما نسلًا واحداً لزواج علي عليه السلام وفاطمة عليها السلام وأمّا أبناء عقيل بن أبي طالب فلم يعرف أحد منهم، وأمّا حمزة والزبير فلم يبق منهما نسل.

وقد استدلّ على المجمع عليه بين الأصحاب أوّلًا: بأخبار كثيرة قد سبقت بعضها من جعل الحكم على عنوان المطلبي والهاشمي.

وثانياً: بما رواه عبداللَّه بن سنان عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «لا تحلّ الصدقة لولد عبّاس ولا لنظرائهم من بني هاشم» «2».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 377

وهذه الرواية صحيحة معمول بها بين الأصحاب، وقد ذكر عليه السلام فيها بني عبّاس بالخصوص ثمّ عمّم الحكم لمطلق بني هاشم.

لكن هناك أخبار قد يستشم منها الخلاف، لترتب الحكم فيها على عنوان بني فاطمة، والتعبير بأنّ الخمس فينا خاصة.

والحقّ أنّها في مقام بيان الفرد الجليّ لا اقتصار الخمس على بني فاطمة عليهم السلام ولا شك في كون رواية عبداللَّه بن سنان وما وافقها من الأخبار أقوى من هذه الروايات.

ثمّ إنّ السيادة أمر معنوي ناشي ء من وجود الرسول صلى الله عليه و آله المبارك فإنّه صلى الله عليه و آله

كان سيّداً بذاته فسيادة هاشم كانت منه صلى الله عليه و آله لا بالعكس وهذه السيادة قد أثرت في أبنائه إلى يوم القيامة، وأمّا سيادة عبداللَّه وعبدالمطلب وهاشم فلقد كانت من أثر نورانية وجوده صلى الله عليه و آله لكونهم حاملين لنوره صلى الله عليه و آله في صلبهم.

وأمّا أبو هاشم وسائر أجداده- رضوان اللَّه عليهم- فلا يكفي الانتساب إليهم (لو ثبت) في سيادة الشخص، وذلك لا لعدم تأثير نور وجوده صلى الله عليه و آله فيهم فإنّه ممتد إلى آدم عليه السلام بل لمحدودية الانتساب الاجتماعي، فتدبّر.

الثانية: قال المحقّق اليزدي في العروة: «وينبغي تقديم الأتم علقة بالنبي صلى الله عليه و آله على غيره أو توفيره كالفاطميين» «1» وقد تبع في ذلك صاحب الجواهر وغيره- قدس اللَّه أسرارهم- حيث صرّح في بعض كلماته بعد نقل كلام الدروس «ينبغي توفير الطالبيين على غيرهم وولد فاطمة على الباقين» ثمّ قال: «ولا بأس به خصوصاً الثاني منه بل ولا بما في كشف الغطاء أنه ليس بالبعيد تقديم الرضوي ثمّ الموسوي ثمّ الحسيني والحسني وتقديم كل من كان علاقته بالأئمّة عليهم السلام أكثر» «2».

وقد أفتى في نجاة العباد أيضاً بمثل ذلك وقال: «وينبغي تقديم الأتم علقة بالنبي صلى الله عليه و آله على غيره أو توفيره» «3».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 378

والمراد من التوفير، جعل سهامهم أزيد من غيرهم في خصوص ما يحتاجون لا أزيد من مقدار الحاجة، كما أنّ المراد من التقديم إعطاؤهم وعدم إعطاء غيرهم إذا لم يكن المال بمقدار يرفع حاجة كليهما، هذا ولم يذكر دليلًا على هذا المعنى ولعلّه لوضوحه فإنّ المستحقّ وإن كان كلّ هاشمي، إلّاأنّ حفظ حرمة من كانت علاقته أتم يكون حفظاً

لحرمة النبي صلى الله عليه و آله.

هذا ولكن قد يكون هذا معارضاً لجهة أخرى توجب أولوية غيرهم، كما إذا كان غيرهم شديد الحاجة بخلافهم، أو كان العلوي أو الحسني أتقى وأفضل وأشدّ علاقة بخدمة الإسلام من الرضوي أو الموسوي أو شبه ذلك.

الثالثة: بماذا يثبت النسب؟

الظاهر أنّ طريق ثبوته كسائر الموضوعات، فلابدّ من أن يثبت بالعلم أو الشياع المفيد له أو قول البيّنة لو قامت بيّنة في مثل المقام، بل الظاهر كفاية الشياع والاشتهار في بلده وإن لم يوجب ذلك علماً، وذلك لجريان السيرة عليه في باب الأنساب بل ليس له طريق غالباً إلّا هذا، بحيث لو لم نقبل الشياع في بلده انسد طريق إثبات النسب في غالب الموارد.

وإن شئت قلت: مقدمات الإنسداد الصغير قائمة هنا فلابدّ من الأخذ بها والعمل على وفقها، ولكن العدول إلى كلّ ظنّ مشكل، لأنّ نتيجة مقدمات الإنسداد مهملة فلابدّ من الأخذ بالقدر المتيقن وهو الشياع في البلد.

والحاصل: أنّ قيام السيرة من جانب، وإمكان تحصيل مقدمات الإنسداد الصغير من جانب آخر- لعدم إمكان تعطيل أحكام الأنساب- يوجب التعويل على مثل هذا الشياع.

ولعلّ هذا هو المراد ممّا ذكره الصدوق رحمه الله فيما رواه بعض الأعلام منه أنّه: «يؤخذ بظاهر الحال في خمسة امور: الولايات والمناكح والذبائح والشهادات والأنساب» وإلّا ليس هنا طريق إلى ظاهر الحال إلّاما ذكر.

نعم، الأخذ بزي السادة من العمامة السوداء أو الخضراء في بلده الذي يعرفه الناس أيضاً دليل على اشتهاره بالنسب فيه، وإلّا لم يكن يقدر على الأخذ بزيّهم كما هو واضح، ويمكن أن يكون كلام الصدوق إشارة إليه.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 379

ثمّ إنّه هل يصدق مدعى النسب أم لا؟ قال صاحب كشف الغطاء: «إنّه يصدق مدعى النسب

إن لم يكن متهماً كمدّعى الفقر» وخالفه في ذلك صاحب الجواهر وتبعه صاحب العروة وجماعة من المحشّين وصاحبا المستمسك ومستند العروة.

ويدلّ على ذلك- أي عدم تصديق المدّعى- أنّه لم يقم دليل على كفاية الادّعاء في ذلك ومقتضى الأصل عدم براءة الذمّة بدفع الخمس إليه، فإنّه مال السادة ولا يجوز دفعه إلى مشكوك الحال.

وقد يقال: إنّ مقتضى استصحاب العدم الأزلي أيضاً عدم الانتساب إلى هاشم ولا يعارضه عدم الانتساب إلى غيره أيضاً، لأنّ الأوّل له الأثر الشرعي والثاني لا أثر له «1».

إن قلت: أثره جواز إعطاء الزكاة له.

قلت: هذا من آثار عدم الانتساب إلى هاشم لا من آثار انتسابه إلى غيره فتأمل جيّداً.

والعمدة إنّا ذكرنا في محلّه عدم حجية استصحاب العدم الأزلي لعدم الحالة السابقة له في نظر العرف، فإنّ زيداً مثلًا قبل تولده لم يكن شيئاً مذكوراً حتّى يقال إنّه منتسب إلى هاشم أو ليس منتسباً إليه، والمنتفي بانتفاء الموضوع إنّما هو شي ء حاصل بالدقّة العقلية الخارجة عن افهام العرف.

وإن شئت قلت: إنّ السالبة في الحالة السابقة هي السالبة بانتفاء الموضوع وفي الثانية بانتفاء المحمول، فاتحاد القضيتين المعتبر في صحّة الاستصحاب غير حاصل هنا.

أمّا قياس المسألة على مسألة مدّعى الفقر، فقياس مع الفارق لأنّ مدّعى الفقر مسبوق به لكون الفقر موافقاً للأصل في كلّ إنسان إلّاما شذّ، ولكن قد عرفت أنّ الاستصحاب غير جارٍ في مسألة الانتساب إلى هاشم.

هذا مضافاً إلى أن تصديق مدّعى الفقر أيضاً محل إشكال، بل المتيقن منه هو قبول من يكون ظاهره الفقر وإن كان يكفي فيه الظنّ كما ذكرنا في محلّه في الزكاة.

هذا وقد يستند لجواز التصديق بأصالة صحّة دعوى المسلم فيما لا يعارضه فيه أحد

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 380

كما

جرت عليه سيرة العقلاء، فمن ادّعى أنّ الكيس المطروح في الطريق ماله وقد أخذه بنفسه من الطريق، حكم له بالملكية وجرت عليها آثارها.

وقد ورد ذلك في الحديث أيضاً، ففي مرسلة منصور بن حازم عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال:

قلت: عشرة كانوا جلوساً وسطهم كيس فيه ألف درهم، فسأل بعضهم بعضاً ألكم هذا الكيس؟ فقالوا كلّهم: لا. وقال واحد منهم: هو لي. فلمن هو؟ قال: «للّذي أدّعاه» «1».

وبعض طرق الحديث خال عن الارسال.

وهكذا الروايات الكثيرة الدالّة على قبول ادّعاء المرأة عدم كون الزوج لها (راجع الباب 23 و 24 من أبواب عقد النكاح إلى غير ذلك) فجميع ذلك دليل على قبول قول المدّعى إذا لم يعارضه غيره.

وفيه: أنّه لا دخل لها بما نحن فيه، فإنّ الكلام هنا في جواز دفع مال له مالك خاصّ إلى من لا يعرفه، وأين هذا من أخذ المدّعى المال الذي لا نعلم مالكه؟ وما نحن فيه إنّما هو من قبيل ما إذا كان هناك مال من الموقوفة أو من الارث، وادّعى واحد أنّه من الموقوف عليهم أو من أبناء الميّت، فلا إشكال ولا كلام في عدم جواز دفعه إليه بمجرّد هذه الدعوى، ومسألة دعوى الخلو عن الزوج أيضاً مسألة خاصة واردة في مورد خاصّ لا يتعدى منه إلى غيره.

بقي هنا شي ء:

وهو قول صاحب الجواهر إنّه يمكن الاحتيال في الدفع إلى المجهول المدّعى للنسب بأن يوكله صاحب الخمس في دفع خمسه إلى مستحقه إذا فرض عدالته أو قلنا بعدم اشتراطها فأخذه لنفسه، فإنّه يكفي ذلك في براءة ذمّته فإنّ المدار على علم الوكيل لا الموكّل لكنه لا يخلو من تأمل «2».

وتبعه المحقّق اليزدي رحمه الله في العروة وقد خالفه كثير من المحشّين.

انوار

الفقاهة، ج 2، ص: 381

أقول: الإنصاف أنّه لا فائدة في هذا الاحتيال ولا جدوى من ورائه، وذلك لأنّ مقتضى وجوب أداء الأمانات إلى أهلها- وحقّ السادة في يد المالك بمنزلة الأمانة- هو تحصيل العلم أو الحجّة الشرعية بوصولها إلى مالكها، ومجرّدالتوكيل غيركافٍ في ذلك ما لم يعلم بذلك، فهل يكفي في أداء الديون أوالأمانات توكيل رجل غير موثوق به ويكتفي بادّعائه في الايصال، وهل يكفي علم الوكيل أو ادّعاؤه العلم في ذلك، وهل تحصل البراءة بمجرّد ذلك؟ لا أظن أحداً يلتزم بذلك في أبواب الديون، وما نحن فيه من قبيلها.

ولذا قلنا في باب الاستئجار للحجّ إنّ مجرّد دعوى الأجير غير كافية في الحكم ببراءة ذمّة الميّت، بل لابدّ من العلم أو الوثوق.

نعم، إذا كان ثقة أمكن الاعتماد عليه نظراً إلى ما هو المختار من حجّية قول العدل الواحد أو الثقة في الموضوعات (في غير أبواب الدعاوى) ولكن مثل هذا غير محتاج إلى التوكيل، فالتوكيل لا يغني في المقام شيئاً.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ ما رواه الصدوق رحمه الله من أنّه يؤخذ بظاهر الحال في خمسة أُمور:

الولايات والمناكح والذبائح والشهادات والأنساب (كما رواه صاحب مستند العروة) غير دالّ على شي ء ممّا نحن فيه، لأنّ الأخذ بظاهر الحال غير الأخذ بمجرّد الدعوى كما هو ظاهر.

المسألة الرابعة: هل يجوز إعطاء الخمس لواجبي النفقة كما إذا كانت زوجته من بني هاشم فدفع نفقتها إليها محتسباً لها من الخمس الواجب عليه؟

المحكى عن شيخنا الأنصاري قدس سره: الجزم بعدم جوازه، ومال إليه أو أفتى به صاحب مستند العروة، وذكره المحقّق اليزدي رحمه الله في العروة بعنوان الاحتمال من دون جزم بالحكم، ولكن قواه- أي عدم الجواز- سيّدنا الحكيم رحمه الله وغيره في بعض الحواشي وهو

الأقوى كما ذكرناه في تعليقاتنا على العروة.

وذلك لما يظهر من بعض التعليلات الواردة في كتاب الزكاة الشامل للمقام، مثل ما ورد في صحيحة عبدالرحمن بن الحجاج عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «خمسة لا يعطون من الزكاة

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 382

شيئاً: الأب والامّ والولد والمملوك والمرأة، وذلك إنّهم عياله لازمون له» «1».

وفي الحقيقة هذا تعليل بأمر عقلي لا أمر تعبدي فإنّ الخمس أو الزكاة من الواجبات المالية التي تصرف في مصارفها، وأمّا ما يصرف في مصارف الإنسان نفسه فلا ربط له بمسألة الخمس أو الزكاة، ومن الواضح أنّ مصارف واجب النفقة مصارف شخصه فإنّهم لازمون له كما في الحديث.

وإن شئت قلت: إنّ ايجاب الخمس أمر وراء الواجبات الأخرى فلا يتداخل معه، بناءً على أنّ الأصل عدم تداخل الأسباب لظهور كلّ سبب في مطالبة مسبب خاصّ به، ولذا لو نذر انفاق شي ء في سبيل اللَّه إذا قضى اللَّه حاجته، لا يكفيه الانفاق على واجب النفقة بلا إشكال، ومثل هذا التعليل ما ورد في مرفوعة عبداللَّه بن الصلت عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّه قال:

«خمسة لا يعطون من الزكاة: الولد والوالدان والمرأة والمملوك، لأنّه يجبر على النفقة عليهم» «2».

يعني هذا أمر واجب آخر لو تخلف عنه يجبر عليه فكيف يكفي عن الزكاة، ومن الواضح أنّ هذا التعليل بعينه جار في الخمس أيضاً.

ويؤيّده حرمة ذلك في باب الزكاة بالإجماع بل كونها أمراً مفروغاً عنه عند أصحاب الأئمّة عليهم السلام ولذا سأل إسحاق بن عمّار عن أبي الحسن موسى عليه السلام وقال: فمن ذا الذي يلزمني من ذوي قرابتي حتّى لا احتسب الزكاة عليهم؟ فقال: «أبوك وأُمّك» الحديث «3».

فقد سأله عن بعض مصاديق واجب النفقة وكان أصل حكم تحريم

الزكاة عليهم معلوماً عنده مفروغاً عنه، وحيث إنّ الخمس بدل عن الزكاة يكون شبيهاً له في الأحكام غالباً (وهذا مؤيّد لا دليل كما عرفت سابقاً).

نعم يجوز الانفاق عليهم من الخمس أو الزكاة لُامور:

1- لما يحتاجون إليه ممّا لا يكون من النفقة الواجبة كنفقة من يعولون، فإنّ نفقة زوجة الابن غير واجبة على الأب ولو كان فقيراً، وإنّما يجب عليه نفقة نفسه.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 383

2- للتوسعة عليهم فيما لا يجب من باب النفقة مثل اشتراء الكتب التي يحتاج إليها ولده كما إذا كان من أهل العلم، أو الانفاق عليه لسفر الحجّ ومثله.

3- إذا لم يقدر الأب على تحصيل نفقتهم وكانوا فقراء، فإنّه يجوز الانفاق عليهم من باب الخمس أو الزكاة لما ذكرناه في أبواب الزكاة فإنّه يجري دليله هنا أيضاً كما لا يخفى على الخبير.

المسألة الخامسة: هل يجوز دفع أكثر من مؤونة سنة واحدة لمستحقّ سواء كان تدريجاً أو دفعة واحدة؟

قال المحقّق النراقي رحمه الله في المستند: «ظاهر الأكثر أنّه لا يعطي فقير من الخمس أزيد من كفاية مؤونة السنة على وجه الاقتصاد ولو دفعة واحدة، (ثمّ قال:) والحق أنّ حكم نصف الأصناف (سهم السادة) حكم الزكاة ويجوز إعطاء الزائد من المؤونة دفعة واحدة- أي قبل خروجه عن الفقر- لإطلاق الأدلة، وأمّا نصف الإمام عليه السلام فلا يجوز إعطاء الزائد من مؤونة السنة على وجه الاقتصاد قطعاً، لأنّه القدر المعلوم إذنه فيه، بل يعلم عدم رضاه بغير ذلك مع وجود المحتاج غيره، بل يشكل إعطاء قدر مؤونة السنة كاملة لواحد مع وجود محتاج بالفعل» «1».

وقال صاحب الجواهر ما حاصله: الأقوى في النظر وفاقاً للدروس والمسالك وغيرهما بل لا أجد فيه خلافاً أنّه لا يجوز إعطاء

الفقير من الذرية زائداً عن مؤونة السنة وإن كان دفعة «2».

واختاره بعض الاساتذة الكرام في مستند العروة، ولكن احتاط المحقّق اليزدي رحمه الله فيها بعدم الجواز من دون الفتوى به.

ولكن الإنصاف عدم الجواز هنا وكذا في أبواب الزكاة وإن كان الحكم مشهوراً بينهم هناك أو ادّعى الإجماع عليه، ويدلّ عليه ذا أمور:

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 384

الأوّل: لا إشكال في أنّ الضرائب والماليات كانت بين العقلاء من أهل العرف قبل الإسلام، وكانت سنوية كما هو اليوم كذلك، فكلّ حكومة لها نظام سنوي بحسب الخراجات والضرائب تحسب فيه مداخلها ومصارفها في كلّ سنة، فكما أنّ الماليات سنوية، فمصارفها أيضاً كذلك، وقد جاء الشرع القويم وأتى بضرائب خاصة مشتملة على مصالح الأُمّة ورفض الخرائج الظالمة، ولكن أمضى طريقة السنوية فيها غالباً كما في زكاة النقدين والأنعام الثلاث، بل زكاة الغلات أيضاً سنوية غالباً، وهكذا خمس أرباح المكاسب والخراج.

ومن الواضح أنّ هذه الضرائب كما تكون سنوية فكذلك مصارفها تكون بحسب السنة، كما أنّ مدار الفقر والغنى أيضاً بتملك ما يحتاج إليه في السنة وعدمه، فعلى هذا لا يجوز دفع أكثر من مؤونة السنة لا هنا ولا في الزكاة وإن ادّعى الإجماع عليه هناك.

الثاني: مع قطع النظر عمّا ذكرنا فالأدلّة قاصرة عن إثبات الأزيد من مؤونة السنة، إمّا تدريجاً فواضح لأنّه بعد ما صار غنياً بدفع مؤونة السنة يخرج عن عناوين المستحقين للخمس ويدخل تحت عنوان الغنى، وإمّا دفعة فلأنّ إطلاقات جواز دفع الخمس إلى الفقير من بني هاشم والزكاة إلى فقراء الناس منصرفة إلى ما يدفع به فقرهم لا أزيد، فإنّ هذا هو العلّة لتشريع الخمس والزكاة فإعطاء الأزيد مشكل جدّاً، لا سيّما أنّه ليس للأزيد في كلماتهم فيما

رأيناه حدّ فيجوز إعطاء جميع الأخماس أو زكوات بلد واحد لفقير واحد وإن صار به أغنى أغنياء البلد، ومن الواضح أنّ الالتزام به غير ممكن لمن كان له المام بمدارك الحكم ومصادر تشريع الخمس والزكاة.

الثالث: ما أفاده صاحب مستند العروة من أنّ العبرة في الغنى والفقر إنّما هي بملاحظة حال الإعطاء لا قبله ولا بعده، فلو أعطاه زائداً على حدّ الغنى (أي مصارف السنة) كان دفع الزائد إلى الغني فهو غير جائز.

وإن شئت قلت: لا يجوز إعطاء الخمس لغني في حال إعطائه، والمفروض أنّه بإعطاء مؤونة السنة يصير غنياً فإعطاء الزائد في تلك الحالة يكون إعطاء للغني وهو غير جائز، هذا ملخص كلامه «1» وهو جيّدا.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 385

إن قلت: ظاهر الأدلة تحقق موضوع الفقر والغنى قبل ذلك.

قلت: دعوى الظهور ممنوعة في جميع الموارد، ولو فرض صحتها في غير المقام فهي غير صحيحة في محل الكلام لمناسبة الحكم والموضوع كما لا يخفى.

والأصحاب القائلون بالجواز في مسألة الزكاة لم يقيموا عليه من الأدلّة ما تطمئن به النفس- كما ذكر في محلّه- فالأقوى عدم الجواز في المقامين، بل لا يبعد عدم جواز إعطاء مؤونة السنة أيضاً في بعض المقامات إذا كان بنو هاشم في عسرة شديدة، ويكون تخصيص بعضهم بمؤونة السنة موجباً لحرمان الباقين ووقوعهم في حرج شديد.

المسألة السادسة: في حكم الخمس في زمن الغيبة بالنسبة إلى سهم السادة وسهم الإمام عليه السلام وهذه المسألة معركة للآراء، وقد وقع فيه اضطراب شديد في كلماتهم وإن كان أكثر العلماء كما نسب إليهم على تولى نائب الغيبة عنه عليه السلام في سهمه أو في جميع السهام سهم الأصناف الثلاثة وسهمه عليه السلام.

واللازم نقل الأقوال في المسألة ثمّ الرجوع

إلى الأدلة، وإن كان كثير من هذه الأقوال واضح الضعف بل بعضها غير قابلة للذكر، ولكن نذكرها دفعاً لما وقع في بعض النفوس من الشك في هذه المسألة فنقول ومنه جلّ ثناؤه التوفيق والهداية:

ذكر المحقّق رحمه الله في الشرائع: فيه أقوال خمسة، ولكن صاحب الحدائق ذكر أنّها أربعة عشر قولًا «1» نذكرها ملخصاً مع تقديم وتأخير كثير فيها، لرعاية الأهم فالأهم ولجهات أخرى وستعلم أنّ بعض هذه الأقوال ليس من أقوال المسألة حقيقة.

1- أنّه يسقط في زمن الغيبة ويباح للشيعة، حكاه صاحب المختلف عن سلّار وحكاه صاحب الحدائق عن صاحب الذخيرة المحقّق السبزواري ثمّ قال، وهذا القول مشهور الآن بين جملة من المعاصرين.

2- حصّة الأصناف الثلاثة تؤدّي إليهم وأمّا حصة الإمام عليه السلام فتقسم على الهاشميين أيضاً توفيراً لهم (ذكره المحقّق رحمه الله في الشرائع بعد ذكر الأقوال السابقة وجعله الأشبه) وقال انوار الفقاهة، ج 2، ص: 386

صاحب الحدائق: هو المشهور بين المتأخرين كما نقله شيخنا الشهيد الثاني رحمه الله في الروضة.

3- يصرف النصف إلى الأصناف، وأمّا الباقي فيصرف إليهم أيضاً، ومع عدم حاجة الأصناف يباح للشيعة وهو مختار الشيخ الحرّ العاملي رحمه الله في الوسائل.

4- يصرف النصف إلى الأصناف الثلاثة وجوباً أو استحباباً ويحفظ نصيب الإمام إلى حين ظهوره، ولو صرفه العلماء إلى من يقصر حاصله من الأصناف كان جائزاً وهو اختيار الشهيد رحمه الله في البيان.

5- عزله والوصية به من ثقة إلى آخر إلى وقت ظهوره عليه السلام ذهب إليه المفيد رحمه الله في المقنعة.

6- يدفع النصف إلى الأصناف، وأمّا حقّه فيجب حفظه كما عن أبي الصلاح وابن البرّاج وابن ادريس واختاره العلّامة رحمه الله في المختلف.

7- حصة الأصناف تصرف إليهم وحصته عليه

السلام تسقط لإباحتها، وهو ظاهر كلام صاحب المدارك والمحدّث الكاشاني رحمه الله.

8- حصة الأصناف تصرف إليهم وحصته عليه السلام لمواليه العارفين كما عن ابن حمزة.

9- يدفن جميعها حكاه شيخنا المفيد رحمه الله في بعض كلماته ولم يسم قائله.

10- يدفع النصف إلى الأصناف، وأمّا حقّه فيودعها من ثقة إلى ثقة أو يدفن وهو مذهب الشيخ رحمه الله في النهاية.

11- حصّة الأصناف تصرف إليهم، وأمّا حصّة الإمام فيتخيّر فيها بين الدفن والوصية بها وصلة الأصناف اختاره الشهيد رحمه الله في الدروس.

12- خمس الأرباح مباح للشيعة فإنّه بأجمعه للإمام عليه السلام دون سائر الأصناف، وأمّا سائر ما فيه الخمس فهو مشترك بينه عليه السلام وبين الأصناف، اختاره صاحب المعالم في المنتقى (ولكن لم يبين فيما حكى عن كلامه حال غير الأرباح وأنّه كيف يصرف).

13- قصر أخبار التحليل على جواز التصرف في المال الذي فيه الخمس قبل إخراج الخمس منه بأنّ يضمن في ذمّته، وهو مختار المجلسي قدس سره.

ومن الواضح أنّه ليس قولًا في المسألة بل هو توجيه لروايات التحليل.

14- لا يباح شي ء بالكلية حتّى من المناكح والمساكن والمتاجر التي أكّد جمهور

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 387

الأصحاب على إباحتها، وهو مذهب ابن الجنيد.

وغير خفي أنّ هذا أيضاً ليس قولًا في المسألة، بل هو قول بالخلاف في مسألة أخرى وهي مسألة تحليل المناكح والمساكن والمتاجر وسيأتي الكلام فيها إن شاء اللَّه.

فالأقوال في الواقع إثنا عشر قولًا وإن كان قد يحكى أقوال أخرى أيضاً في المسألة عن بعض آخر.

15- ويظهر من بعض كلمات المحقّق الهمداني رحمه الله في مصباح الفقيه قول آخر وهو صرف حصّة الأصناف إليهم والتصدق بمال الإمام عليه السلام نظراً إلى جواز التصدق بحال الغائب الذي تعذر ايصاله إليه

وعدم انحصار هذا الحكم لمجهول المالك، ولكن ذكر في آخر كلامه في المقام: «الإنصاف أنّ القول بجواز صرفه إلى الفقراء مطلقاً بل وكذا إلى سائر المصارف التي يحصل بها تشييد الدين وإعلاء كلمة الحقّ ممّا يكون القيام به من وظائف الإمام عليه السلام لا يخلو عن قوّة» «1».

16- لكن هنا قول آخر وهو المشهور بين أعاظم المتأخرين والمعاصرين وهو الأقوى في النظر والموافق للأدلة- كما سيأتي- وهو القول بصرف سهم الأصناف إليهم، وصرف سهم الإمام عليه السلام فيما يحرز رضاه به أي فيما كان يصرفه حال ظهوره فيه ممّا يرجع إلى تقوية الإسلام والمسلمين وتشييد الحوزات العلمية، وممّا يرتبط بأمر تبليغ الإسلام وأمر أهل البيت عليهم السلام في جميع أقطار الأرض، وبناء المساجد والمدارس والمكتبات وغيرها في موارد ليس لها باذل خير ومتبرع يتبرع به، وحفظ ضعفاء الشيعة في دينهم من شرّ الأعداء وفي دنياهم من الفقر وشبهها، بل وفي امور الخير ممّا يوجب حسن سمعة الإسلام والدين، ويدلّ على كون أحكامه في جانب حفظ المستضعفين من الناس إلى غير ذلك ممّا هو وظيفة الإمام عليه السلام ورئيس الحكومة الإسلامية، وقد كانوا يصرفون أموالهم في حياتهم عليهم السلام في هذه السبل كما لا يخفى، فهذا يحرز به رضاهم في صرف هذه الأموال.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى أدلة المسألة، والعمدة في اختلاف الأقوال الروايات الواردة

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 388

في باب تحليل الخمس وما يفهم منها ومن القرائن الاخرى، وقد أوردها صاحب الوسائل (رحمة اللَّه عليه) في الباب 4 من أبواب الأنفال وهي 22 رواية، وواحدة منها ما رواه عيسى بن المستفاد «1». لا تدلّ على أمر التحليل بل هي على خلاف المطلوب أدل، فقد صرّح فيها

بوجوب دفع الخمس إلى أهله مهما أمكن ولو بمقدار يسير، فلا دلالة لها على المقصود بل تدلّ على الخلاف.

وكذا لا دلالة على ما رواه معاذ بن كثير عن أبي عبداللَّه عليه السلام «2» فيبقى عشرون رواية وهي على طوائف.

الطائفة الاولى: ما يدلّ على اباحتهم عليهم السلام الخمس لشيعتهم، وهي بظاهرها في بدء النظر مع قطع النظر عن سائر الأدلة تساعد القول بالإباحة مطلقاً لا في زمن الغيبة بل وفي زمن ظهورهم عليهم السلام ممّا لا يقول به القائلون بالإباحة ظاهراً وهي:

1- ما رواه حكيم مؤذن بني عيس عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: قلت له: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ» قال: «هي واللَّه الافادة يوماً بيوم إلّاأنّ أبي جعل شيعتنا من ذلك في حلّ ليزكوا» «3».

وقوله «ليزكوا» وإن كان يحتمل أن يكون إشارة إلى زكاة النطفة ولكن ربّما يكون إشارة إلى تحليل المناكح فقط ولكن ظاهره عام يشمل هذا وغيره.

2- ما رواه إسحاق بن يعقوب فيما ورد عليه من التوقيع بخط صاحب الزمان- أرواحنا فداه- إلى أن قال عليه السلام: «وأمّا الخمس فقد أبيح لشيعتنا وجعلوا منه في حلّ إلى أن يظهر أمرنا لتطيب ولادتهم ولا تخبث» «4».

وقوله «لتطيب ولادتهم» قد يوهم التخصيص في إطلاق الخمس المذكور في الرواية فيكون ناظراً إلى خصوص تحليل المناكح، والعمدة أنّ الرواية وردت في جواب سؤال إسحاق بن يعقوب ولا نعلم ما هو سؤاله حتّى يكون الجواب ناظراً إليه، ومع الأسف لم يصل انوار الفقاهة، ج 2، ص: 389

إلينا سؤال وهذا من المشاكل في هذه الرواية الباهرة.

3- ما رواه الحارث بن المغيرة النصري قال: دخلت على أبي جعفر عليه السلام إلى أن قال: «إنّ لنا الخمس

في كتاب اللَّه، ولنا الأنفال،- إلى أن قال- اللّهم إنا قد أحللنا ذلك لشيعتنا» «1».

4- ما رواه ابن حمزة عن أبي جعفر (الباقر) عليه السلام في حديث قال: «فنحن أصحاب الخمس والفي ء، وقد حرمناه على جميع الناس ما خلا شيعتنا» «2».

5- ما عن تفسير الإمام الحسن العسكري عليه السلام عن آبائه عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «قد علمت يا رسول اللَّه إنّه سيكون بعدك ملك عضوض وجبر فيستولي على خمسي من السبي والغنائم ويبيعونه فلا يحلّ لمشتريه لأنّ نصيبي فيه فقد وهبت نصيبي منه لكلّ من ملك شيئاً من ذلك من شيعتي لتحلّ لهم منافعهم من مأكل ومشرب ولتطيب مواليدهم ولا يكون أولادهم أولاد حرام. قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: ما تصدّق أحد أفضل من صدقتك، وقد تبعك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في فعلك أحلّ الشيعة كلّ ما كان فيه من غنيمة وبيع من نصيبه على واحد من شيعتي ولا أحلّها أنا ولا أنت لغيرهم» «3».

وظاهر الرواية أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأميرالمؤمنين عليه السلام هما اللذان أحلّا الخمس للشيعة ومع هذا التحليل كيف يحتاج إلى تحليل غيرهما من الأئمّة الهادين عليهم السلام أليس هذا دليلًا على أنّ التحليل كان مقطعياً محدوداً بزمن خاصّ وهو زمنهم فليكن هذا على ذكر منك.

هذا مضافاً إلى أنّ التعبير بطيب الولادة قد يشعر بانحصار التحليل بالمناكح، فتدبّر.

6- ما رواه العياشي في تفسيره عن فيض بن أبي شيبة عن رجل عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إنّ أشد ما فيه الناس يوم القيامة إذا قام صاحب الخمس فقال: يا رب خمسي وإنّ شيعتنا

من ذلك في حلّ» «4».

ويحتمل اتحاد هذه الرواية مع ما سيأتي من رواية محمّد بن مسلم «5» فتكون ناظرة إلى انوار الفقاهة، ج 2، ص: 390

حلية المناكح فقط.

الطائفة الثانية: ما يدلّ على تحليلهم عليهم السلام لحقّهم مطلقاً الشامل للخمس وغيره من الحقوق من الأنفال وشبهها وهي أيضاً روايات:

7- ما رواه أبو بصير ومحمّد بن مسلم وزرارة كلّهم عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قال أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: هلك الناس في بطونهم وفروجهم لأنّهم لم يؤدوا إلينا حقّنا ألا وإنّ شيعتنا من ذلك وآبائهم في حلّ» «1».

ولكن لم يذكر فيه إلّاما يرتبط بالبطون والفروج فتأمل.

8- ما رواه علي بن مهزيار قال: «قرأت في كتاب لأبي جعفر عليه السلام من رجل يسأله أن يجعله في حلّ من مأكله ومشربه من الخمس. فكتب بخطه: من أعوزه شي ء من حقّي فهو في حلّ» «2».

ولكن ورد فيه التعبير بالعازة بمعنى النقصان، ولعلّه ناظر إلى موارد التعسر والضيق فلا يدلّ على العموم.

9- ما رواه داود بن كثير الرقي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سمعته يقول: «الناس كلّهم يعيشون في فضل مظلمتنا إلّاأنّا أحللنا شيعتنا من ذلك» «3».

10- وما رواه الحارث بن المغيرة النصري، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: قلت له: إنّ لنا أموالًا من غلات وتجارات ونحو ذلك وقد علمت أنّ لك فيها حقّاً؟ قال: «فلم أحللنا إذا لشيعتنا إلّالتطيب ولادتهم وكلّ من والى آبائي فهو في حلّ ممّا في أيديهم من حقّنا فليبلغ الشاهد الغائب» «4».

الطائفة الثالثة: ما دلّ على تحليل المناكح، وهي ناظرة إلى مورد خاصّ قد اشتهر

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 391

استثناؤه عن الخمس بين الفقهاء حتّى ادّعى عليه الإجماع، ويمكن أن تكون شاهدة

على الجمع بين المتعارضات كما سنشير إليه مبسوطاً إن شاء اللَّه.

وهي أيضاً روايات:

11- ما رواه ضريس الكناسي قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «أتدري من أين دخل على الناس الزنا؟ فقلت: لا أدري. فقال: من قبل خمسنا أهل البيت إلّالشيعتنا الأطيبين فإنّه محلل لهم ولميلادهم» «1».

والتعبير فيه بالزنا لعلّه بملاحظة حكمه الواقعي وإن كان في الظاهر محكوماً بالحلّية بمناسبة كون الوطء عن شبهة، فتدبّر.

12- ما رواه سالم بن مكرم وهو أبو خديجة عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: قال رجل وأنا حاضر: حلل لي الفروج، ففزع أبو عبداللَّه عليه السلام فقال له رجل: ليس يسألك أن يعترض الطريق إنّما يسألك خادماً يشتريها أو امرأة يتزوجها أو ميراثاً يصيبه أو تجارة أو شيئاً أعطيه، فقال: «هذا لشيعتنا حلال الشاهد منهم والغائب والميت منهم والحيّ وما يولد منهم إلى يوم القيامة فهو لهم حلال، أمّا واللَّه لا يحلّ إلّالمن أحللنا له، ولا واللَّه ما أعطينا أحداً ذمّة وما عندنا لأحد عهد (هوادة) ولا لأحد عندنا ميثاق» «2».

13- ما رواه محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام قال: «إنّ أشدّ ما فيه الناس يوم القيامة أن يقوم صاحب الخمس فيقول: يا ربّ خمسي وقد طيبنا ذلك لشيعتنا لتطيب ولادتهم ولتزكوا أولادهم» «3».

14- ما رواه الفضيل، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «من وجد برد حبّنا في كبده فليحمد اللَّه على أوّل النعم، قال: قلت: جعلت فداك ما أول النعم؟ قال: طيب الولادة، ثمّ قال أبوعبداللَّه عليه السلام: قال أميرالمؤمنين عليه السلام لفاطمة عليها السلام: أحلّى نصيبك من الفي ء لآباء شيعتنا ليطيبوا، ثمّ قال أبو عبداللَّه عليه السلام: إنّا أحللنا أُمّهات شيعتنا لآبائهم ليطيبوا» «4».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 392

1515-

ما رواه زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: «إنّ أميرالمؤمنين عليه السلام حللهم من الخمس يعني الشيعة ليطيب مولدهم» «1».

وهو من قبيل ما تكون العلّة فيه مخصصة.

16- ما رواه عبدالعزيز بن نافع، عن الصادق عليه السلام وهو حديث طويل يدلّ على أنّ بعض أصحابهم ممّن كان أبوه سباهم بنو أمية استحل منه من جهة حقّهم، فقال له عليه السلام: «أنت في حلّ ممّا كان من ذلك وكلّ من كان في مثل حالك من ورائي فهو في حلّ من ذلك» «2».

أقول: لا نعلم لماذا كان بعض أصحابه عليه السلام يستأذنونه بعد هذا الإذن العام، ولماذا كانوا مصرين على التصريح باسم كلّ واحد منهم بعد هذا العموم، ويظهر من هذا الخبر أيضاً أنّ إذنه يؤثر فيما سبق ويؤيّد مذهب الكشف في باب الفضولي، ويكون إذنه عليه السلام موجباً لصحّة نكاح الآباء والأُمّهات (مع كونهم عبيداً وإماء) من أوّل أمرهم، وإلّا على مبنى النقل إذا انعقدت النطفة حراماً لا تنقلب إلى غير ما هي عليه.

هذا وذكر الآباء فيه- مع أنّ الأُمهات اللاتي كن أرقاء أجدر بالذكر- لعلّه من جهة أنّ آباءَهم إذا كانوا سبايا وقد تزوجوا في تلك الحالة بإذنهم (مع عدم حقّ لهم في الإذن) أو باعوهم أو اعتقوهم وبعد ذلك تزوجوا، وقد كان عتقهم بغير إذن الإمام المعصوم عليه السلام باطلًا فهذا كلّه كان سبباً لبطلان نكاحهم، فدخل هؤلاء الأبناء الوحشة من ناحية عدم طيب المولد وخافوا أن يكونوا أولاد زنا، فأجاز لهم الأئمّة الهادين عليهم السلام من هذه الجهة بما تطمئن به نفوسهم بطيب الولادة.

الطائفة الرابعة: ما يدلّ على تحليلهم الخمس في زمن خاصّ ومقطع معين لما كانت الشيعة والموالين لأهل البيت عليهم

السلام في ضعف شديد وعسر أكيد، ومن هذا الباب:

17- ما رواه محمّد بن سنان، عن يونس بن يعقوب قال: كنت عند أبي عبداللَّه عليه السلام فدخل عليه رجل من القماطين فقال: جعلت فداك، تقع في أيدينا الأموال والأرباح انوار الفقاهة، ج 2، ص: 393

وتجارات نعلم أنّ حقّك فيها ثابت وأنا عن ذلك مقصّرون. فقال أبو عبداللَّه عليه السلام: «ما انصفناكم إن كلفناكم ذلك اليوم» «1».

وهذه الرواية من أبلغ ما يدلّ على أنّ عفوهم كان لمشاكل خاصة في ذاك الزمان بحيث لو لم تكن تلك المشاكل لما كان هناك سبب للعفو.

الطائفة الخامسة: ما يدلّ على تحليل الأنفال للشيعة وموالي أهل البيت عليهم السلام إلى أن يقوم القائم المهدي- أرواحنا فداه- وفي الحقيقة هذه الطائفة خارجة عن مبحث الأخماس وناظرة إلى مبحث الأنفال، ولكن نتعرض لها لاستيفاء جميع روايات هذا الباب وهي أيضاً روايات:

18- ما رواه أبو سيّار مسمع بن عبدالملك (في حديث) قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: إني كنت وليت الغوص فأصبت أربعمائة ألف درهم، وقد جئت بخمسها ثمانين ألف درهم، وكرهت أن أحبسها عنك، وأعرض لها وهي حقّك الذي جعل اللَّه تعالى لك في أموالنا. فقال:

«وما لنا من الأرض وما أخرج اللَّه منها إلّاالخمس، يا أبا سيّار! الأرض كلّها لنا، فما أخرج اللَّه منها من شي ء فهو لنا. قال: قلت له: أنا أحمل إليك المال كلّه. فقال لي: يا أبا سيّار! قد طيّبناه لك وحللناك منه فضمّ إليك مالك وكلّ ما كان في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محللون ومحلل لهم ذلك إلى أن يقوم قائمنا فيجيبهم طسق ما كان في أيدي سواهم، فإنّ كسبهم من الأرض حرام عليهم حتّى يقوم قائمنا فيأخذ الأرض

من أيديهم ويخرجهم منها صغرة» «2».

وصدر هذه الرواية وإن كان ظاهراً في تحليل الخمس لكن آخرها يشهد بأنّ جميع ما استفاده أبو سيّار من المنافع كان ملكاً للإمام عليه السلام، إمّا ملكاً تشريعياً معروفاً (وهذا إنّما يتمّ في الأنفال) أو ملكاً تشريعياً في طول ملك الناس بحيث لا ينافي كون المال ملكاً للناس يبيعونه ويشترونه بإذن المولى كما أنّ العالم كلّه ملك للَّه تكويناً وتشريعاً قبل أن يكون ملكاً

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 394

لهم عليهم السلام فهم قد أخذوا ملكهم عن اللَّه تعالى شأنه.

وعلى كلّ حال فإنّ ذيل الرواية دليل على خروجها عن مبحث الأخماس ودخولها في مبحث الأنفال، أو ما هو فوقها أعني ملكية جميع الأرض لهم بإذن اللَّه تبارك وتعالى لأنّه مالك الملوك.

19- ما رواه عمر بن يزيد قال: سمعت رجلًا من أهل الجبل يسأل أبا عبداللَّه عليه السلام عن رجل أخذ أرضاً مواتاً تركها أهلها فعمرها وكرى أنهارها وبنى فيها بيوتاً وغرس فيها نخلًا وشجراً؟ قال: فقال أبو عبداللَّه عليه السلام: «كان أميرالمؤمنين عليه السلام يقول: من أحيى أرضاً من المؤمنين فهي له وعليه طسقها يؤديه إلى الإمام في حال الهدنة فإذا ظهر القائم فليوطن نفسه على أن تؤخذ منه» «1».

20- ما رواه يونس بن ظبيان أو المعلى بن خنيس، عن أبي عبداللَّه عليه السلام ومحصلها أنّ جميع الأرض لهم وإن ما كان لهم فهو لشيعتهم «2».

والكلام فيه هو الكلام في رواية مسمع بن عبدالملك. وعلى كلّ حال فالطائفة الأخيرة خارجة عن نطاق البحث.

والذي يتحصّل من مجموع الطوائف الثلاث تحليلهم عليهم السلام الخمس لشيعتهم، أمّا في خصوص المناكح أو مطلقاً أو في خصوص حقّهم أعني سهم الإمام عليه السلام بناءً على عدم شمول عنوان

الحقّ لسهم السادة، وعلى كلّ حال لا تختص بزمن الغيبة فقط بل تشتمل أعصار الحضور أيضاً، بل من زمن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأميرالمؤمنين عليه السلام وفاطمة عليها السلام ولازمها سقوط الخمس بالمرة في جميع الأعصار، وحينئذٍ تكون مع قطع النظر عن الأخبار المعارضة الآتية غير حجّة في نفسها، لأنّها تكون معرضاً عنها للأصحاب بل مخالفاً للإجماع لأنّ سقوط الخمس في جميع الأعصار ممّا لم يقل به أحد، هذا أوّلًا.

أمّا ثانياً: فلازمه حرمان بني هاشم من الزكاة والخمس جميعاً، وهذا ممّا لا يمكن انوار الفقاهة، ج 2، ص: 395

الالتزام به، وتخصيص التحليل بسهم الإمام عليه السلام لا شاهد له، مخالف لإطلاقها أو صريحها، لأنّ طيب الولادة لا يحصل بمجرّد تحليل نصف الأخماس بل اللازم تحليل جميعها، واشتمال بعضها على مجرّد الحقّ لا يمنع عن عموم الباقي، مضافاً إلى أنّ الخمس بجميع سهامه تحت ولايتهم ولذا ورد تحليل الجميع في غير واحد منها في خصوص المناكح أو أعمّ منها كما عرفت.

وثالثاً: تحليل الخمس حتّى بالنسبة إلى سهم الإمام عليه السلام أيضاً مناف لحكمة تشريعية، لما قد عرفت أنّ حقّ الإمام ثابت له بما له من المنصب وبما له من الولاية على الخلق أجمعين وهذا المنصب له مصارف كثيرة لا تخفى على أحد، والخمس عون لهم على دينهم وعلى عيالهم وعلى مواليهم وسبب لحفظ أعراضهم (كما ورد في رواية محمّد بن زيد الطبري عن الرضا عليه السلام) «1».

حتّى أنّه في عصر الغيبة وإن كان هو عليه السلام غائباً ولكن وظائفه باقية على أيدي نوابه، وهل يمكن تعطيل الدين أو تعطيل أمر بني هاشم وغيرهم من فقراء الشيعة، أو ما يتعلق بنشر آثار أهل البيت عليهم

السلام في العالم وحفظ الشباب في مقابل تيارات دعايات الكفر والضلال، وحفظ طلاب العلم الذين يبذلون أنفسهم في طريق حفظ آثارهم عليهم السلام ونشرها في شيعتهم وفي أقطار العالم؟

فكيف يمكن تعطيل الخمس مع أنّ مصارفه باقية قائمة على قدميها، ومن المعلوم أنّ ما كانوا ينفقون منها على أنفسهم شخصياً كان قليلًا جدّاً في مقابل ما يتعلق بأموال المسلمين من هذه الحقوق، وفي الحقيقة أمر الإمام عليه السلام في عصر الغيبة كأمر زعيم قوم يسافر من بينهم وحده إلى سفر طويل وتبقى عائلته ومن هو تحت نفقته، فهل يمكن تعطيل جميع أُموره وترك الانفاق على عائلته من حقوقه استناداً إلى أنّه قد سافر مع أنّ وكلاءه موجودون حاضرون وحقوقه وأمواله أيضاً موجودة، وهل يعقل المعاملة مع أمواله معاملة مجهول المالك، أو من غاب عن ملكه، أو يدفن تحت الأرض، أو يعطى إلى ثقة ومنه إلى ثقة أخرى ويبقى أفراد عائلته مشردين محرومين، وأُموره معطلة ووكلاؤه صفر الأيدي؟ كلّا إنّ جميع انوار الفقاهة، ج 2، ص: 396

ذلك ممّا يقطع ببطلانه.

وإن شئت قلت: إن لم تكن حكمة في تشريع هذا الحكم لكان الواجب عدم تشريعه من أوّل الأمر، وإن كان فيه حكمة (كما أنّه كذلك) والحكمة باقية لا معنى لتحليله مطلقاً.

نعم يمكن تحليلها مؤقتاً وفي بعض الأوقات لمقاصد خاصة لا غير.

فإذا لم يمكن العمل بهذه الروايات لمنافاتها للإجماع وحكم العقل وحكمة التشريع على ظاهرها، فلابدّ من حملها على أحد أمرين:

1- حملها على خصوص تحليل المناكح وشبهها من المتاجر والمساكن (كما سيأتي الكلام فيها إن شاء اللَّه).

2- حملها على تحليل مالكي خاصّ في بعض الأزمنة أو الأمكنة، أو بالنسبة إلى أشخاص معلومين لا تحليل تشريعي عام، وقد عرفت أنّ في

غير واحد منها شاهداً عليه:

«منها» ما عرفت في ما رواه يونس بن يعقوب عن الصادق عليه السلام حيث قال: «ما أنصفناكم إن كلفناكم ذلك اليوم» «1».

وليس ناظراً إلى التقية بل إلى كون الشيعة في عسر شديد.

وهكذا قوله: «من أعوزه شي ء من حقّي فهو في حلّ» الوارد في ما رواه علي بن مهزيار في رواية صحيحة عن أبي جعفر عليه السلام «2» فإنّ العازة دليل على عدم التحليل مطلقاً، وحينئذٍ تقيد جميع إطلاقات هذا الباب بمفهوم هذه الصحيحة ويقال إنّ التحليل في مورد العازة والنقصان فقط لا مطلقاً.

الروايات المعارضة:

هذا، وقد تعارض تلك الروايات بروايات عديدة أكثر منها عدداً وأوضح منها سنداً وأصرح منها دلالة، وهي أيضاً طوائف:

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 397

الطائفة الاولى: ما دلّ على نصب الوكلاء وأخذ الخمس عن أصحابهم أو التصريح بعدم تحليلهم إيّاه، والعجب أنّ روايات التحليل أكثرها من الأئمّة المتقدمين وروايات أخذ الخمس من الأئمّة المتأخرين- صلوات اللَّه عليهم أجمعين-.

منها ما رواه محمّد بن زيد الطبري قال: كتب رجل من تجار فارس من بعض موالي أبي الحسن الرضا عليه السلام يسأله الإذن في الخمس؟ فكتب إليه: «بسم اللَّه الرحمن الرحيم إنّ اللَّه واسع كريم، ضمن على العمل الثواب، وعلى الضيق الهمّ، لا يحل مال إلّامن وجه أحلّه اللَّه، إنّ الخمس عوننا على ديننا وعلى عيالنا وعلى موالينا (أموالنا) وما نبذله ونشتري من أعراضنا ممّن نخاف سطوته فلا تزووه عنّا ولا تحرموا أنفسكم دعانا ما قدرتم عليه فإنّ إخراجه مفتاح رزقكم وتمحيص ذنوبكم وما تمهدون لأنفسكم ليوم فاقتكم، والمسلم من يفي للَّه بما عهد إليه، وليس المسلم من أجاب باللسان وخالف بالقلب والسلام» «1».

2- وما رواه محمّد بن زيد قال: قدم قوم من خراسان

على أبي الحسن الرضا عليه السلام فسألوه أن يجعلهم في حلّ من الخمس، فقال: «ما أمحل هذا تمحضونا المودة بألسنتكم وتزوون عنّا حقّاً جعله اللَّه لنا وجعلنا له وهو الخمس، لا نجعل لا نجعل لا نجعل لأحد منكم في حلّ» «2».

3- ما رواه أبان، عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سمعته يقول: «من اشترى شيئاً من الخمس لم يعذره اللَّه، اشترى ما لا يحلّ له» «3».

4- ما رواه صاحب الخرائج عن صاحب الزمان عليه السلام أنّه رآه وتحته عليه السلام بغلة شهباء وهو متعمم بعمامة خضراء، يرى منه سواد عينيه، وفي رجله خفان حمراوان، فقال: «يا حسين كم ترزا على الناحية ولم تمنع أصحابي عن خمس مالك. ثمّ قال: إذا مضيت إلى الموضع الذي تريده تدخله عفواً وكسبت ما كسبت تحمل خمسه إلى مستحقّه. قال:

فقلت: السمع والطاعة ثمّ ذكر في آخره أنّ العمري أتاه وأخذ خمس ماله بعد ما أخبره انوار الفقاهة، ج 2، ص: 398

بما كان» «1».

5- ما رواه أبو بصير، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «كلّ شي ء قوتل عليه على شهادة أن لا إله إلّااللَّه، وأنّ محمّداً رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فإنّ لنا خمسه ولا يحلّ لأحد أن يشتري من الخمس شيئاً حتّى يصل إلينا نصيباً» «2».

6- ما رواه إسحاق بن عمّار، عن الصادق عليه السلام قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: «لا يعذر عبد اشترى من الخمس شيئاً أن يقول: يا ربّ اشتريته بمالي حتّى يأذن له أهل الخمس» «3».

7- ما رواه الحكم بن علبا الأسدي (فى حديث) قال: دخلت على أبي جعفر عليه السلام فقلت له: إنّي وليت البحرين فأصبت بها مالًا كثيراً، واشتريت

متاعاً، واشتريت رقيقاً، واشتريت أُمّهات أولاد وولد لي وانفقت؛ وهذا خمس ذلك المال وهؤلاء أُمّهات أولادي ونسائي قد أتيتك به. فقال: «أمّا إنّه كلّه لنا وقد قبلت ما جئت به، وقد حللتك من أُمّهات أولادك ونسائك، وما أنفقت وضمنت لك عليّ وعلى أبي الجنّة» «4».

ولكن الرواية ذات وجهين، الوجه الظاهر منها أنّه عليه السلام إنّما حلل له أُمّهات أولاده ونسائه وما أنفقه قبل ذلك (كما أشير إليه في السؤال بقوله «وأنفقت») فقبل منه خمس الأموال وحلل له الباقي، والوجه الآخر أنّه حلل له جميع ما أتى به، ولكن الإنصاف أنّه مخالف لظاهرها فدلالتها على المطلوب أولى.

8- ومنها ما رواه علي بن مهزيار في رواية صحيحة طويله معروفة له عن أبي جعفر الجواد عليه السلام حيث أمر فيه الشيعة باعطاء خمسين في سنة واحدة لأمر خاصّ فسّره عليه السلام فيها إجمالًا وهو تطهير مواليه عليه السلام ممّا وقع منهم من التقصير فيما يجب عليهم (في أمر الخمس أو غيره أيضاً) فأراد أن يطهرهم، ثمّ ذكر فيها ما لفظه: «فأمّا الغنائم والفوائد فهي واجبة عليهم في كلّ عام» ثمّ شرح الغنائم والفوائد حتّى أنّه أشار إلى الأموال العظام التي صارت انوار الفقاهة، ج 2، ص: 399

إلى بعض مواليه من الخرمية الفسقة ثمّ قال: «فمن كان عنده شي ء من ذلك فليوصله إلى وكيلي، ومن كان نائياً بعيد الشقة فليتعمّد لإيصاله ولو بعد حين». الحديث «1».

فهذه الرواية صريحة في أخذه الأخماس في كلّ عام، وأنّه كان له وكيل أو وكلاء في البلاد النائية يجمعون الأخماس من مواليه وكان من بحضرته عليه السلام يوصله إليه.

9- ما رواه عبداللَّه بن سنان قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «على كلّ أمرى ء غنم أو اكتسب

الخمس ممّا أصاب لفاطمة عليها السلام ولمن يلي أمرها من بعدها من ذرّيتها الحجج على الناس فذاك لهم خاصة يضعونه حيث شاؤوا، وحرّم عليهم الصدقة حتّى الخياط ليخيط قميصاً بخمسة دوانيق فلنا منه دانق إلّامن أحللناه من شيعتنا لتطيب لهم به الولادة، إنّه ليس من شي ء عند اللَّه يوم القيامة أعظم من الزنا إنّه ليقوم صاحب الخمس فيقول: يا ربّ سل هؤلاء بما أبيحوا» «2».

وقوله عليه السلام: «إلّا من أحللناه من شيعتنا لتطيب لهم به الولادة» إلى آخر ما ذكره من أحسن ما يمكن به الجمع بين روايات هذا الباب فليكن على ذكر منك.

10- ما رواه أيضاً علي بن مهزيار قال: قال لي أبو علي بن راشد قلت له: أمرتني بالقيام بأمرك وأخذ حقّك فأعلمت مواليك بذلك فقال لي بعضهم: وايّ شي ء حقّه فلم أدر ما أجيبه؟ فقال: «يجب عليهم الخمس. فقلت: ففي أيّ شي ء؟ فقال: في أمتعتهم وصنايعهم (ضياعهم). قلت: والتاجر عليه والصانع بيده؟ فقال: إذا أمكنهم بعد مؤونتهم» «3».

وهذا أيضاً دليل على نصب الوكلاء المختلفين لأخذ الأخماس.

11- ما رواه علي بن مهزيار، عن علي بن محمّد بن الشجاع النيسابوري أنّه سأل أبا الحسن الثالث عليه السلام عن رجل أصاب من ضيعته من الحنطة مائة كرّ ما يزكّى فأخذ منه العشر عشرة اكرار وذهب منه بسبب عمارة الضيعة ثلاثون كرّاً وبقي في يده ستون كرّاً، ما الذي يجب لك من ذلك؟ وهل يجب لأصحابه من ذلك عليه شي ء؟ فوقع لي منه: «الخمس ممّا

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 400

يفضل من مؤونته» «1».

ومن الواضح أنّه لو كان الخمس مباحاً لهم مطلقاً لم يكن وجه لهذه المحاسبات الدقيقة وما يبقى بعد المؤونة وأنّ خمسه أي مقدار يكون، إلى

غير ذلك من الروايات.

12- ما رواه الحرث بن حصيرة الأزدي قال في قصة له طويلة أنّه: وجد رجل ركازاً على عهد أميرالمؤمنين عليه السلام إلى أن قال: «قال عليه السلام لصاحب الركاز: أدّ خمس ما أخذت فإنّ الخمس عليك فإنّك أنت الذي وجدت الركاز وليس على الآخر شي ء لأنّه إنما أخذثمن غنمه» «2».

وهذا كالصريح في أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام أخذ منه الخمس.

13- ما رواه حفص بن البختري، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «خذ مال الناصب حيثما وجدته و أدفع إلينا الخمس» «3».

14- ما رواه الحلبي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام في الرجل من أصحابنا يكون في لوائهم ويكون معهم فيصيب غنيمة. قال: «يؤدّي خمساً ويطيب له» «4».

فإن ظاهر قوله يؤدي خمساً، أنّهم كانوا يؤدون الأخماس إليهم لا سيّما أنّ الظاهر كون المسألة شخصية واردة في موارد الابتلاء والحاجة.

الطائفة الثانية: ما يدلّ على شرائط الخمس من كونه بعد المؤونة وهي روايات كثيرة أوردها صاحب الوسائل في الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، فإنّ سؤال الرواة عن مسألة استثناء المؤونة وجواب الأئمّة الهادين عليهم السلام عن ذلك، أو ابتداؤهم باستثناء المؤونة دليل واضح على أنّ الأصحاب كانوا ملتزمين بأداء خمس أموالهم إلى الأئمّة عليهم السلام أو وكلائهم، ولو كان ذلك حلالًا لهم وهم معفوّون عنه لم يكن وجه لهذه الأسئلة والأجوبة.

وكذلك ما ورد من بيان حدّ النصاب، نصاب المعدن والغوص وما يخرج من البحر «5» وأنّه انوار الفقاهة، ج 2، ص: 401

إذا بلغ قيمته ديناراً ففيه الخمس وفي رواية اخرى «ليس فيه شي ء حتّى يبلغ ما يكون في مثله الزكاة عشرين ديناراً» «1».

وكذا ما ورد من كون النصاب في الكنز هو النصاب في الزكاة (عشرون

ديناراً) «وما لم يبلغ حدّ ما تجب فيه الزكاة فلا خمس فيه» «2».

فهل كان بيان النصاب لأمر أحلوه لشيعتهم ممّا لا حاجة لهم إليه بعد التحليل وأنّه مثل أن يكون الدائن قد أبرء ذمّة المدين وأحلّ له ما كان عليه ثمّ يأتيه ويحاسبه في صغيره وكبيره، وأنّ الذي وقع الأبراء فيه ما حدّه ومقداره.

الطائفة الثالثة: الروايات الكثيرة الواردة في أبواب قسمة الخمس وبيان السهام:

1- ما رواه حمّاد بن عيسى عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح عليه السلام وفيها: «له- أي الإمام- نصف الخمس كملًا ونصف الخمس الباقي بين أهل بيته فسهم ليتاماهم وسهم لمساكينهم وسهم لأبناء سبيلهم يقسم بينهم على الكتاب والسنّة (الكفاف والسعة) ...

عوضاً لهم من صدقات الناس ...، فجعل لهم خاصة من عنده ما يغنيهم به عن أن يصيرهم في موضع الذلّ والمسكنة». الحديث «3».

وفيها تعابير صريحة لا تساعد التحليل كما لا يخفى، فكيف غفل بعض الأصحاب غفلوا عن هذه الروايات وأشباهها وحكموا بالتحليل مطلقاً.

2- ومنها ما هو أصرح من ذلك رواه الريان بن الصلت عن الرضا عليه السلام وفيها: «وسهم ذي القربى قائم إلى يوم القيامة فيهم للغنى والفقير لأنّه لا أحد أغنى من اللَّه ولا من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فجعل لنفسه منها سهماً، ولرسوله سهماً فما رضيه لنفسه ولرسوله رضيه لهم».

الحديث «4».

فلو كان الخمس مباحاً ومحللًا من لدن عصر النبي وفاطمة وأميرالمؤمنين والصادقين عليهم السلام فما معنى قوله: «قائم إلى يوم القيامة».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 402

3- منها ما رواه أحمد بن محمّد عن بعض أصحابنا رفع الحديث إلى أنّ قال: «والنصف لليتامى والمساكين وأبناء السبيل من آل محمّد- عليهم السلام- الذين لا تحل لهم الصدقة ولا الزكاة

عوضهم اللَّه مكان ذلك بالخمس» «1».

4- وأوضح منها ما ورد في عدم وجوب استيعاب كلّ طائفة من مستحقي الخمس وأنّ الإمام يعطي على ما يرى «2».

فلو كان الخمس حلالًا لما وصلت النوبة إلى تقسيمه حتى يتكلم في وجوب الاستيعاب وعدم وجوبه.

5- وأصرح منها ما ورد فيه من وجوب إعطاء السادة ما يستغنون به في سنتهم، وأنّه إنْ فضل عنه شي ء فهو للوالي وإن قصر عنهم كان على الوالي أن ينفق من عنده بقدر ما يستغنون به، وهو حديثان رواهما صاحب الوسائل في الباب 3 من أبواب قسمة الخمس الحديث 1 و 2 فراجع.

وليت شعري أنّه ما معنى هذه الكلمات على فرض تحليل الخمس بأجمعه حتّى سهم السادة، بل يظهر منها أنّ سهم الإمام عليه السلام أيضاً غير محلل للشيعة فإنّه ينفق منه على ذوي الحاجة من السادة لو لم يكفهم سهامهم، فاللازم أن يكون كلا السهمين قائمين على اصولهما.

الطائفة الرابعة: ما ورد في الأبواب المختلفة ممّا يجب فيه الخمس الدالة على وجوب الخمس بعد سؤال الرواة من أصحابهم عن بعض أحكامه الظاهرة في أنّها بصدد بيان ما يمس بعمل المكلّفين ووظيفتهم الفعلية لا مجرّد علمهم بأنّ هذه الأُمور كانت ممّا يجب فيه الخمس وإن أبيحت للشيعة بعد ذلك، والحاصل أنّ السؤال كالجواب فيها ظاهر في بيان الوظيفة الفعلية وهو لا يجتمع مع اباحته وعدم وجوبه فعلًا، وإليك نماذج منها:

1- ما رواه الريان بن الصلت قال: كتبت إلى أبي محمّد عليه السلام: ما الذي يجب عليّ يا مولاي في غلة رحى أرض في قطيعة لي وفي ثمن سمك وبردي وقصب أبيعه من أجمة هذه انوار الفقاهة، ج 2، ص: 403

القطيعة؟ فكتب عليه السلام: «يجب عليك فيه الخمس

إن شاء اللَّه تعالى» «1».

وقد وقع السؤال عمّا يجب عليه فعلًا وأجابه عليه السلام بوجوب الخمس عليه كذلك، ومن الواضح عدم صحّة السؤال والجواب كذلك على فرض اباحته مطلقاً.

2- ما رواه أبو بصير عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «كتب إليه في الرجل يهدي إليه مولاه والمنقطع إليه هدية تبلغ ألفي درهم أو أقل أو أكثر، هل عليه فيها الخمس؟ فكتب عليه السلام:

الخمس في ذلك؛ وعن الرجل يكون في داره البستان فيه الفاكهة يأكله العيال إنّما يبيع منه الشي ء بمائة درهم أو خمسين درهماً هل عليه الخمس؟ فكتب عليه السلام: أما ما أكل فلا وأمّا البيع فنعم هو كسائر الضياع» «2».

ومن الواضح أنّ ذكرمبلغ الهدية ومقدار ثمن الفاكهة دليل على أنّ سؤاله كان بقصد العمل بما ذكره عليه السلام وأوضح منه الفرق الوارد في الجواب بين ما أكل وما باع.

3- ما رواه الحلبي قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن العنبر وغوص اللؤلؤ، فقال: «عليه الخمس» «3».

4- ما رواه الحلبي أيضاً أنّه: سأل أبا عبداللَّه عليه السلام عن الكنز كم فيه؟ فقال: «الخمس» «4».

5- ما رواه محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الملاحة، فقال: «وما الملاحة؟ فقلت: أرض سبخة مالحة يجتمع فيه الماء فيصير ملحاً. فقال: هذا المعدن فيه الخمس» «5».

إلى غير ذلك من أشباهه، ومن المعلوم أنّه لا يمكن حمل جميع ذلك على أنّ سؤال الرواة كان لتحقيق ما يجب فيه الخمس شأناً، لمزيد علمهم بهذه الأُمور من دون أثر له في أعمالهم، ومن العجب فتوى القائلين بالإباحة من دون العناية بهذه الروايات الكثيرة التي فيها الصحاح وغيرها.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 404

إذا عرفت ذلك وعلمت وقوع التعارض بين هذه الطوائف

الأربع من الروايات مع ما دلّ على الإباحة (على فرض تماميتها) فلابدّ أوّلًا من الجمع الدلالي لو ساعدنا لسانها، وإلّا فالرجوع إلى المرجحات.

ومن الواضح ترجيح روايات الوجوب الفعلي، لاشتهارها واشتهار العمل بها، وكونها أكثر عدداً وأتمّ دلالة، بل وكونها موافقة لكتاب اللَّه فإنّ ظاهر آية الخمس كونه واجباً فعلياً.

وأمّا الجمع الدلالي فهو واضح في المقام، لأنّ روايات التحليل تنقسم إلى قسمين: قسم تدلّ على تحليل الخمس إلى يوم القيامة من دون تقييد بزمان خاص، وهي ظاهرة في خصوص المناكح لتطيب أولاد محبي أهل البيت عليهم السلام والشواهد على هذا الجمع في هذا القسم كثيرة كما لا يخفى على الخبير.

وقسم آخر لا يختصّ بالمناكح ولكنها محمولة على التحليل المالكي أو الشرعي في بعض الأعيان لضرورات اقتضت ذلك والشواهد على ذلك فيها أيضاً كثيرة، وعلى هذا فقد أباحه بعض الأئمّة عليهم السلام في بعض الأزمنة، وقد أخذه إمام آخر في زمن آخر، أو كان ذلك من إمام واحد عليه السلام في زمان دون زمان وأفراد دون آخرين، وإن هو إلّانظير ما إذا كان لرجل مؤمن أموال في ذمّة أُناس فابرء ذمّة بعض دون بعض لمصالح رآها.

كلام في التوقيع المروي عن الناحية المباركة:

لكن هنا إشكال وهو أنّ الحمل على التحليل المالكي أو الشرعي في مقطع خاصّ دون مقاطع أخرى وإن كان قريباً جدّاً، وطريقاً وحيداً للجمع بين روايات هذا الباب ممّا يشهد بإباحة بعض الأئمّة الهادين وأخذ بعض آخر- صلوات اللَّه عليهم أجمعين- ولكن المهم لنا هو عصر الغيبة، والرواية المروية في إكمال الدين عن محمّد بن عصام الكليني عن محمّد بن يعقوب الكليني عن إسحاق بن يعقوب فيما ورد عليه من التوقيعات بخطّ صاحب الزمان- أرواحنا فداه- تدلّ على أنّه أباح الخمس لشيعته

حيث قال: «أمّا الخمس فقد أبيح لشيعتنا وجعلوا منه في حلّ إلى أن يظهر أمرنا لتطيب ولادتهم ولا تخبث» «1»

ورواها الطبرسي انوار الفقاهة، ج 2، ص: 405

أيضاً في الاحتجاج عن إسحاق بن يعقوب.

وظاهرها التحليل في طول زمان الغيبة وينطبق على مختار جماعة من المحدّثين وغيرهم حيث اختاروا الاباحة في عصر الغيبة فقط.

أقول: الإنصاف أنّه يرد عليه أُمور:

أوّلًا: من ناحية السند فقد صرّح غير واحد من الأعلام بعدم صحّة سند الرواية لاشتمالها على المجاهيل، لأنّ محمّد بن محمّد بن عصام الكليني وكذا إسحاق بن يعقوب لم يرد النصّ على وثاقتهما ما عدا كون الأوّل من مشائخ الصدوق والثاني من مشائخ الكليني 0 بل إطلاق عنوان المشيخة على إسحاق بن يعقوب غير واضح لأنّه لم يرو عنه في معجم رجال الحديث إلّاحديثاً واحداً في التوقيعات الواردة في كمال الدين (والظاهر هو هذا التوقيع) «1».

كما أنّ محمّد بن محمّد بن عصام أيضاً لم يوثق في كتبهم بشي ء، وممّن صرّح بقصور سند الحديث صاحب الرياض في بعض كلماته في المقام وعلله باشتماله على جملة من الجهلاء «2».

وممّا يوجب العجب أنّ راوي هذه الرواية وهو الشيخ الصدوق رحمه الله وكذا ثقة الإسلام الكليني قدس سره الواقع في السند لم يروياه في آثارهما المعروفة- أعني كتاب من لا يحضره الفقيه والكافي بل الكتب الأربعة- كما صرّح به بعض الأكابر خالية عن ذكر التوقيعات مطلقاً!

وهذا قد يوجب الوهن في هذه التوقيعات ويسري الشك إليها، ولكن أجاب عن هذا الإشكال العلّامة المحقّق الأميني صاحب الغدير قدس سره في بعض كلماته في الجزء الثالث صفحة 280 من ذلك الأثر القيم وقال:

أوضح ما هناك من السر المستسر في عدم تعبدهم بها وعدم ذكر المحامدة الثلاثة (المحمدون

الثلاثة) مؤلفوا الكتب الأربعة التي هي عمدة مراجع الشيعة الإمامية في تلكم انوار الفقاهة، ج 2، ص: 406

التآليف شيئاً من الرقاع والتوقيعات الصادرة من الناحية المقدّسة، وهذا يوقظ شهور الباحث إلّاأنّ مشائخ الإمامية الثلاثة كانوا عارفين بما يؤول إليه أمر الأُمّة من البهرجة وإنكار وجود الحجّة، فإنّهم كانوا منهيين عن ذكر تلك الآثار الصادرة من الناحية الشريفة في تآليفهم مع أنّهم هم رواتها وحملتها إلى الامّة، وذلك لئلّا يخرج مذهب العترة عن الجعفرية الصادقة إلى المهدوية حتّى لا يبقى لرجال العصبية العمياء مجال للقول بأنّ مذهب الإمامية مأخوذ من الإمام الغائب الذي لا وجود له في مزعمتهم وأنّهم يتعبدون بالرقاع المزورة في حسبانهم، وهذا سرّ من أسرار الإمامة يؤكد الثقة بالكتب الأربعة والاعتماد عليها.

ثانياً: لو تمّ سنده، كان إعراض المشهور كافياً في إسقاطه عن الحجّية، لما ذكر في محلّه أنّ الروايات المعرض عنها كلّما ازدادت صحتها، ازدادت وهناً.

ثالثاً: معارض في مورده ببعض ما ورد في المقام ممّا يدلّ على أخذ الخمس من ناحية صاحب الزمان (روحي فداه) مثل ما رواه الراوندي في الخرائج وقد مرّ ذكره آنفاً، وقد ورد فيه أنّ العمري وكيل الناحية المقدّسة أخذ الخمس من بعض مواليه «1».

وفي نفس هذا الباب توقيعان آخران عن صاحب الزمان عليه السلام يدلان على إنكاره عليه السلام أشد الإنكار فعل من استحل من أمواله شيئاً.

نعم لم يصرّح فيهما بمال الخمس، ولكن قد يقال إنّ الأخماس من أوضح مصاديق أمواله، فلو كانت مباحة لابدّ من التصريح فيهما بالإباحة، وتخصيص هذه الروايات المعارضة بزمن الغيبة الصغرى، واباحة الخمس بالغيبة الكبرى دعوى بلا دليل.

رابعاً: ما صرّح به غير واحد من الأكابر منهم المحقّق الهمداني رحمه الله في مصباح الفقيه عند

التكلم في خمس الأرباح «2»: أنّه لا يثبت إذن الإمام عليه السلام الذي هو من الموضوعات الخارجية- كإذن سائر الناس في التصرف في أموالهم- بمثل هذا التوقيع.

وحاصله أنّ الخبر الواحد على فرض صحّة سنده إنّما يعتبر في الأحكام، وأمّا

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 407

الموضوعات فالمعتبر فيها التعدد الذي يعتبر في البيّنة. هذا ولكن ذكرنا في محلّه حجّية خبرالواحد أيضاً في الموضوعات فراجع كتابنا «القواعد الفقهية» ومع ذلك يشكل الاعتماد على هذا الحديث في المقام، ولو فرض صحّة إسناده لما حققناه في الاصول من أنّ حجّية خبرالواحد في الأحكام وغيرها لها حدود خاصة، وأنّه يشكل الاعتماد عليه في الموضوعات الهامة، بل لابدّ فيها من التظافر أو عمل الأصحاب أو غير ذلك من القرائن، ومن الواضح أنّ تحليل جميع الأخماس في طول الغيبة الكبرى من تلك الموضوعات الهامة التي لا يمكن الركون فيها إلى خبر واحد حاله كما عرفت.

خامساً: من ناحية الدلالة لما مرّ سابقاً من أنّ سؤال الراوي إسحاق بن يعقوب لم يذكر في الرواية ولا ندري عمّا سأل، ومن الواضح أن الجواب دائماً ينظر إلى السؤال فلعلّه سأله عليه السلام عن المناكح وأشباهها وأجابه بالاباحة، فهي من هذه الجهة مبهمة مجملة لا يصحّ الركون إليها.

سادساً: من ناحية الدلالة أيضاً وهو أنّ التعليل الوارد في ذيله مع قطع النظر عن ابهام السؤال يوجب ظهوره في خصوص المناكح، لأنّ العلّة قد تعمم وقد تخصص، مثل قولك لا تأكل الرمان لأنّه حامض فإنّه يوجب اختصاص النهي بخصوص هذا القسم من الرمان وإن أوجب تعميمه من ناحية أخرى ولا أقلّ من الإجمال وعدم الدلالة على العموم.

سابعاً: أن تحليل الخمس واباحته ينافي حكمة جعله وتشريعه لبقاء مصارفه وموارده في طول

الغيبة الكبرى، فإنّه لتأييد الدين وحفظ مدرسة الأئمّة الهادين عليهم السلام والذبّ عن شيعتهم وبسط الإسلام والدفاع عن حوزة المسلمين، وكلّ هذه الأُمور قائمة على ساقيها.

مضافاً إلى حرمان أرباب الحاجة من السادة الكرام من الزكاة والخمس جميعاً.

فتلخص من جميع ذلك أنّه لا يمكن الاعتماد على مثل هذا التوقيع لإثبات التحليل من جهات شتّى والحمد للَّه ربّ العالمين.

إلى هنا تمّ الكلام في نفي القول بالإباحة المطلقة (أي إباحة الخمس بجميع سهامه في عصر الغيبة الكبرى) حكاه صاحب الجواهر عن الديلمي وصاحب الذخيرة وقال: لا ثالث انوار الفقاهة، ج 2، ص: 408

لهما فيما أجد «1». وحكاه صاحب الحدائق عن المحدّث الشيخ عبداللَّه بن صالح البحريني، ولكن النراقي في المستند أظهر الشك في وجود قول في المسألة بهذا المنوال.

وأمّا الأقوال الاخر:

فمنها: القول بدفنه أو الايصاء به من ثقة إلى ثقة وهو شي ء لا ينبغي أن يذكر، فإنّ الدفن والايصاء كليهما مظنّة للفساد والتلف مع وجود مستحقيه من الأصناف وسائر المصارف لسهمه عليه السلام وإنّ هو إلّامن قبيل ما إذا كان سافر المالك لأموال أو المتولى لوقف وكان بعض أمواله بيد اناس فدفنوها أو أودعوها إلى ثقة مع أنّ أهل بيت المالك يحتاجون إليها حاجة شديدة، ويعلم علماً قطعياً بأنّ رضاه إنّما هو في صرفها عليهم.

ومنها: القول بصرف سهم الأصناف الثلاثة إليهم وقد أُبيح الباقي وكان الوجه فيه التمسك بأخبار التحليل، وهي وإن كانت مطلقة إلّاأنّها تقيد بخصوص سهم الإمام عليه السلام دون الأصناف نظراً إلى حاجة بني هاشم وكونه عوضاً عن الزكاة، وأنّ الإمام عليه السلام لا يبيح إلّا سهمه الخاصّ، ويشهد له التعبير بتحليل حقّهم في غير واحد من الأخبار.

وفيه: أوّلًا: أنّ أخبارالتحليل مطلقة من هذه الجهة بل كثير

منها صريح أو كالصريح في تحليل سهم السادة أيضاً فراجع الروايات الكثيرة الواردة في تحليل المناكح وشبهها، فإنّ مجرّد تحليل سهمه الخاصّ لا يوجب طيب الولادة بعد شركة الأصناف وكون حقّهم في موارد المناكح.

وراجع أيضاً ما رواه أبو سيّار مسمع بن عبدالملك، فإنّه عليه السلام وهبه جميع خمسه بل وجميع ما أخذه من الأنفال.

وثانياً: التعبير بتحليل الخمس في الروايات الكثيرة لا يمكن حمله على خصوص سهمه عليه السلام لأنّه عشر الأموال لا خمسه، وحمل الخمس على العشر عجيب، والتعبير بالحقّ في بعضها الآخر لا ينافيه لأنّ ظاهر روايات هذا الباب أو صريحها، كون جميع الخمس انوار الفقاهة، ج 2، ص: 409

حقّهم إمّا بالملك أو بحقّ الولاية على السادة، وكذا كانوا يعطون جميع الخمس إليهم أو إلى وكلائهم، فانظر إلى روايات علي بن مهزيار وغيره من الوكلاء الذين كانوا يأخذون الأخماس لهم وقد ورد في رواية الراوندي أنّ وكيل الناحية العمري- قدس اللَّه نفسه الزكية- أتى الحسين عمّ ناصر الدولة وأخذ خمس ماله.

والحاصل: أنّ الناظر في روايات هذا الباب يعلم بيقين أنّه لم يكن هناك فرق بين سهم الأصناف وسهمه الخاصّ، وأنّ جميعها كان من حقّه.

ثالثاً: إن كان بقاء مصرف سهم الأصناف يوجب عدم تحليله فكذا سهمه عليه السلام فإنّ مصارفه أيضاً باقية قائمة على ساقيها، فهل كان جميع هذه الأموال الكثيرة غاية الكثرة نفقة لبيته الشريف عليه السلام وعياله المخصوصين به؟ كلّا، فإنّ هذا المصرف لا يطلب إلّاعشراً من أعشاره بل أقلّ، فالباقي إنّما هو نفقة لأهدافه المقدّسة من إعلاء كلمة الإسلام والذبّ عن حريم أهل البيت عليهم السلام والاهتمام بامور الشيعة وحفظ دينهم ودنياهم في أقصى البلاد وأدناها.

وأمّا القول بتتميم حقّ الأصناف وتوفيره عليهم فهو

مختار المحقّق في الشرائع ومحكى عن جماعةمن علمائنا، بل هو مشهور بين المتأخرين على ما ذكره صاحب الحدائق «1».

وعلله صاحب الشرائع في المتن بقوله: «لأنّ عليه الاتمام عند عدم الكفاية وكما يجب ذلك مع وجوده فهو واجب عليه عند غيبته» «2» وأضاف إليه صاحب الجواهر قوله: «لأنّ الحقّ الواجب لا يسقط بغيبة من يثبت عليه مؤبداً» «3».

والعمدة في ذلك هي المرسلتان المرويتان عن حمّاد بن عيسى عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح، قال بعد الإشارة إلى سهم الأصناف: «يقسم بينهم على الكتاب والسنّة ما يستغنون به في سنتهم، فإنْ فضل عنهم شي ء فهو للوالي، فإن عجز أو نقص عن استغنائهم كان على الوالي أن ينفق من عنده بقدر ما يستغنون به، وإنّما صار عليه أن يمونهم لأنّ له ما فضل عنهم» «4».

وفي معناه مرسلة أحمد بن محمّد عن بعض أصحابنا فراجع «5».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 410

هذا ولكن يرد عليه ما ذكره صاحب الجواهر من أنّ العمل بالمرسلتين غير موافق لُاصول المذهب بعد عدم وجود الشهرة الجابرة في المقام (لما عرفت من تشتت الأقوال في المسألة وذهاب كثير منهم إلى خلاف هذا القول).

إن قلت: لا حاجة إلى الانجبار بعمل الأصحاب هنا لأنّ أصل المسألة (أعني تتميم الوالي لحصة الأصناف لو نقصت حصتهم عن حاجتهم) مفروغ عنه بين الأصحاب، فإن أعوز كان عليه وإن زاد كان له بل لم ينقل الخلاف فيه إلّاعن الحلي رحمه الله، وما نحن فيه لازم هذا المعنى.

قلنا: كلّا، بل اللازم انجبارهما بالنسبة إلى ما نحن بصدده وما هو مرتبط بعصرنا وزماننا، هذا مضافاً إلى أنّ المرسلتين ناظرتان إلى زمن بسط يد الإمام عليه السلام لا في غيره الذي هو محل الكلام، كما يظهر لمن راجع ذيل الحديث

الأوّل الوارد في تقسيم الزكاة فإنّه ينادي بأعلى صوته أنّه ناظر إلى زمان بسط اليد (فراجع إلى ما رواه الكليني قدس سره في الكافي في الجزء 1 الصفحة 541) (انتهى ما ذكره صاحب الجواهر بتوضيح منّا).

هذا، ولكن الإنصاف أنّه لو ثبت عمل الأصحاب بهما في أصل المسألة (أعني تتميم الوالي عند العازة) ولو في غير المقام جاز العمل به في المقام من باب إلغاء الخصوصية، كما أنّ احتمال اختصاصه بزمن حضوره وبسط يده أيضاً منفي بهذا المعنى- أعني إلغاء الخصوصية- فعلى نائب الغيبه أيضاً ذلك.

هذا ولكن يرد على هذا القول أمور أخرى

أحدها: أنّ مفروض الكلام ما لو زاد سهم الإمام عليه السلام عن حاجتهم، ومن المعلوم أنّه لا يمكن إعطاؤهم أكثر من حاجة سنتهم كما ورد التصريح به في نفس الرواية.

وثانيها: ما مرّ مراراً من أنّه لا وجه لتعليل سهم الإمام عليه السلام أو صرفه في مورد آخر مع بقاء مصارفه الأصلية، فإنّه ثابت للإمام عليه السلام بمقامه السامي في تدبير أمر العباد والبلاد ونشر آثار الدين وسنّة سيّد المرسلين وحفظ عقائد المسلمين وسدّ خلّة المحتاجين من محبي أهل البيت عليهم السلام وغير ذلك من أشباهه، فلا معنى لصرفه في مصرف آخر.

وإن شئت قلت: تتميم سهم فقراء بني هاشم عند عدم كفاية الخمس لهم ممّا لا كلام فيه،

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 411

بل قد عرفت في كلام صاحب الجواهر أنّ هذا ممّا لا خلاف فيه إلّامن الحلي، وقد دلت عليه المرسلتان السابقتان- كما أنّه لو زاد من حاجتهم كان للإمام عليه السلام إنّما الكلام في وجوب صرف كلّ منهما في مصارفه المختصة لولا ملاحظات أخرى

إن قلت: إذا دار الأمر بين رفع حاجة السادة وبين

صرف سهم الإمام عليه السلام في نشر آثار الدين ومثله ولم يكن وافياً بكليهما، فأيّهما أولى وأقرب.

قلنا: المقامات مختلفة ولابدّ فيها من ملاحظة المرجحات، فربّما يكون السادة في حاجة شديدة مبرمة، والدين قائم على ساقيه، وقد يكون الأمر بالعكس، وخطر الأعداء على الدين وهجومهم شديداً عنيفاً لا سيّما على ضعفاء المسلمين لا يندفع إلّابصرف أموال هامة، ولابدّ في كلّ مقام من ملاحظة المرجح الذي يعلم أو يظن أنّ الإمام عليه السلام لو كان بنفسه الشريفة حاضراً لما أقدم على غير ذلك.

بقي الكلام في القول إنّه يعامل معه معاملة مجهول المالك الذي مال إليه المحقّق الهمداني رحمه الله في بعض كلماته، وقد سبقه إلى ذلك صاحب الجواهر حيث قال: «وأقوى من ذلك معاملته معاملة المال المجهول مالكه باعتبار تعذر الوصول إليه- روحي له الفداء- إذ معرفة المالك باسمه ونسبه دون شخصه لا تجدي، بل لعلّ حكمه حكم مجهول المالك باعتبار تعذر الوصول إليه للجهل به فيتصدق به حينئذٍ نائب الغيبة عنه، ويكون ذلك وصولًا إليه على حسب غيره من الأموال التي يمتنع ايصالها إلى أصحابها واللَّه أعلم بحقائق أحكامه» «1».

وقد استدلّ له صاحب مصباح الفقيه ببعض ما ورد في أبواب اللقطة والبيوع من إجراء حكم مجهول المالك على ما تعذر وصوله إلى مالكه، وإن كان مالكه معلوماً.

مثل ما رواه يونس بن عبدالرحمن في رواية معتبرة قال: سئل أبو الحسن الرضا عليه السلام وأنا حاضر إلى أن قال: «رفيق كان لنا بمكّة فرحل منها إلى منزله ورحلنا إلى منازلنا، فلمّا أن صرنا في الطريق أصبنا بعض متاعه معنا فأي شي ء نصنع به؟ قال: تحملونه حتّى تحملوه إلى الكوفة. قال: لسنا نعرفه ولا نعرف بلده ولا نعرف كيف

نصنع؟ قال: إذا

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 412

كان كذا فبعه وتصدّق بثمنه. قال له: على من، جعلت فداك؟ قال: على أهل الولاية» «1».

وما رواه علي الصائغ قال: سألته عن تراب الصوّاغين وأنّا نبيعه. قال: «أما تستطيع أن تستحله من صاحبه؟ قال: قلت: لا إذا أخبرته اتّهمني. قال: بعه. قلت: بأي شي ء نبيعه؟ قال: بطعام. قلت: فأيّ شي ء أصنع به؟ قال: تصدّق به، إمّا لك وإمّا لأهله. قلت:

إن كان ذا قرابة محتاجاً أصله؟ قال: نعم» «2».

بل يمكن أن يقال: إنّه مع قطع النظر عن الروايتين لا يبعد إلغاء الخصوصية عن روايات مجهول المالك أو اللقطة بالنسبة إلى المقام ممّا يكون مالكه معلوماً، لأنّ الظاهر أنّ الوجه فيه ايصال المال إلى صاحبه بوجه، فإنّ الصدقة عنه نوع ايصال إليه ولو من حيث ثوابه، فتأمل (هذا غاية ما يمكن أن يقال في المقام).

ولكن هذا كلّه وإن كان جيّداً إلّاأنّه يتمّ في الأموال الشخصية ممّا لا يعلم مصارفها، أمّا إذا علمنا بأنّ المال كان له بمقامه السامي لعدم حاجته بشخصه إلى هذه الأموال الضخمة، ويستحيل في حكمة الباري ء- جلّ شأنه- أن يجعل لهم هذه الأموال التي لا يحتاجون إليها في حياتهم الشريفة الشخصية بل ولا إلى عشر من أعشارها، فحينئذٍ لابدّ من صرفها في مصارفها ممّا نعلم رضاه بذلك قطعاً لا خصوص الصدقة.

فذلكة البحث في حكم الخمس في زمان الغيبة:

فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّه لا اعتبار بشي ء من الأقوال المشيرة إلى إباحة الخمس في زمن الغيبة بتمامه أو خصوص سهم الإمام عليه السلام وكذا ما يدلّ على الايصاء به أو دفنه أو صرفه في تكميل حقّ الأصناف الثلاثة من بني هاشم- أيدهم اللَّه- أو صرفه في مصرف مجهول المالك أو شبه ذلك.

فلا يبقى إلّاصرفه في مصارفه

التي لو كان بنفسه الشريفه حاضراً كان يصرفه فيها،

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 413

ويمكن بيان ذلك بطريقين أو بدليلين:

أحدهما: ما ذهب إليه جماعة كثيرة من المعاصرين أو من قارب عصرنا من لزوم صرفه فيما يحرز به رضاه عليه السلام، قال سيّدنا الاستاذ في المستمسك بعد ذكر الأقوال الأُخر (إجمالًا) والإشكال فيها ما نصّه:

«وكيف كان فلم يتّضح ما يدلّ على تعيين صرف سهمه عليه السلام في جهة معيّنة، فيشكل التصرف فيه إلّاأن يحرز رضاه عليه السلام بصرفه في بعض الجهات كما في زماننا هذا، فإنّه يعلم فيه رضاه عليه السلام بصرفه في إقامة دعائم الدين ورفع أعلامه وترويج الشرع الأقدس ومؤونة طلبة العلم الذين يترتب على وجودهم أثر مهم في نفع المؤمنين بالوعظ والنصيحة، وبثّ الحلال والحرام، وغير ذلك من الواجبات الدينية التي انسلخ عنها اليوم أكثر المتدينين، والأحوط نيه التصدق عنه عليه السلام كما عرفت» «1».

أقول: لازم ما ذكره من الاحتياط عدم دفع السهم المبارك إلّاللفقراء من أهل العلم، فلو كان غنياً بحسب موازين الشرع لا يمكن إعطاؤهم منه، ولو كان خطيباً مصقعاً أو مدرساً بارعاً أو كاتباً ماهراً يستفاد منه في طريق ترويج الدين، وهكذا يشكل صرفه في بناء المساجد وطبع الكتب وشبهها ولو كان ضرورياً جدّاً لعدم كونها من مصارف الصدقة.

ثانيهما: ما هو أقرب إلى الاعتبار وما هو مستفاد من الأخبار، وهو أن يقال: إنّ هذا المال الكثير- كما مرّ مراراً- إنّما جعله له لمقامه السامي لا لحياته الشخصية لعدم حاجته فيها إلى عشر من أعشار ذلك، والقرائن الكثيرة شاهدة على أنّه عليه السلام لما كان في قمّة الحكومة الإسلامية بعناية إلهيّة كان له مصارف كثيرة يستحيل في حكمة الحكيم أن لا يجعل له

مداخل، فكما أنّه إذا منع عن الحكومة وغصب حقّه من هذه الناحية يبقى هذا السهم له بما يبقى من كثير من مصارفه من المحافظة على الدين وعلى شيعته وضعفاء المؤمنين وغير ذلك، فكذلك إذا غابت شمس وجوده المنيرة عنّا وبقيت أهدافه ومقاصده، كما إذا غاب متولى الوقف عن موقوفته.

ولا شك حينئذٍ في لزوم صرفه في مصارفه من طريق نوابه أو وكلائه لا من جهة إحراز

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 414

رضاه عليه السلام- وإن كان رضاه ثابتاً قطعاً- بل بما أنّ المصارف باقيه والحوائج موجودة والنواب حاضرون.

وهذا التفاوت له آثار تأتي الإشارة إليها إن شاء اللَّه وإن كان الظاهر في بادي ء النظر عدم الفرق بين الطريقين، ومن أظهر الآثار أنّه على القول الأوّل قد يقال بجواز صرف العامي إيّاه فيما يعلم برضى الإمام عليه السلام كما يجوز صرف مال كلّ إنسان فيما يعلم رضاه فيه، (وقد مال إليه سيّدنا الحكيم رحمه الله في بعض كلماته في المقام وحكاه عن غرية المفيد وعن الحدائق الميل إليه) وأمّا على الثاني فهو غير جائز قطعاً، فإنّه ليس مالًا شخصياً يلاحظ فيه رضا المالك بل مال له لمنصبه ومقامه السامي ومصارفه معلومة، ولابدّ لمن يقوم مقامه من حيث الولاية العامة أو الخاصة القيام به، ولا يجوز لغيره ذلك فتأمل في المقام فإنه دقيق.

وممّا ذكرنا يظهر الإشكال فيما أفاده المحقّق اليزدي قدس سره في العروة من أنّ الأحوط الاقتصار على السادة ما لم يكفهم النصف الآخر، فإنّ ذلك لا يكون موافقاً للاحتياط دائماً، بل قد يكون مخالفاً للاحتياط أو محرماً إذا كان سبباً لتعطيل مصارفه الأهم كما لا يخفى.

حكم الخمس من حيث ملكه للإمام عليه السلام

بقي هنا أمور:

الأمر الأول: ظاهر كلمات الأصحاب بل صريحها أنّ الخمس يقسم ستة

أقسام، ثلاثة منها للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله في حياته الشريفة وللإمام المعصوم القائم مقامه بعد حياته والثلاثة الاخرى لبني هاشم أيتامهم ومساكينهم وأبناء سبيلهم، وقد خالف فيه جماعة من العامّة (كما حكى عن الشافعي وأبي حنيفة) وجعلوه خمسة أسهم بحذف سهم اللَّه وإن افتتحت الآية به فإنّه في زعمهم إنّما هو من باب التشريف، فالأمّة متفقة على تقسيمه بالأسهم وإن خالف العامّة في كون الأسهم ستة.

نعم، حكي عن مالك بأنّ الفي ء والخمس واحد يجعلان في بيت المال، ولكن الفتاوى المحكية عن غيره فيما وصل إلينا شاهدة على التقسيم.

وقد صرّح صاحب الجواهر بأنّ تقسيمه إلى ستة أسهم مشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة كادت تكون إجماعاً بل المسألة إجماعية، وصرّح في ذيل السهام الثلاثة الأخيرة بأنّه مقتضى الكتاب والسنّة المستفيضة بل المتواترة بل الإجماع «1».

وكتب القوم مشحونة بهذا التقسيم، ولكن على رغم جميع ذلك خالف فيه بعض المعاصرين وزعم أنّ الخمس حقّ واحد جعل لمنصب الإمامة والحكم، وحيث إنّ الحكم أوّلًا وبالذات للَّه تعالى، جعل للَّه ثمّ جعل للرسول من ناحيته تعالى، ثمّ جعل لذي القربى انوار الفقاهة، ج 2، ص: 416

(الإمام المعصوم) من قبل الرسول صلى الله عليه و آله فالخمس بأجمعه ملك له تعالى وفي المرتبة التالية بأجمعه للرسول صلى الله عليه و آله وفي المرتبة الأخيرة ملك للإمام المعصوم القائم مقامه صلى الله عليه و آله كالأنفال وليس ملكاً لشخص الإمام بل لمنصب الإمامة، وأمّا بنو هاشم فلا ملكية لهم ولا اختصاص بل هم مصارف له فقط.

وأوّل من قال بهذه المقالة فيما رأينا هو صاحب كتاب «ذخائر الإمامة» العلّامة الشيخ فياض الدين الزنجاني، حيث قال في كلام له في المقام: «إنّ هذا الحقّ (أي

الخمس) ليس إلّا له تعالى ومنحصر فيه، وأنّ اختصاصه بالرسول صلى الله عليه و آله الذي يذكره بعده، عين اختصاصه به تعالى، فالقول بالسهام والاشتراك لا معنى له» «1».

وقال في مقالة أخرى له: تقديم الخبر على الاسم في قوله تعالى: «فَإَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ» هو لإفادة أنّ الخمس ليس حقّاً مشتركاً حتّى يقسم على سهام، بل إنّما هو مختص به تعالى وما هو مختص به فهو مختص برسوله «2».

وقال في أواخر كلامه: «خاتمة- إعلم أنّ مقتضى الآية والأخبار المفسرة لها وغيرها أنّ الخمس حقّ وحداني راجع إلى حيث السلطنة والإماره القائمة باللَّه سبحانه بالأصالة وبرسوله بالخلافة وبذي القربى المراد منه الإمام عليه السلام بعد الرسول صلى الله عليه و آله في زمن الحضور أيضاً بالخلافة وبالفقيه في الغيبة، فلا وجه للقسمة ولا لكيفيتها» «3».

وكأنّه لم تصل إليه روايات القسمة المتظافرة الصريحة في ذلك المعمول بها بين الأصحاب، أو وصلت إليه وحسب أنّه لابدّ من توجيهها، وأمّا كيف يمكن توجيهها مع وضوحها في معناها فهو غير معلوم.

وقد وافقه في ذلك غير واحد من المعاصرين لُامور يطول المقام بشرحها.

هذا وفي بعض كلمات صاحب الجواهر جاء ذكره بصورة الاحتمال وأنّه لولا مخافة الانفراد أفتى به.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 417

ثمّ استدلّ لذلك بالآية والروايات، وأمّا الآية فذكر في معناها أنّ اللام للاختصاص التام والملكية المستقلة ومقتضاه كون جميع الخمس للَّه وجميعه للرسول صلى الله عليه و آله وجميعه للإمام عليه السلام وحيث لا يمكن ذلك عرضاً فلا محالة ملكية طولية مترتبة، وتقديم قوله «فإنّ للَّه» على «خمسه» دليل على هذا الحصر أيضاً، وأمّا الأصناف الأُخر فلا ملكية لهم ولذا لم يدخل عليها اللام.

ثمّ استدلّ بأخبار زعم دلالتها على كون الخمس جميعه

حقّاً واحداً ثابتاً لمنصب الإمامة، وأوضحها لمقصوده ما يلي:

1- ما رواه السيّد المرتضى في (رسالة المحكم والمتشابه) نقلًا من تفسير النعماني عن علي عليه السلام قال: «وأمّا ما جاء في القرآن من ذكر معايش الخلق وأسبابها فقد أعلمنا سبحانه ذلك من خمسة أوجه؛ ووجه العمارة ... فأمّا وجه الامارة فقوله: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَإَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ» فجعل للَّه خمس الغنائم، والخمس يخرج من أربعة وجوه من الغنائم ... ومن المعادن، ومن الكنوز، ومن الغوص» «1»

. وظاهر هذه الرواية أنّ جميع الخمس للَّه.

2- ما رواه عمران بن موسى، عن موسى بن جعفر عليه السلام إلى أن قال: «واللَّه لقد يسّر اللَّه على المؤمنين أرزاقهم بخمسة دراهم، جعلوا لربّهم واحداً وأكلوا أربعة أحلاء» «2».

وهذا كسابقه في الدلالة.

3- ما رواه علي بن مهزيار قال: قال لي أبو علي بن راشد: قلت له: أمرتني بالقيام بأمرك وأخذ حقّك فأعلمت مواليك بذلك. فقال لي بعضهم: وأي شي ء حقّه؟ فلم أدر ما أجيبه. فقال: «يجب عليهم الخمس» (الحديث) «3».

وظاهره أنّ جميع الخمس حقّه عليه السلام.

وفي معناه أحاديث اخرى تدلّ على أخذ الوكلاء جميع الخمس.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 418

4- ما رواه محمّد بن الفضيل، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: سألته عن قول اللَّه:

«وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَإِنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ»؟ قال: «الخمس للَّه والرسول وهو لنا» «1».

وظاهره أنّ مجموعه له عليه السلام.

واستدلّ له أيضاً بالأخبار الدالّة على التحليل عموماً أو خصوصاً الظاهرة في تحليل جميعه (انتهى ملخصاً).

ويرد عليه مضافاً إلى ما عرفت من كونه مخالفاً لإجماع الأصحاب أو إجماع علماء الإسلام، ومخالفة مثل هذا الإجماع مشكل ولو كان مدركيّاً أُمور:

1- ظاهر آية الخمس

دليل قوي على نفي هذا القول، فإن ذكر اللام وتكراره في «اللَّه» و «الرسول» و «ذي القربى» دليل على التشريك كما هو كذلك في قولنا هذا الدار لزيد ولعمرو، أو خمس هذا المال لزيد ولعمرو، ولذا لو اعترف واحد بأنّ الدار الذي يسكنه له ولأخيه كان إقراراً بالشركة بلا إشكال.

2- عدم تكرار اللام في الثلاثة الأخيرة لا يخرجهم عن الشركة لأنّه معطوف على المجرور ولا يحتاج إلى تكرار حرف الجر (إلّا للتأكيد كما في الثلاثة الاولى).

ويشهد له عدم تكرار حرف الجر في آية الأنفال: «يَسَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ...».

3- هناك روايات كثيرة تبلغ عشر روايات أو أكثر مروية في المنابع المعتبرة المشهورة تدلّ على تقسيم الخمس أسداساً، سهم اللَّه وسهم الرسول وسهم ذي القربى وسهام الأصناف الثلاثة، وهي صريحة أو كالصريحة في هذا المعنى:

منها: ما رواه حمّاد بن عيسى، عن بعض أصحابنا، عن العبد الصالح عليه السلام وفيها: «ويقسم بينهم الخمس على ستة أسهم: سهم للَّه وسهم لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله وسهم لذي القربى وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لأبناء السبيل، فسهم اللَّه وسهم رسول اللَّه لُاولي الأمر من بعد رسول اللَّه وراثة وله ثلاثة أسهم ... وله نصف الخمس كملًا، ونصف الخمس الباقي انوار الفقاهة، ج 2، ص: 419

بين أهل بيته ...» «1».

والعجب أنّه استدلّ بذيل الرواية وقال: إنّه جعل جميع الخمس للنبي والوالي، فيجب توجيه التقسيم مع أنّه صريح في التقسيم، ولو فرض لذيله ظهور في غيره فلابدّ من توجيه ذلك لا توجيه هذا المعنى الصريح.

ومنها: ما رواه البزنطي عن الرضا عليه السلام قال: سئل عن قول اللَّه عزّوجلّ: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَإِنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى»

فقيل له: فما كان للَّه فلمن هو؟

فقال: «لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله وما كان لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله فهو للإمام ...» الحديث «2».

ومنها: ما رواه عبداللَّه بن بكير، عن بعض أصحابه عن أحدهما عليهما السلام في قول اللَّه تعالى:

«وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَإِنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» قال: «خمس اللَّه للإمام، وخمس الرسول للإمام، وخمس ذوي القربى لقرابة الرسول الإمام، واليتامى يتامى الرسول، والمساكين منهم، وأبناء السبيل منهم، فلا يخرج منهم إلى غيرهم» «3».

ومنها: ما رواه زكريا بن مالك الجعفي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّه: سأله عن قول اللَّه عزّوجلّ: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَإِنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» فقال: «أمّا خمس اللَّه عزّوجلّ فللرسول يضعه في سبيل اللَّه، وأمّا خمس الرسول فلأقاربه وخمس ذوي القربى فهم أقرباؤه وحدها، واليتامى يتامى أهل بيته، فجعل هذه الأربعة أسهم فيهم وأمّا المساكين وابن السبيل فقد عرفت أنّا لا نأكل الصدقة ولا تحلّ لنا فهي للمساكين وأبناء السبيل» «4».

ومنها: ما رواه ربعي بن عبداللَّه بن الجارود، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذا أتاه المغنم أخذ صفوه وكان ذلك له، ثمّ يقسم ما بقي خمسة أخماس ويأخذ خمسه ثمّ يقسم أربعة أخماس بين الناس الذين قاتلوا عليه، ثمّ قسّم الخمس الذي انوار الفقاهة، ج 2، ص: 420

أخذه خمسة أخماس يأخذ خمس اللَّه عزّوجلّ لنفسه، ثمّ يقسم الأربعة أخماس بين ذوي القربى واليتامى والمساكين وأبناء السبيل يعطي كلّ واحد منهم حقّاً، وكذلك الإمام أخذ كما أخذ الرسول صلى الله عليه و آله» «1».

وما ورد فيه

من تقسيم الخمس أخماساً إنّما هو لإعطائه صلى الله عليه و آله سهم نفسه لسائر المستحقين، ولذا ورد التصريح فيه بأنه يأخذ سهم اللَّه لنفسه الذي هو دليل على تقسيمه أسداساً كما هو واضح للخبير.

ومنها: ما رواه أحمد بن محمّد، عن بعض أصحابنا رفع الحديث إلى أن قال: «فأمّا الخمس فيقسّم على ستة أسهم: سهم للَّه، وسهم للرسول صلى الله عليه و آله ...» الحديث «2».

ومنها: ما رواه ريان بن الصلت عن الرضا عليه السلام وفيها أنّه قرن (اللَّه) سهم ذي القربى مع سهمه وسهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «3».

إلى غير ذلك من أشباهه «4» بل الظاهر أنّ الروايات الدالّة على أنّه لو فضل من سهم السادة كان للإمام عليه السلام ولو نقص عنهم كان عليه أن يتمّ من عنده (الواردة في الباب 3 من أبواب قسمة الخمس) المعمول بها بين الأصحاب أيضاً دليل على الأخذ بالسهام.

وأنت إذا تأملت في هذه الروايات الصريحة في مسألة التقسيم لعلمت أنّه يمكن الجمع بينها وبين الروايات السابقة التي قد تظهر منها أو من بعضها (لا سيّما روايات التحليل) أنّ جميع الخمس ملك للإمام عليه السلام بحمل تلك الطائفة على أنّ الخمس وإن انقسم إلى ستة أسهم ولكن الإمام عليه السلام هو المتولى لأمر الجميع فهو ولي على جميعه وإن كان نصف منها ملكاً للأصناف الثلاثة والباقي ملكاً للحكومة الإلهية التي يكون الإمام عليه السلام في قمّته.

والحاصل: أنّ حاله عليه السلام حال سائر الأولياء على الأموال فهو ولي على جميع الخمس وإن لم يكن مالكاً للجميع، نظير ولايته على أموال الغيب أو مجهول المالك، ونظير ولاية المتولى بالنسبة إلى الموقوفة التي تحت يده، وقد يكون المتولى

بنفسه من الموقوف عليهم انوار الفقاهة، ج 2، ص: 421

وله سهم منه فهو متول لسهم نفسه ومتول على سائر السهام.

ومن هنا تظهر الثمرة بين هذا القول وسابقه فإنّه لو قلنا بأن الخمس ملك وحداني وسهم واحد للَّه، ثمّ يكون جميعه للنبي صلى الله عليه و آله ثمّ من بعده للإمام عليه السلام وإن كان عليه الانفاق على بني هاشم، لم يجب عليه انفاق نصف الخمس كملًا عليهم بل يجوز له ذلك وغيره من مصارف الحكومة، فليس لهم حدّ معين كما ليس لسائر المصارف حدّ خاص.

أمّا لو قلنا بمقالة المشهور المجمع عليه كان جميعه تحت يده عليه السلام ولكن يجب عليه انفاق نصفه على بني هاشم.

إن قلت: فلماذا يكون له ما يزيد عليهم وعليه ما ينقص عنهم؟

قلنا: هذا لا ينافي ملكية السادة للنصف لأنّه من قبيل الملك المشروط بشرط، ويمكن التمثيل له بملك الوقف بأنّ شرط الواقف للوقف الخاصّ بأنّ نصف غلته للمتولي الذي هو ولده الكبير ونصفه الآخر لسائر أولاده، وشرط أيضاً أنّه لو نقص سهم إخوتهم عن حاجتهم كان على الولد الأكبر أن يزيد عليهم ما يرفع حاجتهم وأنّه لو زاد سهمهم على حاجتهم كان للولد الأكبر، وكذا شرط في عقد الوقف أنّه لو وقع عمال الوقف (مثلًا الزارعون في ملك الزراعة) في عسر شديد وحرج أكيد كان للمتولى أن يهب لهم فوائد الأرض في برهة خاصة من الزمن أو في نوع خاصّ من النماءات، وهذا كلّه شرط سائغ يجوز للواقف شرطه في عقد الوقف.

وحال الإمام عليه السلام بالنسبة إلى سهمه وسهم الأصناف الثلاثة من هذا القبيل تقريباً، فله سهمه الخاصّ به وله الولاية على الأصناف وعليه تتميم ما نقص وله زيادة ما زاد، وله

أيضاً تحليل الخمس بأجمعه أو ببعضه لشخص أو لجماعة أو في برهة من الزمان لمصلحة من المصالح الإلهيّة.

والحاصل: أنّ هناك روايات تدلّ على أنّ الخمس حقّ للإمام، وروايات تدلّ على جواز التحليل من قبله، وروايات تدلّ على وجوب التتميم من عنده وأخذ ما زاد له.

كما أن هناك روايات تدلّ على تقسيم الخمس إلى ستة أسهم وقد عرفت صراحتها في ذلك، وأنه لا يمكن حملها على المصرف لأنها تصرّح بأن سهم اللَّه للرسول كما أنّ سهم اللَّه انوار الفقاهة، ج 2، ص: 422

وسهم رسوله صلى الله عليه و آله للإمام عليه السلام في عصره وأنّ سهم السادة لابدّ أن يدفع إليهم، وشي ء من هذا لا يناسب حملها على المصرف كما هو واضح، مضافاً إلى تأييده بفهم الأصحاب وإجماعهم عليه قديماً وحديثاً بل موافقة أكثر العامة له.

وأحسن طريق للجمع بين روايات هذا الباب بعد ضمّ بعضها ببعض هو ما ذكرنا من قبول السهام كلّ واحد في محلّه مع ولاية الإمام عليه السلام على السادة، وعلى التتميم والتحليل وشبه ذلك.

والعجب من بعض القائلين بالمقالة الشاذة أنّه ذكر أنّ أخبار السهام تحمل على الجدل أو تحمل على بعض المحامل من دون تصريح به مع أنّها مشتملة على أُمور لا تناسب مقالة المخالفين، فلا يمكن حملها على الجدل بل لا معنى للجدل هنا كما لا يخفى على من تدبّر فيها.

ولنتم هذا المقال بكلام للمحقّق النراقي رحمه الله في مستند الشيعة حيث قال: «الخمس يقسم أسداساً: للَّه ولرسوله ولذي القربى واليتامى والمساكين وأبناء السبيل على الحقّ المعروف بين أصحابنا، بل عليه الإجماع عن صريح كلام السيّدين والخلاف، وظاهر التبيان ومجمع البيان وفقه القرآن للراوندي، بل هو إجماع حقيقة لعدم ظهور قائل منّا بخلافه

سوى شاذ غير معروف، ولا تقدح مخالفته في الإجماع» «1».

الأمر الثاني: هل النصف المبارك الذي سهمه عليه السلام ملك شخصه أو ملك له لمقام الإمامة؟

وتظهر الثمرة بينهما:

1- فيما يبقى عن كلّ إمام عليه السلام فإن كان ملكاً له بشخصه ينتقل إلى وارثه وإلّا ينتقل إلى من بعده من الأئمّة عليهم السلام وهذه الثمرة وإن لم تكن تفيدنا في هذا الزمان- كما هو ظاهر- ولكن هناك ثمرات أخرى تأتي.

2- ما عرفت من ملاحظة مجهول المالك (أي متعذر الوصول) معه لأنّه مال شخصي كسائر الأموال لابدّ فيه عند تعذر وصوله إلى مالكه من الصدقة، أمّا لو كان له بمقامه ينتقل انوار الفقاهة، ج 2، ص: 423

إلى نوابه القائمين مقامه في جميع شؤون الحكومة أو في بعضها.

3- ما مرّ أيضاً من أنّه هل يكفي للعامي احراز رضاه عند صرفه في مصارفه أم يجب إيصاله إلى الفقيه؟ فإن قلنا بالأوّل فقد يكون له ذلك لأنّ سبيله كسبيل الأموال الشخصية، وأمّا إن قلنا بالثاني فلا يجوز ذلك بل لا يحرز رضاه إلّابإيصاله إلى نوابه عليه السلام إلى غير ذلك من أمثاله.

قال صاحب الشرائع ما حاصله: إنّ ما كان للنبي صلى الله عليه و آله من سهمه وسهم اللَّه ينتقل بعده للإمام القائم مقامه عليه السلام نعم ما كان قبضه النبي صلى الله عليه و آله أو الإمام عليه السلام ينتقل إلى وارثه (انتهى).

وزاد صاحب الجواهر ضرورة صيرورته حينئذٍ كسائر أمواله التي فرض اللَّه تقسيمها على الوارث، واحتمال اختصاص الإمام عليه السلام به أيضاً لقبض النبي صلى الله عليه و آله له مثلًا بمنصب النبوة أيضاً باطل قطعاً، إذ هو وإن كان كذلك لكنه صار ملكاً من أملاكه بقبضه، وإن كان سببه

منصب النبوة وفرق واضح بينه وبين انتقال الاستحقاق السابق للإمام (انتهى) «1».

وتبعه المحقّق الهمداني رحمه الله في مصباح الفقاهة حيث قال: «إنّه كغيره ممّا تركه بعد وفاته ينتقل إلى وارثه حسب ما تقتضيه آية المواريث لا آية الخمس» «2».

واستدلّ المحقّق الأردبيلي رحمه الله في بعض كلماته في مجمع الفائدة عند شرح قول العلّامة رحمه الله: «لا يجوز لغيره التصرف في حقّه عليه السلام إلّابإذنه» بأنّه لا يحل مال امرء مسلم إلّا عن طيب نفسه «3» وهذا الاستدلال وما أشبهه دليل على أنّ غير واحد منهم عاملوا مع سهم الإمام عليه السلام معاملة الملك الشخصي.

وقال العلّامة الميلاني رحمه الله في محاضراته: «إنّ ما قبضه النبي صلى الله عليه و آله والإمام عليه السلام ينتقل إلى وارثه لأنّه بالقبض قد صار ملكاً لشخصه» «4».

هذا والإنصاف أنّ الأمر ليس كذلك، بل الظاهر أنّ جميع ما قبضه من سهمه ينتقل إلى الإمام عليه السلام من بعده (إلّا ما أخذه لصرفه في مصارفه الشخصية وحاجاته اليومية أمّا غيره انوار الفقاهة، ج 2، ص: 424

فلا) وذلك لأُمور:

1- قد عرفت أنّ سهمه المبارك مقدار عظيم غاية الكثرة لا يحتاج هو عليه السلام إلى عشر من أعشاره في حياته الشخصية المقدّسة، ومن البعيد جدّاً في حكمة الحكيم جعله له عليه السلام بلا حاجة منه إليه، ولا إمكان جذبه في حياته عليه السلام الشخصية، بل القرائن الواضحة شاهدة على أنّه إنّما جعله له عليه السلام بمقامه السامي، وهو الولاية على الخلق.

وإن شئت قلت: أنّه يكون لمقام الحكومة العامّة الإلهية التي جعلها له، فيجعله في بيت مال المسلمين ويكون ناظراً على صرفه في مصارفه ووالياً عليه، وحيث إنّ الحكومة له عليه السلام بالجعل الإلهي فهذه الأموال

له عليه السلام.

نعم، ما يأخذه منه لحياته المقدّسة الشخصية يكون له كما هو كذلك عند رؤساء الحكومات وإن كان بينهم وبين الإمام عليه السلام فرق عظيم، فرئيس الحكومة العادلة يأخذ شيئاً قليلًا من الأموال العظيمة التي تحت يده لنفسه ولمصارفه الشخصية فهذا يكون ملكاً له، ويأخذ الباقي لصرفه في مصارف الناس عموماً.

2- إنّ إطلاق قوله عليه السلام: «ما كان لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله فهو للإمام عليه السلام» في صحيحة البزنطي عن الرضا عليه السلام «1» شامل لما أخذه بالفعل ولما لم يأخذه، وحمله على خصوص ما لم يأخذه بأن يكون المراد انتقال الاستحقاق لسهم النبي صلى الله عليه و آله إليه عليه السلام غير واضح.

وكذلك قوله عليه السلام: «له ثلاثة أسهم سهمان وراثة وسهم مقسوم له من اللَّه» الوارد في مرسلة حمّاد بن عيسى «2» إلى غير ذلك من أشباهه.

سلّمنا أنّ المراد منه انتقال الاستحقاق إليه عليه السلام ولكن يجوز إلغاء الخصوصية بعد قبضه، فما قبضه عليه السلام بهذا العنوان أيضاً ينتقل إلى إمام بعده عليه السلام ومجرد القبض لا يوجب فرقاً بعد ظهور هذه الروايات في أنّ أصل استحقاقه عليه السلام لهذه الأموال إنّما هو لمقام الإمامة.

3- ما رواه الصدوق باسناده إلى أبي علي بن راشد قال: قلت لأبي الحسن الثالث: إنّا نؤتى بالشي ء. فقال: هذا كان لأبي جعفر عليه السلام عندنا فكيف نصنع؟ فقال: «ما كان انوار الفقاهة، ج 2، ص: 425

لأبي بسبب الإمامة فهو لي وما كان غير ذلك فهو ميراث على كتاب اللَّه وسنّة نبيّه صلى الله عليه و آله» «1».

والكلام فيه من حيث السند أنّ أبا علي بن راشد كان من الوكلاء المعروفين لأبي الحسن العسكري (الإمام الهادي

عليه السلام) وقد ذكر الكشي رواية بليغة في مدحه ومقامه العالي «2» وهذا كاف في وثاقته حتّى أنّ علي بن مهزيار مع جلالته يعتمد في ظاهر عبارته عليه «3».

وقد صرّح العلّامة قدس سره في رجاله بوثاقته، وعدّه الشيخ المفيد قدس سره من الفقهاء الأعلام والرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام الذين لا يطعن عليهم بشي ء «4».

لكن في طريق الرواية ضعف، فإنّ أبا علي بن راشد واسمه الحسن بن راشد وإن كان من وكلاء أبي الحسن الهادي عليهما السلام وقد ورد في شأنه ما يدلّ على جلالة شأنه، إلّاأنّ في طريق الصدوق قدس سره ضعف- كما في جامع الرواة- فالاعتماد عليه مشكل إلّاأنّه يمكن اخراجه مؤيداً للمقصود، وقد يستشكل في دلالته- كما في محاضرات العلّامة الميلاني قدس سره- بأنّ أبا علي وإن كان وكيلًا للإمام أبي الحسن الهادي عليهما السلام، ولكن لم يذكر في الرواية أنّ الشي ء الذي كان يؤتى به كان ممّا قبضه الإمام أبو جعفر الجواد عليه السلام أو قبضه وكيله، ولعلّ العلّة في ذلك أنّ السهم حقّ مالي أو أنّ السهم ملك لعنوان الإمامة، ولم يكن أبو جعفر عليه السلام قبضه حتّى يكون ملكاً شخصياً.

هذا وقد رجع في ذيل كلامه وقال: «لكن للتأمل مجال فإنّ جملة (ما كان لأبي) لها عموم خصوصاً مع اقترانها بجملة (وما كان غير ذلك فهو ميراث) التي مفادها ما يملكه بغير سبب الإمامة» «5».

أقول: مضافاً إلى إمكان إلغاء الخصوصية ممّا قبض بلا إشكال فإنّه إذا كان السهم المبارك ملكاً له لعنوان الإمامة، وقد أخذ منه آلافاً وكان عنده ثمّ ارتحل عليه السلام من الدنيا فهم من الحديث كونه للإمام عليه السلام من بعده.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 426

وإن شئت قلت: إن

قبض الإمام عليه السلام أيضاً على قسمين، تارة يكون بعنوان شخصه وأخرى بعنوان ولاية الأمر، كما أنّ قبض الوكيل أو الولي أو الوصي في سائر المقامات، قد يكون لنفسه وقد يكون من قبل الموكل أو المولى عليه أو الموصى، ومن الواضح اختلاف أحكامه فلا يكون مجرّد قبض شي ء دليلًا على كونه ملكاً شخصياً.

وبالجملة لا ينبغي الشك في عدم صرفه في الميراث ولا يترتب عليه آثار الملك الشخصي واللَّه العالم.

حكم سهم السادة في عصر الغيبة

ثالثها: قد عرفت أنّ سهم السادة لا يسقط في عصر الغيبة بل لا ينبغي الإشكال فيه بعد وجود مصرفه، وحرمان بني هاشم عن الزكاة وعدم إمكان ترك ذوي الحاجة منهم بلا تشريع إلهي فيكونوا أسوء حالًا من غيرهم.

ولكن الكلام في أنّ أمر هذا السهم أيضاً بيد نائب الغيبة أو يجوز للمالك صرفه في مصارفه بشخصه؟

قال المحقّق اليزدي رحمه الله في العروة في ذيل المسألة السابعة: «أمّا النصف الآخر الذي للأصناف الثلاثة فيجوز للمالك دفعه إليهم بنفسه لكن الأحوط أيضاً الدفع إلى المجتهد أو بإذنه لأنّه أعرف بمواقعه والمرجحات التي ينبغي ملاحظتها انتهى» «1».

ووافقه كثير من المحشّين وظاهر كلامه الأخير أنّ اعطاؤه بيد المجتهد احتياط استحبابي ليس من باب احتمال ولايته على جميع الخمس، بل من حيث كون الفقيه أعلم وأعرف بمواقعه (وليكن هذا على ذكر منك).

وقال المحقّق النراقي رحمه الله في المستند: «لا تشترط مباشرة النائب العام- وهو الفقيه العادل- ولا إذنه في تقسيم نصف الأصناف على الحقّ للأصل، خلافاً لبعضهم فاشترطه، ونسبه بعض الأجلة إلى المشهور» «2».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 428

وقال العلّامة المجلسي على ما في الجواهر: «وأكثر العلماء قد صرّحوا بأنّ صاحب الخمس لو تولى دفع حصة الإمام عليه السلام لم تبرء ذمّته بل

يجب عليه دفعها إلى الحاكم، وظنّي أنّ هذا الحكم جار في جميع الخمس» «1».

وصاحب الجواهر نفسه صرّح في (نجاة العباد) بجواز تولي المالك لصرف نصيب غير الإمام، وإن كان الأحوط احتياطاً شديداً دفعه إلى نائب الغيبة.

واستدلّ لعدم وجوب الاستئذان:

أوّلًا: بأصالة العدم كما صرّح به صاحبا مستند الشيعة ومستند العروة.

وفيه: أنّ الأصل كما عرفت سابقاً في أمثال المقام هو الاشتغال، لأنّ المفروض تعلق حقّ السادة بماله ولا يحصل اليقين بالبراءة منه إلّابدفعه بإذن الحاكم الشرعي.

وثانياً: أنّه ملك لعنوان السادة ودفع الملك لمالكه لا يحتاج إلى إذن الحاكم الشرعي.

وفيه: أن دفع الملك إلى مالكه أو بعبارة أصحّ تطبيق الملك الثابت لعنوان عام على بعض أفراده قد يحتاج إلى إذن الولي أو المتولي، وذلك كالوقف الخاصّ على الأولاد أو الوقف على الطلاب مثلًا لا يقتضي جواز تصرف كلّ واحد من الموقوف عليهم في غلة الوقف بدون وساطة المتولي في ذلك، كما أنّه لا يجوز لمستأجري العين الموقوفة في هذه المقامات ايصال الغلة مستقيماً إلى أيدي الموقوف عليهم بل عليهم دفعها إلى المتولي، وعلى الموقوف عليهم أخذها منهم.

والحاصل: أنّ ما ذكر من أنّه لا يمكن اعتبار الإذن في دفع المال إلى مالكه ممنوع بأنّ مفروض البحث ليس هو المالك الشخصي، بل هو المالك العنواني وجواز تطبيق العنوان على فرد يحتاج إلى دليل والقدر المتيقن منه هو ما إذا كان بإذن المالك أمّا غيره فمشكل جدّاً.

ثالثاً: أنّ هذا السهم من الخمس- كما مرّ- بدل عن الزكاة والصدقات الممنوعة لبني هاشم، ومن المعلوم جواز دفع المالك الزكاة بنفسه إلى الفقراء فيجوز في الخمس أيضاً.

وفيه: أنك قد عرفت أنّ البدلية ليست في جميع الأحكام، والقدر المتيقن منه هو

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 429

المشابهة

في المصرف، فإن قلنا مثلًا في الزكاة لا يجوز دفعها إلى خصوص المنتسب إلى هاشم من ناحية الأب، فكذا الخمس لا يجوز دفعه إلّالمن كان منتسباً كذلك، وأمّا في سائر الأحكام (غير شرائط المصرف) فاتحادهما غير ثابت، بل الثابت الاختلاف في كثير من الأحكام كما ذكرنا سابقاً.

رابعاً: يمكن التمسك بإطلاقات أدلة الخمس، فإنّها دليل على وجوب أدائه وايصاله إلى مصارفه مطلقاً سواء كان بإذن الإمام عليه السلام أم نائبه أم لم يكن.

وفيه: أنّه لا إطلاق هناك بعد كون مفاد إطلاقات الأدلة في زمن الحضور ايصال الخمس بأجمعه إلى الإمام المعصوم عليه السلام أو وكلائه، وإيصال الخمس حتّى سهم فقراء بني هاشم إلى أربابه لم يكن معمولًا به بين الأصحاب أصلًا، ومع ذلك كيف يمكن دعوى الاطلاق في الأدلة؟

وإن شئت قلت: كثير من أدلة وجوب الخمس صريحة أو ظاهرة في إيصاله إلى الإمام عليه السلام وأمّا غيرها ممّا يدلّ على وجوب الخمس مثلًا في المعدن أو في خمسة أشياء فإنّما هي في مقام بيان أصل الوجوب لا في مقام بيان كيفية أدائه، فالأخذ بالإطلاق مشكل على كلّ حال.

هذا، ويمكن الاستدلال على وجوب الاستئذان بأُمور:

1- ما عرفت من استقرار السيرة في عصر الظهور على إيصاله بأجمعه إليهم عليهم السلام ولم يعهد صرفه في مصارفه مستقلًا كما في الزكاة، وقد كان عندهم محتاجون من بني هاشم ومع ذلك لم نسمع بإعطائهم شيئاً من الخمس، وهذه السيرة ترشدنا إلى أنّ أمر الخمس- حتّى بالنسبة إلى سهم السادة- كان بأيديهم عليهم السلام فيشكل دفعه إلى غيرهم وغير وكلائهم.

ولهذا كانوا ينصبون الوكلاء لأخذ الأخماس بأجمعها لا خصوص سهم الإمام عليه السلام وهذا دليل على كون أمره جميعاً بأيديهم لا سيّما مع

بعض التأكيدات الصريحة الواردة في الأخبار كقوله عليه السلام في خبر علي بن مهزيار: «فمن كان عنده شي ء من ذلك فليوصله إلى وكيلي، ومن كان نائياً بعيد الشقّة فليتعمّد لإيصاله ولو بعد حين» «1»

والقول بأنّ ذلك من انوار الفقاهة، ج 2، ص: 430

جهة عدم وجود السادة عندهم ممنوع جدّاً بعد انتشار بني هاشم- أدام اللَّه تأييداتهم- في أقطار الأرض في تلك الأيّام بل وقبله.

2- التحليل ولو في موارد خاصة، أو في زمن خاصّ، وشبهه شاهد على كون الأمر في هذه المسألة لا يتجاوز عنهم عليهم السلام وأنّهم عليهم السلام وإن لم يكونوا مالكين لها إلّاأنّ الولاية على تقسيمه بين أهله كانت لهم.

3- أضف إلى ذلك أنّ الأصل يقتضي الاشتغال والاستئذان لما مرّ عليك ذكره آنفاً. فمن جميع ذلك يعلم ترجيح القول بوجوب دفع الجميع إلى الحاكم في زمن الغيبة كما كان يجب دفعه في زمان الحضور الذي حكاه صاحب مصباح الفقيه عن بعض «1»، ومال إليه بعض أعلام العصر ولا أقل من أن يكون الصرف بإذنهم.

فالأحوط بل الأقوى في عصر الغيبة كون الأمر فيه أيضاً بأيدي نواب الغيبة، وأنّه لا يجوز صرفه في مصارفه من بني هاشم إلّابإذنهم.

المسألة السابعة: هل يجوز دفع الخمس إلى غير من يقلده في الأحكام الشرعية؟

المعروف بين غير واحد ممّن عاصرناه أنّه لا بدّ لكلّ مكلف من دفعه إلى مرجعه أو وكيله أو من إذن له، وقد يستثنى ما إذا علم بأنّ غيره من المجتهدين ممّن يدفع إليهم يصرفونه فيما يصرفه مرجعهم في التقليد فيه، وأنّ نظره مثل نظره في المصرف كمّاً وكيفاً.

والوجه في هذه الفتوى أنّه إذا دفعه إلى من يصرفه في غير هذا المصرف لم تبرء ذمّتة، بل إذا شك

في ذلك كان الأصل أيضاً عدمه.

لكن هذا فرع كون الفقيه وكيلًا من قبل المالك، وكون وظيفة الوكيل مراعاة حال الموكل.

أمّا إذا قلنا إنّ الفقيه إنّما يأخذه من باب الولاية العامة الثابتة للفقهاء- أيدهم اللَّه- بأدلة الولاية، فلو أعطاه بيد الولي فقد برئت ذمّته لأنّ هذا هو مفهوم الولاية كمن دفع مال الغائب إلى الفقيه الذي هو ولي الغيب، وأمّا الولي فله صرفه في مصارفه طبقاً لعقيدته، هذا من انوار الفقاهة، ج 2، ص: 431

طريق الفتوى.

وهناك طريق آخر لوجوب دفعه إلى مرجعه من باب مقام الحكم، بأن يحكم مرجعه بلزوم دفعه إليه لإقامة الحوزات العلمية وشبهها من المصارف اللازمة عنده، ومن المعلوم وجوب اطاعته في هذا الحكم.

هذا، ولكن دائرة الحكم أوسع من مقلِّديه كما لا يخفى على الخبير، اللّهمّ إلّاأن لا يرى المصلحة بإجراء الحكم على غير مقلِّديه نظراً إلى ملاحظة حال سائر الفقهاء.

وهناك طريق ثالث لوجوب دفعه إلى المراجع وهو أنّ أهم مصارف الخمس في عصرنا، بل القدر المتيقن منه هو إقامة الحوزات العلمية وتحصيل نفقة طلاب العلم ورواده، وبثّ أحكام الإسلام ومعارفه في بلد الإسلام وسائر أقطار الأرض.

ومن الواضح أنّ أمر هذه الأُمور في الحال الحاضر إنّما هو بيد المراجع الدينية دون غيرهم، حتّى أنّ الولي الفقيه الذي له زعامة الحكومة في عصرنا يعتنى بشؤون أخرى لبلد الإسلام من الأُمور السياسية والاقتصادية وغيرها، ولها مداخل أخرى غير الخمس.

وأمّا الشؤون الدينية بمعناها الخاصّ فتكون تحت إشراف الفقهاء المراجع، فما دام الأمر كذلك فالأحوط لولا الأقوى وجوب صرفه في مصارفه بإذنهم ودفعه إليهم أو إلى وكلائهم، لكن لازم ذلك دفعه بأيدي بعض المراجع لا خصوص مرجعه في التقليد، فتدبّر فإنّه حقيق به.

وهناك طريق رابع وهو أن يكون

أمر المراجع بدفعه إليهم من باب الاستدعاء والعمل بالأصلح لا الأمر الواجب الشرعي فيكون كالأوامر الإرشادية، ومن الواضح أنّه لا يجب اطاعته على مقلديهم وإن كان أولى بخلاف التوجيهات الثلاثة السابقة فإن لازمها وجوب الاطاعة وامتثال هذا الأمر.

إن قلت: لازم ذلك على كلّ حال قد يكون حرمان بني هاشم في سائر البلاد من حقّ السادة وحرمان سائر حملة الدين وناشري شريعة سيّد المرسلين في البلاد النائية من سهم الإمام عليه السلام.

قلنا: كلا، لا يلزم ذلك فإنّ اللازم على الفقهاء والمراجع الدينية الإشراف على جميع البلاد عن طريق الوكلاء والعلماء في ذلك، لا النظر إلى خصوص بلدهم وخصوص الحوزة

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 432

العلمية الكبرى كما لا يخفى على الخبير، وقد وصل إلينا أخيراً خبر من البلد الشقيق أفغانستان وأنّ بعض الأكابر من المراجع الماضين أجاز لهم صرف جميع الوجوه الشرعية الحاصلة من جميع البلد في خصوص بلادهم في سنة خاصة وعدم ارسال شي ء منها إلى الحوزات العلمية الكبرى لما هم عليه من العسر الشديد والحاجات التي يطلبها الجهاد في مقابل الأعداء، وقد طلبوا منّا أيضاً تمديد هذه الاجازة لسنة أخرى وقد أجزنا لهم ذلك وهذه سنة 1412 من الهجرة النبوية على هاجرها السلام.

وهذا أوضح شاهد على عدم لزوم حرمان البلاد النائية والحوزات البعيدة، كيف وجميعها تحت إشرافه ورعايته.

المسألة الثامنة: هل يجوز نقل الخمس من بلد إلى بلد آخر، وهل يضمنه لو تلف أثناء الطريق أو قبل دفعه إلى وليه أو أربابه؟

قد ذكر صاحب العروة هنا فروعاً ستة في هذا السبيل (من المسألة الثامنة إلى الثالثة عشرة) لابدّ من التعرض لها واحداً بعد واحد، فنقول- ومن اللَّه جلّ ثناؤه نستمد التوفيق والهداية-:

قال صاحب المدارك في شرح قول

المحقّق: «لا يحل حمل الخمس إلى غير بلده مع وجود المستحق ولو حمل والحال هذه، ضمن ويجوز مع عدمه» ما نصّه: «لا ريب في جواز النقل مع عدم المستحق لأنّه توصل إلى ايصال الحقّ إلى مستحقه، أمّا مع وجوده فقد قطع المصنّف وجماعة بالمنع منه لأنّه منع للحقّ مع مطالبة المستحقّ فيكون حراماً ويضمن لو فعل لعدوانه.

(ثمّ قال:) والأصح ما اختاره الشارح (أي صاحب المسالك) من جواز النقل مع الضمان خصوصاً لطلب المساواة بين المستحقين» «1».

وقد حكى النراقي رحمه الله في المستند عن النافع والمنتهى والتحرير والدروس أيضاً عدم انوار الفقاهة، ج 2، ص: 433

الجواز مع وجود المستحقّ «1».

وصاحب الحدائق سوى بين المسألة ومسألة الزكاة بينما ذكر في تلك المسألة أنّ «المشهور التحريم وأسنده في التذكره إلى علمائنا أجمع» «2».

ولكن المشهور والمعروف بين المعاصرين ومن قارب عصرنا هو الجواز، بل استقرت عليه سيرتهم لا سيّما بناء على وجوب دفعه إلى المراجع أو أولويته، وعليه المحقّق اليزدي رحمه الله في العروة وأعلام المحشّين.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى أدلة المسألة ونقول:

أمّا جواز نقله مع عدم وجود المستحقّ في البلد فممّا لا ينبغي الإشكال فيه، بل قد يجب لأنّ حبسه مع إمكان إيصاله إلى مستحقيه حرام مخالف لوجوب دفع الحقّ إلى صاحبه ومناف للفورية المستفادة من الأوامر، ومن الواضح أنّه لو تلف والحال هذا كان ضامناً لأنّ المفروض تقصيره في هذا السبيل.

عدم جواز النقل مع وجود المستحق:

أمّا مع وجود المستحقّ فقد استدلّ لعدم جواز نقله بأُمور:

1- إنّه مناف للفورية واستلزامه تأخير الحقّ مع مطالبة صاحبه ولو بلسان الحال هكذا في بعض العبارات من الأكابر، والإنصاف أنّه لا يحتاج وجوب دفع الحقّ إلى صاحبه إلى مطالبته لا بلسان القال ولا بلسان الحال، بل إمساكه

بدون إذنه حرام.

هذا ولكن قد يورد على هذا الاستدلال صغرى وكبرى:

أمّا الأوّل فبأنّه قد لا يكون فيه منافاة للفورية بأن كان إيصاله في البلد يحتاج إلى الفحص والتحقيق عن المستحقين مع علمه إجمالًا بوجودهم فيه حينما لا يحتاج الارسال إلى مزيد مؤونة بأن كان الأمين مع الوسيلة السريعة حاضراً، أو كان له وكيل في البلد الآخر

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 434

يتصل معه بالهاتف وشبهه. وهذا الإشكال جيد.

وأمّا الكبرى فلما ذكره صاحب مستند العروة «1» من عدم وجود دليل على الفورية، غايته عدم جواز التهاون والمسامحة كما في سائر الواجبات الإلهيّة وذاك أمر آخر، وعدم رضا مستحقي البلد بالنقل لا يقدح بعد كون المالك طبيعي السادة المستحقين (انتهى).

أقول: الإنصاف أنّ الفورية ممّا تدلّ عليها طبيعة الأوامر- كما ذكرنا في محلّه- فإنّ الأمر يدعو إلى إيجاد متعلقه، وليست لهذه الدعوة حالة منتظرة وإن هو إلّاكالتحريك باليد نحو العمل ودفع المأمور بيده إلى الخروج من الدار مثلًا.

هذا مضافاً إلى أنّ الأمر في باب الحقوق والأموال أوضح فلا يحلّ إمساكها بغير إذن صاحبها، ومقتضى القاعدة إيصال كلّ مال إلى صاحبه فوراً لأنّ الإمساك محتاج إلى الدليل وهذا ظاهر.

وقد ذكر المحقّق الهمداني رحمه الله في توجيه جواز التأخير بأنّ الحقّ غير منحصر بمن يطلبه في البلد ولا يرضى بتأخيره، فإنّ من يحمل إليه في غير البلد أيضاً من المستحقين، وقد لا يرضى إلّابذلك ولا مدخلية لرضا أشخاص المستحقين وعدمه، بل الأمر في تعيين الأشخاص موكول إلى المالك «2».

قلت: لكن يرد عليه أنّه ليس الكلام في عدم رضا هذا المستحق وذاك المستحق، بل الكلام في أنّه ملك لهذا العنوان ومصاديقه موجودة في البلد ولا يجوز إمساك مال الغير بغير دليل ولا تأخيره

في أدائه، فالإمساك هو الذي يحتاج إلى دليل، لا الفور في الأداء.

نعم، الفورية المعتبرة هنا هي الفورية العرفية التي لا تنافي برهة قصيرة من الزمان لا مثل الشهر والشهرين الذي ورد في كلام المحقّق الهمداني رحمه الله.

وما قد يقال من أنّ التأخير ربّما يكون لطلب الاستيعاب والمساواة بين المستحقين أو الأشد حاجة فيجوز مع هذا القصد، كما في بعض كلمات المحقّق الهمداني رحمه الله ممنوع بأنّ هذه امور مستحبّة لايجوز تأخير أداء الحقّ الواجب إلى مستحقيه بأمثالها كما لايخفى.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 435

2- واستدلّ أيضاً لعدم جواز النقل بأنّه تغرير للمال وتعريض لتلفه.

وفيه: أوّلًا: أنّه كثيراً ما لاتغرير فيه أبداً بل قد يكون نقله أحسن إذا كان البلد غير مأمون.

وثانياً: أنّ هذا المشكل يندفع بضمانه كما هو ظاهر.

3- إنّه ورد في أبواب الزكاة أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يقسم صدقة أهل البوادي على أهل البوادي، وصدقة أهل الحضر على أهل الحضر «1».

والخمس مثل الزكاة في هذه الأُمور لعنوان البدلية.

وفيه: أنّهم حملوها في موردها على الاستحباب فكيف بالمقام، مضافاً إلى ما عرفت غير مرّة من عدم عمومية حديث البدلية.

فتحصّل من جميع ذلك عدم تمامية شي ء من أدلة عدم جواز نقل الخمس من بلد إلى بلد.

نعم، إذا كان ذلك منافياً للفور الواجب لم يجز، كما أنّه قد يكون الأمر بالعكس أي يكون التقسيم في البلد منافياً للفور لعدم معرفة المستحقين واحتياجها إلى فحص وتحقيق مع كون غير البلد سهل الوصول جدّاً لقربه أو إمكان التوكيل أو غير ذلك.

بل يمكن أخذ الاجازة من نائب الغيبة في هذا التأخير، ويجوز له ذلك إذا رأى فيه مصلحة لابدّ من مراعاتها أو يفضل مراعاتها.

جواز النقل مع وجود المستحق:

ويمكن الاستدلال على الجواز بأُمور:

1-

الأصل هو الجواز لأنّ الكلام في الحكم التكليفي هنا وهو جواز نقله شرعاً والأصل هو البراءة.

2- السيرة المستمرة التي كانت في أعصار الأئمّة عليهم السلام من أنّهم ينقلون الأخماس إليهم عليهم السلام أو إلى وكلائهم، وقد ورد التصريح به في غير واحد من روايات الخمس، وقد مرّ

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 436

ذكرها عليك لا سيّما ما عرفت في صحيحة علي بن مهزيار من قوله عليه السلام: «ومن كان نائياً بعيد الشقّة فليتعمّد لإيصاله ولو بعد حين» «1».

ودعوى أنّ ذلك كلّه كان بسبب عدم وجود المستحقّ في البلد، دعوى باطلة بعد انتشار السادة وغيرهم في البلاد.

وحيث إنّ نائب الغيبة نائب عنه عليه السلام في جميع هذه الأُمور فيحمل الخمس إليه.

ولكن يرد عليه: بأنّ مفروض الكلام ما إذا كان في البلد بعض نواب الغيبة فأراد نقله إلى نائب آخر في بلد آخر، والسيرة لا تدلّ على جواز ذلك.

3- النصوص الواردة في جواز نقل الزكاة من بلد إلى بلد، مثل ما رواه هشام بن الحكم عن أبي عبداللَّه عليه السلام في الرجل يعطي الزكاة يقسمها إلى أن يخرج الشي ء منها من البلدة التي هو فيها إلى غيرها؟ فقال: «لا بأس به» «2».

وأصرح منه ما رواه أحمد بن حمزة قال: سألت أبا الحسن الثالث عن الرجل يخرج زكاته من بلد إلى بلد آخر ويصرفها في اخوانه فهل يجوز ذلك؟ قال: «نعم» «3».

إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا المعنى.

وإذا جاز في الزكاة ذلك فليجز في الخمس الذي هو بدل له.

ولكن يرد عليه ما مرّ من الإشكال في حديث البدلية.

هذا والعمدة في الجواز هو الأصل.

هذا كلّه من ناحية الحكم التكليفي وأمّا من جهة الحكم الوضعي- أي الضمان لو تلف- فتارة يفرض

الكلام فيما إذا لم يجد مستحقاً في البلد فنقله إلى غيره فتلف من دون تعدٍ وتفريطٍ، فقد صرّح المحقّق اليزدي رحمه الله في العروة بعدم الضمان و وافقه جماعة من المحشّين، بل عن صاحب المنتهى الإجماع عليه، ولكن عبارة العلّامة قدس سره في المنتهى غير

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 437

ظاهرة في دعوى الإجماع وإن كان عدم الضمان مذهبه نفسه «1».

واستدل له تارة: بالأصل أعني القاعدة المعروفة وأنّه ليس على الأمين ضمان عند عدم التقصير، والمفروض أنّ جواز الايصال يجعل المال أمانة شرعية في يده كما أنّ المفروض عدم تقصيره في الحفظ.

وأخرى بظاهر التعليل الوارد في أبواب المستحقين للزكاة في صحيحة محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: رجل بعث بزكاة ماله لتقسّم، فضاعت، هل عليه ضمانها حتّى تقسّم؟ فقال: «إذا وجد لها موضعاً فلم يدفعها إليه فهو لها ضامن حتّى يدفعها، وإن لم يجد لها من يدفعها إليه فبعث بها إلى أهلها فليس عليه ضمان لأنّها قد خرجت من يده». الحديث «2».

ويردّ على الأوّل بأنّ الأمين وإن لم يكن ضامناً بلا إشكال إلّاأن الكلام في أنّ الخمس هل ينعزل بالعزل أم لا؟ وإن شئت قلت: إنّ الزكاة يجوز عزلها من ناحية المالك، فتتلون بهذا اللون وتخرج من المال وتكون أمانة شرعية في يد صاحبها، ولكن في جواز ذلك في الخمس إشكال كما صرّح به صاحب العروة نفسه في المسألة 15 من نفس الباب، نعم للمالك أداؤه من أي قسم من أمواله أراد، ولكن لا يكون خمساً إلّاإذا دفعه إلى أربابه.

وحينئذٍ إن حمل المال كلّه إلى أرباب الخمس فضاع الجميع فلا إشكال في عدم الضمان، كما أنّه لو صرف أربعة أخماس منه في مصارف

أخرى وبقى منه الخمس فحمله فضاع فلا إشكال أيضاً، إنّما الكلام في ما إذا بقى الباقي أو بقى في البلد منه بمقدار الخمس، فإنّه على القول بكون شركة أرباب الخمس على نحو الكلي في المعين يكون حقّهم في الباقي والتلف وقع في مال نفسه، وعلى الإشاعة يكون التلف لكلّ من المالك وأرباب الخمس بالنسبة.

وإن شئت فقل: إنّه من قبيل أداء الدين، فإذا كان الإنسان مديناً لأحد فحمل بعض أمواله إليه فضاع قبل دفعه إليه فلا إشكال في كون ضياعه من مال نفسه، فكذا المقام.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 438

والحاصل: أنّه ليس الإشكال في عدم ضمان الأمين، إنّما الإشكال في تلون ما يحمله إلى أربابه بهذا اللون أعني الخمس.

ومنه يظهر الإشكال في الاستدلال الثاني بعموم تعليل الرواية، فإنّها واردة في الزكاة وما أشبهها ممّا يمكن عزله ويتلون بلونها، وأمّا فيما نحن فيه فليس الأمر كذلك بل الخمس باق في باقي المال كما عرفت.

ولذا، قد صرّح في بعض روايات باب الزكاة بذلك، ففي رواية أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إذا أخرج الرجل الزكاة من ماله ثمّ سمّاها لقوم فضاعت أو أرسل بها إليهم فضاعت فلا شي ء عليه» «1».

فإنّ قوله «سمّاها لقوم» دليل واضح على جواز عزل الزكاة بالنيّة، ولم يقم دليل على ذلك في الخمس فلا يقاس عليها.

اللّهم إلّاأن يقال: قول أبي سيّار مسمع بن عبدالملك في روايته المعروفة: «إنّي كنت وليت الغوص فأصبت أربعمائة ألف درهم، وقد جئت بخمسها ثمانين ألف درهم ...» «2».

دليل على جواز العزل ولكنه لا يخلو من إشكال، وتمام الكلام في المسألة 15.

ويمكن أن يقال: إنّ جعل التالف على المالك هنا مع أنّه لم ينقله إلّابمصلحة أرباب الخمس نوع اضرار

به فينتفي بأدلة نفي الضرر.

وبعبارة أخرى كيف يمكن تضمين المالك (ولو مراراً متعددة) إذا نقل المال لإيصاله إلى أرباب الخمس ولم يقصد بذلك إلّاالتقرب إلى اللَّه بأداء تكليفه من هذه الجهة مع ما ورد من عدم الضرر والضرار في الأحكام الإسلامية وعدم الحرج فيها؟

فبهذا يمكن نفي الضمان وكفايته في الإخراج، ولكن يرد عليه النقض في سائر الديون، فمن كان مديناً لزيد ألف دينار فحمله إليه وأراد بذلك أداء دينه تقرباً إلى اللَّه فتلف من غير تعد وتفريط، ثمّ حمله ثانياً فكان عاقبة أمره كذلك أيضاً، فهل يمكن الحكم بإبراء ذمّته نظراً إلى قاعدة لا ضرر ونفي الحرج؟

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 439

وإن شئت قلت: هذا نظير ما ذكروه في قاعدة لا ضرر من أنّه إذا كان الضرر متوجهاً إلى شخص أوّلًا وبالذات لا يمكن دفعه بالاضرار بالغير، مثل ما إذا جرى السيل إلى دار فلان لا يجوز توجيهه إلى دار غيره لدفعه عن نفسه، والضرر هنا بطبيعة الحال متوجه إلى المالك فلا يمكن توجيهه إلى أرباب الخمس لنفي الضرر عن المالك.

هذا كلّه إذا لم يجد محلّاً له في البلد، وأمّا إذا وجد له أهلًا فلم يدفعه إليهم فضمانه أولى وأظهر، لأنّه مقتضى القاعدة أعني قاعدة الاشتغال، مضافاً إلى جريان التعليل الوارد في صحيحة محمّد بن مسلم فيه بطريق أولى، لأنّه إن انعزل الخمس بعزل المالك كان داخلًا في إطلاق التعليل، وإن لم ينعزل كان باقياً في ملكه فالتلف إنّما هو من ماله، هذا إذا قلنا بأنّ تعلق الخمس بالمال من باب الكلي في المعين، ولو كان من قبيل الإشاعة يكون التلف من الجانبين لو لم يكن هنا تعدّ وتقصير، ولو كان ذلك كان كلّه عليه

ولو من جهة ترك الأداء فوراً بناءً على وجوبه.

هذا كلّه إذا كان النقل سبباً لتأخير الأداء- كما هو الغالب- ولو لم يكن كذلك بل كانا متساويين، أو كان النقل سبباً لسرعة الأداء- كما قد يتفق- فالحكم بالضمان كالصورة السابقة بلا تفاوت.

المسألة التاسعة: إذا أذنَ الفقيه في النقل فقد صرّح صاحب العروة الوثقى بأنّه ليس عليه ضمان ولو مع وجود المستحقّ، وكذا لو وكله في قبضه عنه بالولاية العامة ثمّ أذن في نقله.

أمّا الصورة الثانية فالأمر فيها واضح، فإنّه بعد القبض من قبل الفقيه يخرج الخمس عن ماله وينحصر في المقبوض، ويده حينئذٍ عليه يد أمانة لا تضمن ما لم يفرط فيها.

وأمّا عند عدم التوكيل بل كان هناك مجرّد إذن الحاكم في النقل، فقد استدلّ صاحب مستند العروة لعدم الضمان فيه بأنّ عدم الضمان إنّما هو لكون يده يد المأذون، لأنّه بإذن الولي في التصرف فتخرج عن كونها يد ضمان «1».

قلت: ولكن يأتي فيه الإشكال الذي مرّ في المسألة السابقة من أنّه لا ينعزل الخمس انوار الفقاهة، ج 2، ص: 440

بعزل المالك ما لم يقبضه الحاكم أو أرباب الخمس، وحينئذٍ يكون التلف من ماله، ومجرّد الإذن في النقل بدون الإذن في قبضه غير كافٍ في صيرورته خمساً.

اللّهم إلّاأن يقال: إنّ إذن الفقيه في نقل الخمس إليه لا ينفك عن الإذن بإفراز حقّ أرباب الخمس في مال معين وإلّا لا يكون معنى لنقل الخمس، فالحكم بعدم الضمان حينئذٍ قوي. نعم، إذا حمل جميع المال إليه بقصد افراز الخمس عنده فتلف بعض المال لا جميعه أمكن الحكم بالضمان، بناءً على كون الخمس في المال من باب الكلي في المعين، ولو قيل بالإشاعة تلف من الجانبين بالنسبة.

المسألة العاشرة: قال صاحب

العروة الوثقى: مؤونة النقل على الناقل في صورة الجواز، ومن الخمس في صورة الوجوب، ووافقه على ذلك كثير من المحشّين.

واستدلّ غير واحد لعدم الوجوب في الصورة الاولى بأنّه لا دليل على اخراجها عن الخمس بعد عدم وجوب النقل وعدم توقف أداء الواجب عليه، ومقتضى قاعدة الإشتغال أداء جميع الخمس ولا ينقص منه شي ء.

كما استدلّ على الثاني أعني كون المؤونة من الخمس بأنّه موجب لضرر المالك، ومن الواضح أنّ وجوب الإيصال لا يقتضي إلّاوجوب النقل، أمّا وجوب تحمل الضرر في هذا السبيل فهو منفى بأدلة نفي الضرر (هذا هو الذي يستفاد من المستمسك ومستند العروة وغيرهما).

ولكن لقائل أن يقول: إنّ المؤونة في الصورة الثانية أيضاً على المالك لأنّه من قبيل مقدمة الواجب، فإنّ الإيصال واجب عليه فيجب عليه بذل المال لأنّه مقدمة له، وإن هو إلّا كأداء الديون ورد الأمانات فلو وجب عليّ أداء دين وتوقف ذلك على بذل المال كالمصارف التي تأخذها البنوك لإيصال هذا المال إلى صاحبه لا يمكن أخذه من أصل الدين.

وكذلك الأمر في باب الأمانات، فإنه إذا وجب عليّ ايصال أمانة إلى أهلها وجب بذل المال في هذا السبيل أيضاً.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 441

وإن شئت قلت: إن كان مجرّد تخلية اليد عن مقدار الخمس وإعلام أربابه أو الحاكم الشرعي كافياً في أداء الواجب عليه، لم يجب عليه بذل المال، وأمّا إن لم يكن مجرّد التخلية كافية بل وجب عليه إيصالها إلى أهلها كما هو ظاهر قوله: «فليتعمّد لإيصاله ولو بعد حين» في صحيحة علي بن مهزيار «1» وغيرها ممّا يدلّ على هذا المعنى، فلماذا لا يجب عليه بذل المال في هذا السبيل؟ ولا تشمله أدلة نفي الضرر كما في سائر المقدمات مثل

بذل المال في طريق تطهير المساجد أو الثياب للصلاة، أو تحصيل الماء للوضوء وغيرها، فهل يجوز لأحد نفي شي ء من ذلك من باب الضرر؟

نعم، إذا حصل منه ضرر كثير- كما إذا استلزم أداء خمسين- لإيصال الخمس، ربّما يمكن نفيه بأدلة الحرج كما ذكروه في باب الوضوء إذا لا يمكن تحصيله إلّاببذل مال كثير فراجع، وتدبّر.

المسألة الحادية عشرة: ذكر المحقّق اليزدي قدس سره صوراً ثلاث ونفى كونها من النقل وإن كان فيه نتيجة النقل.

إحداها: ما إذا كان له مال في بلد آخر، فدفعه فيه للمستحقّ عوضاً عن الذي عليه من الخمس.

ثانيها: ما لو كان له دين في ذمّة مستحقّ في بلد آخر فاحتسبه من الخمس.

ثالثها: لو نقل شيئاً من أمواله التي لا يتعلق بها الخمس أو نقل خمسه إلى بلد آخر فبذله من باب الخمس لأنّ المالك يجوز له التبديل.

كلّ ذلك لعدم صدق عنوان النقل عليه، فلا يشمله دليل الحرمة أو الكراهة.

أقول: لم يرد في شي ء من الأدلة عنوان النقل لا في معقد الإجماعات (لأنّ المسألة كما عرفت ليست إجماعية) ولا في غيره من الأدلة التي ذكروها في المسألة، و قد عرفت أنّ عمدة الدليل على حرمته عند وجود المستحق في البلد أحد أُمور:

أوّلها: منافاتها للفورية فإن كان ذلك فبعض هذه الصور الثلاث ينافي الفور، وبعضها لا

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 442

ينافي، بل بعضها قد ينافي وقد لا ينافي- كما هو واضح للخبير- ففي كلّ مورد لابدّ من ملاحظة الفورية.

وثانيها: كونه موجباً للتغرير والخطر بمال الخمس، فلو كان الدليل هذا لم يكن إشكال في شي ء من المواضع الثلاثة لعدم التغرير بمال الخمس.

وثالثها: ما ورد عن فعل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في أبواب الزكاة، وأنّه

كان يقسم صدقة أهل البوادي على أهلها وأهل الحضر على أهله (بناءً على توافق حكم الخمس والزكاة هنا) فإن كان الدليل هذا لا يجوز شي ء من الصور المذكورة، لأنّها تمنع عن تقسيم خمس كلّ بلد على أهله.

وبالجملة فإنّ مقتضى الأدلة مختلفة، والعجب من بعض الأعلام حيث أفتوا هنا بعدم كون هذه الصور الثلاث من النقل من دون اعتناء بشأن أدلة حرمة النقل، بل اكتفوا بعدم صدق النقل عليها مع عدم ورود هذا العنوان في الأدلة.

المسألة الثانية عشرة: هل المدار في البلد (على القول بلزوم صرف الخمس في البلد) هو بلد المالك أو بلد المال؟ قال صاحب العروة: لو كان (المال) الذي فيه الخمس في غير بلده فالأولى دفعه هناك، ويجوز نقله إلى بلده مع الضمان، ووافقه جماعة المحشّين.

وظاهره كون المدار على بلد المال، فلو قلنا بحرمة النقل أو الضمان مع النقل تكون العبرة ببلد المال. واللازم هنا أيضاً الرجوع إلى الأدله السابقة فإن كان المدار على منافاة النقل للفورية كما هو المختار، فلو كان المال في بلد آخر وكان نقله مستلزماً للتأخير لم يجز ذلك، وهكذا لو كان المدار على وقوع المال في الخطر، وأمّا بناءً على ما حكى عن فعل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فالواجب أو المستحبّ دفع الخمس في خصوص بلد المال، وأمّا إضافة الأموال إلى مالكيها بقوله: «أموال أهل البوادي وأموال أهل الحضر» فهي مبنية على الغالب من وحدة بلد المال وبلد المالك، فلا إطلاق لها بالنسبة إلى غيرها حتّى يستظهر منها أنّ المعيار هو بلد المالك والظاهر أنّ حكمه بالأولوية ناظر إلى الأخير المبني على الاستحباب.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 443

وأمّا مسألة الضمان فهو مبني على ما مرّ من

جواز العزل وعدم جوازه، ووجود المستحقّ في بلد المال وعدم وجوده هناك، فالكلام فيه كما مرّ.

المسألة الثالثة عشرة: هل التفاصيل السابقة في مسألة نقل الخمس من بلد إلى بلد ناظرة إلى خصوص سهم السادة، أو تشمل سهم الإمام عليه السلام؟

ظاهر عبارة صاحب العروة الوثقى أنّها مختصة بسهم السادة حيث قال: إن كان المجتهدالجامع للشرائط في غير بلده جاز نقل حصة الإمام عليه السلام إليه بل الأقوى جواز ذلك، ولو كان المجتهد الجامع للشرائط موجوداً في بلده أيضاً بل الأولى النقل إذا كان مَن في البلد الآخر أفضل أو كان هناك مرجح آخر (انتهى).

ولكن لم يذكر حكم الضمان لو تلف لا سيّما في الصورتين الأخيرتين، ولعلّ ظاهر كلامه عدم الضمان، ويظهر من كلام صاحب مستند العروة أيضاً إمضاء هذا الفرق.

هذا، والإنصاف أنّه لا فرق بين المسألتين، فلو قلنا بعدم الجواز في سهم السادة إذا كان يوجد له مصرف، فكذا في سهم الإمام عليه السلام لا يجوز نقله مع وجود المجتهد الجامع للشرائط في بلده، وإذا لم يوجد يجوز نقله إلى غير البلد وحكم الضمان في المسألتين واحد، ودليل الفور أو الخطر جار في المسألة أيضاً، نعم يمكن أن يقال: إنّ رواية تقسيم الصدقات في عصر النبي صلى الله عليه و آله ناظرة إلى خصوص سهم الفقراء، وتجري في خصوص سهم السادة هنا.

والحقّ ما عرفت سابقاً من أن تقسيم الخمس إلى القسمين، ودفع سهم السادة إليهم من قبل المالك، ودفع النصف الآخر إلى الإمام عليه السلام أو نائبه لم يكن معمولًا به في عصر الأئمّة عليهم السلام بل المتداول في تلك الأعصار جميعاً حمل كلّ الخمس إليهم أو إلى وكلائهم من دون فرق بين السهمين، فالحكم بالجواز

في الجميع جيّد ولكن لا يرتفع الضمان بذلك لما عرفت من الإشكال في انعزاله بالعزل.

كما أنّك قد عرفت أنّ الأحوط لولا الأقوى صرف سهم الإمام عليه السلام في أعصارنا في تحكيم قواعد الحوزات العلمية ونفقة طلاب الدين وتعظيم شعائره وبثّ الأحكام بين الأنام في مختلف بلاد العالم لا سيّما بين المسلمين المستضعفين، فيحمل إلى من تكون هذه انوار الفقاهة، ج 2، ص: 444

الأُمور تحت إشرافه من المراجع الدينية، ولو كان غير أعلم كما لا يخفى.

المسألة الرابعة عشرة: هل يجوز دفع القيمة بالنقد الرائج بدل الخمس المتعلق بالمال، أو دفع جنس آخر عوض الجنس الذي تعلق به الخمس؟

صرّح صاحب العروة هنا وفي المسألة 75 من المسائل التي ذكرها في باب ما يجب فيه الخمس، بتخيير المالك بين أداء العين أو قيمته أو عوضه من جنس آخر، وقد وافقه عليه كثير من المحشّين، ولكن خالف بعض سادة أساتذتنا في خصوص الدفع من جنس آخر.

والظاهر أنّه لا وجه لتكرار المسألة هنا إلّابعنوان التوطئة، لما ذكره بعده من عدم جواز محاسبة العروض بأكثر من قيمته وأن رضى المستحق.

أمّا أصل المسألة فقد مرّ الكلام فيها مبسوطاً عند ذكر المسألة 75 من المسائل التي ذكرناها هناك.

ومجمل القول فيه أنّه لا ينبغي الإشكال في جواز تبديل الخمس بالقيمة من النقد الرائج، ولعلّه ممّا لا إشكال فيه بين الفقهاء، وما قد يترائى من الإشكال فيه في مستند الشيعة بقوله: «مقتضى الآية والأخبار تعلق الخمس بالعين فيجب أداؤه منها ولا يجوز العدول إلى القيمة إلّاإذا أعطى العين إلى أهلها ثمّ اشتراها منه» «1» في غير محلّه قطعاً.

وذلك لاستقرار السيرة عليه قديماً وحديثاً، فالبقال الذي له أجناس مختلفة في دكانه إذا جاء رأس السنة وتعلق به

الخمس فلا يحمل من كلّ نوع من أنواع ما عنده خمسه إلى الإمام عليه السلام أو نائبه بل ولا إلى السادة، بل يحسبه بحساب النقد الرائج ويؤديه، وكذا صاحب المعدن لا يؤدي من ترابه، وصاحب الأدوية والأقمشة واللؤلؤ والقصيب والأشجار وغيرها لا يؤدون إلّاالقيمة كما هو الظاهر.

وما ورد في غير واحد من الروايات شاهد عليه، مثل ما ورد في رواية مسمع بن عبدالملك أبي سيّار من أنّه حمل ثمانين ألف درهم قيمة خمس ما استخرجه بالغوص «2».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 445

وما ورد في حديث الريان بن الصلت من سؤاله عن تعلق الخمس بثمن السمك وشبهه «1».

وما ورد في حديث أبي بصير من تعلق الخمس بقيمة فاكهة البستان «2» إلى غير ذلك.

وظاهر هذه الروايات أن تبديل العين بالقيمة كان أمراً رائجاً معلوماً عندهم لا يحتاج إلى السؤال وكانوا يسألون عن أشياء اخر في جانبه، وقد أمضى الأئمّة الهادون عليهم السلام هذا الارتكاز، واحتمال أنّ هذه البيوع كانت فضولية فأجازها الإمام عليه السلام ممّا لا وجه له كما لا يخفى.

وأمّا تبديله بجنس آخر من العروض فإنّه لا دليل عليه من السيرة والروايات الواردة عن المعصومين والأصل عدم البراءة بها، نعم يمكن استثناء ما إذا طلب أرباب الخمس جنساً آخر أو كانوا في حاجة شديدة بالنسبة إليه، وكأنّه وكّل المالك في تبديله هنا أو يشتري بعض العروض من المالك في ذمّته ثمّ يحتسب المالك ثمنه عليه.

هذا، ولا يجوز محاسبة العروض (في كلّ مورد يجوز التبديل بها) بأكثر من قيمتها كما صرّح به كثير من الأعلام- قدس اللَّه أسرارهم- ومنهم كاشف الغطاء، حيث قال: «وليس لهاشمي أن يبرى ء ذمة أحداً من حق الخمس ولا أن يضيع حقوق السادات بأخذ

القليل جدّاً عوضاً عن الكثير ولو كان باختلاف يسير جاز له شراؤه ثمّ يحتسب المالك ثمنه عليه» «3».

وصرّح صاحب الجواهر أيضاً به في نجاة العباد حيث قال: يجب عليه دفع العروض بقيمته في نفس الأمر ولا عبرة بقبول المستحقّ لها بأضعافها ما لم يكن على وجه شرعي «4».

وهو كذلك لعدم الدليل على حصول البراءة بذلك ولأنّه تضييع لحقّ السادة كما هو ظاهر.

نعم، يجوز لهم قبولها وردّها أو ردّ بعضها إلى من عليه الخمس إذا كان في عسر شديد وحتّى بدونه إذا كان بينهما مصادقة وكان من شؤون السادة مثل هذا البدل، فبحسب الكمية والكيفية يلاحظ مقدار شأنهم ولا يتعدى عنه فما يرى بين بعض العوام أو بعض من يشبه العوام من الخواص من إبراء ذمّة المالك القادر على أداء الخمس أو قبول قليل بدل كثير

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 446

أشبه شي ء بلعب الصبيان، أعاذنا اللَّه من هذه الحيل.

المسألة الخامسة عشرة: لا إشكال في براءة الذمّة من الخمس بعد أخذ المستحق أو الحاكم الشرعي أو نائبه وصيرورة باقي المال مطلقاً، إنّما الكلام في أنّه هل يجوز تعيينه في مال معين بالعزل ليترتب عليه آثاره، من جواز التصرف في الباقي، وعدم ضمانه لو تلف بغير تعدّ ولا تفريط أم لا؟

يظهر من كلام المحقّق النراقي رحمه الله في المستند دعوى الإجماع على جواز العزل، حيث قال: «ولرب المال القسمة بالإجماع وظواهر الأخبار المتضمنة لإفراز ربّ المال خمسه وعرضه على الإمام عليه السلام وتقريره عليه» «1».

ولكن يظهر من كلام صاحب الجواهر في (نجاة العباد) الإشكال في جواز العزل، حيث قال: «الأحوط إن لم يكن أقوى عدم تشخصه بالعزل» «2».

كما استشكل صاحب العروة في جوازه وقرره على هذا الإشكال مَن رأينا

من المحشّين وهو الموافق للأصل، فإنّ انعزاله بالعزل يحتاج إلى دليل ولا يخرج العين من الشركة بعنوان الإشاعة أو الكلي في المعين أو تعلق الحقّ بها بأي نحو كان بمجرّد العزل، وإن هو إلّاكسائر الأموال المشتركة التي لا يجوز افرازها بغير إذن الشركاء جميعاً، نعم، له عزل بعض أمواله ثمّ دفعه بيد المستحقّ فيكون خمساً بعد الدفع، كما في سائر الحقوق المتعلقة بالذمّة أو بالمال.

غاية الأمر قام الدليل هنا على تخيير المالك في أداء حقّ أرباب الخمس من بين أمواله، وهذا غير مسألة العزل كما هو ظاهر.

أدلة جواز العزل:

وعمدة ما يستدلّ به على جواز العزل في مقابل هذا الأصل أُمور:

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 447

1- ما مرّ من دعوى الإجماع في كلام المحقّق النراقي قدس سره وقد عرفت أنّه لا اعتبار به، وكأنه أخذه من تعبيرات القوم من عدم جواز النقل وكونه ضامناً لو نقله إلى غير ذلك من التعابير بظنّ أنّها تدلّ على انعزاله بالعزل.

ولكن الإنصاف أنّ شيئاً من ذلك لا يدلّ عليه، بل المراد من ذلك هو كون التلف من مال المالك ويبقى الخمس في باقي أمواله أو في ذمّته.

سلّمنا، ولكن كلماتهم في تلك المسألة محدودة معدودة ليست شاملة لجميع الأصحاب، أو جلّهم حتّى يكون إجماعاً فراجع المسألة الثامنة.

سلّمنا، ولكن من الواضح عدم اعتبار الإجماع في هذه المسألة ممّا له مدارك أخرى

2- ظواهر الأخبار المتضمنة لإفراز ربّ المال خمسه وعرضه على الإمام وتقريره عليه (كما ذكره المحقّق النراقي) وهو إشارة إلى أمثال قوله عليه السلام في رواية علي بن مهزيار: «فمن كان عنده شي ء من ذلك فليوصله إلى وكيلي ومن كان نائياً بعيد الشقة فليتعمّد لإيصاله ولو بعد حين» «1»

وقوله: «ادّ خمس ما أخذت»

الوارد في رواية الأزدي «2» وقوله عليه السلام: «خذ مال الناصب حيثما وجدته وادفع إلينا الخمس» «3»

إلى غير ذلك.

ولكن الإنصاف أنّ غاية ما يستفاد من ذلك، كون ربّ المال مخيراً في أداء الخمس من أي بعض من أبعاض ماله من دون مراجعة نائب الغيبة (لو لم نقل أنّ هذه الأوامر بنفسها مصداق الإذن) وأمّا صيرورة المعزول مصداقاً لحقّ السادة قبل أن يصل إليهم فلا، فالمعزول كسائر أمواله إلى أن يؤديه إلى أرباب الخمس كما هو كذلك في سائر الحقوق والديون.

3- السيرة المستمرة في عصر المعصومين عليهم السلام وبعدهم إلى زماننا هذا من تولى المالك لإخراج الخمس وهو مستلزم عرفاً للولاية على العزل، وكذا ولايته على دفع القيمة عوضاً عن العين فإنّها أيضاً دليل على جواز العزل عرفاً.

وفيه: ما عرفت من أنّ غاية ما يستفاد من هذا الأمر هو جواز تولي المالك لإخراج بعض انوار الفقاهة، ج 2، ص: 448

من أمواله لدفعه خمساً وجواز تبديله بالقيمة بالنقود الرائجة، وأمّا إتصافه بوصف الخمس قبل وصوله إلى أيدي أربابه فذلك ممّا لا دليل عليه.

4- جواز ذلك نصاً وفتوى في باب الزكاة مع ما نعلم من مساواة المسألتين في الأحكام، دليل على جواز ذلك في الخمس أيضاً.

أقول: قد عرفت غير مرّة أنّ المتيقن من المماثلة إنّما هو في المستحقّ، فالأوصاف المعتبرة في مستحقي الزكاة تعتبر في مستحقي الخمس إلّاأنّهم من بني هاشم، وأمّا المساواة في جميع الأحكام فهو شي ء لا يمكن المساعدة عليه، لاختلافهما في أشياء كثيرة، وقبول المساواة كأصل في المسألة أيضاً ممّا لا دليل عليه.

فقد تحصّل من جميع ما ذكرنا عدم كفاية ما ذكروه من الأدلة لإثبات جواز العزل بحيث يترتب على المعزول أحكام الخمس جميعاً وتكون أمانة

في يده، نعم يستشم من روايات أداء الخمس وكذا السيرة جواز افراز ربّ المال، ولكن حيث لا يبلغ حدّ الدلالة المعتبرة نكتفي بالإشكال في المسألة والاحتياط فيها واللَّه العالم.

المسألة السادسة عشرة: إذا كان للمالك دين في ذمّة المستحقّ، فهل يجوز احتسابه خمساً أم لا؟

صرّح صاحب العروة بجوازه، ووافقه جماعة من المحشّين غير أنّ بعضهم قيّده بإذن الحاكم الشرعي وبعضهم جعله محلّاً للإشكال، فهنا أقوال ثلاثة.

وقال سيّدنا الاستاذ الحكيم رحمه الله في المستمسك: إنّ جوازه يتوقف على أمور:

أحدها: أن تكون اللام للمصرف لا للملك، ويكفي في المصرف إبراء الذمّة واسقاطها لأنّه نوع من المصرف، لكن جعل اللام للمصرف مخالف للظاهر لا سيّما مع ملاحظة السهام العائدة للإمام.

ثانيها: أنّ اللام وإن كان للملك، ولكن لما كان المالك هو الطبيعة (والعنوان) لا الأشخاص، فالمالك أو الفقيه بحسب ولايته على المال المذكور الذي ليس له مالك معين يصرفه في مصالح الطبيعة التي منها إبراء ذمّة بعض أفرادها.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 449

وفيه: أنّ الولاية المطلقة غير ثابتة، وغاية ما ثبت هو الولاية على تطبيق الطبيعة على الفرد وبعده يدفعه تمليكاً.

ثالثها: البناء على جواز عزل الخمس في المال الذي في الذمّة وبعد تطبيق المستحقّ الكلي على صاحب الذمّة يسقط المال قهراً، ولكن قد عرفت الإشكال في جواز عزل الخمس ....

(ثمّ قال:) نعم بناءً على ثبوت ولاية الفقيه إذا أذنَ للمالك بتعيين الخمس فيما له في ذمّة الغير وتعيين الفقير فيمن عليه المال سقط قهراً عملًا بمقتضى الولاية (انتهى ملخصاً) «1».

أقول: الأولى من هذه الوجوه أن يتكلم في أمرين آخرين:

أحدهما: هل الإبراء الذي من قبيل الايقاع لا محالة، لا التمليك المحتاج إلى الإيجاب والقبول، يعد من مصاديق الأداء أم لا؟ الظاهر أنّه

أداء عرفاً، وحيث لا دليل على كون الأداء بنحو خاصّ فيجوز كلّ ما كان أداء عرفاً.

وإن شئت قلت: إنّ ملكية السادة وأرباب الخمس وإن كان أمراً معلوماً إلّاأنّ إبراء المدين من الخمس يعدّ عرفاً من أداء الملك إلى أهله بعد كونه مصداقاً للعنوان الكلي، فلا حاجة إلى التمليك لأنّ الملكية حاصله للعنوان، بل الكلام في أداء الملك وإيصاله إلى أهله وهو هنا حاصل من غير حاجة إلى إذن الحاكم الشرعي، إلّاإذا قلنا بوجوبه في جميع الموارد وهو أمر آخر.

ثانيهما: أنّ هناك روايات متعددة وردت في باب الزكاة من جواز احتساب دين الفقير من باب الزكاة، بعضها ناظرة إلى حال الحياة وبعضها ناظرة إلى ما بعد الوفاة، مثل ما رواه عبدالرحمن بن الحجاج قال: سألت أبا الحسن الأوّل عليه السلام عن دين لي على قوم قد طال حبسه عندهم لا يقدرون على قضائه وهم مستوجبون للزكاة، هل لي أن أدعه فاحتسب به عليهم من الزكاة؟ قال: «نعم» «2».

إلى غير ذلك ممّا أورده صاحب الوسائل في الباب 46 من أبواب المستحقين من الزكاة.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 450

والظاهر أنّ العرف يلقي الخصوصية من باب الزكاة في مثل هذا المورد ويرى هذا حكماً كلياً في جميع موارد أداء الحقوق، لا أنّه تعبد خاصّ بمورده، لا أقول جميع أحكام الخمس والزكاة متوافقة، بل أقول في خصوص المورد إنّ العرف يقضي بإلغاء الخصوصية كما لا يخفى.

نعم، ورد في بعض روايات هذا الباب تفصيل بين القادر على أدائه عرفاً من بعض أمواله (ولو كان من مستثنيات الدين) أو يرجى منه في المستقبل ومن لا يرجى منه شي ء أبداً، فلا يجوز احتسابه من الدين في الثاني ويجوز في الأوّل، وهو ما رواه سماعة،

عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سألته عن الرجل يكون له الدين على رجل فقير يريد أن يعطيه من الزكاة، فقال:

«إن كان الفقير عنده وفاء بما كان عليه من دين من عَرَض من دار أو متاع من متاع البيت أو يعالج عملًا يتقلب فيها بوجهه فهو يرجو أن يأخذ منه ماله عنده من دينه، فلا بأس أن يقاصه بما أراد أن يعطيه من الزكاة، أو يحتسب بها، فإن لم يكن عند الفقير وفاء ولا يرجو أن يأخذ منه شيئاً فيعطيه من زكاته ولا يقاصه شى ء من الزكاة» «1».

ولكن هذا التفصيل محمول على ضرب من الندب كما أشار إليه صاحب الجواهر في كتاب الزكاة «2» لمخالفته القواعد المشهورة، وإطلاق سائر الأدلة التي هي في مقام البيان، وعدم ظهور الفتوى بهذا التفصيل، وأوضح منه روايات الوفاء عن الميّت فإنّ مورده فرض عدم وجود مال له يمكن أداء دينه منه.

بقي هنا أُمور:

1- أن هذا الأمر أعني احتساب الدين لا يتوقف على رضا المستحق، لأنّه من قبيل الإبراء الذي هو إيقاع لا من قبيل العقد القائم بالطرفين، كما أنه لا يحتاج إلى إذن الحاكم الشرعي بناءً على عدم وجوبه في مصرف سهم السادة، ولكن بناءً على المختار فالأحوط

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 451

لولا الأقوى وجوب الاستئذان منه.

2- يظهر ممّا ذكرنا أيضاً عدم وجوب الإعلام، لعدم الدليل عليه بعد كون المعيار إيصال الحقّ إلى مستحقه علم ذلك أم لم يعلم، وفي أبواب الزكاة أيضاً إشارة إليه.

3- كما يظهر أيضاً عدم الفرق بين الحي والميّت كما ورد التصريح به في باب الزكاة والمقايسة بين المسألتين هنا جائز لما عرفت من توافقهما فيما يرجع إلى المصرف، فكما يجوز أداء دين الميّت غير بني هاشم

من الزكاة يجوز أداء دين الأموات من بني هاشم من الخمس كما لايخفى، مضافاً إلى أنّه موافق للقواعد بعد عدم سقوط ذمّة الميّت بالموت فتدبّر.

4- وظهر أيضاً أنّه يجوز دفع الخمس إلى الدائن (إذا كان معطي الخمس غير الدائن) وأداء ذمّته منه، لعدم الفرق بين أن يحاسبه ربّ المال أو يعطيه إلى الدائن، والعرف يلقي الخصوصية هنا قطعاً.

المسألة السابعة عشرة: لا إشكال في ولاية المالك على جواز تبديله بمال آخر من النقود (أمّا العروض فقد عرفت الإشكال في جوازه إلّافي بعض الصور) إنّما الكلام في أنّه هل يعتبر رضا أرباب الخمس في ذلك التبديل، أي رضا نائب الإمام في سهمه عليه السلام ورضا السادة في سهامهم، أم لا؟

الظاهر عدم اعتبار شي ء من ذلك وإن كان مقتضى الإشاعة على القول به رضا الطرفين في القسمة، ويدلّ عليه أوّلًا: السيرة المستمرة من أعصارهم عليهم السلام إلى عصرنا هذا، فإنّ المتداول هو أخذ المالك شيئاً من أمواله بعنوان الخمس ودفعه إلى أربابه من دون جلب رضاهم.

وثانياً: الأخبار الكثيرة الدالة على الأمر بدفع الخمس متوجهاً إلى المالك، مثل ما مرّ آنفاً من رواية أخذ مال الناصب ودفع الخمس إليهم «1» أو رواية علي بن مهزيار الدالّة على إيصال الخمس إليهم «2» ورواية الأزدي «3» إلى غير ذلك ممّا دلّ على جواز دفع الأثمان، وكذلك ما يدلّ انوار الفقاهة، ج 2، ص: 452

على حمل بعض الأصحاب خمس أموالهم إليهم باختيار شي ء من أموالهم لهذا الأمر كرواية مسمع بن عبدالملك «1» وغيره، وحمل جميع ذلك على إذنهم عليهم السلام في ذلك مخالف لظاهرها، فإنّ ظاهرها كونها بصدد بيان حكم فتوائي كلي لا إذن ولائي.

وقد يستدلّ له أيضاً بقياسه بباب الزكاة التي يجوز

فيها ذلك، ولكن قد عرفت الإشكال في هذه المقايسة غير مرّة إلّافيما استثنى.

وممّا ذكرنا تعرف أنّ ما أفاده صاحب العروة في ذيل المسألة من أنّ الأولى اعتبار رضاه خصوصاً في حصّة الإمام عليه السلام لا مستند له، إلّاما يستفاد من ظاهر الشركة على نحو الإشاعة الذي لابدّ من قطع النظر منه بعد السيرة، وورود الأخبار الدالّة على ولاية المالك.

المسألة الثامنة عشرة: هل يجوز للمستحق أن يأخذ من باب الخمس ويردّه على المالك؟

صرّح صاحب العروة بعدم جوازه إلّافي بعض الأحوال، كما إذا كان عليه مبلغ كثير ولم يقدر على أدائه بأن صار معسراً وأراد تفريغ الذمّة، وحينئذٍ لا مانع منه إذا رضيَ المستحقّ بذلك.

وقد وافقه على ذلك كثير من المحشّين.

ولكن الحقّ أن في المسألة تفصيلًا: فإنّ المالك قد يدفع المقدار الكثير من الخمس- لا بالقصد الجدي- إلى أربابه، بل يكون كالحيل في الربا التي لا يقصد البيع فيها جدياً، وحينئذٍ لا أثر لهذا الدفع أصلًا بل وجوده كعدمه، وكذا إذا اشترط فيها إعادته عليه بحيث لا يرضى بدفعه مطلقاً، فهذا أيضاً لا أثر له بل هو كالعدم.

أمّا إذا دفعه إليهم مطلقاً جدياً من دون اشتراطه بشي ء، فهذا الدفع صحيح يوجب براءة ذمّته من الخمس وطهارة ماله وجواز تصرفاته فيه، ولو كان يرجو إعادته عليه من طرف أرباب الخمس فإنّ هذا بمنزلة الداعي لا أثر له لا في أبواب المعاملات ولا الإيقاعات، هذا

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 453

من ناحية الدفع.

وأمّا من جهة الردّ عليه ثانياً، فجوازه منوط بأن يكون الهبة بهذا المقدار من شؤونه، فلو كان زائداً عليها كمّاً أو كيفاً لم يجز، وإن كان بمقدار شؤونه جاز.

فلا تتوقف المسألة على كون ردّ الخمس إلى مالكه تضييعاً لحقّ

الفقراء، بل المدار على كون هذه الهبة زائدة على شأنه.

ومن هنا يظهر أنّ ما ذكره من الاستثناء في ذيل كلامه: «من جواز ذلك إذا كان على المالك مبلغ كثير ولم يقدر على أدائه وأراد تفريغ ذمّته ممّا عليه من الحقّ وأنّه لا مانع من ردّه عليه حينئذٍ إذا رضيَ المستحق» ممنوع، لأنّ عدم قدرة المالك وإعساره لا أثر له في بذل المستحقّ زائداً على شؤونه، اللّهم إلّاأن يكون بينهما صلة يكون بمقتضاها مؤونته عليه.

المسألة التاسعة عشرة: المعروف بين الأصحاب استثناء المناكح والمساكن والمتاجر من أمر الخمس إذا انتقل إليه ممّن لم يخمسه، واللازم البحث أوّلًا، عن أصل الحكم، ثمّ التكلم في المراد من هذه الأُمور الثلاثة، فنقول ومن اللَّه جلّ ذكره نستمد التوفيق والهداية:

أمّا أصل الحكم فقد ذكر العلّامة قدس سره في المنتهى ما نصه: «وقد أباح الأئمّة عليهم السلام لشيعتهم المناكح في حالتي ظهور الإمام وغيبته وعليه علماؤنا أجمع ... وألحق الشيخ المساكن والمتاجر» «1».

وظاهره أنّ الإجماع على خصوص الأوّل دون الأخيرين، وذيل كلامه إشارة إلى ما أفاده شيخ الطائفة رحمه الله في النهاية بقوله: «وليس لأحد أن يتصرف فيما يستحقّه الإمام من الأخماس والأنفال إلّابإذنه ... هذا في حال ظهور الإمام، أمّا في حال الغيبة فقد رخصوا لشيعتهم التصرف في حقوقهم ممّا يتعلق بالأخماس وغيرها فيما لابدّ لهم منه من المناكح والمتاجر والمساكن، فأمّا ما عدا ذلك فلا يجوز له التصرف فيه على حال» «2».

وقريب منه ما ذكره صاحب المبسوط.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 454

ويقرب منه أيضاً ما ذكره ابن ادريس في السرائر «1».

وصرّح الشيخ المفيد رحمه الله في المقنعة باختصاص الحكم بالمناكح، ولكن كثيراً من المتأخرين صرّحوا بعموم الحكم في الثلاثة، ونقله صاحب

الجواهر عن جماعة «2».

وقال صاحب الحدائق: «جمهور الأصحاب على تحليلها (أي الثالثة) بل ادّعى الإجماع على إباحة المناكح» «3».

نعم، يظهر من كلام أبي الصلاح الحلبي في الكافي وابن الجنيد على ما حكاه صاحب المختلف، عدم الإباحة في شي ء من ذلك.

قال الأوّل منهما ما نصّه: «فإن أخلّ المكلّف بما عليه من الخمس [وحقّ الأنفال كان عاصياً للَّه سبحانه ... لكونه مخلًا بالواجب ... ولا رخصة في ذلك بما ورد من الحديث فيها، لأنّ فرض الخمس والأنفال ثابت بنصّ القرآن وإجماع الأمّة ... ولإجماع آل محمّد عليهم السلام على ثبوته ... ولا يجوز الرجوع عن هذا المعلوم بشاذ من الأخبار» «4».

وظاهر هذه العبارة ترك أخبار التحليل كلّها لأنّها أخبار شاذّة! في مقابل نصّ القرآن وإجماع الأمّة!

بل يظهر من الثاني منهما عدم جواز التحليل في شي ء من ذلك للحاكم الشرعي بل الإمام عليه السلام! حيث قال في بعض كلماته في المقام: «إنّ التحليل إنّما هو ممّا يملكه المحلل لا ممّا لا ملك له، وإنّما إليه ولاية قبضه وتفريقه في أهله الذين سمّاه اللَّه تعالى لهم» «5».

ولكن الإنصاف أنّ قول هذين الفقيهين (أبي الصلاح الحلبي وابن الجنيد) شاذّ بين الأصحاب ادّعى الإجماع على خلافهما.

هذا، وظاهر كلام صاحب العروة أنّ الحكم عام شامل لجميع ما ينتقل إلى الإنسان ممّن لا يعتقد الخمس من دون فرق بين المناكح والمساكن والمتاجر وغيرها، وقد وافقه على انوار الفقاهة، ج 2، ص: 455

ذلك جماعة المحشّين.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ العمدة في المقام خصوص الروايات الكثيرة الواردة في أبواب الخمس والأنفال (وليعلم أنّا لا نتصدى لذكر الأخبار العامّة الدالّة على تحليل الخمس مطلقاً لأنك عرفت الكلام فيها مبسوطاً، وإنّما نتكلم عن خصوص ما يتعلق بهذه العناوين

الثلاثة) وهي روايات كثيرة تبلغ عشر روايات رواها صاحب الوسائل في الباب 4 من أبواب الأنفال، وقد ذكرناها سابقاً عند الكلام في أخبار التحليل مطلقاً وجعلناها طائفة خاصة برأسها.

منها: ما رواه الفضلاء أبو بصير و زرارة ومحمّد بن مسلم كلّهم عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«قال أميرالمؤمنينن علي بن أبي طالب عليه السلام: هلك الناس في بطونهم وفروجهم لأنّهم لم يؤدوا إلينا حقّنا ألا وإنّ شيعتنا من ذلك وآبائهم في حلّ» «1».

وما رواه ضريس الكناسي عن أبي عبداللَّه عليه السلام «2».

وما رواه أبو خديجة عنه عليه السلام «3».

وما رواه محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام «4».

وما رواه الحارث بن المغيرة عن الصادق عليه السلام «5».

وما رواه الفضيل عنه عليه السلام «6».

وما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السلام «7».

وما رواه إسحاق بن يعقوب عن الناحية المقدسة «8».

وما رواه عبدالعزيز بن نافع عن أبي عبداللَّه عليه السلام «9».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 456

وما رواه في تفسير الإمام الحسن العسكري عن أميرالمؤمنين عليه السلام «1».

وقد ذكرناها سابقاً فلا نحتاج إلى اعادتها.

ثمّ اعلم أنّ هذه كلّها تدلّ على استثناء المناكح وفي بعضها استثناء المآكل والمشارب (مثل ما في الأحاديث 20 و 9 و 4 و 1) ولعلّها أيضاً راجعة إلى طيب المولد لأنّ الطعام يؤثر في الولد لا محالة فإن كان حراماً أثر أثر السوء وإن كان حلالًا أثر الأثر الطيب.

لم نظفر بما يدلّ على حكم المساكن أو مطلق التجارات غير ما حكاه صاحب الحدائق (مع اعترافه بعدم الظفر بغيره) من مرسلة عوالي اللئالي عن الصادق عليه السلام قال: إنّه سأله بعض أصحابه فقال: يا بن رسول اللَّه ما حال شيعتكم فيما خصكم اللَّه إذا غاب غائبكم واستتر

قائمكم؟ فقال عليه السلام: «ما انصفناهم إن أخذناهم ولا أحببناهم إن عاقبناهم بل نبيح لهم المساكن لتصحّ عباداتهم ونبيح لهم المناكح لتطيب ولادتهم ونبيح لهم المتاجر لتزكوا أموالهم» «2».

ورواه صاحب المستدرك في الباب 4 من الأنفال، ولكن ربّما يكون دليلًا على التحليل مطلقاً، لأنّ إباحة المتاجر لتزكوا جميع أموال الشيعة عبارة أخرى عن التحليل المطلق فلا يصحّ الاستدلال به في المقام بل لابدّ من ذكرها في بحث التحليل مطلقاً، وقد أجبنا عنه وقلنا لا دليل على التحليل المطلق في زمن الغيبة مضافاً إلى ضعف سند الحديث، وما ذكره بعضهم من انجبار سندها بعمل المشهور مشكل، لأنّ عمل المشهور بها غير ثابت، وأمّا مثل حديث يونس بن يعقوب قال: كنت عند أبي عبداللَّه عليه السلام فدخل عليه رجل من القماطين فقال: جعلت فداك تقع في أيدينا الأموال والأرباح والتجارات نعلم أن حقّك فيها ثابت، وأنّا عن ذلك مقصّرون؟ فقال أبو عبداللَّه عليه السلام: «ما أنصفناكم إن كلفناكم ذلك اليوم» «3»

. وحديث انوار الفقاهة، ج 2، ص: 457

حكيم مؤذن بني عيس (ابن عيسى) عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: قلت له: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ» قال: «هي واللَّه الإفادة يوماً بيوم إلّاأنّ أبي جعل شيعتنا من ذلك في حلّ ليزكوا» «1»

. وأشباههما، فخارج عن محلّ الكلام، لأنّها دليل على حلية الخمس بقول مطلق فلا يصحّ ذكرها في المقام بعد ما مضى الكلام فيها، فما ذكره المحقّق الميلاني في محاضراته منظور فيه، فراجع «2».

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه قد وقع البحث في المراد من هذه الأُمور الثلاثة، فقال المحقّق الهمداني رحمه الله في مصباح الفقيه ما حاصله: المراد بالمناكح كما صرّح به غير واحد،

السرارى المغنومة من أهل الحرب، فإنّه يباح للشيعة في زمن الغيبة ويباح نكاحها سواء كان جميعها ملكاً للإمام عليه السلام كما إذا كان الحرب بغير إذنه عليه السلام أو كان له خمسها كما إذا كان بإذنه عليه السلام.

وربّما فسرت بما يتناول مؤونة التزويج ومهور النساء وثمن الجارية التي اشتراها من كسبه.

ثمّ أورد عليه بأنّها مندرجة في هذا الحال في المؤونة المستثناة على تقدير حصولها عام الربح بل المتبادر بقرينة الغلبة، وورود جملة منها في سبايا بني أُمية وأشياعهم إنّما هو السبايا فيشكل تناولها لغيرها «3».

أقول: الإنصاف أنّها وإن كانت واردة في موارد خاصة ولكن التعليل فيها عام فيمكن التعدي إلى كلّ مورد يكون تعلق الخمس بالمال سبباً لعدم حلية الولد، مثل ما إذا اشترى الجارية من مال كان زائداً من مؤونة سنته بحيث تعلق به الخمس ولم يمكن جعله من المؤونة، فالتعليل كما أنّه يخصص أخبار التحليل من جهة، يعممها من ناحية أخرى كما لا يخفى.

والحاصل: أنّ الذي يمكن ذكره في تفسير المناكح هو الإماء المغنومة بإذن الإمام عليه السلام أو بغير إذنه أو من يشتري من مال تعلق به الخمس وكان ذلك بعد مضي السنة، وأمّا الثلاثة الاخرى التي ورد ذكر غير واحد منها في كلامه وبعضها في كلام غيره وهي «مهور النساء»

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 458

و «مؤونة التزويج» و «الطعام الذي ينعقد منه الولد» فلا دليل على استثنائها من الخمس، أمّا مؤونة التزويج فواضح، وأمّا المهور فلأنّ حرمتها لا تؤثر أثراً في النكاح، فلو كان المهر عيناً شخصية محرمة كان المهر باطلًا ووجب مهر المثل، وأمّا حرمة الطعام فلا ينافي حلية الولد وإن كان ينافي كمالها.

أمّا المساكن: فقد ذكر لها أقسام واحتمالات:

منها: الأراضي

المختصة بالإمام عليه السلام أمّا لكونها مغنومة بغير إذنه بناءً على كونها له أو لكونها من الأنفال.

منها: ما تعلق به الخمس إذا كانت مفتوحة بإذنه عليه السلام على القول به.

منها: المنتقلة إلى الشيعة من غيرهم إذا كانت متعلقة بالخمس.

منها: ما انتقلت إليهم ممّن يعتقد الخمس ولم يخمس أمواله والانتقال إمّا بالوراثة أو الهبة أو غيرهما.

ومنها: اشترائها بثمن فيه الخمس كما إذا كان من أرباح السنة الماضية.

هذا ولكن قد عرفت عدم ورود دليل في خصوص المساكن، ورواية العوالي مضافاً إلى ضعف سندها بالارسال وبما في نفس الكتاب من الكلام، يوجد في متنها من الاختلاف في الكتب ما ربّما يسقطها عن الحجية، فقد روي الذيل في بعضها ولم يرو في بعض آخر، وعدم ثبوت عمل المشهور بها لأنّ الشهرة في المسألة غير ثابتة.

وقد استدلّ المحقّق الميلاني رحمه الله له بما ورد في حديث مسمع بن عبدالملك من إباحة الأرض كلّها للشيعة «1» وكذلك ما ورد في رواية يونس بن ظبيان أو المعلى بن خنيس في هذا الباب «2».

لكن الظاهر أنّهما ناظرتان إلى نوع آخر من الملك الذي في طول الملك المتعارف، لأنّ مفهومها أنّ جميع الأراضي وما يخرج منها لهم عليهم السلام فلا تصل النوبة إلى الخمس.

سلّمنا، لكنهما لا تختصان بالمساكن، بل تشملان جميع أنواع الأراضي ممّا هي خارجة

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 459

عن محلّ الكلام.

سلّمنا، لكنّ الظاهر أنّهما من روايات التحليل المطلق، وقد عرفت أنّ التحليل بقول مطلق محل إشكال إلّاأن يكون في خصوص الأنفال فتدبّر جيّداً.

وأمّا المتاجر: فقد ذكر صاحب المسالك أنّها ما يشترى من الغنائم المأخوذة من أهل الحرب حالة الغيبة وإن كانت بأسرها أو بعضها للإمام عليه السلام أو ما يشترى ممّن لا يعتقد

بالخمس كالمخالف، مع وجود الخمس فيها، وقد علل إباحة هذه الثلاثة في الأخبار بطيب الولادة وصحّة الصلاة وحلّ المال «1».

وقال المحقّق الهمداني رحمه الله: «والمراد بالمتاجر المال المنتقل إليه ممّن لا يخمس، والقدر المتيقن منه الذي يمكن دعوى انصراف أخبار التحليل إليه إنّما هو فيما إذا كان ممّن يستحلّ الخمس كالمخالف وشبهه لا مطلق من لا يخمس» «2».

وقد ذكر العلّامة الميلاني رحمه الله أنّ المتاجر على أنحاء: «تارة يشترى من الأنفال ممّن لا يعتقد بالخمس، واخرى يتعامل مع من لا يعتقد الخمس (ويكون ذلك من غير الأنفال) وثالثةً يتعامل مع من يعتقد به، ورابعة تكون التجارة بنفس الأنفال مثل ما يتخذه من الآجام والأحجار في الأراضي الموات، وخامسة يتّجر بأمواله ويربح ولا يخمّس أصلًا، وسادسة يتجر ويربح ويؤخر الربح إلى آخر السنة» «3».

أقول: قد عرفت أنّه لا دليل على استثناء المساكن والمتاجر إلّامرسلة عوالي اللئالي بما فيها من الإشكال. نعم، في بعض أخبار التحليل وقع السؤال عن الأرباح والأموال والتجارات التي ثبت حقّهم فيها، فأجيب بعدم الأخذ منه في تلك الأيّام العسرة (مثل ما رواه يونس بن يعقوب «4» وقد مرّ ذكره).

وفي مصحّحة الحارث بن المغيرة التعبير بالغلات والتجارات ونحوها ممّا يثبت حقوقهم فيها «5» (وقد مرّ ذكرها أيضاً).

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 460

وفي رواية تفسير الإمام العسكري عليه السلام حلية المنافع من المآكل والمشارب «1».

إلى غير ذلك من أشباهه، ولكن الظاهر أنّها عامة شاملة لجميع الأموال ولا اختصاص بالمتاجر فهي داخلة في أخبار التحليل مطلقاً، وقد عرفت وجوب حملها على محامل مختلفة لدلالة ما هو اصرح وأكثر وأقوى متناً وسنداً على عدم التحليل المطلق.

نعم، هناك سيرة مستمرة قوية على عدم تخميس ما يقع في أيدي

الشيعة من أهل الذمّة، أو من المخالفين الذين لا يعتقدون بالخمس مع أنهم عندنا مكلّفون بالفروع كما أنّهم مكلّفون بالاصول، مضافاً إلى ظهور أدلة الخمس في أنّه وضعي وحقّ يتعلق بنفس المال أيّاً كان مالكه من دون فرق بين انتقال هذه الأموال إليهم من طريق البيع والتجارة، أو الهبة والهدية، أو الميراث وغيرها.

فلو كان الخمس واجباً في هذه الأموال على من ينتقل إليه، لظهر وبان ولم يخف على أحد كما هو ظاهر.

هذا، ولكن لا يختصّ هذا الدليل بخصوص التجارات أو المناكح والمساكن، بل يشمل كل ما انتقل إليهم بأي نحو انتقل من دون فرق بين موارده، ويمكن الاستدلال له أيضاً ببعض ما مرّ من الروايات السابقة مع أخذ القدر المتيقن منها.

هذا، ويظهر من بعض أعلام أهل العصر من أساتذتنا عدم الفرق بين ما ينتقل ممّن يعتقد بالخمس وممّن لا يعتقد به، فإذا انتقل إلى إنسان مال من الشيعة المعتقدين بالخمس ويعلم وجود الخمس فيه ويكون المالك عاصياً في عدم دفعه، يكون حلالًا للمنتقل إليه.

واعترف بأنّ هذا الحكم مخالف لظاهر الأصحاب حيث قيدوا الحكم بمن لا يعتقد بالخمس، ولكن استدلّ على مختاره باطلاق الروايتين:

الاولى: رواية يونس بن يعقوب «2» فإنّ السؤال فيها عن مطلق ما يقع في الأيدي من الأموال والأرباح والتجارات مع حكم الإمام عليه السلام بالتحليل في ذيله، ولا وجه لتقييده انوار الفقاهة، ج 2، ص: 461

بخصوص من لا يعتقد بالخمس.

الثانية: رواية أبي سلمة سالم بن مكرم «1» حيث اطلق التحليل فيها أيضاً، ولا وجه لتقييدها بخصوص من لا يعتقد بالخمس.

وقد حكم بصحّة سند الروايتين، واستفاد منهما التفصيل بين الخمس الواجب على المكلّف بنفسه ابتداء فلا تحليل، وبين ما انتقل إليه من الغير فلا خمس

فيه. (انتهى كلامه ملخصاً) «2».

وظنّي أني إذا كنت في محضره دام علاه قبل أربعين عاماً في النجف الأشرف كان يستدلّ بالسيرة أيضاً في هذه المسألة وكان يعتقد بأنّ في نفس البلد اناساً كثيرين لا يعطون خمس أموالهم، وأهل التقوى لا مناص لهم من معاشرتهم وأنواع المعاملات معهم.

هذا، ولكن يشكل الاعتماد على هذا العموم بعد إمكان حمل أفعال الشيعة على الصحّة غالباً، مضافاً إلى عدم العلم التفصيلي أو الإجمالي في محل الابتلاء فيما ينتقل من بعضهم إلى بعض.

مضافاً إلى أنّ الرواية الاولى ظاهرة- كما مرّ غير مرّة- في تحليل جميع الخمس بلا فرق بين موارده في برهة خاصة من الزمان، وكان زماناً عسراً حرجاً ولا دلالة له على التحليل في جميع الأزمنة.

وأمّا الثانية فهي أيضاً قابلة للإشكال سنداً ودلالة، أمّا من ناحية السند فاختلاف أرباب الرجال في سالم بن مكرم (أبي خديجة) فقد صرّح بعضهم بأنّه ثقة روى عن أبي عبداللَّه عليه السلام ولكن صرّح الشيخ رحمه الله في بعض كلماته أنّ أبا خديجة سالم بن مكرم، ويكنّى أبا سلمة أيضاً ضعيف، وقد رووا إنّه كان من أصحاب أبي الخطاب الملعون (اسمه محمّد بن المقلاص) كان مستقيماً في أوّل أمره ثمّ ادّعى النبوة وأظهر الإباحات، ولما ظهر أمرهم في ذلك أمر المنصور عامله بالكوفة وهو عيسى بن موسى (وكانوا في مسجد الكوفة حينئذٍ) فقتلهم جميعاً لم يفلت منهم إلّارجل واحد سقط في القتلى فلما جنّه الليل خرج من بينهم وهو أبو سلمة سالم بن مكرم الملقّب بأبي خديجة.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 462

لكن سيّدنا الاستاذ (دام علاه) قد أصرّ في كلامه على أنّ الثقة هو سالم بن مكرم أبو خديجة، وقد كنّاه الصادق عليه السلام بأبي

سلمة كما ورد في كلام النجاشي، والذي محكوم بالضعف هو سالم بن أبي سلمة الكندي السجستاني الذي وصفه النجاشي بأنّ حديثه ليس بالنقي وإن كنّا لا نعرف منه إلّاخيراً (وقد ضعفه في الخلاصة) وأنّ الشيخ إنّما ضعف سالم بن مكرم لظنّه أنّ أبا سلمة هو كنية مكرم، حيث قال: «سالم بن مكرم يكنى أبا خديجة ومكرم يكنى أبا سلمة» فجعل أبا سلمة كنية لأبيه لا لنفسه «1».

هذا، ولكن ورد التصريح في رواية الكشي بأنّ سالم بن مكرم الذي كانت كنيته أبا خديجة ثمّ كنّاه الصادق عليه السلام بأبي سلمة هو الذي كان من أصحاب أبي الخطاب الملعون، ثمّ بعد ذلك تاب ورجع فكيف يمكن الإعتماد عليه ومجرّد توبته بعد ذلك لا يجعله ثقة، ولذا توقف فيه العلّامة رحمه الله في الخلاصة لتعارض الأقوال فيه فيشكل الاعتماد على سند الرواية.

وأمّا من حيث الدلالة أيضاً فإنّها مضطربة لأنّ صدرها ناظر إلى خصوص المناكح للسؤال عن حلية الفروج، وتفسير الذيل بالأعم الذي صدر من غير السائل لا يجعله عاماً، ويمكن حمل ذيلها أيضاً على خصوص المناكح وإلّا كان تفسيراً لا يوافق سؤال السائل.

سلّمنا، لكنها من الروايات المطلقة الدالّة على التحليل في تجارات النفس وغيرها، فليحمل على بعض ما مرّ سابقاً.

وبالجملة يشكل الإعتماد على ما أفاده من العموم في من يعتقد بالخمس ومن لا يعتقد به.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّه يمكن أن يقال لولا حلية الأموال المأخوذة المتعلقة بالخمس ممّن يعتقد بالخمس وممّن لا يعتقد به، لوقعنا في حرج أكيد وعسر عسير لكثره التاركين لهذا الفرض الإلهي حتّى من المعتقدين به، فيشكل لنا اشتراء حاجاتنا من الأسواق والشركات، ويشكل علينا ركوب السيارات والطائرات وغيرها، وكذا قبول الهدايا أو الدعوة للضيافات، وربّما

انوار

الفقاهة، ج 2، ص: 463

يكون هذا دليلًا على استقرار السيرة على عدم الاعتناء بهذا الأمر فتدلّ على الحلية.

ولكن الإنصاف أنّ هذا المقدار غير كافٍ لنفي حكم الخمس في المقام، لأنّه أوّلًا: منقوض بما نعلم في أموالهم من المحرمات الكثيرة غير الخمس من بيع المحرّمات وأخذ الرشوات وأخذ الربا كثيراً، وقد نهوا عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل بأنواع الحيل والتطفيف في الميزان وغيره، فهل تقل هذه الأموال المحرّمة عن الأخماس المتعلقة بهم، وهل يمكن الحكم بتحليل ذلك كلّه؟

وثانياً: أنّ هناك أُموراً ثلاثة توجب سهولة الأمر في هذه المواقع:

أوّلها: حمل فعل المسلم على الصحّة، والمعاملة مع سوق المسلمين معاملة الحلية ما لم يعلم علماً قطعياً بحرمة ما يؤخذ منه بعينه.

ثانيها: أنّ العلم التفصيلي في هذه الموارد غير حاصل غالباً، والعلم الإجمالي غير مفيد كذلك لخروج بعض موارده عن محل الابتلاء فالإنسان لا يبتلى بجميع أموال غيره ممّن يعلم قطعاً بأنّها لا تخمس ولعلّ ما ابتلى به ليس من المحرّم، ومن الواضح جريان حكم الحلية في هذه المواضع.

وثالثها: أنّ كثيراً من المعاملات أو أكثرها تكون بصورة البيع الكلي المعاطاتي، فمن يشتري شيئاً يشتريه بثمن كلي لا بثمن شخصي بعينه، ومن الواضح أنّه إذا اشترى شيئاً بهذا النحو يملكه وإن دفع الثمن من مال محرّم، وإذا كان مالكاً له جاز له اشترائه منه أو قبول هداياه ودعوته إلى الضيافات وشبهها.

لا أقول إنّه لا توجد موارد يعلم بوجود الخمس في المال بعينه، بل أقول ليس هذه الموارد كثيرة جدّاً كما توهم واللَّه العالم بحقائق أحكامه.

ومن هنا يظهر حال البنوك والأموال الموجودة فيها من المخمس وغير المخمس، ومن المحرّم وغير المحرّم.

المسألة العشرون: هل يجب صرف عين الخمس في مصارفه، أو يجوز جعله

كرأس المال يتجر به وينتفع بمنافعه، أو يشتري به شي ء تنتفع السادة بمنافعه من دون تمليكهم إيّاه انوار الفقاهة، ج 2، ص: 464

كاشتراء السيارة أو الدار أو الكتب أو غيرها من دون تمليك أرباب الخمس بل جعلها في أيديهم لينتفعوا بمنافعه؟

فلو جاز ذلك أمكن حل مشاكل كثيره من الحوزات العلمية وحاجات السادة وغيرهم.

وهل يجوز اشتراء هذه الأُمور ووقفها عليهم أم لا؟

أمّا بالنسبة إلى سهم الإمام عليه السلام المنوط بتحصيل رضاه وإذن الفقيه القائم مقامه، فالظاهر أنّه ممّا لا ينبغي الإشكال فيه لعدم قيام الدليل على وجوب صرف عينه، بل يجوز حفظ عينه والانتفاع بمنافعه كما يجوز اشتراء شي ء به ووقفه إذا اقتضت مصالح الأمّة، فلذا يجوز بناء المساجد والمدارس الدينية منه، واشتراء الكتب العلمية ووقفها على طلّاب العلم، وكذا يجوز بناء الدور لهم أو المستوصفات أو المستشفيات أو غير ذلك.

وأمّا بالنسبة إلى سهم السادة ففي بدء الأمر يشكل ذلك لأنّ ظاهر الأدلة صرفه بعينه في منافعهم. اللّهم إلّاأن يقال: إنّه ملك للعنوان ولا يدلّ على وجوب تمليك الأفراد بل يجوز بقاؤه على هذا الأمر وانتفاع الأفراد به، فلا يخرج عن ملك العنوان، ولا يجوز وقفه ولكن يجوز إبقاء عينه وتسبيل منافعه، ولا يكون ذلك منافياً لوجوب الأداء بل هو نوع من الأداء.

هذا مع قطع النظر عن ولاية الحاكم على هذا الأمر، فإنّ الظاهر من فعل الأئمّة عليهم السلام أنّهم كانوا يتعاملون مع سهم السادة معاملة سهم الإمام عليه السلام فالفقيه القائم مقامه أيضاً يجوز له مثل هذه التصرفات، وعلى كلّ حال فهذا منوطبمصالح أرباب الخمس وكون ذلك أصلح لهم لاغير.

والحاصل: أنّ جواز هذه التصرفات حتّى بالنسبة إلى سهم السادة غير بعيد.

المسألة الواحدة والعشرون: هل يجوز أخذ الأخماس قهراً وجبراً إذا

امتنع المالك عن أدائها؟

الظاهر ذلك كما هو كذلك في باب الزكاة، فإنّ المفروض تعلّق الخمس بالعين- سواء كان بالإشاعة أو بنحو الكلي في المعين أو بنحو المالية أو غير ذلك- فإذا امتنع عن أدائه أجبر عليه أو أخذ منه قهراً كسائر الحقوق- سواء كانت من حقّ الناس أو حقّ اللَّه- حتّى أنّه لو كان متعلقاً بالذمّة أيضاً جاز قهره عليه.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 465

إن قلت: أوليس يعتبر في أدائه قصد القربة فكيف تحصل مع الجبر؟

قلنا: يجاب عنه أوّلًا:، بالنقض بباب الزكاة التي لا إشكال في جواز أخذها جبراً بل المقاتلة عليها، وثانياً، بأنّ الظاهر من أدلتهما أنّ لهما جهتين، جهة التوصلية وهي جهة حفظ الحكومة الإسلامية وشؤون الإمام عليه السلام بالنسبة إلى سهم الإمام عليه السلام وسد خلة فقراء بني هاشم ورفع حوائجهم، وجهة القربية وهي لكونهما من العبادات المفروضة التي تتوقف صحّتها على قصد القربة، فإذا لم يحصل قصد القربة فسدتا من هذه الجهة وصحّتا من الناحية الاولى، وفي الحقيقة هما من قبيل تعدد المطلوب ولكن تفكيكهما يصحّ من ناحية الحاكم الشرعي لا من قبل المكلّف نفسه، فلو أعطاه نفسه بغير قصد القربة لم يصحّ مطلقاً فتدبّر جيّداً.

المسألة الثانية والعشرون: إذا كان هناك شريكان يتجران برأس مالهما المختلط، أحدهما يؤدي خمس أرباحه، والثاني، لا يؤدي، فهل تصحّ تصرفاته الآخر في هذا المال المشترك بعد أداء خمس نفسه؟

الظاهر عدم جوازه، لأنّ الخمس يتعلق بالعين- كما عرفت- سواء تعلق بماليته أو بشخصيته، وسواء كان من باب الإشاعة أو الكلي في المعين أو بنحو آخر، فهو كالمال المختلط بالحرام وحقوق الغير لا يجوز التصرف فيه. نعم يمكن تصحيحه بأحد أُمور:

1- لو قلنا إنّ الخمس يتعلق بالذمّة جاز

أمر شركتهما.

2- لو شك في أنّ شريكه دفع خمسه أم لا؟ جاز حمل فعله على الصحّة ولم يجب الفحص عنه.

3- إذا قلنا بأنّ تحليل التجارات عام يشمل ما إذا انتقل إليه ممّن يعتقد بالخمس ومّن لا يعتقد به، أمكن القول بالحلية هنا أيضاً، لأنّ المقام من قبيل الانتقال إليه ممّن لا يخمس مع اعتقاده بالخمس بحسب مذهبه.

وللحاكم الشرعي أن يجيز لهذا الشريك المؤدي لخمسه، التصرف في الباقي عند وجود المصلحة.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 466

المسألة الثالثة والعشرون: إذا مرّت عليه سنوات لم يخمس أمواله ومع ذلك اشترى البيت أو متاع البيت وأثاثه وصرف ما صرف في مؤونته ومؤونة عياله ثمّ تاب ورجع وأراد تطهير أمواله من هذا الحقّ، ففيه صور مختلفة:

تارة يعلم زمان ظهور الربح في كسبه فهو مبدء سنة الخمس له. مثلًا يعلم أنّ أوّل ظهور الربح كان الأوّل من محرّم، فحينئذٍ يخرج جميع المؤونات إلى آخر السنة ثمّ يحاسب الباقي ويخرج خمسه.

أمّا إذا لم يعلم مبدء ظهور الربح، أو علم به ولكن لم يعلم ماذا اشترى للمؤونة في تلك السنة وماذا اشترى بالمال الذي فيه الخمس بعد مضي السنة حتّى يكون البيع فضولياً فيه حقّ السادة، بل يعلم أنّه ربح أرباحاً وانفق نفقات طيلة سنين من دون علم بكيفية الأمر، فحينئذٍ تكون أمواله مختلطة كلّها بحقّ السادة كالمختلطة بالحرام، فاللازم محاسبة الجميع وإخراج الخمس عن الجميع سواء في ذلك رأس ماله الموجود ومطالباته عن غيره، وما اشتراه للمؤونة من الدار والفرش وغيرهما.

ولكن إذا احتمل اشتراء ما في يده من المؤن- كالدار والفرش والمراكب وغيرها- من منافع سنة الربح، فلابدّ من المصالحة مع الحاكم الشرعي بالنصف أو بالثلث أو بأكثر أو بأقل من ذلك، حسب

قوّة الاحتمال وضعفه، وحسب توافق الطرفين مع ملاحظة مصلحة أرباب الخمس من جانب الحاكم الشرعي.

المسألة الرابعة والعشرون: لا إشكال في إمكان اجتماع الخمس والزكاة في مال واحد ولا يكفي واحد منهما عن الآخر، مثلًا إذا حصل له من الزراعة ما يزيد على النصاب فزكّاه، ثمّ بقي الباقي وزاد عن مؤونة سنته فقد وجب عليه الخمس، وكذا ما يحصل له من أرباح التجارات إذا كانت من الذهب والفضة وحال عليهما الحول، وكذا ما يحصل له من المواشي.

ويشهد له ما مرّ في الأبحاث السابقة من رواية علي بن محمّد بن شجاع النيسابوري عن أبي الحسن الثالث حيث إنّ الراوي يسئل عن وجوب الخمس بعد ما أخذ العشر من الحنطة بعنوان الزكاة، ويجيبه عليه السلام بوجوب الخمس منه بعد المؤونة «1».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 467

والحاصل: أنّه لا منافاة بين الواجبين فلابدّ من العمل بكليهما بعد اجتماع شرائطهما، غاية الأمر أنّ أحدهما وهي الزكاة تتعلق بأصل المال، والثاني وهو الخمس يتعلق بما يزيد عن مؤونة الشخص من ربح المال.

وليعلم أنّه لابدّ من الابتداء بما تعلق به أوّلًا، فلو كان تعلق الزكاة به قبل حلول حول الخمس فيبدء بها لأنّه واجب فوري، فلو أخرجها ولم يبق بعدها شي ء يزيد عن مؤونته لم يجب عليه الخمس وإلّا وجب، ولو حال حول الخمس على الذهب والفضة قبل حلول حول الزكاة فاخرج منه الخمس فلم يبق نصاب الذهب والفضة بعد ذلك لم تجب الزكاة، وكذا في الأنعام الثلاثة.

ولو حصلا في زمن واحد بأنّ حال حول الخمس والزكاة في يوم واحد، كمن حصلت له من ربح تجارة مقادير من الذهب والفضة فبقيت عنده إلى حول وكان نصاباً وزائداً عن مؤونة سنته فيجب عليه أداء

الخمس والزكاة معاً، ولكن لو كان أداء الخمس يوجب سقوطه عن النصاب في الزكاة فهل يجب عليه زكاة أم لا؟ الظاهر عدمه إذا كان في آن حلول حول الزكاة متعلقاً بوجوب الخمس، لأنّ أحدهما من قبيل ما فيه الاقتضاء والآخر من قبيل ما ليس فيه الاقتضاء فلا يزاحم أحدهما الآخر.

المسألة الخامسة والعشرون: قد عرفت اعتبار الإيمان في الفقراء من بني هاشم بالنسبة إلى سهم السادة، وهل يعتبر الإيمان أو الإسلام في سهم الإمام عليه السلام أو يجوز دفعه حتّى إلى غير المسلمين إذا كان سبباً لتقوية شوكة الإسلام- كما إذا اعطاه كاتباً غير مسلم يكتب كتاباً يدافع فيه عن بعض شؤون المسلمين- أو كان ذلك سبباً لتأليف القلوب وحسن سمعة الإسلام، أو دفعه لمداواة بعض مرضاهم إذا كان ذلك سبباً يؤدي إلى اعتناقهم الإسلام، أو لحسن ظنّهم بالمسلمين ومعاونتهم له إلى غير ذلك من المصالح؟

والظاهر جواز جميع ذلك من دون فرق بين الأمثلة لما عرفت في مصارف سهم الإمام عليه السلام.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 468

المسألة السادسة والعشرون: إذا ربح التاجر بحسب ظاهر الحال بأن زاد رأس ماله آخر السنة من مائة ألف تومان إلى مائة وخمسين، ولكن في الواقع كان ذلك بسبب الغلاء الحاصل في جميع الأشياء بحيث لو كان الثمن من قبيل الدراهم والدنانير لكانت تجارته في خسران. مثل ما إذا اشترى عشرين كيساً من الارز بمائة ألف ثمّ باعه بمائة وخمسين، ولكن عند حلول الحول ارتفعت قيمة جميع الأشياء بحيث لا يعطونه بمائة وخمسين ألف أكثر من تسعة عشر كيساً، فهو في الواقع قد خسر وإن كان في الظاهر قد ربح، فهل هذا ربح كاذب لا يجب فيه الخمس أم ربح واقعي يجب

فيه الخمس؟

الفصل الثالث: في أحكام الأنفال

ختام في الأنفال

اشارة

ذكر جماعة من فقهائنا الأعلام- رضي اللَّه عنهم- أحكام الأنفال في ذيل أحكام الخمس لمناسبة واضحة بينهما وهي اختصاص الأنفال بالإمام كاختصاص الخمس به، ونحن نقتفي آثارهم في هذا الأمر وإن صرف النظر عنه المحقّق اليزدي رحمه الله في العروة الوثقى.

فنقول ومنه جلّ ثناؤه نستمد التوفيق والهداية، هنا أبحاث:

1- ما المراد بالأنفال؟

إنّ هذا العنوان (الأنفال) مأخوذ من الآية الشريفة: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُم مُّؤْمِنِينَ» «1».

فقد ذكر هذا العنوان مرّتين في الآية الشريفة وسميت السورة باسمها ولا يوجد هذا العنوان في غير هذه الآية من القرآن الكريم، وقد وقع الخلاف في تفسير الآية وبيان المراد منها بعد اتفاق كثير من أرباب اللغة في أنّ الأنفال جمع (النفل) بالسكون والتحريك بمعنى الغنيمة، كما صرّح به الراغب في المفردات وابن الأثير في النهاية والطريحي في مجمع البحرين و صاحب المصباح في مصابيحه، أو بمعنى الغنيمة والهبة كما في القاموس و لسان العرب.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 472

وقد صرّحوا أيضاً بأنّ النفل في الأصل بمعنى الزيادة، ولذا يطلق على الصلوات المستحبة عنوان النافلة لأنّها زيادة على الفريضة، وعلى ولد الولد لأنّه زيادة على الولد، ومنه قوله تعالى: «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً» «1»

فقد وعد اللَّه إبراهيم إعطاء الولد فوهبه له، وقد زاده بولد الولد وهو يعقوب.

وأمّا إطلاقه على الغنيمة، فلأنّها كانت محرمة على الامم السالفة، كما قيل وقد زادها اللَّه على الأمّة المرحومة، أو أنّها منحة من اللَّه من غير وجوب، ولكن ليعلم أنّ الغنيمة هنا بمعنى كلّ مايحصل عليه المسلمون من الكفّار لا خصوص مايكون لهم بالحرب (كما سيأتي) وعلى كلّ حال فقد اختلف المفسّرون في تعيين المراد من الأنفال في الآية الشريفة (اختلافاً مصداقياً لا مفهومياً

فلا تنافي كلماتهم لما ذكره أرباب اللغلة) بما يربو على سبعة أقوال أو ثمانية:

1- إنّها غنائم يوم بدر.

2- إنّها أنفال السرايا.

3- إنّها ما شذّ من المشركين إلى المسلمين من عبد أو جارية من غير قتال.

4- إنّها ما سقط من المتاع بعد قسمة الغنائم.

5- إنّها سلب الرجل وفرسه.

6- إنّها الخمس.

7- إنّها ما أخذ بغير قتال من دار الحرب، وكلّ أرض انجلى أهلها، وسائر ما ذكره أصحابنا- رضوان اللَّه عليهم- تبعاً لما وصل إليهم من أئمّة أهل البيت عليهم السلام إلى غير ذلك.

ثمّ اعلم أنّ الاختلاف في بيان المراد والمصداق لا في المفهوم اللغوي كما أشرنا إليه آنفاً.

والإنصاف أنّه لا يمكن أن يراد به الغنائم المأخوذة من أهل الحرب بطريق القهر والغلبة، لأنّ ظاهر آية الخمس أنّ فيها الخمس فقط فلا يمكن أن يكون كلّه للَّه ولرسوله صلى الله عليه و آله فيعلم من هذا أنّ مورد آية الغنائم غير مورد آية الأنفال فحملها على غنائم بدر أو السرايا أو الخمس أو شبه ذلك ممّا لا وجه له، فيمكن أن يكون التفاوت بينهما كون الأوّل ما أخذ من الكفّار بالقهر والغلبة فلذا يستحقّ المقاتلون أربعة أخماسه، والثاني ما أخذ عنهم لا بسبب الجهاد فلذا لا حقّ للمقاتلين فيها.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 473

وربّما تكون آية الفي ء قرينة على هذا الجمع وهي قوله تعالى: «مَآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ا لْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ا لْقُرْبَى وَا لْيَتمَى وَا لْمَسكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَىْ لَايَكُونَ دُولَةً بَيْنَ ا لْأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ» «1».

لأنّها مصرّحة بأنّ ما أخذ بغير القتال كلّها للَّه وللرسول والمحتاجين من المسلمين، والظاهر أن ذكر الفرق الثلاث من أهل الحاجة بيان لما يصرفه الرسول فيه من المصارف، ولذا عبّر

غير واحد منهم عن الأنفال بالفيى ء.

وهاتان القرينتان (آيتا الخمس والفيى ء) شاهدتان على المراد من الأنفال إجمالًا (مضافاً إلى مفهوم النفل و هو الزيادة فإنّها أمر زائد على الخمس أو هبة من اللَّه تعالى من دون قتال).

ومن الجدير بالذكر أنّ ظاهر الآية كون مفهوم الأنفال أمراً واضحاً بين المسلمين في الصدر الأوّل، ولذا قال تعالى: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ قُلِ الْأَنفَالُ» كما أن ذيل الآية يشهد بأنّه كان فيه مظنّة الخلاف بينهم، ولذا قال سبحانه «فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ» كما كان فيه مظنّة المعصية وترك الطاعة، ولذا قال عزّ اسمه: «وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُم مُّؤْمِنِينَ».

بقي هنا أمران:

أحدهما: أنّه ذكر سيّدنا الاستاذ العلّامة البروجردي رحمه الله فيما حكى عنه في بعض محاضراته: إنّ فقهاء العامّة ذكروا أنّ الأنفال عبارة عن الزيادات التي كان يعطيها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لبعض المجاهدين خاصة «2».

ولكن هذا التفسير مع عدم موافقته لظاهر آية الأنفال، مخالف لما مرّ من كلماتهم المختلفة في هذا الباب، نعم يمكن أن يكون أحد الأقوال في المسألة.

ثانيهما: أنّه يتلخص ممّا ذكرنا هنا وفي أبحاث الخمس، أنّ ما يأخذه المسلمون من المشركين على أنحاء أربعة:

1- ما يؤخذ بإذن الإمام بالقهر والغلبة من المنقول فذلك يكون داخلًا في الغنيمة وفيه انوار الفقاهة، ج 2، ص: 474

الخمس، والأربعة الباقيه للمقاتلين.

2- ما يؤخذ كذلك من الأراضي وشبهها وهذا لجميع المسلمين.

3- ما يؤخذ بغير إذن الإمام عليه السلام فذلك من الأنفال كما سيأتي.

4- ما يؤخذ بغير القهر والغلبة، كما إذا صالحوا من دون حرب فهذا أيضاً من الأنفال كما يأتي (إن شاء اللَّه).

2- موارد الأنفال ومصاديقها

اختلفت كلماتهم في بيان تعداد مواردها، فقد ذكر المحقّق رحمه الله في الشرائع أنّها خمسة وقال

العلّامة في القواعد أنّها عشرة (وقد لا يكون بينهما اختلاف كثير في الواقع) والعمدة هنا اقتفاء الأدلة في كلّ مورد منها فنقول:

الأوّل: الأرضون التي تملك من غير قتال سواء انجلى أهلها أو سلّموها للمسلمين طوعاً.

وقد ادّعى صاحب الجواهر عدم وجدان الخلاف فيها بل ظهور الإجماع عليها.

واستدلّ له بروايات:

1- ما رواه حفص بن البختري، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب أو قوم صالحوا أو قوم أعطوا بأيديهم ...» «1».

2- ما رواه معاوية بن وهب عنه عليه السلام أيضاً وفيها: «وإن لم يكونوا قاتلوا عليها المشركين كان كلّ ما غنموا للإمام يجعله حيث أحبّ» «2».

3- ما رواه حمّاد بن عيسى عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح (في حديث) قال: «...

وكلّ أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ولكن صالحوا صلحاً وأعطوا بأيديهم على غير قتال ...» «3».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 475

4- ما في حديث علي بن أسباط، عن أبي الحسن موسى عليهما السلام بعد ذكر قضية فدك مع حدوده الوسيعة أنّه قيل له: كلّ هذا؟ قال: «نعم، إنّ هذا كلّه ممّا لم يوجف أهله على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بخيل ولا ركاب» «1».

5- قوله عليه السلام في ما رواه محمّد بن مسلم أنّه سمع أبا عبداللَّه عليه السلام يقول في جواب السؤال عن الأنفال: «كلّ قرية يهلك أهلها أو يجلون عنها فهي نفل للَّه عزّوجلّ ...» «2».

لكن في ذيله ما لم يعمل به الأصحاب وهو قوله: «نصفها يقسم بين الناس ونصفها لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله فما كان لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله فهو للإمام عليه السلام».

ولكن لعلّه عناية وتفضل على الناس لا من باب استحقاقهم له.

6- ما رواه زرارة، عن أبي عبداللَّه عليه السلام

فقد ذكر في جواب السؤال عن الأنفال: «هي كلّ أرض جلا أهلها من غير أن يحمل عليها بخيل ولا رجال ولا ركاب فهي نفل للَّه وللرسول» «3».

7- ما رواه محمّد بن مسلم عنه عليه السلام أيضاً: «إنّ الأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة دم أو قوم صولحوا وأعطوا بأيديهم ...» «4».

إلى غير ذلك من الروايات مثل ما رواه الحلبي «5» ومحمّد بن مسلم «6» ومرفوعة أحمد بن محمّد «7» وما رواه صاحب تفسير النعماني «8» وإسحاق بن عمّار «9» ورواية أخرى لمحمّد بن مسلم «10» ولزرارة «11» وما رواه العياشي عن أبي اسامة «12» وما رواه عن داود بن فرقد «13».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 476

هذا وقد وقع الكلام في أن هذا الحكم مختص بالأراضي أو يشمل غيره من الأموال المنقولة. حكى عن المشهور الأعم، وقال صاحب الجواهر ظاهر المصنّف وغيره من الأصحاب، ذلك.

ويدلّ على العموم الآية الشريفة: «مَا افَاءَ اللَّهُ على رَسُولِهِ ...» فإنّه عام يشمل المنقول وغيره- كما لا يخفى- فكذلك آية الأنفال، وهكذا غير واحد من الأحاديث السابقة التي ظاهرها العموم وعدم اختصاص الحكم بالأراضي، كالرواية الاولى والثانية، أعني صحيحتي حفص بن البختري ومعاوية بن وهب، فإنّ قوله: «ما لم يوجف عليه ...» وكذا قوله: «ما غنموا» عام يشمل الجميع.

مضافاً إلى مرسلة العياشي عن زرارة.

نعم، عنوان البحث في كثير من هذه الروايات الواردة في هذا الباب هو خصوص الأراضي وشبهها، ولكن اثبات الشي ء لا ينفي ما عداه والقول بإنّها في مقام البيان والاحتراز فيدلّ على المفهوم كماترى.

فالحقّ عدم الفرق بين الأموال المنقولة وغيرها، ويؤيده الاعتبار، فإنّ المسلمين إذا لم يوجفوا على شي ء بخيل ولا ركاب وصالحهم الكفّار على ألف من الدراهم أو الدنانير لا

وجه لشركتهم في هذا المال- كما هو ظاهر- فإنّ الغنيمة في الواقع جابرة لشي ء من مشاق القتال.

الثاني: الأرضون الموات

اشارة

القسم الثاني من الأنفال هوالأرضون الموات سواء ملكت ثمّ بادأهلها أولم يجر عليها ملك.

هكذا ذكره صاحب الشرائع، والكلام فيها يقع تارة حكماً وأخرى موضوعاً. أمّا من ناحية الحكم فقد ادّعى شيخ الطائفه الإجماع فيها بعدما قال: «الأرضون الموات للإمام خاصة، لا يملكها أحد بالإحياء إلّاأن يأذن له الإمام- ثمّ قال- وقال الشافعي: مَن أحياها ملكها، أذن له الإمام أو لم يأذن، وقال أبو حنيفة: لا يملك إلّابإذن، وهو قول مالك أيضاً وهذا مثل ما قلنا: ... دليلنا إجماع الفرقة واخبارهم وهي كثيرة» «1».

وادّعى صاحب الغنية أيضاً إجماع الطائفة عليه، وقال صاحب مستند الشيعة: «كونها من الأنفال ممّا لاخلاف فيه ... بل في التنقيح و المسالك و المفاتيح و شرحه و غيرها الإجماع عليه» «2».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 477

ويدلّ عليه مضافاً إلى ذلك، كثير من روايات هذا الباب مثل ما يلي:

1- ما في صحيحة حفص: «وكلّ أرض خربة وبطون الأوديه فهو لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو للإمام من بعده يضعه حيث يشاء» «1».

2- ما رواه حمّاد في مرسلته: «والأنفال كلّ أرض خربة باد أهلها ... وله رؤوس الجبال وبطون الأودية والآجام وكلّ أرض ميتة لا ربّ لها ...» «2».

3- ما رواه سماعة بن مهران قال: سألته عن الأنفال فقال عليه السلام: «كلّ أرض خربة ...» «3».

4- صحيحة محمّد بن مسلم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّه سمعه يقول: «إنّ الأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة دم ... وما كان من أرض خربة أو بطون أودية فهذا كلّه من الفيى ء والأنفال للَّه وللرسول ...» «4».

5- وفي رواية

أحمد بن محمّد: «وبطون الأودية ورؤوس الجبال والموات كلّها هي له وهو قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الانْفَال» «5».

إلى غير ذلك من الروايات مثل رواية محمّد بن مسلم ومرسلة أبي أُسامة وأبي بصير وداود بن فرقد وغيرها «6».

وأمّا من الناحية الثانية- أعني موضوعها- فقد ذكر الأصحاب هنا أُموراً، منها المفاوز وسيف البحار وبطون الأودية ورؤوس الجبال. والمراد من المفاوز، الفلاة التي لا ماء فيها سمّيت بذلك.

أمّا من فوز أيْ مات لأنّها مظنّة الهلاك لعدم وجود الماء فيها، أو لأنّه من قطعها وخرج منها فقد فاز، أو للتفأل فيها بالنجاة بعد كونها مظنّة للهلاك.

والمراد بسيف البحار هو ساحلها، والمراد من بطون الأودية محل جريان السيول، قال انوار الفقاهة، ج 2، ص: 478

اللَّه تعالى: «أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا» «1».

والمراد من رؤوس الجبال، المحل الذي لا ينبت فيه الزرع والأشجار غالباً (بخلاف ذيولها فإنّها محل لذلك) ولذا جُعلت في مقابل أذيالها في كلمات بعضهم، قال: ولو كانت الأذيال مواتاً دخلت في الأنفال أيضاً.

وعلى كلّ حال يدخل جميع ذلك في العناوين العامة المصرّح بها في روايات هذا الباب، مثل قوله عليه السلام: «كلّ أرض لاربّ لها» «2»

وقوله عليه السلام: «كلّ أرض خربة» «3»

وعنوان «الموات كلها» «4».

مضافاً إلى التصريح بخصوص هذه العناوين في بعض روايات هذا الباب، كالتصريح بعنوان رؤوس الجبال وبطون الأودية في رواية حمّاد «5» ورواية محمّد بن مسلم «6» وداود بن فرقد «7».

وكالتصريح بخصوص بطون الأودية في رواية حفص «8» ورواية محمّد بن مسلم «9» ورواية أخرى لمحمّد بن مسلم «10».

وكالتصريح بسيف البحر في رواية علي بن أسباط «11».

فرع: هل هناك فرق بين ما إذا لم يكن لها مالك معروف (سواء ملكها بالإحياء أو بغيره كالإرث وشبهه) أو كان كذلك؟

ففي الواقع هنا صور ثلاث.:

الاولى: ما لم يكن له مالك معروف، وهذا هو القدر المتيقن من المسألة.

الثاني: ما كان له مالك معروف ملكها بغير الإحياء.

الثالث: ما كان له مالك معروف ملكها بالإحياء.

وقد عرفت أنّ الاولى هي القدر المتيقن من محل البحث، وأمّا الثانية فقد ادّعى صاحب مصباح الفقيه عدم الخلاف في كونها لمالكها، وفي الثالث قولان: زوال ملكيتها بعروض انوار الفقاهة، ج 2، ص: 479

الخراب لها، ورجوعها إلى ملك الإمام عليه السلام وعدم زوالها بذلك.

هذا وظاهر قوله عليه السلام: «باد أهلها» في مرسلة حمّاد «1» وفي رواية الحلبي «2» ومرسلة العياشي «3» ومرسلة أخرى له عن أبي بصير «4».

وكذلك التصريح في غير واحد من أخبار هذا الباب بأنّ: «أهلها قد هلكوا أو انجلى أهلها» «5»

. ظاهر هذه الروايات الكثيره المتظافرة وصريح بعضها دليل على عدم معروفية مالك لها، وهي حجّة وإن كان فيها ضعاف لاشتهارها رواية وفتوى.

نعم، فيما ملك بالإحياء ثمّ عاد إلى الموات خلاف في كتاب إحياء الموات، والمشهور على أنّه باق على ملك مالكه، وعن جماعة من المتأخرين جواز تملكه بالإحياء لأنّه يعود إلى الأنفال لبعض ما ورد في هذا الباب من الروايات فراجع «6».

وقد يلحق بهذا القسم- أي القسم الثاني من الأنفال- أمران:

1- «الآجام» وإن لم يصدق عليها عنوان الموات، بل هي في الحقيقة من قسم الأراضي المحياة بالأصالة، والمراد بالآجام التي هي جمع «أجمة» ليس خصوص ما ينبت فيه القصب بل يشمل ما فيه الأشجار الملتفة الكثيرة، وما في كلام النراقي قدس سره في المستند من أنّها ما يقال بالفارسية «بيشه» غير تام، فإن كلمة «بيشه» في الفارسية بمعنى منبت القصب (نيزار يا نيستان، يا جنگل كوچك) ولكن الآجام في العربية يعم

ذلك وغيره، ولذا صرّح صاحب القاموس بأنّها هي الشجر الكثير الملتف.

وعلى كلّ حال فكونها من الأنفال هو المعروف في كلمات الأصحاب، كما صرح به صاحب المدارك «7» ويدلّ عليه أيضاً مرسلة حمّاد بن عيسى «8» وكذلك مرسلة العياشي عن انوار الفقاهة، ج 2، ص: 480

أبي بصير «1» ومرسلة داود بن فرقد «2»، وهي وإن كانت ضعاف الاسناد ولكن عمل المشهور بها يوجب جبر ضعفها.

هذا مضافاً إلى إمكان اصطياد (العموم) من مجموع روايات الأنفال، وهو أن ما ليس ملكاً لمالك خاصّ فهو للإمام عليه السلام إلّاما خرج بالدليل وهذه قاعدة مهمّة جدّاً.

ويلحق بذلك بطون الأودية إذا كانت فيها أشجار، وكذلك سيف الأنهار إذا كانت كذلك لصدق الآجام عليها أو لما عرفت من القاعدة الكلية.

ثمّ إنّه هل هذا الحكم يختصّ بما إذا كانت الآجام في أراض غير مملوكة لمالك خاصّ أم يعمّها وغير ذلك؟ وكون الآجام في ملك مالك خاصّ يتصور على وجوه:

تارة: أوجد المالك فيها أشجاراً كثيرة ملتفة مثل ما نرى في عصرنا من الآجام الصناعية، ولا إشكال في عدم دخول هذا القسم في الآجام المذكورة في روايات هذا الباب لانصرافها عنه.

وثانية: يكون بترك زرعها فنبتت فيها اشجار كثيرة ملتفة مع كون الأرض انتقلت إليه بناقل قهري أو اختياري من غيره.

وثالثة: هذا الفرض بعينه مع تملكها بالإحياء، والإنصاف أنّ شيئاً منهما أيضاً لا يدخل في حكم الأنفال لما عرفت من عدم القول به في القسم الأوّل حتّى في مورد طروّ الموات، وأمّا القسم الثاني فعلى فرض القول به في طروّ الموات لا يمكن القول به هنا، لأنّ العمدة هناك مصححة أبي خالد الكابلي ومعاوية بن وهب «3» وهما واردتان في الأرض التي عمّرها

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 481

ثمّ

تركها حتّى صارت مواتاً.

إن قلت: هذا أيضاً يصدق عليه الموات.

قلت: كلا، هي من المحياة غالباً. نعم قد تقطع أشجارها لجعلها أرضاً زراعية تكون منافعها أكثر وإلّا لا يقول احد إنّها أرض موات.

2- المراتع: الظاهر أن المراتع الموجودة في الأراضي التي ليست ملكاً لشخص خاصّ هي من الأنفال أيضاً، إلّاأن يكون حريماً لملك عامر من قرية وشبهها، وقلما يوجد في كلماتهم تصريح بذلك، إلّاأنّهم صرّحوا في كتاب إحياء الموات أن من شرائط الإحياء أن لا يكون حريماً لعامر، ومثل له صاحب التذكرة بما نحن فيه فقال: «لا نعلم خلافاً بين علماء الأمصار أنّ كلّ ما يتعلق بمصالح العامر، كالطريق والشرب ومسيل ماء العامر ومطرح قمامته وملقى ترابه وآلاته، أو لمصالح القرية كقناتها، ومرعى ماشيتها، ومحتطبها ومسيل مياهها لا يصحّ لأحد احياؤه ولا يملك بالإحياء» «1».

وهذا وشبهه دليل على مفروغية كون المراتع من الأنفال التي تملك بالإحياء لو لم يكن هناك مانع.

والمراتع كالآجام على أقسام:

منها: ما يكون مصنوعياً، وقد كثر ذلك في أعصارنا، بأن ينشر بذره في ملك خاصّ فلا إشكال في كونه لمالكه كسائر الزراعات.

منها: ما يكون بالأصالة في ملك خاصّ، كأن يترك أرضه سنين عديدة فصارت مرتعاً بمرور الزمان، وهذا يدخل فيما مرّ من المحياة التي رجعت مواتاً بما فيها من التفصيل لو قلنابصدق الموات على المراتع (كما لا يبعد في بعضها) وأمّا إذا كانت بحيث لا يصدق عليه إلّا المحياة فلا ينبغي الشك في بقائه على ملك مالكه، لعدم الدليل على خروجه بصيرورته مرتعاً محياة.

ومنها: ما كان موجوداً من البداية في الأراضي المفتوحة عنوة أو الأراضي المملوكة لأشخاص، والظاهر أنها لا تدخل في ملك الأشخاص ولا ملك المسلمين بعد عدم حيازتها وعدم إحيائها كما هو ظاهر وكيف

كان فتدلّ عليه- مضافاً إلى صدق الموات على كثير من انوار الفقاهة، ج 2، ص: 482

المراتع- القاعدة الكلية المشار إليها المستفادة من مجموع أبواب الأنفال، من أن كلّ ما لم يكن ملكاً لمالك خاصّ فهو ملك للإمام عليه السلام (إلّا ما خرج بالدليل).

بل قد يدخل في قوله: «وكلّ أرض لا ربّ لها» الوارد في رواية أبي بصير عن الباقر عليه السلام «1» ومثله ما رواه إسحاق بن عمّار عن الصادق عليه السلام «2».

الثالث: المعادن

قد وقع الخلاف في كونها من الموات أو من المشتركات، فعن المفيد وسلّار والكليني وشيخه علي بن إبراهيم بل عن الشيخ أيضاً قدس سره كونها من الأنفال، ولكن المحكى عن المشهور نقلًا وتحصيلًا- كما في الجواهر- أنّها من المشتركات التي يكون الناس فيها شرع سواء، بل قد يقال إنّه يلوح من المبسوط نفي الخلاف فيه «3».

وصرّح صاحب الدروس- بعد نقل القولين- بضعف القول بعدم كونه ملكاً للإمام عليه السلام وقد ذكر المحقّق الهمداني رحمه الله بأنّ الأصحاب اختلفوا في المعادن:

1- فعن الكليني والمفيد والشيخ والديلمي والقاضي والقمّي في تفسيره وبعض متأخري المتأخرين، أنّها من الأنفال مطلقاً من غير فرق بين ما كان منها في أرضه أو غيرها، وبين الظاهرة والباطنة كما تشهد له جملة من الأخبار ....

2- وعن جملة من الأصحاب بالأشهر أنّ الناس فيها شرع سواء مطلقاً ....

3- التفصيل بين ما كان في ملك الإمام وغيره .... «4».

وعمدة ما يدلّ على كونها من الأنفال روايات:

1- ما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبداللَّه عليه السلام وفيها:

«وكلّ أرض لا ربّ لها» والمعادن منها «5».

2- مرسلة العياشي عن أبي بصير عن الباقر عليه السلام قال: «ومنها (من الأنفال)

المعادن انوار الفقاهة، ج 2، ص: 483

والآجام وكلّ أرض لا ربّ لها» «1».

3- ما رواه داود بن فرقد في حديث عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: قلت: وما الأنفال؟ قال:

«بطون الأودية ورؤوس الجبال والآجام والمعادن» «2».

وقد يؤيد ذلك كلّه بما ورد في أخبار كثيرة: «أنّ الدنيا وما فيها لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله وللأئمّة المعصومين عليهم السلام من بعده» وإن شئت الإحاطة بها فراجع الكافي، الجزء الأوّل، باب إنّ الأرض كلّها للإمام «3».

هذا وقد يقال بضعف هذه الأخبار، أمّا المراسيل فواضحة، وأمّا رواية إسحاق بن عمّار فالظاهر أنّه لاشتمال سندها ب «أبان بن عثمان» وهو محل الكلام عندهم، مضافاً إلى إعراض المشهور عنها.

أضف إلى ذلك السيرة المستمرة في سائر الأمصار والأعصار في زمن تسلّطهم وغيره على الأخذ منها بلا إذن حتّى ما كان في الموات بل وما كان في المفتوحة عنوة.

أقول: أوّلًا دعوى الشهرة على عدم كون المعادن من الأنفال مع ذهاب جماعة كثيرة من أعيان القدماء إلى ذلك قابلة للمنع. اللّهمّ إلّاأن يراد شهرة المتأخرين، وشهرتهم لا تمنع عن حجيّة الأخبار.

وقد تهافتت في ذلك كلمات صاحب الجواهر- رضوان اللَّه تعالى عليه-.

فقال في كتاب إحياء الموات: «المشهور نقلًا وتحصيلًا على أنّ الناس فيها شرع سواء، بل قيل: قد يلوح من محكى المبسوط والسرائر نفي الخلاف فيه» «4».

بينما صرّح صاحب كتاب الخمس باختلاف الأصحاب فيها، ثمّ حكى عن الدروس أنّ الأشهر مساواة الناس فيها، وقال في آخر المسألة: «إنّ المسألة غير سالمة الإشكال والاحتياط الذي جعله اللَّه ساحل بحر الهلكة فيها مطلوب» «5».

هذا وقد أفتى صاحب رسالة (نجاة العباد) عند ذكر الأنفال بكون المعادن منها. فقال:

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 484

«منها المعادن التي لم تكن لمالك

خاصّ تبعاً للأرض أو بالإحياء» «1».

فقد تهافتت كلماته في هذه الكتب كما لا يخفى.

والإنصاف أنّ هذه الروايات الثلاث مع عمل جماعة كثيرة من أفاضل القدماء بها كافية في إثبات كون المعادن من الأنفال لا سيّما أنّ ضعف خبر إسحاق بن عمّار غير ثابت، فقد وصفه صاحب الجواهر وصاحب الرياض والمحقّق الهمداني والمحقّق الخوانساري- قدس اللَّه أسرارهم- في جامع المدارك بالوثاقة.

والوجه فيه ما عرفت من الكلام في أبان بن عثمان. هذا وقد صرّح الكشي فيما رواه بأنّ أبان بن عثمان كان من الناووسية «2».

ثمّ قال: إنّ العصابة أجمعت على تصحيح ما يصحّ عن أبان والإقرار له بالفقه.

وذكر العلّامة رحمه الله في الخلاصة: «أنّ الأقرب عنده قبول روايته وإن كان فاسد المذهب للإجماع المذكور».

وظاهر هذه العبارة اعترافه بصحّة دعوى الإجماع المذكور، ولكن عن ولده فخر المحقّقين رحمه الله أنّه قال: «سألت والدي عنه فقال: الأقرب عدم قبول روايته لقوله تعالى: (إن جاءكم فاسق ...) ولا فسق أعظم من عدم الإيمان».

والظاهر أنّ هذه العبارة أيضاً دليل على أنّ الرواية من قسم الموثق، وأنّه لا إشكال فيها من حيث وثوق الراوي، بل قد ذكر صاحب الرجال الكبير: «قد يقال إنّ الإجماع الثابت بنقل الكشي دليل على عدم كونه ناووسياً».

نعم، قد أورد على الرواية بأنّها مجملة من حيث المتن والدلالة، أمّا أوّلًا فلأن الضمير في قوله: «والمعادن منها» يمكن رجوعه إلى الأرض في قوله: «وكلّ أرض لا ربّ لها» وثانياً: فقد حكى عن بعض النسخ «فيها» بدل «منها» فيكون ظاهره عدّ المعادن الموجودة في الأراضي الموات من الأنفال.

هذا، ولكن لازمه على كلّ حال قبول كون قسم كبير من المعادن من الأنفال وهي انوار الفقاهة، ج 2، ص: 485

الموجودة في أراضي الموات،

فالرواية وإن كانت مجملة من حيث المتن لكن القدر المتيقن منها كون هذه المعادن من الأنفال، ومن الواضح أنّ عمدة المعادن هي الموجودة في الموات.

هذا، ويمكن أن يكون التعبير ب «منها» في غير واحد من روايات هذا الباب شاهداً على رفع الابهام هنا، فتأمل.

وهناك رواية أخرى تدلّ على المطلوب رواها صاحب المستدرك عن عاصم بن حميد الحناط عن أبي بصير عن ابى جعفر عليه السلام في حديث قال: «ولنا الأنفال. قال: قلت له: وما الأنفال؟ قال: «المعادن منها والآجام وكلّ أرض لا ربّ لها» «1».

أضف إلى ذلك كلّه ما قد عرفته من القاعدة الكلية المصطادة من روايات الأنفال كلّها من أنّ كلّ مال لا مالك له فهو للإمام عليه السلام إلّاما خرج بالدليل.

فمن جميع ذلك يمكن جعل المعادن من الأنفال لا من المشتركات.

وقد يستدلّ على ذلك- كما في كلمات غير واحد منهم- بالروايات الكثيرة الدالة على أنّ الدنيا كلّها لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله وللأئمّة من بعده عليهم السلام فراجع «2».

والإنصاف أنّه لا دلالة لها على هذا المدعى والمراد منها- كما ذكرنا مراراً- نوع آخر من الملكية المعروفة، وهي تكون في طول هذه الأملاك التي لنا لا في عرضها، كما ذكروه في ملكية الموالي والعبيد بالنسبة إلى مكتسبات العبيد، وأوضح منها ملكية اللَّه تعالى لجميع ما في السماوات والأرض، وفي الحقيقة هو المالك الأصلي وهذه الأموال أماناته عندنا.

ومن الواضح أنّ هذا النوع من الملكية لا تنافي ملكية الناس لأموالهم.

هذا واستدلّ للقول إنّ المعادن من المشتركات المباحات بأُمور:

1- الأصل: أي أصالة الإباحة وعدم الملكية لأحد بعد ضعف روايات هذا الباب سنداً أو دلالة، وذهاب المشهور على خلافها فلا جابر لها.

وفيه: ما عرفت من صحّة الاستدلال بالروايات

بعد ضمّ بعضها ببعض فالموثقة صحيحة سنداً، والروايات الثلاث الباقية واضحة الدلالة وبعد انضمامها تكون حجّة على المقصود، مضافاً إلى القاعدة المصطادة من أخبار الأنفال.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 486

2- السيرة المستمرة في جميع الأعصار والأمصار حتّى في زمن تسلّطهم عليهم السلام على الأخذ من المعادن بغير إذن منهم حتّى ما كان في الموات الذي قد عرفت أنّه لهم، أو في المفتوحة عنوة التي هي للمسلمين فهذه السيرة المعاضدة للشهرة، ولقوله تعالى: «خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الْأَرْضِ» ولشدّة حاجة الناس إلى بعضها على وجه يتوقف عليه معاشهم نحو الماء والنار والكلاء (هكذا ذكره صاحب الجواهر في كتاب إحياء الموات).

وفيه: أنّ السيرة لا تكون دليلًا إلّاعلى جواز الأخذ منها، والجواز هذا كما يمكن أن يكون بسبب كونها من المشتركات، يمكن أن يكون مستنداً إلى إذنهم العام في الأخذ من الأنفال وأنّ من أحياها فهي له.

وإن شئت قلت: سبيل المعادن سبيل أراضي الموات، فكما أنّ جريان السيرة على تملكها بالإحياء لا يكون دليلًا على كونها من المباحات الأصلية فكذلك بالنسبة إلى المعادن.

3- الأخبار الكثيرة القريبة من التواتر بل المتواترة الدالة على أنّ المعادن ممّا يجب فيه الخمس، وهو مناف لكونها من الأنفال إذ لا معنى لوجوبه في مال الغير (حكاه صاحب الرياض واستدلّ به غيره) «1».

والإنصاف أنّها أيضاً لا تدلّ على المقصود، فكما يمكن أن يكون جواز تملكها ثمّ أداء الخمس منها بسبب كونها من المشتركات، فكذلك يحتمل كونه من باب إذنهم عليهم السلام في مطلق الأنفال، بل من لدن عصر النبي صلى الله عليه و آله.

وإن شئت قلت: إنّ هذه الأخبار لا تعارض الأخبار السابقة الدالة على كونها من الأنفال، بل طريق الجمع بينهما واضح، فالثاني دليل

على كونها من أموالهم عليهم السلام والأوّل دليل على إذنهم في التصرف فيها بل وتملكها.

ومن هنا يظهر الإشكال فيما أفاده صاحب الرياض من أنّ هذا الجواب إنّما يتمشى على تقدير كونها له فيرتكب جمعاً، وإلّا فلا ريب أنّه خلاف الظاهر «2».

4- وقد يستدلّ له كما ذكره المحقّق الميلاني رحمه الله في محاضراته في المقام بما دلّ على أنّ الأرض المفتوحة عنوة هي للمسلمين سواء كانت ذات معدن أم لا.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 487

ثمّ أجاب عنه بما حاصله: إنّ المعادن خارجة عن اسم الأرض والعنوان هناك هو الأراضي المفتوحة عنوة، وبعبارة اخرى ليس مفادها إلّاما يؤخذ عنوة منهم ممّا هو لهم لا ما ليس لهم، بل هو من أصله لغيرهم، كالأنفال التي كانت المعادن منها (انتهى ملخصاً).

أقول: خروج المعادن كلّها عن اسم الأرض غير ثابت بل كثير من المعادن يصدق عليها اسم الأرض قطعاً، كمعادن الجصّ والنورة وأنواع الأحجار التي يستفاد منها في الأبنية ومعدن (الإسمنت) وكثير من معادن الفلزات التي تكون بشكل الأحجار أو التراب، نعم معادن النفط وشبهها خارجة عن مسمّاها.

فالأولى أن يقال في الجواب: إنّ الأدلة السابقة الدالّة على أنّ المعادن كلّها للإمام وإن كانت نسبتها مع إطلاقات المفتوحة عنوة بالعموم من وجه، ولكنها في مفادها أظهر وأقوى منها فيقدم عليها.

ولو سلم الإشكال في خصوص ما يوجد في أراضي المفتوحة عنوة، فلا إشكال في المعادن التي تكون في الموات وهي عمدة المعادن.

وممّا ذكرنا ظهر وجه القول بالتفصيل بين المعادن الموجودة في الموات وغيرها، وقد تلخص ممّا ذكرنا أنّ القول بكون المعادن من الأنفال هو الأقوى ولكن تفاصيله يأتي فيما يلي.

بقي هنا أُمور:

1- أقسام المعادن: المعادن على أقسام فتارة تكون في الأراضي الموات، وأخرى في المفتوحة عنوة، وثالثة

في الأملاك الشخصية، وكلّ واحد منها قد يكون من المعادن الظاهرة كالملح وكثير من الأحجار، وأُخرى من الباطنة التي تعدّ تابعة للأرض (أي قريباً من سطح الأرض) وثالثة: تكون في أعماقها التي لا تعد من توابعها (فقد ذكر في محلّه أنّ ما هو المعروف من أعماق الأرض إلى تخومها تابعة لها وكذلك إلى عنان السماء، غير ثابت، ولذا لا تحتاج الطائرات في عبورها من فوق البلاد إلى إذن صاحب البيوت، وأمّا لزوم إذن الحكومات فهو أمر آخر، وكذلك لا يحتاج من يتصرف تحت أراضي البلد مثلًا في عمق عدّة كيلومترات إلى إذن أهله، لأنّ التبعية هنا أمر عرفي عقلائي يتقدر بقدرها).

فما يكون من المعادن في أراضي الموات فلا شك في أنّها من الأنفال، أمّا الظاهرة والباطنة

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 488

القريبة فهما واضحتان، وأمّا الأخير فلدخولها تحت عنوان المعادن في ما سبق من الأدلة.

وأمّا إذا كان في المفتوحة عنوة والأملاك الخاصة، فإن كان من القسم الأخير أي الباطنة جدّاً فكذلك لعدم التبعية ولدخولها تحت عنوان المعادن في الأخبار السابقة.

أمّا إن كانت ظاهرة أو قريبة من سطح الأرض، فيمكن أن يقال إنّها أيضاً ملك للإمام عليه السلام إذا كانت شيئاً يعتد بها، لأنّ النسبة بين إطلاقات أدلة الأنفال وعموماتها ودليل التبعية للأملاك الخاصة وإن كانت عموماً من وجه إلّاأنّ أدلة كون المعادن من الأنفال أوضح وأقوى وأظهر.

ولكن لا ينبغي ترك الاحتياط في هذين القسمين بالمصالحة لا سيّما مع ملاحظة ما ذكره الفقهاء من أنّه لو أحيا أرضاً وظهر فيها معدن ملكه تبعاً لها، وقال صاحب الجواهر قدس سره بعد نقل هذا الكلام عن المحقّق رحمه الله: «بلا خلاف أجده فيه كما عن المبسوط والسرائر الاعتراف به، بل قيل

إنّ ظاهر الأوّل بل الثاني نفيه بين المسلمين لأنّه جزء من أجزائها وإن استحال إلى حقيقة أخرى غيرها» «1».

وكيف كان فكَأنّ الذي أوقع جماعة من الأصحاب في إنكار كونها من الأنفال مطلقاً أو في خصوص ما يكون في الملك الخاصّ هو ما عرفت من السيرة على التصرف فيها بعدم الإذن، وكذلك مسألة الخمس الدالّة على كون المعادن داخلة في ملك الشخص، ولكن قد عرفت الجواب عنهما بما لا مزيد عليه.

2- ثمرة النزاع في المسألة: قد يقال إنّه لا ثمرة مهمّة في المسألة، فقد ذكر بعض أعلام العصر من أساتذتنا- أدام اللَّه تأييدهم- بعد اختيار التفصيل في المسألة بين ما كان في أرض هي من الأنفال وبين المستخرج من غيرها، فالأوّل من الأنفال دون الثاني، أنّ هذا التفصيل غير بعيد وإن لم يكن لهذا البحث أثر عملي لوجوب التخميس بعد الإستخراج على كلّ حال والبحث علمي محضّ، وأنّ تملك الأربعة أخماس هل هو بتحليل من اللَّه تعالى ابتداء أم بإذن من الإمام عليه السلام؟ «2»

أقول: بل تظهر الثمرة إذا قلنا إنّ الحكومة الإسلامية إذا تشكلت فلها النظر فيما

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 489

للإمام عليه السلام من الأنفال وأنّ لها التصرف فيها والمنع منها بغير إذن (كما هو ليس ببعيد) فحينئذٍ إن كانت المعادن من المباحات الأصلية فلا يحتاج التصرف فيها إلى إذن الحكومة (إلّا إذا كانت هناك عناوين ثانوية من وقوع مفاسد مهمّة لابدّ لها من منعها) وأمّا لو كانت من الأنفال فلم يجز التصرف فيها بغير إذن الحكومة الشرعية الإسلامية بالعنوان الاولي.

إن قلت: إنّهم عليهم السلام أجازوا التصرف في الأنفال وتملكها بالإحياء عند بسط أيديهم- كعصر النبي صلى الله عليه و آله وعصر أميرالمؤمنين عليه السلام-

بل قد يظهر من بعض الروايات أنّ إذنهم عليهم السلام في عصر الغيبة ثابت إلى يوم الظهور كما لا يخفى على من راجع روايات هذا الباب.

قلت: يمكن أن يقال إنّ هذا الإذن والترخيص مقطعي مشروط بعدم تشكيل الحكومة الإسلامية الجامعة للشرائط، فإذا حصلت مع شرائطها كان لها حقّ المنع والاعطاء (مع مراعاة مصالح الأمّة والحكومة) فتلك الأدلة الدالّة على الإذن المطلق منصرفة عن هذه الصورة، فتأمل.

3- هل المعادن تملك بالإحياء: وكيف تملك بناءً على الإذن العام منهم عليهم السلام في الاحياء؟

المعروف بين الأصحاب تقسيم المعادن إلى قسمين: المعادن الظاهرة والمعادن الباطنة.

أمّا المعادن الظاهرة، كالملح والكبريت والقير والنفط (في الأزمنة السابقة حيث كانت تخرج من بعض عيونها) فلا تملك بالإحياء ولا يكون أحد أولى به بسبب التحجير كما صرّح به الشيخ في المبسوط حيث قال: «أمّا الظاهرة ... فهذا لا يملك بالإحياء ولا يصير أحد أولى به بالتحجير من غيره وليس للسلطان أن يقطعه، بل الناس كلّهم فيه سواء، يأخذون منه قدر حاجتهم بل يجب عندنا فيها الخمس، ولا خلاف في أنّ ذلك لا يملك ...

فإذا ثبت أنّها لا تملك فمن سبق إليها أخذ منها قدر حاجته» «1».

والظاهر أنّ عدم جريان الإحياء والتحجير فيها لعدم وجود موضوعه فإنّ المفروض كون المعدن ظاهراً فلا يحتاج إلى الإحياء، وأمّا التحجير فإنّه مقدمة للإحياء ليكون مختصاً به ليملكه بالإحياء، فإذا لم يكن هناك إحياء فلا يكون تحجيراً، وإن هو إلّاكالمياه الجارية في الشطوط الكبار يأخذ منها كلّ إنسان بمقدار حاجته، فهي تملك بالحيازة فقط.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 490

وأمّا الإقطاع (أي تخصيص الحاكم الشرعي بعض من يرى المصحلة في اقطاعهم بشي ء منها، ويكون هذا التخصيص بمنزلة التحجير فيكون هو أولى

به من غيره) فقد يقال- كما مرّ في كلام المبسوط- إنه لا يجوز اقطاعه لأنّ الناس كلّهم فيه سواء، ولأنّه لا يجوز تحجيره فلا يجري فيه الاقطاع. هذا ولا فرق في ذلك بين القول بكونها من الأنفال أو المشتركات.

أقول: إذا قلنا إنّها من الأنفال- كما هو الحقّ- لا يجري فيها الإحياء والتحجير لعدم الموضوع لهما، وأمّا الإقطاع فلا مانع له لأنّه ملك الإمام عليه السلام فإذا رأى فيه مصلحة اقطع بعضها لبعض الناس.

وهل للحاكم الشرعي اقطاعها إذا كان فيه مصلحة للمسلمين بأن كان المقطع له قادراً على الانتفاع بها في طريق مصالح المسلمين منافع كبيرة؟ فقد ذكر صاحب الجواهر أنّه لا يجوز ذلك للنائب العام، لعدم عموم نيابته على وجه يشمل مثل ذلك «1».

ولكن الحق عمومها لأنّه قائم مقامه في المصالح العامة كما ذكرنا في محلّه من بحث ولاية الفقيه فراجع. ومن المصالح العامة الاقطاع هنا، وهذا أمر شائع في الحكومات في عصرنا فهم يرون ذلك حقّاً للحكومة، وقد ذكرنا أنّ الأُمور التي تكون بيد الحكومات فيما هو دائر بينهم يرجع فيها في عصر الغيبة إلى الحاكم الشرعي، ولا نحتاج في كلّ مورد إلى دليل خاصّ.

أمّا المعادن الباطنة فقد أدّعى عدم الخلاف في تملكها بالإحياء، أفتى به الشيخ وابن البرّاج وابن ادريس والعلّامة والشهيدان والمحقّق الكركي وغيرهم على ما حكى عنهم، بل ظاهر المبسوط الإجماع عليه حيث قال: «أمّا المعادن الباطنة ... فهل تملك بالإحياء أم لا؟

قيل فيه قولان: أحدهما: أنّه يملك وهو الصحيح عندنا ...» «2».

والظاهر أنّ الوجه فيه عموم أدلة الإحياء «3».

مضافاً إلى استقرار السيرة عليه وإمضائها من الشرع.

إن قلت: إنّ أخبار الإحياء تدور مدار عنوان الأرض، والمعدن لا يكون أرضاً حتّى انوار

الفقاهة، ج 2، ص: 491

يملك بالإحياء فقد خرج عن اسم الأرض.

هذا مضافاً إلى أنّ الإحياء إنّما يصدق بالنسبة إلى الزراعة والحرث، وأمّا في المعدن فهو استخراج وإخراج وشبه ذلك من العناوين لا الإحياء.

قلت: أوّلًا: إنّ كثيراً من المعادن يصدق عليها عنوان الأرض.

وثانياً: يمكن إلغاء الخصوصية لأنّا لم نر أحداً يفرق بين أقسام المعادن في مسألة الإحياء، فيستفاد من كلماتهم أنّه لا خصوصية لعنوان الأرض هنا.

وأمّا عنوان الإحياء في قوله عليه السلام: «أيّما قوم أحيوا أرضاً» وإن لم يكن صادقاً في بدء النظر بالنسبة على المعادن وحفرها بحيث تكون قابلة لإخراج موادها بسهولة، إلّاأنّ الظاهر من كلمات الأصحاب أنّ الإحياء له معنى وسيع يشمل ما نحن فيه فقد اشتهر بينهم أنّ إحياء كلّ شي ء بحسبه، ولذا قال المحقّق رحمه الله في الشرائع: «هي- أي المعادن- تملك بالإحياء» «1» وأضاف إليه في الجواهر قوله: «بلا خلاف أجده بين من تعرض له ... ولعلّه لصدق الإحياء الذي هو سبب الملك ولو بملاحظة ما سمعته من فتوى الأصحاب فإنّ إحياء كلّ شي ء بحسبه، ومن هنا يملك البئر ببلوغه الماء الذي فيها إذ هو كالجوهر الكائن فيها» «2» وهكذا غيره.

والحاصل: أنّه وإن لم يرد نصّ خاصّ في مسألة تملك المعادن الباطنة بحفرها وبلوغ جواهرها، إلّاأنّ إلغاء الخصوصية عن عنوان الإحياء بقرينة استقرار السيرة على تملكها بذلك، وبقرينة فهم الأصحاب- رضوان اللَّه عليهم- قوي جدّاً.

وأمّا إقطاعها وجعل قسم منها لبعض الناس- بعد كونها من الأنفال وأمرها بيد نائب الغيبة فالظاهر جوازه لعموم الأدلة كما عرفت، وكثيراً ما تكون مصلحة الأمّة في أمر الإقطاع، وإلّا بقيَ كثير منها متروكاً مهجوراً لا تنتفع به لعدم الداعي إلى استخراج بعضه بدون الاقطاع.

وفي بعض الروايات المروية

من طرق العامة: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله اقطع بعض أصحابه بعض المعادن فلما أخبروه أنّه كالماء العد (أي دائم ظاهر لا انقطاع له) امتنع منه «3».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 492

وهذا أيضاً دليل على جواز اقطاع المعادن الباطنة.

وادّعى صاحب التذكرة إجماع علمائنا على جواز الإقطاع أزيد من حاجته في مقابل قول الشافعي أنّه لا يجوز الإقطاع إلّاعلى قدر حاجته، قال العلّامة رحمه الله: «وقال علماؤنا:

للإمام أن يقطعه الزائد» وأضاف إليه صاحب مفتاح الكرامة بعد نقل هذا الكلام: «هو ظاهر المبسوط أو صريحه وظاهر إطلاق الباقين لكنه اختار في التحرير مذهب الشافعي» «1».

والدليل على جواز الأزيد من الحاجة هو عمومات الباب، مضافاً إلى أنّه قد يكون فيه مصلحة الأمّة- كما نشاهد في عصرنا- من جعل ذلك ذريعة للنشاطات الاقتصادية ورفع حوائج الناس وتوفير المواد في الأسواق، ولو اختصّ كلّ إنسان بقدر حاجته حصل ضيق شديد في كثير من حوائج الناس كما لا يخفى على من له خبرة بهذه الأُمور.

وأمّا إذا حفره ولم يبلغ الجوهر، فقد صرّح صاحب مفتاح الكرامة: «أنّ الظاهر أنّه لا خلاف في كونه تحجيراً وليس بإحياء وحيث تحجر يكون احقّ به» «2» والدليل عليه هو سيرة العقلاء وقد أمضاها الشرع.

«وإذا تحجر المعدن بالحفر وتركه وأراد غيره إحياءَه، قال الإمام عليه السلام له: إمّا أن تحييه أو تخلى بينه وبين غيرك»، هذا ما صرّح به ابن البرّاج في المهذّب «3».

وصرّح غيره أيضاً بهذا المعنى، والدليل عليه هو مسألة الجمع بين الحقوق، حقّ التحجير وحقّ الإمام في الأنفال كما لا يخفى.

4- المعادن الموجودة في أعماق البحار وأطرافها كمعادن البترول وما أشبهها، قد تكون ظاهرة وتدخل في عنوان الغوص الواجب فيه الخمس، وأخرى

لا تدخل في عنوانه، وتارة تكون باطنة، وهي أيضاً على قسمين تدخل في عنوان الغوص كما إذا كانت من اللؤلؤ كامنة تحت البحر خرجت بالحفر وشبهه.

وقد يتصور أنّ ما كان داخلًا في عنوان الغوص فهو من المباحات الأصلية وإن صدق انوار الفقاهة، ج 2، ص: 493

عليه عنوان المعدن أيضاً، وذلك لأدلة وجوب الخمس الدالّة على ملك الأربعة أخماس بالحيازة، لكنك قد عرفت أن هذه الأدلة كما توافق كونها من المباحات توافق كونها من الأنفال، وقد أذنوا عليهم السلام في تملّكها بالإحياء وشبهه (وإحياء كلّ شي ء بحسبه).

والإنصاف أنّ عنوان المعدن عام شامل لجميع المعادن البرية والبحرية الظاهرة والباطنة، فتكون جميعها من الأنفال وتحتاج إلى إذن مالكها وهو الإمام عليه السلام أو نائبه.

5- المعادن المستخرجة على أيدي الكفّار ومن لا يعتقد بالأنفال والأخماس يجوز ابتياعها والتصرّف فيها، بل ويجوز تملّكها بكلّ ناقل اختياري أو قهري، وعدم جواز تصرّفهم في الأنفال الموجودة في أراضيهم لو ثبت كعدم أداء خمسها ممّا لا ينافي ذلك لما عرفت من إباحة التجارات والأموال المنتقلة ممّن لا يعتقد بالخمس وحقوق الأئمّة مطلقاً، فإنّ أدلتها عامة تشمل موارد الخمس والأنفال كما لا يخفى على من راجع ما ذكرنا في مبحث التحليل.

الرابع: صفايا الملوك وقطائعهم

ويقع الكلام فيه تارة في حكمها وأخرى في موضوعها.

أمّا الأوّل فقد صرّح صاحب الجواهر بأنّه ممّا لم يجد فيه خلافاً والظاهر أنّه كذلك. ولا يتوهم أنّها ليست في محل الابتلاء في عصرنا، فإنّ الصفايا المنقولة بعد الثورة الإسلامية ربّما تدخل في هذا العنوان بناءً على كفر الملك، أو عموم الحكم لمن يدعى الإسلام وهو يعارضه عملًا.

وكيف كان فقد استدلّ له بروايات معتبرة فيها الصحيح وغيره مثل ما يلي:

1- ما رواه حمّاد بن عيسى عن

بعض أصحابنا وفيه: «وله صوافي الملوك ما كان في أيديهم من غير وجه الغصب لأنّ الغصب كلّه مردود ...» «1».

إن قلت: وهل في أموالهم غير الغصب؟

قلنا: قد يتفق ذلك بأخذهم الأموال ممّن لا حرمة لأموالهم أو تحصيلهم من طريق الزرع أو الحيازة أو التجارات أو شبهها، فربحوا فيها واشتروا صفايا منها.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 494

2- ما رواه داود بن فرقد عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «قطائع الملوك كلّها للا مام، وليس للناس فيها شي ء» «1».

3- ما رواه سماعة بن مهران قال: سألته عن الأنفال؟ فقال: «كلّ أرض خربة أو شي ء يكون للملوك فهو خالص للإمام وليس للناس فيها سهم» «2».

4- ما رواه محمّد بن مسلم عن الباقر عليه السلام وفيها: «أو شي ء كأن يكون للملوك». (وذكر المملوك في النسخ اشتباه) «3».

5- مرسلة داود بن فرقد عن أبي عبداللَّه عليه السلام وفيها: «وقطائع الملوك» «4».

ودلالتها ظاهرة على المدعى.

وقد صرّح كثير منهم باشتراطها بما إذا لم تكن مغصوبة من مسلم أو معاهد، كما صرّح به أصحاب الشرائع والجواهر ومصباح الفقيه ومستند الشيعة والمدارك «5».

ويدلّ عليه مضافاً إلى أنّه مقتضى القواعد المعروفة الثابتة في الفقه في باب الأموال، مرسلة حمّاد بن عيسى وقد عرفتها آنفاً.

وعلى كلّ حال فهذا من قبيل الاستثناء في أدلة الغنائم بالنسبة إلى الأموال المنقولة، وأدلة الأراضي المفتوحة عنوة بالنسبة إلى غير المنقولة فهي مستثناة منهما، وتختص بإمام المسلمين أعني بعنوان الحكومة الإلهية لا بالغانمين ولا يعمّ جميع المسلمين.

وأمّا المراد من الصفايا والقطائع فقد صرّح صاحب الحدائق بأنّ: «المراد بالقطائع الأرض التي تختصّ به، والصوافي ما يصطفيه من الأموال يعني يختصّ به ومرجع الجميع إلى أنّ كلّ ما يختص به سلطان الحرب ممّا لا

ينقل ولا يحول أو ممّا ينقل فهو للإمام عليه السلام كما كان للنبي صلى الله عليه و آله» «6».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 495

وظاهر هذا الكلام عام يشمل جميع أموالهم المنقولة وغير المنقولة، لا خصوص أموالهم النفيسة.

وقال المحقّق النراقي رحمه الله في المستند: «وضابطه كلّ ما اصطفاه ملك الكفّار لنفسه واختص به من الأراضي المعبّر عنها بالقطيع، أو من الأموال المعبّر عنها بالصوافي» «1». إلى غير ذلك من أشباهه وظاهرها عام.

ولكن يظهر من المحقّق الأردبيلي رحمه الله في مجمع الفائده معنى أخصّ من ذلك، حيث قال بعد قوله وقيل هي الجارية والفرس والغلمان: «الظاهر أنّها أعمّ لأنّها اشتقت من الصفو وهو اختيار ما يريد من الأُمور الحسنة إلّاأنّ المراد هنا غير القرى بمقابلتها بالقطائع وهي القرى والبساتين والباغات المخصوصة بالملوك» «2».

وظاهره أن المراد بالصوافي خصوص الأُمور الحسنة.

ولكن الذي يظهر من الأدلة هو دخول جميع أموالهم المختصة بهم في ذلك، لأنّ المذكور في رواية حمّاد وإن كان صوافي الملوك، وفي حديث داود بن فرقد قطائع الملوك، إلّاأنّ المذكور في رواية سماعة ومحمّد بن مسلم ومرسلة الثمالي: «شي ء يكون للملوك» أو ما يقرب من هذه العبارة وهو عام، بل القطائع أيضاً عامّة تشمل جميع أراضيهم الخالصة لهم فالقول بالعموم أقوى، ولا يعارضها ما دلّ على عنوان الصوافي لإمكان حملها على الغالب، كتوصيفها في كلام المحقّق الهمداني رحمه الله بالمنقولات النفيسة، فإنّ هذا هو الغالب على أموالهم فلا يفهم منها التخصيص.

وكأنّ الوجه فيها أنّ ما كان لسلطان الجور ينتقل إلى سلطان العدل من المسلمين، ولا يشترك فيه سائر المجاهدين أو المسلمين.

وعلى كلّ حال، المذكور في الأخبار- كما صرّح به بعضهم- هو خصوص الملوك، فلا تشمل الحكّام والولاة والملأ الذين

يحيطون بالملك وأبنائه وإخوته كما لا يخفى.

الخامس: من الأنفال ما يصطفيه المعصوم عليه السلام من الغنيمة

قال المحقّق رحمه الله في الشرائع: «وكذا له أن يصطفي من الغنيمة ما شاء من فرس أو ثوب أو جارية أو غير ذلك ممّا لم يجحف» وزاد عليه صاحب الجواهر: «أو سيف فاخر ماض» «1».

وقال العلّامة رحمه الله في المنتهى: «ومن الأنفال ما يصطفيه من الغنيمة في الحرب مثل الفرس الجواد والثوب المرتفع والجارية الحسناء والسيف القاطع وما أشبه ذلك ما لم يجحف بالغانمين، ذهب إليه علماؤنا أجمع» «2».

وقيّده الشيخ رحمه الله في المبسوط بقوله: «ممّا لا نظير له» «3».

وظاهركلام صاحب (الخلاف) أيضاً دعوى الإجماع عليه، حيث قال: «دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم» ولكن صرّح بأنّ: «جميع الفقهاء (العامة) قالوا إنّ ذلك يبطل بموت النبي صلى الله عليه و آله» «4».

وبالجملة فالمسألة ممّا لا خلاف فيها.

وكأنّ السرّ في هذا الحكم أنّ هذه الصفايا والأموال الحسنة النفيسة ممّا تشتاق إليه النفوس ويتنافس فيها المتنافسون، وقد يكون ذلك مظنّة لوساوس الشيطان وسبباً للنزاع بين المسلمين أو أمراءالجيوش وقادتهم، فاختصت بالإمام عليه السلام كي لايكون دولة بين الأغنياء.

ومن الواضح الذي علمناه من فعل النبي صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام عند بسط اليد، أنّهم لا يختصون بذلك كثيراً بل ينفقونها في سبيل اللَّه ولو بأن تباع وتنفق، فإنّا لم نسمع أنّه صلى الله عليه و آله أو أحد أوليائه المعصومين لبسوا ألبسة فاخرة من أموال الصفايا ولا من غيرها كما كان متداولًا ولا يزال بين الملوك.

وعلى كلّ حال يدلّ عليه مضافاً إلى ما عرفت من الإجماع روايات كثيرة:

1- ما رواه ربعي بن عبداللَّه، عن الصادق عليه السلام قال: «كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذا أتاه المغنم أخذ صفوه وكان ذلك له، ثمّ يقسّم

ما بقي ...» «5».

2- ما رواه أبو بصير عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سألته عن صفو المال؟ قال: «الإمام يأخذ

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 497

الجارية الروقة والمركب الفاره والسيف القاطع والدرع قبل أن تقسّم الغنيمة فهذا صفو المال» «1».

3- ما رواه حمّاد بن عيسى عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح عليه السلام ومضمونه قريب منه «2».

4- مرسلة المفيد في المقنعة عن الصادق عليه السلام قال: «لنا الأنفال، ولنا صفو المال يعني يصفوها ما أحبّ الإمام من الغنائم، واصطفاه لنفسه قبل القسمة من الجارية الحسناء والفرس الفارة ...» «3».

5- ما رواه أبو الصباح الكناني قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «نحن قوم فرض اللَّه طاعتنا، لنا الأنفال ولنا صفو المال» «4».

ودلالة هذه الروايات على المقصود واضحة مع صحّة سند بعضها وتظافرها كما أنّ موضوع المسألة أعني صفو المال أيضاً ظاهر، فهي كلّ ما كان في الغنيمة من الأشياء النفيسة التي ترغب فيها النفوس.

والمراد من الفاره الواردة في روايات هذا الباب هو الحسن الماهر النشط كما أنّ المراد من الروقة ذات الجمال والحسن والخير، ومن الواضح أنّ كلّ ما ذكرت في روايات هذا الباب من باب المثال وإلّا لا تنحصر فيما ذكر فيها.

بقي هنا أُمور:

1- الظاهر من أخبار الباب أنّ للإمام عليه السلام أخذ صفوه كما أنّ له تركه إذا رأى فيه المصلحة، ومقداره موكول إلى اختياره، فقد يصطفى بعض الصفو ويترك بعضه الآخر فليس سبيل صفو المال سبيل الأنفال بأن يكون ملكاً له أخذه أو لم يأخذه، بل له أخذه وتركه فإن اختاره ملكه وإن تركه كان سبيله سبيل سائر الغنيمة.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 498

2- قد عرفت ممّا ذكره الشيخ رحمه الله في الخلاف أنّ العامة

قائلون باختصاص ذلك بالنبي صلى الله عليه و آله وأنّه يبطل بموته وقد حكاه العلّامة في التذكرة أيضاً عنهم «1».

ولكن المقطوع من مذهب الأصحاب ثبوته للإمام المعصوم عليه السلام القائم مقامه، وهل يجوز لنائب الغيبة ذلك، بأنّ يأخذه نيابة عنه ثمّ يصرفه فيما يحرز به رضاه عليه السلام؟ لا يبعد ذلك بعد عموم أدلة الولاية الشاملة لجميع الأُمور (إلّا ما خرج بالدليل) والظاهر أنّه لا فرق بينه وبين الأنفال وسهم الإمام عليه السلام من الخمس، فإذا جاز تصرف الفقيه الجامع لشرائط النيابة في هذه الأُمور فكذا في صفو المال.

3- قد عرفت في كلام المحقّق رحمه الله في الشرائع تقييده بقوله: «ما لم يجحف» وفي كلام بعض آخر: «ما لم يجحف بالغانمين» وفي بعض آخر: «ما لم يضر بالعسكر» وصرّح كثير منهم بأنّ هذا القيد مستغنى عنه.

قال صاحب مصباح الفقيه بأنّه: «لقد أجاد في المدارك حيث قال: هذا القيد مستغنى عنه بل كان الأولى تركه» «2».

ونظره في ذلك إلى أنّ الإمام المعصوم عليه السلام بنفسه ناظر إلى هذه الأُمور لا يجحف في حقّ أحد ولا يضر بأحد، ولكن الظاهر أن نظر من اعتبره إلى أحد أمرين:

أحدهما: ما إذا قلنا بشمول الحكم لنائب الغيبة أيضاً كما عرفت نفي البعد عنه.

ثانيهما: ما إذا كان قائد الجيش يصطفى للإمام المعصوم عليه السلام في زمن الحضور فالواجب عليه أن لا يجحف بالغانمين، وأمّا الوجه في أصل الحكم فلانصراف أدلة استثنائها إلى خصوص هذه الصورة لا غيره وهو واضح.

السادس: من الأنفال ما يغنم بغير إذن الإمام عليه السلام

قال صاحب الجواهر: «على المشهور بين الأصحاب نقلًا وتحصيلًا وفي الروضة نفى الخلاف عنه» «3».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 499

بل ظاهر كلام الشيخ في الخلاف كون المسألة إجماعية عندنا حيث قال: «إذا دخل

قوم دار الحرب وقاتلوا بغير إذن الإمام فغنموا كان ذلك للإمام خاصة وخالف جميع الفقهاء ذلك.

دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم» «1».

ولكن الظاهر وجود المخالف في المسألة بيننا وبينهم، وأمّا بين العامة فقد حكى العلّامة رحمه الله في المنتهى، لأحمد بن حنبل فيه ثلاثة أقوال أحدها يوافق المشهور بين أصحابنا واستدلّ له بأنّهم عصاة بالفعل فلا يكون فعلهم ذريعة للتملك الشرعي «2».

وأمّا بيننا فقد حكى صاحب المدارك عن المنتهى تقوية كون هذه الغنيمة تساوي غيرها من الغنائم في أنّه ليس للإمام فيها إلّا الخمس، ثمّ استجود ذلك واستدلّ له بما ستأتي الإشارة إليه.

بل يظهر من بعض كلمات الشيخ في الخلاف في كتاب السير في المسألة 3 أنّه إذا غزت طائفة بغير إذن الإمام فغنموا، فالإمام مخير إن شاء أخذه منهم وإن شاء تركه ثمّ ادّعى الإجماع عليه.

والظاهر أنّه ليس مخالفاً لما ذكره في كتاب الفيى ء، وكأنّه فهم من الأدلة أنّ هذا حقّ للإمام عليه السلام يعمل به ما يشاء فتدبّر جيداً.

وفي العروة الوثقى في أوّل كتاب الخمس التفصيل بين زمن الحضور وإمكان الاستئذان عنه عليه السلام فالغنيمة له خاصة، وبين زمن الغيبة فالأحوط إخراج خمسها من حيث الغنيمة لا سيّما إذا كان للدعوة إلى الإسلام (فالمسألة ذات أقوال).

وكيف كان فلا شك في كون المشهور بيننا كونه من الأنفال، والمشهور بينهم خلافه.

عمدة الدليل على مذهب الأصحاب هي مرسلة العبّاس الورّاق عن رجل سمّاه، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إذا غزا قوم بغير إذن الإمام فغنموا كانت الغنيمة كلّها للإمام، وإذا غزوا بأمر الإمام فغنموا كان للإمام الخمس» «3».

وضعف سنده منجبر بالشهرة كما لا يخفى.

واستدلّ له صاحب الحدائق مضافاً إلى ما مرّ، بصحيحة معاوية بن وهب (أو حسنته انوار

الفقاهة، ج 2، ص: 500

بإبراهيم بن هاشم) عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: قلت له: السرية يبعثها الإمام عليه السلام فيصيبون غنائم كيف تقسّم؟ ...» «1»

. وذكر ثلاثة أخماس فيها لا يضر بالاستدلال به، لأنّ الصحيح كما في الكافي هو أربعة أخماس.

هذا ولكن يمكن المنع عن الاستدلال به بأنّ المذكور في صدرها هو وجود قيدين: كون الغنيمة حاصلة بالقتال وكونها عن إذن الإمام عليه السلام والمذكور في ذيله هو عدم القتال، ومن الواضح أنّه لو لم يكن هناك ايجاف خيل ولا ركاب كانت كلّها للإمام عليه السلام ولم يذكر فيها ما إذا كان هناك قتال ولم يكن إذن منه عليه السلام الذي هو محل الكلام، فلا يصحّ الاستدلال به.

اللّهمّ إلّاأن يقال: لا يخلو ذكر القيد في هذا المقام أعني مقام الاحتراز، وذكر ما هو شرط في الحكم من الدلالة على المفهوم وحينئذٍ يتم الاستدلال به، فإن قوله عليه السلام: «إن قاتلوا عليها مع أمير أمره الإمام عليهم» دليل على دخل كلّ واحد من القيدين (القتال وإذن الإمام في الحكم) وإلّا كان ذكره لغواً، فالاستدلال به غنيّ عن الإشكال.

بقي الكلام في التفصيل الذي أشار إليه صاحب العروة، وكأنّه نظر إلى أنّ قوله عليه السلام في مرسلة الورّاق إذا غزا قوم بأمر الإمام أو بغير إذنه منصرف إلى زمان الحضور وإمكان الوصول إليه، ولكن الإنصاف منع هذا الانصراف كما أنّ الشرط في سائر المقامات ليس دليلًا على إمكان الوصول إليه، فقوله: «لا صلاة إلّابطهور» لا ينصرف إلى ما إذا أمكن الوصول إلى الطهور، ولا يستفاد منه أنّ فاقد الطهورين لا تشترط في صلاته الطهارة بل إطلاق الشرطية دليل على عدم تحقق الصلاة ولو في هذا الحال، فهو دليل

على سقوط الصلاة في هذا الحال لو لم يكن هناك دليل آخر مثل «إنّ الصلاة لا تسقط بحال».

هذا وعدم إمكان الوصول إليه عليه السلام بعد إمكان الوصول إلى نائبه غير قادح فتدبّر.

وعلى كلّ حال لا يبعد أن تكون الحكمة في هذا الحكم منع الناس عن القيام بحروب لا فائدة فيها للإسلام والمسلمين، بل تكون مضرة طمعاً في حطام الدنيا وغنائمها وأموالها.

نعم، يمكن الأخذ من أموال أهل الحرب بلا قتال، إنّما الكلام في مسألة القتال، فهذا مؤيد آخر لعدم الفرق بين زمن الحضور والغيبة.

هذا وقد يستدلّ لقول العلّامة وصاحب المدارك (كون المقام كسائر موارد الغنيمة يتعلق انوار الفقاهة، ج 2، ص: 501

به الخمس فقط) بأُمور:

1- الأصل أي أصالة عدم صيرورته من الأنفال.

2- إطلاق آية الغنيمة فإنّها شاملة للمقام وغيره.

3- عدم ذكر هذا القسم في روايات الأنفال مع كثرتها وأنّه لو كان منها لذكر فيها.

4- ضعف سند مرسلة الورّاق تارة بالإرسال، وأُخرى باشتماله على علي بن الحسن بن أحمد بن يسار (بشار) المجهول، وثالثة بأنّ يعقوب مشترك بين الصحيح والضعيف.

ولكن كلّها قابلة للمنع، أمّا الأخير فلما عرفت من جبر ضعف سند الخبر بعمل الأصحاب كلّهم ما عدا قليل لا سيّما مع كونه الدليل الوحيد في المسألة.

وبعد قوّة الرواية بهذه الملاحظة لا يبقى مجال للرجوع إلى الأصل وإطلاق الآية (مع أنّ الأصل معارض بمثله كما لا يخفى) وعدم ذكره في أخبار الأنفال غير قادح بعد عدم كونها في مقام الحصر من جميع الجهات، وكم له نظير في الفقه.

نعم، هناك دليل آخر على هذا القول وحاصله أنّ ظاهر كثير من روايات الخمس والأنفال أنّهم عليهم السلام صرّحوا بأنّ حقّهم في الغنائم التي حصلت في الحروب الإسلامية بعد النبي صلى الله عليه

و آله لا سيّما في حروب بني أُمية وبني العبّاس لم يكن إلّاالخمس مع أنّه لم تكن هذه الحروب بإذنهم، فلابدّ أن تكون جميعها لهم.

ويمكن دفعه أيضاً بما ذكرنا من أنّهم أذنوا فيما كان في طريق نصرةالإسلام وتقوية الدين.

بقي هنا مسائل:

الاولى: المشهور بين الأصحاب كون ميراث من لا وارث له من الأنفال، بل ادّعى الإجماع عليه.

قال العلّامة رحمه الله في المنتهى: «ومن الأنفال ميراث من لا وارث له، ذهب علماؤنا أجمع إلى أنّه يكون للإمام خاصة ينقل إلى بيت ماله، وخالف فيه الجمهور (كافة وقالوا) أنّه للمسلمين أجمع» «1».

وقال شيخ الطائفة رحمه الله في الخلاف: «ميراث من لا وارث له ولا مولى نعمة، لإمام انوار الفقاهة، ج 2، ص: 502

المسلمين سواء كان مسلماً أو ذمّياً، وقال جميع الفقهاء إنّ ميراثه لبيت المال وهو لجميع المسلمين، دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم» «1».

وقال صاحب مصباح الفقيه: «أنّه كان على المصنّف (صاحب الشرائع) ذكر ميراث من لا وارث له غير الإمام هنا من الأنفال إذ هو كذلك عند علمائنا أجمع كما عن المنتهى» ثمّ استدلّ عليه بالروايات الآتية ثمّ قال: «لعلّ ترك تعرض المصنّف له ههنا اكتفاء بما ذكروه في طبقات الارث» «2».

وقد عدّه المحقّق النراقي قدس سره أيضاً من الأنفال بقوله: «التاسع ميراث من لا وارث له» «3».

وقال في كتاب الميراث بعد ذكر كون المسألة مشهورة بل ادّعى عليها الإجماع مستفيضاً، ما نصّه: «خلافاً للصدوق في الفقيه ففرق بين حال الحضور والغيبة فجعله في الأوّل للإمام وفي الثاني لأهل بلد الميّت (جمعاً بين أخبار هذا الباب)» «4».

ولعلّ خلاف الصدوق إنّما هو في مصرفه في زمن الغيبة بعد كونه للإمام على كلّ حال لا في أصل كونه للإمام، كما اختلفوا في مصرف

سهم الإمام عليه السلام في عصر الغيبة اختلافاً شديداً فتأمل.

وعلى كلّ حال فقد تدلّت على المقصود روايات كثيرة، وقد جمعها صاحب الوسائل رحمه الله في الباب 3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة من كتاب الارث في الجزء 17 من كتابه.

1- منها ما رواه محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «من مات وليس له وارث من قرابته ولا مولى عتاقه قد ضمن جريرته فماله من الأنفال» «5».

2- ما رواه الحلبي، عن الصادق عليه السلام في قول اللَّه عزّوجلّ: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الانْفَال» قال: «من مات وليس له مولى، فماله من الأنفال» «6».

3- رواية أخرى له بهذا المضمون بعينه مع إضافات «7» والظاهر اتحاد الروايتين.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 503

4- ما رواه حمّاد بن عيسى عن بعض أصحابنا عن أبي الحسن الأوّل عليه السلام فقد ذكر بعد عدّ كثير من الأنفال قوله: «الإمام وارث من لا وارث له» «1»

وقد حكاه صاحب الوسائل في أبواب الأنفال أيضاً «2».

5- ما رواه عن أبان بن تغلب قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «من مات لا مولى له ولا ورثة فهو من أهل هذه الآية: يسألونك عن الأنفال قل الأنفال للَّه والرسول» «3».

6- ما رواه عن إسحاق بن عمّار قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن الأنفال؟ فقال: «هي القرى التي قد خربت وانجلى أهلها فهي للَّه وللرسول، وما كان للملوك فهو للإمام، وما كان من الأرض بخربة لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وكلّ أرض لا ربّ لها، والمعادن منها، ومن مات وليس له مولى فماله من الأنفال» «4».

إلى غير ذلك (فراجع الأحاديث 11 و 12 و 13 من الباب 3 من ولاء ضمان الجريرة والإمامة) وفي غير هذا الباب.

ولكن

قد يعارض ذلك بروايات دلّت على أنّ ميراثه لأهل بلده (وهي دليل لقول الصدوق رحمه الله).

1- منها ما رواه ابن أبي عمير، عن خلّاد السندي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «كان علي عليه السلام يقول في الرجل يموت ويترك مالًا وليس له أحد: اعط المال همشاريجه» «5».

2- ما رواه أيضاً ابن أبي عمير، عن خلّاد، عن السري يرفعه إلى أميرالمؤمنين عليه السلام في الرجل يموت ويترك مالًا ليس له وارث قال: «فقال أميرالمؤمنين عليه السلام: اعط المال همشاريجه» «6»

. والظاهر أنّهما رواية واحدة.

3- مرسلة داود عمّن ذكره، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «مات رجل على عهد أميرالمؤمنين عليه السلام لم يكن له وارث فدفع أميرالمؤمنين عليه السلام ميراثه إلى همشهريجه (همشيريجه)» «7».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 504

4- مرسلة الصدوق حيث قال (بعد ذكر صحيحة محمّد بن مسلم): «روى في خبر آخر أنّ من مات وليس له وارث فميراثه لهمشاريجه يعني أهل بلده» «1».

والظاهر أنّه ليس خبراً آخر، فجميع هذه الأخبار تندرج في خبرين بل يحتمل كون الجميع رواية واحدة كما أشار إليه النراقي رحمه الله في المستند.

هذا ويقع الكلام تارة في إسنادها وأخرى في دلالتها. لاشك في ضعف إسناد الجميع كما لا يخفى على من راجعها.

وأمّا الدلالة فقد وقع الاختلاف في النسخ، فإن كانت النسخة همشاريجه فالمشهور على أنّه أهل بلده والكلمة فارسية مأخوذة من «همشهري» ولازمه إعطاء ميراثه لمن يعرف من أهل بلاده هناك أو يرسل إليهم، وهذا التعبير إنّما نشأ من كون من لا وارث له من غير بلاد العرب من الغرباء من بلاد ايران وشبهها فعبّر بهذا التعبير، وإن كانت النسخة همشيريجه فقد يقال بأنّه بمعنى الأخ أو الأخت من الرضاعة

فحينئذٍ يكون مخالفاً للإجماع لأنّ الرضاع كالنسب يوجب الحرمة في النكاح وليس كالنسب في باب الارث بالإجماع.

قلت: ولكن كون هذا التعبير في الفارسية بمعنى خصوص الأخ أو الأخت الرضاعي غير ثابت، بل اليوم يطلق على الأخت النسبية ولاندري أنّه هل هومستحدّث أوكان من سابق الأيّام.

وعلى كلّ حال لا ينبغي الريب في تقديم الطائفة الاولى بعد تظافرها وصحّة إسناد بعضها وكونها موافقة للمشهور، مع ضعف إسناد الثانية ودلالتها وكونها مهجورة متروكة فالمسألة واضحة بحمد اللَّه.

الثانية: أنّ غير واحد من الفقهاء جعلوا «البحار» أيضاً من الأنفال.

قال المحقّق النراقي رحمه الله في المستند: (الحادي عشر: البحار) «2» وهي على الأظهر من الأنفال وفاقاً لصريح الكليني وظاهر ابن أبي عمير والمحكى عن المفيد بل الديلمي، للعمومات المتقدّمة وحسنة البختري ... وتؤيده بل تدلّ عليه صحيحة عمر بن يزيد

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 505

(انتهى)» «1».

وقال المفيد رحمه الله في المقنعة: «والأنفال كلّ أرض فتحت من غير أن يوجف عليها بخيل ولا ركاب- إلى أن قال- والآجام والبحار والمفاوز ...» «2».

وقال أبو صلاح الحلبي في الكافي: «فرض الأنفال مختصّ بكلّ أرض لم يوجف عليها بخيل ولاركاب- إلى أن قال- ورؤوس الجبال وبطون الأودية من كلّ أرض والبحاروالآجام ...» «3».

وذكر ثقة الإسلام الكليني في الكافي في عداد الأنفال: «وكذلك الآجام والمعادن والبحار والمفاوز هي للإمام خاصة» «4».

وذكره سيّدنا الحكيم رحمه الله في المستمسك واستدلّ عليه بعد قوله: وعن غير واحد الاعتراف بعدم الدليل عليه، ببعض ما مرّ ذكره ويأتي «5».

ومن الواضح أنّ البحار في أعصارنا ممّا يهتم بأمرها لمرور السفن والصيد والمعادن التي في قعرها وغير ذلك من المنافع الكثيرة، بل قد يقال بإمكان استخراج الجواهر من مياهها أيضاً، مضافاً إلى دورها الكبير في

المسائل المرتبطة بالعساكر والجيوش وغير ذلك، فلعلّ ترك ذكرها في كلمات القوم غالباً وعدم سؤال كثير من الرواة عنه كان لعدم الانتفاع بها في تلك الأيّام بخلاف أيّامنا هذه. وعلى كلّ حال فيمكن الاستدلال عليه بأُمور:

1- العموم المصطاد من أخبار الأنفال من أنّ كلّ مال ليس له مالك خاصّ فهو للإمام (إلّا ما خرج بالدليل) واصطياد هذا العموم كما عرفت غير بعيد.

2- مصححة حفص بن البختري عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إنّ جبرئيل عليه السلام كرى برجله خمسة أنهار لسان الماء يتبعه، الفرات ودجلة ونيل مصر ومهران ونهر بلخ فما سقت أو سقى منها فللإمام والبحر المطيف بالدنيا وهو أفسيكون» «6».

وفي طريق الصدوق إلى حفص كلام عندهم، ولكن رواه الكليني- رضوان اللَّه عليه- في انوار الفقاهة، ج 2، ص: 506

الكافي بسند صحيح إلّاأنّه حذف قوله «وهو أفسيكون» (فراجع الوسائل ذيل الحديث).

وقوله البحر المطيف بالدنيا يشمل جميع البحار لما ثبت عندنا اليوم أنّ جميع البحار في الدنيا مرتبطة بعضها ببعض فهي مطيفة بالدنيا وتكون بحراً واحداً.

وأمّا قوله: «هو أفسيكون» فقد ذكر العلّامة المجلسي قدس سره في البحار، ما نصّه: «ولعلّه من الصدوق فصار سبباً للإشكال لأنّ «أفسيكون» معرب «آبسكون» وهو بحر الخزر ويقال له بحر جرجان وبحر طبرستان وبحر مازندران ... وهذا غير محيط بالدنيا- إلى أن قال- وما في الكافي (أي بدون ذكر هذه الجملة) أظهر وأصوب والمعنى أنّ البحر المحيط بالدنيا أيضاً للإمام عليه السلام» «1».

أقول: ويحتمل أن يكون آبسيكون اسماً لما يسمّى اليوم الأقيانوس الكبير ويسمّى البحر الهادى ء أي الساكن (يقال في الفارسية أقيانوس آرام) وكأنّه لعظمه وارتباطه بسائر البحار مطيف بالدنيا.

والحاصل: الاستدلال بالرواية على المطلوب ظاهر، اللّهمّ إلّاأنّ يقال: إنّ صدرها ممّا

لا يمكن العمل به، فإنّ مجرّد استقاء الأراضي من هذه الأنهار لا يوجب كون ثمرتها للإمام ولم يفت بذلك أحد، فاللازم حمل الرواية على نوع آخر من الملكية أشرنا إليها غير مرّة تكون في طول ملك الناس.

وإن شئت قلت: إنّ صدرها قرينة على أنّ المراد بالذيل أيضاً هو الملكية العامة الواردة في كثير من الروايات من أنّ الدنيا كلّها للإمام عليه السلام (بعد ما كانت لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله) ومن الواضح ثبوت الملك الخصوصي للأفراد- كما صرّحت به آيات الارث وغيرها في القرآن الكريم- فلا يمكن كون شي ء واحد في زمان واحد ملكاً لشخصين بتمامه، فلابدّ من حملها على أنّ المراد من الملكية هنا ما يكون من قبيل ملك المولى للعبد وما في يده من الأملاك (بناءً على القول به).

ومن هنا يظهر الكلام في الاستدلال بتلك الروايات «2» كدليل مستقل على المطلوب فإنّ انوار الفقاهة، ج 2، ص: 507

الأخذ بظاهرها مناف لضرورة الفقه وما ثبت من الكتاب والسنّة، اللّهمّ إلّاأن يراد منه ما ذكرنا من نوع آخر من الملكية.

3- واستدلّ له أيضاً بصحيحة عمر بن يزيد، عن أبي سيّار مسمع بن عبدالملك وفيها:

«الأرض كلّها لنا فما أخرج اللَّه منها من شي ء فهو لنا» «1».

قال صاحب المستند: «وجه الدلالة أنّ المال الحاصل للسائل وسؤاله كان عن الغوص ومنه يفهم أنّ مراده عليه السلام من الأرض وما أخرج منها ما يشمل أرض البحار أيضاً» «2».

وفيه: ما مرّ في مثله ممّايدلّ على أنّ الأرض كلّها للإمام عليه السلام وأنّها لادلالة لها على المطلوب.

فتلخص أنّ العمدة في المسألة هي العموم المستفاد من أدلة الأنفال لو بلغ هذا العموم المصطاد حدّ الحجية، ولكنه لا يخلو من إشكال والأرجح

في المسألة الاحتياط لا سيّما مع جريان سيرة العقلاء في جميع أقطار العالم على معاملة البحار (ما عدا بعض ما يكون حريماً للبلاد المختلفة).

معاملة المشتركات المباحات الأولية منذ سابق الأيّام إلى زماننا هذا.

ومن هنا يظهر حال الأنهار الكبار أيضاً، فإنّه يمكن الاستدلال على كونها من الأنفال بصحيحة حفص بن البختري للتصريح فيها بالأنهار الكبار في العالم وأنّها للإمام عليه السلام، ولكن قد عرفت الجواب عنها وأنّ دلالتها قابلة للمناقشة بما مرّ، وكذلك يظهر حال الفضاء والجوّ في أيّامنا هذا ممّا يمكن الانتفاع بها بكثير من المنافع، وكذا أعماق الأرض وتخومها ممّا لا يعد جريماً لأملاك الناس ولا يكون تابعاً لها عرفاً، والأظهر في جميع ذلك معاملتها معاملة المشتركات للأصل، وعدم الدليل الكافي على اثبات كونها من الأنفال، وإن كان رعاية الاحتياط في جميع ذلك حسناً.

الثالثة: قد عدّ أبو الصلاح الحلبي في كتابه المسمّى بالكافي من الأنفال: «كلّ أرض عطلها مالكها ثلاث سنين» «3» استناداً إلى بعض ما ورد في الباب 17 من أبواب كتاب إحياء

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 508

الموات وشبهه.

ولكن الإنصاف أنّه مع ما أورد عليه في محلّه من الإشكال في بعض الروايات التي تكون مستنداً لهذا الحكم من حيث السند وإعراض جلّ الأصحاب لو قلنا به لا يكون عنواناً مستقلًا، بل معناه عود ذلك الملك بعد التعطيل ثلاث سنين إلى الموات فيشملها ما دلّ على أنّ الموات من الأنفال.

الرابعة: حكى صاحب الجواهر عن استاذه الجليل كاشف الغطاء عدّ ثلاثة أشياء اخر من الأنفال حيث قال:

«منها- أي من الأنفال- ما يوضع له من السلاح المعدّ له والجواهر والقناديل من الذهب والفضة والسيوف والدروع، ومنها ما يجعل نذراً للإمام عليه السلام بخصوصه على أن يستعمله بنفسه

الشريفة ... ومنها المعين للتسليم إليه ليصرفه على رأيه» «1».

أقول: لكنه ممنوع صغرى وكبرى، كما أشار إلى بعضه صاحب الجواهر.

أمّا الأُولى فلأنّ صيرورة هذه العناوين الثلاثة (ما يعد له- ما يجعل منذوراً له- وما يعدّ معيناً للتسليم إليه) لا يوجب الملك له إلّاإذا وهب له وقبله عليه السلام بنفسه أو قبله بعض وكلائه (وكيله الخاصّ، أو وكيله العام إذا قلنا بعموم الوكالة لنائب الغيبة في هذه الأُمور، ولكن الإنصاف الإشكال في عموم الأدلة من هذه الناحية).

أو كان نذراً له ولكن النذر لا يجعله ملكاً، فتأمل، أو كان وقفاً عليه خاصة (لو قلنا بعدم حاجته إلى القبول) أو جعل وقفاً لروضته ومشهده كما هو المعمول في الأوقاف الكثيرة التي جعلوها لمشاهدهم الشريفة ومواقفهم الكريمة- صلوات اللَّه عليهم أجمعين- من السلاح والدور وسائر الأموال المنقولة وغير المنقولة، فمجرّد الوضع له عليه السلام أو النذر له أو تعيينه له عليه السلام لا يوجب كونه من الأنفال.

وأمّا الثانية فلأنّ أمثال هذه خارجة عن عنوان الأنفال لثبوته في حقّ كلّ أحد، والمراد من الأنفال ما ثبت له بحكم الشرع من الأموال لمقام ولايته كما لا يخفى.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 509

ومن العجب أنّه ذكر بعد هذا الكلام فيما حكاه عنه صاحب الجواهر: «أنّ هذه الثلاثة من الأنفال لا يجوز التصرف فيها، بل يجب حفظها والوصية بها، ولو خيف فساد شي ء منها بيع وجعل نقداً وحفظ على النحوالسابق، ولو أراد المجتهد الاتجار به مع المصلحة قوى جوازه»!

وفيه: ما عرفت سابقاً من أنّ حفظ هذه الأموال أو حفظ قيمتها مشكل جدّاً بل هو مظنّة للضياع قطعاً فلا مناص من أنّ يصرف فيما يرضاه عليه السلام فكما يجوز الاتجار به (للمجتهد إمّا بناءً على احراز رضاه أو

عموم أدلة الولاية) فكذلك بالنسبة إلى بيعها وصرفها فيما يحرز به رضاه عليه السلام، إلّاإذا كانت موقوفة لناحيته المقدّسة فيعمل فيها بحكم الوقف.

الخامسة: في حكم الأنفال قال صاحب الجواهر: «أنّه لا كلام في كون الأنفال ملكاً للنبي صلى الله عليه و آله كما يدلّ عليه الكتاب والسنّة والإجماع ثمّ من بعده للقائم مقامه» وقد صرّح بعد ذلك تبعاً للمحقّق رحمه الله في الشرائع بأنّه: «لا يجوز التصرف في ذلك بغير إذنه ... ولو حصل له فائدة كانت للإمام عليه السلام» ثمّ تكلم بعد ذلك في حكمها في زمن الغيبة وأنّهم أباحوا ذلك لشيعتهم مطلقاً أو في خصوص المناكح والمساكن والمتاجر «1».

أقول: اللازم التكلّم في مقامين، أحدهما: حكم الأنفال من حيث الملكية أنّها لمن تكون بحسب الحكم الاولي. ثانيهما: حكمها في زمن الغيبةأو الحضور من حيث إذن صاحبها وعدمه.

أمّا المقام الأوّل: فقد عرفت دعوى الإجماع من صاحب الجواهر على أنّها ملك للنبي صلى الله عليه و آله ثمّ بعده للقائم مقامه من الأئمّة المعصومين، واستدلّ له بالأدلة الثلاثة وهو كذلك، ولكن قد يتصور أنّ ظاهر آية الأنفال هو تقسيمها إلى سهمين سهم اللَّه وسهم الرسول صلى الله عليه و آله قال اللَّه تعالى: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ» «2»

وإن كان لا أثر لهذا التقسيم بعد كون حقّ اللَّه للنبي صلى الله عليه و آله بلا إشكال، وأوضح منه في التقسيم آية الحشر قال اللَّه تعالى: «مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ا لْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ا لْقُرْبَى وَا لْيَتمَى وَا لْمَسكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» «3»

فقد ذكر فيها السهام الستة المذكورة في آية

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 510

الخمس، فكيف يقال بتقسيم الخمس هناك إلى ستة أسهم ولا يقال به هنا؟!

وقال المحقّق النراقي

رحمه الله في المستند: «ليس علينا بيان حكم الأنفال في حال حضور الإمام عليه السلام فإنّه المرجع في جميع الأحكام» «1».

ولكنه كما ترى، لأنّ المقصود من بيان حكمه في زمن الحضور استنباط حكم زمن الغيبة منه بحسب الأصل والقاعدة، كي يعمل به فيما لا دليل على خلافه.

وقال الشيخ رحمه الله في الخلاف: «الفيى ء كان لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله خاصة وهو لمن قام مقامه من الأئمّة عليهم السلام (إلى أن قال:) دليلنا، إجماع الفرقة» «2» ولكن نقل عن غير واحد من فقهاء العامة خلاف ذلك، فحكى عن الشافعي: أنّه كان الفيى ء يقسم على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على خمسة وعشرين سهماً، أربعة أخماسه للنبي صلى الله عليه و آله ويبقى أربعة أسهم بين ذوي القربى واليتامى والمساكين وابناء السبيل، وحكى عن أبي حنيفة مساواة حكم الفيى ء والغنيمة وأنّه على عهده كان يقسم على خمسة أسهم (سهمان له وثلاثة أسهم للطوائف الثلاث) وبعد وفاته صلى الله عليه و آله يقسم على ثلاثة أسهم أي على الطوائف الثلاث» «3».

وكيف كان فظاهر الآية وإن كانت تقسِّم الفيى ء على ستة أسهم، ولكن يحمل على بيان ما يصرفه صلى الله عليه و آله فيه تفضلًا أو بحسب مقامه السامي فإنّه كافل لليتامى وسائر أرباب الحاجة من الناس، وذلك مثل ما يكون لرئيس العشيرة خاصة ولكنه بحسب مقامه يصرفه في أفراد عشيرته، وتدلّ على هذا الحمل الآية الاولى لأنّه اقتصر فيها على ذكر اللَّه والنبي صلى الله عليه و آله ويشهد له أيضاً التعبير بقوله تعالى: «مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ» على رسوله لظهورها وإشعارها بأنّ الفيى ء كلّه للرسول صلى الله عليه و آله.

ولذا يحكى عن فعل النبي صلى

الله عليه و آله أنّها بعدما نزلت الآية في أموال يهودبني النضير، قسمها صلى الله عليه و آله في المهاجرين ومعدود من الأنصار.

وتدلّ عليه أيضاً الروايات الواردة في أبواب الأنفال التي هي بمنزلة التفسير للآية،

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 511

والمسألة بعد إجماعية ظاهراً.

ويؤيده أيضاً ما روى من طرق العامة في هذه المسألة، قال الواقدي في المغازي: «قال عمر: يا رسول اللَّه! ألا تخمس ما أصبت من بني النضير كما خمست ما أصبت من بدر؟

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: لا اجعل شيئاً جعله اللَّه عزّوجلّ لي دون المؤمنين بقوله: «مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ا لْقُرَى الآية، كهيئة ما وقع فيه السهمان للمسلمين (وكان المراد بالسهمين سهم له صلى الله عليه و آله وسهم للمسلمين» «1».

وهذا ما يؤيد ما ذكرنا من أن قوله تعالى: «مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ» قرينة على أنّه تعالى أرجع الفي ء كلّه على رسوله الأكرم صلى الله عليه و آله.

وما رواه البيهقي في سننه عن مالك بن أوس عن عمر في حديث قال: «كانت أموال بني النضير ممّا أفاء اللَّه على رسوله ممّا لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب فكانت لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله خالصاً دون المسلمين، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ينفق منها على أهله نفقة سنة فما فضل جعله في الكراع والسلاح عدّة في سبيل اللَّه» «2» ونحوه ما ذكره الشافعي في كتاب الامّ «3».

وأمّا المقام الثاني: أي حكم الأنفال في عصر الغيبة فقد وقع الخلاف فيه، كما وقع الخلاف في حكم الخمس في ذلك الزمان.

فقال المحقّق الهمداني رحمه الله في مصباح الفقيه: وقع الخلاف بين الأصحاب في الأنفال بل

في مطلق ما يستحقه الإمام عليه السلام ولو من الخمس في أنّه هل أبيح ذلك للشيعة مطلقاً أم في الجملة في زمان الغيبة أو عدمه مطلقاً على وجوه:

فعن الشهيدين رحمهما الله وجماعة التصريح بإباحة الأنفال جميعها للشيعة في زمان الغيبة، بل نسبه أصحاب الروضة والمسالك والذخيرة إلى المشهور استناداً إلى أخبار التحليل.

وعن كثير من الأصحاب قصر الإباحة على المناكح والمساكن والمتاجر، بل عن الحدائق نسبته إلى المشهور، وعن أبي الصلاح ما يظهر منه الجميع.

ثمّ اختار هو بنفسه التفصيل بين الأرضين الموات وتوابعها من المعادن والآجام وغيرها

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 512

ممّا جرت السيرة على المعاملة معها معاملة المباحات الأصلية، فلا ينبغي الريب في إباحتها للشيعة في زمان الغيبة، وأمّا ما عداها وهي الغنيمة بغير إذن الإمام وصفايا الملوك وميراث من لا وارث له، فمقتضى الأصل بل ظواهر النصوص الخاصة عدم جواز التصرف فيها إلّا بإذن الإمام عليه السلام انتهى ملخصاً «1».

وذكر صاحب الجواهر رحمه الله في نجاة العباد تفصيلًا آخر قال: «الظاهر إباحة جميع الأنفال للشيعة في زمن الغيبة على وجه يجري عليها حكم الملك من غير فرق بين الغني منهم والفقير، نعم الأحوط من ذلك إن لم يكن أقوى إيصاله إلى نائب الغيبة» «2».

وقد ذكر المحقّق النراقي رحمه الله بعد نقل الأقوال الثلاثة في المسألة (1- المشهور إباحتها للشيعة. 2- إباحة خصوص المناكح والمساكن والمتاجر. 3- ما عن الحلبي والاسكافي من عدم إباحة شي ء منها) تفصيلًا آخر في المسألة فصل بين أقسام الأنفال «3».

فهذه تفاصيل أربعة في المسألة:

وصرّح صاحب المدارك بأنّ الأصح إباحة الجميع كما نصّ عليه الشهيدان وجماعة رحمهم الله.

فتحصل ممّا ذكر أنّ في المسألة قول بالتحليل مطلقاً، وقول بعدم التحليل، وأقوال بالتفصيل، والظاهر

أنّ جميعها ينشر من روايات هذا الباب، فاللازم الرجوع إليها بعد وضوح أنّ الأصل في المسألة عدم جواز التصرف فيها إلّابإذنهم لأنّها لهم خاصة، فنقول ومنه جلّ ثناؤه التوفيق والهداية: هناك طوائف من الأخبار:

الطائفة الاولى: ما دلّ على إباحة حقّهم من الأنفال مطلقاً بحيث يشمل جميع أقسام الأنفال، سواء الأراضي وبعض الغنائم وميراث من لا وارث له والمناكح والمتاجر وغيرها.

منها: ما رواه علي بن مهزيار قال: قرأت في كتاب لأبي جعفر عليه السلام من رجل يسأله أن يجعله في حلّ من مأكله ومشربه من الخمس، فكتب بخطه: «من أعوزه شي ء من حقّي فهو في حلّ» «4».

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 513

ومنها: ما عن يونس بن يعقوب قال: كنت عند أبي عبداللَّه عليه السلام فدخل عليه رجل من القماطين فقال: جعلت فداك، تقع في أيدينا الأموال والأرباح والتجارات نعلم أنّ حقّك فيها ثابت وأنّا عن ذلك مقصّرون؟ فقال: «ما أنصفناكم إن كلفناكم ذلك اليوم» «1».

ومنها: ما رواه الحارث بن مغيرة وموردها وإن كان خاصّاً إلّاأنّ قوله عليه السلام في الجواب «وكلّ من والى آبائي فهو في حلّ ممّا في أيديهم من حقّنا فليبلغ الشاهد الغائب» «2».

ومنها: ما رواه الحارث بن المغيرة أيضاً وقد صرّح فيها بعنوان الأنفال «3».

إلى غير ذلك ممّا ذكرناه في مباحث الخمس عند الكلام في التحليل وعدمه.

الطائفة الثانية: ما دلّ على إباحة خصوص المناكح من غير مفهوم لها، وقد مرّ أيضاً مشروحاً في أبواب الخمس مثل رواية 10 و 15 و 20 من الباب 4 من أبواب الأنفال وغيرها.

الطائفة الثالثة: ما دلّ على تحليل خصوص الأراضي التي تكون في أيدي شيعتهم وأنّهم أباحوها لهم دون غيرهم مثل ما رواه أبو سيّار مسمع بن عبدالملك «4» وما رواه يونس بن

ظبيان أو المعلى بن خنيس عن الصادق عليه السلام «5» وما أشبه ذلك.

الطائفة الرابعة: ما دلّ على أن من أحيا أرضاً ميتة فهي له وقد رواها صاحب الوسائل في الجزء 17 في كتاب إحياء الموات في الباب الأوّل، وقد نقل فيها ثمان روايات كلّها تدلّ على المطلوب وفيها عناوين عامة يشمل الشيعة وغيرهم بل أهل الذمّة أيضاً، مثل قوله صلى الله عليه و آله: «من أحيا أرضاً مواتاً فهي له» «6».

وقول أبي جعفر الباقر عليه السلام: «أيّما قوم أحيوا شيئاً من الأرض وعمروها فهم أحقّ بها وهي لهم» «7»

إلى غير ذلك.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 514

بل في بعضها التصريح بأنّ أهل الذمّة إذا عملوها وأحيوها فهي لهم «1».

الطائفة الخامسة: ما دلّ على حرمة أموالهم لغيرهم عليهم السلام وأنّه لا يجوز التصرف فيها إلّا بإذنهم مثل ما يلي:

ما ورد في توقيع محمّد بن عثمان العمري ابتداءً لم يتقدّمه سؤال: «بسم اللَّه الرحمن الرحيم لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين على من استحل من مالنا درهماً» الحديث «2».

وما رواه أبو حمزة الثمالي، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سمعته يقول من أحللنا له شيئاً أصابه من أعمال الظالمين فهو له حلال وما حرمناه من ذلك فهو حرام» «3»

. إلى غير ذلك.

إنّما الكلام في طريق الجمع بينها، فإنّ الواجب أوّلًا الجمع بين العام والخاصّ والمطلق والمقيد وسائر أنحاء الجمع الدلالي لو كان، وبعد ذلك الأخذ بالمرجحات ولولاها التخيير.

والإنصاف أن يقال أمّا أخبار الإحياء فهي حاكمة على ما دلّ على أنّها لهم عليهم السلام لأنّها إذن في التملك بالإحياء إذن من اللَّه ورسوله صلى الله عليه و آله والأئمّة الهادين من بعده عليه السلام، فلا تعارض بينها وبين ما دلّ على

أنّها حقّ لهم.

إنّما الكلام في أنّه هل يجوز للحاكم الشرعي أو الحكومة الإسلامية المنع من التملك بالإحياء ولو في بعض المناطق أو ببعض الطرق والوجوه- كالمنع عن إحياء المعادن- إلّا بإذنها؟ لا يبعد ذلك بعد عموم أدلة مالكيتهم وعموم أدلة النيابة، وكون هذه الأموال عوناً للإمام عليه السلام في حكومته الإلهية.

إن قلت: أليس قد ورد في غير واحد منها أنّ التحليل في الأراضي باق إلى ظهور القائم، وذلك مثل رواية مسمع بن عبدالملك «4» ورواية عمر بن يزيد «5» فكيف يصحّ للحكومة الإسلامية أو الفقيه عند بسط يده المنع من ذلك؟

قلت: أوّلًا: ذلك وارد في الخمس أيضاً مثل قوله عليه السلام: «أمّا الخمس فقد أبيح لشيعتنا وجعلوا منه في حلّ إلى أن يظهر أمرنا لتطيب ولادتهم ولا تخبث» «6»

. مع أنّا لا نقول انوار الفقاهة، ج 2، ص: 515

بالإباحة المطلقة، فتأمل.

وثانياً: أنّ ظهور الأمر أعم من ظهور الحجّة المهدي- أرواحنا فداه- وظهور الفقهاء من مواليهم عليهم السلام فهذا أيضاً ظهور أمرهم.

وإن شئت قلت: التحليلات الواردة في الأراضي منصرفة عن مثل ما إذا ظهرت الحكومة الإسلامية وكانت محتاجة إلى هذه الأراضي وإصلاح أمرها، وكذا ما يتبعها من المعادن وغيرها، هذا بالنسبة إلى ما ورد فيه جواز الإحياء.

أمّا المناكح وشبهها فهي مباحة بلا إشكال لكون أدلتها أخصّ من أدلة الحرمة بل هي حاكمة عليها لإذنهم في ذلك، وجوازها مع الإذن لا ينافي كونها ملكاً لهم كما هو ظاهر.

وأمّا غير ذلك من الصفايا والغنائم بلا قتال أو بغير إذنهم عليهم السلام وميراث من لا وارث له فلا يبعد أن تكون روايات التحليل شاملة لها، ولكن العمدة أنّها تدلّ على التحليل المالكي الحاصل من إذنهم لا التحليل بعنوان الحاكم الشرعي

من الأحكام فحينئذٍ يجوز للفقيه المنع منه، وأخذ هذه الأموال وصرفها في مصارفها، بل يمكن أن يقال إنّ التحليل منهم عليهم السلام كان مقطعياً خاصاً بزمانهم فالأحوط لو لم يكن أقوى، الاستئذان من الفقيه في هذه الأُمور وعدم التصرف فيها إلّابإذنهم.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ الإباحة المذكورة إن كانت بمعنى مجرّد جواز التصرف، فلازمها عدم جواز ترتيب آثار الملكية على موردها من جواز الوطى والبيع والشراء والوقف والوصيّة والارث وغير ذلك، مع أن الظاهر ترتيب جميع ذلك عليه بحسب السيرة في باب المناكح والمتاجر وغيرها ممّا أباحوا لمواليهم عليهم السلام.

ومن هنا وقع الأعلام في حيص وبيص ومرج من جهة تطبيق هذه الإباحة على القواعد، قال شيخنا الأعظم فيما حكاه عن المحقّق الهمداني رحمه الله في مصباح الفقيه بعد أن ذكر وجوهاً من الإشكال في تطبيق هذه الإباحة على القواعد ما نصّه: «والذي يهون الخطب الإجماع على أنا نملك بعد التحليل الصادر منهم عليهم السلام كلّ ما يحصل بأيدينا تحصيلًا أو انتقالًا، فهذا

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 516

حكم شرعي لا يجب تطبيقه على القواعد».

ثمّ ذكر توجيهين لهذا الأمر: أحدهما: أنّ ملكية الأئمّة عليهم السلام لها ليست ملكية فعلية لتنافي ملكية الناس بالتحليل والإباحة بل هي ملكية شأنية من اللَّه سبحانه، فالشارع بملاحظة رضاهم بتصرف مواليهم لم يجعل هذه الأُمور في زمان قصور أيديهم ملكاً فعلياً لهم بل أبقاها على حالتها الأصلية (من كونها من المباحات الأولية) فصيرورتها من المباحات إنّما نشأت من رضاهم بذلك.

ثانيهما: أن يقال إنّها ملك لهم فعلًا، ولكن هذه الملكية لا تنافي ملكية الموالين لها بالإحياء والحيازة حتّى تحتاج إلى الانتقال إليهم بأحد النواقل الشرعية بل هو معنى يشبه ملكية اللَّه سبحانه للأشياء- نظير ما

أشرنا إليه في المباحث السابقة- (انتهى ملخصاً) وقال المحقّق الهمداني رحمه الله بعد ذلك: «لعلّ التوجيه الثاني أوفق بظواهر النصوص والفتاوى وأقرب إلى الاعتبار» «1».

أقول: أوّلًا: أنّ هذه الملكية كما أشرنا إليه سابقاً ليست ملكية فقهية يبحث عنها في هذه المباحث بل هي ملكية فوق هذه الملكية لها آثار اخر معنوية وإلهية.

وإن شئت قلت: إنّها ملكية طولية لا ملكية عرضية- أي في عرض ملك العباد لبعض الأشياء- مع أنّ ظاهر آية الخمس ورواياته أنّها من قبيل القسم الثاني، أعني الملكية العرضية ولذا يكون أربعة أخماسه للناس وخمس لهم، وكذا يكون لهم عليهم السلام خصوص الموات وشبهها وإلّا لو كان المراد النوع الثاني- أي الملكية الطولية- فجميع الدنيا للَّه تعالى ولرسوله صلى الله عليه و آله وخلفائه الهادين عليهم السلام من بعده.

والحاصل: أنّ هذا النوع من الملك أمر وراء الملك الذي تترتب عليه الآثار الخاصة في الفقه نظير ملك اللَّه التكويني لجميع ما في السماوات والأرض، فحمل روايات الأنفال على هذا النوع بعيد جدّاً.

وأبعد منه حمل تلك الروايات الكثيرة الواردة في هذه الأبواب على الملك الشأني مع كونها من المباحات الأصلية بالفعل، بل ظاهرها أو صريحها أنّها ملك لهم بالفعل.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 517

ثانياً: لا حاجة إلى هذه التكلفات بعد إمكان تطبيق هذا التحليل على القواعد وذلك من طرق مختلفة.

1- إعراضهم عليهم السلام عنها عند إرادة تملك الشيعة لها وقد ذكرنا في محلّه أنّ الملك يخرج عن عنوان الملكية بالإعراض، وهذا مثل بعض ما يستغني عنه الإنسان فيجعله خارج باب داره أو يدفعه إلى خارج البلد أو في بعض الطرق فيعرض عنه ويأتي آخر فيأخذه ويتملكه، وقد جرت على ذلك سيرة العقلاء وأمضاها الشرع ولو بعدم الردع.

2-

إنهم جعلوا لشيعتهم التوكيل عنهم في تمليكها لأنفسهم وتملكها، وقد ذكر مثل ذلك في البحث المعروف في قول الرجل لآخر: اشتر بهذا النقد خبزاً أو ثوباً أو داراً لنفسك، فكلّ ما يقال هناك نقوله هنا.

3- أن تكون الإباحة هنا بمعنى الهبة فهم قد وهبوا لمواليهم كلّ ما أحيوا من الموات أوحازوا من المعادن أو اشتروا من الإماء، والاحياء والحيازة والإشتراء قبول فعلي من قبل الموالين، وقد ورد التصريح بعنوان الهبة في بعض روايات هذا الباب، مثل ما عن الإمام العسكري عليه السلام عن آبائه عليهم السلام عن أميرالمؤمنين عليه السلام قال: «فقد وهبت نصيبي منه لكلّ من ملك شيئاً من ذلك من شيعتي» «1».

وبالجملة: تطبيق هذه الإباحة بما لها من الآثار المترتبة على الملك على القواعد، ليس أمراً صعباً حتّى تحتاج إلى التكلف بالتزام الملكية الشأنية أو شبهها والحمد للَّه ربّ العالمين.

مسائل مهمّة في إحياء الموات

ولما وقع الفراغ بحمد اللَّه من مباحث الأنفال بعد مباحث الخمس، نذكر بعض ما يتعلق بها من المسائل الهامة من كتاب إحياء الموات فنقول ومنه جلّ ثناؤه نستمد التوفيق والهداية:

الاولى: لا إشكال ولا كلام في أنّ الإحياء في اراضي الموات وشبهه يوجب اختصاص الأرض بالمحيي إذا كان بإذن الإمام (الإذن العام لجميع المسلمين أو الخاصّ على ما مرّ آنفاً) إنّما الكلام في أنّه يوجب الملكية أم لا؟

قال العلّامة رحمه الله في القواعد في كتاب إحياء الموات: «الميت من الأراضي يملك بالإحياء»، وقال صاحب مفتاح الكرامة في شرحه: «بإجماع الأمّة- إذا خلت عن الموانع- كما في المهذب البارع، وبإجماع المسلمين كما في التنقيح وعليه عامة فقهاء الأمصار وإن اختلفوا في شروطه، والأخبار به كثيرة من طرق الخاصة والعامة كما في التذكرة ... وقد صرّحت عبارات

أصحابنا وإجماعاتهم و أخبارهم بأنّها تملك بالإحياء إذا كان بإذن الإمام» «1».

ومع ذلك حكى صاحب الرياض عن النهاية بأنّ المراد بملكها بالإحياء ملك منافعها لا رقبتها، فإنّها له عليه السلام فله رفع يد المحيي إن اقتضت المصلحة ذلك ثمّ قال: وهو كماترى وإن اشعرت به عبارة الماتن (أي المحقّق) أخيراً كالدروس حيث عبّر عن الملكية بالأحقية والأولوية «2».

ويظهر ذلك أيضاً من بعض كلمات الشيخ رحمه الله في المبسوط حيث قال في كتاب الجهاد بعد ذكر الأراضي المفتوحة عنوة: «فأمّا الموات فإنّها لا تغنم وهي للإمام خاصة، فإن أحياها

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 520

أحد من المسلمين كان أولى بالتصرف فيها ويكون للإمام طسقها» «1».

وظاهر هذه العبارة أو صريحها عدم تملكها بالإحياء وإلّا لا معنى للطسق.

ومن هنا يظهر التدافع بين كلمات فقهائنا الأعلام، فمن جانب نرى دعوى الإجماع من الشيعة والسنّة على أنّها تصير ملكاً بالإحياء، ومن جانب آخر ظاهر بعض هذه العبارت عدم كونها ملكاً للمحيى بل له حقّ الأولوية، فمن هنا وقعت الوسوسة في هذا الحكم في عصرنا من بعض وتظهر الثمرة في جواز رفع يده عنها حتّى لو كانت محياة من ناحية الإمام عليه السلام أو نائبه أو عودها إلى ملكه عليه السلام بعد موات الأرض مرّة أخرى فتأمل.

والأقوى كونها ملكاً بالإحياء لا يجوز إزالة يد المالك عنها ما دامت محياة (وأمّا حكمها بعد زوال الإحياء فسيأتي إن شاء اللَّه) وذلك لوجهين:

1- أخبار هذا الباب وإن كانت مختلفة جدّاً، ففي بعضها أنّها بعد الإحياء له الظاهر في الملكية في جميع أبواب الأملاك (وذلك مثل صحيحة الفضلاء التي قلّ ما يوجد مثلها في الفقه، فقد رواها سبعة رواة من أكابرهم عن الإمامين الباقر والصادق عليهما

السلام: «من أحيا أرضاً مواتاً فهي له» «2»

. وهكذا الرواية السادسة والثامنة.

وفي بعضها الآخر أنّه أحقّ بها (مثل ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام) «3».

وفي بعضها الآخر قد جمع بين لام الملك وقوله «هم أحق به» فقال: «أيّما قوم أحيوا شيئاً من الأرض أو عملوه فهم أحقّ بها وهي لهم» «4»

وكذلك 4 و 7 من ذاك الباب.

وطريق الجمع بينها هو أنّ ظاهر اللام في باب الأموال إذا استعمل في مورد الإنسان فهو الملكية لا الاختصاص الأعم، ولذا يمثلون للاختصاص في العلوم الأدبية ب «الجلّ للفرس»، ويشهد لذلك أنّه لا إشكال في أنّ من قال إنّ هذا الدار لزيد يعدّ إقراراً منه بالملك، وكذا في باب صيغة الهبة، وهكذا في الوصايا وغيرها، كلّ ذلك يكون ظاهراً في الملك وإقراراً صريحاً به بلا ريب.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 521

وأمّا التعبير بالأحق فهو أمر عام يشمل الملك وغيرها، ولذا يقال أنا أحقّ بميراث أبي من غيري، ولو كان له ظهور في غير الملك فلا ريب أنّ ظهور اللام في الملكية أقوى وأظهر فيقدم عليه لا سيّما مع ما ورد في ذيل رواية عبداللَّه بن سنان عن أبي عبداللَّه عليه السلام من أنّ له أجر بيوتها وأنّه ليس عليه إلّاالزكاة العشر ونصف العشر الظاهر في الملكية كما لا يخفى على الخبير بفنون البيان.

2- السيرة المستمرة في جميع الأعصار من معاملة الملك مع ما يحيى من الأراضي والمعادن والآجام وشبهها، ولذا يتعلق به الخمس وتصحّ النواقل التي لا تصحّ إلّافي الملك- كالبيع والشراء والوقف وغيرها- ولم نر من شك في صحّة وقف أرض أحياها إنسان للمسجد وإجراء أحكام المسجد عليها، وكثير من المساجد في البلاد أو في

القرى والرسانيق من هذا القسم.

وإن شئت قلت: بعض الأنفال تملك بالحيازة- كالمعادن الظاهرة- وبعضها بالإحياء، فكما أن الأوّل لا يكون بمجرّد الإباحة وإلّا لا معنى لتعلق الخمس به، فكذا الثاني لعدم الفرق بينهما من هذه الناحية.

ويؤيد ذلك كلّه فهم المشهور كما عرفت، والمسألة ممّا لا غبار عليها والوسوسة فيها في عصرنا إنّما نشأت من بعض النزعات الفاسدة كما لا يخفى على أهله.

هذا مضافاً إلى ما هو المعلوم من كون الأراضي المفتوحة عنوة ملكاً لجميع المسلمين لانتقالها من الكفّار إليهم مع أنّ كثيراً منها أو جميعها ملكت بالإحياء، فلو كانت رقبتها باقية على ملك الإمام عليه السلام لم يملكها المسلمون كما هو ظاهر.

إن قلت: هناك روايات تدلّ على أنّه إذا قام القائم يأخذ من الشيعة طسق أراضي الأنفال ويتركها في أيديهم حينما يأخذ رقبة الأرض من غيرهم ويخرجهم منها (مثل رواية مسمع بن عبدالملك) «1» أو تدلّ على وجوب الطسق في حال عدم بسط اليد وأخذها من المؤمنين عند بسط اليد (مثل رواية عمر بن يزيد) «2» إلى الإمام.

وفي بعضها مثل صحيحة أبي خالد الكابلي التعبير بوجوب الخراج إلى الإمام عند

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 522

إحياء الأرض، وأنّه عند ظهوره عليه السلام يقاطع الشيعة على ما في أيديهم من الأرض ويخرج الباقين «1» وكلّ ذلك مناف لحصول الملك كما هو ظاهر.

أقول: الظاهر أنّ هذه الروايات معرض عنها عند الأصحاب، لأنّ ظاهر كلماتهم حصول الملك للمحيي من دون حاجة إلى أداء الخراج أو الطسق حتّى أنّ ظاهر كلماتهم عدم الفرق بين المؤمن وغيره، مضافاً إلى السيرة المستمرة في حال الظهور والغيبة على عدم أداء الخراج أو الطسق من غير انكار كما لا يخفى.

سلّمنا، لكن يمكن أن يكون الطسق

من قبيل الاشتراط في ضمن اجازة التملك بالإحياء، والأخذ منهم عند قيام الحجّة من قبيل اشتراط الفسخ، وبالجملة لا يمكن رفع اليد عن تلك الأدلة بهذه الظواهر.

الثانية: هل يعتبر إذن الإمام عليه السلام في الإحياء أم لا؟

ظاهر عبارة كثير من الأعلام كالعلّامة رحمه الله في التذكرة والمحقّق الثاني رحمه الله في جامع المقاصد وصاحب التنقيح في التنقيح وغيرهم، أنّه معتبر وأنّ ذلك إجماعي «2».

والظاهر أنّه كذلك بعد إجماعهم على أنّه للإمام عليه السلام لأنّ من الضروري عدم جواز التصرف في ملك إلّابإذن أهله، وهذا ممّا لا يحتاج إلى مزيد بيان.

إنّما الكلام في أنّه هل يحتاج إلى إذن خاصّ منهم عليهم السلام؟

الظاهر عدم الحاجة هنا إلى إذن خاصّ، لأنّه ثبت الإذن العام من لدن عصر النبي صلى الله عليه و آله إلى ما بعده في ذلك في زمن الحضور فكيف بعصر الغيبة، والشاهد عليه ما عرفت من الروايات الكثيرة الواردة في الباب الأوّل من كتاب الإحياء وسائر أبوابه، مضافاً إلى السيرة المستمرة في جميع الأعصار والأمصار من لدن عصره صلى الله عليه و آله إلى عصر الغيبة.

نعم، لا يبعد اعتبار إذن الفقيه عند بسط اليد لا سيّما مع اشتراط ذلك.

الثالثة: هل يعتبر في المحيي الإسلام فلا يملكها الكافر ولو أحياها بإذن الإمام أم لا؟

فقد تهافتت فيه كلماتهم فعن ظاهر كلام جماعة أنّ الكافر لا يملكها بل ادّعى في التذكرة الإجماع عليه وكذلك في جامع المقاصد (فيما حكى عنهما صاحب الجواهر).

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 523

ولكن صرّح الشهيد الثاني رحمه الله بأنّ المسألة ذات قولين، وعن صريح كلمات أصحاب المبسوط والخلاف والسرائر وجامع الشرائع وغيرها عدم اعتبار الإسلام، بل نسب الخلاف في ذلك إلى الشافعي الذي يظهر منه

كون المسألة إجماعية عندنا.

ولا يخفى ما في تعبير بعضهم أنّ الكافر لا يملك ولو أذن له الإمام، لأنّ ذلك التعبير لا يناسب مقام العصمة، اللّهمّ إلّاأن يكون المراد نائبه الخاصّ في حال الحضور أو العام في حالتي الحضور والغيبة.

وكيف كان فظاهر النصوص والفتاوى عدم الفرق في التملك بالإحياء بين المسلمين والكفّار، فإن التعبير بأيّما قوم أحيوا من الأرض أو التعبير ب «من أحيا أرضاً» أو شبه ذلك دليل على ذلك، ولا ينافيها أدلة اشتراط الإذن بعد وجود الإذن العام، هذا أوّلًا.

وثانياً: الظاهر استقرار السيرة على الملكية لا سيّما بالنسبة إلى أهل الذمّة في بلاد الإسلام من دون نكير.

وثالثاً: يدلّ على ذلك صريحاً مصححة أبي بصير عن أبي عبداللَّه عليه السلام فإنّه بعد السؤال عن شراء الأرض من أهل الذمّة قال: «لا بأس بأن يشتريها منهم إذا عملوها وأحيوها فهي لهم» «1».

وأوضح منه صحيحة محمّد بن مسلم الواردة في أبواب الجهاد قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن الشراء من أرض اليهود والنصارى؟ فقال: «ليس به بأس قد ظهر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على أهل خيبر فخارجهم على أن يترك الأرض في أيديهم يعملونها ويعمرونها فلا أرى بها بأساً لو أنّك اشتريت منها شيئاً، وأيّما قوم أحيوا شيئاً من الأرض وعملوها فهم أحق بها وهي لهم» «2».

ورابعاً: لاشك في كون الأراضي المحياة المفتوحة عنوة لجميع المسلمين مع أنّ كثيراً منها من قبيل الأراضي الموات التي أحيوها، والتفصيل بين الموات الموجودة في بلاد الإسلام والكفر لا وجه له.

فالأقوى عدم اشتراط الإسلام.

انوار الفقاهة، ج 2، ص: 524

الرابعة: المراد من الموات من الأرض كما صرّح به كثير من الأصحاب في كتبهم: «هو ما لا ينتفع به لعطلته

إمّا لاستيجامه أو لانقطاع الماء عنه أو لاستيلاء الماء عليه» «1» (أو غير ذلك من أشباهه).

وأضاف صاحب مفتاح الكرامة بعد ما عرفت قوله: «وكيف كان فحال الموات كحال الإحياء لعدم وجود نصّ في بيان معناهما وقد قال فى التذكرة: وأمّا الإحياء فإنّ الشرع ورد به مطلقاً ولم يعين له معنى يختصّ به ومن عادة الشرع في ذلك ردّ الناس إلى المعهود عندهم المتعارف بينهم ... وبمثل ذلك صرّح فى المبسوط والسرائر والتحرير والدروس وغيرها وبمثل ذلك نقول في الموات» «2».

وما ذكروه جيّد بعد عدم وجود نصّ في المسألة وايكالها إلى العرف، فالموات من الأرض ما لا يمكن الانتفاع به على حاله بل يحتاج إلى أُمور بعنوان المقدمة حتّى يصير قابلًا لذلك بالقوة القريبة من الفعل، ولا يعتبر الزرع فيه فعلًا أو إنبات النباتات أو شبه ذلك.

وليعلم أنّ إحياء كلّ شي ء بحسبه وإن ذلك مختلف بحسب المقامات، فالإحياء للزراعة لا يكون إلّابرفع موانع الزرع من الأحجار والماء الغالب عليها والنباتات الوحشية، وايجاد المقتضيات من تهيئة الماء إذا احتاج إليه ولا يكفيه المطر، وتسطيح الأرض إذا كانت مرتفعة لا يجري عليها الماء أو غير ذلك.

وإحياء الأرض لبناء المساكن قد يكون بتسطيحها وايجاد الشوارع لها وغير ذلك ممّا لا يمكن الانتفاع من هذه الناحية إلّابها.

وإحياء المعدن هو حفره وجعله معدّاً للاستخراج منه، وكذا إحياء الأرض من جهة حفر الآبار لاستخراج المياه وغير ذلك، وبالجملة المتتبع هو الصدق العرفي في جميع المقامات.

والسلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته

كتاب النكاح (الجزء الثالث)

[المدخل

هوية الكتاب: اسم الكتاب: انوار الفقاهة/ كتاب النكاح (الجزء الاوّل)

المؤلّف: آية اللّه العظمى مكارم الشّيرازي النّاشر: مدرسة الإمام علي بن ابي طالب عليه السّلام- قم الطّبعة: الاولى/ 1425 ه

المطبعة: أمير المؤمنين عليه السّلام-

قم عدد النسخ: 1000 نسخة

رقم الصّفحات و القطع: 656/ وزيري ردمك: 2- 03- 8139- 964

مركز التّوزيع: نسل جوان- للطّباعة و النّشر- قم- شارع شهداء- فرع 22 تلفكس: 7732478

[مقدمة المؤلف

الفقه الإسلامي في العصر الحاضر

يعتبر «الفقه» من أغنى العلوم الإسلامية، حيث تشكل الكتب الفقهية قسما مهمّا من المكتبة الإسلامية و قد كتبت آلاف من الكتب تتناول المسائل المهمّة في دائرة العلوم الفقهية منذ قديم الأيّام و إلى العصر الحاضر.

و في هذه الأجواء لا زال الفقه الشيعي، بسبب فتح باب الاجتهاد و استرفاد المعارف الفقهية من التراث الغني لأهل بيت النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و ورثة علمه، ينمو و يتسع يوما بعد آخر.

إن النبي الاكرم صلّى اللّه عليه و آله ارتحل عن الدنيا و خلّف فينا امرين: القرآن و العترة كما ورد في حديث الثقلين المقبول لدى جميع علماء الإسلام حيث قرن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عترته و أهل بيته عليهم السّلام مع القرآن الكريم و قال: «ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا و أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض».

مضافا إلى أنّ فقهاء الشيعة، لغرض الاجتناب عن القياس و الاستحسان و الأدلة الظنية الاخرى كانوا يصرّون على حفظ اصالة الفقه و طرقه الشرعية، لأنّهم يرون أنّ الفقه و تحصيل الأحكام الشرعية يتمّ من خلال الاستفادة من القرآن الكريم و من روايات النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله الواردة عن طريق أهل البيت عليهم السّلام من دون التورط في منزلقات الأدلّة الظنية المذكورة.

و نرى لحسن الحظ أنّ بعض علماء الفرق الإسلامية الاخرى تحركوا في الآونة الأخيرة على مستوى فتح باب الاجتهاد في الفقه و استخدام أدواته في عملية الاستنباط الفقهي من الكتاب و السنّة

و الابتعاد عن التقليد، و هذه الظاهرة تبشر بخير!

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 4

هذا من جهة، و من جهة اخرى نرى تحولات عظيمة في المجتمعات البشرية المعاصرة حيث أفرزت معطيات و مسائل فقهية كثيرة، دخلت الدائرة الفقهية بعنوان «المسائل المستحدثة»، و لا بدّ للفقه المعاصر أن يتحرك من موقع تحكيم العلاقة بين «الشريعة» و «الحياة المعاصرة»، و العثور على الأجوبة لجميع هذه المسائل و الاستفهامات، التي يفرض الواقع المتحرك، و هذا هو أحد العوامل الاخرى لاتساع آفاق الفقه الإسلامي.

و بلا شك أنّ الفقيه الماهر المطّلع على الكتاب السنّة و دليل العقل لا يجد في نفسه وحشة في مواجهة هذه المسائل المستحدثة مهما كانت عميقة و متنوعة، لأننا نقف على قواعد متماسكة في الاصول، و القواعد الفقهية التي تساهم في عملية استنباط الأحكام الشرعية لجميع هذه المسائل.

و قد أشرنا في مقدمة كتابنا «المسائل المستحدثة» إلى هذه الاصول و القواعد و طريق استخراج و استنباط الأحكام الشرعية لهذه المسائل الجديدة في دائرة الفقه و ذكرنا الطرق العملية في هذه الحركة الاجتهادية (و على الراغبين مراجعة هذا الكتاب).

و الذين يتصورون أن سعة دائرة المسائل المستحدثة سوف تقود الفقه إلى أجواء عرفية (أي الابتعاد عن الكتاب و السنّة و اللجوء إلى آراء و قوانين وضعية و بشرية) بعيدون عن جادة الصواب قطعا.

هؤلاء في الحقيقة غير مطّلعين على الاصول و القواعد الغنيّة في الفقه الإسلامي التي تتكفّل الإجابة على جميع المسائل المستحدثة، و باب التجربة مفتوح و نحن مستعدون لعرض هذه المنابع الإسلامية أمام أية مسألة تطرح على بساط البحث.

و في هذه الأجواء نرى أنّ من أهم البحوث المطروحة في دائرة الفقه الإسلامي هى التي تتعلق بالمسائل المستحدثة الكثيرة في ابواب

النكاح حيث تنطلق هذه الأسئلة على أثر التحولات الاجتماعية و المستجدات الكثيرة في منظومة القيم و العلاقات البشرية، و خاصة في مجال نظام الاسرة ممّا يزيد في تعقيدات هذه المسائل و أهميتها.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 5

إنّ الحديث النبوي الشريف:

«ما بني في الإسلام بناء أهمّ من النكاح». يبيّن بجلاء الأهميّة التي أولاها الإسلام لمسألة النكاح.

و كما ورد في حديث آخر:

«من تزوج فقد أحرز نصف دينه فليتق اللّه في النصف الآخر»

حيث يشير إلى دور الزواج في حفظ القيم الأخلاقية و العلاقات الاجتماعية و الأجواء المعنوية في حركة الحياة و الواقع المتغيّر للإنسان.

و لا شك أنّ من الضروري التحرك على مستوى صيانة هذه السنّة الإسلامية المهمّة، و تقوية دعائم الاسرة يوما بعد آخر، و حمايتها من الذبول و الانحلال.

و هذا الكتاب الذي بين يديك يستعرض المسائل الفقهية المستوحاة من الكتاب و السنّة في باب النكاح، و سنحاول معالجة المسائل المستحدثة المتعلقة بالنكاح أيضا و أداء حقّها في هذا الكتاب إن شاء اللّه.

نأمل أن يكون كتابا نافعا للجميع، و ذخيرة ليوم المعاد.

محرم الحرام 1425 قم: ناصر مكارم الشيرازي

[و هو (النكاح) من المستحبّات الأكيدة]

مقدّمة البحث

اشارة

قال الإمام (قدّس سرّه الشريف) في تحرير الوسيلة:

و هو (النكاح) من المستحبّات الأكيدة؛ و ما ورد في الحثّ عليه و الذمّ على تركه، ممّا لا يحصى كثرة، فعن مولانا الباقر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما بنى بناء في الإسلام أحبّ إلى اللّه عزّ و جلّ من التزويج. «1» و عن مولانا الصادق عليه السّلام: ركعتان يصلّيهما المتزوّج أفضل من سبعين ركعة يصلّيها غير متزوّج (عزب). «2»

و عنه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: رذّال موتاكم العزّاب. «3»

و في خبر

آخر عنه صلّى اللّه عليه و آله: أكثر أهل النار العزّاب. «4»

و لا ينبغى أن يمنعه الفقر و العيلة، بعد ما وعد اللّه عزّ و جلّ بالاغناء و السعة، بقوله عزّ من قائل، إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. «5» فعن النبي صلّى اللّه عليه و آله: من ترك التزويج مخافة العيلة فقد أساء الظّنّ باللّه عزّ و جلّ. «6»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 8

لما ذا اخترنا تحرير الوسيلة اخترنا من بين المتون الفقهيّة، كتاب تحرير الوسيلة الذي كان أساسه من الفقيه الماهر آية اللّه السيّد أبو الحسن الأصفهاني (ره) و سمّاه وسيلة النّجاة. و قد كان فقيها جامعا، له احاطة واسعة بالمسائل الفقهيّة، و ذهن سليم و ذوق بليغ و فكر مستقيم و له رئاسة عامّة على جميع شيعة أهل البيت عليهم السّلام في عصره، تغمّده اللّه بغفرانه. ثمّ نقّحه الإمام الراحل (قدّس سرّه) و اضاف إليه مسائل كثيرة و حرّره تحريرا نافعا و سمّاه تحرير الوسيلة (جزاهما اللّه عن الإسلام و اهله خير الجزاء).

اخترنا هذا المتن لاشتماله على مسائل كثيرة مبتلى بها في عصرنا ليست في كتب المتأخّرين- و كم ترك الأول للآخر- و مسائله و فروعه أمسّ بحاجة المسلمين في هذا العصر؛ و هو مع ذلك خال عن الاطناب المملّ و الاختصار المخلّ.

و مع ذلك، لا نغفل عمّا ذكره الفقيه المحقّق اليزدي (قدّس سرّه) في العروة الوثقى، و سائر الفقهاء (رضوان اللّه تعالى عليهم)؛ و نأتي بها في محالّة. و كذا المسائل المستحدثة*** التي ليست هنا و هناك (و من اللّه نستمدّ التوفيق و الهداية).

جملة من مستحبات النكاح

(1) أقول: ما أفاده في مقدمة هذا الكتاب (كتاب النكاح) من التأكيد في استحباب النكاح؛ فهو من

المشهورات في كلمات الفريقين، بل ادّعى عليه إجماع المسلمين. و كفاك في ذلك، ما ذكره في المسالك حيث قال: بإجماع المسلمين إلّا من شذّ منهم حيث ذهب إلى وجوبه. «1» و ما ذكره الفقيه الماهر (قدّس اللّه نفسه الزكيّة) في الجواهر، حيث إنّه بعد كلام المحقق (قدّس سرّه)، بأن النكاح مستحب لمن تاقت نفسه من الرجال و النساء؛ قال:

كتابا و سنة مستفيضة أو متواترة، و إجماعا بقسميه من المسلمين فضلا عن المؤمنين، أو

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 9

ضرورة من المذهب بل الدين. «1»

و يظهر من كلام المسالك أنّ المخالف الشاذ قائل بالوجوب، لا عدم الرجحان؛ و من الجواهر احتمال كون المسألة من الضروريات، و هو غير بعيد؛ كما يظهر لكلّ من عاشر المسلمين، و لو زمانا قصيرا.

***

و ينبغى التنبيه هنا على أمور مهمّة:

أحدها: ما استدل به لاستحباب النكاح

استدل لاستحباب النكاح، بالأدلة الثلاثة.

أمّا كتاب اللّه العزيز، فقد حث بقوله وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ «1» بأبلغ البيان حيث لم يأمر بالنكاح، بل أمر بالإنكاح و هو أمر لجميع المسلمين على تهيئة مقدمات نكاح العزاب و دفع موانعه و الاعانة على إيجاد أسبابه و ما يحتاج إليه. و حيث إنّ المانع غالبا في الماضي و الحال كان هو خوف الفقر، فقد صرّح تعالى شأنه بأنّ هذا ليس مانعا: و وعدهم أنّه يغنيهم من فضله و قد ورد في الروايات، أنّ الرزق مع النساء و العيال.»

فلو لم يكن أمرا هامّا، لما أمر المسلمين جميعا بالاشتراك في تسبيب أسبابه. و لم يرد بمثل هذا التعبير في غيره من الواجبات فلو لم يكن عديم النظير فلا أقل من أنّه قليل النظير.

و أمّا السنّة، فقد روي عن موسى بن جعفر عليهما السّلام: ثلاثة يستظلون بظلّ عرش اللّه

يوم القيامة يوم لا ظلّ إلّا ظلّه، رجل زوج أخاه المسلم أو أخدمه أو كتم له سرّا. «3»

و ستأتى الإشارة إلى شطر آخر، كما مرّت الإشارة إلى بعض منها. «4»

و أمّا الإجماع، فقد عرفت ما نقلناه في صدر البحث.

بل و يدل عليه دليل العقل، لأنه سبب لحفظ بقاء النسل مع ما فيه من الآثار و البركات الكثيرة الاخرى سنتعرض لها إن شاء اللّه تعالى.

ثانيها: فلسفة استحباب النكاح و مصالحه الفردية و الاجتماعية
الف) حفظ نسل البشر

لا شك أنّ الطريق الصحيح لحفظ نسل البشر هو النكاح، فهو المطلوب للشارع المقدّس الذي اراد بقاء النوع؛ فقد ورد في الحديث المعروف النبوي صلّى اللّه عليه و آله: تناكحوا تكثروا فإني اباهى بكم الامم يوم القيامة و لو بالسقط. «1»

بل لو خيف انقراض النسل أو الفشل في نوع الإنسان، وجب النكاح على المسلمين. و كذا إذا خيف غلبة الكفّار على المسلمين بسبب كثرة نفوسهم و أولادهم.

إن قلت: قد وافق كثير من العقلاء و الخبراء من غير المسلمين- بل و من المسلمين أيضا- على أنّ تحديد النسل و المواليد أمر لازم في عصرنا و إلّا حصل الفشل، و هذا لا يوافق ما ذكرت في مباهاة الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و لو بالقسط.

قلت: هذا من قبيل استثناء في قاعدة كليّة، له ظروف خاصة و شرائط معلومة؛ ستأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه تعالى و إلى أدلتها، فالأخذ بالقاعدة الكليّة صحيح كما انّ الأخذ بالاستثناء مع حفظ حدودها و شرائطها أيضا صحيح.

ب) انه عون على العفاف و التقوى

النكاح سبب المحافظة على التقوى و العفاف و الاجتناب عن كثير من الكبائر العظيمة من الزنا و اللواط و المساحقة و الاستمناء بل و غيرها؛ و بدونه يشكل حفظ النفس منها قطعا؛ و لذا ورد في الحديث النبوي أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: من تزوج، أحرز نصف دينه. «2» و في حديث آخر: فليتق اللّه في النصف الآخر. «3»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 12

و في حديث آخر: فليتق اللّه في النصف الباقي. «1»

و لعلّ كونه حافظا لنصف الدين، نشأ من كون الغريزة الجنسية تعادل جميع الأميال و الغرائز الاخرى؛ و ليس ببعيد كما يظهر بالتأمل في آثار كل منها بعين الدقّة.

ج) انه سبب لسلامة الروح و الجسم

النكاح سبب لسلامة الجسم و الروح، لكثرة الأمراض الروحانية و الجسمانية الناشئة من ترك الزواج، فإنّ كل عمل على خلاف طبيعة الإنسان، له ردّ فعل فيه. و أيّ غريزة أقوى من هذه الغريزة و قد شهدت التجارب القطعيّة بظهور المشاكل في ناحية الجسم و الروح بترك الزواج.

و لعل في قوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها .... «2»

و في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها ...، «3» إشارة إلى هذا المعنى.

و في الواقع كل واحد من الرجل و المرأة مكمّل وجود الآخر، فكل منهما بدون الآخر وجود ناقص، يظهر فيه آثار النقصان معنويا و ماديا بترك الزواج.

د) انه سبب لسلامة المجتمع الانساني

النكاح سبب لسلامة المجتمع الإنساني؛ فان الإنسان العزب لا يحسّ بمسؤولية خاصة، فلا يبالي بما يفعل، و يرتكب الجنايات و إذا رأى آثارا سيّئة لأعماله ينتقل بسهولة إلى مكان آخر فيجني و يسرق و يقتل ثم يذهب إلى مكان آخر. و لكن المتزوج يحمل بمسؤولية الزوجة و الأولاد و له نحو اتّصال بهم لا يمكنه قطع هذه الصلة بسهولة،

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 13

فبملاحظتهم يجتنب عن كثير من المعاصي و ما يحول بينه و بينهم؛ و كأنّه إليه يشير ما روى عنه صلّى اللّه عليه و آله من: أنّ أكثر اهل النار العزاب. «1»

و في رواية اخرى في المستدرك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: ما من شابّ تزوج في حداثة سنّه إلّا عجّ شيطانه يا ويله! عصم منّي ثلثي دينه؛ فليتق اللّه العبد في الثلث الباقي. «2»

و عنه صلّى اللّه عليه و آله في كتاب جامع الأخبار، أنّه قال: شراركم عزّابكم،

و العزاب اخوان الشياطين. و قال: خيار امتي المتأهلون و شرار امتي العزاب. «3»

و لعل التعبير في بعض الروايات بالنصف، و في بعضها بالثلث، إشارة إلى اختلاف الناس في تأثير القوة الشهوية.

و قد شهدت التجارب بصدق هذه الأخبار في مقام العمل.

ه) انه سبب لتقوية النشاطات الاقتصادية

النكاح سبب لتقوية النشاطات الاقتصادية، كما ورد في بعض الأحاديث، الرزق مع النساء. و ورد في قوله تعالى، إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، فإنّ العزب لا يسعى و لا يجهد بجميع ما يقدر عليه لقلة حوائجه و عدم تقيده من ناحية نفسه، فلا يبالي بما يمرّ عليه و ما يأكل و يعيش به، بخلاف ما إذا حمل على عاتقه مسئوليات اخرى من الأهل و البنين، فيجهد بكل ما يقدر عليه و يكون ذلك سببا لازدهار الشئون الاقتصادية.

و لذا نرى كثيرا من الأفراد قليل المال جدا في زمن عزوبته، ثم إذا تزوج يكون ذا إمكانيات كثيرة و أموال ضخمة و دار و ما يحتاج إليه.

و يدل عليه قوله تعالى: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ. فان فعله تعالى شأنه، تسبيب الأسباب نحو المطلوب و لا ينافي ذلك ما عرفت من الدليل العقلي.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 14

و قد ورد هذا المعنى في أحاديث كثيرة، منها:

ما رواه في الوسائل عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: اتخذوا الأهل فإنّه أرزق لكم. «1»

و ما عن الصادق عليه السّلام: الرزق مع النساء و العيال. «2»

و ما عنه صلّى اللّه عليه و آله أنه قال لزيد بن ثابت: تزوج فإنّ في التزويج بركة. «3» إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا الباب و هو كثير.

ثالثها: تقسيم النكاح بانقسام الأحكام الخمسة
اشارة

قد صرّح غير واحد من أكابر الأصحاب بانّ النكاح و إن كان في نفسه مستحبا و لكن ينقسم بانقسام الأحكام الخمسة، باعتبار عروض بعض العوارض.

قال في الحدائق: اعلم، إنّهم قالوا إنّ النكاح إنّما يوصف بالاستحباب بالنظر إليه في حدّ ذاته، يعنى مع قطع النظر عن اللواحق المتعلّقة

به؛ و إلّا فإنّه ينقسم إلى الأقسام الخمسة:

فقد يكون واجبا كما إذا خيف الوقوع في الزناء مع عدمه، و لو أمكن التسري كان واجبا مخيّرا.

و قد يكون حراما كما إذا أفضى الإتيان به إلى ترك واجب كالحج و الزكاة، و إذا استلزم الزيادة على الأربع.

و يكره عند عدم توقان النفس إليه مع عدم الطول، على قول؛ و الزيادة على واحدة عند الشيخ (قدّس سره).

و قد يستحب، كنكاح القريبة على قول، للجمع بين صلة الرحم و فضيلة النكاح؛ و اختاره الشهيد في قواعده. و قيل: البعيدة، لقوله صلّى اللّه عليه و آله: لا تنكحوا القرابة القريبة، فإنّ الولد يخلق ضاويا أي نحيفا. و هو اختيار العلّامة في التذكرة و علل بنقصان الشهوة مع القرابة.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 15

أقول، الظاهر أنّ الخبر المذكور عامّي حيث لم ينقل في كتب أخبارنا و قد ذكره ابن الأثير في نهايته و الظاهر أنّ القول المذكور للعامّة. تبعهم فيه العلّامة في التذكرة و استدل عليه بما استدلوا به.

و أمّا المباح، فهو ما عدا ذلك. و ابن حمزة فرض الاباحة أيضا لمن يشتهى النكاح و لا يقدر عليه أو بالعكس و جعله مستحبا لمن جمع الوجهين و مكروها لمن فقدهما. انتهى. «1»

و إنّما نقلنا كلامه بطوله لما فيه من فوائد كثيرة، و يظهر منه انّ المراد بالاستحباب هنا استحبابه بحسب العوارض مضافا إلى استحبابه الذاتي؛ فلذا مثل له بنكاح القريبة، للجمع بين فضل النكاح و صلة الرحم؛ أو البعيدة، لخروج الولد ضاويا في القريبة.

و لكن الأخير، مؤيد بالاعتبار لما ثبت من الاخطار المهمّة في نكاح القريبة؛ و لا ينافيه نكاح المعصومين عليهم السّلام لأنّ له استثناءات كسائر الأحكام الكلية لعوارض خاصة؛ هذا

مضافا إلى أنّ المعروف بين الأطباء، أنّ نكاح القريبة لا يوجب مرضا؛ نعم، لو كان فيهما الأمراض الخفية تظهر و تشتد لما في الزوجين القريبين من المشابهة في المرض الخفي.

و الرواية و إن كانت ضعيفة بحسب المباني الموجودة في الكتب الرجالية عندنا، و لكن رواها أو ما يشبه منها غير واحد في كتبهم؛ ففى المجازات النبوية للسيّد الرضى، قال صلّى اللّه عليه و آله: اغتربوا لا تضووا. «2»

قال في النهاية: «3» اغتربوا لا تضووا أي، تزوجوا الغرائب دون القرائب فإنّ ولد الغريبة أنجب و اقوى من ولد القريبة ... و منه الحديث: لا تنكحوا القرابة القريبة فإنّ الولد يخلق ضاويا.

و قد أسنده في المسالك إليه صلّى اللّه عليه و آله، و قال: لقوله صلّى اللّه عليه و آله لا تنكحوا ... الحديث. «4» و على كل حال، الاجتناب اولى.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 16

و ما ذكره من مثال المكروه، غير ثابت؛ فإنّ فقدان المال لا يكون سببا للكراهة لا سيما مع ما عرفت من الاية الشريفة و الروايات. و الاولى أن يمثل له بنكاح المتعة إذا اوجب التهمة أو سقوط الإنسان عن أعين الناس؛ كما لعله يظهر من بعض رواياتها.

كلام الشهيد الاوّل في اقسام النكاح

و قال الشهيد الأول في قواعده، «1» إنّه ينقسم النكاح بحسب الناكح بانقسام الأحكام الخمسة، و كذا بحسب المنكوحة، و مثل للأول بما يقرب مما عرفت. و للثاني بما يكون السبب في الحكم بعض خصوصيات المنكوحة، كحرمة نكاح الام و شبهها، و كراهة نكاح العقيم و شبهه، و استحباب نكاح الأرقاب، و وجوب الوطي بعد أربعة أشهر و شبهه، و اباحة ما عدا ذلك.

و قد صرّح بعض فقهاء العامة بانقسامه إلى أقسام مختلفة و إن كان

تقسيمهم غير تقسيمنا؛ كالنووي في المجموع. «2»

و صرّح ابن قدامة في المغنى بانقسامه باقسام ثلاثة: 1- من يخاف على نفسه في الوقوع في الحرام إن ترك النكاح، فهذا يجب عليه في قول عامة الفقهاء. 2- من يستحب له و هو من له شهوة و لكن يأمن معها الوقوع في الحرام، و نقل هذا القول عن جماعة كثيرة 3- من ليس له شهوة كالعنين، فذكر فيه وجهان: أحدهما، يستحب له النكاح لعموم الأدلة. و ثانيهما، تركه أفضل لعدم حصول مصالح النكاح، و ربما يضرّ صاحبه كما هو ظاهر. «3»

و العمدة، إنّ النكاح قد يجب، لخوف الوقوع في الحرام (على فرض تركه) أو لوجوب حفظ الموازنة في المواليد بين المسلمين و غيرهم و علوّهم عليهم أو شبه ذلك. و قد

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 17

يحرم، لمزاحمة واجب معين فوري مثل المزاحمة للجهاد أو الحج، و لو كان في زمن قصير، و الباقي سهل.

***

هل يكون استحباب النكاح مشروطا؟

و هو أنّ غير واحد من الأكابر قيّدوا استحباب النكاح بمن تاقت نفسه (أي، اشتاقت إليه. و التوق، و التّوقان، بمعنى الاشتياق و الاسراع في الشي ء و فيضان الدمع، و المراد به هنا، الأول.) و لازمه عدم استحبابه لمن لم يشتق؛ مع أنك قد عرفت أن حكمة هذا الحكم بحسب نصوص الباب، ليس مجرد حفظ العفة و التقوى، بل بقاء النسل و اكثار نفوس الامّة المسلمة من أظهر حكمه، و هذا لا يتوقف على توقان النفس، و لذا ذهب المشهور إلى استحبابه مطلقا؛ فالفتوى بعدم استحبابه بمجرد عدم التوقان، بعيد.

و أبعد من ذلك، القول باستحباب الترك لمن لا يشتهيه. قال شيخ الطائفة في المبسوط:

الناس ضربان، مشته للجماع و قادر على النكاح، و ضرب لا يشتهيه،

فالمشتهى يستحب له أن يتزوج و الذي لا يشتهيه، المستحب أن لا يتزوج، لقوله تعالى (في مقام مدح يحيى): ... وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ. «1» فمدحه على كونه حصورا و هو الذي لا يشتهى النساء. «2»

و الظاهر، أنّ هذه الآية هي العمدة في فتوى جماعة من الأصحاب بتقييد الاستحباب بتوقان النفس، و إن استدل له بدليلين آخرين تأتي الإشارة إليهما.

و يمكن الجواب عنها، بأنّ ظاهر الآية بل صريحها و إن كانت في مقام المدح لذكر عنوان السيّد قبله، و كونه نبيّا من الصالحين بعده، و لكن يرد على الاستدلال بها؛

أولا: بأنّ المراد من الحصور و إن كان هو التارك لإتيان النساء- كما ذكره كثير من أرباب اللغة و علماء التفسير- و لكن يمكن أن يكون ذلك لخصوصية في حياة

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 18

يحيى عليه السّلام، لأنّه كان كالمسيح عليه السّلام كان يتردد دائما من مكان إلى مكان لتبليغ دين اللّه و أداء رسالته إلى خلقه، فهذا في الواقع من قبيل ما طرأ عليه عنوان الكراهة أو الحرمة لبعض العوارض، فلا ينافي الاستحباب الذاتي.

و ثانيا: إن كون كلمة الحصور دائما بمعنى من لا يأتي النساء، غير ثابت؛ بل ذكر لها معان اخرى منها، ما ذكره الشيخ في التبيان «1» ذيل الآية الشريفة، الذي يمتنع أن يخرج مع ندمائه شيئا للنفقة، و يقال للذي يكتم سرّه، الحصور. و قال في المجمع «2» بعد تفسيرها بالذي لا يأتي النساء، و معناه أنّه يحصر نفسه عن الشهوات، أي يمنعها. و قيل: الحصور، الذي لا يدخل في اللعب و الأباطيل، و قيل: هو العنين، و هذا لا يجوز على الأنبياء لأنّه عيب.

فقد ظهر مما ذكرنا أنّ

لها لا أقل من ستّ معان (العنين- الذي لا يأتي النساء- الذى يمتنع أن يخرج مع ندمائه شيئا للنفقة- الذي يحصر نفسه عن الشهوات- الذي يكتم سرّه- الذي لا يدخل في اللعب و الأباطيل). و المعاني الثلاثة الاولى، لا تناسب مقام النبوة و المدح، بناء على كون النكاح أمرا مطلوبا، و لكن المعاني الثلاثة الأخيرة تناسبها.

هذا؛ و المعروف في معناها، هو من لا يأتي النساء.

و ثالثا: أنّ المدح لعله على المنكشف لا الكاشف، أي سلطته على نفسه و منعها عن طغيان شهواتها.

و رابعا: ثبوت ذلك في شرعهم، ليس دليلا على ثوبته في شرعنا، بعد قيام الأدلة الكثيرة على استحباب النكاح مطلقا في هذه الشريعة الغرّاء.

إن قلت: نتمسك باستصحاب الشرائع السابقة.

قلنا: الاستصحاب انما هو في فرض الشك، و نحن لا نشك في استحبابه في شرعنا، أضف إلى ذلك أنّ استصحاب الشرائع السابقة باطل عندنا، لما ذكرنا في المباحث الاصولية من أنّ، الشريعة إذا نسخت نسخت بجميع أحكامه؛ و لذا كان أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله انوار الفقاهة، ج 3، ص: 19

ينتظرون نزول الأحكام في أبواب الزكاة و الصيام و الجهاد و حرمة الشراب و غيرها و إن كانت هذه الامور في الشرائع السابقة.

اللّهم إلّا أن يقال مطلوبية النكاح أمر عقلي فهو من المستقلات العقلية التي لا يمكن القول بخلافه حتى في الشرائع السابقة فالعمدة في الجواب، هي الأولان.

و الأمر سهل بعد ابهام الآية و غموضها، مع ظهور آية الأمر بالانكاح، و الروايات الكثيرة الواردة في المقام على استحبابها مطلقا، بل لم نجد رواية تدل على التقييد بالاشتياق.

و استدل للقول بهذا القيد، أيضا بقوله تعالى في مقام الذم، زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ

وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ. «1» و الذم دليل على عدم الاستحباب.

و فيه، إنّ المذمّة على حبّ الشهوات، لا مجرد حب المال و البنين و النساء، بقرينة حب البنين. فإنّه لا شك في استحباب حب البنين إذا كان الحب معتدلا لا يدخل صاحبه في المعاصي. و كذلك المال، و هكذا النساء. كيف، و قد منّ اللّه على عباده بهذه النعم فقال:

وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها .... «2» و قال عزّ من قائل: وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ. «3» إلى غير ذلك مما يدلّ على تفضله على خلقه بخلق الأنعام لهم، و هكذا بالنسبة إلى الأموال.

كما استدل أيضا بأنّ النكاح غالبا مستلزم لتحمّل مسئوليات كثيرة للزوجة و الأولاد، و الحرمان عن كثير من العبادات و تحصيل العلوم، فالاولى لمن لا يرغب فيه، إن يتركه، للفرار من هذه الامور.

و فيه، أن تحمل هذه المسؤوليات- كسائر المسؤوليات الاجتماعيّة، عبادة و مطلوبة

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 20

للشارع المقدّس. فقد ورد في الحديث المعتبر عن الصادق عليه السّلام: الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل اللّه. «1»

بل في حديث آخر عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام: الذي يطلب من فضل اللّه ما يكف به عياله، أعظم أجرا من المجاهد في سبيل اللّه عزّ و جلّ. «2»

فالحق، استحباب النكاح مطلقا بحسب العنوان الاولى. و اللّه العالم.

رابعها: في معنى «النكاح»
النكاح في اللغة

قد اختلف أرباب اللغة و الفقهاء في معنى «النكاح» على أقوال كثيرة، و حيث إنّ هذه الكلمة وردت كثيرا في الكتاب و السّنّة و في بعض الموارد خالية عن

القرينة، لا بدّ من تبيين معناها حتى تحمل عليه عند الشك في المراد منه، فنقول (و من اللّه نستمد التوفيق و الهداية): الخلاف واقع في إنّها حقيقة في العقد خاصة، أو في الوطي، أو فيهما معا على نحو الاشتراك اللفظي، أو المعنوى، أو هي مجاز فيها و معناه الحقيقي شي ء آخر، و هو الالتقاء، يقال تناكح الجيلان إذا التقيا؛ أو معناها هو الضم، يقال تناكح الأشجار أي ضم بعضها إلى بعض.

و إليك بعض كلمات أهل اللّغة أولا، ثم كلمات الفقهاء.

أمّا الأول؛ فقد صرح الراغب في المفردات بأن: أصل النكاح للعقد ثم استعير للجماع، و محال أن يكون في الأصل للجماع ثم استعير للعقد، لأنّ أسماء الجماع كلها كنايات لاستقباحهم ذكره. «3»

و قال الجوهري في الصحاح باشتراكه فيهما، فقال: النكاح، الوطء؛ و قد يكون القعد.

و قال الفيّومي في المصباح المنير ما نصه: يقال، مأخوذ من نكحه الدواء، إذا خامره و

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 21

غلبه، أو من تناكحت الأشجار إذا انضم بعضها إلى بعض، أو من نكح المطر الأرض إذا اختلط بثراها؛ و على هذا يكون مجازا في العقد و الوطء جميعا ... و إن قيل، غير مأخوذ من شي ء لا بدّ من القول بالاشتراك. انتهى.

فانظر إلى هؤلاء الثلاثة من معاريف أهل اللغه، فقال الأول بكونه حقيقة في العقد، و الثاني باشتراكه فيهما، و قال الثالث في صدر كلامه بكونه مجازا فيهما، و حقيقة في معان آخر، ذكر منها ثلاثة.

و كذلك اختلاف الفقهاء فيه، فكل اختار مسلكا و إليك نبذ منها:

النكاح في الفقه

قال المحقق النراقي في المستند:

و هو في اللغة، عقد التزويج خاصة على الأصح، لتبادره عرفا و اصالة عدم النقل؛ و كون العقد مستحدثا، ممنوع، بل لكل

دين و ملّة عقد.

و قيل حقيقة في الوطء خاصة، بل هو الأشهر كما قيل، بل عليه الإجماع كما عن المختلف .... و قيل حقيقة بينهما لاستعماله فيهما .... و قيل مجاز كذلك (أي فيهما) لأخذهما من الضم و الاختلاط و الغلبة؛ و يرد بعدم ثبوت المأخذ. (انتهى محل الحاجة من كلامه). «1»

و قال الشهيد الثاني قدّس سرّه في المسالك: اعلم أنّ النكاح يستعمل لغة في الوطي كثيرا و في العقد بقلة. قال الجوهرى: النكاح، الوطي؛ و قد يقال العقد. و شرعا بالعكس يستعمل بالمعنيين إلّا أنّ استعماله في العقد أكثر؛ بل قيل إنّه لم يرد في القرآن بمعنى الوطي إلّا في قوله تعالى ... حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ...، لاشتراط الوطي في المحلل؛ و فيه نظر لجواز إرادة العقد و استفادة الوطء من السنّة. انتهى. «2»

و قال ابن قدامة في المغنى: النكاح في الشرع، هو عقد التزويج؛ فعند اطلاق لفظه انوار الفقاهة، ج 3، ص: 22

ينصرف إليه ما لم يصرفه عنه دليل و ذكر في ذيل كلامه، الأشهر استعمال لفظ النكاح بازاء العقد في الكتاب و السنّة و لسان أهل العرف. (أجاب بذلك عن القاضي القائل بالاشتراك). «1»

أقول: لا يهمّنا معناه اللغوي بأن يكون عاما أو خاصا أو مشتركا أو مجازا؛ بل الذي يهمّنا، معناه في لسان الشارع المقدس في الكتاب و السنّة.

النكاح في القرآن

فقد استعمل في كتاب اللّه تعالى في 23 موردا، كلّها أو جلّها ظاهرة في العقد؛ مثل قوله تعالى: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ .... «2»

و قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ .... «3»

فإنّ ذكر الطلاق و ذكر الزوج أظهر شاهد على كون المراد بالنكاح هنا العقد،

و إنّما يستفاد اعتبار الدخول في المحلل من السنّة.

و قوله تعالى: ... فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ .... «4»

و قوله تعالى: ... وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ .... «5»

فإنّ عقدة النكاح، من قبيل إضافة العام بالخاص أو إضافة السبب بالمسبب، فيكون النكاح العقد المسببى.

و كذا قوله تعالى: ... إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ .... «6»

و ليس فيها ما يمكن القول بكونه مستعملا في خصوص الدخول حتى في آية المحلل، كما عرفت. و كذلك غيرها من أشباهها.

النكاح في السنّة

و أمّا السنة و الروايات المشتملة على لفظ النكاح و مشتقاته، فهي أيضا شاهدة على استعماله في العقد إلّا في موارد شاذّة.

و إن شئت، فانظر الأبواب التالية في المجلد 14 من كتاب الوسائل:

1- الباب 1، من أبواب مقدمات النكاح، فقد ذكر في بعض رواياته، أنّه ما من شي ء أحبّ إلى اللّه عزّ و جلّ من بيت يعمر في الإسلام بالنكاح.

2- الباب 48، الحديث الأول (و من سنّتي النكاح)، و الحديث الثالث (و إن من سنتى النكاح).

3- الباب 139، الحديث الأول (ليس عندى طول فانكح النساء).

4- الباب 157، فيه روايتان تدلان على حسن الاحتياط في أمر النكاح.

5- الباب 2، من أبواب عقد النكاح، فيه روايات ثلاثة تدل على أنّ النكاح لا يكون إلّا بمهر.

6- الباب 4 منه، فيه رواية تدل على أنّه لا ينقض النكاح إلّا الأب.

7- الباب 5 منه، فيه رواية تدل على أنّه لا تنكح ذوات الآباء من الابكار إلّا بإذن آبائهن.

8- الباب 9 منه، فيه روايات عديدة تدل على اعتبار اذن الأب في النكاح.

9- الباب 29 منه، فيه روايتان تدلان عن بطلان نكاح

الشغار، و هو نكاح امرأتين يكون مهر أحدهما نكاح الآخر، كان يقول: زوّجني اختك، ازوّجك اختي.

10- الباب 1، من أبواب ما يحرم بالمصاهرة، فيه روايات كثيرة تدل على حرمة نكاح نساء النبي صلّى اللّه عليه و آله و حرمة نكاح ما حرّم اللّه من امرأة الأب و غيرها.

و قد ورد في أبواب الطلاق و المهور في المجلد 15 من الوسائل، أيضا روايات استعمل فيها النكاح في معنى العقد، و كذلك في المجلد 18 من أبواب الشهادات.

نعم، قد استعمل هذا اللفظ أيضا في مجرد الدخول بدون العقد في موارد نادرة، مثل ما ورد في أبواب ما يمسك عنه الصائم (في شهر رمضان). ففى رواية: إنّ اللّه لمّا فرض انوار الفقاهة، ج 3، ص: 24

الصيام فرض أن لا ينكح الرجل أهله في شهر رمضان ... و كان من المسلمين شبان ينكحون نساءهم بالليل سرّا لقلّة صبرهم ... «1»

و في رواية اخرى في نفس الباب: فاحل اللّه النكاح بالليل في شهر رمضان و الأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر. «2» إلى غير ذلك ممّا في هذا المعنى في أبواب اخر، مثل أبواب حرمة اللواط.

و الحاصل أنّ هذا الاستعمال الكثير في معنى العقد، دليل على صيرورته حقيقة في العقد، و إن فرض كونه في اللغة حقيقة في الوطي، لأنّ الاطراد من علائم الحقيقة أو سبب لها.

إن قلت: هذه الموارد التي ذكرتموه مقرون بالقرائن المختلفة، و اطراد الاستعمال مع القرينة، لا يكون علامة للحقيقة، كما أنّه لا يكون سببا لها.

قلت: الوضع- كما هو المعلوم- على قسمين، الوضع التخصيصى و الوضع التخصصى. و هي، العلقة الحاصلة بين اللفظ و المعنى في عالم الذهن إمّا من طريق تخصيص اللفظ بها اعتبارا و إنشاء

أو تعهدا، و إمّا من طريق كثرة الاستعمال و لو كان مع القرينة، فإنّ كثرة الاستعمال على كل حال توجب العلقة؛ مثلا إذا قال المولى صلّ مع الوضوء، صلّ إلى القبلة، صلّ مع الجماعة و هكذا ... ثم قال: الصلاة، الصلاة؛ ينصرف الذهن إليه لا إلى مجرد الدعاء.

و الحاصل، إنّ لفظ النكاح لو سلم كونه في اللغة غالبا بمعنى الوطي لكن نقل في الشرع إلى العقد، و لا أقل من أنّه ينصرف عند الاطلاق. و اللّه العالم.

خامسها: النكاح عبادة أم لا؟

قد يدور على بعض الألسن أنّ النكاح نوع من العبادة أو فيه شائبة العبادة؛ قال صاحب الجواهر (قدس سره): لا ريب في أنّ الاحتياط لا ينبغي تركه خصوصا في النكاح انوار الفقاهة، ج 3، ص: 25

الذي فيه شوب من العبادات المتلقاة من الشارع، و الأصل تحريم الفرج إلى أن يثبت سبب الحل شرعا. «1»

لا شك في انّ العبادة هنا ليس بمعنى ما يشترط في صحته قصد القربة، لأنّه لم يقل أحد باعتبار ذلك، لا من الشيعة و لا من السّنّة، كما أنّ العبادة بالمعنى الأعم أي ما يشترط قصد القربة في ترتب الثواب عليه، لا تختص بالنكاح، بل يشمل جميع الواجبات و المستحبات التوصليّة، فاىّ معنى لهذا التعبير؟

الظاهر أنّ المراد من هذا التعبير كونه من التوقيفيات التي تحتاج إلى بيان الشارع في كلّ مورد و يجرى فيه اصالة الفساد عند الشك.

توضيح ذلك، أنّ هناك عقود كثيرة في عرف العقلاء مثل البيع و الاجارة و الشركة و المضاربة و شبهها تعدّ من الامور الإمضائية، قد حكم الشارع بصحتها ما عدا ما خرج بالدليل، فقال يا أيّها الذين آمنوا أوفوا بالعقود؛ فإذا شك في اعتبار شي ء فيها، يحكم بالصحة، إلّا أن

يخرج منها بتقييد أو تخصيص؛ فاصالة الصحة حاكمة فيها.

و إن شئت قلت: إنّ الشارع المقدس أخذ فيها بما عند العرف و العقلاء و امضاها إلّا في موارد خاصة، فاضاف على شرائطها و أركانها أو نقص عنها، و لذا يقال باعتبار سيرة العقلاء مع عدم الردع عنها.

لكن النكاح و الطلاق، ليسا من هذا القبيل و إن كانا موجودين في عرف العقلاء قبل نزول الشريعة الإسلامية، و ذلك لأنّ الشارع المقدس أضاف إليها أشياء كثيرة و نقص منها كذلك في الناكح و المنكوح و غيرهما؛ فكأنهما تبدلت ماهيتهما مما كان، فصار كالعبادات من الامور التوقيفية التي لا يمكن الأخذ فيها بعرف العقلاء و سيرتهم بعنوان إنّ عدم الردع فيها كاف في امضائها، بل لا بدّ من ثبوت شرائطها و موانعها من الشرع، و لا يجرى فيهما إلّا اصالة الفساد، فهما من الامور التوقيفيّة التي تحتاج دائما إلى الدليل. و اللّه العالم.

***

[المسألة 1: ممّا ينبغى أن يهتم به الإنسان، النظر في صفات من يريد تزويجها]

اشارة

المسألة 1: ممّا ينبغى أن يهتم به الإنسان، النظر في صفات من يريد تزويجها. فعن النبي صلّى اللّه عليه و آله: اختاروا لنطفكم، فان الخال أحد الضجيعين. «1» و في خبر آخر: تخيروا لنطفكم، فإن الأبناء تشبه الأخوال. «2» و عن مولانا الصادق عليه السّلام لبعض أصحابه حين قال هممت أن أتزوج: انظر اين تضع نفسك و من تشركه في مالك و تطلعه على دينك و سرّك، فإن كنت لا بدّ فاعلا فبكرا تنسب إلى الخير و حسن الخلق. الخبر. «3»

و عنه عليه السّلام: إنما المرأة قلّادة فانظر ما تتقلد؛ و ليس للمرأة خطر لا لصالحتهن و لا لطالحتهن، فاما صالحتهن فليس خطرها الذهب و الفضّة هي خير من الذهب و الفضّة، و أمّا طالحتهن فليس

خطرهن التراب، التراب خير منها. «4»

و كما ينبغى للرجل أن ينظر فيمن يختارها للتزويج، كذلك ينبغى ذلك للمرأة و أوليائها بالنسبة إلى الرجل. فعن مولانا الرّضا عن آبائه عليهم السلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: النكاح رق، فاذا انكح احدكم وليدته فقد ارقها فلينظر أحدكم لمن يرق كريمته. «5»

النظر في صفات من يريد تزويجها

(1) أقول: هذه المسألة بمنزلة الكبرى لبيان استحباب اختيار الزوجة الصالحة من دون ذكر شي ء من صفاتها الخاصة، و الحال أنّ المسألة الآتية لبيان الصغرى، أعني الصفات الخاصّة، و ما يكون دليلا على صلاح الزوج أو الزوجة. و هذه مسألة مهمة و إن اندرجت في المستحبات، و لكن قد تكون أهم من بعض الواجبات و يكون تركها سببا لكثير من المحرمات احيانا؛ كما هو ظاهر لمن تدبر.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 27

و حيث إنّ الصفات تتبع الأهداف (و كل إنسان يطلب ما يجاوب أغراضه و أهدافه)، بين فيها أنّ المقصود من الزواج في المرحلة الاولى هو بقاء النسل الصالح، و لا شك انّ صفات الأبوين تنتقل إلى أولادهما من طريق الوراثة في الجملة (لا كأمر يوجب الجبر بل يساعد على الأعمال الصالحة و الطالحة؛ ففى الواقع، الصفات الرّوحيّة كالصفات الجسمانية من الصحة و المرض تنتقل إلى الأولاد بعنوان المقتضى، لا العلة التامة). فلا بدّ من اختيار زوج أو زوجة يكون فيه المبادى الحسنة، كالبلد الطيب التي يخرج نباته باذن ربه، لا كالبلد الخبيثة التي لا يخرج إلّا نكدا.

و في المرحلة التالية يكون الزوج أو الزوجة شريكا للإنسان في جميع شئون حياته و محرما لأسراره و افكاره و دينه فلا بدّ أن يكون صالحا لهذا الفرض المهم الذى له دور هامّ في حياة الإنسان

اجتماعيا و انفراديا.

و في المرحلة الثالثة كل من الزوجين يكون معرفا لصفات زوجه و كيانه و اخلاقه و يكون زينا له أو شينا و هنّ لباس لكم و أنتم لباس لهنّ و لكن لباس يلبسه مرة غالبا في مدة عمره و يخلعه مرّة فلا بدّ أن يكون فيه ما يكون سببا لزين زوجه و اعتباره و مكانته الاجتماعية و يكون مدافعا له أيضا (كما أنّ اللباس دفاع للإنسان) فلا بدّ أن يكون فيه صفات تقتضي ذلك.

و العجب أنّ كثيرا من الناس إذا أرادوا اشتراء قميص يلبسونها عدّة شهور أو سنة واحدة، يتخيرون و يختبرون و يسئلون و يشاورون، و لكن اللباس الذي يلبسونه طول عمرهم لا يتخيرون له. و رعاية هذا الأمر في أعصارنا أهم و أحرى من الأعصار السابقة، لأمور لا يخفى على الباحث.

***

[المسألة 2: ينبغى أن لا يكون النظر في اختيار المرأة، مقصورا على الجمال و المال

اشارة

المسألة 2: ينبغى أن لا يكون النظر في اختيار المرأة، مقصورا على الجمال و المال.

فعن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من تزوج امرأة لا يتزوجها إلّا لجمالها، لم ير فيها ما يحب، و من تزوجها لمالها لا يتزوجها إلّا له، و كلّه اللّه اليه؛ فعليكم بذات الدين. «1» بل يختار من كانت واجدة لصفات شريفة صالحة، قد وردت في مدحها الأخبار، فاقدة لصفات ذميمة قد نطقت بذمها الآثار. و اجمع خبر في هذا الباب ما عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: خير نسائكم، الولود الودود العفيفة، العزيزة في أهلها، الذليلة مع بعلها، المتبرّجة مع زوجها، الحصان على غيره، التي تسمع قوله و تطيع امره «2» ... إلّا أخبركم بشرار نساءكم، الذليلة في أهلها، العزيزة مع بعلها، العقيم الحقود التي لا تتورّع من قبح، المتبرجة إذا غاب

عنها بعلها، الحصان معه إذا حضر، لا تسمع قوله و لا تطيع أمره، و إذا خلابها بعلها تمنعت كما تمنّع الصعبة عن ركوبها، لا تقبل منه عذرا و لا تقيل له ذنبا. «3»

و في خبر آخر عنه صلّى اللّه عليه و آله: إيّاكم و خضراء الدمن! قيل: يا رسول اللّه! و ما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء «4».

الصفات المطلوبة في النساء

(1) أقول: هذه المسألة بمنزلة الصغرى لما في المسألة السابقة. بيّن فيها الصفات المطلوبة للنساء، و حاصل ما يستفاد من روايات الباب و مما تراه في الخارج، أنّ الإنسان قد يتزوج المرأة لمالها فقط، و اخرى لجمالها فقط، و ثالثة لكمالها؛ فقد ذم الأولتان و مدح الثالث.

و إن شئت قلت؛ النكاح على أقسام، بعضها شهوى، و اخرى تجارى، و ثالثة مقامى، و

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 29

رابعة سياسى، و خامسة قومى عصبى، و سادسة، إنساني، و سابعة إلهي، و كل منها له أصحاب و خيرها أخيرها.

و قد يتزوج امرأة، لها أو لأبيها مال، يرجو مماته ليكتسب ماله من طريق زوجته، و هذا دليل على دنائة الهمة و عدم الاعتماد باللّه و بنفسه. و قد يكون يتزوجها لجمالها فقط و لا يتفكر في صفاتها الاخرى من الديانة و العفة و الوفاء و كرامة الأبوين، و الحال أنّ الجمال يزول بعد ذهاب شبابها بسرعة فتبقى هي و ساير صفاتها، بل قد يكون الجمال مع عدم العفة و الديانة و التقوى سببا لمشاكل عظيمة ينغص العيش و يوجع القلب مما لا يخفى على الخبير. و قد يكون مال المرأة سببا لطغيانها و عدم سلمها، كما يظهر بالتجارب. و قد يريد اكتساب الجاه و المقام الدنيوى من اسرة زوجته

و هذا أيضا دليل على عدم الاعتماد بربّه و بنفسه، و كونه كلّا على غيره.

و هكذا بالنسبة إلى النكاح السياسى و غيره، و هناك سياسات محمودة فقد يقع الخلاف بين القبائل المختلفة بما يوجب اراقة الدماء و الفساد في الأرض، ثم تتصالحان، و تتزوج هذه من هذه و بالعكس، فتقوى العلاقة بينهما و تتسالمان.

و المراد من النكاح الإنساني ما يكون بسبب ما في الزوجة من صفات الفضيلة، من العلم و الفهم و العقل و الدراية و علو الطبع و الوفاء و الأمانة، و إن كانت ضعيفة في المعارف الإلهيّة و الديانة؛ و هذه و إن كان لها كمالات، و لكن إذا خلت من الديانة و الإيمان، لا يمكن الاعتماد الكامل عليها. و أحسن أخلاق المرأة عقلها و دينها و إيمانها و تقواها.

***

ينبغى التنبيه هنا على امور
1- الاختبار لازم من جانب الزوج أيضا

إنّ الاختيار و الاختبار كما يلزم في جانب الزوجة، يلزم في جائب الزوج أيضا، كما نطقت بها الأخبار و الآثار. فقد ورد في أخبار كثيرة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عن الأئمة المعصومين عليهم السّلام أنّه إذا جاءكم من ترضون خلقه و دينه تزوجوه، إلّا تفعلوا تكن فتنة في انوار الفقاهة، ج 3، ص: 30

الأرض و فساد كبير. «1»

و هذه الروايات من جانب، تدل على اعتبار الخلق الحسن و الدين و التقوى في الزوج، و من جانب آخر على عدم التشديد و الوسواس، و مراعاة الامور المادية و الاعتبارية في زواج البنات. كما قد ورد في روايات كثيرة، النهي عن تزويج البنت لشارب الخمر و سيّئ الخلق. «2»

و من جميع ذلك يظهر لزوم رعاية الصفات الحسنة في تزويج البنات، و اختيار الصهر بغير تشديد.

2- الصفات الحسنة لا تجتمع في واحد عادة

من الامور التي ينبغى لكل إنسان التوجه اليه، أنّ الصفات الحسنة، لا تجتمع في واحد عادة إلّا المعصومين أو الاوحدى من الناس؛ فلذا لا بدّ من ملاحظة المجموع من حيث المجموع. و بعبارة اخرى لا بدّ من الكسر و الانكسار، و الجمع و التفريق، و العمل بما يبقى بعد ذلك؛ فمن كان فيه كثير من الصفات الحسنة، يغتفر عنه بعض الصفات غير الحسنة، و إذا كان المعدل إيجابيا لا يلاحظ بعض الجهات السلبية.

و لو أصرّ الإنسان على جمع جميع الصفات الحسنة في الزوج أو الزوجة، يبقى بلا زوج. و قد ورد في الحديث العلوى عليه السّلام: من استقصى على صديقه انقطعت مودته. «3» و هذا الحديث و إن ورد موردا آخر إلّا أنّه يعلم حكم المقام منه، و ببالي إنّي رأيت في بعض الروايات مضمونه من استقصى في

الصفات بقى بلا صديق. «4» و مثله يجرى في حق الزوج.

3- التشاور في الزواج

التشاور في كل امر مهم حسن و في الزواج أحسن، لا سيما للشباب، لأنّه ليس لهم تجربة في هذا الأمر و الغالب في الناس أنّهم لا يجرّبون هذه المسألة إلّا مرّة واحدة، فليس للشباب خبرة بأمر النكاح، و لهذا ليس لهم غنى عن التشاور مع ذوى اللّب و اهل الخبرة و التجربة في هذا الأمر، لا سيما أنّ بعض الظواهر الحسنة قد يخدعهم أو يعمي أبصارهم و يصمّ أذانهم. هذا، مع أنّ الندامة في النكاح، غالبا لا يمكن تداركها و لا يوجد فيه سبيل إلى الرجوع قهقرى إلّا بخسائر كبيرة مادية و معنوية.

4- خفّة المئونة في النكاح مطلوب

مما ورد التأكيد فيه، هو خفة المئونة في النكاح و المهر و جميع امور الحياة. فقد ورد في الحديث: أمّا شوم المرأة، فكثرة مهرها و عقوق زوجها. «1» و في رواية اخرى عن أبى عبد اللّه عليه السّلام: من بركة المرأة خفة مؤنتها و تيسير ولادتها و من شؤمها شدة مؤنتها و تعسير ولادتها. «2» و نرى في عصرنا هذا مهورا ليس فيها ايّ غرض عقلائي و فيها آلاف ألوف من الدنانير الغالية؛ و قد أفتينا بفساد بعضها من حيث كونها سفهيّا، و حكمنا بوجوب مهر المثل بدلها.

إن قلت: أو ليس اللّه تعالى يقول: ... وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً. «3» و المعروف، أنّ القنطار ملأ مسك ثور ذهبا.

قلنا: أولا، القنطار المأخوذ من القنطرة، كما ذكره الراغب في مفرداته و هو الجسر الذى يعبر عنه، و هو إشارة إلى المال الذي فيه عبور الحياة، تشبيها بالقنطرة، و ذلك غير محدود القدر في نفسه، و إنّما هو بحسب الاضافة (بحسب الأشخاص)؛ ثم نقل عن بعضهم أنه أربعون أوقية، (و الأوقيه

سبعة مثاقيل)؛ و عن بعضهم انّه 1200 دينارا، ثم قال: و قيل، ملأ

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 32

مسك ثور ذهبا. و يقرب منه قول غيره. فالمعنى الأخير قول ضعيف، و الأصل أنّه مال كثير؛ فلا دلالة لها على ما ذكر.

و ثانيا، إنّ السفه كما يجرى في البيع، بأن يشترى الإنسان ما قيمته مأئة دينار بالف دينار؛ يجرى في النكاح بأن ينكح من يكون مهر المثل فيه مأئة، بالف؛ إلّا أن يكون هناك أغراض خاصة عقلائية.

5- كثرة مطالبات كل من الزوجين من الاخر يخرب بناء الاسرة

مما يخرب بناء الاسرة و يزلزل أساس الزواج كثرة مطالبات الزوج من زوجته أو بالعكس. و لا يدوم بيت النكاح إلّا بقلّة المطالبة، و المداراة و العفو و الصفح، بل لا يمكن التعاشر مع الناس إلّا بذلك، بل يجب في كثير من المواضع، التغافل. فقد ورد في الحديث المعروف عن مولانا على بن الحسين زين العابدين عليه السّلام مخاطبا- ابنه محمّد بن على عليهما السّلام-: اعلم يا بنى إنّ صلاح الدنيا بحذافيرها في كلمتين، إصلاح شأن المعايش ملؤ مكيال، ثلثاه فطنة و ثلثه تغافل. «1»

و لو لا التغافل، لا يمكن التعاشر السلمى مع الناس غالبا، كما لا يخفى على الخبير.

6- السعى في انكاح الايامى مستحب

يستحب- بل قد يجب- السعى في انكاح الأيامى، كما صرّح به في الكتاب العزيز. و إنّما يجب إذا كان الطريق الوحيد أو أحد الطرق للأمر بالمعروف و النهى عن المنكر، فكما يجب التزويج لمن يخاف وقوعه في الحرام، فكذلك الانكاح في هذه الموارد. و قد مرّ بعض الأحاديث في التأكيد على هذا الأمر، و قد روى السكونى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: أفضل الشفاعات أن تشفع بين اثنين في نكاح حتى يجمع اللّه بينهما. «2»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 33

و عن موسى بن جعفر عليه السّلام: أن للّه ظلّا يوم القيامة لا يستظلّ تحته إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ أو عبد اعتق عبدا مؤمنا، أو عبد قضى مغرم مؤمن، أو مؤمن كفّ ايمة مؤمن. «1»

و الايمة، من آم، يئيم، ايمة. و الوصف، الايّم، للذكر و الانثى. بمعنى من فقد زوجه أو فقد من أول الأمر كما صرّح به في المجمع.

و على كل حال يمكن أن يكون ذلك بصورة الانفراد، أو

يكون هناك مشروع وسيع لهذا الأمر الهامّ؛ و الانصاف أنّ من شأن الحكومة الإسلامية تنظيم برنامج لهذه المهمّة، و اعطاء تسهيلات للشباب في هذا الطريق حتى يطهر المجتمع الإسلامي من دنس المفاسد الأخلاقية التي ملأت الجوامع غير المؤمنة بما فيها من الآثار السيّئة في الدنيا و الآخرة.

*** و هنا في تحرير الوسيلة 9 مسألة، ناظرة إلى المستحبات أو امور واضحة من الواجبات أو المحرمات لم نتعرض لها ايكالا إلى وضوحها، فراجعها و تأمل فيها. فنبدأ الآن من المسألة 12 من المسائل التي تعرض لها.

***

[المسألة 12: لا يجوز وطؤ الزوجة قبل اكمال تسع سنين

اشارة

المسألة 12: لا يجوز وطؤ الزوجة قبل اكمال تسع سنين. دواما كان النكاح أو منقطعا؛ و أمّا سائر الاستمتاعات كاللمس بشهوة و الضمّ و التفخيذ، فلا بأس بها حتى في الرضيعة.

و لو وطأها قبل التسع و لم يفضها، لم يترتب عليه شي ء غير الإثم على الأقوى. و إن أفضاها- بأن جعل مسلكي البول و الحيض واحدا، أو مسلكى الحيض و الغائط واحدا- حرم عليه وطؤها أبدا، و لكن على الأحوط في الصورة الثانية.

و على أيّ حال لم تخرج عن زوجيته على الأقوى، فيجري عليها أحكامها من التوارث و حرمة الخامسة و حرمة اختها و غيرها، و تجب عليه نفقتها ما دامت حيّة، و إن طلّقها، بل و إن تزوجت بعد الطلاق على الاحوط، بل لا يخلو من قوة.

و يجب عليه دية الافضاء و هي دية النفس، فاذا كانت حرّة فلها نصف دية الرجل مضافا إلى المهر الذي استحقته بالعقد و الدخول.

و لو دخل بزوجته بعد اكمال التسع فافضاها، لم تحرم عليه و لم تثبت الدية، و لكن الاحوط الانفاق عليها ما دامت حيّة، و إن كان الأقوى عدم الوجوب.

موضوع الافضاء و احكامها

(1) أقول: هذه المسألة من المسائل المهمّة، و تشتمل على فروع كثيرة، و قد بحث في العروة الوثقى عن هذه المسألة في عشرة مسائل، و نحن نتكلم عن هذه الفروع الموجودة في التحرير، ثم نتكلم إن شاء اللّه، في ما يبقى، بعد ذلك.

[فروع المسألة]
1- حرمة وطى الزوجة قبل اكمال تسع سنين
اشارة

لا يجوز وطؤ الزوجة قبل اكمال تسع سنين، بل لا يجوز بعده إذا خيف عليها ضرر أو خطر بعدم الاستعداد الجسمانيّ؛ و إنّما يجوز إذا أمن من الضرر و الخطر عليها، و بلغت مبلغا تستعد للمواقعة؛ و تختلف الأفراد في ذلك، و كذلك البلدان؛ و قد كان تزويج الصبيّة لتسع سنين و زفافها، معمولا بين بعض الأقوام في سابق الأيام، و لم يكن ذلك إلّا

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 35

لاستعدادهنّ لذلك، لا سيما إذا كان الزوج أيضا مراهقا لا يكون منشأ لخطر عليها.

و قد كان هذا أيضا متداولا بينهم.

و على كل حال، القول بحرمة الوطء قبل ذلك ممّا أجمع أصحابنا عليه كما صرح به في الجواهر و قال: إجماعا أيضا بقسميه. «1»

و قال شيخ الطائفة في النهاية: و لا يجوز للرجل أن يدخل بامرأته قبل أن يأتي لها تسع سنين؛ فان دخل بها قبل أن يأتي لها تسع سنين فعابت، كان ضامنا لعيبها؛ و يفرق بينهما و لا تحلّ له أبدا. «2»

و قال النراقي في المستند: لا يجوز الدخول بالمرأة قبل اكمالها تسع سنين بالإجماع المحقق و المحكيّ مستفيضا. «3»

و به صرّح في جامع المقاصد و المسالك حيث قالا: لا خلاف في تحريم وطئ الانثى قبل أن تبلغ تسعا. «4»

أمّا فقهاء العامة فقد تعرضوا الأحكام الافضاء مشروحا كما سيأتي إن شاء اللّه؛ و لكن لم نر لهم حكما بحرمة الدخول قبل التسع أو

العشر أو غيرهما؛ نعم، ذكر النووي في كتاب المجموع أنّه: إذا كانت الزوجة لا تحتمل الوطء بالافضاء، فلا يجوز له وطيها كما لا يلزمها تمكينه. «5»

و من الواضح أنّ هذا غير ما ذكره الأصحاب (قدس اللّه أسرارهم).

و يدل على أصل الحكم- أي حرمة الوطء قبل تسع سنين- مضافا إلى الإجماع المذكور- روايات كثيرة:

1- ما رواه الكليني (قدس سره) في الصحيح، عن الحلبى، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال:

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 36

إذا تزوج الرجل الجارية و هي صغيرة، فلا يدخل بها حتى يأتي لها تسع سنين. «1»

2- ما رواه عن عمار السجستاني، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول لمولى له: انطلق فقل للقاضي قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: حدّ المرأة، أن يدخل بها على زوجها، ابنة تسع سنين. «2»

3- ما رواه في دعائم الإسلام، عن جعفر بن محمد عليه السّلام أنّه قال: من تزوج جارية صغيرة فلا يطأها حتى تبلغ تسع سنين. «3»

و هناك طائفة من الروايات، تدل على التخيير بين تسع سنين أو عشر سنين، مثل ما رواه زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: لا يدخل بالجارية حتى يأتي لها تسع سنين أو عشر سنين. «4»

و مثلها ما رواه أبو بصير، عنه عليه السّلام. «5»

و هناك طائفة ثالثة، تدل على خصوص عشر سنين، مثل ما رواه غياث بن ابراهيم، عن جعفر، عن أبيه، عن على عليه السّلام، قال: لا توطأ جارية لأقل من عشر سنين؛ فان فعل، فعيب، فقد ضمن. «6»

و يمكن حمل روايات التخيير على الاستحباب، لعدم امكان التخيير بين الأقل و الأكثر، و هذا الجمع قريب. و كذا ما دل على خصوص العشر يحمل على

الاستحباب بقرينة الروايات الدالة على التخيير. و قد يقال أنّ المراد بالعشر أول العشر أي تمام التسع و الدخول في العاشرة؛ و الأمر سهل، لا سيما بعد الإشكال في بعض اسناد الروايات الدالة على العشر.

***

بقي هنا شي:

و هو أنّ ظاهر الأدلة، كون هذا الحكم أي الحرمة، عاما يشمل صورة خوف الإفضاء و عدمه، و أن كانت الحكمة غلبة خوف الإفضاء في أفرادها، إلّا أنّه حكمة لا علّة؛ فلو كانت الزوجة رشيدة في حال الصغر و كان الزوج حديث السنّ لا يخاف من دخوله عيب على الزوجة، كانت الحرمة ثابتة.

بل يمكن تعميم الحكم لما إذا كانت المراة بالغة، و لكن كانت نحيفة يخاف عليها الافضاء أو العيب، لا يجوز دخوله بها؛ و لا يجب عليها التمكين؛ و لو استمرّ ذلك مدة طويلة، لا يبعد جواز الفسخ للزوج.

2- حكم سائر الاستمتاعات غير الوطء منها

قد صرّح غير واحد من المتأخرين و المعاصرين بجواز سائر الاستمتاعات منها دون الدخول، و قد صرح به في الجواهر، قال: نعم، لا بأس بالاستمتاع بغير الوطء، للأصل السالم عن المعارض. «1»

هذا، و لكن الانصاف أنّ بعض الاستمتاعات بالنسبة إلى الصغيرة كالرضيعة و مثلها، قبيح جدّا في عرف العقلاء، و كان قبحه من المستقلّات العقلية أو العقلائية، فلذا يخرج عن تحت عمومات الحلّية، كما لا يخفى.

3- لو وطئها و لم يوجب إفضاء فما حكمه؟

إذا ارتكب الحرام و وطأ قبل أن تبلغ تسع سنين و لم يوجب إفضاء و لا عيبا، لم يكن عليه شي ء (سوى التعزير على فرض العلم و العمد في كلّ كبيرة)؛ هذا هو المشهور، و لكن عن الشيخين في المقنعة و النهاية، و ابن ادريس في السرائر، الحرمة أبدا بمجرّد الدخول؛ و نسبه في الكفاية إلى جماعة، و ظاهر المفاتيح الميل إليه، (كما في المستند).

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 38

و قد يستدل له بمرسلة يعقوب بن يزيد، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

إذا خطب الرجل المراة، فدخل بها قبل أن تبلغ تسع سنين، فرق بينهما، و لم تحلّ له أبدا. «1»

و لكن الاستدلال باطلاقها بعد ضعف السند، و قوة حملها على غيرها ممّا يدل على ثبوت هذا الحكم عند الافضاء، مشكل جدا؛ لا سيما مع عدم ثبوت النسبة إلى هؤلاء الأعلام، فالأقوى فيه ما عرفت.

4- اذا دخل بها فأفضاها

إذا دخل بها قبل تسع سنين، فافضاها، تترتب عليه أحكام أربعة على المشهور:

1- تحرم عليه وطؤها أبدا.

2- تجب عليه نفقتها ما دامت حيّة.

3- تجب عليه دية الافضاء، (و هي دية كاملة للمرأة، خمس مأئة دينار).

4- تجرى عليها أحكام الزوجة من التوارث و غيره ما لم يطلّقها.

و أمّا الحرمة الأبدية، فلا دليل عليها إلّا مرسلة يعقوب بن يزيد، التي مرّت آنفا؛ و فيه، أنّها ضعيفة السند أوّلا، و لا تختصّ بالافضاء ثانيا، و انجبارها بعمل المشهور، مع اطلاقها بل ظهورها في استناد الحرمة إلى مجرّد الدخول لا إلى الافضاء، مشكل جدا.

هذا مضافا إلى أنّ التحريم المؤبد مخالف لمقتضى النكاح، و المفروض أنّ النكاح باق على حاله، و قد دلت عليه الروايات كما ستسمعها إن شاء اللّه.

فاذن يبدو هنا

أمر عجيب ليس له نظير في الفقه ظاهرا، و هو أن تكون المرأة زوجة له مع حرمة وطيها أبدا، و كيف يمكن إثبات هذا الأمر العجيب برواية مرسلة، لم يثبت انجبارها.

أضف إلى ذلك، أنّ فيه ضررا عظيما على الزوجة، لا سيما إذا كانت شابة و كانت قابلة للمواقعة، و لو في حال الافضاء، فان الافضاء قد لا يكون مانعا عنها؛ و لعله لذلك كله مال انوار الفقاهة، ج 3، ص: 39

إلى الحليّة جماعة من المتأخرين.

هذا كله إذا لم تندمل و أمّا إذا اندملت أو صارت كاليوم الأول بسبب عمل الجراحية، فلا وجه فيها للحرمة أبدا و لا معنى له.

و العجب أنّه قد يظهر من بعضهم بقاء الحرمة، و لو بعد الاندمال!

و أمّا وجوب الانفاق عليها ما دامت حيّة، فهو أيضا مشهور و صرح في الجواهر بعدم وجدانه الخلاف فيه، بل حكى الإجماع عليه عن جماعة. «1» و عمدة ما يدل عليه هو صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن رجل تزوج جارية فوقع بها فافضاها.

قال: عليه الاجراء عليها ما دامت حيّة. «2»

هذا، و لكن ظاهره الاطلاق بالنسبة إلى ما دون التسع و ما بعده، فان الجارية لها مفهوم عام تشمل كل شابة؛ و لكن المشهور- كما قيل- شهرة عظيمة تكاد تكون إجماعا، على اختصاص الحكم بالصغيرة؛ و لكن الانصاف أنّ هذا غير كاف في تقييد اطلاق الرواية.

بل الظاهر اطلاقها و شمولها حتى لما بعد الطلاق، خلافا لما عن الإسكافي، فانّه منع منه بعد الطلاق و لا وجه له؛ لا سيّما مع قوله عليه السّلام في مصحح حمران، من تعليل الدية بل و الانفاق، بقوله: قد أفسدها و عطّلها على الازواج. «3»

نعم، القول

بشموله حتى لما بعد النكاح الجديد و الانفاق عليها من زوجها الجديد، غير خال عن الإشكال؛ لأنّ تعدد الانفاق بعيد جدّا لأنّها حينئذ لم تعطل على الأزواج، و هناك من ينفق عليها، فانصراف الاطلاق عنه غير بعيد.

و القول بأنّ أحد الانفاقين من باب الزوجية، و الآخر من باب الجريمة، كما ترى، فانّه مناف لمفهوم الانفاق.

و أمّا الدية، فهي أيضا ممّا اشتهر بين الاصحاب، بل ادعى عليها الإجماع، بل عن العامة أيضا وجوب الدية بالافضاء إمّا مطلقا، أو في خصوص الصغيرة، و مثلها قال ابن انوار الفقاهة، ج 3، ص: 40

قدامة في المغنى: أنّ الضمان يجب بوطء الصغيرة أو النحيفة التي لا تحتمل الوطء دون الكبيرة المحتملة له؛ و بهذا قال أبو حنيفة. و قال الشافعي: يجب الضمان في الجميع، لأنّه جناية فيجب الضمان به؛ ثم حكى مقدار الدية عن بعضهم الثلث، و عن بعضهم الدية الكاملة؛ (الأول عن قتادة و أبي حنيفة، و الثاني عن الشافعي). «1»

و حكي النووي في المجموع، عن بعضهم، التفصيل بين أنواع الافضاء، ففى بعضها تجب ثلث الدية و في بعضها الدية كاملة. «2»

و على كل حال، يدل عليه مضافا إلى ما ذكر، عدّة روايات:

1- ما رواه حمران، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: سئل عن رجل تزوج جارية بكرا لم تدرك، فلمّا دخل بها اقتضها فافضاها؟ فقال: إن كان دخل بها حين دخل بها و لها تسع سنين، فلا شي ء عليه؛ و إن كانت لم تبلغ تسع سنين، أو كان لها أقل من ذلك بقليل، حين اقتضها، فانّه قد افسدها و عطّلها على الأزواج، فعلى الإمام أن يغرمه ديتها؛ و إن امسكها و لم يطلقها، فلا شي ء عليه. «3»

2- و

مثله مع تفاوت بيسير ما رواه بريد بن معاوية العجلي، عن الباقر عليه السّلام. «4»

3- و احسن منهما، ما ورد في أبواب الديات، من صحيح سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن رجل وقع بجارية فافضاها، و كان إذا نزلت بتلك المنزلة لم تلد؛ قال: الدية كاملة. «5»

و لكن الذي يظهر من ذيل الأولتين، سقوط الدية بامساكها و عدم طلاقها؛ و عن ابن الجنيد الاسكافي، العمل به.

و لكنه معرض عنه بين الأصحاب؛ و الوجه فيه ظاهر، فانّ الدية لزمت بالجناية، و لا وجه لسقوطها بمجرد بقاء نكاحها؛ اللّهم إلّا أن يكون ذلك من باب التصالح بينهما و هو غير بعيد.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 41

هذا، و الانصاف أنّ موارد الافضاء، مختلفة، كما سيأتي؛ ففي بعضها يلزم تعطيل المرأة على الأزواج، ففيه الدية الكاملة؛ و في بعضها ليس كذلك، بحيث يكون كالجائفة، ففى وجوب الدية الكاملة حينئذ تأمل واضح.

و أمّا بقاء احكام الزوجيّة إلى أن يطلّقها، و هذا أيضا مشهور بين فقهائنا، بل ادعى في الجواهر فتوى المعظم بل الكل عليه. «1» و يدل عليه، أنّ الخروج عن الزوجية يحتاج إلى أسباب معينة، و ما لم يثبت لا يخرج عنها؛ لا لمجرّد الاستصحاب حتى يقال أنّ المقام من الشبهات الحكميّة، و قد استشكلنا في حجيته، بل لما عرفت من أنّ الخروج عنها منوط بأسباب معينة و لم يحصل شي ء منها.

مضافا إلى ما عرفت في ذيل روايتى حمران و بريد بن معاوية «2» من قوله: و إن امسكها و لم يطلقها فلا شي ء عليه؛ الظاهر بل الصريح في بقاء الزوجية بحالها؛ اللّهم إلّا أن يقال بإن ذيلهما- كما عرفت- غير معمول به عند

الأصحاب.

و الذي يمكن الاستدلال به للخروج عن الزوجية، أمران:

1- ما ورد في مرسلة يعقوب بن يزيد، «3» من قوله: فرق بينهما؛ الظاهر في حصول البينونة و بطلان الزوجية؛ و لكن ضعف سندها، و أعراض الأصحاب عنها، يسقطانها عن الحجيّة.

2- أنّ بقائها مع حرمة وطيها أبدا متنافيان، و لكن قد عرفت أنّ الأقوى عدم حرمته.

المراد من الافضاء

يبقى الكلام في المراد من الافضاء هنا؛ فقد اختلفت فيه كلمات فقهاء الخاصة و العامة، و صارت المسألة معركة للآراء و اختلاف الأقوال بين الفريقين متقاربة. «4»

و حاصل الكلام فيه بما يكشف النقاب عن وجه المسألة، أنّ الافضاء في اللغة مأخوذ

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 42

من الفضاء و هو المكان الواسع، و قد يستعمل في الجماع و اللمس و شبههما (من جهة الاتصال في المكان الواسع)، و لكن المقصود منه في المقام ليس مطلق إيجاد الفضاء الواسع في الفرج بالفعل العنيف، بل الظاهر أنّ لهم اصطلاح خاص فيه، و لكن اختلفوا في تفسيره بأقوال:

1- اتحاد مسلكى البول و الحيض.

2- اتحاد مسلكى الحيض و الغائط.

3- يكفى كل منهما في صدق الافضاء.

4- اتحاد مسلكى البول و الغائط (و لكن هذا غير ممكن بدون اتحاد المسالك الثلاثة).

5- اتحاد المسالك الثلاثة.

و قد ذهب إلى كل منها بعضهم؛ و توضيح ذلك، أنّ للمرأة مسالك ثلاثة: مسلك البول و هو في الفوق، و مسلك الحيض و الجماع و هو في الوسط، و مسلك الغائط و هو في الأسفل، (و الأولان واقعان في فضاء الفرج و الآخر مستقل).

و حيث إنّ الحاجز بين مسلكى البول و الحيض رقيق، و بين مسلك الحيض و الغائط غليظ، استبعد كثير منهم اتحاد الأخيرين، و اكتفى بالأولين؛ و لكن صرّح بعضهم بأنّ اتحاد الاخيرين

أيضا ممكن و إن كان نادرا.

هذا، و الانصاف عدم قيام دليل على شي ء من هذه الامور، لعدم ذكرها في اللّغة (إلّا تبعا لبعض كلمات الفقهاء) و عدم ورود شي ء منها في الروايات.

فالحق أن يقال إنّ عنوان الافضاء و إن ورد في روايات عديدة (منها 1/ 34 و 3/ 34 و 4/ 34)، و لكن لعل المراد منها هو معناه اللغوي، و هو ايجاد الفضاء الواسع في الفرج بالخرق و يدل عليه التعبير باقتضها؛ في غير واحد من روايات الباب.

و لكن يفسر الجميع قوله: قد أفسدها و عطّلها على الأزواج؛ في معتبرة حمران (1/ 34)، و هو الذي ينبغي أن يستند إليه الفقيه في المقام، فالمعيار هو فساد المرأة، أي تعطيله على الأزواج.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 43

و إن شئت قلت: الافضاء في الأصل مأخوذ من الفضاء، و هو المحل الواسع؛ فالافضاء بمعنى جعل الشي ء واسعا، و قد يأتي بمعنى الملامسة؛ فانّ الشي ء يتسع و يصل إلى غيره، (و هو كناية عن الجماع المتعارف، كما في الآية 21 من النساء).

و لكن قد فسّره غير واحد من أرباب اللغة، كالقاموس و لسان العرب، بأنّ المراد: إذا جعل مسلكيها مسلكا واحدا؛ من غير الإشارة بأنّ المراد أي المسلكين؟ و قد صرّح بعضهم كالطريحى في مجمع البحرين، بأنّ المراد مسلك البول و الغائط (انتهى). و لكن قد عرفت أنّ اتحاد هذين المسلكين يوجب اتحاد الجميع.

و لكن هل هذا من المعانى اللغوية، أو أخذه أرباب اللغة من الفقهاء؟ لاتفاق فقهاء العامة و الخاصة على تفسيره به إجمالا.

و على كل حال لا يبعد أن يقال ان معناه الأصلي ايجاد الوسعة و الاتساع في شي ء، ثم إنّه لما لم يمكن الاتساع في مقام

البحث، بغير خرق أحد الجدارين (ما بين مسلكى البول و الحيض، أو الحيض و الغائط)، فسّر بذلك، فهو اصطلاح فقهي مأخوذ من معناه اللغوى؛ فعلى هذا لا فرق بين جميع الصور الثلاثة، جعل مسلكى البول و الحيض واحدا، أو مسلكي الحيض و الغائط أو الجميع واحدا.

هذا، و لكن يمكن أن يكون المدار على فسادها و تعطيلها على الأزواج، فلو فرض اتحاد بعض مسالكها مع بعض و لم تعطّل على الأزواج، أي كانت مستعدة للوطئ، كاستعدادها للولادة، خرجت عن حكم المسألة من وجوب الانفاق عليها ما دامت حيّة و شبهه، و إن صدق عليها أنّها مفضاة في الجملة؛ فالحكم دائما يدور مدار هذا العنوان بقرينة معتبرة حمران؛ نعم، إذا حصل فيها نقص و لم تعطل على الأزواج، وجب أرش الجناية على كل حال.

***

بقي هنا أمران:

الأول: أنّه إذا عالجها بعض الأطباء، فصلحت للأزواج، بعد أن تعطلت، و هو أمر سهل انوار الفقاهة، ج 3، ص: 44

في أعصارنا و هو عصر الترقيع و نقل الأعضاء من بعض إلى بعض، تبدل الحكم لتبدل موضوعه، فان حديث حمران كالقياس المنصوص العلّة،- و العلّة تعمّم و تخصص- فالحكم بحمد الله واضح.

هذا، و لكن هل تجب الدية الكاملة في هذه المقامات التي يعود الإنسان إلى حاله الأول بسهولة أو بصعوبة؟، لا يبعد نقصان الدية في هذه المقامات، كما ورد في أبواب كسر العظام و أنّه لو كسرت و عادت بغير نقص، كانت ديتها انقص.

و قد صرّح في التحرير، أنّه إذا كسرت العنق و انحنى وجبت دية كاملة، و أنّه لو زال العيب فلا دية، و عليه الأرش؛ و في دية الظهر و أنّه إذا انكسروا حدود دية كاملة و أنّه لو صلح و عولج

و لم يبق من آثار الجناية شي ء فمائة دينار؛ «1» إلى غير ذلك من أمثالها.

الثاني: المعروف بينهم أنّه إذا وقع الافضاء بعد تسع سنين، فلا شي ء على الزوج؛ و الانصاف أنّ هذا الحكم على اطلاقه ممنوع جدّا، فان كانت الزوجة نحيفة و الزوج قويا يخاف عليها الافضاء، فانه لا يجوز له و لا يجب عليها التمكين، فلو افضاها و الحال هذا، ضمن على الأحوط لو لا الأقوى.

نعم، لو لم يكن هناك خوف، و رضيت بذلك، لم يكن عليه شي ء لإقدامها على الفعل، فلا يلزم الضمان عليه.

***

[المسألة 13: لا يجوز ترك وطء الزوجة أكثر من أربعة أشهر إلّا باذنها]

اشارة

المسألة 13: لا يجوز ترك وطئ الزوجة أكثر من أربعة أشهر إلّا باذنها، حتى المنقطعة، على الأقوى؛ و يختص الحكم بصورة عدم العذر، و أمّا معه فيجوز الترك مطلقا ما دام وجود العذر، كما إذا خيف الضرر عليه أو عليها، و من العذر عدم الميل المانع عن انتشار العضو.

و هل يختص الحكم بالحاضر فلا بأس على المسافر، و إن طال سفره، أو يعمّها فلا يجوز للمسافر إطالة سفره أزيد من أربعة أشهر، بل يجب عليه مع عدم العذر الحضور لإيفاء حق زوجته؟ قولان: أظهرهما الأول، لكن بشرط كون السفر ضروريا، و لو عرفا، كسفر تجارة أو زيارة أو تحصيل علم و نحو ذلك، دون ما كان لمجرّد الميل و الانس و التفرج و نحو ذلك، على الأحوط.

ترك وطى الزوجة اكثر من اربعة اشهر

(1) أقول: المعروف من مذهب الأصحاب أنّه لا يجوز ترك وطئ الزوجة أكثر من أربعة أشهر، بل ادعى عليه الإجماع. قال في الحدائق: قد صرّح الأصحاب بأنّه لا يجوز ترك وطئ الزوجة أكثر من أربعة اشهر. «1» و قال في المسالك: هذا الحكم موضع وفاق، و به حديث ضعيف السند ... و روى العامة أنّ عمر سأل نساء أهل المدينة- لما أخرج أزواجهن إلى الجهاد، و سمع امرأة تنشد أبياتا من جملتها:

فو الله، لو لا الله لا شي ء غيره لزلزل من هذا السرير جوانبه!

- عن أكثر ما تصبر المرأة عن الجماع؟ فقيل له: اربعة أشهر، فجعل المدّة المضروبة للغيبة أربعة أشهر. «2»

و استدل له بامور:

1- الإجماع الذي حاله معلوم.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 46

2- لزوم العسر و الحرج و الضرر، و لكنه يختلف باختلاف الموارد.

3- ما يستفاد من حكم الايلاء، كما قال الله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ

أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* وَ إِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ «1» فانّ الايلاء و هو نوع من القسم اعتبر إلى أربعة اشهر، و هذا دليل على عدم وجوب الجماع قبل ذلك، و إلّا لم يرخص الله لهم تأخير هذه المدّة؛ فقد خير الزوج بعد هذه المدّة بين أمرين: الرجوع إلى الزوجة، و ترك القسم الدائر على عدم مقاربته، أو طلاقها؛ و هو دليل على جواز تأخيره إلى هذه المدّة لا أكثر؛ و لا بأس بهذا الاستدلال.

4- و لعله العمدة، ما رواه صفوان بى يحيى، عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام، أنّه سأله عن الرجل تكون عنده المراة الشّابة، فيمسك عنها للأشهر و السنة لا يقربها، ليس يريد الاضرار بها، يكون لهم مصيبة، يكون في ذلك آثما؟ قال: إذا تركها أربعة أشهر كان آثما بعد ذلك. «2»

و قد عرفت أنّ الشهيد الثاني قدّس سرّه وصفه بضعف السند، و لعله نظر في ذلك إلى بعض اسناد الشيخ (قدس سره) هنا، فانّه رواه عن علي بن أحمد بن أشيم، و هو مجهول، و لكن بعض طرق الشيخ، و كذا طريق الصدوق إليه معتبر، فلا غبار على الحديث من هذه الجهة؛ لكن موردها المرأة الشابة، و تعميم الحكم إلى غيرها يحتاج إلى دليل.

5- مرسلة جعفر بن محمد، عن بعض رجاله، عن الصادق عليه السّلام قال: من جمع من النساء ما لا ينكح، فزنا منهن شي ء، فالإثم عليه. «3»

و هو مع ضعف السند، لا يدل على اربعة أشهر، فلا يصلح إلّا مؤيدا.

و هذه الأدلة الخمسة و إن كان في كل واحد ضعف من جهة، و لكن لا يبعد إثبات المقصود مع ضمّ بعضها ببعض.

هذا،

و لا يبعد شمولها أيضا للشابة و غيرها إلّا القواعد من النساء، بل يمكن أن يقال انوار الفقاهة، ج 3، ص: 47

لو كانت الزوجة تقع في الإثم في هذه المدّة و أقل منها، يجب على الزوج إتيانها، من وجوب حفظها عن الإثم مهما أمكن بمقتضى أدلة النّهي عن المنكر، مضافا إلى كون الزوج لباسا لهن بمقتضى قوله تعالى: وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ يمنعها عن القبيح، و كذلك إذا لم تقع في الحرام و لكن كانت في عسر و حرج و ضرر.

***

بقي هنا أمران:
الأوّل: هل هناك فرق بين الحاضر و المسافر؟

اطلاق الأدلة، دليل على العموم، و ما عرفت من جواب الأصحاب لعمر؛ و لكن قد يدعى جريان السيرة على خلافه، لا سيما في سابق الأيّام التي كانت الأسفار للتجارة أو الزيارة طويلة، و فعل عمر ليس بحجة؛

و الانصاف أنّ جريان السيرة مع عدم ضرورة السفر و عدم رضا الزوجة محل تأمل؛ فالأحوط لو لا الأقوى هو العموم إلّا مع رضاها.

الثاني: هل هناك فرق بين الدائمة و المنقطعة؟

فيه قولان: فعن الشهيد الثاني في الروضة الشمول، و عنه في المسالك، الخصوص؛ و علّله بانه القدر المتيقن مع عدم جريان كثير من أحكام الزوجية على المنقطعة.

و الانصاف أنّ النص و معاقد الإجماع، عام؛ و اللّه العالم.

***

[المسألة 14: لا إشكال في جواز العزل

اشارة

المسألة 14: لا إشكال في جواز العزل، و هو اخراج الآلة عند الانزال و افراغ المني إلى الخارج، في غير الزوجة الدائمة الحرّة، و كذا فيها مع إذنها؛ و أمّا فيها بدون اذنها؛ ففيه قولان: أشهرهما الجواز مع الكراهة، و هو الأقوى، بل لا يبعد عدم الكراهة في التى علم أنّها لا تلد، و في المسنّة و السليطة و البذية و التي لا ترضع ولدها؛ كما أنّ الأقوى عدم وجوب دية النطفة عليه و إن قلنا بالحرمة، و قيل بوجوبها عليه لزوجته، و هي عشرة دنانير و هو ضعيف في الغاية.

حكم العزل

(1) أقول: المشهور- كما في الجواهر و غيره- كراهة العزل عن الحرّة الدائمة بغير رضاها، و قيل- و القائل هو الشيخ المفيد في المقنعة، و شيخ الطائفة في الخلاف، و المبسوط، و جماعة اخرى كما حكى عنهم- هو محرم؛ و استدل للحرمة بروايات رواها الفريقان في كتبهم؛ فعن طريق الخاصة عدّة روايات رواها في الوسائل في الباب 74 من أبواب مقدمات النكاح؛ منها:

1- ما رواه في دعائم الإسلام، عن على عليه السّلام قال: الوأد الخفى أن يجامع الرجل المرأة، فاذا أحسّ الماء نزعه منها فأنزله فيما سواها؛ فلا تفعلوا ذلك، فقد نهي رسول الله أن يعزل عن الحرّة إلّا بإذنها ... «1»

2- عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه وأد الخفى. «2»

فالتعبير عنه بالوأد، (هو دفن الولد حيّا)، دليل على الحرمة.

3- ما دل على الجواز في صور خاصة التي تدل بالمفهوم على حرمة غيره، مثل ما رواه يعقوب الجعفي، قال: سمعت أبا الحسن يقول: لا بأس بالعزل في ستة وجوه: المراة التي تيقنت أنّها لا تلد، و المسنة، المرأة السليطة، و البذية، و المراة

التي لا ترضع ولدها، و

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 49

الامّة؛ «1» اللّهم إلّا أن يقال بانّ مفهومها وجود البأس و هو أعم من الحرمة.

4- ما دل على أنّ فيه الدية- و الدية لا تكون إلّا عن جناية- و قد رواها في الوسائل، في الباب 19 من باب ديات الأعضاء؛ و فيه: أنّ دية افراغ الماء خارج الرحم عشرة دنانير.

و لكن الانصاف أنّها ظاهرة أو صريحة في افراغ ماء الرجل خارج الرحم بغير رضاه؛ فراجع.

فالعمدة هو الأول و الثاني، و اسنادهما ضعيفة.

و لكن هناك روايات كثيرة تدل على الجواز؛ منها:

صحيحة محمد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن العزل؟ قال: ذاك إلى الرجل يصرفه حيث شاء. «2»

و مثله الرواية 2 و 3 و 4 و 5 و 6 من ذاك الباب بعينه.

فلو دلت الروايات الواردة في الطائفة الاولى على الحرمة، فتحمل على الكراهة بقرينة هذه الروايات، فانه طريق الجمع في جميع أبواب الفقه.

و تشهد له طائفة ثالثة من الروايات، تدل على الكراهة، مثل ما رواه محمد بن مسلم، عن أحدهما عليه السّلام أنّه سئل عن العزل، فقال: أمّا الامة، فلا بأس؛ فامّا الحرّة، فانّي أكره ذلك، إلّا أن يشترط عليها حين يتزوجها. «3» إلى غير ذلك، فالمسألة ظاهرة.

بقي هنا أمران:

الأول: إذا كان ذلك سببا للإضرار بالمراة، أمّا من ناحية الروحية أو الجسميّة، يشكل جواز ذلك، لدليل نفي الضرر و الضرار.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 50

الثاني: هل ترتفع الكراهة إذا كان كثرة الأولاد سببا لمشاكل شخصية أو اجتماعية مثل غلبة الفقر و الجهل و المرض على الجماعة لعدم وجود ما يكفيهم في هذه الامور الثلاثة فعلا، فيعزل عنها طلبا لقلة الأولاد حتى يربيهم و يحفظهم من الجهل

و الفقر؟ لا يبعد ذلك؛ و الوجه فيه، ترجيح هذه الملاكات على ملاك الكراهة. هذا، و لكن الظروف مختلفة و الشرائط متفاوته؛ و اللّه العالم.

[المسألة 15: يجوز لكل من الزوج و الزوجة النظر إلى جسد الآخر]

اشارة

المسألة 15: يجوز لكل من الزوج و الزوجة النظر الى جسد الاخر، ظاهره و باطنه حتّى العورة. و كذا مسّ كلّ عضو منهما بكلّ عضو منه كل عضو من الاخر مع التلذذ و بدونه.

حكم النظر و اللمس لكل من الزوجين

(1) لا كلام و لا اشكال في شي ء مما ذكره في المتن، بل و لا خلاف فيه كما في الجواهر و المستمسك، «1» بل هو من ضروريات الدين كما في الجواهر و المستمسك و المهذب، «2» لاستمرار عمل المسلمين عليه في جميع الاعصار و الامصار، بل عليه جميع العقلاء الذين لهم زوجية و زواج.

و يدل على الجواز مضافا الى ما ذكر، روايات كثيرة وردت في الباب 59 من ابواب مقدّمات النكاح، من وسائل الشيعة، المجلد 14. منها ما ارسله ابن أبي عمير، عن اسحاق بن عمار، عن ابى عبد اللّه عليه السّلام: في الرجل ينظر الى امرأته و هي عريانة؟ قال: لا بأس بذلك.

و هل اللذة الّا ذلك. «3» و غيرها من الروايات نعم يكره النظر الى العورة للنهى عنه في بعض الروايات «4» المحمول على الكراهة التي هي مقتضى الجمع بين الروايات الناهية و المجوزة. «5» فما ذكره في المتن مما لا اشكال فيه الا ان النظر الى العورة (عورة المرأة) مكروهة.

[المسألة 16: لا إشكال في جواز نظر الرجل إلى ما عدا العورة من مماثله

اشارة

المسألة 16: لا اشكال في جواز نظر الرجل الى ما عدا العورة من مماثله، شيخا كان المنظور اليه او شابّا، حسن الصورة او قبيحها، ما لم يكن بتلذّذ و ريبة، و العورة هي القبل و الدبر و البيضتان. و كذا لا اشكال في جواز نظر المرأة الى ما عدا العورة من مماثلها، و امّا عورتها فيحرم ان تنظر اليها كالرجل.

حكم النظر الى المماثل

(1) هذه المسألة كسابقتها واضحة لا ريب فيها و لم نجد من خالف فيها.

قال في الجواهر: لا اشكال كما لا خلاف في انه يجوز ان ينظر الرجل الى مثله ما خلا عورته الواجب عليه سترها في الصلاة شيخا كان أو شابا، حسنا أو قبيحا ما لم يكن النظر لريبة او تلذذ، و كذا المرأة بالنسبة الى المرأة، بل في المسالك هو موضع وفاق، بل لعله من ضروريات الدين المعلومة باستمرار عمل المسلمين عليه في جميع الاعصار و الامصار. «1»

و قال في المهذب تعليلا على المسألة: كل ذلك للأصل، و اجماع المسلمين، بل ضرورة من الدين من اوّل بعثة سيد المرسلين، بل قبلها. و يصح التمسك بالسيرة العقلائية أيضا. «2»

و يشهد لما ذكرنا مضافا الى الاصل و الاجماع و السيرة و بناء العقلاء روايات كثيرة وردت في باب 3 و 4 و 5 و 18 من آداب الحمام من الوسائل، المجلد الاوّل.

منها ما رواه حريز عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: لا ينظر الرجل الى عورة اخيه. «3»

و منها ما رواه في تحف العقول عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: انّه قال: يا على ايّاك و دخول الحمام بغير

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 53

ميزر، طعون ملعون الناظر و المنظور اليه. «1»

و غيرهما من الروايات. و

جميع ما يدل على ليس المئزر و عدم جواز دخول الحمام بدونه شاهد على ما ذكرنا.

[المسألة 17: يجوز للرجل أن ينظر إلى جسد محارمه ما عدا العورة]

اشارة

المسألة 17: يجوز للرجل أن ينظر إلى جسد محارمه ما عدا العورة، إذا لم يكن مع تلذذ و ريبة. و المراد من المحارم، من يحرم عليه نكاحهن من جهة النسب أو الرضاع أو المصاهرة. و كذا يجوز لهن النظر إلى ما عدا العورة من جسده، بدون تلذّذ و ريبة.

حكم النظر الى المحارم

(1) أقول: من هنا نشرع في مسائل النظر التي هي من أهمّ ما يبتلى به الناس في عصرنا، و نبدأ من النظر إلى المحارم قال في الجواهر- بعد ذكر مسألة جواز النظر إلى المحارم:- بلا خلاف في شي ء من ذلك، بل هو من الضروريات؛ ثم حكى عن الفاضل و ظاهر التحرير و عن الشافعية في وجه، أنّه ليس للمحرم التطلع في الجسد عاريا؛ ثمّ قال هو واضح الضعف. «1»

و يظهر من كلام صاحب الرياض «2» و كلام النراقى (رحمه اللّه) في المستند، «3» أنّ في المسأله أقوالا ثلاثة:

1- جواز النظر إلى جميع بدن المحارم ما عدا العورة، و هو المشهور بين الأصحاب، كما صرّح به جماعة. بل قيل أنّه مقطوع به في كلامهم، بل حكى الإجماع عليه.

2- جواز النظر إلى المحاسن خاصة؛ و فسّر بمواضع الزينة، فيشمل الشعر و الوجه و الكف و الساعد و القدم و شيئا من الساق و موضع العقد من النحر و شبه ذلك (و لم يحك قائله).

3- عدم جواز النظر، إلّا إلى الوجه و الكفين و القدمين. (و قد عرفت حكايته في كلام الجواهر عن الفاضل و ظاهر التحرير و عن الشافعية؛ و عن التنقيح، استثناء الثدى حال الارضاع أيضا؛ و لو عدّ هذا قولا آخر، لكانت الأقوال أربعة.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 55

و قال ابن قدامة، في المغنى: يجوز للرجل أن

ينظر من ذوات محارمه إلى ما يظهر غالبا كالرقبة و الرأس و الكفين و القدمين و نحو ذلك؛ و ليس له النظر إلى ما يستتر غالبا كالصدر و الظهر و نحوهما. و ذكر القاضي، إن حكم الرجل مع ذوات محارمه كالرجل مع الرجل و المرأة مع المرأة .... ثم حكى عن الضحاك: لو دخلت على امّي، لقلت أيتها العجوز غطّى شعرك! «1».

و من هنا يظهر، أن الأقوال بين العامّة أيضا ثلاثة طبقا لما بيننا.

أدلّة المشهور على مذهبهم

و على كل حال، فقد استدل لقول المشهور أو المنسوب إليهم:

أولا، بقوله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ، وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها، وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ؛ وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ .... «2»

المراد من الزينة في المقام

و المراد من الزينة في وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ ...، الزينة الباطنة؛ و أمّا الزينة الظاهرة، فقد ورد في الجملة السابقة.

و الحاصل؛ أنّ الزينة على قسمين، الظاهرة التي يجوز اظهارها لكل أحد كالكحل و الخاتم، المصرح بهما في الروايات؛ و الباطنة و هي كالقلادة و الدملج و الخلخال و السوار، فلا يجوز اظهارها إلّا للمحارم و من الواضح أنّ جواز اظهار هذه الزينة، ملازم بجواز رؤية محلّها.

و من هنا يظهر أنّ تفسير الزينة، بمواضع الزينة من باب الدلالة الالتزامية، لا أنّ الزينة

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 56

بمعنى مواضع الزينة؛ فان المجاز أو الحذف مخالف للأصل.

و لكن هذا الدليل لا يدل على مقالة المشهور؛ و لو جعل دليلا على القول الثاني، كان أحسن. فان المتعارف ارائة الزينة الباطنة و محلها للمحارم، و هو المراد من المحاسن.

و ثانيا، بالروايات الواردة في غسل الميت مما يدل على جواز نظر المحارم إلى محارمهم. منها:

1- ما رواه منصور، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل، يخرج في السفر و معه امرأته؛ أ يغسّلها؟ قال: نعم، و أمه و أخته و نحو هذا، يلقى على عورتها خرقة. «1»

و سند الحديث معتبر، فان منصور و إن كان مشتركا بين الثقة و غيره، إلّا أن المراد منه هنا منصور بن

حازم بقرينة رواية صفوان بن يحيى منه. و منصور بن حازم من اجلاء الأصحاب و ثقاتهم، و عدّه المفيد من الفقهاء الأعلام و قد روى روايات كثيرة في أبواب مختلفة تبلغ 360 حديثا. و قد روى منصور، بدون ذكر الأب في 93 مورد غالبها هو منصور بن حازم، و هو من أصحاب الصادق و الكاظم عليهما السّلام و كان له كتاب. و دلالتها مبنيّة على كون امّه و اخته عطفا على المفعول في يغسلها، كما هو ظاهر؛ و إلّا كان من قبيل توضيح الواضح.

هذا، و يمكن الجواب عنه بان المراد جواز ذلك عند الضرورة، بقرينة ذكر السفر.

مضافا إلى الرّوايات المقيّدة بوجوب كونه من وراء الثياب التي تكون دليلا على ضدّه؛ و سيأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه.

2- ما رواه الحلبي في الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه سئل، عن الرجل يموت و ليس عنده من يغسله إلّا النساء؛ قال: تغسله امرأته أو ذات قرابته إن كانت له، و يصبّ النّساء عليه الماء صبّا «2».

و سند الرواية معتبر و لكنه أيضا ظاهر بل صريح في وروده مورد الضرورة و هو فقدان المماثل؛ بل ظاهرها، ارتكاز ذهن الراوى أيضا عدم الجواز عند وجود المماثل.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 57

اللّهم إلّا أن يقال إن غسل الميت له خصوصيّة، و لكنه عجيب لأن حال الميّت ليس أشد من الحيّ.

إن قلت: حال الميّت يمكن أن يكون اشد من الحىّ؛ و لذا أمر في الزوجة أن تغسل من وراء الثياب إذا كان الغاسل زوجها، سواء قلنا بوجوبه أو استحبابه.

قلنا: لا يبعد أن يكون هذا الحكم لمنع الزوج أن يرى من زوجته بعد مماتها ما يكره، فليس هذا دليلا على كون

الحكم هنا اشد.

3- ما رواه عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليه السّلام في حديث: إذا مات الرجل في السفر ... و إذا كان معه نساء ذوات محرم، يؤزرنه و يصببن عليه الماء صبا و يمسسن جسده و لا يمسسن فرجه «1».

و في طريق الرواية، الحسين بن علوان و هو محل كلام بين الأصحاب. و أمّا زيد بن علي فقد وردت روايات كثيرة في مدحه، و أن خروجه كان للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر (و لعله كان بإذن الإمام علي بن الحسين عليه السّلام) و تضافرها يغنينا عن ملاحظة اسنادها.

و أمّا دلالتها فهي واضحة، لأنّ الازار لا يستر جميع البدن و هو مقابل للقميص؛ و لذا ذكروا في الديات في باب الحلّة أنّه يكفى فيه قميص و ازار؛ و المئزر ما يستتر به في الحمام، و حينئذ تدل على جواز نظر النساء المحارم لجسد الرجل المحرم بل و مسّ جسده.

و لكن الانصاف عدم تمامية هذا الاستدلال؛ أمّا أوّلا، فلان ذكر السفر في غير واحد منها دليل على ورودها و نظرها إلى حال الضرورة، و اين ذلك من حال الاختيار.

و ثانيا، إنّ هذه الطائفة من الروايات معارضة لطائفة اخرى؛ منها الرواية الخامسة و التاسعة و الرابعة التي تدل على وجوب كون غسل المحارم، من وراء الثياب أو القميص دليل على خلافها فهي معارضة للمطلقات؛ و الجمع بينها إنّما يكون بالتقييد. و تكون انوار الفقاهة، ج 3، ص: 58

النتيجة مخالفة لقول المشهور و دليلا على القول الآخر. و خروج بعض البدن عن القميص لا يفيد لقول المشهور.

اللّهم إلّا أن يقال: يحمل هذا القيد، على الاستحباب؛ لورود الطائفة الاولى مورد الحاجة، و لا

يجوز تأخير البيان من وقتها. مضافا إلى أنّ بعض الطائفة الاولى صريح في عدم الثياب.

و الحاصل، أنّ هناك طريقين للجمع بين الطائفتين؛ الجمع بالتقييد، أو حمل المقيد على الاستحباب؛ و لا دليل هنا لتقديم الأول على الثاني، لا سيما مع صراحة بعض الطائفة الاولى في عدم كون الميت مستورا.

إن قلت: هنا دليل ثالث يمكن الالتجاء إليه في إثبات مقالة المشهور، و هو جريان السيرة بعدم تستر المحارم عن محارمهم في ما عدا العورة و المراد سيرة المتشرعية.

قلنا: السيرة غير ثابتة، و القدر المتيقن اظهار المحاسن و مواضع الزينة، لا مثل الصدر و الظهر و الفخذين، فدعواها بلا دليل.

إن قلت: مقتضى الاصل هنا، الاباحة؛ فلو شك يرجع إليه و هذا في الحقيقة دليل رابع في المسألة.

قلنا: بل، الأصل هو الحرمة بعد ورود العموم في قوله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ...* وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ «1» و لم يستثن منها بالنسبة إلى المحارم، إلّا الزينة الباطنة مضافا إلى الظاهرة.

دليل المختار

و من هنا يظهر الدليل على القول الثاني، و هو الاقتصار على المحاسن، بمقتضى عموم الآيتين و عدم قيام دليل على خلافه؛ فالقول الثاني هو الاقوى.

و أمّا القول الثالث، أعني الاقتصار على الوجه و الكفّين و القدمين فهو باطل قطعا، لأنّه انوار الفقاهة، ج 3، ص: 59

من قبيل الاجتهاد في مقابل النص القرآنى كما لا يخفى. و قد يستدل له بما رواه في الجعفريات باسناده عن علي عليه السّلام أنّه قال: إنّ رجلا أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمي استأذن عليها- إلى أن قال- يا رسول اللّه اختي تكشف شعرها بين يدي؟ فقال: لا؛

قال: و لم؟ قال: اخاف أن ابدت شيئا من محاسنها و من شعرها أو معصمها أن يواقعها! «1».

و يجاب عنها: أولا: بالإشكال في سندها؛ فانّ الكتاب لإسماعيل بن موسى بن جعفر عليهما السّلام و لم نر في كتاب الرجال توثيقا بل و لا مدحا لإسماعيل، غير أن ارباب الرجال ذكروا أنّه سكن مصر و ولده بها، له كتب يرويها عن أبيه عن آبائه، و الراوي منه هو ابنه موسى بن اسماعيل و هو أيضا مجهول الحال لم يوثق في كتب الرجال و الراوى عنه محمد بن الاشعث و هو أيضا كذلك، فالاعتماد على الكتاب مشكل.

و ثانيا: انه مخالف لما ورد صريحا في سورة النور من جواز اظهار الزينة الباطنة (و محلها بالملازمة) للمحارم السبعة المذكورة فيها.

و ثالثا: الظاهر أنها قضية في واقعة خاصة، كانت محلا للريبة؛ و إلّا لا تزال الأخوات تكشفن رءوسهن للإخوة و لا يتسبب شيئا، فالحكم الكلي، مع عدم كونه في الغالب محلا للريبة، غير مأنوس كما هو ظاهر.

بقي هنا شي ء:

و هو، أنّ ما أفاده في متن تحرير الوسيلة من أنّ المحارم كل من يحرم نكاحه من حيث النسب أو الرضاع أو المصاهرة، هل يتم على كليّتها؛ فان من المحرمات الأبدية، النكاح في العدة أو بذات البعل مع شرائطه، و هو داخل في عنوان المصاهرة بناء على كون المراد به، العقود الموجبة للحرمة الأبدية؛ اللّهم إلّا أن يقال إن المصاهرة لا تشمل أمثال هذه الموارد فتأمل.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 60

و أمّا حرمة نكاح اخت الزوجة، فانّها لا توجب المحرمية، لكون الحرمة مؤقتة لا أبدا، مضافا إلى أنّ الحرام هو الجمع بين الاختين، لا أنّ اخت الزوجة حرام، و الفرق بينهما ظاهر.

***

[المسألة 18: لا إشكال في عدم جواز نظر الرجل إلى ما عدا الوجه و الكفين من المرأة الأجنبيّة]

اشارة

المسألة 18: لا إشكال في عدم جواز نظر الرجل إلى ما عدا الوجه و الكفين من المرأة الأجنبيّة من شعرها و سائر جسدها سواء كان فيه تلذذ و ريبة أم لا، و كذا الوجه و الكفان إذا كان بتلذذ و ريبة؛ و أمّا بدونها، ففيه قولان، بل أقوال: الجواز مطلقا، و عدمه مطلقا، و التفصيل بين النظرة الواحدة فالأول، و تكرار النظر فالثاني، و أحوط الأقوال أوسطها.

حكم النظر الى الاجنبيّة

(1) أقول: هذه المسألة معركة للآراء و اختلفت فيها كلماتهم، و المعروف أنّ فيها أقوال ثلاثة كما ذكره غير واحد.

قال الشهيد الثاني في المسالك: تحريم نظر الرجل إلى الأجنبيّة فيما عدا الوجه و الكفين موضع وفاق بين المسلمين، و لا فرق فيه بين التلذذ و عدمه و لا بين خوف الفتنة و عدمه.

و أمّا الوجه و الكفان، فان كان في نظرهما أحد الأمرين، حرم أيضا إجماعا؛ و إلّا ففى الجواز اقوال:

أحدها: الجواز مطلقا على كراهية، اختاره الشيخ (ره) ...

و الثاني: التحريم مطلقا، اختاره العلّامة في التّذكرة ...

و الثالث: جواز النظر إلى الوجه و الكفين على كراهيّة مرّة لا أزيد، و هو الاذي اختاره المصنف و العلّامة في أكثر كتبه ... «1»

و صرّح صاحب الجواهر (قدّس اللّه نفسه الشريفة) بأنّ النظر إلى غير الوجه و الكفين غير جائز في حال الاختيار بالإجماع، بل الضرورة من المذهب، بل ضرورة الدين، ثم نقل جواز النظر إلى الوجه و الكفين من دون تلذذ و ريبة عن جماعة، و بعد الاستدلال له انوار الفقاهة، ج 3، ص: 62

قال: و قيل لا يجوز مطلقا، و اختاره الفاضل في التذكرة و غيرها. و ذكر في آخر المسألة كلام المحقق (قدّس سرّه)، أي التفصيل بين المرّة الاولى

فيجوز، و معاودة النظر فلا يجوز، و جعله أضعف الأقوال في المسألة. «1»

و يظهر من كلام ابن قدامة في المغنى، أنّ الأقوال الثلاثة أيضا موجودة عندهم، فقد حكي عن القاضي (من فقهائهم) أنّه قال: يحرم عليه النظر إلى ما عدا الوجه و الكفين، لأنّه عورة، و يباح له النظر إليها مع الكراهة إذا أمن الفتنة و نظر بغير شهوة. ثم قال: و هذا مذهب الشافعى، لقول اللّه تعالى: وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها. قال ابن عباس:

الوجه و الكفين.

و حكى في صدر كلامه عن أحمد أنّه محرما إلى جميعها حيث قال: لا يأكل مع مطلقته هو أجنبي لا يحل له أن ينظر إليها، كيف يأكل معها ينظر إلى كفّها؟ لا يحل له ذلك.

ثم اختار هو نفسه، عدم الجواز، و استدل ببعض الآيات و غير واحد من الروايات، منها ما عن علي عليه السّلام قال: قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا تتبع النظرة النظرة، فانما لك الاولى و ليست لك الآخرة (و هذه تشير إلى القول الثالث) «2».

أدلّة جواز النظر الى الوجه و الكفين

و على كل حال يدلّ على القول الأول؛

من الكتاب العزيز، قوله تعالى في سورة النور: وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ، وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ، وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها ... «3» بناء على أنّ القدر المسلم منها، هو الوجه و الكفان اللذان محل الزينة الظاهرة.

هذا، و قد ورد روايات كثيرة عن المعصومين عليهم السّلام في تفسير الزينة الظاهرة؛ منها:

1- ما رواه زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ: إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها، قال:

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 63

الزينة الظاهرة، الكحل و الخاتم «1».

و من

الواضح ان ظهور هذين، ملازم لظهور محلّهما، فهو دليل إجمالا على استثناء الوجه و الكفين، لأنّه لم يقل أحد باستثناء خصوص الأصابع و العينين.

2- ما رواه في قرب الاسناد، عن مسعدة بن زياد قال: سمعت جعفرا عليه السّلام و سئل عما تظهر المرأة من زينتها، قال: الوجه و الكفين «2».

و المراد منها بقرينة الرواية السابقة كون الوجه و الكفين محلين للزينة.

3- ما عن الفضيل، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الذراعين من المرأة، هما من الزينة التي قال اللّه وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ؟ قال: نعم، و ما دون الخمار من الزينة و ما دون السوارين. «3»

هذه الرواية ناظرة إلى تفسير الزينة الباطنة، يستفاد منها مفهوم الزينة الظاهرة، و ذكر السوارين إشارة إلى السوار و ما دونه، كما أنّ ما دون الخمار إشارة إلى الخمار و ما دونه.

4- ما عن ابى بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها قال: الخاتم و المسكة و هي القلب «4».

و المسكة و القلب (كلاهما بالضم ثم السكون) حلّى للمعصم و يقال في الفارسيّة «دستبند». لم يذكر في الرواية الوجه، و لعله لوضوحه و أمّا ذكر المسكه فهو محمول على ما كان في الاصابع أو انتهاء الكف، و إلّا فهو مخالف لإجماع المسلمين.

5- ما عن تفسير على بن ابراهيم، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها: فهي الثياب و الكحل و الخاتم و خضاب الكف و السوار «5».

و هذه الرواية اجمع رواية في الباب، و إن كان في

سنده ضعفا بالارسال.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 64

6- ما في تفسير جوامع الجامع، عنهم عليهم السّلام في تفسير «ما ظهر منها»،: أنّه الكفان و الأصابع. «1» و الظاهر أنّه إشارة إلى ما سبق.

7- ما عن المحاسن عن ابى عبد اللّه عليه السّلام في قوله جلّ ثنائه إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها، قال:

الوجه و الذراعان! «2».

و الظاهر إنّ ذكر الذراعين اشتباه من الراوي أو النساخ لعدم نقل الفتوى به من أحد.

8- و عنه في قوله عزّ و جلّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها قال: الزينة الظاهرة الكحل و الخاتم «3».

فتحصل من هذه الروايات الثمان، بعد ضمّ بعضها ببعض، و تعاضد بعضها ببعض، أنّه لو كان في الآية ابهام يمكن رفعه بما ورد في هذه الروايات، و أنّه يجوز للمرأة إبداء وجهها و كفيها.

إن قلت: جواز ابداء الوجه و الكفين لا يكون دليلا على جواز النظر و لا ملازمة بينهما عقلا.

قلنا: الانصاف وجود الملازمة عرفا؛ فجواز الابداء دليل على جواز النظر. أضف إلى ذلك أنّ قوله تعالى لبعولتهن- إلى آخر المحارم- بالنسبة إلى الزينة الباطنة، دليل على جواز نظر المحارم إليها لمكان «اللام»، و يستفاد منه حال الزينة الظاهرة، فانّه من البعيد جدا الفرق بينهما.

و يجوز الاستدلال أيضا بقوله تعالى: وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ .... «4»

فان الخمار في الأصل و إن كان بمعنى مطلق ما يستر شيئا- و قد سميت الخمر خمرا لأنّها تستر العقل- إلّا أنّه يطلق في العرف و اللغة بما يستر النساء رءوسهن، و هو المقنعة.

قال في المجمع: و هو غطاء رأس المرأة المنسدل على جيبها، امرن بالقاء المقانع على صدورهنّ تغطية لنحورهن. فقد قيل، إنهن كنّ يلقين مقانعهن على ظهورهن، فتبدو

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 65

صدورهن؛

و كنى عن الصدور بالجيوب لأنّها ملبوسة عليها. انتهى. «1»

فلم يأمر بستر الوجوه بها، بل أمر بستر الجيوب و الاعناق، و هذا من أوضح الدليل على عدم وجوب ستر الوجه.

*** و من السنّة، ممّا استدل به على عدم وجوب ستر الوجه و الكفين، روايات كثيرة وردت في أبواب مختلفة؛ و هي على طوائف:

الطائفة الاولى: ما يدل على هذا الحكم صريحا و بالدلالة المطابقية، و هي روايات، منها:

1- ما رواه مروك بن عبيد، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال قلت له: ما يحلّ للرجل أن يرى من المرأة إذا لم يكن محرما؟ قال: الوجه و الكفّان و القدمان «2».

و مروك، اسمه صالح، و قد حكى الكشى، عن ابن فضال: انه ثقة، شيخ، صدوق.

و قد وقع اسمه في 33 موردا من الروايات، و لكن الحديث مرسل؛ و سيأتي الكلام بالنسبة إلى حكم القدمين من حيث النظر و الستر، و إن سترهما لم يكن متعارفا عندهم.

2- ما رواه علي بن سويد، قال: قلت لأبي الحسن عليه السّلام: أنّي مبتلى بالنظر إلى المرأة الجميلة، فيعجبني النظر إليها؛ فقال: يا علي، لا بأس إذا عرف اللّه من نيّتك الصدق؛ الحديث. «3»

و الظاهر أنّ عليّ بن سويد، كان بحسب شغله، مبتلى بمراجعة النساء و كانت بعضهنّ جميلة يعجبه النظر إليها و لكن كان يتحاشى عن ذلك، و لذا قال عليه السّلام: إذا عرف اللّه من نيتك الصدق؛ أي لم يكن النظر عن تلذذ و ريبة.

و حاصل معناها أنه كان مبتلى بهن بسبب كسبه و مهنته أو شبه ذلك و كان تعجبه النظر الواقع عليهن من دون قصد تلذذ و ريبة؛ و الشاهد على ذلك قوله إذا عرف

اللّه من نيّتك الصدق.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 66

3- ما رواه عمرو بن شمر، عن ابى جعفر عليه السّلام عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يريد فاطمة و أنا معه، فلمّا انتهينا إلى الباب، وضع يده عليه فدفعه ثم قال:

السلام عليكم؛ فقالت فاطمة: و عليك السلام يا رسول اللّه؛ قال: ادخل؟ قالت: ادخل يا رسول اللّه؛ قال: أدخل و من معي؟ قالت: ليس عليّ قناع؛ فقال: يا فاطمة خذي فضل ملحفتك فقنعى به رأسك؛ ففعلت، ثم قال: السلام عليك؛ فقالت: و عليك السلام يا رسول اللّه. قال: أدخل؟ قالت: نعم يا رسول اللّه؛ قال: أنا و من معي؟ قالت: و من معك. قال جابر:

فدخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و دخلت و إذا وجه فاطمة عليهما السّلام أصفر كأنّه بطن جرادة، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: مالي آرى وجهك أصفر؟ قالت: يا رسول اللّه، الجوع! فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

اللّهم مشبع الجوعة و دافع الضيعة، أشبع فاطمة بنت محمد. قال جابر: فو اللّه لنظرت إلى الدم ينحدر من قصاصها حتى عاد وجهها أحمر، فما جاعت بعد ذلك اليوم «1».

لو كان هذه الرواية صحيحة، كانت دالة على المقصود بأوضح بيان؛ لأنّ جواز الكشف للمعصوم، و جواز النظر لمثل جابر في محضر النبي صلّى اللّه عليه و آله أحسن دليل على المطلوب.

و لكن الإشكال في سند الحديث، لأنه صرح العلّامة في الخلاصة، و النجاشي في رجاله (على المحكى في جامع الروات) أنّ عمرو بن شمر ضعيف جدا. زيد أحاديث في كتب جابر الجعفي ينسب بعضها إليه و الأمر ملتبس. و زاد

العلّامة لا أعتمد على شي ء ممّا يرويه.

و الانصاف أنّ ما ورد في متن هذه الرواية أيضا لا يناسب بنات الموالين و العلماء، فكيف بالصديقة الطاهرة الكبرى بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

4- ما رواه العلامة المجلسي (قدس اللّه نفسه الزكية) في بحار الأنوار، في رواية عن على بن جعفر عليه السّلام عن أخيه عليه السّلام، سألته عن الرجل، ما يصلح له أن ينظر إليه من المرأة التي لا تحل له؟ قال: الوجه و الكفّ و موضع السوار «2».

و قوله، موضع السوار، بعد ذكر الكف ممّا أعرض الأصحاب كلّهم عنها.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 67

5- و هناك بعض الروايات من طرق العامة؛ مثل ما روته عائشة ان اسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ثياب رقاق فاعرض عنها، و قال: يا أسماء، أنّ المرأة إذا بلغت المحيض، لم يصلح أن يرى منها إلّا هذا و هذا؛ و أشار إلى وجهه و كفيه ... «1»

الطائفة الثانية: ما تدل بالالتزام، على المقصود؛ منها:

1- ما ورد في حكم القواعد من النساء؛ عن على بن أحمد بن يونس، قال ذكر الحسين (رجل مجهول الحال كعلي بن أحمد نفسه) أنّه كتب إليه يسأله عن حد القواعد من النساء التي إذا بلغت جاز لها أنّ تكشف رأسها و ذراعها «2» ... و لا يخفى أنّه قد نقل هذا الحديث في التهذيب «3» عن علي بن أحمد عن يونس، لا عن علي بن أحمد بن يونس، و الظاهر أنّ الخطأ من نسّاخ الوسائل. و علي بن أحمد هو ابن أشيم و هو أيضا مجهول.

فان التصريح بكشف الرأس و الذراع- دون الوجه و الكفين- دليل على

أنّها كانت مكشوفة من أصل.

2- ما ورد في جواز النظر إلى شعور نساء أهل الذمة؛ مثل ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا حرمة لنساء أهل الذمة أن ينظر إلى شعورهن و أيديهن «4».

فان عدم الإشارة إلى الوجوه، على جواز النظر إليها بالنسبة إلى كل احد.

3- ما ورد في جواز النظر إلى شعور نساء الأعراب و أهل السواد؛ مثل ما عن عباد بن صهيب قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: لا بأس بالنظر إلى رءوس أهل تهامة و الأعراب و العلوج، لأنهنّ إذا نهوا لا ينتهون «5».

و الرواية معتبرة كما سيأتي إن شاء اللّه، و ذكر جواز النظر إلى شعور نساء الأعراب و شبههم معلّلا بما ذكر فيها، دليل على أنّ جواز النظر إلى الوجوه، كان عاما.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 68

4- ما ورد في صحيحة ابن بزيع، قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن امهات الأولاد، لها أن تكشف رأسها بين يدى الرجال؟ قال: تقنّع «1».

و هذه الرواية ناظرة إلى ما يظهر من غير واحد من الروايات من جواز النظر إلى رءوس الإماء، و قد أفتى به المشهور كما صرّح به في الجواهر «2». بل يشير إليه قوله تعالى:

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ، قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ وَ نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ، يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ، ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ، وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً. «3» فان الإماء- كما يظهر من كلمات بعض أكابر المفسرين- كنّ مكشفات و كان أصحاب الريبة قد يمازحوهن؛ فأمر الحرائر بالحجاب، ليعرفن و لا يؤذين؛ ثم سأل الراوي عن جواز النظر إلى رءوس امهات الأولاد؛ فأمر الإمام

عليه السّلام بالقناع لهن؛ لأنهن في طريق الحرّية.

و حيث لا إشارة فيها إلى الوجوه، تدل على انّها كانت مكشوفة.

و هذه الروايات، بعد تضافرها و صحة اسناد بعضها، معتبرة من حيث السند؛ و قد عرفت دلالتها أيضا.

الطائفة الثالثة: الروايات الكثيرة الواردة في باب ستر المرأة في الصلاة الدالة على عدم وجوب ستر الوجه و الكفين، مع عدم الإشارة بوجود الناظر المحترم، مع أن النساء كنّ كثيرا ما يشتركن في صلاة الجماعة في المسجد و لم يكن هناك ستر بينهن و بين الرجال كما هو المتداول اليوم في بعض الأماكن و المساجد، فلو كان النظر إليها محرما و جهت الاشارة اليه.

أدلّة عدم جواز النظر

و استدل للقول الثانى، أعني عدم جواز النظر إلى الوجه و الكفين؛

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 69

من كتاب اللّه العزيز، بقوله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ .... «1» فان حذف المتعلق فيها، دليل على عموم وجوب الغض عن جميع بدن المرأة.

و بآية عدم جواز ابداء زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ، «2» فانّها أيضا عام.

و استدل ابن قدامة عليه في المغنى «3»، بآية الحجاب، قوله تعالى: ... وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ .... «4» و الحجاب هو الستر المرخى على الأبواب (يسمى في الفارسية بپرده) و هو ظاهر لجميع البدن.

و بقوله تعالى: ... يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ .... «5» أمرن بإدناء الجلابيب، لكيلا يعرفن، و هذا دليل على ستر جميع البدن.

أقول: و يرد على الجميع؛ أما أولا، فلو فرض فيها ظهور في وجوب ستر جميع البدن،

فهي معارضة بما هو أقوى منها ظهورا، و هو قوله تعالى: «إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها» لا سيّما مع تأييد هذا الظهور بما روى من الأخبار

في تفسيرها- و قد مرت-؛ فهذه الجملة من الآية، تفسر الجميع؛ لا سيما مع إضافة قوله تعالى: ... وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ ...، الدالة على عدم وجوب ستر الوجه، بمقتضى معنى الخمار، أوّلا، و الأمر بخصوص ستر الجيوب، ثانيا.

و ثانيا، إنّ الجلباب على ما فسره أهل اللغة، هو الملحفة (ستر شبيه بچادر) أو المقنعة الطويلة، أو الدرع الواسع، و ليس في شي ء منها ستر الوجه على الظاهر، و أمّا قوله تعالى:

... فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ...، «6» فهذا مختص بنساء النبي صلّى اللّه عليه و آله، و ليس فيها ما يدل على العموم.

فليس في آيات القرآن الكريم ما يدل على وجوب ستر الوجه و الكفين، بل الدليل انوار الفقاهة، ج 3، ص: 70

فيها على العكس.

و من السنّة، بطائفة من الروايات؛ منها:

1- كتب محمد بن الحسن الصفار (رضي اللّه عنه) إلى أبي محمد الحسن بن علي عليهم السّلام في رجل أراد أن يشهد على امرأة ليس لها بمحرم، هل يجوز له أن يشهد عليها من وراء الستر، و يسمع كلامها إذا شهد رجلان عدلان أنّها فلانة بنت فلان التي تشهدك و هذا كلامها، أو لا تجوز له الشهادة حتى تبرز بعينها فوقع عليه السّلام: تتنقّب و تظهر للشهود إن شاء اللّه. «1»

و لا يبعد الاعتماد على سندها، و لكن دلالتها غير خالية عن الإشكال، لأنّ مفروض كلام الراوي مرأة مستورة لا تريد أن تبرز؛ لا أن الستر وراء الحجاب بحيث لا يرى جسمها واجب؛ فأمر الإمام عليه السّلام بظهورها متنقبة مراعاة لحالها. هذا، و يمكن أن لا يكون النقاب ساترا لجميع الوجه، و إلّا لم تكن فائدة لظهورها. فتأمّل.

2- ما عن أبي جميلة، عن أبي جعفر

و أبي عبد اللّه عليهما السّلام قال: ما من أحد إلّا و هو يصيب حظا من الزنا، فزنا العينين النظر، و زنا الفم القبلة، و زنا اليدين اللمس .... «2»

و سندها ضعيف بأبي جميلة، و هو مفضل بن صالح و هو ضعيف أو مجهول في كلام الأكثر. و قال ابن الغضائري؛ ضعيف، كذاب، يضع الحديث. و مال الوحيد (قدس سره) إلى إصلاح حاله لرواية الأجلّة و أصحاب الإجماع، عنه؛ و هو غير كاف. و أضعف من سندها، دلالتها. لأنّها ناظرة إلى صورة التلذذ و الريبة كما لا يخفى، و هي خارجة عن مفروض الكلام.

3- ما عن سعد الاسكاف، عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: استقبل شاب من الأنصار بالمدينة، و كان النساء يتقنعن خلف آذانهن، فنظر إليها و هي مقبلة، فلما جازت نظر إليها و دخل في زقاق قد سمّاه ببنى فلان، فجعل ينظر خلفها، و اعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة، فشق وجهه، فلما مضت المرأة نظر فاذا الدماء تسيل على ثوبه و صدره. فقال و

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 71

اللّه لآتين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لأخبرنه؛ فأتاه فلما رآه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: ما هذا؟ فاخبر، فهبط جبرئيل عليه السّلام بهذه الآية: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ، الآية. «1»

و سعد الاسكاف محل للكلام بين علماء الرجال، و عدم دلالتها على المقصود واضحة، لأنّها كالصريح في كون النظر للتلذذ، بل كان محلا للريبة بلا إشكال، فهي خارجة عن محل الكلام.

4- ما عن على بن عقبه، عن أبيه، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال سمعته يقول: النظرة سهم من سهام ابليس مسموم، و كم من نظرة

اورثت حسرة طويلة. «2»

و في دلالتها أيضا إشكال ظاهر، لأنّ النظرة التي من سهام ابليس و توجب حسرة طويلة، منصرفة إلى ما فيها تلذذ.

5- ما عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: النظرة سهم مسموم من سهام ابليس فمن تركها خوفا من اللّه، اعطاه إيمانا يجد حلاوته في قلبه «3».

يظهر الإشكال في دلالتها ممّا سبقه.

6- ما رواه أحمد في مسنده، أنّ الخثعمية أتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حجة الوداع تستفتيه، و كان الفضل بن العباس رديف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، وجّه الفضل عنها، و قال: رجل شاب و امرأة شابة فخشيت أن يدخل بينهما الشيطان «4».

و في سندها و دلالتها إشكال ظاهر، أمّا الأول فهو معلوم، و أما الثاني فلان المقام كان مقام خوف الفتنة، كما هو ظاهر الرواية بل صريح قوله صلّى اللّه عليه و آله: خشيت أن يدخل بينهما الشيطان. ذلك.

سلمنا دلالة الآيات و الروايات على ما ذكروه، و لكن كلّها أو جلّها اطلاقات و عمومات، تخصص بالأدلة السابقة الدالة على الجواز، لأنّها صريحة أو ظاهرة في خصوص الوجه أو الكفين، فالترجيح لأدلة الجواز.

***

لا يجوز التمسك باستحسانات ظنّية

قد يتوصل من الجانبين بامور اعتبارية و استحسانات ظنية؛ مثل ما يقال من لزوم العسر و الحرج بستر الوجه و الكفين، و ترك النظر للمعرفة، فإنه كثيرا ما يوجب اختلالات في نظام المعيشة، و لكن الانصاف أنّه ليس أمرا دائميا و قد ذكرنا أنّ دليل العسر و الحرج ناظر إلى العسر و الحرج الشخصيين لا النوعيين، مثلا لو لزم من الصوم، العسر و الحرج في بعض الأيام الحارّة في بعض السنوات لغالب الناس، لا يكون ذلك مجوزا لتركه لجميع الناس،

حتى من لا يكون في عسر و حرج. فهذا الدليل، غير كاف في اثبات المطلوب.

كما أنّ القول بلزوم الفساد و الفتنة من عدم ستر الوجه و الكفين، فاللازم، سترهما؛ أيضا استحسان ظنّى، لأنّ المفروض جواز النظر لا لتلذذ و ريبة، لا مطلقا. و المجتمع إن كان مجتمعا مؤمنا يعمل بهذين الشرطين فلا يوجب الفتنة غالبا و إن كان غير مؤمن فلا يفيده شيئا من هذه الأمور.

أدلّة القول بالجواز في النظرة الاولى دون التكرار

و أمّا القول الثالث، أي الجواز في النظرة الاولى دون التكرار، الذي قد عرفت أنّه أضعف الأقوال، فقد استدل له بروايات؛ منها:

1- قال الصادق عليه السّلام: أول نظرة لك، و الثانية عليك و لا لك، و الثالثة فيها الهلاك. «1»

و يحتمل كون الحديث مرسلا، أو حديثا آخر للسكوني؛ فراجع الوسائل.

2- ما عن أبي الطفيل، عن علي ابن أبى طالب عليه السّلام أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: يا علي، لك كنز في الجنّة و أنت ذو قرنيها؛ فلا تتبع النظرة النظرة، فانّ لك الاولى و ليست لك الأخيرة «2».

و أبو الطفيل هو عامر بن وائلة، ذكروه من رجال النبي و عليّ، و الحسن و السجاد عليهم السّلام.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 73

مات سنة 110 و لازم ذلك أن يكون له عمر طويل زهاء 130 سنه مثلا؛ و لم يوثق صريحا و لكن ذكره من خواص علي عليه السّلام دليل على حسن حاله، و يقال أنّه ليس له في الكتب المعروفة إلّا روايتان.

3- ما رواه عبد اللّه بن محمد الرازي، عن الرضا عليه السّلام عن آبائه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

... لا تتبع النظرة النظرة فليس لك يا عليّ إلّا أوّل نظرة. «1»

4- و

في معانى الأخبار، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا عليّ أول نظرة لك، و الثانية عليك لا لك «2».

و هي أيضا رواية مرسلة.

5- ما عن طرق العامّة في السنن، للبيهقى عن ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا عليّ! لا تتبع النظرة النظرة فانّ لك الاولى و ليس لك الآخرة و اللّه تعالى أعلم «3».

و في معناها روايات اخرى.

و هذه الأحاديث و إن كانت ضعافا غالبا، إلّا أن تضافرها كاف في إثبات حجية سندها.

و لكن يرد عليها:

أولا، أنها من قبيل العام أو المطلق، لعدم التصريح بالوجه و الكفين فيها، فيمكن تخصيصها بما مرّ في أدلّة جواز النظر إلى الوجه و الكفين، فيجوز النظر إليها مطلقا.

و ثانيا، أنّها ناظرة إلى النظر الابتدائى غير الاختياري أو الاختياري بدون قصد التلذذ و الريبة، و النظر الثانوي الناشي عن شهوة أو ريبة.

و يشهد لذلك- مضافا إلى كونه منصرف الأخبار- غير واحد من روايات الباب، منها: ما رواه ابن أبي عمير عن الكاهلي قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: النظرة بعد النظرة تزرع في القلب، الشهوة؛ و كفى بها لصاحبها فتنة. «4»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 74

و الكاهلي و هو عبد اللّه بن يحيى و إن لم يرد نص على وثاقته إلّا أن النجاشي قال هو كان وجها عند أبي الحسن و وصيّ به على بن يقطين، فقال له اضمن لي الكاهلي و عياله، أضمن لك الجنة، و لا يبعد أن يكون مجموع هذا توثيقا له.

و أمّا دلالته على المقصود واضحة، فان النهى عن تكرار النظر إنّما هو لخوف الفتنة و ثوران الشهوة.

و في الخصال باسناده عن على عليه

السّلام في حديث الأربعمائة، قال: لكم أول نظرة إلى المرأة فلا تتبعوها نظرة اخرى و احذروا الفتنة. «1» و دلالتها أيضا ظاهرة.

فتحصل من جميع ذلك، أن الاقوى هو القول الأول.

بقى هنا أمران:
1- استثناء القدمين

هو استثناء القدمين كما ورد في كلمات بعضهم، و يدل عليه امور:

1- جريان السيرة القطعية على عدم سترهما في الصدر الأول، فانه لم يكن هناك جواريب مثل اليوم بل لم يكن لكثير منهم الحذاء، حتى أن كثيرا من الأعراب لا تلبس نسائهم الجواريب في أيامنا هذا، فلو وجب الستر، لزم الأمر بسترهما. و عدم وجوب الستر، دليل على جواز النظر بالملازمة، و لكن بالشرطين المذكورين.

إن قلت: لعل ذيولهن كانت طويلة تستر أقدامهن؛ كما يظهر من معتبرة سماعة عن الصادق عليه السّلام في الرجل يجرّ ثوبه؛ قال: أني لأكره أن يتشبّه بالنساء. «2»

و ما عن سنن النسائي، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: من جرّ ثوبه خيلاء لم ينظر اللّه إليه يوم القيامة؛ فقالت أم سلمه: كيف تصنع النساء بذيولهن؟ قال: يرخين شبرا. قالت: اذن انوار الفقاهة، ج 3، ص: 75

تنكشف أقدامهن. قال: اذن يرخين ذراعا لا يزدن «1».

بناء على أنّ المراد منه ارخاء شبر على الأرض، و كذا ارخاء ذراع و حينئذ يستر القدمين.

و ما روى أنّ فاطمة (عليها سلام اللّه) كانت تجر أدراعها و ذيولها «2».

قلت: الانصاف، أنّ الرواية الاولى التي يمكن اعتبارها من حيث السند، لا تدل إلّا على مجرد الجرّ، و مجرد ذلك غير كاف في الستر للقدمين، لا سيما عند المشي، و لا سيما في المطر و غير المطر و في الأراضي الوسخة و شبه ذلك.

و أمّا رواية السنن فمعناه غير معلوم، لأنّ المراد لو كان جرّ الذيول بمقدار

ذراع على الأرض، لم يمكن المشي فيها، لا سيما في الطواف و السعى و شبهها، و لعل المراد منه ارخاء الشبر و الذراع تحت الركبة. و إلّا يشكل القول بغيره، لا سيما مع ما ورد في حديث محمد بن مسلم، قال: نظر أبو عبد اللّه عليه السّلام إلى رجل قد لبس قميصا يصيب الارض، فقال: ما هذا ثوب طاهر. «3» و منه يظهر الجواب عن رواية فاطمة عليها السّلام مع ضعف سند الروايتين و اعتبار سند رواية محمد بن مسلم، روى عنه عبد الحميد بن عواض الطائي.

2- ما ورد من عدم وجوب سترهما في الصلاة، بل أفتى به المشهور و يدل عليه كثير من الروايات- كما ذكر في محله- «4» و اطلاقها دليل على عدم وجوب الستر، حتى إذا كان هناك غير المحارم. كيف و قد تشترك كثير من النساء في الجماعات و في الصلاة في المساجد لا سيّما المسجد الحرام و مسجد النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و يمكن أن يقال ليست هذه الروايات (نصوص كفاية الدرع و الخمار أو شبهه) في مقام البيان من هذه الجهة، بل هي في مقام بيان حكم الستر الصلاتي. و لكن الانصاف، اطلاقها، و ملازمتها لحكم النظر، و لو في حال صلاة المرأة في المساجد و مواقع الحج و غيرها.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 76

3- و يدل عليه ما رواه عن مروك بن عبيد، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال، قلت له: ما يحل للرجل أن يرى من المرأة إذا لم يكن محرما؟ قال: الوجه و الكفان و القدمان. «1» و لكن عدم تعرض الأصحاب له و ارسال الرواية و غير ذلك، يوجب الاحتياط مهما

أمكن، و إن كان القول بالجواز غير بعيد.

2- استثناء صورتى قصد التلذذ و الريبة

قد عرفت أنّ ظاهر الأصحاب القائلين بجواز النظر إلى الوجه و الكفين، استثناء صورتى قصد التلذذ، و خوف الوقوع في الحرام، و هو المسمى بالريبة عندهم؛ و الظاهر أنّه ممّا وقع التسالم فيه بينهم. قال في الجواهر، بعد التصريح بأن المراد من الريبة هو خوف الفتنة- و إن كان يظهر من بعضهم التفاوت بينهما بناء على كون المراد بالريبة، هو ما يخطر بالبال عند النظر من صورة المعصية، و إن كان لا يخاف الوقوع فيها- ما نصه: و الأمر سهل بعد معلومية الحرمة عند الأصحاب، و المفروغية منه، و اشعار النصوص بل ظهورها بل صريح بعضها فيه؛ فلا وجه للمناقشة في الثانى منهما بعدم ثبوت حرمة ذلك بمجرد احتمال الوقوع في المحرم، ضرورة كون المستند ما عرفت، لا هذا، كما هو واضح. «2»

و قد رأيت بعض من لا خبرة له بالفقه ممن يدعى فقها و لا فقه له، في عصرنا يترددون في الأول أيضا أو يصرحون بالجواز و إن قصد التلذذ، أعاذنا اللّه من همزات الشياطين.

و يدل على المقصود، مضافا إلى أنّه مفروغ عنه عند الأصحاب، كما يظهر من كلماتهم و قد عرفت ذكر القيدين في كلمات أهل السنة، مما يظهر منه التسالم فيه، حتى إنّهم لم يذكروا له دليلا، لوضوحه؛ و مضافا إلى ما هو المعلوم من مذاق الشارع الذى يأمر بعدم الجلوس في محل جلست فيه امرأة حتى برد (و إن كان هذا الحكم و أمثاله كراهيّا)؛ عدّة روايات:

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 77

1- ما مرّ من رواية على بن سويد، قال قلت لأبي الحسن عليه السّلام: أنّي مبتلى بالنظر إلى المرأة الجميلة فيعجني النظر إليها،

فقال: يا علي، لا بأس إذا عرف اللّه من نيّتك الصدق.

الحديث «1».

و قد عرفت أنّ المراد من هذا التعبير هو الصدق في عدم قصد التلذذ، و التعبير بالجميلة دليل على أنّ المراد منها النظر إلى الوجه.

و على بن الحكم الذي يروى عنه، هو على بن الحكم الثقة بقرينة رواية أحمد بن محمد عنه، و كذا على بن سويد السائى الذي كان من أصحاب الرضا عليه السّلام فالظاهر اعتبار سند الرواية و كذا دلالتها.

2- الروايات الكثيرة الناهية عن تتبع النظرة النظرة؛ «2» التي قد عرفت أنّها ناظرة إلى النظر بقصد اللذّة، فان ذلك هو المتفاهم منه عرفا.

3- الروايات الدالة على أنّ لكل عضو زنا، و إن زنا العين النظر، فان القدر المعلوم منها النظر إلى الوجه بقصد اللذّة «3».

4- الحديث المعروف النبوي في الجارية الخثعميّة- و قد مضى نقله عن المغني لابن قدامة، و رواها ابو رافع عن على عليه السّلام أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله أردف الفضل بن عباس ثم أتى الجمرة، فرماها؛ فاستقبله جارية شابة من خثعم، فقالت: يا رسول اللّه إنّ أبي شيخ كبير قد افند (اقعد) و قد أدركته فريضة اللّه في الحج، فيجزي أن أحج عنه؟ قال: حجي عن أبيك. و لوى عنق الفضل، فقال له العباس: يا رسول اللّه! لويت عنق ابن عمك؟! قال: رأيت شابا و شابة فلم آمن الشيطان عليهما «4».

5- خصوص رواية الكاهلي، قال: قال أبو عبد اللّه: النظرة بعد النظرة تزرع في القلب الشهوة و كفى لصاحبها فتنة «5».

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 78

و الأخيرتان ناظرتان إلى خوف الفتنة؛ و ضعف السند منجبر بعمل الأصحاب.

6- و في ذيل معتبرة عباد بن صهيب عن أبي عبد

اللّه عليه السّلام قال: و المجنونة و المغلوبة على عقلها، لا بأس بالنظر إلى شعرها و جسدها، ما لم يتعمد ذلك. «1»

و المراد بالتعمد، بعد ظهور صدر الرواية في كون الكلام في النظر العمدي، هو التلذذ، كما لا يخفى على الخبير، و كون الكلام في الشعر لا يضرّ بالمقصود بعد كون الشعر في المجنونة بحكم الوجه في العاقلة.

و المسألة واضحة؛ و اطناب الكلام فيها لزوال بعض الوساوس من أرباب الوسوسة في كل شي ء!.

***

[المسألة 19: لا يجوز للمرأة، النظر إلى الأجنبي كالعكس

اشارة

المسألة 19: لا يجوز للمرأة، النظر إلى الأجنبي كالعكس، و الأقرب استثناء الوجه و الكفين.

نظر المرأة إلى الأجنبي

(1) أقول: هذه المسألة أيضا مفروغ عنها بين الأصحاب.

قال في الحدائق: الظاهر أنّه لا خلاف في تحريم نظر المرأة إلى الأجنبي، أعمى كان أو مبصرا. «1»

و قال المحقق النراقي في المستند: و كلما ذكر فيه جواز نظر الرجل إلى المرأة، يجوز فيه العكس بالإجماع المركب. «2»

و مراده من الإجماع المركب، أنّ المجوز للنظر فيهما سواء، كالمانع، فمن أجاز في المرأة النظر إلى الوجه و الكفين أجازه هنا، و من منعه منعه هنا.

و قال في الرياض: و تتحد المرأة مع الرجل فتمنع في محل المنع، لا في غيره إجماعا. «3»

و قال ابن قدامة في المغنى: أمّا نظر المرأة إلى الرجل ففيه روايتان؛ إحداهما، لها النظر إلى ما ليس بعورة؛ و الاخرى، لا يجوز لها النظر من الرجل، إلّا إلى مثل ما ينظر إليه منها.

اختاره أبو بكر و هذا أحد قولي الشافعي. ثم ذكر روايات تدل على القول الثاني. «4»

أدلّة المسألة

و العمدة في المسأله آية الغض خطابا للنساء، قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ انوار الفقاهة، ج 3، ص: 80

وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها .... «1»

و هي عامّة، و لكن يستثنى منها الوجه و الكفان بالأولوية القطعية و تسالم الأصحاب.

و من الروايات الدالة على المقصود:

1- ما عن أحمد بن أبي عبد اللّه قال: استأذن ابن أم مكتوم على النبي صلّى اللّه عليه و آله و عنده عائشة و حفصة، فقال لهما: قوما فادخلا البيت. فقالتا: إنّه أعمى! فقال: إن لم يركما فانكما تريانه «2».

2- و قد روى مثله من طرق العامة بالنسبة إلى أم سلمة و حفصة، و في آخره: أفعمياوان أنتما لا تبصرانه؟ «3» رواه عن أبي داود و غيره.

3- و في

رواية اخرى بالنسبة إلى أم سلمة و ميمونة. «4» و هذه الروايات الثلاثة متقاربة مضمونا.

4- و في رواية في المستدرك عن الجعفريات عن الباقر عليه السّلام في حق فاطمة عليها السّلام عكس ذلك، و أنها حجبت نفسها عن الأعمى، فسألها النبي صلّى اللّه عليه و آله؛ فقالت: يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إن لم يكن يراني فانا اراه ... إلى أن قال فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: أشهد أنك بضعة منّي. «5»

يبقى هنا سؤال في فقه هذه الروايات، و أنّه كيف منعهن من النظر، و الحال إن النساء كن يأتين المساجد و يشترين الأشياء عن الأسواق و غيرها، و كن يرينهم فكيف امرهن بالاحتجاب عن الضرير، و قد جرت سيرة المسلمين قديما و حديثا على خلافه.

و يمكن الجواب عنه، بأنّ ابن أم مكتوم أو مثله لم يكن مستورا من جميع الجهات ما عدا الوجه و الكفين، و كثير من الأعراب في الصدر الأول، لم يكن لهم قميص ظاهرا، و كان لهم ازار فقط، أو شي ء شبيه ثوبي الاحرام، و كان يرى شي ء كثير من صدرهم أو ظهرهم- كما يستفاد من قصة سوادة بن قيس أيضا- فلذا امرهن بالاحتجاب عنه، و إلّا

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 81

كان النظر إلى الوجه و الكفين أمرا متعارفا بينهم.

5- و يدل عليه أيضا، ما رواه الصدوق بسنده المتقدم في عيادة المريض، قال: قال النبي صلّى اللّه عليه و آله: اشتد غضب اللّه على امرأة ذات بعل ملأت عينها من غير زوجها أو غير ذي محرم منها فانّها إن فعلت أحبط اللّه عزّ و جلّ كلّ عمل عملته ... «1».

و الظاهر انّ ما في سنده، إشارة إلى

ما نقله عنه في الوسائل 2/ 635، الحديث 9، الباب 10 من أبواب الاحتضار، و سنده يشتمل على أكثر من عشرة وسائط مشتملة على عدة مجاهيل؛ و أمّا دلالتها ظاهرة، بناء على ان المراد من قوله ملأت، هو النظر اليه متعمدا، لا أنّ المراد كونه عن شهوة؛ و إلّا لم يجز حتى في المحارم.

هذا ما هو المستفاد من كلمات الأصحاب، و ما يدل عليه من الأدلة؛ و إن كان ذكر المسألة في كلماتهم غالبا على نحو الاختصار حتى في الجواهر و المستمسك. و لكن الانصاف أنّ التي جرت عليه السيرة قديما و حديثا حتى في زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله و ما بعده من الأئمة المعصومين عليهم السّلام، هو عدم ستر الوجه و الكفين، و شعر الرأس؛ و لذا ورد في وصف شعر النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه كان إلى اذنيه، أو ما ورد في حديث ورود الرضا عليه السّلام نيشابور في وصف ذؤابته و غير ذلك، بل عدم ستر العنق و شي ء من الصدر الذي يظهر من القميص، لا سيما إذا كان واسع الصدر، و عدم ستر القدمين و شي ء من الساق عندهم بعد الأمر بتقصير الثياب، بل الظاهر عدم ستر الذراعين، لأنّ الرجال لا يزالون يتوضئون عن الأنهار و غيرها في اعين الناس و في الملاء العام. و عدم ستر هذه الأعضاء دليل على جواز النظر.

إن قلت: جواز الاظهار و عدم وجوب الستر لا يدل على جواز النظر، لإمكان الأمر بغضّ النظر مع ترخيص ترك الستر، و لا منافاة بينهما، و لا يكون هناك إعانة على الإثم.

قلنا: عدم المنافات عقلا صحيح، و لكن الانصاف، هو التلازم بين جواز ترك

الستر و جواز النظر، و لذا لا يزال الفقهاء يستدلون بقوله تعالى: «إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها»، على جواز النظر إلى وجه المرأة و كفها؛ الحاصل ان جواز احدهما ملازم عرفا لجواز الآخر، و لا دخل انوار الفقاهة، ج 3، ص: 82

للمسألة بمسألة الإعانة على الإثم، فتلخص من جميع ذلك أنّ مسألة الحجاب و النظر، هنا أوسع. و اللّه العالم.

النظر الى غير المحجبات في التلفزيونات

أنّه من المسائل المستحدثة في عصرنا، هو ارائة الصور الخارجية من التلفزيونات، و كثيرا ما يكون أبدان الرجال مكشوفة فيما لا يحل كشفه في مقابل النساء، لا سيما في الالعاب الرياضية؛ فهل يجوز نظر النساء غير المحارم إليها، و هل هناك فرق بين النشرات المباشرة و بين غير المباشرة و بين محدود المدار و غيره؟

و الجواب عن هذا السؤال، فرع العلم بعمل التلفزيون، و هو على ما ذكره أهله أنّ الكامرة التلفزيونية تأخذ الصورة الخارجيّة فتبدلها بأمواج مخصوصة، ثم تلك الأمواج تنتقل إلى مدى بعيد و يأخذها أدوات خاصة في التلفزيون، و تبدلها بالصور النورية؛ فما نراه فيها ليس ذاك الشخص بعينه، بل هي الصورة الحادثة منه بعد انتقال الأمواج.

و لا فرق في ذلك بين النشرات المباشرة و غير المباشرة، و لذا يغيّرون التصاوير بأنواع التغيير، و يمزجونها تارة و يفرقونها اخرى.

فحينئذ يقع الكلام في أن أدلة حرمة النظر إلى الأجنبيّة هل تشملها أم لا؟ الظاهر، عدم شمولها لها، كعدم شمولها للنظر إلى صورة المرأة الأجنبيّة بما أنّها صورة.

نعم، إذا كان ذلك سببا لبعض المفاسد، كمشاهدة الأفلام المبتذلة و النساء العاريات و مجالس الخمور و غير ذلك؛ أو كان النظر بتلذذ، أو خيف الوقوع في الفتنة أو شبه ذلك، كان حراما بهذه الجهة، لا من باب النظر

إلى الرجل أو المرأة غير ذات محرم.

و الاحتياط في كل حال حسن و هو طريق النجاة. و اللّه العالم.

***

[المسألة 20: كل من يحرم النظر إليه، يحرم مسّه

اشارة

المسألة 20: كل من يحرم النظر إليه، يحرم مسّه؛ فلا يجوز مسّ الأجنبي الاجنبيّة، و بالعكس. بل لو قلنا بجواز النظر إلى الوجه و الكفين من الأجنبية، لم نقل بجواز مسها منها؛ فلا يجوز للرجل مصافتحها؛ نعم، لا بأس به من وراء الثوب، لكن لا يغمز كفّها احتياطا.

مسّ من يحرم النظر اليه

(1) أقول: الظاهر، أنّ المسألة مورد وفاق بين الأصحاب، بل لعله كذلك بين المخالفين أيضا. قال النراقى (قدس سره) في المستند: الظاهر عدم الخلاف في تحريم مس ما يحرم النظر إليه من المرأة للرجل و من الرجل للمرأة؛ و تدل عليه أيضا العلة المنصوصة المتقدمة في رواية العلل. [إشارة إلى ما رواه محمد بن سنان، عن الرضا عليه السّلام فيما كتبه إليه من جواب مسائله: و حرم النظر إلى شعور النساء المحجوبات بالأزواج و إلى غيرهن من النساء، لما فيه من تهييج الرجال و ما يدعوا إليه التهييج من الفساد و الدخول فيما لا يحل و لا يجمل و كذا ما أشبه الشعور ...] «1»

ثم قال: بل التهييج في المسّ أقوى منه في النظر ... ثم ذكر في ذيل كلامه: و أمّا ما يجوز النظر إليه، فان كان من المحارم، فيجوز مسّه ... و إن كان من غيرهم، فمقتضى العلة المتقدمة الخالية عن المعارض، فيه الحرمة؛ ثم ذكر بعض الروايات الناهية، ثم قال: و حمله في المفاتيح على المصافحة بشهوة، و لا حامل له؛ فاطلاق الحرمة اظهر. «2»

و قال في الجواهر في كلام قصير له في المقام: ان كل موضع حكمنا فيه بتحريم النظر، فتحريم اللمس فيه اولى؛ كما صرّح به بعضهم بل لا أجد فيه خلافا بل كأنّه ضرورى على وجه يكون محرما لنفسه «3» (يعنى

لا بسبب التلذذ و الريبة).

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 84

و ذكر سيدنا الاستاذ، الحكيم، في المستمسك، بعد نقل كلام الجواهر، ما نصه: و في كلام شيخنا الأعظم (رحمه اللّه): إذا حرم النظر، حرم اللمس قطعا، بل لا إشكال في حرمة اللمس و إن جاز النظر، للأخبار الكثيرة؛ و الظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه «1».

أدلّة المسألة

هذا، و يدل على حرمه اللمس فيما حرم النظر، أمران:

أحدهما: قياس الأولوية؛ لأنّ علة الحرمة معلوم بمناسبة الحكم و الموضوع مع التصريح به في رواية العلل، و من الواضح ان العلة في اللمس اشد و آكد، و هذا مما لا ينبغى الريب فيه.

ثانيهما: طائفتان من الأخبار.

الطائفة الاولى: ما ورد من النهى عن مصافحة الأجنبيّة و بالعكس، منها:

1- ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال قلت له: هل يصافح الرجل المرأة ليست بذات محرم؟ فقال: لا، إلّا من وراء الثوب «2».

2- ما رواه سماعة بن مهران، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن مصافحة الرجل المرأة؟

قال: لا يحل للرجل أنّ يصافح المرأة، إلّا امرأة يحرم عليه أن يتزوجها ... و أمّا المرأة التي يحل له أن يتزوجها، فلا يصافحها إلّا من وراء الثوب، و لا يغمز كفها «3».

و الظاهر اعتبار سند الروايتين، و دلالتهما على المطلوب واضحة.

3- ما رواه في عقاب الاعمال، بسند تقدم في عيادة المريض، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال:

و من صافح امرأة حراما، جاء يوم القيامة مغلولا، ثم يؤمر به إلى النار. «4»

و في سنده إشكال ظاهر كما عرفت؛ بل و في دلالته، لأن قوله: و من صافح حراما؛ لا يخلو من إبهام؛ لعله أراد بذلك صور التلذذ و خوف

الفتنة.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 85

4- ما رواه الصدوق باسناده عنه صلّى اللّه عليه و آله إلى أن قال: و قال صلّى اللّه عليه و آله: و من صافح امرأة تحرم عليه، فقد باء بسخط من اللّه عزّ و جلّ. «1»

و هذه الروايات، و إن كانت كلّها واردة في المصافحة و لمس الأيدي، و لكن الانصاف إمكان إلغاء الخصوصيّة عنها، فتشمل كل لمس من أجنبيّ و أجنبيّة؛ مع أن الأمر في اليد، أسهل من غيره؛ فما ذكره سيدنا الاستاذ الحكيم (قدس سرّه) في المستمسك، من أنّ مورد جميع الروايات المماسة في الكفين، فالتعدى عنه، لا دليل عليه إلّا ظهور الإجماع «2»؛ ممّا لا يمكن الموافقة عليه، بل الظاهر أنّ استناد المجمعين أيضا إلى ما ذكرناه.

الطائفة الثانية: ما ورد في باب بيعة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله للنساء، انه صلّى اللّه عليه و آله كان يدعو بإناء فيملأه ماء، ثم يضع يده فيه و تضع النساء أيديهن في موضع آخر منه؛ و هي روايات كثيرة رواها في الوسائل، في الباب 115، من المقدمات (الحديث الثالث و الرابع و الخامس).

و رواها في المستدرك، في الباب 89، من المقدمات. (الحديث الأوّل و الرابع و الخامس).

و لكن يمكن المناقشة فيها بان فعل النبي صلّى اللّه عليه و آله دليل على اجتنابه صلّى اللّه عليه و آله عن مصافحتهن بيده صلّى اللّه عليه و آله، و لكن هل كان هذا مكروها أو حراما، فهو غير معلوم. و بعبارة اخرى، مجرد الترك لا يدلّ على الحرمة. اللّهم إلّا أن يقال: ورد في ذيل بعضها: فكانت يد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الطاهرة، اطيب من أنّ يمس بها كف انثى

ليس له بمحرم. «3» و لكنه أيضا لا يخلو عن ابهام.

فالأولى، الاستدلال بالطائفة الاولى، مضافا إلى الأولوية القطيعة.

بقي هنا شي ء: هل يجوز المصافحة من وراء الثياب

و هو ما أفاده الماتن، من جواز المصافحة من وراء الثياب، و هو منصوص مضافا إلى انوار الفقاهة، ج 3، ص: 86

عدم شمول أدلة حرمة المصافحة، و انصرافها عنه. و احتياطه في المتن لعدم الغمز، مستند إلى ما مرّ في معتبرة سماعة بن مهران (2/ 115)؛ و لكن الانصاف إمكان حملها على ما إذا كان بشهوة فانه لا داعى لذلك غالبا إلّا ما عرفت.

***

[المسألة 21: لا يجوز النظر إلى العضو المبان من الأجنبي و الأجنبيّة]

اشارة

المسألة 21: لا يجوز النظر إلى العضو المبان من الأجنبي و الأجنبيّة؛ و الاحوط ترك النظر إلى الشعر المنفصل؛ نعم، الظاهر أنّه لا بأس بالنظر إلى السّنّ و الظفر المنفصلين.

حكم النظر الى العضو المبان

(1) أقول: هذه المسألة غير مذكورة في كلمات كثير من الأصحاب، و لم نجد ذكرها في كلمات أهل الخلاف أيضا؛ نعم، ذكر في القواعد: ان العضو المبان، كالمتصل، على إشكال. «1»

و قال فخر المحققين، في الايضاح، في تقرير إشكال والده (قدس سرهما)، وجهين في المسألة؛ و استدل لكل منهما بما ستأتى الإشارة إليه إن شاء اللّه؛ ثم قال في آخر كلامه: و الأصح عندى الأول (أي الحرمة) «2».

و قال في كشف اللثام: و العضو المبان، كالمتصل على اشكال. «3»

و قال في العروة، في المسألة 45 من الفصل الأول من النكاح: لا يجوز النظر إلى العضو المبان من الأجنبي، مثل اليد و الأنف و اللسان و نحوها. و وافقه كثير من المحشين. و صرح في المستمسك: انه نص عليه غير واحد؛ و حكى عن الشيخ الأعظم إنّ المرجع فيه أصل البراءة، بعد الإشكال في الاستصحاب «4».

و حيث لم يرد نص خاص في المسألة، فاللازم الرجوع إلى القواعد و الاصول.

أدلّة حرمة النظر إلى العضو المبان

و غاية ما استدل به على الحرمة، امور:

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 88

1- الأمر بالغضّ الدال على الوجوب، و لا فرق بين الاتصال و الانفصال بمقتضى الاطلاق.

2- النواهي الواردة في الأخبار الدالة على حرمة النظر، و هي أيضا مطلقة.

3- استصحاب الحرمة، فإنّ النظر كان محرما عند الاتّصال، و يشك في زوالها بعد الانفصال، و الأصل بقاؤه.

4- ما ورد من النهي عن وصل شعر المرأة، بشعر امرأة غيرها.

و الجميع قابل للإيراد؛

أمّا وجوب الغض، فانّ المراد منه ترك نظر المرأة إلى الرجل و بالعكس، و عضو المبان لا يصدق عليه عنوان الرجل و المرأة؛ و القول بأنّ العرف لا يرى فرقا بين المتصل و المنفصل، عجيب، للفرق الواضح بينهما في

ملاك الحرمة.

و أمّا الروايات الناهية عن النظر، فانها ناظرة إلى صورة الاتّصال؛ و الحكم بشموله لحالة الانفصال تحكم، و قول بلا دليل.

و أمّا الاستصحاب، فيرد عليه أوّلا، أنّه في الشبهات الحكميّة، و قد ذكرنا في محلّه عدم حجّيته فيها. سلّمنا، لكن الموضوع قد تغير، فان موضوع الحرام كان أجزاء بدن المرأة، و هنا لا يصدق هذا العنوان. و القول بأنّ هذا المقدار لا تضر، لأنّه من قبيل تبدّل الحالات، و إلّا لم يجز الحكم بنجاسة أجزاء الملك أو أجزاء بدن الكلب و شبهه بعد انفصالها؛ ممنوع، بأنّ هذا قطعا من المقومات، فإنّ الذي أوجب الحرمة هو النظر إلى بدن المرأة، و هذا في الواقع كالجماد، و إلّا وجب الحكم بحرمة النظر إلى سنّها و ظفرها بعد انفصالها من بدنها، و الالتزام به بعيد جدّا. و قياسه على اجزاء نجس العين، قياس مع الفارق، للعلم القطعي بأنّ أجزاء نجس العين نجس، لا نشك فيه حتى يحتاج إلى الاستصحاب.

إن قلت: هذا إذا كان المرجع في بقاء الموضوع؛ لسان الدليل فإنّ الحكم فيه على عنوان المرأة؛ أمّا إذا كان المرجع فيه العرف فانّه باق على التحقيق.

قلنا: العرف هنا شاهد بعدم بقاء الموضوع و عدم وجود ملاك الحرمة فيه أو الشك فيه، و الاتّصال هنا من المقومات للموضوع، و إن شئت قلت الموضوع العرفي هنا، عين انوار الفقاهة، ج 3، ص: 89

الموضوع المأخوذ من لسان الدليل.

و لو فرض الشك في بقاء الموضوع، لم يجر الاستصحاب أيضا. لأنّ إحراز الموضوع لازم، و بدونه لا يجري الاستصحاب.

و أمّا الروايات الناهية عن وصل شعر المرأة بامرأة أجنبيّة، فهي على خلاف المطلوب أدلّ، و لذا ذكرها بعضهم دليلا على الجواز.

منها، ما رواه ثابت بن

سعيد، قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن النساء، تجعل في رءوسهن القرامل. «1» قال: يصلح، الصوف و ما كان من شعر امرأة لنفسها، و كره للمرأة أن تجعل القرامل من شعر غيرها. الحديث «2».

و ثابت بن سعيد مجهول.

و ما رواه سليمان بن خالد، قال: قلت له: المرأة تجعل في رأسها القرامل. قال: يصلح له الصوف و ما كان من شعر المرأة نفسها، و كره أن يوصل شعر المرأة من شعر بشعر غيرها. الحديث. «3»

و الظاهر انّ سليمان بن خالد، هو الهلالي الثقة، و لكن الحديث مرسل، فشي ء من الروايتين لا يمكن الاعتماد عليه بحسب السند؛ و هناك روايات اخرى رواها في الوسائل 12/ 93، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، بعضها تدل على النهي و بعضها على الكراهة و تمام الكلام في محله.

و إمّا الدلالة فظاهرها الكراهة، لقوله: و كره للمرأة ...؛ اللّهم إلّا أن يقال إن الكراهة المصطلحة، ممّا نشأت بين الفقهاء، و لم تكن في اللغة، و يشهد له، قوله تعالى بعد ذكر عدة من الكبائر: كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً «4». فلا أقل من أن يكون مفهومها أعم من الحرمة و الكراهة المصطلحة، فلا يكون دليلا على الجواز.

و على كل حال، لو قلنا بالحرمة، يمكن أن يكون ذلك بسبب نظر زوجها إليه أو لمسه،

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 90

و يمكن أن يكون غير ذلك، فلا يكون دليلا على حرمة النظر. و أمّا لو قلنا بالكراهة- كما هو الأقوى- فهو دليل على جواز النظر، لملازمته عرفا للنظر و اللمس من الأجنبي، كما لا يخفي.

فتلخص من جميع ما ذكرنا، أنّ الحق هو جواز النظر إلى العضو المبان، و إن كان

الأحوط استحبابا هو الاجتناب. و اللّه العالم.

***

[المسألة 22: يستثنى من حرمة النظر و اللمس في الأجنبي و الأجنبيّة، مقام المعالجة]

اشارة

المسألة 22: يستثنى من حرمة النظر و اللمس في الأجنبي و الأجنبيّة، مقام المعالجة إذا لم يمكن بالمماثل، كمعرفة النبض إذا لم تكن بآلة نحو الدرجة و غيرها، و الفصد و الحجامة و جبر الكسر و نحو ذلك. و مقام الضرورة، كما إذا توقف استنقاذه من الغرق أو الحرق على النظر و اللمس.

و إذا اقتضت الضرورة، أو توقف العلاج على النظر دون اللمس، أو العكس، اقتصر على ما اضطر إليه، و فيما يضطرّ اليه، اقتصر على مقدار الضرورة، فلا يجوز الآخر و لا التعدى.

مستثنيات حكم النظر و اللمس

(1) أقول: لمّا فرغ عن بحث النظر و اللمس، شرع في المستثنيات، و ذكر منها أمرين، أحدهما اعم من الآخر؛ أمّا الأعم، فهو مقام الضرورة و هذا العنوان عنوان عام يشمل كلّ ضرورة دينية أو دنيوية؛ و الأخص، هو مقام المعالجة.

و ذكر المحقق اليزدي، في العروة الوثقى، أربعة موارد؛ و أضاف إلى الموردين، موردين آخرين: مقام معارضة كل ما هو أهم في نظر الشارع؛ و مقام الشهادة.

و في الحقيقة، جميع ذلك تندرج في قاعدة الأهم و المهم، لأنّ في موارد المعالجة أو الضرورة أو الشهادة، دائما يدور الأمر بين ما يكون مراعاته أهم من حرمة النظر أو اللمس، فإنّ حفظ النفس عند المرض أو عند خوف الغرق أو الحرق، حفظ الحقوق عند الشهادة، أهم في نظر الشارع من حرمة اللمس و النظر، كما هو ظاهر. حتى أنّ اباحة النظر عند إرادة التزويج أيضا من هذا الباب.

فالاولى أن يجعل عنوان الاستثناء، موارد تعارض الأهم و المهم، ثم يذكر أمثلته و مصاديقه، و هذا اضبط لبيان الموضوع و الحكم.

الاقوال في المسألة

إذا عرفت ذلك، فلنرجع إلى بيان الأقوال في المسألة؛ و الظاهر أنّ المسألة إجماعية.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 92

قال في الجواهر: لا ريب في أنّه يجوز عند الضرورة، نظر كل من الرجل و المرأة إلى الآخر و لمسه. «1»

و قال الشهيد الثاني (قدس سره) في المسالك: قوله: و يجوز عند الضرورة؛ قد عرفت أنّ موضع المنع من نظر كل من الرجل و المرأة إلى الآخر، مشروط بعدم الحاجة اليه، أمّا معها فيجوز إجماعا. ثم ذكر له أمثلة كثيرة «2».

و لقد أجاد في جعل العنوان الجامع، هو الحاجة، ثم فرع عليها امورا كثيرة؛ و من الواضح أن عنوان الحاجة أيضا

يرجع إلى قاعدة الأهم و المهم، فالاولى جعلها العنوان الوحيد في المسألة.

و قال العلّامة، في التذكرة: القسم الثاني، أن يكون هناك حاجة إلى النظر، فيجوز إجماعا؛ ثم ذكر أمثلة مختلفة نظير إرادة النكاح و إرادة البيع المحتاجة إلى معرفة المشترى أو البائع، و مقام الشهادة و المعالجة. ثم قال: و لا يشترط في جواز نظره، خوف فوات العضو، بل المشقة بترك العلاج، خلافا لبعض الشافعيّة «3».

و قد تلخص من جميع ذلك، أنّ المسألة إجماعية بين الأصحاب (رضوان اللّه تعالى عليهم). و قال ابن قدامة، في المغنى: فصل، فيمن يباح له النظر من الأجانب؛ يباح للطبيب النظر إلى ما تدعوا إليه الحاجة من بدنها، فانه موضع الحاجة ... و للشاهد، النظر إلى وجه المشهود عليها ... و أنّ عامل امرأة في بيع أو إجارة، فله النظر إلى وجهها ليعلمها بعينها، فيرجع عليها بالدرك. و قد روى عن أحمد، كراهة ذلك في حق الشابة دون العجوز، و لعله كرهه لمن يخاف الفتنة أو يستغنى عن المعاملة، أمّا مع الحاجة و عدم الشهود، فلا بأس «4».

فقد أرسله ارسال المسلمات مما يكشف عن موافقة الجميع أو الأكثر، حتى أنّه ذكر التوجيه لكلام أحمد، ليوافق ما ذكره.

هذا حال المسألة بحسب أقوال الفريقين إجمالا.

أدلّة جواز النظر و اللمس في مقام المعالجة
اشارة

و أمّا الدليل على هذا الحكم، فهو من طريقين:

الأوّل: قاعدة الأهم و المهم:

و هي قاعدة عقلية قد دل عليه صريح العقل و عليه بناء العقلاء، فإذا أحرزنا أنّ مسألة حل مشكلة المعالجة أو الشهادة أو البيع أو النكاح أو غيرها، من قبيل الأهم، و ترك النظر و اللمس من قبيل المهم، لا يبقي شك في ترجيح الأول على الثاني؛ و هكذا الأمر في جميع الواجبات و المحرمات، مثل الاضطرار إلى أكل الميتة لحفظ النفس، الذي نطق به الكتاب العزيز؛ و مثل الغيبة عند المشهورة، و الكذب لا صلاح ذات البين، و التقية لحفظ النفس، و الأكل في المخمصة من مال الغير، إلى غير ذلك من الأمثلة في مختلف أبواب الفقه.

و هذه القاعدة مركبة من كبرى و صغرى (أنّ هذا أهم، و هذا مهم؛ و كلما كان كذلك، يرجح فيها الأهم على المهم) و يشهد لصحة كبراها صريح العقل، و لو كان هناك شبهة فانما هي في تشخيص بعض مصاديقه، فما مضى في كلام بعض الشافعية، من أنّه يشترط في جواز النظر، خوف فوات العضو، إنّما هو خلاف في تشخيص الصغرى لا الكبرى كما هو ظاهر.

و الحاصل، انّ هذه قاعدة عقلية قطعية مؤيدة بما ورد في الكتاب و السّنّة؛ و كفى بها دليلا في المقام.

الثاني: من طريق الأخبار،

و هي على طائفتين: أخبار عامة و أخبار خاصّة.

و أمّا الاولى، و هي ما يدل على حلّية كل محرم عند الضرورة و الاضطرار، و هي روايات:

1- ما رواه أبو بصير، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المريض، هل تمسك له المرأة شيئا،

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 94

فيسجد عليه؟ فقال: لا، إلّا أن يكون مضطرّا ليس عنده غيرها؛ و ليس شي ء مما حرّم اللّه إلّا و قد أحلّه لمن اضطرّ إليه «1».

و سند

الرواية غير خال عن الإشكال، فان فضالة، مشترك بين جماعة، و لكن الظاهر أنّه فضالة بن أيوب الازدي الثقة، بقرينة رواية حسين بن سعيد عنه (و هو كثير الرواية جدا).

و الحسين أيضا مشترك بين عدد كثير، و لا يبعد أن يكون هو الحسين بن عثمان الرواسى، و لكنه غير ثابت؛ فلو خلى أبو بصير عن إشكال الاشتراك، بقى الإشكال في الحسين، و لعله لذا عبّر في الجواهر 9/، في أحكام القيام، بخبر أبي بصير، الدال على الترديد في صحة سنده، لا أقل. و أمّا دلالته من حيث الكبرى الكلية الواردة فيها، صريحة لا ريب فيها.

2- ما رواه سماعة قال: سألته عن الرجل يكون في عينيه الماء فينتزع الماء منها، فيستلقى على ظهره الأيام الكثيرة، أربعين يوما أو أقل أو أكثر، فيمتنع من الصلاة، الأيام، إلّا ايماء و هو على حاله.؟ فقال: لا بأس بذلك، و ليس شي ء مما حرمه اللّه إلّا و قد أحله لمن اضطرّ إليه «2».

و الظاهر، اعتبار سند الرواية، و أمّا دلالتها فهي أيضا واضحة، فقد ذكر فيها الكبرى الكليّة بعنوان التعليل لمورد السؤال في الرواية.

3- و هناك رواية اخرى، ظاهرها أنّها خاصة، و لكن يمكن استفادة العموم منها، لبعض تعبيراتها و هي ما عن مفضل بن عمر، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: لم حرّم اللّه الخمر و الميتة و الدم و لحم الخنزير؟ قال: أنّ اللّه تبارك و تعالى- إلى أن قال- ثم أباحه للمضطر، و أحلّه له في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلّا به، فامره بأنّ ينال منه بقدر البلغة، لا غير ذلك ... «3»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 95

و سند الرواية، و أن كان ضعيفا أو مبهما،

و لكن لا يبعد دلالتها على العموم، لأنّ قوله لا يقوم بدنه إلّا به؛ عنوان عام، شامل لكثير من موارد الضرورة في العلاج و الفصد و الحجامة و الأعمال الجراحية و غيرها، بل يمكن الغاء الخصوصية منها و التعدى إلى ساير الموارد.

و الحاصل أنّ هذه الروايات، مع تعاضد بعضها ببعض، كاف في إثبات المدعى.

و قد أورد العلّامة المجلسي (رضوان اللّه تعالى عليه)، هذه القاعدة (ما من شي ء ...)، في بحار الأنوار، في ج 2/ 272 و ج 75/ 411 و ج 104/ 284 و أوردها في الوسائل، في خمس مواضع، في ج 1/ 488 و ج 3/ 270 و ج 4/ 690 و أيضا في ج 16/ 137 و لكن الأصل في الجميع هو الحديثان، حديث سماعة و حديث سماعة و حديث أبي بصير.

و هناك روايات تدل على قاعدة اخرى، و هي: ما غلب اللّه عليه فاللّه اولى بالعذر. «1» استدل بها في الجواهر، لما نحن فيه.

و قد يتوهم دلالتها على المقصود، و الحال أنّها ناظرة إلى أمر آخر، و هو صورة سلب الاختيار من الإنسان مثل المغمي عليه الذي تفوت منه الصلاة فانه مورد الروايتين، لا المضطر الذي له إرادة و يسند إليه الفعل. و إن شئت قلت، غلبة اللّه على شي ء، بمعنى سلب القدرة، و المضطرّ لا يكون مسلوب القدرة، بل يكون في اختياره ضررا عليه.

و أمّا الثانية، ما ورد في خصوص الاضطرار إلى النظر أو اللمس إلى غير ذات محرم، و هي روايات؛ منها:

1- ما رواه أبو حمزة الثمالى عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن المرأة المسلمة يصيبها البلاء في جسدها، أمّا كسر و امّا جرح في مكان لا يصلح

النظر إليه، يكون الرجل أرفق بعلاجه من النساء، أ يصلح له النظر إليها؟ قال: إذا اضطرت اليه، فليعالجها إن شاءت «2».

و سند الرواية لا بأس به، لان رجالها كلّها ثقات. و أمّا علي بن الحكم و إن كان مشتركا بين الثقة و غيره، و لكن الظاهر بقرينة رواية أحمد بن محمد عنه، هو على بن انوار الفقاهة، ج 3، ص: 96

الحكم الكوفي الثقة. قال الشيخ، في الفهرست: له كتاب، رواه أحمد بن محمد عنه. و دلالتها ظاهرة على المطلوب تدل على جواز النظر، و يمكن الحاق اللمس به للملازمة في العلاج غالبا، أو لإلغاء الخصوصية.

2- ما رواه في دعائم الإسلام، عن أبي جعفر محمد بن علي عليه السّلام أنّه سئل عن المرأة تصيبها العلّة في جسدها، أ يصلح أن يعالجها الرجل؟ قال: إذا اضطرت إلى ذلك، فلا بأس. «1»

و دلالتها واضحة على المطلوب، و إن كان سندها ضعيفا بالارسال.

3- ما رواه على بن جعفر عليه السّلام في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن الرجل يكون ببطن فخذه أو أليته الجرح، هل يصلح للمرأة أن تنظر إليه و تداويه؟ قال: إذا لم يكن عورة، فلا بأس «2».

بناء على حملها على صورة الانحصار و الاضطرار، بقرينة المعالجة و بقرينة قوله، تداويه، الملازم للمسه غالبا، و إلّا كان دليلا على جواز النظرة إلى بدن الرجل ما عدا العورة؛ فتدبر.

و سند الرواية معتبر، لأنّ الظاهر أنّ كتاب علي بن جعفر، كان عند صاحب الوسائل موجودا بطريق معتبر.

4- المعروف انه في الغزوات الاسلامية في عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله كانت بعض النساء العالمات بفنون الجراحية، كن يحضرن الجرحى للتداوي و شدّ الجروح و غير

ذلك.

5- ما رواه ابن وهب، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إذا ماتت المرأة و في بطنها ولد يتحرك، شق بطنها و يخرج الولد. و قال في المرأة تموت في بطنها الولد، فيخوف عليها؛ قال: لا بأس أنّ يدخل الرجل يده فيقطعه و يخرجه. «3»

و قد استدل في الجواهر، بمكاتبة محمد بن الحسن الصفار إلى أبي محمد الحسن بن انوار الفقاهة، ج 3، ص: 97

علي عليه السّلام، في رجل أراد أن يشهد على امرأة ليس لها بمحرم، هل يجوز له أن يشهد عليها من وراء الستر و يسمع كلامها، إذا شهد عدلان أنّها فلانة بنت فلان التي تشهدك و هذا كلامها، أو لا يجوز الشهادة عليها حتى تبرز و تثبتها بعنيها؟ فوقع عليه السّلام: تتنقّب و تظهر للشهود إن شاء اللّه. «1»

و سند الحديث و إن كان متينا، فان محمد بن الحسن الصفار، هو محمد بن الحسن بن فرّوخ الصفار، الذي قال النجاشى في حقه: انه كان وجها في أصحابنا القميين، ثقة، عظيم القدر، قليل السقط في الرواية، له كتب. و قال الشيخ: ... له مسائل، كتب بها إلى أبي محمد العسكري عليه السّلام.

و لكن دلالتها غير ظاهرة على المبنى، من جواز النظر إلى الوجه و الكفين، و من المعلوم كفاية النظر إلى الوجه للشهادة.

و قد تحصل من جميع ذلك، إن استثناء موارد الضرورة، سواء كانت للمعالجة أو للشهادة- لو قلنا بعدم جواز النظر إلى الوجه في حال الاختيار- أو للنجاة من الغرق و الحرق، أو لرفع التهمة، أو للبيع و التجارة، أو للنكاح، فإنّه أهم من البيع، كما هو ظاهر.

بقى هنا أمران:
1- الضرورات تتقدر بقدرها

هذه أيضا قاعدة عقلائية، كما أنّ الجواز عند الضرورة

كذلك، و هذه من قضايا قياساتها معها، و إن شئت قلت: الأصل هو الحرمة، خرجنا منه بمقدار يدل عليه الدليل، و هو مقدار الضرورة، فيبقى الباقي تحته، فلا يجوز التعدى عن المقدار اللازم في كل مقام.

2- ما يجب على الحكومات الاسلاميّة في هذا المجال

إنّ اللازم على الحكومات الإسلامية، اتخاذ التدابير اللازمة للطبابة من قبل المماثل،

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 98

طبيب المرأة للمرأة، و الرجل للرجال، حتى تندفع الضرورة، و لا يبقى لها محل؛ فان دفع الضرورة، بأمر مباح، و لو احتاجت إلى مقدمات، واجب؛ كما إذا كان الإنسان يعلم أنّه لو سافر بلا زاد، سوف يحتاج إلى أكل الميتة، فالواجب عليه تهيئة الزاد لئلا يضطرّ إليها، و لو قصر في ذلك، و احتاج إليها. وجب عليه أكلها من باب الضرورة، و لكنه عاص بسبب القاء نفسه في هذه الضرورة.

هذا واجب بالنسبة إلى شخص واحد، و اوجب منه ملاحظة حال الجماعة، فلو علم رئيس المسلمين، إنّ الناس، لو لم يدّخر لهم الطعام الحلال، سوف يحتاجون إلى أكل الميتات و سائر المحرمات، وجب عليه ادّخارها في أوانها؛ و كذا الحال في مسألة الطب و الجراحية، فاللازم تأسيس كليات طبيّة للنساء و الرجال و المستشفيات و المستوصفات كذلك عند القدرة و الاستطاعة، و الظاهر أنّه أمر ممكن، و الثقافة الإسلاميّة تقتضى ذلك، سواء وافقنا غيرنا أم لم يوافقونا.

***

[المسألة 23: كما يحرم على الرجل النظر إلى الأجنبيّة، يجب عليها التستر من الأجانب

اشارة

المسألة 23: كما يحرم على الرجل النظر إلى الأجنبيّة، يجب عليها التستر من الأجانب؛ و لا يجب على الرجال التستر، و إن كان يحرم على النساء النظر إليهم، عدا ما استثنى؛ و إذا علموا بأنّ النساء يتعمدن النظر إليهم، فالأحوط التستر منهن، و إن كان الاقوى عدم وجوبه.

وجوب الستر و الحجاب على المرأة

(1) أقول: هذه هي مسألة وجوب الستر و الحجاب على المرأة، و هي من المسائل المهمة، و على رغم ذلك قلّ من تعرض لها مستقلا، بل تعلم فتاواهم من أبحاث حرمة النظر و جوازه، في بعض الموارد.

أدلّة وجوب الستر و الحجاب على المرأة
اشارة

و العلة في ذلك هو:

من ضروريات الإسلام: أنّ المسألة على إجمالها مما لا خلاف فيه، بل هي إجماعيّة، بل من ضروريات دين الإسلام، يعرفها اليوم الأجانب أيضا، و قد اتسع نطاقها لجهات شتّى، حتى صارت اليوم من شعارات المسلمين يعرفها كل مؤالف و مخالف. و كفى بذلك، دليلا على إثباتها، و إن كان هناك دلائل كثيرة غيرها، و هي آيات من كتاب اللّه و طوائف من الأخبار.

آيات من كتاب اللّه

1- قوله تعالى: ... وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها، «1» و هي صريحة في المطلوب.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 100

2- قوله تعالى: ... وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ «1»، و قد مرّ تفسيرها، و هي أيضا صريحة في وجوب الستر و حرمة السفور.

3- قوله تعالى: ... وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ .... «2»

و من المعلوم أنّ المراد منه، هو الزينة الباطنة، فكما، يحرم ابداء الزينة الباطنة، يحرم إبداء محالّها، بل قد يقال أنّ المراد منه خصوص المحالّ، و لكن الانصاف ظهورها في حرمة ابداء الزينة الباطنة أيضا، و بالملازمة تدل على محالّها.

4- قوله تعالى: ... وَ لا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ .... «3»

نهى النساء عن ضرب الأرجل، لظهور قعقعة الخلخال، و هو من الامور الباعثة للوسوسة في قلوب الرجال، فإذا كان هذا ممنوعا بحسب ظاهر الآية، فابداء الرجل و اليد و الرأس و الرقبة و الصدر، ممنوع بطريق أولى.

5- قوله تعالى: وَ الْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. «4» و قد وقع الكلام بين المفسرين و الفقهاء، في الآية في مقامين:

أحدهما، المراد من، القواعد، هل هي النساء اللاتي مضى وقت نكاحهن و لا يرغب في نكاحهن غالبا، أو المراد اللاتي يئسن من المحيض. ثانيهما، ما المراد بالثياب التي يجوز وضعها لهن، هل هي الخمار و الجلباب، أو خصوص الجلباب، و يبقى الخمار. و للكلام فيهما محلّ آخر، سيأتي إنشاء اللّه. و لكن لا فرق في شي ء من ذلك بالنسبة إلى ما نحن فيه، لأنّ الآية لها مفهوم واضح، و هو أن، غير القواعد، لا يجوز لهن وضع الثياب، بل يجب عليهن ستر أبدانهن (ما عدا الوجه و الكفين كما مرّ آنفا).

6- قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ، قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ وَ نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ انوار الفقاهة، ج 3، ص: 101

جَلَابِيبِهِنَّ، ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ، وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً. «1»

أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بالأمر بأزواجه و بناته و جميع نساء المؤمنين، أن يدنين عليهن من جلابيبهن، و الجلباب شي ء فوق الخمار كما مرّ؛ و ادنائها، أرخائها على الصدر و الرقبة، أو مثل ذلك؛ و قد تقرر في علم الاصول، أن الأمر بالأمر، أمر؛ و ظاهره الوجوب.

اللّهم إلّا أنّ يقال، إن تعليلها يدل على الاستحباب، أو على أمر إرشادي، لا أمر مولوي، لأنّ الفساق و أرباب الريبة كانوا يمازحون الإماء، فأمرن الحرائر بالجلباب و الستر، ليعرفن من الإماء فلا يؤذين بذلك؛ ثم هدد في الآية، الآتية هؤلاء المنافقين و الذين في قلوبهم مرض، بالإخراج من المدينة و القتل لو لم ينتهوا عن التعرض لنواميس المسلمين. و إذا كان الأمر إرشاديا فلا يدل على التحريم.

و لكن يمكن أن يجاب عنه، بأنّه من قبيل ذكر الحكمة، فلا ينافي الأمر المولوي؛ فتأمل.

7- و

قد يستدل بقوله تعالى: ... وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً، فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ، ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ .... «2» أمر بسؤالهن من وراء الحجاب، ثم استثنى في الآية 55، و قال تعالى: لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَ لا أَبْنائِهِنَّ وَ لا إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَ لا نِسائِهِنَّ وَ لا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ .... «3»

و عدم ذكر الأعمام و الأخوال، من جهة العلم بحكمهم، لسبب ذكر أولاد الإخوة و أولاد الأخوات، فيعلم جواز ترك الحجاب بقرينة المقابلة؛ و حيث إنّ قاعدة الاشتراك في التكليف، حاكمة على جميع الأحكام الواردة في الشرع في حق جماعة، فتثبت في حق الآخرين؛ يستفاد منها حكم عام لجميع النساء. و لكن يرد عليه؛ أنّ المراد بالحجاب هنا، ليس ستر المرأة، بل المراد ستر البيوت المرخى على أبوابها، فإنّه الذي يعطي المتاع من ورائها، و من المعلوم بالإجماع، أو الضرورة أنّ هذا لا يجب بالنسبة إلى جميع النساء،

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 102

فانّهن لا يزلن يشترين الأشياء من السوق و يعطين الفلوس، أو يبعن بعض الاشياء في السوق؛ و لا يكون شي ء من ذلك من وراء الستر، و قد جرت بذلك سيرة المسلمين قديما و حديثا.

فاللازم، إمّا القول بكون هذا الحكم من خصائص نساء النبي صلّى اللّه عليه و آله كالحكم بحرمة زواجهن بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. و إمّا حملها على نوع من الاستحباب بقرينة قوله تعالى:

ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ. فإنّه تعليل يناسب الحكم المستحبي.

فالاستدلال بالآية للمطلوب، مشكل.

طوائف من الروايات

و أمّا الروايات فيه كثيرة غاية الكثرة، و إنّما تبلغ حد التواتر و هي على طوائف:

الف) ما ورد في تفسير قوله تعالى

«الّا ما ظهر منها»: الروايات الدالة على تفسير قوله تعالى: إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها، بالوجه و الكفين. مثل ما عن الفضيل، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الذراعين من المرأة، هما من الزينة التي قال اللّه تعالى: وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ. قال: نعم، و ما دون الخمار من الزينة و ما دون السوارين. «1»

و مثله ما رواه عبد اللّه بن جعفر في قرب الاسناد «2» و كذا ما أشبههما.

ب) ما ورد في القواعد من النساء: ما ورد في حكم القواعد من النساء في الروايات الكثيرة التي رواها في الوسائل، في الباب 110، من مقدمات النكاح.

مثل ما عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ «و القواعد ...» ما الذي يصلح لهن أن يضعن من ثيابهن؟ قال: الجلباب. «3»

و كذا الرواية الثانية و الثالثة و الرابعة و الخامسة و السادسة من هذا الباب بعينه، فانها على اختلافها في تعيين المصداق في الجلباب، أو الجلباب و الخمار، أو غير ذلك، تدل انوار الفقاهة، ج 3، ص: 103

على وجوب الستر على غير القواعد، مطلقا. (ما عدا الوجه و الكفين المستفاد من روايات اخرى).

ج) ما ورد في نساء الاعراب و اهل البوادي: ما ورد في حكم نساء الاعراب و أهل البوادي، من جواز النظر إلى شعورهن، معللا بانّهم إذا نهوا لا ينتهون. «1» بناء على رجوع ضمير المذكر إلى النساء، لسهولة الأمر في التذكير و التأنيث، و بقرينة ذيل الرواية، فانه قد عطف عليها المجنونة و المغلوبة على عقلها. و المذكور في نسخة الكافي عندنا أيضا ذلك. «2» و لكن عن الفقيه، و علل الشرائع؛ لأنهن إذا نهين

لا ينتهين. «3»

و على كل حال، دلالتها على المطلوب واضحة، فانّ مفهومها وجوب الستر عليهن.

و لكن إذا نهين عن السفور، لا ينتهين، فيجوز النظر إليهم، للابتلاء بهن.

د) ما ورد في حكم الاماء من حيث التستر: ما ورد في حكم الإماء من حيث التستر؛ مثل ما رواه في الكافي، في الصحيح، عن اسماعيل بن بزيع، قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن أمهات الأولاد لها أن تكشف رأسها بين يدى الرجال؟ قال: تقنّع. «4» هذه الرواية تدل بوضوح على أنّ وجوب التستر على الحرائر، كان أمرا معلوما مفروغا عنه، و إنّما سئل عن حكم أم الولد، فامر بالتستر. و لعله لكونها في مسير الحريّة.

ه) الروايات الواردة في الباب 125: الروايات الكثيرة الواردة في الباب 125، من المقدمات، التي تدل بعضها على عدم جواز كشف المرأة رأسها عند الخصيّ، و بعضها على جوازه، و حمل الثاني على التقية، أو الضرورة. فمن الأول، ما عن علي بن علي، أخي دعبل، عن الرضا عليه السّلام عن آبائه، عن الحسين عليهم السّلام، قال: أدخل على اختي سكينة بنت علي، خادم، فغطت رأسها منه فقيل لها: أنّه خادم، فقالت: هو رجل منع من شهوته «5» و المراد من قوله: أنّه خادم؛ أنّه خصيّ، بقرينة ذيلها.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 104

و من الثاني، ما رواه محمد بن اسماعيل بن بزيع، قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن قناع الحرائر من الخصيّات؟ فقال: كانوا يدخلون على بنات أبي الحسن عليه السّلام و لا يتقنعن.

قلت: فكانوا أحرارا؟ قال: لا، قلت: فالأحرار يتقنّع منهم؟ قال: لا. «1»

و للبحث عن جواز عدم التستر، أو حرمته، مقام آخر؛ و لكن جميع هذه الروايات الكثيرة نفيا أو

إثباتا دليل على وجوب الستر على المرأة في غير الموارد المستثناة، سواء كان محل الكلام منها أم لا.

و) ما ورد في وجوب الخمار على الجارية اذا بلغت: الروايات المتعددة الدالة إما على وجوب الخمار على الجارية إذا بلغت، و إمّا على عدم وجوب التستر عن الصبي حتى يبلغ الصبي، فراجع الباب 126، ففيها أربع روايات، كلّها تدل على المطلوب بوضوح، فإنّها صريحة في وجوب الستر على المرأة، إلّا في الموارد المستثناة.

ز) ما دل على وجوب ستر المرأة عن عبدها: مثل ما رواه يونس بن عمار و يونس بن يعقوب، جميعا، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: لا يحلّ للمرأة، أن ينظر عبدها إلى شي ء من جسدها إلّا إلى شعرها غير متعمد لذلك. «2»

و من الواضح، أن الرواية ليست بصدد بيان حكم نظر العبد، بل حكم تستر المرأة عنه، لأنها تقول لا يحلّ للمرأة ....

فقد تلخص من جميع ما ذكرنا، أنّ الروايات الدالة على وجوب الستر على النساء، تبلغ حد التواتر، و في الغالب تدل بالدلالة الالتزامية، و هي هاهنا أبلغ من الدلالة المطابقية، لأنّ ظاهرها أو صريحها، كون وجوب الستر امرا مسلما مفروغا عنه بين المسلمين، و إنّما وقع السؤال عما يتفرع عليه و عن استثناءاته، و إذا انضمت بالآيات القرآنية الصريحة، و بالضرورة بين المسلمين، ثبت الحكم بأبلغ البيان و أتمّ البرهان. هذا كله بالنسبة إلى وجوب حجاب النساء.

عدم وجوب الحجاب على الرجال

أمّا عدم وجوب حجاب الرجال، فقد صرح في المستمسك، بأنّه: يظهر من كلماتهم من القطعيات عند جميع المسلمين، و ينبغى أن يكون كذلك، فقد استقرت السيرة القطعية عليه بل تمكن دعوى الضرورة عليه. «1»

و الظاهر أن المتعرض للمسألة قليل، و ما ذكره لعله مستفاد

من طيّات كلماتهم، على تأمل.

و لا شك أنّ مقتضى الأصل هنا، عدم الوجوب. و لكن دعوى استقرار السيرة عليه في غير الوجه و الكفين و الرأس و الرقبة و شي ء من الصدر و الذراعين و شي ء من الساق مع القدم، مشكل جدا. فأي سيرة على وضع القميص عن الصدر و الظهر و الفخذ و شبهه (ما عدا العورة) في مقابل النساء و مرئى منهن. نعم، بالنسبة إلى المقدار الذي ذكرنا، يمكن دعوى استقرار السيرة عليه.

و لكن ليس هنا دليل على الوجوب في مقابل أصالة البراءة، لا من الآيات و لا من الروايات و لا من الإجماع. نعم، يمكن الاستدلال له، بمسألة حرمة الإعانة على الإثم، و بمسألة النهى عن المنكر.

توضيحه، أنّه قد مرّ أنّ نظر المرأة إلى أعضاء الرجل (عدا ما استثناه) حرام، بمقتضى الأدلة الشرعيّة، فإذا كان هناك ناظر محترم من جنس النساء، و علم الرجل به، و لم يستر بدنه، كان أعانها على الحرام، و الإعانة على المحرم حرام؛ فلا يتوقف الحكم بالحرمة بصورة التلذذ و الريبة، لأنّ الحرمة غير قاصرة عليها.

هذا، و قد يستشكل على صغرى المسألة بعد قبول كبراها، أي حرمة الإعانة، بأنّ صدق الإعانة فرع قصدها؛ و بتعبير آخر: أنّ الإعانة على الشي ء، تتوقف على قصد التسبب، إلى ذلك الشي ء بفعل المقدمة، فاذا لم يكن الفاعل للمقدمة قاصدا حصوله، لا يكون فعل المقدمة إعانة عليه، فمجرد العلم بأنّ المرأة تنظر إليه عمدا، لا يوجب التستر،

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 106

عليه، من باب حرمة الإعانة على الاثم. «1»

و لكن يرد عليه، أنّ الإعانة أمر عرفي، لا يتوقف على القصد في بعض الاحيان، و إن شئت قلت: قصده قهرى، فمن يبيع أنواع السلاح

لأعداء الدين، لا سيّما عند قيام الحرب بينهم و بين المسلمين، و يزودهم بأنواع التزويدات رغبة للفلوس و المنافع المادية، بغير قصد الاعانة، يكون معاونا لهم عند جميع الناس؛ و لا يحتاج إلى نص خاص في المسألة، و إن ورد فيها بعض النصوص.

و كذلك من يبيع العنب للمصانع التي يصنع فيها الشراب عالما عامدا، بقصد المنافع الكثيرة من دون قصد صنع الشراب، يعد معاونا لهم، و لا يقبل أحد منهم أنّه لم يقصد ذلك، بل قصد المنافع؛ لا سيما إذا كان البائع للمصنع منحصرا فيه. و لذلك، نمنع عن ظهور الرجال عريانا في مقابل النساء في ميادين الرياضة، أو في مراسم العزاء الحسيني، سلام اللّه عليه، و لا أقل من الاحتياط الوجوبي في ذلك، لما ذكرناه.

هذا، و قد يقال لو لم يكن القصد شرطا، بل يكفى فعل بعض المقدمات مع العلم بأنّه ينتهى إلى فعل الحرام من ناحية الغير، لم يجز بيع الخبز و الطعام لأهل المعاصى، فانه مقدمة لأفعاله، و لولاه لم يقدر عليها.

و لكن نجيب عنه، بأنّه فرق واضح بين المقدمات القريبة المباشرة، و البعيدة التائية؛ ففي الأول، يصدق عنوان الإعانة على الإثم، و في الثاني غير صادق؛ و الشاهد عليه قضاء العرف و العقلاء بذلك.

و امّا الاستدلال بمسألة النهى عن المنكر، فهو أيضا قريب، نظرا إلى أنّ المقصود منه ترك المنكر بأي وسيلة كانت؛ فلذا قد يكون بالقول، و قد يكون بالفعل، مثل إراقة الخمور و كسر الأصنام و أخماد بيوت النيران و ما اشبه ذلك، و قد أقدم عليها النبي صلّى اللّه عليه و آله و وصيّه (سلام اللّه عليه) و المسلمون بعد ذلك، اقتداء بفعل شيخ الأنبياء، إبراهيم (عليه آلاف

التحيّة و السلام).

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 107

فاعدام الموضوع، من طرق النهي عن المنكر، فاذا علم الرجل بتعمد المرأة في النظر إلى بدنه (في غير ما استثنى) سواء كان بتلذذ و ريبة أم لا، فانّه حرام على كل حال، على المشهور، و على المختار. فمن طرق النهي عن هذا المنكر، أعدام موضوعه، و هو الستر، فيجب على الرجال التستر، إذا تعمدن في النظر، من باب النهي عن المنكر.

و ما أفاده سيدنا الاستاذ الحكيم (رضوان اللّه تعالى عليه) في وجه عدم شمول أدلة النهي عن المنكر للمقام، بأنّ المراد منه: الزجر عن المنكر تشريعا، بمعنى احداث الداعى إلى الترك؛ فلا يقتضى وجوب ترك بعض المقدمات، لئلا يقع المنكر؛ كما لا يقتضى الأمر بالمعروف فعل بعض المقدمات، ليتحقق المعروف. «1» محل للمنع؛ و ذلك لأنّ النهي، عرفا شامل لجميع ذلك، كما عرفت في كسر الأصنام و إخماد بيوت النيران و شبه ذلك، و كذا ما صرح به الفقهاء من وجوب النكاح على من يخاف من تركه الوقوع في الحرام، فانّه أيضا من قبيل نفى موضوع الحرام، باشباع الغريزة من طريق الحلال. و الجمود على لفظ النهي، و القول بظهوره في الزجر تشريعا، غير صحيح بعد العلم بالملاك و بعد ما عرفت من سيرة الأنبياء و المعصومين عليهم السّلام.

و أمّا ما ذكره في النقض، بوجوب فعل بعض المقدمات ليتحقق المعروف، فالالتزام به غير بعيد؛ فلو علمنا بانّه، لو لم يكن الحمام موجودا في بلد أو قرية، ترك جماعة كثيرة من المسلمين صلاتهم و صيامهم، و كنا قادرين على بنائه، أو كانت الحكومة قادرة عليه، لم يبعد القول بوجوبه من هذا الباب و لا يبعد أن يكون وجوب تعليم الحلال

و الحرام أيضا، من هذا الباب؛ فتدبر جيّدا.

***

[المسألة 24: لا إشكال في أنّ غير المميز من الصبي و الصبيّة خارج عن أحكام النظر]

المسألة 24: لا إشكال في أنّ غير المميز من الصبي و الصبيّة خارج عن أحكام النظر و اللمس بغير شهوة، لا معها لو فرض ثورانها.

[المسألة 25: يجوز للرجل أن ينظر إلى الصبيّة، ما لم تبلغ

المسألة 25: يجوز للرجل أن ينظر إلى الصبيّة، ما لم تبلغ، إذا لم يكن فيه تلذذ و شهوة. نعم، الاحوط الاولى، الاقتصار على مواضع لم تجر العادة على سترها بالألبسة المتعارفة مثل الوجه و الكفين و شعر الراس و الذراعين و القدمين، لا مثل الفخذين و الأليين و الظهر و الصدر و الثديين، و لا ينبغى ترك الاحتياط فيها؛ و الأحوط عدم تقبيلها و عدم وضعها في حجره إذا بلغت ست سنين.

[المسألة 26: يجوز للمرأة، النظر إلى الصبي المميز ما لم يبلغ

اشارة

المسألة 26: يجوز للمرأة، النظر إلى الصبي المميز ما لم يبلغ، و لا يجب عليها التستر عنه، ما لم يبلغ مبلغا يترتب على النظر منه أو إليه ثوران الشهوة، على الأقوى في الترتب الفعلي، و على الأحوط في غيره.

حكم النظر إلى الصبي و الصبيّة
اشارة

(1) أقول: هذه المسائل الثلاث، مرتبطة بعضها ببعض من حيث الأقوال و الأدلة، و لذا نتعرض لها في بحث واحد، و حاصل كلام المصنف، أنّ الصبي و الصبية إذا كانا غير مميزين كانا خارجين عن أحكام النظر منهما أو إليهما؛ و أما حكم الرجال بالنسبة إلى الصبية، فهو جواز النظر ما لم تبلغ بغير تلذذ. و اما حكم النساء بالنسبة إلى الصبى، فيجوز أيضا نظرهن إليه ما لم يبلغ. و أمّا بالنسبة إلى نظره إليهن، فالتفصيل بين ثوران الشهوة و عدمه؛ و اللازم ذكر صور المسألة أولا؛ ثم بيان أحكامها. فنقول:

إنّ الصبي أو الصبية، تارة يكون غير مميز، و اخرى مميز ليس له ثوران الشهوة و لا في مظانه، و ثالثة يكون له ثوران الشهوة و إن لم يبلغ.

لا خلاف بين الأعلام (رضوان اللّه تعالى عليهم) في الأول، و وقع الكلام في الأخيرين.

قال في الرياض: و يستثنى من الحكم مطلقا إجماعا، محل الضرورة، و القواعد من انوار الفقاهة، ج 3، ص: 109

النسوة، و الصغير غير المميز و الصغيرة، فيجوز النظر منهن مطلقا و إليهن ... و في جواز نظر المميز إلى المرأة، ان لم يكن محلّ ثوران تشوق و شهوة، قولان؛ أحوطهما المنع، فيمنعه الولي عنه «1».

و ظاهره كون المنع في الفرض الثالث، و هو صورة ثوران الشهوة، مسلما مفروغا عنه.

و قال في كشف اللثام: و للصبي الذي لم يظهر على عورات النساء، النظر إلى الأجنبيّة، بمعنى

أنّه ليس عليها التستر عنه. أمّا الذي لم يبلغ مبلغا يحكى ما يرى، فكذلك قطعا للقطع بدخوله في الآية. و أمّا الذي يحكيه، و ليس له ثوران شهوة، فاستقرب في التذكرة انه كذلك ... و أمّا من به ثوران الشهوة، فقطع بأنّه كالبالغ، و هو قوىّ، لظهور الخروج عن غير الظاهرين على عوراتهن، و أطلق في التحرير كما هنا «2».

و ظاهر كلامه، جعل الأقسام أربعة، (من لا يظهر على عورات النساء، من لا يقدر على حكاية ما يرى، من ليس له ثوران الشهوة، من له الثوران و لم يبلغ الحلم).

و لكن، الظاهر من كلام الشهيد الثاني (قدس سره)، في المسالك، أنّ غير المميز هو من لا يقدر على حكاية ما يرى، و جعل من كان فيه ثوران الشهوة كالبالغ، يجب منعه و تستر النساء منه، و من ليس كذلك ذكر فيه قولان، الجواز و عدمه. «3»

و يظهر من كلام فقهاء العامّة كابن قدامة في المغني، و النووي في المجموع أنّ الحكم في غير المميز، أيضا مفروغ عنه بينهم؛ و أمّا المميز، فقد وقع الخلاف فيه بينهم، فمنهم من جوز للمرأة عدم التستر عنه ما لم يبلغ. و منهم من جعل المميز أو المراهق، بحكم البالغ «4».

و على كل حال، لا ينبغي الريب بالنسبة إلى غير المميز، و أنّه لا يجب التستر منه، و يجوز النظر إليه بغير شهوة. و المراد منه هنا من لا يعرف شيئا من الامور الجنسيّة، و لا يقدر على حكاية شي ء، سواء كان لا يعرف امّه و أباه و غيرهما، كابن لشهر أو شهرين، أو يعرفهما و ما أشبه ذلك، و لكن لا يعرف الحسن عن القبيح، فلا يعرف خطر النار

و البئر و

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 110

غير ذلك، أو يعرف بعض ذلك و لكن لا يقدر على حكاية ما يرى و لا يعرف شيئا من المسائل الجنسية.

و الدليل عليه، هو انصراف أدلة حرمة النظر و كذا وجوب السّتر، عنه، و عدم وجود حكمة الوجوب و الحرمة فيه، كما هو واضح.

و استدل أيضا بقوله تعالى: ... أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ .... «1»

في مقام بيان الاستثناءات عن حكم عدم ابداء الزينة الباطنة، و قد فسّرت الآية، تارة بعدم المعرفة بعورات النساء، و اخرى بعدم القوّة عليها.

و الوجه في ذلك، ما ذكرناه في تفسير، الأمثل، من أنّ جملة «لم يظهروا»، قد تكون بمعنى لم يطلعوا؛ كما في قوله تعالى: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ ...، «2» و اخري بمعنى لم يقدروا؛ كما في قوله تعالى: كَيْفَ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَ لا ذِمَّةً ... «3» (يعنى أن غلب المشركون عليكم، لا يراعون فيكم عهدا و لا قسما).

و الظاهر، بملاحظة ذكر العورات، هو المعنى الأول؛ فهي إشارة إلى من لا يعرف شيئا من المسائل الجنسية، و لا يقدر على حكايتها لعدم معرفته بها.

و على كل حال، الآية تدل على بعض المطلوب، أي عدم وجوب تستر النساء عنهم.

أمّا المميز الذي لا يوجد عنده ثوران الشهوة، فقد عرفت أنّ فيه قولان، الجواز و عدمه؛ و استدل كل واحد بآية من كتاب اللّه عزّ و جلّ، اما عدم الجواز، فلمفهوم قوله تعالى: ... أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ ...، فان مفهومه أنّ الأطفال المميزين لا يجوز ابداء الزينة الباطنة لهم، و المقام و إن كان من قبيل

مفهوم الوصف، و لكن قد عرفت غير مرّة أنّ القيود التي في مقام الاحتراز، لها مفهوم، أيّا ما كان، و من الواضح أنّ المقام من هذا القبيل.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 111

و أمّا الجواز، فلقوله تعالى في آية الاستيذان: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ، مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ، وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ، وَ مِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ، ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ .... «1»

دلت على وجوب الاستيذان في خصوص هذه الأوقات الثلاثة؛ و أمّا في غيرها، فلا يجب على غير البالغ الاستيذان، سواء كان محرما أو غير محرم. لا يقال: الآية ناظرة إلى المحارم؛ لأنا نقول: بل الظاهر أنّها عامّة، فان ابن العم و ابنته، و كذا ابنة الخال و ابنه و أمثالهم، يطوفون بعضهم على بعض إذا كانوا صغارا، فالآية شاملة للمحرم و غيره. أمّا الاستيذان في المواقع الثلاثة، لأنّها مظنة الأعمال الجنسية أو شبهها، فقد امروا فيها بالاستيذان، و هذا من أوضح الدليل على أنّه لا يمكن حمل الآية على غير المميز.

و الآية التالية لها، تدل على وجوب استيذان البالغين، في كلّ حال و في جميع الأوقات. قال تعالى: وَ إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ، فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ .... «2» و هو دليل على أنّ الحكم ليس مقصورا على المحارم، بل لعله ظاهر في خصوص غير المحارم.

فتلخص من جميع ذلك، أنّ مفهوم الآية الاولى عدم جواز ابداء الزّينة للمميزين غير البالغين؛ و منطوق الآية الثانية دليل على جواز الورود من غير اذن لهم، الملازم لكشف رءوسهن أو بعض

أبدانهن غالبا، و حيث لا يمكن المعارضة بين آيتين، لأنّ الإسناد قطعيّة و التقيّة ليست فيها، فلا مناص إلّا من الجمع العرفي الدلالى بينهما، امّا بحمل الاولى على موارد ثوران الشهوة و حمل الثانية على موارد عدمه، (و لعل التفصيل الذي ذكره جماعة من الأصحاب ناظر إليه). لكنه جمع دلالي لا شاهد له و يسمّى تبرّعيا. اللّهم إلّا أن يقال معنى قوله تعالى «لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ»، بمعنى ثوران الشهوة. أو يقال أنّ الامر بالاستيذان في تلك الأوقات، لا يقتضى جواز النظر، (كما ذكر، في المسالك). و لكن انوار الفقاهة، ج 3، ص: 112

الانصاف أنّ الاستدلال بترك الاستيذان، في غير الأوقات الثلاثة، و هو دليل على الجواز عادة.

أو يقال، أنّ المفهوم محمول على الكراهة، لصراحة المنطوق في الجواز، و إن شئت قلت: المسألة من باب تعارض النص و الظاهر، أو الظاهر مع الأظهر، فالترجيح بالجواز.

و يؤيد الجواز، بل يدل عليه روايات. منها:

1- ما رواه أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، عن الرضا عليه السّلام، قال: يؤخذ الغلام بالصلاة و هو ابن سبع سنين، و لا تغطّي المرأة شعرها منه حتى يحتلم. «1»

و الرواية صحيحة.

2- ما رواه أحمد بن محمد بن أبي نصر (أيضا)، عن الرضا عليه السّلام قال: لا تغطي المرأة رأسها من الغلام حتى يبلغ الغلام. «2»

و الظاهر اتحاد الروايتين و وقوع التقطيع في الثانية.

3- و من طريق الجمهور، ما رواه ابن قدامة، أنّ أبا طيبة حجم نساء النبي صلّى اللّه عليه و آله، و هو غلام؛ «3» دلت على النظر و اللمس حتى في مثل الظهر، و لا يخلو مضمون الرواية من بعد، لا سيّما بالنسبة إلى نساء النبي صلّى اللّه عليه و

آله.

و في الروايتين السابقتين غنى و كفاية.

فجواز نظر الصبى إلى المرأة فيما يتعارف كشفه، ممّا لا ينبغى الاشكال فيه؛ أمّا إذا كان هناك ثوران الشهوة، فانّ كان الثوران بالقوة و الاستعداد، فلا دليل على استثنائه عن الحكم المزبور، و أمّا إذا كان بالفعل، و كان سببا لبعض المفاسد، فالحق استثنائه. و هو من القضايا التي قياساتها معها.

***

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 113

بقي هنا شي ء: هل يجوز للرجل أن يضع الصبيّة في حجره و يقبّله؟

الظاهر، عدم الخلاف في جواز ذلك قبل بلوغها ست سنين، و يدل عليه مضافا إلى ما ذكر، جريان السيرة العملية عليه من دون انكار.

و يدل عليه أيضا روايات متضافرة، بعضها صحيح السند. منها:

1- ما رواه عبد اللّه بن يحيي الكاهلي، قال: سال أحمد بن النعمان، أبا عبد اللّه عليه السّلام، عن جارية ليس بيني و بينها محرم تغشاني فاحملها و اقبلها؛ فقال: إذا أتى عليها ست سنين فلا تضعها في حجرك «1».

و الرواية معتبرة، إلى عبد اللّه بن يحيى، فلو كان سؤال أحمد بن النعمان بمحضره لم يضره (و يؤيده ما في بعض طرق الرواية: و اظنني قد حضرته.)، و إلّا يشكل الاعتماد عليه نظرا إلى ان أحمد مجهول؛ و الظاهر أنه لا ينقل عنه في الفقه، إلّا روايتان.

2- زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: إذا بلغت الجارية الحرة ست سنين، فلا ينبغي لك أن تقبلها «2».

3- مرفوعة زكريا المؤمن أنّه قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إذا بلغت الجارية ست سنين فلا يقبلها الغلام، و الغلام لا يقبل المرأة إذا جاز سبع سنين. «3»

4 و 5- مثله مرسلة على بن عقبه؛ «4» و رواية عبد الرحمن بن بحر «5».

و هل يحرم إذا تجاوز السّت، أو يكره؟ ظاهر بعض الروايات السابقة،

الحرمة بمقتضى قوله عليه السّلام: لم يجز؛ و قوله: لا يقبلها ...؛ و قوله عليه السّلام: فلا تضعها على حجرك؛ في معتبرة الكاهلي، و لا يضرّه عدم ذكر التقبيل، لذكره في السؤال، و للأولوية.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 114

و لكن قوله: لا ينبغي؛ في بعض روايات الباب، و ذكر الخمس بدل السّت في بعضها الآخر، دليل على الكراهة؛ مضافا إلى استقرار السيرة عليه؛ نعم، لا يجوز إذا كان عن شهوة و لكن لا يترك الاحتياط بتركه.

***

[المسألة 27: يجوز النظر إلى نساء أهل الذّمّة، بل مطلق الكفّار]

اشارة

المسألة 27: يجوز النظر إلى نساء أهل الذّمّة، بل مطلق الكفّار، مع عدم التلذذ و الريبة، أعني خوف الوقوع في الحرام. و الأحوط، الاقتصار على المواضع التي جرت عادتهن على عدم التستر عنها؛ و قد تلحق بها، نساء أهل البوادي و القرى من الأعراب و غيرهم، اللاتى جرت عادتهن على عدم التستر، و إذا نهين لا ينتهين، و هو مشكل؛ نعم الظاهر، أنّه يجوز التردد في القرى و الأسواق و مواقع تردد تلك النسوة و مجامعهن و محال معاملتهنّ مع العلم عادة بوقوع النظر عليهن؛ و لا يجب غضّ البصر في تلك الحال، إذا لم يكن خوف افتنان.

(1) أقول: هذه المسألة في الواقع مسئلتان: أولاهما، مسألة النظر إلى نساء أهل الذّمّة.

ثانيتهما، مسألة النظر إلى بعض أهل البوادي و غيرهن، ممّن جرت عادتهن على عدم التستر اللائق بهنّ.

في النظر الى نساء أهل الذمّة

أما الاولى، فحاصل الكلام فيها، أنّ المشهور بين الأصحاب جواز النظر إلى نسائهم (في الجملة) قال في الرياض: يجوز النظر إلى أهل الذمّة و شعورهن على الأشهر الأظهر. «1» و قال في الحدائق: المشهور بين الأصحاب جواز النظر إلى نساء، أهل الذمة و شعورهن؛ و هو قول الشيخين في المقنعة و النهاية، ما لم يكن ذلك على وجه التلذذ. «2»

ثم قال في ذيل كلامه: و على هذا القول عمل الأصحاب، ما عدا ابن ادريس و تبعه العلّامة في المختلف، و أما في باقى كتبه فهو موافق لمذهب الأصحاب.

و الذي يمكن التمسك به لكلام المشهور، أمران: (و إن كان الأصل عدم الجواز، لشمول الاطلاقات لهن أيضا).

أدلّة المشهور

الأوّل: روايات يخرج بها عن الأصل. منها:

1- ما رواه السكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا حرمة لنساء أهل الذمة، أن ينظر إلى شعورهن و أيديهن. «1» و الخبر ضعيف بالسكوني، و لكن يمكن انجباره بعمل المشهور.

2- ما رواه في قرب الاسناد، عن أبي البختري، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن على ابن أبى طالب عليهم السّلام قال: لا باس بالنظر إلى رءوس نساء أهل الذمة. و قال: ينزل المسلمون على أهل الذمة في اسفارهم و حاجاتهم، و لا ينزل المسلم على المسلم إلّا باذنه. «2»

و أبو البختري، هو وهب بن وهب الذي وصفه علماء الرجال بأنّه كان كذابا ضعيفا لا يعتمد عليه، و أن روى عنه ابن أبي عمير في بعض المقامات. و عن بعض النسخ: إلى نساء أهل الذمة؛ و عليه، معناه أوسع كما هو ظاهر.

3- ما رواه في الجعفريات، باسناده عن على عليه السّلام قال: قال

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ليس لنساء أهل الذمة حرمة، لا بأس بالنظر إليهن ما لم يتعمد «3».

و هو من حيث المضمون عام، يشمل النظر إلى جميع أبدانهن بعدم الحرمة لهن؛ و لكن الانصاف انصرافه إلى ما هو المتعارف بينهم من عدم ستر الوجه و اليدين و الشعور.

4- و في رواية اخرى بهذا الاسناد عنه صلّى اللّه عليه و آله قال: ليس لنساء أهل الذّمّة حرمة، لا باس بالنظر إلى وجوههن و شعورهن و نحورهن و بدنهن ما لم يتعمد ذلك. «4»

و الظاهر، أنّ التصريح فيها ببدنهن أيضا ناظر إلى ما يتعارف، من قبيل شي ء من اليدين و الرجلين و قليل من الصدر.

و دلالة هذه الروايات الاربعة على المطلوب واضحة؛ و ضعف اسنادها منجبر بعمل انوار الفقاهة، ج 3، ص: 117

المشهور، مضافا إلى تضافرها.

5- و هناك رواية اخرى، وقع الخلاف في نسختها، و هي ما رواه ابن محبوب عن عباد بن صهيب، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: لا بأس بالنظر إلى نساء أهل تهامة و الاعراب و أهل البوادي من أهل الذمة و العلوج، لأنّهن لا ينتهين إذا نهين. «1»

و المراد من تهامة، المنطقة الجنوبية من جزيرة العرب، و قد يطلق على مكّه، و النّسبة إليه التهامىّ، و النّجد هو المنطقة الشّمالية المرتفعة.

و المراد بالعلوج (على وزن بروج) جمع العلج (على وزن فكر)، هو مطلق الكفار كفار العجم، أو الرجل الضخم منهم.

و لا إشكال فيها من حيث رجال السند، و لو كان كلام، فانما هو في عباد بن صهيب، فقد ذكر غير واحد من أرباب علم الرجال، أنّه عامي أو بتري (و هو زيدي العامّة). و لكن مجرد ذلك، لا يمنع

عن قبول حديثه. فقد صرح في معجم رجال الحديث بعد كلام طويل، أنّ: المتحصل أنّه لا إشكال في وثاقة عباد بن صهيب بشهادة النجاشي و علي بن إبراهيم في تفسيره. «2» و ما يظهر من بعض الروايات أنّه أشكل على الصادق عليه السّلام في ثوب لبسه؛ و أجابه عليه السّلام بأنّه اشتراه بشي ء قليل، و أنّه لا يمكنه لبس ما كان يلبسه علي عليه السّلام، و لو لبس مثل لباسه في هذا الزمان، لقالوا هذا مراء مثل عباد!؛ الظاهر، أنه عباد بن كثير، لا عباد بن صهيب؛ و لا أقل من الشك، فلا ينافي ذلك وثاقته.

و أمّا دلالتها على المطلوب، فمن وجهين، تارة من حيث التصريح فيه بأهل الذمة و العلوج؛ و اخرى من حيث التعليل، حيث إنّه لا إشكال في أنّ نساء أهل الذمة داخلات تحت عموم التعليل، فانّهن إذا نهين لا ينتهين، إلّا أن يكون هناك قوة قهرية.

و لكن في نسخة الوسائل، لم يذكر أهل الذمة و قال: ... و أهل السواد و العلوج، لأنّهم إذا نهوا لا ينتهون. «3»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 118

و لكن ذكر العلوج كاف في شمولهن، و أوضح منه ذكر التعليل فيها.

فاختلاف النسخ، غير مضرّ بما نحن بصدده.

و العجب من صاحب الجواهر (قدس اللّه نفسه الزّكيّة) حيث ذكر هذه الرواية بعنوان المعارض، و قال: ضرورة ظهوره في كون العلّة، عدم الانتهاء بالنهي، الذي يمكن كون المراد منه عدم وجوب الغض، و عدم حرمة التردد في الأسواق و الزقاق من هذه الجهة، لما في ذلك من العسر و الحرج بعد فرض عدم الانتهاء بالنهي، فهو حينئذ أمر خارج عما نحن فيه «1».

و الانصاف، أنّ العسر و الحرج لو كانا من

قبيل الملاك في المقام، فلا شك في كونهما من قبيل الحكمة و العلّة. و أنّ شئت قلت، أنّ العسر و الحرج هنا نوعي لا شخصى، و إلّا وجب الحكم في الرواية بوجوب بقاء جميع الناس في دارهم إلّا من كان في عسر و حرج شخصى، فيجوز له الخروج؛ و الظاهر أنّه لم يقل به أحد.

فالرواية دليل على المقصود، لا أنّه مخالف له.

الثانى: من باب أنهن مماليك للإمام عليه السّلام أو مماليك للمسلمين، و المملوكة يجوز النظر إليها. فالدليل مشتمل على صغرى و كبرى، لا بدّ من اثبات كل واحد منهما؛ قال في الشرائع: يجوز النظر إلى نساء أهل الذمة و شعورهن لأنهن بمنزلة الإماء. «2»

و أضاف في الجواهر: إنّ أهل الذمة ملك و في ء للمسلمين، و إن حرم عليهم بالعارض، كالأمة المزوّجة (و المراد بالعارض هنا ذمة المسلمين لهم). «3» و على ذلك، جواز النظر إليهن من باب جواز نظر المولى إلى مملوكته!

ثم قال: أو ملك للإمام عليه السّلام؛ و مملوكة الغير، يجوز النظر إليها.

و قد استدل لذلك بروايات عديدة. منها:

1- ما رواه في الوسائل عن أبي بصير، يعنى ليث المرادي، عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 119

سألته عن رجل له امرأة نصرانيّة، له أن يتزوج عليها يهودية؟ فقال: إنّ أهل الكتاب مماليك للإمام، و ذلك موسع منّا عليكم خاصة، فلا بأس أن يتزوّج .... «1»

و سند الحديث معتبر؛ و لكن في دلالتها تأمل، لإبهام ربط السؤال و الجواب، أوّلا، لأنّه لا مانع من تزويج اليهودية على النصرانية، و لو كان هناك مانع فكيف يرتفع بكونهن مماليك للإمام عليه السّلام. فهذا الإشكال و الابهام يمنع عن الاعتماد عليها، و يشك في كونها

كلاما للإمام عليه السّلام.

2- ما رواه زرارة في الصحيح، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن نصرانية كانت تحت نصراني، و طلّقها، هل عليها عدّة مثل عدة المسلمة؟ فقال: لا؛ لأنّ أهل الكتاب مماليك للإمام .... «2» و ليس المراد أنّه ليس عليها، بل المراد منه أنّ عدتها عدّة الإماء، حيضتان أو خمسة و أربعون يوما. و قد صرّح بذلك في ذيل الرواية، فراجع.

هذا و لكن صرّح الأصحاب بأنّه لا فرق في العدّة بين الذميّة و المسلمة، لا في عدّة الوفاة و لا في عدّة الطلاق، بل ادعى عدم الخلاف، بل ادعى الإجماع عليه.

و العجب من صاحب الجواهر (قدس اللّه نفسه الزكية)، حيث صرّح بشذوذ الرواية، و عدم العامل لها من هذه الجهة في بحث العدد «3».

اللّهم إلّا أن يقال بجواز التجزية بين أجزاء الرواية و عدم العمل بها في موردها، لا يمتنع عن الأخذ بما فيها من العموم، من كون أهل الذمة مماليك للإمام عليه السّلام.

و لكن هذا التفكيك لا سيما بين العلة و المعلوم مشكل جدا، فهذا يوجب سقوط الرواية عن الاستدلال بها.

3- ما رواه أبو ولاد، في الصحيح أيضا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: ليس فيما بين أهل الذمة معاقلة ... و هم مماليك للإمام عليه السّلام، فمن أسلم منهم فهو حرّ. «4»

و دلالتها أحسن من غيرها و سندها معتبر.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 120

و لكن يرد على الجميع، أنّ التملك بالنسبة إلى الكفار، إنّما يكون في الحرب، فانّ كان الحرب باذنه عليه السّلام كان ملكا للمقاتلين، و إلّا كان للإمام عليه السّلام. و لكن التملك بدون ذلك غير معهود، مضافا إلى إنّه لم يسمع ترتب آثار الملك عليهم من

البيع و الشراء من أحد من الفقهاء، على أنّ المملوك لا ذمة له، و مال الجزية لا يكون من قبيل الضريبة على العبد كما هو واضح، و ليس عدتهن- كما عرفت- عدّة الإماء، إلى غير ذلك ممّا يدل على عدم كونهم من العبيد و الإماء.

فالركون على هذه الروايات مشكل جدّا، و الاولى ردّ علمها إلى أهلها.

هذا كله بالنسبة إلى الصغرى؛ و أمّا الكبرى- أعني جواز النظر إلى الإماء- فالظاهر أنّه مفروغ عنه، و ادعى في الجواهر جريان السيرة عليه و هو غير بعيد، بل قد يظهر من آية الجلباب ذلك، و يمكن الاستيناس له بما دل على عدم وجوب ستر رأسها في الصلاة، و غير ذلك ممّا لا يخفى على الخبير.

لا فرق بين اصناف الكفّار

الظاهر، أنّه لا فرق بين أصناف الكفار، و إن كان موضوع الكلام في كلمات كثير منهم أهل الذّمّة، و ذلك للأولوية القطعيّة، فان أهل الذمة لهم حرمة باعتبار ذمتهم، و لا حرمة لغيرهم أبدا (مثل أهل الحرب) أو ليس بهذه المثابة (مثل المستأمن و المهادن).

هذا، مضافا إلى ظهور التعليل في معتبرة عباد بن صهيب؛ و مضافا إلى ذكر العلوج- و هم كفار العجم أو مطلق الكفار- في بعض روايات الباب.

ما هو المقدار الذي يجوز النظر اليه؟

المقدار الذي يجوز النظر إليه (مع الشرطين)، هو ما يتعارف إبدائه عندهم، لا جميع بدنهم، لانصراف اطلاق الحكم إليه، مضافا إلى التصريح بالشعور و النحور في بعض أحاديث الباب، (و هو رواية السكوني) و ذكر خصوص الرؤوس في بعضها الآخر، (و هو

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 121

رواية قرب الأسناد، أقوى شاهد على المطلوب).

و ذكر البدن على نحو الاطلاق، في رواية الجعفريات، منصرف إلى ما عرفت، بقرينة ساير روايات الباب.

و ما ذكره في المتن من أن ذلك أحوط، ليس على ما ينبغى، بل الأقوى ذلك.

يجوز للحكومة الاسلامية منعهن من السفور

إذا كان ظهورهن مكشفات في الملاء الإسلامي سببا لهتك حرمة ستر المحجبات من المسلمين، أو سببا لجرأة النساء الفاسقات على السفور، فعلى الحكومة الإسلامية منعهن عن ذلك، و أمرهن برعاية الستر الإسلامي. كما في زماننا هذا و الحمد للّه.

رأى الفقهاء في النظر الى أهل البوادى
اشارة

أما الثانية، (أعني، مسألة النظر إلى بعض أهل البوادي). فقد صرّح المحقق اليزدي، في العروة الوثقى في ذيل المسألة 27 بانه: قد يلحق بهم نساء أهل البوادي و القرى من الاعراب و غيرهم و هو مشكل؛ و وافقه كثير من المحشين.

و الظاهر، أنّ وجه الإشكال فيه هو الإشكال في وثاقة عباد بن صهيب، و لكن قد عرفت شهادة النجاشي، و علي بن ابراهيم (فيما حكي عنهما) بوثاقته، مضافا إلى ما ذكره في المستمسك، من أنّ وقوع أحمد بن محمد بن عيسى في السند، و هو الذي أخرج البرقي عن قم لأنه كان يروي عن الضعفاء؛ و كذا ابن محبوب، الذي هو من أصحاب الإجماع و ممن لا يروي إلّا عن ثقة؛ لا يبعد أن يكون كافيا في جبر ضعف السند. «1»

و الأول و إن كان مؤيدا عندنا، و لكن الثاني لا يوافق المختار في أصحاب الإجماع.

هذا، مضافا إلى لزوم العسر و الحرج على فرض عدم الجواز، فتأمل؛ و الظاهر أنّ في رواية عباد بن صهيب غنى و كفاية. و عدم تعرض الأصحاب لهذه المسألة، لعله لتوقفهم انوار الفقاهة، ج 3، ص: 122

في وثاقة عباد و عدم وصول توثيقه إليهم، فالأقوى هو الجواز مع الشرطين.

***

بقى هنا شي ء:

و هو أنّه قد يلحق بهن، النساء غير المباليات بأمر الستر، في بلادنا و ساير بلاد المسلمين ممن لا ينتهين إذا نهين؛ و هو غير بعيد بعد عموم التعليل. و لكنّ اللازم رعاية الشرطين، و الاحتراز عن مظانّ التّهم و محالّ وسوسة الشيطان، أعاذنا اللّه منه، للفرق الواضح بينهن و بين أهل البوادي، فالريبة فيهن أكثر و أشمل. و اللّه العالم.

[المسألة 28: يجوز لمن يريد تزويج امرأة أن ينظر إليها بشرط]

اشارة

المسألة 28: يجوز لمن يريد تزويج امرأة أن ينظر إليها بشرط أن لا يكون بقصد التلذذ، و إن علم انّه يحصل بسبب النظر قهرا؛ و بشرط أن يحتمل حصول بصيرة بها؛ و بشرط أن يجوز تزويجها فعلا، لا مثل ذات البعل و العدة؛ و بشرط ان يحتمل حصول التوافق على التزويج، دون من علم أنّها ترد خطبتها؛ و الأحوط الاقتصار على وجهها و كفيها و شعرها و محاسنها، و إن كان الأقوى جواز التعدي إلى المعاصم، بل و ساير الجسد ما عدا العورة. و الأحوط، أن يكون من وراء الثوب الرقيق؛ كما أنّ الأحوط لو لم يكن الأقوى، الاقتصار على ما إذا كان قاصدا لتزويج المنظورة بالخصوص. فلا يعم الحكم ما إذا كان قاصدا لمطلق التزويج و كان بصدد تعيين الزوجة بهذا الاختبار، و يجوز تكرار النظر إذا لم يحصل الاطلاع عليها بالنظرة الاولى.

شروط اربعة لجواز النظر الى من يريد تزويجها

(1) أقول: قد ذكر الماتن (قدس سره) في هذا الفرع، شروطا أربعة لجواز نظر من يريد تزويج امرأة.

1- عدم قصد التلذذ (و يلحق به عدم الريبة).

2- احتمال حصول بصيرة بها.

3- أن تكون المرأة جائزة التزويج له، فعلا.

4- احتمال حصول التوافق على التزويج.

ثم أشار بمقدارها؛ ثم ذكر في ذيل المسألة، ما يعود إلى شرط خامس و شرط سادس.

و هو أن يكون من وراء الثياب الرقاق بالنسبة إلى غير الشعور و مثلها. و أن يكون قاصدا لتزويج المنظورة بالخصوص (لو حصل التوافق عليها). فلنعد إلى أصل المسألة، ثم نذكر الشرائط الستة المذكورة و نبحث عنها.

أمّا أصل المسألة على إجمالها، فهو ممّا أجمع الأصحاب عليه، بل ادعى الإجماع عليه جماعة، بل ادعى صاحب الجواهر: عدم الخلاف فيها بين المسلمين، و إنّ حكاية

انوار الفقاهة، ج 3،

ص: 124

الإجماع عليها مستفيض أو متواتر كالنصوص. «1»

قال المحقق الكركي، في جامع المقاصد: لا خلاف بين علماء الإسلام في أن من أراد نكاح امرأة، يجوز له النظر إليها في الجملة؛ و قد رواه العامة و الخاصّة. و هل يستحب، فيه وجهان «2».

و قال الشيخ، في الخلاف: يجوز النظر إلى امرأة اجنبية يريد أن يتزوجها إذا نظر إلى ما ليس بعورة فقط. و به قال أبو حنيفة و مالك و الشافعى. ثم نقل اختلاف كلمات العامة و الخاصة في تفسير ما ليس بعورة؛ ثم نقل عن المغربى فقط، أنّه لا يجوز أن ينظر إلى شي ء منها. «3»

و قال ابن رشد: و أمّا النظر إلى المرأة عند الخطبة، فأجاز ذلك مالك إلى الوجه و الكفين فقط، و أجاز ذلك غيره إلى جميع البدن عدا السوأتين، و منع ذلك قوم على الاطلاق. «4»

أدلّة المسألة

و الدليل عليه روايات كثيرة، و هي كما ذكره بعض الأكابر مستفيضة أو متواترة، فلا نحتاج إلى ملاحظة أسانيدها و إن كان فيها الصحيح و غيره و مضامينها مختلفة. طائفة منها تدل على جواز ذلك، لأنه أمر شبيه بالبيع؛ و لا شك أنّه ليس بيعا للإنسان الحرّ، بل من جهة اشتمالها على مهر قليل أو كثير في الغالب يكون شبيها له، فكما أنّه يجوز أو يجب اختبار صفات المبيع، فكذلك بالنسبة إلى النكاح. و هي عدة روايات:

1- ما رواه محمد بن مسلم، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الرجل يريد أن يتزوج المرأة، أ ينظر إليها؟ قال: نعم، إنّما يشتريها بأغلى الثمن «5».

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 125

2- ما رواه عبد اللّه بن سنان، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام الرجل يريد أن يتزوج

المرأة، أ ينظر إلى شعرها؟ فقال: نعم، إنّما يريد أن يشتريها بأغلى الثمن «1».

3- ما رواه يونس بن يعقوب، قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل يريد أن يتزوج المرأة، يجوز له أن ينظر اليها.؟ قال: نعم، و ترقق له الثياب، لأنّه يريد أن يشتريها بأغلى الثمن «2».

4- ما رواه غياث بن ابراهيم، عن جعفر، عن أبيه، عن على عليهم السّلام في رجل ينظر إلى محاسن امرأة يريد ان يتزوجها. قال: لا بأس، إنما هو مستام فان يقض أمر يكون. «3»

5- ما عن مسعدة بن اليسع الباهلى، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: لا بأس أن ينظر الرجل إلى محاسن المرأة قبل أن يتزوجها، فإنّما هو مستام فان يقض أمر يكن. «4»

و المراد بالمستام، المشتري؛ و السوم، تعيين القيمة أو نفس المعاملة. و قوله: أن يقض أمر يكن؛ (أي يكون على بصيرة لو حصل الوفاق على الزواج؛ أو يكون دائما مستمرا، للعلم بما عقد عليه).

6- ما عن الحسن بن السّريّ، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه سأله عن الرجل ينظر إلى المرأة قبل أن يتزوجها. قال: نعم، فلم يعطى ماله؟ «5».

يعنى، يعطى ماله ليحصل به شيئا غاليا.

و لا شك أنّ النكاح ليس بيعا حقيقتا- بل قد يتعجب من هذا التعبير بعض الناس- بل المراد، تشبيه النكاح به من بعض الجهات (و التشبيه يكون مقربا من بعض الجهات و مبعدا من الآخر) و أنّه يعطى مهرا غاليا لأنّ يتزوج بامرأة صالحة ذات الكمال الباطني و الظاهري؛ و إلّا لا معنى لاشترائها من نفسها، مضافا إلى أنّه قد يطلقها و يعطيها مهرها، و لا معنى للجمع بين الثمن و المثمن.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 126

و

هناك طائفة اخرى، تدل على مجرد الجواز من دون ذكر عنوان الاشتراء. منها:

7- عن هشام بن سالم و حماد بن عثمان و حفص بن البختري، كلهم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: لا باس بأن ينظر إلى وجهها و معاصمها إذا أراد أن يتزوجها «1».

8- ما عن الحسن بن السّري، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام الرجل يريد أن يتزوج المرأة، يتأملها و ينظر إلى خلفها و إلى وجهها؟ قال: نعم، لا بأس أن ينظر الرجل إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها، ينظر إلى خلفها و إلى وجهها «2».

9- ما عن عبد اللّه بن الفضل، عن أبيه، عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت أ ينظر الرجل إلى المرأة يريد تزويجها، فينظر إلى شعرها و محاسنها؟ قال: لا بأس إذا لم يكن متلذذا «3».

10- ما عن يونس بن يعقوب، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يريد أن يتزوج المرأة، و أحبّ أن ينظر إليها؟ قال: تحتجز ثم لتقعد، و ليدخل فلينظر. قال قلت: تقوم حتى ينظر إليها؟ قال: نعم. قلت: فتمشي بين يديه؟ قال: ما أحب أن تفعل «4».

و هذه الروايات الأربعة، تدلّ على جواز النظر مع اختلافها في بيان المقدار الجائز الذي سنتعرض له إن شاء الله.

11- و هناك رواية واحدة مرسلة رواها الرضى، في المجازات النبوية، تدل على استحباب النظر. قال صلّى اللّه عليه و آله للمغيرة بن شعبة و قد خطب امرأة: لو نظرت إليها. فانه أحرى أن يؤدم بينكما «5».

و يؤدم من الايدام، بمعنى الموافقة بين الخصمين (أو مطلق الموافقة) و هذه الرواية، تدل على استحباب النظر، لأنّه مقدمة لتوافق الزوجين، و هو

أمر مطلوب للشارع و مقدمة المطلوب مطلوبة، و لكن سندها ضعيف بالارسال.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 127

و هناك روايات اخرى رواها في مستدرك الوسائل ج 14 في الباب 30 من أبواب مقدمات النكاح (رواية 1 و 2 و 3 و 4)، فراجع.

و روايات اخرى من طرق اهل السنة رواها في السنن الكبرى. منها، ما رواه أبو هريرة، قال: كنت عند النبي صلّى اللّه عليه و آله فأتاه رجل، فاخبره أنّه تزوج امرأة من الأنصار. فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أنظرت إليها؟ قال: لا؛ قال: فاذهب فانظر إليها، فان في أعين الأنصار شيئا! «1».

و روى عن جابر بن عبد اللّه، و عن أنس، و عن المغيرة بن شعبة و غيرهم ما يدلّ على المطلوب أيضا، فراجع «2».

إذا عرفت ذلك فلنعد إلى بيان الشرائط الستة.

أما عدم التلذذ، فقد عرفت التصريح باعتباره في بعض روايات الباب، و إن كان في سندها، اشكال؛ و لكن اعتباره معلوم للتسالم عليه في أمثال المقام التي يمكن الغاء الخصوصية عنها قطعا. و لكن مع ذلك صرّح في الجواهر بخلافه، حيث قال: أما اعتبار عدم اللذة، فينبغى القطع بعدمه، لإطلاق الأدلة، و لعسر التكليف به على وجه تنتفى الحكمة في مشروعية الحكم المزبور «3».

و لكن الذي يظهر من ذيل، أنّه فرق بين قصد التلذذ، و بين العلم بحصول اللّذة، قهرا مع عدم كونه في قصده؛ حيث إنّ النكاح يكون غالبا بين الشباب و حصول اللّذة للشاب عند النظر إلى الشابة قهرىّ غالبا. فلا يمكن نفى كلام الجواهر (قدس سره) و إلّا لم يبق للجواز مورد إلّا قليل، و لكن من المقطوع عدم جواز النظر بهذا القصد، و هذا هو قول

الفصل.

و أما اشتراط احتمال حصول بصيرة من النظر، فهو من قبيل القضايا التي قياساتها معها، فانّ الاستثناء من ادلة الحرمة إنّما شرّع لحصول بصيرة جديدة، و لولاها لم يبق طريق إلى مشروعيته، و إن شئت قلت: إنّ اطلاق الروايات منصرفة عنه.

و أما اشتراط كون المرأة جائز التزويج فعلا، فلانصراف الاطلاقات أيضا إليه، فانّ النظر مقدمة للخطبة، و لا معنى للخطبة عن زوجة الغير، أو من هي في العدة، و إن كانت انوار الفقاهة، ج 3، ص: 128

قاطعة بأنّها ستنفصل عن زوجها.

و أما اشتراط احتمال حصول التوافق على التزويج، فلو علم بعدم موافقة الزوجة أو أسرتها بذلك النكاح، أو احتمل الموافقة احتمالا ضعيفا غير عقلائي، كان النظر لغوا؛ و من الواضح أنّ هذا الاستثناء من أدلة الحرمة، إنّما هو لنفي الغرر عند إمكان النكاح.

و أما اشتراط كون ذلك من وراء الثياب الرقاق، فسيأتي الكلام فيه.

و أما اشتراط كونه قاصدا لتزويج المنظورة بالخصوص، فهو أيضا منصرف النصوص أو صريحها فان قول السائل: الرجل يريد يتزوج المرأة؛ ظاهر أو صريح في ذلك، فلا يجوز له النظر إلى كلّ مرأها، يراه بداعى حصول القصد إلى زواجها أحيانا.

مقدار الجواز و ما له النظر اليه من المرأة

قد وقع الخلاف فيه بين الخاصة و بين العامة. قال في الشرائع: و يختص الجواز بوجهها و كفيها. «1» و العجب أنّه جوز النظر إلى الوجه و الكفين لكل أحد على ما صرّح به في مبحث جواز النظر، مع أنّه خصص الجواز هنا أيضا به.

و قال في المسالك: فالذي يجوز النظر إليه منها اتفاقا هو الوجه و الكفان من مفصل الزند ظهرا و بطنا، لأنّ المقصود يحصل بذلك، فيبقى ما عداه على العموم. «2» و قيل أنّ هذا القول هو المشهور.

و لكن عن

النهاية، جواز النظر إلى محاسنها و وجهها كما يجوز النظر إلى مشيها و جسدها من فوق الثياب «3».

و عن الكفاية، جواز النظر إلى الشعر و المحاسن. و هو المحكى عن المدارك الحدائق و الرياض «4».

و قد عرفت تصريح الشيخ في الخلاف- في المسألة 3 من كتاب النكاح- بجواز

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 129

النظر إلى ما ليس بعورة فقط، فاذن يكون الأقوال في المسألة أربعة على الأقل.

لا ينبغي الشك في ان القول باختصاصه بالوجه و الكفين ممّا لا وجه له، فانّ الغرض لا يحصل بذلك غالبا، مضافا إلى أنّه جائز لكل أحد على ما عرفت سابقا، فذكرها بالخصوص في هذه الروايات ممّا لا وجه له.

كما أنّ القول بجواز النظر إلى ما عدا العورة- بناء على أنّ المراد منها السوأتان- ممّا لا دليل عليه من روايات الباب. و اطلاقات الروايات الدالة على جواز النظر إلى المرأة التي يريد نكاحها، منصرفة إلى ما هو المتعارف عند الخطبة قطعا لا غير.

هذا، و لكن المذكور في الروايات (التي مرّت عليك) امور: منها، الوجه و المعاصم (و يدخل فيها الكفان) و هي مواضع السوار ما فوق الزند، و كذا الشعر و المحاسن و إلى بدنها في الجملة من فوق الثياب الرقيق.

أما الوجه، فواضح؛ أمّا المعاصم، فقد ورد في معتبرة هشام و حماد و حفص بن البختري عن الصادق عليه السّلام، و لا مانع من العمل بها، فيجوز النظر إليها.

و أمّا المحاسن، فقد تضافرت الروايات بجواز النظر إليها، و إن كانت أسانيدها قابلا للمناقشة (و لا يبعد اعتبار سند رواية غياث و هو رواية 8/ 36). فالعمل بها أيضا لا مانع له. إنّما الكلام في المراد بالمحاسن، يمكن أن يراد منه مواضع الزينة

و هي الوجه و الرأس و النحر و شي ء من الصدر و المعاصم، و أمّا إرادة جميع البدن منه بعيد جدّا. و لا أقلّ من الشك، و الأصل الحرمة.

و أمّا الشعر، فقد صرح به في روايتي عبد اللّه بن الفضل و عبد اللّه بن سنان، «1» و هو داخل في المحاسن التي مرّت الإشارة إلى جواز النظر إليها.

بقي هنا حكم النظر إلى البدن من وراء الثياب الرقاق الوارد في رواية يونس بن يعقوب. «2» (و لا يبعد اعتبار سندها). و لكن الكلام في المراد، هل المراد منها الثياب التي تحكى من ورائها أو الثياب الرقاق التي يرى منها حجم البدن بخلاف الجلباب و الازار و

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 130

شبهها؛ و القدر المتيقن منه، الثاني؛ مضافا إلى أنّ الأول غير متعارف بل غير موجود عند البيوت المتدينة؛ فالأحوط لو لا الأقوى، اختيار الاحتمال الثاني؛ و قد وافق على ذلك، سيّدنا الاستاذ العلّامة الخوئي، في محاضراته في المستند. «1»

[بقي هنا أمور]
1- جواز النظر للمرأة

هل المرأة كالرجل، لها أن ينظر إلى الرجل و محاسنه، إن قلنا بعدم جوازه في غير المقام؟

قد يقال، بأنّ الملاك، و هو قوله: إنّما يشتريها بأغلى الثمن؛ غير جار بالنسبة إليها، لأنّ هذا إشارة إلى أنّه يعطى المهر، و لا يمكن أن يسترده و لا أن يبيع مورده لآخر فهذا ثمن غال جدّا. مضافا إلى حرمة القياس. و لكن الانصاف، إنّ الحكمة فيها ليس منحصرا في ذلك، بل دوام الزوجية المصرح به في بعض الروايات و المعلوم بالقرائن الاخرى، أيضا من ملاكاته، فلها أيضا أن ينظر إليه لا سيّما أنّها ليس الطلاق بيدها، لا يمكن له الخلاص بعد النكاح باختيارها، و هذا هو الأقوى. و ما أفاده سيدنا

الاستاذ في مستند العروة، «2» من وقوع الزوج في غبن عظيم لو لم يوافقها، لأنّ ماله يذهب هدرا، لعدم إمكان استرداده مطلقا، و الحال أنّ الزوجة ليست كذلك، لأنّه على فرض الطلاق قد أخذ عوض البضع؛ يظهر الإشكال فيه ممّا سبق، و أنّ الملاك في جواز النظر ليس دفع الغبن فقط، بل له ملاكات اخرى موجودة في المرأة.

2- هل يجوز للولى النظر؟

هل للولى النظر أيضا إذا كان اذنه معتبرا، أو كان الزوج أو الزوجة غير رشيدة من هذه الجهة؟

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 131

صرّح في الجواهر «1» بعدم جوازه لقصور الأدلة، مضافا إلى أنّ الاولياء يتيسر لهم ذلك من طريق المماثل، فالنساء للنساء و الرجال للرجال. هذا، و لكن لا يبعد الجواز في الصغير و الصغيرة إذا انحصر الطريق فيه، و جوزنا نكاح الصغير و الصغيرة و كذا بالنسبة إلى الأعمى، لو انحصر الطريق في نظر الولي.

3- هل يجوز تكرار النظر؟

هل يجوز التكرار إذا لم يحصل المطلوب في مجلس واحد أو في مجالس؟

قال في العروة: و يجوز تكرار النظر، إذا لم يحصل الغرض- و هو الاطلاع على حالها- بالنظر الاولى. «2» و استدل له في مستند العروة باطلاق الأدلة. و لكن الانصاف أنّها منصرفة إلى ما هو المتعارف بين الناس في ذلك، فلو قال واحد أنّه لا ينكشف حال المرأة لدىّ إلّا بالمعاشرة معها اسبوعا أو شهرا، فانّه لا يقبل منه، و لا اطلاق في الأدلة من هذه الجهة.

4- هل يشترط عدم امكان معرفة حالها من طريق آخر؟

و هل يعتبر عدم إمكان معرفة حالها من طريق آخر من توكيل النساء في ذلك أو مشاهدة صورتها أو أفلامها؟

الظاهر أنّه لا يشترط فيه ذلك، لإطلاق الأدلة؛ مضافا إلى أنّ الحاضر يرى ما لا يراه الغائب، و ليس الخبر كالمعاينة.

5- هل يعتبر في ذلك، اذنها أو رضاها بالنظر؟

قال في العروة: و لا يشترط أن يكون ذلك باذنها و رضاها و أضاف في المستند، أنّه: لا

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 132

خلاف في ذلك و ليس هذا من حقوق المرأة، كي يتوقف الحل على رضاها. «1»

قلت: مضافا إلى ما ورد في بعض الأخبار، من فعل بعض الصحابة، و هو ما رواه جابر بن عبد اللّه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا خطب أحدكم المرأة، فقدر على أن يرى منها ما يعجبه و يدعوه اليها، فليفعل. قال جابر: فلقد خطبت امرأة من بني سلمة فكنت أتخبأ في اصول النخل، حتى رأيت منها بعض ما أعجبني، فتزوجتها «2».

6- هل يشترط ذلك بعدم امكان عقد موقّت؟

هل يشترط في ذلك عدم إمكان الوصول إلى مقصده من طريق العقد الموقت أم لا؟

الظاهر، عدم اعتباره، فيجوز النظر و إن أمكنه العقد الموقت في ساعة واحدة مثلا او اكثر، لإطلاق الأدلة؛ مضافا إلى وجود بعض المشاكل في العقد، و إن كان الاولى، اختياره لو أمكن.

***

[المسألة 29: الأقوى جواز سماع صوت الأجنبية]

اشارة

المسألة 29: الأقوى جواز سماع صوت الأجنبية ما لم يكن تلذّذ و ريبة و كذا يجوز لها اسماع صوتها للأجانب إذا لم يكن خوف فتنة، و إن كان الأحوط الترك في غير مقام الضرورة خصوصا في الشابّة، و ذهب جماعة إلى حرمة السماع و الاسماع و هو ضعيف، نعم يحرم عليها المكالمة مع الرجال بكيفية مهيجة بترقيق القول و تليين الكلام و تحسين الصوت فيطمع الذي في قلبه مرض.

سماع صوت الاجنبية

(1) أقول: كانت هذه المسألة معركة للآراء في قديم الأيام و إن كانت في عصرنا من المشهورات أو المسلمات بين الفقهاء لضرورات لا تخفى على القارئ.

هذا، و قد صرّح المحقق في الشرائع بأنّه لا يجوز سماع صوت الأجنبيّة (حتى) للأعمى، بل قد ادعى أنّه المشهور. «1» قال في الحدائق: المشهور بين الأصحاب تحريم سماع صوت المرأة الأجنبيّة مبصرا كان السامع أو أعمى، و اطلاق كلامهم شامل لما أوجب السماع التلذذ و الفتنة أم لا. و لا يخلو عن إشكال. «2»

و قد حكاه في الرياض، عن القواعد و الشرائع و التحرير و الإرشاد و غيرها؛ و لكن ذكر في آخر كلامه أنّ: الجواز أقوى، وفاقا لمقطوع التذكرة، و ظاهر جماعة كشيخنا في المسالك، و نسب إلى جدي العلامة المجلسي طاب ثراه. و لكن الأحوط ترك ما زاد على خمس كلمات. «3»

و اللازم، التكلم في أصل الجواز، أولا. ثم بيان حكم الخضوع بالقول، و تحسين الصوت بالقرآن على نحو الترتيل، و غيره.

ما يدل على الجواز

أمّا الأول؛ فيدل على القول بالجواز امور:

منها، السيرة المستمرة بين المسلمين من زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى أعصار الأئمة عليهم السّلام و ما بعدها. كما قال في الجواهر: أنّ السيرة المستمرة في الأعصار و الأمصار من العلماء و المتدينين و غيرهم، و بالمتواتر أو المعلوم مما ورد من كلام الزهراء و بناتها عليها و عليهن السّلام، و من مخاطبة النساء للنبي صلّى اللّه عليه و آله و الأئمة عليهم السّلام على وجه لا يمكن إحصائه، و لا تنزيله على الاضطرار لدين أو دنيا. «1»

و منها، آيات من الذكر الحكيم، مثل تكلّم موسى مع بنات شعيب. قال اللّه تعالى:

... قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا

لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَ أَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ. «2» فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا .... «3» و لا يمكن حملها على الضرورة.

و تكلم يوسف مع امرأة العزيز و ساير نساء مصر. قال اللّه تعالى: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ... «4» اللّهم إلّا أن يقال هن كنّ فاسقات لا يقبلن النهي عن المنكر.

بل و ما ورد في قوله تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً. «5»

و سيأتي إن شاء اللّه، أنّ الخضوع بالقول يراد منه ترقيق الصوت و تليينه بما يكون مهيجا، فيطمع الذي في قلبه مرض. (و هذا التعبير يدل على أنّ الغريزة الجنسية إذا كانت متعادلا لم تكن محرمة. و إنّما تكون مذمومة إذا خرجت عن حدّ الاعتدال، كما تدل على أنّ الخروج عن حدّ التعادل في هذه الامور نوع من الأمراض الرّوحيّة).

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 135

و على أي حال، تدل الآية بمقتضى مفهوم الوصف، أنّ الصوت الذي ليس فيه خضوع، ليس محرما.

و منها، روايات تدل على جواز السلام على المرأة و سماع جوابها، و يكره على الشابة. مثل ما رواه ربعى بن عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يسلّم على النساء و يرددن عليه. و كان أمير المؤمنين عليه السّلام يسلّم على النساء و كان يكره أن يسلّم على الشابّة منهن، و يقول: أتخوف أن يعجبنى صوتها، فيدخل علىّ أكثر مما طلبت من الأجر. «1» و سند الحديث معتبر.

و قال الصدوق: إنّما قال

ذلك لغيره، و إن عبّر عن نفسه و أراد بذلك أيضا التخوف من أنّ يظنّ به ظان أنّه يعجبه صوتها، فيكفر. «2»

و ما عن عمار الساباطي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، أنّه سأله عن النساء كيف يسلمن إذا دخلن على القوم؟ قال: الامرأة تقول عليكم السلام، و الرجل يقول السلام عليكم. «3»

و طريق الصدوق بعمّار الساباطي قوىّ، كما في جامع الرواة عن الخلاصة.

و منها، الروايات الدالة على نياحة النساء، الظاهرة في سماع صوتهن. مثل ما رواه في البحار، من أنّ الباقر عليه السّلام أوصى أن يندب له في المواسم عشر سنين. «4» و في رواية اخرى أنّه عليه السّلام قال: قف من مالي كذا و كذا لنوادب، تندبني عشر سنين بمنى أيام منى «5».

و الاولى و إن لم تكن صريحة في المطلوب، لأنّ الندب و النوح لا يختص بالنساء و إن كان الغالب ذلك، و لكن الثانية ظاهرة فيه لتأنيث الضمير.

و يمكن أن يقال إنّ الروايات الدالة على جواز النياحة و كسب النائحة إذا لم تكن نوحا بالباطل، أيضا دليل على المطلوب، لأنّ المتعارف سماع صوتهن.

و منها، الروايات الكثيرة المبثوثة في أبواب مختلفة تدل على فعل المعصوم أو قوله أو تقريره في ذلك، أو من تربى في حجور المعصومين عليهم السّلام. و لكن يمكن حمل خطبة

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 136

الزهراء عليها السّلام في مقابل المهاجرين و الأنصار، و كذا خطبتى بنتها زينب عليها السّلام في الكوفة و الشام، على بعض الضرورات التي لا تخفى. و لكن لا يمكن حمل جميعها على الضرورات أو على خصوص العجائز أو شبه ذلك.

و أيضا، ما دل على جواز تعليم الرجال الأجانب القرآن للنساء، مثل ما عن أبي بصير،

قال: كنت اقرئ امرأة كنت اعلّمها القرآن، فمازحتها بشي ء؛ فقدمت على أبي جعفر عليه السّلام فقال لي: اي شي ء قلت للمرأة؟ فغطيت وجهي فقال: لا تعودن إليها. «1»

و هذا دليل على جواز سماع صوتها و أنّ الحرام هو الممازحة معها.

ما يدل على عدم الجواز

و في مقابل هذه الروايات ما يدل على عدم الجواز، منها:

1- ما رواه مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: لا تبدءوا النساء بالسلام و لا تدعوهن إلى الطعام. فان النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: النساء عيّ و عورة فاستروا عيهنّ بالسكوت، و استروا عوراتهن بالبيوت «2».

و في سنده إشكال، لمكان مسعدة. و قال المجلسي قدس اللّه نفسه الزكية في مرآت العقول في تفسير هذا الحديث: العيّ العجز عن البيان، أي لا يمكنهن التكلم بما ينبغي في أكثر المواطن، فاسعوا في سكوتهن لئلا يظهر منهن ما تكرهونه. فالمراد بالسكوت سكوتهن. و يحتمل أن يكون المراد سكوت الرجال المخاطبين و عدم التكلم معهن «3».

و هذا الحديث مع ضعف سنده، لعله على خلاف المطلوب أدلّ. لأنّه لا يدل على نهى النساء العاقلات العالمات، عن التكلم.

2- ما رواه الحسين بن زيد، عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حديث المناهي، قال: و نهى أن تتكلم المرأة عند غير زوجها و غير ذي محرم أكثر من انوار الفقاهة، ج 3، ص: 137

خمس كلمات، ممّا لا بدّ لها منه. «1»

و هو أيضا مع ضعف سنده بشعيب بن واقد، ورد في حديث المناهي المشتمل على المكروهات و المحرمات.

إلى غير ذلك، مما يدل على عدم جواز ممازحتهن، أو السلام عليهن، أو شبه ذلك.

و

الجواب عن الجميع، ظاهر بعد الغض عن ضعف السند و الدلالة، لإمكان رفع التعارض بالجمع الدلالى. لأنّ الروايات السابقة صريحة في الجواز، و هذه الروايات على فرض صحة اسنادها و ثبوت دلالتها ظاهرة في الحرمة، فتحمل على الكراهة، من باب حمل الظاهر على النص. مضافا إلى تأييدها بالسيرة المستمرة و آيات الكتاب العزيز.

فالمسألة ممّا لا ينبغي الإشكال فيها.

ما استثنى من هذا الحكم

و قد استثنى في المتن، و في العروة (في المسألة 39)، و وافقه المحشّون فيما وقفنا عليه؛ ما إذا كان على نحو مهيج بترقيق الصوت و تليينه، فيحرم، و هو الأقوى. و يمكن الاستدلال له، بقوله تعالى: ... فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ... «2» فان الخضوع بالقول ليس إلّا ما ذكرنا، بقرينة ذيل الآية. و الخطاب و إن كان إلى ازواج النبي صلّى اللّه عليه و آله، و لكنّ اصالة الاشتراك في التكليف توجب التعميم.

هذا مضافا إلى أنّه مظنة للريبة، فلا يجوز اسماعها و استماعها.

و قد شاع في زماننا في بعض المجالس، تلاوة القرآن بالصوت الحسن من ناحية النساء في مجالس الرجال أو عند استاذهن، بصورة الانفراد أو مجتمعات، فهل يجوز ذلك أو لا؟

لا كلام في جوازه عند عدم تحسين الصوت، و أمّا إذا كان بتحسين الصوت فلا يبعد

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 138

حرمته، لأنّه لا يخلوا غالبا من الخضوع في القول، و يكون مظنة للريبة، و وقوع السامع في المعصية. نعم، يمكن إن يقال إن ما يسمى ترتيلا خال عن هذا، و لا أقل من أنّه مشكوك فلا يبعد جوازه خاصة.

***

مسألتان من العروة الوثقى

اشارة

هنا مسألتان يجب التعرض لهما مما وردت في العروة الوثقى.

المسألة الأولى: قال في العروة (في المسألة 35): «1» يستثنى من عدم جواز النظر من الأجنبيّ و الأجنبيّة مواضع
اشارة

- إلى أن قال- منها، القواعد من النساء اللاتى لا يرجون نكاحا بالنسبة إلى ما هو المعتاد من كشف بعض الشعر و الذراع و نحو ذلك، لا مثل الثدى و البطن و نحوهما مما يعتاد سترهن له.

القواعد من النساء

أقول: هذا الاستثناء ورد في الكتاب العزيز (سورة النور/ 60)، و قد وقع الخلاف في تفسير الآية بما سيأتي إن شاء اللّه، و لكن مع ذلك لم يتعرض كثير من الفقهاء العظام له مثل صاحب المسالك و الرياض و كشف اللثام و اللمعة و شرحها و المستند و المهذب و غيرها (فيما ظفرنا عليه) و لكن تعرض لها الفقيه الماهر صاحب الجواهر (رضوان اللّه تعالى عليه) و كذا في العروة و المستمسك و غيرهما من أشباههما.

المراد من العجوز

قال الراوندى في فقه القرآن: قوله تعالى: «وَ الْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ» يعنى المسنات اللاتي يقعدن عن الحيض و عن التزويج. و إنّما ذكر القواعد، لأنّ الشابّة يلزمها من الستر أكثر مما يلزم العجوز، و العجوز لا يجوز لها أن تبدي عورة لغير محرم كالساق و الشعر و الذراع. «2»

و أنت خبير بما في كلامه من الابهام، لعدم بيان الفرق بين العجوز و الشابّة صريحا.

هذا، و قال في جامع المقاصد: و لو كانت عجوزا، فقد قيل أنّها كالشابة، لأنّ الشهوات لا تنضبط، و هي محل الوطء و قد قال عليه السّلام: لكلّ ساقطة لاقطة!- ثم قال:- و الأقرب انوار الفقاهة، ج 3، ص: 140

وفاقا للتذكرة أنّ المراد إذا بلغت في السن إلى حيث تنتفى الفتنة غالبا بالنظر إليها يجوز نظرها.- ثم استدل بعدم المقتضى للحرمة، و بالآية الشريفة «1».

و على كل حال، الأصل في هذا الحكم هو الآية الشريفة: وَ الْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ «2».

وقع الكلام فيها من ثلاث جهات:

1- من جهة معنى القواعد، و هو جمع قاعد، أمّا بمعنى القعود عن الحيض، أو عن الولادة، أو عن النكاح. و يمكن إن يقال جميعها متقاربة؛ و لكن الانصاف أنّ المرأة اذا بلغت خمسين سنة، لا تقعد عن النكاح، لوجود الرغبة فيهن في الجملة، و كذا قعدت عن الولادة. فالاولى أن يقال ان المراد منه، القعود عن النكاح، كما يفسره قوله تعالى: «اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً»، فعلى الاولين، القيد احترازي، و على الأخير توضيحى؛ و لعل ذلك يختلف باختلاف الأشخاص و ليس لها سنّ معين، و الحكم يدور مدار الوصف.

2- من

ناحية تفسير الثياب، لا شك أنّه ليس المراد وضع جميع ثيابهن و صيرورتهن عراة. حينئذ يقع الكلام في المقدار الجائز، فهل هو الجلباب فقط، أو هو مع المقنعة، أو هما مع الخمار.

ذكر كل واحد من هذه الأقوال الثلاثة في مجمع البيان، من غير اختيار صريح.

هذا، و يظهر من العروة و غيرها أنّها لا تضع الخمار، بل يجعله على بعض رأسها بحيث يظهر منها بعض الشعر لا جميعه!.

و لكن الانصاف، أن وضع الثياب عام من هذه الجهة اى يشمل الجلباب و المقانع و الخمار، فيظهر شعرها كلها و بعض الذراع و بعض الساق. اللّهم إلّا أن يقال ترك ستر الشعر كله غير متعارف بين المسلمين، حتى في حق العجائز، بل يرونه قبيحا من أي امرأة كان.

فتأمّل.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 141

3- من ناحية قوله تعالى: «غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ»، هل هو كما ذكره الزمخشري في الكشاف ذيل الآية بمعنى؛ غير مظهرات زينتها؛ ليكون حالا عن تلك النساء بعد وضع ثيابهن. أو يكون كما ذكره الطبرسي (قدس اللّه سرّه الشريف)، و ذكره الزمخشري بعنوان تفسير آخر بمعنى؛ غير قاصدات بالوضع، التبرج؛ فيكون حالا لهنّ عند قصد وضع الثياب. و إن كان مآل التفسيرين يكون واحدا. فلا يجوز لهن التبرج بالزينة الباطنة، كإظهار القرط و القلادة و الدستوار و غيرها من أشباهها.

الأحاديث الواردة في حكم القواعد من النساء

هذا كله بالنظر إلى الآية الشريفة، مع قطع النظر عن روايات الباب. و أمّا أحاديث الباب فهي على طائفتين:

الاولى: ما يدل على جواز وضع الجلباب فقط. (بما سيأتي له من المعنى) و يظهر منها وضوح أصل الحكم، أي استثناء القواعد إجمالا. منها:

1- ما رواه محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عزّ و

جل: وَ الْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً ... ما الذي يصلح لهنّ أن يضعن من ثيابهنّ؟ قال:

الجلباب «1».

2- ما رواه محمد بن أبي حمزة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: القواعد من النساء ليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن؟ قال: تضع الجلباب وحده. «2»

و الظاهر اعتبار سنده أيضا، لأنّ محمّد بن أبي حمزة هو الذي حكي الكشي عن حمدويه، أنّه ثقة فاضل، و يؤيده رواية ابن أبي عمير عنه مكررا (بناء على أنّه لا يروى إلّا عن ثقة؛ و إن كان محلا للكلام). و لا كلام في باقي رجال السند.

3- ما رواه أبو الصباح الكناني، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام، عن القواعد من النساء، ما الذي يصلح لهن أن يضعن من ثيابهن؟ فقال: الجلباب، إلّا أن تكون امة فليس عليها

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 142

جناح أن تضع خمارها. «1»

و دلالته ظاهرة، أما سنده لا يخلو عن كلام. و لذا عبّر عنه في الجواهر بالخبر. و الظاهر أنّه لمكان محمد بن الفضيل، فقد ضعفه بعض، و وثقه بعض آخر؛ و أمّا أبو الصباح فهو إبراهيم بن نعيم العبدي فهو ثقة، بل قد ورد في بعض الروايات، أنّ الصادق عليه السّلام قال في حقه: أنت ميزان؛ بسبب وثاقته.

4- ما عن محمد بن سنان، عن الرضا عليه السّلام، فيما كتبه إليه من جواب مسائله: و حرم النظر إلى شعور النساء المحجوبات بالأزواج- إلى أن قال- إلّا الذي قال اللّه تعالى: وَ الْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً ... أي غير الجلباب، فلا بأس بالنظر إلى شعور مثلهن «2».

و سند الرواية غير نقي، باشتماله على محمد بن سنان، و فيه كلام في علم الرجال.

و كذا دلالته لا يخلو عن كلام، فان قوله أي غير الجلباب؛ إن كان تفسيرا لقوله تعالى: غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ كان موافقا للمطلوب، و لكن يتنافي ذيل الرواية، (فلا بأس بالنظر إلى شعورهن) لأنّ الجلباب ليس ساترا للشعر، بل الخمار أو المقنعة التي كانت تحت الجلباب. اللّهم إلّا أن يكون ساتر الرأس الجلباب فقط، و هو لا يخلو عن بعد بالنسبة إلى قديم الأيام.

و أمّا لو كان وصفا للثياب، كان دليلا على جواز وضع غير الجلباب من الثياب، فتخرج الرواية عن الطائفة الاولى.

و على كل حال، المراد من الجلباب- كما تفحصنا في كتب كثيرة من اللغة و التفسير- وجدنا له معانى كثيرة: 1- القميص أو الثوب الواسع. 2- المقنعة. 3- الملحفة. 4- الإزار و الرداء. قال في النهاية: الجلباب، الازار و الرداء. و قيل، ملحفة؛ و قيل، هو كالمقنعة يغطى به المرأة رأسها و ظهرها و صدرها؛ و قيل، ثوب أوسع من الخمار دون الرداء؛ و لعل الأظهر من الجميع هو الستر الذي كان أكبر من الخمار و أقصر من ما يسمى انوار الفقاهة، ج 3، ص: 143

عندنا چادر. و وضعه لا يوجب ظهور الشعر غالبا. و قال الراغب في المفردات: أنّ الجلابيب هي القمص و الخمر. و لا يخلو عن بعد بملاحظة موارد استعمالها.

الطائفة الثانية: ما يدل على جواز وضع الجلباب و الخمار، منها:

1- ما عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، أنّه قرء «أن يضعن ثيابهن» قال: الخمار و الجلباب. قلت: بين يدي من كان؟ فقال: بين يدي من كان، غير متبرجة بزينة؛ فان لم تفعل فهو خير لها ... «1»

و سند الرواية معتبر، و دلالتها واضحة، و ظاهرها عدم الفرق بين المحارم

و غيرهم، مع اشتراط عدم التبرج بزينة. و قد مرّ معناه عند تفسير الآية الشريفة و قوله قرء أن يضعن ثيابهن ...؛ إشارة إلى عدم قراءة من ثيابهن ...؛ كما سيأتي في الرواية الآتية إن شاء اللّه.

2- ما عن حماد بن عيسى، عن حريز بن عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، أنّه قرء يضعن من ثيابهن؛ قال: الجلباب و الخمار، إذا كانت المرأة مسنة «2».

و سند الحديث أيضا معتبر، كدلالته، و لكن المذكور فيه: من ثيابهن ...؛ و لعله من باب التّفسير، و إلّا دخل في روايات التحريف، و قد ذكرنا في محلّه ضعفها.

3- ما عن على بن أحمد بن يونس، قال ذكر الحسين أنّه كتب إليه، يسأله عن حد القواعد من النساء التي إذا بلغت جاز أن تكشف رأسها و ذراعها؟ فكتب عليه السّلام: من قعدن عن النكاح «3».

و سند الحديث مشوش، فان على بن أحمد بن يونس، لم يعرف في الرجال؛ و لذا احتمل بعض أنّ الصحيح على بن أحمد عن يونس؛ و الحسين أيضا غير معلوم، و أمّا الصفار الواقع في سند الحديث، هو محمد بن الحسن بن فرّوخ و هو من أعاظم الأصحاب.

4- ما عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن الرضا عليه السّلام قال: سألته عن الرجل يحلّ له أن ينظر إلى شعر اخت امرأته؟ فقال: لا، إلّا أن تكون من القواعد. قلت له: اخت امرأته و

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 144

الغريبة سواء؟ قال: نعم. قلت: فما لي من النظر إليه منها؟ فقال: شعرها و ذراعها «1».

و سند الحديث لا يخلو عن ضعف، بسبب ضعف سند قرب الأسناد، و أمّا دلالته ظاهرة بناء على أنّ الجواز في ذيلها

ناظر إلى القواعد بقرينة صدر الحديث، و جواز النظر إلى الشعر و الذراع دليل على وضع الجلباب و الخمار.

*** إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ المراد بالجلباب على ما يظهر من كلمات أرباب اللغة و التفسير فقد عرفته، و الظاهر أنّ المتعارف بين النساء لستر الرأس، كان الخمار و المقنعة. و كان الخمار أطول من المقنعة، كنّ يلبسن أحدهما أمّا المقنعة أو الخمار، و كان المقنعة مختصة بالحرائر و لذا روى في لسان العرب، أنّ عمر رأى جارية لبست المقنعة، فضربها و نهاها عن التشبه بالحرائر، و لكن الاكتفاء بالخمار أو المقنعة كان قليلا، بل يلبس فوق أحدهما الجلباب ليكون أقرب إلى العفاف.

و حيث إنّ الواجب ليس غير الستر، فالاكتفاء بالقميص الواسع و الخمار أو المقنعة لا مانع له للشابة و المسنة، و إن كان الاولى لبس الجلباب فوقهما، مع أنّ ظاهر الآية اختصاص المسنات بشي ء من التخفيف.

و من هنا يعلم وجه الجمع بين الطائفتين من الأخبار، و إن الاولى محمولة على نوع من الاستحباب، و المدار في الجواز هو الطائفة الأخيرة.

بقي هنا فروع
1- هل هنا فرق بين ذات البعل و غيرها؟

ظاهر اطلاقات الباب عدم الفرق بينهما و قد يتوهم أن قوله تعالى: لا يَرْجُونَ نِكاحاً

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 145

في الآية الشريفة و قوله عليه السّلام: قعدن عن النكاح؛ في بعض روايات الباب، دليل على أنّ المراد منها غير ذات البعل. و لكن الانصاف أنّها ناظرة إلى بيان كثرة السّن، لذا عبر عنها في بعض الروايات المعتبرة (صحيحة حريز بن عبد اللّه 4/ 110) بالمسنة.

2- هل الحكم يشمل لمسّهن بالمصافحة و شبهها؟

الظاهر عدمه، لأنّ الآية الشريفة و الروايات كلها دليل على جواز النظر.

3- هل الحكم يختصّ بداخل البيوت؟

هل هناك فرق بين وضع الثياب داخل البيوت أو يشمل خارجها أيضا؟

الظاهر عدم الفرق في ذلك، للإطلاقات.

و لكن هذا كله بالعنوان الاوّلى، فلو أوجب ذلك فسادا في المجتمع، أمكن المنع منه بالعنوان الثانوي.

المسألة الثانية: قال في العروة (في المسألة 50): «1» إذا اشتبه من يجوز النظر إليه بين من لا يجوز، بالشبهة المحصورة
اشارة

، وجب الاجتناب عن الجميع. و كذا بالنسبة إلى من يجب الستر عنه و من لا يجب، و إن كانت الشبهة غير محصورة أو بدويّة، فان شك في كونه مماثلا أو لا، أو شك في كونه من المحارم النسبية أو لا؛ فالظاهر وجوب الاجتناب، لأنّ الظاهر من آية وجوب الغضّ، أن جواز النظر مشروط بأمر وجودي، و هو كونه مماثلا أو من المحارم؛ فمع الشك يعمل بمقتضى العموم، لا من باب التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية، بل لاسفتادة شرطية الجواز بالمماثلة أو المحرميّة أو نحو ذلك؛ فليس التخصيص في المقام من قبيل التنويع حتى يكون من موارد أصل البراءة، بل من قبيل المقتضى و المانع.

و إذا شك في كونه زوجة أو لا، فيجرى- مضافا إلى ما ذكر من رجوعه إلى الشك في الشرط- أصالة عدم حدوث الزوجية. كذا لو شك في المحرميّة من باب الرضاع.

نعم لو شك في كون المنظور إليه حيوانا أو إنسانا، فالظاهر عدم وجوب الاحتياط، لانصراف عموم وجوب الغضّ إلى خصوص الانسان.

و إن كان الشك في كونه بالغا أو صبيّا أو طفلا مميّزا أو غير مميز، ففي وجوب الاحتياط وجهان: من العموم و لو على الوجه الذي ذكرنا، و من إمكان دعوى الانصراف؛ و الأظهر الأول.

حكم صور الشك في جواز النظر و عدمه

أقول: هذه المسألة تبحث، عن الشبهات الموضوعية للأحكام السابقة، و بعبارة اخرى، عن صور الشك في جواز النظر و عدمه، و كذا وجوب الستر و عدمه، من باب الشبهة الموضوعية.

الصور السبعة

و يتلخص ما ذكره في سبع صور:

1- ما إذا شك في ذلك، و كانت الشبهة محصورة، مثلا: يعلم إحدى هاتين المرأتين اخته و الآخر أجنبيّة، أو إحداهما زوجة و الاخرى اخت الزوجة، أو بين ثلاث نفرات أو عشر نفرات.

ما إذا شك في ذلك، و كانت من باب الشبهة غير المحصورة أو الشبهة البدوية؛ و ذكر لها ست صور:

1- ما إذا دار الأمر بين المماثل و غيره، كما إذا شك في أنّ من يراه من البعيد رجل أو امرأة أجنبيّة مكشوفة، أو رأى أحدا يسبح في شاطئ البحر و لا يدري رجل أو امرأة، فهل يجوز النظر إليه؛ و كذا العكس.

2- ما إذا دار الأمر بين المحارم النسبيّة و غيرهن، كما إذا علم أنّه غير مماثل و لكن شك في أنّ المرأة امّه أو أجنبيّة، لسبب الظلمة أو غيرها.

3- ما إذا دار الأمر بين الزوجة و غيرها، كما إذا رأى امرأة لا يدري أنّها زوجته أو اخت زوجته.

4- ما إذا دار الأمر بين المحارم الرضاعيّة و غيرهن، كما إذا رأى امرأة لا يدري أنّها اخته الرضاعية أو أجنبيّة.

5- ما إذا دار الأمر بين الصّبيّة غير البالغة و البالغة، و غير المميزة أو المميزة، بناء على جواز النظر إلى غير البالغة أو غير المميزة، فلا يدري هذه الجارية غير مميزة حتى يجوز النظر إليها، أو مميزة أو بالغة (على اختلاف الأقوال).

6- ما إذا دار الأمر بين الإنسان و الحيوان، كما إذا راي شبحا من بعيد لا يدري

انه إنسان غير ذات محرم أو حيوان. و نضيف إليها صورة سابعة، و هي ما إذا دار الأمر بين المسلمة و الكافرة؛ أو الحرّة و الأمة.

فهذه سبع صور، مضافا إلى الصورة الاولى.

حكم الصورة الأولى

أمّا الاولى، فلا شك أنّ مقتضى القاعدة فيها عدم جواز النظر، بمقتضى وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة، لتنجز الحكم بالعلم الإجمالي، و العلم منجز على كل حال. و لا فرق فيما بين الصور الستة الآتية (لجريانها فيها)، مثل أنّه علم بأنّ أحد هذين، امرأة أجنبيّة و علم بأنّ الاخرى امه، أو اخته الرضاعية، أو زوجته، أو صبيّة غير بالغة، أو حيوان (و لكن اشتبها).

و جريان أصالة العدم في بعض الصور، كأصالة عدم البلوغ فيمن ينظر إليها، أو عدم التمييز، أو عدم الإسلام، غير كاف في جواز النظر؛ لأنّها معارضة بمثلها في الفرد الآخر.

هذا على فرض جريان الاصول في أطراف العلم الإجمالي و سقوطها بالتعارض. و أمّا على القول بعدم جريانها فيه من باب التناقض، فهو اوضح.

حكم الصورة الثانية

أمّا إذا كانت الشبهة بدوية، أو غير محصورة التي هي بحكم البدوية و دار الأمر بين المماثل و غير المماثل الأجنبيّة، أو بين المحارم و غير المحارم؛ فالذى يبدو في النظر، جريان البراءة فيه فانّه من قبيل الشبهة الموضوعيّة التّحريميّة التي وقع الاتفاق فيه من جميع علمائنا، حتى الأخباريين منهم، على الأخذ بالبراءة فيها؛ و حيث أنّه ليس المقام مقام الاستصحاب لعدم الحالة السابقة، فالبراءة حاكمة.

*** و لكن ذكر هنا وجوه خمسة أو ستة للخروج عن البراءة و القول بوجوب الاجتناب.

الوجه الأول: يجوز الأخذ بالعموم (أي عمومات وجوب الغضّ)، خرج منه ما علم بكونه مماثلا أو محرما، و بقى المشكوك فيه.

و اورد عليه، بأنّ هذا من قبيل التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية، و قد ثبت في محله عدم جوازه، لأنّ الخارج من العام عنوان واقعى، و هو المماثل أو المحارم مثلا؛

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 149

فقوله تعالى: يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ

بمعنى يغضوا من غير المماثل و المحارم. فاذا قيد العام بعنوان المخصص، تعنون العام بعنوان غير المماثل و المحارم. و حصل هنا نوعين، نوع باق تحت العام، و نوع خارج عنه. و من الواضح عدم جواز الأخذ بهذا العام، في المصداق المشكوك.

و أجيب عنه، بأن هذا إذا كان التخصيص سببا للتنويع، و هنا ليس كذلك. فيرجع إلى العام.

و اورد عليه، بأنّ التخصيص هنا يوجب التنويع، لأنّه من قبيل التخصيص بالمتصل.

فان قوله تعالى: وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ ... أَوْ نِسائِهِنَّ، من قبيل المتصل؛ و التخصيص بالمتصل يمنع ظهور العام في العموم، لأنّه كالقرينة المتصلة بالكلام. فإذا قال:

أكرم العلماء إلّا الفساق منهم، فهو بمعنى قوله: أكرم العلماء العدول؛ فمن الأول لا شمول له لغير العدول. فالإرادة الاستعمالية غير شاملة لوجود القرينة المتصلة، فالتخصيص بالمتصل يوجب التنويع.

بل الحال كذلك حتى في المخصص المنفصل- فهو أيضا يوجب التنويع-؛ و ذلك لأنّ التخصيص بالمنفصل، و إنّ لم يكن تصرفا في الإرادة الاستعمالية، و لكنه تصرف في الإرادة الجدية (أو في حجية العام). فإذا قال المولى: أكرم العلماء، و قال بعد حين؛ لا تكرم الفساق منهم. علم أنّ المراد الجدي من العام من أول الأمر كان هذا النوع الخاص (العلماء غير الفساق).

و الحاصل، إنّ التنويع حاصل في كل تخصيص، فالرجوع إلى العام في الشبهات المصداقية غير جائز مطلقا.

الوجه الثانى: ما ذكره المحقق النائيني في بعض كلماته و حاصل كلامه (قدس سره)، أنّ اشتراط الجواز بالمماثلة أو المحرميّة، و تعليق الرخصة عليها، يدل بالدلالة الالتزامية على أنّ اللازم احراز هذا الشرط؛ فلا يجوز النظر إلّا إذا أحرز المماثلة أو المحرميّة؛ فعند

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 150

الشك لا يجوز، لعدم احرازهما «1».

و

لعل كلام صاحب العروة (قدس سره) أيضا ناظر إليه حيث قال: لأنّ الظاهر من آية وجوب الغض، أنّ جواز النظر مشروط بأمر وجودي و هو كونه مماثلا أو من المحارم، و مع الشك يعمل بمقتضى العموم، لا من باب التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية، بل لاستفادة شرطية الجواز بالمماثلة أو المحرمية أو نحو ذلك. انتهى. «2»

و الظاهر أنّ قوله: بل لاستفادة شرطية الجواز؛ بمعنى احراز شرطية الجواز. فان مجرد الاشتراط غير كاف لإثبات مطلوبه ما لم يكن مقيدا بالاحراز.

و كيف كان، يمكن الجواب عن هذا الوجه بأنّه مجرد دعوى بلا دليل، و ما الفرق بين هذا الشرط و سائر الشروط؛ و لا شك في أنّ الألفاظ ظاهرة في معانيها الواقعية، لا مقيّدة بالعلم و الاحراز.

الوجه الثالث: المقام من قبيل المقتضى و المانع، فالمقتضى للحرمة موجود، و يشك في وجود المانع منه و هو المحرميّة أو المماثلة؛ و مقتضى القاعدة، أنّه إذا علم بوجود المقتضي و شك في وجود المانع، يبنى على حصول النتيجة. كما إذا علم بملاقات الماء للنجاسة و شك في وجود الكريّة المانع من السراية، يبنى على عدم المانع، و يحكم بالنجاسة. و الفرق بينهما و بين الاستصحاب، أنّه يحتاج إلى الحالة السابقة، و القاعدة غير محتاجة اليها.

هذا، و لكن يرد عليه تارة من ناحية الكبرى، و اخرى من جهة الصغرى.

أمّا الكبرى، فلأنّه لا دليل على حجيّة قاعدة المقتضى و المانع لا من باب بناء العقلاء، و لا من باب الروايات و حكم الشارع المقدس. و قد استوفينا الكلام فيها ذيل المسألة الاستصحاب. و ما أفاده بعضهم من ظهور الصحيحة الاولى من أخبار الاستصحاب؛ فيه إشكال ظاهر، لأنّ ظاهرها أو صريحها كون الحكم

ببقاء الطهارة، مستند إلى الحالة السابقة، و الشك في ارتفاعها.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 151

و أمّا الصغرى، فلأنّه لو سلمنا أن الصورة الثانية أي الشك في المحرمية، كانت من مصاديق هذه القاعدة؛ لكن لا نسلّم أنّ الصّورة الأولى أي الشك في المماثلة، مصداق لها؛ لأنّ المقتضى للحرمة ليس موجودا في كل إنسان حتى تكون المماثلة مانعا عنها، كما هو واضح. فليس من قبيل قاعدة المقتضي و المانع.

الوجه الرابع: هو التمسك بالعدم الأزلي، بأن يقال أنّ المرأة لم تكن محرما (امّا أو اختا) قبل وجودها، و نشك أنّه بعد وجودها صارت محرما أم لا، فيستصحب، عدمه، فيحكم بالحرمة.

توضيح ذلك، أنّ جميع الأوصاف الوجودية مسبوقة بالعدم قبل وجود موضوعها. (و هو المراد بالعدم الأزلي) و لو من باب الانتفاء بانتفاء الموضوع، ثم نشك بعد وجود موضوعها أنّه متصف بها أم لا؟ فيجرى الاستصحاب.

و قد ذكروا ذلك، في باب الشك في كون المرأة قرشية و عدمها أيضا.

ان قلت: هذا الاستصحاب معارض بمثله، فكما يستصحب عدم كونها قرشية، يستصحب عدم كونها غير قرشى.

قلت: عدم القرشية ليست وصفا وجوديا، حتى يستصحب عدمه.

هذا، و لكن الإنصاف أنّ هذا الوجه أيضا غير تامّ، لا من ناحية كونه أصلا مثبتا فقط- كما أفاده المحقق النائيني قدس سره- نظرا إلى أنّ استصحاب العدم المحمولى، غير كاف لإثبات العدم النعتى. بل لأنّ استصحاب العدم الأزلي، لا يدخل في متفاهم العرف من أخبار الاستصحاب، بأن يقال: إن هذه المرأة لم تكن قبل وجودها اختا لزيد أو قرشيّة، فانه أشبه شي ء بالهزل و المزاح. و لو كان لهذه المفاهيم قيمة في المباحث الفلسفية، لا قيمة لها في المباحث الاصوليّة، فانها امور اعتبارية مأخوذة من بناء العقلاء و أهل

العرف، و خلط الأمور الاعتبارية بالامور الواقعيّة التي بدت في عصرنا في علم الاصول أورثت مفاسد كثيرة، و أخرجت المباحث الاصولية عن طريقتها و أوردتها مسالك صعبة لا ينجح طالبها.

و إن شئت قلت: عدم القرشية و شبهها قبل وجود المرأة، كان من قبيل انتفاء الوصف انوار الفقاهة، ج 3، ص: 152

بانتفاء الموضوع، و بعد وجودها من قبيل الانتفاء بانتفاء المحمول، و بينهما بون بعيد جدا. و هما أمران مختلفان قطعا، فليست القضية المتيقنة و المشكوكة واحدة في نظر العرف، فلا يجري فيه الاستصحاب.

الوجه الخامس: أن يقال إن وجه المنع هو قاعدة عقلائية اخرى، و هو أنّه إذا كان شي ء بحسب طبعه الاولى ممنوعا، و كان المباح منه أفراد أو عناوين معدودة محصورة، فانه يحمل المشكوك على الغالب، و المستثنى لا بدّ من إحرازه. مثلا؛ الوقف، لا يجوز بيعه إلّا في موارد مخصوصة نادرة، فإذا فرض دوران الأمر في بعض الموارد، بين ما لا يجوز و ما يجوز، لا بدّ من إثبات الجواز؛ حتى أنّه لو ادعى صاحب اليد جواز بيع الوقف، بحسب وظيفته الشّرعيّة يشكل الاعتماد عليه، إلّا أن يحرز أسباب الجواز، لأنّ طبيعة الوقف أنّها لاتباع و لا توهب.

و كذا لو شك في بعض حيوان البحر، أنّه حلال أو حرام، يشكل الاعتماد على اصالة الحليّة لأنّ جميع أنواعها حرام إلّا السمك إذا كان ذا فلس و الروبيان. و ما نحن فيه من هذا القبيل؛ فان غير المماثل حرام إلّا في موارد محصورة قليلة، فالنظر إلى جميع نساء العالم حرام إلّا هذه؛ فلو شك، يحكم بالحرمة إلّا من ثبت كونها محرما.

و لكن هذا لا يجري في القسم الاول، و هو الشك بين المماثل و غير المماثل،

لأنّ كل واحد منهما كثير جدا، فيبقى على اصالة الحليّة.

حكم الصورة الثالثة و الرابعة

هذا كله بالنسبة إلى الصورتين الأوليين من صور الشك.

و أمّا الثالثة و الرابعة، أي موارد الشك في الزوجية و الرضاع، فيجري فيهما- مضافا إلى ما ذكر- استصحاب عدمهما؛ لأنّ لهما حالة سابقة، فيحكم بالحرمة من هذه الجهة أيضا.

حكم الصورة الخامسة

و أمّا الصورة الخامسة، و هي ما إذا دار الأمر بين الحيوان و الإنسان، فقد صرّح في متن العروة بأن الظاهر عدم وجوب الاحتياط، لانصراف عموم وجوب الغض، إلى الإنسان. (فيبقى على الإباحة بمقتضى البراءة).

أقول: بل الظاهر انصرافه إلى الجنس المخالف، أعني غير المماثل، و من البعيد جدا أن يكون مفاده، قل للمؤمنين يغضوا أبصارهم من كل إنسان ... كما لا يخفى.

حكم الصورة السادسة

بقيت الصورة السادسة، و هي ما إذا كان له حالة سابقة محللة، كالشك في إنّ المنظور إليها بالغة أو غير بالغة، مميزة أو غيرها.

و ذكر لها و جهان: أحدهما، الحرمة، للوجوه السابقة؛ و الاباحة، لانصراف العموم إلى غيرهما. ثم قال: الأظهر، الأول.

لكن أورد عليه في المستمسك؛ و مستند العروة؛ بأنّ التمسك بعموم الآية أو قاعدة المقتضى و المانع، فرع وجود موضوعهما، فإذا جرى الاستصحاب و أحرز عدم الموضوع (عدم التمييز أو عدم البلوغ)، كان الحكم بالجواز في محله.

هذا، و لكن لو قلنا بالقاعدة العقلائيّة التي يمكن تسميتها بقاعدة الغلبة، لم ينفع الاستصحاب في مقابلها. نعم عموم وجوب الغض هنا غير ثابت.

حكم الصورة السابعة

و أمّا الصورة السابعة التي أشرنا إليها، و هي ما إذا شك أن المنظور إليها مسلمة أو كافرة ذمية أو غيرها، أو أنّها امة أو حرّة؛ و هذه تختلف باختلاف الموارد، قد تكون لها حالة سابقة كما إذا كانت كافرة ثم أسلمت أو بالعكس، أو كانت أمة ثم تحررت، و قد تكون من أول أمرها بهذه الصفة؛ ففى بعض مواردها يجرى الاستصحاب، و في بعضها لا يجري، و إجراء قاعدة الغلبة فيها تختلف باختلاف البلاد، فاذا كان هناك بلد يكون جميع أهله انوار الفقاهة، ج 3، ص: 154

مسلمين و مسلمات و الذّميّة فيها قليل جدا يشكل اجراء اصالة الاباحة فيها، كما أنّه لو كان بالعكس بأن كانت البلدة بلدة الكفار و المسلمون بينهم قليلون لم يبعد الركون إلى اصالة الاباحة لو شكّ. و اللّه العالم بأحكامه.

***

[فصل في عقد النكاح و أحكامه

اشارة

(1) فصل في عقد النكاح و احكامه النكاح على قسمين: دائم و منقطع؛ و كل منهما يحتاج إلى عقد مشتمل على إيجاب و قبول لفظيّين، دالين على إنشاء المعنى المقصود، و الرضا به، دلالة معتبرة عند أهل المحاورة. فلا يكفى مجرد الرضاء القلبي من الطرفين، و لا المعاطاة الجارية في غالب المعاملات، و لا الكتابة، و كذا الإشارة المفهمة في غير الأخرس. و الأحوط لزوما كونه فيهما باللفظ العربي، فلا يجزي غيره من سائر اللغات، إلّا مع العجز عنه و لو بتوكيل الغير. و إن كان الأقوى عدم وجوب التوكيل، و يجوز بغير العربى مع العجز عنه. و عند ذلك لا بأس بايقاعه بغيره، لكن بعبارة يكون مفادها مفاد اللفظ العربي بحيث تعدّ ترجمته.

اعتبار الإنشاء اللفظى في النكاح

(2) أقول: لا ينبغي الشك في اعتبار الإنشاء اللفظي في الايجاب و القبول في النكاح بجميع أقسامه، فلا يكفى مجرد الرضا الباطني و لا المعاطاة.

و هذا هو المشهور، بل صرّح في الحدائق، بإجماع العلماء من الخاصة و العامة على توقف النكاح على الايجاب و القبول اللفظيين «1».

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 156

و قال النراقي قدّس سرّه في المستند: تجب في النكاح، الصيغة، باتفاق علماء الإسلام، بل الضرورة من دين خير الأنام له، و لأصالة عدم ترتب آثار الزوجية بدونها «1».

كلمات الفقهاء

و قال شيخنا الأعظم (الأنصاري)، في كتاب النكاح: أجمع علماء الإسلام، كما صرّح به غير واحد، على اعتبار أصل الصيغة في عقد النكاح؛ و أنّ الفروج، لا تباح بالاباحة و لا المعاطاة، و بذلك يمتاز النكاح عن السفاح لأنّ فيه التراضي أيضا غالبا «2».

قلت: أمّا عدم الاجتزاء بالتراضى قلبا، فلانه لا يكون عقدا لا هنا، و لا في غيره من العقود؛ فلا يصدق عليها الزوجة، فتدخل في عموم قوله تعالى: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ...* «3» كما أنّ البيع و الإجارة و الهبة و غيرها لا تحصل بمجرد الرضا القلبى.

و هذا واضح.

و أمّا عدم كفاية المعاطاة هنا، مع كفايتها في سائر العقود، فالظاهر أنّه للإجماع. فانّ إجماع المسلمين، أوجب امتياز النكاح، عن سائر العقود، بهذا.

بل يمكن أن يقال، إن المتعارف بين جميع العقلاء حتى من لا يعتقد بأي دين من الأديان، عدم الاكتفاء بالمعاطاة، بل يعتقدون على إنشاء عقد لفظي؛ أو بالكتابة لا أقل.

و تحصل ممّا ذكرنا أنّه:

لا إشكال و لا كلام بين الأعلام، في وجوب كون عقد النكاح بالصيغة اللفظية و أنّ هذا ممّا اتفقت عليه فقهاء الشيعة و السنة، و لازمه

نفى كفاية التراضى قلبا و كذا المعاطاة و الكتابة.

أدلّة المسألة

استدل أو يمكن الاستدلال له بأمور:

1- الإجماع، بل ضرورة الفقه؛ فانّ كلماتهم عند بيان عقد النكاح تدل على أنّه كان أمرا مفروغا عنه بينهم، و هو حسن.

2- إنّ مجرد التراضي قلبا لا يكون إنشاء عقد، و الحال أنّ العقود كلها تحتاج إلى الإنشاء، و لا بدّ أن يكون الإنشاء إمّا بالقول أو الفعل، و سيأتي عدم كفاية الإنشاء الفعلي هنا.

3- أنّ المعاطاة لو جازت هنا، لم يكن فرق بين النكاح و السفاح، كما ذكره شيخنا الأنصاري في كتاب النكاح، و تبعه عليه جماعة آخرون. و لكن يرد عليه، أنّ المعاطاة ليست صرف التراضي، و لا مجرد العمل الخارجي، بل العمل بقصد إيجاد العقد، و من الواضح أنّ الزانية و الزاني، لا يقصدان بفعلهما إنشاء إيجاد الزواج الدائم و لا المنقطع، بل يريدان مجرد اللذة الشهوية لا غير. و إنّما يتحقق إنشاء النكاح إذا جعلت المرأة نفسها تحت اختيار الرجل بقصد أن تكون زوجة له. فبطلان المعاطاة في النكاح ليست من ناحية صدق السفاح عليه، بل بالإجماع. لأنّه لم يعهد من أحد من المسلمين الاكتفاء في النكاح بمجرّد إهداء الزوجة إلى بيت زوجها و أمثال ذلك.

4- ما ورد في صحيحة بريد، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام، عن قول اللّه عزّ و جلّ: وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً؟ فقال: الميثاق، هو الكلمة التي عقد بها عقد النكاح، و أمّا قوله، غليظا، فهو ماء الرجل يفيضه اليها «1».

و سند الرواية معتبر، نظرا إلى أنّ المراد من بريد، هو بريد بن معاوية العجلى، و بريد و أن وقع بهذه الصورة في 42 موضعا من الكتب الأربعة، إلّا أنّ المراد

به هو بريد بن معاوية، و له أكثر من 248 رواية؛ و يدل عليه في المقام رواية أبي أيوب الخزاز عنه أيضا.

و أمّا دلالته، فلان حصر الميثاق في الكلمة يدل على عدم جواز غيرها؛ اللّهم إلّا أن انوار الفقاهة، ج 3، ص: 158

يقال إنّ الآية ناظرة إلى القضية الخارجية لا إلى الشرطية، فانّ المتعارف كان هو الكلمات، فالآية إشارة إليها.

5- و يدل عليه أيضا، جميع الروايات الواردة في الباب 1 و 2، من أبواب عقد النكاح، فانّ جميعها تدور مدار الألفاظ، بحيث يكون كالأمر المسلم المفروغ عنه.

حكم العقد بالكتابة

و من هنا يعلم عدم جواز الاكتفاء بالكتابة، و إن جاز في غير النكاح. توضيح ذلك يتم ببيان امور:

1- أنّ العقود كانت في قديم الأيام بالألفاظ، و كانت تكتب لحفظ نتائجها و عدم نسيانها أو إنكارها من أحد الطرفين، ثم صار الإنشاء الكتبي قائما مقام الإنشاء اللفظى. و لكن اليوم نرى أنّ العقلاء لا يعتقدون في المسائل المهمّة بالإنشاء اللفظي، بل يرون من الواجب الاعتماد على توقيع المكتوبات و امضائها، و جميع الألفاظ التي يذكرونها مقدمة و من قبيل المقاولة. و الاعتبار في المعاملات الخطيرة و المعاهدات الدولية بالكتابة و التوقيع عليها فقط.

و هذا يدل على أنّ الإنشاء الكتبي لا يقصر شيئا من الإنشاء اللفظي، بل يتقدم عليها في المسائل و العقود المهمّة.

2- من الواضح أنّ بناء العقلاء هو الأصل في أبواب المعاملات، فكلّما صدق عليه العقد، دخل تحت عموم، أوفوا بالعقود، حتى أنّ العقود المستحدثة، كعقد التأمين (بيمه) و شبهها داخلة فيها ما لم يمنع منه مانع.

فأيّ مانع من قبول صحة جميع العقود إذا انشئت بالكتابة و التوقيع عليها.

3- قد أفتى جماعة من الأصحاب (رضوان اللّه تعالى عليهم)

بجواز الاكتفاء بالكتابة في أبواب الطلاق و الوصيّة و الوكالة. و قد ورد التصريح في بعض روايات الوصيّة، أنّه سئل عن أبي الحسن عليه السّلام أنّ رجلا كتب كتابا بخطّه، و لم يقل لورثته هذه وصيتى، و لم يقل انوار الفقاهة، ج 3، ص: 159

انى أوصيت ... هل يجب على ورثته القيام بما في الكتاب بخطه ... فأمر الإمام عليه السّلام بانفاذ جميع ما في الكتاب. (فراجع الوسائل 13/ 437، الحديث 2، الباب 48، من أبواب أحكام الوصايا).

و استدل بها جماعة لجواز إنشاء الوصية بالكتابة؛ و استدل بها في العروة الوثقى أيضا.

و قد ورد التصريح أيضا في باب طلاق الغائب، أنّه يجوز طلاقه بالكتابة «1» و لا يزال الناس يكتبون وصاياهم و ينشئونها بالكتاب، سواء في ذلك علماء الدين و الرجال السياسيون و غيرهم من آحاد الناس.

و يظهر من كلماتهم، أنّ مخالفة جماعة من الأعاظم لذلك، بسبب توهّم عدم صراحة الكتابة في مفادها، فالمانع عندهم من هذه الناحية، و الحال أنّه يمكن أن تكون الكتابة صريحة في ذلك، بل و اصرح من الالفاظ. و للبحث في جميع ذلك مقام آخر. «2»

4- هذا، و المعروف استثناء النكاح و الطلاق من ذلك، و قد صرح به جماعة من الأصحاب. و لا دليل عليه إلّا الإجماع الذي عرفته بالنسبة إلى النكاح، مضافا إلى أنّ أمر النكاح يختلف مع سائر المعاملات، و قد صرح بعضهم بأن فيه شائبة العبادة. و قد ذكرنا في محله أنّ المراد منه كونه أمرا توقيفيا يحتاج ورود تشريعه من الشارع المقدس، و ذلك بسبب كثرة التقييدات الواردة فيهما من ناحية الشرع المقدس، بحيث صار كالعبادات التوقيفية.

هل الواجب إنشاء العقد بالعربيّة؟

يبقى الكلام في وجوب كون الصيغة اللفظية بالعربية، أو

يكفى بكل لسان، أو فيه تفصيل بين القدرة على العربية (و لو بالتوكيل) و العجز عنها، فيصح في الثاني فقط.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 160

قال الشيخ في المبسوط: فانّ عقدا بالفارسية، فانّ كان مع القدرة على العربية، فلا ينعقد بلا خلاف. و إن كان مع العجز، فعلى وجهين: أحدهما يصح، و هو الأقوى. و الثانى لا يصح. فمن قال لا يصح، قال يوكل من يقبلها أو يتعلمها، و من قال يصح لم يلزمه التعلم «1».

و ادعى المحقق النراقي، (قدس سره) الإجماع في المستند، بل حكاه عن التذكرة أيضا «2».

و لكن شيخنا الأنصاري ادعى الشهرة فيه؛ و أفتى كثير من المتأخرين بجواز غير العربية مطلقا، أو عند عدم التمكن من العربية.

و غاية ما يستدل به على اعتبار العربية، امور:

1- أنّه مقتضى أصالة الفساد في العقود و الايقاعات (بخلاف العبادات). فانّ الأصل، (أي الاستصحاب) يقتضى عدم حصول الزوجية و عدم ترتب آثارها كما يقتضى عدم النقل و الانتقال في المعاملات.

و فيه، أنّه يتم إذا لم يكن هناك عموم أو اطلاق بالنسبة إلى صحة النكاح؛ و هنا موجود.

2- اطلاقات النكاح تنصرف إلى ما كان متعارفا في عصر الشارع المقدس، و لا شك أنّ المتعارف في ذلك الزمان هو إجراء الصيغة باللغة العربية.

و فيه، أنّ هذه الانصراف بدوى، يزول بالتأمل؛ لشمول الاطلاقات لجميع اللغات. فان قوله عليه السّلام في تفسير قوله تعالى: وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً: الميثاق؛ هو الكلمة التي عقد بها عقد النكاح. «3» عام يشمل جميع أصناف اللغات، و كذلك سائر الاطلاقات.

3- غير العربية بحكم الكناية، و لا يجوز العقد بالكنايات.

و فيه، أنّه ممنوع صغرى و كبرى، أمّا أنّه بحكم الكناية، فهو من العجائب، لأنّ عقد النكاح

موجود في جميع الأقوام و الملل، و لهم في السنتهم الفاظ صريحة و غير صريحة،

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 161

و لا معنى لكون الألفاظ الصريحة لعقد النكاح منحصرة في العربية، و كما أن إنشاء العقد بالكتابة جائز إذا كان ظاهرا في أداء المعنى.

4- و اعجب منه، ما حكاه شيخنا الأعظم الأنصاري عن المحقق الثاني، في جامع المقاصد، في باب الرهن، من منع صدق العقد على غير العربي مع القدرة على العربي. «1»

فان العقود بجميع أقسامها موجودة عند جميع الامم، و لها ألفاظ خاصة، وضعت لها بمقتضى حاجتهم إليها، و هذا اوضح من أن يحتاج إلى شاهد.

5- مقتضى الاحتياط في الفروج، و كون عقد النكاح من قبيل الامور التوقيفية، هذا؛ و قد يقال فيها شوب العبادة، و المتيقن منه هو ما يكون بالعربية.

و الظاهر، أنّ هذا أحسن الوجوه؛ و لكن، القدر المتيقن منه ما إذا كان قادرا على العربية. و أمّا إذا عجز عنها، فمقتضى السيرة المستمرة كفاية كل لغة، لأنّ الإسلام نشرت في أقطار الأرض في أعصار الأئمة (عليهم السلام)، و دخل فيه جماعات كثيرة من غير العرب، و كان عندهم نكاح و طلاق، و لم ينقل في ما وصل إلينا من التاريخ و الحديث، ما يدل على أمر المعصومين (عليهم السلام) باستخدام من هو عارف بلغة العرب، ليكون وكيلا لإجراء صيغ العقود و الطلاق.

بقي هنا شي ء:

و هو، أنّه لا بدّ أن يكون صيغة العقد في كل لسان بما يفصح و يعرب و يدل على معنى الزواج بوضوح، كما هو كذلك في العربية. و أمّا ما ذكره قدّس سرّه في العروة، و تبعه في التحرير، من أنّه لا بدّ أن تعدّ ترجمة لما في العربية، فلا يخلو

عن مسامحة، لأنّ المعتبر أداء المقصود بوضوح في أي لسان، سواء عدّ ترجمة لما في العربية أم لا؛ فليس أحد الألسنة- و هو العربية في هذا الباب- أصلا، و الباقي فرعا له، بل جميعها على حد سواء هنا.

[المسألة 1: الأحوط، لو لم يكن الأقوى، أن يكون الإيجاب من طرف الزوجة]

اشارة

المسألة 1: الأحوط، لو لم يكن الأقوى، أن يكون الايجاب من طرف الزوجة، و القبول من طرف الزوج، فلا يجزي أن يقول الزوج: زوجتك نفسى؛ فتقول الزوجة: قبلت؛ على الأحوط. و كذا الأحوط تقديم الأول على الثاني، و إن كان الأظهر جواز العكس إذا لم يكن القبول بلفظ قبلت و أشباهه.

(1) أقول: قد مرّ الكلام في أصل وجوب الصيغة اللفظيّة في النكاح، و من هنا بدء الكلام في خصوصياته و جزئياته.

و قد ذكر هنا فرعان:

أحدهما: وجوب كون الايجاب من الزوجة، و القبول من الزوج. (و جعله احتياطا وجوبيا).

ثانيهما: كون الايجاب مقدما على القبول، و أفتى بعدم وجوبه، و إن كان الأحوط التقديم، إلّا في صورة واحدة.

هل الواجب كون الايجاب من الزوجة و القبول من الزوج؟

و توضيح الحال في الفرع الأول؛ أنّه لم يتعرض له كثير من الأصحاب، و قد وقع الخلط بين الفرعين في كلمات بعضهم، و ممّن صرّح به شيخنا الأعظم الأنصاري (قدّس سره) في كتاب النكاح، و صاحب العروة، و الشارحون لها مثل صاحب المستمسك (قدّس اللّه أسرارهم).

و ظاهر عبارة التحرير، عدم جوازه احتياطا وجوبيا، و يمكن الاستدلال له بأمور:

1- أصالة الفساد الحاكم على هذه الابواب.

2- عدم معهوديته في إجراء الصيغ بين الناس، فيشكل دخوله تحت العمومات.

3- أنّ حقيقة النكاح، هو تسليط المرأة الرجل على بعضها في مقابل المهر، و إنشائه لا يكون إلّا من قبل المرأة. و إن شئت قلت، أمر المرأة يتفاوت مع الرجل في الزوجية، فانّ المرأة تجعل نفسها تحت اختيار الرجل، و لا يجعل الرجل نفسه تحت اختيارها، بل يقبل انوار الفقاهة، ج 3، ص: 163

جعل المرأة نفسها تحت اختياره، و من جهة هذا التفاوت، يكون الإنشاء دائما من قبل الزوجة، و القبول من الزوج.

و لكن الجميع مردودة؛

أمّا الأخير، و هو العمدة ففى الواقع نشأ من عدم درك حقيقة الزوجية فان حقيقتها كون كل من الرجل و المرأة منضما إلى الآخر. و لذا يعبّر عنهما بالزوجين، و ليس المهر عوضا في مقابل المرأة، بل من قبيل الشرط. فلذا يقال زوجتك نفسى على المهر المعلوم، (لا بالمهر المعلوم) بل و عدم ذكر المهر لا يبطل النكاح؛ فالركنان هما الزوج و الزوجة لا غير.

و حينئذ، كما يجوز الإنشاء من قبل الزوجة، يجوز إنشائه من قبل الزوج، فيقول الزوج: تزوجتك على المهر المعلوم؛ فتقول الزوجة: قبلت؛ و لا مانع فيه. أو يقول: جعلتك زوجتى (و في الفارسية، تو را به همسرى خود درآوردم،).

*** و الحاصل، أنّ العمدة في المسألة هي تحليل معنى النكاح؛ أ كان حقيقتها هي تسليط المرأة الرجل على نفسها في مقابل المهر؛ أو أنّها هي ضمّ إنسان إلى إنسان، و المهر من قبيل الشرط، لا أنّه ركن في العقد. ففي الثاني، لا ينبغي الشك في جواز الإنشاء من ناحية الزوج، بانّ يقول: أتزوجك على المهر المعلوم؛ فتقول المرأة: قبلت. أو يقول: نكحتك على المهر المعلوم؛ فتقول: قبلت. و يؤيده اطلاق عنوان الزوج، على الرجل و المرأة كليهما في كتاب اللّه. قال اللّه تعالى: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ...، «1» (هذا في الرجل). و قوله تعالى: وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ ...، «2» (هذا في المرأة).

و كذلك في اطلاق عنوان النكاح على الطرفين. قال اللّه تعالى: ... حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ...، (هذا في المرأة). و قال تعالى أيضا: وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ ...، «3» (اطلاق انوار الفقاهة، ج 3، ص: 164

على فعل الرجل مرتين).

فعلى هذا لا مانع من إنشاء

الزوجية بألفاظ النكاح أو غيرها من كل منها و قبول الآخر بلفظ قبلت.

إن قلت: فلم لا يجوز أن يقول الرجل للمرأة: زوجتك نفسي على المهر. بل يقول:

أزوجك على المهر. و الحال أنّ المرأة تقول: زوجتك نفسي ....

قلت: لعل الوجه فيه، أنّ المرأة في نظام الاسرة الإسلاميّة، بل و غيرها غالبا، تابعة، و الرجل متبوع، فلذا يتفاوت التعبير عنهما بما عرفت. و كذلك في الفارسية، مثلا تقول المرأة: من خود را به همسرى تو درآوردم ...؛ و لكن لا يقول الرجل هكذا، بل يقول: من تو را به همسرى خويش درآوردم ... لكن هذا المقدار من التفاوت، لا يوجب تغييرا في ما هو المراد.

و يؤيد ما ذكرنا من جواز الإنشاء من ناحية الرجل، بل تدل عليه، الروايات الكثيرة الواردة في الباب 18 من أبواب المتعة.

فقد ورد فيه روايات تدل جميعها على المقصود، ما عدا الرواية الخامسة. منها:

ما عن أبان بن تغلب، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: كيف أقول لها إذا خلوت بها؟ قال:

تقول أتزوجك متعة على كتاب اللّه و سنة نبيّه ... فاذا قالت: نعم، فقد رضيت؛ فهي امرأتك، و أنت اولى الناس بها «1».

و مثلها، الرواية الثانية و الثالثة و الرابعة و السادسة منه، و لا ينافي الاستدلال بها ضعف أسناد بعضها، بعد تضافرها و صحّة أسناد بعضها الأخر، كالرواية الثانية. و اشتراك ثعلبة بين جماعة كثيرة لا يوجب إشكالا فيها بعد كون المراد منه ثعلبة بن ميمون، الثقة الجليل، لرواية أحمد بن محمد بن أبي نصر، عنه. كما أن كون الحديث مقطوعا لا ينافي الاعتماد عليه لمكان ثعلبة.

و عدم دلالة الرواية الخامسة، فلأنّ قوله: زوجينى نفسك ... الخ. في الواقع استدعاء، لا

انوار

الفقاهة، ج 3، ص: 165

إنشاء، و لذا لم يتعقبه القبول. فتدبر.

و من هنا يعلم الجواب، عن الدليل الأول و الثاني، فان الأصل، لا مجال له بعد ورود الدليل، كما ان توقيفية النكاح أيضا كذلك.

جواز تقدّم القبول على الايجاب

هذا كلّه بالنسبة إلى الفرع الأول.

و أمّا الفرع الثاني، أعني جواز تقدم القبول على الايجاب؛ فالمشهور جوازه. قال في الرياض: و لا يشترط تقديم الايجاب على القبول في المشهور، بل عليه الإجماع عن المبسوط و السرائر، و هو الحجّة في تخصيص الأصل. و قال في آخر كلامه: ثم أنّه يعتبر، حيثما قدم القبول كونه بغير قبلت و رضيت؛ كنكحت و تزوجت، و هو بمعنى الايجاب «1».

و قال في المسالك: أكثر الأصحاب على جواز تقديم القبول على الايجاب في النكاح، بل ادعى عليه الشيخ، الإجماع، لحصول المقتضى و هو العقد الجامع للإيجاب و القبول، و لم يثبت اعتبار الترتيب بينهما؛ و لأنّ كلّا منهما في قوة الموجب و القابل. و ينبه عليه ما تقدم في خبر سهل الساعدي. «2» و حاصلها، أنّ امرأة جاءت إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقالت:

يا رسول اللّه إني قد وهبت نفسي لك. فقامت قياما طويلا. فقام رجل، فقال: يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: هل عندك من شي ء تصدقها إيّاه؟- إلى أن قال:- قد زوجتكها بما معك من القرآن. «3» (رواه البخاري، في الصحيح، عن مالك. و أخرجه من وجه آخر، مسلم، عن أبي حازم).

و في الكافي، بسند معتبر، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: جاءت امرأة إلى النبي، فقالت: زوجني. ثم نقل ما يقرب

من حديث سهل الساعدي (الكافي، ج 5/ 380) و 3/ 1 من أبواب عقد النكاح من الوسائل.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 166

و ذكر في ذيل كلامه أنّه: ربّما قيل بعدم صحته متقدما، لأنّ حقيقة القبول، الرضا بالايجاب، فمتى وجد قبله لم يكن قبولا، لعدم معناه. ثم صرّح بأنّ المراد، قبول النكاح لا قبول الايجاب؛ ثم ذكر أنّ القبول حقيقة هو ما وقع بلفظ قبلت؛ و لا إشكال في عدم جواز تقدمه بهذا اللفظ. انما الكلام في ما وقع بلفظ تزوجت أو نكحت، فهو في معنى الايجاب و تسميته قبولا مجرد اصطلاح. «1»

و قد صرّح بجواز التقديم، ابن حمزة في الوسيلة، و الصهر شتى في إصباح الشيعة، و ابن ادريس في السرائر، و المحقق في الشرائع و مختصر النافع، و العلّامة في القواعد، و الشهيد في اللمعة. «2»

إذا عرفت ذلك فاعلم، أنّه تارة يتكلم في مقتضى القاعدة، و اخرى في الادلة الخاصة؛ أمّا الأول، فلا ينبغى الإشكال في أنّ القبول، بلفظ قبلت و رضيت، لا يتقدم على الايجاب، لعدم معنى معقول له، حتى إذا قال قبلت ما تنشئه بعد ذلك؛ كما أنّه لا ينبغي الشك في أنّ القبول بلفظ تزوجتك أو نكحتك، ليس قبولا، بل إنشاء من قبل الزوج، و تسميته قبولا، مجاز. فكان النزاع هنا لفظى. فمن يقول بجواز تقدمه، يسمى ما ذكر قبولا؛ و من يمنعه، يسمّيه إنشاء من قبل الزوج؛ فالنزاع إنّما هو في اللفظ فقط.

فقد وقع الخلط بين هذا الفرع و الفرع السابق. و لعل عدم ذكر الفرع السابق في كلماتهم بسبب الاكتفاء بما ذكر في الفرع الثاني. (فتدبّر جيّدا).

هذا مقتضى القاعدة؛ و أمّا مقتضى العمومات و الروايات الخاصة الواردة في المتعة أيضا

ذلك، و قد مرّ تفصيلها. و قد يقال إن استحياء المرأة من الابتداء بالكلام هنا، كان هو السبب في جواز تقديم القبول هنا بالإجماع، بخلاف سائر العقود، فقد اشكلوا عليه. و لكن الانصاف أنّ مجرّد ذلك غير كاف في اثبات المقصود، لأنّه مجرّد استحسان، لا انّه ضرورة واقعا. مضافا إلى عدم جريانه في ما إذا كان الرجل وكيل المرأة كما هو واضح.

***

[المسألة 2: الأحوط، أن يكون الإيجاب في النكاح الدائم بلفظي أنكحت أو زوجت

اشارة

المسألة 2: الأحوط، أن يكون الايجاب في النكاح الدائم بلفظى انكحت أو زوجت.

فلا يوقع بلفظ متعت، على الأحوط. و إن كان الاقوى، وقوعه به مع الإتيان بما يجعله ظاهرا في الدوام. و لا يوقع بمثل بعت؛ أو وهبت؛ أو ملكت؛ أو آجرت؛ و أن يكون القبول بلفظ قبلت؛ أو رضيت. و يجوز الاختصار في القبول بلفظ قبلت؛ فقط بعد الايجاب، من دون ذكر المتعلقات التي ذكرت فيه. فلو قال الموجب الوكيل عن الزوجة للزوج: انكحتك موكلتي فلانة على المهر الفلاني. فقال الزوج: قبلت؛ من دون ان يقول قبلت النكاح لنفسى على المهر الفلاني، صحّ.

(1) أقول: في المسألة فروع:

ينعقد النكاح بلفظى التزويج و النكاح

الأول: ينعقد النكاح بلفظ التزويج، و النكاح؛ يقول الموجب: زوجتك و أنكحتك. و قد صرح في الرياض، بأنّ انعقاد النكاح بهما مجمع عليه و حكى الإجماع عن الروضة و التذكرة و غيرهما. «1» و كذلك في كشف اللثام، قال: بلا خلاف بين علماء الإسلام، كما في التذكرة. «2» و لكنهما (قدس سرهما) ذكرا الخلاف في الايجاب بلفظ متعت؛ فقد صرّح في الرياض بأنّ: الأكثر، و منهم الإسكافي و المرتضى و أبو الصلاح و ابن حمزة و الحلّي، كما حكي، و عن ظاهر السيد في الطبريات، الإجماع على المنع، خلافا للمتن و الشرائع و الإرشاد و النهاية.

و قال ابن رشد في بداية المجتهد: اتفقوا على انعقاد النكاح بلفظ النكاح ... و كذلك بلفظ التزويج، و اختلفوا في انعقاده بلفظ الهبة، أو بلفظ البيع، أو بلفظ الصدقة فاجازه قوم؛ و به قال مالك و أبو حنيفة؛ و قال الشافعي: لا ينعقد إلّا بلفظ النكاح أو التزويج «3».

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 168

هذا، و مقتضى القاعدة هو جواز إنشاء عقد النكاح

بكلّ لفظ يكون صريحا أو ظاهرا فيه؛ كما في سائر العقود، فإنّ العقد و هو العهد و التعاهد بين الاثنين صادق على كل ما كان بعبارة واضحة دالّة عليه، و لا فرق في ذلك بين أن يكون دلالته حقيقيا أو مجازيا، مع القرينة الواضحة، أو كنائيا كذلك؛ فلو قال: متعتك على المهر المعلوم متعة دائمة، لا يبعد وقوع العقد الدائم به، و كذا غيره من أشباهه، و حتى المجازات و الكنايات مع الشرط المذكور.

إن قلت: كيف يجوز ذلك، و قد ذكرتم غير مرّة أنّ النكاح كالعبادات من الامور التوقيفية لا يصار إليه حتى يصل من الشارع، فهل وصل ما ذكرت، من الشارع المقدس؟

قلت: كان إجراء صيغ النكاح دائما بمرأى و منظر من الشارع المقدس، و لم يرد في شي ء من النصوص، لزوم الاقتصار على لفظ معين، و الحصر في مادة مخصوصة؛ فهذا دليل على أنّ الشّارع المقدّس خلّى بين المسلمين و بين ما يؤدي معنى النكاح بأيّ لفظ كان؛ إذا كان صريحا أو ظاهرا فيه. و لكن في الألفاظ غير متعارفة كالبيع و الهبة و غيرهما اشكال.

و أما النصوص القرآنية و الروائية، فهي تدل على جواز الإنشاء بلفظ التزويج. فقوله تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها .... «1»- كان في مقام الإنشاء ظاهرا أو لم يكن- دليل على جواز الإنشاء بهذا اللّفظ.

و كذلك قوله تعالى: وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ .... «2»

أيضا دليل على جواز الإنشاء به، و إن لم يكن في مقام الإنشاء.

كما أنّ روايات المتعة، (الروايات الخمسة السابقة، الواردة في الباب 18)، دليل على جواز الإنشاء بلفظ التزويج، و كذلك حديث الساعدي، و ما شابهه من روايات

أهل البيت عليهم السّلام التي مرّت الإشارة إليه آنفا كذلك، كان في مقام الإنشاء أو لم يكن.

مضافا إلى أنّه قد ورد التصريح بانشاء العقد الدائم بلفظ التزويج، في الباب الأول من انوار الفقاهة، ج 3، ص: 169

أبواب عقد النكاح في مقام إنشاء العقد. ففيه عشر روايات، أكثرها تدل على المطلوب، أي جواز إنشاء النكاح بلفظ التزويج.

منها: ما رواه زرارة بن أعين، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، في حديث خلق حوا و تزويج آدم بها- و في آخرها- فقال اللّه عزّ و جلّ: قد شئت ذلك و قد زوجتكها، فضمّها إليك «1».

و منها: ما ورد في باب تزويج الإمام الجواد عليه السّلام ابنة مأمون، قال: زوجتنى ...؟ قال:

بلى، قال: قبلت و رضيت. «2»

منها: ما رواه هارون بن مسلم، عن عبيد بن زرارة، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن التزويج بغير خطبة. فقال: أو ليس عامة ما نتزوج فتياننا فتياتنا، و نحن نتعرق الطعام على الخوان، نقول: يا فلان زوج فلانا فلانة. فيقول: نعم، قد فعلت «3».

إلى غير ذلك ممّا في هذا المعنى. هذا، و لكن لم نجد رواية تدل على إجراء العقد صريحا بلفظ النكاح، مثل ما ورد في التزويج، و إن كان يستفاد من فحوى الآيات و الروايات الواردة في النكاح، ذلك.

و أمّا جوازه بلفظ المتعة، مع القرينة الدالة على أنّ المراد منه هو النكاح الدائم؛ فلأنّ المتعة من الفاظ النكاح، و ليس صريحا في المنقطع أو ظاهرا فيه، إلّا إذا كان مع ذكر الأجل فلذا ورد في بعض الأحاديث- و أفتى به جماعة كثيرة من الأصحاب- أنّه لو تزوج متعة و ترك ذكر الاجل، انقلب دائما. و هذا دليل على صلاحية الصيغة

لهما. مثل ما رواه عبد اللّه بن بكير، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام في حديث: أنّ سمى الأجل، فهو متعة و إن لم يسم الأجل، فهو نكاح بات. «4»

و هذا الحكم على إجماله مشهور أو مجمع عليه، و إن كان في بعض شقوقه نظر. مثل ما لو اراد المنقطع، و لكن ترك ذكر الأجل سهوا لا عمدا. و لكن قبوله في فرض من الفروض- كالمتعمد في ترك ذكر الأجل- كاف فيما نحن بصدده.

الكلام في وقوعه بغير اللفظين

بقى الكلام في وقوعه بلفظ بعت؛ و ملكت؛ و آجرت؛ و نحو ذلك.

صرّح غير واحد من أعاظم الأصحاب بأنّه لا ينعقد به. و لكن حكي السيد المرتضى في الناصريات عن أبي حنيفة، انه قال ينعقد النكاح بكل لفظ يقتضى التمليك كالبيع و الهبة و التمليك، فأمّا ما لا يقتضى التمليك كالرهن و الاباحة، فلا ينعقد به. و في الإجارة عنده روايتان، أصحهما أنّه لا ينعقد بها «1».

و لكن الانصاف عدم انعقاده بهذه الألفاظ، لا أنّه لا يمكن انه تكون ظاهرة في معنى النكاح و لو بمعونة القرائن الواضحة؛ بل لعدم تعارف إنشاء النكاح بها، مع أنّك قد عرفت أنّ أحكام النكاح توقيفية، فلا يمكن إنشائه بغير ما هو المتعارف بين المسلمين من عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله و أعصار الأئمّة عليهم السلام.

و قد يستدل لجواز إنشائه بلفظ الهبة بقوله تعالى: ... وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ .... «2»

و لكن الانصاف أن الاستدلال بها لا يخلو عن إشكال، لأنّ المراد بالهبة هنا، هو النكاح بلا مهر؛ كما ذكره المفسرون، فليس المراد من الآية إجراء الصيغة بهذا اللفظ،

و الشاهد عليه قوله تعالى: «أَنْ يَسْتَنْكِحَها»، فان التعبير بالنكاح ذيل الآية، ينافي كون الإنشاء بلفظ الهبة. و أمّا قوله تعالى: «خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ»، إشارة إلى أنّ النكاح بدون المهر مختص بالنبي صلّى اللّه عليه و آله.

و يؤيده بل يدل عليه، روايات كثيرة، واردة في الباب 2 من أبواب عقد النكاح. منها:

1- ما رواه الحلبي، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المرأة، تهب نفسها للرجل، ينكحها بغير مهر. فقال: إنّما كان هذا للنّبي صلّى اللّه عليه و آله فأمّا لغيره، فلا يصلح هذا، حتى يعوضها شيئا.

الحديث «3».

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 171

2- ما رواه أبو الصباح الكناني، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: لا تحل الهبة إلّا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أمّا غيره، فلا يصلح نكاح إلّا بمهر «1».

3- و في حديث زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: لا يحل الهبة إلّا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؛ و أمّا غيره، فلا يصلح نكاح إلّا بمهر. «2» إلى غير ذلك ممّا في معناه.

و من الظاهر، أنّه ليس شي ء منها بصدد بيان الفاظ الإنشاء، و إنّما هي بصدد بيان عدم جواز النكاح بغير مهر.

نعم، في مرسلة ابن المغيرة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في امرأة وهبت نفسها لرجل من المسلمين؛ قال: أنّ عوضها كان ذلك مستقيما. «3» و هي أيضا راجعة إلى لزوم المهر.

هذا كله في إنشاء الايجاب؛ و أمّا القبول، فقد صرّح الماتن (قدس سره) أنّه يجوز بلفظ قبلت؛ و رضيت؛ حتى بدون ذكر المتعلقات. و يدل عليه مضافا إلى أنّهما صريحان في قبول الايجاب، ورودهما في روايات عديدة. منها الحديث 2/ 1 من

أبواب عقد النكاح، و ما ورد في روايات المتعة في الباب 18 منها. و في المستدرك أيضا ما يدل عليه؛ و لا نطيل بذكرها لوضوح المسألة.

و أمّا جواز ترك ذكر المتعلقات، فلان عطف القبول على الايجاب، دليل على قبول جميع القيود و الشروط؛ و في الواقع يكون من قبيل؛ المقدر كالمذكور؛.

***

[المسألة 3: يتعدى كل من الإنكاح و التزويج، إلى مفعولين

اشارة

المسألة 3: يتعدى كل من الانكاح و التزويج، إلى مفعولين. و الاولى أن يجعل الزوج، مفعولا أوّلا، و الزوجة ثانيا. و يجوز العكس. و يشتركان في أنّ كلا منهما يتعديان إلى المفعول الثاني، بنفسه تارة، و بواسطة من؛ اخرى. فيقال: انكحت أو زوجت زيدا هندا. أو أنكحت هندا من زيد. و باللام أيضا؛ هذا بحسب المشهور و المأنوس، و ربّما يستعملان على غير ذلك و هو ليس بمشهور و مأنوس.

تعدّى النكاح و التزويج الى المفعولين

(1) أقول: قلّما تعرضوا لهذه الصيغ؛

أمّا تعدي زوّجته إلى مفعولين، فهو وارد في كتاب اللّه تعالى في قصة زينب: ... زَوَّجْناكَها ... «1». و أمّا قوله تعالى: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَ إِناثاً ... «2» بعد قوله تعالى: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ ... «3» فهو ناظر إلى الأولاد الذكور و الاناث. يعني يهب كليهما لمن اراد.

و أمّا تعدي الانكاح إلى المفعولين، فقد ورد في كتاب اللّه في قوله تعالى: في قضيّة شعيب: قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ .... «4»

أمّا التعدي بالباء، فهو قوله تعالى: كَذلِكَ وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ. «5» و تفسيرها بقرنّاهم، لا دليل عليه.

هذا، و قد ورد في الروايات المنقولة عن المعصومين عليهم السّلام، ما يدل على تعدى ب «ل»؛ و «من»؛ و «إلى»؛.

1- أمّا التعدي ب «ل»؛ ففى تفسير العياشي، عن أبي بصير، في الرجل ينكح أمته لرجل،

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 173

أله أن يفرق بينهما إذا شاء؟ ... «1»

2- و التعدي بحرف إلى؛ مثل ما ورد في أبواب النكاح المحرم، عن درست بن عبد الحميد، عن أبي ابراهيم عليه السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: تزوجوا إلى آل فلان، فإنّهم عفّوا

فعفّت نسائهم، و لا تزوجوا إلى آل فلان، فانّهم بغوا فبغت نسائهم «2».

و ما عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث، قال: لا تجالسوا شارب الخمر و لا تزوجوه، و لا تتزوجوا إليه، و إن مرض فلا تعودوه، و إن مات فلا تشيّعوا جنازته. «3»

3- و التعدى بحرف من؛ فقد ورد في أحاديث:

منها، ما عن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل ينكح أمته من رجل قال: إن كان مملوكا، فليفرق بينهما إذا شاء ... «4»

و منها، ما رواه في دعائم الإسلام، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أنّه نهى عن نكاح الشغار، و هو أن ينكح الرجل ابنته من رجل على أن ينكحه الآخر من ابنته، و ليس بينهما صداق .... «5»

و منها، ما ورد في قضايا أمير المؤمنين عليه السّلام، و قضائه في غلام ادعى أنّ تلك المرأة امّه، فأنكرت و إقامت أربعين قسامة إلى أن قال: أني قد زوجت هذه الجارية من هذا الغلام ... و في آخرها، فقالت المرأة: تريد ان تزوجني من ولدي. و الحديث طويل عجيب. «6»

و ما في الدعاء؛ و من الحور العين برحمتك فزوجنا؛ «7» فمن، فيه للتبعيض لا للتعدي.

و هناك روايات كثيرة اخرى تدل على تعديه بحرف من؛ و الباء؛ نشير إليها ذيلا «8».

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 174

و إنّما ورد في منابع اللغة (المنجد) قال بعضهم: زوجه امرأة أو بامرأة أو لامرأة، عقد له عليها.

و أنكر بعضهم تعديه بالباء؛ قال في مختصر الصحاح: قال يونس: ليس من كلام العرب زوّجه بامرأة و لا تزوج بامرأة ... و قال الفراء: تزوج بامرأة لغة، و لم

يذكر في القاموس إلّا التعدى بالباء.

و من العجب ان الوارد في روايات الباب، هو التعدى بأربعة أحرف من حروف الجر كثيرا، (من- إلى- ل- ب)؛ مع عدم ذكرها في منابع اللغة بل التصريح بعدم استعمال بعضها، و هذا دليل على قصور كثير من كتب اللغة عن أداء ما عليهم من استعمالات الألفاظ.

و من الواضح، أنّ هذه الروايات الكثيرة، حجّة في ما نحن فيه، حتى مع فرض عدم صدورها عن المعصومين (عليهم السلام)، لأنها صادرة على كل تقدير ممن يتكلم بلسان العرب.

فقد تلخص من جميع ما ذكرنا، أنّ الذي لا شك و لا ريب فيه من ألفاظ الإنشاء، إنشاء التزويج بلفظ زوّجت؛ مع تعديه بنفسه، و تقديم الزوج على الزوجة، ثم بلفظ النكاح؛ بدون حرف الجر؛ و بعد ذلك تعديه بحرف من؛ الذي ورد في روايات كثيرة، و بحرف الباء؛ الذي لم يذكره في المتن. ثم بحرف إلى؛ و اللام؛.

و لو أراد الاحتياط، يذكر، من و الباء و اللام و إلى، جميعا. و اللّه العالم.

***

[المسألة 4: عقد النكاح قد يقع بين الزوج و الزوجة و بمباشرتهما]

اشارة

المسألة 4: عقد النكاح قد يقع بين الزوج و الزوجة و بمباشرتهما، فبعد التقاول و التواطى و تعيين المهر، تقول الزوجة مخاطبة للزوج: أنكحتك نفسي، أو انكحت نفسي منك، أو لك، على المهر المعلوم. فيقول الزوج بغير فصل معتدّ به: قبلت النكاح لنفسي على المهر المعلوم، أو هكذا.

أو تقول: زوجتك نفسي، أو زوجت نفسي منك، أو لك، على المهر المعلوم. فيقول:

قبلت التزويج لنفسي على المهر المعلوم، أو هكذا.

و قد يقع بين وكيليهما؛ فبعد التقاول و تعيين الموكلين و المهر، يقول وكيل الزوجة مخاطبا لوكيل الزوج: أنكحت موكلك فلانا لموكلتي فلانة؛ أو من موكلك، أو لموكلك فلان، على المهر المعلوم. فيقول وكيل

الزوج: قبلت النكاح لموكلى على المهر المعلوم، أو هكذا.

أو يقول وكيلها: زوجت موكلتي موكلك؛ أو من موكلك، أو لموكلك فلان؛ على المهر المعلوم. فيقول وكيله: قبلت التزويج لموكلى على المهر المعلوم، أو هكذا.

و قد يقع بين ولييهما كالأب و الجد، فبعد التقاول و تعيين المولّى عليهما و المهر، يقول ولي الزوجة: أنكحت ابنتي، أو ابنة ابني فلانة ابنك أو ابن ابنك فلانا؛ أو من ابنك، أو ابن ابنك؛ أو لابنك، أو لابن ابنك؛ على المهر المعلوم.

أو يقول: زوجت بنتي ابنك مثلا، أو من ابنك، أو لابنك. فيقول ولي الزوج: قبلت النكاح أو التزويج لابني، أو لابن ابني، على المهر المعلوم. و قد يكون بالاختلاف بأن يقع بين الزوجة و وكيل الزوج، و بالعكس، أو بينها و بين ولى الزوج، و بالعكس، أو بين وكيل الزوجة و ولي الزوج و بالعكس. و يعرف كيفية ايقاع العقد في هذه الصور ممّا فصلناه في الصور المتقدمة. و الاولى تقديم الزوج على الزوجة، في جميع الموارد، كما مرّ.

المباشرة و الوكالة و الولاية في إنشاء العقد

(1) أقول: و حاصل كلامه (قدس سره) في هذه المسألة، أنّ لإنشاء العقد صورا مختلفة.

1- قد يكون بين الزوجين بالمباشرة، قد يتقدم إنشاء الزوج و قد يتقدم إنشاء الزوجة بدون حروف الجر، و بحروف الجر.

2- قد يكون بين الوكيلين، و ينقسم بالانقسامات السابقة.

3- قد يكون بين الوليين مع تقسيمه بالأقسام السابقة.

4- قد يكون بين الزوج أو الزوجة مباشرة مع وكيل الآخر.

5- قد يكون بين الزوج أو الزوجة مع ولي الآخر.

6- قد يكون بين ولي أحدهما و وكيل الآخر- كل ذلك بدون حرف الجرّ أو معه (من- إلى- ل- الباء).

و ممّا هو جدير بالذكر، أنّه لا يجب على الوكيل و لا على

الوليّ، التصريح بكونه وكيلا أو وليّا، بل يكفى لكل منهما أن يقول زوجت فلانا فلانة. لأنّ المهم كونه مصداقا للوكيل، و الولي، خارجا؛ لا التصريح بعنوانه. فلا فرق بين إنشاء الفضولى و الوكيل أو الولي في اللفظ؛ إنّما الفرق في واقع الأمر، و هو إن هذا الإنشاء يصدر من الولي و الوكيل أو الفضولي. و يشهد له ما عرفت من قول النبي صلّى اللّه عليه و آله: زوجتكها بما معك من القرآن. و قول الوصي عليه السّلام: أني قد زوجت هذه الجارية من هذه الغلام. و ما مر من قوله تعالى في قصة آدم: قد زوجتكها، فضمها إليك. إلى غير ذلك مما في هذا المعنى.

و على كل حال يدل على الأحكام المذكورة، عموم أدلة الوكالة و الولاية. فيجوز للولي أو الوكيل إنشاء العقد مع المباشر، أو مع وكيل مثله، أو مع ولي؛ مضافا إلى ما مرّ في الروايات السابقة من إجراء الصيغة بين المباشرين، (راجع روايات المتعة)، بين الوكيل و المباشر، (راجع رواية سهل الساعدي، و رواية تزويج أمير المؤمنين عليه السّلام الجارية للغلام)، أو بين الولي و المباشر، (راجع رواية تزويج آدم)، إلى غير ذلك.

هذا مضافا إلى جريان السيرة على كثير مما ذكرنا، فالأدلة هنا ثلاثة.

***

[المسألة 5: لا يشترط ما في لفظ القبول، مطابقة لعبارة الإيجاب

اشارة

المسألة 5: لا يشترط ما في لفظ القبول، مطابقة لعبارة الايجاب، بل يصح الايجاب بلفظ و القبول بلفظ آخر. فلو قال: زوجتك؛ فقال: قبلت النكاح. أو قال: أنكحتك؛ فقال:

قبلت التزويج. صحّ. و إن كان الأحوط المطابقة.

لا يجب تطابق القبول و الايجاب في العبارة

(1) أقول: قد يكون القبول بلفظ قبلت؛ و رضيت؛ و نعم؛ و غير ذلك ممّا يدلّ على قبول الايجاب، و لا كلام فيه؛ لأنّ المقدر فيه هو قبول الايجاب بعينه؛ و ليس المقصود في المسألة هذا، بل المقصود أنّه إذا لم يكتف بلفظ القبول، بل أراد ذكر العقد و متعلقاته، فهل يجوز بلفظ آخر غير لفظ الايجاب، بان يجعل القبول بلفظ النكاح، و الحال أنّ الايجاب بلفظ التزويج، أو بالعكس. فهل يصح هذا أو لا يصح؟

قال في الجواهر، بعد ذكر عبارة الشرائع في هذه المسألة الدالة على الجواز: بلا خلاف و لا إشكال لإطلاق الادلة. «1» و كذا غيره ممن تبعه على ذلك.

و ما ذكره، حق لا ريب فيه؛ فانّ ادلة أحكام النكاح، و كذا أدلة أحكام العقد، مطلقة تشمل الجميع. و قد عرفت أنّ التّمسّك بهذه المطلقات لا ينافي كون النكاح توقيفيّا بعد ما كانت العقود بمرأى و مسمع من الشارع، و لم يعين لها صيغة خاصّة؛ بل يكفي كل عبارة صريحة أو ظاهرة في أداء هذا المعنى ممّا هو معمول.

هذا مضافا إلى ما ورد في بعض النصوص، مثل ما روى في قضية المرأة التي جاءت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقالت: زوجني؛ فقال: من لهذه؟ فقام رجل، فقال: أنا يا رسول اللّه.- إلى أن قال:- قد زوجتكها على ما تحسن من القرآن. «2» بناء على كون قوله: أنا يا رسول انوار الفقاهة، ج 3، ص:

178

اللّه؛ بمنزلة الايجاب أو القبول المقدم. و لكن يبعده عدم تعيين المهر إلّا بعده، مضافا إلى أنّ صاحب الوسائل، رواه بعينه في أبواب المهور هكذا: أنا يا رسول اللّه زوجنيها. «1»

***

[المسألة 6: إذا لحن في الصيغة،]

اشارة

المسألة 6: إذا لحن في الصيغة، فإنّ كان مغيّرا للمعنى بحيث يعد اللفظ عبارة لمعنى آخر غير ما هو المقصود، لم يكف؛ و إن لم يكن مغيّرا بل كان بحيث يفهم منه المعنى المقصود، و يعد لفظا لهذا المعنى، إلّا أنّه يقال له لفظ ملحون و عبارة ملحونة من حيث المادة أو من جهة الأعراب و الحركات، فالاكتفاء به لا يخلو من قوة، و إن كان الأحوط خلافه؛ و أولى بالاكتفاء اللغات المحرفة عن اللغة العربية الأصلية. كلغة سواد العراق في هذا الزمان، إذا كان المباشر للعقد من أهالي تلك اللّغة؛ لكن بشرط إن لا يكون مغيرا للمعنى، مثل جوزت؛ بدل زوجت؛ إلّا إذا فرض صيرورته في لغتهم كالمنقول.

اختلاف الألحان لأداء الصيغة

(1) أقول: هذه المسألة من المسائل المبتلى بها في كل عصر، لا سيما اللحن في عدم أداء الحروف عن مخارجها المعتبرة أو الاعراب. و حاصل الكلام فيها أنّ اللحن على أقسام:

1- اللحن المغيّر للمعنى، (كما إذا قال زوّجت بدل زوّجت) فهذا موجب لفساد العقد، كما هو ظاهر.

2- اللحن غير المغيّر، كما إذا لم يؤد الحروف عن مخارجها، لا سيما إذا كان العاقد من العجم غير العارف باللغة. فهذا كاف، لأنّ المدار على صدق العقد و أداء المقصود بالعبارة، و هذا أمر حاصل. بل هو أمر متداول بين غير العرب بل بين العرب الامّي أحيانا.

3- ما إذا كان من اللغات المحرفة، (و ما يسمى عاميانه) بالفاظ مكسّرة، و هذا أيضا على قسمين، إن لم يغير المعنى كان صحيحا لما ذكر، و إن كان مغيّرا للمعنى لم يجز على فتوى الماتن. كما إذا قال جوزت عوض زوجت؛ (و الظاهر أنّ هذه العبارة معمولة بين عوامهم). و لكن الاستاذ

السيد الحكيم، صرّح بصحّته و شمول أدلة العقود، له؛ و هو كذلك، لأداء المقصود به في إنشاء العقد. و من هنا يسهل الأمر في لحن الاعراب و السواد إذا كان متعارفا بين أهل العرف.

***

[المسألة 7: يعتبر في العقد القصد إلى مضمونه

المسألة 7: يعتبر في العقد القصد إلى مضمونه، و هو متوقف على فهم معنى لفظى أنكحت؛ و زوجت؛ و لو بنحو الإجمال حتى لا يكون مجرد لقلقة اللسان؛ نعم، لا يعتبر العلم بالقواعد العربية و لا العلم و الاحاطة بخصوصيات معنى اللفظين على التفصيل، بل يكفي علمه إجمالا. فاذا كان الموجب بقوله أنكحت؛ أو زوجت؛ قاصدا لايقاع العلقة الخاصة المعروفة المرتكزة في الاذهان التي يطلق عليها النكاح و الزواج في لغة العرب، و يعبر عنها في لغات آخر بعبارات آخر، و كان القابل قابلا لهذا المعنى، كفى. إلا إذا كان جاهلا باللغات بحيث لا يفهم أنّ العلقة، واقعة بلفظ زوجت؛ أو بلفظ موكلي؛ فحينئذ صحته مشكلة، و إن علم أنّ هذه الجملة لهذا المعنى.

[المسألة 8: يعتبر في العقد قصد الإنشاء]

اشارة

المسألة 8: يعتبر في العقد قصد الإنشاء، بأن يكون الموجب في قوله أنكحت؛ أو زوجت؛ قاصدا ايقاع النكاح و الزواج و إيجاد ما لم يكن؛ لا الأخبار و الحكاية عن وقوع شي ء في الخارج؛ و القابل بقوله قبلت؛ منشأ لقبول ما أوقعه الموجب.

اعتبار القصد في اجراء الصيغة

(1) أقول: الاولى تقديم الكلام في المسألة الثامنة قبل السابعة، كما ذكره في العروة، فانّ الثاني فرع الأول، بل يمكن أن يقال كلاهما مسألة واحدة يتكلم فيها أولا في وجوب قصد الإنشاء إجمالا، ثمّ قصده تفصيلا.

في تفسير الإنشاء

و على كل حال، فلنتكلم في وجوب قصد الانشاء أولا؛ فنقول: (و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية)، الكلام أمّا أخبار أو إنشاء، و الأخبار هو الحكاية عن أمر خارجي كما إذا تحقق مجي ء زيد في الخارج، و يتحقق فيما بعد، فنقول جاء زيد؛ أو يحيى زيد؛ فان طابقت النسبة الكلامية للواقع، كان صدقا؛ و إلّا كان كذبا.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 181

و لكن الإنشاء، هو إيجاد شي ء في عالم الاعتبار بنفس الكلام مع قصده، مثلا، النداء أو الاستفهام، ليس شيئا خارجيا يحكي عنه القائل باللفظ، بل شي ء يوجده. و كذا الأمر و النهي، و كذا البيع و النكاح، (و إن كان بين أقسام الإنشاء فرق) فالعلقة الاعتبارية بين الزوج و الزوجة ليست أمرا موجودا خارجيا، بل أمر اعتباري ذهني فرضى، يوجده المنشئ فيجعل هذا زوجا لهذه في عالم الاعتبار و منظما إليها؛ و العقلاء يفرضون لهذا الاعتبار أحكاما كثيرة قد تكون أكثر من الأحكام المترتبة على الواقعيات العينية، و ذلك لنظام معاشهم و حفظ مجتمعهم.

و حقيقة الإنشاء أمر دقيق جدا خفى على الناس إلّا العلماء منهم، و لكنها بإجمالها معلوم لكل أحد حتى الصبيان لأنّها مبتلى بها ليلا و نهارا. فإذا قال الأب لولده الصغير: خذ هذا فقد وهبت لك. يفهم أنّ العلقة الملكية حصلت له، و يرى نفسه بعد ذلك أحق الناس به، بعد إن لم يكن كذلك. فلو زاحمه احد، يقول: هذا مالي، وهبه لي أبي؛ فكنهه

في غاية الخفاء و لكن مفهومه من أظهر الأشياء.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ اللازم في العقد، قصد الإنشاء، أي إيجاد العلقة الزوجية؛ و الفرق بينه و بين الأخبار. و لكن هذا أمر سهل بسيط، لا كما يظهر من بعض أهل العلم من أنّه أمر مشكل لا يعرفه العوام، فلا يصح منهم إجراء الصيغة، بل قد عرفت أنّه يعرفه الصبيان أيضا، و ليس أمرا صعبا و لا معنى للتشدّد فيه.

و الحاصل، أنّ هناك امورا ظاهرة بوجودها الإجمالي، و لكن كنهها خفية جدا، لا في خصوص ذات اللّه تعالى، بل بالنسبة إلى كثير من الموجودات الإمكانية، كالزمان و المكان و قوة الجاذبة الموجودة في الأرض، و شبهها؛ فانّها من الواضحات لكل أحد بوجودها الإجمالي، حتى بالنسبة إلى الصبيان، و لكن حقيقة الزمان و المكان ما ذا؟ فقد تحيّر فيهما الفلاسفة. و حقيقة قوة الجاذبة الأرضية ما ذا؟ تحيّر فيها علماء العلوم الطبيعي.

و الإنشاء من هذا القبيل، فالملكية و البيع و الهبة و الزوجية من الامور الاعتبارية التي يعرفها كل احد، و كذا إنشاء هذه الامور، فالطفل الذي يأخذ الفلوس و يشترى بها جوزا مثلا يفهم معنى الملك و كذا عقد البيع. و إذا بلغ الإنسان حدّ الزواج و أشار إلى أبيه أن انوار الفقاهة، ج 3، ص: 182

يزوجه يعرف معنى عقدة النّكاح، و بالطبع يعرف معنى إنشاء هذا العقد؛ و إن كانت معرفة كنه الإنشاء أو الملكيّة أو الزوجية من الامور الاعتبارية و الإنشائية ممّا يصعب فهمه على الناس إلّا الراسخين في العلم.

و لا يعتبر في قصد الإنشاء إلّا هذا العلم الإجمالي، و قد ذكرنا في محلّه أنّ الإنشاء إيجاد أمر اعتباري باللفظ أو الكتابة أو الإشارة، و

الامور الاعتبارية امور ذهنية فرضية، لا من الفروض الخيالية بل من الفروض التي يكون بناء العقلاء على ترتيب الآثار الاجتماعية عليها.

و إن شئت قلت: هذه الامور، تكون لها مصاديق حقيقية خارجية يعتبر نظيرها المنشئ في الذهن؛ فالملكية يكون له مصداق حقيقى و هي السلطة الخارجية التي تكون للإنسان على بعض الأشياء أو على أعضائه، يتصرف فيها، كيف يشاء. و البائع يفرضها و يعتبرها في الذهن للمشتري في مقابل الثمن المعين. و يكون لها آثار كثيرة في المجتمع الإنساني.

و كذا الزوجية، لها مصداق حقيقي، و مصداق اعتباري ذهني فرضي، فمصداقها الحقيقى هو الشيئان يكون أحدهما في جنب الآخر، و ينضم احدهما إلى الآخر كاليدين و الرجلين و العينين و الحذاءين، هما زوجان حقيقة و لكن وجودها الاعتباري هو ما يحدث بسبب الإنشاء بين رجل و امرأة و إن كانت بينهما مسافة بعيدة خارجية، هذه خلاصة القول في معنى الإنشاء إجمالا.

و للكلام في هذه الامور محل آخر، قد شرحناها هناك «1».

فقد تلخّص مما ذكرنا، ان الوسوسة في إمكان صدور إنشاء النكاح من العوام في غير محلّه، و أنّه ليس إلّا كإمكان صدور إنشاء البيع و الهبة و الإجارة و غيرها منهم. فكل أحد يعرف الفرق بين بعت الأخباري، (مثل بعت أمس) و بعت الإنشائي؛ و كذا الأمر في زوجت الأخباري و الإنشائي.

***

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 183

إنّما الكلام في علم المنشئ بمفاد الكلمات التي يذكرها في مقام الانشاء.

هل اللازم معرفتها تفصيلا أو يكفي إجمالا أو لا تجب معرفتها لا إجمالا و لا تفصيلا.

توضيح ذلك: إذا قال البائع: بعت هذا به هذا؛ أو قال العاقد للنكاح: زوجت موكلتي موكلك بالصداق المعلوم؛ فقد يتصور فيها ثلاث حالات:

1- أن يعرف الفعل

و الفاعل و المفعول و الاعراب و البناء و صيغة المتكلم و المخاطب و غير ذلك، و هذا هو العلم التفصيلي بمفاد الكلام.

2- أن يعرف أنّ مفاد هذه الجملة إيجاد علقة النكاح بين هذا الرجل و المرأة، من دون أن يعرف تفاصيل الكلام.

3- أن لا يعرف شيئا من ذلك، و توهم أنّه إذا تكلم هذه الجملة تحصل العلقة قهرا، و بعبارة اخرى لم يقصد منه شيئا و لم تكن إلّا لقلقة اللسان.

لا شك في صحة الإنشاء على الأول، و عدم صحته على الثالث، إنّما الكلام في الثاني منها، و الظاهر صحته، سواء علم معنى الجملة فقط من دون أن يعرف أنّ العلقة واقعة بلفظ زوجت أو موكلي، أو عرف ذلك من دون أن يعرف خصوصيات كل لفظ.

و الدليل على ما ذكرنا هو حصول معنى الإنشاء بالوجدان حينئذ.

***

[المسألة 9: تعتبر الموالاة و عدم الفصل المعتد به بين الإيجاب و القبول

اشارة

المسألة 9: تعتبر الموالاة و عدم الفصل المعتد به بين الايجاب و القبول.

اعتبار الموالات بين الإيجاب و القبول

(1) أقول: لا فرق بين عقد النكاح و سائر العقود من هذه الجهة؛ فلو كان هناك دليل على اعتبار الموالاة، جرى في الجميع، و اعتبارها مشهور بين جماعة من الأعلام و إن لم يتعرض له كثير من الأكابر، حتى أنّ المحقق لم يذكر اعتبارها لا هنا و لا في البيع. و ذكر صاحب الجواهر في كتاب البيع كلاما قصيرا فيه.

الادلة الدالة على اعتبار الموالات

و كيف كان غاية ما يمكن الاستدلال به، على اعتبارها، مضافا إلى أصالة الفساد في صورة ترك الموالاة، أمران:

1- و هو العمدة، أنّ العقد غير صادق مع الفصل المفرط، لأنّ العقد هيئة اتصالية بين الايجاب و القبول، بل هما بمنزلة كلام واحد، و من الواضح خروجه عن الوحدة مع الفصل الطويل.

إن قلت: العقد، هو الامر النفساني الذي هو العهد، و إن شئت قلت، هو اتّصال الالتزامين النفسيين؛ و هذا المعنى حاصل ما لم يرجع احدهما عن التزامه.

قلنا: مجرد الالتزام الباطني، غير كاف في الإنشاء، بل الإنشاء هو الايجاب و القبول باللفظ أو بالكتابة أو بالإشارة لإيجاد الأمر الاعتباري عند العقلاء مقارنا للالتزام النفسي بالعمل بمفاده؛ و المعاقدة أمر واحد يحصل من تركيب الايجاب و القبول، و هذا لا يحصل مع الفصل الطويل.

إن قلت: كثيرا ما يقع الفصل الطويل بين الايجاب و القبول كما هو المعمول في البيع، فيكتب التاجر لصديقه في بلد آخر بكتاب للبيع أو الشراء، و قد تصل إليه بعد اسبوع، فيرسل الجواب بالقبول، فيقع بينهما الفصل باسبوعين، مع ذلك يكون العقد عقدا.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 185

و كثيرا يرسل المهدي هديته من بلد إلى بلد بعيد فتصل إليه بعد شهر فيقبل إنشاء الهدية بعد هذه المدة الطويلة، و لو كان الفصل الطويل مضرا،

كان جميع هذه الهدايا باطلة.

و قد روى كثير من الفقهاء و أرباب السير، أنّ النجاشي، بعد إسلامه، أرسل إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله المارية القبطيّة بعنوان الهدية، (لعله مع هدايا اخرى) و قبلها النبي صلّى اللّه عليه و آله.

قلنا: أمّا الكتابة- بناء على جواز الإنشاء بها في غير النكاح و هو الحق- فهي أمر باق لا تزول بمضى الزمان إلّا إذا كان الفصل خارجا من المتعارف كالسنين، و الألفاظ ليس كذلك، ليس لها بقاء إلّا بمقدار المعاطاتية في نظر العرف، فلا يقاس أحدهما بالآخر.

و أمّا الهدية المعاطاتية فهي خارجة عمّا نحن فيه، لأنّ الايجاب و القبول يحصل بمحض وصول الهدية بيد المهدى إليه في زمن واحد، و ليس ايجابها بارسالها.

2- عموم وجوب الوفاء بالعقود، منصرف إلى المتعارف، و المتعارف اتّصال الفاظ الايجاب و القبول اتّصالا عرفيا، فلو فرض صدق العقد على ما خرج عن المتعارف، بأن كان الفصل بينهما باسبوع أو أقلّ أو بشهر أو سنة، فلا أقل أنّه لا شك في خروجه عن منصرف المطلقات، و الأصل يقتضى الفساد.

*** و قد يستدل على جواز الفصل، بما مرّ من رواية سهل الساعدى، المروى في كتب الفريقين، تارة متصلا إلى سهل، و اخرى من طرقنا مسندا إلى الإمام الباقر عليه السّلام بسند معتبر، يرويها عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، و لم يرو من طرقنا متصلا إلى سهل الساعدي، ما عدا رواية رواها في المستدرك، في المجلد 14 في أبواب عقد النكاح، عن عوالي اللئالي، عن سهل الساعدي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. «1»

و قد عرفت وقوع الفصل الكثير فيها بسبب السؤال عن المهر، و جواب الاعرابي، و ردّ الجواب

مرارا، ثم بعد ذلك صدر ايجاب العقد من النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله وكالة أو ولاية، عليها.

و يجاب عنه، أوّلا، ان هذا المقدار غير قادح بالموالاة، إذا الواجب هو الموالاة العرفية

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 186

لا العقلية، لا سيّما إذا كان الفصل بذكر متعلقات النكاح. كما حكاه في الحدائق، فقال: ربّما اجيب بأنّه لا بأس به إذا كان الكلام لمصلحة العقد؛ إنّما المانع تخلل الكلام الأجنبي. «1»

و ثانيا، الظاهر إنّ القبول وقع بعد ايجاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الأعرابي، و إن لم يذكر في الرواية، فان قوله: زوجنيها؛ قبل تعيين المهر كان من قبيل الاستدعاء و الخطبة، بل يظهر مما روى من طرقنا بسند معتبر، أنّ الرجل لما قال: مالى شي ء؛ انصرف عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى اعادت المرأة مرّتين و في كل مرّة قال صلّى اللّه عليه و آله: من لهذه؟ فلم يقم غير الأول، ثم سأله عن ما يحسنه من القرآن فجعل المهر تعليمها «2».

قال العلّامة المجلسي (قدس الله سرّه الشريف) بعد نقل الرواية: أنّه صحيح. ثم قال و مضمونه مشهور بين الخاصة و العامة، و استفيد منه أحكام.- إلى أن قال:- الثالث، الفصل بين الايجاب و القبول و هو خلاف المشهور، و ربما يوجه بأنّها كانت من مصلحة العقد و إنّما يضر الكلام الأجنبي. و يظهر من التذكرة جواز التراخي بأكثر من ذلك، فانّه اكتفى بصدورهما في مجلس واحد. «3»

و على كان حال دليل اعتبار الموالاة ظاهر، و لا دليل على خلافه.

بقى هنا امور
1- هل يكفى وقوعهما في مجلس واحد

هل المدار في الموالاة هو اعتبار صدورهما في مجلس واحد كما حكي عن التذكرة.؟

الظاهر، أنّه على اطلاقه ممنوع. فانه قد يكون بينهما

فصل طويل على خلاف المتعارف، فاللازم ايكال الامر إلى العرف و صدق العقد، و كونه على وفق المتعارف. و الله العالم.

2- هل التخاطب بالتليفون و ما اشبهه بحكم مجلس واحد؟

لو كان المدار على وحدة مجلس العقد، فهل اللازم رعاية المجلس الواحد المكانى، أو يكفى كل ما أمكن فيه التخاطب، كما إذا اتصل وكيل الزوج و الزوجة بالتليفون و ما أشبه ذلك.؟ الظاهر كفايته، لحصول التخاطب الذي يراد من الاشتراك في المجلس.

3- لا يضر الفصل بمتعلقات الايجاب و القبول

الفصل بمتعلقات الايجاب و القبول و ذكر المهر و خصوصياته و الشروط الموجودة في العقد و لو كانت كثيرة، لم يناف اتّصال العقد و وحدته العرفية، كما هو كذلك في جميع العقود من البيع و الاجارة و غيرهما.

4- كلام من سيدنا الاستاذ الحكيم

قال سيدنا الاستاذ الحكيم (قدس سره): لا تعتبر الموالاة الحقيقية و لا العرفية في صدق العقد؛ انما المعتبر أن يكون الموجب منتظرا للقبول، فإذا وقع القبول في ذلك الحال، كان عقدا. فلذا لو اوجب الموجب، فلم يبادر صاحبه إلى القبول، فوعظه و نصحه حتى اقتنع؛ فقال: قبلت؛ صح عقدا ... فالمدار على صدق المطابقة. «1»

و الظاهر أنّ ما أفاده قدّس سرّه مجرد ادعاء، أو يعود إلى نزاع لفظى. فانّ الموالاة في ما ذكره حاصلة؛ و لو حصل هناك فصل طويل يضرّ بالموالاة العرفية، لم يكف و لو كان الموجب منتظرا؛ مثل ما إذا انتظر اسبوعا أو اياما.

***

[المسألة 10: يشترط في صحة العقد، التنجيز]

اشارة

المسألة 10: يشترط في صحة العقد، التنجيز. فلو علقه على شرط و مجي ء زمان، بطل. نعم، لو علقه على امر محقق الحصول كما إذا قال في يوم الجمعه؛ انكحت ان كان اليوم يوم الجمعة؛ لم يبعد الصحة.

في اعتبار التنجيز

(1) أقول: هذه المسألة، مما تعرضت لها الاصحاب في كتب كثيرة في الوقف و الوكالة و النكاح و البيع، و في الثلاثة الاولى اكثر من الاخيرة؛ لعله لشدة الابتلاء بها فيها، دون الاخير.

و كيف كان، المشهور اعتبار التنجيز و فساد العقد مع التعليق. بل ادعى عليه الاجماع غير واحد منهم.

قال المحقق الثانى، في جامع المقاصد، في كتاب الوكالة: يجب ان تكون الوكالة منجزة عند جميع علمائنا. فلو علقها على شرط، و هو ما جاز وقوعه كدخول الدار؛ صفة، و هي ما كان وجوده محقّقا كطلوع الشمس؛ لم يصح. و ذهب جمع من العامة الى جوازها معلقة، لان النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال في غزاة موتة: اميركم جعفر، فان قتل فزيد بن حارثة ... و التأمير في معنى التوكيل. و لأنّه لو قال: انت وكيلى في بيع عيدى، إذا قدم الحاج؛ صح اجماعا. «1»

و ذكر هذا الشرط في كتاب الوقف، «2» و كذا النكاح. «3»

و قال في كشف اللثام: و يشترط التنجيز اتفاقا؛ إذ لا عقد مع التعليق؛ خصوصا و امر الفروج شديد، فلو علقه و لو بامر متحقق كان يقول: ان كان اليوم يوم الجمعة فقد زوجتك؛ لم يصح، و ان لم يرد التعليق. لأنه غير صريح فهي بمنزلة الكناية. «4»

و لكن مع ذلك حكى التأمل في البطلان عن المحقق الأردبيلى، و المحقق انوار الفقاهة، ج 3، ص: 189

السبزوارى، بل عن المحقق القمى الجزم بالصحة في الوكالة؛

و اختار سيدنا الاستاذ الخوئى (قدس سره) في مصباح الفقاهة، الصحة في جميع العقود. «1» و هو غريب!.

اقسام التعليق

إذا عرفت ذلك، فاعلم؛ أنّ التعليق يتصور على أقسام و قد ذكر له شيخنا العلّامة الأنصاري في كتاب البيع، ستة عشرة صورة، و العمدة من بينها أربع صور:

1- إذا كان التعليق، على أمر متحقق الوجود في الحال أو الاستقبال.

2- إذا كان معلقا على أمر غير معلوم الوجود (في الماضى أو المستقبل)؛ و كل واحد أمّا أن يكون التعليق فيه على أمر يكون مقتضى طبيعة العقد، أو على أمر زائد عليها.

و الأول، مثل أن يقول: إن كان هذا المال لى، فقد بعته منك. (إذا كان ملكه له معلوما).

و الثاني، أن يقول: إن كان هذا يوم الجمعة، فقد زوجتك. (إذا كان معلوما).

و الثالث، كان يقول: إن كنت عاقلا بالغا، فقد وكلتك. (إذا كان عقله أو بلوغه مجهولا).

و الرابع، أن يقول: إن قدم الحاج غدا، فقد بعته منك. (إذا كان قدوم الحاج غير معلوم).

و كلّ ذلك يمكن أن يكون معلقا على أمر حالي أو استقبالي.

و الذي يظهر من كلماتهم، ان جميع هذه الصور، ليست ممّا انعقد الإجماع على بطلانه؛ بل الإجماع المدعى في بعض الصور.

استدل على بطلان التعليق بامور
اشارة

و على كل حال فقد استدل على البطلان، بامور:

1- الإجماع، و لكن حال الإجماع في هذه المسائل معلوم.

2- إن الإنشاء هو الإيجاد، و التعليق في الإنشاء هو التعليق في الإيجاد (المتحد مع الوجود)؛ و من الواضح أنّ التعليق في الوجود، لا معنى له؛ بل أمره دائما دائر بين النفى و الإثبات.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 190

و إن شئت قلت: كما أنّ الإيجاد التكوينى لا يقبل التعليق؛ (كان يقول القائل: أو جدت الضرب أو القتل، إن كان زيد شارب الخمر أو قاتلا). فانّ إيجاد الضرب هو فعله في الخارج، و هو لا يقبل التعليق؛ كذلك

الايجاد التشريعي و الاعتباري في العقود و الايقاعات و غيرها، لا يقبل التعليق.

و لذا اشكل الامر عليهم في باب الواجب المشروط، حيث إنّ الأمر في قوله: إن استطعت فحجّ؛ أو، إن جاء زيد أكرمه، من قبيل الانشاء، و التعليق في الإنشاء محال. فانه لا معنى لكون الشي ء موجودا على تقدير و معدوما على تقدير آخر، بلّ هو امّا موجود أو معدوم.

و هذا المعنى هو الذي الجأ شيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) إلى القول برجوع الواجب المشروط إلى الواجب المعلق و هو ما كان القيد في متعلق الإنشاء لا في نفس الإنشاء، فقوله: إن استطعت فحج، بمعنى قوله: يجب عليك الحج عند الاستطاعة، أو الحج مستطيعا. و كذلك قوله: إذا رأيت الهلال فصم؛ أي يجب عليك الصوم المقيد بكونه بعد رؤية الهلال. و هذا ما يقال من أنّ القيد يرجع إلى المادة لا الهيئة، أي إلى نفس الحج أو الصوم لا إلى إيجابها و كذلك قوله: إذا دخل الوقت فصلّ؛ كل هذه الشروط قيود في الواجب لا الوجوب، لعدم إمكان التعليق في الإنشاء.

و إن كان هذا التفسير خلاف الوجدان و المرتكز في الأذهان.

و لعلّ هذا أيضا هو الذي الجأ سيدنا الاستاذ الخوئي (رحمه الله) إلى القول بان الإنشاء ليس أمرا ايجاديا، بل هو ابراز ما في الضمير من الإرادة أو الاعتبار النفساني.

و فيه اشكال ظاهر، لأنّ كلّ أحد يرى الفرق بين قولنا: افعل؛ و قولنا، أبرز لك ما في ضميرى من الإرادة. (و إلّا احتمل الإنشاء الصدق و الكذب، لأنّه نوع من الحكاية) و كذلك بين زوجت نفسي لك؛ و بين أبرز لك ما في ضميري من اعتبار الزوجيّة و البناء عليها.

و الانصاف، أنّ التعليق في

الإنشاء أمر ممكن لا استحالة فيه، و ما يدعى من الاستحالة شبهة في مقابل الوجدان و البرهان، و سنكشف النقاب عنها.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 191

أمّا الوجدان؛ فلأنّ الشّرط بحسب القواعد العربية و بحسب الارتكاز العرفي، يعود إلى الهيئة. فلذا إذا قال: إذا دخل الوقت، يجب عليك الصلاة؛ كان الظرف متعلّقا ب يجب لا الصلاة. و شيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) اعترف بذلك، و لكن ذهب إلى ارتكاب امر مخالف للظاهر، هربا من محذور استحالة التعليق في الإنشاء.

و أمّا البرهان؛ فيتوقف على فهم معنى أن، الشرطيّة، و معادله في الفارسيّة، (اگر)؛ و من العجيب أنا نتكلم ليلا و نهارا بهذه الألفاظ، و لها معان واضحة مرتكزة في أذهاننا اجمالا؛ أمّا عند شرحها و تحليلها يصعب الأمر علينا جدّا.

و الذي يقوى في النظر، أن معناه نوع من الفرض. و قولنا إن جاء زيد ...، نفرض أنّه جاء زيد ...؛ لا أقول أنّ له معنى فعلىّ، بل له معنى حرفي، و لكن إذا لو حظ استقلالا يعود إلى ما ذكر، كالفرق بين معنى من و الابتداء.

فاذا قال: إن جاء زيد أكرمه؛ معناه: نفرض أنّ زيدا جاء، ففي هذا الفرض يجب عليك الأكرام. فالإنشاء هنا أيضا إيجاد بدون التعليق، و لكن إنشاء في فرض. و الفرق بينهما دقيق. و إن شئت توضيحا أكثر، فقس حال المنتظر لقدوم زيد، فسمع صوتا عند الباب، فتخيل أنّه صوت زيد، فقال: يا غلام، قم أكرم زيدا؛ فذهب فلم ير زيدا. و من الواضح أنّ الأمر بالقيام و إكرام زيد في هذه الحالة ليس معلقا على شي ء، بل بعث قطعى باتّ؛ و لكن هذا البعث كان بعد تخيل مجي ء زيد، فينحصر باعثيته بفرض مجي ء

زيد. و من هنا يجتمع رجوع القيد إلى الهيئة الذي مفادها الإنشاء، مع عدم إمكان التعليق في الإنشاء الذي يعود إلى إيجاد أمر اعتباري.

3- تلخّص من جميع ما ذكر، أن اشتراط التنجيز في العقد، ليس بسبب استحالة التعليق، بل الظاهر، أنّ السبب الوحيد فيه دليل ثالث، و هو عدم كون التّعليق متعارفا و مقبولا عند العقلاء؛ فلذا لا نرى أحدا يقول: زوجت نفسي إذا اشتريت دارا آخر؛ أو إن كان هذا اليوم أول الشهر؛ أو غير ذلك من قيود التعليق.

و لعل السّر فيه، ان طبيعة العقود عند العقلاء مبنيّة على الجزم و القاطعيّة حتى يكون كل من الطرفين عالما بما له من الوظيفة، و إلّا كان مثارا للنزاع و المخاصمة و المشاجرة،

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 192

و لذا لا يعتنون بالعقود المعلّقة؛ فاعراض العقلاء من أهل العرف عن العقود المعلقة في أبواب المعاملات و النكاح و غيرها، هو العمدة في عدم صحتها، لما عرفت غير مرّة أنّ العمومات الدالة على الصحة منصرفة إلى ما هو المتعارف بين العقلاء، و لو كان التعليق على أمر محقق حالى، كان لغوا.

بل يمكن أن يقال إنّ صدق عنوان العقد على غير المنجز، بعيد. لأنّه يدل على استحكام أمر و شدّة و انعقاد، و الإنشاءات المعلقة ليست كذلك، و إن كنت مصرّا على صدق عنوان العقد فلا أقل من الانصراف إلى غيرها، كما مرّ. نعم له بعض الاستثناءات، ستأتى الإشارة إليها إنشاء اللّه.

4- و هناك دليل آخر، تمسّك به بعضهم لعدم جواز التعليق، و هو تخلف الإنشاء من المنشأ، (و هذا يجري في التعليق على الامور المستقبلة).

و حاصله أنّ الإنشاء إيجاد، و الإيجاد ملازم للوجود، فكيف يصح أن يكون الإنشاء الذي

هو إيجاد، حاليا؛ و الوجود، استقباليا؛ مثلا يكون إنشاء الزوجية يوم السبت، و وجودها يوم الجمعة، إذا علقها على ذلك اليوم.

و فيه أوّلا: أنّه غير صحيح على التفسير المختار في معنى التعليق في الإنشاء؛ لأنّ الإنشاء ليس حاليا، بل إنّما صدر الإنشاء بعد فرض يوم الجمعة مثلا؛ فهو إيجاد اعتبار في فرض خاص و هو يوم الجمعة، و من المعلوم أنّ الوجود أيضا حاصل فيه فلا تفكيك.

و ثانيا: الإنشاء المعلق (على فرض صحته، كما هو المفروض) ليس إيجادا مطلقا، بل الإيجاد أيضا معلق كالوجود، فكلاهما معلقان متلازمان كما هو ظاهر.

بقى هنا امور
العقود التي يكون التعليق من طبيعتها

هناك عقود يكون التعليق جزءا من طبيعتها، كالوصيّة التمليكيّة. يقول الموصي: إذا متّ فهذا الدار لك؛ أو يقول: ان مت فهذا الفرس لك. و كالتدبير في أبواب العبيد و الإماء.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 193

فيقول المولى لعبده: أنت حرّ دبر وفاتى؛ قال في الجواهر: لا خلاف بين المسلمين في تحققه بإنشاء عتق العبد، معلّقا له على ما بعد وفات المولى. «1»

و كذا المكاتبة، فقد ذكروا في إنشائه قول المولى لعبده: كاتبتك بهذا المقدار من العوض في هذا المقدار من الزمن، فاذا أديت فأنت حرّ. و قد يقال ذكر الجملة الأخيرة غير واجبة بعد كونه في نيته.

و على أي تقدير، فهي إنشاء الحريّة على فرض أداء مال الكتابة. ففي أمثال ذلك يكون التعليق غير مضرّ بصحة العقد، بل قد يقال أن النذر المشروط أيضا من هذا القبيل، كما إذا قال: إن شفاني اللّه، فللّه علىّ كذا و كذا.

و لعمري أنّ أمثال هذه العقود من أدلة عدم استحالة التعليق في الإنشاء في الجملة، و أنّ البطلان في كثير من العقود لعدم تعارفه فيها، و لا إشكال فيما يتعارف.

و أمّا الوكالة، فهي من العقود التي قد تكون منجزة، و قد تكون معلقة، و ليس التعليق فيها مخالفا للمتعارف بين العقلاء. و من هذا القبيل ما روى من طرق الخاصة و العامة في قضية غزوة موتة، و أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال للمجاهدين: إنّ جعفرا أميري عليكم و لو قتل جعفر فزيد بن حارثة ...

بناء على كون الامارة هنا بمعنى الوكالة؛ و لكن الامارة بنفسها من المقامات الاعتبارية و الامور الإنشائية و ليست من الوكالة و لكن على كلّ تقدير، تكون الرواية شاهدة على جواز التعليق في الإنشاء.

*** و الحاصل أنّ العقود و الايقاعات على أقسام ثلاثة:

1- قسم منها بطبيعتها تقتضى القطع و البت؛ و التعليق فيها ينافي ما يراد منها من المقاصد العقلائية، و أكثر العقود و الايقاعات إلّا ما شذّ منها، من هذا القسم. (كالبيع و الإجارة و النكاح و الطلاق و المضاربة و الهبة و المزارعة و المساقاة و غيرها).

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 194

و التعليق في هذه الموارد مخالف لعرف العقلاء، لو لم نقل مخالف لمفهوم هذه العقود، و الشارع قد امضاه، لعدم ردعه عنه.

2- قسم آخر يكون التعليق في طبيعتها لا ينفك منها. (كالتدبير و المكاتبة و الوصية التمليكية و النذر)، و هذا القسم لا يضرها التعليق؛ لأنّ هناك مصالح اقتضت تشريع هذه العقود في العرف و الشرع، كالحاجة إلى تعيين تكليف بعض الأموال بعد الوفاة، و حال العبد من حيث الحرية في المستقبل، و شبه ذلك، و لذا أسسها العقلاء و أمضاها الشرع القويم، و ليعلم أنّ التعليق فيها في غير ما هو مقتضى طبيعتها، غير جائز أيضا.

3- قسم ثالث منها يكون فيها التعليق تارة و خال

عنه اخرى، و ذلك كالوكالة (أو التأمير) و لا يبعد جوازه فيها من بعض الجهات، و لكن في غير المتيقن منه، يحكم بالفساد بمقتضى القاعدة.

قد عرفت أنّ التعليق على اقسام

قسم منها، ما هو معلق على أمر مشكوك الحصول في المستقبل، و لا يعود إلى طبيعة العقد، كتعليق عقد الزواج على مجي ء أخيه أو مساعدة المعاينات الطبيّة، فتقول المرأة:

زوجتك نفسى لو جاء أخي؛ أو لو كانت المعاينات مساعدة. فهذا القسم باطل قطعا؛ لما مرّ.

و الثانى، ما هو معلق على أمر استقبالى قطعي الحصول، كالمثال السابق إذا علم بمجي ء اخيه، أو قالت: ان طلعت الشمس غدا، و امثال ذلك تعدّ لغوا.

و قسم ثالث، يكون التعليق على امر مشكوك الحصول في الحال. و هذا على قسمين:

ما يكون من شرائط صحة العقد، كقول الفضولى: بعتك هذا لو رضى مالكه؛ لو كانت هذه المرأة زوجتى طلقتها؛ أو لو كان هذه الدار ملكى و هبتها لك؛ و الظاهر عدم الاشكال في صحتها، لان هذه الشروط مندرجة في طبيعة العقد، و إلّا اشكل الامر في موارد الاحتياط في الزواج و الطلاق و شبههما.

و قسم رابع ما لا يكون كذلك، كالتعليق على مجي ء الاخ حالا، مع عدم علمه بذلك انوار الفقاهة، ج 3، ص: 195

نفيا و اثباتا؛ و الظاهر بطلان ذلك أيضا.

و قسم خامس، يكون التعليق على امر معلوم الحصول في الحال، و هو لغو. و غير ذلك مما يعلم حاله مما ذكرنا من الادلة.

التمييز بين الشروط و التعليق

قد يتوهم ان الشروط المأخوذة في العقود، كشرط السلامة من العيوب في الزوج أو الزوجة، أو عدم وجود زوج آخر له، أو عدم اخراجها من بلدها، كونها على مستوى خاص من الدراسة، أو شبه ذلك، من قبيل التعليق في الانشاء؛ فكيف نرى اتفاقهم في صحة امثال هذه الشروط مع اتفاقهم على بطلان التعليق؟

و لكن الجواب عن هذا التوهم ظاهر، فانه فرق واضح بين تعليق الانشاء على شرط، و

بين الشروط المأخوذة في ضمن العقد؛ فان الثانى قد يكون من سنخ الالتزام بشي ء في ضمن التزام آخر؛ و اخرى يكون قيودا و شروطا في المنشأ لا الانشاء.

فان كان من قبيل الالتزام في الالتزام، معناه ان العاقد التزم بامرين، باصل النكاح و التزم في ضمنه بانه لا يخرج الزوجة عن بلدها، و اين ذلك من التعليق في اصل الانشاء.

و ان قلنا انها قيود و اوصاف في المنشأ، معناه انها زوجت نفسها مثلا للزوج الفلاني المتصف بصفات كذا، أو الزوجة مع صفات كذا، و كل ذلك أجنبية عن تعليق اصل الإنشاء كما هو واضح.

و لو جعلها في صورة التعليق في الإنشاء، بأن قالت: زوجتك نفسي إن كنت دكتورا في الطب؛ مثلا؛ أو إن كنت ذا ثروة كذا و كذا؛ بطلت. لعين ما مرّ سابقا.

الشروط الحافظة لحقوق الزوجة

و قد شاع بيننا في الأزمنة الأخيرة، اشتراط شروط كثيرة بنفع الزوجة، يناسب البحث عن صحتها أو عدم صحتها، بمناسبة ما مرّ من البحوث. فنقول و منه جل ثنائه التوفيق:

أوّلا، ان الطلاق و إن كان بيد الرجل، و لكن استفادة السوء منه و الاجحاف على انوار الفقاهة، ج 3، ص: 196

النساء من ناحية الأزواج و هضم حقوقهن، تسبب لجعل هذه الشروط على الرجال لحفظ حقوقهن، و منع الرجال عن الاضرار بهن مهما أمكن (و كم من تضييقات في الحقوق الاجتماعيّة تسبّبها سوء التدبير في الانتفاع بالحقوق المشروعة).

كثير من هذه الشروط (اثنا عشر شرطا) تعود إلى اعطاء حق الوكالة بلا عزل في ضمن عقد النكاح، أو عقد خارج لازم آخر، بان الزوج لو صار معتادا بالمواد المخدرة، أو جنى جناية توجب إخلاده في السجن أو في زمن طويل، أو أساء العشرة مع المرأة، أو

شبه ذلك؛ كانت المرأة وكيلا، أو وكيلا في التوكيل، في طلاق نفسها.

و هناك شرط آخر، و هو أنّه لو طلقها من دون تقصير لها، كان على الزوج اعطائها نفس أمواله التي اكتسبها بعد النكاح.

و لكن هذا الشرط، لا يخلو من إشكال؛ لما ذكر في محلّه أنّ الجهل في الشروط، يضر بصحّة الشرط، لأنّ عموم النهي عن الغرر يشمله. و قد ذكرنا في مباحث البيع، أنّ التقييد بالبيع الواردة في قوله عليه السّلام: نهى النبي صلّى اللّه عليه و آله عن بيع الغرر. لو ثبت صحته، لا يضرنا بعد إمكان إلغاء الخصوصية عنه. لا سيما أنّه امضاء لبناء العقلاء في باب العقود و الايقاعات.

هذا مضافا إلى أنّ الجهل في الشروط قد يسرى إلى أصل العقد، كبيع الحيوان بشرط تمليك ما في بطنه (و إن كان محل الكلام ليس من هذا القبيل). و راجع كلام شيخنا الأنصاري (قدس سره) في أبواب الشروط في أواخر أبواب الخيارات؛ فقد ذكر لصحة الشرط تسعة شروطا، سادسها عدم الجهالة؛ فانّه ينفعك في المقام.

***

[المسألة 11: يشترط في العاقد المجرى للصيغة، البلوغ و العقل

اشارة

المسألة 11: يشترط في العاقد المجرى للصيغة، البلوغ و العقل. فلا اعتبار بعقد الصبى و المجنون و لو ادواريا، حال جنونه؛ سواء عقدا لنفسهما أو لغيرهما. و الأحوط البناء على سقوط عبارة الصبي. لكن لو قصد المميز المعنى و عقد لغيره وكالة أو فضولا و اجاز؛ أو عقد لنفسه مع اذن الوليّ أو اجازته؛ أو اجاز هو بعد البلوغ يتخلص بالاحتياط. و كذا يعتبر فيه القصد، فلا اعتبار بعقد الساهى و الغالط و السكران و أشباههم. نعم في خصوص عقد السكرى إذا عقبها الإجازة بعد افاقتها لا يترك الاحتياط بتجديد العقد أو الطلاق.

الشروط المعتبرة في العاقد

(1) أقول: ذكر في هذه المسألة شروطا ثلاثة، في العاقد المجرى للصيغة، و هي العقل و البلوغ و القصد؛ و مقابل الأول المجنون و لو ادواريا حال جنونه (الجنون المؤقت). و مقابل الثانى، غير البالغ و لو كان مراهقا. و مقابل الثالث، السكران أو الساهي و الغالط و الهازل (بناء على كون المراد من القصد، القصد الجدّي كما هو الظاهر).

و على كل حال، المشهور بين الأصحاب- كما صرّح به بعضهم- اعتبار البلوغ، و العقل بطريق اولى؛ بل صرّح في جامع المقاصد بأنّه: لا شبهة في أنّ العاقد كائنا من كان ...

يشترط فيه البلوغ و العقل و الحريّة؛ فلو عقد الصبي لنفسه أو لغيره، لم يعتد بعبارته، و إن أجاز وليّه. و كذا الصبيّة، و كذا من به جنون ذكرا كان أو انثى، و في حكمه المغمى عليه و السكران. «1»

و أرسله في كشف اللثام ارسال المسلمات. «2» و كذا النراقي في المستند «3».

ما يدل على اشتراط البلوغ في العاقد

و الذي يدل على اشتراط البلوغ هنا، و في سائر العقود، امور:

1- بناء العقلاء من أهل العرف، على عدم الاعتبار بتعهدات الصبي و المجنون و السكران و أشباههم، فلا يرونهم أهلا لذلك من دون فرق بين أرباب الملل و غيرهم. و هذا أمر واضح حتى في الامم السالفة على الإسلام، على اختلاف مشاربهم و مسالكهم. نعم، قد يكون بين الامم فرق في تعيين سنّ التكليف و لكن لا اختلاف بينهم في بطلان عقود الصغار و المجانين و السكران إذا سلب عقله مطلقا؛ و قد امضاه الشارع المقدس، لعدم ردعه عنه بل تأييده، و هذا من أوضح الدليل على المقصود، و إن لم يستند إليه الأصحاب في كتبهم.

2- حديث رفع القلم عن الثلاثة:

عن الصبي حتى يحتلم، و عن المجنون حتى يفيق، و عن النائم حتى يستيقظ؛ و الحديث معروف و معمول به عند الأصحاب «1».

و قد أورد عليه، بأنّ المراد منه قلم التكليف، لا الأحكام الوضعيّة؛ و لهذا يضمن الغلام و الصبي لو أتلفا مال الغير.

و لكن الانصاف أنّه فرق بين الأحكام الوضعيّة الناشئة عن امور خارجية مثل اتلاف مال الغير، و بين التكاليف الناشئة عن تعهدات اختيارية؛ فإذا كان التكليف ساقطا عن الصبي كان العقود و العهود الباعثة على أحكام و تكاليف أيضا ساقطة عنه.

3- الأحاديث الدالة على أنّ عمد الصبي و خطاه واحد، (الواردة في الباب 11 من أبواب العاقلة و غيره). و قد يجاب عنها بانّها ليست ناظرة إلى جميع أحكام الصبيان المترتبة على العمد، بل هي ناظرة إلى خصوص أبواب الديات؛ و لذا فسّر في بعض الروايات بقوله: عمد الصبيان خطا يحمل على العاقلة. «2»

و لا أقل من الشك في عموم الحكم فيها، فتسقط عن الاستدلال.

4- ما يدل على أن الصبي و الصّبيّة إذا بلغا يجوز أمرهما؛ و مفهومه أنّه قبل البلوغ انوار الفقاهة، ج 3، ص: 199

لا يجوز أمره في شي ء. مثل ما رواه حمران، عن أبي جعفر عليه السّلام قال (في حديث): أنّ الجارية ليست مثل الغلام، أنّ الجارية إذا تزوجت و دخل بها و لها تسع سنين ذهب عنها اليتم و دفع إليها مالها و جاز أمرها في الشراء و البيع ... و الغلام لا يجوز أمره في الشراء و البيع، و لا يخرج من اليتم حتى يبلغ خمس عشرة سنة أو يحتلم أو يشعر أو ينبت قبل ذلك «1».

و الحديث و إن كان ضعيف السند، و لكن يمكن انجباره بعمل

المشهور؛ و مورده و إن كان البيع و الشراء، و لكن الظاهر إلغاء الخصوصية القطعية عنه، لعدم الفرق بين البيع و النكاح من هذه الجهة.

هذا؛ و هل يستفاد من هذه الأدلة، أنّ الصغير لا يجوز أمره و لا يصح نكاحه مطلقا، سواء كان باذن الولي و إجازته؛ حتى لو كان المتولى لأمر النكاح هو الولي، و كان الصبي مجريا لإنشاء عقد النكاح فقط فلا يصح عقده لنفسه باذن الولي و لا لغيره بعنوان الوكالة في إجراء الإنشاء فقط؛ و بعبارة اخرى هل يكون الصغير مسلوب العبارة.

الظاهر من الأدلة، نفى جواز أمره مطلقا، لا خصوص استقلاله به، فلا يجوز وكالته عن الغير في إجراء العقد، لأن الوكالة عقد من العقود لا يصح من الصبي؛ و كذا لنفسه باجازة الولي. و لا أقل من الشك، فيحكم بالفساد. و شمول عمومات وجوب الوفاء بالعقود له بعيد جدا.

ما يدل على اعتبار العقل في العاقد

و أمّا اعتبار العقل فهو أظهر، لعدم الخلاف فيه بين الفقهاء، و لجريان بناء العقلاء عليه، فلا يقبل أحد منهم عقود المجانين و تعهداتهم سواء كانت لهم أو عليهم، و يدل عليه أيضا حديث رفع القلم بالبيان الذي ذكرناه.

و من الواضح عدم الفرق بين أقسام الجنون بعد وحدة الملاك و كذا ما يشبه الجنون من انوار الفقاهة، ج 3، ص: 200

النوم أو الاغماء أو السكر، لاتحاد الجميع فيما ذكر.

نعم، هناك رواية صحيحة تدل على أنّ السكرى إذا أفاقت و أجازت النكاح، صح أمرها؛ و هي ما رواه محمد بن اسماعيل بن بزيع قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام «1» عن ابتليت بشرب النبيذ، فسكرت، فزوجت نفسها رجلا في سكرها، ثم أفاقت فانكرت ذلك، ثم ظنّت أنّه يلزمها ففزعت منه فاقامت مع الرجل

على ذلك التزويج؛ أ حلال هو لها، أم التزويج فاسد لمكان السكر و لا سبيل للزواج عليها؟ فقال: إذا قامت معه بعد ما فاقت، فهو رضا منها. قلت: و يجوز ذلك التزويج عليها؟ قال: نعم «2».

و حاصل الرواية صحة إنشاء السكرى و إن لم يعتبر رضاها حال السكر، و لكن إذا لحقه الرضا، كفى.

هذا؛ و الرواية و إن كانت صحيح السند و لكنها مخالفة للقواعد من جهات ثلاث:

1- السكرى ليس له قصد، فكيف يصح إنشاء العقد منه.

2- في مفروض الرواية، انكار السكري بعد الإفاقة، فلا يصح الحاق الرضا به، كما صرحوا به في الفضولى.

3- المفروض أنّ رضاها بالعقد، كان بتخيل صحة العقد، و لو لا هذا التخيل لما رضيت به، و من المعلوم أنّ مثل هذا الرضا غير كاف؛ كمن رضي بعقد الفضولي بتوهم إن المشترى أخوه ثم تبيّن خلافه.

و من هنا اختلف مواقف الأصحاب في مقابل الرواية؛ فقد صرّح بعضهم بلزوم طرح الرواية لمخالفتها للقواعد المسلمة في الفقه. قال في الرياض: إلّا أنها لمخالفتها الاصول القطعية المعتضدة- في خصوص المقام- بالشهرة العظيمة، لا يجوز التعويل عليها في مقابلها و تخصيصها به ... فطرحها رأسا أو حملها على ما في المختلف و غيره- و إن بعد- متعين. «3»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 201

و في مقابل هذا القول، صاحب الحدائق؛ حيث صرّح بلزوم العمل بها و تخصيص القواعد بها حيث قال: و كيف كان ففي ذلك تأييد لما قدمناه في غير موضع من أنّ الواجب العمل بالرواية و أن يخصص بها عموم ما دلت عليه تلك القواعد المذكورة. «1»

و قد اختار جمع من محققى الاصحاب توجيه الرواية- بدل طرحها أو قبولها- و حملها على ما لا ينافي

القواعد المعروفة المعتبرة من الشرع و ذكروا للتوجيه طرقا.

منها- حمل الرواية على بيان الحكم الظاهرى، بأن يقال إنّه إذا عقدت المرأة على نفسها و مكنت الزوج من الدخول و إقامت معها مدّة قصيرة أو طويلة، ثم ادعت إن عقدها كان في حال السكر، لم يسمع منها بلا بينة شرعية، فله الزامها بحقوق الزوجية (هذا هو الذي ذكره في كشف اللثام).

و منها- أن يقال أنّها تدل على كفاية مجرد الرضا بالزوجية لا لأجل ما فعل في حال السكر، بل لأجل الرضا بعده عدم اشتراط لفظ (ذكر هذا الاحتمال المحقق النراقي في المستند).

و منها- حملها على سكر لم يبلغ حد عدم التحصيل، كما عن المختلف؛ فإنّ للسكر مراتب مختلفة، في بعضها يكون السكران كالنائم الذي يتكلم في نومه، و في بعضها يعقل و يفهم و إن كان في نشأة من الخمر، و من ذلك قوله تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى «2»

أقول: كل هذه المحامل بعيدة جدا؛ أما الأول فلوضوح مخالفته لصريح الرواية، فليس فيها من الحكم الظاهرى عين و لا أثر، بل صريحها بيان حكم المرأة بالنسبة إلى نفسها، لا حكم الزوج بالنسبة اليها.

و أمّا الثاني، فلان كفاية مجرد الرضا، مع مخالفته لما عليه الأصحاب من لزوم اللفظ في النكاح، مخالف لنفس الرواية. لان سؤال الراوي عن النكاح الواقع حال السكر؛ فاجاب عليه السّلام بأنّه يجوز ذلك التزويج عليها بعد رضاها.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 202

و أمّا الثالث، فلأنّ مقتضاه عدم الحاجة إلى الرضا بعد الافاقة، مع أنّ صريح الرواية خلافها.

فالاولى طرحها و رد علمها إلى أهلها، لمكان مخالفتها للقواعد المسلمة. توضيح ذلك أنّ المراد من القواعد هنا، الاصول المسلمة الثابتة من الكتاب و السنة

و بناء العقلاء الممضى من قبل الشارع المقدس؛ فان مفروض السؤال عدم تمشى القصد من السكري، فلا يصح عقدها؛ فانّه لو تمشى منه القصد لم يحتج إلى الرضا بعده مع أنّ صريح الرواية اعتبار الرضا المتأخر. و الاكتفاء بمجرد الرضا من دون عقد و لفظ، مخالف لقولهم باعتبار اللفظ فيه؛ و قد ورد ذلك في روايات كثيرة.

و مخالفة هذه الاصول المسلمة و إن لم يكن محالا، إلّا أنّه لا يمكن إثباته بمجرد خبر واحد اعرض كثير من الأصحاب عن الفتوى به.

[المسألة 12: يشترط في صحة العقد، تعيين الزوجين

اشارة

المسألة 12: يشترط في صحة العقد، تعيين الزوجين على وجه يمتازان عن غيرهما بالاسم أو الإشارة أو الوصف الموجب لذلك، فلو قال: زوجتك احدى بناتى؛ أو قال: زوجت بنتي فلانة من أحد بنيك؛ أو من أحد هذين؛ بطل.

نعم، يشكل فيما لو كانا معينين بحسب قصد المتعاقدين و متميزين في ذهنهما لكن لم يعيّناهما عند إجراء الصيغة و لم يكن ما يدل عليه من لفظ أو فعل أو قرينة خارجية؛ كما إذا تقاولا و تعاهدا على تزويج بنته الكبرى من ابنه الكبير، و لكن في مقام إجراء الصيغة، قال: زوجت احدى بناتي من أحد بنيك؛ و قبل الآخر.

نعم، لو تقاولا و تعاهدا على واحدة، فعقدا مبنيّا عليه، فالظاهر الصحة. كما إذا قال بعد التقاول: زوجت ابنتي منك؛ دون أن يقول: زوجت احدى بناتي.

تعيين كل واحد من الزوجين شرط في صحة العقد

(1) أقول: لزوم تعيين كل من الزوجين، مما اتفقت عليهم كلماتهم؛ كما يظهر من الجواهر، و كشف اللثام، و غيره؛ قال في المستمسك إجماعا كما في التذكرة- و اتفاقا- كما في كشف اللثام و في الجواهر حكاه عن غير واحد و في الحدائق نسبته إليهم. «1»

قال في كشف اللثام: و لو زوجهما الوليّ افتقر العقد أو الولي فيه اتفاقا، إلى تعيينها؛ كما لا بدّ من تعيين الزوج مطلقا أمّا بالإشارة أو الاسم أو الوصف الرافع للاشتراك. «2» و أرسله ابن ادريس ارسال المسلّمات. و المراد بذكر الاسم، أن يقول مثلا: زوجتك ابنتي فاطمة؛ و بالوصف، أن يقول مثلا: بنتي الكبرى؛ و بالإشارة، أن يقول: بنتي هذا.

أدلّة المسألة

و الذي يدل عليه، مضافا إلى ما ذكر امور:

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 204

1- النهي عن الغرر، سواء كان الحديث بهذه الصورة (نهى النبي صلّى اللّه عليه و آله عن الغرر) أو كان واردا في خصوص البيع، و لكن يمكن إلغاء الخصوصية عنه قطعا.

2- الزوجية معاهدة بين اثنين، و كل منهما يتعهد امورا مهمة و لا معنى للتعهد بين إنسان معين و إنسان مجهول؛ أو إنسانين مجهولين كما أنّه لا يمكن تمليك داره بواحد غير معين، و هذا أمر واضح.

3- بناء العقلاء في جميع الامور أيضا على ذلك، فلم يعهد من أحد منهم نكاح فرد غير معين ثم تعيينه بالقرعة و شبهها.

نعم، هناك رواية صحيحة قد يتوهم منها المخالفة لما ذكر، و هي صحيحة أبي عبيدة، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام، عن رجل كان له ثلاث بنات ابكار، فزوج إحداهن رجلا و لم يسمّ التي زوج، للزوج و لا للشهود، و قد كان الزوج فرض لها صداقها؛ فلما بلغ

ادخالها على الزوج بلغ الزوج انها الكبرى من الثلاثة، فقال الزوج لأبيها: إنّما تزوجت منك الصغيرة من بناتك! فقال أبو جعفر عليه السّلام: إن كان الزوج رءاهن كلهنّ و لم يسم له واحدة منهن، فالقول في ذلك قول الأب؛ و على الأب فيما بينه و بين الله ان يدفع إلى الزوج، الجارية التي كان نوى ان يزوجها إيّاه عند عقدة النكاح؛ و إن كان الزوج لم يرهن كلّهن و لم يسم له واحدة منهن عند عقدة النكاح، فالنكاح باطل. «1»

و قال في الحدائق، بعد ذكر لزوم تعيين الزوج و الزوجة بحسب القواعد الشرعيّة: أنّ الرواية المذكورة بحسب ظاهرها خارجة عن ذلك، و منافية لما ذكرناه، لأنّها تدل على أنّ رؤية الزوج لهن كافية في الصحة و الرجوع إلى ما عينه الأب.- ثم ذكر في ذيل كلامه بعد الإشارة إلى اضطراب كلمات المتأخرين في تفسير الرواية- و الحق الحقيق بالاتباع و إن كان قليل الاتباع، هو العمل بالخبر، صح سنده باصطلاحهم أو لم يصح، مهما أمكن أو في مثل هذه المواضع، تخصص به تلك الأخبار الدالة على تلك القواعد. «2»

و لكن الانصاف أنّ الرواية على خلاف ما ذكره أدلّ، و هي موافقة للقواعد، لأنّ انوار الفقاهة، ج 3، ص: 205

ظاهرها هو ايكال امر التعيين إلى الأب، و أنّه عينها في قصده، و لو لم يعينها بطل. فاذا رأى الجميع و رضي بكل واحدة منهن، و أو كل أمر التعيين إلى الأب، فالتعيين قد حصل و لزم العقد، يجب قبول قول الأب. و الله العالم.

***

[المسألة 13: لو اختلف الاسم مع الوصف، أو اختلفا أو احدهما مع الإشارة]

اشارة

المسألة 13: لو اختلف الاسم مع الوصف، أو اختلفا أو احدهما مع الإشارة؛ يتبع العقد لما هو المقصود، و يلغى ما وقع غلطا

و خطأ. فاذا كان المقصود تزويج البنت الكبرى، و تخيل أنّ اسمها فاطمة، و كانت المسمى بفاطمة هي الصغرى، و كانت الكبرى مسماة بخديجة، و قال: زوجتك الكبرى من بناتي فاطمة؛ وقع العقد على الكبرى التي اسمها خديجة، و يلغي تسميتها بفاطمة.

و إن كان المقصود تزويج فاطمة، و تخيّل أنّها الكبرى، فتبين أنّها الصغرى، وقع العقد على المسماة بفاطمة و الغى وصفها بانها الكبرى.

و كذا لو كان المقصود تزويج المرأة الحاضرة، و تخيل أنّها كبرى، و اسمها فاطمة؛ فقال: زوجتك هذه و هي فاطمة و هي الكبرى من بناتى؛ فتبين أنّها الصغرى و اسمها خديجة، وقع العقد على المشار إليها، و يلغى الاسم و الوصف.

و لو كان المقصود العقد على الكبرى، فلمّا تخيّل أنّ هذه المرأة الحاضرة هي تلك الكبرى، قال: زوجتك هذه و هي الكبرى؛ لا يقع العقد على الكبرى بلا إشكال، و في وقوعه على المشار إليها وجه، لكن لا يترك الاحتياط بتجديد العقد أو الطلاق.

تعارض علامات تعيين الزوجين

(1) أقول: قد مرّ في المسألة الثانية عشرة، لزوم تعيين الزوجين على وجه يرفع الابهام من البين، و ذلك يكون بأحد امور ثلاثة: بالاسم، كفاطمة و خديجة؛ و بالوصف، كالكبرى و الصغرى؛ و بالإشارة، كهذه و تلك؛ و أنّه إذا ابهم العاقد كان العقد باطلا؛ و إذا اجتمعت هذه الامور الثلاثة أو الاثنان منها و كانت متوافقة، فلا كلام؛ و لو تعارضت فما الحكم فيها؟

و لم يتعرض للمسألة إلّا قليل منهم، كالعلّامة في التذكرة فيما حكاه في المستمسك (ج 14/ 394)، و صاحب الجواهر (ج 29/ 159)، و صاحب العروة (في المسألة 18 من احكام العقد) و قد ذكرها الشارحون للعروة؛ بل يظهر من كلام التذكرة كون

المسألة مذكورة في كلام الشافعي (و أشباهه) أيضا. و على كل حال، ذكر في المتن- بعد التصريح انوار الفقاهة، ج 3، ص: 207

بأنّ المدار، على ما هو المقصود؛ و أنّ العقد بتبع القصد؛- صورا أربعة:

صور العقد و القصد

1- إذا كان المقصود الأصلي هو الموصوف بالوصف- كالكبرى- و لكن تخيل أنّ اسمها فاطمة، فقال: زوجت البنت الكبرى المسماة بفاطمة؛ فيقع العقد على الكبرى، و يلغى الاسم. و الوجه فيه ظاهر، فانّ العقود تابعة للقصود؛ و ينبغي أن يضاف إليه انّ اللازم توافق الطرفين على المورد من قبل بالمقاولة و شبهها.

2- إذا كان المقصود تزويج المسمى بفاطمة، و تخيل أنّها الكبرى و لكن كانت هي الصغرى، فقال: زوجت بنتى الكبرى فاطمة ...؛ وقع العقد على فاطمة. (و هذه الصورة، عكس الاولى) و يظهر الوجه فيها ممّا مرّ في السابقة؛ لأنّ حقيقة العقد، التوافق على شي ء و هو حاصل هنا، فيدخل تحت أدلة وجوب الوفاء بالعقود.

3- إذا كان المقصود تزويج المراة الحاضرة، فقد رآها و استحسنها؛ فقال العاقد:

زوجت هذه المرأة المسماة بفاطمة أو الموصوفة بأنّها الكبرى من بنات فلان؛ وقع العقد على الحاضرة، و لغى الوصف و الاسم. و الدليل عليه هو شمول الاطلاقات له أيضا، بعد صدق عنوان العقد أو عقد النكاح عليه، و لم يمنع منه مانع. و هذه كلّها ظاهرة؛ إنّما الكلام في الوجه الأخير و هو:

4- إذا كان المقصود العقد على المسمى بفاطمة أو الموصوف بصفة الكبرى، و تخيل أن الحاضرة هي التي أرادها، فقال العاقد: زوجتك هذه و هي الكبرى و هي فاطمة؛ و لم تكن، صرّح في المتن بعدم وقوعه لما قصده؛ و في وقوعه للمشار تردد؛ ثم حكم بالاحتياط. و ظاهر هذا الكلام سقوط

قاعدة تبعيّة العقود للقصود هنا من جهتين، من جهة عدم وقوعه للمقصود، و من جهة احتمال وقوعه لما لم يكن مقصودا. أمّا الأول؛ فالوجه فيه أنّ الصور الثلاثة الاولى، كان المقصود فيها موردا للإنشاء، فإنشاء العقد على المسمى مثلا و أن تخيل أنّها الكبرى فوصفها بالكبرى، و لكن هنا إنشاء العقد على الحاضر، لا على الموصوف أو المسمى و أن تخيل أنّها كذلك، فبطلان العقد بالنسبة إليه، لعدم تحقق انوار الفقاهة، ج 3، ص: 208

العقد بالنسبة إليه، و هو وجه وجيه.

و أمّا احتمال وقوع العقد على المشار إليها، فلوقوع العقد عليها فيما هو المفروض، و إن كان السبب فيه، الخطأ في التطبيق.

و لكن الانصاف بطلان العقد بالنسبة إليها لعدم كونها مقصودة. و إن هو إلّا مثل إذن الدخول في الدار، للحاضر، و قال له ادخل يا هذا؛ بظنّ أنّه أخوه و لكن كان أجنبيّا. فهل يرضى أحد بأن يقول، يجوز له دخول الدار، لرضاه بذلك؛ و كذا إذا قال للحاضر: أنت وكيلى في بيع دارى؛ بظنّ أنّ المخاطب هو أخوه أو عمّه أو خاله، و لكن كان في الواقع من اعدائه أو من السارقين. فهل يرضى أحد بأن يقول بصحة الوكالة له؟!

فتحصل ممّا ذكرنا، ان ما ذكره في المتن صحيح إلّا في الصورة الأخيرة، فالاحتياط أيضا لا وجه له، و قد وقفنا بعد ما ذكر، على رواية واردة في خصوص الخطأ في ذكر الاسم، و هي ما رواه محمد بن شعيب؛ قال: كتبت إليه أنّ رجلا خطب إلى ابن عم له، ابنته، فامر بعض اخوانه أن يزوجه ابنته التي خطبها، و أنّ الرجل أخطأ باسم الجارية، فسماها بغير اسمها، و كان اسمها فاطمة فسماها بغير اسمها،

و ليس للرجل ابنة باسم الذي ذكر المزوّج. فوقع: لا بأس به. «1» و لكن سندها ضعيف بمحمد بن شعيب (المجهول) مضافا إلى اضماره، و لكن تؤيد المقصود.

بقى هنا شي ء: مقالة السيد الحكيم في المقام

أن سيّدنا الاستاذ الحكيم، بنى المسألة على وحدة المطلوب و تعدده، فان قلنا بأنّ المسألة من قبيل الأول، بطل العقد؛ و على الثاني، يصح. قال في المستمسك: و منشأ الإشكال هو أنّ القيد، أخذ على نحو تعدد المطلوب، أو وحدته؛ فعلى الأول، يصح و على الثاني، يبطل. و لا ينبغى التأمل في أنّ المرتكزات العرفية تقتضى الأول (أي تعدد

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 209

المطلوب). و لذا بنوا مع تخلف الشرط، على صحة العقد و خيار الشرط ... نعم، إذا كان القيد مقوما للموضوع عرفا، و ذاتيا من ذاتياته، بطل العقد بفقده. «1»

و حاصل كلامه أنّ القيود على قسمين؛ قسم منها من قبيل تعدد المطلوب، لا بحسب إرادة الأشخاص حتى تكون تابعة لها، بل بحسب عرف العقلاء. مثلا، إذا قال: بعتك هذا الفرس العربي؛ فبان فرسا غير عربي، كان العقد صحيحا؛ لأنّ عنوان الفرس و عنوان العربي مطلوبان مستقلان بحسب نظر العقلاء في الغالب، فيحكمون بصحة العقد مع خيار تخلف الشرط. و لكن لو قال: بعتك هذا الفرس العربي؛ فبانّ حمارا، فاختلاف الفرس و الحمار في حدّ يعد أحدهما مباينا عن الآخر، لا من قبيل تعدد المطلوب. فعلى هذا لو كان قول العاقد زوجتك هذه فاطمة؛ و أشار إليها و كان اسمها زينب؛ فإن قلنا بانّه من قبيل تعدد المطلوب كان صحيحا، و إلّا كان باطلا.

و فيه أنّ وحدة المطلوب و تعدده أجنبي ممّا نحن فيه، و إنّما هو في الأوصاف المرغوبة المتعددة و ليس المقام كذلك، فان تسميته

بفاطمة مثلا ليست مطلوبة مستقلة، بل كلّ هذه الأوصاف و الاسماء تشير إلى فرد خاص في الخارج فهي من قبيل العنوان المشير، لا الوصف المطلوب.

و إن شئت قلت؛ المفروض أنّه يريد امرأة خاصة وافق عليها من قبل، و لكن تخيل اسمها فاطمة (مثلا) أو أنّها هي الكبرى (مثلا)، و لا شك أنّ غير تلك المرأة مباينة لها؛ و أين هذا من تعدد المطلوب.

***

[المسألة 14: لا إشكال في صحة التوكيل في النكاح

اشارة

المسألة 14: لا إشكال في صحة التوكيل في النكاح من طرف واحد أو من طرفين، بتوكيل الزوج أو الزوجة إن كانا كاملين، أو بتوكيل وليّهما إن كانا قاصرين. و يجب على الوكيل أن لا يتعدى عمّا عينه الموكل من حيث الشخص و المهر و سائر الخصوصيّات. فان تعدى، كان فضوليا موقوفا على الاجازة. و كذا يجب عليه مراعاة مصلحة الموكل، فإن تعدى و أتى بما هو خلاف المصلحة، كان فضوليا. نعم، لو عيّن خصوصية تعينت و نفذ عمل الوكيل و إن كان على خلاف مصلحة الموكّل.

التوكيل في النكاح

(1) أقول: هذه المسألة في الواقع تشتمل على فروع ثلاثة: أولها، جواز التوكيل في النكاح. ثانيها، وظيفة الوكيل في قبال الموكل. و ثالثها، حكمه إذا تعدى عن وظيفته. و هذه المسألة غير مسألة جواز تولى طرفي العقد لفرد واحد؛ فانّها ستأتي في المسألة 16.

الفرع الاول: جواز الوكالة من طرف الزوج أو الزوجة أو كليهما

أي أصل جواز الوكالة في العقد من طرف الزوج أو الزوجة أو من كلا الطرفين (بأن يكون إنشاء العقد من قبل الوكيلين)؛ فالظاهر أنّه ممّا لا كلام فيه و لا إشكال و ارسلوه ارسال المسلمات. و لو كان بينهم فيه كلام فانّما هو في فروع الوكالة، مثل حكم التعدى أو عدم رعاية المصلحة أو زوّجها الوكيل لنفسه و غير ذلك، بل الغالب بين المسلمين إجراء الصيغة من ناحية الوكيلين، فقد جرت سيرتهم على ذلك.

و يدل عليه عمومات أدلة الوكالة، أولا؛ و ما ورد في خصوص النكاح، ثانيا؛ و هو أيضا؛ على قسمين: الأول، هو الروايات الكثيرة الواردة في موارد خاصة تدل جميعها على جواز التوكيل في أمر النكاح. مثل:

1- ما ورد في قصة نكاح أمير المؤمنين عليه السّلام؛ فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان وكيلا من ناحية

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 211

سيّدة نساء العالمين، و فيها: و هذا محمد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله زوجني ابنته فاطمة عليها السّلام ... «1»

2- ما ورد في قصة تزويج الإمام الجواد عليه السّلام، و فيها: هذا أمير المؤمنين، زوجني ابنته على ما فرض اللّه. «2»

3- ما ورد في قصة تزويج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله امرأة جاءت إليه، فسألته تزويجها رجل؛ إلى أن قال- زوجتكها على ما تحسن من القرآن. فعلّمها إياه «3».

4- ما ورد في قصة

امرأة اراد أمير المؤمنين علي عليه السّلام أن يزوجها من شاب؛ فقال لها:

أ لك وليّ؟ قالت: نعم، هؤلاء اخوتي. فقال لهم: أمري فيكم و في اختكم جائز؟ قالوا: نعم.

فقال علي عليه السّلام: أشهد اللّه و أشهد من حضر من المسلمين، أني قد زوجت هذه الجارية من هذا الغلام .... «4»

إلى غير ذلك من أشباهه.

الثانى، ما ورد في أبواب مختلفة، في حكم الوكيل إذا خالف ما أمر به. «5» و ما ورد في حكمه إذا اخطأ في التسمية. «6» و حكمه إذا كان صغيرا لم يبلغ الحلم. «7» و ما ورد في عدم جواز تعدى الوكيل عمّا عين له. «8»

إلى غير ذلك.

و المستفاد من الجميع، أنّ الوكالة في النكاح، كانت من الامور المسلّمة بين المسلمين.

و لذا لم يسأل السائلون عنها؛ و إنّما سألوا عن فروعها و بعض ما يرتبط بها، و الأئمة المعصومون لم يردعوهم عن ذلك، بل قبلوا منهم.

الفرع الثاني: لزوم رعاية مصلحة الموكل

و أمّا الفرع الثاني، فهو أيضا ظاهر، لأنّه منصوب لذلك لا غير. و إن شئت قلت؛ الوكيل بمنزلة الموكل، فكما أنّه لا يقدم على ما يخالف مصلحته فكذلك الوكيل، بل قد يكون الانسان فاعلا لبعض ما يضاد منافعه لبعض الأغراض المعنوية أو لرجاء ثواب اللّه، و لكن الوكيل لا يجوز له ذلك، كما هو واضح. فلو خالف مصلحته، فالعقد أيضا فضوليّ لا أثر له بدون الإجازة.

و ليعلم أنّ هذا الفرع إنّما يكون في فرض اطلاق الوكالة، كان يقول: أخطب لي زوجة، من دون تعين الزوجة أو مهرها. و أمّا لو عيّن شخصا و مهرا، فانّه يجوز للوكيل العقد عليها و إن كان على خلاف مصلحة الموكل، لشمول أدلة الوكالة له.

و أمّا الفرع الثالث، أي عدم جواز تعدى الوكيل عن مورد الوكالة

و إن تعدى كان فضوليا فهو من الواضحات لأنّه مقتضى الوكالة.

[المسألة 15: لو وكّلت المرأة رجلا في تزويجها، ليس له ان يزوجها من نفسه

اشارة

المسألة 15: لو وكّلت المرأة رجلا في تزويجها، ليس له ان يزوجها من نفسه، إلّا إذا صرّحت بالتعميم، أو كان كلامها بحسب متفاهم العرف ظاهرا في العموم بحيث يشمله نفسه.

مقتضى اطلاق الوكالة في النكاح

(1) أقول: قد وقع الكلام في المسألة في كلمات الاصحاب تبعا لبعض الروايات الواردة فيها. و يظهر من كلام النراقي في المستند «1» كونه إجماعيا في الجملة؛ كما يظهر من كلام الشهيد الثاني في المسالك، «2» عدم الخلاف فيها كذلك.

صور خمسة في المسألة

و جملة القول فيها أنّ للمسألة صورا خمسة:

1- إذا وكلت المرأة احدا في تزويجها لرجل معين.

2- إذا وكلت المرأة و اطلقت.

3- إذا صرحت بالعموم، بقولها زوجنى ممن شئت.

4- إذا صرحت أكثر من ذلك، بأن قالت: زوجني ممّن شئت حتى من نفسك.

5- إذا قالت: زوجني لنفسك خاصّة.

حكم الصورة الاولى و الثانية

لا إشكال في عدم جواز تزويجها لنفسه في الصورة الاولى؛ و إلّا كان فضوليا.

و قد صرّح غير واحد بعدم الجواز في الثانية (صورة الاطلاق)، و هي التي ادعوا الإجماع أو عدم الخلاف فيها، و الذي يستدل به على عدم الجواز أمران:

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 214

الأول: انصراف اطلاق الوكالة إلى غير الوكيل، فانّ ظاهرها اختلاف الزوج و المزوّج.

الثانى: روايات؛ منها،

صحيحتا الحلبي و الكناني؛ ففي الاولى، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في امرأة ولّت أمرها رجلا، فقالت: زوجني فلانا. فقال: لا ازوجك حتى تشهدي لي أنّ أمرك بيدى؛ فاشهدت له. فقال عند التّزويج للذى يخطبها: يا فلان عليك كذا و كذا؛ قال: نعم.

فقال هو للقوم: أشهدوا أنّ ذلك لها عندي، و قد زوجتها نفسي. فقالت المرأة: لا و لا كرامة؛ و ما أمري إلّا بيدي، و ما وليتك أمري إلّا حياء من الكلام. قال: تنزع منه و يوجع رأسه «1».

و الاستدلال به مشكل جدا؛ و ذلك لأنّ مفروض الرواية بحسب الظاهر، كونها من القسم الأول. و أنّ الوكيل دلّس الأمر على المرأة في قوله: أمرك بيدي؛ و لم تكن راضية بذلك. و اذا، لمّا عرفت الحال، تبرئت منه. و من هنا امر الإمام عليه السّلام بتعزيره أيضا.

و مثله رواية الكناني، على ما ذكره صاحب الوسائل ذيل الرواية الاولى.

و منها، ما رواه عمار الساباطي، قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن

امرأة تكون في أهل بيت فتكره أن يعلم بها أهل بيتها، أ يحل لها أن توكل رجلا يريد أن يتزوجها؟ تقول له: قد وكلتك فاشهد على تزويجي. قال: لا. قلت له: جعلت فداك و إن كانت أيّما. قال: و إن كانت أيّما قلت: فان وكلت غيره بتزويجها (فيزوجها) منه. قال: نعم «2».

بناء على أنّه إذا لم يجز في صورة التصريح بخصوص اسم الوكيل، فعدم الجواز عند الاطلاق أوضح. و بعبارة اخرى، هذه الرواية و إن كانت ناظرة إلى الصورة الخامسة و لكن يمكن استنباط حكم الصورة الثانية و ما بعدها منها بمقتضى الأولوية.

و لكن سيأتي أنّ هذه الرواية في موردها معرض عنها عند المشهور؛ و لهم كلام في سندها، فانّه رواها الشيخ، في التهذيب، باسناده إلى محمد بن علي بن محبوب، عن أحمد بن الحسن، عن عمرو بن سعيد، عن مصدق بن صدقة، عن عمار الساباطي، قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام الخ. و نقد سند الحديث هكذا:

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 215

1- أمّا طريق الشيخ، إلى محمد بن على بن محبوب، فالظاهر أنّه صحيح.

2- أمّا ابن محبوب، فهو شيخ القميين في زمانه، ثقة، عين، فقيه، صحيح المذهب.

(على ما ذكره النجاشي و العلّامة في الخلاصة).

3- و أمّا أحمد بن الحسن، فهو أحمد بن الحسن بن علي بن محمد بن فضال، بقرينة روايته عن عمرو بن سعيد، فهو من الفطحيين، غير أنّه ثقة. (كما عن النجاشي و الشيخ و العلامة).

4- أمّا عمرو بن سعيد، فهو المدائني، فقد وثقه النجاشى، و العلّامة، لكن حكى الكشي عن بعض (نصر بن الصباح) أنّه فطحي؛ ثم قال: و نصر، لا أعتمد على قوله؛ و الظاهر أنّه مستند إلى كون نصر من

الغلاة على ما ذكروه في الرجال؛ و لم يوثقه أحد فيما رأيناه.

5- أمّا مصدق، و عمار، كلاهما فطحيان و لكنهما ثقتان؛ فالسند و إن كان مشتملا على جماعة من الفطحيين و لكنهم ثقات، لا يضر ذلك بقبول روايتهم. و لكن العمدة اعراض الأصحاب عن العمل بها، حتى في موردها، لا ضعف سندها كما ذكره غير واحد.

و أمّا دلالتها، فإنّما يمكن الاستدلال بها في بدء النظر؛ أمّا عند التأمل، فليس فيها إلّا الوكالة في الشهادة على التزويج، لا نفس التزويج، و هذا غير كاف؛ لأنّ الشهادة على التزويج التي تكون مستحبا عندنا لا تشمل الزوج أو الزوجة. و يمكن أن يكون المنع، لتولي طرفي العقد من شخص واحد بناء على منعه، أو تحمل على التقية أو شبه ذلك؛ فالعمل بمفادها هنا- كما ذكره في الحدائق- ممنوع.

فالعمدة في المقام، هي انصراف الاطلاق إلى غير الوكيل؛ و لو فرض الشك كان الحكم عدم الشمول، فانّ الشمول هو الذي يحتاج إلى دليل.

حكم الصورة الثالثة و الرابعة

و أمّا الصورة الثالثة و الرابعة (المصرحة بالعموم، و المصرحة بشموله حتى للوكيل)، مقتضى القاعدة فيهما صحة الوكالة و النكاح، لأنّ المانع و هو الانصراف قد ارتفع، و أمّا الاستناد في عدم الجواز إلى الروايات السابقة، فقد عرفت حالها و عدم كفايتها.

حكم الصورة الخامسة

و أمّا الصورة الخامسة، و هي ما إذا وكّلها لتزويجها لنفسه فقط، فقد صرح في الحدائق بعدم الجواز استنادا إلى رواية عمار، و قال: الظاهر، أنّه لا وجه لذلك إلّا من حيث كونه موجبا قابلا «1».

هذا؛ و قد عرفت عدم إمكان العمل بالرواية لإبهامها في نفسها، و اعراض الأصحاب عنها، و إن كان الاحوط كون الوكيل غير الزوج.

بقي هنا شي ء:

و هو أنّه هل يأتي هذا الكلام في عكس المسألة، و هو ما إذا و كل الزوج الزوجة في تزويجه، فعقدته لنفسها؟ الظاهر أنّ ما ذكرنا من مقتضى القاعدة يأتي فيها، و أمّا رواية عمار، لو فرض العمل بها في مورده تعبدا، يشكل التعدى منها إلى صورة العكس؛ اللّهم إلّا أن يقال بالفحوى. و اللّه العالم.

[المسألة 16: الأقوى جواز تولّي شخص واحد طرفي العقد]

اشارة

المسألة 16: الأقوى جواز تولّى شخص واحد طرفي العقد، بأن يكون موجبا و قابلا من الطرفين؛ أصالة من طرف، و وكالة من آخر؛ أو ولاية من الطرفين؛ أو وكالة عنهما؛ أو بالاختلاف؛ و إن كان الأحوط الاولى مع الامكان، تولى اثنين و عدم تولى شخص واحد من الطرفين، خصوصا في تولّي الزوج طرفي العقد، اصالة من طرفه و وكالة عن الزوجة في عقد الانقطاع؛ فإنه لا يخلو عن إشكال غير معتد به، لكن لا ينبغي فيه ترك الاحتياط.

تولّي شخص واحد طرفي العقد

(1) أقول: هذه المسألة كثيرا ما يقع محل الابتلاء، و يكثر البلوى بها، إذا لم يوجد العارف بإجراء صيغ العقود إلّا واحدا؛ أو يراد التبرك برجل إلهي لإجراء طرفي العقد؛ أو غير ذلك.

و قد حكي النراقي في المستند، عن المسالك، عدم الخلاف فيه، و أنّه ذهب الفاضلان و فخر المحقّقين و الشهيدان إلى الجواز. ثم حكي عن إيضاح الفوائد عن بعض علمائنا، المنع منه؛ ثم قال: و هو الأقوى «1».

و في الرياض: الأشبه الأشهر كما عن الإسكافي ... الجواز (أي جواز تزويج الوكيل لنفسه)، و لو لزم تولية طرفي العقد. «2» و يظهر من الجواهر في ذيل المسألة السابقة أيضا، الجواز و ادعى عدم وجدان الخلاف فيه. «3»

أدلّة الجواز

و كنّا في سالف الزمان ممن يميل إلى المنع، ثم رجعنا عنه و أفتينا بالجواز.

و استدل للجواز، بعمومات أدلة الولاية و الوكالة؛ فانّ المستفاد منها جواز تزويج الوليّ انوار الفقاهة، ج 3، ص: 218

و الوكيل عن اثنين؛ بل قد يلوح من بعض الاخبار الخاصة، جوازه. كما سنشير إليه إن شاء اللّه (في ذيل المسألة).

إن قلت: يشترط في المتعاقدين، التغاير و التعدد، فانّ هذا هو المستفاد من معنى العقد، فانّه لا يكون إلّا بين اثنين.

قلنا: التغاير الحقيقي لا دليل عليه، بل يكفى الاعتباري. فالوكيل باعتبار كونه وكيلا عن الزوج، يغاير باعتبار كونه وكيلا عن الزوجة. نعم، التغاير الحقيقي يعتبر في الطرفي الواقعي- أي الموكّلين- فانّه لا معنى في المعاقدة بين الإنسان و نفسه. هذا مضافا إلى أنّ بناء العقلاء هنا جار على ذلك- و هو العمدة- فانّه قد يوقّع اسناد البيع أو النكاح رجل واحد، وكيل عن البائع و المشتري أو الزوج و الزوجة.

أدلّة عدم الجواز

و استدل على عدم الجواز، تارة باصالة الفساد؛ و اخرى بعدم قيام الدليل على الصحة؛ و ثالثة بعدم الدليل على كفاية المغايرة الاعتبارية؛ و قد عرفت الجواب عن الجميع. كما أنّه قد يستدل له بموثقة عمار، السابقة، فانّ النهى عن تزويج الوكيل لنفسه لا يكون إلّا لذلك. و فيه، انك قد عرفت اعراض الأصحاب عنها، و إجمالها في نفسها؛ و على فرض قبولها، ليس فيها إشارة إلى أنّ المنع من هذه الجهة، فالقول بانّ المنع من هذه الجهة تحكّم.

و هناك روايات تشعر (أو تدل) على وقوع ذلك، أي تولي طرفي العقد من اللّه تعالى أو من بعض المعصومين (عليهم السلام) أو من بعض آخر.

1- منها، ما ورد في قصه آدم و حواء في

حديث، قال اللّه عزّ و جلّ: قد شئت ذلك، و قد زوجتكها فضمها إليك «1».

و ليس فيها ما يدل على قبول آدم هذا العقد؛ اللّهم إلّا أن يقال، ليس في مقام البيان من هذه الجهة.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 219

2- و منها، ما ورد في قصة المرأة التي جاءت إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله، و طلبت تزويجها من رجل، إلى أن قال:- قد زوجتكها على ما تحسن من القرآن؛ فعلمها إيّاه. «1» و ليس فيها أيضا من قبول الرجل عين و لا أثر، (و يرد عليها ما مر في سابقتها).

3- ما ورد في قصة أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث طويل، في المرأة التي نفت أن يكون الغلام ولدا لها- إلى أن قال- أشهد اللّه و أشهد من حضر من المسلمين أني قد زوجت هذه الجارية من هذا الغلام بأربعمائة درهم «2».

ليس فيها من قبول الغلام أثر، و العقد و إن كان صوريا، و لكنه دليل على كون تولى طرفي العقد صحيحا. اللّهم إلّا أن يقال إنكار المرأة بعد سماع العقد إنكارا شديدا، لم يدع مجالا لقبول الغلام و ردّه.

4- و منها، ما ورد في قصة المرأة التي وكلت لرجل لتزويجها من غيره. فقال هو للقوم: أشهدوا أنّ ذلك (المهر المعين) لها عندي و قد زوجتها نفسي «3».

و قد مرّ، أنا كنّا في سالف الزمان من القائلين بعدم جواز تولى طرفي العقد لرجل واحد، و لو بعنوان الاحتياط الواجب، ثم رجعنا عنه؛ و الأول، كان من باب عدم تعارفه بين العقلاء، و عمومات صحة العقود ناظرة إلى ما بين العقلاء. ثم رأينا أنّه قد يكون ذلك في إمضاء الاسناد كتابة، الذي هو بمنزلة الإنشاء

اللفظي، مضافا إلى ما قد عرفت في معتبرة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، ممّا يدل على ان تولى طرفي العقد لم يكن أمرا منكرا، و ردع الإمام ليس من هذه الجهة، بل من جهة تدليس الرجل.

هل هنا فرق بين العقد الموقت و الدائم؟

بقي الكلام في أنّه ما الفرق بين العقد الموقت و الدائم الذي جعله في المتن أشد

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 220

احتياطا، منه، و لعله بسبب حمل رواية عمار على العقد الموقت، للغلبة في الايّم؛ و الانصاف أنّه لا ظهور فيها من هذه الجهة.

***

[المسألة 17: إذا وكّلا وكيلا في العقد في زمان معين

اشارة

المسألة 17: إذا وكّلا وكيلا في العقد في زمان معين، لا يجوز لهما المقاربة بعد ذلك الزمان، ما لم يحصل لهما العلم بايقاعه، و لا يكفى الظنّ. نعم، لو أخبر الوكيل بالايقاع كفى، لأنّ قوله حجة فيما وكّل فيها.

لا يجوز المقاربة إلّا بعد علمهما بإيقاع العقد من جانب الوكيل

(1) أقول: المسألة واضحة لا ستر عليها، فانّ اصالة عدم تحقق العقد تكون دليلا على عدم جواز ترتيب الآثار الشرعية، و الظن المطلق ليس بحجة، و حمل الفعل على الصحة فرع صدور فعل منه، و المفروض الشك فيه؛ و أمّا حجية أخباره من باب أنّه الأمين؛ أو شبيه بذي اليد الذي جرت سيرة العقلاء على الأخذ بقوله. نعم، لو كان متهما، لا يمكن القبول منه إلّا إذا علم بصدقه فيما يخبر أو يعلم من قرائن اخرى. و اللّه العالم.

***

[المسألة 18: لا يجوز اشتراط الخيار في عقد النكاح

اشارة

المسألة 18: لا يجوز اشتراط الخيار في عقد النكاح دواما أو انقطاعا، لا للزوج و لا للزوجة؛ فلو شرطاه بطل الشرط، بل المشهور على بطلان العقد أيضا؛ و قيل ببطلان الشرط دون العقد، و لا يخلو من قوة. و يجوز اشتراط الخيار في المهر مع تعيين المدّة، فلو فسخ ذو الخيار، سقط المهر المسمّى، فيكون كالعقد بلا ذكر المهر، فيرجع إلى مهر المثل. هذا في العقد الدائم الذي لا يعتبر فيه ذكر المهر؛ و أمّا المتعة لا تصح بلا مهر. فهل يصح فيها اشتراط الخيار في المهر؟ فيه إشكال.

(1) أقول: هذه المسألة في الحقيقة تشتمل على فرعين:

1- هل يجوز اشتراط الخيار في عقد النكاح، بأن يقول الزوج أو الزوجة أو كلاهما عند إنشاء العقد، انّ لي الخيار إلى سنة، فان أردت فسخت العقد. و على فرض عدم الصحة، فهل يبطل الشرط فقط أو هو مع العقد؟

2- هل يجوز اشتراط الخيار في المهر؟ و على تقدير الصحة، فاذا فسخ فما يجب على الزوج؟

[في المسألة فرعان
الفرع الاوّل: اشتراط الخيار في عقد النكاح
اشارة

المشهور فيه عدم الجواز، بل ادعى عليه الإجماع. قال في الجواهر: لا يصح اشتراطه في العقد اتفاقا كما في كشف اللثام و غيره. «1»

و قال في الحدائق: أمّا اشتراطه في أصل النكاح، فالمشهور أنّه غير جائز، و لو اشتراطه كان العقد باطلا ... و خالف في ذلك ابن ادريس فحكم بصحة العقد و فساد الشرط. «2»

و حكي في المستمسك، عن مكاسب شيخنا الأعظم: عن الخلاف و المبسوط و السرائر و جامع المقاصد و المسالك، الإجماع عليه؛ و قال في ذيل كلامه بعد نقد الأدلة التي استدل بها على البطلان، ما نصّه: فاذا، العمدة الإجماع المدعى و إن كان ظاهر

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 223

الحدائق

وجود القائل بالجواز لأنّه نسب المنع المشهور، و لكن لم يعرف بذلك قائل، و لا من نسب ذلك إلى قائل، و قال في جامع المقاصد أنّه قطعي. «1»

و استدل للبطلان بامور:

1- الإجماع، (و سيأتي الكلام فيه إنشاء اللّه).

2- أنّه ليس معاوضة حتى يصح فيه الاشتراط، و لذا لا يعتبر فيه العلم بصفات المعقود عليه.

3- فيه شائبة العبادة، و العبادات لا يدخلها الخيار.

4- اشتراط الخيار يوجب ابتذال المرأة، و هو ضرر عظيم عليها.

5- قد ورد في صحيحة ابن بكير، قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إن سمّى الأجل، فهو متعة؛ و إن لم يسم الأجل فهو نكاح بات «2».

و عن أبان بن تغلب، في حديث صيغة المتعة، قال لأبي عبد اللّه عليه السّلام: فانّي استحيي أن أذكر شرط الأيام. قال: هو أضرّ عليك! قلت: و كيف؟ قال: لأنّك إن لم تشترط، كان تزويج مقام ... و لم تقدر على أن تطلقها إلّا طلاق السنة. «3»

6- ما دل على أنّه لا يرد النكاح من عيوب خاصّة. «4»

و لكن جميع ذلك، قابل للنقد. أما الأول، فسيأتي.

أما الثاني، فلان عدم جريان الاشتراط في غير المعاوضات، أول الكلام؛ فهو مصادرة على المطلوب.

و أمّا الثالث، فلأنّه ليس عبادة حقيقة، و على فرض قبوله قد يدخل الشرط في العبادات أيضا، كما في الإحرام.

و اما الرابع، فلأنّه أخص من المدعى، لأنّ الخيار لو كان للمرأة، لا يوجب ابتذالها، بل انوار الفقاهة، ج 3، ص: 224

يوجب قوتها و سلطتها، مضافا إلى أنّه استحسان ظنّي واضح.

و أمّا الخامس، فلان المراد من النكاح الباتّ و تزويج مقام، كونه كذلك بحسب طبيعتها، كالبيع اللازم بمقتضى طبعه الذي لا ينافيه جواز خيار الشرط فيه؛ و لذا جواز رد عقد

النكاح بالعيوب لا ينافي ذلك.

و أمّا السادس، فلانه ليس في مقام البيان من هذه الجهة، بل المراد إخراج سائر العيوب. و بعبارة اخرى، الحصر هنا إضافي بالنسبة إلى أنواع العيوب، دون الخيارات.

نعم؛ هنا دليل آخر يمكن الركون إليه، و إن لم نر ذكرا له في كلماتهم. و هي، إنّ هناك روايات كثيرة تدل على نفي خيار المرأة؛ لا بالمعنى الذي نحن بصدده، بل بمعنى كونها مختارة من قبل الزوج في المقام معه، و عدمه. و لكنه يمكن استفادة المطلوب منها.

توضيح ذلك، أنّه جاء في الكتاب، في قصة أزواج النبي صلّى اللّه عليه و آله، قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا* وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً. «1» فجعل لهن الخيار في الاقامة معه صلّى اللّه عليه و آله و تركها، فاخترن المقام معه؛ (و ذلك كان بعد توفر الغنائم عند النبي صلّى اللّه عليه و آله، و استدعاء كل واحدة منهن متاعا جديدا من متاع الدنيا، و لما كان اشتغالهن بهذه الامور منافيا لمقام النبي و كيانه صلّى اللّه عليه و آله، خيّرهن فيما ذكر).

ثم وقع الكلام بينهم، في أنّ معنى هذا الخيار أوّلا كفاية خيارهن في حصول الطلاق معه، أو كان الطلاق بيده صلّى اللّه عليه و آله بعد الخيار. و في الفرض الأول هل يختص ذلك به صلّى اللّه عليه و آله، أو يجرى في سائر المؤمنين. و كل مؤمن يجوز له في أن يخيّر زوجته أو زوجاته كذلك، و يقوم اختيارها مقام الطلاق. (و قد ذكره صاحب

الجواهر، و غيره، في مباحث الطلاق.

فراجع) «2» و المعروف بين الفقهاء، ان اختيارها لا أثر له، و يحتاج إلى إجراء الطلاق.

و قد وردت هذه الروايات، في الوسائل 15/ 335، الباب 41 من أبواب مقدمات الطلاق، و هذه الروايات تقرب من عشرين رواية، تتركب من طوائف مختلفة، نبحث عنها

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 225

إنشاء اللّه في محلّها؛ و لكن طائفتان منها يمكن الاستدلال بهما على ما نحن بصدده.

الاولى: ما يدل على عدم جواز جعل الخيار لها، حتى في نفس العقد، و هي كالصريحة في المقصود. و هي ما رواه هارون- أو مروان- بن مسلم، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال، قلت له: ما تقول في رجل جعل أمر امرأته بيدها. قال: فقال لي: وليّ الأمر من ليس أهله و خالف السنّة و لم يجز النكاح. «1»

و قوله: لم يجز النكاح؛ دليل على أنّ هذا الخيار كان مجعولا لها في نفس صيغة العقد. و الرواية و إن كانت ضعيف السند، و لكن يمكن انجبارها بعمل المشهور. هذا، و لكنها تدل على بعض المقصود للمرأة، و لعل عدم ذكر الرجل من جهة عدم حاجته إليه بعد اختياره في الطلاق.

الثانية: ما يدل على عدم جواز جعل الخيار لها بعد العقد، و إنّ ذلك كان من خصائص النبي صلّى اللّه عليه و آله و زوجاته.

منها، عن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الخيار. فقال: و ما هو و ما ذاك، إنّما ذاك شي ء كان لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «2».

و منها، ما عن عيص بن القاسم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: سألته عن رجل خيّر امرأته، فاختارت نفسها، بانت

منه؟ قال: لا، إنّما هذا شي ء كان لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خاصّة؛ الحديث «3».

منها، رواية اخرى لمحمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ما للنساء و التخيير إنما ذلك شي ء خصّ اللّه به نبيّه. «4»

منها، رواية ثالثة له، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّي سمعت أباك يقول أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خيّر نساء فاخترن اللّه و رسوله فلم يمسكهن على طلاق، و لو اخترن أنفسهن، لبنّ. فقال:

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 226

إن هذا حديث كان يرويه أبي عن عائشة، و ما للناس و الخيار؛ إنّما هذا شي ء خصّ الله به رسوله صلّى اللّه عليه و آله. «1»

و هذه الروايات، و إن كانت ناظرة إلى جعل الخيار لها بعد العقد، و لكن تحاشى الإمام عليه السّلام عن ذلك، تدل على عدم جواز جعل ذلك لها في نفس العقد أيضا، إمّا بالأولوية أو بالغاء الخصوصيّة.

نعم، هناك روايات اخرى في نفس ذاك الباب، تدل على صحة جعل الخيار لها، و أنّها إذا اختارت كان بمنزلة الطلاق؛ و لكنها مقيّدة بما داما في المجلس، (مثل 7 و 14 منه). و لكنها معرض عنها عند الأصحاب في أبواب الطلاق، محمولة على التقيّة بقرينة ما سبق.

أضف إلى ذلك كلّه، عدم جريان الخيار في النكاح عن العقلاء من أهل العرف، و في مذاق المتشرعة لا يكون هناك بينونة إلّا بالطلاق، فالحكم في المسألة واضحة بحمد اللّه تعالى.

هل الشرط الفاسد يبطل العقد؟

فقد تحصل من جميع ما ذكرنا، أنّ اشتراط الخيار في النكاح غير جائز، فيبطل الشرط. ثم إنّه يقع الكلام في أنّه إذا بطل الشرط، فهل يبطل العقد أيضا أم لا؟

قال في الحدائق: لو اشترطه

كان العقد باطلا ...؛ و بذلك قطع الشيخ في المبسوط، و جملة من المتاخرين ... و خالف في ذلك ابن ادريس، فحكم بصحة العقد و فساد الشرط ...

و قال أنّه لا دليل على البطلان من كتاب و لا سنة و لا إجماع، بل الإجماع على الصحة لأنّه لم يذهب إلى البطلان أحد من أصحابنا، و إنّما هو من تخريج المخالفين و فروعهم، و اختاره الشيخ على عادته في الكتاب. «2»

و لكن قال في الجواهر: أنّ القول فيها ببطلان العقد ببطلان الشرط، معروف؛ بل في انوار الفقاهة، ج 3، ص: 227

كشف اللثام نسبته إلى المشهور هنا. «1» و زاد في المستمسك حكاية الشهرة عن المسالك أيضا. «2» و لكن ظاهر الشرائع، عدم فساد العقد هنا بفساد الشرط من غير ترديد.

و على أي حال، فالظاهر أنّ القول بالبطلان في المسألة، مشهور بين الأصحاب، و دعوى الإجماع على خلافه- كما عن ابن ادريس فيما عرفت- لا اعتبار به.

و من العجب، أنّ المشهور في أبواب الشروط الفاسدة أنّها لا تفسد العقد به، و لكن حكموا هنا بالفساد؛ فلا بدّ من مطالبة الفرق.

و على كل حال، العمدة في القول بصحة العقد، ما ذكره ابن ادريس من وجود المقتضى للصحة، و انتقاء المانع. فانّه لا دليل للبطلان من كتاب و سنة، مع وجود أدلة صحة العقد و وجوب الوفاء بها.

كما أنّ عمدة الدليل على البطلان، أنّ نفوذ العقد بدون الشرط، ممّا لم يقصده الزوجان.

فان صح العقد بغير الشرط، كان ما قصد لم يقع و ما وقع لم يقصد.

و يجاب عنه، بأنّ الشروط بحسب الارتكاز العرفي، من قبيل تعدد المطلوب. فاصل العقد مطلوب، و الشرط مطلوب آخر؛ فلو لم يتمّ شرائط الصحة للشرط،

فأصل العقد يكون صحيحا. و مثله ما ذكروه في بيع ما يملك و ما لا يملك؛ أو بيع ما يملك و ما لا يملك؛ و ليست الشروط أقوى من أجزاء المبيع. و كذلك لو كان الصداق في عقد النكاح ممّا لا يملك كالخمر و الخنزير؛ أو ممّا لا يملكه الزوج كما إذا أصدقه عبدا فبان حرا؛ فان الحكم بالصحة في جميع ذلك ممّا اتفقت عليه كلماتهم، و ليس ذلك كلّه إلّا بسبب تعدد المطلوب، فلا يمكن أن يقال ما قصد لم يقع و ما وقع لم يقصد.

هذا؛ و قد يقال إنّ ما ذكرتم صحيح في غير أركان العقد، فانّه مقصود بالعقد بحسب الارتكاز العرفي، و ما نحن فيه من هذا القبيل، و إن شئت قلت، شرط الخيار مناف لمقتضى العقد.

قال سيدنا الأستاذ الخوئي، (رحمه الله) في بيان ذلك في بعض تعليقاته على العروة،

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 228

ما نصه: إنّ اشتراط الخيار يرجع إلى تحديد الزوجية بما قبل الفسخ لا محالة و هو ينافي قصد الزواج الدائم أو المؤجل إلى أجل معلوم، و هذا بخلاف سائر الشروط الفاسدة.

و يرد على ما أفاده (قدس سره)، أنّ قصد الدوام لا ينافي جعل الخيار، كما هو كذلك في أبواب البيوع؛ فالبيع تمليك دائم و مع ذلك قد يجعل فيه الخيار، فلا يقال أنّه لم يقصد التمليك الدائم بسبب جعل الخيار؛ و مثله جعل الخيار في الاجارة.

و يمكن أن يكون مراد صاحب العروة و غيره، ممن جعل الخيار في النكاح مخالفا لمقتضى العقد، ما عرفت سابقا من أنّ أمر النكاح أمر بات قطعي، لا يرجع فيه في عرف العقلاء إلّا بالطلاق، فاشتراط الخيار مناف له.

و هناك وجه ثالث لبطلان العقد-

ذكرناه في تعليقاتنا على العروة- و حاصله، أنّ الشرط إذا بطل و صح العقد، يجبر بخيار الفسخ. مثل الشروط الفاسدة في البيوع إذا بطلت أجبرناها بجعل خيار التخلف، لصاحب الشرط؛ كما أنّ تبعض الصفقة في بيع ما يملك و ما لا يملك (أو ما يملك و ما لا يملك)، يجبر بخيار التبعض للمشترى، أو هو و البائع؛ و لكن في النكاح لا يمكن جبرانه بالخيار.

فالحاصل، أنّ الفساد في المقام قوى. و الله العالم.

الفرع الثاني: شرط الخيار في المهر

و الظاهر أنّه معروف بين الأصحاب كما أفتى به في الشرائع، و القواعد، و المسالك، و كشف اللثام، و غيرها (على ما حكى عن بعضهم) بل قال في المستمسك: أنّهم أرسلوه ارسال المسلمات من دون نقل خلاف. «1»

و قال الشيخ (قدس سره)، في الخلاف، في المسألة 33، من كتاب الصداق: إذا أصدقها دارا و شرط في الصداق ثلاثة أيام شرط الخيار، صح الصداق و الشرط معا، و النكاح صحيح. و للشافعي في صحة الصداق قولان: أحدهما، يبطل و الثاني، يصح. فاذا قال انوار الفقاهة، ج 3، ص: 229

يصح، فله في الصداق ثلاثة أوجه: أحدها، يصح المهر و الشرط معا، كما قلناه. و الثاني، يبطلان معا. و الثالث، يبطل الشرط دون الصداق. ثم قال: دليلنا، قوله عليه السّلام: المؤمنون عند شروطهم؛ و لأنّ هذا الشرط لا يخالف الكتاب و السنة، فيجب أن يكون صحيحا. «1» انتهى.

أقول: تقييده بثلاثة أيّام لشرط الخيار، ناظر إلى ما هو الغالب في هذه الامور و في غير واحد من الخيارات، حيث إنّها مشروطة بثلاثة أيّام؛ و إلّا لا يكون لهذا الشرط حد معين.

و كيف كان عدم استناد الشيخ (قدس سره) إلى الإجماع، كما هو رأيه في كثير من المسائل،

و عدم نقل الخلاف، (لعله) دليل على عدم تعرض كثير من الأصحاب، له.

و الأقوى ما هو المعروف، و الدليل عليه ظاهر. فانّ عموم أدلة وجوب الوفاء بالشروط إلّا ما خالف الكتاب و شبه ذلك، يشمله. و المفروض أنّ المهر ليس من أركان العقد الدائم، و حينئذ لو فسخه، رجع إلى مهر المثل؛ لأنّ العقد لا يخلو عن مهر إمّا المسمى أو المثل.

نعم، اللازم تعيين مدّة الخيار، كما صرّح به جماعة من الأصحاب، لأنّ إبهامه و إجماله يوجب الغرر بلا إشكال، و اطلاق كلمات الأصحاب لا يدل على عدم وجوب تعيينه لأنّهم ليسوا في مقام البيان من هذه الجهة قطعا. و هكذا الكلام في شرط الخيار في البيع و غيره، فلا بدّ من تعيين مدّته بلا إشكال.

شرط الخيار في العقد الموقت

هذا كله في العقد الدائم؛ أمّا العقد المؤقت، فيشكل شرط الخيار في مهره، لأنّ المهر ركن فيه، فاذا فسخه يبقى بلا مهر. اللّهم إلّا أن يقال، الواجب فيه تعيين المهر في ابتداء العقد، لا في الاستدامة و هنا كذلك، فانّ الخيار و الفسخ يفسخه من حينه، لا من أول العقد، و لكن لازمه رجوع الزوجة إلى مهر المثل هنا، و هو غير معروف في أبواب العقد الموقت.

فالحكم ببطلان الشرط دون العقد، قويّ.

[المسألة 19: إذا ادعى رجل زوجية امرأة فصدقته

اشارة

المسألة 19: إذا ادعى رجل زوجية امرأة فصدقته؛ أو ادعت امرأة زوجية رجل فصدقها، حكم لهما بذلك، مع احتمال الصدق. و ليس لأحد الاعتراض عليهما، من غير فرق بين كونهما بلديين معروفين، أو غريبين.

و أمّا إذا ادعى أحدهما الزوجية و انكر الآخر، فالبيّنة على المدعى و اليمين على من انكر. فان كان للمدعى بينة حكم له؛ و إلّا فتتوجه اليمين إلى المنكر، فان حلف، سقط دعوى المدعى؛ و إن نكل، يردّ الحاكم اليمين على المدعى، فان حلف، ثبت الحق؛ و إن نكل، سقط.

و كذا لو رده المنكر على المدعى و حلف، ثبت؛ و إن نكل، سقط.

هذا بحسب موازين القضاء و قواعد الدعوى؛ و أمّا بحسب الواقع، فيجب على كل منهما العمل على ما هو تكليفه بينه و بين الله تعالى.

إذا ادعت المرأة زوجية رجل أو بالعكس

(1) أقول: هذه المسألة و المسائل الخمس الآتية، تكون من مسائل الدعاوي و حقها أن يبحث عنها في أبواب القضاء و شبهها، و لكن جرت عادة القوم بذكر بعض المصاديق في الأبواب الآخر؛ و على كل حال، هذه المسائل أسست على مبانى معلومة في أبواب القضاء، منها:

1- اقرار العقلاء على أنفسهم جائز، و هو من المسلمات. و قد استوفينا البحث عنها في القواعد الفقهية، في قاعدة الاقرار.

2- البينة على المدعى و اليمين على من أنكر.

3- إذا لم تكن للمدعى بينة، يطلب من المنكر اليمين على نفى الدعوى، فإن نكل عن اليمين- بأي دليل كان-، يطلب من المدعى اليمين على دعواه، فلو حلف يثبت به الدعوى، و إن نكل هو أيضا سقط الحق من الجانبين.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 231

4- كذلك لو ردّ المنكر أليمين على المدعى، فحلف، يثبت الحق؛ و إن نكل سقط من الجانبين.

و هذه

المسائل كالمقطوع بينهم؛ و تطلب أدلتها من أبواب القضاء.

الصور السبعة و حكمها

و على هذا الأساس نعود إلى المسألة، فنقول- و من الله سبحانه الهداية- فيها صور سبعة:

1- إذا ادعت المرأة زوجية رجل أو بالعكس مع تصديق الآخر، حكم لهما بذلك. و دليله قاعدة الاقرار. و ليس لأحد الاعتراض عليهما إلّا أن يعلم كذبهما في هذا الدعوى.

مضافا إلى قاعدة الحمل على الصحة. فبالنسبة إلى لزوم التزامهما بآثار الزوجية من النفقة و الارث و غيرهما، يرجع إلى الاقرار؛ و بالنسبة إلى أفعال مثل المواقعة و غيرها، يحمل فعلها على الصحة مطلقا من دون فرق.

و الفرق بين البلدي و الغريب، كما يحكى عن بعض العامة، مما لا وجه له. و وجوب الاشهاد، على فتوى بعض المخالفين، لا يكون دليلا على وجود الشاهد للبلدى دائما، و لعل الشاهد سافر أو مات أو لا يعرف مكانه؛ كما أنّه لا يطلب من المرأة عند إرادة تجديد النكاح، شهود الطلاق.

امّا إذا لم يصدقه الآخر، بل أنكر مقاله؛ فله أربع صور:

2- تارة، تكون للمدعى البيّنة على مدعاه، فيحكم له به.

3- أخرى، لا تكون له ذلك فيستحلف المنكر فيحلف على النفي، فتسقط الدعوى.

4- و ثالثة، ينكل عن اليمين، فيرجع الحاكم إلى المدعى، فلو حلف، ثبت الحكم له.

5- و رابعة، لا يحلف المدعى أيضا، فتسقط الدعوى.

أمّا إذا كان المدعى ليس له بيّنة، و المنكر لا يحلف، بل يرد اليمين و يقول فليحلف المدعى على دعواه، فيطلب منه الحاكم ذلك، فله صورتان:

6- تارة يحلف، فيثبت به الدعوى.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 232

7- و اخرى لا يحلف، فتسقط الدعوى.

كل ذلك، لأصول معلومة مضبوطة ثابتة في أبواب القضاء ممّا لا يمكن مخالفتها.

يبقى الكلام في أن هذه الأحكام أحكام ظاهرية من باب

فصل الخصومة و لا يوجب تغييرا في الواقع؛ فلو كان الزوج كاذبا في دعواه أو الزوجة كاذبة، ثم ثبت له حق بحسب الظاهر، يكون مسئولا عند الله. و قد ادعى الإجماع على ذلك؛ و يدل عليه المعتبرة المعروفة، عن أبي عبد الله عليه السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّما اقضى بينكم بالبينات و الأيمان، و بعضكم الحن بحجته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئا، فانما قطعت له قطعة من النار. «1»

و هذا هو مقتضى القاعدة، لأنّ أحكام القضاء طريقته بلا إشكال عند العقلاء، و في الشرع. و الله العالم.

***

[المسألة 20: إذا رجع المنكر عن إنكاره إلى الاقرار، يسمع منه

اشارة

المسألة 20: إذا رجع المنكر عن إنكاره إلى الاقرار، يسمع منه، و يحكم بالزوجية بينهما؛ و إن كان ذلك بعد الحلف، على الاقوى.

إذا أقرّ المنكر بوقوع النكاح

(1) أقول: و المسألة غير محرّرة في كلمات الأصحاب و لم يتعرضوا لها، إلّا قليلا. و يظهر من بعض كلمات الجواهر في مسألة الاقرار بعد الانكار، في كتاب القضاء، (في ما لو أقر له واحد بالملك، فانكره المقرّ له، ثم رجع عن انكاره)، أنّه يتعارض الاقرار و الانكار و يتساقطان، فراجع. «1»

هذا؛ و لما تعرض صاحب العروة للمسألة، ذيل المسألة الثانية من المسائل المتفرقة لعقد النكاح، أخذ الشارحون، مثل سيدنا الحكيم في المستمسك، و السيد السبزوارى في المهذب، في شرح المسألة بما ستأتي الإشارة إليه، إن شاء اللّه.

و كيف كان لا بدّ من تحرير أصل مسألة الاقرار بعد الانكار على نحو كلي، حتى يتبين حكم المقام. فنقول: (و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية)، أنّه لا شك في عدم قبول الانكار بعد الاقرار، لأنّ الإنسان مأخوذ بحكم اقراره بالإجماع و الأدلة القطعية، فلا يسمع منه انكاره.

و أمّا الاقرار بعد الانكار، فقد صرح في العروة بانه: لو رجع المنكر عن انكاره إلى الاقرار، هل يسمع منه و يحكم بالزوجية بينهما، فيه قولان، و الأقوى السماع إذا أظهر عذرا لإنكاره و لم يكن متهما، و إن كان ذلك بعد الحلف.

و صرح في المستمسك بعدم وقوفه، على وجود قولين في المسألة. «2»

و الأولى أن يقال، في المسألة وجهان، لا قولان لعدم العثور على القائل. و دليل الوجه الاولى،- أي قبول الاقرار بعد الانكار- هو الأخذ بعموم قاعدة الاقرار؛ و لا ينافيه انوار الفقاهة، ج 3، ص: 234

الانكار السابق. و دليل الوجه الثانى، انصراف العموم عن مثله،

و لم يثبت بناء العقلاء عليه أيضا، لا سيّما أنّه يكون مظنة للتهمة دائما؛ و لا أقل من الشك في العموم، و الأصل عدم التأثير.

و أمّا اشتراط بيان العذر و عدم اتهامه، فالظاهر عود كلا الشرطين إلى أمر واحد؛ فانّ المنكر لو لم يذكر عذرا يكون متهما في اقراره. (و مثال العذر، أن تقول المرأة، إنّي خفت من أهلي لو كنت مقرة، لعدم الاستئذان منهم. أو قالت، كنت قريبة العهد بانقضاء عدّة وفات زوجي السابق و كنت استحيى من الناس، فأنكرت الزواج الثاني؛ أو غير ذلك).

و الانصاف أنّ القبول مشكل جدا لما عرفت، و الاتهام لا يرتفع إلّا إذا علمنا بصدقها في عذرها، و أنّ الانكار السابق لم يكن عن جدّ، و حينئذ يتغير حكم المسألة كما هو واضح.

و من هنا يعلم أنّ الحكم بتعارضها و تساقطها- الذي يظهر من بعض كلمات الجواهر- أيضا ليس على ما ينبغي؛ لأنّه فرع قبول الثاني، و قد عرفت الإشكال فيه. و أشكل من الجميع، إذا كان الاقرار بعد الحلف عقيب الانكار.

و ما ذكره المحقق السبزواري، في المهذب، في شرح كلام صاحب العروة من: أنّ المنساق ممّا ورد في ما يتعلق بالقضاء عن المدعى و المنكر و الحلف و البيّنة، هو المستقر منها، لا الثابت الزائل ... فلا يبقى موضوع حتى يقال إن الحلف فاسخ تعبدى، و يكون الاقرار حينئذ بعد الانكار كالإقرار غير الجامع للشرائط؛ «1» أيضا في غير محلّه. لما عرفت من انصراف أدلة حجية الاقرار عن مثل المقام، لا سيّما إذا حلف عند إنكاره.

***

بقي هنا شي ء:

و هو أنّه في أبواب الجنايات و الديون و شبهها، كثيرا ما ينكر الجاني أو المديون انوار الفقاهة، ج 3، ص: 235

جنايته أو

دينه، و بعد طرح الاسئلة من ناحية المسئولين في دائرة القضاء، لا يجد محيصا إلّا عن الاقرار، و هذا اقرار بعد الانكار و هو كثير، و لا شك في قبوله إذا لم يكن الاقرار تحت الضغط؛ و ذلك لأنّه لا مجال للتهمة هنا (بخلاف محل الكلام)، و لذا استقر بناء العقلاء من أهل العرف على قبوله إلّا في موارد شاذة يكون فيها الاتهام.

***

[المسألة 21: إذا ادعى رجل زوجية امرأة، و انكرت، فهل لها ان تتزوج من غيره

اشارة

المسألة 21: إذا ادعى رجل زوجية امرأة، و انكرت، فهل لها ان تتزوج من غيره؛ و للغير أن يتزوجها قبل فصل الدعوى، و الحكم ببطلان دعوى المدعى؛ أم لا؟ وجهان:

أقواهما، الأول؛ خصوصا فيما تراخى المدعى في الدعوى، أو سكت عنها حتى طال الأمر عليها. و حينئذ، أن اقام المدعى بعد العقد عليها بيّنة، حكم له بها و بفساد العقد عليها. و إن لم تكن بينة، تتوجه اليمين إلى المعقود عليها، فان حلفت بقيت على زوجيتها و سقطت دعوى المدعى؛ و كذا لوردت اليمين على المدعى و نكل عن اليمين.

و إنّما الإشكال فيما إذا نكلت عن اليمين أو ردت اليمين على المدعى، و حلف، فهل يحكم بسببها بفساد العقد عليها فيفرق بينها و بين زوجها؛ أم لا؟ وجهان:

أوجههما، الثانى؛ لكن إذا طلقها الذي عقد عليها أو مات عنها، زال المانع فترد إلى المدعى بسبب حلفه المردود عليه من الحاكم أو المنكر.

حكم من انكر زوجية رجل

(1) أقول: قد ذكر صاحب العروة، هذا الفرع بعنوان المسألة الرابعة من المسائل المتفرقة، و لم يتعرض لها كثير من الأصحاب. نعم، ذكرها الشهيد الثاني في المسالك، و شرّاح العروة في شروحهم، (كالمستمسك و المهذب).

و يمكن بيان المسألة بعنوان كلي، و هو أنّه إذا ادعى واحد على غيره بدعوى في مال أو زوجية أو غير ذلك، فهل يمنع عن التصرفات فيه حتى تتم الدعوى؛ أو لا يمنع؛ أو يفصل بين ما إذا طالت المدّة بحيث يتضرر المدعى عليه، و بين ما إذا لم تطل، فيمنع المدعى عليه عن التصرفات.

مقتضى القاعدة، عدم منع المرأة عن التزويج؛ لأنّ كل إنسان مسلّط على نفسه في أمر التزويج و غيره من أشباهه؛ و لا يمكن منعه عنه بمجرد دعوى

غيره كما أنّ الناس مسلطون على أموالهم و لا يمكن منعهم عن التصرفات بالبيع و الشراء و الهبة و غيرها بمجرد إقامة الدعوى؛ و إلّا كان هناك طريق لمنعهم دائما- و لو في برهة من الزمان-

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 237

بمجرد إقامة دعوى عليه، و هذا ممّا لا يقبله أحد. فمن كان مخالفا لتزويج امرأة من غيرها، كفاه إقامة الدعوى عليها.

ثم بعد التزويج، لا يخلو الأمر، من امور ثلاثة:

إمّا يقيم البينة على ما ادعاه، فتكون زوجته و يبطل العقد الثاني.

و إمّا لا يقيمها، و لكن تنكر المرأة و تحلف عليه، أو ترد الحلف على المدعى و هو أيضا لا يحلف، فتسقط الدعوى.

و إمّا يحلف المدعى، اليمين المردود عليه، فحينئذ يؤخذ بما لا ينافي حق الزوج الثانى. فلا يبطل العقد، لأنّه حق شخص ثالث؛ و الحلف لا أثر له إلّا لطرف الدعوى و هى المرأة؛ و فائدته أنّه لو طلقها رجعت إلى الثاني. و القول ببطلان العقد الثاني بسبب الحلف، ممّا لا وجه له؛ لأنّ دليل نفوذه لا يشمل المقام قطعا.

إن قلت: على هذا، يكون التزويج عليها سببا لبطلان حق المدعى، و عدم وصوله إلى مقصوده بالحلف، فاللازم المنع عنه.

قلنا: أوّلا، إنّ إقامة الدعوى ليست من الحقوق، بل من أحكام الشرع. نعم، موضوع هذا الحكم، المرأة الخلية، فاذا تزوجت انتفى الموضوع؛ فالحكم ينتفى بانتفاء موضوعه كما في بيع العين أو هبتها أو غير ذلك. و لا دليل على وجوب حفظ الموضوعات.

و ثانيا، لا يعلم من قبل، أنّ المدعى يحلف اليمين المردود عليه أو لا يحلف؛ و منع المرأة عن التسلط على نفسها، سبب لمنعها عن حقوقها؛ و لا دليل على أنّ حق المدعى،- لو فرض له حق-

مقدم على حق المرأة على نفسها، و مقتضى الجمع بين الحقوق ما عرفت في فرض الطلاق، و الله العالم.

و ذكر الفقيه السبزواري، في مهذب الأحكام، أنّه لم يظهر وجه الأظهريّة في الوجه الأول، (أي جواز تزويجها) مع ما ناقشنا في دليله من انه أشبه بالمصادرة. (و كأنه ناظر إلى كلام صاحب العروة أنّها خلية و مسلطة على نفسها).

ثم قال: يمكن أن يستدل على الصحة، باطلاق ما ورد في ايكال الأمر إليها في هذا الموضوع. ففى خبر ميسّر، قلت لأبي عبد الله عليه السّلام: القى المرأة بالفلاة التي ليس فيها أحد،

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 238

فأقول لها: أ لك زوج؟ فتقول: لا؛ فأتزوجها؟ قال: نعم، هي المصدقة على نفسها. «1» فيستفاد منه ثبوت السلطة المطلقة لها ما لم يكن مانع فعلى. و حينئذ فلا أثر للحق الاقتضائي مطلقا. و مع ذلك فالأمر مخالف لمرتكزات أذهان المتشرعة، فانّهم لا يقدمون على مثل هذه المرأة، إن احتملوا وجود المدعى لزوجيتها، فضلا إذا علموا بوجود المدعى. «2»

و يمكن النقاش في كلامه، أولا، أنّ كون المرأة خلية و مسلطة على نفسها. ليس مصادرة على المطلوب، بل هو قاعدة عقلائية و شرعية من أنّ الناس مسلطون على أموالهم و أنفسهم (سواء كان قولنا، و أنفسهم، من الرواية أم لا) فلا يمكن منعهم من هذه السلطة إلّا بدليل.

و ثانيا، قد عرفت أنّ جواز إقامة الدعوى من الأحكام، و جواز الحلف أو إقامة البينة ليس من الحقوق، فالحق الاقتضائي لا محصل له.

و ثالثا، أنّ مخالفته لمرتكزات المتشرعة، إنّما هو من جهة اصرارهم على الاحتياط في هذه الامور، و كثير منهم لا يقدمون على تزويج المرأة المطلقة خوفا من فساد طلاقها.

و من الواضع أنّ أمثال

هذه الاحتياطات لا يمنع عن جواز التزويج. كما أنّ الناس لا يقدمون على اشتراء ملك فيه دعوى، مع أنّ جواز اشترائه من ذي اليد ممّا لا إشكال فيه.

فالمسألة ظاهرة.

***

[المسألة 22: يجوز تزويج امرأة تدعي أنّها خلية من الزوج

اشارة

المسألة 22: يجوز تزويج امرأة تدعى أنّها خلية من الزوج مع احتمال صدقها من غير فحص، حتى فيما إذا كانت ذات بعل سابقا، فادعت طلاقها أو موته. نعم، لو كانت متهمة في دعواها، فالأحوط الاولى الفحص عن حالها. فمن غاب غيبة منقطعة لم يعلم موته و حياته، إذا ادعت زوجته حصول العلم لها بموته من الأمارات و القرائن و أخبار المخبرين، جاز تزويجها و إن لم يحصل العلم بقولها.

و يجوز للوكيل أن يجري العقد عليها، إذا لم يعلم كذبها في دعوى العلم؛ و لكن الاحوط، الترك، خصوصا إذا كانت متهمة.

جواز الركون على اخبار المرأة المأمونة

(1) أقول: قلما تعرضوا لهذه المسألة أيضا. نعم، ذكرها المحقق، في الشرائع، في بحث نكاح المتعة، و قال: و (يستحب) أن يسألها عن حالها مع التهمة؛ «1» و ذكر صاحب الجواهر (قدس سره)، في شرح هذه العبارة، بعد نقل رواية أبي مريم الآتية، ما يدل على أنّ ظاهر الرواية، الأمر بالسؤال مطلقا، إلّا أن يعلم كونها مأمونة؛ «2» و هو دليل على عدم وجوب الفحص مطلقا. و كذلك الشهيد الثاني، ذكر في شرح المسألة في المسالك، ما يدل على استحباب الفحص في الجملة.

عدم الفرق بين النكاح الدائم و الموقت

و الظاهر أنّه لا فرق بين النكاح الدائم و المنقطع؛ و ارسال المسألة ارسال المسلمات في كلماتهم، دليل على عدم وجود الخلاف فيها. و في بحث نكاح الشبهة من الجواهر أيضا اشارة إليه، حيث قال في بيان أمثلتها: و التعويل على أخبار المرأة بعدم الزوج، أو بانقضاء العدة، أو على شهادة العدلين بطلاق الزوج أو موته، أو غير ذلك من الصور التي لا

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 240

يقدح فيها احتمال عدم الاستحقاق شرعا؛ «1» و ذكرها في العروة، في المسألة السابقة بمثل ما ذكره في التحرير مع اضافات (و الألفاظ مشابهة) و لم يخالف فيه أحد من المحشين فيما وقفنا على كلماتهم. و في بعض كلماتهم أنّ المسألة مشهورة بينهم؛ بل صرّح في مهذب الأحكام أنّها إجماعيّة.

أدلّة المسألة

و كيف كان يدل عليه روايات كثيرة:

1- ما مر من حديث الميسّر. (2/ 25 من عقد النكاح)

2- ما عن عمر بن حنظلة، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السّلام إنّي تزوجت امرأة فسألت عنها، فقيل فيها. فقال: و أنت لم سألت أيضا، ليس عليكم التفتيش. «2»

و الحديث لا يخلو من ابهام، فان قول الراوي: فقيل فيها؛ لا يدل على أنّ الإشكال فيها من ناحية احتمال وجود بعل لها؛ بل الظاهر، رميها بالفسوق و الفحشاء، فلا تدل على المطلوب.

3- ما عن فضل، مولى محمد بن راشد، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: قلت: إنّي تزوجت امرأة متعة، فوقع في نفسي أن لها زوجا، ففتشت عن ذلك، فوجدت لها زوجا. قال: و لم فتشت؟ «3»

4- ما رواه مهران بن محمد، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: قيل له: إنّ فلانا تزوج امرأة متعة. فقيل له، أنّ

لها زوجا. فسألها. فقال أبو عبد الله عليه السّلام: و لم سألها. «4»

5- ما عن محمد بن عبد الله الأشعري، قال: قلت للرضا عليه السّلام: الرجل تزوج بالمرأة، فيقع في قلبه أن لها زوجا. فقال: و ما عليه، أ رأيت لو سألها البينة، كان يجد من يشهد أن انوار الفقاهة، ج 3، ص: 241

ليس لها زوج؟ «1»

6- ما عن أبي مريم، عن أبي جعفر عليه السّلام، أنّه سئل عن المتعة؛ فقال: أنّ المتعة اليوم ليست كما كانت قبل اليوم؛ أنّهن كن يومئذ يؤمنّ، و اليوم لا يؤمن، فاسألوا عنهن. «2»

بناء على أنّ ظاهرها جواز الركون على أخبار المرأة المأمونة دون المتهمة. و سيأتي أنّ الاصحاب حملوها على استحباب السؤال في المتهمة؛ فعلى هذا تكون دلالتها اوضح.

7- ما رواه في المستدرك، عن الشيخ المفيد (قدس سره)، في رسالة المتعة، عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله عليه السّلام، في المرأة الحسناء ترى في الطريق، و لا يعرف أن تكون ذات بعل أو عاهر. فقال: ليس هذا عليك، إنّما عليك أن تصدقها. «3»

8- و يدل عليه في الجملة، ما ورد في الصحيح، في أبواب العدد: أنّها إذا ادعت صدقت. «4»

هذا، و لكن هناك رواية معارضة، تدل على وجوب الفحص و إقامة الشهود على أنّه لا زوج لها، و هي ما رواه في الجعفريات، باسناده عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عليّ عليهم السّلام، في امرأة قدمت على قوم، فقالت: أنّه ليس لي زوج؛ و لا يعرفها أحد. فقال: لا تزوج حتى تقيم شهودا عدولا أنّه لا زوج لها. «5»

و لكنها مضافا إلى ضعف سندها، و اعراض الأصحاب عنها، يمكن الجمع بينها و بين ما تقدم، بالحمل

على الاستحباب (أو الوجوب)، في خصوص المتهمة دون غيرها.

استثناء المتّهمة

بقي الكلام في استثناء المتهمة عن هذا الحكم، فقد صرح في المتن بأن الاحوط الاولى، ذلك؛ و لكن احتاط في العروة احتياطا وجوبيا، و هو الحق لو لم يكن أقوى. و

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 242

ذلك لدلالة غير واحد من روايات الباب عليه، و طريق الجمع بينها و بين المجوزة هو حمل الناهية على المتهمة، مضافا إلى بناء العقلاء على عدم تصديق المتهم على الأموال و النفوس؛ بل يوجبون على أنفسهم الفحص عن ذلك. و مثله عدم حجية يد السّراق و عدم قبول الشاهد الذي يكون في شهادته نفع له.

و كذلك إذا امكن الاطلاع على الواقع بادنى فحص. كما إذا ادعت أن طلاقها مكتوب في الدفاتر الرسمية، أو ادعت شهودا على ذلك قريبا منها؛ كما هو الحال في مسألة الفحص عن الشبهات الموضوعية في جميع أبواب الفقه.

***

[المسألة 23: إذا تزوج بامرأة تدعي أنّها خلية عن الزوج، فادعى رجل آخر زوجيتها]

اشارة

المسألة 23: إذا تزوج بامرأة تدعى أنّها خلية عن الزوج، فادعى رجل آخر زوجيتها، فهذه الدعوى متوجهة إلى كل من الزوج و الزوجة؛ فان إقام المدعى بينة شرعية، حكم له عليهما و فرّق بينهما و سلّمت اليه.

و مع عدم البينة، توجه اليمين إليهما؛ فان حلفا معا على عدم زوجيته، سقطت دعواه عليهما. فان نكلا عن اليمين، فردها الحاكم عليه أو ردّاها عليه، فحلف، ثبت مدعاه. و إن حلف أحدهما دون الآخر. بأن نكل عن اليمين فردها الحاكم عليه أو ردّ هو عليه، فحلف، سقطت دعواه بالنسبة إلى الحالف. و امّا بالنسبة إلى الآخر، و إن ثبتت دعوى المدعى بالنسبة إليه، لكن ليس لهذا الثبوت أثر بالنسبة إلى من حلف؛

فان كان الحالف هو الزوج و الناكل هي الزوجة، ليس لنكولها أثر بالنسبة إلى الزوج، إلّا أنّه لو طلقها أو مات

عنها، ردت إلى المدعى. و إن كان الحالف هي الزوجة و الناكل هو الزوج، سقطت دعوى المدعى بالنسبة إليها؛ و ليس له سبيل على كل حال.

لو عقد على امرأة و ادعي آخر زوجيتها

(1) أقول: هذه المسألة منصوصة في كلمات الأصحاب و في الروايات الواردة عن المعصومين عليهم السّلام، و قد حكى الإجماع عليها في الجملة.

قال في الرياض: و لو عقد على امرأة و ادعى آخر زوجيتها لم يلتفت إلى دعواه، إلّا مع البيّنة فتقبل دعواه حينئذ، لا مطلقا، بلا خلاف، للنصوص. «1»

و قال في الحدائق: إذا عقد على امرأة فادعى آخر زوجيتها فقد صرح جمع من الأصحاب بأنّه لا يلتفت إلى دعواه إلّا بالبيّنة، بمعنى عدم سماع دعواه بالكلية مع عدم البيّنة، بحيث لا يترتب عليها اليمين على المرأة و إن كانت منكرة ... و ذهب آخرون من الأصحاب أيضا إلى قبول الدعوى و توجه اليمين و الرد و إن لم يسمع في حق الزوج. «2»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 244

و صرّح في المسالك بوجود القولين في المسألة في توجه اليمين إلى المرأة و عدمه، و بيان فائدته على فرض توجه اليمين. «1»

و ذكره في العروة الوثقى في المسألة الثالثة من المسائل المتفرقه لعقد النكاح.

حكم المسألة بحسب القواعد

و على كل حال، نتكلم فيها تارة على القواعد، ثم نذكر الأحاديث الواردة في المسألة لنرى هل فيها شي ء مخالف للقواعد أم هي على وفقها. فنقول: (و منه جل ثنائه التوفيق و الهداية) في المسألة حالات خمسة:

1- إذا اقام المدعى البيّنة على أنّها زوجته، فاللازم سماع دعواه و تسليم المرأة إلى المدعى بمقتضى حجيّة البينة، و هو واضح.

2- أن لا يقيم ذلك، فتتوجه الدعوى إلى الزوجين، و عليهما اليمين بمقتضى القاعدة المعروفة، فحلفا لنفى دعوى المدعى، سقط الدعوى تماما.

3- إذا نكلا و ردّ الحاكم اليمين إلى المدعى، أو ردّ القسم إليه و حلف، فاللازم تسليم المرأة للمدعى و نفى الزوجية الثانية.

4- إذا حلف

أحدهما و نكل أو ردّ الثاني و كان هي الزوجة، فحلف المدعى اليمين المردود، لم يكن لردّها أو نكولها أثر، لأنها تتعلق بالرجل الثاني بمقتضى عقده عليها من دون مانع، نعم لو طلقها أو مات عنها، ردّ إلى المدعى. «2»

5- إذا حلفت الزوجة، و ردّ الزوج اليمين، فحلف المدعى، لم يكن لدعواه أثر لا في الحال و لا في المستقبل، لأنّ المفروض سقوط الدعوى عن الزوجة بالحلف مطلقا.

حكم المسألة بحسب الأخبار

هذا هو مقتضى القاعدة.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 245

و أمّا بحسب الأخبار؛ ففي حديث عبد العزيز بن المهتدي، قال: سألت الرضا عليه السّلام قلت:

جعلت فداك، إنّ أخي مات و تزوجت امرأته، فجاء عمّى فادعى أنّه كان تزوجها سرا، فسألتها عن ذلك، فانكرت أشد الانكار، و قالت ما كان بيني و بينه شي ء قطّ. فقال: يلزمك اقرارها و يلزمه انكارها. «1»

و سند الرواية معتبر، لأنّ رجال السند ثقات، و عبد العزيز بن المهتدي هو وكيل الرضا عليه السّلام و قد وثقه العلّامة و النجاشي؛ و في بعض الروايات إنّه كان خير قمي في زمانه.

و دلالتها أيضا ظاهرة، بل تدل على عدم الحاجة إلى اليمين (يمين المرأة) لعدم ذكر له فيها؛ اللّهم إلّا أن يقال إن اليمين إنّما يكون بعد طرح الدعوى عند القاضى لا مطلقا.

و يدل عليه أيضا، ما رواه يونس، قال: سألته عن رجل تزوج امرأة في بلد من البلدان، فسألها لك زوج؟ فقالت: لا، فتزوجها؛ ثم إنّ رجلا أتاه فقال هي امرأتي، فانكرت المرأة ذلك، ما يلزم الزوج؟ فقال: هي امرأته إلّا أن يقيم البيّنة. «2»

و سنده لا يخلو عن ضعف (مع قطع النظر عن الارسال) فان على بن أحمد، هو ابن اشيم (بقرينة رواية أحمد بن

محمد عنه) ظاهرا، و هو مجهول الحال. نعم، للرواية سند آخر ذكرها في الوسائل ذيل الرواية لعله صحيح.

هذا؛ و لكن عمل الأصحاب به و بما قبله يغنينا عن ملاحظة السند (فتأمل). و لكن قد يعارضها ما رواه سماعة قال: سألته عن رجل تزوج جارية أو تمتع بها، فحدثه رجل ثقة، أو غير ثقة فقال إنّ هذه امرأتي، و ليست لي بيّنة. فقال: إن كان ثقة، فلا يقربها؛ و إن كان غير ثقة، فلا يقبل منه. «3» و طريق الرواية معتمد و اضمارها لا يضرّ.

و لكن اعراض الأصحاب عنها و شهرة الفتوى بالحديثين السابقين، سبب ترجيحهما عليها؛ مضافا إلى إمكان الجمع بالحمل على الاستحباب، لأنّ المدعى إذا كان ثقة كان المقام مقام الشبهة، ينبغى الاجتناب عنه؛ أو محمول على حصول الاطمينان بقوله.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 246

و أمّا ما ذكره في الحدائق من إمكان الجمع بينها بالحمل على التخصيص، فان الأوليين عامان و الأخير خاص؛ و إن قول الثقة حكمه حكم البيّنة. «1»

ففيه أولا، إنّ الرواية الاولى ليس عاما بل وارد في قضية خاصة، فليس المقام من قبيل العام و الخاص. مضافا إلى ما عرفت من اعراض الأصحاب عنه. أضف إلى ذلك، أنّ التصريح بلزوم إقامة البيّنة في الحديث الثاني، يناقض الاعتماد على الثقة الواحد. فما ذكره مخدوش من جهات شتى، فالأقوى ما ذكره المشهور من الأصحاب.

[المسألة 24: إذا ادعت امرأة أنها خليّة فتزوجها رجل

اشارة

المسألة 24: إذا ادعت امرأة انها خليّة فتزوجها رجل، ثم ادعت بعد ذلك انّها كانت ذات بعل، لم تسمع دعواها. نعم، لو اقامت البيّنة على ذلك، فرّق بينهما؛ و يكفى في ذلك بان تشهد بأنّها كانت ذات بعل فتزوجت حين كونها كذلك من الثاني، عن غير لزوم تعيين زوج معيّن.

اذا ادعت امرأة أنها كانت ذات بعل

(1) أقول: هذه المسألة أيضا غير مذكورة في كلمات الأصحاب، و لم ترد فيها رواية خاصة، و إنّما ذكرها المتأخرون و المعاصرون و حكموا فيها على وفق القواعد العامة.

و قد ذكره في العروة، في المسألة الثامنة، بعين العبارة المذكورة هنا تقريبا. و قد ذكره الشارحون لها في كلماتهم كالسيّد الحكيم، في المستمسك؛ و السبزواري، في المهذب.

و حاصل الكلام فيها، أنّ دعوى المرأة بدون البيّنة غير مسموعة، لأنّها مخالفة لأصالة الصحة في العقد بعد تمامه أولا، و اقرار في حق الغير و هو الزوج، ثانيا، و لا دليل على قبول قولها و لا وجوب تصديقها ثالثا؛ فان الروايات السابقة الدالة على أنّها مصدّقة ناظرة إلى غير المقام و هو ما قبل النكاح، كما هو ظاهر.

أضف إلى ذلك كلّه، أنّ هذا يكون ذريعة فاسدة لكل زوجة لا تريد المقام مع زوجها و لا يطلقها، فانها تتوصل إلى دعوى كونها ذات بعل سابقا و تحلف و تنفصل من زوجها.

نعم، إذا حلفت على مدعاها لزمها قبول آثارها، كاستحقاقها مهر المثل لا المسمى إذا ادعت غفلتها عن كونها ذات بعل في أول أمرها. (اللّهم إلّا أن يكون المسمى أقل من مهر المثل). و استحقاقها الحدّ، لو ادعت علمها في النكاح الثاني بأنّها ذات بعل. و لكن استحقاقها النفقة، غير بعيد، بعد اجبارها بالتمكين حسب حق الزوج.

نعم، لو أقامت بيّنة على

مدعاها، تقبل منها، لأنّها حجة على كل حال، فتنفصل عن زوجها الثانى، و تعود إلى الأول. و كذا إذا أقامت البيّنة على أنّها كانت في عدّة الطلاق أو الوفاة؛ و حكم المهر ما سبق من أنّه يدور مدار الجهل و العلم، و كذا حكم حدّ الزانية.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 248

و ليعلم أنّ اللازم في البيّنة ان تشهد بأنّها ذات بعل فعلا؛ و أمّا لو شهدت على أنّها كانت ذات بعل قبلا، فانّها لا تفيد، لعدم تمامية الحكم بدون الاستصحاب، مع أنّ أصالة الصحة في العقد مقدمة على الاستصحاب. كما لا يخفى.

***

[المسألة 25: يشترط في صحة العقد، الاختيار]

اشارة

المسألة 25: يشترط في صحة العقد، الاختيار؛ أعني اختيار الزوجين؛ فلو أكرها، أو اكره أحدهما على الزواج، لم يصح؛ نعم، لو لحقه الرضا، صح على الأقوى.

يشترط في صحة العقد اختيار الزوجين

(1) أقول: و المسألة مشتملة على فرعين: أحدهما، اعتبار الرضا و عدم الاكراه في عقد النكاح من الجانبين؛ ثانيهما، صحته بعد لحوق الرضا، كالفضولى في سائر المقامات.

اعتبار الرضا و عدم الإكراه

و الظاهر أنّ اعتبار الرضا و عدم الاكراه هنا و في جميع العقود ممّا أجمع المسلمون عليهم عدا شاذ؛ بل هو من الأركان في جميع العقود العقلائية بحيث لا يقبل أحد غيره.

و كان ينبغى للماتن (قدس سره)، أن يذكر هذا الشرط في أول مباحث عقد النكاح مع الشرائط الثلاثة الاخرى، (العقل و البلوغ و القصد) حتى تتم الشرائط الأربعة العامة.

و أكثر ما ذكروا هذا الشرط في أبواب الطلاق، لشدة الابتلاء به فيها. قال شيخ الطائفة المحقّة (قدس سره): طلاق المكره و عتقه و سائر العقود التي يكره عليها، لا يقع منه؛ و به قال الشافعي، و مالك، و الأوزاعي، و قال أبو حنيفة و أصحابه، طلاق المكره و عتاقه واقع و كذلك كل عقد يلحقه فسخ؛ فأمّا ما لا يلحقه فسخ مثل البيع و الصلح و الإجارة، فانّه إذا أكره عليه ينعقد عقدا موقوفا، فان اجازها و إلّا بطلت؛ ثم استدل عليه في الخلاف باجماع الفرقة و أخبارهم و أصالة البراءة و حديث الرفع رواها عن ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه و آله. «1»

و قول أبي حنيفة و أصحابه هنا عجيب؛ فانّه لا فرق بين ما يقبل الفسخ و ما لا يقبل، مضافا إلى أنّ الطلاق لا يقبل الفسخ. اللّهم إلّا أن يقال إن مراده هو الرجوع في العدّة، و أنّه انوار الفقاهة، ج 3، ص: 250

إذا لم يرجع بمنزلة الإجازة و الرضا بما وقع منه اكراها. و هذا ليس ببعيد؛ ففى الحقيقة ليس هو أيضا من

المخالفين في المسالة. (و كذلك العتق في نظره). فالمسألة إجماعية بين علماء الإسلام.

و قد تعرض للشرائط العامة، لا سيما الاكراه (موضوعا و حكما) في كلام مبسوط له في الجواهر، فراجع. «1»

و كيف كان، العمدة في دليل المسألة، بناء العقلاء جميعا على عدم الاعتناء بكل عقد نشأ عن اكراه؛ فان المعاقدة هو المعاهدة، و إنّما يتمّ معناها إذا نشأت عن رضا و اختيار؛ و قد امضاها الشارع المقدس.

هذا مضافا إلى حديث الرفع المعروف بين العامة و الخاصة؛ و ممّا رفع عن الأمة؛ ما اكرهوا عليه؛ أو ما استكرهوا عليه؛ و قد ذكرنا في محله أنّ الرفع لا ينحصر برفع المؤاخذة بل يشمل الأحكام الوضعيّة، فعقد المكره مرفوعة، أي ليس بصحيح. و قد استدل الإمام الصادق عليه السّلام به في رفع أثر طلاق المكره و عتاقه. و قد ورد روايات كثيرة في بطلان طلاق المكره، رواه في الوسائل، في الباب 37، من أبواب مقدمات الطلاق، من الجلد 15؛ فراجع. و الظاهر إلغاء الخصوصيّة عن الطلاق، و إجراء حكمه في النكاح و سائر العقود، و عدم تعرض الأصحاب له في النكاح غالبا للتسالم عليه.

صحّة العقد بعد لحوق الرضا

إنّما الكلام في صحة نكاح المكره، إذا لحقه الرضا و الإجازة، بأن يكون ممّا يجري فيه أحكام الفضولي، و الظاهر أنّ المسألة مشهورة أو إجماعية.

قال في الجواهر: عقد النكاح يقف على الإجازة على الأظهر الأشهر، بل المشهور شهرة عظيمة بين القدماء و المتأخرين، بل في الناصريات الاجماع عليه، و في محكى السرائر نفي الخلاف عنه، بل فيه مضافا إلى ذلك، دعوى تواتر الأخبار به. بل من أنكر

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 251

الفضولي في غير النكاح أثبته هنا، للإجماع و النصوص. بل لم نعرف الخلاف في

ذلك إلّا من الشيخ في محكي الخلاف؛ ثم نقل موافقته أيضا للمشهور في النهاية و التهذيب و الاستبصار. «1»

و نقله في الحدائق أيضا عن المشهور، بل عن المرتضى و ابن ادريس الإجماع عليه. «2»

و لكن مجرد جريان أحكام الفضولي في النكاح، غير كاف لما نحن بصدده؛ حتى تتمّ مسألة اخرى، و هي أنّ المكره قاصد للإنشاء، حتى يلحقه الإجازة؛ أو فاقد للقصد كما يظهر من بعضهم حيث عطفوه على المجنون و المغمى عليه و السكران. و الانصاف- كما فصلنا القول فيه في محله من كتاب البيع «3»- إنّ المكره غالبا يقصد اللفظ و الإنشاء، و إن كان غير راض بمفاده؛ فليس مسلوب العبارة، و ليس المكره كالهازل الذي لا يقصد اللفظ.

فاذن العقد كامل من جميع الجهات ما عدا الرضا و الإجازة، فاذا لحقته الإجازة، تمت؛ لعين ما ذكروه في أبواب الفضولي في البيع، فراجع. و الله العالم.

[فصل في أولياء العقد]

اشارة

(1) فصل في اولياء العقد

[المسألة 1: للأب و الجد من طرف الأب- بمعنى أب الأب- فصاعدا، ولاية على الصغير و الصغيرة]

اشارة

المسألة 1: للأب و الجد من طرف الأب- بمعنى أب الأب- فصاعدا، ولاية على الصغير و الصغيرة و المجنون المتصل جنونه بالبلوغ، و كذا المنفصل عنه على الظاهر؛ و لا ولاية للأمّ عليهم، و للجد من طرف الأمّ، و لو من قبل أمّ الأب، بان كان أبا لأمّ الأب مثلا، و لا للأخ و العمّ و الخال و اولادهم.

(2) أقول: مسألة أولياء العقد اصلها و فروعها، من المسائل المهمّة في أبواب النكاح، و معركة لآراء الفقهاء (رضوان الله تعالى عليهم) و فيها دقائق كثيرة.

و الكلام تارة يكون بالنسبة إلى الصغير و الصغيرة، و اخرى في الكبيرة. و هذه المسألة (المسألة الاولى) ناظرة إلي حكم الصغير و الصغيرة، و المسألة الآتية تتكفل لحكم الكبيرة.

و المعروف بين الأصحاب فيما نحن فيه، أنّ الأولياء على الصغير و الصغيرة أربعة:

الأب و الجدّ، و الوصي، و المولى، و الحاكم، و الكلام الآن في الأب و الجد، و في المسألة فروع أربعة:

الفرع الأوّل: ولاية الاب و الجد عليهما

الظاهر أنّ ولايتهما إجماعي إجمالا، (مع قطع النظر عن خصوصياتهما من جهة عدم المفسدة، أو اشتراط المصلحة؛ و هل هناك مصلحة في زماننا في هذا الامر، أم لا؛ فهذه انوار الفقاهة، ج 3، ص: 254

الفروع سوف نتكلم فيها إن شاء الله في المسائل الآتية) و لكن حكى العلّامة (قدس سره)، في المختلف، عن ابن أبي عقيل عدم قبوله لولاية الجد. قال: أمّا ابن أبي عقيل، فانه قال: الولي الذي هو أولى بنكاحهن هو الأب دون غيره من الاولياء، و لم يذكر للجد ولاية. «1»

و قال في الحدائق: ثانيهما (يعنى من موارد الخلاف) قول ابن أبي عقيل في نقصان الجد من هؤلاء المذكورين، فانه قال: الولي الذي اولى بنكاحهن هو الأب

دون غيره من الأولياء ... «2» و ظاهر هذه العبارة المنقولة عنه، حصر الولاية في الأب.

و على كل حال فهو شاذ لا يعتمد عليه. و لذا ادعى الأصحاب الإجماع على المسألة من دون الاعتناء بمخالفته. و يمكن توجيه كلامه بان الأب يشتمل الجد عرفا، كما في قول يوسف: و اتبعت ملة آبائي إبراهيم و إسحاق و يعقوب؛ فانّ إسحاق جدّه و إبراهيم جده الأعلى، فاستعمال الأب في الجد ليس أمرا غريبا حتى إذا كان بصيغة المفرد، كما في الشعر المعروف المنسوب لمولانا أمير المؤمنين، (عليه افضل صلوات المصلين):

الناس من جهة التمثال أكفاء أبوهم آدم و الامّ حواء

اللّهم إلّا أن يقال، كل ذلك استعمالات مجازية؛ فتأمل.

و يدل على قول المشهور روايات كثيرة في أبواب مختلفة، منها، الباب 6، و الباب 11، و الباب 12، من أبواب عقد النكاح؛ نذكر شطرا منها الواردة في الباب 11، فانّها و إن كانت ناظرة إلى تعارض اختيار الأب مع اختيار الجد، لكن يستفاد منها أنّ قبول ولايتهما كان مفروغا عنها، منها:

1- ما رواه محمد بن مسلم، عن أحدهما، قال: إذا زوج الرجل ابنة ابنه فهو جائز على ابنه؛ و لابنه أيضا أن يزوجها؛ فقلت: فان هوى أبوها رجلا و جدّها رجلا؟ فقال: الجد أولى بنكاحها. «3»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 255

و سيأتي الكلام إنشاء الله في حكم تعارضهما في المسالة الثالثة.

2- ما رواه عبيد بن زرارة، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السّلام: الجارية يريد أبوها أن يزوجها من رجل، و يريد جدها أن يزوجها من رجل آخر؟ فقال: الجد أولى بذلك ما لم يكن مضارا، إن لم يكن الأب زوجها قبله، و يجوز عليها تزويج الأب و الجد. «1»

3- ما

رواه هشام بن سالم، و محمد بن حكيم، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: إذا زوج الأب و الجد، كان التزويج للأول، فان كانا جميعا في حال واحدة فالجد أولى. «2»

4- ما رواه فضل بن عبد الملك، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: إن الجد إذا زوج ابنة ابنه و كان أبوها حيا، و كان الجد مرضيا جاز. قلنا: فان هوى أبو الجارية هوى، و هوى الجد هوى، و هما سواء في العدل و الرضا؟ قال: أحب إلي أن ترضى بقول الجد. «3»

و هذه الروايات، و روايات كثيرة اخرى واردة في نفس الباب، و الباب 12، صريحة في المطلوب؛ و قد عمل بها الأصحاب. فما هو منقول من انكار ابن أبي عقيل لولاية الجد عجيب. و يمكن الاستدلال لولاية الاب و الجد أيضا في الجملة بأنّه القدر المتيقن من الآية الشريفة: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ. «4»

و في تفسير الآية و إن كان اختلاف بين المفسرين و لكن الظاهر إنّ الذي بيده عقدة النكاح هو الولي على الصغار و لكن القدر المتيقن هو الأب.

و يمكن الاستدلال له أيضا بسيرة العقلاء، لا سيما أهل الشرع منهم، فانّهم يرون للأب ولاية على الصغير و الصغيرة في مصالحهما، و منها النكاح إذا اقتضت المصلحة ذلك.

الفرع الثاني: ولايتهما على المجنون و المجنونة

للأب و الجد ولاية على المجنون البالغ و المجنونة كذلك المتصل جنونه بالصغر؛ و الظاهر من كلماتهم أنّ المسألة أيضا إجماعية. و قد ادعى في الجواهر عدم الخلاف فيها. و

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 256

حكى عن المسالك أنّه موضع وفاق. «1» و لا ينقل في شي ء في كلماتهم نص خاص يدل على ذلك.

و غاية ما يستدل عليه أولا،

أنّه مقتضى الاستصحاب بالنسبة إلى حال الصغر.

و قد يورد عليه، بان الموضوع قد تبدل؛ فقد كانت الولاية بسبب الصغر، و المفروض انه قد كبر. و القول بأنّ ذلك من قبيل تبدل الحالات، بعيد، لأنّ الصغر كان مقوما.

مضافا إلى ما ذكرنا في محله من عدم حجية الاستصحاب في الشبهات الحكمية و ما نحن فيه، منها.

و ثانيا، قد يستدل له أيضا بقوله تعالى: وَ ابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ...، «2» فان معناها عدم دفع أموالهم إليهم عند عدم استيناس الرشد، و من البعيد بقاء الولاية على الأموال فقط دون النكاح، مضافا إلى ما ورد في حديث أبي بصير، عن الصادق عليه السّلام في تفسير قوله تعالى: ... الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ...، «3» ما نصه: هو الأب و الأخ و الرجل يوصي إليه و الذي يجوز أمره في مال المرأة .... «4»

فمن يجوز له التصرف في مال المرأة، يجوز له عقد نكاحها؛ فتأمل.

و يرد عليه أنّ المخاطب في الآية غير معلوم، و الظاهر في هذه المقامات و نظائرها هو الحاكم الشرعي، كما في قوله تعالى: وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ... «5» و قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ... «6»

و الاولى، الاستدلال له بسيرة العقلاء من أهل الشرع و غيرهم أولا، فان أمر أبنائهم المجانين بأيدي آبائهم، سواء فيه المتصل بالصغر و عدمه، كما هو الظاهر لمن راجعهم. و

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 257

لكن القدر المتيقن من هذا الدليل، هو الأب خاصة. و يمكن الاستدلال له ثانيا، بإمكان الغاء الخصوصية عن غير البالغ، بأن يقال إنّ الملاك فيه عرفا الصلة العاطفية بين

الولد و أبيه مع قصوره عن استقلال في أموره، و هذا بعينه موجود في ناحية المجنون. اللّهم إلّا أن يقال هذا استحسان ظني لا يبلغ حد اليقين بالملاك.

و على كل، يظهر من بعض كلماتهم أنّ الإجماع أنّما هو في المتصل بالصغر؛ و أمّا المنفصل فلا إجماع فيه. و لكن الإنصاف أنّه لا ينبغي الفرق بينهما، لاستقرار سيرة العقلاء عليه، و امضاء الشارع له، و لا وجه للتمسك بان الحاكم الشرعي وليّ من لا وليّ له، و التفرقة بينهما تعود إلى نوع من الجمود.

الفرع الثالث: لا ولاية للأم و لو من قبل الاب

أنّه لا ولاية للأمّ و لو من قبل الأب، بان كان أمّا لأب. و يظهر من كلماتهم الإجماع عليه من غير الإسكافي (ابن الجنيد). قال النراقي، في المستند: لا ولاية في النكاح لأحد على أحد سوى الأب، و الجد له، و المولى، و الحاكم، و الوصي، إجماعا لنا محققا و محكيا مستفيضا، في غير الام و الجد لها وفاقا لغير الإسكافي فيهما أيضا. «1»

بل صرح في الرياض، بأن عدم ولاية الام و أبيها هو الأشهر؛ ثم نقل الإجماع عليه عن التذكرة و بعض فضلاء الأصحاب. «2»

و استدل عليه بما رواه محمد بن مسلم، عن أحدهما عليه السّلام قال: لا تستأمر الجارية إذا كانت بين أبويها؛ ليس لها مع الأب أمر. و قال: يستأمرها كل أحد ما عدا الأب. «3»

و يمكن المناقشة فيه، أولا بأنّها ناظرة إلى الكبيرة بقرينة الاستيمار. (اللّهم إلّا أن يقال أنّها قد دل على حكم الصغيرة بطريق اولى. و ثانيا، أنّها من ادلة استقلال الأب في أمر الكبيرة؛ و سيأتي أنّ هذا القول مخالف للتحقيق في المسألة.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 258

2- ما رواه زرارة، قال: سمعت أبا جعفر عليه

السّلام يقول: لا ينقض النكاح إلّا الأب. «1»

و المراد بنقض النكاح ليس هو الطلاق، لعدم كونه بيد الأب قطعا، بل المراد هو المنع عن تحققه، و عدم جواز استقلال الجارية بعقدها؛ فالنقض هو نقض مقدمات النكاح عند حصولها كرضى الزوجين و مثله.

3- قد ورد عين هذا المضمون، عن محمد بن مسلم، عنه عليه السّلام. «2»

إلى غير ذلك مما في هذا المعنى.

و لا يدل على ولاية الام- مع أنّ الأصل عدم ولاية كل أحد على غيره- إلّا ما روى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في رواية عاميّة؛ عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، أنّه أمر نعيم بن نجاح أن يستأمر أم ابنته في أمرها. و قال: و آمروهن في بناتهن. «3»

بناء على أنّ المراد من ابنته، ربيبته؛ و إلّا فمع وجود الأب و أعمال الولاية لا تصل النوبة إلى الأم. و على كل حال، هي رواية ضعيفة ذاتا، مضافا إلى أنّها مهجورة بعمل الأصحاب على خلافها.

و قد يستدل عليه أيضا بما رواه محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام، أنّه سأله عن رجل زوّجته امّه و هو غائب. قال: النكاح جائز، إن شاء المتزوج قبل، و إن شاء ترك. فان ترك المتزوج تزويجه، فالمهر لازم لأمّه. «4» فان لزوم المهر دليل على ثبوت النكاح. و فيه، أنّه في الرجل الكبير و لا شك في عدم ولاية أحد عليه، إنّما الكلام في الصغير و المجنون. و أما لزوم المهر على الأم أمّا يحمل على دعواها الوكالة، أو على ضرب من الاستحباب، و الأحسن الأخير؛ مضافا إلى أنّ صدرها على خلاف المطلوب، أعني عدم نفوذ ولاية الام، أدلّ.

الفرع الرابع: لا ولاية للأخ و الخال و العمّ و اولادهما

لا ولاية للأخ و العم و

الخال و أولادهما و قد عرفت التصريح فيما مر من كلام المستند، للنراقي (قدس الله سره الشريف) بإجماع علمائنا عليه، و يظهر ذلك من المحقق الكركي، في جامع المقاصد أيضا، حيث قال: و الولاية الثابتة بالقرابة منحصرة عندنا في قرابة الأبوة و الجدودة من الأبوة باتفاق علمائنا؛ فلا تثبت للأخ ولاية، من الأبوين كان، أو من أحدهما، انفرد أو كان مع الجد خلافا للعامة؛ و كذا الولد و سائر العصبات قربوا أم بعدوا. «1»

و يظهر من كتاب الفقه على المذاهب الأربعة؛ عند ذكر المسألة، إنّ أكثر فقهاء العامة على ثبوت الولاية للأخ و العم و سائر العصبات و إن اختلفوا في ترتيب ولايتهم من حيث التقدم و التأخر؛ بل يظهر من المالكية ولاية الابن، حتى إذا كان ولد الزنا، على أمّها؛ إلى غير ذلك من الخرافات و الدعاوى الجزافية. «2»

و على كل حال، يدل على عدم ولاية العم،- مضافا إلى أنّه موافق للأصل- ما رواه محمد بن الحسن الأشعري، قال: كتب بعض بنى عمّي إلى أبي جعفر الثاني عليه السّلام، ما تقول في صبيّة زوّجها عمها، فلما كبرت أبت التزويج؟ فكتب لي: لا تكره على ذلك، و الأمر أمرها. «3»

و سند الحديث، و إن كان غير نقى، لعدم توثيق صريح لمحمد بن الحسن الأشعري؛ و لكن عمل الأصحاب بمضمونها جابر لسندها.

و يدل على عدم ولاية الأخ، أولا، ما رواه الحلبي في حديث صحيح عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: سئل عن رجل يريد ان يزوج اخته؟ قال: يؤامرها فان سكتت فهو إقرارها و إن أبت لا يزوجها. «4»

هذا؛ و لكن الحديث لا يدل على أزيد من نفى استقلال الأخ، أمّا عدم اعتبار اذنه، فلا؛

انوار

الفقاهة، ج 3، ص: 260

بل يمكن إن يكون اللازم اذنهما عند عدم حضور الأب.

هذا مضافا إلى أنّه وارد في الكبيرة، و لا يدل على نفى اعتبار اذن الأخ في الصغيرة؛ فلا دلالة على المطلوب.

و ثانيا، ما رواه الصدوق، باسناده عن داود بن سرحان، عن أبي عبد الله عليه السّلام، في رجل يريد أنّ يزوج أخته؟ قال: يؤامرها، فان سكتت فهو اقرارها، و إن أبت لم يزوجها .... «1»

و يمكن المناقشة فيها بما مر في الحديث السابق من وجهين، فالاستدلال بها أيضا مشكل؛ هذا مضافا إلى أنّ داود بن سرحان و إن كان ثقة، و لكن صحة طريق الصدوق إليه غير معلوم، فقد حكى في جامع الروات، صحة سنده إليه في خاصة ليس أبواب النكاح منها.

فالعمدة في عدم ولاية الأخ، هي العمومات الدالة على نفى الولاية عن غير الأب و الجدّ.

هذا؛ و هناك روايات تدل على صحة عقد الأخ و ولايته؛ منها:

1- ما رواه محمد بن قيس، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السّلام في انكحها أخوها رجلا، ثم انكحتها امها بعد ذلك رجلا، و خالها أو أخ لها صغير فدخل بها فحبلت فاحتكما فاقام الأول الشهود، فالحقها بالاول و جعل لها الصداقين جميعا، الحديث. «2»

حيث يدل على صحة استقلال الأخ بعقد نكاح الكبيرة، فيصح في الصغيرة بطريق أولى.

2- عن وليد بياع الاسقاط، قال: سئل أبو عبد الله عليه السّلام و أنا عنده، عن جارية كان لها أخوان، زوجها الأكبر بالكوفه، و زوجها الأصغر بأرض اخرى؛ قال: الأول بها اولى؛ الحديث. «3»

3- عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد الله عليه السّلام قال: سألته عن الذي بيده عقدة النكاح.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 261

قال:

هو الأب و الأخ و الرجل يوصى إليه، الحديث. «1»

4- عن بعض أصحابنا، عن الرضا عليه السّلام قال: الأخ الأكبر بمنزلة الأب. «2»

و قد حمل الأصحاب بعض هذه الأحاديث على كون الأخ وكيلا، و بعضها على استحباب وكالته و تعظيم شأنه، أو على التقية لما عرفت من ذهاب العامة إليه، مضافا إلى كونها مهجورة عند الأصحاب.

***

[المسألة 2: ليس للأب و الجدّ للأب ولاية على البالغ الرشيد]

اشارة

المسألة 2: ليس للأب و الجدّ للأب ولاية على البالغ الرشيد و لا على البالغة الرشيدة إذا كانت ثيبة؛ و امّا إذا كانت بكرا، ففيه أقوال:

1- استقلالها و عدم الولاية لهما عليها لا مستقلا و لا منضما.

2- و استقلالهما و عدم سلطنة و ولاية لها كذلك.

3- و التشريك، بمعنى اعتبار اذن الولي و اذنها معا.

4- و التفصيل بين الدوام و الانقطاع، أمّا باستقلالها في الأول دون الثاني.

5- أو العكس.

و الأحوط، الاستئذان منهما. نعم، لا إشكال في سقوط اعتبار اذنهما إن منعاها من التزويج بمن هو كفو لها شرعا و عرفا مع ميلها. و كذا إذا كانا غائبين بحيث لا يمكن الاستئذان منهما مع حاجتها إلى التزويج.

عدم ولاية الاب و الجد على البالغة الرشيدة

(1) أقول: و يظهر من الحدائق، أنّ صاحب المسالك، بعد نقل هذه الأقوال الخمسة، قال: و زاد بعضهم قولا سادسا و هو أنّ التشريك في الولاية تكون بين المرأة و أبيها خاصة، دون غيره من الأولياء، و نسبه إلى المفيد. «1»

اقوال الفقهاء في المسألة

و على كل حال، هذه المسألة من المسائل المهمّة التي هي معركة الآراء، و لا يزال يسأل عنها، لابتلاء الناس بها دائما. قال في الحدائق: قد عدّها الأصحاب من امهات المسائل و معضلات المشاكل و قد صنف فيها الرسائل و كثر السؤال عنها و السائل، و أطنب جملة من الأصحاب فيها الاستدلال لهذه الأقوال.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 263

و المشهور بينهم من هذه الأقوال، هو الثلاثة الاولى: استقلال الأولياء، و استقلالهن، و التشريك بينهم و بينها.

و الأول، و هو استقلالها محكى عن مشهور المتأخرين، و حكي عن الشيخ، في التبيان؛ و المرتضى؛ و المفيد، في أحكام النساء؛ و ابن الجنيد، و سلار، و ابن إدريس، و هو مذهب المحقق، و العلّامة. «1» فكأنه المشهور بين القدماء و المتأخرين.

و الثاني، و هو عدم استقلالها و عدم تشريكها عن الشيخ، في أكثر كتبه. و الصدوق، و ابن أبي عقيل، و المحدث الكاشاني، و اختاره نفسه. «2» و في المستند حكايته عن جماعة اخرى. «3»

و الثالث، و هو التشريك، محكي عن أبي الصلاح الحلبي، و الشيخ المفيد في المقنعة، و اختاره صاحب الوسائل.

و أمّا الرابع، أعني استقلال الأولياء في الدائم دون المنقطع، منقول عن الشيخ في كتابي الأخبار. «4»

و أمّا الخامس، أعني عكسه و هو الولاية في المنقطع دون الدائم، حكاه المحقق في الشرائع، و لم يسم قائله.

و قد عرفت نسبة القول السادس- و هو أنّ التشريك مختص

بالأب- إلى المفيد.

و أما أقوال العامة، فهي أيضا مختلفة جدا، كما يظهر من الخلاف، و الفقه على المذاهب الأربعة، و غيرهما. قال شيخ الطائفة في الخلاف ما حاصله:

قال الشافعي: إذا بلغت الحرّة الرشيدة، ملكت كل عقد إلّا النكاح، فانّها متى أرادت أن تتزوج افتقر نكاحها إلى الولي، و هو شرط لا ينعقد إلّا به مطلقا على كل حال ...

و قال ابو حنيفة: إذا بلغت المرأة الرشيدة، فقد زالت ولاية الولي عنها، كما زالت عن مالها، و لا يفتقر نكاحها إلى اذنه. ثم ذكر أنّها لو تزوجت و لم تضع نفسها في كفو، جاز

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 264

للولى فسخ نكاحها!

و قال مالك: إن كانت عربيّة و نسيبة، فنكاحها يفتقر إلى الوليّ! و إن كانت معتقة دنيّة! لم يفتقر إليه.

و قال داود: إن كانت بكرا، فنكاحها لا ينعقد إلّا بولي، و إن كانت ثيبا لم يفتقر إلى وليّ .... «1»

***

أدلّة القول باستقلالها بالعقد

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى أدلة الأقوال؛ فنقول: (و منه جل شأنه نستمد التوفيق و الهداية) استدل للقول الأول و هو استقلالها بالعقد، بامور:

الأوّل: الأصل؛ و هو انتفاء ولاية كل إنسان على غيره و هو إمّا يرجع إلى الاستصحاب، بمعنى عدم جعل ولاية للأب و الجد على البكر بعد بلوغها، و القول بأنّ مقتضى الاستصحاب بقاء الولاية الثانية على الصغير، ممنوع، لتبدل الموضوع قطعا بعد زوال الصغر؛ كما عرفت سابقا. فلا يبقى إلّا أصالة عدم جعل الولاية، و هو إمّا من قبيل العدم الأزلى، لو كان الموضوع كل شخص؛ أو من قبيل عدم الجعل قبل الشرع، إن كان الموضوع عدم الجعل على النوع بعنوان القضية الحقيقية.

و لكن كل واحد منهما لا يخلو عن مناقشة.

و الاولى أن يقال،

إن المراد بالأصل، عمومات وجوب الوفاء بالعقود التي يكون المكلف فيها كل إنسان بالغ، فاذا عقد البكر عقدا على نفسها مستقلا وجب عليها الوفاء به، و أمّا إذا عقد عليها الولي، لا دليل على وجوب وفائها به، فان العقود بمعنى عقودكم.

الثانى: الآيات الواردة في الكتاب العزيز، و هي على طائفتين:

1- الآيات الواردة في المتوفي عنها زوجها، مثل قوله تعالى: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ انوار الفقاهة، ج 3، ص: 265

وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ؛ «1» و ذلك للعلم بأن عدّة الوفاة لا فرق فيها بين المدخول بها و غير المدخول بها، بين البكر و بين الثيب، فاذا ثبت استقلالها بحسب ظاهر الاية هنا، ثبت في ما لم تتزوج أيضا.

و لكن الاستدلال بها مبني على صدق البكر على غير المدخولة و إن تزوجت، و هو الحق؛ لأنّ عنوان الباكرة عرفا صادقة عليها قطعا، كما سيأتي إن شاء الله.

و مثلها الاستدلال بقوله تعالى: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً ... فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ ...، «2» و دعوى الانصراف ممنوع.

2- الآيات الواردة في المطلقات، مثل قوله تعالى: وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ؛ «3» و الاستدلال بها مبني على وجوب العدّة على المدخول بها على غير المتعارف (دبرا) كما هو المشهور، بل في الجواهر دعوى عدم الخلاف فيه، بل ظهور الإجماع عليه، و إن حكي عن الحدائق التوقف فيه. «4» فعلى هذا، يشمل عموم الآية لمثل هذا الفرد التي يصدق عليها البكر لعدم

زوال بكارتها، و يتمّ في غيرها بعدم القول بالفصل؛ و دعوى انصراف الآية إلى المدخول بها من طريق المتعارف غير بعيد.

الثالث: الروايات الواردة في المسألة و هي كثيرة تشتمل على طوائف؛ و يدل على هذا القول روايات، منها:

1- ما عن سعدان بن مسلم، قال: قال أبو عبد الله عليه السّلام: لا بأس بتزويج البكر إذا رضيت بغير اذن أبيها. «5»

و هي صريحة في المطلوب، و لكن الراوي الأخير سعدان بن مسلم، مجهول الحال،

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 266

فلا يعتمد على الرواية من دون جبر سندها إمّا بالشهرة أو بالاستفاضة.

2- ما عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: إذا كانت المرأة مالكة أمرها، تبيع و تشترى و تعتق و تشهد و تعطى من مالها ما شاءت، فان أمرها جائز، تزوج إن شاءت بغير اذن وليها ... «1»

و من الواضح إن المراد بكونها مالكة أمرها، كونها مستقلة في تصرفها في أموالها الذي يكفى فيه كونها بالغة رشيدة، و إن كانت باكرة، فدلالتها تامّة.

و لكن موسى بن بكر الذي يروى عن زرارة، غير معلوم الحال، و إن ورد فيه بعض المدائح، مثل ما رواه عن أبي الحسن عليه السّلام قال له: لم يخف عليك أن نبعثك في بعض حوائجنا. فقلت: أنا عبدك، فمرني بما شئت. فوجهني في بعض حوائجه إلى الشام. «2» و لكن الراوي لهذه الفضيلة نفسه و هو كما ترى.

3- صحيحة الفضلاء؛ رواها فضيل بن يسار، و محمد بن مسلم، و زرارة، و بريد بن معاوية، كلهم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: المرأة التي قد ملكت نفسها غير السفيهة و لا المولى عليها، تزويجها بغير ولي جائز. «3»

سندها واضح الصحة بل هو في قوّة اربع

روايات كما هو ظاهر، و قد أورد على دلالتها أولا، بمنع كون البكر مصداقا لقوله: مالكة أمرها، و غير مولى عليها؛ و ثانيا، المفرد المعرف لا يدل على العموم. و ثالثا، لا يعلم المراد بملك النفس. و لكن يمكن الجواب عن الجميع؛ أمّا عن الأول، فلان الظاهر أنّ المراد بمالكية أمرها، هو ملكها لأمورها المالية؛ و إلّا لو كان المراد ملكيتها لأمرها في النكاح، كان من قبيل توضيح الواضح، و قولنا، الإنسان إنسان.

و أمّا الثاني، فلأن المفرد العرف، يدل على الاطلاق المساوق للعموم، كما هو ظاهر. و قد ظهر الجواب عن الثالث أيضا.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 267

4- و يدل عليه أيضا ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد الله، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال:

تزوج المرأة من شاءت إذا كانت مالكة لأمرها، فان شاءت جعلت وليّا. «1»

و المراد بجعل الولي هنا. هو الوكيل؛ فان الولاية ليست أمرا مجعولا من قبل نفس الانسان.

و هناك روايات أيضا واردة في خصوص أبواب المتعة، تدل على استقلالها؛ منها:

5- ما رواه ابو سعيد القماط، عمن رواه قال: قلت لأبي عبد الله عليه السّلام جارية بكر بين أبويها تدعونى إلى نفسها سرّا من أبويها؛ فافعل ذلك؟ قال: نعم، و اتقى موضع الفرج .... «2» و هذا دليل على عدم جواز مواقعتها.

6- ما رواه الحلبي، قال: سألته عن التمتع من البكر إذا كانت بين أبويها بلا اذن ابويها؛ قال: لا بأس ما لم يقتض ما هناك، لتعف بذلك. «3»

7- ما عن حفص البختري، عن أبي عبد الله عليه السّلام في الرجل يتزوج البكر متعة، قال:

يكره، للعيب على أهلها. «4» بناء على كون الكراهة المصطلحة، لا سيما مع ملاحظه التعليل.

8- روى في

المستدرك، عن رسالة المتعة، للشيخ المفيد (قدس سره)، عن محمد بن مسلم، قال: قال أبو عبد الله عليه السّلام: لا بأس بتزويج البكر، إذا رضيت من غير اذن أبيها. «5» و دلالتها صريحة في الاستقلال؛ و لكن سندها مرفوعة.

و في نفس الكتاب، روايات اخرى تدل على عدم جواز نكاح البكر بدون رضاها، و هي لا تدل على أزيد من التشريك.

9- هناك رواية مرسلة، عن ابن عباس (في منابع العامة)؛ أنّ جارية بكرا جاءت إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقالت: إنّ أبي زوجنى من ابن أخ له، ليرفع خسيسته، و أنا له كارهة؛ فقال صلّى اللّه عليه و آله:

أجيزي (اخترى) ما صنع أبوك. فقالت: لا رغبة لي فيما صنع. قال: فاذهبي فانكحي من انوار الفقاهة، ج 3، ص: 268

شئت. فقالت: لا رغبة لي عمّا صنع أبي، و لكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء في امور بناتهم شي ء! «1»

و دلالتها واضحة على المطلوب، فان قوله: فاذهبي فانكحي من شئت؛ دليل واضح على الاستقلال، و لكن الإشكال أيضا في سندها.

فتلخص من جميع ما ذكرناه أن مقتضى الأصل، و ظواهر الآيات القرآنية، و طائفة كبيرة من الروايات، هو استقلال الباكرة الرشيدة في عقد النكاح، و ضعف اسناد بعضها بعد تضافرها و صحة بعض اسناده غير قادح، كما أنّ اختصاص بعضها بالمتعة غير ضارّ، بعد اطلاق كثير منها.

إن قلت: الموضوع في هذه الروايات هي المالكة لأمرها، و لعل المراد منها هو الثيب، فهي خارجة عن ما نحن بصدده.

قلت: أولا، إنّ هذا العنوان إنّما ورد في خصوص ثلاثه منها، و أمّا الباقى فليس من هذا العنوان فيه أثر. و ثانيا، أنّهم و إن ذكروا في تفسير هذا العنوان

احتمالات ثلاثة:

1- المراد منه هو الثيب؛ احتمله صاحب الوسائل و العلّامة المجلسي في مرآة العقول، و المجلسي الأول في روضة المتقين.

2- إنّ المراد منه البكر التي لا أب لها؛ كما احتمله في المرآة، أيضا.

3- إن المراد منه هي الباكرة الرشيدة التي تجوز تصرفاتها في أموالها، كما احتمله روضة المتقين أيضا.

إلّا أنّ الحمل على الأولين بعيد جدّا، بعد تفسيرها صريحا بالمعنى الثالث، في رواية زرارة (6/ 9 من أبواب عقد النكاح)، و ظاهرا في رواية الفضلاء، و كونها من قبيل توضيح الواضح، أو كان المراد مالكية أمرها في النكاح كما هو ظاهر. فالمتعين هو المعنى الثالث الذي اخترناه. هذا، و لكن الحكم في المسألة لا يمكن إلّا بعد ملاحظة أدلة سائر الأقوال.

أدلّة القول باستقلال الاب و الجد

و يدل على القول الثانى، أعني استقلال الأب و الجد- بعد عدم إمكان الاستناد إلى الأصل، نظرا إلى تبدل الموضوع من حال الصغر إلى الكبر قطعا- عدة روايات؛ منها:

1- ما عن فضل بن عبد الملك، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: لا تستأمر الجارية التي بين أبويها إذا أراد ابوها أن يزوجها، هو انظر لها. و أمّا الثيب فانّها تستاذن و إن كانت بين أبويها إذا أراد أن يزوجها. «1»

2- ما عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: سألته عن البكر إذا بلغت مبلغ النساء أ لها مع أبيها أمر؟ فقال: ليس لها مع أبيها أمر ما لم تثيب. «2»

3- عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد الله عليه السّلام في حديث، قال: لا تستأمر الجارية في ذلك إذا كانت بين أبويها؛ فاذا كانت ثيبا فهي اولى بنفسها. «3»

4- ما عن ابراهيم بن ميمون، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال:

إذا كانت الجارية بين أبويها فليس مع أبويها أمر؛ و إذا كانت قد تزوجت لم يزوجها إلّا برضا منها. «4»

5- عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السّلام، في الجارية يزوجها ابوها بغير رضا منها؛ قال:

ليس مع أبيها أمر، إذا أنكحها جاز نكاحه، و إن كانت كارهة.

6- علي بن جعفر، في كتابه، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن الرجل هل يصلح له أن يزوج ابنته بغير إذنها؟ قال: نعم، ليس يكون للولد أمر إلّا أن تكون امرأة قد دخل بها قبل ذلك .... «5»

7- ما عن عبد الله بن الصلت، قال: سالت أبا عبد الله عليه السّلام ... عن البكر إذا بلغت مبلغ النساء، أ لها مع أبيها امر؟ قال: ليس لها مع أبيها أمر ما لم تكبر (تثيب). «6»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 270

8- و ما عن أبان، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: إذا زوج الرجل ابنه، كان ذلك إلى ابنه و إذا زوج ابنته جاز ذلك. «1»

بل يمكن الاستدلال بالروايات الكثيرة الواردة في باب تعارض نكاح الأب و الجد، و أنّه يرجح نكاح الجدّ؛ (الواردة في الباب 11 من أبواب عقد النكاح)، فانّ ظاهرها معلومية جواز نكاح كل واحد منهما استقلالا، و أنّ السؤال عن فرض التعارض.

و لكن الإنصاف أنّه ليس فيها تصريح بالبالغة الرشيدة فحملها على الصغيرة، غير بعيد. نعم، ظاهر التعليل الواردة في 8/ 11، و هو قوله: لأنّها و أباها للجد؛ ظاهر في العموم.

و كذا قوله: أحب إلي أن ترضى بقول الجدّ؛ «2» ظاهر في كون محل الكلام، البالغة.

و الحاصل أنّ هذه الروايات الثمانية، تدل على استقلال الأب أو الجد في نكاح الباكرة الرشيدة.

***

أدلّة القول بالتشريك في المسألة

و

يدل على القول الثالث، و هو التشريك، أنّه موافق للقاعدة بناء على أنّ الأصل في أبواب النكاح هو الاحتياط، فانّه الفرج و منه الولد. هذا مضافا إلى ظاهر قول الصادق عليه السّلام في موثق صفوان قال: استشار عبد الرحمن، موسى بن جعفر عليه السّلام، في تزويج ابنته لابن أخيه، فقال: أفعل، و يكون ذاك برضاها، فانّ لها في نفسها نصيبا. قال: و استشار خالد بن داود، موسى بن جعفر عليه السّلام في تزويج ابنته على بن جعفر، فقال: أفعل و يكون ذلك برضاها فان لها في نفسها حظا. «3»

فان التعبير بالحظّ و النصيب، أصدق شاهد على كون اذنها بعض المطلوب لا تمامه. و قد عرفت اعتبار سندها، و هذا أحسن دليل على هذا القول.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 271

و قد يتوهم دلالة الروايات الكثيرة الدالة على الاستيذان و الاستيمار من الباكرة الرشيدة على التشريك، بدعوى ظهورها في كون اذنها شرطا في صحة العقد، مضافا إلى اذن الولي؛ و لكن الانصاف عدم دلالتها على ذلك، لأنّ الاستيذان منها، أعم من كون إذنها تمام العلة أو جزء العلة، كما يقال لا يجوز التصرف في ملك الغير إلّا باذنه و رضاه (مع أنّ الاذن هنا تمام العلة).

و هناك روايات اخرى وردت بمضمون واحد، قد يتوهم دلالتها على القول الثالث، أي التشريك، و هو ما دل على جواز نقض النكاح للأب؛ منها:

1- ما رواه زرارة في الصحيح، قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: لا ينقض النكاح إلّا الأب. «1»

2- و مثله ما رواه محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: لا ينقض النكاح إلّا الأب. «2»

بناء على أنّ المراد منها، اشتراط اذن البالغة و اذن الأب معا.

و لكن دلالتها على خلاف المطلوب أوضح. و لو عمل بها، حدث قول آخر، لم ينقل من احد، و هو جواز استقلال الباكرة في العقد، و لكن يجوز استقلال الأب في فسخه إذا لم يوافقه. اللّهم إلّا أن يقال إن المراد بالفسخ هنا عدم امضائها، و فيه تأمل.

هذا تمام الكلام في الاقوال الثلاثة المعروفه و مداركها.

و إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّه قد يقال أنّ طريق الجمع بين أدلة هذه الأقوال هو الرجوع إلى القول الثالث، فتحمل أدلة استقلال البكر، على مجرد لزوم اذن الباكرة الرشيدة، كما تحمل أدلة استقلال الولي على لزوم اذنه.

و لكن الانصاف، لا شاهد على هذا الجمع، بعد صراحة دليل القول الثاني على عدم اعتبار رضاها، و صراحة أدلة القول الأول على عدم اعتبار اذن الولي. و موثق صفوان لا يكون دليلا و شاهدا للجمع، بعد معارضته صريحا بأدلة القول الأول و الثاني.

و لكن لو أردنا الأخذ بمقتضى صناعة الفقه، و عدم إظهار العجز عن استنباط حكم انوار الفقاهة، ج 3، ص: 272

المسألة على رغم كثرة الأقوال و تضارب الآراء فيها و كثرة الروايات المتعارضة، كان اللازم الرجوع إلى المرجحات؛ لما عرفت من أنّ صراحة الروايات الدالة على القولين الأولين مانعة عن الجمع بينها.

و أول المرجحات، هو الشهرة، و لا يبعد موافقها للقول الأول.

كما أنّ ثاني المرجحات، و هو موافقة ظاهر الكتاب، أيضا يقتضى الرجوع اليه، لظهور غير واحد من الآيات الباهرات في استقلال المرأة.

و امّا مخالفة العامة، فكل من القولين موافق لبعض أقوالهم؛ فقد عرفت ذهاب كل امام منهم إلى قول في المسألة، فالآخذ بهذا المرجح في المقام مشكل جدا.

و قد مال في المستمسك إلى جمع آخر بين الروايات، و هو العمل

بكل من الطائفتين الأولين- أي ما دلّ على استقلالها و استقلال الولي- بأن يكون عقد كل واحد صحيحا، فأيهما سبق كان عقده تامّا، و كذا يجوز للأب نقض النكاح الذي عقدتها البنت؛ و اعترف سيدنا الاستاذ، في المستمسك، بأنّ هذا قول جديد لم نجد به قائلا، و لكن مع ذلك مال إليه.

و لكنه (قدس الله نفسه الزكية) لم يلتفت إلى التهافت الشديد بين الطائفتين، فانّ الثانية يصرح بأنّه ليس لها من الأمر شي ء مع أبيها، فقد ورد التصريح في أربعة من هذه الروايات بهذا المعنى، و هذا ينافي استقلالها قطعا؛ فالجمع بينها بما ذكره قدّس سرّه غير ممكن؛ مضافا إلى أنّ الذهاب إلى ما لم يذهب إليه أحد عجيب.

و هناك طريق جمع آخر، اختارها في المسالك، و حاصله الأخذ بالقول الأول و حمل الطائفة الثانية من الأخبار على كراهة استبداد البنت في هذا الأمر، و الحكم ببطلان نكاحها على البالغة، انتهى ملخصا. «1»

و فيه أنّ هذا الجمع ممّا لا شاهد له، بل ينافي و يعارض صريح غير واحد من تلك الروايات، لصراحتها في عدم حق للبالغة الرشيدة مع وجود الأب. فتدبّر. فتحصل من انوار الفقاهة، ج 3، ص: 273

جميع ما ذكر، أنّ الأقوى هو القول الأول.

***

بقي هنا امور:
1- مقتضى العناوين الثانوية في المسألة
اشارة

و هو أنّ جميع ما ذكرنا كان بالنظر إلى العنوان الأولي، و لكن العناوين الثانوية في عصرنا و مجتمعنا ربّما تقتضى عدم استقلال الباكرة في أمر النكاح لا سيما النكاح الموقت، بل اللازم التشريك فيه بينها و بين الأولياء، لمفاسد شتى تترتب على الاستقلال في المتعة و النكاح الدائم.

توضيح ذلك: أنّ سنّ الزواج و النكاح قد تغير و ارتفع، فلا تتوفق البنات و لا الأبناء للزواج في أوائل الشباب لأسباب

شتى؛ منها، الدروس العالية التي لا تسمح لهم بذلك. و منها، شدة المؤنات في أمر المسكن و المعاش. و منها، ذهاب الكثير منهم إلى التكلفات في مراسم النكاح و أمر الجهاز و غير ذلك. هذا من ناحية؛

و من ناحية اخرى لقد كثرت أسباب النزعات الشهوية و الشيطانية في عصرنا من الأفلام و الأغنيات و مجالس الفساد و المجلات الفاسدة و ما يسمى «كأمر صناعي» التي تحمل أنواعا كثيرة فاسدة من ذلك.

المشاكل العظيمة المترتبة على استقلال البكر في النكاح

و من هذه الجهة أقبلت كثير من الأبكار و الأولاد إلى المتعة بدون اذن الأولياء، و الأولياء لا يرضون بذلك لما فيه من المشاكل العظيمة، نشير إلى خمسة منها:

1- القوى الشهوية لا تخضع لضابطة، و لا تسلم لحد خاص، بل إذا هاج بها الإنسان تتعدى كثيرا إلى أقصى ما يمكن؛ و ببالى أنّه قد ورد في الحديث، إذا هاجت الشهوة الجنسية ذهب ثلثا عقل الإنسان، و بقى ثلث منه فقط! و معه لا يقدر كثير من الناس على ضبط أنفسهم، فيحدث ما لا ينبغي من هتك الاعراض و ذهاب البكارة، و ينعقد الأولاد

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 274

غير المطلوب منها.

2- هذه الأبكار تحت هذه السائقة طبعا ينكحن أفرادا متعددة في أزمنة مختلفة، و بعد ذلك لا يرغب كثير من الناس في نكاحهن، و كأنّهن من الأرامل، بل و أدون منهن! للزواجات المتعددة التي مرّت عليهن.

3- و هناك مفسدة عظيمة اخرى، و هي أنّهن بعد الزواج الدائم، إن كان أزواجهن أحسن من جميع من كن معهم قبل ذلك، فلا كلام؛ و لكن كثيرا ما لا يكون ذلك فيكون هذا سببا لعدم رضايتهن بنكاحهن؛ و قد يكون هذا سببا للطلاق و الخلاف و اضمحلال نظام الاسرة.

4- قد

تكون علاقاتهن بعد النكاح الدائم مع من كن معهم قبل ذلك، (و لا سمح الله و نعوذ بالله لو اتسعت هذه العلاقات و كثرت) فانّها مفسدة عظيمة اخرى و نسيانهن ما مضى مشكل جدا، إلّا لأهل الدين و التقوى منهن.

5- لو فتح هذا الباب- أي باب النكاح الموقت بسهولة، و بغير حاجة إلى اذن الأولياء و لا كتابتها في الجنسية (لما فيها من المفاسد الكثيرة)- كان سببا لتجاسر ذوي الأهواء و ذوات الأهواء الفاسدة، لصلة كثير منهم و منهن باشخاص مختلفة بعنوان الزواج الموقت، مثل ما هو الآن موجود تحت عنوان الصديق و الرفيق؛ و المفاسد التي تنشأ منه مما لا يخفى على أحد، فيكثر الزنا تحت عنوان النكاح الموقت.

هذه اللوازم و إن كانت في الأزمنة السابقة أيضا، و لكن لما كان النكاح الدائم ميسّرا و سهلا و أسباب هيجان القوى الشهوية قليلة كانت المفاسد الحاصلة يسيرا.

و على كل حال، لعله لبعض ما ذكرنا قد ورد التصريح في كثير من روايات المتعة باجتناب الابكار. منها:

1- ما عن عبد الملك بن عمرو، قال: سالت أبا عبد الله عليه السّلام عن المتعة. فقال: أمرها شديد فاتقوا الأبكار. «1»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 275

2- ما عن أبي بكر الحضرمي، قال: قال أبو عبد الله عليه السّلام: يا ابا بكر، ايّاكم و الأبكار أن تزوجوهن متعة. «1»

3- ما عن أبي مريم، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: العذراء التي لها أب، لا تزوج متعة إلّا باذن أبيها. «2» و لازم الاذن غالبا ترك النكاح كما لا يخفى.

4- ما عن المهلب الدلال، أنّه كتب إلى أبي الحسن عليه السّلام إلى أن قال: و لا يكون تزويج متعة ببكر. «3» و

ظاهرها البطلان، لما ورد في صدرها فراجع.

و الجمع بينها و بين سائر روايات الباب التي سبق ذكرها، و إن كان بالحمل على الكراهة إلّا أنّها تخبر عن بعض العناوين الثانوية التي لو شدد أمرها كان مآلها إلى الحرمة.

و من جميع ما ذكرنا، يمكن الحكم بحرمتها بدون اذن الولي، و لا أقل من وجوب الاحتياط فيها.

إن قلت: قد يكون المورد موردا خاصا مطمئنا من جميع الجهات، فلا تجري فيه حكم الحرمة.

قلت: الأحكام لا تتبع الموارد الخاصة، و لا يمكن للفقيه في أمثال المقام، أن يجعل لكل مورد حكما، بعد إن كان الغالب فيها الفساد. فيحكم حكما باتا للعموم و إلّا انفتح فيها أبواب الفرار عن أصل الحكم، و القضاء عليه، و افساده؛ كما أن الأمر في جميع الأحكام عند العقلاء كذلك؛ مثلا إذا قيل لا يجوز العبور عن السراج الأحمر حذرا من تصادم السيارات و اختلال النظام، لا يمكن أن يقال لم لا يجوز العبور إذا لم تكن هناك سيارة في الشارع المقابل.

إن قلت: ان منعنا نكاح المتعة في هذا العصر و سدّدنا بابها مع ما ذكرت من غلبة أسباب الهيجانات الشهوية و توفرها و ارتقاء سن النكاح، فما الحيلة للنجاة عن الوقوع في المعاصي لا سيّما للشباب، هل هناك طريق؟!

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 276

قلنا: لا محيص إلّا عن الاقبال إلى النكاح السهل البسيط الخالي من التكلفات، فهو الطريق الوحيد للوصول إلى هذا الغرض، لا غير. و لو تغيرت ثقافة المجتمع من النكاح المتكلف فيه إلى النكاح الساذج البسيط، أمكن الجمع بينها و بين تعلم العلوم و شبهه، لا سيما مع إمكان تاخير الزفاف و مع إمكان التحرز عن انعقاد الولد على فرض الزفاف في عصرنا

بأسباب مختلفة.

أضف إلى ذلك، أنّه لا بد للشباب أن يمنعوا بانفسهم عن أسباب الهيجانات الشهوية، و حضور مجالس اللهو و الفساد و الرقص و الأغاني، و مشاهدة الأفلام الفاسده و ترك مطالعة الجرائد و المجلات المفسدة، و لو أراد الشاب فعل جميع ذلك و لم تكن عنده زوجة لانحدر إلى هوّة الفساد بلا إشكال إلّا أنّ كثيرا من ذلك بيده و باختياره، يمكنه تركه.

فتلخص من جميع ذلك أن يشكل جدّا للفقيه، الفتوى بجواز متعة الأبكار في هذه الأعصار، و هذا من العناوين الثانوية. و المراد بها هنا أنّ الحكم في نفسه هو استقلال البالغة الرشيدة في نفسها، و لكن عروض العوارض الخاصة عليه في زماننا هذا، أوجب المنع منه. (مثله في عكس هذه الجهة، حرمة الميتة ... بالذات، و لكن بسبب فقدان القوت في السفر مثلا و اضطراره إلى أكلها يصير مباحا).

و إلى ذلك و أمثاله، أشار في الجواهر، بقوله (قدس سره): نعم، يستحب لها إيثار اختيار وليها على اختيارها، بل يكره لها الاستبدار، كما أنّه يكره لمن يريد نكاحها فعله بدون اذن وليها، بل ربّما يحرم بالعوارض؛ «1» و الفرق بين الثيب و البكر، غير خفي على البصير.

هذا كله في نكاح المتعة.

المفاسد الكثيرة المترتبة على استقلال البكر في العقد الدائم

أمّا العقد الدائم في الباكرة بدون اذن الولي أيضا يترتب عليها مفاسد كثيرة:

1- أنّه ليس لها خبرة بأمر النكاح، فانّ المفروض أنّها تنكح لأول مرّة و من الواضح أنّ النكاح الدائم هامّ في حياة كل أحد؛ لا يمكن لمن ليس له تجربة، اتخاذ موضع حسن غالبا، مع ما ظهر في عصرنا من أنواع التدليس و أنواع الغش و الخيانة و التزوير من ناحية الدجالين و الفاسقين ممّا لم يكن في سابق الأيام.

2-

أنّها في معرض هيجان الشهوة و هي تعمى و تصمّ، و لا يسمح لها أن ترى المحاسن و العيوب كلها، بخلاف ما لو شرّك الولي في امرها، فانّه يرى ما لا تراه و يسمع ما لا تسمعه و حيث إنّه يعاني شديدا عمّا تحلّ بابنتها من المشاكل، فلا يقدم إلّا على ما فيه خيرها و صلاحها.

3- أنّها إن استقلت بأمر النكاح و لم يستأذن من وليّه، فتبين لها كون الزوج من غير اهل الصلاح، فانّها لا تجد من يدافع عنها و يحميها مع شدة حاجتها إليه باعتبار ضعف النساء في مقابل الرجال غالبا. أمّا لو كان باذنه فانه يدافع عنها باشدّ ما يمكن بل يدافع عنها جميع طائفتها؛ لا سيما أنّها تحتاج غالبا إلى أبيها في مصارف الزواج.

4- أضف إلى جميع ذلك، أنّ الولي صاحب نعمتها، و له حق الاحترام و الأدب، و استقلالها بهذا الأمر ينافي ذلك قطعا.

و في روايات الباب إشارات إلى ما ذكر؛ ففى رواية عبيد بن زرارة (5/ 11 منه)، و رواية علي بن جعفر عليه السّلام (8/ 11 منه): أنت و مالك لأبيك؛ أو: أنها و أباها للجدّ؛ إشارة إلى حفظ حريم الأولياء. و في قوله عليه السّلام في رواية فضل بن عبد الملك: هو انظر لها؛ (6/ 3 منه)، اشارة إلى أن الولي يحفظ مصالح بنته أكثر ممّا تحفظه نفسها.

إن قلت- لا شك أنّ كثيرا من البنات العالمات الفاضلات، أعلم بمصالحهن من آبائهن إذا كانوا جاهلين اميّين و أشباه ذلك؛ فلا أقل من القول باستثناء أمثال هذه الموارد.

قلت: قد عرفت غير مرّة أنّ الأحكام الكليّة و القوانين الإلهيّة و البشرية، لا يدور مدار الأشخاص و الأفراد؛ بل تشمل الجميع،

و إن كان ملاكها في الأكثر. و الاستثناء منها بأمثال انوار الفقاهة، ج 3، ص: 278

ذلك سبب لضعفها و فتورها؛ لدعوى كل أحد أنّه من مصاديق الاستثناء. فلو قلنا إنّ اذن الولي شرط في عقد الباكرة الرشيدة إلّا أن تكون أعقل و أبصر من وليها، أمكن دعوى ذلك من كل باكرة رشيدة، و لا سيّما في عصرنا هذا الذي يتهم الأولياء بأنّهم لا صلة لهم بضرورات الزمان و حاجات العصر و أنّ الأولاد أخبر منهم بذلك.

إن قلت: ما الفرق بين ما ذكرتم من ثبوت العناوين الثانوية هنا بسبب ظهور المشاكل العظيمة في استقلال البكر، و بين ما لا يقول به أصحابنا الإماميّة و نرفضه من الحكم بالاستحسان؟

قلنا: المنفى هو الاستحسانات الظنيّة؛ أمّا ما بلغ حد القطع سواء كان من المستقلات العقليّة كحسن الإحسان و قبح الظلم، أو من الامور القطعية النظرية مثل المفاسد و المشاكل التي أشرنا إليه في استقلالهن، مقبول عندنا و عند جميع العقلاء.

2- التفصيل بين النكاح الدائم و الموقّت

أنّ القول بالتفصيل بين النكاح الدائم و المنقطع، بالقول باستقلال البكر في الأول دون الثاني، أو بالعكس، فقد عرفت أنّ الاوّل لم يعرف له قائل و إن حكاه المحقق في الشرائع عن بعض لم يسمه؛ و إن الثاني محكي عن الشيخ في كتابي الأخبار.

و الذي يمكن أن يكون مستمسكا لهذين القولين، طائفتان من الروايات الواردة في أبواب المتعة، في الباب 11، و قد نقلناهما. فمن نظر إلى ما دل على وجوب استيذان البكر في المتعة عن وليها، مثل صحيح أبي مريم «1» و صحيح البزنطي، «2» ثم ضمّه إلى أدلة قول استقلال البكر في النكاح، و حملها على الدائم نظرا إلى انصراف اطلاقها إليه، قال بالأول.

أمّا من نظر إلى الطائفة

الثانية من روايات المتعة الدالة على جواز نكاحها بدون اذن الولي، مثل رواية الحلبي، «3» و رواية أبي سعيد، «4» ثم ضمّها إلى ما دلّ على استقلال الولي في انوار الفقاهة، ج 3، ص: 279

نكاحها و حملها على الدائم للانصراف، قال بالثاني.

و الإنصاف أنّ شيئا من هذين، ليس مقبولا، و ما ذكر من الدليل غير كاف، فانّ طريق الجمع بين الروايات الدالة على عدم جواز نكاح البكر بدون اذن أبيها، و ما دلّ على جوازه، هو الجمع بالكراهة؛ مضافا إلى ما عرفت من أنّ الروايات الدالة على استقلالها في النكاح مطلقا، (أو في خصوص الدائم)، معارض بمثلها الدالة على استقلال الولي؛ و أنّه لا يمكن الجمع بينهما؛ فاللازم الرجوع إلى المرجحات، و الترجيح لما دل على استقلال الباكرة و إن كان مقتضى العناوين الثانوية في العصر الحاضر، المنع؛ و لا أقل من الاحتياط.

3- استثنى من هذا الحكم صورتان

قد استثنى من هذا الحكم، أي اشتراط اذن الولي على القول به، في التحرير- كما عرفت- في ذيل المسألة، صورتين:

إحداهما، ما إذا منعها الولي عن التزويج مع الكفو شرعا و عرفا مع ميلها إلى النكاح، فاسقط اعتبار اذن الولي؛ و لم يرد نص خاص في المسألة، و استدل له في الشرائع و الجواهر و غيره بالإجماع، و قد حكى الإجماع عن التذكرة و القواعد و جامع المقاصد و المسالك و كشف اللثام.

و استدل له ثانيا، بقوله تعالى: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، «1» بناء على ما عرفت سابقا من إمكان كون الطلاق سببا للعدّة مع بقاء البكارة (لدخوله بطريق آخر).

و ثالثا، بقاعدة نفى الحرج في بعض الموارد.

و لكن في الجميع إشكال؛ أمّا الأول، فلان الإجماع على تقدير ثبوته لا

ينفع في هذه المسائل التي يوجد لها دلائل اخرى.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 280

و أمّا الثاني، فيرد عليه تارة، بأنّ الآية منصرفة عن هذه الصورة النادرة (انحصار الدخول بطريق غير متعارف)؛ و اخرى، بأنّ المخاطب في الآية غير واضح؛ فان كان الأولياء كان دليلا على المطلوب، و إن كان المخاطب بعدم العضل (أي المنع) هو الزوج السابق (الأزواج السابقين)، فلا دلالة لها على المطلوب؛ و ثالثة، بأنّ تحريم المنع يمكن أن يكون تكليفيا لا وضعيّا، فالولاية باقية. فتأمل.

و أمّا الثالث فبأن قاعدة نفي الحرج، تختص بما إذا كانت البكر في عسر و حرج و ليس دائما كذلك.

و الأولى، الاستدلال على المقصود، بانصراف أدلة الولاية عن مثل ذلك، فإنّها ناظرة إلى حفظ مصالح البنت، لا مصالح الولي؛ و الإشارة إلى مصالح الولي في بعض الأخبار أمر جنبيّ أخلاقي، فليست البنت مالا له يتجربه، كما هو المعمول عند بعض العوام و الذين لا معرفة لهم بحقايق الامور.

بل الولاية في جميع مواردها من الولايات العامة و الخاصة، إنّما هي لحفظ مصالح المولى عليهم لا غير، و الولي في الواقع في خدمتهم.

و قد يستدل بأنّ عدول الولي عن الكفو، مع ميل البنت، في الحقيقة خيانة بها؛ و يسقط الولي عن ولايته إذا خان؛ و يمكن إرجاع هذا الدليل إلى سابقه، فتأمل.

ثم إنّ المراد بالكفو الشرعى واضح و هو أن يكون الزوج مسلما، و أمّا الكفو العرفي هو أن يكون متناسبا في نظر العرف، و ذلك يمكن أن يكون جهات شتى: أولا، من ناحية مقدار السن؛ فلا يكون رجل بلغ ستين سنة، كفوا لباكرة بلغت عشرين سنة.

و ثانيا، من ناحيه العلم، فلا يكون الرجل الأمّي كفوا لآنسة تكون في مستوى عال

من ناحية العلم.

و ثالثا من ناحية الديانة، فلا يكون الرجل تارك الصلاة و الصوم كفوا لبنت تكون مراعية لجميع الواجبات بل و كثير من المستحبات.

و رابعا، من ناحية السلامة و الجمال، فلا يكون رجل أعرج أبكم قبيح المنظر كفوا لامرأة ذات سلامة كاملة و جمال.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 281

و خامسا، من ناحيه الغنى و الفقر، فلا يكون رجل فقير جدا كفوا لبنت ذات غني كامل.

لا أقول لا يجوز النكاح لغير الكفو العرفي، بل يجوز قطعا. و هذا نوع من الإيثار و له أمثلة كثيرة في التاريخ الإسلامى؛ بل أقول على فرض اعتبار إذن الولي، له أن يمنع البنت عن النكاح بغير الكفو العرفي، و لا يجوز له المنع من الكفو حتى مع فرض اعتبار اذنه.

ثم، إنّه لو اختار الولي كفوا و اختارت البنت كفوا آخر، فهل تسقط ولايته؟ الظاهر أنّه تسقط، و يكون الخيار إليها؛ وفاقا للمسالك، و خلافا للجواهر. «1» و ذلك لما عرفت من الدليل الذي ذكرنا، من انصراف أدلة الولاية إلى ما هو مصالح للمولى عليه، و اختيار خلافه يكون خيانة عليه؛ و من الواضح أنّ البنت إذا اختارت كفوا تكون الفتها إليه أكثر ممّن يجبره الولي عليه و إن كان كفوا.

ثانيهما، ما إذا غاب الولي غيبة يشكل الوصول إليه، أو مات، مع حاجة البنت إلى التزويج؛ فانّه يسقط اذنه حينئذ، كما صرّح به الشيخ في الخلاف و المحدث البحراني في الحدائق، و صاحب الرياض في الرياض، و شيخنا الأعظم في رسالته، (على ما حكاه في المستمسك عنهم) و ادعى عدم الخلاف فيه.

و لم يرد فيه أيضا نص؛ و الدليل عليه أيضا هو انصراف أدلة الولاية إلى غير ذلك، فانّ الغرض منها

هو حفظ منافعها و المفروض هنا عدمه.

4- استقلال الثيب في النكاح
اشارة

الظاهر أنّه لا خلاف في استقلال الثيب في النكاح، إذا كانت عاقلة رشيدة. و قد حكى الخلاف عن ابن أبي عقيل في الجملة، و خلافه لا يضر بالإجماع، لو لم يكن إجماعا مدركيا.

و يدل عليه، مضافا إلى أنّه موافق للأصل- أصالة عدم الولاية كما عرفت شرحه انوار الفقاهة، ج 3، ص: 282

سابقا-، روايات كثيرة التي قد يعبر عنها بأنّها كادت تكون متواترة. منها:

1- ما رواه الحلبي، من أبي عبد الله عليه السّلام، قال: سألته عن البكر إذا بلغت مبلغ النساء، أ لها مع أبيها أمر؟ قال: ليس لها مع أبيها أمر ما لم تثيب. «1»

2- ما عن عبد الرحمن ابن أبي عبد الله، قال: سالت أبا عبد الله عليه السّلام عن الثيب، تخطب إلى نفسها؟ قال: نعم، هي أملك بنفسها، تولي أمرها من شاءت، إذا كانت قد تزوجت زوجا قبله. «2»

3- ما عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد الله عليه السّلام في حديث، قال: لا تستأمر الجارية في ذلك إذا كانت بين أبويها، فاذا كانت ثيبا، فهي اولى بنفسها. «3»

هذه الروايات غير مقيدة بالكفو، و مثلها غيرها.

4- ما عن عبد الخالق، قال: سألت أبا عبد الله عليه السّلام عن المرأة الثيب، تخطب إلى نفسها.

قال: هي أملك بنفسها تولي أمرها من شاءت إذا كان كفوا، بعد أن تكون قد نكحت زوجا قبل ذلك. «4»

و مثلها من حيث التقيد بالكفو، رواية اخرى عن الحلبي. «5» و يمكن أن يكون التقييد بالكفو بمعنى الكفو الشرعى أو العرفي و لكن يحمل على الاستحباب أو يكون إشارة إلى رشدها، و لا أظنّ أحدا يفتى بأن المعتبر في استقلال الثيب هو اختيار الكفو العرفي.

و

هناك روايات اخرى، رواها في الوسائل، في نفس الباب، و في المستدرك في المجلد 14، في الباب 3 من أبواب عقد النكاح.

و من طرق العامة يوجد بعض الروايات الصريحة في استقلال الثيب في أمر النكاح، مثل ما رواه ابن عباس، عن رسول الله صلّى اللّه عليه و آله قال: ليس للولي مع الثيب أمر. «6»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 283

و ما رواه أيضا عنه صلّى اللّه عليه و آله قال: الأيّم أحق بنفسها من وليّها، و البكر تستأذن في نفسها ... «1»

إلى غير ذلك ممّا قد يعثر عليه المتتبع في كتب الفريقين، و حاصل الجميع استقلال الثيب في أمر النكاح.

و لكن هناك طائفة اخرى من الأخبار تعارض ما سبق؛ منها:

1- ما رواه سعيد بن اسماعيل، عن أبيه، قال: سالت الرضا عليه السّلام عن رجل تزوج ببكر أو ثيب لا يعلم أبوها و لا أحد من قراباتها، و لكن تجعل المرأة وكيلا فيزوجها من غير علمهم، قال: لا يكون ذا «2».

2- ما رواه المهلب الدلال، عن أبي الحسن عليه السّلام، إلى أنّ قال: ... فكتب عليه السّلام، التزويج الدائم لا يكون إلّا بولي و شاهدين .... «3»

و لكن الانصاف عدم مقاومة هذه الطائفة المعارضة للروايات السابقة، لضعفها في نفسها، لعدم ذكر سعيد بن اسماعيل في كتب الرجال، و الظاهر أنّه سعد بن اسماعيل (كما في التهذيب و الاستبصار اللذين هما الأصل في الرواية)، و هو أيضا مجهول. و كذا المهلب الدلال؛ مضافا إلى ان روايته مطلقة قابلة للتقييد بالثيب كما هو واضح؛ أضف إلى ذلك أنّ فيه ذكر الشاهدين، و ليسا شرطا في النكاح، فتحمل على التقية أو الاستحباب؛ و كذا رواية سعد بن اسماعيل قابلة للحمل

على الاستحباب.

هذا كله بحسب حكم الثيب.

تحديد معنى الثيّب

ثم، إنّه ما المراد بموضوعه و هو الثيب؛ و قد وقع فيه خلاف في أنّه هل هو من ذهبت بكارتها (أي عذرتها، و هي الغشاء المخصوص) بأي سبب كان، حتى بالوثبة أو بمرض و نحوه.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 284

أو أنّ المراد منها ذهابها بالدخول، و لو كان بالزنا، نعوذ بالله.

أو أنّ المراد ما إذا ذهبت بسبب النكاح أو وطي الشبهة.

أو أنّ المراد من لم تتزوج، فاذا زوجت و طلقها قبل الدخول، أو مات عنها زوجها، كانت ثيبة.

قال الشهيد الثاني، في المسالك: أعلم أن الثيبوبة تتحقق بزوال البكارة بوطي و غيره، و انتفاء الولاية عنها مشروط بكونها بالوطي، كما نبه عليه في الرواية، (رواية سعد بن اسماعيل، 15/ 3) فلو ذهب بغيره، فهي بمنزلة البكر. «1»

و قال النراقي في المستند: لو ذهب بكارتها بغير الوطي، فحكمها حكم البكر، و كذا من ذهبت بكارتها بالزنا، و لو تزوجت و مات زوجها، أو طلقها قبل الوطي، لم تسقط الولاية، للإجماع و صدق الباكرة عليها. «2»

ظاهر الكلام المسالك، اشتراطه بأمرين، زوال البكارة و كونها بالوطي.

و ظاهر كلام المستند، اشتراطه بثلاثة امور، زوال البكارة و كونها بالوطي و كون الوطي مشروعا.

و قال في العروة: أنّ المدار على التزويج فقط، فإذا تزوجت و مات عنها زوجها، أو طلقها قبل الدخول، لا يلحقها حكم البكر. (و هذا هو الذي ادعى في المستند، الإجماع على خلافه) و صرح بأنّ ذهابها بغير الوطء، لا يخرجها عن كونها بكرا؛ و كذا لو ذهبت بالزنا أو الشبهة، لا يبعد الالحاق. «3»

و أمّا المخالفون، فقد قال ابن قدامة، في المغنى، بان: الثيب ... هي الموطوءة في القبل، سواء كان حلالا أو

حراما؛ و هذا مذهب الشافعي و قال مالك و أبو حنيفة في المصابة بالفجور حكمها حكم البكر ... و إذا ذهبت عذرتها بغير جماع كالوثبة أو شدة حيضة أو باصبع أو عود و نحوه، فحكمها حكم الابكار. ذكره ابن حامد. «4»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 285

و الذي يستفاد من مجموع هذه الأقوال، أنّ الفقهاء من الخاصة و العامة، لم يتفقوا على شي ء هنا؛ و اللازم الغور في معنى الثيب لغة، ثم الغور في روايات الباب، أمّا الأول، فقد قال في القاموس: الثيب، المرأة فارقت زوجها أو دخل بها.

و قال في الصحاح: قال ابن السكيت، و هو الذي دخل بامراة، و هي التي دخل بها؛ و يظهر من الأول أنّ المدار على أحد امرين، فراقها عن زوجها أو الدخول بها؛ كما أنّ ظاهر الثاني دورانه مدار الدخول.

و قال الراغب في المفردات: إنّ الثيب من؛ ثوب؛ بمعنى الرجوع، و هي التي فارق زوجها، و صارت كالأبكار، فجعل المدار على فراقها عن زوجها.

و لو أخذ بالقدر المتيقن من هذه الكلمات المختلفة، فلا بدّ من اشتراط امور ثلاثة:

تزويجها، و الدخول بها، و مفارقتها عن زوجها.

و أمّا العرف، فالذي يفهم منه، أنّ الامر يدور مدار بقاء العذرة؛ فاذا كانت باقية؛ يقول هي باكرة، و إلّا ثيّبة. (بناء على عدم وجود شق ثالث). و ما عرفت من أصل اللغة من اعتبار الدخول، كأنها ناظرة إلى ذلك، لأنّه الغالب.

و أمّا الروايات، فالذي يظهر من كثير منها، أنّ المدار على النكاح و عدمه؛ منها:

1- ما رواه الحلبي، و عبد الله بن سنان، و الحسن بن زياد، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال:

في المرأة الثيب تخطب إلى نفسها. قال: هي أملك بنفسها، تولى أمرها

من شاءت إذا كان كفوا بعد أن تكون قد نكحت رجلا قبله. «1»

و مثلها ما رواه عبد الخالق، عنه عليه السّلام أيضا. «2» و ما رواه عبد الرحمن ابن أبي عبد الله، عن الصادق عليه السّلام. «3» و ما رواه ابراهيم بن ميمون عنه عليه السّلام أيضا. «4»

و لكن يظهر من بعض الروايات، اعتبار الدخول، مثل رواية على بن جعفر، عن أخيه انوار الفقاهة، ج 3، ص: 286

موسى بن جعفر عليه السّلام. «1» و الجمع بينهما هو الحمل على الغالب.

فالذي يتحصل من جميع ذلك، أنّ المدار على النكاح؛ و كان السرّ فيه أنّ التي نكحت مرّة لها خبرة و تجربة بأمر النكاح؛ و من الواضح أنّ بقاء العذرة و عدمها لا دخل له فيه، فلو فرض كون العرف أو اللغة بخلافه، يؤخذ بمقتضى الروايات بعد تفسيرها فيها بما ذكر.

و القول بأنّ النكاح يحمل على فرده الغالب، و هو ما يكون مع الدخول؛ ممنوع، بان من لم يدخل بها، كثير لا سيما مع ما تعارف في كثير من الناس من الفصل بين العقد و الزفاف، فليس نادرا بحيث تنصرف عنه الروايات.

و ممّا ذكرنا تعرف انه لا مجال لاستصحاب بقاء الولاية، لو لا الدخول. و الله العالم.

بقي هنا شي ء: اذا رجعت البكارة، هل ترجع الولاية

و هو أنّه إذا رجعت بكارة المراة بعد الدخول و زوال العذرة (البكارة) بسبب عمليّة الجراحية، فهل تعود ولاية الأب و الجد عليها؛ بناء على القول بأنّ الحكم يدور مدار بقاء العذرة و عدمها؟

الظاهر عدمه، لأنّ الحكم يدور مدار بقاء الغشاء الطبيعي لا المصنوعي الذي وجد بعملية الجراحية، و أمّا نفس هذا العمل مباح في نفسه لو لم يرد به التدليس، بل كان لحفظ حرمة المرأة و شبهها، و لكن لما

كان مستلزما للنظر و اللمس المحرّمين، لا يجوز إلّا عند الضرورة.

[المسألة 3: ولاية الجد ليست منوطة بحياة الأب و لا موته

اشارة

المسألة 3: ولاية الجد ليست منوطة بحياة الأب و لا موته، فعند وجودهما استقل كل منهما بالولاية، و إذا مات أحدهما اختصت بالآخر، و أيّهما سبق في تزويج المولّى عليه عند وجودهما. لم يبق محل للاخر.

و لو زوج كل منهما من شخص، فان علم السابق منهما فهو المقدم، و لغى الآخر. و أنّ علم التقارن، قدم عقد الجدّ و لغى عقد الأب. و أنّ جهل تاريخهما فلا يعلم السبق و اللحوق و التقارن، لزم اجراء حكم العلم الإجمالي بكونها زوجة لأحدهما؛ و أنّ علم تاريخ أحدهما دون الأخر، فان كان المعلوم تاريخ عقد الجد، قدم على عقد الأب؛ و إن كان عقد الأب، قدم على عقد الجدّ؛ لكن لا ينبغى ترك الاحتياط في هذه الصورة.

استقلال كل من الاب و الجد بالولاية

(1) أقول: في هذه المسألة فروع ثلاثة:

أولها: عدم اشتراط ولاية كل منهما بحياة الآخر، و البحث عن لوازمه.

ثانيها: لو زوج كل منهما و كانا معلومي التاريخ.

ثالثها: إذا كانا مجهولى التاريخ، أو أحدهما مجهولا.

الفرع الأول: عدم اشتراط كل منهما بحياة الآخر
اشارة

فلنرجع إلى الفرع الأول- و منه تعالى شأنه نستمد التوفيق و الهداية-:

المشهور بين فقهائنا أنّ ولاية الجد غير مشروطة بحياة الأب. و ذهب شاذّ إلى اشتراطها بها. و من أجمع الكلمات في بيان الأقوال في المسألة كلام المحدث البحرانى، حيث قال: هل يشترط في ولاية الجد حياة الأب أم لا؟ المشهور، الثاني؛ و هو ظاهر الشيخ المفيد، و المرتضى، و سلار حيث اطلقوا الحكم بولاية الجدّ. و به قطع ابن ادريس، و من تأخر عنه؛ و ذهب الشيخ في النهاية، إلى أنّ حياة الأب شرط في ولاية الجدّ على البكر البالغة و الصغيرة، و موته مسقط لولايته عليهما. و نقله في المختلف عن ابن انوار الفقاهة، ج 3، ص: 288

الجنيد، و أبي الصلاح، و ابن البراج، و الصدوق في الفقيه، و أمّا ابن أبي عقيل، فقد عرفت أنّه ينكر ولاية الجد مطلقا. «1»

و يظهر من بعض كلمات الجواهر، أنّ هناك قولا ثالثا لبعض العامة، و هو أنّ ولاية الجدّ مشروط بموت الأب؛ فراجع. «2»

و قال الشيخ (قدس سره)، في الخلاف: الذي له الاجبار على النكاح، الأب و الجدّ مع وجود الأب، و إن علا. و ليس للجد مع عدم الأب ولاية. (و لم ينقل من العامة قولا بالاشتراط،) و ذكر في آخر كلامه، دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم. «3» و دعواه الإجماع مع ذهاب المشهور إلى خلافه، عجيب.

و على كل حال، فقد ظهر مما ذكرنا أنّ في المسأله أقوالا ثلاثة، استقلال كل من

الأب و الجد مطلقا؛ و اشتراط ولاية الجد بحياة الأب؛ و اشتراطه بمماته؛ و لكن الاخير من أقوال العامة.

أدلّة قول المشهور

و يمكن الاستدلال على القول المشهور، بامور:

1- استصحاب بقاء ولاية الجدّ بعد وفاة الأب، لكنه استصحاب في الشبهة الحكمية، و المختار عدم حجيّة الاستصحاب إلّا في الشبهات الموضوعية.

2- اطلاقات ولاية الأب و الجد، الواردة في الباب 11 من أبواب عقد النكاح.

و فيه، أنّها واردة في فرض تعارض ولاية الأب و الجد و شبهه، و هو ناظر إلى فرض وجود كليهما، فلا دلالة لها على ما نحن فيه.

3- الروايات الواردة في بيان المراد من الآية الشريفة: ... أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ... ففى رواية عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: الذي بيده عقدة

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 289

النكاح»، هو ولى أمرها. «1»

و حيث إنّ ولاية الجد على امور البنت معلوم، فعقدة النكاح بيده من غير تقييد.

و في رواية أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: سألته عن الذي بيده عقدة النكاح.

قال: ... و الذي يجوز أمره في مال المرأة، .... «2» و هي أيضا دالة على كون الولي على النكاح، هو الولي على المال.

و لكن الخبر الثاني ضعيف سندا بالارسال، و دلالة بذكر الأخ. أمّا الأول، فهو صحيح سندا و دلالة.

4- ما رواه عبيد بن زرارة، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السّلام: الجارية يريد أبوها أن يزوجها من رجل، و يريد جدّها أن يزوجها من رجل آخر ... إلى أن قال: و يجوز عليها تزويج الأب و الجد. «3»

بناء على كون ذيلها مطلقا، و لا يضرها ورود الصدر في مورد حياتهما. و سند الرواية معتبر.

5- ما سيأتي من

أنّه عند تعارض عقد الأب و الجد في زمان واحد، يقدم عقد الجد؛ فهو أقوى و لا يؤثر موت الأضعف في ولايته. و لكن قد يقال أنّه استحسان ظنّى؛ فان بقاء الضعيف قد يكون شرطا في تأثير القوى؛ فتأمل.

و الحاصل، أنّ بعض هذه الأدلة و إن كان قابلا للمناقشة، و لكن في الباقي غنى و كفاية في إثبات المقصود.

أدلّة القول باشتراط ولاية الجدّ ببقاء الاب

أما القول الثاني: أي اشتراط ولاية الجد ببقاء الأب؛ فغاية ما يدل عليه، ما رواه الفضل بن عبد الملك، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: إنّ الجد إذا زوج ابنة ابنه، و كان أبوها حيّا و

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 290

كان الجد مرضيا، جاز. الحديث. «1»

بناء على أنّ قوله: و كان أبوها حيّا؛ من تتمة الشرط؛ لأنّه معطوف على ما قبله و هو الشرط قطعا، (لا أنّه من قبيل الوصف) و من المعلوم أنّ مفهوم الشرط حجة، فاذا انتفى حياة الأب انتفى الجواز.

و امّا قوله: و كان الجدّ مرضيا؛ إشارة إلى شرط آخر، قد ذكرناه في بعض المباحث السابقة، و هو لزوم رعاية مصلحة البنت في النكاح؛ فاللازم كون الولي مرضيا لا خائنا يرى مصلحة نفسه و لا يرى مصلحة البنت.

و قد صرّح المحقق (قدس سره) في الشرائع بان في الرواية ضعف؛ و تبعه على ذلك بعض آخر، و رموها باشتمالها على جماعة من الواقفية.

و المراد من هؤلاء على الظاهر هو جعفر بن سماعة، و حسن بن محمد بن سماعة، و حميد بن زياد، فانهم كلهم ثقات على ما في كتب الرجال و متهمون بالوقف، و كذلك أبان بن عثمان، فانه و إن كان من اصحاب الإجماع و أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه، و

لكنه أيضا متهم بالوقف. و أنّ هؤلاء وقفوا على موسى بن جعفر عليهما السّلام، و لم يقولوا بإمام بعده. و لكن على كل حال، هم من الثقات، و ليس في روايتهم ضعف بهذا الاعتبار؛ و إن كان فيهم ضعف بحسب المذهب. (و لا يخفى عليك أن الحسن، في السند، هو الحسن بن محمد بن سماعة الواقفي، بقرينة نقل حميد بن زياد، عنه).

هذا؛ و لكن ناقش بعضهم في دلالته أيضا من جهة أن ذكر القيد و الشرط قد لا يكون لبيان المفهوم بل لبيان الفرد الاخفى، و هنا من هذا القبيل؛ لأنّ صحة عقد الجدّ مع حياة الأب و عدم الاستيذان منه، فرد بعيد خفى عن الأذهان، و كأنّه عليه السّلام يقول، لو كان الجد مرضيا جاز نكاحه و إن كان الأب حيّا. (و لو كان ميتا كان قبول نكاحه بطريق اولى)، و هذه المناقشة غير بعيدة عن سياق الكلام، مع ملاحظة الحكم و الموضوع.

أدلّة القول باشتراط ولاية الجد بوفاة الاب

و أمّا القول الثالث: أعني اشتراط ولاية الجدّ بوفاة الأب؛ فهو ممّا لا دليل عليه عندنا، بل هناك روايات كثيرة (في الباب 11) دالة على ولايته حال حيات الأب بل و يقدم عليه و يرجح؛ و مع ذلك لا يبقى شك في بطلان هذا القول. و قد عرفت أنّ هذا القول مختار بعض العامّة، و لم يذهب إليه أحد من الأصحاب فيما نعلم. قال الشافعي في كتاب الامّ: و لا ولاية لأحد مع أب؛ فاذا مات، فالجد أو الأب؛ فاذا مات، فالجدّ أبو الجدّ. «1»

و ليس على ما ذكره دليل معتبر.

الفرع الثاني: حكم العقد الصادر منهما في زمان واحد

الفرع الثاني من هذه المسألة؛ أنّه إذا صدر العقد منهما،- من الأب و الجد- فان كان أحدهما مقدما و الآخر مؤخرا، فلا كلام في تاثير المتقدم. و إن كانا في وقت واحد، فالجد مقدم و عقد الأب باطل.

أمّا الأول، أي صحة عقد كل منهما مع سبقه، فقد صرح في الجواهر: أنّه لم يعرف فيه خلافا بين الاصحاب، بل يمكن دعوى الإجماع عليه. «2»

و يدل عليه مضافا إلى أنّه موافق للقاعدة، بعد قبول استقلال كل منهما في الولاية، غير واحد من الأخبار:

مثل ما رواه عبيد بن زرارة، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السّلام: الجارية يريد أبوها أن يزوجها من رجل، و يريد جدّها أن يزوجها من رجل آخر. فقال: الجد أولى بذلك ما لم يكن مضارا، إن لم يكن الأب زوجها قبله .... «3»

و يدل عليه أيضا، ما رواه هشام بن سالم، و محمد بن حكيم، عن أبي عبد الله عليه السّلام،

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 292

قال: إذا تزوج الأب و الجد، كان التزويج للأول، فان كانا جميعا في حال واحدة، فالجد أولى. «1»

و سند

الروايتين معتبر.

و يدل عليه أيضا روايات اخرى، رواها في الوسائل، في نفس الباب؛ أو في المستدرك في الباب 10 من أبواب عقد النكاح.

و أمّا إذا كانا مقارنين و في زمن واحد، فالترجيح مع عقد الجدّ بالإجماع المحكي عن الغنية، و السرائر، و الانتصار، و الخلاف، و المبسوط، و التذكرة، و الروضة. «2»

و تدل عليه روايات كثيرة، و لكن العمدة من بينها رواية هشام بن سالم، و محمد بن حكيم، (3/ 11). فقد صرّح فيها بأنّه: إن كانا جميعا في حال واحد، فالجد أولى؛ و الأولوية في أمثال المقام للتعيين. و قد عرفت اعتبار سندها فيما رواه هشام.

و قريب منه، ما رواه عبيد بن زرارة، و قد مرّت آنفا؛ فانّ ذيلها تدل على المطلوب بمقتضى مفهوم الشرط حيث قال عليه السّلام: إن لم يكن الأب زوجها قبله؛ (2/ 11). فانه يدل على أنّهما لو كانا مقارنين، كان عقد الجد صحيحا.

و لو تشاح الأب و الجد، قدم اختيار الجد؛ كما في الشرائع و القواعد و غيرهما (على ما حكى عنهم)؛ بل عن كشف اللثام حكاية الإجماع عليه عن الانتصار، و الخلاف، و غيرهما. و استدل له بما سبق، و استدل له بصحيحة محمد بن مسلم، و موثقة عبيد بن زرارة. و لو بادر الأب، فعقد، فهل يكون باطلا أو صحيحا، قولان فعن المسالك اختيار الصحة، و احتمل في الجواهر، الأول.

و هناك روايات عديدة تدل على حكم التشاح، و أنّه لو تشاحا في تزويج البنت، كان الجد اولى، مثل صدر رواية عبيد، و رواية اخرى لعبيد، «3» و رواية قرب الاسناد. «4» و غيرهما.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 293

و هل المراد بالاولوية عند التشاح، أنّه لا ولاية للأب حينئذ،

أو أنّ الواجب تقديم الأب بحسب الحكم التكليفي لا الحكم الوضعي، فلو عصى و بادر بتزويج بنته قبل الجد، يصح عقده؟

ظاهر الأحاديث هو الأول، فيصح عقد الجد دون الأب.

هذا؛ و يظهر من رواية فضل بن عبد الملك الماضية (4/ 11)، أن تقديم الجد عند التشاح، مستحب؛ حيث قال عليه السّلام: أحبّ إليّ أن ترضى بقول الجدّ.

هذا، و قد عرفت إشكال بعضهم في سند الرواية، و إن كنا لم نتحققه، بل هي من قسم الموثق. و من جميع ذلك يعلم أنّ القول بتقديم قول الجد عند المقارنة وجوبا قوى؛ و كذلك القول باستحباب تقديمه عند التشاح.

***

الفرع الثالث: إذا جهل تاريخ وقوع العقدين

إذا جهل تاريخ وقوع العقدين، أو جهل تاريخ أحدهما مع العلم بتاريخ الأخر؛ ففى المسألة صور ثلاث: الجهل بتاريخ كليهما، الجهل بتاريخ وقوع عقد الجد دون الأب؛ و بالعكس.

أمّا إذا جهل التاريخان، فيجري فيه أحكام العلم الإجمالى؛ لأنّ الاستصحاب ساقط من الطرفين، (أعني استصحاب عدم تقديم عقد الاب، و كذا عدم تقديم عقد الجد)؛ إمّا للتعارض، أو لعدم جريان الاصول في أطراف العلم الإجمالي، على ما ذكروه في علم الاصول عند بيان تعارض الاستصحابين، فراجع. فإذا سقطت الاصول من الجانبين، استقر العلم الإجمالي؛ و لازمه كون المرأة مزوجة، و لكن لا يجوز لأحد الرجلين التعامل معها تعامل الزوجة؛ لأنّ الأصل الجاري في حق كل واحد منهما هو عدم الزوجية، و لا يعارضه الأصل الجاري في مقابله، لخروجه عن محلّ ابتلائه. و حيث تقع الزوجة في هذا الحال في عسر و حرج شديد، فعلى كل منهما طلاقه- بعنوان الاحتياط- و لو تركا ذلك، فالحاكم الشرعي يطلقها عن زوجها. هذا، و ذكر في الجواهر هنا، احتمال تقديم عقد الجدّ تارة، بدليل أنّ

مقتضى الأصلين التقارن، ثم رجع عنه بسبب كون الاقتران أيضا حادث انوار الفقاهة، ج 3، ص: 294

ينفى بالأصل. و اخرى، لإطلاق ما دل على تقديمه ما لم يسبقه عقد الأب. و احتمل أيضا الرجوع إلى القرعة من باب أنّه أمر مشكل يرجع إليها.

هذا؛ و الانصاف أنّ شيئا مما ذكره غير كاف في تقديم قول الجد. أمّا القرعة، فقد ذكرنا في محلّه أنّها إنما تجرى في ما لم يكن هناك دليل شرعى و لا أصل لفظي و لا شي ء من الاصول العمليّة؛ و هذا هو المراد من المشكل هاهنا، مثل دوران أمر المولود بين أن يكون ولدا لهذا الرجل أو رجل آخر. و كذا الغنم الموطوءة في قطيع غنم، فان الاحتياط لا يجري فيه، لكونه سببا لتلف أموال لا يرضى بها الشارع المقدس، و ليس فيه أصل لفظى، فيرجع إلى القرعة. و لكن فيما نحن فيه، يمكن العمل بالاحتياط، لإمكان اقدام كل منهما بالطلاق.

ان قلت: كيف يطلق، و هو لا يعلم أنّه زوجته؛ و إن علّقه على كونها زوجة، بأن يقول:

لو كانت هذه زوجتي فهي طالق؛ كان من قبيل التعليق في الإنشاء، و هو لا يجوز.

قلت: هذا من قبيل تعليق الحكم على وجود موضوعه، و مثل هذا التعليق ممّا لا إشكال فيه. و إن شئت قلت، هو من قبيل قصد الرجاء في العبادات عند الشك في اشتغال الذّمة.

و أمّا القول بأن مقتضى جريان الأصلين، هو التقارن، فيرجح قول الجدّ. ففيه، أنّ هذا من قبيل الأصل المثبت الذي ثبت في محلّه عدم حجيته، و كأنّه لم تكن مجارى الاصول و شرائطها منقحة في زمن صاحب الجواهر (قدس سره)، و إلّا لم يكن هذا ممّا يخفى على هذا العالم

الكبير النحرير.

و أمّا الرجوع إلى اطلاق قوله: الجدّ أولى بذلك ... إن لم يكن الأب زوّجها قبله؛ «1» بدعوى أنّ الأصل- أي أصالة عدم تقديم عقد الأب- يثبت موضوعه، ففيه أنه أيضا مخدوش بعد فرض سقوط الأصلين بالتعارض أو شبهه.

فلا مناص إلّا عن الاحتياط بالطلاق، كما عرفت، و قبله تقسّم النفقة عليهما، لأنّ عدم انوار الفقاهة، ج 3، ص: 295

التمكين هنا من باب حكم الشرع كما في حال الحيض؛ و كذا تقسم المهر- أعني نصف المهر- عليهما.

إن قلت: أ ليس هذا من قبيل واجدي المني في الثوب المشترك، فقد ذكر في محله أنّ كلا منهما يجرى أصالة الطهارة و أصالة عدم الجنابة؛ و في المقام كل منهما يجرى أصالة عدم الزوجية، فلا تجب عليه المهر و النفقة؛ و من الواضع عدم تعارض الأصلين لأنّ الأصلين إنّما يتعارضان إذا كان جريانهما في حق مكلف واحد.

قلت: ما ذكرته صحيح، و لكن نعلم أنّ الشارع المقدس لا يدع المرأة بلا نفقة و لا مهر، و الزوجية لا تخرج عنهما، فيجب تقسيم النفقة و المهر عليهما؛ كما إذا ثبت وقوع القتل من احد شخصين أو اكثر و لا ندري أيهما القاتل، بل و ما دون القتل ممّا فيه الدية، فان الحق، التقسيم بينهما- أو بينهم.

و أمّا إذا كان تاريخ أحدهما معلوما، فان كان المعلوم هو تاريخ عقد الجدّ، كما إذا علمنا أنّه كان يوم السبت، و لكن لا يعلم أنّ عقد الأب كان يوم الجمعة أو السبت أو بعده؛ فجريان استصحاب مجهول التاريخ لا معارض له، فيجري و يحكم بعدم وجود المانع عند إنشاء عقد الجد، فيحكم بصحته.

و كذلك إذا كان عكس ذلك، فيجرى أصالة عدم حدوث عقد الجدّ قبل

السبت، مثلا، إذا كان عقد الأب فيه، فيحكم بصحته.

و قد عرفت ان هذا الأصل لا يثبت التقارن، لأنّ التقارن أيضا منفى بالأصل، مضافا إلى كونه من الأصل المثبت.

هذا، و قد يقال- كما في الجواهر- أنّ اطلاق رواية عبيد، دليل على صحة عقد الجد هنا، لأنه لا يعلم وقوع عقد الأب قبله. و فيه، أنّ الحكم في الرواية لا تدور مدار العلم و الجهل، بل مدار الواقع؛ فاللازم احراز وقوع عقد الجد مقدما أو مقارنا لعقد الأب؛ و هذا أمر ينفيه الأصل بلا معارض، لجريان الأصل في مجهول التاريخ فقط. و لعله لذلك أمر في الجواهر بالتأمل، في ذيل كلامه.

[المسألة 4: يشترط في صحة تزويج الأب و الجد و نفوذه، عدم المفسدة]

اشارة

المسألة 4: يشترط في صحة تزويج الأب و الجد و نفوذه، عدم المفسدة. و إلّا يكون العقد فضوليا كالأجنبي، يتوقف صحته على أجازه الصغير بعد البلوغ، بل الاحوط مراعاة المصلحة.

يشترط في صحة تزويج الولي عدم المفسدة

(1) أقول: الكلام في المقام في أمور ثلاثة: اعتبار عدم المفسدة؛ اعتبار المصلحة؛ و صحة النكاح حتى مع المفسدة للمولى عليه.

اعتبار عدم المفسدة

أمّا اعتبار عدم المفسدة، فقد صرح به كثير من الأصحاب. قال النراقي (قدس سره) في المستند: الظاهر وجوب مراعاة الولي عدم المفسدة في النكاح لظاهر الإجماع ... و هل يجب مراعاة المصلحة في النكاح؟ الظاهر لا للأصل و العمومات. «1»

و حكى عن المسالك أيضا، الاتفاق على اعتبار عدم المفسدة. «2»

و عن العلّامة في التذكرة، و المحقق الثاني اعتبار المصلحة. «3»

و أمّا جوازه مع المفسدة، فالظاهر أنّه لم يقل به أحد من الأصحاب.

استدل على الأوّل أى اعتبار عدم المفسدة؛ بامور:

1- الأصل، أي أصالة الفساد عند عدم مراعاته؛ لكنها مشروطة بعدم وجود دليل خاص في المسالة.

2- الإجماع؛ و لكن حاله معلوم في أمثال المقام.

3- عمومات نفي الضرر؛ و النسبة بينها و بين عمومات الولاية، و إن كانت بالعموم و

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 297

الخصوص من وجه، و لكن حكومة أدلة نفى الضرر على أدلة الأحكام الشرعيّة تغنينا عن ملاحظة النسبة؛ كما ذكر في محلّه.

4- انصراف الاطلاقات عن فرض المفسدة.

ما يدل على اعتبار المصلحة

و يدل على الثانى، أي اعتبار المصلحة، ظهور الآية الشريفة الواردة في الأموال: وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ...*

. «1»

توضيحه: إنّ المعروف في مسألة أموال اليتامى، عدم جواز التصرف فيها بغير مصلحة، بل ادعى عليه الإجماع. و لكن مخالفة جماعة من الأكابر دليل على عدم كون المسألة إجماعية و ان كانت مشهورة.

و استدل له بالآية السابقة بناء على شمولها للجد مع فقد الأب، لصدق اليتيم عليه حينئذ؛ و لكن يرد عليه، أولا، أنّ لازمها عدم كفاية مجرد المصلحة، بل اللازم اختيار الاصلح. فإذا كان هناك صالح و اصلح، يجب على الولي اختيار الأصلح. و هذا ممّا لم يقل به أحد فيما نعلم. فاللازم حملها على

الاستحباب.

و لكن ينافيه قوله تعالى في الآية التي قبلها: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ... «2» فقد صرّح فيها بالتحريم؛ و جعل هذه المحرمات إلى جنب الشرك و قتل النفس و عدم قرب الفواحش ما ظهر منها و ما بطن.

و في سورة الاسراء ذكر قبله قتل الأولاد من املاق و الزنا و قتل النفس التي حرّم الله و ذكر بعده عدّة من المحرمات.

فالاولى أن يقال، إن ترك الأصلح، و العدول إلى الصالح على قسمين: قسم يعدّ في العرف خيانة على مال اليتيم، مثل ما إذا كان هناك رجلان أحدهما يشترى مال اليتيم بأضعاف قيمته أو ضعفه، و الثاني يشتريه بربح لا يتجاوز عن العشرة في المائة؛ أو يشتريه انوار الفقاهة، ج 3، ص: 298

أحدهما بربح الخمسين في المائة، و الآخر عشرة فقط؛ فباعه الولي بمن يشتريه بانقص، بسبب حبّه له و حاجته اليه، و يترك الآخر. فلا يشك أحد في صدق الخيانة حينئذ. و اخرى يكون هناك من يطلبه بربح معقول، و لكن يحتمل لو دوّر الأسواق وجد من يشتريها بأزيد، فهذا لا يجب. و لا يبعد أن تكون الآية ناظرة إلى الفرض الأول.

فدلالة الآية على وجوب رعاية المصلحة، غير بعيدة.

و ثانيا، بأنّ التعدى عن باب الأموال إلى النكاح، لا دليل عليه، بعد وجود الاطلاقات الدالة على عدم اعتبار المصلحة، حيث لم يرد في شي ء من النصوص اعتبار وجود المصلحة. (ذكره سيّدنا الاستاذ الخوئي، قدس سره). «1»

و الانصاف، أنّ الأولوية هنا ممّا لا يمكن نفيها، فان الأموال أمرها أسهل بالنسبة إلى النكاح- لا سيما النكاح الدائم في مقابل الأموال القليلة- و إذا ثبت قياس الأولوية، يخصص به العمومات، و يقيد

به الاطلاقات.

هذا؛ و العمدة أنّ ولاية الأب و الجد هل هي من باب كون الولد و ماله لأبيه، أو من باب حفظ مصالح الولد حيث أنّه أبصر بمصالح أولاده و أخبر بها و أشدّ محبة و رحمة من غيره؛ و بعبارة اخرى هل هي لانتفاع الولي بها، أو انتفاع المولى عليه؟ لا شك ان الصحيح هو الثانى. و ذلك لأن أصل هذا الحكم مأخوذ من بناء العقلاء من أهل العرف و أمضاه الشارع المقدس؛ و من الواضح أنّ ملاكه عند العقلاء من أهل العرف، هو حفظ مصالح الولد لا مصالح الأب و الجد؛ و من المعلوم أنّ مجرّد عدم المفسدة غير كاف في ذلك.

و إن شئت قلت؛ مفهوم الولاية، ليس إلّا حق التصرف في الأموال و الأنفس بما فيه مصالح المولى عليه، و حيث إنّ رعاية المصلحة موجودة في مفهوم الولاية لا يبقى اطلاق لروايات ولاية الأب و الجد.

إن قلت: إنّ ما ورد في غير واحد من الروايات، من قوله: أنت و مالك لأبيك؛ يدل على الأول.

قلنا: لا شك أنّه حكم أخلاقي استحبابي، دال على استحباب الإيثار في مقابل الأب، و

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 299

إلّا جاز التصرف في الأموال و النكاح حتى مع المفسدة؛ لأنّ الإنسان مختار في ماله، و هذا ممّا لم يقل به احد.

أضف إلى ذلك، أنّ هناك روايات على اعتبار المصلحة في خصوص نكاح الولي أو تشعر بها. منها:

1- ما رواه فضل بن عبد الملك، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: لا تستأمر الجارية التي بين أبويها إذا أراد أبوها أن يزوجها، هو انظر لها. «1»

فإن قوله: هو انظر لها؛ يدل بوضوح على أنّ قبول ولاية الأب و اعتبار نكاحه، إنّما

هو بسبب رعاية مصلحة البنت، أكثر ممّا لو كانت هي بنفسها تختار زوجها؛ اللّهم إلّا أن يقال هو من باب الحكمة و محمول على الغالب، و لكن أنّ هذا الاحتمال بعيد عن ظاهر الحديث.

و قد عرفت اعتبار سند الحديث، و إن كان فيه جماعة من الواقفيّة.

2- ما رواه عبيد بن زرارة، و قد مرّت الإشارة إليها غير مرّة، و في ذيلها: الجد أولى بذلك ما لم يكن مضارا. «2»

و الانصاف أنّه لا يستفاد منها أكثر من عدم المفسدة؛ و إن كان السند معتبرا.

3- ما رواه فضل بن عبد الملك، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: أنّ الجدّ إذا زوّج ابنة ابنه و كان أبوها حيا و كان الجدّ مرضيا، جاز .... «3»

و اشتراط كون الجدّ مرضيا، إشارة إلى أنّه يراعى مصلحة ابنة ابنه و سند الحديث أيضا معتبر، كما شهد به العلّامة المجلسي (قدس سره) في مرآت العقول. «4»

فالانصاف، أنّه لا يجوز العدول عن اعتبار المصلحة، و قد عرفت أنّ رعاية الأصلح غير واجبة، إلّا ان يكون أمرا سهل الوصول بحيث يعد العدول عنه اضرارا و خيانة بالنسبة إلى المولى عليه.

بقى هنا أمران:
1- عقد الاولياء للصغار في عصرنا

انك قد عرفت أنّ أمر الولاية، لو دار مدار المصلحة، أو عدم المفسدة، فانّه لا يصح عقد الأولياء في الصغر في عصرنا، إلّا في موارد نادرة جدا. لأنّ هذه العقود تنتهي إلى مفاسد كثيرة بعد بلوغ الصغير أو الصغيرة. فهم لا يقبلون إلّا من انتخبوه و اختبروه و أحبّوه. فمن هذه الناحية لا بدّ للأولياء من التجنب عن هذه العقود.

2- لو لم يراع الولي المصلحة أو عدم المفسدة يكون العقد فضوليا

أنّه لو لم يراع الولي، المصلحة، أو عدم المفسدة؛ (على القولين) كان العقد فضوليا إلى أن يبلغ؛ لأن كل انسان يجوز له الأقدام على ما ليس عرفا مصلحة له، إمّا من باب الايثار، أو برجاء أن يكون كفارة لبعض ذنوبه، أو امور آخر؛ فالعقد لا يكون باطلا من رأسه، بل يكون فضوليا إلى أن يبلغ الصبيّة أو الصبي، فيختار. (و هذا هو الأمر الثالث).

***

[المسألة 5: إذا وقع العقد من الأب أو الجدّ عن الصغير أو الصغيرة]

اشارة

المسألة 5: إذا وقع العقد من الأب أو الجدّ عن الصغير أو الصغيرة مع مراعاة ما يجب مراعاته، لا خيار لهما بعد بلوغهما، بل هو لازم عليهما.

عقد الولي من العقود اللازمة

(1) أقول: هذه المسألة بالنسبة إلى الصغيرة مجمع عليها، و في الصبي مختلف فيها، كما قال في الرياض: و لا خيار في الصبيّة مع البلوغ لو زوجها الوليّ قبله، إجماعا حكاه جماعة ... و في الصبي قولان، أظهرهما و أشهرهما أنّه كذلك ... خلافا للشيخ و جماعة، فاثبتوا له الخيار بعد الإدراك. «1»

و قال الشيخ في النهاية: و متى عقد الرجل لابنه على جارية و هو غير بالغ، كان له الخيار إذا بلغ. «2»

و قريب منه ما ذكره المحقق النراقى، في المستند، حيث نفى الخلاف في عدم الخيار في الأول، ثم نقل ذهاب الأكثر في الثاني- أي الصبي- إلى عدم الخيار أيضا. «3»

أدلّة القول بثبوت الخيار للصبى

و الدليل على الأول عدّة روايات معتبرة؛ منها:

1- ما رواه ابن بزيع، قال سألت أبا الحسن عليه السّلام، عن الصبيّة، يزوّجها أبوها ثم يموت و هي صغيرة، فتكبر قبل أن يدخل بها زوجها، يجوز عليها التزويج، أو الأمر إليها؟ قال:

يجوز عليها تزويج أبيها. «4»

2- ما عن عبد الله بن الصلت، قال: سالت أبا عبد الله عليه السّلام عن الجارية الصغيرة يزوجها

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 302

أبوها، لها أمر إذا بلغت؟ قال: لا؛ ليس لها مع أبيها أمر؛ الحديث. «1»

هذا الحديث رواه في الوسائل كما عرفت. و لكن في الكافي، و التهذيب، و الاستبصار التي هي المدرك لنقل الحديث، روايته عن الرضا عليه السّلام. و عبد الله بن الصلت، أبو طالب القمي، من أصحاب الرضا عليه السّلام، و ليس من أصحاب الصادق عليه السّلام على ما في كتب الرجال، فرواية الوسائل عنه عليه السّلام لعله خطأ من الكاتب. و على كل حال سند الحديث معتبر.

3- ما رواه على بن يقطين، عن الرضا عليه السّلام،

و فيها: فاذا بلغت الجارية، فلم ترض، فما حالها؟ قال: لا بأس بذلك إذا رضي أبوها أو وليّها. «2» بناء على كون المراد؛ لا بأس بذلك العقد؛ كما هو الظاهر.

إلى غير ذلك.

و لكن يعارضها: صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام ... و فيها: لكن لهما الخيار إذا أدركا. «3»

و رواية الكناسي عنه عليه السّلام ... و فيها: فان زوجها قبل بلوغ التسع سنين، كان الخيار لها إذا بلغت تسع سنين .... «4»

و لكن في سنده ضعف بسبب بريد الكناسي، فانّه مجهول، و لو كان الرجل يزيد الكناسي كما في بعض النسخ، فانه أيضا مجهول. و لكن في الحديث الأول غنى و كفاية، مضافا إلى أنّ الخبر الأخير مشتمل على بعض الأحكام المخالفة للإجماع كما قيل.

و قد يجمع بين الطائفتين- كما عن الشيخ قدّس سرّه بأنّ للصبي الطلاق بعد البلوغ، و للصبيّة طلب المهر أو الطلاق، و هذا الجمع بعيد جدّا لا يصار إليه.

و كذا ما افاده سيدنا الاستاد الخوئي (قدس سره)، من إمكان تقييد اطلاق الأخبار السابقة، بصحيحة محمد بن مسلم، لورودها في خصوص مورد كون الزوج و الزوجة

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 303

كلاهما صغيرين ثمّ قال: فان تمّ إجماع فهو ... و إلّا فيتعين العمل بها. «1»

و كلامه (قدس سره) قابل للمناقشة؛ أولا، بأن الفرد الغالب كونهما صغيرين فاخراج هذه الصورة مشكل. و ثانيا، أنّ الفرق بين الصورتين بعيد جدا لا يقبله العرف لإلغاء الخصوصية عنها قطعا.

فالاولى أن يقبل التعارض، و ترجح الطائفة الاولى بالشهرة الفتوائية، مضافا إلى موافقته لأصالة اللزوم.

هذا كله بالنسبة إلى الصبيّة؛ أمّا بالنسبة إلى الصبى، فقد ذكر المحقق النراقي في المستند: أنّه كالصبيّة عند الأكثر؛ «2»

و قال في

الرياض: و في الصبي قولان أظهرهما و أشهرهما أنّه كذلك (أي مثل الصبيّة في لزوم العقد عليه) ... خلافا للشيخ و جماعة، فاثبتوا له الخيار، بعد الإدراك. «3»

أدلّة القول بعدم الخيار له

و يدل على عدم الخيار له بعد البلوغ، أولا، الأصل؛ و قد عرفت أنّ المراد منه الرجوع إلى العمومات، مثل عموم؛ أوفوا بالعقود؛ فانّ معنى وجوب الوفاء بها هو الوقوف عندها و الالتزام بها و عدم العدول عنها، و هو مساو لعدم الخيار.

إن قلت: يمكن المناقشة في ذلك بأنّ معنى أوفوا بالعقود، هو أوفوا بعقودكم؛ و من المعلوم أنّ العقد هنا ليس عقد الصبي الذي بلغ، بل عقد الولي فالتمسك بها مشكل.

قلنا: لا شك أنّ عقد الولي هو عقد المولى عليه، فانه يأتي من قبله؛ مثل عقد الوكيل الذي هو عقد الموكل، بل اولى منه من جهات مختلفة.

و أمّا الاستصحاب- أي استصحاب بقاء العقد، و لو بعد الفسخ المساوى لعدم تأثير الفسخ- فهو من الاستصحاب في الشبهات الحكمية، و قد عرفت الإشكال فيه على المختار.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 304

و ثانيا، قد استدل له تارة، بما دل على صحة عقد الولي على الصغير، و عدم صحة طلاقه؛ مثل صحيحة الحلبى الواردة من الباب 11 من أبواب ميراث الازواج. «1»

و اخرى، بما دل على توارثهما بعد البلوغ، مثل صحيحة محمد بن مسلم. «2» و ما رواه عبيد بن زرارة. «3» إلى غير ذلك ممّا في هذا المعنى.

و الانصاف أنّ شيئا منها لا يدل على المقصود، و هو عدم الخيار، و غايتها صحة العقد.

و من الواضح أنّ صحة العقد لا تنافي جواز الفسخ. و قول بعضهم (قدس الله أسرارهم) أنّ جواز التوارث ناف للإلحاق بالفضولي (كما في كلام المستند) خطاء

ظاهر؛ فانّ الكلام ليس في الحاقه بالفضولى، بل في الحاقه بالعقد الجائز، و بينهما فرق ظاهر.

نعم، هناك رواية واحدة، رواها في المستدرك، في أبواب عقد النكاح، عن دعائم الإسلام، عن علي عليه السّلام، أنّه قال: تزويج الآباء جائز على البنين و البنات إذا كانوا صغارا و ليس لهما خيار إذا كبروا. «4»

و هي صريحة في نفى الخيار؛ و لكن الإشكال في سندها كما هو ظاهر.

اللّهم إلّا أن يدعى الانجبار بعمل المشهور. فتأمل؛ فان الانجبار إنّما يكون في الروايات الواردة في الكتب المشهورة التي كانت بمرئى و مسمع من العلماء الكبار، يمكن استنادهم في الفتوى اليها، لا مثل دعائم الإسلام.

و قد استدل سيدنا المحقق الخوئي في المقام بروايتين آخريين وردتا في أبواب المهور؛ أحدهما عن عبيد بن زرارة؛ «5» و الثاني عن فضل بن عبد الملك؛ «6» تدلان على أنّ المهر على الغلام، فان لم يكن له مال، أو ضمن الأب المهر، كان عليه.

و قال (قدس سره)، اطلاقهما دليل على وجوب المهر، حتى إذا فسخ، و لازمه عدم انوار الفقاهة، ج 3، ص: 305

تأثير الفسخ.

و فيه أولا، أنّهما ليستا في مقام البيان من هذه الجهة، بل في مقام بيان أمر آخر، و هو المهر فقط.

و ثانيا، الكلام في نفي الخيار بمقتضى تصريح الروايات، و إلّا أنّ التمسك بالاطلاق هو مقتضى الأصل كما عرفت.

نعم، هناك رواية اخرى عن علي بن يقطين، قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام أتزوج الجارية و هي بنت ثلاث سنين، أو يزوج الغلام و هو ابن ثلاث سنين ... فإذا بلغت الجارية فلم ترض فما حالها؟ قال: لا بأس بذلك إذا رضي أبوها أو وليها. «1» بناء على أنّ سكوتها عن بيان حال الابن،

دليل على ثبوت الخيار لها.

و لكن الانصاف أنّها دلالة ضعيفة، ليس فوق حد الاشعار.

فاذن، العمدة في عدم الخيار هو العمومات التي مرّت الإشاره إليها.

الروايات الدالة على ثبوت الخيار له إذا بلغت

و لكن هناك روايات متعددة تدل على ثبوت الخيار للصبي إذا بلغت؛ منها:

1- رواية فضل بن عبد الملك، عن الصادق عليه السّلام: إذا زوج الرجل ابنه فذاك إلى ابنه و إذا زوّج الابنة جاز. «2»

و هو ظاهر الدلالة على عدم الخيار للصبيّة و ثبوته للصبي؛ اللّهم إلّا أن يقال إنّها واردة في الكبير و الكبيرة بقرينة قوله عليه السّلام: ذاك إلى ابنه؛ فانه ظاهر في البلوغ، فهي خارجة عن محل الكلام.

2- ما رواه محمد بن مسلم، في الصحيح عن الباقر عليه السّلام: ... و لكن لهما الخيار إذا أدركا .... «3»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 306

3- ما رواه بريد الكناسي، في حديث طويل، عن الباقر عليه السّلام، و فيها أيضا التصريح بالخيار للبنت و الابن بعد البلوغ. «1»

و لكن الاستدلال بهما مشكل، لذكر الخيار لهما، مع ما عرفت من أنّ الخيار في البنت خلاف الإجماع و خلاف ظاهر الروايات؛ و التفكيك بينهما مع ورودهما في عبارة واحدة أشكل، لأنّه مخالف لبناء العقلاء الذي هو المدار في أبواب حجّية خبر الواحد.

و الحاصل أنّ شيئا من هذه الروايات أيضا لا يدل على المقصود؛ فالرجوع إلى الأصل المقتضى لعدم الخيار ممّا لا مناص عنه.

أضف إلى ذلك، أنّ عقد النكاح لا ينقسم إلى قسمين قسم لازم و قسم جائز، فهذا ممّا لم يعهد في الشرع و لا بين العقلاء.

نعم؛ الخيار جار في عقد النكاح في ثلاث مواضع:

1- خيار العيب، أعني العيوب المعينة المحدودة (سبعة في المرأة، و سبعة في الرجل).

2- خيار التدليس.

3- خيار تخلف الشرط، كما

إذا شرطت المرأة، السكنى في بلد خاص، فبعد برهة من الزمان ترك الزوج ذلك، و هاجر إلى بلد آخر، فان المرأة لها خيار تخلف الشرط.

و أمّا كون النكاح بذاته جائزا في بعض الموارد، فهو غير معهود. و الله العالم.

[المسألة 6: لو زوج الولي، الصغيره بدون مهر المثل

اشارة

المسألة 6: لو زوج الولي، الصغيره بدون مهر المثل، أو زوّج الصغير بازيد منه، فان كانت هناك مصلحة تقتضى ذلك، صح العقد و المهر و لزم؛ و إن كانت المصلحة في نفس التزويج دون المهر، فالأقوى صحة العقد و لزومه، و بطلان المهر، بمعنى عدم نفوذه و توقفه على الاجازة بعد البلوغ، فان أجاز استقر، و إلّا رجع إلى مهر المثل.

لو زوج الولي الصغيرة بدون مهر المثل

(1) أقول: في هذه المسألة أقوال ثلاثة:

1- يبطل العقد و المهر؛ و اختاره جماعة من الأكابر، منهم صاحب الجواهر، و صاحب العروة و جماعة من المحشين. بل أسند إلى جماعة من القدماء (أعلى الله مقامهم).

2- بطلان المهر دون العقد، كما اختاره في الشرائع و غيره.

3- صحة الأمرين؛ ذهب إليه شيخنا الطوسي (قدس سره).

قال في الخلاف: إذا زوج الأب أو الجدّ، من له اجبارها على النكاح، من البكر الصغيرة أو الكبيرة، بمهر دون مهر المثل، ثبت المسمى، و لا يجب مهر المثل. و به قال أبو حنيفة و قال شافعي يبطل المسمى و يجب المهر المثل دليلنا، أنّ المسمى لا خلاف أنّه واجب عليه، و من أوجب مهر المثل، فعليه الدلالة. «1»

و ظاهر كلامه هذا، صحة المهر و العقد؛ و حكاه عن أبي حنيفة أيضا. و لكن ظاهر كلام الشافعي القول الثاني؛ و دليله على مختاره، الأخذ بالقدر المتيقن و نفى الزائد بالأصل.

و ليعلم أنّ الكلام هنا إنّما هو على فرض قبول مراعاة المصلحة و لا أقل من عدم المفسدة، و أمّا على القول بعدم وجوب هذا الشرط، فلا يبقى مجال للبحث عن فساد هذا العقد أو فساد خصوص الشرط، كما هو واضح؛ لأنّ المفروض عدم لزوم مراعاة المصلحة أو عدم المفسدة.

انوار الفقاهة، ج 3، ص:

308

فقول الشيخ قدّس سرّه خارج عن محط الكلام، كما أنّ استدلال شيخنا الأنصاري له، بقوله عليه السّلام: أنت و مالك لأبيك؛ و أنّ ولاية الأب و الجد من باب ولاية الحسبة و الغبطة بل ولايتهما عليه كولاية المولى على العبد!؛ خارج عن محط الكلام، مضافا إلى ضعفه في نفسه.

و على كل حال، المسألة تدور مدار كون العقد و المهر شيئا واحد، أو من قبيل تعدد المطلوب؛ فلو كانا شيئا واحدا، كان الحكم بالفساد و هو الأقوى؛ و إن كانا أمرين مختلفين، و بعبارة اخرى من قبيل انشاءين بلفظ واحد، كان الحكم بصحة العقد و بطلان المهر قويا.

و الانصاف، أنّ عقد النكاح إنشاء واحد لأمر واحد. و إن شئت قلت، العقد و المهر من قبيل القيد و المقيد، و ليس هنا إنشاءان مستقلان أو ما بحكمهما؛ فاذا بطل أحدهما بطل الآخر.

إن قلت: إنّ المعروف بين الفقهاء عدم وجوب ذكر المهر في إنشاء العقد، بل و عدم قدح ذكر مهر فاسد كالخمر و الخنزير، و هذا دليل على كونه أمرا مستقلا.

قلنا: كلّا؛ عدم ذكر المهر، ليس بمعنى عدم المهر. فلو أنشأ العقد بقصد كونه بلا مهر، بطل. بل عدم ذكر المهر، بمعنى الاكتفاء بمهر المثل في الواقع؛ فهو شي ء يعلم من سياق الكلام. و كذا ذكر المهر الفاسد؛ فانّ المهر، مذكور في الكلام؛ غاية الأمر يتبدل المذكور بحكم الشارع المقدس بمهر حلال و هو مهر المثل.

و على كل حال، المهر جزء للعقد لا ينفك منه، و ليس هنا من قبيل بيع ما يملك و ما لا يملك، فانّه في قوة إنشاءات متعددة بحكم العرف و العقلاء.

أضف إلى ذلك، لو سلمنا أنّه من قبيل تعدد المطلوب، و لكن

إذا ثبت أصل العقد و بطل المهر، يقع الطرف المقابل (الزوج أو الزوجة) في الضرر، و لا يمكن تداركه بالخيار، كما في بيع ما يملك و ما لا يملك؛ لعدم جريان الخيار في النكاح كما عرفت. فيلزم على الزوج مثلا قبول مهر المثل الذي قد يكون أضعاف المهر المذكور في العقد، أو يقع الزوجة في الضرر لكون مهر المثل عشرا من أعشار المهر المذكور في العقد، و لا طريق إلى تدارك انوار الفقاهة، ج 3، ص: 309

هذا الضرر العظيم. فاللازم بطلان العقد أيضا في الصورتين.

و الحاصل، أنّ الدليل على بطلان كليهما أمران:

أحدهما: ان العقد و المهر مطلوب واحد، لا يمكن الحكم بصحة أحدهما و فساد الآخر، و لو شك في تعدد المطلوب و وحدته، فاصالة الفساد حاكم.

و بعبارة اخرى، المصلحة المعتبرة في عقد الولي، لا تلاحظ بالنسبة إلى كل جزء من العقد، بل المجموع من حيث المجموع، لو كانت واجدة للمصلحة، صحّت؛ و إلّا و بطلت.

فتسرى المصلحة أو المفسدة من أحدهما إلى الآخر.

ثانيهما: لو كان المسمى دون مهر المثل، ثم بطل و رجع إلى مهر المثل، كان ضررا على الزوج؛ فان مهر المثل قد يكون أضعافا مضاعفا بالنسبة إلى المهر المسمى. و لو كان اكثر منه، ثم بطل و رجع المثل، كان ضررا على الزوجة. و لا يمكن دفع الضرر في المقام بالخيار، لعدم جريان الخيار في النكاح في امثال المقام. فاللازم، الحكم بالبطلان من رأس. و الله العالم.

***

[المسألة 7: السفيه المبذر، المتصل سفهه بزمان صغره، أو حجر عليه للتبذير، لا يصح نكاحه

اشارة

المسألة 7: السفيه المبذر، المتصل سفهه بزمان صغره، أو حجر عليه للتبذير، لا يصح نكاحه إلّا باذن أبيه أو جدّه، أو الحاكم مع فقد هما، و تعيين المهر و المرأة إلى الولي، و لو تزوج بدون الاذن

وقف على الاجازة، فان رأى المصلحة و أجاز جاز، و لا يحتاج إلى إعادة الصيغة.

السفيه المبذر لا يصح نكاحه الّا باذن الولي

(1) أقول: في المسألة فرعان:

أحدهما؛ توقف صحة عقد السفيه المبذر على اذن الولي، سواء كان أباه أو جدّه، أو الحاكم الشرعي مع فقدهما، و على الولي تبيين جميع خصوصيات العقد من الزوجة و المهر و شرائطه.

ثانيهما؛ أنّه لو تزوج بدون الاذن، لم يكن عقده باطلا، بل كان من قبيل الفضولي يتوقف على اذن الولي.

الفرع الاول: صحة عقد السفيه موقوفة على اذن وليه

فقد صرّح به غير واحد من أساطين الفقه كالمحقق في الشرائع، و العلامة في القواعد، و المحقق الثاني في جامع المقاصد، و العلّامة في التذكرة، قال فيها: و ليس للسفيه أن يستقل بالتزويج، لأنّ النكاح يشتمل على مؤن مالية و لو استقل به لم يؤمن أن يفنى ماله في المهر و النفقة، فلا بدّ له من مراجعة الولي. «1»

و قريب منه ما في جامع المقاصد. «2»

و كذا الشهيد الثاني في المسالك، «3» و يظهر من الجواهر أيضا. «4»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 311

و الدليل على وجوب اذن الولي، أنّ النكاح عقد يرتبط بالامور الماليّة، و كل تصرف يرتبط بالامور المالية فانّه محجور عنه بالإجماع، و كل من الصغرى و الكبرى واضحة.

هذا، و قد ذكروا في جوازه شرطين:

أحدهما؛ تعيين الزوجة و المهر من ناحية الولي، لأنّه بدونه لا يؤمن عن إفساده و تبذيره؛ و لكن هذا الدليل يتمّ في خصوص المهر، و أمّا بالنسبة إلى اختيار الزوجة، فقد لا يكون فيه سفيها، بل يعرف من هي المناسبة لحاله و إن كان لا يعرف مقدار المهر، اللّهم إلّا ان يكون سفيها في المال و غيره، أو يختار زوجة كثير المهر على كل حال مع إمكان الوصول إلى حاجته بزوجة اخرى تكون من كثير من الجهات مثلها و لكن لا يكون مهرها غاليا.

ثم اعلم أنّ

التعيين قد يكون شخصيا و قد يكون بالأوصاف، كان يقول: إن كان من قوم كذا فمهره كذا، و إن كان من غيره فكذا.

ثانيهما؛ صرّح غير واحد منهم بأن جواز عقده إنّما هو في فرض الاضطرار.

قال في الشرائع: و المحجور عليه للتبذير لا يجوز له أن يتزوج غير مضطرّ؛ و لو أوقع العقد كان فاسدا. «1»

و صرح في الجواهر: بعدم الخلاف فيه إذا كان فيه اتلاف لماله؛ «2»

و هو عجيب؛ فانّ الولي، يجوز له اذن السفيه بالتمتع عما يتمتع به غيره من العقلاء، و من الواضح أنّ العقلاء لا يكون نكاحهم محصورا في مواقع الاضطرار، بل قد يكون غير مضطر إليه، و لكن ينتفع به انتفاعا مباحا. و لم لا يجوز ذلك على السفيه؛ فهل يجرى مثله في السكنى و أكل الفواكه و لبس الثياب، فهل يتحدد ذلك بالاضطرار؟ لا أظن أحدا يلتزم به. فالانصاف، أنّ الاضطرار و الحاجة غير معتبر في نكاحه؛ إنّما اللازم كونه أمرا معقولا بالنسبة إليه، ليس فيه اسرافا و لا تبذيرا.

الفرع الثاني: لو تزوج بدون اذن وليه فالعقد فضولى

لو تزوج بدون اذن الولي، فهل يكون باطلا من رأس، أو يكون فضوليا؟ فالحق انه فضولى، لأنّ السفيه ليس مسلوب العبارة كالصبي أو المجنون، بل عقده صحيح إذا كان جامعا لشرائط الصحة، موقوف على اجازة الولي، كما حكي عن جامع المقاصد و المسالك و الخلاف و المبسوط و التذكرة.

بل قد يقال- كما في الشرائع- أنّ العقد صحيح و لو لم يأذن له الولي، فان زاد في المهر عن المثل، بطل الزائد.

و يمكن أن يناقش فيه، بأنّ بطلان مهر المسمى و رجوعه إلى مهر المثل، ضرر على الزوجة، و لا يمكن جبرانه بالخيار؛ و إنّما رضيت بالعقد مع المسمى فلا يصح

العقد و المهر.

هذا كله بحسب مقتضى القاعدة في المسألة.

و أمّا بحسب الروايات الخاصة، فقد ورد نصوص صريحة في المسألة توافق القواعد العامة. (و العجب من صاحب الحدائق حيث صرح بأنّه لم يجد نصا في المسألة مع طول باعه و كثرة تتبعه في الأحاديث). و إليك نبذة منها:

1- ما ورد في صحيحة الفضلاء، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: المرأة التي قد ملكت نفسها غير السفيهة و لا المولى عليها، تزويجها بغير ولي جائز. «1» و الرواية و إن وردت في السفيهة و لكن يمكن استفادة حكم السفيه منه بطريق اولى.

و الظاهر أنّ المراد منها، السفيهة في الامور الماليّة، لأنّه المعروف من هذا التعبير؛ و حملها على السفه من حيث اختيار الكفو، بعيد جدا.

2- ما عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إذا كانت المرأة مالكة أمرها تبيع و تشترى و تعتق و تشهد و تعطى من مالها ما شاءت، فان أمرها جائز؛ تزوجت إن شاءت بغير اذن وليها. و إن لم تكن كذلك، فلا يجوز تزويجها إلّا بأمر وليّها. «2»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 313

و هي دليل على، أنّ جواز التزويج يدور مدار رشدها المالي و عدمه.

3- ما عن أبي الحسين الخادم بياع اللؤلؤ، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: سأله أبي و أنا حاضر عن اليتيم متى يجوز أمره؟- إلى أن قال:- جاز عليه أمره إلّا أن يكون سفيها أو ضعيفا. «1»

و لا يمكن الاستدلال بها إلّا من ناحية الاطلاق، فتأمل.

و هناك إشارات في بعض الروايات الآخر، و لكن في ما عرفت غنى و كفاية بعد صحة سند الاولى، و إن كان سند الثانية ضعيفا بموسى بن بكر، و كذا الثالث بناء على

الخلاف في أبى الحسين بياع اللؤلؤ- و اسمه آدم بن المتوكل- من جهة التوثيق، و على فرض توثيق آدم بن المتوكل، لم يثبت أنّه متحد مع أبي الحسين بياع اللؤلؤ.

و لعل عدم الاستناد إلى هذه الروايات مع وضوح دلالتها و اسناد بعضها، هو كونها من أدلة استقلال الباكرة الرشيدة في النكاح، و هو لا يوافق مذهب كثير منهم؛ و لكن يجوز الاستناد إليها على المختار.

***

بقي هنا شي ء: ما المراد بالسفيه و السفيهة؟

قد تعرض له الأصحاب في أوائل أبواب الحجر، بعد التصريح بكون السفيه محجورا؛

صرّح في الجواهر بأن عنوان الرشد (المقابل للسفه) ليس له حقيقة شرعيّة و لا لغوية مخالفة للعرف، فالمدار على معناه العرفي و هو معلوم. «2»

و قال العلامة قدّس سرّه في القواعد: فهو كيفية نفسانية تمنع عن افساد المال و صرفه في غير الوجوه اللائقة بافعال العقلاء. «3»

و عن المسالك،- في شرح عبارة الشرائع: الرشد، أن يكون مصلحا لماله؛- أنّه: ليس انوار الفقاهة، ج 3، ص: 314

مطلق الإصلاح موجبا للرشد، بل الحق أن الرشد ملكة نفسانية تقتضي إصلاح المال و تمنع افساده و صرفه في غير الوجوه اللائقة بأعمال العقلاء. «1»

ثم ذكر أنّ كلا من القيود الثلاثة (الملكة- تقتضي- و تمنع ...) احتراز عمّا يقابله.

و أمّا التنمية و التكسب به، فقد يقال بعدم اعتباره في الرشد عرفا؛ و هناك روايتان مرسلتان وردتا في مجمع البيان، و مجمع البحرين، في تفسير الرشد في قوله تعالى: ... فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ...، «2» أولاهما عن الباقر عليه السّلام: أنّه العقل و إصلاح المال. و ثانيتهما عن الصادق عليه السّلام: أنّه حفظ المال.

و في اعتبار العدالة في معنى الرشد، خلاف عندهم. و المشهور عندنا عدم اعتباره، و عن الشيخ و

الراوندي و أبي المكارم و فخر الإسلام، اعتباره.

قال الشيخ في الخلاف، في تفسير الرشد: أن يكون مصلحا لماله، عدلا في دينه؛ فاذا كان مصلحا لماله غير عدل في دينه، أو كان عدلا في دينه غير مصلح لماله، فانّه لا يدفع إليه ماله! و به قال الشافعي.

و قال أبو حنيفة: إذا كان مصلحا لماله و مديرا له، وجب فك الحجر عنه، سواء كان عدلا في دينه مصلحا له أو لم يكن. «3»

و قال العلّامة في التذكره: قال اكثر اهل العلم، الرشد الصلاح في المال خاصة، سواء كان صالحا في دينه أو لا. و هو قول مالك و أبي حنيفة و أحمد و هو المعتمد عنده. «4»

ثم استدل بدلائل كثيرة على مذهبه. عمدتها أمران:

أحدهما، أنّ الفسق لا يمنع التصرف، في البقاء، فلا وجه لاعتباره في الحدوث. و لا يمنع الفاسق بل الكافر عن التصرف في ماله.

ثانيهما، أنّ الفرض من اعتبار الرشد، هو حفظ المال؛ و هذا حاصل بالصلاح في المال من دون حاجة إلى العدالة (بالنسبة إلى أموال نفسه). و لم يأت القائلون باعتبار العدالة،

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 315

بشي ء يعتمد عليه.

و الحق في المقام- و الله أعلم- أن يقال: أولا، أنّ ما ذكروه في تفسير الرشد؛ في عباراتهم- و قد مضى شطر منها- يرجع إلى شي ء واحد، و هو ان الرشد هو قوة تدبير المال على النحو المتعارف بين العقلاء، فمن لا يقدر على ذلك بل يفسد أمواله و يبيع بما دون القيمة و يشترى بما فوقها؛ و يعطى ماله من لا يعتمد عليه فيأكل أمواله؛ و لا يحتفظ بماله على النحو المعمول بين العقلاء بل يجعله في مظان التلف، فهو سفيه، و هو الموافق لمعناه اللغوى

أيضا.

قال الراغب، في المفردات، ما حاصله: أنّ السفه في الأصل بمعنى قلّة الوزن في البدن على نحو لا يقدر على حفظ التعادل عند المشي؛ ثم استعمل في خفة العقل سواء في الأمور المادية و المعنوية (انتهى).

هذا؛ و لكن في عرف الشرع، يطلق بمعنى عدم الاعتدال في حفظ الأموال و إصلاحها، نظرا إلى القرينة الموجودة في الآية الشريفة.

و ثانيا، لا ينبغى الشك في عدم اعتبار العدالة فيه، كما ذكره المشهور من الخاصة و العامة، لما عرفت من عدم اعتبارها بقاء، فكيف يعتبر حدوثا؛ و لعدم دخلها في المقصود من حفظ أموال اليتيم، فانّه لا يخون في أموال نفسه، حتى تعتبر العدالة في اعطاء أمواله بيده.

هذا مضافا إلى عدم وجود أي دليل على اعتبار العدالة في معنى الرشد. و ظني أنّه نشأ من الخلط بين معناه المادى و المعنوى، و من بعض الروايات الناظرة إلى الامور الأخلاقية التي يستفاد منها كون الفاسق أو شارب الخمر سفيها. و الأمر واضح بحمد الله.

و ثالثا، أنّ الرشد أو السفه، له مراتب كثيرة و درجات مختلفة، قد يكون قويا و قد يكون ضعيفا. فقد يكون انسان رشيدا في ألف دينار و لا يكون رشيدا في مأئة الف دينار و هكذا، و لكل واحد حكمه؛ فيعطي أمواله بالمقدار الذي يكون فيه رشيدا و يبقى الباقي تحت يد وليّه.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 316

كما أنّ الإنسان يمكن أن يكون رشيدا في الامور المالية، سفيها في اختيار الكفو في النكاح، أو غير ذلك ممّا له صلة بامور الحياة؛ و لكل واحد من هذه الامور حكمه. و الله العالم.

***

[المسألة 8: إذا زوج الولي المولى عليه بمن له عيب، لم يصح و لم ينفذ]

اشارة

المسألة 8: إذا زوج الولي المولى عليه بمن له عيب، لم يصح و لم ينفذ؛ سواء كان

من العيوب الموجبة للخيار أو غيرها ككونه منهمكا في المعاصي، و كونه شارب الخمر أو بذي اللسان، سيّئ الخلق، و أمثال ذلك: إلّا إذا كانت مصلحة ملزمة في تزويجه، و حينئذ لم يكن خيار الفسخ لا له، و لا للمولى عليه، إذا لم يكن العيب من العيوب المجوزة للفسخ؛ و إن كان منها فالظاهر ثبوت الخيار للمولى عليه بعد بلوغه.

هذا كله مع علم الولي بالعيب، و إلّا ففيه تامل و تردد، و أن لا تبعد الصحة مع أعمال جهده في إحراز المصلحة؛ و على الصحة له الخيار في العيوب الموجبة للفسخ كما أنّ للمولى عليه ذلك بعد رفع الحجر عنه، و في غيرها لا خيار له و لا للولي على الأقوى.

لو زوج الولي المولي عليه بمن له عيب
اشارة

(1) أقول: لم يرد نص في المسألة، و لذا لم يستند الأصحاب حتى المعاصرين منهم إلّا إلى القاعدة كالمحقق الثاني في جامع المقاصد، و الشهيد الثاني في المسالك، و صاحب الجواهر، و صاحب الحدائق، و من المعاصرين المحقق الخوئي، و الحكيم، و السبزواري و غيرهم. (أعلى الله مقامهم).

و في المسالة فرعان:

الفرع الأول: إذا كان الولي عالما بوجود العيب

إذا كان الولي عالما بوجود العيب (سواء العيوب الموجبة للفسخ و غيرها) في من تزوجه للمولى عليه (ابنا كان أو بنتا). و فيه أيضا صورتان: أحدهما، ما إذا اقتضت المصلحة تزويجه بذات العيب. و الاخرى، ما إذا كان التزويج مخالفا لمصلحته أو ضررا عليه.

أما الاولى: فمقتضى القاعدة هو صحة العقد؛ و لعله ممّا لا خلاف فيه بينهم، و لا خيار للولي، لعلمه بذلك. و لكن هل للمولى عليه بعد بلوغه خيار إذا كانت من العيوب الموجبة

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 318

للفسخ، ففيه و جهان أو قولان:

الوجه الأوّل، عدم الخيار، نظرا إلى أن تصرف الولي بالغبطة ماض عليه، و فعل الولي كفعل المولى عليه، فلو تزوج مع علمه بالعيب، لمصلحة رآها، لم يكن له فسخه. فكذلك فعل الولي.

و الوجه الثاني، أن للمولى عليه خيار الفسخ، لما أشار إليه المحقق الثاني، في جامع المقاصد، ما لفظه: أنّ النكاح يتعلق بالشهوة فلا يكون رضاه بالعيب ماضيا على العيب. «1» و لا يعلم معنى محصل لهذا الكلام، فانّ الرضا بالعيب يوجب سقوط حق الفسخ، رضا الولي كرضا المولى عليه عند وجود المصلحة. و بعبارة اخرى الشهوة مع العلم بالعيب و الاقدام على النكاح، دليل على الرضا بالعيب؛ و معه يسقط خياره. و كذا ما ذكره في المسالك في توجيه الخيار هنا، ما نصّه: أمّا ثبوت الخيار فلوجود العيب الموجب

له، لو كان هو المباشر للعقد جاهلا، و فعل الولي له حال صغره بمنزلة الجهل. «2»

و فيه ما مرّ أنّ علم الولي بمنزلة علم المولى عليه مع فرض المصلحة.

و أمّا الثانية: إذا كان الولي عالما بالعيب و كان النكاح على خلاف المصلحة، فقد صرّح بعضهم بصحة النكاح. قال الشيخ في الخلاف: للأب أنّ يزوج بنته الصغيرة بعبد أو مجنون أو مجذوم أو أبرص أو خصي. و قال الشافعي، لا يجوز. دليلنا أنا قد بيّنا أنّ الكفاءة ليس من شرطها الحرية و لا غير ذلك من الأوصاف؛ فعلى هذا يسقط الخلاف. «3»

و هذا عجيب؛ و كأنه بنى على عدم اشتراط المصلحة، و إلّا فمجرّد الكفاءة الشرعية غير كاف في وجود المصلحة، بل هذا من مصاديق المفسدة التي لا خلاف في عدم نفوذ العقد معها. و قد ورد التصريح في الروايات السابقة بعدم كون الولي مضارا، و إلّا لا ينفذ عقده.

و ما ذكره في المتن من الفرق بين العيوب المجوزة للفسخ و غيرها، و أنّ المولى عليه انوار الفقاهة، ج 3، ص: 319

له حق الفسخ بعد بلوغه؛ لم يظهر وجهه، لأنّ المفروض كون النكاح مصلحة له مع هذا العيب، و كون علم الولي بالعيب و رضاه بذلك بمنزلة علم المولى عليه.

فتلخص ممّا ذكرنا، أنّ ما ذكره في المتن إلى هنا موافق للتحقيق، ما عدا قوله بجواز الفسخ في الفرض الاخير.

الفرع الثاني؛ إذا كان الولي جاهلا بوجود العيوب

و قد ذكر في المتن، أنّ المسألة محل ترديد و تامل؛ و لكن رجح بعد ذلك صحة العقد مع عدم تقصير الولي في إحراز المصلحة، كما صرّح بثبوت الخيار للولي و المولى عليه بعد رفع الحجر و لكن في خصوص العيوب الموجبة للفسخ دون غيرها.

هذا؛ و أمّا وجه

الترديد و التامل، أنّ في المسالة وجهين: أحدهما، بطلان العقد، لأنّ المدار على الغبطة في مقام الثبوت، و المفروض عدم المصلحة في الواقع، بل كان فيه مفسدة، فيبطل العقد (بمعنى أنّه لا ينفذ و يكون فضوليا).

و الثاني، الصحة، لأنّ المدار على رعاية المصلحة بحسب علمه و جهده، و المفروض أنّه جهد جهده، و لم يصل إلى العيب، و لذا لو اشترى للمولى عليه شيئا فيه عيب من دون علمه بذلك، صح العقد و ثبت له خيار العيب.

و الحق، هنا وجه ثالث، و هو التفصيل بين ما إذا كان العيب من العيوب الموجبة للفسخ، فانّ العقد صحيح. لعدم الضرر فيه واقعا مع وجود خيار الفسخ، فالعيب يجبر بالخيار. أمّا لو كان من العيوب غير الموجبة للفسخ، فانّ العقد باطل، بمعنى كونه فضوليا؛ لأنّ المفروض وجود المفسدة في العقد في الواقع مع عدم إمكان جبرانه بالخيار لعدم جريان خيار العيب في النكاح إلّا في الموارد الخاصّة المنصوصة. و لذا لا يمكن قياسه على موارد خيار العيب في البيع، فانها تعم كلّ عيب.

و إن شئت قلت: صحة النكاح مع العيوب غير الموجبة للفسخ، سواء كان من العيوب الدنيوية أو اخروية، فيه ضرر عظيم على المولى عليه، و لا يجبر بالخيار- كما هو المفروض- فتدفع الصحة بعموم لا ضرر.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 320

و قد تكون العشرة مع هذا الزوج، سببا للعسر و الحرج الشديد، فيدفع بأدلة نفي الحرج أيضا، مضافا إلى ظهور عنوان المصلحة في المصلحة الواقعية، و عدم الضرر كذلك.

***

[المسألة 9: ينبغي بل يستحب للمراة المالكة أمرها أن تستأذن أباها أو جدّها]

اشارة

المسألة 9: ينبغى بل يستحب للمراة المالكة امرها ان تستأذن أباها أو جدّها؛ و إن لم يكونا، فاخاها، و إن تعدد الأخ، قدّمت الأكبر.

يستحب للمرأة المالكة امرها الاستئذان من الولي
اشارة

(1) أقول: المراد من المرأة المالكة لأمرها بقرينة المسائل السابقة، لا سيما المسالة الثانية من مسائل عقد النكاح، هي المرأة التي لها استقلال في أمر النكاح، أمّا لكونها ثيبة أو لكونها باكرة رشيدة، بناء على القول باستقلالها في هذا الباب؛ و الحاصل أنّه إذا كان عقدها صحيحا بدون الحاجة إلى الاستيذان فحينئذ يستحب لها الاستيذان من المذكورين، كما ذكره جماعة كثيرة من فقهائنا المتاخرين و المعاصرين.

و قد صرح بها في الشرائع، و الجواهر، في المسالة الحادية عشر، من لواحق عقد النكاح. «1» و في العروة الوثقى، في المسأله 14 من هذا الباب. و لم يخالف فيها أحد من المحشين فيما رأيناه.

أدلّة المسألة

و يدل عليه، أولا، انه موافق للأدب المطلوب بين الأولاد و الأولياء، فانّ البنت (بل الابن أيضا) إذا كان لها أدب إلهي، يستأذن أباها و أوليائها في الأمور المهمة، و هذا من الآداب الواضحة. و أيّ أمر أهم من النكاح لا سيما من الامور التي تسري مشاكله و محاسنه إلى الأولياء أيضا؛ فليس الاستيذان مجرد احترام لهم بل له دور في مسائل حياتهم و مشاكلهم أو محاسنهم.

ثانيا، أنّ الأولياء لهم تجارب كثيرة في أمر النكاح، سواء بالنسبة إلى أنفسهم و أقربائهم و أصدقائهم؛ و لا يستغنى الولد من هذه التجارب القيمة، فالعقل و الشرع يدعوان إلى انوار الفقاهة، ج 3، ص: 322

الاستيذان للوصول بهذا المقصد الأسنى؛ و ليس هذا ما قبله من الاستحسانات الظنّية بل من المستقلات العقلية القطعية.

ثالثا، هناك روايات كثيرة أمر فيها بالاستيذان، و إذا جمع بينها و بين ما يدلّ على استقلالها في هذا الأمر، فأحسن جمع بين الطائفتين، هو الحمل على الاستحباب، و إليك شطر منها:

1- ما رواه ابن أبي يعفور،

عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: لا تنكح ذوات الآباء من الابكار الا باذن آبائهن. «1»

و ظاهرها و إن كان هو الوجوب، و لكن الحمل على الاستحباب، في هذه الموارد بقرينة روايات الاستقلال، جمع عرفي معروف في جميع أبواب الفقه.

2- ما رواه الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: سألته عن البكر إذا بلغت مبلغ النساء، أ لها مع أبيها أمر؟ فقال: ليس لها مع أبيها أمر ما لم تثيب. «2»

3- مرسلة ابن بكير، عن رجل، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: لا باس أن تزوج المرأة نفسها إذا كانت ثيبا بغير اذن أبيها إذا كان لا بأس بما صنعت. «3»

و حكم الأب و الجد هنا واحد، كما هو واضح.

و أمّا بالنسبة إلى الاستيذان من الأخ عند فقد الأب و الجد، فهو أيضا يجرى فيه ما سبق من الأدلة، من كونه أدبا لايقا بحال الأخ لا سيّما الأكبر، و من كونه ذا تجربة غالبا أكثر من أخته، و لا أقل من أنّ مشاكل الاخت و محاسنها تسري إلى الأخ لا محالة لا سيما الأخ الأكبر.

مضافا إلى غير واحد من الروايات الواردة في الباب؛ منها:

1- ما رواه أبو بصير، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: سألته عن الذي بيده عقدة النكاح؟ قال:

هو الأب و الأخ و الرجل يوصى إليه .... «4» و حيث إنّ الأدلة الدالة على استقلالها بمنزلة

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 323

النص، و هذه الرواية و أمثالها بمنزلة الظاهر، فالجمع بالحمل على الاستحباب.

2- ما رواه العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام مثله، إلّا أنّه قال:

فأيّ هؤلاء عفا فعفوه جائز في المهر إذا عفا عنه. «1»

و الكلام فيه مثل ما سبق.

3- ما عن الحسن بن على، عن بعض أصحابنا، عن الرضا عليه السّلام قال: الأخ الأكبر بمنزلة الأب. «2» و هذا في خصوص الأخ الأكبر؛ و الله العالم.

و لصاحب الجواهر كلام في المقام، و حاصله إنّ المستفاد من النهى عن نكاح البكر بدون اذن الأب أو غيره، هو كراهة الاستبداد لها، لا استحباب الاستيذان؛ و حكاه عن الحدائق أيضا، ثم قال: اللهم إلّا أن يدعى الاستفاده ذلك عرفا. «3»

أقول: و يمكن الاستشهاد له بما مر من الدليلين العقليين، فانّ الأب للوالد مستحب قطعا، و كذا الركون إلى تجاربه في امور الحياة.

***

[المسألة 10: هل للوصي أي القيم من قبل الأب أو الجد، ولاية على الصغير]

اشارة

المسألة 10: هل للوصي أى القيم من قبل الأب أو الجد، ولاية على الصغير و الصغيرة في النكاح؟ فيه إشكال، لا يترك الاحتياط.

هل للوصي ولاية في النكاح؟
اشارة

(1) أقول: قال المحقق النراقي، في المستند: في المسألة أقوال: الأول، نفى الولاية مطلقا؛ اختاره في موضع من المبسوط، و الشرائع، و النافع، و القواعد، و التذكرة، و اللمعة، و الكفاية، بل المشهور، كما في المسالك و الروضة.

الثاني، ثبوتها كذلك؛ و هو للمبسوط أيضا، و عن المختلف، و شرح الإرشاد للشهيد، و الروضة.

الثالث، ثبوتها إذا نص الموصى على النكاح، و عدمه بدونه، و هو المحكي عن الخلاف و الجامع، و المحقق الثاني و غيرهم؛ ثم ذكر دليل كل واحد من الأقوال الثلاثة. «1»

و لكن صرح في المسالك بأنّ الأول (النفي مطلقا)، هو الأشهر، لا المشهور. و أشار إلى القولين الآخرين أيضا إجمالا. «2»

و ظاهر كلمات القوم، أنّ محل الكلام ما إذا كان عنوان الوصاية مطلقا؛ و إلّا لو كانت الوصاية لخصوص الأموال لم يكن مجال للنزاع.

هذا؛ و مقتضى الأصل كما ذكروه هو عدم ولاية الوصى عليهما، فانّ الولاية تحتاج إلى دليل، و الأصل عدمها، مضافا إلى أصالة الفساد في العقود الحاصلة من قبل الوصى. و إن شئت قلت عموم وجوب الوفاء بالعقود لا يشمل محل الكلام.

أدلّة القائلين بالثبوت

و قد استدل جماعة من القائلين بالثبوت، للخروج عن الأصل بآيات و روايات تأتي انوار الفقاهة، ج 3، ص: 325

الإشارة إليها و إلى بعض ما فيها من الإشكال؛ و لكن ليت شعري لما ذا لم يستدلوا لإثبات الولاية، إلى حقيقة الوصاية؛ فهل الوصى و القيم منصوب لحفظ أموال الصغير عند وفاة الأب و الجد، أو منصوب لحفظ جميع منافعه؟ و بعبارة اخرى هل هو قائم مقام الأب من جميع الجهات في قبال الصغار أو قائم مقامه في خصوص أحكام الأموال؟

لا سيّما أنّ المفروض كون عنوانها عاما، سواء لفظ الوصي و

القيم، فانّه القائم بأمر الصغار؛ و يدل على العموم، أنّ الحكمة لنصبه هو حفظ الصغار عند فقد الولي من جميع الجهات لا من جهة واحدة فقط، و حينئذ لم لا يكون الحكم عاما.؟

فهنا صغرى و كبرى، مفهوم الوصية عام، و عموم الوفاء بالعقود يشمله.

هذا مضافا إلى أنّ الوصاية أمر عقلائي و قد كانت بينهم قبل أن تكون في الشرع، و الظاهر أنّها عندهم عام تشتمل جميع مصالح الطفل؛ فلو احتاج الصغير إلى شي ء يرتبط بأمواله أو ببدنه (كعمل الجراحية) أو بنكاحه بحيث لو فاته تضرر ضررا شديدا، فهل هناك من يقوم بمصالحه أو لا؟، لا يظن الثاني بحكمة الشارع؛ فلو قلنا أنّ هناك من يقوم بها، فهل هو الوصي أو غيره؟ فالانصاف أنّ حكم الوصي عام في جميع مصالح الصغار بمقتضى مفهوم الوصاية و القيمومة، و هي نافذة بمقتضى العمومات.

و قد استدل لثبوت ولاية الوصي في النكاح، بآيات من الذكر الحكيم:

عمدتها قوله تعالى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. «1» بناء على أنّ الوصيّة عام تشمل جميع مصالح الأطفال، و المفروض أنّ التزويج كان من مصالحه، فعموم حرمة التبديل دليل على امضاء الوصية بجميع شئونها.

و قد يناقش فيه، أنّ المراد بها خصوص ما أوصى به من الأموال للوالدين و الأقربين بقرينة الآية السابقة، كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ.

و فيه، أولا، أنّ المورد لا يكون مخصصا.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 326

و ثانيا، أنّ الوصية بامور الاولاد، و جميع شئونهم من الوصية بالمعروف.

و ثالثا، استدل بالآية الشريفة في غير واحد من الروايات، بما يدلّ على عمومها.

راجع الباب 32 من أبواب الوصايا.

و

استدل له أيضا بقوله تعالى: ... يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ .... «1»

و من الواضح ان معنى الاصلاح عام.

و نوقش فيه، بأنّها أعم من المدعى، لشمولها غير الأوصياء أيضا.

و فيه، أنّ المخاطب في أمثال هذه الامور هو المنصوب لذلك، أمّا من ناحية الشرع، أو العقلاء بعد امضاء الشارع، كما في قوله تعالى: وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا ... «2» و قوله تعالى: ... وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ .... «3» هذا من ناحية الآيات.

و أمّا من الروايات؛ فقد استدل لثبوت الولاية بروايات، منها:

1- ما رواه جماعة من الفضلاء، أبو بصير و سماعة و الحلبي، باسناد مختلفة، عن أبي عبد الله عليه السّلام في قول الله عز و جل: وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ...؛ «4» قال: هو الأب أو الأخ أو الرجل يوصى إليه و الذي يجوز أمره في مال المراة فيبتاع لها فتجيز، فاذا عفا فقد جاز. «5»

و لا أقل من صحة بعض أسانيد الحديث.

و دلالتها واضحة على المطلوب؛ إلّا أنّه قد يستشكل بوجود الأخ في ضمن الأولياء مع أنّه لا ولاية له على الصغير و الصغيرة بالإجماع.

و يمكن الجواب عنه، بأنّ الأخ محمول على الأخ الذي يكون وكيلا عن قبل الكبيرة، و الوصى محمول على الصغير و الصغيرة، و لا مانع من هذا المقدار من الفرق،

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 327

أمّا أولا، فلشهادة ذيل الرواية فانّه صريح في الوكيل من قبل المرأة في الأمور المالية. و ثانيا، يشهد لهذا المعنى ما رواه العياشي في تفسيره عن اسحاق بن عمار، عن

الصادق عليه السّلام في تفسير قول الله: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ ... ... قال: أبوها إذا عفا، جاز؛ و أخوها إذا كان يقيم بها و هو القائم عليها، فهو بمنزلة الأب يجوز له؛ و إذا كان الأخ لا يهتم بها و لا يقوم عليها، لم يجز عليها أمره. «1»

و سند الرواية و إن كان ضعيفا بالارسال إلّا أنّها مؤيده للمطلوب، فان المراد من الاهتمام بأمرها و قيامه عليها، هو كونه وكيلا من قبلها، ترضى برضاه.

2- ما رواه أبو بصير، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: سألته عن الذي بيده عقد النكاح؟ قال:

هو الأب و الأخ و الرجل يوصى إليه و الذي يجوز أمره في مال المرأة .... «2»

3- ما رواه أبو بصير، و محمد بن مسلم، كلاهما، عن أبي جعفر عليه السّلام (الحديث مثل ما سبق). «3»

و الكلام فيهما عين الكلام فيما سبق، و لا يحتمل اتحاد حديث أبي بصير مع الحديث السابق، لأنّه رواها عن الباقر عليه السّلام و الحديث السابق عن الصادق عليه السّلام.

و على كل حال، فهذه الأحاديث الخمسة مع صحة أسانيد بعضها، دليل على جواز تصدى الولاية من قبل الوصيّ.

أدلّة القول بعدم ولاية الوصي

و أمّا الدليل على عدم ولاية الوصي، فقد استدل له؛

بما رواه محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام في الصبي يتزوج الصبيّة، يتوارثان؟ فقال:

إذا كان أبواهما اللذان زوجاهما، فنعم؛ الحديث. «4»

و بما رواه محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام مثله، إلّا أنّه قال بعد قوله زوجاهما: فنعم انوار الفقاهة، ج 3، ص: 328

جائز و لكن لهما الخيار إذا أدركا .... «1»

و الظاهر صحة سند الروايتين.

و من المعلوم، جواز الخيار لهما بعد البلوغ، على القول به، لا ينافي صحة النكاح.

و

وجه الاستدلال بهما هو الاخذ بمفهوم الشرط، و لازمه عدم صحة نكاح غير الاب.

و مثلهما رواية اخرى لعبيد بن زرارة، رواها في الباب 33 من مقدمات الطلاق. «2»

و الانصاف أنّ مفهومها ينفى صحة النكاح إذا صدر من غير الأب و من هو بمنزلته، فانّ وصيّ الأب المأذون في الطلاق بمنزلة الأب؛ و لذا لم يذكر في الرواية الجد، لأنه بمنزلة الاب أيضا، و لا الوكيل منهما.

نعم هناك رواية رابعة، تنفى بظاهرها صحة عقد الوصى، و هي ما رواه محمد بن اسماعيل بن بزيع، قال: سأله رجل عن رجل مات و ترك أخوين و ابنة، و البنت صغيرة، فعمد أحد الأخوين الوصي فزوج الابنة من ابنه؛ ثم مات أبو الابن المزوّج، فلما أن مات قال الآخر: أخي لم يزوج ابنه، فزوج الجارية من ابنه، فقيل للجارية: أي الزوجين أحبّ إليك، الأول أو الآخر؟ قالت: الآخر. ثم إنّ الأخ الثاني مات، و للأخ الأول ابن أكبر من الابن المزوج، فقال للجارية: اختارى أيّهما أحبّ إليك، الزوج الأول أو الزوج الآخر؛ فقال: الرواية فيها أنّها للزوج الأخير، و ذلك أنّها قد كانت أدركت حين زوّجها و ليس لها ان تنقض ما عقدته بعد إدراكها. «3»

و الرواية معتبرة سندا، و لكنها مضمرة و فيها نوع من الاضطراب.

و على فرض تماميتها، يمكن حملها على أحد أمرين، عدم كون الوصي وصيا في غير الأموال، كما أشار إليه في مستند العروة. «4» أو حمله على كون الوصي متهما في رعاية مصلحة البنت بعد اصراره على تزويجها بابنه.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 329

و على كل حال، هذه الرواية- و هي العمدة في المقام- لا تقاوم الأدلة السابقة للقول الأول.

الاستدلال على القول الثالث

و استدل على القول الثالث

بأنّه عند التصريح بالنكاح في الوصية، يشمله قوله تعالى:

فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. «1»

قلت: عند الاطلاق الشامل للنكاح أيضا، يدخل تحت الآية، لعدم الفرق بين الظهور المعتبر، و التصريح، و أصل النزاع هنا لفظي و مرادهم ما إذا لم يكن للوصيّة ظهور معتبر في جواز النكاح؛ فتدبر.

بقي هنا شي ء: هل يكون الوصى وليا على المجنون أم لا؟

صرّح المحقق اليزدي، في العروة في المسألة 12 من عقد النكاح، بكونه وليا عليه من غير تفصيل (و لم يذكره في تحرير الوسيلة). و فصل بعضهم بين الجنون المتصل بالصغر، و المنفصل عنه، بالجواز في الأول فقط. قال في الجواهر: للوصى أن يزوج من بلغ فاسد العقل، إذا كان به ضرورة إلى النكاح. بل نفي بعضهم الخلاف عن ثبوتها في ذلك؛ بل عن ظاهر الكفاية، الإجماع عليه. «2»

و يظهر من المستمسك، ذيل المسألة 12؛ إن ظاهر كلمات الأصحاب تخصيص الحكم بالمتصل، دون غيره.

و على كل حال، لم يرد في المسألة نص خاص بها، بل الحكم فيها يجرى على القواعد. فان كان مفهوم الوصية عاما لا يختص بحال الصغر و لا بالأموال، يؤخذ بعموم قوله تعالى: «فمن بدّله ...»، و بسيرة العقلاء في أمثال المقام التي لم يردع عنها الشارع انوار الفقاهة، ج 3، ص: 330

المقدس، (سواء صرح بالعموم، أو كان كلامه ظاهرا فيه).

بل لا يبعد ولايته على المجنون المنفصل جنونه عن البلوغ، كما هو ظاهر عبارة العروة فانه قال: للوصي أن يزوج المجنون المحتاج إلى الزواج؛ و إن ناقش في المستمسك فيه بانّه خلاف ظاهر كلمات الاصحاب.

و الوجه فيه، أنّ الأب، له ولاية على ابنه المجنون، سواء اتصل جنونه أو انفصل؛ و لا ينتظر الحاكم الشرعي في ذلك. و هذا

هو سيرة العقلاء، فان وظيفة القيمومة و حكم الولاية عندهم ثابتة للأب، لا أنّها من وظائف الحكومة يرجع إليها في ذلك.

فاذا ثبت ذلك للأب، و كان للوصيّة ظهور في العموم، يؤخذ به و ينتقل إلى الوصىّ؛ و إن لم تكن لها ظهور في العموم، يرجع فيه إلى الحاكم. و ليعلم أنّ المنفصل أيضا على قسمين: قسم حصل في حياة الأب و بقى بعد وفاته؛ و قسم حصل بعد وفاته. و الظاهر عموم الحكم للجميع، و إن كان الأول أظهر. و الله العالم.

***

[المسألة 11: ليس للحاكم ولاية في النكاح على الصغير]

اشارة

المسألة 11: ليس للحاكم ولاية في النكاح على الصغير ذكرا كان أو انثى مع فقد الأب و الجدّ؛ و لو اقتضت الحاجة و الضرورة و المصلحة اللازمة المراعاة، النكاح، بحيث ترتب على تركه مفسدة يلزم التحرز عنها، قام الحاكم به؛ و لا يترك الاحتياط بضم اجازة الوصى للأب أو الجدّ مع وجوده.

و كذا فيمن بلغ فاسد العقل، أو تجدد فساد عقله، إذا كان البلوغ و التجدد في زمن حيات الأب و الجدّ.

ولاية الحاكم في النكاح
اشارة

(1) أقول: للمسألة أربع صور:

1- ولاية الحاكم على البالغة الرشيدة عند فقد الأب و الجد، بناء على عدم استقلالها عند وجودهما.

2- ولايته على الصغير و الصغيرة عند فقدهما و فقد الوصى.

3- ولايته على المجنون المتصل جنونه بالصغر عند فقد الأولياء الثلاثة.

4- ولايته على المجنون غير المتصل جنونه بالصغر كذلك.

قال في الرياض- في شرح كلام الماتن: و لا يزوج الوصى و كذا الحاكم؛- ما نصّه:

فلا يزوج الصغيرين مطلقا في المشهور، و البالغين فاسدى العقل مع وجود الأب و الجد إجماعا ... و يزوجهما مع فقدهما مع الغبطة إجماعا، لأنّه وليهما في المال فيتولى نكاحهما.

ثم استدل للولاية عليهما، بمسيس الحاجة؛ و بالصحيح: الذي بيده عقدة النكاح هو ولى أمرها؛ «1» و النبوي: السلطان وليّ من لا ولى له. «2» و يلحق به نوابه، لعموم أدلة النيابة؛ ثم انوار الفقاهة، ج 3، ص: 332

قال: هذه الأدلة تتناول الصغيرين، فمنع ولايته عنهما في المشهور غير واضح. «1»

ولايته بالنسبة الى البالغة الرشيدة

و أمّا البالغة الرشيدة، فقد ادعى الإجماع في الجواهر على عدم ولاية الحاكم عليه مطلقا. (حتى فقد الأب و الجدّ). «2»

و الظاهر أنّه لا خلاف في ولاية الحاكم على تزويج المجنون. و قال في الجواهر: بلا خلاف أجده فيه، بل الظاهر كونه مجمعا عليه.

و قال ابن قدامة في المغني: لا نعلم خلافا بين أهل العلم، في أنّ للسلطان ولاية تزويج المرأة عند عدم اوليائها أو عضلهم (اى تحيرهم أو تركهم لها). و به يقول مالك و الشافعي و اسحاق و أبو عبيد و اصحاب الرأى. و الأصل فيه قول النبي: فالسلطان ولي من لا وليّ له ... «3»

هذا، و لكن لما لم يرد في المسالة نص خاص، لا بدّ من الرجوع فيها إلى

القواعد؛ و العمدة ملاحظة مقدار سعة سلطة الحاكم الشرعي في الامور؛ و هي محتاجة إلى ذكر مقدمة؛ و هي، أنّ الامور و الحوادث الجارية في المجتمع الإنسانى على قسمين: قسم منها، له مسئول خاص يجب عليه القيام بها، كحضانة الصبي و نفقته، و حفظ أمواله و سائر مصالحه التي تكون على عاتق الأب أو الجد أو الوصي؛ فمثل هذه الأمور لا ترجع فيها إلى الحاكم. و كذلك الأوقاف العامة و الخاصة التي لها متولّ معين، فان أمر إصلاحها و صرف ارتفاعها في مصارف الوقف على عاتق المتولي، و كذلك إصلاح أمر الشوارع الخاصة ببعض البيوت، على عهدة البيوت التي تستفيد منها.

و قسم آخر، ليس له مسئول خاص كأمن السبل، و دفع العدو، و إصلاح الطرق العامة و حفظ أموال الغيب و القصر اللذين لا ولي لهم؛ و قد جرت سيرة جميع العقلاء حديثا و

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 333

قديما على تولى الحكومة لهذه الامور؛ فإنّها أسست لحفظ هذه الامور العامة و إصلاحها، حتى لا تبقى مصلحة في المجتمع بلا متول.

و قد أمضى الشارع المقدس هذا البناء العقلائي، و إن جعل لمتوليها شرائط خاصة.

فالحديث المعروف المرسل النبوي صلّى اللّه عليه و آله: السلطان ولي من لا ولي له؛ «1» جار في هذا المجري، و إمضاء لما عند العقلاء من أهل العرف في هذا الباب، فاذن لا تبقى مصلحة في المجتمع لا يكون لها مسئول، و إلّا يلزم الحرج و المرج و اختلال النظام. و المراد من الامور الحسبيّة المعروفة بين الفقهاء هو القسم الثاني أو بعضها.

ولايته على تزويج الصغير و الصغيرة

إذا عرفت ذلك فاعلم؛ أنّ الصورة الاولى للمسألة، و هي ولاية الحاكم على تزويج الصغير و الصغيرة عند عدم الحاجة، فهو

واضح لعدم وجود ضرورة قاضية به، أمّا لو كان هناك حاجة شديدة و مصلحة ملزمة يتضرر الصغير بتركها، و لم يكن له أب أو جدّ أو وصىّ منهما، فهو من المصالح و الحاجات الموقوفة على يد الحاكم؛ بل هو منصوب لأمثال ذلك، لا شك فيه. و يدل عليه النبوي المشهور الذي مرّ آنفا.

و أمّا صحيحة أبي خديجة، المروية عن الصادق عليه السّلام في كتاب القضاء؛ «2» فهي ناظرة إلى فصل الخصومات و حل الدعاوي، لا ربط له بما نحن فيه. و الظاهر أنّ المنكرين لولاية الحاكم هنا، نظروا إلى فرض عدم الحاجة، كما هو الغالب؛ فالإجماع المدعى لا يكون مانعا.

ولايته على المجنون

أمّا الصورة الثانية و الثالثة، أي المجنون المتصل جنونه بالصغر و المنفصل، فالأمر فيهما- لا سيما الثانية منهما- أوضح، لحاجته إلى النكاح غالبا فيدخل تحت ولاية

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 334

الحاكم عند فقدان سائر الأولياء.

و هل الحكم مقصور على الحاجة و الضرورة، أو يكون المجنون كسائر الناس إذا اقتضت مصلحته، يزوجه الحاكم و إن لم تكن على حد الضرورة؛ فيه وجهان؛ و العدم موافق للأصل و الاحتياط.

هذا؛ و لم يعلم وجه لقول الماتن (قدس سره الشريف): إذا كان البلوغ و التجدد في زمان حياة الأب و الجد؛ فانه إذا تجدد فساد العقل (أو هو مع البلوغ) بعد حياة الأب، و احتاج المجنون إلى النكاح، لا بدّ من ولاية الحاكم عليه؛ فانه ولي من لا ولي له؛ بل هو أولى من سائر أقسام المجنون، لدخوله من أول الأمر تحت ولاية الحاكم بفتوى جماعة من الفقهاء، فليس لهذا التقييد وجه مقبول.

و أمّا الصورة الرابعة، فعلى القول باستقلال البالغة الرشيدة، فلا كلام؛ و على القول بولاية الأب و الجد

عليها و لو بالاشتراك، لا يبعد استقلالها بعد فقدهما؛ لعدم الدليل على ولاية الحاكم هنا. نعم، لو كان هناك مفسدة مهمّة في استقلالها و كانت منافعها في معرض الزوال من ناحية الأفراد الفاسد و المفسد، لزم تدخّل الحاكم في أمرها. و الله العالم.

و أمّا أدلة النافين لولاية الحاكم على الصغيرين؛ فامور:

منها: الأصل، و عدم ولاية أحد على أحد، إلّا ما خرج بالدليل. و قد عرفت أنّه مردود بالأدلة الدالة على ولاية الحاكم.

منها: مفهوم الروايات السابقة، الدالة على حصر الولي في الأب؛ مثل روايتي محمد بن مسلم «1» و عبيد بن زرارة. «2»

فقوله عليه السّلام: إن كان أبواهما اللذان زوجاهما، فنعم؛ (و في رواية عبيد: إن كان أبواهما هما اللذان زوجاهما)، دليل على نفى ولاية غير الأب.

هذا، و قد مرّ أنّ الحصر هنا اضافي منصرف عن الحاكم، و ناظر إلى ما ذكره العامة من ولاية الاخ و العم و غيره من العصبة، لا إلى مثل الوصي و الحاكم الشرعي، كما هو ظاهر.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 335

و لو فرض له ظهور ضعيف في ذلك، يرفع اليد عنه بالدلائل القطعية لولاية الحاكم الشرعى في مثل ذلك.

و منها: الاستدلال بالإجماع، المعلوم حاله في أمثال المقام.

و الغالب على الظن، أنّ النزاع هنا لفظى؛ فمن قال بعدم الولاية، نظر إلى صورة عدم الحاجة و الضرورة؛ و من قال بالجواز، نظر إلى صورة الضرورة؛ و لا يظن بفقيه أن ينكر ولايته عليهما عند الضرورة الشديدة، مثل ما إذا كان حفظ نفس الصغير متوقفا على الزواج لعدم من يحميه، فلو زوجه أو زوجها وجد من يحميه و ينجيه عن الهلاك أو مشاكل عظيمة. و هكذا في موارد الضرورة إلى عقد النكاح، لحصول المحرميّة،

بحيث لولاها أشكل أمر بقائه بين الاسرة التي قبلت حفظها و رعايتها.

***

[المسألة 12: يشترط في ولاية الأولياء، البلوغ و العقل و الحريّة و الإسلام

اشارة

المسألة 12: يشترط في ولاية الاولياء، البلوغ و العقل و الحريّة و الإسلام، إذا كان المولى عليه مسلما، فلا ولاية للصغير و الصغيرة على أحد، بل الولاية في موردهما لوليهما و كذا لا ولاية للأب و الجدّ إذا جنّا، و ان جنّ أحدهما يختص الولاية بالآخر، و كذا لا ولاية للأب الكافر على ولده المسلم، فتكون للجد إذا كان مسلما، و الظاهر ثبوت ولايته على ولده الكافر إذا لم يكن له جدّ مسلم، و إلّا فلا يبعد ثبوتها له دون الكافر.

من شرائط الولاية الأولياء: اعتبار البلوغ و العقل و الحرية
اشارة

(1) أقول: قد ذكر المصنف هنا شروطا أربعة؛ البلوغ و العقل و الحرية و الإسلام، و العمدة هو الأخير، لأنّ اشتراط البلوغ لا مورد له في الصغير، لأنّه لا يمكن أن يكون أبا و لا جدا، و الأولى ترك ذكر هذا الشرط، و كأنّه تبع في ذلك صاحب العروة؛ و قد أجاد المحقق، في الشرائع بترك ذكره. اللّهم إلّا أن يكون ناظرا إلي الوصي و الحاكم فانّ الصبي المراهق العالم،- كما يحكى عن العلّامة الحلى في صغره- لا يمتنع عقلا أن يكون وصيّا أو حاكما؛ لكنه باطل بإجماع الفقهاء و العقلاء من أهل العرف، لعدم اعتبار أفعال الصبي عندهم، فلا يقبل مسئولية الوصاية و الحكومة، إلّا من خرج بالدليل مثل إمامة بعض الأئمة المعصومين عليهم السّلام (الإمام الجواد عليه السّلام) فان الإمامة ملازم للمرتبة الأعلى من الحكومة الشرعيّة، و ليس هذا أمرا عجيبا بعد ما صرح الآيات من الذكر الحكيم بالنسبه إلى يحيى:

... وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، «1» و بالنسبة إلى عيسى: قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا. «2»

و على كل حال، لو فرض عقلا إمكان تصدى غير البالغ للوصاية و

الحكومة فلا شك أنّه شرعا ممنوع عنهما، لعدم تكليفه و عدم حرمة شي ء عليه، و عدم اعتبار قوله و تصرفاته بحكم الشرع و العقلاء من أهل العرف.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 337

و أمّا المجنون و من بمنزلته من السكران و المغمى عليه فهو أيضا غير صالح للولاية بحكم الشرع و العقلاء من أهل العرف، و هو واضح.

و كذا الحرية على كلام فيه، أعرضنا عنه لعدم كونها محلا للابتلاء في عصرنا.

اعتبار الإسلام

فيبقى اشتراط الإسلام، إذا كان المولى عليه مسلما؛ و الظاهر أنّ المسألة إجماعية كما صرّح به في الجواهر و غيره.

قال في الحدائق: الظاهر أنّه لا خلاف بين الأصحاب في اشتراط الإسلام في الولاية، فلا تثبت للكافر- أبا كان أو جدا أو غيرهما- الولاية على الولد المسلم صغيرا أو مجنونا ذكرا كان او انثى، و يتصور إسلام الولد في هذا الحال بإسلام امه أو جدّه على قول، و كذا يتصور إذا أسلم بعد بلوغه ثم جنّ، أو كانت انثى على القول بثبوت الولاية على البكر البالغ. «1»

و قد حكى في المستمسك، ذيل المسألة 16 من عقد النكاح، الإجماع عن المسالك و كشف اللثام أيضا، و غاية ما استدل به له، امور:

1- الإجماع، و حاله معلوم.

2- قوله تعالى: ... وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا، «2» بناء على كون الولاية نوع سبيل له على المؤمنين.

و في تفسير الاية كلام كثير؛ هل المراد من السبيل، الغلبة العسكرية، أو بالحجة و المنطق، أو في الآخرة، أو في عالم التشريع، أو جميع ذلك؟!

هذه احتمالات خمسة، و المناسب للجملة المتقدمة على هذه الجملة، «فالله يحكم بينكم يوم القيامة»، هو الاحتمال الثالث؛ و الأول بعيد لغلبة الكفار في بعض الحروب على

المؤمنين (كما في الأحد). و لكن استدلال الفقهاء بها في شتى أبواب الفقه قد يؤيد

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 338

العموم في الخمسة ما عدا الأول، و عموم اللفظ قد يدل عليه. و القول بان السلطة التشريعية ثابتة في مثل كون المسلم أجيرا للكافر أو مديونا، غير صحيح، لان الانصاف أنّه من قبيل التعامل لا السلطة، بخلاف الولاية و كذا الحكومة.

3- المرسل المعروف المعمول به عنه عليه السّلام: الإسلام يعلو و لا يعلى عليه. «1»

و الظاهر أنّه نبوى صلّى اللّه عليه و آله و قد صرّح في الروايات في أبواب الارث بانّ الإسلام يزيد و لا ينقص، و لذا ترث من الكفار و لا يرثون منها؛ (راجع الباب الأول من الموانع).

4- و يدل عليه أيضا، قوله تعالى: وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ .... «2»

هذا؛ و ظاهر كلام الشرائع، أنّ الكافر لا ولاية له على ولده الكافر. و هو عجيب لأنّه منقوض بالسيرة المستمرة، فلا يزال أهل الكتاب في بلاد الإسلام يتولون أولادهم و لم يمنعهم أحد، لا في زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله، و لا في عصر الأئمة عليهم السّلام، و لا في عصر الفقهاء.

و يدل عليه أيضا، قوله تعالى: وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ .... «3»

و هذا ممّا لا ينبغى الريب؛ إنّما الكلام في صورة ثالثة، و هو ما إذا كان للكافر ولي مسلم (مثل الجد) و أب كافر، فهل يمنع الأول الثاني؛ ظاهر كلام المتن ذلك، و لكن ليس له دليل معتبر ما عدا قياسه على باب الارث، فان المسلم يمنع عن الكافر، و القياس لا يكون حجة عندنا.

***

[المسألة 13: العقد الصادر من غير الوكيل و الوليّ المسمى بالفضولي، يصح

اشارة

المسألة 13: العقد الصادر من غير الوكيل و الوليّ المسمى بالفضولي،

يصح مع الاجازة؛ سواء كان فضوليا من الطرفين أو من أحدهما، و سواء كان المعقود عليه صغيرا أو كبيرا، و سواء كان العاقد قريبا للمعقود عليه كالأخ و العم و الخال أو أجنبيا؛ و منه العقد الصادر من الولي أو الوكيل على غير الوجه الماذون فيه، بان أوقع الولي على خلاف المصلحة، أو الوكيل على خلاف ما عينه الموكل.

عقد الفضولي يصح مع الاجازة

(1) أقول: هذه المسألة من امهات المسائل في النكاح و البيع و غيرها، و اللازم التكلم في مقامات:

المقام الأوّل: في معنى الفضولي

أنّ الفضولي منسوب إلى الفضول، و هو الزوائد. فالفضولي هو الذي يأتي بالفضول أي الزوائد. و يقرب منه ما ذكره أرباب اللغة أنّ: الفضولي هو من يتعرض لما ليس له؛ فما يتراءى من توصيف العقد بالفضولي، غير خال عن الإشكال؛ بل هو وصف للعاقد، فاللازم اضافة العقد إليه، لا جعله صفة للعقد. و إن كان قد يذكر ذلك من باب التسامح.

و هذا العنوان في مصطلح الفقهاء إشارة إلى من يقوم بإنشاء العقد مع عدم كونه سلطانا عليه؛ كإنشاء البيع من ناحية غير المالك، و عقد النكاح من ناحية غير الزوجين و الولي و الوكيل.

و له عرض عريض يشمل العقد الصادر من القريب و البعيد و الأجنبيّ، بل الولي و الوكيل عند فقدان شرائط انجاز الولاية، كعدم المصلحة أو وجود المفسدة؛ كما يشمل عقد الوكيل إذا تعدى عن الشرائط، كما أنّه لا فرق في المسألة بين الصغير و الكبير و غير ذلك، لما يأتى من عموم الادلة.

المقام الثانى: في الأقوال في المسألة

قال المحقق، في الشرائع: عقد النكاح (الصادر من الفضولي) يقف على الاجازة على الأظهر؛ و قال في اللمعة: على الأقرب؛ و قال في الجواهر: في الأشهر بل المشهور شهرة عظيمة بين القدماء و المتأخرين؛ ثم حكي عن السرائر نفى الخلاف فيه في الجملة، بل عن الناصريات دعوى الإجماع عليه مطلقا، ثم قال: بل من أنكر الفضولي في غير النكاح أثبته هنا للإجماع و النصوص. «1»

و لكن مع ذلك حكى عن الشيخ في بعض كتبه (مثل الخلاف و المبسوط)، عدم صحته. و لكن عن النهاية و التهذيب و الاستبصار، موافقة المشهور. و حكي الخلاف عن فخر المحققين أيضا.

هذا، و لكن الأقوال في أبواب البيع ليست كذلك، بل الظاهر أنّ القائل

بالصحة كان قليلا عن الأعصار القديمة، ثم كثر القائلون بالصحة لا سيما في الأعصار الأخيرة و في عصرنا هذا.

و العمدة في الفرق بين المقامين، هو وجود الروايات الكثيرة الواردة في الموارد الخاصة في أبواب النكاح، تدل على صحته إذا صدر عن الفضولي بحيث يمكن اصطياد العموم منها، كما ستأتي عن قريب إن شاء الله، و الحال أنّ الروايات في أبواب البيع قليلة جدا، عمدتها رواية عروة البارقي المعروفة.

و في الحقيقة في هذه المسألة ثلاثة أقوال عندنا، ذكرها فخر المحققين في الايضاح:

الأول: انّ عقد الفضولي يقع موقوفا على الاجازة، و هو قول المفيد و المرتضى و الشيخ في النهاية و ابن أبي عقيل و سلار و ابن البراج و أبي الصلاح و ابن ادريس و والدي المصنف.

الثاني: أنّ عقد الفضولي باطل من أصله، و هو اختيار الشيخ في الخلاف و المبسوط.

الثالث: قول ابن حمزة، و هو أنّه يقع موقوفا في تسعة مواضع، و عدّ منها عقد الأخ و

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 341

الام و العم و الرشيدة بدون اذن الولي و غيرها، ثم قال: و الذي أفتى به، بطلان عقد الفضولي. «1»

فالقول الأول مشهور جدا، و الأخيران شاذان.

و أمّا فقهاء العامة فقد ذهبوا أيضا إلى ثلاثة أقوال، ذكرها النووي، في كتاب المجموع، و شيخ الطائفة، في الخلاف؛ و هي مع تلخيص منا:

1- يصح نكاح الفضولى؛ فان أجاز ذلك، الذي يملك الأمر، لزم؛ و إن ردّه، بطل. و هو قول أبي حنيفة و من تبعه، و كذلك البيع عنده.

2- أنّ جميع أقسامه لا يصح؛ و هو قول الشافعي و أحمد و اسحاق.

3- يصح إذا أجازه عن قرب؛ و إن أجازه عن بعد، بطل. و هو قول مالك. و

اختار الشيخ نفسه البطلان في النكاح و في البيع، (في الخلاف).

و الأقوى صحة عقد الفضولي في جميع أبواب العقود، بل الايقاعات أيضا، لو لم يقم دليل من الإجماع و غيره على بطلانه.

المقام الثالث: أدلّة القول بصحته

و يدل عليه أمران:

الأول، أنّ صحة عقد الفضولي موافق للقاعدة، فانّ العمومات تدل على صحتها. فقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، «2» تدل على صحة كل ما يصدق عليه العقد عند العقلاء، و قد مر سابقا أنّ المراد منه، العقد المنسوب إلى كل إنسان، فكأنه قال: أوفوا بعقودكم. و من المعلوم أنّ العقد الصادر من الفضولي، ليس عقدا لصاحبه قبل اذنه، فاذا اذن صار عقدا له و منسوبا إليه.

و إن شئت قلت: إنّه أشبه شي ء بما يكتبه الدلال من إنشاء العقد و شرائطه و أركانه ثم بعد مدّة قصيرة أو طويلة يوقع عليه صاحب العقد و يمضيه.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 342

إن قلت: إنّ هذا العقد ليس عقدا لصاحبه عند حدوثه فكيف يكون عقدا له عند بقائه؟

قلت: إنشاء العقود و إن كان من قبيل الوجودات غير المستقر، و عمّا قليل ينعدم؛ و لكن أثره و هو المنشأ أي الالتزام و التعهد الحاصل منه، أمر مستمر و مستقر؛ و الاجازة متعلق به.

و بعبارة اخرى، ليس العقد جامعا للشرائط و واجدا للأركان حدوثا، و لكن يكون كذلك بقاء.

و ببيان آخر، عقد الفضولى أمر رائج بين العقلاء من أهل العرف في عصرنا، بل الظاهر أنّه كان كذلك في الأعصار الماضية أيضا؛ و يدل عليه حديث عروة البارقي في البيع، فانّه لو لم يكن هذا مجازا عند أهل العرف، لما أقدم عليه؛ و يظهر من بعض الروايات الخاصة التي تأتي ذكرها إن شاء الله، أنّه كان

متعارفا في باب النكاح أيضا، و هو في الواقع كتنظيم الاسناد من الدلال مع التوقيع عليه منه و من الطرف المقابل، ثم يأتي المالك أو من بيده الأمر في النكاح، فتأخذ الاذن و التوقيع منه. و إن شئت قلت: هذه سيرة مستمرة لم يمنع عنها الشارع.

الثاني، الروايات الكثيرة الخاصة الواردة في أبواب النكاح يمكن اصطياد العموم منها بلا ريب، و هي على طوائف:

الطائفة الاولى، ما ورد في نكاح العبيد و الإماء، و فيها تعليلات يمكن التعدى معها إلى غيرها؛ منها:

1- ما رواه زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن مملوك تزوج بغير اذن سيده.

فقال: ذاك إلى سيده، إن شاء أجازه و إن شاء فرق بينهما. قلت: أصلحك الله، أنّ الحكم بن عنيينة و ابراهيم النخعي و أصحابهما يقولون: إن أصل النكاح فاسد و لا تحل اجازة السيد له. فقال أبو جعفر عليه السّلام: إنّه لم يعص الله و إنّما عصى سيده فاذا أجازه، فهو له جائز. «1»

مسائل العبيد و الإماء و إن لم تكن محلا للابتلاء في أعصارنا، و لكن لما كانت هذه انوار الفقاهة، ج 3، ص: 343

الرواية و أمثالها مشتملا على تعليل أو ما هو بمنزلة التعليل، يمكن التمسك بها في سائر مصاديق الفضولي في النكاح بل و غيره؛ فانّ قوله: أنّه لم يعص الله؛ معناه إنّه لم يأت بنكاح محرم كالنكاح في العدة و شبهه، (كما وقع التصريح به في الرواية الآتية)، حتى لا يمكن إصلاحه بلحوق الاجازة؛ بل الإنشاء تام، بقى لحوق الاجازة، فيتم جميع أركانه. و قد استدل بها الأصحاب لصحة الفضولي في البيوع و غيرها أيضا بمقتضى التعليل الوارد فيها. فاذا كان البيع مثل بيع الخمر، لا يمكن

تصحيحه، و أمّا إذا كان بدون أذن مالكه، يمكن تصحيحه بلحوق الاجازة.

2- في رواية اخرى لزرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن رجل تزوج عبده بغير اذنه، فدخل بها، ثم اطلع على ذلك مولاه. قال: ذاك لمولاه، إن شاء فرّق بينهما و إن شاء أجاز نكاحهما؛ فان فرق بينهما فللمرأة ما أصدقها إلّا أن يكون اعتدى فاصدقها صداقا كثيرا، و إن جاز نكاحه فهما على نكاحهما الأول، فقلت لأبي جعفر عليه السّلام: فان أصل النكاح كان عاصيا؛ فقال أبو جعفر عليه السّلام: إنّما أتى شيئا حلالا، و ليس بعاص للّه، إنّما عصى سيده و لم يعص الله، أنّ ذلك ليس كإتيان ما حرم الله عليه من نكاح في عدّة و أشباهه. «1»

و التصريح في الرواية بقوله: فهما على نكاحهما الأول؛ كالصريح في كفاية الاجازة اللاحقة في تصحيح العقد، مع اشتماله على التعليل السابق. و يمكن أنّ هذه رواية اخرى سمعها زرارة منه عليه السّلام، كما يمكن أن تكونا رواية واحدة؛ و الحكم بوجوب المهر المسمى، لعله حكم تعبدي على المولى مع فساد العقد.

3- عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد الله عليه السّلام، في عبد بين رجلين زوجه أحدهما و الآخر لا يعلم، ثم إنّه علم بعد ذلك؛ أله أن يفرق بينهما؟ فقال: للذي لم يعلم و لم يأذن أن يفرق بينهما، و إن شاء تركه على نكاحه. «2»

و مورد الرواية، العبد المشترك الذي لا يجوز نكاحه إلّا برضا كليهما، و لكن لا تشتمل على تعليل.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 344

4 و 5 و 6- ما عن معاوية بن وهب، قال: جاء رجل إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام، فقال: إنّي كنت مملوكا لقوم،

و إنّي تزوجت امرأة حرّة بغير اذن موالي، ثم أعتقوني بعد ذلك، فاجدد نكاحي إيّاها حين اعتقت؟ فقال له: أ كانوا علموا أنّك تزوجت امرأة و أنت مملوك لهم؟

فقال: نعم، و سكتوا عني و لم يغيّروا عليّ. قال: فقال: سكوتهم عنك بعد علمهم اقرار منهم، أثبت على نكاحك الأول. «1»

و مثله الحديث الثاني، و الثالث، من هذا الباب المرويتان عن معاوية بن وهب، و عن حسن بن زياد الطائي، و ظاهرها جميعا كفاية سكوت المولى بعد العلم في مقام الاجازة؛ و ليكن هذا على ذكر منك.

7- ما رواه في البحار، عن صفوة الأخبار، قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السّلام، و قال: إنّ هذا مملوكي، تزوج بغير إذني؛ فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: فرّق بينهما أنت. فالتفت الرجل إلى مملوكي، فقال: يا خبيث! طلّق امرأتك!. فقال أمير المؤمنين عليه السّلام للعبد: إن شئت فطلّق و إن شئت فأمسك!. ثم قال: كان قول المالك للعبد: طلق امرأتك؛ رضا بالتزويج؛ فصار الطلاق عند ذلك للعبد. «2»

و هذا الحديث دليل على كفاية الاجازة حتى بالدلالة الالتزامية، و لكن الرواية مرسلة لا يمكن الاعتماد عليها من هذه الجهة.

8- ما عن على بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر، عن أبيه عن آبائه عن على عليه السّلام، أنّه أتاه رجل بعبده، فقال: إن عبدي تزوج بغير إذني. فقال علي عليه السّلام لسيده: فرّق بينهما.

فقال السيد لعبده: يا عدوّ الله، طلّق. فقال له علي عليه السّلام: كيف قلت له؟ قال قلت له: طلّق.

فقال علي عليه السّلام للعبد: أمّا الآن، فإن شئت فطلق، و إن شئت فأمسك. فقال السيد: يا أمير المؤمنين! أمر كان بيدي، فجعلته بيد غيري!؟ قال: ذلك لأنّك

حين قلت له طلّق؛ اقررت له بالنكاح. «3»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 345

و هذا لعله متحد مع الحديث السابق، و لكنه كان مرسلا، و هذا مسند. و مع ذلك لا يمكن الاكتفاء به في إثبات بعض الخصوصيات المستفادة من هذا الحديث، كجواز القناعة في الاجازة بالدلالة الالتزامية.

و الذي يتحصل من مجموع هذه الروايات مع تضافرها و صحة بعض أسنادها، صحة الفضولي في جميع أبواب العقود، و منها عقد النكاح. نعم، موردها العبيد و الإماء الذين انقرضوا في عصرنا. و قد كان من حكمة الشارع من أول الأمر رفع العبودية عن البشر للبشر، و حصرها في الإنسان في مقابل الرب العظيم، و قد توسل إلى ذلك بأنواع الأسباب؛ منها، حكمه بأنّ شرّ البيوع بيع الإنسان؛ و منها، فتح أبواب الحرية من طرق عديدة كثيرة لهم و اغلاق أبواب الاسترقاق عليهم، فكان مقصود الشارع المقدس هو الحرية التدريجية لهم لأنّ الحرية الدفعية كانت سببا لمشاكل كثيرة في المجتمع في تلك الأيام من ناحية المالكين، بل و من ناحية العبيد و الإماء أيضا، و قد شرحنا ذلك في بعض كتبنا و في تفسير الأمثل، شرحا وافيا؛ من أراده فليراجعها.

الطائفة الثانية: الروايات الكثيرة الدالة على صحة عقد الام أو الأخ أو العم و غيرهم بعد لحوق الاجازة؛ منها:

1- ما عن على بن مهزيار، عن محمد بن الحسن الأشعري، قال: كتب بعض بني عمي إلى أبي جعفر الثاني عليه السّلام: ما تقول في صبية زوّجها عمّها، فلما كبرت، أبت التزويج؟ فكتب لي: لا تكره على ذلك، و الأمر أمرها. «1»

هذا صريح في كون نكاح العم فضوليا، يحتاج إلى الاجازة.

2- ما عن الفضل بن عبد الملك، عن أبي عبد الله عليه السّلام

في حديث قال: إذا زوج الرجل ابنه، فذاك إلى ابنه و إذا زوج الابنة جاز. «2»

و هذا ظاهر بالنسبة إلى نكاح الأب لابنه الكبير، و أنّه يصح مع لحوق إجازة الابن.

3- ما عن محمد بن مسلم، عن ابى جعفر عليه السّلام انه سأله عن رجل زوجته امه و هو

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 346

غائب. قال: النكاح جائز؛ إن شاء المتزوج، قبله؛ و إن شاء ترك؛ فان ترك المتزوج تزويجه، فالمهر لازم لأمّه. «1»

و هذا وارد في الام، و صحة نكاحها للابن مع لحوق الاجازة؛ و حمل وجوب المهر على الام على دعواها الوكالة و الأخذ باقرارها، و لكن لا يخلو عن اشكال.

4- ما عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، قال: سأله رجل عن رجل مات و ترك أخوين و ابنة، و البنت صغيرة، فعمد أحد الأخوين الوصيّ، فزوج الابنة من ابنه، ثم مات أبو الابن المزوج؛ فلما أن مات، قال الأخر: أخي لم يزوج ابنه؛ فزوج الجارية من ابنه. فقيل للجارية: أي الزوجين أحبّ إليك، الأول أو الآخر؟ قالت: الآخر .... «2» و يظهر من ذيل الحديث، صحة العقد الأخير بمجرد اجازتها، (و هذا أيضا وارد في العم).

5- ما عن أبان، عن أبي عبد الله عليه السّلام: إذا زوج الرجل ابنه، كان ذلك إلى ابنه؛ و إذا زوج ابنته، جاز ذلك. «3»

و هذا كالحديث الثاني و لكن الراويين مختلفان.

6- ما عن على بن رئاب، عن أبي عبيدة قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام، عن غلام و جارية زوجهما وليان لهما، و هما غير مدركين. قال: فقال: النكاح جائز أيّهما أدرك كان له الخيار؛ الحديث. «4» و لا بدّ من حملها على الولي العرفي دون الشرعي.

و المستفاد

من هذه الطائفة أيضا، جواز نكاح الفضولي مع لحوق الاجازة؛ حتى إذا كان النكاح من الام أو الأب (في غير موارد الولاية) أو العم أو الأخ.

الطائفة الثالثة: ما ورد عن طرق المخالفين؛ منها:

1- ما عن ابن عباس، أنّ جارية بكرا أتت النبي صلّى اللّه عليه و آله فذكرت له، أنّ أباها زوّجها و هى كارهة؟ فخيرها النبي صلّى اللّه عليه و آله. «5»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 347

2- ما عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: جاءت فتاة إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته، قال: فجعل الأمر إليها. فقالت: قد أجزت ما صنع أبي، و لكن أردت أن تعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الآمر شي ء. «1»

3- ما رواه أيضا ابن ماجة، في السنن؛ و النسائي، في سننه؛ و أحمد بن حنبل في مسنده، في البكر التي زوجها أبوها فأتته تستعدى ... فقالت: يا رسول الله قد أجزت ما صنع أبي. «2»

4- ما رواه السرخسي، في مبسوطه، عند الاستدلال على وجوب استيذان البكر عند نكاحها، ما نصّه: و الدليل عليه حديث الخنساء، «3» فانّها جاءت إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله، فقالت: إنّ أبي زوّجني من ابن أخيه، و أنا لذلك كارهة. فقال: أجيزي ما صنع أبوك. فقالت: ما لي رغبة فيما صنع أبي. فقال صلّى اللّه عليه و آله: اذهبي، فلا نكاح لك؛ انكحي من شئت. فقالت: أجزت ما صنع أبي. و لكنى أردت أن تعلم النساء أن ليس إلى للآباء من امور بناتهن شي ء!. «4»

و حكاه الجساس، في أحكام القران؛ «5» و السيد المرتضى، في الناصريات/ 331.

و هذا الحديث هو الذي أشار إليه

في الجواهر بقوله: و النبوي: ... فقال صلّى اللّه عليه و آله: أجيزي ما صنع أبوك؛ «6» لا ما ورد في هامش الجواهر.

و العجب ان هذه الرواية بهذه العبارة لم يرو في صحاحهم الستة و شبهها، كما يظهر بمراجعة المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي؛ و من الجدير بالذكر أنّه يمكن أن يكون هذه الروايات الأربعة، ناظرة إلى واقعة واحدة.

إلى غير ذلك ممّا يطلع عليه المتتبع في أحاديثهم و أحاديثنا؛ و في ذلك كله، غنى و

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 348

كفاية، بل و ما فوق الكفاية.

الطائفة الرابعة: الروايات الكثيرة الواردة في أبواب مختلفة، غير النكاح، يمكن الغاء الخصوصيّة منها و التعدى منها إلى النكاح، و هي في نفسها طوائف:

1- ما روى في أبواب البيع، من رواية عروة البارقي و غيرها.

2- ما ورد في أبواب المضاربة، عند تعدى العامل عن الشرط، الدالة على أنّه لو ربح المال، كان بينهما بالشرط؛ و أن خسر كان على العامل.

3- ما ورد في الاتجار بمال اليتيم من غير الولي، و أنّه إن ربح كان لليتيم.

4- ما ورد في أبواب الخمس عند التصرف فيها بغير اذن الإمام، ثم لحقه اذنهم.

5- ما ورد في الخيانة في الوديعة، ثم جاء تائبا مع ربحه.

6- ما ورد في امضاء الورثة الوصية الزائدة على الثلث بعد وفات الميت.

7- ما ورد في أبواب مجهول المالك، و أنّه إذا جاء صاحبها و رضي، كانت الصدقة له. «1»

كل هذه الروايات، تدل على كفاية لحوق الاجازة لعقد الفضولي في صحته؛ و من الواضح إمكان الغاء الخصوصية منها و التعدى إلى جميع أبواب الفقه؛ و منها النكاح.

فالمسالة بحمد الله بحسب الأدلة واضحة ظاهرة.

***

أدلّة المخالفين

و المخالف استدل بامور:

1- الأصل؛ أي أصالة الفساد الثابتة في

أبواب العقود و المعاملات. فان الأصل يقتضى عدم النقل و الانتقال و عدم جواز ترتيب آثار النكاح و البيع و الاجازة و غيرها، و هذا و إن كان حقا، لكن يرفع اليد عن الأصل بعد ظهور الدليل، بل الأدلة التي مرّت الإشارة إليها.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 349

2- ما ذكره فخر المحققين قدّس سرّه في الايضاح: من أنّ العقد سبب الاباحة، فلا يصح صدوره عن غير معقود عليه أو ولي؛ (انتهى). «1» و كان مراده أنّ الواجب حصول الاباحة عند وجود السبب و هو الإنشاء فلا ينفصل عن المنشأ، و لازمه اقترانه بالرضا من ولي الأمر.

و يجاب عنه، بأن اللازم عدم تأخر المنشأ عن الإنشاء بعد حصول جميع شرائطه، فلو تأخر بعض الشرائط كان تحقق المنشأ عند آخر جزء من العلة التامة، كما ذكروه في باب عقد المكره، و لا دليل على لزوم اجتماع جميع الشرائط في آن واحد.

3- ما ذكره الفخر أيضا من أن: رضا المعقود عليه أو وليّه شرط و الشرط لا يتأخر عن المشروط. «2»

و فيه، أنّ الرضا شرط في تأثير الإنشاء، و من الواضح أنّ صحة العقد و تمامه إنّما هو بعد لحوق الرضا، فالمشروط هو الأثر الحاصل من العقد، و هو غير متقدم على الرضا بل متأخر عنه، و إن كان مراده من المشروط هو الإنشاء، فالحق أنّ صحة العقد بمعناه الإنشائى غير مشروط بالرضا، فتأخر الرضا عن الإنشاء غير قادح.

4- و هو العمدة، الروايات التي استدلوا بها، و هي كثيرة؛ منها:

1- ما عن أبي العباس البقباق، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السّلام: يتزوج الرجل بالأمة بغير علم أهلها. قال: هو زنا، إن الله يقول: فانكحوهن بإذن أهلهن. «3»

2- ما

عن أبي العباس أيضا، قال: سألت أبا عبد الله عليه السّلام عن الأمة تزوج بغير اذن أهلها؟ قال: يحرم ذلك عليها و هو الزنا. «4»

3- ما عن فضل بن عبد الملك، قال: سألت أبا عبد الله عليه السّلام عن الأمة بغير اذن مواليها؛ فقال: يحرم ذلك عليها، و هو زنا. «5»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 350

و التعبير بالزنا في الأحاديث الثلاثة، دليل على بطلان عقد الفضولي.

4- ما عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: لا تنكح ذوات الآباء من الابكار إلّا باذن آبائهن. «1»

و هذا دليل على أنّ إنشاء العقد لا بدّ أن يكون باذن الولي بناء على لزومه.

5- ما عن منصور بن حازم، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: تستأمر البكر و غيرها و لا تنكح إلّا بأمرها. «2»

6- ما عن ابراهيم بن ميمون، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: إذا كانت الجارية بين أبويها فليس لها مع أبويها أمر؛ و إذا كانت قد تزوجت لم يزوجها إلّا برضا منها. «3»

و هذا و ما قبله دليل على وجوب صدور العقد عن الاذن من صاحبه.

و قد اجيب عنها بأجوبة مختلفة؛ و لكن الأحسن من الجميع أنّ مفروض السؤال في نكاح العبد في الثلاثة الاولى فرض عدم لحوق الاجازة، و من الواضح أن ترتيب الآثار عليه مع عدمه يكون من الزنا لعدم تمامية العقد.

و أمّا الثلاثة الأخيرة، فمفادها ليس اعتبار صدور الإنشاء عن الاجازة، بل المراد أنّ الأثر و هو العقد لا يحصل إلّا به؛ و إن شئت قلت، هي ناظرة إلى العقد المسببي لا السببي؛ فتدبّر جيدا.

[المسألة 14: إن كان المعقود له، ممّن يصح له العقد لنفسه

اشارة

المسألة 14: إن كان المعقود له، ممّن يصح له العقد لنفسه بان كان

بالغا عاقلا، فانّما يصح العقد الصادر من الفضولي باجازته.

و إن كان ممن لا يصح منه العقد و كان مولّى عليه بان كان صغيرا أو مجنونا، فإنّما يصح أما باجازة وليّه في زمان قصوره، أو أجازته بنفسه بعد كماله؛ فلو أوقع الأجنبي عقدا على الصغير أو الصغيرة وقفت صحة عقده على اجازتهما له بعد بلوغهما و رشدهما إن لم يجز أبوهما أو جدّهما في حال صغرهما، فأي من الاجازتين حصلت، كفت.

نعم يعتبر في صحة اجازة الولي ما اعتبر في صحة عقده، فلو أجاز العقد الواقع على خلاف مصلحة الصغير، لغت اجازته؛ و انحصر الأمر في اجازته بنفسه بعد بلوغه و رشده.

من له الإجازة في العقد الفضولي

(1) أقول: المسائل التي ذكرها الماتن قدّس سره في بيان أحكام الفضولي في النكاح هنا أربعة عشر مسألة (من 13- إلى 26)، و هذه المسألة ثانيتها؛ و هي تستهدف ذكر من له الاجازة في عقد الفضولي، و هي مسألة واضحة و من مصاديق القضايا التي قياساتها معها.

و حاصل الكلام فيها، أنّ الاجازة لا تكون إلّا من ناحية من يصح العقد منه ابتداء و هو أحد شخصين، إمّا البالغ العاقل، إذا كان هو المعقود عليه؛ أو الولي، إذا كان المعقود عليه صغيرا أو مجنونا؛ فبناء على ذلك إذا عقد الفضولي على الكبير العاقل، فاجازه، صح العقد بلا إشكال. و إن عقد على الصغير و الصغيرة أو المجنون و المجنونة، صح باجازة الولي إذا كانت فيه مصلحة.

و إذا ترك الولي الاجازة حتى بلغ المعقود عليه، أو آفاق المجنون، كانت الاجازة لهما.

و الدليل على ذلك، جميع الآيات و الروايات الدالة على وجوب الوفاء بالعقود، و منها

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 352

عقد النكاح. فالعقد لا يكون عقدا للمعقود عليه و

لا يجب الوفاء به إلّا أن يسند إليه و يكون مصداقا لعقودكم؛ المستفاد من قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ...». و لا يصح الاستناد، إلّا باجازة الكبير أو الولي على الصغير و المجنون.

و قد صرّح بذلك في روايات الباب، مثل صحيحة أبي عبيدة الحذاء؛ قال سألت أبا جعفر عليه السّلام عن غلام و جارية زوجهما وليان لهما، يعنى غير الأب، و هما غير مدركين.

فقال: النكاح جائز، و أيّهما أدرك كان له الخيار، و إن ماتا قبل أن يدركا، فلا ميراث بينهما و لا مهر إلّا أن يكونا قد أدركا و رضيا؛ الحديث. «1»

و هي دليل على بعض المقصود، و هو صحة اجازة المعقود عليه بعد البلوغ؛ كما أنّه دليل على صحة الفضولي و قوله عليه السّلام: النكاح جائز؛ بمعنى صحة الإنشاء فقط لا صحة العقد من جميع الجهات.

بقي هنا امران:

الأول: لما ذا ترك الماتن صحة الاجازة من ناحية الوكيل؛ و لعله لوضوحه، فتأمل.

الثاني: لا بدّ في صحة اجازة الولي أو الوكيل، مراعاة المصلحة و جميع ما مرّ في أمر الولاية و الوكالة، و قد مر أنّه لا مصلحة في الغالب في عصرنا في تزويج الصغار.

***

[المسألة 15: ليست الإجازة على الفور]

اشارة

المسألة 15: ليست الاجازة على الفور، فلو تأخرت عن العقد بزمن طويل، صحت؛ سواء كان التأخير من جهة الجهل بوقوعه، أو لأجل التروى أو للاستشارة أو غير ذلك.

جواز تأخر الإجازة عن العقد الفضولي

(1) أقول: ذكر هذا القول، أعني عدم فورية الاجازة كثير من الأعلام، مثل المحقق النراقي في المستند، «1» و شيخنا الأنصاري في مكاسبه، «2» و المحقق اليزدي في العروة، «3» و الفقيه السبزواري في المهذب، «4» و غيرهم، من دون ذكر مخالف في المسالة؛ و كأنهم أرسلوه ارسال المسلمات، بل قال في المهذب عند ذكر الأدلة: و لتسالم الأجلة؛ و ذكر سيدنا الاستاذ الحكيم، في المستمسك، أنّه: هو المعروف. «5»

أدلّة المسألة

1- العمومات الدالة على صحة عقد الفضولي بعد لحوق الاجازة، شاملة لما إذا لحقته بالفور أو بالتراخي.

2- سيرة العقلاء في المسألة- كما عرفت سابقا- لا فرق فيها بين الصورتين.

3- و أحسن من جميع ذلك، الروايات الخاصة الدالة على هذا المعنى.

فقد عرفت في الأحاديث السابقة ما يدل بصراحة على ذلك؛ مثل حديث أبي عبيدة، «6» فان المفروض فيه، أنّه زوج الولي غير الشرعي صغيرين، فقال: أيّهما بلغ و أجاز صح؛ و البلوغ كثيرا يتأخر.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 354

و ما ورد في حديث ابن بزيع، فان موردها تزويج البنت الصغيرة، ثم إذا كبرت جعل الخيار بيدها. «1»

و كذا رواية علي بن مهزيار، عن محمد بن الحسن الأشعري، عن الجواد عليه السّلام؛ فان موردها أيضا كون الزوجة صغيرة ثم صارت كبيرة، و كثيرا ما يطول الزمان في ذلك. «2»

بل و الأحاديث الدالة على علم الموالي بنكاح عبيدهم و سكوتهم، و أنّه كاف في صحة العقد؛ فانّ العلم كثيرا يتأخر، لوجود الدواعي إلى الكتمان.

بل و الأحاديث الدالة على حكم المراة التي استعدت عن زوجها عنده صلّى اللّه عليه و آله، الواردة من طرق العامة، فانّه لا دلالة فيها على وقوع الاستعداء فورا.

و كذا ما ورد في الاتجار بمال اليتيم،

و تعدى العامل في المضاربة، و التصدق بمجهول المالك، و الخيانة في الأمانة، ثم جاء تائبا مع ربحه، و ارضاء الورثة الوصية الزائدة على الثلث بعد موت الموصى؛ فانّ في جميع ذلك تتاخر الاجازة عادة، و لا يكون على الفور.

و ليس جميع ذلك في مورد الجهل، بل كثيرا ما يكون في مورد العلم، كما لا يخفى.

و من التعجب، أنّ سيدنا الحكيم و بعض آخر (رضوان الله عليهم) استدلوا هنا بما استدل به شيخنا الأنصاري قدّس سرّه في البيع، في صحيحه محمد بن قيس، في الوليدة التي باعها ابن سيدها بغير اذنها، و بعد أن استولدها المشترى أجاز سيدها بيعها؛ مع أنّ الروايات في نفس النكاح كثيرة، مضافا إلى بعض الإشكالات المعروفة في صحيحة محمد بن قيس.

بقي هنا أمران:
1- يجوز الفسخ اذا كان التأخير سببا للضرر

أنّه ذكر غير واحد من أعلام المعاصرين، أو من قارب عصرنا، أنّه إذا كان التأخير سببا

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 355

لتضرر الطرف الآخر الأصيل، أمكن رفعه بقاعدة نفي الضرر بتشريع الفسخ؛ و هذا إنّما يتصور إذا كان أحد الطرفين أصيلا و الآخر فضوليّا، و قلنا بأن الأصيل في هذه الموارد يجب أن يبقى إلى عهده و عقده حتى يتبين حال طرف الفضولى.

و لكن سيأتي إنشاء الله في شرح المسألة 24، أنّ هذا المبنى لا أصل له، بناء على القول بالنقل لعدم حصول العلقة قطعا؛ و كذا على القول بالكشف، لأنّ الأصل عدم لحوق الاجازة في المستقبل، فالعقد غير حاصل. و تمام الكلام في المسألة 24، إن شاء الله.

2- حكم المسألة في صورتي العلم و الجهل

هل هناك فرق بين ما إذا علم صاحب العقد و أخّر الاجازة، و ما إذا لم يعلم؛ فان التأخير مع العلم قد يعد ردّا؟

و لكن الانصاف، عدم الفرق؛ لأنّ التأخير مع العلم قد يكون للتروى أو الاستشارة و الاستخارة، أو لأمر ينتظره، مثل ما إذا كان له خاطبون عديدة و أراد تقديم الأفضل فالافضل.

و في أحاديث الباب، ما يكون التأخير بعد العلم أو يشمله و لو بعنوان ترك الاستفصال، بل مثل صحيحه محمد بن قيس، «1» صريح في التأخير مع العلم، و كذا قضيّة استعداء المرأة عند النبي صلّى اللّه عليه و آله. و الله العالم.

***

[المسألة 16: لا أثر للإجازة بعد الرّد]

اشارة

المسألة 16: لا أثر للإجازة بعد الرّد، و كذا لا أثر للردّ بعد الاجازة، فبها يلزم العقد و به ينفسخ، سواء كان السابق من الرد أو الاجازة واقعا من المعقود له أو وليّه، فلو اجاز أو ردّ وليّ الصغيرين العقد الواقع عليهما فضولا، ليس لهما بعد البلوغ ردّ في الأول و لا اجازة في الثاني.

لا أثر للرد بعد الإجازة في الفضولي

(1) أقول: قال المحقّق النراقي، في المستند: لو قبل عقد الفضولي و أجازه، لزم من جهته؛ و ليس له بعده ردّه إلّا بالطلاق إجماعا. و لو ردّه، لم يؤثر بعده الاجازة، للبطلان بالرّد بالإجماع فلم يبق شي ء تؤثر معه الاجازة. «1»

و هذا الكلام يدل على كون المسألتين إجماعية (أي عدم صحة الردّ بعد الاجازة، و الاجازة بعد الردّ).

و لكن ذهب بعض أعلام المعاصرين، (سيدنا الاستاذ الخوئي)، إلى جواز الاجازة بعد الردّ، حيث قال في مستنده: ذهب إليه جملة من الأصحاب- منهم الاستاذ- بدعوى أنّ الاجازة و الردّ ضدّان، أيّهما سبق لا يبق مجالا للآخر، في حين ذهب آخرون إلى خلافه- منهم الماتن في المسألة الرابعة من باب الوصية- حيث أفاد بأن القول بعدم نفوذ الاجازة بعد الردّ مشكل، إن لم يكن إجماع، خصوصا في الفضولي. «2»

ثم ذكر أدلة المانعين ثمّ ردّها، و قال في آخر كلامه: و ممّا تقدم يظهر أنّه لا دليل على عدم تأثير الاجازة بعد الردّ، و قد سبقه بذلك السيد المحقق اليزدي، في تعليقته على مكاسب الشيخ (قدس سرهما)، و قد قويناه أيضا في كتاب البيع من أنوار الفقاهة.

و على كل حال، فالذي ينبغى أن يقال في المسألة، أنّ عدم جواز الردّ بعد الاجازة ممّا لا ينبغى الكلام فيه، لأنّ المفروض كون الاجازة تمام العقد و

بعد تمام العقد لا يبقى مجال انوار الفقاهة، ج 3، ص: 357

للردّ و لا الفسخ، لأنّ المفروض أنّ العقد هنا من العقود اللازمة.

***

الادلة الدالة على عدم تأثير الاجازة بعد الرد

و أما الاجازة بعد الرد، فقد استدل لعدم تأثيرها في صحة الفضولي، بامور:

1- الإجماع المذكور في كلام غير واحد من الأعلام كما سبق. و الانصاف، أنّ الاعتماد على الإجماع هنا مشكل، بعد وجود بعض ما استدل به غيره.

2- أنّ الاجازة، بمنزلة القبول من ناحية المشترى، أو القابل في عقد النكاح، فإنّها قائمة مقامه، فكما أنّ ردّ الايجاب مانع عن لحوق القبول، فكذلك رد الفضولي مانع عن الاجازة.

و لكن يرد عليه، أوّلا: بالمناقشة في المقيس عليه، فان ردّ الايجاب من ناحية المشتري أو القابل لعقد النكاح، لا يمنع عن لحوق القبول له، كما إذا انعقد هناك مجلس عقد النكاح فأوجب الوكيل أو الوليّ، و قال: زوجت نفس موكلتي لفلان بمهر كذا؛ فخالف الزوج و قال: لا أقبل؛ و تكلم معه بعض أقربائه و أصدقائه في ذلك، فرضى، فرفع صوته و قال: قد قبلت التزويج و النكاح؛ فمثل ذلك عقد عرفي عقلائي لم يمنع منه الشرع. و أوضح منه إذا كان الايجاب بالكتابة، بأن وقّعت الزوجة توقيعها على ورقة النكاح، و أبى الزوج؛ و لكن بعد ساعة أو يوم رضي به و وقّع عليه.

و ثانيا: فرق بين ردّ الايجاب و ردّ الفضولي، فان الإنشاء في الفضولي قد حصل ايجابا و قبولا و إن كان الاستناد إلى صاحب العقد غير حاصل، و لكن في الايجاب الفاقد للقبول، لم يتمّ بعد أركان الإنشاء، فيمكن أن يكون الردّ مانعا من لحوق القبول.

3- مقتضى سلطنة المالك على ماله و نفسه، قطع علقة الطرف الآخر بالعقد الحاصل عن الفضولي على

نفسه و ماله.

و يمكن الجواب عنه بان إنشاء الفضولي لا يوجب أيّ علقة على مال الغير و لا نفسه، و إنّما يكون عقد الفضولي كالمقتضى لذلك، لا يؤثر إلّا بعد لحوق الاجازة؛ فصحة عقد الفضولي صحة تاهلية، لا فعلية.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 358

هذا، و لو فرضنا اقتضائه للعلقة على مال الغير أو نفسه، كان باطلا من أول الأمر، لمخالفته لقاعدة السلطنة المقبولة في الشريعة و بين العقلاء من أهل العرف.

فالانصاف، أنّ أدلة القول ببطلان الاجازة بعد الردّ، ضعيف. و يمكن الاستدلال لصحتها، مضافا إلى الاطلاقات و العمومات و سيرة العقلاء. بظهور غير واحد من الروايات:

1- منها؛ صحيحة محمد بن قيس، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قضى في وليدة باعها ابن سيدها و أبوه غائب؛ فاشتراها رجل، فولدت منه غلاما؛ ثم قدم سيّدها الأول، فخاصم سيدها الأخير، فقال: هذه وليدتي باعها ابني بغير اذني. فقال: خذ وليدتك و ابنها. فناشده المشتري، فقال: خذ ابنه الذي باع الوليدة، حتى ينفذ لك ما باعك. فلما أخذ البيّع الابن، قال أبوه: أرسل ابني؛ فقال: لا أرسل ابني حتى ترسل ابني. فلما رأى ذلك سيد الوليدة الأول، أجاز بيع ابنه. «1»

و رجال السند و إن كانوا كلهم ثقات، و لكن الكلام في فقه الحديث، فانّه لا يخلو عن إشكالات متعددة:

أولها: أنّ الوليدة و هي أم الولد، لا يصح بيعها، بل تبقى لتعتق من سهم ولدها.

و يمكن أن يجاب عنه بأن المراد من الوليدة هنا كونها وليدة في الحال (بعد استيلاد المشترى)، لا في حال البيع، و هذا و إن كان مخالفا للظاهر و لكن يرجع إليه لوجود القرينة هذا أولا، و أمّا ثانيا، بأنّ المراد منها، ليس معناه المصطلح،

بل من تولدت في بيته رقّا. و ثالثا، بأنّها ناظرة إلى موارد جواز بيع أم الولد (كما إذا مات ولده).

ثانيها: أنّ الولد هنا حرّ، لتولده من حرّ، و لو بسبب وطي الشبهة؛ فكيف يجوز للمالك الأول أخذه.

و يجاب عنه، بأن أخذه كان من جهة أخذ الغرامة، فانّ الواجب هنا التقويم لأنّ المشتري فوّته على المالك.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 359

ثالثها: أنّه كيف يجوز أخذ ولد المالك- أي البائع فضولا- مع أنّه حرّ؟ و إنّما يجوز أخذ الغرامة منه، للتدليس.

و يجاب عنه، بانّه إنّما أخذه المشتري لأخذ غرامته منه، لأنّه لم يكن له سبيل إلى أخذ حقّه إلّا هذا الطريق.

رابعها: أنّه كيف يجوز للقاضي تلقين الحجة بأحد الخصمين، و قد علّمه الإمام عليه السّلام هنا و لقنه فقال: خذ ابنه حتّى ينفذ البيع.

و يمكن الجواب عنه، بان هذا من باب تعليم الأحكام، و يجوز للقاضي تعليم أحكام الشرع بأحد الخصمين كى ينتفع منها لأخذ حقه المشروع له، و إنّما لا يجوز التلقين إذا كان سببا لعدم مراعاة التساوي بينهما.

هذا مضافا إلى أنّ المقام ليس مقام القضاء بل مقام الافتاء.

خامسها: أنّ الاكراه يمنع عن صحة المعاملة و المفروض أنّ المشتري أكره المالك بأخذ ابنه، حتى ينفذ البيع، و قال: لا أرسل ابنك حتى ترسل ابني. و لما رأى ذلك سيّد الوليدة، أجاز بيع ابنه.

و الجواب عنه ظاهر؛ فان الاكراه، هو ما يتضمن تهديد انسان في عرضه أو ماله أو نفسه أو من يلحق به بغير حق، فلو أنّ إنسانا كان له حق القصاص على ولد رجل، و قال له: لو بعتني الملك الفلاني، لا اقدم على القصاص، فباعه، صح البيع و ليس هذا من الاكراه بشي ء بل هذا

من قبيل دفع ضرر كثير بضرر أقل منه، مثل ما لو باع الإنسان داره لمداواة ولده.

سادسها: انه من قبيل الاجازة بعد الردّ؛ و لا يجوز إجماعا.

و لكن قد عرفت أنّ دعوى الإجماع هنا ممّا لا فائدة فيها؛ لاحتمال كونه حاصلا من المدارك الاخرى (مضافا إلى إمكان الترديد في نفس الإجماع).

و يمكن الاستدلال أيضا بالروايات الحاكية عن استعداء الجارية عن تزويجها بغير اذنها بمباشرة أبيها، فان الاستعداء دليل على ردّ النكاح مع أنّه صلّى اللّه عليه و آله أمرها باجازة ما صنع أبوها.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 360

إن قلت: الاستعداء كان صوريا بشهادة ذيل الرواية.

قلنا: نعم، و لكن قبل أن يظهر كونه صوريا، أمرها النبي صلّى اللّه عليه و آله باجازة ما صنع أبوها، و هذا دليل على كون الاجازة بعد الردّ نافذة، (فتأمل فانّه دقيق).

كما يمكن الاستدلال بما ورد في البحار و غيره من مجي ء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السّلام و اشتكائه عن مملوكه الذي تزوج بغير اذنه، و قوله عليه السّلام: فرق بينهما؛ و التفات الرجل إلى مملوكه، و قوله: يا خبيث (يا عدوّ اللّه) طلق امرأتك؛ فقال عليه السّلام: هذا اقرار منك لعقده (فانّ الطلاق لا يكون إلّا بعد قبول الزواج). «1»

و ذلك لأنّ شكواه أقوى دليل على ردّ النكاح، ثم صح باجازته.

و إن شئت قلت: كما تجوز الاجازة بكل ما يدل عليه- على ما هو صريح الرواية، فان المفروض فيها هو الدلالة الالتزامية؛ بل بالسكوت كما في روايات نكاح العبيد- فكذلك يجوز الردّ، لأنّ الشكوى يدل التزاما على الرد، بل هو اظهر من السكوت بالنسبة إلى الاجازة، فجواز اجازته بعد ذلك دليل على المطلوب.

هذا كلّه بالنسبة إلى الاجازة بعد الردّ؛ و أمّا

عدم تأثير الردّ بعد الاجازة، فهو اوضح من أن يخفى. فانّه بناء على صحة الفضولى تكون الاجازة قائمة مقام القبول، و من المعلوم إذا جاء القبول تمّ عقد النكاح، و هو لا يقبل الفسخ فانّه من العقود اللازمة. و كذا البيع و أشباهه.

***

[المسألة 17: إذا كان أحد الزوجين كارها حال العقد لكن لم يصدر منه ردّ له

اشارة

المسألة 17: إذا كان أحد الزوجين كارها حال العقد لكن لم يصدر منه ردّ له، فالظاهر أنه يصحّ لو أجاز بعد ذلك، بل الأقوى صحته بها، حتى لو استؤذن فنهى و لم يأذن، و مع ذلك أوقع الفضولي العقد.

الكراهة مع عدم صدور الردّ غير قادحة

(1) أقول: هذه المسألة من فروع المسألة السابقة؛ و حاصلها، أنّ الكراهة الموجودة في القلب أو الظاهرة من خلال الأقوال و الأفعال حين العقد، مع عدم صدور الردّ من صاحب العقد، غير قادحة في صحة الاجازة بعدها. و إنّما يصح البحث في هذه المسألة على فرض عدم صحة الاجازة بعد الرّد، و أمّا على المختار من صحتها و لو بعد الردّ، لا تصل النوبة إلى هذا البحث. فانّ الكراهة ليست أقوى من الردّ، بل هي أضعف منه، و لو كانت الكراهة حال العقد.

و قد صرّح العلامة الاستاذ الخوئي (قدس سره) بذلك على ما في مستند العروة. «1» و قال سيدنا الاستاذ الحكيم، في المستمسك، في شرح المسألة 23 من مسائل عقد النكاح: قد يظهر من شيخنا الأعظم (ره) في التنبيه الثاني من تنبيهات القول في الاجازة، انه (أي عدم قدح الكراهة حال العقد) مسلّم عند الأصحاب، و يقتضيه القواعد العامة. «2»

و على كل حال، يدل على عدم مانعيتها- و لو قلنا بفساد الاجازة بعد الردّ- أنّها ليست كالردّ، و ما اقيم على البطلان في إنشاء الردّ لا يأتي هنا، مثل أنّ الردّ قاطع لسلطة الغير على مال المالك أو نفسه، أو أنّه مجمع عليه بين الأصحاب، أو شبه ذلك فان مجرد الكراهة لا تؤثر هذا الأثر، و لا إجماع فيه، و مقتضى عموم وجوب الوفاء بالعقود، صحته.

أضف إلى ذلك، أنّه يظهر من غير واحد من الروايات

السابقة، كصحيحة محمد بن قيس، و بعض روايات نكاح العبد بغير اذن مولاه، أنّ الكراهة كانت موجودة حين العقد أو بعدها.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 362

و إنّه لو قلنا بمنع نفوذ العقد مع الكراهة، فلا بدّ من القول ببطلان عقد المكره، (فان كل مكره على العقد، كاره له؛ و إن لم يمكن كلّ كاره مكرها، لاعتبار التهديد و التخويف في الاكراه) مع أنّه لم يقل به أحد؛ و لا أقل أنّه خلاف ما اشتهر بين الأصحاب. هذا، و لكن يمكن الفرق بين ما نحن فيه و المكره بما لا يخفى على الخبير. و قد ذكرنا في كتابنا أنوار الفقاهة (كتاب البيع) ما ينفعك هنا. «1»

***

[المسألة 18: يكفي في الإجازة المصححة لعقد الفضولي، كل ما دلّ على إنشاء الرضا]

اشارة

المسألة 18: يكفى في الاجازة المصححة لعقد الفضولي، كل ما دلّ على إنشاء الرضا بذلك العقد، بل يكفى الفعل الدال عليه.

يكفي في إجازة الفضولي كل ما دلّ على الرضا

(1) أقول: هذه مسألة مهمّة، و فيه أبحاث:

1- هل يكفى الرضا الباطني القلبي، في صحة الفضولي، أو لا بدّ من الإنشاء.

2- على فرض اعتبار الانشاء، هل اللازم الإنشاء اللفظى الصريح، أو الظاهر في الدلالة على المقصود، أو يكفى الإنشاء الفعلي و لو حصل بالسكوت.

و في الواقع في المسالة أقوال أو وجوه كثيرة عمدتها ثلاثة: كفاية الرضا الباطني؛ و اعتبار الإنشاء اللفظي؛ و كفاية الإنشاء الفعلى أيضا؛ و عمدة هذه الوجوه ظهرت بين المتأخرين و المعاصرين.

قال في مستند العروة: قد ذهب جماعة إلى اعتبار اللفظ فيها، تارة بدعوى أنّها بمنزلة عقد الجديد، و آخر بدعوى أنّ الاستقراء يقتضي اعتبار اللفظ فيما يقتضي اللزوم؛ انتهى. «1»

و قال في المستمسك، في شرح المسألة، بعد نقل هذا القول أي اعتبار اللفظ- ما يقرب من الدليلين السابقين. «2»

و الظاهر أنّ التعبير بالعقد الجديد في كلام المستند، تسامح؛ لأنّ الالتزام بالعقد الجديد دليل على بطلان عقد الفضولي. بل المراد، إنشاء جديد للقبول، و الإنشاء يحتاج إلى اللفظ.

و على كل حال، يمكن الجواب عنه بأن الصغرى- أي كون الاجازة بمنزلة قبول جديد- مسلّم، لكن الكبرى- و هي كل إنشاء في العقود اللازمة لا بدّ أن يكون بالقول- أول الكلام، لان المعاطاة عقد لازم على المختار و مختار جماعة من المحققين، مع أنّها

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 364

تكون بالفعل. و هي تجرى في كثير من العقود اللازمة كالبيع و الاجارة و الهبة اللازمة، كالهبة لذى الرحم، و الهبة المعوضة و ما أشبهها.

و من هنا يظهر الجواب عن الدليل الثاني و هو الاستقراء، لعدم

وجود الاستقراء هنا، مضافا إلى أنّه دليل ظنّي لم يثبت حجيّته.

و الاولى أن يقال، إن طريق حلّ المشكلة في المقام، تارة من ناحية الرجوع إلى القواعد و مقتضاها، و اخرى من طريق الأدلة الخاصة.

مقتضى القواعد

أمّا القواعد، فمقتضاها صحة كل عقد عرفي عقلائي إلّا ما خرج بالدليل. و العقد لا بدّ فيه من استناد إلى الطرفين، فاذا أجاز المالك أو المعقود له، البيع أو النكاح و لو بالفعل و العمل، كان طرفا للعقد، و كان العقد عقده، فيدخل تحت عمومات أوفوا بالعقود.

و القول بوجوب اللفظ في العقود، تنافيه صحة المعاطاة في أكثر أبواب المعاملات.

إن قلت: إنّ المعاطاة لا تجري في النكاح، ففي اجازة عقد الفضولي في النكاح لا بدّ من اللفظ.

قلنا: قد ذكرنا في محلّه أن اعتبار اللفظ في إنشاء عقد النكاح إنّما هو من ناحية الإجماع، أو من باب الاحتياط، أو من جهة كونه شبها بالزنا و إن لم يكن النكاح المعاطاتى زنا حقيقة، لأنّ الزنا لا يراد فيه عقد الزوجية بين الطرفين، بل يراد اعطاء اجرة في مقابل عمل محرم.

و لكن الإنشاء اللفظي في عقد الفضولي حاصل؛ ثم إنّ المعقود له، بإنشاء الاجازة فعلا، يقوم مقام الفضولي، فكأنه باجازته ينفخ الروح في جسد عقد الفضولي. و بالجملة، الإجماع و شبهه لا يشمل المقام. هذا بحسب القواعد.

الروايات الدالة على صحة الاجازة بالانشاء الفعلي

و أمّا من ناحية الأدلة الخاصة، فقد دلت روايات كثيرة على صحة الاجازة بالإنشاء

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 365

الفعلى حتى بالسكوت الذي هو أدناها. منها:

1- الروايات الثلاثة الواردة في الباب 26 من أبواب نكاح العبيد و الاماء؛ فانّها تدل على المقصود من جهة التصريح فيها بان الموالى إذا علموا و سكتوا كان سكوتهم بمنزلة الاقرار و الاجازة، و قد صرّح في جميع الروايات الثلاثة بأن سكوتهم بمنزلة الاقرار.

فهي دالّة على أنّ الافعال، بمعناها الأعم الشامل للسكوت أيضا، تكفى في مقام الاجازة. اللّهم إلّا أن يقال قياس عقد الفضولي، على عقد العبد لنفسه قياس

مع الفارق. و سيأتي شرحه في الدليل الثالث، إن شاء الله.

2- ما ورد في الباب 5 من أبواب عقد النكاح، من أنّ سكوت البكر اقرارها على النكاح؛ ففى بعضها: في المرأة البكر، اذنها صماتها. «1»

و في آخر: فان سكتت، فهو اقرارها. «2»

و في ثالث منها. قصّة تزويج فاطمة (سلام الله عليها) و أنّه لما خطبها أمير المؤمنين عليّ ابن أبى طالب عليه السّلام و أخبرها رسول الله صلّى اللّه عليه و آله به، فسكتت و لم تولّ وجهها، و لم ير فيه رسول الله صلّى اللّه عليه و آله كراهة؛ فقام و هو يقول: اللّه أكبر، سكوتها اقرارها .... «3»

و هذه الأخبار و إن كانت أجنبيّة عن مسألة الفضولي، بل هي ناظرة إلى مسألة التوكيل في إنشاء العقد؛ و لكن إذا جاز الاكتفاء بالفعل في مقام إنشاء نفس العقد، فيجوز في مقام الاجازة بطريق اولى.

بل يمكن أن يقال، الاذن السابق ليس توكيلا بل يكون كالإجازة اللاحقة امضاء له، فاذا جاز امضاء العقد الآتى بالفعل، فكيف لا يجوز امضاء العقد السابق به، فتأمل.

3- و يمكن الاستيناس للمقصود، بما دل على أنّ العبد إذا تزوج بغير اذن مولاه كان العقد موقوفا على الاجازة منه، معللا بأنّه لم يعص الله و إنّما عصى سيّده، فإذا أجازه فهو له جائز. راجع صحيحة زرارة في الباب 24 من أبواب نكاح العبيد و الإماء. «4»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 366

فانّه من قبيل الفضولي، لكونه تصرفا في ملك الغير بغير اذنه، و المدار رفع عصيان السيّد و هو كما يحصل بالاجازة اللفظية، يحصل بالفعليّة. اللّهم إلّا أن يقال فرق بين نكاح العبد و نكاح الفضولي، فان في الأول يصدر الإنشاء من صاحب العقد،

إلّا أنّه لما كان مزاحما لحق الغير لا بدّ من رضاه بذلك، فهو من قبيل بيع المالك للعين المرهونة؛ و اين ذلك من عقد الفضولي. و لكن الانصاف أنّ هذه الروايات بضميمة روايات كفاية سكوت البكر و كونه بمنزلة إنشائها، تكون دليلا على المقصود؛ مضافا إلى أنّ التعبير فيها بأنّ سكوتهم اقرار، دليل على ما ذكرنا؛ لأنّه لا يقول سكوتهم دليل على الرضا، بل يقول:

اقرار؛ أي امضاء.

ما يدل على الاكتفاء بالرضا القلبي

يبقى الكلام في القول الثالث، اى الاكتفاء بالرضا القلبي الذي مال إليه شيخنا الأعظم في بعض كلماته و يمكن الاستدلال له بامور:

1- عمومات وجوب الوفاء بالعقود؛ و لكن يرد عليه أنّه فرع صدق العقد عليه و هو غير معلوم. فانّ مجرّد الرضا القلبي شي ء لا يكون معاقدة و معاهدة، بل العقد يحتاج إلى إنشاء فانّه من الامور الاعتبارية التي قوامها الانشاء؛ بل يكفى الشك في ذلك، لأنّ الأخذ بالعموم حينئذ من قبيل التمسك بعموم العام في الشبهة المصداقية و هو باطل على قول المحققين.

و إن شئت قلت: الامور على قسمين: امور تكوينية، و امور اعتبارية. أمّا الأول، فهي الحقائق الموجودة الخارجية بل الحالات النفسانية من العلم، و القدرة و الرضا و الغضب و غيرها كلها من الحقائق. و أمّا الاعتباريات، فليس لها وجود في الخارج و إنّما هي في عالم الاعتبار (و قد ذكرنا في محلّه ان الاعتبار نوع من الفرض و الافتراض) و ذلك كالملكيّة و الزوجية و أشباههما، و هي محتاجة إلى الاعتبار و الإنشاء. و من الواضح أنّ استناد العقد إلى صاحبه ليس من الامور التكوينية، بل هي من الامور الاعتبارية، و لا يكفي مجرّد الرضا بالشي ء في مقام الانشاء. فتدبر، تعرف. و الله العالم.

و ستأتي تتمة

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 367

لذلك في المسالة الآتية.

2- قد مرّ في غير واحد من روايات نكاح العبيد فضولا، أنّ سكوت المولى كاف في صحته، و السكوت ليس إنشاء بل هو كاشف عن الرضا.

و فيه، أنّ السكوت في هذه المقامات من قبيل إنشاء الاجازة بالفعل؛ كما في اذن البكر، و ان سكوتها اقرارها؛ فانه من قبيل إنشاء التوكيل. فتأمل.

3- ما دلّ على أنّ معصية السيد ترتفع باجازته، و من المعلوم أنّها ترتفع برضاه قبلا أيضا.

و لكن يمكن الجواب بأن رفع عصيان السيّد بمجرّد رضاه، أول الكلام؛ مثلا إذا باع رجل ملك غيره فقد عصاه، لا أنّه عصى الله؛ و رفع هذه العصيان لا يكون بمجرّد الرضا بل بانفاذ العقد و اجازته و إسناد العقد إليه، لأنّه لا بيع إلّا في ملك؛ فاللازم اعتبار ملكية الغير باجازة الفضولي.

فتحصل من جميع ما ذكرناه أنّ إنشاء الاجازة تحصل بكل ما دل عليه بقول صريح أو ظاهر أو فعل كذلك، و من الواضح أنّ الفعل يحتاج إلى قرينة. و تمام الكلام في هذه المسألة في المسألة الآتية (و كان ينبغى أن يجعل المسألتان مسألة واحدة، و كأنه تبع في ذلك صاحب العروة، حيث جعلها مسألتين، المسألة 19 و 22 من مسائل عقد النكاح).

***

[المسألة 19: لا يكفي الرضا القلبي في صحة العقد]

اشارة

المسألة 19: لا يكفى الرضا القلبي في صحة العقد و خروجه عن الفضولية و عدم الاحتياج إلى الاجازة؛ فلو كان حاضرا حال العقد راضيا به، إلّا أنّه لم يصدر منه قول أو فعل يدل على رضاه، فالظاهر أنّه من الفضولي. نعم، قد يكون السكوت اجازة، و عليه تحمل الأخبار في سكوت البكر.

لا يكفي في صحة الفضولي الرضا القلبي

(1) أقول: قد تكلمنا في المسألة السابقة عن هذا الحكم و نزيدك هنا، أنّ القول بكفاية الرضا في صحة الفضولي، يظهر من بعض كلمات الشيخ الأنصاري (قدس سره الشريف)؛ و ادعى أنّه يظهر من ظواهر كلمات الأصحاب، لأنّهم أفتوا بعدم كفاية السكوت لأنّه أعم من الرضا، فان هذا التعبير يدل على كفاية الرضا (و لكن اللازم وجود الكاشف له).

هذا، و قد ادعى سيدنا الاستاذ الخوئي (قدس سره) عكس ذلك، و أنّه لا خلاف بين الأصحاب في عدم كفاية الخروج عن الفضولي بمجرّد الرضا. «1»

و الانصاف أنّهم لم يتعرضوا للمسألة، و إنّما وقع الكلام فيه بين المتأخرين و المعاصرين من الأصحاب.

و قبل الورود فيه، لا بدّ من ذكر مقدّمة و هي: أنّ البحث هنا إنّما هو في مقام الثبوت، أي على فرض وجود الرضا في الباطن؛ و أمّا انكشاف الرضا بما ذا، فهو أمر آخر. و يمكن ان يكون الكاشف جملة خبرية، بان يقول في مقام الإخبار: قد كنت راضيا بذاك العقد؛ أو لم يخبر أحدا بذلك و أراد ان يعلم تكليفه بينه و بين الله مثلا بالنسبة إلى حرمة امها عليه. أو علم ذلك من قرائن الأحوال من دون أن يكون هناك إنشاء لفظى أو عملي؛ و لو كان ثبوت الرضا بانشاء لفظى أو عملى خرج عن محل الكلام. فان الكلام فيما إذا

لم يكن هناك شي ء إلّا الرضا الباطني في مقام الواقع.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 369

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ عمدة الدليل على عدم كفاية مجرّد الرضا الباطني، مضافا إلى ما مرّ من ضعف أدلة القائل بكفايته، عدم صدق العقد بمجرّد الرضا؛ فانّه يحتاج إلى الإنشاء و بدونه- قولا أو فعلا- لا يصح. و لا يمكن قياسه على اباحة التصرفات في الأموال، التي تحصل بمجرّد الرضا الفعلي بل الرضا التقديري؛ كما إذا دخل ابن الرجل داره و هو لا يعرفه لظلمة الليل و شبهها و قد يظنه أجنبيا لا يرضى بدخوله و لكن على تقدير علمه ابنه أو صديقه يرضى بذلك، فانّه قياس مع الفارق، لأنّ المعتبر في اباحة التصرف هو مجرّد طيب النفس و الرضا به، (و لا يحل مال امرء مسلم إلّا عن طيب نفسه، بل بدونه يكون غصبا) و لكن المعتبر في العقود هو الاسناد، و هو لا يحصل إلّا بالإنشاء.

هذا مضافا إلى ما ورد في روايات سكوت البكر و سكوت الموالى بعد علمهم بعقد العبد على نفسه، أنّه (السكوت) اقرار منها أو اقرار منهم؛ و لم يقل هذا دليل على رضاها أو رضاهم، و الاقرار هو الامضاء.

***

بقي هنا شي ء:

و هو أنّه قد يستدل لعدم صحة الفضولي بمجرّد الرضا بل بالإنشاء الفعلى، بما ورد في أدلة القائلين ببطلان المعاطاة، من رواية خالد بن الحجاج، عن أبي عبد الله عليه السّلام أنّه: يحلل الكلام و يحرم الكلام؛ «1» فسبب الحلية و الحرمة لا يكون إلّا الإنشاء القولي.

و لكن الانصاف، أنّه اجنبي عن المقصود مطلقا. و مجمل الكلام فيه، أنّ سند الرواية ضعيف؛ فان الذي يروى عن خالد بن الحجاج، هو يحيى بن الحجاج أو يحيى بن

نجيح (على اختلاف فيه)؛ و الأول و إن كان ثقة لتوثيق العلّامة و النجاشي له؛ و لكن لو كان هو يحيى بن نجيح، فانّه مجهول لم يذكر في الرجال.

و أمّا دلالته، فهو يحمل وجوها بحسب صدر الرواية و هو:

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 370

قلت لأبي عبد الله عليه السّلام: الرجل يجي ء فيقول اشتر هذا الثوب و اربحك كذا و كذا، قال عليه السّلام: أ ليس إن شاء ترك و إن شاء أخذ؟ قلت: بلى، قال عليه السّلام: لا بأس به، إنّما يحلل الكلام و يحرم الكلام.

وجوهها على ما أفاده في الجواهر و المكاسب، أربعة:

1- حصر المحلل و المحرم في الكلام، فيكون دليلا على بطلان المعاطاة كما هو دليل على عدم جواز الإنشاء الفعلي أو مجرّد الرضا الباطني في الفضولي أيضا.

2- كون كلام واحد في بعض المقامات محللا، و في بعضها محرما، كإنشاء البيع قبل تملك شي ء و إنشائه بعد تملكه.

3- كون بعض الكلمات محللا و بعضها محرما، كعقد النكاح بلفظ النكاح و بلفظ البيع.

4- كون المقاولة قبل تملك شي ء محللا، و ايجاب البيع محرما.

و من الواضح أنّ المعنى الأول لا يناسب شأن ورود الرواية، فانّها وردت في من يقاول على الشي ء قبل أن يتملكه، أو يبيع قبل أن يتملكه؛ و اين هذا من بحث المعاطاة و لزوم اللفظ في مقام الإنشاء.

و يرد على الثاني، أنّه أيضا أجنبي عن مورد السؤال، لأنّ إنشاء البيع قبل التملك لا يكون محرما بل لا يوجب تحليلا؛ و الفرق بينهما واضح.

و كذلك الثالث، لا دخل له بمورد السؤال.

يبقى الرابع، و معناه كون المقاولة بدون إنشاء البيع قبل تملك المتاع، سببا لتحليل هذه المعاملة و كون الإنشاء سببا لحرمتها.

و هذا المعنى أيضا

لا يخلو عن مسامحة، فانّ المقاولة ليست سببا للحلية، بل السبب إنشاء البيع بعده؛ و هناك احتمال خامس و سادس يتقاربان.

5- أنّ المراد من الكلام، هو الصيغة و الإنشاء فالذى يوجب حلية المتاع للمشترى و حرمته على البائع، و حلية الثمن للبائع، و حرمته على المشتري، هو إنشاء البيع دون المقاولة فالكلام هنا كناية عن الإنشاء، لكن لما كان كثيرا باللفظ ذكر الكلام بدلا عن الإنشاء.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 371

6- إن الذي يوجب الحلية في مقام (كما في النكاح)، و يوجب الحرمة في مقام آخر (كالطلاق)، هو الانشاء فقط لا المقاولة؛ و هنا أيضا يكون الكلام كناية عن الانشاء. و على كل حال لا يكون الحديث ناظرا إلى اعتبار الكلام في مقام الإنشاء بل في مقام اعتبار نفس الانشاء.

سلمنا، لكن يعارضها الروايات الكثيرة الواردة في سكوت البكر و سكوت الموالى عند علمهم بنكاح العبد بدون اذنهم؛ و من الواضح أنّ الترجيح لها.

***

[المسألة 20: لا يعتبر في وقوع العقد فضوليّا، قصد الفضوليّة]

اشارة

المسألة 20: لا يعتبر في وقوع العقد فضوليّا، قصد الفضوليّة و لا الالتفات إليها، بل المدار في الفضوليّة و عدمها هو كون العقد بحسب الواقع صادرا عن غير من هو مالك للعقد، و إن تخيل خلافه، فلو تخيل كونه وليا أو وكيلا و اوقع العقد فتبين خلافه، كان من الفضولى و يصح بالاجازة؛ كما أنّه اعتقد أنّه ليس بوكيل و لا ولي فاوقع العقد بعنوان الفضوليّة فتبين خلافه، صح العقد و لزم بلا توقف على الاجازة مع فرض مراعاة المصلحة.

لا يعتبر في الفضولي قصد الفضولية

(1) أقول: هذه المسألة من المسائل الفرعيّة التي لم يبحث عنها إلّا المتأخرون و جماعة من المعاصرين، و قد وافقوا عليها. و حاصلها انّ المدار في كون العقد اصيلا أو فضوليا هو الواقع؛ فان كان صادرا عن مالك العقد أو وكيله أو وليّه، كان أصيلا سواء علم به أو لم يعلم، و سواء قصده عند الإنشاء أو لم يقصده، و إن كان صادرا من غير أهله، كان فضوليا كذلك أي علم به أو لم يعلم، و قصده أو لم يقصده.

قال النراقي (قدس سره) في المستند: هل يشترط في صحة الفضولي قصد كونه فضوليا أو عدم قصد كونه بالاختيار، أم لا؟- ثم ذكر ظهور الفائدة في موارد ظن الفضولى كونه وليا- ثم قال: الظاهر، الأخير لإطلاقات أخبار الفضولي. «1»

و قال سيدنا الاستاذ الحكيم (قدس سره) في ذيل المسألة 24 من مسائل أولياء العقد، في العروة: هذا ممّا لا ينبغي الإشكال فيه؛ و في الجواهر: القطع به لإطلاق الأدلة. (انتهى).

و قد يقتضيه صحيحة محمد بن قيس الواردة في بيع ولد المالك جارية أبيه بغير اذنه، بناء على كون البيع لاعتقاد كونه وليا على البيع كأبيه. «2»

و قريب

منه غيره.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 373

و الاولى أن يقال، أساس البحث هنا أنّ الاصالة و الفضوليّة، ليس من عناوين القصد، بل هو أمر واقعى يدور مدار صدور العقد عن مالكه و عدمه؛ و كذلك لم يؤخذ في موضوعها العلم و الجهل؛ فالوكيل الواقعي عقده نافذ، علم أم لم يعلم، و قصد الوكالة أم لم يقصد؛ و لذا قلنا في محله، أن قول الوكيل في عقد النكاح: زوجت نفس موكلتي الخ؛ مجرّد احتياط و ليس بواجب؛ فلو قال: زوجت هذه المرأة هذا الرجل؛ و كان وكيلا في الواقع عنها أو عنه كفى، حتى و إن نسى الوكالة أو جهل بها.

و كذلك الأصالة، أمر واقعي ينشأ من كون الإنشاء صادرا عن مالك العقد، و لا يعتبر فيه العلم أو القصد.

فعمدة الدليل على المقصود هو ما ذكرناه.

و يمكن بيان ذلك بتعبير آخر، و هو أنّ عمومات أوفوا بالعقود (في ناحية عقد الأصيل)، و عمومات صحة الفضولي (في ناحية عقد الفضولي)، و كذا الاطلاقات، دليل على المطلوب لعدم اعتبار العلم أو القصد فيها، و على مدعيه الإثبات، و لا دليل عليه.

و أمّا دلالة صحيحة محمد بن قيس (1/ 88 من أبواب نكاح العبيد و الإماء) عليه،- كنصّ خاص في المسألة- بعيد جدّا، لأنّ عدم صحة بيع غير المالك واضح على كل أحد؛ و الظاهر أنّ بيع الابن كان كبيع الغاصب العالم بالغصب؛ و لا أقل من الشك في دلالته.

نعم، هنا إشكال قد يبدو إلى الذهن في مورد الجهل بالأصالة؛ و حاصله أنّ العاقد إذا تخيّل أنّه فضولى و ليس أصيلا، قد يقنع بمطالعة يسيرة، نظرا إلى أنّ المجال لمالك العقد واسع للنظر في أمر العقد؛ و لو علم أنّه

نفسه مالك العقد، لم يقدم على العقد إلّا بعد النظر العميق و الاستشارة و غير ذلك؛ فكيف يمكن أن يقال بانّ عقده صحيح.

إن قلت: إن كان وكيلا، لا يصح عقده من ناحية فقد المصلحة؛ و هذا أمر آخر.

قلنا: أولا، قد يكون وكيلا تام الاختيار. و ثانيا، قد يكون مالكا واقعا و لا يعلم به.

فالانصاف، أنّ صحة العقد في هذه الصورة مشكل جدّا. و الله العالم.

***

[المسألة 21: إنّ زوج صغيران فضولا، فإن أجاز وليهما قبل بلوغهما]

اشارة

المسألة 21: إنّ زوج صغيران فضولا، فان أجاز وليهما قبل بلوغهما أو أجازا بعد بلوغهما أو بالاختلاف بأن أجاز ولي أحدهما قبل بلوغه و أجاز الآخر بعد بلوغه، تثبت الزوجية و يترتب جميع أحكامها؛ و إن ردّ وليهما قبل بلوغهما أو ردّ ولي أحدهما قبل بلوغه أو ردّا بعد بلوغهما أو ردّ أحدهما بعد بلوغه أو ماتا أو مات أحدهما قبل الاجازة، بطل العقد من أصله بحيث لم يترتب عليه أثر أصلا من توارث و غيره من سائر الآثار؛ نعم، لو بلغ أحدهما و أجاز ثم مات قبل بلوغ الاخر و إجازته، يعزل من تركته مقدار ما يرث الآخر على تقدير الزوجية؛ فان بلغ و أجاز، يدفع إليه لكن بعد ما حلف على أنّه لم تكن إجازته للطمع في الارث؛ و إن لم يجز أو أجاز و لم يحلف على ذلك، لم يدفع إليه بل يرد إلى الورثة؛ و الظاهر أنّ الحاجة إلى الحلف إنّما هو فيما إذا كان متّهما بأن أجازته لأجل الارث، و أمّا مع عدمه كما إذا أجاز مع الجهل بموت الآخر أو كان الباقي هو الزوج و كان المهر اللازم عليه على تقدير الزوجية أزيد ممّا يرث، يدفع إليه بدون الحلف.

إذا زوّج الصغيران فضولا

(1) أقول: هذه المسألة و المسألتان الآتيتان، تبحث عن موضع واحد، و هو مسألة تزويج الصغيرين مع بلوغ أحدهما و أجازته، ثم أجازه الآخر بعد موت الأول. و في مسألة تزويج الصغيرين صور صحيحة، و صور باطلة و صور باطلة و صورة واحدة مشروطة بالحلف.

الصور الصحيحة للمسألة

أمّا الصور الصحيحة التي تترتب عليها جميع آثار الزوجية من الارث و غيره، فهي ثلاثة:

1- إذا اجاز وليهما قبل بلوغهما.

2- إذا اجازا انفسهما بعد بلوغهما.

3- إذا أجاز أحدهما قبل البلوغ، و الآخر بعده، (إمّا الزوج أو الزوجة).

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 375

و هذه الأحكام ممّا لا كلام فيه فيما إذا كان تزويج الصغير و الصغيرة واجدا للمصلحة، و لكن قد أشرنا إلى فقدان المصلحة في أعصارنا غالبا إلّا في موارد نادرة.

أمّا الصور الباطلة:

1- إن ردّ وليهما قبل البلوغ.

2- إن ردّ ولي احدهما قبل البلوغ، (فان النتيجة تابعة للأخسّ).

3- إن ردّا بعد بلوغهما.

4- إن ردّ أحدهما بعد بلوغه.

5- إن ماتا أو مات أحدهما قبل الاجازة.

ففي جميع هذه الصور، يكون النكاح باطلا. و الدليل عليه واضح، و هو عدم لحوق الاجازة من الجانبين أو من أحدهما و لا من وليّهما.

الصور المشروطة

و أمّا الصورة المشروطة (أو الصورة التاسعة)، فهي ما إذا بلغ أحدهما فأجاز ثم مات قبل بلوغ الآخر، فان المشهور انه يعزل من تركة الميت بمقدار ارث الباقي، (فان كان هو الزوج كان نصفا، و إن كانت الزوجة كان ربعا)، ثم ينتظر حتى يبلغ، فان بلغ فاجاز العقد الفضولى، يدفع إليه ارثه و لكنه مشروط بأن يحلف على أنّه لم تكن أجازته طمعا في مال الارث، و إلّا لا يدفع إليه.

و قد صرّح الماتن و غيره (قدس أسرارهم) بأن الحلف إنّما هو فيما إذا كانت الاجازة، مظنّة للاتهام بالطمع في الارث؛ أمّا إذا لم يكن كذلك، بأن لم يعلم حين الاجازة بموت الآخر؛ أو كان المهر أكثر من مال الارث في صورة حيات الزوج؛ أو شبه ذلك، فلا يجب الحلف.

إذا عرفت ذلك، فاعلم؛ أنّه وقع في هذه المسالة بحوث مستوفاة في كلمات الأصحاب، مع فروع كثيرة؛ منهم الشهيد الثاني، في المسالك، في المجلد الأول من انوار الفقاهة، ج 3، ص: 376

المكاسب، في المسألة الثامنة من مسائل أولياء العقد؛ «1» و تبعه صاحب الجواهر (قدّس سرهما) في المسالة الثامنة؛ «2» و لم نر نقل الخلاف عن أحد في كلامهما. و هو يشهد بان المسألة ممّا لا خلاف فيها. و قد صرّح سيدنا الاستاذ الحكيم (قدس سره)، ذيل المسألة 29 من مسائل

أولياء العقد، في العروة، بذلك بقوله: بلا خلاف ظاهر. «3»

و كيف كان تارة نبحث عن مقتضى القاعدة، و اخرى عن النص الخاص الوارد في المسألة.

مقتضي القاعدة

أمّا مقتضى القاعدة، فلا يبعد بطلانه؛ فانّ المعاقدة إنّما تتصور بين الأحياء، لا بين حيّ و ميّت، سواء كان عقد البيع أو الزواج. و من الواضح أنّ روح العقد هي الاجازة، و إنشاء الفضولي جسد بلا روح. و جدير بالذكر أنّ هذا الحكم لو ثبت، كان من الأحكام النادرة في الشريعة، غير معروفة عند العقلاء من أهل العرف، في أبواب الفضولى؛ فان اللازم عندهم كون الطرف الأصيل باقيا على أوصافه المعتبرة إلى آخر العقد و لحوق الاجازة من الجانب الآخر؛ فلو جنّ الأول أو مات أو شبه ذلك، خرج العقد عن قابلية اجازة الآخر.

و هذا نظير ما ذكروه في العقد الصادر من الاصيل، و أنّ من الواجب بقاء الموجب على صفاته المعتبرة إلى أن يلحقه القبول من القابل. و قد صرح المحقق الثاني (قدس سره) في بعض كلماته أنّ بقاء أهلية المتعاقدين إلى آخر العقد من القضايا التي قياساتها معها.

(انتهى). «4»

و الظاهر أنّ مراده عدم صدق المعاقدة و المعاهدة بينهما بدون ذلك، و هو كذلك؛ فلا يمكن العقد بين الحيّ و الميت، و العاقل و المجنون؛ و الظّاهر أنّه لا فرق في ذلك بين انوار الفقاهة، ج 3، ص: 377

اجازة الفضولى و عقد الأصيل، فانّ قوام العقد بالاجازة.

و قد تنبه لذلك إجمالا المحقق النراقي، في المستند، و قال: الأصل عدم ترتب الأثر على الاجازة بعد موت أحد الطرفين، فانّ جريان أدلة صحة الفضولي إلى مثل المقام غير معلوم ... لعدم قبول المحل حين الاجازة للزوجية، و عدم تحقق الزوجية قبل الاجازة،

ثم قال: إلّا أنّه ثبت بالنص الصحيح و غيره تأثير اجازة الحي الحاصلة بعد موت الأخير. «1»

بل نقول لا نحتاج إلى الأصل، بل بناء العقلاء في أبواب العقود شاهد عليه، و الشارع أمضاه.

اللّهم إلّا أن يقوم دليل قوى معتبر سندا و متنا على ذلك و كان معمولا به بين الأصحاب، فنقول بهذا الحكم تعبدا. فاللازم ذكر الصحيحة ثم التكلم في سندها و متنها، و فتاوى الأصحاب الموافقة لها، فانه يظهر من كثير من القدماء و المتأخرين، العمل بها.

و هي صحيحة أبي عبيدة الحذّاء، قال: سالت أبا جعفر عليه السّلام عن غلام و جارية زوجهما وليان لهما و هما غير مدركين؟ فقال: النكاح جائز، و أيّهما أدرك كان له الخيار؛ و إن ماتا قبل أن يدركا فلا ميراث بينهما و لا مهر ... قلت: فان كان الرجل الذي ادرك قبل الجارية و رضي بالنكاح ثم مات قبل أن تدرك الجارية، أ ترثه؟ قال: نعم، يعزل ميراثها منه حتى تدرك فتحلف بالله، ما دعاها إلى أخذ الميراث إلّا رضاها بالتزويج، ثم يدفع إليها الميراث و نصف المهر. قلت: فان ماتت الجارية و لم تكن أدركت، أ يرثها الزوج المدرك؟

قال: لا، لأنّ لها الخيار إذا أدركت؛ قلت: فان كان أبوها هو الذي زوجها قبل أن تدرك؛ قال:

يجوز عليها تزويج الأب، و يجوز على الغلام، و المهر على الأب للجارية. «2»

هذا؛ و في الصحيحة في بدو النظر إشكالات:

1- قد وقع التصريح في صدرها بان التزويج كان من قبل وليين لهما، فالمفروض عدم كون العقد فضوليّا؛ و لكن يمكن الجواب عنه بأنّ المراد وليّان عرفيان كالعم و الأخ بقرينة قول الراوي في ذيلها: فان كان أبوها هو الذي زوجها ...

الخ.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 378

2- حكمه بتنصيف المهر بسبب الموت، مع أنّ الحق عدم التنصيف إلّا في الطلاق بمقتضى قوله تعالى: وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ ...؛ «1» و غيره ممّا يدل عليه من روايات الباب، و لم يقم دليل معتبر على التنصيف بالموت.

و أجاب عنه في الجواهر، «2» تارة بأن سقوطها عن الحجية بالنسبة إلى هذا الحكم، لا يمنع عن حجيتها فيما نحن فيه؛ و اخرى، بأنه يمكن أن يكون النصف الآخر مدفوعا سابقا؛ انتهى.

و الوجه الأخير تكلّف بعيد جدا؛ و الوجه الأول لا يوافق ما اخترناه في حجيّة الأخبار.

3- طلب اليمين من المجيز مع أنّ القاعدة- كما ذكره في الجواهر، في باب الارث- تقتضى عدمها منه، لأنّه مصدق فيما لا يعلم إلّا من قبله، بل لعل المتجه ترتب الحكم و لو كان الذي دعاه إلى الرضا، الرغبة في الميراث، ضرورة تحقق الرضا، و إن كان دعاه إليه الطمع. 3

قلت: كثيرا ما يرغب الناس في الزواج مع أرباب الثروة طمعا في أموالهم حيّا ميتا، أو تدعوهم إليه أغراض آخر مثل المحرميّة للمحارم من الجانبين و غيرها، و ليس هذا سببا لفساد العقد أو عدم كونه صادرا عن جدّ.

و قد اعترف صاحب المسالك فيما حكاه عنه في الجواهر، بأنّ بعض أحكامه مخالف للقاعدة.

من هنا و ممّا ذكرناه في البحث السابق يعلم، أنّ العمل بالحديث مشكل جدا؛ و لا يمكن إثباته بمثل الخبر الواحد، و إن كان التعبد أمرا ممكنا و لكن لا بمثل هذا الدليل. إلّا أن يقال إن الأصحاب قديما و حديثا عملوا بهذه الصحيحة؛ منهم:

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 379

الشيخ، في النهاية. «1»

و ابن

حمزة، في الوسيلة. «2»

و ابن سعيد، في الجامع. «3»

و العلّامة، في التبصرة و القواعد. «4»

و الشهيد، في الدروس. «5»

الى غير ذلك من الأكابر، قدس الله اسرارهم.

و لكن مع ذلك، في النفس من هذه المسألة شي ء ينبغى أنّ يحطاط فيها بالمصالحة مع سائر الوراث. هذا، مع أنّ الرواية في خصوص موت الزوج، و التعميم مشكل.

***

بقي هنا امور:
اشارة

قد أشار إليها الشهيد الثاني في المسالك، نذكرها مع اختلاف في الترتيب:

1- لو انتفت التهمة ... فهل يتوقف على اليمين؟

لو انتفت التهمة بالطمع في الميراث بأن كان جاهلا عن موت الآخر، أو كان ما يلزمه من المهر بمقدار ما يرثه أو أكثر، أو شبه ذلك، فهل يتوقف على اليمين؟

توقف فيه الشهيد الثاني (قدس سره) أولا، ثم اختار في آخر كلامه العموم، و بناه على أن علل الشرع من قبيل الحكمة، لا العلّة؛ و لكن الانصاف انصراف الاطلاق عن هذه الصور، بل يكون الحلف فيها كاللغو، لأنّ المفروض أنّه من قبيل توضيح الواضح؛ و التعبد بحلف يكون كاللغو، بعيد جدا. و لا أقل من أنّه خارج عن منصرف النصّ، فلا دخل لمسألة

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 380

العلة و الحكمة، بما نحن فيه.

2- ان تأخر الحلف لعارض فهل يرث من الاخر؟

إن تأخر الحلف، لعارض من موت أو جنون أو غيره، فهل يرث من الآخر؟ فالظاهر أنّه لا يرث، لعدم حصول الشرط؛ و دعوى كمال العقد يرده النص. نعم، لو كان المانع ممّا يرجى زواله، يترقب إلى حصول الشرط و هو الحلف.

3- لو أجاز و لكن لم يحلف، فهل يلزمه المهر المسمّى في العقد أم لا؟

ذكر في المسالك فيه وجهين: من أنّ المهر فرع ثبوت النكاح المتوقف على اليمين، و المفروض عدمه. و من أنّه مع الاجازة كأنّه أقر بالمهر، و اقرار العقلاء على أنفسهم جائز.

و لكن أخذ الميراث يتعلق بحق الغير، و لا يجوز عند التهمة بمجرّد الاقرار. «1» ثم اختار الوجه الثاني، أي ثبوت المهر.

قلت: لكن ظاهر الرواية خلافه، فان قوله: فتحلف بالله ... ثم يدفع إليها الميراث و نصف المهر؛ يدل على أن كليهما فرع الحلف.

و إن شئت قلت: هذه مناقشة اخرى على دلالة الرواية من حيث مخالفتها لقاعدة الاقرار.

4- حكم المسألة لو كانا كبيرين

النصّ ورد في تزويج الصغيرين، فلو كانا كبيرين و لكن زوجهما الفضولي فبلغ الخبر إليهما فاجاز أحدهما ثم مات بعد برهة، ثم أجاز الآخر؛ ففي جريان الحكم إليهما نظر؛ قال في المسالك: فيه وجهان: من تساويهما في كون العقد بينهما عقد فضولى ... و من أنّ في بعض أحكامه ما هو خلاف الأصل، فيقتصر على مورده، و هذا أقوى. «2»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 381

و لازم كلامه، فساد العقد و لو أجاز الآخر بعد موت الأول، كما صرّح به في ذيل كلامه.

و هذا اعتراف صريح منه (قدس سره) على كون الحكم مخالفا للقواعد المعروفة في الفقه؛ و أنّ مضمون الحديث تعبد خاص.

5- لو كان احد الطرفين فضوليا

لو كان العاقد في أحد الطرفين وليّا و الآخر فضوليا، فمات من عقد له الولي قبل بلوغه، ثم بلغ الآخر فاجاز، فهل تجرى فيه الأحكام المذكورة؟ قال في المسالك ما حاصله: أنّ الأقوى ثبوت الحكم فيه أيضا بطريق أولى، لأنّ الجائز من الطرفين أضعف حكما من اللازم من أحدهما، فليس هذا من القياس الممنوع.

أقول: لمّا كان الحكم على خلاف القاعدة و لا ندري ما هو الملاك في الضعف و القوه هنا، فلا يمكن الركون إلى ما ذكره؛ فاللازم الحكم بالفساد هنا أيضا.

6- لو كانا بالغين و زوج احدهما الفضولى

لو كانا بالغين لكن زوج احدهما الفضولي، و الآخر كان أصيلا، أو كان أحدهما بالغا و الآخر صغيرا، فأوقع له الوليّ؛ ففى جريان الحكم فيه وجهان، ذكرهما في المسالك: من خروجه عن مورد النص؛ و من ثبوت الحكم فيه بطريق أولى؛ (انتهى ملخصا). و لكن الإشكال فيه ظاهر كما ذكرنا. في سابقه، و في الواقع هذا كلّه مشاكل تنشأ عن الحكم المذكور المخالف للقاعدة، و اللّه العالم.

و ممّا ذكرنا. في هذه الفروع يظهر حال بعض الفروع الآتية في التحرير.

[المسألة 22: كما يترتب الإرث على تقدير الإجازة و الحلف، يترتب الآثار الأخرى

اشارة

المسألة 22: كما يترتب الارث على تقدير الاجازة و الحلف، يترتب الآثار الاخرى المترتبة على الزوجية أيضا، من المهر، و حرمة الامّ و البنت، و حرمتها على أب الزوج و ابنه إن كانت الزوجة هي الباقية، و غير ذلك. فيترتب جميع الآثار على الحلف في الظاهر على الأقوى.

ترتب سائر الآثار على تقدير الاجازة و الحلف

(1) أقول: قلّ من تعرض لهذه المسألة إلّا المتأخرون، و هو ترتب سائر آثار الزوجية.

و لكن يظهر من كلمات غير واحد من المعاصرين، و صرّح به في العروة أيضا، و لم يخالفه أحد المحشين بل صرّح سيدنا الاستاذ، في المستمسك، بقوله: هذا ممّا لا إشكال فيه، لكونه ظاهر الصحيحة المتضمنة لثبوت الزوجية. «1»

بل صرّح في العروة، في المسالة 30، بان الظاهر ترتب هذه الآثار بمجرّد الاجازة من غير حاجة إلى الحلف، فلو أجاز و لم يحلف مع كونه متّهما، لا يرث؛ و لكن يترتب سائر الأحكام (انتهى).

و في اصل المسالة و هذه الأحكام، مواقع للنظر:

أولا: ان جريان هذه الأحكام مبنى على كون المسالة موافقة للقواعد، و لكن قد عرفت أن خروج أحد الطرفين عن قابلية كونه طرفا للعقد بالموت أو الجنون و غيرهما، يجعل الايجاب لغوا لا أثر له في عرف العقلاء؛ فلا يشمله أدلة وجوب الوفاء بالعقد، و لا فرق في ذلك بين القول بالكشف على أنواعه من الحقيقي و الحكمي و الانقلابي و النقل، فانّ إمكان الكشف شي ء، و كونه موافقا لعرف العقلاء داخلا في اطلاقات الأدلة، شي ء آخر.

و حينئذ يمكن أنّ نقول أن الحكم بالارث (على القول به) تعبد محض، لا يترتب عليه سائر الآثار؛ اللّهم إلّا أن يقال إن ظاهر الصحيحة أعني قوله: ما دعاها إلى أخذ الميراث إلّا

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 383

رضاها

بالتزويج؛ دليل على حصول الزوجية بالاجازة و ثبوتها بالحلف، فحينئذ تترتب عليه جميع آثارها، فتأمل.

ثانيا: أنّ ما ذكره في العروة، و وافقه جماعة من المحشين، من كفاية الاجازة بدون الحلف في هذه الامور، مشكل جدّا. لأنّ ظاهر الصحيحة كون الحلف شرطا لتحقق الزوجية، و لو في الظاهر؛ فلا يترتب عليه أثر من الآثار. مضافا إلى ما عرفت من أنّ هذا إنّما يتم على القول بموافقة الحكم للقواعد، و قد عرفت فساده.

ثالثا: ان ذكر بنت الزوجة، مخدوش من جهتين: أوّلا، أنّ المفروض موت الزوجة قبل بلوغ الآخر و اجازته، فكيف يكون لها ولد. و ثانيا، من شرائط حرمة البنت- أي الربيبة- هو الدخول بالام، و هو هنا غير حاصل.

هذا؛ و يمكن الجواب على الأول، بأنّه يتصور فيما إذا كانا بالغين و كان العقد فضوليا من الجانبين، و كان للزوجة بنت من زوج آخر قبله.

و لكن الإشكال الثاني باق بحاله؛ و لذا قال المحقق الخوئي، أن ذكر البنت من سهو القلم جزما؛ و يمكن فرض الدخول إذا كان من باب وطى الشبهة، و كان المورد من قبيل الكبيرين، و قلنا بالكشف، فان العقد على هذا المبنى كان صحيحا عند الوطي المزبور، فالدخول بالام حاصل.

***

[المسألة 23: الظاهر جريان هذا الحكم في كلّ مورد مات من لزم العقد من طرفه

اشارة

المسألة 23: الظاهر جريان هذا الحكم في كلّ مورد مات من لزم العقد من طرفه، و بقي من يتوقف زوجيته على اجازته، كما إذا زوّج أحد الصغيرين الولي، و زوّج الآخر الفضولى، فمات الأول قبل بلوغ الثاني و أجازته؛ بل لا يبعد جريان الحكم فيما لو كانا كبيرين فأجاز أحدهما و مات قبل موت الثاني و أجازته، لكنّ الحلف مبنى على الاحتياط، كالحلف في بعض الصور الآخر.

إذا مات من لزمه العقد من طرفه

(1) أقول: هذه المسألة تبحث عن مسألتين من المسائل السابقة؛ إحداهما، ما إذا كان العقد من جانب أحد الصغيرين أصيلا، و من الجانب الآخر فضوليّا. و الثانية، ما إذا كان كلاهما كبيرين و كان عقدهما فضوليّا. و قد حررنا البحث فيهما، و أنّ التعدي عن مورد الصحيحة إلى غيره مشكل جدّا. لأنّ الحكم- لو قلنا به- مخالف للقاعدة، لا نقول به إلّا في مورد النص.

و أمّا قوله (قدس سره) في المتن: لكنّ الحلف مبنى على الاحتياط؛ موقوف على كون الحكم موافقا للقاعدة، و كون الحلف من باب التعبد، فينعكس الأمر و يقتصر في الحلف على مورد الرواية، و هو عقد الصغيرين بواسطة الفضوليين.

بقي هنا شي ء: هل تترتب عدة الوفاة على الزوجة لو كانت هي الباقية؟

كما إذا بلغ الزوج و أجاز في أول شهر رمضان. ثم مات؛ و بلغت الزوجة في أول شهر شوال و أجازت؛ فهل عليها عدة الوفاة أم لا؟ و على تقدير الوجوب، فهل مبدء العدة أول شهر شوال، أو أول رمضان؟

الظاهر، أنّه على القول بكون الحكم موافقا للقاعدة، تترتب عليه جميع الآثار؛ و منها العدّة. فعلى القول بالنقل، مبدئها أول شهر شوال؛ و على القول بالكشف، أول شهر رمضان.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 385

بل الظاهر أنّه على القول بكونه مخالفا للقاعدة أيضا، يكون الحكم كذلك؛ لأنّ ظاهر الحديث كون الارث بسبب تحقق الزوجية، و إذا تحققت ترتب عليها جميع آثارها و منها عدة الوفاة، و هي غير متوقفة على الدخول.

***

[المسألة 24: إذا كان العقد فضوليّا من أحد الطرفين، كان لازما من طرف الأصيل

اشارة

المسألة 24: إذا كان العقد فضوليّا من أحد الطرفين، كان لازما من طرف الأصيل؛ فلو كان هي الزوجة، ليس لها أنّ تتزوج بالغير قبل أن يردّ الآخر العقد و يفسخه؛ و هل يثبت في حقه تحريم المصاهرة قبل اجازة الاخر و ردّه؛ فلو كان زوجا حرم عليه نكاح أمّ المرأة و بنتها و اختها و الخامسة إن كانت هي الرابعة؟ الأحوط ذلك و إن كان الاقوى خلافه.

إذا كان العقد فضوليا من أحد الطرفين فقط

(1) أقول: عصارة الكلام في المسألة، أنّ إنشاء الأصل يؤثر آثاره بالنسبة إليه، أو هو كالعدم ما لم تلحقه الاجازة من الطرف الآخر؟

في المسألة قولان، بل ثلاثة أقوال:
اشارة

الأول: هو ترتب جميع آثار إنشاء العقد بالنسبة إلى الأصيل؛ و هو الذي اختاره في كشف اللثام، حيث قال: و لو تولى الفضولى أحد طرفي العقد، و باشر الآخر بنفسه أو وليه أو وكيله، ثبت في حق المباشر تحريم المصاهرة إلى أن يتبين عدم اجازة الآخر، لتمامية العقد بالنسبة إليه. فان كان زوجا حرم عليه الخامسة و الاخت بلا إشكال؛ «1» حتى أنّه قال في آخر كلامه: إما إذا فسخت، فلا حرمة بلا إشكال في البنت و على إشكال في الامّ؛ انتهى. «2»

و اختاره أيضا المحقق الثاني، في جامع المقاصد، و قال: أنّ العقد لازم بالنسبة إلى المباشر. «3»

و استظهر ذلك من كلمات شيخنا الأعظم، في المكاسب، كما اختاره من المعاصرين،

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 387

المحقق السيد عبد الأعلى السبزواري، في مهذب الأحكام. «1»

الثاني: ما اختاره المحقق اليزدي، في العروة، في المسألة 32 من مبحث أولياء العقد؛ و هو عدم ترتب الآثار على إنشاء الأصيل مطلقا إلّا في فرض خاص؛ حيث قال في المسألة 32: هل يجري عليه (أي على عقد الاصيل) آثار الزوجية و إن لم تجر على الطرف الآخر، أو لا؟ قولان: اقواهما، الثانى، إلّا مع فرض العلم بحصول الاجازة بعد ذلك الكاشفة عن تحققها من حين العقد. نعم، الأحوط الأول، لكونه في معرض ذلك بمجي ء الاجازة؛ انتهى.

و قد أورد عليه بعض الشارحين، بأن الاستثناء إنّما يتمّ على الكشف الحقيقي، لا غيره من أنواع الكشف.

و اختار سيدنا الاستاذ العلّامة الخوئي، في مستند العروة، عدم ترتب الآثار مطلقا؛ و صرّح بأنه لو

عقد الأصيل على ما ينافي عقده الأول، كان فسخا له، حتى على القول بالكشف الحقيقي؛ لأنّ القائلين بالكشف إنّما يقولون به مع بقاء الطرف الاولى على التزامه، و أمّا مع رفع اليد عنه، فلم يعرف منهم قائل به. «2»

الثالث: ما يظهر من تحرير الوسيلة، حيث قال بترتب بعض الآثار مثل عدم التزويج لو كان الأصيل هي الزوجة، و عدم ترتب آثار المصاهرة لو كان هو الزوج!.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ اساس الكلام في المسالة هو أنّ كل عقد ينحلّ إلى التزامين، كل واحد منهما مستقل في التأثير، أو هما أمر وحداني، فان تمّ يكون له الأثر بالنسبة إليهما، و إلّا فلا أثر له؟ و الانصاف، أنّ الأساس لو كان ذلك، كان الحكم واضحا جدا؛ لأنّ العقد كما يظهر من معناه اللغوي و العرفي، شدّ شي ء بشي ء آخر. و في المقام، شدّ التزام بالتزام آخر. و هو الفرق بينه و بين الايقاع، و لا معنى للمعاقدة بين الإنسان و نفسه، أو بينه و بين من لم يلتزم في مقابله بشى ء و لم يقبل التزامه.

و العجب من المحقق السبزواري حيث صرّح في المهذب، بان كل عقد ينحل في انوار الفقاهة، ج 3، ص: 388

الواقع إلى شيئين: الأول، التزام كل واحد من الطرفين بما يلتزم به و من هذه الجهة يشبه الايقاع. الثاني، ربط هذه الالتزام بالتزام آخر، و هذا هو العقد؛ فانّ تحقق الالتزام الآخر يتمّ الالتزامان و تترتب عليه الآثار من الطرفين، و إن لم يتحقق اصلا يبطل الالتزام الأول ... و إن لم يعلم انه يتحقق أو لا، فالالتزام الأول باق بحاله صورة حتى يتبين الحال.

(انتهى).

و ما ذكره قدس سره من عجائب الكلام، و يرد عليه:

أولا،

ان النكاح بمقتضى طبعه أمر مشترك بين اثنين، كالبيع لا معنى لكونه شبيه الايقاع كالطلاق و شبهه؛ فان تمّ من الجانبين ترتب عليه آثاره، و إن لم يتم لم يترتب عليه شي ء أبدا. فللأصيل فعل ما يضادّه، ما لم تحصل الاجازة. و يكون فعل الضدّ (كالنكاح على من لا يجتمع مع النكاح الأول) سببا لعدوله عن إنشائه الأول. حتى أن التعبير بالفسخ هنا غير صحيح، لعدم حصول عقد حتى ينفسخ، و الصحيح أن يقال إذا أتى بشي ء مضاد لإنشائه الأول، تنتفى صحّته التاهليّة، و من المعلوم أنّ عقد الفضولي لا أثر له ما لم ينضمّ إليه الاجازة. و الحاصل أنّ الالتزام الأول مشروط بالالتزام الثاني، فما لم يحصل، ليس بشي ء أصلا.

و ثانيا، أنّه لو كان الالتزام الأول لازما، لا بدّ من ترتيب جميع الآثار عليه، لا خصوص محرمات المصاهرة. فيجب عليه إن كان زوجا المهر أيضا. و لا أظنّ أحدا يلتزم بذلك، كما لا يلتزم بأداء الثمن إذا كان الأصيل هو المشتري لأنّه تمليك بازاء تمليك.

ثالثا، لا فرق فيما ذكرنا بين القول بالنقل أو الكشف حتى الكشف الحقيقي، (و هو كون الاجازة كاشفة عن وقوع العقد من قبل، و إن لم يعلم به، و لازمه عدم كون الاجازة دخيلة في صحة العقد و جزء للمؤثر) فانّ صحة الاجازة كشفا، فرع عدم وجود المنافي و عدم عدول الأول من التزامه، (كما عرفت في كلام المحقق الخوئي، قدس سره). هذا مضافا إلى فساد هذا القول، أي الكشف الحقيقي، كما حققناه في محله. فانّ الاجازة من الأركان الأصلية للعقد، و قائم مقام الايجاب أو القبول، و كأنّ القائلين بالكشف الحقيقي (بمعنى عدم تأثير الاجازة) يرون إنشاء الفضولي مؤثرا

و إنشاء المالك الحقيقي غير مؤثر؛ و هذا

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 389

من عجائب المعاملات.

و الحاصل أنّه لا دليل على وجوب التزام الأصيل بمقتضى آثار إنشائه، ما لم تنضم إليه الاجازة من مالك العقد، فله الرجوع عنه مهما أراد قولا، أو عملا بفعل ما ينافيه، كالعقد على ما يحرم عليه على فرض تمامية العقد الأول كالأم و الاخت و البنت؛ فالأقوى هو القول الثاني.

إن قلت: البنت لا تحرم عليه إلّا على فرض الدخول بالام، و المفروض عدم تحققه هنا.

قلت: التحريم الأبدي يتوقف على الدخول، و لكن الحرمة الحاصلة من الجمع موجودة على كل حال، فلا يجوز الجمع بين نكاح الامّ و بنتها في عقد واحد أو عقدين، و إن لم يدخل باحداهما؛ كما لا يجوز الجمع بين الاختين.

بقي هنا امور:

الأول، أنّ القول الأول و إن خالف القواعد، و لكن يمكن الاستدلال أو الاستيناس له بصحيحة أبي عبيدة الحذّاء، حيث وقع التصريح فيه بأنّه يعزل الميراث حتى يدرك الآخر و يجيز العقد و يحلف أو يردّ؛ فهذا دليل على وجوب العمل بمقتضى الالتزام الأول، حتى في مورد الميراث.

و لكن يرد عليه، أوّلا، قد عرفت مخالفة الحديث لمقتضى القواعد، و أنّه لو أفتينا على وفقه فانما نقول في مورده، و لا نتعدى إلى غيره.

و ثانيا، أنّه أمر بمجرّد العزل من باب الاحتياط، لا بتمليك الزوجة للإرث، فلا يكون دليلا على ترتب الآثار؛ اللّهم إلّا أن يقال إنّ تحريم المحرمات بالمصاهرة أيضا من باب الاحتياط، و لكن ظاهر كلام القائلين بالقول الأول ترتب الآثار عليه واقعا، لا من باب الاحتياط.

الثاني، أنّ القول الثالث، أي التفصيل بين أحكام الزوجة و الزوج في المقام، مما

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 390

لا يساعده أي دليل،

فانّه لو قيل بانحلال العقد إلى التزامين مستقلين، فاللازم القول به مطلقا سواء كان من ناحية الزوجة أو الزوج، و لا معنى بأن يقال إن الانحلال من ناحية الزوجة ثابت و من ناحية الزوج غير ثابت.

و لو كان الدليل هو صحيحة الحذّاء، كان الأمر بالعكس، فانّه حكم فيها بعزل ميراث الزوج للزوجة، لا العكس. و على كل حال لا نعرف وجها لهذا التفصيل، لعل الله يحدث بعد ذلك امرا.

نعم يحتمل كون قوله: كان لازما من طرف الأصيل؛ غلطا في العبارة، و الصحيح: هل كان لازما من طرف الأصيل؛ و يؤيده أنّه (قدس سره) وافق صاحب العروة في القول الثاني، حتى أنّه لم يقبل استثناء العروة كما يظهر بالمراجعة إلى تعليقاته على العروة.

الثالث، لو قلنا بالقول الأول، فالى متى يصبر الأصيل لو أخّرت اجازة الفضولي؟

لا سيما إذا كان التأخير سببا لتضرره، كان يكون هناك من يخطب الجارية و كان في التأخير آفات، أو كان للبائع الأصيل مشتر آخر يكون التاخير سببا لتضرره. الحق أنّه إنّما يجب عليه الصبر (على القول به). ما لم يتضرر؛ و إلّا يجوز له الفسخ بمقتضى قاعدة نفى الضرر؛ و كذا إذا خرج عن المتعارف.

الرابع، الظاهر أنّه لا فرق في هذا الحكم بين انحصار الفضولى في أحد الطرفين، أو كان كلا الطرفين من قبيل الفضولي، و لكن أجاز أحدهما؛ فانّه يكون من قبيل الأصيل كما هو ظاهر.

***

[المسألة 25: و إن ردّ المعقود له أو المعقود لها، العقد الواقع فضولا]

اشارة

المسألة 25: و إن ردّ المعقود له أو المعقود لها، العقد الواقع فضولا، صار العقد كأنه لم يقع، سواء كان العقد فضوليّا من الطرفين و ردّاه معا، أو ردّه أحدهما؛ بل و لو أجاز أحدهما و ردّ الآخر، أو من طرف واحد و ردّ ذلك

الطرف، فتحل المعقود لها على أب المعقود له و ابنه، و تحلّ بنتها و امها على المعقود له.

لو ردّ الفضولي بطل العقد

(1) أقول: هذا الفرع من فروع المسألة السابقة، و جعله في العروة، المسألة 33 من مسائل أولياء العقد.

و حاصل الكلام فيه، أنّ ردّ الفضولي- سواء كان من الطرفين أو من طرف واحد- يجعل العقد كان لم يكن، فلا يترتب عليه شي ء؛ فلو قلنا في المسألة السابقة بوجوب التزام الأصيل بلوازم العقد حتى قبل اجازة الآخر، من محرمات المصاهرة و غيرها، فاذا ردّ الآخر، انتفى العقد و جميع آثاره.

و يدل على هذا الحكم أنّه من القضايا التي قياساتها معها، فان ردّ العقد من الطرفين أو من طرف واحد يوجب انعدام العقد، فاذا انعدم انعدمت آثاره. و قد يستدل له بما مرّ في صدر حديث أبي عبيدة الحذاء، «1» حيث قال: أيّهما أدرك كان له الخيار ...، و قوله: فان ماتا قبل أن يدركا فلا ميراث بينهما و لا مهر ...؛ بناء على كون مفاد هاتين الجملتين نفى جميع الآثار؛ و لكن الانصاف أنّ دلالتها محل تأمل.

هذا؛ و لكن يظهر من بعض عبارات القواعد- على ما حكى عنها- الإشكال في جواز نكاح أم المعقود عليها، و لو بعد الرد، و قد ذكر في توجيهه في كشف اللثام، بانّه مبنى على أنّ الفسخ كاشف عن الفساد من أول العقد، أو رافع من حين الفسخ؛ «2» فعلى الثانى تكون أم الزوجة باقية على وصفها فتحرم؛ و قد صرّح في الجواهر بأنّ احتمال حرمة الام هنا

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 392

لا يقتضيه أصل و لا قاعدة و لا فتوى، بل يمكن تحصيل الإجماع بل الضرورة بخلافه.

(انتهى). «1»

و ما ذكره حق لا ريب فيه،

لأنّ الفسخ في المعاملات و إن كان من حينه على ما هو التحقيق، و لكن الردّ في المقام ليس في قبيل الفسخ، بل من قبيل نفى جزء العلة التامة، أو نفى الكاشف؛ فلا وجود للمعلول مطلقا على القول بالنقل و الكشف.

***

بقي هنا شي ء:

و هو أنّه قد يورد على كلام القواعد، (احتمال بقاء حرمة أم المعقود عليها، حتى بعد رد النكاح من قبل الفضولى)، مضافا إلى ما عرفت، بالنقض بنكاح البنت. قال المحقق اليزدي (قدس سره) في العروة، في المسألة 33: أنّه لا فرق بينه (أي بين نكاح الام) و بين نكاح البنت.

و قد أجاب عن النقض سيدنا الاستاذ المحقق الخوئي (قدس سره)، بأنّ الموجب لحرمة البنت ينحصر في أحد الأمرين: الدخول بالام، أو الجمع بينهما في الزوجيّة، على ما اختاره المشهور،- و إن لم نرتضه- و لا شي ء من هذين العنوانين متحقق في المقام؛ أمّا الدخول فهو منفى، و الجمع غير حاصل، (هذا ملخص كلامه). «2»

و هو حسن، و لكن العجب منه قدس سره من عدم ارتضائه بحرمة الجمع بين نكاح الام و البنت، فانّه بمجرّد الجمع يصح عقد البنت و يبطل عقد الام، لأنّها داخلة في قوله تعالى: ... وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ ...، اللّهم إلّا أن يقال نظره إلى صحة الجمع آنا ما، ثم بطلان عقد الام؛ و لعل صحة الجمع آنا ما أيضا خلاف ما هو مسلّم بين المسلمين. و الأحسن، النقض بمحرمات المصاهرة من ناحية الأب و الابن بالنسبة إلى المعقود لها، فتدبر جيدا.

[المسألة 26: إن زوّج الفضولي امرأة برجل من دون اطلاعها]

اشارة

المسألة 26: إن زوّج الفضولي امرأة برجل من دون اطلاعها، و تزوجت هي برجل آخر، صح الثاني و لزم و لم يبق محل لإجازة الأول؛ و كذا لو زوّج الفضولى رجلا بامرأة من دون اطلاعه و زوج هو بامها أو بنتها ثم علم.

تزويج الفضولي يبطل بتزويج الأصيل

(1) أقول: هذه المسألة أيضا من فروع المسألة 34، و حاصله بتفصيل منّا، أنّ ردّ عقد الفضولى على أقسام: تارة، يردّه لفظا؛ و اخرى، عملا بفعل المنافي مع علمه بعقد الفضولى؛ فان معناه صرف النظر عن الفضولي. لأنّ فعل أحد الضدين مع العلم بالآخر، معناه عدم إرادة الآخر. و ثالثة، باعدام موضوعه، بأن أتى بالضد من دون اطلاعه على عقد الفضولي؛ كالأمثلة التي ذكرها في متن التحرير. و كل ذلك سبب لنفى عقد الفضولي، و هو من القضايا التي قياساتها معها.

و لا فرق في ذلك بين القول بالكشف على أقسامه، و القول بالنقل. أمّا في فرض النقل فواضح لعدم تمامية العقد السابق، فيصح العقد الثاني؛ و أمّا على الكشف بأنواعه فقد عرفت أن الكشف إنّما يصح إذا لم يكن هناك ردّ أو ما يكون كالردّ من ابطال المحل فتأمل.

***

[المسألة 27: لو زوّج فضوليان امرأة، كل منهما برجل، كانت بالخيار]

اشارة

المسألة 27: لو زوّج فضوليان امراة، كل منهما برجل، كانت بالخيار في اجازة ايّهما شاءت؛ و إن شاءت ردّتهما، سواء تقارن العقدان أو تقدم احدهما على الآخر. و كذلك الحال فيما إذا زوّج أحد الفضوليين رجلا بامراة و الآخر بأمها أو بنتها أو اختها، فانّ له اجازة أيّهما شاء.

لو زوج فضوليان امرأة كل منهما برجل

(1) أقول: المسألة من الواضحات بحسب القواعد و لذا قلّ من تعرض لها؛ و حاصلها أنّه إذا كان هناك عقدان فضوليان على مورد واحد، أو على موردين متضادين، كالعقد على الام و البنت، فلا يجوز لمالك العقد اجازة كليهما لعدم قابلية المحل، فلا يكون زوجان لامرأة واحدة في زمن واحد؛ و كذا لا يجوز الجمع بين الام و البنت (و ما شابههما).

نعم، يجوز له اجازة أحدهما سواء كان هو المتقدّم أو المتأخر أو أحد المتقارنين؛ لان مجرد عقد الفضولي لا يكون مانعا لإجازة الآخر، بل صاحبه بالخيار بينهما، بل بين اجازة أحدهما أو ردّ الجميع.

و كذلك الحال إذا كان العقد أكثر من اثنين.

و يمكن الاستدلال له ببعض الاخبار الواردة في أبواب عقد النكاح، مثل ما رواه ابن بزيع، قال: سأله رجل عن رجل مات و ترك أخوين و ابنة و البنت صغيرة ...

(و حاصلها أنّ كل واحد من الأخوين، عقد الصغيرة لابنه، ثم كبرت البنت و قيل لها أي الزوجين أحب إليك، الأول أو الآخر؟ قالت: الآخر). و لكن يظهر من ذيلها أنّ العقد الثاني لم يكن فضوليا، بل كان بعد بلوغها؛ فالرواية خارجة عن محل الكلام، فدلالتها قاصرة و إن كان سندها قويا. و الأمر سهل بعد وضوح الحكم.

(و إلى هنا تنتهى أحكام الفضولي في النكاح).

***

[المسألة 28: لو وكلت رجلين في تزويجها فزوجها كل منهما برجل

اشارة

المسألة 28: لو وكلت رجلين في تزويجها فزوجها كل منهما برجل، فان سبق أحدهما، صحّ و لغى الآخر. و إن تقارنا، بطلا معا. و إن لم يعلم الحال؛ فانّ علم تاريخ أحدهما، حكم بصحته دون الآخر؛ و إن جهل تاريخهما، فان احتمل تقارنهما، حكم ببطلانها في حق كل من الزوجة و الزوجين؛ و إن علم عدم التقارن فيعلم

إجمالا بصحة احد العقدين و تكون المرأة زوجة لأحد الرجلين، و أجنبية عن أحدهما، فليس للزوجة أن تتزوج بغيرهما، و لا للغير أن يتزوج بها لكونها ذات بعل قطعا.

و أمّا حالها بالنسبة إلى الزوجين، و حالهما بالنسبة إليها، فالاولى أن يطلّقاها و يجدد النكاح عليها أحدهما برضاها.

و إن تعاسرا و كان في التوقف إلى أن يظهر الحال عسر و حرج على الزوجة، أو لا يرجى ظهور، فالمتجه تعيين الزوج منهما بالقرعة، فيحكم بزوجية من وقعت عليه.

لو زوج الوكيلان المرأة الموكلة برجلين

(1) أقول: الكلام هنا في عقد الوكيلين، و لا ربط لها بمسألة الفضولي؛ و ليعلم أنّه في المسالة صورا خمسة لا بدّ من بيان حكم كل واحدة منها:

[صور المسألة]
1- حكم المسألة اذا كانا معلومى التاريخ

إذا كانا معلومي التاريخ، و كان أحدهما سابقا على الآخر؛ كما إذا علم أنّ الوكيل الأول أوقع يوم الجمعة و الثاني يوم السبت؛ فالمشهور بين الأصحاب صحة الأول منهما. و به قال الشافعي و أبو حنيفة و أحمد و الحسن البصري و جماعة اخرى منهم؛ (على ما حكاه في التذكرة). «1»

و لكن عن بعض استثناء صورة واحدة، و هو ما لو دخل بها الثانى، فان المحكيّ عن انوار الفقاهة، ج 3، ص: 396

المبسوط أنّ فيه خلافا، فقد روى أصحابنا أنّه إن كان دخل بها الثاني، كان العقد له. «1»

و هو المحكى عن مالك و هو قول عمر أيضا، قال: إذا انكح الوليان فالأول احق ما لم يدخل بها الثاني؛ (على ما حكاه في التذكرة). و لا ينبغى الشك في أنّ الأول أقوى، لموافقته للقاعدة المسلّمة و هو أنّه إذا وقع العقد جامعا للشرائط من قبل الوكيل، صح النكاح، و معها لا يبقى مجال لعقد آخر، و العقد الثاني وقع على امرأة ذات بعل.

و استدل له أيضا بما رواه محمد بن قيس، عن الباقر عليه السّلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السّلام في امرأة انكحها أخوها رجلا، ثم أنكحها امها بعد ذلك رجلا ... فدخل بها. فحبلت فاحتكما فيها فاقام الأول الشهود، فالحقها بالأول، و جعل لها الصداقين ... الحديث «2».

بناء على أنّ الأخ و الام كانا وكيلين بشهادة عدم ذكر اجازة الفضولي فيها، و سند الحديث صحيح.

و من طرق العامة، ما عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

إذا انكح الوليان فالأول أحق. «3»

و قد استدل للثانى بما رواه وليد، بياع الاسقاط، قال: سئل الصادق عليه السّلام، و أنا عنده، عن جارية كان لها أخوان، زوّجها الأكبر بالكوفة، و زوّجها الأصغر بأرض اخرى. قال:

الأول بها أولى، إلّا أن يكون الآخر قد دخل بها، فهي امرأته و نكاحه جائز. «4»

و يرد عليه، أولا من ناحية ضعف السند؛ لأنّ الوليد مجهول الحال. و ثانيا، من ناحية الدلالة، فانّه من المحتمل قويا أن يكون المورد من قبيل الفضولي، و تقديم عقد الأكبر في مقام الاجازة من باب الاستحباب، و أنّه بمنزلة الأب؛ كما في الرواية. و أمّا صحة العقد بعد الدخول بها، من باب تحقق الاجازة فيه، دون غيره.

و استدل بعض العامة للقول الثاني بقول عمر (فيما عرفت) و لا حجة فيه؛ و الأمر سهل. و الله العالم.

2- صورة تقارن العقد

إذا تقارن العقدان، فالمعروف أيضا بطلان كليهما. و الدليل عليه واضح، فانّ صحة كليهما غير ممكن على المفروض، لتضادهما أو لعدم قابلية المحل لهما. (الأول في طرف الزوج، و الثانية في الزوجة) و الترجيح بلا مرجح، فاسد. فلا يبقى إلّا بطلان كليهما؛ و هو مقتضى الأصل. و ليس المقام من مقامات الرجوع إلى القرعة، لا لأنّه ليس لها واقع مجهول يستكشف بالقرعة، لما ذكرنا في محله من عدم اعتبار ذلك؛ بل لأنّ القرعة إنّما هي في الامور المشكلة و ليس هنا محل إشكال بعد اقتضاء القواعد، الفساد.

توضيح ذلك: أنّ القرعة- كما يظهر من موارد اجرائها- الواردة في كتاب الله و روايات المعصومين عليهم السّلام، على قسمين:

تارة، تجري لكشف الواقع المجهول، و قد وقع التصريح في رواياتها أنّه: ما من قوم فوضوا أمرهم إلى اللّه، ثم أقرعوا إلّا خرج

لهم الاصوب؛ و معناه أنّها طريق إلى الواقع المجهول إذا كان هناك واقع مجهول. مثل القرعة لكشف الغنم الموطوءة في قطيع غنم؛ أو كشف صاحب الولد إذا اشتبه ولد الشبهة بين اناس! و الزوج الواقعي فيما يأتي في ما نحن فيه.

و اخرى، تجرى لمجرّد حسم النزاع و قطع الخلاف؛ كما ورد في الأحاديث أنّه صلّى اللّه عليه و آله كان إذا أراد السفر، أقرع بين نسائه و من وقعت عليها القرعة كانت معه صلّى اللّه عليه و آله. أو إجراء القرعة في من أسلم عن خمس زوجات. أو القرعة بين الغنائم عند تقسيمها. أو القرعة بين الورثة أو الشركاء عند إرادة تقسيم المال المشاع. و أشباه ذلك.

و الظاهر أنّها في الشرع تجري في الأمرين، و إن كان عند العقلاء لا تكون إلّا لحسم النزاع. و لكن رواياتنا توكد على أنّها طريق إلى الواقع المجهول بعناية اللّه و منّه؛ فيكشف الواقع المجهول.

إذا عرفت ذلك، فاعلم؛ أنّ محل الكلام- و هو فرض معلومى التاريخ مع تقارن عقد الوكيلين- ليس له واقع مجهول؛ لأنّ نسبة العقدين إليها سواء. و لكن قد عرفت أنّ قاعدة القرعة لا تكون قاصرة من هذه الجهة، كما توهمه بعض من عاصرناه. إنّما الإشكال في أنّ انوار الفقاهة، ج 3، ص: 398

المقام ليس من مجاريها، لأنّها تجري في كل مورد لا يمكن حل المشكلة، لا بالقواعد و الاصول اللفظية، و لا بالاصول العملية؛ و في المقام تقتضى القاعدة و الأصل فساده.

3- إذا كان احدهما معلوم التاريخ

إذا كان أحدهما معلوم التاريخ و الآخر مجهوله، كما إذا علم أنّ الوكيل الأول أنشأ العقد في يوم الجمعة، و لم يعلم أنّ الثاني أنشأه في يوم الخميس أو السبت؛ و مقتضى القاعدة فيها

الحكم بصحة معلوم التاريخ. لأن أصالة عدم وقوع الآخر قبله جارية، و لا يعارضها الأصل في معلوم التاريخ لعدم جريان الأصل فيه.

إن قلت: إنّ هذا الأصل مثبت من جهتين: أولا، أنّ أصالة عدم وقوع العقد الأخر قبل معلوم التاريخ لا يثبت وقوعه بعده. و ثانيا، أنّ هذا الأصل لا يثبت وقوع معلوم التاريخ على امرأة غير ذات بعل، أى مقيّدا به.

قلنا: أمّا الأول، فمندفع بأنا لا نحتاج إلى إثبات وقوع المجهول بعد معلوم التاريخ، بل اللازم عدم وقوعه قبله، و هو يثبت بأصالة العدم. و أمّا الثاني، فلأنّ المقام من قبيل احراز حال الموضوع بالأصل ثم إجراء حكم عليه، كأصالة الطهارة في الماء ثم التوضى به.

4- إذا كانا مجهولى التاريخ و لكن يحتمل التقارن كما يحتمل التقدم و التأخر

الحكم فيه كالحكم في الصورة الثانية. لأنّ احتمال تقارنهما سبب للحكم بفسادهما، لا لأنّ أصالة عدم كل منهما قبل الآخر تثبت التقارن (لأنّه من الأصل المثبت قطعا)، بل لأنّ الشك في الصحة كاف في إجراء أصالة الفساد، و أصالة عدم تحقق علقة الزوجية مطلقا؛ و لكن هذا فرض نادر جدا لبعد التقارن التام.

5- اذا كانا مجهولى التاريخ و علم عدم التقارن

بقى الصورة الخامسة التي هي معركة الآراء أو الاحتمالات؛ فقد ذكر الشهيد الثاني فيه احتمالات:

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 399

الاولى، فسخ الحاكم، لعدم إمكان الترجيح.

الثانية، اجبارها على الطلاق تخلصا من الشبهة، و لا يقدح الاجبار لأنّه بحق.

الثالثة، القرعة، لأنّها لكل أمر مشكل؛ و هو أضعفها. «1»

و قال في التذكرة: إذا سبق واحد معين ثم اشتبه و أشكل الأمر؛ وقف الحال إلى أن يظهر و يتبين، و لا يجوز لواحد منهما وطؤها و لا لأجنبي أن يزوجها قبل أن يطلقاها أو يموتا أو يطلق أحدهما و يموت الثاني؛ و به قال الشافعي.

و قال ابو حنيفة و مالك و أحمد، يفسخ الحاكم النكاحين معا ثم تزوج من شاءت منهما أو من غيرهما.

و عن أحمد رواية اخرى أنّه يقرع بينهما، فمن وقعت له القرعة، أمر الآخر بالطلاق، ثم يجدد القارع النكاح إن اختارت، و لا بأس به. «2»

و أضاف في العروة وجها آخر و هو خيار الفسخ للزوجة و قال في المستمسك: لم أقف عاجلا على قائل به. «3»

فتحصل أنّ هناك أقوالا أو وجوها:

1- التوقف و الاحتياط باجتناب الزوجة و الزوج إلى أن يظهر الحال أو يموت الزوجان أو يطلقا أو يطلق أحدهما ثم جدد النكاح بالآخر، و هو قول الشافعي و حكي عن المبسوط و التحرير.

2- فسخ الحاكم النكاحين، و قد اختاره العلّامة في القواعد

(على ما في المستمسك)، و به قال معظم أئمة العامة، أبو حنيفة و مالك و أحمد.

3- فسخ الزوجة، و قد عرفت عدم الوقوف على قائل به.

4- اجبار الزوجين على الطلاق، و ذكره احتمالا في المسالك.

5- تعيين الزوج بالقرعة، و اختاره في العروة و في تحرير الوسيلة.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 400

6- يقرع بينهما، فمن وقعت له القرعة يؤمر الآخر بالطلاق ثم يجدد هو النكاح، و هو رواية اخرى عن أحمد، و نفى عنه البأس في التذكرة فيما عرفت.

إذا عرفت ذلك، فاعلم؛

إنّ الوجه الأول هو مقتضى القواعد، فان المقام من قبيل العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة و مقتضاه الاحتياط التام باجتنابها عنهما و عن غيرهما، و اجتنابهما عنها فقط.

و لكن بقائها على تلك الحالة عسر و حرج شديد و ضرر عليها غالبا؛ فانّ اللازم استيذانها مثلا للخروج أو السفر، عنهما، و أمثال ذلك، مع كونها بلا زوج عملا. بل قد يكون الحرج على الزوجين أيضا لو قلنا بوجوب نصف المهر على كل منهما. و كذلك النفقة، لأنّ الحق مشترك بينهما.

إن قلت: أولا، وجوب النفقة فرع التمكين، و هنا غير حاصل. و ثانيا، يكون المقام مثل واجدى المنى في الثوب المشترك، حيث ينفى كل واحد وجوب الغسل عليه، فهنا ينفى كل واحد، الزوجية عن نفسه، فلا يلتزم بلوازمه.

قلنا: عدم التمكين لمانع شرعي الهي، لا يمنع عن وجوب الانفاق، كما في زمان العادة و النفاس؛ و هنا كذلك، فانّ الشارع منعه من ذلك. و ما ذكروه في مسألة واجدي المني في الثوب المشترك، إنّما هو في حق الله، و لكن هنا من حق الناس، و لا يبعد وجوب التدارك بالتشريك، كما إذا علم زيد و عمر و ان أحدهما

اتلف مال فلان، (مثلا كلاهما ألقى حجرا فأصاب واحد منهما إنسانا أو حيوانا)، فانّ التدارك بما ذكرنا غير بعيد.

أضف إلى ذلك كلّه، من البعيد في حكمة الشرع جعل المرأة متحيّرة إلى آخر عمرها؛ و لو فرض عدم حصول حرج عليها. فهذا القول ضعيف جدا.

و أمّا الوجه الثاني و هو فسخ الحاكم، فقد يقال أنّه لدفع الضرر و الحرج. كيف و هو منصوب للدفاع عن المظلومين و اغاثة الملهوفين، فلا بدّ له من نجات المرأة المظلومة هنا.

إن قلت: إنّ الضرر لم يحصل من حكم الشرع بالزوجية، بل حصل من حكم العقل انوار الفقاهة، ج 3، ص: 401

بوجوب الاحتياط عند الجهل بالتاريخ، فالمقام خارج عن مصب أدلة لا ضرر.

قلنا: الضرر و إن كان حاصلا من حكم العقل، و لكن منشأه حكم الشرع، فلو رفع الشارع حكمه و أجاز للحاكم الفسخ أو الطلاق، لم يبق موضوع لحكم العقل. فالضرر بهذا المعنى مستند إلى حكم الشرع في هذا الفرض.

و لكن هذا القول إنّما يتم، لو لم يكن لحل المشكلة طريق أسهل و أقرب من ذلك، و ستعرف الحال فيه.

أمّا الوجه الثالث و هو فسخ الزوجة، يدل عليه أيضا عموم لا ضرر، بناء على أن لا ضرر كما ينفي الحكم الضرري، يثبت ما، لولاه لحصل الضرر؛ (كما في مورد قلع شجرة سمرة، لدفع ضرره، بل و ايجاب الاستيذان عليه). مضافا إلى إمكان القول بأنّ لزوم عقد النكاح هنا مرتفع، و هذا من قبيل نفى الحكم، و لازمه جواز الفسخ.

هذا، و لكن قبول هذا القول فرع عدم وجود طريق أسهل و أقرب.

أما الوجه الرابع و هو اجبار الزوجين على الطلاق، فهو أيضا يرجع إلى قاعدة لا ضرر، فانّ اجبارهما طريق لدفع الضرر

عن الزوجة.

و فيه، أنّ الركن الركين في العقود و الايقاعات هو صدورها عن طيب النفس، و بدونه لا يصدق العقد و لا الايقاع واقعا، و لا يكون إلّا لقلقة اللسان. فالاجبار و إن كان بحق، مناف لمفهوم العقد و الايقاع، فلا اعتبار بهذا الطلاق، بل اللازم الرجوع إلى الحاكم الذى هو ولي الممتنع؛ و لذا لا يجبر المالك في موارد الاحتكار على البيع، بل يبيع عنه الحاكم الشرعي أو من هو من قبله، و كذا الحال في اجراء الطلاق بيد الحاكم، إذا جعلها الزوج معلقة.

و منه يظهر حال الوجه السادس، فان فيه الاجبار أيضا و إن كان بعد القرعة.

أمّا الوجه الخامس أي تعيين الزوج بالقرعة، فهو مقتضي عمومات القرعة، لأنّها لكل أمر مشتبه أو مشكل، و كلا العنوانين صادقان في المقام. و لكن يرد عليه أوّلا، ما ذكره في جامع المقاصد، من أن القرعة لا مجال لها في الامور التي هي مناط الاحتياط التام، و هي الأنكحة التي منها الولد. و ثانيا: أنّها تجرى فيما إذا لم يوجد طريق آخر، و الطريق هنا

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 402

موجود، و هو الرجوع إلى فسخ الحاكم المنصوب لذلك، أو فسخ الزوجة بحكم قاعدة لا ضرر، و لا أقل من الشك في شمول عمومات القرعة للمقام.

و لعل الأولى من الجميع، هو الوجه الثانى، أي إجراء الطلاق من الحاكم الشرعي بعد امتناع الزوجين منه، و كون الحاكم وليّا للممتنع لأخذ الحق منه، و وليا للمظلوم بدفعه إليه؛ و إن كان الاحوط انضمام فسخ الزوجة اليه، بل و اجبارهما بالطلاق أيضا.

[المسألة 29: لو ادعى أحد الزوجين سبق عقده، فإن صدّقه الآخر]

اشارة

المسألة 29: لو ادعى احد الزوجين سبق عقده، فان صدّقه الآخر، و كذا الزوجة، أو صدقه أحدهما و قال الآخر:

لا أدري؛ فالزوجة لمدعى السبق. و إن قال كلاهما: لا أدري؛ فوجوب تمكين الزوجة من المدعى بل جوازه محل تأمل، إلّا إذا رجع عدم دراية الرجل إلى الغفلة حين إجراء العقد، و احتمل تطبيقه على الصحيح من باب الاتفاق.

و إن صدقه الآخر، و لكن كذبته الزوجة، كانت الدعوى بين الزوجة و كلا الزوجين، فالزوج الأول يدعى زوجيتها و صحة عقده، و هي تنكر زوجيته و تدعى فساد عقده؛ و تنعكس الدعوى بينها و بين الزوج الثاني، حيث إنّه يدعى فساد عقده، و هي تدعي صحته؛ ففي الدعوى الأولى تكون هي المدّعية و الزوج هو المنكر، و في الثانية بالعكس؛ فان أقام البيّنة على فساد الأول المستلزم لصحة الثاني، حكم لها بزوجيتها للثاني دون الأول.

و إن أقام الزوج الثاني بينة على فساد عقده، يحكم بعدم زوجيتها له و ثبوتها للأول. و إن لم تكن بيّنة، يتوجه الحلف إلى الزوج الأول في الدعوى الاولى و إلى الزوجة في الدعوى الثانية. فان حلف الزوج الأول و نكلت الزوجة، تثبت زوجيتها للأول. و إن كان العكس بأن حلفت هي، دونه، حكم بزوجيتها للثاني. و إن حلفا معا فالمرجع هي القرعة. هذا إذا كان مصب الدعوى صحة العقد و فساده، لا السبق و عدمه، أو السبق و اللحوق، أو الزوجية و عدمها، و بالجملة الميزان في تشخيص المدعى و المنكر غالبا مصب الدعوى.

و إن ادعى كل من الزوجين سبق عقده، فان قالت الزوجة: لا أدري؛ تكون الدعوى بين الزوجين، فان أقام أحدهما بيّنة دون الآخر، حكم له، و كانت الزوجة له. و إن اقام كلّ منهما بيّنة، تعارضت البيّنتان، فيرجع إلى القرعة، فيحكم بزوجية من وقعت عليه. و إن لم

تكن بيّنة، يتوجه الحلف إليهما، فان حلف أحدهما حكم له، و إن حلفا أو نكلا، يرجع إلى القرعة. و إن صدّقت المرأة احدهما، كان أحد طرفي الدعوى من لم تصدقه الزوجة، و الطرف الآخر الزوج الآخر مع الزوجة، فمع إقامة البيّنة من أحد الطرفين أو من كليهما، الحكم كما مرّ. و أمّا مع عدمها و انتهاء الأمر إلى الحلف، فان حلف من لم تصدقه الزوجة،

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 404

يحكم له على كل من الزوجة و الزوج الآخر. و أما مع حلف من صدقته، فلا يترتب على حلفه رفع دعوى الزوج الآخر على الزوجة، بل لا بدّ من حلفها أيضا.

في ادّعاء كل من الزوجين سبق عقده

(1) أقول: هذه المسألة من فروع مسألة الوليين أو وكيلين؛ و لعلّ أول من تعرض بها هو الشيخ في المبسوط، «1» ثم ذكرها العلّامة في التذكرة، «2» و الفاضل الهندي في كشف اللثام، «3» و المحق الكركي في جامع المقاصد، «4» و غيرهم؛ و لكنهم إنّما تعرضوا لصورة دعوى كل من الزوجين سبق عقده، و ليعلم أنّ هذه المسألة ناظرة إلى مقام الاثبات بينما كانت المسألة السابقة ناظرة إلى مقام الثبوت، و المدرك الوحيد في المسالة هو القواعد المقررة في أبواب الدعاوي و إلّا لم يرد في نفس المسألة نصّ. و لها شقوق كثيرة غامضة، و حاصلها ببيان واضح ان للمسألة صورتين:

[للمسألة صورتان
الصورة الأولى: أحد الزوجين يدعي سبق عقده

و لها أربع حالات:

1- الزوج الأول يدعى السبق، و الزوج الثاني و كذا الزوجة يصدقه؛ و من الواضح أنّه حينئذ تثبت الزوجية بينها و بين الزوج الأول، لانحصار الحق فيهما (في الزوج و الزوجة)، و اعترافها به، و عدم وجود معارض له و هو الزوج الثاني إذا خالف. و قد اعترض على هذا الدليل الراجع إلى قاعدة الاقرار، في المستمسك، بأنّ أحكام الزوجية قد تكون بضرر وارثهما فالاقرار يكون على غيرهما لا على أنفسهما فقط، و العموم لا

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 405

يثبت ذلك، ثم قال: العمدة في الحكم المذكور، الإجماع المعتضد بالسيرة القطعيّة. «1»

و لكن الانصاف، أنّ الاقرار إذا كان أوّلا و بالذات يوجب تكليفا على المقرّ و يكون بضرره، كان جائزا؛ و لا ينظر إلى بعض اللوازم الحاصلة منه في المراحل التالية؛ و إلّا أشكل الأمر في جل الأقارير كالإقرار بالهبة، أو تمليك ماله للغير، أو شبه ذلك، و في جميع موارد الزوجية، فانها لا تنفك عن بعض اللوازم على غيره.

2- إذا

صدّقه احدهما (من الزوج الثاني أو الزوجة)، و قال الآخر: لا أدري؛ فالحكم فيه كما في الصورة السابقة؛ و ذلك أنّه إن صدّقه الزوج الثاني (و قالت الزوجة: لا أدرى)، فالزوجة له؛ لأنّ المفروض تحقق النكاح على زوجة لا مانع لها، و كان الأمر بيد الوكيل.

و إن صدقته الزوجة، و قال الثاني: لا أدري؛ لانحصار الحق فيهما بدون معارض.

3- إذا قال كلاهما: لا أدري؛ (أي الزوج الثاني و الزوجة)، فقد ذكر في المتن أنّ وجوب تمكين الزوجة من المدعى، بل جوازه، محل تأمّل إلّا إذا رجع عدم دراية الرجل، إلى الغفلة حين إجراء العقد، و احتمل تطبيقه على الصحيح من باب الاتفاق؛ و الظاهر أنّه ناظر إلى إجراء اصالة الصحة في الذي يدعى السبق، و عدم إجرائه في حق من يقول: لا أدري؛ لقوله عليه السّلام في قاعدة الفراغ، هو حين يتوضأ أذكر؛ و هذا التعليل إنّما يجري إذا لم يكن غافلا؛ أمّا إذا كان ذاكرا، فأصالة الصحة جارية من الجانبين، فتتساقطان.

4- إذا صدّقه الزوج الآخر، و كذبته الزوجة، و معناه أنّ الزوج الآخر موافق لدعوى الزوج الأول بسبق عقده، و لكن الزوجة لا توافقه، بل تدعى فساد العقد الأول و صحة العقد الثاني. كانت الدعوى بين كلا الزوجين و الزوجة، و تنحل إلى دعويين:

أحدهما: بين الزوج الأول و الزوجة، فهو يدعى صحة عقده و هي تدعي فساده؛ و حيث أنّ قول المدعى للصحة، موافق للأصل أي أصالة الصحة، فهو منكر؛ و قول المدعى للفساد، مخالف للأصل، فهي مدّعية.

ثانيهما: بين الزوج الثاني و الزوجة، و هو يدعى فساد العقد الثاني و هي تدعي صحته؛

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 406

فالمرأة منكرة و الرجل مدعى، فاللازم الرجوع إلى

أحكام المدعى و المنكر من أنّ البيّنة على المدعي و اليمين على من أنكر. ففى الدعوى الاولى، إن أقامت الزوجة البيّنة على فساد العقد يحكم بفساده؛ و لازمه صحة العقد الثاني؛ (لصدوره عن أهله و وقوعه في محله).

و هكذا لو أقام الزوج الثاني بيّنة على فساد العقد الثاني، حكم به؛ و لازمه وقوع الأول صحيحا.

و إذا لم تكن هناك بيّنة، فاللازم في الصورة الاولى، حلف الزوج الأول بصحة عقده؛ و في الدعوى الثانية، حلف الزوجة بصحة العقد الثاني؛ و حينئذ أمّا يحلف كلاهما أو أحدهما دون الآخر. فهنا صور ثلاث:

أولها: يحلف الزوج الأول على صحة عقده، و لا يحلف المرأة، فيحكم بصحة العقد الأول بمقتضى القاعدة المذكورة.

ثانيها: تحلف الزوجة بصحة العقد الثاني، و لا يحلف الزوج الأول، فيحكم بصحة العقد الثاني.

ثالثها: يحلفان جميعا، فيحكم بصحة العقدين ظاهرا، فتكون المسألة مصداقا للمسألة السابقة، فالقائلون بالقرعة هناك يقولون بها هنا، و من قال بفسخ الحاكم أو طلاقه، يقول به هنا.

كل ذلك للقواعد المعروفة في أبواب الدعاوي.

هذا كله بناء على معرفة المدعى من المنكر بمصب الدعوى، (و مصب الدعوى هنا صحة العقد و فساده)، فمن كان قوله في مصبّ الدعوى موافقا للأصل فهو منكر، و من كان مخالفا فهو مدع.

توضيح ذلك، أنّه وقع الكلام، في محلّه من كتاب القضاء، في تعريف المدعي و المنكر حتى يكون على الأول البيّنة، و على الثاني اليمين، على أقوال:

1- من كان قوله موافقا للأصل.

2- من كان قوله موافقا للظاهر.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 407

3- من لو ترك ترك.

4- من يدعى أمرا خفيا.

5- المراد منه معناه العرفي، و هو من يدعي شيئا على غيره و يكون ملزما بإثباته عند العقلاء. (كأن يدعى شيئا من

مال أو يدعي وفاء دين أو أداء دين).

و لا شك أنّ الخامس غالبا ينطبق على الثلاثة الأولى، و لو فرض عدم انطباقه عليها، فالحق هو الخامس؛ لعدم وجود الحقيقة الشرعية فيه، فلا بدّ من الرجوع إلى العرف العام في معناه بعد ورود هذا العنوان في روايات مستفيضة.

ثم هنا كلاما آخر، و هو أنّ المدار في معرفة المدعي و المنكر، هو طرح الدعوى أو مصب الدعوى؛ و المراد بطرح الدعوى، هو عنوانه؛ و المراد بالمصب، هو نتيجة الدعوى و مآله؛ ففي ما نحن فيه إذا كان مآل الدعوى إلى صحة العقد و فساده، كان المدعى للصحة منكرا، و المدعى للفساد مدعيا. أمّا إذا كان النظر إلى طرح الدعوى، فقال الأول: العقد السابق كان عقدي؛ و قال الثاني: بل عقدك كان العقد اللاحق؛ فكل منهما مدع لوقوع أمر مناف للأصل، فان السبق و اللحوق كلاهما أمران حادثان مسبوقان بالعدم.

و أمّا قوله: الميزان في تشخيص المدعى و المنكر غالبا مصب الدعوى؛ يمكن أن يكون إشارة إلى أنّه لو كان بينهما مثلا شرط في عقد خارج لازم، أنّ زيدا لو سبق في عقده على عمرو، كان عليه كذا و كذا؛ فكانت الدعوى في السبق و اللحوق. و لكن هذا أمر نادر جدّا؛ فتأمل.

الصورة الثانية: إن ادعى كل من الزوجين سبق عقده

و هذا هو الذي يبحث فيه في كلمات القوم، و لها حالتان:

الأولى، أن تكون الزوجة غير مدعية بل تقول: لا أدري أيّهما كان سابقا؛

الثانية، أن تكون مدعية و موافقة لأحدهما.

أمّا الاولى، فالحكم فيها واضح لأنّ الدعوى فيها بين الزوجين فقط، و كل منها مدع من جهة و منكر من جهة اخرى؛ فلو أقام أحدهما البيّنة على سبقه، حكم له فتكون انوار الفقاهة، ج 3، ص: 408

الزوجة له

دون غيره؛ و لو أقاما البيّنة على مدعاهما، تعارض و رجع الأمر إلى المسألة السابقة أمّا القرعة أو طلاق الحاكم أو غير ذلك. لأنّ المفروض أنّ العقد صدر من الوكيلين أو الوليين غير متقارنين، فأحدهما صحيح بالعلم الإجمالي، و لا بدّ من تعينه باحد الوجوه الماضية.

و إن لم يقيما بيّنة، فالأمر يعود إلى الحلف، فإمّا يحلف أحدهما فقط، يحكم له؛ و إن حلفا أو نكلا معا، يرجع إلى القرعة؛ للعلم الإجمالى الذي مرّ ذكره.

هذا كله إذا لم تشترك المرأة في الدعوى، فان اشتركت فيها و صدقت أحد الزوجين (و هي الحالة الثانية)، كانت الدعوى بين أحد الزوجين، و الزوج الآخر مع الزوجة المصدقة له؛ و الحكم فيها أيضا واضح لأنّ كل واحد من الأطراف هنا مدع و منكر، مدع لزوجيته و منكر لزوجية الآخر، فان أقام واحد من هؤلاء بيّنة دون غيره، كفت في ختم الدعوى كما هو ظاهر؛ و إن اقيمت من الطرفين، يرجع إلى القرعة أو طلاق الحاكم أو شبهه، على اختلاف المبانى في المسألة السابقة.

و إن انتهى الأمر إلى الحلف، لعدم إقامة البيّنة، فان حلف الزوج الذي لم تصدقه الزوجة، دون الطرف المقابل، حكم له، فالزوجة زوجته؛ و لا حقّ للأخر فيها.

و إن حلف الزوج الآخر الذي صدقته الزوجة، فهل هو كاف في رفع دعوى الزوج الأول عن كليهما، أو يجب عليها أيضا الحلف؟ الذي اختار في المتن، وجوب الحلف عليهما؛ و لكن لقائل أن يقول، إذا حلف الزوج و ثبت سبق عقده و كانت الزوجة له، لم يبق محل للحلف الثاني. و بعبارة اخرى، الملازمة بين الدعويين توجب كفاية الحلف في أحدهما عن الآخر، فانّه لا معنى لسقوط الدعوى عن الزوج

و بقائها على الزوجة. و إن شئت قلت: الزوجية امر بسيط و إن كانت قائمة باثنين، فإذا ثبتت بسبب الحلف، لا يبقى محل لدعوى آخر.

***

[المسألة 30: لو زوّج أحد الوكيلين عن الرجل، له امرأة، و الآخر بنتها، صحّ السابق

اشارة

المسألة 30: لو زوّج أحد الوكيلين عن الرجل، له امرأة، و الآخر بنتها، صحّ السابق و لغى اللاحق. و مع التقارن، بطلا معا. و إن لم يعلم السابق، فان علم تاريخ احدهما حكم بصحته دون الآخر؛ و إن جهل تاريخهما، فان احتمل تقارنهما يحكم ببطلان كليهما؛ و إن علم بعدم التقارن فقد علم بصحة أحد العقدين و بطلان أحدهما، فلا يجوز للزوج مقاربة واحدة منهما؛ كما أنّه لا يجوز لهما التمكين منه. نعم، يجوز له النظر إلى الأمّ، و لا يجب عليها التستر عنه، للعلم بأنّه إمّا زوجها أو زوج بنتها. و أمّا البنت، فحيث إنّه لم يحرز زوجيتها، و بنت الزوجة إنّما يحل النظر إليها إن دخل بالأمّ و المفروض عدمه، فلم يحرز ما هو سبب لحلية النظر إليها، و يجب عليها التستر عنه. نعم لو فرض الدخول بالامّ و لو بالشبهة كان حالها حال الأمّ.

إذا عقد أحد الوكيلين على أمّ و الآخر على بنتها

(1) أقول: هذه المسالة مرتبطة بالمسألتين السابقتين، و في الواقع هاتان كانتا ناظرتين إلى أمر الزوج إذا اشتبه بين رجلين، و هذه المسألة ناظرة إلى أمر الزوجة إذا اشتبهت بين امرأتين.

و يأتي فيها جلّ ما مرّ في المسألة 28، و التفاوت بينهما في امور قليلة سنشير اليها.

و حاصل الكلام، أنّه إذا عقد أحد الوكيلين على أمّ، و الثاني على بنتها، و من الواضح عدم صحة كليهما معا، بل يكون أحد العقدين باطلا، و حينئذ تكون للمسألة صور:

1- إذا علم التاريخان، فيصح العقد الأول، سواء كان على الام أو على البنت و يبطل الثاني.

2- إذا علم تاريخ أحدهما فقط، فيحكم بصحة معلوم التاريخ، لأنّه يستصحب عدم وقوع العقد على الثاني، فيصح الأول و لا يبقى معه محل للثاني.

3- إذا

كانا مجهولى التاريخ و فيه احتمالان:

الأوّل، إذا احتمل التقارن، فيحكم ببطلان كليهما بمقتضى أصالة الفساد و عدم جريان انوار الفقاهة، ج 3، ص: 410

الأصلين أو تعارضهما.

الثاني، إذا لم يحتمل التقارن، فيحكم بصحة أحدهما و فساد الآخر، للعلم الإجمالي بذلك.

و مقتضى العلم الإجمالي من ناحية الزوج، عدم جواز المقاربة لواحد منهما. و أمّا النظر، فيجوز إلى الام إمّا لأنّها زوجته أو أم زوجته، (إذا كان النظر بغير تلذذ و شهوة، و إلى الأعضاء التي يتعارف كشفاه للمحارم). و لا يجوز نظره إلى البنت لأنّ جواز النظر إليها من باب الربائب، مشروط بالدخول إلى الامّ. نعم، لو دخل بها من باب الشبهة، حلت النظر بلا تلذذ و ريبة.

***

بقي هنا امور:
الأول: هل يجوز للمرأتين التزويج إلى الغير أم لا؟

مقتضى القاعدة المعروفة في باب العلم الإجمالي من أنّه إذا كان العلم الإجمالي بين مكلفين لا يجب عليهما الاحتياط، عدم وجوب الاحتياط هنا على المرأتين؛ بل يجوز لكل واحدة منهما، النكاح مع الغير، و لا يضرهما العلم بأنّ واحدة منهما زوجة حرام للغير.

كواجدي المني في الثوب المشترك.

و السرّ فيه، أنّ العلم بتوجه خطاب إليه أو إلى غيره، غير مفيد. لأنّ خطاب الغير خارج عن محل ابتلائه، فهو كالعلم بنجاسة إنائه أو إناء غيره ممّا هو خارج عن محل ابتلائه.

اللّهم إلّا أن يقال، إنّ الاحتياط المؤكد المطلوب في النكاح يمنع عن ذلك هنا، بخلاف مثل الغسل أو شبهه؛ و هو غير بعيد عن مذاق الفقه.

الثانى: إذا قلنا بالاحتياط الموجب للعسر و الحرج فما حكمهما؟

إذا ثبت وجوب الاحتياط عليهما الموجب للعسر و الحرج عليهما، يأتي الوجوه السابقة هنا، إذا لم يرض الزوج بطلاق زوجته الواقعي، من القرعة أو اجباره على الطلاق انوار الفقاهة، ج 3، ص: 411

أو طلاق الحاكم أو غير ذلك. فاللازم الأخذ باحدها، كلّ على مبناه.

الثالث: هل يجب على الزوج مهر المسمى و النفقة للزوجة الواقعية؟

مقتضى القاعدة وجوب المهر و لو طلقها بسرعة؛ غاية الأمر يجب عليه نصف المهر. و حيث إنّ المالك له مجهول، يجب التنصيف، لقاعدة العدل و الانصاف كما في سائر الاموال المرددة؛ و لا تصل النوبة إلى القرعة بعد وجود القاعدة.

نعم، لو كان الوكيلان أو أحدهما سببا للجهل بالتاريخ، لا يبعد جواز رجوعه إليه، فانّه السبب للضرر.

و أمّا النفقة، فوجوبها أيضا غير بعيد، بعد عدم اقدام الزوج على الطلاق، و عدم تمكن المرأتين من النكاح. بل لا يبعد وجوب النفقة التامة عليه لكل منهما، لأنّه هو السبب في بقاء المرأتين على عدم النكاح، فاجراء قاعدة العدل و الانصاف أو القرعة هنا، بعيد جدا.

الرابع: يجرى كثير من الفروض المذكورة في تداعى الزوجين، في تداع الزوجتين

بان تدعى الام مثلا سبق نكاحها، أو البنت كذلك، و قد يوافق الزوج لإحداهما؛ و قد يقول: لا أدرى؛ و الظاهر جريان كثير من الأحكام السابقة هنا أيضا.

الخامس: بعض الروايات

هناك بعض الروايات الدالة على أنّه إذا تقارن العقدان المتضادان يكون الزوج مخيرا في امساك أيّتهما شاء. (و الحال أنّ مقتضى القاعدة بطلان كليهما، كما عرفت).

و هي ما رواه جميل بن دراج، في الصحيح، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، في رجل تزوج اختين في عقدة واحدة. قال: يمسك أيّتهما شاء و يخلّى سبيل الاخرى. و قال، في رجل انوار الفقاهة، ج 3، ص: 412

تزوج خمسا في عقدة واحدة؛ قال: يخلّى سبيل أيّتهن شاء. «1»

و مثله في خصوص عقد الاختين رواية اخرى عن جميل بن دراج، عن بعض أصحابه. «2»

و قال العلّامة الخوئي، فيما حكى عنه في مستند العروة، في شرح المسألة 44، من المحرمات بالمصاهرة: أنّ الرواية صريح الدلالة و صحيح السند و أنّه لا مانع من العمل بها. و اختار هو العمل بها. «3»

و لكن الظاهر، إعراض الأصحاب عن العمل بها، و لا يضر ذلك من لم يعتن بشهرة الفتوى بين الأصحاب؛ و لكنه مخالف لما اخترناه و سددناه في الاصول من سقوط الأخبار عن الحجية باعراض المشهور؛ مضافا إلى إمكان حمل الرواية على كون امساك أيّتهما شاء، بعقد جديد؛ فلا يكون صريحا في المدعى و إن كان له بعض الظهور. و كيف كان لا يمكن الركون في مخالفة القواعد على رواية شاذة.

و يؤيّد ذلك، ما رواه في دعائم الإسلام، عن جعفر بن محمد عليهما السّلام، أنّه سئل عن رجل تزوج اختين أو خمس نسوة في عقدة واحدة، إلى أن قال: فان لم يعلم من بدء

باسمائهن منهن، بطل النكاح كلّه. «4»

***

[فصل في أسباب التحريم

اشارة

(1) فصل في أسباب التحريم أعني ما بسببه يحرم و لا يصح تزويج الرجل بالمرأة، و لا يقع الزواج بينهما؛ و هي امور: النسب، و الرضاع، و المصاهرة، و ما يلحق بها، و الكفر، و عدم الكفاءة، و استيفاء العدد، و الاعتداد، و الإحرام.

أسباب التحريم و عددها (2) أقول: اختلف القوم في بيان تعداد أسباب التحريم، فمنهم من قال أنّها ستّة، مثل المحقق (قدس سره)، قال: أسباب التحريم و هي ستة. «1»

و مراده من الستة كما يظهر من طيّات الشرائع: 1- النسب 2- الرضاع 3- المصاهرة 4- استيفاء العدد 5- اللعان 6- الكفر.

و لكن صرّح الشهيد الثاني ذيل هذا الكلام، أنّ حصر المحرمات في ستة بحسب ما اقتضاه المقام، و إلّا فالأسباب أكثر من ذلك مذكورة في تضاعيف الكتاب (أيّ كتاب الشرائع نفسه)، انتهى. «2» و هو كذلك كما ستعرف في المباحث التالية.

و منهم كالماتن (قدس سره) أنهاها إلى ثمانية أو تسعة، و بينه و بين ما ذكره المحقق عموم من وجه، كما لا يخفى على الخبير.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 414

و منهم من أنهاها إلى أحد و عشرين- كصاحب الجواهر، حيث قال:

النسب، ثم الرضاع، و المصاهرة (مثل حرمة أم الزوجة، و بنتها مع الدخول بالام).

و النظر، و اللمس (و المراد بهما نظر الأب إلى أمته بما يحرم على ابنه و لمسها، فانّه يوجب تحريمها على الولد).

و الزنا بها (مثل الزنا بذات البعل).

و الزنا بغيرها (مثل الزنا بالعمة و الخالة، فانّه يوجب تحريم بنتهما على الزانى).

و الايقاب (أي اللواط فانّه يوجب تحريم اخت الموطوء و امه و بنته على الواطئ).

و الافضاء، و الكفر.

و عدم الكفاءة (و كأنّه إشارة إلى عقد

الولي البنت بمن ليس له كفو عرفا، فانّه حرام لعدم المصلحة أو للمفسدة فيه).

و الرق (و يمكن أن يكون اشارة إلى حرمة الأمة على الحرّ إلّا بالشرطين: عدم القدرة على مهر الحرّة و خوف العنت).

و تبعيض السبب (يمكن أن تكون إشارة إلى اجازة أحد الموالي في النكاح دون الآخرين أو عدم اجازة العمة و الخالة في العقد على بنت الأخ و بنت الاخت).

و استيفاء العدد (أي فوق أربع نسوة).

و الاحصان (أي كون المرأة ذات بعل، فانه يحرم عليها غير بعلها).

و اللعان (و المرأة بعد اللعان تكون حراما مؤبدا).

و قذف الصّماء و الخرساء (فانّه يوجب حرمتها أبدا).

و الطلاق (أي الطلاق التاسعة مثلا، أو الثالثة بغير محلل).

و الاعتداد (أي كون المراة في عدّة الغير).

و الاحرام (أي نكاح المرأة عالما في حال الإحرام).

و التعظيم (مثل حرمة زوجات النبي صلّى اللّه عليه و آله على غيره).

هذا، و لكن يمكن ادغام كثير من هذه الأسباب في عنوان واحد كالنظر و اللمس و

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 415

الزنا بها و بغيرها و الايقاب و غيرها، فانّها تندرج تحت عنوان ما يلحق بالمصاهرة، و الأمر سهل. و العمدة من بينها النسب و الرضاع و المصاهرة و ما يلحق بها؛ و لنرجع فيها إلى ما افاده في المتن.

***

[القول في النسب

اشارة

(1) القول في النسب يحرم بالنسب سبعة أصناف من النساء على سبعة أصناف من الرجال: الام بما شملت الجدّات، عاليات و سافلات، للأب كنّ أو لام؛ فتحرم المرأة على ابنها، و على ابن ابنها، و ابن ابن ابنها، و على ابن بنتها، و ابن بنت بنتها، و ابن بنت ابنها، و هكذا. و بالجملة تحرم على كل ذكر ينتمى إليها بالولادة، سواء كان بلا واسطة أو

بواسطة أو وسائط، و سواء كانت الوسائط ذكورا أو اناثا أو بالاختلاف ...

يحرم بالنسب سبعة أصناف

(2) أقول: و الظاهر أنّ المسألة إجماعيّة بحيث لا يحتاج إلى نقل الأقوال فيها، و لذا ارسل غير واحد منهم المسألة ارسال المسلمات من دون ذكر الأقوال فيها.

قال النراقي (قدس سره) في المستند بعد ذكر المحرمات النسبية بأجمعها: و تحريم هؤلاء مجمع عليه بين الامّة، بل عليه الضرورة الدينية و مصرح به في الجملة في الكتاب و السنة. «1»

و قال في الرياض، بعد انكار دلالة الاية لإثبات تحريمهن جميعا ما نصّه: فاذن، الحجة التامة إجماع الامّة. «2»

و يظهر من هذه الكلمات أنّه لا خلاف بين جميع علماء الإسلام في ما ذكر بل هو مرتكز في أذهان جميع المتشرعة.

و يدل عليها إجمالا قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمَّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ الْأَخِ وَ بَناتُ الْأُخْتِ .... «3»

فهذه الاصناف السبعة محرمة بنص القرآن و لكن وقع الكلام بينهم في أنّ الحكم انوار الفقاهة، ج 3، ص: 417

المذكور بجميع فروعه يستفاد من الآية، أو لا بدّ في التعميم من الرجوع إلى السنة أو الإجماع؛ و هو مبنى على أنّ المراد من الام خصوص من ولدتنا بلا واسطة أو هى اعم؟

هل الام تشمل الجدة و أم الجدة و ما علت؟

لا إشكال في أنّ لفظ الام بحسب اللغة لا تشمل الجدة و أم الجدة و ما علت، كما أنّ الأب لا يشمل الجد بحسب اللغة؛ فانّ لكل واحد منهم اسم خاص بهم.

هذا، و لكن ادعى في الجواهر أنّ استعمال هذه العناوين في العموم و إن كان مجازا، و لكن هناك قرائن كثيرة تدل عليه؛ و هي ببيان منّا امور:

1- إجماع المفسرين على أنّ المراد بالآية هو المعنى الأعم الشامل لجميع ما نقلناه في المتن.

2- قوله تعالى بعد ذلك: ... وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما

وَراءَ ذلِكُمْ ... (في الآية التالية). فانّ آية التحريم لو خرج منها هذه الفروع الكثيرة، لزم تخصيص كثير في التحليل الوارد في الآية التالية، و هذا بعيد جدّا لكونه من التخصص الكثير المستهجن.

3- المعنى الحقيقى للأمّ ليس فيه تعدد، فقوله تعالى: «امهاتكم»؛ بصورة الجمع، لا بدّ أن يراد به الأعم من الام و الجدات السافلات و العاليات. و إذا ثبت إرادة هذا المعنى من الامهات، فلا بدّ أن يكون غيره من البنات و الخالات و العمات أيضا بهذا المعنى لاتحاد السياق.

إن قلت: يمكن أن يكون صيغة الجمع باعتبار تعدد المخاطبين.

قلنا: هذا مخالف للظاهر، لأنّ خطاب الجماعة للعموم و مقتضاه ثبوت الحكم لكل واحد دون المجموع، فاللازم أن يكون الجمع باعتبار تعدد الام بمعناه الأعم لكل أحد.

4- إنّ العموم موافق لما ورد في النصوص المعتبرة المستفيضة الدالة على تحريم نساء النّبيّ على الحسن و الحسين عليهما السّلام لو لم تكن محرمة على الناس بآية: وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ؛ و حرمة حلائلهما عليهما السّلام عليه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ. فاذا كان المراد من الآباء هو الأعم من الجد، و كذا المراد من الأبناء هو الأعم من الأحفاد، فلتكن الامهات و

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 418

غيرها كذلك.

و هذه الاستدلالات و إن كانت لإثبات كون ابن البنت (أي أبناء فاطمة سلام اللّه عليها) ابنا حقيقيا، و لكنها شاهدة على المقصود. راجع ما رواه محمد بن مسلم، عن أحدهما. «1» و ما رواه أبو الجارود، عن أبي جعفر عليه السّلام. «2»

هذا محصل كلامه الشريف قدس اللّه نفسه الزكية، ببيان منا. «3»

و في بعض ما ذكره مجال للمناقشة؛ أمّا إجماع المفسرين، فكونه حجة أول الكلام؛

و أما كون الجمع باعتبار تعدد المخاطبين مخالفا لظاهر الكلام، ممنوع جدا؛ فانّ له نظائر كثيرة جدا في القرآن الكريم فقد ورد: «السنتكم» بصيغة الجمع في ثلاثة موارد، و «السنتهم» كذلك في ستة موارد، مع أنّ لكل إنسان لسانا واحدا، فليس الجمع إلّا باعتبار الأشخاص. و كذلك قوله تعالى: (اقوامكم) في موردين، و «أَفْواهِهِمْ»* في سبعة موارد، مع أنّ لكل إنسان فم واحد؛ فليس الجمع إلّا باعتبار تعدد المخاطبين.

هذا؛ و لكن القرينة الثالثة قرينة معتبرة؛ و هكذا الرابعة، لأنّ لزوم التخصيص الكثير على الآية على فرض اختصاصها بالأصناف السبعة بلا واسطة، ممّا لا مناص منه؛ و هو تخصيص بعيد أو مستهجن. و الروايتان تدلان على أنّ إرادة الأعم من الآية، كان أمرا مفروغا عنها؛ و لذا استدل به الإمام عليه السّلام في مقابل المخالفين، فليس الاستدلال بكلام الإمام عليه السّلام من باب التعبد بل من باب دعوى الظهور الذي لا يقدر المخالف على نفيه.

و الرواية الاولى معتبرة سندا، و الثانية ضعيفة بأبي الجارود، و هو زياد بن المنذر، و قد روى في ذمّه روايات، و ينسب إليه بعض الفرق المنحرفة.

و يمكن إقامة قرينة اخرى هنا، فانّ الارتكاز العرفي عدم الفرق بين ما لا واسطة له و غيره.

بقي هنا أمران:

الأول: لا إشكال في كون استعمال الام في من تكون بالواسطة، معنى مجازي لا يصار إليه بدون القرينة. فلذا لو ورد هذا العنوان أو الأب أو الابن أو شبه ذلك في وصية أو وقف، فقال: أوصيت لأمي أو لبنتي أو لأبي كذا و كذا؛ لم تشمل الوصية الجدّة أو ما شابهه. و كذا في باب الاوقاف كما نبّه به الشهيد الثاني في المسالك. «1»

و لكن، هل استعمال الام

و غيره في الأعم من باب استعمال اللفظ في معنيين الحقيقى و المجازي، أو في معنى واحد مجازي عام؟

الحقّ جواز كليهما لما حققناه في الاصول من جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد و أنّه لا مانع منه أبدا؛ و لكن مع وجود القرينة كما أنّ استعماله في مفهوم عام يشمل المعنى الحقيقى و المجازي كليهما، أيضا لا مانع منه على قول المشهور، لكنه لا بدّ أن يكون مع القرينة و قد عرفت وجود القرينة هنا، و الثاني أولى.

الثاني، قد أشار غير واحد من أكابر الفقهاء إلى أنّ تحريم الأصناف السبعة من النساء على الرجال، مستلزم لتحريم الأصناف السبعة من الرجال على النساء، فيحرم على الامّ ابنه، و على البنت أبوه، و على الأخت اخوه، و هكذا و لو بالوسائط.

و بعبارة اخرى، المخاطبون في الآية هم الرجال، و لو كانت النساء مخاطبات، كان يقول: حرمت عليكن آباءكم و أبنائكم و إخوانكم، إلى آخر الأصناف؛ و ذلك نظير قوله تعالى في سورة النور في أمر الحجاب و المحارم الذين لا يجب التستر عنهم: وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ .... «2»

و قد استدل بعضهم لذلك، بأنّ النكاح أمر واحد بسيط فلا يكون حلالا و حراما؛ و إن اختلفت إضافته إلى الطرفين لاجتماع حكمين متضادين على أمر واحد. و ناقش فيه في انوار الفقاهة، ج 3، ص: 420

الجواهر بانه أن أريد من النكاح العقد، فهو

مركب من الايجاب و القبول، و أن اريد منه الوطي فهو قائم بشخصين الواطئ و الموطوء فليس شيئا واحدا؛ و كذلك البيع و غيره، و لذا قال بعضهم بأن حرمة البيع وقت النداء لصلاة الجمعة قد يكون لأحد الطرفين، و هو من كان الجمعة واجبا عليه، فلو كان الطرف الآخر مسافرا مثلا كان البيع حراما من طرف و حلالا من الطرف الآخر؛ اللّهم إلّا أن يقال بحرمته أيضا من باب الإعانة (انتهى).

قلت: الذي أوقع بعض الأصحاب (رضوان اللّه عليهم) في الخطأ، هو الخلط بين الأحكام التكليفية و الوضعية هنا، و بين العقد السببي و المسببي، فان الإنشاءين و إن كانا أمرين مختلفين و كذا الوطء القائم بالواطي و الموطوء، و لكن صحة العقد و الرابطة الاعتبارية الحاصلة بين الزوجين أمر واحد بسيط لا يقبل التعدد، فلا يمكن أن يقال إن الزوجية صحيحة بالنسبة إلى أحد الطرفين دون الآخر، و إن هو إلّا كالاخوة في الاضافات الحقيقية، فانّه لا يمكن أن يكون زيد اخا عمرو و لا يكون عمرو أخا زيد، و مثله في النسب الاعتبارية.

و هكذا في مسألة البيع وقت النداء، فان الحكم التكليفى و إن كان يختلف بالنسبة إلى البائع و المشترى أحيانا، إلّا أنّ الحكم الوضعي لا يختلف، فلا يمكن أن يقال إن المتاع خرج عن ملك البائع و لكن لم ينتقل إلى ملك المشترى أو بالعكس، و أنّ البيع صحيح بالنسبة إلى أحدهما دون الآخر.

إن قلت: لما ذا لم يذكر من المحرمات السبع النسبية، في آية الحجاب من سورة النور، إلّا خمس طوائف: الآباء، و الابناء، و الاخوة، و بنو الاخوة، و بنو الاخوات، و الحال أنّ المذكور في سورة النساء عند

ذكر حرمة النكاح هو سبع طوائف.

قلت: إن الطائفتين غير المذكورتين في آية الحجاب، هما الأعمام و الأخوال، و هما من لوازم بنو الاخوة و بنو الاخوات، فانّ ابن الأخ يقاس بالعمّ، و ابن الاخت بالخال، فهما متلازمان.

إن قلت: فلما ذا لم يتركا في آية النساء بعد وجود الملازمة.

قلت: لعل الاهتمام بأمر النكاح أوجب ذلك، فانّه أهم من أمر الحجاب، و هذا أوجب انوار الفقاهة، ج 3، ص: 421

التصريح بهما و إن كانا يعرفان بالملازمة.

حكم الاصناف الستة الباقية

و ممّا ذكرنا يظهر حال الاصناف الستة الباقية المحرمة، كما قال في التحرير:

... و البنت بما شملت الحفيدة و لو بواسطة أو وسائط، فتحرم هي على أبيها بما شمل الجدّ لأب كان أو لأم، فتحرم على الرجل بنته، و بنت ابنه و بنت ابن ابنه، و بنت بنته، و بنت بنت بنته، و بنت ابن بنته؛ و بالجملة كل أنثى تنتهي إليه بالولادة بواسطة أو وسائط، ذكورا كانوا أو إناثا أو بالاختلاف.

و الأخت، لأب كانت او لأم أو لهما.

و بنت الأخ، سواء كان لأب او لأم أو لهما، و هي كل مرأة تنتمي بالولادة إلى أخيه بلا واسطة أو معها و إن كثرت. سواء كان الانتماء إليه بالآباء أو الأمهات أو بالاختلاف، فتحرم عليه بنت أخيه، و بنت ابنه، و بنت ابن ابنه، و بنت بنته، و بنت بنت بنته، و بنت ابن بنته، و هكذا.

و بنت الأخت. و هي كل أنثى تنتمي إلى أخته بالولادة على النحو الذي ذكر في بنت الأخ.

و العمة، و هي أخت أبيه، لأب أو لأم أو لهما، و المراد بها ما تشمل العاليات، أعني، عمة الأب: أخت الجد للأب، لأب أو لأم أو لهما؛ و عمة

الأم: أخت ابيها، لأب أو لأم أو لهما؛ و عمة الجد للأب و الجد للأم و الجدة كذلك، فمراتب العمّات مراتب الآباء، فهي كل أنثى تكون أختا لذكر ينتمي إليك بالولادة من طرف أبيك و أمك.

و الخالة، و المراد بها أيضا ما تشمل العاليات، فهي كالعمة إلّا أنّها أخت إحدى امهاتك و لو من طرف أبيك؛ و العمة أخت أحد آبائك و لو من طرف أمك؛ فأخت جدّتك للأب، خالتك حيث إنّها خالة أبيك، و أخت جدك للأم، عمّتك حيث إنّها عمة أمك.

فجميع الفروع الحاصلة من البنت، بالواسطة أو بالوسائط، كانت الواسطة مذكرا أو انثى أو بالاختلاف، داخلة في حكم التحريم عاليات أو سافلات.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 422

و أمّا الأخت، فانّه لا يتصور فيها العاليات و السافلات، إنّما فروعها هي الاخت لأب أو أم أو كليهما.

و بنت الأخ و بنت الأخت، يتصور فيها أيضا فروع كثيرة، و هي ما كانت بالواسطة أو بوسائط كثيرة أو بلا واسطة، كلّها محرمة على الرجل. و كذا العمة و الخالة، يتصور فيهما تلك الفروع الكثيرة، عمة الأب أو عمة الام أو عمة الجد الأبي و الأمي، إلى غير ذلك.

و الدليل على كل ذلك، هو ما مرّ في الأم بعينه من الاجماع بين المسلمين مضافا إلى ما عرفت من إمكان استفادته من الآية الشريفة في سورة النساء بما مرّ فيها من الكلام.

***

بقي هنا شي ء: الاستدلال بالروايات

قد يستدل للمحارم النسبية مضافا إلى ما ذكر، بروايات واردة في حرمة الأم، (في الباب 1 من هذه الأبواب) و في حرمة البنت (في الباب 2) و في حرمة الاخت، (في الباب 3) و في حرمة العمة و الخالة، (في الباب 4) و حرمة بنت الأخ و بنت

الاخت، (في الباب 5) من أبواب ما يحرم بالنسب، من الوسائل. «1»

لكن الاستدلال بها قليل الفائدة، لأنّه اكتفي في كثير منها بالآية الشريفة، ففي الواقع الاستدلال بالآية، لا بالرواية (مثل كثير من روايات تحريم الأم). و الباقي لا يدل على أكثر من تحريم هذه الأصناف بلا واسطة، و هو من الواضحات. و ليس فيها قرائن تدل على شمولها لما فيه الواسطة إلّا شاذ منها، مثل مرفوعة محمد بن محمود، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السّلام، أنّه قال للرشيد في حديث: يا أمير المؤمنين! لو أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله نشر فخطب إليك كريمتك، هل كنت تجيبه؟ فقال: لم لا أجيبه؟ فقال أبو الحسن عليه السّلام: و لكن لا يخطب إليّ، و لا أجيبه. قال: و لم؟ قال لأنّه ولدني و لم يلدك. «2»

و هو دليل على تحريم البنت و أن نزلت، و الامر سهل بعد ما عرفت.

[المسألة 1: لا تحرم عمة العمة و لا خالة الخالة]
اشارة

المسألة 1: لا تحرم عمة العمة و لا خالة الخالة ما لم تدخلا في عنوانى العمة و الخالة و لو بالواسطة، و هما قد تدخلان فيهما فتحرمان، كما إذا كانت عمتك أختا لأبيك لأب و أم أو لأب، و لأبي أبيك أخت لأب أو أم أو لهما، فهذه عمة لعمتك بلا واسطة، و عمة لك معها؛ و كما إذا كانت خالتك أختا لأمك لأمها و أبيها، و كانت لأم أمك أخت فهي خالة لخالتك بلا واسطة، و خالة لك معها. و قد لا تدخلان فيهما فلا تحرمان، كما إذا كانت عمتك أختا لأبيك لأمه لا لأبيه، و كانت لأبي الأخت أخت فالأخت الثانية عمة لعمتك و ليس بينك و بينها نسب أصلا، و كما

إذا كانت خالتك أختا لأمك لأبيها لا لأمها، و كانت لأم الأخت أخت فهي خالة لخالتك و ليست خالتك و لو مع الواسطة، و كذلك أخت الأخ أو الأخت إنّما إذا تحرم كانت أختا لا مطلقا، فلو كان لك أخ أو أخت لأبيك و كانت لأمها بنت من زوج آخر فهي أخت لأخيك أو أختك و ليست أختا لك، لا من طرف أبيك و لا من طرف أمك، فلا تحرم عليك.

قد تكون أخت الأخت أختا و قد لا تكون

(1) أقول: و حاصل الكلام في هذه المسألة، أنّه قد تكون اخت الأخت أختا، و قد لا تكون، و ذلك أنّه إذا كانت نسبة الجميع لأب و أم، أو لأب، أو لأم، أي كانت النسبة واحدة فتكون اختا، لاجتماع الجميع في التولد من أب واحد أو أم واحد؛ امّا إذا كانت النسبة في الأولين غير النسبة في الأخيرين، بأن كانت فاطمة أختا لي من ناحية الأب فقط، و كانت لفاطمة اخت من ناحية الام فقط، فاخت فاطمة ليست اختا لي؛ لعدم اشتراكها معي لا في الأب و لا في الأم؛ فهي مفارقة مني أبا و امّا، فتحل لي.

و قد صرح بذلك في روايات الباب 6 من أبواب ما يحرم بالنسب؛ فعن أبي جرير القمى، (هو زكريا بن ادريس، أو زكريا بن عبد الصمد)، قال: سالت أبا الحسن موسى عليه السّلام انوار الفقاهة، ج 3، ص: 424

ازوج أخي من امّي اختى من أبي. قال أبو الحسن عليه السّلام: زوج إيّاها إيّاه أو زوج إيّاه إيّاها. «1» و ما يظهر من بعض الروايات من المنع بقوله عليه السّلام: ما أحب ذلك؛ محمول على الكراهة، كما هو ظاهر.

و هكذا حال عمة العمة، أو خالة الخالة، إذا كانت إحداهما

لأب و الآخر لأم.

***

[المسألة 2: النسب إمّا شرعي، و هو ما كان بسبب وطء حلال ذاتا]
اشارة

المسألة 2: النسب إمّا شرعي، و هو ما كان بسبب وطئ حلال ذاتا بسبب شرعي من نكاح أو ملك يمين أو تحليل، و إن حرم لعارض من حيض أو صيام أو اعتكاف أو احرام و نحوها؛ و يلحق به وطؤ الشبهة. و أمّا غير شرعى، و هو ما حصل بالسفاح و الزنا؛ و الأحكام المترتبة على النسب الثابتة في الشرع من التوارث و غيره و إن اختصت بالأول، لكن الظاهر بل المقطوع أنّ موضوع حرمة النكاح أعم فيعمّ غير الشرعي؛ فلو زنا بامرأة فولدت منه ذكرا و انثى حرمت المزاوجة بينهما، و كذا بين كل منهما و بين أولاد الزانى و الزانية الحاصلين بالنكاح الصحيح أو بالزنا بامرأة اخرى؛ و كذا حرمت الزانية و امّها و أمّ الزانى و اختهن على الذكر، و حرمت الانثى على الزاني و أبيه و أجداده و اخوته و أعمامه.

معنى النسب و تعريفه

(1) أقول: كان الكلام في المسائل السابقة، في الاصناف السبع المحرمة من النساء (البنت و الأم و الاخت و العمة و الخالة و بنت الأخ و بنت الاخت) من ناحية النسب؛ و الكلام هنا في معنى النسب و تعريفه، ثم يتعقبه أحكام ولد الزنا شرعا، و هو مسألة مهمّة من شتّى الجهات.

و قد صرّح جماعة كثيرة من أساطين الفقه، كالشهيد الثانى في المسالك، و العلّامة في التذكرة، و المحقق الثاني في جامع المقاصد، و صاحب الرياض في الرياض، و صاحب الجواهر في الجواهر، فيما يأتي الإشارة إليه من كلماتهم، أنّ النسب يثبت بالوطي الصحيح بنكاح؛ و زاد بعضهم أنّ المراد منه هو الوطء المستحق شرعا و لو في نفس الأمر، و أن حرم بالعارض، كالوطئ في الحيض و الإحرام (و

غيرهما). «1»

و الدليل على ذلك مضافا إلى أنّه من المتسالم عليه بينهم، عدم صدق الزنا على وطئ انوار الفقاهة، ج 3، ص: 426

الزوجة في صيام شهر رمضان أو في الحيض أو شبه ذلك؛ فلو تولد منه ولد كان من الوطء المستحق شرعا بالذات، و لو حرم بالعارض؛ و لا يطلق عليه في الشرع بل العرف ولد الفجور.

ثم ذكر المصنف هنا الحاق ولد الشبهة بالنكاح الصحيح، و سيأتي الكلام فيها و في حكمها في المسألة الآتية.

احكام ولد الزنا

ثم شرع في الكلام في أحكام الولد غير الشرعي أي ولد الزنا و السفاح، و فصّل بين الأحكام المترتبة على النسب من التوارث و غيره، و بين النكاح؛ فصرّح بالحرمة في الثانى، و عدم ترتب الآثار في غيره.

و تفصيل الكلام فيه، أنّ الظاهر من كلمات الخاصة اتفاقهم على ثبوت احكام النسب من حيث النكاح على ولد الزنا. قال المحقق الثاني في جامع المقاصد: أمّا الزنا، و هو الوطء الذي ليس بمستحق شرعا مع العلم بالتحريم، فلا يثبت به النسب إجماعا، لكن أجمع أصحابنا على أنّ التحريم المتعلق بالنسب يثبت مع الزنا إذا تولد به ولد. «1»

ثم استدل للتحريم، بصدق العنوان (عنوان الولد) عليه لغة؛ ثم أشكل عليه بالنقض بباقي الآثار، فان الصدق اللغوي لو كان كافيا لترتب عليه سائر الآثار؛ و ذكر في آخر كلامه عدم ترتب شي ء من آثار الولد عليه ما عدا حرمة النكاح، و هي من باب الاحتياط في أمر الفروج؛ و لا يخفى عليك ما في كلامه من الاضطراب، و كان المانع الأصلي له من عدم الحرمة هو الإجماع.

و قال العلّامة في التذكرة: البنت المخلوقة من الزنا يحرم على الزانى وطؤها، و كذا على ابنه و أبيه

و جدّه؛ و بالجملة حكمها في تحريم الوطء، حكم البنت عن عقد صحيح عند علمائنا أجمع. و به قال أبو حنيفة لقوله تعالى: «و بناتكم» و حقيقة البنت موجودة

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 427

فيها، فانّ البنت هي المتكوّنة من مني الرجل، و نفيها عنه شرعا لا يوجب نفيها حقيقة، لأنّ المنفى في الشرع هو تعلق الاحكام الشرعية مثل الميراث و شبهه ... و قال الشافعي لا تحرم بل يكره؛ و به قال مالك ... و العجب أنّهم اتفقوا على أنّها إن ولدت ابنا، حرم عليه أن ينكحها؛ فما الفرق؟! «1»

و ذكر الشيخ في الخلاف، كلام الأصحاب و موافقة أبي حنيفة و مخالفة الشافعي؛ و استدل لمختاره و هو الحرمة، بصدق البنت و طريقة الاحتياط. «2»

و صرّح في الرياض، بأن الدليل على الحرمة هو الإجماع، دون صدق العنوان، و إلّا ترتب عليه جميع أحكام هذا العنوان. «3»

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ هنا أحكاما كثيرة تترتب على عنوان الولد، كحرمة النكاح في العناوين السبعة، و كالإرث و الحضانة و الولاية و انعتاق بعض الاقارب بمجرد الاشتراط، و عدم قصاص الوالد بولده، و أحكام العاقلة، و شبه ذلك؛ فهل تتوقف جميع ذلك على النسب الشرعي أو تعم غير الشرعي أيضا.

المعروف بل المدعي عليه الإجماع، هو التفصيل بين النكاح و غيره، فيترتب الحكم في الأول دون غيره. إنّما الكلام في دليل ذلك، و غاية ما يمكن الاستدلال به لهذا القول امور:

1- الإجماع، و هو غير بعيد، لعدم نقل قول مخالف بين الأصحاب و أن عبّر غير واحد منهم بالاحتياط، و حيث لا يوجد في المسألة دليل معتبر غيره، فهو حجة؛ فتأمل.

هذا، و قد أجمع المخالفون أيضا على بعض مصاديقه كما

عرفت آنفا.

2- ما استدل به غير واحد من الأكابر من صدق العناوين المحرمة على المتولد من الزنا كالبنت و الابن لغة؛ و لكن يرد عليه أنّه لو سلم ذلك، وجب ترتب سائر الأحكام عليه و لم يقل به أحد؛ و لا يمكن أن يقال إن هذه العناوين نقلت إلى معان جديدة في انوار الفقاهة، ج 3، ص: 428

الشرع، لأنّه لو كان كذلك، وجب نفى جميع الأحكام، لا التفصيل.

3- ما استدل به في الجواهر، من رواية طويلة رواها زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الانكار الشديد على من قال بأن بدو النسل في ذريّة آدم كان من طريق نكاح الاخوة و الأخوات، و أنّه من البعيد جدا أن يجعل اللّه أصل أنبيائه و رسله و المؤمنين من الحرام؛ ثم ذكر الإمام عليه السّلام أن ذلك مستنكر بين البهائم أيضا، و أنّه حكى له عليه السّلام أنّ بعض البهائم قد قتل نفسه لمّا اشتبهت عليه اخته، فنزا عليه. «1» فانّها تدل على أنّ الاستنكار منوط بنفس الضراب و التولد، فانّه لا عقد بين البهائم.

و يرد عليه أولا، بضعف سند الحديث، فانّ الراوي عن زرارة، هو ابن توبة و هو مجهول الحال. و ثانيا، بمخالفته للوجدان فانّ التزايد في كل قطيع من الحيوانات لا يكون إلّا باجتماع بعضها مع بعض و كلهم قرابات نسبية و لم نسمع باحترازهم عنها.

4- و استدل غير واحد منهم بلزوم الاحتياط في باب النكاح، و من المعلوم أنّ ذلك يكون مؤيدا لا دليلا.

5- أنّ يقال بان التفصيل المذكور ناش عن تناسب الحكم و الموضوع، فمثل الارث من الحقوق الماليّة لا يترتب إلّا على الولد الشرعي؛ أمّا النكاح فهو امر مرتبط بالولادة الجسمانية

الخارجية، حتى أنّ العقلاء من أهل العرف يقبحون نكاح الأمّ مع ولده، و يترتب عليه مفاسد صحيّة و اخلاقية.

أضف إلى ذلك أنا نرى الشارع المقدس قد نهى عن زواج المرأة مع ولد ارتضع من لبنها يوما و ليلة، و لم يرض بنكاحهما، فكيف يرضى بمن انعقد نطفته منه و استقر في رحمه تسعة أشهر يتغذى منها حتى ينبت لحمه و يشتدّ عظمه و كل شي ء منه؛ و بهذا الاعتبار قلنا أنّ الامّ التي تنوب عن الام الأصليّة يحرم عليها نكاح الولد المتولد منها، (و المراد منه ما إذا ركّبت النطفة خارج الرحم ثم جعلت في رحم امرأة اخرى و يسمّى في الفارسيّة بمادر جانشين) فاذا قلنا بالحرمة في مثل ذلك، فكيف نقول بالجواز فيمن انوار الفقاهة، ج 3، ص: 429

انعقدت نطفته منها أيضا.

و لعله لذلك أجمع جميع علماء الإسلام على تحريم زواج المرأة مع ابنها غير الشرعى، و من الواضح عدم الفرق بينه و بين سائر الموارد إلّا بالظهور و الخفاء.

و لعل استدلال أكابر الفقهاء بصدق عنوان «بناتكم»، و ما أشبهه، أيضا ناظر إلى ما ذكرنا؛ و الانصاف أنّ هذا الدليل أحسن من جميع أدلة المسألة و يكون الإجماع مؤيدا له.

***

بقي هنا امور:
1- لا توارث في ولد الزنا

لا إشكال و لا كلام بين الأصحاب في عدم التوارث في ولد الزنا؛ و ادعى في الجواهر الإجماع عليه بقسميه؛ و استدل به مضافا إلى الإجماع، بالمعتبرة المستفيضة مثل ما رواه الحلبي، في الصحيح، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: أيّما رجل وقع على وليدة قوم حراما، ثم اشتراها، فادعى ولدها فانّه لا يورث منه شي ء، فان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: الولد للفراش و للعاهر الحجر، و لا يورث ولد

الزنا إلّا رجل يدعي ابن وليدته. «1»

و عن الصدوق، و أبي الصلاح، و أبي عليّ، أنّه يرث امّه و من يتقرب بها، و يرثونه على حسب حال ابن الملاعنة؛ و لكنه شاذ كدليلهم، و تمام الكلام في محلّه؛ و حينئذ يكون ارثه لأولاده، و لو لم يكن له أولاد، فللإمام عليه السّلام.

2- هل يترتب جميع آثار المحرمية هنا حتى النظر؟

يظهر من كلمات غير واحد من فقهائنا عدم جواز النظر مع حرمة النكاح، مع أنّ التفرقة بينهما مشكل جدا؛ قال في الرياض بعد ذكر إجماع الأصحاب على حرمة النكاح في محل البحث: و هو الحجة دون صدق النسبة في العرف و اللغة ... مع استلزامها ثبوت انوار الفقاهة، ج 3، ص: 430

الأحكام الباقية كحلّ النظر و الانعتاق بملك الفرع أو الأصل ... و غير ذلك من توابع النسب ... و لو احتيط في الجميع كان اولى. «1»

و لكن الانصاف، أنّ الفرق بين حرمة النكاح- بعنوان الام و البنت و أشباهها- و حلّ النظر، أمر غريب.

و الاولى أن يقال إنّ بنينا الأمر في المسالة على أمر تعبدي و هو الإجماع، أمكن الاقتصار على حرمة النكاح، و لكن لو قلنا بما مرّ في الدليل الخامس من تناسب الحكم و الموضوع بل الأولوية بالنسبة إلى الرضاع، كان الحكم بحلّ النظر قويا جدا. و سيأتي في كلام الجواهر التصريح بالحل لاتحاد المناط.

3- هل الحكم يعم السببيات أيضا؟

هل يختص الحكم بالعناوين السبع المحرمة، أو يعم السببيات، فيحرم على الأب الزاني زوجة ولده من الزنا كما يحرم عليه زوجة أبيه؛ و كذا الجمع بين الاختين من الزنا، أو إحداهما من النسب و الآخر من الزنا.

ظاهر كلام المتن، (تحرير الوسيلة)، عدم الشمول للمصاهرات، و هو ظاهر غيره أو صريحه، و لكن قال في الجواهر:

لا ينبغى التأمل في أنّ المتجه عدم لحوق حكم النسب في غير النكاح، بل ستعرف قوة عدم جريانه فيه أيضا في المصاهرات، فضلا عن غير النكاح، بل قد يتوقف في جواز النظر بالنسبة إلى من حرم نكاحه مما عرفت.

ثم عدل عن هذا في ذيل كلامه، و قال: و لكن الانصاف عدم خلوّ الحلّ من

قوة بدعوى ظهور التلازم بين الحكمين هنا، خصوصا بعد ظهور اتحادهما في المناط. «2»

و هذا الكلام و إن كان صريحا في حلّ النظر، و لكن ظاهره أو صريحه عدم جريان الحكم في المصاهرات، مع أنّه محجوج بما ذكره من اتحاد المناط في الجميع.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 431

و الانصاف أنّ التفرقة بين المحرمات النسبيّة و المصاهرات صعب جدا؛ فاللازم، اللحوق لما عرفت من الدليل.

4- من ينفق على ولد الحرام؟

لم نر في كلماتهم ما يدل على شي ء من ذلك عدا ما يظهر من عموم نفى أحكام الولد عنه في كلماتهم ما عدا حرمة النكاح.

و ممن صرّح بعدم وجوب الانفاق عليها- ناقلا عن بعض فقهائهم- ابن قدامة في المغنى، حيث قال: يحرم على الرجل نكاح بنته من الزنا و اخته و بنت ابنه و بنت بنته و بنت أخيه و اخته من الزنا، و هو قول عامة الفقهاء، و قال مالك و الشافعي في المشهور من مذهبه يجوز ذلك كلّه، لأنّها أجنبيّة منه، و لا تنسب إليه شرعا، و لا تجرى التوارث بينهما ... و لا تلزمه نفقتها ... «1»

و لكن الانصاف أنّ المتعارف بين العقلاء من أهل العرف القاء نفقة هذه الأولاد على عاتق صاحب النطفة، و هكذا حضانتهم، و لا يعتنى باعتذار عدم كون هذه الأولاد لهم بحسب قانون العقلاء أو قانون الشرع المقدس؛ فالاحوط لو لا الأقوى وجوب الانفاق عليهم و حضانتهم من ناحية صاحب النطفة.

و أمّا الولاية، و أحكام العاقلة، و إجراء حكم عدم اقتصاص الوالد بولده، و عدم سماع شهادة الولد على والده، فلمّا كان جميعها مخالفا للأصل و لا يكون هنا دليل على ثبوتها لصاحب النطفة، فاللازم الحكم بنفيها في حقّه، و اللّه العالم.

و قد عثرنا

بعد ذلك كلّه، على كلام للعلامة الشيخ عبد اللّه المامقاني في كتابه، مناهج المتقين، في فقه أئمة الحق و اليقين؛ يدل على قبوله لجريان جميع أحكام الولد على ولد الحرام ما عدا الارث؛ حيث قال: و الاقوى اتحاد ولد الزنا و ولد الحلال في جميع أحكام النسب عدا الارث، فانّه لا ارث بين ولد الزنا و أقاربه للنص الخاص، و أمّا فيما عداه انوار الفقاهة، ج 3، ص: 432

فالمرجع اطلاق الادلة، لصدق الابن و الأخ و نحوهما لغة و عرفا. «1»

و لكنه قول شاذ جدا و ينافيه قوله عليه السّلام الولد للفراش و للعاهر الحجر؛ و يظهر من صحيحة الحلبي أنّه لا يختص بموارد الشك بل يشمل موارد اليقين أيضا، فمعناه أنّ الولد لا يكون إلّا للفراش اى النكاح الصحيح شرعا، و هو بمنزلة تعليل عام لجميع أحكام الولد، فيكون الأصل عدم جريان الأحكام إلّا ما خرج بالدليل، كما ذكرنا في المسائل السابقة؛ و اللّه العالم.

5- كيف كان بدء نسل آدم

هناك مسألة معروفة لا يزال الناس يسألون عنها من قديم الأيّام إلى حديثه، و أنّه كيف كان بدء نسل آدم مع أنّ نكاح الاخوة و الأخوات محرمة؟

و قد وقع الخلاف في الجواب عن هذا السؤال، و فيه مذاهب ثلاثة:

أولها: أنّ نكاحهم كان حلالا آنئذ، و كان ذلك قبل نزول التحريم.

ثانيها: أنّ ذلك كان حراما دائما، لكن أنزل اللّه الحور من الجنة أو بعض الجنّ، فوقع النكاح معهن.

ثالثها: أنّ آدم لم يكن أول انسان خلق على وجه الأرض، بل كان قبله اناس آخرون لم ينقرض جميعهم، فكان الزواج بين أبناء آدم و بقايا من اناس سابقين.

و الذي استدل به للقول الأول بعض الآيات من الذكر الحكيم:

منها، قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ

إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا .... «2»

و المخاطب في الآية جميع الناس، و المراد من الذكر و الانثى هو آدم و حواء بلا ريب كما فهمه المفسرون و غيرهم و كما يشير إليه الشعر المعروف:

الناس من جهة التمثال أكفاء أبوهم آدم و الأمّ حواء

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 433

فان يكن لهم في أصلهم شرف يفاخرون به فالطين و الماء

فظاهر الآية، رجوع نسل الجميع إلى آدم و حواء، و لو كان في نسلهم الحوراء أو الجن لا بدّ من الإشارة إليه.

و منها، قوله تعالى في سورة النساء: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً .... «1»

و ظاهرها أيضا كون الجميع من أصلين آدم و زوجها، لا غير.

و ما احتمله بعضهم من كون المراد منه خصوص أولاد آدم في الطبقة الاولى، ينافي ما ثبت من التاريخ أنّه لم يكن لآدم أولادا كثيرة رجالا و نساء، بل المراد في الطبقات الاخرى؛ فلعل نكاح الاخوة و الأخوات كان حلالا في الصدر الأول، كما أنّ نكاح حواء مع آدم كان جائزا مع ان حواء خلقت من آدم؛ فلو فرض في زماننا أنّه خلقت امرأة من رجل (بطريق خلق الشبيه مع تغيير الجنسية) لم يكن هناك شك في عدم جواز نكاحهما معا؛ فإذا كان هذا جائز في العصر الأول، فليكن نكاح الاخوة و الأخوات كذلك.

و استدل له من الروايات، بروايتين رواهما العلّامة المجلسي، في البحار، عن قرب الأسناد و الاحتجاج. «2»

أمّا الاول، فهو ما رواه عن البزنظي، قال سألت الرضا عليه السّلام عن الناس كيف تناسلوا من آدم عليه السّلام. فقال:

حملت حواء هابيل و اختا له في بطن، ثم حملت في البطن الثاني قابيل و اختا له في بطن، فزوج هابيل التي مع قابيل، و تزوج قابيل التي مع هابيل، ثم حدث التحريم بعد ذلك.

و الثاني، ما عن الثمالي، قال: سمعت علي بن الحسين عليه السّلام يحدث رجلا من قريش، قال: لما تاب اللّه على آدم إلى أن قال: فأوّل بطن ولدت حواء هابيل و معه جارية يقال إقليما؛ قال: و ولدت في البطن الثانى قابيل و معه جارية يقال لها لوزا؛ و كانت لوزا أجمل بنات آدم. قال: فلما أدركوا خاف عليهم آدم الفتنة، فدعاهم إليه، و قال: اريد أن انكحك يا

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 434

هابيل لوزا و انكحك يا قابيل إقليما ... فزوجهما على ما خرج لهما (بعد القرعة) من عند اللّه؛ قال: ثم حرم اللّه نكاح الأخوات بعد ذلك.

قال: فقال له القرشي: فأولداهما؟ قال: نعم، قال: فقال القرشي: فهذا فعل المجوس اليوم؛ قال: فقال علي بن الحسين عليه السّلام: إن المجوس إنّما فعلوا ذلك بعد التحريم من اللّه. ثم قال علي بن الحسين عليه السّلام: لا تنكر هذا، أ ليس اللّه قد خلق زوجة آدم منه، ثم حلّها له، فكان ذلك شريعة من شرائعهم، ثم أنزل اللّه التحريم بعد ذلك. «1»

قال العلّامة المجلسي (قدس سره) بعد نقل هاتين الروايتين: هذان الخبران محمولان على التقية، لاشتهار ذلك بين العامّة. «2»

و لكن قال العلّامة الطباطبائي: أقول: و هذا الذي ورد في الحديث هو الموافق لظاهر الكتاب و الاعتبار و هناك روايات آخر تعارضها و هي تدل على أنّهم تزوجوا بمن نزل إليهم من الحور و الجان، و قد عرفت الحق في ذلك. «3»

و قد

حكى ابن الأثير في تاريخه، الكامل؛ ما يدل على نكاح الأخوة و الأخوات، و أن آدم أمر قابيل بنكاح توأمة هابيل، و بالعكس. «4» و ذكر ما يقرب منه، الطبري، في تاريخه، ثم ذكر روايات كثيرة في تزويج ابنا آدم مع أخواتهم. «5»

و ذكر في فتح الباري في شرح صحيح البخاري، لأحمد بن حجر، (6/ 263)، عن المفسر المعروف السدي في تفسيره عن مشايخه، ثم ذكر القصة.

و قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغه (13/ 145): و الأكثرون قالوا أراد آدم عليه السّلام أن يزوج هابيل اخت قابيل توأمته، و يزوج قابيل اخت هابيل توأمته، الخ ...

و في فيض القدير، شرح الجامع الصغير للمناوي (1/ 671)، مثله، مع اختلاف يسير.

و ورد ذلك في بعض كتبهم الفقهية، منها المبسوط للسرخسي (5/ 509).

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 435

و ورد ذلك في الدر المنثور، و البيضاوي، و غيرهما، و ذكر الزمخشري في الكشاف ذيل الآية 28 من سورة المائدة: وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ (1/ 624).

و العجب أنّهم لم يرووا رواية في ذلك عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، بل اعتمدوا على أفواه الرجال!

و يدل على القول الثاني، روايات كثيرة و أن تفاوتت السنتها:

طائفة منها، ما يدل على نفى جواز نكاح الاخوة و الأخوات، من دون ذكر كيفية بدو النسل و انتشار أبناء آدم في الأرض؛ مثل:

1- ما رواه ابن توبة (و في البحار ابن نوية، و هو أيضا مجهول لم نر ذكرا له في الرجال)، عن زرارة، قال سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام كيف بدء النسل، فانّ عندنا اناسا يقولون إنّ اللّه أوحى إلى آدم أن يزوج بناته من بنيه، و أنّ أصل هذا

الخلق من الاخوة و الأخوات.

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: سبحان اللّه و تعالى عن ذلك علوا كبيرا، يقولون من يقول هذا، أنّ اللّه جعل أصل صفوة خلقه و أحبّائه و أنبيائه و رسله و المؤمنين و المؤمنات من حرام، و لم يكن له من القدرة ما يخلقهم من الحلال، و قد أخذ ميثاقهم على الحلال و الطهر الطاهر الطيب ... ثم نقل قصة قتل بعض الحيوانات نفسه لما اشتبهت عليه اخته فواقعها. «1»

2- ما رواه زرارة أيضا بطريق اخر- على ما في العلل- و ذكر مثله، و زاد: أن كتب اللّه كلها فيما جرى فيه القلم في كلّها تحريم الأخوات على الأخوة، مع ما حرم ...

الحديث. «2»

3- و يدل عليه إجمالا، ما عن أصبغ بن نباته، عن أمير المؤمنين عليه السّلام. «3»

و هناك طائفة اخرى، تدل على أنّ أولاد آدم إنّما نكحوا مع الحور العين التي نزلت عليهم، مثل ما رواه الصدوق بسنده المعتبر عن زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام. «4»

و هناك طائفة ثالثة، تدل على أنّ بعضهم نكح الحوراء و بعضهم نكح الجنّ، مثل ما رواه انوار الفقاهة، ج 3، ص: 436

بريد العجلي، عن الباقر عليه السّلام؛ «1» و مرسلة خالد بن اسماعيل عنه عليه السّلام، أيضا. «2»

إلي غير ذلك ممّا ورد في البحار، «3» و تفسير البرهان. «4»

و هذه الأحاديث و إن كانت متضافرة، و لكن قد يورد عليها:

أولا: بان تزويج الإنسان مع الحور أو الجن بعيد، لأنّهما جنسان متباينان، الحور جسم نورى، و الجنّ جسم ناري، و الإنسان خلق من الطين.

إن قلت: أو ليس المعاد جسمانيا، و الإنسان في الآخرة يتزوج مع الحور؟

قلنا: نعم، و لكن لا يتولد منهما إنسان،

و قد يجتمع حيوان مع آخر من غير جنسه دفعا للشهوة، و لكن لا يتولد منهما ولد، فكيف الانسان بغيره.

ثانيا: هذه الروايات في نفسها متعارضة كما عرفت؛ و لكن يمكن أن يقال أنّها و إن تعارضت في تفصيل جزئيات ولادة أولاد آدم عليه السّلام، و لكنها متفقة في عدم حلية نكاح الاخوة و الأخوات في زمن من الأزمنة؛ فتأمل.

و الحاصل أنّ الروايات الدالة على نكاح ولد آدم، الاخوة مع الأخوات شاذة بالنسبة، و اسنادها غير معتبرة؛ و لكنها توافق ظاهر القرآن؛ و روايات نفي هذا النكاح كثيرة متضافرة مخالفة للعامة، و لكنها متعارضة في نفسها، و ترجيح أحدهما على الآخر لا يخلو عن إشكال؛ و إن كان الثاني أقوى من بعض الجهات.

و أمّا القول الثالث، كما عرفت و هو نكاح ابناء آدم مع بقايا النسل السابق عليه، فان آدم عليه السّلام لم يكن أول إنسان ظهر على الأرض، و يدل على ذلك امور:

1- ما ثبت في التواريخ من وجود كثير من الاناسي قبل هبوط آدم، بل كان لهم نظامات و حكومات! (راجع ناسخ التواريخ و شبهه).

2- ما ثبت في العلم الحديث من وجود نسل الإنسان قبل مليون أو ملايين سنة مع أنّ هبوط آدم لا يتجاوز عن بضعة آلاف سنة فيما هو المشهور.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 437

3- هناك روايات كثيرة مروية في كتب الفريقين، تدل على أنّه كان قبل آدم، آدم آخر بل في بعضها- كما عن الصادق عليه السّلام في كتاب التوحيد، أنّه قال: لعلك ترى أنّ اللّه لم يخلق بشرا غيركم، بلى، و اللّه لقد خلق الف الف آدم أنتم في آخر اولئك الآدميين. و في بعض الروايات عنه عليه السّلام أنّ للّه

تعالى اثنى عشر ألف عالم كل عالم منهم أكبر من سبع سماوات و سبع أرضين، ما يرى عالم منهم أنّ للّه عز و جل عالما غيرهم؛ (إلى غير ذلك ممّا أورده صاحب تفسير المنار، في المجلد 4 ص 325) فراجع.

ثم أنّه لا دليل على انقراض جميع الماضيين من الآدميين، و يحتمل بقاء بعضهم و نكاح أولاد آدم معهم.

و نهاية ما يستفاد من هذا القول، مجرد احتمال تحقق هذه النكاح، و عدم القطع بنكاح الاخوة و الأخوات في أولاد آدم عليه السّلام، و كفى بذلك في مقابل من يدعى القطع بذلك النكاح.

هذا، و ليست المسألة من اصول الدين، و لا من فروعه، و إن كانت تدور على الألسن و يسأل منها كثيرا؛ و لعلّ الأقرب بعد الاحاطة بما ذكرنا عدم ثبوت نكاح أولاد آدم الاخوة مع الأخوات؛ و اللّه العالم.

***

[المسألة 3: المراد بوطء الشبهة، الوطء الذي ليس بمستحق
اشارة

المسألة 3: المراد بوطء الشبهة، الوطء الذي ليس بمستحق مع عدم العلم بالتحريم، كما إذا وطأ أجنبية باعتقاد أنّها زوجته، أو مع عدم الطريق المعتبر عليه بل أو الأصل كذلك؛ و مع ذلك فالمسألة محلّ إشكال، و يلحق به وطؤ المجنون و النائم و شبهها، دون السكران إذا كان سكره بشرب المسكر عن عمد و عصيان.

(1) أقول: إنّ للزنا أحكاما أربعة: عدم المهر، و عدم العدة، و عدم الحاق النسب، و الحدّ؛ لا إشكال و لا كلام في عدم جريان شي ء منها في وطئ الشبهة. إنّما الكلام في الدليل على هذا الحكم و معرفة موضوع الشبهة، فانّ معرفة الموضوع هنا أهمّ، لما فيها من الكلام بينهم، مع كون أصل الحكم مسلما عندهم؛ فالكلام في مقامين، و المسألة من المسائل المهمّة شديد الابتلاء.

المقام الأول: الموطوء شبهة بمنزلة المعقودة

و هو كون الموطوء شبهة بمنزلة المعقودة عقدا شرعيا، فيظهر من كلماتهم التسالم عليه من دون إشكال.

قال في الجواهر: و كذا يثبت النسب مع الشبهة إجماعا بقسميه. «1»

و في المسالك لم يزد على قوله: و يلحق به وطؤ الشبهة؛ و أرسله ارسال المسلمات كغيره.

و يدل على هذا الحكم مضافا إلى ما عرفت، عدم صدق الزنا عليه إجمالا، فلا يلحقه أحكامه من الحدّ و نفى النسب و غيره، و يصدق على الولد المتولد منه أنّه ولد، و لا يشمله قوله صلّى اللّه عليه و آله: و للعاهر الحجر؛ و بالجملة المسألة من الواضحات من هذه الناحية.

المقام الثاني: ما هو المراد من الشبهة

و هو المراد من الشبهة، فانّ هنا مصاديق وقع فيها النزاع و الكلام، و المعروف في انوار الفقاهة، ج 3، ص: 439

تعريفه: أنّه الوطء الذي ليس بمستحق في نفس الأمر مع اعتقاد فاعله الاستحقاق. و أضاف في الجواهر في أول كلامه: أو صدوره عنه بجهالة مغتفرة في الشرع، أو مع ارتفاع التكليف بسبب غير محرم. «1»

توضيح ذلك، أنّ هنا مصاديق بعضها ظاهر و بعضها خفي:

مصاديق الشبهة

1- إذا واقع امرأة مع اعتقاد قطعي أنّها امرأته.

2- إذا واقعها مع الدليل الشرعي المعتبر كشهادة الشهود.

3- إذا واقعها مع الركون إلى أصل شرعي كالاستصحاب.

4- إذا واقعها مع الظن غير المعتبر أنّها زوجته.

5- إذا واقعها مع الشك أو الوهم.

6- إذا واقع امرأة يعلم حرمتها عليه اكراها و جبرا.

7- إذا واقعها اضطرارا، كما ورد في الحديث في امرأة اضطرت إلى الزنا في فلات، لعدم وجدانها ما يسدّ جوعها و يبقى حياتها.

8- إذا واقعها في حال الجنون أو في حال الصغر.

9- إذا واقعها في النوم.

10- إذا واقعها في حال السكر.

إذا عرفت هذا، فاعلم أنّهم اختلفوا في تعريف وطئ الشبهة على أقوال:

1- قال بعضهم- كما في الجواهر- أنّه الوطء الذي ليس بمستحق في نفس الامر مع اعتقاد فاعله الاستحقاق، أو صدوره عنه بجهالة مغتفرة في الشرع، أو مع ارتفاع التكليف بسبب غير محرم. «2»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 440

و هذا التعريف جامع شامل لأكثر العناوين السابقة أو جميعها، و لكن يرد عليه أنّه دعوى بلا دليل أوّلا، و ثانيا ليس هذا معنى الشبهة، بل الشبهة بمعنى الاشتباه و الخطأ أو الشك؛ و كثير من العناوين السابقة ليس منها.

2- و قال بعضهم انه الوطء الذي ليس بمستحق مع ظن الاستحقاق. «1»

3- و عن المسالك تعريفها بالوطء

الذي ليس بمستحق مع عدم العلم بالتحريم. «2»

و هذا التعريفان أضيق نطاقا من سابقهما، و لا يشملان إلّا موارد الاعتقاد المخالف أو الظن و الشك، و هل يشملان الظن و الشك من دون حجة شرعية؟ ظاهر الاطلاق، الشمول؛ و لكن نفى بعضهم ذلك.

و الانصاف أن أمثال هذين التعريفين و إن كان توافق المعنى اللغوى للشبهة إجمالا، إلّا أنّه لا يشمل كثير من العناوين السابقة، و ليس عليها دليل معتبر.

فالاولى أن يقال:

أنّ عنوان الشبهة لم يرد في شي ء من الروايات فيما نعلم؛ و إنّما ورد في معاقد الإجماعات؛ فان كشفت عن وجود نص على هذا الحكم،- أي الحاق الشبهة بالنسب-، لا بدّ من تحقيق معنى الشبهة و أنّه تشمل أيّ قسم من الأقسام العشرة و لا تشمل أيّ قسم منها.

و لكن الانصاف أنّ احتمال كون الإجماع كاشفا عن وجود رواية تتضمن عنوان الشبهة بعيد جدا، بل الظاهر كون الإجماع على مصاديق معيّنة، استفادوها من الاخبار المتفرقة التي تأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه.

فصرف الوقت في تحقيق معنى هذا اللفظ و تعريفه قليل الفائدة أو عديم الفائدة في المقام، و ليس مثل هذا ورودا صحيحا في المسألة؛ و قد ظفرنا أخيرا برواية ذكر فيها لفظ الشبهة (في المقام)، و لكنها رواية مرسلة، مضافا إلى عدم شمولها إلّا لقليل من أقسام الشبهة، و الرواية حاكية عن قصة إرجاع ستة نفرات إلى عمر، لارتكابهم الزنا، فأراد أن انوار الفقاهة، ج 3، ص: 441

يجري عليهم الحد (حدّا واحدا)، و كان أمير المؤمنين عليه السّلام حاضرا، فمنعه، و اجرى في حقهم حدودا مختلفة من رجم بعض، و جلد بعض، و عفو بعض، و إجراء نصف الحدّ في حق بعض، حتى بلغ الخامس،

قال: أمّا الخامس فكان ذلك بالشبهة، فعزّرناه و ادّبناه. «1»

و لعل مورده كان المشتبه المقصّر، و إلّا لا يمكن التعزير في حق القاصر، و العالم بالخلاف، فلا يجري إلّا في صورة واحدة من الشبهة.

فاللازم ترك هذا العنوان و الرجوع إلى الأحكام التي هي محل الكلام، و قد عرفت آنفا أنّ الزنا له أحكام أربعة: نفى النسب، و نفى العدّة، و نفى المهر، بمقتضى قوله: لا مهر لبغي؛ و الولد للفراش؛ و غير ذلك؛ فلا بدّ من تعيين أنّ لحوق وطئ الشبهة في النسب ناظر إلى أيّ حكم من هذه الأحكام، (و مرادنا من وطئ الشبهة هو العناوين العشر السابقة).

و حل المشكلة يكون من طريقين: من طريق القاعدة؛ ثم من طريق الروايات الخاصة المتفرقة في أبواب مختلفة.

مقتضى القاعدة

هو نفى الحدّ قطعا من تلك العناوين إذا كان معذورا، مثل صورة اليقين و قيام دليل شرعى أو أصل، و صورة الاجبار و الاكراه و الاضطرار، و صورة عدم البلوغ أو عدم العقل، أو النوم و السكر بغير تقصير و معصية؛ فليس في شي ء منها الحدّ، لأنّه ثابت للعصيان. نعم إذا شكت مثلا في بقاء حياة زوجها و لم يقم دليل شرعي على وفاته، فالواجب عليها حفظ أحكام الزوجية؛ فلو تزوجت عالما عامدا، ثم ثبت بقاء زوجها، لا يبعد إجراء الحدّ عليها؛ و كذا إذا شربت المسكر عصيانا و تعلم أو تظن أنّها ترتكب الحرام في تلك الحالة، لا يبعد إجراء الحدّ عليها.

و أمّا بالنسبة إلى المهر، فالقدر المسلم أنّه لا مهر لبغى؛ و أمّا البضع المحترم فلا يكون بغير مهر ففى جميع العناوين العشرة يكون المهر ثابتا بحسب القاعدة، إلّا ما مرّ من أنّه انوار الفقاهة، ج 3، ص:

442

بحكم الزنا.

و بالنسبة إلى النسب، فالعناوين النسبيّة (مثل البنت و الامّ و غيرهما) تصدق في وطئ الشبهة (أعني العناوين المذكورة العذرية)، فيجرى عليها حكم حرمة النكاح و وجوب الارث و الحضانة و غيرها، لقوله صلّى اللّه عليه و آله: الولد للفراش و للعاهر الحجر؛ نعم، لا فرق بين ولد الزنا و ولد الحلال في خصوص حرمة نكاح المحارم، كما عرفت سابقا.

و أمّا العدّة فقد أجمع العلماء على ثبوتها للوطئ بالشبهة، و صرح في الجواهر لا الخلاف فيه، و لا إشكال. «1»

في وجوب العدّة و الوجه فيه ظاهر، فانّ الولد ملحق بأبيه حينئذ، و لازمه حفظ العدة، حتى أنّ الزنا أيضا فيه العدّة على ما اختاره جماعة، و إن كان محلا للكلام؛ و قد وقع التصريح في بعض الروايات بانّه لا بدّ من استبراء رحمها من ماء الفجور. (و تمام الكلام فيه في محلّه).

هذه هو مقتضى القواعد في المسالة، و حاصله، وجوب إجراء أحكام النكاح الصحيح، على العناوين العشرة السابقة، ما عدا الصور التي ليس فيها بمعذور.

مقتضى الروايات

فهي مختلفة جدّا واردة في موارد خاصة، لا تدل شي ء منها على حكم المسالة على نحو كلّي، و لا يوجد فيها عنوان وطئ الشبهة، بعضها تدل على حكم المهر، و بعضها على حكم العدّة و بعضها على حكم النسب؛ و لكن إذا سبرناها سبرا دقيقا لا يبعد اصطياد حكم عام من مجموعها بالنسبة إلى إجراء جميع أحكام المعقودة عليها.

و قد روى في الوسائل في الباب 16 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة، جملة منها؛ و أكثر منه ما رواه في الباب 37 و 38 من أبواب العدد.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 443

فلنذكر ما رواه البابين الأخيرين؛ منها:

1- عن زرارة، عن أبي

جعفر عليه السّلام قال: إذا نعى الرجل إلى أهله أو خبّروها أنّه طلّقها، فاعتدّت، ثم تزوّجت، فجاء زوجها بعد، فان الأوّل أحقّ بها من هذا الرجل، دخل بها أو لم يدخل بها، و لها من الآخر المهر بما استحلّ من فرجها؛ قال: و ليس للآخر أن يتزوّجها أبدا. «1»

2- عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن رجلين شهدا على رجل غائب عند امرأته أنّه طلّقها فاعتدّت المرأة و تزوّجت، ثم أنّ الزوج الغائب قدم فزعم أنّه لم يطلّقها فأكذب نفسه أحد الشاهدين، فقال: لا سبيل للأخير عليها و يؤخذ الصّداق من الذي شهد فيردّ على الأخير؛ و الأوّل أملك بها و تعتدّ من الأخير و لا يقربها الأوّل حتّى تنقضى عدّتها. «2»

3- عن محمّد بن قيس، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن رجل حسب أهله أنّه قد مات أو قتل فنكحت امرأته و تزوّجت سريّته و ولدت كل واحد منهما من زوجها فجاء زوجها الأوّل و مولى السريّة؛ قال: فقال: يأخذ امرأته فهو أحق بها، و يأخذ سريّته و ولدها أو يأخذ رضا من ثمنه. «3»

4- عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إذا نعى الرّجل إلى أهله أو خبّروها أنّه قد طلّقها، فاعتدّت، ثم تزوّجت فجاء زوجها الأوّل؛ قال: الأوّل أحقّ بها من الآخر دخل بها أو لم يدخل بها؛ و لها من الآخر المهر بما استحلّ من فرجها. «4»

5- عن أبي بصير و غيره، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال في شاهدين شهدا على امرأة بأنّ زوجها طلّقها أو مات عنها فتزوّجت ثم جاء زوجها، قال: يضربان الحدّ و يضمنان الصّداق للزوج بما غرّاه،

ثم تعتدّ و ترجع إلى زوجها الأوّل. «5»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 444

6- عن ابن بكير أو عن أبي العباس، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في المرأة تزوّج في عدّتها؛ قال: يفرّق بينهما و تعتدّ عدّة واحدة منهما جميعا. «1»

7- عن زرارة، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن امرأة نعى إليها زوجها فاعتدّت فتزوّجت، فجاء زوجها الأوّل ففارقها و فارقها الآخر، كم تعتدّ للنّاس؟ قال: بثلاثة قروء، و إنّما يستبرء رحمها بثلاثة قروء، تحلّها للناس كلّهم؛ قال زرارة: و ذلك أنّ أناسا قالوا: تعتدّ عدّتين لكلّ واحدة عدّة: فأبى ذلك أبو جعفر عليه السّلام و قال: تعتدّ ثلاثة قروء فتحلّ للرّجال. «2»

8- عن يونس، عن بعض أصحابه في امرأة نعى إليها زوجها، فتزوّجت، ثمّ قدم زوجها الأوّل فطلّقها و طلّقها الآخر، فقال ابراهيم النّخعي: عليها أنّ تعتدّ عدّتين؛ فحملها زرارة إلى أبي جعفر عليه السّلام فقال: عليها عدّة واحدة. «3»

9- عن محمّد، عن أحدهما عليهما السّلام في امرأة زنت و هي مجنونة؛ قال: أنّها لا تملك أمرها و ليس عليها رجم و لا نفى؛ و قال في امرأة أقرّت على نفسها أنّه استكرهها رجل على نفسها، قال: هي مثل السّائبة لا تملك نفسها، فلو شاء قتلها، ليس عليها جلد و لا نفى و لا رجم. «4»

10- عن بعض أصحابنا قال: أتت امرأة إلى عمر، فقالت: يا أمير المؤمنين، أني فجرت فاقم في حدّ اللّه؛ فأمر برجمها و كان على عليه السّلام حاضرا؛ فقال له: سلها كيف فجرت؟ قالت:

كنت في فلاة من الأرض، فأصابني عطش شديد، فرفعت لى خيمة فأتيتها فأصبت رجلا أعرابيا، فسألته الماء، فابى عليّ أن يسقينى إلّا أن أمكّنه من نفسى، فولّيت

منه هاربة، فاشتدّ بي العطش حتّى غارت عيناي و ذهب لساني؛ فلمّا بلغ منّي أتيته فسقانى، و وقع عليّ. فقال له علي عليه السّلام: هذه التي قال اللّه عزّ و جلّ: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ*؛ هذه غير باغية و لا عادية إليه، فخلّ سبيلها؛ فقال عمر: لو لا عليّ لهلك عمر. «5»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 445

11- و هناك رواية اخرى، تدل على حكم الولد و الحاقة به و هو ما عن جميل، عن بعض أصحابه عن أحدهما عليهما السّلام، في المرأة تزوّج في عدّتها. قال: يفرّق بينهما و تعتدّ عدّة واحدة منهما جميعا و أن جاءت بولد لستة أشهر أو أكثر، فهو للأخير؛ و إن جاءت بولد لأقل من ستة أشهر فهو للأوّل. «1»

و لعل الوجه فيه أنّ الفراش للثاني، فاذا أمكن الحاقه به فهو مقدم، و إن لم يمكن الحاقه بالثاني يكون الفراش للأوّل و يلحق به الولد.

و تلخّص من جميع ما ذكرنا من الروايات، بعد ضمّ بعضها ببعض، و الأخذ بلوازمها و ملازماتها، أنّ لوطئ الشبهة عدّة و مهر و يلحقه الولد و لا يكون فيه حدّ؛ نعم، لا تدل على جميع أقسام وطئ الشبهة إلّا بإلغاء الخصوصية منها، و ليس ببعيد.

و يظهر من بعض التعبيرات فيها، أنّ العامة أيضا قائلون بالحاقه بالنكاح، بل قالوا بلزوم العدة لكل واحد من النكاح و وطئ الشبهة مستقلا؛ و مع ملاحظة ما مرّ من حكم القاعدة تتم أحكام المسألة، و لا يبقى فيها شائبة إن شاء اللّه.

***

بقي هنا امور:
1- هل الجهل بالواقع يكون عذرا؟

قد عرفت عند ذكر الأقسام، أنّ الجهل بالواقع قد يكون عذرا، و ذلك إذا كان مع قيام الدليل القطعي كالعلم الخطئي، أو مع قيام الطريق أو

أصل شرعي؛ و قد لا يكون عذرا، و ذلك إذا لم يكن مقارنا لأحد هذه الامور، كما إذا بلغها موت بعلها من طريق الحدس أو الظن أو شهود غير عدول أو شبه ذلك، و شمول القاعدة لمثله مشكل كشمول الروايات ما عدا بعض الاطلاقات الضعيفة.

و يظهر من الجواهر، تقسيمه إلى قسمين: أحدهما، ما إذا كان عالما بالحكم حينئذ بان انوار الفقاهة، ج 3، ص: 446

كان علم بعدم حجية ظنها؛ و ما إذا كان عالما بالموضوع جاهلا بالحكم و لو كان عن تقصير، ثم قال بجريان حكم الزنا على الأول دون الثاني. «1»

و لعل ظاهر كثير من الأصحاب أيضا جريان حكم الشبهة في جميع موارد الشك في الحرمة و لو كان غير معذور لتقصيره في الرجوع إلى أهل الذكر و السؤال عن حكمه، بل ارتكب برجاء أن لا يكون مصداقا للحرام لعدم صدق عنوان الزنا عليه؛ و لذا لا نقول بجريان حكم الزنا على أصحاب المذاهب الباطلة الذين ينكحون ما يحرم عليهم شرعا بحكم الإسلام، و هم مقصرون في البحث و السؤال عن مذهب الحق، بل المجوس الذين يتولدون عن نكاح الاخوة و الأخوات يكونون بحكم صحيح النسب و إن كانوا مقصرين في تحقيق مذهب الحق؛ فهو أيضا من مصاديق الشبهة، و لعل القاعدة المعروفة، لكل قوم نكاح؛ ناظر إلى ذلك؛ فتأمل.

و على كل حال، الحاق جميع الشبهات بمسائل وطئ الشبهة غير بعيد.

2- هل هناك فرق في الشبهة بين الأعمى و غيره؟

المحكى عن الشيخين، و ابن البراج، عدم تصديقه لو ادعي الشبهة بظن الزوجية، و كأنه من جهة أنّ الاشتباه لما كان في حق الأعمى قريبا جدا، وجب عليه غاية التحفظ، فلا يقبل منه دعوى الشبهة.

و لكن يظهر من هذا التعليل أنّه لو كان هناك

نزاع فيه، فإنّما هو في مقام الإثبات، لا في مقام الثبوت، بمعنى أنّه لو جدّ و اجتهد في تشخيص الموضوع و لكن اخطاء في ظنّه أو علمه يقبل منه دعوى الشبهة، بخلاف ما إذا كان متهما في عدم الفحص، فلا يقبل منه فانه يمكن أن يكون هذا العذر ذريعة له إلى الزنا، بان يرتكب هذا العمل الشنيع ثم يعتذر بأنه أعمى لا يعرف زوجته عن غيرها!

3- حكم الوقوع عليها حال سكره

إذا كان واقعها في حال السكر، فان كان السكر بجهالة كان ملحقا بوطء الشبهة لما عرفت من القاعدة؛ و إن كان متعمدا في ذلك و شرب الخمر عالما بها و واقع غير زوجتها في تلك الحالة لم يلحق بوطء الشبهة.

قال في الجواهر: من ارتفع عنه التكليف بسبب محرم كالسكر، فانّ المشهور أنّ وطئ السكران بشرب خمر و نحوه، زنا، يثبت به الحدّ، و ينتفى معه النسب ... بل قيل لم نقف على مخالف في ثبوت الحدّ سوى العلّامة في التحرير، فنفاه عنه، و لكن في غيره وافق المشهور. ثم قال: و لا يخفى على من احاط بالنصوص الواردة في تحريم الخمر و كل مسكر، أنّها ظاهرة أو صريحة في أنّ السكران في أفعاله بمنزلة الصاحى في أفعاله، فيترتب ما يترتب عليه من قود و حدّ و نفى الولد و غير ذلك، و هو معنى قولهم عليهم السلام: أن الخمر رأس كل اثم. «1»

و العجب أنّ العلّامة السبزواري في المهذب «2» بعد نقل هذا القول عن المشهور أورد عليه بما ورد في الروايات من، أنّ الحرام لا يفسد الحلال!؛ و فيه، أنّه لا دخل له بما نحن بصدده، لا نقول أنّ حرمة شرب الخمر توجب حرمة الوطء، بل المقصود أمر

آخر و هو أنّ التسبب بأمر إلى فعل يوجب اسناده إليه إذا كان عالما بالسبب، و عدم تكليفه عند ارتكاب المسبب لا ينافي ذلك، فانه من قبيل، الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

و الاولى أن يفصل في المقام و يقال أنّ الشارب إذا علم أو احتمل احتمالا قويا في أنّه إذا شربها يرتكب قتل النفوس، أو الزنا أو غير ذلك من اصطدام السيّارة و شبهه، يسند هذه الأفعال اليه، فيجوز إجراء أحكامه عليه؛ و إما إذا لم يعلم بها أو احتمل احتمالا ضعيفا لا يعتد به لا يجري عليه أحكامها؛ و اللّه العالم بحقايق أحكامه.

4- الرضاع الحاصل من لبن الشبهة

هل يترتب أحكام الرضاع على اللبن الحاصل من وطئ الشبهه أم لا؟ قال شيخنا

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 448

الأعظم الأنصاري في كتاب النكاح: أمّا الوطء بالشبهة، فالمشهور الحاقه في النشر بالنكاح و أخويه، «1» كما في غالب الاحكام؛ و تردد فيه المحقق في الشرائع؛ و عن الحلّي الجزم بعدم النشر أولا، ثم بالنشر ثانيا، ثم النظر و التردد ثالثا؛ و المسألة محل إشكال ثم ذكر في آخر كلامه ان القول بالنشر لا يخلو من قوة. «2»

و ما ذكره من كلام الحلّي، (ابن ادريس)، اشارة إلى ما أفاده في السرائر ما نصّه: و إنّما التأثير للبن الولادة من النكاح المشروع فحسب! دون النكاح الحرام و الفاسد و وطئ الشبهة لأنّ أصحابنا لا يفصلون بينه و بين الفاسد إلّا في الحاق الولد و رفع الحد فحسب! و أن قلنا في وطئ الشبهة بالتحريم كان قويا، لأنّ نسبه عندنا نسب صحيح شرعى، و الرسول صلّى اللّه عليه و آله قال: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ فجعله أصلا للرضاع؛ ولى في ذلك نظر و

تأمل!. «3»

و تغيير نظره قدّس سرّه في عبارة قصيرة من النفى إلى الإثبات، ثم إلى التردد، يدل على شدة إبهام المسألة عنده؛ و الحال أنّ المسألة ظاهرة بعد ما عرفت من الكلام في احكام وطئ الشبهة بحسب القواعد، و الروايات الخاصة الواردة في المسالة.

و قد عرفت ان الحاق ولد الشبهة بالنسب، بل بالعقد الصحيح في أحكامه المختلفة ممّا لا ينبغي الكلام فيه، ففى الرضاع مثلها، فلو درّ اللبن من ولد الشبهة، و ارتضع به آخر، انتشرت الحرمة؛ لأنّه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ حتى أنّ الروايات الدالة على أنّ الشرط كون اللبن لبن الفحل، «4» أيضا باطلاقها تشمل ما نحن فيه؛ فان المفروض كون اللبن من الفحل؛ و اللّه العالم.

5- ما المراد بالمهر هنا؟

هل المراد به، المهر المسمى، كما إذا كان هناك عقد باطل و ذكر فيه المسمّى (مثل ما إذا

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 449

عقد على المرأة بمهر معين بظنّ موت بعلها أو طلاقه إيّاها)؛ أو المراد مهر المثل، كما إذا لم يكن هناك عقد، بل تخيل أنّها زوجته فوطأها؛ أو قلنا ان العقد الفاسد كالعدم لا يؤثر شيئا، فيرجع في مثل ذلك العقد إلى مهر المثل أيضا.

ثم أنّه ما المراد بمهر المثل؟ هل المراد مهر المثل للزوجة الدائمة، فمن وطأ امرأة أجنبيّة مرّة واحدة بظن أنّها زوجته، وجب عليه بمجرّد ذلك أداء ملائين في عصرنا لها؟! أو مهر المثل، للنكاح المنقطع في مثل هذا الزمان؟ فيه تأمل.

ثم إنّ هناك بحث معروف في أنّه إذا لم يسمّ مهرا في العقد، فالواجب عليه مهر المثل ما لم يتجاوز مهر السنة، خمسمائة درهم؛ فهل يشمل هذا الحكم لما نحن فيه أم لا؟

قال في الشرائع، بعد بيان صحة العقد

بدون المهر و أنّه يجب فيه المهر بعد الدخول،:

المعتبر في مهر المثل، حال المرأة في الشرف و الجمال و عادة نسائها ما لم يتجاوز السنّة و هو خمسمائة درهم.

و قال في الجواهر بعد نقل العبارة: ... بل المشهور نقلا و تحصيلا، بل عن الغنية و فخر المحققين، الإجماع عليه، و هو الحجة؛ مضافا إلى موثق أبي بصير عن الصادق عليه السّلام سألته عن رجل تزوج امرأة فوهم ان يسمّى صداقها حتى دخل بها؛ قال: السّنة، و السّنة خمسمائة درهم. «1»

و قال المغنية، في الفقه على المذاهب الخمسة: الوطء بشبهة يوجب مهر المثل بالاتفاق ... و يقاس مهر المثل عند الحنفية، بمثيلاتها من قبيلة أبيها لا من قبيلة امها؛ و عند المالكية، يقاس بصفاتها خلقا و خلقا؛ و عند الشافعية، بنساء العصبات، أي زوجة الأخ و العم ..؛ و عند الحنابلة، الحاكم يفرض مهر المثل بالقياس إلى نساء قرابتها كأمّ و خالة؛ و قال الإماميّة: ليس لمهر المثل تحديد في الشرع، فيحكم فيه أهل العرف الذين يعلمون حال المراة نسبا و حسبا و يعرفون أيضا ماله دخل و تأثير في زيادة المهر و نقصانه على شريطة أن لا يتجاوز مهر السنّة ما يعادل 500 درهم. «2»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 450

و قد ذكر في الفقه على المذاهب الأربعة، بعد ذكر وجوب مهر المثل في الوطء بشبهة و أنّه ما يسمونه عقرا: و قد فسّره بعضهم بأنّه قدر ما يستأجر به مثلها للزنا لو جاز!. «1»

و التحقيق أن يقال: إن من البعيد جدا وجوب مهر كامل للنكاح الدائم على من اشتبه فوطأ من ليس بزوجته و لو مرّة واحدة؛ و هذا يكون في عصرنا آلاف ألوف بل ملائين،

و المفروض أنّه لم يرتكب حراما لعلمه بذلك.

بل و كذا إذا كان ذلك، بالعقد على امرأة نعى إليها زوجها، أو أخبرت بطلاقها، أو شهدا عليها شاهدان، ثم انكشف و لو بعد يوم أنها ذات بعل، فتركها من دون حاجة إلى الطلاق.

و لم نجد في الروايات إلّا قوله: و لها من الأخير المهر بما استحلّ من فرجها؛ و لا يدل ذلك على وجوب مهر كامل مثل مهر نسائها.

و لعلّ المراد بالباء هنا المقابلة، فتستحق المهر بمقدار استحل من فرجها، فينطبق على مهر المتعة.

نعم، في رواية أبي بصير الواردة في شاهدي الزور على موت الزوج أو طلاقه: و يضمنان الصداق للزوج ممّا غرّاه. «2»

و ظاهرها هو المهر المسمّى الذي يعطى غالبا في أول الأمر، مع أنا لم نجد أحدا أفتى به إلّا ما يحكى عن شيخ الطائفة في المبسوط من القول بوجوب مهر المسمى عليه، لان العقد هو السبب في ثبوت المهر، لأنّه الوجه في الشبهة فكان كالصحيح. «3»

و فيه، أنّ السبب في الشبهة و إن كان هو العقد، و لكن السبب في ثبوت المهر هو الوطء لا العقد؛ و لذا ورد في الروايات أنّ لها المهر بما استحلّ من فرجها، و أنّه لو لم يدخل بها لما وجب عليه مهر أصلا، فالحديث معرض عنه.

هذا كله إذا كان السبب في الشبهة هو العقد؛ أمّا إذا كان سبب آخر من الأسباب السابقة، فلا ينبغي الشك في ثبوت مهر المثل.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 451

و لكن هل هو مهر المثل في النكاح الدائم، أو المنقطع؟ ظاهر الأصحاب هو الأول، لكنه مخالف لقوله: لها المهر بما استحل من فرجها؛ بناء على ظهور الباء في المقابلة، مضافا إلى أنّ فيه ضررا عظيما،

لا سيما في عصرنا، عصر علاء المهور؛ و الالتزام بوجوبه مشكل جدا.

سلمنا، و لكن الروايات الدالة على وجوب تعديل مهر المثل، و أنّه يرد إلى مهر السنّة إذا تجاوز عنها، التي أفتى بمضمونها الأصحاب و ادعى عليها الشهرة بل الإجماع حاكمة هنا، و إليك نصّها:

1- ما عن أبي بصير، قال سألته عن رجل تزوج امرأة، فوهم أن يسمّى لها صداقا حتى دخل بها. قال: السّنة، و السّنة خمسمائة درهم. «1»

و التصريح بالسّنة دون عدم التجاوز عن مهر السّنة، لعله من باب الغلبة فانّ الغالب لا سيما في عصر الصادقين- عدم كون مهر المثل أقل منها.

إن قلت: هذا ناظر إلى النكاح الصحيح الذي لم يذكر فيه المهر، و لا يشمل وطئ الشبهة.

قلنا: يشمله بطريق اولى، فانّ النكاح الصحيح إذا لم يتجاوز عن مهر السّنة، فالنكاح الباطل الموجب للمهر، بطريق أولى، و كذا إذا كان شبهة بلا نكاح.

2- ما عن اسامة بن حفص، و كان قيّما لأبي الحسن موسى عليه السّلام، قال: قلت له: رجل يتزوج امرأة و لم يسم لها مهرا، و كان في الكلام أتزوجك على كتاب اللّه و سنة نبيّه، فمات عنها أو أراد أن يدخل بها، فما لها من المهر؟ قال: مهر السنّة؛ قال: قلت: يقولون لها مهور نسائها. فقال: مهر السّنة. و كلما قلت له شيئا، قال: مهر السنّة. «2»

و قد وصفها بعضهم بالمعتبرة، و لكن لم يرد في الرجال بالنسبة إلى اسامة إلّا أنّه كان قيما للكاظم عليه السّلام.

و التصريح فيها بمهر السنّة و نفى مهر المثل، لعله من جهة تجاوز مهر المثل عنها، بل انوار الفقاهة، ج 3، ص: 452

كان مهر السّنة أقل منه دائما أو غالبا، فاذا كان كذلك في

النكاح الصحيح فوطؤ الشبهة بطريق اولى.

3- و اصرح من الجميع، ما رواه في المستدرك، عن دعائم الإسلام، عن جعفر بن محمد عليه السّلام أنّه قال: من تزوج امرأة على مهر مجهول، لم يفسد النكاح، و لها مهر مثلها ما لم يتجاوز مهر السّنة خمسمائة درهم. «1»

و هو دليل على لزوم ارجاع مهر المثل إلى مهر السنة في هذه الموارد؛ و لكن سنده ضعيف و مع ذلك لا يضر الاستدلال به بعد عمل المشهور بمضمونها، و انضمام روايات المسألة بعضها ببعض، و اعتبار اسناد بعضها.

و العجب من العلّامة السبزواري، في المهذب، حيث جعل العمدة في المقام، خبر المفضل؛ «2» مع أنّ المستند في المسألة غيره ممّا عرفت. ثم أورد على أخبار الباب بأنّ مقتضى الصناعة حمل أخبار الردّ إلى مهر السّنة على الندب، كما هو الجمع الشائع في الفقه من أوله إلى آخره، فما بالهم في نصوص المقام أخذوا بالقيد؟! «3»

و أنت خبير بأن النصوص الدالة على وجوب الردّ، نسبتها مع روايات مهر المثل نسبة العام و الخاص، و الجمع الشائع في جميع الفقه من أوله إلى آخره حمل العام على الخاص، و المطلق على المقيد؛ اللّهم إلّا أن يقال إن الغالب كون مهر المثل أكثر من مهر السّنة، فلا يبقى مورد لتلك الروايات، فالحمل على الاستحباب بعد عدم إمكان التقييد أولى.

و لكن الانصاف أنّه لا ينبغي ترك الاحتياط في المسألة مع ذهاب معظم الأصحاب- كما حكي عنهم- إلى وجوب الرّد.

و الأمر فيما نحن فيه، (أي أخبار وطئ الشبهة)، أوضح؛ لعدم ذكر مهر المثل فيها بل المذكور فيها، أنّ لها المهر بما استحل من فرجها؛.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 453

و على كلّ، لا يترك الاحتياط بالمصالحة فيما

زاد على مهر النكاح المنقطع، و ما زاد على مهر السنّة؛ نعم، لو كانت الزوجة باكرة كان لها مهر خاص يناسبها، و اللّه العالم بحقايق احكامه.

6- حكم الاستنساخ

هناك مسألة مستحدثة، تناسب من بعض الجهات مسائل النسب و الوطء بالشبهة، و هي ما ظهر في أيّامنا من خلق الشبيه بطرق خاصة، و يعبر عنه في العربية بالاستنساخ و في اللّاتينية؛ بكلونينگ؛ و هو مبنى على نظرة علميّة، و هى ان كل خليّة من خليّات بدن الانسان تحمل جميع صفاته بحيث لو أخذت خلية من نفس دم الإنسان أو بعض أعضائه، ثم تجعل في بويضة الانثى، ثم تجعل في رحم انثى، تولد منها من يشبه الإنسان الأول في جميع أوصافه من دون حاجة إلى تركيب نطفة رجل و انثى أبدا.

و قد اختبروا ذلك في بعض الحيوانات، فكانت النتيجة ايجابية، و إلى الآن لم يختبر ذلك في الإنسان، و لكن الظاهر أنّ النتيجة واحدة.

و حينئذ تبدو تساؤلات كثيرة؛ منها:

1- ما حكم هذا العمل في نفسه، فهل هو جائز في نفسه أم لا؟ و لم لا يجوز.

2- لو تولد إنسان من هذا الطريق، هل يجري عليه أحكام المحرمات النسبية في باب النكاح؟

3- هل يرث من أحد؟

4- هل تجب نفقته و حضانته على أحد؟

5- هل يجوز قتله؟

إلى غير ذلك من الأحكام.

و الذي ينبغى أن يعلم اوّلا أنّه ليس هذا أمرا عجيبا، و لا من عنوان الخلق في شي ء؛ بل من قبيل ما هو المعمول في عالم النبات و الشجر الذي يسمى في الفارسيّة با قلمه زني؛ بان يؤخذ جزء صغير من الشجر، و يجعل في أرض مستعدة، فتحصل له اصول و ينمو في انوار الفقاهة، ج 3، ص: 454

الأرض، فالذى يأتي بذلك

لم يخلق شجرا و لا نباتا، بل أخذ جزء من شجر يشمل على جميع صفاته، فغرسه في الأرض، فنما بطبيعة ذاته، و صار شجرا كالشجر الأول من جميع جهاته؛ إلّا أنّه لما لم يعهد ذلك في الحيوانات و الإنسان، صار عجيبا في بدو النظر. و الأصل في ذلك ما ذكرنا من أنّ كل خليّة من خلايا الإنسان تشتمل على جميع خصائصه، و في الواقع يكون كبذر إذا القى في أرض مستعدة، اهتزت و ربت و انبتت.

و من الجدير بالذكر، أنا قد تفرسنا لذلك قبل ثلاثين أو أربعين سنة، و كتبناه في كتاب المعاد، حيث لم يكن شي ء من هذه الاكتشافات العلميّة، و قد انتشر في تلك الأيّام؛ و ذلك بمناسبة شبهة الآكل و المأكول في أبواب المعاد الجسماني، و أنّه لو تغذى إنسان من بدن إنسان آخر (بلا واسطة أو بعد عوده ترابا ثم شجرا و ثمرا)، و قلنا بالمعاد الجسماني، فان رجع الإنسان المأكول إلى محله، بقي الإنسان الآكل ناقصا، و إن لم يرجع لم يكن له معاد.

قلنا: كل خلية من خلايا الإنسان تحمل جميع أوصافه، فلو عاد المأكول إلى محله و صار الآكل ناقصا، أو لم يبق منه إلّا خليّة واحدة، يمكن أن تنمو و تربو و يرجع الآكل كاملا و كنا بعينه الإنسان الأول.

إذا عرفت ذلك، أنّه تارة يبحث عن حكمه جوازا و حرمة، و ثانيا عن أحكام من يتولد منه.

أما الأول: فتارة يبحث عن الامور الجانبيّة، و اخرى عن نفس ذاته؛ أمّا الأول، فلا شك أنّه يستلزم النظر و اللمس الحرام غالبا إلّا ان يكون العالم الذي يتصدى لذلك زوجا لها، فمن هذه الناحية حرام شرعا.

و أمّا الثاني، و هو العمدة،

فقد خالف فيه و منعه علماء الأخلاق من جميع الأمم على اختلاف مشاربهم، و قالوا يلزم منه مفاسد كثيرة، و قد أشاروا إلى امور سيأتي بعضها.

و أمّا من ناحية الفقه الاسلامي، فالحكم الاوّلى في بدو النظر، بمقتضى أصالة الاباحة، هو الجواز، لو أمكن الاجتناب من الامور الجانبية بما عرفت؛ و قد عرفت أنّ ما قد يقال من أنّه تصرف في أمر الخلقة، و هم باطل، بل هو من قبيل تكثير النباتات و الاشجار من انوار الفقاهة، ج 3، ص: 455

طريق الاستنساخ، فالذى يتصدى لذلك يجعل خلية الإنسان في مكان يستعد للنموّ، كإلقاء البذر في أرض مستعدة. فليس هذا من التصرف في أمر الخلقة من شي ء؛ و لذا لم يستشكل عليه أحد فيما نعلم إذا جري في عالم النبات و الحيوان، و لا يزال العلماء يستنتجون أنواعا جديدة من النباتات و الاشجار المثمرة من طريق التصرف في الجن (ژن)، و من طرق اخرى، و كذلك في انتخاب الأصلح في الحيوانات.

و كذلك ما يقال أنّ قوله تعالى حاكيا عن ابليس: ... وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ...، «1» يدل على عدم جواز الاستنساخ، فانّه تغيير في خلق اللّه.

و الجواب بالنقض أولا، ان جميع ما يعالج به الإنسان في عالم النبات و الحيوان بابداع أنواع جديد من طريق علمى، و كذلك عملية التجميل التي قد يجعل القبيح جميلا و غير ذلك، من تغيير خلق اللّه، و لم يمنعه أحد. و بالحل ثانيا، أنّ المراد من تبديل خلق اللّه كما ورد في التفاسير و الروايات تبديل فطرة التوحيد إلى الكفر، كما قال اللّه تعالى:

... فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ .... «2»

و أسوأ حالا من هذا

الدليل، ما قد يقال من أنّه يوجب التفريق بين المرء و زوجه، مثل ما ورد في قصة هاروت و ماروت.

و جوابه واضح، فانّ الاستنساخ لا ربط له بالزوجية، فلا مانع منه من ناحية العناوين الاوّليّة.

هذا، و لكن عند التأمّل يوجب مفاسد الاخلاقية، و حقوقية؛ أمّا الأوّل فان معناه إمكان ترك الزواج و ترك تشكيل الأسرة، و الاقبال على الاستنساخ، و صيرورة المرأة حاملا بدون الزوج، بل كون حمل المراة من قبل نفسها! بالاستنساخ من طريق زرع جزء منها في رحمها، و ما أقبح ذلك!

و من الناحية الثانية، يوجب اختلال نظام الأسرة، فلا يكون لهذا المولود والد، بل و لا والدة، و سائر العلاقات النسبيّة، و يكون من ذلك مشاكل اجتماعية قطعا، فانّ الإنسان انوار الفقاهة، ج 3، ص: 456

ليس كالشجر يستكثر من طريق الكولون و الاستنساخ؛ و لذا لا يزال كل إنسان في جميع أصقاع العالم يحتفظ بمكانته من حيث النسب، لما يترتب عليه من آثار كثيرة؛ فعلى رغم أنّه لم يمنع هذا العمل آية و لا رواية- لعدم كونه موجودا في سابق الأيّام، لا يمكن للفقيه المسلم ترخيص هذا الأمر.

و ما قد يقال أنّ له عدة آثار ايجابيه مثل استنساخ بعض الأذكياء، و ذوي الاختراعات و النوابغ. و هذه ثروة عظيمة للمجتمع الإنساني، و كذلك انتاج أعضاء مبدّلة بحيث يمكن زرعها في جسم الإنسان.

و كذلك حلّ مشكلة الذين لا يقدرون على الانجاب و التوالد.

و لكن الظاهر، عدم القيمة لشي ء، من ذلك، أمّا استنساخ بعض الأذكياء يعارضه إمكان استنساخ الأشقياء أيضا أمثال هيتلر أو الحجاج أو غيرهما، كما استفادوا من طاقة الذرّ، في مسير التخريب أكثر منه في مسير العمران و الصلاح.

و أمّا الأعضاء المبدلة، فالظاهر

أنّه لا يمكن انتاجها إلّا بانتاج إنسان كامل، ثم قتله و أخذ بعض أعضائه، و الحكم بجوازه أمر عجيب! لا يصدر عن إنسان عاقل.

و أمّا الانجاب للذين لا يقدرون عليه، فله طرق أسهل من ذلك و أرخص، مثل تركيب نطفة امرء و زوجته، ثم زرعه في رحم امرأة تقدر على حفظها و انجابها.

هذا كله من ناحية حكمه الشرعي التكليفي.

و أما الثاني، لو تولّد من هذا الطريق ولد- قلنا بمشروعية نفس العمل أم لا- فما حكم هذا الولد من ناحية المحرميّة و الارث و النفقة و الحضانة و غيرها.

مقتضى القاعدة، عدم جريان أحكام العناوين النسبية عليه، لعدم صدق الولد و الأخ و العمّ و غير ذلك عليه، لأنّ المفروض عدم استناده إلى تركيب نطفة الرجل و المرأة، بل تولّد على نحو الاستنساخ؛ و لكن الأحوط إجراء أحكام الولد الرضاعي عليه، لأنّ المفروض إنبات لحمه و شدّ عظمه من المراة التي تولد منها، فكيف يجوز نكاحها له، و كذا نكاح بناتها، و ما أشبه ذلك، فلو لم نقل بالتحريم قطعا، فلا أقل من الاحتياط اللازم.

و أمّا الارث، فلا وجه لها هنا، لعدم صدق العناوين النسبية عليه، كما عرفت؛ نعم،

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 457

يجوز له التزويج بغير من عرفت، فيرث عنه أولاده و زوجته، و لو لم يكن له أولاد و زوجة، يرثه الإمام عليه السّلام و نائبه.

و أمّا حكم النفقة و الحضانة، فهو أيضا سلبيّ لعين ما عرفت، إلّا أن يقال إن الذي تسبب لهذا الأمر، و أوجد هذا الولد، فهو بحكم العقلاء من أهل العرف ملزم بلوازمه، فيرونه مسئولا و مأمورا بالانفاق عليه و حفظه و حضانته.

و أمّا أحكام الإسلام بعد بلوغه و قبوله الإسلام، فلا

شك في جريانه عليه، بل الظاهر الحاقه بالمسلمين لو كان الاستنساخ من مسلم، لا سيما إذا تولد من مسلمة، لأنّه لا يقلّ عن ولد الزنا شيئا الذي ملحق بهم، كما أنّه تولد و استنسخ من كافر كان قبل البلوغ بحكم الكفار؛ و اللّه العالم بحقايق احكامه.

***

[القول في الرضاع

اشارة

(1) القول في الرضاع انتشار الحرمة بالرضاع، يتوقف على شروط:

الأول؛ أن يكون اللبن حاصلا من وطئ جائز شرعا بسبب نكاح، أو ملك يمين، أو تحليل، أو ما بحكمه كسبق الماء إلى فرج حليلته من غير وطئ؛ و يلحق به وطؤ الشبهة على الأقوى.

فلو درّ اللبن من الامرأة من دون نكاح و ما يلحق به، لم ينشر الحرمة. و كذا لو كان من دون وطئ و ما يلحق به و لو مع النكاح؛ و كذا لو كان اللبن من الزنا؛ بل الظاهر اعتبار كون الدرّ بعد الولادة، فلو درّ من غير ولادة و لو مع الحمل، لم تنشر به الحرمة على الأقوى.

أسباب التحريم في باب النكاح

(2) أقول: ذكر الأصحاب للتحريم في باب النكاح اسبابا ستة:

أولها النسب، ثانيها الرضاع، ثالثها المصاهرة، رابعها استيفاء العدد، خامسها اللعان، سادسها الكفر؛ و ما نحن فيه هو السبب الثاني. و هذه المسألة على إجمالها من المسائل المبتلى بها و إن كانت في سابق الأيام أشدّ ابتلاء بالنسبة إلى أعصارنا، لعدم الداعى إلى الارتضاع من الغير بعد وجود أنواع المواد المغذية للأطفال؛ بل كثير من الامهات لا يرضعن أولادهن مع مزيد اللبن لهن خوفا من تغييرات حاصلة في صدرهن، أو

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 459

لاشتغالهن في الامور المختلفة الاجتماعيّة أو غير ذلك؛ رغما لما ثبت من الخبراء من أن ترك ارضاعهن لأولادهن يوجب اضرارا كثيرة عليهن و على أولادهن و ربما يكون سبب لأمراض هائلة.

هذا، و لكن مسألة الارضاع صارت محلا للابتلاء من جانب آخر، و هو كثرة التبنّي في عصرنا، لوجود أطفال لا يعرف آبائهم، أو يعرفوا و لكنهم غير قادرين على حضانة أولادهم، و الطالبون لحضانتهم طالبون لكونهم من المحارم؛ و سبب المحرميّة في

كثير من الأوقات هو الرضاع من الأقارب؛ و على كل حال ففي هذه المقدمة فروع متعددة.

أدلّة نشر الحرمة بالرضاع

فنقول: لا إشكال و لا كلام في نشر الحرمة بالرضاع إجمالا، بل هو من المسلمات عند جميع الفرق الإسلاميّة. و يدل عليه على إجماله الأدلة الثلاثة؛ (فانّه لا سبيل للعقل في أمثال هذه المسائل، غير استحسانات ظنية).

1- الإجماع من جميع فقهاء الإسلام، بل هو ضروري من ضروريات الدين يعرفه كل مسلم.

2- كتاب اللّه العزيز، و قد قال اللّه تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ- إلى أن قال- وَ أُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ .... «1» و المراد منها غير الوالدة، بقرينة المقابلة.

نعم، الموجود في الآية الشريفة من المحرمات التسع النسبيّة، اثنان منها، و الباقى يعلم من السّنة، و كم له من نظير في أبواب الفقه، و لا يبعد دلالة الآية على حكم البنت و الجدّة.

3- الروايات الكثيرة المتضافرة، بل المتواترة التي وردت من طرق العامة و الخاصة، و هي على قسمين:

قسم منها عام شامل لجميع المحرمات النسبيّة، و يستفاد منها قاعدة كلية لهذه انوار الفقاهة، ج 3، ص: 460

الأبواب؛ و قسم منها خاص وارد في بيان بعض الشروط بما يعلم منه أنّ أصل الحرمة على إجمالها قطعي.

و من الأول، الحديث المعروف النبوي صلّى اللّه عليه و آله: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.

و في بيان آخر، يحرم من الرضاع من يحرم من القرابة.

و في بيان ثالث: الرضاع لحمة كلحمة النسب.

أما الأول، فقد ورد في روايات كثيرة من طرقنا و من طرقهم، فقد رواه في الوسائل، في الباب الاول من أبواب الرضاع، عن طرق سبعة: عن بريد، و أبي الصباح الكنانى، و داود بن سرحان، و

عبيد بن زرارة، و عبد اللّه بن سنان، و الحلبي، و عثمان بن عيسى؛ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تارة، و عن الصادق عليه السّلام اخري، و عن أبي الحسن عليه السّلام ثالثة. «1»

و أمّا الثاني، فقد رواه عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في نفس الباب بطريقين. «2»

و أمّا الثالث، فقد قال النراقي، في المستند: ورد في السنة المقبولة عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال:

الرضاع لحمة كلحمه النسب. «3»

و اللحمه أو اللحمة من الثوب، ما يقابل السدي؛ و الأول الخيوط العرضية، و الثانى الخيوط الطولية، و في الفارسيّة يعبر عن السدي و اللحمة بتار، و پود؛ و من الواضح أن غير الأقارب من النسب، لا علاقة بينهم كالسدي، و الرضاع يوجب العلقة كاللحمة في الثياب و هو تشبيه حسن جدا.

هذه الروايات منقولة في كتب الفقه و الفتاوى، و بعض كتب التفسير، مثل المهذب البارع، و الجواهر، و جامع المقاصد، و شرح اللمعة، و المسالك، و الحدائق، و الرياض، و مستند النراقي، و تفسير الميزان، و تفسير الصافي و غير ذلك؛ و لكن جميع المحققين لهذه الكتب اعترفوا بعدم وجدانهم أثرا من هذه الرواية في منابع الحديث، و اللّه العالم.

و روى في المستدرك، عن دعائم الإسلام مرسلا؛ روينا عن جعفر بن محمد، عن أبيه،

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 461

عن آبائه، أنّ رسول اللّه قال: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. «1»

و عن عوالى اللئالى، عن سعيد بن المسيّب، عن على بن أبي طالب، قال: قلت: يا رسول اللّه! هل لك في بنت عمك حمزة، فانّها أجمل فتاة في قريش. فقال: أمّا علمت أن حمزة أخي من

الرضاعة، و أنّ اللّه حرّم من الرضاعة ما حرّم من النسب. «2»

و قد ورد من طرق العامة روايات متعددة:

1- ما رواه عائشة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ذيل حديث طويل، قال صلّى اللّه عليه و آله: أنّ الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة. «3»

2- و روى هذه الرواية باسناد أخر عن عائشة أيضا.

3- ما رواه ابن عباس عنه صلّى اللّه عليه و آله، بعد ذكر ابنة حمزة عنده، قال: أنّها لا تحل لي، أنّها ابنة أخي من الرضاعة، و أن اللّه حرّم من الرضاعة ما حرم من النسب. «4»

إلى غير ذلك ممّا في هذا المعنى، و يستفاد من الجميع أنّ الحديث من الأحاديث المتضافرة بل المتواترة.

و أمّا الأحاديث من القسم الخاص، فهي أيضا كثيرة غاية الكثرة، تأتي في الأبحاث الآتية إن شاء اللّه تعالى.

***

بقي هنا أمر: الرضاع لحمة كلحمة النسب

يستفاد من هذه الروايات على اختلاف الفاظها، قاعدة عامة لأبواب الرضاع؛ و بها ينقطع أصالة الحلّ عند الشك. فانّها أصل عملي و هو الاستصحاب أو أصالة الحل؛ و القاعدة عموم لفظى مقدم عليها.

و حينئذ ينبغي التنبيه على أمور:

الأول: معنى القاعدة على ما يتبادر منها، و صرح به غير واحد من الأصحاب أنّه يحرم من الرضاع نظير ما يحرم من النسب، (بتقدير كلمة نظير)، فانّ نفس ما يحرم بالنسب لا يحرم بالرضاع لأنّه تحصيل للحاصل، بل يحرم نظيره من العناوين الرضاعية؛ و يمكن أن يقال بعدم الحاجة إلى التقدير فإنّه صلّى اللّه عليه و آله يقول يحرم من الرضاع ما يحرم ... (لا من يحرم)؛ و ما، هنا إشارة إلى العناوين الحرمة النسبية، فكلّ عنوان نسبى محرم (مثل الام و الاخت ...) محرم من ناحية الرضاع.

الثاني: كلّما يحرم في النسب يحرم في الرضاع عدا ما خرج بالدليل، فيشتمل المحرمات التسع النسبية: الام، و البنت، و بنت البنت، و الاخت، و الجدّة، و بنات الأخ، و بنات الاخت، و العمة، و الخالة؛ فاذا ارتضع ولد عن امرأة، حرمت عليه هذه العناوين بل و غيرها. كما سيأتي إن شاء اللّه. و لكن لا تشمل المحرمات بالمصاهرة كما هو واضح، و سيأتي أمثلتها.

الثالث: هل يمكن التمسك بالقاعدة عند الشك في الشرائط، كما إذا شككنا في عدد الرضعات، و أنّها عشرة أو خمسة عشرة، أو شككنا في اعتبار كون اللبن من الولادة، أو في السنتين أو غير ذلك، أم لا؟

قد يسبق إلى الذهن في بادي النظر أنّها عامة من جميع هذه الجهات، و لكن الانصاف انّ عموم الرواية قابل للمناقشة، نظرا إلى أنّ الظاهر عدم كونها في مقام البيان من غير جهة العناوين المحرمة

كالأم و الاخت و غيرها. لأنّ القدر المتيقن منه كونها في مقام البيان من هذه الجهة لا غير، فليست ناظرة إلى الشرائط و غيرها.

إن قلت: هل للرضاع حقيقة شرعيّة لا بدّ من كشفها و اتباعها، أو هو معمول على معناه اللغوي و العرفي؟ لا دليل على الأول، بل الحق هو الثاني، فحينئذ لا ريب في صدق الرضاع بحسب معناه العرفي و اللغوي على عشر رضعات، بل و أقل؛ و هكذا غيره من الشرائط، فاللازم الأخذ بعمومها إلّا أن يقوم دليل على خلافه.

قلت: لا ندعي الحقيقة الشرعيّة للرضاع، و لا نعتقد بعدم صدقه في موارد الشك من انوار الفقاهة، ج 3، ص: 463

هذا القبيل؛ بل إنّما نقول أنّ ظاهر الحديث كون حقيقة الرضاع أمرا معلوما في ذهن المخاطبين بهذه الروايات، و إنّما تتكلم الرواية عن حكمه و هو تحريم العناوين المحرمة النسبية لا غير؛ و لا أقل من الشك في كونها في مقام البيان من هذه الناحية، و الأصل عدمه؛ و هذا مثل أن يقال الطلاق الثالث يحتاج إلى المحلل، و من الواضح أنّه لو شككنا في اعتبار بعض شرائط الطلاق، لا يجوز الأخذ باطلاقه.

نعم، لو قال الشارع كل صبي إذا ارتضع من غير امّه حرمت عليه و ...، لم يبعد دعوى الاطلاق من جميع الجهات؛ فتدبّر جيّدا.

و الحاصل، أنّ دعوى العموم أو الاطلاق فيها من غير ناحية العناوين الحرمة النسبية.

أضف إلى ما ذكرنا، أنّها لو كانت عامة، وردت عليها تخصيصات كثيرة، لعلها في حدّ المستهجن؛ فتأمل.

الرابع: لا بدّ لنا من تأسيس الأصل في المسألة حتى نرجع إليه عند الشك في بعض المسائل الآتية، فنقول- و منه جل ثنائه نستمد التوفيق و الهداية-:

الشك إن كان في الشبهات

الحكميّة، أي لا تعلم أنّ حكم الشارع في المسألة الكذائية هو تحقق الرضاع المحرم، أو لا؛ فان كان في دائرة شمول القاعدة المذكور، فالمرجع هي القاعدة و نحكم بالشمول و ثبوت حكم الرضاع. و إن كان خارج عن هذه الدائرة، كما إذا شككنا في عدد الرضعات و كيفية الرضعة و اشتراط السنتين و غير ذلك، نحكم بالعدم اما لاستصحاب بقاء الحلّية (لو قلنا بجريانه في الشبهات الحكمية)، أو لأصالة الحليّة الجارية في جميع موارد الشك في الحليّة و الحرمة.

و قد لا يكون هناك حالة سابقة حتى يجري فيه الاستصحاب، كما إذا ارتضع ولد من مرضعة بكيفية خاصة مشكوكة، ثم بعد ذلك تولدت منها بنت، فليس لهذا البنت حالة سابقة محللة حتى تستصحب؛ فاللازم الحكم بالحلية بمقتضى قاعدة الحلّ.

و أمّا لو كانت الشبهة موضوعيّة، كما إذا شككنا أنّ عدد الرضعات حصلت أو لا؛ فلا شك في جريان استصحاب الحل لو كان له حالة سابقة، و إلّا يرجع إلى قاعدة الحلّ فانّها عامة للشبهات الحكمية و الموضوعيّة.

***

شرائط الرضاع:
1- لا بدّ أن يكون اللبن حاصلا من وطئ جائز شرعا
اشارة

قال في المسالك: أجمع علمائنا على أنّه يشترط في اللبن المحرم في الرضاع، أن يكون من امرأة عن نكاح؛ و المراد به هنا الوطء الصحيح، فيندرج فيه الوطء بالعقد دائما و متعة، و ملك يمين و ما في معناه، و الشبهة داخلة فيه. «1»

و قال شيخنا الأنصاري قدّس سرّه في كتاب النكاح: الأول (من شرائط الحرمة)، أن يكون اللبن عن وطئ صحيح، فلو درّ لا عن وطئ، أو عن وطئ بالزنا، لم ينشر على المعروف بين الأصحاب، و حكى عليه الإجماع في المدارك عن جماعة، منهم جدّه في المسالك. «2»

و في هامش الكتاب: كذا في النسخ، و لم يخرج من

مدارك الأحكام، إلّا العبادات إلى آخر كتاب الحج، و ما نسبه إليه موجود في نهاية المرام، لصاحب المدارك. و لعل المؤلف كان يراها تتمة للمدارك، (انتهى).

و الاولى أن يقال هذا من سهو قلمه الشريف؛ فانّ الجواد قد يكبو.

و قال في الجواهر في شرح كلام المحقق: فلو درّ من الامرأة من دون نكاح، فضلا عن غيرها من الذكر و البهيمة، لم ينشر حرمة بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه. «3»

و قال شيخ الطائفة قدّس سرّه في الخلاف، في المسألة 22 من كتاب الرضاع: إذا درّ لبن امرأة من غير ولادة، فارضعت صبيا صغيرا، لم ينشر الحرمة. و خالف جميع الفقهاء في ذلك، دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم.

و ظاهر هذه الكلمات كون المسألة اجماعيّة بيننا، و لكن المخالفون باجمعهم على خلاف ذلك، أي نشر الحرمة على كل حال.

و على كل حال، استدل لاشتراط هذا الشرط على إجماله، تارة بالأصل- أي أصالة

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 465

الحليّة بدون هذا الشرط-، و اخرى بروايات وردت في هذا المعنى، (و هي العمدة)، منها:

1- ما عن يونس بن يعقوب، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: سألته عن امرأة درّ لبنها من غير ولادة، فارضعت جارية و غلاما من ذلك اللبن، هل يحرم بذلك اللبن ما يحرم من الرضاع؟ قال: لا. «1»

و جعلها العلّامة المجلسي (قدّس سره) من قسم الموثق في مرآت العقول، و ليس في رجال السند من يغمز فيه، و لكن دلالته مقصورة على من درّ لبنها من غير ولادة، و لا يشمل لبن ولد الزنا و نحوه.

2- ما عن يعقوب بن شعيب، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: امرأة درّ لبنها من غير ولادة، فارضعت ذكرانا

و اناثا، أ يحرم من ذلك ما يحرم من الرضاع؟ فقال لي: لا. «2»

و الظاهر ضعف سند الحديث بجهالة موسى بن عمر البصري، فانّه لم يذكر في بعض كتب الرجال أصلا، و ذكر في بعضها الآخر من غير مدح و ذم، و ذكر بعضهم أنّه متحد مع موسى بن عمر بن يزيد، الذي هو أيضا مجهول. و لكن يبعد اتحادهما، لأنّ موسى بن عمر بن يزيد كان له كتاب يرويه عنه محمد بن علي بن محبوب، و الحال أنّ سند الرواية التي مورد البحث هو محمد بن علي بن محبوب، عن عبد اللّه بن جعفر، عن موسى بن عمر؛ و على كل حال سند الرواية ضعيف، و لكن لا يضر بالاستدلال بعد ما عرفت من اعتبار الرواية السابقة، مضافا إلى عمل المشهور الذي جابر لضعف الاسناد.

و الإشكال في دلالتها، لكونها أخص من المدعى كسابقتها.

و هناك روايات آخر تدل المقصود بالمفهوم:

1- ما ورد في باب اشتراط اتحاد الفحل- أي الشرط الرابع من الشرائط الأربعة لنشر الحرمة بالرضاع- و هي صحيحة بريد العجلي في حديث، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، فسّر لي ذلك. فقال: كل ارضعت من لبن فحلها ولد امرأة اخرى من جارية أو غلام، فذلك الذي قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ... أي،

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 466

قال فيه يحرم من الرضاع، إلى آخره. «1»

فان ذلك يدل على أنّ المعتبر في نشر الحرمة في الرضاع، أاتحاد الأب الرضاعي، و لا يكفى اتحاد الام، و بطريق أولى لا يكفى ارتضاعهما ممّا درّ من ثدي المرأة.

اللّهم إلّا أن

يقال إن الحديث ليس في مقام البيان من هذه الجهة، و إنّما هو ناظر إلى أنّه لو كان اللبن من الولادة لا بدّ أن يكون لفحل واحد، أمّا إذا لم يكن من الولادة فهو ساكت عنه؛ و الانصاف أنّ دلالتها لا بأس بها.

2- ما رواه عبد اللّه بن سنان، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن لبن الفحل. قال: هو ما أرضعت امرأتك من لبنك و لبن ولدك ولد امرأة اخرى، فهو حرام. «2»

بناء على كون المراد منه، السؤال عن لبن الفحل الذي هو معيار نشر الحرمة في الرضاع، و لو لا ذلك كان مجال الإشكال في دلالته واسع. و سند الحديث معتبر كما هو ظاهر.

3- ما عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، قال؛ سألت أبا الحسن عليه السّلام ... إلى أن قال: اللبن للفحل. «3» و دلالتها أيضا مشكلة.

4- ما عن الحلبي، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام ... إلى أن قال: إن كانت المرأتان رضعتا من امرأة واحدة من لبن فحل واحد، فلا يحلّ. «4» و هي أيضا كسابقتها؛ إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا الباب.

و لكن إمكان المناقشة في الجميع، من ناحية عدم كونها في مقام البيان من جهة الدرّ و شبهه، يمنع عن الاستدلال بها؛ فالعمدة الحديثان الأولان مع عمل المشهور.

بقي هنا شي ء:

و هو أنّ ظاهر فقهاء العامّة، أنّ المراد بلبن الفحل هو أنّه هل يصير زوج المرأة ابا

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 467

للمرتضع حتى تحرم المحرمات النسبية من قبله أم لا؛ قال ابن رشد في البداية: هي التي يسمونها لبن الفحل، فانّهم اختلفوا في ذلك (أي لبن الفحل)، فقال مالك و أبو حنيفة و الشافعى و أحمد و

الأوزاعي و الثوري: لبن الفحل يحرّم؛ و قالت طائفة: لا يحرم لبن الفحل. و بالأول قال عليّ، و ابن عباس، و بالقول الثاني قالت عائشة، و ابن الزبير، و ابن عمر. «1»

و حاصله أنّه هل تنشر الحرمة من قبل الرجل الذي صاحب اللبن، فيكون صاحب اللبن بمنزلة الاب، و أخوه بمنزلة العم، إلى غير ذلك؛ أو تنشر الحرمة من قبل الام فقط.

و الحال انّ الخاصة تفسير لبن الفحل- تبعا لأئمتهم المعصومين عليهم السّلام- بأمر آخر، و هو أنّ اللبن إنّما يحرم إذا كان لأب واحد، فلو كان لفحلين لا يحرم، و إن كانت الام واحدة. و بعبارة اخرى، الاخوة الرضاعيّة من ناحية الام فقط غير كافية في اثبات الحرمة، و لكن الاخوة الرضاعية من قبل الأب فقط، كاف؛ على خلاف ما يظهر من العامة، فان الأول مسلّم عندهم و الثاني محل للكلام.

اقسام اللبن الخارج من ثدى المرأة

هذا تمام الكلام في اعتبار كون اللبن عن الوطء الجائز في نشر حرمة الرضاع، على إجماله.

أمّا تفصيله، فهو أنّ اللبن الخارج عن ثديها على أقسام:

تارة يكون من الدرّ، سواء كانت المرأة غير منكوحة، أو منكوحة غير مدخولة، أو كانت مدخولة و لكن لم يكن اللبن مستندا إلى الدخول.

و أخرى يكون من الزنا.

و ثالثة من سبق الماء إلى الحليلة من دون دخول.

و رابعة من الوطء شبهة.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 468

و خامسة من الوطء الجائز مع الحمل.

و سادسة من الوطء الجائز بعد الولادة، قبل ولوج الروح، و بعده مع كونه لا يعيش، و مع كونه يعيش، فهذه ثلاث صور.

أضف إلى ذلك كله صورة اخرى، سيأتي الكلام فيها بأقسامه، و هي ما إذا كان بعد الطلاق.

لا شك في شمول الأحكام للأخيرة، أي السادسة ببعض اقسامها، فانّه

القدر المتيقن من الحرمة.

[أحكام الصور]
1- حكم الدرّ من دون حمل

كما أنّه لا شك في خروج الاولى، أي الدرّ مطلقا من دون حمل، عن حكم الحرمة، لأنّه القدر المتيقن من عدم الحرمة؛ فيبقى الكلام في الصور الأربع الباقية.

2- عدم نشر الحرمة بالزنا

أما الصورة الثانية، أي اعتبار حلية الوطء و عدم نشر الحرمة بالزنا، فقد ادعى في الجواهر الإجماع بقسميه عليه. «1»

قال: لا ينشر لو كان عن وطئ زنا، و لو مع الولادة بالإجماع.

و لكن حكى عن ابن الجنيد: أنّها لو أرضعت بلبن حمل من زنا، حرمت و أهلها على المرتضع، و كان تجنبه من أهل الزاني احوط و أولى. «2»

و قال النراقي (قدس سره) في المستند: فلا يحصل الرضاع المحرم للنكاح، باللبن الحادث من الزنا إجماعا محققا و محكيا في السرائر و التذكرة، و شرحى القواعد للمحقق الثاني و الهندي، و شرح النافع للسيد، و المفاتيح و شرحه، و ظاهر المسالك و الكفاية و غير ذلك. «3»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 469

و وافقنا في ذلك الشافعي و بعض الحنابلة؛ و قال بعضهم ينشر الحرمة بينهما. «1»

و يستدل له بامور:

1- أصالة الحلية، و لكنها مدفوعة بقاعدة يحرم من الرضاع.

2- بما في الدعائم، عن علي عليه السّلام انه قال: لبن الحرام لا يحرم الحلال، و مثل ذلك ارضعت بلبن زوجها، ثم أرضعت بلبن فجور. قال: و من أرضع من فجور بلبن صبية، لم يحرم نكاحها، لأن اللبن الحرام لا يحرم الحلال. «2»

و سند الرواية و إن كان ضعيفا، إلّا أنّه مجبور بعمل الأصحاب.

3- هذا مضافا إلى انصراف ادلة الحرمة، مثل قوله تعالى: وَ أُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ ...، عن محل الكلام؛ و كذا قوله صلّى اللّه عليه و آله: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ فانّ الحلال هو الغالب جدا، و

الغلبة توجب الانصراف عند الشك، كما ذكرنا في محله.

4- و ربما يتمسك له بما مرّ من اعتبار لبن الفحل في الروايات السابقة، أو التعبير بامرأتك الظاهر في الزوجة المحللة شرعا؛ و لكن الانصاف- بعد ما عرفت أنّ روايات لبن الفحل ناظرة إلى الشرط الرابع و هو اتحاد الفحل لا الشرط الأول، فانّها ليست في مقام البيان من هذه الجهة- عدم جواز الاستدلال بها. و لكن فيما عرفت أولا غنى و كفاية.

و استدل لقول ابن الجنيد بأمرين:

1- قاعدة يحرم من الرضاع؛ و لكن رواية الدعائم أخص منها، فلا بدّ من تخصيصها بها.

2- قد يقال بإمكان القول بنشر الحرمة من لبن الفجور، فان المدار في نشر الحرمة أمر تكويني و هو اشتداد العظم و إنبات اللحم، و لا فرق في ذلك بين لبن الفجور و غير ذلك.

و يرد عليه أنّه منقوض بفروع كثيرة، مثل مسألة الدرّ؛ فان اشتداد العظم و إنبات اللحم بلبن الدرّ من ناحية الام حاصل، فلم لا تنشر الحرمة بنص الرواية و فتوى الأصحاب؟

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 470

كذلك عند عدم اتحاد الفحل، فان الحكمة من ناحية الام حاصل، و هكذا في اللبن بعد الحولين إلى غير ذلك؛ فيعلم منها أنّ ما ذكر، حكمة لا علّة.

و من هنا يظهر فساد ما حكى عن ابن الجنيد، و العجب أنّه فرق بين حكم الزانية و الزاني هنا، مع أنّه لو لم تعتبر حلية الوطء، لم يكن بينهما فرق؛ لأنّ الولد مستند إليهما عرفا.

3- الحاصل من سبق الماء من دون دخول

اما الصورة الثالثة، أي الولادة الحاصلة من سبق الماء من غير دخول، فظاهر بعض الأصحاب عدم كفايته في نشر الحرمة، لاشتراطهم كون اللبن عن وطئ صحيح شرعى؛ و لكن الانصاف عدم اعتبار الدخول و

كفاية سبق الماء، لإلغاء الخصوصية عرفا قطعا لأنّهم لا يفرقون- بعد سماع أدلة الرضاع- بينهما، لا سيما بعد جريان جميع أحكام الولد عليه حتى الارث و شبهه.

هذا مضافا إلى ما ورد في روايات الدرّ من قوله: إذا درّ لبنها من غير ولادة؛ «1» و مفهومها كفاية استناد اللبن إلى الولادة. اللّهم إلّا أن يقال إن المفهوم في هذه المقامات، لا اطلاق له كما ذكر في محلّه، و لذا لا يمكن الأخذ باطلاق هذا المفهوم لنفى وحدة الفحل، أو اعتبار الارضاع في الحولين أو غير ذلك. و إن شئت قلت هذه الرواية و أمثالها ليست في مقام البيان إلّا عن حكم المنطوق لا المفهوم إلّا إجمالا.

و قد استدل بعض المعاصرين لإلحاق سبق الماء بمسألة الدخول، بما ورد في غير واحد من الروايات من قضاء علىّ عليه السّلام في عهده أو عهد عثمان، في شيخ كبير كانت له امرأة باكرة، فاتت بولد، فانكر الشيخ الولد، لعدم الدخول و بقاء البكارة، فسأله علىّ عليه السّلام فعلم أنّه كان ينزل مائه عليها، فحكم بالحاق الولد بهما. «2»

و لكن الاستدلال بها و أشباهها لما نحن بصدده ضعيف جدا، لأنّه لا شك في انوار الفقاهة، ج 3، ص: 471

الحاق الولد بهما؛ أنّما الكلام في كفاية مجرّد الحاق الولد في باب الرضاع أو يشترط فيه الدخول.

4- الحاصل من وطي الشبهة

أما الصورة الرابعة، و هي وطؤ الشبهة، ظاهر الأكثر الحاقه بولد النكاح حتى ادعى عدم وجدان الخلاف فيه؛ و عن الحلّي التردد فيه؛ و الصحيح هو الأول بل لا ينبغي التأمل فيه.

و قال المحقق النراقي في المستند: هل تنشر الحرمة باللبن الحاصل من وطئ الشبهة أم لا؟، المشهور الأوّل ... و عن الحلي التردد فيه، و يظهر

نوع ميل إليه من المسالك و الكفاية. «1»

و أما الحلّي، فقد صرّح في أول كلامه بأنّ الحكم خاص لا يشمل ولد الشبهة، و أنّه بحكم النكاح الفاسد؛ ثم قال: إن قلنا في وطئ المشبهة بالتحريم كان قويا، و قال في آخر كلامه: ولي في ذلك نظر و تأمل. «2»

و الانصاف، الحاق ولد الشبهة بولد النكاح، لأنّه ولد حلال يجري فيه جميع أحكام الولد، من النسب و الارث و الولاية و الحضانة و غيرها؛ و لا وجه لاستثناء حكم الرضاع عنها، و هذا استقراء قوى؛ هذا أولا:

و ثانيا، الاطلاقات شاملة له، لأنّ عنوان الولادة؛ أو ولدك؛ في بعض الروايات، عام؛ و كذلك عموم يحرم من الرضاع، الخ.

اللّهم إلّا ان يقال ولد الشبهة فرض نادر تنصرف الاطلاقات عنه.

و استدل له ثالثا، بأنّه لا شك في ثبوت أحكام الرضاع عندنا بين أهل الكتاب، مع أن نكاحهم فاسد عندنا، و أولادهم أولاد شبهة، بمقتضى قوله: لكل قوم نكاح؛ (يعني أنّه بمنزلة النكاح لا انّه نكاح).

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 472

و فيه أولا: أنّ ظاهر الرواية المعروفة، أنّ نكاحهم طبق مذهبهم و سنتهم صحيحة؛ لا أنّه بمنزلة الصحيح. و لذا يترتب عليه جميع آثاره، لا من باب التنزيل كما هو المتبادر منها.

و ثانيا: أنّ النكاح الصحيح لا يحتاج إلّا إلى إنشاء من الطرفين، و هذا حاصل منهم أمّا باللفظ أو بالكتابة أو كليهما؛ و نحن و إن كنّا نحتاط بألفاظ خاصة و اللغة العربية إلّا أنّه لا دليل قطعي على شي ء منها.

و قد يتوهم أنّ روايات لكل قوم نكاح؛ ناظرة إلى مسألة عدم جواز رمي المجوس و أشباههم بالزنا لبعض ما لا يجوز في مذهبنا لأنّه عندهم نكاح، لا إلى امضاء

أنكحتهم.

و فيه، أنّ الإشكال نشأ عن عدم تدبر جميع روايات هذا الباب، فراجع روايات الباب 83 من أبواب نكاح العبيد و الاماء، (ج 14 وسائل الشيعة)، تجدها عامة و شاملة للجميع.

ففي رواية أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: كل قوم يعرفون النكاح من السفاح، فنكاحهم جائز. «1» و راجع أيضا أبواب القذف، الباب الأول؛ و اللّه العالم.

5- الحاصل من وطي جائز شرعا
اشارة

أمّا الصورة الخامسة، اللبن الحاصل من وطئ جائز شرعا، و لكن مع الحمل و قبل الولادة، إذا علمنا أنّ اللبن مستند إليه.

صرّح الماتن قدّس سرّه باعتبار الولادة في نشر الحرمة، و تبع في ذلك العلّامة في تحرير، خلافا لما اختاره في قواعده.

قال شيخنا الأنصاري (قدس سره)، في كتاب النكاح: و هل يعتبر انفصال الولد أو يكفى الحمل، وجهان بل قولان: اختار العلّامة أولهما في التحرير، و ثانيهما في القواعد، و هو الأظهر. انتهى. «2» و حكي هذا القول عن الشيخ في المبسوط، و عن ثاني الشهيدين في المسالك و الروضة، كما حكي القول الأول عن صاحب الحدائق.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 473

استدل للثاني- أعني نشر الحرمة بلبن الحمل- أوّلا بالاطلاقات، و ثانيا بما ورد في نشر الحرمة بلبن الفحل، فانّه يصدق عليه أنّه لبن الفحل، و قد مرّ من قول الصادق عليه السّلام في صحيحة بريد العجلي، كل امرأة أرضعت من لبن فحلها ولد امرأة ...؛ إلى غير ذلك ممّا ورد في الباب 6 من أبواب الرضاع. فراجع.

هذا، و لكن يعارضها ما دل على عدم كفاية الدرّ من غير ولادة، الذي ورد في الباب 9 من أبواب الرضاع، و قد مرّ ذكرها، آنفا.

فان قوله: درّ من غير ولادة؛ لا يختص بمن درّ لبنها من غير نكاح

أو من غير حمل، بل يشمل كل من درّ لبنها قبل أن يلد منه ولد، و لو كانت حاملا و يؤيده أنّ درّ اللبن بالحمل كثير و لكن درّه بغير الحمل و النكاح نادر؛ و حمل الاطلاق على خصوص الفرد النادر بعيد جدّا.

و إذا وقع التعارض بينهما- و النسبة عموم مطلق- يقيد الاطلاقات بهذين الخبرين.

و قد يستدل بما ورد في رواية عبد اللّه بن سنان، قال: سالت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن لبن الفحل. قال: هو ما أرضعت امرأتك من لبنك و لبن ولدك، ولد امرأة اخرى، فهو حرام. «1»

باعتبار عدم صدق الولد إلّا بعد الولادة، و لكن قد يقال بصدقه عند الحمل أيضا؛ يقال:

هذا ولد زيد في بطن زوجته؛ و قد صرحوا في أبواب اللعان بأنّه لا يحصل اللعان بانكار الولد حتى تضعه لمدة ستة أشهر فصاعدا.

و لكن لا يبعد أن يكون هذه الاطلاقات مجازية، لأنّ الحمل لم يولد بعد، و لا أقل أن يكون مثل هذا مؤيدا.

بقي هنا شي ء: هل يكفي مجرد العلقة أو المضغة؟

و هو أنّه لو قلنا بكفاية الحمل، فهل يكفى مجرّد العلقة و المضغة، أو يعتبر كونه تاما

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 474

لأربعة أشهر على الأقل لعل ظاهر كلا القائلين به الاطلاق، و مقتضى اطلاق دليلهم أيضا ذلك.

نعم، لو كان الدليل روايات الفحل و ما فيها من ذكر الولد، لا يصدق الولد على العلقة و المضغة و شبهه، و إنّما يصدق عليه عنوان الولد بعد كمال الجنين و ولوج الروح، على فرض التسليم بكون اطلاقه عليه قبل الولادة حقيقيا.

6- إذا حصل اللبن بعد ولادة الطفل
اشارة

و أمّا الصورة السادسة، و هي ما إذا كان اللبن بعد ولادة الطفل، فهو على أقسام: تارة، يولد قبل كماله و ولوج الروح فيه. و اخرى، بعد كماله و ولوج الروح فيه و لكن يخرج ميتا. و ثالثة، عند خروجه كاملا حيّا و لكن في شهور لا يعيش عادة، مثل ابن خمسة شهور. و رابعة، عند خروجه حيا في سنّ يعيش كستة شهور أو أكثر.

فان قلنا إنّ ظاهر الأدلة هو اعتبار الولادة في نشر الحرمة- كما هو الأقوى-، فكل ما يصدق عليه الولادة كان كافيا في حصول الشرط، سواء كان حيا أو ميتا، في سنّ يعيش أولا يعيش، بعد كماله و ولوج الروح فيه؛ نعم، قبل ولوج الروح فيه أو قبل كماله، يبعد صدق ولادة الولد عليه، فلا تنشر منه الحرمة.

بل لو كان قلنا بانصراف الاطلاقات إلى ما هو الغالب من ولادته حيا في زمان يعيش، أشكل الحكم في غيره؛ و اللّه العالم.

فقد تلخص من جميع ما ذكرنا، أنّ الفتاوى التي ذكرها الماتن، موافقة للتحقيق عندنا، فلبن الدرّ من غير ولادة، و لبن الولد الحرام، و ما يستند إلى ما تولد قبل ولوج الروح، و ما كان من

غير طريق تركيب نطفتها مع نطفة زوجها، لا توجب نشر الحرمة؛ و غيرها يوجب نشرها كما عرفت.

بقي هنا أمور:

الأول: لا فرق في الولادة أن تكون من الطريق المعمول الطبيعى، أو من طريق شق انوار الفقاهة، ج 3، ص: 475

البطن المسمى بسزارين، لإلغاء الخصوصية منه قطعا. و لو قلنا بعدم شمول الاطلاقات له لندرته لا سيما في عصر الشارع المقدس و الأئمة المعصومين (عليهم السلام). و لذا نقول بأنّ الدم الخارج منها بعد الولادة من الطريق المعمول، يكون نفاسا و أن خرج الطفل بشق البطن.

إن قلت: كيف تقول عدم وجود شق البطن في مسألة الولادة أو ندرته جدّا، مانع عن الأخذ بالعموم؛ و لا تقول بذلك في عمومات اوفوا بالعقود، و تقول بشمولها لمثل عقد التأمين و شبهه.

قلنا: الفرق بينهما ظاهر؛ أحكام الرضاع أحكام تعبدية، و أحكام المعاملات أحكام عقلائية امضائية و الشارع المقدس لم يتدخل في جزئيات هذه المعاملات، بل جعل لها شروطا كلية، مثل وجوب كون أطراف المعاملة معلومة، و عدم الغرر فيها، و كذا عدم الضرر، و عدم تعلقها بالمحرمات (لأنّ اللّه إذا حرم شيئا حرم ثمنه)، و عدم الاكراه و الاجبار فيها، و أمثال ذلك من الاصول الكلية، و مسألة الرضاع و أشباهها ليس كذلك.

الثاني: هل تنشر الحرمة بلبن الطفل الحاصل من الاستنساخ؟ وجهان:

أحدهما، انه لا تنشر، لأنّ اللبن هنا ليس للفحل قطعا لعدم النكاح، بل لعدم استناد الولادة لا إلى نطفة الرجل و لا إلى المرأة.

ثانيهما، أنّه تنشر منه الحرمة لأنّه يصدق كون اللبن بعد الولادة، و روايات الفحل ليست ناظرة إلى هذه المسالة؛ و لكن الأول أقوى.

الثالث: إذا زرع النطفة في رحم امرأة، فولدت ولدا و أرضعت طفلا، فهل تنشر الحرمة بينهما

أم لا؟

للمسألة صور مختلفة:

تارة، يكون التركيب بين نطفة المرأة و نطفة رجل أجنبي، و هذا حرام قطعا؛ و الذى يتولد منه بحكم ولد الزنا، فان ولد الحلال لا بدّ أن يكون مستندا إلى نكاح أو شبهه، و قد عرفت أنّ ولد الزنا لا تنشر الحرمة بلبنه.

و اخرى، يكون بين نطفة الزوج و زوجته خارج الرحم، ثم تزرع في رحم امرأة

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 476

اخرى؛ و هذا جائز مع قطع النظر عن اللمس أو النظر الحرام. و لكن اللبن ليس لبن فحل المرأة، بل لبن فحل آخر، فيشكل نشر الحرمة منه.

و ثالثة، يكون بأخذ النطفة منها و من زوجها، و تركيبها خارج الرحم، و تقويتهما باسباب خاصة، ثم زرعها في رحم الزوجة؛ فهذا لبن الحلال و لبن الفحل و مستند إلى الزوج و الزوجة، و لا إشكال في نشر الحرمة منها.

***

[المسألة 1: لا يعتبر في النشر، بقاء المرأة في حبال الرجل
اشارة

المسألة 1: لا يعتبر في النشر، بقاء المرأة في حبال الرجل، فلو طلقها الزوج أو مات عنها و هي حامل منه أو مرضعة، فأرضعت ولدا نشرت الحرمة؛ و أن تزوجت و دخل بها الزوج الثانى و لم تحمل منه، أو حملت منه و كان اللبن بحاله لم ينقطع و لم تحدث فيه زيادة، بل مع حدوثها إذا احتمل كونه للأول ...

لا يعتبر في نشر الحرمة بقاء الزوجية

(1) أقول: الكلام هنا في المرضعة المطلّقة، أو من مات عنها زوجها و هي حامل أو مرضعة.

و للمسألة صورا كثيرة من حيث نكاحها و عدم نكاحها، و حملها بعد النكاح، و عدم حملها، و زيادة لبنها بالحمل، و عدم زيادتها.

و من أحسن ما في المقام ما ذكره المحقق الثانى، في جامع المقاصد، حيث ذكر للمسألة صورا ستة:

1- أن يكون الرضاع قبل ان تنكح زوجا غيره.

2- أن يكون بعد تزويجها مع عدم الحمل من الثانى.

3- أن يكون بعد الحمل و قبل الولادة و اللبن بحاله.

4- أن يكون كذلك مع زيادة اللبن.

5- أن ينقطع اللبن انقطاعا بيّنا و مدة طويلة ثم يعود.

6- أن يكون بعد الوضع ...

و ذكر لكل منها حكمه، ستأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه. «1»

و ذكر ابن قدامة، في المغنى أيضا بعض هذه الصور، «2» و لكن ما ذكره المحقق الثاني أحسن و أشمل.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 478

و في المتن ذكر لها صورا أربع.

و الظاهر أنّه ليس نص خاص في المسالة، بل يستدل بالاطلاقات و العمومات، و بعض الاصول العمليّة كالاستصحاب.

مقتضى الأصل العملي عند الشك، هو الحليّة لأصالة الحلّ، إلّا أن يكون للبن حالة سابقة، كما إذا كان مستندا إلى الزوج الأول ثم شك في ذلك فيستصحب.

و قد ادعى الإجماع في بعض صور

المسالة و من الواضح أنّه من الإجماع المدركي لاستناده- باحتمال قوى- إلى الاطلاقات أو الأصل العملي.

إذا عرفت ذلك، فلنرجع إلى أحكام الصور الستة:

أما إذا لم تنكح زوجا غيره، أو نكح و لم تحمل منه؛ فلا شك في كون اللبن للزوج الأول، و انّه لبن الفحل و لبن الولادة و غير ذلك من هذه العناوين. و عدم كون الزوج حيا أو عدم بقاء الزوجية بحالها، فانّه لا يضر شيئا لعدم قيام دليل على بقاء الزوج أو الزوجية.

و من هنا يعلم عدم الفرق بين أن يكون الارضاع في العدة أو بعدها و بين أن ينقطع اللبن ثم يعود، و عدمه، بعد العلم باستناده إلى الولادة السابقة؛ لا إذا كان درّ جديد.

و أمّا الصورة الثالثة؛ و هي ما كان بعد نكاح جديد و بعد الحمل من الزوج الثاني قبل الولادة و لم يحدث فيه زيادة، فظاهر حالها أنّ لبنها للأول فيجري حكمه.

و لو شك أنّ استمراره بسبب الحمل أو بسبب الولادة السابقة، فقد يقال بالحاقه بها للاستصحاب، و هذا مبنى على ما ذكر في محلّه من جريان الاستصحاب في الامور التدريجية كجريانه في الامور القارة، فكل جزء من اللبن و إن كان غير الجزء السابق بالدقة العقلية (و كذا في جريان دم الحيض و النفاس و شبههما)، و لكن العرف يراه شيئا واحدا مستمرا؛ فأركان الاستصحاب- و هو اليقين السابق و الشك اللاحق و وحدة الموضوع- حاصل.

و أمّا الصورة الرابعة؛ و هي الصورة السابقة و لكن يحدث في اللبن زيادة يحتمل كونها مستندا إلى الحمل؛ و قد صرّح في التذكرة و جامع المقاصد بأن اللبن للأول، فتنشر الحرمة بالنسبة إليه استنادا إلى الاستصحاب، و الحمل و الزيادة غير

مانعين فان اللّبن قد

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 479

يزيد و قد ينقص.

و قد حكي في جامع المقاصد عن الشافعي قولا بأنه أن زاد اللبن بعد أربعين يوما من الحمل الثاني فأحد القولين أنّه لكل من الزوجين عملا بالظاهر؛ انتهى. «1»

و لكن الظاهر أنّه اجتهاد ظنّي لا يعتني به في مقابل الاستصحاب.

أمّا الصورة الخامسة؛ فهي الصورة السابقة و لكن اللبن انقطع انقطاعا بينا في مدّة طويلة، بحيث لا يكون هذا في اللبن الواحد. و ذلك لا يكون إلّا بعد مضى مدة من الحمل الثاني أربعين يوما أو أكثر؛ فاللبن حينئذ للثاني لانقطاع الاستصحاب، فإن قلنا بكفاية لبن الحمل، تنشر الحرمة و إلّا فلا. و هذا هو المختار كما عرفت.

و أمّا الصورة السادسة، و هي أن يكون استمرار اللبن بعد وضع الحمل من الثانى و لم ينقطع. فقد حكي الإجماع من الخاصة و العامة (في جامع المقاصد و المغني)، على أنّ اللبن للثاني بمقتضى ظاهر الحال القاطع للاستصحاب؛ و إن اتصل اللبنان. و ظاهر الحال في امثال المقام معتبر عند العقلاء.

***

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 480

... الثاني، ان يكون شرب اللبن بالامتصاص من الثدي فلو وجر في حلقه اللبن أو شرب المحلوب من المرأة لم ينشر الحرمة ...

2- لا بد ان يكون شرب اللبن بالامتصاص
اشارة

(1) أقول: المشهور اشتراط الامتصاص من الثدي؛ و عن بعض خلافه. قال المحقق الثاني، في جامع المقاصد: اختلفوا في اشتراط الامتصاص من الثدي، فالأكثر على اشتراطه؛ فلو احتلب اللبن ثم وجر في حلق الرضيع، لم تنشر الحرمة؛ و قال ابن الجنيد: تنشر، و هو قول الشيخ في المبسوط. «1»

و لكن صاحب الجواهر حكي عن مواضع آخر من المبسوط، أنّه قوى المشهور؛ «2» (فيظهر منه عدوله عن رأيه السابق، فتأمل).

و يظهر من

النراقي في المستند، أنّ صاحب المفاتيح أيضا قوّاه. «3»

و لكن المسألة بين العامة محل الخلاف، فقال ابن رشد: فان مالكا قال يحرّم الوجور و اللدود. «4» و قال عطاء، و داود، لا يحرّم. «5»

و لكن يظهر من بعض العبارات، أنّ المشهور بين العامّة نشر الحرمة.

أدلّة القول بالاشتراط

و يدل على القول الأول امور:

الأوّل، عدم صدق الرضاع عليه، فانّ الرضاع لا يكون إلّا من الثدي و احتمال دخله في الحكم غير بعيد، فالعدول إلى غيره يحتاج إلى دليل، فيرجع إلى أصالة الحلية بعد عدم انوار الفقاهة، ج 3، ص: 481

شمول العمومات.

الثاني، هناك روايات تدل على المطلوب:

1- ما رواه زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الرضاع. فقال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما أرتضعا من ثدي واحد حولين كاملين. «1»

و لكن في سند الرواية و دلالتها ضعف؛ أما الأول، فلوجود حسن بن حذيفة بن منصور في سندها، و قد صرح ابن الغضائرى بأنّه ضعيف جدّا؛ و لو قلنا بعدم اعتبار تضعيف ابن الغضائرى لأنّه يضعف بأدنى شي ء، فلا أقل من أن الرجل مجهول الحال فلا اعتبار بالسند.

و أمّا دلالتها، فلأنّ الرضاع حولين كاملين مخالف للإجماع، مضافا إلى أنّه نادر جدّا؛ اللّهم إلّا أن يقال المراد وقوع الرضاع في حولين كاملين لا بعدهما، و هو شرط آخر و لكنه حمل بعيد لا سيما مع ملاحظه قوله عليه السّلام: كاملين.

هذا مضافا إلى إمكان حمل الثدي على الغالب، و القيود الغالبية لا مفهوم لها.

2- ما رواه الحلبي، بسند صحيح، عن الصادق عليه السّلام قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السّلام، فقال: يا أمير المؤمنين أنّ امرأتي حلبت من لبنها في مكوك «2» و اسقته جاريتي. فقال: أوجع امرأتك

و عليك بجاريتك. «3»

و لكن دلالتها أيضا مخدوشة، فانّ الظاهر كون الجارية كبيرة لا رضيعة؛ و إلّا لم يكن للزوجة داعيا لعدم ارضاعها من ثديها؛ و حينئذ يمكن أن يكون عدم الحرمة المستفادة منها من باب فقدان هذا الشرط.

3- ما رواه العلاء بن رزين، بسند معتبر، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما ارتضع من ثدي واحد سنة. «4»

و يأتي من المناقشة في دلالتها ما مرّ في الرواية الاولى، بل أشد منه؛ فانّ السنة لا

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 482

محمل لها إلّا التقية؛ مضافا إلى ما عرفت من إمكان كون القيد (أعني الثدي) قيدا غالبيا.

أدلّة القول بعدم الاشتراط

و استدل للقول بنشر الحرمة مطلقا بطائفتين من الروايات:

الطائفة الاولى، بعض الروايات المرسلة أو المسندة الدالة على أنّ الوجور في حلق الصبي كاف في نشر الحرمة. منها:

1- ما رواه الصدوق، عن الصادق عليه السّلام قال: قال ابو عبد اللّه عليه السّلام: و جور الصبي بمنزلة الرضاع. «1»

و فيه، أنّه ضعيف سندا بالارسال، و إن كان ارساله من نوع الارسال الراجح، لأنّه أسند القول إلى الإمام عليه السّلام بقوله: قال الصادق عليه السّلام؛ لا أنّه روى عن الصادق عليه السّلام و لكنه على كل حال رواية مرسلة.

سلمنا صحة سندها، و لكن أعراض الأصحاب عنها سبب لطرحها أو حملها على التقية.

و قد يورد على دلالتها بأنّه يقول بمنزلة الرضاع لا أنّه من الرضاع، و لكنه مناقشة ضعيفة لأنّ التنزيل دليل على إجراء أحكامه عليه، كما في قولنا الطواف بالبيت بمنزلة الصلاة أي يجري عليه أحكامها.

2- ما رواه في دعائم الإسلام، عن عليّ عليه السّلام أنّه قال: إذا أوجر الصبي أو اسعط باللبن- يعنى في الحولين- فهو رضاع.

«2»

و فيه مضافا إلى ضعف سنده بالارسال و باعراض الأصحاب، أنّه يدل على كفاية السعوط من طريق الانف، مع أنّ الظاهر أنّه لا يمكن القول به على مذهب الأصحاب، لاعتبار عشر رضعات على الأقل، أو خمسة عشر كاملة؛ و فعله من طريق الأنف مشكل أو غير ممكن. نعم، يصح على مذهب المخالفين؛ فان جمعا كثيرا منهم قالوا بكفاية أيّ انوار الفقاهة، ج 3، ص: 483

مقدار منه و لو قليلا جدا؛ كما يظهر من بداية ابن رشد؛ فراجع. «1» فحينئذ تحمل الرواية على التقية.

3- ما في الجعفريات بسنده المتقدم عن علي عليه السّلام مثله. «2»

و الإشكال في سنده بالضعف، و في دلالته كما مرّ.

الطائفة الثانية، ما دل على أنّ حدّ الرضاع ما شدّ العظم و أنبت اللحم، منها:

1- ما رواه حماد بن عثمان، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما أنبت اللحم و الدم. «3»

2- ما رواه عبد اللّه بن سنان، قال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما أنبت اللحم و شدّ العظم. «4»

3- ما رواه ابن مسكان، عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام، قال: إذا رضع الغلام من نساء شتّى، و كان ذلك عدّة أو نبت لحمه و دمه عليه، حرم عليه بناتهن كلّهن. «5»

و محصل هذه الروايات و بعض ما ورد من طرق العامة، هو دوران الأمر في أبواب الرضاع مدار شدّ العظم و إنبات اللحم و الدم؛ و هذا حاصل، سواء شرب من الثدي، أو مما صبّه في الظرف، أو غير ذلك.

و لكن الانصاف، عدم جواز الركون إلى أمثال هذه الروايات لما نحن فيه، فانّه ليس من القياس المنصوص علته، بل هو من قسم مستنبط

العلة استنباطا ظنيا، مضافا إلى أنا نعلم بعدم كون شدّ العظم و إنبات اللحم تمام علة الحرمة، بل هو جزء للعلّة؛ و كذا هناك قيود اخرى من اتحاد الفحل و الولادة و استناد اللبن إليها و غير ذلك.

فتلخص أن قول المشهور هو الأقوى؛ و اللّه العالم.

***

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 484

... الثالث: أن تكون المرضعة حية؛ فلو ماتت في اثناء الرضاع و أكمل النصاب حال موتها و لو رضعة، لم تنشر الحرمة ...

3- لا بدّ ان تكون المرضعة حيّة

(1) أقول: الظاهر أنّ اعتبار هذا الشرط مجمع عليه بين الأصحاب، كما صرّح به في الرياض، حيث قال: و يعتبر في النشر حياة المرضعة وفاقا؛ كما يظهر من التذكرة و الصميرى، فلو ماتت في اثناء الرضاع فأكمل النصاب ميتة، لم تنشر الحرمة. «1»

و قال المحقق النراقي: الشرط الثالث أن تكون المرضعة حيّة؛ بالإجماع، كما عن ظاهر التذكرة و الصميرى. «2»

و يظهر من صاحب الجواهر، نفي الخلاف فيه؛ و نقل الإجماع عن كاشف اللثام. «3»

و لكن فقهاء العامة مختلفون في ذلك، و جماعة كثيرة منهم- كما ذكره ابن قدامة، في المغنى- اختاروا عدم اشتراط الحياة، و لكن عن الشافعي و احمد في احدى روايتيه اعتبار الحياة. «4»

و الظاهر أنّه لم يرد نص خاص في المسألة، و المرجع فيها هو القواعد و الاصول. و الذي يدل على اعتبار الحياة، هو أصالة الحليّة، بعد عدم شمول عمومات الرضاع له؛ أمّا لانصرافها عن مثل هذا الفرد النادر جدّا، أو لظهور قوله تعالى: وَ أُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ، و أمثاله في اعتبار كون الرضاع بارادة الام و فعلها. و لكن الأخير ضعيف، لأنّ العموم لا تنحصر بذلك؛ بل عموم ما دل على عنوان الرضاع (دون الارضاع) كثير شامل له؛

مضافا إلى النقض الوارد فيه بالنائمة و المغمى عليها؛ فالأولى الاستناد إلى الانصراف و التمسك بالعمومات.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 485

و أمّا كون اللبن نجسا حينئذ أو حراما، على فرض تسليمه، لا يمنع عن نشر الحرمة.

و غاية ما يدل على القول الثاني، هو العمومات التي عرفت الكلام فيها. و قد يستدل بالاستصحاب، فانّ هذا اللبن كان قبل موتها سببا للحرمة، فكذا بعده؛ و يرد عليه مضافا إلى الإشكال في حجية الاستصحاب في الشبهات الحكمية، أنّ الموضوع قد تبدل و تغيّر.

و ذكر بعض العامة بأنّه لو حلبته في وعاء ثم شربه الصبي، نشر الحرمة؛ فلو كان في ثديها كان أولى بالحرمة.

و فيه، أنّه إنّما يتمّ على مذهبهم من القول بعدم اعتبار الامتصاص من الثدي، مضافا إلى أنّه قياس مع الفارق، فانّ المقيس لبن الميّت، و المقيس عليه لبن الحي؛ فالحاصل أنّ هذا الشرط معتبر؛ و عمدة الدليل أصالة الحلية بعد انصراف العمومات عنه، و اللّه العالم.

***

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 486

... الرابع: أن يكون المرتضع في أثناء الحولين و قبل استكمالها، فلا عبرة برضاعه بعدهما، و لا يعتبر الحولان في ولد المرضعة على الأقوى، فلو وقع الرضاع بعد كمال حوليه، نشر الحرمة إذا كان قبل حولي المرتضع.

4- لا بد ان يكون المرتضع في حولين
اشارة

(1) أقول: هذه المسالة مشتملة على فرعين:

الفرع الأوّل: أدلّة اشتراط كون المرتضع في الحولين

هذا الشرط مورد وفاق بين الأصحاب. قال في المستند، بعد الحكم باعتبار هذا الشرط و أنه: لا عبرة برضاعة بعدهما (أي بعد الحولين)، إجماعا محققا و محكيا عن الخلاف و الغنية، و في التذكرة و المختلف و القواعد و شرحه و الايضاح و نكت الشهيد و المسالك و شرح الصيمرى و غيرها؛ «1» فقد ادعى الإجماع بنفسه و حكاه من عشرة كتب.

و قال في الجواهر: فلا خلاف معتد به في اعتبار كون الرضاع في حولي المرتضع، فلا عبرة بما بعدها و لو في الشهر و الشهرين؛ بل الإجماع بقسميه عليه. «2»

و تعبيره بعدم وجدانه الخلاف المعتد به، يشعر بوجود خلاف غير معتد به، و لكن لم نجد مخالفا في المسألة بين الأصحاب. و لعله إشارة إلى وجود الخلاف غير معتد به بين أهل السنة؛ فقد حكي شيخ الطائفة في الخلاف، ذهاب الجمهور إلى عدم نشر الحرمة إذا لم تكن المولود صغيرا، و حكاه عن أبي حنيفة و مالك و الشافعي و غيرهم، و لكن حكي عن عائشة و أهل الظاهر، نشر الحرمة في الكبير أيضا!. «3»

و على كل حال يدل على اعتبار هذا الشرط، أولا، أنّه موافق لأصالة الحليّة في ما بعد

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 487

الحولين؛ اللّهم إلّا أن يقال باستصحاب الحرمة فيما قبل الحولين، و لكنه استصحاب تعليقى لم يثبت اعتباره كما ذكرنا في محله.

توضيح ذلك، أنّ الموضوع في الاستصحابات التعليقية، في الواقع مركب من جزءين (أحدهما قيد، و الآخر مقيد)، ففي المثال المعروف، إذا قلنا بأنّ العصير العنبي يحرم عند الغليان (كما هو الحق)؛ فهل العصير الزبيبي أيضا كذلك. و هذا من الاستصحاب التعليقى، فانّ الحرام

المتيقن هو العصير العنبي إذا غلى؛ و هذا الأمر التعليقي أمر ذهني اعتباري، ليس في الخارج حتى يستصحب. و كذلك في المقام، فانّ موضوع الحرمة هو شرب اللبن؛ و بعبارة اخرى، اللبن الموجود في الخارج، يحرم إذا شربه الصبي في الحولين، فهل يحرم إذا شربه بعد الحولين، فليس هنا أمر محقق يقيني شك فيه، فتدبّر جيدا.

و ثانيا، قوله تعالى: وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ .... «1»

بان يقال الرضاع، بحكم الشرع يتمّ في الحولين الكاملين، و بعدهما لا يعد رضاعا، و كذلك قوله تعالى: ... وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً .... «2»

و استدل بهما في المسالك و غيره، و بعضهم استدل بهما للمسألة الآتية، أعنىّ كون الرضاع في حولين من ولادة الام.

و الانصاف إمكان الاستدلال بهما، لا سيما بالآية الاولى (لأنّ التمسك بالثانية لا يخلو من إشكال) للمسألتين، لأنّ الرّضاع إذا تمّ بحكم الشرع بعد الحولين، فلا يكون المرتضع مرتضعا بعد ذلك، و لا الام مرضعة بعدهما.

اللّهم إلّا أن يقال إن الآية ليست بصدد البيان من هذه الجهات، و فيه تأمل؛ و سيأتي الاستدلال بالآية في بعض الروايات.

و يدل عليه أيضا طوائف من الروايات:

الطائفة الاولى: ما دل على أنّه لا رضاع بعد فطام، بناء على أنّ المراد منه جعل حد

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 488

الفطام ما ورد في الاية الشريفة من تمام الحولين؛ و هي روايات، منها:

1- ما رواه منصور بن حازم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا رضاع بعد فطام، و لا وصال في صيام، و لا يتمّ بعد احتلام؛ الخ.

و في آخر الحديث ما نصّه: فمعنى قوله لا

رضاع بعد فطام، أنّ الولد إذا شرب لبن المرأة بعد ما تفطمه، لا يحرم ذلك الرضاع التناكح. «1»

و سند الرواية لا يخلو عن ضعف، فانّ راويها و هو منصور بن حازم، و إن كان من الاجلاء الذين رووا عن الصادق عليه السّلام، و الكاظم عليه السّلام، و لكن وجود منصور بن يونس يوجب المناقشة فيها، فانّ النجاشي الذي هو شيخ علماء الرجال و إن كان وثّقه، و لكن روى الكشي رواية تدل على ضعفه، و هو أنّ موسى بن جعفر عليه السّلام أخبره بأن ولده عليا عليه السّلام وصيه من بعده و أراه ولده عند تصريحه بهذا القول؛ و لكن أنكره بعد ذلك، (و وقف على موسى بن جعفر عليه السّلام)، لأموال كانت عنده؛ و لعله لذلك صرّح العلّامة في الخلاصة، بأنّه يتوقف في روايته.

2- ما رواه الحلبي عن ابي عبد اللّه عليه السّلام: لا رضاع بعد فطام. «2» و سند الرواية صحيح.

3- ما عن الصادق عليه السّلام، عن آبائه عليهم السّلام، في وصية النبي صلّى اللّه عليه و آله لعلي عليه السّلام: يا على، لا رضاع بعد فطام، و لا يتمّ بعد احتلام. «3» و هو ضعيف، لجهالة أنس بن محمد.

4- ما رواه المفيد مرسلا في المقنعة، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا رضاع بعد فطام، و لا يتمّ بعد احتلام. «4» و حال سنده معلوم؛ فلا يبقى سند صحيح إلّا للرواية الثانية، و كفى بها سندا للمطلوب، مضافا إلى تضافر الأحاديث، و قد عرفت أنّه من أسباب الحجية.

و أمّا مفاد هذه الروايات و ظاهرها، أنّ الأمر يدور مدار الفطام الفعلي، سواء كان قبل الحولين أو بعدهما. اللّهم إلّا أن

يقال إن المراد هو زمن الفطام، كما صرّح به القرآن الكريم و هو الحولين؛ و لكن الانصاف أنّ حملها على الفطام بالقوة لا بالفعل، مخالف للظاهر لو كان انوار الفقاهة، ج 3، ص: 489

الدليل منحصرا فيها.

الطائفة الثاني: عدم اعتبار الحولين في ولد المرتضعة:

ما دل على اعتبار الحولين فقط، و هو الرواية الثامنة و العاشرة من هذا الباب (الباب 5 من أبواب الرضاع).

1- ما عن زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الرضاع، قال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما ارتضعا من ثدي واحد حولين كاملين.

2- ما عن الحلبي، عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما كان حولين كاملين.

و الأول منهما ضعيف بالحسن بن حذيفة بن منصور، فانّه مجهول أو ضعيف؛ و لكن لا يبعد اعتبار الثاني. هذا، و لكن عمدة الإشكال فيهما من ناحية الدلالة، فانّ ظاهرهما اشتراط الرضاع في جميع الحولين، و لم يقل به أحد من أصحابنا فيما نعلم؛ و لا من فقهاء العامة.

و قد حمله الشيخ و غيره (قدس اللّه أسرارهم)، على أن المراد لا بدّ من كون الرضاع في الحولين و حينئذ يمكن الاستدلال بهما لما هو المطلوب.

الطائفة الثالثة: ما دل على تفسير الفطام بالحولين؛ فيكون شاهدا للجمع بين الأوليين؛ و هي روايات كثيرة، منها:

1- ما عن الفضل بن عبد الملك، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: الرضاع قبل الحولين، قبل أن يفطم. «1»

و تضافر هذه الروايات يغنى عن ملاحظة اسنادها واحدا بعد واحد؛ و لكن دلالتها فرع كون قوله: قبل أن يفطم؛ تفسيرا لقوله: قبل الحولين؛ و لو كان كل واحد قيدا مستقلا، سقط عن الدلالة.

2- عن حماد بن عثمان، قال:

سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: لا رضاع بعد فطام. قلت: و

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 490

ما الفطام؟ قال: الحولين الذي قال اللّه عزّ و جلّ. «1»

و هذا صريح في تفسير الفطام بالحولين.

3- ما ورد من أنّه سال ابن فضال ابن بكير في المسجد، فقال: ما تقولون في أرضعت غلاما سنتين ثم، أرضعت صبية لها أقل من سنتين حتى تمت السنتان، أ يفسد ذلك بينهما؟

قال: لا يفسد ذلك بينهما، لأنّه رضاع بعد فطام. و إنّما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا رضاع بعد فطام. أي أنه إذا تم للغلام سنتان أو الجارية، فقد خرج من حدّ اللبن، و لا يفسد بينه و بين من شرب لبنه. قال: و أصحابنا يقولون أنّه لا يفسد إلّا أن يكون الصبي و الصبية يشربان شربة شربة. «2»

و الاستدلال بالحديث، باعتبار قوله: إنّما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا رضاع بعد فطام؛ و تفسيره بالحولين، و تفسير ابن بكير بحولي ولد المراة، لا اعتبار به؛ لدلالة غيره على خلافه، مضافا إلى مخالفته لفتوى الأصحاب، سيأتي إن شاء اللّه.

4- ما رواه محمد بن علي بن الحسين، مرسلا قال: قال النبي صلّى اللّه عليه و آله: لا رضاع بعد فطام.

و معناه أنّه إذا رضع حولين كاملين، ثم شرب من لبن امرأة اخرى ما شرب، لم يحرم الرضاع، لأنّه رضاع بعد فطام. «3»

الطائفة الرابعه: ما دل على أنّ رضاع الكبير و الكبيرة، لا يوجب نشر الحرمة. و هو روايتان:

1- ما رواه محمد بن قيس، قال: سألته عن امرأة حلبت من لبنها، فاسقت زوجها لتحرم عليه. قال: أمسكها و أوجع ظهرها. «4»

2- ما رواه الحلبي، في الصحيح، عن

أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السّلام، فقال: يا أمير المؤمنين، إن امرأتى حلبت من لبنها في مكوك، فاسقته انوار الفقاهة، ج 3، ص: 491

جاريتي. فقال: أوجع امرأتك و عليك بجاريتك. «1»

و الجمع بين هذه الطوائف الأربع، ظاهر بعد حمل المطلق على المقيد، و تفسير بعضها ببعض؛ و حاصلها عدم نشر الحرمة بعد حولي المرتضع.

و لكن هناك رواية واحدة معارضة لها، و هي ما رواه داود بن الحصين، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: الرضاع بعد الحولين قبل أن يفطم، محرم. «2» و في كثير من النسخ يحرّم؛ بل محرّم؛ و المعنى واحد.

و مقتضى هذه الرواية، ان المدار على الفطام و لو كان بعد الحولين، و لكن اعراض الأصحاب عنها، و موافقتها لمذهب العامة و مخالفتها للروايات للمشهورة بين الأصحاب رواية و فتوى، يسقطها عن الاعتبار كما لا يخفى.

الفرع الثاني، فالمشهور هو ما اختاره الماتن (قدس سره الشريف) من عدم اعتبار الحولين في ولد المرضعة

؛ فلو شرب منه بعدهما و قبل كمال حولي المرتضع، نشرت الحرمة.

قال النراقي (قدس سره) في المستند: و الحق عدم اعتبار الحولين في ولد المرضعة، فينشر الحرمة لو وقع الرضاع بعد حوليه، إذا كان قبل حولي المرتضع؛ وفاقا للأكثر، بل ادعى بعضهم عليه الإجماع؛ لعموم أدلة نشر الحرمة بالرضاع، و للاستصحاب. خلافا للمحكي عن الحلبي و ابني حمزة و زهرة، بل عن الأخير الإجماع عليه!. «3»

و يظهر من بعض كلمات الجواهر، الميل إليه. «4»

و استدل لقول المشهور، أولا بالعمومات، مثل قوله تعالى: وَ أُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ ... و قوله صلّى اللّه عليه و آله: يحرم من الرضاع ما يحرم من القرابة.

و ثانيا بالاستصحاب، فان الرضاع من المرأة قبل الحولين من ولادة ولدها، كان سببا للتحريم، و الآن كذلك.

انوار الفقاهة، ج 3،

ص: 492

و فيه أولا، أنّه استصحاب تعليقى. و ثانيا، أنّه استصحاب حكمى؛ و لا شي ء منهما حجة على المختار.

فالعمدة هي العمومات لو كانت في مقام بيان هذه الجهات.

و استدل للقول الآخر الشاذ، بامور:

1- أصالة الاباحة.

2- ظهور قوله عليه السّلام: لا رضاع بعد فطام- بناء على تفسيره بالحولين- فإنه يشمل ولد المرضعة و المرتضع.

3- ما روى عن ابن بكير، من تفسير قوله: لا رضاع بعد فطام؛ بولد المرضعة. و قد مر روايته. «1»

و لكن الأول، مدفوع بعمومات الحرمة.

و الثانى، بأنّه ظاهر في المرتضع، لظهور كون الفاعل في الفعلين شخصا واحدا، فالمرتضع هو المفطم و المفطم هو المرتضع.

و الثالث، بأنّه اجتهاد غير صواب من ابن بكير و لا يهمّنا.

و يظهر من الجواهر، امكان تأييد هذا القول ببعض المؤيدات، مثل أنّه: لو نزل كلام الأصحاب على إرادة حولى المرتضع خاصة، يكون لا حدّ عندهم لمدّة الرضاع بالنسبة إلى المرضعة، فانّه يبقى رضاعها مؤثرا و لو سنين متعددة، و هو مع إشكاله في نفسه لكونه حينئذ كالدّر، مناف لعادتهم من عدم إهمال مثل ذلك، خصوصا بعد أن تعرض له العامة. «2»

و فيه، أنّه إذا صدق عنوان الدرّ أو مثل ذلك لطول الزمان، خرج عن عنوان لبن الفحل و الولادة، و كان خارجا عن محل الكلام؛ مضافا إلى أنّ بقائه سنين متعددة فرد شاذ نادر خارج عن الاطلاقات، و أما الأصحاب، فقد عرفت أنّهم تعرضوا له إجمالا، و هو عدم تحديده بشي ء عدا صدق لبن الفحل و الولادة.

***

بقي هنا شي ء:

أنّه قد أفتى بعض فقهاء العامة، في المقام، بفتوى عجيب قبيح، و هو أنّهم رووا روايات في باب رضاع الكبير، (و قد أفرد له مسلم، في صحيحه المعروف، بابا لرضاعة الكبير، أورد

فيها خمسة أو ستة أحاديث). «1»

و حاصلها أنّ حذيفة كان من البدريين، و كانت له زوجة اسمها سهلة؛ و تبنى ولدا باسم سالم؛ فكبر و زوجه بعض أقربائه؛ و لما نزل قوله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ ... الحقه أبو حذيفة باهله؛ و كان يأتي بيته عند سهلة، و كانت سهلة ترى الكراهة في وجه أبي حذيفة، و تكلمت النبي صلّى اللّه عليه و آله في ذلك؛ فقال: أرضعيه! قالت: كيف، و هو كبير. قال: قد علمت أنّه كبير!

و من هنا، قال جماعة منهم، بجواز الامتصاص من ثديها للضرورة. و يا للفضاحة في هذه الفتاوى.

***

[المسألة 2: المراد بالحولين، أربع و عشرون شهرا هلاليا من حين الولادة]
اشارة

المسألة 2: المراد بالحولين، أربع و عشرون شهرا هلاليا من حين الولادة. و لو وقعت في أثناء الشهر، يكمل من الشهر، الخامس و العشرين، ما مضى من الشهر الأول على الأظهر. فلو تولد في العاشر من شهر، تكمل حولاه في العاشر من الخامس و العشرين ...

المراد بالحولين

(1) أقول: قد تعرض للمسألة جماعة من الأصحاب، مثل الشهيد الثاني في المسالك، «1» و النراقي في المستند، «2» و صاحب الجواهر في أول كلامه، «3» و افتوا بعين ما جاء في المتن من اعتبار الشهر الهلالي، و تكميل الناقص من أشهر الخامس و العشرين.

و الدليل عليه واضح، فانه المتبادر من ذكر الحولين؛ و ليس المراد منه الأيام و العدد، بان يجعل كل شهر ثلاثين يوما فيكون المدار على سبعمائة و عشرين يوما الذى يتفاوت مع الحولين الهلاليين بعشرة أيّام تقريبا.

و لكن في كلمات بعضهم احتمال اعتبار الحساب بالعدد، و هو عجيب. فانّ كل من يحاسب أسنان أولاده ينظر إلى يوم ولادته، و يجعل ذلك اليوم من السنة القادمة، كمال حوله الأول و دخوله في الحول الثاني، و هكذا في جميع المحاسبات في بيان السنين في التواريخ و غيرها؛ فاذا جاء يوم بعثة النبي صلّى اللّه عليه و آله قلنا اليوم مضت كذا و كذا سنة من بعثته صلّى اللّه عليه و آله، و لا نحاسب الأيّام بحسب العدد قطعا، و لا ينبغي الشك في ذلك.

إن قلت: فلما ذا يحاسب شهران متتابعان بحسب العدد، و يقال المراد بالتتابع مضى واحد و ثلاثون يوما و أنّ المجموع هو ستون يوما.

قلنا: أولا، ما ذكرت غير ثابت بحسب الفتوى؛ فراجع الشرائع، و الجواهر، كتاب انوار الفقاهة، ج 3، ص: 495

الصوم، فقد ذكر في

الشرائع و الجواهر: و لا يجوز لمن كان عليه شهران متتابعان، أنّ يصوم شوالا مع يوم من ذي القعدة و يقتصر على ذلك؛ و كذا الحكم في ذي الحجة مع يوم آخر من المحرم، ضرورة نقصان الشهر بالعيد فلا يحصل المطلوب باليوم. نعم، لو صام يومين اتجه الأجزاء، لحصول الشهر و يوم كما هو واضح. «1»

و لم يفرقا بين كون الشهر ثلاثين يوما أو تسعة و عشرين؛ و هذا كالتصريح في كفاية شهرين هلاليين.

هذا، مضافا على أنّه لو قال قائل بعدم الكفاية في أبواب كفارة الصيام و ما أشبهها، كان له وجه في الجملة، نظرا إلى أنّه عدل لإطعام ستين مسكينا؛ و نعلم أنّ كل اطعام يكون بدل يوم، حتى صرّح في بعض كفارات الحج في الكتاب العزيز: ... كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً .... «2»

فلا ينثلم ما ذكرناه من القاعدة العامة.

***

بقي هنا أمور:
1- اذا شك في مضى الحولين فما حكمه؟

إذا شك في مضى الحولين و عدمه، لعدم العلم بمبدإ تاريخ الولادة، فقد حكى عن القواعد و جامع المقاصد، الحكم بالحل. و استدل له باصالة الاباحة، و أنّ الشك في الشرط شك في المشروط.

و لكن قد يستشكل على ذلك، بأن الاستصحاب الموضوعى هنا مقدم على أصالة الحل؛ فان استصحاب بقاء الحولين، كاف لإثبات الحرمة بسبب الرضاع الواقع عند الشك.

إن قلت: هذا من قبيل الاصل المثبت، لأنّ بقاء الحولين لا يثبت كون الرضاع واقعا فيهما، فهو من اللوازم العقلية.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 496

قلنا: هذا من قبيل كون الموضوع مركبا من جزءين، أحدهما يثبت بالوجدان، و الثاني بالأصل؛ كما إذا قلنا أنّ فالغسل وقع بماء يشك في كرّيته، و الاستصحاب يدل على كونه كرا، فالغسل ثابت بالوجدان، و الكرية ثابتة بالأصل، و يحصل

المطلوب.

إن قلت: ما نحن فيه من قبيل التقييد لا التركيب، فيكون مثبتا، لعدم جواز إثبات التقييد بمجرّد استصحاب بقاء الحولين.

قلنا: كلّا، هذا المقدار لا يكون من قبيل الاصل المثبت، فان أكثر موارد روايات الاستصحاب من هذا القبيل، فانّ الطهارة شرط للصلاة و قيد لها، فاذا انضمت الطهارة الاستصحابية بالركوع و السجود و الحمد و السورة، فقد حصل التركيب و التقييد بين ما ثبت بالوجدان و ما ثبت بالأصل؛ فافهم و اغتنم.

2- إذا تمّت الرضعة الأخيرة مع تمام الحولين

ظاهر الآية الشريفة- التي فسرت الفطام بها في الروايات، بل هي ظاهرة في المطلوب مع قطع النظر عنها،- هو الكفاية؛ نعم، في بعض الأحاديث المعتبرة، كحديث الفضل بن عبد الملك البقباق، «1» عن الصادق عليه السّلام، قال: الرضاع قبل الحولين قبل أن يفطم. «2»

لكنه محمول على الغالب، كما هو ظاهر، و إن شئت قلت المراد منه نفي تاثير ما بعد الحولين.

3- المقدار الواجب من الرضاع

هناك مسألة اخرى، و لعلها أشد ابتلاء من مسائل الرضاع في عصرنا، يناسب ذكرها هنا بمناسبة بحث الحولين؛ و هو المقدار الواجب من الرضاع الذي لا يجوز أقل منه و لا أكثر؛ المشهور جواز الأكثر من الحولين، و أنّه لا يجوز الأقل من 21 شهرا.

قال في الشرائع: و لا يجوز نقصه عن ذلك (أي أحد و عشرين شهرا)، و لو نقص كان انوار الفقاهة، ج 3، ص: 497

جورا؛ و يجوز الزيادة على الحولين شهرا أو شهرين. «1»

و أضاف في الجواهر، في الأول، أي عدم جواز النقصان من المقدار المذكور: بل في كشف اللثام دعوى الاتفاق عليه، و لعله ظاهر غيره أيضا؛ و أضاف في الثاني: المشهور بين الأصحاب أنّه يجوز الزيادة على الحولين؛ من دون تقييده بالشهر و الشهرين، و ظاهره جعل استثناء الشهر و الشهرين قولا غير مشهور. «2»

و قال في المسالك: لا خلاف بين أصحابنا في أنّ مدّة الرضاع بالأصالة حولان كاملان، لقوله تعالى: وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ و ... ظاهر الآية كون تمام الرضاعة حولين، و هو لا ينافي جواز النقص عنهما. و قد جوز أصحابنا الاقتصار على أحد و عشرين شهرا، لظاهر قوله تعالى: وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً؛ فاذا حملت بتسعة أشهر، و هو الغالب، بقي فصاله و هو مدّة

رضاعه أحد و عشرون شهرا.

و ذكر في ذيل كلامه: و أمّا الزيادة على الحولين، فمقتضى الآية أنّه ليس من الرضاعة، لتمامها بالحولين؛ لكن ليس فيها دلالة على المنع من الزائد، و المصنف و جماعة قيدوه بشهر و شهرين. «3»

و حكى في الحدائق، عن شرح النافع، انه لو قيل بجوازه (جواز الأقل من أحد و عشرين شهرا)، إذا اقتضت مصلحة الولد لذلك، و تراضي عليه الأبوان، لم يكن بعيدا. «4»

هذه جملة من كلمة الأصحاب يعرف بها حال المسألة من ناحية الأقوال.

ففي ناحية الأقل، قولان بل أقوال:

1- لا يجوز الأقل من أحد و عشرين شهرا.

2- يجوز إذا كان عن تراض من الأبوين و تشاور منهما.

3- يجوز مطلقا، (لو كان له قائل).

و في ناحية الأكثر، أقوال:

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 498

1- لا يجوز اكثر من الحولين مطلقا، (لو كان له قائل).

2- يجوز بمقدار شهر أو شهرين.

3- يجوز مطلقا.

امّا بالنسبة إلى الأقل، فقد يتوهم أن ظاهر قوله تعالى: وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ .... «1»

و لكن الانصاف عدم دلالته على ذلك، بل يدل على أن من أراد أن يتمّ الرضاعة، يتمها في حولين.

نعم، ظاهر قوله تعالى: ... وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ...، «2» أنّه يجوز أحد و عشرين شهرا، لأنّ الغالب كون الحمل تسعة أشهر، و لا يمكن إخراج الفرد الغالب عن الآية، فيجوز أحد و عشرين شهرا؛ أمّا لا يجوز أقل من ذلك، لا دلالة فيها.

كما أنّ ظاهر قوله تعالى في ذيل آية البقره: ... فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَ تَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما ...، جواز الأقل من ذلك مع التراضي و التشاور من الأبوين.

و أمّا قوله تعالى في

سورة لقمان ... وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ ...، «3» يمكن حمله على بيان الفرد المتعارف منه، فلا يستفاد من الآيات الثلاثة القرآنية، ما يدل على أقل الواجب في الرضاع و أكثره.

و أمّا بحسب الروايات؛ فهناك روايتان تدل على عدم جواز الأقل من احد و عشرين شهرا:

1- ما رواه عبد الوهاب بن الصباح، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: الفرض في الرضاع أحد و عشرون شهرا، فما نقص عن أحد و عشرين شهرا فقد نقص المرضع، و أن أراد أن يتمّ الرضاعة فحولين كاملين. «4» و سند الرواية ضعيف بعبد اللّه بن الصباح، فإنّه مجهول في الرجال، و لكنه مجبور؛ و أمّا دلالته على المقصود، ظاهرة.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 499

2- ما رواه سماعة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: الرضاع واحد و عشرون شهرا، فما نقص فهو جور على الصبي. «1» و هو أيضا ضعيف بمحمد بن سنان، لاختلاف الآراء فيه و عدم إمكان إثبات وثاقته؛ و وجه دلالته أنّ عنوان الجور بمعنى الظلم، يدل على الحرمة. و لكن ضعف سنده أيضا مجبور بعمل الأصحاب.

و يعارضها ما رواه الحلبي في الصحيح، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: ليس للمرأة أن تأخذ في رضاع ولدها أكثر من حولين كاملين؛ إن أرادا الفصال قبل ذلك عن تراض منهما و تشاور، فهو حسن؛ و الفصال هو الفطام. «2» و مثله الرواية الثالثة من الباب، و الروايه السابعة من نفس الباب؛ و هذه الروايات الثلاث تدل على معنى واحد، و هي في الحقيقة روايتان عن الحلبي و عن أبي بصير.

و الجمع بينهما في بدو النظر إنّما هو بحمل المطلق و المقيد؛ فانّ الأخير مطلق يدل على جواز

الأقل من عامين بأي مقدار كان؛ و الأولان يدلان على جوازه إلى أحد و عشرين شهرا.

و يمكن الجمع بينهما بنحو آخر، بأنّ يقال الأولان مطلقان من حيث التراضي و التشاور، و الأخيرة بالعكس؛ فتكون النسبة على عكس الأول؛ و حاصله، جوازه إلى أحد و عشرين من دون تشاور و تراض، و جوازه إلى الأقل منه بتراض و تشاور.

أو يقال إن النسبة هو العموم من وجه، فيرجع إلى المرجحات، و هو الشهرة في المقام فيثبت قول المشهور؛ و لكن الثاني موافق لكتاب اللّه.

و هنا جمع ثالث، و هو حمل الروايات المانعة على الكراهة، فانّ التعبير بالنقص و الجور على الصبي و أمثال ذلك، له ظهور ضعيف في الوجوب، لو لم يكن ظاهرا في الكراهة.

هذا، و لعل سيرة المسلمين أيضا مستقرة على عدم الالتزام عملا بأحد و عشرين شهرا؛ و هذا مؤيد آخر لعدم الوجوب. و لكن لا يترك الاحتياط بهذا المقدار مهما أمكن، و

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 500

قد أفتى في تحرير الوسيلة، في ما يأتي من كلامه في أحكام الأولاد، في المسألة 15، بوجوبه لو لا الضرورة.

و أمّا بالنسبة إلى الأكثر، فظاهر الروايات الثلاثة الأخيرة، النهي عن تجاوز الحولين؛ و العمل بها ممّا لا منع منه، إلّا أنّ يقال باعراض المشهور عنها؛ و لعله لجريان السيرة على خلافه، لأنا لم نر النساء المؤمنات من المسلمين، ملتزمات بذلك؛ و لكن الأحوط هنا أيضا هو الترك مهما امكن.

و أمّا الشهر و الشهران، فالظاهر أنّها مقدمة للفطام؛ فانّ الفطام لا يتيسر غالبا في يوم معين بل اللازم الممارسة له في مدّة غير قصيرة.

ان قلت: لما ذا لا يشرع فيه في الشهر الآخر من الحول الثاني.

قلنا: لمنافاته لقوله تعالى: وَ

الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ ....

***

بقي هنا شي ء: دور الارضاع في سلامة الطفل

أنّ المتعارف في عصرنا عدم التزام الامهات بارضاع أولادهن، بل التزامهم بعدمه إلّا بمقدار قليل، مع أنّ العلوم العصرية توكّد على وجوب الارضاع، و أنّ سلامة الطفل كسلامة الامّ مرهونه به، و كم من أنواع الأمراض تعرض الصبي أو الامّ لترك ذلك؛ و الإسلام أيضا توكد على ذلك، فان المستفاد من ظاهر الاية الشريفة مطلوبة ارضاع الامّ ولدها إجمالا؛ و قد عرفت شبهة وجوبه في أحد و عشرين شهر، لبعض الروايات في ذلك.

فقد ورد في كثير من الروايات الماثورة من المعصومين (عليهم السلام)، ترتب ثواب عظيم عليه، و وجود بركات كثيرة في ارضاع الامّ ولدها؛ و إليك شطر منها:

1- عن أبي خالد الكعبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: أيّما امرأة- إلى أن قال- فاذا ارضعت كان لها بكل مصّة كعدل عتق محرر من ولد اسماعيل؛ فاذا فرغت انوار الفقاهة، ج 3، ص: 501

من رضاعه، ضرب ملك كريم على جنبها و قال استأنفي العمل! فقد غفر لك. «1»

2- عن طلحة بن زيد، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: ما من لبن رضع به الصبي أعظم بركة عليه من لبن امّه. «2»

3- و عنه صلّى اللّه عليه و آله في حديث: فاذا وضعت حملها و اخذت في رضاعه، فما يمص الولد مصّة من لبن امّه إلّا كان بين يديها نورا ساطعا يوم القيامة يعجب من رآها من الأولين و الآخرين. «3»

4- و عنه صلّى اللّه عليه و آله: ليس للصبي لبن خير من لبن امّه. «4»

و المستفاد من هذه الروايات مع الإشارة إلى ما وردت في

الكتاب العزيز، أنّ في الارضاع لا سيّما ارضاع الام، مصلحة و بركة للأمّ و للولد؛ فلا ينبغي الغفلة عنه.

***

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 502

... الشرط الخامس: الكميّة، و هي بلوغه حدا معينا، فلا يكفى مسمى الرضاع و لا رضعة كاملة؛ و له تحديدات و تقديرات ثلاثة:

الأثر

و الزمان و العدد

و أيّ منها حصل كفى في نشر الحرمة؛ و لا يبعد كون الأثر هو الأصل و الباقيان امارتان عليه، لكن لا يترك الاحتياط لو فرض حصول أحدهما دونه. فأمّا الأثر، فهو أن يرضع بمقدار نبت اللحم و شدّ العظم. و أمّا الزمان، فهو أن يرتضع من المرأة يوما و ليلة، مع اتّصالهما بأن يكون غذائه في هذه المدّة منحصرا بلبن المرأة. و أمّا العدد، فهو أن يرتضع منها خمس عشرة رضعة كاملة.

[5-] الكميّة
اشارة

(1) أقول: هذه المسألة معركة للآراء بين الأصحاب، فانّ الشهرة لا سيما بين المتأخرين و إن استقرت على ما ذكره في المتن، إلّا أن هناك خلافات كثيرة، كما ستأتى الإشارة إليها؛ و قد بحث عنه في الجواهر في خمسة و عشرين صفحة.

و لكن في الأصحاب من يقول بكفاية العشر أيضا، و هم عدد كثير من أكابر الفقهاء.

و قال شاذ منّا بنشر الحرمة بما يسمى رضاعا و لو كان قليلا؛ حكاه في الجواهر عن قاضي نعمان المصري، في دعائم الإسلام، و ابن الجنيد حيث قال الأول منهما: روى عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: يحرم من الرضاع كثيره و قليله حتى المصة الواحدة. ثم قال: و هذا قول بيّن صوابه لمن تدبره و وفّق لفهمه، لأنّ اللّه تعالى شأنه يقول: ... وَ أُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ ... و الرضاع يقع على القليل و الكثير.

و قال الثاني منهما:

قد اختلف الرواية من الوجهين جميعا في قدر الرضاع المحرّم، إلّا أنّ الذي أوجبه الفقه عندي، و احتياط المرء لنفسه، أنّ كلما وقع عليه اسم رضعة و هو

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 503

ملأة بطن الصبي إمّا بالمص أو الوجور، محرم للنكاح.

و أمّا العامة، فهم أيضا مختلفون في ذلك، قال شيخ الطائفة قدّس سرّه في الخلاف: من أصحابنا من قال أنّ الذي يحرم من الرضاع، عشر رضعات متواليات لم يفصل بينهن برضاع امرأة اخرى. و منهم من قال خمس عشر رضعة، و هو الأقوى؛ أو رضاع يوم و ليلة؛ أو ما أنبت اللحم و شدّ العظم إذا لم يتحلل بينهن رضاع امرأة اخرى. و حدّ الرضعة ما يروى به الصبى، دون المصة.

و قال الشافعي: لا يحرم إلّا في خمس رضعات متفرقات ... و به قال ابن الزبير، و عائشة؛ و في التابعين سعيد بن جبير، و طاوس، و في الفقهاء أحمد و اسحاق.

و قال قوم: قدرها ثلاث رضعات فما فوقها ..، ذهب إليه زيد بن ثابت في الصحابة، و إليه ذهب أبو ثور و أهل الظاهر. و قال قوم: أنّ الرضعة الواحدة أو المصة الواحدة، حتى لو كان قطرة تنشر الحرمة؛ ذهب إليه على ما رووه عليّ عليه السّلام و ابن عمر و ابن عباس؛ و به قال في الفقهاء، مالك و الأوزاعي و الليث بن سعد و الثوري و ابن حنيفة و أصحابه. «1»

و حكي في الجواهر قولا رابعا عنهم، و هو العشر؛ حكاه عن طائفة منهم. «2»

فالأقوال بيننا ثلاثة:

1- عدم اشتراط بشي ء ما عدا صدق الرضاع.

2- كون المدار على الأثر و الزمان و العدد، (مع كون العدد خمس عشر رضعة).

3- كون المدار على الأثر و

الزمان و العدد، (مع كونه عشر رضعات).

و عند العامة أربع أقوال:

1- ثلاث رضعات.

2- خمس رضعات.

3- عشر رضعات.

4- عدم اشتراط بشي ء.

***

المقامات التي يجب البحث عنها
اشارة

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ الكلام في هذه المسالة يقع في مقامات:

الأول- الأقوال في المسألة.

الثاني- عدم كفاية المسمى، بل اللازم مراعاة حدّ معلوم.

الثالث- المدار على الأثر و الزمان و العدد.

الرابع- المعتبر في العدد، هو خمس عشرة أو عشرة رضعات.

الخامس- هل الاصل هو الاثر و الباقى امارات عليه، أو كل مستقل.

السادس- كيف تتوافق هذه المعيارات الثلاث، هل يعادل رضاع يوم و ليلة، ما انبت اللحم و شدّ العظم و هكذا.

و بتنقيح هذه الأمور يتمّ البحث في المسألة على نحو مستوفي. فنقول (و من اللّه تعالى شأنه نستمد التوفيق و الهداية):

1- الاقوال في المسألة

المقام الأول، فقد عرفتها.

2- عدم كفاية المسمّى

المقام الثاني، فحاصل القول فيه، أنّ المعروف بين الأصحاب عدم كفاية مسمى الرضاع، و قد ادعى الإجماع عليه في كشف اللثام، و قال: الكمية معتبرة عند علمائنا أجمع. «1»

و صرّح في الرياض بأنّ الكمية معتبرة بإجماع الطائفة، خلافا للمحكي عن مالك و أبي حنيفة. «2»

و قال الشهيد الثاني، في المسالك: اتفق أصحابنا على أنّ مطلق الرضاع و مسماه غير

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 505

كاف في نشر الحرمة؛ «1» و هكذا.

و كأنهم لم يعتنوا بشأن بعض من خالف هذا الفتوى، مثل ابن الجنيد و قاضي نعمان المصرى، (و قد مرّ كلامهما).

و كيف كان فغاية ما يمكن ان يستدل به لهذا القول (قول المخالف)، أمران:

الأوّل، اطلاق الاية الشريفة، وَ أُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ ....

و الجواب عنه، أولا، بان صدق الام الرضاعى بمجرد رضعة أو أقل، أول الكلام؛ و كذا الاخت و غيرها، بل لا بدّ في ثبوت هذه العناوين مضيّ مدّة غير يسيرة، و هذه نكتة لطيفة في الجواب عن من تمسك باطلاق الآية. و ثانيا، لو سلمنا الاطلاق، فهو مقيد بالكمية عددا و أثرا و زمانا بمقتضى الروايات الكثيرة التي ربّما تبلغ حد التواتر.

الثاني، بعض الروايات الدالة عليه؛ منها:

1- ما رواه علي بن مهزيار، عن أبي الحسن عليه السّلام، أنّه كتب إليه يسأله عمّا يحرم من الرضاع؟ فكتب عليه السّلام: قليله و كثيره حرام. «2» و الرواية صحيحة من حيث السند، ظاهرة من حيث الدلالة.

2- ما عن زيد بن علي، عن آبائه عن عليّ عليهم السّلام، قال: الرضعة الواحدة كالمائة رضعة، لا تحل له أبدا، «3» و السند غير خال عن الإشكال، لاشتماله على جماعة من الزيدية.

3- ما عن أبان، عن ابن أبي يعفور،

قال: سألته عمّا يحرم من الرضاع. قال: إذا رضع حتى يمتلى بطنه، فان ذلك ينبت اللحم و الدم، و ذلك الذي يحرم. «4»

هذا، و يمكن حمل الرواية على تفسير الرضعات، أنّه لا بدّ في كل واحد، من امتلاء بطن الصبي؛ لا سيما مع قوله: فان ذلك ينبت اللحم ..؛ فانه من البعيد كفاية رضعة واحدة في إنبات اللحم.

و يشهد له رواية اخرى في هذا الباب نفسه، و هي مرسلة ابن أبي عمير، عن بعض انوار الفقاهة، ج 3، ص: 506

أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: الرضاع الذي ينبت اللحم و الدم، هو الذي يرضع حتى يتضلع و يمتلى و ينتهى نفسه. «1»

4- ما رواه المستدرك، عن الجعفريات، باسناده عن علي عليه السّلام، أنّه كان يقول: المصة الواحدة تحرّم. «2»

5- بهذا الاسناد أيضا، عن عليّ عليه السّلام قال: يحرم قليل الرضاع و كثيره. «3»

6- ما رواه في دعائم الإسلام، عن علىّ عليه السّلام، أنّه قال: يحرم من الرضاع قليله و كثيره و المصة الواحد تحرّم. «4»

و لكن اسنادها غير نقية.

و لكن هذه الروايات على فرض دلالتها و صحة اسنادها، معارضة بما هو أكثر منها سندا و عملا و فتوى؛ بل لعلها متواترة؛ و الروايات العارضة على قسمين: قسم منها يدل بالدلالة المطابقية على نفي مسمى الرضاع؛ و قسم يدل بالدلالة الالتزامية البيّنة الواضحة.

أمّا القسم الأوّل، فهي روايات كثيرة، منها:

1- ما عن علي بن رئاب، قال: قلت له: ما يحرم من الرضاع؟ قال: ما أنبت اللحم و شدّ العظم: قلت: فيحرم عشر رضعات؟ قال: لا، لأنّه لا تنبت اللحم و لا تشد العظم عشر رضعات. «5»

2- ما عن موسى بن بكر، عن أبي الحسن، قال: ...

أمّا الرضعة و الرضعتان و الثلاث فليس بشي ء إلّا ان يكون ظئرا مستأجرة مقيمة عليه. «6»

3- ما عن صباح بن سيّابة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: لا بأس بالرضعة و الرضعتين و الثلاث. «7»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 507

و يدل عليه أيضا الرواية 9 و 19 و 23 و 24 من نفس الباب.

فهذه روايات سبعة تشهد بدلالتها المطابقية، على نفي مجرّد المسمى، و تدل على لزوم الكميّة إجمالا.

و القسم الثاني، ما يدل على نفى المسمى بالدلالة الالتزامية البيّنة، و هي بنفسها طوائف كثيرة، منها:

1- ما دل على لزوم الأثر.

2- ما دل على لزوم العدد، خمسة عشر أو عشرة.

3- ما دل على لزوم الزمان، أعني يوما و ليلة كاملة.

إلى غير ذلك.

و من الواضح أنّها أشهر رواية من الروايات الدالة على كفاية المسمى؛ مضافا إلى موافقتها لعمل الأصحاب، و مخالفتها لفتوى مالك، و أبي حنيفة و هما من فقهائهم المعروفين.

3- في بيان أنواع الكميّة،
اشارة

و هي ثلاثة:

الف) الاثر
اشارة

أمّا الاثر، المشهور بين الاصحاب، بل ادعى عليه الإجماع جماعة منهم، أنّه يكفى في مقام الكمية، ارتضاعه بمقدار يوجب شدّ العظم و إنبات اللحم؛ و قد دل عليه روايات كثيرة؛ تزيد على عشرة؛ منها:

1- ما رواه عبد اللّه بن سنان، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام، يقول: لا يحرم من الرضاع إلّا ما أنبت اللحم و شدّ العظم. «1»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 508

2- ما رواه على بن رئاب، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت: ما يحرم من الرضاع. قال:

ما أنبت اللحم و شدّ العظم ... «1»

3- ما رواه مسعدة بن زياد العبدى، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما شدّ العظم و أنبت اللحم ... «2»

و يدل عليه أيضا كثير من الروايات الواردة في الباب 2 من هذه الأبواب، و غيره، و هي الرواية 14 و 18 و 19 و 20 و 23 من الباب 2، و الرواية 1 و 2 من الباب 4.

و لكن في بعضها، اللحم و الدم؛ مثل رواية محمد بن مسلم؛ «3» و في هذا المعنى روايات اخرى ربما تبلغ المجموع أربع روايات أو أكثر؛ (20/ 2 و 3/ 3 و 1/ 4 و 2/ 4 من أبواب الرضاع).

بقي هنا امور:

الأوّل: هل هناك تعارض بين ما دل على إنبات اللحم و شدّ العظم، و بين ما دل على إنبات اللحم و الدم؟ الظاهر انه لا تعارض بينهما، لأنّ ظهور الشدّة في العظم عادتا يكون بعد ظهور إنبات اللحم و الدم، و أن تلازما في الواقع.

الثاني: هل المعتبر في هذا الأثر، الفعلية، أو يكفى كونه بالقوة؛ و تظهر الثمرة في ما إذا كان للصبي

مرض لا تكثر وزنه مثلا طول ثلاثة أو أربعة أشهر، فعلى الأول، لا يحرم؛ و على الثاني، يحرم. ظاهر النصوص و الفتاوى هو الفعلية و وجوده الخارجي، كما أن ظاهر جميع العناوين و الأوصاف كذلك، مثل التغيير في باب أوصاف الماء، أو الضرر في باب صوم المريض، أو الاستطاعة في الحج، و غير ذلك. نعم، لو حصل العدد أو الزمان الكاشف عن الأثر، يكفى في موارد الشك.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 509

الثالث: هل المعتبر وجود كليهما، أو يكفى احدهما من الشد، و الإنبات؟ فيه خلاف بين الأصحاب، فعن جماعة كفاية أحدهما، للعلم بالتلازم بينهما. و عن جماعة اخرى اعتبارهما معا، لعدم ثبوت التلازم.

أقول: من المعلوم اليوم، تقسيم الغذاء من طريق الدم على جميع أجزاء البدن، فكل جزء يأخذ سهمه من المواد الغذائية و المائية و الاكسيجن، حتى أعماق العظام، و من البعيد وقوع الإنبات في اللحم دون شدّ العظم؛ هذا مضافا إلى أنّه قد عرفت ورود إنبات اللحم و الدم، بدون ذكر شدّ العظم، في روايات كثيرة بعضها معتبرة؛ و ظاهرها جواز الاكتفاء به، و لو لم يعلم بشدّ العظم؛ و ليس ذلك إلّا من جهة تلازمهما عادة.

إن قلت: إن كانا متلازمين، فلم ذكر كلاهما بعنوان الشرط؟

قلت: كأنه إشارة إلى أنّ سبب نشر الحرمة، وجود الأثر في جميع وجود الطفل.

إن قلت: هل إنبات اللحم و الدم متلازمان؟

قلت: نعم، متلازمان، لأنّ اللحم إذا ازداد كان فيه عروق الدم، فلا محالة يزداد الدم.

إن قلت: أمّا إنبات اللحم، فهو أمر محسوس لا سيما في عصرنا الذي صار توزين الاطفال امرا متعارفا؛ و لكن كيف يمكن إثبات اشتداد العظم، و اين الطريق إلى معرفته.

قلت: الظاهر أنّه لا طريق له في

العرف إلّا من ناحية التلازم.

***

ب) الزمان

و أمّا الزمان، فالمعروف و المشهور بين الأصحاب كفاية رضاع يوم و ليلة كاملتين؛ و ذهب شاذ إلى خلافه. و لعل أجمع كلام في نقل الأقوال في المقام، هو ما افاده الفقيه الماهر صاحب الجواهر (قدس سره الشريف)، حيث قال:

لا شك في ثبوت التحريم لو رضع يوما و ليلة، للموثق المزبور المعتضد بمرسل المقنع المذكور و فتوى الطائفة قديما و حديثا؛ بل قد يظهر من محكى التبيان و مجمع البيان و الغنية و الايضاح و غيرها، عدم الخلاف فيه؛ و في الخلاف اجماع الفرقة عليه، و في انوار الفقاهة، ج 3، ص: 510

محكىّ التذكرة نسبته إلى علماء الاماميّة، و في كشف اللثام الاتفاق عليه. «1»

ثم حكى قولين آخرين شاذين في المسألة:

أحدهما، ميل بعض المتاخرين- و لم يسمّه باسمه- إلى اعتبار الحولين! لتعدد رواياته، ثم قال: يمكن أن يكون هذا القول مخالفا لإجماع المسلمين، بل يمكن أن يكون مخالفا للضرورة من الدين.

ثانيهما، التفصيل في المسالة، بان يكون الزمان (يوما و ليلة) لمن لم يضبط العدد، و مقتضاه أنّه مع العلم بالنقص عن العدد لا يعتبر الزمان؛ حكاه عن الشيخ و عن العلّامة في التذكرة، و رماه بمخالفته لإطلاق النص و الفتوى. «2»

هذه خلاصة القول في مسألة اعتبار الزمان، ففى الحقيقة المسألة إجماعية مع قطع النظر عن هذه الشواذ.

و يدل عليه روايتان:

1- ما رواه زياد بن سوقة، قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: هل للرضاع حدّ يؤخذ به؟ فقال:

لا يحرم الرضاع أقل من يوم و ليلة، أو خمس عشرة رضعة متواليات ... «3»

و رجال الرواية معتمدون، و لكن لما كان عمار بن موسى فطحيّا (يعتقد بامامة عبد اللّه بن أفطح بعد الصادق عليه

السّلام) وصف الحديث بالموثق؛ و كان لعمار اخوان، صباح و قيس، و كانا أيضا ثقتان و لم أر في الرجال ما يدل على كونهما من الفطحيين.

2- مرسلة الصدوق في المقنع، قال- بعد ذكر إنبات اللحم و شدّ العظم- و سئل الصادق عليه السّلام، هل لذلك حدّ؟ قال: لا يحرم من الرضاع إلّا رضاع يوم و ليلة أو خمس عشرة رضعة متواليات لا يفصل بينهن. «4» و سيأتي إن المراد بالتوالى و عدم الفصل، عدم الفصل برضاع امرأة اخرى.

و هي أيضا منجبرة بعمل المشهور، أو بضم الرواية الاولى، و كفى بذلك في اثبات انوار الفقاهة، ج 3، ص: 511

الحكم المذكور.

و لكن هناك روايات معارضة لهما؛ بعضها تدل على اعتبار الرضاع طول حولين، و بعضها طول سنة و بعضها طول خمسة عشر يوما، و بعضها ثلاثة أيام متواليات.

أمّا الأول، 1- ما رواه زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الرضاع. فقال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما ارتضعا من ثدي واحد حولين كاملين! «1»

2- و مثله ما رواه عبيد بن زرارة الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما كان حولين كاملين. «2»

و حيث إنّ في اسناد الصدوق إلى عبيد، الحكم بن مسكين، و هو غير موثق به، كان الحديث الثاني ضعيفا. و في الأول، الحسن بن حذيفة بن المنصور، و هو مجهول او ضعيف جدا على رأى ابن الغضائرى.

فالروايتان ضعيفتان، مضافا إلى اعراض المشهور عنه، بل قد عرفت رمى الفتوى بهما بأنّه مخالف لإجماع المسلمين بل ضرورة الدين.

و يمكن أن تكونا ناظرتين إلى لزوم كون الرضاع في الحولين أي حولي المرتضع.

أمّا الثاني، فهو ما رواه العلاء بن رزين،

بسند صحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الرضاع. فقال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما ارتضع من ثدي واحد سنة. «3»

سند الحديث و إن كان صحيحا، و لكن العمل على خلافه؛ فهو مهجور ممنوع، يرد علمه إلى أهله. و قال بعضهم يحتمل كون، سنّة؛ بضم السين و تشديد النون، يعنى على نحو السنّة، أي العدد أو الأثر أو الزمان أو شبه ذلك؛ و هو أيضا بعيد.

و أمّا الثالث، فيدل عليه ما رواه في الوسائل، من مرسلة الصدوق قال: و روى لا يحرم من الرضاع إلّا رضاع خمسة عشر يوما و لياليهن ليس بينهن رضاع. «4»

و ما رواه في المستدرك، عن الصدوق (قدس سره) أيضا في الهداية عن الصادق عليه السّلام انوار الفقاهة، ج 3، ص: 512

قال: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، و لا يحرم من الرضاع إلّا رضاع خمسة عشر يوما و لياليهن و ليس بينهن رضاع. «1»

و حال سند الحديثين معلوم؛ و لعلهما حديث واحد، و لكن دلالتها على اعتبار خمسة عشر يوما ظاهرة؛ لكنهما مهجوران عند الأصحاب، لم يعمل بهما أحد فيما نعلم، بل هما معارضتان بالروايات الكثيرة الدالة على كفاية خمس عشرة رضعة، و قد حملهما بعضهم على كون المراد خمس عشرة رضعة في كل يوم رضعة واحدة، و هو بعيد جدا؛ لأنّ الفصل برضاع امرأة اخرى مناف؛ و الاكتفاء بسائر الاغذية، لا سيما في تلك الأيام، أيضا بعيد.

أمّا الرابع، فهو ما ورد في الفقه المنسوب إلى الرضا عليه السّلام: و الحدّ الذي يحرم به الرضاع، ممّا عليه عمل العصابة- دون كلّ ما روى فانّه مختلف- ما أنبت اللحم و قوىّ العظم، و هو رضاع ثلاثة أيّام

متواليات أو عشر رضعات متواليات. «2»

و سند الرواية ضعيف مرسل؛ بل كونه رواية، مشكوك؛ بل نفس تعبيرات هذه الرواية ليست مثل رواية المعصومين. فانّ قوله: مما عليه عمل العصابه؛ لا يشابه كلماتهم كما هو واضح. هذا أولا، و ثانيا، لم يعمل به أحد من العصابة، فكيف يقول: عليه عمل العصابة؛ و ذكر العشر فيه أيضا من الموهنات.

و الحاصل أنّ شيئا من المعارضات لا ينبغي عدّه معارضا؛ و لو فرض التعارض، كانت أدلة المشهور أقوى بلا ريب.

ج) العدد

و أمّا العدد، و المعروف بين الأصحاب، أنّه لا يكون أقل من العشر، و لا أكثر من خمس عشرة، و قد ادعى الإجماع على كليهما كما يظهر من المسالك، فراجع. «3»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 513

و لكن الخلاف الشديد في كفاية العشر أو وجوب خمسة عشر؛ و قد ذهب إلى كل واحد منهما جماعة من أكابر الفقهاء؛ و اختار بعضهم كلا القولين في مواضع مختلفة.

قال ثاني الشهيدين (قدس سره) في المسالك: ذهب أكثر المتقدمين كالمفيد و سلّار و ابن البراج و أبي الصلاح و ابن حمزة؛ و من المتأخرين، العلّامة في المختلف و ولده فخر المحققين و الشهيد في اللمعة، إلى أنّ المعتبر عشر رضعات؛ و ذهب الشيخ و المصنف و أكثر المتأخرين، إلى اعتبار خمس عشرة؛ و كلا القولين لابن ادريس. «1»

و قال في الجواهر: ذهب ابن ادريس في أول كتاب النكاح، إلى القول بالعشر و جعله الأظهر في الفتوى و الصحيح؛ و رجع عنه في باب الرضاع و حكم بان الخمس عشرة هو الأظهر من الأقوال. «2» و العجب أنّهم اختلفوا في أشهر القولين، فقال بعضهم الأشهر هو الأول، و قال بعضهم هو الثاني؛ و الظاهر أنّ شهرة

القول الأخير (خمس عشرة)، بين المتأخرين ممّا لا كلام فيه. إنّما الكلام في الشهرة بين القدماء، فقد يقال أنّها الأوّل؛ و قد وقع التشكيك فيه من بعض الأكابر.

و على كل حال الذي يدل على القول الأخير (خمس عشرة رضعة)، روايات كثيرة، و هي على قسمين:

الأول، ما يدل على وجوب خمس عشرة، و هو روايتان:

1- موثقة زياد بن سوقه، قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: هل للرضاع حدّ يؤخذ به؟ فقال:

لا يحرم الرضاع أقل من يوم و ليلة، أو خمس عشرة رضعة متواليات ... «3»

2- ما رواه الصدوق في المقنع، قال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما أنبت اللحم و شدّ العظم. قال: و سئل الصادق عليه السّلام، هل لذلك حدّ؟ فقال: لا يحرم من الرضاع إلّا رضاع يوم و ليلة، أو خمس عشرة رضعة متواليات ... «4»

و هاتان الروايتان مع اعتبار سند إحداهما و وضوح دلالتهما، كافيتان في اثبات انوار الفقاهة، ج 3، ص: 514

المقصود مع قطع النظر عن معارضتهما.

الثاني، ما يدل على نفى كفاية العشر؛ فانها بضميمة الإجماع على أنّ العدد أمّا العشر أو خمس عشرة، تثبت المطلوب بالملازمة الظاهرة. و هي:

1- ما عن على بن رئاب، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: قلت: ما يحرم من الرضاع؟ قال:

ما أنبت اللحم و شدّ العظم. قلت: فيحرّم عشر رضعات؟ قال: لا؛ لأنّه لا تنبت اللحم و لا تشد العظم عشر رضعات. «1»

2- ما عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: سمعته يقول: عشر رضعات لا يحرمن شيئا. «2»

3- ما عن عبد اللّه بن بكير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: سمعته يقول: عشر رضعات لا تحرّم. «3»

و هذه الروايات مع

اعتبار اسناد بعضها، أيضا دليل على المطلوب.

و اما ما استدل به على كفاية العشر فقط، فهي أيضا روايات؛ منها:

1- عن عمرو بن يزيد، قال: سالت أبا عبد اللّه عليه السّلام، عن الغلام يرضع الرضعة و الثنتين؟

فقال: لا يحرم. فعددت عليه حتى أكملت عشر رضعات؛ فقال: إذا كانت متفرقة، فلا. «4»

فإنّها تدل بالمفهوم على أنّه لو كانت غير متفرقة، فهي كافية؛ و الظاهر أنّ المراد بالمتفرقة ما كان بينها رضاع امرأة اخرى. و لكن سنده ضعيف؛ فانّه إن كان عمرو بن يزيد، فهو مجهول؛ و إن كان عمر بن يزيد، فهو أيضا محل تأمل.

2- ما عن الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: لا يحرم من الرضاع إلّا المخبورة أو خادم أو ظئر، ثم يرضع عشر رضعات يروى الصبي و ينام. «5»

و هذا هو العمدة في روايات الباب، لدلالته على المقصود بالمنطوق. و لكن سنده انوار الفقاهة، ج 3، ص: 515

مشكل بمحمد بن سنان، مضافا إلى أنّ الحصر في المخبورة (أو المجبورة على ما في النسخ المعتبرة ظاهرا) أو خادم أو ظئر ممّا لم يقل به أحد؛ بل إذا كانت متبرعة نشرت الحرمة؛ فيكون ضعيفا من حيث الدلالة كما أنّ النوم بعد التروي لا يكون شرطا إلّا أن يحمل على الغالب.

3- عن عبيد بن زرارة، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أمّا أهل بيت كبير، فربما كان الفرح و الحزن الذي يجتمع فيه الرجال و النساء، فربما استخفت المرأة أن تكشف رأسها عند الرجل الذي بينها و بينه رضاع، و ربما استخف الرجل أن ينظر إلى ذلك؛ فما الذي يحرم من الرضاع؟ فقال: ما أنبت اللحم و الدم. فقلت: ما الذي ينبت اللحم و

الدم؟ فقال:

كان يقال عشر رضعات. قلت: فهل تحرم عشر رضعات؟ فقال: دع ذا؛ و قال: ما يحرم من النسب فهو يحرم من الرضاع. «1»

و لا يبعد صحة سنده، و لكن دلالته مشكل جدا، لإجماله و استشمام التقية منه.

4- عن مسعدة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما شدّ العظم و أنبت اللحم، فاما الرضعة و الرضعتان و الثلاث حتى بلغ عشرا، إذا كن متفرقات، فلا بأس. «2»

و هو أيضا يدل بالمفهوم، و في سنده مسعدة، و هو بقرينة رواية 9/ 2، هو مسعدة بن زياد العبدى؛ و لا يبعد وثاقته.

5- ما عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: سألته عن الرضاع، ما أدنى ما يحرم منه؟ قال: ما ينبت اللحم و الدم؛ ثم قال: أ ترى واحدة تنبته؟ فقلت: اثنتان أصلحك اللّه؛ فقال: لا. فلم أزل أعد عليه حتى بلغت عشر رضعات. «3»

و سنده أيضا مشكل بعلى بن يعقوب، فانّه مجهول الحال؛ و دلالته أيضا لا تخلو عن ابهام كما هو واضح.

فتلخص، أنّ الذي يدل على المقصود هو الرواية الاولى و الرابعة، و هما تدلان انوار الفقاهة، ج 3، ص: 516

بالمفهوم مع ضعف سندهما.

و لكن الروايات النافية للعشر، صريح في النفى و أصحّ سندا؛ و كذا المثبتة لخمس عشرة. فالترجيح بالطائفة الاولى، أي ما دل على اعتبار خمس عشرة عند ذكر العدد.

هذا مضافا إلى أنّ مقتضى أصالة الاباحة بعد عدم كون عمومات، يحرم من الرضاع ...؛ و أمثالها في مقام بيان جميع الشرائط، هو عدم الاكتفاء بالعشر؛ فلا يبقى إلّا خمس عشرة.

4- هل الكميّات الثلاث كلها اصول؟

هل هذه الأمور الثلاثة، (الأثر و العدد و الزمان)، كلها اصول أو بعضها أصل

و بعضها الآخر دليل و امارة عليه.

و نتيجة هذا البحث، أنّه لو كان جميعها اصولا، كفى حصول واحد منها و إن علم بانتفاء الآخرين. و أمّا لو كان أحدها اصلا، (مثلا كان الأثر أصلا، و الآخرين دليلا عليه)، لا يكفى حصول العدد أو الزمان لو علم بعدم حصول الأثر، اصلا.

و على كل حال، ففى المسألة اقوال:

الأول: ان كل واحد اصل برأسه؛ ذكر في المسالك انه ظاهر المصنف، (المحقق)، و الأكثر. «1»

الثاني: أن الأصل هو العدد، و الباقيان إنّما يعتبران عند عدم انضباطه؛ حكاه في المسالك عن الشيخ. «2»

الثالث: أنّ الأصل هو الأثر، و الباقيان أمارة عليه؛ اختاره في كشف اللثام «3» و تبعه عليه بعض آخر.

و الانصاف أنّ ظاهر اخبار هذه الأبواب هو الأخير؛ و هي على طائفتين:

الطائفة الاولى، ما يدل على حصر طريق الرضاع المحرم، في إنبات اللحم و شدّ العظم،

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 517

أو إنبات اللحم و الدم؛ منها:

1- ما رواه حمّاد بن عثمان، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما أنبت اللحم و الدم. «1»

2- ما رواه عبد اللّه بن سنان، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام، يقول: لا يحرم من الرضاع إلّا ما أنبت اللحم و شدّ العظم. «2»

3- ما رواه مسعدة بن زياد العبدي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما شدّ العظم و أنبت اللحم؛ الحديث. «3»

4- ما رواه أيضا مسعدة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما شدّ العظم و أنبت اللحم؛ الحديث. «4»

و لكن يمكن أن يعارض هذه الروايات بما ورد نظيره في العدد أو الأثر، مثل:

1- ما

رواه زياد بن سوقة، قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: هل للرضاع حدّ يؤخذ به؟ قال:

لا يحرم الرضاع أقلّ من يوم و ليلة، أو خمس عشرة رضعة متواليات. «5»

2- ما رواه الصدوق قدّس سرّه في المقنع، قال: و روى لا يحرم من الرضاع إلّا رضاع خمسة عشر يوما و لياليهن ليس بينهن رضاع. «6» بناء على حملها على خمس عشرة رضعة.

و من هنا يعلم أنّ الحصر فيها اضافي، ليس بمعنى نفي الغير مطلقا.

الطائفة الثانية، و هي العمدة؛ ما يجعل الأصل فيه الأثر، ثم يجعل حدّه، أي الامارة عليه، العدد أو الزمان. مثل:

1- على بن رئاب، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت: ما يحرم من الرضاع؟ قال: ما أنبت اللحم و شد العظم. قلت: فيحرم عشر رضعات؟ قال: لا، لأنّه لا تنبت اللحم و لا تشدّ

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 518

العظم عشر رضعات. «1»

2- محمّد بن على بن الحسين في (المقنع) قال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما أنبت اللحم و شدّ العظم. قال: و سئل الصادق عليه السّلام هل لذلك حدّ؟ فقال: لا يحرم من الرضاع إلّا رضاع يوم و ليلة أو خمس عشرة رضعة متواليات لا يفصل بينهن. «2»

3- عن عبيد بن زرارة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ... (إلى أن قال:) فما الذي يحرم من الرضاع؟ فقال: ما أنبت اللحم و الدّم. فقلت: و ما الذي ينبت اللحم و الدم؟ فقال: كان يقال عشر رضعات. قلت: فهل تحرم عشر رضعات؟ فقال: دع ذا ... «3»

4- عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: سألته عن الرضاع ما أدنى ما يحرم منه؟ قال: ما ينبت اللحم و الدّم.

ثم قال: أ ترى واحدة تنبته؟ فقلت: اثنتان أصلحك اللّه؟

فقال: لا؛ فلم أزل اعد عليه، حتّى بلغت عشر رضعات. «4»

5- عبد اللّه بن سنان، عن أبي الحسن عليه السّلام قال: قلت له: يحرم من الرضاع الرضعة و الرضعتان و الثلاثة؟ قال: لا، إلّا ما اشتدّ عليه العظم و نبت اللحم. «5»

أضف إلى ذلك؛ حكمة الحكم أيضا تؤيد كون الأثر أصلا، و الباقيان طريقا إليه. فان إنبات لحم الولد و اشتداد عظمه سبب لاتحاده مع أولاد المرضعة من حيث الجسم الموجب للمحرمية. و قوله صلّى اللّه عليه و آله: الرضاع لحمة كلحمة النسب؛ المذكور في كتب الفتاوى و التفسير، و إن لم نجده في كتب الحديث، أيضا مؤيد له؛ فان اللحمة، إمّا بمعنى القرابة، و إمّا بمعنى لحمة الثوب المقابل لسداة، (كما ورد في كتب اللغة)؛ و كلاهما فرع أثر اللبن في إنبات اللحم و شدّ العظم؛ و اللّه العالم.

5- هل هذه الامور الثلاثة، متفقة في النتيجة أو مختلفة؟

من البعيد جدّا أن يجعل الشارع المقدس أمورا مختلف المآل، ملاكا لحكم واحد، و

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 519

من هنا يعلم تقارب هذه الامور الثلاثة إجمالا، و هو غير بعيد.

إن قلت: كيف يقارب الزمان و العدد، هنا، مع أنّ الصبي لا يشرب اللبن عادة في يوم و ليلة خمس عشرة مرّة.

قلنا: قد يكون كذلك، فيشرب في كل ساعة و نصف مرّة؛ هذا مضافا إلى أنّ العدد، قد يكون بينها التغذية بشي ء آخر، و الزمان لا يكون بينه بشي ء ابدا.

إن قلت: كيف يحصل الأثر في يوم و ليلة؟

قلنا: نموّ الصبى سريع جدا، لا يكون مثل الكبير. فحينئذ لا يبعد حصول الأثر في كل يوم و ليلة.

6- كيف يعلم حصول الأثر، مع أنّه أمر خفي عادة؟

ذكر صاحب الجواهر له طريقين:

أحدهما: الرجوع إلى اهل الخبرة، كما نص عليه جماعة؛ ثم اشترط فيه حصول شرائط الشهادة من الإيمان و العدالة و العدد.

ثانيهما: تحقق الرضاع مدّة طويلة، كشهرين و ثلاثة مثلا، مع اختلال شرط الزمان و العدد. كما إذا كانت الرضعات ناقصة أو تحقق فيها الفصل برضاع امرأة اخرى، أو غير ذلك. «1»

هذا، و لكن الانصاف انّ شهادة عدل واحد، بل قول ثقة، كافية. لما ذكرنا في محله من كفاية قول الثقة و لو كان واحدا في إثبات الموضوعات. نعم، في التنازع لا يكفى إلّا شهادة عدلين. و اعلم أنّ الرجوع إلى أهل الخبرة إنّما هو في الموضوعات الخفيّة التي تحتاج إلى خبروية و ما نحن فيه كذلك.

***

[المسألة 3: المعتبر في إنبات اللحم و شدّ العظم، استقلال الرضاع
اشارة

المسألة 3: المعتبر في إنبات اللحم و شدّ العظم، استقلال الرضاع في حصولهما على وجه ينسبان إليه؛ فلو فرض ضم السكّر و نحوه إليه على نحو ينسبان إليهما، أشكل ثبوت التحريم؛ كما أنّ المدار هو الإنبات و الشدّ المعتد به منهما، على نحو مبان يصدقان عرفا و لا يكفي حصولهما بالدقة العقلية؛ و إذا شك في حصولهما بهذه المرتبة أو استقلال الرضاع في حصولهما يرجع إلى التقديرين الآخرين.

اعتبار استقلال الرضاع في حصول الاثر

(1) أقول: هذه المسألة تشتمل على فرعين من فروع المسألة السابقة:

أحدهما: أنّ الأثر لا بدّ أن يكون منسوبا إلى اللبن مستقلا، لا إليه و إلى أمر آخر مثل السكّر الملقى في فم الصبي، أو أكله قبل اللبن أو بعده، أو تغذيه بغذاء آخر قبل الرضاع أو بعده.

ثانيهما، لا يكفى الأثر بالدقة العقليّة، بل لا بدّ و أن يكون الأثر أمرا ظاهرا بيّنا عرفا.

[للمسألة فرعان
1- الأثر لا بد أن يكون مستندا إلى اللبن مستقلا

فهو مفهوم من ظاهر روايات الباب؛ فان قوله عليه السّلام في غير واحد من روايات- الباب 3 من أبواب ما يحرم بالرضاع-: لا يحرم من الرضاع إلّا ما أنبت اللحم و شد العظم؛ أو ما في معناه، هو استناد الأمرين إلى الرضاع، لا إليه و إلى أمر آخر؛ فلا بد من الاستقلال في الأثر.

قال المحقق السبزواري، في مهذب الأحكام، بعد ذكر عنوان المسألة: إجماعا و نصوصا تقدم بعضها؛ ثم استدل له بالأصل بعد الشك في شمول الادلة. «1»

هذا؛ و لكن باب المناقشة في المسالة واسع، لأنّ استناد الإنبات و الشدّ إلى طعامين انوار الفقاهة، ج 3، ص: 521

مختلفين، فيما إذا دام مدّة غير قصيرة، أمر عرفي ظاهر، مثلا من أكل الخبز و الأرز مدة طويلة فزاد ثقل بدنه مثلا أربع كيلوغرام، يمكن أن يقال إن ازدياد ثقله مستند إلى الخبز كما أنّه مستند إلى الأرز؛ فكل منهما علة مستقلة في بعض زيادة الثقل، لأنّ المعلول أمر مركب يمكن استناده إلى اسباب متعددة مستقلا؛ فالخبز مستقل في تأثيره الخاص كما أنّ الأرز كذلك. و إن أبيت عن صدق الاستقلال في التاثير و لكن صدق النسبة حاصل؛ و لذا لو سئل عن سبب ازدياد وزنه، يجيب بأنّ كلا من الخبز و الأرز سبب له. و

يمكن اختبار ذلك في مثال آخر، فلو فرض هناك مخزن للماء يرد عليه الماء من أنابيب متعددة لا شك أنّ مستوى الماء في المخزن يرتفع تدريجا كما أنّه لا شك في نسبة الارتفاع إلى كل واحد في الجملة، يعنى كل واحد سببا لارتفاعه مثلا بمقدار شبر، و المجموع بمقدار أشبار؛ و بدن الإنسان مثل مخزن الماء، و الأغذية مثل الماء الجاري من الأنابيب. (فافهم و اغتنم، فانّه ينفعك في سائر المقامات التي تشابه المقام).

فالأقوى أنّ صدق النسبة لا يتوقف على عدم ضمّ شي ء آخر إليه، و به يرفع اليد عن أصالة الحلّ هنا.

2- المدار على المقدار المعتد به

استدل له في المهذب، بالأصل، و عدم ابتناء أحكام الشرع على الدّقة العقلية. «1»

و أحسن منه ما ذكره في الجواهر بعد الحكم بلزوم ظهور الأثر لدى حس أهل الخبرة، بان: لأنّ الاكتفاء بمطلق التأثير يقتضى فساد التحديد، فانّه لا يزيد على اعتبار أصل الرضاع ... و لوقوع التصريح في النصوص بعدم حصول الإنبات و الاشتداد بالرضعة فما فوقها إلى العشر، بل بانتفائهما فيها. فمع ملاحظة الجمع بين النصوص و الفتاوى يعلم كون المراد مرتبة خاصة من الإنبات و الاشتداد، لا مطلق التأثير كما هو واضح. «2»

و يظهر من كلام هذا الفقيه الماهر، بعد الدّقة، أنّ مراتب التأثير ثلاثة:

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 522

1- التأثير بالدقة العقلية، و هذا غير معتبر عقلا.

2- التأثير العرفي، مثل ما حصل بعد عشر رضعات مثلا.

3- التأثير العرفي المحسوس لأهل الخبرة.

و الذي يظهر من أخبار الباب هو الأخير، للروايات التي أشار بها صاحب الجواهر.

و الظاهر إمكان معرفة الاثر بالوزن، فاذا زاد وزن الصبى مقدارا معتدا به يدل على إنبات لحمه و يلازمه اشتداد عظمه، كما في بعض الروايات؛ و

إنبات دمه، كما في بعض آخر.

يبقى الكلام في موارد الشك، فاذا شك في الاستقلال- بناء على اعتباره- أو حصول الأثر عرفا، فالأصل هو العدم من هذه الناحية؛ فانّ حصل فيه ما يوجب الحرمة من ناحية الزمان أو العدد، يؤخذ به؛ و إلّا يحكم بالحلية بمقتضى الأصل.

***

[المسألة 4: يعتبر في التقدير بالزمان أن يكون غذاؤه في اليوم و الليلة منحصرا باللبن
اشارة

المسألة 4: يعتبر في التقدير بالزمان أن يكون غذائه في اليوم و الليلة منحصرا باللبن، و لا يقدح شرب الماء للعطش و لا ما يأكل أو يشرب دواء، إن لم يخرج ذلك عن المتعارف؛ و الظاهر كفاية التلفيق في التقدير بالزمان لو ابتدء بالرضاع في اثناء الليل أو النهار.

شرائط كمية الزمانية
اشارة

(1) أقول: في هذه المسألة أيضا فرعان؛

[للمسألة فرعان
1- لا يتغذى بغير اللبن

أمّا الأول، فقد صرح به غير واحد من الأعلام؛ فقد ذكر في المسالك: أنّ المعتبر في رضاع اليوم و الليلة، كون مجموع غذاء الولد في ذلك الوقت، من اللبن بحيث كلّما احتاج إليه يجده. «1»

قال في الرياض: و أن لا يفصل بين الرضعات برضاع غير المرضعة و المأكول و المشروب في الزمانية خاصة، دون العددية؛ فيمنع فيها، الفصل برضاع غير المرضعة خاصة. كل ذلك للأصل و التبادر. «2»

و قد صرّح في الجواهر بمثل ما أفاده في المسالك. «3»

و الظاهر أنّه لم يرد نص خاص في المسألة و لذا استدل له في مهذب الأحكام بأنّه الظاهر من الأخبار مضافا إلى الإجماع و أصالة عدم نشر الحرمة في غيره، ثم قال: نعم، لا يقدح تناول شي ء خارجى قليل جدّا بما هو المتعارف في الرضع كما سيأتي، و لا يقدح شرب الماء للعطش و لا ما يأكل أو يشرب دواء، لما عرفت في سابقه و أن المناط الغذاء

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 524

الواصل إلى الجوف و لا يصدق ذلك في الماء و الغذاء. «1»

قلت: أمّا دعوى الإجماع فهو كما ترى، لأنّ الظاهر أنّه لم يتعرض له إلّا القليل. و أمّا ظهور الأخبار فقد عرفت أنّ الدليل عليه موثقة زياد بن سوقة، و مرسلة الصدوق فقط، «2» و مضمون كليهما واحد: لا يحرم الرضاع أقل من يوم و ليلة، الخ. و الانصاف أنّ ظهورهما في انحصار الغذاء باللبن واضح. نعم، يستثنى منه ما هو المتعارف كأكل شي ء قليل مثل وضع شي ء قليل من التفاح مثلا و الخبز تحت يده لأن يلهو به فأكل قليلا منه؛ و كذلك الدواء و الماء فانّه متعارف فلا

ينصرف الاطلاق إلى غيره.

فالعمدة كونه من المصاديق المتعارفة، يحمل الاطلاق عليه.

2- كفاية التلفيق

أمّا الثاني، و هو كفاية التلفيق، فهي ممّا لا ينبغى التأمّل فيها، لأنّ المتفاهم من روايتى الباب كون الرضاع بمقدار أربع و عشرين ساعة، لا أنّه يبدأ من أول طلوع الفجر إلى طلوع الفجر في الليلة الآتية، أو من أول طلوع الشمس، أو شبه ذلك، فانّه فرد نادر؛ كما أنّ الأمر في أشباهه كذلك من إقامة عشرة أيّام أو ثلاثين يوما في المسافر، أو لزوم استمرار ثلاثة أيّام في الحيض، أو تجاوزه عن العشرة، أو غير ذلك؛ ففى جميع ذلك يكفى التلفيق لانصراف الأدلة إليه، كما هو ظاهر.

***

[المسألة 5: يعتبر في التقدير بالعدد أمور]
اشارة

المسألة 5: يعتبر في التقدير بالعدد امور:

منها: كمال الرضعة، بان يروى الصبي و يصدر من قبل نفسه، و لا تحسب الرضعة الناقصة، و لا تضم الناقصات بعضها ببعض بأن تحسب رضعتان ناقصتان أو ثلاث رضعات ناقصات مثلا، واحدة؛ نعم لو التقم الصبي الثدي ثم رفضه لا بقصد الاعراض بان كان للتنفس أو الالتفات إلى ملاعب أو الانتقال من ثدي إلى آخر أو غير ذلك كان الكلّ رضعة واحدة.

و منها: توالى الرضعات بأن لا يفصل بينها رضاع امرأة اخرى رضاعا تاما كاملا على الأقوى، و مطلقا على الأحوط. نعم لا يقدح القليل جدّا، و لا يقدح في التوالى تخلل غير الرضاع من الماكول و المشروب، و إن تغذى به.

و منها: أن يكون كمال العدد من امرأة واحدة، فلو ارتضع بعض الرضعات من و أكملها من امرأة اخرى لم ينشر الحرمة، و إن اتحد الفحل؛ فلا تكون واحدة من المرضعتين امّا للمرتضع، و لا الفحل أبا له.

و منها: اتحاد الفحل بان يكون تمام العدد من لبن فحل واحد، و لا يكفى اتحاد المرضعة، فلو أرضعت امرأة من لبن فحل

واحد ثمان رضعات، ثم طلقها الفحل و تزوجت بآخر و حملت منه، ثم أرضعت ذلك الطفل من لبن الفحل الثاني تكملة العدد، من دون تخلل رضاع امرأة اخرى في البين، بأن يتغذى الولد في هذه المدّة المتخللة بالمأكول و المشروب لم ينشر الحرمة.

شرائط كمية العددية
اشارة

(1) أقول: قد مر الكلام في شرائط التقدير بالأثر، في المسألة 3، و في التقدير الزماني في المسألة 4؛ و الكلام هنا (في المسألة 5) في شرائط التقدير العددي، أي خمس عشرة رضعة على الأقوى أو عشرة على قول ضعيف؛ و فيه شرائط أربعة.

1- كمال كل رضعة

فقد صرح في الجواهر بأنّه لم يجد فيه خلافا بيننا. «1» و صرح في المهذب بأنّه إجماعى.

و اشار إلى أصل المسالة- أي اعتبار الكمال- في المسالك، «2» و الرياض، «3» كما صرح باعتباره في متن الشرائع؛ و تعبير الرياض بأنّ ضعف بعض أخبار الباب منجبر بعمل الأصحاب، يشعر أو يدل على دعوى الإجماع في المسالة؛ و نحن أيضا لم نر مخالفا بين الأصحاب، و يوجد بين العامة.

و على كل حال فقد استدل لاعتباره بعد الإجماع، المعلوم حاله في هذه المسائل، بامور:

1- الأصل، فان مقتضاه عدم نشر الحرمة من دون كمال الرضعات، و هو جيّد إذا لم يكن هناك دليل آخر.

2- ظهور اطلاق الروايات الدالة على اعتبار العدد، فانّ الرضعة ظاهر بحسب التبادر في الرضعة الكاملة.

3- الروايات الخاصة الواردة في المسالة، منها:

1- ما رواه ابن أبي يعفور، قال: سألته عمّا يحرم من الرضاع؟ قال: إذا رضع حتى يمتلى بطنه، فانّ ذلك ينبت اللحم و الدم، و ذلك الذي يحرم. «4»

و قد وصف سنده بالاعتبار.

2- ما رواه ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: الرضاع الذي ينبت اللحم و الدم هو الذي يرضع حتى يتضلّع و يمتلى و ينتهى نفسه. «5»

و قد وصف سنده أيضا بالاعتبار.

و لكن باب المناقشة في دلالة الخبرين واسع؛ أولا، أنّ الظاهر أنّهما ناظرتان إلى انوار الفقاهة، ج 3، ص: 527

التقدير بالأثر دون العدد.

و يمكن الجواب عنه، بأنّه لو اعتبر في الأثر، فاعتباره في العدد بطريق أولى. و ثانيا، الظاهر أن هذا الشرط غير معتبر في الأثر، للعلم الوجداني بان الأثر لا يتوقف على الرضعات الكاملات، بل يحصل بالوجدان بالرضعات الناقصات مدة غير يسيرة.

فالروايتان بحسب الدلالة ضعيفتان.

و يمكن الجواب عن هذا الإشكال أيضا، بانّ عدم اعتبار هذا الشرط في الأثر دليل على أنّهما ناظرتان إلى العدد، و لذا فهم هذا المعنى منه جماعة من الأصحاب و استدلوا بهما، فتأمل.

و الانصاف، أنّ الاستدلال بالروايتين- مع ذلك- لا يخلو عن ضعف.

3- ما رواه الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: لا يحرم من الرضاع إلّا المخبورة أو خادم أو ظئر، ثم يرضع عشر رضعات يروى الصبي.

لكن يرد عليه أولا، من ناحية السند، للإشكال المعروف في محمد بن سنان، اللّهم إلّا أن يقال بانجباره بعمل الأصحاب.

و ثانيا، من حيث الدلالة لأنّه متروك الظاهر بالإجماع كما صرّح به الشيخ (قدس سره) في بعض كلماته، لأنّه قد يحرم من الرضاع من لا يكون مجبورا (كما في النسخ المعتبرة) و لا خادما و لا ظئرا، بأن يكون امرأة متبرعة.

مضافا إلى أنّه من روايات العشر التي قد مرّ ضعفها في مقابل روايات خمس عشرة.

فتلخص من جميع ذلك أنّ العمدة في دليل المسألة، هو منصرف اطلاقات أخبار الباب.

2- اعتبار التوالي
اشارة

و هو بمعنى عدم الفصل بين الرضعات برضعة امرأة اخرى، فلو أنّ امرأة رضعت طفلا خمس عشرة رضعة كاملة، و لكن وقع الفصل بينها برضعة امرأة اخرى، لم يكف؛ فليس رضاع امرأة اخرى مكملا للعدد فانّ العدد كامل من امرأة الاولى، و إنّما الإشكال في انوار الفقاهة، ج 3، ص: 528

بطلان التوالى. هذا، و أمّا الفصل بينها

بالمأكول و المشروب فهو غير مانع، حتى أنّه لو رضعت عشر رضعات، ثم وقع الفصل بعدة أشهر يشرب الصبي فيها لبن البقر أو يأكل بعض الأغذية، ثم رضعته خمس رضعات اخرى، تمّ العدد و نشرت الحرمة بعد كمال العدد.

هذا هو المدعى، و قد ادعى إجماع أصحابنا عليه.

قال في الخلاف، بعد ذكر هذا الشرط، و أنّ الشافعى لم يعتبره، و لم يفرق بين أن يدخل بينها فصل بذلك أم لا: دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم. «1»

و قال المحقق النراقي في المستند، بعد ذكر هذا الشرط ما نصّه: إجماعا كما في التذكرة و عن الخلاف و الغنية. «2»

و صرح في الجواهر بعدم وجدانه الخلاف في المسألة. «3»

هذا؛ و حيث أن غير واحد من الأصحاب عبروا عن هذا الشرط و الشرط الآتى- (أي كون الإكمال من امرأة واحدة، أنّه لو أرضعت واحدة بعض العدد و الاخرى بعضه الآخر، لم تنشر و لو كانتا من فحل واحد)- بعبارة واحدة وقع الابهام في بعض كلماتهم، مثلا أنّ المحقق في الشرائع عبّر عن كليهما بهذه العبارة: أنّه لا بدّ من توالي الرضعات بمعنى أنّ المرأة الواحدة تنفرد بإكمالها، فلو رضع من واحدة بعض العدد ثم رضع من اخرى، بطل حكم الأول.

و صدر هذه العبارة كما ترى ظاهر في الشرط الثالث، و ذيلها في الشرط الثاني و الثالث كليهما؛ و لذا صرّح الشهيد الثاني (قدس سره) في المسالك، بان اعتبار التوالي له جهتان:

إحداهما، ما أشار إليه المصنف بقوله: بمعنى أنّ المرأة الواحدة تنفرد بإكمالها فلو رضع بعض العدد من امرأة و أكمله من اخرى لم ينشر الحرمة؛ ... و الجهة الثانية للتوالي، أن يرتضع العدد المعتبر من المرأة متواليا بحيث لا يفصل

بينه رضاع اخرى، و إن أكملت انوار الفقاهة، ج 3، ص: 529

الاولى العدد. «1»

و هذا الكلام يدل على أنّ الخلط بين المسالتين في بعض العبارات، أوجب ابهاما في المسالة من حيث الأقوال إجمالا.

و كيف كان فقد استدل على اعتبار هذا الشرط- أي التوالى بمعنى عدم الفصل برضاع امرأة اخرى و أن أكمل الاولى العدد-، بروايات:

1- ما رواه مسعدة بن زياد العبدي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: لا يحرم الرضاع إلّا ما شدّ العظم و أنبت اللحم، فاما الرضعة و الثنتان و الثلاث حتى بلغ العشر إذا كن متفرقات، فلا بأس. «2»

2- ما رواه عمر بن يزيد، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الغلام يرضع الرضعة و الثنتين؟ فقال: لا يحرم. فعددت عليه حتى أكملت عشر رضعات؛ فقال: إذا كانت متفرقة فلا. «3»

و الاستدلال بهاتين الروايتين مشكل جدّا، فان التفرق غير عدم التوالي، لأنّ التوالي يصدق و لو كانت الرضعات متفرقة إذا لم يتخلل بينها برضاع امرأة اخرى؛ فلعل هاتين ناظرتان إلى خصوص الأثر، و انّ الأثر لا يظهر بالتفرق، مضافا إلى ذكر العشر فيهما.

و لعله لذا لم يستدل بهما صاحب الجواهر و بعض آخر، فتدبّر جيدا.

3- ما رواه زياد بن سوقة، قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: هل للرضاع حد يؤخذ به؟ فقال:

لا يحرم الرضاع أقل من يوم و ليلة أو خمس عشرة رضعة متواليات من امرأة واحدة من لبن فحل واحد لم يفصل بينها رضعة امرأة غيرها؛ فلو أنّ امرأة ارضعت غلاما أو جارية عشر رضعات من لبن فحل واحد و أرضعتهما امرأة اخرى من فحل آخر عشر رضعات لم يحرم نكاحهما. «4» و الظاهر أن عطف الجارية على الغلام بالواو

لا بأو، بقرينة ذيل الرواية.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 530

و صدر هذه الرواية واضحة الدلالة على المطلوب (إلى قوله: لم يفصل بينها رضعة امرأة اخرى)، و لكن الكلام كل الكلام في ذيلها، فان الإشكال فيه إن كان من ناحية عدم اتحاد الفحل، فهذا لا ربط له بصدرها، فلا يمكن ذكره بعنوان التفريع عليه.

و يمكن أن يقال إن المذكور في الرواية شروط ثلاثه: التوالي، و اتحاد المرضعة، و اتحاد الفحل؛ و ما ورد في ذيلها تفريع على اتحاد الفحل فقط، و معناه أنّه لو اتحد الفحل ارتفع الإشكال من هذه الناحية، و إن كان الإشكال باقيا من ناحية عدم اتحاد المرضعة أيضا أو جهة اخرى.

و على كل حال لا يبعد الاستناد إلى هذه الرواية في إثبات هذا الشرط مع عدم وجود الخلاف فيه، بل دعوى الإجماع عليه.

***

بقي هنا امور:

الأوّل: ان المعروف عدم المنع عن تغذية الطفل بماكول أو مشروب اخر، و أنّ كثر و طال. قال في الجواهر: كوضوح كون المراد بالتوالي، عدم الفصل بخصوص رضاع اخرى نصا و فتوى، فلا يقدح الفصل بالأكل و نحوه، بل و بوجور اللبن في فمه، بلا خلاف أجده فيه.

ثم اشكل عليه بأنّه لو كان العدد كاشفا عن الإنبات، يشكل الحكم بالحرمة لو كان الفصل بالأكل على وجه يعلم عدم الإنبات بهذا العدد؛ ثم اجاب عن هذا الإشكال بانّ العدد المزبور كاشف عنه شرعا. (انتهى). «1»

هذا و لكن المحقق النراقي بعد ما استدل بروايتى مسعدة بن زياد، و عمر بن يزيد، و زياد بن سوقة، منع من عدم صدق التفريق و عدم التوالي مع تخلل المأكول و المشروب،

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 531

سيّما مع طول مدّة التخلل. «1»

و الانصاف أنّ هذا الكلام أشبه

شي ء بالاجتهاد في مقابل النص؛ لأنّ رواية زياد بن سوقة، فسّر المتواليات بأنّه لم يفصل بينهما رضعة امرأة اخرى، و ليس فيها كلام عن الماكول. اللّهم إلّا أن يقال إنّه ناظر إلى الغالب، فتأمل.

الثاني: هل المعتبر في العدد، حصوله كيف اتفق أو يعتبر مع صحة مزاج الولد؛ ذكر في المسالك و الجواهر ان فيه وجهين نظرا إلى عموم النص، مع احتمال انصرافه إلى صحيح المزاج و بالمقدار المعهود.

و لكن الانصاف عموم النص، إلّا أن يكون رضاع الطفل قليلا جدّا بحيث لا يعد رضعة.

الثالث: هل المانع عن التوالي هو مسمى الرضاع أو الرضاع الكامل؛ فيه وجهان بل قولان، كما في الجواهر «2» نسب إلى ظاهر الاصحاب كفاية المسمى و هو غير بعيد بحسب اطلاق النص، و الفرق بينه و بين الرضعات ظاهر، بناء على الاستدلال بروايتى مسعدة، و عمر بن يزيد، أو دعوى الانصراف هناك إلى الكامل دون المقام، فتأمل.

3- اعتبار اتحاد المرضعة

و هو اعتبار اتحاد المرضعة في جميع العدد، فهو من حيث الأقوال كالأول، بل أولى منه كما هو الظاهر؛ و قد عرفت إدغام هذا الشرط مع الشرط السابق من حيث العنوان و الأقوال في كلام جماعة.

قال في الرياض: و هل يشترط في التوالي اتحاد المرضعة، أم يكفى اتحاد الفحل؛ ظاهر الموثقة و الصحاح المتقدمة قريبا، الأول؛ و عليه الإجماع عن الغنية و الخلاف و التذكرة ... خلافا للعامة. «3»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 532

و يمكن الاستدلال له مضافا إلى موثقة زياد بن سوقة، (فقد وقع التصريح فيها بكون العدد من امرأة واحدة)، بقياس الأولوية بالنسبة إلى اشتراط التوالي و عدم الفصل برضاع امرأة اخرى، فانّ الفصل مع كمال العدد أن كان مضرا، كان الفصل مع عدم تمام

العدد كذلك بطريق الأولى.

بل الانصاف أنّه مع الشرط السابق لا يبقى محل لهذا الشرط، و لعله لذلك ذكروهما جماعة من المحققين تحت عنوان واحد.

4- اتّحاد الفحل
اشارة

و هو اتحاد الفحل، أي الأب الرضاعى، فهو المشهور بين الأصحاب بل ادعى عليه الإجماع خلافا للعامة حيث لم يشترطوا اتحاد الأب الرضاعي و اكتفوا باتحاد الام الرضاعي كالنسبي سواء.

قال العلّامة (قدس سره) في التذكرة: يشترط في الرضاع المحرم، أن يكون اللبن لفحل واحد عند علمائنا أجمع؛ فلو أرضعت امرأة بلبن فحل واحد مأئة، حرم بعضهم على بعض؛ و كذا لو نكح شخص مأئة امرأة و ارضعت كل واحدة، واحدا أو أكثر، حرم التناكح بينهم جميعا؛ و لو أرضعت امرأة بلبن فحل صبيّا، ثم طلقها الزوج و نكحت غيره، و أرضعت بلبن الثاني صبية، لم يحرم الصبي على الصبية ... و خالفت العامة في ذلك و لم يشترطوا اتحاد الفحل. «1»

و صرّح النراقي في المستند، باعتبار وحدة الفحل، ثم نقل الإجماع عن التذكرة عليه، ثم حكى نسبة الخلاف إلى الطبرسي. «2»

و نسبه في كشف اللثام إلى الشهرة؛ ثم قال: و لم يعتبره الطبرسي، صاحب التفسير، فاعتبر الاخوة من الرضاعة للأم خاصة، و كذا الراوندي في فقه القرآن. «3»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 533

و هنا أمر مهم جدّا يجب التنبيه عليه قبل الورود في أخبار الباب، و هو أنّ اتحاد الفحل له معنيان:

أحدهما: أنّه لا بدّ ان يكون كمال العدد من فحل واحد، فلا يكفى من فحلين؛ فلو ان امرأة أرضعت غلاما خمس رضعات، ثم طلقت و تزوجت و أرضعت من لبن الفحل الثانى عشر رضعات، لم يكف.

ثانيهما، أنّه لو كانت امرأة أرضعت غلاما رضاعا كاملا من فحل، ثم أرضعت صبية رضاعا كاملا

من فحل آخر، لا يحرم هذا على هذه، لعدم اتحاد الفحل؛ و قد وقع الخلط بينهما في مقام الاستدلال بالروايات. فليكن هذا على ذكر منك.

و الحاصل أنّ وحدة الفحل تارة يذكر بعنوان شرط في باب العدد، و اخرى بعنوان شرط في الأثر و الزمان و العدد، فيكون شرطا مستقلا؛ و بعبارة اخرى قد يكون وحدة الفحل مع وحدة الام (كما في العدد)، و قد يكون مع تعدد الام؛ و بعبارة ثالثة قد يكون ناظرا إلى نسبة الام و الأب مع ولدها الرضاعى، و قد يكون ناظرا إلى ولدين رضاعيين. و على كل حال لا يمكن قياس أحدهما بالآخر، لأنّه قياس مع الفارق.

و على كل حال؛ لا شك أن مقتضى عمومات الرضاع، الحرمة و لو مع عدم اتحاد الفحل، فانه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ فكما أنّ وحدة الام في النسب كافية في الحرمة فكذا في الرضاع، و لكن هناك أخبار خاصة تمنع عن ذلك؛ منها:

1- موثقة زياد بن سوقة، التي مرت مرارا، قال: من لبن فحل واحد. «1»

فهذا كما يدل على عدم نشرها لو كان العدد من فحلين، فكذا تدل على أنّه لو كان تمام العدد لغلام من فحل، ثم رضعت تمام العدد لجارية من فحل آخر، لم يحرم أحدهما على الآخر.

و الظاهر أنّ هذه الرواية منفردة في الدلالة على اعتبار اتحاد الفحل بكلا معنييه، و إلّا فالروايات الآتية لا تدل إلّا على اعتبار الاتحاد بالمعنى الثاني.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 534

2- ما رواه بريد العجلي، في حديث، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ فسّر لى ذلك. فقال: كل

امرأة أرضعت من لبن فحلها ولد امرأة اخرى من جارية أو غلام، فذلك الذي قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. و كل امرأة ارضعت من لبن فحلين كانا لها واحدا بعد واحد، من جارية أو غلام، فانّ ذلك رضاع ليس بالرضاع الذي قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ و إنّما هو من نسب ناحية الصهر رضاع و لا يحرم شيئا و ليس هو سبب رضاع من ناحية لبن الفحولة فيحرم. «1»

و المراد بالصهر هنا، الام (زوجة الفحل)، بقرينة ما ورد في صدر الرواية في الكافي؛ فراجع. «2»

و قد يتوهّم دلالة ذيلها على اعتبار اتحاد الفحل بالمعنى الأول، حيث يقول: و كل امرأة ارضعت من لبن فحلين كانا لها واحدا بعد واحد من جارية أو غلام، فانّ ذلك رضاع ليس بالرضاع الذي قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.

فانّ ذلك دليل على كون العدد بين فحلين (أي المعنى الأول)، و لذا نفى فيه الرضاع و آثاره مطلقا؛ و إلّا لو كان بالمعنى الثاني، كان الرضاع موجودا بين الام و ولده الرضاعى، و بينه و بين أبيه الرضاع (الفحل)؛ فنفى الرضاع مطلقا دليل على كونه ناظرا إلى المعنى الأول.

و يرد عليه من وجهين: أولا، أنّ قوله عليه السّلام: واحدا بعد واحد؛ ليس ناظرا إلى الزوجين للمراة (حتى ينحصر في المعنى الأول)، بل الظاهر كونه ناظرا إلى الرضيعين بقرينة تفسيره بعد بقوله من جارية أو غلام.

و ثانيا، قوله عليه السّلام في ذيل الرواية: و انما هو من نسب ناحية الصهر رضاع؛ إشارة إلى كونه محرما للأم؛ فتدبر جيدا.

3- ما

رواه عمار الساباطي، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن غلام رضع من امرأة، أ يحل انوار الفقاهة، ج 3، ص: 535

له أن يتزوج أختها لأبيها من الرضاع؟ فقال: لا، فقد رضعا جميعا من لبن فحل واحد من امرأة واحدة. قال: فيتزوج أختها لأمها من الرضاعة؟ قال: فقال: لا بأس بذلك، أنّ اختها التي لم ترضعه، كان فحلها غير فحل التي أرضعت الغلام، فاختلفا الفحلان فلا بأس. «1»

4- ما عن الحلبي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يرضع من امرأة و هو غلام، أ يحل له أن يتزوج اختها لأمها من الرضاعة؟ فقال: إن كانت المرأتان رضعتا من واحدة من لبن فحل واحد، فلا يحلّ؛ فان كان المرأتان رضعتا من امرأة واحدة من لبن فحلين، فلا بأس بذلك. «2»

5- ما عن عبد اللّه بن سنان، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن لبن الفحل؟ قال: هو ما أرضعت امرأتك من لبنك و لبن ولدك، امرأة اخرى فهو حرام. «3»

6- ما عن سماعة، قال: سألته عن رجل كان له امرأتان، فولدت كل واحدة منهما غلاما، فانطلقت احدى امرأتيه، فارضعت جارية من عرض الناس، أ ينبغى لابنه أن يتزوج بهذه الجارية؟ قال: لا، لأنّها أرضعت بلبن الشيخ. «4»

7- ما رواه الكليني بسند صحيح، عن البزنطي، قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن أرضعت جارية و لزوجها ابن من غيرها، أ يحل للغلام ابن زوجها انّ يتزوج الجارية التي أرضعت؟

فقال: اللبن للفحل. «5»

8- ما رواه على بن مهزيار، قال: سأل عيسى بن جعفر بن عيسى، أبا جعفر الثانى عليه السّلام أن امرأة أرضعت لي صبيا، فهل يحل لي ان أتزوج ابنة زوجها؟ فقال لي:

ما أجود ما سألت، من هاهنا يؤتى أن يقول الناس حرمت عليه امرأة من قبل لبن الفحل، هذا هو لبن الفحل لا غيره. فقلت له: الجارية ليست ابنة المرأة التي أرضعت لي، هي ابنة غيرها؛ فقال:

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 536

لو كنّ عشرا متفرقات ما حلّ لك شي ء منهن، و كنّ في موضع بناتك. «1»

9- عن مالك بن عطية، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، في الرجل يتزوج المرأة فتلد منه، ثم ترضع من لبنه جارية، يصلح لولده من غيرها أن يتزوج تلك الجارية التي أرضعتها؟ قال:

لا، هي بمنزلة الاخت من الرضاعة، لأنّ اللبن لفحل واحد. «2»

10- ما عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن الرضا عليه السّلام قال: سألته عن امرأة أرضعت جارية، ثم ولدت أولادا، ثم أرضعت غلاما، يحلّ للغلام أن يتزوج تلك الجارية التي أرضعت؟ قال: لا، هي اخته. «3»

11 و 12- و هناك روايتان، رواهما في المستدرك، عن دعائم الإسلام، تدلان على هذا المعنى بوضوح. «4»

هذا؛ و هناك روايات معارضة لما ذكرنا، منها:

1- عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في رجل تزوج امرأة فولدت منه جارية ثم ماتت المرأة فتزوج اخرى فولدت منه ولدا ثم أنّها أرضعت من لبنها غلاما؛ أ يحلّ لذلك الغلام الذي أرضعته أن يتزوج ابنة المرأة التي كانت تحت الرجل قبل المرأة الاخيرة؟

فقال: ما احبّ أن يتزوّج ابنة فحل قد رضع من لبنه. «5»

2- عن الحلبي، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أم ولد رجل أرضعت صبيّا و له ابنة من غيرها، أ يحل لذلك الصبيّ هذه الابنة؟ قال: ما أحبّ أن اتزوج ابنة رجل قد رضعت من لبن ولده. «6»

3- عن محمّد

بن عبيدة الهمداني، قال: قال الرضا عليه السّلام ...- إلى أن قال- فقال أبو الحسن عليه السّلام: فما بال الرضاع يحرّم من قبل الفحل و لا يحرم من قبل الامّهات؛ و إنّما

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 537

الرضاع من قبل الامهات و إن كان لبن الفحل أيضا يحرم. «1»

4- عن بسطام، عن أبي الحسن عليه السّلام قال: لا يحرم من الرضاع إلّا الذي ارتضع منه. «2»

5- عن عبد اللّه بن أبان الزيات، عن أبي الحسن الرّضا عليه السّلام قال: سألته عن رجل تزوج ابنة عمّه، و قد أرضعته أمّ ولد جدّه؛ هل تحرم على الغلام؟ قال: لا. «3»

و لكن هذه الروايات المعارضة، في نفسها غير خالية عن القصور، (فكيف بمقام التعارض مع الطائفة الاولى التي هي مستفيضة، و فيها صحاح، و ظاهرة أو صريحة في المدعي).

لأنّ روايتين منها معتبرتان من حيث السند، و لكن دلالتها ضعيفة؛ فانّ استعمال، ما احبّ؛ في الحرمة، غير بعيد. و قول ابراهيم عليه السّلام: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ، (أنعام/ 76)؛ و قوله تعالى حكاية عن صالح عليه السّلام: وَ لكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (أعراف/ 79)؛ و قوله تعالى:

وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (بقرة/ 205)؛ و قوله تعالى: وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ* (آل عمران/ 57)؛ و قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (انفال/ 58)؛ إلى غير ذلك ممّا هو كثير في القرآن المجيد، كلّها شاهدة على استعمال نفي الحبّ في موارد الحرمة.

و الروايات الثلاثة الباقية، واحدة منها مبهمة؛ و اثنان منها ضعيفتان بحسب السند؛ و قد أعرض الأصحاب عنها و كفى بذلك في سقوطها عن الحجية، لو كانت حجة.

و لو فرض التعارض بينهما، لا ينبغي الشك في تقديم الطائفة الأولى، أمّا من

باب الجمع الدلالى لكونها أكثر و أظهر و اصرح في مقابل الطائفة الثانية التي لها ظهور ضعيف، كما عرفت.

و لو فرض عدم الجمع الدلالي، تصل النوبة إلى أعمال المرجحات؛ و الثانية، و إن كانت موافقة لظاهر كتاب اللّه (لإطلاق قوله تعالى: و اخواتكم من الرضاعة)، و لكن الأولى موافقة للشهرة و مخالفة للعامة، و هذان المرجحان أقوى.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 538

أمّا القول الآخر الذي ذهب إليه الطبرسي (قدس سره) في مجمع البيان حيث قال ذيل قوله تعالى: «وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ»،:

يعنى بنات المرضعة و هن ثلاث: الصغيرة الاجنبية التي أرضعتها امك بلبان أبيك سواء أرضعتها معك أو مع ولدها قبلك أو بعدك؛ و الثانية، اختك لأمك دون أبيك و هي التي أرضعتها امك بلبان غير أبيك؛ و الثالثة، اختك لأبيك دون امك و هي التي أرضعتها زوجة أبيك بلبن أبيك ... «1»

و هذا الكلام كما ترى صريح في مخالفة المشهور، و من العجب انكار بعضهم لكون الطبرسي مخالفا.

هذا؛ و يظهر من الشهيد الثاني في المسالك، الميل إلى قول الطبرسي حيث قال: و استند أصحابنا في الشرطين (اشتراط اتحاد الفحل بكلا معنييه) معا، إلى رواياتهم؛ مثل رواية زياد بن سوقة، و رواية عمار الساباطي، (1/ 2 و 2/ 6 منه)، و لا يخفى عليك ضعف الخبرين بعمّار، (لوقوع عمار في سند رواية زياد بن سوقة أيضا)؛ لكن الحكم بهما مشهور بين الأصحاب إلى حدّ ادعى فيه الإجماع. ثم ذكر قول الطبرسي، ثم قال: و هذا القول في غاية الجودة بشرط اطراح الخبرين المتقدمين، اما لضعف السند، أو للمعارضة و الرجوع إلى عموم الأدلة. (انتهى). «2»

و هذا الكلام من هذا الفقيه البارع بعيد، فانّ الروايات الدالة على

هذا الشرط (اتحاد الفحل) غير منحصرة في هاتين الروايتين، بل تدل عليه روايات كثيرة تبلغ عشر روايات و فيها صحاح؛ مضافا إلى أنّ الروايتين أيضا معتبرتان موثقتان؛ و من هنا و امور اخرى رجع عنه في ذيل كلامه، و إن لم يكن بتلك الصراحة؛ فراجع.

و على كل حال يمكن الاستدلال لهذا القول بامور:

1- عموم قوله تعالى: ... وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ ...، فانّها تدل على حرمة الاخوات من ناحية الأب أو الام أو كليهما.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 539

2- عموم قوله صلّى اللّه عليه و آله: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ فانّ الاخت من ناحية نسب الام محرمة قطعا، فكذا من ناحية الرضاع.

3- الروايات الدالة عليه بالخصوص، و قد مرّ في الطائفة الثانية.

و يناقش في الدليل الاول و الثانى، بانهما عامّان قابلان للتخصيص بالروايات الخاصة الكثيرة التي مرّت آنفا؛ و قد ورد عليهما تخصيصات من ناحية الكميّة و الكيفية و السنّ و غيرها، فليكن هذا الشرط منها.

كما يرد على الأخير، أنّها أجنبية عن المدعى، فإنّها تدل على جواز النكاح و لو مع اتحاد الفحل؛ و هذا أمر لم يقل به المحقق الطبرسي أيضا، و إنّما مدعاه حرمة كليهما، أي الاخوة من ناحية الأب و من ناحية الام.

نعم، هناك رواية واحدة تدل على ذلك، و هي رواية محمد بن عبيدة الهمداني، حيث يقول عليه السّلام: فما بال الرضاع يحرم من قبل الفحل و لا يحرم من قبل الامهات. «1» و قد عرفت أنّها رواية ضعيفة.

و هناك روايتان اخريان، قد يتوهم دلالتهما على هذا القول؛

أحدهما: ما رواه زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الرضاع، فقال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما ارتضعا

من ثدي و أحد حولين كاملين. «2»

ثانيهما: ما رواه علاء بن رزين، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الرضاع. قال: لا يحرم من الرضاع إلّا ما ارتضع من ثدي واحد سنة! «3»

و لكن يناقش فيهما، أولا، بان الثانية تدل على اعتبار رضاع سنة، و قد قال الشيخ (قدس سره) بعد ذكرها: هذا حديث نادر يخالف الأحاديث كلها؛ و الاولى كذلك لأنّها تدل على اعتبار رضاع حولين كاملين و لم يقل به أحد.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 540

و ثانيا، أنّهما تدلان على اعتبار وحدة الام، و لا تنفيان اشتراط وحدة الأب بدليل آخر، مثل روايات اتحاد الفحل.

***

بقي هنا امور:

الأول: قد عرفت أنّ اعتبار اتحاد الفحل، له معنيان: أحدهما، لزوم كون العدد (خمس عشرة رضعة) من فحل واحد. ثانيهما، أنّ الاخوة الرضاعية لا بدّ أن تكون من ناحية الفحل أي الأب، و لا تكفى من ناحية الام. و قد عرفت أنّ جميع روايات هذه الأبواب ناظرة إلى المعنى الثاني، ما عدا واحدة و هي موثقة زياد بن سوقة، فانّها تدل على الأول أيضا.

الثاني: إذا اختلف الفحلان في المسالة الثانية، تنتفى الحرمة بين الرضيعين أو الرضيع و الاخت النسبي؛ و لكن أحكام الرضاع ثابتة بين كل واحد من الولدين و امهما، و كذا بالنسبة إلى أبيهما و فروعهما أي العم و الخال و غير ذلك.

الثالث: مسألة لبن الفحل معنونة بين العامة أيضا، و لكن له معنى آخر، و يظهر بعد ذكر كلماتهم:

قال ابن رشد، في بداية المجتهد: و أمّا هل يصير الرجل الذي له اللبن، أعني زوج المرأة، أبا للمرتضع حتى يحرم بينهما، و من قبلهما ما يحرم من الآباء و الأبناء الذين من النسب و هي

التي يسمونها، لبن الفحل؛ فانهم اختلفوا في ذلك، فقال مالك و أبو حنيفة و الشافعي و أحمد و الأوزاعي و الثوري: لبن الفحل يحرّم؛ و قالت طائفة: لا يحرم لبن الفحل. و بالأول قال عليّ عليه السّلام و ابن عباس. و بالقول الثاني، قالت عائشة و ابن الزبير و ابن عمر. «1»

و حاصل هذا الكلام أنّ حرمة الرضاع كما يكون من ناحية الام، يكون من ناحية

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 541

الأب؛ و بعبارة اخرى ليس الكلام في الرضيعين بل في رضيع واحد، إذا رضع من حرم على الام و الأب و فروعهما، و يسمى هذا عندهم بلبن الفحل؛ و من الواضح أنّه لا دخل له باتحاد الفحل بالمعنيين السابقين.

و ذكر هذه الأقوال بعينها (مع اختلاف يسير)، شيخ الطائفة، في الخلاف، في كتاب الرضاع، المسألة 2؛ ثم استدل على القول الأول بامور:

1- إجماع الطائفة.

2- أخبارهم.

3- ما روى أنّ عليا عليه السّلام قال: قلت: يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هل لك في ابنة عمك ابنة حمزة، فانها أجمل فتاة في قريش؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: أمّا علمت أنّ حمزة أخي من الرضاعة، و أنّ اللّه حرّم من الرضاع ما حرّم من النسب. «1» و هذه الرواية المعروفة بين أهل السنّة دليل واضح على تحريم الرضاع من ناحيه لبن الفحل.

إن قلت: اخوّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حمزة من جهة الرضاع، كانت من ناحية الام، فانّ كلا منهما ارتضع من أمّ حمزة، فلا دخل لها بمسألة لبن الفحل.

قلت: هذا امر معلوم، و لكن بنت حمزة لا تكون حراما على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلّا من ناحية لبن الفحل،

فانه صلّى اللّه عليه و آله لم يرتضع من زوجة حمزة حتى تكون الحرمة من ناحية الام، بل تكون الحرمة من ناحيه لبن الفحل أي لبن حمزة (فتدبّر في ذلك فانّه دقيق)؛ و لكن مع ذلك لا يخلو عن تامل.

4- ما عن عائشة، قالت: دخل عليّ أفلح بن أبي القعيس، فاستترت منه، فقال تستترين منى و أنا عمّك؟ قالت: قلت من اين؟ قال: أرضعتك امرأة أخي؛ قلت: إنّما أرضعتني امرأة و لم يرضعنى الرجل. فدخلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فحدثته. فقال: أنّه عمك، فليلج عليك. «2» قال في بداية المجتهد بعد ذكر هذا الحديث: اخرجه البخارى و مسلم و مالك. «3» و

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 542

هذا دليل على كمال اعتباره عندهم.

و من العجب ذهاب جماعة من العامة إلى خلاف هذا القول، و أنّ اكثرهم موافقون لنشر الحرمة من لبن الفحل.

و أعجب منه ذهاب عائشة إلى خلافه مع نقلها رواية الحرمة، و كأنها بعد سماعها كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم تقتنع به، و أصرّ على كلامها السابق، و أنّ الحرمة تنشر من ناحيه الام فقط؛ فيا للعجب العجاب؟!

5- و ما ورد مرسلا عنه صلّى اللّه عليه و آله: أنّ لبن الفحل يحرم. «1» فانّه دليل على المطلوب.

هذا كله مضافا إلى أنّ قوله صلّى اللّه عليه و آله يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ دليل واضح على الحرمة، فان البنت النسبي حرام، فكذا البنت الرضاعي.

و استند المخالف إلى دليل ضعيف جدّا. قال: أنّ الآية و الحديث النبوي، لا يشملان محل الكلام، و لا بدّ من إثباتهما بحديث بنت حمزة و حديث عائشة، فيلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة؛

إلّا أن يكون هذا الحكم ناسخا لكتاب اللّه و السنة، و هو بعيد. «2»

و فيه، أولا: أنّ الآية شاملة، فانّ الاخت قد يكون من ناحية الأب فقط فيدخل في عموم الآية، و القول بخروجها عنها مكابرة واضحة؛ و كذا عموم قوله صلّى اللّه عليه و آله يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ فانّ الأب النسبي حرام على بنته، و كذا الأب الرضاع.

و ثانيا: أنّ ما ورد في السنة من التخصيص و التقييد و التعميم كثيرة جدّا، فلو نوقش في جميع ذلك، لزم فقه جديد.

و استدل بعضهم- كما في المغني لابن قدامة و لم يسمّ قائله- بأنّ اللبن لا ينفصل من الرجل و إنّما ينفصل من المرأة، فكيف تنشر الحرمة إلى الرجل. ثم أجاب عنه بأنه قياس في مقابل النص فلا يلتفت إليه. و أيضا أن سبب اللبن هو ماء الرجل و المرأة معا فوجب أن يكون الرضاع منهما؛ و إليه أشار ابن عباس بقوله: اللقاح واحد. «3»

و لنعم ما قال في الجوابين.

[المسألة 6: ما ذكرناه من الشروط، شروط لناشرية الرضاع للحرمة]
اشارة

المسألة 6: ما ذكرناه من الشروط، شروط لناشرية الرضاع للحرمة؛ فلو انتفى بعضها لا أثر له و ليس بناشر لها أصلا، حتى بين الفحل و المرتضعة، و كذا بين المرتضع و المرضعة، فضلا عن الاصول و الفروع و الحواشي.

و في الرضاع شرط آخر زائد على ما مرّ مختص بنشر الحرمة بين المرتضعين، و بين أحدهما و فروع الآخر؛ و بعبارة اخرى شرط للتحقق الاخوة الرضاعية بين المرتضعين، و هو اتحاد الفحل الذي ارتضع المرتضعان من لبنه؛ فلو ارتضع صبي من امرأة من لبن شخص رضاعا كاملا، و ارتضعت صبيّة من تلك المرأة من لبن شخص آخر كذلك، بان طلقها الأول و زوجها

الثانى و صارت ذات لبن منه فأرضعتها رضاعا كاملا، لم تحرم الصبيّة على ذلك الصبي و لا فروع أحدهما على الآخر؛ بخلاف ما إذا كان الفحل و صاحب اللبن واحدا و تعددت المرضعة، كما إذا كانت لشخص نسوة متعددة و ارضعت كل واحدة منهن من لبنه طفلا رضاعا كاملا، فانه يحرم بعضهم على بعض و على فروعه، لحصول الاخوة الرضاعية بينهم.

شرط آخر لنشر الحرمة بين المرتضعين: اتحاد الفحل

(1) أقول: قد ظهر حال المسألة بجميع أدلتها، ممّا ذكرناه في المسالة السابقة، فقد شرحناها شرحا وافيا جامعا بحمد اللّه، و نحن موافقون لما أفاده في المتن، بل هو المشهور، بل ادعى الإجماع فيه كما عرفت.

لكن لنا في كلامه قدّس سرّه نظر، و هو أنّ هذا الشرط لا يتفاوت عن سائر شرائط الرضاع، و هو شرط عام، أي يعتبر في نشر الحرمة بالرضاع اتحاد الفحل في جميع الموارد، و لكن ثمرته عمدتا هو نشر الحرمة بين الرضيعين، و في غيرهما من موارد نشر الحرمة، هذا الشرط أيضا حاصل.

و يؤيد ما ذكر أنّ المحقق قدّس سرّه في الشرائع، ذكر هذا الشرط في عداد سائر الشرائط، فجعل الشرط الأول أن يكون اللبن عن نكاح، و الثاني الكميّة، و الثالث أن يكون الرضاع انوار الفقاهة، ج 3، ص: 544

في الحولين، و الرابع اتحاد الفحل؛ و تبعه على ذلك الفقيه الماهر (قدس سره) في الجواهر.

و لنعم ما قال في خلال كلامه، من أنه بهذا المعنى شرط في أصل الحرمة بالرضاع على قياس الشرائط السابقة له. «1»

و ما يرى من وجود الحرمة في المقام لكل واحد من الرضيعين بالنسبة إلى امه و أبيه و فروعهما، فهو أيضا من مصاديق وحدة الفحل.

هذا، و لكن صاحب المسالك صرّح بأنّه فليس هذا الشرط

على نهج ما قبله لأن أصل التحريم هنا ثابت بدون الشرط. «2»

و كأنّ التحرير، أخذ منه؛ و لكن الانصاف، أنّ الحق هنا مع المحقق و صاحب الجواهر و من يحذو حذوهما، فانّ اتحاد الفحل شرط على كل حال، و إن كان مصاديقه محدودة معينة، و ما يقال أنّ كلّا من الرضيعين محرم على الأب و الام و اصولهما و فروعهما، حق؛ و لكن اتحاد الفحل فيه حاصل.

***

[المسألة 7: إذا تحقق الرضاع الجامع للشرائط، صار الفحل و المرضعة أبا و أمّا للمرتضع
اشارة

المسألة 7: إذا تحقق الرضاع الجامع للشرائط، صار الفحل و المرضعة أبا و أمّا للمرتضع، و اصولهما أجدادا و جدّات، و فروعهما اخوة و أولاد اخوة له، و من في حاشيتهما و في حاشية أصولهما أعماما أو عمات، و أخوالا أو خالات له؛ و صار هو أعني المرتضع ابنا أو بنتا لهما، و فروعه احفادا لهما. و إذا تبين ذلك، فكل عنوان نسبي محرم من العناوين السبعة المتقدمة، إذا تحقق مثله في الرضاع يكون محرما؛ فالام الرضاعية كالأم النسبية، و البنت الرضاعية كالبنت النسبية، و هكذا.

فلو أرضعت امرأة من لبن فحل طفلا، حرمت المرضعة و امها و أم الفحل، على المرتضع للأمومة؛ و المرتضعة و بناتها و بنات المرتضع، على الفحل و على أبيه و أب المرضعة للبنتية؛ و حرمت اخت الفحل و اخت المرضعة، على المرتضع لكونهما عمة و خالة له؛ و المرتضعة، على أخ الفحل و أخ المرضعة لكونها بنت أخ أو بنت اخت لهما؛ و حرمت بنات الفحل على المرتضع، و المرتضعة على أبنائه، نسبيين كانوا أم رضاعيين؛ و كذا بنات المرضعة على المرتضع، و المرتضعة على أبنائها، إذا كانوا نسبيين للأخوة.

و أمّا الأولاد المرضعة الرضاعيون ممن أرضعتهم بلبن فحل آخر غير الفحل الذي ارتضع

المرتضع بلبنه، فلم يحرموا على المرتضع لما مرّ من اشتراط اتحاد الفحل في نشر الحرمة بين المرتضعين.

الحرمة الحاصلة من الرضاع يشمل العناوين السبعة

(1) أقول: هذه المسألة في الواقع من قبيل تطبيق القاعدة المستفادة من الإجماع و السنة على مواردها، و هي أنّ كل عنوان من العناوين النسبية السبعة المذكورة في كتاب اللّه، حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمَّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ الْأَخِ وَ بَناتُ انوار الفقاهة، ج 3، ص: 546

الْأُخْتِ ...، «1» يحرم مثله من الرضاع الذي اجتمع فيه الشرائط الأربعة أو الخمسة السابقة.

و يدل على ذلك مضافا إلى الإجماع المصرح به في كلام كثير منهم، (و وافقنا أكثر علماء أهل السنة، و خالفنا قليل منهم لإنكارهم لبن الفحل)، أمران:

الأوّل: الحديث النبوي المعروف المشهور بين الفريقين: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. «2»

فكما أنّ النطفة من الرجل و المراة، لها تأثير في المحرمات السبع النسبية، فكذا اللبن الحاصل من فعل الرجل و المراة، له أثرها؛ و هذا تعبير حسن وجدناه في كلام بعضهم.

الثاني: قد وردت هناك روايات خاصة في موارد معينة، يمكن اصطياد العموم منها؛ و قد وردت هذه الروايات في الغالب، في الباب 8 من أبواب الرضاع من الوسائل، و في الباب 6 من أبوابه من المستدرك، و هي على طوائف:

الأولى: ما يدل على حرمة بنت الأخ من الرضاع؛ منها:

1- ما رواه أبو عبيدة في الصحيح، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: أنّ عليا ذكر لرسول اللّه ابنة حمزة؛ فقال: أما علمت أنّها ابنة أخي من الرضاعة. و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عمّه حمزة قد رضعا من امرأة. «3»

2- ما عن عثمان بن عيسى، عن أبي الحسن عليه

السّلام، قال: قلت له: أنّ أخي تزوج فأولدها، فانطلقت امرأة أخي فأرضعت جارية من عرض الناس، فيحل لي أن أتزوج تلك الجارية التي أرضعتها امرأة أخي؟ فقال: لا، أنّه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. «4»

و التعليل بالقاعدة الكليّة، دليل على جواز التعدي عن المورد إلى ساير القرابات النسبية.

3- ما رواه ابان بن عثمان، عمن حدثه، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: قال انوار الفقاهة، ج 3، ص: 547

أمير المؤمنين عليه السّلام: عرضت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ابنة حمزة؛ فقال: أما علمت أنّها ابنة أخي من الرضاع. «1»

4- صحيحة الحلبي عن الصادق عليه السّلام، قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: في ابنة الأخ من الرضاع لا آمر به احدا و لا انهى عنه، و أنا انهى عنه نفسي و ولدي؛ فقال: عرض على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ابنة حمزة، فأبى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قال: هي ابنة أخي من الرضاع. «2»

و قد يتوهّم من هذا الحديث خلاف المقصود، و لكن تفسره رواية أخرى عن معمر بن يحيى بن سام، عن أبي جعفر عليه السّلام، الواردة في نفس الباب، و حاصلها أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام كان يخشى أن ينهى و لا يطاع. «3»

5- ما رواه عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: لا يصلح للمرأة أن ينكحها عمّها و لا خالها من الرضاعة. «4»

يعنى لا يجوز نكاح ابنة الأخ أو ابنة الاخت للعم و الخال من الرضاعة.

الثانية: ما يدل على حرمة العمة و الخالة و الامّ الرضاعيّات، منها:

1- ما رواه مسمع بن عبد الملك، عن أبي عبد اللّه عليه

السّلام، قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام:

ثمانية لا تحل مناكحتهم- إلى ان قال- امتك و هي عمتك من الرضاع، امتك و هي خالتك من الرضاع، امتك و هي أرضعتك؛ الحديث. «5» ففيها تحريم العمة و الخالة و الامّ من الرضاع.

2- و قريب منه، ما رواه مسعدة بن زياد، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: يحرم من الإماء عشر- إلى أن قال- و لا أمتك و هي عمتك من الرضاعة، و لا أمتك و هي خالتك من الرضاعة، و لا أمتك و هي اختك من الرضاعة، و لا أمتك و هي ابنة أخيك من الرضاعة؛ الحديث. «6»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 548

و فيها تحريم العمة و الخالة و الاخت و ابنة الأخ من الرضاع.

الثالثة: ما يدل على حرمة الاخت من الرضاعة:

و هي رواية صفوان بن يحيى، عن أبي الحسن عليه السّلام؛ و حيث إنّ حرمة الاخت مصرّح بها في كتاب اللّه، الامر فيه سهل.

و يظهر من هذه الروايات و مما رواه المحدث النوري (قدس سره) في المستدرك، أنّ حرمة العناوين السبع النسبية في الرضاع، ممّا لا ريب فيه. و هناك روايات من طرق العامة في هذا المعنى، فراجع السنن الكبرى للبيهقي. «1»

*** بقي هنا شي ء: و هو أنّ صريح كلام الجواهر و غيره و الماتن (قدّس اللّه اسرارهم) حصر اشتراط اتحاد الفحل، بمسالة الرضاعيين واحد منهما ارتضع من هذه الامّ، و الثانى منها أو من أمّ آخر، فلا تنشر الحرمة إلّا مع اتحاد الفحل؛ و قد عرفت تصريح الماتن بقوله:

و كذا (أي يحرم) بنات المرضعة على المرتضع، و المرتضعه على أبنائها إذا كانوا نسبيين، للأخوة.

و الحاصل أنّه إذا كان أحد الطرفين نسبيا و الآخر رضاعيا، يحرمان

من دون اشتراط اتحاد الفحل. بل صرّح في الجواهر بانّه: لا خلاف في أنّه تحرم أولاد هذه المرضعة نسبا على المرتضع منها، و إن لم يكن بلبن فحلهم، لعموم يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، السالم عن المعارض؛ و إنّما يشترط اتحاد الفحل بين المتراضعين. «2»

و قال صاحب الجواهر، في موضع آخر: و هل يحرم عليه (على المرتضع) نسل الاخوة من الام نسبا و رضاعا، بمعنى المرتضع بلبن الاخ من الام؟ الظاهر ذلك، لعموم الخبر و اختصاص الاشتراط في المرتضعين من امرأة واحدة، كما سمعت البحث فيه انوار الفقاهة، ج 3، ص: 549

مفصلا. و اللّه العالم. «1»

مع أنّ هناك روايات في باب اتحاد الفحل، ظاهرها اشتراط الحرمة فيما لو كان أحدهما نسبيا أيضا، نذكرها ملخّصة:

1- ما رواه أبو بصير، عن الصادق عليه السّلام، و فيه التصريح بالسؤال عن نكاح الأخ النسبى مع الاخت الرضاعي من امرأتين لفحل واحد. فقال عليه السّلام: ما أحبّ أن يتزوج ابنة فحل قد رضع من لبنه. «2»

فلو حملت الرواية على الحرمة، كانت دليلا على أنّ علة الحرمة هي لبن الفحل.

2- رواية سماعة، و فيها السؤال عن نفس المسالة، فقد أجاب عليه السّلام بعدم الجواز استنادا إلى لبن الشيخ، (أي الفحل). «3»

3- ما رواه أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن الرضا عليه السّلام سأله عليه السّلام عن نفس المسألة؛ فأجابه بأنّ اللبن للفحل؛ (أي لا يجوز لاتحاد الفحل). «4»

4- ما رواه الحلبي، عن الصادق عليه السّلام في نفس المسألة، فأجابه بقوله: ما أحب أن أتزوج ابنة رجل قد رضعت من لبن ولده. «5» بناء على إرادة الحرمة من الحبّ، و استنادا إلى لبن ولده.

5- ما رواه مالك بن عطية، عن

أبي عبد اللّه عليه السّلام في نفس المسألة، فأجابه عليه السّلام بأنّه بمنزلة الاخت من الرضاعة، لأنّ اللبن لفحل واحد. «6»

و هذه روايات متضافرة، و بعض أسانيدها صحيحة، و ظاهرها عدم اختصاص اشتراط اتحاد الفحل بالرضيعين، بل يشمل نكاح الرضيع مع أولاد النسبي للمرضعة؛

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 550

و لم نر من تعرض لهذه المسألة مع رواياتها، فالقول بالاشتراط غير بعيد. و لكن الأحوط ترك النكاح، لأنّ غير واحد من هذه الروايات واردة في مورد تعدد الامّ؛ و بعضها لا يدل إلّا بالاطلاق؛ فتدبر.

***

[المسألة 8: تكفى في حصول العلاقة الرضاعية المحرمة، دخالة الرضاع فيه في الجملة]
اشارة

المسألة 8: تكفى في حصول العلاقة الرضاعية المحرمة، دخالة الرضاع فيه في الجملة؛ فقد تحصل من دون دخالة غيره فيها، كعلاقة الابوّة و الامومة و الابنية و البنتية، الحاصلة بين الفحل و المرضعة و بين المرتضع؛ و كذا الحاصلة بينه و بين أصولهما الرضاعيين؛ كما إذا كان لهما أب أو أمّ من الرضاعة، حيث إنّهما جدّ و جدّة للمرتضع من جهة الرضاع محضا.

و قد تحصل به مع دخالة النسب في حصولها، كعلاقة الاخوة الحاصلة بين المرتضع و أولاد الفحل و المرضعة النسبيين؛ فإنّهم و إن كانوا منسوبين إليهما بالولادة، إلّا أنّ اخوّتهم للمرتضع حصلت بسبب الرضاع، فهم اخوة أو أخوات له من الرضاعة.

توضيح ذلك: أنّ النسبة بين شخصين قد تحصل بعلاقة واحدة، كالنسبة بين الولد و والده و والدته؛ و قد تحصل بعلاقتين، كالنسبة بين الاخوين، فانها تحصل بعلاقة كل منهما مع الأب أو الام أو كليهما؛ و كالنسبة بين الشخص و جدّه الادنى، فإنّها تحصل بعلاقة بينه و بين أبيه مثلا، و علاقة بين أبيه و بين جدّه؛ و قد تحصل بعلاقات ثلاث، كالنسبة بين الشخص و بين جدّه الثاني، و

كالنسبة بينه و بين عمّه الأدنى، فانّه تحصل بعلاقة بينك و بين أبيك، و بعلاقة كل من أبيك و أخيه مع أبيهما مثلا، و هكذا تتصاعد و تتنازل النسب، و تنشعب بقلة العلاقات و كثرتها، حتى أنّه قد تتوقف نسبة بين شخصين على عشر علائق أو أقلّ أو أكثر.

و إذا تبين ذلك، فان كانت تلك العلائق كلها حاصلة بالولادة، كانت العلاقة نسبية؛ و إن حصلت كلها أو بعضها و لو واحدة من العشر، بالرضاع، كانت العلاقة رضاعيّة.

حصول العلاقة الرضاعية مختلفة

(1) أقول: هذه المسألة في الواقع تكون من قبيل تطبيق قاعدة، يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 552

و حاصلها أنّ العلاقة بين إنسانين قد تكون من ناحية الرضاع فقط، و قد يكون من ناحية النسب، و قد تكون من تركيب النسب و الرضاع؛ فالابن و البنت النسبي تكون علاقتهما من ناحية النسب فقط، كما أنّ الرضاعي منهما تكون من ناحية الرضاع فقط، و لكن الأخ الرضاعي تحصل العلاقة من الأمرين، فانّ أحدهما يكون بالنسب و الاخرى بالرضاع فيشتركان في الاخوّة؛ و قد تكون بتركيب علاقتين نسبيين مع علاقة رضاعية، كما في حرمة بنت الرضاعي على جدّها الأعلى.

و بعبارة اخرى- كما في التحرير- قد تكون النسبة بين إنسانين بعلاقة واحدة كالأبوة و البنوة، و قد تكون بعلاقتين كالجدودة الأدنى و العمومة، و قد تكون بثلاثة كالجدودة الأعلى، إلى غير ذلك. فإذا كان واحد منها أو أكثر بالرضاع، حرم من باب القاعدة الكلية المستفاد من النصوص.

و بعبارة ثالثة، كما في مهذب الأحكام: العلاقة الرضاعية المحضة قد تحصل برضاع واحد، كالحاصلة بين المرتضع و بين المرضعة و صاحب اللبن؛ و قد تحصل برضاعين، كالحاصلة بين المرتضع و

بين أبوي الفحل و المرضعة الرضاعيين؛ و قد تحصل برضاعات متعددة، فاذا كان لصاحب اللبن مثلا أب من جهة الرضاع، و كان لذلك الأب الرضاعي أيضا أب من الرضاع، و كان للأخير أيضا أب من الرضاع، و هكذا إلى عشرة آباء، كان الجميع أجدادا رضاعيين للمرتضع الأخير، و جميع المرضعات جدات له؛ فان كانت انثى حرمت على جميع الأجداد، و إن كان ذكرا حرمت عليه جميع الجدات. «1»

و الدليل على حرمة جميع ذلك، هو قوله عليه السّلام: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ فانّ عموم هذه القاعدة المستفادة من النصوص، شاملة لمحل البحث. و اللّه العالم.

***

[المسألة 9: لما كانت المصاهرة- التي هي أحد أسباب تحريم النكاح كما يأتي- علاقة بين أحد الزوجين
اشارة

المسألة 9: لما كانت المصاهرة- التي هي أحد أسباب تحريم النكاح كما يأتي- علاقة بين أحد الزوجين و بعض أقرباء الآخر، فهي تتوقف على أمرين: مزاوجة و قرابة و الرضاع إنّما يقوم مقام الثانى دون الأول؛ فمرضعة ولدك لا تكون بمنزلة زوجتك حتى تحرم امها عليك، لكن الام و البنت الرضاعيتين لزوجتك تكونان كالأم و البنت النسبيين لها، فتحرمان عليك، و كذلك حليلة الابن الرضاعي كحليلة الابن النسبي، و حليلة الأب الرضاعي كحليلة الأب النسبي، تحرم الاولى على أبيه الرضاعى، و الثانية على ابنه الرضاعي.

الرضاع يقوم مقام النسب لا الزوجية

(1) أقول: المسائل الباقية في الرضاع، أكثرها مسائل بسيطة ما عدا مسألتين: المسألة 12، الباحثة عن عدم جواز نكاح أب المرتضع في أولاد صاحب اللبن. و المسألة 4 من التنبيهات، الباحثة عن عموم المنزلة. و مورد البحث من المسائل البسيطة؛ فنقول:

إنّ المحرمات بالمصاهرة، (مثل أمّ الزوجة، و بنت الزوجة و زوجة الأب و زوجة الابن) إنّما تحرم بسبب تركيب أمرين نسب و نكاح، و النسب هو الأمومة و البنتية و الابوة و البنوة في الأمثلة السابقة، و المصاهرة هي الحاصلة بالزوجية.

هذا، و لكن الرضاع يقوم مقام الجزء الأول لا الثاني؛ فأمّ ولده الرضاعي لا تكون بمنزلة زوجته حتى تحرم امها؛ و لكن النسب الأربعة السابقة لو حصلت بالرضاع و كانت الزوجية حقيقية، كفى في الحرمة. و بعبارة اخرى، الام الرضاعي للزوجة الواقعية، و كذا البنت الرضاعي للزوجة كذلك، و حليلة الأب الرضاعي، و حليلة الابن الرضاعى، كلها محرمة.

فالمدعي يقوم على أمرين، يقوم الرضاع مقام النسب في هذه المقامات، و لا يقوم مقام الزوجية أبدا.

و الظاهر انّ المسألة إجماعية؛ قال في الجواهر: و بالجملة، الرضاع يوجد العلقة

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 554

النسبية

و يتبعها التحريم بالنسب أو بالمصاهرة؛ لا انّه يوجد المصاهرة، ضرورة عدم اقتضاء الدليل، بل ظاهر الأدلة خلافه، بل يمكن تحصيل الإجماع أو الضرورة على ذلك. «1»

و على كل حال، يدل على قيام الرضاع مقام الجزء الأول، عموم الأدلة الدالة على أنّه يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب؛ كما في روايات متعددة.

و يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة؛ كما في رواية اخرى.

و يحرم بالرضاع ما يحرم بالقرابة؛ كما في رواية ثالثة.

و أمّا بالنسبة إلى الجزء الثاني، فالدليل على عدم نشر الحرمة بسببه، هو حصر الدليل في خصوص النسب، و لم يرد أيّ دليل على نشر الحرمة في المصاهرة من هذا الجهة، و مقتضى الأصل عدمه.

و لنا هنا كلام آخر، و هو أنّه لا معنى لأن يقال: يحرم من الرضاع من يحرم من الزوجية؛ لأنّ الزوجية علقة حاصلة من النكاح، و لا معنى لحصول هذه العلقة بالرضاع؛ فعدم الحرمة فيها من ناحية الرضاع، لعدم تصور موضوع و مصداق له.

و إن شئت قلت: المرضعة، لها بعض شئون الامّ فيقوم مقامها، و كذا صاحب اللبن يقوم مقام الأب، و منهما تنشر الحرمة إلى الاصول و الفروع و الحواشي، و لكن لا يتصور قيام واحد منهما مقام الزوج أو الزوجة.

و ما ذكر له من المثال من أنّ المرضعة بمنزلة زوجة أبي المرتضع، باطل؛ فإنّه ليس من العناوين المحرمة، بل من قبيل اللوازم العقلية، و سيأتي بطلانها في أبواب الرضاع.

***

[المسألة 10: قد تبين أن العلاقة الرضاعية قد تحصل برضاع واحد]
اشارة

المسألة 10: قد تبين ان العلاقة الرضاعية قد تحصل برضاع واحد ... و قد تحصل برضاعين ... و قد تحصل برضاعات ... الخ.

قيام الرضاع مقام النسب لا ينحصر فيما اذا كانت العلاقة رضاعا واحدا

(1) أقول: هذه المسألة بعينها هي المسألة الثامنة و إن كانت ببيان آخر؛ و حاصلها أنّ قيام الرضاع مقام النسب لا ينحصر بما إذا كان العلاقة رضاعا واحدا، بل يشمل ما إذا كان رضاعات متعددة.

و الدليل عليه هو عموم قوله صلّى اللّه عليه و آله: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.

***

[المسألة 11: قد عرفت في ما سبق أنّه يشترط في حصول الأخوة الرضاعية بين المرتضعين اتحاد الفحل
اشارة

المسألة 11: قد عرفت في ما سبق أنّه يشترط في حصول الاخوة الرضاعية بين المرتضعين اتحاد الفحل، و يتفرع على ذلك مراعاة هذا الشرط في العمومة و الخؤولة الحاصلتين بالرضاع أيضا، لأنّ العم و العمة أخ و أخت للأب، و الخال و الخالة أخ و اخت للأم؛ فلو تراضع أبوك أو امك مع صبية من امرأة، فان اتحد الفحل كانت الصبية عمتك أو خالتك من الرضاعة، بخلاف ما إذا لم يتحد؛ فحيث لم تحصل الاخوة الرضاعية بين أبيك أو امك مع الصبيّة، لم تكن هي عمتك أو خالتك فلم تحرم عليك.

الحرمة يسري إلى أولاد المرتضعين

(1) أقول: هذه المسألة فرع من فروع مسألة اتحاد الفحل في المرتضعين، و حاصله إنّ الحرمة لا تنحصر بهما بل يسرى منهما إلى أولادهما، بمعنى أنّه إذا كبرا و صار كل واحد منهما ذات أولاد، فأولاد المرتضع بالنسبة المرتضعة بمنزلة أولاد الأخ، و هي لهم بمنزلة العمة، كما أنّ أولاد المرتضعة بالنسبة إلى المرتضع بمنزلة أولاد الاخت، و هي لهم بمنزلة الخالة، فتسرى الحرمة إليهم أيضا.

و الدليل على ذلك، عموم قوله صلّى اللّه عليه و آله: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ فكما إنّ العمة أو الخالة من النسب محرمة، فكذلك من الرضاع، حتى أنّ ذلك يسري إلى الحفيد و من بعدهم.

***

[المسألة 12: لا يجوز أن ينكح أبو المرتضع في أولاد صاحب اللبن
اشارة

المسألة 12: لا يجوز أن ينكح أبو المرتضع في أولاد صاحب اللبن ولادة بل و رضاعا على الأحوط، و كذا في أولاد المرضعة نسبا لا رضاعا؛ أمّا أولاده الذين لم يرتضعوا من هذا اللبن، فيجوز نكاحهم في أولاد صاحب اللبن و في أولاد المرضعة التي ارضعت أخاهم، و إن كان الاحتياط لا ينبغي تركه.

نكاح أبي المرتضع في أولاد صاحب اللبن

(1) أقول: هذه المسألة تشتمل على فروع ثلاثة:

1- عدم جواز نكاح ابى المرتضع، في أولاد صاحب اللبن، نسبا و رضاعا على الأحوط في الأخير.

2- عدم جواز نكاح أب المرتضع، في أولاد المرضعة، إذا كانوا نسبيين.

3- جواز نكاح ساير أولاد أب المرتضع (أي اخوة المرتضع)، في أولادهما.

[فروع المسألة]
1- عدم جواز نكاح ابى المرتضع في اولاد صاحب اللبن نسبا و رضاعا

فهو من المسائل الخلافية، و إن ادعى الشهرة على الحرمة، بل الإجماع، كما قال شيخ الطائفة (قدس سره)، في الخلاف: إذا حصل بين صبيين الرضاع الذي يحرم مثله، فانّه ينشر الحرمة إلى اخوتهما و أخواتهما و إلى من هو في طبقتهما و من فوقهما من آبائهما؛ و قال جميع من الفقهاء خلاف ذلك؛ دليلنا إجماع الفرقة، و أيضا قوله صلّى اللّه عليه و آله: يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب. «1»

و قال في الجواهر وفاقا للشيخ في غير المبسوط، و ابنى حمزة و ادريس، بل نسبه بعضهم إلى الشهرة، بل ربّما ادعى الإجماع عليه. «2»

و عن الشيخ (قدس سره) في المبسوط عدم الحرمة، و قال العلّامة (قدس سره) في انوار الفقاهة، ج 3، ص: 558

المختلف: و قول الشيخ في المبسوط و إن كان قويا و لكن الرواية الصحيحة على خلافه ...

و لو لا هذه الرواية الصحيحة، لأعتمدت على قول الشيخ. «1»

و قال في كشف اللثام: و يحرم أولاد الفحل ولادة و رضاعا، و أولاد زوجته المرضعة ولادة لا رضاعا على أب المرتضع على رأي، موافق لرأي، الشيخ في كتبه و ابني حمزة و ادريس و المحقق، للنصوص؛ و خالف القاضي في المهذب في أولادها، و لم يتعرض لأولاده لأنّه أنّما يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، و أخوات الولد إنّما يحرمن على أبيه بالمصاهرة، و هو قوى لو لا

النص. «2»

و قال الشيخ (قدس سره الشريف) في المبسوط: و روى أصحابنا أنّ جميع أولاد هذه المرضعة و جميع أولاد الفحل، يحرمون على هذا المرتضع و على أبيه و جميع اخوته و أخواته، و أنّهم صاروا بمنزلة الاخوة و الأخوات، و خالف جميعهم في ذلك. «3»

و إلى هنا يظهر أنّ الأقوال في المسألة في الواقع ثلاثة:

1- الحرمة مطلقا. 2- الاباحة مطلقا. 3- يجوز نكاح أب المرتضع في أولاد المرضعة.

و قال في الرياض بعد ذكر قول الشيخ في المبسوط، و القاضى في مخالفة الحرمة، ما نصّه: و هو قوى لو لا هذه الأخبار الصحيحة، (إشارة إلى الروايات الثلاثة الآتية) المعتضدة بالشهرة العظيمة؛ و مراعاة الاحتياط المطلوبة في الشريعة- إلى أن قال- و كيف كان، الاحتياط لا يترك في المسالة. «4» و هذا قول رابع في المسألة.

إذا عرفت ذلك، فاعلم؛ أنّ هذا الحكم مخالف للقاعدة، لا لأصالة الاباحة فقط بل للمفهوم المستفاد من قولهم (عليهم السلام): يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ فانّ الظاهر أنّ هذه الروايات في مقام البيان عن جميع ما يحرم من الرضاع، فلا يحرم غيره، مضافا إلى ما عرفت من ان تناسب الحكم و الموضوع يدل على أنّ اللبن يقوم مقام النطفة

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 559

فيؤثر آثاره، و الابن الرضاعي شبيه بالابن النسبي لإنبات لحمه و شدّ عظمه بلبن الامّ، و لا معنى لقيام المصاهرة مقام الرضاع.

هذا بحسب الكبرى، و أمّا صغراها في المقام فلان اخت المرتضع ليست إلّا اختا لولده و اخت الولد لا يحرم على الأب إلّا في صورة واحدة، و هي أن تكون تحت عنوان الربيبة بأن تكون للزوجة المدخول بها بنتا من رجل آخر، فهذه اخت المرتضع (أي

اخت ولده) و من المعلوم أن تحريم الربيبة إنّما هو من ناحية المصاهرة، (و ربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ).

و إلى ذلك أشار المحقق الثاني في جامع المقاصد- و لنعم ما قال-: اختار الشيخ في المبسوط عدم التحريم، لأنّ اخت الابن من النسب إنما حرّمت لكونها بنت الزوجة المدخول بها، فتحريمها بسبب الدخول بامها و هذا المعنى منتفى هنا؛ و النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال:

يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ و لم يقل يحرم من الرضاع ما يحرم من المصاهرة. «1»

إن قلت: يمكن منع دلالة الروايات الدالة على القاعدة على الحصر. في ذلك، فلا منافاة بينها و بين ما دل على حرمة المذكورات في المقام.

قلت: لا ينبغى الشك في أنّها ظاهرة في الحصر، و لذا ذكر صاحب الجواهر (قدس سره) بعد نفى الحصر ما نصه: و مع التسليم- بل لعله الظاهر المنساق منها خصوصا بعد ذكرها في مقام التحديد و البيان- يجب تخصيصها بما هنا. «2»

هذا هو مقتضى القاعدة.

و لكن هناك نصوص على خلاف هذه القاعدة، بعضها يدل على حرمة نكاح أب المرتضع في أولاد الفحل، و بعضها يدل على حرمة نكاحه في أولاد المرضعة.

أما الأول، فهو صحيح علىّ ابن مهزيار، قال: سأل عيسى بن جعفر بن عيسى، أبا جعفر الثاني عليه السّلام، أنّ امرأة أرضعت لي صبيا، فهل يحل لي أن اتزوج ابنة زوجها؟ قال لي: ما اجود

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 560

ما سألت، من هاهنا يؤتى أن يقول الناس حرمت عليه امرأته من قبل لبن الفحل، هذا هو لبن الفحل لا غيره؛ فقلت له: الجارية ليست ابنة المرأة التي أرضعت لي، هي ابنة غيرها.

فقال: لو كنّ عشرا متفرقات

ما حلّ لك شي ء منهن، و كنّ في موضع بناتك. «1»

و يمكن المناقشة في سند الحديث و دلالته؛ أمّا سنده، فلان الظاهر أنّ عليّ بن مهزيار لم يكن حاضرا في المجلس، و يتحدث له عيسى بن جعفر، و عيسى بن جعفر رجل مجهول الحال بحسب كتبنا الرجالية، و ليس له اعتبار بين الشيعة، و الظاهر أنّه ليس له رواية إلّا هذه الرواية، و من أقوى الشواهد على ما ذكرنا من عدم حضور علىّ بن مهزيار، قوله: فقال لي ... فقلت له ... فقال ...، و لو كان الراوى للحديث هو عليّ بن مهزيار، كان اللازم أن يقول: سال عيسى بن جعفر ... فقال عليه السّلام له كذا، فقال كذا، فاجابه كذا؛ فلا ينبغى الريب في كون الراوي هو عيسى بن جعفر، و أمّا ابن مهزيار فهو الناقل عنه، و الرجل مجهول جدا.

هذا من جهة السند؛ و أمّا الدلالة، فهي أيضا ضعيفة، فان قوله عليه السّلام: كن في موضع بناتك؛ ممّا لا يمكن الركون إليه، لأنّ اخت الولد لا يكون في موضع البنت، لإمكان كونه من ناحية الام، فتكون تحت عنوان الربيبة و هي لا تكون محرمة إلّا مع الدخول بامها، و هو منتف هنا لأنّها زوجة صاحب اللبن لا أب المرتضع.

و إن شئت قلت: كون البنت اختا للولد هنا، ليس إلّا من ناحية الامّ الرضاعي.

و ثانيا، لو أغمضنا من ذلك، كان البنتية من لوازم كونها اخت الولد، و لكن سيأتي أنّ المشهور لم يقبلوا اللوازم في أبواب الرضاع، و يسمونه عموم المنزلة؛ فلا تصح دلالة الحديث على مبناهم.

و الحاصل، أنّ الرواية ليست من قسم الصحيح بل هي من قسم المجهول، و يشكل انجبارها بعمل الأصحاب

لأنّ أكثرهم سموها صحيحة، فلعلهم (قدس اللّه أسرارهم) غفلوا عن السند، و دلالتها أيضا مخدوشة بما عرفت. نعم، يمكن حملها على الكراهة و

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 561

التعليل كاف لها.

أمّا الثاني، يأتي الآن في ذيل الفرع الثاني.

2- حرمة بنات المرضعة من النسب، على أبى المرتضع

تدلّ عليه روايتان:

1- عن أيوب بن نوح، قال: كتب علىّ بن شعيب، إلى ابن الحسن عليه السّلام، امرأة أرضعت بعض ولدي، هل يجوز لي أن أتزوج بعض ولدها؟ فكتب عليه السّلام: لا يجوز ذلك، لك؛ لأنّ ولدها صارت بمنزلة ولدك. «1»

2- عن عبد اللّه بن جعفر عليه السّلام، قال: كتبت إلى أبي محمد، امرأة أرضعت ولد الرجل، هل يحلّ لذلك الرجل أن يتزوج ابنة هذه المرضعة أم لا؟ فوقع: لا تحل له. «2»

و الرواية الاولى أيضا مخدوشة بحسب السند، و إن سمّوها صحيحة، لأنّ المكاتب و هو على بن شعيب إلى أبي الحسن عليه السّلام فرد مجهول الحال في كتب الرجال؛ و تعبير أيوب بن نوح بقوله: كتب على بن شعيب ...، و إن كان يشعر باعتماده على صدقه و لكن الاعتماد على هذا الأشعار مشكل.

و أمّا بحسب الدلالة، فالمشكلة السابقة في حديث ابن مهزيار موجودة فيه أيضا، فان قوله: أنّ ولدها صارت بمنزلة ولدك؛ لا يستقيم بأي معنى كان؛ لأنّ ولد الزوجة و إن كان نسبيا لا يكون بمنزلة ولد الإنسان إلّا إذا دخل بامها، و المفروض كونها ولد المرضعة فقط، مضافا إلى ما عرفت من أنّ اخت الولد لا تكون بنتا لأبيه إلّا من باب عموم المنزلة؛ و الحمل على الكراهة لشباهتها بالولد في الجملة أحسن طرق الحمل.

و أمّا الرواية الثانية، فهي و إن كانت صحيحة بحسب السند، و ليس فيها التشبيه بالولد حتى يرد عليها الإشكال

السابق، و لكن موافقة الروايات الثلاث من حيث المضمون تدل على أنّ الحكم فيها أيضا من هذا الباب، بل مع قطع النظر عن توافق الروايات لا وجه انوار الفقاهة، ج 3، ص: 562

للحرمة بحسب الظاهر إلّا من هذه الجهة، و قد عرفت أنّها لا تصلح إلّا للكراهة.

إن قلت: المرتضع أخ لأولاد صاحب اللبن و المرضعة من ناحية الأب و الام (في بعض الفروض)، فاذا كان كذلك يكون بمنزلة الولد لأب المرتضع من ناحية الأب و الامّ، و من الواضح حرمته على الأب، فليس حرمة اخت المرتضع دائما من ناحية الربيبة المنفية هنا.

قلت: مجرد كونه كذلك في بعض الفروض غير كاف كما لا يخفى.

و بالجملة الخروج عن القواعد المسلّمة في أبواب الرضاع و تخصيصها بهذه الادلة الضعاف سندا أو متنا مشكل جدّا، و حملها على الكراهة اولى، فالاقوى هو الجواز، و اللّه العالم.

و من هنا تنحل المشكلة العظيمة لكثير من البيوتات الصالحة الغافلة عن هذا الحكم، الحاصلة من ارضاع أمّ الزوجة ولد الرجل، فتحرم المراة في بيت زوجها، و تتفرق الاسرة و إن كانت مستقرة عشرين سنة مع أولاد متعددة.

هذا تمام الكلام في الفرعين الأولين من هذه المسالة.

3- حلية أولاد الفحل و المرضعة على أخي المرتضع

قال المحقق النراقى في المستند: أنّه يجوز لإخوة المرتضع نسبا و أخواته، نكاح أخواته و أخوته رضاعا، أي أولاد الفحل نسبا و رضاعا و أولاد المرضعة نسبا، وفاقا للحلّي و القاضي و المحقق و الفاضل في أكثر كتبه و الصيمري و فخر المحققين و الشهيدين، بل الأكثر كما صرّح به جماعة؛- إلى أن قال- خلافا للمحكي عن الخلاف و النهاية و المبسوط و ابن حمزة، و قواه في الكفاية، فقالوا بالتحريم. «1»

و قال في المبسوط: و روى أصحابنا أن

جميع أولاد هذه المرضعة و جميع أولاد الفحل يحرمون على هذا المرتضع و على أبيه و جميع اخوته و اخواته، و أنّهم صاروا

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 563

بمنزلة الاخوة و الأخوات، و خالف جميعهم في ذلك. «1»

و الحاصل أنّ ظاهر الأكثر- كما في الجواهر- الجواز و ذهب جماعة إلى التحريم و من العجب أن المحكيّ عن خلاف الشيخ، الإجماع على الحرمة «2» مع ظهور كلامه في المبسوط في الجواز و ذهاب الكل إليه.

و غاية ما يستدل به على مذهب المشهور- أي الجواز- أمران:

1- أصالة الحلية بعد عدم شمول عمومات الحرمة للمقام.

2- ما رواه اسحاق بن عمار، في الموثق، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في رجل تزوج اخت أخيه من الرضاعة. قال: ما أحبّ أن أتزوج اخت أخي من الرضاعة. «3» بناء على ظهورها في الكراهة، و بناء على كون القيد (من الرضاعة) قيدا للأخت لا للأخ، فالمعنى أنّه يكره للرجل أن يتزوج الاخت الرضاعي لأخيه النسبي.

إن قلت: يحتمل رجوع القيد إلى الأخ بل هو القريب منه، فحينئذ يدل على كراهة تزويج الاخت النسبي للأخيه الرضاعي.

قلنا: نعم، و لكن هذا معلوم الحرمة، لأنّ الاخت النسبى للأخ الرضاعي حرام قطعا، فلا يجوز للأخ الرضاعي تزويج أخوات أخيه، فاللازم حمل الرواية على ما ذكر من رجوع القيد إلى الاخت.

و الانصاف أنّ هذا الاستدلال لا يخلو عن ضعف، لإمكان إرادة الحرمة من قوله: لا أحبّ؛ و قد عرفت أنّ استعماله فيها كثير.

و أمّا الأصل، فسيأتي الكلام فيه.

و الدليل على القول الثاني- أي الحرمة- امور:

1- ظاهر التعليل في روايتي ابن مهزيار، و أيوب بن نوح، فان قوله: كنّ في موضع بناتك؛ في رواية ابن مهزيار، و قوله: لأنّ ولدها صارت

بمنزلة ولدك؛ في رواية أيوب بن انوار الفقاهة، ج 3، ص: 564

نوح، بناء على صحة الروايتين، معناه أنّ أولاد الفحل و المرضعة بمنزلة أولادك فيكون الجميع اخوة و أخوات فلا يجوز نكاح بعضهم لبعض.

و الحاصل أنّ أولاد الفحل أو المرضعة إذا كانوا بمنزلة أولاد أب المرتضع، لم ينفك ذلك عن كونهم اخوة و أخوات، فلا يجوز نكاح بعضهم بعضا.

و أجاب عنه في الجواهر و غيره، بالجمود على عبارة الحديث، فانّ العلة المنصوصة فيهما هو كونها بمنزلة الولد، و أما أنّهم إذا صاروا بحكم أولاده، استلزم ذلك صيرورة ولده اخوة لهم، فلا يجوز نكاحهم؛ فهو قسم من مستنبط العلة و ليست بحجة.

و يرد عليه، أنّ مستنبط العلة لا تكون حجة إذا كانت ظنية، و لكن إذا كان قطعيا بحسب متفاهم العرف، فهي حجة؛ و المقام من هذا القبيل.

و إن شئت قلت: كونها بمنزلة ولده، مستلزم بحسب فهم العرف لكونهم اخوة و أخوات، و الفصل بينهما يعدّ في العرف من الغرائب، فإذا حرمت بنت صاحب اللبن على أب المرتضع لكونها بمنزلة ولده، حرمت على أولاده أيضا، لمثل هذا الدليل.

2- يجوز الاستدلال للحرمة بعموم: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ و من المعلوم أن اخت الأخ من النسب محرمة، فكذا من الرضاع، فلا يجوز نكاحها.

و اجيب عنه بمنع حرمة اخت الأخ من النسب دائما؛ كما إذا كان لزيد أخ من أبيه، و كان للأخ اخت من امّه، فانّها غير محرمة على زيد، لعدم اشتراكهما في الأب و لا في الام؛ (و هذا ما يقال في الفارسيّة: از پدر جدا و از مادر سوا).

فاشتراك المرتضع من أخيه، و إن كان في الأب و الامّ النسبيين، و لكن اشتراكه مع

الاخت الرضاعي في أب و أمّ آخر، فلا تحرم الاخت على أخ المرتضع.

3- و استدل له أيضا بقاعدة عموم المنزلة و الاخذ باللوازم العقلية في أبواب الرضاع، و لكن سيأتي فساد هذا القول.

فالعمدة في المقام، هو الدليل الأول، أي الأخذ بالعلة بمقتضى فهم العرف، و الانصاف أنّ هذا الدليل قوي.

نظرة جديدة حول هذه المسألة

و الحاصل، أنّ القول بحرمة أولاد صاحب اللبن و المرضعة، على أب المرتضع دون اخوته، مشكل جدا؛ و هذا دليل آخر على ضعف القول بالحرمة في الفرعين السابقين. و اللّه العالم.

***

[المسألة 13: إذا أرضعت امرأة ابن شخص بلبن فحلها، ثم أرضعت بنت شخص آخر]
اشارة

المسألة 13: إذا ارضعت امرأة ابن شخص بلبن فحلها، ثم أرضعت بنت شخص آخر من لبن ذلك الفحل، فتلك البنت و إن حرمت على ذلك الابن، لكن تحل أخوات كل منهما لإخوة الآخر.

حكم إخوة أحد المرتضعين بالنسبة إلى إخوة الآخر

(1) أقول: ليس في المسألة نص خاص، بل هي مبنية على القواعد؛ و في الواقع هذه المسالة من الواضحات- كما نص عليه الشهيد الثاني في المسالك- قال: عدم التحريم هنا واضح، لأنّ اخوة أحد المرتضعين بالنسبة إلى اخوة الآخر لا رابطة بينهم بالمحرمية أصلا، فانهم ليسوا بمنزلة اخوة الاخوة الذين يحتمل فيهم التحريم، و إنّما هم اخوة اخوة الاخوة. «1»

توضيح ذلك، أنّه لو كان هنا ولد يقال له حسن، و كان ولد آخر إناث من رجل ثان يقال لها فاطمة، و كان للحسن عدة إخوة و أخوات، و كذلك كان لفاطمة عدة اخوة و أخوات، فارتضع حسن و فاطمة من لبن رجل ثالث؛ لا شك إنّهما محرمان؛ و أمّا اخوة هذا المرتضع، هل يجوز لهم نكاح أولاد صاحب اللبن (أي أولاد الرجل الثالث)، فقد عرفت الكلام فيه آنفا، و أنّه قد يقال بالحرمة.

و أمّا نكاح أولاد الرجل الأول في أولاد الرجل الثاني، فلا وجه للحرمة فيه، لعدم النسب و عدم الرضاع؛ فاخوة الحسن النسبى بالنسبة إلى اخوة فاطمة النسبية، من قبيل اخوة اخوة الأخوة.

مثلا علىّ من أولاد الرجل الأول، أخ نسبي للحسن، و هو اخ رضاعي لفاطمة، و هى اخت نسبي لزينب من أولاد الرجل الثاني، و لا وجه لحرمة زينب على عليّ؛ و الأخذ بتعليل الروايتين هنا مشكل جدّا.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 567

هذا؛ و لكن الانصاف لو قيل بعموم المنزلة من دون قيد و شرط أمكن الحكم بالتحريم هنا أيضا، لأنّ

اخوة اخوة الأخ من الرضاع، بمنزلة الأخ من الرضاع؛ فتأمّل.

***

[المسألة 14: الرضاع المحرم كما يمنع من النكاح لو كان سابقا، يبطله لو حصل لاحقا]
اشارة

المسألة 14: الرضاع المحرم كما يمنع من النكاح لو كان سابقا، يبطله لو حصل لاحقا؛ فلو كانت له زوجة صغيرة فأرضعتها بنته أو امه أو اخته أو بنت أخيه أو بنت اخته أو زوجة أخيه بلبنه رضاعا كاملا، بطل نكاحها و حرمت عليه، لصيرورتها بالرضاع بنتا أو اختا أو بنت أخ أو بنت اخت له، فحرمت عليه لاحقا، كما كانت تحرم عليه سابقا.

و كذا لو كانت له زوجتان صغيرة و كبيرة، فارضعت الكبيرة الصغيرة، حرمت عليه الكبيرة، لأنّها صارت أمّ زوجته؛ و كذلك الصغيرة إن كانت رضاعها من لبنه أو دخل بالكبيرة لكونها بنتا له في الأول، و بنت زوجته المدخول بها في الثاني؛ نعم، ينفسخ عقدها و ان لم يكن الرضاع من لبنه و لم يدخل بالكبيرة و إن لم تحرم عليه.

الرضاع اللاحق محرم أيضا

(1) أقول: الظاهر أنّه لا خلاف في هذه المسألة إجمالا.

قال المحقق النراقي (قدس سره الشريف): الرضاع الذي يحرم النكاح على تقدير سبقه عليه، يبطله على تقدير لحوقه، بلا خلاف كما صرّح به بعضهم؛ و اتفاقا كما قاله بعض آخر؛ بل هو إجماعي حقيقة، فهو الحجة فيه. «1»

و قال الفقيه الماهر صاحب الجواهر (قدس سره الشريف): لا إشكال و لا خلاف في أنّ الرضاع المحرم يمنع من النكاح سابقا و يبطله لاحقا للقطع بعدم الفرق بين الابتداء و الاستدامة في ذلك، كما تطابقت عليه النصوص و الفتاوى من الخاصة بل و العامة. «2»

و ادعى الإجماع في كشف اللثام أيضا. «3» و إجماع المسلمين في مهذب الأحكام. «4»

و في المسألة فرعان:

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 569

الأول، ارضاع بعض محارمه لزوجته الصغيرة.

الثاني، ارضاع زوجته الكبيرة للصغيرة.

[في المسألة فرعان:]
1- ارضاع بعض محارم الرجل لزوجته الصغيرة

فقد استدل له بامور:

1- الإجماع عليه من الأصحاب، بل قد عرفت دعوى الإجماع من العامة أيضا في ظاهر كلام الجواهر؛ اللّهم إلّا أن يقال بعد وجود مدارك اخرى لا يمكن الاعتماد عليه، و لكنه مؤيد قوى للمدعي.

2- اطلاقات قولهم (عليهم السلام): يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.

فإنّها تشمل الاستدامة كما تشمل الابتداء؛ و القول بانصرافها إلى الابتداء ضعيف، لعدم الفرق؛ فلو ثبت كون المرأة الفلانى اختا شرعا لفلان، كيف يمكن بقاء زوجيتها.

3- اطلاق الروايات الواردة في الموارد الخاصة، مثل ما ورد في كتاب اللّه تعالى: وَ أُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ، «1» و مثله ما ورد في الروايات في شأن الاخت أو الأخ الرضاعي أو غيرهما، فانّها باطلاقها أو عمومها تشمل السابق و اللاحق.

4- ما سيأتي إنشاء اللّه تعالى في الزوجتين الصغيرة و الكبيرة، بناء على إمكان الغاء الخصوصية عنها،

و شمولها للمقام أيضا، و إن كان فيه تأمل.

5- و يمكن الاستدلال له أيضا بما مرّ من رواية ابن مهزيار، في مسألة نكاح أب المرتضع في أولاد صاحب اللبن، و قد ورد في الحديث: و من هاهنا يؤتى أن يقول الناس حرمت عليه امرأته من قبل لبن الفحل و هذا لبن الفحل. «2»

فانّ ظاهرها أن قول الناس هنا صحيح؛ و معناه، حرمة الزوجة بقاء لصيرورتها في حكم بنت اب المرتضع فلا يحل نكاحها؛ فالاستدلال بها صحيح على مختار المشهور، و

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 570

من العجيب ترك استدلالهم بها مع كونها بمرأى و مسمع منهم.

و لكن قد عرفت الإشكال في الرواية سندا و دلالة، فلا يصح على المختار، و يصح الاستدلال به على مذهب المشهور.

و أمّا حكم المهر بعد بطلان النكاح، و حكم من تسبب فعله لبطلان النكاح و الاضرار على الزوج، فسيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه ذيل المسألة الآتية.

2- ارضاع زوجته الكبيرة للصغيرة

أعني إذا كان لرجل زوجتان كبيرة و صغيرة، فارضعت الكبيرة الصغيرة، فله ثلاث صور:

1- إذا كان رضاعها من لبنه، بان تزوجها و أولدها، فأرضعت من لبنه، الصغيرة، دخل بها أو لم يكن دخل بها، كما إذا صب عليها نطفته.

2- إذا كان رضاعها من لبن غيره، بان كان للكبيرة زوجا قبل هذا الزوج، و لها لبن من الزوج السابق، فارضع به زوجته الصغيرة، و لكن دخل بهذه الزوجة.

3- إذا كان رضاعها من لبن غيره، و لم يكن دخل بها.

و قد حكموا في الأول بانفساخ العقدين و حرمتهما مؤبدا، أمّا الصغيرة فلصيرورتها بنته الرضاعية، و أمّا الكبيرة فلأنها أمّ زوجته.

و في الثاني كذلك، لأنّ الصغيرة ربيبته، و هي تحرم بالدخول بالامّ، و الكبيرة أم زوجته.

و في الثالث

تحرم الكبيرة فقط، لأنّها أم زوجته؛ و لا تحرم الصغيرة لأنّ المفروض أنّها ليست ربيبته لعدم الدخول بامها. نعم، ينفسخ العقدان لعدم جواز الجمع بين الام و البنت، و لا ترجيح فتفسدان، و لكن له بعد ذلك تجديد العقد على الصغيرة.

و الذي يدل على هذه الأحكام أمور:

1- دعوى الإجماع عليها (مع ما فيها من الكلام و الإشكال)؛ قال في الجواهر: بلا

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 571

خلاف أجده في شي ء من ذلك بل الظاهر الاتفاق عليه. «1»

2- اطلاق قولهم عليهم السّلام يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ و قد عرفت أنّ دعوى الانصراف عن محل الكلام ضعيف جدّا.

3- و هو العمدة، الروايات الخاصة الواردة في خصوص المسالة؛ منها:

1- ما رواه محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: لو أنّ رجلا تزوج جارية رضيعة، فأرضعتها امرأته، فسد النكاح.

و رواه الشيخ باسناده عن ابن سنان، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول، و ذكر مثله. و رواه في الكافي، عن الحلبي، عن أبى عبد اللّه عليه السّلام، مثله. «2»

و هذه الرواية في الواقع ترجع إلى ثلاث روايات، إحداها ما رواه محمد بن مسلم عن الباقر عليه السّلام؛ و الثانية و الثالثة ما رواه ابن سنان و الحلبي، عن الصادق عليه السّلام. و إن ذكرت في الوسائل تحت رقم واحد، و بعض اسنادها صحيحة، مثل الأول و الثالث؛ و لكن ظاهر في فساد النكاح الصغيرة فقط، لأنّ السؤال منها و الجواب يرجع إليه؛ اللّهم إلّا أن يقال إن الجواب عام يشمل نكاحهما و لكنه بعيد، و لا أقل من الشك بالنسبة إلى الكبيرة.

2- ما رواه الحلبي، و عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه

السّلام، في رجل تزوج جارية صغيرة فارضعتها امرأته و أمّ ولده؛ قال: تحرم عليه. «3»

و هي أيضا في قوة روايتين كما هو ظاهر، و الظاهر اعتبار اسنادها أيضا، و هي أيضا لا تدل على أزيد من حرمة نكاح الصغيرة.

3- ما رواه على بن مهزيار، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قيل له: أنّ رجلا تزوج بجارية صغيرة فارضعتها امرأته ثم أرضعتها امرأة له اخرى. فقال: ابن شبرمة: حرمت عليه الجارية و امرأتاه؛ فقال أبو جعفر عليه السّلام: أخطأ ابن شبرمة، تحرم عليه الجارية و امرأته التي أرضعتها أولا، فأمّا الأخيرة فلم تحرم عليه، كأنّها أرضعت ابنته. «4»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 572

و قد أورد على سند الرواية بأمرين:

أحدهما، ان المراد من أبي جعفر عليه السّلام، هو الباقر عليه السّلام بقرينة ذكر ابن شبرمة (و هو عبد اللّه بن شبرمة، و كان قاضيا لأبي جعفر المنصور، و توفي 144، أي أربع سنوات قبل وفاة مولانا الصادق عليه السّلام؛ و من الواضح أن ابن مهزيار و هو وكيل لأبي جعفر الجواد عليه السّلام، لا يمكن له نقل الحديث بلا واسطة عن الباقر عليه السّلام؛ ففى السند ارسال كما ذكره العلّامة المجلسي في المرآة.

و يمكن الجواب عنه، بانّ ذكر اسم ابن شبرمة لا يكون دليلا على ما ذكره، و لعل فتواه في هذه المسألة كان معروفا مشهورا من قبل.

ثانيهما، أنّ في سندها صالح بن أبي حماد، فقد ضعفه قوم، و توقف فيه آخرون، فلا يمكن الاعتماد عليه؛ اللّهم إلّا أن يقال بانجبارها بعمل المشهور، و هو كذلك و لكن دلالتها أحسن من جميع أحاديث الباب، لبيان حكم الزوجتين. و يمكن الجواب عنه بانجبارها بعمل الأصحاب؛ فان الظاهر أنّ مستند

الأصحاب هي هذه الرواية؛ لما عرفت من قصور الروايات السابقة عن بيان الحكم بجميع أطرافه؛ لأنّ الاولى تدل على فساد نكاح الصغيرة فقط لا الحرمة الأبدية، و الثانية و إن كانت تدل على حرمة الصغيرة و لكنها ساكتة عن حكم الكبيرة، و إن كانت الحرمة فيها أيضا يعلم بالملازمة؛ و كذلك دلالة الفساد على الحرمة الأبدية هنا، و لكنها لا تخلو عن خفاء.

و الحاصل، أنّ سند رواية ابن مهزيار كدلالتها قابلة للقبول، و هذا هو العمدة في المسألة.

و لكن هنا إشكال معروف، و هو أنّ حرمة الكبيرة بعنوان أم الزوجة فرع اجتماع العنوانين عليه عنوان الام؛ و عنوان الزوجية؛ و من الواضح أنّهما لا يجتمعان هنا، فانّها بمجرد كونها أمّا تنفسخ الزوجية فلا يجتمعان أبدا.

و يمكن نقل الإشكال إلى الصغيرة، فانّ عنوان البنتية إذا حصلت و لو فرض بعد انفساخ الزوجية الاولى، كفى في الحرمة، لأنّ اللبن على كل تقدير للزوج.

و هكذا الكلام في الصورة الثالثة، (إذا ارضعتها بلبن زوج آخر من غير دخول للزوج انوار الفقاهة، ج 3، ص: 573

الأخير)، و قد عرفت أنّ الصغيرة لا تحرم، لعدم الدخول بامّها، و لكن تحرم الكبيرة من باب أمّ الزوجة.

و قد أجيب عن الإشكال، تارة بأنّ ظاهر النص و الفتوى كفاية المقارنة العرفية بين هذه العناوين و إن كان التقارن غير ممكن عقلا، فبعد ورود الدليل، يكون هذه الإشكالات من قبيل الاجتهاد في مقابل النص؛ و هذا جواب متين.

و اخرى بالبناء على كون المشتق اعم مما تلبس بالمبدإ فعلا، أو من انقضى عنه المبدأ، فالصغيرة تحرم و ينفسخ نكاحها، لكونها بنتا على كل حال؛ و الكبيرة تحرم لأنّها أمّ من كانت زوجة، فتحرم و تفسد نكاحها.

و لكن

يمكن المناقشة فيه من وجهين: أوّلا، بفساد المبنى، فانّ المشتق حقيقة في من تلبس بالمبدإ في زمان النسبة، فاللازم أن تكون الزوجة الكبيرة موصوفة بالامومة في حال اتصاف الصغيرة بالزوجية، فيعود الإشكال، فانّ الوصفين لا يجتمعان هنا.

و ثانيا، بأنّ من المقطوع بحسب الفتاوى عدم كفاية ارضاع من كانت زوجة لزيد في سابق الأيام، مثلا قبل شهر، في نشر الحرمة إلى المرضعة.

فالمناقشة في الحكم باطل؛ و اللّه العالم.

***

بقي هنا امور:

الأوّل: الإشارة إلى بعض ثمرات هذه المسألة، و سيأتي في التنبيه التالى، إن شاء اللّه الثاني: حكم المهر هنا، و حكم الضمان بعد فسخ النكاح بفعل المرضعة، و سيأتي في المسألة 3 بعد التنبيه ان شاء اللّه.

الثالث: حكم الزوجة الكبيرة الثانية لو كانت له زوجتان كبيرتان، أرضعتا زوجته الصغيرة واحدة بعد واحدة، و لم يتعرض له المصنف صاحب التحرير هنا، و قد وقع البحث فيه بين الأكابر من الفقهاء، و هي مسألة مهمّة.

قال فخر المحققين في إيضاح الفوائد: تحرم المرضعة الاولى و الصغيرة مع الدخول انوار الفقاهة، ج 3، ص: 574

باحدى الكبيرتين بالإجماع؛ و أمّا المرضعة الأخيرة ففى تحريمها خلاف؛ و اختار والدى المصنف و ابن ادريس تحريمها، لأنّ هذه يصدق عليها أنّها أم زوجته، لأنّه لا يشترط في صدق المشتق بقاء المعنى المشتق منه، فكذا هنا ..؛ و قال الشيخ في النهاية و ابن الجنيد، لا يحرم؛ لما رواه على بن مهزيار و الجواب، المنع من صحة سند الرواية. «1»

(لوجود صالح بن أبي حماد).

أقول: يظهر من بعض كلمات سيدنا الاستاذ العلّامة الخوئي قدّس سرّه الميل إلى وثاقته، لبعض المدائح فيه، و كونه في أسناد تفسير على بن ابراهيم و حكاية الارتضاء به عن الفضل بن شاذان؛ و لكن

الانصاف عدم كفاية هذه الامور في اثبات وثاقته مع تصريح النجاشي و العلّامة بكونه ملتبسا يعرف و ينكر، و تصريح جماعة بعدم الاعتماد على رواية ابن مهزيار، لوقوع الرجل في سندها.

و قال المحقق الثاني في جامع المقاصد: لا نزاع في تحريم المرضعة الاولى و كذا الصغيرة أن كان قد دخل باحدى الكبيرتين ...، و إنّما النزاع في تحريم المرضعة الثانية؛ و بالتحريم قال ابن ادريس و جمع من المتأخرين كأبى القاسم ابن سعيد و المصنف (أي العلّامة)، و هو المختار؛ و وجهه ما ذكره المصنف من أنّها أمّ من كان زوجته ... فيندرج في عموم قوله تعالى: وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ؛ و قال الشيخ في النهاية و ابن الجنيد، لا يحرم، لما رواه على بن مهزيار، عن أبي جعفر عليه السّلام ... و المستمسك ضعيف لان سند الرواية غير معلوم فلا يعارض حجة الأولين. «2»

و قال في الجواهر: المحكي عن الاسكافى، و الشيخ في النهاية، و ظاهر الكليني، حلّية الثانية، بل هو خيرة الرياض، و سيد المدارك حاكيا له عن جماعة، بل هو ظاهر الأصفهاني (كاشف اللثام) في كشفه، أو صريحه أيضا، و قيل بل تحرم أيضا في الفرض لأنّها صارت أمّا لمن كانت زوجته بل نسبه في المسالك إلى ابن ادريس. و المصنف في انوار الفقاهة، ج 3، ص: 575

النافع، و اكثر المتاخرين؛ بل لم يحك القول الأول إلّا عن الشيخ في النهاية، و ابن الجنيد. «1»

و نهاية ما استدل به للقول بالحرمة، امور، ذكرها فخر المحققين في كلماته، و هى:

1- صدق عنوان أمّ الزوجة عليها، لعدم اشتراط صدق المشتق ببقاء المبدأ الذي اخذ منه.

و نجيب عنه بفساد المبنى، بل المتبادر في ما لم يقم قرينة

على الخلاف، هو التلبس بالمبدإ حين النسبة، لا الأعم منه و ممّا انقضى، كما حققناه في محلّه.

2- ان عنوان الموضوع لا يشترط صدقه حال الحكم، فيدخل تحت قوله تعالى: وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ، و إن خرجت الصغيرة فعلا عن عنوان النساء.

و فيه أنّه يرجع إلى سابقه، و إلّا فليس له معنى محصل غير مسألة عمومية المشتق.

3- الرضاع مساو للنسب، فيحرم منه ما يحرم من النسب، و من المعلوم أن أمّ الزوجة و بنت الزوجة تحرمان سابقا و لاحقا، و هو يحرم.

و هذا الاستدلال أيضا ضعيف، لأنّه يتصور في النسب عنوان أمّ من كانت زوجة فانه إذا تزوج امرأة حرمت عليه امها في الحال، حرمة ابدية؛ و إذا طلقها، بقيت الامّ على حرمتها الأبدية، لتحقق الامومة و الزوجية في زمان واحد و أثرها باق، لا أن الحرمة بسبب صدق عنوان أم من كانت زوجة؛ و الحاصل أنّ السابق و اللاحق يتصور في الربيبة لا أمّ الزوجة.

إن قلت: أنّهم حكموا بحرمة الربيبة في النسب و لو كان تولدها بعد طلاق امها. و ليس إلّا لكونها بنتا لمن كانت زوجة في السابق، فلتكن عنوان أمّ الزوجة كذلك و لو كان بالرضاع.

قلت: قد عرفت أنّه لا يتصور في النسب أمّ من كانت زوجة، بل تحرم أمّ الزوجة فعلا حرمة مؤبدة، و في الربيبة يتصور عنوان بنت من كانت زوجة، لأنّ البنت تتجدد و الام لا تتجدد، بل لو لا الاجماع و بعض الروايات الصحيحة الصريحة في حرمة البنت التي انوار الفقاهة، ج 3، ص: 576

تولدت بعد طلاق الام، امكن الإشكال فيه. و الحاصل، عدم حرمة الكبيرة الثانية مطابق للقاعدة، لعدم شمول عنوان أمّ الزوجة لها.

و لذا اختار في الجواهر، الحلّية لعدم

صدق أمّ الزوجة على المرضعة الثانية، و جعل خبر على بن مهزيار مؤيدا له بناء على تضعيف سنده، و ما أفاده حق لا ريب فيه.

4- قد مرّ أنّ في المسالة صور ثلاثة: إحداها، كون ارضاع المرضعة الاولى بلبن فحلها؛ و ثانيها، بلبن زوجها السابق مع الدخول بالزوج الثاني؛ و ثالثها، ارضاعها بلبن السابق مع عدم الدخول؛ فتحرمان أي الكبيرة الأولى و الصغيرة في الأولين، و تحرم الكبيرة فقط في الصورة الثالثة.

هذا، و لكن لا شك في بطلان نكاحهما على كل حال، لأنّ الصغيرة تكون بنتا للكبيرة على كل حال، و لا يجوز الجمع بين الام و البنت لزوج واحد؛ فلا بدّ من بطلان واحد منهما، و حيث لا ترجيح ينفسخ نكاحهما معا و اللّه العالم.

***

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 577

تنبيه: إذا كان أخوان في بيت واحد مثلا، و كانت زوجة كل منهما أجنبية عن الآخر، و أرادا أن تصير زوجة كل منهما من محارم الآخر حتى يحل له النظر إليها، يمكن لهما الاحتيال بأن يتزوج كل منهما بصبية و ترضع زوجة كل منهما زوجة الآخر رضاعا كاملا، فتصير زوجة كل منهما أمّا لزوجة الاخر فتصير من محارمه و حل نظره إليها، و بطل نكاح كلتا الصبيتين لصيرورة كل منهما بالرضاع بنت أخي زوجها.

احتيال لإيجاد المحرمية
اشارة

(1) أقول: هذه المسألة كما ذكرنا من ثمرات المسالة السابقة لأنّه كثيرا ما يسكن الأخوان في بيت واحد فيشكل عليهما الآخر من جهة كون زوجة كل منهما غير محرم للآخر، و يلزم عليهما عند حضور الزوجين في البيت أن تحتجب زوجة كل منهما بحجاب كامل، و ذلك أمر صعب جدا؛ و هناك طريق سهل جدّا لتكون زوجة كل واحد منهما محرما على الآخر،

و هو يبتنى على المسألة السابقة و هي مسألة ارضاع الزوجة الكبيرة للزوجة الصغيرة فتكون الكبيرة أمّ الزوجة فتكون محرما، و ذلك بأن يتزوج كل من الأخوين بنتا رضيعا من عرض الناس من أي شخص كان، باذن وليها، فاذا صارت زوجته يطلب من زوجة أخيه أن ترضع زوجته الصغيرة رضاعا كاملا، فتصير أمّا لزوجته فيكون محرما، و في نفس الحال تحرم الصغيرة عليه و يبطل نكاحها لأنّها صارت بنت أخيه من الرضاع فتدخل في عمومات «و بنات الأخ» و لكن بعد بطلان نكاح الصغيرة و انفساخه تبقى محرمية أمّ الزوجة بحالها كما هو واضح، بل تكون الصغيرة من محارم جميع هذه الاخوة و آبائهم.

و لكن شرطنا في ذلك في رسالتنا العمليّة (المسألة 2132)، شرطين:

أحدهما: أن يكون هذا العقد ذات مصلحة للصغيرة، و لا يبعد إذا كان فيها منفعة له من مهر أو غيره.

ثانيهما: أن تكون المدّة طويلة تقرب من زمن بلوغها، لتكون قابلة لبعض انوار الفقاهة، ج 3، ص: 578

الاستمتاعات (و لو كان النظر بقصد اللذّة)، و إن كان يعلم بأنّ عقدها سوف ينفسخ بعد الرضاع؛ و ذلك لما ذكر في محلّه من أن نكاح الصغيرة كالرضيع و شبهها لمدّة قصيرة، مشكل جدّا لأنّه أمر غير معهود عند العقلاء و لا يرون مثل الإنشاء أمرا جديا.

إن قلت: اىّ مانع لشمول العمومات له بعد ترتب بعض الآثار الشرعية على هذا النكاح.

قلت: ترتب الأثر إنّما هو فرع صحة الزوجية، و قد عرفت أنّها في نفسها أمر غير معقول عند العقلاء، فتنصرف عنه الاطلاقات؛ فاذا كان أصل النكاح فاسدا لا تصل النوبة إلى الآثار. و التمتعات الجنسية بالصغيرة الرضيعة تعد أمرا قبيحا جدّا.

بقي هنا امور:

الأوّل: ان هذا الاحتيال و إن

كان متينا بحسب قواعد الفقه، و لكن الأولى تركه لما فيه من المفاسد في كثير من الاوقات، فان الشيطان عدوّ مضل مبين، و المحرميّة قد تكون سببا لاقتراب بعضهم ببعض، فيوجب وسوسة الشيطان، و المفروض أنّ كل واحدة منهما شابّة مثل الآخر؛ و هذا بخلاف أمّ الزوجة النسبية، فانّها غالبا تكون في سنّ أمّ الانسان، فالاجتناب عنه اولى، إلّا أن يكونان مطمئنين على أنفسهما.

الثاني: قد ذكر الإمام (قدّس سره) في المتن، هذا القيد في صدر المسألة: و كانت زوجة كل منهما أجنبية عن الآخر؛ و هل يمكن أن تكون زوجة أحدهما محرما على الآخر؟ فلو كان محرما له كانت محرما لأخيه أيضا فكيف تزوج بها.

و الجواب عنه، أنّ هذا الفرض ممكن إذا كانا أخوين من جانب الأب، و كان زوجة الأخ الثاني أختا للأخ الأول من ناحية الام، فهي محرم للأخ الأوّل و غير محرم للأخ الثاني إلّا من طريق النكاح؛ فتدبّر جيدا.

الثالث: لقائل أن يقول أنّ هذه الحيلة باطلة من أصلها، لما مر من أنّ امومة الزوجة في النسب، دائما تكون قبل النكاح، و لا تتصور امومة الزوجة النسبية المتجددة بعد النكاح،

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 579

لأنّ الامومة لا تكون إلّا مرّة واحدة و هي حين التولد، فكيف تكون بعد التولد و نكاح البنت؛ فلا يحرم مثله من الرضاع.

اللّهم إلّا أن يقال إن المراد من المماثلة ليست المماثلة من جميع الجهات، بل المراد المماثلة في العنوان، مثل عنوان أمّ الزوجة في المقام، و هذا ليس ببعيد، فتصح الثمرة.

***

[تنبيه
[المسألة 1: إذا أرضعت امرأة ولد بنتها، و بعبارة أخرى أرضعت الولد جدته
اشارة

المسألة 1: إذا أرضعت امرأة ولد بنتها، و بعبارة اخرى أرضعت الولد جدته من طرف الام، حرمت بنتها أمّ الولد على زوجها و بطل نكاحها، سواء أرضعته

بلبن أبي البنت أو بلبن غيره، و ذلك لأنّ زوج البنت أب للمرتضع، و زوجته بنت للمرضعة جدة الولد، و قد مرّ أنّه يحرم على أبي المرتضع نكاح أولاد المرضعة؛ فإذا منع منه سابقا، أبطله لاحقا.

و كذا إذا أرضعت زوجة أبي البنت من لبنه، ولد البنت، بطل نكاح البنت؛ لما مرّ من أنّه يحرم نكاح أبي المرتضع في أولاد صاحب اللبن.

و أمّا الجدّة من طرف الأب، إذا أرضعت ولد ابنها فلا يترتب عليه شي ء.

كما أنّه لو كان رضاع الجدّة من طرف الام، ولد بنتها بعد وفاة بنتها أو طلاقها أو وفات زوجها، لم يترتب عليه شي ء، فلا مانع منه و أن يترتب عليه حرمة نكاح المطلقة و اختها و كذا اخت المتوفاة.

إذا أرضعت امرأة ولد بنتها

(1) أقول: هذه المسألة ليست مسألة جديدة، بل هي نتيجة ما مرّ في المسألة 12، من أنّه لا ينكح أب المرتضع في أولاد صاحب اللبن، و لكن كرره قدّس سرّه لفروع تترتب عليها و في الواقع هذه المسالة تتركب من خمسة فروع:

1- لا فرق في مسألة حرمة نكاح أب المرتضع في أولاد صاحب اللبن، بين كون الرضاع سابقا على التزويج أو لاحقا، فلو أرضعت الجدّة أولاد بنتها، (سواء كان ذكرا أو انثى)، حرمت بنتها في بيت زوجها، لأنّ الزوج و هو أبو المرتضع لا يجوز له نكاح أولاد صاحب اللبن و منها زوجته؛ و قد مرّ أنّها بمنزلة بنته، و عمدة الدليل عليه رواية ابن مهزيار.

هذا، و لكن قد ناقشنا في هذه المسألة، و أنّه لا دليل على حرمته وفاقا لغير واحد من أكابر الأصحاب، فالحكم بالحرمة و أبطال النكاح مشكل جدا.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 581

2- لا فرق بين أن يكون لبن الجدّة،

لبن ابى البنت، أو من لبن زوج آخر؛ كما إذا مات أبو البنت و تزوجت الجدة بزوج آخر و أرضعت من لبن زوجها الجديد ولد بنتها، و حينئذ تحرم البنت على زوجها، لما عرفت من حرمة أولاد المرضعة نسبا أيضا على أبي المرتضع على المشهور.

و قد ناقشنا في ذلك أيضا، فلا تحرم على المختار.

3- و لا فرق أيضا بين أن تكون المرضعة، أمّ هذا البنت أو زوجة أبيها، فانّ أب المرتضع لا يجوز له نكاح أولاد صاحب اللبن من أيّة زوجة كانت؛ لعموم الدليل على قول المشهور؛ و قد ناقشنا في ذلك أيضا.

4- لا أثر لإرضاع الجدّة من ناحية الأب، أولاد ابنها؛ لأنّها لا تدخل في عموم لا ينكح أبو المرتضع في أولاد صاحب اللبن؛ فانّ أبا المرتضع و هو الابن يكون بمنزلة الأخ لابنه، لأنّ كلا منهما شرب من لبن الجدّة، و لا يضرّ هذا بشي ء و لا ربط له بحلّيّة زوجته. و إن شئت قلت في مسألة الجدة من ناحية الام، تكون زوجته اخت ولده، فتكون بمنزلة بنته و هنا يكون نفس الزوج أخو ولده.

5- قد ينتفى الموضوع، فينتفى الحكم بانتفاء الموضوع، و هذا في ثلاث صور: طلاق الزوجة (أي البنت) أو موتها أو وفاة زوجها، فانّه لا يبقى موضوع لحرمة البنت في بيت زوجها لعدم الزوج أو الزوجة؛ هذا كله على مختار المشهور.

نعم، تبقى آثاره بالنسبة إليها بعد الطلاق، إذا أراد التزويج من جديد، أو بالنسبة الى اختها، لعدم جواز نكاح أبي المرتضع في أولاد صاحب اللبن مطلقا، هذه المرأة أو اختها؛ و اللّه العالم.

***

[المسألة 2: لو زوّج ابنه الصغير بابنة أخيه الصغيرة، ثم أرضعت جدتهما]
اشارة

المسألة 2: لو زوّج ابنه الصغير بابنة أخيه الصغيرة، ثم أرضعت جدتهما من طرف الأب أو الام

أحدهما، و ذلك فيما إذا تزوج الأخوان الاختين، انفسخ نكاحهما؛ لأنّ المرتضع إن كان هو الذكر، فان أرضعته جدته من طرف الأب، صار عما لزوجته؛ و إن ارضعته جدته من طرف الام، صار خالا لزوجته؛ و إن كان هو الانثى، صار هي عمة لزوجها، على الأول؛ و خالة له على الثاني؛ فبطل النكاح على أيّ حال.

لو زوج ابنه الصغير بابنة أخيه الصغيرة

(1) أقول: هذه المسألة في الواقع من فروع المسألة السابقة، و هي فرض نادر؛ و لكنها و أمثالها لتقوية الذهن و تشحيذها في مسائل المحرمات بالرضاع؛ و حاصلها: أنّه إذا كان هناك أخوان (مثلا الحسن و الحسين) فتزوجا اختين (مثلا فاطمة و زينب) و كل واحد منهما صار صاحب ولد، ثم تزوج ابن الحسن (الصغير) لابنة الحسين (الصغيرة) بولاية أبيهما، ثم أرضعت الجدة للأب الصغير و الصغيرة، سبطها، صار الصغير كالأخ للزوجين الكبيرين (و المفروض أنّهما أخوان)، فلا يجوز تزويجها بابنة أخيه (لأنّه عمّ لها)؛ و الصغيرة كالأخت للزوجين الكبيرين، فتكون بمنزلة العمة لزوجها الصغير؛ فلا يصح نكاحها، فينفسخ.

و أمّا إن أرضعت الجدة من طرف الامّ، فانّ كان المرتضع هو الصغير صار كالأخ للزوجتين الكبيرتين (المفروض أنّهما اختان)، فلا يجوز له التزويج بالصغيرة التي هى بنت اخته (فهو خالها)؛ و إن كان المرتضع هو الصغيرة تصير اختا للزوجتين، فلا يجوز نكاحها بابن أخيه (فانّه خالتها).

فعلى كل تقدير ينفسخ نكاح الصغيرين، و يحرمان حرمة أبدية، لدخول أحدهما تحت عنوان بنات الأخ و بنات الاخت.

إن قلت: إنّ نكاح أمّ المرتضع أيضا يبطل، لدخولها في مسألة لا ينكح أبو المرتضع في انوار الفقاهة، ج 3، ص: 583

أولاد صاحب اللبن؛ و هنا من هذا القبيل، فلم لم يشر إليه المصنف.

قلت: نعم، الحكم كذلك، و

عدم إشارة المصنف إليه لعله لعدم كونه في مقام البيان في هذه الجهة.

***

[المسألة 3: إذا حصل الرضاع الطاري المبطل للنكاح
اشارة

المسألة 3: إذا حصل الرضاع الطارى المبطل للنكاح، فإمّا أن يبطل نكاح المرضعة بارضاعها، كما في ارضاع الزوجة الكبيرة لشخص زوجته الصغيرة بالنسبة إلى نكاحها.

و إمّا أن يبطل نكاح المرتضعة كالمثال بالنسبة إلى نكاح الصغيرة.

و إمّا أن يبطل نكاح غيرهما، كما في ارضاع الجدة من طرف الامّ ولد بنتها؛ و الظاهر بقاء استحقاق الزوجة للمهر في الجميع إلّا في الصورة الاولى في ما إذا كان الارضاع و انفساخ العقد قبل الدخول، فان فيها تاملا.

فالأحوط، التخلص بالصلح، بل الأحوط ذلك في جميع الصور، و إن كان الاستحقاق اقرب.

و هل تضمن المرضعة ما يغرمه الزوج من المهر قبل الدخول في ما إذا كان ارضاعها مبطلا لنكاح غيرها، قولان: أقواهما العدم، و الأحوط التصالح.

حكم المهر في نكاح يبطل بالرضاع

(1) أقول: هذه المسألة من لوازم المسألة الرابعة عشرة، فيما إذا انفسخ النكاح لاحقا للعقد، و فيه فرعان: لأنّ الكلام تارة تكون من ناحية استحقاق المهر، و اخرى من ناحية ضمان المرضعة.

[في المسألة فرعان
1- الكلام من ناحية استحقاق المهر

فقد ذكر لها في المتن ثلاث صور:

تارة يبحث عن مهر الكبيرة المرضعة، و اخرى عن مهر الصغيرة المرتضعة، و ثالثة عن مهر امرأة اخرى خارجة عن دائرة الارضاع و الرضاع بطل نكاحها بسبب الرضاع، كما إذا بطل نكاح البنت بسبب ارضاع الجدّة لولد بنتها.

و قد حكم في المتن باستحقاق المهر في جميع الصور، إلّا في الصورة الاولى إذا كان انوار الفقاهة، ج 3، ص: 585

الرضاع و انفساخ العقد قبل الدخول، (بان كان اللبن حاصلا عن اهراق النطفة على المحل من غير دخول).

الذي يظهر من الشرائع، أنّه إن انفردت المرتضعة بالارتضاع، مثل إن سعت إليها فامتصت ثديها من غير شعور المرضعة، سقط مهرها، لبطلان العقد الذي باعتباره يثبت المهر؛ بل صرّح في الجواهر: بأنّه لم يذكر أحد في المقام وجها لثبوت المهر؛ «1» و أن استظهر من عبارة التذكرة: أنّ السقوط أقوى؛ أنّها تؤذن باحتمال عدم السقوط. «2»

ثم قال في الشرائع: إذا تولت المرضعة لإرضاعها، فهو أيضا كذلك، و إن حكي في الجواهر عن المبسوط و جماعة، ثبوت نصف المهر للصغيرة. «3»

هذا، و نتكلم في المسالة تارة من ناحية القواعد، و اخرى من ناحية بعض النصوص الواردة في أبواب العيوب يمكن الاستيناس منها لما نحن بصدده.

أمّا القواعد: فتوضيحها: أنّ بطلان عقد النكاح قد يكون بالطلاق، و اخرى بالموت، و ثالثة بالفسخ؛ لا شك في وجوب تمام المهر بالطلاق بعد الدخول، و نصفه قبل الدخول، بالإجماع و صريح القرآن؛ و أمّا لو كان البطلان بموت الزوج

أو الزوجة، و كان بعد الدخول فيثبت الجميع، بل و كذا لو كان الموت قبل الدخول يجب الجميع، لأنّ الطلاق منصّف لا الموت؛ كما حققنا في محلّه من بحث المهور.

أمّا لو كان بطلان العقد، بسبب الفسخ أو الانفساخ، ففيه أقوال ثلاثة سقوط المهر و ثبوته و ثبوت نصفه كما عرفت.

قد يقال إنّ مقتضى القاعدة هو سقوط المهر، فانّ هذا هو معنى الانفساخ و مفهومه في عرف العقلاء كما في المعاملات، فان الفسخ يوجب رجوع العوضين إلى محلهما، فالثمن بتمامه يرجع إلى المشترى، و المثمن إلى البائع؛ و في النكاح يرجع البضع إلى صاحبه الزوجة، فليس للزوج حق فيه، كما أنّ المهر يرجع إلى الزوج.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 586

إن قلت: (كما في مهذب الاحكام) هذا في المعاملات المحضة، لا في مثل النكاح الذي هو برزخ بين المعاملات المحضة و غيرها. «1»

قلنا: نعم، ليس النكاح من المعاملات، شبه البيع و أمثاله، و إن أطلق في كثير من الروايات الواردة في النكاح، عنوان الاشتراء بأغلى الثمن و شبهه، و لكن نعلم كون هذا الاطلاق اطلاقا مجازيّا.

و لكن لا شك أنّه نوع معاوضة، كيف و قد أطلق الأجر على المهر في آيات الذكر الحكيم في النكاح الموقت و الدائم، قال اللّه تعالى: ... فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ... «2» هذا في المنقطع؛ قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ... «3» و هذا في الدائم؛ إلى غير ذلك من أشباهها، و ليس هذا اطلاقا مجازيا؛ و ما ذكر من مفهوم الفسخ ليس أمرا تعبديا، بل هو مفهوم عرفي في جميع المعاوضات، فيجري في النكاح أيضا.

إن قلت: أ ليس الفسخ من حينه

لا من حين العقد، فكيف يرجع كل من العوضين إلى صاحبه؛ و لذا يترتب عليه احكام المصاهرة و لو بعد الفسخ مثل عنوان أمّ الزوجة و شبهه.

قلت: نعم، و لكن مقتضى الفسخ و إن كان من الحين و لكن لا بدّ من رجوع كل من العوضين من حينه إلى صاحبه كما في المعاملات فلا فرق بينه و بين سائر المعاملات.

إن قلت: هل تلتزمون برجوع المهر حتى إذا دخل بها، بأن يقال: كل واحد من الزوج و الزوجة يجوز له الانتفاع بنماآت ما انتقل إليه، فكما أنّ الزوجة تنتفع بالمهر و نماءاته، فكذا الزوج.

قلنا: مقتضى القاعدة ذلك، و لكن الواجب عليه المهر هنا، للنصوص الدالة على أنّ لها المهر بما استحل من فرجها، و هذه النصوص و إن وردت في أبواب الفسخ بالعيوب، و لكن من الواضح عدم الفرق.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 587

و إن شئت قلت: المهر في العقد الدائم إنّما هو مقابل مسمى النكاح، و ليس له مدّة معلومة كى يوزع عليها؛ (و لكن الالتزام بذلك في المهور الثقيلة الكثيرة المتداولة في عصرنا- و قد تبلغ عشرات ملايين أو أقل أو أكثر- بمجرد دخول مرّة و لو كانت المرأة ثيّبة، مشكل جدا) و الاولى القول بمهر المثل في أمثاله، فتأمل.

و الحاصل، أنّ مفهوم الفسخ عرفا ليس إلّا ذلك، كما أنّ معنى الفساد الوارد في بعض الروايات مثل قوله عليه السّلام: فسد النكاح؛ في روايات محمد بن مسلم و عبد اللّه بن سنان و الحلبي في ارضاع الجارية الصغيرة من ناحية الكبيرة. «1»

و أمّا النصوص: فهناك روايات خاصة وردت في أبواب العيوب، يمكن الاستدلال بها على المقصود، أو يستأنس منها لذلك، منها:

1- ما رواه ابو عبيد،

عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: في رجل تزوج امرأة من وليها، فوجد بها عيبا بعد ما دخل بها- إلى أن قال:- و إن لم يكن دخل بها، فلا عدة عليها و لا مهر. «2»

و هذه الرواية و إن كان بعض أسنادها ضعيفة، و لكن الظاهر صحة بعضها الآخر، و هى و إن وردت في أبواب العيوب، و لكن الظاهر أنّ هذا الحكم من جهة انفساخ النكاح من باب الغاء الخصوصية، لا القياس.

2- ما رواه في قرب الاسناد، عن علي بن جعفر، عن أخيه، قال: سألته عن دلست نفسها لرجل و هي رتقاء. قال: يفرق بينهما و لا مهر لها. «3»

و يرد عليها مضافا إلى ضعف السند، أنّه وردت في باب تدليس المرأة، و من المعلوم أنّه لو كان المهر واجبا على الزوج، يرجع بها إلى المدلس و هي الزوجة، فلا مهر لها.

3- و في باب أنّ العبد إذا تزوج حرّة و لم تعلم، كان لها الخيار في الفسخ، عن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام، عن امرأة حرّة تزوجت مملوكا على أنّه حرّ، فعلمت انوار الفقاهة، ج 3، ص: 588

- إلى أن قال:- فان كان دخل بها، فلها الصداق؛ و إن لم يكن دخل بها، فليس لها شي ء ... «1»

و هناك روايات تدل على أنّ لها المهر (في موارد الفسخ) بما استحل من فرجها، و مفهومها أنّه إن لم يدخل بها، فلا مهر لها. مثل:

4- ما رواه الحلبي (في الصحيح) في حديث، قال: إنّما يرد النكاح من البرص و الجذام و الجنون و العفل. قلت: أ رأيت إن كان قد دخل بها. كيف يصنع بمهرها؟ قال: المهر لها بما استحلّ من

فرجها، و يغرم وليها الذي أنكحها، مثل ما ساق إليها. «2»

و هذه الرواية تدل بالمفهوم، على أنّه لو لم يدخل بها فلا مهر لها؛ كما يدل على أن استحلال الفرج ليس بمعنى مجرد كونه حلالا عليه، بل المراد الانتفاع به بالدخول.

5- ما رواه محمد بن مسلم، عن أبي جعفر، قال: في كتاب على عليه السّلام، من زوّج امرأة فيها عيب قد دلّسه (و في التهذيب: قد دلسته، و هو الصحيح)، و لم يبين ذلك لزوجها، فانّه يكون لها الصداق بما استحل من فرجها؛ الحديث. «3»

6- و في ذيل رواية الحسن بن صالح، الواردة في هذا الباب بعينه: و لها ما أخذت منه بما استحل من فرجها. «4»

7- و في رواية اخرى صحيحة، عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام ... و كان الصداق الذي أخذت لها، لا سبيل عليها فيه بما استحلّ من فرجها ... «5»

8- و في حديث آخر، عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عليه السّلام، عن رجل تزوج امرأة، فعلم بعد ما تزوجها أنّها كانت قد زنت- إلى أن قال:- و لها الصداق بما استحل من فرجها ... «6»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 589

إلى غير ذلك ممّا قد يعثر عليه المتتبع؛ و هذه الروايات المتضافرة الواردة في أبواب مختلفة، تدل على عدم وجوب المهر على فرض عدم الدخول في موارد الفسخ و الانفساخ.

و القول بأنّها وردت في خصوص الفسخ لا الانفساخ، و في أبواب العيوب لا فيما نحن بصدده من الرضاع، مدفوع بأن الظاهر عدم الفرق بين هذه الامور في نظر العرف؛ و بعبارة اخرى، يمكن إلغاء الخصوصية قطعا عن هذه الامور، و العرف يرى ذلك من آثار طبيعة الفسخ، لا

سيّما أنّ بعض موارد الروايات من قبيل تخلف الشرط، لا من قبيل العيوب، كمن تزوج رجلا على أنّه حرّ فبان كونه عبدا.

و أمّا القائلون بوجوب المهر، فقد استدل لهم بأنّ المهر يجب بالعقد، و لا دليل على سقوطه بالفسخ، فيستصحب؛ و فيه مضافا إلى ما ذكرنا في محله من عدم حجيّة الاستصحاب في الأحكام، أنّ الدليل هنا قائم، و هو ما عرفت من اقتضاء طبيعة الفسخ، و من دلالة روايات أبواب العيوب و الشروط.

و قد يقال بوجوب نصف المهر قبل الدخول قياسا على الطلاق؛ و فيه، أنّه قياس لا نقول به.

2- الكلام من ناحية ضمان المهر

و هو ضمان المهر (على فرض القول به) للزوج إذا كان سبب الانفساخ، الكبيرة، أو الجدّة من ناحية الامّ، أو غير ذلك؛ فقد اختلفت فيه الآراء، فقال بعض بضمان المفوّت؛ و قال بعضهم بعدم الضمان؛ و احتمل بعضهم التفصيل بين ما إذا كانت قاصدة عامدة للفسخ، و بين ما إذا لم يكن كذلك.

و المسألة مبنية على كون البضع من الأموال أم لا؛ و قد صرّح في الجواهر بعدم كونه من الأموال، ضرورة عدم صدق الماليّة عليه؛ و ربّما يشهد لذلك امور:

منها، ان وطى الشبهة لزوجة الغير، لا يوجب شيئا عليه للزوج.

و منها، أنّ الزنا أيضا ليس كذلك، و لا يعد من حقوق الناس، بل يعد من حقوق اللّه، فلا

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 590

يجب الاستحلال من الزوج، كما قد يتوهمه بعض العوام.

و منها، انه لو قتلت الزوجة نفسها، لا يحكم بإخراج المهر عن أموالها.

و لكن الانصاف، أنّ مالية البضع و إن كانت غير ثابتة و لكن يمكن الرجوع إلى أدلة نفى الضرر في المقام، فاذا تزوج الرجل بمهر كثير غال، فعمدت الزوجة الكبيرة لإبطال النكاح

و ارضعت زوجته الصغيرة، أو عمدت الجدّة من ناحية الام، لذلك، فلا شك في أنّه اورد ضررا عظيما و خسارة كبيرة على الزوج، فيمكن التوسل بأدلة لا ضرر لرفعها؛ و قد ذكرنا في محله أنّ أدلة لا ضرر سبب لرفع الحكم و وضعه. و من هنا يعلم عدم الفرق بين التعمد و غيره، فان ايقاع الضرر على الغير على كل حال حاصل، و اللازم جبرانه؛ و هذا شبيه الاتلاف الذي يكون سببا للضمان، عمدا كان أو غفلة و سهوا؛ و لا أقل من وجوب الاحتياط في المسالة.

و الحاصل انّ الالتزام بكون البضع من الأموال، حتى يكون اتلافها أو اتلاف منافعها سببا للضمان، مشكل جدا؛ لعدم إجراء آثار المال عليه في النصوص و الفتاوى؛ و لكن لا ينبغي الشك في دخول محل الكلام تحت عنوان ضرر، و شمول قاعدة لا ضرر له.

و من هنا يعلم أنّه لا فرق بين العمد و غيره، لمساواتها في أبحاث الضمان و الضرر؛ فلو أورد انسان ضررا على آخر، و لو كان سهوا و لم يدخل تحت عنوان اتلاف المال، فلا شك في وجوب جبرانه لو أمكن؛ و الظاهر أنّ سبب الفتوى بعدم وجوب تدارك الخسارة، خلط قاعدة لا ضرر بقاعدة الاتلاف المختصة بباب الأموال.

***

بقي هنا امور:
الأوّل: لو انفردت المرتضعة بالارتضاع

مثل ما إذا سعت إلى الكبيرة من غير شعور منها، هل يسقط مهرها- على القول بثبوت المهر ذاتا لأنها تسببت إلى الضرر بزوجها- أم لا، لعدم أسناد إيراد الضرر إليه، فهي كمتلف سماوى لا تدخل تحت قاعدة لا ضرر؟ فيه وجهان، و لعل الثاني أقوى؛ و مثله ما

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 591

إذا تسبب المرتضعة لإتلاف مال مع عدم التسبيب من ناحية غيره، فهل يؤخذ العوض من

أموالها لو كان لها مال؛ لا يبعد خروجها عن شمول ادلة لا ضرر، اللّهم إلّا أن يقال هي و النائم سواء في عدم الشعور، مع أنّ النائم ضامن لما يتلفه، فليكن الرضيع و الرضيعة أيضا كذلك، فتأمل.

الثاني: لو كان الرضاع بفعل الصغيرة

و لكن الكبيرة علمت بذلك و لم يمنعها، فقد ذكروا للضمان وجهين: من أن الكبيرة لم تباشر الاتلاف، و مجرد قدرتها على منعها لا يوجب الضمان، كما إذا لم يمنعها من مباشرة اتلاف مال الغير.

و من أنّ تمكينها، بمنزلة المباشرة؛ بل عن المسالك أنّ ظاهر الأصحاب القطع بذلك.

و الانصاف أنّ الثاني أقوى، لشهادة العرف و العقلاء في هذه الأبواب بإسناد الفعل إلى العاقل الكبير، بل الظاهر أنّ الحكم في اتلاف الأموال بسبب الصغير أيضا كذلك.

و اختار في المسالك ضمان كليهما، لأنّ كل واحدة منهما سبب للفعل في الجملة، فالضمان عليهما. و هو أيضا ضعيف، لدخول المقام في باب قوة المباشر على سبب، و أسناد الفعل إلى الكبيرة دون الصغيرة.

الثالث: إذا كانت الكبيرة متولية للرضاع

و لكن كان ذلك بسبب ضرورة و حاجة شديدة، كتوقف حياتها على هذا الرضاع، فقد ذكر فيها أيضا وجهين: القول بعدم الضمان، لأنّها عملت بحكم الشرع المقدس، و هي محسنة، و ما على المحسنين من سبيل؛

و من أنّ الوجوب، لا يمنع الضمان، كما في ضمان الطبيب إذا اخطأ، مع أنّه قد يكون الطبابة عليه واجبا و داخلا تحت عنوان الاحسان.

هذا، و لا يبعد انصراف أدلة الاتلاف و الضرر من محل الكلام، و كيف يمكن القول بأنّ الشارع أوجب عليها الارضاع، و أوجب عليها الخسارة أيضا بعد الارضاع؛ حتى أنّ انوار الفقاهة، ج 3، ص: 592

الطبيب لو عالج المريض لا بعنوان أخذ الاجرة بل بعنوان واجب شرعى عينى أو كفائى عليه، قاصدا وجه اللّه، فاخطأ من دون تقصير، يشكل القول بضمانه؛ و ما ورد من ضمان الطبيب إذا لم يأخذ البراءة منصرف عن هذا المصداق؛ و قياس ما نحن فيه على وجوب الأكل في المخمصة حفظا للنفس، و

لو من مال الغير مع القطع بأنّه ضامن، قياس مع الفارق، فانّ الحنطة مثلا تباع بالمال و لو في غير المخمصة و ليست شيئا مجانيا، و لا يدخل تحت عنوان قاعدة الإحسان التي تكون ثابتا من الشرع و العقل.

الرابع: لو كانت الكبيرة مكرهة

فقد يقال بسقوط الضمان في أبواب الأموال، بالاكراه، و يكون الضمان على المكره، لأنّ السبب هنا أقوى من المباشر.

و لكن الانصاف أنّه فرق بين الاجبار و الاكراه، فان الفعل عند الاجبار لا يستند إلى المباشر، و إنّما يستند إلى السبب، و لكن في الاكراه يستند إلى المباشر لا إلى السبب، فانّ المكره يفعل الفعل بإرادته و اختياره لأقلّ الضررين، الفعل و ضرر ايقاع المتوعد عليه به، و أنّ ارتكاب الحرام بعد الاكراه قد يكون جائزا في الشرع من باب الامتنان على الامة؛ و الشاهد على ما ذكرنا ما ذكروه في أبواب القتل، من أنّه لو اكره إنسان على القتل، فلا يجوز له قتل محقون الدم، و إن أوعده المكره بالقتل، و أنّ قتل فعليه القصاص؛ و على المكره الآمر، الحبس الأبد؛ أمّا لو أجبره بحيث سلب عنه الاختيار، فالقصاص على المجبر.

و يشهد له أيضا ما ذكروه في أبواب الصيام: فلو اكره على الإفطار، فافطر مباشرة فرارا عن الضرر المترتب على تركه، بطل صومه على الأقوى؛ نعم، لو وجر في حلقه من غير مباشرة منه، لم يبطل. «1»

فقد ذكروا الاكراه من أقسام العمد الموجب للبطلان، و إن كان الاكراه يرفع حرمته.

نعم، الاكراه في المعاملات يوجب البطلان، لأن الملاك فيه الرضا الباطني المفقود عند الاكراه.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 593

و الحاصل أنّ الكبيرة ضامن عند الاجبار، و لكن يجوز لها الرجوع إلى المكره لقاعدة لا ضرر، كما هو واضح.

***

[المسألة 4: (المعروف بمسألة عموم المنزلة)]
اشارة

المسألة 4: (المعروف بمسألة عموم المنزلة)

قد سبق أنّ العناوين المحرمة من جهة الولادة و النسب، سبعة: الامهات و البنات و الأخوات و العمات و الخالات و بنات الأخ و بنات الاخت؛ فان حصل بسبب الرضاع أحد هذه العناوين، كان

محرما كالحاصل من الولادة؛ و قد عرفت فيما سبق كيفية حصولها بالرضاع مفصلا.

و أمّا لو لم يحصل بسببه أحد تلك العناوين السبعة، و لكن حصل عنوان خاص لو كان حاصلا بالولادة، لكان ملازما و متحدا مع أحد تلك العناوين السبعة؛ كما لو أرضعت امرأة، ولد بنتها فصارت أم ولد بنتها، و أم ولد البنت [ليست من تلك السبع، و لكن لو كانت امومة ولد البنت بالولادة، كانت بنتا له و البنت من المحرمات السبعة؛ فهل مثل هذا الرضاع أيضا محرم فتكون مرضعة ولد البنت كالبنت أم لا؟ الحق هو الثاني، و قيل بالأول، و هذا هو الذي اشتهر في الألسنة بعموم المنزلة الذي ذهب إليه بعض الأجلة، و لنذكر لذلك أمثلة ...

مسألة عموم المنزلة
تاريخ هذه المسألة

(1) أقول: اللازم قبل ذكر الأمثلة، أن نبيّن تاريخ هذه المسألة المعروفة بعموم المنزلة التي اختلفت فيها الآراء (و إن كان المشهور عدم اعتباره)، فانّ تاريخ المسألة، بعض المسألة؛ و منه يلوح أضواء عليها؛ فنقول (و من اللّه نستمد التوفيق و الهداية): أول من نسب إليه هذا القول هو شيخنا الشهيد (قدس سره) كما يظهر من كلمات المحقق الثاني، حيث قال في رسالته المعروفة: قد اشتهر على السنة الطلبة في هذا العصر، تحريم المرأة على بعلها بارضاع بعض من سنذكره، و لا نعرف لهم في ذلك أصلا يرجعون إليه من كتاب أو سنة أو إجماع أو قول لأحد المعتبرين ... ثم قال: وجدناهم (أي طلبة عصره) يزعمون أنّه من فتاوى شيخنا الشهيد، و نحن لأجل مباينة هذا الفتوى لأصول المذهب، استبعدنا كونها

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 595

مقالة لمثل شيخنا، على غزارة علمه و ثقوب فهمه، لا سيما و لم نجد لهؤلاء المدعين لذلك

أسنادا يتصل بشيخنا في هذه الفتوى. «1»

و يظهر من هذه العبارة، أنّ الأسناد إلى الشهيد غير ثابت، و أنّ أول من عنون هذه المسألة هو جماعة من الطلاب أو من العلماء المعاصرين للمحقق الثاني، سماهم طلّابا.

و من هنا يظهر أنّ اشتهار السيد المحقق الداماد بهذا الفتوى بعنوان أول من أفتى به، ليس بصحيح؛ فانّ السيد الداماد كان متأخرا عن المحقق الثاني، اسمه محمد باقر الأسترآبادى و سمى بالداماد لأنّ أباه كان صهرا للمحقق الثاني، سمّى ابنه بهذا الاسم أيضا؛ و قد ذكروا أنّه توفي سنة 1040 (و قيل 1041، و من الطرائف، أنّه قيل في مادة تاريخ وفاته، عروس علم دين را مرده داماد؛)، و الحال أنّ المحقق الثاني توفي سنة 940 (أو 937) فيكون بين وفاتهما مأئة سنة و على كل حال قد ألّف المحقق الداماد في رسالته المعروفة بضوابط الرضاع في تأييد مسألة عموم المنزلة على خلاف جدّه، و قد طبعت طبعا حجريا مع رسائل ثمانية اخرى، و سميت برسائل تسع، أربعة منها في مسألة الرضاع، و خمسة منها في مسائل الخراج.

أمّا الرضاعيات الأربعة، فهي:

1- ضوابط الرضاع للمحقق الداماد، (قدس سره).

2- رسالة رضاعية للمحقق الثاني، الشيخ على الكركي (قدس سره).

3- رسالة وجيزة للعلامة المجلسي (قدس سره) بالفارسية.

4- رسالة رضاعية للشيخ ابراهيم القطيفي معاصر المحقق الثاني (قدس سرهما)، ناقش فيها رسالة المحقق الثاني.

و الرسائل الخراجية الخمس:

1- قاطعة اللجاج في حلّ الخراج، للمحقق الثاني.

2- رسالة السراج الوهاج (في جوابه) للقطيفي.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 596

3 و 4- رسالتان للمحقق الأردبيلي.

5- رسالة خراجية اخرى للشيخ ماجد.

و من جميع ما ذكرنا ظهر لك أنّ مسألة عموم المنزلة، لم تكن من المسائل المعنونة في لسان قدماء الاصحاب، بل و

لا من كان بعدهم، حتى القرن العاشر و زمن المحقق الثاني، و ليكن هذا على ذكر منك.

امثلة عموم المنزلة

إذا عرفت هذا، فلنرجع إلى أصل المسألة، و نتكلم في الأمثلة التي ذكروا لها؛ فقد ذكر المحقق الثاني لها أمثلة كثيرة يعبر عنها بالمسائل الثلاثة عشر، و لكنه قدس سره صرّح في كلامه بان: المسائل المتصورة في هذا الباب كثيرة لا تكاد تنحصر، و الذى سنح لنا ذكره الآن خارجا عن المسائل الثلاث المشار إليها، صور؛ (و مقصوده عن المسائل الثلاث هي ما ورد في كلمات الأصحاب، و سنشير إليها إن شاء اللّه)، ثم ذكر المسائل الثلاثة عشر، و اختار في التحرير ثمانية منها بادغام بعضها في البعض؛ فقال:

... أحدها: زوجتك أرضعت بلبنك أخاها، فصار ولدك، و زوجتك اخت له، فهل تحرم عليك من جهة أنّ اخت ولدك إما بنتك أو ربيبتك و هما محرمتان عليك، و زوجتك بمنزلتها، أم لا؟ فمن قال بعموم المنزلة، يقول: نعم، و من قال بالعدم، يقول: لا.

ثانيها: زوجتك أرضعت بلبنك ابن أخيها، فصار ولدك، و هي عمته، و عمة ولدك حرام عليك لأنّها اختك؛ فهل تحرم من الرضاع أم لا؟ فمن قال بعموم المنزلة، يقول: نعم، و من قال بالعدم، يقول: لا.

ثالثها: زوجتك أرضعت عمها أو عمتها أو خالها أو خالتها، فصارت امّهم، و أمّ عمّ و أمّ عمّة زوجتك حرام عليه، حيث إنّها جدتها من الأب، و كذا أمّ خال أو أمّ خالة زوجتك حرام عليك، حيث إنّها جدتها من الأم، فهل تحرم عليك من جهة الرضاع أم لا؟ فمن قال بعموم المنزلة، يقول: نعم؛ و من قال بالعدم، يقول: لا.

رابعها: زوجتك أرضعت بلبنك ولد عمها أو ولد خالها، فصرت أبا

ابن عمها أو أبا ابن انوار الفقاهة، ج 3، ص: 597

خالها، و هي تحرم على أبي ابن عمها و أبي ابن خالها، لكونهما عمها و خالها، فهل تحرم عليك من جهة الرضاع أم لا؟ فمن قال بعموم المنزلة، يقول: نعم؛ و من قال بالعدم، يقول: لا.

خامسها: امرأة أرضعت أخاك أو اختك لأبويك، فصارت أمّا لهما، و هي محرمة في النسب لأنّها أمّ لك، فهل تحرم عليك من جهة الرضاع و يبطل نكاح المرضعة إن كانت زوجتك أم لا؟ فمن قال بعموم المنزلة يقول: نعم، و من قال بالعدم، يقول: لا.

سادسها: امرأة أرضعت ولد بنتك، فصارت أمّا له، فهل تحرم عليك لكونها بمنزلة بنتك، و إن كانت المرضعة زوجتك بطل نكاحها أم لا؟ فمن قال بعموم المنزلة، يقول:

نعم؛ و من قال بالعدم، يقول: لا.

سابعها: امرأة أرضعت ولد أختك، فصارت أمّا له، فهل تحرم عليك من جهة أن أمّ ولد الأخت حرام عليك، لأنّها أختك، و إن كانت المرضعة زوجتك بطل نكاحها أم لا؟ فمن قال بعموم المنزلة، يقول: نعم، و من قال بالعدم، يقول: لا.

ثامنها: امرأة أرضعت عمك أو عمتك أو خالك أو خالتك، فصارت أمّهم، و أمّ عمك و عمتك نسبا تحرم عليك، لأنّها جدتك من طرف أبيك، و كذا أمّ خالك و خالتك، لأنّها جدتك من طرف الأمّ، فهل تحرم عليك بسبب الرضاع؛ و إن كانت المرضعة زوجتك بطل نكاحها أم لا؟ فمن قال بعموم المنزلة، يقول: نعم؛ و من قال بالعدم، يقول: لا.

(1) أقول: في الواقع هذه الأمثلة الثمانية مأخوذة عن الأمثلة الثلاثة عشر التي ذكرها المحقق الثاني (قدس سره) بعد إدغام بعضها في بعض، و هي على قسمين:

قسم منها ما يكون فيه ارضاع

الزوجة لبعض أرحامها، و هو الأربعة الاولى:

ففي الأول، أرضعت أخاها.

و في الثانى، أرضعت ابن أخيها.

و في الثالث، أرضعت عمها أو عمتها، و خالها أو خالتها.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 598

و في الرابع، أرضعت ابن عمها، أو ابن خالها.

و في القسم الثاني أرضعت بعض أرحام الزوج، و هي أيضا أربعة:

في الأول، أرضعت أخاه.

في الثاني، أرضعت ابن بنته.

في الثالث، أرضعت ابن اخته.

و في الرابع، أرضعت عمّ الزوج أو عمته أو خاله أو خالته.

و هذه ثمان صور.

و في الأول، تكون المرأة بحكم بنت أو ربيبة الرجل، (لأنّها صارت اخت ابن الرجل).

و في الثاني، تكون المرأة بحكم اخت الرجل، (لأنّها صارت عمة ابنك، و عمة الابن تكون اختا).

و في الثالث، تكون المرأة بحكم جدة الرجل، (لأنّها صارت أمّ عمها أو أمّ عمتها).

و في الرابع، تكون المرأة بحكم بنت أخ الرجل، (لأنّها صارت أمّ ابن عمها فتكون الرجل بمنزلة عمها، و لا يجوز للعم أن ينكح ابنة أخيها و هكذا).

و في الخامس، تكون المرأة أمّ أخ الزوج، و هي بمنزلة امه نفسه.

و في السادس، تكون المرأة بمنزلة بنته.

و في السابع، تكون المرأة بمنزلة اخته.

و في الثامن، تكون المرأة بمنزلة عمته؛ و كل ذلك في النسب حرام.

أدلّة النافين لعموم المنزلة

إذا عرفت هذا، فاعلم أنّه قد استدل المحقق الثاني للقول بنفى عموم المنزلة، بامور سبعة:

1- اصاله البراءة الأصلية، فانّ التحريم حكم شرعي يحتاج إلى دليل.

2- الاحتياط في الفروج، و لا ريب إن حلّ المراة المذكور لغير زوجها بمجرّد الرضاع المذكور، قول يجانب الاحتياط.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 599

3- الاستصحاب- و جعله من وجوه مختلفة.

4- التمسك بعموم قوله تعالى: وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ ...؛ «1» و كذا قوله تعالى: ... فَانْكِحُوا

ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ .... «2»

5- قوله تعالى: ... وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ...، «3» لأنّه يشمل المقام و أشباهه.

6- الإجماع، فانّ الفقهاء ممن نقلت أقوالهم إلينا، اشتهرت في مصنفاتهم عدد المحرمات في النكاح، و لم يعد أحد منهم شيئا من المتنازع فيه. (و نضيف إلى ما ذكره، أنّهم حكموا بفراق المرأة من زوجها إذا أرضعت امّها ولدها، و لو كان الفراق حاصلا في المذكورات مع شدة الابتلاء بها، لورد في شي ء من مصنفاتهم. نعم، نسب ذلك إلى شيخنا الشهيد (قدس سره)، و لكن لم نجده في مصنف منسوب إليه.

7- انتفاء المقتضى للتحريم، في المسائل المذكورة.

ثم شرع في شرح كل واحد واحد من المسائل الثلاثة عشر، (راجع رسالته المعمولة في الرضاع).

و الحق أنّ بعض دلائله قابل للمناقشة، و العمدة من بينها هو العمومات الدالة على الحلّية من الكتاب و السنة، و عدم ثبوت تخصيصها بهذه الموارد.

أدلّة القائلين بعموم المنزلة

و استدل للقائلين بعموم المنزلة بأمرين:

أحدهما: عموم قوله صلّى اللّه عليه و آله: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ فانّ هذه العناوين الموجودة في الامثلة المذكورة، إذا حصلت في النسب، كان ملازما لأحد العناوين السبعة المحرمة، فاللازم الحكم بحرمتها.

و الجواب عنه ظاهر، فانّ ظاهر قوله صلّى اللّه عليه و آله: ما يحرم من النسب؛ هو العناوين المذكورة

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 600

في قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ ... لا غير، و أمّا العناوين الملازمة فهي غير داخلة تحتها؛ و إن شئت قلت: أنّها منصرفة عن العناوين الملازمة؛ و لو فرض الشك في شمولها، كفى في نفي الشمول.

ثانيهما: روايات وردت في باب أنّه لا يجوز أن ينكح ابو المرتضع في أولاد صاحب

اللبن، يمكن التمسك بها للمقصود، و إن لم ترد في هذا المقام؛ منها:

1- ما عن على بن مهزيار، قال: سأل عيسى بن جعفر بن عيسى، أبا جعفر الثاني عليه السّلام، أنّ امرأة أرضعت لي صبيا، فهل يحل لي أن أتزوج ابنة زوجها. فقال لي: ما أجود ما سألت، من هاهنا يؤتي أن يقول الناس حرمت عليه امرأته من قبل لبن الفحل، هذا هو لبن الفحل لا غير. فقلت له: الجارية ليست ابنة المرأة التي أرضعت لي، هي ابنة غيرها؛ فقال: لو كن عشرا متفرقات ما حلّ لك شي ء منهن و كن في موضع بناتك. «1»

و الوجه في الاستدلال به، أن قوله عليه السّلام: لو كان عشرا متفرقات ما حلّ لك شي ء منهن و كن في موضع بناتك؛ دليل على عموم المنزلة، لأنّ المفروض أنّ بنات الفحل أخوات لابن أبي المرتضع و لسن بناته إلّا من باب التنزيل، بأن يقال اخت ولد الإنسان بنته؛ و يمكن التعدي إلى سائر الأمثلة من باب عموم التعليل، بأن يقال إن المستفاد منه أنّ كل عنوان ملازم لبعض العناوين السبع فهو بمنزلته.

و إن شئت قلت: من باب الغاء الخصوصية عن مورد التعليل، و هناك نكتة ظريفة، و هي أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: يحرم من الرضاع، ما يحرم من النسب؛ و لم يقل، من يحرم من النسب.

فلو قال من؛ أمكن القول بأنّ جميع من يحرمون من ناحية النسب و لو بالعناوين الملازم (و إن كان ذلك أيضا قابلا للمناقشة و القول بالانصراف)، و لكن قال: ما يحرم؛ و لا ينبغي الريب أنّه إشارة إلى العناوين المخصوصة.

فما عسى قد يستفاد من كلام الجواهر، أنّه قياس محرم بل أسوأ حالا

من القياس، لأنّ القياس عبارة عن مقايسة حال جزئى إلى جزئي آخر، و هنا يقاس حال كلى على جزئي؛

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 601

قابل للمناقشة، لأنّ هذا هو إلغاء الخصوصية العرفية القطعية، لأنّ الإمام في مقام التعليل، فإنّه لا يمكن أن يقال لعنوان البنت خصوصية من بين العناوين السبعة، فلو حصل ما يلازمه كان حراما و لكن لو حصل ما يلازم سائر العناوين السبعة ليس محرما، فانّه غريب جدا؛ فلا يجوز غضّ النظر عن دلالة الحديث بأمثال هذه الاشكالات.

فالانصاف؛ لو صح سند الحديث و دلالته و لم يرد عليه شي ء ممّا أسلفناه سابقا، لكان القول بعموم المنزلة مقبولا بسبب هذه الرواية؛ أمّا نحن لمّا ناقشنا في سنده و لم نفت بمضمونها كنّا في سعة من ذلك.

و إن شئت قلت: هناك علقة ظاهرة بين المسألتين، مسألة عدم جواز نكاح أبي المرتضع في أولاد صاحب اللبن، و مسألة عموم المنزلة، فكيف حكم المشهور بالحرمة هناك و حكموا بخلافه هنا، مع أنّ الدليل الدال عليه بظاهره عام يشمل الجميع؛ و أمّا نحن حيث لم نقبل القول المشهور في تلك المسألة، ففي فصحة في محل البحث.

2- و أظهر من ذلك، ما رواه أيوب بن نوح، قال: كتب على بن شعيب إلى أبي الحسن عليه السّلام امرأة ارضعت بعض ولدي، هل يجوز لي ان أتزوج بعض ولدها؟ فكتب: لا يجوز ذلك لك، لأنّ ولدها صارت بمنزلة ولدك. «1»

و تعبيره عليه السّلام: صارت بمنزلة ولدك؛ يشبه جدّا لما اشتهر بين أصحاب هذا القول، أعني عموم المنزلة، فكأنّهم أخذوه عنه.

و الاستدلال به كالاستدلال بالحديث السابق، و إن شئت قلت: هذا الحديث مشتمل على صغرى و كبرى؛ أمّا صغراه، أنّه بمنزلة ولدك؛ و كبراه،

و كل ما كان بمنزلة ولدك فهو محرم عليك؛ و من البعيد جدّا الجمود على خصوص عنوان الولد و أيّ فرق بين عنوان الولد و غيره؛ و الانصاف إمكان إلغاء الخصوصية منه، اللّهم إلّا أن يقال اعراض الأصحاب عن هذا المعنى يمنع قبوله.

و لكن نحن لما ناقشنا في سند هذه الرواية أيضا، و لم نقبل القول بالحرمة في موردها،

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 602

ففي وسعة في هذا البحث.

3- ما رواه عبد اللّه بن جعفر، قال: كتبت إلى أبي محمد عليه السّلام، امرأة أرضعت ولد الرجل، هل يحل لذلك الرجل أن يتزوج ابنة هذه المرضعة أم لا؟ فوقع: لا تحل له. «1»

و لكن هذه الرواية رغم صحة سندها لا تشتمل على تعليل حتى يؤخذ بالعموم من ناحية التعليل و إلغاء الخصوصية منها، فالاستدلال بها في المقام مشكل.

***

بقى هنا أمران:
1- أدلّة اخرى لنفى عموم المنزلة

ان صاحب الجواهر، تمسك للقول بالعدم (نفى عموم المنزلة)، بامور اخرى:

منها: أنّ العموم مخالف لصريح القرآن: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ- إلى قوله- وَ بَناتِ عَمِّكَ وَ بَناتِ عَمَّاتِكَ «2» فان حمزة كان أخا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الرضاع، و لازمه كون أخوات حمزة اختا له صلّى اللّه عليه و آله، (بناء على عموم المنزلة) فلا يجوز له صلّى اللّه عليه و آله نكاح بناتهن، مع تصريح الآية بالجواز.

و منها: ما رواه يونس بن يعقوب، في الموثق، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن أرضعتني و أرضعت صبيا معى، و لذلك الصبي أخ من أبيه و امّه، فيحل لي أن أتزوج ابنته؟ قال: لا بأس. «3»

مع أنّ مقتضى عموم المنزلة، حرمتها عليه، لان ابنة أخي أخيه بمنزلة ابنة أخيه.

و منها: ما رواه اسحاق بن عمار، في

الموثق، عن أبي عبد اللّه، في رجل تزوج اخت أخيه من الرضاع؟ فقال: ما أحبّ أن أتزوج اخت أخي من الرضاعة. «4»

بناء على دلالتها على الكراهة، و كون القيد، (أي من الرضاعة)، قيدا للأخت لا

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 603

للأخي؛ فيكون معناه أنّ نكاح الاخت الرضاعي للأخ النسبي مكروه، مع أنّ مقتضي عموم المنزلة حرمته، لأنّ الاخت الرضاعي للأخ، بمنزلة الاخت النسبي، و هي محرمة.

هذا، و قد عرفت الإشكال في الأخير في الأبحاث السابقة، و أن ظاهرها انّ القيد راجع إلى الأخ، فيكون ما أحب بمعنى الحرمة هنا.

2- كلام من المحقق الثاني

قد ذكر المحقق الثاني (قدس سره) في رسالته قبل ذكر الأدلة السبعة على بطلان عموم المنزلة، أنّ هناك مسائل ثلاث قد اختلف الأصحاب فيها. قال:

الأولى، جدات المرتضع بالنسبة إلى صاحب اللبن، هل تحل له أم لا؟ قولان للأصحاب، و قريب منه أمّ المرضعة و جداتها بالنسبة إلى أب المرتضع.

الثانية، أخوات المرتضع نسبا و رضاعا بشرط اتحاد الفحل، هل يحللن له (أي لصاحب اللبن) أم لا؟ قولان أيضا.

الثالثة، أولاد صاحب اللبن ولادة و رضاعا، و كذا أولاد المرتضعة ولادة، و كذا رضاعا مع اتحاد الفحل، بالنسبة إلى اخوة المرضع، هل يحللن لهم أم لا؟ قولان أيضا (انتهى). «1»

و قال قبل ذلك بيسير: نعم، أختلف أصحابنا في ثلاث مسائل، قد يتوهّم منها القاصر عن درجة الاستنباط أن يكون دليلا لشي ء من هذه المسائل أو شاهدا عليها، «2» (أي المسائل عموم المنزلة).

قلت: الظاهر عدم ورود نص خاص في هذه المسائل الثلاث، و إنّما قال من قال بها من باب عموم المنزلة في الجملة.

فان الحرمة في الاولى لو كانت، كانت بسبب أن جدة الولد (أي المرتضع) أمّ للإنسان أو أمّ لزوجته.

انوار الفقاهة،

ج 3، ص: 604

و أمّا الثانية، فلأنّ أخوات المرتضع، أخوات لابنه، و اخوة ابن الإنسان بمنزلة بنته أو ربيبة.

و أمّا الثالثة، فلأنّ أولاد صاحب اللبن، اخوة لأخوات المرتضع، و هي بمنزلة الاخت من أولاد صاحب اللبن.

و الحاصل، أنّ الاعتراف باختلاف الأصحاب في هذه المسائل الثلاث، ملازم لاختلافهم في عموم المنزلة، مع أنّ المحقق المذكور أنكر وجود القول بها بين من تقدم على عصره.

و الحاصل أنّ المسألة لا تخلو عن تشويش عندهم، و لكن الانصاف عدم صحة القول بعموم المنزلة مطلقا، و اللّه العالم.

***

[المسألة 5: لو شك في وقوع الرضاع أو في حصول بعض شروطه من الكمّية]
اشارة

المسألة 5: لو شك في وقوع الرضاع أو في حصول بعض شروطه من الكمّية أو الكيفية، بنى على العدم.

نعم، يشكل لو علم بوقوع الرضاع بشروطه، و لم يعلم بوقوعه في الحولين أو بعدهما و علم تاريخ الرضاع و جهل تاريخ ولادة المرتضع، فحينئذ لا يترك الاحتياط.

حكم الشك في تحقق الرضاع

(1) أقول: هذه المسالة ناظرة إلى الشك في تحقق الرضاع في الشبهات الموضوعية، و حاصلها أنّ الشك على قسمين: تارة يكون في أصل الرضاع، و اخرى في شروطه من الكيفية و الكمية.

أمّا إذا شك في أصل تحققه بأنّ لم يعلم أنّ المرأة أو الرجل الفلاني ارتضع من المراة الفلانية أم لا؟ فالأصل يقتضى الحلية بمقتضى استصحاب عدم تحقق الموجب للحرمة، و مع قطع النظر عنه يجرى أصالة الحلّية أيضا.

و لو شك في بعض الشروط من العدد، و أنّه هل بلغ العدد اللازم أم لا، أو شك في الكيفية و أنه شرب من الثدى مثلا أو لا، و كذا سائر الشروط.

نعم، استثنى هنا مورد واحد، و هو ما إذا شك في كون الرضاع في الحولين و عدمه، فان له حالات ثلاثة:

أولها، ما إذا كان الرضاع و مبدء الولادة كلاهما مجهولى التاريخ، و لا ينبغي الشك في كونه محكوما بالاباحة، لتعارض الأصلين من الجانبين، فيتساقطان؛ و إن قلنا بعدم جريان الاصول في اطراف العلم الإجمالي لعدم المقتضى له، فالحكم أظهر.

ثانيها، ما إذا شك في تاريخ الرضاع مع العلم بتاريخ الولادة، مثلا علم بأنّ الولادة كان في شهر شعبان، و لكن شك في أن الرضاع كان فيه أو في رمضان (بعد عامين)، فهنا أيضا يحكم بالحلية، لأنّ الأصل عدم تحقق الرضاع في شعبان، و لا يجري الأصل في معلوم التاريخ لعدم الشك

فيه.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 606

إن قلت: إثبات وقوع الرضاع في شهر رمضان بأصالة عدم كونه في شعبان، من قبيل الأصل المثبت.

قلنا: لا نحتاج إلى إثبات وقوعه في رمضان، حتى يكون مثبتا، بل يكفينا الحكم بعدم وقوعه في شعبان، و هو ليس من قبيل الأصل المثبت.

ثالثها، إذا كان الامر بالعكس، بأن كان تاريخ الرضاع معلوما (مثلا كونه في رمضان)، و لكن تاريخ الولادة غير معلومة، فلا ندري بانقضاء الحولين في شعبان أو آخر رمضان، فهل يمكن استصحاب بقاء الحولين إلى آخر رمضان حتى يكون الرضاع واقعا فيه أم لا.

لا يبعد جريان الأصل فيه، فيحكم بالحرمة.

إن قلت: هذا من قبيل الأصل المثبت، فان بقاء الحولين لا يثبت وقوع الرضاع فيه.

قلت: هذا من قبيل ضمّ الوجدان بالأصل فالرضاع وجداني و كون الحولين باقيا بالاصل.

إن قلت: ما ذكرت إنّما يصح في الأجزاء التركيبية، مثل ما إذا ثبت عدالة أحد الشاهدين بالوجدان، و الآخر باستصحاب بقائها من السابق، فتقوم البيّنة؛ و لكن هنا من قبيل الاشتراط، و في الاشتراط لا بدّ من تقييد أحدهما بالآخر (مثل تقييد الرضاع بوقوعه في الحولين).

قلت: ضمّ الوجدان بالأصل يجرى في الشروط أيضا، لاتفاق الأصحاب على جواز استصحاب بقاء الوضوء في صحة الصلاة و كذا سائر الشروط، بل مورد أخبار الاستصحاب أمّا الطهارة من الحدث أو من الخبث أو بقاء وقت الصيام أو شبهه و كل ذلك من الشروط.

فما أفاده قدس سرّه في المتن من الحكم بعدم ترك الاحتياط قابل للمناقشة، فانّ المقام مقام الفتوى لا الاحتياط، فتأمل.

و يدل على بعض ما ذكرناه ما رواه في الوسائل، عن أبي يحيى الحناط، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أنّ ابني و ابنة أخي في حجري،

فاردت أن أزوجها إيّاه، فقال بعض أهلي: أنا قد أرضعنا هما؛ فقال: كم؟ قلت: ما أدري؛ قال: فارادني على أنّ أوقت؛ قال قلت:

ما أدري، قال فقال: زوّجه. «1»

[المسألة 6: لا تقبل الشهادة على الرضاع إلّا مفصلة]
اشارة

المسألة 6: لا تقبل الشهادة على الرضاع إلّا مفصلة بأن يشهد الشهود على ارتضاع في الحولين، بالامتصاص من الثدي، خمس عشرة رضعة، متواليات مثلا إلى آخر ما مرّ من الشروط، و لا يكفى الشهادة المطلقة و المجملة بأن يشهد على وقوع الرضاع المحرم، أو يشهد مثلا على أنّ فلانا ولد فلانة، أو فلانة بنت فلان من الرضاع، بل يسأل منه التفصيل؛ نعم، لو علم عرفانهما شرائط الرضاع و أنّهما موافقان معه في الرأي اجتهادا أو تقليدا، تكفى.

لا تقبل الشهادة بالرضاع الّا مفصّلة

(1) أقول: قد صرّح بذلك، المحقق في الشرائع و قال: لا تقبل الشهادة بالرضاع إلّا مفصلة؛ ثم علّله بقوله: لتحقق الخلاف في الشرائط المحرمة، و احتمال أن يكون الشاهد قد استند إلى عقيدته.

و أضاف في الجواهر بعد قول المحقق: لا تقبل الشهاده بالرضاع إلّا مفصله؛: بجميع ما يعتبر، عند الحاكم الذي تقوم عنده الشهادة، حتى عدم قي ء اللبن بناء على اعتباره عنده، بلا خلاف أجده ممن تعرض لها. «1»

و الوجه فيه ظاهر، و هو أنّ الشهادة مع قطع النظر عن حدودها أمر عقلائي لكشف الحقوق و الحدود و موضوعات الأحكام، و هم لا يعتمدون على الشهادة المجملة في الامور التي تختلف فيه الآراء، و كل ما كان مثل الرضاع في تعدد الآراء و تكثرها فيه، فهو أيضا لا تقبل الشهادة فيها مجملة، مثلا إذا شهد الشاهدين بالكرية، أو بنجاسة الماء، أو غير ذلك من أشباهه ممّا يختلف فيه الفقهاء.

نعم، استثنى منه ما إذا كان الشاهدان من مقلديه (أي الحاكم)، أو ممن يكون عقيدته عقيدته، و لا فرق بين أن يكون الشهادة عند الحاكم أو عند غيره إذا لم يكن محلا للدعوى و المنازعة.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 608

و هكذا

إذا شهدا بأنّ فلانا الأخ الرضاعي لفلانة.

و لو قلنا بعدم اعتبار التعدد في اثبات الموضوعات في غير مورد الدعاوي، و قلنا بحجية خبر الواحد في الموضوعات- كما هو الاقوى- كان الأمر أيضا كذلك.

***

[المسألة 7: الأقوى أنّه تقبل شهادة النساء العادلات في الرضاع، مستقلات
اشارة

المسألة 7: الأقوى أنّه تقبل شهادة النساء العادلات في الرضاع، مستقلات، بأن تشهد به أربع نسوة؛ و منضمات، بأن تشهد به امرأتان مع رجل واحد.

شهادة النساء في الرضاع
اشارة

(1) أقول: الأولى أن نتعرض لأحكام شهادة النساء في جميع الأبواب، فنتكلم أولا في حكم شهادتهن في أبواب الرضاع ثم نعقبه بشهادتهن في الموارد التالية:

1- مختصات النساء و ما لا يطلع عليه غيرهن عادة، (كالولادة و الاستهلال و العيوب الباطنة و شبهها).

2- شهادتهن في أبواب الحدود و القصاص.

3- شهادتهن في الحقوق و الأموال.

4- شهادتهن في النكاح و الطلاق.

و الواجب أخيرا، بيان فلسفة الفرق بينهن و بين الرجال في قبول شهادتهن في بعض الامور دون بعض، و كذا الفرق في العدد بينهما.

فنقول: (و من اللّه تبارك و تعالى التوفيق و الهداية):

أمّا في الرضاع فالمشهور المعروف بين الأصحاب قبول قولهن فيه، و قد حكي هذا القول عن جماعة كثيرة من الأصحاب، حتى أنّ صاحب الجواهر حكاه عن ما يقرب من عشرين كتابا بالمباشرة، و عن عدّة كتب بالواسطة، و هو المشهور بين الأصحاب بل ادعى الإجماع عليه؛ و لكن مع ذلك ادعى شيخ الطائفة (قدس سره) في الخلاف، الإجماع على عدم القبول؛ قال في الخلاف في كتاب الرضاع في المسألة 19:

لا تقبل شهادة النساء عندنا في الرضاع بحال، و قال ابو حنيفة و ابن أبى ليلى: لا تقبل شهادتهن منفردات إلّا في الولادة؛ و قال الشافعي: شهادتهن على الانفراد تقبل في أربعة مواضع، الولادة و الاستهلال و الرضاع و العيوب تحت الثياب؛ و به قال ابن عباس و

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 610

الزهري و مالك و الأوزاعي؛- ثم قال- دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم ...

و الإنصاف أنّ دعواه الإجماع هنا من قبيل الإجماع

على القاعدة و شبهها، و إلّا فالمخالفون في المسالة كثيرون.

و قال المحقق الثاني، في جامع المقاصد: اختلف الأصحاب في أنّه هل تقبل شهادة النساء في الرضاع منفردات، على قولين: فذهب الشيخ في الخلاف، و ابن إدريس، إلى عدم قبولهن؛ و ذهب المفيد و السيد و سلار و ابن حمزة و جمع من الأصحاب، إلى القبول.

و على كل حال لا ينبغي الشك في شهرة هذا القول بين الأصحاب.

و استدل له بامور:

أحدها: و هو العمدة، دخول الرضاع في الامور الخفية التي تعم به البلوي و لا يطلع عليها غالبا إلّا النساء؛ و قد ورد أحاديث كثيرة في قبول قولهن في هذه الامور، و هي من قبيل القواعد الكلية، و حاصلها أنّه تقبل شهادة النساء في ما لا يطلع عليه الرجال أو لا يستطيع الرجال النظر إليها، منها:

1- ما عن أبو بصير، قال: سألته عن شهادة النساء؟ فقال: تجوز شهادة النساء وحدهن على ما لا يستطيع الرجال النظر إليه ... «1»

2- ما عن إبراهيم الحارثي، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: تجوز شهادة النساء فيما لا يستطيع الرجال أن ينظروا إليه و يشهدوا عليه ... «2»

3- ما عن محمد بن الفضيل، قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام، قلت له: تجوز شهادة النساء في نكاح أو طلاق أو رجم؟ قال: تجوز شهادة النساء فيما لا تستطيع الرجال أن ينظروا إليه و ليس معهن رجل ... «3»

4- ما عن عبد اللّه بن سنان، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: لا تجوز شهادة النساء

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 611

في رؤية الهلال ... و قال تجوز شهادة النساء وحدهن بلا رجال في كل ما لا يجوز للرجل النظر

إليه. «1»

5- ما عن داود بن سرحان، عن أبى عبد اللّه عليه السّلام، قال: أجيز شهادة النساء في الغلام صاح أم لم يصح، و في كل شي ء لا ينظر إليه الرجال تجوز شهادة النساء فيه. «2»

6- ما عن السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن علىّ عليهم السّلام، أنّه كان يقول: شهادة النساء لا تجوز في طلاق و لا نكاح و لا في حدود، إلّا في الديون و ما لا يستطيع الرجل النظر إليه. «3»

7- ما عن محمد بن سنان، عن الرضا عليه السّلام إلى أن قال: لا تجوز شهادتهن إلّا في موضع الضرورة مثل شهادة القابلة و ما لا يجوز للرجل أن ينظروا إليه ... «4»

هذا، و لكن الكلام في صغرى هذه القاعدة الكليّة في المقام، و أنّه هل تشمل مسألة الرضاع أم لا؟ فقد صرّح غير واحد من أكابر فقهاء الأصحاب، مثل الشهيد الثاني في المسالك، «5» و المحقق الثاني في جامع المقاصد، «6» و صاحب الجواهر في الجواهر، «7» بأنّ هذا دخل تحت عنوان القاعدة، و هو الأقوى.

و الوجه في ذلك أنّه و أن أمكن اطلاع الرجال المحارم على أمر الرضاع- لو قلنا بجواز نظرهم إلى مثل الثدى و هو قابل للمناقشة- و كذا الزوج، بل و غير المحارم إذا اتفق نظرهم إليه بدون قصد، أو إذا لم يكن فيه إثم حال التحمل، مثل ما إذا كان صبيا مراهقا ثم كان عند الشهادة بالغا- بناء على كفاية مثل ذلك-، و لكن الغالب كونه ممّا يطلع عليه النساء، و المراد بالقاعدة هو الغلبة، لا كونه دائميا لانصرافه إليه، و إلّا أمكن المناقشة في الاستهلال، بل الولادة، بل و غيرها، لأنّه كثيرا تدعوا الضرورة لنظر

الاطباء

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 612

إليهن لا سيما في أعصارنا، أو يكون في السفر و ليس معها امرأة في مثل الولادة و شبهها.

ثانيها، هناك طائفة ثانية من الروايات، قد استدل بها للمطلوب، و هي ما دل على جواز شهادة النساء في خصوص بعض مصاديق ما لا يحل للرجال النظر إليها، بدعوى إمكان إلغاء الخصوصية منها، أو دعوى الأولوية بالنسبة إلى الرضاع، و هى أيضا كثيرة رواها أيضا في الوسائل، في الباب 24 من أبواب الشهادات، من المجلد 18؛ منها:

1- ما عن الحلبى، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث، و سألته عن شهادة القابلة في الولادة. قال: تجوز شهادة الواحدة؛ و قال تجوز شهادة النساء في المنفوس و العذرة. «1»

2- ما عن محمد بن مسلم، في حديث قال: سألته عن النساء تجوز شهادتهن؟ قال:

نعم، في العذرة و النفساء. «2»

3- ما عن عبد اللّه بن بكير، عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: تجوز شهادة النساء في العذرة و كل عيب لا يراه الرجل. «3»

4- ما عن السكونى، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: أتي أمير المؤمنين عليه السّلام بامراة بكر زعموا أنّها زنت، فأمر النساء فنظرت إليها، فقلن هي عذراء، فقال: ما كنت لا ضرب من عليها خاتم من اللّه، و كان يجيز شهادة النساء في مثل هذا. «4»

5- ما عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه، قال: سألته- إلى أن قال- تجوز شهادة النساء في المنفوس و العذرة. «5»

6- ما عن العلاء، عن أحدهما عليهما السلام ... و سألته هل تجوز شهادتهن وحدهن؟

قال: نعم، في العذرة و النفساء. «6»

7- ما عن محمّد بن مسلم، قال: سألته تجوز شهادة النساء وحدهن؟ قال: نعم، في

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 613

العذرة و النفساء «1».

8- ما عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال تجوز شهادة امرأتين في استهلال. «2»

9- ما عن دعائم الإسلام، عن أمير المؤمنين و أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهم السّلام أنّهم قالوا:

يجوز في الأموال و في ما لا يطلع عليه إلّا النساء من النظر إلى النساء و الاستهلال و النفاس و الولادة ... «3»

إلى غير ذلك ممّا في هذا المعنى.

و هناك روايات اخرى تدل على قبول شهادتهن في الاستهلال؛ راجع المستدرك، و هذه الروايات و إن كان جلّها أو كلّها ضعيفة الاسناد، و لكنها مجبورة بالعمل، فتأمل.

إنّما الكلام في إمكان الغاء الخصوصية منها، أو دعوى الأولوية؛ قال صاحب الجواهر (قدّس اللّه نفسه الزكية): و الرضاع أنّ لم يكن أولى من بعضها، فهو مثله. «4»

لا شك أنّ الرضاع ليس اولى من النفاس و الولادة و العذر و العيوب الموجودة في الفرج، بل ليس مثلها؛ و لكنه اولى من الاستهلال أو مثله، فانّ سماع صيحة الولد عند الولادة أهون من مشاهدة الرضاع؛ ذاك بالسمع، و هذا بالمشاهدة، و الظاهر أنّ مراده أيضا ذلك.

ثالثها، هناك قسم ثالث من الأخبار تدل على قيام امرأتين مقام رجل واحد على الاطلاق، و مقتضى اطلاقها قبول شهادتهن مطلقا إلّا ما خرج بالدليل؛ منها:

1- ما في تفسير العسكري عليه السّلام ... عدلت امرأتان في الشهادة برجل واحد، فاذا كان رجلان، أو رجل و امرأتان، أقاموا الشهادة، قضى بشهادتهم. «5»

و لكن مع الغض عن السند، يرد عليه أوّلا، انه يمكن أن يقال أنّه ليس في مقام البيان من ناحية موارد الشهادة؛ و ثانيا، لو كانت مطلقة، لزم تخصيص الأكثر لما يأتي إن شاء

انوار

الفقاهة، ج 3، ص: 614

اللّه، أو تخصيص كثير مستهجن.

2- ما عن عبد الكريم بن ابى يعفور، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: تقبل شهادة المرأة و النسوة، إذا كن مستورات من أهل البيوتات، معروفات بالستر و العفاف، مطيعات للأزواج، تاركات للبذاء و التبرج إلى الرجال في انديتهم. «1»

و فيه، مضافا إلى ضعف سندها لجهالة عبد الكريم ابن أبي يعفور؛ أنّها على الظاهر ليست في مقام البيان من ناحية موارد قبول شهادتهن.

رابعها، ما عن عبد اللّه بن بكير، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في أرضعت غلاما و جارية. قال: يعلم ذلك غيرها؟ قال: لا؛ قال: فقال لا تصدق أن لم يكن غيرها. «2»

و مفهومها قبول شهادتها إذا شهد معها غيرها رجلا كان أو امراة، و مفهوم الشرط حجة و لكن ضعف السند يمنع عن الأخذ به، إلّا أن ينجبر بعمل المشهور، فتأمل.

هذا كله في أدلة المشهور، و هي كافية في إثبات حجية شهادتهن في الجملة في الرضاع.

أمّا أدلة المخالفين؛ و استدل لهم في إثبات عدم القبول بامور:

1- الأصل، فان مقتضى أصالة عدم الحجية في الأمارات، هو عدم القبول.

و جوابه ظاهر، فان التمسك بالأصل بعد وجود الدليل على الحجية لا معنى له.

2- المرسلة التي ذكر في المبسوط قال: أصحابنا رووا أنّه لا يقبل شهادة النساء في الرضاع أصلا. «3»

و هو ضعيف السند، لا سيما مع عدم ذكره في كتابيه اللذين جعلهما لجمع الأخبار.

3- و استدل بإجماع الشيخ الذي نقله في الخلاف.

و جوابه ظاهر مع ذهاب المشهور على خلافه، فكأنه إجماع على القاعدة و الأصل، فالأقوى قبول شهادة النساء في الرضاع في الجملة.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 615

و هناك قولان شاذان يكون كلاهما في طرف الخلاف

عن قول النافين:

أحدهما، ما حكى عن القاضى، من أنّه لا يقبل دعوى الرضاع إلّا بشهادتهن.

ثانيهما، ما حكي عن التحرير، من عدم قبول المنضمّات هنا.

و اللازم غمض النظر عنهما أيضا بعد عدم وجود دليل عليهما.

***

بقي هنا شي ء:

و هو الكلام في العدد؛ و هناك أقوال أربعة كما يظهر من كلماتهم:

1- اللازم كون العدد اربع نسوة، و هو المشهور.

2- يكفى اثنتان، و هو المحكى عن المفيد.

3- يكفى واحدة، و هو المحكى عن سلّار بن عبد العزيز.

4- الواجب هو الأربعة، و لكن يثبت بالواحدة بمقدار الربع، و بالاثنين بمقدار النصف؛ و هكذا في أمثال الارث و شبهه، و هو المحكي عن ابن الجنيد. «1» و لكنه خارج عما نحن بصدده في مسألة الرضاع، لأنّ حرمة النكاح لا تقبل التقسيم.

و يدل على قول المشهور، الاستقراء الحاصل من الأدلّة، من كون قول امرأتين بحكم رجل واحد في الأبواب المختلفة؛ فاللازم الأخذ به ما لم يدل دليل على خلافه، و من المعلوم أنّ الأصل في المقام عدم الحجية ما لم يقم دليل عليها، لما ذكرناه في أبواب حجية الظنون.

و هذا هو الأقوى.

و استدل على كفاية الاثنين، بما رواه أبو بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: تجوز شهادة امرأتين في استهلال. «2»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 616

و في فقه الرضا أيضا، و روى أنّه تجوز شهادة امرأتين في استهلال الصبي ... «1»

و قد عرفت في حديث عبد اللّه بن بكير، عن بعض أصحابنا عن الصادق عليه السّلام قوله: لا تصدق إن لم يكن غيرها. «2»

و اطلاق مفهومه يدل على كفاية الاثنين.

و جميعها محل الإشكال؛ أمّا الأوّل و الثاني، فهما واردان في الاستهلال، و شمولهما للرضاع بالاولوية مشكل، بل الأمر بالعكس كما لا يخفى.

و الثالث،

مرسلة غير منجبرة بعمل الأصحاب، مضافا إلى أنّ اطلاقها قابل للتقييد.

و أمّا الدليل على كفاية الواحدة، فهو ما رواه الحلبي في الصحيح، عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن شهادة النساء-- إلى أن قال- و سألته عن شهادة القابلة في الولادة؛ قال: تجوز شهادة الواحدة؛ الحديث. «3»

و يرد عليه أوّلا، أنّها واردة في غير الرضاع، و الأخذ بها في الرضاع من باب الأولوية مشكل كما عرفت. و ثانيا، يمكن أن تكون ناظرة إلى حكم الميراث و أنّها تقبل في ربع الميراث، كما ورد في غير واحد من روايات أبواب الشهادة، و هذا أمر غير ممكن في الرضاع. و ثالثا، يمكن حملها- بالنسبة إلى باب الرضاع- على الاستحباب كما احتمله في الجواهر، لما أفاده السيد في الناصريات من دعوى إجماع أصحابنا على استحباب قبول شهادة المرأة الواحدة في الرضاع، مضافا إلى ما رواه الدار قطني، في سننه من النبوي صلّى اللّه عليه و آله: دعها، كيف و قد شهدت السوداء. «4»

هذا كله، مضافا إلى اعراض الأصحاب عن جميع ذلك، فلو كانت بالغة حد الحجية أسقطها اعراض الأصحاب، كيف و لم تبلغ هذا الحدّ.

***

البحث في شهادة النساء في سائر ابواب الفقه
1- قبول شهادتهن في مختصات النساء.

لا شك في قبول شهادتهن منفردات في هذه الأمور من الاستهلال و الولادة و النفاس و العذرة و الحيض و البكارة و العيوب الخفية و شبهها، و الظاهر أنّ المسالة من المسلمات بينهم لعدم نقل خلاف فيه.

و يدل عليه طائفتان من الروايات التي قدّمناها:

الاولى، العمومات الدالة على قبول شهادتهن فيما لا يجوز للرجال النظر إليها، أو ما لا يحل نظرهم إليها، أو ما لا يستطيع الرجال النظر إليها؛ و قد حكيناها بالتفصيل في أحكام شهادة النساء في الرضاع آنفا و هي كثيرة مستفيضة.

الثانية،

ما ورد في الموارد الخاصة مثل النفاس و العذرة و الاستهلال و الحيض مما يمكن اصطياد و العموم منها، و قد عرفتها أيضا بالتفصيل في الفصل السابق.

أضف إلى ذلك شهادة الاعتبار بذلك، فان هذه الأمور ممّا تشتد الحاجة إليها و لا يجوز في الشرع نظر الرجال إليها، (و إن كان بعضها لا يجوز نظر النساء إليها أيضا و لكن من الواضح الفرق بينهما)، فلو لم تقبل فيها شهادة النساء اختل أمر القضاء في كثير من الامور الراجعة إليهن، و هذا دليل على قبول قولهن.

و هل يجوز قبول شهادتهن منضمات إلى الرجال بان يكون الشاهد رجلا واحدا و امرأتين؛ هذا هو المشهور كما في كشف اللثام، و قال في الجواهر: لم اتحقق فيه خلافا و إن حكى عن القاضي، أنّه قال: لا يجوز أن يكون معهن أحد من الرجال. «1»

و لكن عدّ القاضي مخالفا مشكل، لأنّ قوله: لا يجوز؛ يمكن أن يكون بعنوان الحكم التكليفي- كما هو الغالب- لا الحكم الوضعي، أي الحجية على فرض تحقق شهادة الرجل شهادة جامعة للشرائط.

و هذا الفرض ليس بنادر و إن كان قليلا في مقام المقايسة مع شهادة النساء، فانّه قد

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 618

يكون الشاهد الزوج أو الطبيب المعالج من باب الضرورة، أو غير الطبيب إذا توقف القضاء على شهادة الرجال لعدم التمكن عن كمال العدد من النساء، أو إذا وقع نظرهم إليها من باب الاتفاق، أو غير ذلك.

و على كل حال، فقد استدل له في الجواهر بالعمومات، و معلومية كون الرجال هم الأصل في الشهادة. «1»

و التمسك بالعمومات حسن لو وجد عام في مقام البيان؛ أمّا التمسك بكون الرجل هو الأصل، لا مانع منه بمعنى أولوية شهادة الرجال

لو فرض التمكن منه بطريق شرعى.

2- شهادة النساء في الحدود و القصاص.
اشارة

أمّا الحدود، فالمعروف و المشهور عدم قبول شهادة النساء فيها؛ قال في المبسوط بعد تقسيم الحقوق إلى ضربين حق اللّه و حق الآدمي، و بعد شرح أحكام حقوق الآدمي من ناحية الشهادة ما نصه: فأمّا حقوق اللّه (و مراده من ذلك، الحدود) فجميعها لا مدخل للنساء و لا مدخل للشاهد مع اليمين فيها ... و روى أصحابنا أنّ الزنا يثبت بثلاثة رجال و امرأتين، و برجلين و أربع نسوة. «2»

و قال المفيد في المقنعة: و لا يقبل في الزنا و اللواط و لا شي ء ممّا يوجب الحدود، شهادات النساء؛ و لا يقبل في ذلك إلّا شهادات الرجال العدول البالغين ... و لا تقبل في الزنا و اللواط و السحق شهادة أقل من أربعة رجال مسلمين عدول، و لا تقبل شهادة النساء في النكاح و الطلاق و الحدود. «3»

و صرّح في الجواهر- في موضع- بأنّ حق اللّه، منه ما لا يثبت إلّا بأربعة رجال كالزنا و اللواط و السحق؛ «4» و في موضع آخر: و منه ما يثبت بشاهدين عدلين، و هو ما عدا ذلك من الجنايات الموجبة للحدود كالسرقة و شرب الخمر و الردة؛ و في موضع ثالث: و لا

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 619

يثبت شي ء من حقوق اللّه تعالى بشاهد و امرأتين، و لا بشاهد و يمين، و لا بشهادة النساء منفردات و إن كثرن، بلا خلاف اجده فيه.

و استدل لذلك، اما بالنسبة إلى الزنا، بقوله تعالى: وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ .... «1»

و قوله تعالى: ... فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ .... «2»

و قوله تعالى: لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ .... «3»

و الظاهر أنّ

هذه الآيات الكريمة، في مقام البيان عمّا يكفى لإثبات الزنا؛ فلو كان غير أربعة رجال كافيا لإثبات هذه الجريمة لكان من الواجب الإشارة إليه، كما في قوله تعالى في آية كتابة الدين: ... وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ ...؛ «4» فليست هذه الآيات من قبيل إثبات الشي ء، الذي لا ينفي ما عداه.

و من المعلوم أنّ ذكر العدد بصورة المؤنث دليل على أنّ المراد بالشهداء هو الرجال، مضافا إلى أن الشهداء جمع شهيد، (و مؤنثه شهيدة).

و يدل عليه أيضا روايات كثيرة أوردها في الوسائل و غيره، منها:

1- ما رواه جميل بن دراج و محمد بن حمران، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلنا: أ تجوز شهادة النساء في الحدود؟ فقال: في القتل وحده؛ أنّ عليّا كان يقول لا يبطل دم امرء مسلم. «5»

و دلالتها من ناحية المفهوم واضحة، فانّ حصر شهادتهن في هذه الأبواب بالقتل الذي من حقوق الناس دليل على عدم نفوذها في الحدود الإلهيّة، و سندها أيضا صحيح معتبر، بل هي في حكم روايتين.

2- ما عن غياث بن ابراهيم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عليّ عليه السّلام قال: لا تجوز

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 620

شهادة النساء في الحدود و لا في القود. «1»

3- ما عن موسى بن اسماعيل بن جعفر، عن ابيه، عن آبائه، عن عليّ عليه السّلام قال: لا تجوز شهادة النساء في الحدود و لا في القود. «2»

4- عن السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن علىّ عليه السّلام أنّه كان يقول شهادة النساء لا تجوز في طلاق و لا نكاح و لا في حدود إلّا في الديون و ما لا يستطيع الرجال النظر

إليه. «3»

و الرواية الاولى معتبرة بحسب السند ظاهرا، فانّ غياث بن ابراهيم و إن كان من البتريّة (أي زيدية العامة) و لكنه ثقة؛ و أحمد بن أبي عبد اللّه البرقي، هو أحمد بن محمد بن خالد البرقي الذي كان من الثقات، حتى أنّ ابن الغضائري صرّح بوثاقته في نفسه، و إن كان يكثر النقل عن الضعاف حتى عابوا عليه ذلك، و حتى أنّ أحمد بن محمد بن عيسى من رؤساء القميين بعّده عن قم ثم أعاده و اعتذر إليه، و لما مات مشى في جنازته حافيا حاسرا و كأنه عمل بسياسة القطع و الوصل لإرشاده إلى ما هو الأفضل و كذا إرشاد غيره؛ (و ما أبعد ما بينه و بين ما يجري في قم في زماننا هذا؛ و إلى اللّه المشتكى).

و الثانية ضعيفة، فانّ محمد بن هلال من المجاهيل.

و حال السكونى في الرواية الثالثة أيضا معلوم.

و هناك روايات اخرى رواها في المستدرك عن الجعفريات و دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين عليه السّلام و أبى جعفر عليه السّلام و أبي عبد اللّه عليه السّلام، فراجع. «4»

و الاستدلال بها مع تعاضد بعضها ببعض و صحة بعضها و تضافرها و عمل المشهور بها ممّا لا إشكال فيه.

نعم، هناك رواية تعارضها و هي ما عن عبد الرحمن، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن انوار الفقاهة، ج 3، ص: 621

المرأة- إلى أن قال- و تجوز شهادة النساء في الحدود مع الرجال. «1»

و يرد عليه أولا بضعف سند الحديث، فانّ القاسم هو القاسم بن سليمان الذي يروى عنه الحسين بن سعيد و هو مجهول الحال.

و بعدم المكافئة لأدلة المشهور، ثانيا، لإمكان الجمع الدلالي بينهما بحمل الأخير على قبول شهادتهن في

الجملة في حدّ الزنا، كما سيأتي إن شاء اللّه، و الشاهد لهذا الجمع الروايات الدالة على هذا المعنى.

سلمنا؛ و لكن الترجيح للأول، لموافقة الشهرة و موافقه كتاب اللّه تعالى؛ اللّهم إلّا أن يقال إن النسبة بينهما بالعموم و الخصوص المطلق، فلا تصل النوبة إلى المرجحات.

***

بقي هنا أمران:

الأوّل: ان المعتبر في الشهادة هنا، أربعة رجال، و لكن لا دليل عليه في غير الزنا، من اللواط و المساحقة؛ و لكن الأصحاب الحقوهما به لما ورد في اللواط من لزوم الأقارير الأربعة مضافا إلى كون المساحقة في النساء بمنزلة اللواط في الرجال، و مضافا إلى أنّ الأمر فيهما أشدّ، و مضافا إلى أنّ الحدود و الدماء لا بدّ من الاحتياط فيها؛ و اللّه العالم.

الثاني: قد استثنى الأصحاب من عدم حجية شهادة النساء في أبواب الحدود، موردا واحدا؛ و هو الزنا بشرط أن تكون شهادتهن منضمات إلى الرجال و كانوا ثلاثة رجال و امرأتين، أو رجلان و أربع نسوة، إلّا أنّ الأخير لا يثبت به الرجم و يثبت به الجلد، بخلاف الأول فانّه يثبت به الجلد و الرجم.

كل ذلك بدلالة روايات مستفيضة معتبرة، رواها في الوسائل، في الباب 24 من أبواب الشهادات تحت رقم 3 و 10؛ و ما رواه في الباب 30 من أبواب الحدود، تحت رقم 1؛ إلى غير ذلك، و تفصيله في محله من أبواب أحكام الزنا.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 622

و هذا الحكم تعبدي لا نعلم مصلحته- و كم له من نظير- و قد قال اللّه تعالى: ... وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا.

و أمّا القصاص و الديات: اختلف الأصحاب في قبول شهادتهن على القتل؛ قال شيخ الطائفة (قدس سره): و يجوز شهادة النساء في القتل

و القصاص إذا كان معهن رجال، أو رجل، بان يشهد رجل و امرأتان على رجل بالقتل أو الجراح؛ فأمّا شهادتهن على الانفراد فإنّها لا تقبل على حال. «1»

و لكن صرّح في الخلاف بعدم قبول شهادتهن في القتل، حيث قال: لا يثبت النكاح و الخلع و الطلاق و القذف و القتل الموجب للقود ... إلّا بشهادة رجلين، و لا يثبت بشهادة رجل و امرأتين، و به قال مالك و الشافعي و الاوزاعي و النخعي، ثم قال: و قال الثوري و أبو حنيفة و أصحابه، يثبت كل هذا بشاهد و امرأتين إلّا القصاص، فانّه لا خلاف فيه. «2»

و صرح المحقق في كتاب الشهادات، بثبوت القصاص بالشاهد و المرأتين على الأظهر بعد اظهار التردد فيه.

و قال في المسالك فيما حكاه في الجواهر: و اعلم أنّ محل الإشكال شهادتهن منضمات إلى الرجال، و أمّا على الانفراد فلا تقبل شهادتهن قطعا. «3»

و السبب في الخلاف تعارض الروايات في المسالة، فقد ورد فيها طائفتان:

الأولى، ما دل على عدم القبول؛ منها:

1- ما عن زرارة، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن شهادة النساء ... تجوز شهادة النساء مع الرجال في الدّم؟ قال: لا. «4»

2- ما عن محمد بن الفضيل، قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام قلت له: تجوز شهادة النساء ... و لا تجوز شهادتهن في الطلاق و لا في الدّم. «5»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 623

3- ما رواه ابراهيم الحارثي، قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: تجوز شهادة النساء ...

و لا في تجوز في الطلاق و لا في الدّم. «1»

4- ما عن أبي بصير، قال: سألته عن شهادة النساء؛ فقال: ... و تجوز شهادة النساء في النكاح إذا كان

معهن رجل و لا تجوز في الطلاق و لا في الدّم. «2»

5- ما عن موسى بن اسماعيل بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه، عن عليّ عليه السّلام قال: لا تجوز شهادة النساء في الحدود و لا قود. «3»

إلى غير ذلك ممّا في هذا المعنى؛ و دلالتها كإسنادها وافية بالمقصود لا سيما مع تضافرها.

الطائفة الثانية، ما يدل على قبول شهادتهن؛ منها:

1- ما عن جميل بن دراج، و محمد بن حمران، عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: قلنا أ تجوز شهادة النساء في الحدود؟ فقال: في القتل وحده، أنّ عليا عليه السّلام كان يقول: لا يبطل دم امرء مسلم. «4»

2- ما عن أبي الصباح الكناني، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال عليّ عليه السّلام- إلى أن قال:- و قال: تجوز شهادة النساء في الدّم مع الرجال. «5»

3- ما عن زيد الشحّام، قال سألته- إلى أن قال- قال: فقلت أ فتجوز شهادة النساء مع الرجال في الدّم؟ قال: نعم. «6»

و التعارض بين الطائفتين ظاهرة، و اللازم التوصل إلى الجمع الدلالي لو وجد، و إلّا فالرجوع إلى المرجحات.

و قد ذكر للجمع بينهما وجوه ثلاثة:

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 624

أولها: ما عن شيخ الطائفة، أنّه تحمل ما دل على القبول على الدية، و ما دل على عدمه على القصاص، و قد اختاره جماعة- كما في المسالك-

و هذا الجمع كما تراه جمع تبرعي، لعدم الشاهد عليه، و قد ذكرنا في محله عدم اعتبار الجمع التبرعي.

مضافا إلى ما أورده عليه في الجواهر، بانه مخالف للقواعد جدّا، لأنّ المفروض شهادتهن بما يقتضى القصاص (و من الواضح أنّ مقتضى القاعدة في قتل العمد هو القصاص، و أخذ الدية مخالف للقاعدة، و لذا

لا يعدل إليها إلّا بعد قبول القاتل).

ثانيها: الجمع الذي مال إليه في الجواهر، و حاصله أنّه تحمل النافية على موارد القصاص- أي قتل العمد-، و المثبتة على موارد الدية و هو قتل الخطأ و شبه العمد، فانّ الثاني من الامور المالية التي سيأتي قبول شهادة النساء فيها، بخلاف الأول.

و فيه أيضا أنّه من الجمع التبرعي، لعدم وجود شاهد في روايات الباب عليه.

ثالثها: حمل النافية على شهادتهن منفردات، و المثبتة على شهادتهن منضمات؛ و هذا الجمع أسوأ حالا من الجميع، لكونه من الجمع التبرعي الذي لا شاهد له، كالأوّلين، مضافا إلى أنّه مخالف لظاهر كثير من الروايات الناهية، فانّ مورد رواية زرارة (11/ 24)، هو السؤال عن شهادتهن منضمات إلى الرجال، فقال عليه السّلام: لا تجوز؛ و في حديث محمد بن الفضيل (7/ 24)، و كذا حديث أبى بصير (4/ 24)، هذا الحكم مسبوق بحكم آخر ورد في شهادتهن منضمات؛ إلى غير ذلك ممّا قد يعثر عليه المتتبع.

فحينئذ لا يبقى مجال إلّا لمراجعة المرجحات، و مقتضى كون النافية موافقة لأكثر العامة كما قد عرفت في كلام الخلاف، تقديم المثبتة عليها؛ و لكن لما كان إراقة الدم من موارد اهتمام الشارع بها، و تدرأ القصاص كالحدود بالشبهات، يشكل قبول شهادتهن في القصاص و إراقة الدماء، كما لا يخفى.

إن قلت: فما حكم ما ورد في غير واحد من الروايات، من أنه لا يبطل دم امرء مسلم.

قلت: لا يبطل الدم بعدم قبول شهادتهن، لأنّ شهادتهن يمكن أن يكون من مصاديق اللوث- و هو غير بعيد- فلا يبطل الدم؛ مضافا إلى أنّ الرجوع إلى بيت المال في هذه انوار الفقاهة، ج 3، ص: 625

الأبواب، له باب واسع.

هذا كله في قتل العمد،

و أمّا قتل الخطاء و شبه العمد، فلما كان يرجع إلى الأمور المالية فلا يبعد قبول شهادة النساء فيها، كما سيأتي إن شاء اللّه.

3- شهادتهن في الحقوق و الاموال
اشارة

المعروف بين الأصحاب، قبولها في حقوق الآدميين. قال في الشرائع: و منها ما يثبت بشاهدين، و بشاهد و امرأتين، و بشاهد و يمين، و هو الديون و الأموال كالقرض و القراض و الغصب، و عقود المعاوضات كالبيع و الصرف و السلم و الصلح و الاجارة و المساقات و الرهن و الوصية له و الجناية التي توجب الدية. «1»

و ذكر صاحب الجواهر في ذيل كلامه ما نصه: بل الظاهر ثبوت ذلك كله بهما (أي بامرأتين) مع اليمين، وفاقا للمشهور شهرة عظيمة؛ بل عن الشيخ في الخلاف، الإجماع عليه. «2» و من الواضح إذا كان شهادة امرأتين مع اليمين مقبولة، كان شهادتهما مع رجل واحد، بل شهادة أربع نسوة مقبولة، و دعوى أنّه مخالف للإجماع، ممنوع.

و قال العلّامة في المختلف: المال سواء كان دينا كالقرض أو عينا، يثبت بشاهد و امرأتين إجمالا، و كذا بشاهد و يمين، و هل يثبت بشهادة امرأتين و يمين المدعي؟ نصّ في النهاية و الخلاف و المبسوط. على قبوله؛ و به قال ابن الجنيد ... و الوجه ما قاله الشيخ في النهاية؛ «3» و خالف ابن ادريس في السرائر في الأخير- أي شهادة امرأتين مع اليمين-. «4»

و كيف كان، يدل عليه قبل كل شي ء الآية الشريفة- و إن كانت في خصوص الدين- قال اللّه تعالى: ... وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ انوار الفقاهة، ج 3، ص: 626

وَ امْرَأَتانِ ...؛ «1» و لكنه في خصوص الدين، و فيما لا توجد فيها شهادة الرجال، و لكن

الأخير محمول على الغالب، و ذيل الآية تدل على قبول شهادتهن في البيوع أيضا، و هو قوله تعالى: وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ، بقرينة صدر الآية.

و تدل عليه أيضا أخبار كثيرة، بعضها واردة في قبول شهادتهن مع رجل واحد، و بعضها في قبول شهادتهما مع اليمين، و بعضها في قبول شهادة النساء بدون الرجال مطلقا؛ فهي طوائف ثلاثة.

الاولى، ما يدل على قبول شهادتهن مطلقا و لو بدون الرجل؛ منها:

1- ما عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أجاز شهادة النساء في الدين و ليس معهن رجل. «2»

و هذه رواية معتبرة تدل على قبول شهادتهن و لو بدون الرجال، و مقتضى القاعدة أن تكون حينئذ اربع نسوة.

و مثله رواية اخرى له (43/ 24)، و الظاهر أنّهما رواية واحدة بلا زيادة و لا نقصان.

2- ما عن السكوني، عن جعفر، عن أبيه عن عليّ عليهم السّلام أنّه كان يقول: شهادة النساء لا تجوز في طلاق و لا نكاح و لا في حدود إلّا في الديون و ما لا يستطيع الرجال النظر إليه. «3»

و هذه أيضا مطلقة بل بقرينة ذيلها دليل على قبول شهادتهن وحدهن.

الثانية، ما يدل على قبولها منضمة إلى الرجال؛ منها:

1- ما عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام سئل عن شهادة النساء في النكاح- إلى أن قال- قلت: تجوز شهادة النساء مع الرجل في الدين؟ قال: نعم. «4»

و هذه مع اعتبار سنده، واردة في خصوص المنضمات.

2- ما عن داود بن الحصين، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام- إلى أن قال- فقلت: أني ذكر اللّه قوله: فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ؟ فقال: ذلك في الدين إذا لم يكن رجلان،

فرجل و امرأتان، و

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 627

رجل واحد و يمين المدعى، إذا لم يكون امرأتان، قضى بذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السّلام. «1»

الثالثة، ما يدل على كفاية شهادة المرأتين مع اليمين؛ منها:

1- ما عن منصور بن حازم، أنّ أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السّلام قال: إذا شهد لطالب الحق امرأتان و يمينه فهو جائز. «2»

2- ما عن منصور بن حازم، قال حدثنى الثقة، عن أبي الحسن عليه السّلام قال: إذا شهد لصاحب الحق امرأتان و يمينه فهو جائز. «3»

و هاتان الروايتان صحيحتان، و لا يبعد أن يكون منصور بن حازم سمع هذا الحديث مرتين مرّة بلا واسطة و مرّة مع الواسطة.

نعم، يمكن أن يقال أنّهما رواية واحدة، و انّ الصحيح كونها مرسلة؛ و أمّا المسندة فهي من خطاء الراوي عن منصور بن حازم، أو عن خطاء النساخ.

و لكن فرض قبول ذلك (مع كونه بعيدا)، لا يضر بالمطلوب بعد تصريح منصور بن حازم بأن من روى عنه كان ثقة.

أضف إلى ذلك، ما عرفت من عمل المشهور بها و الفتوى بمضمونها.

و جدير بالذكر، أنّ قوله: طالب الحق؛ الوارد في الاولى منهما، عام كما أنّ الأخيرة أيضا مطلقة تشمل جميع الحقوق.

و من المعلوم، أنّه إذا كانت شهادتهما مع اليمين مقبولة، كان شهادة أربع نسوة أيضا مقبولة بطريق اولى.

و تحصل من جميع هذه الروايات الواردة في الطوائف الثلاثة، بعد ضمّ بعضها إلى بعض، أنّ شهادتهن مقبولة في الأموال و الحقوق منضمات و منفردات و شهادة امرأتين مع اليمين.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 628

إن قلت: الآية الشريفة واردة في خصوص الدين، و كذلك غير واحد من روايات الباب، فاين الدليل على العموم؟

قلت:

أوّلا، ذيل الاية و هو قوله تعالى: وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ الناظر إلى صدر الاية، دليل على قبول شهادتهما مع رجل واحد في البيوع، و يمكن إلغاء الخصوصية عن البيع، بالنسبة إلى الإجارة و المساقاة و المضاربة و ما أشبهها، عرفا و إن لم يشمل مثل الوصية و الديات و شبهها.

و ثانيا، روايتا منصور بن حازم دليل على قبول شهادتهن في الحقوق و الاموال، فتكونان قرينة على سائر روايات الباب.

و ثالثا، يمكن تاييد العموم أيضا بما ورد في قبول شهادتهن في الوصية، مثل رواية يحيى بن خالد الصيرفي. «1»

***

بقي هنا أمران:

الأوّل: هل تقبل شهادتهن في الأوقاف؟، تردّد فيه المحقق في الشرائع أولا، ثم قال:

أظهره أنه يثبت بشاهد و امرأتين و بشاهد و يمين. «2» و وافقه على ذلك المبسوط و السرائر و ابن البراج، خلافا للشيخ في الخلاف على ما حكى عنهم.

و الانصاف إمكان إثباتها بها إذا كانت من الأموال، بل و كذا إذا كانت من غيرها كالمساجد و شبهها بناء على كونها من قبيل الفك؛ أمّا الأول فظاهر، و أمّا الثاني فلبعض العمومات السابقة.

الثاني: و من هنا يظهر جواز قبول شهادتهن في الديات، و الجنايات التي فيها الدية، و في جميع الحقوق المرتبطة بالأموال كحق الخيار، و تحقق فسخ العقد، و الأخذ بالشفعة، و الابراء، و اسقاط بعض الحقوق، و غير ذلك من أشباهه، للأولوية، أو لبعض العمومات انوار الفقاهة، ج 3، ص: 629

السابقة، و اللّه العالم.

4- شهادة النساء في النكاح و الطلاق

أمّا في النكاح، ففيه خلاف بينهم، و أحسن كلام في المقام، كلام النراقي (قدس سره) في المستند، حيث قال: اختلفوا في قبول شهادتهن مع الرجال في النكاح، فعن المفيد و الخلاف و الديلمي و ابن حمزة و الحلّي و ظاهر التحرير، المنع؛ و عن الصيمرى نسبته إلى المشهور، لرواية السكوني المتقدمة.

و عن العماني و الاسكافي و الصدوقين و الحلبي و التهذيبين و المبسوط و ابن زهرة و الشرائع و الإرشاد و القواعد و الايضاح و الدروس و غيرهم من المتأخرين، بل الأكثر- كما عن المسالك- القبول؛ و عليه الإجماع عن الغنية. «1»

و هذا الخلاف نشأ من اختلاف الروايات، بعضها تدل على قبول شهادتهن و بعضها على عدم القبول؛ و ما يدل على القبول أكثر و أشهر و هي متضافرة يغنينا تضافرها عن ملاحظة أسنادها. منها طائفة تدل على

قبولها مطلقا؛ منها:

1- عن أبي الصباح الكناني، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال عليّ عليه السّلام: شهادة النساء تجوز في النكاح و لا تجوز في الطلاق. «2»

و هذه الرواية مطلقة.

2- ما عن إبراهيم الحارقي، قال سمعت أبا عبد اللّه يقول: ... و تجوز شهادتهن في النكاح و لا تجوز في الطلاق. «3»

و كذا هذه الرواية مطلقة.

3- ما عن زرارة، قال: سألت ابا جعفر عليه السّلام عن شهادة النساء تجوز في النكاح؟ قال:

نعم، و لا تجوز في الطلاق. «4»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 630

و هي مثل ما مرّ من جهة الاطلاق.

و هذه الروايات الثلاثة، تدل على قبول شهادتهن و لو منفردات، بل الأخيرة صريحة فيها.

و هناك طائفة اخرى تدل على قبول شهادتهن منضمات فقط؛ منها:

1- ما عن أبي بصير قال: سألته عن شهادة النساء. فقال: ... و تجوز شهادة النساء في النكاح إذا كان معهن رجل، و لا يجوز في الطلاق. «1»

و مفهوم الشرط دليل على عدم قبول شهادة المنفردات.

2- ما عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه سئل عن شهادة النساء في النكاح؛ فقال:

تجوز إذا كان معهن رجل؛ و كان عليّ عليه السّلام يقول لا أجيزها في الطلاق. «2» و مفهوم هذه الرواية أيضا ظاهرة.

3- ما عن محمد بن الفضيل، قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام قلت له: تجوز شهادة النساء في نكاح أو طلاق أو رجم؟ قال: ... و تجوز شهادتهن في النكاح إذا كان معهن رجل ... و لا تجوز شهادتهن في الطلاق ... «3»

4- ما عن اسماعيل بن عيسى، قال: سألت الرضا عليه السّلام هل تجوز شهادة النساء في التزويج من غير أن يكون معهن رجل. قال: لا،

هذا لا يستقيم. «4» و هذا يدل على عدم قبول المنضمات، بالمنطوق.

و من الواضح أنّ الجمع بين الطائفتين تقتضي التقييد، فإنّهما من قبيل المثبت و النافي.

و لكن هنا روايتان معارضتان، رواية معارضة للطائفة الاولى، و رواية معارضة للطائفة الثانية.

أمّا الاولى، أعني ما يدل على نفي قبول شهادة النساء مطلقا، على خلاف الطائفة الاولى الدالة على قبولها مطلقا، و هى ما رواه السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن علىّ عليهم السّلام انوار الفقاهة، ج 3، ص: 631

أنّه كان يقول شهادة النساء لا تجوز في طلاق و لا نكاح ... «1»

و الثانية، ما دل على قبول شهادتهن منفردات، و هي ما رواه داود بن الحصين، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام ... و كان أمير المؤمنين عليه السّلام يجيز شهادة المرأتين في النكاح عند الإنكار ... «2»

و من الواضح أن اعراض الأصحاب عن كليهما، يسقطها عن الحجية؛ و لو سلمنا التعارض بينهما و بين ما مرّ لا شك في ترجيح الطائفتين الأولتين عليهما.

و أمّا في الطلاق، فالمشهور بينهم عدم قبول شهادة النساء فيه مطلقا، بل عن الغنية دعوى الإجماع عليه، و لم ينقل الخلاف فيه إلّا عن الشيخ في المبسوط، و أبي عليّ؛ و قال المحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة، ما حاصله:

أنّ دليل عدم قبول شهادة النساء في الطلاق، الروايات؛ ثم قال قد تقرر عندهم أنّ كل دعوة تكون المقصود به الأموال تثبت برجل و امرأتين؛ و المشهور في الطلاق، عدم ثبوته إلّا برجلين؛ ثم قال الطلاق إن لم يكن بعوض فليس بمال، و إن كان في ضمنه اسقاط مال و هو النفقة؛ و إن كان بعوض مثل الخلع، فتدخل في تلك القاعدة، و اللازم العمل بها و

لكن ليست هذه القاعدة منصوصة و لا مجمعا عليها. «3»

و الحاصل، أنّ الطلاق إذا لم يكن طلاق خلع لا دخل له بالامور الماليّه لأنّ مطالبة المهر لا يكون بالطلاق بل بالزواج فما قد يتوهمه بعض العوام من أنّ الطلاق له أثر مالى و هو أداء المهر خطاء محض. نعم، قد تداول بين الناس عدم مطالبة المهر غالبا إلّا عند الطلاق. و أمّا الخلع ففي متنه هو البذل و هو أمر مالي واضح فلذا قيل بقبول شهادتهن فيه.

هذا، و قد يستدل على ما ذكر بالقاعدة المشار إليها في كلام المحقق الأردبيلى و لكن الانصاف أنّها ممّا لا دليل عليها من الإجماع أو النصوص المعتبرة. فلا يقبل فيه شهادة النساء منفردات و لا منضمات، و يدل عليه قبل كل شي ء، الآية الشريفة 2 من سورة الطلاق، أعني قوله تعالى: وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ، فإنّهما في مقام انوار الفقاهة، ج 3، ص: 632

البيان و لم يذكر إلّا شهادة عدلين، لا سيما مع ذكر شهادة النساء في آية الكتابة. و لكن العمدة هي الروايات الكثيرة المتضافرة، بل لعلها تبلغ حد التواتر، و أكثرها واردة في الباب 24 من أبواب الشهادات، من المجلد 18 من الوسائل؛ منها: أحاديث 2 و 4 و 5 و 7 و 8 و 11 و 17 و 25 و 32 و 50 إلى غير ذلك.

و أمّا القاعدة التي ذكرها المحقق الأردبيلي (قدس سره) من أنّ كل أمر مالي تقبل فيه شهادة النساء، و غيرها لا تقبل؛ فهي- كما ذكره- غير منصوص و لا إجماعي.

و أمّا الخلع فهو و إن كان أمرا ماليا من بعض الجهات- لأنّ البذل وارد في ذاته- و لكنه غير مالي من

جهة اخرى. و لذا يجوز للزوجة الرجوع بالبذل في العدّة، و مع ذلك لا يبطل النكاح، بل يصير رجيعا بعد إن كان بائنا.

***

بقي هنا شي ء: ما هو حكمة هذه الاحكام

قد يقع السؤال- لا سيما في هذه الأيّام- عن حكمة هذه الأحكام، و فلسفة الفرق بين الرجال و النساء في أمر الشهادة، و عدم قبول شهادتهن في بعض الامور؛ و على فرض القبول، لما ذا تعدّ شهادة امرأتين بمنزلة شهادة رجل واحد.

و قد صدرت في هذه الأيّام صورة معاهدة بين الغربيين، تنفي جميع إشكال الاختلاف و التفاوت بين الجنسين من دون أيّ استثناء، و قد هجموا علينا من كل جانب لإمضاء هذه المعاهدة التي تسمى عندهم بالمعاهدة الدولية، و هذه في الواقع خطوة كبيرة إلى العلمانية و سكولاريسم، و يهدد كيان المذاهب كلها؛ و في الواقع هم يريدون تحميل ثقافتهم اللادينية علينا، لأنّ أكبر الموانع تجاه منافعهم غير المشروعة هو المذهب لا سيما الإسلام و بالأخص مذهب أهل البيت عليهم السّلام.

و لنذكر إشارة إلى هذه المعاهدة أوّلا، ثم نجيب عنها إجمالا، ثم نشير إلى حكمة الفرق بين شهادات النساء و الرجال بالخصوص.

امّا الأول، يتم بذكر مقدمتين: الاولى، أنّه لا شك في الفرق بين الجنسين من انوار الفقاهة، ج 3، ص: 633

الجهات الروحية و الجسمية و الخلقية بحسب الطبيعة؛ فالرجل جنس خشن، و المرأة ريحانة لا قهرمانة، و لذا لا نرى في الجنود و الحروب و قواد القوات العسكرية من النساء إلّا قليلا لا يمكن أن يذكر. و لو كانت المساواة موجودة من جميع الجهات لا بدّ أن يكون- بطبيعة الحال- نصف الجنود من الرجال و نصفهم من النساء؛ و نصف الرجال السياسي منهم و نصف منهن؛ و نصف من قيادة السيارات و القطارات

و الطيارات منهم؛ و نصف منهن و نصف من رجال الأمن و الشرطي و خدمة نظافة المدن و أرباب البنوك و عملة بناء المساكن و غيرها من أشباهها منهم و نصف منهن؛ و لكن لا نرى شيئا من ذلك!؛ لما ذا؟

الثانية، إنّ اللّه خلق كلا من الجنسين بخلقة خاصة له، و القوانين مهما كانت، لا تعارض و لا تنازع الفطريات و قوانين الخلقة، حتى أنا لا نرى في البلاد التي قررت المساواة بينهما منذر زمن طويل، المساواة التي يدّعونها.

بل اللازم اعطاء كل ذي حق حقه، و اعطاء كل من الجنسين ما يليقه، و تحميل غير ما خلق له، ظلم ظاهر.

و هل يوجد في المراكز الدولية من أحد الجنسين ما يساوي الآخر.

و يتلخص من ذلك امور لا بدّ من التنبيه عليها:

1- هل المدار على المساواة، أو رعاية المناسبات؟ (تساوي محوري، يا تناسب محورى)؛ و بعبارة اخرى هل المدار على العدالة، أو المساواة؛ (عدالت محوري يا تساوي محوري)؛ و العدالة تقتضى وضع كل شي ء وضعه سواء كان مساويا أو غير مساو، مثلا العدالة بين الأطفال و الشباب و الشائبين، في أمر التغذية مثلا، مقتضى اطعام كل واحد منهم بما يقتضيه مزاجه، و الحال أنّ المساواة تقتضى خلافه.

مثلا العدالة في أبواب الارث و الديات، فانّ العدالة تقتضى زيادة سهام من عليه النفقات من الارث، و زيادة الدية لمن يقوم بالواجبات الاقتصادية أكثر من غيره، فانه لا شك أنّ الرجال غالبا يقومون بهذه الواجبات أكثر من النساء، و لا اعتبار بالأفراد النادرة في القوانين العامة، و لكن المساواة تحكم بعدم الفرق مع ما فيه من الظلم الفاحش.

2- الغرب يدعى المساواة بين الجنسين، و لكن يخدع المراة و يمكر لها

و لا يعطيها

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 634

إلّا الحرية الجنسية، بل قد لا يتعامل معها تعامل إنسان بل تعامل بضاعة، و لا يزال يظهر ذلك من خلال اعمالهم.

3- و من المحتمل جدا أنّ اصرارهم على هذه الامور إنّما هو لمحو المذاهب، فانّ من أسباب تضعيف المذهب القاء فكرة التبعيض بين الجنسين في المذهب الإسلامى، و الحال أنّهم يدافعون عن المساواة في حقوق المراة.

و أمّا بالنسبة إلى عدم قبول شهادة المراة في بعض الامور، فانّ فيه حكمة بل حكما واضحة فيها حفظ كيان المراة و كرامتها؛ منها:

1- لا شك أنّ المحاكم و محضر القضاة محل للمنازعات و الدعاوي الخشنة، و الأصلح للمراة عدم حضورها في تلك الميادين، كما لا تحضر في أي بلاد العالم في الحروب إلّا نادرا؛ و ليس عدم الحضور في هذه المجادلات نقصا و عيبا لهن، فالشارع المقدس ترك قبول شهادتهن حتى لا يحضرن فيها كما منعهم عن الاشتراك في الحروب.

2- أضف إلى ذلك أنّ الشهادة فرع تحملها، و لو قبلت شهادتها تحضر المراة بطبيعة الحال في الحوادث المنتهية إلى القتل و الجرح و الأعمال المنافية للعفة، و هذا أمر تمس كرامتها.

إن قلت: فلما ذا تقبل شهادتهما في الامور المالية، مثل الديون و المعاملات و النكاح و لو منضمات.

قلت: الظاهر أنّ هذا من باب الضرورة، لأنّ الدعاوي المالية كثيرة، و لو لم تقبل فيها شهادات النساء لضاعت الحقوق و انتهك الأموال، و حضور المراة في مجلس الدين و المعاملة ليس كحضورها عند القتال و الجنايات و الأعمال المنافية للعفة لتمس كرامة المرأة.

3- المرأة لها عواطف رقيقة أكثر من الرجل جدا، و هذا من مفاخرها و صفاتها الكريمة، و لهذا السبب يتيسر لها أن تكون

أمّا تربي أطفالها في حضنها و تقبل المشاكل العظيمة في هذا المجال ممّا لا يتيسر للرجال؛ و كل شي ء ترتبط بالعواطف الإنسانية فللمرأة دور هام بخلاف الرجل.

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 635

و من الواضح أنّ هذه العواطف الرقيقة كثيرا ما تمنع المراة عن الشهادة بالقتل و الجنايات الموجبة للقصاص، و الأعمال الشنيعة الموجبة للحد و التعزير، فهي لا ترضى بهذه الامور فلا تشهد بما هو الواقع، بل قد تشهد بخلافه دفعا للقصاص و الحدود و التعزيرات أو الطلاق ممّا لا توافق طبعها.

و من هنا يظهر أنّه لما ذا يشترط قبول شهادتهن في بعض المواضع بعدد أكثر من الرجال، فانّه بسبب التأكيد على عدم ميلهن إلى عواطفهن الرقيقة ممّا يتسبب لترك الشهادة بالحق.

و الحاصل، أنّ عدم قبول شهادتهن ليس نقصا لهن كما أن قبولها من الرجال ليس فخرا لهم، بل هو سبب لمزيد مشاكلهم في هذا السبيل، بل قد يكون الشاهد معرضا لبلايا و الآفات من ناحية بعض أرباب الدعوى الذين كانت الشهادة على خلاف منافعهم غير المشروعة، و لا شك ان المرأة أشدّ ضررا من الرجل في هذه المجالات. و قد أشير إلى بعض ما ذكرنا في رواية العلل، و عيون الأخبار، عن محمد بن سنان، عن الرضا عليه السّلام قال: و علة ترك شهادة النساء في الطلاق و الهلال لضعفهن عن الرؤية، و محاباتهن النساء في الطلاق. «1»

و من الواضح أنّه ليس عيونهن أضعف من الرجال؛ و كان المراد أنّ رؤية الهلال تحتاج إلى صعود السطح أو البروز إلى الصحاري، و هذا الأمر مشكل على النساء؛ كما أنّ المراد بالمحاباة هي جذب عواطفهن على المراة التي تريد أن تنفصل عن زوجها و أولادها لو كان

لها أولاد؛ و اللّه العالم بحقيقة الحال.

***

[المسألة 8: يستحب أن يختار لرضاع الأولاد، المسلمة العاقلة العفيفة الوضيئة ذات الأوصاف الحسنة]
اشارة

المسألة 8: يستحب أن يختار لرضاع الأولاد، المسلمة العاقلة العفيفة الوضيئة ذات الأوصاف الحسنة، فان للبن تأثيرا تامّا في المرتضع كما يشهد به الاختبار و نطقت به الأخبار و الآثار، فعن الباقر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا تسترضعوا الحمقاء و العمشاء فانّ اللبن يعدي؛ و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: لا تسترضعوا الحمقاء فانّ اللبن يغلب الطباع؛ و عنه عليه السّلام: انظروا من ترضع أولادكم فانّ الولد يشبّ عليه؛ إلى غير ذلك من الأخبار المستفادة منها رجحان اختيار ذوات الصفات الحميدة خلقا و خلقا، و مرجوحية اختيار أضدادهن و كراهة.

لا سيما الكافرة، فانّ اضطرّ إلى استرضاعها، فليختر اليهودية و النصرانية على المشركة و المجوسية، و مع ذلك لا يسلّم الطفل إليهن، و لا يذهبن بالولد إلى بيوتهن، و يمنعها عن شرب الخمر و اكل لحم الخنزير.

و مثل الكافرة أو اشد كراهة استرضاع الزانية بلبن الحاصل من الزنا، و المرأة المتولدة من الزنا؛ فعن الباقر عليه السّلام: لبن اليهودية و النصرانية و المجوسيّة أحب إلي من ولد الزنا؛ و عن الكاظم عليه السّلام: سئل عن امرأة زنت، هل يصلح أن تسترضع؟ قال: لا يصلح، و لا لبن ابنتها التي ولدت من الزنا.

المستحبات في باب الرضاع

(1) أقول: كلامه في هذه المسالة الناظرة إلى المستحبات في باب الرضاع و يشتمل على ثلاثة فروع:

أولها، الصفات الحسنة التي ينبغى وجودها في المرضعة، «1» كالإسلام و العقل و العفة و الجمال؛ و قد نطقت الأخبار بها، تارة على نحو عام، مثل ما عن انوار الفقاهة، ج 3، ص: 637

أمير المؤمنين عليه السّلام انظروا من يرضع أولادكم فانّ الولد يشبّ عليه؛ «1» و في خبر آخر: ... فانّ

الرضاع يغير الطباع. «2»

و اخرى بالتصريح على بعض الصفات الجميلة، مثل ما عن الباقر عليه السّلام: استرضع لولدك بلبن الحسان و إيّاك و القباح، فانّ اللبن قد يعدي. «3»

و قد ثبت صدق ذلك في العصر الحاضر في العلوم- لا سيما علم الغدد- من أنّ أنواع الأطعمة و الأشربة تؤثر في الصفات الخلقية من ناحية ما يخرج من الغدد المسمى بهورمون؛ فانّها تبعث الإنسان إلى أخلاق مناسبة لها و حاملة لصفات صاحبها، (من دون ان تكون علة تامة حتى يلزم الجبر).

و في رواية العيون عنه صلّى اللّه عليه و آله: لا تسترضعوا الحمقاء و لا العمشاء، فان اللبن يعدي. «4» (العمشاء: المرأة المبتلاة بضعف العين).

و أما استرضاع الكفار، فيظهر من غير واحد من الروايات جوازها و لكن مع الكراهة، ففي رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه، سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام: هل يصلح للرجل أن ترضع له اليهودية و النصرانية و المشركة. قال: لا بأس؛ و قال: امنعوهم عن شرب الخمر. «5»

و في رواية اخرى، النهي عن استرضاع المشركة و الزانية دون اليهودية و النصرانية؛ «6» و في نفس هذه الرواية المنع عن ذهاب الولد معهم في بيوتهم.

و أمّا بالنسبة إلى الزانية، فقد عرفت المنع عنه في رواية (6/ 76).

و قد وردت روايات كثيرة في المنع عن استرضاع الزانية و لبن ولد الزنا، (راجع الباب 75). «7»

انوار الفقاهة، ج 3، ص: 638

و في رواية: و كان لا يرى بأسا بولد الزنا إذا جعل مولى الجارية الذي فجر بالمراة في حلّ!. «1»

و للجواهر كلام جيّد في هذا الباب، و أنّه هل هو من باب اجازة الفضولي بعد أنّ تعقبه الإجازة أم لا؟ «2»

و إن كان ما

ذكره لا يخلو عن بعد، للمنع عن الكشف الحقيقي، لا سيما في مثل الآثار التكوينية كما في المقام؛ و اللّه العالم.

***

كتاب التّجارة (المكاسب المحرمة)

كلمة المؤلّف يحسن التنبيه على امور في هذه المقدّمة:

1- الفقه الإسلامي كافل لجميع الأحكام التي ترتبط بحياة الإنسان بنحو من الأنحاء، ارتباطه مع اللّه، ارتباطه مع الناس، ارتباطه مع عالم الخلقة و الطبيعة، ارتباطه مع نفسه، فعلى هذا لا يخلو شي ء من أعمال الإنسان صغيرها و كبيرها، حتّى نيّاته و أفكاره عن حكم فقهي.

و هذه الدائرة الوسيعة جدّا للفقه الإسلامي تكشف عن عظمته من جانب، و عن صعوبته و عمقه و المشاكل و المعضلات التي تواجه الفقهاء و المجتهدين من جانب آخر، و إليه يشير ما ذكره شيخنا الأعظم- قدّس سرّه الشريف- في بعض كلماته: «الاجتهاد الذي هو أشدّ من طول الجهاد ...»!

فعلى من يقصد ورود هذا الميدان التهيّؤ للجهاد الواسع، و صرف وقته و جميع قواه الجسمانية و الروحانية في هذا السبيل، مع تحمّل مرارة العيش و المشاقّ في هذا السبيل، و من الواضح أنّ ثمرته أيضا عظيمة، و طافحة بالعنايات الإلهية و التأييدات الربّانية.

2- إنّما تدوم عظمة الفقه الإسلامي و يتقدّم و ينمو في ضوء فتح باب الاجتهاد على جميع العلماء الأعلام، و عدم حصره بجمع خاص من المتقدّمين، كما تدلّ عليه جميع الأدلّة الواردة في الكتاب و السنّة الناظرة إلى هذا المعنى، فليس فيها أي أثر من مقولة حصر الاجتهاد و استنباط الأحكام عن أدلّتها في طائفة خاصّة، أو فئة معيّنة.

و معه يقدر العلماء الكبار المتضلّعون في الفقه على الغور في مسائله، و كشف النقاب عن حقائقه، و الوصول إلى دقائق لم يصل إليها المتقدّمون منهم- جزاهم اللّه عن الإسلام خير الجزاء- و يتقدّم هذا العلم بمرور الزمان كتقدّم

سائر العلوم الإسلامية و غيرها.

و لذا نرى الذين أغلقوا باب الاجتهاد في الفقه على أنفسهم، و حصروه في أئمّتهم الأربعة، و منعوا الباقين أن يحوموا حول هذا الحمى، إنّهم لم يقدروا على التقدّم في هذا العلم إن لم نقل أنّه مال عندهم إلى الغروب و الافول، بينما نرى الفقهاء الذين اقتدوا بضياء أنوار

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 6

أهل بيت النبي عليهم السّلام ازدهر الفقه عندهم قرنا بعد قرن و عصرا بعد عصر، حتّى بلغ الكثير من غاياته و أثمرت أغصانه، و طلعت أنواره، و لكن بحمد اللّه و منّه، يرى في الطائفة الاولى أيضا في هذه الأعصار حركة نحو التجاوب مع فقهاء أهل البيت عليهم السّلام لفتح باب الاجتهاد بمصراعيه، و لعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمرا!

و من الجدير بالذكر أنّ فقهاء أهل البيت عليهم السّلام لم يقنعوا بفتح باب الاجتهاد فقط، بل اتّفقوا في ضوء إرشادات الأئمّة المعصومين عليهم السّلام على عدم جواز تقليد العوام للفقهاء الماضين ابتداء، و فرضوا عليهم وجوب التقليد عن العلماء الأحياء فقط، فكان ذلك عاملا لحياة الفقه و حركته إلى الإمام عندهم، مع ظهور آفاق جديدة في جميع شئونه و مسائله.

3- لا شكّ في أنّا نواجه اليوم مسائل كثيرة مستحدثة في أبواب المعاملات و العبادات لا بدّ من الجواب عنها، لأنّ الإسلام دين خالد و أحكامه خالدة إلى الأبد، و قد أكمل اللّه لنا دينه و أتمّ علينا نعمته، إذن فلا شي ء من هذه الأسئلة يبقى بلا جواب، بل وردت أحكامها في الاصول الكليّة و القواعد العامّة في الكتاب و السنّة و الإجماع و دليل العقل، و في ضوء الاهتداء بهذه الأنوار الإلهيّة (لا سيّما الكتاب و السنّة) نكشف النقاب

عنها، أ لم تسمع ما ورد في خطبة حجّة الوداع عن النبي صلّى اللّه عليه و آله «أيّها الناس ما من شي ء يقربكم إلى الجنّة و يباعدكم عن النار إلّا و قد أمرتكم به و ما شي ء يقربكم إلى النار و يباعدكم عن الجنّة إلّا و قد نهيتكم عنه» بل قد وردت روايات كثيرة عن أئمّة أهل البيت عليهم السّلام أنّه: «ما من شي ء تحتاج إليه الامّة إلى يوم القيامة إلّا و قد ورد فيه نصّ حتّى ارش الخدش!»

و لذا فالمجتهدين و الفقهاء ليس لهم صلاحية تشريع حكم من الأحكام، و وضع قانون من القوانين، و إنّما وظيفتهم استنباط أحكام المسائل المستحدثة عن مداركها الدينية و استخراجها من منابعها الشرعية، فلا نرى موضوعا من الموضوعات ممّا لا نصّ فيه حتّى تصل النوبة إلى الاجتهاد بمعناه الخاصّ (أي تشريع حكم فيه بالقياس أو الاستحسان أو غيرهما) بل كلّها واردة في النصوص الخاصّة أو الأدلّة العامّة و القوانين الكليّة.

4- ممّا يعجب الناظر في الفقه في بدء الأمر أنّ الجوامع الإنسانية تتبدّل و تتحوّل كلّ يوم مع أنّ اصول الأحكام الإسلامية ثابتة لا تتغيّر، و حلال محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم حلال إلى يوم القيامة و حرامه حرام إلى يوم القيامة، و مع ذلك تنطبق هذه الاصول الثابتة الخالدة على تلك انوار الفقاهة، ج 4، ص: 7

الحاجات المتغيّرة دائما!

و ليس ذلك إلّا من جهة عموم تلك الاصول و شمولها و جامعيّتها، كيف و قد صدرت من ناحية الخالق الحكيم العالم بعواقب الامور، الخبير بحاجات نوع الإنسان على مرّ الأيّام و الدهور، كما أنّ القوانين الطبيعية الإلهيّة ثابتة طول آلاف، بل ملايين سنة و لكن الإنسان مع

ذلك يستخرج ما يحتاج إليه في حياته المتغيّرة في كلّ عصر و زمان من تلك القوانين الثابتة.

5- إنّ فقهائنا الأعلام- قدّس اللّه أسرارهم- و إن ألّفوا مئات بل آلاف من الكتب في جميع أبواب الفقه، من الطهارة إلى الدّيات، و من العبادات إلى المعاملات، إلّا أنّ هذا لا يعني بلوغ الفقه إلى غايته و وصوله إلى نهايته و عدم الحاجة إلى تأليف جديد في هذا العلم، فكم ترك الأوّل للآخر، و كم بلغ المتأخّر إلى ما لم يصل إليه المتقدّم، و لكلّ إنسان حظّه من العلم، فإنّه ليس مقصورا على قوم خاص، فلا يغرنّك وسوسة بعض القاصرين في ترك الجدّ و الاجتهاد في كلّ مسألة من مسائله، حتّى ما يعدّ من الواضحات المشهورات، فقد تأتي بالغوص في هذه البحار من الجواهر الثمينة و الدرر القيّمة ما لم يأتي به الأوائل!

و بهذا القصد و الامنية بدأنا في هذا الكتاب- أعني كتاب المكاسب من أنوار الفقاهة- و إن كتبت في هذا الباب كتبا كثيرة جدّا، عسى اللّه أن يجري على قلمي ما ينفع به هذه الامّة و يفتح لها بعض الأبواب المغلقة، فإنّ ليس هذا على اللّه بعزيز و سوف ترى في هذا الكتاب بحمد اللّه أبحاثا جديدة في مسائل مهمّة من البيوع و غيرها.

اللهمّ اجعله لنا ذخرا و كرامة و مزيدا و الحمد للّه ربّ العالمين.

قم المشرّفة- الحوزة العلمية ناصر مكارم الشيرازي شعبان المعظم/ 1415

كتاب التجارة

المكاسب المحرّمة:

اشارة

قبل الشروع في البحث نقدّم امورا، و منه سبحانه نستمدّ التوفيق و الهداية.

الأوّل: اعمال الانسان

تنقسم أعمال الإنسان إلى ثلاثة أقسام:

ما يتكفّل ما بينه و بين ربّه- و هي العبادات.

و ما يكون بينه و بين غيره- و هي المعاملات بالمعنى الأعم.

و ما يكون بينه و بين نفسه- و هي الراجعة إلى الأخلاق و تهذيب النفوس.

و قد يذكر هنا قسم رابع و هو ما يكون بينه و بين ما يحيط به من منابع الحياة.

و لكن تفكيك هذه الامور من ناحية لا ينافي وجود ارتباط بينها من ناحية اخرى.

فالعبادات و إن كانت علاقة بين العبد و ربّه، و لكنّها لا تنفكّ غالبا ممّا يرتبط بغيره من اخوانه في الدين، كالحجّ الذي هو عزّ للإسلام و المسلمين، و صلاة الجمعة و الجماعة التي هي مبدأ قوّتهم و شوكتهم، كما أنّ الأخلاق الحسنة لها ارتباط باللّه تعالى، و توجب القرب إليه، و في نفس الوقت لها جنبة اجتماعية يدور عليها حسن نظام المجتمع البشري و صياغة التفاعل الاجتماعي بين أفراده.

الثّاني: اقسام الفقه

و من ناحية اخرى يقسّمون الفقه إلى ثلاثة أقسام:

«العبادات»، و «المعاملات بالمعنى الأعمّ»، و «السياسات».

فالاولى: تعرّف بما تعتبر فيها قصد القربة، و الغرض منها العبودية و التقرّب إلى اللّه تعالى انوار الفقاهة، ج 4، ص: 10

شأنه.

و الثّانية: ما يتعلّق بحقوق الناس في المجتمع و الاسرة.

الثّالثة: ما يتعلّق بأمر الحكومة و وظائفها، و يدخل في هذا القسم الحدود و الدّيات و القضاء و الجهاد و أمثال ذلك.

و المعاملات بنفسها تنقسم إلى أقسام كثيرة لا حاصر لها عقلا، فالحقوق الفردية و الاجتماعية و ما يتعلّق بنظام الاسرة كثيرة لا تندرج تحت حاصر، بل قد يتجدّد بعض الحقوق و ما يرتبط بها بمرور الزمان و إختلاف الأعصار.

و ذكر المحقّق رحمه اللّه في «الشرائع» و كذا المحقّق العاملي رحمه

اللّه في «مفتاح الكرامة» للفقه أقساما أربعة:

العبادات (في عشرة كتب) و العقود (في خمسة عشرة) و الإيقاعات (في إحدى عشرة) و الأحكام (في اثنتي عشرة) فالمجموع ثمانية و أربعين كتابا.

و من المعلوم أنّ المعاملات بالمعنى الأخصّ ليست ممّا أسّسها الشارع المقدّس، كما أنّ سائر المعاملات الداخلة في المعنى الأعمّ و ما فيها من الحقوق كذلك، و هكذا كثير من السياسات.

نعم، العبادات ممّا أسّسها الشارع المقدّس، و أمّا في غيرها فحكمه يرجع إلى التهذيب و الهداية و الإصلاح و نفي الضارّ و تأييد النافع، و بالجملة عمل الشارع فيها هو الحذف تارة، و التوسعة اخرى.

ففي مثال نظام الإرث قد ينفي الإسلام شيئا منه كنفي ارث العصبة، و قد يثبت شيئا.

كإرث الإمام عليه السّلام (لو لم نقل بأنّ إرث من لا وارث له من ناحية الحكومة كان ساريا قبل الإسلام).

و كون موقف الشارع المقدّس في المعاملات موقفا إمضائيا، و موقف حذف و إصلاح، هو الحجر الأساس لهذا البحث، و المفتاح لحلّ كثير من مشاكله، فكلّما كان رائجا بين العقلاء و أهل العرف و لم ينه عنه الشارع أمضاه بسكوته و تقريره.

و إن شئت قلت: إنّ الشارع أمر في أبواب العبادات بالتوقف حتّى يأتي منه البيان؛ عموما و خصوصا.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 11

و أمّا في المعاملات بالمعنى الأخصّ و الأعمّ، فكان الناس يستمرّون على ما هم عليه إلّا أن يمنعهم الشرع.

و الظاهر أنّ كثرة الأسئلة و الرّوايات في مباحث العبادات و قلّتها في أبواب المعاملات نشأت من هذا الموقف.

الثّالث: من أين نشأ البيع و الشراء بين الناس؟

لا يسعنا بيان تاريخ معيّن لهذا الأمر، و الثابت إنّه أمر يعود إلى أزمنة غابرة، ماضية جدّا، من بدء معرفة الإنسان بشخصه.

فإذا تملّك شخص أشياء من طريق الحيازة و

غيرها، و كانت أكثر من حاجته، و تملّك آخر شيئا آخر كذلك، و احتاج كلّ إلى ما في يد الآخر، أعطاه ممّا في يده في مقابل أخذ ما في يد الآخر- و من هنا ظهر البيع و الشراء- و السعر في ذلك الزمان كان يدور مدار امور مختلفة أهمّها العرض و الحاجة.

و ممّا ساعد على استحكام هذا الأمر و استمراره، أنّ الإنسان فهم بسرعة أنّ إنتاج أمتعة مختلفة من طريق الحيازة أو الزراعة أو الصنعة (و لو كانت ساذجة جدّا) مشكل جدّا، أمّا النوع الواحد أو أنواع قليلة سهل يسير، لا سيّما فيما يحتاج إلى الخبروية و المهارة، فإنّ الإنسان لا يتيسّر له المهارة و الحذاقة في امور كثيرة، و لذا اشتغل كلّ فرد بإنتاج نوع واحد أو أنواع قليلة ممّا يزيد على حاجاته غالبا.

و من هنا اتّسع أمر المعاملات و الإجارات و ما شابهها، و يظهر بأدنى دقّة إنّه لا يدور رحى حياة البشر بدونها و لو يوما ما، و كلّما كثرت الروابط و العلاقات الاجتماعية و تطوّرت الأجيال و الامم ازدادت أنواع المعاملات و أقسامها، بين ما كانت في أوّل الأمر معاملات بسيطة و ساذجة كما لا يخفى.

الرّابع: الحثّ على التّجارة

ذكر في الحدائق «1» مقدّمات للبحث: منها الحثّ على التجارة، و روى روايات عديدة

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 12

ذكرها الوسائل و غيرها في المجلّد الثاني عشر، في أبواب مقدّمات التجارة، في أوّل الكتاب ممّا يدلّ على الاستحباب المؤكّد في أمر التجارة و غيرها من الامور الإنتاجية و ذمّ تاركها.

و إليك هذه الرّوايات:

1- عن أبي خالد الكوفي رفعه إلى أبي جعفر عليه السّلام قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «العبادة سبعون جزءا

أفضلها طلب الحلال» «1».

2- و عن عمر بن يزيد قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: رجل قال لأقعدنّ في بيتي و لأصلّينّ و لأصومنّ و لأعبدنّ ربّي فأمّا رزقي فسيأتيني، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «هذا أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم!» «2».

3- و عن عمر بن يزيد قال قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «أ رأيت لو أنّ رجلا دخل بيته و أغلق بابه أ كان يسقط عليه شي ء من السماء؟!» «3».

4- و عن أيّوب أخي أديم بيّاع الهروي قال: كنّا جلوسا عند أبي عبد اللّه عليه السّلام إذ أقبل علاء بن كامل فجلس قدّام أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال: ادع اللّه أن يرزقني في دعة، قال: «لا أدعو لك، اطلب كما أمرك اللّه عزّ و جلّ!» «4».

5- و عن سليمان بن معلّى بن خنيس عن أبيه قال: سأل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن رجل و أنا عنده، فقيل أصابته الحاجة. فقال: فما يصنع اليوم؟ قيل في البيت يعبد ربّه، قال عليه السّلام: فمن أين قوته؟ قيل: من عند بعض اخوانه، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «و اللّه للذي يقوته أشدّ عبادة منه» «5».

6- و عن أبي حمزة عن أبي جعفر: قال: «من طلب الدنيا استعفافا عن الناس و سعيا على أهله و تعطّفا على جاره لقى اللّه عزّ و جلّ يوم القيامة و وجهه مثل القمر ليلة البدر» «6».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 13

7- و عن علي بن الغراب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «ملعون من ألقى كلّه على الناس» «1».

8- و عن الفضل بن أبي قرّة

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «أوحى اللّه تعالى إلى داود عليه السّلام: إنّك نعم العبد لو لا إنّك تأكل من بيت المال و لا تعمل بيدك شيئا، قال: فبكى داود عليه السّلام أربعين صباحا فأوحى اللّه إلى الحديد: أن لن لعبدي داود فألان اللّه عزّ و جلّ له الحديد و كان يعمل في كلّ يوم درعا فيبيعها بألف درهم فعمل ثلاثمائة و ستّين درعا فباعها بثلاثمائة و ستّين ألفا و استغنى عن بيت المال» «2».

9- و عن المعلّى بن خنيس قال: رآني أبو عبد اللّه عليه السّلام و قد تأخّرت عن السوق فقال:

«أغد إلى عزّك» «3».

10- و عن روح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «تسعة أعشار الرزق في التجارة» «4».

11- و عن عبد المؤمن الأنصاري عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «البركة عشرة أجزاء تسعة أعشارها في التجارة و العشر الباقي في الجلود» «5» يعني (جلود الغنم).

12- و عن الحسين بن زيد عن أبيه زيد بن علي عن آبائه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال: «تسعة أعشار الرزق في التجارة و الجزء الباقي في السابيا، يعني الغنم» «6».

13- و عن محمّد الزعفراني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من طلب التجارة استغنى عن الناس» قلت: و إن كان معيلا؟ قال عليه السّلام: «و إن كان معيلا! إنّ تسعة أعشار الرزق في التجارة» «7».

14- و عن علي بن عقبة قال قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لمولى له: «يا عبد اللّه احفظ عزّك»، قال و ما عزّي جعلت فداك؟ قال: «غدوّك

إلى سوقك و إكرامك نفسك». و قال لآخر مولى له:

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 14

«ما لي أراك تركت غدوّك إلى عزّك؟» قال: جنازة أردت أن أحضرها. قال عليه السّلام: «فلا تدع الرواح إلى عزّك» «1».

15- عن سدير قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أي شي ء على الرجل في طلب الرزق؟ فقال:

«إذا فتحت بابك و بسطت بساطك فقد قضيت ما عليك» «2».

16- و عن الطيّار قال: قال لي أبو جعفر عليه السّلام «أي شي ء تعالج؟»- أي شي ء تصنع- قلت:

ما أنا في شي ء قال: «فخذ بيتا و اكنس فناه و رشّه و ابسط فيه بساطا فإذا فعلت ذلك فقد قضيت ما عليك» قال: فقدمت الكوفة ففعلت فرزقت «3».

17- و عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: في حجّة الوداع: «إلّا إنّ الروح الأمين نفث في روعي إنّه لا تموت نفس حتّى تستكمل رزقها، فاتّقوا اللّه و اجملوا في الطلب، و لا يحملنّكم استبطاء شي ء من الرزق أن تطلبوه بمعصية اللّه، فإنّ اللّه تبارك و تعالى قسّم الأرزاق بين خلقه حلالا، و لم يقسّمها حراما، فمن اتّقى اللّه و صبر آتاه اللّه برزقه من حلّه، و من هتك حجاب الستر و عجّل فأخذه من غير حلّه قصّ به من رزقه الحلال و حوسب عليه يوم القيامة» «4».

18- و عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «نعم العون على تقوى اللّه الغنى» «5».

19- و عن عمرو بن جميع قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «لا خير فيمن لا

يحبّ جمع المال من حلال، يكفّ به وجهه، و يقضي به دينه، يصل به رحمه» «6».

20- و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «نعم العون على الآخرة الدنيا» «7».

21- و عن علي الأحمسي عن رجل عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «نعم العون الدنيا على انوار الفقاهة، ج 4، ص: 15

طلب الآخرة» «1».

22- و روى في الفقيه مرسلا قال: قال الصادق عليه السّلام: «ليس منّا من ترك دنياه لآخرته و لا آخرته لدنياه» «2».

23- قال روي عن العالم عليه السّلام أنّه قال «اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبدا و اعمل لآخرتك كأنّك تموت غدا» «3».

و يستفاد من هذه الرّوايات أنّ الأصل في التجارات و سائر المكاسب و الإنتاجات كون أبوابها مفتوحة لجميع الناس، و دور الحكومة الإسلامية يتلخّص في مراقبة المعاملات الاقتصادية لضمان عدم إجحاف الناس و تعدّي بعضهم على بعض، فليس أصل التمركز الاقتصادي مقبولا في الإسلام، و لا يمكن سلب الحرية عن الناس في ذلك فانّه مخالف لما يظهر من جميع الأدلّة الشرعيّة قطعا.

الخامس: اخبار الحثّ تنافي ما دلّ على وجوب تحصيل العلم

ذكر في الحدائق «4» في مقدّمات مباحث البيع إشكالا حاصله: إنّ أخبار الحثّ على الكسب و طلب الرزق و ذمّ تاركه حتّى ورد «لعن من ألقى كلّه على الناس» تنافي ما دلّ على وجوب تحصيل العلم، و قد رأينا المشايخ العظام يعملون بالتأنّي و يشتغلون بالدراسة و التأليف و نشر أحكام الدين، فكيف طريق الجمع بينهما؟

ثمّ ذكر طريقين للجمع بينهما: أوّلهما استثناء الثاني من الأوّل (مع أنّ النسبة بينهما عموم من وجه) ثمّ استدلّ له أو أيّده بما رواه الشهيد الثاني في منية المريد عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «إنّ اللّه تعالى قد تكفّل لطالب العلم برزقه

خاصّة عمّا ضمنه لغيره» «5» و ذكر عقيبه ما يحثّ على انوار الفقاهة، ج 4، ص: 16

التوكّل على اللّه و تفويض الأمر إليه في مهمّات الامور (انتهى).

ثمّ استدلّ عليه أيضا بما يدلّ على أنّ «طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال فانّ المال مقسوم مضمون قد قسمه عادل و ضمنه و سيفي به، و العلم مخزون عند اللّه و قد امرتم بطلبه من أهله فاطلبوه» «1».

و قال: إنّه صريح في المدّعى، ثمّ نقل بعض حالات الأكابر من علماء «البحرين» في بدء أمرهم، و شدّة الأمر عليهم حتّى كان بعض يمضي إلى الصحراء وقت الربيع، و يأكل من حشيش الأرض ما يسدّ به جوعه!

و أمّا الطريق الثاني: هو التفصيل، و حاصله القول بالتعارض بين الواجب العيني من طلب العلم، و بين الواجب من طلب الرزق، و الظاهر تقديم الثاني لأنّ في تركه القاء النفس في التهلكة، و اخرى بتعارض الواجب العيني من العلم مع المستحبّ من الرزق، فيقدّم الأوّل بلا إشكال، و قد يقال بتعارض الواجب العيني من طلب الرزق مع الواجب الكفائي من طلب العلم، و لا ريب في تقديم الأوّل هنا أيضا، هذا إذا لم يمكن الجمع بين الأمرين (انتهى كلامه قدّس سرّه) «2».

و لكن في كلامه مواقع للنظر:

1- ما دلّ على التوكّل على اللّه إنّما هو من الأحكام الأخلاقية، فلا تنافي الأحكام الواجبة، مع إنّه أعمّ من المقصود.

2- كذلك ما دلّ على تكفّل اللّه برزق طالبي العلم، بل قد يناقض ذلك ما حكاه عن بعض أكابر عصره في أكله من حشيش الأرض! و الإنصاف أنّ ذلك للحثّ على تحصيل العلم إجمالا من غير النظر إلى موارد وجوب «تحصيل الرزق» وجوبا عينيا.

3- قد يجب طلب

الرزق مع عدم وقوع النفس في التهلكة، كما إذا وقع عياله في عسر شديد، فلا يمكن تقديم الثاني على الأوّل بهذه الجهة دائما.

4- ليس الأمر من قبيل تعارض الخبرين حتّى تلاحظ نسبة الأعمّ و الأخصّ و شبهها، بل لا بدّ من ملاحظة مرجّحات باب التزاحم لأنّها من هذا القبيل.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 17

و التحقيق أن يقال: إنّ تحصيل العلم إذا كان من الواجب العيني أو الكفائي الذي لا يتصدّى له من به الكفاية كان أهمّ في نظر الشارع المقدّس من تحصيل الرزق الواجب- و ذلك إذا كان قوام أمر المسلمين و حفظ الدين و سنّة خير المرسلين و الأئمّة الطاهرين منوطا به، أو يتوقّف أمر دين نفسه عليه، و بدونه يخطأ الصراط المستقيم- اللّهمّ إلّا إذا وقع هذا الشخص في التهلكة و لم يكن هناك بيت المال يدرّ عليه.

نعم لعلّ العلم ببعض المسائل الفقهية غير المهمّة ليس في هذا الحدّ، فحينئذ يمكن تقديم طلب الرزق عليه، و بالجملة لا بدّ من ملاحظة الأهمّ و المهمّ في كلّ باب لا الحكم العامّ، هذا أوّلا.

و أمّا ثانيا- فانّ قياس فعل الأنبياء و الأئمّة عليهم السّلام بل و بعض السلف الصالح على العلماء في أعصارنا و ما أشبهه قياس مع الفارق، لعدم حاجة المعصومين إلى تحصيل العلم بمثل ما نحتاج إليه، و عدم حاجة علماء السلف بمقدار ما نحتاج إليه اليوم كما لا يخفى، فانّ العلوم قد وسّعت نطاقها و قد قال شيخنا الأنصاري قدّس سرّه: «الاجتهاد في عصرنا أشدّ من طول الجهاد»، و لا يختصّ ذلك بعلماء الدين، بل العلماء من سائر العلوم مثلهم من هذه الجهة، فلا يمكنهم الاشتغال بطلب الرزق عند اشتغالهم بطلب العلم غالبا،

فلا تغترّ إذا بكلمات بعض الجهلة في عصرنا من إشكالهم على علماء الدين بأنّهم لما ذا لا يشتغلون بأمر الرزق؟

و ثالثا: ما قد يتوهّم من أنّ ذلك مصداق إلقاء كلّهم على الناس واضح البطلان، فإنّ أمر معاش الناس متوقّف على نظام المجتمع و الأمن و الأمان، و هما لا يحصلان إلّا بتهذيب النفوس و في ضوء الإيمان، و من المعلوم أنّ علماء الدين هم الذين يتصدّون لهذا الأمر، فعملهم لا ينحصر في إحياء أمر المعاد، بل يكون إحياء لمعاش الناس و نظم مجتمعهم أيضا.

السّادس: أقسام ما يكتسب به

ذكر في الحدائق و الشرائع تقسيم ما يكتسب به إلى: محرّم و مكروه و مباح، و لكن العلّامة رحمه اللّه في القواعد قسّم المتاجر بالأقسام الخمسة، فالتقسيم الأوّل باعتبار المحلّ، و الثاني باعتبار الفعل القائم به، و لكن حيث يوجد في أقسامه ما يكون من قبيل المحلّ انوار الفقاهة، ج 4، ص: 18

احتمل في مفتاح الكرامة كون المراد بالتجارة أعمّ من الاكتساب و محلّه «1».

و ذكر الشهيد الثاني قدّس سرّه في المسالك ما حاصله: إنّ التقسيم الخماسي يصحّ باعتبار الاكتساب، و الثلاثي باعتبار العين و المنفعة، فإنّ الوجوب و الندب لا يرد عليهما من حيث إنّهما عين خاصّة و منفعة، بل بسبب أمر عارضي و هو فعل المكلّف «2» و لكن ذكر في المفتاح بعد أن نقل هذا التوجيه عن الشهيد و صاحب الرياض أنّ فيه نظرا ظاهرا، لأنّ العين لا تتّصف بالحرمة و الكراهة و الإباحة أيضا بذاتها، بل باعتبار الفعل القائم بها، و أورد عليه ثانيا بأنّ الأذان في نفسه ليس حراما، و لكن الاكتساب به محرّم. انتهى «3».

و في الجواهر بعد الإشارة إلى ما عرفت قال: إنّ اقتصار المصنّف

على الثلاثة هنا باعتبار تعلّقها بالأعيان بالذات و لو من حيث فعل المكلّف، ضرورة ثبوت الأعيان التي يحرم التكسّب بها ذاتا و كذلك الكراهة و الإباحة، بخلاف الوجوب و الندب فإنّا لا نعرف من الأعيان ما يجب التكسّب به كذلك، أو يستحبّ، و ثبوت وجوب التكسّب في نفسه أعمّ من أن يكون بالعين المخصوصة «4».

ثمّ أورد عليه أوّلا بعدم اقتصار المصنّف فيما سيأتي من بيان الأقسام على ذلك، بل ذكر ما يكون الحرمة بسبب قيام فعل المكلّف المحرّم، فإنّ بيع السلاح لأعداء الدين ليس ممّا يحرم التكسّب به ذاتا، (بل بالعرض).

و ثانيا: إنّ التكسّب مستحبّ في بعض الأعيان بالخصوص، كالغنم الذي جعل جزء من البركة فيها، اللهمّ إلّا أن يقال بأنّ البركة فيها لا في كسبها (انتهى) «5».

هذه كلمات القوم و الذي يحقّ أن يقال في المسألة: إنّ حرمة البيع على أقسام: فإنّها قد تنشأ من حرمة العين، و حرمتها باعتبار حرمة منافعها المعتدّ بها، كحرمة بيع الخمر و الصليب و الأوثان، و «أخرى» من حرمتها في ظرف خاصّ كحرمة بيع السلاح لأعداء

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 19

الدين، فإنّ منافعها و إن لم تكن محرّمة دائما، إلّا إنّه بالنسبة إليهم- لا سيّما عند قيام الحرب بينهم و بين المسلمين- محرّمة.

و «ثالثة» أن يكون نفس الاكتساب محرّما، من دون أن تكون العين كذلك، كأخذ الاجرة على الأذان و القضاء و أمثالها.

و يأتي هذا التقسيم في «المكروه» و بيع الأكفان من قبيل الأخير أيضا، فشمول المقسم للجميع لا يمكن إلّا أن يكون التقسيم أعمّ من أن يكون بلحاظ العين و الاكتساب، و حينئذ لا مانع من ورود الواجب و المستحبّ فيها، كالمكاسب التي هي قوام نظام المجتمع أو

سبب كماله، ففي الأوّل تكون واجبة، و في الثاني مستحبّة.

اللّهمّ إلّا أن يقال إنّه واجب بالعرض و بعنوان ثانوي، لا بالعنوان الأوّلي، و لكن نقول: بيع السلاح لأعداء الدين أيضا كذلك، و هكذا بيع العنب ممّن يعمله خمرا على القول به، و كذا معاونة الظلمة، و لذا استدلّوا لحرمتها بأنّها إعانة على الإثم التي هي من العناوين الثانوية.

و بالجملة ملاحظة جميع ما ذكروه في أبواب المكاسب أقوى شاهد على كون البحث عامّا.

هذا و العجب من شيخنا الأعظم الأنصاري قدّس سرّه إنّه مثّل في بحثه القصير في المسألة للمكاسب المستحبّة بالزراعة و الرعي «1» مع أنّ الظاهر أنّ نفس عملهما مستحبّ مع قطع النظر عن المعاملة بهما، و للواجب بالصناعات الواجبة كفاية و هي أيضا كذلك.

نعم قد يقال: إنّ الاكتساب و التعامل بها أيضا ممّا يقوم به نظام المجتمع. و هو غير بعيد.

السابع: معنى الحرمة في المكاسب المحرّمة

ما المراد بالحرمة في المكاسب المحرّمة؟ هل هي حرمة تكليفية، أو وضعيّة، أو كلاهما؟

و هذه المسألة من الامور التي لا بدّ بيانها قبل الورود في مباحث المكاسب المحرّمة.

فمن باع أو اشترى خمرا فمضافا إلى كون بيعه أو شرائه باطلا يحرم أكل ثمنه بلا

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 20

إشكال، و هل يكون بيعه أيضا حراما تكليفيا نفسيا، أم لا؟

ظاهر كلمات القوم التسالم عليه، و لعلّه من جهة ظهور النواهي الواردة فيها في التحريم التكليفي، أو من جهة الإجماع، و سيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه.

و الكلام بعد في موضوع الحرمة، و فيه احتمالات:

1- كونه نفس الإنشاء الجدّي (فهو حرام على القول بها) كما اختاره في المكاسب المحرّمة بعض أكابر العصر.

2- النقل و الانتقال بقصد الأثر المحرّم- كما ذكره شيخنا العلّامة الأنصاري قدّس سرّه-.

3- إنشاء النقل

بقصد ترتّب أثر المعاملة، أعني التسليم و التسلّم، فلو خلا عن هذا القصد فمجرّد الإنشاء لا يتّصف بالحرمة، كما عن المحقّق الايرواني قدّس سرّه في حاشيته «1».

4- إنشاؤه بقصد ترتّب إمضاء العرف و الشرع عليه.

5- إنشاؤه مع ترتيب آثاره عليه بالتسليم و التسلّم.

أمّا الأوّل فحرمته بعيد جدّا إذا خلا عن قصد ترتّب الأثر، لانصراف النصوص و الفتاوى منه، اللّهمّ إلّا أن يقال لا يكون الإنشاء جدّيا بدون قصد ترتيب الآثار، كما ورد في حقّ من استدان دينا فلم ينو قضاءه كان بمنزلة السارق، و لكنّه محل للكلام «2».

و أمّا الثاني: فقد أورد عليه في «مصباح الفقاهة» بأنّ التقييد بذلك خلاف إطلاق أدلّة التحريم، و دعوى انصرافها إليه ممنوع «3».

هذا و الإنصاف أنّ دعوى الإطلاق بدون أي قيد بعيد جدّا عن افهام العرف، لأنّهم لا يرون لمجرّد الإنشاء المجرّد عن كلّ أثر أو قصد للأثر، قيمة.

توضيح ذلك أنّه قد يتوهّم أنّ أسّ الأساس في البيع هو الإنشاء و الاعتبار، و إنّ النقل أو الانتقال الخارجيين من آثاره و فروعه، و على هذا الأساس جعلوا البيع بالصيغة من المسلّمات، و البيع المعاطاتي محلا للكلام و الإيراد، مع أنّ الناظر فيما تعارف بين العرف انوار الفقاهة، ج 4، ص: 21

و العقلاء يرى أنّ الأمر بالعكس، و أنّ الأصل في البيع هو المعاطاة، و البيع بالصيغة نشأ بعدها، و لا سيّما مع ملاحظة كيفية بدء البيع و الشراء و تاريخ تشريعهما بين العقلاء، فحقيقة البيع و الشراء هو الإعطاء الخارجي بقصد النقل و الانتقال.

و أمّا الصورة الإنشائية منه فهي فرع له نشأت فيما بعد، كما سيأتي شرحه إن شاء اللّه في أبواب المعاطاة.

و يؤيّد ما ذكرنا انّ رحى المعاملات غير

الخطيرة جدّا تدور على المعاطاة، فحينئذ يشكل فهم العموم من إطلاقات أدلّة الحرمة لمجرّد الإنشاء و ليس هذا ادّعاء جزافيا كما توهّم.

و قد يورد إشكال الإطلاق بعينه على الوجوه الاخرى، و إنّ إطلاق الأدلّة ينفي جميع هذه القيود، و لكن الجواب ما عرفت من الانصراف، و لكن يبقى الكلام في أنّ أي واحد من هذه القيود يعتبر في موضوع الحرام، بعد نفي حرمة مطلق الإنشاء.

و هذا يدور مدار مقدار انصراف الإطلاقات، فإنّ بعض هذه القيود أخصّ من بعض، فانّ التسليم و التسلّم لا ينفكّان عادة عن قصد ترتيب الأثر المحرّم، كما لا ينفكّان عن قصد ترتّب أثر المعاملة أيضا.

و الاحتمال الخامس أقوى من الجميع، و إن لم نر من صرّح به، لا سيّما بملاحظة ما ذكرنا في حقيقة البيع عند أهل العرف.

هذا كلّه إذا قلنا بأنّ الحرمة النفسية التكليفية في المعاملات المحرّمة معلومة مقطوعة، و أمّا لو شككنا فيه، و قلنا أنّ الحرمة هنا أمر مقدّمي، و لا ظهور للأدلّة في أزيد من ذلك، فتسقط جميع الوجوه، و يرجع الأمر إلى التحريم المقدّمي.

و توضيح ذلك: إنّ الرّوايات الدالّة على حرمة المكاسب المحرّمة على طوائف:

الاولى: إنّ المصرّح به في كثير من روايات التحريم في المكاسب المحرّمة هو «حرمة الثمن».

مثل ما رواه عمّار بن مروان قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الغلول فقال عليه السّلام: «كلّ شي ء غلّ من الإمام فهو سحت، و أكل مال اليتيم و شبهه سحت، و السحت أنواع كثيرة منها

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 22

اجور الفواجر، و ثمن الخمر، و النبيذ، و المسكر، و الربا بعد البيّنة، فأمّا الرشا في الحكم فإنّ ذلك الكفر باللّه العظيم جلّ اسمه و برسوله صلّى اللّه عليه

و آله و سلم» «1».

و ما رواه سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «السحت أنواع كثيرة منها كسب الحجّام إذا شارط، و أجر الزانية، و ثمن الخمر ...» «2».

و ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «السحت ثمن الميتة و ثمن الكلب و ثمن الخمر و مهر البغي و الرشوة في الحكم و أجر الكاهن» «3».

و ما رواه سماعة عن الصادق عليه السّلام قال: «السحت أنواع كثيرة: منها كسب الحجّام و أجر الزانية و ثمن الخمر» «4».

و ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال: «ثمن الخمر و مهر البغي و ثمن الكلب الذي لا يصطاد من السحت» «5».

و ممّا رواه محمّد بن علي بن الحسين قال: قال عليه السّلام: «أجر الزانية سحت و ثمن الكلب الذي ليس بكلب الصيد سحت، و ثمن الخمر سحت، و أجر الكاهن سحت، و ثمن الميتة سحت ...» «6».

و ما رواه أنس بن محمّد عن أبيه جميعا عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام عن آبائه في وصيّة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لعلي عليه السّلام قال: «يا علي من السحت ثمن الميتة، و ثمن الكلب، و ثمن الخمر، و مهر الزانية، و الرشوة في الحكم، و أجر الكاهن» «7».

و ما رواه عمّار بن مروان عن الصادق عليه السّلام قال: «كلّ شي ء غلّ من الإمام فهو سحت، و السحت أنواع كثيرة، منها ما اصيب من أعمال الولاة الظلمة، و منها اجور القضاة

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 23

و اجور الفواجر و ثمن الخمر و النبيذ المسكر و الربا بعد

البيّنة ...» «1».

و ما رواه يعقوب بن شعيب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ثمن العذرة من السحت» «2».

و في حكمه روايات الربا، فانّها أيضا تدلّ على حرمة الثمن مثل ما رواه هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «درهم ربا «عند اللّه» أشدّ من سبعين زنية كلّها بذات محرم» «3».

و ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «درهم ربا أشدّ عند اللّه من ثلاثين زنية كلّها بذات محرم مثل العمّة و الخالة» «4».

و ما رواه سعيد بن يسار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «درهم واحد ربا أعظم من عشرين زنية كلّها بذات محرم» «5».

إلى غير ذلك ممّا ورد في حكم بيع الكلاب المحرّمة و أنّ ثمنها سحت «6».

و من الواضح عدم دلالة هذه الطائفة على حرمة نفس البيع تكليفا، و غاية ما يستفاد منها حرمة الثمن و بطلان البيع و عدم جواز ترتيب الآثار الشرعية عليه.

الثّانية: ما دلّ على حرمة البيع المفضي إلى تسليم المثمن و الثمن، و هي أيضا كثيرة جدّا.

منها ما ورد في باب بيع السلاح لأعداء الدين فانّه أيضا كالصريح في ذلك، مثل ما رواه محمّد بن قيس عن الصادق عليه السّلام قال: سألته عن الفئتين تلتقيان من أهل الباطل، أبيعهما السلاح؟ فقال: «بعهما ما يكنهما الدرع و الخفّين و نحو هذا» «7».

و ما رواه السرّاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له إنّي أبيع السلاح. قال: فقال: «لا تبعه في فتنة» «8».

و ما رواه أنس بن محمّد عن أبيه عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السّلام (في وصيّة

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 24

النبي صلّى اللّه عليه و آله

و سلم لعلي عليه السّلام) قال: «يا علي كفر باللّه العظيم من هذه الامّة عشرة: القتّات «إلى أن قال» و بائع السلاح من أهل الحرب» «1».

و ظاهر جميع ذلك حرمة البيع بما له من الآثار التي منها تسليم المثمّن و هو السلاح لأعداء الدين.

و منها ما دلّ على جواز بيع المشتبه بالميتة ممّن يستحلّ الميتة دون غيره، مثل ما رواه الحلبي قال سمعت أبا عبد اللّه يقول: «إذا اختلط الذكي و الميتة باعه ممّن يستحلّ الميتة و أكل ثمنه» «2».

و ما رواه الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام إنّه سئل عن رجل كان له غنم و بقر و كان يدرك الذكي منها فيعزله و يعزل الميتة ثمّ أنّ الميتة و الذكي اختلطا كيف يصنع به؟ قال: «يبيعه ممّن يستحلّ الميتة و يأكل ثمنه فانّه لا بأس به» «3».

و ما رواه حفص بن البختري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في العجين من الماء النجس كيف يصنع به؟ قال: «يباع ممّن يستحلّ الميتة» «4».

و ما رواه ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «يدفن و لا يباع» «5».

و من الواضح أنّ هذه الطائفة أيضا لا دلالة لها على الحرمة التكليفية بنفس البيع، بل الحرام البيع مع ترتيب آثاره، بل لعلّه داخل في عنوان الإعانة على الإثم الذي هو محرّم نفسي، فالبيع مقدّمة لتسليم المثمّن الذي يكون إعانة على الإثم.

الثّالثة: ما دلّ على المفاسد الحاصلة من المكاسب المحرّم التي هي ظاهرة فيما إذا وقع التسليم و التسلّم، كالرّوايات الواردة في الربا الدالّة على مفاسد جمّة فيها منها:

1- ترك التجارات.

2- المنع من اصطناع المعروف و ترك القرض.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 25

3-

فساد الأموال و الأكل بالباطل.

4- الظلم و غير ذلك «1».

فإنّ ذلك أيضا يدلّ على حرمة البيع بما له من الآثار لا مجرّد إنشائه.

و ما جاء في تحف العقول من ترتّب المفاسد على البيع الحرام «2».

و عدم دلالة هذه الطائفة على تحريم مجرّد الإنشاء أو مع القصد فقط واضح.

الرابعة: ما ليس فيها شي ء من ذلك و أشباهه، بل أمر مطلق دالّ على حرمة البيع الصادق على الإنشاء بقصد الجدّ أو مع بعض ما عرفت من القيود، و ذلك مثل ما ورد في بيع بعض الأعيان النجسة كقوله عليه السّلام: حرام بيعها و ثمنها «3».

و مثل النهي عن شراء المصحف في رواية عبد الرحمن بن سيّابة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

سمعته يقول: «إنّ المصاحف لن تشترى فإذا اشتريت فقل: إنّما أشتري منك الورق و ما فيه من الأديم ...» «4».

إلى غير ذلك من أشباهه و هو قليل بالنسبة إلى غيره، و كذلك مثل قوله تعالى وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا «5» (أي بيع الربا بجميع أشكاله).

و هذه الطائفة هي التي يمكن الأخذ بإطلاقها و القول بحرمة مجرّد إنشاء البيع حرمة تكليفية، و لكن دعوى انصراف إطلاقها إلى ما ذكر في غيرها قريبة جدّا، فإذا لا يبقى دليل على حرمة البيع تكليفيا نفسيا، نعم هو حرام من باب المقدّمة بناء على حرمة مقدّمة الحرام مطلقا، أو إذا كانت موصلة «فتدبّر جيّدا».

أقسام المكاسب المحرّمة

اشارة

الأوّل- بيع الأعيان النجسة

الثّاني- بيع الأوثان و هياكل العبادة

الثالث و الرابع- بيع آلات القمار و اللهو

الخامس- بيع أواني الذهب و الفضّة

السادس- الدراهم المغشوشة

السّابع- بيع الشي ء لغاية محرّمة (كبيع العنب ليعمل خمرا)

الثّامن- بيع ما فيه تقوية للكفر و الضلال و الفساد

التاسع- بيع ما لا

منفعة فيه العاشر- الأعمال المحرّمة التي قد يكتسب بها

الحادي عشر- الأفعال الواجبة ممّا يحرم التكسّب به

الأوّل- بيع الأعيان النجسة
اشارة

و قد فصّله الشيخ الأعظم العلّامة الأنصاري قدّس سرّه في مسائل سبع: حرمة بيع الأبوال و العذرة و الدم و المني و الميتة و الكلب و الخمر «1».

ثمّ أنّه عقد مسألة للمتنجّسات أيضا، فصارت ثمان مسائل «2»، و الحال أنّها (الأعيان النجسة) ترجع إلى عنوان واحد، و دليله واحد غالبا، فلذا ذكرها في الشرائع و الحدائق و غيرهما تحت عنوان واحد «3».

و على كلّ حال، فالظاهر أنّ المسألة على إجمالها إجماعيّة بين الأصحاب و إن وقع الخلاف في بعض الجزئيات أو المستثنيات.

قال العلّامة رحمه اللّه في «التذكرة»: يشترط في المعقود عليه الطهارة الأصلية، فلو باع نجس العين كالخمر و الميتة و الخنزير لم يصحّ إجماعا «4».

و ادّعى الإجماع في بعض المواضع الاخر من التذكرة على حرمة بيع الكلب العقور و السرجين النجس «5».

و في الخلاف إجماع الفرقة على تحريم بيع الخمر و السرجين النجس و الخنزير و الكلاب ما عدى كلب الصيد «6».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 30

و عن السيّد في الانتصار و ابن إدريس في السرائر و الشيخ في المبسوط دعوى الإجماع في بعض مصاديق النجاسات (من دون التصريح بغيرها) و الظاهر أنّ كلام الجميع واحد.

و على كلّ حال يدلّ على ذلك- مضافا إلى قاعدة التحريم (أنّ اللّه إذا حرّم منافع شي ء حرّم معاملته) المستفادة من العقل و النقل- النصوص الكثيرة الواردة في موارد خاصّة و عامّة:

أمّا القاعدة فالإنصاف إنّها موافقة للعقل، فإنّ البيع لا يصحّ إلّا فيما يكون مالا، و مالية الشي ء باعتبار منافعه المعتدة بها، فهل تكون الحشرات المؤذية و الجيف العفنة و ما أشبهها عندهم

مالا؟! كلّا لعدم نفع عقلائي فيها، بل وجود النفع أيضا غير كاف إلّا إذا انضمّ إليه عزّة الوجود، فالهواء و الماء في ساحل البحر لا مالية لهما و لا يصحّ بيع شي ء منهما لعدم وجود قوام البيع فيهما، و هو المالية المتوقّفة على عزّة الوجود و ان توقّف عليهما حياة الإنسان و غيره، و من هنا يظهر أنّه يمكن أن يكون شي ء مالا في زمان دون زمان كالثلج في الشتاء و الصيف، و في مكان دون مكان، كالماء على الشاطئ و في المفازة، و بالنسبة إلى قوم دون قوم و هكذا، و في كلّ مورد له حكمه، و المنافع النادرة أو المعتدة بها الشخصية لا تعدّ ملاكا له.

ثمّ إنّه قد يكون شي ء مالا عند العقلاء لحليّة منافعه عندهم، و لا يكون مالا عند الشرع لحرمة منافعه، كالخمر، فحينئذ لا يترتّب عليه شي ء من أحكام المال في الشرع كالبيع و غيره، فلو أتلفه متلف لا يكون ضامنا، و لو اقترضه مقترض لا يكون مديونا، و لو أوصى به لا تكون وصيّته نافذة.

و يدلّ على هذه القاعدة و إمضائها من ناحية الشارع المقدّس ما ورد في روايات مختلفة صرّحت بهذه القاعدة العقلائية:

منها: ما ورد في رواية تحف العقول (التي مرّت الإشارة إليها قريبا).

و فيها فقرات أربعة (الولايات و التجارات و الإجارات و الصناعات) تدلّ كلّها على المقصود، و لكن الرواية مرسلة و كتاب «تحف العقول عن آل الرسول» كلّه كذلك، و الحسن بن علي بن شعبة و إن كان جليل القدر من قدماء الأصحاب، إلّا إنّه يستفاد من بعض القرائن انوار الفقاهة، ج 4، ص: 31

إنّه كان من علماء القرن الرابع (فإنّه روى عن محمّد بن همام الذي

مات سنة 332) و بينه و بين الصادق عليه السّلام أكثر من مائتي سنة، و لكن تلوح علائم الصدق من محتويات كتابه، و أمّا تفرّده بذكر هذا الحديث- مع إنّه أجمع أحاديث الباب و من البعيد اختصاص ذكره من ناحية الإمام عليه السّلام بر أو خاص- فهو عجيب في الجملة، و الرواية و ان كانت ضعيفة السند، و لكن لها شأن من الشأن.

و منها: الرواية المعروفة عن ابن عبّاس عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «إذا حرّم اللّه شيئا حرّم ثمنه» «1».

و قد رواها الشيخ في الخلاف في المسألة 308 من البيوع في بيع المسوخ «2».

و أوردها العلّامة و ابن إدريس رحمهما اللّه و غيرهما في كتبهم كما حكى عنهم.

و قد حكى هذا الحديث عن مسند أحمد «3» و عن سنن البيهقي «4»، و لكنّه نقل هكذا قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «لعن اللّه اليهود حرّم عليهم الشحوم فباعوها و أكلوا أثمانها، إنّ اللّه إذا حرّم على قوم أكل شي ء حرّم عليهم ثمنه» (بزيادة الأكل)، و في غيرهما من مجامع أحاديثهم.

و لكن في موضع آخر من مسند أحمد نقل الرواية بدون ذكر الأكل «5». و قد عرفت كلام الشيخ رحمه اللّه في الخلاف بدون ذكره، و هكذا كثير من فقهاء العامّة و الخاصّة، نعم في المستدرك رواه عن العوالي مع ذكر الأكل «6»، و لكن هذه الزيادة على فرض وجودها غير مضرّة بالمقصود، لإمكان إلغاء الخصوصية عنها، و المسألة واضحة بعد ما عرفت أنّها موافقة للقاعدة.

و منها: ما في فقه الرضا عليه السّلام: «اعلم يرحمك اللّه إنّ كلّ مأمور به ممّا هو منّ على العباد، و قوام لهم

في امورهم، من وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره، ممّا يأكلون و يشربون و يلبسون و ينكحون و يملكون و يستعملون، فهذا كلّه حلال بيعه و شرائه و هبته و عاريته.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 32

و كلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا قد نهى عنه، من جهة أكله و شربه و لبسه و نكاحه و إمساكه لوجه الفساد، و مثل الميتة و الدم و لحم الخنزير و الربا و جميع الفواحش و لحوم السباع و الخمر و ما أشبه ذلك، فحرام ضارّ للجسم و فساد للنفس» «1».

و منها: ما رواه القاضي نعمان المصري في كتابه «دعائم الإسلام» عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «الحلال من البيوع كلّما هو حلال من المأكول و المشروب و غير ذلك ممّا هو قوام للناس و صلاح و مباح لهم الانتفاع به، و ما كان محرّما أصله منهي عنه لم يجز بيعه و لا شرائه» «2».

و هي ظاهرة الدلالة على العموم، و لكنّها أيضا رواية مرسلة لا يمكن الاعتماد عليها بخصوصها.

و القاضي «نعمان» مؤلّف «دعائم الإسلام» يعرف بأبي حنيفة الشيعي، و قد يقال أبو حنيفة المغربي، و لعلّه كان من أهل المغرب، كان مالكيا ثمّ استبصر و صار إماميّا، كان من أكابر علماء عصره عالما بفتاوي فقهاء الإسلام قاضيا بمصر، و مات هناك سنة 363.

و له كتب في الانتصار لمذهب أهل البيت، منها كتاب «دعائم الإسلام»، و عدم قبول روايته من حيث الإرسال لا ينافي جلالة مقامه.

هذا و لكن لا يبعد جواز الاعتماد على مجموع هذه الأحاديث لتعاضدها مع بعضها، و شهرتها بين العامّة و الخاصّة، و قد ذكرنا في الاصول أنّ المعيار في القبول هو وثاقة الرواية من

أي طريق حصلت، لا وثاقة خصوص الراوي.

و قد يستدلّ على ذلك مضافا إلى ما ذكر- كما في الجواهر- «3» بالإطلاقات الناهية عن هذه الأعيان كقوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ ...- إلى قوله- فَاجْتَنِبُوهُ «4» و قوله تعالى:

وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ «5» فتشمل البيع أيضا، و لكن لا يبعد انصراف كلّ منها إلى الأثر المناسب انوار الفقاهة، ج 4، ص: 33

المعروف كما حقّق في الاصول، و كذلك الاستدلال بقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ... «1»

هذا و لكن الروايات الخاصّة كثيرة جدّا، و هي و إن وردت في بعض الأعيان النجسة، و لكن لحن بعضها يشعر بالعموم، و مع قطع النظر عنه يمكن اصطياد العموم منها، و إليك نماذج منها:

1- ما ورد في اهداء رجل من ثقيف راويتين من خمر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و أمره باهراقهما و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم «إنّ الذي حرّم شربها حرّم ثمنها» «2».

2- ما ورد في تحريم ثمن الخمر و مهر البغي أو شبههما مثل ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال: «ثمن الخمر و مهر البغي و ثمن الكلب الذي لا يصطاد من السحت» «3».

3- ما ورد عمّار بن مروان قال سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الغلول، فقال: «كلّ شي ء غلّ من الإمام فهو سحت، و أكل مال اليتيم و شبهه سحت، و السحت أنواع كثيرة منها اجور الفواجر و ثمن الخمر و النبيذ و المسكر و الربا بعد البيّنة ...» «4».

4- ما رواه سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «السحت أنواع

كثيرة منها كسب الحجّام إذا شارط و أجر الزانية و ثمن الخمر ...» «5».

5- و ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «السحت ثمن الميتة و ثمن الكلب و ثمن الخمر و مهر البغي ...» «6».

6- ما رواه سماعة قال قال عليه السّلام: «السحت أنواع كثيرة منها كسب الحجّام و أجر الزانية و ثمن الخمر» «7».

7- ما رواه محمّد بن علي بن الحسين عليه السّلام قال: قال عليه السّلام: «أجر الزانية سحت، و ثمن انوار الفقاهة، ج 4، ص: 34

الكلب الذي ليس بكلب الصيد سحت، و ثمن الخمر سحت و أجر الكاهن سحت و ثمن الميتة سحت ...» «1».

8- ما رواه أنس بن محمّد عن أبيه جميعا عن جعفر بن محمّد عن آبائه في وصيّة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لعلي عليه السّلام قال: «يا علي من السحت ثمن الميتة و ثمن الكلب و ثمن الخمر و مهر الزانية ...» «2».

9- ما رواه عمّار بن مروان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كلّ شي ء غلّ من الإمام فهو سحت و السحت أنواع كثيرة منها ما اصيب من أعمال الولاة الظلمة و منها اجور القضاة و اجور الفواجر و ثمن الخمر و النبيذ المسكر و الربا بعد البيّنة ...» «3».

10- ما ورد عن طرق الجمهور: عن جابر بن عبد اللّه إنّه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم يقول عام الفتح و هو بمكّة: «إنّ اللّه و رسوله حرّم بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام» فقيل:

يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أ رأيت شحوم الميتة فإنّه يطلى بها السفن و يدهن

بها الجلود و يستصبح بها الناس، فقال: لا، هو حرام، ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلم عند ذلك: قاتل اللّه اليهود إنّ اللّه عزّ و جلّ لمّا حرّم عليهم شحومها أجملوه، ثمّ باعوه فأكلوا ثمنه «4»» و روى ذيله عن بعض طرقنا «5».

11- ما ورد في باب الميتة و إنّها إذا اختلطت بالمذكّى فلا يجوز بيعها إلّا ممّن يستحلّ الميتة مثل: ما رواه الحلبي قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «إذا اختلط الذكي و الميتة باعه ممّن يستحلّ الميتة و أكل ثمنه» «6».

12- ما رواه أيضا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام إنّه سئل عن رجل كان له غنم و بقر، و كان يدرك الذكي منها فيعزله، و يعزل الميتة، ثمّ إنّ الميتة و الذكي اختلطا كيف يصنع به؟ قال عليه السّلام: «يبيعه ممّن يستحلّ الميتة، و يأكل ثمنه، فإنّه لا بأس» «7».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 35

13- ما دلّ على عدم جواز بيع العجين من الماء النجس أو الدهن الذي مات فيه فأرة إنّه لا يبيعه من مسلم مثل ما رواه حفص بن البختري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في العجين من الماء النجس كيف يصنع به؟ قال: «يباع ممّن يستحلّ الميتة» «1».

14- ما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن حب دهن ماتت فيه فأرة قال: «لا تدهن به و لا تبعه من مسلم» «2».

و هي و إن وردت في باب المتنجّس إلّا إنّه يعلم منه حكم النجس العين أيضا بطريق أولى.

15- ما ورد في باب تحريم بيع الكلاب إلّا كلاب خاصّة، و هي كثيرة مثل ما رواه أبو عبد اللّه

العامري قال سألت أبي عبد اللّه عليه السّلام عن ثمن الكلب الذي لا يصيد فقال: «سحت، و أمّا الصيود فلا بأس» «3».

16- ما رواه الحسن بن علي القاساني عن الرضا عليه السّلام في حديث قال: «و ثمن الكلب سحت» «4».

17- ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت ...» «5».

18- ما رواه جرّاح المدائني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام من أكل السحت ثمن الخمر، و نهى عن ثمن الكلب «6».

19- ما رواه أبو بصير قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ثمن كلب الصيد قال: «لا بأس بثمنه و الآخر لا يحلّ ثمنه» «7».

20- ما روى بهذا الإسناد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام (في حديث) إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال:

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 36

«ثمن الخمر و مهر البغي و ثمن الكلب الذي لا يصطاد من السحت» «1».

21- ما رواه الوليد العماري قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ثمن الكلب الذي لا يصيد فقال: «سحت، و أمّا الصيود فلا بأس» «2».

22- ما رواه الحسن بن علي الوشاء عن الرضا عليه السّلام قال: سمعته يقول: «ثمن الكلب سحت و السحت (الساحت) في النار» «3».

23- ما ورد في باب تحريم بيع العذرة بالخصوص مثل: ما رواه يعقوب بن شعيب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ثمن العذرة من السحت» «4».

و ما رواه سماعة بن مهران قال سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا حاضر فقال: «إنّي رجل أبيع العذرة فما تقول؟ قال: حرام بيعها و ثمنها ...» «5».

24- ما ورد في

تحريم بيع الخمر أيضا ممّا ليس فيه ما يشعر بالتعليل مثل: ما رواه زيد بن علي عن آبائه عليهم السّلام قال: «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم الخمر، و عاصرها، و معتصرها، و بائعها، و مشتريها، و ساقيها، و آكل ثمنها، و شاربها، و حاملها، و المحوّلة إليه» «6».

25- ما رواه جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لعن رسول اللّه 6 في الخمر عشرة: غارسها، و حارسها، و عاصرها، و شاربها، و ساقيها، و حاملها، و المحمولة إليه، و بايعها، و مشتريها، و آكل ثمنها» «7».

26- ما رواه الحسين بن زيد عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام (في حديث المناهي): «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم نهى أن يشتري الخمر و أن يسقي الخمر و قال: «لعن اللّه الخمر، و غارسها، و عاصرها، و شاربها، و ساقيها، و بائعها، و مشتريها، و آكل ثمنها، و حاملها، و المحمولة إليه» «8».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 37

و يستفاد من الروايات الأخيرة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قد لعن فيها عشر طوائف، و إن اختلفت الروايات في ذكر هذه العشرة، ففي بعضها «العاصر» و «المعتصر» شخصان (و كأنّ أحدهما يعصر و الآخر يعاونه و يمسك الظرف و الإناء) و في بعضها «الخمر» بنفسها ملعونة، و في بعضها الآخر عدّ «الغارس» و «الحارس» شخصين، و الأمر سهل بعد كون جميعهم ملعونين.

27- ما ورد في باب تحريم بيع الفقاع مثل: ما رواه سليمان بن جعفر عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: قلت له: ما تقول في شرب الفقاع؟ فقال: «خمر مجهول، يا سليمان! فلا

تشربه أما يا سليمان لو كان الحكم لي و الدار لي لجلدت شاربه و لقتلت بائعه!» «1».

28- ما ورد في باب تحريم بيع الخنزير مثل: ما رواه ابن أبي نجران عن بعض أصحابنا عن الرضا عليه السّلام قال: سألته عن نصراني أسلم و عنده خمر و خنازير و عليه دين هل يبيع خمره و خنازيره و يقضي دينه؟ قال: «لا» «2».

29- ما رواه يونس في مجوسي باع خمرا أو خنازير إلى أجل مسمّى ثمّ أسلم قبل أن يحلّ المال قال: «له دراهمه ...» «3».

و لا يخفى إنّه لشدّة وضوح حرمة بيع الخنزير لم ينعقد في مضمار الأحاديث لذلك باب خاصّ مع أنّه أشدّ مفسدة من بيع الميتة، و لذا لم يجز بحال من الأحوال بخلافها.

فتلخّص من جميع ذلك حرمة بيع الأعيان النجسة بعنوان أصلي كلّي، و يدلّ عليه القاعدة العامّة التي عرفتها مع روايات متواترة إجمالا واردة في موارد مختلفة.

حكم المتنجّس:

بقى الكلام في حكم المتنجّس، و المشهور بين الأصحاب حرمة بيعه، ما عدى الدهن، كما سيأتي إن شاء اللّه، و لكن ظاهر السبزواري في الكفاية المناقشة في هذا الحكم، و استجوده في الحدائق (بعد نقل كلامه) «4».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 38

و يظهر من كلام الشيخ الأعظم قدّس سرّه ذلك أيضا «1» و قد خالف فيه بعض المعاصرين إذا كانت له منفعة محلّلة مقصودة.

و عن العامّة أيضا الحرمة على المشهور بينهم: فعن المالكية لا يصحّ بيع المتنجّس الذي لا يمكن تطهيره، و ما يمكن تطهيره فيجوز مع الإعلان.

و عن الحنابلة لا يصحّ بيع الدهن المتنجّس، أمّا المتنجّس الذي يمكن تطهيره فانّه يصحّ بيعه، و لكن جوّز أبو حنيفة بيع المتنجّس و الانتفاع به في غير الأكل

«2».

و الذي يمكن الاستدلال به لمختار المشهور قبل كلّ شي ء هو قاعدة التحريم المستفادة من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «إذا حرّم اللّه شيئا حرّم ثمنه ...» «3» كما عرفت شرحها، و الإجماع المدّعى في كلام بعضهم، مضافا إلى رواية تحف العقول حيث عدّ في التجارات المحرّمة «أو شي ء من وجوه النجس فذلك كلّه حرام محرّم» بناء على كون هذا العنوان في الأخبار عاما يشمل الأعيان النجسة و المتنجّسات.

و لكن أورد عليه بأنّه ظاهر في العناوين النجسة ذاتا، فالدهن المتنجّس ليس من وجوه النجس، و ليس ببعيد بملاحظة كلمة «الوجوه».

و يمكن الاستدلال أيضا بما ورد في بيع العجين النجس ممّن يستحلّ الميتة مثل: ما رواه حفص بن البختري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في العجين من الماء النجس كيف يصنع به؟ قال:

«يباع ممّن يستحلّ الميتة» «4».

و ما رواه ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «يدفن و لا يباع» «5».

و لا يبعد اختصاص النهي عن البيع في هذه الرواية بما إذا لم يكن هناك من يستحلّ الميتة، فحينئذ لا تنافي ما مرّ من جواز بيعه ممّن يستحلّها.

و ما دلّ على حرمة بيع الدهن المتنجّس من مسلم مثل: ما رواه علي بن جعفر عن أخيه انوار الفقاهة، ج 4، ص: 39

موسى بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن حب دهن ماتت فيه فأرة، قال: «لا تدهن به و لا تبع من مسلم» «1».

و لكن يعارضه ما دلّ على جوازه مثل: ما دلّ على جواز بيعه مع الإعلان ليستصبح به «2».

و العمدة ما عرفت من قاعدة التحريم، لعدم دليل يدلّ على العدول عنها، فإذا لم تكن له منفعة

محلّلة مقصودة لم يجز بيعه و ان كان له منفعة كذلك، جاز لما عرفت، و به يجمع بين أخبار الباب، فتأمّل.

أقسام المتنجّس:

1- منها ما لا يقبل التطهير لا ظاهرا و لا باطنا كالمائعات المتنجّسة غير الماء و القول بتطهيرها بالاستهلاك اعتراف بعدم قبولها للتطهير مع بقاء عينها، و كذا الصابون و الصبغ و الدهن على الأقوى.

2- ما يقبل ظاهره التطهير كالقير النجس و الفلزات النجسة عند ذوبها.

3- ما يقبل التطهير ظاهرا و باطنا كالألبسة و غيرها.

و لا شكّ في جواز بيع القسم الثالث مع الإعلام، و القول بشمول إطلاقات عدم الجواز في الفتاوى و النصوص له كما ترى.

و أمّا القسم الثاني: فإن كان له منفعة معتد بها ممّا لا تشترط فيها الطهارة كالأمثلة المذكورة فهو أيضا جائز، لعدم شمول الأدلّة السابقة له قطعا، نعم قد يكون إطلاق الفتاوى ظاهرا في عدم الجواز، و لكن ليس حجّة على فرض قبوله.

و أمّا القسم الأوّل فهو أيضا على أقسام:

منها ما تكون منفعته الغالبة غير مشروطة بالطهارة كالصابون و الصبغ.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 40

و منها ما تكون منفعته الغالبة مشروطة بها كالمائعات المضافة المشروبة كعصير الفواكه.

و منها ما تكون منافعه المشتركة بين المشروطة و غيرها كبعض الأدهان التي تستعمل في التدهين و غيره، و يستفاد منه في الأكل أيضا.

و الإنصاف، جواز بيع الأوّل و الأخير لما عرفت من الأدلّة السابقة، و لعدم حجيّة الشهرة، مع إنّها مشكوكة بالنسبة إليها، و لا تشملها إطلاقات الأدلّة السابقة كما هو ظاهر.

تحريم بيع الأعيان النجسة:
اشارة

و هي أمور:

الأوّل: هل يحرم بيع العذرة

الأعيان النجسة إذا كانت لها منافع معتدّ بها هل يجوز بيعها؟ كالعذرة للتسميد، و الدم للمرضى و المجروحين، و دهن الميتة لبعض الانتفاعات؟ لا تخلو كلمات الفقهاء هنا من تشويش، فنقول و منه سبحانه التوفيق: أمّا بالنسبة إلى العذرة ففيها أقوال، المشهور عدم الجواز مطلقا، قال الشيخ في الخلاف: سرجين ما يؤكل لحمه يجوز بيعه، و قال أبو حنيفة:

يجوز بيع السراجين، و قال الشافعي: لا يجوز بيعها. و لم يفصّلا، دليلنا على جواز ذلك إنّه طاهر عندنا، و من منع منه فإنّما منع لنجاسته- ثمّ استدلّ بالسيرة الجارية في جميع الأمصار و الأعصار- ثمّ قال: أمّا النجس منه فلدلالة إجماع الفرقة، و روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم إنّه قال:

«إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه». و هذا محرّم بالإجماع، فيجب أن يكون بيعه محرّما «1».

و ظاهره مخالفة بعض الأصحاب في المأكول لحمه لنجاسته عنده.

هذا و المحكي عن المفيد و سلّار عدم جواز بيع الأبوال و الأرواث كلّها (و لو من مأكول اللحم الطاهر) إلّا بول الإبل «2».

و القول الثالث ما يظهر من الأردبيلي و المحقّق الخراساني قدّس سرّهما من الميل إلى الجواز إذا

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 41

كان لها نفع حتّى في النجس منه، و حكى عن الفيض قدّس سرّه أيضا «1».

و لا ينبغي الشكّ في أنّ مقتضى الأصل هو الجواز، لما عرفت من القاعدة فيما له نفع محلّل، و الانتفاع بالعذرة في التسميد معمول و معروف في كثير من البلاد، إلّا أن يمنع منه مانع، و هو أمّا الإجماع المدّعى في كلام الشيخ رحمه اللّه في الخلاف، و في كلام غيره كالعلّامة رحمه اللّه في التذكرة، و

هو كما ترى في مثل هذه المباحث، أو يمنع عنه الرّوايات الخاصّة، و هي ثلاث روايات:

1- ما رواه يعقوب بن شعيب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ثمن العذرة من السحت» «2» و هو دليل على الحرمة، و لكن سندها ضعيف لعلي بن مسكين، اللهمّ إلّا أن يقال بانجباره بعمل الأصحاب، فتأمّل.

2- ما رواه محمّد بن مضارب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال عليه السّلام: «لا بأس ببيع العذرة» «3».

و هو أيضا ضعيف بمحمّد بن مضارب.

3- ما رواه سماعة بن مهران قال سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا حاضر فقال: إنّي رجل أبيع العذرة فما تقول؟ قال: «حرام بيعها و ثمنها». و قال عليه السّلام: «لا بأس ببيع العذرة» «4».

و فيه نظر من حيث دلالته و من حيث سنده، فإن كان السند كما ذكره في الوسائل عن صفوان عن مسمع عن أبي مسمع فلا يخلو عن شي ء، و لكن الوسائل نقله عن التهذيب، و في نسخة التهذيب عن مسمع بن أبي مسمع، و قد وثّقوه.

و أمّا رواية صفوان و هو من أصحاب الإجماع فلا أثر لها، لما ذكرنا مرارا من أنّ كون الرجل من أصحاب الإجماع دليل على وثاقة نفسه بالإجماع، و لا أثر له لمن بعده.

و أمّا الدلالة فصدرها دليل على الحرمة و ذيلها دليل على الجواز، و قد ذكر للجمع بينهما عدّة أقوال:

منها: حمل المنع على التقيّة لكونه مذهب أكثر العامّة- لكن قد عرفت أنّ كلماتهم في انوار الفقاهة، ج 4، ص: 42

ذلك مختلفة- و ذهب أبو حنيفة إلى الجواز.

منها: حمل خبر الحرمة على عذرة الإنسان، و الثاني على البهائم (و الظاهر أنّ مراده الفرق بين الطاهر و النجس

و لكنّه جمع تبرّعي) كما هو الظاهر.

و منها: الفرق بين البلاد التي تعارف الانتفاع بها و ما لم يتعارف (نقل عن العلّامة المجلسي قدّس سرّه) و هو أيضا كذلك، أي جمع تبرّعي.

و منها: الحمل على الكراهة- كما عن السبزواري- و هو الموافق لما جرت عليه سيرتهم في أبواب الفقه فيما إذا ورد النهي، ثمّ ورد الجواز، و إن ضعفه في الجواهر هنا، و كذلك صاحب الحدائق «1».

و لكن التعبير بالسحت يبعده. و استعمال السحت في بعض موارد الكراهة لا يمنع ظهوره القوي عند الخلو عن القرينة في الحرمة.

و منها: حمل النهي على الحرمة الوضعية، و الجواز على عدم الحرمة التكليفية، كما عليه بعض أعاظم العصر «2»، و هو عجيب جدّا، فإن الذي يقع الابتلاء به عادة هو الحرمة الوضعيّة، أعني صحّة البيع و فساده، و كيف يمكن أن يكون جوابه عليه السّلام عن شي ء قلّما يقع في ذهن أحد في أمثال المقام، و هو الحرمة التكليفية المجرّدة عن الوضعية؟ و العجب أنّه جعله أحسن جمع مع أنّه لو سلم كان تبرّعيا أيضا.

و إذا لم يصحّ الجمع الدلالي تصل النوبة إلى المرجّحات، و حيث أنّ الحكمين مذكوران في موثّقة سماعة يقع الكلام في أنّها روايتان جمعهما في النقل هو، أو من تأخّر عنه، أو رواية واحدة؟ فإن كانت رواية واحدة لا يمكن إجراء المرجّحات بالنسبة إلى فقراتها، و احتمال جواز إجراء المرجّحات في أجزاء خبر واحد واضح الفساد، لانصراف قوله: يأتي عنكم خبران متعارضان، أو شبه ذلك في الخبرين المستقلّين، لا في جملات خبر واحد كما هو ظاهر، و حينئذ يسقط ما رواه سماعة بتعارض الصدر و الذيل، و يبقى ما رواه يعقوب و محمّد بن

مضارب، و هما و إن كانا ضعيفين إلّا أنّ رواية الحرمة منجبرة بالشهرة، دون رواية

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 43

الجواز، فتبقى الاولى سليمة عن المعارض.

و أمّا إن قلنا أنّهما روايتان جمعا في نقل واحد فتصل النوبة إلى أعمال المرجّحات، و من المعلوم أنّ الشهرة و توافق الحرمة، و لكن في مقابلها مخالفة العامّة، التي توافق رواية الجواز و توجب ترجيحها، اللّهمّ إلّا أن يقال: موافقة أبي حنيفة للجواز الذي اشتهرت فتاواه في إجراء صدور الرواية، يمنع عن الأخذ بهذا المرجّح، و ليس ببعيد.

و الإنصاف إنّ تعدّد الرواية أقوى في النظر، فانّه من البعيد صدور الرواية من المعصوم بهذه العبارة المشتملة على التناقض الظاهر الذي لا يفهم المستمع منه شيئا يركن إليه.

و يؤيّده تكرار قوله: «و قال»، و كذا ذكر اسم الظاهر (العذرة) في الفقرة الثانية بدل الضمير.

و يتحصّل من جميع ذلك أنّ القول بالحرمة هنا بالخصوص بملاحظة الأدلّة الخاصّة إن لم يكن أقوى فلا أقل من إنّه أحوط، و إن كان مقتضى العمومات الجواز.

ثمّ إنّ العذرة ظاهرة في عذرة الإنسان كما صرّح به أهل اللغة.

قال في لسان العرب: العذرة و العاذر: الغائط الذي هو السلح، و في حديث ابن عمر، أنّه كره السلت الذي يزرع بالعذرة، يريد الغائط الذي يلقيه الإنسان، ثمّ قال: العذرة فناء الدار، و في حديث علي عليه السّلام إنّه عاتب قوما فقال: ما لكم لا تنظّفون عذراتكم، أي أفنيتكم، و قيل:

العذرة أصلها فناء الدار، و إنّما سمّيت عذرات الناس بهذا لأنّها كانت تلقى بالأفنية، فكنّى عنها باسم الفناء، كما كنّى بالغائط، «و هي الأرض المطمئنة» عنها «1» انتهى محلّ الحاجة منه.

و من هنا يعلم أنّ حمل بعض الروايات على عذرة غير الإنسان

بعيد جدّا.

و ممّا ذكرنا لا يبقى وجه لما حكي عن المفيد و سلّار من عدم جواز بيع الأرواث و الأبوال كلّها «2» بل ما يترتّب عليها نفع معتدّ به يجوز بيعه إن كان طاهرا، و إن كان نجسا أيضا، ما عدا عذرة الإنسان المنصوص عليها بالخصوص.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 44

بقى هنا شي ء، و هو أنّ الأرواث و الأبوال الطاهرة لا مانع من بيعها إذا كانت لها منفعة محلّلة معتدّ بها، و هي في الأرواث ظاهرة، أمّا في الأبوال خفية، و الاستشفاء ببعض الأبوال في بعض الأزمنة كما يظهر من عدّة روايات غير كاف بالنسبة إلى زماننا هذا الذي لا يعدّ ذلك من منافعها.

الثّاني: الدم

المشهور حرمة بيع الدم النجس، بل ادّعى الإجماع عليها، و القول بحرمتها مشهورة بين العامّة أيضا. بالعمومات السابقة الدالّة على حرمة بيع مطلق النجس التي قد عرفت الكلام فيها.

و غاية ما يمكن أن يستدلّ عليه بعد الآية الشريفة بعض الروايات الخاصّة الواردة من طرقنا و طرق العامّة:

أمّا الأوّل: فهو قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ «1» و لكن من الواضح أنّ النهي إنّما هو عن أكلها لا غير، و أمّا البيع و شبهه فهو خارج عن مفاد الآية.

أمّا الثاني: فهو ما رواه أبو يحيى الواسطي رفعه قال: مرّ أمير المؤمنين عليه السّلام بالقصّابين، فنهاهم عن بيع سبعة أشياء من الشاة، نهاهم عن بيع الدم و الغدد و آذان الفؤاد و الطحال و النخاع و الخصي و القضيب (الحديث) «2».

و سند الحديث ضعيف بالرفع، و بجهالة أبي يحيى، و الظاهر أنّه «سهيل بن زياد» كان ممّن لقي أبا محمّد العسكري عليه السّلام و أنّه كان من شيوخ الأصحاب المتكلّمين،

و لكن لم يصرّح بوثاقته أحد فيما نعلم، بل صرّح بعض أرباب الرجال بأنّ حديثه قد يعرف و قد ينكر.

و لكن يمكن انجبار ضعفه بعمل المشهور، و ما قد يقال إنّه لا ينجبر بذلك لفساده فممنوع صغرى و كبرى، أمّا الكبرى فلما ذكرنا في محلّه من أنّ المعيار في حجيّة خبر الواحد هو الوثوق بالرواية، سواء حصل من ناحية الراوي، أو من نواحي اخر، و القول بأنّ المعيار

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 45

خصوص وثوق الراوي نظرا إلى ما أرجع فيه إلى الثقات، مدفوع ببناء العقلاء الذي هو الأصل في المسألة كما لا يخفى على من راجعهم، و تفصيل الكلام في محلّه.

أمّا الصغرى فهي مفاد مرفوعة الواسطي و ليس ممّا لم يفت به المشهور، فإنّ تحريم السبعة معروف و مشهور بينهم.

و أمّا الإشكال على دلالة الرواية بما أفاده العلّامة الأنصاري قدّس سرّه «1» و تبعه غيره، بأنّ الظاهر حرمة البيع للأكل، و لا شكّ في تحريمه، من حيث أنّ قصد المنفعة المحرّمة موجب لحرمة البيع بل بطلانه، فيمكن الجواب عنه أوّلا: بأنّ القصد المذكور كما عرفت لا يوجب فساد البيع، و ثانيا: قد لا يكون هذا القصد موجودا، بل يشتريه لمنافع اخر.

و من طريق العامّة ما رواه البيهقي في سننه، عن عون بن جحيفة قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم نهى عن ثمن الدم «2»، و لكن الكلام في سند الحديث.

و المهمّ في المقام أمر آخر، و هو أنّ الدم في سابق الأزمنة لم تكن له منفعة محلّلة معتدّ بها، و كانت عمدة منافعه الأكل المحرّم، إمّا الصبغ أو التسميد الذي اشير إليه في كلمات غير واحد، فالظاهر أنّهما كانا من المنافع

النادرة، فالحكم بتحريم بيعه يوافق القواعد و الروايات ناظرة إليه.

أمّا في زماننا هذا فقد تغيّر هذا الموضوع، حيث يوجد في دم الإنسان منفعة عظيمة لإنقاذ الجرحى و المرضى الذين يحتاجون إلى الدم النقي، و هذه منفعة معتدّ بها، فهل يمكن الحكم بتحريم بيعه بحسب الأدلّة التي مرّت عليك؟ الظاهر عدمه، لأنّ رواية الواسطي و شبهها ناظرة إلى الدماء التي لم تكن لها منفعة غير الأكل المحرّم، و أمّا القواعد فقد عرفت دلالتها على الجواز في مثل هذا، و حال الإجماع أيضا معلوم، و النجاسة لا موضوعية لها.

ثمّ أنّه يبقى الكلام في الدم الطاهر المتخلّف في الذبيحة الذي يحرم أكله، و الظاهر حرمة بيعه أيضا لما عرفت من عدم المنفعة المحلّلة، و لكن المقدار القليل منه المتعارف وجوده في اللحم لا يضرّ شيئا، بل لو استهلك في الطعام جاز أكله أيضا.

الثالث: الميتة

و قد تكون لها منافع كثيرة غير الأكل، فإن كانت محرّمة أيضا لم يبق للكلام في حرمة بيعها مجال، لأنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه، و أمّا إن كانت لها منافع محلّلة أمكن القول بحليّة بيعها، و لنا مجال للبحث منها:

فاللازم أوّلا البحث عن حكم منافعها غير الأكل.

فنقول و من اللّه نستمدّ التوفيق و الهداية:

قد تكون للميتة منافع معتدّ بها كفوائد جلدها لصنع الألبسة و الخيام و الأمتعة المختلفة، و منافع أدهانها، بل و لطعام الحيوانات و غير ذلك ممّا هو كثير، فهل يجوز الانتفاع بهذه منها، أم لا؟

المشهور بين الأصحاب بل المحكي عن علماء العامّة حرمة ذلك، و لكن خالف فيه شاذّ منها، و قال بجواز التصرّف فيها مطلقا، أو خصوص بعض موارده كالاستصباح بدهن الميتة.

قال ابن إدريس في السرائر: «الإجماع منعقد على

تحريم الميتة و التصرّف فيها بكلّ حال إلّا أكلها للمضطرّ» «1».

و من الواضح أنّ الأصل في ذلك كلّه هو الجواز، و لكن هناك طائفة من الروايات تدلّ على الحرمة، و هي:

1- ما رواه علي بن أبي مغيرة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الميتة ينتفع منها بشي ء؟ فقال:

لا. قلت: بلغنا أنّ رسول اللّه مرّ بشاة ميتة فقال: «ما كان على أهل هذا الشاة إذا لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا باهابها»، فقال: تلك شاة كانت لسودة بنت زمعة زوج النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و كانت شاة مهزولة لا ينتفع بلحمها، فتركوها حتّى ماتت، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «ما كان على أهلها إذا لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا باهابها أي تذكى» «2»، و هذه الرواية كالصريح في عدم جواز الانتفاع بجلد الميتة و غيرها.

2- ما رواه الفتح بن يزيد عن ن أبي الحسن عليه السّلام: «لا ينتفع في الميتة بإهاب و لا عصب» «3».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 47

3- و ما رواه أبو مريم: قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: السخلة التي مرّ بها رسول اللّه و هي ميتة، فقال: ما ضرّ أهلها لو انتفعوا باهابها، قال فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: لم تكن ميتة يا أبا مريم، و لكنّها كانت مهزولة فذبحها أهلها فرموا بها، فقال رسول اللّه: «ما كان على أهلها لو انتفعوا بإهابها» «1».

4- ما رواه سماعة قال: سألته عن جلود السباع أ ينتفع بها؟ فقال: «إذا رميت و سمّيت فانتفع بجلده و أمّا الميتة فلا» «2».

5- و عنه أيضا قال سألته عن أكل الجبن و تقليد السيف و فيه الكيمخت و

الغرا. فقال: «لا بأس ما لم تعلم أنّه ميتة» «3».

6- ما رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن الماشية تكون لرجل فيموت بعضها أ يصلح له بيع جلودها و دباغها و يلبسها؟ قال: «لا، و إن لبسها فلا يصلّي فيها» «4».

7- و ما رواه قاسم الصيقل قال: كتبت إلى الرضا عليه السّلام أنّي أعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة فتصيب ثيابي فاصلّي فيها؟ فكتب إليّ: «اتّخذ ثوبا لصلاتك ...» «5».

8- ما رواه الكاهلي قال: سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا عنده عن قطع أليات الغنم فقال:

«لا بأس بقطعها إذا كنت تصلح بها مالك، ثمّ قال: إنّ في كتاب علي 7 أنّ ما قطع منها ميّت لا ينتفع به» «6».

الطائفة الثانية و هي التي تدلّ على الجواز مطلقا أو في الجملة:

1- ما رواه الحسن بن علي قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام فقلت: جعلت فداك إنّ أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها. قال عليه السّلام: «هي حرام» قلت: فنصطبح بها؟ قال: «أما تعلم أنّه يصيب اليد و الثوب، و هو حرام» «7».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 48

(و لا يخفى أنّ ذيل الحديث حكم إرشادي إلى أنّ استعمالها في الاستصباح قد يوجب سراية نجاستها إلى الأشياء الاخر فيقع الإنسان في حرج، و إلّا فلا مانع من الاستصباح بها).

2- ما رواه ابن إدريس في آخر السرائر نقلا من كتاب جامع البزنطي صاحب الرضا عليه السّلام قال: سألته عن الرجل يكون له الغنم يقطع من ألياتها و هي أحياء أ يصلح أن ينتفع بما قطع؟

قال: «نعم يذيبها و يسرج بها و لا يأكلها و لا يبيعها»

«1».

3- ما رواه الحسين بن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في جلد شاة ميتة يدبغ فيصبّ فيه اللبن أو الماء فأشرب منه و أتوضّأ. قال: نعم. و قال: «يدبغ فينتفع به و لا يصلّى فيه» «2».

(و لا يخفى أنّ هذه الرواية لا دلالة لها على الجواز إلّا على مذهب العامّة حيث انّهم يقولون بطهارة جلد الميتة بالدباغة، و هذا مخالف لما أجمع عليه علمائنا).

4- ما رواه سماعة قال سألته عن جلد الميتة المملوح و هو الكيمخت فرخّص فيه و قال:

«إن لم تمسّه فهو أفضل» «3».

5- ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث أنّ علي بن الحسين عليه السّلام كان يبعث إلى العراق فيؤتى ممّا قبلكم بالفرو فيلبسه فإذا حضرت الصلاة ألقاه و ألقى القميص الذي يليه فكان يسأل عن ذلك فقال: «إنّ أهل العراق يستحلّون لباس الجلود الميتة و يزعمون أنّ دباغه ذكاته» «4».

6- ما رواه أبو القاسم الصيقل و ولده قال: كتبوا إلى الرجل: جعلنا اللّه فداك إنّا قوم نعمل السيوف ليست لنا معيشة و لا تجارة غيرها، و نحن مضطرّون إليها، و إنّما علاجنا جلود الميتة و البغال و الحمير الأهلية لا يجوز في أعمالنا غيرها، فيحلّ لنا عملها و شرائطها و بيعها و مسّها بأيدينا و ثيابنا و نحن نصلّي في ثيابنا؟ و نحن محتاجون إلى جوابك في هذه المسألة يا سيّدنا لضرورتنا.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 49

فكتب عليه السّلام: «اجعل ثوبا للصلاة ...» «1».

هذا و لكن يمكن الإشكال في دلالة الأخيرة مضافا إلى ضعف سندها بأنّها ناظرة إلى حال الاضطرار و ليس ببعيد.

و في التي قبلها بأنّها مخصوصة بما يؤخذ من سوق المسلمين الذي يحلّ

لبسه حتّى في الصلاة، و لكنّه عليه السّلام احتاط احتياطا مستحبّا في حال الصلاة فقط، أمّا في غيرها فقد تركه لعدم لزومه، و الفرق بين الحالتين حسن حتّى بالنسبة إلى الإمام عليه السّلام.

نعم ما قد يتراءى من بعض الجهلة من التجنّب عن المحرّمات في صلاتهم أو حجّهم لا في غيرهما لا يناسب شأن المتديّن بالدين، فكيف بالأئمّة الهداة المهديين؟ و أين هذا من الاحتياطات المستحبّة.

و كون الإمام عليه السّلام عالما بالواقع لا ينافي ذلك أيضا، لأنّهم مأمورون بالعمل على طبق الظواهر، و ما يعلمونه بالأسباب العادية في أعمالهم كما قرّر في محلّه، و به أجبنا عن كثير ممّا يورد على مسألة علم الإمام عليه السّلام و آثاره في أحوالهم و أعمالهم (فتدبّر جيّدا).

و أمّا رواية الحسين بن زرارة فهي خارجة عمّا نحن بصدده، لأنّها ناظرة إلى طهارة جلد الميتة بالدباغة التي كانت فتوى كثير من العامّة و لا ربط لها بما نحن فيه.

و أمّا رواية الوشاء (الحسن بن علي) فيمكن حمل تلويث اليد و الثوب على الحكمة لحكم تحريم الاستصباح، و لا أقل من احتماله، فتسقط عن الظهور.

فلم تبق إلّا روايتا البزنطي و سماعة.

أمّا الاولى ففيها عند جواب السؤال عن أليات الغنم المقطوعة قوله: نعم يذيبها و يسرج بها و لا يأكلها و لا يبيعها، و أمّا الثانية ففيها الترخيص باستعمال جلد الميتة المملوح، و هو الكيمخت.

و لعلّ إطلاق الترخيص الظاهر في عدم وجوب الاجتناب عنه مع الرطوبة دليل على أنّها كالجلد المدبوغ الذي كانوا يقولون بطهارته، فالمملوح كالمدبوغ.

قال في منتهى الارب: «كيمخت نوع من الجلود تدبغ باسلوب خاصّ».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 50

فلم يبق إلّا رواية البزنطي الدالّة على جواز الاستصباح بما يقطع من أليات

الغنم، و من المعلوم أنّها لا تقاوم ما دلّ على الحرمة من جهات شتّى:

أوّلا: فلأنّها معرض عنها، فليست بحجّة في نفسها.

و ثانيا: إنّ أدلّة الحرمة أشهر رواية و فتوى، و إن أبيت إلّا عن حجيّتها و إمكان الأخذ بها، فلا أقل من أنّها أخصّ منها، فتخصّص بها، فلا يبقى مجال لنا في غير موردها، و لنعم ما قاله ابن إدريس بعد إيراد خبر البزنطي: «إنّه لا يلتفت إلى هذا الحديث فانّه من نوادر الأخبار، و الإجماع منعقد على تحريم الميتة و التصرّف فيها بكلّ حال إلّا أكلها للمضطرّ» «1».

و قد يتوهّم إمكان الجمع بينهما بطرق اخرى:

1- الجمع بالحمل على الكراهة كما يظهر من بعض أعاظم العصر «2». و فيه إنّ هذا الجمع و إن كان معمولا بينهم في الفقه بين دليل المنع و دليل الترخيص، إلّا أنّ لسان دليل المنع هنا يأبى عنه، للاستنكار الشديد الوارد في قضية سودة بنت زمعة، و لو كان ذلك جائزا لما أنكره عليهم كذلك، و يؤيّده إعراض الأصحاب عن هذا الجمع هنا مع قولهم به في غير المقام.

2- حمل الروايات على صورة التلويث، و أنت خبير بأنّ التلويث في جميع موارده قهري، مضافا إلى أنّه ليس أمرا محرّما، و قد صرّح في رواية أبي القاسم الصيقل بالتلويث.

3- حمل روايات المجوّزة على التقيّة.

و فيه أنّك عرفت ذهاب مشهور علماء العامّة إلى الحرمة.

4- حمل الأخبار المجوّزة على ما لا تحلّه الحياة كالأصواف و الإنفحة و غيرها.

و فيه إنّه مخالف لصريح بعض الأخبار المجوّزة كما عرفت، للتصريح فيها بالجلود و الأليات.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى حكم بيعها، و من الواضح أنّ الانتفاع بها إذا كان حراما (كما

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 51

هو الأقوى)

لم يبق وجه لجواز بيعها، فإنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه، بل لو قلنا بجواز الانتفاع بها كانت حرمة بيعها قويّة أيضا، للروايات المصرّحة بحرمة بيعها مثل ما يلي:

1- ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «السحت ثمن الميتة، و ثمن الكلب، و ثمن الخمر، و مهر البغي، و الرشوة في الحكم، و أجر الكاهن» «1».

2- ما رواه حمّاد بن عمرو و أنس بن محمّد عن أبيه جميعا عن جعفر بن محمّد عن آبائه في وصيّة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لعلي عليه السّلام قال: «يا علي من السحت ثمن الميتة، و ثمن الكلب، و ثمن الخمر، و مهر الزانية، و الرشوة في الحكم، و أجر الكاهن» «2».

3- ما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن الماشية تكون للرجل فيموت بعضها، يصلح له بيع جلودها و دباغها و لبسها؟ قال: «لا، و لو لبسها فلا يصلّ فيها» «3».

4- ما رواه البزنطي صاحب الرضا عليه السّلام قال: سألته عن الرجل يكون له الغنم يقطع من ألياتها و هي أحياء أ يصلح أن ينتفع بما قطع؟ قال: «نعم يذيبها و يسرج بها و لا يأكلها و لا يبيعها» «4».

و قد صرّح فيها بحرمة البيع حتّى مع جواز بعض الانتفاعات إلى غير ذلك.

بقي هنا امور:

الأوّل: مقتضى القاعدة عدم جواز بيع المشتبهين بالميتة بعد قبول حرمة التصرّف في كلّ منهما، نظرا إلى تنجّز العلم الإجمالي.

و ما يظهر من بعضهم جواز التصرّف و أكل واحد منهما تخييرا عدول عمّا حقّق في محلّه من تأثير العلم الإجمالي «5».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 52

و كذلك ما قد يقال من

جواز قصد المذكّى منهما فإنّه حلال واقعا و له مالية «1». ممنوع بأنّ حرمته العرضية بمقتضى الحكم الظاهري تسقطه عن المالية قطعا، فلا يبذل بإزائه المال، و إذا حرّم اللّه شيئا حرّم ثمنه، و هكذا ما أفاده بعض محقّقي العصر من أنّ أدلّة الحرمة لو كانت النصوص و الإجماعات فلا شبهة في أنّهما لا يستحلّان صورة الاختلاط، لأنّه لا يصدق بيع الميتة على ذلك مع قصد المذكّى «2»، لجريان ما ذكره في جميع موارد العلم الإجمالي، و لا يلتزم به، بل الظاهر إنّها تشمل الميتة الواقعية، و بضميمة حكم العقل و الشرع بوجوب الاحتياط يسري الحكم إلى المذكّى أيضا، و لا سيّما أنّ المقام من المقامات التي تجري بعض الاصول النافية، أي أصالة عدم التذكية في كلا الطرفين.

و كذلك ما قيل من أنّ بيعهما من شخصين خال عن المحذور، فإنّه بالنسبة إلى كلّ منهما من قبيل الخروج عن محلّ الابتلاء «3».

و ذلك لأنّ كلّا منهما محلّ ابتلاء المشتري في كثير من الأوقات، سلّمنا، و لكن حرمة انتفاع البائع عنهما كاف في المنع عن البيع، فتأمّل.

و بالجملة لا يمكن تصحيح المسألة بشي ء من هذه، بل العمدة هنا ورود غير واحدة من الروايات المعتبرة الدالّة على جواز بيع المشتبهين من خصوص من يستحلّ الميتة، و حكى عن المشهور الفتوى به:

منها: ما رواه الحلبي قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «إذا اختلط الذكي و الميتة باعه ممّن يستحلّ الميتة و أكل ثمنه» «4».

و منها: ما رواه هو عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه سئل عن رجل كان له غنم و بقر و كان يدرك الذكي منها فيعزله، و يعزل الميتة، ثمّ أنّ الميتة و الذكي

اختلطا كيف يصنع به؟ قال: «يبيعه ممّن يستحلّ الميتة، و يأكل ثمنه، فإنّه لا بأس» «5».

و مثله ما رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام «6».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 53

و هذه الروايات الثلاث كما ترى ظاهرة الدلالة على جواز البيع ممّن يستحلّه من غير تفصيل.

و ذكر في «مفتاح الكرامة» بعد نقل هذا القول من النهاية و الوسيلة و الجامع و عن جمع آخر و بعد نقل الخبرين الأوّلين ما نصّه:

«فالخبران لمكان اعتبارهما و عمل جماعة بهما لا بدّ من تأويلهما، و ليس هو إلّا ما ذكره المحقّق و المصنّف قدّس سرّهما من الوجهين (و مراده من الوجهين ما ذكره المحقّق رحمه اللّه من قصد المذكّى، و العلّامة رحمه اللّه في المختلف من أنّه ليس بيعا بل استنقاذا لمال الكافر).

ثمّ قال: و بالغ المحقّق الأردبيلي و الفاضل الخراساني قدّس سرّهما فمالا إلى الإباحة، و لم يوجبا الاجتناب (انتهى موضع الحاجة) «1».

أقول: إن كان الخبران (بل الأخبار الثلاثة) معتبرة و عمل بها جمع من الأصحاب، فلما ذا لا نعمل بهما، و لما ذا نحملهما على خلاف ظاهرهما من قصد المذكّى أو الاستنقاذ؟

بل يؤيّدها ما رواه الحفص بن البختري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في العجين من الماء النجس كيف يصنع به؟ قال: «يباع ممّن يستحلّ الميتة» «2».

و ما رواه عبد اللّه بن الحسن عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن حبّ دهن ماتت فيه فأرة؟ قال: «لا تدهن به و لا تبعه من مسلم» «3».

و ما رواه زكريا بن آدم قال سألت أبا الحسن عليه السّلام عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت

في قدر فيه لحم كثير و مرق كثير؟ قال: «يهراق المرق أو يطعمه أهل الذمّة ...» «4».

نعم هو مخالف للقواعد، و لكن لا نأبى عن مخالفتها لها بعد ورود الدليل الخاص.

مضافا إلى أنّ كون الكفّار مكلّفين بالفروع بمجرّده، لا ينفع في المقام، ما لم ينضمّ إليه مسألة الإعانة على الإثم، و لكن كون المقام من قبيل الإعانة، أوّل الكلام، و إن كانت الكبرى أعني حرمة الإعانة مسلّمة، بعد كون جميع ما يأكلونه و يشربونه حراما بناء على نجاستهم،

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 54

و كون جميع ذبائحهم كذلك، و من الواضح انّهم ينتفعون دائما بما يكون ميتة عندنا، و من المعلوم جواز إعطائهم الماء و غيره من الغذاء و بيعها لهم، بل و بيع الحيوان الحي منهم ... مع العلم بوصول النجاسة إليه من قبلهم قبل تناوله، أو عند ذبحه، و إن كان بين ما نحن فيه و بينه فرقا، من أنّ الحرمة في هذا المثال تنشأ من ناحية أنفسهم و بعد إعطائهم.

و لكن في مسألة اللحم غير المذكّى تنشأ الحرمة من ناحية البائع، و لكنّه مقرّب للمقصود.

و على كلّ حال، لا يمكننا رفع اليد عن الروايات الكثيرة الدالّة على المقصود المعمول بها بين الأصحاب، مع عدم مانع صريح عنها.

نعم ورد في حديث عن علي عليه السّلام: «أنّه يرمى بهما جميعا إلى الكلاب» «1» و لكنّه لا يقاوم ما ذكر، و يمكن حمله على مورد لا يوجد أهل الذمّة أو حمله على الكراهة.

ثمّ إنّ المبيع هنا هو المذكّى أو هما؟ ظاهر ضمير المفرد المذكّر هو الأوّل، و لكن لحن الحديث ناظر إلى جنس الحيوان، الأعمّ من المذكّى و غيره.

و من هنا يمكن التعدّي عنه إلى بيع سائر

المحرّمات كالسمك الذي لا فلس فيه، و ما يسمّى عندنا ب «خاويار» بناء على حرمته كما هو المشهور، و غير ذلك من الأعيان النجسة، ما عدى الخمر و شبهها ممّا يعلم عدم جوازه على كلّ حال.

فإنّ ظاهر الروايات عدم اختصاص الحكم بمورده، و إنّه ناشئ من استحلالهم لذلك، و لكن لا يخلو عن إشكال.

نعم يمكن دعوى أولوية ما عدا الميتة ممّا ذكرنا بالنسبة إليه، و لكن هذا مبنى على ما عرفت من كون المبيع كليهما لا المذكّى فقط، و المسألة محتاجة إلى مزيد تأمّل.

بقى هنا شي ء و هو أنّ الحكم هل يجري في المعلوم من الميتة فيحلّ بيعها ممّن يستحلّها؟

يمكن القول به، بناء على رجوع الضمير إليهما، و لكنّه مشكل لعدم إمكان التعدّي بعد ظهور روايات الحرمة في عدم جوازه.

و لو قيل أنّ مرجع الضمير هو المذكّى فالأمر واضح.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 55

الثاني- في حكم أجزاء الميتة ممّا لا نفس له سائلة- لا إشكال في جواز بيعها، و قد ادّعى فيه الشهرة، بل عدم ظهور الخلاف فيه بيننا، و إن كان قد يظهر من شاذّ من العامّة عدم جوازه. هذا إذا كان له منفعة محلّلة مقصودة مثل كثير من الأسماك التي يرغب فيها لدهنها، أو للأدوية المأخوذة عنها، أو التسميد أو إطعام الطيور بها كما تداول كثير من ذلك في عصرنا، أو صنع غذاء مخصوص من مسحوق عظمها.

و الدليل عليه القاعدة التي مرّت عليك مرارا، و العمومات الدالّة على صحّة البيع، المنصرفة إلى ما هو معمول لدى العقلاء، و أهل العرف، و قصور أدلّة المنع عنها للتصريح في كثير منها بالشاة أو السخلة أو الجلود أو الفراء أو غير ذلك ممّا هو ظاهر في الميتة

النجسة و ليس فيها ما يدلّ على العموم، و لو كان، فهو منصرف إلى ما ذكر كما هو ظاهر.

الثالث- الأجزاء التي لا تحلّها الحياة لا إشكال في جواز بيعها لطهارتها و لعدم صدق الميتة عليها، كالشعر و الوبر و شبههما، و إن كان لنا كلام في بعض ما يعدها المشهور ممّا لا حياة فيه، كالعظام، لأنّ فيها حياة بلا ريب، و كذا السنّ و بعض القرن و بعض الظلف فانّ جميع ذلك ممّا يتألّم الحيوان بقطعها، و في العظام يكون هذا الألم شديدا بحيث يؤدّي كسر طفيف فيها لألم كثير، و يطلب تمام الكلام من محلّه.

الرّابع: المني

حرمة بيع المني و فساده ممّا لا خلاف فيه إجمالا بين العلماء، حتّى أنّ المحكي عن مشهور المخالفين ذلك، إنّما الكلام في تفاصيله.

فنقول: له ثلاث حالات: إذا وقع خارج الرحم، و إذا وقع فيه، و إذا كان في أصلاب الفحول.

أمّا بحسب القواعد فلا إشكال في فساد الأوّل، لعدم الانتفاع به منفعة محلّلة مقصودة، و المنافع النادرة لا أثر لها.

و ما قد يقال من عدم لزوم المالية في البيع من عجائب الكلام، لعدم صدق البيع عليه لا عرفا و لا شرعا.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 56

أمّا الثاني- أي ما وقع فيه- فهو أيضا كذلك، و العمدة فيه أنّه كالتالف و لا يعدّ كالبذر، لأنّ الولد تابع للأمّ في الحيوانات عرفا، و لا يؤخذ بنظر الاعتبار مالك الفحل الذي كان منه المني، و لذا لا يعامل مع الحيوانات التي تتولّد من الإناث معاملة مجهول المالك إذا لم يعرف صاحب المني، و لا يعدّ ملكا له إذا عرف صاحبه، و هذا ممّا استقرّت عليه سيرة العقلاء من أهل العرف و الشرع.

و لعلّ الفرق

بينه و بين البذر أنّ البذر أمر محسوس قابل لأن يعرف صاحبه، و أمّا النطفة التي صارت مبدء للتولّد غالبا فحالها غير معلوم في الحيوانات، و انتفاع النطفة من الامّ أكثر من انتفاع البذر من الأرض من جهة التغذية و غيرها ممّا أوجب هذا التفاوت في نظر العرف.

و أمّا ما ذكر من الأدلّة على بطلان بيعه، كالنجاسة، و الجهل بالمقدار، و عدم القدرة على التسليم، فلا اعتبار بها.

أمّا النجاسة فقد عرفت عدم موضوعيتها، و أمّا المعلومية و القدرة على التسليم ففي كلّ شي ء بحسبه.

بقى الكلام في الثالث و هو ما في أصلاب الفحول، و هو المسمّى بالعسيب من مادّة «العسب» فانّه يطلق على «الضراب» و على مائه كما في اللغة، ففي صحّة بيعه خلاف بينهم.

قال الشيخ في الخلاف: إجارة الفحل للضراب مكروه، و ليس بمحظور و عقد الإجارة عليه غير فاسدة، و قال مالك: يجوز و لم يكره، و قال أبو حنيفة و الشافعي: إنّ الإجارة فاسدة، و الاجرة محظورة، دليلنا أنّ الأصل الإباحة فمن ادّعى الحظر، و المنع فعليه الدلالة، فأمّا كراهية ما قلناه فعليه إجماع الفرقة و أخبارهم «1».

و قال أيضا: بيض ما لا يؤكل لحمه لا يجوز أكله و لا بيعه، و كذلك مني ما لا يؤكل لحمه.

و للشافعي فيه وجهان، دليلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم، فإنّها تتضمّن ذكر البيض، فأمّا المني فإنّه نجس عندنا و ما كان نجسا لا يجوز بيعه و لا أكله بلا خلاف «2».

و لكن قال في التذكرة: «يحرم بيع عسيب الفحل و هو نطفته لأنّه غير متقوّم و لا معلوم و لا

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 57

مقدور عليه، و لا نعلم فيه خلافا» انتهى «1».

هذا و لكن ظاهر

كلام الشيخ الفرق بين إجارة الفحل للضراب و بين بيع المني، و الثاني لا يجوز لنجاسته، و الأوّل جائز لعدم النهي عنه، و لعلّ الأوّل إكراء للمقدّمات و الاجتماع، و أمّا المني فهو تبع.

هذا و لكن لا إشكال فيه من ناحية القواعد، سواء الإجارة للضراب أو بيع المني الموجود في أصلاب الفحول، بعد كونه ممّا له منفعة محلّلة مقصودة. و عدم منع النجاسة عن صحّة البيع، و كون المعلومية و القدرة و تسليم كلّ شي ء بحسبه، و هي هاهنا حاصلة.

هذا من ناحية القواعد، امّا من ناحية النصوص الخاصّة فهنا روايات تدلّ على الجواز منها:

1- ما رواه حنّان بن سدير قال: دخلنا على أبي عبد اللّه عليه السّلام و معنا فرقد الحجّام إلى أن قال: فقال له: جعلني اللّه فداك أنّ لي تيسا أكريه فما تقول في كسبه؟ قال: «كل كسبه، فإنّه لك حلال، و الناس يكرهونه»، قال حنّان قلت: لأي شي ء يكرهونه و هو حلال؟ قال:

«لتعيير الناس بعضهم بعضا» «2».

و المراد بالتيس الذكر من المعز (ذو الشعر من الغنم).

2- ما رواه معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام (في حديث) قال قلت له أجر التيوس، قال: «إن كانت العرب لتعاير به و لا بأس» «3».

و هاتان الروايتان مع قوّة الثانية من حيث السند و عمل الأصحاب بهما دليلان على الجواز.

و لكن يعارضها روايات اخر، ظاهرها الحرمة، مثل:

1- ما رواه محمّد بن علي بن الحسين (الصدوق رحمه اللّه) قال: نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم عن عسيب الفحل، و هو أجر الضراب «4».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 58

2- و ما رواه محمّد بن علي بن الحسين بن علي عن أبيه عليه

السّلام في حديث: «إنّ رسول اللّه نهى عن خصال تسعة: عن مهر البغي و عن عسيب الدابّة يعني كسب الفحل ...» «1».

(و فيها النهي عن لبس بعض أنواع الثياب التي لا إشكال في كراهتها و إن كان أكثر ما فيها المحرّمات).

و الحديثان ضعيفان من جهة السند، و في منابع كتب حديث العامّة نقل هذا النهي (النهي عن عسيب الفحل) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم.

3- و ما رواه في الجعفريات عن علي عليه السّلام قال: «من السحت: ثمن الميتة، و ثمن اللقاح، و مهر البغي، و كسب الحجّام ... و عسب الفحل ...» «2».

و لو فرض صحّة سند الحديث لم يمكن العمل به، لأنّ فيها أشياء كثيرة لا يمكن القول بحرمتها، منها ثمن اللقاح بناء على كونه لقاح النخيل حتّى لا يلزم التكرار، و الهدية يلتمس أكثر منها، و جلود السباع، و جلود الميتة قبل أن يدبغ، و أجر صاحب السجن، و أجر الحاسب بين القوم ...

و الجمع بين الروايات يقتضي الحمل على الكراهة، لما فيها من القرائن، مضافا إلى ضعف الطائفة الثانية بلا إشكال.

ثمّ إنّ الحرمة و الكراهة هل هي في ثمن المني، أو أجر الضراب، أو كليهما؟ كلّ محتمل و لكن ترك الاستفصال في روايات الباب دليل على جواز كون المني جزءا على الأقل، و قد ذكرنا في مباحث الإجارة أنّ تمليك مثل هذه الامور التبعية أو الضمنية في أبواب الإجارات كثيرة لا تنافي حقيقة الإجارة، كإجارة البستان، المشتملة على تمليك ثمرتها، و إجارة الحيوان مع الانتفاع بلبنها، و المرضعة للإرضاع إلى غير ذلك.

بقي هنا شي ء، و هو إنّه كما يجوز اجرة الضراب أو بيع ما في أصلاب الفحول من

الحيوان، هل يجوز ذلك في الإنسان أيضا؟

لا إشكال في أنّه متوقف على وجود موارد المباح و الحلال هنا.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 59

و تفصيل الكلام فيه إنّه لا ينبغي الشكّ في عدم جواز تلقيح المرأة بنطفة أجنبي لما يستفاد من مذاق الشارع من المنع من تداخل المياه، بل الحكمة في حرمة الزنا هي هذه، و إن لم تكن علّة يدور الحكم مداره وجودا و عدما.

و إن شئت قلت: هل تكون المقدّمات- أي الزنا- من أشدّ المحرّمات، و لكن ذا المقدّمة (انتقال الماء) و هو الأصل جائز؟ و أي فقيه يتفوّه بهذا الحكم؟

و يدلّ على ذلك أو يؤيّده- مضافا إلى ما ذكر- ما ورد فيما عنونه صاحب الوسائل بعنوان باب تحريم الإنزال في فرج المرأة المحرّمة و وجوب العزل في الزنا منها:

1- ما رواه علي بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّ أشدّ الناس عذابا يوم القيامة رجلا أقرّ نطفته «نطفة عقاب» في رحم يحرم عليه» «1».

2- ما رواه علي بن الحسين قال: قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «لن يعمل ابن آدم عملا أعظم عند اللّه عزّ و جلّ من رجل قتل نبيّا أو إماما، أو هدم الكعبة التي جعلها اللّه قبلة لعباده، أو أفرغ ماءه في امرأة حراما» «2».

و هاتان الروايتان تدلّان على المطلوب بإطلاقهما من حيث استقرار الماء في الرحم بأي سبب كان، و حينئذ إذا لقّح امرأته بنطفة غيره عالما عامدا لم يجر أحكام الولد على من يتولّد منها (الأحكام التي تتوقّف على النكاح المحلّل) كما هو ظاهر.

نعم يجوز تلقيح الزوجة من ماء زوجها إذا لم يستلزم محرّما بأن كان بمعالجة الزوج نفسه، أو بطريق آخر لا

يستلزم ذلك، و بذل المال حينئذ في مقابلة ممّا لا يخالف شيئا من القواعد و لا دليل على فساده و بطلانه.

نعم لا شكّ في استفادة الكراهة الثابتة في ضراب الفحل بالنسبة إليه بطريق أولى.

فيجوز للطبيب المعالج أخذ الاجرة على فعله إذا لم يرتكب محرّما، أو اقتضت الضرورة ذلك، أو فعل محرّما مقارنا له و نفس العمل كان حلالا، بل و يجوز للزوج أيضا ذلك على أن يكون الماء تبعا أو جزءا، و قد يقال أنّ الروايات التالية تنافي ما ذكر:

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 60

1- ما رواه محمّد بن مسلم قال سمعت أبا جعفر و أبا عبد اللّه عليهما السّلام يقولان بينما الحسن بن علي في مجلس أمير المؤمنين عليه السّلام إذ أقبل قوم فقالوا يا أبا محمّد! أردنا أمير المؤمنين عليه السّلام قال و ما حاجتكم؟ قالوا: أردنا أن نسأل عن مسألة قال: و ما هي تخبرونا بها؟ قالوا: امرأة جامعها زوجها فلمّا قام منها قامت بحموتها فوقعت على جارية بكر فساحقتها، فوقعت النطفة فيها، فحملت، فما تقول في هذا؟ فقال الحسن عليه السّلام: «معضلة و أبو الحسن لها، و أقول فان أصبت فمن اللّه، و من أمير المؤمنين، و إن أخطأت فمن نفسي، فأرجو أن لا اخطئ إن شاء اللّه: يعمد إلى المرأة فيؤخذ منها مهر الجارية البكر في أوّل وهلة لأنّ الولد لا يخرج منها حتّى تشقّ فتذهب عذرتها، ثمّ ترجم المرأة لأنّها محصنة، و ينتظر بالجارية حتّى تضع ما في بطنها و يردّ الولد إلى أبيه صاحب النطفة ثمّ تجلد الجارية الحدّ»، قال:

فانصرف القوم من عند الحسن عليه السّلام. فلقوا أمير المؤمنين عليه السّلام فقال: ما قلتم لأبي محمّد؟ و ما قال

لكم؟ فأخبروه فقال: لو أنّني المسؤول ما كان عندي فيها أكثر ممّا قال ابني! «1».

و بهذا المضمون الروايات 2 و 3 و 4 و 5 من نفس الباب.

و وجه تنافي هذه الرّوايات مع ما ذكرنا من أنّ إلحاق الولد دليل على جواز نقل النطفة، و فيه إشكال واضح فانّ إلحاق الولد بصاحب النطفة ناشئ عن عدم فعله أمرا محرّما و كان الولد بالنسبة إليه كولد الشبهة.

نعم لو كان صاحب النطفة هو الذي نقل النطفة أو بإذن منه لم يلحق، لأنّه كالعاهر، مضافا إلى أنّ بعض فقرات الرواية غير معمول بها عند الأكثر، و هو الرجم بالمساحقة، و لكن التفكيك بين الفقرات معمول بينهم.

الخامس: بيع الكلب
اشارة

الكلب على قسمين: الهراش و غير الهراش، و الثاني على أقسام، و المراد بالهراش هنا هو الكلب الذي لا ينتفع به منفعة محلّلة مقصودة، و إن كان الهراش لغة بمعنى سيئ الخلق أو

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 61

العقور، و لكن النصوص و الفتاوى الآتية شاهدة على ما ذكرنا.

أمّا الأوّل فبيعه حرام بالإجماع المدّعى في كلمات كثير من الأصحاب، و عن الشافعية و المالكية و الحنبلية حرّمته أيضا، أمّا عن الحنفية و بعض المالكية الجواز، أو الجواز مع الكراهة.

و الدليل عليه مضافا إلى ما ذكر روايات كثيرة: ما بين مطلق محمول على خصوص الهراش بقرينة ما يأتي، و مقيّد دالّ على المطلوب فلا تصل النوبة إلى البحث عن إسنادها و الكلام فيها صحّة و فسادا. أضف إلى ذلك أنّها لا منفعة لها محلّلة، فلا يجوز بيعها بمقتضى القاعدة التي عرفتها غير مرّة.

إنّما الكلام في غير الهراش، و هو على قسمين.

«صيود» و «غير صيود». أمّا الأوّل فلا كلام بين الأصحاب في جواز بيعها، و ادّعى

غير واحد منهم الإجماع عليه، و لم ينقل خلاف فيه إلّا عن ابن أبي عقيل، و إليه ذهب أكثر الجمهور كما عرفت.

و يدلّ على الجواز روايات كثيرة واردة في الباب 14 من أبواب ما يكتسب به و هي:

ما رواه أبو عبد اللّه العامري قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ثمن الكلب الذي لا يصيد فقال: «سحت و أمّا الصيود فلا بأس» «1».

و ما رواه محمّد بن مسلم و عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت، ثمّ قال: و لا بأس بثمن الهرّ» «2».

و ما رواه أبو بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ثمن كلب الصيد. قال: «لا بأس بثمنه و الآخر لا يحلّ ثمنه» «3».

و ما رواه أبو بصير أيضا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام (في حديث) أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال: «ثمن الخمر و مهر البغي و ثمن الكلب الذي لا يصطاد من السحت» «4».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 62

و ما رواه الوليد العماري قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ثمن الكلب الذي لا يصيد فقال:

«سحت و أمّا الصيود فلا بأس» «1».

و ما رواه الشيخ في (المبسوط) يجوز بيع كلب الصيد، و روي أنّ كلب الماشية و الحائط مثل ذلك «2».

و ما يظهر من عبارات بعضهم من قصر الجواز على السلوقي، كالشيخ في النهاية فهو غير مخالف لما ذكرنا، لعدم ورود التصريح بالسلوقي في شي ء من رواياتنا، فالمراد به مطلق الصيود، لأنّ «السلوق» كانت قرية في اليمن أكثر كلابها معلّمة، فنسب الصيود إليها، كما صرّح به غير واحد من

الأكابر «3».

و الانصراف إليه كما ترى بعد كثرة الكلاب المعلّمة في غيرها، مضافا إلى أنّ القاعدة التي عرفتها غير مرّة عامّة لما ينتفع به، و بالجملة أمر هذا القسم أظهر من أن يحتاج إلى مزيد بحث.

إنّما البحث و الكلام في أقسام اخر ممّا ينتفع بها من كلب الماشية و البستان و الزرع و حراسة البيوت، قد نشأت في عصرنا كلاب معلّمة اخرى لشتّى الامور التي تكثر الحاجة إليها، منها كلاب البوليس، و كلاب كشف الأجساد تحت الإنقاض أو اكتشاف المخدّرات، و كلاب حراسة الأولاد، أو المستخدمة لاشتراء بعض الأشياء، أو غير ذلك، و لكن مورد الكلام بين الأصحاب هو خصوص الكلاب الثلاثة و إن كان الحكم عامّا باعتقادنا.

و المشهور من الشيخ و من تأخّر عنه الجواز، و لكن كلام الشيخ نفسه متهافت، ففي بعض كتبه كالنهاية «4» منع من جواز بيعها، و في الخلاف جوّز في باب الإجارة و منع في باب البيع «5»، و في المبسوط بعد ذكر جواز بيع الكلب المعلّم للصيد قال: «و روي أنّ كلب الماشية و الحائط كذلك» «6».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 63

و لكن عن غير واحد من قدماء الأصحاب عدم جواز بيعها، و إليه ذهب بعض من تأخّر، أو بعض المعاصرين، إنّما الكلام في الدليل على ذلك لعدم كون الأقوال هنا و لو بلغت مبلغ الإجماع بكاف، كيف و لم تبلغ أكثر من الشهرة؟!

ادلّة المجوّزين:

و العمدة في أدلّة المجوّزين امور:

الأوّل: و هو الأصل في هذا الباب إنّ القاعدة تقضي صحّة بيع هذه الكلاب كلّها، لوجود المنافع المحلّلة فيها، لأنّهم متّفقون في جواز الانتفاع بها، و حينئذ لا يبقى مانع من جهة القواعد في صحّتها.

و لكن الكلام في أنّه هل

قام على خلاف هذا الأصل دليل، أم لا؟ غاية ما يمكن أن يقال إنّ مفهوم غير واحد ممّا ورد في جواز البيع في الكلب الصيود أنّ غيره ممنوع مطلقا، هراشا كان أم غير هراش.

منها ما رواه في الصحيح محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت» «1»، فإنّه عامّ بمنطوقه لما ذكر أجمع. و بهذا المضمون الأحاديث 1، 5، 6، 7 من الباب 14 و قد مضى ذكرها (إلّا أنّ الحديث رقم 5 بناء على أنّ المراد بالآخر جميع أنواع الكلب غير الصيود، و الحديث رقم 6 و ان كان بمضمون الحديث رقم 5 إلّا أنّها رواية اخرى نقلت عن رسول اللّه، بل هي أصرح، لأنّ فيها: ثمن الكلب الذي لا يصطاد من السحت).

هذا غاية ما يمكن الاستدلال به على الحرمة، إلّا أن يحمل غير الصيود على الهراش، و هو تقييد بلا دليل، فان كان دليل المجوّزين هذا فهو ممّا لا يمكن المساعدة عليه.

الثّاني: ما ورد في أبواب الدّيات- و لعلّه العمدة في الباب- من ثبوت الدّية في الصيود و الماشية و كلب الزرع و كلب الأهل و غير ذلك.

و من الجدير بالذكر إنّه جعل فيها الصيود و غيره في عرض واحد، و ورد الحكم فيها بلسان واحد، ممّا يدلّ على كونها مشتركة في الأحكام.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 64

و هذه الروايات و إن اختلفت مضامينها و لكنّها معمول بها عند الأصحاب، و قد أفتوا بها في أبواب الدّيات، و ذكروا في حلّ اختلافها ما يطلع عليه من راجعها، (أوردها صاحب الوسائل قدّس سرّه في الباب 19 من أبواب ديات النفس) و إليك شطر منها:

1- ما رواه أبو

بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «دية الكلب السلوقي أربعون درهما، جعل ذلك له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و دية كلب الغنم كبش، و دية كلب الزرع جريب من برّ، و دية كلب الأهل قفيز من تراب لأهل» «1».

2- ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام فيمن قتل كلب الصيد قال: «يقوّمه و كذلك البازي و كذلك كلب الغنم و كذلك كلب الحائط» «2».

و هذا دليل على أنّ لكلّ منها مالية، و إذا كان كذلك فيجوز بيعها، و لكن المشهور كما حكى عنهم لم يعملوا بهذه الرواية، أي الرواية الثانية، بل أفتوا بمضمون الرواية الاولى، ففي كلب الصيود أربعون درهما، و في كلب الغنم كبش أو عشرون درهما (كما في الرواية الآتية) بعنوان الدّية.

3- ما رواه ابن فضّال عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «دية كلب الصيد أربعون درهما، و دية كلب الماشية عشرون درهما، و دية الكلب الذي ليس للصيد و لا للماشية زنبيل من تراب على القاتل أن يعطي و على صاحبه أن يقبل» «3».

و ليس المقام مقام البحث عن خصوصياتها، و لكن الدّية هنا ليست إلّا خسارة قيمتها عيّنها الشارع تعبّدا في مقدار معيّن، و العجب ممّن قال بأنّ ثبوت الدّية لها في الشريعة لا يدلّ على ملكيتها، فضلا عن جواز المعاوضة عليها، كما في دية الحرّ، بل لعلّه كاشف عن عدم ملكيتها، و إلّا لكان الثابت نقص القيمة، أو تخيير المالك بينه و بين الدّية كما في العبد و الأمة «4».

و فيه أوّلا: إنّ احترام الكلاب ليس إلّا لماليتها و لا يقاس

بالحرّ و غيره.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 65

و ثانيا: إنّها دلّت على الدّية في الصيود و غيرها على نحو واحد و في سياق واحد، مع أنّ الصيود له مالية بلا إشكال.

و ثالثا: يمكن الجمع بين ما ورد فيها من التقييم و غيرها ممّا ورد في الدّية بالحمل على التخيير، لو صحّت اسنادها، كما في العبد و الأمة.

و الإنصاف أنّ ظهورها في مالية هذه الكلاب ممّا لا ينكر، و الظاهر أنّ المشهور أيضا فهموا الحكم من هذه و أفتوا بها، و إلّا فظهور إطلاق حرمة البيع لا يمكن إنكاره.

الثالث: مرسلة الشيخ في المبسوط ممّا استدلّ بها غير واحد منهم حيث قال: و الكلاب على ضربين أحدهما لا يجوز بيعه بحال و الآخر يجوز ذلك فيه، فما يجوز بيعه ما كان معلّما للصيد، و روي أنّ كلب الماشية و الحائط كذلك «1».

لكن أورد على دلالته بأنّ هذه العبارة لم تكن في كلام المعصوم قطعا، و يمكن أن يجاب عنه بأنّه من قبيل النقل بالمعنى، و هو غير قادح لا سيّما من مثل الشيخ قدّس سرّه.

نعم انجباره بعمل الأصحاب لا يخلو عن شبهة، لاحتمال استناد المشهور في الجواز إلى ما عرفت من أخبار الدّيات، نعم هو مؤيّد للمدّعى على كلّ حال.

الرّابع: لا شكّ في جواز إجارة هذه الأنواع من الكلاب، و إذا أضفت إليه الملازمة بين جواز الإجارة و صحّة البيع كان دليلا على المطلوب، و الإنصاف أنّه لا يتجاوز عن التأييد أيضا.

لا لأنّ الملازمة منقوضة بصحّة إجارة الحرّة و أمّ الولد- مع عدم جواز بيعهما، فإنّه قياس مع الفارق، لأنّ الكلام في إجارة الأعيان، لا الأشخاص، و لأنّ أمّ الولد فيها مانع خاصّ مذكور في بابه، بل لأنّ

الدليل على الملازمة غير ثابت و ان كان مظنونا.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ الأحسن في بدء النظر بملاحظة الروايات الخاصّة الواردة في البيع عدم الجواز في غير كلب الصيد، و لكن نقل الجواز عن الأصحاب حتّى حكاه في المفتاح من 24 كتابا، مع دعوى الإجماع من بعضهم «2» و ما دلّ على وجوب الدّية فيها، و غير

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 66

ذلك، و عدم كون هذه الامور تعبّدية في الغالب، و كون المنافع في غير الصيود أكثر، لأنّ الحاجة إلى كلب الماشية و الحارث و مثلهما أكثر جدّا، كلّ ذلك يصلح دليلا على الجواز، و لا أقل من أنّه يوجب الوثوق بصدور رواية المبسوط، و كفى بذلك دليلا، هذا، و لكن مع ذلك الأولى عدم ترك الاحتياط.

بقى هنا امور:

1- إلحاق الكلاب المعلّمة في عصرنا بكلب الصيود غير بعيد، بل لعلّ الأمر فيها أسهل، لعدم وجودها في تلك الأعصار فلا تشمله روايات المنع، فيرجع إلى العمومات «فتدبّر».

2- هل المراد بالصيود ما يصيد بشخصه فعلا بأن يكون معلّما، أو بشخصه بالقوّة، كالجرو، أو بنوعه كنوع خاص من الكلاب القابلة للتعليم و إن لم يكن بشخصه قابلا؟

الظاهر انتفاء الأخير لعدم شمول ظاهر الإطلاقات له، إنّما الكلام في الأوّلين، و ظاهر تعبيرات الروايات مختلفة، بعضها ظاهرة في الفعلية كقوله «ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت» «1» بناء على حمله على الفعلية، و لكن في بعضها الحكم بعنوان الصيود «2» أو كلب الصيد «3».

و هذا عام ظاهرا، و لكن لا يخلو عن إشكال، و لعلّه ظاهر في الملكة القريبة من الفعل، فلو لم يكن معلّما بالفعل يشكل بيعه.

3- يجوز هبة هذه الكلاب و لو معوّضة، و لو قلنا بحرمة بيعها،

و كذا إجارتها أو إعطاء شي ء لرفع اليد عنها، حتّى يحوزها، نعم بالنسبة إلى الصلح الذي فائدته فائدة البيع أو يكون بيعا في محلّ البيع مشكل، و الدليل على ما عرفت ظاهر.

السادس و السابع: الخمر و الخنزير
اشارة

لا يجوز بيعهما بالإجماع حتّى لدى أهل السنّة، و قد وردت روايات كثيرة في حرمة بيعهما و إليك بعض منها:

أمّا في مورد الخمر فمنها:

1- ما رواه عمّار بن مروان قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام فقال: «... و السحت أنواع كثيرة منها اجور الفواجر و ثمن الخمر و النبيذ و المسكر ...» «1».

2- ما رواه سماعة عنه عليه السّلام قال: «السحت أنواع كثيرة ... و ثمن الخمر» «2».

3- ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «السحت ثمن الميتة ... و ثمن الخمر» «3».

4- ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال: «ثمن الخمر ... من السحت» «4».

5- و ما رواه محمّد بن علي بن الحسين قال: قال عليه السّلام: «... و ثمن الخمر سحت» «5».

6- ما رواه أنس بن محمّد عن أبيه جميعا عن جعفر بن محمّد عن آبائه في وصيّة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لعلي عليه السّلام قال: «يا علي من السحت ... و ثمن الخمر» «6».

7- ما رواه عمّار بن مروان قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «... و السحت أنواع كثيرة ... و ثمن الخمر و النبيذ المسكر» «7».

8- ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في رجل ترك غلاما له في كرم له يبيعه عنبا أو عصيرا فانطلق الغلام فعصر خمرا، ثمّ

باعه. قال: لا يصلح ثمنه ... و قال: «إنّ الذي حرّم شربها حرّم ثمنها» «8».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 68

9- ما رواه زيد بن علي عن آبائه عليهم السّلام قال: «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم الخمر و عاصرها و معتصرها و بائعها و مشتريها و ساقيها و آكل ثمنها و شاربها و حاملها و المحمولة إليه» «1».

10- ما رواه جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لعن رسول اللّه في الخمر عشرة غارسها و حارسها و عاصرها و شاربها و ساقيها و حاملها و المحمولة و بائعها و مشتريها و آكل ثمنها» «2».

11- ما رواه الحسين بن زيد عن الصادق عليه السّلام عن آبائه (في حديث المناهي) إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم نهى أن يشتري الخمر و أن يسقى الخمر و قال: «لعن اللّه الخمر و غارسها و عاصرها و شاربها و ساقيها و بائعها و مشتريها و آكل ثمنها و حاملها و المحمولة إليه» «3».

12- ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن ثمن الخمر قال: «أهدي إلى رسول اللّه راوية خمر بعد ما حرّمت الخمر فأمر بها أن تباع فلمّا أن مرّ بها الذي يبيعها ناداه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم من خلفه: يا صاحب الراوية إنّ الذي حرّم شربها فقد حرّم ثمنها، فأمر بها فصبّت في الصعيد، فقال: ثمن الخمر ... من السحت» «4». و ما رواه جرّاح المدائني قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «من أكل السحت ثمن الخمر ...» «5».

و أمّا «الخنزير» فتدلّ عليها أيضا روايات كثيرة:

1- ما رواه بعض أصحابنا

عن الرضا عليه السّلام قال سألته عن نصراني أسلم و عنده خمر و خنازير و عليه دين، هل يبيع خمره و خنازيره و يقضي دينه؟ قال: «لا» «6».

2- و في مضمرة يونس في مجوسي باع خمرا أو خنازير إلى أجل مسمّى ثمّ أسلم قبل أن يحلّ المال، قال: «له دراهمه»، و قال: أسلم رجل و له خمر أو خنازير ثمّ مات و هي في ملكه و عليه دين قال: «يبيع ديانه أو ولي له غير مسلم خمره و خنازيره و يقضي دينه انوار الفقاهة، ج 4، ص: 69

و ليس له أن يبيعه و هو حي و لا يمسكه» «1».

3- ما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام قال سألته عن رجلين نصرانيين باع أحدهما خمرا أو خنزيرا إلى أجل، فأسلما قبل أن يقبضا الثمن هل يحلّ له ثمنه بعد الإسلام؟ قال: «إنّما له الثمن فلا بأس أن يأخذه» «2».

و لكن يعارضها روايات كثيرة دالّة على جواز أخذ ثمن الخمر و الخنزير و أنّه يحلّ لآخذه و إن كان حراما لبائعه مثل:

1- ما رواه منصور قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: لي على رجل ذمّي دراهم فيبيع الخمر و الخنزير و أنا حاضر، فيحلّ لي أخذها؟ فقال: «إنّما لك عليه دراهم فقضاك دراهمك» «3».

2- و ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام في رجل كان له على رجل دراهم فباع خمرا و خنازير و هو ينظر، فقضاه. فقال: «لا بأس به، أمّا للمقتضي فحلال و أمّا للبائع فحرام» «4».

3- ما رواه زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الرجل يكون لي عليه الدراهم فيبيع بها خمرا و خنزيرا

ثمّ يقضي منها. قال: «لا بأس أو قال: خذها» «5».

4- و ما رواه محمّد بن يحيى الخثعمي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يكون لنا عليه الدين فيبيع الخمر و الخنازير فيقضينا فقال: «فلا بأس به، ليس عليك من ذلك شي ء» «6».

5- ما رواه أبو بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يكون له على الرجل مال فيبيع بين يديه خمرا و خنازير يأخذ ثمنه قال: «لا بأس» «7».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 70

و قد ذكر في وجه الجمع بينها وجوه:

1- الحمل على ذمّيين- كما في الوسائل «1».

2- الحمل على المنفعة المحلّلة كالخنزير لتربية الدواب، فقد يقال إنّه لو أنس الخيل به زاد سمنها و طاب حالها! و الخمر للتخليل!

3- و ربّما يتوهّم حمل المانعة على التكليفي و المجوّزة على الوضعي.

و الأخير لا شكّ في بطلانه لذكر الخمر فيها، و قد صرّح في روايات كثيرة بفساد بيع الخمر و حرمة ثمنها.

و الثاني أيضا بعيد، لإطلاق روايات الباب كما يأتي أيضا شرحه.

و أمّا الأوّل فهو غير بعيد، و لكن لا يساعده (2/ 60) للتصريح فيها بأنّه حرام للبائع، و ينافي تكليف الكفّار بالفروع أيضا.

اللهمّ إلّا أن يقال لهذه القاعدة بعض الاستثناءات «فتدبّر».

و يمكن طرحها أيضا، و بالجملة لا يمكن رفع اليد عمّا اشتهر رواية و فتوى، بل بلغ حدّ الإجماع من حرمتها وضعا و فساد بيعها بمثل هذه الامور.

بقي هنا امور
الأمر الأوّل: بيع الخمر أو الخنزير؟

هل يجوز بيع الخمر أو الخنزير بقصد منافعهما المحلّلة كالتخليل في الخمر و تربية الدواب في الخنزير كما قد يقال؟

أمّا الثاني فالظاهر أنّه من المنافع النادرة، و أمّا الأوّل فهو و إن كان غير نادر، لأنّ الخلّ- كما يقول أهله- لا يكون

إلّا من طريق الخمر، فالعنب دائما يتخمّر أوّلا ثمّ يتخلّل، و لكن ظاهر روايات التحريم عدم جواز بيعها، و كذا الخنزير مطلقا و إن كان ظاهر كثير من روايات باب 31 من الأشربة المحرّمة «2» بل و صريحها جواز التخليل، و لذا أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم انوار الفقاهة، ج 4، ص: 71

باهراق ما اهدي إليه من راويتين من الخمر من رجل من ثقيف، و هي صحيحة محمّد بن مسلم و غيرها «1».

و القول بأنّ ذلك كان من احتمال شرب المشتري أو غير ذلك، مخالف لظاهره، فالظاهر عدم جواز بيعهما على حال.

نعم قد يتوهّم الجواز ممّا ورد في رواية جميل قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: يكون لي على الرجل الدراهم فيعطيني بها خمرا. فقال: «خذها ثمّ أفسدها». قال عليّ: «و اجعلها خلّا» «2».

و لكنّه توهّم فاسد، فإنّ غايته- مضافا إلى ضعف سنده، لأنّ فيه علي بن حديد- جواز الأخذ بقصد التخليل وفاء عن الدين، اللهمّ إلّا أن يقال: إذا جاز أخذه وفاء جاز شراؤه أيضا بهذا القصد، و هو باطل، لعدم الدلالة فيه على هذا المعنى بوجه.

و أمّا التوجيهان اللذان ذكرهما شيخنا الأعظم العلّامة الأنصاري قدّس سرّه في مكاسبه من أخذها مجانا و تخليلها لصاحبها، ثمّ أخذها وفاء عن الدين، أو أخذ الخمر مجانا ثمّ تخليلها لنفسه «3» فهما مخالفان لظاهر الرواية، اللهمّ إلّا أن يقال يجوز ذلك في مقام الجمع بينه و بين غيره من الأدلّة المانعة عن البيع و الشراء.

الأمر الثاني: في بيع الكحول (الكل)

هل يجوز بيع الكحول الذي يستفاد منه في الطبّ و كثير من الصناعات، أم لا؟ و هل هو نجس بناء على نجاسة الخمر كما هو المشهور؟

أمّا الثاني

فهو فرع كونه مسكرا مائعا بالأصالة، و كون كلّ مسكر مائع كذلك نجسا.

أمّا الكبرى فهو المشهور، و أمّا الصغرى ففيه أنّه ليس من المسكر ظاهرا، بل هو من السموم القاتلة، نعم إذا رقّقت بإضافة الماء إليها قد يمكن شربها، و لكن هذا المقدار لا

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 72

يخرجها عن عنوان السمّ فعلا و لا يدخلها تحت عنوان المسكر في هذا الحال.

و أمّا الأوّل فهو جائز بلا إشكال بعد عدم صدق عنوان الخمر و المسكر عليه، و قد نهى عن بيع الخمر بل و المسكر. نعم لو قلنا بأنّه مسكر أمكن دخوله فيما رواه عمّار بن مروان قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الغلول فقال: «... و السحت أنواع كثيرة منها اجور الفواجر و ثمن الخمر و النبيذ و المسكر ...» «1».

حيث عطف المسكر على النبيذ، و لكن المحكي عن بعض النسخ كون المسكر وصفا للنبيذ، و هو الظاهر، لأنّ النبيذ على قسمين: مسكر و غير مسكر و هو:

ما رواه عمّار بن مروان قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «... و السحت أنواع كثيرة ... و ثمن الخمر و النبيذ المسكر ...» «2».

نعم إذا كان وصفا أمكن الأخذ به فإنّه في مقام التعليل كرواية (12/ 5) فتأمّل.

و على كلّ حال فالأمر في بيعها سهل كطهارتها على الأقوى.

الأمر الثّالث: حكم المواد المخدرة

المواد المخدّرة الاخرى إذا كانت جامدة كما هو الغالب، فهل يلحق بيعها ببيع الخمر و إن لم تكن نجسة، بل و لا تستعمل كشراب، بل يتدخن بها أو تستعمل على سبيل التزريق و الغرز، أم لا؟

و هنا امور:

أوّلها: لا شكّ في حرمة استعمالها، فإنّ فيها سكرا، و السكر له مراتب و أشكال قد يكون موجبا لاختلال الحواس

جدّا و عدم القدرة على حفظ التعادل مع نشاط كاذب، و قد يكون أخفّ منه و لا يوجب بعض هذه الامور، و لكن الظاهر أنّ في جميع المخدرات نوع من السكر، و لا أقل من جواز الأخذ بالملاك، فيحرم استعمالها، نعم قد يشكّ في بعض مصاديقها

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 73

من ناحية صدق السكر، أو يعلم بعدمه كالمواد الأفيونية، فلو قلنا بحرمتها فمن ناحية كونها موجبة للفساد و أنواع الضرر و ليس ببعيد، و قد ورد في روايات الباب التاسع عشر من الأشربة المحرّمة أنّ كلّ مسكر حرام مثل:

1- ما رواه علي بن يقطين عن أبي الحسن الماضي عليه السّلام قال: «إنّ اللّه عزّ و جلّ لم يحرّم الخمر لاسمها و لكن حرّمها لعاقبتها، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر» «1».

2- و ما رواه علي بن يقطين عن أبي إبراهيم عليه السّلام قال: «إنّ اللّه عزّ و جلّ لم يحرّم الخمر لاسمها، و لكن حرّمها لعاقبتها فما فعل فعل الخمر فهو خمر» «2».

3- و ما رواه محمّد بن عبد اللّه عن بعض أصحابنا قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام لم حرّم اللّه الخمر فقال: «حرّمها لفعلها و فسادها» «3».

4- و ما رواه أبو الجارود قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن النبيذ أخمر هو؟ فقال: «ما زاد على الترك جودة فهو خمر» «4».

و دلالتها بلفظها أو ملاكها ظاهر.

ثانيها: لا ينبغي الشكّ في عدم دخولها تحت عنوان الخمر، فإنّ المتبادر منها ما يكون مائعا بالأصالة متّخذا من العنب، و على فرض التعميم يشمل ما يتّخذ من غيره من الشراب أيضا، و أمّا هذه المواد الجامدة غير المشروبة فيبعد دخولها فيها جدّا، و لكن هذا لا

يمنع عن حرمتها لما مرّ.

ثالثها: على ما ذكرنا من حرمة استعمالها لا شكّ في حرمة بيعها، لأنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه، اللهمّ إلّا أن تكون لها منافع اخر معتدّة بها في الأدوية و شبهها، فحينئذ يجوز بيعها بعنوانها، إلّا أن تكون مظنّة للعون على الفساد من ناحية المشتري و غيره، فلا يجوز من هذه الجهة، و إلّا فهي بعنوانها الأوّلي جائز البيع كما هو كذلك في بعض المواد الأفيونية التي تتّخذ منها الأدوية.

الأمر الرابع: الانتفاع بجلد الخنزير و سائر اجزائه

هل يجوز الانتفاع بجلد الخنزير أو شعره أو سائر أجزائه؟ و على فرض الجواز هل يجوز بيعه لذلك؟

ظاهر غير واحد من القدماء و المتأخّرين جواز الانتفاع، و يمكن الاستدلال عليه بما ورد في أبواب المياه ممّا يدلّ على ذلك، مثل:

1- ما رواه زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير يستقي به الماء من البئر، هل يتوضّأ من ذلك الماء؟ قال: «لا بأس» «1».

و السؤال و إن كان عن الوضوء، و لكن فيه إمضاء الانتفاع ضمنا، و لا يهمّنا أنّ الوضوء بالماء انتفاع بالحبل، أم لا. كما أتعب بعض الأعلام نفسه في ذلك و لم يأت بما يروي الغليل «2» بل مدار الاستدلال إمضاء الانتفاع عن الحبل المتّخذ منه، و لكن حيث تدلّ هذه الرواية على طهارة الماء القليل و لو لاقى النجس يشكل الاعتماد عليه، و إن كان هناك توجيهات لعدم نجاسة الماء أو عدم ملاقاته، و لكنّه بعيد جدّا «3».

2- ما رواه زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث قال: قلت له: شعر الخنزير يعمل حبلا و يستقي به من البئر التي يشرب منها أو يتوضّأ منها؟ فقال: «لا

بأس» «4».

و هذه الرواية كسابقتها مضمونا و لا يبعد أن تكونا رواية واحدة.

3- ما رواه زرارة قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن جلد الخنزير يجعل دلوا و يستقي به الماء، قال: «لا بأس به».

4- و مثله ما رواه الصدوق رحمه اللّه مرسلا «5» و ظاهره الاستناد إلى الإمام عليه السّلام.

و يستفاد من مجموع هذه الروايات على إختلاف مضامينها جواز الانتفاع بجلد الخنزير و شعره.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 75

إن قلت: جلد الخنزير من الميتة. قلنا: الانتفاع به مستثنى بهذا، أو إنّ الميتة ما مات حتف أنفه لا ما لم يذكّ كما حرّرناه في محلّه.

أضف إلى ذلك ما ورد في الباب 58 من أبواب ما يكتسب به مثل:

1- ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قلت له: إنّ رجلا من مواليك يعمل الحمائل بشعر الخنزير قال: «إذا فرغ فليغسل يده» «1».

و السؤال فيه و إن كان ظاهرا عن طهارته و نجاسته، و لكن يعلم المقصود من فحواه.

2- و ما رواه بردّ الإسكاف قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن شعر الخنزير يعمل به؟ قال:

«خذ منه فاغسله بالماء حتّى يذهب ثلث الماء و يبقى ثلثاه، ثمّ اجعله في فخارة جديدة ليلة باردة فإن جمد فلا تعمل به و إن لم يجمد فليس له دسم فاعمل به، و اغسل يدك إذ مسسته عند كلّ صلاة»، قلت: و وضوء؟ قال: «لا اغسل يدك كما تمسّ الكلب» «2».

3- و ما رواه بردّ الإسكاف أيضا قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام إنّي رجل خرّاز و لا يستقيم عملنا إلّا بشعر الخنزير نخرز به، قال: «خذ منه و بره فاجعلها في فخارة، ثمّ أوقد تحتها حتّى يذهب

دسمها ثمّ اعمل به» «3».

4- و ما رواه برد الإسكاف أيضا قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام جعلت فداك إنّا نعمل بشعر الخنزير فربّما نسي الرجل فصلّى و في يده منه شي ء. فقال: «لا ينبغي أن يصلّي و في يده منه شي ء، فقال: خذوه فاغسلوه فما كان له دسم فلا تعملوا به، و ما لم يكن له دسم فاعملوا به و اغسلوا أيديكم منه» «4».

و لعلّ هذه الروايات الثلاثة واحدة و ان نقلت بعبارات مختلفة.

ثمّ إنّه إذا حلّ شي ء من جهة منافعه حلّ ثمنه.

و من المعلوم أنّ أدلّة حرمة بيع الخنزير لا تشمل هذه الأجزاء لا سيّما مع كون المقصود منه اللحم و كون هذه الامور تبعا.

الأمر الخامس: في حكم العصير العنبي إذا غلى

قد ذكرنا في أبواب الطهارة و النجاسة أنّ غليان العصير كأنّه لفظ مشترك مستعمل في معنيين مختلفين جدّا:

1- الغليان بنفسه، و هو النشيش الذي يكون مقدّمة للتخمير و الإسكار.

2- الغليان الحاصل بالنار الذي ليس كذلك، و ما أبعد بين النوعين من الغليان من حيث الواقع و الأثر.

و بالتعبير العصري أنّ الأوّل من قبيل التغييرات الكيمياوية، و الثاني من قبيل التغييرات الفيزيائية، ففي الأوّل تتبدّل ماهية العصير بشي ء آخر، و في الثاني لا يتغيّر إلّا ظاهره، بل قد لا يتغيّر ظاهره أيضا، فقد قال أهل الفنّ إنّ المواد الحلوة تنجذب بالمواد المخمّرية، و هي خليات حيّة، فتوجب التحليل فيها، فتنقلب إلى المواد الكحولية، و غاز الكربن، و هذا الغاز هو الذي يوجب النشيش، و هو المسمّى بغليان الخمر، و في هذا الحال يتغيّر طعمه، و كما ورد في كلماتهم في الباب «يشتدّ» و كذا تتغيّر رائحته، و هذا يوجب حرمته و نجاسته، لأنّه مسكر مائع.

و في روايات الباب

3 من الأشربة المحرّمة تجد شاهد صدق لنجاسة الخمر و كما هو المشهور و المعروف، و إليك شطر من هذه الروايات:

1- ما رواه محمّد بن عاصم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا بأس بشرب العصير ستّة أيّام». قال ابن أبي عمير معناه ما لم يغل «1».

2- ما رواه حمّاد بن عثمان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن شرب العصير قال:

«تشرب ما لم يغل فإذا غلا فلا تشربه» قلت: أي شي ء الغليان؟ قال: «القلب» «2».

3- و ما رواه ذريح قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «إذا نشّ العصير أو غلا حرم» «3».

و قد ثبت عندهم أنّ المواد الحلوة لا تنقلب بالكحول إلّا إذا كان فيه كمية وافرة من انوار الفقاهة، ج 4، ص: 77

«الماء» و لذا لا ينقلب العصير خمرا بعد الثلثين.

و أمّا الثاني، أي الغليان بالنار فانّه لا يوجب أي تغيير كيمياوي، و قد ذكرنا في محلّه من كتاب الطهارة إنّه لا يوجب إلّا الحرمة لا النجاسة.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى حكم بيعه، سواء قلنا بحرمته أو بنجاسته أيضا، و قلّما تعرّض له الأكابر كما اعترف به بعض المحقّقين فالمسألة غير محرّرة في كلمات القدماء، و ذكر العلّامة الأنصاري قدّس سرّه إنّه لم يخالف فيه صريحا إلّا في مفتاح الكرامة «1» «2».

و حاصل ما استدلّ به لحرمة بيعها بعد الغليان امور:

أوّلها: نجاستها و قد عرفت غير مرّة أنّ مجرّد النجاسة (على القول به هنا) لا يوجب فساد البيع إذا كانت له منافع محلّلة اخرى كما في المقام و هو ذهاب ثلثيه ثمّ شربه.

ثانيها: حرمتها و عدم ماليتها شرعا، فلا يجوز بذل المال بازائها، و فيه إنّها مال معيوب كما

صرّح به شيخنا الأعظم الأنصاري قدّس سرّه «3» و يظهر من غيره.

و لذا لا يضمن من غلاه إلّا ارش العيب، بل قد لا يكون هذا عيبا بل حسنا إذا ذهب مقدار من مائه و قربت الطهارة فلا ارش، و إن فعل حراما للتصرّف في مال غيره بغير إذنه، و قياسه على الخمر المغصوبة القابلة للتخليل قياس مع الفارق، و إن ذكره في جامع المقاصد «4».

و على كلّ حال فهذا دليل على الصحّة، لأنّ المالية و المنفعة المعتدّة بها ثابتة فيها فيصحّ بيعه.

ثالثها: روايات عديدة منها:

1- ما رواه أبو كهمس قال: سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن العصير، لي كرم و أنا أعصره كلّ سنة، و أجعله في الدنان و أبيعه قبل أن يغلي، قال عليه السّلام: «لا بأس به، و إن غلا فلا يحلّ بيعه» ثمّ قال: «هو ذا نحن نبيع تمرنا ممّن نعلم أنّه يصنعه خمرا» «5».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 78

و لعلّ ظاهر غليانه بنفسه بقرينة إسناد الفعل إلى العصير نفسه، و بقرينة ذيله الدالّ على أنّ الكلام في التخمير، و لكن سند الرواية ضعيف بأبي كهمس، و مضمونها أيضا منكر، لأنّ بيع العنب ممّن يعمله خمرا لو فرض جوازه يبعد صدوره من الإمام عليه السّلام جدّا.

2- و ما رواه أبو بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ثمن العصير قبل أن يغلي لمن يبتاعه ليطبخه أو يجعله خمرا. قال عليه السّلام: «إذا بعته قبل أن يكون خمرا و هو حلال فلا بأس» «1».

فانّ قوله «و هو حلال» دليل على عدم جواز بيعه إذا كان حراما.

و فيه: إنّ الظاهر أنّ المراد منه الحرمة للخمرية، و لا نظر له إلى حالة

الغليان بالنار جدّا، هذا مضافا إلى ضعف سندها بعلي بن أبي حمزة.

و ما رواه في سؤاله من قوله «ليطبخه» كأنّه إشارة إلى ما يطبخ من العصير للشراب، و يسمّى بالفارسية (مى پخته و باده) و إلّا الطبخ للشيرج ممّا لا إشكال به، و لا يحتاج إلى السؤال، أضف إلى ذلك إنّه حكى عن بعض نسخ التهذيب و الكافي «فهو حلال» بدل «و هو حلال» فيكون كالصريح في كون الجواب عمّا لا يكون خمرا أو يكون خمرا.

3- و ما رواه أبو بصير قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام و سئل عن «الطلا»، فقال: «إن طبخ حتّى يذهب منه اثنان و يبقى واحد فهو حلال، و ما كان دون ذلك فليس فيه خير» «2».

4- و ما رواه محمّد بن الهيثم عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن العصير يطبخ بالنار حتّى يغلي من ساعته أ يشربه صاحبه؟ فقال عليه السّلام: «إذا تغيّر عن حاله و غلا فلا خير فيه حتّى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه» «3».

و طريق الاستدلال بهما واحد، و هو نفي الخير فيهما عن العصير المغلي.

و فيه- مضافا إلى ضعف الأوّل بعلي بن أبي حمزة، و الثاني بالإرسال- إنّ نفي الخير ظاهر في عدم إمكان الانتفاع به قبل ذهاب الثلثين بالشرب، و أوضح شاهد على ذلك انوار الفقاهة، ج 4، ص: 79

السؤال عن الحليّة في الأوّل (أ هو حلال) و عن الشرب في الثاني (أ يشربه صاحبه) فلا خير فيه من حيث الشرب، فشي ء من هذه لا يكون دليلا على حرمة البيع، فالظاهر جواز بيعه، نعم بيعه ممّن يستحلّ شربه قبل ذهاب الثلثين لا يخلو من إشكال، و لكنّه أمر آخر

لا دخل له بما نحن بصدده.

الامر السادس: حكم بيع المتنجّسات
اشارة

المشهور أنّ المتنجّسات إذا لم تقبل التطهير لا يجوز بيعها و إن قبلت التطهير جاز، هذا و لكن هنا تفصيل، حاصله: إنّ المتنجّس على أنحاء:

1- ما لا يقبل التطهير مع توقف منافعه المعتدّ بها عليه، كالمائعات المضافة المشروبة.

2- ما لا يقبل ذلك، و لكن بعض منافعها المعتدّ بها غير متوقّفة على الطهارة، كالدهن المتنجّس الذي يمكن الانتفاع به للتطهير و الاستصباح و الصابون و غيرها.

3- ما يقبل التطهير سواء كانت منافعه متوقفة على الطهارة كالفواكه و شبهها و ما لا يتوقّف كالفرش و المراكب و غيرها.

أمّا الأوّل: فيدلّ على عدم صحّة بيعها الأصل السابق، و أنّه لا مالية له شرعا يقابل بالمال، أضف إلى ذلك الروايات الواردة في الزيت و السمن و العسل التي مات فيه جرذ، أو شبه ذلك، و إليك شطر منها، و هي روايات أوردها في الوسائل في الباب 6 من أبواب ما يكتسب به و أبواب النجاسات:

1- ما رواه معاوية بن وهب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال قلت: جرذ مات في زيت أو سمن أو عسل؟ فقال: «أمّا السمن و العسل فيؤخذ الجرذ و ما حوله و الزيت يستصبح به» «1».

2- و ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت فيه فإن كان جامدا فالقها و ما يليها، و إن كان ذائبا فلا تأكله و استصبح به و الزيت مثل ذلك» «2».

3- و ما رواه أبو بصير قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الفأرة تقع في السمن أو في الزيت انوار الفقاهة، ج 4، ص: 80

فتموت فيه. فقال: «إن كان جامدا فتطرحها و ما حولها،

و يؤكل ما بقى، و إن كان ذائبا فاسرج به و اعلمهم إذا بعته» «1».

4- و ما رواه معاوية بن وهب و غيره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في جرذ مات في زيت ما تقول في بيع ذلك؟ فقال: «بعه و بيّنه لمن اشتراه ليستصبح به» «2».

5- و ما رواه إسماعيل بن عبد الخالق عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سأله سعيد الأعرج السمّان و أنا حاضر، عن الزيت و السمن و العسل تقع فيه الفأرة فتموت كيف يصنع به؟ قال:

«أمّا الزيت فلا تبعه إلّا لمن تبيّن له، فيبتاع للسراج، و أمّا الأكل فلا، و أمّا السمن فإن كان ذائبا فهو كذلك، و إن كان جامدا و الفأرة في أعلاه فيؤخذ ما تحتها و ما حولها ثمّ لا بأس به، و العسل كذلك إن كان جامدا» «3».

و دلالة هذه الأحاديث المتظافرة على المقصود من وجهين:

من أنّه أمر بطرح الجرذ و ما حوله من السمن و العسل.

و من أنّه أمر ببيع الزيت للاستصباح، فلو لم تكن له هذه المنفعة الغالبة لم يجز بيعه.

6- و ما رواه زكريا بن آدم قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير و مرق كثير، قال: «يهراق المرق أو يطعمه أهل الذمّة أو الكلب، و اللحم اغسله و كله». قلت: فانّه قطر فيه الدم. قال: «الدم تأكله النار إن شاء اللّه ...» «4».

و ما ورد في العجين النجس من أنّه يدفن و لا يباع، أو يباع ممّن يستحلّ الميتة ظاهر في عدم جواز بيعه من مسلم مثل:

7- ما رواه ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه

عليه السّلام قال: «يدفن و لا يباع» «5».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 81

8- و ما رواه الحفص بن البختري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في العجين من الماء النجس كيف يصنع به؟ قال: «يباع ممّن يستحلّ الميتة» «1».

إلى غير ذلك من الروايات.

أمّا الثّاني: فجوازه ممّا لا ينبغي الكلام فيه، و يدلّ عليه مضافا إلى أنّه مقتضى القاعدة الروايات الكثيرة السابقة (الباب 5 من أبواب ما يكتسب به) و كذا الروايات الواردة (في الباب 43 من أبواب الأطعمة المحرّمة) فإنّها تدلّ على جواز الانتفاع بها لبعض المنافع كالاستصباح أو التدهين.

و الغاء الخصوصية منها أمر ممكن جدّا، بالإضافة إلى أنّ ما تحلّ منافعه يحلّ ثمنه، و بهذا يتمّ المطلوب.

و يدلّ عليه أيضا الروايات الخاصّة (3 و 4 و 5 في الباب 6 من أبواب ما يكتسب به التي مرّ ذكرها آنفا) و كلّها أو جلّها ضعاف من حيث السند، و لكنّها متظافرة مع عمل الأصحاب بها حتّى ادّعى الشيخ في الخلاف الإجماع في مسألة الدهن «2».

و الظاهر الغاء الخصوصية من موردها، و بالجملة أصل المسألة ممّا لا كلام فيه، إنّما الكلام في الخصوصيات الآتية إن شاء اللّه.

أمّا الثالث فهو أظهر و أوضح، و تبيّن لك دلائله في باب العصير العنبي إذا غلا.

بقي هنا امور:
الأوّل: هل يجب قصد المنفعة المحلّلة عند البيع أو الشراء، أم لا؟

و قد عنونه القوم في خصوص بيع الأدهان، و الاولى تعميم البحث لعموم أكثر أدلّته.

و الكلام فيه تارة بحسب القواعد، و اخرى بحسب بعض ما مرّ من الروايات الخاصّة.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 82

أمّا الأوّل فقد يقال بالجواز مطلقا من دون أي شرط (اختاره العلّامة الخوئي قدّس سرّه) «1».

و اخرى باعتبار القصد أو الشرط، و القائلون به على مذاهب و العمدة ما يلي:

1- كفاية قصد المتبايعين

للاستصباح كما في الخلاف «2».

2- كفاية قصد المنفعة المحلّلة إلّا إذا كانت شائعة، كما اختاره العلّامة الأنصاري قدّس سرّه «3».

3- لزوم اشتراط ذلك على المشتري كما عن السرائر «4».

4- و قد يقال إنّ المنفعة المحلّلة إذا كانت غير نادرة كالاستصباح في الأدهان توجب ماليتها من غير حاجة إلى قصدها، نعم إذا كانت نادرة لا يجوز بيعها إلّا بقصدها، لأنّ الشارع جعل لها المالية باعتبارها بعد أن لم تكن، فإذا لم نقصد تلك المنفعة لم تندرج تحت عنوان المال، فأكل المال بإزائها أكل له بالباطل «5».

أقول: و قد عرفت أنّ الأولى أن نتكلّم عنه لا بعنوان خصوص الدهن، بل بعنوان جميع الأعيان المتنجّسة، و الحقّ بحسب القواعد هنا تفصيل آخر و هو أن يقال: إنّ الأعيان المتنجّسة على أقسام:

1- قسم لها منافع محلّلة لا تقصر عن منافعها المحرّمة كبعض الأدهان التي يكون أكلها و الاستصباح بها سواء، فهذا يجوز بيعه بلا اشتراط و لا قصد خاصّ لعدم دليل على وجوب القصد فيه.

2- ما لا يكون له منفعة محلّلة معتدّ لها، كالمرق المتنجّس الذي لا يمكن إطعام الحيوانات منه كثيرا، و قلنا بعدم جواز إطعامه للصبي، و هذا لا يجوز بيعه، و لا يتصوّر إعطاء المالية له من قبل الشارع بعد أن لم تكن له منفعة محلّلة معتدّ بها.

إن قلت: كما يجوز إسقاط مالية بعض الأشياء من لدن الشارع الحكيم جاز له إعطائها لبعضها الآخر.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 83

قلت: هذا غير صحيح، لأنّ تحريم المنافع المعتدّ بها يجعلها كالعدم فلا تكون له منفعة، و لكن جواز بعض المنافع النادرة لا يجعلها غالبة، لأنّ الحليّة شي ء، و الغلبة شي ء آخر، فالفرق بين المسألتين غير خفي على من تدبّر

و دقّق النظر، فلا تحصل المالية بمجرّد تحليل المنافع النادرة.

3- قد يكون لشي ء مراتب من المالية، فالدهن المأخوذ من الزبد باعتبار حليّة أكله له مالية عالية، و باعتبار حليّة الاسراج به أو صنع الصابون له مالية ذاتية، فبالأوّل يبذل بازائه مال كثير، و بالنسبة إلى الثاني لا يبذل له إلّا القليل، فلو فسد بحيث لا يصلح إلّا للإسراج به، فلو بيع بعنوان إنّه دهن مأكول كان أكل المال بازائه أكلا بالباطل، فليس القصد و الاشتراط بنفسه شيئا، بل المعيار على أخذ العوض في مقابله بعنوان أنّه مأكول أو غير مأكول، و حينئذ لا يخلو بيعه عن الإشكال إذا جعل الثمن بعنوان أنّه مأكول، فتأمّل.

أمّا من الجهة الثانية فقد ورد في روايتين ما قد يستفاد منه الاشتراط، أو لزوم القصد و هما:

ما رواه معاوية بن وهب و غيره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في جرذ مات في زيت ما تقول في بيع ذلك؟ فقال: «بعه و بيّنه لمن اشتراه ليستصبح به» «1».

و ما رواه عبد الخالق عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سأله سعيد الأعرج السمّان و أنا حاضر عن الزيت و السمن و العسل تقع فيه الفأرة فتموت كيف يصنع به؟ قال: «أمّا الزيت فلا تبعه إلّا لمن تبيّن له فيبتاع للسراج، و أمّا الأكل فلا، و أمّا السمن فإن كان ذائبا فهو كذلك و إن كان جامدا و الفأرة في أعلاه فيؤخذ ما تحتها و ما حولها ثمّ لا بأس به و العسل كذلك إن كان جامدا» «2».

و الرواية الثانية ضعيفة لمحمّد بن خالد الطيالسي، و لكن سند الأوّل لا بأس به.

هذا و قد يجاب عنهما بأنّ الإسراج فيهما من قبيل الغاية،

لا من قبيل الشرط، فإنّه أمر بالتبيين للمشتري و جعل ذلك نتيجة له، فاللازم هو التبيين، و أمّا الإسراج فهو عمل يتفرّع عليه إذا علمه المسلم.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 84

و يمكن أن يكون ناظرا إلى ما ذكرنا، و هو أن يعامل معه معاملة دهن السراج و تكون ماليته بهذا العنوان، فلا يكون دليلا على وجوب الإشراط.

الثاني: هل يجب إعلام المشتري بذلك؟

و على فرض الوجوب هل هو واجب نفسي أو شرطي؟

الظاهر أنّ المشهور بين المتأخّرين هو الوجوب، و قال في الحدائق بأنّ الظاهر من قواعد الأصحاب هو صحّة البيع، و إن أثم بالمخالفة لأمر الشارع، و يتخيّر المشتري بعد العلم، ثمّ نقل عن المسالك الإشكال في الجواز.

و العجب أنّه مال في آخر كلامه إلى عدم الوجوب مع تصريحه بدلالة غير واحد من الأخبار عليه، لظهور بعض الأخبار الواردة في أبواب الطهارة بكراهة الأخبار (في مثل عارية الثوب و شبهه) و أعجب منه تأييده بما ذهب إليه من أنّ الطهارة و النجاسة ليستا أمرين واقعيين، بل تابعان لعلم الشخص و عدمه «1» مع وضوح الروايات في المقام، مضافا إلى أنّ الحقّ كونهما أمرين عرفيين قبل أن يكونا شرعيين، و إن كان الشارع تصرّف فيهما من بعض الجهات، أ ليست القذارة أمرا مشهودا في الخارج يدركه كلّ أحد، و لا يتّبع علمنا و جهلنا و إن تصرّف في بعض مصاديقها الشارع المقدّس، و ليت شعري لما ذا بعدت أذهانهم عمّا تلقّاه العرف الساذج من متون الآيات و الروايات في هذه الامور؟ و تمام الكلام في محلّه.

و كيف كان، الكلام قد يكون من ناحية القواعد، و اخرى من ناحية النصوص الخاصّة، و لنقدّم الكلام في الثاني لاختصاره و اختصاصه بالدهن و إن كان

إلغاء الخصوصية منه ممكنا، ثمّ نتكلّم فيه بعد تمام المسألة بعنوان مستقل.

فنقول: هناك روايات عديدة دالّة على وجوب الإعلام (منها الرواية 4/ 6 و 5/ 6 اللتان مرّت عليك حديثا) و منها:

ما رواه أبو بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الفأرة تقع في السمن أو في الزيت فتموت فيه. فقال: «إن كان جامدا فتطرحها و ما حولها و يؤكل ما بقي، و إن كان ذائبا فاسرج به و اعلمهم إذا بعته» «2».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 85

ففي الرواية الاولى قال الإمام عليه السّلام: «أعلمهم إذا بعته» و في الثانية «بيّنه لمن اشتراه» و في الثالثة «فلا تبعه إلّا لمن تبيّن له» و دلالتها على أصل الوجوب ظاهرة.

قد يقال: إنّ الظاهر هنا هو الوجوب النفسي لا الشرطي، مع أنّ الأوامر و النواهي في هذه الأبواب إرشاد إلى الصحّة و الفساد غالبا، و منه يظهر ضعف كلام من قال أنّ الأمر ظاهر في الوجوب النفسي إلّا بقرينة، فإنّ ذلك و ان كان محقّا في أبواب الأوامر من الاصول، إلّا إنّه انقلب هذا الظهور في أبواب المعاملات، و كذلك في أبواب الاجزاء و الشرائط للعبادات انقلب الظهور إلى الوجوب الشرطي كما ذكر في محلّه.

و هناك دليل آخر لهم، و هو أنّ قوله «لمن اشتراه» بصيغة الماضي دليل على كون الإعلام بعد البيع، و لكن من الواضح أنّه ليس المراد لزوم كونه بعده بحيث لو كان قبله لم يجز، بل المراد من هذا التعبير هو المشتري، و لذا صرّح في رواية قرب الاسناد: «فلا تبعه إلّا لمن تبيّن له فيبتاع للسراج» الظاهر في كون الإعلام قبله.

الإنصاف أنّه إن قلنا بوجوب قصد المتبايعين للمنفعة المباحة أو لزوم اشتراطه

في البيع، لا يبقى كلام من هذه الجهة، لملازمته للإعلام، و كذا لو قلنا بأنّ المالية لا بدّ أن تكون بعنوان المنفعة المباحة قلّت أو كثرت (كما هو المختار) فانّه أيضا لا ينفكّ عن الإعلام.

و أمّا إذا قلنا بعدم اعتبار شي ء من ذلك فيمكن أن يقال ظاهر الأدلّة، الوجوب الشرطي، إلّا أن يقال ظهور الأمر في هذه المقامات في الوجوب الشرطي إنّما هو إذا كان بصدد بيان أركان البيع، لا ما إذا كان شيئا في جنبه كما في المقام، لا سيّما مع أنّه عليه السّلام بيّن الغاية من الإعلام، فهو طريق إليها، فحينئذ الأقوى هو الوجوب النفسي فقط.

الثّالث: هل يشترط أن يكون الإسراج تحت السماء؟

المشهور بين الأصحاب اعتبار ذلك، (و لكن المحكي عن المشهور بين العامّة جوازه مطلقا في غير المسجد) و استدلّ بعضهم له ببعض الامور الواهية من لزوم تنجيس السقف مع وضوح بطلانه، و لو وجب كان تعبّدا.

و لكن ذكر الشيخ في الخلاف ما هذا لفظه:

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 86

لا يجوز بيع الزيت النجس، لمن يستصبح به تحت السماء، و قال أبو حنيفة يجوز بيعه مطلقا، و قال مالك و الشافعي: لا يجوز بيعه بحال ... و روى أبو علي بن أبي هريرة في الإفصاح أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أذن في الاستصباح بالزيت النجس ... «1».

و العمدة فيه مرسلة الشيخ في المبسوط حيث قال: روى أصحابنا أنّه يستصبح به تحت السماء دون السقف «2» مع تأييدها بعمل المشهور حتّى ادّعى الإجماع عليه.

و لعلّ هذا المقدار كاف في غير المقام، و لكن هنا مشكل، لخلو روايات الباب مع كثرتها و ورودها مورد العمل، و من البعيد وجوبه مع إهمال ذكرها في جميع هذه الروايات البالغة

حدّ الاستفاضة.

هذا و يظهر من عبارة الشيخ في المبسوط أمران:

«الأول» عدم ظهور هذه الرواية في الحرمة و «الثاني» عدم وضوحها في المولوية حيث قال بعد ما عرفت: «و هذا يدلّ على أنّ دخانه نجس، غير أنّ عندي أنّ هذا مكروه ... و قال آخرون الأقوى أنّه ليس بنجس».

و مع هذا كيف يمكن الفتوى برواية لا سند و لا متن لها في مقابل تلك الروايات الكثيرة المطلقة؟!

قاعدة حرمة تغرير الجاهل بالحكم أو الموضوع:

ذكر شيخنا الأعظم العلّامة الأنصاري قدّس سرّه بمناسبة مسألة وجوب إعلام المشتري بنجاسة الدهن هذه القاعدة على وجه عام، و حيث أنّها من أهمّ ما يبتلى به، فلا بأس ببسط الكلام فيه.

و الأولى قبل كلّ شي ء ذكر الأقسام في المسألة، فنقول:

ذكر الشيخ رحمه اللّه تعالى في المقام ما حاصله: إنّ هنا امورا أربعة:

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 87

أحدها: أن يكون فعل الشخص علّة تامّة لوقوع الحرام في الخارج، كما إذا أكره غيره على المحرّم، و لا شكّ في حرمته.

ثانيها: أن يكون فعله سببا، كمن قدّم إلى غير طعاما محرّما فأكله بنفسه، و الأقوى فيه أيضا التحريم، لأنّ استناد الفعل إلى السبب هنا أقوى (من المباشر لجهله).

ثالثها: أن يكون شرطا لصدور الحرام، ثمّ قسّمه إلى قسمين: ما يكون من قبيل إيجاد الداعي إلى المعصية، لحصول الرغبة فيها أو العناد الموجب لها، ثمّ قال: و الظاهر حرمة القسمين.

رابعها: ما يكون من قبيل عدم المانع، و هو تارة يكون مع الحرمة الفعلية في حقّ الفاعل و يدخل في أدلّة النهي عن المنكر.

و اخرى مع عدمها، و استشكل في وجوب الردع هنا، إلّا إذا علم من الخارج بوجوب دفع هذا المنكر كيفما كان كإراقة الدم المحرّم ممّن هو جاهل به، و كذلك الأعراض و

الأموال المهمّة، نعم بالنسبة إلى الجهل بالحكم يجب الإعلام من باب إرشاد الأهل (انتهى ملخّصا) «1».

و كأن فيه الخلط بين محلّ الكلام و ما هو خارج عنه، فإنّ ظاهر كلامه قدّس سرّه أنّ الأقسام الثلاثة الاولى أعمّ من صورة العلم و الجهل أو مختصّة بصورة العلم، و هو كما ترى.

و الأحسن أن يقال: تارة يفرض علم المباشر بالحكم و الموضوع و اخرى جهله، و الأوّل خارج عن قاعدة الغرور، و الثاني- أعني الجاهل- قد يكون في الحكم، و اخرى في الموضوع، و ثالثة في كليهما.

و من الواضح خروج غير الجهل بالموضوع من محلّ الكلام، لعدم الشكّ في وجوب إعلام الجاهل بالحكم لآية النفر و غيرها من الأدلّة الدالّة على وجوب إرشاد الجاهل.

إنّما المناسب لعنوان القاعدة، و لمبحث بيع الدهن المتنجّس و وجوب إعلام المشتري هو خصوص الجهل بالموضوع، كمن قدّم طعاما حراما لغيره، أو ثوبا نجسا له، أو عقد له امرأة محرّمة عليه و أمثال ذلك.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 88

إذا عرفت محلّ البحث فاعلم أنّه يتصوّر على أنحاء:

1- أن يكون من قبيل الإجبار و الإلزام له بشي ء محرّم لا يعلمه، كإجباره على شرب مائع هو جاهل بخمريته.

2- أن يكون من قبيل التسبيب المصطلح في الفقه، كمن قدّم طعاما مغصوبا إلى ضيف له، و كذلك تقديم شي ء حرام يعلم أنّه سيصرفه في الأكل.

3- أن يكون من قبيل إعطاء شي ء له منافع مختلفة، و لكن منفعته الغالبة محرّمة، كإعطاء دهن نجس يكون معدّا للأكل غالبا، و كذلك ما تكون له منفعتان متساويتان.

4- أن يكون من قبيل إعطاء ما يكون منفعته النادرة محرّمة كدهن السراج الذي يستفاد منه في الطعام نادرا.

5- أن يكون من قبيل عدم إيجاد المانع

مع كون الموضوع حراما لا يعلمه.

و الكلام فيها تارة من ناحية القواعد و الاصول العامّة، و اخرى من ناحية الأدلّة الخاصّة.

أمّا الأوّل: فقد يقال فيها بالحرمة نظرا إلى شمول أدلّة المحرّمات لها من حيث عنوان التسبيب (و لا أقل في بعض الصور).

و فيه إشكال ظاهر، فانّ قوله «لا تشرب الخمر» و أمثاله ظاهر في عدم شربه بالمباشرة، و لا دلالة له على حرمة سقي غيره و لو ثبت بدليل آخر.

و الثاني: بأدلّة وجوب إرشاد الجاهل، و لكن عرفت أنّها ناظرة إلى الأحكام فقط.

و الثالث: بما علم من الشرع من أنّ الأحكام تدور مدار المصالح و المفاسد الواقعيين، و أنّ أكل الحرام و شربه من القبيح الواقعي. و لذا يكون الاحتياط فيه مطلوبا مع الشكّ، و حينئذ يكون إعطاء النجس للجاهل إغراء بالقبيح، و هو قبيح (هذا ما ذكره شيخنا العلّامة الأنصاري قدّس سرّه).

و أضاف إليه في «مصباح الفقاهة» بأنّ الأحكام الواقعية ليست مقيّدة بعلم المكلّفين، و إلّا لزم التصويب المحال أو الباطل «1».

و فيه أوّلا: إنّ التصويب إنّما هو فيما إذا كان العلم بالحكم دخيلا فيه، و لكن محلّ الكلام انوار الفقاهة، ج 4، ص: 89

كما عرفت إنّما هو العلم بالموضوع، أعني العلم بعنوان النجاسة لا بحكمها.

و ثانيا: إنّ موضوعات الأحكام مختلفة، بعضها غير مقيّدة بالعلم، كحرمة ما لا يؤكل في لباس المصلّي، و بعضها مقيّدة بالعلم، كحرمة لبس النجس في الصلاة، فلذا يعاد في الأوّل في حال السهو دون الثاني بعد ظهور الحال.

و بالجملة احتمال دخل العلم بالموضوع في ملاك الحرمة واقعا في بعض الموارد ممكن جدّا.

و ثالثا: كونه من الإغراء بالقبيح أوّل الكلام.

و يمكن الاستدلال له بارتكاز المتشرّعة المأخوذ من الشارع قطعا، فإنّه يقتضي

حرمة إعطاء الخمر للجاهل به، و كذا الميتة و لحم الخنزير، و لكن المسلم منه هو بعض المحرّمات المؤكّدة كالخمر، و أمّا بالنسبة إلى مثل إعارة الثوب النجس و شبهها غير معلوم.

فلا يبقى مجال إلّا للقول بالتفصيل بين ما علم من مذاق الشرع حرمته على كلّ حال و بكلّ صورة، و ما لم يعلم، و لعلّ هذا الارتكاز متّخذ من الأدلّة الآتية، فانتظر.

أمّا الثّاني: من ناحية الأدلّة الخاصّة، و قد استدلّ بروايات قد يفهم منها العموم منها:

1- ما ورد في أبواب الجماعة عن علي عليه السّلام: «إنّه ليس من إمام يصلّي بقوم فيكون في صلاته نقص إلّا كانت عليه و لا ينقص من صلاتهم» «1».

و مثله ما في تحف العقول «2» و بمضمونه في الوسائل «3» بل فيه: كان عليه مثل أوزارهم- إلى غير ذلك ممّا في معناه.

و فيه: مضافا إلى أن اسناد بعضها غير نقيّة، أنّها أجنبية، عمّا نحن فيه، بل هو دليل على انوار الفقاهة، ج 4، ص: 90

تحمّل الإمام بعض الامور (و لا أقل من القراءة) عن المأمومين و لا شكّ في صحّة صلاتهم و عدم الوزر عليهم إذا جهلوا بالحال، و لكن الإمام ضامن لنقص صلاتهم، و كذا ما دلّ على ضمانه إذا صلّى بهم جنبا.

2- ما دلّ على حرمة الإفتاء بغير علم و هي كثيرة «1».

و فيه: أنّ خروجها ممّا نحن فيه أظهر من غيره، لأنّها في الإغراء بالجهل في الشبهات الحكمية، و أين هو ممّا نحن بصدده؟

3- ما دلّ على كراهة إطعام البهيمة الأطعمة و الأشربة المحرّمة مثل: ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال سألته عن البهيمة البقرة و غيرها تسقي أو تطعم ما لا

يحلّ للمسلم أكله أو شربه أ يكره ذلك؟ قال: نعم يكره ذلك» «2».

و فيه إشكال ظاهر، لأنّ كراهة ذلك لا تدلّ على الحرمة في الإنسان، اللهمّ إلّا أن يكون المراد من الكراهة الحرمة، و هو غير ثابت.

4- ما دلّ على حرمة سقي الشراب للطفل و الكافر، مثل:

ما رواه أبو الربيع الشامي قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن الخمر. فقال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «إنّ اللّه عزّ و جلّ بعثني رحمة للعالمين، و لأمحق المعازف و المزامير و امور الجاهلية و الأوثان، و قال: أقسم ربّي لا يشرب عبد لي خمرا في الدنيا إلّا سقيته مثل ما يشرب منها من الحميم، معذّبا أو مغفورا له، و لا يسقيها عبد لي صبيا صغيرا أو مملوكا إلّا سقيته مثل ما سقاه من الحميم يوم القيامة معذّبا أو مغفورا له» «3».

(و بهذا المضمون الأحاديث رقم 2 و 3 و 6 من الباب نفسه).

و ما رواه الصدوق رحمه اللّه في عقاب الأعمال باسناده عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في حديث قال: «و من شرب الخمر سقاه اللّه من السمّ الأساود و من سمّ العقارب ... و من سقاها يهوديا أو نصرانيا أو صابيا أو من كان من الناس فعليه كوزر من شربها» «4».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 91

و فيه إنّه يمكن أن تكون للخمر خصوصية ليست في غيرها كما هو كذلك، و لذا صرّح في الكافر في غيرها بخلافه.

5- ما دلّ على جواز بيع المشتبهين بالميتة للكافر، و قد مرّ ذكره، و يستفاد منه بالمفهوم عدم جوازه لغيره، و دلالتها على المقصود لا بأس بها، و لكن هل يستفاد

منها العموم؟!

6- ما دلّ على وجوب اهراق المرق المتنجّس مثل:

ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام سئل عن قدر طبخت فإذا في القدر فأرة، فقال: «يهراق مرقها و يغسل اللحم و يؤكل» «1».

7- ما دلّ على وجوب إعلام نجاسة الدهن مثل:

ما مرّ من رواية معاوية بن وهب و غيره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في جرذ مات في زيت ما تقول في بيع ذلك؟ فقال: «بعه و بيّنه لمن اشتراه ليستصبح به» «2».

و ما رواه إسماعيل بن عبد الخالق عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سأله سعيد الأعرج السمّان عن الزيت ... تقع فيه الفأرة فتموت كيف يصنع به؟ قال: «أمّا الزيت فلا تبعه إلّا لمن تبيّن له فيبتاع للسراج، و أمّا الأكل فلا ...» «3».

8- ما دلّ على عدم جواز بيع العجين النجس إلّا ممّن يستحلّ الميتة مثل:

ما رواه حفص البختري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في العجين من الماء النجس كيف يصنع به؟

قال: «يباع ممّن يستحلّ الميتة» «4».

و تحصّل من جميع ذلك أنّ الأعيان النجسة أو المتنجّسات أو المحرّمات لا يجوز إطعامها للغير، أو غير ذلك من أشباهه إشكال، نعم في المأكولات لا يبعد التحريم و إن كان الأحوط في الجميع هو ذلك.

نعم ذكر صاحب الحدائق في بعض كلماته في مسألة بيع الدهن النجس: أنّ هذه الأخبار

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 92

المانعة معارضة بما دلّ على جواز إعارة الثوب الذي لا يصلّي فيه لمن يصلّي فيه «1» مثل:

ما رواه عبد اللّه بن بكير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل أعار رجلا ثوبا فصلّى فيه و هو لا يصلّي فيه، قال: «لا

يعلمه»، قال: قلت: فإن أعلمه؟ قال: «يعيد» «2».

و ما دلّ على عدم وجوب الإعلام بالنجاسة في ثوب الغير مثل:

ما رواه محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام قال سألته عن الرجل يرى في ثوب أخيه دما و هو يصلّي. قال: «لا يؤذنه حتّى ينصرف» «3».

و لكن الإنصاف إنّ شيئا منهما لا يعارض ما مرّ، لما عرفت من أنّ الطهارة شرط علمي لا واقعي في الصلاة.

هذا و لو قلنا بالحرمة فهو فيما كان هو السبب في ذلك، أو سلّطه عليه من غير إعلام مع كون منفعته الغالبة الانتفاع به فيما لا يجوز، و لكن في مورد المنافع النادرة، أو فيما لا يكون سببا بل يقدر على المنع، فلا دليل على وجوب الإعلام، بعد عدم شمول أدلّة النهي عن المنكر لما ليس فعليّا، إلّا في موارد خاصّة يعلم من مذاق الشرع لزوم المنع منه و إن كان الفاعل جاهلا، كالدماء.

الثّاني- بيع الأوثان و هياكل العبادة

و ليعلم أنّ التعبير بالأوثان و أشباهها أولي، لأنّ الهياكل جمع هيكل، بمعنى بيت للنصارى فيه صورة مريم، أو صورة مريم و عيسى، أو مطلق بيوت الأصنام، و الأصل فيه البناء المرتفع، و لكن يطلق على امور اخر منها موضع في صدر الكنيسة يقرّب فيه القربان أو بيتهم الذي فيه، و منها مطلق الصورة و الشخص و التمثال، و منها الحيوان الضخم أو الشجر الذي طال (هكذا ذكره أرباب اللغة) «1».

و على كلّ حال، لا ريب في حرمة بيع الأوثان، لإجماع علماء الإسلام عليه كما حكي، و عمدة ما يدلّ عليه أمران:

الأوّل: قاعدة التحريم، بما قد عرفت لها من الدليل، فإنّ المفروض أنّه ليس لهذه الأوثان و الأصنام منفعة غير محرّمة، فحرام بيعها لعدم المالية لها في

الشرع.

الثاني: ما دلّ على حرمة بيع الخشب ليعمل صليبا مثل:

ما رواه ابن اذينة قال كتبت إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام أسأله عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه برابط. فقال: «لا بأس به»، و عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه صلبا قال: «لا» «2».

و الرواية معتبرة من حيث السند و ظاهرة من حيث الدلالة.

و ما رواه عمر بن حريث قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن التوت أبيعه يصنع للصليب و الصنم؟ قال: «لا» «3».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 94

(و هي أيضا معتبرة الاسناد بناء على كون الراوي «عمر بن حريث» «عمرو بن حريز» كما هو الظاهر).

و هاتان الروايتان و ان كانتا ناظرتين إلى مسألة اخرى، و لكنّه يستفاد المطلوب منهما بطريق أولى، بل النهي عن بيع الخشب أو التوت (الشجرة التي لها ثمرة بيضاء و حمراء لذيذة) إنّما هو لذلك.

و قد استدلّ بامور اخرى لا تدلّ على المطلوب، إمّا لضعف دلالتها، أو إسنادها، و هي ما يلي:

1- قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ «1».

2- و قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ ... «2».

و الظاهر أنّ المراد منهما الاجتناب عن عبادتها، فلا تدلّان على المقصود.

3- ما عن دعائم الإسلام ... إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم نهى عن بيع الأحرار ... و الأصنام ... «3» و لكن سندها ضعيف.

4- رواية تحف العقول، و يدلّ على المقصود ثلاث فقرات منها، لأنّ بيع الأصنام يدخل تحت عنوان «ما يجي ء منه الفساد» تارة، و «الصنائع المحرّمة التي منها الصلبان و الأصنام» ثانيا، و «عمل التصاوير و الأصنام» ثالثا- و لكن الاستدلال بها أيضا ضعيف لضعف سندها أيضا «4».

بقي هنا أمران:

الأمر

الأوّل: قد يكون للشي ء منافع متعدّدة غالبة، منها كونها للعبادة، و لكن لا يكون غيرها من المنافع النادرة، أو تكون العبادة نادرا كالصور المجسّمة اليوم فهل يحرم بيعها؟

أمّا إن كان استخدامها للعبادة نادرا، فلا إشكال في الجواز من هذه الجهة، و لو أشكل فيها

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 95

من جهة حرمة اقتناء المجسّمة لو قلنا بها.

و أمّا الصورة المشتركة بين الصليب مثلا و بعض الأدوات، أو بين الصنم و ما يلعب به الصبيان، و كان كلّ منهما غالبا، فالظاهر أنّ الأمر فيه يدور مدار قصد عنوانه.

الأمر الثاني: هل يجوز بيع الأصنام و شبهها باعتبار مادّتها إذا كان له مادّة كذلك، مطلقا أو إذا شرط كسرها، و كان المشتري ممّن يوثق بديانته، كما حكى عن التذكرة و الكفاية و الحدائق و صاحب الرياض «1» أو إذا باعه ثمّ كسره قبل الإقباض، و الحقّ أنّه لبيعه صورا:

1- ما إذا باع بعنوان الصنم و لكن الداعي له مادّته.

2- ما إذا بيع بعنوان الخشب مطلقا.

3- ما إذا باعه كذلك مع كسره.

4- ما إذا باعه مع شرط كسره و كان المشتري ممّن يوثق بديانته.

و الظاهر أنّ الحكم تابع لعنوان المعاملة بحسب قصد المتعاملين و ظاهر فعلهم، فلو كان بعنوان بيع الخشب لم يكن به بأس، و إن كان بيع الصنم ففيه إشكال ظاهر.

و أمّا الاشتراط و غير ذلك، فليس دخيلا في البيع، بل الظاهر أنّه من جهة عدم الإعانة على الإثم، كمن يبيع الكحول الطبي و لكن يجعل فيه بعض السموم بحيث لا يقدر المشتري على شربه.

هذا و يمكن أن تكون المسألة بنحو عام، و هو ما يحرم بيعه بهيئة خاصّة كالأصنام و آلات القمار و آلات اللهو و هو على

أقسام:

قسم ليس لمادّته أي منفعة، كآلات القمار المصنوعة من الورق، و الأصنام المعمولة من الخزف و بعض الأحجار الصغيرة، فلا تكون لموادّها قيمة.

و قسم تكون قيمتها بسبب موادّها بحيث لا يكون صورتها مزيدة لقيمتها كما إذا كانت من الذهب أحيانا.

و قسم تكون لهما القيمة.

ففي الأوّل لا يأتي التفصيل السابق، بل ماليتها إنّما هو لصورتها، فبيعها باطل.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 96

و أمّا الثاني، فهو تابع لقصد العنوان.

و أمّا الثالث، فإنّ قصد المالية بكلا العنوانين فهو باطل، و إن قصد المادّة فقط، و كان ظاهر عنوان البيع بيع المادّة فقط، فهو صحيح.

و قد يتوهّم أن يكون من قبيل بيع ما يملك و ما لا يملك، و لكنّه فاسد، لعدم كون الصورة بنفسها ممّا يملك بدون المادّة عرفا، كما هو ظاهر.

الثالث و الرابع- بيع آلات القمار و اللهو

أجمع الفقهاء (ظاهرا) على حرمة بيع آلات القمار و اللهو، و يدلّ عليه- مضافا إلى ما ذكر- ما عرفت من قاعدة التحريم أوّلا، و بعض النصوص الخاصّة ثانيا، و إليك شطر منها:

1- منها ما رواه ابن إدريس في آخر (السرائر) نقلا من كتاب جامع البزنطي عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «بيع الشطرنج حرام، و أكل ثمنه سحت، و اتّخاذها كفر، و اللعب بها شرك ... و من جلس على اللعب بها فقد تبوّأ مقعده من النار، و كان عيشه ذلك حسرة عليه في القيامة، و إيّاك و مجالسة اللاهي و المغرور بلعبها فإنّها من المجالس التي باء أهلها بسخط من اللّه يتوقّعونه في كلّ ساعة فيعمّك معهم» «1».

و اشتمالها على نجاسة يدمن مسحها محمولة على المبالغة.

2- و منها ما رواه علي بن إبراهيم (في تفسيره) عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه

السّلام في قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قال: «أمّا الخمر فكلّ مسكر من الشراب «إلى أن قال» و أمّا الميسر فالنرد و الشطرنج و كلّ قمار ميسر، و أمّا الأنصاب فالأوثان التي كانت تعبدها المشركون، و أمّا الأزلام فالأقداح التي كانت تتقسّم لها المشركون من العرب في الجاهلية، كلّ هذا بيعه و شراؤه و الانتفاع بشي ء من هذا حرام من اللّه محرّم، و هو رجس من عمل الشيطان، و قرن اللّه الخمر و الميسر مع الأوثان» «2».

3- ما رواه الحسين بن زيد عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام في حديث المناهي قال:

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 98

«نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم عن اللعب بالنرد و الشطرنج و الكوبة و العرطبة و هي الطنبور و العود و نهى عن بيع النرد» «1».

و ثالثا: أضف إلى ذلك الإنكار الشديد الوارد في الروايات على الناظر فيها و المقلب لها، فكيف باللاعب بها مثل:

1- ما رواه سليمان الجعفري عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: «المطلع في الشطرنج كالمطلع في النار» «2».

و ما رواه ابن رئاب قال: دخلت على أبي عبد اللّه عليه السّلام فقلت له: جعلت فداك ما تقول في الشطرنج؟ فقال: «المقلّب لها كالمقلّب لحم الخنزير». قال: فقلت ما على من قلّب لحم الخنزير؟ قال: «يغسل يده» «3».

و غير ذلك ممّا يستفاد منها حرمة البيع و الشراء بالأولوية، و يؤيّده حديث تحف العقول «4». و بالجملة أصل المسألة ممّا لا ريب فيه، و كذا آلات اللهو، و يدلّ على حرمة بيعها أيضا قاعدة التحريم «أوّلا»، و بعض الروايات الخاصّة

«ثانيا» و إن كانت ضعاف الاسناد، و لكنّها منجبرة بعمل الأصحاب، كرواية تحف العقول السابقة.

و ما رواه أبو الفتوح في تفسيره عن أبي امامة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال: «... إنّ آلات المزامير شرائها و بيعها و ثمنها و التجارة بها حرام» «5».

و ثانيا: الروايات الدالّة بنحو مؤكّد على حرمة اللعب بها بحيث يستفاد منها حرمة البيع لما عرفت «6».

يبقى هنا امور:

1- في معنى «القمار» و «اللهو» و سيأتي الكلام فيهما إن شاء اللّه.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 99

2- إذا كانت هناك آلات مشتركة بين القمار و غيره، و كانت كلتا المنفعتين غالبتين و لا تختصّ بالقمار أو باللهو، كبعض الآلات التي يستفاد منها في اللهو و في الحروب (بناء على كون ما يضرب في الحروب من الطبول و غيرها من الآلات المشتركة كما هو ظاهر) أو ما يسمّى بالسنج الذي يستفاد منه فيهما بل و في غيرهما، فلا ينبغي الإشكال في جواز بيعها بذاك العنوان، بأن يكون عنوان المالية هو المنفعة المحلّلة لا مجرّد الداعي إليه.

و كذا لو شاع الانتفاع بالبيض و الجوز في القمار، فلا يمنع عن صحّة بيعهما، بل لا يعدّان من آلات القمار.

و مثلها العبد المغني أو الساحر أو المقامر و نحوه، فإن بيع بهذا العنوان فلا شكّ في بطلان بيعه، و لو بيع بعنوان أنّه عبد غير ملاحظ فيه عنوان الغناء و غيره في المالية و البيع، فلا شكّ في صحّته.

3- لو كان لموادها قيمة، فقد عرفت الكلام فيه، و أنّه على أقسام، و أنّه يجوز بيعها بعنوان المواد، و كان المشتري ممّن يوثق بديانته، و كذا إذا كسره قبل الإقباض.

و بالجملة لا شكّ

في بقاء مالية المواد على الملك، و لا تخرج عنه بالصورة التي يرفع الشارع احترامها، و لم يدخلها في الملك، بل أوجب على المكلّفين إتلافها بلا ضمان كما ذكره في الجواهر «1».

فصحّة البيع لا تدور مدار القصد، بل و لا ملاحظة الغاية، إنّما تدور مدار العنوان بأنّه يعدّ البيع بيع الخشب، نعم لو علم بانتفاع المشتري منه في المحرّم فهو داخل في مسألة بيع العنب ممّن يعمله خمرا من بعض الجهات، و سيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه، و كذلك لا يمكن تفكيك حكم المادّة و الصورة بجعله من قبيل بيع ما يملك و ما لا يملك كما أشرنا إليه آنفا، لعدم كون الصورة مستقلّة في المالية.

الخامس- بيع أواني الذهب و الفضّة

هذه المسألة متوقّفة على ما عنونه القوم في أواخر أبواب الطهارة في الباب المعنون لأحكام الأواني.

فان قلنا بحرمة جميع منافعها الغالبة كالأكل و الشرب و التزيين و الاقتناء فلا شكّ في دخولها في قاعدة التحريم التي عرفتها مرارا، و إلّا لم يكن وجه لتحريمها.

و توضيح ذلك إنّه قد يكون الكلام في بيعها بما لها من الصورة، و اخرى في بيعها بمادّتها فقط.

أمّا الاولى: فإمّا أن يقال بحرمة الأكل و الشرب فيها فقط، أو مع إضافة التصرّفات كجعلها ظرفا للدهن الذي يدهن به و الغالية و العطور، أو مع إضافة التزيين بها أيضا، ففي هذه الصور الثلاث يجوز بيعها، لكون مسألة الاقتناء حلالا (إذا كان من المنافع الغالبة فيها كما هو كذلك كثيرا، فإنّ كثيرا من الناس يرون ذلك طريقا لحفظ أموالهم أو لجمعها أو يلتذّون من وجودها أو النظر إليها أو غير ذلك من القيم الواهية و غير العقلائية).

أمّا إذا قلنا بحرمة الأربع، فالبيع باطل قطعا و إن

لم يرد به نصّ خاصّ، و لكن يعلم منها بالقاعدة السابقة.

و تفصيل هذه الصغرى في محلّها، و قد قلنا برعاية الاحتياط في جميع ذلك في محلّه.

أمّا الثاني: فيأتي فيه ما تقدّم في غيره من آلات القمار و اللهو و الأصنام من جواز بيعها بعنوان مرادها، أمّا مطلقا، أو مع كون المشتري ممّن يوثق بديانته، أو مع كسرها قبل الإقباض.

السادس- الدراهم المغشوشة

قد يقال بحرمة بيعها، و لكن ذلك يحتاج إلى تفصيل، و هو أنّ الدراهم المغشوشة على أنحاء:

1- قد يكون الغشّ ببعض الخليط، كأن يكون نصفه أو ثلثه فضّة مثلا.

2- قد يكون الغشّ بكونه من جنس غير جنسه مطلقا و إن كان بهيئة الفضّة.

3- قد يكون الغشّ بهيئتها و سكّتها و إن كانت مادّتها سليمة خالصة.

4- و قد يكون تمام ماليتها بسكّتها مع كونها مغشوشة كالفلوس التي لا قيمة لمادّتها تقريبا.

أمّا حكم المعاملة مع هذه الأقسام، فإن قلنا بحرمة الانتفاع بها مطلقا، نظرا إلى أنّها سبب للفساد، فلا بدّ من إفنائها، لأنّ رواجها يوجب الاختلال في أمر المعاملات، لا سيّما إذا كان كثيرا، و نظرا إلى غير واحد من الروايات الخاصّة الدالّة على حرمة المعاملة بها، و هي:

1- ما رواه المفضّل بن عمر الجعفي قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فألقي بين يديه دراهم، فألقى إليّ درهما منها فقال: ايش هذا؟ فقلت: ستوق! قال: و ما الستوق؟ فقلت:

طبقتين فضّة و طبقة من نحاس، و طبقة من فضّة، فقال: «اكسرها فانّه لا يحلّ بيع هذا و لا إنفاقه» «1».

2- ما رواه جعفر بن عيسى قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السّلام: ما تقول جعلت فداك في الدراهم التي أعلم أنّها لا تجوز بين المسلمين إلّا بوضيعة

تصير إلى من بعضهم بغير وضيعة بجهلي به، و إنّما آخذه على أنّه جيّد، أ يجوز لي أن آخذه و أخرجه من يدي على حدّ ما صار

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 104

إلى من قبلهم؟ فكتب: «لا يحلّ ذلك»، و كتبت إليه، جعلت فداك هل يجوز إن وصلت إليّ ردّه على صاحبه من غير معرفته به، أو إبداله منه و هو لا يدري أنّي أبدله منه، أو أردّه عليه؟

فكتب: «لا يجوز» «1».

3- و ما رواه فضل أبي العبّاس قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الدراهم المحمول عليها.

فقال: «إذا أنفقت ما يجوز بين أهل البلد فلا بأس، و إن أنفقت ما لا يجوز بين أهل البلد فلا» «2».

4- ما رواه حريز بن عبد اللّه قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فدخل عليه قوم من أهل سجستان فسألوه عن الدراهم المحمول عليها. فقال: «لا بأس، إذا كان جواز المصر» «3».

إلى غير ذلك ممّا في هذا المعنى كلّها تدلّ على عدم جواز الانتفاع بالمغشوش.

5- ما رواه موسى بن بكر قال: كنّا عند أبي الحسن عليه السّلام و إذا دنانير مصبوبة بين يديه، فنظر إلى دينار فأخذه بيده ثمّ قطعه بنصفين، ثمّ قال لي: «القه في البالوعة حتّى لا يباع شي ء فيه غشّ» «4».

و الظاهر أنّه لم يكن لمادّته قيمة (و لكن السند ضعيف).

و يستفاد من مجموعها حرمة الانتفاع بها، و إطلاقها يقتضي الحرمة و لو بإعطائها للظالم لانتقالها منه إلى غيره، بل ظاهر الأخير عدم التزيين بها (فتأمّل).

و بالجملة فساد بيعها فيما إذا لم يكن التزيين بها أمرا غالبا معلوما لا ينبغي الشكّ فيه، و كون حرمة الانتفاع تكليفية لا ينافي المقصود بعد كون المالية تدور

مدارها وجودا و عدما.

هذا كلّه إذا لم يصحّ بيعها مطلقا، أمّا إذا كان فيها خليط فيجوز بيعها بين الناس مع الإعلام، فانّ الدراهم مختلفة من حيث الخليط كما دلّ عليه غير واحد من الروايات الواردة

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 105

في الباب 10 من أبواب الصرف، و هو المسمّى بالدرهم المحمول (و هو ما يعبّر عنه بالفارسية ب «باردار» أي له خليط من غير الفضّة).

فحينئذ لا بدّ من الإعلام، و لو كان له ظاهر و لم يعلمه فهو من التدليس، و يكون للمشتري خيار التدليس أو خيار العيب لو عدّ معيوبا.

و إذا وقعت المعاملة على القسم الأوّل جهلا فهناك صور:

1- فإمّا أن يكون البيع كليّا، فاللازم الإبدال.

2- و إن كان شخصيّا و عدّ الدرهم من المعيوب، فخيار العيب فيه ثابت.

3- و إن كان شيئا مباينا، فهو باطل، كمن باع فرسا فظهر بغلا، و باع كتاب لغة فظهر كتاب تفسير.

تتمّة في حرمة بيع مطلق آلات الفساد:

تقدّم في باب آلات القمار و اللهو و الأصنام أنّه يحرم بيع غيرها من آلات الفساد أيضا على أنواعها، و هي كثيرة:

«منها» الأواني التي تختصّ بطبخ الخمر و صنعها و الأقداح التي لا يستفاد منها في غيره.

و «منها» أشرطة الكاسيت و الأفلام المفسدة التي لا يمكن الانتفاع بصورتها و مادّتها في غير الحرام، لو كان لمادّتها منافع محلّلة و باعها بقصدها و لم يكن المشتري مظنّة للانتفاع بها منفعة فاسدة محرّمة، جاز.

و «منها» الأدوية التي لا ينتفع بها في غير التخمير، و كذا ما لا فائدة له إلّا في صنع المواد المخدّرة.

و «منها» الأجهزة التي ينتفع منها في التجسس على أحوال الناس و لا فائدة لها غالبا غير ذلك، فلو كانت لها فائدة غالبة اخرى جاز بيعها.

و «منها»

الصور المغرية و المفسدة التي تثير الشباب و غيرهم و تدفعهم إلى هتك الأعراض، و ارتكاب المحرّمات و القبائح، و كذا الصحف و المجلات الفاسدة لمحتواها أو صورها، و إن لم تدخل في عنوان كتب الضلال التي يأتي البحث عنها.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 106

و «منها» الأسلحة الكيمياوية و ما أشبهها ممّا لا يجوز الانتفاع منها بحال، و جميعها مشتركة فيما يلي:

1- لو لم تكن لها منافع محلّلة غالبة لم تكن مالية، بل يجوز إبطالها و إفنائها إذا لم تكن لمادّتها قيمة، بل يجب ذلك من باب النهي عن المنكر و قلع مادّة الفساد.

2- إذا كان لمادّتها قيمة يجوز محو صورتها، لعدم المالية لصورتها، رضى صاحبها أو لم يرض، بل يجب ذلك لما عرفت.

3- يجوز بيعها بعنوان المادّة المحلّلة لمن ليس مظنّة للفساد و الإفساد.

السّابع- بيع الشي ء لغاية محرّمة
اشارة

(كبيع العنب ليعمل خمرا) قد لا يكون الشي ء كآلات اللهو و الفساد ممّا غلب عليها الفساد، بل تكون له «غايات محلّلة و محرّمة»، و لكن يبيعه لغاية محرّمة، و هو على أقسام:

1- تارة يكون عنوان المعاملة أو شرطها ذلك، كمن يبيع العنب ليعمل خمرا، أو الخشب ليصنع صنما، أو يوجر البيت و الدكّان لأمر محرّم.

لا يقال: أي داع لمسلم أو لغيره على خصوص ذلك، بل لا يريد هو إلّا أخذ العوض كيفما كان؟

قلت: الداعي قد يحصل على ذلك، كأن يحرز البائع الغاية من عملية الشراء كيلا يكون منازعة في المستقبل من هذه الجهة، أو تكون الإجارة الكذائية أقلّ مضرّة للدار أو الدكّان، أو تكون اجرته بهذا العنوان أكثر، و كذا قيمة العنب، أو لا يكون مؤمنا ورعا، بل يريد الإفساد بين الناس لأغراض فاسدة شي ء.

2- و اخرى يبيعه أو يؤاجره مع

كون داعيه ذلك من غير أن يكون شرطا أو عنوانا في المعاملة، بأن يكون البيع أو الإجارة مطلقة.

3- و ثالثة لا يكون من قصده ذلك أبدا، و لكن يعلم أنّ داعي المشتري في الحال ذلك، أو يتجدّد الداعي له بعده، و إن لم يكن الآن كذلك.

4- أن يعلم أنّه يصرفه في الحرام و إن لم يكن داعيه ذلك من البيع، كمن يبيع العنب ممّن يعمله خمرا، و هو لا يريد إلّا بيع عنبه من غير قصد الحرام.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 108

5- هذا كلّه إذا كان المحرّم تمام الغرض، و لكن قد يكون جزأه مثل بيع المغنية بأكثر من ثمن غيرها لقصد الانتفاع بغنائها.

6- ما يكون نفس العمل المستأجر عليه حراما، كمعاونة الظلمة، و صنع الخمر، و الزنا ...

فهذه ستّة أقسام و لكلّ قسم حكمه الخاصّ:

أمّا القسم الأوّل: فلا كلام بينهم في حرمته، و ادّعى في الجواهر «1» و غيره الإجماع عليه، و نقل في الحدائق عن المنتهى إنّه موضع وفاق «2».

و استدلّ له شيخنا الأعظم العلّامة الأنصاري قدّس سرّه تارة بكونه إعانة على الإثم، و اخرى بأنّه أكل للمال بالباطل «3»، و ثالثة بما رواه صابر قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يؤاجر بيته فيباع فيها الخمر ... قال: «حرام أجره» «4».

و لكن سند هذه الرواية لا يخلو عن ضعف ب «صابر» إلّا أن يقال إنّها منجبرة بعمل الأصحاب.

هذا و قد يستشكل على الدليل الأوّل تارة بأنّ حرمة الإعانة على إطلاقها غير ثابتة، و اخرى بأنّ الحرمة تكليفية، فلا توجب فسادا في المعاملات.

أمّا الأوّل فسيأتي في محلّه، و أمّا الثاني فيمكن أن يجاب بأنّه داخل في قاعدة التحريم، و أنّ اللّه إذا

حرّم شيئا حرّم ثمنه. إلّا أن يقال لا يأخذ الثمن على المعاونة، بل على العنب، و لكن يمكن أن يقال بعدم اعتناء العرف بهذا التفكيك، بل يصدق أخذ الثمن على ما هو مصداق العون.

و على الثاني بأنّ المال لا يقع في مقابل هذا الشرط، بل في مقابل الأصل.

و فيه: إنّ قيمته قد تكون حينئذ أكثر، مضافا إلى صدق هذا العنوان عرفا لعدم الاعتناء بهذه التدقيقات عندهم.

و على الثّالث بمعارضته لما رواه: ابن اذينة قال: كتبت إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام أسأله عن انوار الفقاهة، ج 4، ص: 109

الرجل يؤاجر سفينته و دابّته ممّن يحمل فيها أو عليها الخمر و الخنازير قال: «لا بأس» «1».

و هذه الرواية بالإضافة إلى صحّة سندها أقوى من رواية جابر.

و لكن الإنصاف أنّها ليست نصّا فيما نحن فيه، هذا أوّلا، و ثانيا: حرمة الإجارة مقطوعة عندهم. و ثالثا: بأنّ إعراض الأصحاب عنها كاف في سقوطها.

و هذا الحكم ممّا لا ينبغي التأمّل فيه، و يؤيّده ما يستفاد من مذاق الشارع و المسائل الآتية أيضا.

أمّا القسم الثّاني: فالظاهر أنّه يجري فيه جميع ما تقدّم عدا كونه أكلا للمال بالباطل، لأنّ القصد و الداعي للباطل بعد عدم كون البيع مشروطا أو معنونا بهذا العنوان، بل كان البيع بعنوان بيع العنب مثلا من دون أي عنوان آخر لا يجعل البيع و أكل ثمنه باطلا.

أمّا الإعانة فيه حاصلة، و رواية جابر السابقة شاملة لها.

أمّا الصورة الثّالثة و الرابعة: ففيها خلاف بينهم (ذكروهما تحت عنوان بيع العنب ممّن يعمله خمرا) و لكن قد عرفت أنّه لا فرق بينها و بين سائر ما يكون له منافع محلّلة و محرّمة يبيعها المالك أو يؤجرها ممّن يصرفه في الحرام.

و تفصيل

الكلام فيه: إنّه حكي عن العلّامة رحمه اللّه في المختلف، و الشهيد الثاني قدّس سرّه في المسالك حرمته، و عن ابن إدريس رحمه اللّه جواز ذلك «2» و مال المحقّق الأردبيلي قدّس سرّه أيضا إلى حرمته (كما حكاه في الحدائق) «3».

و فصّل الشيخ الأعظم قدّس سرّه في المكاسب بين قصد البائع للحرام و عدمه، و لكن صورة القصد داخلة في الصورة السابقة، فهو في الواقع قائل بالجواز «4».

و الكلام في هذه المسألة المهمّة التي تعمّ بها البلوى تارة من حيث القواعد، و اخرى من حيث الأخبار الخاصّة.

أمّا الأوّل فقد يستدلّ على الحرمة بأدلّة تحريم الإعانة على الإثم، و أدلّة النهي عن المنكر.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 110

و أمّا الاولى فيحتاج إلى تحقيق مفاد الإعانة و معناها «أوّلا»، ثمّ نتكلّم في حكمها «ثانيا».

الإعانة و أركانها:

قبل الخوض في هذا البحث لا بدّ من ذكر مقدّمة و هي:

المشهور تقسيم العناوين إلى قسمين: 1- «عناوين قصدية» لا تحصل إلّا بالقصد، كالتعظيم و الإهانة، 2- «عناوين غير قصدية» كالضرب و الزنا و قتل النفس و أمثال ذلك.

و لكن لا بدّ أن يعلم أنّ القصد في العناوين القصدية قد يكون قهريا لا يمكن عدمه، فمن سبّ غيره في مجمع من الناس فقد أهانه، و لا ينفكّ عن هذا قصدها، كما أنّ القصد في العناوين الغير قصدية دائما قهري، فمن يضرب غيره بالسياط لا يمكنه عدم قصده، و سيأتي أنّ حكم الإعانة- لو قلنا بأنّها من العناوين القصدية- أيضا في كثير من مصاديقها كذلك، فمن أعطى سوطا لظالم عند إرادته ضرب المظلوم فقد أعانه، و لا ينفك ذلك عن هذا القصد حتّى لو أراد فصله عنه.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الأقوال هنا كثيرة:

1- ما

عن الأكثر من أنّ الإعانة هي إيجاد مقدّمة من مقدّمات فعل الغير، مع العلم بكونها مقدّمته، و لو لم يقصد حصول الفعل من غيره.

2- ما عن المحقّق الثاني رحمه اللّه أنّ الإعانة هي ذلك مع قصد الفعل من الغير كمن يعطي العنب ليعمل خمرا «1».

3- ما عن بعض آخر من اعتبار وجود الفعل المعان عليه خارجا، مضافا إلى ما ذكر.

4- المدار على وقوع الفعل المعان عليه في الخارج و عدمه كما اختاره بعض أكابر العصر «2».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 111

5- لا يعتبر شي ء خاصّ فيها، بل المدار في كلّ مقام على الصدق العرفي و المقامات مختلفة.

6- قد يفرّق بين المقدّمات القريبة و البعيدة، فتصدق في الاولى دون الثانية.

7- و قد يفرّق بين المقدّمة التي فائدتها منحصرة عرفا في المعان عليه، كإعطاء العصا إلى الضارب عند إرادة الضرب، و بين ما ليس كذلك، كبيع العنب ممّن يعمله خمرا (كما ذكره الشيخ في بعض كلماته) «1».

8- و يمكن الفرق بين ما فيه القصد فهو حرام قطعا، و ما ليس فيه فهو يدور مدار الصدق عرفا. فهذه احتمالات ثمانية في تفسير معنى «الإعانة».

أمّا القول بأنّه يدور مدار الصدق عرفا، فهو في الواقع فرار عن تعيين الضابطة، لأنّ للعرف في هذه الامور ضوابط لا بدّ من استخراجها و لا تكون بغير ضابطة و الحقّ في المقام يظهر بعد ذكر امور:

الأوّل- إنّ الإعانة من العناوين القصدية، و لكن قد يحصل القصد قهرا كما عرفت آنفا، فمن أعطى العصا إلى الظالم عند إرادة الظلم يعدّ معينا لظلمه، و قصده قهري، و الظاهر أنّ بيع العنب ممّن يعلم أنّه يصنعه خمرا أيضا كذلك، فلا ينفك عن قصد الإعانة، و القصد فيه قهري.

الثّاني-

لا بدّ في صدق عنوان الإعانة أن يكون مقدّمة قريبة، فمن أعطى عنبا لغيره يعلم أنّه يزرع حبّاته ثمّ يأخذ عنبها فيبيعها ممّن يعمله خمرا، يشكل صدق الإعانة عليه لا سيّما إذا كثرت الوسائط.

الثّالث- إذا لم يتحقّق المعان عليه لم يكن هنا إلّا تجرّيا، لعدم تحقّق إثم حتّى يكون فعله إعانة عليه، كما هو ظاهر.

الرّابع- إذا لم يكن بصدد إيجاد مقدّمة لفعل غيره، لكن حصل من فعله ما ينتفع به في مقصده، كالتاجر الذي يتّجر، و لكن الظالم العشّار يأخذ منه العشور و يصرفه في المظالم، فهو لا يفعل شيئا إلّا لنفسه، و لكن الظالم ينتفع بفعله بعد ذلك، و هذا بخلاف ما إذا باعه العنب و جعله تحت يده.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 112

و المعتبر في صدق الإعانة هذه الامور الأربعة: القصد، و جعل مقدّمة تحت اختيار غيره، و كونها قريبة، و وقوع المعان عليه.

و الدليل على اعتبار الأوّل ليس من ناحية كون الإعانة أمرا قصديا، بل من جهة ظهور نسبة كلّ فعل اختياري إلى فاعله أنّه صدر بقصده، و أمّا اعتبار المقدّمية فهو واضح لا ريب فيه، و أمّا كونها قريبة فلصحّة سلب هذا العنوان عن المقدّمات البعيدة، و إلّا لزم العلم الإجمالي بحرمة بعض أفعالنا دائما، لكونها بالواسطة إعانة لبعض المظالم فتأمّل.

و كذلك فيما لو لم يقع المعان عليه، فيكون عدم صدق عنوان الإعانة من الواضحات.

و ما في كلام بعض الأكابر من عدم اعتبار القصد، لاستعماله كثيرا فيما ليس فيه قصد مثل قوله تعالى: وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ «1» و أنّ المراد بالصبر هو الصوم «2»، و قوله: «من أكل الطين فمات فقد أعان على نفسه» «3»، و قوله «من تبسّم في

وجه مبدع فقد أعان على هدم الإسلام» «4» و قول القائل «سرت في الماء و أعانني على السير»، و أشباه ذلك من الروايات و العبارات العرفية، ممنوع.

و الإنصاف أنّ شيئا من ذلك لا يدلّ على مقصوده ...

أمّا الاستعانة بالصبر و الصلاة فهي أمر مطلوب، أي استمدّوا منهما على حلّ مشاكلكم، لا أنّ كلّ صلاة بنفسها تكون عونا من دون قصد إلى هذا العنوان، و لذلك ورد في الحديث في ذيل هذه الآية أنّ عليا عليه السّلام إذا ورد عليه أمر مهمّ توضّأ و صلّى ركعتين «5»، أي كان من نيّته هناك الاستمداد منها لحلّ مشاكله.

أمّا صدق الإعانة في أكل الطين فإنّما هو بعد العلم بهذا الحديث و محتواه كما إذا قال:

هذا صديقي فمن أكرمه فقد أكرمني- أي بعد علمكم بذلك- و مثله الوعيد بالعذاب لفعل انوار الفقاهة، ج 4، ص: 113

بعض المحرّمات في مقام بيان حكمه.

و أمّا التبسّم في وجوه المبدعين مع العلم بكونه كذلك و كون التبسّم تقوية لهم، فهو لا ينفكّ عن قصد الإعانة على هدم الإسلام، فالقصد فيه أيضا قهري.

أمّا إسناد الإعانة إلى الماء و الريح، فهو مجاز، لعدم قصده لهما، و لكن الكلام فيما إذا أسند إلى عاقل ... و كذا أشباهه، و استعماله في غير ما ذكرنا أحيانا لا ينافي كونه مجازا.

و العجب من بعض الأفاضل حيث صرّح بصدق عنوان الإعانة في التاجر الذي يؤخذ منه العشور مع أنّ عدم عدّه من المعين للظلمة بمكان من الوضوح، فتلخّص من جميع ذلك حدود هذا العنوان و ضابطته و الحمد للّه.

حرمة الإعانة على الإثم:

هذا كلّه بحسب «الصغرى»، أمّا «الكبرى» فالمعروف بل المدّعى عليه الإجماع حرمة الإعانة على الإثم، و العمدة فيها بعد دعوى الإجماع قوله

تعالى: تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ «1» و الأخبار الكثيرة الواردة في هذا المعنى بما سيأتي الإشارة إليها.

و لكن خالف فيه بعض أعاظم المعاصرين و قال بجوازه إلّا في موردين: مورد صدق التسبيب، و مورد الإعانة للظلمة فقط، لورود روايات خاصّة فيهما «2» و لا وجه لما ذكره بعد صدقه عرفا في هذين الموردين و غيرهما.

و حاصل كلامه: إنّ التعاون هو صدور فعل عن جمع بحيث يكون صادرا من جميعهم كبناء المسجد و غيره، و من المعلوم عدم صدقه على صدور الفعل من بعض، و المقدّمات من الآخر.

و فيه: إنّه لا يعتبر في صدق التعاون مباشرة بلا واسطة، فإذا اجتمع جمع لبناء مسجد،

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 114

فرسم الخريطة واحد، و هيّأ المواد الإنشائية آخر، و تبرّع بالنقود ثالث، و قام ببنائه البنّاء و هو شخص واحد، فلا شكّ في صدق تعاونهم على بناء المسجد، بل كثير من موارد التعاون كذلك.

هذا مضافا إلى إمكان الغاء الخصوصية من هذه الناحية، فلا وجه للإشكال في الحكم صغرى و كبرى.

و يمكن الاستدلال لحرمة الإعانة على الحرام- مضافا إلى ما ذكر- بما دلّ على وجوب النهي عن المنكر كما ذكره العلّامة الأنصاري تبعا للمحقّق الأردبيلي قدّس سرّهما، فقال الأوّل منهما بأن دفع المنكر كرفعه واجب، و لا يتمّ إلّا بترك البيع إليه فيجب، ثمّ استشهد بما رواه علي بن أبي حمزة قال: كان لي صديق من كتاب بني اميّة فقال لي: استأذن لي على أبي عبد اللّه عليه السّلام فاستأذنت له «عليه» فأذن له، فلمّا أن دخل سلّم و جلس، ثمّ قال: جعلت فداك إنّي كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم

مالا كثيرا و أغمضت في مطالبه، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

«لو لا أنّ بني اميّة وجدوا لهم من يكتب و يجبي لهم الفي ء، و يقاتل عنهم، و يشهد جماعتهم لما سلبونا حقّنا، و لو تركهم الناس و ما في أيديهم ما وجدوا شيئا إلّا ما وقع في أيديهم قال ...» «1».

و أورد عليه من وجهين:

1- إنّ دفع المنكر لا دليل على وجوبه، إنّما الواجب الرفع، و لا يمكن قياس أحدهما على الآخر، و القدر المتيقّن منه الثابت بالعقل و النقل هو وجوب الدفع في الامور المهمّة كالأعراض و النفوس.

2- الرواية ضعيفة (بإبراهيم بن إسحاق) و مخصوصة بإعانة الظلمة لا تشمل غيرها.

هذا و الإنصاف أنّه لا فرق بين «الدفع» و «الرفع» لإلغاء الخصوصية قطعا بعد كون الملاك واضحا شرعا و عرفا، فانّ ما ورد من قوله «بهما تقام الفرائض، تأمن المذاهب، و تحلّ المكاسب»، و غيرها لا يختلف فيه الدفع و الرفع.

على أنّ النهي كثيرا ما يكون من قبيل الدفع، كما إذا جلس جمع لشرب الخمر و لم انوار الفقاهة، ج 4، ص: 115

يشربوا بعد، فنهاهم عن ذلك بعض أهل الإيمان، أو افتتح بعض دكانا لبيع الخمر و لم يبع بعد، فنهاه المؤمنون، و بالجملة الجمود في هذه الامور بعيد عن مذاق أهل العرف الذين يرجع إليهم في تشخيص الموضوعات، بل قد يقال: إنّ النهي عن المنكر دائما من قبيل الدفع لأنّه يتحقّق عادة بالنسبة إلى الأعمال الآتية، و أمّا الماضي فقد مضى و انصرم، و لا معنى للنهي عنه فتأمّل.

أضف إلى ذلك أنّ الرواية مشتملة على استدلال عقلي يجري في غير موردها أيضا.

بقي هنا شي ء:

و هو أنّه قد يقال: إنّ وجوب ذلك يختصّ بما إذا

علم بتركه الحرام لو ترك بيع العنب له مثلا. أمّا إذا علم ببيع غيره له فلا، لعدم حصول الغرض، فلا يقاس ذلك بما إذا ترك ظلم شخص، فظلمه آخر، لأنّ الظلم من كلّ أحد حرام، و لكن الردع لا يحصل إلّا بفعل المجموع من حيث المجموع، كحمل المصدوم إلى المستشفى مثلا بفعل الجميع و لا يفيد فعل واحد منهم.

هذا و لكن يمكن دفعه بأن جعل كلّ عنب خمرا حرام برأسه، كما أنّ شرب كلّ فرد من أفرادها حرام كذلك، نعم لو كان الردع عن مصداق واحد لا يحصل إلّا بفعل جماعة- كان الأمر كما ذكره، فتدبّر فإنّه دقيق، فالحرمة بحسب القواعد مسلّمة.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى روايات الباب أعني خصوص بيع العنب، فنقول و من اللّه التوفيق: أنّها على طائفتين:

الطائفة الاولى:

ما دلّ على جواز بيع العنب ممّن يعلم أنّه يجعله خمرا، و هي روايات منها:

1- ما رواه أبو بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ثمن العصير قبل أن يغلي لمن يبتاعه ليطبخه أو يجعله خمرا. قال: «إذا بعته قبل أن يكون خمرا و هو حلال فلا بأس» «1».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 116

2- و ما رواه محمّد الحلبي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن بيع عصير العنب ممّن يجعله حراما، فقال: «لا بأس به، تبيعه حلالا ليجعله عليه السّلام حراما، فأبعده اللّه و أسحقه» «1».

3- و ما رواه عمر بن اذينة قال: كتبت إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام أسأله عن رجل له كرم، أ يبيع العنب و التمر ممّن يعلم أنّه يجعله خمرا أو سكرا؟ فقال: «إنّما باعه حلالا في الأبان الذي يحلّ شربه أو أكله، فلا بأس ببيعه» «2».

4-

و ما رواه أبو كهمس، قال: سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن العصير، فقال: لي كرم و أنا أعصره كلّ سنة و أجعله في الدنان و أبيعه قبل أن يغلي؟ قال: «لا بأس به و إن غلا فلا يحلّ بيعه، ثمّ قال: هو ذا نحن نبيع تمرنا ممّن نعلم أنّه يصنعه خمرا» «3».

5- و ما رواه أبو المعزا قال: سأل يعقوب الأحمر أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا حاضر فقال: إنّه كان لي أخ و هلك و ترك في حجري يتيما، و لي أخ يلي ضيعة لنا و هو يبيع العصير ممّن يصنعه خمرا و يؤاجر الأرض و بالطعام «إلى أن قال»: فقال: «أمّا بيع العصير ممّن يصنعه خمرا فلا بأس خذ نصيب اليتيم منه» «4».

6- و ما رواه رفاعة بن موسى قال سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام و أنا حاضر عن بيع العصير ممّن يخمّره. قال: «حلال، ألسنا نبيع تمرنا ممّن يجعله شرابا خبيثا» «5».

7- و ما رواه الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه سئل عن بيع العصير ممّن يصنعه خمرا.

فقال: «بعه ممّن يطبخه أو يصنعه خلا أحبّ إليّ، و لا أرى بالأوّل بأسا» «6».

8- و ما رواه يزيد بن خليفة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سأله رجل و أنا حاضر قال: إنّ لي الكرم قال: «تبيعه عنبا»، قال: فانّه يشتريه من يجعله خمرا قال: «فبعه إذا عصيرا». قال:

فإنّه يشتريه منّي عصيرا فيجعله خمرا في قربتي قال: «بعته حلالا فيجعله حراما فأبعده اللّه»، و ثمّ سكت هنيئة ثمّ قال: «لا تذرن ثمنه عليه حتّى يصير خمرا فتكون تأخذ ثمن الخمر» «7».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 117

9- و

ما رواه ابن اذينة قال: كتبت إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام أسأله عن الرجل يؤاجر سفينته و دابته ممّن يحمل فيها أو عليها الخمر و الخنازير، قال: «لا بأس» «1».

10- و ما رواه محمّد بن أبي نصر قال سألت أبا الحسن عليه السّلام عن بيع العصير فيصير خمرا قبل أن يقبض الثمن. فقال: «لو باع ثمرته ممّن يعلم أنّه يجعله حراما لم يكن بذلك بأس، فأمّا إذا كان عصيرا فلا يباع إلّا بالنقد» «2».

و الرواية الأخيرة و ان كان فيها تفصيل إلّا أنّه يستفاد منها المقصود، فانّها ناظرة إلى أنّه يمكن أن يجعله خمرا فيعطي ثمنك منها فخذ ثمن العصير نقدا (كما يظهر ذلك من بعض الروايات السابقة).

هذا و دلالتها واضحة، و بعض أسنادها صحيحة مع تظافرها.

و لكنّ فيها مع قطع النظر عمّا يعارضها بعض الإشكالات:

1- ورد في رواية أبي كهمس قوله «هو ذا نحن نبيع تمرنا ممّن نعلم إنّه يصنعه خمرا» «3».

و في رواية رفاعة «ألسنا نبيع تمرنا ممّن يجعله شرابا خبيثا»؟!

و كلاهما يدلّان على استمرار ذلك منه عليه السّلام و هذا بعيد جدّا من أمر أئمّة الدين ولاة المسلمين و القدوة في جميع الأمر للخلق أجمعين و إن كان جائزا لسائر الناس، و الأوّل و ان كان ضعيفا بأبي كهمس، و لكن الثانية صحيحة.

2- قد ورد في أمر الخمر من التشديد ما لا يخفى، حيث لعن عشر طوائف فيها غارسها و حارسها و ... فكيف جعل أمر البيع فيها بهذه السهولة و لو لم يكن البيع بهدف التخمير، و لكن العلم حاصل بأنّه يجعل العنب أو العصير خمرا حتّى قد عرفت في بعضها أنّه يجعله خمرا في نفس القربة التي يأخذ العصير

فيها (10/ 59).

3- إذا كان المشتري ممّن يكون عمله محرّما دائما أو غالبا فكيف يحلّ أخذ الثمن منه انوار الفقاهة، ج 4، ص: 118

الذي يعلم أو يغلب على الظنّ أنّه حرام (و الاعتماد على اليد هنا مشكل كما أشرنا في محلّه)؟ و كيف يأخذ الإمام عليه السّلام هذا الثمن المعلوم حرمته أو المشكوك جدّا؟

الطائفة الثّانية:

ما يدلّ على حرمة المقدّمات هنا (و منه بيع العنب ممّن يعمله خمرا) و هي روايات:

1- ما رواه صابر قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يؤاجر بيته فيباع فيه الخمر؟ قال:

«حرام أجره» «1».

2- و ما رواه ابن اذينة قال: كتبت إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام أسأله عن رجل له خشب، فباعه ممّن يتّخذه برابط، فقال: «لا بأس به»، و عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه صلبانا قال:

«لا» «2».

3- ما رواه عمر بن حريث قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن التوت أبيعه يصنع للصليب و الصنم؟ قال: «لا» «3».

4- و ما دلّ على حرمة بيع السلاح لأهل الحرب «4».

5- و ما دلّ على ذمّ الخمر و كلّ من تلبّس بشي ء من أعمالها «5».

بحيث يشمل ما نحن فيه بطريق أولى.

و أمّا طريق الجمع بين الطائفتين فقد ذكر في الحدائق له وجوها:

1- الجمع بينهما بحمل أخبار المنع على الكراهة، و أسنده إلى الأصحاب، ثمّ نفاه بأنّ ظواهر الأخبار لا تساعده «6».

و هو كذلك، لاستمرار فعل الأئمّة عليهم السّلام بظاهره هذه الأخبار عليه، و من البعيد استمرار عملهم على الكراهة، و اختاره العلّامة الأنصاري قدّس سرّه و قال: الأولى حمل أخبار المانعة على انوار الفقاهة، ج 4، ص: 119

الكراهة، لشهادة غير واحد من الأخبار بذلك كما أفتى به جماعة انتهى

«1» و قد عرفت ما فيه.

2- ما حكاه في الحدائق أيضا عن المحقّق الأردبيلي قدّس سرّه من حمل الأخبار المجوّزة على ما إذا علم بأنّه ممّن يصنع الخمر، لا أنّه يصنع خصوص هذا العنب خمرا، بل قال لا نعلم فتوى المجوّز بذلك «2»! و اختاره السيّد في حاشيته على المكاسب «3».

و فيه: إنّه لا يساعده ظواهرها، لأنّ بيع العنب ممّن يجعله خمرا ظاهر في أنّه يجعل نفس هذا العنب، بل في بعضها أنّه يجعل نفس العصير في القربة خمرا.

3- ما اختاره هو من حمل المانعة على ما وقع فيه الاشتراط في العقد على البيع لتلك الغاية المحرّمة، و حلّية ما سوى ذلك (بدون كراهة).

و لكن هذا المعنى أيضا عجيب، أوّلا: لبعد الاشتراط لعدم الداعي إليه (فإنّ الداعي على الاشتراط في الإجارة موجود، و لكن في البيع قلّما يتّفق، و إن كان ممكنا و لكنّه بعيد).

ثانيا: كيف يجوز أن يتفوّه بجواز ذلك حتّى بلا كراهة مع شدّة أمر الخمر و أشباهها؟

و هناك جمع رابع اختاره بعض أكابر أهل العصر، و هو التفكيك بين الموارد بحرمة بيع الخشب للصنم، و جواز بيع العنب، و لا منافاة بينهما.

و فيه: إنّه هل يمكن التفكيك بين الإجارة و البيع؟ مضافا إلى ما عرفت من أنّ الحكم ظاهرا من باب واحد كما فهمه الأصحاب غالبا أو جميعا.

و من ذلك كلّه يظهر أنّه يصل الأمر إلى التعارض، و حينئذ الموافق لعمومات كتاب اللّه و الاصول الثابتة من الشريفة هو المنع.

و القول بأنّ الأخبار المجوّزة موافقة لعمومات حلّية البيع كما ترى، بعد ما عرفت من أنّ هناك عمومات مقدّمة عليها، و هو عموم حرمة الإعانة على الإثم و شبهه.

هذا و يمكن أن يقال:

مع قطع النظر عن التعارض لا بدّ من إرجاع علم الأخبار المجوّزة إلى أهلها لو لم يمكن حملها على الضرورة و شبهها، لما فيه من المخالفة للأصول المعتضدة

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 120

بالعقل، و كيف يتصوّر إقدام الإمام عليه السّلام على مثل هذا الأمر مستمرّا من غير حزازة مع أنّه لو أقدم بعض ضعفاء الإيمان في عصرنا ذلك أنكروا عليه، هذا مضافا إلى أنّه من البعيد جدّا أنّ المدينة كانت في تلك الأزمنة مركزا للخمّارين حتّى لم يجدوا من يشتري عنبهم و تمرهم غير الخمّارين؟!

بقى هنا أمران:

الأمر الأوّل: هو أنّ بعض الأكابر ذكر هنا امورا ضعيفة استدلّ بها على ما ذهب إليه من عدم حرمة الإعانة على الإثم، نذكر منها أمرين:

1- لو حرّمت الإعانة مطلقا، لزم عدم جواز سقي الكافر أصلا لنجاسة الماء بملاقاة بدنهم (فشربه حرام بالنسبة له بعد كونه نجسا لأنّهم مأمورون بالفروع).

و فيه مضافا إلى عدم نجاسة الكفّار على الأقوى، أنّها أمر حاصل على كلّ حال، و الأمر بسقيهم أهمّ من ترك شربهم حتّى يموتوا (غير المعاندين و أهل الحرب منهم).

2- قيام السيرة في التجارات و المعاملات و إقامة الأندية و المجالس، مع أنّه يرتكب فيها محرّمات بالعلم الإجمالي، فقد يتقوّى بها على معصية اللّه فتكون إعانة عليها «1».

و فيه أنّ ذلك مقدّمات بعيدة، أو ليست من قبيل إعطاء المقدّمة بيد الغير أصلا، و إنّما ينتفع بها هو بسوء اختياره، و الفرق واضح.

الأمر الثّاني: ذكر العلّامة الأنصاري قدّس سرّه إنّ فعل ما هو بشرط الحرام الصادر عن الغير على وجوه، ثمّ ذكر خمسة وجوه:

1- ما يقع بقصد التوصّل إلى الحرام.

2- ما يقع لا بقصد حصول المقدّمة و لا ذي المقدّمة كفعل التاجر.

3- ما

قصد فيه المقدّمة دون ذي المقدّمة (لا من قبل البائع و لا المشتري).

4- ما قصد فيه المقدّمة من قبل البائع، و المشتري قصد ذا المقدّمة أيضا و كان ترك بيعه له علّة تامّة لتركه.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 121

5- ما لا يكون علّة تامّة لتركه.

و حكم بالحرمة في الأوّل و الرابع، و بالحلّية في البواقي.

و يردّ عليه: «أوّلا»: إنّ المعيار صدق الإعانة و عدمها، و هو حاصل بالوجدان في جميع الصور إذا انتهى إلى الحرام و تحقّق التخمير مثلا، إلّا الصورة الثانية لعدم صدور مثله للحرام منه، و عدم إقدامه على ذلك.

و ثانيا: إنّ القصد في كثير من الموارد قهري حاصل كما عرفت مرارا.

و ثالثا: إنّ ترك هذا الفعل علّة تامّة لترك الحرام دائما بالنسبة إلى هذا المصداق بعينه و ان كان نادرا على مصداق آخر، مضافا إلى أنّ الفرق بين العلّة التامّة و غيرها لا يكون إلّا في أدلّة النهي عن المنكر، أمّا إذا كان الدليل هو الإعانة على الإثم، فلا فرق فيه من هذه الجهة (فتأمّل فانّه دقيق).

الصورة الخامسة: ما إذا كان الحرام جزءا أو صفة كبيع الأمة المغنية، أو العبد الماهر في القمار، أو ما كان آلة مشتركة كآلة ينتفع منها في الحلال و الحرام معا و يقصدهما جميعا، كظرف يشرب فيه الماء و الخمر، و جهاز تسجيل يستفاد منه في التجسّس و غيره، ففيه صور:

1- ما يكون عنوان البيع و ملاك المالية فيه هو الحرام، كالجارية المغنية بهذا العنوان.

2- ما يكون عنوانه نفس بيع الجارية، و لكن التغنّي داع مثلا.

3- ما لا يلاحظ فيه المنفعة أصلا (و لكن قد يكون إعانة و قد لا يكون).

4- ما يكون عنوان المبيع الجارية المغنية، و

لكن بما أنّه صفة كمال تذكر الجنّة مثلا (و هذا المنفعة تارة تكون غالبة و اخرى نادرة).

ففي الواقع هنا ستّ صور ...

و الكلام تارة بحسب القواعد، و اخرى بحسب الأدلّة الخاصّة.

أمّا بحسب القواعد:

فنقول: أمّا الصورة الاولى، فهي من قبيل أكل المال بالباطل قطعا، و ذلك لأنّه ليس له انوار الفقاهة، ج 4، ص: 122

منافع محلّلة، و التفكيك بين الصفة و الموصوف غير صحيح عرفا و شرعا، و ليس من قبيل بيع ما يملك و ما لا يملك، كما هو ظاهر، لكن قد يقال هنا بالصحّة فيه أيضا لأمرين:

1- إنّ هذا الوصف لا يقابل بالمال، و إن كان بذل المال بملاحظة وجوده.

2- لو سلّم أنّ الأوصاف تقابل بجزء من الثمن، و لكن ليس مجرّد الوصف محرّما، إنّما المحرّم الفعل الخارجي- كما ورد في الحديث أنّ قدرة الإنسان على المحرّمات ربّما تجعله أعلى من الملائكة إذا تركها، و فيه مواقع للنظر.

أمّا أوّلا: فلأنّ الكلام في أنّ المالية بلحاظ المنفعة المحرّمة منتفية عند الشارع، فلا يجوز بذل المال بهذا اللحاظ.

أ رأيت إن كانت منافعه كلّها محرّمة، فهل كان له مالية؟

و ثانيا: كون العمل الخارجي حراما دون مجرّد الوصف مسلّم، و لكن الكلام في أنّ الشارع لا يرى لهذا الوصف تأثيرا في المالية، مع أنّ المتبايعين جعلاه ملاكا لها.

و ثالثا: العجب من قوله أخيرا بأنّ وجود القدرة على المحرّمات ربّما يوجب كون الإنسان أعلى قيمة و مقاما على الملائكة، فانّه شبيه بالمغالطة، فانّه يكون أعلى بملاحظة تركها، و هذا بملاحظة فعلها.

فهنا ينتفع منه في طريق الحرام، و هناك يعارض و يقابل بالصبر و الاستقامة.

و أمّا الصور الاخرى، فلا دليل على حرمتها إلّا إذا كانت المنفعة المحلّلة نادرة أو كانت إعانة

للمشتري على الحرام، هذا بحسب القواعد.

أمّا بحسب الأدلّة الخاصّة فيدلّ على حرمة بيعها روايات كثيرة منها.

1- ما رواه إسحاق بن يعقوب في التوقيعات التي وردت عليه من محمّد بن عثمان العمري بخطّ صاحب الزمان عليه السّلام: «أمّا ما سألت عنه أرشدك اللّه و ثبّتك من أمر المنكرين لي «إلى أن قال»: و أمّا ما وصلتنا به فلا قبول عندنا إلّا لما تاب و طهر، و ثمن المغنية حرام» «1».

و هذه الرواية ضعيفة لمحمّد بن عصام.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 123

2- و ما رواه إبراهيم بن أبي البلاد قال: قلت لأبي الحسن الأوّل عليه السّلام: جعلت فداك إنّ رجلا من مواليك عنده جوار مغنيات قيمتهنّ أربعة عشر الف دينار و قد جعل لك ثلثها.

فقال: «لا حاجة لي فيها إنّ ثمن الكلب و المغنية سحت» «1».

3- و ما رواه إبراهيم بن أبي البلاد قال: أوصى إسحاق بن عمر بجوار له مغنيات أن تبيعهنّ و يحمل ثمنهنّ إلى أبي الحسن عليه السّلام قال إبراهيم: فبعت الجواري بثلاثمائة الف درهم، و حملت الثمن إليه، فقلت له: إنّ مولى لك يقال له إسحاق بن عمر أوصى عند وفاته ببيع جوار له مغنيات و حمل الثمن إليك و قد بعتهنّ، و هذا الثمن ثلاثمائة الف درهم. فقال: «لا حاجة لي فيه إنّ هذا سحت و تعليمهنّ كفر، و الاستماع منهنّ نفاق، و ثمنهم سحت» «2».

و يحتمل أن تكون هذه الرواية و سابقتها واحدة بالإضافة إلى إرسالهما.

4- و ما رواه الحسن بن علي الوشاء قال: سئل أبو الحسن الرضا عليه السّلام عن شراء المغنية قال: «قد تكون للرجل الجارية تلهيه و ما ثمنها إلّا ثمن كلب و ثمن الكلب سحت و السحت في

النار» «3».

و هذه الرواية أيضا ضعيفة بسهل بن زياد (بناء على ضعفه).

5- و ما رواه سعيد بن محمّد الطاهري عن أبيه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سأله رجل عن بيع الجواري المغنيات فقال: «شرائهن و بيعهنّ حرام و تعليمهنّ كفر استماعهنّ نفاق» «4».

و الرواية ضعيفة بالطاهري.

6- ما رواه أبو امامة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال: «لا تبتاعوا المغنيات و لا تشترهنّ ...

و ثمنهنّ حرام» «5».

و لو فرض ضعف إسناد جميعها ففي تظافرها و عمل المشهور بها كفاية.

نعم قد يعارض بمرسلة الصدوق رحمه اللّه تارة و هي:

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 124

ما رواه محمّد بن علي بن الحسين قال: سأل رجل علي بن الحسين عليه السّلام عن شراء جارية لها صوت؟ فقال: «ما عليك لو اشتريتها فذكرتك الجنّة، يعني بقراءة القرآن و الزهد و الفضائل التي ليس بغناء، فأمّا الغناء فمحظور» «1».

و اخرى برواية الدينوري، و هي:

ما رواه عبد اللّه بن الحسن الدينوري قال: قلت لأبي الحسن عليه السّلام: جعلت فداك ما تقول في النصرانية أشتريها و أبيعها من النصراني؟ فقال: «اشتر و بع؟» قلت: فأنكح. فسكت عن ذلك قليلا ثمّ نظر إليّ و قال شبه الاخفاء: «هي لك حلال»، قال: قلت جعلت فداك فأشتري المغنية أو الجارية تحسن أن تغني اريد بها الرزق لا سوى ذلك قال: «اشتر و بع» «2».

و لكنّه واضح الضعف، أمّا الاولى فضعيفة سندا و دلالة، لأنّ السؤال فيها عن شراء جارية لها صوت و هي غير المغنية، و أمّا الثانية فضعيفة أيضا للدينوري، مضافا إلى تقديم الطائفة الاولى بعمل المشهور و موافقتها للقواعد.

بقى الكلام في حكم سائر الصور من بيع ماله منافع محلّلة

و محرّمة و الحكم الوضعي في الجميع، فلنعد إلى الصور الستّة السابقة و نرى حالها فنقول (و منه سبحانه نستمدّ التوفيق و الهداية):

أمّا الصورة الاولى: و هي ما إذا كان عنوان المعاملة محرّما كإجارة البيت لبيع الخمر أو صنعته أو اشتراط ذلك فيه و بذل المال بإزائه، فالظاهر أنّها محرّمة، و مضافا إلى الحرمة التكليفية تكون باطلة لكونها أكلا للمال بالباطل، و دعوى عدم وقوع الثمن بازاء الشرط- في صورة الاشتراط- قد عرفت الجواب عنها، لأنّه مؤثّر في ازدياد قيمة العين، مع أنّ المفروض سقوط هذه الفائدة شرعا و عدم الاعتناء بها.

و أمّا الصورة الثانية و الثالثة و الرابعة (أعني ما إذا كان الداعي هو الحرام، أو علم ذلك من المشتري، أو يعلم بأنّه يصرفه في الحرام) فكلّها حرام أيضا من باب الإعانة، و لكن لا دليل على بطلان المعاملة حينئذ، لأنّ الإعانة على الإثم حرام تكليفا لا تؤثّر في فساد المعاملة،

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 125

و لا يوجب كون أكل المال فيها أكلا بالباطل.

نعم، بعض فقرات رواية تحف العقول مثل قوله «أمّا وجوه الحرام من البيع ...» إلى قوله «أو باب يوهن به الحقّ» «1» يمكن أن تكون دليلا للبطلان.

هذا و لكن مضافا إلى ضعف سندها قد يكون فيها ما يدلّ على خلاف ذلك، مثل قوله عليه السّلام: «و إن كانت تلك الصناعة و تلك الآلة تصرف في الحرام».

و أمّا الخامسة و هي التي وقع العمل المحرّم في متن العقد و عنوانا في البيع فهي أيضا باطلة بلا ريب و لا إشكال، لعين ما عرفت من أنّها أكل المال بالباطل و لقاعدة التحريم.

الثّامن- بيع ما فيه تقوية للكفر و الضلال و الفساد
اشارة

عنونه الفقهاء (رضوان اللّه عليهم) ببيع السلاح لأعداء الدين، و قد ذكروا

فيه أقوالا، و لكن الإنصاف إمكان تعميم البحث لكلّ ما يكون له شأنية قريبة و مظنّة لفساد عظيم أو لمطلق الفساد بين الناس أو بين المسلمين.

فلنذكر ما ذكروه تحت عنوان بيع السلاح لأعداء الدين، ثمّ نتكلّم إن شاء اللّه في إمكان تعميم البحث، فنقول و منه تعالى التوفيق و الهداية:

المشهور حرمة بيع السلاح لأعداء الدين، بل لم ينقل فيه خلاف، و هل هو مطلق شامل لحال الحرب، و الهدنة، و الصلح، كما عن حواشي الشهيد «1» أو في خصوص حال الحرب، كما اختاره العلّامة الأنصاري قدّس سرّه «2»؟

و هل يختصّ ذلك بما إذا قصد البائع المعونة كما عن بعض أو يعمّ؟

و هل يختصّ بالسلاح، أو يشمل غير أيضا؟ هناك أقوال كثيرة لا يهمّنا نقل جميعها.

و العمدة من بينها ما عرفت، ثمّ إنّ هذه المسألة قد يتكلّم فيها بحسب روايات الباب، و اخرى بحسب مقتضى القاعدة.

و حاصل الكلام فيها من ناحية الروايات:

انّ هناك طوائف من الروايات.

الطائفة الاولى ما دلّ على النهي مطلقا مثل:

1- ما رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن حمل انوار الفقاهة، ج 4، ص: 128

المسلمين إلى المشركين التجارة. قال: «إذا لم يحملوا سلاحا فلا بأس» «1».

و هذه الرواية صحيحة سندا.

2- و ما رواه الصدوق رحمه اللّه عن حمّاد بن عمرو و أنس بن محمّد عن أبيه جميعا عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السّلام في وصية النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لعلي عليه السّلام قال: «يا علي كفر باللّه العظيم من هذه الامّة عشرة .. إلى أن قال: و بائع السلاح من أهل الحرب» «2».

و الحديث مشتمل على عدّة مجاهيل، و

قوله «بائع السلاح من أهل الحرب» أعمّ من كونهم في حال الحرب كما لا يخفى.

«الطائفة الثانية» ما دلّ على التفصيل بين حال الحرب و غيره مثل:

3- ما رواه أبو بكر الحضرمي قال: دخلنا على أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال له حكم السراج: ما تقول فيمن يحمل إلى الشام السروج و أداتها؟ فقال: «لا بأس أنتم اليوم بمنزلة أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم، أنّكم في هدنة، فإذا كانت المباينة حرم عليكم أن تحملوا إليهم السروج و السلاح» «3».

و هي ضعيفة بالحضرمي ظاهرا.

4- و ما رواه أبو سارة عن هند السراج قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: أصلحك اللّه إنّي كنت أحمل السلاح إلى أهل الشام فأبيعه منهم (فيهم)، فلمّا عرّفني اللّه هذا الأمر ضقت بذلك، و قلت لا أحمل إلى أعداء اللّه، فقال لي: «احمل إليهم و بعهم، فإنّ اللّه يدفع بهم عدوّنا و عدوّكم يعني الروم، فإذا كانت الحرب بيننا فلا تحملوا، فمن حمل إلى عدوّنا سلاحا يستعينون به علينا فهو مشرك» «4».

و هذه الرواية أيضا ضعيفة بأبي سارة.

5- و ما رواه السرّاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له: إنّي أبيع السلاح. قال: فقال: «لا تبعه في فتنة» «5».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 129

و فيه سند الرواية أيضا إشكال «1».

و هناك رواية واحدة مطلقة دالّة على الجواز مطلقا و هي:

6- ما رواه أبو القاسم الصيقل قال: كتبت إليه، إنّي رجل صيقل أشتري السيوف و أبيعها من السلطان أ جائز لي بيعها؟ «فكتب لا بأس به» «2». و هذا الحديث ضعيف ب «الصيقل».

و أمّا ما رواه محمّد بن قيس (الحديث 3/ 8) فهو خارج عن محلّ الكلام لأنّه

ورد في طائفتين من أهل الباطل، و لعلّه لا يشمل ما نحن بصدده.

ثمّ أنّه هل يجوز الجمع بينها بحمل المطلقات على المقيّدات كما هو ظاهر كلام العلّامة الأنصاري قدّس سرّه، أم لا؟ «3» و لعلّه ظاهر الشهيد أيضا.

و ما قد يقال من أنّ المطلّقات ناظرة إلى الكفّار، و الروايات المفصّلة مخصوصة بالمسلمين، فلو كانوا يقفون في مواجهة الأئمّة و الشيعة فلا يجوز البيع لهم، و إلّا يجوز، مضافا إلى أنّ تمكين المشركين أو الكفّار من السلاح غير جائز، لاستقلال العقل بقبح تقويتهم، مضافا إلى أنّه نقض للغرض من قوله تعالى وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ ... «4».

ففيه: إنّ قوله عليه السّلام: «أنتم اليوم بمنزلة أصحاب رسول اللّه» في رواية الحضرمي (1/ 8) و قوله: لا تبعه في فتنة (4/ 8)، كلّها دليل على عدم الفرق بين الكفّار و غيرهم، هذا أوّلا.

و أمّا ثانيا، فلأنّه قد لا يكون من ناحية بعض الكفّار خطر على المسلمين أصلا، بل قد يكون بعضهم خطرا على الأعداء فقط، فدعوى استقلال العقل على إطلاقه بعيد جدّا، و أمّا ثالثا، فلأنّ «الإعداد لهم» لا يدلّ على عدم جواز البيع لهم في الصورة التي أشرنا إليها، بل قد يكون بيعها لهم نحو «اعداد المسلمين» في مقابل الكفّار.

فما لم يكن فيه خطر قريب أو كالقريب لا دليل على الحرمة، و الجمع الذي عرفت صحيح.

و الحاصل، إنّ الأمر يدور مدار تقويتهم ضدّ الحقّ و عدمه.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 130

بقى هنا أمران:

1- هل يختصّ الحكم بالسلاح، أو يعمّ كلّ ما يتقوّى به الأعداء؟ الذي اختاره الشيخ في النهاية، و ظاهر السرائر، و العلّامة في أكثر كتبه، و الشهيدان و المحقّق الثاني، و شيخنا الأنصاري قدّس سرّه

هو الاختصاص بالأوّل «1».

خلافا لبعض حواشي الشهيد قدّس سرّه على القواعد فيما حكي عنه.

استدلّ للعموم بأنّ معنى السلاح أعمّ لغة، هذا أوّلا، و قوله «يستعينون به علينا» في رواية هند السراج (2/ 8) ثانيا، و فحوى رواية الحكم السراج الدالّة على النهي عن بيع السرج (1/ 8) ثالثا، و رواية تحف العقول (باب ما يوهن به الحقّ) (1/ 2) رابعا، و كونه نقضا لغرضه تعالى في قوله تعالى وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ خامسا، و كونه تقوية لهم، و هو حرام سادسا .. و في جميعها نظر.

أمّا الأوّل: فلأنّ كون السلاح عاما و إن كان يشهد به بعض كلمات أهل اللغة حيث فسّروه بآلات الحرب مطلقا و لكن الظاهر من كلام بعض آخر مثل الراغب في «المفردات» و غيره حيث فسّر السلاح بكلّ ما يقاتل به، و قد وقع في كتاب اللّه في مقابل «الحذر» و هو المجن» و «الترس» و غيرهما من أشباههما ممّا يكون للحفظ لا للحرب و الضرب قال تعالى: فقد وقع وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ «2» السلاح فيه مقابل الحذر.

و أمّا الثاني: فلأنّه لا يزيد عن الاشعار مع ضعف سنده.

أمّا الثالث: فلأنّ السروج وقعت في مقابل الأسلحة، و هو دليل على عدم شمولها لها، نعم الرواية دليل على المنع لو صحّت أسنادها، و لكنّها ليست كذلك.

و أمّا الرابع: فلضعف سنده.

و أمّا الخامس: فلأنّه أخصّ من المدّعى.

و أمّا السادس: فلخروجه عن الاستدلال بالأدلّة الخاصّة، و سيأتي الكلام فيها.

2- هل يمكن التعدّي عن أعداء اللّه إلى غيرهم من أهل المعصية كقطّاع الطريق؟ ظاهر

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 131

النصوص خروجها منه، فلا يجوز الاستدلال لها عليه، نعم قد يستند إلى بعض فقرات رواية تحف

العقول من «وهن الحقّ» أو «شي ء فيه وجه من وجوه الفساد» و قد عرفت حال الرواية مرارا.

هذا كلّه إذا اريد البحث في نطاق الأحاديث الخاصّة.

تقوية أعداء الدين بنحو عامّ:

و أمّا من ناحية القواعد فيمكن أن يقال: كلّما كان مثل بيع السلاح لأعداء الدين، أو المعاملات الخطيرة معهم التي توجب قدرتهم، و تزيد في شوكتهم، بل و جعل الصنائع المهمّة تحت اختيارهم، أو تعليمهم علوما توجب غلبتهم على المسلمين أو غير ذلك، فهذه كلّها حرام إذا كانت علّة قريبة، أو بعيدة لمزيد شوكتهم، و خيف منهم على المسلمين، و الدليل عليه هو صدق الإعانة على الإثم في كثير من مواردها، و القصد هنا قهري كما عرفت، على أنّ عدم العلم هنا غير كاف بعد كون الظنّ و الخوف في هذه المقامات طريقا عقلائيا، بل لو لم يصدق عليه عنوان الإعانة، و النهي عن المنكر، و لكن كان مخالفا لمسألة وجوب حفظ حوزة الإسلام، و كيان المسلمين الذي نحن مأمورون بحفظه بالضرورة من سلطتهم على المسلمين فهو مخالف لحقيقة الحفظ و الرعاية.

بل قد يعدّ ذلك خيانة للمسلمين، و لذا كان إفشاء بعض أسرارهم إلى أعدائهم في غزوة الأحزاب، سببا لغضب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و المسلمين على عامله، حتّى تاب توبته المعروفة، و كيف يكون تزويدهم بالسلاح و غيره أقلّ من هذا؟ بل قد يكون داخلا تحت عنوان الفساد في الأرض، و إشاعة الفحشاء إذا كان من الامور التي تؤدّي إلى تقوية الفسّاق بالقوّة و جذب نفوس البسطاء و الغافلين إليهم.

نعم هنا صور اخرى لا دليل على حرمتها:

1- إذا كان الأمر بالعكس، أي كان بيعهم السلاح أو امورا اخر سببا لسيطرتهم على بعض شعب الشرك و

النفاق، التي يخاف منها على الإسلام و المسلمين، كما في جمع من انوار الفقاهة، ج 4، ص: 132

المؤلّفة قلوبهم و إن كانوا غير مسلمين (بناء على تفسير المؤلّفة قلوبهم بذلك) و يظهر من ذلك من قوله عليه السّلام في رواية هند السراج: «إنّ اللّه عزّ و جلّ يدفع به عدوّنا و عدوّكم يعني الروم».

2- أن لا يكون لبيع السلاح و غيره أثرا في قوّتهم، لكونه من الامور البسيطة التي لا تتفاوت بها القدرة و القوّة من حيث الكميّة أو الكيفية، و هذا لا دليل على حرمته أيضا كما لا يخفى.

3- أن يكون موجبا لقوّتهم من جهة، و ضعفهم من جهة اخرى، و يكون الضعف أقوى و أرجح كما إذا لزم ضعفهم من الناحية الاقتصادية أكثر ممّا يوجب قوّتهم من الناحية العسكرية، بحيث يكون بالمآل موجبا لهزيمتهم، و هذا أيضا جائز، بل قد يكون واجبا، و لكن يحتاج تمييزه إلى لطف قريحة.

4- أن يكون موجبا لجلبهم و جذبهم إلى الإسلام، كما إذا كانت المعاملة معهم، و إعطاؤهم بعض الأشياء مجّانا سببا لذلك، و هو أيضا جائز.

5- أن يكون السلاح و غيره ممّا خرج عن عنوان السلاح العسكري المعمول، و صار من الأشياء العتيقة، كالترس و السيف في عصرنا، و هذا أيضا جائز لانصراف الأدلّة عنه.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ روايات الباب لا تتجاوز هذه القاعدة الكليّة، بل تذكر بعض مصاديقها، فحينئذ يكون البحث أوسع و أشمل.

بقى هنا امور:

أوّلها: ذكر في «تحرير الوسيلة» تعميم الحكم للفرق المعادية للفرقة المحقّة من المسلمين، بل و قطّاع الطريق، و التعدّي أيضا من بيع السلاح إلى بيع غيره لهم كالزاد و الراحلة المحمولة، ممّا يكون سببا لتقويتهم. انتهى «1».

و هو جيّد، بل لا

بدّ من تعميم الحكم من البيع إلى الإجارة و الهبة، بل النكاح معهم، بل انوار الفقاهة، ج 4، ص: 133

تعليمهم الصنائع و غيرها، لاشتراك الجميع فيما عرفت من المعيار للمسألة، لعموم الأدلّة، و اقتصار الأصحاب تبعا لروايات الباب على بعض المصاديق لا يمنعنا عن القول بعموم البحث بعد عموم الدليل.

ثانيها: ذكر في «التحرير» أيضا أنّ الأمر في تشخيص ذلك (أي مصالح الإسلام و المسلمين في حال الهدنة) موكول إلى والي المسلمين و ليس لغيره الاستبداد بذلك.

انتهى «1».

و ما أفاده إن كان بالنسبة إلى الامور المهمّة التي ترتبط بأمر الولاية و الحكومة فهو حسن، و أمّا إن كان مطلقا فهو ممنوع، لمنافاته لظاهر أخبار الباب، حيث جعل تمييز ذلك بيد المسلمين إجمالا، و مخالف لأدلّة الولاية، فإنّها لا تشتمل إلّا الامور العامّة لا الجزئية الخاصّة كما لا يخفى.

ثالثها: هل الحرمة هنا تكليفية فقط، أو يتعقّبها الفساد أيضا؟ الظاهر هو الأوّل، لأنّ الحرمة هنا من باب العناوين الثانوية، و إلّا فليس في المعاملة فساد بالذات، و ليس السلاح و شبهه كالخمر و الخنزير و آلات القمار، و ليس في روايات الباب ما يدلّ على فساد البيع، و كونه على حدّ الشرك أو الكفر- كما ورد فيها- لا يدلّ على أزيد ممّا ذكرنا، و بعبارة اخرى:

النهي مطلق تعلّق بعنوان خارج لا عنوان البيع.

نعم، هنا تفصيل لبعض الأعلام ذكره في غير المقام، و حاصله: إنّ البيع لو كان بعنوان المعاطاة كان الأمر كما ذكر، و أمّا إن كان بيعا بالصيغة، فحينئذ يقع التعارض بين أدلّة حرمة الإعانة و شبهها، و أدلّة لزوم الوفاء بالعقد (و لا يبعد ترجيح الأوّل، و حينئذ يحكم بالفسخ).

أقول: يرد عليه أوّلا: إنّه في فرض المعاطاة

أيضا يجب أخذه منه، و رده لو أمكن، لأنّ بقائه تحت يده كابتدائه محرم بلا تفاوت بين أنواع البيع. و ثانيا: إذا كان البيع بالصيغة فلا محالة ينتقل إليه المال، و يجوز منعه من البضاعة لا بعنوان عدم الوفاء، بل بعنوان دفع المنكر و شبهه، و هذا العنوان حاكم على أدلّة وجوب الوفاء بالعقد، كما يجوز أخذ ملكه إذا كان سلاحا معدّا لحرب المسلمين و أشباهه، و بالجملة لا يتفاوت الحال في صحّة العقد و فساده انوار الفقاهة، ج 4، ص: 134

بين الصورتين، فالعقد في كليهما صحيح و ثمنه ليس سحتا، و إن كان عمله حراما، و المسألة تحتاج إلى مزيد بحث و تأمّل فتأمّل.

التاسع- بيع ما لا منفعة فيه

و من المكاسب المحرّمة «بيع ما لا منفعة فيه مقصودة محلّلة»، و المراد من الحرمة هنا الفساد قطعا، بل هذا الشرط بشرائط صحّة البيع أشبه من المكاسب المحرّمة كما ذكره بعض الأعلام.

و قد ادّعى الإجماع على فساد «بيع ما لا نفع فيه منفعة محلّلة مقصودة» و عن جمع من فقهاء العامّة كذلك، و مثّلوا لها بالحشرات و العقارب و كثير من حيوان الوحش «1».

و لكن جوّز بعض العامّة جواز بيعها إذا كان ينتفع بها، فإن كان مراده منفعة عامّة فلا كلام، و إن كان منفعة نادرة كان من الأقوال المخالفة، و قد ذهب بعض أعلام العصر أيضا إلى جواز ذلك.

و العمدة ملاحظة الدليل هنا، فنقول (و منه جلّ و علا التوفيق و الهداية): غاية ما يمكن الاستدلال له امور:

1- الإجماع، و قد اعتمد عليه شيخنا الأنصاري قدّس سرّه في بعض كلماته.

و من المعلوم أنّ الإجماع لا يمكن الاعتماد عليه في أمثال المقام ممّا احتفّ بامور يمكن اعتماد المجمعين عليها.

2- عدم كونها

مالا، فلا يجوز المعاوضة عليها- توضيحه: إنّ حقيقة المالية هي كون الشي ء بحيث يبذل بازائه أشياء اخر يعتدّ بها.

و الأصل في ذلك أنّ الأشياء الموجودة في عالم الطبيعة، قد لا ينتفع منها الإنسان بمنفعة أبدا، أو تكون منافعها قليلة نادرة لا يتوجّه إليها عامّة الناس، و قد يتوجّه إليها، و على الثاني انوار الفقاهة، ج 4، ص: 136

تارة يوجد منها كميّة كبيرة كالماء على الشاطئ، و اخرى ليست كذلك، و في الصورة الثانية ينتزع منها عنوان المالية، لأنّ سائر الناس يبذلون بازائها مالا لينتفعوا بها، و من هنا نشأت المالية في المجتمع الإنساني، و من بعدها الملكية، و من الواضح أنّ النفع النادر لا يكون معيارا للحكم عندهم في هذه المقامات.

و الشاهد عليه أنّه إذا أتلفه إنسان لا يرونه ضامنا لشي ء من المال و ان كان محلّ رغبته بشخصه، و يحتاج إليه لبعض مقاصده و يبذل بعض أمواله ليتسلّط عليه و يكون تحت يده.

و كذلك لا يعدّ عندهم غنيّا بذلك، و لا يحسب في الإرث، نعم لو كان له حقّ الاختصاص بحسب ملاكات عقلائية جرى عليه حكمه. و من العجب إنكار هذه الامور من ناحية بعضهم مع أنّها من الواضحات، فالماء على الشاطئ و الحصاة في الوادي ليست مالا و إن تعلّق بعض الناس بشي ء منها بالخصوص. ثمّ إنّ المعاوضات- لا عنوان البيع فقط- تدور مدار المالية، و بدونها لا تعدّ القوانين العقلائية لها معنى، فلا تدور مالية الماء على طريقة العقلاء مدار رغبات الأشخاص و الآحاد، بل المدار في الجميع هو علاقة النوع، فقد تكون رغبة شخص في شي ء خاص أكثر من غيره بمراتب، بينما لا يكون عند سائر الناس كذلك، و أحكام الضمانات و

سهام الإرث و غيرها كلّها تدور على هذا المدار لا ذاك.

و حينئذ لا يبقى مجال بأن يقال: إنّ عدم شمول عنوان البيع له لا يمنع اندراجه تحت عنوان مطلق المعاوضة عن تراض، كما أنّ المراجعة إلى أهل اللغة في إثبات عدم لزوم عنوان المال في البيع لا طائل تحته.

أمّا أوّلا: فلأنّ فهم معنى البيع أظهر من أن يحتاج إلى مراجعة اللغويين، فهو لفظ لا يزال يدور على ألسنتنا، أو ألسنة أهل اللغة و كتبهم التي بأيدينا ليلا و نهارا، و لا شكّ أنّه لا معنى للبيع إذا لم يكن هناك مال.

و أمّا ثانيا: فلأنّ عنوان المعاوضة أيضا كذلك لا معنى له بدون عنوان المال، و لا يرى العقلاء قيمة لمعاوضة شخصية تدور مدار رغبات نادرة خاصّة، و لذا لا يرون له ضمان، و لا اندراج في الإرث من حيث القيمة كما عرفت آنفا.

و قد جعل بعض الأعلام في مكاسبه المدار على «العرض» و «الطلب» حتّى لو نشأ عن انوار الفقاهة، ج 4، ص: 137

عوامل سياسية، و لكنّه غفل عن أنّه تابع للطلب النوعي لا الشخصي، كما في المنافع النادرة.

نعم لا يعدّ بذل المال في مقابل هذه الامور من قبيل السفاهة إذا كان هناك غرض شخصي قائم به، كما إذا كانت هناك قطعة ثوب خلق بقيت من أجداده، فالبيع و أشباهه يدور مدار المالية بحسب العرف و العقلاء الذي أمضاه الشرع، و أمّا السفاهة و شبهها فتدور مدار الأغراض الشخصية.

و الفرق بينهما أنّ الأوّل من الاعتبارات العقلائية التي تدور مدار النوع عندهم، و الثاني أمر تكويني أو شبه تكويني يدور مدار رغبات الأشخاص، فمن احتاج إلى حشرة خاصّة مثلا لنجاة مريضه من الموت فبذل بإزائها آلافا لا

يعدّ سفيها، و لكن ليس لبيعه هذا قيمة عند العقلاء إذا لم تكن تلك المنفعة غالبة، كما أنّه لا يعدّ مالا، و لو أتلفه متلف لا يضمنه، و إن أثم بفعله ذلك، و أضرّ بأخيه، و منعه من حقّ اختصاصه به، فما يظهر من بعض الأعلام في مكاسبه من دوران الأمر مدار خروج المعاملة عن السفه كما ترى.

3- أنّه من قبيل أكل المال بالباطل، و أي باطل عند أهل العرف أوضح من هذا.

و لكن قد يورد عليه بأنّ الآية الشريفة ناظرة إلى أسباب الملك، لا شرائط العوضين.

و بعبارة اخرى: أنّها ناظرة إلى ما كان من قبيل رضى المتعاملين في مقابل القهر و الغصب و الرشوة و الغشّ و غيرها من طرق السيطرة على مال الغير بالباطل، و يؤيّده قوله تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ «1» لمكان «الباء» في قوله «بالباطل».

و فيه: إنّ كون هذه الامور من الباطل ممّا لا ريب فيه، و لكن لا دليل هنا على الحصر فيها، و آية سورة البقرة لا تنفي ما سواها، و كون الباء للسببية أيضا غير مانع من العموم، فمن أكل مال الغير في مقابل الخمر و آلات القمار فقد أكل بسبب باطل، و كذلك في مقابل الحشرات و الأشياء التي لا مالية لها عند العقلاء، فتأمّل.

و بالجملة المسألة عقلائية قبل أن تكون شرعية، و إنّما أمضاها الشرع، و حيث أنّها باطلة عند العقلاء من أهل العرف، فهي باطلة شرعا و منهي عنها.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 138

بقى هنا امور:

الأوّل: إنّه قد يكون شي ء ممّا لا نفع فيه في زمان أو مكان، بينما

يكون فيه نفع في محلّ أو زمان آخر، و لعلّه من هذا الباب جواز بيع «الهرّة» الذي ورد في بعض الروايات مثل:

ما رواه محمّد بن مسلم و عبد الرحمن عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت». ثمّ قال: «و لا بأس بثمن الهرّ» «1».

و ما ورد في النهي عن بيع القرد و شرائه مثل:

ما رواه مسمع عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم نهى عن القرد أن يشتري و أن يباع» «2».

و كذا ما دلّ على جواز بيع الفهود و سباع الطير مثل:

ما رواه عيص بن قاسم: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الفهود و سباع الطير هل يلتمس التجارة فيها؟ قال: «نعم» «3».

فلو صاد الهرّة في زمان لا ينتفع بها، و كان القرد بالعكس انعكس الحكم، كما هو ظاهر، و من هذا القبيل بيع كثير من أنواع الحيّات التي تؤخذ منها السموم في مراكز صنع الأدوية و أنواع الترياق، و كذا كثير من الحشرات أو العقاقير و النباتات و الأعشاب، و كذا بعض المعادن التي تستخرج منها اليوم موادا مفيدة جدّا لم تكن في السابق كالأورانيوم و شبهه.

و بالجملة، الأمر يدور مدار المنفعة النوعية، و لو بعنوان الدواء و شبهه، و هذا يختلف بإختلاف الأعصار و الأمكنة، و منه يظهر الجواب عن كلام بعض الأعاظم في مسألة القرد و الهرّة «4».

الثّاني: إذا شكّ في بعض مصاديقه لاختلاف الأحوال فيه، فهل الأصل فيها الصحّة أو الفساد؟

ذكر شيخنا العلّامة الأنصاري قدّس سرّه جواز الرجوع في مقام الشكّ إلى أدلّة التجارة و نحوها

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 139

إذا كان له نفع

ما و شكّ في أنّها من الغالبة أو النادرة «1».

و ذهب بعض الأعلام إلى جواز بيعها و لو مع العلم بعدم صدق المال عليه لجواز الرجوع إلى أدلّة البيع «2».

و الإنصاف عدم صحّة شي ء من ذلك، بل الأقوى الفساد فيه للشكّ في شمول أدلّة المعوّضات له بعد الشكّ في كونه مالا أم لا، فالاستدلال بالعمومات هنا كالاستدلال بالعام في الشبهات المصداقية.

الثّالث: إذا كان عدم مالية شي ء لقلّته كحبّة من حنطة، لا لخسّته، و هكذا الحال في سائر الأجزاء اليسيرة، و حينئذ لا شكّ في دخوله في «الملك» بل الملك مؤلّف من هذه الأشياء الصغيرة غالبا، و حينئذ لو غصبه غاصب و أتلفه فإن كان قيميا، فلا كلام لعدم القيمة له، و أمّا لو كان مثليا فهل يجب فيه المثل؟

قد يقال: نعم، و إلّا لزم عدم الغرامة إذا أتلف صبرة تدريجا، اللهمّ إلّا أن يقال: يلزم فيه ما يلزم في القيمي، فتأمّل.

و قد يقال بالنفي، كما عن التذكرة، و هو الحقّ، لأنّ المفروض عدم كونه مالا، و الغرامة إنّما هي في الأموال، نعم هو فاسق بفعله، و إمّا إذا أتلف صبرة تدريجا عدّ المجموع مالا، و كان فعلا واحدا، كما هو ظاهر، فهو ضامن للكل بما هو كلّ، لا بما هو مركّب من أجزاء مالية، فانّ المدار في هذه الامور على العرفيات.

و قيل بالضمان مطلقا و لو كان قيميا كما يظهر من بعض الأكابر «3» استنادا على السيرة القطعية، فعلى هذا لو لم يكن مثليّا و المفروض إنّه ليس له قيمة يبقى مشغول الذمّة إلى يوم القيامة كالمفلس.

و لكنّه عجيب، لأنّ اعتبار الضمان هنا لغو إذا لم يمكن الخروج منه، و الفرق بين المفلس و بين

المقام ظاهر، فإنّه ممكن الأداء ذاتا إن كان المفلس لا يقدر عليه في زمان خاصّ،

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 140

و مورد الكلام غير ممكن الأداء ذاتا.

الرّابع- لا ينبغي الشكّ في ثبوت حقّ الاختصاص في الأشياء التي لها منافع نادرة لأدلّة الحيازة، و يمكن المصالحة على رفع اليد عنها بشي ء قليل أو كثير، و لا يعدّ من أكل المال بالباطل إذا كان عقلائيا.

الخامس- ذكر بعض الأعلام في بعض كلماته تقسيم ما لا نفع فيه إلى ثلاثة أقسام:

«قسم» لا منفعة فيه عاجلا و لا آجلا، و يكون في نفس المعاملة غرض عقلائي نوعي أو شخصي، و «قسم» لا منفعة فيه مطلقا، لكن كان للمشتري فيه غرض عقلائي نوعي أو شخصي في شرائه، كما لو هجمت الهوام المؤذية على بستان فتعلّق غرض المالك بشراء جثثها بثمن غال مقدّمة لدفعها.

و «قسم» له منفعة لا يعتدّ بها العقلاء.

ثمّ صرّح بصحّة القسم الثاني و بعض فروض القسم الثالث، و هو ما كان له دواع عقلائية شخصية و ان لم تكن نوعية.

و أنت خبير بعد ما عرفت بعدم صحّة القسم الثاني أيضا، لأنّ البيع و سائر المعوّضات فرع المالية العقلائية، و المفروض أنّه لا مالية فيها، و قوله أنّ المالية فرع «العرض و الطلب» و هو هنا موجود، ممنوع، لأنّ الطلب غير موجود في نفس الهوام، و إنّما هو ذريعة لإعدامها، و لو كان مالا كان إفنائها حراما، فليس هو في الواقع بيعا، بل اجرة للعمل، سمّيت بيعا تسامحا كما هو ظاهر، هذا مضافا إلى أنّ مدار المالية هو الطلب النوعي لا الشخصي، و كذلك الفرض الثالث التي لا تعدّ المنفعة غالبة في عرف العقلاء، لما عرفت أنّ الدواعي الشخصية لا تكون ميزانا

للمالية عندهم.

السّادس: قد يستدلّ لما ذكرنا من عدم الاعتناء بالمنافع النادرة بما روى عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم في اليهود، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «لعن اللّه اليهود حرّمت عليهم الشحوم فباعوها و أكلوا ثمنها و إنّ اللّه إذا حرّم على قوم أكل شي ء حرّم ثمنه» «1».

رواة تارة في عوالي اللئالي، و اخرى في دعائم الإسلام، و مثلهما رواية تحف العقول،

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 141

لأنّه ذكر في تفسير وجوه الحرام، من التجارات أمثلة كثيرة لها منافع نادرة قطعا فلم يعتدّ بها، مثل لحوم السباع أو الطير أو جلودها أو الخمر أو الأشياء النجسة، و كذلك ما ورد في وجوه الحرام من الصناعات كصنع الأشربة المحرّمة و البرابط و المزامير و غيرها، فإنّه جميع ذلك قد يكون لها منافع نادرة كالتداوي بدهن السباع و لو بدلكها و التدهين بها، أو إطعام لحومها جوارح الطير و الكلاب المملوكة و الحيوانات الموجودة في «بستان الوحوش» و غيرها، و لكن مع ذلك عدّ هذا كالعدم، و جعل هذه الامور ممّا يجي ء منها الفساد محضا.

و الإنصاف إنّها دلائل ظاهرة على المقصود لو صحّت اسنادها أو قلنا بتظافرها أو جبرها بعمل الأصحاب، و لا يعتنى باحتمال حرمة جميع منافع الشحوم على اليهود، بل الظاهر حرمة أكلها أو المنافع الغالبة لها، لهذا قال بعده «إنّ اللّه إذا حرّم على قوم أكل شي ء حرّم ثمنه».

السّابع- لا إشكال في أنّ الحرمة هنا مستلزمة للفساد لما عرفت فيها من الأدلّة السابقة الآنفة.

العاشر- الأعمال المحرّمة التي قد يكتسب بها
اشارة

و قد ذكر الأصحاب تحت هذا العنوان امورا محرّمة كثيرة لم يذكروها في موضع آخر من الفقه، بعضها يكتسب به، و بعضها ليس كذلك، فقد ذكر منها

في الحدائق أقلّ من العشرين «1» و أنهاها في الجواهر بما يقرب من العشرين «2» و العلّامة الأنصاري قدّس سرّه بما يقرب من ثلاثين «3» و رتّبها على حروف التهجّي. و بعض المتأخّرين أضافوا إليها بعض الامور الاخر، و هي في حدّ نفسها مباحث قيّمة و فيها فوائد جمّة، و إن كان بعضها خارجا عن المعاملات، فإنّ «الكذب» و «التشبيب بالمرأة الأجنبية» و «تزيين الرجل و المرأة بما يحرم عليهما» ليست امورا يكتسب بها، لا كلّا و لا جزءا لشي ء يكتسب به، نعم قد تكون مقدّمة و ذريعة لبعض المكاسب، أو من المقارنات لها، و هذا لا دخل له بما نحن بصدده، لكن كثير منها من الامور التي قد يكتسب بها، مثل مئونة الظلمة، و تدليس الماشطة، و القمار، و الغناء، و عمل المجسّمة، و التنجيم، و الشعبدة، و القيادة، و قد يكون جزءا لعمل كالغشّ، و مدح من لا يستحقّ المدح و شبهها، فلا بأس بالاقتداء بهم (رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين) و سرد هذه المباحث أجمع، لأنّها من أشدّ ما يبتلى به، بل لا بدّ من تعميم بعضها و بسطه و إلحاق ما فيه الحاجة اليوم إليها.

و ليعلم أنّ هذه الأبحاث كلّها أبحاث صغروية لبحث المعاملات، خلافا لغالب المباحث الآتية في البيع، فإنّها كبروية كما لا يخفى.

فنقول، و منه سبحانه نستمدّ التوفيق و الهداية:

1- تدليس الماشطة

و قد تعرّض له الأصحاب في كثير من كتبهم، بل ادّعى على حرمته الإجماع في غير واحد منها كالرياض «1» و غيره «2» هنا، و سيأتي أنّ الأدلّة العامّة في المسألة لا تختصّ بها، بل يشمل كلّ مورد كان البناء على التدليس فيه، حتّى في مثل الألبسة و المراكب

و الدور و السجّاد و غيرها، بأن يعمل في الحيوان أو اللباس أو الدار الذي يراد شراؤه شي ء يوجب الغشّ على المشتري.

ثمّ اعلم أنّ الكلام فيه تارة من ناحية القواعد العامّة، و اخرى من ناحية الأدلّة الخاصّة، و الكلام في الأوّل تارة في الصغرى، و اخرى في الكبرى.

أمّا الكبرى، فالظاهر أنّ كلّ غشّ يوجب تفويت حقّ من مسلم (كما إذا كان في مقام النكاح أو البيع أو الإجارة) فهو حرام، لما سيأتي من أدلّة حرمته عقلا و شرعا، و أنّ المسلم لا يغشّ، بل ادّعى تواتر الروايات من طرقنا و طرق أهل السنّة على ذلك، نعم إذا لم يوجب تفويت حقّ كإظهار الإنسان لباسه، أو داره، أو مركبه أحسن ممّا هي في الواقع من دون إرادة بيع أو إجارة أو نحوهما، فلا مانع منه أصلا.

و أمّا الصغرى فقد يقال إنّه ليس في عمل الماشطة غشّ، بل الغشّ يتحصّل ممّن يعرض المغشوشة للنكاح و البيع، و حالها كحال من يصنع السبحة و يرائي بها في العبادة و الأذكار.

و فيه: إنّ إطلاقات الغشّ يشملها إذا كان فعلها بهذا القصد، و أين هي من صانع السبحة المشتركة بين الحلال و الحرام، نعم لو لم يكن عملها بقصد إعداد المقدّمات في مقام يراد الغشّ لم يكن به بأس.

أضف إلى ذلك أنّه قد يكون من الإعانة على الإثم الذي قد عرفت حرمته، كما عرفت أنّ القصد في هذه المقامات قهري.

و على هذا فعمل الماشطة بما هو كذلك ليس بحرام إذا لم يكن في مقام الغشّ، و إلّا فهو حرام للغشّ و للإعانة على الإثم، فهي شريكة للمعرض لها للتزويج و البيع، و لذا استدلّ في انوار الفقاهة، ج 4، ص: 145

الجواهر

على حرمتها بالإجماع و أدلّة الغشّ «1» و لا يصغى إلى إنّه ليس الفعل فعلها، لما عرفت، و أمّا بحسب الأدلّة الخاصّة فهناك طوائف من الروايات:

الاولى: ما يدلّ على جواز نفس عملها مثل:

1- ما رواه سعد الإسكاف قال: سئل أبو جعفر عليه السّلام عن القرامل التي تصنعها النساء في رءوسهن يصلنه بشعورهنّ. فقال: «لا بأس على المرأة بما تزيّنت به لزوجها». قال: فقلت بلغنا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم لعن الواصلة و الموصولة فقال عليه السّلام: «ليس هناك، إنّما لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم الواصلة التي تزني في شبابها، فلمّا كبرت قادت النساء إلى الرجال، فتلك الواصلة و الموصولة» «2».

2- ما رواه علي بن جعفر إنّه سأل أخاه موسى بن جعفر عليه السّلام عن المرأة التي تحفّ الشعر من وجهها. قال: «لا بأس» «3».

الثّانية: ما دلّ على الجواز و النهي عن بعض الامور، مثل استعمال الخرقة في تجلّي الوجه، أو وصل الشعور، أو المشارطة مثل:

3- ما رواه ابن أبي عمير عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: دخلت ماشطة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم فقال لها: هل تركت عملك أو أقمت عليه؟ فقالت: يا رسول اللّه أنا أعمله إلّا أن تنهاني عنه، فأنتهي عنه، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «افعلي، فإذا مشطت فلا تجلي الوجه بالخرق، فانّه يذهب بماء الوجه، و لا تصلي الشعر بالشعر» «4».

4- و ما رواه القاسم بن محمّد عن علي عليه السّلام قال: سألته عن امرأة مسلمة تمشط العرائس ليس لها معيشة غير ذلك، و قد دخلها ضيق، قال: «لا بأس

و لكن لا تصل الشعر بالشعر» «5».

5- و ما رواه يحيى بن مهران عن عبد اللّه بن الحسن قال: سألته عن القرامل؟ قال: و ما

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 146

القرامل؟ قلت: صوف تجعلها النساء في رءوسهنّ، قال: «إذا كان صوفا فلا بأس، و إن كان شعر فلا خير فيه من الواصلة و الموصولة» «1».

6- و ما رواه محمّد بن علي بن الحسين قال: قال عليه السّلام: «لا بأس بكسب الماشطة ما لم تشارط، و قبلت ما تعطى، و لا تصل شعر المرأة بشعر امرأة غيرها، و أمّا شعر المعز فلا بأس بأن توصله بشعر المرأة» «2».

7- و ما رواه محمّد بن مسلم في حديث أمّ حبيب الخافضة قال: و كانت لأمّ حبيب اخت يقال لها أمّ عطيّة، و كانت مقنية، يعني ماشطة، فلمّا انصرفت أمّ حبيب إلى اختها فأخبرتها بما قال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم فأقبلت أمّ عطيّة إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فأخبرته بما قالت لها اختها، فقال لها: «ادني منّي يا أمّ عطيّة! إذا أنت قنيت الجارية لا تغسلي وجهها بالخرقة فانّ الخرقة تشرب ماء الوجه» «3».

الثّالثة: ما دلّ على حرمة خصوص بعض التزيينات من دون دلالة على جواز غيرها و عدمه مثل:

8- ما رواه علي بن غراب عن جعفر بن محمّد عن آبائه قال: «لعن رسول اللّه 6 النامصة و المنتمصة و الواشرة و المؤتشرة و الواصلة و المستوصلة و الواشمة و المستوشمة» «4» قال الصدوق رحمه اللّه (محمّد بن علي بن الحسين) قال علي بن الغراب: النامصة: التي تنتف الشعر، و المنتمصة التي يفعل ذلك بها و الواشرة: التي تشرّ أسنان المرأة

و تفلجها و تحدّدها و المؤتشرة: التي يفعل ذلك بها، و الواصلة: التي تصل شعر المرأة بشعر امرأة غيرها، و المستوصلة: التي يفعل ذلك بها. و الواشمة: التي تشم وشما في يد المرأة و في شي ء من بدنها و هو أن تغرز بدنها أو ظهر كفّها أو شيئا من بدنها بابرة حتّى تؤثّر فيه ثمّ تحشو بالكحل أو بالنورة فتخضر. و المستوشمة: التي يفعل ذلك بها «5».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 147

هذا بناء على قبول تفصيل «علي بن غراب» مع كون اللعن دليلا على الحرمة كما هو الظاهر، و إن كان معناه اللغوي و بعض موارد استعماله أعمّ كما لا يخفى مثل: لعن اللّه من أكل زاده وحده «1».

هذا و طريق الجمع بينها بحمل المطلق على المقيّد، فينتج جواز عمل الماشطة من دون أن تجلّي الوجه بالخرقة، أو توصل الشعر بالشعر، أو تستعمل الوشم، أو وشر أسنان المرأة (أي نشرها بالمنشار و فلجها) و نمص شعرها، أي نتفها.

و لكن من هذه الامور ما لا شكّ في جوازها ظاهرا إذا كان لزوجها أو لأهلها، لأنّها زينة كالوشم و وشر الإنسان إلّا إذا كان بعنوان التدليس.

و منها، ما هو مكروه على الظاهر، كتجلّي الوجه بالخرقة لذهاب ماء الوجه، بل يمكن أن يكون إرشادا إلى ما ذكر، أعني ذهاب صفاء الوجه، من دون كراهة، و كذا المشارطة بناء على ما ذكره غير واحد من أنّ ما يعطي للمشارطة و شبهها لا ينقص غالبا عن اجرة المثل، و قلّما يتداول المشارطة معهم أو يرى ذلك منافيا للمروّة، و لكن بعد العمل قد لا يقبلون إلّا بأضعاف المبلغ لشدّة حرصهم و سوء قضائهم، فلهذا أمرن بعدم المشارطة لكونها دليلا على الخسّة،

أو موجبة للأخذ حياء، ثمّ قبول ما يعطى تحرّزا عن سوء المطالبة.

و منها: ما هو محلّ للكلام، و هو وصل الشعر بالشعر كما سيأتي إن شاء اللّه.

و على كلّ حال لا دليل فيها على الحرمة لو خلت عن ذلك كلّه.

و ينبغي هنا ذكر امور:

الأمر الأوّل: هل يجوز للمرأة وصل شعرها بشعر غيرها لا في مقام الخطبة و شبهها ممّا يكون تدليسا أحيانا، بل للتزيين السائغ للزوج و أهلها؟

ظاهر غير واحد من الروايات النهي عن ذلك، إذا كان بشعر غيرها، و هذه الرّوايات على أصناف، بعضها تدلّ على الجواز مطلقا مثل:

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 148

1- ما رواه عمّار الساباطي قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّ الناس يروون عن رسول اللّه لعن الواصلة و الموصولة، قال: فقال: «نعم». قلت: التي تمتشط و تجعل في الشعر القرامل، قال: فقال لي: «ليس بهذا بأس». قلت: فما الواصلة و الموصولة؟ قال: «الفاجرة و القوّادة» «1».

2- و ما رواه أبو بصير قال: سألته عن قصّة النواصي تريد المرأة الزينة لزوجها و عن الحفّ و القرامل و الصوف و ما أشبه ذلك، قال: «لا بأس بذلك كلّه» «2».

3- و ما مرّ من رواية سعد الإسكاف عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سئل عن القرامل التي تضعها النساء في رءوسهنّ يصلنه بشعورهنّ. فقال: «لا بأس على المرأة بما تزيّنت به لزوجها»، قال: فقلت: بلغنا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم لعن الواصلة و الموصولة. فقال: «ليس هناك، إنّما لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم الواصلة و الموصولة التي تزني في شبابها، فلمّا كبرت قادت النساء إلى الرجال، فتلك الواصلة و الموصولة» «3».

و هي

و إن كانت مطلقة، و لكن ظاهرها جواز وصل الشعر بشعر غيره، و إلّا فمن البعيد كون سؤال الراوي عن مثل الصوف و شعر المعز، فتأمّل.

و بعضها تدلّ على النهي الظاهر في الحرمة مثل:

4- ما مرّ من رواية ابن أبي عمير عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: دخلت ماشطة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم فقال لها: هل تركت عملك أو أقمت عليه؟ فقالت: يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنا أعمله إلّا أن تنهاني عنه فأنتهي عنه. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «افعلي فإذا أمشطت فلا تجلي الوجه بالخرق فإنّه يذهب بماء الوجه و لا تصلي الشعور بالشعر» «4».

5- و ما رواه علي قال سألته عن امرأة مسلمة تمشط العرائس ليس لها معيشة غير ذلك و قد دخلها ضيق قال: «لا بأس و لكن لا تصل الشعر بالشعر» «5».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 149

6- و ما رواه محمّد بن علي بن الحسين قال: قال عليه السّلام: «لا بأس بكسب الماشطة ما لم تشارط، و قبلت ما تعطى، و لا تصل شعر المرأة بشعر امرأة غيرها، و أمّا شعر المعز فلا بأس بأن توصله بشعر المرأة» «1».

7- و ما رواه علي بن غراب عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السّلام: «لعن رسول اللّه 6 النامصة و المنتمصة و الواشرة و المؤتشرة و الواصلة و المستوصلة و الواشمة و المستوشمة» «2».

بناء على تفسيره بشخصه (كما مرّ آنفا).

و جمع منها يدلّ على الكراهة مثل:

8- ما رواه عبد اللّه بن الحسن قال: سألته عن القرامل قال: و ما القرامل قلت: صوف تجعله النساء في

رءوسهنّ قال: «إذا كان صوفا فلا بأس و إن كان شعرا فلا خير فيه من الواصلة و الموصولة» «3».

و دلالتها على الكراهة بقرينة قوله: لا خير فيه.

9- و ما رواه ثابت بن سعيد قال سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن النساء تجعل في رءوسهنّ القرامل قال: «يصلح الصوف و ما كان من شعر امرأة لنفسها و كره للمرأة أن تجعل القرامل من شعر غيرها فإن وصلت شعرها بصوف أو بشعر نفسها فلا يضرّها» «4».

10- و ما رواه سليمان بن خالد قال قلت له: المرأة تجعل في رأسها القرامل، قال:

«يصلح له الصوف و ما كان من شعر المرأة نفسها و كره أن يوصل شعر المرأة من شعر بشعر غيرها، فان وصلت شعرها بصوف أو شعر نفسها فلا بأس به» «5».

بل ما ورد فيه العطف على النهي عن الغسل بالخرقة بقرينة اتّحاد السياق أيضا ظاهر فيما ذكرنا.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 150

و الحاصل أنّ الأحاديث في كلّ طائفة متظافرة و ان كان كلّها أو جلّها ضعافا بحسب السند، و هذا المقدار يكفي في الاعتماد على اسنادها، و طريق الجمع ظاهر، و هو الحمل على الكراهة، فلا مجال للحكم بالحرمة إلّا أن يحمل النهي على خصوص موارد التدليس، هذا و ما قد يتوهّم أنّ لمس شعر الأجنبية و النظر إليه غير جائز ممنوع، لأنّ المعلوم حرمة النظر إليه أو لمسه إذا كان جزءا من بدنها، أمّا إذا انفصل فقد تبدّل الموضوع بموضوع آخر كما هو واضح، و لا مجال للاستصحاب أيضا، لذلك، و ان فرضنا حجيّته في الشبهات الحكمية.

الثّاني: قال الشيخ الأعظم قدّس سرّه: إنّ التدليس بما ذكرنا إنّما يحصل بمجرّد رغبة الخاطب أو المشتري و إن علما

أنّ هذا البياض و الصفاء ليس واقعيا، بل حدث بواسطة هذه الامور، فلا يقال أنّها ليست بتدليس لعدم خفاء أثرها. ثمّ رتّب على ما أفاده عدّ لبس المرأة الثياب الملوّنة الموجبة لظهور بياض البدن منه. انتهى «1».

و أنت خبير أوّلا: بأنّ لفظ «التدليس» و إن لم يرد في روايات الباب إلّا أنّه بمعنى كتمان العيب، و هو غير موجود هنا، و لكن قد عرفت أنّ العمدة هي عنوان «الغشّ»، و فسّره أهل اللغة بإظهار خلاف ما أضمره، و «الخدعة» و ما هو غير خالص أو مخالف للنصح.

و الظاهر اعتبار جهل المغشوش به، في مقابل التبيين، مثل ما في رواية الحلبي قال: لا يصلح له أن يغشّ المسلمين حتّى يبيّنه «2». و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم في رواية سعد الإسكاف: «ما أراك إلّا و قد جمعت خيانة و غشّا للمسلمين» «3». كما سيأتي إن شاء اللّه في أحكام الغشّ، فلو علم المشتري بحقيقة الحال لم يشمله.

و ثانيا: إنّه مخالف للسيرة المستمرّة، لأنّا لا نجد أحدا ممّن يخطب من النساء لا تلبس في تلك الحالة ثيابا حسنة جميلة، بل تلبس ما يرغب فيها، بل تتزيّن كثيرا بأنواع الزينة ممّا يعلمها الخاطب و المشتري، و لو قلنا بكون ذلك كلّه تدليسا لم يستقرّ حجر على حجر (و بيع انوار الفقاهة، ج 4، ص: 151

الأشياء في ظروف جميلة مع عرضها جيّدا معمول بين جميع العقلاء من غير نكر، فليس هذا كلّه تدليسا و غشّا ما لم يكن من باب كتمان الواقع).

الثّالث: قد عرفت أنّ البحث هنا لا يختصّ بخصوص عمل المشاطة، بل يعمّ كلّ تدليس يوجب تضييع حقّ، سواء في البيع أو الإجارة أو النكاح و

غيرها لعموم الأدلّة.

الرّابع: هل يجوز الوشم لما قد يكون فيه من اضرار و إيذاء للكبير فضلا عن الصغير؟

و الإنصاف أنّ الضرر اليسير الذي يتحمّل عادة، كالمشاق الموجودة في كثير من المشاغل، لا دليل على حرمته، نعم إذا كان ضررا كثيرا، أو انتهى إلى نقص عضو أو شبه ذلك، فانّ ذلك لا يجوز بحكم العقل و النقل، و منه يعلم حكم و شم الصغار، فانّه جائز إذا كان فيه زينة تعدّ من مصالحهم، و كان الضرر يسيرا، نظير ثقب اذان الصغيرة و شبهه.

2- التزيين

تزيين الرجل بما يحرم عليه و تشبّه كلّ من الرجل و المرأة بالآخر، أمّا تزيينه بمثل الحرير و الذهب ممّا يحرم على الرجال، فقد تمّ بحثه في أبحاث لباس المصلّي، و هل المدار على «اللبس» أو «التزيين» أو المدار على «صدق الأمرين»؟ فيه كلام يأتي في محلّه، و تظهر الثمرة فيما إذا لبسه مخفيا أو تزيّن به من دون لبس، كما إذا ألقاه على عاتقه إذا قلنا بأنّه لا يصدق عليه اللبس.

و أمّا «تشبّه الرجال بالنساء و بالعكس» فبيان حكمه يحتاج إلى ذكر أخبار الباب، ثمّ بيان موضوعه، و أنّ المراد منها التشبيه في أي شي ء؟ و هل المراد منه في اللباس أو الزينة أو مطلقا، أو المراد منه اللواط و المساحقة؟

فنقول و منه تبارك و تعالى نسأل التوفيق و الهداية.

هناك عدّة روايات تدلّ على حرمة التشبيه على الإطلاق:

1- مثل ما رواه جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم في حديث: «لعن اللّه المحلّل و المحلّل له ... و المتشبّهين من الرجال بالنساء و المتشبّهات من النساء بالرجال ...» «1».

انوار الفقاهة، ج 4، ص:

152

و لكن في سنده عمرو بن شمر.

2- و ما رواه زيد بن علي عن آبائه عن علي عليه السّلام إنّه رأى رجلا به تأنيث في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم، فقال له: اخرج من مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم يا لعنة رسول اللّه! ثمّ قال عليه السّلام:

سمعت رسول اللّه يقول: «لعن اللّه المتشبّهين من الرجال بالنساء و المتشبّهات من النساء بالرجال» «1».

و في سنده الحسين بن علوان، و فيه إشكال معروف.

3- و ما رواه زيد بن علي عن علي عليه السّلام قال: كنت مع رسول اللّه جالسا في المسجد حتّى أتاه رجل به تأنيث، فسلّم عليه فردّ عليه السلام، ثمّ أكبّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم إلى الأرض يسترجع، ثمّ قال: «مثل هؤلاء في أمّتي؟ إنّه لم يكن مثل هؤلاء في أمّة إلّا عذّبت قبل الساعة!» «2».

و في سنده ما في الحديث السابق.

4- ما رواه سماعة بن مهران عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن عليهما السّلام في الرجل يجرّ ثيابه؟

قال: «إنّي لأكره أن يتشبّه بالنساء» «3».

5- ما رواه سماعة عن أبي عبد اللّه عن آبائه عليهم السّلام قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم يزجر الرجل أن يتشبّه بالنساء و ينهى المرأة أن تتشبّه بالرجال في لباسها «4».

6- ما رواه يعقوب بن جعفر قال: سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام أو أبا إبراهيم عليه السّلام ... قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «لعن اللّه المتشبّهات بالرجال من النساء و لعن اللّه المتشبّهين من الرجال بالنساء» «5».

7- و ما رواه أبو خديجة

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم المتشبّهين من الرجال بالنساء، و المتشبّهات من النساء بالرجال، و هم المخنّثون و اللاتي ينكحن بعضهنّ بعضا» «6».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 153

و هناك روايات اخر لا تخلوا أسنادها عن الإشكال رواها المستدرك مثل:

8- ما رواه في الجعفريات عطاء عن أبي هريرة قال: لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم مخنّثين الرجال المتشبّهين بالنساء و المترجّلات من النساء المتشبّهين بالرجال «1».

9- و ما رواه الطبرسي في مجمع البيان عن أبي امامة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال: «أربع لعنهم اللّه من فوق عرشه و أمّنت عليه ملائكته: الذي يحصر نفسه فلا يتزوج و لا يتسرّى لئلّا يولد له، و الرجل يتشبّه بالنساء و قد خلقه اللّه ذكرا، و المرأة تتشبّه بالرجال و قد خلقها اللّه انثى» «2».

10- و ما رواه الحضرمي قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «لعن اللّه و أمّنت الملائكة على رجل تأنّث و امرأة تذكّرت» «3».

11- و ما رواه محمّد بن حمران عن الصادق عليه السّلام ... قيل يا بن رسول اللّه متى يخرج قائمكم؟ قال: «إذا تشبّه الرجال بالنساء، و النساء بالرجال، و اكتفى الرجال بالرجال، و النساء بالنساء!» «4».

12- و ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عبّاس: إنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لعن المخنّثين من الرجال، و المترجّلات من النساء و قال أخرجوهم من بيوتكم، و أخرجوا فلانا و فلانا يعني المخنّثين «5».

و في معناه روايات اخر في نفس ذاك الباب عن البخاري و مسلم و غيرهما.

هذه

عمدة روايات الباب، و ليعلم أنّ المخنّث كما يستفاد من غير واحد من كتب اللغة (مثل المقاييس و منتهى الأرب و غيرهما) هو من كان فيه لين و تكسّر مثل النساء، و يظهر من موارد استعماله أنّه قد يكون بمعنى «الملوط» أيضا.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ «التشبيه» الوارد فيها يتصوّر على أنحاء:

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 154

1- التشبّه في الصفات مثل اللين في الكلام و الحركات، كما يدلّ عليه عنوان «المخنّث» الوارد في الروايتين السابقين برقم 8 و 12.

2- التشبّه في التزيين، و لعلّ ما دلّ على ورود جلّ به تأنيث في مسجده صلّى اللّه عليه و آله و سلم من هذا القبيل حيث نقلناه تحت رقم 2 و 3، و يحتملان المعنى الأوّل.

و قد روى البيهقي في سننه في آخر الباب المذكور عن أبي هريرة أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قد أتى بمخنّث قد خضّب يديه و رجليه بالحناء، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم: ما بال هذا؟ فقيل يا رسول اللّه:

يتشبّه بالنساء، فأمر به فنفي إلى النقيع. قالوا يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم ألا تقتله؟ قال: «إنّي نهيت عن قتل المصلّين» «1».

و يحتمل بعض المعاني الآتية أيضا.

3- التشبّه بمعنى «المساحقة» و «اللواط»، و يدلّ عليه كثير من الروايات السابقة، مثل الرواية الثالثة و الحادية عشرة، و ما دلّ على نفيهم و إخراجهم و ما سألوا عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أن يقتلهم.

4- التشبّه في اللباس، و لعلّ «الترجّل» و «التأنيث» إشارة إليه (فتأمّل).

5- التشبّه في كلّ شي ء حتّى في الحرف و الأعمال، و من الواضح عدم حرمة الأخير.

و الذي

يحصل من مجموع أحاديث الباب أن تشبه الرجال بالنساء و بالعكس من ناحية السحق و اللواط حرام بلا كلام، و كذا تشبّه كلّ واحد بالآخر فيما يكون من معدّات هذا المعنى، و في طريقه من صفات المخنّثين، كتزيين كلّ منهما بزينة الآخر- كما تداول اليوم في بين بعض المجتمعات الكافرة، بل و ضعاف الإيمان المقلّدين لهم في هذه الأعمال القبيحة و المفاسد الخلقية في مجتمع المسلمين- و لا يبعد أيضا حرمته للإشارات الواردة في روايات الباب و كونه مقدّمة للحرام.

أمّا مجرّد لبس أحدهما لباس الآخر من دون ذلك كما هو المعمول في المسرحيات مثلا، أو لبعض الضرورات و المقاصد الاخر، فلا دليل على حرمته، و كذا التشبيه في سائر الامور كخدمة البيت أو بعض الحرف.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 155

بقى هنا أمران:

1- إنّ من الواضح إختلاف العرف و العادة بحسب الأزمنة في ذلك اختلافا فاحشا، و كلّ يتّبع حكمه، سواء في ذلك الألبسة المختصّة لو قلنا بحرمتها، و إن كان قد عرفت الإشكال في إطلاقه، و كذا ما هو من التزيينات، فربّ لباس أو زينة تكون للرجال في عرف أو في زمان، و الحال أنّها تكون للنساء في عرف أو زمان آخر.

2- ذكر الشيخ الأعظم تبعا لصاحب الجواهر قدّس سرّهما أن الخنثى يجب عليه ترك التزيين المختصين، للعلم الإجمالي، و لكن زاد الشيخ الأعظم قدّس سرّه قوله: و يشكل بناء على كون مدرك الحكم حرمة التشبّه بأنّ الظاهر عن التشبّه صورة علم المتشبّه «1».

أقول: «أوّلا»: العلم الإجمالي في الخنثى المشكل وارد حتّى في بعض المحرّمات المخصوصة بالرجال كحرمة التزيّن بالذهب و لبس الحرير، لأنّه و ان لم يكن هناك حرام في هذا المورد في النساء، و

لكن يدور الأمر بين تمام الواجبات و المحرّمات الخاصّة بالرجال من جانب، و الخاصّة بالنساء من جانب آخر، إلّا أنّ الزام الاحتياط عليه مشكل جدّا و بعيد من مذاقّ الشارع المقدّس، مع حصول العسر الشديد عليه في بعض الموارد قطعا، و لا يبعد الرجوع هنا إلى أدلّة القرعة لعمومها و شمولها له، و ليس هنا أخفّ إشكالا من الغنم الموطوءة في قطيع الغنم المفتى بها عند الأصحاب بعد ورود النصّ فيه. و ثانيا: الخنثى قد لا يكون ظاهرها بطبيعة الحال شبيها بالرجال و لا بالنساء، و حينئذ لا يبعد صدق التشبّه في حقّه بكلّ منهما لو دخلت في زيّهما، نعم لو كان ظاهرها شبيها بأحد الجنسين لا يصدق عليه إلّا التشبّه بالجنس الآخر الذي قد يكون في الواقع منه، و حينئذ يشكل صدق عنوان التشبّه في حقّه، فتأمّل جيّدا.

3- التشبيب

المذكور في كلمات غير واحد من المحقّقين حرمة التشبيب بالمرأة المعروفة المؤمنة

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 156

المحترمة، و فسّره بعضهم بأنّه عبارة: عن ذكر محاسنها و إظهار شدّة حبّه لها بالشعر.

و الكلام فيه يتمّ بذكر امور:

1- لم نر هذا العنوان في شي ء من النصوص، و لا في معقد إجماع، و لذا استدلّ لحرمته بعناوين اخر قد تنطبق عليه كما سيأتي إن شاء اللّه، و لا يهمّنا البحث عن معناها بالدقّة و أنّه هل يعتبر فيه عنوان الشعر، أو ما يوجب التهييج و الإغراء بالحرام، أو كون المرأة محرّمة عليه أو غير ذلك؟

و الظاهر أنّه مأخوذ من مادّة الشباب، لأنّ ذلك من فعلهم «فتدبّر».

2- إنّ التشبيب أو ذكر محاسن المرأة على أقسام:

تارة: يكون بالنسبة إلى امرأة خيالية، و اخرى: مبهمة من جميع الجهات و ان لم تكن موهومة

في الواقع، كما في بعض تغزّلات الشعراء، بل لا يوجد الغزل غالبا إلّا مشتملا عليه.

و ثالثة: يكون بمن تحلّ عليه.

و رابعة: بامرأة معروفة عند القائل و السامع، و هي محرم على القائل دون السامع.

و خامسة: بامرأة محرمة عليه و على السامع (من النساء المؤمنات العفيفات).

و سادسة: بالنسبة إلى غير المؤمنات، كأهل الكتاب من الذمّيين، أو من أهل الحرب.

و سابعة: يكون التشبيب بالغلام.

و من الواضح أنّها مختلفة جدّا في قبال الأدلّة التي استدلّوا بها لحرمته كما سيأتي.

3- لا دليل على حرمته بنفس عنوان التشبيب، و إنّما استدلّوا له بعناوين ثانوية اخرى تنطبق عليه أحيانا، و هي كثيرة:

الفضح، و الهتك، و الإيذاء، و الانتقاص، و إغراء الفسّاق بها، و كونه من اللهو و الباطل، و إشاعة الفحشاء، لتهييج القوى الشهوية التي يعلم من أدلّة الشرع حرمته، و لذا حرّمت الخلوة بالأجنبية و الخضوع بالقول و الضرب بالأرجل ليعلم ما يخفين من زينتهنّ.

و منافاته للعفاف المعتبر في العدالة، و كونه مقدّمة للحرام، و غير ذلك.

و هذه «العناوين العشرة» مضافا إلى أنّ النسبة بينها و بين التشبيب عموم من وجه غالبا، (لأنّ التشبيب قد لا توجب هتكا، أو إيذاء، أو إغراء، أو تهييجا للقوى الشهوية أو غير

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 157

ذلك) يستشكل في حرمة بعضها بحسب الكبرى، كحرمة اللهو على الإطلاق كما سيأتي في محلّه إن شاء اللّه، و أنّه لا دليل على هذه الكليّة.

و كذا على كون الامور المنافية للعفاف مطلقا حراما و إن لم تندرج تحت أحد العناوين المحرّمة.

فالأولى أن يقال: إنّ التشبيب بذاته و مع قطع النظر عن العناوين الطارية ليس محرّما، نعم قد يكون مصداقا لبعض العناوين المحرّمة، و ذلك بالنسبة إلى المرأة المؤمنة العفيفة،

و الأحسن أن تؤخذ قيودها من هذه العناوين كأن يقال:

إنّ التشبيب إذا كان منشأ للفساد، أو إشاعة للفحشاء، أو إغراء بالحرام، أو هتكا لغرض محرّم، أو إيذاء لمسلم أو مسلمة، فانّ ذلك كلّه حرام، سواء كان بامرأة أو بغلام.

نعم، لبعض الأكابر هنا كلام في حرمة الإيذاء، و أنّه لا دليل على حرمة كلّ فعل يترتّب عليه أذى الغير قهرا إذا كان الفعل سائغا، و لم يقصد العامل إيذاء الغير من فعله، و إلّا لزم القول بحرمة كلّ فعل يترتّب عليه أذى الغير و إن كان الفعل في نفسه مباحا أو مستحبّا أو واجبا، كتأذّي بعض الناس من اشتغال بعض آخر بالتجارة و التعليم و التعلّم و العبادة و نحوها.

انتهى «1».

أقول: الإيذاء عنوان قصدي، و الظاهر من الأدلّة الخاصّة و العامّة حرمته بالنسبة إلى المؤمن، المعتضد بدليل العقل، و أمّا ما أفاده (دام علاه) ليس منه، لأنّ التاجر أو العابد أو المتعلّم لا يقصد إلّا تحصيل مال أو عبادة أو علم، و تأذّي الغير ليس من قصده.

نعم، إذا لم يحتج إلى تجارة، و إنّما فعله بقصد إيذاء جاره بحيث إذا لم يكن يترتّب عليه ذلك الأثر لم يفعله، لم يبعد القول بحرمته أيضا.

هذا و قد يكون القصد قهريا كما مرّ سابقا نظيره، و منه التشبيب بالمرأة المحرّمة الذي يوجب أذاها، فإنّ ذلك لا يترتّب عليه أي غرض صحيح عقلائي، و قصد الإيذاء مع هذا العلم قهري فتدبّر.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 158

بقي هنا أمران:

الأوّل: إنّ مجرّد المدح و ذكر الصفات الحسنة بل و إظهار الحبّ ليس من التشبيب المحرّم دائما، فالاشعار و النثور مشحونة بذلك بالنسبة إلى الرجال الأكابر و النساء المحترمات و أولياء اللّه، و كم

ذكروا من محاسنهم الظاهرية و المعنوية و ما يرتبط بهم، إنّما المحرّم ما يرتبط بالقوى الشهوية الحيوانية لا غير، و هو أمر ظاهر.

و الثّاني: إنّه ينقدح ممّا ذكرنا حال الصور السبعة السابقة في التشبيب.

أمّا في المرأة الخيالية أو المبهمة من جميع الجهات على السامعين، فليس فيه هتك و فضيحة و إيذاء و شبه ذلك.

نعم، قد يكون فيه إشاعة فساد و إغراء بالقبيح و الحرام، فيحرم من هذه الناحية، فإن لم يكن فيه ذلك أيضا فليس بمحرم مثل كثير من أشعار الشعراء.

و إن كان بمن تحلّ له من دون أن يسمعه غيره، فلهما أن يقول ما شاء إذا لم يكن كذبا و شبهه.

و إن كانت المرأة معروفة عند القائل دون السامع، فلا تنطبق عليه العناوين السابقة غالبا، فيحلّ له.

و إن كانت معروفة عند السامعين أيضا، و كانت تلك المرأة مؤمنة عفيفة، فتنطبق عليه كثير من العناوين السابقة، و حينئذ يكون حراما.

و هكذا الكلام بالنسبة إلى أهل الذمّة الذين يكون عرضهم محفوظا.

و أمّا بالنسبة إلى أهل الحرب الذين لا حرمة لهم، فان لم يكن فيه عنوان محرم آخر من قبيل الإغراء بالحرام و شبهه، فلا إشكال فيه، و إلّا يحرم من هذه الجهة.

و أسوأ من جميع ذلك التشبيب بالغلام، فإنّ مصداق الحلال غير موجود فيه، بخلاف المرأة، فهناك عناوين محرّمة كثيرة في التشبيب بالغلام حتّى بالنسبة إلى فرد خيالي مبهم من جميع الجهات كما لا يخفى.

4- تصوير ذوات الأرواح
اشارة

لا إشكال و لا كلام في حرمة التصوير في الجملة و به طفحت كلماتهم، و اتّفقت آراؤهم، بل هو ممّا لم يختلف فيه علماء الإسلام، من الخاصّة و العامّة، كما حكي عنهم، إنّما الكلام في خصوصيات المسألة و مواردها و عمدة

الخلاف في أمرين:

الأوّل- هل هناك فرق بين ذوات الأرواح و غيرها.

الثاني- هل هناك فرق بين المجسّم و غيره.

و ما ذكره غير واحد من الأعلام من وجود أقوال أربعة في المسألة نشأ من هذين الخلافين.

فمنهم من قال: بحرمة الجميع، و منهم من خصّه بأمرين: «كونه مجسّما من ذوات الأرواح»، و منهم من فرّق بين ذوات الأرواح و غيرها، من دون فرق بين المجسّم و غيره، و منهم من فرّق بين المجسّم و غيره من دون فرق بين ذوات الأرواح و غيرها.

و كلّ ذلك ناشئ من إختلاف لسان روايات الباب، فلنرجع إليها و نحقّق فيها بما هو حقّ التحقيق، و هي على طوائف:

الطائفة الاولى: ما دلّ على حرمة التصوير مطلقا

1- ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «أتاني جبرئيل قال:

يا محمّد! إنّ ربّك يقرءوك السلام و ينهى عن تزويق البيوت»، قال أبو بصير فقلت: و ما تزويق البيوت؟ فقال: «تصاوير التماثيل» «1».

2- ما رواه ابن القداح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم في هدم القبور و كسر الصور» «2».

3- ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم إلى المدينة فقال: لا تدع صورة إلّا محوتها، و لا قبرا إلّا سوّيته، و لا كلبا إلّا قتلته» «3».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 160

4- ما رواه جرّاح المدائني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا تبنوا على القبور و لا تصوّروا سقوف البيوت فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله و سلم كره ذلك» «1».

5- ما رواه أصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «من جدّد قبرا أو مثّل مثالا فقد خرج من الإسلام» «2».

و في نسخ الرواية حول كلمة من «جدّد» هل هو «جدّد» من تجديد القبور الدوارس، أو «حدد» بمعنى التسنيم أو «جدث» بمعنى جعل قبرا لشخص قبرا لآخر ... إختلاف و لكلّ معناه.

6- ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «أتاني جبرئيل فقال:

«يا محمّد إنّ ربّك ينهى عن التماثيل» «3».

هذا، و لكن في بعضها التعبير ب «السقوف» أو «المحو» المناسب لغير الجسم، و في بعضها التعبير ب «الكسر» المناسب للجسم، كما ورد في غير واحد التعبير «بالكراهة» مثل:

7- ما رواه يحيى بن أبي العلاء عن أبي عبد اللّه عليه السّلام إنّه كره الصور في البيوت «4».

8- و ما رواه حاتم بن إسماعيل عن جعفر عن أبيه أنّ عليا كان يكره الصورة في البيوت «5».

9- و ما رواه محمّد بن أبي عمير عن المثنّى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: أنّ عليا كره الصور في البيوت «6».

10- و رواية جرّاح المدائني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام التي مضى ذكرها «7».

و هل التعبير بالكراهة بمعنى الكراهة المصطلحة، أو بمعنى أعمّ كما هو كذلك لغة، فلا يكون قرينة على ظهورها في الحرمة.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 161

أضف إلى ذلك كلّه روايات اخرى، رواها في «المستدرك» في الباب 75 من أبواب ما يكتسب به، و ما رواه البيهقي في «سننه» «1».

و هذه الروايات و إن كان أكثرها ضعاف الاسناد، إلّا أنّها متظافرة معتبرة من حيث المجموع.

الطائفة الثّانية: ما دلّ على الفرق بين ذوات الأرواح و غيرها

و هي

دليل على حصر الحرام في الأوّل، إمّا بالصراحة أو الاشعار و التأييد مثل:

1- ما رواه أبو العبّاس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ: يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ «2» فقال: «و اللّه ما هي تماثيل الرجال و النساء و لكنّها الشجر و شبهه» «3».

2- و ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لا بأس بتماثيل الشجر» «4».

3- و ما رواه محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن تماثيل الشجر و الشمس و القمر. فقال: «لا بأس ما لم يكن شيئا من الحيوان» «5».

4- و ما رواه حسين بن زيد عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام في حديث المناهي قال: «نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم عن التصاوير و قال: من صوّر صورة كلّفه اللّه تعالى يوم القيامة أن ينفخ فيها و ليس بنافخ، و نهى أن يحرق شي ء من الحيوان بالنار، و نهى عن التختّم بخاتم صفر أو حديد، و نهى أن ينقش شي ء من الحيوان على الخاتم» «6».

5- و ما رواه محمّد بن مروان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال سمعته يقول: «ثلاثة يعذّبون يوم القيامة: من صوّر صورة من الحيوان يعذّب حتّى ينفخ فيها و ليس بنافخ فيها، و المكذّب في منامه يعذّب حتّى يعقد بين شعيرتين و ليس بعاقد بينهما، و المستمع إلى حديث انوار الفقاهة، ج 4، ص: 162

قوم و هم له كارهون يصبّ في اذنه الأنك و هو الاسرب» «1».

و المراد من العقد بين شعيرتين أن يعقد أحدهما بالاخرى مثل عقد حبل بحبل آخر، و هذا غير ممكن في شعيرتين.

6- و

ما رواه يعقوب بن يزيد مثله، إلّا أنّه قال: «و المستمع من قوم» «2».

7- و ما رواه ابن عبّاس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «من صوّر صورة عذّب و كلّف أن ينفخ فيها و ليس بفاعل، و من كذّب في حلمه عذّب و كلّف أن يعقد بين شعيرتين و ليس بفاعل، و من استمع إلى حديث قوم و هم له كارهون يصبّ في اذنيه الأنك يوم القيامة» قال سفيان: الأنك: الرصاص «3».

8- و ما رواه ابن أبي عمير عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: قال «من مثّل تمثالا كلّف يوم القيامة أن ينفخ فيه الروح» «4».

9- و ما رواه حسين بن منذر قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «ثلاثة معذّبون يوم القيامة: رجل كذّب في رؤياه، يكلّف أن يعقد بين شعيرتين و ليس بعاقد بينهما، و رجل صوّر تماثيل يكلّف أن ينفخ فيها و ليس بنافخ» «5».

10- و ما رواه أبو العبّاس قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ و قال: «ما هي تماثيل الرجال و النساء و لكنّها تماثيل الشجر و شبهه» «6».

11- و ما رواه سعد بن طريف عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّ الذين يؤذون اللّه و رسوله هم المصوّرون، يكلّفون يوم القيامة أن ينفخوا فيها الروح» «7».

12- و ما رواه زرارة بن أعين عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لا بأس بأن يكون التماثيل في انوار الفقاهة، ج 4، ص: 163

البيوت إذا غيّرت رءوسها منها و ترك ما سوى ذلك» «1».

و في المستدرك روايات اخرى في

هذا المعنى يمكنك مراجعتها «2».

هذه جملة ما يمكن الاستدلال بها على التفصيل بين «ذي الروح» و «غيره» و ما في بعضها من ضعف السند أو الدلالة لا يمنع عن الاستدلال بالمجموع لتأيّد بعضها ببعض بلا شكّ.

الطائفة الثّالثة: القول بالتفصيل

ما يمكن الاستدلال بها للقول بالتفصيل بين «المجسّم» و «غيره» و هي روايات:

1- الرّوايات الدالّة على الأمر بالنفخ فيها المتظافرة عددا الظاهرة في حصر مورد الحرمة فيها، فانّ ظاهرها كون المورد جسما ذات أبعاد ثلاثة قابلا للنفخ فيها، و ليس نقصانه إلّا من حيث الروح، و هو غير بعيد في بدو النظر، فتأمّل.

لا أقول إنّه لا يمكن النفخ في الأجزاء اللطيفة الموجودة في النقوش أو في محلّها، أو لا يمكن الأمر تعجيزا بجعل العرض جوهرا، ثمّ جعل الجوهر حيّا، فانّ كلّ ذلك و ان كان ممكنا عقلا، لكن مخالف لظاهر هذه الأوامر عرفا، و الكلام في الظهور العرفي لا الإمكان العقلي.

و من هنا يظهر أنّ ما روي عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السّلام أو الرضا عليه السّلام- في أمره الأسد المصوّر بافتراس الساحر- أجنبي عن المقام «3»، فإنّه يصحّ على فرض كون الإشكال عقليّا، لا لأجل الظهور العرفي، و لكن الإنصاف عدم كونه أزيد من الاشعار بالجسمية في التعبير بالنفخ.

2- ما يظهر من مقابلة التصوير للنقش في رواية حسين بن زيد عن الصادق عليه السّلام في حديث المناهي قال:

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 164

نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم عن التصاوير و قال: من صوّر صورة كلّفه اللّه يوم القيامة أن ينفخ فيها و ليس بنافخ ... و نهى أن ينقش شي ء من الحيوان على الخاتم «1».

و الرواية و إن كانت ضعيفة «بشعيب بن

واقد» إلّا أنّها شاهدة على المقصود، و هو تقابل التصوير بالنقش في كلمات العرب.

3- ما ورد في قطع رءوس التماثيل في رواية علي بن جعفر عن أبي الحسن عليه السّلام قال:

سألته عن الدار و الحجرة فيها التماثيل أ يصلّي فيها؟ فقال: «لا تصلّ فيها و فيها شي ء يستقبلك إلّا أن لا تجد بدّا فتقطع رءوسها، و إلّا فلا تصلّ فيها» «2».

و ما ورد في كسر رءوسها و تلطيخ رءوس التصاوير مثل ما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن مسجد يكون فيه تصاوير و تماثيل يصلّي فيه؟ فقال:

«تكسر رءوس التماثيل و تلطّخ رءوس التصاوير و يصلّي فيه و لا بأس ...» «3». و ما ورد في قطع رأسها و إفسادها مثل ما رواه علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام قال: سألته عن البيت فيه صورة سمكة أو طير أو شبهها يعبث به أهل البيت هل تصلح الصلاة فيه؟ فقال: «لا حتّى يقطع رأسه منه و يفسد، و إن كان قد صلّى فليست عليه إعادة» «4».

هذه الروايات كلّها شاهدة على أنّ المراد بالتماثيل هي التماثيل المجسّمة، فالحكم بحرمة غيرها مشكل.

أقول: لكنّها كلّها واردة في حكم اقتنائها في البيوت، بل حكم الصلاة و هي فيها، فهي أجنبية عمّا نحن بصدده- اللهمّ إلّا أن يقال هي قرينة على إرادة الخصوص من سائر المطلقات أيضا، فتأمّل.

هذا و قد يؤيّد التخصيص بأنّ الظاهر أنّ الحكمة في ذلك محو آثار الشرك و عبادة الأصنام، فانّ التصوير كان من أشدّ أسباب الفساد، و كان قطع دابره منوطا بمنع التمثال بتّا، و من المعلوم أنّ الأصنام كانت صورة مجسّمة دائما أو غالبا.

انوار الفقاهة، ج 4، ص:

165

و ما قد يتوهّم من أنّ الحكمة فيها من جهة التشبّه باللّه في الخلق بعيد جدّا، و أي تشبّه في تصوير صورة على قطعة حجر، إلّا في شي ء يسير جدّا و ليس الإنسان أو الحيوان بصورته؟! و أي شباهة في الخلق بين هذا و بين من جعل له العين و الاذن و اللسان و القلب و غيرها من الجوارح العجيبة؟!

و يؤيّد ما ذكرنا ما ورد في حكم الصلاة في بيت فيه تمثال «1» أو كراهة استقبال المصلّي التماثيل و الصور «2»، فإنّها ناظرة إلى ترك التشبّه بعابدي الأوثان.

و أمّا ما ورد في بعض الروايات من أنّ من صوّر التماثيل فقد ضادّ اللّه «3»، فهو لا ينافي ما ذكرنا، لأنّ المضادّة قد تكون من جهة إيجاد مقدّمات الشرك.

هذا و لكن اختصاص العبادة بالتماثيل المجسّمة غير ثابت، بل الظاهر أنّها كانت أعمّ من النقوش و الأجسام، و قد ورد في روايات مكان المصلّي روايات كثيرة تدلّ على المنع في مقابل و سادة أو فراش فيه نقوش الحيوان و شبهه.

ثمّ إنّ هذا كلّه على فرض قبول وجود عمومات تدلّ على الحرمة، و لكنّها بعد قابلة للكلام، فانّ النهي عن تزويق البيوت، الوارد في الحديث 1/ 3 من أبواب أحكام المساكن الآنف الذكر، و إن كان مطلقا، و لكنّه غير النهي عن نفس التصوير، و لعلّه لأجل كونها مكان المصلّي، و عدم مناسبتها له.

أمّا الروايات السابقة الدالّة على أنّ من مثّل مثالا فقد خرج عن الإسلام «4» و أمره بهدم القبور و محو الصور «5» و أمره بكسر الصور «6»، فانّها مع الإشكال في اسنادها، تختصّ بما إذا كانت معرضا للعبادة، و كان كسرها أو محوها بداعي محو آثار

الأصنام، مع ما في تعبير

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 166

الكسر من الدلالة على التجسّم، و الشاهد على ذلك أنّه جعلها في حدّ الكفر، و أردفها بمسألة بناء القبور التي نعلم أنّها كانت نوع عبادة منهم.

فقد ورد في الرواية لعن اليهود حيث اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد «1».

و يشهد له أيضا أنّ غير واحد من هذه الرّوايات وردت في الاقتناء، مع أنّه ليس في جوازه عند المشهور كلام كما سيأتي إن شاء اللّه.

فيبقى ما رواه علي بن أبي حمزة عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: أتاني جبرئيل فقال: «يا محمّد إنّ ربّك ينهى عن التماثيل» «2».

و هي مطلقة، و لكنّها ضعيفة السند أيضا، مع أنّ الكلام بعد في معنى التمثال، فقد أطلق في روايات كثيرة على مجرّد المجسّمة، و في روايات متعدّدة على الصور، فإطلاقه على كلا الأمرين ممكن، فإرادة العموم منه غير ثابت، و القدر المتيقّن المجسّمة.

و منه يظهر أنّ النهي عن نقش شي ء من الحيوان على الخاتم في رواية حسين بن زيد (6/ 94) التي مرّت عليك أيضا لا تدلّ على الحرمة، لإمكان كون النهي عن خصوص النقش على الخاتم، للصلاة، أو مطلقا لبعض الملاكات الخاصّة به، مضافا إلى أنّه ورد في ضمن مناهي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و نعلم أنّ حديث المناهي مشتمل على المكروهات و المحرّمات، فتأمّل، أضف إلى ضعف سنده بشعيب بن واقد.

و قد جعل الشيخ الأعظم قدّس سرّه صحيحة محمّد بن مسلم «3» أظهر من الكلّ، حيث ذكر الشمس و القمر في عداد التماثيل، و هو قرينة على إرادة مجرّد النقش «4» (لعدم غير النقش

فيهما في الغالب).

و لكن يرد عليه بأنّ مفهوم نفي البأس فيها وجود البأس في نقش الحيوان، و ليس هذا دليلا على الحرمة، لإطلاق البأس على الكراهة أيضا، كما هو ظاهر، مضافا إلى أنّ كثيرا من النقوش على الجصّ و الحجر لا يخلو عن نوع تجسّم، فتدبّر.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 167

و ما قد يقال أنّ الحكمة في التحريم هي حرمة التشبّه بالخالق، و التشبّه يحصل بالنقش أيضا، فقد عرفت الجواب عنه، لعدم كونه هو الحكمة. بل الظاهر أنّها محو آثار الشرك و عبادة الأصنام لقرائن شتّى واردة في نفس روايات الباب.

مضافا إلى أنّ التشبّه بالخالق في صفاته (غير ما يختصّ به مثل الكبرياء و العظمة) غير ممنوع، بل ورد الأمر بالتخلّق بأخلاق اللّه في بعض الروايات، فتدبّر.

و الحاصل أنّه لم يقم دليل قاطع على الحرمة في النقوش.

و هناك روايات اخرى رواها في المستدرك، و هي ضعاف الاسناد، أو مراسيل، بعضها يدلّ على النفخ و الاحياء يوم القيامة مثل:

1- ما رواه عن عوالي اللئالي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال: «إنّ أهل هذه الصور يعذّبون يوم القيامة يقال: أحيوا ما خلقتم» «1».

2- و ما رواه ابن عبّاس عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال في حديث: «و من صور صورة عذّب حتّى ينفخ فيه الروح و ليس بنافخ» «2».

و أحسنها ما رواه الصدوق رحمه اللّه في الخصال بسند فيه ضعف، و هي:

3- ما عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «إيّاكم و عمل الصور فإنّكم تسألون عنها يوم القيامة» «3».

و لكن مع ذلك، السؤال عن شي ء يوم القيامة لا يدلّ على كونه حراما، فقد يسأل عن المكروهات، هذا مع إمكان

أخذ القدر المتيقّن من الإطلاق، و هو المجسّم.

و بالجملة، لا دليل إلّا على حرمة عمل المجسّمة من ذوات الأرواح، نعم لا ينبغي ترك الاحتياط في النقوش منها أيضا.

بقى هنا امور:
1- هل يعتبر في الحرمة قصد الحكاية؟

صرّح شيخنا الأعظم قدّس سرّه باعتباره، و إنّه لو دعت الحاجة إلى عمل شي ء يكون شبيها بشي ء من خلق اللّه و لو كان حيوانا من غير قصد الحكاية فلا بأس قطعا.

و لكن يرد عليه ما عرفت مرارا من أنّ القصد في أمثال المقام قهري، و الحرام هو تصوير الحيوان، و هذا صادق على من صوّره و إن كان يقصد صنع بعض الأسباب التي يحتاج إليها، و لا دليل على اعتبار قصد الحكاية فيه، فهو يصوّر صورة حيوان لبعض حوائجه.

2- هل للقصد هنا اثر؟

إذا كانت صورة مشتركة بين الحيوان و غيره بحيث يصدق عليها كلّ واحد منهما، فقد ذكر السيّد اليزدي قدّس سرّه في حواشيه على المكاسب أنّ المدار فيها على القصد، لأنّ تمييز المشتركات بالقصد، و كأنّه أخذه من كلام الشيخ الأعظم قدّس سرّه.

و فيه: أنّه إن عدّ مع ذلك شبحا مبهما لا يعلم الناظر إليه أنّه حيوان أو غيره، فلا ينبغي الريب في جوازه، لعدم صدقه عليه، و إن كان يصدق عليه كلاهما، فالظاهر حرمته بأي قصد كان، و صدق العنوانين و ان كان موجبا لشمول دليلي الحرمة و الجواز، إلّا أنّ الثاني من قبيل ما لا اقتضاء فيه، و الأوّل من قبيل ما فيه اقتضاء، فلا يتزاحمان.

3- هل أنّ الصورة الناقصة محرّمة أيضا؟

الذي صرّح به غير واحد من الأكابر اعتبار كونها صورة إنسان أو حيوان عرفا، و لا يقدح فيها نقص بعض الأجزاء إذا صدقت عليها الصورة عرفا، لا ما إذا صوّر نصف حيوان أو بعض أعضائه، هذا و لكن يمكن أن يقال: إنّ إطلاقات حرمة التصوير و التمثال توجب القول بحرمة الجميع لدخولها في قوله «من مثّل مثالا»، اللهمّ إلّا أن يقال بتقييد هذه المطلقات بقوله عليه السّلام في صحيحة محمّد بن مسلم: «لا بأس ما لم يكن شيئا من الحيوان» «1» فإنّ الحيوان انوار الفقاهة، ج 4، ص: 169

غير صادق على رأسه أو نصف بدنه.

و الحقّ جواز الناقص بحسب مقتضى الأصل، و ما دلّ على قطع رءوسها مؤيّد للمقصود، و كذلك ما دلّ على كسرها، فانّ الكسر شامل لقطعه نصفين أيضا فتأمّل، هذا و لكن تصوير شي ء من الحيوان على أقسام:

الف) أن يكون الموجود شيئا منه، و الباقي مقدرة الوجود، كتصوير إنسان جالس، أو من ينظر من وراء الجدار،

أو الراكب أو المغتسل في الماء، و الظاهر صدقه عليه فيحرم.

ب) أن يصوّر شيئا و يريد تصوير الباقي، فمن حين يأخذ في التصوير هو مرتكب الحرام إلى أن يفرغ، و توهّم كون الحرام أمرا بسيطا يحصل بآخر جزء منه، و الباقي مقدّمة له من عجائب الكلام، بل التصوير هو المجموع من حيث المجموع بلا إشكال.

نعم لو لم يلحقه الباقي كان من قبيل التجرّي، و ليس من هذه الجهة فرق بين فعل الواجب و الحرام، فمن يشرّع في الصلاة فهو مشغول بالواجب من أوّل أمره، و كذلك في المحرّمات.

ج) إذا أراد النصف مثلا، ثمّ بدا له الإتمام، فالظاهر أنّ الأوّل غير حرام، و الباقي متّصف بالحرمة، لانبساط الحكم على المجموع.

د) إذا اشترك جماعة في تصوير، فهم مشتركون في فعل الحرام، و هو الصورة، غاية الأمر أنّ الحرمة تتوقّف على إكمال الصورة بحيث يصدق عليه حيوان عرفا، و إلّا كان تجرّيا، و إذا حصلت الصورة حصل الحرام بفعل الجميع، و توهّم انصراف الأدلّة إلى كون فعل كلّ واحد صورة مستقلّة كما ترى، بل الظاهر منها أنّها مبغوضة للشارع كيفما حصلت من المكلّفين.

و ما قد يقال إنّه لا يعدّ عمل كلّ واحد منهم مصداق الصورة- لما مرّ من عدم صدق هذا العنوان على البعض- صحيح إذا جمدنا على الألفاظ، و لكن في هذه الموارد يستفاد من الأدلّة مبغوضية وجود العمل في الخارج، سواء كان بفعل واحد، أو متعدّد، و كذا ما أشبهه من القتل و الجرح و الإفساد و الغيبة و الظلم و إشاعة الفحشاء و أمثال ذلك إذا حصلت بفعل جماعة.

هذا مضافا إلى إطلاق بعض رواياته كما في النهي عن تزويق البيوت، أو النقش على انوار الفقاهة،

ج 4، ص: 170

الخاتم، أو النهي عن التماثيل أو غيرها، أو عذاب المصوّرين لصدق عنوان المصوّرين على الجميع، فتدبّر.

أضف إلى ذلك ما ورد في نفي كون عمل الشياطين تصوير ذوات الأرواح في قصّة سليمان عليه السّلام مع أنّ الظاهر اشتراكهم في العمل، و بالجملة لا ينبغي الشكّ في فهم العموم من الأدلّة في المقام و أمثاله، كما هو كذلك في الواجبات و المستحبّات أيضا، كبناء المساجد و إنقاذ نفس المؤمن و غيرهما باشتراك جماعة.

ه- هل اللازم أن يكون لذات الصورة وجود عيني خارجي؟ فلو صنع تمثالا لحيوان أو إنسان لا يوجد له شبيه و لا نظير، ذا رءوس واضحة متعدّدة، و قوائم مختلفة، و غير ذلك، فالظاهر كما اختاره السيّد المحقّق اليزدي قدّس سرّه في حواشيه على المتاجر الحرمة، لإطلاق الأدلّة، و القول بانصرافها إلى الموجود في الخارج لا وجه له، لا سيّما بعد كون هذه الامور في التماثيل كثيرة جدّا، مضافا إلى الحكمة التي عرفتها، بل الأصنام كثيرا ما تصوّر على صورة غير معهودة في الخارج، لجلب النفوس البسيطة الجاهلة إليها، و من هنا يعلم الحال في حكم تصوير الملائكة و الجنّ و الشياطين، و إن وقع الكلام فيه بين الأعلام، و ذكر في الجواهر إلحاق الملك و الجنّ بذلك «1» و حكى عن بعض الأساطين في شرحه على القواعد، و قيل بالجواز، و ربّما يستظهر من كلام المحقّق الأردبيلي قدّس سرّه حيث قيّد الحرمة بكون الحيوان ذي ظلّ، بحيث إذا وقع عليه ضوء حصل له ظلّ، و الملك و الجنّ لا ظلّ لهما (انتهى).

و الظاهر أنّ التقييد بالظلّ مستفاد من انصراف إطلاق الحيوان في الروايات إلى الحيوان المادية المعروفة.

و ليس منشأ الحكم في المسألة

كيفية الجمع بين مفهوم صحيحة محمّد بن مسلم «لا بأس ما لم يكن شي ء من الحيوان» «2» و خبر تحف العقول «ما لم يكن مثل الروحاني» «3» كما توهّمه بعض الأعاظم، لضعف الثاني سندا، مضافا إلى أنّ الظاهر أنّ المراد منهما واحد،

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 171

و كذلك ليس منشأه كون الجنّ و الملك جسما أو مجرّدا محضا، و انحصار المجرّد عن المادّة باللّه تعالى أو عدم انحصاره.

كذلك ليس المنشأ كون الحيوان في الروايات بمعناه المعروف، أو بمعنى صاحب الحياة حتّى يشمل الجنّ و الملك، لأنّ الظاهر منها هو الأوّل.

بل العمدة في هذا الحكم أنّ المتعارف في تصوير الجنّ و الملك تصويرهما بصورة الإنسان أو الحيوان أو شي ء مركّب منهما، و قد عرفت أنّه لا يعتبر كون نوع الحيوان أو الإنسان المصوّر موجودا في الخارج، و هذا هو الدليل على المقصود، و لذا لو صوّر الملك و الجنّ على غير هذه الصور فلا دليل على الحرمة، كما إذا صوّرهما بصورة سحاب، أو ريح عاصف، أو موجود خيالي لا يشبه شيئا من الحيوان الموجود أو المتوهّم، فتدبّر جيّدا.

و- قد وقع الكلام بينهم في جواز التصوير أو فعل المجسّمات بالآلات الحديثة للتصوير كالكامرات و شبهها، فقد صرّح المحقّق اليزدي قدّس سرّه في عبارة قصيرة له في المقام بأنّها غير جائزة «1».

و لكن الأكثر على الجواز بالنسبة إلى التصاوير المأخوذة بها، و هل هم قائلون بذلك في المجسّمات أيضا أم لا؟ كجعل الجصّ و شبهه في القوالب لخلق المجسّمات؟ لا يبعد ذلك، و ما ذكر لخروجها عن أدلّة الحرمة امران:

أوّلها- إنّ التصوير الحديث ليس إيجادا للصورة المحرّمة، و إنّما هو أخذ للظلّ، و إبقاء له بواسطة المواد الكيماوية، فإنّ

الإنسان إذا وقف أمام آلة التصوير كان حائلا بينها و بين النور، فينعكس ظلّه عبر عدسة الآلة على الأفلام و يثبت عليه بواسطة المواد الكيمياوية، فيكون صورة لذي ظلّ، و أين هذا من التصوير المحرّم (هكذا ذكره في مصباح الفقاهة)، ثمّ قاسه بوضع شي ء من الأدوية على الجدران أو الأجسام الصيقلية لتثبت فيها الأظلال و الصور المرتسمة، بل قاسه على ما اشتهر من انطباع صور الأشياء في شجرة الجوز في بعض الأحيان، و لا يحتمل أن يتفوّه أحد بحرمة الوقوف في مقابلها في ذلك الوقت «2».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 172

ثانيها- ما ذكره بعض الأعلام من أنّ الظاهر من الأدلّة هو تصوير الصورة كما كانت في عصر صدور الروايات بالمباشرة، فلا يشمل إيجادها تسبيبا بالآلات الحديثة، أو بجعل الجصّ و غيره في القوالب إلّا بضرب من المجاز و التأويل!.

و القول بالغاء الخصوصية، أو شمول بعض الإطلاقات له كقوله «من مثّل مثالا» الظاهر في إيجاده بأي نحو كان، لا خصوص تصويره- ممنوع، لأنّ الأوّل لا دليل عليه، و الثاني ظاهر في تمثيلها بقدرته «1».

لكن يمكن الجواب عن الأوّل بأنّ هذه تدقيقات عقليّة في مسألة عرفية، بل الظاهر من كلّ عنوان إيجاد الفعل، سواء كان مستقلا أو بواسطة الآلة، و من المعلوم تغيير الآلات دائما بمرور الأزمنة و مضي الأعصار، فالأمر بالإسراج تارة يمتثل بجعل الدهن في القارورة، و جعل فتيلة عليه، و إشعالها بوسيلة الزناد، و قد يكون بالضغط على زرّ الكهرباء، و كذلك نسج الثياب قد يكون باليد و اخرى بالمكائن، و نحوهما كنس الدار فقد يكون باليد، و قد يكون بالمكنسة الكهربائية، إلى غير ذلك من الأمثلة، و لا فرق في صدق هذه العناوين على

جميع ذلك.

و التصوير أيضا من هذا القبيل، فقد يكون بالأقلام، و اخرى بالأفلام و انعكاس الظلّ بواسطة المواد الكيميائية، فهذه كلّها أسباب و النتيجة واحدة، فكما أنّ النسّاج و الكنّاس صادق على الجميع، فكذا المصوّر، و لذا يطلق على الجميع لفظ الصورة و المصوّر في عصرنا.

و أمّا النقض بوضع شي ء من المواد الكيمياوية على الجدران بحيث تنطبع عليها صور المارّة، فهو أيضا قابل للقبول، و نلتزم به إذا كان الواضع بصدد أخذ الصور من أوّل الأمر.

و أمّا المقابلة لشجرة الجوز لو لم يكن اسطورة من الأساطير، فالآخذ للصورة هو شجرة الجوز، و الإنسان معدّ له، فالقياس مع الفارق.

و يجاب عن الثاني بأنّ اعتبار المباشرة باليد في المعنى الحقيقي و عدم صدقه مع التسبّب ممنوع أشدّ المنع، كما يعلم بملاحظة غيرها من الأفعال كالخياطة و الغسل و الكنس انوار الفقاهة، ج 4، ص: 173

و الطبخ و دقّ الدقيق و بناء البيوت إلى غير ذلك من أصناف الأعمال التي تصدق بالمباشرة أو بالمكائن و هي كثيرة غاية الكثرة.

هذا كلّه مضافا إلى ما عرفت من الحكمة العامّة لهذا الحكم، فإنّها جارية في الجميع على نحو واحد، أضف إلى ذلك أنّ السؤال أو الجواب في غير واحد من روايات الباب وقع عن نفس التماثيل الذي يكون مرجعه إلى إيجادها، و هو أعمّ، اللهمّ إلّا أن يدّعي أنّ المقدّر خصوص تصويرها مباشرة، و هو كما ترى.

و على كلّ حال، فالظاهر أنّ التصوير و أمثال هذا التعبير عامّ يشمل الجميع، و لا أثر لطرق الإيجاد و انحائه فيه.

فبحسب ظاهر الأدلّة لا محيص عمّا ذكره المحقّق اليزدي قدّس سرّه من الحرمة، إلّا أن يتوصّل بأحد أمرين:

أوّلهما: عدم الدليل على الحرمة في التصوير غير

المجسّم كما مرّ تفصيله و دليله، فيبقى إيجاد المجسّمات بالمكائن على حرمته.

ثانيهما: دعوى انصراف الإطلاقات عن مثل التصوير بالكاميرات، و إن كان الصدق العرفي ثابتا، فانّ الانصراف يكون بعد قبول الصدق عرفا، و لا سيّما بملاحظة الحكمة التي عرفتها من محو آثار الأصنام، و كذا الحكمة التي ذكرها بعض من نفى التشبّه بالخالق تعالى، فيبقى الإشكال في إيجاد المجسّمات بمثل القوالب، و لا يبعد حرمتها، و هذا الفرق لا يخلو عن إشكال، و العمدة هو الوجه الأوّل.

ز- هل يجوز اقتناء هذه الصور المجسّمة و غيرها و كذلك بيعها و استعمالها، أو لا يجوز؟

قال في الجواهر: أمّا بيعها و اقتنائها و استعمالها و الانتفاع بها و النظر إليها و نحو ذلك فالأصل و العمومات و الإطلاقات تقتضي جوازه ... مع إنّا لم نجد من أفتى بذلك (الحرمة) عدا ما يحكى عن المحقّق الأردبيلي قدّس سرّه من حرمة الإبقاء و يمكن دعوى الإجماع على خلافه! «1».

قال المحقّق الأردبيلي قدّس سرّه فيما حكى من شرح إرشاده: «إنّ المستفاد من الأخبار

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 174

الصحيحة و أقوال الأصحاب عدم حرمة إبقاء الصور» (انتهى) «1».

و هذا مخالف لما حكاه في الجواهر منه «2» و لعلّه حكاه من مبحث آخر منه، فالأوّل في مبحث لباس المصلّي، و الثاني في كتاب البيع، و استظهر الشيخ الأعظم قدّس سرّه من بعض كلمات القدماء كالمفيد رحمه اللّه في «المقنعة» حرمة بيع التماثيل و ابتياعها.

و على كلّ حال، فالعمدة هنا الروايات الواردة في المسألة، فقد استدلّ منها و من غيرها للحرمة بامور:

الأوّل- الظاهر من حرمة عمل شي ء مبغوضية وجود المعمول ابتداء و استدامة، و إن شئت قلت: حرمة إيجاد الشي ء إنّما هو باعتبار حرمة منافعها

و اقتنائها، و ما أورد عليه الشيخ الأعظم قدّس سرّه من إنكار هذا الظهور، بل استظهر منه حرمة مجرّد الإيجاد، قابل للمنع، فإنّ الحكمة فيه إن كان محو آثار الأصنام فهو موجود، و إن كانت التشبّه بالخالق- و إن عرفت الإشكال فيه- فهو أيضا ثابت، و إن شئت قلت: الإيجاد طريق إلى وجود الشي ء، و لا موضوعية له، فكما أنّه يفهم من تحريم صنع الخمر أو الصليب و الصنم و آلات القمار حرمة حفظها، بل يعلم وجوب محوها و إفنائها، فكذا فيما نحن فيه، اللهمّ إلّا أن يقال إنّ العلّة هناك معلومة، و هنا غير معلومة، و مجرّد الحكمة لا تكفي في إثبات الحكم.

الثاني- الإيجاد و الوجود شي ء واحد، و إنّما يختلف بالاعتبار، و يرد عليه أنّ الوجود بمعناه المصدري متّحد مع الإيجاد، و لكن الكلام هنا بمعنى اسم المصدر و محصول العمل، لا المعنى المصدري حتّى يقال باتّحاده مع الإيجاد.

الثالث- ما دلّ على النهي أو نفي البأس عن نفس التماثيل مثل:

ما رواه محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن تماثيل الشجر و الشمس و القمر، فقال: «لا بأس ما لم يكن شيئا من الحيوان» «3».

و ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أتاني جبرئيل فقال:

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 175

«يا محمّد إنّ ربّك ينهى عن التماثيل» «1».

بناء على انصراف النهي إلى الانتفاع بمنافعها أو اقتنائها، لا عن تصويرها فقط.

الرابع: ما دلّ على أمره صلّى اللّه عليه و آله و سلم بمحو هذه الصور أو كسرها، مثل ما رواه ابن قدّاح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «2»

و ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و قد مرّ ذكرهما.

فانّ ظاهره حرمة إبقائها، و سيأتي الكلام فيه.

الخامس: ما دلّ على نفي كون تماثيل الحيوان ممّا أراده سليمان من الجنّ، مثل ما رواه أبو العبّاس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ فقال: «و اللّه ما هي تماثيل الرجال و النساء و لكنّها الشجر و شبهه» «3».

و رواية اخرى له عن الباقر عليه السّلام «4»، فإنّها ظاهرة في كون إبقائها حراما و لا تناسب مكانة سليمان نبي اللّه عليه السّلام.

السادس: ما دلّ على جواز اقتنائها بشرط تغيير رءوسها، مثل:

1- ما رواه زرارة بن أعين عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لا بأس بأن يكون التماثيل في البيوت إذا غيّرت رءوسها منها».

2- و عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لا بأس بأن يكون التماثيل في البيوت إذا غيّرت رءوسها منها و ترك ما سوى ذلك» «5».

3- و ما رواه الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ربّما قمت اصلّي و بين يدي و سادة فيها تماثيل طائر، فجعلت عليه ثوبا و قال: «و قد اهديت إليّ طنفسة من الشام عليها تماثيل طائر، فأمرت به فغيّر رأسه فجعل كهيئة الشجر» «6».

4- و ما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن مسجد يكون فيه تصاوير و تماثيل يصلّى فيه؟ فقال: «تكسر رءوس التماثيل و تلطّخ رءوس التصاوير

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 176

و يصلّى فيه و لا بأس». قال: و سألت عن الخاتم يكون فيه نقش تماثيل سبع أو طير، يصلّى فيه؟ قال: «لا

بأس» «1» إلى غير ذلك ممّا في معناه.

السابع: ما دلّ على عدم صلاحية اللعب بها، مثل ما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السّلام أنّه سأل أباه عليه السّلام عن التماثيل، فقال: «لا يصلح أن يلعب بها» «2».

و ما رواه عن مثنّى رفعه قال: التماثيل لا يصلح أن يلعب بها «3».

الثامن: ما دلّ على عدم دخول الملائكة بيتا فيه صورة إنسان و شبهه مثل:

1- ما رواه محمّد بن مروان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «إنّ جبرئيل أتاني فقال: إنّا معاشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه كلب و لا تمثال جسد و لا إناء يبال فيه» «4».

2- و ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ جبرئيل عليه السّلام قال: «إنّا لا ندخل بيتا فيه صورة و لا كلب، يعني صورة إنسان و لا بيتا فيه تماثيل» «5».

3- و ما رواه عمرو بن خالد عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال جبرئيل عليه السّلام: «يا رسول اللّه إنّا لا ندخل بيتا فيه صورة إنسان، و لا بيتا يبال فيه، و لا بيتا فيه كلب» «6».

4- و ما رواه محمّد بن علي بن الحسين قال: قال الصادق عليه السّلام: «لا يصلّي في الدار فيها كلب إلّا أن يكون كلب الصيد، و أغلقت دونه بابا فلا بأس، فانّ الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب و لا بيتا فيه تماثيل و لا بيتا فيه بول مجموع في آنية» «7».

5- و ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال:

إنّ جبرئيل عليه السّلام قال:

«إنّا لا ندخل بيتا فيه كلب، و لا بيتا فيه صورة إنسان، و لا بيتا فيه تمثال» «8».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 177

6- ما رواه عبد اللّه بن يحيى الكندي عن أبيه عن علي عليه السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم (في حديث): إنّ جبرئيل قال: «إنّا لا ندخل بيتا فيه كلب، و لا جنب، و لا تمثال يوطأ» «1».

التاسع: ما دلّ على أنّ عليا عليه السّلام كان يكره الصورة في البيوت، مثل ما رواه حاتم بن إسماعيل عن جعفر عن أبيه: أنّ عليا كان يكره الصورة في البيوت «2».

بضميمة ما دلّ على أنّه عليه السّلام لم يكن يكره الحلال، كما جاء في الحديث «3».

العاشر: ما ورد في رواية تحف العقول الذي هو كضابطة عقلية للمحرّمات في باب الصنائع حيث قال عليه السّلام:

و ذلك إنّما حرّم اللّه الصناعة التي هي حرام كلّها التي يجي ء منها الفساد محضا ... «4».

فقسّم الصنائع على ثلاثة أقسام: و حكم بحرمة ما يجي ء منه الفساد محضا، و هو القسم الثالث منها.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في بيان حرمة الاقتناء، و الأحسن من الكلّ هو الأوّل، و بيانه بتوضيح آخر: إنّ الظاهر من دليل حرمة إيجاد مصنوع، حرمة وجوده، لا أن يكون للإيجاد موضوعية، كما هو كذلك في غيره من أشباهه، مثل إيجاد آلات القمار و اللهو و هياكل العبادة و غير ذلك، بل لم نجد موردا يكون إيجاد الشي ء حراما و وجوده حلالا، بل هذا ممّا يستغر به العرف في محاوراتهم، لا أقول بينهما ملازمة عقلية، بل أقول ملازمة ظاهرة عرفية، و يؤيّده رواية تحف العقول التي تشتمل على دليل عرفي

عقلائي يؤيّد ما ذكرنا، و بالجملة التفكيك بين الأمرين في أذهان أهل العرف مشكل جدّا، و الملازمة بينهما قويّة عندهم، فلا معدّل عنه إلّا بدليل قوي، و ستعرف أنّ إثبات الدليل على التفكيك بينهما لا يخلو عن الإشكال، أمّا غيره فيمكن الجواب عنه غالبا.

أمّا وحدة الوجود و الإيجاد فقد عرفت الجواب عنه، و إنّ الكلام إنّما هو في الوجود بمعنى اسم المصدر لا بمعناه المصدري، و الشبهة نشأت من هنا.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 178

أمّا صحيحة محمّد بن مسلم و شبهها فقد اجيب عنها بأنّ النهي إنّما هو ممّا كان مركوزا في الأذهان من عمل التصوير لا عن حكم الاقتناء.

هذا و لكن يمكن المنع عن هذه الدعوى، بل الوارد في كثير من روايات الباب السؤال و الجواب عن نفس التماثيل، فهو أيضا يمكن أن يكون دليل المنع.

أمّا عن الرابع فبحمله على الكراهة بقرينة الأمر بقتل الكلاب، و في بعض رواياته الأمر بتسوية القبور، و هو أيضا غير واجب.

و يمكن أيضا أن يقال إنّ ذلك فيما كان مظنّة للعبادة كما يظهر من ذكر القبور في بعضها.

أمّا عن الخامس فبأنّ الظاهر رجوع الإنكار إلى إذن سليمان عليه السّلام أو تقريره لعملهم.

أمّا عن السادس فبأنّه لا دلالة فيها على الوجوب كما لا يخفى.

أمّا عن السابع فبأنّها أيضا ظاهرة في الكراهة، لما ورد فيها من التعبير بعدم الصلاحية.

أمّا الثامن فهو أيضا كذلك، بقرائن فيها كعطف وجود آنية البول أو الجنب عليه.

أمّا التاسع فبأنّ المراد منه المباح متساوي الطرفين، لأنّه كان يكره المكروه قطعا.

و أمّا العاشر فلضعف السند، و قد أورد على دلالته أيضا تارة بأنّ حرمة إيجاد شي ء غير ملازم لحرمة آثاره، كحرمة الزنا مع عدم حرمة حفظ المتولّد منه.

و

اخرى بأنّه كثيرا ما تترتّب على المنافع المحلّلة من التعليم و التعلّم و حفظ صور بعض الأعاظم.

و كلا الإيرادين ممنوعان، أمّا الثاني بأنّ ظاهر حديث تحف العقول حرمة الانتفاع بأمثال ذلك، و ما ذكر اجتهاد في مقابل النصّ، و أعجب منه الأوّل فانّه قياس مع الفارق جدّا، لاحترام النفوس و عدم احترام النقوش، فمحصّل ما ذكرنا أنّ كثيرا من هذه الأدلّة و ان كان قابل الدفع، لكن يبقى بعضها غير قابلة له، كالدليل الأوّل، و يؤيّده الأخير، و ظاهر صحيحة محمّد بن مسلم أيضا السؤال عن نفس التماثيل، إلّا أن يقال ثبوت البأس أعمّ من الحرمة، و كذا يؤيّده الحكمة لهذا الحكم، سواء كان المنع عن عبادة الأصنام كما هو الظاهر أو غيره.

هذا من ناحية، و من ناحية اخرى هناك روايات كثيرة دالّة على الجواز، أو الكراهة، تعارض ما سبق من أدلّة الحرمة، و هي طوائف كثيرة:

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 179

الاولى: منها ما دلّ على جواز إبقاء التماثيل إذا غطّيت عند الصلاة إذا كانت بحذاء المصلّى، لا ما إذا كانت عن يمينه أو يساره أو خلفه مثل:

1- محمّد بن مسلم قال قلت لأبي جعفر عليه السّلام: اصلّي و التماثيل قدّامي و أنا أنظر إليها؟

قال: «لا، اطرح عليها ثوبا و لا بأس بها إذا كانت عن يمينك أو شمالك أو خلفك أو تحت رجلك أو فوق رأسك، و إن كانت في القبلة فالق عليها ثوبا و صلّ» «1».

2- و ما رواه الحلبي قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام ربّما قمت فاصلّي و بين يدي الوسادة و فيها تماثيل الطير فجعلت عليها ثوبا «2».

3- و ما رواه محمّد بن مسلم قال: سألت أحدهما عليهما السّلام عن

التماثيل في البيت فقال: «لا بأس إذا كانت عن يمينك و عن شمالك و عن خلفك أو تحت رجلك، و إن كانت في القبلة فالق عليها ثوبا» «3».

4- ما رواه ليث المرادي إنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الوسائد تكون في البيت فيها التماثيل عن يمين أو شمال؟ فقال: «لا بأس به ما لم يكن تجاه القبلة، و إن كان شي ء منها بين يديك ممّا يلي القبلة فغطّه و صلّ»، قال: و سئل عن التماثيل تكون في البساط لها عينان و أنت تصلّي، فقال: «إن كان لها عين واحدة فلا بأس، و إن كان لها عينان و أنت تصلّي فلا» «4».

5- ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لا بأس بالتماثيل أن تكون عن يمينك و عن شمالك و خلفك و تحت رجلك (رجليك) و إن كانت في القبلة فالق عليها ثوبا إذا صلّيت» «5».

و بعض هذه الروايات و إن كانت ظاهرة في النقوش، و لكن بعضها مطلقة يشتمل الصور، و هي دليل على جواز اقتنائها، بل بيعها و شرائها و سائر التصرّفات فيها بالملازمة العرفية.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 180

الثّانية: ما دلّ على جواز ما توطأ منها و تهان به، و لا تعظّم، مثل ما رواه محمّد بن مسلم (7/ 32) و رواية اخرى له (11/ 32) و قد مرّ ذكرهما، أضف إليهما ما يلي:

1- و ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال سألته عن الوسادة و البساط يكون فيه التماثيل، فقال: «لا بأس به يكون في البيت، قلت التماثيل، فقال كلّ شي ء يوطأ فلا بأس به» «1».

2- و ما رواه يحيى الكندي عن أبيه،

و كان صاحب مطهرة أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال جبرئيل: «إنّا لا ندخل بيتا فيه تمثالا لا يوطأ» «2».

3- و ما رواه عبد اللّه بن المغيرة قال: سمعت الرضا عليه السّلام يقول: قال قائل لأبي جعفر عليه السّلام:

يجلس الرجل على بساط فيه تماثيل؟ فقال: «الأعاجم تعظّمه، و انّا لنمتهنه!» «3».

الثّالثة: ما دلّ على جواز ما إذا كان بعين واحدة ممّا يصدق التمثال، فإنّ مجرّد قلع عين منها لا يضرّ بصدقه مثل:

1- ما رواه ابن أبي عمير عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في التمثال يكون في البساط فتقع عينك عليه و أنت تصلّي، قال: «إن كان بعين واحد فلا بأس، و إن كان له عينان فلا» «4».

2- و ما رواه ليث المرادي و قد مرّ ذكره (8/ 32).

3- و مرسلة الصدوق رحمه اللّه قال: قال الصادق عليه السّلام: «لا بأس بالصلاة و أنت تنظر إلى التصاوير إذا كانت بعين واحدة» «5».

4- و ما رواه ابن أبي عمير رفعه قال: «لا بأس بالصلاة و التصاوير تنظر إليه إذا كانت بعين واحدة» «6».

و لعلّها من مصاديق ما يكون موهونا فيما إذا قلعت إحدى عينيه عمدا، و إلّا فلا نفهم انوار الفقاهة، ج 4، ص: 181

سرّه، و يشهد له ما سيأتي في الطائفة الرابعة.

الرّابعة: ما دلّ على المنع عن الصلاة إلّا إذا قطع رءوسها، أو مواراتها، و ظاهرها جواز الاقتناء لو لا أمر الصلاة، مثل ما رواه:

1- علي بن جعفر عن أبي الحسن عليه السّلام قال: سألته عن الدار و الحجرة فيها التماثيل أ يصلّى فيها؟ فقال: «لا تصلّ فيها و فيها شي ء يستقبلك إلّا

أن لا تجد بدّا فتقطع رءوسها، و إلّا فلا تصلّ فيها» «1».

2- ما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن مسجد يكون فيه تصاوير و تماثيل يصلّى فيه؟ فقال: «تكسر رءوس التماثيل و تلطّخ رءوس التصاوير و لا بأس». قال: و سألته عن الخاتم يكون فيه نقش تماثيل سبع أو طير يصلّى فيه؟ قال: «لا بأس» «2».

3- ما رواه علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام قال سألته عن البيت فيه صورة سمكة أو طير أو شبهها يعبث به أهل البيت هل تصلح الصلاة فيه؟ فقال: «لا حتّى يقطع رأسه منه و يفسده، و إن كان قد صلّى فليست عليه إعادة» «3».

4- علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام و سألته عن رجل كان في بيته تماثيل أو في ستر و لم يعلم بها و هو يصلّي في ذلك البيت ثمّ علم، ما عليه؟ فقال: «ليس عليه فيما لا يعلم شي ء، فإذا علم فلينزع الستر و ليكسر رءوس التماثيل» «4».

5- علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام قال: و سألته عن الخاتم يكون فيه نقش تماثيل سبع أو طير يصلّي فيه؟ قال: «لا بأس» «5».

6- ما رواه عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام (في حديث) عن الثواب يكون في علمه مثال طير أو غير ذلك أ يصلّي فيه؟ قال: «لا»، و عن الرجل يلبس الخاتم فيه نقش مثال الطير أو غير

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 182

ذلك قال: «لا تجوز الصلاة فيه» «1».

7- ما رواه حمّاد بن عثمان قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الدراهم السود فيها التماثيل أ يصلّي الرجل

و هي معه؟ فقال: «لا بأس بذلك إذا كانت مواراة» «2».

بل يدلّ الأخير على جواز الصلاة بلا تغيير مع الكراهة، فهذه دليل على جواز اقتنائها مع قطع النظر عن الصلاة.

الخامسة: ما دلّ على جوازها بدون قيد، أو إذا كانت للنساء، مثل:

1- محمّد بن مسلم عن أبي جعفر قال: قال له رجل رحمك اللّه ما هذه التماثيل التي أراها في بيوتكم؟ فقال: «هذا للنساء أو بيوت النساء» «3».

2- و ما رواه علي بن جعفر عن أخيه و قد مرّ ذكره آنفا «4».

فانّه لم ينه عن العبث و اللعب بها.

إلى غير ذلك ممّا أورده في الوسائل و هي كثيرة.

و قد تلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ الأحاديث الواردة في المسألة إثباتا و نفيا و جوازا و منعا كثيرة جدّا، أوردها المحدّث الحرّ العاملي في سبعة أبواب (الباب 45 من أبواب لباس المصلّي، و الباب 46 منها، و الباب 32 من أبواب مكان المصلّي، و الباب 33 منها، و الباب 3 من أبواب المساكن، و الباب 4 منه، و الباب 94 من أبواب ما يكتسب به) و يستفاد من ضمّ بعضها إلى بعض و تفسير بعضها ببعض امور:

«أوّلها»: إنّ الاقتناء و سائر الانتفاعات جائزة في النقوش و الصور قطعا و في المجسّمة بحسب إطلاق غير واحد منها.

ثانيها: إنّ وجودها في البيت مكروه، إمّا مطلقا كما هو ظاهر غير واحد منها، ممّا يدلّ على عدم دخول الملائكة في هذه البيوت، أو لخصوص الصلاة، و لا منافاة بينهما، فيكون الأوّل مكروها، و الثاني أشدّ كراهة، و الوجه فيه ليس إلّا التشبّه بعبدة الأصنام، لمناسبة

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 183

الحكم و الموضوع، و أمّا التشبّه بالخالق بمجرّد التصوير فلا معنى له، مضافا

إلى أنّه غير قبيح كما عرفت.

ثالثها: تزول الكراهة بإهانتها، و من طرق الإهانة كونها تحت الأقدام و كذلك تزول بكسر رءوسها أو قلع عين واحدة منها لا أقل، أو تغطّيها للصلاة، أو كونها خلف المصلّي أو على يمينه أو يساره.

رابعها: لازمها جواز بيع الوسائد و الفرش و أشباهها المشتملة على هذه الصور و شرائها و غير ذلك من وجوه الانتقال كما هو ظاهر.

خامسها: الجمع بينها و بين ما دلّ على تحريم إيجادها مطلقا، أو المجسّمة منها يقتضي التفكيك بين الإيجاد و وجودها بقاء، أو التصرّف في أدلّة التحريم بأجمعها و حملها على كراهة شديدة، أو حملها على موارد يكون مقدّمة أو مظنّة لعبادتها، أو إغراء بعبادة الأصنام، و حيث انّ التفكيك بين الإيجاد و الوجود مشكل جدّا، و لا يرى له في الشرع مثل و لا نظير، فالجمع الثاني- أي الحمل على الكراهة الشديدة أولى، فلا يبقى للحرمة مجال إلّا في موارد خاصّة جزئية (و اللّه العالم بحقائق الامور).

فتحصّل إنّه لا دليل على حرمة إيجاد الصور المجسّمة أيضا إلّا في موارد خاصّة.

بقي هنا شي ء: و هو أنّه يظهر ممّا ذكرنا حال «الصور المتحرّكة في الأفلام» و شبهها، فلو قلنا بحرمة التصوير مطلقا، فهي أيضا محرّمة إيجادا، إمّا الاقتناء و الانتفاع بها بما هو معمول في الأفلام، فلا دليل على حرمته ما لم يكن فيه جهة اخرى من جهات الحرمة، مثل كونها منشأ للفساد، أو إذاعة لسرّ المؤمن أو غير ذلك.

و ما فيها من صور النساء غير المحارم فان كانت مغرية و باعثة على الفساد (كما هو الغالب فيها) فهي محرّمة من هذا الباب، و إن لم تكن كذلك فلا دليل على حرمتها، لأنّها لا تندرج

تحت أدلّة النظر إلى الأجنبية، لأنّها صورتها لا نفسها، حتّى أنّه لا يمكن قياسها على الصورة المنطبعة في المرآة، لأنّ المرآة لا صورة فيها، بل هي انعكاس النور من الشخص انوار الفقاهة، ج 4، ص: 184

على المرآة، فالنظر في الواقع إلى نفس الشخص الخارجي، بخلاف الأفلام.

و إن أبيت عن هذه الدقّة، و قلت أنّها غير عرفيّة، فلا أقل من إمكان الغاء الخصوصية من النظر إلى الشخص بالنسبة إلى المرآة دون الصور الموجودة في الأفلام و شبهها، نعم لو كانت صورة امرأة مؤمنة غير متبرّجة قد يقال بحرمة النظر إليها من باب الهتك و إفشاء السرّ، و ليس ببعيد «فتدبّر».

5- التطفيف

لا شكّ في حرمة التطفيف، و هو كما ذكره أهل اللغة: «إذا كان أو وزن و لم يوف»، و أوضح البيان فيه قوله تعالى الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ «1» و ذكر الاستيفاء في حقّهم ليس من حقيقة التطفيف، بل الظاهر أنّه ذكر مقدّمة لبيان قبح عملهم كما لا يخفى، و عدم ذكر الوزن في الأوّل دون الثاني من باب الاكتفاء به في الثاني، و لا سيّما أنّه كان الكيل أكثر عندهم من الوزن في تلك الأزمنة، لسهولته و عدم مؤنة له بخلاف الوزن، و إن كان الكيل أكثر عندهم من الوزن في تلك الأزمنة، لسهولته و عدم مؤنة له بخلاف الوزن، و إن كان الكيل و الوزن كلاهما في عصرنا موجودين لما في الأشياء من التفاوت، فربّ شي ء ينتفع بمقداره ثقلا، فيوزن كالذهب و الفضّة، و اخرى حجما كاللبن و النفط.

و على كلّ حال، فقد استدلّ لحرمته بالأدلّة الأربعة:

1- فمن الكتاب قوله تعالى في حقّ المطفّفين: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. الَّذِينَ

... و قد مرّت الإشارة إليه، و قوله تعالى في قصّة شعيب وَ لا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ «2».

و قوله تعالى وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ «3».

فانّ البخس هو النقص على سبيل الظلم، كما ذكره أهل اللغة، و لا مانع من ذكره بكلا

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 185

لفظيه في قصّة شعيب كما هو واضح.

2- و من السنّة روايات كثيرة نشير إلى بعضها، منها:

أ) ما رواه الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام في كتابه إلى المأمون قال: «الإيمان هو أداء الأمانة ... و اجتناب الكبائر و هي ... و البخس في المكيال و الميزان ...» «1».

و لا يضرّ ضعف أسانيد الصدوق رحمه اللّه إليه بعد كثرة هذه الأخبار و تعدّدها.

ب) و ما رواه أبان عن رجل، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «خمس إن أدركتموهنّ فتعوّذوا باللّه منهنّ ... و لم ينقصوا المكيال و الميزان إلّا أخذوا بالسنين و شدّة المئونة ...» «2».

ج) و ما رواه أبو حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «وجدنا في كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم ... و إذا طفّف الميزان و المكيال أخذهم اللّه بالسنين و النقص ...» «3».

إلى غير ذلك ممّا هو ظاهر في هذا المعنى.

3- و يدلّ عليه الإجماع لاتّفاق علماء الإسلام عليه من دون خلاف.

4- و العقل، فإنّه مصداق واضح للظلم، و قبح الظلم من المستقلّات العقلية.

و هذا كلّه واضح، إنّما الكلام في بعض ما يتفرّع عليه و هو العمدة هنا، منها: حكم المعاملة التي فيها «تطفيف» و «بخس»، و حاصل الكلام فيه أنّ هذا البيع لا يخلو إمّا أن يكون كليّا،

أو شخصيا ..

فإن كان بيعا كليّا، فلا إشكال في الصحّة، لأنّه إنّما وقع البيع على طنّ من الحنطة مثلا، و إنّما وقع البخس عند الوفاء، من دون فرق بين الكلّي على نحو الإطلاق، أو الكلّي في المعيّن، كصاع من حنطة.

و أمّا البيع الشخصي، فهو على قسمين:

البيع بالصيغة، و البيع المعاطاتي ...

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 186

أمّا الأوّل فهو أيضا على قسمين: فقد يقول: بعتك هذه الحنطة بشرط كونها عشرين منّا مثلا، و اخرى يقول: «بعتك هذا العشرين» فالأوّل من قبيل الاشتراط، و الثاني من قبيل الوصف.

و الظاهر أنّ شيئا منها لا يوجب فساد البيع، لا تخلّف الشرط، و لا الوصف إذا لم يكن مقوّما، نعم إذا نقص بمقدار كثير كأن يكون ربع ما وصف، فلا يبعد البطلان، و إلّا كان صحيحا بمقدار من الثمن، فيجب عليه ردّ الزائد.

و لا تندرج هذه المسألة في المسألة المعروفة، أعني تعارض «الوصف» و «الإشارة» فيما إذا قال «بعتك هذا الفرس العربي» فتبيّن أنّه «غير عربي» و إنّ المقدّم هل هو الأوّل أو الثاني؟ أو يختلف بإختلاف المقامات كما سيأتي إن شاء اللّه في محلّه.

لأنّ المفروض هنا وقوع البيع على المقدار، و تخلّف المقدار يوجب نقصا في الثمن بلا إشكال.

أمّا الثاني كأن يقول أعطني منّا من الحنطة، فأعطاه أنقص من ذلك، و أخذ الثمن وافيا، و الظاهر أنّه أيضا صحيح بمقدار من الثمن، و ذمّة البائع مشغولة بالباقي، إلّا إذا ردّ المقدار الباقي من الحنطة إليه، نعم يحتمل الفساد إذا نقص بكثير بحيث يعدّ من قبيل عدم وجود المقوّم للمعاملة (و اللّه العالم).

هذا كلّه إذا لم يكن ربويا، و إلّا فسدت المعاملة من أصلها في غير الكلّي لما في العوضين من

التفاوت.

6- التنجيم

من المسائل التي احتدمت فيها الآراء مسألة النجوم جوازا و حرمة.

قال في القواعد: «و التنجيم حرام، و كذا تعلّم النجوم مع اعتقاد تأثيرها بالاستقلال، أوّلها مدخل فيه» (و ذكر قبلها تحريم الكهانة و بعدها تحريم الشعبدة، و ليكن هذا على ذكر منك).

و ذكر الفقيه المتتبّع الأجل صاحب مفتاح الكرامة قدّس سرّه في شرح هذا القول كلاما طويلا هذا ملخصه:

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 187

«اختلف العلماء عن قديم الدهر في هذه المسألة اختلافا شديدا، و هي عامّة البلوى، فوجب تحريرها و تنقيحها، ثمّ نقل عن السيّد ابن طاوس أنّ التنجيم من العلوم المباحة، و أنّ للنجوم علامات و دلالات على الحادثات، لكن يجوز للقادر الحكيم أن يغيّرها بالبرّ و الصدقة و الدعاء و غير ذلك من الأسباب، و جوّز تعليم علم النجوم و تعلّمه و النظر فيه و العمل به إذا لم يعتقد أنّها مؤثّرة، و حمل أخبار النهي و الذمّ على ما إذا اعتقد ذلك، و أنكر على علم الهدى تحريم ذلك».

ثمّ ذكر (ابن طاوس رحمه اللّه) لتأييد هذا العلم أسماء جماعة من الشيعة كانوا عارفين به، ثمّ ذكر في المفتاح أنّ الذي يعرف من كتب الرجال، و من كلام السيّد المذكور، و كتاب أبي معشر الخراساني و غيرهم، أنّ جماعة من أصحاب الأئمّة عليهم السّلام و العلماء كانوا عارفين بالنجوم عاملين به، منهم «عبد الرحمن بن سيّابة»، و «أحمد بن محمّد بن الخالد البرقي» حيث عدّ النجاشي من كتبه «كتاب النجوم» و «محمّد بن أبي عمير» و «أبو خالد السجستاني» و «محمّد بن مسعود العياشي» و «علي بن الحسين المسعودي» صاحب «مروج الذهب» الذي هو من أصحابنا، و جماعة آخرون، و حكايته عن «المحقّق

الطوسي رحمه اللّه» مشهورة.

ثمّ حكى الجواز عن صاحب الكفاية، و كذا المحقّق الأردبيلي، و صاحب الوافي (قدّس اللّه أسرارهم جميعا) إلى أن قال:

أمّا من أنكر أحكامهم فهم جمهور المسلمين و المحقّقون من المتكلّمين، و ممّن ظاهره التحريم الشيخ المفيد رحمه اللّه في كتاب «المقالات» فإنّه أنكر حياتها و تمييزها، و صرّح علم الهدى قدّس سرّه بالتحريم، و قال الشهيد قدّس سرّه في «الدروس» و يحرم اعتقاد تأثير النجوم مستقلّة، أو بالشركة، و الإخبار عن الكائنات بسببها، أمّا لو أخبر بجريان العادة بأنّ اللّه تعالى يفعل كذا عند كذا لم يحرم، و أمّا علم النجوم فقد حرّمه بعض الأصحاب، و لعلّه لما فيه من التعرّض للمحذور من اعتقاد التأثير، أو لأنّ أحكامه تخمينية (انتهى ملخّصا) «1».

فقد تحصّل من جميع ذلك وجود الخلاف الوسيع بينهم، ظاهرا، و إن كان يظهر من بعض انوار الفقاهة، ج 4، ص: 188

كلماتهم أنّ النزاع لفظي في بعض مراحله، فتأمّل.

و اللازم التكلّم فيه على مقتضى القواعد أوّلا، ثمّ البحث عن الروايات الخاصّة الواردة في المسألة ثانيا، و أنّه هل فيها ما يخصّص أو يقيّد القواعد العامّة، أم تجري على وفقها؟

فنقول و منه سبحانه نستمدّ التوفيق و العناية.

لا شكّ في جواز علم الهيئة و ما يتعلّق بمعرفة النجوم و الأرض و السماوات و حالاتها و ما فيها من العجائب، بل هو مأمور به في كثير من آيات الذكر الحكيم صريحا، أو التزاما.

و كذا لا ريب في جواز علم النجوم و ما فيها من المقارنات و الفواصل و الأوضاع، كدخول القمر تحت الشعاع و خروجه و سيره في البروج، و كذا سير الشمس و أوضاع السيارات السبع و غيرها و ما فيها من الافتراقات، و

الاتّصالات، و الخسوف و الكسوف و غيرها، و لا أظن من يحكم بحرمة تعلّم هذه الامور.

إنّما الكلام فيما يسمّى عندهم ب «أحكام النجوم» و هو الحكم بوقوع حوادث كونية في المستقبل كالأمطار و الخصب و الجدب و حوادث اجتماعية كالحرب و الصلح، و شيوع الأمراض أو العافية، و غلاء الأسعار أو رخصها بسبب الأوضاع النجومية.

ثمّ اعلم أنّ الحكم بها يتصوّر على وجوه:

1- أن يكون باعتقاد تأثير الكواكب مستقلا أو جزءا مؤثرا في عالم الكون و حياة البشر، و هذا مبني على اعتقادهم بقدمها و ألوهيتها.

2- باعتقاد أنّها حيّة مدبّرة للعالم و لو بإذن اللّه لا مستقلا.

3- أنّها مؤثّرة بالكيفية، كالحرارة الحاصلة من الشمس المورقة للأشجار.

4- أنّها مؤثّرة بأوضاعها الخاصّة لاقترانها و بعدها.

5- أنّها دلالات و أمارات، أو يقال إنّ عادة اللّه جرت على خلق كذا عند وضع كذا.

و يمكن تلخيصها في ثلاث بأن نقول:

الأوّل- القول بتأثيرها مستقلا، و لا شكّ أنّه كفر و شرك، و نفي لتأثير اللّه في جميع الكون،

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 189

و أنّه ربّ العالمين، و خالق الخلق أجمعين، و مقدّر الأرزاق و منشئ السحاب و غير ذلك، و كذا القول بكونها جزء مؤثّر.

الثّاني- القول بأنّها مؤثّرة بإذن اللّه، أمّا لأنّها حيّة شاعرة مأمورة بأمره، كالملائكة المدبّرات أمرا، و أمّا بتأثيرها الطبيعي كما في جميع الأسباب الطبيعية، و تأثير الشمس في حياة النبات و الحيوان، و هذا لا يوجب نفي الخالق و لا تدبيره و لا تأثيره في الكون و الحياة.

نعم هو باطل من جهتين: «أحدهما» عدم الدليل عليه، و كونها قولا بلا دليل، و اقتفاء لما ليس لنا به علم، و «الثاني»: كونها مخالفا لظاهر الأدلّة السمعية حيث لا يثبت للنجوم

و الأفلاك شيئا من هذه الآثار، لا سيّما الحياة و الشعور و تدبير الخلق، بل ينسب الخلق و الرزق و الأمانة و الإحياء إلى اللّه تعالى، و إن كانت هذه النسبة لا تنافي وجود الأسباب الطبيعية، لكن لا بمعنى أنّها شاعرة عالمة مدبّرة.

بل يتكلّم عن الأجرام السماوية و النجوم و الشمس و القمر كثيرا و يراها من آيات اللّه، من غير تعرّض لما زعموه من ارتباط جميع ما في العالم السفلي بالعالم العلوي، و لو كان كذلك لوردت الإشارة إليه في شي ء من هذه الآيات الكثيرة، و سائر الأدلّة السمعية.

الثّالث- كونها أمارات و دلالات أو مقارنات للحوادث، و هذا ليس كفرا و لا شركا قطعا، لعدم قبول تأثير لها في هذا العالم السفلي، نعم يشترك مع سابقه في كونه تخرّصا على الغيب، و اقتفاء لما ليس به علم، نعم لو قاله ظنّا أو احتمالا إذا كانت مباديه (بادئ الاحتمال) حاصلة، لم يكن به بأس.

هذا، و ليعلم أنّ ما ذكرناه في الوجه الثاني من عدم كونه كفرا إنّما هو إذا لم يكن الاعتقاد بتأثيرها بحيث ينفي بطلان التأثير بالبرّ و الدعاء و غير ذلك مما يلزمه إخراجه سبحانه عن سلطانه، بل يعود إلى الوجه الأوّل في الواقع الذي قد عرفت حاله.

و كذلك إنّما يصحّ ذلك إذا لم يرجع إلى القول بالجبر بأن يكون تأثيرات الكواكب فينا موجبا لاضطرارنا إلى العمل على وفقها (كما يظهر من بعضهم على ما ذكره السيّد الرضي قدّس سرّه فيما يأتي من كلامه إن شاء اللّه).

و كذلك إذا لم ينته إلى دعوى العلم بالغيب الذي يختصّ به سبحانه، فهو عالم الغيب فلا

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 190

يظهر على غيبه أحدا إلّا من ارتضى

من رسول، فلو لم يكن فيه شي ء من هذه الامور الثلاثة و لا ما تقدّمه من المفسدتين لم يكن حراما.

هذا هو مقتضى القواعد، و لكن من العجب حكم بعضهم بكفر المنجّم و لو لم يكن فيه شي ء من هذه الاعتقادات.

فقد ذكر شيخنا البهائي رحمه اللّه على ما حكاه عنه في البحار: «و قد يظهر منها أنّ الاعتقاد بمجرّد التأثير حرام و كفر و إنّما يجوز مجرّد القول بكونها دلالات و علامات» انتهى «1».

و لعلّ مراده كونها مؤثّرة لا بإذن اللّه، و لا يخلو عن بعد، و نقل في البحار كلاما عن المحقّق الشيخ على ما قد يظهر منه ذلك أيضا «2».

و كذا العلّامة قدّس سرّه في كتاب «المنتهى» حيث قال «و بالجملة كلّ من يعتقد ربط الحركات النفسانية و الطبيعية بالحركات الفلكية الكوكبية فهو كافر ... «3».

و لنعم ما قال السيّد المرتضى رحمه اللّه في المقام حيث قال في كلام طويل له ما حاصله:

«اعلم أنّ المنجّمين يذهبون إلى أنّ الكواكب تفعل في الأرض و من عليها أفعالا يسندونها إلى طباعها، و ما فيهم أحد يذهب إلى أنّ اللّه تعالى أجرى العادة بأن يفعل عند قرب بعضها من بعض أو بعده أفعالا من غير أن يكون للكواكب أنفسها تأثير في ذلك، و من ادّعى هذا المذهب الآن منهم فهو قائل بخلاف ما ذهب إليه قدماؤهم في ذلك، و متجمّل بهذا المذهب عند أهل الإسلام، و متقرّب إليهم بإظهاره، و ليس هذا بقول لأحد ممّن تقدّم منهم ...» «4».

و مغزاه أنّ قدمائهم كانوا على مذاهب فاسدة، و مسلموهم ربّما لا يكونون كذلك.

إذا عرفت ذلك، فلنعد إلى الروايات الخاصّة و ما يستفاد منها، فنقول و منه سبحانه التوفيق:

انوار

الفقاهة، ج 4، ص: 191

هناك طائفتان من الروايات:

الطائفة الاولى تدلّ على لعن المنجّم و كذب أخباره، و كونه كالكاهن و الساحر، و عدم جواز تصديقه فيما يخبر به و ما أشبه ذلك، و هي كثيرة منها:

1- ما رواه القاسم بن عبد الرحمن أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم نهى عن خصال، منها مهر البغي، و منها النظر في النجوم «1».

2- و ما رواه ظريف بن ناصح عن أبي الحصين قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم عن الساعة، فقال: «عند إيمان بالنجوم و تكذيب بالقدر» «2».

3- و ما رواه نصر بن قابوس قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «المنجّم ملعون و الكاهن ملعون و الساحر ملعون ...» «3».

4- و ما رواه الصدوق رحمه اللّه قال: و قال عليه السّلام: «المنجّم كالكاهن، و الكاهن كالساحر، و الساحر كالكافر، و الكافر في النار!» «4».

5- و ما رواه الصدوق رحمه اللّه عن أبي جعفر عن آبائه عليهم السّلام عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه نهى عن عدّة خصال منها النظر في النجوم «5».

6- و ما رواه هشام بن حكم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث أنّ زنديقا قال له: ما تقول في علم النجوم؟ قال: «هو علم قلّت منافعه و كثرت مضارّه، لا يدفع به المقدور و لا يتّقي به المحذور، إنّ خبر المنجّم بالبلاء لم ينجه التحرّز من القضاء، و إن خبر هو بخير لم يستطع تعجيله، و إن حدث بسوء لم يمكنه صرفه، و المنجّم يضادّ اللّه في علمه بزعمه أنّه يردّ قضاء اللّه عن

خلقه» «6».

7- و ما أرسله المحقّق رحمه اللّه (في المعتبر) ... قال: قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «من صدق كاهنا أو

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 192

منجّما فهو كافر بما انزل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم» «1».

8- و ما رواه ابن طاوس رحمه اللّه من كتاب الشيخ الفاضل محمّد بن علي محمّد في دعاء الاستخارة الذي كان يدعو به الصادق عليه السّلام «إلى أن قال» «اللهمّ إنّك خلقت أقواما يلجئون إلى مطالع النجوم لأوقات حركاتهم و سكونهم و خلقتني أبرأ إليك من اللجإ إليهم ...» «2».

9- و ما رواه عبد الملك بن أعين قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّي قد ابتليت بهذا العلم، فاريد الحاجة فإذا نظرت إلى الطالع و رأيت الطالع الشرّ جلست و لم أذهب فيها، و إذا رأيت الطالع الخير ذهبت في الحاجة، فقال لي: «تقضى؟» قلت: نعم، قال: «احرق كتبك» «3».

10- و ما رواه محمّد بن الحسين الرضي الموسوي (في نهج البلاغة) قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام لبعض أصحابه لمّا عزم على المسير إلى الخوارج، فقال له يا أمير المؤمنين إن سرت في هذا الوقت خشيت أن لا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم!، قال عليه السّلام: «أ تزعم أنّك تهدي إلى الساعة التي من سار فيها انصرف عنه السوء؟ و تخوّف الساعة التي من سار فيها حاق به الضرّ؟ فمن صدّقك بهذا فقد كذّب القرآن ... أيّها الناس إيّاكم و تعلّم النجوم إلّا ما يهتدى به في برّ أو بحر، فإنّها تدعو إلى الكهانة، و الكاهن كالساحر، و الساحر كالكافر، و الكافر في النار ...» «4».

11- و ما رواه المفضّل بن

عمر، عن الصادق عليه السّلام في حديث في قول اللّه تعالى: وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ إلى أن قال: «و أمّا الكلمات فمنها ما ذكرناه، و منها المعرفة بقدم باريه و توحيده و تنزيهه عن التشبيه، حتّى نظر إلى الكواكب و القمر و الشمس، و استدلّ بافول كلّ واحد منها على حدثه، و بحدثه على محدثه، ثمّ أعلمه عزّ و جلّ أنّ الحكم بالنجوم خطاء» «5».

12- و ما رواه أبو خالد الكابلي قال: سمعت زين العابدين عليه السّلام يقول: الذنوب التي تغيّر

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 193

النعم البغي على الناس «إلى أن قال:» و الذنوب التي تظلم الهواء السحر و الكهانة و الإيمان بالنجوم و تكذيب بالقدر ...» «1».

الطائفة الثّانية: ما يدلّ على الجواز و أنّه لا يضرّ بالدين، أو أنّ أصل الحساب حقّ، أو أنّه لا يعلمه إلّا الخواص، و هي روايات منها:

1- ما رواه عبد الرحمن بن سيّابة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّ الناس يقولون: إنّ النجوم لا يحلّ النظر فيها و هي تعجبني، فإن كانت تضرّ بديني فلا حاجة لي في شي ء يضرّ بديني، و إن كانت لا تضرّ بديني فو اللّه إنّي لأشتهيها، و أشتهي النظر فيها.

فقال: «ليس كما يقولون لا تضرّ بدينك،- ثمّ قال- إنّكم تنظرون في شي ء منها، كثيره لا يدرك و قليله لا ينتفع به» «2».

2- ما رواه هشام الخفّاف قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: «كيف بصرك بالنجوم؟» قال قلت: ما خلّفت بالعراق أبصر بالنجوم منّي!، قال: «كيف دوران الفلك عندكم؟» «إلى أن قال» «ما بال العسكرين يلتقيان في هذا حاسب و في هذا حاسب، فيحسب هذا لصاحبه بالظفر، و يحسب هذا

لصاحبه بالظفر، ثمّ يلتقيان فيهزم أحدهما الآخر، فأين كانت النجوم؟!» قال: قلت: لا و اللّه لا أعلم ذلك قال: فقال: «صدقت إنّ أصل الحساب حق، و لكن لا يعلم ذلك إلّا من علم مواليد الخلق كلّهم» «3».

3- ما رواه المعلّى بن خنيس قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن النجوم أحقّ هي؟ فقال:

«نعم، إنّ اللّه بعث المشتري إلى الأرض في صورة رجل فأخذ رجلا من العجم، فعلمه «إلى أن قال» ثمّ أخذ رجلا من الهند فعلمه»، الحديث «4».

4- و ما رواه جميل بن صالح عمّن أخبره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سئل عن النجوم قال:

«ما يعلمها إلّا أهل بيت من العرب و أهل بيت من الهند» «5».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 194

5- و ما رواه محمّد بن بسّام قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «قوم يقولون النجوم أصحّ من الرؤيا و ذلك هو، كانت صحيحة حين لم ترد الشمس على يوشع بن نون، و على أمير المؤمنين عليه السّلام فلمّا ردّ اللّه عزّ و جلّ الشمس عليهما ضلّ فيها علماء النجوم فمنهم مصيب و مخطئ» «1».

و يظهر من غير واحد منها حكمهم عليهم السّلام ببعض أحكام النجوم، مثل كراهة التزويج و القمر في العقرب و غيرها مثل:

1- ما رواه إبراهيم بن محمّد بن حمران عن أبيه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من تزوّج امرأة و القمر في العقرب لم ير الحسنى» «2».

2- قال: و روى إنّه يكره التزويج في محاقّ الشهر «3».

3- و ما رواه علي بن محمّد العسكري عن آبائه عليهم السّلام في حديث قال: «من تزوّج و القمر في العقرب لم ير الحسنى». و قال: «من تزوّج في

محاق الشهر فليسلم لسقط الولد» «4».

4- و ما رواه محمّد بن حمران عن أبيه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من سافر أو تزوّج و القمر في العقرب لم ير الحسنى» «5».

و القول بأنّ ذلك مثل كراهة الصلاة في أماكن مخصوصة عجيب، فانّ الظاهر منها دلالة هذا الوضع الفلكي على عدم الظفر بالمطلوب، لا سيّما مع كون هذا أمر مركوزا في أذهانهم من ربط الفلكيات بالحوادث السفلية، فهذا إمضاء له في الجملة «6».

و الجمع بينها لا يخفى على الخبير بعد الإشارات الكثيرة الواردة فيها، فانّ الذمّ و اللعن فيها إنّما هو على الاعتقاد بتأثيرها الاستقلالي، أو ما يكون التفويض و الإخبار بالغيوب و الاستغناء عن اللّه، و الغفلة عن المحو و الإثبات، و عدم تأثير الدعاء و التوسل، و كونها قولا

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 195

بغير علم، و ما دلّ على الجواز إنّما هو فيما خلا عن جميع ذلك كما لا يخفى على من تدبّرها، و هناك قرائن اخرى على هذا الجمع:

الأوّل- قوله «عند إيمان بالنجوم» و «تكذيب بالقدر» كما جاء في الأحاديث التالية:

1- ما رواه أبو الحصين قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم عن الساعة فقال: «عند إيمان بالنجوم و تكذيب بالقدر» «1».

يعني هذا مذموم منهي عنه.

2- ما رواه أبو خالد الكابلي عن زين العابدين عليه السّلام و قد سبق ذكره «2».

الثّاني- عطف المنجّم على الكاهن في رواية (7/ 24) أو تشبيهه بالكاهن (8/ 24) أو أنّ من صدق كاهنا أو منجّما فهو كافر (11/ 24 من ج 12) التي مرّت عليك قريبا.

أو أنّ التنجيم يدعو إلى الكهانة (8/ 14 من المجلّد

8 من الوسائل).

و الكهانة هي الإخبار عن الغيب و الحوادث المستقبلة بزعم أنّ له تابعا من الجنّ.

و كذا عطفه على العرّاف الذي هو أيضا كالكاهن إلّا أنّ إخباره بالمغيبات إنّما هو بادّعائه معرفة أسباب الامور.

الثّالث- قوله فمن صدقك بهذا فقد كذّب القرآن و استغنى عن الاستعانة باللّه في نيل المحبوب ... و أن يوليك الحمد دون ربّه (8/ 14 من أبواب آداب السفر ج 8 من الوسائل ص 271).

الرابع- و قوله تقضي؟ في رواية عبد الملك بن أعين (1/ 14 ج 8 من أبواب آداب السفر من الوسائل) الظاهر في أنّه إن لم يغضّ بتّا بل كان على سبيل الاحتمال أو شبه ذلك لم يضرّه.

الخامس- تعلّم جماعة من علماء الشيعة من المحدّثين و غيرهم علم النجوم، و تبحّرهم فيها أيضا، و هم كثير قد عرفت أسماء بعضهم في كلام ابن طاوس.

و الحاصل: إنّه لو لم يكن فيه الاعتقادات الفاسدة و الآثار المحرّمة التي عرفت الإشارة

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 196

إليها، و لم يخبر بها عن جزم، و لم يكن مقدّمة لحرام آخر، لما منع منه مانع، و يجوز تعليمه و تعلّمه و النظر فيه، و اللّه العالم بحقائق الامور.

بقى هنا شي ء: إنّ هناك علوما اخر تسمّى ب «العلوم الغريبة» يستند إليها في كشف المغيبات و الأسرار، و كذا «التنويم المغناطيسي» و ما أشبه ذلك، و الظاهر أنّها مشتركة مع التنجيم في كثير من مفاسده و ملاكاته، فهي أيضا محرّمة إذا كان الإخبار فيها بعنوان الجزم أو الاستقلال، أو على وجه ينكر قضاء اللّه و مشيّته، و عدم تأثير الدعاء، و كشف أسرار الناس، و الاطلاع على أسرارهم، و دعوى علم الغيب، فهي مشتركة مع الكهانة و

النجوم و عمل العرّاف، و يستفاد من حرمتها بلا إشكال للتعليلات الواردة في الأدلّة الكثيرة أو ما يشبه التعليل.

نعم إذا خلت عن جميع ذلك لم يبعد جوازها.

و من الجدير بالذكر أنّ أمثال هذه الامور، أعني الحكم بالنجوم و الكهانة و العلوم الغريبة، قليل في عصرنا لا يرغب إليها إلّا ضعاف النفوس، المائلون إلى الخرافات، و لعلّه لظهور كذب كثير من المدّعين لذلك، و بطلان أقوالهم.

و لا ينافي ذلك كونها علوم حقّة موجودة عند أهلها، فتدبّر جيّدا.

7- حفظ كتب الضلال و نشرها

صرّح غير واحد من الأصحاب بحرمة حفظ كتب الضلال، بل عن التذكرة و المنتهى- كما في الجواهر- نفي الخلاف عنه «1» نعم استثنى بعضهم مورد النقض أو الحجّة على أهلها، أو التقيّة، أو شبه ذلك.

و لكن لم يرد فيه نصّ بالخصوص، و إن أقام الأصحاب فيه وجوها اخرى وافية بالمقصود كما سيأتي إن شاء اللّه.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 197

و من هنا قال صاحب الحدائق: «و عندي في الحكم من أصله توقّف، لعدم النصّ، و التحريم و الوجوب و نحوهما أحكام شرعية، يتوقف القول بها على الدليل الشرعي، و مجرّد هذه التعليلات الشائعة في كلامهم لا تصلح عندي لتأسيس الأحكام الشرعية» «1».

و ذكر في مورد آخر في تفريعات المسألة: «لو كان الحكم المذكور منصوصا عليه و العلّة من النصّ ظاهرة، لأمكن استنباط الأحكام من النصّ بما يناسب تلك العلّة و يناسب سياق النصّ، و أمكن التفريع على ذلك بما يقتضيه الحال من ذلك النصّ، و حيث أنّ الأمر ليس كذلك فهذه التفريعات و التخريجات كلّها إنّما هي من قبيل الرمي في الظلام» «2».

و كأنّ صاحب الجواهر قدّس سرّه ناظر إلى كلامه الأخير حيث يقول: «إنّه ربّما أساء الأدب مع الأصحاب

الذين هم حفّاظ السنّة و الكتّاب نسأل اللّه العفو عنّا و عنه» «3» و كأنّ صاحب الحدائق رحمه اللّه غفل عن أنّه قد لا يكون الحكم منصوصا بالخصوص، و لكن تشمله الأدلّة العامّة الواردة في الكتاب و السنّة من العناوين الأوّلية و الثانوية، فكيف يمكن الإغماض عنها و عدم الفتوى بها، مع أنّ هذا الموضوع من أشدّ ما يبتلى به في كلّ زمان و لا سيّما في زماننا، و كيف كان فقد استدلّ له بامور:

أمّا من كتاب اللّه فبقوله تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ «4».

و قوله تعالى: وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ «5».

و قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ «6».

و تفسير قول «الزور» بالكذب، أو الغناء من قبيل التفسير بالمصداق الظاهر، و لا يمنع عن عموم الحكم كما لا يخفى على الخبير بكلماتهم عليهم السّلام.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 198

و استدلّ من السنّة بما ورد في فقرات مختلفة من حديث «تحف العقول» من العناوين التالية:

«باب ما يوهن به الحقّ»- «ما يكون منه و فيه الفساد»- «ما يقوى به الكفر و الشرك في وجوه المعاصي» أو غير ذلك.

و ما مرّ من حديث عبد الملك بن أعين في مبحث النجوم و سؤال الإمام له: «تقضي» فلمّا أجاب بالإيجاب، قال له الإمام: «أحرق كتبك»! «1».

و استدلّ له أيضا بدليل العقل من باب وجوب قلع مادّة الفساد، و لو تمّ دعوى الإجماع كما أسنده في الحدائق إليهم تمّت الأدلّة الأربعة فيه.

هذا و الإنصاف أن

يقال: إنّ حفظ كتب الضلال على أنحاء:

تارة يكون بقصد إضلال الناس.

و اخرى يعلم أو يظنّ بكونه منشأ لذلك، و ان لم يقصده.

و ثالثة ليس مظنّة، و لكن يحتمل.

و رابعة لا يترتّب عليه شي ء من ذلك.

فالأوّل داخل في الآيات الكثيرة الدالّة على حرمة الإضلال و الإفساد و إشاعة الفحشاء و غير ذلك من أشباهه، و هو ضروري الحرمة.

و الثاني أيضا داخل فيه و في الإعانة على الإثم، و قد عرفت أنّ القصد في هذه الموارد قهري.

و الثالث لا يبعد حرمته أيضا، لوجوب قلع مادّة الفساد ما دام احتماله العقلائي باق، بحكم العقل و غيره.

و أمّا الرابع فلا دليل على حرمته، نعم لا يجوز بيعه حينئذ، لعدم المالية له إلّا في مواضع نادرة، فالأدلّة السابقة إنّما تشمل بعض فروض المسألة لا جميعها، فاللازم الحكم بالتفصيل.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 199

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ هنا فروعا:

1- كتب الضلال لا تنحصر بما ذكر، و إن شئت قلت لا يختصّ الحكم بعد ما عرفت من الأدلّة العامّة الواسعة بخصوص «الحفظ» بل يشمل التأليف و الطبع و التصحيح و النشر و غير ذلك من التعليم و التعلّم و الكتابة، و لا بخصوص «الكتاب»، بل يعمّ التصاوير و الأفلام و الإذاعات و غيرها.

و لا بخصوص «الضلال» بل يعمّ «الفساد و الفحشاء» و ما يوجب وهن المؤمنين و شبهها، إلّا أن يقال: إنّ عنوان «الضلال» أعمّ من الضلال في العقيدة أو غيرها، فالحكم أعمّ من جهات ثلاثة (من الحفظ، و الكتب، و الضلال) و كم له من المصاديق له في عصرنا ممّا لم يتعرّض له القوم رضوان اللّه عليهم، و لو لم يشملها بعض الأدلّة، ففي غيرها غنى و كفاية.

2- الحفظ أعمّ من

ظهر القلب، و في الخارج إذا كان له أثره، و دليله عموم الأدلّة.

3- إذا كانت كتب باطنها صلاح و هداية، و لكن ظاهرها يوجب الضلال و الغواية كما في بعض كتب الأشعار، أو بعض كتب العرفاء و الحكماء التي يذكرون لها تفاسير و توجيهات مع أنّ لها ظواهر منكرة في بعض الأحيان، و لا يبعد شمول العموم لها، لأنّ الإضلال عن سبيل اللّه فيها محقّق، و لا يصغى إلى عدم الإرادة بعد حصول العلم بالتأثير، و قد عرفت أنّ القصد هنا قهري و غير ذلك من الأدلّة.

4- كتب العهدين أعني التوراة و الأناجيل المحرّفة الموجودة اليوم، قد يقال أنّها غير داخلة في كتب الضلال بالنسبة إليها بعد نسخها بالبداهة عند المسلمين، و لكنّه عجيب، لأنّها لو لم توجب إضلال العلماء الراسخين في العلم و أشباههم، فقد توجب إضلال غيرهم من ضعفاء النفوس و الإيمان و العلم، و ليس هذا أمرا نادرا، فقد رأيناهم ينشرون دائما هذه الكتب بين أبناء المسلمين و الشباب، و قد تؤثّر في نفوسهم، و لا شكّ أنّها من هذه الجهة كتب ضلال.

5- كتب المخالفين في المذهب على قسمين: قسم علمي لا يكون إلّا بأيدي العلماء، فهي لا توجب شيئا من التوالي الفاسدة السابقة، و إن اشتمل كثير منها على ما ليس بحقّ، أو ما يكون ضلالا، كالقول بالجبر و التجسيم و تفضيل الخلفاء و نفي العصمة عن بعض انوار الفقاهة، ج 4، ص: 200

المعصومين، و نفي الخلافة بلا فصل عن علي عليه السّلام و تفضيل غيره عليه و شبه ذلك، و هذا أمر سائغ بالنسبة إلينا، و لا تزال مكتباتنا مشحونة بكتبهم، بل قد نطبعها و ننشرها بيننا لما فيها من فوائد

علمية مع بطلان كثير من مسائلها.

و اخرى تكون من الكتب التي تنشر بين العوام، و يكون فيه الفساد لضعاف النفوس، فهذا داخل فيما مرّ.

6- قد يكون جزء من الكتاب أو شريط الكاسيت أو الفلم ضلالا و موجبا للفساد، و حينئذ يكون هو المشمول للأدلّة السابقة دون غيره، و لو وقع في مقابله جزء من الثمن في البيع لكان هذا المقدار باطلا بالنسبة إليه دون غيره كما هو ظاهر.

7- استثنى غير واحد منهم من حرمة الحفظ أو البيع ما إذا كان للعلم بعقائد أهل الضلال لهدايتهم إلى سواء السبيل، أو دفع مكائدهم عن الآخرين، أو فعل التقيّة في مقابلهم، أو غير ذلك من الفوائد ممّا ليس يخفى، و حينئذ يكون جائزا لأهله لا لغيرهم، و يتقيّد بمقدار الضرورة، حافظا لها عن غير أهلها، و لذا قيّده الأكثرون- كما في مفتاح الكرامة- بما إذا كان من أهل النقض «1».

8- أمّا حكم التكسّب بها حفظا و كتابة و بيعا فقد قال في مفتاح الكرامة:

«إذا حرما «الحفظ و الكتابة» حرم التكسّب بهما كما تعطيه القاعدة، و أكثر العبارات لمكان ذكر ذلك في المقام، مع تصريح جماعة كثيرين بحرمته، بل اقتصر في المراسم على ذكر تحريم الأجر على كتب الكفر» «2».

و ما ذكره جيّد لما عرفت من قاعدة التحريم، و أنّ اللّه إذا حرّم منافع شي ء حرّم ثمنه و لم تكن له مالية شرعا.

إنّما الكلام في أنّ حرمته تكليفية أو وضعية؟ قد يتوهّم أنّ مقتضى ما عرفت من الأدلّة أنّها تكليفية، كبيع السلاح لأعداء الدين، و بيع العنب ممّن يجعله خمرا، و فيه ما عرفت من أنّه ليس له منافع محلّلة على المفروض، و ليس مثل العنب أو السلاح، اللهمّ

إلّا أن يقال إنّ انوار الفقاهة، ج 4، ص: 201

منافع حفظها كثيرة لأهله كما عرفت، فلها مالية، إنّما الحرام بيعها من أشخاص معينين كالسلاح و العنب و هذا جيّد، و لكن يأتي الكلام السابق في بيع السلاح لأعداء الدين من أنّ مقتضى البيع إقباضه، مع أنّ إقباضه حرام هنا، فهو من قبيل ما لا يقدر على إقباضه، فانّ الممتنع شرعا كالممتنع عقلا، فيكون بيعه باطلا بالمآل.

9- هل يجب محوها مضافا إلى ما ذكر؟ ظاهر غير واحد من الأدلّة السابقة و كذا أدلّة النهي عن المنكر (و لو بملاكها) وجوبه، و ليس ببعيد، إلّا أن يكون لجلدها أو نفس الأشرطة (إذا محي عنها الأصوات اللهوية) و غيرها مالية، فلا بدّ من حفظها و يحرم إفنائها.

10- و لنختم الكلام ببعض ما وقع بين صاحب الحدائق قدّس سرّه و جمع من أصحابنا الاصوليين (رضوان اللّه عليهم) حيث حكم في بعض كلماته بأنّ الكتب التي ألّفتها العامّة في الاصول مسائل استحسانية لم ترد في الشرع فهي كتب ضلال، ثمّ ذكر أنّ الاصوليين من أصحابنا تبعوهم في ذلك و ان حذفوا منها ما لا يوافق مذهبنا.

و اعترض عليه غير واحد منهم العلّامة قدّس سرّه صاحب مفتاح الكرامة، بأنّ هذا المقدار من كتاب الحدائق بنفسه كتاب ضلال لا بدّ من محوه! «1».

و قد عرفت كلام الجواهر قدّس سرّه في حقّه من قبل.

و الإنصاف إنّ علم الاصول، «قواعد» و «اصول» و «أمارات» متّخذة غالبها من الكتاب و السنّة، و قد ذكر كثيرا منها صاحب الحدائق لا بعنوان علم الاصول، بل بعنوان المقدّمات في أوّل مجلّد من كتابه، فهي قواعد اصولية و إن لم يسمّها بذلك، فهذه الهجمات نشأت في الواقع من سوء التعبير

في المسائل، و أشبه شي ء بالنزاع اللفظي، و الأمر سهل، و اللّه واسع المغفرة نسأل اللّه تعالى عفوه و رحمته لهم و لنا.

8- الرشا في الحكم و غيره
اشارة

أجمع علماء الإسلام- كما في جامع المقاصد- على تحريم الرشا في الحكم، و هو على انوار الفقاهة، ج 4، ص: 202

إجماله كذلك، لم يختلف فيه أحد، إنّما الكلام في تفاصيله، من ناحية الحكم و الموضوع، و ذلك لأنّ ما يأخذه القاضي على أنحاء:

1- ما يأخذه على الحكم بالباطل.

2- ما يأخذه على الحكم على وفق مراد أحد المترافعين، حقّا أو باطلا.

3- ما يأخذه على الحكم بما هو الحقّ في الواقعة.

4- ارتزاقه من بيت المال.

5- هداياه قبل الحكم أو بعده.

6- ما يأخذه من طريق المعاملات المحاباتية مع الناس عموما، أو المتخاصمين خصوصا.

هذا، و قد تكون الرشوة في غير الأحكام، فما ذا حكمه؟ إنّما الكلام في أنّ موضوع الرشوة أي أمر من هذه الامور؟ و ما ذا يدخل في مفهومه؟ و ما ذا يكون ملحقا به، بملاكه؟

فلنذكر «أوّلا» ما ورد في هذا الباب من الأدلّة الدالّة على تحريمها، ثمّ نتبعها بما يستفاد منها من موضوع التحريم، فنقول و منه جلّ ثنائه التوفيق و الهداية:

يدلّ على تحريم «الرشوة» بهذا العنوان روايات كثيرة في بعضها أنّها على حدّ الكفر باللّه العظيم منها:

1- ما رواه عمّار بن مروان قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الغلول؟ فقال: «كلّ شي ء غلّ من الإمام فهو سحت، ... فأمّا الرشا في الحكم فإنّ ذلك الكفر باللّه العظيم جلّ اسمه و برسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم» «1».

2- و ما رواه سماعة قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «السحت أنواع كثيرة ... و أمّا الرشا في الحكم فهو الكفر باللّه

العظيم» «2».

3- و ما رواه محمّد بن علي بن الحسين قال: قال عليه السّلام: «أجر الزانية سحت ... فأمّا الرشا

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 203

في الحكم فهو الكفر باللّه العظيم» «1».

4- و ما رواه الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «أيّما وال احتجب من حوائج الناس احتجب اللّه عنه يوم القيامة ... و ان أخذ الرشوة فهو مشرك» «2».

5- ما رواه عمّار بن مروان قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «كلّ شي ء غلّ من الإمام فهو سحت و السحت أنواع كثيرة ... فأمّا الرشاء يا عمّار في الأحكام فإنّ ذلك الكفر باللّه العظيم و برسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم» «3».

6- و ما رواه الفضل بن الحسن الطبرسي قال و روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إنّ السحت أنواع كثيرة، فأمّا الرشا في الحكم فهو الكفر باللّه!» «4».

و منها: ما يدلّ على كونه «سحتا» مثل:

7- ما رواه يزيد بن فرقد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن السحت فقال: «الرشا في الحكم» «5».

8- و ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «السحت ثمن الميتة ... و الرشوة في الحكم ...» «6».

9- و ما رواه أنس بن محمّد عن أبيه جميعا عن جعفر بن محمّد عن آبائه في وصيّة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لعلي عليه السّلام قال: «يا علي من السحت ثمن الميتة ... و الرشوة في الحكم ...» «7».

10- ما رواه سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «الرشا في الحكم هو الكفر باللّه» «8».

11- ما رواه يزيد بن فرقد قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن البخس

فقال: «هو الرشا في الحكم» «9».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 204

12- ما رواه العياشي في تفسيره عن جرّاح المدائني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من أكل السحت الرشوة في الحكم» «1».

و منها: ما يدلّ على حرمة قبول الهديّة للوالي أو القاضي مثل:

13- ما رواه الأصباغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «أيّما وال احتجب من حوائج الناس احتجب اللّه عند يوم القيامة و عن حوائجه و ان أخذ هدية كان غلولا ...» «2».

14- و ما رواه جابر عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال: «هديّة الامراء غلول» «3».

و منها: ما يدلّ على حرمة الرزق مثل:

15- ما رواه عبد اللّه بن سنان قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن قاض بين قريتين يأخذ من السلطان على القضاء الرزق فقال: «ذلك السحت» «4».

و هناك روايات اخرى رواها في المستدرك في الباب الخامس من أبواب ما يكتسب به (المجلّد 2 الصفحة 426):

16- منها ما رواه في الجعفريات عن علي بن أبي طالب عليه السّلام قال: «من السحت ثمن الميتة ... و أجر القاضي» «5».

17- منها ما رواه عبد اللّه بن طلحة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «من أكل السحت سبعة ... الرشوة في الحكم» «6».

18- و منها ما رواه العياشي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن عليهما السّلام قال: «السحت أنواع كثيرة منها ... فأمّا الرشا في الحكم فهو الكفر باللّه» «7».

و هناك أيضا روايات اخر رواها المستدرك في الباب 8 من أبواب آداب القاضي منها:

19- ما رواه في دعائم الإسلام عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام أنّه قال: «من أكل السحت انوار الفقاهة، ج 4، ص:

205

الرشوة في الحكم»، قيل: يا بن رسول اللّه و إن حكم بالحقّ؟ قال: «و ان حكم بالحقّ»، قال:

«فأمّا الحكم بالباطل فهو كفر» «1».

20- و عنه عن علي عليه السّلام أنّه قال في حديث: «و لا بدّ من قاض و رزق للقاضي» و كره أن يكون رزق القاضي على الناس الذين يقضي لهم، و لكن من بيت المال! «2».

21- و عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم فيما عهد إليه من أمر القضاة بعد ذكر صفاتهم كما تقدّم قال: «ثمّ أكثر تعاهد أمره و قضاياه و أبسط عليه من البذل ما يستغني به عن الطمع و تقلّ به حاجته إلى الناس و اجعل له منك منزلة لا يطمع فيما غيره حتّى يأمن من اغتيال الرجال إيّاه عندك، و لا يحابي أحدا للرجاء، و لا يصانعه لاستجلاب حسن الثناء، أحسن توقيره في مجلسك و قربه منك» «3».

22- و منها ما رواه في الجعفريات باسناده عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه علي بن الحسين عن أبيه عن علي بن أبي طالب عليه السّلام أنّه قال: «من السحت ثمن الميتة- إلى أن قال- و الرشوة في الحكم و أجر القاضي، إلّا قاض يجري عليه من بيت المال» «4».

23- و منها ما رواه في عوالي اللئالي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال: «لعن اللّه الراشي و المرتشي و من بينهما يمشي» «5».

و بالجملة الأحاديث الدالّة على حرمة الرشوة بهذا العنوان أو بما يؤدّي معناها كثيرة جدّا، بل ربّما تبلغ حدّ التواتر كما أشار إليه في الجواهر «6»، و لكن قبل بيان مقتضاها لا بدّ من ملاحظة مقتضى القاعدة في

هذا الباب، ثمّ ننظر هل يستفاد من روايات الباب معنا أوسع منه، أو لا؟

فنقول (و من اللّه التوفيق و الهداية): أنّه لو كان «الجعل» في مقابل حكم الباطل أو الحكم على وفق مراد المعطي كيفما كان، حقّا أو باطلا، فلا شكّ أنّه حرام، لأنّ اللّه إذا حرّم شيئا

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 206

حرّم ثمنه، أمّا إذا أخذ على الحقّ فلا دليل على الحرمة، نعم إذا كان القضاء واجبا عينيا، فقد يقال بحرمة أخذ الاجرة عليه، لما سيأتي من حرمة أخذ الاجرة على الواجبات، و لكن فيه كلام سيأتي إن شاء اللّه، و كذلك بالنسبة إلى الواجب الكفائي.

ما هي الرّشوة؟

و اللازم هنا تحقيق معنى الرشوة و محتواها، قال في «القاموس»: إنّ الرشا الجعل، (و لا شكّ أنّه تعريف شرح اسمي) و قال في «مصباح المنير»: أنّه ما يعطيه الشخص للحاكم و غيره ليحكم أو يحمله على ما يريد، و عن «مجمع البحرين» قلّما تستعمل الرشوة إلّا فيما يتوصّل إلى إبطال حقّ أو تمشية باطل، و في «لسان العرب» الرشوة مأخوذة من رشا الفرخ إذا مدّ رأسه إلى امّه لتزقّه، و الرشاء رسن الدلو، ثمّ قال: قال ابن الأثير «الرّشوة» و «الرّشوة» الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، و أصله من الرشاء الذي يتوصّل به الماء فالراشي من يعطي الذي يعينه على الباطل، و المرتشي الآخذ. و ذكر في ضمن كلامه الحديث النبوي المعروف:

لعن اللّه الراشي و المرتشي و الرائش (أي الماشي بينهما).

و تلخّص ممّا ذكرنا أنّ الرشوة في الأصل بمعنى الجعل، و مدّ الفرخ رأسه ليغتذي من امّه، أو إرضاع الناقة لفصيلها، ثمّ استعمل في الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، أو ما يعطي لمن يعينه على الباطل، من غير تقييده بخصوص

الأحكام و القضاء، و ليكن هذا على ذكر منك.

و أمّا غلبته في الإعانة على الباطل بحيث ينصرف إليه عند إطلاقه- كما ذكره في «مفتاح الكرامة» حيث قال: الرشا (بالضمّ و الكسر) جمع رشوة، و مثله الجعل كما في القاموس، و في «النهاية» الراشي الذي يعينه على الباطل و المرتشي الآخذ، و الرائش الذي يسعى بينهما «1»- فظاهر جدّا، لا لما عرفت من مجمع البحرين فقط، بل لدلالة روايات الباب عليه أيضا، فإنّ إطلاق قوله: أمّا الرشا في الحكم فهو الكفر باللّه العظيم المروي في كثير منها (1 و 2 و 8 و 12 و 16 الباب 5 من أبواب ما يكتسب به من الوسائل) شاهد عليه، فانّها بقرينة

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 207

بعض ما عرفت آنفا ناظر إلى قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ «1».

فلو لم يفهم هذا من إطلاق الرشوة لم يحسن ذكره مكرّرا بدون قيد هذا «أوّلا».

و «ثانيا»: جعلها في عداد ثمن الخمر و مهر البغي و ثمن الكلب و غير ذلك يدلّ على أنّه في مقابل عمل محرّم، فلو أخذه في مقابل الحكم بالحقّ لم يكن كذلك.

و «ثالثا»: جعلها في مقابل اجور القضاة في غير واحد من روايات الباب التي سبق ذكرها، فلو كان جعل القاضي مطلقا رشوة لم يكن لذلك وجه.

«رابعا»: قد عرفت أنّها مأخوذة من أحد المعاني الثلاثة التي تشترك في معنى الوصول إلى مقصد خاصّ عن طريق عمل، و هذا لا يناسب إعطاء مطلق الأجر إلى القاضي، اللهمّ إلّا أن يقال إنّ المقصود الوصول إلى نفس القضاء، و لكن لا يخلو عن بعد.

و على هذا لا شكّ أنّ مقتضى القاعدة القول بالحرمة في خصوص

ما يؤخذ على الحكم بالباطل، أو الحكم على وفق مراده باطلا كان أو حقّا، فلا تشمل القسم الثالث من الأقسام السابقة و لا ما بعده.

و من هنا يظهر النظر في كلام الجواهر حيث قال: إنّ الرشوة خاصّة في الأموال و في بذلها على جهة الرشوة، أو أنّها تعمّها و تعمّ الأعمال، بل و الأقوال كمدح القاضي و الثناء عليه، و المبادرة إلى حوائجه و إظهار تبجيله و تعظيمه، و نحو ذلك و تعمّ البذل و عقد المحاباة و العارية و الوقف و نحو ذلك، و بالجملة كلّ ما قصد به التوصّل إلى حكم الحاكم؟ قد يقوى في النظر الثاني، و أن شكّ في بعض الأفراد في الدخول في الاسم، أو جزم بعدمه فلا يبعد الدخول في الحكم (انتهى) «2».

أقول: أمّا الدخول في الاسم فهو بعيد جدّا بالنسبة إلى «الأقوال» بعد التعبير بالأخذ في كثير من روايات الرشوة، و ما يتبادر في الذهن منها في عرف المتشرّعة، بل العرف العامّ من كونها مالا لا قولا.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 208

و كذلك بالنسبة إلى العارية و الوقف و شبهه، نعم دخولها في الملاك غير بعيد بالنسبة إلى المعاملات المحاباتية، لا بالنسبة إلى الأقوال و السعي في الحوائج.

كما يظهر النظر في كلام بعض أعاظم السادة في حواشيه على المكاسب من أنّ المتحصّل من كلمات الفقهاء رضوان اللّه تعالى عليهم، و من أهل العرف و اللغة ... أنّ الرشوة ما يعطيه أحد الشخصين للآخر لإحقاق حقّ أو تمشية باطل، أو للتملّق، أو الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، أو في عمل لا يقابل بالاجرة و الجعل عند العرف و العقلاء ... بل يفعلون ذلك العمل للتعاون و التعاضد فيما بينهم، كإحقاق الحقّ

و إبطال الباطل، و ترك الظلم و الإيذاء أو دفعها و تسليم الأوقاف ... إلى غيره، كأن يرشو الرجل على أن يتحوّله عن منزله فيسكنه غيره، أو يتحوّله عن مكان في المساجد فيجلس فيه غيره، إلى غير ذلك من الموارد التي لم يتعارف أخذ الاجرة عليها، انتهى «1».

و الظاهر أنّ الذي حمله على هذا التعميم العجيب في ناحية موضوع الرشوة هو الأخذ بظاهر بعض كلمات اللغويين من أنّها الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، مع انّك عرفت أنّ هناك قرائن كثيرة تحدّدها.

حكم الهديّة للقاضي:

هذا كلّه في عنوان الرشوة، و لكن قد عرفت ما في بعض الروايات السابقة من الحكم بتحريم الهدية أيضا (10/ 5 المجلّد 12 الصفحة 63 و 6/ 8 المجلّد 18 الصفحة 163 و 11/ 5 المجلّد 12 الصفحة 64 من الوسائل).

و الأولى- أي رواية أصبغ بن نباتة- ضعيفة السند بأبي الجارود، و الثانية رواية جابر عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و الظاهر أنّها أيضا غير نقيّة السند، و الثالث رواية الصدوق رحمه اللّه في عيون الأخبار، و سيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه.

و هناك روايات اخر رواها البيهقي ج 10 ص 138 في باب عقده لذلك في كتاب آداب القاضي، و روى فيه روايتين عن أبي حميد الأنصاري و أبي حميد الساعدي (و لعلّهما

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 209

شخص واحد و ان كان مضمون الروايتين مختلفا ظاهرا).

فهذه الروايات و ان كانت غير نقيّة الإسناد غالبا، و لكن الإنصاف أنّها متظافرة بعضها مع بعض، مروية في كتب الفريقين المعروفة بينهم، و دلالة أكثرها قويّة.

هذا و ذكر في «مفتاح الكرامة» القولين من دون تسمية قائلهما: القول بحرمة أخذ الهدايا، و جوازه، ثمّ فصّل بين ما

له مظنّة لها بالحكومة فتحرم، لأنّها تعود إلى الرشوة، و إن كان الغرض التودّد و التوصّل إلى حاجة اخرى فهي هديّة «1».

أقول الهديّة على أقسام:

1- منها ما يقصد به إبطال حقّ أو الوصول إلى مراده في الحكم أيّما كان، فهي رشوة و إن سمّيت بعنوان الهدية.

2- ما يكون في مقابل عمل القاضي، فهي بحكم الاجرة، و سيأتي حكمه إن شاء اللّه.

3- ما يكون لجلب قلبه في الحاضر، أو الآتي، و بعبارة اخرى: يكون لمقام قضائه، فلو لم يكن في هذا المقام لم يعطه.

4- ما يكون شكرا في مقابل عمله، و يكون بعد القضاء.

5- ما يكون لصلة بينه و بينه من دون أي ربط له بمقامه.

و الظاهر شمول الروايات للصور الثلاثة الاولى دون الأخيرتين، لا سيّما الأخيرة منهما، و لا ينبغي تركه فيما قبله، فالحكم بالحرمة في الصورة الاولى و الثانية و الثالثة قريب، و لو شكّ في ذلك كان الحكم البراءة، و إن كان الاحتياط لا ينبغي تركه لما يظهر من الشارع المقدّس من بنائه على الاحتياط في هذا المقام كما لا يخفى على من راجع الأدلّة.

اجور القضاة:

أمّا اجورهم فالمحكي عن المشهور المنع عن أخذ الحاكم الجعل من المتحاكمين مطلقا، بل عن جامع المقاصد دعوى النصّ و الإجماع عليه.

و الظاهر أنّه لا فرق بين الجعل و الاجرة عرفا في المقام، و ان كان بينهما فرق في مصطلحات الفقهاء.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 210

و لكن عن القاضي و المقنعة الجواز مطلقا، و عن المختلف التفصيل بين حاجة القاضي و عدم تعيّن القضاء عليه، و بين غناه أو عدم الغناء عنه.

و الذي يدلّ على القول الأوّل أي الحرمة امور:

1- مصحّحة عمّار بن مروان قال: قال أبو عبد اللّه

عليه السّلام: «كلّ شي ء غلّ من الإمام فهو سحت، و السحت أنواع كثيرة ... و منها اجور القضاة ...» «1».

و دلالتها ظاهرة إن أخذ بإطلاقها و لم يحمل على قضاة الجور.

2- ما رواه يوسف بن جابر قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: «لعن رسول اللّه 6 من نظر إلى فرج امرأة لا تحلّ له ... و رجلا احتاج الناس إليه لتفقّهه، فسألهم الرشوة» «2».

و ظاهرها و إن كان تحريم الرشوة، إلّا أنّ قوله: احتاج الناس إليه «لتفقّهه»، ربّما يدلّ على حرمة الاجور أيضا، و لكن لا يخلو عن إشكال (و الرواية مجهولة بيوسف).

3- معتبرة عبد اللّه بن سنان قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن قاض بين قريتين يأخذ من السلطان على القضاء الرزق، فقال: «ذلك السحت» «3».

و لكن التعبير بالرزق مخالف للمقصود لما سيأتي من جواز ارتزاقه من بيت المال، و ليس حمله على الأجر بأولى من حمل السلطان على الجائر.

و قد يعارض بما رواه حمزة بن حمران قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «من استأكل بعلمه افتقر»، قلت: إنّ في شيعتك قوما يتحمّلون علومكم و يبثّونها في شيعتكم، فلا يعدمون منهم البرّ و الصلة و الإكرام؟ فقال: «ليس اولئك بمستأكلين، إنّما ذاك الذي يفتي بغير علم و لا هدى من اللّه ليبطل به الحقوق طمعا في حطام الدنيا» «4».

و موضع الاستفادة منها هو قوله: «ليبطل به الحقوق» الذي يستفاد منه جواز أخذ الاجرة إذا لم يبطل الحقوق، و الإنصاف أنّه لا ربط له بمسألة القضاء، و إنّ الطائفة المانعة كافية في إثبات المقصود، بعد وضوح دلالة الاولى منها و اعتبار سندها، و عمل المشهور بها، و تؤيّدها

انوار الفقاهة، ج 4، ص:

211

الروايتان الاخريان، و أمّا المعارض فلا دلالة كما عرفت.

و قد يستدلّ له- مضافا إلى ما ذكر- بامور اخرى:

1- كون القضاء واجبا عينيا أو كفائيا- و الظاهر أنّه من الواجبات المبنيّة على المجانية، فيحرم أخذ الاجرة عليها، و لكنّه أخصّ من المدّعى، لأنّه قد يقوم له من به الكفاية، فلا يجب على الآخرين مطلقا.

2- إنّه مقام رفيع قد احتاط فيه الشارع المقدّس من جهات عديدة، و سنّ فيها سننا يستفاد من مجموعها عدم جواز هذه الامور فيها، و هذا غير بعيد لمن لا حظ ما ورد في أبواب القضاء من الروايات.

3- إنّ أخذ الأجر ربّما يؤدّي إلى وقوع القاضي في خطر الجور، و المساواة بين الخصمين في الأجر، و إن كان قد يدفع ذلك، و لكنّه أيضا غير كاف، لأنّ المساواة أيضا قد تدعو إليه، لأنّه يريد حفظ منافع كليهما، و الحال أنّ أحدهما يكون محقّا، و الآخر مبطلا غالبا.

و هذا إن لم يكن دليلا، فلا أقل من أنّه مؤيّد للمطلوب.

4- و يمكن الاستدلال له بما مرّ من حرمة أخذ الهدايا، فانّها تدلّ على حرمة الاجرة بطريق أولى.

و من هنا يظهر حال القولين الآخرين، فانّ كون عمل القاضي محترما و حلالا، و إنّ اللّه إذا أحلّ شيئا أحلّ ثمنه، و إن كان معلوما، لكن لا يقاوم الأدلّة السابقة، للزوم الخروج عن هذا الأصل بعد ورود الأدلّة على خلافه كما في المقام.

كما أنّ التفصيل إنّما هو ناظر إلى بعض الأدلّة فقط، فلا يركن إليه، هذا مضافا إلى أنّ حاجة القاضي و عدمها غير دخيلة في المقصود كما لا يخفى.

ارتزاق القاضي من بيت المال:

و المشهور جوازه، و هو الأقوى، و يدلّ عليه امور:

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 212

1- إنّ أدلّة الحرمة التي

مرّت عليك غير شاملة لها، فيبقى على أصالة الجواز، بضميمة ما دلّ على مصارف بيت مال المسلمين، و أنّه لمصالح الإسلام و المسلمين، و من أهمّها أمر القضاء و رفع حاجة القاضي.

2- ما دلّ من كلام أمير المؤمنين عليه السّلام في نهج البلاغة فيما كتبه لمالك الأشتر النخعي، و إرسال سنده لا يقدح بعد علو مضامينه، بل فيه دلالة على لزوم تحصيل كلّما يحتاج إليه القاضي من حيث المعنى و المادّة، لكيلا يشرف نفسه على الجور «1».

3- السيرة المستمرّة منذ زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و الوصي عليه السّلام، فإنّ القضاة كانوا يستمدّون من بيت المال ظاهرا و لم ينكر عليهم أحد.

و ما دلّ على عدم جواز أخذ الرزق من السلطان (1/ 8)، فقد عرفت أنّه ناظر إلى قضاة الجور لا قضاة العدل.

بقي هنا امور:

الأوّل- لا يعتبر الحاجة و الفقر فيما يأخذه القاضي من بيت المال، و إن كان التعبير بالارتزاق قد يشعر به، لما عرفت من أنّ المعيار فيه رعاية مصالح المسلمين، فقد تقتضي المصلحة إعطائه و ان كان غنيّا ليهتمّ بأمر القضاء، و بالجملة ما يؤخذ من بيت المال قد يكون مشروطا بالفقر كالزكاة بالنسبة إلى سهم الفقراء و المساكين، و قد لا يكون كذلك كالخراج و الزكاة بالنسبة إلى سهم العاملين أو المؤلّفة قلوبهم أو في سبيل اللّه، و كذا سهم اللّه و رسوله و الأئمّة عليهم السّلام في الخمس دون سهام الفقراء و أشباههم، و حينئذ تتبّع المصالح في كلّ مقام، فلا يكون الفقر شرطا عاما.

و ما ورد في تقسيم بيت المال على حدّ سواء إنّما هو في بعض ما يكون مشتركا بين عموم المسلمين (كما ذكر

في محلّه).

الثّاني- هل تجوز الرشوة في غير الأحكام، كأخذها لإصلاح أمره عند السلطان أو نجاة

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 213

مظلوم عن سجن الظالم، أو أخذ حقوقه عمّن عليه الحقّ، أو إصلاح ذات البين، أو شفاعة عند من يحتاج إليه في بعض الامور أو غير ذلك من أشباهه؟

قد يقال: إنّ إطلاقات الرشوة تشمل جميع موارد الأحكام و غيرها، لأنّها هي الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، فكلّ مصانعة يتوصّل بها إلى حاجة داخلة فيها.

و فيه: إنّها منصرفة إلى باب الأحكام للتصريح به في كثير منها، فيحمل عليه غيره، نعم رواية العيون (11/ 5) قد تدلّ على حرمتها، للحكم فيها بكون الهدية بعد قضاء الحاجة سحتا أيضا.

و لكن قد عرفت الجواب عنه، و أنّه لا بدّ من حملها على الكراهة.

و ذكر صاحب الجواهر قدّس سرّه بعد عنوان المسألة «إنّ المحرّم الرشا في خصوص الحكم أو يعمّه و غيره؟ و على الأوّل فهو خصوص الحكم الشرعي أو يعمّه و العرفي من حكّام العرف، بل و غيرهم من الآمرين بالمعروف؟ ... لم أجد تحريرا لشي ء من ذلك في كلمات أحد من الأصحاب» ثمّ قال في بعض كلامه: «أمّا النصوص فهي و إن كان كثير منها في الرشاء في الحكم، لكن فيها ما هو مطلق لا يحكم عليه الأوّل لعدم التنافي بينهما، اللهمّ إلّا إن تفهم القيدية فيتنافي حينئذ مفهومه مع المطلق، لكنّه كما ترى» انتهى «1».

و فيه أوّلا- إنّ تكرار هذا القيد في النصوص الكثيرة ظاهر في المفهوم، لأنّه في مقام الاحتراز.

و ثانيا: إنّ معناها اللغوي و إن كان مطلقا، إلّا أنّه مختص في العرف بما يستعمله قضاة الجور و الظلمة و أتباعهم و من يحذو حذوهم، كما ذكره قدّس سرّه في

بعض كلماته.

و ثالثا- إنّ عمومها و إن سلّم، إلّا انّك قد عرفت أنّه يختصّ بما إذا كان لإبطال حقّ أو إحقاق باطل، و هذا محرّم على القواعد أيضا.

فلا يستفاد من مجموعها ما يزيد على مقتضى القواعد.

فلنرجع إلى ما تقتضيه القواعد هنا، فنقول (و منه سبحانه نستمدّ التوفيق و الهداية): إن أخذ الرشوة في غير الأحكام يكون على أنحاء:

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 214

1- تارة يكون في مقابل أمر حرام، سواء كان لتضييع حقّ، أو أخذ ما ليس له بحقّ، أو نجاة ظالم، أو اضطهاد مظلوم، فلا شكّ أنّه حرام و إن لم يكن في دائرة القضاء.

2- و اخرى يكون في مقابل أمر واجب عليه بمقتضى الشرع الذي يجب عليه فعله مجانا، كالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و هو أيضا حرام كما هو واضح.

3- و ثالثة يكون في مقابل ما وجب عليه بمقتضى كونه أجيرا على عمل، كموظفي الإدارات و عمّال الحكومة الذين يأخذون من الحكومة في مقابل ما عليهم من الأعمال اجورا، فلو أخذوا رشوة كان حراما، بل قد لا يؤدّون ما عليهم من الواجب طمعا في أخذ الرشوة- و لا شكّ أنّه أيضا حرام، لأنّه أكل مال بالباطل.

4- و قد يكون الجعل لإصلاح أمر لا يكون واجبا عليهم عرفا و شرعا، و لا بمقتضى الإجارة للحكومة و غيرها و لكن يأخذ على إصلاح الأمر حقّا كان أو باطلا شيئا، و لا شكّ في حرمته أيضا، لأنّه بهذه الصورة أكل للمال بالباطل، و أنّه تعالى إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه، و كذا إذا أخذ منه لإحقاق حقّه قبل أوانه، ممّا لا يستحقّه بحسب النوبة.

5- إذا كانت الصورة بحالها، و لكن كان الجعل مأخوذا بقصد إصلاح

أمره بطريق حلال لا يجب عليه شرعا، فحينئذ لا مانع منه شرعا، لأنّه أخذ جعل أو اجرة أو هدية على أمر محلّل في الشرع، كما إذا لم يكن صاحب الأمر عارفا بطريق ذلك، و أخذ منه الجعل لإراءة الطريق و شبهها.

و الظاهر أنّ ما ورد في حديث محمّد بن مسلم الذي يدلّ على جواز أخذ الرشوة لينتقل من منزله (2/ 85 من أبواب ما يكتسب به) ناظر إلى أمثال ذلك، كما أنّ ما ورد عن الصيرفي عن أبي الحسن عليه السّلام من جواز إعطاء الرشوة لعدم ظلم وكيل السلطان (1/ 37 من أحكام العقود) ناظر إلى ما سبق، فراجع و تدبّر.

6- قد يأخذ شيئا لشراء المتاع الذي و وكّل على شرائه عن شخص معيّن، فان كان ذلك منه لأخذ شي ء أقلّ منه أو على خلاف القيمة السوقية فلا شكّ في حرمة أخذ الجعل، بل و بطلان المعاملة، لأنّه لم يكن وكيلا فيها بهذه الكيفية، و إن كان وكيلا للشراء لا من شخص خاصّ، فأخذ الجعل على ترجيح هذا الشخص على ذاك، فالظاهر أنّه أيضا كذلك، لأنّه من انوار الفقاهة، ج 4، ص: 215

قبيل أكل المال بالباطل، نعم لو قبل منه هدية من غير معاوضة على العمل كان جائزا، إذا لم يتخلّف في شي ء من شئون وكالته، فتدبّر.

الثّالث- المعاملة المحاباتية (و هي المشتملة على المساهلة في البيع بحسب اللغة و في الاصطلاح البيع بما دون القيمة) على أقسام:

1- قد يكون الغرض منها الرشوة، لأنّه لا يمكنه أخذ الرشوة ظاهرا، فيتوصّل إلى المعاملة لذلك، أو يكون هذا داعيا له إلى المعاملة، كما إذا كان يشتري القاضي منه من قبل أيضا، و لكن تكون المحاباة بداعي الرشوة في المستقبل

البعيد أو القريب، و كان الحكم له شرط ضمني فيه، فلا شكّ في حرمتها أيضا و فساد المعاملة لذلك، فهي من قبيل أكل المال بالباطل، و حيث أنّه لا يمكن التفكيك بين أصل المعاملة و المحاباة تبطل الصورة الثانية أيضا.

2- قد يكون ذلك بدون شرط، بل لجلب قلب القاضي، كالهدايا التي تهدى له لمقامه، فإذا انعزل انقطع! و هو أيضا حرام، لما عرفت في الهدية، فتشملها أدلّتها بالملاك كما هو ظاهر.

3- قد يكون لتكريم القاضي و التشكّر منه في حكمه الحقّ بعد العمل من دون نيّة خلاف بالنسبة إلى المستقبل، و لا دليل على حرمته و ان كان الأولى تركه.

4- قد يكون لصلة بينه و بين القاضي مع قطع النظر عن مقام قضائه، كما إذا كان من أقربائه، فهو أيضا جائز بلا إشكال.

و بالجملة تنقسم المعاملات المحاباتية انقسام الجعل و لها أحكامه.

و الظاهر كما ذكره شيخنا الأعظم الأنصاري قدّس سرّه أنّ المعاملة المحاباتية المحرّمة فاسدة في وجه قوي «1» خلافا لبعض أعاظم المحشّين «2».

لأنّ الوفاء بهذا العقد غير ممكن شرعا، و تسليم العين غير جائز، فحينئذ يكون كعين لا يقدر على تسليمها!

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 216

الرّابع: في الحكم الوضعي لما يعطى بعنوان الرشوة.

قال في الجواهر: لا خلاف و لا إشكال في بقاء الرشوة على ملك المالك، كما هو مقتضى قوله «أنّها سحت» و غيره من النصوص الدالّة على ذلك، و إن حكمها حكم غيرها ممّا كان من هذا القبيل، نعم قد يشكل الرجوع بها مع تلفها و علم الدافع بالحرمة، باعتبار تسليطه، انتهى محلّ الحاجة «1».

و للمسألة هنا صور:

1- إذا كان عين الرشوة موجودة يجوز أخذها بلا إشكال، لبقائها على ملك مالكها.

2- إذا كانت تالفة

فإن كان بعنوان المعاوضة أو شبهها في مقابل الحكم فالآخذ ضامن، و إن علما بالفساد، فإنّ العلم بالفساد لا يوجب التسليط المجاني، بل التسليط بالعوض إعراضا عن حكم الشرع و اعتناء بحكم العقلاء- إذا جوزوا- أو بناء منه على صحّة هذا العقد الفاسد من قبل نفسه، و بالجملة لم يقصد المجانية مطلقا، و هذا نظير غيره من العقود الفاسدة مع العلم بفسادها، فإنّه ضامن لما أخذه إذا كانت ممّا يضمن بصحيحها كما ذكرناه في محلّه، و كذا إذا كان من قبيل الشرط الضمني، ففيه أيضا ضامن.

3- إذا أعطاها هديّة و هبة لجلب قلبه، و أتلفها، فالظاهر أنّه غير ضامن، لأنّه ممّا لا يضمن بصحيحة، فلا يضمن بفاسده، و الدواعي لا اعتبار بها في المعاملات كما هو ظاهر.

4- لو حاباه في معاملة، فالظاهر فساد المعاملة أيضا، و حيث أنّها ممّا يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، فهو ضامن لما أخذه من المتاع، و البائع ضامن لما أخذه من الثمن، و القول بأنّه من قبيل الشرط الفاسد و هو لا يوجب الفساد في العقد، ممنوع، لما عرفت من شمول أدلّة الرشوة و الهبة لنفس المعاملة و لو بملاكها، فهي محرّمة و أكل للمال بالباطل، و لا يجب الوفاء بها، فهي فاسدة.

الخامس- إذا اختلف المعطي و الآخذ، فقد ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه من صور الاختلاف شقوقا ثلاثة و عمدتها:

1- إذا اختلفا فقال المعطي: كانت هدية ملحقة بالرشوة في الحرمة و الفساد، و قال الآخذ: بل كانت هبة صحيحة.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 217

فقد يقال بترجيح الأوّل، نظرا إلى أنّ الأصل هو الضمان، و أنّ الدافع أعرف بنيّته.

و لكن الحقّ ترجيح الثاني، لأنّ الطرفين متفقان على كونها هبة، و إنّما الخلاف

في الصحّة و الفساد، و الأصل هو الصحّة.

2- إذا ادّعى الدافع أنّها إجارة فاسدة، و ادّعى الآخذ أنّها كانت هبة صحيحة، فحيث لا عقد هنا متّفق بينهما، يرجع إلى أصالة الضمان في الأموال، فيرجّح قول الدافع.

3- إذا ادّعى المعطي إنّها كانت إجارة فاسدة، و ادّعى الآخذ كونها هبة فاسدة حتّى لا يكون ضامنا لما مرّ من أنّ ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده.

و القول هنا أيضا قول المدّعي للضمان، لأنّه الأصل في الأموال.

و الحاصل في جميع هذه الصور و أشباهها أنّ مقتضى الأصل في باب الأموال إذا أتلفها غير مالكها هو الضمان، و عليه جرت بناء العقلاء، إلّا أن يثبت أنّه كان برضى صاحبها أو بحقّ له عليه، و ما ورد من أنّه «لا يحلّ مال امرئ إلّا عن طيب نفسه».

و لا حاجة إلى التمسّك بقوله «على اليد ما أخذت» حتّى يقال أنّه لم يثبت صحّة سنده، كما أنّه لا حاجة إلى استصحاب عدم طيب نفس المالك و رضاه، حتّى يقال أنّه عدم أزلي أو محمولي، بل الذي يدّعي الحقّ على مال الغير أو جواز تصرّفه برضاه يحتاج إلى الإثبات، لما عرفت من أنّ البناء المسلّم بين العقلاء الذي أمضاه الشارع هو الضمان في هذا الباب.

نعم إذا اتّفقا على وقوع عقد، و لكن اختلفا في صحّته و فساده، فأصالة الصحّة حاكمة، كما إذا تنازعا في صحّة الهبة و فسادها قبل التلف إذا كان الموهوب له ذا رحم أو معوّضة (بناء على المعروف من لزومها) أمّا إذا كان بعد التلف فهو غير ضامن على كلّ حال، لما عرفت من أنّ صحيحها ممّا لا يضمن به فلا يضمن بفاسده.

9- سبّ المؤمن
اشارة

السباب ليس أمرا يمكن الاكتساب به عادة،

و إنّما ذكره العلماء هنا استطرادا للباب و توسعة للبحث بما لم يذكر في غير المقام.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 218

و الكلام فيه تارة من ناحية الحكم، و اخرى من ناحية الموضوع، و ثالثة في المستثنيات.

أمّا المقام الأوّل، فلا شكّ في حرمة سبّ المؤمن، و استدلّ له بالأدلّة الأربعة:

أمّا من كتاب اللّه لقوله تعالى: وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ «1» و أي زور أعظم من هذا؟ فإنّه من أوضح مصاديقه.

و من السنّة روايات كثيرة منها:

1- ما رواه عبد الرحمن بن حجّاج عن أبي الحسن موسى عليه السّلام في رجلين يتسابّان قال:

«البادي منهما أظلم، و وزره و وزر صاحبه عليه، ما لم يعتذر إلى المظلوم» «2».

2- و ما رواه أبو بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إنّ رجلا من تميم أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فقال:

أوصني، فكان فيما أوصاه أن قال: «لا تسبّوا الناس فتكسبوا العداوة لهم» «3».

3- ما رواه أبو بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «سباب المؤمن فسوق، و قتاله كفر، و أكل لحمه معصية، و حرمة ماله كحرمة دمه» «4».

4- ما رواه النوفلي عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه «سباب المؤمن كالمشرف على الهلكة» «5».

و من دليل العقل أنّه من مصاديق الظلم بغير إشكال.

و الإجماع على الحكم واضح ظاهر.

و المقام الثّاني- معنى السبّ معلوم إجمالا، قال الراغب في المفردات: إنّه الشتم الوجيع، و «السبابة» سمّيت بها للإشارة بها عند السبّ كتسميتها ب «المسبحة» لتحريكها بالتسبيح «6».

و يظهر أنّه أشدّ من الشتم، و منه يظهر أيضا أنّ ما ذكره في لسان العرب- من أنّ

السبّ هو التعبير بالبخل- من قبيل بيان المصداق.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 219

و الظاهر أنّ كلّ قول يقصد به التحقير و الإهانة و تنقيص الغير هو سبّ، و قد ورد في روايات أبواب التعزيرات أنّ السبّ بغير قذف، عليه تعزير «1»، و ذكر كثير من مصاديقه في روايات اخرى من هذا الباب، مثل قول الرجل لغيره: أنت خبيث أو خنزير «2» و ابن المجنون «3» و يا فاسق «4» يا شارب الخمر يا آكل الخنزير «5».

و يدخل فيه كلّما يوجب منقصة في النفس و الأخلاق و الدين و العرض و الأهل، بل المال و البدن، إذا كان فيه إهانة و تحقير، كأن يقول «وجهك وجه الخنزير» و «مالك مال السرقة و القمار» و لو نوقش في دخول بعض ذلك في مفهوم اللفظ، فلا شكّ أنّه داخل في الحكم، بل قد عرفت أنّ ثلاثة من الأدلّة الأربعة هنا لا تدور مدار عنوان السبّ، بل الزور أو الظلم أو غير ذلك ممّا هو أهمّ قطعا.

و هل يلزم مخاطبة الشخص المسبوب بذلك؟ الظاهر عدمه، لعدم اعتباره لا في مفهوم اللفظ، و لا في ملاك الحكم، بل كان كثير من المجرمين في الصدر الأوّل يسبّون المؤمنين على ظهر الغيب، بل و بعد موت المعنيّ بالسبّ، فلا يعتبر فيه التخاطب أصلا.

و هل يعتبر أن يكون السبّ بقصد الإنشاء؟ كما عن المحقّق الإيرواني قدّس سرّه، و لذا ذكر أنّ النسبة بينه و بين الغيبة هي التباين، لأنّها إخبار، و هذا إنشاء، أو يعمّ الخبر و الإنشاء؟

الظاهر هو الثاني، لعدم ذكر هذا القيد فيما عرفت من كتب اللغة، بل و لا متفاهم العرف، و ان كان أكثر أفراده بالإنشاء أو بالنداء، و الأمر

سهل بعد عموم الملاك.

المقام الثالث: في موارد الاستثناء من هذا الحكم، و قد استثنى منه امور:

1- المتظاهر بالفسق، لأنّه لا حرمة له.

2- أهل البدع، و يدلّ عليه ما رواه داود بن سرحان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم «إذا رأيتم أهل الريب و البدع من بعدي، فأظهروا البراءة منهم و أكثروا من سبّهم ...» الحديث «6».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 220

3- ما لا يتأثّر به المسبوب عرفا، بأن لا يكون نقصا في حقّه، كقوله الوالد لولده بعض ما هو المعمول بينهما، أو قد يكون له فخرا كقول بعض أساتيذه فيه بعض الأشياء.

4- ما إذا كان بعنوان التأديب، كتأديب الوالد لولده لفحوى جواز ضربه.

5- ما كان للنهي عن المنكر، إذا توقّف عليه بالخصوص، فهو جائز بأدلّته.

و ليعلم أنّ هذه الامور ليست على نحو واحد، بل بعضها من قبيل الخروج عن الموضوع كالثالث، و بعضها من باب الخروج عن الحكم كالباقي، هذا و لكن بعضها لا يخلو عن تأمّل.

أولا: الإنصاف أنّ مجرّد عدم الحرمة للفاسق المتظاهر غير كاف في جواز سبّه ما لم يدخل تحت عنوان الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و لا يجوز قياسه على عدم حرمة غيبته كما لا يخفى.

و ثانيا: إنّ سبّ أهل البدع أيضا داخل في هذا العنوان، فإنّهم من أظهر الفسّاق، أو من باب النهي عن المنكر.

و ثالثا: إنّ سبّ من لا يتأثّر عنه خارج عن عنوانه، لأنّه لا يكون نقصا و إيذاء و تحقيرا له، فلا يبعد جوازه، إذا لم يكن داخلا تحت عنوان قول الزور، أمّا إذا كان من جهة عدم مبالاته بما قال و ما قيل فيه، فيشكل

خروجه عن إطلاق الأخبار.

و رابعا: جوازه بأدلّة التأديب أو النهي عن المنكر إنّما يصحّ إذا لم يمكن ذلك بطريق آخر غير مشتمل عليه.

بل و كذا يجوز إذا كان هناك اغراض أهمّ من قبيل التقيّة و شبهها، مثل بعض ما ورد في حقّ زرارة و نظائره من أكابر الأصحاب صونا لدمائهم.

بقى هنا شي ء:

و هو إنّه قد يقال بعدم حرمة السبّ في مقابل السبّ، لو لم يتعدّ، و إنّ إثمهما على البادي منهما، و يحكى عن المحقّق الأردبيلي قدّس سرّه في آيات أحكامه من جواز القصاص حتّى ضرب انوار الفقاهة، ج 4، ص: 221

المضروب و شتم المشتوم بمثل فعلها «1».

و كذا ما عن العلّامة المجلسي قدّس سرّه من التصريح بأنّ الصادر عن المظلوم يترتّب عليه الإثم إلّا أنّ الشرع أسقط عنه المؤاخذة و جعلها على البادي! «2».

و يظهر من الأوّل منهما عدم الإثم فيه، لاستدلاله بآيات جواز الاعتداء بالمثل، و من الثاني منهما كونه حراما، و لكن الشارع جعل إثمه على البادي.

و اختاره في مصباح الفقاهة أيضا «3».

و غاية ما يمكن الاستدلال له امور:

1- آيات الاعتداء بالمثل «4».

و لكن الإنصاف انصرافه عن ذلك، و إلّا لزم جواز «القذف» في «مقابل القذف» لعدم الفرق بينهما، و القول بخروجه بدليل خاصّ كما ترى، و كذا الغيبة في مقابل الغيبة، و التهمة في مقابل التهمة، و هو عجيب.

2- ما مرّ في مصحّحة عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي الحسن موسى عليه السّلام في رجلين يتسابّان قال: «البادي منهما أظلم، و وزره و وزر صاحبه عليه ما لم يعتذر إلى المظلوم» «5».

و هنا روايتان، في إحداهما «وزره و وزر صاحبه عليه ما لم يعتذر إلى المظلوم» و في الاخرى بتفاوت في صدر سند الحديث و متنه «ما لم يتعدّ المظلوم» و ظاهره أنّه لا وزر عليه لو لم يتعدّ عن الحدّ، فيتوافق مع آيات الاعتداء بالمثل.

و فيه: أنّ الظاهر أنّهما ليستا روايتين، بل الاختلاف ناشئ من إختلاف النسخ بعد وحدة الراوي و المروي عنه عليه السّلام و المضمون، و كون الاختلاف في صدر السند فقط، فالاستدلال بها

انوار الفقاهة،

ج 4، ص: 222

أيضا مشكل مع عدم ثبوت المتن الثاني و لا سيّما أنّ السند في الأوّل أقوى، و من حيث الدلالة أيضا مشكل، لاحتمال كونه من قبيل من سنّ سنّة سيّئة كان عليه وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شي ء، لا سيّما بقرينة قوله «أظلم».

3- ما ورد من طرق العامّة عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم:

«المتسابّان ما قالا فعلى البادي، ما لم يتعدّ المظلوم» «1».

و الإشكال فيه من حيث السند ظاهر، و يرد على دلالته ما سبق.

و يؤيّد المختار أمران:

1- ما ورد في حكم التعزير في المتسابّين: عن أبي مخلّد السرّاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السّلام في رجل دعا آخر: ابن المجنون، فقال له الآخر: أنت ابن المجنون! فأمر الأوّل أن يجلد صاحبه عشرين جلدة و قال: أعلم أنّه مستعقب مثلها عشرين، فلمّا جلده أعطى المجلود السوط فجلده عشرين نكالا ينكل بهما «2».

فإنّه كالصريح في الإثم من الجانبين إلّا أن يستشكل عليه بعدم صحّة سنده.

و كذلك ما ورد في حكم المتقاذفين من درء الحدّ عن كليهما و ثبوت التعزير فيهما مثل ما رواه عبد اللّه بن سنان قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجلين افترى كلّ واحد منهما على صاحبه؟ فقال: «يدرأ عنهما الحدّ و يعزّران» «3».

و الرواية صحيحة السند و قد أفتى بها الأصحاب من غير نكير.

و قد ذكر صاحب الجواهر قدّس سرّه في كتاب الحدود بعد ذكر هذا الحكم: «و منه و من غيره يعلم عدم سقوط التعزير عنهما لو تغايرا بما يقتضيه» «4».

2- المقابلة بالمثل قد يكون إيذاء فقط، فيجوز بأدلّة القصاص و غيره، و اخرى يكون

بما هو محرّم في نفسه، و في مثل ذلك لا يجوز، لأنّه من قول الزور و قبيح في نفسه، كالغيبة في مقابل الغيبة، و التهمة في مقابل التهمة.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 223

و العمدة أنّ جواز المقابلة في خصوص حقّ الناس لا ما كان فيه جهة حقّ اللّه أيضا، كالغيبة و التهمة و السبّ و إحراق دار الغير في مقابل إحراق داره لما فيه من القبح، فتدبّر جيّدا.

10- السحر
المقام الأوّل: في حرمة السحر

حرمة السحر على سبيل الإجمال مسلّمة معلومة كما اتّفقت عليه كلمات علماء الإسلام، بل قد يقال أنّها من ضروريات الدين، و ليس ببعيد، و يدلّ على حرمتها آيات من كتاب اللّه عزّ و جلّ:

قوله تعالى في سورة يونس: أَ سِحْرٌ هذا وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ «1».

و قوله تعالى: وَ أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى «2».

و ما ورد في قصّة هاروت و ماروت و أهل بابل من قوله تعالى:

وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ «3» فإنّ ظاهره كون السحر نوعا من الكفر.

أمّا من السنّة فيدلّ عليه روايات كثيرة أوردها صاحب الوسائل في الباب 25 و 26 من أبواب ما يكتسب به، و الباب 1 و 3 من أبواب بقيّة الحدود و التعزيرات، منها ما يلي:

1- ما رواه السكوني عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «ساحر المسلمين يقتل و ساحر الكفّار لا يقتل»، قيل: يا رسول اللّه لم لا يقتل ساحر الكفّار؟ قال:

«لأنّ الشرك أعظم من السحر، لأنّ السحر و الشرك مقرونان» «4».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 224

2- ما رواه علي

بن إبراهيم عن أبيه عن شيخ من أصحابنا الكوفيين قال: دخل عيسى بن شقفي على أبي عبد اللّه عليه السّلام و كان ساحرا يأتيه الناس، و يأخذ على ذلك الأجر، فقال له:

جعلت فداك أنا رجل كانت صناعتي السحر، و كنت آخذ عليه الأجر، و كان معاشي، و قد حججت منه، و منّ اللّه عليّ بلقائك و قد تبت إلى اللّه عزّ و جلّ، فهل لي شي ء من ذلك مخرج؟

فقال له عليه السّلام: «حل و لا تعقد» «1».

فدلّ على حرمة السحر فيما يعقد.

3- ما رواه محمّد بن سيّار عن أبويهما عن الحسن بن علي العسكري عن آبائه عليهم السّلام في حديث قال:

في قوله عزّ و جلّ: وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَ مارُوتَ قال: «كان بعد نوح عليه السّلام قد كثرت السحرة المموّهون، فبعث اللّه عزّ و جلّ ملكين إلى نبي ذلك الزمان يذكر ما يسحر به السحرة، و ذكر ما يبطل به سحرهم و يردّ به كيدهم، فتلقّاه النبي عن الملكين، و أدّاه إلى عباد اللّه بأمر اللّه عزّ و جلّ، و أمرهم أن يقفوا به على السحرة و أن يبطلوه، و نهاهم أن يسحروا به الناس، و هذا كما يدلّ على السمّ ما هو؟ و على ما يدفع به غائلة السمّ، إلى أن قال: و ما يعلّمان من أحد ذلك السحر و إبطاله حتّى يقولا للمتعلّم إنّما نحن فتنة، و امتحان للعباد، ليطيعوا اللّه فيما يتعلّمون من هذا، و يبطل به كيد السحرة و لا يسحروهم، فلا تكفر باستعمال هذا السحر و طلب الإضرار به و دعاء الناس إلى أن يعتقدوا أنّك به تحيي و تميت و تفعل ما لا يقدر عليه

إلّا اللّه عزّ و جلّ، فإنّ ذلك كفر «إلى أن قال» و يتعلّمون ما يضرّهم و لا ينفعهم لأنّهم إذا تعلّموا ذلك السحر ليسحروا به و يضرّوا به فقد تعلّموا ما يضرّهم في دينهم و لا ينفعهم فيه» «2».

4- ما رواه الصدوق رحمه اللّه مرسلا: إنّ توبة الساحر أن يحلّ و لا يعقد «3» (و كأنّه إشارة إلى ما مرّ تحت الرقم 2).

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 225

5- ما رواه علي بن الجهم عن الرضا عليه السّلام في حديث قال: «و أمّا هاروت و ماروت فكانا ملكين علّما الناس السحر ليحترزوا به سحر السحرة و يبطلوا به كيدهم و ما علّما أحدا من ذلك شيئا حتّى قالا إنّما نحن فتنة فلا تكفر، فكفر قوم باستعمالهم لما امروا بالاحتراز منه و جعلوا يفرّقون بما تعلّموه بين المرء و زوجه، قال اللّه تعالى و ما هم بضارّين به من أحد إلّا بإذن اللّه يعني بعلمه» «1».

6- ما رواه أبو البختري عن جعفر بن محمّد عن أبيه أنّ عليا عليه السّلام قال: «من تعلّم شيئا من السحر قليلا أو كثيرا فقد كفر، و كان آخر عهده بربّه وحده أن يقتل إلّا أن يتوب» «2».

7- ما رواه عبد الرحمن بن الحسن التميمي مسندا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن آبائه عن علي عليه السّلام في حديث: «نحن أهل بيت عصمنا اللّه من أن نكون فتّانين أو كذّابين أو ساحرين أو زنائين، فمن كان فيه شي ء من هذه الخصال، فليس منّا و لا نحن منه» «3».

8- ما رواه أبو موسى الأشعري قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «ثلاثة لا يدخلون الجنّة:

مدمن خمر و مدمن سحر

و قاطع رحم» «4».

9- ما رواه الهيثم قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّ عندنا بالجزيرة رجلا ربّما أخبر من يأتيه يسأله عن الشي ء يسرق أو شبه ذلك فنسأله، فقال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «من مشى إلى ساحر أو كاهن أو كذّاب يصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل اللّه من كتاب» «5».

10- ما رواه زيد الشحّام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «الساحر يضرب بالسيف ضربة واحدة على رأسه» «6».

11- ما رواه زيد بن علي عن أبيه عن آبائه قال: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم عن الساحر فقال:

«إذا جاء رجلان عدلان فشهدا بذلك فقد حلّ دمه» «7».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 226

12- و ما رواه إسحاق بن عمّار عن جعفر عن أبيه أنّ عليا عليه السّلام كان يقول: «من تعلّم شيئا من السحر كان آخر عهده بربّه، و حدّه القتل إلّا أن يتوب» «1».

المقام الثّاني: في معنى السحر

و قد عرّف بتعاريف مختلفة في اللغة و لسان الفقهاء لا يخلو جلّها أو كلّها عن إشكال و إبهام:

1- ما عن القاموس: أنّه ما لطف مأخذه و دقّ.

2- و في لسان العرب: السحر الآخذة، و كلّ ما لطف مأخذه و دقّ.

3- و في مجمع البحرين: يسمّى سحرا لأنّه صرف جهته.

4- و عن الأزهري: أصل السحر صرف الشي ء عن حقيّته إلى غيرها.

5- و فسّر بعضهم: بإظهار الباطل بصورة الحقّ.

6- و بعضهم بالخدعة و التمويه.

7- و بعضهم: كلام يتكلّم به أو يكتبه أو رقيّة، أو يعمل شيئا يؤثّر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة.

8- إنّه: صرف الشي ء عن وجهه على سبيل الخدعة و التمويه (و كأنّه

من تركيب بعضها إلى بعض) ذكره في مصباح الفقاهة «2».

و الظاهر أنّ شيئا من هذه التفسيرات لا تكون تفسيرا جامعا مانعا، فانّ مجرّد لطف المأخذ و الدقّة، أو الأخذ بالعيون أو صرف الشي ء عن وجهه، أو إظهار الباطل بصورة الحقّ ليس سحرا، كما في الغشّ في الكلام و الأعيان الخارجية.

و كذا مجرّد الخدعة و التمويه أو صرف الشي ء عن وجهه على سبيل الخدعة الموجودة في أنواع الغشّ و المكر، لا يختصّ بالسحر، بل يشمله و غيره.

و الاولى ملاحظة حال مصاديقها الواضحة و استقرائها و استخراج جامع بينها، فنقول (و منه جلّ شأنه التوفيق و الهداية):

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 227

استعملت هذه الكلمة في كتاب اللّه العزيز كثيرا، و كذا في السنّة، فمنه ما ورد في قصّة سحرة فرعون، فقد أخذوا عصيّا و حبالا و وضعوا فيها أشياء (و يقال زيبق) فإذا يخيّل إليه من سحرهم أنّها تسعى، فأخذوا أعين الناس و استرهبوهم و جاؤوا بسحر عظيم، فسحرهم كان أمرا مركّبا من «الأخذ بالعيون» و «الاسترهاب» و «الانتفاع ببعض خواص الأشياء الخفيّة» و في جانب آخر نرى السحر الذي أخذه أهل بابل من الملكين، فكانوا يأخذون ما يضرّهم و يفرّقون بين المرء و أهله ببعض الأسباب الخفيّة.

و في جانب ثالث نرى الكفّار من جميع الامم يتّهمون أنبيائهم بالسحر، لمّا رأوا الآيات الإلهية كما قال تعالى: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ «1».

وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ «2».

حتّى انّهم كانوا يسندون تأثير القرآن في النفوس تأثيرا عميقا إلى السحر.

و هذه النسبة و ان كانت كذبا و زورا، و لكن كان منشأها مشاهدة الخوارق للعادات مع أسباب خفية حسبوها خدعة و تمويها.

فيستفاد من

جميع ذلك و غيرها من أشباهها و ما ذكره علماء اللغة و الفقهاء أنّه يعتبر في مفهوم السحر الامور التالية:

أوّلا: أن يكون أمرا خارقا للعادة في الظاهر، فإنّ مجرّد التأثير و الخدعة غير كاف لو كانت النتيجة أمرا عاديا.

ثانيا: أن يكون ناشئا عن أسباب خفيّة و لو بالتوسّل بأسباب كيمياوية من خواص الأدوية، أو الفيزيائية كذلك.

ثالثا: أن يكون فيه نوع خداع و تموية.

رابعا: أن يكون فيه الإضرار غالبا و ان لم يكن كذلك دائما، فمثل صرف القلب، و التفريق بين المرء و زوجه، أمر خارق للعادة بأسباب خفيّة، و فيه نوع خديعة و يكون فيه إضرار، و يكون صاحبه من المفسدين.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 228

و أمّا معجزة «اليد البيضاء» التي كانوا ينسبونها إلى السحر، فقد كانت أمرا خارقا للعادة بأسباب خفيّة يتوهّمون أنّ فيها نوع خدعة و ان لم يكن فيه ضرر إلّا بما يترتّب على تلك الخدعة المتوهّمة من يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ ... وَ يَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى و إلّا لم يكن نفس العمل ممّا فيه الضرر.

و من هنا يظهر الفرق بين السحر و المعجزات، فإنّ السحر فيه الخدعة، و المعجزة عين الحقيقة، و يعرفان من آثارهما.

و الفرق بينهما يظهر من امور:

1- الساحر رجل خداع يعرف من سائر أعماله، و صاحب المعجزة لا ينفكّ عن الحقيقة، يعرف ذلك من حسن أعماله.

2- السحر يكون من ناحية القوّة البشرية المحدودة، و لذا يكون سحر الساحر دائما محدودا من حيث النوع و الكيفية و الكمية في سحره، و لكن المعجزات لا حدّ لها، بل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قادر على أي شي ء بقدرة اللّه تعالى و بإذنه.

3- المعجزات مقرونة بالتحدّي و دعوى

النبوّة أو الإمامة، و سائر الخوارق للعادات ليست كذلك، فإنّها لو ظهرت في صورة الحقّ و ادّعى صاحبها ذلك و تقوّل على اللّه بعض الأقاويل أخذ اللّه منه باليمين و قطع منه الوتين كما يدلّ عليه حكم العقل.

إذا عرفت ذلك، و عرفت الاصول المعتبرة في معنى السحر، و الفرق بينه و بين المعجزات، فلنعد إلى أقسام السحر:

المقام الثّالث: في أقسام السحر
اشارة

إنّ أجمع كلام في ذلك ما أفاده العلّامة المجلسي قدّس سرّه- و إن كان محلا للبحث من جهات تأتي- فقد ذكر أنّ السحر على أقسام:

الأوّل: سحر الكلدانيين الذين كانوا يزعمون أنّ الكواكب هي المدبّرة لهذا العالم، و الساحر عندهم من يعرف القوى العالية و يعلم ما يليق في العالم السفلي، و يعرف معدّاتها و موانعها، فيكون متمكّنا بها من استحداث بعض خوارق العادة.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 229

الثّاني: سحر صاحب الأوهام و النفوس القويّة:

و الظاهر أنّ المراد به الذين يؤثرون في نفوس الناس بقوّة التلقين و النظر و مغناطيس البصر و غيره.

الثّالث: الاستعانة بالقوى الأرضية، يعني الجنّ و الشياطين.

الرّابع: الأخذ بالعيون، و الظاهر أنّ مراده به ما يحدث من حركات سريعة مع ما يحصل من إغفال الناظر و صرف نظره عن بعض الحركات و الأشياء حتّى يتخيّل أنّه قد وقع بعض خوارق العادات، و قد شاهدناه غير مرّة عند امتحانهم لأغراض معلومة.

الخامس: التوسّل بتركيب الآلات على نسب هندسية، و الظاهر شموله لجميع المخترعات العجيبة التي تعدّ من خوارق العادة و ان كانت هذه الامور بعد سعة نطاق الصنائع خرجت في عصرنا هذا عن الخوارق، و صارت كأمور عادية و إن خفى علينا منشأها أحيانا، فقد رأينا بعض الأبواب ينفتح بمجرّد القرب منه و يوصد بمجرّد البعد عنه، أو تتوقّف

المروحة الكهربائية بمجرّد قرب أيدي الأطفال و غيرهم إليها، ثمّ تعمل لدى إبعادها عنها، و ذلك للعيون الإلكتريكية المزوّدة بها.

نعم، قد كانت مثل هذه الامور من أقسام السحر في قديم الأيّام، و ليست كذلك الآن.

السّادس: الاستعانة بخواص الأدوية كجعل بعض الأدوية المخدّرة في الطعام أو غير ذلك لكي توجد توهّمات للناظرين.

السّابع: شدّ القلوب، و هو أن يدّعي الساحر أنّه يقدر على كذا و كذا حتّى تميل إليه العوام.

و الظاهر أنّ ما ذكره بمجرّده ليس سحرا إلّا أن يكون ميل العوام إليه سببا لأخذهم بالعيون و حينئذ يدخل فيما سبق.

الثّامن: النميمة، و لكن من الواضح أنّها ليست سحرا بمعناه الحقيقي، نعم قد يكون لها أثره، لأنّه ربّما يفرّق بها بين المرء و زوجه، و بين الأصدقاء و الأحبّاء هذا.

أقول: الأولى في تقسيمه أن يقال:

يمكن تقسيم السحر إلى الأقسام التالية بعد خروج غير واحد ممّا ذكره المحقّق انوار الفقاهة، ج 4، ص: 230

المجلسي قدّس سرّه عن تعريفه بماله من المعنى الحقيقي:

1- ما يكون بالاستعانة بالأرواح و الجنّ و الشياطين، و قد يسمّى بالتسخيرات.

2- ما يكون من طريق بعض الأدعية و النفوذ الروحي أو قوّة الوهم الحاصلة بالرياضات و غيرها و مغناطيس البصر، مثل «الهيپنوتيزم» إذا أظهر عملا خارقا للعادة.

3- ما يكون بواسطة الاستفادة من خواص الأدوية غير المعروفة، و الخواص الكيمياوية الغريبة.

4- ما يكون من طريق التوسّل بخواص الأشياء الفيزيكية التي لم يعرفها العامّة من الناس، و لا تعدّ من قبيل الصنائع و المخترعات المعروفة.

5- ما يكون طريق الأخذ بالعين و الخطفة و السرعة، و قد يسمّى بالشعبدة (و في الفارسية: تردستى) و في جميع ذلك أو غالبها يتوسّل الساحر بأنواع التلقينات المؤثّرة في نفوس العامّة المشتملة على

الأكاذيب و غيرها، كي يجعلهم مستعدّين لما يريد، و قد رأينا كثيرا منها عند التحقيق عنها، مطابقة لما ذكرنا آنفا، ما عدا القسم الأوّل، لأنّا لم نجد في مدّعيه ما يشهد بكونهم مرتبطين بالأرواح أو الشياطين، بل كانت تخيّلات لأنفسهم يزعمونها حقائق، و لكن لا ننكر إمكانها أو وقوعها.

و جميع هذه الصور الخمسة مشتملة على ما ظاهره خرق العادة مع التوسّل بأسباب خفيّة على العامّة. و فيها خدعة و تموية، و قد تشتمل على الإضرار، و ربّما لا يكون إلّا لهوا و تفريحا، فتعريف السحر صادق على الجميع، و إن أبيت إلّا عن عدم صدقه على بعضها دون بعض، فالظاهر أنّ حكمه شامل لها من دون شكّ.

و قد يشتمل بعض أنواع السحر على نوعين من الخمسة، أو ثلاثة أنواع، أو أكثر، كما في قصّة سحرة «فرعون» فانّهم توسّلوا بخواص الأدوية و غيرها مع التلقين في النفوس كما يظهر من آيات الذكر الحكيم.

نعم مجرّد الإخبار عن المغيبات أو الامور المستقبلة من طريق التوسّل بالأرواح و غيرها لا يعدّ سحرا، بل هو كهانة، و لا بدّ في السحر أن يكون فيه ما يشبه خرق العادة و لو

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 231

في ذهن السامع و قوّة خياله، و قد اشير إلى أكثر هذه الأقسام في رواية الإحتجاج التي رواها المجلسي قدّس سرّه في البحار «1».

و إلحاق النميمة بها من حيث الأثر و الحكم كما عرفت، لا أنّها منه موضوعا.

و أمّا حكم هذه الأقسام:

فتارة تترتّب عليها عناوين محرّمة اخرى سوى عنوان السحر.

منها: أن يكون فيه إضرار إلى الغير كما قال تبارك و تعالى: وَ يَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ «2» و لا شكّ في حرمته من هذه الجهة.

و منها: ما يكون

فيه هتك للمحرّمات كما يحكى كثيرا عن فعل سحرة الكفّار، بل و بعض من لا يبالي بالدين من المسلمين، و هو حرام بل يوجب الكفر غالبا.

و منها: ما يكون في مقابل دعوة الأنبياء عليهم السّلام و أئمّة الدين عليهم السّلام مع القصد إلى إطفاء نور الحقّ، و حرمته أوضح من الكلّ (مثل سحر سحره فرعون).

و منها: ما يترتّب عليه بعض العناوين المحرّمة الاخرى سوى ذلك مثل الإخبار بالمغيبات و كشف الستور و إغواء الناس عن طريق الحقّ و غير ذلك.

و حرمة جميع هذه الأقسام ممّا لا ريب فيها، إنّما الكلام فيما إذا خلى السحر عن جميع ذلك مع صدق هذا العنوان عليه، كما إذا أتى ببعض خوارق العادة و لو بحسب الظاهر، و التوصّل إلى أسباب خفيّة له، و كان فيه نوع خديعة و تمويه و لو بقصد إعجاب الحاضرين و اللهو و شبه ذلك، فالظاهر أيضا حرمته لإطلاق أدلّة حرمته، و التقييد يحتاج إلى دليل.

و إن شئت قلت: ظاهر أدلّة حرمة السحر حرمته بعنوانه، و لو لم يترتّب عليه عنوان ثانوي محرّم، و الظاهر أنّه لا فرق فيما ذكر بين تسخير الجنّ و الشياطين و التوصّل إلى خواص الأدوية و تركيب الآلات على النسب الهندسية إذا كانت غريبة لا تصل إليها العقول العادية.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 232

و من هنا يظهر حال ما ذكره بعض الأعلام تبعا لما يظهر من بعض أكابر المتقدّمين من أنّ إيجاد الصنائع المعجبة كما هو المعروف في العصر الحاضر كالطائرات و السيارات و سائر الآلات العجيبة ليس من مقولة السحر، و لم يثبت كون سحر سحرة فرعون من هذا القبيل «1».

و الجواب عنه إنّ الظاهر أنّه لا يقول أحد بكونها

سحرا بقول مطلق، إنّما الكلام إذا لم تكن من سنخ ما نعرفه من الصنائع، بل كان خارقا للعادة و لو في هذا الزمان، كما إذا أشار إنسان إلى سراج كهربائي فأطفأه بإشارة اليد، ثمّ أشعله كذلك، و لو كان في الواقع نوع صنعة لا نعرفها.

أو توصّل بدواع لا نعرفها و أتى ببعض العجائب، فهذا أيضا داخل في مفهوم السحر، و الظاهر أنّ سحر سحرة فرعون كانوا من هذا القبيل كما حكي في التواريخ و التفاسير، أعني كان من باب التوسّل ببعض الأدوية كالزيبق و شبهه، و ربّ شي ء يكون سحرا في زمان و يخرج عن هذا العنوان في زمان آخر بعد كشف علله على نحو عام، فلا يصدق عليه عنوان «استناده إلى أسباب خفيّة» كما عرفت. و الحاصل أنّ المدار على كون أسبابه خفيّة في ذاك الزمان و كان بقصد التمويه.

و كذلك الأخذ بالعيون و الشعبدة و نحوهما، لصدق السحر عليها، قال تعالى: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ «2» (و سيأتي الكلام فيه ان شاء اللّه).

و كذلك ما يسمّى ب «انشداد القلب» (على شي ء من الأشياء) إذا كان منشأ لاستحداث خوارق عادات و لو في حسّ الناظر.

و ما في كلام بعض الأعلام من أنّه لا وجه لجعله من أقسام السحر- و إنّما هو قسم من الكذب إذا لم يكن له واقع، على أنّ انشداد القلب لو كان سحرا لكانت الاستمالة بمطلقها سحرا محرّما، سواء كانت بالامور الواقعية أم بغيرها «3»- ممنوع.

لأنّ كونه كذبا لا يمنع عن كونه سحرا، بعد اشتماله على ما ذكر في تعريفه، المستفاد من انوار الفقاهة، ج 4، ص: 233

اللغة و العرف و موارد استعماله، و الالتزام بكون مطلقة

سحرا لا مانع منه إذا كان من هذا القبيل، أي كان مشتملا على أركان السحر المعتبرة في تعريفه.

و أمّا التنويم المغناطيسي بمجرّده فليس من السحر ظاهرا، بل هو أمر متداول له أسباب معروفة، بل قد يستفاد منه في الطبّ اليوم بدلا عن المواد الموجبة لفقد الحسّ و الشعور للعمليات الجراحية، أو لكشف ما في ضمير الإنسان من أسباب الأمراض النفسية التي قد لا يبرزه من مكنون ضميره في الحالات المتعارفة لغلبة الشعور الظاهر على الشعور الباطن، فإذا بطل الشعور الظاهر بقي الشعور الباطن مطلقا، فربّما يطلع الطبيب النفساني على السبب الأصلي للمرض و العقدة الموجبة له، فيعالجه من طريق حلّ عقدته، فهذا كلّه أمر جائز لا حرمة فيها لعدم وجود أركان معنى السحر فيها. نعم «المديوم» أعني الذي يكون محلا للنوم و وسيلة للاتّصال بالأرواح أو إحضارها و كشف مسائل مجهولة من الغائبات أو مسائل مختلفة بسببها، فهذا إن لم يكن داخلا في موضوع السحر فلا أقل من دخوله في حكمه بالغاء الخصوصية، بل لا يبعد دخوله في موضوع الكهانة أحيانا.

قال في مصباح اللغة: «الكاهن» من يخبر عن الماضي و المستقبل أو هو خصوص من يخبر عن المستقبل، كما يستفاد من محكي «نهاية ابن الأثير» و قد يخصّ المخبر عن الماضي باسم «العرّاف»، و من المعلوم أنّه لو خصّ «الكاهن» بمن يخبر عن المستقبل موضوعا فانّه يلحق به الماضي حكما، و سيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه في محلّه.

بقى هنا امور
الاوّل: هل الساحر كافر؟

الظاهر من غير واحد من روايات السحر أنّ الساحر كافر، و يؤيّده إجراء حدّ القتل عليه كما هو المعروف، بل لم ينقل فيه خلاف، فقد ذكر في باب الحدود أنّ حدّه القتل، و لكن من البعيد

جدّا إجراء هذا الحدّ في جميع أنواع السحر، بل ينصرف بقرينة الحكم و الموضوع إلى ما يوجب الكفر، مثل ما نقله في الجواهر عن بعض من تأخّر و لم يسمّه من اختصاص انوار الفقاهة، ج 4، ص: 234

الحكم بمستحلّه، و ان لم يرتض هو به و قال إنّ إطلاق النصّ و الفتوى يقتضي خلافه «1» و لكن ذكر في كتاب التجارة ما يظهر منه ذهاب جماعة إليه و توقّفه فيه «2».

و لكنّه لو تأمّل «قدّس اللّه سرّه» في موارد شمول السحر وسعة دائرته فلعلّه كان يغيّر رأيه فيما ذكره في كتاب الحدود لا سيّما أنّ الحدود تدرأ بالشبهات، و قد ذكرنا في محلّه لزوم إثباته بدلائل قطعية، أو ما هو نازل منزلتها من الظواهر البيّنة، لا بمجرّد مثل هذه الإطلاقات، أو يحمل على أنّ المراد به الساحر المدّعي للنبوّة أو الإمامة، أو من يهتك حرمات اللّه أو غير ذلك ممّا أشبهه.

الثاني: هل الساحر قادر على تغيير خلق اللّه؟

هل للسحر واقعية أم لا؟ قد يتوهّم أنّه ليست له واقعية أبدا، بل هو إظهار الباطل في صورة الحقّ، نعم قد يترتّب على هذا الأمر الخيالي أثر واقعي كمن سحره الساحر فأراه أشياء هائلة فصار مجنونا، و قد يؤيّد ذلك بخبر الاحتجاج «3».

و قد ذكر العلّامة المجلسي قدّس سرّه كلاما بليغا وافيا في المقام، و نقل فيه أقوالا مختلفة، فقال بعضهم لا حقيقة له، بل هو محض توهّم، بينما حكى عن جمع آخرين أنّ له حقيقة من أرادها فليراجعها «4».

و لكن الذي يظهر بملاحظة موارد استعمالاته لا سيّما في القرآن الحكيم أنّ له حقيقة في الجملة لا بالكليّة، بيان ذلك:

إنّ الساحر قد يؤثّر في عقل الإنسان أو قلبه و إرادته و ميوله بحيث يفرّق به

بين المرء و زوجه (كما ورد في الكتاب العزيز)، و هذا من أظهر مصاديق السحر، و له واقعية بلا ريب، و هذا من قبيل ما حكى عن الشيخ قدّس سرّه في الخلاف حيث قال:

«السحر له حقيقة و يصحّ منه أن يعقد و يؤثّر (و يوقى) و يسحر، فيقتل و يمرض و يكوع انوار الفقاهة، ج 4، ص: 235

الأيدي «1» و يفرّق بين الرجل و زوجته، و يتّفق له أن يسحر بالعراق رجلا بخراسان، فيقتل عند أكثر أهل العلم و أبي حنيفة و أصحابه و مالك و الشافعي» «2».

و ما ذكره و ان كان من بعض الجهات محلّ تأمّل و كلام، مثل ما في قوله يسحر رجل بالعراق من يكون بخراسان، و لكنّه على إجماله كلام جيّد من حيث تأثير السحر واقعا في الجملة.

و توضيحه ببيان آخر: إنّ هناك تفصيلا في ثبوت الواقعية للسحر و عدمه، و هو أنّ بعض مراتبه ثابتة قطعا، و ليس فيه أي تخيّل كما في سحر سحرة بابل كالتفريق بين المرء و زوجه، و ما أشبه ذلك، نعم قد يكون بامور خيالية، كما قد يكون بامور واقعية لا يلتفت إليها صاحبه، و لا يدري أنّه مسحور، و تشبيه الإمام عليه السّلام الساحر بالطبيب من بعض الجهات و أنّه احتال لكلّ صحّة آفة و لكلّ عافية عاهة (كما في رواية الإحتجاج) ناظر إليه.

و الظاهر أنّ سحر الساحر في مجلس الرضا عليه السّلام أيضا كان من هذا القبيل «3» و أجابه عليه السّلام بما قضى عليه.

و اخرى يكون بامور واقعية و خيالية توأمين، كما في سحر سحرة فرعون، فقد كانت حركة الحبال و العصي بالاستعانة بخواص الأدوية و الزيبق أو شبهه واقعية، و لكن

كونها حيّات تسعى كان أمرا خياليا، كما قال سبحانه و تعالى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى «4».

و ثالثة: يكون خياليا محضا كما في انشداد القلب و إيجاد عوالم خيالية في المسحور من هذا الطريق، و كذا في الشعبدة بناء على كونها من أقسام السحر.

و الظاهر أنّ الاختلاف بين من تقدّم و من تأخّر في هذا الباب نشأ من أنّ كلا منهم نظر إلى بعض هذه الأقسام و جعله المدار، و الأمر ظاهر بعد ما عرفت.

و أمّا قدرة الساحر على جعل إنسان بسحره في صورة الكلب و الحمار أو غير ذلك مثل انوار الفقاهة، ج 4، ص: 236

جعل القرطاس نقودا و رقيّة، و الخزف لؤلؤا، فذلك كلّه باطل لا دليل عليه كما في رواية الإحتجاج و قد مرّ ذكرها آنفا «1».

و لنعم ما استدلّ به عليه السّلام على ذلك من أنّه لو قدر الساحر على ذلك لنفي البياض من رأسه، و الفقر عن ساحته (و لم يحتج في معاشه إلى التوسّل بأمثال هذه الامور، بل جعل الخزف لؤلؤا و عاش منه أمدا بعيدا) مع ما نرى من خلافه.

الثالث: هل التسخيرات من السحر؟

قد عرفت أنّ التسخيرات من أنواع السحر إذا كانت فيها الخصوصيات الثلاثة السابقة المعتبرة في حقيقة السحر، حتّى في تسخير الحيوانات المؤذية، فما ذكره المحقّق الإيرواني قدّس سرّه من أنّ «الأمر في تسخير الحيوانات أوضح، فهل يمكن الالتزام بجواز تسخير الحيوانات بالقهر و الغلبة و الضرب، و مع ذلك لا يجوز تسخيرها بما يوجب دخولها تحت الخدمة طوعا» «2» ليس في محلّه.

و الذي أوقعه قدّس سرّه و غيره في الشبهة أنّهم لم يتحفّظوا على اصول ما يعتبر في مفهوم السحر «و أنّه نوع خرق عادة و لو في

الظاهر، و له أسباب خفيّة، و فيه خديعة» و لو احتفظوا بها لم يقيسوا تسخير الحيوانات من طريق الضرب به، فلو سحرها من طرق غريبة و بأسباب خفيّة و أظهر للناس أنّه حاكم عليها، و كان فيه نوع خديعة كان سحرا بلا ريب، نعم لو كان مجرّدا عن الخديعة كان كرامة أو علما خاصّا «فتدبّر جيّدا».

الرابع: يجوز دفع السحر بالسحر

هل يجوز دفع السحر بالسحر، و كذا تعلّمه لذلك، أو لدفع مدّعي الإعجاز و إن كان يدفع اللّه كيده إذا كان منشأ لإغواء الناس، و قد يكون دفع كيده من هذا الطريق بإلهام منه تعالى؟

و على كلّ حال، يدلّ على جوازه- لدفع الضرر و التوقّي، أو لرفعه و حلّه، أو لردّ دعوى المتنبى- ما ورد في قصّة هاروت و ماروت في القرآن من قوله تعالى وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 237

حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ «1» و المراد من الكفر هو استعماله في الإضرار لا لدفع الضرر، كما هو ظاهر الآية، و قوله تعالى أيضا وَ يَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ «2» فإنّه يدلّ على جواز تعلّم ما ينفع و لا يضرّ، و لا شكّ أنّ التعلّم هنا مقدّمة للعمل فإنّه لا منفعة في مجرّد العلم في أمثال المقام.

و يدلّ عليه أيضا روايات كثيرة أوردناها بلفظها في أوائل البحث «3».

نعم، يحتمل أن تكون الآية أو غير واحد من الروايات من أحكام الشرائع السابقة، و لكن من الواضح أنّ ذكرها بلسان القبول في القرآن و السنّة دليل على جريانها في هذه الشريعة أيضا.

و ضعف اسناد هذه الروايات غير قادح بعد تظافرها و ظهور العمل بها، نعم الظاهر اختصاصها بحال الضرورة، و ما أشار إليه

الجواهر- من عدم ورود هذا القيد في شي ء من أخبار الباب «4» غير مانع بعد الانصراف، و مناسبة الحكم و الموضوع في هذا الباب، و انحصار الطريق فيها، لكن القول بخروجها موضوعا عن عنوان السحر بعد عدم قصد الإضرار مشكل لما عرفت من عدم اعتبار عنوان الإضرار فيه.

الخامس: حكم تعليم السحر و تعلّمه

و من هنا يعلم حال تعليم السحر و تعلّمه، و موارد جوازه و منعه، لأنّه إنّما يكون مقدّمة لفعله، و نقل جوازه في الجواهر عن استاذه، و عن تفسير الرازي إنّه اتّفق المحقّقون على جوازه، فلو تعلّمه بعنوان الوقاية و دفع الضرر فلا شكّ في جوازه، بل لا يبعد الجواز إذا تعلّمه من دون ذلك و من دون قصد استعماله، بل للوقوف على مجرّد علمه، من دون أن يرتكب في هذا المسير شيئا من المنهيات.

نعم، إذا تعلّمه بقصد الحرام كان من مقدّمات الحرام، و حرّم من هذه الناحية، نعم في انوار الفقاهة، ج 4، ص: 238

الرواية السابعة من الباب 25 ما يدلّ على المنع من مجرّد تعلّمه، و لكن الظاهر أنّه ناظر إلى صورة تعلّمه بقصد استعماله، فتدبّر.

السادس: الطّلّسمات لفتح الحصون و شبهها

ما يحكى عن بعض العلماء الكبار من التوسّل ببعض الأدعية و الطّلّسمات لفتح الحصون و غلبة الجيوش، أو العوذة الواردة في بعض الروايات لدفع الأمراض و غيرها، فليست من السحر قطعا، بل و كذا ما يحكى عنهم من جعل حمّام حارا بشمعة- لو ثبت ذلك- بل ما هو موجود من بعض البنايات المتحرّكة كما في «اصفهان» أو غيرها، فليس شي ء من ذلك من السحر، لأنّه لم يقصد بها خديعة و ان كانت خوارق عادات بأسباب خفيّة، و هو ظاهر.

السابع: فرق آخر بين السحر و المعجزة

تبيّن ممّا ذكرنا فرق آخر بين السحر و المعجزة مضافا إلى ما مرّ و هو أنّ السحر دائما فيه نوع خديعة أو إضرار، و ليست المعجزة كذلك، مضافا إلى أنّ السحر محدود بأشياء تعلّمها الساحر، و المعجزة غير محدودة بشي ء.

11- الشعبذة

الشعبدة و الشعبذة- بفتح الشين- واحد من حيث الوزن و المعنى، و ذكر أرباب اللغة في معناها ما حاصله: «أنّها خفّة في اليد، و أعمال كالسحر، ترى الشي ء بالعين بغير ما هو عليه».

بل يظهر من بعضهم (كمنتهى الارب) أنّها من أقسام السحر، و لكن المصرّح في مصباح اللغة و لسان العرب أنّها كالسحر يرى الإنسان ما ليس له حقيقة.

قال العلّامة قدّس سرّه في «المنتهى»: و الشعبدة حرام و هي الحركات السريعة جدّا بحيث يخفى على الحسّ الفرق بين الشي ء أو شبهه، لسرعة انتقاله من الشي ء إلى شبهه.

و نقل في شرحه في المفتاح عن القاموس: «أنّها خفّة في اليد و أخذ كالسحر يرى الشي ء بغير ما عليه في رأى العين».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 239

و عن مجمع البحرين: «أنّها حركة خفيفة» ثمّ نقل النصّ على حرمتها عن النهاية و السرائر و الشرائع و النافع و التحرير و التذكرة و جمع آخر ممّن تأخّر، و حكى عن المنتهى أنّه لا خلاف فيه، ثمّ زاد هو نفسه: فلا وجه للتأمّل فيه بعد الإجماع المنقول بل المعلوم، إذ لم نجد مخالفا مع قربها من السحر، و قد ألحقها به الشهيد قدّس سرّه في الدروس» انتهى «1».

و ذكر مولانا العلّامة الأنصاري قدّس سرّه أنّها حرام بلا خلاف، ثمّ استدلّ على حرمتها بامور:

1- الإجماع.

2- دخولها في الباطل و اللهو.

3- دخولها في رواية الإحتجاج المنجبر ضعفها بعمل الأصحاب.

4- دخولها في بعض تعاريف السحر.

أقول:

العمدة في ذلك دخولها في السحر موضوعا أو حكما.

و توضيح ذلك: إنّ الإجماع المدّعى و عدم ظهور الخلاف و ان كان مؤيّدا قويا، و لكن لا يكون بمجرّده دليلا في المسألة، لما عرفت غير مرّة من عدم كشفه عن رأى المعصوم بعد وجود مدارك اخرى في المسألة يحتمل استناد المجمعين إليها.

و أمّا مجرّد كونه لهوا أو باطلا فهو أيضا غير كاف لعدم حرمة اللهو بقول مطلق، و أمّا خبر الاحتجاج و هو قوله: «و نوع آخر منه (أي من السحر) خطفة و سرعة و مخاريق و خفّة»، فالظاهر أنّه ليس من باب التعبّد بل تفسير للسحر بما له من المعنى العرفي.

فالعمدة هو دخولها في معنى السحر، لأنّ كثيرا من التعاريف المذكورة للسحر يشملها، بل الظاهر أنّ العناوين الثلاثة- أعني «خرق العادة» «بالأسباب الخفيّة» «مع الخديعة»- منطبقة عليها في الغالب، فقد يظهر المشعبذ بسبب سرعة عمله أنّه يبدّل القرطاس «نقودا و رقيّة» أو بالعكس، أو يجعل البيضة في لحظة واحدة فرخا، أو يلقى درهما إلى السماء لا يعود إليه، ثمّ يخرجه من فمّ بعض الحاضرين! و ليس ذلك إلّا لسرعة الحركات بيده، و إخفاء السكّة أو النقود الورقية في كمّه مثلا و قيامه ببعض الحركات السريعة، ثمّ إظهار أنّه أخرجها من فم بعض الحاضرين، فليس مجرّد لهو كما توهّم، بل أمر ظاهره خرق العادة، فلا يبعد

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 240

صدق السحر عليه، و رواية الإحتجاج المعمول بها عند الأصحاب مؤيّدة له.

و إن أبيت إلّا عن عدم دخولها في موضوعه، فلا شكّ في دخولها فيه حكما، بل ظاهر قضيّة سحرة فرعون انّهم كانوا مشعبذين في الجملة كما قال اللّه تعالى سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ وَ جاؤُ

بِسِحْرٍ عَظِيمٍ.

نعم لو صرّح المشعبد بأنّه لا يفعل ذلك إلّا بخفّة اليد و سرعة الحركات، و لم يرد به خديعة أمكن جوازها و إخراجها عن عنوان السحر.

و العجب بعد ذلك كلّه ممّا يظهر من بعض المعاصرين من نفي حرمتها مطلقا، لعدم وجدان دليل عليها أوّلا، و أنّ الذي يترتّب على الشعبذة أمر واقعي فهو مباين للسحر «1».

و كأنّه دام علاه لم ير ما يفعله المشعوذون، و لا استيقن أنّه ليس لها واقعية، بل الواقعية في مقدّماتها، فالأمر ظاهر بعد ما عرفت.

12- الغشّ و هاهنا مقامان:
المقام الأوّل: في حرمة الغش

لا إشكال و لا كلام في حرمة الغشّ إجمالا، و يدلّ عليه مضافا إلى الإجماع، و حكم العقل بأنّه ظلم و اعتداء- روايات كثيرة، و هي على طوائف:

الطائفة الاولى: ما يدلّ على نفي كون الغاشّ من المسلمين، و هي دالّة على الحرمة بأبلغ بيان، من قبيل:

1- ما رواه هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «ليس منّا من غشّنا» «2».

2- و بهذا الإسناد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم لرجل يبيع التمر:

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 241

«يا فلان، أما علمت أنّه ليس من المسلمين من غشّهم» «1».

3- عن الحسين بن زيد عن الصادق عليه السّلام عن آبائه (في حديث المناهي) عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال: «و من غشّ مسلما في شراء أو بيع فليس منّا، و يحشر يوم القيامة مع اليهود لأنّهم أغشّ الخلق للمسلمين»، قال: و قال عليه السّلام: «ليس منّا من غشّ مسلما» و قال:

«و من بات و في قلبه غشّ لأخيه المسلم بات في سخط اللّه و أصبح كذلك حتّى يتوب» «2».

4-

ما رواه الصدوق رحمه اللّه بسنده عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال في حديث: «و من غشّ مسلما في بيع أو في شراء فليس منّا و يحشر مع اليهود يوم القيامة لأنّه من غشّ الناس فليس بمسلم ... و من بات و في قلبه غشّ لأخيه المسلم بات في سخط اللّه و أصبح كذلك و هو في سخط اللّه حتّى يتوب أو يرجع، و إن مات كذلك مات على غير دين الإسلام»، ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «ألا و من غشّنا فليس منّا- قالها ثلاث مرّات- و من غشّ أخاه المسلم نزع اللّه بركة رزقه و أفسد عليه معيشته و وكّله إلى نفسه ...» «3».

5- و عنه أيضا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «ليس منّا من غشّ مسلما أو ضرّه أو ما كره» «4».

الطائفة الثّانية: ما دلّ على حرمة الغشّ و النهي عنه بعنوان عامّ، و هي كما يلي:

6- ما رواه هشام بن الحكم قال: كنت أبيع السابري «5» في الظلال، فمرّ بي أبو الحسن الأوّل موسى عليه السّلام «راكبا» فقال لي: «يا هشام إنّ البيع في الظلال غشّ، و الغشّ لا يحلّ» «6».

7- ما رواه موسى بن بكر قال: كنّا عند أبي الحسن عليه السّلام و إذا دنانير مصبوبة بين يديه فنظر إلى دينار فأخذه بيده ثمّ قطعه بنصفين ثمّ قال لي: «القه في البالوعة! حتّى لا يباع شي ء فيه غشّ» «7».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 242

8- ما رواه الحسين بن زيد الهاشمي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال جاءت زينب العطارة الحولاء إلى نساء النبي صلّى اللّه

عليه و آله و سلم و بناته و كانت تبيع منهنّ العطر، فجاء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و هي عندهنّ فقال: «إذا أتيتنا طابت بيوتنا»، فقالت: بيوتك بريحك أطيب يا رسول اللّه. قال: «إذا بعت فأحسني و لا تغشي فإنّه أتقى و أبقى للمال» «1».

9- ما رواه عبيس بن هشام عن رجل من أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: دخل عليه رجل يبيع الدقيق فقال: «إيّاك و الغش فإنّه من غشّ، غشّ في ماله، فإن لم يكن له مال غشّ في أهله!» «2».

هذا و لكن دلالة الأخيرة على الحرمة لا تخلو عن خفاء.

10- ما رواه سعد الاسكاف عن أبي جعفر عليه السّلام قال: مرّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في سوق المدينة بطعام فقال لصاحبه: «ما أرى طعامك إلّا طيّبا» و سأله عن سعره فأوحى اللّه عزّ و جلّ إليه أن يدسّ يده في الطعام، ففعل فأخرج طعاما رديّا فقال لصاحبه: «ما أراك إلّا و قد جمعت خيانة و غشّا للمسلمين» «3».

11- ما رواه الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الرجل يكون عنده لونان من طعام واحد سعرهما بشي ء و أحدهما أجود من الآخر، فيخلطهما جميعا ثمّ يبيعهما بسعر واحد، فقال: «لا يصلح له أن يغشّ المسلمين حتّى يبيّنه» «4».

12- ما رواه الحلبي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يشتري طعاما فيكون أحسن له و أنفق له أن يبله من غير أن يلتمس زيادته؟ فقال: «إن كان بيعا لا يصلحه إلّا ذلك و لا ينفقه غيره من غير أن يلتمس فيه زيادة فلا بأس، و إن كان إنّما يغشّ

به المسلمين فلا يصلح» «5».

الطائفة الثّالثة: ما دلّ على الحرمة في بعض مصاديق الغشّ، و لا دلالة له على العموم إلّا بتنقيح المناط مثل:

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 243

13- ما رواه داود بن سرحان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: كان معي جرابان من مسك:

أحدهما رطب، و الآخر يابس، فبدأت بالرطب فبعته، ثمّ أخذت اليابس أبيعه، فإذا أنا لا أعطي باليابس الثمن الذي يسوي و لا يزيدوني على ثمن الرطب، فسألته عن ذلك أ يصلح لي أن أنديه قال: «لا، إلّا أن تعلمه» قال: فنديته ثمّ أعلمته، فقال: «لا بأس به إذا أعلمتهم» «1».

14- ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: نهى النّبي «رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم» أن يشاب اللبن بالماء للبيع «2».

إلى غير ذلك ممّا ورد في كتب العامّة و الخاصّة، و هذه الروايات و إن كان بعضها صحيح الاسناد و بعضها ضعيفا، و لكن مع تظافرها و ضمّ بعضها ببعض فيها غنى و كفاية، بل و فوق حدّ الكفاية، بل ادّعى فيها التواتر و ليس ببعيد.

و ليعلم أنّ كثيرا منها و إن اختصّ بالغشّ في التجارة و البيع، و لكن الظاهر كون بعضها أعمّ من الغشّ فيها و في النصح، و في سائر شئون الحياة مثل:

15- ما رواه الحسين بن خالد عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «من كان مسلما فلا يمكر و لا يخدع فإنّي سمعت جبرئيل يقول: إنّ المكر و الخديعة في النار. ثمّ قال: ليس منّا من غشّ مسلما و ليس منّا من خان مسلما ...»

«3».

و غيرها من الأحاديث.

المقام الثّاني: في معنى الغش

يظهر من كلمات أهل اللغة أنّه يستعمل في معان كثيرة متقاربة المعنى منها: «ضدّ النصح» و «عدم الخلوص» و «الخيانة» و «الخدعة» و أصله من الغشش، و هو المشرب انوار الفقاهة، ج 4، ص: 244

الكدر، ثمّ استعمل في غيره، و يعبّر عنه بالفارسية ب (فريب، خيانت، تقلّب، ناخالصى) إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الغشّ على أقسام:

1- منها ما إذا شوب جنس بغير جنس، كشوب اللبن بالماء و الحنطة بالتراب.

2- شوب الجيّد بالردي ء كما في الحنطة و الارز و الدهن و الفواكه و التمر.

3- جعل الجيّد أعلاه و الردي ء أسفله بحيث لا يرى، كما هو المعمول في أكثر صناديق الفواكه في أيّامنا (مع الأسف).

4- جعل شي ء في مكان يكتسب ثقلا كالحرير في مكان مرطوب بارد، فهذا غشّ بحسب الكميّة على عكس ما سبق فانّه من ناحية الكيفية.

5- إخفاء العيب الموجود في الحيوان أو المتاع الذي لا يكون ظاهرا للناظر.

6- جعل المتاع في الضوء الشديد أو الظلمة إذا كان يرى فيهما بخلاف ما هو عليه، كبيع السابرين في الظلال، و بيع بعض الفواكه تحت الضوء الغالب.

7- إذا باع شيئا بعنوان أنّه ذهب، فبان مموّها فالغشّ واقع في جنس المتاع.

8- و قد يكون منه المدح الشديد من المتاع بحيث يبدو في نظره بخلاف ما هو عليه من الأوصاف، إلى غير ذلك من الأقسام المتصوّرة أحيانا.

و من ناحية اخرى يمكن تقسيمه بما لا يعلم إلّا من قبله كشوب اللبن بالماء في بعض مراحله، و ما يعلم بعد الدقّة و التأمّل، و أمّا ما هو ظاهر عند أوّل النظر فالظاهر أنّه ليس من الغشّ، و أمّا غيره حرام، و يدلّ عليه مضافا إلى إطلاقات الحرمة التصريح به

في رواية سعد الإسكاف «1».

و من ناحية ثالثة يمكن تقسيمه بما يكون الغاشّ عالما و المغشوش له جاهلا مطلقا، أو جاهلا بمرتبة منه، و إن كان عالما بمرتبة اخرى، و الظاهر اعتبار علم الغاشّ و جهل المغشوش له على كلّ حال، فلو كان الأمر بالعكس أو كلاهما عالمين أو جاهلين لم يكن من الغشّ أبدا.

و الظاهر حرمة جميع ما مرّ من أقسامه ممّا يسمّى غشّا عرفا، كما أنّ الظاهر كون حرمته انوار الفقاهة، ج 4، ص: 245

بذاته لا بالعناوين العارضية كما توهّمه بعض أهل التحقيق. فقال: «مجرّد شوب اللبن بالماء مثلا ليس حراما، و كذا عرضه للبيع و كذا الإنشاء فالحرام أخذ الثمن في مقابله» «1».

و فيه: إنّ ظاهر الأدلّة حرمة الغشّ تكليفا الحاصل من هذه المقدّمات، و عدم حرمة كلّ واحد لا ينافي حرمة المجموع من حيث المجموع، و هذا نظير الحكاية المعروفة فيمن كان بصدد تحديد اللعب بالآلات من طريق التفرقة بين مقدّماته!

ثمّ إنّ ما هو المتعارف من تزيين الأمتعة بجعلها في غلاف، أو زجاجة، أو محلّ خاص، و غير ذلك من وسائل التزيين، لا يعدّ غشّا ما لم يكن سببا لإظهار الخلاف، و مصداقا للخدعة و الخيانة و إن أوجب توفّر الدواعي إليها، فانّه لا شكّ في أنّ الماء الذي هو أبسط الأشياء إذا كان في آنية البلّور و في صحائف جيّدة مع تشريفات اخرى، تطلّعت النفوس إليه، مع أنّه ليس غشّا و كذلك غيره من أشباهه.

بقى هنا امور:

الأوّل: هل يعتبر قصد التلبيس في مفهومه؟ فلو لم يكن الغشّ بسبب فعله، كما إذا سقط إناء الماء في اللبن من دون اختياره، و لم يكن من قصده التلبيس فباعه من دون إعلامه، فهل هو

غشّ؟

الذي يظهر من شيخنا العلّامة الأنصاري قدّس سرّه جواز بيعه، بل حكى عن العلّامة رحمه اللّه في التذكرة إنّه منع كون البيع مطلقا مع عدم الإعلام بالعيب غشّا بل استظهر ذلك من رواية الحلبي «2» و «3».

و لكنّه عجيب، و لازمه جواز بيع المغشوش الذي اشترى من غيره بعد علمه بذلك، لأنّ الغشّ كان من غيره لا منه، و يبعد الالتزام به، و ما ذكره من عدم القصد قد عرفت جوابه مرارا

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 246

في مباحث بيع العنب ممّن يعمله خمرا، من أنّ القصد في أمثال المقام قهري، و كيف لا يقصد الغشّ مع كون اللبن ممزوجا بالماء، و هو يعلم و غيره لا يعلم به.

و إن شئت قلت: ظاهر عرض كلّ متاع إلى المشتري كونه سليما، و هذا الظاهر قائم مقام البيان من بعض الجهات، فلو لم يبيّن كان غاشّا، و منه يظهر الإشكال فيما حكاه عن العلّامة أيضا رحمه اللّه، فتأمّل.

الثّاني: هل يختصّ الحكم بالبيع كما هو ظاهر كثير من روايات الباب، أو يجري في غيره أيضا؟.

الظاهر جريانه في جميع المعاوضات، لإطلاق الأدلّة و عموم الملاك، و أمّا في مثل الهبة و العارية و الهدية و أشباهها فلا، فلو مزج اللبن بالماء ثمّ وهبه أو استضاف قوما بشي ء ممزوج بغيره ممّا هو حلال لم يكن حراما بلا إشكال، كذا لو خلط الجيّد من الحنطة بالردئ، ثمّ أنفقه على الفقراء و شبه ذلك.

و العلّة فيها- مضافا إلى انصراف الأدلّة إلى المعاوضات- إنّه ليس في موردها ظهور للفعل مثلا في كون الموهوب سليما من كلّ عيب، فليس خيانة و خديعة.

الثّالث: في حكم المعاملة المغشوشة قد يقال ببطلان هذه المعاملة لأمور:

1- ما ذكره جامع المقاصد

من أنّ القصد تعلّق بما هو خالص عن الغشّ، فما قصده لم يقع و ما وقع لم يقصد، و فيه: أنّه جار في بيع المعيب، و موارد تخلّف الوصف و الشرط، و لازمه فساد الجميع، مع أنّه ليس كذلك، و سيأتي حلّ المسألة إن شاء اللّه.

2- أنّه ورد النهي عن هذا البيع في قوله «حتّى لا يباع شي ء فيه غشّ» «1» الذي ظاهره الفساد.

و لذا قطعه هو عليه السّلام بنصفين و ألقاه في البالوعة.

و فيه: مضافا إلى ضعف سنده، إنّه كان في الدراهم المغشوشة، و هي من قبيل ما ليس له منفعة محلّلة كآلات القمار، فهو خارج عمّا نحن فيه، و قد عرفت الكلام فيه سابقا.

3- إنّ النهي عن الغشّ دليل على فساد المعاملة، لاتّحادهما (اتّحاد الغشّ و المعاملة).

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 247

و فيه: إنّ النهي في المعاملات لا يدلّ على الفساد إلّا إذا تعلّق بذاتها، لا بعنوان خارج عنها اتّحد معها، كما في المعاملة وقت النداء، أو ما يكون إعانة على الإثم، لعدم اعتبار القربة فيها، و لا وجه للفساد غيرها.

و قد يقال أنّ المسألة مبنية على ما ذكروه في مبحث تقدّم «الإشارة» على «الوصف» و عدمه، في مثل ما لو قال: بعتك هذا الفرس العربي، فبان غير عربي، و فيما نحن فيه إذا قال:

بعتك هذا اللبن أي غير المغشوش، فبان مغشوشا.

و فيه: أنّ تلك المسألة ناظرة إلى مقام الإثبات، و نحن الآن بصدد مقام الثبوت، و مفروض الكلام ما إذا تعلّق القصد بغير المغشوش و لكن مع ذلك لا يكون محكوما بالفساد.

و تحقيق الحال أن يقال- بعد كون محلّ النزاع البيع الشخصي، و أمّا الكلّي فلا شكّ في صحّته و لزوم تبديل المصداق،

أنّ في المسألة وجوها ثلاثة:

1- أن يكون الغشّ بغير الجنس كأن يبيع غير الحرير بعنوان الحرير.

2- أن يكون الغشّ بالمعيوب.

3- أن يكون الغشّ بخلاف الوصف الظاهر منه، كالثياب التي تباع في الظلال فترى أحسن ممّا تكون.

4- أن يكون فيه وزنا كاذبا كالحرير الذي جعل في مكان بارد مرطوب فاكتسب وزنا.

5- أن يكون باخفاء الوزن و إظهاره بعنوان أنّه كذا مع كونه أقلّ، و كذا العدد، و أحكام هذه الأقسام مختلفة.

أمّا الأوّل: فلا إشكال في بطلانه، لاختلاف أركان المعاملة و عدم القصد إلى ما وقع.

أمّا الثّاني: فلا ينبغي الكلام في صحّته و كونه موجبا لخيار العيب و سائر أحكامه، لشمول أدلّتها له، و ليعلم أنّ هذا قد يكون بسبب مزجه بغير جنسه كاللبن المخلوط بالماء اليسير بحيث لم يخرجه عن اسمه، بل يصدق عليه عنوان اللبن المعيوب، و اخرى يكون مخلطه بالردي ء منه أو شبه ذلك.

أمّا الثالث: فكما إذا جعل الجيّد فوق الردي ء من غير أن يكون معيوبا، و كان قوله أو فعله ظاهرا في أنّ الجميع مثل ما يرى، فهذا من قبيل تخلّف الشرط أو التدليس، فلا يبطل البيع انوار الفقاهة، ج 4، ص: 248

معه، و لكن له خيار تخلّفه، و لا فرق في ذلك بين كون رضاه مشروطا به و عدمه، لأنّ المعاملات لا تدور مدار الدواعي الشخصية، و لذا لا يتفاوت الحال بذلك في وصف الصحّة، و كذا بيع ما يملك و ما لا يملك، فإنّهما صحيحان مع الخيار (خيار العيب و خيار تبعّض الصفقة) و ان كان رضا المشتري منوطا بهما جميعا، فالمدار في هذه الأبواب على الدواعي النوعية لا الشخصية.

أمّا الرابع: فيمكن إرجاعه إلى تخلّف الوصف أو التدليس، لأنّ المتاع و إن

كان صحيحا بحسب الوزن و ليس معيوبا، و لكن فيه وصف يجعله أقلّ ممّا هو عليه، فإذا زالت برودته زال ثقله.

و يمكن أن يقال إنّه من باب التطفيف حكما، و إن لم يكن داخلا فيه موضوعا، فتصحّ المعاملة ببعض الثمن، و له خيار تبعّض الصفقة، لا سيّما إذا صبر حتّى نقص الوزن، و ليس ببعيد.

و منه يظهر الحال في الخامس أيضا، فانّه تطفيف مع الغشّ، أو شبه التطفيف معه، كما إذا باع العين الحاضرة بعنوان أنّها جزءان لكتاب الكفاية فبان جزءا واحدا، و في جميع ذلك يصحّ البيع مع خيار تبعّض الصفقة، إلّا أن يكون من قبيل أحد مصراعي الباب، أو أحد زوجي الخفّ، ففي ذلك يشكل صحّة البيع مطلقا بعد عدم الفائدة في أحد الزوجين غالبا، و ما قد يتراءى من بعضهم الصحّة حتّى في أمثال ذلك بعيد جدّا، و تمام الكلام في محلّه في «بيع ما يملك و ما لا يملك».

هذا كلّه بحسب مقام الثبوت، أمّا بحسب مقام الإثبات فقد يتردّد بين كون المسألة من قبيل تخلّف الوصف، أو الجنس، أو لا هذا و لا ذلك كما إذا قال: بعتك هذا اللبن، و قلنا بأنّ لفظ اللبن ظاهر في الصحيح الخالص، بناء على أنّه من باب تعارض التوصيف و الإشارة، فإن قلنا الترجيح للإشارة، فالبيع صحيح، و ان قلنا الترجيح للوصف فقد ينقدح الإشكال فيه بسبب كون المبيع غير موجود و الموجود غير مبيع.

فالحاصل أنّ الغشّ حرام بحسب الحكم التكليفي، و المعاملة المشتملة عليه حرام، و أمّا من حيث الحكم الوضعي، ففيه تفصيل كما عرفت.

13- الغناء
اشارة

حرمة الغناء على إجماله معروف مشهور بين علماءنا، و قد ادّعى غير واحد من فقهائنا عدم الخلاف فيه،

بل ادّعى في الجواهر الإجماع عليه بقسميه «1».

إلّا أنّه خالف فيه بعض متأخّري المتأخّرين، فقال بعدم حرمته إلّا إذا اشتمل على حرام من خارج، قال في الحدائق: «لا فرق في ظاهر كلام الأصحاب بل صريح جملة منهم في كون ذلك في قرآن أو دعاء أو شعر أو غيرها»، إلى أن انتهت النوبة إلى المحدّث الكاشاني، فنسج في هذا المقام على منوال الغزالي و نحوه من علماء العامّة، فخصّ الحرام منه بما اشتمل على محرّم من خارج مثل اللعب بآلات اللهو كالعيدان، و دخول الرجال (على النساء) و الكلام بالباطل، و إلّا فهو في نفسه محرّم «2» و عن المحقّق السبزواري قدّس سرّه في الكفاية موافقته في ذلك «3».

و الكلام فيه في مقامات:

المقام الأوّل: في الأدلّة الدالّة على حرمة الغناء
اشارة

و استدلّ له تارة بالإجماع، و اخرى بآيات مثل قوله تعالى: وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ «4» وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ «5».

و قوله تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ «6».

و لكن شي ء من ذلك مع قطع النظر من روايات الباب لا يدلّ على حرمته، و العمدة هنا الروايات الكثيرة بل المتواترة، فالأولى صرف عنان الكلام إليها، فنقول (و من اللّه سبحانه نستمدّ التوفيق): هي على طوائف:

الطائفة الاولى: ما دلّ على أنّه داخل في عنوان الزور الوارد في كلامه تعالى المنهي منه و هي روايات:

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 250

1- ما رواه زيد الشحّام قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ قال: «قول الزور الغناء» «1».

2- ما رواه أبو السبّاح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله عزّ و جلّ: لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ قال:

«الغناء» «2».

3- و ما رواه

أبو الصباح الكناني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ قال: «الغناء» «3».

4- ما رواه ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه تعالى: قال:

وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ «قول الزور الغناء» «4».

5- ما رواه أبو بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ قال: «الغناء» «5».

6- ما رواه عبد الأعلى قال: سألت جعفر بن محمّد عليهما السّلام: عن قول اللّه عزّ و جلّ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ قال: «الرجس من الأوثان الشطرنج و قول الزور الغناء» قلت: قول اللّه عزّ و جلّ: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قال: «منه الغناء» «6».

7- ما رواه حمّاد بن عثمان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال سألته عن «قول الزور» قال: «منه قول الرجل للذي يغنّي: أحسنت» «7».

8- ما رواه محمّد بن عمرو بن حزم في حديث قال: دخلت على أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال:

«الغناء، اجتنبوا الغناء، اجتنبوا قول الزور، فما زال يقول: اجتنبوا الغناء اجتنبوا فضاق بي المجلس و علمت أنّه يعنيني» «8».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 251

9- ما رواه هشام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ قال: «الرجس من الأوثان الشطرنج و قول الزور الغناء» «1».

الطائفة الثّانية: ما دلّ على أنّه داخل تحت عنوان «لهو الحديث» الوارد في قوله تعالى:

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ «2» و هي روايات:

10- ما رواه محمّد بن

مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال سمعته يقول: «الغناء ممّا وعد اللّه عليه النار»، و تلا هذه الآية: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ «3».

11- ما رواه مهران بن محمّد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال سمعته يقول: «الغناء ممّا قال اللّه عزّ و جلّ: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ «4».

12- ما رواه الوشّاء قال سمعت أبا الحسن الرضا عليه السّلام يقول: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن الغناء فقال: «هو قول اللّه عزّ و جلّ: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ «5».

13- ما رواه الحسن بن هارون قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «الغناء مجلس لا ينظر اللّه إلى أهله و هو ممّا قال اللّه عزّ و جلّ: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ «6».

14- ما رواه الفضل بن الحسن الطبرسي (في مجمع البيان) قال: روي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه و أبي الحسن الرضا عليهم السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ إنّهم قالوا:

«منه الغناء» «7».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 252

و قد يتوهّم أنّ هاتين الطائفتين دليلان على أنّ الغناء من مقولة المعنى، لا الألحان و الأصوات، و الظاهر أنّه ليس كذلك، بل لا مانع من أن يكون من مقولة الألحان كما سيأتي إن شاء اللّه.

الطائفة الثّالثة: ما دلّ على النهي عنه و تحاشى أئمّة الدين عليهم

السّلام منه، و هي روايات:

15- ما رواه زيد الشحّام قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة و لا تجاب فيه الدعوة و لا يدخله الملك» «1».

16- ما رواه إبراهيم بن محمّد المدني عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سئل عن الغناء و أنا حاضر، فقال: «لا تدخلوا بيوتا اللّه معرض عن أهلها» «2».

17- ما رواه يونس قال: سألت الخراساني عليه السّلام عن الغناء و قلت إنّ العبّاسي ذكر عنك إنّك ترخص في الغناء فقال: «كذب الزنديق، ما هكذا قلت له، سألني عن الغناء» فقلت:

إنّ رجلا أتى أبا جعفر عليه السّلام فسأله عن الغناء فقال: «يا فلان إذا ميّز اللّه بين الحقّ و الباطل فأين يكون الغناء؟» قال مع الباطل، فقال: «قد حكمت» «3».

18- ما رواه عبد الأعلى قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الغناء و قلت: إنّهم يزعمون أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم رخّص في أن يقال: جئناكم جئناكم حيّونا حيّونا نحيّكم، فقال: «كذبوا، إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ «4» لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ* بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ «5» ثمّ قال: ويل لفلان ممّا يصف، رجل لم يحضر المجلس» «6».

19- ما رواه في المقنع عن الصادق عليه السّلام قال: «شرّ الأصوات الغناء» «7».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 253

20- ما رواه الحسن بن هارون قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «الغناء يورث النفاق و يعقب الفقر» «1».

21- ما رواه جابر بن

عبد اللّه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال: «كان إبليس أوّل من تغنّى و أوّل من ناح، لمّا أكل آدم من الشجرة تغنّى فلمّا هبطت حوّاء إلى الأرض ناح لذكره ما في الجنّة» «2».

22- ما رواه الحسن بن محمّد الديلمي في «الإرشاد» قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «يظهر في أمّتي الخسف و القذف». قالوا: متى ذلك؟ قال: «إذا ظهرت المعازف و القينات و ...» «3».

23- و فيه عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال: «إذا عملت أمّتي خمس عشرة حصلة حلّ بهم البلاء ...

و اتخذوا القينات و المعازف ...» «4».

24- ما رواه عاصم بن حميد قال: قال لي أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّى كنت؟ فظننت أنّه قد عرف الموضع، فقلت جعلت فداك إنّي كنت مررت بفلان فدخلت إلى داره و نظرت إلى جواريه.

فقال: «ذاك مجلس لا ينظر اللّه عزّ و جلّ إلى أهله، أمنت اللّه على أهلك و مالك؟» «5».

كأنّه كانت جواريه مغنيات، و هذا يناسب التعبير بالمجلس في الحديث.

25- ما رواه محمّد بن علي بن الحسين قال: سأل رجل علي بن الحسين عليهما السّلام عن شراء جارية لها صوت، فقال: «ما عليك لو اشتريتها فذكرتك الجنّة»، يعني بقراءة القرآن و الزهد و الفضائل التي ليست بغناء، فامّا الغناء فمحظور «6».

26- ما رواه الصدوق رحمه اللّه باسناده عن الأعمش عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام في حديث شرائع الدين قال: «و الكبائر محرّمة و هي الشرك باللّه ... و الملاهي التي تصدّ عن ذكر اللّه عزّ و جلّ مكروهة كالغناء و ضرب الأوتار ...» «7» و لا يضرّ التعبير بالكراهة بعد التصريح

بالكبائر المحرّمة.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 254

الطائفة الرّابعة: ما يدلّ على أنّ أجر المغنية سحت بحيث يستفاد منه عدم منفعة محلّلة لها من حيث الغناء، و هي روايات:

27- ما رواه الصدوق رحمه اللّه في «إكمال الدين» عن إسحاق بن يعقوب في التوقيعات التي وردت عليه من محمّد بن عثمان العمري بخطّ صاحب الزمان عليه السّلام «... و ثمن المغنية حرام» «1».

28- ما رواه إبراهيم بن أبي البلاد قال: قلت لأبي الحسن الأوّل عليه السّلام: جعلت فداك إنّ رجلا من مواليك عنده جوار مغنيات قيمتهنّ أربعة عشر ألف دينار و قد جعل لك ثلثها.

فقال: «لا حاجة لي فيها، إنّ ثمن الكلب و المغنية سحت» «2».

29- ما رواه إبراهيم بن أبي البلاد قال: أوصى إسحاق بن عمر بجوار له مغنيات أن تبيعهنّ و يحمل ثمنهنّ إلى أبي الحسن عليه السّلام ... فقال عليه السّلام: «لا حاجة لي فيه إنّ هذا سحت، و تعليمهنّ كفر، و الاستماع منهنّ نفاق، و ثمنهنّ سحت» «3».

30- ما رواه الحسن بن علي الوشاء قال: سئل أبو الحسن الرضا عليه السّلام عن شراء المغنية قال: «قد تكون للرجل الجارية تلهيه و ما ثمنها إلّا ثمن الكلب و ثمن الكلب سحت و السحت في النّار» «4».

31- ما رواه سعيد بن محمّد الطاطري عن أبيه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سأله رجل عن بيع الجواري المغنيات فقال: «شرائهنّ و بيعهنّ حرام و تعليمهنّ كفر و استماعهنّ نفاق» «5».

الطائفة الخامسة: ما دلّ على حرمة استماعه ممّا يعلم منه حرمة أصله، و هي أيضا روايات:

32- ما رواه الحسن قال: كنت اطيل القعود في المخرج لأسمع غناء بعض الجيران قال:

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 255

فدخلت على أبي عبد

اللّه عليه السّلام فقال لي: «يا حسن إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا السمع و ما وعى، و البصر و ما رأى، و الفؤاد و ما عقد عليه!» «1».

33- ما رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السّلام قال: سألته عن الرجل يتعمّد الغناء يجلس إليه؟ قال: «لا» «2».

34- ما رواه عنبة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «استماع اللهو الغناء ينبت النفاق كما ينبت الماء الزرع» «3».

35- ما رواه مسعدة بن زياد قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام، فقال له رجل: بأبي أنت و امّي إنّي أدخل كنيفا ولي جيران و عندهم جوار يتغنين و يضربن بالعود، فربّما أطلت الجلوس استماعا منّي لهنّ، فقال عليه السّلام: «لا تفعل»، فقال الرجل: و اللّه ما أتيتهنّ، إنّما هو سماع أسمعه باذني، فقال عليه السّلام: «باللّه أنت أما سمعت اللّه يقول: إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا فقال بلى و اللّه، كأنّي لم أسمع بهذا الآية من كتاب اللّه من عربي و لا عجمي، لا جرم أنّي لا أعود إن شاء اللّه، و إنّي استغفر اللّه فقال له: «قم و اغتسل و صلّ ما بدا لك فانّك كنت مقيما على أمر عظيم ما كان أسوأ حالك لو مت على ذلك، احمد اللّه و سله التوبة من كلّ ما يكره، فإنّه لا يكره إلّا كلّ قبيح، و القبيح دعه لأهله فانّ لكلّ أهلا» «4».

الطائفة السّادسة: ما دلّ على حرمة الغناء في القرآن و هي أيضا روايات:

36- ما رواه في عيون الأخبار ... عن الرضا عليه السّلام عن آبائه عن علي

عليهم السّلام قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم يقول: «أخاف عليكم استخفافا بالدين، و بيع الحكم، و قطيعة الرحم و ان تتّخذوا القرآن مزامير تقدّمون أحدكم و ليس بأفضلكم في الدين» «5».

37- ما رواه عبد اللّه بن عبّاس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم في حديث قال: «إنّ من أشراط

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 256

الساعة إضاعة الصلوات ... فعندها يكون أقوام يتعلّمون القرآن لغير اللّه و يتّخذونه مزامير ... و يتغنّون بالقرآن ...» «1».

38- ما رواه عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «اقرءوا القرآن بألحان العرب و أصواتها و إيّاكم و لحون أهل الفسق و أهل الكبائر فإنّه سيجي ء من بعدي أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء و النوح و الرهبانية لا يجوز تراقيهم ...» «2».

أضف إلى ذلك ما دلّ على وضوح حرمته بين الناس و تحاشي الأئمّة عليهم السّلام عنه بحيث يعرفه كلّ أحد مثل:

39- ما رواه معمّر بن خلّاد عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: خرجت و أنا اريد داود بن عيسى بن علي، و كان ينزل بئر ميمون و على ثوبان غليظان، فلقيت امرأة عجوزا و معها جاريتان فقلت: يا عجوز! أتباع هاتان الجاريتان؟ فقالت نعم، و لكن لا يشتريهما مثلك! قلت: و لم؟ قالت: لأن إحداهما مغنية و الاخرى زامرة ... «3».

و ما دلّ على نزول البلاء على بيوت الغناء مثل:

40- ما رواه زيد الشحّام قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة، و لا تجاب فيه الدعوة و لا يدخله الملك» «4».

فهذه

أربعون حديثا فيها صحاح و غيرها، و دلالتها على المطلوب قويّة، لا سيّما بعد ضمّ بعضها ببعض، كما أنّ أسنادها متواترة، و عليه عمل الأصحاب به.

دليل المخالف:

ثمّ إنّه لا شكّ في أنّ الغناء كان مشتملا غالبا في تلك الأعصار و في كلّ عصر على محرّمات كثيرة مضافا إلى هذا العنوان أهمّها: كون الغناء بأصوات الجواري اللاتي يحرم استماع صوتهنّ قطعا بهذه الكيفية، فإذا لم يرض الشارع «خضوعهنّ في القول» فكيف يرضى بمثل ذلك؟!

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 257

و كذا الضرب بآلات اللهو، و اشتمالها على وصف ما يحرم، أو يوجب الفساد في القلوب.

و دخول الرجال على النساء إلى غير ذلك من المحرّمات.

و لا أقل أنّ هذه الأربعة ممّا كانت من المقارنات الغالبة، بل و قد تزيد عليها امور اخرى أحيانا كشرب الخمور، و مزاولة الغلمان، و غيرهما، و لا يزال المترفون و الجبّارون و أهل المعاصي يتعاطونها بهذه الكيفية، فهل أنّ الحرمة ناظرة إلى هذا الفرد الشائع الغالب المقارن للمحرّمات، أو نفس عنوان الغناء مجرّدا عنها؟

ظاهر ما عرفت من الإطلاقات حرمة الغناء بعنوانه، و لو خلّي عن جميع ما ذكر إلّا أن يدلّ دليل على خلافه.

و غاية ما استدلّ به أو يمكن الاستدلال له امور:

الأوّل: ما ذكره في الوافي (و قد أشرنا إليه آنفا) من أنّ الذي يظهر من مجموع روايات الغناء أنّها ناظرة إلى ما كان متعارفا في زمن بني اميّة و بني العبّاس من دخول الرجال على النساء، و تكلّمهنّ بالأباطيل، و لعبهنّ بالملاهي، و أمّا غير ذلك فلا محذور فيه، فلا بأس بسماع الغناء بما يتضمّن ذكر الجنّة و النار و التشويق إلى دار القرار و الترغيب إلى اللّه و إلى طاعته (انتهى

ملخّصا) «1».

هذا و قد عرفت أنّ هذا الانصراف لا وجه له بعد أخذ هذا العنوان في متن الأحاديث الكثيرة الظاهرة في حرمته بنفسه.

الثاني: الروايات الكثيرة الدالّة على مدح الصوت الحسن و الأمر به في قراءة القرآن و أنّه من أجمل الجمال، و أنّه صفة الأنبياء المرسلين و هي كثيرة منها:

1- ما رواه عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «لكلّ شي ء حلية و حلية القرآن الصوت الحسن» «2».

2- ما روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كان علي بن الحسين عليهما السّلام أحسن الناس صوتا

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 258

بالقرآن، و كان السقاؤون يمرّون فيقفون ببابه يستمعون قراءته» «1».

3- ما رواه أبو بصير قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: إذا قرأت القرآن فرفعت به صوتي جاءني الشيطان فقال: إنّما ترائي بهذا أهلك، و الناس، فقال: «يا أبا محمّد اقرأ قراءة ما بين القراءتين تسمع أهلك ... و رجّع بالقرآن صوتك فإنّ اللّه عزّ و جلّ يحبّ الصوت الحسن يرجّع فيه ترجيعا» «2».

4- و ما رواه الحسن بن عبد اللّه التميمي عن أبيه عن الرضا عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم:

«حسّنوا القرآن بأصواتكم، فإنّ الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا» «3».

و هناك روايات اخر رواها الكليني في الكافي «4».

هذا و الإنصاف أنّه لا دلالة لشي ء من هذه الروايات على ما نحن بصدده من مسألة الغناء، فانّ مجرّد الترجيع كما سيأتي ليس غناء، بل الغناء نوع صوت لهوي كما سيأتي تعريفه، و الصوت الحسن أعمّ منه، و ما أمر به في القرآن ليس هو القسم اللهوي منه قطعا،

نعم لو قلنا بكون مجرّد الترجيع (و هو ترديد الصوت في الحلق) داخلا في الغناء، كان بعض هذه دليلا على المطلوب، و لعلّ إلى ما ذكرنا يشير بعضها الدالّة على النهي عن «ترجيع القرآن ترجيع الغناء»، فالترجيع له نوعان، أحدهما غناء، و الآخر ليس كذلك.

الثّالث: ما رواه في قرب الاسناد عن علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام قال: سألته عن الغناء هل يصلح في الفطر و الأضحى و الفرح قال: «لا بأس ما لم يعص به» «5».

فلو كان المراد من «عدم العصيان به» عدم وجود محرّم آخر معه كان دليلا، و أمّا لو كان عدم العصيان بنفس الغناء- أعني الصوت- كان دليلا على الخلاف، و لكن ظاهره أنّ مجرّد الغناء ليس معصية، و لكن سند الحديث محلّ إشكال.

و روى هذا الحديث علي بن جعفر في كتابه، إلّا أنّه قال «ما لم يزمر به» و سنده أوضح انوار الفقاهة، ج 4، ص: 259

لصحّته كدلالته، لأنّ عدم التزمّر به بمعنى عدم كون المزمار معه، فهو دليل على عدم كونه بنفسه حراما، بل بما يقترن معه.

و أمّا ما في مصباح الفقاهة من أنّ المراد عدم كون الصوت صوت مزماري «1» فهو يحتاج إلى تقدير أو مجاز، و هو مخالف لظاهر الحديث.

كما أنّ احتمال اختصاص الحكم بمورد الرواية أبعد، لأنّ الفرح أمر عام يشمل جميع أنواع الفرح الذي يقارنه.

الرّابع: ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام بعدّة طرق، ففي طريق قال: قال عليه السّلام: «أجر المغنية التي تزفّ العرائس ليس به بأس، و ليست بالتي يدخل عليها الرجال» «2».

و رواه في الوسائل بطريق آخر يتّصل إلى أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن

كسب المغنيات، فقال: «التي يدخل عليها الرجال حرام و التي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس» (الحديث) «3». و دلالته أوضح من سابقه.

و قد يجاب عنهما بأنّ استثناء زفاف العرائس لا دلالة على جواز ذلك مطلقا، و لكن يرد عليه أنّ التعبير فيهما إنّما هو بعنوان عامّ، بل هو شبه تعليل فإنّ قوله عليه السّلام في الأوّل منهما:

«و ليست بالتي يدخل عليها الرجال» في مقام التعليل، و أوضح منه جعله في الرواية الثانية في مقابل ما يدعى إلى الأعراس فقال: «التي يدخل عليها الرجال حرام، و التي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس و هو قول اللّه عزّ و جلّ: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ...».

و حيث أنّ سند الاولى مصحّح، فهي من حيث السند قابلة للاعتماد.

الخامس: ما رواه مرسلا في الفقيه (محمّد بن علي بن الحسين) و قد مرّت الإشارة إليه قال: سأل رجل علي بن الحسين عليهما السّلام عن شراء جارية لها صوت فقال: «ما عليك لو اشتريتها فذكّرتك الجنّة»، يعني بقراءة القرآن و الزهد و الفضائل التي ليست بغناء، فأمّا الغناء فمحظور «4».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 260

و فيه: مع ضعف السند أنّه لا دلالة له على المطلوب بعد كون الصوت الحسن عامّا، و بعد التصريح بنفي القسم الذي يدخل في الغناء، بل هو على خلاف المطلوب أدلّ.

السّادس: يمكن الاستدلال على المسألة بما دلّ على جواز الحداء للإبل فإنّ الظاهر أنّه نوع غناء، بناء على تفسيره بالصوت المطرب، و قلنا أنّ الطرب حالة خفّة تعرض النفس لشدّة الفرح أو الحزن، فإنّه من أظهر مصاديقه حينئذ، بل لو لا كونه مطربا لما أفاد فائدة للإبل.

نعم لو قلنا هو الصوت اللهوي المناسب لمجالس

أهل الفسوق لم يكن من مصاديقه، و سيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه.

إلّا أنّه لا يوجد دليل على هذا الاستثناء في رواياتنا المعروفة عدى ما يحكى عن طرماح بن عدي في مسير الحسين عليه السّلام إلى كربلا «1» و الظاهر أنّه حديث مرسل.

نعم، في روايات العامّة من ذلك شي ء كثير من حداء عبد اللّه بن رواحة عنده صلّى اللّه عليه و آله و سلم و حداء غلام يقال له «انجشة» و «البرّاء بن مالك» ممّا يدلّ كلّه على الجواز «2».

السّابع: ما دلّ على جواز النياحة لا سيّما ما رواه سماعة، قال: سألته عن كسب المغنية و النائحة فكرهه «3».

فلو كانت الكراهة بمعناها المصطلح كما هو الظاهر هنا كان دليلا على المطلوب، و لكن السند لا يخلو عن ضعف، هذا مضافا إلى أنّه لو فسّر الغناء بالصوت المطرب كانت النياحة من مصاديقه، لاشتمالها على الطرب بمعنى الحزن.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ هناك روايتين معتبرتين تامّتي الدلالة على مطلوب المخالف، و الباقي يكون مؤيّدا لهما، و لكن هل يمكن الاعتماد عليهما مع مخالفة الأصحاب و إعراضهم عنه أو حملهما على الاستثناء في بعض الموارد أو على التقيّة في مقابل الروايات الكثيرة السابقة؟

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 261

و ربّما كان وجه إعراضهم كونها مخالفة للاحتياط، أو كون ما يدلّ على قول المشهور أكثر، فلا أثر لإعراضهم، و الحمل على التقيّة خلاف الظاهر، فعلى هذا الجمع بينهما و بين الأحاديث المحرّمة بما سبق من المحدّث الكاشاني ممكن، و لكن لا يخلو عن إشكال، و سيأتي له مزيد توضيح بعد بيان حقيقة الغناء.

و يمكن تأييد ما ذكر من الجواز إذا خلا عن المحرّمات الاخر بامور:

1- التصريح بدخوله في قول الزور

الظاهر أنّه بيان بعض مصاديقه الواقعية لا التعبّدية، و لعلّه ما اشتمل على مضامين باطلة دون غيره.

2- تفسير لهو الحديث به، و هو يدلّ على كون محتواه باطلا مضلا.

3- ذكر المغنية في أكثر روايات الحرمة أو القينات لا المغنّي، و لا شكّ أنّ صوت المرأة مع هذا الوصف حرام بنفسه.

4- ذكر بيت الغناء أو مجلس الغناء أو شبه ذلك ممّا يدلّ على أنّ المراد ما اشتمل على امور اخر.

5- ما ورد أنّه من اللغو أو من الباطل و إنّ اللّه إذا ميّز بينهما (الحقّ و الباطل) كان من الأوّل، فإنّه مشعر باشتماله على أباطيل، و لكن مع ذلك العدول عمّا ذكره المشهور المؤيّد بروايات كثيرة متواترة مشكل جدّا.

المقام الثّاني: في معنى الغناء و حقيقته
اشارة

هذا المقام معركة للآراء و الخلاف الشديد بين أهل اللغة و فقهائنا، و إليك نبذ ممّا ذكره أرباب اللغة و أكابر الفقه:

1- هو الصوت (كما عن المصباح المنير).

2- هو مدّ الصوت (كما عن بعض من لم يسمّ).

3- هو ما مدّ و حسن و رجّع (كما عن القاموس).

4- إنّه تحسين الصوت و ترقيقه (كما عن الشافعي).

5- كلّ من رفع صوتا و والاه فصوته عند العرب غناء، (عن محكي النهاية).

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 262

6- أنّه الصوت المطرب (كما عن السرائر و الإيضاح و القاموس).

7- أنّه الصوت المشتمل على الترجيع المطرب (كما عن مشهور الفقهاء).

8- كلّ صوت يكون لهوا بكيفية و معدودا من ألحان أهل الفسوق و المعاصي فهو حرام، و إن فرض أنّه ليس بغناء، و كلّ ما لا يعدّ لهوا فليس بحرام و ان فرض صدق الغناء عليه فرضا غير محقّق (اختاره العلّامة الأنصاري قدّس سرّه).

و يظهر ممّا ذكره في ذيل كلامه أنّ الغناء عنده بمعنى الصوت اللهوي

المعدود من ألحان أهل الفسوق، و صرّح به بعض محشي المكاسب أيضا من أعلام العصر «1».

9- أنّه ما سمّي في العرف غناء و إن لم يطرب (كما اختاره الحدائق).

10- أنّه ما يسمّي في العرف غناء (حكي عن المشهور أيضا).

و من الواضح أنّ المعاني الخمسة الاولى ليست تعاريف جامعة و مانعة، بل من قبيل شرح الاسم لوضوح أنّ مجرّد الصوت أو تحسينه أو رفعه و تواليه ليس بغناء قطعا.

كما أنّ التعريفين الأخيرين ليس تعريفا، بل اعتراف بعد إمكان ضبطه تحت تعريف جامع، مضافا إلى أنّه يظهر من صاحب الجواهر قدّس سرّه و هو من أهل اللسان بأنّه الآن مشتبه بين عرف عامّة سواد الناس من العرب لعدّهم الكيفية الخاصّة من الصوت في غير القرآن و الدعاء و تعزية الحسين عليه السّلام غناء، و نفي ذلك عنها فيها، و ما ذاك إلّا لاشتباهه، للقطع بعدم مدخلية خصوص الألفاظ فيه «2».

فحينئذ يبقى من هذه المعاني، الثلاثة الأخيرة قبلهما، ففي واحد منها أخذ قيد «الطرب»، و في الآخر «الترجيع و الطرب» و في الآخر التعريف باللهو المناسب لمجالس أهل الفسوق، و لكن الكلام يأتي في معنى الطرب و اللهو، و الظاهر أنّه ليست الكلمتان أوضح تفسيرا من نفس الغناء!

أمّا «الطرب» فالمعروف في تفسيره في كتب اللغة و الفقه أنّها خفّة عارضة لشدّة سرور أو حزن، و أمّا هذه الخفّة ما ذا؟ فهل هي خفّة في العقل شبيه السكر الحاصل بأسبابه، أو خفّة

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 263

في النفس بمعنى النشاط و الانبساط و الانشراح، الذي يكون في كلتا الحالتين، أو لذّة خاصّة حاصلة منهما جميعا؟ فبعض الأحزان ممّا يلتذّ منه الإنسان كالسرور.

و الإنصاف أن الطرب ليس أوضح من الغناء كما

ذكرنا، حتّى يرفع إبهامه به و ان كان يظهر من بعض العبارات أنّها هي النشئة السكرية، و هو غير ظاهر.

ثمّ إنّ المدار على «الطرب» بالفعل لكلّ أحد، أو للأكثر، أو الطرب بالقوّة، و الاولى منتف في كثير من مصاديقها.

أمّا «اللهو» فان كان بمعناه الوسيع فلا إشكال في جوازه في الجملة، فإنّ الذي يلهي الإنسان عن ذكر اللّه أو يلهيه عن امور الحياة التي يعتادها أكثرها حلال و إن كان بمعنى أخصّ من هذا، فما هذه الخصوصية؟

نعم، أحسن كلام ذكر في المقام هو ما أفاده شيخنا الأعظم الأنصاري قدّس سرّه و هو: إنّ الغناء هو الإلحاق المناسبة لمجالس أهل الفسوق و المعاصي و نزيد عليه أنّه يتناسب مع اقترانه بضرب الآلات و الرقص و التصفيق و شبه ذلك و إن لم تكن بالفعل.

و أمّا الأصوات الحسنة و الطيّبة و إن كان فيها نوع طرب، أعني نشاطا و انبساطا و فرحا أو حزنا كما هو كثير عند قراءة آيات القرآن بالصوت الحسن و ذكر الجنّة و نعيمها و النار و عذابها فلا بأس به.

نعم له مصاديق كثيرة مشكوكة، و القاعدة تقتضي الأخذ بالقدر المتيقّن المعلوم و اجراء البراءة فيما زاد عليه، فانّه من قبيل الأقل و الأكثر الاستقلاليين.

الألحان على ثلاثة أقسام:

و من الجدير بالذكر أنّ الألحان فيما نعلمه و نشاهده على ثلاثة أقسام:

قسم منها لا يناسب مجالس الفسوق أصلا، و قسم منها يختصّ بها، و قسم ثالث مشترك بين الأمرين، فإن كان محتواه أمرا باطلا فاسدا شهويا يختصّ بها، و إن كان أمرا صحيحا حقّا يكون في مجالس الحقّ أيضا كما لا يخفى على من سبرها.

و من هنا يعلم أنّه قد يكون لمفاد الألفاظ تأثيرا في كون الألحان غناء،

و قد لا يكون أي انوار الفقاهة، ج 4، ص: 264

أثر للمحتوى فيها، بل لحن فسوقي و لو كان في القرآن، بل يكون حينئذ أشدّ حرمة لما فيه من الهتك و الوهن بكلام اللّه تعالى.

و الحاصل أنّ اللحن قد يكون علّة تامّة لكونه غناء، و اخرى علّة ناقصة تتمّ مع ما فيه من المحتوى، و الشاهد له وجود الألحان المشتركة بين ألحان أهل الفسوق و غيرهم.

و من هنا يمكن توجيه كلام المحدّث الكاشاني و من يحذو حذوه، بأنّ مرادهم جواز خصوص القسم المشترك إذا خلا عن مضامين باطلة، و إلّا فمن البعيد جدّا تجويزه للألحان المختصّة بأهل الفسوق و العصيان التي يأباها كلّ متشرّع من العوام و الخواص و ان كانت بعض عبائره يأبى عن هذا المعنى.

و قد تلخّص ممّا ذكرنا إنّه لو قلنا بعدم حرمة الغناء ذاتا و إنّما المحرّم هو لوازمها أحيانا فلا كلام، و لو قلنا بالحرمة في الجملة و إن خلت من جميع المقارنات و العوارض المحرّمة، فالقدر المتيقّن منه ما يختصّ بمجالس أهل الفسوق و الفجور، أعني الألحان المختصّة بهم، و هذا المعنى ليس أمرا خفيّا معضلا، بل يعرفه أهل العرف خواصهم و عوامّهم، و إن كان له مصاديق مشكوكة، كما هو الشأن في جميع المفاهيم، فالحكم في المشكوكات هو البراءة و إن كان الاحتياط طريق النجاة.

بقي هنا امور:

1- ذكر بعض الأعلام أنّ المحدّث الكاشاني لم ينكر حرمة الغناء مطلقا، بل قسّمه إلى قسمين: قسم محرّم، و هو ما اشتمل على مقارنات محرّمة، فإذا قارنه ذلك كان نفس الغناء أيضا محرّما، و لذا حرّم أخذ الاجرة عليه حينئذ، و قسّم محلّل و هو ما خلا عن ذلك، فليس ما ذكره مخالفا

للإجماع حتّى يقابل بالطعن و النسبة إلى الأراجيف «1».

و الإنصاف أنّ ما أفاده لا أثر له في كون كلامه مخالفا لما ذكره عامّة الأصحاب، فإنّ ظاهر كلامهم أو صريحه حرمته، و إن خلا عن كلّ محرّم، نعم طريق الجواب لا سيّما في انوار الفقاهة، ج 4، ص: 265

قبال علماء الدين لا بدّ أن يكون بالحكمة و الموعظة الحسنة و بالتي هي أحسن.

2- قد ظهر ممّا ذكرنا حال «النشيد» (سرود) المعمول اليوم و ما يجري في مجالس العزاء و المواكب الحسينية عليه السّلام و أنّها ليست من ألحان أهل الفسوق غالبا و كذا الهوسات، و ما يشجّع الجيش في الميدان، فهي محلّلة بحسب الأصل، نعم لو وجد فيها بعض ما يختصّ بأهل الفسوق فهو حرام، و كذا الكلام في «النوح و النياحة» لعدم صدق ما ذكر عليها إلّا أحيانا كما هو ظاهر.

3- لا يخفى أنّ الغناء يتفاوت بتفاوت العرف و العادات، فربّ صوت بين قوم من مصاديقه، و لا يعدّ بين أقوام آخرين منها، بل قد يتفاوت بالأزمنة، فما يكون عندنا غناء، ربّما لم يكن غناء عند بعض الماضين و بالعكس، كما يتراءى ذلك بين المسلمين و غيرهم و بين العرب و العجم.

و منه يعلم إنّما ذكره بعض الأعلام في مكاسبه من أنّ الألحان المتداولة اليوم المسمّى بالتصنيف ليست من مصاديق الغناء، و هو عجيب، بل هو القدر المتيقّن منه، و لعلّه حيث لم ير في كثيرها مدّ الصوت أو الترجيع لم يعدّه من الغناء، و قد عرفت أنّ المدّ أو الترجيع غير معتبر في مفهومه، و الطرب الحاصل منه أكثر من غيره قطعا، و العمدة كونه من ألحان أهل الفسوق و العصيان.

المقام الثالث: في المستثنيات و قد ذكر هنا امور:
أوّلها: الغناء في زفاف العرائس

حكي عن جمع من

أعاظم الأصحاب استثنائه، بل حكى في الجواهر عن بعض مشايخه نسبته إلى الشهرة، و اختاره هو في ذيل كلامه، و ان كان ظاهر عبارة الشرائع و بعض آخر الحرمة حيث لم يستثنى ذلك من أدلّة الحرمة، بل حكى التصريح بعدم الجواز عن ابن انوار الفقاهة، ج 4، ص: 266

إدريس و فخر المحقّقين، و على كلّ حال لا يبعد استثنائه بعد ورود الحديث الصحيح به، و هو ما رواه أبو بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن كسب المغنيات، فقال: «التي يدخل عليها الرجال حرام و التي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس ...» «1».

و يؤيّد حديثه الآخر (2/ 15) و الثالث (3/ 15)، و الظاهر أنّ الجميع واحد و إن رويت بأسناد مختلفة.

نعم، صرّح بعضهم بعدم كون اشتماله على محرّم آخر كاللعب بآلات اللهو، أو التكلّم بالباطل، أو ورود الرجال عليهنّ كما هو صريح الرواية.

و لا يخفى أنّ هذه و ان كانت امورا خارجة عنها، و لكن حيث أنّ التجويز في أصله قد يتوهّم منه جواز ما قارنه كثيرا في الخارج كان من اللازم نفيه.

و بالجملة إباحة اجرة المغنية التي تدعى إلى الأعراس دليل على جواز فعلها و استماع النساء منها بما مرّ من الشرائط.

نعم، قد يقال بانحصاره في المغنية، فلا يشمل المغني، و لا يشمل مثل مجالس الختان و غيره، هذا و الإنصاف دخولها في صحيحة علي بن جعفر (5/ 15) من استثنائه في الأفراح، و هو من مصاديقه، فهذا استثناء ثان في الحكم، و هو أيضا غير بعيد مع الشرائط السابقة، و سيأتي الكلام فيه.

ثانيها: ما عرفت من أيّام العيد و الأفراح

و إن لم يتعرّض له كثير منهم، و لكن بعد وجود الدليل المعتبر عليه و عدم ظهور

إعراض عنه، لا مانع من العمل به، و هو صحيحة علي بن جعفر و قد مرّت.

و لكن لا بدّ من خلوّه من المقارنات المحرّمة من التكلّم بالأباطيل و دخول الرجال على النساء كما اشير في ذيلها.

و لعلّ المراد بالفرح ليس كلّ فرح حتّى يستوعب التخصيص كما أشرنا إليه فيما سبق،

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 267

بل الأفراح مثل الأعياد و الختان و الأعراس و المواليد و شبه ذلك و ما في الجواهر «1» من المحامل المختلفة في الحديث من التقيّة أو خصوص العرس في اليومين أو إرادة التغنّي على وجه لا يصل حدّ الغناء بعيدة لا داعي إليها، نعم الأحوط ترك ما يختصّ بأهل الفسوق و العصيان حتّى في هذه الأيّام.

كما أنّ إختلاف ذيلها (لم يزمر به- أو لم يعص به) لا يوجب اضطراب متنها بعد قرب المعنيين، و كون الباء بمعنى «مع» ظاهرا، مع صحّة ما ورد في كتاب علي بن جعفر عليه السّلام و عدم ثبوت صحّة ما في قرب الاسناد.

ثالثها: «الحداء»

استثناه جماعة منهم المحقّق في شهادات الشرائع و العلّامة و الشهيد قدّس سرّه فيما حكي عنهم، بل حكى عن المشهور، و لكن صرّح غير واحد منهم بعدم وجدان دليل عليه في منابع حديثنا.

قال في الحدائق: «لم أقف في الأخبار له على دليل و لم يذكره أحد» «2».

أقول: قد عرفت أنّ في بعض روايات المقاتل إشارة إليه، و قد عقد له في سنن البيهقي بابا أورد فيه أحاديث كثيرة تدلّ على وقوعه بمحضر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم عن عدّة أشخاص منهم «عبد اللّه بن رواحة» و «البراء بن مالك» و غلام يسمّى «انجشة» «3».

و العمدة ما عرفت من عدم شمول عنوان

الغناء له، نعم لو فسّر الغناء بمطلق الصوت الحسن دخل فيه، و لكن لا وجه له، فعلى هذا لا دليل على حرمته حتّى يحتاج إلى استثناء.

رابعها: المراثي

استثناها بعضهم كما حكاه صاحب الحدائق عن الكفاية أنّه قال: «و هو غير بعيد» ثمّ ذكر

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 268

صاحب الحدائق نفسه: «بل هو في غاية البعد لعدم الدليل عليه».

هذا و قد عرفت أنّ النياحة المتعارفة في مجالس العزاء لا تدخل في عنوان الغناء، لعدم كونها صوتا لهويا مناسبا لمجالس أهل الفسوق و العصيان، فكأنّهم رأوا للغناء معنى عاما يشمل كلّ صوت حسن كما يظهر من بعض أهل اللغة، فذكروا هذا مستثنى عنه، أو استثناء الحداء و غيره أيضا من هذا القبيل، و فيه ما عرفت من أنّها ليست كلّ صوت حسن، بل صوت خاصّ.

و أمّا ما استدلّ له من استقرار سيرة أهل الشرع عليه، أو كونه معينا على البكاء و شبهه غير ثابت، أو غير كاف، أمّا السيرة فلعدم اتّصالها بزمان المعصوم، و أمّا الإعانة على البكاء فلعدم جواز التوصّل بالحرام إلى أمر مستحبّ كما هو واضح، فالحقّ خروجه عنه موضوعا، و لو كان من ألحان أهل الفسوق لم يجز في المراثي قطعا.

خامسها: في قراءة القرآن

و قد حكى عن مشهور المتأخّرين نسبة استثناء الغناء فيه إلى صاحب الكفاية أيضا، و لكن الظاهر من كلامه أنّه أخذ الغناء بمعنى وسيع يشمل كلّ صوت حسن فيه تحزين و ترجيع، و لكن قد عرفت أنّ معناه أخصّ من ذلك، فليس مجرّد، هذه الامور بغناء ما لم يكن الصوت مناسبا لمجالس أهل الفسوق و العصيان.

و على كلّ حال ما دلّ على استحباب حسن الصوت في القرآن و ما ورد في شأن علي بن الحسين عليهما السّلام لا يدلّ على جواز الغناء فيه و لو بإطلاقه، بل هو عليه السّلام خارج عن موضوع الغناء، فلا تصل النوبة إلى معارضتها بأدلّة حرمة

الغناء حتّى يتكلّم في النسبة بينهما، و لو فرض التعارض بينهما، فلا شكّ في تقديم أدلّة حرمة الغناء لأنّها أقوى، و لأنّها من قبيل ما فيه الاقتضاء في مقابل ما لا اقتضاء فيه.

و يدلّ على ما ذكرنا أيضا ما ورد من النهي عن قراءة القرآن بألحان أهل الفسوق و اتّخاذه مزامير «1».

سادسها: الهلهلة

ذكر صاحب الجواهر أنّه «لا بأس بالهلهولة على الظاهر لكونها صوتا من غير لفظ، و الغناء من الألفاظ» «1».

و الظاهر أنّ مراده ما يسمّى عندنا بالهلهلة، و ما ذكره في حكمه جيّد، و لكن التعليل بأنّ الغناء من الألفاظ لا يخلو عن شي ء، إلّا أن يقال أنّ مراده أنّ الغناء من الكيفيات العارضة بالألفاظ، و الهلهلة ليس بلفظ لعدم وجود حروف التهجّي فيها، و الأولى أن يقال: ليس فيها شي ء من أوزان الغناء.

هذا مضافا إلى أنّها ليست صوتا لهويا من ألحان أهل الفسوق، نعم كونها من النساء قد يتوهّم كونه داخلا في الخضوع بالقول، و لكنّه غير ثابت (سواء كان في مجالس الفرح كما عندنا أو في مجالس العزاء كما عند بعض الأعراب أحيانا) و على كلّ حال لا يبعد جوازه، و لا أقل من الشكّ و الحكم فيه البراءة، إلى هنا تمّ الكلام في الغناء و فروعه، و أمّا الضرب بالآلات فله مقام آخر و إن كان من كثير من الجهات كالغناء موضوعا و حكما، فتدبّر فإنّه حقيق به.

14- الغيبة
المقام الأوّل: في حكم الغيبة

و هي من المحرّمات قطعا و إن كان ممّا لا يكتسب به عادة.

و استدلّ عليه بالأدلّة الأربعة:

فمن الآيات بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لا تَجَسَّسُوا وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ «2».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 270

نهى فيها عن ثلاثة أشياء كلّ واحد علّة للآخر في الحقيقة، و هي الظنّ السوء، ثمّ التجسّس، ثمّ الغيبة، و فيها أبلغ تشبيه بالنسبة إلى قبح الغيبة و حقيقتها، من حيث هتك الأعراض، حيث شبّه

اللّه تعالى عرض المؤمن بلحمه، و غيبته بأكل لحمه، و كونه على ظهر الغيب بكونه ميّتا، و اعتمد على تنفّر الطباع منه، كي يبعثهم على ترك هذه المعصية الكبيرة بمقتضى عقولهم، ثمّ أكّده بالأمر بالتقوى الباعث على كلّ خير، و ترك كلّ شرّ، ثمّ أمر بالتوبة تلويحا، و وعد قبولها بما يجلب القلوب إلى امتثال هذا الحكم.

و قد استدلّ بآيات اخرى لا دلالة لها على المطلوب، أو تكون أعمّ منه فالأولى صرف النظر عنها.

و من الإجماع بما هو ظاهر للكلّ، بل لعلّ حرمتها من ضروريات الدين، يعرفها كلّ من عاشر المسلمين، و لو برهة قليلة من الزمان.

و من العقل بأنّها ظلم ظاهر لما فيها من هتك العرض و إهانة المؤمن و تحقيره، بل و إيذائه إذا بلغه، و فيها مفاسد كثيرة مضافا إلى ما ذكر، و هي بثّ العداوة و إشعال نيران البغضاء، و سلب اعتماد الناس بعضهم ببعض، و أي إنسان لا يخلو عن عيب؟ فإذا كانت العيوب مستورة كان الاعتماد و الاخوّة بينهم حاصلة، و إذا هتكت الستور تفرّقوا و اختلفوا، و انحلّت عرى الاخوّة، مضافا إلى ما فيها من أسباب العداوة و البغضاء، بل قد توجب سفك الدماء.

و قد تكون إشاعة للفحشاء و سببا لجرأة العاصي على العصيان.

و سبب الغيبة امور كثيرة كلّها من الموبقات: منها الحسد و الحقد و الكبر و البخل و السخرية و غير ذلك ممّا ذكر في محلّ من علم الأخلاق، عصمنا اللّه منها بحقّ محمّد و آله الأطهار من هذه الكبيرة الموبقة.

أمّا السنّة: فهي روايات كثيرة جدّا، منها ما يدلّ على أنّها أشدّ من الزنا، لأنّها حقّ الناس و الزنا حقّ اللّه، مثل:

1- ما رواه محمّد بن

الحسن (في المجالس و الأخبار) باسناده عن أبي ذرّ عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في وصيّة له قال: «يا أبا ذرّ إيّاك و الغيبة، فإنّ الغيبة أشدّ من الزنا»، قلت: و لم ذاك يا رسول اللّه؟ قال: «إنّ الرجل يزني فيتوب إلى اللّه فيتوب اللّه عليه، و الغيبة لا تغفر حتّى تغفرها صاحبها» «1».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 271

2- و ما رواه اسباط بن محمّد برفعه إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال: «الغيبة أشدّ من الزنا» فقيل:

يا رسول اللّه و لم ذلك؟ قال: «أمّا صاحب الزنا فيتوب فيتوب اللّه عليه، و أمّا صاحب الغيبة فيتوب فلا يتوب اللّه عليه حتّى يكون صاحبه الذي يحلّه» «1».

3- ما رواه أسباط بن محمّد رفعه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال: «ألا اخبركم بالذي هو أشدّ من الزنا، وقع الرجل في عرض أخيه» «2».

و منها ما يدلّ على أنّه يحرم على المغتاب الجنّة أو شبه ذلك مثل:

4- ما رواه زيد بن علي عن آبائه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال: «تحرم الجنّة على ثلاثة على المنّان و على المغتاب و على مدمن الخمر» «3».

5- و ما رواه أبو بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «سباب المؤمن فسوق و قتاله كفر و أكل لحمه معصية للّه و حرمة ماله كحرمة دمه» «4».

6- و ما رواه الحسين بن زيد عن الصادق عليه السّلام عن آبائه في حديث المناهي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم نهى عن الغيبة و الاستماع إليها ...

و نهى عن الغيبة و قال: «من اغتاب امرأ مسلما بطل صومه و نقض و ضوءه، و جاء يوم القيامة يفوح من فيه رائحة أنتن من الجيفة يتأذّى به أهل الموقف، و إن مات قبل أن يتوب مات مستحلا لما حرّم اللّه عزّ و جلّ ...» «5».

7- و ما رواه نوف البكالي قال: أتيت أمير المؤمنين عليه السّلام و هو في رحبة في مسجد الكوفة فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين و رحمة اللّه و بركاته! فقال و عليك السلام يا نوف و رحمة اللّه و بركاته! فقلت له: يا أمير المؤمنين عظني، فقال: يا نوف أحسن يحسن إليك «إلى أن قال». قلت: زدني. قال: «اجتنب الغيبة فإنّها أدام كلاب النار ثمّ قال: يا نوف كذب من زعم أنّه ولد من حلال و هو يأكل لحوم الناس بالغيبة» «6».

8- ما رواه علقمة بن محمّد عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام في حديث أنّه قال: «فمن انوار الفقاهة، ج 4، ص: 272

لم تره بعينك يرتكب ذنبا و لم يشهد عليه عندك شاهدان فهو من أهل العدالة و الستر، و شهادته مقبولة، و ان كان في نفسه مذنبا، و من اغتابه بما فيه فهو خارج عن ولاية اللّه تعالى ذكره، داخل في ولاية الشيطان، و لقد حدّثني أبي عن أبيه عن آبائه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال: من اغتاب مؤمنا بما فيه لم يجمع اللّه بينهما في الجنّة أبدا، و من اغتاب مؤمنا بما ليس فيه فقد انقطعت العصمة بينهما، و كان المغتاب في النار خالدا فيها و بئس المصير» «1».

9- و ما رواه الصدوق رحمه اللّه في عقاب الأعمال ...

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال في خطبة له:

«و من اغتاب أخاه المسلم بطل صومه و نقض وضوء فان مات و هو كذلك مات و هو مستحلّ لما حرّم اللّه ...» «2».

و غيرها من الروايات الكثيرة.

المقام الثاني: في حقيقة الغيبة
اشارة

لا شكّ أنّ الاغتياب هو نوع فعل يكون في غيبة الطرف للانتقاص منه، و قد عرّفها الفقهاء و أرباب اللغة بتعاريف متقاربة المعنى كلّها تشير إلى معنى واحد تقريبا:

الأوّل- غابه- عابه، و ذكره بما فيه من السوء (القاموس).

و ذكر ضمير الغائب فيه إشارة إلى أنّها تقع في غياب الشخص.

الثّاني- أن يتكلّم خلف إنسان مستور بما يغمّه لو سمعه (الصحاح و مجمع البحرين).

و من الواضح أنّه لا يخالف الأوّل غالبا، لأنّ ذكر السوء و العيب يوجب الغمّ لا محالة، و كذلك لو لم يكن مستورا لما كان يغمّه، فتأمّل.

الثّالث- اغتابه إذا ذكره بما يكرهه من العيوب و هو حقّ (المصباح المنير) و هو المعروف بين الأصحاب كما قيل.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 273

الرّابع: ما عن الشهيد الثاني قدّس سرّه في رسالته المعروفة في المسألة قال: إنّ في الاصطلاح لها تعريفين: أحدهما مشهور، و هو «ذكر الإنسان حال غيبته بما يكره نسبته إليه ممّا يعدّ نقصانا في العرف بقصد الانتقاص و الذمّ».

و الثاني «التنبيه على ما يكره نسبته إليه» و هو أعمّ من الأوّل لشمول مورده اللسان و الحكاية و الإشارة.

الخامس- ذكر غيره بما يكرهه لو سمعه (و قد حكى شيخنا الأعظم العلّامة الأنصاري قدّس سرّه عن بعض أنّ الإجماع و الأخبار متطابقان فيه) «1».

السادس- ما يظهر من غير واحد من الأخبار مثل:

1- ما رواه محمّد بن الحسن (في المجالس و الأخبار) ... عن أبي ذرّ

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في وصيّة له ... قلت: يا رسول اللّه و ما الغيبة؟ قال: «ذكرك أخاك بما يكره ...» «2».

2- و ما رواه عبد الرحمن بن سيّابة عن الصادق جعفر بن محمّد عليه السّلام قال: «إنّ من الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره اللّه عليه ...» «3».

3- و ما رواه عبد اللّه بن سنان قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «الغيبة أن تقول في أخيك ما قد ستره اللّه عليه ...» «4».

4- و ما رواه يحيى الأرزق قال: قال لي أبو الحسن عليه السّلام: «من ذكر رجلا من خلفه بما هو فيه ممّا عرفه الناس لم يغتبه و من ذكره من خلفه بما هو فيه ممّا لا يعرفه الناس اغتابه ...» «5».

5- و ما رواه داود بن سرحان قال سألت: أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الغيبة قال: «هو أن تقول لأخيك في دينه ما لم يفعل و ثبت (ثبث) عليه أمرا قد ستره اللّه عليه لم يقم عليه فيه حدّ» «6».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 274

6- و ما رواه علقمة بن محمّد عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام ... عن آبائه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال: «من اغتاب مؤمنا بما فيه لم يجمع اللّه بينهما في الجنّة أبدا، و من اغتاب مؤمنا بما ليس فيه فقد انقطعت العصمة بينهما و كان المغتاب في النار خالدا فيها و بئس المصير» «1».

يعتبر في معنى الغيبة امور:

الأوّل: أن يكون المغتاب (بالفتح) غائبا، و هو مستفاد من مادّة الكلمة، نعم إذا كان حاضرا، و لكن كان غافلا فهو بحكمه و إن لم يكن منه لغة، مثل

ما روي عن عائشة في امرأة دخلت على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فقالت عائشة: يا رسول اللّه ما أجملها و أحسنها لو لا أنّ بها قصر، فقال لها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «اغتبتيها يا عائشة ...» «2».

فهذا إلحاق حكمي.

الثّاني: أن يكون بما فيه من العيوب، فلو كان بذكر المحاسن و لكن يكره إظهارها كالعدالة و الورع و بعض العلوم و بعض العبادات، فليس من الغيبة قطعا، نعم إذا كان بحيث يسمعه و يتأذّى منه و لم يكن تألّمه أمرا غير متعارف كان حراما من جهة اخرى، أمّا إذا كان ذلك بسبب شذوذ فيه، فيشكل الحكم بلزوم تركه لعدم الدليل.

الثّالث: أن يكون ذلك مستورا، فلو كان ظاهرا لم يكن من الغيبة، لأنّه القدر المتيقّن، نعم إذا كان بقصد المذمّة لم يبعد حرمته، لا من هذه الجهة، بل من جهة حرمة مذمّة الناس.

الرّابع: أن يكون يكرهه إذا سمعه أو يغمّه إذا سمعه، و الظاهر أنّه قيد زائد لأنّه لازم سائر القيود السابقة عادة، و أمّا الافراد النادرة فلا يعبأ بها.

الخامس: و قد يقال باعتبار قصد المذمّة، و لكن اعتباره بعيد، لأنّ مجرّد ذكر إنسان بعيب مستور كاف في كونه غيبة طبقا لما مرّ من الروايات و كثير من التعاريف الاخر، و ما هو المتبادر منها، فيتحصّل من جميع ذلك اعتبار امور ثلاثة في الغيبة: كونها عيبا، و كونه مستورا، و كون الشخص المقصود غائبا.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 275

بقي هنا امور:

الأوّل: لا شكّ في انحصار موضوع الغيبة بما إذا كانت عن شخص معلوم أو جمع محصورين، فلو كان عن شخص مجهول لم يحرم و لم يكن غيبة، لما عرفت من

الروايات الكثيرة الدالّة على اعتبار كشف السرّ فيها، مضافا إلى ما ذكره بعض أهل اللغة، و إطلاق كلام جمع من الفقهاء لا بدّ أن يحمل عليه.

هذا مضافا إلى الملاك في حرمتها كما يظهر من الآية الشريفة و غير واحد من روايات الباب كونها سببا لهتك أعراض المؤمنين، و من الواضح عدم تحقّقها بدون معرفة المغتاب.

و الحاصل أنّه يتصوّر هنا صور:

1- ما إذا كان المغتاب (بالفتح) مجهولا مطلقا، كأن يقال رأيت رجلا بخيلا كذا و كذا، و لا إشكال في عدم حرمته و عدم كونه غيبة.

2- إذا كان محصورا بين أفراد كثيرين، كما إذا قال: واحد من أهل بلدة كذا بخيل دني، و هو أيضا كسابقه.

3- إذا كان محصورا بين افراد معينين، كما إذا قال: أحد أبناء فلان يشرب الخمر، فهل يحسب غيبة، أو لا؟ الظاهر أنّه لا إشكال في حرمته، و إن لم نقل بكونها غيبة لعدم كشف الستر إلّا ناقصا و ذلك لجعل جميع أبنائه في معرض التهمة، بل قد تكون حرمته أشدّ من هذه الجهة، بل لا يبعد وجود ملاك الغيبة فيها و لو بمرحلة.

4- ما إذا تكلّم عن جماعة كثيرة، و قال: أهل البلد الفلاني كلّهم كذا و كذا، فلو كان من قبيل كشف الستر عن عيوبهم كان غيبة عن الجميع، لوجود شرائطها فيه بل كان أشدّ، و إلّا لم يعد غيبة.

5- إذا قال ذلك، و كان مراده أكثرهم و قصد كشف عيبهم المستور كان من قبيل غيبة المحصورين، و كان حراما، و لو فرضنا أنّا شككنا في صدق تعريفها عليه لم نشكّ في حرمته لما مرّ.

6- و كذلك إذا كان المراد بعضهم، و كانت القرينة قائمة، إلّا إذا كان البعض من

قبيل القليل في الكثير بحيث لا يخلو جماعة منه، فلا يكون كشف ستر و لا هتكا للجميع.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 276

الثّاني: قد عرفت عدم اعتبار قصد المذمّة و الانتقاص في مفهوم الغيبة و حكمها، و إنّما المدار على كشف الستر عن بعض العيوب بما يوجب هتك المؤمن و التعرّض لعرضه، و ذلك لتظافر ما عرفت من الروايات الدالّة عليه و إشعار الآية به لذكرها بعد سوء الظنّ و التجسّس، و تصريح بعض أهل اللغة به، و إن صرّح بعضهم كالشهيد الثاني قدّس اللّه نفسه الزكية باعتبار قصد الانتقاص.

هذا مضافا إلى أنّه لو كان ذكره بما فيه من العيوب الخفيّة كان قصد الانتقاص فيه قهريا، نظير ما مرّ في باب الإعانة على الإثم إذا باع عنبه ممّن يعلم أنّه يعمله خمرا، فإن قصد الإعانة فيها قهري أيضا.

أمّا إذا لم يكن العيب مستورا، فلا يخلو عن أحد امور:

1- يتكلّم به بقصد الذمّ و الانتقاص كأن يقول: انظر إلى هذا الأعمى المفلوج، أو إلى هذا المجرم النجس، و لا ينبغي الشكّ في حرمته لا من جهة شمول أدلّة الغيبة، بل لأنّه هتك المؤمن، مضافا إلى إيذائه لو سمعه، و شمول أدلّة التعيير له لو قلنا بحرمة تعيير المؤمن مطلقا.

2- ما إذا لم يقصد الذمّ، و لكن كان من الألقاب المشعرة بالذمّ، كما هو معمول بين من لا يبالون بأمر الدين، و هذا أيضا حرام لدخوله في أدلّة حرمة التنابز بالألقاب.

3- إذا لم يكن من هذه الألقاب و لا قصد الانتقاص، بل و لا يترتّب عليه هذا العنوان قهرا، كما إذا كان في مقام ذكر العلاقة، من قبيل ما لو سئل عن زيد فقال: أي زيد؟ الأعمى أو البصير؟

و غير ذلك من أشباهه.

بقى الكلام فيما إذا كان العيب ظاهرا لغالب الناس، و لكن كان مستورا عن شخص المخاطب، فهل هو ملحق بالغيبة، أو لا؟ لا يبعد عدم كونه غيبة و ان كان الأحوط الاجتناب، و ذلك لعدم شمول تعريفها له، و لا أقل من الشكّ.

الثّالث: لا بدّ فيها من وجود مخاطب، و إلّا فمجرّد حديث النفس غير كاف، لعدم كونه كشف ستر.

الرّابع: لا تفاوت بين ذكر العيوب المستورة في كونها غيبة، و قد أشار شيخنا الأعظم إلى انوار الفقاهة، ج 4، ص: 277

سبعة أنواع من العيوب، و هي ما كان في بدنه، أو نسبه، أو خلقه، أو فعله، أو قوله، أو دينه، أو دنياه «1» و زاد عليه غيره امورا اخر ممّا يتعلّق بالإنسان، إلّا أنّه يمكن إدراجها في قوله «أو دنياه»، فلو قال: داره أو ثوبه أو ولده أو دابته أو زوجته أو اخوته كذا و كذا ممّا يعدّ نقصا له أيضا كان غيبة له مع اجتماع سائر شرائطها، و كذا إذا ذكره بسوء في كتابه و درسه و بحثه و غير ذلك ممّا يتعلّق بشأن من شئونه ممّا يعدّ نقصا مستورا.

و الدليل على ذلك كلّه إطلاق كثير من كلمات أهل اللغة و الفقهاء و بعض الروايات، مضافا إلى عموم الملاك كما هو ظاهر، و اختصاص بعض كلماتهم بموارد خاصّة لا يدلّ على خروج غيره، و قد عرفت في حديث عائشة أيضا الذي ذكرناه آنفا، و في المستدرك عن الصادق عليه السّلام ما يدلّ على ذلك فراجع «2».

الخامس «الذكر»: كما صرّح به غير واحد منهم هنا أعمّ من القول و الفعل و الإشارة، و القول أعمّ من الدلالة المطابقية و التضمّنية و الالتزامية،

و أنواع الكنايات و التعريضات، بل قد يظهر الإنسان أنّه لا يريد الغيبة مع أنّه من أشدّ الغيبة، بل قد يجتمع فيه عنوان الغيبة و الرياء، كأن يقول «لو لا أنّ المؤمن ملجم قلت فيه بعض الأشياء»! أو إنّي أخاف اللّه و عذابه يوم القيامة و إلّا قلت في زيد بعض القول!، أو يقول الحمد للّه الذي لم يبتلني بكذا و كذا تعريضا على بعض من يفهمه المخاطبون، فإنّ ذلك أشدّ، لأنّ ذهن السامع يذهب كلّ مذهب، و قد يكون التصريح بنفس العيب المستور أخفّ منه، و فيه أيضا نوع من الرياء، كما هو ظاهر، فيكون مصداقا لهما (أعاذنا اللّه منه).

السّادس: قد ظهر ممّا ذكرنا قبح ما هو معمول بين جمع من العوام حيث يغتابون أحدا، ثمّ يقولون هذا من صفاته، فإنّه لو لم يكن من صفاته كان بهتانا، و قد روى في الجوار أنّه ذكر عنده صلّى اللّه عليه و آله و سلم رجل فقالوا: ما أعجزه، فقال: «اغتبتم صاحبكم»، قالوا: يا رسول اللّه قلنا ما فيه! قال: «إن قلتم ما ليس فيه فقد بهتموه!» «3».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 278

و كذا ما قد يقوله بعض العوام «إنّا نقول ذلك بمحضره» فهو أيضا عذر باطل، إلّا أن يراد أنّه لا يكره هذا الكلام بناء على كون الكراهة ممّا يعتبر في مفهومه فتدبّر.

السّابع: حكي عن المحقّق الأردبيلي و صاحب الكفاية قدّس سرّهما عموم تحريم الغيبة للمؤمنين و غيرهم (من المسلمين و غيرهم) لأنّ قوله تعالى وَ لا يَغْتَبْ ... «1» عام، و الكثير من أدلّة الحرمة جاءت بلفظ الناس أو المسلم، فيشملان الجميع، و لا استبعاد في ذلك بعد احترام ماله و نفسه، فليكن عرضه كذلك،

و لكن شدّد عليه الإنكار في الجواهر «2» و غيره.

و عمدة ما استدلّوا للجواز امور:

الأوّل- ظاهر الآية الاختصاص بالأخ، و هو خاصّ بالمؤمن.

الثّاني- ظاهر الروايات- بعد ضمّ بعضها ببعض- اختصاص الحرمة بالمؤمن، و هو من يقول بولاية الأئمّة من أهل البيت عليهم السّلام.

الثّالث- ما علم من ضرورة المذهب من عدم احترامهم و عدم جريان أحكام الإسلام فيهم إلّا قليلا، ممّا يتوقف استقامة نظم معاش المؤمنين عليه، لا سيّما ما دلّ على حكم الناصب و أنّه أنجس من الكلب.

الرّابع- ما دلّ على جواز لعنهم و وجوب البراءة منهم و الوقيعة فيهم، أي غيبتهم مثل:

1- ما رواه داود بن سرحان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «إذا رأيتم أهل الريب و البدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم و أكثروا من سبّهم و القول فيهم و الوقيعة، و باهتوهم، كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام و يحذّرهم الناس و لا يتعلّمون من بدعهم، يكتب اللّه لكم بذلك الحسنات و يرفع لكم به الدرجات في الآخرة» «3».

2- و ما رواه محمّد بن الهيثم التميمي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله تعالى: كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ قال: «أما أنّهم لم يكونوا يدخلون مداخلهم و لا يجلسون مجالسهم، و لكن كانوا إذا لقوهم ضحكوا في وجوههم و أنسوا بهم» «4».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 279

5- قيام السيرة المستمرّة بين العلماء و العوام عليه، و قد ذكر في الجواهر أنّه من الضروريات «1».

6- أنّهم بأجمعهم متجاهرون بالفسق لبطلان عملهم، و المتجاهر بالفسق يجوز غيبته.

أقول: ما المراد بالمخالف؟ هل هو الناصب، أو المعاند للأئمّة المعصومين،

أو من ينكر فضلهم، أو مطلق من لا يعرف هذا الأمر، و إن كان مواليا له كما يتراءى من كثير منهم حتّى صنّفوا كتبا في فضل أهل البيت و الأئمّة عليهم السّلام و يؤدّونهم مودّة كثيرة، و إن لم يعرفوا إمامتهم لا سيّما إذا كانوا قاصرين لا مقصّرين؟

أمّا الأوّل: فلا كلام فيه لما ذكر و لغيره، و أمّا إن كان المدّعى العموم بحيث يشمل الأخير أيضا، فهو قابل للكلام، و شمول الأدلّة المذكورة لها غير واضح.

أمّا عدم شمول الآية له فانّه لا يمنع عن شمول غيره بعد عدم المفهوم في الآية، أمّا الروايات فبعضها و إن كان مصرّحا فيها بالمؤمن مثل:

1- ما رواه سليمان بن خالد عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «المؤمن من ائتمنه المؤمنون على أنفسهم و أموالهم، و المسلم من سلم المسلمون من يده و لسانه، و المهاجر من هجر السيّئات، و ترك ما حرّم اللّه، و المؤمن حرام على المؤمن أن يظلمه أو يخذله أو يغتابه أو يدفعه دفعة» «2».

2- و ما رواه أبو بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «سباب المؤمن فسوق، و قتاله كفر، و أكل لحمه معصية للّه، و حرمة ماله كحرمة دمه» «3».

3- ما مرّ من رواية علقمة بن محمّد عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال:

«من اغتاب مؤمنا بما فيه لم يجمع اللّه بينهما في الجنّة أبدا، و من اغتاب مؤمنا بما ليس فيه فقد انقطعت العصمة بينهما و كان المغتاب في النار خالدا فيها

و بئس المصير» «4».

و لكن المصرّح به في غيرها مطلق المسلم مثل:

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 280

1- ما رواه الحرث بن المغيرة قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «المسلم أخ المسلم و عينه و مرآته و دليله لا يخونه و لا يخدعه و لا يظلمه و لا يكذّبه و لا يغتابه» «1».

2- و ما رواه رجل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «المسلم أخ المسلم لا يظلمه و لا يخذله و لا يغتابه و لا يغشّه و لا يحرّمه» «2».

3- ما مرّ آنفا عن أبي ذرّ عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في وصيّة له قال: «يا أبا ذرّ إيّاك و الغيبة فانّ الغيبة أشدّ من الزنا!» قلت و لم ذاك يا رسول اللّه قال: «لأنّ الرجل يزني فيتوب إلى اللّه فيتوب اللّه عليه، و الغيبة لا تغفر حتّى يغفرها صاحبها، يا أبا ذرّ سباب المسلم فسوق، و قتاله كفر، و أكل لحمه من معاصي اللّه و حرمة ماله كحرمة دمه ...» «3».

4- ما مرّ عن الحسين بن زيد عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام في حديث المناهي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم نهى عن الغيبة و الاستماع إلهيا ... و قال: «من اغتاب امرأ مسلما بطل صومه و نقض وضوءه ...» «4».

و في بعضها مطلق الناس مثل:

ما مرّ عن نوف البكالي قال: أتيت أمير المؤمنين عليه السّلام ... فقلت له: يا أمير المؤمنين عظني، فقال: يا نوف ... قلت زدني، قال: «اجتنب الغيبة فانّها أدام كلاب النار ثمّ قال يا نوف كذب من زعم أنّه ولد من حلال و هو يأكل لحوم الناس بالغيبة» «5».

و

ما رواه الحسين بن خالد عن الرضا عن أبيه عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ اللّه يبغض البيت اللحم و اللحم السمين قال: فقيل له: إنّا لنحبّ اللحم و ما تخلوا بيوتنا منه فقال: ليس حيث تذهب إنّما البيت اللحم البيت الذي تؤكل فيه لحوم- الناس- بالغيبة! ...» «6».

خرج منه الكافر و بقى غيره.

و من الواضح عدم المنافاة بين هذه العناوين الثلاث (المؤمن، المسلم و الناس) لأنّ إثبات شي ء لا ينفي ما عداه.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 281

أمّا ما علم من ضرورة المذهب إنّما هو في القسم الأوّل منهم فقط، و كذا أحكام الناصب، أمّا الموالين لهم لا سيّما إذا كانوا قاصرين فدخولهم في ذلك غير ثابت، فالأحوط لو لا الأقوى وجوب الاجتناب عن غيبتهم.

أمّا أدلّة وجوب اللعن فهي مختصّة في أهل البدع، و الظالمين لأهل البيت (عليهم آلاف الثناء و التحية) و كذا ما ورد في الزيارات المأثورات، و كذلك الكلام في السيرة المستمرة.

و أعجب من الكلّ الاستدلال بمسألة التجاهر بالفسق، فانّ الغيبة في المتجاهر إنّما هي فيما تجاهر، أمّا الأزيد فغير ثابت كما سيأتي.

هذا مضافا إلى أنّ المفروض في بعض شقوق المسألة أنّه قاصر، و القاصر لا يكون فاسقا، و العمدة هنا أنّه قد حرّم الشارع دمه و ماله و أمر بالعشرة معه بالمعروف، و الغيبة موجبة لهتك الأعراض و كشف الستور، و احترام العرض أولى من احترام الأموال، فلا يبعد أن يكون القول بالتفصيل هنا هو القول الحقّ و الوسط.

الثّاني: ذكر شيخنا العلّامة الأنصاري قدّس سرّه أنّ الظاهر دخول الصبي المميّز المتأثّر بالغيبة لو سمعها، و استدلّ له بعموم بعض روايات الباب مع صدق الأخ عليه، لقوله تعالى في حقّ الأيتام: وَ إِنْ

تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ «1» و ليس فيها قوله «في الدين» كما قد يتوهّم، بل هو وارد في آية اخرى في سورة الأحزاب لا دخل له بأمر اليتامى، و الأمر سهل.

مضافا إلى إمكان إطلاق المؤمن عليه تغليبا فتأمّل.

و أمّا تقييده بالمميّز فغير ظاهر بعد عدم كون الملاك الإيذاء، بل هتك عرض المؤمن، فلو كان ذكر بعض العيوب هتكا لغير المميّز في العاجل أو الآجل لم يكن خاليا عن الإشكال، فلنعم ما قال الشهيد رحمه اللّه في «كشف الريبة» بعد عدم الفرق بين الصغير و الكبير الشامل لغير المميّز، و بالجملة المدار على حرمة الإرث، و الظاهر أنّ أطفال المؤمنين بحكمهم دما و مالا و عرضا.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 282

و منه يظهر الكلام في مجانينهم و انّ ما يوجب هتكهم و كشف سرّهم و عيبهم و لو كانوا مجانين مشكل جدّا.

المقام الثّالث: في المستثنيات من الغيبة
اشارة

و هي على نحوين: تارة بعنوان عامّ، و اخرى بالخصوص.

و أمّا الأوّل: فله بيانان، الأوّل: درج المسألة في قاعدة «الأهمّ و المهم» فكلّما كانت هناك مصلحة أهمّ من مفسدة الغيبة تكون جائزة، كما هو كذلك في جميع المحرّمات، كأكل الميتة المحرّمة للاضطرار.

و لكن عدّ هذا من المستثنيات بعيد، لأنّه من قبيل العناوين الثانوية، و المستثنى ما كان من العناوين الأوّلية للموضوع، كاستثناء وجوب القصر على من نوى عشرا، اللهمّ إلّا أن يقال: لا فرق بينهما كما ذكر في آية حرمة الميتة إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ ....

و على كلّ حال أصل الحكم ليس فيه إشكال أصلا.

نعم هنا إشكال آخر، و هو ما قد يقال: أ ليس هذا من قبيل قول بعض المذاهب الفاسدة:

«الغاية تبرّر الوسيلة»؟

قلنا: كلّا، إنّهم لا يقولون بأنّ الأهداف العالية تبرّر الوسائل الضعيفة، بل هم قائلون بأنّ

الغاية كيفما كان تبرّر الوسيلة كيفما كانت، من دون ملاحظة قاعدة الأهمّ و المهم، و لذا ليس عندهم استثناء و قيد في ذلك، و عملهم شاهد عليه فيما إذا وقعت بعض منافعهم الشخصية في خطر، فيجوّزون قتل الأبرياء و نهب الأموال و غيرها لبعض منافعهم غير المشروعة.

الثّاني: ما عن المحقّق الثاني رحمه اللّه: إنّ ضابط الغيبة المحرّمة كلّ فعل يقصد به هتك عرض المؤمن، أو التفكّه به، و إضحاك الناس منه، أمّا ما كان لغرض صحيح، فلا يحرم كنصح المستشير و غيره.

هذا، و فيه إشكال ظاهر بعد ما عرفت من عدم اعتبار قصد الانتقاص في معنى الغيبة، بل القصد حاصل قهرا، فهذه المستثنيات بناء عليه خارجة عن الموضوع لا عن الحكم.

و الإنصاف أنّه ليس كذلك، و الموضوع حاصل، و الاستثناء من الحكم.

أمّا ما ذكر بالعنوان الخاص (بل قد يقال بخروجه و لو لم تكن هناك مصلحة أهمّ) فأمران:

أحدهما: المتجاهر بالفسق

فقد حكي إجماع الفريقين على استثنائه عن حكم حرمة الغيبة، و يدلّ عليه مضافا إلى ذلك روايات كثيرة تنقسم إلى طائفتين:

الطائفة الاولى:

1- ما رواه أبو البختري عن جعفر بن محمّد عن أبيه قال: «ثلاثة ليس لهم حرمة، صاحب هوى مبتدع، و الإمام الجائر، و الفاسق المعلن بالفسق» «1».

2- و ما رواه هارون بن الجهم عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام قال: «إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له و لا غيبة» «2».

3- ما رواه القطب الراوندي في لبّ اللباب عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال: «لا غيبة لثلاثة:

سلطان جائر، و فاسق معلن، و صاحب بدعة» «3».

4- و ما رواه موسى بن إسماعيل عن أبيه (عن) موسى بن جعفر عن آبائه عليهم

السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «أربعة ليس غيبتهم غيبة: الفاسق المعلن بفسقه، و الإمام الكذّاب إن أحسنت لم يشكر و إن أسأت لم يغفر، و المتفكّهون بالامّهات، و الخارج من الجماعة الطاعن على أمّتي الشاهر عليها سيفه» «4».

5- ما رواه الشيخ المفيد في الاختصاص عن الرضا عليه السّلام قال: «من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له» «5».

هذه الروايات تدلّ على عدم الحرمه للمتجاهر، و لازم نفي الحرمة جواز الغيبة مع التصريح بذلك في بعضها.

الطّائفة الثّانية: ما دلّ على اعتبار الستر في مفهوم الغيبة، فإذا لم يكن هناك عيب مستور، خرج عن موضوعها لا عن حكمها، مثل:

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 284

1- داود بن سرحان قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الغيبة، قال: «هو أن تقول لأخيك في دينه ما لم يفعل، و تبثّ عليه أمر قد ستره اللّه عليه لم يقم عليه فيه حدّ» «1».

2- و ما رواه عبد الرحمن بن سيّابة قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره اللّه عليه ...» «2».

3- ما رواه يحيى الأرزق قال: قال لي أبو الحسن عليه السّلام: «من ذكر رجلا من خلفه بما هو فيه ممّا عرفه الناس لم يغتبه، و من ذكره من خلفه بما هو فيه ممّا لا يعرفه الناس اغتابه ...» «3».

4- ما رواه عبد اللّه بن سنان قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «الغيبة أن تقول في أخيك ما قد ستره اللّه عليه ...» «4».

5- ما رواه عبد الرحمن بن سيّابة عن الصادق جعفر بن محمّد قال: «إنّ من الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره اللّه عليه

...» «5».

و أكثرها أو كلّها و ان كانت ضعافا و لكن كثرتها جابرة لضعفها.

فكلا الطائفتين دليلان على جوازها في حقّ المتجاهر، لكن الأولى من قبيل الاستثناء من الحكم، و الثانية تدلّ على الخروج عن الموضوع.

و هناك بعض ما دلّ على وجوب الغيبة لمن أعرض عن جماعة المسلمين:

منها: ما رواه ابن أبي يعفور ... قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: لا غيبة إلّا لمن صلّى في بيته و رغب عن جماعتنا، و من رغب عن جماعة المسلمين وجب على المسلمين غيبته، و سقطت بينهم عدالته، و وجب هجرانه، و إذا رفع إلى إمام المسلمين أنذره و حذّره، فان حضر جماعة المسلمين و إلّا احرق عليه بيته، و من لزم جماعتهم حرمت عليهم غيبته و ثبتت عدالته بينهم «6».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 285

و لعلّه من باب لزوم النهي عن المنكر، و كان الإعراض عن الجماعة إعراضا عن الإسلام أو الحكومة الإسلامية في الحقيقة، أو مقدّمة له، و أمروا بالنهي عنه.

و الحاصل، أنّه لا إشكال في جواز غيبة المتجاهر، إمّا لعدم دخوله تحت عنوان الغيبة كما هو الأقوى، أو خروجه عنها حكما على احتمال.

إنّما الكلام في المراد من «المتجاهر»، و هل أنّ جواز غيبته يختصّ بما تجاهر فيه، أو أعمّ؟

أمّا الأوّل: فالمتجاهر هو الذي يتجاهر بالمعصية مع علمه بها موضوعا و حكما، بأن يعلم أنّ هذا المائع فقاع، و أنّ الفقاع حرام، و لو اشتبه عليه أحدهما لم يكن متجاهرا، و بالجملة المدار على الحرمة الفعلية في حقّه لا على الحرمة الواقعية و ان كان معذورا فيها، فكلّ من يفعل فعلا و يعتذر فيه بعذر يحتمل في حقّه لا بدّ من حمل فعله على

الصحّة، و لا يكون متجاهرا إلّا أن يعلم بكذبه في دعوى العذر.

أمّا الثّاني: فهل جواز غيبته يختصّ بما تجاهر فيه، فلو كان متجاهرا بمعونة الظلمة لا يجوز غيبته بشرب الخمور و غيرها، و أولى منه ما إذا كان متجاهرا بصغيرة فهل يجوز غيبته بكبيرة، قد يقال بالأعمّ، و استظهره في الحدائق من بعض أحاديث الباب.

و لكن استظهر خلافه من كلام جملة من الأصحاب، إلّا أنّه قال: الأحوط الاقتصار على ما ذكروه «1».

و في الحقيقة دليله إطلاق الروايتين: 4 و 5/ 154 و قد مرّتا عليك، و كذا إطلاق ما رواه في المستدرك الذي مرّ عليك أيضا، و لكن الإنصاف أنّ مناسبة الحكم و الموضوع مانعة عن إطلاقها، أو يكون المراد من الفاسق الفاسق في جميع أفعاله أو أكثره، بل لا يبعد أن يكون هذا هو المراد ممّن «ألقى جلباب الحياء» و على كلّ حال الأخذ بالعموم مشكل جدّا.

و قد يقال: إذا كان الفسق المستور دونه في القبح يجوز غيبته به، و لكنّه أيضا محلّ إشكال، فقد يتجاهر الإنسان بالغيبة مع أنّها أشدّ من الزنا، و لا يتجاهر بالزنا، فهل يجوز غيبته بالثّاني لارتكابه الأوّل؟

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 286

و كون شي ء أخفّ أو أشدّ في نظر الشرع غير كاف، بل لو كان كذلك عرفا، فهو أيضا مشكل، لعدم الدليل على كفاية ارتكاب الأشدّ في الغيبة على الأخفّ بعد كون الأصل في عرض المؤمنين الحرمة.

بقي هنا امور:

1- قد يكون الإنسان متجاهرا بين جماعة، و لا يكون متجاهرا مع غيرهم، فقد يقال بإطلاق أخبار الجواز، و لكن مناسبة الحكم و الموضوع مانعة منه، و موجبة لانصرافها عنه، فلو كان متجاهرا في بلده متستّرا في غيره لا يجوز غيبته

به، نعم يمكن أن يقال: إنّ المدار على التجاهر بالنسبة إلى عامّة الناس، لا بالنسبة إلى كلّ أحد، فان كان متستّرا من شخص خاص جاز غيبته عنده إذا كان متجاهرا للعامّة، لإطلاق الأخبار و إنّه لو قلنا بالحرمة لزم الاستفسار قبلا من كلّ من يريد ذكره عنده، و هذا ممّا يأبى عنه إطلاق أخبار الباب، فلو كان متجاهرا بالنسبة إلى العموم متستّرا من بعض أقربائه أو بعض أحبّته جاز غيبته عندهم.

2- «المتجاهر» عند قوم بالخصوص كأصدقائه و جيرانه و محارمه لا تجوز غيبته عند العامّة، للشكّ في صدق المتجاهر عليه ما لم يكن عامّا، بل قد يعلم بعدمه إذا كان متستّرا عن عامّة الناس ما عدى عدّة قليلة جدّا.

3- لا يعتبر في جواز غيبته قصد غرض صحيح- أهمّ أو غير أهمّ- من قبيل النهي عن المنكر و غيره، لإطلاق الأدلّة كما هو ظاهر.

ثانيهما: مسألة التظلّم

و الكلام تارة في أصل جواز الغيبة عند التظلّم، و اخرى في حدوده، أمّا الأوّل فيدلّ عليه مضافا إلى شهرته بين العامّة و الخاصّة قوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ «1» و الجهر بالسوء و إن لم يختصّ بالغيبة بل يشمل كلّ إجهار به، و لكنّه يشملها،

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 287

فاستثناء المظلوم دليل على جوازه، و هذا هو العمدة في هذا الحكم.

و قد ورد في تفسيرها حديثان مرسلان يؤيّدان إطلاق الآية:

1- ما رواه الفضل بن أبي قرّة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ قال: «من أضاف قوما فأساء ضيافتهم فهو ممّن ظلم، فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه» «1».

2- و ما رواه الفضل

بن الحسن الطبرسي رحمه اللّه (في مجمع البيان) في قوله لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ ... عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إنّ الضيف ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته فلا جناح عليه أن يذكر سوء ما فعله» «2».

فإذا جازت الغيبة للإساءة في الضيافة جازت لسائر المظالم بطريق أولى.

هذا، و قد فسّرت الروايتان بما يكون مصداقا لظلم المضيف لا مجرّد ترك الأولى. نعم للضيف حقّ على المضيف، كما أنّ للمضيف حقّا عليه، و على كلّ حال ضعف سندهما يمنع عن الاستدلال بهما و لو مع هذا التفسير إلّا بعنوان مؤيّد للمقصود.

و قد يؤيّده ما ورد في غير واحد من الروايات من شكاية الناس عن غيرهم عند النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و عند الأئمّة من أهل بيته عليهم السّلام مثل:

ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان حين قالت: إنّ أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني و ولدي ما يكفيني فقال لها: «خذي لك و لولدك ما يكفيك بالمعروف» «3».

و كذا ما ورد من تظلّم بعض أصحاب الأئمّة عليهم السّلام عندهم.

هذا و الإنصاف إنّ مسألة القضاء خارجة بالإجماع بل الضرورة، لأنّ قوامها في الغالب بذكر مساوئ الظالمين، و لعلّ موارد هذه الروايات كانت من قبيل القضاء.

و قد يؤيّد هذا الحكم بآيات اخرى أو دلائل عقلية غير وافية بالمراد، مثل قوله تعالى:

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 288

وَ لَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ «1» أو إنّ في هذا الأمر نوع تشفّ للمظلوم، و منعه منه حرجي، أو مثل ذلك، فانّ الانتصار خارج عمّا نحن بصدده، فقد يقال إنّه نوع من المقابلة

بالمثل فتأمّل، و ترك التشفّي لا يكون حرجا دائما.

أمّا حدود هذا الحكم فانّ القدر المعلوم منه ما إذا كان له أثر في دفع الظلم، و لكن الإنصاف أنّ مسألة الشكوى عند القاضي أو دفع الظلم خارج عمّا نحن بصدده كما عرفت، بل هذا عنوان برأسه يعلم جوازه من ظاهر الآية الشريفة.

سائر المستثنيات:

أمّا ما يندرج تحت ما عرفت من العنوان العام، أعني قاعدة الأهمّ و المهمّ فهي كثيرة لا تحصى، ذكر منها شيخنا الأعظم عشرة:

1- نصح المستشير، بل نصح المؤمن مطلقا، سواء استشار أم لا.

2- في الاستفتاء إذا توقّف على ذكر الشخص.

3- في النهي عن المنكر إذا توقّف عليه.

4- ردّ أهل البدع و قلع مادّة الفساد.

5- جرح الشهود و الرواة، فالإشكال على علم الرجال من هذه الناحية باطل جدّا.

6- دفع الضرر عن المغتاب، كما في قضيّة زرارة «2».

7- ما كان من الصفات المميّزة التي لا يعرف إلّا بها، كالأحول، و الأشتر.

8- إذا كان القائل و السامع عالمين به.

9- ردّ النسب الباطل.

10- ردّ المقالة الباطلة كما في ذكر بعض الإشكالات العلمية «3».

و لكن الظاهر أنّ السابع و الثامن خارجان عن هذا العموم، بل هما خارجان عن موضوع انوار الفقاهة، ج 4، ص: 289

الغيبة، لأنّها كشف الستر عن عيب، و ليستا كذلك.

و توجد موارد اخرى تلحق بها، منها:

1- مقام إقامة الشهادة عند القاضي فيما يتعلّق بالحدود، كالشهادة على الزنا الذي يكون أمرا خفيّا غالبا أو دائما، و كذا ما يتعلّق بالحقوق فيما إذا كانت خفيّة، لاستمرار السيرة، بل هو من الضروريات.

2- في مقام تعيين مراجع الدين إذا كان في بعضهم نقص، فإنّ مصلحة هذا المقام العظيم أهمّ من كتمان العيوب، و لكن هو من مزالّ الأقدام، فلا بدّ فيه

من رعاية كمال الاحتياط، فإنّه كثيرا ما تشتبه الأهواء المهلكة الشيطانية بالواجبات الإلهية!

3- مقام نصب القضاة و الولاة العدول و غيرهم، ممّن يتحكّم في دماء المسلمين و أموالهم و فروجهم، فان ذكر عيوبهم عند ولي الأمر لازم.

4- ما كان في مقام حفظ النفوس، كما إذا علمنا أنّ فلانا هيّأ الأسباب لقتل فلان.

5- ما كان لحفظ الثروة طائلة لا يرضى الشارع بتلفها.

و بالجملة مصاديق هذه القاعدة كثيرة جدّا، و لكن لا يمكن الحكم الكلّي فيما مرّ من الموارد الخمسة عشر بالجواز، بل اللازم في كلّ مورد من ملاحظة هذه القاعدة، فقد يكون حفظ عرض المؤمن أهمّ من مسألة النصح مثلا إذا كان في أمر غير مهمّ، و من اللازم الحذر من تسويلات إبليس في هذه المقامات، فإنّها من مزالّ الأقدام كما لا يخفى.

المقام الرابع: في كفّارة الغيبة

فقد ذكر فيها وجوه أو أقوال كثيرة من الاستحلال، أو الاستغفار أو كليهما أو التفصيل بين وصولها إلى المغتاب بالاستحلال، و لا يكفي الاستغفار أو غير ذلك.

و العمدة بيان أنّها هل هي من قبيل الحقوق التي لا بدّ فيها من الاستحلال، أم لا؟ فلو كانت منها وجب الاحتياط لأصالة عدم براءة الذمّة، و إلّا كانت البراءة حاكمة، و الذي يدلّ على أنّه من الحقوق: العقل و النقل.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 290

أمّا العقل: فلأنّه هتك عرض المؤمن، و يعادل أخذ أمواله، بل يكون أقوى و أظهر، و كيف يكون إتلاف بعض أمواله موجبا للضمان و مستلزما للاستحلال، و لا يكون أكل لحمه و التفكّه به موجبا له، أ ليس الخدش موجبا للأرش، أو العفو منه؟ أ فلا تعادل الأعراض هذا الخدش؟ و إنكار ذلك كما يظهر من بعضهم من الغرائب، بل هذا لا يزال

من المرتكز في أذهان العقلاء من أهل الشرع.

أمّا النقل فامور كثيرة:

1- منها ما عرفت سابقا من رواية أبي ذرّ عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم عند حكمه بأنّ الغيبة أشدّ من الزنا من أنّ «الغيبة لا تغفر حتّى يغفرها صاحبها» مع التصريح باحترام عرضه و ماله و دمه «1».

و ضعف سندها غير مانع بعد كثرة ما ورد في هذا الباب كما سيأتي إن شاء اللّه، و كفى بها وثوقا.

2- مرفوعة اسباط بن محمّد عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال: «... و أمّا صاحب الغيبة فيتوب فلا يتوب اللّه عليه حتّى يكون صاحبه الذي يحلّه» «2».

3- و ما مرّ من رواية المفيد قدّس سرّه في الاختصاص في هذا المعنى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال: «الغيبة أشدّ من الزنا»، فقيل: و لم ذلك يا رسول اللّه؟ قال: «صاحب الزنا يتوب فيتوب اللّه عليه، و صاحب الغيبة يتوب فلا يتوب اللّه عليه حتّى يكون صاحبه الذي يحلّله» «3».

4- ما رواه الورّام بن أبي فراس عن جابر و أبي سعيد قالا: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «إيّاكم و الغيبة فإنّ الغيبة أشدّ من الزنا، إنّ الرجل يزني فيتوب إلى اللّه فيتوب اللّه عليه و انّ صاحب الغيبة لا يغفر له حتّى يغفر له صاحبه» «4».

5- ما ورد عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أيضا من أنّ «أربى الربا عرض الرجل المسلم» «5».

6- ما رواه في جامع الأخبار عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «من اغتاب مسلما أو مسلمة لم يقبل اللّه انوار الفقاهة، ج 4، ص: 291

تعالى صلاته و

لا صيامه أربعين يوما و ليلة إلّا أن يغفر له صاحبه» «1».

7- ما في نهج البلاغة عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «لا يستقيم إيمان عبد حتّى يستقيم قلبه و لا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه، فمن استطاع منكم أن يلقى اللّه سبحانه و هو نقي اليد من دماء المسلمين و أموالهم سليم اللسان من أعراضهم فليفعل» «2» فقد جعل فيه الدماء و الأموال و الأعراض في مستوى واحد.

8- يظهر من بعض الروايات أنّ الغيبة بمنزلة قتل النفس عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «من اغتاب مؤمنا فكأنّما قتل نفسا متعمّدا» «3».

9- ما رواه في الأحياء قال في الحديث الصحيح عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال فليستحللها من قبل أن يأتي يوم ليس هنا دينار و لا درهم، إنّما يؤخذ من حسناته، فان لم يكن له حسنات اخذ من سيّئات صاحبه فزيدت على سيّئاته!» «4».

10- و يؤيّده أو يدلّ عليه ما دلّ على نقل الحسنات و السيّئات في المغتاب من طرقنا، مثل ما رواه سعيد بن جبير عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال: «يؤتى بأحد يوم القيامة يوقف بين يدي اللّه يدفع إليه كتابه فلا يرى حسناته، فيقول إلهي ليس هذا كتابي فانّي لا أرى فيها طاعتي. فقال: إنّ ربّك لا يضلّ و لا ينسى ذهب عملك باغتياب الناس، ثمّ يؤتى بآخر و يدفع إليه كتابه فيرى فيها طاعات كثيرة فيقول: الهي ما هذا كتابي فإنّي ما عملت هذه الطاعات. فيقول: إنّ فلانا اغتابك فدفعت حسناته إليك» «5».

بل لعلّ الظاهر من الآية الشريفة أيضا ذلك.

نعم هنا

امور يمنع عن الأخذ بهذه الأدلّة، منها:

1- إنّ العرض لا يقابل بالمال، و لا يجري فيه الدّية و ليس فيه قصاص و أمثال ذلك.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 292

2- ربّما يكون في الاستحلال الشحناء و البغضاء.

3- ربّما لا يغفر صاحبه، أو لا يمكن الوصول إليه، لموت أو غيره.

و الجواب عن الكلّ واضح ..

أمّا عن الأوّل، فلأنّ عدم الدّية و القصاص لا يمنع الاستحلال كما في المال إذا لم يتمكّن من أدائه.

أمّا عن الثاني فلأنّ كلّ حكم قابل للاستثناء، و الاستثناء ليس مانعا من أصله.

أمّا عن الثالث، فلأنّ عدم وجوبه عند عدم القدرة لا يمنع عن وجوبه عند القدرة عليه، و عليه يحمل ما دلّ على كفاية الاستغفار، مثل ما رواه حفص بن عمير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سئل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ما كفّارة الاغتياب؟ قال: «تستغفر اللّه لمن اغتبته كلّما ذكرته» «1».

و حينئذ لا يبعد لزوم الاستغفار و فعل الخيرات رجاء رضاه، و لو أمكن الاستحلال، فالواجب هو الاستحلال.

المقام الخامس: في حكم «استماع الغيبة»

لا خلاف في حرمة «استماع الغيبة» و لا إشكال كما ذكره في الجواهر «2» و غيره، و أرسله في الحدائق إرسال المسلّمات من دون ذكر خلاف «3».

و الذي يدلّ عليه مضافا إلى أنّ الاستماع نوع إعانة على هتك عرض المؤمن، فإنّ تمام فعل المغتاب بفعل المستمع (فتأمّل)، نعم مجرّد السماع القهري لا يدخل تحت هذا العنوان، روايات كثيرة منها:

1- ما دلّ على الحرمة مثل ما رواه محمّد بن علي بن الحسين ... عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام في حديث المناهي: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم نهى عن الغيبة و الاستماع إليها

...» «4».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 293

2- ما دلّ على أنّ السامع للغيبة أحد المغتابين مثل ما رواه الشيخ أبو الفتوح الرازي في تفسيره عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال: «السامع للغيبة أحد المغتابين» «1».

3- و أنّ الغيبة كفر و المستمع لها و الراضي بها مشرك، مثل ما رواه في كتاب الروضة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «الغيبة كفر و المستمع لها و الراضي بها مشرك»، قلت: فإن قال ما ليس فيه؟ فقال: «ذلك بهتان» «2».

4- و من طرق العامّة ما في إحياء العلوم: «المستمع أحد المغتابين» «3».

5- روى في الاختصاص للشيخ المفيد رحمه اللّه فقال: نظر أمير المؤمنين عليه السّلام إلى رجل يغتاب رجلا عند الحسن ابنه عليه السّلام فقال: «يا بني نزّه سمعك عن مثل هذا، فإنّه نظر إلى أخبث ما في وعائه فأفرغه في وعائك» «4».

و ضعف اسنادها ينجبر بتكاثرها و عمل المشهور بها حتّى أنّه لم ينقل الخلاف فيه، لا سيّما إذا كان الاستماع مع الإعجاب و الرضا، ففي ذيل الحديث 5 من باب 156 «كان عليه كوزر من اغتاب» «5» لكنّه أخصّ من المدّعى كما لا يخفى.

بل لا يبعد استفادة الحرمة عمّا ورد في وجوب ردّ الغيبة بالملازمة أو بطريق أولى (فتأمّل)، فالمسألة واضحة بحمد اللّه.

إنّما الكلام في وجوب الردّ، فإنّ الأحاديث في هذا المعنى و ان كانت كثيرة (راجع الباب 156 الحديث 1 إلى 8) و لكنّها ممّا يشكل الاستدلال بها على الوجوب، و إن استظهر شيخنا الأعظم منها الوجوب في مكاسبه، فانّ مجرّد الخذلان الوارد في غير واحد منها غير كاف، كما أنّ الوزر للإعجاب أخصّ من المدّعى.

هذا و من

العجيب ما أفاده بعض الأعلام من أنّ ظاهر هذه الأخبار جواز استماعها للردّ، حتّى أراد تقييد الروايات الدالّة على حرمة استماعها بهذا، مع أنّه لا ينبغي الشكّ في أنّه في الاستماع القهري.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 294

و أعجب منه قوله أنّ السماع القهري أمر نادر «1» فلا تحمل عليه، لأنّه كثيرا ما يستمع الإنسان إلى كلام غيره من دون أن يعلم أنّه بصدد الغيبة، فلمّا تمّت الجملة يرى أنّه اغتابه، فقبل تمام الجملة غير معلوم، و بعد تمامه مضى وقت الاستماع، و هذا كثير جدّا، و لم يرخّص في استماع الغيبة، و انتهاك عرض المؤمن للدفاع عنه بعده، فلو وجب الدفاع لا بدّ من عدم الاستماع لأنّ إعدام الموضوع أولى من ردّه بعد وجوده.

و لا شكّ أنّ الردّ لو لم يكن واجبا، لكان حسنا بلا إشكال، و هذا غير النهي عن المنكر، فانّ هذا دفاع بذكر ما يبطله، و ذاك مجرّد منع عن فعل الحرام استدامة.

عصمنا اللّه تبارك و تعالى بمنّه و كرمه عن الغيبة و الاستماع إليها و غفر اللّه لنا و لمن اغتابنا أو اغتبناه جهلا منّا بذلك آمين يا ربّ العالمين.

15- القمار
اشارة

و الكلام فيه يقع في خمس مقامات:

1- اللعب بأدواته مع الرهن.

2- اللعب بأدواته لا مع الرهن، بل لمجرّد اللهو، أو أغراض اخر، مثل ما يذكرونه من قوّة الحفظ و شبهه في بعضها لو كان.

3- اللعب بغير أدوات القمار مع الرهن، كأنواع اللعب الرياضي و غيرها ممّا فيه أغراض عقلائية ظاهرة، أو مجرّد لهو مع الرهن.

4- اللعب بها لا مع الرهن.

5- ما فيه أثر القمار من دون أن يكون فيه لعب مطلقا، بل فيه مجرّد القرعة أو شبهها كما في «اليانصيب» و شبهه،

و مثل ما كان من الاستقسام بالأزلام في الجاهلية، و في كونه من أقسام القمار موضوعا أو حكما كلام يأتي إن شاء اللّه.

المقام الأوّل: حرمة اللعب بآلته مع الرهن

فلا إشكال و لا كلام في حرمته تكليفا و وضعا، بل ادّعى عليها الضرورة، و لا يبعد ذلك، لأنّ كلّ من عاشر المسلمين برهة قصيرة من الزمان يعرف حرمته عندهم، و ان كانت الضرورة بنفسها لا أثر لها إلّا أن يرجع إنكارها إلى إنكار النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و هو يجري في المعلومات غير الضرورية أيضا كما لا يخفى، و الظاهر أنّ إطلاق كلامهم يشمل الحرمة الوضعية و التكليفية معا، و يدلّ عليه مضافا إلى ما عرفت كتاب اللّه و السنّة المتواترة:

أمّا الأوّل: فقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ* وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ احْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ «1».

و قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ... «2».

و من الجدير بالذكر أنّ الآيات الثلاث الاولى مؤكّدة باثني عشرة تأكيدات:

1- الخطاب إلى المؤمنين 2- كونها رجسا 3- كونها من عمل الشيطان 4- الأمر بالاجتناب 5- كون الغاية الفلاح 6- إرادة الشيطان إيقاع العداوة و البغضاء في الخمر و الميسر 7- البعد عن ذكر اللّه 8- البعد عن الصلاة 9- قوله تعالى فهل أنتم منتهون 10- و أطيعوا اللّه و أطيعوا الرسول

11- الأمر بالحذر 12- التهديد بقوله: فان تولّيتم.

و عدم التشديد في آية البقرة لمراعاة تدريجية الحكم مع أنّه أيضا دالّ على المطلوب، بل و قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ «3».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 296

فانّ القمار من أوضح مصاديق أكل المال بالباطل.

و أمّا الثّاني هو «السنّة» فقد استدلّ له بروايات كثيرة، أوردها في الوسائل في الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، و لكن الإنصاف أنّه لا يدلّ شي ء من رواياتها الأربعة عشر على المطلوب إلّا حديث واحد على إشكال فيه، و هو ما رواه محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام قال: لا تصلح المقامرة و لا النهبة «1».

و المراد من «النهبة» على الظاهر ما كانوا ينهبون كلّ من الآخر فيما ينثر في الأعراس و شبهها و هو دون شأن الإنسان الكريم، بل قد يكون حراما إذا حازه غيره.

و لكن تعبيره ب «لا تصلح» لعلّه غير كاف.

و أمّا غير هذه الرواية، فكلّها ناظرة إلى الحرمة الوضعية و كون التكسّب بالقمار حراما من هذه الجهة، أمّا الحرمة التكليفية فلا يستفاد منها.

نعم هناك روايات كثيرة دالّة على حرمة اللعب بالشطرنج و نحوه مثل:

1- ما رواه زيد الشحّام قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ قال: «الرجس من الأوثان: الشطرنج، و قول الزور: الغناء» «2».

2- ما رواه ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام مثله «3».

3- و ما رواه مسعدة بن زياد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه سئل عن الشطرنج قال: «دعوا المجوسية لأهلها

لعنها اللّه» «4».

4- و ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم عن اللعب بالشطرنج و النرد» «5».

5- و ما رواه أبو الربيع الشامي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سئل عن الشطرنج و النرد فقال:

«لا تقربوهما ...» «6».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 297

و كذا ما دلّ على حرمة الحضور في مجلس القمار مثل:

6- ما رواه حمّاد بن عيسى قال: دخل رجل من البصريين على أبي الحسن الأوّل عليه السّلام فقال له: جعلت فداك إنّي أقعد مع قوم يلعبون بالشطرنج و لست ألعب بها، و لكن أنظر، فقال:

«مالك و لمجلس لا ينظر اللّه إلى أهله» «1».

7- و ما رواه سليمان الجعفري عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: المطّلع في الشطرنج كالمطّلع في النار» «2».

8- و ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «بيع الشطرنج حرام و أكل ثمنه سحت و اتّخاذها كفر.

و اللعب بها شرك، و السلام على اللاهي بها معصية و كبيرة موبقة، و الخائض فيها يده كالخائض يده في لحم الخنزير لا صلاة له حتّى يغسل يده كما يغسلها من مسّ لحم الخنزير و الناظر إليها كالناظر في فرج امّه! و اللاهي بها و الناظر إليها في حال ما يلهى بها و السلام على اللاهي بها في حالته تلك في الإثم سواء، و من جلس على اللعب بها فقد تبوّأ مقعده من النار و كان عيشه ذلك حسرة عليه في القيامة، و إيّاك و مجالسة اللاهي و المغرور بلعبها، فانّها من المجالس التي باء أهلها بسخط من اللّه يتوقّعونه في كلّ ساعة فيعمّك معهم» «3».

و كذا

الروايات الكثيرة الواردة في تحريم اللعب بالشطرنج و النرد و غيرهما لا سيّما هذين الحديثين:

9- ما رواه معمّر بن خلّاد عن أبي الحسن عليه السّلام قال: «النرد و الشطرنج و الأربعة عشر بمنزلة واحدة و كلّ ما قومر عليه فهو ميسّر» «4».

10- ما رواه محمّد بن عيسى قال: كتب إبراهيم بن عنبسة يعني إلى علي بن محمّد عليه السّلام إذ رأى سيّدي و مولاي أن يخبرني عن قول اللّه عزّ و جلّ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 298

الآية فما الميسر جعلت فداك؟ فكتب: «كلّ ما قومر به فهو الميسر و كلّ مسكر حرام» «1».

11- و ما ورد في عيون الأخبار عن الرضا عليه السّلام في كتابه إلى المأمون في شرائع الدين فقد عدّ القمار فيها من الكبائر «2».

12- و ما ورد في حديث شرائع الدين عن الصادق عليه السّلام: «و الكبائر محرّمة و هي الشرك باللّه ... و الميسر» «3».

13- و ما ورد في ذكر مفاسد آخر الزمان، و هو حديث طويل يشتمل على امور كثيرة، و فيها ملاحم أو ما يشبه الملاحم، و فيها «و رأيت القمار قد ظهر» «4».

14- و ما دلّ على أنّه من الذنوب التي تهتك العصم «5».

و بالجملة الروايات فيه مستفيضة أو متواترة، و المتيقّن منها ما كان مع المراهنة.

المقام الثّاني: اللعب بأدوات القمار بدون المراهنة

ما إذا كان اللعب بأدوات القمار بدون المراهنة، و قد ادّعى الشهرة أو عدم الخلاف في حرمتها أيضا، و استدلّ على حرمتها بامور:

1- المطلقات الواردة في الكتاب و السنّة مثل ما دلّ على حرمة القمار و عدّه من الكبائر، و قد مرّ آنفا.

هذا، و لكن يمكن دعوى الانصراف فيها إلى ما كان مع المراهنة.

و قد صرّح أرباب

اللغة باعتبار المراهنة في مفهوم القمار و معناه، و إن صرّح غير واحد منهم بإطلاقه على مطلق اللعب بها، و لكن لم يثبت كونه إطلاقا حقيقيّا.

لا سيّما مع قوله تعالى فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ فانّ الظاهر أنّ المنافع لا تكون إلّا مع المراهنة.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 299

و كذا قوله إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ فانّ العداوة و البغضاء لا تكون غالبا بغير المراهنة كما هو واضح.

لا أقول: القمار بدون المراهنة قليل و انّ الكلمة منصرفة عنه بهذا الاعتبار، بل أقول إنّ الفرد الأكمل الذي يتوجّه النظر إليه و فيه المفاسد الكثيرة هو ما كان مع المراهنة، و كان هو الشائع أيضا في تلك الأيّام.

هذا مع الشكّ في كونه بدون المراهنة من مصاديقه حقيقة لما عرفت من إجمال كلام اللغويين.

2- المطلقات الواردة في حرمة اللعب بالشطرنج و النرد و ما أشبه ذلك، بل حضور مجلسهما، بل النظر فيها أو السلام على اللاعب بها، و هذا أحسن من الأوّل من بعض الجهات، لأنّه لا يردّ عليه ما يردّ على عنوان القمار و الميسر، و لا ينافي الاستناد بأقوال أهل اللغة بالنسبة إلى معنى القمار و الميسر، فانّ العنوان فيها مجرّد اللعب بالآلات، و هو أعمّ.

و لكن إذا كان هذا إشارة إلى ما كان متداولا في تلك الأيّام من اللعب مع المراهنة، و لا أقل من احتمال ذلك فيشكل الأخذ بعمومها أو إطلاقها أيضا.

و لكن دعوى الانصراف مع أخذ عنوان اللعب في هذه الأخبار و عدم دخل المراهنة في عنوان اللعب لا يخلو عن إشكال، و كذا قوله و اللاهي بها كذا.

3- ما رواه أبو الجارود عن أبي

جعفر عليه السّلام و في آخره: «... كلّ هذا بيعه و شراؤه و الانتفاع بشي ء من هذا حرام من اللّه محرّم و هو رجس ...» «1».

و لكنّه مع ضعف سنده بالإرسال تارة، و بأبي الجارود اخرى، فانّه ضعيف الدلالة أيضا، لتفسيره ما ذكره بعد ذلك بقوله «و قرن اللّه الخمر و الميسر مع الأوثان» و قد عرفت الكلام في معنى الميسر و أنّه بمعنى اللعب مع المراهنة.

4- ما رواه أبو الربيع الشامي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سئل عن الشطرنج و النرد فقال:

«لا تقربوهما» قلت: فالغناء؟ قال: «لا خير فيه لا تقربه» «2».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 300

و يرد عليه ما ورد في الإطلاقات.

5- و قد استدلّ شيخنا الأنصاري قدّس سرّه ببعض ما ورد فيه إناطة التحريم بالباطل مثل ما رواه: زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه سئل عن الشطرنج و عن لعبة الشبيب التي يقال لها لعبة الأمير، و عن لعبة الثلث، فقال: «أ رأيتك إذا ميّز اللّه الحقّ و الباطل مع أيّهما تكون؟» قال:

مع الباطل قال: «فلا خير فيه» «1».

مدّعيا أنّ ظاهرها عدم اعتبار الرهن فيها.

و فيه: أنّ هذه الدعوى غير مسموعة لو قلنا بأنّها ناظرة إلى ما كان متداولا في الخارج من اللعب مع المراهنة.

فالعمدة في المقام هو إطلاقات حرمة اللعب بهذه الآلات مثل النرد و الشطرنج و غيرهما، و لكن الذي يبعّد الإطلاق التشديد الوارد في الروايات، مثل ما عرفت من جامع البزنطي (4/ 103) و التوعيد بالعذاب و النار لمن نظر إليها أو جلس في مجلسها أو سلم على اللاعب و غير ذلك، و من البعيد كون هذه التوعيدات لمجرّد اللعب من دون المراهنة، و لا أقل

من الشكّ، فإذا لا يبقى لها دلالة على الحرمة، و الأصل الجواز، و لكن لا ينبغي ترك الاحتياط.

نعم إذا كان مظنّة للوقوع في الحرام كان حراما من هذه الناحية.

بقى هنا شي ء: و هو أنّه إذا تغيّر عنوان بعض هذه الامور بحيث خرج عن عنوان القمار- كما يدعى ذلك في الشطرنج و يقال أنّها في عصرنا من الألعاب الرياضية- فلا يبعد تبدّل حكمه، و تعليق الحكم في روايات الباب على عنوان الشطرنج الذي يعدّ من القمار، هذا و لكن في الصغرى نظر «فتدبّر».

المقام الثّالث: اللعب بغير أدوات القمار مع المراهنة

و له مصاديق كثيرة سواء ما يعدّ عند الصبيان لعبا، أو الألعاب الرياضية، و غيرها، ممّا فيه انوار الفقاهة، ج 4، ص: 301

أغراض عقلائية، بل حلّ بعض المسائل العلمية أو الأدبية. و لا كلام في الحرمة الوضعية فيها، لأنّها من الأكل بالباطل، إنّما الكلام في حرمتها التكليفية، فقد ادّعى عدم الخلاف فيه أيضا، و لكن الظاهر من الجواهر عدم حرمته من هذه الجهة، بل لم ينقل فيه مخالفا «1»، و بين ما ذكره و ما حكى عن العلّامة الطباطبائي قدّس سرّه في مصابيحه من الحرمة و الفساد، و نفي الخلاف فيه تهافت ظاهر.

بل ذكر في الجواهر أنّه لو أخذ الرهن الذي فرض لهذا القسم بعنوان الوفاء بالوعد، و مع طيب نفس الباذل لا بعنوان أنّ المقامرة المزبورة أوجبته ... أمكن القول بجوازه، نعم هو مشكل في القسم الأوّل «2».

هذا و لكن يرد على ما أفاده قدّس سرّه:

أوّلا: إنّه خارج عن المتنازع فيه، لأنّ الرضا غير الجاري على العقد لا دخل له بما نحن بصدده، و يجري في كلّ معاملة فاسدة.

و ثانيا: لم لا يجري مثل ذلك في الصورة الاولى.

و ثالثا: ما ذكره من عدم

الحرمة تكليفيا ينافي ما سيأتي من حرمة المسابقة مع الرهان إلّا في ثلاث، الظاهر في الحرمة التكليفية.

و على كلّ حال العمدة في الحكم بالفساد الوضعي أصالة الفساد و عدم دخوله تحت عقد إلّا السبق الذي ينحصر بموارد خاصّة.

كما أنّ العمدة في الفساد التكليفي أمران:

الأوّل- ما دلّ على حرمة الرهان إلّا في ثلاثة، مثل ما رواه محمّد بن علي بن الحسين قال: قال الصادق عليه السّلام: «إنّ الملائكة لتنفر عند الرهان و تلعن صاحبه ما خلى الحافر و الخفّ و الريش و النصل، و قد سابق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم اسامة بن زيد و أجرى الخيل» «3».

الظاهرة في الحرمة التكليفية و الوضعية معا.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 302

و ما رواه العلاء بن سيّابة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال سمعته يقول: «... و لا بأس بشهادة المرهن عليه، فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قد أجرى الخيل و سابق و كان يقول: إنّ الملائكة تحضر الرهان في الخفّ و الحافر و الريش، و ما سوى ذلك فهو قمار حرام» «1».

و الأولى و ان كانت مرسلة و الثانية ضعيفة بعلاء بن سيّابة، إلّا أنّ ظاهر الأصحاب الاستناد إليهما، و لذا أطلق على الاولى «المعتبرة» أطلقه في الجواهر في كتاب السبق، و قال إنّ ضعفها منجبر بالشهرة، بل و عمل الكلّ «2» لا سيّما و انّ الصدوق رحمه اللّه أسنده إلى الصادق عليه السّلام على طريق الجزم، و كفى بجميع ذلك.

و قد يستدلّ بما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ليس شي ء تحضره الملائكة إلّا الرهان و ملاعبة الرجل أهله «3».

و الإنصاف إنّ عدم حضور

الملائكة عند غيره لا يدلّ على الحرمة.

ثمّ إنّ ظاهر كلمات القوم في كتاب السبق هو الحرمة التكليفية أيضا في غير الثلاث:

الخفّ و الحافر و النصل.

الثّاني- شمول عنوان القمار له لعدم اختصاصه بما يكون بآلات خاصّة، قال في لسان العرب راهنه (غلبه) و كذلك في القاموس، نعم في مجمع البحرين (القمار: اللعب بالآلات المعتدة له) و في المنجد «قمر راهن و لعب في القمار» و هو ينافي ما مرّ في القاموس و لسان العرب في الجملة، و يؤيّد شمول العنوان لما نحن فيه إطلاقه عليه كما في رواية العلاء بن سيّابة الآنفة الذكر حيث جاء في ذيلها «و ما سوى ذلك فهو قمار حرام».

و لكن لا يبعد كون ذلك من باب الإلحاق حكما، لا موضوعا.

و ما ورد في الحديث من أبواب ما يكتسب به من إطلاق القمار على الرهن في البيض «4».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 303

و في حديث آخر من أنّ «كلّما تقومر به حتّى الكعاب و الجوز داخل في الميسر» «1».

و في الحديث أنّه عليه السّلام كان ينهى عن الجوز يجي ء به الصبيان من القمار «2».

و كذا التعبير بالمقامرة بالجوز و البيض في حديث آخر «3».

و هذه الروايات و ان كانت ناظرة إلى الحكم الوضعي، إلّا أنّه إذا أطلق عليه القمار حقيقة تلزمه الحرمة التكليفية أيضا.

اللهمّ إلّا أن يقال: لو سلمنا عموم القمار للعب مع الجوز و البيض و شبههما، و لكنّه لا يلزم منه شموله لمثل المسابقات المختلفة، لصحّة سلب عنوان القمار عنهما عرفا إلّا من باب الإلحاق الحكمي.

و من هنا و من إختلاف كلام اللغويين في ذلك يبعد الجزم بالعموم موضوعا، فالاعتماد على شمول عنوان القمار له مشكل، نعم في الدليل الأوّل غنى

و كفاية، فالحرمة الوضعية و التكليفية ثابتتان هنا و ان لم يصدق عليها عنوان القمار.

و استدلّ بعضهم للجواز وضعا بما في مصحّحة محمّد بن قيس في المؤاكلة (أي المسابقة على الأكل) و هي:

ما رواه محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قضى أمير المؤمنين عليه السّلام في رجل أكل و أصحاب له شاة، فقال: إن أكلتموها فهي لكم، و ان لم تأكلوها فعليكم كذا و كذا، فقضى فيه أنّ ذلك باطل لا شي ء في المؤاكلة من الطعام ما قلّ منه و ما كثر و منع غرامته فيه» «4».

نظرا إلى حكمه بعدم الغرامة من دون ذكر الحرمة التكليفية.

و الإنصاف أنّه لا يزيد على الإشعار بعد كونها ظاهرة في مقام بيان الحكم الوضعي دون التكليفي سواء قلنا أنّ المؤاكلة نوع عقد باطل كسائر أنواع الرهان (كما هو الظاهر) أو مركّبة من إباحة معوضة على تقدير، و إباحة بغير ضمان على تقدير آخر، كما قيل (في وجه ضعيف انوار الفقاهة، ج 4، ص: 304

عندنا، لأنّه مخالف للظاهر) و على كلّ حال هذا الإشعار لا يقاوم ما مرّ من دليل الحرمة كما لا يخفى.

نعم، أورد عليها بأنّ كونها بصدد بيان الحكم الوضعي أيضا مشكل، لأنّه على فرض البطلان فانّ نفس الأكل محرّم، فكيف لم يمنع منه؟ اللهمّ إلّا أن يقال أنّه كان بعد مضي الوقت و الخروج عن محلّ الابتلاء، و لكن يرد عليه إشكال آخر، و هو حكمه عليه السّلام بعدم الضمان و عدم الغرامة مع أنّه ممّا يضمن بصحيحة (كما في الخفّ و الحافر و النصل) فيضمن بفاسده، اللهمّ إلّا أن يقال أنّه إباحة مع شرط فاسد، فإذا فسد الشرط لم تفسد نفس الإباحة. فتأمّل.

و بالجملة

سكوت الرواية عن حرمة نفس العمل و عن حرمة الأكل و تصريحها بعدم الغرامة إيرادات ثلاث عليها، و يجاب عن الأوّل و الثاني بعدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة، و عن الثالث بما عرفت من أنّه من قبيل الإباحة مع شرط فاسد، و لكن مع ذلك لا تخلو عن تكلّف، لأنّ قوله: لا شي ء في المؤاكلة ... كقاعدة كليّة، و ان كانت ناظرة إلى نفي الغرامة إلّا أنّ سكوته عن الأمرين على القول بحرمتهما أو حرمة الثاني ممّا يبعد توجيهه، فالأولى ردّها إلى أهلها لشذوذها.

المقام الرّابع: اللعب بغير الآلات بدون المراهنة

هل يجوز اللعب بغير أدوات القمار بدون المراهنة، سواء كان له أغراض عقلائية كما في الألعاب الرياضية، أو كان مجرّد لهو.

المحكي عن الأكثر عدم الجواز، بل قد يظهر من بعض ما حكي عن التذكرة الإجماع عليه، و لكن مال في المسالك إلى الجواز، و كذا غير واحد ممن تأخّر، و قال في الجواهر:

الظاهر عدم حرمته مع عدم الرهان «1» من دون إشارة إلى وجود الخلاف في المسألة.

و ذكر الشيخ رحمه اللّه في الخلاف في كتاب السبق في المسألة 2 المسابقة بالمصارعة بعوض انوار الفقاهة، ج 4، ص: 305

لا تجوز، و في المسألة الثالثة المسابقة بالطيور بعوض لا تجوز «1».

و تقييدهما بالعوض مشعر بجوازه عنده بدون العوض، و المشهور بين العامّة هو الجواز.

و على كلّ حال فالأقوى جوازه، و يدلّ على ذلك الأصل، بل السيرة المستمرّة كما ذكره في الجواهر من العوام و العلماء في المغالبة بالأبدان و غيرهما «2».

و ما روى من مغالبة الحسنين عليهما السّلام بمحضر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم «3» بل و ما روى من عمل النبي صلّى اللّه عليه و آله و

سلم من طرق العامّة مع بعض من المسابقة على الأقدام «4».

و ما حكى من مكاتبة الحسنين عليهما السّلام (المسابقة في الكتابة و جودة الخطّ) و التقاطهما خرز قلادة امّهما عليهم السّلام «5».

و العمدة هو الأصل، و قد يدعى الخروج عنه لأمور:

أوّلها- صدق القمار عليه، و فيه إنّه لا شكّ في صحّة سلب هذا العنوان عنه، و كيف يقال بأنّ المغالبة بالأبدان أو المسابقة بالأقدام قمار؟ و لو أطلق عليه أحيانا كان مجازا قطعا لما عرفت.

ثانيها- ما دلّ على نفي السبق إلّا في خفّ أو حافر أو نصل، مثل ما رواه ابن أبي عمير عن حفص عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا سبق إلّا في خفّ أو حافر أو نصل، يعني النضال» «6».

و مثله الحديث الثاني و الرابع من الباب 3 و هي تشمل مع الرهان و بدونه.

و فيه: أوّلا: أنّه يحتمل «السبق» بالفتح فيكون صريحا في المراهنة، و ثانيا: لو قرأ بالسكون بمعنى نفس المسابقة كان أيضا منصرفا إليه، أو إنّ القدر المتيقّن منه هو كذلك، و لذا ذكر الرهن عليه في الحديث الثالث من الباب نفسه و أطلق القمار عليه.

ثالثها- ما مرّ في النهي عن اللعب بالشطرنج و النرد من التعليل بأنّه من الباطل.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 306

و لكن قد عرفت أنّ الباطل بمعنى ما ليس له غرض عقلائي ليس حراما قطعا، و أعمال الناس زاخرة به لا سيّما مزاحهم و دعاباتهم.

و ثانيا: إنّ كثيرا من المغالبات لها أغراض عقلائية، فالجواز ممّا لا ينبغي الشكّ فيه.

المقام الخامس: المراهنة بغير اللعب بالآلات

ما كان فيه بعض آثار القمار، و هو المراهنة من دون أي لعب، بل يكون من طريق القرعة، أو جعل بعض الجوائز، كما في الاستقسام بالأزلام

و اليانصيب.

أمّا الاستقسام بالأزلام فهو كما قاله المفسّرون نوع من القمار كان في الجاهلية يأخذون عشرة أقداح (و هي المراد بالأزلام جمع زلم على وزن قلم) سبعة منها لها نصيب، و ثلاثة ليس لها نصيب، ثمّ يأخذون جزورا فيذبحونه و يقسّمونه أجزاء و يجتمع عشرة أشخاص، فيسهمون السهام، فلكلّ من السبعة نصيب خاصّ (مختلف أو متساو) و على كلّ من الثلاث ثلث قيمة الجزور، من دون أن يكون لهم نصيب، و كان هذا حراما، و أكلا للمال بالباطل، و الظاهر حرمته تكليفية و وضعية معا.

حكم اليانصيب:

أمّا «اليانصيب» فيتصوّر فيه صور:

1- أن يعطي كلّ واحد مبلغا و يجتمع المال، فيقرعون أنفسهم، فيعطي من خرجت القرعة باسمه، فيقسّم جميع المال بينهم.

2- أن يقسّم كذلك مع أخذ شي ء منه للقائمين به أو الحكومة كما هو المعمول، و للقائمين سهم كثير مجحف!

3- أن يعطى كلّ واحد بقصد الإعانة لمقاصد صالحة كبناء المستشفيات و المدارس و غيرها، فيكون من قبيل الإعانة على هذا الأمر من دون عوض و من دون شرط، و لكن انوار الفقاهة، ج 4، ص: 307

العاملين يقتسمون شيئا منها بالقرعة لتشويقهم إلى هذا الأمر، و هذا يتحقّق من طريق إعلامهم بذلك بينهم.

أمّا الاولى و الثانية فمحرّمتان قطعا، لكونهما أكلا للمال بالباطل، و شمول أدلّة حرمة الاستقسام بالأزلام لهما مع الغاء الخصوصية، و شمول أدلّة حرمة القمار له حكما لا موضوعا، لبعض التعليلات الواردة فيها، فتدبّر.

و الثانية أشدّ حرمة، لما فيه من غصب الحقوق و الإجحاف على الناس!

و أمّا الثالثة فالظاهر إنّه لا مانع منه إذا لم يشترط أي شرط، و لا مانع إذا كان الداعي هو أخذ الجوائز من دون شرط، و لا تشمله أدلّة الاستقسام و لا

غيرها كما هو ظاهر.

بقى هنا شي ء، و هو حكم المأخوذ بالقمار و اليانصيب الحرام، فالظاهر أنّه من قبيل المأخوذ بالعقد الفاسد، و المفروض أنّه ممّا يضمن بصحيحة (و هو العقد السابق الصحيح) فيضمن بفاسده.

و ان شئت قلت: إنّه ليس من قبيل التسليط المجّاني كما في الهبة الفاسدة، فان كانت عينه موجودة فلا بدّ من ردّها، و إلّا ردّ مثلها أو قيمتها، و ان لم يعرف صاحبه تصدّق عنه (على ما هو المعروف في مجهول المالك).

16- القيادة

و المراد منها جمع الرجل و المرأة على الحرام، و لا شكّ في حرمتها بالإجماع و العقل و السنّة، أمّا السنّة فمثل:

1- ما رواه عبد اللّه بن سنان قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أخبرني عن القوّاد ما حدّه؟ قال «لا حدّ على القوّاد، أ ليس إنّما يعطى الأجر على أن يقود؟» قلت: جعلت فداك إنّما يجمع بين الذكر و الانثى حراما! قال: «ذاك المؤلّف بين الذكر و الانثى حراما»، فقلت: هو ذاك.

قال: «يضرب ثلاثة أرباع حدّ الزاني خمسة و سبعين سوطا و ينفى من المصر الذي هو فيه» «1».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 308

2- و في خبر آخر: «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم الواصلة و الموتصلة، يعني الزانية و القوّادة في هذا الخبر» «1».

و قد ورد تحت عنوان «الدياثة» في بعض الأخبار، فهي من الكبائر التي ورد فيها حدّ، و حدّها كما عرفت ثلاث أرباع حدّ الزاني، و هي من الإعانة على الإثم المحرّم بلا إشكال، و في بعض الأحاديث لعنه أيضا «2».

و لا شكّ في حرمة ثمنها أيضا للقاعدة التي عرفتها غير مرّة «3».

17- القيافة

و المراد منه الاستناد إلى علامات توجب الحاق بعض الناس ببعض، و قد ادّعى عدم الخلاف في حرمتها، بل عن المنتهى و غيره دعوى الإجماع عليه، بل قد ادّعى في الجواهر منافاته لما هو كالضروري من الشرع من عدم الالتفات إلى هذه العلامات، بل ذكر أنّ الوجدان أعدل شاهد على عدم مطابقة القيافة للنسب «4».

و الكلام تارة من حيث ترتيب الأثر في المناكح و المواريث و غيرها، و اخرى من حيث التعليم و التعلّم من دون حكم بها، و الأوّل ممّا لا كلام فيه

بيننا، و ان حكي عن العامّة الاعتناء به إجمالا، و يدلّ على مذهب الأصحاب:

1- أصالة عدم الحجيّة في كلّ طريق يشكّ في حجيّته- كما هو المقرّر في الاصول.

2- شهادة الوجدان بعدم مطابقته للواقع.

3- أدلّة الحاق الولد للفراش.

4- أدلّة اللعان، فانّها شاهدة على الإلحاق، و عدم الاعتناء بشي ء في مقابل الفراش.

5- بعض الأحاديث الخاصّة مثل:

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 309

ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من تكهّن أو تكهّن له فقد برئ من دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم» قال: قلت: فالقيافة (فالقافة) قال: «ما أحبّ أن تأتيهم ...» «1».

أمّا الثّاني: فمقتضى الأصل جوازه، إلّا أن يكون مظنّة للشكّ في الأنساب، و مثارا للتهمة، و أمّا حديث زكريا بن يحيى التي استند إليها للجواز في الأوّل الذي رواه شيخنا الأنصاري قدّس سرّه في مكاسبه فضعيف، منكر، لا دلالة له على المقصود، و الأولى ترك التعرّض لنقله.

بقى هنا شي ء، و هو أنّه لا يجوز التعويل على قول الأطباء في إلحاق الأولاد بواسطة تحليل الدم و شبهه، لأنّ كلّ ذلك ظنون لا دليل على اعتبارها، و المعيار قاعدة «الولد للفراش» و حصول الظنّ من هذه الأسباب أحيانا غير كاف في الإلحاق و عدمه، فانّه لا يغني من الحقّ شيئا، إلّا ما ثبت بالدليل.

18- الكذب
اشارة

الكذب من الامور المحرّمة التي لا يكتسب بها إلّا نادرا، و فيه مقامات:

المقام الأوّل: في أدلة حرمة الكذب

فقد ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه أنّه حرام بضرورة العقول و الأديان، و تدلّ عليه الأدلّة الأربعة (انتهى) «2».

أمّا من كتاب اللّه فهناك عشرات من الآيات تدلّ على حرمة الكذب و كونه من أعظم الظلم، و أشدّ القبائح، و لكن كلّها أو جلّها واردة في تكذيب اللّه أو رسله أو نسبة امور إليه تعالى كذبا، أو تكذيب الآخرة، كقوله تعالى: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ... «3».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 310

و مثل قوله تعالى: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ «1».

و قد استدلّ بالأخير على حرمته على الإطلاق، لأنّ ظاهرها مطلق في بدو النظر، و لكن الدقّة فيما سبقها من الآيات تدلّ على أنّ المراد منه الكذب على اللّه أو على أوليائه، مثل قوله تعالى: وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ «2».

و قوله تعالى: وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ... «3».

فلا ينبغي الشكّ في كونها ناظرة إلى ما ذكرنا، نعم قد يستفاد الإطلاق من قوله تعالى:

فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ «4».

و لكن الظاهر منه أيضا عند التأمّل ما ذكرنا.

و أمّا السنّة، فهي كثيرة غاية الكثرة، عامّة شاملة لجميع أنواع الكذب، من غير اختصاص بالكذب على أولياء اللّه أو غيره.

منها روايات كثيرة أوردها في الوسائل في الأبواب 138 و 139 و 140 و 141 تربو على 38 حديثا،

كثير منها دليل على المطلوب، و ستأتي الإشارة إلى كثير منها في الأبحاث الآتية و أوضحها الروايات التالية:

1- ما رواه سيف بن عميرة عمّن حدّثه على أبي جعفر عليه السّلام قال: «كان علي بن الحسين عليهما السّلام يقول لولده: اتّقوا الكذب الصغير منه و الكبير، في كلّ جدّ و هزل، فانّ الرجل إذا كذّب في الصغير اجترأ على الكبير! ...» «5».

2- ما رواه أصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «لا يجد عبد طعم الإيمان حتّى يترك الكذب هزله و جدّه» «6».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 311

3- ما رواه الحارث الأعور عن علي عليه السّلام قال: «لا يصلح من الكذب جدّ و لا هزل، ...» «1».

4- ما رواه محمّد بن الحسن باسناده الآتي عن أبي ذرّ عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في وصيّة له قال:

«يا أبا ذرّ! من ملك ما بين فخذيه و ما بين لحييه دخل الجنّة»، قلت: و إنّا لنؤاخذ بما تنطق به ألسنتنا؟ فقال: «و هل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلّا حصائد ألسنتهم ... يا أبا ذرّ ويل للذي يحدّث فيكذب ليضحك به القوم ويل له ويل له ويل له ...» «2».

5- ما رواه محمّد بن علي بن الحسين قال: «من ألفاظ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أربى الربا الكذب!» «3».

6- ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّ اللّه عزّ و جلّ جعل للشرّ أقفالا و جعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، و الكذب شرّ من الشراب» «4».

7- ما رواه ابن أبي ليلى عن أبيه عمّن ذكره عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّ الكذب هو خراب

الإيمان» «5».

8- ما رواه الخصال باسناده عن الأعمش عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام في حديث شرائع الدين قال: «و الكبائر محرّمة و هي ... و الكذب ...» «6».

9- و ما رواه في عيون الأخبار بأسانيده عن الفضل بن شاذان في كتابه إلى المأمون قال:

«الإيمان هو أداء الأمانة و ... و اجتناب الكبائر ... و الكذب» «7».

و في المجلّد التاسع من المستدرك في الباب 120 و 121 و 122 من أبواب أحكام العشرة أيضا عشرات من الأحاديث و في البحار ج 69 ص 232 الباب 114 نقل 48 حديثا فيها روايات مطلقة جيّدة «8».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 312

و لا يضرّ ضعف سند كثير منها بعد كونها متظافرة متكاثرة، بل متواترة.

و الإجماع بل ضرورة الدين أيضا قائمة عليه، و ما قد يقال بإمكان استنادها إلى ما ذكر من الروايات، لا يصغى إليه إذا بلغ الحكم من الوضوح إلى حدّ الضرورة.

و أمّا من العقل، فهو أيضا واضح، لأنّ قبحه من المستقلات العقلية، و لكن قد يظهر من بعض الأكابر الوسوسة بل الإنكار في إطلاق حكم العقل به، فقال: لا يحكم العقل بحرمة الكذب بعنوانه الأوّلي مع قطع النظر عن ترتّب المفسدة و المضرّة عليه، و كيف يحكم العقل بقبح الإخبار بالأخبار الكاذبة التي لا تترتّب عليها مفسدة دنيوية أو اخروية «1».

و لكن الإنصاف أنّ حرمة الكذب عند العقلاء ليست لمجرّد المفاسد المترتّبة عليها، مضافا إلى أنّه يوجب سلب الاعتماد و الاطمئنان بين الأفراد الذي هو الحجر الأساس للمجتمع الإنساني، و أي شخص يشكّ في قبح فعل من يذكر في حقّ أبيه آلافا من المناقب مع أنّه لم يكن فيه شي ء منها بل كان فيه ما خالفها لمجرّد

أنّه لا تترتّب عليه أيّة مفسدة.

لا سيّما إذا شاع ذلك بين الناس، فالعقلاء يذمّون مثل هذا الشخص، بل مع قطع النظر عن التبعات فانّه يوجب وهن شخصيّة صاحبه و حقارته في نفسه و سقوطه عن أعين الناس، و بالجملة لا ينبغي الشكّ في قبحه عقلا و ان كانت بعض الحالات الطارئة قد تستوجب حسنه كما سيجي ء إن شاء اللّه.

هذا مضافا إلى إمكان القول بحرمته بحكم العقلاء مضافا إلى حكم العقل، بأن يقال إنّ بناءهم قائم على تحريمه، و الأحكام العقلائية كثيرا ما تدور مدار المصالح و المفاسد الغالبة لا الدائمة كما في أحكام الشرع، فكثيرا ما تكون المصلحة أو المفسدة بعنوان الحكمة لا العلّة في حكم العقلاء، و حيث أنّه يوجب الفساد غالبا حكموا بمنعه دائما، فتأمّل.

المقام الثّاني: في كون الكذب من الكبائر مطلقا أو في الجملة:

لا شكّ أنّ كثيرا من مصاديق الكذب من الكبائر، كالكذب على اللّه و رسوله، و الذي يظهر

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 313

من الآيات كونه من أشدّ المحرّمات، و كذا ما يترتّب عليه مفاسد عظيمة، كإيجاد الخلاف بين المسلمين و الضرر عليهم، و ما أشبه ذلك، و أمّا ما ليس كذلك فقد نقل الشيخ الأعظم قدّس سرّه عن الفاضلين و الشهيد الثاني قدّس سرّه إطلاق كونه من الكبائر «1»، بل لعلّه يظهر من غيرهم أيضا، و لكنّه قدّس سرّه تردّد في بعض كلماته في ذلك، و اجترأ بعض الأكابر ممّن تأخّر عنه على إنكار كونه بإطلاقه من الكبائر.

و لكن الإنصاف ظهور غير واحد من أدلّة حرمته في كونه كبيرة مطلقا، و هي روايات مضى بعضها، منها:

1- ما رواه فضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام في كتابه إلى المأمون قال: «الإيمان هو أداء الأمانة ... و اجتناب الكبائر و هي

... الكذب» «2».

2- الأعمش عن جعفر بن محمّد في حديث شرائع الدين قال: «و الكبائر محرّمة (منها) الكذب» «3».

و لكن أورد عليهما بضعف السند تارة، و ضعف الدلالة اخرى، لعدم كون إطلاقهما في مقام البيان.

أمّا الثّاني فواضح الدفع، لعدم فرق بينه و بين سائر المطلقات، مضافا إلى ورود التقييد في غير واحد من فقراتهما، و هو دليل على كونها في مقام البيان.

أمّا الأوّل فهو بالنسبة إلى رواية الأعمش واضح، و أمّا الثّاني بالنسبة إلى رواية الفضل فقد حكي أنّ الصدوق رحمه اللّه له ثلاثة طرق إلى الفضل بعضها ضعيف و بعضها مقبول، فتأمّل.

و العمدة أنّ الروايات فيما نحن فيه كثيرة مستفيضة لا تصل النوبة إلى هذه الامور.

3- ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «اللّه عزّ و جلّ جعل للشرّ أقفالا و جعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، و الكذب شرّ من الشراب» «4».

و القول بأنّ كلّ فرد من افراد الكذب ليس شرّا من الشراب ممنوع «أوّلا» بأنّ ملاحظة

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 314

النسبة من بعض الجهات كما في نظائره، و كفى بذلك في المقصود، و «ثانيا» إنّ الكذب الذي ليس فيه مفسدة في مورده قد تكون فيه مفاسد بحسب نوعه إذا صار راسخا في الإنسان.

4- ما رواه أبو ليلى عن أبيه عمّن ذكره عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّ الكذب هو خراب الإيمان» «1».

5- ما رواه محمّد بن علي بن الحسين عليهم السّلام باسناده قال و كان أمير المؤمنين عليه السّلام يقول:

«ألا فأصدقوا إنّ اللّه مع الصادقين و جانبوا الكذب فانّه يجانب الإيمان ... ألا و انّ الكاذب على شفا مخزاة و هلكة ...» «2».

6- ما رواه أبو ذرّ عن النبي

صلّى اللّه عليه و آله و سلم في وصيّة له، قال: «يا أبا ذرّ! من ملك ما بين فخذيه و بين لحييه دخل الجنّة»، قلت: و أنّا لنؤاخذ بما تنطق به ألسنتنا. فقال: «و هل يكبّ الناس على مناخرهم إلّا حصائد ألسنتهم ... يا أبا ذرّ ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ويل له ويل له ويل له ...» «3».

7- ما رواه الصدوق رحمه اللّه في أماليه مرسلا قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «لا سوء أسوأ من الكذب» «4».

8- ما رواه يونس رفعه إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «يا علي أنهاك عن ثلاث خصال عظام: الحسد و الحرص و الكذب» «5».

9- ما رواه أبو بصير قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «إنّ العبد ليكذب حتّى يكتب من الكذّابين، و إذا كذب قال اللّه كذب و فجر» «6».

10- مرسلة أبي محمّد العسكري عليه السّلام قال: «جعلت الخبائث في بيت و جعل مفتاحه الكذب» «7».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 315

11- مرسلة الراوندي قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «أربى الربا الكذب ...» قال: يا رسول اللّه المؤمن يكذب؟ قال: «لا، قال اللّه تعالى إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ «1» و «2».

12- و عن جامع الأخبار قال عليه السّلام: «إيّاكم و الكذب فانّ الكذب يهدي إلى الفجور و الفجور يهدي إلى النار ...» «3».

إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة جدّا، و الاستبعاد بأنّه كيف تكون كبيرة مع أنّه قد لا تترتّب عليه أيّة مفسدة قد عرفت الجواب عنه، و أنّه بنوعه يترتّب عليه مفاسد عظيمة نهى الشارع عنه لذلك

و جعله كبيرة.

و غاية ما يمكن الاستدلال به لعدم كونه مطلقا من الكبائر امور:

1- ما رواه أبو خديجة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «الكذب على اللّه و على رسوله من الكبائر» «4».

2- و ما رواه أبو خديجة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «الكذب على اللّه و على رسوله و على الأوصياء عليهم السّلام من الكبائر» «5».

و فيه: أنّها من مفهوم اللقب.

3- و ما رواه جعفر بن محمّد عليهما السّلام عن آبائه (في وصيّة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لعلي عليه السّلام): «يا علي من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار» «6».

و الجواب هو الجواب.

4- ما رواه سيف بن عميرة عمّن حدّثه عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «كان علي بن الحسين عليهما السّلام يقول لولده: اتّقوا الكذب الصغير منه و الكبير في كلّ جدّ و هزل فانّ الرجل إذا كذب في الصغير اجترأ على الكبير أما علمتم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال: ... و ما

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 316

يزال العبد يكذب حتّى يكتبه اللّه كذّابا» «1».

و لعلّ هذه الرواية على خلاف المدّعى أدلّ، لأنّه بيان للمفسدة النوعية التي أشرنا إليها.

5- و استدلّ الشيخ الأعظم قدّس سرّه أيضا بصحيحة عبد الرحمن الحجّاج قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الكذّاب هو الذي يكذب في الشي ء؟ قال: «لا، ما من أحد إلّا يكون ذاك منه، و لكن المطبوع على الكذب» «2».

أضف إلى ذلك كلّه أنّ كبر الكذب و صغره باعتبار ما يترتّب عليه من المفاسد.

و فيه «أوّلا» إنّه لا أثر فيه ممّا ذكر من كونه باعتبار ما يترتّب عليه.

و «ثانيا» هو بصدد بيان

الكذّاب و تعريفه، و لا دخل له بما نحن بصدده، يعني أنّ مجرّد صدور كذب من إنسان لا يوجب كونه داخلا في الكذّاب، حتّى يترتّب عليه عقابه، لصدور ذلك من كلّ أحد.

فلا يصحّ الاستدلال بشي ء من ذلك على عدم كونه من الكبائر، بل هو كبيرة مطلقا.

المقام الثّالث: الكذب هزلا

ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه في أوّل كلامه في المقام خروجه عن حكم الكذب، و لكن مال في آخر كلامه إلى حرمته «3».

و فصل بعض الأساتذة بين ما إذا أخبر بوقوع شي ء هزلا، كأن يخبر بقدوم مسافر ليتهيّأ له السامع، فيضحك مثلا، و نفى الشبهة عن كونه حراما، و اخرى ينشأ بعض المعاني بداعي الهزل من دون قصد الحكاية عن واقع ليكون إخبارا، كما إذا أطلق «البطل» على فرد جبان أو العالم على الجاهل و قصد به الهزل، و ذكر أنّه لا دليل على حرمته مع نصب القرينة «4».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 317

و فصل آخر بين المحفوف بقرينة مقالية أو حالية، كما إذا أعدّ المجلس للهزل، و ما إذا لم يكن كذلك، مدّعيا انصراف الأدلّة عنه، بل لم يكتف بذلك حتّى ادّعى عدم حرمته إذا لم يفد المخاطب شيئا، و لم يكن فيه اغراء، كما إذا أخبر ببرودة النّار و حرارة الماء!

أقول: الإنصاف أنّه لا محصّل للتفصيل بين كونه اخبارا و إنشاء، لأنّ جميع ما ذكر من قبيل الإخبار قطعا، و البطولة و العلم و أشباههما ليست من الامور الإنشائية التي تحصل بمجرّد الإنشاء، و كذا تطبيق هذه الأوصاف على بعض الموارد.

هذا مضافا إلى ما سيأتي من احتمال جريان الصدق و الكذب في بعض الإنشائيات أيضا، فانتظر.

كما أنّ دعوى الانصراف في أدلّة الكذب ممنوعة، و ليت شعري ما الفرق

بين الكذب و سائر المحرّمات؟ فانّ لها أيضا مصاديق قليلة الفساد أو خالية عن الفساد ظاهرا كمن شرب قطرة من الخمر، أو غصب حبّة من حنطة أو وطأ خطوة أرض الغير بغير رضاه، فهل تعدّ هذه ذنوبا صغارا؟ و هل يلاحظ الفرق بين المصاديق؟ و هل فصّل فيها أحد؟

و هكذا الفرق بين ما لا يفيد السامع شيئا و غيره.

و بالجملة لا تدور المحرّمات مدار المفاسد الفردية، بل النوعية، فإذا شمل عنوانها لمصداق جرى عليه حكمه.

بل يمكن الاستدلال على العموم بروايات خاصّة:

1- منها رواية سيف بن عميرة الآنفة الذكر (1/ 140) و فيها بيان كون المفسدة نوعية.

2- منها ما رواه الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «لا يجد عبد طعم الإيمان حتّى يترك الكذب هزله و جدّه» (2/ 140) و حمله على الاستحباب كما ذكره في المصباح كما ترى.

3- و منها ما رواه أبو ذرّ عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال: «... ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم» (4/ 140).

و رميها بضعف السند مشكل بعد كونها متظافرة.

نعم، إذا قامت القرائن الحالية أو المقالية على إرادة المجاز أو الكناية من اللفظ، و لو

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 318

لكونه في مقام الهزل، خرج من عنوان الكذب لوجود القرينة كما هو ظاهر، فالأحوط لو لم يكن أقوى وجوب الاجتناب عن الجميع، إلّا في موارد قيام القرينة ممّا لا يسمّى كذبا.

المقام الرّابع: هل يجري حكم الكذب في الإنشاء؟
اشارة

المعروف عدم جريان الصدق و الكذب في الإنشائيات، و لكن يحكى عن كاشف الغطاء (رضوان اللّه عليه) جريان حكم الكذب في الإنشاء و انّ الكذب و إن كان من صفات الخبر، إلّا أنّ حكمه يجري في الإنشاء المنبئ عنه، كمدح

المذموم و ذمّ الممدوح، و تمنّي المكاره، و ترجّي غير المتوقّع و إيجاب غير الموجب. انتهى.

و ظاهر عبارة الشيخ الأعظم قدّس سرّه ميله إليه لعدم ردّه «1».

و لكن صرّح بعض المعاصرين ممّن تأخّر عنه نفي كون الإنشاء متّصفا بهما، بينما يظهر من غيره أنّ الكذب على قسمين: حقيقي و ادّعائي حكمي، فكلّما كان له نوع كشف عن الواقع و لو كان من قبيل الإنشائيات داخل في الكذب حكما، و محرّم إلّا ما استثني.

أقول: الذي يستفاد من الإطلاقات العرفية إطلاق عنوان الكذب على الأخبار و الإنشاء كليهما و ان كان المعروف المشهور في ألسن أهل العلم عدم اتّصاف الإنشاء بهما، بل هو المأخوذ في تعريف الإنشاء و الإخبار.

فإذا قال القائل: فيا ليت الشباب يعود يوما ... مع انّا نعلم أنّه يكره عود الشباب إليه قطعا، نقول أنّه يكذب في قوله هذا، أو قال: يا ليت زيدا حاضر هنا، مع انّا نعلم شدّة عداوته له، أو قال: تعالى تغدّ معنا. و نحن نعلم أنّه لا يريده. نقول أنّه كاذب في هذا القول.

فالظاهر دخول الصدق و الكذب في الإنشائيات غالبا، لا لأنّ مفاده الذي هو أمر إيجادي قابل للاتّصاف بالصدق و الكذب، بل لما يلازمه من الإخبار، فان التمنّي ملازم للإخبار بحبّ الشي ء، كما أنّ الأمر بشي ء ملازم لإرادته، و الاستفهام عن شي ء ملازم للجهل به، و جريان الصدق و الكذب بعنوان ملازمه.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 319

هذا و لكن شمول أدلّة الحرمة للوازم الكلام محلّ تأمّل، فمن قال: آه من ذنوبي، فلازمه الإخبار بخوفه منها، فإذا علمنا بأنّه لا يخاف فهل يمكننا القول أنّه يكذب و لا يخاف اللّه؟

الظاهر أنّ أدلّة الحرمة لا تشمل لوازم الكلام و لا

أقل من الشكّ، فالأصل البراءة و أمّا الوعد و حقيقته فسيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه.

حكم الوعد:

يظهر من بعض آيات القرآن الكريم و كثير من الروايات أنّ الوفاء بالوعد من الواجبات.

أمّا من القرآن- فقوله تعالى: وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا «1» فانّ الوعد نوع من العهد.

و كذلك قوله تعالى: لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ «2».

بناء على عدم انحصار مفادها بقول خال عن العمل، و شمولها بعمومها للوعد أيضا، و ليس ببعيد، لا سيّما بملاحظة صحيحة هشام بن سالم قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

عدّة المؤمن أخاه نذر لا كفّارة له، فمن أخلف فبخلف اللّه بدأ، و لمقته تعرّض، و ذلك قوله:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ «3».

و أمّا السنّة فهي كثيرة جدّا منها:

1- ما رواه شعيب العقرقوفي عن أبي عبد للّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فليف إذا وعد» «4».

2- و ما رواه الحارث الأعور عن علي عليه السّلام قال: «لا يصلح من الكذب جدّ و لا هزل و لا أن يعد أحدكم صبيّه ثمّ لا يفي له ...» «5».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 320

و يظهر منه أنّه جعل خلف الوعد من الكذب.

و هناك روايات اخرى كثيرة ذكرها المجلسي في بحار الأنوار تدلّ على المطلوب «1».

3- و ما رواه في نهج البلاغة: و إيّاك و المنّ على رعيّتك ... أو أن تعدهم فتتبّع موعدك بخلفك، فانّ المنّ يبطل الإحسان، و التزيد يذهب بنور الحقّ، و الخلف

يوجب المقت عند اللّه و الناس، قال اللّه سبحانه: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ» «2».

هذا و لكن ذكر لزوم الوفاء بالوعد من حقوق الاخوّة في بعض الأخبار يضعف دلالتها على الوجوب، مثل ما جاء في البحار في أحاديث متعدّدة فراجع «3».

و قد يقال أنّ السيرة العملية و الشهرة بين الأصحاب على عدم الوجوب، و لو كان ذلك واجبا لاشتهر و بان مع شدّة الابتلاء به، و الإنصاف أنّه يشكل رفع اليد عن هذه الظواهر بمجرّد هذه الامور، فالأحوط الوفاء بالوعد.

هذا و لكن يظهر من كلماتهم في أبواب النذر أنّ التزام شي ء على نفسه لا يكون ملزما إلّا إذا كان الالتزام للّه.

قال في الجواهر بعد كلام له في المقام: و في قواعد الفاضل لو قال: «عليّ كذا و لم يقل للّه، استحبّ له الوفاء، و لعلّه لأنّه طاعة، ... و على كلّ حال فالأمر سهل من انّ الحكم مستحبّ، و الفرض إن لم يكن نذرا منعقدا فهو وعد أو شبه الوعد» «4».

و يظهر من هذه العبارة تسالمهم على أنّ الوعد أو شبه الوعد لا يجب الوفاء به و انّ ما كان للّه يجب الوفاء به.

بل لعلّه يظهر من بعض روايات أبواب النذر أنّ مجرّد الالتزام على النفس بشي ء لا يجب الوفاء به إلّا ما كان للّه، و لا يبعد شموله لبعض أفراد الوعد، بل لجميعه، فلعلّ ما يدعى من السيرة أو الشهرة أو الإجماع نشأ من هنا، و إليك هذه الروايات:

1- ما رواه مسلم بن مسعدة بن صدقة قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام ... و سئل عن الرجل انوار الفقاهة، ج 4، ص: 321

يحلف بالنذر و نيّته في يمينه التي حلف

عليها درهم أو أقل، قال: «إذا لم يجعل اللّه فليس بشي ء» «1».

2- و ما رواه خالد بن جرير عن أبي الربيع قال: سئل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يقول للشي ء يبيعه: أنا أهديه إلى بيت اللّه قال: فقال: «ليس بشي ء كذبة كذبها» «2».

3- ما رواه سعيد بن عبد اللّه الأعرج قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يحلف بالمشي إلى بيت اللّه و يحرم بحجّة و الهدي، فقال: «ما جعل للّه فهو واجب» «3».

4- و ما رواه إسحاق بن عمّار قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّي جعلت على نفسي شكرا للّه ركعتين اصلّيهما في السفر و الحضر أ فأصلّيهما في السفر بالنهار. فقال: «نعم»، ثمّ قال:

«إنّي لأكره الإيجاب أن يوجب الرجل على نفسه «، قلت: إنّي لم أجعلهما للّه عليّ، إنّما جعلت ذلك على نفسي اصلّيهما شكرا للّه، و لم اوجبهما على نفسي، أ فأدعهما إذا شئت؟

قال: «نعم» «4».

5- ما رواه السندي بن محمّد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له: جعلت على نفسي مشيا إلى بيت اللّه. قال: «كفّر عن يمينك، فإنّما جعلت على نفسك يمينا و ما جعلته للّه فف به» «5».

6- و ما رواه ابن أبي عمير عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الرجل تكون له الجارية فتؤذيه امرأته و تغار عليه، فيقول: هي عليك صدقة. قال: «إن جعلها للّه و ذكر اللّه فليس له أن يقربها، و ان لم يكن ذكر اللّه فهي جاريته يصنع بها ما شاء» «6».

و من هنا يشكل الحكم بوجوب الوفاء بكلّ عهد و وعد و ان كان الأحوط استحبابا ذلك.

انوار الفقاهة، ج 4،

ص: 322

بقي هنا شي ء، و هو إنّه قد يقال: إنّ الوعد على أقسام، تارة يخبر عن عزمه على الوفاء بشي ء، كأن يقول انّي عازم على أن اعطيك كذا و كذا.

و اخرى أن ينشئ ما التزمه، بأن يقول: لك عليّ كذا.

و ثالثة أن يخبر عن الوفاء بأمر مستقبل، كقوله: أجيئك غدا «1».

هذا و لكن الوعد ليس شيئا منها، بل هو إنشاء و التزام فعل لغيره على نفسه في المستقبل، بأن يقول: أجيئك غدا لا بقصد الإخبار، بل بقصد الإنشاء و الالتزام، و من هنا يعلم أنّ أدلّة حرمة الكذب لا تشمله (فتأمّل فانّه حقيق به).

نعم، هنا إطلاق آخر من هذا العنوان، فيقال: وعد صادق أو كاذب، إذا وفي بعهده أو لم يف به، و هذا صدق و كذب في العمل لا دخل له بالقول الذي هو محلّ الكلام، فتدبّر.

المقام الخامس: الكلام في التورية

«التورية» في اللغة بمعنى الستر و الإخفاء، يقال: ورى الشي ء، أي أخفاه عن غيره، و لكن في مصطلح الفقهاء هو: ذكر لفظ و إرادة معناه الواقعي مع قصد القاء المخاطب في غيره (و هو على قسمين: ما يكون في مقام الضرورة، و اخرى في غيرها).

و قد يعبّر عنه في كلمات فقهاء العامّة و الخاصّة بالمعاريض، جمع «المعراض» بمعنى ستر شي ء عن شي ء آخر، و أمثلته كثيرة، و لكن من ألطفها ما حكى عن بعض علماء الشيعة أنّه سئل عن الخليفة بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فأراد بيان الحقّ مع إخفاء ظاهره لبعض المسائل قال:

«من بنته في بيته».

و قال الشاعر:

خير الورى بعد النبي من بنته في بيته من في دجى ليل العمى نور الهدى في زيته و مثله ما هو المعروف من كلام عقيل:

«أمرني معاوية بلعن علي عليه السّلام ألا فالعنوه!».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 323

و ما يحكى عن سعيد بن جبير قال في جواب الحجّاج: ما تقول في حقّي؟ قال: «أنت قاسط عادل» ففرح الحاضرون، و لكن فهم الحجّاج المعنى، و قال: أمّا القاسط فإشارة إلى قوله تعالى: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً

«1» (و القسط ممّا له معنيان متضادّان) و أمّا العادل فهو إشارة إلى قوله تعالى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ «2» (بمعنى جعل العدل و الشريك له) فحكم بظلمي و كفري! إلى غير ذلك في أشباهها.

و قد يمثّل له بقول القائل في مقام الإنكار «علم اللّه ما قلته» يريد ما الموصولة و السامع يحسبه ما النافية.

و لكن الإنصاف أنّ التلفّظ بهما مختلف في النطق كما لا يخفى على الخبير، نعم في الكتابة متوافقان.

و على كلّ حال، فقد وقع الخلاف في حكمه، و يظهر من كثير منهم خروج التورية عن الكذب، بل ذكر بعضهم أنّه لا شبهة فيه.

و لكن عن المحقّق القمّي قدّس سرّه أنّه داخل في الكذب، و العلّة في ذلك هو الخلاف في حقيقة الصدق و الكذب، فان قلنا إنّ المعتبر في اتّصاف الخبر بالصدق و الكذب هو مطابقة ما قصده المتكلّم للواقع و عدمها، فهو ليس من الكذب، لأنّه قصد معناه الواقعي و ان قلنا إنّ المعيار هو مطابقة ظاهره للواقع فهو كذب (و لا دخل له بالنزاع المشهور من أنّ المعيار مطابقته للواقع أو لاعتقاد المتكلّم).

و ما حكي عن أكثر الأصحاب في باب المسوغات أنّه إنّما يسوغ الكذب إذا لم يقدر على التورية، و إنّها ليست كذبا لا يخلو عن إشكال.

أقول: الحقّ أنّ التورية على قسمين:

فتارة يكون الكلام بظاهره قابلا لاستعماله في كلّ

منهما كما في اللفظ المشترك، و كما في مرجع الضمير المستعمل في الكلام في الأمثلة المتقدّمة، فانّ الرجوع إلى كلّ ما ذكر في الكلام جائز، و ان كان الأقرب أولى، و لكن ليس لازما، و كما في لفظ «هنا» الذي يقوله انوار الفقاهة، ج 4، ص: 324

الإنسان من وراء الباب «انّ فلانا ليس هنا» و مراده خلف الباب، و لكن المخاطب بسبب بعض ما في ذهنه من الاعتقادات أو التخيّلات ينتقل إلى فرد لا يريده المتكلّم، أو بسبب كثرة استعماله في فرد خاص، و لكن لم يبلغ حدّ الوضع و شبهه.

و قد لا يحتمل الكلام ذلك المعنى إلّا مجازا أو ببعض القيود، و لكن يريد المتكلّم منه ذلك، كما إذا قال المتكلّم: أنا ما أكلت اليوم شيئا، و أراد حالة النوم فانّ الكلام بظاهره نفي مطلق لا يحتمل الفرد الخاص، و استعماله في خصوص حال النوم غير جائز إلّا ببعض القيود.

أو قال: اليوم رأيت أسدا، و قصد بذلك رجلا شجاعا مع عدم إقامة قرينة حالية أو مقالية عليه.

أو قال: فلان مجتهد جامع الشرائط، و أراد أنّه قريب الاجتهاد.

و الحقّ أنّ القسم الأوّل داخل في الصدق، و الثاني داخل في الكذب، يشهد له مراجعة الوجدان و ملاحظة كلمات العرف.

فمن قال: هذا الدار ملك لي، و أراد به الإجارة، و ملك المنافع، كان كاذبا، أمّا إذا قال: إنّ يدي خالية، ففهم المخاطب الكناية عن عدم مال له، و لكن أراد المعنى الحقيقي، و هو خلو يده عن الأشياء الظاهرة كالكتاب و السبحة و غيرهما كان صادقا.

فإذا، الحقّ ما ذكره المحقّق القمّي قدّس سرّه في هذا المقام، و السرّ في ذلك أنّ الوضع يقتضي استعمال اللفظ في معناه الحقيقي،

أو المجازي مع القرينة، فمن فعل غيره كان كاذبا، و العمدة هو فهم العرف، و تبادر ما ذكرنا من لفظ الكذب.

و الخلط بين هذين القسمين صار منشأ للخلاف في حكم التورية، بل و في تفسير الصدق و الكذب في الأخبار، و لعلّ المشهور أيضا أرادوا ما ذكرنا، فتأمّل.

و الحاصل، أنّ التورية على قسمين: قسم منها جائز مطلقا، و قسم لا يجوز إلّا عند الضرورة.

نعم يبقى هنا بعض ما ورد في روايات الباب، فما عدّ دليلا للقول الأوّل و هو الجواز مطلقا هي الروايات التالية:

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 325

1- ما رواه عبد اللّه بن بكير بن أعين عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الرجل يستأذن عليه، فيقول للجارية: قولي «ليس هو هاهنا» قال: «لا بأس ليس بكذب» «1».

و من الواضح أنّه داخل في القسم الأوّل ممّا ذكرنا، لاشتراك الإشارة بين تمام الدار و خلف الباب.

2- و ما رواه في كتاب الإحتجاج إنّه سئل الصادق عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ في قصّة إبراهيم عليه السّلام: قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ «2» قال: «ما فعله كبيرهم و ما كذب إبراهيم»، قيل: و كيف ذلك؟ فقال: «إنّما قال إبراهيم فاسألوهم ان كانوا ينطقون، إن نطقوا فكبيرهم فعل، و إن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئا فما نطقوا و ما كذب إبراهيم» «3».

3- و ما رواه الصدوق رحمه اللّه في العلل باسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال في تفسير هذه الآية إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ: «إنّهم سرقوا يوسف من أبيه، ألا ترى أنّهم حين قالوا: ما ذا تفقدون؟ قالوا: نفقد صواع الملك و لم يقولوا سرقتم صواع الملك» «4».

4- و ما

رواه سويد بن حنظلة قال: خرجنا و معنا وائل بن حجر نريد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فأخذه أعداء له و تحرّج القوم أن يحلفوا فحلفت باللّه أنّه أخي، فخلي عنه العدو، فذكرت ذلك للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فقال: «صدقت المسلم أخ المسلم» «5».

و الظاهر أنّ الأخير من قبيل ما ذكرنا، لأنّ الأخ يستعمل في المعنيين استعمالا ظاهرا (مضافا إلى أنّه كان في مقام الاضطرار).

و كذا ما قبله، لأنّ الشرط كما يمكن أن يكون قيدا للسؤال، يمكن أن يكون قيدا للفعل.

هذا و ممّا يؤيّد المختار إطلاق الأخبار المجوّزة للكذب عند الضرورة و عدم استثناء إمكان التورية، و وجهه أنّ التورية على ما ذكرنا قليلة الموارد لا تجري إلّا فيما كان هناك كلام ذات وجهين، و أمّا على مبنى القوم فهي كثيرة بحسب المصداق.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 326

بقي هنا شي ء:

و هو ما حكي في سورة الأنبياء عن إبراهيم عليه السّلام من قوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ... «1» و كذا ما حكاه اللّه تعالى عنه في سورة الصافات من قوله فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ* فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ «2» و في سورة يوسف: ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ «3» هل هو داخل في مسألة التورية، أو كذب جائز للإصلاح و الهداية؟ لسان الروايات فيه مختلف:

ففي بعضها يظهر منه الاحتمال الأوّل، أي التورية، فإنّه قال: «إن نطقوا فكبيرهم فعل» «4».

و يظهر من بعضها أنّه كان من التقية.

و لكن صريح غير واحد منها أنّه كان من الكذب الجائز، للإصلاح و أنّه «لا كذب على مصلح» «5».

و في غير واحد منها نفي الفعل و الكذب كليهما عن إبراهيم و يوسف حيث قال

«ما فعل كبيرهم و ما كذب»- «و ما كانوا سرقوا و ما كذب» و تحقيق ذلك:

أوّلا: إنّ الكلام في قضيّة يوسف لم يكن منه، و لا دليل على أنّه كان بإذنه، و لعلّ المؤذّن لما فقد صواع الملك حصل له سوء ظنّ باخوة يوسف، و قال ما قال، و عدم نهي يوسف عنه لو كان بمرآه لعلّه لمصلحة هناك.

و في قضيّة إبراهيم عليه السّلام «و نظرة في النجوم ...» لعلّه كان مصابا بالحمّى أو شبهها تنوبه في أوقات معيّنة، فأراد تعيين وقتها كما قيل، و إلّا لا ربط لسقمه بمسألة النجوم، فلم يكن كاذبا، فتبقى مسألة نسبة الفعل إلى كبير الأصنام، و سيأتي جوابها.

و ثانيا: يجوز أن يكون المراد سرقة يوسف من أبيه، فتأمّل.

و أمّا نسبة الفعل إلى الصنم الكبير لعلّه كان مشروطا بنطقهم، فتدبّر.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 327

هذا و الأولى بعد تعارض الأخبار في هذا الباب أن يقال: إنّ الكذب إنّما يكون فيما إذا لم تكن هناك قرائن محفوفة بالكلام تدلّ على كون المراد منه الاستهزاء بالأصنام أو شبهه، أو الكناية عن عدم قدرتها على شي ء و إلّا لم يقع مصداق الكذب كما مرّ شرحه آنفا.

المقام السّادس: في مسوغات الكذب
الأوّل من مسوغات الكذب: ما كان للضرورة
اشارة

الذي يظهر من كلماتهم أنّ العناوين المحرّمة على قسمين: ما يكون قبحه ذاتيا لا يختلف بالوجوه و الاعتبار، و مثّلوا له بالظلم، و ما يختلف بذلك و جعلوا الكذب منها.

و لكن هذا التقسيم قابل للتأمّل، لأنّ كلّ شي ء غير الكفر و هدم الدين- الذي هو أكبر الكبائر- ليست حرمته ذاتية حتّى لو كان ظلما، فلذا يجوز أكل مال الغير في المخمصة، و الهجوم على المسلمين إذا تترّس الكفّار بهم في الحرب بشرائطه مع أنّ وقوع الظلم عليه حينئذ

واضح، و لو اجيب عن الأوّل، فلا يمكن الجواب عن الثاني، نعم وجود الغرض الأهمّ رخّص هذا الظلم.

فغالب المحرّمات أو جميعها إلّا ما ذكر يكون جائزا عند طروّ عنوان أهمّ منه، و الكذب منه قطعا، و بعبارة اخرى عند دوران الأمر بين أمرين محرّمين يؤخذ بالأقوى منهما فيترك و يعمل بالآخر، و كذا إذا دار الأمر بين محرّم و واجب، و هناك كثير من الواجبات و المحرّمات أقوى ملاكا من الكذب، فيجوز ارتكاب الكذب لحفظها.

و هذا هو الدليل العمدة في هذا الباب، و الاضطرار و الإكراه و دوران الأمر بين الأمرين كلّها، تندرج تحت عنوان الضرورة، خلافا لبعض الأعلام.

و هناك روايات كثيرة و بعض الآيات تدلّ على جواز ذلك أيضا، مضافا إلى الإجماع المعلوم حاله في أمثال المقام.

أمّا من الآيات فقد استدلّ له بقوله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ... «1».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 328

و لكن الظاهر أنّها لا تشتمل على مسألة الكذب، بل هي ناظرة إلى إظهار البراءة التي هي من قبيل الإنشاء، إلّا أن يتمسّك بالأولوية، هذا مضافا إلى اختصاصها بمورد الخوف على النفس، و ليست عامّة.

و بقوله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْ ءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ... «1».

و الظاهر أنّها أيضا بصدد أمر آخر، و هو اتّخاذ الكفّار أولياء، و المحبّة إليهم، و تزاورهم و إعانتهم، إلّا أن يقال: إنّ ذلك لا ينفكّ عن الكذب غالبا، و هو كما ترى.

هذا مضافا إلى ما مرّ في نظيره في الآية السابقة من أنّها خاصّة ببعض الموارد.

نعم هناك روايات كثيرة عامّة أو

خاصّة تدلّ على المطلوب، و لكن فيها ما يدلّ على عدم الحرمة تكليفا، مضافا إلى عدم التأثير وضعا في مثل الطلاق و غيره، و بعضها عام يشملها.

و من الأوّل:

1- ما رواه السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه عن علي عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «احلف باللّه كاذبا و نجّ أخاك من القتل» «2».

2- و ما رواه زرارة قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: نمرّ بالمال على العشّار، فيطلبون منّا أن نحلف لهم و يخلون سبيلنا، و لا يرضون منّا إلّا بذلك، قال: فاحلف لهم فهو أحلى من التمر و الزبد «3».

3- و ما رواه الحلبي أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يحلف لصاحب العشور يحرز (يجوز) بذلك ماله. قال: «نعم» «4».

4- و ما رواه الحلبي عن الصادق عليه السّلام: اليمين على وجهين، إلى أن قال: «فأمّا الذي يؤجر عليها الرجل إذا حلف كاذبا و لم تلزمه الكفّارة، فهو أن يحلف الرجل في خلاص امرء

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 329

مسلم، أو خلاص ماله من متعدّ يتعدّى عليه، من لصّ أو غيره» «1».

5- و ما رواه أبو بكر الحضرمي قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: نحلف لصاحب العشور نجيز بذلك مالنا؟ قال: «نعم» «2».

6- و ما رواه سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا حلف الرجل تقيّة لم يضرّه إذا هو اكره و اضطرّ إليه. و قال: ليس شي ء ممّا حرّم اللّه إلّا و قد أحلّه لمن اضطرّ إليه» «3».

و من الثّاني:

1- ما رواه إسماعيل بن سعد الأشعري عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام في حديث قال: سألته عن رجل أحلفه السلطان بالطلاق

أو غير ذلك فحلف، قال: «لا جناح عليه، و عن رجل يخاف على ماله من السلطان فيحلفه لينجو به منه، قال لا جناح عليه»، و سألته: هل يحلف الرجل على مال أخيه كما يحلف على ماله؟ قال: «نعم» «4».

2- و ما رواه مسعدة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ما آمن باللّه من و في لهم بيمين!» «5».

3- و ما رواه فضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام في كتابه إلى المأمون قال: «و التقيّة في دار التقيّة واجبة، و لا حنث على من حلف تقيّة يدفع بها ظلما عن نفسه» «6».

4- و ما رواه أبو بكر الحضرمي قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: رجل حلف للسلطان بالطلاق و العتاق، فقال: «إذا خشي سيفه و سطوته فليس عليه شي ء، يا أبا بكر! إنّ اللّه عزّ و جلّ يعفو، و الناس لا يعفون» «7».

5- و ما رواه محمّد بن أبي نصر جميعا عن أبي الحسن عليه السّلام في الرجل يستكره على اليمين فيحلف بالطلاق و العتاق و صدقة ما يملك، أ يلزمه ذلك؟ فقال: «لا»، فقال: قال انوار الفقاهة، ج 4، ص: 330

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «وضع عن أمّتي ما اكرهوا عليه و ما لم يطيقوا و ما أخطئوا» «1».

6- و ما رواه معاذ بيّاع الأكسية، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّا نستحلف بالطلاق و العتاق فما ترى؟ أحلف لهم؟ فقال: «احلف لهم بما أرادوا إذا خفت» «2».

و من الثالث:

1- ما رواه أبو الصباح قال: و اللّه لقد قال لي جعفر بن محمّد عليهما السّلام: «إنّ اللّه علّم نبيّه التنزيل و التأويل، فعلّمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله و سلم عليا عليه السّلام قال: و علّمنا و اللّه، ثمّ قال: ما صنعتم من شي ء أو حلفتم عليه من يمين في تقيّة فأنتم منه في سعة» «3».

2- و ما رواه يونس عن بعض أصحابه عن أحدهما عليهما السّلام في رجل حلف تقيّة فقال: «إن خفت على مالك و دمك فاحلف تردّه بيمينك، فان لم تر أنّ ذلك يردّ شيئا فلا تحلف لهم» «4».

3- و ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قلت له: إنّا نمرّ على هؤلاء القوم فيستحلفونا على أموالنا و قد أدّينا زكاتها، فقال: «يا زرارة إذا خفت فاحلف لهم ما شاءوا»، قلت:

جعلت فداك بالطلاق و العتاق. قال: «بما شاءوا» «5».

4- و ما رواه الأعمش عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام في حديث شرائع الدين قال: «... و لا كفّارة على من حلف تقيّة يدفع بذلك ظلما عن نفسه» «6».

هذا مضافا إلى ما دلّ على نفي الضرر و الحرج في الدين و جواز المحرّمات عند الضرورة.

هذا، و قد يورد على الاستدلال بها بأنّ مورد الإخبار غير منطبق على المراد، فانّ ظاهرها جواز الحلف لمطلق المال، و ليس هذا من الضرورة، و أوضح منه الحلف لدفع الضرر عن الغير «7».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 331

و لم يكتف بهذا حتّى أورد عليه بأنّ عنوان الاضطرار و الإكراه و الدوران بين المحذورين غير عنوان الضرورة.

و لكن الإنصاف أوّلا: إنّ الضرورة في اللغة و العرف لها معنى عام يشمل الإكراه و دوران الأمر بين الأمرين، و هو عين الاضطرار، فليس هنا عناوين أربعة. فانّ الإنسان إنّما يتّقي (في التقيّة الخوفية) إذا رأى نفسه في خطر فاضطرّ إليها، و كذا الإكراه لا يكون إلّا

بالتوعيد، و دوران الأمر أيضا كذلك، مثلا إذا أراد الإنسان ترك الغصب وقعت نفسه في الهلاك عند المخمصة و الجماعة، و إذا أراد حفظ نفسه لزمه ارتكاب الغصب، و حيث يكون أحدهما أهمّ، فيصدق عليه عنوان الاضطرار.

ثانيا- حفظ المال الكثير يعدّ ضرورة، و أمّا المال اليسير فالظاهر انصراف الأخبار عنه.

كما أنّ حفظ أموال الأخ المسلم أيضا كذلك إذا كان ممّا يعتدّ به، فكلّ ذلك داخل في معنى الضرورة بالمعنى المطلق.

و هذا كلّه واضح، إنّما الكلام في أنّه هل تجب التورية عند الضرورة، بحيث لا يسوغ الكذب إلّا عند العجز عنه، أو يجوز مطلقا؟

حكى عن المشهور وجوبها، و استدلّ له بأمرين يرجعان إلى واحد في الحقيقة:

أحدهما: إنّ الملاك في جواز الكذب تحقّق الضرورة، و مع إمكان التورية لا ضرورة.

ثانيهما: إنّ قبح الكذب عقلي، فلا يجوز إلّا بعروض عنوان حسن عليه، و لا يعرض هذا العنوان إلّا إذا كان الطريق منحصرا في الكذب، لا ما إذا أمكن التورية.

و لكن في مقابل هذين الدليلين إطلاق الروايات الكثيرة التي ليس فيها عين من هذا الشرط و لا أثر، و من البعيد تقييد جميعها، و لذا مال الشيخ الأعظم قدّس سرّه في بعض كلماته إلى جواز ذلك من دون قيد، و دفع الدليل العقل بأنّه لا مانع من توسّع الشارع على العباد بجواز الكذب عند الضرورة مطلقا بعد كون التورية موجبة للعسر و الحرج إجمالا.

و لكن مال أخيرا إلى كلام المشهور، و احتاط فيها أخذا بالقاعدة، و أمر بالتأمّل في ذيل كلامه الذي يظهر منه الترديد آخر الأمر.

و التحقيق في المسألة أن يقال: إنّ المشكل نشأ من ناحية عدم التفسير الصحيح للتورية،

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 332

فقد عرفت أنّها لا تجري

إلّا فيما يحتمل الكلام لمعنيين بحسب ذاته، و لكن ينصرف ذهن المخاطب إلى واحد منهما، لبعض ما في ذهنه ممّا هو خارج عن الكلام، و القرائن الموجودة فيه بحسب موازين التكلّم، مثلما عرفت من كلام عقيل لمعاوية و شبهه، أو شهرة أحد المعاني شهرة لم تبلغ حدّ الظهور توجب انصراف ذهن المخاطب مع أنّ مراد المتكلّم غيره، إلى غير ذلك.

و من الواضح أنّ التورية بهذا المعنى لا تنفق إلّا في موارد خاصّة قليلة، فعدم ذكرها في الروايات إنّما هو لتعرّضها للمصاديق الغالبة التي لا توجد فيها التورية بطبيعة الحال.

نعم، إذا فسّرناها بما ذكرها شيخنا الأعظم قدّس سرّه و أتباعه (من إرادة معنى صحيح من الكلام و ان كان الكلام ظاهرا بحسب الوضع أو القرائن في غيره) فقلّما يتّفق مورد لا يمكن فيه التورية كما لا يخفى، و هذا هو مفتاح حلّ المسألة، فالحقّ مع المشهور، و عدم ذكرها في الأخبار المجوّزة لا يوجب محذورا، لأنّها ناظرة إلى الأفراد الغالبة التي لا يمكن فيها التورية.

فإطلاقات الحرمة بحالها لا يتعدّى منها إلّا عند الاضطرار، و هو منحصر فيما لا يمكن التخلّص بالتورية.

بقى هنا شي ء، و هو إنّه قد يقال أنّ روايات الباب لا دخل لها بما نحن فيه، فانّها بصدد جواز الحلف عند الضرورة، توضيحه:

«إنّ الحلف عبارة عن جملة إنشائية يؤتى بها لتأكيد الجملة الإخبارية أو الإنشائية، و لمّا ورد في الكتاب العزيز النهي عن جعل اللّه عرضة للأيمان، و ورد في الروايات النهي عنه صادقا أو كاذبا، يمكن أن يكون ذلك منشأ للشبهة في أنّ اليمين غير جائزة حتّى لإنقاذ المال و التخلّص من العشّار و غيره، فأجابوهم بالجواز، و لا ربط لما بما يقارنه من

الأخبار، فهي أجنبية عمّا نحن بصدده».

و هذا كلام عجيب، فان جعل اللّه عرضة للأيمان حتّى في موارد الصدق لم يكن أمرا محرّما، و هذا معلوم لكلّ أحد بدليل شيوعه حتّى في كلمات المعصومين عليهم السّلام و ان كان مرجوحا في بعض الموارد، مع أنّ ظاهر الأخبار كونه محرّما في غير الضرورة، هذا أوّلا.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 333

و أمّا ثانيا، فللتصريح في غير واحد منهما بكون المراد الحلف كاذبا (فراجع الأحاديث 4/ 12 و 9/ 12 و 13/ 12 و 14/ 12 التي مرّت عليك آنفا).

بقى هنا امور:

الأوّل: ظاهر أخبار الباب بل صريحها بطلان الطلاق و سائر الإيقاعات و العقود الواقعة عن إكراه و شبهه، و جواز الحلف لها، و هل يعتبر عدم القدرة على التورية هنا أيضا كما اعتبرناه في ناحية الحكم التكليفي؟ ظاهر المشهور عدمه، بل قد يسند إلى إجماعهم، فحينئذ يأتي الكلام في الفرق بين المسألتين.

قد يقال: الفرق إنّما هو بين عنوان «الإكراه» و «الاضطرار»، فانّ الاضطرار لا يصدق إلّا عند عدم المفرّ، و لكن الإكراه صادق في الصورتين، و تبطل العقود كلّها عند الإكراه.

و الأولى أن يقال: إنّ المعاملات تدور مدار الرضا، و مع الإكراه لا يكون هناك رضا، سواء قدر على التورية، أو لا، و أمّا الحكم التكليفي في الكذب فانّه يرد مدار الضرورة و عدم طريق آخر.

و الظاهر أنّ البيان الأوّل الذي ذكره الشيخ أيضا يعود إليه و إن توهّم تباينهما.

الثّاني: ذكر شيخنا الأعظم في بعض كلماته أنّ المسوّغ للكذب هو المسوّغ لسائر المحرّمات ... نعم يستحبّ تحمّل الضرر المالي اليسير ...

قلت: هو كذلك بعد ما عرفت أنّ المدار في الجميع عنوان «الضرورة و الاضطرار» و انّ أخبار الكذب لا تدلّ

على أكثر منه و تستثنى منها صورة القدرة على التورية بالمعنى الذي عرفت.

و لكن ليعلم أنّ نفي الضرر عن الأخ المؤمن أيضا يعدّ ضرورة كما هو واضح بالوجدان، كما أنّ الظاهر أنّها منصرفة عن الضرر اليسير و ناظرة إلى الضرر الكثير.

الثّالث: يبقى الكلام فيما صدر عن المعصومين عليهم السّلام عند التقيّة و أنّها كذب مجاز للضرورة، أو في جميعها نوع من التورية، أو مجاز مع إخفاء القرينة أو شبه ذلك؟

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 334

و التحقيق أنّ التقيّة على أقسام:

الف) تقيّة المؤمنين في العمل في مقابل الأعداء.

ب) تقية المؤمنين قولا كذلك.

و جلّ روايات التقيّة أو كلّها ناظرة إليهما (فراجع كتاب الأمر بالمعروف من الوسائل ج 11 الباب 24 و غيره).

ج) تقيّة المعصومين عليهم السّلام بأنفسهم في العمل في مقابل أعداء اللّه، و ليس شي ء من هذه محلا للكلام.

د) تقيّتهم في الأقوال و بيان بعض الأحكام.

و هذا قد يكون مثل أمر علي بن يقطين بالوضوء على خلاف مذهبه الذي كان حكما ثانويا له كسائر الأحكام الثانوية الاضطرارية، و هو حكم مطابق للواقع في هذه المرحلة، و لعلّ كثيرا ممّا صدر منهم تقيّة كان كذلك.

و اخرى يكون من قبيل المجاز مع القرينة الحالية بأن كانت هناك شرائط و ظروف خاصّة تدلّ على أنّه عليه السّلام لم يكن قادرا على بيان الواقع، و قد عرفت أنّ ذلك ليس من الكذب.

و ثالثة ما لا يكون من هذا و لا ذاك، فيأتي فيه أنّه تورية أو كذب مجاز، فالأولى أن يقال:

لم يثبت مصداق لهذا القسم الأخير، و بعبارة اخرى: ما ثبت من تقيّتهم إمّا كان من قبيل القسم الأوّل، أو ما كان محفوفا بالقرائن و ان لم تصل تلك القرائن إلينا،

أو ما كان فيه التورية.

أمّا ما عدى ذلك بحيث يعدّ كذبا جائزا لهم فهو غير ثابت.

الثّاني من مسوغات الكذب: ما كان للإصلاح
اشارة

و قد أجمع علماء الإسلام عليه إجمالا، كما حكى عنهم، و لا بدّ من ملاحظة أدلّته أوّلا حتّى يرى مقدار دلالتها.

فنقول و منه سبحانه نستمدّ التوفيق و الهداية: يمكن الاستدلال له بالأدلّة الأربعة: أمّا من كتاب اللّه العزيز فقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ «1»

.انوار الفقاهة، ج 4، ص: 335

لكن الظاهر أنّه لا إطلاق فيها من ناحية الوسائل و الأسباب التي يتوسّل بها للإصلاح، كما هو الحال في سائر الواجبات و المندوبات، و ليس لها إطلاق حتّى يقع التعارض بينها و بين أدلّة الكذب بالعموم من وجه، ثمّ يرجع فيه إلى الرواية أو غيرها كما قيل «1»

.بل العمدة في ذلك هي الروايات الواردة مع دليل العقل، فانّ حال الإجماع في هذه المسائل أيضا معلوم، أمّا العقل فهو من باب دوران الأمر بين الأهمّ و المهمّ، فلا ريب أنّ الإصلاح بين المؤمنين أهمّ، أمّا الروايات فهي على طوائف:

منها ما دلّ على جواز الكذب عند إرادة الإصلاح بين الناس، مثل:

1- ما رواه أنس بن محمّد عن أبيه جميعا عن جعفر بن محمّد عن آبائه في وصيّة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لعلي عليه السّلام قال: «يا علي إنّ اللّه أحبّ الكذب في الصلاح، و أبغض الصدق في الفساد «إلى أن قال» يا علي: ثلاث يحسن فيهنّ الكذب: المكيدة في الحرب، و عدتك زوجتك، و الإصلاح بين الناس» «2»

.2- ما رواه المحاربي عن جعفر بن محمّد عن آبائه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال: «ثلاثة يحسن فيهن الكذب: المكيدة

في الحرب، و عدتك زوجتك، و الإصلاح بين الناس ...» «3»

.3- ما رواه عيسى بن حسّان قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «كلّ كذب مسئول عنه صاحبه يوما إلّا كذبا في ثلاثة ... أو رجل أصلح بين اثنين يلقي هذا بغير ما يلقي به هذا يريد بذلك الإصلاح ما بينهما ...» «4»

.4- و ما رواه أبو يحيى الواسطي عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «الكلام ثلاثة: صدق و كذب و إصلاح بين الناس»، قال: قيل له: جعلت فداك ما الإصلاح بين الناس؟ قال: «تسمع من الرجل كلاما يبلغه فتخبث نفسه، فتقول: سمعت من فلان قال فيك من الخير كذا و كذا خلاف ما سمعت منه» «5»

.و هذه الروايات تتعاضد بعضها ببعض.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 336

و منها: ما دلّ على جوازه لمن أراد الإصلاح بقول مطلق، سواء كان الإصلاح بين الناس، أو إصلاح امور اخر، و ان لم يكن هناك خلاف، مثل:

1- ما رواه معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «المصلح ليس بكذّاب» «1»

.2- و ما رواه الحسن الصيقل قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّا قد روينا عن أبي جعفر عليه السّلام في قول يوسف عليه السّلام أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ فقال: «و اللّه ما سرقوا و ما كذب و قال إبراهيم عليه السّلام بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ فقال: «و اللّه ما فعلوا و ما كذب». فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: ما عندكم فيها يا صيقل؟ قلت ما عندنا فيها إلّا التسليم! قال:

فقال: «إنّ اللّه أحبّ اثنين، و أبغض اثنين، أحبّ الخطر فيما بين الصفّين، و أحبّ الكذب في

الإصلاح، و أبغض الخطر في الطرقات، و أبغض الكذب في غير الإصلاح، انّ إبراهيم عليه السّلام إنّما قال بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا إرادة الإصلاح و دلالة على انّهم لا يفعلون و قال: يوسف عليه السّلام إرادة الإصلاح» «2»

.3- و ما رواه عطاء عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «لا كذب على مصلح، ثمّ تلا أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ثمّ قال و اللّه ما سرقوا و ما كذب، ثمّ تلا بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ثمّ قال: و اللّه ما فعلوه و ما كذب» «3»

.4- و ما رواه معاوية بن حكيم عن أبيه عن جدّه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث أنّه قال له: «أبلغ أصحابي كذا و كذا و أبلغهم كذا و كذا». قال قلت: فانّي لا أحفظ هذا، فأقول ما حفظت و لم أحفظ أحسن ما يحضرني، قال: «نعم المصلح ليس بكذّاب» «4»

.و منها: ما دلّ على جوازه لمن نفع المؤمنين، و الظاهر أنّ الأخير يعود إلى ما قبله، كما أنّ الأوّل داخل في عموم الثاني.

ثمّ أنّه هل يستفاد منها معنى أعمّ ممّا يستفاد من حكم العقل، أو يقتصر على ما كان هناك غرض أهمّ في نظر الشارع؟ الإنصاف عدم استفادة أكثر من ذلك، لأنّ الظاهر أنّها بأجمعها

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 337

ناظرة إلى حكم العقل من مراعاة الأهمّ عند التزاحم و لا إطلاق لها، و لا أقل من الشكّ، فيقتصر على موارد وجود الأهمّ، فلا يكفي كلّ إصلاح في تجويز كلّ كذب، إلّا ما كان له شأن بحيث يكون أهمّ، و من هنا يمكن إرجاع هذا و موارد

الضرورة إلى شي ء واحد و اندراجهما تحت عنوان جامع.

بقى هنا امور:

الأوّل: ما ورد من جواز الكذب في وعد الزوجة أو في مطلق الأهل، و هي: 1/ 141 و 2/ 141 و 5/ 141 التي مرّت عليك آنفا، و الكلام فيها في جواز العمل بإطلاقها، أو لا؟

أمّا إذا كان على سبيل الإنشاء، فقد عرفت أنّه خارج عن محلّ الكلام و ان صدق عنوان الصدق و الكذب فيه بمعنى آخر، و أمّا إذا كان في صورة الخبر فظاهر هذه الأخبار جوازه مطلقا، و الأولى الاقتصار على موارد الضرورة لعدم الدليل الواضح على أكثر منه، و يشكل العمل بالإطلاق مع القرينة العقلية.

الثاني: يجوز الكذب عند المكيدة في الحرب المصرّح به في روايات الباب (1 و 2 و 5/ 141) بل هو داخل في مسألة الأهمّ و المهمّ لما يترتّب عليه من الآثار كما لا يخفى على الخبير.

الثالث: و يجوز الكذب أيضا عند أخذ الإقرار من المفسدين و الماكرين الذين يمكرون اللّه و رسوله و ان لم يكن هناك حرب، و كذا الكذب لكشف الامور المهمّة إذا كان داخلا في قاعدة الأهمّ و المهمّ.

بل الظاهر أنّها و ما أشبهها ممّا يتوقّف على الكذب أحيانا داخل في عنوان «الإصلاح» بقول مطلق المذكور في روايات الباب.

19- الكهانة
اشارة

و الكلام فيها في مقامات:

المقام الأوّل: في معنى الكهانة

فالذي يظهر من كتب اللغة و لا سيّما لسان العرب أنّ «الكاهن» هو الذي يخبر عن الغائبات، و يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان، و يدّعي معرفة الأسرار، و قد كان في العرب كهنة، كشقّ و سطيح و غيرهما، و قد كانت الكهنة يروّجون أقاويلهم الباطلة بأسجاع تروق السامعين، و يستميلون بها القلوب، و يستصغون إليها الأسماع (و لذا كان ينسب من يكون له كلام موزون و فصيح إلى الكهانة، و لعلّ نسبة الكهانة برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم كان من هذا الباب و قد نسب بعض المعاندين إلى الإمام علي عليه السّلام ذلك، لما في كلامه عليه السّلام من السجع البليغ).

و قد كانت العرب تسمّى كلّ من يتعاطى علما دقيقا كاهنا، و منهم من كان يسمّى المنجّم و الطبيب كاهنا «1»

.و كذا يظهر منهم انّهم كانوا مختلفين: «فمنهم من كان يزعم أنّ له رأيا (صاحب رأي) من الجنّ يلقى إليه الأخبار عن الغائبات، و الامور المستقبلة، و منهم يزعم أنّه يعرف الامور بمقدّمات و أسباب يستدلّ بها على مواقعها، من كلام من يسأله، أو فعله، أو حاله، و هذا يخصّونه باسم «العرّاف» ...» «2»

.و الذي يستفاد من مجموع كلمات أرباب اللغة أنّ الكهانة هي الإخبار عن الامور المستقبلة أو الغائبات الموجودة، بطرق غير متعارفة من الاتّصال بالجنّ و غيره، فلو أخبر إنسان بأمر غائب أو مستقبل من تجربة جرّبها أو شبه ذلك، فليس من الكهانة ظاهرا.

و قد يقال إنّ الشياطين و مردة الجنّ كانوا يسترقّون السمع قبل بعثة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فيخبرون أوليائهم من الإنس عن أخبار السماوات، و

لكن منعوا منه بعد ذلك، فلم يبق لهم غير ما يخبرونه من أخبار الأرض.

هذا، و لكن الظاهر من آيات سورة الحجر انّهم كانوا ممنوعين منها في كلّ زمان وَ لَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَ زَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ* وَ حَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ* إِلَّا مَنِ انوار الفقاهة، ج 4، ص: 339

اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ «1»

.و أمّا ما ورد في الأخبار في هذا الباب فانّه بحاجة إلى مزيد تأمّل و تحقيق، و سيأتي أنّ اسم الكاهن و لو كان خاصّا ببعض من كان يخبر عن الغائبات، و لكن ملاك الحكم فيه عام يشمل الجميع.

المقام الثّاني: في حكمه الكهانة

فالحكم بحرمتها في الجملة مجمع عليها ظاهرا، بل قد يقال أنّه لا خلاف فيه بين المسلمين.

و عمدة ما يدلّ عليه أخبار كثيرة وردت في هذا الباب منها:

1- ما رواه الحسين بن زيد عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام في حديث المناهي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم نهى عن إتيان العرّاف و قال: «من أتاه و صدقه فقد برئ ممّا أنزل اللّه عزّ و جلّ على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم» «2»

.هذه الرواية و ان كانت ضعيفة على الظاهر بشعيب بن واقد، و لكن تظافر مضمونها يغنينا عن السند.

2- ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من تكهّن، أو تكهّن له فقد برئ من دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم ...» «3»

.و هي أيضا ضعيفة بأبي حمزة.

3- ما رواه الهيثم قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّ عندنا بالجزيرة رجلا ربّما أخبر من يأتيه يسأله عن الشي ء يسرق أو شبه ذلك، فنسأله؟ فقال: قال رسول

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم من مشى انوار الفقاهة، ج 4، ص: 340

إلى ساحر أو كاهن أو كذّاب يصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل اللّه من كتاب» «1»

.4- و ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «السحت ثمن الميتة ... و أجر الكاهن» «2»

.5- ما رواه أبو خالد الكابلي قال: سمعت زين العابدين عليه السّلام يقول: «... و الذنوب التي تظلم الهواء السحر و الكهانة ...» «3»

.6- محمّد بن الحسين الرضي الموسوي (في نهج البلاغة) قال: قال أمير المؤمنين علي عليه السّلام لبعض أصحابه لمّا عزم على المسير إلى الخوارج فقال له: يا أمير المؤمنين إن سرت في هذا الوقت خشيت أن لا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم. فقال عليه السّلام: «... أيّها الناس إيّاكم و تعلّم النجوم إلّا ما يهتدى به في برّ أو بحر، فانّها تدعو إلى الكهانة، و الكاهن كالساحر و الساحر كالكافر و الكافر في النار، سيروا على اسم اللّه» «4»

.و هناك روايات اخرى رواها في المستدرك لها دلالة قويّة على المطلوب مثل ما يلي:

7- الجعفريات عن علي عليه السّلام أنّه قال: «من السحت ثمن الميتة إلى أن قال: و أجر الكاهن .. إلى أن قال: و أجر القافي ...» «5»

.8- ما رواه ابن مسكان و حديد رفعاه إلى أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «إنّ اللّه أوحى إلى نبي في نبوّته: أخبر قومك انّهم استخفّوا بطاعتي و انتهكوا معصيتي ... إلى أن قال: و خبّر قومك أنّه ليس منّي من تكهّن أو تكهّن له أو سحر أو تسحر له» «6»

.9- ما رواه عبد اللّه بن طلحة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث

أنّه عدّ من السحت أجر الكاهن «7»

.10- ما رواه أبو سعيد قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «لا يدخل الجنّة عاقّ و لا منّان و لا

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 341

ديّوث و لا كاهن، و من مشى إلى كاهن فصدّقه بما يقول فقد برئ ممّا أنزل اللّه على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم» «1»

.11- ما رواه الراوندي في لبّ اللباب عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال: «من صدّق كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم» «2»

.12- ما رواه نوف البكالي قال: رأيت أمير المؤمنين عليه السّلام ذات ليلة و قد خرج من فراشه فنظر إلى النجوم فقال يا نوف: «إنّ داود قام في مثل هذه الساعة من الليل فقال أنّها ساعة لا يدعو فيها عبد ربّه إلّا استجاب إلّا أن يكون عشّارا أو عريفا أو شرطيا» «3»

.و هذه الأخبار بعضها واردة في الكاهن و بعضها في العريف، و لكن يظهر من رواية عقبة بن بشير الأسدي عن الباقر عليه السّلام أنّ العريف كان له معنى آخر، و هو من يعرف القوم و يعرفهم للسلطان، و لعلّه لهذا جعله في جنب العشّار و شبهه.

و عليه يشكل الاستدلال بما صرّح فيه بلفظ العريف و لا أقل من الإبهام، و يدلّ عليه أيضا بعض ما روي من طرق العامّة أيضا مثل ما يلي:

13- ما رواه البيهقي في سننه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «من أتى عرّافا أو كاهنا فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم» «4»

اسنادها أو كثيرا منها و ان كانت ضعيفة لا تضرّ بالمقصود بعد توافرها و تكاثرها، فالحكم بالحرمة ثابت لا ينكر وضعا و تكليفا.

و هل يمكن الاستدلال له بالعقل أيضا لإمكان تشويه أمر النبوّة؟ الظاهر عدمه، لأنّ هذا الاستدلال أخصّ من المدّعى.

المقام الثّالث: حكم من اتى الكاهن و صدّقه

فيعلم حكمه ممّا سبق للتصريح في غير واحد منها بحرمة إتيان الكاهن أو العريف،

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 342

مضافا إلى أنّه إعانة على الإثم أو رضى به، فكما أنّ الكهانة محرّمة، فكذلك إتيان الكاهن و السؤال عنه.

المقام الرّابع: الأخبار الواردة عن الحوادث المستقبلية
اشارة

الأخبار الغائبات أو الحوادث المستقبلية من غير طريق الكهانة من العلوم الإسلامية الغريبة أو التفؤل أو الحدس أو العلوم الرياضية أو ما يسمّى بالكامبيوتر و أمثال ذلك، و هو العمدة من بعض الجهات، و حاصل الكلام فيه أنّه قال في المفاتيح فيما حكى عنه: إنّ الأخبار على الغائبات على البتّ لغير نبي أو وصي نبي سواء كان بالتنجيم أو الكهانة أو القيافة أو غير ذلك من المعاصي المنصوص عليها، ثمّ أضاف: أنّه إن كان الإخبار على سبيل التفؤل من دون جزم فالظاهر جوازه «1»

.و ذكر صاحب الجوهر قدّس سرّه في بعض كلماته في المقام بعد استظهار جواز الإخبار ظنّا بالكهانة من هذا الكلام، و الإشكال عليه بشمول الإطلاقات له و أنّه لم يعرف قائلا بجوازه.

ثمّ قال في آخر كلامه: قد يقال لا بأس بالعلوم النبوية كالجفر و نحوه ممّا يمنح اللّه به أوليائه و أحبّائه و ان كان ينبغي لهم عدم إبدائه و إظهار آثاره عند سواد الناس لكيلا يحصل لهم شكّ في النبوّة و الإمامة «2»

.و يظهر من بعض كلمات الشيخ الأعظم قدّس سرّه المفروغية عن جواز الإخبار بالحوادث المستقبلة إذا ثبت ببعض ما صحّ اعتباره، كبعض الجفر و الرمل، و في كلام آخر له في المقام إنّ ظاهر صحيحة «الهيثم» أنّ الإخبار عن الغائبات لا على سبيل الجزم محرّم مطلقا، سواء كان بالكهانة أو غيرها، و لا يخفى ما بينهما من التهافت، فتأمّل.

هذا، و ذكر بعض الأكابر

في حواشيه عليه ما حاصله: «إنّ الإخبار إن كان على سبيل انوار الفقاهة، ج 4، ص: 343

الظنّ كان حراما و ان كان على سبيل القطع و حصل له ذلك جاز من أي طريق حصل» «1»

.ثمّ ذكر الدلائل الثلاث للشيخ ورد عليها.

أمّا الأوّل، أعني مصحّحة الهيثم «2»

المتقدّمة الذكر (و الظاهر أنّه الهيثم بن واقد الجزري الثقة بقرينة رواية ابن محبوب عنه) فالجواب: «أوّلا» باختصاصها بالامور الماضية و «ثانيا» بأنّ ظاهرها حصر المحرّم بهذه الثلاث (الكاهن و الساحر و الكذّاب) لا حصر الخبر عن الغائبات بهم. و «ثالثا» الحرام تصديق قوله لا إخباره.

أمّا الثاني، أعني الحديث 1/ 26 «3»

فبضعف سنده تارة، و ضعف دلالته اخرى، لأنّه يدلّ على حرمة ترتيب الأثر.

أمّا الثالث، أعني ما في مرسلة الإحتجاج «4»

من التعليل، فأورد عليه بأنّها ناظرة إلى الإخبار من السماء من طريق الكهانة لا مطلقا (انتهى ملخّصا) «5».

هذا و الأقوى حرمة الإخبار بالغيب على سبيل الجزم من هذه الطرق جميعا، سواء كان بالنسبة إلى الامور المستقبلة أو الحال، و كذلك كشف الغائبات من هذه الطرق، إلّا أن يكون من الطرق العادية أو علم إلهي، و الظاهر أنّ ما ذكرناه داخل في عنوان الكهانة لغة، و لا أقل من الغاء الخصوصية، و إلّا فالذي يخبر عن المغيبات التي لا يعلم أنّه من طريق الجنّ أو من علوم غريبة جاز إتيانه مع أنّ ظاهر الأخبار حرمة إتيانه و لو لم يعلم منشأ علومهم.

و رواية الهيثم أصدق شاهد عليه، و الإشكالات مندفعة عنه، أمّا الأوّل فبأنّه إذا حرّم الأخبار عن الامور المغيّبة الماضية فعن المستقبلة بطريق أولى، و أمّا الثاني فلأنّه لو لم يكن المخبر عن الغائبات محصورا في واحد من الثلاث كان الجواب

قاصرا كما هو ظاهر.

أمّا الثالث فيعلم من الملازمة العرفية في هذه الموارد و لا سيّما مع ملاحظة عنوان الساحر و الكاهن و الكذّاب.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 344

و الظاهر أنّ عنوان العرّاف الوارد في غير واحد من روايات الباب (لا خصوص واحد منها) أيضا عام شامل للجميع، و بالجملة لا ينبغي الشكّ في أصل الحكم بالحرمة.

بقي هنا شي ء:

و هو أنّه ما المراد بالجفر و الجامعة و الرمل و الاسطرلاب التي تعدّ من العلوم الغريبة.

أمّا «الجفر» فالذي يظهر من بعض كلماتهم أنّه في الأصل مأخوذ من «الجفرة» بمعنى ولد الشاة، و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أمر عليا بذبح سخلة شاة و أخذ جلدها ثمّ كتب الملائكة فيها علوما كثيرة، فكان عندهم عليهم السّلام و يسمّى هذا جفرا «1».

و لعلّ الذي يسمّى بالجفر عندنا شي ء من تلك العلوم وصل يدا بيد إلى بعض الخواص، و يمكن أن يقال: إنّه أمر آخر مثل علم الحساب و الحروف و الجمل التي هي من العلوم الغريبة تسمّى جفرا لشباهتها به.

أمّا «الجامعة» فهي صحيفة طويلة كانت فيها أحكام الإسلام جميعا حتّى أرش الخدش، و كانت عندهم عليهم السّلام كما نطق به غير واحد من الروايات «2».

و أمّا «الرمل» فالذي يظهر من كلمات بعض المحقّقين في هذا الأمر أنّه علم يبتنى على أشكال خاصّة كلّ شكل له معنى.

و أمّا «الاسطرلاب» فهي: آلة رصد قديمة لقياس مواقع الكواكب و ساعات الليل و النهار يعلم منها بعض الامور.

هذا و قد تلخّص ممّا ذكرنا أنّ الأخبار عن المغيبات سواء كان من طريق التنجيم أو الكهانة أو العرّافة أو العلوم الغريبة مشكل شرعا، و يدلّ عليه ما عرفت من إمكان تنقيح المناط من

مجموع روايات التنجيم و الكهانة و العرّافة و القيافة و غيرها، مضافا إلى دلالة بعض ما عرفت من النصوص الصحيحة عليه.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 345

هذا مضافا إلى ما فيها من التخرّص على الغيب و اقتفاء ما ليس به علم إذا كان الإخبار على سبيل الجزم، مع ما فيها من المفاسد الكثيرة و كشف الستور و إلقاء الخلاف بين الناس و أخذ البرى ء و إيجاد البغضاء، لأنّ كثيرا من أخباره كاذبة فاسدة و مظنّة للفساد، فأراد الشارع المقدّس سدّ هذا الباب التي تأتي منها مفاسد على المسلمين الأبرياء.

و أمّا ما يدعى من العلوم الغريبة فلم يثبت اعتبارها و كشفها عن الواقع، و لو فرض إمكان كشف الغائبات بها و صحّتها، لم يثبت جوازها و جواز الرجوع إلى صاحبها، بل ثبت عدمه.

و أمّا الجفر أو الجامعة الذي كان عند المعصومين عليهم السّلام فهو أمر وراء ذلك لا دخل لها به.

نعم يمكن لبعض العبّاد و الزهّاد و أرباب النفوس الزكيّة الاطّلاع على بعض الحقائق المكتومة و أسرار الغيب و قد حكي في التاريخ في أحوال أصحاب الأئمّة عليهم السّلام و علماء السلف ما لا يخفى على الخبير، و الظاهر أنّه لا يدخل تحت أدلّة الحرمة بعد أن كان بتعليم إلهي، و لكن جواز الإخبار بها موقوف على عدم ترتّب مفسدة عليه كما هو ظاهر.

و كذلك لا مانع منه إذا حصل الاطّلاع عليه بالحسّ أو قرائن قريبة من الحسّ كما لا يخفى.

فما يتراءى من بعض أهل الدين من الرجوع إلى بعض مدّعي العلوم الغريبة لكشف ضالّتهم أو السارق أو غير ذلك من المغيبات و الامور المستقبلة ممّا لا ينطبق على ضوابط المذهب.

و حاصل الفتوى: إنّه لا تجوز الكهانة و

لا يجوز الرجوع إلى الكاهن، و كذا كلّ من يخبر عن المغيبات سواء كان من طريق الكهانة أو العلوم الغريبة أو ملاحظة خطوط الكفّ أو غير ذلك، نعم لا مانع منه إذا كان بمقدّمات حدسية قريبة من الحسّ و نحوها، أو ما إذا الهم بقلب عبده المؤمن صاحب النفس الزكيّة، و أمّا الإخبار على نحو الاحتمال و الترديد فلا مانع منه إذا لم تترتّب عليه مفسدة.

20- اللهو
اشارة

و الكلام فيه تارة في «حكمه» و اخرى في «موضوعه».

الأوّل: في بيان حكم اللهو

فقد يقال إنّه حرام بقول مطلق، و أسند هذا القول إلى جمع من أساطين الفقه، كالشيخ و المحقّق و الشهيد قدّس سرّهم و غيرهم و إن كان في النسبة نظر ستعرفه إن شاء اللّه.

و قد استدلّ له بروايات كثيرة و لكنّها مختلفة جدّا يمكن تقسيمها إلى طائفتين:

الطائفة الاولى: ما دلّ على حرمته مقيّدا ببعض القيود:

فمن الآيات: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ «1».

و من الروايات:

1- ما رواه سماعة قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «لمّا مات آدم شمت به إبليس و قابيل فاجتمعا في الأرض فجعل إبليس و قابيل المعازف و الملاهي شماتة بآدم عليه السّلام فكلّ ما كان في الأرض من هذا الضرب الذي يتلذّذ به الناس فإنّما هو من ذلك» «2».

2- ما رواه الأعمش عن جعفر بن محمّد عليه السّلام في حديث شرائع الدين قال: «و الكبائر محرّمة و هي الشرك باللّه ... و الملاهي التي تصدّ عن ذكر اللّه عزّ و جلّ مكروهة كالغناء و ضرب الأوتار و الإصرار على صغائر الذنوب» «3».

3- ما رواه إسماعيل بن أبي زياد عن جعفر عن أبيه قال: «سبعة لا يقصرون الصلاة (إلى أن قال) و الرجل يطلب الصيد يريد به لهو الدنيا ...» «4».

الطّائفة الثّانية: أعني ما دلّ بظاهره على حرمة اللهو مطلقا، فهي روايات عديدة لعلّ كثرتها تغني عن الدقّة في أسنادها:

1- منها ما رواه الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام في كتابه إلى المأمون قال: «الإيمان هو أداء الأمانة ... و اجتناب الكبائر و هي قتل النفس ... و الاشتغال بالملاهي ...» «5».

2- و ما رواه

أنس بن محمّد عن أبيه عن جعفر بن محمّد عن آبائه في وصيّة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم انوار الفقاهة، ج 4، ص: 347

لعلي عليه السّلام قال: «يا علي ثلاثة يقسين القلب: استماع اللهو و طلب الصيد و إتيان باب السلطان» «1».

3- ما رواه في المقنع قال عليه السّلام: «و اجتنب الملاهي ...» «2».

4- ما رواه عبد اللّه بن علي عن علي بن موسى عن آبائه عن علي عليه السّلام قال: «كلّ ما ألهى عن ذكر اللّه فهو من الميسر» «3».

5- ما رواه عنبسة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «استماع اللهو و الغناء ينبت النفاق كما ينبت الماء الزرع» «4».

6- ما رواه عبد اللّه بن مغيرة رفعه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم (في حديث): «كلّ لهو المؤمن باطل إلّا في ثلاث: في تأديبه الفرس و رميه عن قوسه و ملاعبته امرأته فانّهن حقّ» «5».

إلى غير ذلك ممّا يعثر عليه المتتبّع و ما ورد في روايت حرمة الغناء و انّ حرمته من جهة كونه لهوا.

هذا و الطائفة الاولى حالها معلوم و يشكل الاستدلال بها لحرمة مطلق اللهو، و إنّما تدلّ على حرمته في موارد خاصّة.

و أمّا الطائفة الثّانية فظاهرها و ان كان الحرمة في مطلق اللهو، و لكن لا بدّ من حمل هذا الظهور على نوع من الكراهة أو الإشارة إلى خصوص بعض أفراد اللهو ممّا يعلم حرمته من الشرع قطعا، لما سيأتي عن قريب.

الثّاني: في بيان موضوع اللهو
اشارة

اللهو في اللغة على ما ذكره أئمّة الفنّ له معنى وسيع قال الراغب: «اللهو ما يشغل الإنسان عمّا يعنيه و يهمّه».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 348

و من الواضح بل البديهي عدم حرمة

هذا المعنى و الإجماع قائم عليه، و حتّى لو كان المراد ما يشغل الإنسان عن اللّه، فانّ الحياة الدنيا كلّها لعب و لهو و زينة و تفاخر بينكم، كما قال اللّه عزّ و جلّ من كتاب الكريم «1».

و قال ابن فارس في مقاييس اللغة اللهو: كلّما شغلك عن شي ء فقد ألهاك.

و قال في لسان العرب: «اللهو ما لهوت به و لعبت به و شغلك» «و اللهو هو اللعب» و من الواضح أنّه لا يقول أحد بحرمة مطلق اللعب أو ما يشغل الإنسان.

هذا مضافا السيرة المستمرّة عليه، فإنّ كثيرا من أعمال الناس طول الليل و النهار يشغلهم عن ذكر اللّه و لا يخلو عنه إنسان غير أهل العصمة و الأوحدي من الناس.

أضف إلى ذلك وجود بعض القرائن فيها أو في غيرها ممّا يدلّ على جواز المزاح في السفر و الحضر، بل الترغيب فيه إجمالا، و عملهم عليهم السّلام بذلك في الجملة معلومة مشهورة.

فلا يمكن المساعدة على حرمة اللهو مطلقا، بل لا بدّ من حمل المطلقات على أحد الأمرين المتقدّمين.

حكم الموسيقى:

بقى الكلام في شي ء، و هو من بعض الجهات أهمّ ممّا سبق لابتلاء الناس به في عصرنا هذا، و كثرة الكلام بل الخلاف أحيانا فيه، و هو حكم اللعب بآلات اللهو و الموسيقى، و هل أنّه حرام مطلقا أو الحرام بعض مصاديقه؟

قال المحقّق قدّس سرّه في الشرائع: «الثاني ما يحرم لتحريم ما قصد به كآلات اللهو مثل العود و الزمر، و هياكل العبادة المبتدعة ...».

و قال في الجواهر بعد ذكر هذه العبارة: «بلا خلاف أجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه» «2».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 349

و قال في المصباح اتّفق فقهائنا، بل الفقهاء كافّة، على حرمة بيع آلات

الملاهي وضعا و تكليفا، بل في المستند دعوى الإجماع على ذلك محقّق، ثمّ قال بعد كلام له في المقام:

و الذي ينبغي أن يقال: إنّ الروايات قد تواترت من طرقنا و من طرق العامّة على حرمة الانتفاع بآلة اللهو في الملاهي و المعازف و أنّ الاشتغال بها و الاستماع إليها من الكبائر الموبقة و الجرائم المهلكة «1».

و قال في المسالك في شرح كلام المحقّق قدّس سرّه.

«آلات اللهو و نحوها إن لم يكن الانتفاع بها في غير الوجه المحرّم و لم تكن لمكسورها قيمة فلا شبهة في عدم جواز بيعها لانحصار منفعتها في المحرّم» «2».

و هذه الكلمات و ان وردت في باب بيع الآلات فحسب لا نفس الانتفاع بها، إلّا أنّ ظاهرها أو صريحها حرمة الانتفاع بها مطلقا، بل أرسلوه إرسال المسلّمات، بل لم يتعرّضوا لها بعنوان مسألة مستقلّة لوضوحها عندهم.

هذا و الكلام فيها يحتاج إلى بسط في البحث، لأنّ إجماله و ان كان مقطوعا إلّا أن تفاصيله غير نقيّة عن الإشكال، و غير غني عن البحث و الكلام، فنقول (و من اللّه التوفيق و الهداية):

إنّ اللازم التكلّم في مقامات:

1- النظر في أدلّة حرمة الانتفاع بالآلات مطلقها، و مقيّدها، و مبهمها.

2- النظر في أنواع الانتفاع بها، فانّ له أقساما مختلفا، تارة يعمل بها في طريق اللهو و البطر و العصيان، و اخرى ينتفع بها في الحروب لتشجيع العساكر على المسير، أو على الحرب، و ثالثة في المراثي و شبهها، و رابعة في الرياضة و ما شابهها.

فهل جميع هذه الانتفاعات محرّمة بأقسامها، أو بعضها دون بعض؟

3- ما المراد بآلات اللهو؟ و ان وقع الشكّ في بعض مصاديقه، فما هو مقتضى القاعدة؟

و ما حكم ما كان مشتركا بين اللهو

و غيره، و لعلّ منها في عصرنا الطبل و الجرس و البوق و أمثال ذلك؟

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 350

أمّا المقام الأوّل: ففيه روايات كثيرة، و لكن بعضها مطلقة، و كثير منها غير واردة في مقام البيان حتّى يؤخذ بإطلاقها.

فمن الأولى:

1- ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «أنهاكم عن الزفن و المزمار و عن الكوبات و الكبرات» «1».

و الزفن هو الرقص، كما صرّح به بعض أهل اللغة و ما بعدها أنواع آلات اللهو.

2- ما رواه السياري «رفعه» عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه سئل عن السفلة فقال: «من يشرب الخمر و يضرب بالطنبور» «2».

3- ما رواه نوف البكالي عن أمير المؤمنين علي عليه السّلام في حديث قال: «يا نوف إيّاك أن تكون عشّارا أو شاعرا أو شرطيا أو عريفا أو صاحب عرطبة و هي الطنبور أو صاحب كوبة و هو الطبل ...» «3».

4- ما رواه عبد اللّه بن عبّاس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم في حديث قال: «إنّ من أشراط الساعة إضاعة الصلاة ... و يكون أقوام يتفقّهون لغير اللّه ... و يستحسنون الكوبة و المعازف ...» «4».

5- ما رواه في تحف العقول عن الصادق عليه السّلام: «... إنّما حرّم اللّه الصناعة التي هي حرام كلّها التي يجي ء منها الفساد محضا نظير البرابط و المزامير و الشطرنج و كلّ ملهو به و بعض آلات الطرب» «5».

و فيها فقرتان تدلّان على هذا المعنى، فراجع.

و من الطائفة الثانية: (أعني ما لا إطلاق فيه) الروايات التالية:

1- ما رواه إسحاق بن جرير قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

«إنّ شيطانا يقال له انوار الفقاهة، ج 4، ص: 351

القفندر إذا ضرب في منزل الرجل أربعين صباحا بالبربط و دخل الرجال وضع ذلك الشيطان كلّ عضو منه على مثله من صاحب البيت، ثمّ نفخ فيه نفخة فلا يغار بعدها حتّى تؤتى نساؤه فلا يغار!» «1».

2- ما رواه أبو داود المسترق قال: «من ضرب في بيته بربط أربعين يوما سلّط اللّه عليهم شيطانا يقال له القفندر فلا يبقى عضو من أعضائه إلّا قعد عليه فإذا كان كذلك نزع منه الحياء و لم يبال ما قال و لا ما قيل فيه» «2».

3- ما رواه كليب الصيداوي قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «ضرب العيدان ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الخضرة» «3».

4- ما رواه موسى بن حبيب عن علي بن الحسين عليه السّلام قال: «لا يقدّس اللّه أمّة فيها بربط يقعقع ...» «4».

5- ما رواه عمران الزعفراني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من أنعم اللّه عليه بنعمة فجاء عند تلك النعمة بمزمار فقد كفّرها» «5».

6- ما رواه أحمد بن عامر الطائي عن أبيه عن الرضا عليه السّلام في حديث الشامي أنّه سأل أمير المؤمنين عليه السّلام عن معنى هدير الحمام الراعية قال: «تدعو على أهل المعازف و المزامير و العيدان!» «6».

7- ما رواه ورّام بن أبي فراس في كتابه قال: قال عليه السّلام: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه خمر أو دفّ أو طنبور أو نرد و لا تستجاب دعائهم و ترفع عنهم البركة» «7».

8- ما رواه الديلمي قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «يظهر في أمّتي الخسف و القذف»،

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 352

قالوا: متى ذلك؟ قال: «إذا ظهرت

المعازف و القينات و شربت الخمور ...» «1».

9- ما رواه الديلمي قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «إذا عملت أمّتي خمس عشر خصلة حلّ بهم البلاء: إذا كان الفى ء دولا ... و اتّخذوا القينات و المعازف ...» «2».

و هناك روايات كثيرة اخرى رواها في المستدرك في الباب 79 من أبواب ما يكتسب به بعضها مطلقة و بعضها غير مطلقة، و من الأوّل:

10- ما رواه في الجعفريات باسناده عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه علي بن الحسين عليه السّلام عن أبيه عن علي بن أبي طالب عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «أنهى أمّتي عن الزمر و المزمار و الكوبات (و الكبرات) و الكيوبات» «3».

11- و بهذا الإسناد عن علي بن أبي طالب عليه السّلام أنّه رفع إليه رجل كسر بربطا فأبطله «4».

12- ما رواه في دعائم الإسلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «أنهي أمّتي عن الزفر و المزمار و عن الكوبة و الكبارات» «5».

13- ما رواه القطب الراوندي في لبّ اللباب عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال: «إنّ اللّه حرّم الدفّ و الكوبة و المزامير و ما يلعب به» «6».

14- ما رواه في عوالي اللئالي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه نهى عن الضرب و الدفّ و الرقص، و عن اللعب كلّه، و عن حضوره، و عن استماع إليه و لم يجز ضرب الدفّ إلّا في الأملاك و الدخول بشرط أن يكون في البكر و لا يدلّ الرجال عليهنّ «7».

15- ما رواه أبو امامة عن رسول

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال: «إنّ اللّه تعالى بعثني هدى و رحمة للعالمين و أمرني أن أمحو المزامير و المعازيف و الأوتار، و الأوثان و امور الجاهلية، إلى انوار الفقاهة، ج 4، ص: 353

أن قال: إنّ آلات المزامير شرائها و بيعها و ثمنها و التجارة بها حرام» «1».

16- ما رواه في الروضات عن رسالة قبائح الخمر للسيّد الجليل صدر الدين الدشتكي عن الرضا عليه السّلام: «استماع الأوتار من الكبائر» «2».

17- و فيه أيضا أنّه سمع أمير المؤمنين عليه السّلام رجلا يطرب بالطنبور فمنعه و كسر طنبوره ثمّ استتابه فتاب، ثمّ قال: «أ تعرف ما يقول الطنبور حين يضرب؟» قال: وصي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أعلم، فقال: «إنّه يقول ستندم ستندم أيا صاحبي ستدخل جهنّم أيا ضاربي!» «3» و «4».

و هناك روايات كثيرة أيضا من طرق العامّة رواها البيهقي في المجلّد العاشر من سننه، فيها أيضا مطلقات تدلّ على المطلوب منها:

18- ما رواه ابن عبّاس عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال: «إنّ اللّه تبارك و تعالى حرّم عليكم الخمر و الميسر و الكوبة (و هو الطبل) و قال: كلّ مسكر حرام» «5».

و هي و ان كانت واردة في خصوص الكوبة، و لكنّها مطلقة من حيث الانتفاعات.

19- ما رواه عبد اللّه بن عمرو: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم نهى عن الخمر و الميسر و الكوبة و الغبيراء و قال: كلّ مسكر حرام» «6».

«الغبيراء» كما ذكره بعض أهل اللغة: شجرة خشبة جيّدة (و لعلّهم كانوا يصنعون منه بعض آلات اللهو).

20- ما رواه قيس بن سعد بن عبادة أنّ رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال: «إنّ ربّي حرّم عليّ الخمر و الميسر و القنين و الكوبة- قال أبو زكريا القنين العود» «7».

و في معناه روايات اخرى في نفس ذاك الباب، و بالجملة الروايات المطلقة الدالّة على الحرمة متواترة ظاهرا.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 354

لكن يبقى الكلام في دلالتها، فهل يؤخذ بما هو ظاهرها في بادئ النظر من حرمة الانتفاع بها مطلقا، سواء كان في صورة لهوية أو رياضية أو في الحروب أو في المراثي أو غيرها ...

أو لا بدّ من الأخذ بما ينصرف إليه من الصورة الاولى، (و هو اللهوية) فانّها الصورة المتعارفة ذلك اليوم المعمولة بين المتلبّسين بها أو المنتفعين منها؟

فالكلام يدور مدار الانصراف إلى المنافع الغالبة، أو مطلق المنافع، و يمكن ترجيح الأوّل لأمور (و العمدة هو الأوّل و الباقي مؤيّدات):

أوّلا: إنّ المتعارف في أمثال المقام هو القول بالانصراف إلى المنافع الغالبة، فإذا حكم بحرمة الخمر ينصرف إلى شربه، و لا يدلّ على حرمة التداوي بها لغسل الجروح مثلا أو بعض الأمراض الجلدية، و كذا النهي عن الأدهان النجسة إذا كانت ممّا يتعارف أكلها لا يدلّ على حرمة الاستصباح بها إذا لم يكن هناك دليل آخر، هكذا ديدنهم في الفقه.

ثانيا: يمكن أن يقال إنّ حرمة الغناء و الضرب بالآلات من باب واحد، فكما أنّ الصوت الحسن ينقسم إلى قسمين: لهوي و غير لهوي، فكذلك الضرب بالآلات ينقسم إليهما لتقارب مضامين أخبارهما و الاستدلال فيهما واحد.

ففي جامع الأخبار قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: يحشر صاحب الطنبور ... و يحشر صاحب الغناء من قبره أعمى و أخرس و أبكم، و يحشر الزاني مثل ذلك و صاحب المزمار مثل

ذلك و صاحب الدفّ مثل ذلك «1».

و لعلّ ذكر الزاني في عدادهم من ناحية أنّ هذه الملاهي تدعو إليه كثيرا، فهذا أيضا يؤيّد بعض ما سيأتي، و كذلك بالنسبة إلى نفوذ النفاق في القلب (و ليكن هذا على ذكر منك).

و في رواية كليب الصيداوي (3/ 100 و قد مرّ ذكرها) قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

ضرب العيدان ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الخضرة.

و قد ورد مثله في الغناء، ففي رواية عنبسة 1/ 101 التي سبق ذكرها عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال:

«استماع اللهو و الغناء ينبت النفاق كما ينبت الماء الزرع».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 355

و كذلك بالنسبة إلى عدم دخول الملائكة (كما مرّ في الرواية 13/ 100 من أبواب ما يكتسب من الوسائل) حيث قال صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه خمر أو دفّ أو طنبور أو نرد و لا يستجاب دعاؤهم و يرتفع عنهم البركة» «1».

و في رواية زيد الشحّام عنه عليه السّلام: بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة و لا تجاب فيه الدعوة و لا يدخله الملك» «2». فهذا كلّه دليل على اتّحاد المسألتين.

و ثالثا: قد اشير في بعض روايات المسألة أنّ العلّة في تحريم صناعة آلات اللهو أنّه يجي ء منها الفساد محضا، كرواية تحف العقول، و من المعلوم أنّ ما يستفاد منها في الحروب و الرياضة و أمثالهما لا يجي ء منها فساد ظاهر، و لا يناسب ما ورد في هذه الرواية أصلا.

و رابعا: إنّ التعبير في كثير ممّا عرفت بعنوان «اللهو» دليل على أنّ الملاك فيها أن يكون الضرب بها ضربا لهويا، لا ما إذا كان للحروب مثلا أو

للرياضة و شبههما، و ما لم يرد فيها هذا العنوان أيضا فهو محمول عليه بعد ما كانت الروايات تفسّر بعضها بعضا، و العمدة هو الوجه الأوّل، و الباقي مؤيّدات له، و لكن بعد ذلك كلّه الأحوط الترك، لعدم ورود هذه التفصيلات في كلمات أكابر الفقه و أساطينها، و ان كان الأقوى هو الجواز.

و نزيدك توضيحا هنا أنّ عنوان الحرمة في كثير من روايات الباب و كلمات الأصحاب هو آلات اللهو أو كلّ ملهو به أو شبه ذلك بحيث يستفاد منها أنّ الحكم يدور مدار هذا العنوان، و قد مرّت روايات الباب فيما سبق.

و حاصل جميع هذه العبارات أنّ الحكم يدور مدار هذا العنوان، ثمّ يأتي الكلام في أنّ المراد باللهو ما ذا؟ و قد مرّ الكلام فيه مشروحا و أنّه ليس على معناه اللغوي (أعني كلّما يشتغل به الإنسان عن غيره) بل المراد نوع خاص و هو اللهو المفسد المغري بالمحرّمات على البطر، و هو المناسب لمجالس أهل الفسوق و العصيان.

و يؤيّد جميع ذلك تعبير الفقهاء بآلات «اللهو»، فإذا استعملت الآلة فيما ليس بلهو بهذا المعنى، كالذي يكون في الحروب و الرياضات و شبهها، فليس بحرام، و لكن قد عرفت سبيل الاحتياط.

بقي هنا أمران:

1- لا يجوز أن يكون هذا ذريعة للتطرّق إلى المصاديق المحرّمة، و تسويلات الشيطان في ذلك كثيرة، فانّه باب من أبواب اغوائه لبني آدم، و لو كان كذلك فقد يحرم لبعض العناوين الثانوية.

و المصاديق المشكوكة تجري فيها البراءة، و ان كان الاحتياط فيها أيضا مطلوب جدّا.

2- و يظهر منه حال المقام الثالث و أنّه لو شكّ في بعض الآلات و لم يثبت كونها آلة للهو أو عدّ من الآلات المشتركة بحيث يكون كلا

العنوانين من المنافع الغالبة، فلا يحكم بحرمة بيعها أيضا، و لكن الحذر كلّ الحذر هنا أيضا من مكائد الشيطان عصمنا اللّه من الزلل بلطفه و منّه.

خلاصة الفتوى في مسألة آلات اللهو:

1- المتيقّن من الأدلّة حرمة اللعب بها لعبا لهويا، و هو ما يناسب مجالس أهل الفسوق و العصيان، و أمّا اللعب بها لغيره كاللعب بها في الرياضة أو ميادين الحرب و ما أشبههما، فلا دليل على حرمته و ان كان الأحوط الاجتناب عنه مطلقا.

2- الآلات المشتركة بين هذه كبعض الطبول و غيرها يجوز بيعها و شراؤها، أمّا ما يغلب عليها الفساد كأكثر آلاتها، فلا يجوز بيعها و شراؤها.

21- مدح من لا يستحقّ المدح

لم يتعرّض لحرمته إلّا قليل منهم، كالعلّامة قدّس سرّه فيما حكي عنه، حيث ذكره في عداد المكاسب المحرّمة، ثمّ تبعه غير واحد ممّن تأخّر عنه.

و ليعلم أنّ المدح- كالذمّ- على قسمين: قسم منه بالإخبار: و الثاني بالإنشاء.

و الأوّل: قد يكون كذبا كما هو الغالب، كما إذا قال في مقام مدحه: إنّ علمه كذا و تقواه و عبادته و شجاعته كذا، و لم يكن فيه شي ء من ذلك.

و اخرى يكون صدقا، كأن يذكره ببعض الأوصاف الحسنة من غير تعرّض لما فيه من القبائح التي هي أكثر بمرّات بحيث لا يكون في المجموع مدحا لمن يستحقّ، و لو من حيث انوار الفقاهة، ج 4، ص: 357

اكتفائه بما فيه من المحاسن القليلة، و ترك ما هو أكثر من القبائح الكثيرة.

و الثّاني: كأن يدعو الكواكب السماوية و الجبال بالخضوع له و الملائكة بخدمته و غير ذلك ممّا لا يليق به أصلا، أو يتمنّى له الحياة إلى أبد الآباد، أو يرجو له دوام العزّ و الشرف، و غير ذلك من الأباطيل و الخيالات.

أمّا الأوّل، فلا شكّ في حرمته، لكونه كذبا، و لعلّه خارج عن محطّ كلامهم، و لذا لم يستدلّ له شيخنا الأعظم قدّس سرّه بأدلّة حرمة الكذب مع أنّها أظهر من جميع

ما استند إليه في المسألة فيما ستعرف إن شاء اللّه.

و ينبغي أن يكون كذلك، لأنّ الظاهر أنّ عنوان البحث «المدح بما أنّه مدح» لا بما أنّه كذب.

فتبقى الصورتان الأخيرتان هما المقصود الأصلي بالكلام، فنقول (و منه سبحانه نستمدّ التوفيق و الهداية):

إنّه قد يترتّب عليهما عناوين محرّمة اخرى كترويج الباطل و إعانة الظالم و نشر الفساد و شيوع الفاحشة، و تقوية المبدع في الدين، و تضعيف أهل الحقّ و الصلاح، و غير ذلك من العناوين المحرّمة.

و ينبغي أن يكون هذا خارجا عن محلّ البحث أيضا، فإنّ العناوين الطارئة التي نسبتها مع ما هو محلّ الكلام عموم من وجه غالبا لا أثر له فيما نحن بصدده، بل قلّما يكون عنوان محلّل خاليا منها.

و أمّا إذا لم يترتّب عليها شي ء من ذلك فأقصى ما يمكن الاستدلال به لحرمته امور:

1- قوله تعالى: وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ... «1».

و من الواضح أنّه لا يكون المدح ركونا دائما، و كونه كذلك أحيانا لا يكفي في مقام الاستدلال، فهو أخصّ من المدّعي من وجه.

2- ما ورد من الإعراض عن اللغو و الاجتناب عن قول الزور.

و فيه: إنّ اللغو بمعنى مطلق أي ما لا غرض عقلائي فيه لا دليل على حرمته، بل السيرة

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 358

و غيرها دالّة على جوازه، فالمنهي بعض أقسامه، و كذا «قول الزور» بمعنى ما لا يشتمل على الحقّ، و إن لم يترتّب عليه شي ء من العناوين المحرّمة المعروفة.

3- ما ورد في حديث المناهي عن الحسين بن زيد عن الصادق جعفر بن محمّد عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم في حديث المناهي أنّه نهى عن المدح

و قال: احثوا في وجوه المدّاحين التراب! «1».

و فيه: إنّ من الواضح كونه أخصّ من المدّعى أيضا، و داخلا في إعانة الظالمين و التقرّب إليهم للدنيا، و لا شكّ في حرمته (مضافا إلى ضعفه بشعيب بن واقد كما قيل).

4- ما رواه الصدوق رحمه اللّه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم في حديث «... و من عظم صاحب دنيا و أحبّه لطمع دنياه سخط اللّه عليه و كان في درجته مع قارون في التابوت الأسفل من النار ...» «2».

(و هو أيضا ضعيف بعدّة مجاهيل).

مضافا إلى أنّه لا ينبغي الشكّ في انصرافه إلى ما يستلزم شيئا من العناوين المحرّمة، فانّ الاقتراب من صاحب الدنيا و تعظيمه بما ليس فيه باطل، و ما لا ينافي التوحيد و التوكّل على اللّه لا قائل بحرمته، بل أكثر مناسبات الناس حتّى كثير من المؤمنين من هذا الباب، فهم يعظّمون الأطباء أو التجّار أو صاحب الحرف لحاجتهم إليهم، و مجرّد ذلك ليس حراما، و إنّما الحرام ما ينافي بعض ما مرّ.

5- قبح ذلك عقلا- و هو ممنوع لو خلا من الامور المذكورة و العناوين الطارئة المحرّمة و ان كان منافيا لكمال الإنسان و القيم الأخلاقية.

و الحاصل أنّ مجرّد مدح من لا يستحقّ المدح لا يكون عنوانا من العناوين المحرّمة إلّا أن يرجع إلى الكذب أو ترويج الباطل أو عناوين محرّمة اخرى، و ان كان مرجوحا على كلّ حال.

22- معونة الظالمين
اشارة

حكي الحكم بحرمة معونة الظالمين فيما يحرم، عن غير واحد من أصحابنا الأقدمين كصاحب المقنعة و المراسم، كما حكي حرمة معونة الظالمين في ظلمهم من أكثر الفقهاء، و الظاهر أنّ المراد منهما واحد.

و لكن يأتي الكلام أوّلا في أنّه بعد

دعوى الإجماع على حرمة الإعانة على الإثم مطلقا، فمورد الكلام يكون مصداقا من مصاديقها، فما الفائدة في ذكر خصوص هذا المصداق؟

لكن أجاب عن هذا السؤال في الجواهر بأنّه يمكن أن يكون ذكر هذا العنوان بخصوصه إرشادا إلى أنّ المراد من الروايات الكثيرة المستفيضة أو المتواترة الدالّة على حرمة إعانة الظالمين هو خصوص إعانتهم في مظالمهم لا مطلقا (انتهى) «1» أو بعض ما سنذكره أيضا إن شاء اللّه.

ثمّ اعلم أنّ متعلّق الإعانة على أقسام:

1- قد يكون المراد الإعانة على ظلمهم.

2- و اخرى على تقوية شوكتهم.

3- و ثالثة على فعل مباح أو راجح مع عدّه في أعوانهم.

4- و رابعة على فعل من المباحات من دون أن يعدّ في أعوانهم.

و الظالم أيضا على أقسام:

1- من يصدر منه الظلم أحيانا.

2- من يكون الظلم عملا له كالسارق و من يؤذي الناس دائما.

3- السلطان الجائر.

4- الغاصب للخلافة الإلهية عن المعصومين عليهم السّلام الذين اختارهم اللّه لهذا المنصب (صلوات اللّه عليهم أجمعين).

و الإعانة أيضا على أقسام:

1- إعداد المقدّمات القريبة التي تنحصر فائدتها في الظلم عاجلا، كما إذا أراد الظالم ضرب مظلوم فأعطى السوط بيده.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 360

2- إعداد المقدّمات البعيدة كمن يعطيهم القوت و الطعام أو الشراب الذي يوجب قوتهم على الظلم.

3- إعداد المقدّمات المشتركة بين الظلم و غيره، كمن يبيعهم السلاح في غير حال الحرب، و يمكن انتفاعهم بها لدفع الأعداء عن الإسلام أو لبعض المظالم.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه لا ينبغي الإشكال في كون معونتهم حراما في الجملة بالأدلّة الأربعة:

الأوّل: من كتاب اللّه بقوله تعالى: وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ «1». و دلالتها ظاهرة، و لم أر من أشكل عليها إلّا بعض المعاصرين حيث قال: إنّ «التعاون»

غير «الإعانة» فانّ أحدهما من باب الأفعال، و الآخر من باب التفاعل، فحرمة أحدهما لا تسري إلى الآخر، و التعاون عبارة عن اجتماع عدّة من الأشخاص لإيجاد فعل من الخير أو الشرّ ليكون صادرا من جميعهم، و لكن الإعانة عبارة عن تهيئة مقدّمات فعل الغير «2».

و فيه: إنّ التعاون على أمر أعمّ من اشتراك الجميع في المباشرة أو بعضهم في إعداد المقدّمات، كالجماعة الذين يشتركون في بناء، فبعضهم يرسم الخريطة، و الآخر بالتمويل، و الآخر بالمصالح، و الآخر بالبناء، و إن أبيت عن ذلك فلا أقل من الغاء الخصوصية، و بالجملة لا تنبغي الوسوسة في ذلك كما فهمه الأصحاب أعلى اللّه درجاتهم.

و بقوله تعالى: وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ «3».

فانّها دليل على المطلوب بطريق أولى لو لم يكن الركون عاما شاملا لمطلق الإعانة.

و أمّا الثاني و الثالث الإجماع و العقل فظاهران.

أمّا من السنّة فهي روايات كثيرة تنقسم إلى طوائف:

الطائفة الاولى ما يدلّ على حرمته بالعموم منها:

1- ما رواه أبو حمزة عن علي بن الحسين عليه السّلام في حديث قال: «إيّاكم و صحبة العاصين و معونة الظالمين» «4».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 361

2- و ما رواه حريز قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «اتّقوا اللّه و صونوا دينكم بالورع و قوّوه بالتقيّة و الاستغناء باللّه عزّ و جلّ عن طلب الحوائج إلى صاحب سلطان، أنّه من خضع لصاحب سلطان و لمن يخالفه على دينه طلبا لما في يده من دنياه أخمله اللّه عزّ و جلّ و مقته عليه، و وكّله إليه، فان هو غلب على شي ء من دنياه فصار إليه منه شي ء نزع اللّه جلّ اسمه البركة منه و لم يأجره على

شي ء منه ينفقه في حجّ و لا عتق و لا برّ» «1».

3- ما رواه أبو بصير قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن أعمالهم فقال لي: «يا أبا محمّد! لا، و لا مدّة قلم، إنّ أحدكم لا يصيب من دنياهم شيئا إلّا أصابوا من دينه مثله، أو حتّى يصيبوا من دينه مثله» «2»، (الوهم من ابن أبي عمير).

و دلالتها على المطلوب بالأولوية.

4- ما رواه ابن أبي يعفور، قال كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام إذ دخل عليه رجل من أصحابنا فقال له: جعلت فداك أنّه ربّما أصاب الرجل منّا الضيق أو الشدّة فيدعى إلى البناء يبنيه، أو النهر يكريه، أو المسناة يصلحها فما تقول في ذلك؟

فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «ما أحبّ أنّي عقدت لهم عقدة، أو وكيت لهم وكاء و انّ لي ما بين لابتيها، لا، و لا مدّة بقلم، إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتّى يحكم اللّه بين العباد» «3».

5- و باسناده السابق في عيادة المريض عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم في حديث قال: «من تولّى خصومة ظالم إعانة عليها نزل به ملك الموت بالبشرى بلعنة، و نار جهنّم و بئس المصير، و من خفّ لسلطان جائر في حاجة كان قرينه في النار، و من دلّ سلطانا على الجور قرن مع هامان، و كان هو و السلطان من أشدّ أهل النار عذابا، و من عظم صاحب دنيا و أحبّه لطمع دنياه سخطه اللّه عليه، و كان في درجته مع قارون في التابوت الأسفل من النار، و من علّق سوطا بين يدي سلطان جائر جعلها اللّه حيّة طولها سبعون ألف ذراع فيسلّطه انوار

الفقاهة، ج 4، ص: 362

اللّه عليه في نار جهنّم خالدا فيها مخلّدا، و من سعى بأخيه إلى سلطان و لم ينله منه سوء و لا مكروه أحبط اللّه عمله، و ان وصل منه إليه سوء و مكروه أو أذى جعله اللّه في طبقة مع هامان في جهنّم» «1».

6- ما رواه ورّام بن أبي فراس (في كتابه) قال: قال عليه السّلام: «من مشى إلى ظالم ليعينه و هو يعلم أنّه ظالم فقد خرج من الإسلام» «2».

7- قال و قال عليه السّلام: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الظلمة و أعوان الظلمة و أشباه الظلمة حتّى من برى لهم قلما و لاق لهم دواة قال: فيجتمعون في تابوت من حديد ثمّ يرمى بهم في جهنّم» «3».

8- عن السكوني قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «ما اقترب عبد من سلطان جائر إلّا تباعد من اللّه، و لا كثر ماله إلّا اشتدّ حسابه و لا كثر تبعه إلّا كثرت شياطينه» «4».

9- ما رواه محمّد بن مسعود العياشي في تفسيره عن سليمان الجعفري قال: قلت لأبي الحسن الرضا عليه السّلام: ما تقول في أعمال السلطان؟

فقال: «يا سليمان الدخول في أعمالهم و العون لهم و السعي في حوائجهم عديل الكفر و النظر إليهم على العمد من الكبائر التي يستحقّ بها النار» «5».

الطائفة الثّانية: ما يدلّ على حرمة الإعانة في بعض الأفعال بالخصوص ممّا يكون من مصاديق الظلم، و لكن ليس فيه لفظ عامّ.

10- ما رواه الحسين بن زيد عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم في حديث المناهي قال: «ألا و من علّق سوطا بين يدي سلطان

جعل اللّه ذلك السوط يوم القيامة ثعبانا من النار طوله سبعون ذراعا يسلّطه اللّه عليه في نار جهنّم و بئس المصير» «6».

الطائفة الثّالثة: ما يدلّ على حرمة إعانتهم على المباحات مثل:

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 363

11- ما رواه يونس بن يعقوب قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: «لا تعنهم على بناء مسجد!» «1».

12- ما رواه صفوان بن مهران الجمّال قال: دخلت على أبي الحسن الأوّل صلّى اللّه عليه و آله و سلم و قال لي: «يا صفوان كلّ شي ء منك حسن جميل ما خلا شيئا واحدا!».

قلت: جعلت فداك أي شي ء؟ قال: «اكرائك جمالك من هذا الرجل»، يعني هارون قال:

و اللّه ما أكريته أشرا و لا بطرا و لا للصيد و لا للهو، و لكنّي أكريته لهذا الطريق، يعني طريق مكّة، و لا أتولّاه بنفسي و لكن أبعث معه غلماني، فقال لي: «يا صفوان أيقع كرائك عليهم؟» قلت: نعم جعلت فداك، قال فقال لي: «أ تحبّ بقائهم حتّى يخرج كرائك؟» قلت: نعم قال:

«من أحبّ بقائهم فهو منهم، و من كان منهم كان ورد النار» قال: صفوان فذهبت فبعت جمالي عن آخرها، فبلغ ذلك إلى هارون فدعاني فقال لي: يا صفوان بلغني انّك بعت جمالك قلت: نعم قال: و لم؟ قلت: أنا شيخ كبير، و انّ الغلمان لا يفون بالأعمال؟ فقال هيهات هيهات انّي لأعلم من أشار عليك بهذا، أشار عليك بهذا موسى بن جعفر قلت: ما لي و لموسى بن جعفر؟

فقال عليه السّلام دع هذا عنك، فو اللّه لو لا حسن صحبتك لقتلتك! «2».

13- و ما رواه محمّد بن عذافر عن أبيه قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «يا عذافر نبّئت أنّك تعامل أبا

أيّوب و الربيع، فما حالك إذا نودي بك في أعوان الظلمة؟» قال: فوجم أبي، فقال له أبو عبد اللّه عليه السّلام: لمّا رأى ما أصابه: «أي عذافر! إنّما خوّفتك بما خوّفني اللّه عزّ و جلّ به»، قال محمّد: فقدم أبي فما زال مغموما مكروبا حتّى مات «3».

14- ما رواه ابن أبي يعفور التي مرّت عليك في الطائفة الاولى (6/ 42).

15- ما رواه السكوني عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين أعوان الظلمة و من لاق لهم دواتا أو ربط كيسا أو مدلهم مدة قلم فاحشروهم معهم!» «4».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 364

الطائفة الرّابعة: ما يدلّ على حرمة كون الإنسان من أعوانهم مثل:

16- ما رواه طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «العامل بالظلم و المعين له و الراضي به شركاء ثلاثتهم» «1».

و ما رواه عذافر (3/ 42) التي مرّت عليك في الطائفة الثالثة.

و ما رواه السكوني عن جعفر بن محمّد عن آبائه (11/ 42) أوردناها في الطائفة الثالثة.

و رواية صفوان بن مهران الجمّال (16/ 42) أوردناها في الطائفة الاولى.

الطائفة الخامسة: ما يدلّ على حرمة صحبتهم و حبّ بقائهم مثل ما رواه:

17- ما رواه الصدوق رحمه اللّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «إيّاكم و أبواب السلطان و حواشيها، فانّ أقربكم من أبواب السلطان و حواشيها أبعدكم من اللّه عزّ و جلّ، و من آثر السلطان على اللّه أذهب اللّه عنه الورع و جعله حيرانا» «2».

و ما رواه الصدوق رحمه اللّه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و

سلم (12/ 42) التي مرّت عليك في الطائفة الثالثة.

و ما رواه صفوان بن مهران الجمّال (17/ 42) التي أوردناها في الطائفة الثالثة.

18- و ما رواه سهل بن زياد رفعه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ قال: «هو الرجل يأتي السلطان فيحبّ بقاه إلى أن يدخل يده إلى كيسه فيعطيه!» «3».

19- و ما رواه عياض عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث قال: «و من أحبّ بقاء الظالمين فقد أحبّ أن يعصى اللّه» «4».

20- و ما رواه محمّد بن مسلم قال كنّا عند أبي جعفر عليه السّلام على باب داره بالمدينة فنظر إلى الناس يمرّون أفواجا فقال لبعض من عنده: حدث بالمدينة أمر؟ فقال أصلحك اللّه «جعلت فداك» ولي المدينة وال فغدا الناس «إليه» يهنّئونه فقال: «إنّ الرجل ليغدي عليه انوار الفقاهة، ج 4، ص: 365

بالأمر يهنّى به و أنّه لباب من أبواب النار» «1».

الطائفة السّادسة: ما دلّ على حرمة الولاية من قبلهم و سيأتي إن شاء اللّه.

إذا عرفت ذلك: فاعلم أنّ مقتضى القاعدة المستفادة من الآية الشريفة و من حكم العقل حرمة إعانة الظالمين في ظلمهم، و كذلك ما يوجب قوّة شوكتهم الملازم عادة للإعانة على ظلمهم.

و كذا الدخول في أعوانهم و تسويد الاسم في ديوانهم إذا زادت به شوكتهم، و قد روا به على الظلم أزيد ممّا كان بدونه.

أمّا إذا لم يكن فيه شي ء من ذلك و كان المراد مجرّد إصلاح أمر مباح أو راجح فلا.

و كذا إذا كان في المقدّمات البعيدة بحيث لا تعدّ إعانة عرفا.

و كذا إذا كان بمقدّمة مشتركة بين المباح و الحرام ما لم يعلم بصرفه

خاصّة في الحرام.

ففي هذه الصور الثلاث لا دليل على الحرمة وفقا للأصول و القواعد، و لكن يظهر من بعض ما مرّ من النصوص حرمة القسم الأوّل، مثل حديث 8 و 7/ 42 و المستفاد منه حرمة حبّ بقائهم، لا إعانتهم في المباحات كما لا يخفى.

إلّا أن يقال: إعانتهم على بناء المسجد أو الحجّ ممّا يوجب تقوية شوكتهم فتأمّل.

و أمّا الإطلاقات، فالظاهر انصرافها إلى ما يكون في ظلمهم، و لذا أفتى المشهور فيما حكي عنهم بالحرمة في خصوص ظلمهم أو في مطلق الحرام.

و قد يستدلّ على الحرمة في الإعانة على المباحات بامور اخر:

1- ما رواه ابن عذافر (3/ 42) بناء على كون المعاملة فيها أعمّ.

و فيه: مضافا إلى كون «سهل» في سنده، أنّ المعاملة لعلّها كانت بمعنى كونه عاملا لهم أو عدّه في أعوانهم كما ليس ببعيد.

2- ما رواه ابن يعفور (6/ 42).

و فيه: مضافا إلى ضعفه بجهالة «بشير» (كما قيل) أنّ المراد بقرينة ذيلها إذا دخل في أعوانهم.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 366

3- ما رواه «السكوني» (11/ 42).

و الجواب عنه: إنّ المدار على كونه من أعوانهم مضافا إلى ما في السند.

4- ما رواه «العياشي» (12/ 45).

و فيه: مضافا إلى ضعف السند بالإرسال، أنّ قوله في أعمالهم و العون لهم دليل على كونه في مظالمهم و صيرورته من أعوانهم.

و العمدة هنا جريان السيرة المستمرّة على إعانتهم بالامور المباحة، و ابتياعهم من سوق المسلمين ما يريدونه، و لم يكن لهم سوق يختصّ بهم، مضافا إلى الشهرة التي عرفت، مع إمكان حمل بعض ما عرفت على كون النهي من باب حماية الحمى.

ثمّ اعلم أنّ قسما كبيرا من هذه الروايات وردت في غاصبي الحقوق عن أئمّة الحقّ عليهم السّلام و

لكن الإنصاف أنّ جلّها حاكمة بالحرمة في مواردها بعنوان كونهم ظالمين، لا غاصبي حقوقهم فقط.

نعم مثل رواية «صفوان» (17/ 42) ناظرة إلى غصب حقوقهم، و لعلّ له حكما خاصّا، حتّى أنّه لا يجوز إعانتهم على المباحات أو الامور الراجحة، و على ما ذكرنا يشمل العنوان لكلّ ظالم، سواء كان أميرا لهم أو لم يكن، مثل قاطعي الطريق و أشباههم، اللهمّ إلّا أن يدّعي انصراف الظلمة إلى الحكّام الظالمين، و لكنّه قابل للمنع و لا أقل من الغاء الخصوصية.

ملخص الكلام و الفتوى:

و قد تحصّل ممّا ذكرنا امور:

1- مقتضى القواعد حرمة الإعانة في الظلم أو ما يوجب تقوية شوكتهم أو عدّه من أعوانهم إذا كان سببا لظلمهم أو لدوامه، أمّا إعانتهم في المباحات فلا.

2- مقتضى القاعدة حرمة المقدّمات القريبة، أمّا البعيدة كسقيّهم أو بيع الطعام لهم، فلا، اللهمّ إلّا في موارد خاصّة تعدّ إعانة عرفا.

3- لا يستفاد من الأدلّة الخاصّة أيضا أزيد ممّا ذكرنا، نعم ظاهر الطائفة الخامسة حرمة

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 367

حبّ بقائهم، و يمكن حملها على الكراهة الشديدة، أو يقال حبّ استمرار الظلم حرام، كحبّ إشاعة الفاحشة و غيرها لقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ ... «1» أو لاستلزامه الرضا بفعلهم، و قد ورد في الزيارات «لعن اللّه أمّة سمعت بذلك فرضيت به» و سيأتي الكلام فيه مبسوطا.

بقي هنا أمران:

الأمر الأوّل: حكم حبّ بقائهم و الرضا بأعمالهم.

و ليعلم أنّه يطلق الحبّ بالنسبة إلى الأعمال قبلها غالبا و الرضا بعدها.

و الذي يظهر من رواية صفوان السابقة (17/ 42): «فمن أحبّ بقائهم فهو منهم و من كان منهم ورد النار» و من مرفوعة سهل بن زياد (1/ 44) و ممّا رواه عياض (5/ 44) و ما رواه مسعدة بن صدقة (10/ 45) و غير ذلك أنّ محبّة بقائهم حرام.

و كذا يستفاد من روايات كثيرة، بل غير واحد من الآيات حرمة تولّي الكافرين، و حبّ شيوع الفاحشة في المؤمنين، بل يظهر منها عدّ الراضي بفعل قوم منهم، كما في قضيّة عقر ناقة صالح، بل يظهر من اللعن الوارد في الزيارات على أمّة سمعت بذلك فرضيت به ذلك أيضا.

و لكن هذا شي ء لا يمكن الاستدلال له بحكم العقل، بخلاف مسألة المعاونة، و لكن ثبت بالشرع قطعا.

و لعلّ الوجه

في الجميع أنّ حبّهم لا ينفك عن حبّ أعمالهم، و حبّ المعصية نوع تجرّ على اللّه، و كذا الرضا بها، و هما محرّمان بالأدلّة السمعية.

بل انّ حبّ المعصية ذريعة للوصول إليها غالبا، و ان لم تكن من قبيل العلّة لها، و الشارع لم يرتض ذلك. (و هذا كلّه غير نيّة المعصية).

هذا إذا لم ينجرّ إلى بغض أولياء اللّه، و إلّا فهو موجب للكفر كما لا يخفى.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 368

الأمر الثّاني: كلّما كان الظالم أشدّ ظلما كانت معونته أكثر عقوبة، فمن أعان ظالما في أمر بسيط لا يضاهي من أعان قطّاع الطريق، و أشدّ منه من يعين حكّام الجور، و أشدّ من الجميع من يعين غاصبي الولاية الحقّة الإلهية من أهلها.

و على كلّ حال، فهم مشتركون في الإثم، و لعلّ كونها كبيرة أو صغيرة تتبّع الفعل الذي عاونه فيه، لاشتراكه في الفعل، و قد أطال البحث بعض الأعلام في المكاسب المحرّمة في كونها كبيرة أو صغيرة.

هذا و في بعض كلمات الفقه الماهر صاحب الجواهر بعد ما ذكر كراهة إعانة ظلمة المخالفين و سلاطينهم في الامور المباحة ما نصّه:

«أمّا سلاطين أهل الحقّ، فالظاهر عدم الكراهة في إعانتهم على المباحات، لكن لا على وجه يكون من جندهم و أعوانهم، بل لا يبعد عدم الحرمة في حبّ بقائهم خصوصا إذا كان لقصد صحيح من قوّة كلمة أهل الحقّ و عزّهم» «1».

و مراده ظاهر لا سترة عليه، فهو ناظر إلى الأزمنة التي كان بقائهم بقاء للطائفة المحقّة و لم يقدر أهل الحقّ على تأسيس حكومة عادلة من جميع الجهات، و اللّه العالم.

23- النجش
اشارة

و البحث فيه تارة من حيث حكمه شرعا، و اخرى من جهة صحّة البيع معه، و ثالثة

من حيث الخيار على فرض صحّة البيع.

و قد ذكر له تفسيران:

الأوّل: أن يزيد الرجل من ثمن السلعة و هو لا يريد شرائها، ليسمعه غيره فيزيد.

الثّاني: أن يمدح السلعة بهذا الغرض، كلّ ذلك مع التواطؤ مع البائع أو بدونه، و قد حكي التفسيران عن أرباب اللغة أيضا مضافا إلى الفقهاء (رضوان اللّه عليهم) و الأصل في معناه كما قيل هو إثارة الصيد من مكان إلى مكان.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 369

أمّا الأوّل فقد استدلّ على حرمته بامور:

1- أنّه داخل في عنوان الغشّ الممنوع شرعا، و قد عرفت في محلّه النهي عنه في روايات كثيرة، و مفهومه كما عرفت هناك هو الخيانة و الخدعة، و عدم الخلوص، و هو ضدّ النصح، فيشمل المقام أيضا بلا إشكال.

هذا إذا تحقّق البيع معه، و إلّا فقد أراد الخيانة و لم تحصل، فلا يحرم إلّا من باب التجرّي.

2- شمول أدلّة لا ضرر له، و هو أيضا غير بعيد إذا كانت المعاملة بأزيد من ثمن المثل كما هو ظاهر.

و القول بأنّ المشتري إنّما أقدم عليها بإرادته، ممنوع، بأنّ المقام من قبيل قوّة السبب بالنسبة إلى المباشر لعلمه، و جهل المشتري.

و هذا الدليلان يشملان صورة التواطؤ، بل و صورة عدمه على الأحوط.

3- ما ورد في الروايات الخاصّة عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و هو روايتان:

الأوّل: ما رواه عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «الواشمة و الموتشمة و الناجش و المنجوش ملعونون على لسان محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم» «1».

الثاني: و ما رواه الحسين بن زيد عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام في حديث

المناهي قال:

«و نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أن يدخل الرجل في سوم أخيه المسلم» «2».

و الأوّل و ان كان ضعيفا أو مشكوكا بمحمّد بن سنان و الثاني بشعيب بن واقد، إلّا أنّ عمل الأصحاب بهما يوجب انجبار إسنادهما، و ذكر في الجواهر انّهما مؤيّدان بالشهرة، بل الإجماع المحكي، أمّا دلالتهما ظاهرة على المطلوب، و اشتمال حديث المناهي على غير المحرّمات لا يمنع من ظهور النهي في الحرمة، فتأمّل.

4- حكم العقل بقبح ذلك و كونه ظلما، و هو غير بعيد مع التواطؤ بكلا التفسيرين.

هذا بالنسبة إلى أصل حكم المسألة.

فتلخّص أنّ النجش بالمعنى الأوّل إذا تحقّقت المعاملة بما زاد عن ثمن المثل كان انوار الفقاهة، ج 4، ص: 370

حراما، و ان لم تتحقّق لا دليل على حرمته، و أمّا بالمعنى الثاني فإن اشتمل على كذب كان حراما من هذه الجهة، و كذا إذا وقعت المعاملة الضررية أو المغشوشة، و إلّا لا دليل على حرمته.

أمّا فساد المعاملة (الذي حكي عن ابن الجنيد) فلا وجه له، لعدم كون النهي التكليفي موجبا للفساد في المعاملات، مضافا إلى كونه نهيا بما هو خارج عن المعاملة كما هو ظاهر.

أمّا الخيار، فاختار بعضهم ثبوته مع النجش مطلقا، و حكي عن القاضي ذلك، و نفاه مطلقا الشيخ قدّس سرّه في المبسوط مع عدم المواطاة، و فصل صاحب الجواهر قدّس سرّه بين صورة الغبن و عدمه.

و يدلّ على الأوّل كونه تدليسا، فيثبت فيه خيار التدليس، كما أنّ دليل الثاني أصالة اللزوم و دليل القول الثالث أيضا ظاهر.

و التحقيق أنّه لم يثبت كون التدليس بما هو تدليس موجبا للخيار، و لذا لم يذكر غير واحد من الفقهاء (رضوان اللّه عليهم) منهم الشيخ

الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه في عداد الخيارات الخمسة أو السبعة المشهورة «1».

نعم إذا كان سببا للغبن أو الضرر أو الغفلة عن العيب الموجود ثبت الخيار لهذه العناوين.

بقي هنا فروع:

1- إذا كان المواطاة بين المشتري و غيره بترك الزيادة تلبيسا على البائع، فان دخل في عنوان الغشّ فهو محكوم بحكمه، و لكن الظاهر أنّ دخوله تحته مشكل غالبا، نعم ربّما يكون مصداقا للإضرار، فيدخل تحت أدلّته، فهو أيضا قليل.

2- ذكر في الجواهر إنّه إذا قال البائع كذبا: «أعطيته في هذه السلعة كذا و صدّقه المشتري فهو بحكم النجش في الحرمة و الخيار مع الغبن و لو كان صادقا فالخيار خاصّة

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 371

معه» (انتهى مفاد كلامه) «1» و لعلّ مراده مواطاة البائع مع المشتري بزيادة قيمة السلعة كذبا حتّى يرغب فيها غيره، فالزيادة الكاذبة قد تكون من ناحية المشتري و اخرى من ناحية البائع، و كلاهما محكوم بحكم واحد، و ان سمّي أحدهما نجشا دون الآخر.

3- الدعايات الكاذبة أو غير الكاذبة المتداولة اليوم بين أرباب التجارات و الحرف قد تدخل في حكم النجش، فانّه قد يكون فيها إغفال و خدعة و غشّ و تدليس، و اخرى تكون بالمواطاة بين البائع و بعض أفراد المشتري بأن يساوم معه بقيمة غالية و يأخذ منه الثمن في أعين الناس، ثمّ يرد عليه خفاء كلّه أو بعضه.

و ثالثة برجوع البائع إلى المشتري الحقيقي و يبتاع هو أو أعوانه المتاع بأكثر ممّا اشترى حتّى يتوهّم أنّه شي ء غال جدّا، فيروّج بهذه السلعة ترويجا كاذبا فيرجع هو أو غيره إلى البائع فيبتاع غالبا.

و رابعة بشراء المتاع من نوع خاص و جعله في المخازن حتّى تتوفّر الحاجة إليه و يبيعه بأسعار غالية

مجحفة.

كلّ ذلك حرام إذا كان فيه إضرار بالمسلمين و خديعة لهم أو مشتملا على الكذب و قول الزور.

نعم، إذا كانت الدعاية بذكر ما في المتاع من الامتيازات و المنافع و فوائده الواقعية التي توجب مزيد الرغبة فيه و الميل، لم يكن حراما.

24- النميمة

و هي السعي بين شخصين أو قومين و نقل حديث بعض إلى بعض بقصد الإفساد و الشرّ، و حرمتها مجمع عليها بين علماء الإسلام، بل ادّعي ضرورة الدين عليها.

و استدلّ لها مضافا إلى ما ذكر، بآيات من الذكر الحكيم:

منها قوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ «2».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 372

و مثلها في سورة الرعد «1».

و ما قد يقال: إنّها تختصّ بموارد أمر فيها بالوصل، و النمام لم يؤمر بالصلة بين الناس، ممنوع، بأنّ كلّ مسلم مأمور بهذا الأمر و الاعتصام بحبل اللّه و عدم التفرّق.

و يدلّ على المقصود ذيل الآية أيضا، و هو قوله وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ و النمّام مفسد في الأرض، و عدم شمول هذا العنوان له إلّا إذا كان هناك فساد كبير لا يضرّ بالمقصود بعد إمكان إلغاء الخصوصية، فتأمّل.

و استدلّ أيضا كما في الجواهر بقوله تعالى: وَ الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ «2».

هذا و لكن الإنصاف أنّ الفتنة التي هي أكبر من القتل ليست مجرّد الفتنة بين شخصين كما هو ظاهر، فهي أخصّ من المدّعى، و يشهد له صدر الآية و ذيلها يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ ....

و يدلّ عليه من السنّة روايات كثيرة بما تكون متواترة (رواها الوسائل في الباب 164 من أحكام العشرة) و إليك بعض تلك الروايات:

1- ما رواه عبد اللّه بن سنان عن أبي

عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «ألا انبئكم بشراركم؟» قالوا بلى يا رسول اللّه! قال: «المشّاؤون بالنميمة، المفرّقون بين الأحبّة، الباغون للبراء المعايب» «3».

2- ما رواه محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «الجنّة محرّمة على القتّاتين المشّائين بالنميمة» «4».

3- ما رواه أبو الحسن الاصفهاني عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «شراركم المشّاؤون بالنميمة، المفرّقون بين الأحبّة، المبتغون للبراء المعايب» «5».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 373

4- ما رواه علي بن غالب البصري عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا يدخل الجنّة سفّاك الدم، و لا مدمن الخمر، و لا مشّاء بنميمة» «1».

5- ما رواه علي بن جعفر عن أبي الحسن موسى عليه السّلام قال: «حرمت الجنّة على ثلاثة:

النمّام، و المدمن الخمر، و الديّوث، و هو الفاجر» «2».

و قد مرّ في أبواب السحر أنّ من أكبر السحر النميمة، كما مرّ أنّه منه حكما و تأثيرا، لا موضوعا.

و يدلّ عليه من العقل أنّها من أظهر مصاديق الظلم، فتتمّ الأدلّة الأربعة على تحريمها.

هذا و ينطبق عليها كثيرا عناوين محرّمة اخرى، كإفشاء سرّ المؤمن أو غيبته، و إغراء الغير به، و غير ذلك، فيشتدّ حرمتها بذلك.

بقي هنا شي ء، و هو أنّها قد تباح بل قد تجب إذا كان لإيقاع الفتنة بين المشركين، و إعزاز المؤمنين و نصرهم عليهم، إلّا أن يقال إنّ المدار على المؤمن كما في أحكام الغيبة و غيرها، فتدبّر.

25- النّوح بالباطل
اشارة

حكي عن المبسوط و ابن حمزة حرمة النوح مطلقا من غير تقييد، بل ادّعى الأوّل الإجماع عليه، و لكن ظاهر المشهور عدم حرمته كذلك، و التفصيل

فيه، لأنّهم ذكروا جواز أخذ الاجرة على النوح بالحقّ، بل ادّعى العلّامة رحمه اللّه فيما حكي عنه عن المنتهى الإجماع عليه، فعلى هذا يفصل بين النوح الباطل و الحقّ، و المراد من الباطل أعمّ من الكذب و مدح الميّت بأفعاله القبيحة و صفاته المذمومة، و غير ذلك ممّا لا يجوز شرعا.

و أمّا حكم الألحان فيه فسيأتي إن شاء اللّه، و على كلّ حال فهناك طوائف من الروايات:

الطائفة الاولى: ما يدلّ على جواز أصل النوح، منها:

1- ما رواه يونس بن يعقوب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال لي أبي يا جعفر أوقف لي انوار الفقاهة، ج 4، ص: 374

من مالي كذا و كذا لنوادب تندبني عشر سنين بمنى أيّام منى!» «1».

2- ما رواه أبو حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: مات الوليد بن المغيرة فقالت أمّ سلمة للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم: إنّ آل المغيرة قد أقاموا مناحة فأذهب إليهم؟ فأذن لها فلبست ثيابها، و تهيّأت، و كانت من حسنها كأنّها جانّ، و كانت إذا قامت فأرخت شعرها جلّل جسدها و عقدت بطرفيه خلخالها، فندبت ابن عمّها بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم فقالت:

أنعى الوليد بن الوليد أبا الوليد فتى العشيرة

حامى الحقيقة ماجد يسمو إلى طلب الوتيرة

قد كان غيثا في السنين و جعفرا غدقا و ميرة

فما عاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم ذلك و لا قال شيئا «2».

3- ما رواه عذافر قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام و سئل عن كسب النائحة فقال: «تستحلّه، بضرب إحدى يديها على الاخرى» «3».

لعلّها إشارة إلى ما هو المتداول في ابتداء النياحة من ضرب إحدى اليدين على الاخرى به تستحقّ اجرتها.

4- ما

رواه أبو بصير قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «لا بأس بأجر النائحة التي تنوح على الميّت» «4».

5- ما رواه الصدوق رحمه اللّه مرسلا سئل الصادق عليه السّلام عن أجر النائحة فقال: «لا بأس به قد نيح على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم» «5».

الطائفة الثانية: ما دلّ على تقييد النوح بالصدق أو عدم الهجر، منها:

6- ما روته خديجة بنت عمر بن علي بن الحسين عليه السّلام في حديث قال سمعت عمّي محمّد بن علي عليه السّلام يقول: إنّما تحتاج المرأة إلى النوح لتسيل دمعتها، و لا ينبغي لها أن تقول انوار الفقاهة، ج 4، ص: 375

هجرا، فإذا جاء الليل فلا تؤذي الملائكة بالنوح «1».

7- ما رواه محمّد بن علي بن الحسين قال عليه السّلام: لا بأس بكسب النائحة إذا قالت صدقا «2».

الطائفة الثالثة: و فيها التعبير بالكراهة، منها:

8- ما رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن النوح على الميّت أ يصلح؟ قال: «يكره» «3».

9- ما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر قال: سألته عن النوح؟ فكرهه «4».

10- ما رواه سماعة قال سألته عن كسب المغنية و النائحة فكرهه «5».

الطائفة الرابعة: ما دلّ على النهي مطلقا منها:

11- ما رواه الحسين بن زيد عن جعفر بن محمّد عن آبائه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في حديث المناهي أنّه نهى عن الرنّة عند المصيبة، و نهى عن النياحة و الاستماع إليها و نهى عن تصفيق الوجه «6».

12- و ما رواه عبد اللّه بن الحسين بن زيد بن علي عن أبيه عن جعفر بن محمّد عن آبائه عن علي عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «أربعة لا تزال في أمّتي إلى يوم القيامة ...

و النياحة و أنّ النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة و عليها سربال من قطران و درع من حرب» «7».

الطائفة الخامسة: ما دلّ على النهي عن الشرط في الثمن منها:

13- ما رواه حنّان بن سدير قال: كانت امرأة معنا في الحي و لها جارية نائحة، فجاءت إلى أبي، فقالت: يا عمّ أنت تعلم أنّ معيشتي من اللّه، ثمّ من هذه الجارية، فاحبّ أن تسأل أبا

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 376

عبد اللّه عن ذلك فان كان حلالا، و إلّا بعتها و أكلت ثمنها حتّى يأتي اللّه بالفرج، فقال لها أبي:

و اللّه لأعظم أبا عبد اللّه أن أسأله عن هذه المسألة قال: فلمّا قدمنا عليه أخبرته أنا بذلك فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «تشارط؟» فقلت: و اللّه ما أدري تشارط أم لا؟ فقال: «قل لها لا تشارط فتقبل ما اعطيت» «1».

و هي من أدلّة الجواز إلّا أن يقال ليست في مقام البيان من هذه الجهة.

و طريق الجمع بين هذه الطوائف ظاهرة، و هو تقييد أدلّة الجواز بما إذا لم يكن فيه كذب و لا حجر، و كذلك إطلاق أدلّة الحرمة تقيّد بما إذا كان فيه ذلك، بشهادة ما

دلّ على التفصيل، لكن الروايتين (6/ 17 و 9/ 17) كلتيهما مرسلتان، إلّا أن يقال بانجبارهما بعمل المشهور لذهابهم إلى التفصيل، و هو غير بعيد.

و أيضا يجمع بين ذلك كلّه و ما دلّ على الكراهة، و هما روايتا علي بن جعفر عليه السّلام، و أوّليهما صحيحة، فيحكم بكراهة النوح مطلقا، إلّا في موارد يتعلّق به غرض أهمّ، كالنياحة على أولياء اللّه، إلّا أن يقال الكراهة في لسان الروايات ليست بمعناها المصطلح عندنا، بل كثيرا ما تكون بمعنى الحرمة، فحينئذ يجمع بينهما و غيرهما على ما ذكرنا فيما دلّ على الحرمة.

ثمّ نقول بكراهة اشتراطها الاجرة بمقدار معيّن لصحّة رواية (3/ 17).

فالأقوى هو الحكم بجواز النياحة بالحقّ، لا بالباطل، و لا يبعد كراهتها.

و أمّا من جهة اشتمالها على الترجيع و أصوات و ألحان فقد عرفت في مبحث الغناء أنّه إن كان صوتا لهويا يناسب مجالس أهل الفسوق و العصيان فهو حرام حتّى لو كان في النياحة بل و القرآن الكريم، و ان لم يكن كذلك فلا حرمة فيه.

و أمّا سماع صوتها للرجال الأجانب فصوت المرأة ليست عورة، نعم إذا كان فيه خضوع و ترقيق و كيفية توجب أن يطمع الذي في قلبه مرض، فهو محرّم من هذه الناحية.

26- الولاية من قبل الجائر
اشارة

و هي من المسائل المهمّة التي يكثر الابتلاء بها، و تمام الكلام فيها يقع في مقامات:

المقام الأوّل: حكمها على سبيل الإجمال مع أدلّتها

فحرمتها من المسلّمات بين الأصحاب، و ادّعى الإجماع فيه غير واحد، بل ذكر أنّه من الضروريات المستغنية عن ذكر ما يدلّ عليه من الكتاب و السنّة، و كيف كان، فيدلّ عليه مضافا إلى ما مرّ:

أوّلا- الحكم و الولاية حقّ للّه و لرسوله و الأئمّة الميامين من أهله و من نصّبوه لذلك كما ثبت في محلّه، فتصدّي غيره له حرام محرّم، بل هو غاصب، و كذلك كلّ من كان منصوبا من قبله غاصب أو بحكمه، و هذا ظاهر.

ثانيا- الروايات الكثيرة الدالّة على الحرمة صراحة، أو ظهورا، أو بالملازمة منها ما يلي:

1- ما رواه داود بن زربي قال: أخبرني مولى لعلي بن الحسين عليه السّلام قال: كنت بالكوفة فقدم أبو عبد اللّه عليه السّلام الحيرة فأتيته فقلت: جعلت فداك لو كلّمت داود بن علي أو بعض هؤلاء فأدخل بعض هذه الولايات، فقال: «ما كنت لأفعل» «إلى أن قال» قلت: جعلت فداك ظننت أنّك إنّما كرهت ذلك مخافة أن أجور أو أظلم، و إن كلّ امرأة لي طالق و كلّ مملوك لي حرّ و عليّ و عليّ إن ظلمت أحدا أو جرت عليه و إن لم أعدل. قال: «كيف» قلت؟ فأعدت عليه الأيمان، فرفع رأسه إلى السماء فقال: «تناول السماء أيسر عليك من ذلك» «1».

2- ما رواه حميد: قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: انّي ولّيت عملا فهل لي من ذلك مخرج فقال: «ما أكثر من طلب المخرج من ذلك فعسر عليه»، قلت فما ترى؟ قال: «أرى أن تتّقي اللّه عزّ و جلّ و لا تعود» «2».

3- ما رواه الحسين بن

زيد عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام في حديث المناهي قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «من تولّى عرافة قوم أتى به يوم القيامة و يداه مغلولتان إلى عنقه فان انوار الفقاهة، ج 4، ص: 378

قام فيهم بأمر اللّه عزّ و جلّ أطلقه اللّه، و ان كان ظالما هوى به في نار جهنّم و بئس المصير» «1».

و لا يخفى عليك ما في «العرافة» من الإشكال.

4- ما رواه الصدوق رحمه اللّه في عقاب الأعمال بسنده عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في حديث قال: «من أكرم أخاه فإنّما يكرم اللّه عزّ و جلّ ... و من تولّى عرافة قوم «و لم يحسن فيهم» حبس على شفير جهنّم بكلّ يوم ألف سنة و حشر و يده مغلولة إلى عنقه فإن كان قام فيهم بأمر اللّه أطلقها اللّه و إن كان ظالما هوى به في نار جهنّم سبعين خريفا» «2».

5- ما رواه مسعدة بن صدقة قال: سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قوم من الشيعة يدخلون في أعمال السلطان يعملون لهم و يحبون لهم و يوالونهم قال: «ليس هم من الشيعة و لكنّهم من اولئك. ثمّ قرأ أبو عبد اللّه عليه السّلام هذه الآية لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ إلى قوله: وَ لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ قال الخنازير على لسان داود، و القردة على لسان عيسى كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ قال: كانوا يأكلون لحم الخنزير و يشربون الخمور و يأتون النساء أيّام حيضهنّ، ثمّ احتجّ اللّه على المؤمنين الموالين للكفّار فقال: تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ

الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ إلى قوله وَ لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ و نهى اللّه عزّ و جلّ أن يوالي المؤمن الكافر إلّا عند التقيّة» «3».

6- ما رواه العياشي في تفسيره عن سليمان الجعفري قال: قلت لأبي الحسن الرضا عليه السّلام:

ما تقول في أعمال السلطان؟ فقال: «يا سليمان الدخول في أعمالهم و العون لهم و السعي في حوائجهم عديل الكفر و النظر إليهم على العمد من الكبائر التي يستحقّ بها النار» «4».

7- ما رواه علي بن يقطين قال: قلت لأبي الحسن عليه السّلام: ما تقول في أعمال هؤلاء؟ قال:

«إن كنت لا بدّ فاعلا فاتّق أموال الشيعة». قال: فأخبرني علي أنّه كان يجبيها من الشيعة

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 379

علانية و يردّها عليهم في السرّ «1».

8- ما رواه زياد بن أبي سلمة قال: دخلت على أبي الحسن موسى عليه السّلام فقال لي: «يا زياد إنّك لتعمل عمل السلطان؟» قال: قلت: أجل! قال لي: «و لم؟» قلت: أنا رجل لي مروّة و عليّ عيال و ليس وراء ظهري شي ء. فقال لي: «يا زياد! لئن أسقط من حالق فانقطع قطعة قطعة أحبّ إليّ من أن أتولّى لأحد منهم عملا أو أطأ بساط رجل منهم إلّا لما ذا»، قلت:

لا أدري جعلت فداك. قال: «إلّا لتفريج كربة عن مؤمن أو فكّ أسره أو قضاء دينه. يا زياد إنّ أهون ما يصنع اللّه جلّ و عزّ بمن تولّى لهم عملا أن يضرب عليه سرادق من نار إلى أن يفرغ (اللّه) من حساب الخلائق (الخلق).

يا زياد فان ولّيت شيئا من أعمالهم فأحسن إلى إخوانك فواحدة بواحدة، و اللّه من وراء ذلك، يا زياد! أيّما رجل منكم تولّى لأحد منهم عملا ثمّ

ساوى بينكم و بينه فقولوا له أنت منتحل كذّاب، يا زياد! إذا ذكرت مقدرتك على الناس فاذكر مقدرة اللّه عليك غدا و نفاد ما أتيت إليهم عنهم و بقاء ما أتيت (أبقيت) إليهم عليك» «2».

9- ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ذكر عنده رجل من هذه العصابة قد ولي ولاية، فقال: «كيف صنيعه إلى اخوانه؟» قال: قلت ليس عنده خير، قال: «اف يدخلون فيما لا ينبغي لهم و لا يصنعون إلى اخوانهم خيرا!» «3».

10- ما رواه يونس بن عمّار قال: وصفت لأبي عبد اللّه عليه السّلام من يقول بهذا الأمر ممّن يعمل عمل السلطان، فقال: «إذا ولّوكم يدخلون عليكم المرفق و ينفعونكم في حوائجكم؟» قال: قلت: منهم من يفعل «ذلك» و منهم من لا يفعل، قال: «من لم يفعل ذلك منهم فابرءوا منه، برئ اللّه منه!» «4».

11- ما رواه أبو حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سمعت يقول: «من أحللنا له شيئا أصابه انوار الفقاهة، ج 4، ص: 380

من أعمال الظالمين، فهو له حلال و ما حرّمناه من ذلك فهو له حرام» «1».

و هذه الروايات بين ما دلّ على حرمة الولاية، و ما دلّ على حرمة العمل، و ما دلّ على الحاجة إلى إجازة ولي الأمر عليه السّلام إلى غير ذلك من التعبيرات.

المقام الثاني: هل الحرمة فيها ذاتية؟

ظاهر كلام المحقّق رحمه اللّه في الشرائع أنّ الحرمة فيها ليست ذاتية، لقوله «و تحرم من قبل الجائر إذا لم يؤمن اعتماد ما يحرم» «2».

و لكن صرّح بعضهم بحرمتها ذاتا، و حكي عن العلّامة الطباطبائي قدّس سرّه في مصابيحه ميله إلى هذا القول، و أنّها تتضاعف إثما باشتمالها على المحرّمات «3».

و عن فقه القرآن للراوندي أن تقليد

الأمر من قبل الجائر جائز إذا تمكّن من العيال الحقّ لمستحقّه بالإجماع المتردّد «4».

و العمدة في إثبات هذا القول ما هو المعلوم بالأدلّة أنّ الحكومة حقّ للّه و لأوليائه المأمورين من قبله، فغيره غاصب لها غير مستحقّ لشي ء منها، فالتغلّب عليها حرام و ان عدل فيهم، كما أنّ التصدّي للقضاء لمن لم يؤذن له في الشرع حرام، و ان حكم بالحقّ و عدل في الحكم.

و بالجملة، الحكومة و الولاية و القضاء و بيان الفتوى امور محتاجة إلى الإذن منه تعالى أو من أوليائه، فالتصدّي لها بدونه حرام ذاتا (أي مع قطع النظر ممّا يترتّب عليه من الآثار).

و أمّا التغلّب على امور الناس بغير رضى منهم كما هو الغالب في الحكومات و الولايات حتّى أنّ غيره نادر جدّا، و تصرّفهم في امورهم و دعوتهم إلى التسليم لأمرهم و نهيهم، و جعل العقوبات على المخالفين لهم فهي محرّمات اخرى، و يؤيّد ما ذكرنا ما مرّ في بعض الروايات السابقة.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 381

و أمّا من الأدلّة الخاصّة فالحرمة الذاتية بالمعنى الذي ذكرنا و إن كان ظاهر رواية تحف العقول- بناء على كون المفاسد المذكورة فيها من قبيل الحكمة لا العلّة- و لكن دعوى كونها علّة، بل و انصراف عنوان الحكومة إلى ما يتلبّس الحاكم بشي ء من أعماله التي لا تنفكّ عن الحرمة بمكان من الإمكان.

و كذلك غيره ممّا يظهر منه ذلك في بدو النظر لا سيّما ما رواه: ابن بنت الوليد بن صبيح الكاهلي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من سوّد اسمه في ديوان ولد سابع حشره اللّه يوم القيامة خنزيرا» «1».

و روايات 6/ 45 و 7/ 45 و 9/ 46 و 12/ 46.

و لكن

حمل جميع ذلك على ما ينصرف إليه الإطلاق في أمثال المقام من التلبّس بأعمالهم المحرّمة غير بعيد.

و يشهد لهذا التقييد قوله عليه السّلام: واحدة بواحدة، في رواية 9/ 46 و رواية 4/ 45:

و ما رواه في المقنع قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن رجل يحبّ آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو في ديوان هؤلاء فيقتل تحت رأيتهم فقال: «يحشره اللّه على نيّته» «2».

و ما رواه زيد الشحّام قال: سمعت الصادق جعفر بن محمّد عليه السّلام يقول: «من تولّى أمرا من امور الناس فعدل و فتح بابه و رفع ستره و نظر في امور الناس كان حقّا على اللّه عزّ و جلّ أن يؤمن روعته يوم القيامة و يدخله الجنّة» «3».

و قوله عليه السّلام: هو بمنزلة الأجير، فيما رواه الحلبي قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن رجل مسلم و هو في ديوان هؤلاء و هو يحبّ آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يخرج مع هؤلاء في بعثهم فيقتل تحت رأيتهم. قال: «يبعثه اللّه على نيّته». قال: و سألته عن رجل مسكين خدمهم رجاء أن يصيب معهم شيئا فيعينه اللّه به فمات في بعثهم قال: «هو بمنزلة الأجير أنّه إنّما يعطي اللّه العباد على نيّاتهم» «4».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 382

فالعمدة في الحرمة الذاتية ما عرفته من مقتضى الاصول.

و الذي يقتضيه التحقيق في الجمع بين هذه الروايات أنّ تسويد الاسم في ديوانهم إذا كان موجبا لقوّتهم، و كان خاليا عن فائدة للناس و عن اجراء العدالة كان حراما، و كذا العمل معهم أو التصدّي للأمور العامّة من قبلهم.

نعم، إذا عدل في الناس و نظر في

امورهم بما يرضاه اللّه من الأعمال جاز ذلك، بل كان مثابا به.

و الحاصل إنّ قبول الولاية و التصدّي لها على أنحاء:

1- إذا اضطرّ إليه و كان مكرها، و هذا من المستثنيات كما سيأتي إن شاء اللّه.

2- إذا اضطرّ الناس إليه و كان كهفا لهم، و هو أيضا كذلك.

3- إذا لم يكن شي ء من ذلك، و لكن لم يأت إلّا بما هو مقتضى العدالة، فالظاهر جوازه لا سيّما بمقتضى ما ورد في الكتاب العزيز في يوسف عليه السّلام اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ «1» و ما ورد فيه و في الباب 48 مضافا إلى ما مرّ من روايات الباب 46 مثل 6/ 46 و 7/ 46 و 2/ 48 و 4/ 45 و غيرها.

و يحمل ما دلّ على الحرمة على ما إذا اقترنت بالحرام، و في الروايات شواهد جمعت عليه، و على هذا لا تكون الحرمة ذاتية.

و يمكن الجمع بينه و بين ما دل على كون الولاية و الحكومة من حقوق اللّه و أوليائه بأنّ الحرام هو فيما إذا أسّس أساس الحكومة، و لكن إذا كانت الحكومة الجائرة موجودة، و لكن لحق بهم مجتنبا أعمالهم، و لم يصدر منه غير الحقّ جاز، أو تحمّل الأخبار المجوّزة على غير الامور الهامّة.

و بعبارة اخرى: هنا ثلاث طوائف من الأخبار: ما يدلّ على الحرمة، و ما يدلّ على الجواز، و ما يدلّ على الترغيب، و الجمع بينها بوجوه ثلاثة:

الأوّل: ما ذهب إليه في الشرائع من الجواز عند عدم ارتكاب ما يحرم، و الاستحباب عند القدرة على الأمر بالمعروف.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 383

الثاني: اختصاص الحرمة بما إذا لم يأمن من الحرام.

الثالث: إنّ الحرمة تختصّ بما إذا كان قبوله بدافع حبّ الرئاسة،

أمّا إذا كان قصده الخير، فتجوز، و ان كان لخصوص الحقّ فهو راجح.

و المسألة غير خالية عن الإشكال، و سيأتي تتمّة الكلام في ذلك في المقام الخامس إن شاء اللّه.

المقام الثّالث: ما المراد بالولاية؟

لا شكّ في أنّها تعني قبول الامور السياسيّة المهمّة من الأمارة و شبهها، و أمّا مثل كون الإنسان خادما للوالي أو سائقا أو طبّاخا أو غير ذلك من الامور العادية غير السياسية فلا يعدّ واليا، و لا يدخل في رواية تحف العقول و لا غيرها ممّا أخذ فيها عنوان الولاية، و لكن قوله «العمل لهم و الكسب معهم» قد يكون عامّا، و كذا كلّ ما عبّر فيه عنوان الإعانة لهم، أو الدخول في أعمال السلطان، و السعي في حوائجهم، مثل رواية 12/ 45 و غيرها، و لا سيّما رواية 9/ 42 التي تعمّ الجميع، نعم الأدلّة العامّة الدالّة على أنّ تصدّي هذه الامور إنّما تختصّ بالمعصومين عليهم السّلام و من أذنوا له، ممّا يدلّ على الحرمة الذاتية، لا تدلّ على حرمة الولاية إلّا فيما عرفت من الامور الهامّة السياسية من الأمارة و شبهها.

المقام الرّابع: هل هناك فرق بين حكّام الجور و غاصبي الخلافة عن أهلها؟

ممّا ذكرنا تعرف الحال في المقام الرابع، و أنّ التصدّي للحكومة و الأمارة بغير إذن منهم حرام على كلّ حال، و منعهم عن الوصول إلى مقامهم عليهم السّلام كبيرة اخرى فوقه، و بالجملة قد تكون الحكومة الجائرة كحكومة بني اميّة و بني العبّاس بعنوان الخلافة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ففيه عناوين ثلاث من الكبائر:

1- منع صاحب الحقّ عن حقّه، و هو من أعظم المعاصي.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 384

2- التصدّي لما ليس له و لا يجوز إلّا بإذن أهله.

3- التشريع إذا قصد بها إذن اللّه، كما هو ظاهر هذا العنوان.

و ان قارنتها تصرّفات و مظالم و قضاء جور فهي محرّمات اخرى.

المقام الخامس: في مستثنيات الحرمة في المقام
اشارة

استثنى غير واحد من الأعلام صورتين من الولاية المحرّمة: صورة القيام بمصالح العباد، و صورة الإكراه.

أمّا الصورة الاولى: القيام بمصالح العباد
اشارة

فقد عرفت آنفا ما عن فقه الراوندي من أنّ الولاية من قبل الجائر جائزة إذا تمكّن معها من إيصال الحقّ لمستحقّه، ثمّ استدلّ له بالإجماع و السنّة الصحيحة، و قوله تعالى اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ ....

و بمثله عبّر في السرائر و النهاية «1» و لكن قال في القواعد: تحرم من قبل الجائر إلّا مع التمكّن من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر «2».

و ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه أنّه تسوغ الولاية المذكورة لأمرين، أحدهما القيام بمصالح العباد ...

و لعلّ التعبيرات الثلاثة تعود إلى شي ء واحد، و ان كان بعضها أعمّ من بعض ظاهرا، و لذا ادّعى شيخنا الأعظم عدم الخلاف فيما عنونه، مع وجود الخلاف ظاهرا نظرا إلى عود الجميع إلى واحد.

ثمّ إنّهم بين من عبّر بالجواز كالعلّامة رحمه اللّه في التذكرة و التحرير، و من عبّر بالاستحباب كما في النهاية و الشرائع و النافع و غيرها، و عن السرائر أنّها واجبة.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 385

و لا بدّ أوّلا من ملاحظة دليل الاستثناء، ثمّ الكلام في ملاكه و عنوانه، ثمّ في حكمه من الجواز و الوجوب و الاستحباب.

فنقول (و منه جلّ شأنه التوفيق و الهداية): استدلّ له بامور:

1- قاعدة الأهمّ و المهمّ إذا كانت هناك عناوين أهمّ مثل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و شبه ذلك، و لكن هل مجرّد الإحسان إلى الاخوان أو بعض المصالح غير اللازمة كافية في هذا المقام؟ الظاهر عدمه، فلو كانت حرمتها ذاتية يشكل رفعها بهذه الامور.

و الحاصل أنّ مصالح العباد منها واجبة الحفظ و منها مستحبّة، و المدّعى هو الأعمّ

و الدليل أخصّ منه، فتأمّل.

2- ما ورد في قضيّة يوسف: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ، و الإشكال فيه بأنّه من أحكام الشرائع السابقة مدفوع، أوّلا باستصحابها كما قيل، و ثانيا بأن ذكرها في القرآن من غير إنكار دليل على جوازها في شرعنا.

و أورد عليه أيضا بأنّ يوسف عليه السّلام كان مستحقّا للسلطنة و إنّما أخذ حقّه.

و فيه: إنّه استدلّ له الإمام الرضا عليه السّلام كما في غير واحد من الروايات (راجع الباب 48 من أبواب ما يكتسب به) و لم يستند إلى كونه صاحب حقّ، اللهمّ إلّا أن يقال إنّ غير واحد منها ناظر إلى مسألة الزهد و الباقي مرسلة، فتأمّل.

3- الأحاديث الخاصّة الواردة في المقام، و قد أشرنا إلى غير واحد منها سابقا، و تضيف إليها هنا أحاديث اخرى، منها:

1- ما رواه علي بن يقطين قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السّلام: «إنّ اللّه تبارك و تعالى مع السلطان أولياء يدفع بهم عن أوليائه» «1».

2- و ما رواه الصدوق رحمه اللّه قال: قال الصادق عليه السّلام: «كفّارة عمل السلطان قضاء حوائج الاخوان» «2».

3- و ما رواه في المقنع قال: روى عن الرضا عليه السّلام أنّه قال: «إنّ للّه مع السلطان أولياء يدفع بهم عن أوليائه» «3».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 386

4- و ما رواه مهران بن محمّد بن أبي نصر «بصير» عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال سمعته يقول:

«ما من جبّار إلّا و معه مؤمن يدفع اللّه عزّ و جلّ به عن المؤمنين و هو أقلّهم حظّا في الآخرة» «1» (يعني أقلّ المؤمنين حظّا بصحبة الجبّار).

إلى غير ذلك ممّا يدلّ على هذا المعنى.

و روى في المستدرك المجلّد 13 في الباب 39 روايات

كثيرة في هذا المعنى، أهمّها ما يلي:

1- ما رواه محمّد السياري عن علي بن جعفر عليه السّلام قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السّلام إنّ قوما من مواليك يدخلون في عمل السلطان و لا يؤثرون على إخوانهم و إن نابت أحدا من مواليك نائبة قاموا. فكتب: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ «2».

2- و ما رواه الحلبي قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: يكون الرجل من أصحابنا مع هؤلاء في ديوانهم فيخرجون إلى بعض النواحي فيصيبون غنيمة، قال: «يقتضي منها اخوانه» «3».

3- ما رواه محمّد بن عيسى بن يقطين قال: كتب علي بن يقطين إلى أبي الحسن عليه السّلام في الخروج من عمل السلطان. فأجابه: «إنّي لا أرى لك الخروج من عمل السلطان: فانّ للّه عزّ و جلّ بأبواب الجبابرة من يدفع بهم عن أوليائه و هم عتقائه من النار فاتّق اللّه في اخوانك» «4».

4- و ما رواه أبو الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته من عمل السلطان و الدخول معهم، قال: «لا بأس إذا وصلت اخوانك و عضدت أهل ولايتك» «5».

5- ما رواه الفضل بن عبد الرحمن الهاشمي قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السّلام أستأذنه في أعمال السلطان، فقال: «لا بأس به ما لم يغيّر حكما و لم يبطل حدّا و كفّارته قضاء حوائج اخوانكم» «6».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 387

6- و ما رواه صفوان قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «من كان ذا صلة لأخيه المؤمن عند سلطانه أو تيسير عسير له أعين على إجازة الصراط يوم تدحض الأقدام» «1».

7- ما رواه أبو الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام قال سألته عن عمل السلطان

و الدخول معهم فيما هم فيه؟ فقال: «لا بأس إذا وصلت اخوانك وعدت أهل ولايتك» «2».

8- و ما رواه صفوان بن مهران قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام إذ دخل عليه رجل من الشيعة، فشكى إليه الحاجة، فقال له: «ما يمنعك من التعرّض للسلطان فتدخل في بعض أعماله؟» فقال: إنّكم حرمتموه علينا، فقال: «خبّرني عن السلطان لنا أو لهم؟» قال: بل لكم. قال: «أهم الداخلون علينا أمن نحن الداخلون عليهم؟» قال: بلى هم الداخلون عليكم قال: «فإنّما هم قوم اضطرّوكم فدخلتم في بعض حقّكم»، فقال: إنّ لهم سيرة و أحكاما. قال عليه السّلام: «أ ليس قد أجرى لهم الناس على ذلك؟» قال: بلى. قال عليه السّلام: «اجروهم عليهم في ديوانهم و إيّاكم و ظلم مؤمن» «3».

هذا، و لكن الروايات في هذا المورد مختلفة جدّا:

طائفة منها: تدلّ على جوازها إذا كانت دفاعا عن أولياء اللّه، و هي: 1/ 46 و 5/ 46 و 4/ 44 و ... التي مرّت عليك.

طائفة اخرى: تدلّ على كفاية مجرّد الإحسان إلى الاخوان و تفريج الكربة مثل: 3/ 46 و 9/ 46 و 12/ 46 المذكورة.

و طائفة ثالثة: دلّت على اشتراط العدالة و النظر في امور الناس مثل: 7/ 46 و 6/ 45 و 7/ 45.

و بعضها مجملة مثل: 6/ 46.

و لكن استفادة العموم من مجموعها غير بعيد، و هي لا تساعد الحرمة الذاتية، لعدم رفعها بمجرّد المستحبّات، و لعلّ هذا كاف في إثبات عدم الحرمة الذاتية، و لذا لم يذهب إليها إلّا العلّامة الطباطبائي قدّس سرّه كما قيل.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 388

لا يقال: إنّ هذا إذن حكومي منهم عليهم السّلام. لأنّا نقول: لسانها آبية عن ذلك، بل ظاهرها

الفتوى، و ليس ببعيد في غير الامور الهامّة، فمثل علي بن يقطين و ابن بزيع يحتاجان إلى الإذن باعتبار ولاياتهما الهامّة، فتأمّل.

و أمّا في عصر الغيبة فعمل بعض الأكابر من الفقهاء مثل البهائي و المجلسي و غيرهما كان على ذلك لكونهم نوابا منه عليه السّلام.

ثمّ إنّ لسانها بين ما دلّ على الوجوب، أو الجواز مع الكراهة، أو الاستحباب و يمكن الجمع بينها بما يأتي.

فتلخّص ممّا ذكرنا امور:

1- إنّ قبول الولاية محرّمة إذا استلزم تقوية شوكتهم أو كان مظنّة لفعل محرّم حرام.

2- إذا لم يكن فيه شي ء من ذلك، و كان فيه خدمة لمصالح العباد و إرفاقا بخلقه فانّه جائز، بل قد يكون راجحا إذا لم يكن فيه نيّة غير ذلك.

3- قد يكون واجبا إذا توقّف عليه الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أو حفظ نظام المسلمين و ردّ كيد أعدائهم و أعداء أهل البيت عليهم السّلام ممّا هو أقوى من المحرّمات الملازمة له، و لا ينافي ذلك كلّه كون الحكم للّه و لرسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم و أوليائه عليهم السّلام من بعده، إمّا لأنّهم أذنوا في ذلك، أو لأنّ النهي ورد في تأسيس الحكومة، لا اللحوق بالحكومة المؤسّسة، أو إنّه بالنسبة إلى زمان بسط أيديهم لا أزمنة القبض، و ان كان الأحوط استحبابا عدم التعرّض بدون إذن الفقيه للأمور الهامّة منها، كالأمارة على البلاد و شبهها.

4- و ان استلزم بعض المحرّمات و كانت فيه خدمة للعباد قد تكون حسناته كفّارة لسيّئاته، و اللّه العالم.

أمّا إجراء الحدود و القضاء و أشباههما فلا تجوز إلّا بإذن أهلها.

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل: قد يقع تعارض بين الروايات السابقة الكثيرة الدالّة على جواز العمل معهم انوار الفقاهة،

ج 4، ص: 389

إذا كان فيه مصالح العباد و بين ما دلّ على الحرمة مطلقا مثل (9/ 45 و 10/ 45 و 12/ 45) و نحوه ممّا في معناه و قد مرّت.

و لكن الإنصاف أنّ شيئا من ذلك لا يعارض ما مرّ، بل يمكن الجمع بينها و بينه بحمل ما دلّ على الحرمة على ما هو الغالب من كون عمل السلطان و الاقتراب منه ملازما لبعض المحرّمات، و لا أقل من تقوية شوكته و مزيد قوّته مع عدم وجود مصلحة فيه، أو كونها أقلّ من مفاسد الاقتراب و العمل كما لا يخفى.

الأمر الثّاني: إذا توقّف الأمر بالمعروف على قبولها، فهل يجب أو يستحبّ أو يجوز؟

ظاهر كلام العلّامة رحمه اللّه في القواعد الجواز، فانّه قال: و تحرم من قبل الجائر إلّا مع التمكّن من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر (أي لا تحرم) «1».

و ظاهر كلام المحقّق رحمه اللّه في الشرائع و المحكي عن النهاية و النافع الاستحباب، قال في الشرائع: و لو أمن اعتماد ذلك (أي ما يحرم) و قدر على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر استحبّ «2».

و عن السرائر الوجوب، حكاه في مفتاح الكرامة «3»، و لكن حكى عنه شيخنا الأعظم في مكاسبه الاستحباب «4» مثل ما في النهاية «5» و هذان متعارضان.

و لكن الإنصاف أنّ مقتضى القاعدة بناء على عدم الحرمة الذاتية وجوبه من باب إطلاق أدلّة وجوب الأمر بالمعروف و وجوب تحصيل مقدّمته بحكم العقل.

هذا و لكن هنا توجيهات لعدم الوجوب:

الأوّل: ما في الكفاية من أنّ الوجوب يتوقّف على كون وجوبه مطلقا غير مشروط بالقدرة فيجب عليه تحصيلها، و ليس بثابت، و لكنّه ممنوع جدّا، لعدم تقييد أدلّة وجوبه إلّا بالقدرة الفعلية

كما في سائر التكاليف، و هي حاصلة، أمّا القدرة العرفية القريبة من الفعل فلا

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 390

دليل عليها أبدا، لا هنا و لا في غير المقام.

اللهمّ إلّا أن يردّ في بعض المقامات دليل خاصّ بالنسبة إليه، كما في الاستطاعة بالنسبة إلى الحجّ كما لا يخفى.

أمّا إن قلنا بالحرمة الذاتية، أو كان قبول الولاية ملازما لبعض المحرّمات و لا أقل من تقوية شوكتهم و مزيد قوّتهم، فلا بدّ من ملاحظة الأهمّ و المهمّ، فلا يمكن الحكم بالوجوب مطلقا، و كذا الاستحباب و الجواز، بل يختلف بإختلاف المقامات، فالحكم بالاستحباب و الجواز مطلقا لا يصحّ على كلّ حال.

الثّاني: ذكر الشهيد الثاني قدّس سرّه لتوجيه عدم الوجوب ما حاصله: إنّ وجه عدم الوجوب هو كونه بصورة النائب عن الظالم، و عموم النهي عن الدخول معهم و تسويد الاسم في ديوانهم، فإذا لم تبلغ حدّ المنع فلا أقل من عدم الوجوب «1».

و لكن يمكن الجواب عنه بأنّ المسألة من قبيل تزاحم المقتضيين، و من المعلوم أنّ الحكم فيه الأخذ بالأهمّ- و ذلك يختلف بإختلاف المقامات- و على تقدير عدمه يجب الحكم بالتخيير، فالحكم بالاستحباب أو الجواز بقول مطلق ممّا لا يمكن المساعدة عليه.

الثّالث: ما ذكره المحقّق الماهر صاحب الجواهر قدّس سرّه من تعارض أدلّة الأمر بالمعروف مع أدلّة حرمة الولاية- بناء على حرمتها الذاتية- بالعموم من وجه، فيجمع بينهما بالتخيير، و أمّا الاستحباب فيستفاد من ظهور الترغيب في خبر محمّد بن إسماعيل و غيره «2».

و فيه: أوّلا: إنّ المسألة ليست من باب التعارض، بل من باب التزاحم، للعلم بوجود الملاك من الطرفين، و الفرق بينهما معلوم.

و ثانيا: إنّ حكم التعارض بالعموم من وجه هو التساقط لا التخيير.

الرّابع: ما

ذكره العلّامة الأنصاري قدّس سرّه في بعض كلامه من أنّ نفس الولاية قبيحة محرّمة، لأنّها توجب إعلاء كلمة الباطل و تقوية شوكة الظالم، فإذا عارضها قبيح آخر، و هو ترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و ليس أحدهما أقلّ قبحا من الآخر، فللمكلّف فعلها

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 391

تحصيلا لهذا، و تركها دفعا لذلك، و الاستحباب يمكن أن يكون لمصلحة لم تبلغ حدّ الإلزام (انتهى ملخّصا) «1».

و فيه: أيضا إنّ التخيير في المتزاحمين فرع عدم وجود الأقوى، و من المعلوم أنّ المقامات مختلفة جدّا، هذا أوّلا.

و أمّا ثانيا، فما ذكره في توجيه الاستحباب أمر اتّفاقي لا يناسب إطلاق كلامهم.

فالأولى صرف النظر عن التوجيه، و الأخذ بمقتضى القواعد كما عرفت، و الحكم بالوجوب في بعض المقامات.

و لبعض الأعاظم (في المكاسب المحرّمة) هنا كلام آخر، حاصله: إنّه ليس هناك تعارض و لا تزاحم بين أدلّة الولاية و أدلّة الأمر بالمعروف، و ذلك لعدم الإطلاق في الثاني، لأنّ وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إنّما هو لإقامة الفرائض، و لا يشمل ما يوجب سقوط فريضة، أو ارتكاب محرّم، و ذلك لأنّ إيجابها إنّما هو للغير، و ان لم يكن واجبا غيريا، إلّا أنّ مصلحته التوصّل إلى ما ذكر لا لمصلحة ذاتية، و ما وجب لإقامة فريضة لا إطلاق لوجوبه. نعم لو قلنا بأنّ وجوبهما عقلي، فلا يبعد القول بالتزاحم، لكنّه في غاية الإشكال إلّا في العزائم (هذا ملخّص ما ذكره بطوله) «2».

أقول: فيه جهات من النظر.

أوّلا: فانّ إنكار الإطلاق فيها ممنوع بعد ظهورها في الإطلاق، و عدم وفاء ما ذكره لمنعه، لأنّ مثل هذا البيان جار في كثير من موارد التزاحم، فلو تزاحم إطاعة أمر المولى في

شي ء مع معصيته في شي ء آخر، أو رعاية حقّ إنسان مع رعاية حقّ إنسان آخر، جرى فيه هذا البيان أيضا.

و ان شئت قلت: إن كان المراد إطلاق الأدلّة ذاتا و شأنا مع النظر إلى صورة التزاحم فهو ثابت، و ان كان شموله فعلا مع النظر إلى التزاحم، ففي جميع المقامات غير ثابت، و كذلك يمكن أن يقال بمثل هذا في اجتماع الأمر و النهي، و بالجملة ملاك الأمر بالمعروف موجود

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 392

في المقام قطعا، لوضوح مقصود الشارع منه و ثبوته في المقام.

ثانيا: بالنقض عليه بما إذا توقّف الأمر بالمعروف في امور كثيرة مهمّة على ارتكاب معصية صغيرة، فهل يفتى بترك جميعها لهذا، و لا يراعي مسألة الأهمّ و المهمّ هنا؟

ثالثا: ما ذكره من إنكار كونهما عقليين أوّل الكلام، بل هذا أمر دارج بين العقلاء من المنع عن المنكرات و التعدّي على الحقوق، بل الحكمة في تأسيس الحكومات من بعض الجهات ذلك، لأنّه بهما تأمن المذاهب و تحلّ المكاسب و تقام الفرائض كما في الروايات، و تدور رحى المجتمع، و تنتظم الامور، غاية الأمر أنّ الشارع يوجبهما على كلّ واحد، و لكن العقلاء كثيرا ما يوجبونهما على الحكومات و ان كان إيجابهما على الأفراد في بعض المقامات من باب قبح تركهما أيضا غير نادر، فلا تغفل.

الأمر الثّالث: الدخول في أعمالهم، تارة لا يلازم محرّما غير ما هو الغالب فيه من تقوية شوكتهم، و قد عرفت حكمه، و آخر يستلزم محرّما آخر من التصرّف فيما لا يجوز التصرّف فيه، فالحكم فيه يكون بملاحظة الأهمّ و المهمّ.

و ثالثة يوجب جمع الزكاة و الخراج من غير الشيعة و إيصالها إلى السلطان الجائر، فانّ التولّي لأمورهم كثيرا ما

لا ينفك عنه، فقد يقال إنّ سكوت الروايات عن ذلك دليل على جوازه، مضافا إلى ما دلّت عليه بعض الروايات الخاصّة، و هي روايتا صفوان بن مهران و علي بن يقطين، و قد تقدّما (23/ 39 من المستدرك ج 13 و 8/ 46 من الوسائل ج 12).

هذا و العمدة انّهم على كلّ حال يعطون زكاتهم لهم و يضعونها في غير مواضعها باختيارهم، فلذا أمروا بالإعادة بعد الإستبصار، فلا يلزم حرام يرجّح على مسألة التصدّي.

فافهم.

الصورة الثّاني: الاكراه
اشارة

من موارد الاستثناء عن التولّي من قبل الظالمين ما إذا كان مكرها.

و قد عنون البحث بعضهم بعنوان أعمّ يشمل كلّ ضرورة من التقيّة و الاضطرار و الإكراه، و ليس به بأس.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 393

و أصل الحكم في الجملة ممّا لا كلام فيه بينهم، بل ادّعى في الجواهر عدم الخلاف فيه، بل الإجماع بقسميه «1».

و استدلّ له بامور:

1- قوله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ- إلى قوله- إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً «2».

لكنّها ظاهرة في الولاية بمعنى المحبّة و الصداقة، لا تولّي الامور السياسية و غيرها من قبلهم، اللهمّ إلّا أن يقال بالأولوية، أو الغاء الخصوصية، هذا مضافا إلى أنّه بالنسبة إلى الكافرين، و الكلام هنا في الظالمين!.

كما استدلّ بقوله تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ «3» و خروجه عن محلّ البحث أيضا ظاهر.

2- و استدلّ له بحديث الرفع أيضا «4» فانّ المقام مصداق قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «و ما أكرهوا عليه- أو- و ما اضطرّوا إليه».

3- و بأحاديث التقيّة الواردة في الباب 25 من أبواب الأمر بالمعروف مثل:

الأوّل: ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «التقيّة في كلّ ضرورة و صاحبها أعلم بها حين تنزل به» «5».

الثّاني: و ما رواه محمّد بن مسلم و زرارة قالا: سمعنا أبا جعفر عليه السّلام يقول: «التقيّة في كلّ شي ء يضطرّ إليه ابن آدم فقد أحلّه اللّه له» «6».

و ما رواه يحيى بن سالم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «التقيّة في كلّ ضرورة» «7».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 394

إلى غير ذلك، و لكن في شمول عنوان التقيّة لجميع موارد البحث إشكال ظاهر، فانّها عبارة عن إخفاء العقيدة عند الضرورة، نعم مثل إكراه

علي بن يقطين و أمثاله كان داخلا في محلّ البحث، اللهمّ إلّا أن يقال إنّ معنى التقيّة بحسب اللغة عامّ، فانّها مصدر من مادّة الوقاية، فيشمل كلّ إكراه، بل و بعض تعريفاتهم ينطبق عليه أيضا مثل ما عن شيخنا الشهيد قدّس سرّه في القواعد:

«التقيّة مجاملة الناس بما يعرفون و ترك ما ينفرون حذرا من غوائلهم» «1». فتأمّل.

هذا و العمدة هي أدلّة الإكراه، و بالنسبة إلى موارد الاضطرار أدلّة الاضطرار، و قوله: «ما من شي ء حرّمه اللّه إلى و قد أحلّه لمن اضطرّ إليه»، إنّما الكلام في تفاصيلها، و نذكرها طي امور (و منه سبحانه نستمدّ التوفيق) و نقول:

الأمر الأوّل: لا إشكال أنّ الإكراه يرفع الحرمة الذاتية للولاية على القول بها، كما أنّه يرفع سائر المحرّمات ما عدى الدم، كما سيأتي إن شاء اللّه، و لكن الكلام في أنّ الحرام إذا كان الإضرار بالغير فهل يجوز مطلقا، أو يلاحظ الأهمّ منهما، فبعض المحرّمات جائز قطعا في هذا الحال، و بعضها حرام كإراقة الدماء، و بعضها محلّ الكلام؟

فيه قولان:

الأوّل: عدم ملاحظة الموازنة أصلا، بل يباح بالإكراه الإضرار الكثير في مقابل التهديد بالضرر اليسير، و هو ظاهر كلام الجواهر «2» فلو قال اضربه مائة سوط، و إلّا ضربتك سوطا واحدا جاز!

و صرّح بالإطلاق شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه، و تبعه غير واحد ممّن تأخّر عنه.

الثّاني: ما ذكر كاشف الغطاء فيما حكي عنه: إنّ الأحوط مراعاة التعادل إن كان الأقوى عدم وجوبه.

و ظاهر كلام المحقّق رحمه اللّه في الشرائع أيضا الجواز مطلقا حيث قال: «إذا أكرهه الجائر على الولاية جاز له الدخول و العمل بما يأمره مع عدم القدرة على التفصّي، إلّا في الدماء

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 395

المحرّمة

فانّه لا تقيّة فيها» «1». كما أنّ ظاهر العلّامة رحمه اللّه في القواعد و غيره من الأصحاب أيضا ذلك، و لكن قال في المفتاح ما هذا لفظه: «و يجب عليه على احتمال قوي تقديم الأهون فالأهون، و قد تلحظ المماثلة و المخالفة فيما يتعلّق به أو ببعض المؤمنين من التفاوت في المراتب الجليلة و في ما دليله قطعي أو ظنّي ... لكن الأصحاب أطلقوا» «2».

و على كلّ حال يستدلّ للقول الأوّل بامور:

1- إطلاق رفع الإكراه.

2- أخبار التقيّة و إنّها في كلّ ما يضطرّ إليه الإنسان مثل (1/ 25 و 2/ 25 و 8/ 25 من أبواب الأمر بالمعروف) التي مرّت عليك.

3- النصوص الخاصّة في المقام التي قد يدعى تواترها و قد نقل جملة منها في الوسائل في الباب 48 و غيره.

4- إطلاق أدلّة الاضطرار و أدلّة نفي الحرج.

و لكن هنا إشكال قوي قد تصدّى شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه لحلّه، و حاصله إنّ أدلّة الإكراه و الاضطرار و ما أشبههما واردة مورد الامتنان، فكيف يجوز المنّة على شخص بإدخال ضرر كثير على غيره لدفع ضرر يسير عن نفسه، فانّ هذا خلاف الامتنان على الامّة، فهي منصرفة عن محلّ الكلام و ساكتة عنه.

و أجاب قدّس سرّه عنه بكلام طويل حاصله: «إنّ المدار على توجّه الضرر إلى نفسه أوّلا و بالذات، فلو توجّه الضرر إلى غيره لا يجب تحمّل الضرر و دفعه عنه، و لكن لا يجوز إضراره لدفع الضرر عن نفسه، و المسألة من صغريات مسألة عدم وجوب تحمّل الضرر لدفعه عن الغير، فانّ الضرر بحسب إرادة المكره (بالكسر) توجّه إلى الغير، نعم لو تحمّله أمكن دفعه عنه، و لكن هذا غير واجب و غير

مناف للامتنان على الامّة».

أقول: و هذا ممنوع جدّا، لأنّ الضرر لم يتوجّه إلى الغير إلّا بوساطة المكره (بالفتح) فانّ المفروض أنّه مكره لا مضطرّ، فالفعل فعله و ان كان بالإكراه، و كأنّه قدّس سرّه حسب أنّ المكره انوار الفقاهة، ج 4، ص: 396

كالآلة (و قد صرّح بهذا التعبير صاحب الجواهر) «1» و لكنّه ليس كذلك قطعا، بل هو خلاف المفروض، فانّ المفروض بقاء القصد مع الإكراه.

إن قلت: إنّ الفعل لا يستند إلى المكره (بالفتح) و إن كان مباشرا لضعفه و قوّة السبب و هو المكره بالكسر (ذكره في بعض كلماته).

قلنا: كلّا، بل ينسب الفعل إليه، و لذا لا يجوز ذلك في الدماء، و يبطل الصوم به، و إنّما لا ينسب إذا كان مضطرّا، و من أشنع ما يلزم هذا القول جواز القاء الأبرياء في السجون طول عمرهم و تعذيبهم بأنواع التعذيب للإكراه في شي ء يسير!

هذا و استدلّ هو قدّس سرّه لما ذكره بدليل نفي الحرج أيضا، فانّ تحمّل الضرر لدفع الضرر عن الغير حرجي قطعا ينفي بأدلّته.

و لكن هذا الدليل أيضا كسابقه من أدلّة نفي الإكراه و الضرر، فانّه مبني على كون المقام من قبيل تحمّل الضرر لتوجّه الضرر إلى الغير بحسب مقتضيه، و لكن قد عرفت أنّ هذا مبني على كون المكره كالآلة، و قد عرفت أنّه ليس كذلك و هو ينافي الامتنان.

و إطلاق كلام القوم لعلّه ناظر إلى ما إذا كان الضرر المتوعّد به ضررا كثيرا، و إلّا يبعد التزامهم بما ذكر، و أمّا إطلاق أدلّة التقيّة و أنّه يباح بها كلّ شي ء ما عدى الدم، فالظاهر أنّه في مقام يخاف منه على النفس، كما كان كذلك غالبا أو في كثير من الأوقات في

تلك الأزمنة، لا ما إذا خاف من ذكر كلام غليظ مثلا، أو أخذ مال قليل كما هو ظاهر لمن راجعها.

و ما أبعد بين هذا القول الذي يرخّص كلّ شي ء في مقام الإكراه إلّا الدم، و بين من يقول بعكس هذا القول، و أنّه إذا كان الضرر المتوعّد به دفع مال، يجب على المكره (بالفتح) دفع أمواله و ترك الإضرار بغيره، لأنّ إعطاء ماله أمر مباح، و أمّا الإضرار بغيره حرام، و ظاهره إطلاق هذا الحكم، يعني يجب عليه تحمّل الضرر الكثير لدفع اليسير عن غيره، فانّ الأوّل حلال، و الثاني حرام «2».

و الظاهر أنّه أيضا غير خال عن الإشكال، و هو صحيح مع قطع أدلّة نفي الضرر، و لكن مع انوار الفقاهة، ج 4، ص: 397

حكومتها و كونها حكما امتنانيا لا يبعد الحكم بجواز ارتكاب أقلّ الضررين تكليفا، و أمّا الحكم الوضعي منه فسيأتي أن شاء اللّه.

فقد تلخّص ممّا ذكرنا أنّ شيئا من الأدلّة الثلاثة، أعني أدلّة شيخنا الأعظم (دليل نفي الإكراه و دليل نفي الحرج و إطلاق أدلّة التقيّة) لا تفي بإثبات مراده، فالأقوى رجوع المقام إلى مسألة تعارض الضررين، اللهمّ إلّا أن يقال إنّ أحكام التعارض- أي تعارض الضررين- من الترجيح و التخيير إنّما هو ثابت فيما إذا كان التعارض بحسب أسباب طبيعية، مثل ما إذا أدخل حيوان رأسه في قدر لا يخرج منه إلّا بكسر أحدهما، و أمّا فيما نحن فيه ليس كذلك، بل المكره (بالفتح) هو الذي يوجب الضرر على غيره باختياره فلا يترك الاحتياط بتحمّل ما توعّد به و عدم الإضرار بالغير إلّا أن يكون كثيرا جدّا في مقابل شي ء يسير يرد على المظلوم لا سيّما في الامور المالية، فتدبّر جيّدا.

فتلخّص

ممّا ذكرنا أنّه يجوز التولّي من قبل الظالم عند الإكراه و ترتفع حرمته الذاتية لو قلنا بها، كما يباح غيره من المحرّمات ما عدا إراقة الدماء، بل كلّ ضرر على مسلم، سواء كان أكثر ممّا توعّد به أو أقل أو مساو على الأحوط لو لا الأقوى، نعم إذا كان ضرر الغير يسيرا جدّا بالنسبة إلى ما توعّد به لم يبعد عدم جوازه.

بقي شي ء و هو حكم الضمان، و الظاهر أنّه ثابت على المبني المختار، و لكن يظهر من بعض كلمات شيخنا الأعظم عدم الضمان، حيث قال في بعض كلماته الآتية تعليلا للضمان في بعض المقامات ما نصّه: «لعدم الإكراه المانع عن الضمان».

هذا و المسألة مبنية على كون المكره كالآلة أو كونه ذا قصد في أعماله و ان كان كارها لها، و حيث قد عرفت أنّه ليس كالآلة قطعا و انّ الفعل يسند إليه و لذا لا تجوز له إراقة الدماء، فالأقوى الضمان، و ان كان الضمان لا يستقرّ عليه.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 398

الأمر الثاني: ملاك الإكراه المجوّز لارتكاب بعض المحرّمات كما عرفت هو التوعيد بالضرر لما يتعلّق بالإنسان في نفسه، أو ماله، أو عرضه، أو ما يتعلّق به، أمّا بالنسبة إلى الأجانب فلا يتحقّق إكراه، إلّا أن يكون الإنسان بمثابة من قداسة النفس بحيث يتأثّر من تضرّر الغير كما يتأثّر من ضرر نفسه أو أهله و ولده، و حينئذ لا يبعد دخوله في حكمه.

أمّا إذا لم يكن كذلك، و لم يدخل في أدلّه الإكراه، فهل يجوز التولّي هناك بملاك آخر مثل حفظ المؤمنين و أموالهم و ....

و الكلام فيه تارة من حيث القواعد، و اخرى من حيث الأدلّة الخاصّة ..

أمّا الأوّل: فيدور مدار مسألة تزاحم

الملاكات و كون ملاك حفظ أعراض المؤمنين و أموالهم أهمّ عند الشارع المقدّس من الولاية المحرّمة و ما يلازمها، و المقامات مختلفة جدّا لا تندرج تحت ضابطة خاصّة، كما هو ظاهر، و ان كان الجواز في كثير منها بهذا الملاك ظاهرا.

و أمّا الثّاني: فالمصرّح به في رواية الإحتجاج جواز التقيّة ازاء حفظ النفس و المال و الجاه و العرض و المذهب بالنسبة إلى نفسه أو غيره، و إليك رواية الاحتجاج:

روى الطبرسي في الإحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «و إنّ إظهارك براءتك منّا عند تقيّتك لا يقدح فينا و لا ينقصنا و لئن تبرّأت منّا ساعة بلسانك و أنت موال لنا بجنانك لتبقى على نفسك روحها التي بها قوامها، و ما لها الذي به قيامها، و جاهها الذي به تمسّكها، و تصون من عرف بذلك من أوليائنا و اخواننا، فانّ ذلك أفضل من أن تتعرّض للهلاك، و تنقطع به عن عمل في الدين و صلاح اخوانك المؤمنين و إيّاك ثمّ إيّاك أن تترك التقيّة التي أمرتك بها فانّك شائط بدمك و دماء اخوانك، معرّض لنعمتك و نعمتهم للزوال مذلّ لهم في أيدي أعداء دين اللّه و قد أمرك اللّه باعزازهم فانّك إن خالفت وصيّتي كان ضررك على اخوانك و نفسك أشدّ من ضرر الناصب لنا الكافر بنا» «1».

هذا و في الباب 28 أيضا روايات اخر في هذا المعنى و هي:

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 399

1- ما رواه عن العسكري عليه السّلام في تفسيره قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «التقيّة من أفضل أعمال المؤمن يصون بها نفسه و اخوانه عن الفاجرين و قضاء حقوق الاخوان أشرف أعمال المتّقين ...» «1».

2- ما رواه العسكري عليه السّلام

أيضا في تفسيره قال: و قال الحسن بن علي عليه السّلام: «إنّ التقية يصلح اللّه بها أمّة لصاحبها مثل ثواب أعمالهم فان تركها أهلك أمّة تاركها شريك من أهلكه ...» «2».

3- ما رواه عن العسكري عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم «... ألا فأعظم فرائض اللّه عليكم بعد فرض موالاتنا و معاداة أعدائكم استعمال التقيّة على أنفسكم و أموالكم و معارفكم و قضاء حقوق اخوانكم ...» «3».

بل عطف حقوق الاخوان في روايات هذا الباب على التقيّة كثيرا دليل بنفسه، أو مشعر بما نحن بصدده.

و الحاصل، إنّ مقتضى هذه الروايات أيضا لا يتجاوز عمّا تقتضيه الاصول و القواعد.

هذا إذا لم يكن المحرّم الإضرار بمسلم أو هتكه لدفاع عن آخر، فانّه لا يجوز قطعا، اللهمّ إلّا في الدماء أو بعض مراتب الأعراض أو فيما إذا كان التفاوت كثيرا جدّا بحيث يعلم برضى الشارع المقدّس بارتكاب اليسير حذرا من الكثير.

و ممّا هو جدير بالذكر إطلاق كلمات غير واحد من الأصحاب الضرر بالنفس أو المال و شبهه، و هو مؤيّد قوي لما سبق في أصل المسألة، و أنّه لا يجوز الإضرار بالغير في مقام الإكراه إلّا عند الخوف على النفس، و هذا دليل على عدم الفرق بين المسألتين، و عدم كون إطلاق كلمات الفقهاء هناك ناظرا إلى ذلك.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 400

الأمر الثّالث: هل يعتبر عدم إمكان التفصّي في الإكراه من قبل الجائر بنحو من الأنحاء، أم لا؟ قيل أنّ فيه أقوالا ثلاثة: أحدها الاعتبار، و ثانيها نفيه مطلقا، و ثالثها التفصيل بين الإكراه على قبول نفس الولاية المحرّمة، فلا يعتبر فيها التفصّي و يجوز قبولها و لو كان له طريق إلى

المخلص، و الإكراه على سائر المحرّمات، فيعتبر العجز عن الخلاص منه.

و الأولى أن يتكلّم في اعتبار العجز عن التفصّي في مفهوم الإكراه لغة و عرفا على سبيل عامّ، أعني أعمّ من الولاية و غيرها، ثمّ نتكلّم في الولاية، و انّ لها حرمة ذاتية أو عرضية كي يتّضح حالها.

أمّا الأوّل: فالظاهر أنّ اعتبار العجز عن التفصّي مأخوذ فيه عرفا و لغة، فلو اكره شخص على شرب الخمر أو ترك واجب مثل إفطار الصوم الواجب، و كان هناك مائع شبهه و على لونه يقدر على شربه عوضه، أو كان يمكنه صبّه في جيبه و إظهار أنّه شربه، أو كان هناك طريق إلى الفرار من هذا المجلس، أو غير ذلك، فلا شكّ أنّه لا يعدّ مكرها على شرب الخمر و غيره، بل و كذلك إذا أمكنه التكلّم مع المكره و إرشاده أو بذل مال له و النجاة من يده فانّه من قبيل المقدور بالواسطة.

نعم إذا كان بذل المال مجحفا بحاله، أمكن نفيه بأدلّة نفي الضرر، و إلّا فلا، و كذلك إذا كان حرجيا، و هذا كلّه ظاهر.

أمّا الثّاني: أعني الولاية، فلو كان قبول نفسها حراما لحرمتها الذاتية فاعتبار العجز عن التفصّي فيه ظاهر، أمّا لو قلنا بعدم حرمتها ذاتا، فيجوز قبولها حتّى بغير الإكراه فضلا عن إمكان التفصّي و عدمه.

و أمّا المحرّمات الاخر الملازمة لها، فالكلام فيها هو الكلام في مثل الإكراه على شرب الخمر، أو على إفطار الصوم الواجب، و منه يظهر حال ما نقل عن علي بن يقطين و أنّه كان يأخذ أموال الشيعة جهرا و يردّها عليهم سرّا، فانّ التفصّي لم يمكن له ابتداء، و لكن كان يمكنه بقاء، فكان واجبا لعدم صدق الإكراه عليه.

و

لعلّ ما يتراءى بينهم من الخلاف في ذلك نزاع في اللفظ، و في التعبير عن المطلب لا في نفسه.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 401

بقي هنا شي ء، و هو أنّه لا فرق في إمكان التفصّي، من إعداد المقدّمات من قبل، أو ترك الحضور في مجلس المعصية، أو مجلس الجائر، فانّه واجب لوجوب التخلّص عن الحرام، فيجب مقدّمته، أو بقاء و إدامة كما في فعل علي بن يقطين، و هو ظاهر أيضا، فالواجب ترك الخلطة مع الظلمة إذا لا يأمن إكراههم على قبولها.

الأمر الرّابع: إنّ قبول الولاية مع الضرر المالي غير المجحف بحاله هل هو رخصة، أو عزيمة؟ فيجوز تحمّل الضرر و الفرار منه (هكذا عنونه شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه).

و الوجه فيه أنّ الضرر اليسير تحمّله لازم على كلّ حال، من باب وجوب المقدّمة، كشراء ماء الوضوء و شبهه، و مثله في التكاليف كثير، و الضرر المجحف يجوز تحمّله فرارا عن الولاية المحرّمة ذاتا أو بالعرض، كما يجوز عدم تحمّله، و يستقيم الاستدلال له بأنّ الناس مسلّطون على أموالهم، فيجوز لهم صرفها في طريق النجاة عن الحرام.

نعم، قد يقال: أنّ بذل المال الكثير للجائر قد يوجب تقوية شوكته، فيحرم من ناحية اخرى، أو من جهة إعانته على الإثم، و هو صحيح في محلّه.

لكن قد أجاب عنه في مصباح الفقاهة، أوّلا: بمنع الصغرى، لأنّها من قبيل المكوس و الضرائب في مسير الحاج الذي لا إشكال في جوازه (و لعلّه لعدم قصد الإعانة) و ثانيا: بمنع الكبرى و هو حرمة الإعانة «1».

قلت: أمّا الكبرى فقد عرفت ثبوتها، وفاقا لما يظهر من المشهور، و أمّا الصغرى فعدم كونه في بعض الموارد إعانة و إن كان ثابتا، إلّا أنّ قصد

الإعانة في بعض الموارد قهري إذا كان شيئا كثيرا (كما عرفت نظيره في مسألة بيع العنب ممّن يعمله خمرا) فحينئذ يكون من قبيل تزاحم المقتضيين، و حكمه ظاهر و اللّه العالم.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 402

الأمر الخامس: قد عرفت استثناء إراقة الدماء ممّا يشرّعه الإكراه، فحتّى لو هدّده بالقتل لو لم يقتل مؤمنا، فانّه لا يجوز ذلك، بلا خلاف فيه بينهم، بل ادّعى في الجواهر الإجماع عليه بقسميه «1».

و قد دلّ عليه غير واحد من الأحاديث الواردة في الباب 31 من أبواب الأمر بالمعروف و إليك بعضها:

1- ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّما جعلت التقيّة ليحقن بها الدم، فإذا بلغ الدم فليس تقيّة» «2».

2- ما رواه أبو حمزة الثمالي قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «... إنّما جعلت التقيّة ليحقن بها الدم فإذا بلغت التقيّة الدم فلا تقيّة ...» «3».

و وصف الأوّل بالصحّة، و الثاني بالوثاقة.

و العمدة فيها الإجماع مع الروايتين.

هذا و قد حكي عن بعض الأكابر «4» أنّه منع دلالة الروايتين على المقصود، نظرا إلى أنّ مفادها رفع التقيّة عن الإنسان إذا وقعت نفسه في الخطر و لم تنفع التقيّة في نجاته، و حينئذ يجب عليها إظهار ما يجب إظهاره، لأنّ غايتها و هي حفظ الدم قد انتفت، و هذا أمر وجداني عقلي.

و قد أقرّه على ذلك في الجملة بعض الأساتذة «5» بالنسبة إلى الرواية الاولى و أنكره بالنسبة إلى الثانية.

و الإنصاف أنّه من عجيب الكلام، فانّ الفاعل في قوله «بلغ» في الرواية الاولى أيضا العمل بالتقيّة كما في بلغت في الثانية (و لا يضرّه التذكير كما هو واضح) و بلوغ التقيّة الدم إنّما هو بكونها سببا لذلك،

لا بلوغ الإنسان دمه بسبب آخر.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 403

هذا مضافا إلى أنّ الحكم في المسألة عقلي في الجملة، و كيف يمنّ الشارع على إنسان بإراقة دم إنسان آخر لحفظ نفسه، أو لحفظ بعض منافعه الاخرى، و قد عرفت فساد القول بأنّ المكره لا إرادة له و انّ الفعل غير منسوب إليه.

بقي هنا فروع:

1- هل المراد من الدم هو زهاق الروح أو يشمل الجرح أيضا، ظاهر الإطلاق هو الأعمّ، و لكن لا ينبغي الشكّ في كون مثل هذا التعبير كناية عن القتل غالبا، كما فهمه صاحب الجواهر و شيخنا الأعظم و غيرهما (قدّس اللّه أسرارهم) و لو فرض الشكّ كان اللازم الأخذ بالقدر المتيقّن، و هو زهاق الروح.

2- هل يشمل الحكم لكلّ مسلم و لو لم يكن مؤمنا، ظاهر كلمات غير واحد منهم العموم، و لكن يظهر الترديد فيه من جمع آخرين.

و الإنصاف عموم الحكم، لإطلاق الروايات، و توهّم أنّه لا يتصوّر التقيّة بالنسبة إليهم كما ترى، فانّ التقيّة قد تكون في مقابل الكفّار كما في قضيّة عمّار.

و كذلك قوله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ ... «1».

مضافا إلى ما نعلم من اجراء أحكام الإسلام و منها حقن الدماء في حقّ القائلين بالشهادتين، كما في أحاديث تفسير «الإسلام» و «الإيمان» و يؤيّده مساواة دية المسلمين من جميع الفرق بلا تفاوت بينهم.

نعم النواصب و الخوارج خارجون عن هذا الحكم لخروجهم عن الإسلام.

3- أمّا أهل الذمّة، فيشكل عموم الدليل لهم، كما يظهر من أحكام القصاص و الدّيات، فانّه لا يقاص مسلم بالذمّي إلّا أن يعتاد قتلهم.

4- الظاهر أنّ الحمل بعد ولوج الروح فيه و صيرورته إنسانا كاملا بحكم الإنسان المتولّد، و قد حكموا له بالدّية الكاملة، فتدبّر.

انوار الفقاهة،

ج 4، ص: 404

نعم قبل ولوج الروح يشكل إلحاقه كما ذكره كاشف الغطاء فيما حكي عنه «1».

5- لا فرق بين المريض و الصحيح و المسنّ و الصغير كما هو ظاهر، كلّ ذلك لإطلاق الدليل.

6- لا فرق في الحكم المذكور بين المباشر للقتل و المسبّب له، بعد إسناد الحكم إليه مستقلا أو اشتراكا، أو الإسناد إلى المباشر فقط بعد كون أمره مؤثّرا، فلو قال: مر بقتل فلان و إلّا قتلتك، لا يجوز أمره بالقتل إذا كان مؤثّرا فيه.

7- مستحقّ القتل بالقصاص في حكم محقون الدم بالنسبة إلى غير أولياء الدم، فلا يجوز قتله و إراقة دمه بالإكراه و التقيّة، و أمّا المحكوم بالقتل بحدّ و شبهه فقد ذكر فيه وجهان: الحرمة لإطلاق الأدلّة، و الجواز لانصرافها إلى من يكون محقون الدم لا المأمور باهراق دمه، و قد ذكره في مفتاح الكرامة تحت عنوان أنّه قد يفرّق بين مستحقّ القتل و غيره «2».

و هذا الإشكال سار في حكم القتل متعمّدا من دون إكراه لمن هو مهدور الدم (و لكن كان إهراق دمه بيد الحاكم الشرعي كالزاني المحصن) كما يعلم بمراجعة كلماتهم في أبواب القصاص فراجع «3».

27- هجاء المؤمن
اشارة

اتّفقت كلمات علماء الإسلام فيما حكي عنهم على حرمة الهجاء في الجملة، و إن وقع الكلام في بعض خصوصياته.

و استدلّ له بالأدلّة الأربعة، أمّا الإجماع فقد عرفت، و إن كان لا يغني في مثل المقام، و لا يعدّ دليلا زائدا على الأدلّة الاخرى.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 405

و أمّا من كتاب اللّه فلقوله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ «1» بناء على شمول «الهمز» و «اللمز» لكلّ طعن و إيراد عيب، و قد يفرّق بينهما بأنّ «الهمز» هو ذكر العيب بظهر، و اللمز في

وجهك.

أو إنّ الأوّل ذكره بلفظك، و الثاني بإشارتك و حركاتك.

و لكن الإنصاف أنّ بين عنوان الهجاء و العنوانين المذكورين عموما من وجه، لأنّ الهجو قد يكون بإنشاء جملة، و اخرى بحكاية عيب، و الأوّل كأن يقول وجهك وجه الحمار و رأسك رأس البقر! أو يقول يا أيّها الفسقة الفجرة قوموا و استقبلوا هذا الرجل، أو يا أرض ابلعيه و يا سماء اقلعيه أو غير ذلك، و الثاني بحكاية عيوبه الجليّة أو الخفيّة بقصد الذمّ، و لعلّ الأوّل أي ما كان بصورة الإنشاء غير داخل في العنوانين.

و منه يعلم حال قوله تعالى: وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ... و كذا قوله أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً «2».

اللهمّ إلّا أن يقال إنّ أكل اللحم كناية عن إسقاط ماء الوجه، و هو حاصل هنا.

أمّا من السنّة، فبالروايات الكثيرة غاية الكثرة، بل لا يبعد تواترها الدالّة على حرمة إيذاء المؤمن «3».

و ما دلّ على حرمة إهانته «4».

و ما دلّ على تحريم إذلاله و احتقاره «5».

و ما دلّ على تحريم الاستخفاف به «6».

و ما دلّ على تحريم تعييره و تأنيبه «7».

و لا ينبغي الشكّ بعد ذلك كلّه في حرمة الهجاء.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 406

أمّا معنى الهجاء فقد وقع الكلام منهم في تفسيره، و أنّه مخالف المدح، أو مع تخصيصه بالشعر، أو لا يختصّ به، و حيث قد عرفت أنّه لا يدور شي ء من الأدلّة مدار هذا العنوان، فلا يهمّنا هذا البحث، بل الاعتبار بما ورد في عناوين روايات الباب.

نعم ورد هذا العنوان في معاقد بعض الإجماعات، و لكن حال الإجمال في هذه الموارد معلوم، و ان كان الظاهر كون المراد من الهجاء هنا الذمّ و القدح، سواء

كان بالشعر و النثر أو غيرهما لوحدة الملاك قطعا.

ثمّ أنّه استثنى من ذلك امور:

1- ما إذا توقّف النهي عن المنكر عليه لمعارضة الأهمّ له.

2- ما إذا كان متجاهرا و لا يبالي بما قيل فيه لخروجه عن الأدلّة.

3- إذا كان من المخالفين، فقد ذكر في الجواهر الحاقهم بالمشركين، بل قال: لعلّ هجائهم على رءوس الأشهاد من أفضل عبادة العبّاد ما لم تمنع التقيّة، و أولى من ذلك جواز غيبتهم، ثمّ ادّعى جريان السيرة عليه، ثمّ قال: فلا غرابة في دعوى تحصيل الإجماع عليه ...

بل يمكن دعوى كونه من الضروريات فضلا عن القطعيات!

ثمّ نقل كلام المحقّق الأردبيلي و صاحب الكفاية قدّس سرّهما في باب الغيبة و إنّ الظاهر عموم أدلّة تحريمها لهم، بأنّه لا استبعاد في ذلك كما لا يجوز قتله و أخذ ماله فلا يجوز تناول عرضه.

ثمّ قال صاحب الجواهر قدّس سرّه: لعلّ صدور ذلك منه لشدّة تقدّسه و ورعه ... و انّ مقتضى التقدّس خلاف ذلك! «1».

و غاية ما يمكن أن يستدلّ لما نحن فيه امور:

1- ما ثبت في الروايت و الأدعية و الزيارات من جواز لعنهم و سبّهم.

2- إنّهم متجاهرون بالفسق لبطلان عملهم (كما في الباب 29 من أبواب مقدّمة العبادات) «2».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 407

3- قيام السيرة المستمرّة عليه.

4- إنّ المراد من أدلّة الحرمة هو خصوص المؤمن القائل بالولاية الذي ثبتت اخوته لا غير ....

هذا و لكن يعارض هذه الروايات:

أوّلا: الروايات الكثيرة الدالّة على جريان حكم الإسلام و الإيمان عليهم، و أنّه بالشهادتين تجري أحكام الإسلام و بهما حقنت الدماء.

و ثانيا: الروايات الكثيرة الدالّة على العشرة معهم بالمعروف «1».

و كذا ما دلّ على حضور جماعاتهم و عباداتهم و كسب محبّتهم و غير ذلك.

و الحاصل أنّ المستفاد من

جميع ذلك وجوب المعاملة معهم معاملة المسلم، و هذا لا يتناسب مع عدم حرمة عرضهم، و كذلك العشرة معهم بالمعروف لا تتناسب جواز سبّهم و إيذائهم، و لعلّ أحسن طريق للجمع بينهما حمل المجوّزة على المعاند لأهل بيت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم الذي ينكر فضلهم أو يغصب حقوقهم أو يسعى في إطفاء نورهم، و المانعة على القاصرين أو المقصّرين الموالين لهم، و ان لم تبلغ معرفتهم حقّ المعرفة كما نرى كثيرا منهم في البلاد الإسلامية.

بقي هنا شي ء، و هو أنّه في مقام النهي عن المنكر و الردّ على أهل البدع هل يجوز هجوهم بما ليس فيهم و نسبة امور كاذبة إليهم؟

قد يقال بجواز ذلك لما في صحيحة داود بن سرحان من الأمر بذلك عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: إذا رأيتم أهل الريب و البدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم، و أكثروا من سبّهم و القول فيهم و الوقيعة، و باهتوهم، كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام ..

الخ «2».

و كذلك ما يستفاد من مفهوم رواية أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قلت له: إنّ بعض أصحابنا يفترون و يقذفون من خالفهم فقال: الكفّ عنهم أجمل ثمّ قال: «يا أبا حمزة و اللّه إنّ انوار الفقاهة، ج 4، ص: 408

الناس كلّهم أولاد بغايا ما خلا شيعتنا، ثمّ قال: نحن أصحاب الخمس و قد حرمناه على جميع الناس ما خلا شيعتنا» «1».

هذا و لكن ذلك لا يخلو عن إشكال.

أمّا أوّلا لحرمة الكذب ذاتا، و لا يجوز التوصّل بالباطل إلى الحقّ، و القول بأنّ الطريق قد يكون منحصرا كما ترى، مع خوف

انكشاف هذا الخلاف و ما فيه من آثار السوء لأهل الحقّ و وهن مقامهم و تزلزل مكانتهم و اعتبارهم كما لا يخفى.

و ثانيا: الرواية الثانية ضعيفة سندا، مضافا إلى أنّه يشكل الموافقة على مضمونها، لأنّ الحكم بأنّهم أولاد بغايا بعد كون النكاح الموجود عند كلّ قوم ممضي عند الشرع، و لا أقل من كونهم أولاد شبهة- و إطلاق أولاد البغايا على ولد الشبهة غير صحيح- مشكل جدّا، إلّا بضرب من التشبيه و المجاز.

و يعارضه ما جاء في الرواية من «أنّ لكلّ أمّة نكاحا يحتجزون به عن الزنا» «2» و غيره ممّا ورد في الباب 71 و 72 من أبواب جهاد النفس.

و أمّا الاولى فالبهت و البهتان- كما يظهر من متون اللغة- في الأصل بمعنى الحيرة و التحيّر، و لذا يقال بالأخذ بغتة بالعذاب البهت، قال اللّه تعالى بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ «3» و إطلاقه على نسبة ما ليس في إنسان إليه من هذا الباب لأنّه يحيّره كما صرّح به أهل اللغة، فكأنّ المراد: احملوا على أهل البدع من كلّ جانب و اجعلوهم متحيّرين حتّى لا يطمعوا في الفساد في الإسلام، فتأمّل.

و بالجملة، التوصّل بالبهتان بمعنى نسبة ما ليس فيهم إليهم لا سيّما في النسب و الأعراض في هذه المقامات مشكل جدّا، و لذا فسّره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في بعض كلماته بأنّه يجوز سوء الظنّ في حقّهم بما لا يجوز في حقّ المؤمن.

مضافا إلى أنّ فتح هذا الباب يوجب فسادا عظيما لأهل الأهواء ينسبون من خالفهم إلى كلّ شي ء، و يحرّفون الكلم عن مواضعه، و يهتكون الأسرار، و يضيّعون الأعراض، و يشوّهون انوار الفقاهة، ج 4، ص: 409

وجه الإسلام كما رأينا في زماننا من بعض من

لا حظّ له من تقوى اللّه، أعاذنا اللّه منهم و من شرّهم.

28- هجر المؤمن

و «الهجر» بالضمّ بمعنى «الفحش» و «القبيح من القول» و يمكن الاستدلال على حرمته أيضا بالأدلّة الأربعة، من العقل بأنّه ظلم و إيذاء، و من الآيات بما دلّ على وجوب اجتناب قول الزور و غيرها من الآيات، و من الإجماع باتّفاق الأصحاب عليه.

و من السنّة بروايات كثيرة غاية الكثرة رواها الوسائل في الباب 71 و 72 و غيرهما من أبواب جهاد النفس، منها:

1- ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من علامات شرك الشيطان الذي لا يشكّ فيه أن يكون فحّاشا لا يبالي ما قال و لا ما قيل فيه» «1».

2- و ما رواه سماعة قال: دخلت على أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال لي مبتداء: «يا سماعة ما هذا الذي كان بينك و بين جمالك؟ إيّاك أن تكون فحّاشا أو سخّابا «2» أو لعّانا»، فقلت و اللّه لقد كان ذلك أنّه ظلمني، فقال: «إن كان ظلمك لقد اوتيت عليه، إنّ هذا ليس من فعالي، و لا آمر به شيعتي، استغفر ربّك و لا تعد». قلت: استغفر اللّه و لا أعود «3».

3- و ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام (في حديث) قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «إنّ من أشر عباد اللّه من تكره مجالسته لفحشه» «4».

4- و ما رواه حمّاد بن عمرو و أنس بن محمّد عن أبيه جميعا عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السّلام (في وصية النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لعلي عليه السّلام قال: «... يا علي شرّ الناس من أكرمه الناس

اتّقاء فحشه و أذى شرّه ...» «5».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 410

5- و ما رواه عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «إذا رأيتم الرجل لا يبالي ما قال و لا ما قيل له فهو شرك الشيطان» «1».

و دلالة هذه الأخبار على المقصود واضحة.

و بالجملة المسألة واضحة لا تحتاج إلى بحث كثير.

الحادي عشر- الأفعال الواجبة ممّا يحرم التكسّب به
الأفعال الواجبة على الإنسان في الجملة

قد اشتهر القول فيها بالحرمة في الجملة، و ان اختلفت كلمات الخاصّة و العامّة فيها غاية الاختلاف، من ناحية تفاصيلها، و ذكر فيها أقوال كثيرة ربّما أنهاها بعض الأكابر إلى تسعة أقوال، و لكنّها ترجع بالمآل إلى ثلاثة:

1- القول بعدم الجواز مطلقا (و هو نادر).

2- القول بالجواز مطلقا.

3- القول بالتفصيل بين التعبّدي و التوصّلي، أو بين العيني و الكفائي، إلى غير ذلك من التفاصيل التي ذكرت في المقام، و قبل ذكر الأدلّة لا بدّ من تحرير محلّ النزاع، فنقول و من اللّه التوفيق و الهداية:

إنّ الكلام إنّما هو فيما إذا كان هناك عمل واجب فيه فائدة تعود إلى باذل المال بحيث يعدّ بذل المال بازائه عند العقلاء معقولا لا أمرا سفهيا، بل يمكن أن يقال بعدم لزوم عود النفع إليه أيضا، بل المعتبر كونه غير سفهي، فيجوز أن يقول: خذ هذا المال منّي و كن في خدمة فلان أو عمّر دار فلان، أو احمله إلى داره و ان لم يعد نفعه إليه، بل كان مجرّد محبّة منه إليه، و القول ببطلانه بعد عموم أدلّة المعاملات و وجود أمثاله في العرف ممنوع.

نعم، ما قد يقال من أنّ كون المعاملة سفهيّة لا يوجب فسادها ممنوع جدّا، إذا كانت السفهية بمعنى عدم بذل

مال بازائه في عرف العقلاء و كان من قبيل أكل المال بالباطل.

إذا عرفت هذا فلنعد إلى الأدلّة، فنقول: استدلّ على الحرمة بامور مختلفة:

1- الإجماع: و اعتمد عليه في الرياض و غيره، و لكن يرد عليه أوّلا: إنّ الإجماع غير

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 412

ثابت إلّا في الجملة، و هو غير كاف في فروع المسألة.

و ثانيا: إنّ التمسّك بالإجماع في هذه المسائل التي يعلم بوجود مدارك اخر غير جائز كما ذكر في محلّه.

2- منافاة الإجارة لقصد العبادة، و «مخالفة أخذ المال للإخلاص». و قد يجاب عنه:

أوّلا: بأنّ النسبة بين المدّعي و بينه عموم من وجه، لعدم جريانه في الواجب التوصّلي بينما يجري في العبادات المستحبّة أيضا فهو أخصّ من وجه، و أعمّ من وجه.

و ثانيا: بالنقض بالعبادات المستأجرة.

و ثالثا: بالنقض بما يؤتى من العبادات بقصد الامور الدنيوية كصلاة الاستسقاء، و الصلاة لقضاء الحاجة و سعة الرزق و شفاء المريض و غير ذلك.

و رابعا: بأنّ الإجارة لا تنافي قصد القربة بل تؤكّدها.

هذا و الإنصاف أنّ الجواب الأوّل غير كاف، لأنّ غايته التفصيل بين الواجبات التعبّدية و غيرها، و شموله للعبادات المستحبّة لا مانع له، فهو كاف لإثبات بعض الأقوال في المسألة.

و لكن الثاني نقض في محلّه، و ما أفاده شيخنا الأعظم قدّس سرّه من الفرق بين العبادات المستأجرة و بين المقام بما حاصله: «إنّ الاجرة إنّما هي على النيابة أي جعل نفسه نائبا عن الغير في إتيان العمل تقرّبا إلى اللّه، فالاجرة في مقابل النيابة في العمل، و هي أمر توصّلي لا يعتبر فيها التقرّب لا في مقابل أصل العمل» ممنوع بأنّ النيابة غير منفكّة عن نفس العمل خارجا، فهما عنوانان منطبقان على شي ء واحد و ليست النيابة

مجرّدة عن قصدها حتّى يكون الاجرة على نفس القصد، بل هي العمل الصادر عن هذا القصد.

و ما ذكره شيخنا الأنصاري قدّس سرّه في بعض كلماته من أنّ التقرّب يقع للباذل دون العامل أيضا مشكل، لأنّ مجرّد النيابة لا يوجب تقرّبا للمنوب عنه إلّا من جهة التسبيب (فتأمّل).

و كذا النقض الثاني في محلّه، و ما أجاب عنه غير واحد من الفرق بين الطلب من اللّه و أخذ الاجرة من الناس، فانّ الأوّل عبادة في نفسه و قال تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ «1».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 413

و قال تعالى: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ «1».

فهو أيضا ممنوع، بأنّا ننقل الكلام في المحرّم على طلب الغيث من اللّه، فانّ الداعي إليه كثيرا ما يكون أمرا دنيويا محضا، و كذا الدعاء للتزويج و شفاء المريض و سعة الرزق و غيرها منه، فالداعي إلى هذا الطلب من اللّه ليس أمرا قربيّا، بل أمر دنيوي.

فالتفاوت بين المقامين في تعدّد الواسطة و عدمه، و إلّا فكلاهما تنتهيان إلى ما ليس قربيّا، بل قلّما ينفك الإنسان عمّا يرجع إلى نفسه في عباداته إلّا الأوحدي من الناس.

و أمّا «الرابع»: و هو العمدة في الجواب، و هو عدم منافاة أخذ الاجرة لقصد القربة، فيمكن تقريره بأنّ العبادة تنشأ عن قصد القربة، و ان كان الداعي على هذا الداعي هو أخذ الاجرة، و هذا ليس ببعيد، و لو لا مسألة الداعي على الداعي لما صحّت العبادات الاستيجارية، بل و لا أي عبادة من العبادات عدا ما شذّ و ندر، لأنّ فيها دواع غير قربية غالبا كما عرفت آنفا، و أمّا ما قد يقال بأنّ أخذ

الاجرة يؤكّد داعي القربة به، فهو أمر شعري مخالف للوجدان.

بقي هنا شي ء، و هو أنّ بعض المحشّين ذكروا عدم توقّف أخذ الاجرة على العمل، بل يستحقّ بنفس العقد، و حينئذ لا يبقى إشكال من هذه الناحية بالنسبة إلى العمل.

و يرد عليه: إنّ الاستحقاق حينئذ متزلزل لحقّ الفسخ على تقدير عدم العمل (فتأمّل).

3- ما حكي عن كاشف الغطاء قدّس سرّه من أنّ التنافي بين صفة الوجوب و التملّك ذاتي، لأنّ المملوك المستحقّ للّه لا يملك و لا يمكن تمليكه للغير في مقابل العوض، أيضا بظاهره ممنوع، لعدم كون الوجوب من قبيل التمليك للّه، بل و لا التمليك للغير إذا كان من قبيل تجهيز الميّت و شبهه، نعم هو شبه التمليك، و لكن مجرّد التشابه في بعض الآثار لا يوجب عدم جواز تمليكه للغير، كإجارة نفسه مرّتين لشخصين في زمن واحد.

و التعبير باللام في قوله «للّه على الناس حجّ البيت» و كذا ما ورد من قوله عليه السّلام: «دين اللّه أحقّ بالقضاء» و هكذا ما ورد في باب النذر و صيغته مضافا إلى اختصاصها ببعض الأبواب، غير ظاهر في الملكية المصطلحة، بل هو دليل على اختصاصه للّه تعالى.

بيان آخر للمسألة: نعم يمكن بيان التنافي بين الوجوب و أخذه الاجرة بنحو آخر،

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 414

حاصله إنّ العرف و العقلاء يرون المنافاة بين أخذ الاجرة و أداء الوظيفة، فلذا لو أدّى الإنسان وظيفته التي هي مأمور بها بحكم القوانين الدارجة، و أراد أخذ الاجرة في مقابله يقال له: هذا من وظيفتك، كيف تطلب عليه أجرا؟

و هذا أمر ظاهر عندهم، يؤاخذون و يلومون من طلب الأجر في مقابل أداء بعض ما عليه من التكاليف العرفية، و الحقوق المتداولة، فهذا

أحسن دليل في المقام و مآله إلى كونه من قبيل أكل المال بالباطل (فتأمّل فيه جيّدا).

4- ما في بعض كلمات الشيخ الأعظم قدّس سرّه في بعض شقوق المسألة من أنّ كون الشي ء واجبا مقهورا عليه من قبل الشارع يوجب عدّ أكل المال في مقابله أكلا بالباطل.

و الظاهر رجوعه أيضا إلى ما ذكرنا من ملاحظة المنافاة بين أداء الوظيفة و أخذ الاجرة، بل لا ينحصر ذلك بكون الإنسان مأمورا من ناحية الشارع المقدّس، بل كلّما كان من وظائف الإنسان الحتمية لا يكون أكل المال في مقابله إلّا باطلا.

5- ما ذكره (قدّس سرّه الشريف) أيضا في بعض كلماته أنّه قد يفهم من أدلّة وجوب الشي ء كونه حقّا لمخلوق يستحقّه على المكلّفين، فكلّ من أقدم عليه فقد أدّى حقّ ذلك المخلوق، فلا يجوز له أخذ الأجرة.

و الظاهر أنّ مآله أيضا إلى ما ذكرنا، فانّ إنقاذ الغريق المشرف على الهلاك أو تجهيز الميّت أو غير ذلك ممّا مثّل له داخل فيما عرفت، و إلّا فليس في أدلّة وجوبها ما يغاير سائر الواجبات.

و قبل ذكر نتيجة البحث في المقام لا بدّ من النظر في التفصيل الذي ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه، و حاصل ما ذكره أنّ الواجب على ثلاثة أقسام:

1- التعييني العيني، فيحرم أخذ الاجرة عليه، تعبّديا كان أو توصّليا، لأنّه أمر مقهور عليه من قبل الشارع المقدّس، فأخذ الاجرة في مقابله أكل للمال بالباطل.

2- الواجب التخييري، فان كان توصليا لا مانع من أخذ الاجرة على خصوص أحد فردي التخيير، لأنّه غير مقهور عليه و عمله محترم!

و إن كان تعبّديا، فان قلنا بكفاية الإخلاص بالقدر المشترك، فهو كالتوصّلي، و إلّا فيبطل من هذه الناحية.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 415

3- الواجب الكفائي

فان كان توصليا فهو أيضا جائز، و إن كان تعبّديا لا يجوز، نعم تجوز النيابة فيه إن كان ممّا يقبل النيابة (انتهى ملخّصا) «1».

هذا و فيه وجوه من النظر:

أمّا أوّلا: فلما عرفت من أنّ مجرّد المقهورية غير كافية، بل العمدة كون الشي ء من وظائف الإنسان شرعا أو عرفا ينافي أخذ الاجرة عليه بحيث يعدّ أكل المال بازائه أكلا بالباطل.

و ثانيا: فلأنّ الواجب التخييري بعد أن كان موظّفا أو مقهورا- بتعبيره قدّس سرّه- على أحدهما لا يجوز له أخذ الاجرة عليه إلّا أن يكون فيه مزيد كلفة، مثل نقل الميّت للدفن إلى مكان أبعد، يكون فيه بعض المزايا الشرعية أو العرفية، مثل ما إذا كانت الأرض صلبة، أو يسهل وصول الزوار إلى محلّه أو غير ذلك، و لعلّ مراده أيضا ذلك، و إلّا فمجرّد التخيير مانع قطعا.

و ثالثا: فانّ التقرّب بالقدر المشترك غير ممكن بعد ما كان متّحدا مع الخصوصية خارجا غير منفكّ عنها.

هذا و لكن قد عرفت تصحيح قصد القربة في هذه المقامات من طريق الداعي إلى الداعي.

و رابعا: فلأنّ المحذور في الواجب الكفائي أيضا موجود، فانّ من يؤدّي وظيفته بالصلاة على الميّت، أو الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، لا يجوز له أخذ الاجرة في مقابل أداء الوظيفة، و مجرّد كونه كفائيا لا يوجب تفاوتا في المقصود.

و خامسا: إنّ الواجب الكفائي التعبّدي لا مانع من أخذ الاجرة عليه بلحاظ كونه تعبّديا كما عرفت.

إنّما الإشكال من ناحية نفس الوجوب كما ذكرنا.

و سادسا: ما ذكره في جواز النيابة في هذه المقامات مشكل، بعد كون الإنسان نفسه مأمورا بنفس ذلك الشي ء، و كيف تصحّ النيابة في مقابل أمر يكون نفسه مأمورا به؟!

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 416

فتلخّص ممّا

ذكرنا امور:

1- طبيعة الوجوب تنافي أخذ الاجرة من الغير بحكم العرف و العقلاء (فيكون مصداقا لأكل المال بالباطل).

2- لا إشكال هنا من ناحية قصد القربة، و لذا لا مانع في العبادات المستحبّة إذا كانت الشرائط فيها مجتمعة.

3- لو كان لبعض أفراد الواجب المخيّر فيها مزيد كلفة أو خصوصية، يجوز أخذ الاجرة في مقابله، و لا يعدّ أكلا للمال بالباطل، و اتّحاد الخصوصية مع أصل العمل هنا غير مانع، بعد ما عرفت من أنّ العمدة في المقام المنافاة، و هي غير موجودة في المقام.

الكلام في الصناعات الواجبة:

بقي هنا الكلام في الإشكال المشهور في الصناعات التي يتوقّف عليها نظام المجتمع الإسلامي، مثل الزراعة و التجارة و أنواع المكاسب الضرورية بدليل وجوب حفظ النظام و كونها مقدّمة له. و هكذا الطب و أشباهه ممّا يتوقّف عليها حفظ النفوس المحترمة، فإذا كانت هذه الصناعات واجبة، فكيف يجوز أخذ الاجرة عليها بعد ما عرفت من حرمة أخذ الاجرة على الواجبات؟ مع أنّ جواز أخذ الاجرة عليها من البديهيات.

و قد وقع الإعلام هنا في حيص و بيص و أجابوا عنه بوجوه عديدة:

1- ما يدلّ على استثنائها تعبّدا بالإجماع، أو عقلا لإخلاله بالغرض، و لزوم اختلال النظام لو لم يؤخذ الاجرة عليها.

2- ما يدلّ على خروجها موضوعا عن محلّ البحث، إمّا لأنّ الممنوع هو أخذ الاجرة على التعبّدي، و هذه امور توصلية، أو الممنوع هو أخذ الاجرة في الواجبات العينية و الكلام في الكفائية (كما اختاره شيخنا الأعظم قدّس سرّه).

أو في الواجبات النفسية، و هذه واجبة مقدّمة لحفظ النظام.

3- الالتزام بالإشكال في فرض عدم قيام من به الكفاية، و الجواز إذا كان من به الكفاية موجودا.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 417

4- إنّ الواجب هنا مشروط

من أوّل أمره بالعوض، فحفظ النظام يتوقّف على الصناعات التي يؤخذ الاجرة عليها، لا إذا ما لم يؤخذ عليها الأجر كما هو ظاهر.

5- إنّ الغرض هنا معلوم، و هو حفظ النظام، فكما يحصل بالصناعات التبرعية يحصل كذلك بأخذ الاجرة عليها من دون فرق.

و هنا طرق اخرى لغير واحد من أعيان المتأخّرين أو المعاصرين نذكر أهمّها تكميلا لما سبق.

6- إنّ هنا أمرين: «المصدر» و «حاصل المصدر» و الذي يتوقف عليه نظام المجتمع هي فعل الصناعات و الحرف بمعناه المصدري، و الذي يؤخذ الأجر عليها هو هذه الصناعات بمعنى الاسم المصدري، فالطبابة أو الحياكة و أمثالهما بما أنّها أفعال صادرة من المكلّفين هي ممّا يتوقف عليه حفظ النظام، و بما أنّ نتيجتها مال، فيؤخذ بازائها المال، و لا ينافي ذلك وحدتهما خارجا و اختلافهما اعتبارا.

نعم في مثال القضاء المعتبر فيه المعنى المصدري يشكل الأمر «1».

7- ما يظهر من بعضهم من إنكار وجوب المقدّمة!، بعد العلم بأنّها مطلوبة مقدّمة لحفظ النظام أو الوسوسة في وجوب حفظ النظام و ان كان الإخلال به حراما! «2».

هذا فلنعد إلى تحقيق حال هذه الوجوه فنقول (و منه جلّ شأنه التوفيق و الهداية):

1- التمسّك بالإجماع التعبّدي أو السيرة في هذه المسائل بعيد جدّا، و إن كان الإجماع حقّا و كذا السيرة في الجملة، لدلالة وجوه اخرى عليها.

2- كذا إنكار حرمة أخذ الاجرة في التوصليات أو الواجبات الكفائية، لما عرفت من عدم الفرق بينها في دليل الحرمة.

3- إنكار وجوب المقدّمة أيضا كما ترى، و لو سلّمناه فدليل الحرمة جار، لأنّ الفعل الذي لا بدّ منه و لو مقدّمة للقيام بالوظائف الواجبة لا يصحّ أخذ الاجرة عليه و يكون أكل المال بازائه أكلا باطلا، و

كذا إنكار وجوب حفظ النظام الذي هو من الضروريات و سبب انوار الفقاهة، ج 4، ص: 418

تشريع كثير من الأحكام و يتوقّف عليه جميع أغراض الشارع المقدّس، و كيف يمكن إنكاره مع أنّ كثيرا من قوانين الشرع إنّما شرّعت لحفظه كما صرّح به في روايات بيان علل الشرائع و الأحكام.

4- الالتزام بالإشكال أيضا بعيد في مورد عدم قيام من به الكفاية، لظهور الإجماع و لقيام السيرة القطعية عليه، و كم من صناعات و حرف لا نجد من به الكفاية لها في البلد مع أخذ الاجرة عليها قديما و حديثا كالطب و أشباهه حتّى في عصرنا هذا.

5- و أسوأ من الجميع التفرقة بين المعنى المصدري و اسم المصدري، لأنّ نظام المجتمع إنّما يتوقّف على الحاصل من هذه الصناعات كالبناء و الحياكة و الطب، مضافا إلى أنّ الوحدة الخارجية بينهما كما اعترف به يمنع عن حرمة أحدهما و جواز الآخر، و الاختلاف الاعتباري غير كاف في متعلّقي الأمر و النهي قطعا، و في الحقيقة هذه تدقيقات ليس لها وزنا في موازين العقلاء و أهل العرف، و أشبه شي ء بالتلاعب بالألفاظ.

و الذي ينبغي أن يقال أنّ العمدة من بينها هو ما مرّ من مسألة لزوم نقض الغرض، أو كون الوجوب مشروطا من أوّل الأمر بأخذ العوض، حذرا من اختلال النظام.

و الحاصل، إنّ ملاك الحكم هنا معلوم، و لا يحصل إلّا بأخذ العوض، لعدم وجود محرّك آخر بالنسبة إلى هذه المشاغل غالبا إلّا أخذ الاجرة.

و هنا طريق آخر أحسن من هذا الوجه من بعض الجهات، و هو أنّ هذه الصناعات و العلوم ليست ممّا يحتفظ به النظام، بل الحافظ له هو التعاون في الحياة الاجتماعية.

توضيحه، إنّ في طبيعة الإنسان غريزة

الاجتماع، و الظاهر أنّها ناشئة عن امور:

منها كثرة حوائج الإنسان بالنسبة إلى غيره من الحيوانات.

و منها ميله إلى التنوّع، و شوقه إلى التكامل و الرقي في جميع الامور، و ذلك ناشئ عن قوّة إدراكه، و تنوّع أمياله و غرائزه و فطرياته، فلذا تتكثّر الصنائع و العلوم دائما و تحتاج إلى التخصص في شتّى نواحيها، ثمّ يريد كلّ إنسان أن ينتفع بما في أيدي الآخرين، و لا يمكن ذلك إلّا بالتعاون، و أداء شي ء ممّا يحسنه للوصول إلى ما يحسنه غيره، فالحافظ لنظام المجتمع هو هذا الأمر، لا مجرّد فعل هذه الصنائع، فعلى كلّ واحد الاشتغال ببعض ما يحتاج انوار الفقاهة، ج 4، ص: 419

إليه المجتمع الإنساني، ثمّ بذل ما في يده في مقابل ما في أيدي الآخرين.

فالصنائع بذاتها ليست واجبة، بل بما إنّها من مصاديق التعاون الحافظ للنظام، فإذا كان الواجب هو التعاون كان أخذ الاجرة مأخوذا في مفهومه، فلا تندرج المسألة في مسألة أخذ الاجرة على الواجبات (فتدبّر جيّدا).

نعم لو بلغ الإنسان حدّا من الفهم و الإيمان و الشعور الاجتماعي يكون الداعي الإلهي فيه قويّا يدعوه إلى الإيثار و بذل ما في يده توقّع شي ء من الآخرين، و اشترك جميع الناس في هذا الأمر (كما لعلّه يستفاد من بعض ما يحكى عن قصّة المجتمع الإلهي في عصر المهدي عليه آلاف التحيّة و الثناء) تبدّل «التعاون» «بالإيثار» و كان هو الحافظ للنظام، و ذهبت الاجرة و بقيت المثوبة.

و قد يشعر بما ذكرنا قوله تعالى: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا «1».

بعض مستثنيات المسألة:

اختار الفقيه الماهر صاحب الجواهر (قدّس اللّه سرّه) عدم مانعية صفة الوجوب عن أخذ

الاجرة مطلقا عدا ما يستفاد من دليله كونه مجانيا، و استراح من مشكلة الصناعات الواجبة كفاية و بعض النقوض الواردة على القول بالمنافاة مثل بذل المال للمضطر و أخذ بدله و شبه ذلك، و لكن شيخنا الأعظم قدّس سرّه لمّا رأى المنافاة بينهما تصدّى لدفع هذه النقوض، و هي كثيرة، منها:

1- أخذ الطبيب الاجرة إذا تعيّن عليه العلاج و خرج عن عنوان الواجب الكفائي.

2- أخذ الوصي اجرة مثل عمله مع وجوب العمل بالوصية.

3- جواز أخذ العوض لباذل القوت للمضطر.

4- رجوع الامّ المرضعة بعوض اللبن مع أنّه ممّا لا يعيش الولد إلّا به كما قيل.

فالتزم في الأوّل بالحرمة على مبناه من منافاة صفة الوجوب العيني مع أخذ العوض.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 420

و في الثاني بخروجه بالأدلّة القطعية و النصوص تعبّدا!

و في الثالث أنّه من مقتضى الضمان بالإتلاف لا المعاوضة.

و في الرابع بأنّه أمّا من قبيل بذل المال للمضطرّ، و إمّا من باب التعبّد لإطلاق قوله تعالى:

فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ «1» «2» (انتهى محصّل كلامه قدّس سرّه).

أقول: أمّا بالنسبة إلى أخذ الطبيب الاجرة، فقد عرفت أنّه لا إشكال فيه و ان انحصر العلاج بيده، لما ذكرنا من مسألة نقض الغرض في حفظ النظام و غيره.

أمّا أخذ الوصي اجرة مثل عمله، فالظاهر أنّه من باب الاشتراط الضمني عرفا في عقد الوصية، بعد كون عمل الحرّ محترما.

نعم إذا كان العمل بها لا يشغل وقتا كثيرا منه، فبناء العقلاء على المجانية، و إلّا فلا، و قد أمضاه الشرع.

و لعلّ أخبار أبواب الوصية أيضا منصرفة عن الصورة الأخيرة، فراجع 3 و 4 و 5 و 9/ 72 من أبواب ما يكتسب به و غير ذلك، بل لعلّ ظاهر الآية وَ

مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ «3» ب أيضا ذلك. و أصل الجواز له مشهور عندهم و ان كان المسألة ذات أقوال ثلاثة: من أنّه هل يستحقّ اجرة مثل عمله، أو ما يكفيه بالمعروف، أو أقلّ الأمرين؟ فراجع أحكام الوصية.

و أمّا بذل القوت للمضطرّ، فدليله أيضا ظاهر، لأنّ الواجب في الحقيقة هو حفظ النفس من طريق بذل القوت، و لا يتوقّف ذلك على كونه مجانا، فأخذ القيمة لا ينافي الوجوب أصلا، و ما ذكره شيخنا الأعظم لازمه عدم الضمان قبل الإتلاف.

و الفرق- بين «الأعمال» و «الأعيان» كما عن المحقّق الميرزا الشيرازي قدّس سرّه و لعلّ كلام الشيخ ناظر إليه- مشكل جدّا، و كذا الحال في أخذ الامّ المرضعة الاجرة على الرضاع، لأنّ الواجب عليها حفظ نفس الولد و هو غير متوقّف على البذل مجانا كما هو ظاهر.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 421

و أمّا أخذ الاجرة في مقابل «القضاء» فقد عرفت سابقا في مباحث الرشوة أنّه غير جائز، للروايات الخاصّة الواردة فيها، مضافا إلى ما يستفاد من غيرها من رفعة مقام القضاء، و كون أخذ الاجرة مظنّة للوقوع في الجور في الأحكام، و العمدة الروايات الخاصّة.

بقي هنا امور:
الأمر الأوّل: أخذ الاجرة على المحرمات

لا يجوز أخذ الاجرة على المحرّمات، لما تبيّن لك من أنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه، و أنّه أكل للمال بالباطل بعد عدم المالية لها شرعا، مضافا إلى حديث تحف العقول و غيره.

و أمّا أخذ الاجرة على المباحات و المكروهات فلا مانع منه، إذا اجتمعت فيه سائر شرائط الإجارة من الفائدة المقوّمة لها و غير ذلك.

و أمّا على المستحبّات، فقد فصل شيخنا الأعظم قدّس سرّه فيها بين العبادة و غيرها، فحكم بالفساد في الأوّل لفسادها بعدم

القربة بأخذ الاجرة، كما إذا أخذ الاجرة لإعادة صلاته حتّى يصلّي به جماعة، و بالصحّة في الثاني، كما إذا استؤجر لبناء المسجد و غيره.

هذا و الإنصاف صحّة الجميع بعد ما عرفت من تصحيح أخذ الاجرة من طريق الداعي إلى الداعي، فإذا لم تكن العبادة من وظائفه الحتمية، و استؤجر لفعلها فلا مانع منه، إلّا فيما يستفاد من دليله كونه مجّانا كما في الأذان على احتمال، و هو أيضا من قبيل الوظائف.

الأمر الثّاني: أخذ الاجرة على العبادات الاستيجارية

ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه هنا أنّ العبادات الاستيجارية كلّها داخلة في أخذ الاجرة على المستحبّات، لأنّ إتيان العبادات عن الغير مستحبّ ذاتا، و يأخذ الاجرة على فعل هذا المستحبّ، و لكن لمّا كانت العبادات الاستيجارية منوطة بقصد القربة، و هو لا يرخّص أخذ الاجرة حتّى على المستحبّات العبادية ذكر في تصحيح قصد القربة ما حاصله: إنّ حقيقة النيابة «جعل نفسه بمنزلة الغير و عمل العمل بقصد التقرّب الذي هو تقرّب المنوب عنه بعد فرض النيابة».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 422

مضافا إلى أنّ هذه النيابة عمل راجح يصحّ فيه قصد القربة أيضا، فيتقرّب النائب بها أيضا إلى اللّه، مضافا إلى المنوب عنه، و لكن كثيرا ما يغفل النائب عن هذا المعنى و لا يقصد إلّا تقرّب المنوب عنه لا تقرّبه نفسه بالنيابة عن المؤمن، بل قد لا يعلم هذا الرجحان، و مع ذلك عمله صحيح من حيث تقرّب المنوب عنه، فإذن لا مانع من أخذ الاجرة على نيابته بعد عدم كونه مشروطا بقصد القربة، ثمّ أورد على نفسه بأنّ الواقع في الخارج عمل واحد و هو الصلاة عن الميّت مثلا، و هو بعينه متعلّق الإجارة و النيابة، و ليست النيابة عن الميّت شيئا و الصلاة

شيئا آخر، حتّى يكون الأوّل متعلّقا للإجارة، و الثاني موردا للإخلاص.

ثمّ أجاب عنه بما حاصله: «إنّ الموجود في ضمن الصلاة الخارجية فعلان: نيابة صادرة عن الأجير، و صلاة كأنّها صادرة عن المنوب عنه، و هذان مختلفان في آثارهما، فانّه بالعنوان الأوّل ينقسم إلى المباح و الراجح و المرجوح، و بالعنوان الثاني تترتّب عليه الآثار الدنيوية و الاخروية للمنوب عنه، فكما أنّ آثارهما مختلفة كذلك أحكامهما مختلفة» (انتهى محصّل كلامه قدّس سرّه) «1».

هذا و لكن مع ذلك يبقى في كلامه الشريف مواقع للنظر:

أوّلا: التقرب إلى اللّه ليس من الامور الاعتبارية التي تحصل بالإنشاء أو النيّة عن الغير، و لا معنى لتقرّب إنسان بعمل غيره، كما إذا قصد حيازة المباحات لغيره (بناء على جوازها) بل التقرّب إليه تعالى له ملاكات نفسية لا تحصل إلّا بها، فهو من الامور التكوينية الناشئة من مبادئها.

نعم لو كان المنوب عنه هو الباعث للغير على العمل، بحيث عدّ العمل من أعماله تسبيبا، أمكن قبول التقرّب له بذلك، و لكن هذا المعنى غير موجود في موارد استيجار الغير و شبهها عن الميّت غالبا، اللهمّ إلّا أن يقصد المباشر اهداء ثواب عمله إليه، و هذا أمر آخر.

ثانيا: انطباق عنوانين على عمل واحد لا يجعله عملين: أحدهما صادر بقصد القربة، و الثاني بقصد الاجرة، لأنّ المفروض أنّ الصادر شي ء واحد.

و أمّا مجرّد قصد النيابة الذي هو أمر قلبي فليس بازائه اجرة قطعا، بل هي بازاء الفعل النيابي الخارجي.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 423

ثالثا: إنّ نفس النيابة من الأعمال الراجحة المعلومة بالارتكاز للمتشرّعة جميعا، خواصهم و عوامهم، و يرونها إحسانا للميّت أو الحي، و الإحسان إلى المؤمن من أفضل القربات، فكيف يغفل عن مثل هذا المعنى؟

فإذا لا

مناصّ إلّا من نفي العبادات الاستيجارية مطلقا على مبناه، و القول بأنّ ما ورد في مثل الحجّ إنّما تؤخذ الاجرة على المقدّمات فحسب، إمّا نفس العمل فيقع قريبا بدون قصد الاجرة، أو لا بدّ من قبول عدم منافاة قصد القربة لأخذ الاجرة من طريق الداعي على الداعي (كما ذكرناه سابقا).

ثمّ اعلم إنّه قد يقال: إنّ القرب المعتبر في العبادة لو كان من الحقائق الواقعية لكان حصوله للمنوب عنه ممتنعا، لكن لا يعتبر ذلك فيها جزما، و أمّا القرب الاعتباري و سقوط الأمر أو سقوط المكلّف به عن عهدته بفعل الغير بمكان من الإمكان، و يستكشف ذلك كلّه من أدلّة النيابة «1».

أقول: لا ينبغي الشكّ أنّ المعتبر في ماهية العبادة هو القرب الحقيقي، بل لم توضع العبادة إلّا لذلك، و إطاعة أوامر اللّه أيضا طريق للوصول إلى هذا المعنى، و لا معنى للقرب الاعتباري، و ليس القرب من الامور الاعتبارية أو الإنشائية الحاصلة بفعل الغير كما لا يخفى.

و أمّا سقوط الأمر إن كان بسبب قصد إطاعة الأمر، فهذا موجب للقرب حقيقة، أمّا سقوطه بفعل الغير فلا دخل له في القرب، نعم يمكن ذلك من باب اهداء الثواب، و لكن أين ذلك من النيابة؟

و أعجب منه ما ذكره في ذيل كلامه من نفي اعتبار قصد القربه في العبادات كلّها، و اكتفائه بالإخلاص و كونها للّه تعالى، مع أنّ العبادات لم توضع إلّا لذلك، فانّ غايتها إمّا تكريم اللّه و تعظيمه لحاجة اللّه إليه (تعالى عن ذلك علوا كبيرا) و أمّا لحاجة العبد، و هي تقرّبه نحوه، و لا ثالث لهما، و ما ذكره في ذيل كلامه يعود إلى قصد التقرّب في الواقع.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 424

و هنا

شبهة اخرى في مسألة النيابة في العبادات، و هي أنّ النائب لا أمر له حقيقة، و إنّما الأمر متوجّه إلى المنوب عنه، أو يكون في ذمّته، فكيف يمكن انبعاث المنوب عنه بأمر غيره، و تنزيل نفسه منزلة غيره؟ لأنّه لا أثر له في توجّه أمر غيره إليه، بعد عدم تغيير الواقعيات بهذا التنزيل الاعتباري الادّعائي، نعم الأمر متوجّه إليه بادّعائه، و الأمر الادّعائي لا أثر له و لا بعث و انبعاث له.

و يمكن الجواب عن جميع هذه الشبهات بأنّ الأصل في الأوامر و العبادات و ان كان كذلك، إلّا أنّ الشارع تفضّل على المؤمنين و أجاز لهم بنيابة بعضهم عن البعض في موارد خاصّة، و أجاز ابراء ذمّة المنوب عنه بفعل النائب، و هذا من باب التوسعة في باب الامتثال، كما في أداء الديون المالية الذي يحصل بفعل الغير أيضا، أمّا القرب و ان لم يكن حاصلا للمنوب عنه، إلّا أنّه يتفضّل عليه بشي ء من ثواب العمل، مضافا إلى براءة ذمّته، و ذلك لما دلّ صريحا من جواز النيابة عن الميّت في الحجّ و غيرها، و ان لم يوص بشي ء و لم يكن بأمره حتّى يعدّ فعلا له تسبيبا مثلما رواه:

1- محمّد بن أبي عمير عن رجاله عن الصادق عليه السّلام في الرجل يموت و عليه صلاة أو صوم قال: «يقضيه أولى الناس به» «1».

2- عبد اللّه بن سنان عن الصادق عليه السّلام قال: «الصلاة التي دخل وقتها قبل أن يموت الميّت يقضي عنه أولى الناس به» «2».

3- عبد اللّه بن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «يقضي عن الميّت الحجّ و الصوم و العتق و فعاله الحسن» «3».

4- العلاء بن رزين

في كتابه و هو أحد رجال الصادق عليه السّلام قال: «يقضي عن الميّت الحجّ و الصوم و العتق و فعال الخير» «4».

5- البزنطي و كان من رجال الرضا عليه السّلام قال: «يقضي عن الميّت الصوم و الحجّ و العتق و فعله الحسن» «5».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 425

6- و قال صاحب الفاخر: ممّا أجمع عليه و صحّ من قول الأئمّة عليهم السّلام قال: «يقضى عن الميّت أعماله الحسنة كلّها» «1».

و كذا الروايات الكثيرة الواردة في أبواب الحجّ، و ظاهر جميع ذلك النيابة لا مجرّد اهداء الثواب.

و في هذا التشريع الإسلامي فوائد جمّة من وجود الصلة و التحابب بين المؤمنين حيّا و ميّتا أوّلا، و انبعاث الناس إلى القربات و الطاعات و لو بسبب حبّهم لأقربائهم و أصدقائهم ثانيا، و لما فيه من التفضّل الإلهي إلى الأموات أو الأحياء ثالثا.

نعم، هذا حكم على خلاف القاعدة لا نقول به إلّا فيما ثبت، لما عرفت من أنّ القرب لا يحصل إلّا بمبادئه الخارجية، و ليس من الامور الاعتبارية. فتلخّص من جميع ما ذكرنا صحّة النيابة في العبادات في الجملة، كما أنّه يصحّ الاستيجار فيها كذلك، و لا مانع منه من ناحية قصد القربة (و ان كان لنا بحث في غير الحجّ من ناحية اخرى).

و كذا يجوز الاستيجار في المستحبّات مطلقا، عبادة كانت أو غيرها، اللهمّ إلّا أن يثبت من دليله المجانية، و أمّا المباح و المكروه فلا مانع منه، كما أنّ الإجارة على الحرام و ترك الواجب ممنوع مطلقا، و أمّا المكاسب الواجبة لحفظ النفوس أو النظام فهي خارجة عنها بما عرفت من الدليل.

الأمر الثّالث: أخذ الاجرة على الواجبات

الحكم في عكس المسألة كالحكم في نفس المسألة، أي كما أنّه لا يجوز أخذ الاجرة

على الواجبات و تمليكها للغير، كذلك لا يجوز صرف ما ملكه للغير في واجب نفسه (و تعرّضهم لمسألة الأجير في الطواف أو الإطافة هنا بهذه المناسبة و إلّا فالمسألة مربوطة ببحث الإجارة).

و حاصل الكلام فيها أنّه قد يكون الإنسان أجيرا للطواف من قبل غيره، و اخرى أجيرا لإطافة غيره من الصبي أو المريض و المغمى عليه، و ثالثة يكون أجيرا لحمله في الطواف، و رابعة يكون أجيرا للطواف معه.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 426

لا إشكال في أنّه في الصورة الاولى لا يجوز أن يقصد الطواف لنفسه، و يستدلّ له بأنّ نفس هذا العمل مطلقا للغير، فلا يجوز أن يقصده لنفسه، و العمدة في ذلك أنّه لا يجوز الجمع بين النيابة و الأصالة في نيّة واحدة لمنافاتهما بارتكاز المتشرّعة، بل ظهور روايات النيابة، و إلّا لو جاز الجمع بينهما في النيّة أمكن القول بجوازهما.

و أمّا الصورة الثانية و الثالثة فيهما أقوال كثيرة، فمنعهما جماعة كما حكي عن الإسكافي و من تبعه «1».

و أجازهما بعض «2»، و فصل جماعة بينهما، فمنع في الأوّل، و أجاز في الثاني، و فصل رابع بين صورة التبرّع و الجعالة، و صورة الإجارة، فأجاز في الأوّل و منع في الأخير، كما عن المسالك «3»، إلى غير ذلك.

و حيث أنّ المسألة خالية عن نصّ خاص، فلا بدّ من الرجوع فيها إلى القواعد، و هي تقتضي الجواز، لأنّ الإطافة بما أنّها فعل صادر منه، و كذلك الحمل بما أنّه فعل مباشري لا ينافي قصد طواف نفسه.

و إن شئت قلت: إنّ الذي استؤجر عليه هو مطلق الإطافة أو الحمل، سواء كان ذلك في طواف نفسه، أو لا، فالمستأجر عليه كان من أوّل أمره مطلقا من هذه

الناحية، و يشتمل الصورتين، فلا وجه للمنع عنه بعد أداء الحقّين و عدم المانع في البين.

و الشاهد على ذلك أنّه يصحّ الاستيجار على حمل غيره في خصوص طواف نفسه، أو إطافة الغير فيما يقصده لنفسه، فكما يصحّ ذلك في مورد التصريح به بلا إشكال، يجوز الاستيجار على الأعمّ بلا إشكال أيضا.

نعم لو كانت الإجارة على خصوص الفرد غير المقارن بعمل نفسه لم يجز قصد طواف نفسه فيه.

و استدلّ على المنع مطلقا بأنّ الحركة الخاصّة ملك للغير بمقتضى الإجارة لا يجوز أن يجعلها لنفسه.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 427

و قد عرفت الجواب عنه و أنّ الذي هو ملك للغير أعمّ من الحركة المقارنة للطواف نفسه و غير المقارن له.

كما يظهر منه دليل القول بالتفصيل بين الاستيجار على الحمل، أو الإطافة، و جوابه أنّه لا فرق بينهما بعد كون الاستيجار على الأعمّ، مضافا إلى أنّ الإطافة أمر صادر منه، و كونها ملكا للغير لا يكون دليلا على تملّك أسبابه كما هو ظاهر.

كما يظهر بذلك دليل التفصيل المحكي عن المسالك، و هو عدم تمامية الملك للغير في الجعالة و التبرّع، و تماميته في الإجارة.

و فيه مضافا إلى ما عرفت من عمومية مورد الإجارة، أنّه على فرض الجعالة و إن صحّ طوافه، و لكن كيف يأخذ مال الجعالة بعد ما هو مفروض في كلماتهم من عدم جواز صرف ما هو لغيره لنفسه، و بالعكس؟

هذا و قد وردت روايات كثيرة في باب جواز حمل الإنسان غيره في طواف نفسه و أنّه يجوز لهما، و هي دليل على المقصود، و إليك بعضها:

1- ما رواه محمّد بن الهيثم التميمي عن أبيه قال: حججت بامرأتي و كانت قد أقعدت بضع عشرة سنة، قال: فلمّا

كان في الليل وضعتها في شقّ محمل و حملتها أنا بجانب المحمل و الخادم بالجانب الآخر، قال فطفت بها طواف الفريضة، بين الصفا و المروة و اعتددت به أنا لنفسي، ثمّ لقيت أبا عبد اللّه عليه السّلام فوصفت له ما صنعته، فقال عليه السّلام: «قد أجزأ عنك» «1».

2- و ما رواه الهيثم بن عروة التميمي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال قلت له: إنّي حملت امرأتي ثمّ طفت بها و كانت مريضة و قلت له: إنّي طفت بها و بالبيت في طواف الفريضة و بالصفا و المروة و احتسبت بذلك لنفسي فهل يجزيني؟ فقال عليه السّلام: «نعم» «2».

3- و ما رواه حفص بن البختري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في المرأة تطوف الصبي و تسعى به هل يجزي ذلك عنها و عن الصبي؟ فقال عليه السّلام: «نعم» «3».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 428

4- و ما رواه هيثم التميمي قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: رجل كانت معه صاحبة لا تستطيع القيام على رجلها فحملها زوجها في محمل فطاف بها طواف الفريضة بالبيت و بالصفا و المروة أ يجزيه ذلك الطواف عن نفسه طوافه بها؟ فقال عليه السّلام: «أيّها اللّه ذا» «1».

فمورد هذه الأحاديث و إن لم تكن الإجارة، و لكن يمكن الغاء الخصوصية منها، فراجع و تدبّر.

فلا إشكال من احتساب من استؤجر لإطافة غيره أو حمله في الطواف لنفسه و الاعتداد به.

الأمر الرّابع: أخذ الاجرة على الآذان

المشهور حرمة أخذ الاجرة على الأذان، بل عن «الخلاف» و «جامع المقاصد» الإجماع عليه، و عن حاشية الإرشاد نفي الخلاف فيه، و قال في المختلف أنّه مشهور (كما في مفتاح الكرامة) و مع ذلك حكي عن علم الهدى و الكاشاني الكراهة،

و قد يسند إلى المعتبر و المبسوط و هو غير ثابت، بل قد يحمل قول علم الهدى على الارتزاق من بيت المال، فالمخالف الصريح قليل جدّا.

و أمّا بحسب القواعد، فالأصل فيه الجواز إذا كان له نفع عائد إلى الباذل يبذل بازائه المال كأذان الإعلام (و لكن ذكرنا في محلّه أنّه لا دليل على ثبوت أذان الإعلام بل الأذان دائما يكون للصلاة التي انعقدت جماعته أو في شرف الانعقاد) أو لصلاة نفسه على الأقل.

فالأولى أن يمثّل له بأذان الصلاة إذا أوجب سقوطه عن الغير أو كان فيه فائدة الإعلام و ان كان للصلاة، بل كلّ أذان إعلام بهذا المعنى.

و المراد من الأصل هنا عمومات الإجارة، و لا يمنع منه اعتبار القربة، كما عرفت، نعم لا يبعد كونه ممّا يستفاد من أدلّته المجانية أو في ارتكاز المتشرّعة و أنّه من الوظائف الشرعية المستحبّة.

و أمّا بحسب الأدلّة الخاصّة، فتدلّ على الحرمة روايات منها:

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 429

1- ما رواه السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي عليه السّلام قال: آخر ما فارقت عليه حبيب قلبي ... أن قال: «يا علي! إذا صلّيت فصلّ صلاة أضعف من خلفك، و لا تتخذن مؤذّنا يأخذ على أذانه أجرا» «1».

2- قال أتى رجل أمير المؤمنين عليه السّلام فقال: يا أمير المؤمنين و اللّه إنّي لأحبّك فقال له:

و لكنّي ابغضك! قال: و لم؟! قال: «لأنّك تبغي في الأذان كسبا و تأخذ على تعليم القرآن أجرا» «2».

3- و ما رواه العلاء بن سيّابة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لا يصلّي خلف من يبتغي على الأذان و الصلاة الأجر و لا تقبل شهادته» «3».

4- و ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه

السّلام قال: «لا تصلّي خلف من يبغي على الأذان و الصلاة بالناس أجرا و لا تقبل شهادته» «4».

و بعض هذه الأحاديث صحيحة الإسناد و الباقي مجبور بالعمل، هذا بالإضافة إلى ما ورد في بعض علائم آخر الزمان و انّهم يأخذون على الأذان أجرا عندئذ.

فتحصّل من جميع ذلك أنّه لا يجوز أخذ الاجرة على الأذان مطلقا.

الأمر الخامس: أخذ الاجرة على الإمامة

و ممّا ذكرنا يظهر حكم مسألة الاستيجار على الإمامة، فانّها إن كانت في صلاة واجبة، فالظاهر عدم جواز أخذ الاجرة عليها بعد اتّحادها مع الواجب، و أمّا إن كانت في صلاة غير واجبة (كصلاة العيد في عصرنا) أو الصلاة المعادة بناء على المختار من جوازها، و لو صلّى قبلها جماعة إماما (لكن مرّة واحدة فقط) فهي و ان كانت جائزة بحسب القواعد بعنوان الداعي على الداعي، و لكن الأولوية بالنسبة إلى الأذان قد تمنعها، و كذا ارتكاز المتشرّعة على كونه أمرا مجانيا، و لدعوى عدم الخلاف فيه بين الخاصّة، مضافا إلى الروايتين المتقدّمتين (2 و 6/ 32 من أبواب الشهادات).

الأمر السّادس: أخذ الاجرة على الشهادة
اشارة

يجب تحمّل الشهادة و كذا أدائها، أمّا الأوّل فلقوله تعالى: وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا «1» و سياق الآية شاهد على أنّ الدعوة لتحمّل الشهادة مضافا إلى تفسيرها به في المصحّحة التي رواها هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ ... قال: قبل الشهادة، و قوله: «و من يكتمها فانّه آثم قلبه» قال: بعد الشهادة «2».

و الروايات في ذلك كثيرة فراجع الباب من أبواب الشهادات في الوسائل.

و كذا يجب أداء الشهادة لقوله تعالى: وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ «3».

نعم الكتمان لا يصدق إلّا إذا طلب القاضي أو المدّعي، فلو نسيه المدّعي و لم يطلب منه الشهادة، لا يصدق عليه الكتمان، إلّا أنّ قوله تعالى وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ «4» قد يدلّ على الأعمّ، و الروايات بهذا الحكم متظافرة «5» و هو إجماعي إجمالا، و ان كان في خصوص المقام الأوّل، أي أخذ الاجرة مشهورا، و خالف

فيه بعض، و مال إليه صاحب الجواهر، و الكلام في تفاصيلها في محلّه، و حيث أنّ المختار عدم الفرق بين الواجب العيني، و الكفائي في حرمة أخذ الاجرة، فالحكم بالحرمة هنا ظاهر، نعم بناء على الفرق بينهما أمكن القول بجوازه، لظهور كلمات الأصحاب في كون الوجوب في كليهما (التحمّل و الأداء) كفائيا، بل ظاهر حكمة الحكم أيضا تقتضي الكفائية، اللهمّ إلّا أن ينقلب إلى العيني بالعرض عند عدم وجود من به الكفاية غيره.

بقي هنا شي ء:

لو احتاج التحمّل أو الأداء إلى قطع مسافة قصيرة أو طويلة، وجب عليه مقدّمة للواجب، و لو احتاج إلى أداء مال، فقد قال في المسالك أنّه لا يجب للضرر، بل قال في الجواهر إنّ انوار الفقاهة، ج 4، ص: 431

قطع المسافة الطويلة و نحوها من مصاديق العسر و المشقّة.

و لكن الإنصاف إنّ جميع المقدّمات واجبة عليه إلّا أن يكون فيها حرجا شديدا أو ضررا عظيما معتدا به، فيكون داخلا في أدلّتهما (فتدبّر جيّدا).

الأمر السّابع: أخذ الاجرة على الإفتاء

و ممّا يحرم أخذ الاجرة عليه الإفتاء، ذكره السيّد اليزدي قدّس سرّه في حاشيته على المكاسب، و استدلّ له بقوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً «1» (و قد ورد في كلام نوح و هود و صالح و لوط و شعيب عليهم السّلام في سورة الشعراء: وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ «2») و لأنّه واجب مجاني كما يظهر من أخبار وجوب التعليم و التعلّم.

و قد سبقه إلى ذلك صاحب الجواهر قدّس سرّه حيث قال: «و يلحق بالقضاء الإفتاء في مسائل الحلال و الحرام و الموضوعات الشرعية، من غير فرق بين الواجبة و المندوبة و المكروهة و المباحة، لما عرفته من عدم سؤال الأجر و كونه من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر» «3».

أقول: أمّا الآية فلعلّ في تبليغ الأنبياء عليهم السّلام خصوصية ليست في غيرهم و الأولوية هنا ممنوعة، و الثاني يختصّ ببيان الواجبات و المحرّمات.

و الأولى أن يقال: إنّ الإفتاء في جميع الأحكام واجب كفائي، لوجوب حفظ أحكام الدين جميعا، و لآية النفر «4»، و ما دلّ على وجوب التعليم، و أنّه ما أخذ على العباد أن يتعلّموا حتّى أخذ على العلماء أن يعلّموا، و

غير ذلك، فيحرم أخذ الاجرة عليه.

الأمر الثّامن: أخذ الاجرة على تعليم القرآن
اشارة

اختار المشهور كراهيتها، كما في مفتاح الكرامة «5»، و فصل بعضهم بين الاشتراط

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 432

و عدمه، فقال بالكراهة في الأوّل دون الثاني، كما في السرائر و الإيضاح النافع «1». و عن الإستبصار الحرمة مع الشرط و بدونه مكروهة «2»، و وافقه العلّامة رحمه اللّه في موضع من إجارة التذكرة، و لكن صرّح في موضعين آخرين بالكراهة «3»، و ظاهر العلّامة رحمه اللّه في الإرشاد عدم الكراهة أصلا، و صرّح السيّد في الحاشية بالجواز من دون ذكر الكراهة «4».

فالمسألة ذات أقوال أربعة:

و الظاهر أنّ محلّ الكلام في غير الواجب منه، فقد تجب قراءة القرآن في موارد كثيرة، منها:

1- لقراءة الصلاة في الأوّليين تعيّنا و في غيره تخييرا.

2- لتعلّم العقائد و الأحكام إذا توقّف عليها.

3- مقدّمة لاجتهاد المجتهد في أحكام الدين.

4- لحفظه عن اندراسه و بقائه مرّ الدهور و حفظ المعجز و تواتره، فإذا كان واجبا عينيا كان الأمر ظاهر، و إذا كان واجبا كفائيا فعلى المختار من حرمة أخذ الاجرة على الواجبات مطلقا حتّى الكفائية منها أيضا ظاهر، إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه قد استدلّ للمشهور- و هو الكراهة و عدم الحرمة- بامور:

الأوّل: الأصل، و هي الإباحة.

الثاني: الإجماع المدّعى المنجبر بالشهرة كما في المفتاح، فتأمّل.

الثالث: جواز جعله مهرا بالإجماع.

الرابع: و هو العمدة الروايات الدالّة على المقصود منها:

1- ما رواه الفضل بن أبي قرّة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: هؤلاء يقولون إنّ كسب المعلّم سحت، فقال: «كذبوا أعداء اللّه إنّما أرادوا أن لا يعلّموا أولادهم القرآن لو أنّ المعلّم انوار الفقاهة، ج 4، ص: 433

إعطاء رجل دية ولده لكان للمعلّم مباحا» «1». رواه المحمّدون الثلاث في كتبهم.

2- ما رواه الجرّاح المدائني قال: نهى أبو عبد اللّه

عليه السّلام عن أجر القارئ الذي لا يقرأ إلّا بأجر مشروط «2».

3- و ما رواه محمّد بن علي بن الحسين قال: «نهى رسول اللّه عن اجرة القارئ الذي لا يقرأ إلّا على أجر مشروط» «3».

بناء على انّ مفهوم الأخيرين الجواز بدون الشرط، و لكن الظاهر انّهما أجنبيان عمّا نحن بصدده، لأنّهما بصدد بيان حكم القراءة لا في التعليم، و لا وجه للقياس أو دعوى الغاء الخصوصية.

فالعمدة هي الرواية الاولى المنجبر ضعفها بالشهرة، و الظاهر كفايتها في إثبات المطلوب.

و يستدلّ على الحرمة بما رواه الصدوق رحمه اللّه مرسلا.

محمّد بن علي بن الحسين قال: و قال علي عليه السّلام: «من أخذ على تعليم القرآن أجرا كان حظّه يوم القيامة» «4».

و لا يخفى ضعفه بالإرسال لا سيّما في مقابل ما عرفت، و الظاهر أنّه هو مستند المشهور للحكم بالكراهة، جمعا بين الأخبار، بل لا دلالة فيها على الحرمة كما لا يخفى.

و أمّا رواية الأعشى «5» و خبر الجرّاح المدائني، فحالهما ظاهر لعدم دلالتهما على مسألة التعليم، بل واردتان في نفس قراءة القرآن.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّه يجوز أخذ الاجرة على تعليم القرآن، و لا كراهة فيه ما عدا ما يجب تعليمه و تعلّمه شرعا لحفظ القرآن عن الاندراس، أو لقراءته في الصلاة، أو كشف أحكام الشرع و غيره.

الأمر التّاسع: أخذ الاجرة على اجراء صيغ العقود

و منها النكاح جائز، بل لم ينقل فيه خلاف عن أحد للأصل، و لعدم كونه من الواجبات.

نعم إذا توقّف نكاح واجب عليه و امتنع صاحبه عن البذل أو لم يكن له مال، وجب من دون اجرة، و يمكن أن يقال بأنّ الاجرة هنا تكون في ذمّة صاحبه إلى أن يؤدّيها، لكن إذا وكّله في ذلك، و بدونه لا تجب

في ذمّة صاحبه.

و كذا بالنسبة إلى تعليم صيغ النكاح و غيره من العقود التي تكون من قبيل بيان الأحكام و تعليمها، فانّه لا يجوز أخذ الاجرة عليها كما عرفت.

الأمر العاشر: حكم الارتزاق من بيت المال

و في النهاية تصل النوبة إلى «حكم الارتزاق من بيت المال» فيما لا يجوز أخذ الاجرة عليه من الواجبات و غيرها من الأذان و الإمامة و القضاء و غيرها.

صرّح كثير من الأصحاب (رضوان اللّه عليهم) بجواز ارتزاق القاضي من بيت المال في غير واحد من الموارد التي يحرم أخذ الاجرة عليه.

لكن ظاهر جماعة عدم اشتراط الفقر فيه، بل حكي التصريح به عن بعض، بينما يظهر من بعض آخر اشتراطه.

بل يلوح من بعض كلمات صاحب الجواهر قدّس سرّه كون عنوان الفقر مأخوذا في مفهوم الارتزاق، و حاصله ببيان منّا:

إنّ من كان مشغولا بسياسة الدين و مصالح المؤمنين عن التكسّب لقوته و قوّة عياله و باقي ضرورياته، فلا بدّ أن يرتزق من يت المال المعدّ لمصالح المسلمين، أمّا من كانت له كفاية فهو غير محتاج إلى ذلك «1».

و في مفتاح الكرامة في بحث الأذان عن المنتهى الإجماع على جواز الارتزاق، و عن مجمع البرهان لا خلاف فيه، و فرّق جماعة بين الاجرة و الرزق بأنّ الاجرة تقتصر إلى تقدير

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 435

العمل و العوض و المدّة و الصيغة، و الرزق ليس كذلك «1».

هذا، و لكن الظاهر أنّ التفاوت بينهما بقصد المعاوضة في الأوّل دون الثاني، و ما ذكر إنّما هو بعض آثاره، بل لو لم تكن هذه الامور و كان بقصد المعاوضة إجمالا، و لكن أخذ اجرة المثل كان داخلا في الاجرة المحرّمة.

و تحقيق الحال في المسألة أن يقال:

أوّلا: أخذ الاجرة حرام، سواء كان مع تقدير العمل

و العوض و غير ذلك، أو كان بمجرّد قصد المعاوضة و الاكتفاء باجرة المثل.

ثانيا: إنّ حقيقة الارتزاق و مفهومه العرفي و ان كان الانتفاع منه لدى الحاجة إليه، إلّا أنّ هذه اللفظة غير مأخوذة في لسان دليل شرعي حتّى نرجع إليه في المقام، نعم في كلام أمير المؤمنين علي عليه السّلام في عهده إلى الأشتر ما يقرب منه حيث قال: «و افسح له في البذل ما يزلّ عليّته و تقلّ معه حاجته إلى الناس» «2» و أمّا ما ورد في بعض معقاد الجماعات فحاله معلوم بعد عدم كونه إجماعا تعبّديا.

ثالثا: اللازم ملاحظة الأموال التي تجعل في بيت المال و مصارفها حتّى يتبيّن حال المسألة، فانّه المفتاح الوحيد لحلّ المشكلة، فنقول و من اللّه سبحانه نستمدّ التوفيق:

إنّ ما يرد في بيت المال تارة يكون من الزكوات.

و اخرى من الأخماس حقّ السادة.

و ثالثة من سهم الإمام من الخمس.

و رابعة من الأنفال.

و خامسة من الخراج و أراضيها.

أمّا الأوّل، فلا شكّ في اعتبار الفقر فيه لو كان من سهم الفقراء و المساكين، و أمّا إن كان من سهم سبيل اللّه فلا يشترط فيه الفقر، بل كلّ أمر مطلوب للّه و ان كان لنا فيه كلام في محلّه و أنّه لا يبعد تخصيصه بخصوص أمر الجهاد و ما أشبهه من تبليغ الدين.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 436

أمّا حقّ السادة من الخمس فكذلك.

أمّا سهم الإمام عليه السّلام منه فقد ذكرنا في محلّه أنّه يصرف فيما هو مهمّة الحكومة الإسلامية و غيرها ممّا فيه رضى الإمام عليه السّلام، و يؤخذ بالقدر المتيقّن عند الشكّ، و لا يشترط فيه الفقر و لا شي ء آخر سوى رضاه.

و كذلك الأنفال، فانّها أيضا منوطة برضاه عليه السّلام

و مصالح الحكومة الإسلامية من دون تقييد بالفقر، و لا بالتسوية في العطاء كما ذكر في محلّه.

و أمّا «الخراج» فلمّا كان من الأراضي التي هي ملك لجميع المسلمين فلا بدّ أن تصرف في مصالحهم، و لو زاد يقسم بينهم بالسوية ظاهرا من دون اشتراط الفقر فيه أيضا، فلم يبق من اشتراط الفقر مورد إلّا مسألة الزكاة من سهم الفقراء و المساكين و الخمس للسادة، و التسوية لا تكون إلّا في الخراج، و تمام الكلام في أحكام بيت المال و مصارفه في محلّه المناسب من الفقه إن شاء اللّه، فانّه بحث طويل الذيل كثير المنافع كما لا يخفى.

خاتمة لمّا تمّ الكلام في الأنواع الخمسة من المكاسب المحرّمة بقي هنا مسائل ذكروها في الخاتمة.
المسألة الأولى: بيع المصحف من المؤمن و الكافر
اشارة

أمّا من المؤمن فقد وقع فيه الخلاف بينهم، فالمشهور هو الحرمة، بل حكي عدم الخلاف فيه، و عن جماعة الجواز، و العمدة فيه الروايات المختلفة المتعارضة بظاهرها في المسألة و كيفية الجمع بينها، و مقتضى القواعد الصحّة و دخولها في عمومات العقود، بل ادّعى في الجواهر جريان السيرة القطعية على الجواز، بل ظهور إطلاق كلامهم في المسألة الآتية من حرمة بيعها من الكافر يشير إلى ذلك.

و هنا طائفتان من الروايات:

الطائفة الاولى: ما دلّ على التحريم، و هي:

1- ما رواه عبد الرحمن بن سيّابة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال سمعته يقول: «إنّ المصاحف لن تشترى، فإذا اشتريت فقل إنّما أشتري منك الورق و ما فيه من الأديم و حليته و ما فيه من عمل يدك بكذا و كذا» «1».

2- ما رواه سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن بيع المصاحف و شرائها فقال: «لا تشتر كتاب اللّه، و لكن اشتر الحديد و الورق و الدفّتين، و قل أشتري منك هذا بكذا و كذا» «2».

3- ما رواه عثمان بن عيسى قال سألته عن بيع المصاحف و شرائها فقال: «لا تشتر كلام اللّه و لكن اشتر الحديد و الجلود و الدفتر و قل أشتري هذا منك بكذا و كذا» «3».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 440

4- ما رواه عبد اللّه بن سليمان (عن الصادق عليه السّلام) قال: سألته عن شراء المصاحف. فقال:

«إذا أردت أن تشتري فقل أشتري منك ورقه و أديمه و عمل يدك بكذا و كذا» «1».

5- ما رواه جرّاح المدائني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في بيع المصاحف قال: «لا تبع الكتاب و لا تشتره و بع الورق و الأديم و الحديد» «2».

6- ما رواه سماعة بن مهران

قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «لا تبيعوا المصاحف فانّ بيعها حرام» قلت: فما تقول في شرائها قال: «اشتر منه الدفّتين و الحديد و الغلاف و إيّاك أن تشتري منه الورق و فيه القرآن مكتوب فيكون عليك حراما و على من باعه حراما» «3».

الطائفة الثانية: ما دلّ على الجواز أو يشعر به، و هي:
اشارة

1- ما رواه روح بن عبد الرحيم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن شراء المصاحف و بيعها. فقال: «إنّما كان يوضع الورق عند المنبر، و كان ما بين المنبر و الحائط قدر ما تمرّ الشاة أو رجل منحرف، قال: فكان الرجل يأتي فيكتب من ذلك، ثمّ أنّهم اشتروا بعد».

قلت: فما ترى في ذلك؟ فقال لي: «اشتري أحبّ إليّ من أبيعه»، قلت: فما ترى أن أعطي على كتابته أجرا؟ قال: «لا بأس و لكن هكذا كانوا يصنعون» «4».

2- ما رواه عنبسة الورّاق قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام فقلت: أنا رجل أبيع المصاحف فان نهيتني لم أبعها، فقال: «أ لست تشتري ورقا و تكتب فيه؟» قلت: بلى و اعالجها. قال: «لا بأس بها» «5».

3- ما رواه أبو بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن بيع المصاحف و شرائها فقال: «إنّما كان يوضع عند القامة و المنبر» قال: «كان بين الحائط و المنبر قيد ممرّ شاة و رجل و هو منحرف فكان الرجل يأتي فيكتب البقرة و يجي ء آخر فيكتب السورة، كذلك كانوا، ثمّ انّهم اشتروا بعد ذلك». فقلت: فما ترى في ذلك؟ قال: اشتريه أحبّ إليّ من أن أبيعه «6».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 441

4- ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّ أمّ عبد اللّه بن

الحارث أرادت أن تكتب مصحفا و اشترت ورقا من عندها ودعت رجلا فكتب لها على غير شرط فأعطته حين فرغ خمسين دينارا و أنّه لم تبع المصاحف إلّا حديثا» «1».

و هناك روايات تدلّ على جواز كتابته بالأجر مثل:

الأوّل: ما رواه روح بن عبد الرحيم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و قد مرّ آنفا، و زاد فيه قال: قلت:

ما ترى أن أعطي على كتابته أجرا؟ قال: «لا بأس و لكن هكذا كانوا يصنعون» «2».

الثاني: ما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن الرجل يكتب المصحف بالأجر، قال: «لا بأس» «3».

الثالث: ما رواه علي بن جعفر قال: و سألته عن الرجل هل يصلح له أن يكتب المصحف بالأجر؟ قال: «لا بأس» «4».

و أكثر الروايات من الجانبين و ان كانت ضعيفة، و لكن تظافرها يغني عن إسنادها، إنّما الكلام في طريق الجمع بينهما، و قد جمع بينهما في الجواهر بحمل الاولى على الاستحباب لوجود قرائن فيها و انّ المراد منها عدم مقابلته بالثمن في صورة اللفظ، و عدم مساواته لباقي المبيعات في الابتذال، و أيّده بضرورة الدين على جواز بيع الكتب الفقهية و غيرها ممّا تتضمّن الآيات «5».

و اختاره أيضا بعض الأكابر من محشّي المكاسب، و قال إنّ الغاية القصوى من النهي إنّما هو التأدّب و الاحترام لكلام اللّه، فانّ الدنيا و ما فيها لا تساوي عند اللّه جناح بعوضة، فكيف يمكن أن يقع جزء من ذلك ثمنا للقرآن الذي اشتمل على جميع ما في العالم و يدور عليه مدار الإسلام! «6».

و اختار شيخنا الأعظم قدّس سرّه وجها آخر للجمع بينها بعد اختيار قول المشهور في المقام،

انوار الفقاهة، ج 4، ص:

442

و هو أنّ الأخبار المجوّزة تدلّ على أصل الجواز، و لا تدلّ على كيفية البيع، فيمكن حملها على بيع الأديم و الحديد و الأوراق و شبهها «1».

و كأنّه رآهما من قبيل المطلق و المقيّد.

هذا و الأقوى هو الجمع الأوّل، و العمدة فيه:

أوّلا: ما في أكثر روايات المجوّزة بل جميعها ما عدا شاذّ منها من قوله «قل اشتري منك الورق ...» فانّ هذا التعبير أقوى شاهد على ما ذكر، فانّ قوله «قل» الخ ليس إلّا قولا لفظيا تأدّبا، و إلّا فلا شكّ أنّ الداعي الجدّي ليس شراء نفس الورق و الجلد و الأديم مجرّدا عن النقوش، لعدم تعلّق الغرض بها، بل الغرض الوحيد هو النقوش أو الأوراق مع وصفها بالنقوش، و هو من قبيل تسمية ثمن القرآن هديّة في أيّامنا، مع أنّ الداعي الجدّي هو الشراء، لا الإهداء، و هذا القول أمر صوري لاحترام القرآن، فيناسب أن يكون مستحبّا لا واجبا كما لا يخفى.

ثانيا: عدم ذكره في روايات عديدة واردة في محلّ البلوى و الحاجة قرينة اخرى على كونه أمرا صوريا استحبابيا.

ثالثا: إنّ هذه النقوش لا تخلو عن أحد امور:

1- إنّها من الصفات التي لا يقع بازائها جزء من الثمن و إن تفاوتت قيمة الأوراق بسببها، فلا وجه للنهي عن بيعها بعد عدم دخولها في المبيع.

2- إنّها من الأعيان، و لكن تبقى على ملك البائع، فلازمه الشركة التي لا يقول به أحد.

3- أنّها من الأعيان، و لكن تنتقل إلى المشتري بجزء من الثمن، و هذا ممنوع على الفرض.

4- إنّها من الأعيان، و لكن تنتقل قهرا و بدون رضاه تبعا، و هو بعيد.

5- إنّها من الأعيان التي لا تدخل في ملك أحد بحكم الشارع المقدّس، و هو

عجيب!

فحيث لا يمكن الالتزام بشي ء من هذه الاحتمالات الخمسة، لا بدّ من القول بالجواز حتّى تنحلّ العقدة.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 443

و يمكن أن يقال: إنّ انتقال الصفات في أمثال ذلك قهري، لأنّها أمر تبعي لا يبقى على ملك أحد إلّا بتبع محلّه.

مضافا إلى أنّ هذا الدليل لا يعدّ دليلا قطعيّا، بل يمكن عدّه تأييدا لمسألة مع قطع النظر عمّا ذكرنا، و من هنا تعرف أنّ شراء الورق لا ينفك عن شراء الخطوط تبعا، و لا يكون شراء الخطوط إلّا كذلك، و لكن التأدّب يقتضي ما ذكر من التعبير.

و الحاصل أن خطوط القرآن إمّا أن تكون مستقلّة برأسها، أو لا تكون إلّا تبعا؟ فعلى الأوّل تبقى على ملك مالكها، و على الثاني تنتقل بالتبع، فيكون مصداق الشراء لمصحف، و كلاهما مشكل على الحرمة، و الحقّ أنّها تبع عرفا، و لا حرمة فيه إنّما اللازم التأدّب في التعبير.

بقي هنا امور:

الأوّل: يظهر من رواية سماعة (11/ 31) عدم جواز شراء الورق أيضا، و هو مع مخالفته لصريح أكثر روايات الباب التي فيها الصحيحة و غيرها إنّه ممّا لا يمكن الالتزام به، فهل يبقى على ملك مالكه، أو يخرج عن المالية بمجرّد كتابة القرآن عليه؟ كلّ ذلك بعيد و لعلّه لم يقل به أحد.

الثّاني: قد يستدلّ للجواز بالسيرة القطعية على بيع المصاحف، و لكن إثباته متّصلا إلى زمن المعصومين عليهم السّلام مشكل جدّا، اللهمّ إلّا أن يتمسّك بالروايات السابقة، فتعود إلى التمسّك بالسنّة لا بالسيرة.

الثّالث: إذا اشتمل كتاب على آيات من القرآن الكريم، و قلنا بحرمة بيع المصحف، فالظاهر جواز بيعه، قلّ أو كثر، ما لم يصدق عليه المصحف، فانّ التعبير بالمصاحف في غير واحد منها (1 و 2 و

6 و 7/ 31) أو كتاب اللّه في غيرها (2/ 31) ظاهر فيما ذكرنا، و أمّا قوله:

«لا تشتر كلام اللّه» في بعضها (3/ 31) «1» الصادق على الآية و الآيات، فالظاهر أنّ المراد به انوار الفقاهة، ج 4، ص: 444

المصحف بقرينة ما في ذيله من شراء الحديد و الجلود.

و قد يستدلّ أيضا برواية سماعة (11/ 31) و ما فيه من النهي قوله: «إيّاك أن تشتري منه الورق و فيه القرآن مكتوب، فيكون حراما عليك و على ما باعه» نظرا إلى أنّ النهي عن شراء الورق شامل لكلّ ورق كتب فيه القرآن «1».

و فيه ما لا يخفى على من راجع صدر الحديث، فانّ الكلام يدور مدار بيع المصاحف، و النهي عن شراء الورق مقابل لقوله: اشتر منه الدفتين و الحديد و الغلاف. فراجع.

هذا و قد يستدلّ بالسيرة القطعية على بيع هذه الكتب و شرائها و لم يستشكل فيه فقيه بل متفقّه، و لكن اتّصالها إلى زمنهم عليهم السّلام أيضا غير ثابت، بل قد يفهم منها جواز بيع بعض القرآن و لو كان مجرّدا عن هذه الكتب لعدم الفرق بينهما، بل قد يستدلّ به على جواز بيع الكلّ بسبب هذه السيرة، فانّ دليل المنع لم يفرّق بينهما «2».

و لكن فيه أيضا ما لا يخفى، لأنّ السيرة دليل لبّي لا عموم فيها، و الغاء الخصوصية منها أيضا ممنوع، و العمدة ما ذكرنا من أنّ الحرمة على القول بها تتعلّق على عنوان المصحف، فلا تشمل غيره حتّى كتب التفسير المشتملة على جميع القرآن الكريم (فتدبّر جيّدا).

الرّابع: لا مانع من انتقال المصحف بالإرث أو الهبة أو الوقف الخاص أو شبهها إلى غير صاحبه، لعدم الدليل على المنع في غير البيع و

المعاوضات.

بيع المصحف من الكافر:
اشارة

ذكر جماعة من الأعاظم منهم العلّامة رحمه اللّه و من تبعه كما حكي عنهم الحاق المصحف بالعبد المسلم في عدم جواز بيعه من الكافر، و ذكره صاحب الجواهر قدّس سرّه في ذاك المبحث بعينه من غير تعرّض له هنا «3».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 445

و أفتى به المحقّق و الشهيد الثاني قدّس سرّهما في محكي المسالك و الروضة، و كذا كاشف الغطاء.

و استدلّ له تارة بما دلّ على حرمة بيع المسلم من الكافر لكونه أولى منه، و اخرى بما دلّ على نفى سبيل الكافر على المؤمن وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا «1» من باب الأولوية.

و ثالثة: بما دلّ على أنّ الإسلام يعلو و لا يعلى عليه «2» الذي استدلّ به في مسألة بيع العبد المسلم من الكافر، بل هنا استعلاء على الإسلام، و رابعة بلزوم تنجيس المصحف غالبا.

و لكن جميع ذلك كما ترى لا يتجاوز عن حدّ الإشعار، أو التأييد، فانّ كون العبد المسلم تحت يد الكافر قد يكون سببا لانحرافه عن طريق الحقّ، و ليس كذلك المصحف، و أمّا آية نفي السبيل فدلالتها على تلك المسألة منظور فيها، فكيف بما نحن فيه؟

فانّ السبيل يمكن أن يكون بمعنى الحجّة و البرهان، و إلّا فسلطة الكفّار على بعض المسلمين أحيانا و قتلهم و أسرهم غير نادر في التاريخ، بل النسبة إلى أئمّة المسلمين أيضا.

و كذا علو الإسلام و عدم علو شي ء عليه المستدلّ به في أبواب موانع الإرث و أنّ الإسلام لا يمنع صاحبه عن إرث أقاربه الكافر، لأنّ الإسلام يزيد خيرا و «يعلو و لا يعلى عليه» فانّ كون مجرّد ملك الكافر علوا غير معلوم في البابين، و النجس غير ملازم لذلك

و لو على القول بنجاسة الكفّار.

و العمدة هنا دليل الإهانة الذي يظهر من بعض كلمات صاحب الجواهر و شيخنا الأعظم، و لكنّه أيضا أخصّ من المدّعى، بل و أعمّ منه من وجه، فقد يحصل بغير التمليك، و قد لا يحصل بالتمليك، فيدور الحكم مداره.

فلو أخذ الكافر مصحفا للتحقيق حول الإسلام لم يكن فيه من هذه الجهة إشكال أصلا، بل قد يجب ذلك من باب إرشاد الجاهل و إتمام الحجّة على الكافر.

و كذا إذا أخذه للتجارة به تجارة لا تنافي حرمته، مثل سائر أنواع التجارات، بل قد يكون سببا لنشره في أقصى نقاط العالم، ممّا يوجب مزيد قوّة و شوكة للإسلام و المسلمين، و بثّ انوار الفقاهة، ج 4، ص: 446

دعوتهم و علوّ كلمتهم و إبلاغ رسالتهم.

فالحكم هنا يدور مدار الهتك و الإهانة و لا يشمل غير مواردها.

بقي هنا امور:

1- الظاهر أنّ الاستدامة ملحقة بالحدوث، فلو كان مسلم مالكا لمصحف ثمّ ارتدّ لزم أخذه منه إذا كان فيه هتك لكتاب اللّه، أو كان فيه أحد المحاذير الاخرى بناء على القول بها.

2- الظاهر لحوق حكم الكلّ للأبعاض، لعدم الفرق في حرمة الهتك بين الكلّ و الجزء، فليس الحكم هنا يدور مدار عنوان المصحف الوارد في المسألة السابقة كما لا يخفى على الخبير.

3- لا فرق بين أنواع الكتابة من العربي و الكوفي و المحفور و البازر، بل لا يبعد إلحاق المصحف المكتوب بالحروف الاخرى به، نظير كتابته بالحروف اللاتينية كما هو المتداول بين أهالي تركيا اليوم.

4- أمّا بالنسبة إلى الحاق كتب الحديث و الفقه بكتاب اللّه حتّى في حال عدم اشتمالها على آيات قرآنية، فعن ثاني المحقّقين أنّها بحكمه، و عن فخر المحقّقين رحمه اللّه جوازه، و عن والده فيه

وجهان.

و الإنصاف عدم الفرق على فرض الهتك، و على فرض عدمه لا وجه للإلحاق، و كلّ تابع لما عنده من الدليل.

5- ذكر بعضهم إلحاق التربة الحسينية، و تراب المراقد المقدّسة، و قطع الصناديق الشريفة، و ثوب الكعبة، بالمصحف «1».

و لكن اللحوق كما عرفت تابع لعنوان الهتك، لعدم ورود نصّ خاصّ فيها، و هو مختلف بحسب الموارد، فلو اشترى المسلم أو الكافر شيئا من ثوب الكعبة و جعلها في متحف أو زيّن بها داره كما هو المعمول عندنا في أمثال ذلك، فلا دليل على الحرمة، بل هو من تعظيم انوار الفقاهة، ج 4، ص: 447

الشعائر، و أولى منه عدم شمول سائر الأدلّة على فرض تماميتها.

و العجب أنّه ذكر بيع الأراضي الشريفة و ما يصنع منها من آجر أو غيره و بيع أوراق المصحف بعد ذهاب صورة القرآن من الكفّار، و قال فيه وجهان «1».

مع أنّه لا وجه للحرمة فيها أبدا ما لم ينطبق عليه عنوان محرّم آخر مثل استيلائهم على أراضي المسلمين تدريجا أو شبه ذلك، فأي وجه في حرمة بيع خزفها منهم؟ و ما الوجه فيه؟

6- إذا اشترط عليه وقفه أو هبته أو علم انتقاله منه بالإرث، و لم يكن هناك ما يوجب محذورا، فالظاهر عدم الحرمة، و نظيره ما ذكروه في باب بيع العبد المسلم على من ينعتق عليه.

7- قد يقال إنّ بيع كتب فقه الإمامية و ما يختصّ بهم من كتب العقائد من مخالفيهم أيضا داخل في الحكم، و لكن من الواضح إختلاف ذلك بحسب الموارد بعد ما عرفت من الدليل، و أنّه لا محذور فيه غالبا لا سيّما إذا كان سببا لدفع إشكالات المخالفين عن المذهب الحقّ.

8- لو قلنا بالحرمة، فهل يحرم البيع

تكليفا، أو يقع باطلا؟

الظاهر أنّه من قبيل بيع السلاح لأعداء الدين، فعلى القول بأنّ الحرمة هناك تكليفية لأنّها تتعلّق بأمر خارج عن البيع، فكذلك هنا، و بعبارة اخرى يكون المقام داخلا في القاعدة المعروفة: إنّ النهي في المعاملات لا يوجب الفساد.

و أمّا بيع المصحف لمسلم فان قلنا بحرمته من ناحية عدم دخول كتاب اللّه في ملك أحد (و لو بحسب نقوشه و خطوطه) فالظاهر البطلان، و أمّا إن قلنا إنّ ذلك للتأدّب في مقابل الكتاب العزيز، فيقوى القول بعدم البطلان.

ثمّ إنّه إذا باعه من كافر فلا بدّ من استعادته منه بشرائه منه و لو بقيمة أكثر، مقدّمة لرفع الانتهاك المفروض.

و لكن تأتي الشبهة في صحّة أصل البيع، اللهمّ إلّا أن يقال بثبوت مثله في بيع السلاح لأعداء الدين، أو بيع العنب ممّن يعمله خمرا، بل يمكن أن يقال بأنّ منافعه الخاصّة هنا

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 448

حرام بالنسبة إلى آخره، و أنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه، أو يدخل في حديث تحف العقول «ما يجي ء منه الفساد ....» فتأمّل فلا يترك الاحتياط بالقول بالبطلان.

9- لا فرق بين أصناف المسلمين في المسألة الاولى، أعني بيع المصحف، و لا بين أصناف الكفّار في المسألة الأخيرة، أي بيع العبد المسلم، لاتّحاد الدليل في البابين كما لا يخفى.

10- لو قلنا بالحرمة، فقد تكون هناك أغراض أهمّ في البيع من الكفّار كنشر دعوة الإسلام في أقطار الأرض، و بثّ حقائق القرآن في أنحاء العالم، و ان لزم منه هتك في بعض الموارد من ناحية الكفّار، لما فيه من المنافع المهمّة، كما هو كذلك في عصرنا هذا، فالكفّار و لا سيّما المسيحيين ينشرون كتبهم في جميع أقطار الأرض بعينها أو بترجمتها،

بمئات من اللغات الحيّة العالمية، فعلى المسلمين نشر كتابهم الذي يعلو كلّ كتاب و يفوقه، لما فيه من أغراض أهمّ كما قد يكون ذلك في إعطائه بيد الصبيان تعليما لهم، فعدم رعاية الاحترام اللازم من قبلهم أحيانا لا يمنع من ذلك إذا كانت فوائده أتمّ.

و من هنا يظهر أنّ ما قد يقال من وجوب حذف أسماء اللّه و الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية و غيرها من الصحف و المجلّات حذرا من هتكها أحيانا، فكرة باطلة و أوهام يجب اجتنابها لما يترتّب على ذلك من ترك اسم اللّه و نسيانه و ترك بثّ دعوة الإسلام و نسيان الحقّ، و قد كانت الأسماء المقدّسة في عصرهم عليهم السّلام مكتوبة على الدراهم و الدنانير يأخذها الصغير و الكبير و الكافر و المؤمن و لم يمنعوا عنه لما فيه من ظهور كلمة الحقّ و نشر الإسلام.

المسألة الثّانية: جوائز السلطان (و ما يؤخذ من الظالمين بأيّ عنوان كان)
اشارة

اعلم أنّ الكلام هنا و ان كان في خصوص السلطان الجائر المتغلّب على بيت مال المسلمين، و لكن كثيرا من الأدلّة تشمل كلّ من كان في ماله محرّم، أو كان مظنّة لذلك، من الظالم و الغاصب و السارق و متولّي الأوقاف و من لا يؤدّي الخمس و الزكاة و آكل الربا، و المطفّفين و الغاشّ في المكسب و أشباههم.

و لكن بعض الأحكام يختصّ بالأوّل، كما أنّ كثيرا من روايات الباب وردت فيه، فالأولى أن نقتفي الأصحاب (رضوان اللّه عليهم) في البحث عن خصوص جوائز السلطان أوّلا بمناسبة هذه الروايات، و كذا ما يعطى من بيت المال مجانا أو في مقابل عمل، ثمّ نتكلّم في حكم غيره، فنقول (و منه جلّ ثناؤه التوفيق و الهداية):

ذكروا هنا صورا أربعة:

1- إذا لم يعلم بوجود الحرام في

أمواله لا إجمالا و لا تفصيلا.

2- إذا علم بوجوده فيما وصل إليه بالعلم الإجمالى.

3- إذا علم بوجوده فيما وصل إليه بالعلم التفصيلي.

4- إذا كانت الجائزة مختلطة بالحرام.

و لبعض هذه الصور أيضا صور اخرى، كالصورة الثانية من الشبهة المحصورة و غير المحصورة، و ما هو محلّ الابتلاء و غيره يأتي تفاصيله إن شاء اللّه.

الصورة الاولى: عدم العلم بوجود الحرام في امواله

و ان كانت قليلة جدّا، و لكن حكمها الحلّية عند الأصحاب، و قد ادّعى الإجماع عليه، و على الصورة الثانية في المصابيح، و في الحدائق و الرياض نفي الخلاف عنه كما حكي عنهم «1».

و يدلّ عليه مضافا إلى ما ذكر امور:

1- الأصل- و قد وقع الكلام في المراد منه بعد كون الأصل في الأموال الحرمة، لعدم العلم بالانتقال إلى الآخذ، و الاستصحاب يقتضي عدمه و المراد منه أحد أمرين:

الأوّل- أصالة الصحّة، و هو جيّد بعد عموم دليلها، و قد ذكرنا في محلّه من كتابنا القواعد، أنّها أعمّ من المسلم و الكافر «2» كما أنّها لا تختصّ بالعقود و ما بحكمها، بل تشمل كلّ فعل يتصور فيه الصحّة و الفساد، كتطهير الثياب و ذبح الحيوان و الصلاة على الميّت و دفنه و غير ذلك.

و العجب من مصباح الفقاهة حيث خصّها بالعقود و الإيقاعات بعد ما أحرز أهليّة المتصرّف للتصرّف، استنادا إلى أنّ عمدة دليلها هو السيرة، و هي من الأدلّة اللّبية، فيؤخذ بالمقدار المتيقّن منه «3».

و لكن الإنصاف أنّ المراد من السيرة هنا سيرة العقلاء الممضاة من قبل الشارع و هي عامّة، بل و لو لا ذلك لاختلّ نظام معاش المسلمين و معادهم بل نظام حياة كلّ العقلاء كما لا يخفى على من تدبّر.

الثّاني- «قاعدة اليد» و هي أيضا متينة جيّدة بعد ثبوت

شمولها للمقام.

و أمّا احتمال كون المراد منها «أصالة الإباحة» فقد عرفت أنّه لا وجه لها، فالأصل في الأموال التي في يد الغير الحرمة.

2- الرّوايات الكثيرة الدالّة على جواز أخذ جوائز السلطان و عمّاله، و النزول عليهم،

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 451

و قبول عطائهم، و الأكل منه، بل الحجّ منه (ذكرها صاحب الوسائل في الباب 51 من أبواب ما يكتسب به و سيأتي الكلام فيه مشروحا إن شاء اللّه).

3- «استقرار السيرة القطعية» بأخذ الأموال مجانا أو بالمعاملة ممّن لا يعلم وجود حرام في ماله و من أي شخص كان.

نعم هذا الفرض نادر جدّا في عمّال السلطان كما ذكره شيخنا الأعظم في مكاسبه «1».

نعم، قد يقال باشتراط العلم بوجود أموال محلّلة في ماله استنادا إلى ما رواه محمّد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري أنّه كتب إلى صاحب الزمان عليه السّلام يسأله عن الرجل من وكلاء الوقف، مستحلّ لما في يده، لا يرعى عن أخذ ماله، ربّما نزلت في قرية و هو فيها أو أدخل منزله و قد حضر طعامه، فيدعوني إليه، فان لم آكل طعامه عاداني عليه، فهل يجوز لي أن آكل من طعامه، و أتصدّق بصدقة، و كم مقدار الصدقة؟ و إن أهدى هذا الوكيل هدية إلى رجل آخر فيدعوني إلى أن أنال منها، و أنا أعلم أنّ الوكيل لا يتورّع عن أخذ ما في يده فهل عليّ فيه شي ء إن أنا نلت منها؟

الجواب: إن كان لهذا الرجل مال أو معاش غير ما في يده فكل طعامه و اقبل برّه، و إلّا فلا «2».

و فيه ضعف من جهة الإرسال، و من جهة الدلالة حيث أنّ موردها من يعلم بوجود أموال محرّمة كثيرة عنده، فلا يشمل ما

نحن فيه.

الصورة الثّانية: العلم بوجود الحرام في أمواله إجمالا

إذا علم إجمالا بوجود محرّم في ماله من دون تعيين بكون المحرّم خصوص هذا المال، لا إجمالا و لا تفصيلا، و ينبغي التكلّم فيها «أوّلا» من ناحية القواعد، ثمّ من ناحية الروايات الخاصّة.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 452

أمّا الأوّل فان كانت شبهة غير محصورة، فحكمها حكم الصورة الاولى، فلا يجب الاحتياط فيها، و ان كان شبهة محصورة، و لكن كان بعض أطرافها خارج عن محلّ الابتلاء، فهو كذلك بناء على ما هو المعروف و اخترناه في محلّه من عدم تأثير العلم الإجمالي إذا كان بعض أطرافه خارجا عن محلّ البلوى، لعدم تنجّزه على كلّ تقدير.

و أمّا إن كانت جميعها محلّ الابتلاء، فالأصل فيه وجوب الاحتياط، و لكن فرض كون جميعها محلّ البلوى نادر جدّا، و ان كان يظهر من بعض كلمات شيخنا الأعظم خلافه «1» و ذلك لأنّ أمواله تحت يده لا يقدر الآخذ على التصرّف فيها كيف يشاء؟ فهي خارجة عن تصرّفه إلّا ما يعطيه بعنوان الجائزة، نعم لو خيّره في أخذ جائزته من خزانته، فحينئذ تكون جميعها محلّ البلوى، و لكن هذا فرض قلّما يتّفق لأحد كما هو ظاهر، فالحكم بالحلّية في الموارد المتعارفة قوي، هذا من ناحية.

و من ناحية اخرى، كيف يدفع احتمال وجود الحرام فيما يأخذه؟ هل يتمّ بأصالة الإباحة؟ و الحال أنّ الأصل في الأموال الحرمة و الفساد و استصحاب عدم النقل إليه؟

أو قاعدة الصحّة؟ مع العلم بأنّه ممّن لا يبالي بالحلال و الحرام و أمواله مختلطة، بل لعلّ نفسه لا يميّز أحدهما من الآخر، و لو حمل على الصحّة كان من باب الصدقة، و دعوى عدم اعتبار هذا الشرط عند الأصحاب كما ترى.

أو قاعدة اليد؟ مع أنّ يده

واقعة على الحرام و الحلال، بل قد لا يعرف أحدهما من الآخر بحكم اختلاطه، فهل تعتبر اليد دليلا على الملكية هنا؟ و هل يصحّ أخذ المال المشتبه المخلوط بالحرام من صاحبه الذي لا يعرف أحدهما من الآخر؟ و هل يحكم بملكيته بمقتضى اليد أو أصالة الصحّة؟ و هذا أيضا مشكل جدّا، فمن هنا يقوى الحكم بالحرمة في مفروض المسألة، اللهمّ إلّا إذا لم تكن الأموال مشتبهة عنده و نحتمل إعطاءه من الحلال لبعض الدواعي على إشكال فيه أيضا.

فاللازم بعد عدم مساعدة القواعد هنا أن نلتمس له دليلا آخر، و هو روايات الباب.

فنقول و منه تعالى نسأل التوفيق و الهداية: إنّ أخبار الباب على طوائف:

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 453

الطائفة الاولى: ما يدلّ على أخذ الأئمّة عليهم السّلام جوائز الخلفاء و ما وصل إليهم من بيت المال مثل:

1- ما رواه يحيى بن أبي العلاء عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن أبيه أنّ الحسن و الحسين عليهما السّلام كانا يقبلان جوائز معاوية «1».

2- ما رواه محمّد بن قيس بن رمانة قال: دخلت على أبي عبد اللّه عليه السّلام فذكرت له بعض حالي، فقال: «يا جارية هاتي ذلك الكيس، هذه أربعمائة دينار وصلني بها أبو جعفر (أي المنصور) فخذها و تفرّح بها» «2».

3- ما رواه الحسين بن علوان عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليه السّلام أنّ الحسن و الحسين عليهما السّلام كانا يغمضان معاوية و يقعان فيه و يقبلان جوائزه «3».

4- ما رواه الطبرسي في الإحتجاج عن الحسين عليه السّلام إنّه كتب كتابا إلى معاوية و ذكر الكتاب و فيه تقريع عظيم و توبيخ بليغ، فما كتب إليه معاوية بشي ء يسوؤه، و كان يبعث إليه في كلّ

سنة الف الف درهم سوى عروض و هدايا من كلّ ضرب «4».

و لكن يمكن حملها على أخذ حقّهم منه و لو كانت الواسطة في ذلك رج: فاسقا، بل كافرا فانّ بيت المال بأجمعه تحت اختيارهم و حكمهم، بل كثير من وجوهه ملكهم عليهم السّلام و ما يكون للمؤمنين يكون بنظارتهم.

الطائفة الثّانية: ما دلّ على حكمهم بالجواز لغيرهم مثل:

5- ما رواه أبو ولّاد قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ما ترى في رجل يلي أعمال السلطان ليس له مكسب إلّا من أعمالهم و أنا أمرّ به، فأنزل عليه فيضيفني و يحسن إليّ، ربّما أمر لي بالدرهم و الكسوة و قد ضاق صدري من ذلك؟ فقال لي: «كل و خذ منه فلك المهنّا و عليه الوزر!» «5».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 454

6- ما رواه أو المغراء قال: سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا عنده فقال: أصلحك اللّه أمرّ بالعامل فيجيزني بالدرهم، آخذها، قال: «نعم»، قلت: و أحجّ بها؟ قال: «نعم» «1».

7- ما رواه محمّد بن هشام أو غيره قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام أمر بالعامل فيصلني بالصلة أقبلها؟ قال: «نعم» قلت: و أحجّ منها؟ قال: «نعم و حجّ منها» «2».

8- ما رواه محمّد بن مسلم و زرارة قالا سمعناه عليه السّلام يقول: «جوائز العمّال ليس بها بأس» «3».

9- ما رواه عمر أخو عذافر قال: دفع إليّ إنسان ستمائة درهم أو سبعمائة درهم لأبي عبد اللّه عليه السّلام فكانت في جوالقي فلمّا انتهيت إلى الحفيرة، شقّ جوالقي و ذهب بجميع ما فيه و رافقت عامل المدينة بها فقال: أنت الذي شقّ جوالقك فذهب بمتاعك؟ فقلت: نعم قال: إذا قدمنا المدينة فأتنا حتّى نعوّضك،

قال: فلمّا انتهيت إلى المدينة دخلت على أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال: «يا عمر! شقّت زاملتك و ذهب بمتاعك؟» فقلت نعم، فقال: «ما أعطات خير ممّا أخذ منك «إلى أن قال» فأت عامل المدينة فتنجز منه ما وعدك فإنّما هو شي ء دعاك اللّه إليه لم تطلبه منه» «4».

10- ما رواه أحمد بن محمّد بن عيسى في «نوادره» عن أبيه عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لا بأس بجوائز السلطان» «5».

و يمكن حمل هذه أيضا على وجود حقّ للآخذين في بيت المال كما يشهد له الرواية الآتية.

11- ما رواه أبو بكر الحضرمي قال: دخلت على أبي عبد اللّه عليه السّلام و عنده إسماعيل ابنه فقال: «ما يمنع ابن أبي السمال (السمّاك) أن يخرج شباب الشيعة فيكفونه ما يكفيه الناس، و يعطيهم ما يعطي الناس؟ ثمّ قال لي: لم تركت عطائك؟» قال: مخافة على ديني انوار الفقاهة، ج 4، ص: 455

قال: «ما منع ابن أبي السمال أن يبعث إليك بعطائك؟ أما علم أنّ لك في بيت المال نصيبا؟» «1».

و لكن لا يمكن الاستدلال بها على المطلوب أيضا في غير جوائز السلطان ممّا هو مخلوط بالحرام، و يختصّ بما يكون للآخذ حقّ فيه.

الطائفة الثّالثة: ما يدلّ على الجواز و ان لم يكن من السلطان بل كان من غير بيت المال، فحينئذ يكون دليلا على المطلوب، مثل رواية الطبرسي، و لكن قد عرفت ضعف سنده بالإرسال، لأنّ الطبرسي أحمد بن علي بن أبي طالب من أعلام القرن السادس و محمّد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري كان في عصر الغيبة الصغرى، فلا يجوز روايته عنه بلا واسطة.

الطائفة الرّابعة: ما قد يستفاد منه عدم الجواز مثل:

12- ما رواه الفضل بن

الربيع عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السّلام في حديث أنّ الرشيد بعث إليه بخلع و حملان و مال فقال: «لا حاجة لي بالخلع و الحملان و المال إذا كان فيه حقوق الامّة»، فقلت: ناشدتك باللّه أن لا تردّه فيغتاظ، قال: «اعمل به ما أحببت» «2».

13- و ما رواه عبد اللّه بن الفضل عن أبيه في حديث انّ الرشيد أمر باحضار موسى بن جعفر عليه السّلام يوما فأكرمه و أتى بها بحقّة الغالية ففتحها بيده فغلفه بيده، ثمّ أمر أن يحمل بين يديه خلع و بدرتان دنانير فقال موسى بن جعفر عليه السّلام: «و اللّه لو لا أنّي أرى من ازوّجه بها من غراب بني أبي طالب لئلّا ينقطع نسله ما قبلتها أبدا» «3». فهو دليل على عدم القبول إلّا في موارد الضرورة.

و ما يدلّ على الجواز في خصوص مقدار الحقّ الذي أخذوه منه:

14- ما رواه داود بن رزين قال: قلت لأبي الحسن عليه السّلام: انّي اخالط السلطان فتكون عندي الجارية فيأخذونها أو الدابة الفارهة فيبعثون فيأخذونها، ثمّ يقع لهم عندي المال، فلي أن آخذه؟ قال: «خذ مثل ذلك و لا تزد عليه» «4».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 456

و لكن رواية الفضل بن الربيع (10/ 51) التي مرّت عليك ظاهرها غير هذه الصورة، بل ما علم بوجود حقوق الامّة فيه.

و رواية عبد اللّه بن الفضل أيضا (11/ 51) لا تدلّ على الحرمة بل غايتها الكراهة، لأنّ عدم قبول الإمام عليه السّلام له أعمّ من الحرمة، كما هو ظاهر، لا سيّما مع ملاحظة شئونه عليه السّلام مضافا إلى ضعف السند فيهما بالفضل بن الربيع صاحب الرشيد.

و أمّا رواية داود بن رزين (7/ 51) فلعلّها ناظرة إلى

ما لم يكن الرجل مستحقّا لأخذ ما في بيت المال و لم يكن هو من مصارفه.

فلا يستفاد من روايات هذه الطائفة الحرمة و ان كان يلوح منها في بدو النظر، فتلخّص ممّا ذكر أنّه لا يستفاد من شي ء منها ما ينافي القاعدة، و قد عرفت دلالتها على الحرمة إذا كان المال مخلوطا بالحرام.

نعم، إذا كان له حقّ في المال (كما في الجوائز) و كان الاختلاط سببا للشركة، أمكن أخذ حقّه بحكم الإمام عليه السّلام، أو إذا لم يكن سببا للشركة، و لكن كان من مظانّ الصلح، أمكن أيضا لذلك.

إن قلت: لما ذا لا تعتمد على قاعدة اليد في المقام؟ و لو كان مجرّد الخلط بالحرام مانعا لوجب اجتناب أموال أكثر الناس للعلم الإجمالي بكثرة الربا و الرشا و الغصب و التطفيف و البخس في المكيال و الميزان و السرقة و الغشّ و ترك الحقوق الواجبة و غير ذلك مع عدم مبالاتهم بها.

هذا بالنسبة إلى كثير ممّن ينتمي إلى الإسلام، و لو كان بالنسبة إلى الكفّار كان الأمر أوضح بعد كون أموالهم مخلوطة بمحرّمات كثيرة.

قلت: لا نقول إنّ مجرّد العلم بوجود الحرام يوجب سقوط اليد عن الدلالة على الملك، إنّما ذلك إذا كان فيه أمران: «أحدهما» غلبة الحرام على المال كأموال السرّاق و أشباههم، ممّن يكون شغلهم المعاملات الربوية أو القمار أو بيع الخمور.

و «الثاني»: عدم مبالاته بذلك حتّى في اعطائه هذا الرجل، فلو كان له بعض أموال محلّلة قليلة، و قال بأنّ هذا من صلب المال الحلال، و كان غير متّهم في هذا القول، أمكن انوار الفقاهة، ج 4، ص: 457

الاعتماد على يده بعموم قاعدة اليد و عدم الدليل على الاستثناء هنا.

بقي هنا شي ء، و هو

أنّه حكم غير واحد منهم بالكراهة مع الجواز في هذه الصورة، و يمكن الاستدلال به بالأدلّة العامّة الدالّة على التورّع عن الشبهات و هي كثيرة، ذكرها الأصحاب في مسألة البراءة و الاحتياط، و هي كما تشمل الشبهات الحكمية تشمل الشبهات الموضوعية مثل: أخوك دينك ... «1» و مثل: الامور ثلاثة ... «2» و الأدلّة الخاصّة الواردة في المسألة مثل ما عرفت آنفا في الطائفة الرابعة من إباء الإمام عليه السّلام من قبول جوائز الخلفاء و عمّالهم حذرا من حقوق الناس فيها، أو عدم قبوله إلّا لحاجة شديدة لآل أبي طالب و أنّه لو لاها لما أخذها.

مضافا إلى الاعتبار العقلي بكون القلوب مجبولة على حبّ من أحسن إليها، فالأخذ منهم ربّما يوجب جلب محبّتهم.

إن قلت: هذا الاحتمال- أي احتمال وجود الحرام- موجود في غالب الأموال. قلنا: كلّا، فهناك فرق بين الاحتمالات القويّة و الضعيفة.

هذا و الاستدلال بجميع هذه الروايات قابل للتأمّل، أمّا الأوّل: فلما عرفت من أنّ أخذ الجائزة باعتبار استحقاق الآخذ من بيت المال من قبيل أخذ الحقّ، كما يظهر من رواية الحضرمي (6/ 51) المتقدّمة، أمّا على نحو الإشاعة أو المجهول المردّد الذي لا طريق له إلّا المصالحة.

و أمّا الثاني: فيمكن الجواب عمّا يرتبط بعمل الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام بأنّه لا عموم فيه من ناحية الحكم، و لعلّه لموضع الإمام عليه السّلام و كونه دون شأنه، أو كونه موجبا لاشتباه الأمر على ضعفاء الشيعة و أمثال ذلك، فلا يمكن إلغاء الخصوصية منها، و الاستناد إلى قاعدة الاشتراك كما ترى، لأنّها تختصّ بما إذا كانت الأوصاف و الشرائط الدخيلة في الحكم مساوية لا كما في الحاضر و المسافر و غيرهما.

و أمّا نهي بعض

الصحابة عن ذلك، فلما عرفت من احتمال عدم حقّ له في بيت المال انوار الفقاهة، ج 4، ص: 458

زائدا على ما كان يأخذه منهم بسبب اختلاطه معهم.

و الاعتبار العقلي مضافا إلى كونه ظنّيا هنا غير عام بالنسبة إلى جميع الموارد كما هو ظاهر، ثمّ انّهم ذكروا في الخروج عن الكراهة امورا:

منها: العناوين الثانوية، مثل التقيّة، و الحاجة الشديدة لنفسه أو لغيره من الشيعة، و هو و ان كان صحيحا في نفسه، إلّا أنّ باب العناوين الثانوية مفتوح في كلّ شي ء، حتّى المحرّمات مثل أكل الميتة، فهي أمر مفروغ عنه.

و منها: إخراج الخمس منه، و فيه أنّه ليس من المال المخلوط بالحرام حتّى يخرج منه الخمس و يطهر، بل من المال المشتبه، و قد يكون حراما كلّه، فاللازم ممّن يريد الاحتياط المعاملة معه معاملة «مجهول المالك».

و منها: إخبار صاحبه بكونه مباحا حلالا من صلب ماله، و لا بأس به لو كان غير متّهم في إخباره، و قد يكون الإنسان متّهما في أعماله و لا يكون متّهما في أقواله، أو خصوص هذا القول، و هذا التفكيك ليس بعزيز، فيدخل تحت عنوان أدلّة إخبار ذي اليد، و هو ظاهر.

الصورة الثّالثة: العلم بوجود الحرام في أمواله تفصيلا
اشارة

ما إذا علم تفصيلا بأنّ ما أعطاه محرّم بعينه مغصوب، أو شبهه من المحرّمات، و حكمه ظاهر من ناحية أصل الحرمة و لا كلام فيه، إنّما الكلام في فروع كثيرة ترتبط به، منها:

1- عدم جواز أخذه لو علم به قبل ذلك، لأنّه تصرّف في مال الغير بغير إذنه، و كذا يحرم إمساكه لو علم به بعده، بل يجب ردّه إلى مالكه، و هل يجوز أخذه من السلطان الجائر بنيّة الردّ إلى مالكه؟

قد يقال: نعم، لأنّه إحسان يعلم عادة برضى صاحبه

به، و لو شكّ في ذلك كما إذا احتمل أنّ صاحبه يريد أخذه بنفسه منه، ليكون دليلا على ظلمه و حجّة له عليه، أو غير ذلك من أشباهه لم يجز قطعا.

2- «الضمان على التقدير الأوّل» أعني فيما لا يجوز أخذه، و عدم الضمان فيما يجوز،

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 459

كما إذا أخذه بنيّة الردّ و علم برضا مالكه بذلك، و لو كان جاهلا ثمّ علم به، و كان من نيّته الردّ في أوّل وقت ممكن، لم يكن ضامنا أيضا، و الدليل عليه أنّه كاليد الأمينة، و إنّ أخذه أوّلا لمصلحة نفسه، و لكنّه في الاستدامة انقلب حاله كان ضامنا حتّى في حال الجهل، لأنّ الجهالة لا ترفع الضمان كما ذكروه في بابه، فهذا داخل في قاعدة عدم ضمان الأمين، سواء كان على هذه النيّة من أوّل أمره، أو بعد ما علم، حتّى إذا كان عالما، ثمّ تاب و قصد الردّ في أوّل وقت ممكن، و إن كان لا يخلو عن إشكال في هذه الصورة، و قد يتمسّك باستصحاب الضمان في كلتا الصورتين (صورتي الجهل و العلم بلا نيّة الردّ).

و فيه: مضافا إلى تبدّل الموضوع بصيرورة اليد يد أمانة، إنّ الاستصحاب في الشبهات الحكمية غير حجّة عندنا.

3- و منها إنّه قد عرفت وجوب الردّ في أوّل فرصة ممكنة، و يجب عليه الإعلام إلى أن يحصل اليأس منه، و هل المدار فيه على دوران السنّة كاللقطة؟ الظاهر عدمه، لأنّ روايات اللقطة الواردة في الباب 2 من أبواب اللقطة «1» لا تشمله بظاهرها إلّا بالغاء الخصوصية، و هو مشكل، فالأحوط لو لا الأقوى هو الإعلام إلى حدّ اليأس حتّى لو حصل قبل ذلك (فانّ السنّة تدور مدار عنوان اللقطة

و الضالّة و عنوان «إن وجدت شيئا»، و كلّ ذلك أجنبي عن المقام) و تعريف السنّة و ان كان إجماعيا في اللقطة على ما حكاه في الجواهر و الغنية «2» و يدلّ عليه روايات كثيرة، لكنّها أجنبية عن المقام.

نعم، في رواية حفص بن غياث ما يدلّ على جريان حكم السنّة فيما أودعه بعض اللصوص و الرواية كما يلي: عن حفص بن غياث قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل من المسلمين أودعه رجل من اللصوص دراهم أو متاعا و اللصّ مسلم هل يردّ عليه؟ فقال: «لا يردّه، فان أمكنه أن يردّه على أصحابه فعل، و إلّا كان في يده بمنزلة اللقطة يصيبها فيعرّفها حولا، فان أصاب صاحبها ردّها عليه، و إلّا تصدّق بها، فان جاء طالبها بعد ذلك خيّره بين الأجر و الغرم، فان اختار الأجر فله الأجر، و ان اختار الغرم غرم له و كان الأجر له» «3».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 460

و من هنا أفتى بعضهم بجريان الحكم فيما نحن بصدده، مثل ما يحكى عن ابن إدريس في السرائر.

و لكن التعدّي من الوديعة إلى مطلق مجهول المالك مشكل، نعم لا يبعد الحاق كلّ ما يؤخذ من الظالم (بنيّة ردّه إلى مالكه) به بالأولوية، و لو لا ضعف سند الرواية بحفص بن غياث، و بعض آخر، أمكن الغاء الخصوصية منه على احتمال، و لكن ضعفها يمنعها، و جبرها بعمل الأصحاب غير واضح، و لذا أسند العمل بها في الجواهر إلى المحقّق رحمه اللّه و جماعة «1» و لم يعتمد في المسالك على الرواية، بل قال: «إنّ مضمونه موافق للأصول الشرعية فانّه بعد التعريف يصير مالا مجهول المالك، و قد تقدّم أنّه يجوز الصدقة

به عن مالكه، و لا يقدح زيادة التعريف هنا، لأنّه زيادة في الاستظهار و التفحّص عن المالك» «2».

فانّ مضمون هذا الكلام عمله به من باب الاحتياط و لا مانع منه.

و على كلّ حال اجراء حكم اللقطة على كلّ إشكال مجهول المالك مشكل.

و ليعلم أنّ كثيرا من هذه الفروع يجري في غير الجوائز، بل في كلّ مال مجهول مالكه.

4- منها إنّه لو ادّعاه أحد، فهل يردّه إليه، أو يحتاج إلى ذكر الأوصاف أو العلم؟

الظاهر هو الأخير، و ان مال شيخنا الأعظم إلى الأوّل، و ذلك لأصالة اشتغال الذمّة، و كون الدعوى بلا معارض و ان كان كافيا في الحكم بالملك في بعض الموارد، و لكن لا يشمل المقام قطعا ممّا اشتغلت الذمّة بالردّ، كما أنّ ذكر الأوصاف إنّما هو للعلم أو الاطمئنان بمالك العين.

5- منها حكمه بعد اليأس (بل حكم مطلق مجهول المالك) فقد ذكر فيه احتمالات أو أقوال:

فهل يتصدّق به عن المالكه مع الضمان؟

أو هو للإمام عليه السّلام؟

أو لمن وصل بيده؟

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 461

أو يجب حفظه لمالكه دائما؟

أو اعطائه للحاكم ليحفظه كذلك؟

أمّا الأخيران فلا شكّ في أنّ حفظه مع اليأس عن وجدان مالكه لا وجه له، سواء كان بنفسه أو بردّه إلى حاكم الشرع، بل هو مظنّة للتلف بعد لزوم الإيصاء به لما بعد موته.

نعم، هناك بعض ما دلّ على ذلك مثل:

ما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن اللقطة .. إلى أن قال:

و سألته عن الرجل يصيب درهما أو ثوبا أو دابة كيف يصنع بها؟ قال: «يعرّفها سنة فان لم يعرف حفظها في عرض ماله حتّى يجي ء طالبها فيعطيها إيّاه و ان مات أوصى بها، و

هو لها ضامن» «1».

و لكن الظاهر أنّها مخصوصة بما إذا احتمل وجدان صاحبه.

أمّا صيرورته ملكا لمن وصل بيده، فيمكن الاستناد له بصحيحة علي بن مهزيار قال:

كتب إليه أبو جعفر عليه السّلام و قرأت أنا كتابه إليه في طريق مكّة قال: «... فالغنائم و الفوائد يرحمك اللّه فهي الغنيمة يغنمها المرء و الفائدة يفيدها و الجائزة من الإنسان للإنسان التي لها خطر ... و مثل مال يؤخذ و لا يعرف له صاحب ...» «2».

و لذا يحكى عن غير واحد من المتأخّرين جواز العمل به كالمحقّق الهمداني رحمه اللّه و غيره، و يستدلّ له أيضا بما ورد في باب من وجد لؤلؤة في بطن سمكة و هي:

ما رواه أبو حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث انّ رجلا عابدا من بني إسرائيل كان محارفا فأخذ غزلا فاشترى به سمكة فوجد في بطنها لؤلؤة، فباعها بعشرين ألف درهم، فجاء سائل فدقّ الباب فقال له الرجل ادخل فقال له خذ أحد الكيسين، فأخذ أحدهما و انطلق فلم يكن بأسرع من أن دقّ السائل الباب فقال له الرجل: ادخل فدخل فوضع الكيس في مكانه ثمّ قال: «كل هنيئا مريئا أنا ملك من ملائكة ربّك إنّما أراد ربّك أن يبلوك فوجدك شاكرا»، ثمّ ذهب «3».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 462

و هي و إن كانت ضعيفة الإسناد من جهات شتّى، و لكنّها متكاثرة معنى، و لكن لا دلالة لها على المطلوب، فانّه من قبيل حيازة المباحات الأوّلية التي لم يحزها حائز، و احتمال كونها لأناس كما ترى.

و كذا ما دلّ على جواز تملّك من وجد صرّة في بطن حيوان بعد ما ذبحه و أنّه يعرّفه البائع، فان لم يعرفها فهي له، مثل

ما رواه عبد اللّه بن جعفر قال: كتبت إلى الرجل عليه السّلام أسأله عن رجل اشترى جزورا أو بقرة للأضاحي فلمّا ذبحها وجد في جوفها صرّة فيها دراهم أو دنانير أو جوهرة، لمن يكون ذلك؟ فوقع عليه السّلام: «عرّفها البائع، فإن لم يكن يعرفها فالشي ء لك رزقك اللّه إيّاه» «1».

و روايته صحيحة الإسناد، و قد حكى الإجماع على العمل به غير واحد منهم، و لكن يمكن القول بأنّه من مصاديق اللقطة، و أحد أفراد التخيير فيها هو التملّك، و أمّا عدم تقييده بتعريف السنّة، فلعلّه لليأس الحاصل في الحيوان الذي يشتري للأضاحي، و إلّا لا وجه للتملّك مع عدم اليأس.

و أمّا كونه للإمام عليه السّلام، فيدلّ عليه ما رواه داود بن أبي يزيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رجل: إنّي قد أصبت مالا و انّي قد خفت فيه على نفسي، و لو أصبت صاحبه دفعته إليه و تخلّصت منه، قال فقال له أبو عبد اللّه عليه السّلام: «و اللّه أن لو أصبته كنت تدفعه إليه؟» قال: إي و اللّه، قال: «فأنا و اللّه، ما له صاحب غيري»، قال: فاستحلفه أن يدفعه إلى من يأمره، قال:

فحلف، فقال: «فاذهب فاقسمه في إخوانك و لك الأمن ممّا خفت منه»، قال: فقسمته بين إخواني «2».

و لكنّه ضعيف السند «أوّلا»، و معارض بالروايات الكثيرة المبيّنة لحكم اللقطة «ثانيا» لأنّه وقع التصريح فيه بخلاف ذلك، و من الواضح ترجيحها عليه (فراجع الباب 2 من أبواب اللقطة).

و أمّا القول الأوّل، و هو المشهور، أعني التصدّق به عن صاحبه، فيمكن الاستدلال له بالقواعد و الروايات الخاصّة:

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 463

أمّا الأوّل فلأصالة الاشتغال، و القدر المتيقّن من براءة الذمّة هو

التصدّق به، اللهمّ إلّا أن يقال: إذا دار الأمر بينه و بين أدائه إلى بيت المال و الإمام عليه السّلام فليس معلوما كون التصدّق هو المتيقّن، فتأمّل.

أو يقال: إنّ الأصل إيصاله إلى يد مالكه، فإذا لم يمكن ذلك فإيصال ثوابه هو المقدار الممكن منه، و هذا التوجيه حسن، إلّا أنّه لا يتجاوز عن أن يكون استحسانا و مؤيّدا.

أو يقال: يعلم عادة برضا مالكه بهذه الصدقة مع الضمان كما هو المفروض.

و إن شئت قلت: بعد دوران الأمر بين الامور السابقة، فالصدقة إن لم تكن مقطوعة، فلا أقل أنّها راجحة على غيرها فيتعيّن عند الدوران.

و أمّا الثاني، فلأخبار كثيرة وردت في خصوص المسألة أو ما يقاربها، و إليك شطر منها:

1- مرسلة السرائر، قال في السرائر: و قد روى أصحابنا أنّه يتصدّق به عنه و يكون ضامنا إذا لم يرض به صاحبه «1».

مع ما هو المعروف منه من عدم الاعتماد على أخبار الآحاد.

هذا و لكن الإنصاف أنّه يمكن أن يكون إشارة إلى أخبار اللقطة، و هي كثيرة معتبرة مع الغاء الخصوصية منها، و معه لا يمكن الاعتماد على كونه دليلا مستقلا و رواية خاصّة.

2- رواية حفص بن غياث (في وديعة اللصّ) التي مرّت عليك قريبا «2» مع الغاء الخصوصية عن موردها، أعني ما أودعه اللصوص، نعم سند الحديث ضعيف، و لكنّه غير قادح بعد ضمّ أخبار المسألة بعضها إلى بعض.

3- ما رواه يونس بن عبد الرحمن قال: سئل أبو الحسن الرضا عليه السّلام و أنا حاضر .. إلى أن قال فقال: رفيق كان لنا بمكّة فرحل منها إلى منزله، و رحلنا إلى منازلنا، فلمّا أن صرنا في الطريق أصبنا بعض متاعه معنا، فأي شي ء نصنع به؟ قال: «تحملونه

حتّى تحملوه إلى الكوفة» قال لسنا نعرفه، و لا نعرف بلده، و لا نعرف كيف نصنع؟ قال: «إذا كان كذا فبعه انوار الفقاهة، ج 4، ص: 464

و تصدّق بثمنه»، قال له: على من، جعلت فداك؟ قال: «على أهل الولاية» «1».

لكنّها في معلوم المالك الذي يتعذّر إيصال ماله إليه، اللهمّ إلّا أن تلغى الخصوصية، أو يقال بالأولوية، و ليس ببعيد.

4- ما رواه إسحاق بن عمّار قال: سألت أبا إبراهيم عليه السّلام عن رجل نزل في بعض بيوت مكّة، فوجد فيه نحوا من سبعين درهما مدفونة فلم تزل معه و لم يذكرها حتّى قدم الكوفة كيف يصنع؟ قال: «يسأل عنها أهل المنزل، لعلّهم يعرفونها»، قلت: فان لم يعرفوها قال:

«يتصدّق بها» «2».

و لكن الإنصاف أنّه أشبه شي ء باللقطة أو هو منها نفسها، و الغاء الخصوصية عن اللقطة إلى غيرها لا يخلو من إشكال:

5- ما رواه علي بن أبي حمزة في حديث مشهور قال: كان لي صديق من كتاب بني اميّة فقال لي، استأذن لي على أبي عبد اللّه عليه السّلام فاستأذنت له، فأذن له فلمّا أن دخل سلّم و جلس، ثمّ قال جعلت فداك: انّي كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم مالا كثيرا، و أغمضت في مطالبه، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «لو لا انّ بني اميّة وجدوا لهم من يكتب و يجبى لهم الفي ء و يقاتل عنهم و يشهد جماعتهم، لما سلبونا حقّنا، و لو تركهم الناس و ما في أيديهم ما وجدوا شيئا إلّا ما وقع في أيديهم» قال: فقال الفتى: جعلت فداك فهل لي مخرج منه؟ قال: «إن قلت لك تفعل؟» قال: افعل، قال له: «فاخرج من جميع ما كسبت في ديوانهم فمن

عرفت منهم رددت عليه ماله و من لم تعرف تصدّقت به و أنا أضمن لك على اللّه عزّ و جلّ الجنّة»، فأطرق الفتى طويلا ثمّ قال له: لقد فعلت جعلت فداك ... «3».

الحديث طويل جليل فيه آثار الإمامة و دلائل الولاية نقلنا منه المقدار المرتبط بالمقام، و دلالتها ظاهرة على المدّعى.

6- ما رواه علي بن ميمون الصائغ قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عمّا يكنس من التراب،

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 465

فابيعه فما أصنع به؟ قال: «تصدّق به فامّا لك و أمّا لأهله»، قال: قلت: فإنّ فيه ذهبا و فضّة و حديدا فبأي شي ء أبيعه؟ قال: «بعه بطعام»، قلت: فإن كان لي قرابة محتاج أعطيه منه؟

قال: «نعم» «1».

7- ما رواه هشام بن سالم قال: سأل حفص الأعور أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا عنده جالس قال:

إنّه كان لأبي اجير كان يقوم في رحاه، و له عندنا دراهم و ليس له وارث، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

«تدفع إلى المساكين»، ثمّ قال رأيك فيها، ثمّ أعاد عليه المسألة فقال له مثل ذلك. فأعاد عليه المسألة ثالثة، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «تطلب وارثا فان وجدت وارثا و إلّا فهو كسبيل مالك»، ثمّ قال: ما عسى أن يصنع بها، ثمّ قال: «توصى بها فان جاء طالبها و إلّا فهي كسبيل مالك» «2».

لكن يستفاد منه أيضا جواز تملّكه كاللقطة.

8- ما رواه أبو علي بن راشد قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام قلت: جعلت فداك اشتريت أرضا إلى جنب ضيعتي بألفي درهم فلمّا ظفرت المال خبرت أنّ الأرض وقف. فقال: «لا يجوز شراء الوقوف و لا تدخل الغلّة في ملكك ادفعها إلى من أوقفت عليه»، قلت: لا

أعرف لها ربّا، قال: «تصدّق بغلّتها» «3».

9- ما رواه نصر بن حبيب صاحب الخان قال: كتبت إلى عبد صالح عليه السّلام لقد وقعت عندي مائتا درهم و أربعة دراهم و أنا صاحب فندق و مات صاحبها، و لم أعرف له ورثة فرأيك في اعلامي حالها و ما أصنع بها فقد ضقت بها ذرعا؟ فكتب: «اعمل فيها و أخرجها صدقة قليلا قليلا حتّى يخرج» «4».

و أمّا ما دلّ على جواز الصدقة في اللقطة و لو بعنوان بعض افراد التخيير فمثل:

10- ما رواه الحسين بن كثير عن أبيه قال: سأل رجل أمير المؤمنين عليه السّلام عن اللقطة فقال انوار الفقاهة، ج 4، ص: 466

«يعرفها فان جاء صاحبها دفعها إليه و إلّا حبسها حولا، فان لم يجي ء صاحبها أو من يطلبها تصدّق بها، فان جاء صاحبها بعد ما تصدّق بها إن شاء اغترمها الذي كانت عنده و كان الأجر له، و ان كره ذلك احتسبها و الأجر له» «1».

11- و ما رواه أبان بن تغلب قال: أصبت يوما ثلاثين دينارا، فسألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ذلك، فقال: أين أصبته؟ قال كنت منصرفا إلى منزلي فأصبتها، قال فقال: «صر إلى المكان الذي أصبت فيه فعرفه، فان جاء طالبه بعد ثلاثة أيّام فأعطه إيّاه و إلّا تصدّق به» «2».

و لكنّه يدلّ على كفاية ثلاثة أيّام في التعريف، و لعلّه ناظر إلى صورة اليأس بعدها.

12- و ما رواه علي بن جعفر عن أخيه قال: و سألته عن الرجل يصيب اللقطة فيعرفها سنة ثمّ يتصدّق بها فيأتي صاحبها ما حال الذي تصدّق بها؟ و لمن الأجر؟ هل عليه أن يردّ على صاحبها؟ أو قيمتها؟ قال: «هو ضامن لها و الأجر له

إلّا أن يرضى صاحبها فيدعها و الأجر له» «3».

و لعلّها تشمل ما نحن فيه بالأولوية.

و يستفاد من جميع ذلك جواز صدقة مجهول المالك أو تعينها، فهذا هو الأقوى، و لكن بقي هنا امور:

أحدها: مصرف هذه الصدقة، هل هو خصوص الفقراء، أو هو أعمّ كما عن صاحب الجواهر «4»؟ و لعلّه بعنوان أنّه هبة يقصد القربة لأهل الدين يشترك فيه الغني و الفقير.

ذكر شيخنا الأعظم حصرها بالفقراء استنادا إلى تبادره من عنوان الصدقة «5» و هو كذلك، و قد يستند فيه إلى قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ ... «6».

و فيه أنّه ناظر إلى خصوص الزكاة و الصدقة الواجبة بالأصل.

و لو شكّ فالقدر المتيقّن بمقتضى القاعدة هو خصوص الفقير لو لا إطلاق الصدقة، و قد عرفت عدم الإطلاق فيها.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 467

و يمكن الاستدلال له أيضا بأنّه لو جاز التصدّق على كلّ أحد لجاز أخذه لنفسه، فعدم الإذن به دليل على ما ذكرنا، و كذا بعض ما سبق حيث ذكر التصدّق على فقراء قرابته.

ثانيها: هل يجوز إعطائها إلى بني هاشم؟ ذكره شيخنا الأعظم من غير اختيار لأحد الطرفين «1».

و تحقيق الكلام في المقام أن يقال:

إنّ الصدقات على أقسام أربعة:

1- الزكاة.

2- الصدقات المفروضة غيرها كالكفّارات الواجبة بالأصل.

3- الصدقات المفروضة بالعرض، كالنذر و ردّ مجهول المالك بعنوان الصدقة.

4- الصدقات المندوبة.

أمّا الأوّل فإجماع الفريقين قائم على حرمتها على بني هاشم، و أمّا الأخيرة فإجماعنا على جوازها لهم، و قد وقع الخلاف في القسم الثاني و الثالث، فعن جماعة من أكابر القدماء و المتأخّرين كالشيخ و السيّد و المحقّق و العلّامة رحمهما اللّه إلحاق جميع الصدقات الواجبة بالزكاة، بل قد يستظهر من غير واحد منهم الإجماع عليه، و لم يعلم أنّ مرادهم الواجبة بالأصل أو

بالعرض أيضا، بينما يحكى عن جماعة من المتأخّرين كالمحقّق الثاني رحمه اللّه في جامع المقاصد و الشهيد الثاني في المسالك و غيره بل العلّامة رحمه اللّه أيضا في قواعده و غيرهم الجواز، و الاقتصار على حرمة الزكاة فقط «2».

و يمكن القول بالتفصيل بين القسمين.

و الذي يدلّ على المنع هو إطلاقات حرمة الصدقة على بني هاشم، و هي روايات كثيرة (أوردها في الوسائل ج 6 ص 185 في الباب 29 من أبواب المستحقّين للزكاة، و فيها روايات معتبرة فراجع الأحاديث 2 و 3 و 4 من هذا الباب هذا مضافا إلى الحديث 3/ 31).

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 468

و لا دليل على تقييدها إلّا ما يلي:

1- إطلاق الصدقة كثيرا على الزكاة كما في آية تشريعها و غيرها. و فيه أنّ ذلك غير مانع عن العموم.

2- ما ورد من أنّ اللّه بدّلهم عن تحريم الصدقة بالخمس و ظاهره الزكاة مثل حديث 1/ 30 و 1/ 29 ج 6 من أبواب المستحقّين للزكاة.

و لكنّه لا يتجاوز عن حدّ التأييد.

3- و هو العمدة، ما صرّح فيها بأنّ المراد منه خصوص الزكاة المفروضة، فيكون مقيّدا لما سبق (مثل 4/ 32 من أبواب المستحقّين للزكاة و 5/ 32 و هكذا 3/ 31 بناء على كون المراد منه الزكاة خاصّة و لكنّه محلّ إشكال).

فلا يبقى إلّا الروايتان الأوليّان، و لكن يمنعنا من الأخذ بهما إشكالهم في سندهما.

و الذي يسهل الأمر أنّ إطلاق الصدقة على الكفّارة مشكل، فلا تمنع عنهم.

و لو سلّمنا فالقدر المسلّم من إطلاقات الحرمة تحريم الصدقات الواجبة بالأصل، و أمّا بالعرض فالحاقها بالصدقات المندوبة التي ورد فيها الجواز أولى، و قد دلّت عليه روايات عديدة (رواها في الوسائل في الباب 31

الأحاديث 1 و 3 و في الباب 32 الحديث 8 و استدلّ في بعض الروايات بجريان السيرة على الانتفاع من مياه طرق مكّة لأهل المدينة و غيرهم مع أنّ عامتها صدقة أي موقوفات أو غيرها، و أنّه لو كان يحرم عليهم لما استطاعوا أن يحجّوا).

و لا أقل من الشكّ في إلحاق هذا القسم، فالأصل الجواز (بمقتضى إطلاقات أدلّة هذه الواجبات).

و من هذا القسم صدقة مجهول المالك، فانّها مندوبة في الأصل.

فتحصّل من جميع ذلك أنّ الأقوى جواز هذه الصدقات للهاشميين، و لا دليل على حرمتها عليهم، و كذا الموقوفات العامّة و الخاصّة في الآبار و المدارس و المساجد، و الخانات، بناء على كون الوقف نوع صدقة و اللّه العالم.

ثالثها: هل يعتبر فيها إذن الحاكم الشرعي؟ قد يقال باعتباره، إمّا من جهة أنّه القدر

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 469

المتيقّن في براءة الذمّة، أو من جهة الاستناد إلى رواية داود بن أبي يزيد كما مرّ (1/ 7 من اللقطة) هذا إذا كان عينا، و أمّا لو كان دينا كان الأمر أوضح، لأنّ الحاكم ولي الغائب.

و لكن يمكن دفع جميع ذلك بأنّ شيئا منها لا يقاوم ظاهر ما عرفت من إطلاق روايات الباب، فانّها إمّا تدلّ على إذن عامّ، أو عدم الحاجة هنا إلى الإذن كما هو ظاهرها حتّى في الدين كما لا يخفى، لا سيّما بملاحظة ما رواه هشام بن سالم (1/ 6 من اللقطة) فراجع.

رابعها: حكم تعذّر الإيصال عند الجهل بالمالك، لا يبعد أن يكون مثل ما سبق، لأنّ الملاك واحد ظاهرا، فلا يمكن حفظه و لا تملّكه، و لا وجه لكونه مال الإمام عليه السّلام، فلا يبقى إلّا الصدقة، مضافا إلى ظهور بعض روايات الصدقة فيه، مثل

ما رواه يونس عن الرضا عليه السّلام و قد مرّ «1».

خامسها: لو ظهر المالك بعد ما تصدّق به، فهل هو ضامن له، أو لا، أو فيه تفصيل؟ فيه أقوال عمدتها وجوه ثلاثة:

1- الضمان مطلقا.

2- عدم الضمان كذلك.

3- الفرق بين ما إذا أخذه عدوانا، ثمّ أراد العمل بوظيفته الشرعية، و ما إذا أخذه بحكم الشرع من أوّل الأمر.

اختار شيخنا الأعظم أوّلا التفصيل، ثمّ قال بالضمان مطلقا «2».

و عمدة الدليل على الضمان «قاعدة الإتلاف»، و لا يرد عليه ما أفاده بعض الأكابر من عدم وجود دليل عام عليه، لما ذكرنا في محلّه من القواعد الفقهية من وجود دليل كاف عليه «3».

و لكن في مقابل ذلك، و هو حكم الشرع بوجوب الصدقة أو جوازها، فانّ لازمه العرفي عدم الضمان لأنّ الإمام ولي الغائب المجهول، فإذا كان التصرّف بإجازته و أمره لم يكن وجه انوار الفقاهة، ج 4، ص: 470

للضمان، نعم، لو صرّح من أوّل أمره بأنّه إنّما يجوز له التصدّق إذا تعهّد ضمانه أمكن ذلك.

ان قلت: ورد التصريح بذلك في رواية حفص بن غياث فيمن أودعه بعض اللصوص، و قد مرّ (1/ 18 من اللقطة ج 7 ص 368) و كذا في مرسلة السرائر.

قلنا: قد عرفت ضعفها سندا و اختصاصها دلالة بمورد خاصّ ألحقها الإمام عليه السّلام باللقطة، فلا يشمل غيره.

هذا مضافا إلى أنّه في مفروض السؤال كانت يده في أوّل أمره من قبيل اليد العادية، لعدم جواز قبول ودائع اللصوص، اللهمّ إلّا أن يقال أنّه أخذه للردّ إلى صاحبها، و لكنّه بعيد جدّا.

و أمّا مرسلة السرائر فقد عرفت احتمال انطباقها على روايات اللقطة.

إن قلت: قد ورد في اللقطة الضمان لو ظهر المالك، و لم يقبل الصدقة، لا سيّما

في صحيحة علي بن جعفر (14/ 2) فيلحق المقام بها.

قلنا: فرق كثير بين المقامين، لأنّ اللقطة لها أحكام خاصّة، منها جواز تملّكها و لا تجري في المقام، مضافا إلى أنّ اللاقط أخذه باختياره، و لكن مجهول المالك في مفروض المسألة قد لا يكون كذلك، كمن وجده في متاعه بعد ذهاب صاحبه، و بالجملة من البعيد جدّا أمر الشارع بضمان مال المجهول مالكه بعد أمره بإتلافه من طريق الصدقة لمصلحة صاحبه، مع عدم إقدامه على أخذه عمدا كما إذا اختلط بماله من غير اختياره.

و كذلك إذا كان باختياره و بإذن الشرع و ان كان ذلك أدون منه.

و إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ ظاهر ما عرفت من الأدلّة عدم الفرق بين أن تكون اليد عادية في ابتدائها، أو أمانة بعد ما تحوّلت العادية إلى الأمينة، و كان مأمورا بحكم الشرع بالصدقة.

و التمسّك بالاستصحاب مضافا إلى تبدّل الموضوع لا وجه له في مقابل ظهور أدلّة الصدقة التي هي أدلّة اجتهادية.

فتلخّص أنّ عمدة دليل عدم الضمان أمران:

1- قصور أدلّة الضمان بالإتلاف لمحلّ الكلام فيما كان بحكم الشرع و لمصلحة صاحب المال.

2- ظهور أدلّة الصدقة في عدم الضمان.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 471

هذا و قد يقال بأنّ التصدّق لو كان موجبا للضمان لزم التسلسل، للزوم التصدّق ببدله أيضا و هكذا، و هذا تخصيص عقلي لأدلّة الضمان «1».

و لكن يمكن الجواب عنه بأنّ الضمان مراعى بظهور المالك و عدم قبوله الصدقة لا مطلقا، كما هو ظاهر الأدلّة، و إلّا كان وجوب الصدقة لغوا من أوّل أمره.

و ممّا ذكرنا ظهر أنّه لا تصل النوبة إلى حكم موت المالك، أو المتصدّق بعد عدم الضمان لو ظهر المالك و لم يرض بها، و ان كان

الأظهر إرث هذا الحق لورثة المالك و لزوم أخذها من تركة المتصدّق لو مات.

فتحصّل ممّا ذكرنا امور:

1- يجب التصدّق بمجهول المالك من قبل صاحبه.

2- يجب التعريف إلى أن ييأس من وجدان مالكه.

3- لو كان يائسا من أوّل أمره يجب التصدّق به.

4- لا يعتبر فيه إذن الحاكم و لو كان أحوط.

5- تعذّر الوصول إلى المالك بحكم الجهل به.

6- لا يضمن بعد ظهور المالك و عدم رضاه بالصدقة، و ان كان الضمان أحوط.

7- للقطة أحكام خاصّة لا تجري في مجهول المالك.

8- لو لم يردّه حتّى تلف أو أتلفه يجب إخراج مثله أو قيمته من تركته كسائر الديون، و لا فرق في شي ء من ذلك بين الظلمة و غيرهم.

9- يجوز إعطاؤه إلى الحاكم الشرعي.

10- تجوز هذه الصدقة للهاشمي و غيره، و كذا الكفّارات.

الصورة الرّابعة: إذا كانت الجائزة مخلوطة بالحرام
اشارة

و قد ذكر فيه وجوه خمسة:

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 472

ما إذا كان الخلط بنحو يوجب الإشاعة كالخلط بجنسه، كالحنطة بالحنطة أو اللبن باللبن.

و هو بنفسه ينقسم إلى أربع صور، فانّ «المقدار» و «المالك» أمّا يكونان معلومين، فالحكم واضح، و أمّا أن يكونا مجهولين، فحكمه الخمس كما ذكر في بابه.

و إمّا أن يكون المالك معلوما و المقدار مجهولا، فيصالح مع مالكه.

و إمّا أن يكون المقدار معلوما و المالك مجهولا، ففيه حكم المجهول مالكه من الصدقة.

أمّا الصورة الخامسة و هي الخلط بغير جنسه بحيث لا يوجب الإشاعة كاختلاط بعض غنمه بغنم آخر، فيحكم بالقرعة، أو يباع فيشترك في الثمن.

هذا ما أفاده شيخنا الأعظم في مكاسبه «1».

و لكن فيما أفاده وجوه من النظر، منها:

1- إنّ الحكم بالخمس إنّما هو إذا لم يعلم إجمالا زيادته أو نقصانه من الخمس، أمّا إذا علم إجمالا زيادته من الخمس، فالأحوط كما ذكرنا

في محلّه صرف مقدار الخمس فيما ينطبق على المصرفين (مصرف الخمس و مصرف الصدقة) و يتصدّق بالزائد بإذن الحاكم احتياطا، و أمّا لو علم بكونه أقلّ منه فالظاهر جواز التصدّق بالأقل، و لعلّه إلى ذلك أشار بقوله «على تفصيل مذكور في باب الخمس» «2».

2- لزوم المصالحة مع المالك فيما كان معلوما و مقداره مجهولا لا دليل عليه، بل اللازم إعطاء القدر المتيقّن، لأنّ المال انتقل إليه من غيره و كان مسبوقا بيده التي هي من أمارات ملكه، إلّا ما ثبت أنّه ملك غيره.

نعم إذا اشتبه بما ليس في يد واحد منهما كان للمصالحة وجه.

3- إنّ الحكم بالمصالحة في المقام و أمثاله ليس حكما الزاميا، بل هذا إذا رضيا به، و إلّا فالحكم الإلزامي في أمثال المقام، إمّا القرعة أو التنصيف، و الأظهر هو الثاني، لأنّه مقتضى سيرة العقلاء، مضافا إلى وروده في بعض الروايات.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 473

4- في الصورة الخامسة، أعني ما لا يوجب الشركة، فالأظهر كما ذكرنا في أبواب الخمس جريان حكم الخمس فيه إذا جهل المقدار و المالك و اختلطا معا، كما إذا جهل مقدار ماله من هذا القطيع، و ما لغيره؟

و لو علم العدد و لم يعلم المالك، يخرج بالقرعة، و يتصدّق من قبل صاحبه.

كما إنّه إذا كان العكس يتوصّل إلى القرعة، و يعطي إلى مالكه (و لو كان أحدها أزيد قيمة، فلا يبعد التنصيف في الزائد كما ذكرنا في الخمس).

و لو كان معلومين كان الأمر واضحا.

فإذا، لا فرق بين الصورة الخامسة و بين ما سبقها من صور الإشاعة، فيجري فيه ما تقدّم.

بقي هنا شي ء:

إنّ مقتضى القواعد عدم الفرق في الأموال المحرّمة التي لا بدّ فيها من الصدقة إذا لم يعرف مالكها،

و أدائها إلى صاحبها إذا عرفه، بين العين الموجودة و بين ما أتلفه و بقي في ذمّته، و كذا لا فرق بين الظلمة و غيرهم، و ان كانت هذه الديون تستغرق أموالهم المحلّلة لو كانت لهم أموال كذلك. و ذلك لأنّ أدلّة الإتلاف و الضمان و أحكام الديون تشملهم من دون أي فرق، و لازمه عدم تعلّق الخمس بأموالهم في بعض الصور، و كذا الاستطاعة للحجّ و عدم إرث ورثتهم ما لم يؤدّوا ديونهم منه.

هذا و لكن حكى في الجواهر عن شرح استاذه (كاشف الغطاء) «انّ ما كان في يده من المظالم و تلف لا يلحقه حكم الديون في التقديم على الوصايا و المواريث لعدم انصراف الدّين إليه، و ان كان منه، و بقاء عموم الوصيّة و المواريث على حالها، و السيرة المأخوذة يدا بيد من بدء الإسلام إلى يومنا هذا، فعلى هذا لو أوصى بها بعد التلف أخرجت من الثلث» «1».

و لم يحك مثل هذا الكلام عن غيره، و على كلّ حال فهو ضعيف جدّا كما ذكره جمع من الأكابر و المحقّقين.

و أمّا ما استدلّ به على مراده من الانصراف و السيرة، فيرد على الأوّل أنّه ممنوع جدّا،

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 474

لعموم قوله تعالى مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ «1» و كذا سائر العمومات و الإطلاقات، و لا نرى أيّ فرق بينه و بين سائر الديون، و لو جاز استثناء الظلمة من هذا الحكم جاز استثناؤهم من سائر الأحكام أيضا.

و أمّا السيرة، فهي و ان كانت كذلك في الجملة، إلّا أنّ من المقطوع كونها سيرة الذين لا يبالون في دينهم، و أمّا المبالون و المتّقون فسيرتهم اجتناب هذه الأموال المحرّمة التي تعلّق

بها حقّ الغير.

و العمدة أنّ ورثتهم في الغالب من أشباههم، و هذا هو السرّ في جريان سيرتهم عليه.

و بالجملة لو لم تصدر هذه الفتوى من هذا الفقيه الكبير لم يكن مجال للبحث فيها.

المسألة الثالثة: في حكم ما يأخذه السلطان من الخراج و الزكاة و المقاسمة
اشارة

المعروف بين الأصحاب بل حكى الإجماع عليه من جماعة أنّ ما يأخذه السلطان الجائر باسم المقاسمة و الخراج و الزكاة يكون مبرئا للذمّة، بل عن مصابيح العلّامة الطباطبائي قدّس سرّه أنّ على جواز التصرّف فيه إجماع علمائنا، و كفى به و بما ذكره في المسالك شهادة على ذلك، حيث قال: قد أذن أئمّتنا عليهم السّلام في تناوله و أطبق عليه علماؤنا، و لا نعلم فيه مخالفا «1» و لازمه براءة الذمّة.

و قد حكي عن الشيخ إبراهيم الجبلي المعاصر للمحقّق الكركي تحريمه، حتّى أنّ المحقّق الكركي رحمه اللّه كتب رسالة «قاطعة اللجاج» في ردّه، و المخالف شاذّ «2».

نعم، مقتضى القواعد في بدء الأمر حرمة ذلك، لأنّهم ليسوا أهلا لذلك، فلا يجوز لهم أخذها، و لا يجوز لنا اعطاؤهم إيّاها، و لو أخذوها قهرا كانت مغصوبة كسائر أموالهم.

هذا و لكن يمكن أن يستدلّ للخروج عن هذه القاعدة بامور:

1- جريان السيرة القطعية عليه من العلماء و العوام في جميع الأعصار و الأمصار في الدولة الاموية و العبّاسية و غيرهم، فقد كانت الأراضي الخراجية في أيدي المؤمنين و غيرهم، و لم يعهد منهم أداء خراجين: خراج إليهم، و خراج إلى أئمّة الحقّ عليهم السّلام و هذا دليل على امضائهم عليهم السّلام لها، فهو كالفضولي الذي أجاز مالكه أو المتولّي له كما ذكره شيخنا الأعظم «3».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 476

فحينئذ يبقى على الجائر إلّا التبعات التكليفية، لا الوضعية، فما ذهب إليه بعض الأعاظم من عدم ثبوت حكم

الضمان عن الغاصب، و إنّ إجازة الأئمّة إنّما هي لتسهيل الأمر على الشيعة «1»- عجيب، لعدم انفكاكهما كما هو ظاهر.

2- لزوم العسر و الحرج الشديد، بل الضرر أيضا لو اريد الاجتناب عن هذه الأموال و لو اريد إعطاء الزكاة و الخراج مرّتين، مع كون سوق المسلمين مملوءا من هذه الأموال بحيث لم يكن لأحد اجتنابها.

و بالجملة جواز التصرّف في هذه الأموال ثابت قطعا، و لازمه براءة ذمّة صاحبها، و إلّا كان باقيا على ملكه و كان غصبا لا يجوز التصرّف فيها.

3- الأخبار الكثيرة الواردة في أبواب مختلفة:

منها: ما ورد في باب أخذ جوائز السلطان، و قد رواها الوسائل في الباب 51 من أبواب ما يكتسب به من قبيل:

الأوّل- ما مرّ سابقا عن أبي بكر الحضرمي قال: دخلت على أبي عبد اللّه عليه السّلام و عنده إسماعيل ابنه، فقال: «ما يمنع ابن أبي السمال «السمّاك- الشمال» أن يخرج شباب الشيعة فيكفونه ما يكفيه الناس و يعطيهم ما يعطي الناس؟» ثمّ قال لي: لم تركت عطاءك؟

قال: مخافة على ديني. قال: «ما منع ابن أبي السمال أن يبعث إليك بعطائك؟ أما علم انّ لك في بيت المال نصيبا؟» «2».

فانّه يعلم عادة أنّ الجوائز الكثيرة كانت من الخراج أو شبهه، و لا أقل من إطلاقها، بل العمدة في طريق تحليلها كونها من الخراج، و إلّا احتمال كونها غصبا مانع و كونها من الزكاة أيضا كذلك، لعدم جواز أخذه لكلّ أحد منه فهذا كلّه يدلّ على حلّ الخراج و لازمه أيضا كونها مبرئا للذمّة.

الثاني- و منها صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج قال: قال لي أبو الحسن موسى عليه السّلام: «ما لك لا تدخل مع علي في شراء الطعام إنّي أظنّك

ضيّقا». قال قلت: نعم فإن شئت وسّعت عليّ. قال: «اشتره» «3».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 477

الثالث- و منها ما رواه معاوية بن وهب، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: اشتري من العامل الشي ء، و أنا أعلم أنّه يظلم؟ فقال: «اشتر منه» «1».

و لكن يحمل على أنّه لم يعلم كون خصوص هذا ظلما.

الرابع- و منها ما رواه أبو عبيدة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن الرجل ما يشتري من السلطان من إبل الصدقة و غنم الصدقة و هو يعلم انّهم يأخذون منهم أكثر من الحقّ الذي يجب عليهم، قال فقال: «ما الإبل إلّا مثل الحنطة و الشعير و غير ذلك، لا بأس به حتّى تعرف الحرام بعينه، قيل له: فما ترى في مصدّق يجيئنا فيأخذ منّا صدقات أغنامنا، فنقول بعناها فيبيعناها فما تقول في شرائها منه؟ فقال: «إن كان قد أخذها و عزلها فلا بأس»، قيل له: فما ترى في الحنطة و الشعير يجيئا القاسم، فيقسم لنا حظّنا و يأخذ حظّه فيعزله بكيل، فما ترى في شراء ذلك الطعام منه؟ فقال: «إن كان قبضه بكيل و أنتم حضور ذلك فلا بأس بشرائه منه من غير كيل» «2».

هذا الحديث يدلّ على حكم الزكوات و غيرها كما لا يخفى فتأمّل.

بل ظاهرها كون الجواز أمرا واضحا في أصل المسألة، و إنّما سأله عليه السّلام عن امور اخر، مثل احتمال اشتماله على الحرام أو عدم كيلها بعد ذلك.

الخامس- و منها ما رواه محمّد بن أبي حمزة عن رجل قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

أشتري الطعام فيجيئني من يتظلّم و يقول: ظلمني، فقال: «اشتره» «3».

السادس- ما رواه يعقوب بن شعيب قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن

رجل يستأجر الأرض بشي ء معلوم يؤدّي خراجها و يأكل فضلها و منها قوته قال: «لا بأس» «4».

و هذا يدلّ على جواز الخراج على النحو المتعارف في ذلك الزمان.

السابع- و ما رواه أبو الربيع الشامي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن أرض يريد رجل أن يتقبّلها فأي وجوه القبالة أحل؟ قال: «يتقبّل الأرض من أربابها بشي ء معلوم إلى سنين انوار الفقاهة، ج 4، ص: 478

مسمّاة فيعمر و يؤدّي الخراج، فان كان فيها علوج فلا يدخل العلوج «1» في قبالته فانّ ذلك لا يحلّ» «2».

و كيفية دلالتها كسابقتها، فانّها و ان لم تكن بصدد بيان هذا الحكم، إلّا أنّ تعبيرها بالنسبة إلى الخراج دليل على مفروغية المسألة بالنسبة إلى البراءة لو أدّاه إلى السلطان.

الثامن- و ما رواه أبو بردة بن رجاء قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن القوم يدفعون أرضهم إلى رجل فيقولون: كلها و أدّ خراجها قال: «لا بأس به إذا شاءوا أن يأخذوها أخذوها» «3».

التاسع- و ما رواه جميل بن صالح قال: أرادوا بيع تمر عين أبي بن زياد فأردت أن أشتريه فقلت حتّى أستأذن أبا عبد اللّه عليه السّلام فأمرت مصادفا فسأله فقال له: قل له: «فليشتره فإنّه إن لم يشتره اشتراه غيره» «4».

و لكن روي في الحدائق ما رواه المحقّق الأردبيلي قدّس سرّه المخالف في هذه المسألة رواية عن الكافي تدلّ على أنّ عين أبي زياد كانت ملكا لأبي عبد اللّه عليه السّلام (و لكن التعبير فيه ب «عين زياد» و لعلّ هذا المقدار من التفاوت لا يضرّ، و فيه تأمّل، اللهمّ إلّا أن يقال إنّ احتمال اتّحادهما يمنع عن الاستدلال و هو جيّد) «5».

العاشر- و ما رواه إسماعيل

بن الفضل الهاشمي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الرجل يتقبّل بجزية رءوس الرجال، و بخراج النخل و الآجام و الطير، و هو لا يدري لعلّه لا يكون من هذا شي ء أبدا، أو يكون، أ يشتريه و في أي زمان يشتريه و يتقبّل منه؟ قال: «إذا علمت أنّ من ذلك شيئا واحدا أنّه قد أدرك فاشتره و تقبّل به» «6».

فأطلق فيه الخراج و هو دليل على المطلوب.

الحادي عشر- و منها ما رواه الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام (في حديث) أنّه سأل عن مزارعة أهل الخراج بالربع و النصف و الثلث، قال: «نعم لا بأس به، قد قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم انوار الفقاهة، ج 4، ص: 479

خيبر أعطاها اليهود حين فتحت عليه بالخبر، و الخبر هو النصف» «1».

و منها الروايات الدالّة على جواز قبالة الأرض من السلطان من دون ذكر أمر الخراج التي ظاهرها أدائه إلى السلطان لا إلى غيره مثل:

الثاني عشر- الفيض بن المختار قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: جعلت فداك ما تقول في أرض أتقبّلها من السلطان ثمّ اواجرها أكرتي على أنّ ما أخرج اللّه منها من شي ء كان لي من ذلك النصف أو الثلث بعد حقّ السلطان؟ قال: «لا بأس به كذلك أعامل اكرتي» «2».

الثالث عشر- و ما رواه إسماعيل بن الفضل الهاشمي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الرجل استأجر من السلطان من أرض الخراج بدراهم مسمّاة، أو بطعام مسمّى، ثمّ آجرها و شرط لمن يزرعها أن يقاسمه النصف أو أقل من ذلك أو أكثر و له في الأرض بعد ذلك فضل، أ يصلح له ذلك؟ قال: «نعم إذا

حفر لهم نهرا أو عمل لهم شيئا يعينهم بذلك فله ذلك».

قال: و سألته عن الرجل استأجر أرضا من أرض الخراج بدراهم مسمّاة، أو بطعام معلوم، فيؤاجرها قطعة قطعة أو جريبا جريبا، بشي ء معلوم، فيكون له فضل فيما استأجر من السلطان، و لا ينفق شيئا، أو يؤاجر تلك الأرض قطعا على أن يعطيهم البذر و النفقة فيكون له في ذلك فضل على إجارته و له تربة الأرض أو ليست له؟ فقال له: «إذا استأجرت أرضا فأنفقت فيها شيئا أو رممت فيها فلا بأس بما ذكرت» «3».

إلى غير ذلك من الروايات.

و تلخّص ممّا ذكرنا أنّ المعاملة مع الجائر في أمر الخراج جائزة، و الدفع إليه مبرئ للذمّة، و هكذا يجوز البيع و الشراء و غيرهما في الأموال الحاصلة من الخراج بلا واسطة، أو بالواسطة.

هذا كلّه في أصل المسألة، و لكن هناك مسائل اخرى حول هذه المسألة ستأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه.

بقي هنا امور:
اشارة

الأمر الأوّل: هل هذا الحكم أعني المعاملة مع السلطان الجائر معاملة العادل و إعطائه الخراج و الزكوات و غيرها إليه و إبراء الذمّة بذلك مشروط بحال «التقيّة» و «الضرورة»، أو أنّه مطلق، فيجب دفعه إليه و ان قدر على منعه منه بغير محذور؟

و بعبارة اخرى: إنّ الشارع أمضى سلطنة الجائر على هذه الامور بحيث لا يجوز منعه منها. و يحرم خيانته و ما أشبه ذلك، لبعض المصالح المتعلّقة بالإسلام و المسلمين، و لو من جهة حفظ النظام قبل قيام الحكومة الحقّة الإلهية، أو أنّه لم يمضها كذلك، بل يكون الدفع إليه من جهة ضرورة الدافع لا ضرورة المجتمع الإسلامي؟

نسب القول الأوّل فيما يظهر عن الحدائق إلى جماعة من الأصحاب «1».

و قد يظهر من بعض عباراتهم

ذلك في بدو النظر، مثل ما عن المحقّق الكركي رحمه اللّه في رسالته: «ما زلنا نسمع من كثير ممّن عاصرناهم و لا سيّما الشيخ الأعظم الشيخ علي بن هلال رحمه اللّه أنّه لا يجوز لمن عليه الخراج سرقته و لا جحوده و لا منعه و لا شي ء منه لأنّ ذلك حقّ واجب عليه» «2».

بل قد يستظهر إجماع الأصحاب على ذلك، و لكن لا يبعد أن يكون مرادهم ما أفاده شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه من أنّه ناظر إلى المنع و الإنكار المطلق، لا منعه من الجائر و إعطائه إلى الحاكم الشرعي أو نائبه إذا لم يكن فيه محذور، و لذا اختار هو جواز المنع في هذه الصورة «3» و كذلك صاحب الحدائق في ذيل كلامه في المسألة «4».

و على كلّ حال يمكن أن يستدلّ على هذا القول بأمرين:

«أحدهما» مقتضى القاعدة، لأنّ الأصل عدم جواز إعطائه إلى غير أهله، و القدر المتيقّن من الأدلّة المجوّزة هو ما إذا كان مجبر على ذلك، أمّا إذا كان مختارا فيه، فيشكل استفادته من الأدلّة، فهي منصرفة من هذه الصورة لا أقل.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 481

«ثانيهما» بعض الأدلّة الخاصّة مثل ما يلي:

1- ما رواه عيص بن قاسم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الزكاة قال: «ما أخذوا منكم بنو اميّة فاحتسبوا به، و لا تعطوهم شيئا ما استطعتم، فانّ المال لا يبقى على هذا أن يزكّيه مرّتين» «1».

و لكنّه في خصوص باب الزكاة، اللهمّ إلّا أن تلغى الخصوصية بقرينة التعليل.

2- ما رواه علي بن يقطين قال: قلت لأبي الحسن عليه السّلام: ما تقول في أعمال هؤلاء؟ قال:

«إن كنت لا بدّ فاعلا فاتّق أموال الشيعة»، قال: فأخبرني على أنّه

كان يجيبها من الشيعة علانية و يردّها عليهم في السرّ «2».

و لكن لا يعلم أنّ المراد منه الأموال المغصوبة أو الخراج و أمثاله.

3- ما رواه زرارة قال اشترى ضريس بن عبد الملك و أخوه من هبيرة ارزا بثلاثمائة الف، قال: فقلت له ويلك: أو ويحك انظر إلى خمس هذا المال فابعث به إليه و احتبس الباقي فأبى عليّ، قال: فأدّ المال و قدّم هؤلاء، فذهب أمر بني اميّة، قال: فقلت ذلك لأبي عبد اللّه عليه السّلام فقال مبادرا للجواب: «هو له» فقلت له: إنّه قد أدّاها فعضّ على اصبعه «3».

و لكن لم يثبت كونه من الخراج، فلعلّه من باب أخذ مال الغاصب و ردّ الخمس إليهم، و يؤيّده ذيله «هو له» و توجيه الخمس بكونه مشتملا على الحرام كما فعله شيخنا الأعظم قدّس سرّه «4» و ان كان ممكنا إلّا أنّ قوله «هو له» لا يمكن توجيهه على هذا المبنى.

4- ما رواه سليمان بن خالد قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ أصحاب أبي أتوه فسألوه عمّا يأخذ السلطان فرّق لهم، و أنّه ليعلم أنّ الزكاة لا تحلّ إلّا لأهلها، فأمرهم أن يحتسبوا به، فجال فكري و اللّه لهم، فقلت «له» يا أبه! انّهم إن سمعوا إذا لم يزكّ أحد فقال:

«يا بني حقّ أحبّ اللّه أن يظهره» «5».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 482

فانّ ظاهره صورة الإجبار، نعم هو أيضا مختصّ بالزكاة و الغاء الخصوصية ممكن فتأمّل.

5- ما رواه أبو اسامة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: جعلت فداك إنّ هؤلاء المصدّقين يأتوننا و يأخذون منّا الصدقة فنعطيهم إيّاها أ تجزي عنّا؟ قال: «لا إنّما هؤلاء قوم غصبوكم أو قال ظلموكم أموالكم و إنّما

الصدقة لأهلها» «1».

و ظاهرها عدم الجواز مطلقا، و وجه الجمع بينها و بين غيرها هو التفصيل بين صورتي الاختيار و الإكراه.

6- ما رواه البختري عن جعفر عن أبيه أنّ عليا عليه السّلام كان يقول: «اعتد في زكاتك بما أخذ العشّار منك و احفظها عنه ما استطعت» «2».

و هو صريح في حكم الزكاة لا غير إلّا على ما عرفت من الغاء الخصوصية.

و يمكن هنا القول بالتفصيل بينما إذا توقّف حفظ نظام المسلمين و لو ببعض مراتبه على وجود بيت مال يصرف في هذا الأمر إجمالا، و ما إذا كان لهذا الظالم بدل مثله أو أحسن منه، و لا يحتاج إلى هذا. و يشير إليه بعض الإشارة الحديث 2/ 20 من أبواب المستحقّين للزكاة فراجع «3».

ثمّ أنّه هل يجب استئذان الحاكم الشرعي عند إمكانه؟ ظاهر إطلاق الأخبار عدمه و ان كان هو الأحوط.

الأمر الثّاني: الأراضي التي يأخذ السلطان الجائر الخراج عنها على أقسام:

تارة تكون من الأراضي الخراجية واقعا، و اخرى من الأنفال، و ثالثة من الأراضي المغصوبة المعلوم مالكها، و رابعة من المجهول مالكها.

فهل جميع ذلك داخل في محلّ الكلام فيجوز إجراء المعاملات على الجميع، أم لا؟

ظاهر بعض الأدلّة كظاهر كلمات بعض الأعلام الإطلاق، و لكن الإنصاف انصراف الجميع إلى الأراضي الخراجية الواقعية، لما عرفت من أنّه من قبيل التصرّفات الفضولي التي انوار الفقاهة، ج 4، ص: 483

أجازها من بيده الأمر، فانّ مصالح المسلمين قد تقضي امضاء تصرّفات الجائر فيما ليس له أهل.

و بالجملة ماهية الحكم هنا ماهية الإجازة، و التنفيذ في حكومة الجور في مصالح المسلمين، و لا أقل من الشكّ، فهذا هو القدر المتيقّن، و غيره لا دليل عليه.

و يدلّ على ذلك مضافا إلى ما عرفت:

1-

ما رواه أحمد بن محمّد بن عيسى في نوادره عن أبيه قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن شراء الخيانة و السرقة. قال: «إذا عرفت ذلك فلا تشتر إلّا من العمّال» «1».

و هي دليل على عدم جواز المعاملة مع المغصوب معاملة الحلال.

نعم، في بعض أحاديث هذا الباب ما يدلّ على خلافه، مثل ما رواه محمّد بن أبي حمزة عن رجل قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام أشتري الطعام فيجي ء من يتظلّم و يقول ظلمني. فقال:

«اشتره» «2».

و يمكن الجمع بينهما بحمل الثانية على صورة عدم العلم الإجمالي بأنّ ما يأخذه نفس الحرام.

نعم قد مرّ في موثّقة إسماعيل بن الفضل الهاشمي ما يدلّ على أخذهم الخراج من الأنفال أو المباحات الأصلية، و إليك نصّها. ما رواه إسماعيل بن الفضل الهاشمي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الرجل يتقبّل بجزية رءوس الرجال و بخراج النخل و الآجام و الطير و هو لا يدري لعلّه لا يكون من هذا شي ء أبدا أو يكون، أ يشتريه؟ و في أي زمان يشتريه و يتقبّل منه؟ قال: «إذا علمت انّ من ذلك شيئا واحدا أنّه قد أدرك فاشتره و تقبّل به منه» «3» و «4».

و يمكن إلحاقها بالأراضي الخراجية، لأنّها أيضا منوطة بإذن الإمام عليه السّلام دون المغصوبة، و لكن الأمر في المباحات (مثل الطير في الهواء) ليس كذلك فلا بدّ من توجيهه أو ردّ علمه إلى أهله.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 484

و لم تحرّر هذه المسألة في كلماتهم حقّ التحرير، و الأقوى ما عرفت و اللّه العالم.

الأمر الثّالث: هل الحكم مختصّ بالسلطان بمعناه المعروف الذي يطلب الرئاسة على الناس بعنوان الخلافة عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم،

أو لا بعنوان الخلافة، أو يشمل كلّ متسلّط على منطقة و لو على قرية أو بلد أو صقع كما كان كذلك في الخارجين على الخلفاء في السابق و كذلك الآن.

و الحاصل إنّ المدّعي للرئاسة على أقسام ثلاثة: مدّعي الخلافة، و مدّعي السلطنة و المتسلّط على الأرض، و هل الحكم مختصّ بالمخالف المعتقد لإباحة أخذ الخراج له، أو يشمل الكافر، أو المؤمن غير المعتقد لذلك؟

و المسألة غير منقّحة في كلماتهم أيضا، و لكن لا شكّ أنّ مقتضى القاعدة الاقتصار على القدر المتيقّن، لأنّ الأصل هنا عدم جواز الخراج و شبهه لغير أهله، خرجنا منه في القدر المعلوم، فيبقى الباقي، و لكن لا يبعد شمول الأدلّة العامّة و الخاصّة السابقة لجميع ما ذكر.

أمّا الدليل العام و هو العسر و الحرج، فانّه حاصل كما لا يخفى، و ما أفاده العلّامة الأنصاري قدّس سرّه من أنّ الحرج حاصل على كلّ حال، لاشتمال أموالهم على المحرّمات غير الخراج «1» فيمكن الجواب عنه بأنّ جميع أموال الجائر ليست محلا للابتلاء حتّى يكون وجود الحرام فيها مانعا.

و أمّا الأدلّة الخاصّة، فبعضها مطلق يشمل الجميع مثل:

1- ما رواه أبو بصير و محمّد بن مسلم جميعا عن أبي جعفر عليه السّلام إنّهما قالا له: هذه الأرض التي يزارع أهلها ما ترى فيها؟ فقال: «كلّ أرض دفعها إليك السلطان فما حرثته فيها فعليك ممّا أخرج اللّه منها الذي قاطعك عليه و ليس على جميع ما أخرجه اللّه منها العشر إنّما عليك العشر فيما يحصل في يدك بعد مقاسمته لك» «2».

2- و ما رواه عبيد اللّه الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «تقبّل الثمار إذا تبيّن لك بعض حملها سنة، و إن شئت أكثر،

و ان لم تبيّن لك ثمرها فلا تستأجر» «3».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 485

3- و ما رواه إبراهيم بن ميمون قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قرية لأناس من أهل الذمّة لا أدري أصلها لهم أم لا، غير أنّها في أيديهم و عليها خراج، فاعتدى عليهم السلطان، فطلبوا إليّ فأعطوني أرضهم و قريتهم على أن أكفيهم السلطان بما قلّ أو كثر، ففضل لي بعد ذلك فضل بعد ما قبض السلطان ما قبض، قال: «لا بأس بذلك، لك ما كان من فضل» «1».

4- و ما رواه أبو الربيع قال قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: في الرجل يأتي أهل قرية و قد اعتدى عليهم السلطان، فضعفوا عن القيام بخراجها و القرية في أيديهم و لا يدري هي لهم أم لغيرهم فيها شي ء فيدفعونها إليه على أن يؤدّي خراجها فيأخذها منهم، و يؤدّي خراجها و يفضل بعد ذلك شي ء كثير، فقال: «لا بأس بذلك إذا كان الشرط عليهم بذلك» «2».

5- و ما رواه داود بن سرحان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الرجل تكون له الأرض عليها خراج معلوم و ربّما زاد و ربّما نقص فيدفعها إلى رجل على أن يكفيه خراجها و يعطيه مائتي درهم في السنة، قال: «لا بأس» «3».

إلى غير ذلك من الروايات.

و عموميتها بالنسبة إلى المقام الأوّل لو كان محلا للإشكال، فلا أقل أنّها لم تكن محلا للإشكال بالنسبة إلى المقام الثاني، لا سيّما مع ما يحكى عن «هارون» و «المأمون» لاعتقادهما بأنّ الإمامين الهمامين الكاظم و الرضا عليهما السّلام أحقّ بهذا الأمر منهما و كونهما ظالمين و غاصبين، و لكن الملك عقيم!

هذا مضافا إلى ما عرفت سابقا من أنّ الظاهر

كون المقام من باب الفضولي مع لحوق إجازة من بيده الأمر، و حينئذ لا يبقى فرق بين هذه المقامات، و غاية ما يمكن أن يقال إنّ الأحوط كسب إجازة الحاكم الشرعي بالنسبة إلى هذه المقامات أيضا.

نعم، كلمات بعض الأصحاب ظاهرة في خصوص المخالف المعتقد لاستحقاق الأخذ.

مثل ما عن العلّامة رحمه اللّه في المنتهى من قوله «ما يأخذه الجائر لشبهة المقاسمة أو

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 486

الزكاة» «1» أو تفسير بعضهم الجائر بالمخالف كما في إيضاح النافع أو غير ذلك، و لكن هذه التعبيرات لا تكون إجماعا، بل و لا شهرة، و لا يمكن الركون إليها بعد وضوح الأدلّة في المقام و شمولها أو شمول بعضها، هذا مضافا إلى الإشكال في صغرى البحث، فانّ الكافر أو السلطان الجائر من الشيعة قد يعتقد بأنّ هذه الأمور من حقوق بيت المال، لا بدّ من أخذها، سواء كان الآخذ الإمام الحقّ أو السلطان الجائر، كما تراهم يأخذون الحقوق من الأوقاف و يرون ذلك أمرا سائغا لهم، بل يجعلون المشاريع العظيمة لأمر الوقف و يختارون المتولّي لأوقافهم العظيمة و يعملون كلّ ما يعمله الحاكم الشرعي، فإذا كان أمر الوقف كذلك، فأي مانع في غير الوقف؟

الأمر الرّابع: هل للخراج قدر معيّن لا يجوز أن يتجاوز عنه، بحيث لو تجاوز كان حراما للآخذ و لم تجر عليه الأحكام السابقة، أو المدار على التراضي بين السلطان و مستعملي الأرض، أو يفصل بين ما إذا كان ابتداء، أو كان بالتراضي و ما كان استدامة، أو كان بما لا يضرّ بحال المستقبل فيه أو غيره؟ وجوه:

الظاهر أنّه لم يرد في كلمات الأصحاب ما يدلّ على تعيين مقداره، و قد يستدلّ على الوجه الأوّل بما ورد في

مرسلة حمّاد عن بعض أصحابه عن أبي الحسن عليه السّلام في حديث قال: «... و الأرضون التي أخذت عنوة بخيل أو ركاب فهي موقوفة متروكة في يد من يعمرها و يجيها و يقوم عليها، على ما صالحهم الوالي على قدر طاقتهم من الحقّ الخراج، النصف أو الثلث أو الثلثين على قدر ما يكون لهم صلاحا و لا يضرّهم ...» «2».

و العمدة فيه أنّ هذه الأراضي ملك لعامّة المسلمين، و للوالي التصرّف فيه بما فيه مصلحتهم، فلو تجاوز عن مصالحهم فليس تصرّفه ماضيا، و غاية ما يستفاد من الأدلّة السابقة أنّهم عليهم السّلام أمضوا تصرّفات ولاة الجور فيها لبعض المصالح لا مطلقا، بل بالمقدار الذي يتصرّف فيه أئمّة العدل، و ان هي إلّا كإمضاء تصرّف غير متولّي الوقف في العين الموقوفة.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 487

فبناء على ذلك لو قبل الأرض باجرة أقلّ ممّا هو مصلحة المسلمين أشكل أمره، كما إذا قطعه من دون أي اجرة كما كان متداولا بالنسبة إلى حواشيهم في تلك الأيّام لم تحلّ له، إلّا أن يكون الآخذ من أفراد مصارف بيت المال و مستحقّيه، فيأخذها من هذه الجهة كما لا يخفى، و لعلّه إلى ذلك يشير ذيل مرسلة حمّاد كما لا يخفى.

فما أفاده شيخنا الأعظم قدّس سرّه من «التفصيل بين الابتداء و الاستدامة بأنّ الأوّل يكفي فيه ما تراضى فيه الطرفان قليلا أو كثيرا، و الثاني ما لا يكون مجحفا» «1» لا يخلو عن نظر، لأنّ الوالي العدل (فكيف بالجور) ليس مختارا في هذه الأراضي حتّى يتصرّف فيها كيف يشاء فهي كالموقوفات العامّة يكون التصرّف فيها منوطا بشرط المصلحة و مراعاة الموقوف عليهم، و ليست هي من أملاكه الشخصية يتصرّف فيها كيف

يشاء.

الأمر الخامس: إنّ التصرّف في الأراضي الخراجية قد يكون بعنوان المقاسمة أو أداء الخراج، فلا يشترط فيه استحقاق خاصّ، لأنّه كالمستأجر للموقوفة، و اخرى يأخذها إقطاعا (مجانا) أو بقيمة زهيدة، أو ما دون اجرة المثل، أو يأخذ نفس الخراج هبة، فهل يكون مستحقّا في جميع هذه الصور؟

الذي يظهر من بعض كلمات المحقّق الكركي رحمه اللّه استظهار الجواز مطلقا من إطلاقات كلمات الأصحاب و روايات الباب، أعني روايات حلّية جوائز السلطان «2».

هذا و لكن الإنصاف أنّه مشكل جدّا، أمّا بحسب القواعد فهي ظاهرة، لأنّه أخذه غير مستحقّه، و القدر المتيقّن من الجواز إمضاء أمر الجائر بما يصحّ للعادل، و ليس له إعطائه غير أهله أو أزيد من استحقاقه كما في أمر عقيل و ما أراده من بيت المال من أخيه أمير المؤمنين (عليه أفضل صلوات المصلّين) و يشهد له ما رواه الحضرمي، و استند فيها للجواز بأنّ له حقّ في بيت المال.

و إطلاق الأخبار أيضا محمول على ما إذا كان الآخذ مستحقّا كما هو الغالب بالنسبة إلى الشيعة المحرومين من حقوقهم.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 488

الأمر السّادس: ظهر ممّا ذكرنا أنّ الإقطاع بالنسبة إلى الأراضي الخراجية غير جائز، و هو تخصيص شخص خاصّ شيئا من الأراضي الخراجية، أمّا بأن يملّكه إيّاها، أو يهبه خراجها و يجعله رزقا له، كما كان متداولا في أعصار أئمّة الجور و خلفاء الباطل يعملون ذلك لمن انتسب إليهم، أو أحبّوه، أو كان شريكا لجرائهم، و حافظا لسلطانهم بوجه من الوجوه، و هو المسمّى ب «تيول» (و هي لغة تركية).

و الوجه في ذلك ما عرفت من أنّ الأراضي الخراجية ملك لجميع المسلمين الموجودين و من سيوجد فيما بعد، موقوفة عينها، و تصرّف غلّتها

في مصالحهم، حتّى أنّ والي العدل لا يتصرّف فيها إلّا بهذا النحو كما كان دأبهم عليهم السّلام في أموال بيت المال مطلقا كما هو المشهور المعروف من فعل أمير المؤمنين (عليه أفضل صلوات المصلّين).

و أمّا ولاة الجور فغاية ما ثبت في حقّهم إمضاء تصرّفهم فيها (بالنسبة إلى من وصل إليه) بما يجوز بحسب حكم الشرع في حقّ الوالي العادل.

و إليك بعض ما ورد في حكم الأراضي الخراجية و نحو ملكيتها مثل:

1- ما رواه أبو بردة بن رجاء قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: كيف ترى في شراء أرض الخراج؟ قال: و من يبيع ذلك؟ هي أرض المسلمين. قال: قلت: يبيعها الذي هي في يده. قال:

و يصنع بخراج المسلمين ما ذا؟ ثمّ قال: «لا بأس اشتري حقّه منها، و يحول حقّ المسلمين عليه، و لعلّه يكون أقوى عليها و أملى بخراجهم منه» «1».

2- و ما رواه محمّد بن مسلم و عمر بن حنظلة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال سألته عن ذلك فقال: «لا بأس بشرائها فانّها إذا كانت بمنزلتها في أيديهم تؤدّي عنها كما يؤدّي عنها» «2».

3- و ما رواه حريز عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: رفع إلى أمير المؤمنين عليه السّلام رجل مسلم اشترى أرضا من أراضي الخراج، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: «له ما لنا و عليه ما علينا، مسلما كان أو كافرا، له ما لأهل اللّه و عليه ما عليهم» «3».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 489

نعم، لو كان هو من مستحقّي بيت المال، أمكن ذلك في حقّه بمقدار ما يستحقّه، كما يدلّ عليه مضافا إلى مقتضى القاعدة ما رواه إبراهيم بن أبي زياد قال:

4- سألت أبا عبد اللّه عليه

السّلام عن الشراء من أرض الجزية قال: فقال: «اشترها فانّ لك من الحقّ ما هو أكثر من ذلك» «1».

الأمر السّابع: مالكية الحكومة و حدود تصرفاتها.

قبل أن نتكلّم في الأمر التاسع و العاشر من بيان مصرف الخراج و موضوع الأراضي الخراجية و مصداقها و مالها من الشرائط، لا بأس بأن نتكلّم في حال مالكية الحكومة و أموالها من دون الحقّ و الجور في أعصارنا مع قطع النظر عن الأراضي الخراجية التي لا توجد لها اليوم مصاديق ظاهرة واضحة، أو لا يوجد منها إلّا قليل، فانّ ذلك أهمّ من غيره.

و الكلام هنا في مقامات:

1- مالكية الحكومة، أعني جهتها و عنوانها لا أشخاصها.

2- أموالها المشروعة و غير المشروعة و منابعها المالية.

3- كيفية نفوذ تصرفاتها في هذه الأموال.

المقام الأوّل: مالكية الحكومة

أمّا الاولى، فقد يستشكل في ذلك، نظرا إلى أنّ الملكية و ان كانت من الامور الاعتبارية بنفسها، إلّا أنّ المالك لا بدّ أن يكون شخصا حقيقيا عاقلا شاعرا فكما لا تتصوّر الملكية بالنسبة إلى الحيوانات و الأشجار و الأحجار فبطريق أولى لا يصحّ الملك للعناوين الاعتبارية، و لم يعهد ذلك في الصور الاول، و إنّما كانت الأموال الموجودة في بيت المال ملكا لجميع المسلمين، أو لفقرائهم، أو لإمام المسلمين.

هذا و لكن يرد عليه: أمّا أوّلا: فلأنّ قيام الأمر الاعتباري بأمر اعتباري آخر لا مانع منه بعد ما كان الاعتبار و الإنشاء خفيف المؤونة، و المدار في الامور الاعتبارية على كونها مشتملة على المصالح العقلائية و المنافع الاجتماعية، و ملكية الجهة و العنوان أمر عقلائي انوار الفقاهة، ج 4، ص: 490

بلا إشكال، بل لعلّ أكثر الأموال الموجودة اليوم على وجه الأرض أملاك للعناوين، مثل السفن العظيمة و الطائرات و جميع الأسلحة المتطورة و

الثروات الضخمة في البنوك و العمارات و الأراضي و غيرها، و لو كان هذا أمرا غير عقلائي لما التزم به جميع العقلاء من جميع أقطار العالم، و لو حكمنا بسلب الملكية عن الحكومات لم يستقرّ حجر على حجر و لو يوما واحدا.

و ان شئت قلت: الأحكام تؤخذ من الشرع و موضوعاتها من العرف، و ملكية الجهة أمر عرفي واضح ظاهر لكلّ أحد.

و هل الحكومة تتصرّف فيها بعنوان النيابة، و المال مال الشعب، أو هي ملك لها، و رجالها مأمورون بالتصرّف فيها لمصالح الأهمّ؟

فعلى الأوّل المالك الحقيقي هو الشعب، و الحكومة وكيل له، و على الثاني المالك هي الحكومة، و المصرف هو الشعب، كلّ من المعنيين جائز، و على كلّ تقدير تكون ملكا للجهة.

و بعبارة اخرى، قد يكون عنوان النيابة هنا من قبيل الواسطة في ثبوت الملكية، و اخرى من قبيل الواسطة في العروض.

الظاهر أنّه لا فرق بينهما في الأثر و العمل، لأنّ تصرفاتها بعنوان الحكومة على كلّ حال لا تصحّ إلّا في مصالح الحكومة التي هي مصالح الشعب بعينها، كما أنّ تصرفاتها بعنوان النيابة كذلك.

و على كلّ تقدير المالك هو الجهة لا افراد الحكومة، و لا افراد الشعب بأعيانهم، بل بعنوانهم.

و لكن الأظهر بحسب متفاهم العرف و العقلاء هو كون الحكومة مالكا لها، تتصرّف فيها لمصالحهم.

و ممّا يشهد لما ذكرنا من جواز ملك الجهة امور:

1- الموقوفات العامّة على بعض العناوين، كوقف المدارس على طلاب علوم الدين أو على صنف خاص منهم، فانّ المالك هنا أيضا ليس أشخاصهم بأعيانهم، بل بما انّهم مصاديق لهذا العنوان، و أي فرق بينه و بين مالكية عنوان الحكومة، و كلاهما ملك الجهة، و لا

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 491

فرق بين التمليك

الموجود في الوقف و الملك الطلق، و هكذا الأمر في المساجد و الخانات و المرابط لو قلنا أنّها ملك لعامّة المسلمين، بخلاف ما إذا قلنا أنّها فك ملك.

نعم الجهة في الموقوفات تحكي عن أمر خارجي كطلبة العلم، و في الحكومة عن أمر اعتباري، و هذا المقدار لا يوجب تفاوتا في المقام بعد كونهما كلاهما ملكا للجهة.

2- هنا أشياء تتوقّف على المساجد بحيث تعدّ تمليكا للمسجد، و المسجد مالكا لها، بل قد لا يكون ملك المسجد وقفا و يكون من قبيل الملك الطلق كالفرش و الأمتعة التي تشترى للمسجد من غلّة موقوفاته، فانّه مال المسجد و ليس وقفا (فتأمّل جيّدا في الفرق بينهما).

فإذا كان المسجد و شبهه يمكن أن يكون مالكا لبعض الأشياء مع أنّها ليست بذوات العقول، فكيف لا يمكن ملك «الجهة» مع أنّها عنوان لمن يعقل، و يملك؟!

و الغرض من ذلك كلّه أنّ أمر الملك سهل بين العرف، و العقلاء يعتبرونه في كلّ مورد تترتّب عليه الآثار المعقولة المفيدة، و القول بأنّ أملاك المساجد و شبهها أملاك لعامّة المسلمين، لا المسجد، مخالف لما ارتكب عليه أهل العرف.

3- هناك بعض الروايات الدالّة على جواز بيع ثوب الكعبة و شرائه و النهي عن اتّخاذه كفنا مثل:

الأوّل: ما رواه مروان بن عبد الملك قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن رجل اشترى من كسوة الكعبة شيئا فقضى ببعض حاجته و بقى بعضه في يده هل يصلح بيعه؟ قال: «يبيع ما أراد و يهب ما لم يرده، و يستنفع به و يطلب بركته» قلت: أ يكفّن به الميّت؟ قال: «لا» «1».

الثّاني: ما رواه الحسين بن عمارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن رجل اشترى من كسوة

البيت شيئا هل يكفّن به الميّت؟ قال: «لا» «2».

الثّالث: ما رواه عبد الملك بن عتبة الهاشمي قال: سألت أبا الحسن موسى عليه السّلام عن رجل اشترى من كسوة البيت شيئا هل يكفّن فيه الميّت؟ قال: «لا» «3».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 492

و كيف يباع ثوب الكعبة لو لم يكن هناك ملك، فانّه لا بيع إلّا في ملك.

و الظاهر أنّ المالك هنا هو نفس الكعبة، لا المسلمون، بل الكعبة أيضا ليست هي البنيان بعينه، بل العنوان الجامع حتّى إذا جدّد البناء ببعض العلل كان أيضا مالكا.

الرّابع: أضف إلى ذلك كلّه ارتكاز العقلاء من أمر الملك، فانّه ليس أمرا مخترعا للشرع، بل مأخوذا من بناء العقلاء، و نراهم يعتبرون قسمين من المالك: «الشخص الحقيقي» و «الشخص الحقوقي» فيعتبرون مؤسسة أو مشروعا من المشاريع عنوانا صالحا لأن يكون مالكا من دون أن يملك الأشخاص الموجودون شيئا و إنّما هم بالنسبة إليه كالمتولّي للموقوفة.

إن قلت: هذا أمر مستحدث لم يمضه الشارع.

قلنا: إذا أمضى الشارع العقود كلّها بعنوان قضية حقيقية أمضى ما تبتني عليه هذه العقود بالملازمة، فكما تشمل أدلّة صلاة القصر الأسفار الفضائية و شبهها مع أنّها مصاديق مستحدثة لم تكن من قبل، فكذلك هذه الأفراد من الملكية، بل الإنصاف أنّها ليست مستحدثة لوجود مصاديق لها من قبل كما مرّت الإشارة إليها.

الخامس: ملكية الإمام (عليه آلاف الثناء و التحيّة) بالنسبة إلى سهمه المبارك، بل و بالنسبة إلى الأنفال أيضا، ليس من قبيل ملك الشخص، بل من قبيل ملك الجهة، أعني أنّه مالك لهذه الأموال بعنوان «الإمامة».

و الشاهد على ذلك مضافا إلى أنّ هذه الأموال العظيمة الشاملة لخمس جميع الغنائم بمعناها الوسيع في جميع أقطار العالم، و بجميع الأنفال مع عدم

حاجته عليه السّلام إليها في حياته الشخصية، بل بما أنّه إمام المسلمين و حافظ لكيانهم و منافعهم و جامع لشملهم و سبب لشوكتهم و قدرتهم على الأعداء، ما ورد في أبواب الأنفال عن أبي علي بن راشد قال: قلت لأبي الحسن الثالث عليه السّلام (الإمام الهادي) انّا نؤتى بالشي ء فيقال: هذا كان لأبي جعفر عليه السّلام (الجواد) عندنا فكيف نصنع؟ فقال: «ما كان لأبي عليه السّلام بسبب الإمامة فهو لي و ما كان غير ذلك فهو ميراث على كتاب اللّه و سنّة نبيّه» «1».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 493

و أبو علي بن راشد و اسمه الحسن و ان لم يصرّح بعضهم في الرجال بوثاقته بل بمدحه، و لكن كونه من وكلائهم من أقوى الأدلّة على وثاقته كما ذكره المامقاني في رجاله، فتدبّر.

مضافا إلى أنّه قد صرّح الشيخ في رجاله بوثاقته (ذكره في معجم رجال الحديث) «1».

و لكن طريق «الفقيه» إلى الحسن بن راشد لا يخلو من ضعف، كما في جامع الرواة «2».

و أمّا دلالته على ما نحن بصدده فظاهرة، حيث فرّق بين أمواله الشخصية التي تورث على ما فرضه اللّه، و أمواله عليه السّلام بعنوان الإمامة.

السّادس: بل الظاهر أنّ ملكية الأراضي الخراجية من قبيل ملك «الجهة» فراجع ما ورد في الباب 71 من أبواب جهاد العدو و إليك بعض منها:

ما رواه أبو بردة بن رجا قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام كيف ترى في شراء أرض الخراج؟

قال: «و من يبيع ذلك هي أرض المسلمين؟» قال قلت: يبيعها الذي هي في يده، قال:

«يصنع بخراج المسلمين ما ذا؟» ثمّ قال: «لا بأس اشتري حقّه منها و يحول حقّ المسلمين عليه و لعلّه يكون أقوى عليها و أملى

بخراجهم منه» «3».

و هذه الرواية تشهد لما ذكر، فانّه لو كانت الأرض بأشخاصهم كانت موروثة على كتاب اللّه و سنّة نبيّه، و ليس كذلك قطعا، بل كلّ إنسان إذا كان مصداقا لعنوان المسلم كان مالكا لها و إذا زال هذا العنوان أو مات المعنون به زال ملكه، و هذا هو المراد بملك الجهة، أو أحد معانيه، فتدبّر جيّدا.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ صاحب الملك على أقسام:

تارة يكون إنسانا و يكون المالك شخصا حقيقيا.

و اخرى: يكون عينا خارجيا مثل الكعبة و المسجد و غيرهما.

و ثالثة عنوانا منطبقا على أشخاص حقيقيين، فالمالك هو الإنسان، لكن لا بشخصه بل بعنوان الخاص أو العام.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 494

و رابعة يكون مجرّد أمر اعتباري و عنوان ذهني، مثل ما تداول في أيّامنا من المالكين الحقوقيين لا الحقيقيين، كالمشارع و المؤسسات المعمولة للنشر و التبليغ، و الاقراض، و غيرها، فالمالك هنا ليس إلّا الأمر الاعتباري.

و الظاهر أنّ الثلاثة الاولى ممّا لا ينبغي الإشكال فيها و ان كان هناك إشكال ففي الأخير، و لكنّه أيضا صحيح قطعا، و له نظائر كثيرة في الشرع و العرف.

و أمّا الحكومة فالظاهر أنّها من قبيل القسم الثالث، و يحتمل كونها من القسم الرابع، و ان كان الثالث أظهر.

كما أنّه يمكن كون أموالها أموالا للشعب و رجال الحكومة نائبون عنهم، أو انّهم أولياء منصوبون من قبل اللّه و امناؤه على عباده كما في اعتقادنا في حكومة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و الأئمّة الهادين عليهم السّلام.

و على كلّ حال لا ينبغي الإشكال في أصل مالكية الحكومة، و إنكارها في عصرنا أشبه شي ء بإنكار بعض الامور البديهية و ان ذكر في تصويرها أنحاء مختلفة.

هذا و قد

يقال: إنّ مالكية الجهة و ان كانت أمرا مفروغا عنها و كذلك مالكية الحكومة، و لكن ذلك إنّما يصحّ إذا كانت الحكومة صالحة مؤمنة مشروعة كحكومة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و أوصيائه المرضيين عليهم السّلام أمّا إذا كانت ظالمة غاشمة فقد أسقط الشارع اعتبارها و أبطل مشروعيتها، و مع ذلك كيف تملك شيئا بعد بطلان اعتبارها؟

و لكن نقول: الحكومة و ان كانت أمرا اعتباريا، و لكنّها ناشئة عن مبادئ تكوينية خارجية عينية، و هي السلطة على المجتمع و تكلّمها باسم الشعب و المجتمع، و هذا المعنى حاصل في الحكومة الصالحة و الظالمة و ليس أمرا يمكن إنكاره، فالحكومة بهذا الاعتبار أمر واقعي، و عنوانها و ان كان أمرا اعتباريا و لكن مبادئه تكوينية خارجية.

و هذا من قبيل عنوان الطلاب أو الحجّاج إذا وقف عليهم شي ء و جعل ملكا محبوسا.

نعم، الشارع المقدّس حرّم الحكومة الجائرة و لم ير لها رخصة في التسلّط على الناس، و أمّا لو تسلّطت عليهم حكومة ظالمة و كسبت أموالا من طريق التجارات و الصناعات و سائر الطرق المشروعة، فلا دليل على عدم ملكيتها.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 495

و إن شئت قلت: القدر المسلم هو تحريم الحكم على الناس بغير إذن من الشارع و عدم إمضاء تصرّفات هذه الحكومة من هذه الجهة، أمّا كونها شخصا حقوقيا تملّك أشياء إذا حصلت عليها من طرق مشروعة، فلم يدلّ عليه دليل بعد قضاء العرف و العقلاء بمصداقه الخارجي و اعتباره الناشي عن مبادئ تكوينية.

المقام الثّاني: منابع أموال الحكومة

اعلم أنّ ما تكتسبه الحكومة على أنحاء ثلاثة:

1- ما تكتسبه بالمكاسب المحلّلة فتملكه، سواء كانت حكومة جائرة أو عادلة، و هو كثير مثل ما تكتسبه بالتجارة في

داخل البلاد و خارجها، و إحداث المصانع، و بناء الطرق و أخذ حقّ العبور منها، و الزراعات في الأراضي المباحة، و إخراج المياه، و إحداث السدود، و استخدام الطائرات، و السكك الحديدية، و الخدمات المختلفة، كالمدارس و الجامعات و المستشفيات و البرق و البريد و الهاتف و المياه و غير ذلك.

بل ما تأخذه بعنوان العشور (الضرائب) عن الاسناد في مقابل تنظيمها و تسجيلها تسجيلا تامّا من دون إجبارهم على أخذ هذه السجلات بل و ما تستخرجه من المعادن أيضا، فهذا كلّه حلال.

2- ما تأخذه ظلما و غصبا من حقوق الناس، و هي أيضا كثيرة لا سيّما في الدول التي بنيت على أساس الظلم و الجور، و هذا حرام مطلقا.

3- ما تأخذه من حقوق بيت المال الذي يحلّ شرعا للوالي العادل و لا يحلّ لغيره كالزكوات و الخراج و أشباهها، و هذه تحلّ لأهلها فقط إلّا إذا كان الجائر مأذونا بإذن خاص لبعض المصالح من ناحية الإمام العادل، أو بعنوان إذن عامّ، كما عرفته في الخراج و غيره في المباحث السابقة مع شرائطه، فحينئذ تكون أموال الحكومة الجائرة مختلطة من الحلال و الحرام.

و الإنصاف إنّ المحلّل منها في أعصارنا كثيرة جدّا بحيث قد يغلب على الحرام أو

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 496

يساويه، و من هنا يمكن الركون إلى حجيّة أيديهم بناء على جواز الاعتماد على يد من غلب على أموالهم الحلال كما عرفته سابقا.

المقام الثّالث: في نفوذ تصرّفات الحكومات:

و هو أيضا لا يخلو عن وجوه ثلاثة:

1- الحكومة العادلة: المأذونة من قبل اللّه تعالى، و لا إشكال في نفوذ تصرّفاتها، لأنّه تعالى مالك الملوك يؤتي الملك من يشاء و ينزعه ممّن يشاء، و ذلك واضح، و هي حكومة أنبيائه و أوليائه و

الأئمّة الهداة، و الفقيه العادل المأذون من قبلهم.

2- الحكومة غير الإلهية التي تكون مبعوثة من قبل الناس و مندوبة عنهم، فلو قلنا بأنّ هذه الأموال أموال شعوبهم، و الحكومة نائب عنهم أمكن القول بجواز تصرّفاتها و نفوذها في جميع الأموال المحلّلة التي تكون لها من قبلهم.

إن قلت: كيف تكون نائبا عن جميعهم؟ لأنّه أمر غير واقع مطلقا، بل تكون دائما نائبا عن كثير منهم، و هم الذين يوافقونها و ينتخبونها و اجتماع الناس كلّهم على شخص أو أشخاص معينين غير حاصل عادة، و اجتماع الأكثر غير كاف.

قلنا: الناس في هذه البيئات مجمعون على أصل، و هو كون المندوب عن الأكثر نافذ الكلمة فيهم جميعا، و اجتماعهم على هذا الأمر كاف فيما ذكر، و إلّا بقيت هذه الأموال الكثيرة بلا مالك و لم يجز لأحد التصرّف فيها.

هذا كلّه في البيئات غير المسلمة الذين ألزموا أنفسهم بهذا النحو من الحكومة.

3- الحكومة الجائرة في المجتمعات المسلمة و غير المسلمة، و لا سيّما من لا يكون مندوبا عن الناس أيضا، فنفوذ تصرّفاته حتّى في الأموال المحلّلة مشكل، لأنّا لو قلنا أنّ الأموال ملك للناس، فالوالي عليهم هي الحكومة العادلة التي تقوم بأمرهم بحكم اللّه تعالى، و ان قلنا بأنّ الأموال لعنوان الحكومة و جهتها، فمجرّد التغلّب و السيطرة عليها و غصبها لا يثبت هذا العنوان لهم، فتصرّفاتهم فيها محرّمة على كلّ حال، و لا أقل من الاحتياط بأن انوار الفقاهة، ج 4، ص: 497

يكون التصرّف فيها بإذن الفقيه الجامع للشرائط، اللهمّ إلّا أن يحصل له مال من طريق التجارة و الصناعات و الخدمات و غيرها كما مرّ سابقا.

فقد تحصل من جميع ما ذكر في مالكية الحكومة و تصرّفاتها الامور التالية:

1-

الحقّ صحّة ملك العنوان و الجهة، سواء انطبق على أشخاص أو لم ينطبق عليهم، كالمشاريع و المؤسسات المستحدثة التي تكون أمرا اعتباريا و تعدّ «شخصا حقوقيا» في عصرنا.

2- للحكومة منابع كثيرة محلّلة من الأموال المكتسبة حتّى الحكومات الجائرة، و لها أيضا منابع محرّمة كثيرة، فتكون أموالها كالمخلوط بالحرام، و لكن إذا لم يكن الجميع محلا للابتلاء يمكن الركون إلى قاعدة اليد و دلالتها على الملك.

3- الظاهر أنّ هذه الأموال أموال للشعب، و الحكومة تعدّ نائبا عنهم أو وليّا عليهم، فتصرّفاتهم بهذا العنوان تكون لهم.

4- تصرّفات الحكومة في المجتمعات غير المسلمة نافذة إذا كانت الحكومة منتخبة من الشعب على وفق ضوابطهم المرضية لهم.

5- في البلاد الإسلامية لا تصحّ تصرّفات الحكومة الجائرة في ما يتعلّق ببيت مال المسلمين إلّا بإذن الإمام عليه السّلام أو النائب منابه.

6- إذا حصل للحكومة أموال من طريق الحلال من التجارات و غيرها كانت مالكا لها تتصرّف فيها وفقا لما هو المعمول بين العقلاء.

مصرف الخراج:

يظهر من بعض كلمات المحقّق الماهر صاحب الجواهر قدّس سرّه في كتاب الجهاد أنّ مقتضى السيرة بين العوام و العلماء عدم وجوب صرف ما يتّفق حصوله من حاصل الأراضي الخراجية في يد أحد من الشيعة من الجائر أو غيره في المصالح العامّة، بل له التصرّف فيه بمصالحه الخاصّة، و لكنّه احتياط بلزوم الاستيذان في ذلك من نائب الغيبة إن لم يكن أقوى، ثمّ قال: الظاهر جواز الإذن له مجانا مع حاجة المستأذن «1».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 498

هذا و لكنّه رجع عنه في كتاب المكاسب، و احتاط بصرفها في المصالح العامّة، بل يظهر من صدر كلامه فتواه بذلك، حيث قال: «أمّا مصرف الخراج لو وقع في يد الحاكم فالمتّجه قصره

على المصالح العامّة للمسلمين» «1».

بل و قد يظهر ذلك من بعض كلمات الشيخ في المبسوط، و ذكر المحقّق الكركي رحمه اللّه في رسالته المعمولة في المسألة ما يظهر منه اسناد ذلك إلى الأصحاب حيث قال: «ذكر أصحابنا في مصرف الخراج أنّ الإمام يجعل منه أرزاق القضاة و الولاة و الحكّام و سائر وجوه الولايات» (انتهى ما حكي عنه) «2».

و العمدة في المسألة ما يستفاد من كيفية تملّك الأراضي الخراجية و من سيرة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و من بعده من الأئمّة عليهم السّلام عند بسط أيديهم في ذلك.

أمّا الأوّل فقد وقع التصريح في روايات الباب تارة بأنّها ملك لجميع المسلمين لمن هو موجود اليوم، و لمن يدخل في الإسلام بعد اليوم و من لم يخلق بعد كما في الرواية التالية:

ما رواه محمّد الحلبي قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن السواد ما منزلته؟ فقال: «هو لجميع المسلمين لمن هو اليوم و لمن يدخل في الإسلام بعد اليوم و لمن لا يخلق بعد» فقلت:

الشراء من الدهاقين قال: «لا يصلح إلّا أن تشتري منهم على أن يصيّرها للمسلمين، فإذا شاء ولي الأمر أن يأخذها أخذها». قلت: فان أخذها منه، قال: «يرد عليه رأس ماله و له ما أكل من غلّتها بما عمل» «3».

و مضمونها ممّا لا خلاف فيه بيننا كما قيل.

و في بعضها التعبير بأنّها في ء للمسلمين، مثل ما رواه أبو الربيع الشامي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا تشتر من أرض السواد «أراضي أهل السواد» شيئا إلّا من كانت له ذمّة فإنّما هو في ء للمسلمين» «4».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 499

و في رواية اخرى «أنّها أرض للمسلمين» كما في (1/

71) «1» أوردناها آنفا).

و الظاهر أنّها ملك لعامتهم تصرف منافعها في المصالح العامّة، لا أنّها تقسم بينهم كملك شخصي، لعدم إمكانه أوّلا، و لعدم الدليل عليه و لا أقل من الشكّ في ذلك، و ما يرى في نحو الملكية من الخلاف من قول بعضهم بملك رقبة الأرض، و بعضهم بملك ما يرتفع منها من غلّتها، فالظاهر أنّه نزاع لفظي، و انّ مرادنا في الملكية هو الملكية كسائر الأملاك، بل التعبير بخراج المسلمين في بعضها أقوى شاهد على ما ذكر.

هذا مع أنّ الخراج بهذا العنوان ليس من مخترعات الشرع، بل كان معمولا بين العقلاء من سابق الأيّام، و ليس بمعنى خصوص ما يؤخذ من هذه الأراضي الخاصّة، بل كما يظهر من أهل اللغة هو كلّ ما تؤدّيه الرعية إلى الولاة (كما في لسان العرب) و ترادفه كلمة «الضرائب» فهي كلّ ما تأخذه الحكومة من شعبها للصرف في امورها و تنظيم برامجها و إدارة شئونها و تأمين حقوق أعوانها.

و من الواضح أنّ الخراج بهذا المعنى لا يصرف إلّا في المصالح العامّة و ليس ملكا للأشخاص.

و أمّا الثاني، أعني السيرة، فالظاهر استقرارها على صرفها في المصالح العامّة منذ عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم فما بعد.

نعم، إذا زاد عن المصالح العامّة كأرزاق الغزاة و القضاة و عمّال الحكومة و بناء الطرق و القناطر، و إصلاح البلاد، و إرشاد العباد، و غيرها أمكن تقسيمه بين الناس.

و كذلك إذا كان حفظ المساكين و دفع فقرهم من الشؤون العامّة بحيث إذا لم يصلح أمرهم نشأ فساد في المجتمع كان من المصالح العامّة و جاز صرف الخراج فيه.

هذا و لكن يظهر من سيرة علي عليه السّلام أنّه كان

يقسّم بيت المال بين الناس على السوية، و كان يقول «لو كان المال لي لسوّيت بينهم، فكيف و إنّما المال مال اللّه» «2» و قصّة أخيه عليه السّلام عقيل معروفة.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 500

و لكن الإنصاف أنّه يمكن حملها على ما إذا زاد الخراج أو غيره من وجوه بيت المال عن المصارف العامّة، فحينئذ يجوز تقسيمه بين المسلمين و يكون المال لهم بالسوية.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ الخراج لا يصرف إلّا في المصالح العامّة، إلّا أن يكون صرفها في الأشخاص من تلك المصالح، أو زاد عن المصارف اللازمة، فتدبّر جيّدا.

حكم الأراضي الخراجية:
اشارة

و المعروف اعتبار شروط ثلاثة فيها:

1- كونها مفتوحة عنوة أي فتحت بخيل و ركاب، في مقابل ما صالحوا عليها و لم يوجف عليها بخيل و ركاب حيث تختصّ بإمام المسلمين.

2- كون الفتح بإذن الإمام.

3- كونها محياة حال الفتح.

و الكلام فيها حكما و موضوعا يأتي في مقامات:

المقام الأوّل: في اعتبار كون الفتح عنوة:
اشارة

(أي قهرا)، و الأصل في العنوة كما يظهر من لسان العرب، هو الخضوع، ثمّ استعمل في القهر و الغلبة (لعلّه من جهة خضوع العدو عند ذلك).

الظاهر أنّه لا خلاف فيه بحسب الكبرى (أي كون الأراضي المفتوحة عنوة من الأراضي الخراجية)، بل قد حكي الإجماع عليه عن الخلاف و التذكرة و المنتهى و الرياض و رسالة قاطعة اللجاج للكركي (قدّس اللّه أسرارهم) و ان حكي عن بعض العامّة اختصاص الغانمين بها.

و يدلّ عليه مضافا إلى ذلك الروايات التالية:

1- ما رواه صفوان بن يحيى و أحمد بن محمّد بن أبي نصر جميعا قالا: ذكرنا له الكوفة و ما وضع عليها من الخراج، و ما سار أهل بيته، فقال: «من أسلم طوعا تركت أرضه في يده انوار الفقاهة، ج 4، ص: 501

و أخذ منه العشر ممّا سقى بالسماء و الأنهار، و نصف العشر ممّا كان بالرشا فيما عمّروه منها، و ما لم يعمّروه منها أخذه الإمام فقبله ممّن يعمّره، و كان للمسلمين و على المتقبّلين في حصصهم العشر أو نصف العشر، و ليس في أقلّ من خمسة أوسق شي ء من الزكاة، و ما أخذ بالسيف فذلك إلى الإمام يقبله بالذي يرى كما صنع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم بخيبر قبل سوادها و بياضها يفي أرضها و نخلها، و الناس يقولون لا تصلح قبالة الأرض و النخل و قد قبل

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم خيبر قال: و على المتقبّلين سوى قبالة الأرض العشر و نصف العشر في حصصهم، ثمّ قال: إنّ أهل الطائف أسلموا و جعلوا عليهم العشر و نصف العشر و انّ مكّة دخلها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم عنوة و كانوا اسراء في يده فأعتقهم و قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء» «1».

2- ما رواه أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال ذكرت لأبي الحسن الرضا عليه السّلام الخراج و ما ساربه أهل بيته، فقال: «العشر و نصف العشر على من أسلم طوعا تركت أرضه في يده و أخذ منه العشر و نصف العشر فيما عمّر منها، و ما لم يعمّر منها أخذه الوالي فقبله ممّن يعمّره و كان للمسلمين، و ليس فيما كان أقلّ من خمسة أو ساق شي ء، و ما أخذ بالسيف فذلك إلى الإمام يقبله بالذي يرى، كما صنع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم بخيبر قبل أرضها و نخلها، و الناس يقولون لا تصلح قبالة الأرض و النخل إذا كان البياض أكثر من السواد، و قد قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم خيبر و عليهم في حصصهم العشر و نصف العشر» «2».

و يدلّ عليه أيضا ما حكي من سيرة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في خيبر الذي هو معروف.

و أمّا من ناحية الصغرى، أي طريق ثبوته، فالمدار فيه ما هو المدار في غيره من ثبوته بالعلم و الشياع المفيد له، و بقول شاهدين عدلين، بل و عدل واحد كما هو الحقّ عندنا في الموضوعات.

إنّما الكلام هنا في أمرين: في قبول الظنّ القوي

فيها نظرا إلى أنّ أمر الأراضي من هذه الجهة كأمر الوقف و النسب و السيادة و غيرها لا تثبت بالعلم غالبا، فحيث أنّ باب العلم انوار الفقاهة، ج 4، ص: 502

منسدّ فيها يرجع إلى الظنّ القوي، و الإنصاف أنّ الظنّ المتاخم للعلم و ما يوجب سكون النفس معتبر في جميع المقامات، بل هو علم عرفا و ان كان غيره لا دليل على اعتباره إلّا في مقامات خاصّة.

هذا و لكن لا تبعد حجيّة مثل الظنّ ببناء العقلاء كما في نظائره من النسب و الموقوفات و غيرها و إلّا لانسدّ بابها.

و أمّا الأمر الآخر، و هو الاعتماد على استقرار اليد عليها بعنوان أنّها أرض خراجية، أو دعوى ذي اليد كونها كذلك، و استقرار السيرة على أخذ الخراج منه، فان أوجب ذلك العلم أو الظنّ القوي النازل منزلته فهو، و إلّا يشكل إثبات الحكم بمجرّد السيرة، أو حمل فعل السلطان على الصحّة، لأنّ فعله مبني على الفساد من أصله، نعم لا يبعد الاعتماد على أيدي المؤمنين من أصحاب اليد على الأرض و حمل تصرّفهم على الصحّة، و لا يجب التفحّص عنها.

بل الإنصاف إمكان حمل يد السلطان أيضا على الصحّة، لا لاعتبارها لما قد عرفت أنّه مبني على الفساد، بل لأنّ الروايات الكثيرة الواردة في أرض الخراج تدلّ على جواز معاملة أرض الخراج مع ما يؤخذ من السلطان بهذا العنوان، و يجوز تقبّله إمّا بلا واسطة منه، أو من الدهاقين الذين أخذوا منه، و إطلاق هذه الروايات أقوى دليل على معاملتها معاملة الصحّة، و إلّا من أين يحصل العلم في هذه الموارد بكونها أرض خراج لو لا اعتبار اليد هنا.

فتلخّص ممّا ذكر أنّ العمدة في طريق ثبوت كون أرض من

الأراضي الخراجية امور:

1- اشتهارها بذلك في البلد و ان كانت الشهرة موجبة للظنّ.

2- قول صاحب اليد سواء كان من الدهاقين أو الجائر المسلّط.

3- أقوال المؤرخّين المعروفين الموجبة للظنّ القوي.

و إن أبيت إلّا عن لزوم تحصيل العلم و اليقين، أو شاهدي عدل، لزم تعطيل أحكام الأراضي الخراجية مطلقا بعد مرور الزمان.

فما عن بعض الفقهاء من أنّه ليس في جميع الأراضي الإسلامية حتّى قطعة واحدة من انوار الفقاهة، ج 4، ص: 503

الأراضي يمكن إثبات كونها خراجية بالموازين الثابتة في الفقه «1»، كلام مختلّ، و لازمه تعطيل هذا الحكم مطلقا، و كذا أحكام نسب الهاشميين، بل مطلق النسب، بل الموقوفات أيضا، لا سيّما الموقوفات القديمة، و لعلّ أمثال هذه الوساوس كانت سببا لتعطيل أحكام هذه الأراضي في عصرنا و خلطها بغيرها، و ما أشدّ الفساد الحاصل منه شرعا من جهة اختلاط الحلال و الحرام.

بقي هنا أمران

أحدهما: إنّه لو شككنا في ذلك، و كانت هناك أرض تحتمل كونها خراجية و لكن لم يثبت ذلك بالموازين الشرعية المذكورة آنفا، فلا تخلو عن حالات:

أن لا تكون في يد أحد، فالأصل كونها من الأنفال بحكم أصالة عدم اليد عليها.

أو يعلم بجريان اليد عليها، فان عرف صاحب اليد، فالظاهر أنّها ملكه بحكم اليد، و ان لم يعرف، و دار الأمر بين كونها خراجية، أو ملكا، أو غير ذلك فهي محكومة بعدم كونها خراجية لأصالة العدم، و قد يتوهّم كونها بحكم مجهول المالك، لأنّه لا يعلم أنّ مالكه شخص خاصّ، أو جميع المسلمين، و أصالة العدم من الجانبين متعارضة.

هذا و يشكل التصدّق بها، و هو حكم مجهول المالك، فالأحوط لو لا الأقوى حفظها و صرف غلّتها فيما ينطبق على المصرفين.

هذا و لكن الإنصاف جواز التمسّك بعدم

الفتح عنوة، فتجري عليها أحكام مجهول المالك الشخصي.

ثانيهما: قد صرّح في كلمات الأصحاب أنّ أراضي السواد من الأراضي المفتوحة عنوة، و هي ملك المسلمين، و قد يقال: إنّ فتح العراق بالعنوة مسلّم بحسب التاريخ، حتّى أنّه لم يكن فيه خلاف بين الفقهاء الأوّلين و كان يؤخذ منها الخراج منذ بداية أمرها «2».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 504

و عن العلّامة رحمه اللّه في «المنتهى» أنّها فتحت في زمن عمر، فأرسل إليها ثلاثة نفر: عمّار بن ياسر على صلاتهم أميرا، و ابن مسعود قاضيا و واليا على بيت المال، و عثمان بن حنيف على مساحة الأرض (و أخذ الخراج) ... و مسح عثمان بن حنيف أرض الخراج، و قيل كان قدرها 32 الف و الف جريب، و قيل 36 الف الف، ثمّ ضرب على كلّ جريب نخل عشرة دراهم، و على الكرم ثمانية دراهم، و على جريب الشجر و الرطبة ستّة دراهم، و على الحنطة أربعة دراهم، و على الشعير درهمين، ثمّ كتب بذلك إلى عمر فأمضاه «1».

و روي أنّ غلّتها كانت في عهد عمر 160 الف الف درهم، و لمّا أفضى إلى أمير المؤمنين علي عليه السّلام أمضى ذلك، لأنّه لم يمكنه المخالفة و الحكم بما عنده!

فلمّا كان في زمن الحجّاج (و كثر ظلمه و فساده) تنزّلت المعمورة إلى 18 الف الف درهم، فلمّا ولي عمر بن عبد العزيز (و ظهرت عدالته) رجع إلى 30 الف الف في أوّل سنة، و في الثانية 60 الف الف، و قال لو عشت سنة اخرى لرددتها إلى ما كان في أيّام عمر، فمات في تلك السنة «2».

و يدلّ على كون أرض السواد (أراضي العراق و ما والاها) من أرض الخراج

ما يلي:

1- ما رواه أبو الربيع الشامي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا تشتر من أرض السواد «أراضي أهل السواد» شيئا إلّا من كانت له ذمّة فانّما هو في ء للمسلمين» «3».

2- ما رواه محمّد الحلبي قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن السواد ما منزلته؟ فقال: «هو لجميع المسلمين لمن هو اليوم و لمن يدخل في الإسلام بعد اليوم و لمن لم يخلق بعد» «4».

و لكن يظهر من بعض فقهائنا على قول شاذّ عدم العمل بهاتين الروايتين نظرا إلى ما سيأتي من عدم إذن الإمام عليه السّلام في هذه الحروب، و معه يكون من الأنفال، فلا تجري عليها أحكام الأراضي الخراجية، فتحملان على التقيّة (فتدبّر جيّدا).

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 505

و قد اجيب عنه: تارة بوجود إذنهم فيها، و استدلّ له بامور:

1- منها ما أفاده في الكفاية «1» و قاطعة اللجاج «2» من أنّ عمر كان يستشير أمير المؤمنين عليه السّلام في حروبه، و كان لا يصدر إلّا عن رأيه.

2- منها ما عن بعض التواريخ من شركة الحسن عليه السّلام بأمر أبيه عليه السّلام في بعض الحروب، كمحاربة يزدجرد و وروده عليه السّلام مدينة الرسّ و قم و شهريار و غيرها.

3- منها تولية عمّار بن ياسر بعض العساكر و سلمان المدائن مع العلم بعدم مخالفتهما لأمر علي أمير المؤمنين عليه السّلام، بل الظاهر أنّها كانت بإذنه عليه السّلام.

و لكن الأحسن من هذه الوجوه- التي لم يثبت بعضها أو كلّها بطريق معتبر- ما مرّ من الحديثين، فانّ الجمع بينهما، و بين ما دلّ على اعتبار إذن الإمام يقتضي ذلك كما هو ظاهر.

و يدلّ عليه أيضا ما رواه في الخصال قال ... و أمّا الرابعة

يا أخا اليهود! فانّ القائم كان يشاورني في موارد الامور فيصدرها عن أمري، و يناصرني في غوامضها فيمضيها عن رأيي ... «3».

و هناك طريق آخر لتحليلها و كونها بمنزلة الأراضي الخراجية، و هو أنّ الأئمّة عليهم السّلام و هبوا ذلك للمسلمين إرفاقا لهم، كما حكي عن المحقّق الأردبيلي قدّس سرّه في الرسالة الخراجية «4».

و الظاهر أنّه لا فرق بين هذا القول و بين ما سبق من الإذن في العمل، و ان كان ظاهر الروايتين كون أرض السواد للمسلمين بحسب طبعها لا لهبتهم عليهم السّلام ذلك.

و هناك إشكال آخر في الأراضي الموجودة في العراق حاليا فانّ من الشرائط على مذهب المشهور التي ستأتي الإشارة إليها عدم كونها مواتا حال الفتح، و لا يعلم أيّة قطعة كانت محيّاة، و أيّة قطعة كانت مواتا، فيقع الإشكال في كلّ أرض من أراضيها اليوم، و أنّها هل كانت محيّاة عند الفتح أو مواتا كذلك؟ فربّما كانت أرض محيّاة، ثمّ صارت مواتا و بالعكس، فلا يمكن الحكم بكون هذه المشكوكات خراجية لا سيّما أنّ الأصل فيها عدم انوار الفقاهة، ج 4، ص: 506

الإحياء حال الفتح، و لكن يشكل هذا المعنى الأمرين:

الأوّل: العلم الإجمالي بأنّ كثيرا ممّا في أيدي الناس الآن كانت محيّاة حال الفتح لا سيّما ما كان على حواشي الرافدين دجلة و الفرات فقد كانت عامرة حتّى قبل الإسلام غالبا، و مع هذا العلم الإجمالي و كونها محلا للابتلاء إمّا بالشراء أو بالتصرّف بأنحاء اخر، كيف يمكن الحكم بالعدم في جميعها؟ فتدبّر.

الثّاني: إنّه لو ثبت كون أراضي الخراج في العصر الأوّل 32 إلى 36 مليون جريب، فلازمه كون أكثر هذه الأراضي أو جميعها محيّاة كذلك، و إنّما طرأ عليها الخراب بعده،

لأنّ الجريب- كما ذكره في مجمع البحرين- ستّون ذراع في ستّين ذراع، فيعادل الف متر تقريبا، و في بعض كتب اللغة أنّه عشرة آلاف متر، و ان كان لا يعلم أنّه بحسب أعصارنا، أو كان ذلك في الأعصار السابقة، و لكن ظاهر كلام الجميع تفسير ما في الروايات.

و المذكور في الكتب أنّ جميع أرض العراق حوالي 430 الف كيلومتر مربع، و كلّ كيلومتر مربع يعادل مائة هكتار، و مجموعها 43 مليون هكتار، فلو كان كلّ جريب هكتارا، لزم كون عامّة أراضيها عامرة تقريبا مع العلم بأنّه ليس كذلك.

و على كلّ حال، فالأحوط أداء الخراج من جميع هذه الأراضي إلى حاكم الشرع بعد العلم بعدم مطالبة حكّام الجور في عصرنا، إلّا أن يقال بأنّ العلم الإجمالي فيما هو محلّ الابتلاء غير حاصل لنا، و المسألة تحتاج إلى مزيد تأمّل و تتبّع.

المقام الثّاني: كون الفتح بإذن الإمام

الشرط الثاني في الأراضي الخراجية أن يكون الفتح بإذن الإمام عليه السّلام: و هذا هو المشهور بين الأصحاب، بل ادّعى الإجماع عليه، و يحكى عن المستند و بعض آخر عدم اعتباره، و في مصباح الفقاهة اختياره، و استدلّ لاعتباره بمرسلة الوراق عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا غزى قوم بغير إذن الإمام فغنموا كانت الغنيمة كلّها للإمام، و إذا غزوا بأمر الإمام فغنموا كان للإمام الخمس» «1».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 507

و عمومه يشمل الأراضي، فتكون من الأنفال، و الاعتبار أيضا يشهد له، فانّه لو جاز أخذ الغنائم بغير إذنه كانت الغزوات غير المأذونة كثيرة، و حصلت منها مفاسد كثيرة كما لا يخفى، فلذا منع الشارع من تملّكها بدون إذنه عليه السّلام.

هذا و قد استشكل فيها تارة بضعف السند، و اخرى بمعارضتها مع ما

دلّ على أنّ الأراضي الخراجية هي ما فتحت عنوة الشاملة للمأذونة و غيرها- مثل حديث 1 و 2/ 72 من أبواب جهاد العدو، و قد أوردناهما آنفا- بالعموم من وجه، فيرجع إلى عموم قوله تعالى:

وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ ... «1».

و يمكن الجواب عن الأوّل بانجبارها بعمل المشهور و هو ثابت.

و عن الثاني: أوّلا: بأنّ ظاهرها ما إذا كان الفتح بإذن الإمام عليه السّلام لا سيّما مع تشبيهه بأراضي خيبر، فراجع الأحاديث و تدبّرها تجدها شاهد صدق لما ذكرنا، و لا أقل من كون إطلاق المرسلة أقوى.

و ثانيا: الرجوع إلى عموم آية الغنيمة ينافي المقصود، لأنّ ظاهرها كون الخمس للإمام عليه السّلام و الباقي للمقاتلين، مضافا إلى أنّ الروايتين تنفيانه، و قد ذكر في محلّه حجيّة المتعارضين في نفي الثالث مع عدم قول منّا بملكية الأراضي للمقاتلين ظاهرا.

و قد يستدلّ على نفي الاشتراط أيضا بالحديث التالي:

ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن سيرة الإمام في الأرض التي فتحت بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم فقال: إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قد سار في أهل العراق سيرة، فهم إمام لسائر الأرضين، و قال: «إنّ أرض الجزية لا ترفع عنهم الجزية» «2» ثمّ ذكر الحديث السابق «3».

و الإنصاف أنّها لا دلالة لها إلّا على كون سائر الأراضي المفتوحة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم بحكم أراضي السواد، و لعلّ ذلك من إذنهم أو إجازتهم بعد ذلك، و بالجملة لا دلالة لها على نفي اشتراط الإذن.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 508

و الظاهر أنّ البحث في هذه المسألة قليل الجدوى بعد اتّفاق الطرفين ظاهرا على كون أرض

السواد و شبهها من الأراضي الخراجية و انّهم عليهم السّلام أذنوا فيها، فتدبّر جيّدا.

هذا كلّه بحسب الكبرى، أمّا الصغرى:

فكلّ مورد شكّ في إذن الإمام عليه السّلام فيه، فالأصل عدمه، و ليس هذا من الأصل المثبت بأي معنى كان كما قد يتوهّم، فإمّا أن يكون الموضوع مركّبا من «الغزو» و «إذنه عليه السّلام» فلا كلام، و إمّا أن يكون بعنوان الاشتراط و التقييد فكذلك، لأنّ هذا المقدار لا يوجب كونه من قبيل الأصل المثبت، و إلّا كان أصل مورد روايات الاستصحاب من هذا القبيل، لأنّ الصحيحة الاولى منها وردت في الوضوء، و هو من الشرائط، فانّه لا شكّ في اشتراط الصلاة بالطهارة، فتأمّل جيّدا.

هذا و لكن قد عرفت سابقا ثبوت إذنهم في أرض السواد و مثلها من طرق شتّى، و نضيف إليها أمرين آخرين:

«أحدهما» ما ورد في 2/ 69 و قد سبق ذكرها، و هي رواية معتبرة الإسناد، فهي بضميمة ما دلّ على اعتبار الإذن تكشف عن ثبوت صغراه.

«ثانيهما»: حمل أفعال المقاتلين على الصحّة، و لازمه الإذن.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ المقاتلين القائلين باعتبار إذن الإمام بينهم كانوا قلّة، و هذا إشكال قوي.

و العمدة ما عرفت من الجمع بين «حكم الأراضي السواد» مع «ما عرفت من دليل اعتبار الإذن».

المقام الثّالث: كونها محيّاة حال الفتح
اشارة

لو كانت هذه الأراضي من الموات، كانت للإمام عليه السّلام خاصّة، و كانت من الأنفال.

و قد اشتهر ذلك بين الأصحاب، بل ادّعى الاتّفاق عليه كما عن التذكرة للعلّامة و الكفاية للسبزواري.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 509

و العمدة في هذا الشرط إطلاقات أدلّة كون الموات للإمام عليه السّلام، فانّ الموات ليست ملكا لأهل الكفر قطعا، فأمّا أن تكون من أراضي الخراج أو من الأنفال، و الأوّل لازمه عدم وجود

مصداق لتلك الإطلاقات، لأنّ أراضي المسلمين كانت عامّتها مفتوح عنوة و الثاني هو المطلوب، و لازمه كون الحياة شرطا في أرض الخراج.

هذا مضافا إلى أنّ ظاهر التعبير بالغنيمة، و الأخذ بالسيف أو فتحت عنوة أو شبه ذلك هي الأموال الموجودة في أيديهم من الأراضي المحياة، و شبهها، و أمّا الموات فصدق هذه العناوين عليها ممنوع، و لا أقل من الشكّ في ذلك.

هذا كلّه بحسب الكبرى، و أمّا الصغرى أعني كون أرض محيّاة حال الفتح أو مواتا، فيثبت بامور عمدتها:

1- الشهرة في المحلّ و لو كانت شهرة ظنّية، لما عرفت من أنّ هذا و أشباهه مثل النسب و السيادة و الوقف لا طريق لنا إلى إثباتها بالطرق القطعية غالبا، فلذا يكتفي فيها العقلاء بمثل هذا، و إلّا بطلت موضوعاتها بالمرّة.

2- إخبار ذي اليد و لو بعنوان أنّها أرض خراجية، مع عدم العلم بخلافه.

3- تصرّف السلطان و سيطرته عليه بهذا العنوان، فقد عرفت أنّه حجّة لا لحجيّة يده و ان كان غاصبا، بل لما عرفت من أنّ أحكام الأراضي الخراجية ناظرة إلى ما كانت في أيديهم من الأراضي مع الشكّ غالبا في ثبوت الشرائط الثلاث، أو بعضها فيها، فإطلاق تلك الأخبار يدلّ على حجيّة أيديهم هنا.

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل: الموات على أقسام: تارة: كانت مواتا عند الفتح ثمّ صارت محيّاة.

و ثانية: بالعكس، كانت محيّاة عنده ثمّ صارت مواتا.

و ثالثة: أنّها كانت مواتا، ثمّ أحياها بعض ثمّ طرأ عليها الموت.

أمّا الأوّل، فلا كلام أنّها من الأنفال و قد أذنوا في إحيائها و تملّكها.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 510

و أمّا الثالث فالكلام في محلّه في بحث إحياء الموات.

و أمّا الثاني، و هو المهمّ في المقام، فقد يقال بعدم خروجها عن الأراضي

الخراجية بطر و الخراب عليها، فهي باقية على ملك المسلمين، بل قد يقال بعدم الخلاف فيها، و يستدلّ عليه تارة باستصحاب ملكيته السابقة، و اخرى باختصاص أدلّة الموات بما لم يجر عليه ملك مسلم، بل كانت مواتا دائما.

و اختار بعض آخر (كبعض أعلام العصر في مصباح الفقاهة) دخولها في حكم الموات تمسكا بإطلاق أدلّتها «1».

و إن شئت قلت: موضوع الملكية المستفادة من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من أحيا أرضا ميتة فهي له، هو الإحياء حدوثا و بقاء، فإذا زالت الحياة زالت الملكية، و معه لا يجوز التمسّك باستصحاب حكم المخصّص، لوجود العموم أوّلا، و تبدّل الموضوع ثانيا.

و لازم ذلك خروج ما كان ملكا لأشخاص بعد طرو الخراب عليها مطلقا.

هذا و لكن لا يبعد الذهاب إلى كلام المشهور، نظرا إلى انصراف روايات الباب إلى ما لم تجر عليه يد إنسان، فراجع (4/ 1) من أبواب الأنفال «2» و (8/ 1) و (10/ 1) و لا سيّما التقييد الوارد في بعضها من قوله «كلّ أرض ميتة لا ربّ لها» و كذا قوله: هي القرى التي قد خربت و انجلى أهلها، فانّه لو كان مجرّد الخراب كافيا، كان التقييد ب «انجلاء أهلها» الدالّ على الأعراض الكامل ممّا لا وجه له.

و هكذا التعبير بقوله «باد أهلها» فانّ هلاكهم دليل على أنّه على فرض وجودهم لا تلحق بالأنفال و كذا غيرها، و لذا قال في الشرائع «و كلّ أرض جرى عليها ملك المسلم فهي له أو لورثته بعده».

و قال في المسالك في شرحه: «و ان خربت فان كان انتقالها بالقهر كالمفتوحة عنوة بالنسبة إلى المسلمين أو بالشراء و العطية و نحوها لم يزل ملكه عنها أيضا

إجماعا على ما نقله في التذكرة عن جميع أهل العلم».

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 511

و ان أشكل في وجدان هذه العبارة في التذكرة صاحب الجواهر (قدّس سرّه الشريف) و بالجملة اجراء أحكام الموات على مثل هذه الأرض مشكل جدّا.

الأمر الثّاني: يظهر من عبارات غير واحد منهم أو المشهور أنّ خمس الأراضي الخراجية للإمام عليه السّلام، لأنّها داخلة في عنوان الغنائم التي للّه خمسها و للرسول و لذي القربى و الباقي للمسلمين، و لكنّه مشكل جدّا، بل الظاهر أنّ آية الغنيمة و رواياتها ناظرة إلى المنقول منها، و الشاهد على ذلك أنّنا لا نجد في روايات الأرضين على كثرتها و الواردة في أبواب مختلفة لمسألة الخمس عينا و لا أثرا.

الأمر الثالث: قال في مصباح الفقاهة: إذا أحرزنا كون أرض مفتوحة عنوة بإذن الإمام عليه السّلام و كانت محيّاة حال الفتح فانّه لا يمكن الحكم أيضا بكونها أرض خراج و ملكا للمسلمين مع ثبوت اليد عليها عليه السّلام، لأنّا نحتمل خروجها عن ملكهم بالشراء و نحوه، و على هذا فلا فائدة لتطويل البحث في المقام، إذ لا يترتّب عليه أثر مهم. انتهى «1».

أقول: هذا فرع جواز شراء تلك الأراضي من الإمام عليه السّلام، أو من ولي الأمر، و لكن هذا أمر غير معروف، بل ظاهر روايات الباب عدم جوازه و كونها كالموقوفة، و قد عرفت تعابير الروايات، و لا حاجة إلى إعادتها.

هل يجوز بيع الأراضي المفتوحة عنوة؟

ثمّ إنّ هنا أمرا آخر ينبغي التعرّض له، و المناسب بحثه في أبواب البيع، و هو أنّ الأراضي المفتوحة عنوة هل يجوز بيعها، أو لا؟

المشهور بينهم عدم جواز بيعها مطلقا، لا مستقلا، و لا تبعا لآثارها، كما حكى عن الشيخ رحمه اللّه في المبسوط و النهاية،

و عن المحقّق رحمه اللّه في النافع، و عن العلّامة رحمه اللّه في التذكرة و الإرشاد و القواعد و التحرير و غيره.

و لكن ذهب جمع إلى جواز بيعها تبعا للآثار كما عن السرائر و بعض كلمات الشهيد

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 512

الأوّل و الثاني قدّس سرّهما و بعض كتب العلّامة رحمه اللّه.

و هنا قول ثالث، و هو التفصيل بين زماني الحضور و الغيبة، فلا يجوز في الأوّل، و يجوز في الثاني، بل لعلّ ظاهر كلام الدروس نفوذ البيع و الوقف و غيرها في زمن الغيبة مطلقا.

و أظهر منه ما في الحدائق، بل لعلّه صريح في ذلك، حيث قال بعد اختيار جواز التصرّف في زمن الغيبة ما نصّه: «و حمل ذلك على كون البيع أوّلا و بالذات إنّما تعلّق بملك البائع» «1».

هذا و العمدة فيه ما عرفت سابقا من التصريح في غير واحد من روايات الباب، و بأنّها ملك لجميع المسلمين، و أنّها موقوفة متروكة في يد من يعمّرها و كيف يجوز بيع ما يكون مشتركا بين الجميع؟! «2».

و كذا ما دلّ على جواز بيع حقّ الأولوية و أداء خراجها كما يؤدّي غيره، مثل ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن شراء أرض أهل الذمّة؟ فقال: «لا بأس بها فتكون إذا كان ذلك بمنزلتهم تؤدّي عنها كما يؤدّون» «3».

و ما رواه محمّد بن شريح قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن شراء الأرض من أرض الخراج فكرهه، و قال: «إنّما أرض الخراج للمسلمين». فقالوا له: فانّه يشتريها الرجل و عليه خراجها، فقال: «لا بأس، إلّا أن يستحيي من عيب ذلك» «4».

بل كونها أرضا خراجية يؤدّي منها الخراج لا تجتمع مع

البيع، كما يدلّ عليه بعض روايات الباب «5».

نعم هنا امور قد توهّم جواز ذلك في زمان الغيبة أو مطلقا:

منها: السيرة على بناء المساجد فيها أو وقّفها لغيرها أيضا، و لا يجوز ذلك إلّا في ملك، و كذا بيع دور العراق و شرائها.

و فيه: إنّ ذلك نشأ عن اشتباه الحال و الشبهة في تشخيص مصاديقها لما عرفت من انوار الفقاهة، ج 4، ص: 513

الشروط الثلاثة السابقة، أو من عدم المبالات، و إلّا فلا وجه له بعد التصريح في كتب الحديث و الفقه بكونها ملكا لجميع المسلمين، نعم ربّما جاز في مثل المسجد بحكم الإمام عليه السّلام أو نائبه بعد كونه من مصالحهم و كذلك سائر ضروريات المجتمع الإسلامي.

و منها: ما عبّر فيها من الروايات بجواز شراء أرض الخراج، مثل ما جاء في ذيل رواية إسماعيل بن الفضل الهاشمي: ... و سألته عن رجل اشترى أرضا من أرض الخراج فبنى بها أو لم يبن، ير انّ اناسا من أهل الذمّة نزّلوها، له أن يأخذ منهم اجرة البيوت إذا أدّوا جزية رءوسهم؟ قال: «يشارطهم فما أخذ بعد الشرط فهو حلال» «1».

و كذا رواية محمّد بن شريح (9/ 21) التي مرّت عليك آنفا.

و مثل ما رواه إبراهيم بن أبي زياد قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الشراء من أرض الجزية قال: فقال: «اشترها فانّ لك من الحقّ ما هو أكثر من ذلك» «2».

و الجمع بينها و بين ما تقدّم هو ما عرفت من لزوم حملها على شراء حقّهم لا رقبة الأرض كما يطلق الشراء في عصرنا على شراء حقّ السرقفلية و يقال اشتري الدكّان.

فراجع و تأمّل، و للكلام صلة تأتي إن شاء اللّه في مباحث البيع فانتظر.

و من

المناسب أن نتعرّض لبيان حكم الأنفال، فانّها أشدّ ابتلاء من الأراضي الخراجية التي عرفت قلّة الابتلاء بها ظاهرا في عصرنا (و ان كانت فيها إشكالات قويّة لا بدّ من تنقيح أمرها موضوعا و حكما و الاعتناء بشأنها).

و لكن لمّا ساعدنا التوفيق بحمد اللّه تعالى على تنقيح «مباحث الأنفال» ذيل كتاب الخمس (و سوف تقدّم إلى الطبع إن شاء اللّه) لم نر حاجة إلى تكرارها هنا، رغم انّنا بحثناها في حلقات الدروس ذيل مسائل المكاسب المحرّمة.

انوار الفقاهة، ج 4، ص: 514

و بهذا تمّ الكلام في مباحث المكاسب المحرّمة، مع كثير من «المسائل المستحدثة» التي عرفتها في طيّات هذه الأبحاث بتناسب البحوث نسأل اللّه المولى الحكيم أن يتقبّلها بقبول حسن و يجعلها ذخرا لنا ليوم المعاد فانّه حميد مجيد.

اللهمّ لا تسلبنا صالح ما أنعمت به علينا و زدنا من فضلك و مواهبك يا كريم، و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.

قم المشرّفة يوم ميلاد النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم 17/ ربيع الأوّل/ سنة 1414

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.