آيات الولاية فى القرآن

اشارة

سرشناسه : مکارم شیرازی ، ناصر، - 1305

عنوان و نام پديدآور : آیات الولایه فی القرآن / مکارم الشیرازی ؛ اعداد و تنظیم ابوالقاسم علیان نژادی

مشخصات نشر : قم : مدرسه الامام علی بن ابی طالب (ع )، 1383.

مشخصات ظاهری : ص 376

شابک : 964-8139-32-630000 ریال :

وضعیت فهرست نویسی : فهرستنویسی قبلی

يادداشت : عربی

يادداشت : عنوان اصلی : آیات ولایت درقرآن .

موضوع : ولایت -- جنبه های قرآنی

موضوع : علی بن ابی طالب (ع )، امام اول ، 23 قبل از هجرت ، 40ق . -- اثبات خلافت

موضوع : امامت -- جنبه های قرآنی

شناسه افزوده : علیان نژادی ، بوالقاسم ، 1343 - گردآورنده

شناسه افزوده : مدرسه الامام علی بن ابی طالب (ع )

رده بندی کنگره : ‫BP104 /و8 م 7043 1383

رده بندی دیویی : 297/159

شماره کتابشناسی ملی : م 84-13290

المقدّمة

اشارة

المقدّمة

سُمّي عام 1379 ه. ش في الجمهورية الإسلامية بعام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وذلك لأنه تضمّن عيد الغدير في بدايته وفي نهايته فتحقق فيه عيد الغدير مرتين «1».

ولهذا كان من المناسب جدّاً أن يتحرك المفكّرون وعشّاق هذا الإمام الهمام على مستوى تعريف الناس بفضائله وأحاديثه وأخلاقه وسيرته وسائر شؤونه والقيام بدور فاعل في هذا المشروع الحضاري الإسلامي.

ومن هذا المنطلق وطبقاً للمعتاد في شهر رمضان من كلّ عام شرع سماحة آية اللَّه العظمى مكارم الشيرازي مدّظلّه بالقاء محاضراته بعد صلاة الظهر والعصر بما يخصّ الأبحاث التفسيرية المتعلقة بولاية أميرالمؤمنين عليه السلام لأن شهر رمضان هو شهر القرآن وهو الشهر الذي استشهد فيه الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام فكان البحث تفسيراً للقرآن من جهة، ودراسة متعمقة لمسألة الولاية والإمامة في دائرة المفاهيم القرآنية من جهة اخرى.

نأمل أن يشرق نور القرآن في قلوبنا أكثر وأكثر ببركة القرآن الكريم ومفسّره الأوّل أميرالمؤمنين عليه السلام ويساهم في ترشيد مسارنا في خطّ الرسالة والإيمان وهداية الامّة

الإسلامية في حركتها الحضارية الصاعدة.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 6

الكتاب الحاضر

الكتاب الحاضر

وهكذا تمّ بحمد اللَّه تدوين تلك البحوث الجذّابة والشيّقة والعميقة المحتوى. وبعد إخراج المنابع والمصادر وإجراء بعض الاصلاح والتهذيب المتعلّق بتحويل الخطاب الكلامي إلى خطاب كتابي تمّ طبع الكتاب وإخراجه بالشكل المطلوب.

ملاحظات

ملاحظات

1- لعلّ البعض يتصور أنه مع وجود الجزء التاسع من نفحات القرآن الذي يتحدّث عن مفهوم الولاية والإمامة في القرآن الكريم، وكذلك ما ورد في التفسير الأمثل ذيل الآيات المتعلّقة بمسألة الإمامة فما الداعي لتأليف كتاب آخر يتناول هذه المسألة بالذات؟

ولكن الحقيقة أن الأبحاث المطروحة في هذا الكتاب أوسع وأشمل ممّا ورد في ذينك الكتابين، والأهم من ذلك البعد العملي والتطبيقي للآيات الكريمة الواردة في هذا الكتاب ممّا يمنحه قدرة على معالجة مساحات واسعة من اهتمامات المجتمع الإسلامي المعاصر، مضافاً إلى المواضيع الجديدة التي تناولها هذا الكتاب لم تذكر في الكتابين السابقين، ولهذا وجدنا أن من الضروري نشر هذه البحوث القيّمة للقرّاء الأعزاء.

2- إن القرآن الكريم يتميّز بطراوة وحيوية على مدى الدهور والأعصار حيث يفيض على قارئيه في كلّ عصر وزمان مطالب جديدة، وعليه لا ينبغي القناعة والإكتفاء بما أورده المفسّرون من مفاهيم سامية في تفسير آياته الكريمة، بل علينا مواصلة البحث والتنقيب في معادنه الثمينة مع الإسترفاد من تفاسير الأعاظم وما تركه لنا العلماء من جهود فكرية في هذا السبيل وكذلك الإستفادة من العلوم والمعارف الجديدة في عملية استخراج المفاهيم القرآنية الكامنة واستجلاء مضمونها الحضاري.

3- تمّ تقسيم آيات الولاية والإمامة في هذا الكتاب إلى ثلاثة أقسام وبحثها في ثلاثة فصول:

الفصل الأوّل: آيات الخلافة والولاية على المسلمين.

الفصل الثاني: آيات فضائل أهل البيت عليهم السلام.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 7

الفصل الثالث: آيات الفضائل الخاصّة بأميرالمؤمنين عليه السلام.

وأخيراً أتقدم بالشكر الجزيل إلى جميع الاخوة الذين أعانوني على انجاز هذه المهمة ولا سيّما أبنائي الأعزاء الذين تكفّلوا مهمة مطابقة الكتاب، وأرجو أن نتحرك جميعاً في خطّ الرسالة والصراط المستقيم بالاستنارة من الأنوار الإلهية للقرآن الكريم من أجل تحويل ولاية أميرالمؤمنين عليه السلام إلى واقع حيّ يشمل كلّ تطلعات الإنسان ويعيش أجواء العناية الربانية في آفاقها الواسعة.

رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

قم- الحوزة العلمية

أبو القاسم عليان نژادي

ربيع الثاني 1422

آيات الولاية فى القرآن، ص: 9

الفصل الأول آيات الخلافة والولاية على المسلمين

آية التبليغ

اشارة

آية التبليغ 1

[سورة المائدة (5): آية 67]

إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5)

«سورة المائدة/ الآية 67»

أبعاد البحث

أبعاد البحث

هذه الآية الشريفة المشهورة التي تُعرف بآية التبليغ تتحدث عن أهم مسألة وقضية في العالم الإسلامي بعد مسألة النبوّة، و تخاطب النبي الأكرم في أواخر عمره الشريف بإصرار بالغ أن يتحدث للناس بصراحة تامة عن مسألة الخلافة والخليفة الذي يليه، ويبيّن للناس تكليفهم الشرعي، وقد ذكر علماء السنة والشيعة مطالب مختلفة في تفسير هذه الآية كما سيأتي.

الشرح والتفسير: إنتخاب الخليفة مرحلة نهائية للرسالة

اشارة

الشرح والتفسير: إنتخاب الخليفة مرحلة نهائية للرسالة

إنّ القرآن الكريم يخاطب النّبي الأكرم صلى الله عليه و آله في آياته الشريفة بعناوين مختلفة منها:

«يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ» «1».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 12

«يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ» «1».

«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ» «2».

«يا أَيُّهَا الرَّسُولُ» «3».

فالخطاب الأول والثاني يشيران إلى حالة خاصة من حالات الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله الظاهرية، ولكن الخطاب الثالث والرابع يشيران إلى الشأن المعنوي والمقام الإلهي لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله حيث ورد هذا النحو من الخطاب: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ» مرات عديدة في القرآن الكريم.

ولكن خطاب: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ» لم يرد في القرآن سوى في آيتين أحدهما الآية محل البحث، والاخرى الآية 41 من سورة المائدة والتي تنسجم في مضمونها مع هذه الآية الشريفة وهذا يدلّ على أهمّية الموضوع الذي يتضمنه هذا الخطاب الإلهي للرسول الأكرم صلى الله عليه و آله حيث يقول بعده:

«بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ...» وهذه المهمّة التي امر النّبي بإبلاغها لم تكن سوى تعيين الخليفة من بعده.

«وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ...» إنّ هذه المهمّة إلى درجة

من الأهمّية بحيث إنّه لو لم يؤدّها للناس فكأنّه لم يؤدّ الرسالة الإلهية بشكل عام حيث تبقى أتعاب ثلاثة وعشرين سنة من تبليغ الرسالة ناقصة.

ومن الواضح أنّ النّبي الأكرم صلى الله عليه و آله كان يبلّغ جميع ما نزل عليه من الوحي للناس ويبيّن تعاليم الشريعة المقدسة ولكن هذا التعبير الذي يُفهم من سياق الآية يوحي للمسلمين بأهمية الموضوع الذي تضمنته الآية الشريفة.

«وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ...» فبما أنّ هذه المهمّة حساسة جدّاً وفي غاية الأهمّية فمن الطبيعي أن تحوطها الأخطار ومن المتوقع أن تكون هناك ردود فعل شديدة من قبل المنافقين ومن في قلوبهم مرض سواءً كان بصورة علنية أم بصورة سرّية،

آيات الولاية فى القرآن، ص: 13

ولذلك فانّ اللَّه سبحانه وتعالى قد وعد نبيّه الكريم صلى الله عليه و آله بأن يحفظه من هذه الأخطار المحتملة.

«إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» فعلى الرغم من أنّ اللَّه تعالى يمنّ على جميع الناس بالهداية إلى الحق إلّاأنّ الأشخاص الذين يصرّون العناد والإصرار على عقائدهم الزائفة وأفكارهم الباطلة لا يستحقون الهداية وسوف لا ينالون نعمة الهداية من اللَّه تعالى.

ومع قليل من التدبر في مضمون وأجواء الآية محل البحث تتجلى هذه الحقيقة المهمة، وهي أنّ الآية الشريفة تتحرك نحو الإخبار عن موضوع مهم جدّاً، لأنّها تتضمّن في سياقها تأكيدات كثيرة لم يسبق لها مثيل:

1- تبدأ الآية الشريفة بخطاب «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ» وكما تقدم أنّ هذا الخطاب يدل على الأهمّية الفائقة لمضمون هذا النص الشريف بحيث استلزم أن يقع الرسول الأكرم صلى

الله عليه و آله مورداً للخطاب الإلهي مباشرة.

2- كلمة «بَلّغْ» إشارة اخرى إلى خصوصية المضمون الذي تحمله الآية الشريفة لأنه:

أوّلًا: أنّ هذه الكلمة لم ترد في القرآن الكريم سوى في هذه الآية الشريفة.

ثانياً: كما يقول الراغب في كتابه «مفردات القرآن» إنّ هذه الكلمة في الواقع فيها تأكيد أشدّ من كلمة «أَبْلِغْ» لأنّه بالرغم من أنّ هذه الكلمة أيضاً لم ترد إلّامرّة واحدة في القرآن الكريم «1»، إلّاأنّ كلمة «بَلّغْ» مضافاً إلى مفهوم التوكيد فيها تتضمّن التكرار أيضاً، أي أنّ هذا الموضوع إلى درجة من الأهمّية بحيث يجب إبلاغه إلى الناس دفعات وبصورة مكررة «2».

ثالثاً: جملة «وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» شاهد ثالث على الخصوصية المهمّة في هذه الآية، فانّ النّبي الأكرم صلى الله عليه و آله يُؤمر في هذه الآية بإبلاغ رسالة خاصة تمثّل أساس ومحور الرسالة والنبوّة، لأنّه لو لم يبلّغ النّبي الأكرم صلى الله عليه و آله هذه الرسالة الخاصة فكأنّما لم يبلّغ الرسالة كلّها.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 14

رابعاً: ومن العلامات الاخرى على عظمة وأهمية مضمون هذه الآية الكريمة هو ما ورد فيها من ضمانات إلهية لحفظ الرسول الأكرم من الأخطار المحدقة به.

إنّ مضمون المأمورية التي كلّف بها النّبي الأكرم صلى الله عليه و آله في هذه الآية الشريفة إلى درجة من الأهمّية بحيث يخشى على النّبي من الخطر على حياته من جراء ردود الفعل المختلفة التي ستثيرها هذه المهمّة الرسالية، ولكن اللَّه تعالى يعِد نبيّه الكريم بحفظه من جميع الأخطار وردود الفعل المحتملة.

فما هو الموضوع

المهم الذي تضمنته هذه الآية الشريفة؟

ما هي المأمورية المهمّة للنّبي الأكرم صلى الله عليه و آله التي تستلزم ضمانات إلهية صريحة بحفظ النّبي من الخطر؟

ما هو المطلب المهم الذي يجب أن يبلّغه النّبي الأكرم صلى الله عليه و آله للناس بحيث يساوي جميع الرسالة الإلهية؟

ماذا أراد اللَّه سبحانه وتعالى من النّبي الأكرم صلى الله عليه و آله بحيث هدده من جهة ووعده بحفظ حياته من جهة اخرى؟

والخلاصة ما هو موضوع هذه الآية الشريفة الذي ورد بكل هذه التأكيدات الشديدة؟

ومن أجل استجلاء الجواب الصحيح على هذه الأسئلة هناك طريقان:

الأوّل: هو التفكر والتأمل والتدبر في مضمون الآية نفسها بقطع النظر عن ما ورد من طرق الفريقين من السنة والشيعة من الروايات الشريفة في تفسير هذه الآية ومع قطع النظر عن كلمات المفسّرين والمؤرّخين.

والآخر: هو أن نقوم بتفسير هذه الآية الشريفة مع ما ورد حولها من روايات وأحاديث في شأن نزولها.

الطريق الأوّل: تفسير الآية بغض النظر عن الشواهد الأخرى
اشارة

الطريق الأوّل: تفسير الآية بغض النظر عن الشواهد الأخرى

إنّ التدبّر والتعمق والدقة في الآية الشريفة نفسها وبدون الإستعانة بامور أخرى بإمكانه أن يجيب على جميع الأسئلة الواردة أعلاه بشرط الإبتعاد عن التعصّب في تحكيم عقولنا لاستجلاء الحقيقة، لأنّه:

آيات الولاية فى القرآن، ص: 15

أوّلًا: أنّ الآية مورد البحث هي الآية (67) من سورة المائدة وكما نعلم فإنّ سورة المائدة هي آخر سورة «1» نزلت على النّبي الأكرم صلى الله عليه و آله أو من أواخر السور التي جاء بها الوحي إلى الرسول الكريم صلى الله عليه و آله، أي أنّ هذه الآية نزلت في

السنة العاشرة من البعثة وهي آخر سنة من عمر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وبعد ثلاثة وعشرين سنة من تبليغ الرسالة الإلهية.

والسؤال هو: ما هو الموضوع المهم الذي لم يبلّغه الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله إلى الناس بعد ثلاثة و عشرين سنة من عمر النبوّة والرسالة؟

هل أنّ هذا الموضوع المهم يتعلق بالصلاة، في حين أنّ المسلمين كانوا يصلّون قبل ذلك بعشرين سنة؟

هل يتعلق بالصيام في حين أنّ حكم الصوم قد وجب بعد الهجرة وقد مضى على تشريعه ثلاثة عشر سنة؟

هل يتعلق بأمر تشريع الجهاد ونحن نعلم أنّ الجهاد قد شُرّع في السنة الثانية للهجرة؟

هل يتعلق بالحج؟

الجواب: كلّا، إنّ الانصاف يدعونا إلى إنكار أن يكون هذا الموضوع يتعلق بواحدة من هذه الامور فلابدّ من التأمل في هذه الحقيقة، ونتسائل: ما هي المسألة المهمّة التي بقيت بعد ثلاثة وعشرين سنة من أتعاب الرسالة بدون تبليغ؟

ثانياً: ويستفاد من أجواء الآية الشريفة أنّ هذه المأمورية للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله إلى درجة من الأهمّية والخطورة بحيث تعادل الرسالة والنبوّة نفسها، وأمّا الإحتمالات التي ذكرها العلماء في تفسير واكتشاف مضمون هذه المأمورية كما تقدم آنفاً فانّها رغم أهمّيتها ولكنّها لا تعادل بثقلها الرسالة نفسها، فيجب أن نتفكّر في ماهيّة هذا الأمر المهم الذي يعادل الرسالة والنبوّة الذي لم يؤدّه النبي لحد الآن.

ثالثاً: الخصوصية الأخرى لهذه المأمورية الإلهية هي أنّ بعض الناس سيتحركون من

آيات الولاية فى القرآن، ص: 16

موقع الرفض والإعتراض ويكون اعتراضهم إلى درجة من الشدّة والجدّية بحيث أنّهم مستعدون

لقتل النبي والقضاء عليه ونحن نعلم أنّ المسلمين لم يعترضوا على تشريعات سابقة من قبيل الصلاة والصوم والحج والجهاد وأمثال ذلك.

إذن هذه المأمورية تتضمن مسألة سياسية بحيث تدفع بالبعض إلى الإعتراض والإستنكار والتحرك نحو القضاء على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله لمنعه من إمتثال هذا التكليف الإلهي.

وعندما نأخذ بنظر الإعتبار جميع هذه الأبعاد المذكورة في أجواء الآية الشريفة ونتدبّر في هذا الموضوع من موقع الانصاف والحياد التام ونسعى لفهم الحقيقة بعيداً عن التعصّب والعناد لا نصل إلّاإلى مسألة الولاية والخلافة بعد النبي الأكرم صلى الله عليه و آله والتي قام النبي بتبليغ هذه الرسالة في غدير خم بصورة رسمية.

أجل! إنّ الموضوع الذي لم يبلّغه النبي الأكرم صلى الله عليه و آله للمسلمين إلى آخر عمره الشريف بصورة رسمية والذي يعادل الرسالة والنبوّة والذي تمادى الكثير من الناس لمنع الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله من أداء هذه المهمّة والذي وعد اللَّه عزّ وجلّ نبيّه الكريم بأن يحفظه من الأخطار التي تكتنف أداء هذه الرسالة هي المسألة المصيرية والمهمّة في دائرة الخلافة، لأنّه بالرغم من أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قد ذكر للناس مسألة ولاية الإمام علي في السابق إلّاأنّه لم يبلّغها لجميع المسلمين بصورة رسمية لحد الآن، ولهذا السبب فانّه عندما كان عائداً من حجة الوداع قام بتبليغ هذه المأمورية الإلهية الكبيرة في صحراء غدير خم بأفضل صورة حيث أعلن لجميع المسلمين عن نصبه للإمام علي عليه السلام خليفة على المسلمين، وبتبليغ هذه المأمورية كمُلت رسالته.

تطبيق العلامات الثلاث على مسألة الولاية

تطبيق العلامات الثلاث على مسألة الولاية

إنّ مسألة خلافة أمير المؤمنين صلى الله عليه و آله تنطبق عليها العلائم الثلاث الواردة في آية التبليغ

تماماً لأنّها:

آيات الولاية فى القرآن، ص: 17

أوّلًا: إنّ الرسول الأكرم كما مرّ آنفاً لم يعلن عن مسألة الخلافة بعده طيلة عمره المبارك بشكل صريح ورسمي وبتلك الأبعاد الواسعة، وهذه هي المسألة المهمة التي بقيت على عاتقه في الأيّام الأخيرة من عمره الشريف.

ثانياً: إنه ليس من بين القضايا والامور الإسلامية مسألة تعادل في أهميتها وشأنها مسألة النبوة سوى مسألة الخلافة والولاية التي تعتبر استمراراً لمسار النبوة، ومقام الإمامة يرادف مقام النبوة حيث يتكفل الإمام بأداء الوظائف والمسؤوليات التي كانت على عاتق النبي.

ثالثاً: منذ زمان طرح مسألة الإمامة لأميرالمؤمنين بدأت ردود الفعل والمخالفات المتعددة تبرز على السطح بل قد ظهرت في غدير خم أيضاً حيث جاء شخص إلى النبي الأكرم معترضاً عليه وقال: «اللّهم إن كان هذا من عندك فأنزل علينا حجارة من السماء» فنزلت عليه حجارة فأهلكته.

وهكذا هلك هذا الشخص كما سيأتي تفصيل القصة لاحقاً.

وإذا ضممنا الآية 41 من سورة المائدة إلى هذه الآية يتضح المطلب بصورة جيدة.

والنتيجة هي أنّ الآية الشريفة محل البحث مع غض النظر عن الروايات والأقوال وآراء المفسّرين وما أورده المؤرخون في كتبهم تدلّ على خلافة وولاية الإمام علي عليه السلام.

سؤال: قد يقال المراد بالمسألة المهمة في هذه الآية هو إشارة إلى الخطر الكامن في عدوّين كبيرين للإسلام والمسلمين وهما: اليهود والنصارى الّذين كانوا يتحركون دوماً من موقع العداء للإسلام ومنع تقدّم المسلمين ومع هذا كيف تكون هذه الآية مرتبطة بشأن الولاية والخلافة؟

الجواب: إنّ من كانت له أدنى مطالعة ومعرفة بتاريخ الإسلام يعلم جيداً أنّ مشكلة اليهود والنصارى

تم حلّها في السنة العاشرة للهجرة حيث تم إخراج قبائل اليهود من بني قريظة وبني النظير وبني قينقاع ويهود خيبر وسائر قبائل اليهود والنصارى من الجزيرة العربية حيث أسلم الكثير منهم واجبر الباقي على الهجرة إلى مناطق اخرى، وعلى هذا

آيات الولاية فى القرآن، ص: 18

الأساس فطبقاً لما ورد في الآية 41 من سورة المائدة أن خوف النبيّ صلى الله عليه و آله لم يكن من خارج دائرة المسلمين بل كان خوفه يتمثل في الأفراد الذين دخلوا الإسلام.

وعلى هذا الأساس فإنّ تفسير الآية باليهود والنصارى لا يكون منسجماً مع أجواء الآية، وكذلك سائر التفاسير الاخرى التي أوردها البعض سوى القول بأن المقصود هو خلافة أميرالمؤمنين عليه السلام، وعليه فإنّ الآية الشريفة محل البحث تمثّل جواباً قاطعاً ومستدلّاً ومتيناً على جميع الأشخاص الذين أنكروا إمامة وخلافة الإمام علي بن أبي طالب بعد رسول اللَّه.

الطريق الثاني: تفسير آية التبليغ في دائرة الروايات

الطريق الثاني: تفسير آية التبليغ في دائرة الروايات

الطريق الثاني لتفسير الآية الشريفة يتم بالاستعانة بالأحاديث والروايات الشريفة الواردة في شأن نزول هذه الآية وكذلك نظريات وآراء المفسّرين وعلماء الإسلام والمؤرخين الذين دوّنوا هذه الحادثة ...

هناك العديد من المحدّثين في صدر الإسلام ذهبوا إلى أن الآية أعلاه نزلت في شأن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب ومن هؤلاء:

1- «ابن عباس» الراوي والمفسّر المعروف كاتب الوحي الذي هو مورد قبول الشيعة وأهل السنّة.

2- «جابر بن عبداللَّه الأنصاري» وهو الشخصية المعروفة والمقبولة لدى جميع الطوائف الإسلامية.

3- «أبو سعيد الخدري» الذي يعدّ من كبار صحابة النبي ويتمتع باحترام بالغ.

4- «عبداللَّه بن مسعود» وهو أحد

كتّاب الوحي وأحد المفسّرين المعروفين.

5- «أبو هريرة» الراوي المعروف والمقبول لدى أهل السنّة.

6 و 7- «حذيفة» و «البراء ابن عازب» صحابيان من مشاهير صحابة النبي، وهناك جمع آخر من الصحابة والعلماء الذين يذعنون بهذه الحقيقة وهي أنّ الآية الشريفة محل البحث نزلت في ولاية الإمام علي.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 19

والجدير بالذكر أنّ الروايات الواردة في هذه الاسناد والتي أشرنا إلى بعض رواتها آنفاً وردت من طرق مختلفة، فمثلًا الرواية أعلاه وردت بأحد عشر طريقاً عن ابن عبّاس وجابر بن عبداللَّه الأنصاري.

ومن بين المفسّرين من أهل السنّة جماعة ذكروا الرواية المتعلّقة بولاية أميرالمؤمنين عليه السلام ومن بينهم «السيوطى» في «الدرّ المنثور»/ الجزء الثاني/ الصفحة: 298، و «أبوالحسن الواحدي النيشابوري» في «أسباب النزول»/ الصفحة: 150، و «الشيخ محمّد عبده» في «تفسير المنار»/ الجزء السادس/ الصفحة: 120، و «الفخر الرازي» في «التفسير الكبير»، وغيرها من التفاسير الاخرى.

وهنا نورد مقطعاً من كلام الفخر الرازي الذي أورده في تفسيره كنموذج منها:

يعتبر الفخر الرازي من أساطين المفسّرين وعلماء الإسلام بين أهل السنّة ويعتبر تفسيره متين ومفصّل ويحكي عن كثرة علمه واطّلاعه على الامور «بالرغم من تعصبه الشديد الذي اسدل على فكره حجاباً في بعض الأحيان» فإنّه بعد استعراض تسعة احتمالات في تفسير الآية أعلاه يذكر ولاية أميرالمؤمنين في الاحتمال العاشر ويقول:

نزلت الآية في فضل علي بن أبي طالب ولمّا نزلت هذه الآية أخذ بيده وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه اللّهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه، فلقيه عمر فقال: هنيئاً لك يابن أبي طالب! أصبحت

مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة ... «1»

وطبقاً لما ورد في كتاب شواهد التنزيل يقول زياد بن منذر:

كنت عند أبي جعفر محمّد بن علي (الباقر) عليه السلام وهو يحدّث الناس إذ قام إليه رجل من أهل البصرة يقال له: عثمان الأعشى - كان يروي عن الحسن البصري- فقال له: يا ابن رسول اللَّه جعلني اللَّه فداك إن الحسن يخبرنا أنّ هذه الآية نزلت بسبب رجل ولا يخبرنا من الرجل. فقال: لو أراد أن يخبر به لأخبر به ولكنه يخاف (من حكومة بني امية مضافاً إلى أنه

آيات الولاية فى القرآن، ص: 20

لم تكن له علاقة جيدة مع الإمام علي عليه السلام) ... إلى أن قال: فلما ضمن اللَّه [له ] بالعصمة وخوّفه أخذ بيد علي بن أبي طالب ثمّ قال: يا أيّها الناس من كنت مولاه فعلي مولاه اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه ... «1».

والملاحظة الملفتة هنا هي أنّ الحاكم الحسكاني مؤلف كتاب شواهد التنزيل الذي أورد الرواية أعلاه هو من أهل السنّة، كما ذكر هذه الرواية جمع آخر من أهل السنّة.

والنتيجة هي أن الأحاديث والروايات وأقوال الصحابة والروايات وآراء المفسّرين والعلماء كلّها تحكي أنّ آية التبليغ نزلت في موضوع ولاية أميرالمؤمنين الإمام علي عليه السلام.

توصيتان في آية التبليغ

توصيتان في آية التبليغ

وبإمكاننا أن نستوحي ملاحظتان أو توصيتان من أجواء الآية الشريفة:

1- أنّه بالرغم من أنّ المخاطب في هذه الآية الشريفة هو رسول اللَّه بشخصه إلّاأنّ وظيفة تبليغ مسألة الولاية والإمامة والإجابة على علامات الإستفهام والشبهات التي تثار حولها لا تختص بالرسول الأكرم صلى الله عليه

و آله بلا شك، بل هي وظيفة جميع العلماء وأهل النظر على طول التاريخ.

2- الاخرى في هذه الآية الشريفة هي أنّ المؤمنين الواقعيين هم الأشخاص الذين يتحركون في خط الطاعة للَّه تعالى من موقع التسليم والاذعان للحقّ لا من موقع التعصّب والعناد والميول الفئوية والطائفية والحزبية بحيث يسلّمون أحياناً ويخالفون أحياناً اخرى.

وأساساً فإنّ السرّ في وصول نبي الإسلام لتلك المقامات العالية والمنازل المعنوية الرفيعة تكمن في عبوديته وتسليمه المحض للَّه تعالى وهو ما نشهد به في كلّ صلاة قبل الشهادة برسالته ونقول: «اشهد أن محمّداً عبده ورسوله».

ونحن إذا أردنا نيل تلك المرتبة السامية من القرب الإلهي وأردنا أن نعيش الإيمان

آيات الولاية فى القرآن، ص: 21

الحقيقي والواقعي وتطبيق إدعائنا في الإستنان بسنّة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله فيجب أن نسلّم لأمره على كلّ حال حتّى لو كان على خلاف رغباتنا ومزاجنا وميولنا العاطفية.

ولغرض تكميل هذا البحث نستعرض خلاصة لقصّة الغدير كما وردت في تفسير «نفحات القرآن» ....

واقعة الغدير

واقعة الغدير

أدركنا من البحث الآنف بشكل إجمالي أن هذه الآية وعلى ضوء الشواهد التي لا تحصى قد نزلت بحقّ علي عليه السلام، وانّ الروايات التي نُقلت في الكتب المعروفة لأهل السنّة- فضلًا عن كتب الشيعة- أكثر من أن يستطيع أحدٌ انكارها.

وبالاضافة إلى الروايات أعلاه، فلدينا روايات اخرى تفيد بصريح القول: إنّ هذه الآية وردت أثناء واقعة الغدير وخطبة النبي صلى الله عليه و آله في التعريف بعلي عليه السلام على أنه الوصي والولي، وعددها يربو على الروايات السابقة، حتّى أنّ المحقّق الكبير العلّامة

«الأميني» ينقل في كتاب الغدير، حديث الغدير عن 110 من صحابة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالاسناد والوثائق الحية، وكذلك عن 84 من التابعين و 360 من مشاهير علماء المسلمين ومؤلفيهم.

إنّ كلّ من يلقي نظرةً على مجموعة هذه الأسانيد والوثائق يدرك بأنّ حديث الغدير من أكثر الروايات الإسلامية جزماً، ومصداقاً واضحاً للحديث المتواتر ومن يشك في تواتره، فعليه أن لا يؤمن بأيّ حديث متواتر.

وحيث إنّ الولوج في هذا البحث بنحوٍ واسعٍ يخرجنا عن اسلوب كتابة تفسير موضوعي، فنكتفي بهذا القدر بشأن اسناد الرواية وشأن نزول هذه الآية، ونتطرق إلى مضمون الرواية، ونحيل الذين يريدون المزيد من المطالعة حول اسناد الرواية إلى الكتب التالية:

1- كتاب الغدير، ج 1.

2- إحقاق الحقّ، تأليف العلّامة الكبير القاضي «نوراللَّه الشوشتري» مع شرح مفصلٍ لآية اللَّه النجفي، ج 2 و 3 و 14 و 20.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 22

3- المراجعات للمرحوم السيّد «شرف الدين العاملي».

4- عبقات الأنوار للعالم الكبير «ميرحامد الحسيني الهندي» (من الأفضل مراجعة خلاصة العبقات، ج 7 و 8 و 9).

5- دلائل الصدق، تأليف العالم الكبير المرحوم «المظفر»، ج 2.

مضمون روايات الغدير

مضمون روايات الغدير

وهنا نأتي بقصّة الغدير بشكل مختصر كما يستفاد من مجموع الروايات أعلاه، (وطبقاً فإن هذه الواقعة قد وردت في بعض الرويات بشكل مفصّل ومطوّل، وفي بعضها بشكل مختصرٍ وقصير، وفي بعضها اشير إلى جانبٍ من هذه القصة وفي البعض إلى جانب آخر، ومنها جميعاً يستفاد ما يلي):

في السنّة الأخيرة من حياة النبي صلى الله عليه و آله أقيمت مراسم حجة

الوداع بكلّ جلال بمشاركة النبي صلى الله عليه و آله، وكانت الأفئدة تمتلئ بالمعنويات ولم تزل اللذة المعنوية لهذه العبادة العظيمة ينعكس إشعاعها في النفوس.

وكان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الذين كان عددهم كثيراً للغاية لا تسعهم أنفسهم نتيجة لادراكهم هذا الفيض والسعادة العظيمة «1».

ولم يكن أهل المدينة وحدهم الذين يرافقون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في هذا السفر، بل كان المسلمون من مختلف بقاع الجزيرة العربية برفقته صلى الله عليه و آله لنيل هذا الفخر التاريخي العظيم.

وكانت شمس الحجاز تضفي على الجبال والأودية حرارة لا تطاق، إلّاأن حلاوة هذا السفر المعنوي النادر كانت تيسّر كلّ شي ء، وقد اقترب الظهر، وأخذت منطقة الجحفة، وصحراء «غدير خم» الجافة الرمضاء تبدو للعيان.

وهذا المكان يعدّ مفرق طرق لأهل الحجاز حيث يتشعب إلى أربعة طرق، فطريق يتجه إلى الشمال نحو المدينة، وطريق إلى الشرق نحو العراق، وطريق إلى الغرب نحو مصر، وطريق

آيات الولاية فى القرآن، ص: 23

إلى الجنوب نحو اليمن، وهنا يجب أن تُطرح آخر المستجدات في هذا السفر، ويتفرق المسلمون بعد استلامهم لآخر حكم، وهو في واقع الأمر كان خط النهاية في الواجبات الناجحة للنبي صلى الله عليه و آله.

كان ذلك في يوم الخميس من السنة العاشرة للهجرة، وقد مضت عشرة أيّام على عيد الأضحى، وفجأة صدر الأمر من الرسول صلى الله عليه و آله إلى الذين معه بالتوقف، ونادى المسلمون بأعلى أصواتهم أصحابَهم الذين تقدّموا الركب بالتوقف والعودة، وأمهلوا المتأخرين حتّى يصلوا، وزالت الشمس وصدح صوت مؤذن رسول

اللَّه صلى الله عليه و آله بالأذان: اللَّه أكبر، داعياً الناس إلى صلاة الظهر، وسرعان ما استعد الناس للصلاة، إلّاأن حرارة الجو كانت إلى الحدّ الذي اجبر البعض على أن يغطي أرجله بقسم من ازاره ويستر رأسه بالقسم الآخر، وإلّا فإن حصى الصحراء وأشعة الشمس ستحرق أرجلهم ورؤوسهم.

فلا خيمة في الصحراء، ولا خضرة، ولا نبات، ولا شجرة، سوى بعض الأشجار البرية الجرداء التي تقاوم حرارة الصحراء، والتي لاذ بها البعض، ووضعوا قطعة من القماش على أحداها وجعلوها ظلًا لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله، إلّاأن الرياح اللاهبة تهب تحتها وتلفها بحرارة الشمس المحرقة.

وانتهت صلاة الظهر، وعزم المسلمون على اللجوء إلى خيامهم الصغيرة التي كانوا يحملونها معهم، بيد أن النبي صلى الله عليه و آله أوعز لهم بالاستعداد لسماع بلاغ إلهي جديد يُوضَّح ضمن خطبة مفصلة، ولم يكن بمقدور البعيدين عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله رؤية وجهه الملكوتي وسط زحام الناس، لذا فقد صنعوا له منبراً من أربعة من أحداج الإبل، فارتقاهُ النبي صلى الله عليه و آله، وفي البداية حمد اللَّه وأثنى عليه واستعاذ به، ثمّ خاطب الناس قائلًا:

أيّها الناس: يوشك أن ادعى فاجيب.

أنا مسؤول، وأنتم مسؤولون.

فكيف تشهدون بحقّي؟

فصاح الناس: نشهد أنك قد بلّغت ونصحت وجهدت فجزاك اللَّه خيراً، ثمّ قال:

ألستم تشهدون أن لا إله إلّااللَّه، وأنّي رسول اللَّه إليكم، وأن البعث حقّ، وأن اللَّه يبعث

آيات الولاية فى القرآن، ص: 24

من في القبور؟! فقالوا: نشهد بذلك، قال: اللّهمّ اشهد، ثمّ قال:

أيّها الناس أتسمعوني؟ قالوا: نعم، ثمّ عمّ

السكوت الصحراء فلم يُسمع إلّاصوت الريح، فقال صلى الله عليه و آله: فانظروا ماذا صنعتم بالثقلين من بعدي؟

فقال رجل من بين القوم: ما هذا الثقلان يا رسول اللَّه؟!

قال صلى الله عليه و آله: أما الثقل الأكبر فهو كتاب اللَّه حبل ممدود من اللَّه إليكم، طرفه بيد اللَّه والطرف الآخر بأيديكم، فلا تدعوه، وأما الثقل الأصغر فهم عترتي وقد أخبرني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فلا تتقدموهما فتهلكوا ولا تتأخروا عنهما فتهلكوا.

ونظر الناس إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو يلتفت حوله، وكأنه يبحث عن أحد، ولما وقعت عيناه على علي عليه السلام التفت إليه وأخذ بيده ورفعها حتّى بان بياض أبطيهما، وشاهدهما جميع القوم، وعرفوا أنه ذلك الفارس المقدام، وهنا ارتفع صوت النبي صلى الله عليه و آله، وقال: أيُّهَا النّاسُ مَنْ أَوْلَى النّاسِ بِالمُؤمِنينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؟

قالوا: اللَّه ورسوله أعلم،

فقال النبي صلى الله عليه و آله: اللَّه مولاي، وأنا مولى المؤمنين وأولى منهم بأنفسهم، ثمّ قال: فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ، وكرر هذا الكلام ثلاث مرّات، وكما قال أرباب الحديث: انه كرره أربعاً، ثمّ رفع رأسه نحو السماء، وقال:

اللّهمّ والِ مَنْ والاه وَعادِ مَنْ عاداهُ، وَأَحِبّ مَنْ أَحَبَّهُ وَابْغِضْ مَنْ أبْغَضَهُ وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَه وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ وَأَدِرِ الْحَقّ مَعَهُ حَيْثُ دارَ.

ثمّ قال صلى الله عليه و آله: أَلا فَلْيُبلّغ الشّاهِدُ الْغائِبَ.

هنا انتهت خطبة الرسول صلى الله عليه و آله وكان العرق يتصبب من النبي صلى الله عليه و آله والجميع، ومازال الناس لم يتفرقوا من ذلك المكان حتّى نزل عليه الوحي وقرأ هذه الآية على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ

عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي»، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

اللَّهُ أَكْبَرْ، اللَّهُ أَكْبَرْ عَلَى اكْمالِ الدِّيْنِ وَاتْمامِ النِّعْمَة وَرِضَى الرَّبُّ بِرِسَالَتِي وَالْوِلايَةِ لِعَليٍّ مِنْ بَعْدي.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 25

في هذه الأثناء عم الناس النشاط والحركة، وأخذوا يهنئون عليّاً عليه السلام بهذا المقام، وكان من الذين هنئوه، أبو بكر وعمر حيث نطقا بهذه العبارة أمام أعين الحاضرين:

بَخٍّ بَخٍّ لَكَ يَابْنَ أَبي طالِبٍ أَصْبَحْتَ وَأَمْسَيْتَ مَوْلايَ وَمَوْلا كُلِّ مُؤمِنٍ وَمُؤمِنَةٍ.

أثناء ذلك قال ابن عبّاس: «واللَّه إنه عهد سيبقى في أعناقهم»، واستاذن النبي صلى الله عليه و آله الشاعر المعروف «حسان بن ثابت» لينشد شعراً بهذه المناسبة، ثمّ استهل قصيدته المعروفة:

يُنادِيْهِمْ يَوْمَ الْغَديرِ نَبيُّهُمْ بِخُمٍّ وَاسْمِعْ بِالرَّسُولِ مُنادِيا

فَقالَ فَمَنْ مَوْلاكُمْ وَنَبيِّكُمْ؟ فَقالُوا وَلَمْ يَبْدُوا هُناكَ التَّعامِيا:

الهُكَ مَوْلانا وَانْتَ نَبِيُّنا وَلَمْ تَلْقِ مِنّا فِي الْوَلايَةِ عاصِيا

فَقالَ لَهُ قُمْ يا عَلَيٌّ فَانَّني رَضيتُكَ مِنْ بَعْدي اماماً وَهادِيا

فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَهذا وَلِيُّهُ فَكُونُوا لَهُ اتْباعَ صِدْقٍ مُوالِيا

هُناكَ دَعا اللّهُمَّ وَالِ وَلِيَّهُ وَكُنْ لِلَّذي عادا عَلِيّاً مُعادِيا «1»

توضيحات

1- معنى الولاية والمولى في حديث الغدير

1- معنى الولاية والمولى في حديث الغدير

لقد اطلّعنا بشكل إجمالي على حديث الغدير المتواتر، والعبارة المشهورة التي جاءت عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في جميع الكتب وهي: «مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِىٌّ مَوْلاهُ» توضح الكثير من الحقائق وإن أصرّ كثيرٌ من كتّاب أهل السنّة على تفسير كلمة «المولى » هنا بمعنى «الصديق والمحبّ والناصر»، لأنّ هذا أحد المعاني المعروفة ل «المولى».

ونحن نسلّم بأنّ إحدى معاني «المولى » الصديق والمحب والناصر، إلّاأنّ ثمة قرائن عديدة تثبّت أنّ المولى في الحديث أعلاه تعني «الولي والمشرف والقائد» وهي كما يلي بإيجاز:

آيات الولاية فى القرآن، ص: 26

1- إن قضية محبة علي عليه السلام مع جميع المؤمنين لم تكن أمراً خفياً وسريّاً ومعقّداً، بحيث يحتاج إلى هذا التأكيد والإيضاح، وبحاجة إلى إيقاف ذلك الركب العظيم وسط الصحراء القاحلة الساخنة وإلقاء خطبة عليهم لأخذ الاقرار بالولاية له من ذلك الجمع.

فالقرآن يقول بصراحة: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» «1».

وفي موضع آخر يقول: «وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» «2».

والخلاصة: إنّ الاخوة الإسلامية ومودة المسلمين مع بعضهم من أكثر المسائل الإسلامية بداهة،

حيث كانت موجودة منذ انطلاقة الإسلام، وطالما أكد عليها النبيُّ صلى الله عليه و آله مراراً، بالاضافة إلى عدم كونها مسألة تحتاج إلى بيان بهذا الاسلوب الحاد في الآية، وأن يشعر النبي صلى الله عليه و آله بالخطر من البوح بها (تأملوا جيداً).

2- إن عبارة «ألَستُ أوْلى بِكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ» الواردة في الكثير من الروايات لا تتناسب أبداً مع بيان مودّة عادية، بل انه يريد القول بأن تلك الأولوية والتصرف الذي لي تجاهكم وأنني إمامكم وقائدكم، فإنه ثابت لعلي عليه السلام وأي تفسير لهذه العبارة غير ما قيل فهو بعيد عن الإنصاف والواقعية، لا سيّما مع الأخذ بنظر الإعتبار جملة «أنَا أوْلى بِكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ».

3- التهاني التي قدمها الناس لعلي عليه السلام في هذه الواقعة التاريخية، لا سيّما التهاني التي قدمها أبوبكر وعمر، إذ إنها تبرهن على أن القضية لم تكن سوى تعيين الخلافة التي يستحق التبريك والتهاني، فالاعلان عن المودة الثابتة لجميع المسلمين بشكل عام لا يحتاج إلى تهنئة.

وجاء في مسند الإمام أحمد أن عمراً، قال لعلي بعد خطبة النبي صلى الله عليه و آله:

هنيئاً لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة «3».

ونقرأ في العبارة التي ذكرها الفخر الرازي في ذيل الآية: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ»

آيات الولاية فى القرآن، ص: 27

أن عمراً قال: «هَنيئاً لَكَ يَابْنَ أبي طالِبٍ أَصْبَحْتَ وَأَمْسَيْتَ مَوْلَى كُلِّ مُؤمِنٍ وَمُؤمِنَةٍ».

وبهذا فإن عمراً يعدُ علياً مولاه ومولى المؤمنين جميعاً.

وفي تاريخ بغداد جاءت الرواية بهذا الشكل:

بَخٍّ بَخٍّ لَكَ يَا ابْنَ أبي

طالِبٍ! أَصْبَحْتَ مَوْلايَ وَمَوْلى كُلِّ مُسْلِمٍ «1».

وجاء في «فيض القدير»، و «الصواعق»، أن أبا بكرٍ وعمراً باركا لعلي بالقول: «أَمْسَيْتَ يَابْنَ أبي طالِبٍ مَوْلا كُلِّ مُؤمِنٍ وَمُؤمِنَةٍ» «2».

ومن نافلة القول إن المودة العادية بين المؤمنين ليست لها مثل هذه المراسيم، وهذا لا ينسجم إلّامع الولاية التي تعني الخلافة.

4- إن الشعر الذي نقلناه آنفاً عن «حسان بن ثابت» بذلك المضمون والمحتوى الرفيع، وتلك العبارات الصريحة والجلية شاهد آخر على هذا الادعاء، وتشير إلى هذه القضية بما فيه الكفاية (راجعوا تلك الأبيات مرّة اخرى).

2- سورة المعارج تؤيد حديث الغدير

2- سورة المعارج تؤيد حديث الغدير

روى كثيرٌ من المفسّرين ورواة الحديث في ذيل الآيات الاولى من سورة المعارج:

«سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ* لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ* مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ» أنّ شأن النزول في هذه الآيات هو ما يلي:

إن النبي صلى الله عليه و آله عيّن علياً خليفة يوم غدير خم وقال بحقّة: «مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاه»، فما لبث أن انتشر الخبر، فجاء «النعمان بن الحارث الفهري»- (وكان من المنافقين) «3»- إلى النبي صلى الله عليه و آله وقال: لقد أمرتنا أن نشهد ان لا إله إلّااللَّه وأنك محمّد رسول اللَّه، فشهدنا، ثمّ

آيات الولاية فى القرآن، ص: 28

أمرتنا بالجهاد والحجّ والصلاه والزكاة فقبلنا، فلم ترض بكلّ ذلك، حتّى أقمت هذا الفتى «مشيراً إلى عليّ عليه السلام خليفة لك، وقلت: مَنْ كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه فهل هذا منك أم من اللَّه»؟ قال النبي صلى الله عليه و آله «واللَّه الذي لا معبود سواه انه من اللَّه»، فالتفت إليه «النعمان

بن الحارث»، وقال: «إلهي إن كان هذا حقّاً منك فأنزل علينا حجارة من السماء»!

وفجأةً نزلت حجارة من السماء على رأسه وقتلته، فنزلت آية «سأل سائل بعذاب واقع».

ما ورد أعلاه هو ما ذكره صاحب «مجمع البيان» عن أبي القاسم الحسكاني «1» وقد نقل هذا المضمون الكثير من مفسّري أهل السنّة ورواة الأحاديث مع شي ء من الإختلاف، مثل: القرطبي في تفسيرهِ المعروف «2»، والآلوسي في تفسير روح المعاني «3»، وأبو إسحاق الثعلبي في تفسيره «4».

وينقل العلّامة الأميني هذه الرواية في كتاب الغدير عن ثلاثين من علماء السنّة (مع ذكر المصدر ونص العبارة)، منها: «السيرة الحلبية»، «فرائد السمطين» للحمويني، «درر السمطين» للشيخ محمّد الزرندي، و «السراج المنير» لشمس الدين الشافعي، «شرح الجامع الصغير» للسيوطي، و «تفسير غريب القرآن» للحافظ أبوعبيد الهروي، و «تفسير شفاء الصدور» لأبي بكر النقاش الموصلي، وكتب اخرى .

وقد أورد بعض المفسّرين أو المحدّثين الذين يُقرّون بفضائل علي عليه السلام على مضض اشكالات مختلفة على شأن النزول هذا، أهمها الإشكالات الأربعة التالية التي أوردها صاحب تفسير المنار وآخرون بعد ذكرهم للرواية أعلاه.

الإشكال الأوّل: إن سورة المعارج مكية، ولا تتناسب مع واقعة غدير خم.

والجواب: إن كون السورة مكية لا يعتبر دليلًا على أن جميع آياتها نزلت في مكّة،

آيات الولاية فى القرآن، ص: 29

فلدينا العديد من سور القرآن الكريم التي تدعى بالمكية وكتبت في جميع المصاحف على أنها مكية، بيد أن عدداً من آياتها نزلت في المدينة، وكذا العكس، فعلى سبيل المثال: إن سورة العنكبوت من السور المكية، والحال أن آياتها العشر الاولى نزلت

في المدينة، على ضوء قول الطبري في تفسيره المعروف، والقرطبي في تفسيره وآخرين من العلماء «1».

أو سورة الكهف المعروفة بأنها مكية بينما نزلت آياتها السبع الاولى في المدينة استناداً لتفسير «القرطبي»، و «الاتقان» للسيوطي، وتفاسير عديدة «2».

وهكذا فهنالك سورٌ عُدت بأنها مدنية بينما نزلت آيات منها في مكة، مثل سورة «المجادلة» فهي مدنية كما هو معروف، إلّاأن الآيات العشر الاولى منها نزلت في مكّة، طبقاً لتصريح بعض المفسّرين «3».

وموجز الكلام أنه توجد حالات كثيرة بأن تذكر سورة على أنها مكية أو مدنية، ويكتب عليها في التفاسير والمصاحف هذا الاسم إلّاأن جانباً من آياتها قد نزل في موضع آخر.

وعليه فلا مانع أبداً من أن تكون سورة المعارج هكذا أيضاً.

الإشكال الثاني: جاء في الحديث أن الحارث بن النعمان جاء إلى النبي صلى الله عليه و آله في الإبطح، ومعلوم أن الأبطح اسم لوادي في مكّة، وهذا لا يتلائم مع نزول الآية بعد واقعة الغدير بين مكّة والمدينة.

الجواب: أوّلًا إن عبارة الإبطح وردت في بعض الروايات فقط لا في جميعها.

وثانياً: إن «الإبطح والبطحاء» تعني الأرض الرملية التي يجري فيها السيل، وهنالك مناطق في المدينة وغيرها يطلق عليها اسم الأبطح أو البطحاء أيضاً، واللطيف انه قد اشير إليها مراراً في الشعر العربي.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 30

منها الشعر المعروف الذي انشده «شهاب الدين» المشهور ب «حيص بيص» «1»

في رثائه لأهل البيت عليهم السلام، عن لسانهم في مخاطبة قاتليهم:

مَلَكْنا فَكانَ الْعَفْوُ مِنّا سَجِيَّةً

فَلَمّا مَلَكْتُمْ سالَ بِالدَّمِ أَبْطَحُ

وَحَلَّلْتُمُ قَتْلَ الاسارى وَطالَما غَدَوْنا عَنِ الاسْرى نَعْفُوا وَنصْفَحُ «2»

ومن الواضح أن مقاتل أهل البيت عليهم السلام كانت على الأغلب في العراق وكربلاء والكوفة والمدينة، وما اريق دمٌ في ابطح مكّة أبداً، نعم إن بعض أهل البيت عليهم السلام استشهدوا في واقعة «فخ» التي تبعد عن مكّة ما يقرب من فرسخين، والحال أنّ الابطح يجاور مكّة.

وشاعرٌ آخر يرثي الإمام الحسين عليه السلام سيّد الشهداء قائلًا:

وَتَانُّ نَفْسي لَلرُّبُوعِ وَقَدْ غَدا بَيْتَ النَّبِيِّ مُقَطَّعُ الاطْنابِ

بَيْتٌ لِآلِ المُصْطَفى فِي كَرْبَلا ضَرَبُوهُ بَيْنَ أَباطِحٍ وَرَوابي «3»

وثمة أشعار اخرى كثيرة ورد فيها تعبير «الابطح» أو «الاباطح» لا تعني منطقة خاصة في مكّة.

وملخّص الكلام، صحيح أن أحد معاني الابطح هو بقعة في مكّة، إلّاأنّ معنى ومفهوم ومصداق الابطح لا ينحصر بتلك البقعة.

3- كيفية ارتباط هذه الآية بما قبلها وبعدها

3- كيفية ارتباط هذه الآية بما قبلها وبعدها

إن بعض المفسّرين ومن أجل مجانبة الحقيقة الكامنة في هذه الآية توسّل بمبرر آخر

آيات الولاية فى القرآن، ص: 31

وهو: إن سياق الآيات

السابقة واللاحقة بشأن أهل الكتاب لا تنسجم مع قضية الولاية والخلافة والإمامة، ولا تتناسب هذه الاثنينية في الخطاب مع بلاغة وفصاحة القرآن «1».

الجواب: إن كافة المطّلعين على كيفية جمع آيات القرآن يعرفون أن آيات القرآن نزلت تدريجياً وبمناسباتٍ مختلفة، من هنا فكثيراً ما تتحدث سورةٌ ما حول قضايا مختلفة، فجانبٌ منها يتحدث عن الغزوة الفلانية، والجانب الآخر حول الحكم والتشريع الإسلامي الفلاني، وجانبٌ يخاطب المنافقين، وآخر يخاطب المؤمنين، فمثلًا لو طالعنا سورة النور لوجدناها تحتوي على جوانب متعددة، كلٌّ منها ناظرٌ إلى موضوعٍ، بدءاً من التوحيد والمعاد ومروراً بتنفيذ حدّ الزنا وقصة «الافك»، والقضايا المتعلّقة بالمنافقين، والحجاب وغيرها، (وكذلك سائر السور الطوال إلى حدٍ ما) بالرغم من وجود ارتباط عام بين مجموعة أجزاء السورة.

والسرّ وراء هذا التنوع في المحتوى ما قيل من أن القرآن نزل تدريجياً وحسب المتطلبات والضرورات وفي مختلف الأحداث، وليس على هيئة كتاب كلاسيكي أبداً بحيث يتابع موضوعاً معداً سلفاً، على هذا الأساس لا مانع على الاطلاق من أن تنزل مقاطع من سورة المائدة بشأن أهل الكتاب، ومقاطع منها في واقعة الغدير، بالطبع فمن وجهة النظر العامة انهما يرتبطان معاً إذ انّ تعيين خليفة لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله يترك أثره على قضايا أهل الكتاب أيضاً، لأنه سيؤدي إلى يأسهم من انهيار الإسلام برحيل النبي صلى الله عليه و آله «2».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 33

آية إكمال الدين 2

اشارة

آية إكمال الدين 2

[سورة المائدة (5): آية 3]

إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ

(5)

«سورة المائدة/ الآية 3»

أبعاد البحث

أبعاد البحث

تتحدّث هذه الآية الشريفة عن يوم عظيم جداً لدى المسلمين حيث يمثل نقطة عطف في تاريخ الإسلام، وهو اليوم الذي عاش فيه أعداء الدين اليأس الكامل، وهو يوم إكمال الدين وإتمام النعمة الإلهية ورضى اللَّه تعالى، فأي يوم هو هذا اليوم المبارك؟

فيما يلي نجيب على هذا السؤال:

الشرح والتفسير: يوم إكمال الدين والنعمة

الشرح والتفسير: يوم إكمال الدين والنعمة

«الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ» فبالرغم من أنّ أعداء الإسلام والكفّار المعاندين لم يتوانوا في التصدي للدعوة السماوية منذ بدايتها وإلى آخر أيّام حياة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وبوسائل مختلفة، وفي كلّ مرّة كانوا يهزمون ويولّون الأدبار ولكنهم مع ذلك لم يفقدوا الأمل في الإنتصار على الإسلام والمسلمين، ولكن عند نزول هذه الآية الشريفة ندرك جيداً وقوع حادثة مهمة بحيث إنّ هؤلاء الأعداء لم ينهزموا فقط بل فقدوا أملهم بالنصر نهائياً.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 34

وعلى هذا الأساس فإنّ هؤلاء الكفّار والمشركين قد تملّكتهم حالة من اليأس المطبق في تحقيق النصر على هذه الدعوة الجديدة.

«فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ» فمع هذا النصر الكبير الذي حصل لكم في هذا اليوم فلا ينبغي لكم بعد ذلك أن تعيشوا حالة الخوف والخشية من الأعداء لأنهم سوف لا يشكلون خطراً عليكم إطلاقاً بل عليكم أن تتحركوا في امتثال أوامر اللَّه سبحانه وتعالى من موقع الخشية للَّه والتقوى لأنّ الخطر الأساس في هذه المرحلة يتمثل في الأهواء والشهوات والإبتعاد عن خط الطاعة والتقوى والمسؤولية.

«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي» ففي هذا اليوم العظيم والمهم أكمل

اللَّه لكم دينكم وأتم نعمته عليكم.

«وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» إنّ عظمة هذا اليوم وأهمية هذه الحادثة إلى درجة بحيث إنّ اللَّه عزّوجلّ رضى لكم الدين الإسلامي إلى الأبد.

أيّ يوم هو ذلك اليوم؟

اشارة

أيّ يوم هو ذلك اليوم؟

إن اليوم الذي تتحدث عنه الآية الشريفة له خصائص مهمة أربع:

1- إن هذا اليوم هو اليوم الذي شعر فيه الكفّار والمشركون باليأس الكامل.

2- اليوم الذي أكمل اللَّه لكم الدين.

3- اليوم الذي أتم اللَّه تعالى نعمته على جميع المسلمين.

4- اليوم الذي رضى به اللَّه تعالى أن يكون الإسلام ديناً خالداً لجميع الناس فأيّ يوم هذا اليوم المبارك الذي يتمتع بهذه الخصوصيات الأربعة؟

وللإجابة على هذا السؤال يمكننا اختيار طريقين:

الطريق الأوّل: التأمل والتدبّر في مضمون الآية الشريفة نفسها ومطالعة ما يمكن استيحاؤه من أجواءها بغض النظر عن الروايات والأحاديث الشريفة الواردة في تفسير هذه الآية وبغضّ النظر كذلك عن آراء المفسّرين وعلماء الإسلام وسائر العلائم والقرائن الاخرى التي تحيط بهذه الآية الشريفة.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 35

الطريق الثاني: تفسير الآية الشريفة بالاستعانة بالروايات الواردة بشأن النزول وكذلك آراء ونظريات المفسّرين وعلماء الإسلام.

الطريق الأوّل: تفسير الآية بدون الاستعانة بالقرائن الخارجية
اشارة

الطريق الأوّل: تفسير الآية بدون الاستعانة بالقرائن الخارجية

نتساءل مع أيّ حادثة من الحوادث التاريخية في زمن النزول يمكن تطبيق هذه الآية الشريفة؟

وفي مقام هذا الجواب على هذا السؤال فالفخر الرازي له رأيان والمرحوم الطبرسي ذكر رأياً ثالثاً، ونحن بالتوكل على اللَّه تعالى وبالإستعانة بالعقل والمنطق والإبتعاد عن التعصّب ولغة الأحساسات والإبتعاد عن كلّ ما يخلّ بوحدة المسلمين نبحث هذه الآراء والنظريات الثلاث بدقّة:

النظرية الاولى: وهي أحدى النظريات التي ذكرها الفخرالرازي في تفسيره للآية الشريفة، وهي أنّ كلمة «اليوم» الواردة في هذه الآية لم ترد بمعناها الحقيقي بل وردت بالمعنى المجازي، أي أنّ كلمة «اليوم» هنا تعني «المرحلة» أو

البرهة من الزمان لا مقطع خاص منه بما يحكي عن ليلة ونهار واحد.

وطبقاً لهذه النظرية فإنّ اليوم هنا لا يقصد به يوم معين أو حادثة خاصّة بل يشير إلى بداية مرحلة تحكي عن عظمة الإسلام ويأس الأعداء والكفّار من تحقيق النصر على هذه الدعوة السماوية، لا سيّما وأن هذا الإستعمال المجازي لكلمة «اليوم» هو استعمال متداول بين الناس كما يقال مثلًا «كنت بالأمس شاباً واليوم أصبحت شيخاً» أي أنني كنت في مرحلة سابقة من عمري شاباً وفي هذا الزمان أصبحت شيخاً، فلا تعني كلمة اليوم أو الأمس يوماً معيناً من الأيّام الزمانية.

ولكن الجواب على هذه النظرية واضح لأنّ المعنى المجازي يحتاج إلى قرينة لصرف الإستعمال عن المعنى الحقيقي، فما هي هذه القرينة الواضحة التي استند عليها الفخرالرازي للقول بالمعنى المجازي؟

النظرية الثانية: أن المراد بكلمة اليوم في الآية الشريفة هو المعنى الحقيقي، أي هو يوم

آيات الولاية فى القرآن، ص: 36

خاصّ ومعين وهو «يوم عرفة» الثامن من شهر ذي القعدة، في حجّة الوداع في السنة العاشرة للهجرة.

ولكن هذه النظرية بدورها لا تتضمن إقناعاً كافياً لأنّ يوم عرفة في السنة العاشرة للهجرة لا يختلف عن أيّام عرفة الاخرى في السنة التاسعة والثامنة للهجرة، ولولم تحدث في هذا اليوم حادثة خاصة فكيف ذكرته الآية الشريفة بلغة التعظيم والتبجيل؟

والخلاصة هي أنّ هذه النظرية غير مقبولة وغيرمنطقية وبالتالي فإنّ كلا النظريتين للفخرالرازي لا تعيننا في استجلاء مضمون الآية الشريفة واكتشاف السر المستودع فيها.

النظرية الثالثة: وهي التي ذكرها الطبرسي الذي يعد من أساطين المفسّرين لدى الشيعة، فإنّه بعد

أن نقل القولين السابقين للفخرالرازي وردّهما ذكر تفسير أهل البيت في مورد هذه الآية الشريفة الذي هو تفسير جميع مفسّري الشيعة وعلمائهم.

يرى أصحاب هذه النظرية أن المراد ب «اليوم» في هذه الآية الكريمة الذي تحقق فيه يأس الكفّار واستوجب رضى اللَّه تعالى وكمل فيه الدين وتمت فيه النعمة هو اليوم الحادي عشر من شهر ذي الحجّة من السنة العاشرة للهجرة أي يوم عيد الغدير، وهو اليوم الذي نصّب فيه رسول اللَّه الإمام عليّ خليفة له على المسلمين وأعلن فيه خلافته وولايته بصورة رسمية.

سؤال: هل هذه النظرية تتطابق مع مضمون الآية الشريفة؟

الجواب: إذا نظرنا بعين الإنصاف إلى هذه الآية الشريفة وابتعدنا عن المسبوقات الفكرية والرواسب التراثية لرأينا الآية الشريفة تنطبق تماماً على واقعة الغدير لأنها:

أوّلًا: لأنّ أعداء الإسلام بعد أن فشلوا في جميع مؤامراتهم وانهزموا في حروبهم ضد الإسلام والمسلمين وفشلت خططهم في بثّ التفرقة والإختلاف في صفوف المسلمين فإنّهم لم يبق لهم سوى شي ء واحد يحيي أملهم في الإنتصار والتغلب على هذا الدين الجديد، وهو أن النبي الأكرم بعد رحيله من هذه الدنيا وخاصّة مع أخذ بالنظر الإعتبار أنّه لم يكن له ولد يخلفه في أمر الدعوة واستمرارية الرسالة ولم يعيّن لحد الآن خليفة له من بعده فيمكنهم والحال هذه أن يسددوا ضربة قاصمة للإسلام والدعوة السماوية بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله،

آيات الولاية فى القرآن، ص: 37

ولكنّهم عندما شاهدوا أنّ النبي الأكرم قد جمع المسلمين في صحراء غدير خم في اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة في السنة

العاشرة للهجرة واختار خليفة له على المسلمين وهو أعلمهم وأقدرهم في تدبير امور المجتمع الإسلامي فإنّ أملهم هذا قد تبدلّ إلى يأس كامل، وتبخرت حينذاك طموحاتهم وتمنياتهم وأغلقت فيه النافذة الوحيدة للأمل لديهم فيأسوا من هزيمة الإسلام إلى الأبد.

ثانياً: مع انتخاب الإمام علي عليه السلام خليفة ووصياً للرسول فإنّ النبوة لن تنقطع بل استمرت في سيرها التكاملي لأن الإمامة هي تكميل للنبوة وبالتالي فالإمامة هي السبب في كمال الدين، وعلى هذا الأساس فإن اللَّه تعالى قد أكمل دينه بنصبه الإمام علي خليفة على المسلمين وهو الشخصية المتميزة من بين المسلمين بالعلم والقدرة والتقوى والفضيلة بما لا يدانيه أحد بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

ثالثاً: إن النعم الإلهية قد تمت على المسلمين بنصب الإمام علي خليفة وإماماً بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

رابعاً: إنّ الإسلام بلا شك سوف لا يكون ديناً عالمياً وشمولياً وخاتم الأديان بدون عنصر الإمامة، لأن الدين الذي يعتبر نفسه خاتم الأديان يجب أن يتضمن أجابات كافية على حاجات الناس المتكثرة والمتوالية في جميع الأزمان، وهذا المعنى لا يتسنى من دون إمام معصوم في كلّ زمان من الأزمنة.

والنتيجة هي أن تفسير الآية الشريفة بواقعة الغدير هو التفسير الوحيد والمقبول من جميع الجهات.

المراد من إكمال الدين

المراد من إكمال الدين

وقد ذكر المفسّرون في تفسير هذا المقطع من الآية الشريفة «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ...» ثلاث نظريات:

1- إن المراد من «الدين» هو القوانين، أي أن ذلك اليوم كملت فيه قوانين الإسلام فلا يوجد في الإسلام خلأ قانوني وفراغ تشريعي بعد الآن.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 38

ولكنّ الجواب على هذه النظرية يمكن أن يثير سؤال وهو:

ما هذا القانون المهم أو الحادثة المهمة التي وقعت في ذلك اليوم وأدّت إلى تكميل القوانين الإلهية والتشريعات السماوية؟

وفي الجواب على هذا السؤال يكمن مضمون الآية الشريفة ومدلولها.

2- ذهب البعض إلى أن المقصود من كلمة «الدين» في الآية أعلاه هو «الحجّ» أي أنّ اللَّه تعالى قد أكمل حجّ المسلمين في ذلك اليوم العظيم.

ولكن هل أنّ الدين يستعمل بمعنى الحجّ واقعاً، أو أنّ الدين هو مجموعة العقائد والأعمال والعبادات التي يشكل الحجّ أحدها؟

من الواضح أن احتمال الثاني هو الصحيح، وعليه فإن تفسير الدين بمعنى الحجّ هو تفسير غير مقبول ولا يقوم على دليل متين.

3- إنّ تحقق مضمون الآية الشريفة في إكمال الدين وإتمام النعمة في هذا اليوم بأنّ اللَّه تعالى نصر فيه المسلمين على أعدائهم وخلّصهم من شرّ هؤلاء الأعداء.

ولكن هل يصحّ هذا الكلام؟ فمن هم الأعداء الذين غلبوا وشعروا باليأس؟ فبالنسبة إلى المشركين فقد استسلموا ودخلوا في الإسلام في السنة الثامنة للهجرة عند فتح مكة، وبالنسبة إلى يهود المدينة وخيبر وقبائل بني النظير وبني قينقاع وبني قريظة فإنّهم قد هزموا في سنوات سابقة في معركة خيبر والأحزاب فتركوا الجزيرة العربية وخرجوا إلى خارج الحكومة الإسلامية، وأمّا بالنسبة إلى النصارى فقد أمضوا معاهدة الصلح مع المسلمين، وعليه فإن جميع أعداء الإسلام قد استسلموا قبل السنة العاشرة للهجرة.

نعم، بقي خطر المنافقين الذين يمثّلون أخطر أعداء الإسلام حيث لا زال خطرهم ماثلًا أمام المسلمين، ولكن كيف يمكن القول بأنهم قد انهزموا وأصابهم اليأس؟

هنا نجد أن هذا السؤال بقي بلا جواب مقنع كما هو حال السؤال المطروح في النظرية الاولى والذي لم يتقدم أصحاب هذه

النظرية بالجواب على هذا السؤال.

أما تفسير علماء الشيعة فكما تقدّم آنفاً فإنّه يجيب على جميع الأسئلة ويلقي ضوءاً خاصّاً على مفهوم الآية وأجواءها.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 39

أجل! فإنّ واقعة غدير خم ومسألة الولاية وخلافة أميرالمؤمنين تعتبر أفضل تفسير بل هي التفسير الصحيح لهذه الآية الشريفة، لأنّ مع وقوع هذه الحادثة المهمة فإنّ آمال المنافقين وأعداء الإسلام قد تبددت وتبدلت إلى يأس.

اعتراف جذّاب من الفخر الرازي

اعتراف جذّاب من الفخر الرازي

يقول الفخر الرازي المفسّر السنّي المعروف:

«قال أصحاب الآثار انّه لمّا نزلت هذه الآية على النبيّ صلى الله عليه و آله لم يعمر بعد نزولها إلّا أحداً وثمانين يوماً أو اثنين وثمانين يوماً ولم يحصل في الشريعة بعدها زيادة ولا نسخ «1» ولا تبديل البتّة «2»».

وعلى وفق مقولة الفخر الرازي هذه فإنّ الآية الشريفة قد نزلت قبل رحلة النبي صلى الله عليه و آله بواحد وثمانين يوماً أو أثنين وثمانين يوماً، وعلى هذا الأساس فيمكن حدس وقت نزول الآية الشريفة، ولإيضاح هذا المطلب يلزمنا التعرف على زمن رحلة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله فإنّ

آيات الولاية فى القرآن، ص: 40

أهل السنّة يرون أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قد ولد في اليوم الثاني عشر من ربيع الأوّل واتفق أنّ وفاته كان في اليوم الثاني عشر من ربيع الأوّل أيضاً.

وبالطبع فإنّ بعض الشيعة أيّد هذا الرأي ومنهم الكليني الذي

يرى أن تاريخ وفاة النبي صلى الله عليه و آله كان في اليوم الثاني عشر من ربيع الأوّل بالرغم من أنّه يرى أن ولادة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كانت في اليوم السابع عشر من ربيع الأوّل طبقاً لما هو المشهور من علماء الشيعة، وعلى هذا الأساس لابدّ من الرجوع واحداً وثمانين يوماً أو أثنين وثمانين يوماً من الثاني عشر من ربيع الأوّل، ومع الإلتفات إلى أن الأشهر القمرية لا تكون ثلاثين يوماً على التوالي في ثلاثة أشهر وكذلك لا تكون تسعة وعشرين يوماً على ثلاثة أشهر متوالية ينبغي أن يكون هناك شهران كاملان وبينهما شهر واحد منه تسعة وعشرين يوماً، أو بالعكس بأن يكون هناك شهران لتسعة وعشرين يوماً وشهر واحد لثلاثين يوماً.

فلو أخذنا بنظر الإعتبار شهر محرم وصفر وفرضنا أنّ كلّ واحد منهما تسعة وعشرين يوماً، فالمجموع يكون ثمانية وخمسين يوماً، ومع إضافة أثنى عشر يوماً من شهر ربيع الأوّل يكون المجموع سبعين يوماً، وبالالتفات إلى أن شهر ذي الحجّة لابدّ وأن يكون ثلاثين يوماً فلو توغلنا فيه اثنى عشر يوماً ليكون المجموع اثنين وثمانين يوماً يصادف هذا اليوم هو يوم عيد الغدير الثامن عشر من ذي الحجّة، وعلى هذا الأساس وطبقاً لنظرية علماء السنّة فإنّ الآية الشريفة أعلاه تتعلّق بيوم الغدير لا بيوم عرفة.

وإذا كان المعيار هو واحداً وثمانين يوماً فإنّه يتفق مع اليوم الذي يتلو يوم الغدير لا يوم عرفة حيث تفصله مع يوم عرفة فاصلة كبيرة.

وإذا أخذنا شهر محرم وصفر لكلّ واحد منهما ثلاثون يوماً وشهر ذي الحجّة تسعة وعشرين يوماً فطبقاً لعدد اثنين وثمانين يوماً يكون اليوم التاسع عشر من ذي الحجّة هو المراد وطبقاً لواحد وثمانين

يوماً فإنّ يوم عشرين ذي الحجّة يكون هو زمان الآية الشريفة، أي أن الآية الشريفة نزلت بعد يوم واحد أو يومين بعد واقعة الغدير ونصب الإمام علي عليه السلام خليفة على المسلمين وناظرة إلى هذه الحادثة التاريخية المهمة ولا ترتبط إطلاقاً بيوم عرفة.

والنتيجة هي أنّ القرائن المختلفة التي تحف بهذه الآية الشريفة تشير إلى أن هذه الآية

آيات الولاية فى القرآن، ص: 41

تتعلّق بواقعة الغدير وأنها نزلت في شأن خلافة أميرالمؤمنين الإمام عليّ عليه السلام.

سؤال: إنّ بداية الآية الثالثة من سورة المائدة تتحدّث عن اللحوم المحرمة «1»، وفي آخرها تتحدّث عن الاضطرار والضرورة وأحكامها «2»، وفيما بينهما تتحدّث الآية عن ولاية وإمامة أميرالمؤمنين، فأيّ تناسب وانسجام بين مسألة الولاية والإمامة وخلافة النبي صلى الله عليه و آله مع مسألة اللحوم المحرمة وحكم الاضطرار والضرورة؟ ألا يكون هذا شاهداً على أن العبارة مورد البحث في هذه الآية لا يرتبط بمسألة الولاية بل يشير إلى مطلب آخر؟

الجواب: إنّ آيات القرآن الكريم لم ترد بصورة كتاب منظم كما هو الحال في الكتب المتعارفة الكلاسيكية بل نزلت متفرقة وعلى فترات مختلفة وقد تكون آيات سورة واحدة قد نزلت في أوقات متباينة وكان النبي الأكرم صلى الله عليه و آله يوصي بكتابة كلّ آية في سورة معيّنة، وعلى هذا الأساس فيمكن أن يكون صدر الآية مورد البحث الذي يتحدّث عن الأسئلة التي كان المسلمون يسألون النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عنها وعن اللحوم المحرمة قد نزل قبل واقعة الغدير، وبعد مدّة حدثت واقعة الغدير ونزلت

الآية محل البحث وذكرها كتّاب الوحي بعد آية تحريم اللحوم، ثمّ حدثت مسألة الاضطرار أو حدث مصداق من مصاديقها وحكم هذا الاضطرار، لذلك نجد أن ذيل الآية الشريفة يتضمن هذا الحكم الشرعي وقد كتبه كتّاب الوحي بعد الحديث عن واقعة الغدير المذكور في وسط الآية، وبملاحظة النكتة أعلاه فليس بالضرورة أن يكون هناك إنسجاماً معيناً في سياق الآية الشريفة.

ومع الإلتفات إلى هذه الملاحظة سوف تنحل كثير من الشبهات والإشكالات المتعلّقة بآيات القرآن الكريم.

سؤال آخر: رأينا فيما سبق أن الآية الثالثة من سورة المائدة هي آخر الآيات التي نزلت على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، ومع نزول هذه الآية يكون الدين قد كمل وتكون الشريعة

آيات الولاية فى القرآن، ص: 42

الإسلامية بمجموع مقرراتها وقوانيها قد نزلت بصورة كاملة على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، فإذا كان كذلك إذن فلماذا ورد بعد هذه الآية مورد البحث وفي ذيلها حكم الاضطرار والضرورة؟

أي إذا كانت آية إكمال الدين هي آخر آية وتخبرنا عن إكمال الدين والشريعة، إذن فماذا يعني هذا القانون الجديد الذي نزل بعدها؟

الجواب: يمكن الإجابة عن هذا الإشكال بصورتين:

الجواب الأوّل: إنّ مسألة الاضطرار في زمان القحط والذي ورد في هذه الآية الشريفة لا يورد حكماً جديداً بل هو حكم تأكيدي لما سبق من الأحكام الشرعية، لأنّ هذا الحكم قد ورد قبل ذلك في ثلاث آيات من القرآن الكريم:

الف) نقرأ في آية 145 من سورة الأنعام وهي سورة مكية قوله تعالى:

«قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ

يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ».

فكما تلاحظون أنّ هذه الآية الشريفة قد نزلت في مكّة قبل هجرة النبي صلى الله عليه و آله إلى المدينة وتبين حكم الاضطرار أيضاً.

ب) نقرأ في الآية 115 من سورة النحل التي نزل قسم منها في مكّة المكرّمة وقسم منها في المدينة قوله تعالى:

«إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ».

ففي هذه الآية الشريفة التي نزلت قبل الآية مورد البحث قد ذكر فيها حكم الاضطرار.

ج) ونقرأ في الآية 173 من سورة البقرة والتي نزلت في أوائل هجرة النبي صلى الله عليه و آله إلى المدينة الحكم الشرعي للاضطرار أيضاً وهي تشبه إلى حدّ كبير الآية التي ذكرناها آنفاً مع تفاوت يسير ولذلك فلا نكررها.

النتيجة: هي أن الحكم الشرعي للاضطرار قد ورد في القرآن الكريم قبل هذه الآية

آيات الولاية فى القرآن، ص: 43

مورد البحث في ثلاث موارد اخرى «1»، وعليه فإنّ الحكم الشرعي في الآية المذكورة لا يعدّ حكماً جديداً ولا يتنافى مع آية إكمال الدين حيث لم ينزل أيّ قانون جديد بعد هذه الآية على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

الجواب الثاني: إن آيات القرآن الكريم لم تجمع على حسب ترتيب نزولها بل طبقاً للأمر النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله

وعلى سبيل المثال فالآية 67 من سورة المائدة تقول: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ...» ومن المعلوم أن هذه الآية نزلت قبل الآية مورد البحث «الآية الثالثة من سورة المائدة».

ولكنّها عند تدوينها قد كتبت بعد تلك الآية، وعليه فلا مانع أن يكون حكم الاضطرار قد نزل قبل آية إكمال الدين ولكن في حال تدوينها قد كتبت بعد الآية الشريفة.

الطريق الثاني: تفسير الآية في ضوء الروايات الشريفة

الطريق الثاني: تفسير الآية في ضوء الروايات الشريفة

إن الأحاديث والروايات الشريفة الواردة في شأن نزول هذه الآية الشريفة كثيرة، وقد ذكر العلّامة الأميني في كتابه القيّم «الغدير» «2» هذه الروايات مع الأبحاث المتعلّقة بها بصورة واسعة، فقد أورد حديث الغدير في هذا الكتاب من مائة وعشرة راوٍ من أصحاب النبي مضافاً إلى ذلك فقد نقله من ثمانين شخصاً من التابعين «3»، وقد ذكر العلّامة الخبير الأحاديث

آيات الولاية فى القرآن، ص: 44

المتعلّقة بهذه الحادثة التاريخية من ثلاث مئة وستين من المصادر الروائية والتاريخية لدى المسلمين وبعضها من مصادر أهل السنّة والبعض الآخر من مصادر الشيعة، ولكنّ الملاحظة المهمة هنا هي أنّ جميع هذه الروايات التي تتحدّث عن واقعة الغدير العظيمة لا ترتبط ببحثنا هذا بل الروايات التي تتحدّث عن نزول هذه الآية الشريفة هي التي ترتبط ببحثنا، ولحسن الحظّ أنّ عدد هذه الروايات ليس بالقليل فقد ذكر المحقّق العلّامة الأميني في كتابه المذكور ستة عشر رواية في هذا المجال «1»، ونحن نشير إلى بعضها فيما يلي:

1- ما أورده السيوطي وهو من علماء أهل السنّة وكان يعيش في مصر ويعدّ

من كبار علماء أهل السنّة، فقد ذكر هذه الرواية في كتابه:

«يقول أبو سعيد الخدري:

لَمَّا نَصَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله عَلِيّاً عليه السلام يَوْمَ غَديرِ خُمٍّ فَنادَى لَهُ بِالوِلَايَةِ، هَبَطَ جَبْرَئيلُ بِهذِهِ الآيَةِ: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ...» «2»».

وطبقاً لهذه الرواية الواردة في كتب أهل السنّة يكون المراد من كلمة «اليوم» في الآية الشريفة هو يوم الغدير، والآية مورد البحث تتحدّث عن ولاية وخلافة أميرالمؤمنين عليه السلام.

2- وقد أورد هذا العالم السنّي رواية اخرى عن أبي هريرة الراوي المقبول لدى أهل السنّة. «يقول أبو هريرة:

لَمّا كان يَوْمَ غَديرِ خُمٍّ وَهُوَ يَوْمُ ثَماني عَشَرَ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله: مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَهَذا عَلِيٌّ مَوْلاهُ، فَانْزَلَ اللَّهُ: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ ...» «3»».

وهذه الرواية أيضاً تدلّ بوضوح على المطلوب.

3- وروى الخطيب البغدادي وهو أحد علماء أهل السنّة في القرن الخامس «4» الهجري في

آيات الولاية فى القرآن، ص: 45

كتابه المعروف «تاريخ بغداد» نقلًا عن أبي هريرة حيث قال:

قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه و آله «مَنْ صامَ يَوْمَ ثَمانَ عَشَرَةَ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ كُتِبَ لَهُ صِيامُ سِتّينَ شَهْراً» «1» وَهُوَ يَوْمُ غَديرِ خُمٍّ لَمّا أَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله بِيَدِ عَلِيِّ بْنِ أبَى طالِب فَقَالَ: «أَلَسْتُ وَلِيَّ الْمُؤْمِنِينَ» قَالُوا: بَلى يا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ صلى الله عليه و آله: «مَنْ كُنْتُ مَولاهُ، فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ» فَقَالَ عُمَرُ بْنُ خَطّاب «2»: بَخٍّ بَخٍّ لَكَ يَابْنَ أَبي طالِبٍ أَصْبَحْتَ مَوْلايَ وَمَوْلاى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، فَأنْزَلَ

اللَّهُ «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ...». «3»

4- وذكر الحاكم الحسكاني وهو من علماء القرن الخامس ومن علماء أهل السنّة روايات صريحة في هذا المجال في كتابه، ولكننا نصرف النظر عن ذكرها هنا طلباً للاختصار «4».

5- وذكر أبوحافظ النعيم الاصفهاني في كتابه «مانزل من القرآن في عليّ» عن الصحابي المعروف أبي سعيد الخدري أنّ النبي الأكرم نصب في يوم غدير خم علي بن أبي طالب وصياً وخليفة له وقبل أن يتفرّق الناس في غدير خم نزلت الآية الشريفة «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ ...» وهنا قال:

اللَّهُ أَكْبَرُ عَلى اكْمالِ الدّينِ واتْمامِ النّعْمَةِ وَرِضَى الرَّبِّ بِرِسالَتي وَ بِالْوِلايَةِ لِعَلِيٍّ عليه السلام مِنْ بَعْدي، ثُمَّ قال: مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعِليٌّ مَوْلاهُ، اللّهُمَّ والِ مَنْ والاهُ وَعادِ مَنْ عادَاهُ وانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ «5».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 46

والنتيجة هي أن الروايات التي وردت في هذا المجال توحي بصورة جليّة أنّ آية إكمال الدين نزلت في واقعة الغدير وتدلّ بوضوح على إمامة وخلافة الإمام عليّ عليه السلام.

كلام الآلوسي العجيب

كلام الآلوسي العجيب

وعلى رغم القرائن والشواهد البيّنة في هذه الآية الشريفة «والتي سبق ذكرها» والروايات المتعددة الواردة في مصادر الشيعة والسنّة فإنّ بعض المحدّثين وبسبب التعصّب والعناد قد فسّروا الآية الشريفة وفقاً لميولهم النفسانية وخرجوا عن منهج البحث المنطقي، ومن هؤلاء «الآلوسي» المفسّر السنّي المعروف وكاتب تفسير «روح المعاني» الكبير فقد ذكر في تفسير الآية 67 من سورة المائدة عن واقعة الغدير وقال:

«فقد اعتنى بحديث الغدير أبوجعفر بن جرير الطبري فجمع فيه مجلدين أورد فيهما

سائر طرقه وألفاظه وصاغ الغث والسمين والصحيح والسقيم على ما جرت به عادة الكثير من المحدّثين، فإنهم يوردون ما وقع لهم في الباب من غير تمييز بين الصحيح والضعيف، وكذلك الحافظ أبو القاسم ابن عساكر أورد أحاديث كثيرة في هذه الخطبة (ولكننا نقبل من الأحاديث التي ذكرها إلّاما كان لا يتحدث عن خلافة علي)» «1».

وهذا الكلام يثير العجب والحيرة لدى كلّ إنسان منصف.

فهل يمكننا الإعراض عن كتاب بأجمعه بسبب وجود بعض الأحاديث الضعيفة وغير معتبرة فيه؟

ألا توجد روايات ضعيفة وأحاديث غير معتبرة في المصادر الحديثية لأهل السنّة؟

هل يصحّ أن ترفض جميع هذه المصادر بهذه الذريعة الواهية؟

الإنصاف أن هذا الكلام هو كلام مضحك ولكن ما هو أسوأ منه هو كلامه عن روايات ابن عساكر الذي يحكي عن منتهى العناد والتعصّب والعداوة مع الحقّ والحقيقة وأهل البيت عليهم السلام، ففي أيّ مكان من العالم يقول أحد الأشخاص: إنني أقبل فقط كلّ ما يتفق مع ميولي وهوى نفسي ولا أقبل ما يخالف ذلك؟

آيات الولاية فى القرآن، ص: 47

هل يقبل هذا الكلام من الإنسان العادي فكيف يقبل من عالم كبير مثل الآلوسي؟

ولعلّ القارئ العزيز يتعجب كثيراً ويتساءل أن شخصاً كالآلوسي كيف يتحدّث بمثل هذا الحديث الضعيف والكلام الواهي؟ ولكن في مقام الجواب نقول إن كلّ إنسان يقف في مقام القضاء ولا يتجنب المسبوقات الفكرية والرسوبات الذهنية فإنّه قد يقع بمثل هذا المصير.

توصية الآية الشريفة

1- الولاية تبعث على يأس الأعداء

1- الولاية تبعث على يأس الأعداء

إذا أردنا أن يعيش الأعداء اليأس فعلينا بالتمسّك بالولاية وإحياءها لأنّ الولاية كما أدّت في ذلك اليوم إلى

بث اليأس في صفوف الأعداء فإنّها في هذا اليوم أيضاً ومن خلال التمسّك بها وإحياءها ستبعث على نفوذ اليأس في قلوب المنافقين وأعداء الإسلام.

ينبغي علينا في هذا اليوم أن نقصر أنظارنا على الإمام الغائب عن الأنظار والحاضر في القلوب، وهو الإمام الحجّة بن الحسن العسكري (عجل اللَّه تعالى فرجه الشريف) وندور حول هذا المحور الإلهي لأن ولاية هذا الإمام العظيم تعد أفضل حلقة وصل لجميع الشيعة في العالم على اختلاف أذواقهم وسلائقهم، وعلى هذا الأساس فإنّ إحياء هذه الولاية سوف يشرق الأمل بوحدة واتحاد المؤمنين ويكون ذلك أساساً لسعادتهم وباعثاً على غرس الأمل في قلوبهم، كما أنّ اختلافهم وتفرقهم يؤدي إلى تعاستهم وانحطاطهم.

إذا تمسّك المسلمون في بلدان العالم الإسلامي بهذا الأصل الأساسي وعملوا به والتفوا حوله فإنّ حادثة مثل حادثة فلسطين المؤسفة سوف لا تتكرر بعد ذلك ولا يقع المسلمون في دائرة المظلومية أمام أنظار العالم، وعليه فإن يأس الكفّار لا يتحقّق إلّامن خلال التمسّك بالولاية.

2- إتمام الدين وإكمال النعمة في ظلّ الولاية

مباحث تكميلية

1- الولاية مسألة أساسية في الإسلام

1- الولاية مسألة أساسية في الإسلام

بالنسبة إلى أهمية الولاية فقد وردت روايات كثيرة تتحدّث عن هذا الموضوع وكمثال ونموذج لهذه الروايات نذكر الرواية الواردة عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام حيث يقول زرارة نقلًا عن الإمام الباقر أنّه قال:

بُنِيَ الإسْلامُ عَلى خَمْسَةِ أَشْياءَ؛ عَلَى الصَّلاةِ وَالزَّكاةِ والصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْولايةِ.

قَالَ زُرارَةُ: فَقُلْتُ: وَأيُّ شَيْ ءٍ مِنْ ذَلِكَ أَفْضَلُ؟ قَالَ عليه السلام: الْوِلايَةُ افْضَلُ لِانَّها مِفْتاحُهُنَّ وَالْوَالي هُوَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِنَّ ... «1»

وهنا بالإمكان استيحاء نقطتين من هذه الرواية:

ألف) إنّ هذه القضايا الخمسة التي وردت فيها هذه الرواية ترتبط فيما بينها برابطة معيّنة، فالصلاة تمثّل رابطة الإنسان مع اللَّه بل إنّ أفضل وقت لتحقيق الإرتباط مع اللَّه تعالى هو وقت الصلاة.

«الزكاة» بدورها

تمثل العلاقة بين الإنسان والآخرين من الأفراد والمجتمع من المحتاجين والمساكين حيث يحققون لهم حياة معقولة وطبيعية بإجراء قانون الزكاة وبذلك يتمكنون من التغلب على مشكلاتهم الاقتصادية التي يفرضها الواقع الصعب.

«الصوم» يمثّل علاقة الإنسان مع نفسه، ومع تقوية هذه العلاقة بالصوم فإنّ الإنسان

آيات الولاية فى القرآن، ص: 49

سيوفق في مجال مجاهدة النفس والإنتصار على نوازعه الماديّة والدنيوية بل إنّ الصوم هو رمز لمجاهدة النفس وقوّة الأرادة.

«الحجّ» يمثّل الرابطة التي تربط جميع المسلمين فيما بينهم حيث يجتمعون في كلّ عام لمبادلة الأفكار والرؤى وتبادل وجهات النظر واستعراض المشاكل والتحديات المصيرية التي يواجهها العالم الإسلامي والتفكير الجاد في حلّها.

«الولاية» هي الضامن الحقيقي والصحيح لتنفيذ وتبيين أحكام هذه المسائل.

وعلى هذا الأساس فإنّ الاصول الخمسة المذكورة أعلاه لم تجتمع في هذا الحديث الشريف اعتباطاً بل تربطها رابطة منطقية ومعقولة.

ب: لماذا كانت الولاية أفضل من الاصول الأربعة الاخرى ؟

إن الرواية الشريفة نفسها تصرّح بأن عنصر الولاية هو الذي يحقّق محتوى الصلاة والصوم والحجّ والزكاة، أي أنه بدون أمر الولاية والحكومة الإسلامية ستكون هذه الدستورات والتعليمات بمثابة الكتابة على الماء وليس لها رصيد على مستوى الممارسة والعمل كما هو الحال في نسخة الطبيب التي لا تشافي من المرض بدون العمل بها.

الولاية تعني تنفيذ قوانين الإسلام بتوسط الأئمّة المعصومين عليهم السلام وخلفائهم، وعلى هذا الأساس فإنّ الولاية هي أفضل وأسمى من الصلاة والصوم والحجّ والزكاة، الولاية هنا تعني الحكومة الإسلامية والولاية التي انبثقت من غدير خم في عملية نصب الإمام علي عليه السلام والياً على المسلمين.

2- الولاية ذات جهتين

2- الولاية ذات جهتين

وطبقاً للتفسير المذكور آنفاً فإنّ الولاية لها جهتان:

فمن جهة يتكفّل الولي والإمام والقائد للُامّة الإسلامية هداية المسلمين ويجيب على أسئلتهم الدينية ويقوم بتحصين الامّة من الأخطار والمؤامرات التي يحيكها الأعداء ويتحرّك على مستوى إقرار النظم والإنضباط في المجتمع الإسلامي ويعيد حقوق المستضعفين والمظلومين ويجري الحدود الإلهية ويقيم فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 50

ومن جهة اخرى فإنّ الواجب على الناس هو السعي على مستوى الممارسة والنشاطات الفردية والإجتماعية لتجسيد أقوال وسلوكيات وأفكار ذلك الإمام والقائد ويتحركون في خطاهم بموازاة خطوات الإمام وإلّا فلا يمكن إدعاء الولاية للأئمّة المعصومين بمجرد الكلام في حين أن الإنسان يرتكب أنواع الذنوب والخطايا.

والملفت للنظر أن رئيس جهاز الساواك في حكومة الشاه قال لي يوماً حين التحقيق معي: «انني أعشق الإمام علي عليه السلام وأصرّح بحبّه وولايته ولكن إذا رأيت بعض الأشخاص الذين يخالفون الشاه فإني مستعد أن أقتل مليون شخص من هؤلاء». فهل أنّ مثل هذه السلوكيات والأفكار تتناغم وتنسجم مع ولاية أميرالمؤمنين أو أنّها ولاية كاذبة وزائفة؟

أجل! فإنّ الولاية الحقيقية هي التي تعني إنطباق جميع الأعمال والأقوال والأفكار على أعمال وأقوال وأفكار المعصومين عليهم السلام.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 51

آية الولاية

أبعاد البحث

الشرح والتفسير: علائم الولي

«إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا».

نحن نعلم أنّ كلمة «إنّما» تدلّ على الحصر، وعليه فإنّ وليكم أيّها المؤمنون

هم الثلاثة المذكورون في هذه الآية الشريفة لا غير، وهؤلاء الثلاثة عبارة عن:

1- اللَّه عزّوجلّ.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 52

2- رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

3- الذين آمنوا.

وبالطبع ليس المراد جميع المؤمنين بل بعضهم الذي يتمتع بالشروط المذكورة في نفس الآية.

«الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ».

فالطائفة الثالثة من أولياء اللَّه المؤمنين ليس هم جميع المؤمنين بل المؤمنين الذين يقيمون الصلاة أوّلًا، ويؤتون الزكاة ثانياً، وأن يكون إيتاء الزكاة في حال الركوع ثالثاً.

والنتيجة، هي أنّ ولي المؤمنين هم هؤلاء الثلاثة فقط:

1- اللَّه عزّوجلّ 2- النبي الأكرم صلى الله عليه و آله 3- المؤمنون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون.

سؤال: ما هو المراد من «الذين آمنوا» في هذه الآية؟ وما معنى الولي هنا؟

إن الآية الشريفة أعلاه تتضمن نقطتين مبهمتين: الاولى: ما هو المراد من كلمة «الولي» في هذه الآية؟ حيث نعلم لكلمة الولي معانٍ مختلفة ولهذا يجب السعي لتشخيص المعنى المراد من هذه الكلمة في هذه الآية.

والآخر هو: ماالمراد بعبارة «الَّذِينَ آمَنُوا» والذين تتوفر فيهم الشروط الثلاثة المذكورة آنفاً؟ هل المراد بهؤلاء شخص معين، أو أيّ شخص تتوفر فيه هذه الصفات الثلاث؟

الجواب: هنا بالإمكان أن نسلك طريقين للجواب عن هذا السؤال كما تقدّم فيما سبق، ثمّ نجيب على بعض الأسئلة الاخرى الذي يطرحها بعض الأشخاص المتعصبين الذين أسدل حجاب التعصّب ستاراً على عقولهم ومنعهم من فهم العقائد الجلية.

الشرح والتفسير: علائم الولي

اشارة

الطريق الأوّل: تفسير الآية مع غض النظر عن الروايات الشريفة

في البداية نأتي لكلمة «ولي» ونبين المراد منها لأنه لو

اتضح معنى هذه الكلمة فإن الكثير من المسائل والتعقيدات في هذه المسألة سوف تجد لها طريقاً إلى الحلّ، فبعض

آيات الولاية فى القرآن، ص: 53

المفسّرين من أهل السنّة وبهدف إبعاد أذهان مخاطبيهم عن المعنى الواضح للآية الشريفة فإنّهم ذكروا معانٍ كثيرةٍ لهذه الكلمة وصلت إلى سبعة وعشرين معنى «1» لكي يقول أن هذه الكلمة هي لفظ مشترك بين معان مختلفة ولا نعلم مراد اللَّه عزّوجلّ منها وأن أيّ معنى من هذه المعاني هو المقصود في الآية الشريفة، إذن فإنّ هذه الآية مبهمة ولا تدلّ على شي ء، ولكن عندما نراجع كتب اللغة وكلمات ونظريات اللغويين نرى أنهم لم يذكروا لمعنى الولي سوى اثنين أو ثلاث معان، وعليه فإن سائر المعاني المذكورة لهذه الكلمة تعود إلى هذه المعاني الثلاثة وهي:

1- «ولي» بمعنى ناصر والولاية بمعنى النصرة.

2- «الولي» بمعنى القيّم وصاحب الإختيار.

3- أنها تأتي بمعنى الصديق والرفيق حتّى لو لم يؤد هذا الإنسان حقّ النصرة لرفيقه ولكن بما أنّ الصديق في دائرة الرفاقة والصداقة ينهض لنصرة صديقه غالباً فإن المعنى الثالث يعود للمعنى الأوّل أيضاً، وعليه فإنّ كلمة «ولي» في نظر أرباب اللغة تطلق على معنيين، وسائر المعاني المذكورة لها تعود إلى هذين المعنيين.

الطريق الأوّل: تفسير الآية مع غض النظر عن الروايات الشريفة
اشارة

الطريق الأوّل: تفسير الآية مع غض النظر عن الروايات الشريفة

في البداية نأتي لكلمة «ولي» ونبين المراد منها لأنه لو اتضح معنى هذه الكلمة فإن الكثير من المسائل والتعقيدات في هذه المسألة سوف تجد لها طريقاً إلى الحلّ، فبعض

آيات الولاية فى القرآن، ص: 53

المفسّرين من أهل السنّة وبهدف إبعاد أذهان مخاطبيهم عن المعنى الواضح للآية الشريفة فإنّهم ذكروا معانٍ كثيرةٍ لهذه الكلمة وصلت إلى سبعة وعشرين معنى «1» لكي يقول أن هذه الكلمة هي لفظ مشترك بين معان مختلفة ولا نعلم مراد اللَّه عزّوجلّ منها وأن أيّ معنى من هذه المعاني هو المقصود في الآية الشريفة، إذن فإنّ هذه الآية مبهمة ولا تدلّ على شي ء، ولكن عندما نراجع كتب اللغة وكلمات ونظريات اللغويين نرى أنهم لم يذكروا لمعنى الولي سوى اثنين أو ثلاث معان، وعليه فإن سائر المعاني المذكورة لهذه الكلمة تعود إلى هذه المعاني الثلاثة وهي:

1- «ولي» بمعنى ناصر والولاية بمعنى النصرة.

2- «الولي» بمعنى القيّم وصاحب الإختيار.

3- أنها تأتي بمعنى الصديق والرفيق حتّى لو لم يؤد هذا الإنسان حقّ النصرة لرفيقه ولكن بما أنّ الصديق في دائرة الرفاقة والصداقة ينهض لنصرة صديقه غالباً فإن المعنى الثالث يعود للمعنى الأوّل أيضاً، وعليه فإنّ كلمة «ولي» في نظر أرباب اللغة تطلق على معنيين، وسائر المعاني المذكورة لها تعود إلى هذين المعنيين.

المراد من الولي في الآية محل البحث

المراد من الولي في الآية محل البحث

ونظراً لما تقدّم آنفاً فما هو المراد من كلمة «ولي» في آية الولاية؟ هل أنّ المراد منها هو الصديق والناصر؟

إنّ هذا المعنى يخالف أكثر موارد استعمال هذه الكلمة في جميع الآيات القرآنية.

إذن فالإنصاف يدعونا إلى فهم الولي في هذه الآية بمعنى القيّم وصاحب اختيار لا بمعنى الصديق والناصر لأنّه:

أوّلًا: كلمة «إنّما» الواردة في صدر الآية تدلّ على الحصر، أي حصر الولي للمؤمنين بهؤلاء الثلاثة لا غير، في حين أنّه لو كان المراد من كلمة الولي بمعنى الصديق

فلا معنى للحصر حينئذٍ، لأنّ من الواضح وجود طوائف اخرى غير هذه الطوائف الثلاثة المذكورة في الآية يمكن أن يكونوا من أصدقاء وأنصار المؤمنين، مضافاً إلى أنه لو كان كلمة «الولي» بمعنى الصديق أو الناصر فلا معنى لورود كل هذه القيود لكلمة «الّذين آمنوا» بأن يشترط فيهم دفع الزكاة في حال الركوع لأن جميع المؤمنين بل وغير المؤمنين من الذين لا يصلّون يمكنهم أن يكونوا من أصدقاء المسلمين، وعلى هذا الأساس فيستفاد من كلمة «إنّما» التي تدلّ على الحصر وكذلك القيود العديدة لكلمة «الذين آمنوا» أنّ الولاية في الآية الشريفة

آيات الولاية فى القرآن، ص: 56

لم تستعمل بمعنى الصديق والناصر بل بمعنى القيّم والقائد وصاحب الإختيار، لذلك يكون مراد الآية أن اللَّه تعالى والنبي والمؤمنين الذين تتوفر فيهم الشروط المذكورة في الآية هم أوليائكم والقيميّين على اموركم.

ثانياً: أن الآية 56 من سورة المائدة التي وردت بعد الآية محل البحث أفضل قرينة وشاهد على المدّعى فإنّ اللَّه تعالى ذكر في هذه الآية الشريفة:

«وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ».

الحزب هنا بمعنى جمع من الناس، ونصرة الحزب بمعنى تفوّقه ونجاحه في حركته السياسية والإجتماعية، وعلى هذا الأساس فإنّ هذه الآية الشريفة ترتبط بالآية التي قبلها وهي الآية محل البحث، والظاهر أنّهما نزلتا سوية فيستفاد منها أنّ الولاية المذكورة فيها هي الولاية السياسية فيكون معنى الآية هو:

إنّ الأشخاص الذين يقبلون بحكومة اللَّه والنبيّ وحكومة الذين آمنوا فإنّ هؤلاء الأشخاص والطوائف هم الغالبون.

والنتيجة هي أننا لو تدبرنا وتعمقنا

في كلّ كلمة من كلمات هذه الآية الشريفة مع غض النظر عن الروايات الكثيرة الواردة في تفسيرها يتضّح جيداً أنّ الولي في هذه الآية جاء بمعنى الإمام والقائد والقيّم، وكلّ من يقبل حكومة اللَّه والرسول والذين آمنوا، الذين تتوفر فيهم الشرائط المذكورة في الآية الشريفة هم الغالبون والمنتصرون.

مصداق «الّذين آمنوا» في الآية الشريفة

مصداق «الّذين آمنوا» في الآية الشريفة

لقد اتّضح فيما سبق معنى كلمة «إنّما» و «ولي» ولكن مازال الإبهام يحيط بمعنى وتفسير الآية الشريفة لأنه لم يتضح لحد الآن المراد من عبارة «والذين آمنوا» في هذه الآية.

وللإجابة على هذا السؤال يجب القول بأنه ليس بين الرواة والمفسّرين وعلماء الإسلام من الشيعة وأهل السنّة إلا ويرى «الإمام عليّ» هو المصداق لهذه الآية الشريفة، وعلى هذا الأساس فهذه الآية تدلّ بالإجماع واتفاق جميع علماء الإسلام على أنّ الإمام علي عليه السلام هو المصداق لهذه الآية الشريفة، ومن جهة اخرى فإنّ جملة «والذين آمنوا» لا تتحمّل سوى

آيات الولاية فى القرآن، ص: 57

مصداق واحد وليس هذا المصداق سوى عليّ بن أبي طالب.

والنتيجة ممّا تقدّم آنفاً هو أنه يستفاد من الآية الشريفة ثلاثة امور «بغضّ النظر عن الآيات وروايات المفسّرين».

1- إن كلمة «إنّما» تدلّ على الحصر والولاية هنا منحصرة في ثلاث طوائف.

2- إن هذه الولاية في الآيات الشريفة وردت بمعنى القائد والقيّم وصاحب الإختيار كما في أكثر موارد استعمالها في القرآن الكريم.

3- إن مصداق «الّذين آمنوا» في هذه الآية هو الإمام عليّ عليه السلام بلا شك.

«ولي» في استعمالات القرآن

«ولي» في استعمالات القرآن

والآن نعود إلى القرآن الكريم لنرى موارد استعمال هذه الكلمة في الكتاب الكريم.

إنّ كلمة «ولي» و «أولياء» جاءت في سبعين مورداً في القرآن الكريم وبمعان مختلفة:

1- نقرأ في بعض الآيات الشريفة أن كلمة «ولي» جاءت بمعنى الناصر والمعين كما في الآية 107 من سورة البقرة حيث يقول تعالى:

«وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا

نَصِيرٍ».

2- وجاءت هذه الكلمة في آيات اخرى بمعنى المعبود كما في الآية 257 من سورة البقرة:

آيات الولاية فى القرآن، ص: 54

«اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ... وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ).

فكلمة الولي في هذه الآية جاءت بمعنى المعبود، فالمعبود للمؤمنين هو اللَّه عزّوجلّ، ومعبود الكفّار هم الطواغيت والشياطين والأهواء النفسانية.

3- وجاءت هذه الكلمة في القرآن الكريم بمعنى الهادي والمرشد أيضاً كما نقرأ في آية 17 من سورة الكهف:

«وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً».

فنرى في هذه الآية الشريفة أنّ كلمة «ولي» جاءت بمعنى الهادي والمرشد.

4- وقد وردت هذه الكلمة في كثير من الآيات الشريفة بمعنى القيّم وصاحب الإختيار كما في الآيات التالية:

ألف) نقرأ في الآية الشريفة 28 من سورة الشورى قوله تعالى:

«وَ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَ يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَ هُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ».

ب) ونقرأ الآية 33 من سورة الإسراء في حديثها عن الولاية التشريعية:

«وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً».

فالولي في هذه الآية جاء بمعنى القيّم وصاحب الإختيار لأن حقّ القصاص لم يرد في الشريعة لصديق المقتول بل لوارثه ووليه.

ج) ونقرأ في أطول آية من آيات القرآن الكريم وهي الآية 282 من سورة البقرة وهي تتحدث عن كتابة وثيقة الدَين والقرض «1» وتقول:

«فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ».

أي أن من كان الحقّ في ذمته ولا يستطيع أن يملل على الكاتب فيجب أن يملل وليه نيابة عنه مع رعاية العدالة، ففي هذه الآية الشريفة وردت هذه الكلمة بمعنى القيّم وصاحب الإختيار.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 55

د) ونقرأ في الآية 34 من سورة الأنفال قوله تعالى:

«وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ ما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ».

فالولي هنا بمعنى القيّم والمسؤول وصاحب الإختيار وإلّا فمن الواضح أنّ الكفّار والمشركين ليست لديهم أدنى علاقة وصداقة مع هذا المكان المقدّس.

ه: ونقرأ في الآية 6 و 5 من سورة مريم:

«فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ».

ومن الواضح أنّ الورثة يرثون المال بعد موت الولي فلا تأتي هنا بمعنى الصديق والناصر.

والنتيجة هي أن كلمة «الولي» استعملت في الآيات الشريفة بمعان مختلفة ولكنّها وردت في أكثر هذه الموارد بمعنى القيّم وصاحب الإختيار.

الطريق الثاني: تفسير الآية بلحاظ الروايات الشريفة

الطريق الثاني: تفسير الآية بلحاظ الروايات الشريفة

ينقل المحدّث البحراني في «غاية المرام» أربع وعشرين حديثاً من منابع أهل السنّة، وتسعة عشر حديثاً من منابع الشيعة فتشكل بمجموعها ثلاثة وأربعين حديثاً، وعليه فإنّ الروايات الواردة في شأن هذه الآية متواترة «1»، ومضافاً إلى ذلك فإنّ العلّامة الأميني أورد في كتابه القيّم «الغدير» روايات من عشرين مصدراً من المصادر الروائية المعروفة لدى أهل السنّة تتحدّث في شأن الآية الشريفة محل البحث من قبيل تفسير الطبري، تفسير أسباب النزول، تفسير الفخرالرازي، التذكرة لسبط ابن الجوزي، الصواعق لابن حجر، نور الأبصار للشبلنجي، وكذلك تفسير ابن كثير وغيرها من المصادر المعتبرة لدى أهل السنّة، وأما رواة هذه الأحاديث فهم عشرة أشخاص من الصحابة المعروفين.

1- ابن عباس، 2- عمّار بن ياسر، 3- جابر بن عبداللَّه الأنصاري، 4- أبوذرّ الغفاري «الذي نقل أدقّ وأطول رواية في هذا المجال»، 5-

أنس بن مالك، 6- عبداللَّه ابن سلام، 7- سلمة بن كهيل، 8- عبداللَّه بن غالب، 9- عقبة بن حكيم، 10- عبداللَّه ابن أُبي.

ومضافاً إلى ذلك فإنّه قد وردت روايات من الإمام علي عليه السلام أيضاً في شأن نزول هذه

آيات الولاية فى القرآن، ص: 58

الآية الشريفة وقد استدلّ بها الإمام عليّ كراراً.

وأما مضمون الروايات أعلاه فهو أنه: كان الإمام علي عليه السلام يوماً يصلي في مسجد النبي، فدخل سائل إلى المسجد وطلب حاجته من المسلمين فلم يعطه أحد شيئاً «1»، وكان الإمام في حال الركوع فأشار للسائل إلى خاتمه فجاء وانتزع الخاتم من إصبع الإمام وخرج من المسجد، فنزلت حينئذٍ الآية الشريفة.

وهذا المضمون للروايات الشريفة ورد في أكثر من أربعين رواية من الروايات التي وردت في شأن نزول الآية محل البحث، ونحن نقتصر هنا على استعراض ثلاث روايات منها، وهي ما أورده الفخر الرازي في تفسيره:

1- رَوى عَطا عن ابْنِ عَبّاسْ أَنها نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ بْنِ أَبي طالِب «2».

2- روي أن عبداللَّه بن سلام قال: لَمّا نَزَلَتْ هذِهِ الآيَةُ، قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا رَأَيْتُ عَلِيّاً تَصَدَّقَ بِخاتَمِهِ عَلى مُحْتاجٍ وَهُوَ راكِعٌ فَنَحْنُ نَتَوَلّاهُ «3».

3- وهي الرواية الأهم من بين الروايات في هذا الباب وهي نقلًا عن أبي ذرّ الغفاري وهذه الرواية أوردها الفخر الرازي عن أبي ذرّ أنه قال:

قالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و آله يَوْماً صَلاةَ الظُّهْرِ، فَسَأَلَ سائِلٌ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ فَرَفَعَ السّائِلُ يَدَهُ إلَى السَّماءِ وَقَالَ: «اللّهُمَّ اشْهَدْ انِّي سَأَلْتُ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ

فَما أَعْطانِي أَحَدٌ شَيْئاً!» وَعَلِيٌّ كَانَ راكِعاً، فَأَوْمَأ إلَيْهِ بِخِنْصِرِهِ الْيُمْنى وَكَانَ فِيها خَاتَمٌ فَأَقْبَلَ السّائِلُ حَتّى أَخَذَ الْخاتَمَ بِمَرْأى النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله فَقالَ صلى الله عليه و آله: اللَّهُمَّ انَّ أَخِي مُوسى سأَلَكَ فَقالَ: «رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي* يَفْقَهُوا قَوْلِي* وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي» «4» فَأَنْزَلْتَ قُرْآناً ناطِقاً: «سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً» «5» اللّهُمَّ وَأَنَا مُحَمَّدٌ

آيات الولاية فى القرآن، ص: 59

نَبِيُّكَ وَصَفِيُّكَ فَاشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، عَلِيّاً، اشْدُدْ بِهِ ظَهْرِي. قَالَ أَبُو ذَر: فَوَاللَّهِ مَا أَتَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله هِذِه الْكَلِمَةِ حَتَّى نَزَلَ جِبْرَئيلُ، فَقالَ: يا مُحَمَّدُ: إِقْرَأ «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ ...». «1»

وبعد أن ينقل الفخرالرازي هذه الروايات الثلاثة يقول: إنّ جميع الروايات الواردة في هذه المسألة هي هذه الروايات الثلاثة فقط.

ملاحظتان

ملاحظتان

1- إن رواية أبي ذرّ تشير إلى أنّ صدقة الإمام علي عليه السلام في حال الصلاة لم تكن صدقة عاديّة لمسكين من الناس بل أدّت إلى حفظ وجاهة وقدسيّة مسجد النبيّ الذي يعد مركز الإسلام والصحابة والمسلمين لأنّ المسكين عندما خرج من مسجد النبي لم يجد من يمدّ له يد العون، ولهذا اشتكى إلى اللَّه من ذلك، فعليه فإنّ صدقة الإمام في حالة الركوع مضافاً إلى أنها رفعت حاجة السائل فإنّها أدّت إلى حفظ اعتبار مسجد النبي صلى الله

عليه و آله وقداسته وحرمة أصحاب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أيضاً.

2- إنّ ادعاء الفخرالرازي المبني على أنّ مجموع الروايات الواردة في هذا الباب ليس بأكثر من ثلاث روايات هو كلام بلا أساس لأنّه كما تقدّم آنفاً أن الوارد من الروايات في هذا الباب أكثر من أربعين رواية، والملفت للنظر أنّ أكثر هذه الروايات وردت في كتب ومصادر أهل السنّة ولكنّ التعصّب والعناد إذا أخذ بناصية الإنسان أدّى إلى أن ينطق بكلمات غير مسؤولة وغيرمتوقعة رغم كونه علّامة كبير مثل الفخر الرازي، مضافاً إلى أنه يمكننا أن ندّعي أنّه إذا قد وصلت لنا أكثر من أربعين رواية في شأن نزول الآية محل البحث فإنّ هناك عدد أكثر من هذا قد اختفى في طيّات التاريخ ولم يصل إلينا وخاصّة في فترة الحكم الاموي الذي كان بنوامية يتحركون بصراحة وشدّة في حذف فضائل ومناقب أهل البيت عليهم السلام وطمس معالمها فلم يتجرأ أحد على بيان هذه الفضائل ونشرها.

وكم من الأشخاص الذين لم يكونوا يمتلكون الجرأة على بيان فضائل ومناقب

آيات الولاية فى القرآن، ص: 60

أميرالمؤمنين عليه السلام وذهبت تلك الفضائل معهم إلى القبر!! إنّ أجواء الإرهاب كانت إلى درجة من الشدّة بحيث إن من يذكر فضيلة واحدة لأهل البيت كان يتعرض للعقاب الشديد بل لو أنّ أحداً سمّى ابنه عليّاً كان يتعرض للعقاب أيضاً.

ومع هذه الظروف الصعبة فعندما تصل إلينا أربعين رواية فيمكن أن نحدس أنّ أضعاف هذا المقدار قد تلف في طيّات التاريخ.

والنتيجة هي أنه مع الأخذ بنظر الإعتبار كثرة الروايات

التي تصل إلى حدّ التواتر وقد أوردنا بعضها بالتفصيل فلا يبقى شكّ أن الآية الشريفة «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ» نزلت في شأن أميرالمؤمنين وأنه عليه السلام هو الولي بعد اللَّه ورسوله.

شبهات واشكالات

اشارة

شبهات واشكالات

وعلى الرغم من وضوح دلالة الآية الشريفة على ولاية أميرالمؤمنين فإنّ بعض العلماء قد ذكر بعض الشبهات والإشكالات حول دلالة هذه الآية، وفي الواقع فإنّ الكثير من هذه الإشكالات ليست سوى ذرائع وحجج واهية «1».

وعلى سبيل المثال:

الإشكال الأوّل: كلمة إنّما لا تدلّ على الحصر

الإشكال الأوّل: كلمة إنّما لا تدلّ على الحصر

رأينا في عملية الإستدلال بالآية أعلاه أنها تقوم على ثلاث دعائم: أحدها أن كلمة «إنّما» في الآية الشريفة تدلّ على الحصر وأنّها تحصر الولاية بثلاث موارد، وعليه فإنّ

آيات الولاية فى القرآن، ص: 61

الولاية مورد البحث لا تثبت لغيرهم.

ولكنّ بعض المفسّرين من أهل السنّة قالوا بأنّ «إنّما» في الآية لا تدلّ على الحصر لأن في القرآن آية اخرى أيضاً وردت فيها كلمة «إنّما» وليس لها دلالة على الحصر. وهي الآية الشريفة 20 من سورة الحديد حيث يقول اللَّه تعالى:

«اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ ...».

فهنا نرى أنّ كلمة «أنّما» في الآية أعلاه لا تدلّ على الحصر لأننا نعلم أن الحياة الدنيا لا تنحصر في هذه الموارد المذكورة في الآية الشريفة بل تشمل لذاّت اخرى وعبادات ونشاطات وتحصيل علم وغير ذلك من الامور، وعليه فكما أنّ كلمة «أنّما» في هذه الآية لا تدلّ على الحصر فكذلك في آية الولاية لا تدلّ على الحصر، فالإستدلال بهذه الآية على المطلوب ناقص.

الجواب: هذا الإشكال من جملة الإشكالات الواهية التي لا تقوم على أساسٍ متين لأننا نعتقد بأنه:

أوّلًا: إنّ كلمة «إنّما» في هذه الآية أيضاً وردت بمعنى الحصر، فالدنيا

في نظر الإنسان المؤمن والعارف ليست في حقيقتها سوى اللهو واللعب وأمثال ذلك، وقد يتصور الإنسان المتورط في حبائل الدنيا اموراً اخرى في هذه الدنيا ولكن لو نظر بعين الحقيقة لرأى أنّ جميع أشكال الحكومات والمقامات الدنيوية والقصور الفخمة وأمثالها من مظاهر الدنيا ليست سوى لهو ولعب حيث يلهو بها أبناء الدنيا.

ثانياً: وعلى فرض أنّ كلمة «إنما» هنا لم ترد في معناها الحقيقي فهذا لا يدلّ على أنّ الموارد الاخرى في استعمال هذه الكلمة تحمل على غير معناها الحقيقي.

والنتيجة هي أنّ كلمة «إنّما» الواردة في الآية الشريفة تدلّ على الحصر بلا شكّ والإستدلال بهذه الآية كامل.

الإشكال الثاني: إعطاء الخاتم فعل كثير مبطل للصلاة

الإشكال الثاني: إعطاء الخاتم فعل كثير مبطل للصلاة

آيات الولاية فى القرآن، ص: 62

أمّا الإشكال الثاني الذي ذكره بعض المفسّرين من أهل السنّة فهو أننا سلّمنا أن الآية الشريفة نزلت في شأن الإمام عليّ عليه السلام ولكن القيام بهذا الفعل من قبل عليّ بن أبي طالب في الصلاة «إنّما هو فعل كثير» والفعل الكثير يؤدي إلى بطلان الصلاة فهل يعقل أن الإمام علي عليه السلام يتصرف في صلاته بما يؤدي إلى بطلان الصلاة.

الجواب: أوّلًا: إن فعل الكثير كما هو الظاهر من هذه الكلمة يطلق على أداء أعمال كثيرة لا ربط لها بالصلاة بحيث تهدم هيئة الصلاة للمصلّي كأن يقوم شخص في أثناء الصلاة وبسبب سماعه لخبر مفرح بالتصفيق والقفز ويمتلكه الهياج وأمثال ذلك، وأما أن يشير إلى السائل والمسكين ليأخذ خاتمه من يده بحيث إنّ الإمام نفسه لم يخرج الخاتم من يده، فهل يقع ذلك في

دائرة «الفعل الكثير» «1»؟

كيف يكون مثل هذا العمل فعلًا كثيراً في حين أنّ الروايات الشريفة تبيح للمصلّي بأن يغسل أنفه فيما لو خرج الدم منه بالماء في أثناء الصلاة ويستمر في صلاته؟ ولو أنه واجه حيواناً خطراً على مقربة منه جاز له قتله والاستمرار في الصلاة.

هل هذه الأفعال ليست بأفعال كثيرة ولكن الإشارة هي فعل كثير؟

ثانياً: إنّ أمثال هذه الحجج والمعاذير ترد على اللَّه أيضاً لأن اللَّه تعالى مدح الإمام عليّ عليه السلام في هذه الآية على عمله، فلو كان ذلك العمل باعثاً على بطلان الصلاة فهل أن اللَّه تعالى يمدحه ويثني عليه وينزل في حقّه آية من القرآن؟!

النتيجة هي أن هذا الإشكال بمثابة ذريعة وتبرير نابع من التعصّب واللجاجة لا أكثر.

الإشكال الثالث: الخاتم الثمين

الإشكال الثالث: الخاتم الثمين

طبقاً لبعض الروايات أن ذلك الخاتم كان ثميناً جداً حتّى أنه ورد أن ثمنه يعادل خراج منطقة بكاملها مثل الشام، ألا يعتبر تملك مثل هذا الخاتم الثمين من قبل عليّ بن أبي طالب من الإسراف المحرّم؟

آيات الولاية فى القرآن، ص: 63

أمّا جواب هذه الشبهة فواضح لأنه:

أوّلًا: لم يرد هذا المطلب في أيّة رواية معتبرة بل الظاهر أن الخاتم المذكور لم يكن سوى خاتماً عادياً لأنه لم يتم للمسلمين في ذلك الزمان فتح ايران والشام وأمثال ذلك ولم تصل مثل هذه الثروات الكبيرة إلى أيدي المسلمين بل الفتوحات المذكورة حدثت بعد رحلة الرسول وفي عصر الخلفاء، مضافاً إلى أن الإمام علي عليه السلام الذي كان طعامه في أيّام حكومته وخلافته بسيطاً إلى درجة أنه لا يأكل سوى

من ادام واحد والغالب انه كان يكتفي بقرص الشعير ويلبس الثياب البسيطة من الكرباس والليف فكيف يعقل أن يمتلك مثل هذا الخاتم الثمين؟!

وعلى هذا الأساس فلا شكّ في ضعف الرواية التي لا تنسجم مع روايات الباب ولا مع سيرة الإمام علي عليه السلام ولا تتناغم مع أجواء تاريخ النزول، ولذلك فانها قد وضعت تحت ظروف خاصّة.

ثانياً: كيف يعقل أن يمتلك الإمام علي مثل هذا الخاتم الثمين بحيث يدخل في باب الإسراف المحرم ثمّ يتصدّق به في سبيل اللَّه وينال الثناء الإلهي؟ وعليه فإنّ المستفاد مما ورد من المدح والثناء في هذه الآية الشريفة على هذا العمل كذب هذه الرواية وزيفها وأنها وضعت لتحقيق أغراض معيّنة.

الإشكال الرابع: إنّ هذا العمل لا ينسجم مع حضور القلب

الإشكال الرابع: إنّ هذا العمل لا ينسجم مع حضور القلب

بما أن الإمام علي عليه السلام كان عندما يصلّي خاصّة يتوجه إلى اللَّه تعالى بكلّ قلبه ويغرق في صفات جلاله وجماله ولا يكون له التفاتٌ إلى غيره أبداً بحيث إنهم كانوا يخرجون السهام من بدنه الشريف في حال الصلاة «1» ولم يكن يتسنى لهم ذلك في الحالات العادية لصعوبته وشدّة ألمه، فمثل هذا الإنسان العارف والمتعلق باللَّه تعالى إلى هذه الدرجة كيف يلتفت أثناء الصلاة إلى كلام السائل ويتصدّق عليه في حال الركوع بالخاتم؟ والخلاصة أن هذه المسألة

آيات الولاية فى القرآن، ص: 64

تتنافى مع حضور القلب في الصلاة لأميرالمؤمنين عليه السلام.

الجواب: أوّلًا: إن السائل بعد أن تملكه اليأس من الحصول على مساعدة الأصحاب توجه إلى اللَّه تعالى بالشكاية وشرع بالقول «اللّهُمَّ أشهد ....» وعليه فإنّ هذا الكلام

وذكر اسم اللَّه ألفت نظر الإمام عليّ إلى وجود السائل، وهذا لا يتقاطع مع حضور قلبه واستغراقه في عالم العبودية في الصلاة.

مضافاً إلى ذلك ألا يعقل أن يسمع المأموم في صلاة الجماعة صوت المكبّر أو صوت الإمام ليتابعه في أعمال الصلاة؟ إذا لم يكن يسمع ذلك فكيف يمكنه الاقتداء به في الصلاة؟

وإذا كان يسمع فهل يعني هذا أن حضور القلب غير ممكن في كلّ صلاة جماعة؟

ثانياً: هل أن سماع صوت السائل الذي ورد التعبير عنه في الرواية الشريفة بأنه رسول من اللَّه فيه إشكال؟ إن سماع صوت الرسول الإلهي كيف يتقاطع مع حضور القلب في الصلاة؟ «1»

ثالثاً: ألا يكون سماع صوت المظلوم وحل مشكلته حتّى في أثناء الصلاة من العبادة؟ «2» فلو كان هذا العمل عبادة فالإمام عليّ عليه السلام قد يستغرق في هذه العبادة ويأتي بها من دون أن يكون هناك إشكال في البين بل هي عبادة ضمن عبادة.

أمّا ما يمكن أن يكون محل إشكال هو التوجّه إلى النفس والذات الفردية أثناء العبادة والصلاة، وأمّا التوجّه إلى المظلوم وقضاء حاجته الذي يعد في نفسه عبادة فلا إشكال فيه.

والنتيجة هي أن هذا الإشكال مردود أيضاً، وفي الحقيقة أن هدف المغرضين من طرح هذا الإشكال والإشكالات الاخرى هو تهميش هذا العمل وتضعيف دلالة الآية الشريفة

آيات الولاية فى القرآن، ص: 65

على ولاية أميرالمؤمنين عليه السلام.

الإشكال الخامس: لماذا تعود الضمائر في الآية إلى الجمع؟

الإشكال الخامس: لماذا تعود الضمائر في الآية إلى الجمع؟

وكما تقدّم في الآية الشريفة أنها تقرر الولاية لثلاث طوائف، وفي الثالثة تعود الضمائر في الأفعال واسم الموصول إلى الجمع

كما في قوله:

1- الَّذين 2- آمنوا 3- الّذين 4- يقيمون 5- يؤتون 6- هم 7- راكعون.

فالكلمات السبعة المذكورة في الآية تتناسب مع الجمع، ومعنى هذه الكلمات هي أن هناك أشخاصاً متعددين قد تصدّقوا على الفقير في حال الركوع في حين أن جميع الروايات تذكر الإمام عليّ عليه السلام فقط كمصداق للآية الشريفة حيث تصدّق بخاتمه على الفقير في حال الركوع وبالالتفات إلى هذا المطلب فهل هناك روايات اخرى وردت في شأن نزول الآية الشريفة تتناغم مع أجواء الآية؟ ومن الواضح أنه لو كان هناك اختلاف وتباين بين الآية الشريفة والروايات التي تتحدّث في شأن نزولها فلابدّ من الإعراض عن الرواية أو الروايات والعمل بمضمون الآية الشريفة. إذن فالتعارض المذكور بين الآية الشريفة والروايات المذكورة يتسبب في عدم اعتبار هذه الروايات.

الجواب: إنّ العلماء والمفسّرين من أهل السنّة قد أجابوا على هذا الإشكال فالفخر الرازي يقول في الجواب على هذا السؤال:

«إنّ الجمع يطلق أحياناً على المفرد للاحترام وعلى سبيل التعظيم والآية مورد البحث من هذا القبيل» «1».

ويذكر الآلوسي في روح المعاني جواباً آخر ويقول:

«قد يستعمل الجمع في المفرد لبيان عظمة الشخص تارة، ولبيان عظمة العمل اخرى، وهذا مشهور في لغة العرب ولكن بما أن هذا الإستعمال على سبيل المجاز فيحتاج إلى قرينة» «2».

وأمّا جوابنا على هذا السؤال فهو:

آيات الولاية فى القرآن، ص: 66

أوّلًا: أنه كما رأينا أن استعمال صيغة الجمع بدل المفرد قد يكون متداولًا لبيان احترام المخاطب وبيان عظمته، وفي الآية مورد البحث قد ورد مثل هذا الإستعمال في سياقها

والقرينة على مجازية هذا الإستعمال الوارد في الآية هو أن أيّ واحد من العلماء حتّى المتعصبين من أهل السنّة لا يرون غير الإمام علي عليه السلام مصداقاً لها والذي تصدّق بخاتمه في حال الركوع، وهذا هو أفضل قرينة على استعمال لفظ الجمع في مورد المفرد.

ثانياً: هناك موارد كثيرة وردت في القرآن الكريم واستعملت فيها صيغة الجمع للمفرد، وكمثال على ذلك نكتفي بذكر سبعة موارد منها:

1- نقرأ في الآية 215 من سورة البقرة قوله تعالى:

«يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ».

ففي هذه الآية الشريفة وردت جملة «يسألونك، ينفقون، انفقتم وما تفعلوا» بصورة الجمع، وفي البداية يظهر من الآية أن جماعة من المسلمين طرحوا السؤال المذكور ولكن طبقاً لشأن نزول الآية فلم يكن السائل سوى شخص واحد واسمه «عمرو بن جموح» «1» الذي كان رجلًا ثرياً، وعليه ففي هذه الآية الشريفة ورد لفظ الجمع واستعمل في المفرد إما على أساس بيان عظمة هذا العمل وهو الانفاق أو بيان الاحترام للسائل وهو عمرو بن جموح.

ملاحظة: إنّ الموضوع الملفت للنظر في هذه الآية الشريفة هو أن اللَّه تعالى في مقام جوابه على سؤال عمرو بن جموح ذكر مطلباً آخر لأن عمرو سأل عن نوع المال الذي يجب انفاقه، واللَّه تعالى تحدّث عن الأشخاص الذين يجب الإنفاق عليهم، فعليه فمثل هذا الجواب يبين أهمية مصرف الإنفاق وأن الإنسان يجب أن يهتم بالدرجة الاولى بأبيه وامّه وأقربائه ثمّ يتوجّه إلى الآخرين في عملية الإنفاق.

2- يقول سبحان وتعالى في الآية 274 من سورة البقرة:

«الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ

سِرًّا وَ عَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا

آيات الولاية فى القرآن، ص: 67

خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ».

ففي هذه الآية الشريفة نقرأ عبارات من قبيل «الّذين، ينفقون، أموالهم، فلهم، أجرهم، ربّهم، عليهم، هم، يحزنون» فكلّها جاءت بصيغة الجمع ولكنّ الكثير من المفسّرين قالوا بأن المراد منها هو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام الذي كان ينفق بالليل والنهار وسرّاً وعلانيةً، وطبقاً لرواية واردة في هذا المجال أن الإمام كان يمتلك أربعة دراهم فتصدّق بأحدها ليلًا وبالآخر نهاراً وبالثالث علانية وبالرابع سرّاً فنزلت الآية أعلاها لتشير إلى شأن هذا الإنفاق «1».

سؤال: هل يعقل أن تنزل آية قرآنية على بعض الأعمال الجزئية من قبيل إنفاق أربعة دراهم؟

الجواب: إنّ المهم في نظر الإسلام هو كيفية العمل لا مقداره، وعليه فإذا كان العمل قد أتى به المكلّف بإخلاص بالغ فيمكن أن تنزل آية قرآنية حتّى على إنفاق أقل من أربعة دراهم ولو أن شخصاً أنفق جبلًا من ذهب ولكن لم يكن يتزامن مع الإخلاص والتوجّه القلبي إلى اللَّه تعالى فليس له أية قيمة ولا تنزل في حقّه آية شريفة.

3- ونقرأ في الآية 173 من سورة آل عمران:

«الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ».

هذه الآية الشريفة نزلت في حرب احد عندما تخلّف بعض المسلمين عن امتثال أمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وتركوا مواقعهم واشتغلوا بجمع الغنائم الحربية فاستفاد الأعداء من هذه الفرصة ومن غفلة المسلمين وداروا حول جبل

احد وهجموا على المسلمين من ورائهم وحققّوا نصراً كبيراً على المسلمين وقتلوا سبعين مسلماً في تلك الواقعة.

إن الكفّار والمشركين لم يقنعوا بهذا النصر على المسلمين فعندما كانوا يعودون إلى مكّة قال أحدهم: نحن الذين حقّقنا هذا النصر فلماذا لم نقتل محمّداً لنختم على هذه الدعوة

آيات الولاية فى القرآن، ص: 68

الجديدة ونقلعها من جذورها؟ فإذا لم نفعل ذلك في هذا اليوم فالإسلام والمسلمين سوف يزدادون قوّة ويتفوّقون علينا في المستقبل.

وقد أثر كلامه هذا في أفراد جيش المشركين وعزموا على العودة إلى المسلمين وقتالهم، ولكن كان بينهم شخص يدعى «نعيم بن مسعود» أو «معبد الخزاعي» الذي لم يقبل باستمرار القتال وقبل أن يصل الكفّار إلى المسلمين أخبر هذا الشخص المسلمين بعزم الكفّار وتصميمهم على القتال فخاف من ذلك بعض المسلمين واصابهم الرعب وقالوا: إننا قد خسرنا المعركة وكنّا أقوياء وسالمين ولكن الآن وبعد الهزيمة وكثرة القتلى والمجروحين كيف يمكننا الوقوف أمام جيش الكفّار، ولكن بعضاً آخر من المسلمين قالوا: «نحن لسنا على استعداد فقط لقتالهم بل سوف نذهب إليهم ونتحرك لقتالهم مع المجروحين من جيش الإسلام، فعندما فهم الأعداء ذلك وأن المسلمين توجّهوا إليهم مع المجروحين منهم دبّ في قلوبهم الخوف والرعب وقنعوا بذلك المقدار من النصر وانصرفوا عن قتال المسلمين مرّة اخرى.

الآية الشريفة أعلاها تتحدّث عن هذه الواقعة وتعبّر عن «نعيم ابن مسعود» أو «معبد الخزاعي» الذي أبلغ المسلمين بعزم الكفّار بكلمة «الناس» في حين انه لم يكن سوى نفر واحد ولكن بما أن عمله هذا كان عظيماً للغاية، فلأجل بيان أهمية

هذا العمل ذكرت الآية الشريفة كلمة الجمع بدل المفرد.

4- يقول تعالى في الآية 61 من سورة آل عمران:

«فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ».

هذه الآية الشريفة نزلت في واقعة المباهلة، ففي هذه الواقعة كما هو معروف لدى الجميع أن النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله جاء مع عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام لميدان المباهلة، والمراد من «أبْنائنا» في الآية الشريفة هم الحسن والحسين عليهما السلام والمراد من «نِسائنا» فاطمة الزهراء عليها السلام والمراد من «أَنْفُسَنا» عليّ بن أبي طالب عليه السلام. وهكذا ترى أنها كلمات وردت

آيات الولاية فى القرآن، ص: 69

بصيغة الجمع واريد بها المفرد «1».

5- ونقرأ في أول آية من سورة الممتحنة قوله تعالى:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ ...».

ذكر الكثير من المفسّرين أن هذه الآية الشريفة نزلت في «حاطب ابن أبي بلتعة» وكان رجلًا واحداً واستعملت في حقّه صيغة الجمع «الّذين، آمنوا، لا تتّخذوا، عدوّكم» وهذا يدلّ على العمل العظيم الذي أراد القيام به، وهو أن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عندما عزم على فتح مكّة قام بسد المنافذ والطرق المؤدية إلى مكّة لكي لا يصل خبر تجهيز جيش المسلمين إلى الكفّار والمشركين في مكّة ليتم الفتح بسهولة ويسر ومن دون إراقة دماء ولكن (حاطب) الذي كان يمتلك بعض المال والثروة في مكّة قال في نفسه:

إنني لو أخبرت أهل مكّة عن استعداد جيش المسلمين لقتالهم فأضمن سلامة أموالي وأتمكن من إخراجها من أيدي المشركين وكما يقول السياسيون في عصرنا الحاضر: «أربح امتيازاً».

ولهذا كتب رسالته بهذا الغرض إلى رؤساء مكّة وسلّمها لأمرأة تدعى «سارة» لتوصلها إلى مكّة فاخفت الرسالة في طيات شعرها وتوجهت إلى مكّة.

فنزل جبرئيل وأخبر النبي صلى الله عليه و آله بالمؤامرة المذكورة فارسل الإمام عليّ عليه السلام وبعض الأشخاص لكشف هذه المؤامرة، فتوجّهوا نحو المرأة المذكورة وأخيراً استطاعوا أن يكتشفوا الرسالة ويعودوا إلى المدينة، وهنا نزلت الآية الشريفة في توبيخ حاطب وقال بعض الأصحاب: دعنا نقتل حاطب ولكن النبي صلى الله عليه و آله الذي رأى حالة الندم على حاطب وكان من المجاهدين سابقاً واشترك في حرب بدر عفى عنه وأطلقه «2».

ففي هذه الآية نرى أيضاً أن «حاطب» رجل واحد ولكنّ الآية وردت بصيغة الجمع.

6- نقرأ في الآية 52 من سورة المائدة:

آيات الولاية فى القرآن، ص: 70

«فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ ...».

حيث أمر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله المسلمين بقطع علاقاتهم وروابطهم مع الكفّار والمشركين ولكن أحد المنافقين وهو «عبداللَّه بن ابي» قال: إذا قطعنا العلاقة معهم فإنّ حياتنا ومعيشتنا ستتعرض للاهتزاز والإرتباك ونصاب بمشكلات عديدة، فنزلت الآية المذكورة في شأن هذا المنافق «1».

وهكذا نرى أن الشخص الذي كان يتحدّث عن ضرورة إبقاء الرابطة مع الكفّار والمشركين شخص واحد، ولكن الآية الشريفة وردت بصيغة الجمع «الّذين، قلوبهم، يسارعون، يقولون، نخشى وتصيبنا» وهذا يعني أن

استخدام صيغة الجمع في حقّ المفرد لا بأس به.

7- ويقول تبارك وتعالى في الآية 8 من سورة المنافقين:

«يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ».

الآية أعلاها نزلت بعد غزوة بني المصطلق في السنة السادسة للهجرة في منطقة «قديد» وكان هناك اختلاف بين أحد المهاجرين وأحد الأنصار فما كان زعيم المنافقين «عبداللَّه بن ابي» إلّاأن قال: أوقد فعلوها؟ قد كاثرونا في بلادنا، أما واللَّه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل «2».

وهكذا نرى أن القائل لم يكن سوى رجلًا واحداً ولكن الآية تحدّثت عنه بصيغة الجمع «يقولون، رجعنا».

والنتيجة هي أن القرآن الكريم أورد في هذه الآيات السبعة المذكورة آنفاً وفي آيات اخرى أيضاً صيغة الجمع بدل المفرد، وهذا يدلّ على أن مثل هذا الإستعمال شائع في أجواء الآيات القرآنية.

وعلى هذا الأساس فإنّ آية الولاية إذا ذكرت صيغة الجمع في حقّ المفرد وهو «عليّ بن

آيات الولاية فى القرآن، ص: 71

أبي طالب» الذي تصدّق في ركوعه فلا يوجد محذور في مثل هذا الإستعمال بل يدلُّ على عظمة هذا العمل الذي قام به الإمام علي عليه السلام.

الإشكال السادس: ماذا تعني ولاية الإمام عليّ عليه السلام في حياة النبي صلى الله عليه و آله؟

الإشكال السادس: ماذا تعني ولاية الإمام عليّ عليه السلام في حياة النبي صلى الله عليه و آله؟

الإشكال الآخر الذي أورده الفخر الرازي وآخرون هو: «أنا لو حملنا الولاية على التصرف والإمامة لما كان المؤمنون المذكورون في الآية موصوفين بالولاية حال نزول الآية، لأن علي بن أبي طالب كرم اللَّه وجهه ما كان نافذ

التصرف حال حياة الرسول، والآية تقتضي كون هؤلاء المؤمنين موصوفين بالولاية في الحال. أما لو حملنا الولاية على المحبة والنصرة كانت الولاية حاصلة في الحال، فثبت أن حمل الولاية على المحبة أولى من حملها على التصرف» «1».

الجواب: وجواب هذا الإشكال واضح لأن ولاية الولي والوصي والخليفة تكون بالقوّة لا بالفعل، وأساساً فإنّ هذا المطلب موجود ضمن سياق الآية الشريفة حيث إنّ زكريّا الذي طلب من اللَّه تعالى الولي والوارث واستجاب اللَّه تعالى لطلبه وأعطاه يحيى «2» فهل أنّ يحيى كان وارثاً وولياً لأبيه في حياة زكريا أو أن ذلك تحقّق له بعد وفاة الأب؟

من الواضح أن هذه الامور تحققت له بعد وفاة أبيه.

وهذه المسألة سائدة في العرف وسيرة العقلاء، فمن يكتب وصية ويعين وصياً له فهل أن هذا الوصي له ولاية واختيار قبل وفاة صاحب الوصية أو أن هذه الوصية تتعلق بما بعد الوفاة؟ الفخر الرازي كان قد كتب وصيته حتماً وقد عيّن وصياً له، فهل أن ذلك الوصي وهذه الوصية كانت فعلية في زمن حياته أو بعد مماته؟ وأكثر من ذلك فإنّ جميع القادة والزعماء والملوك في العالم يتحركون في أواخر حياتهم لتعيين خليفة لهم، ولكنّ هؤلاء الخلفاء لهم لم يكونوا أصحاب قدرة فعلية في حياة هؤلاء الملوك والزعماء بل كانت قدرتهم ومسؤولياتهم تتحقق لهم بعد وفاة القائد الفعلي.

وعلى هذا الأساس فإن الولاية في الآية الشريفة جاءت بمعنى القيّم وصاحب الإختيار

آيات الولاية فى القرآن، ص: 72

وإمام الامّة ولكن جميع هذه المعاني لا تكون فعلية للإمام عليّ عليه السلام إلّابعد رحيل

الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله.

مضافاً إلى ذلك فإنّ مسألة تعيين الخليفة لا تختص بهذه الآية الشريفة بل إنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله وطيلة زمن نبوته 23 سنة كان يذكر مسألة الوصية بالخلافة للإمام علي عليه السلام دائماً، وأوّل مورد لذلك هو ما ورد في حديث يوم الدار، وذلك عندما تحرك النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بعد ثلاثة سنوات من الدعوة السرية إلى الإعلان والإجهار بإبلاغ الرسالة وفي أوّل خطوة لذلك جمع قادة قريش ودعاهم إلى ضيافته وبعد أن انتهوا من تناول الطعام طرح مسألة النبوّة والرسالة وقال لهم في آخر المطاف:

أَيُّكُمْ يُوازِرُنِي عَلى هذَا الْامْرِ.

فلم يكن يجيب بالإيجاب على هذا الطلب سوى أميرالمؤمنين عليه السلام، فما كان من رسول اللَّه إلّا أن قال له في ذلك المجلس:

«انْتَ وَصِيّي».

في حين أن النبي الأكرم كان على قيد الحياة، وماذا يصنع بالوصي والخلافة في ذلك الوقت؟

النتيجة أن الجواب على مثل هذه الإشكالات والشبهات واضح، وفي الحقيقة أنها لا تعدو سوى حجج وتبريرات غير منطقية وبعيدة عن خط الحقّ والإنصاف.

الإشكال السابع: ما هو المراد من الزكاة؟

الإشكال السابع: ما هو المراد من الزكاة؟

رأينا أنّ البعض أورد حجج وشبهات مختلفة حول دلالة آية الولاية بحيث أنهم ذكروا شبهات لكلِّ كلمة من كلمات الآية محل البحث من قبيل «إنّما»، «وليّ»، «راكعون»، «الزكاة» فكلّها وردت في حقها إشكالات وشبهات.

ويتساءل الفخرالرازي وآخرون: ما المراد من الزكاة في هذه الآية الشريفة؟ هل المقصود الزكاة المستحبة أو الواجبة. ومعلوم أنه ليست لدينا زكاة مستحبة، وعليه فإنّ المراد من الزكاة هنا هو الزكاة الواجبة، وإذا كان كذلك وقلنا بأن الآية الشريفة نزلت في

آيات الولاية فى القرآن، ص: 73

عليّ ابن أبي طالب عليه السلام سنقع في تناقض لأنّ الإمام علي لم يكن من حيث التمكّن المادي والاقتصادي بحيث تجب عليه الزكاة وتتعلق الزكاة الواجبة في أمواله لأنه طبقاً لما ورد في شأن نزول سورة الإنسان (سورة الدهر) بأن الإمام علي وأهله كانوا قد صاموا في ذلك اليوم وجاء سائل على الباب وطلب منهم طعاماً فأعطوه طعامهم الذي كانوا قد أعدّوه للافطار وأفطروا ذلك اليوم بالماء القراح، والخلاصة أن الإمام علي لم يكن يمتلك طعاماً ليوم آخر، فكيف تتعلق في ماله الزكاة الواجبة حتّى يؤديها في حال الركوع؟

الجواب: في مقام الجواب على هذا الإشكال وبالأحرى هذه الشبهة نقول:

أوّلًا: إنّ الأحكام الشرعية في الإسلام تتضمن الزكاة الواجبة والمستحبة لأن جمع الزكاة تم بعد هجرة النبي إلى المدينة في حين أن السور المكيّة تتحدّث عن الزكاة أيضاً وكانت تحث المسلمين على أداء الزكاة في مكّة، والمراد منها حتماً الزكاة المستحبة أو الزكاة الواجبة التي لم تكن تجمع قبل زمن تشكيل الحكومة الإسلامية.

ونلفت النظر إلى ثلاث نماذج من الآيات الشريفة النازلة في مكّة:

ألف) نقرأ في الآية الرابعة من سورة المؤمنون التي هي سورة مكيّة:

«وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ».

في هذه الآية الشريفة ذكرت صفة من صفات المؤمنين وهي أداء الزكاة، وبما أن هذه السورة مكيّة والآية نزلت قبل تشريع حكم الزكاة فنعلم أن المراد من الزكاة هنا هي الزكاة المستحبة.

ب) ونقرأ في الآية الثالثة من سورة النمل في وصف المؤمنين:

«الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ».

ومعلوم أن سورة النمل من السور المكيّة، وعليه يكون المراد

من الزكاة هنا هي الزكاة المستحبة.

ج) ونقرأ في الآية 39 من سورة الروم:

«وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ».

فهذه السورة من السور المكيّة أيضاً والمراد من الزكاة هنا الزكاة المستحبة.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 74

وعليه فطبقاً لما ورد في القرآن الكريم أن الزكاة تشمل الواجبة والمستحبة كما ورد في فقه الشيعة أن بعض الأجناس تتعلق بها الزكاة الواجبة وبعضها تتعلق بها الزكاة المستحبة.

ثانياً: أنه ليس من الصحيح قياس الحالة الاقتصادية للإمام علي عليه السلام عند نزول آية الولاية التي نزلت في أواخر عمر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله مع زمان نزول آيات سورة الدهر لأن وضع المسلمين في بداية ظهور الإسلام في مكّة لم يكن وضعاً مناسباً بصورة عامة وكان أغلب المسلمون يعيشون في ضائقة مالية وخاصة أنهم كانوا في مكّة يعيشون الحصار الإقتصادي، ولكنهم عندما هاجروا إلى المدينة وتخلّصوا من الحصار الإقتصادي الذي فرضه عليهم المشركون في مكّة واشتغلوا بالزراعة والتجارة تحركت حالتهم الإقتصادية وانفتحت عليهم أبواب الرزق وتحسنت حالتهم المعيشية بحيث إن وضع أغلب المسلمين في أواخر عمر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله كان جيداً من الناحية الإقتصادية، ونظراً إلى أن آيات سورة المائدة نزلت في أواخر عمر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله فإنه لم يكن من البعيد أن تتعلق الزكاة الواجبة بأموال الإمام علي عليه السلام ولا ينبغي قياس حالة الإمام عليّ عليه السلام الإقتصادية في هذا الزمان الذي كان المسلمون يعيشون في حالة الإنفتاح الإقتصادي والتمكّن

المالي مع زمان نزول آيات سورة الإنسان (التي نزلت في أوائل الهجرة كما يقول الشيعة أو قبل الهجرة كما يقول بعض أهل السنّة). حيث كان المسلمون يعيشون أزمة اقتصادية ومالية لأن ذلك يعني أن التناقض المزعوم يفتقد بعض شروط الوحدة وهي الوحدة في المكان والآخر الوحدة في الزمان لكي يصح دعوة التناقض، وهنا لا يوجد مثل هذا التوحّد في الزمان والمكان.

مضافاً إلى كلّ ذلك فقد ورد في الروايات الواردة في شأن أميرالمؤمنين عليه السلام أنه «اعْتَقَ الْفَ مَمْلُوكٍ مِنْ كَدِّ يَدِه» «1».

فمن الواضح أن الإمام عليّ عليه السلام لم يتسنى له العمل والكسب في زمان خلافته لكي يمكن القول بأنه أعتق هذا المقدار من العبيد من كدّ يده، إذن فهذا العمل كان قد صدر منه قبل تصديه للحكومة والخلافة قطعاً.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 75

والنتيجة هي أن دفع الخاتم من قبل الإمام علي عليه السلام حتّى لو قلنا بأنه من قبيل الزكاة الواجبة لم يكن ذلك بمستبعد وعجيب.

والحقيقة أن هؤلاء المخالفين وقعوا في تناقضٍ بيّن، فإنهم من جهة يذكرون أن الإمام علي قد دفع خاتماً ثميناً جداً إلى الفقير بحيث يدخل في دائرة الإسراف والتبذير، ومن جهة اخرى يشكّون في أصل هذا العمل بسبب عدم التمكّن المالي للإمام علي عليه السلام.

والنتيجة هي أنه على رغم الإشكالات والشبهات الكثيرة التي احتفت بدلالة آية الولاية والتي ذكرنا أهمها آنفاً وأجبنا عنها فإن دلالة الآية الشريفة على الولاية لا تخفى على أحد حيث تقرر الآية الشريفة الولاية والقيادة والإمامة لثلاث أولياء: 1- اللَّه تعالى

2- النبي الأكرم صلى الله عليه و آله 3- أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

ملاحظة مهمة جداً!

ملاحظة مهمة جداً!

إذا كان من المقرر أن تطرح مثل هذه الشبهات والإشكالات التي مرت آنفاً حول كلّ آية من آيات القرآن الكريم فإنّ أوضح الآيات وأحكمها كآيات التوحيد لا تتخلص من الإشكال، فلا يبق شي ء يصلح للاستدلال، في حين أننا نرى أن مثل هذه الإشكالات والشبهات لا تطرح حول سائر الآيات القرآنية، والظاهر أن هذا الاسلوب من طرح الشبهات يختص بالآيات المتعلقة بفضائل أهل البيت عليهم السلام وولايتهم فقط.

وإذا أردنا استكشاف السبب في مثل هذه المواجهة المتباينة مع الآيات القرآنية فلابدّ من القول أن مثل هؤلاء الأشخاص لم يذعنوا للقرآن الكريم ولم يتعاملوا معه بأدبٍ ونزاهة كما هو المتوقع، والمفروض على المسلم أن يجلس أمام القرآن كالتلميذ أمام استاذه بل يريد هؤلاء أن يكونوا أساتذة للقرآن ويستخرجوا منه ما يؤيد مسبوقاتهم الفكرية، وهذا هو التفسير بالرأي الذي ورد النهي عنه بشدّة في الروايات الإسلامية «1».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 76

أيها القارئ الكريم! إذا أردنا أن نستفيد من القرآن والوحي أو روايات المعصومين عليهم السلام استفادة صحيحة ونتوصل من خلالها إلى كشف الحقيقة فيجب علينا أن نتتلمذ على يد القرآن والأحاديث الشريفة ونستوحي مفاهيمنا الدينية من هذين المنبعين الغنيين بتعاليم الوحي والدين حتّى لو كانت على خلاف رغباتنا وميولنا وإلّا فإنّ التفسير بالرأي وبذر الإشكالات والشبهات حول مدلول الآيات الشريفة سينتهي إلى عواقب وخيمة وإنكار المسلّمات الدينية.

وورد في رواية شيّقة تتحدّث عن عاقبة نوعين من أنواع

التعامل مع القرآن الكريم حيث قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«... مَنْ جَعَلَهُ امامَهُ قادَهُ الَى الْجَنَّةِ وَمَنْ جَعَلَهُ خَلْفَهُ ساقَهُ إلَى النّارِ». «1»

والحقيقة أن هذه الرواية الشريفة يجب أن تهز كيان الأشخاص الذين يتعاملون مع القرآن من موقع التفسير بالرأي وإسقاط مفاهيمهم وأحكامهم المسبقة على الآيات الشريفة.

توصية آية الولاية

توصية آية الولاية

إنّ الآية الشريفة محل البحث مضافاً إلى أنها تثبت ولاية أميرالمؤمنين عليه السلام فإنها تتضمن توصية مهمة لشيعة وأتباع هذا الإمام بل لجميع المسلمين في العالم وهي:

إن الإمام علي عليه السلام لم يكن ولياً وإماماً للمسلمين وخليفة للنبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله بصورة اعتباطية بل وصل إلى هذا المقام بسبب عوامل مهمة قد ذكرت في الآية نفسها، فالإيمان الراسخ وإقامة الصلاة والمحافظة على الإرتباط الوثيق بين العبد وخالقه ودفع الزكاة وتوثيق العلاقة بين الإنسان وأفراد المجتمع كلّها من الأسباب التي رشّحت الإمام عليّ عليه السلام ليكون أميراً للمؤمنين «2».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 77

وعليه فإن الآية الشريفة أعلاه توصي شيعة أميرالمؤمنين بأنه إذا أردتم أن تكونوا من شيعة هذا الإمام وتصلوا إلى المراتب العليا من الكمالات المعنوية والإلهية، فيجب عليكم أن تتحلوا بالإيمان الراسخ والقوي، وتسعوا إلى تقوية هذا الإيمان وتعميق الرابطة مع اللَّه تعالى وعدم الغفلة عن الصلاة والعبادة، وكذلك عدم الغفلة عن دفع حقوق الآخرين من قبيل الزكاة حتّى في أثناء الصلاة وخاصّة في شهر رمضان المبارك شهر العبادة واليقظة وتهذيب النفس، فيجب مضاعفة السعي في هذا المجال والتدبّر في مضامين الأدعية الواردة في

هذا الشهر الكريم ليتسنّى للإنسان أن يخطو عملًا نحو رفع الفقر والمحرومية عن المساكين والمحتاجين والمرضى والذين لا يستطيعون أداء ديونهم وأن نتحرك في دعاءنا ومناجاتنا مع اللَّه تعالى في طلب المغفرة للمرحومين والذين انتقلوا إلى الدار الاخرى ونسعى في التقليل من مصاب البائسين ونواسيهم في آلامهم وهمومهم.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 79

آية اولي الأمر

اشارة

آية اولي الأمر 4

[سورة النساء (4): آية 59]

لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)

«سورة النساء/ الآية 59»

أبعاد البحث

أبعاد البحث

الآية أعلاه تسمّى «آية الإطاعة» وهي آية اخرى تدلّ على ولاية أميرالمؤمنين عليه السلام، ومحور البحث في هذه الآية هي جملة «اولي الأمر» حيث تتضمن نظريات وآراء مختلفة سيأتي شرحها وبيانها وما ذكر حولها من إشكالات.

الشرح والتفسير: من هم اولي الأمر؟

الشرح والتفسير: من هم اولي الأمر؟

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ».

يخاطب اللَّه تعالى في هذا المقطع من الآية الشريفة جميع المؤمنين في أقطار العالم وفي جميع الأزمنة والأعصار إلى يوم القيامة بتقديم الطاعة المطلقة لثلاثة من الأولياء:

الأوّل: إطاعة اللَّه تعالى، ثمّ إطاعة النبي، والثالث إطاعة اولي الأمر.

والقسم الثاني من الآية الشريفة يبيّن المرجع للمسلمين في حال نشوب الإختلاف

آيات الولاية فى القرآن، ص: 80

والنزاع وكأن الغرض هو تأسيس جهاز قضائي مستقل للمسلمين ويقول:

«فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ» فلا ينبغي التوجّه في حلّ الإختلافات التي تحدث بين المسلمين إلى الأجانب ومرجعيات غير إسلامية.

وبالإلتفات إلى قيد الإيمان باللَّه واليوم الآخر «إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ» يتضح جيّداً أن المسلمين الذين يتوجهّون في اختلافاتهم إلى غير المنابع والمحاكم الإسلامية فإنهم لا يؤمنون باللَّه واليوم الآخر.

والملاحظة الاخرى الملفتة للنظر هي أن الآية الشريفة أوردت في صدرها وجوب إطاعة اولي الأمر من جملة الأولياء الثلاثة ولكنها عند ذكرها لمرجع الإختلاف في المقطع الثاني لم تذكر اولي الأمر، وهذا المطلب هو الذي أثار علامات استفهام مهمة في تفسير الآية الشريفة أعلاه وسوف يأتي تفصيل ذلك في المباحث القادمة.

«ذلِكَ

خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا» هذه الجملة في الحقيقة هي تعليل للجملتين السابقتين، فلماذا يجب على المؤمنين إطاعة اللَّه ورسوله واولي الأمر؟

ولماذا يحرم على المسلمين اختيار مرجعية اخرى في حلّ اختلافاتهم غير اللَّه ورسوله؟

لأنّ الآية توضح ذلك وتقول إن هذا الحكم هو خير للمؤمنين وهو أفضل عاقبة لهم.

حدود إطاعة اولي الأمر

حدود إطاعة اولي الأمر

النقطة المبهمة في الجملة المذكورة أعلاه تكمن في المراد من اولي الأمر وعندها يتّضح تفسير الآية بصورة جيّدة، ولذلك نجد أن المفسّرين قد اهتموا ببيان مصداق اولي الأمر وطرحوا لذلك سبع نظريات.

سؤال: قبل الدخول في تفاصيل نظريات المفسّرين حول معنى اولي الأمر لابدّ من توضيح حقيقة مهمة لها دورٌ في فهم معنى اولي الأمر، وهي: هل أن إطاعة اولي الأمر مقيّدة ومشروطة، أو أنها مطلقة كما في إطاعة اللَّه ورسوله؟ وبعبارة اخرى هل أنّ إطاعة اولي الأمر مقيّدة بقيود زمانية ومكانية وغير ذلك، أو أنها واجبة على الإنسان في كلّ زمان ومكان وفي مختلف الظروف؟

آيات الولاية فى القرآن، ص: 81

الجواب: الظاهر أن الآية الشريفة أطلقت وجوب إطاعة اولي الأمر ولم تقيّدها بقيد وشرط معيّن، وببيان آخر أن إطاعة اولي الأمر في الآية الشريفة لم يقيد بعدم الإشتباه والخطأ الحاصل لدى اولي الأمر، وببيان ثالث كما أن إطاعة اللَّه ورسوله واجبة مطلقاً فكذلك إطاعة اولي الأمر أيضاً قد وردت في الآية بصورة مطلقة، وعليه فلابدّ أن يكون اولو الأمر من المعصومين لأن إطلاق وجوب الإطاعة لا يصحّ إلّاإذا كان المطاع معصوماً، لأنه لا يصحّ فرض طاعة الشخص الذي يرتكب الخطأ والإشتباه في

أحكامه، ولذلك نحن نعتقد بأن القاضي إذا أخطأ في إصدار حكمه وعلم أحد طرفي الدعوة بخطأ القاضي في صدور الحكم له على صاحبه، فلا يمكنه بمجرد إصدار القاضي لحكمه أن يتملك ما حكم له أو يلقي بالذنب على صاحبه.

وحتّى مراجع التقليد الذين يجب على المكلّفين تقليدهم لو أنهم أخطأوا في مسألة من المسائل فإنه لا يجب اتباعهم وطاعتهم في هذه المسألة كما في رؤية الهلال إذا لم يثبت لمرجع التقليد رؤية الهلال في الليلة الثلاثين من شهر رمضان المبارك وحكم بصوم اليوم الثلاثين ولكنّ بعض المقلِدين يرى بعينه هلال شوّال في الليلة الثلاثين، فهنا لا يمكنه التمسّك بفتوى مرجعه واتباعه في صوم اليوم الثلاثين بل يجب عليه أن يفطر في ذلك اليوم لأنه يعلم بخطأ المرجع في هذه الفتوى .

وعلى هذا الأساس فإنّ الإطاعة المطلقة لا تصحّ إلّامن المعصومين، وبما أن الآية الشريفة ذكرت إطاعة اولي الأمر بصورة مطلقة فلذلك نعلم بأن اولي الأمر يجب أن يكونوا من المعصومين.

اختلاف النظريات حول معنى اولوا الأمر

اختلاف النظريات حول معنى اولوا الأمر

أما بالنسبة إلى تفسير ومعنى كلمة اولي الأمر، فكما تقدّم هناك نظريات مختلفة في هذا المجال ونشير إلى بعضها:

الأوّل- المراد من اولي الأمر قادة الامّة: فإن كلُّ من استلم زمام الحكم في المجتمع الإسلامي يطلق عليه «اولي الأمر» ويجب إطاعته بصورة مطلقة حتّى لو أنه تسلّم هذا

آيات الولاية فى القرآن، ص: 82

المقام بالقوّة والقهر ومن دون رضى الناس وحتّى لو كان من أفسق الناس فتجب إطاعته، وعليه فإن إطاعة الحكام حتّى لو كانوا من أمثال المغول والتتر فيما

لو تسلطوا على المجتمع الإسلامي تكون واجبة.

وقد ذهب إلى هذه النظرية جمع من علماء أهل السنّة.

ولكن هل يصحّ الإلتزام بهذه النظرية عقلًا؟

أليس مراد اللَّه ورسوله إقامة العدل والقسط في المجتمع الإسلامي «1»؟ إذن فكيف يمكن للظالم والحاكم بالجور أن يصبح خليفة لرسول اللَّه ويقلع اسس العدالة من المجتمع الإسلامي ويقيم حكمه على الظلم والجور؟

إنّ هذا التفسير لمعنى اولي الأمر لا ينسجم مع أيّ برنامج إصلاحي في الإسلام فهل أن القائلين بهذا الكلام يرون أنه لو تسلط الحاكم الظالم بقوّة السيف على المجتمع الإسلامي وسحق جميع القيم الإسلامية تحت قدمه وأشاع الفحشاء والمنكر وقضى على المعروف والقيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية واستهان بالواجبات الإلهية، فمع ذلك يجب على المسلمين أن يعترفوا بأنه من اولي الأمر وأنه خليفة رسول اللَّه وعليهم أن يطيعوا هذا الإنسان الظالم والمنحرف؟

مع الأسف إنّ هؤلاء يرون وجوب إطاعة مثل هذا الشخص الفاسد والظالم كما هو الحال في معاوية وابنه يزيد حيث يرون أنهم من اولي الأمر.

ليت أن هؤلاء العلماء لم يذكروا مثل هذا التفسير للآية الشريفة.

الثاني- وذهب بعض المفسّرين إلى عصمة اولي الأمر ورفضوا النظرية السابقة وبما أن الناس بصورة عامة غير معصومين فلذلك يكون المراد باولي الأمر مجموع الامّة الإسلامية، وبديهي أن الامّة الإسلامية معصومة من الخطأ فلا يمكن أن يقع جميع المسلمين في وادي الضلالة والخطأ رغم أن كلُّ فرد غير معصوم، وعلى هذا الأساس فكما أن إطاعة اللَّه ورسوله واجبة فكذلك يجب اتباع الامّة الإسلامية أيضاً.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 83

ولكن نقول في مقام الجواب على

هذه النظرية: كيف يمكن تحصيل رأي جميع أفراد الامّة الإسلامية؟ ألا يجب تحصيل جميع آراء ونظريات المسلمين؟ وإذا لم يجب تحصيل رأي كلّ فرد من المسلمين وانتخب المسلمون وكلاء ونوّاب عنهم وقلنا بكفاية اتفاق وإجماع هؤلاء الوكلاء والنوّاب للُامّة الإسلامية فإنه يقال: هل يمكن أن يحصل اتفاق في آراء هؤلاء الوكلاء للُامّة الإسلامية؟

إنّ الغالب هو عدم إمكانية تحصيل الإتفاق في الآراء حتّى لوكلاء ونوّاب الامّة الإسلامية، فلو قيل إنّ اتفاق الآراء غير لازم بل المعيار هو الأكثرية، فكلما رأت أكثرية النوّاب للُامّة الإسلامية في مسألة معيّنة الحلّ بصورة معيّنة فيجب اتباعهم بعنوانهم اولي الأمر، فهل أن معنى اولي الأمر يصدق حقيقةً على أكثرية النوّاب والوكلاء للُامّة الإسلامية؟

الثالث- وذهب البعض إلى أكثر من ذلك وبسبب ضعفهم عن مواجهة الثقافة الغربية فإنّهم رأوا أن الديمقراطية الغربية هي مصداق اولي الأمر ألا تكون مثل هذه النظريات من التفسير بالرأي؟ ألا تكون هذه الآراء من قبيل تحميل المسبوقات الفكرية على القرآن؟

ألا تعتبر مثل هذه النتائج ظالمة بحقّ القرآن؟

مضافاً إلى ذلك فإنّ الديمقراطية الغربية ليست سوى فكرة برّاقة وأنيقة في الظاهر فحسب والغربيون أنفسهم لا يرون أن ديمقراطيتهم منهج مثالي للحكومة بل وجدوا أنفسهم مضطرين لقبولها لأنهم رأوا أنهم لولم يتمسّكوا بالديمقراطية لعاشوا في ظروف أسوأ منها، فهي من قبيل قبول «أقل ضرراً» وألّا فأيُّ إنسان عاقل يقبل أنّ 50% من أفراد الشعب يشتركون بالإنتخابات فيفوز مرشح 26% ثمّ يكون هذا المرشح هو الحاكم على جميع أفراد الشعب!! فهل هذا من العدالة والإنصاف؟!

إنّ الأشخاص الذين يعيشون الإستيلاء وضعف الشخصية في مقابل الديمقراطية الغربية يرون في حكومة أمريكا النموذج الكامل للديمقراطية، ولحسن الحظّ ففي الآونة الأخيرة تجلت فضيحة كبيرة لهذه المزاعم

في عملية الإنتخابات الأمريكية لرئاسة الجمهورية وتجلّت الماهية الحقيقية لهذا النوع من الديمقراطية لجميع الشعوب بالعالم حيث إن الحكومة

آيات الولاية فى القرآن، ص: 84

الأمريكية التي تقوم بإدارة جميع المصانع والإدارات بأحدث الأجهزة الالكترونية والكامبيوترية وصل بهم الحال أن يختلفوا في عشرة إلى خمسة عشر ألف رأي وأنه هل يحسبونها بجهاز الحاسوب أو باليد؟ فماذا يعني هذا الإختلاف؟ ولماذا كلّ هذه المناقشات والمنازعات على هذا الأمر بحيث أقاموا الدنيا وأحدثوا ضجة في العالم؟

إنّ هذه الامور تعدّ علامة على زيف المدّعين للديمقراطية بحيث إنهم لا يعتمدون حتّى على أجهزتهم الفنية!! يجب على العالم أن يضحك على هذه الإنتخابات الزائفة والديمقراطية الكاذبة ويجب على المحقّقين أن يدرسوا هذه الحادثة بدقّة حتّى يكشفوا حقيقة هؤلاء المدّعين للديمقراطية وخاصّة لمن يرى أن الغرب هو كعبة آماله وطموحاته، والإنصاف أن تفسير اولي الأمر بالديمقراطية هو خلاف ظاهر الآية الشريفة بل ظلم كبير للقرآن الكريم.

الرابع: نظرية جميع علماء الشيعة، وهي أن المراد باولي الأمر هم المعصومون عليهم السلام ولا يمكن أن يكون في كلّ زمان إلّاشخص واحد معصوم، وهذا الشخص كان في زمن نزول القرآن وبعد رحيل النبي الأكرم صلى الله عليه و آله هو أميرالمؤمنين عليه السلام وبعده أحد عشر من ذرّيته من الأئمّة المعصومين عليهم السلام.

التوضيح: ألف) كما تقدّم في أن اولي الأمر (وبمقتضى الآية الشريفة أن إطاعة اللَّه ورسوله واولي الأمر واجب بصورة مطلقة) يجب أن يكونوا معصومين ليتسنّى للمكلّفين إطاعتهم بدون سؤال وترديد، أي أن وليّ الأمر يجب أن يكون مصوناً من الخطأ والذنب

والإشتباه، وبعبارة اخرى أن العصمة هي قدرة معنوية ومرتبة سامية من التقوى بحيث إن الشخص المعصوم لا يصدر منه أي ذنب أو خطأ أو اشتباه بالرغم من أنه مختار في سلوكه العملي وغير مجبر ويمكنه ارتكاب الذنب والخطأ، ولكنه ببركة هذه المرتبة السامية من التقوى فإنه لا يقدم على ذلك.

وبعبارة ثالثة أن التقوى لها مراتب مختلفة، أحدها هو التقوى من الذنوب الكبيرة وعدم ارتكابها بحيث أنه لو اتفق وأن أذنب في بعض الأحيان فإنه يتوب فوراً من ذلك، وفي المرحلة الثانية مضافاً إلى عدم ارتكابه للذنوب الكبيرة فإنه يجتنب الذنوب الصغيرة أيضاً، فلو صدر منه أحياناً ذنب صغير فإنه يتوب كذلك، والمرحلة الثالثة هي أعلى ممّا تقدّم بأن

آيات الولاية فى القرآن، ص: 85

يكون مضافاً إلى اجتنابه الذنوب الكبيرة والصغيرة فإنّه يجتنب المكروهات أيضاً، وهكذا يتدرج الإنسان المؤمن في مراتب التقوى إلى أن يبلغ الذروة وهي مرتبة العصمة المطلقة من الذنوب والخطأ والإشتباه، وعليه فإنّ العصمة لا تعني الجبر كما يتوهم البعض بل هي أعلى مرتبة من مراتب التقوى.

ب) إنّ اولي الأمر المعصومين كما تقدّم آنفاً لا يمكن أن يكونوا جميع الامّة الإسلامية أو العلماء والمفكرين من وكلاء ونوّاب الامّة أو أكثريتهم بل يجب أن يكون المعصوم شخصاً خاصاً وفرداً معيناً منهم.

ج) بما أن العصمة مرتبة معنوية عالية ودرجة كاملة من التقوى فإنّه لا يمكن للناس تشخيص المصداق لهذا المعيار، ولذلك فإنّ اولي الأمر يجب أن يعيّنوا من قبل اللَّه تعالى أو النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، وهكذا يقوم كلّ

معصوم بتعيين المعصوم الذي يليه للناس.

والنتيجة هي أوّلًا: يجب أن يكون اولوا الأمر معصومين.

ثانياً: يجب أن يكون المعصوم فرداً خاصاً ومعيّناً.

ثالثاً: إنّ تعيين المعصوم من اولي الأمر يجب أن يكون من قبل اللَّه تعالى.

وهنا يجب التوجه إلى القسم الثاني من هذا البحث، أي الروايات الواردة في شأن نزول الآية الشريفة لنرى هل أن هذه الروايات عيّنت مصداق اولوا الأمر للمسلمين؟ وهل أن اللَّه تعالى أو نبيّه الكريم قد نصب هذا القائد المعصوم للناس؟

تفسير الآية في ظلال الروايات

تفسير الآية في ظلال الروايات

هناك روايات متعددة في دائرة تعيين المعصوم المراد من الآية «أَطِيعُوا اللَّهَ ...» وأهمها «حديث الثقلين».

وطبقاً لما ورد في هذا الحديث فإنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله صرّح للمسلمين في أواخر عمره الشريف وقال:

«إنّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمُ الثِّقْلَيْنِ ما إنّ تَمَسَّكْتُمْ بِهِما لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي ... كِتابَ اللَّهِ ...

وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي». «1»

آيات الولاية فى القرآن، ص: 86

ومعنى هذا الحديث أن القرآن الكريم مصون من الخطأ والإشتباه، ولذلك فإنّ الشخص الذي يتحرك في خط القرآن فإنّه مصون من الوقوع في الخطأ أيضاً، إذن فلابد أن يكون أهل البيت معصومين أيضاً من الخطأ والإشتباه كيما يصحّ التمسّك بهم ويكون التحرّك في خطّهم مصوناً من الوقوع في أشكال الزلل والزيغ وإلّا فلا معنى أن يكون أهل البيت غير معصومين والشخص الذي يسير في خطّهم ويتبعهم يكون مصوناً من الوقوع في الخطأ.

إذن فطبقاً لهذه الرواية فإنّ أهل البيت معصومون، وكما تقدّم في شرح الآية الشريفة «أَطِيعُوا اللَّهَ ...» يجب أن يكون هذا الفرد المعصوم معيّن

من قبل اللَّه تعالى، وهذا يعني أن الأئمّة المعصومين معيّنون ومنتخبون بأفرادهم من قبل اللَّه تعالى.

أهمية حديث الثقلين

أهمية حديث الثقلين

إن حديث الثقلين يعتبر من الأحاديث المهمّة جدّاً في دائرة موضوع الولاية والإمامة بحيث لا نجد نظيراً له بين الروايات والأحاديث الواردة في هذا الشأن، فهذا الحديث من جهة الدلالة قويٌّ جدّاً وصريح، ومن جهة السند فإنّ الرواية متواترة ومذكورة في جميع مصادر الفريقين (السنّة والشيعة) بشكل واسع، ويستفاد من مجموع الروايات الواردة في هذه المصادر أن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله لم يتحدّث بهذا الحديث مرّة واحدة بل تكرر منه ذلك مرّات عديدة، والرواية أعلاه وردت في المصادر الأصلية والمعتبرة للشيعة (تهذيب الأخبار، الإستبصار، الكافي، من لا يحضره الفقيه) «1» وفي مصادر أهل السنّة (الصحاح الستّة) أيضاً. وهذه الصحاح الستّة عبارة عن:

1- «صحيح البخاري» الذي يعدُّ أهم كتاب من بين هذه الصحاح الستّة وكاتبه هو «البخاري» الذي توفي سنة 256 هجرية.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 87

2- «صحيح مسلم» الذي يأتي بعد صحيح البخاري في الأهمّية، ومؤلفه هو «مسلم ابن حجار» الذي توفي سنة 261 هجري ويسمى هذين الكتابين بالصحيحين، ويطلق على مؤلفيهما لقب «الشيخين».

3- «سنن ابن داود» وقد توفي ابن داود سنة 275 هجري.

4- «سنن الترمذي» الذي توفي سنة 279 هجري.

5- «سنن النسائي» الذي توفي سنة 303 هجري.

6- «سنن ابن ماجة» الذي توفي سنة 273 هجري.

إنّ جميع الروايات المذكورة في هذه الكتب الستّة هي من الصحاح ومن الروايات المعتبرة لدى أهل السنّة، ولكن جميع الروايات المعتبرة لديهم لا تنحصر في

هذه الكتب الستّة، ولذلك كتب «الحاكم» كتاباً باسم «مستدرك الصحيحين» وذكر فيه روايات معتبرة اخرى لم تذكر في صحيح البخاري ومسلم «1».

ويذكر مؤلف هذا الكتاب: إنّ جميع الروايات المذكورة في مستدرك الصحيحين متطابقة مع المعايير المذكورة في البخاري وصحيح مسلم.

وقد ذكرت رواية الثقلين في ثلاث من هذه الكتب السبعة أي صحيح مسلم وسنن الترمذي «2» ومستدرك الصحيحين «3» وكمثال على ذلك نذكر ما ورد في صحيح مسلم:

«يقول يزيد بن حيان: انطلقت أنا وحصين بن مسيرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم فلمّا جلسنا إليه قال حصين: لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً، رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت معه، حدّثنا يا زيد ما سمعت من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال يا ابن أخي كبر سنّي وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فما

آيات الولاية فى القرآن، ص: 88

حدثتكم فانقلوه وما لا فلا تكفلونيه ثمّ قال رضى الله عنه: قام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوماً خطيباً فينا بماء يدعى خماً بين مكّة والمدينة فحمد اللَّه وأثنى عليه وذكر ووعظ ثمّ قال:

«أَيَّهَا النّاسُ! فَإنَّما أَنَا بَشَرٌ يُوشَكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبّي فَأُجِيبَ وَأَنَا تارِكٌ فِيكُمْ ثِقْلَيْنِ أَوَّلُهُما كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدى وَالنُّورُ فَخُذُوا بِكِتابِ اللَّهِ وَ اسْتَمْسِكُوا بِه «فَحَثَّ عَلى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ» ثُمَّ قَالَ: «وَأَهْلُ بَيْتي اذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي ....» «1».

مضافاً إلى هذه الكتب الثلاثة

فإنّ الرواية محل البحث وردت أيضاً في خصائص النسائي «2»

، والملفت للنظر أن ابن حجر وهو رجل متعصب جدّاً وقد كتب كتاباً ضد الشيعة باسم «الصواعق المحرقة» قد أورد الرواية أعلاه أيضاً «3».

والأهم من ذلك أن ابن تيميّة مؤسس فرقة الوهابية المنحرفة أورد رواية الثقلين أيضاً في كتابه «منهاج السنّة» «4».

والخلاصة أن هذا الحديث الشريف والعميق المغزى «حديث الثقلين» هو رواية متواترة في كتب الشيعة وأهل السنّة «5».

وهذا المطلب يدلّ على أن الرواية المذكورة تتمتع بأهمية خاصّة، ولهذا نجد الإمام الراحل بدأ في وصيته التاريخية بهذا الحديث الشريف لأنه محدّث خبير ويعلم أن هذا الحديث هو رواية محكمة لا يدخل فيها الشكّ والريب.

ومن خلال حديث الثقلين يثبت أن المراد من اولي الأمر هم الأئمّة الأطهار الذين يجب إطاعة كلّ واحد منهم في زمانه ولا يشترط في إطاعتهم واتباعهم أي شرط.

ومضافاً إلى حديث الثقلين هناك روايات اخرى واردة في شأن هذه الآية الشريفة ولكننا نذكر هنا اثنين منها:

آيات الولاية فى القرآن، ص: 89

1- يقول الشيخ سليمان الحنفي القندوزي في «ينابيع المودّة» الصفحة 116:

«سمعت عليّاً صلوات اللَّه عليه يقول: وأتاه رجل فقال: أرني أدنى ما يكون به العبد مؤمناً وأدنى ما يكون به العبد كافراً وأدنى ما يكون به العبد ضالًا، فقال له: قد سألت فافهم الجواب: أما أدنى ما يكون به العبد مؤمناً أن يعرفه اللَّه تبارك وتعالى نفسه فيقر له بالطاعة ويعرفه نبيه صلى الله عليه و آله فيقر له بالطاعة ويعرفه إمامه وحجته في أرضه وشاهده على خلقه فيقر

له بالطاعة .... قلت يا أميرالمؤمنين: صفهم لي، قال: الذين قرنهم اللَّه تعالى بنفسه وبنبيه، فقال: يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا اللَّه وأطيعوا الرسول واولي الأمر منكم، فقلت له جعلني اللَّه فداك أوضح لي. فقال: الذين قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في مواضع وفي آخر خطبة يوم قبضه اللَّه عزّوجلّ إليه:

إنّي تَرَكُتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلّوا بَعْدِي إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِما كِتابَ اللَّهِ عَزَّوَجَلَّ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتي.

فنرى في هذه الرواية الرابطة الوثيقة بين حديث الثقلين واولي الأمر.

2- ينقل أبوبكر المؤمن الشيرازي عن ابن عبّاس قوله:

«إن هذه الآية [آية الإطاعة] نزلت في علي عليه السلام حيث خلفه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في المدينة (في غزوة تبوك) فقال يا رسول اللَّه: أتخلفني في النساء والصبيان؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

أَما تَرْضى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزَلَةِ هارُونَ مِنْ مُوسى ، حِينَ قالَ: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ، فَقالَ عَزَّوَجَلَّ وَاولُوا الْامْرِ مِنْكُمْ». «1»

يعني أن الآية الشريفة ناظرة إلى عملك وسعيك وأنت مصداق اولي الأمر.

والنتيجة هي أن الآية الشريفة مع قطع النظر عن الروايات تدلُّ على أن اولي الأمر يجب أن يتحدد بمصداق معيّن ومعصوم ومنصوب من قبل اللَّه تعالى، وكذلك يفهم من خلال الروايات الشريفة أن المراد هو فرد معيّن ومنصوب بالنصب الإلهي، وهم الأئمّة الاثنا عشر، أي الإمام عليّ وأحد عشر من ذرّيته وأبنائه الطاهرين.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 90

أسئلة وأجوبة

أسئلة وأجوبة

هناك أسئلة وعلامات استفهام عديدة قد تثار حول مدلول هذه الآية الشريفة وأهمها ثلاثة أسئلة:

السؤال

الأوّل: إذا كان الإمام عليّ عليه السلام هو مصداق اولي الأمر كما يقول الشيعة إذن فلماذا لم تكن إطاعته واجبة في زمان حياة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في حين أن الآية الشريفة تقرر وجوب إطاعة اولوا الأمر كما هو الحال في وجوب إطاعة اللَّه ورسوله؟

وبعبارة اخرى أن الإمام عليّ عليه السلام كان في عصر النبي مأموراً أيضاً ولم يكن آمراً وقائداً تجب إطاعته على المسلمين، وعليه فإنّ التفسير المذكور للآية لا ينسجم مع وجوب الإطاعة الفعلي لُاولي الأمر.

الجواب: ويمكن الجواب عن هذا السؤال بنحوين:

ألف) لابدّ في البداية من معرفة المراد من «الرسول» و «اولوا الأمر»، فلو فهمنا الفرق بين هاتين الكلمتين سيتضح لنا الجواب على السؤال أعلاه، «الرسول» هو الشخص المرسل من قبل اللَّه تعالى لبيان أحكامه وإبلاغ دينه وإنذار الناس، أي أنه مضافاً إلى «النبوّة» وتبليغ الأحكام فإنه مرسل لإنذار الناس من العذاب الإلهي وببيان أوضح أن الرسول هو الشخص المأمور لبيان الأحكام وتبليغ الرسالة.

وأمّا «اولوا الأمر» فلا يتحملون مسؤولية التقرير والتشريع بل مسؤولية حراسة هذا القانون وتجسيده على مستوى الواقع الإجتماعي، وبعبارة أوضح يمكن القول أن «النبي» يمكن تشبيهه بالمشرّع والمقنن، بينما «اولوا الأمر» هم القائمون على تنفيذ وإجراء هذه القوانين.

ومع الإلتفات إلى هذا البيان فإنّ المقنن في زمن الرسول هو النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وكذلك كان النبي الأكرم مسؤولًا عن تنفيذ القانون وإجرائه في الوسط الإجتماعي، وعلى هذا الأساس ففي زمن حياة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله كان صلى الله عليه و آله رسولًا وفي نفس الوقت «ولي الأمر» أيضاً كما في مورد النبي إبراهيم عليه السلام أيضاً حيث يقرر القرآن الكريم هذه الحقيقة

وهو أنه قد نال مقام الإمامة مضافاً إلى مقام النبوّة، أي أنه مضافاً إلى مرتبة التشريع والتقنين نال مرتبة

آيات الولاية فى القرآن، ص: 91

مسؤولية إجراء القانون، إذن فمقام الرسالة هو مقام التقنين، ومقام الإمامة واولوا الأمر هو مقام إجراء القانون، وفي زمن حياة النبي صلى الله عليه و آله كان النبي «رسولًا» و «ولي الأمر» ولكن بعد رحلت النبي صلى الله عليه و آله فإنّ الشخص المعصوم المنصوب من قبل اللَّه تعالى ورسوله هو المعني ب «اولي الأمر» ولم يكن ذلك إلّاالإمام علي عليه السلام ومن بعده سائر الأئمّة المعصومين واحداً بعد الآخر، لأنه لم يرد إدعاء النصب الإلهي لهذا المقام إلّاللإمام علي وذريته الطاهرين.

والنتيجة هو أن ادّعاء فعلية الإطاعة لا يضر بتطبيق كلمة «اولوا الأمر» على الإمام علي عليه السلام بعد رحلة الرسول صلى الله عليه و آله وعلى أبنائه الطاهرين بعد رحلة الإمام علي عليه السلام كما هو المستفاد من الأحاديث الشريفة.

ب) أما الجواب الآخر فهو أن الإمام علي عليه السلام كان في حياة النبي صلى الله عليه و آله أيضاً من اولي الأمر، وعلى الأقل في فترة معيّنة من حياته الشريفة، وذلك عندما توجه النبي الأكرم صلى الله عليه و آله إلى غزوة تبوك وأبقى الإمام علي عليه السلام على المدينة بعنوان خليفته. ولتوضيح المطلب أكثر لابدّ من إلقاء بعض الضوء على واقعة تبوك:

غزوة تبوك

غزوة تبوك

إن هذه الغزوة هي آخر غزوة من غزوات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله طيلة فترة رسالته حيث وقعت أحداثها في السنة

الأخيرة من سنوات عمره الشريف، ومكانها يقع في أعلى نقطة من منطقة الحجاز وفي الحدود المشتركة بين الجزيرة العربية والروم الشرقية.

عندما اتسعت رقعة الإسلام واستحكمت دعائمه في المدينة وانتشر خبره في أرجاء المعمورة أحست الدول المجاورة لدولة الإسلام ومنها الروم الشرقية «سورية وفلسطين» بالخطر من هذه الدعوة الجديدة وفكروا في الهجوم على المسلمين لصد هذا الخطر الذي يهدد عروشهم وتيجانهم «1» ولذلك أقدم الروم على تشكيل جيش مقداره أربعين ألف

آيات الولاية فى القرآن، ص: 92

جندي بكامل العدّة والعدد وتحركوا باتجاه الحجاز.

وعندما وصل هذا الخبر إلى المسلمين وإلى النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله أمر النبيّ صلى الله عليه و آله المسلمين بأن يستعدوا لمواجهة هذا العدو وبالتحرك باتجاهه ولا يجلسوا في المدينة بانتظار قدومه، وكانت هذه الاستراتيجية العسكرية مناسبة جدّاً لهذه الواقعة لأنه ليس من المناسب التقوقع في حالة دفاعية وانفعالية اتجاه هذا الخطر بل ينبغي أن يقابل هذا الهجوم بهجوم آخر.

واتفق في زمن وقوع هذه الحرب أنها كانت في أجواءٍ صعبة وغير مناسبة لأنها من جهة كانت حرارة الصيف على أشدها في الحجاز، ومن جهة اخرى فإن المحصولات الزراعية لهذه السنة على وشك النضج وقد فرغت المخازن الغذائية للسنة الماضية لدى المسلمين، ومن جهة ثالثة فإنّ الفاصل بين المدينة ومنطقة تبوك فاصلة كبيرة جداً حيث ينبغي على المسلمين طي هذا المسير مشياً على الأقدام غالباً لأنه لم يكن لكلّ عشرة أشخاص سوى مركب واحد، وعلى هذا الأساس عليهم أن يتناوبوا في الركوب، وعلى أية حال فقد صدر الأمر بالتوجه

إلى منطقة تبوك فجمعوا ما تبقى لديهم من الأغذية من قبيل بعض التمر اليابس وقد يكون فاسداً أيضاً وتوجه المسلمون بجيش بلغ مقداره ثلاثين ألف شخص بقيادة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى تبوك. وكان العطش والجوع يلم بجيش الإسلام وقد تورمت أقدام الكثير منهم بسبب المشي في الصحراء المحرقة ولكنهم وبالرغم من هذه الصعاب والمشاكل استمروا في طريقهم وقد تحمل جنود الإسلام في ذهابهم وإيابهم الكثير من الصعاب وواجهوا تحديات الواقع المفروض عليهم ولهذا سمّي هذا الجيش ب «جيش العسرة» «1».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 93

وعندما وصل الخبر إلى جيش الروم بأن جيش المسلمين الذي يبلغ ثلاثين ألف نفر قادم إليهم من المدينة وبأقل مقدار من الإمكانات العسكرية ومشياً على الأقدام وبقلوب مليئة بالعشق إلى الجهاد ضد أعداء اللَّه عزموا على العودة والتراجع. حيث أصدر «أي القيصر» ملك الشام الأمر بذلك، وعندما وصل المسلمون إلى تبوك علموا بفرار العدو وتراجعه وشكروا اللَّه على هذا التوفيق العظيم.

ثمّ إن النبي الأكرم استشار أصحابه بالنسبة إلى الرجوع إلى المدينة أو مواصلة الطريق والهجوم على العدو في الشام، وكانت نتيجة الشورى هي التصميم على العودة إلى المدينة لأن الإسلام لم يزل في بداياته ولم تكن للمسلمين القدرة الكافية والتجربة الوافية لفتح البلدان والمناطق الاخرى، وعلى هذا الأساس كان هذا الاقدام العسكري في غاية الخطورة بالنسبة إلى الدولة الإسلامية الفتية.

وبملاحظة ما تقدّم فإن غزوة تبوك كانت تختلف تماماً عن غزوات الإسلام الاخرى «وخاصّة لطول مدّة عدم حضور النبيّ والمسلمين في المدينة وبُعد المسافة

بين المدينة وتبوك» فكان من المحتمل جداً أن يتآمر المنافقون في المدينة بالتوافق مع الأعداء خارج المدينة، ولهذا كان من المفروض أن يخلف النبي الأكرم أقوى وأشجع المسلمين ليحفظ دار الإسلام وعاصمة البلد الإسلامي من شر الأعداء ومؤامرات المنافقين المحتملة، ولم يكن هذا الشخص سوى الإمام علي عليه السلام ولهذا فإن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عينه على المدينة كما تقدّم في رواية أبي بكر المؤمن الشيرازي المتقدّمة بعنوان أنه اولوا الأمر.

وعلى هذا الأساس فإن الإمام علي عليه السلام كان يتصف بصفة «اولوا الأمر» حتّى في زمان النبي الأكرم رغم أن ذلك كان بشكل مؤقت فكانت طاعته مترادفة مع إطاعة اللَّه ورسوله وواجبة على المسلمين في المدينة، وعليه فإن هذا الإشكال أي إشكال فعلية الإطاعة في الآية الشريفة يتضح جوابه ممّا تقدّم بيانه.

السؤال الثاني: إن كلمة «اولوا الأمر» تدلّ على الجمع والإمام عليّ شخص واحد،

آيات الولاية فى القرآن، ص: 94

فهل المراد من «اولوا الأمر» هو الإمام علي لوحده؟

الجواب: صحيح أن كلمة «اولوا الأمر» صيغة للجمع ولكن المراد ليس هو الإمام عليّ فقط بل تشمل جميع الأئمّة الاثنا عشر للشيعة الذين يقول بهم الشيعة كما ورد ذلك في حديث الثقلين بعنوان «عترتي أهل بيتي» حيث لا تختص بالإمام علي بل تشمل جميع الأئمّة المعصومين.

والشاهد على هذا الكلام الرواية التي وردت آنفاً في «ينابيع المودّة» حيث ذكر فيها أن اولوا الأمر هم المقصودين من حديث الثقلين وقلنا أن المراد من «عترتي أهل بيتي» في حديث الثقلين هم جميع الأئمّة المعصومين عليهم

السلام.

والنتيجة هي أن المراد من اولي الأمر جميع الأئمّة الاثنا عشر كلّ واحد في زمانه الخاصّ حيث يجب إطاعته بدون قيد أو شرط على جميع المسلمين.

السؤال الثالث: لماذا لم تتكرر كلمة «اولوا الأمر» في ذيل الآية بحيث يرجع إليهم المسلمون في حلّ اختلافهم ومشاكلهم؟

الجواب: أوّلًا: إن هذا الإشكال لا يرد على الشيعة بالخصوص بل على أهل السنّة أيضاً لأنهم بأي معنى فسّروا كلمة «اولوا الأمر» فهذا الإشكال وارد عليهم.

ثانياً: إنّ علّت عدم تكرار «اولوا الأمر» في المقطع النهائي من الآية الشريفة هو ما تقدّم من الفرق بين «الرسول» و «اولوا الأمر» فالرسول هو المسؤول عن تقنين الشريعة و «اولوا الأمر» هم المسؤولون عن تنفيذ هذه القوانين، ومن الواضح أنه إذا حصل شك لدى أحد الأشخاص في الحكم الإلهي لزم أن يراجع المقنن لا المنفذ للحكم.

وعليه فإن عدم تكرار هذه الكلمة لا يعدُّ نقصاً في مفهوم الآية الشريفة بل يؤكد بلاغة القرآن الكريم وفصاحته المدهشة.

والجدير بالذكر أن الأئمّة المعصومين بأجمعهم هم القائمون على تنفيذ قوانين الإسلام، ولو تحركوا من موقع بيان أحكام الإسلام وتشريعاته فإن ذلك مقتبس من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قطعاً.

وهناك روايات وردت في «جامع أحاديث الشيعة» المجلد الأوّل، الصفحة 183 تقرر أن

آيات الولاية فى القرآن، ص: 95

أئمّة الهدى عليهم السلام قد أخذوا جميع علومهم في مجال الأحكام الشرعية من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

والنتيجة هي أن «اولي الأمر» لا تعني الأشخاص الذين يتولون تقنين الأحكام وتشريعها بل بمعنى القيام على تنفيذها والعمل على إجراء

القانون الإلهي، ولهذا لا داعي لذكره مرّة اخرى في الآية الشريفة.

توصيات الآية

توصيات الآية

1- إنّ أهم توصية في الآية الشريفة هي أن المسلمين يجب أن يذعنوا تماماً في مقابل الأحكام الإسلامية ويعملوا بالتكاليف الإلهية ويطيعوا اللَّه ورسوله بدون سؤال وترديد، ولا ينبغي لهم أن يختاروا ما هو الملائم لمزاجهم والمتناغم مع أهواههم من هذه الأحكام ليعملوا به ويتركوا الباقي بل عليهم أن يتحركوا في خط الطاعة والرسالة ولو كان على خلاف ميولهم ورغباتهم فإنّ مثل هذا الشخص هو المؤمن الحقيقي والمسلم الواقعي.

ويحدّثنا القرآن الكريم بعبارة شيقة في الآية 65 من سورة النساء في هذا الصدد:

«فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً».

هذه الآية الشريفة بإمكانها أن تكون معياراً جيداً ودقيقاً لتشخيص مقدار حالة التسليم والإذعان في واقع الإنسان، وطبقاً لهذه الآية الشريفة فإن المسلم الواقعي هو الذي يتحرك من موقع التسليم لحكم النبي حتّى وإن كان على خلاف مصلحته ورغبته فلا يكتفي فقط بعدم إظهار الإنزعاج والتبرم بل ينبغي أن يشعر بالرضا والتسليم في قلبه وأعماق نفسه، أي أنه يسلم نفسه للَّه تعالى في العمل والقول والعواطف القلبية وإلّا فإنه لو أحسّ بالتبرم في نفسه من أحكام الإسلام فإن ذلك يدلّ على أنه لن يحقق الإسلام الواقعي في وجوده، لأن المسلم الواقعي يجب أن يرضى بما رضي به اللَّه ورسوله لا بما ترضى به نفسه وأهواءه.

الإمام علي عليه السلام يقول في حديثٍ جميل:

لَأنْسُبَنَّ الْاسْلامَ نِسْبَةً لَمْ يَنْسُبْها أَحَدٌ قَبْلي: الْاسْلامُ هُوَ التَّسْلِيمُ، وَالتَّسْلِيمُ هُوَ الْيَقينُ،

آيات الولاية فى القرآن، ص: 96

وَالْيقينُ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَالتَّصْدِيقُ هُوَ الْإقرارُ، والْإقرارُ هُوَ الأَداءُ، وَالأَداءُ هُوَ الْعَمَلُ. «1»

فطبقاً لهذا الحديث الشريف فإنّ الإسلام يبدأ من واقع الإنسان وقلبه ثمّ يطوي المراحل المختلفة ليصل إلى مرحلة العمل والممارسة، أي أن الإسلام بدون الإعتقاد القلبي وبمجرد أداء بعض التكاليف والعبادات لا يكفي في تحقق الغرض كما أن الإعتقادات لوحدها لا تكفي من دون أداء العبادات والتكاليف العملية وعليه فإنّ الإسلام هو مجموعة من الإعتقادات والأعمال الأخلاقية والدينية.

2- كلمة «أمر» تدلّ على مفهوم إيجابي واسع، ففي هذه الكلمة تكمن القدرة والقوّة، وهذا يعني أن «اولوا الأمر» يجب أن يتحركوا مع الناس من موقع القدرة والقوّة والحكومة لا أنهم يطلبون هذا المقام ويمارسون نشاطاتهم بالتوسل وحالة الإستعطاف من الناس، وهذا المعنى وارد أيضاً في كلمة «الأمر بالمعروف» فإنّ الأمر هنا يجب أن يكون من موقع القدرة ولكن لابدّ من الإلتفات إلى أن موقع القدرة لا يتنافى مع استخدام اسلوب المرونة والمداراة مع الناس لتحقيق المعروف وكما ورد في القصة المعروفة عن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام حيث تقول الرواية: «ومن حلمه ما روي عن الكامل للمبرّد وغيره أنّ شامياً رآه راكباً فجعل يلعنه والحسن لا يردّ، فلما فرغ أقبل الحسن فسلّم عليه وضحك فقال: أيها الشيخ أظنك غريباً ولعلّك تشبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وان كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرّكت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك لأنّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالًا

كثيراً. فلمّا سمع الرجل كلامه بكى، ثمّ قال: أشهد انّك خليفة اللَّه في أرضه، اللَّه أعلم حيث يجعل رسالته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق اللَّه إليّ والآن أنت أحبّ خلق اللَّه إليّ، وحوّل رحله إليه وكان ضيفه إلى أن ارتحل وصار معتقداً لمحبّتهم» «2».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 97

القارئ المحترم يدرك جيداً أن الفاصلة بين أفضل الناس على الأرض وأشر الناس كم هي كبيرة، ولكن الإمام الحسن عليه السلام باتخاذه هذا الاسلوب السليم والأخلاقي في عملية الأمر بالمعروف قد قطع كلّ هذه المسافة الشاسعة.

ونحن أيضاً يجب علينا الإستفادة من هذا الدرس الكبير والإلتفات إلى أن المخالفين على قسمين:

1- الأشخاص الذين وقعوا تحت تأثير الإعلام المسموم والدعايات المغرضة فصدرت منهم ممارسات شائنة وكلمات لامسؤولة، فهؤلاء يجب التعامل معهم بالاسلوب اللين لهدايتهم كما هو الحال في هذا الرجل الشامي الذي وقع تحت تأثير دعايات بني امية المضللة وأصبح من أعداء أهل البيت عليهم السلام، وكما رأينا أن الإمام الحسن قد جذبه إلى الحقّ وهداه إلى الدين بأخلاقه الحميدة.

2- الأشرار المعاندون الذين يعاندون طريق الحقّ ويبغضون أهل الحقّ عن علم ودراية، فهؤلاء لا معنى للتساهل والتسامح في التعامل معهم بل ينبغي التعامل معهم من موقع القدرة والشدّة.

إن معرفة الأشخاص وتشخيص هذين القسمين ثمّ التعامل مع كلّ طائفة بما ينبغي التعامل معها عمل دقيق ويستلزم الكثير من الدقّة والتدبّر.

ربنا! وفقنا إلى نيل التسليم الكامل في مقابل أحكامك وأوامرك ووفقنا لأداء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المقدسّة كما يريد منّا الإسلام.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 99

آية الصادقين

اشارة

آية الصادقين 5

[سورة التوبة (9): آية 119]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)

اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لا الضَّالِّينَ (7)

«سورة التوبة/ الآية 119»

أبعاد البحث

أبعاد البحث

إنّ الآية أعلاه تسمّى ب «آية الصادقين»، وهي إحدى الآيات المتعلقة بمسألة الولاية والإمامة الواردة في شأن الإمام عليّ والأئمّة الأحد عشر من أولاده المعصومين عليهم السلام، ففي هذه الآية الشريفة يأمر اللَّه سبحانه وتعالى المؤمنين باتباع «الصادقين» فمن هم هؤلاء الصادقون؟ وما هي خصوصياتهم وعلاماتهم؟

معرفة إجمالية لسورة التوبة

اشارة

معرفة إجمالية لسورة التوبة

من الضروري أن نتعرف على سورة التوبة بصورة إجمالية لتتضح جيداً أجواء نزول آية الصادقين الواردة ضمن هذه السورة، ولأجل ذلك لابدّ من بيان عدّة امور:

ألف) أسماء السورة وعلة تسميتها

ألف) أسماء السورة وعلة تسميتها

هذه السورة لها إسمان متباينان «التوبة» و «براءة» والسبب في تسميتها «براءة» أن هذه السورة تبدأ بهذه الكلمة «براءة» مضافاً إلى أن هذه السورة تتضمن إعلان البراءة من المشركين وأعداء الإسلام.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 100

ولهذا السبب فهذه السورة لم تبدأ ب «بسم اللَّه الرحمن الرحيم» التي تتضمن الرحمة والرحمانية والحنان واللطف.

وأمّا سبب تسمية هذه السورة ب «التوبة» فهو أن الكثير من آيات هذه السورة تدعو الناس للتوبة والعودة إلى اللَّه تعالى، أي أنها على الرغم من إعلانها الحرب على الكافرين والبراءة من المشركين وشرارات الحرب تملأ أجواء هذه الآية فإنّ آيات هذه السورة تتضمن كذلك مفهوم التوبة بصورة واسعة بحيث إنها بعد إعلان البراءة من المشركين تقول قبل نهاية الآية الخامسة «1» من هذه السورة:

«... فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»

أي بالرغم من أن الكفّار والمشركين قد تآمروا كثيراً على الإسلام والمسلمين وارتكبوا جرائم كثيرة ولكنهم لو تابوا وتمسّكوا بتعاليم الإسلام فإنّ توبتهم ستكون مقبولة.

والسبب في أن لهذه السورة اسمين متضادين هو كثرة الآيات التي تشير إلى التوبة ضمن الآيات التي تعلن الحرب والبراءة من الأعداء والمشركين ولعلّ ذلك لغرض بيان هذه الحقيقة، وهي أن الإسلام لم يغلق باب العودة وخط الرجعة على المذنبين والمجرمين حتّى في حال

الحرب والقتال مع المسلمين فإنّ الإسلام لا يقصد الإنتقام منهم بل يهدف من تعاليمه حتّى من إقامة الحرب إصلاح الناس، ولهذا فلو أن الأعداء رغبوا في التوبة في أثناء الحرب وأظهروا عملًا التزامهم بالتوبة فإنّ الإسلام سوف يرفع عنهم حكم القتل بل سيتحرك نحو حمايتهم وتأييدهم.

وبعبارة اخرى إنّ تركيب الآيات لهذه السورة واختيار اسمين لها، يشير إلى حقيقة مهمة على المستوى التربوي للناس وهي:

إنّ الإنسان يحتاج في عملية التعليم والتربية إلى عنصر الخشونة والمداراة سويةً، فلو اتخذت الحكومة في تعاملها مع الناس اسلوب الخشونة لأدى ذلك إلى نفور الناس وتفرقهم، ولو تحدّثت الحكومة معهم من موقع المداراة واللطف فقط لأساء المجرمون والذين في قلوبهم

آيات الولاية فى القرآن، ص: 101

مرض الإستفادة من هذا اللطف والمداراة وأمعنوا في توغلهم في أعمال الشر والجريمة، ولكنّ استخدام اسلوب يجمع بين الخشونة والمداراة كلٌّ في موقعه المناسب بإمكانه أن يحلُّ الكثير من المشكلات، ولذلك كان من اللازم استخدام «الشدّة» و «اللطافة» وأيضاً «العقوبة» و «التوبة».

ب) زمان نزول آيات سورة التوبة

ب) زمان نزول آيات سورة التوبة

إنّ الآيات الاولى من سورة التوبة نزلت في أواخر السنة التاسعة للهجرة يعني سنة واحدة قبل وفاة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، وطبقاً لما ذكره المفسّرون فإنّ النبي صلى الله عليه و آله في هذه السنة وعلى أساس التعليمات الواردة في هذه الآيات أمر الإمام علي عليه السلام «1» بالتوجه إلى مكّة في مراسم الحجّ والإعلان عن أربعة امور:

1- أنه لا يحقّ بعد هذا العام وهو العام التاسع للهجرة أن يطوف بعض الناس وهم

عراة.

سؤال: وهل أن البعض يطوف حول البيت عارياً إلى ذلك الزمان ولماذا؟

الجواب: نعم فإن بعض الرجال وحتّى بعض النساء كانوا يطوفون حول البيت وهم عراة تماماً لأنّ أحد عقائد الوثنيين الخرافية هي أنه إذا طاف الشخص بثيابه يجب عليه أن يتصدّق بهذه الثياب على الفقير، ولهذا السبب فإنّ الأشخاص الذين لم يكن لديهم سوى ثوب واحد كانوا يقومون باقتراض ثوب لهم من شخص آخر حين الطواف ويطوفون به لكي لا يشملهم الحكم المذكور. وأما الأشخاص الذين لم يتهيأ لهم اقتراض ثوب من شخص آخر ولا يرغبون في التصدّق بثوبهم كانوا يطوفون وهم عراة تماماً.

2- انه لا يحقّ للمشركين وعبّاد الأوثان الطواف بالكعبة بعد هذا العام.

سؤال: أليس الإسلام يرى الحرية في العقيدة، إذن لماذا منع أتباع سائر الأديان بالطواف حول الكعبة؟

آيات الولاية فى القرآن، ص: 102

الجواب: إنّ الإسلام يرى حرية المذاهب والأديان ولكن الشرك وعبادة الأوثان لا يحسب ديناً ومذهباً بل هو مجموعة من العقائد التي تقوم على أساس خرافي.

3- إنّ المسلمين يلتزمون بعهودهم ومواثيقهم مع المشركين إلى آخر المهلة المقررة في الميثاق ولكنهم بعد ذلك لا يقومون بتجديد هذا العهد والميثاق مع المشركين.

4- إنّ المشركين الذين لا تربطهم مع المسلمين رابطة عهد وميثاق سوف يُمهلون لمدّة أربعة أشهر لأصلاح عقائدهم ونبذ الشرك وعبادة الأوثان وإلّا فإنهم سيتعرضون لقتال المسلمين.

وعلى أيّة حال فانّ الآيات الاولى من سورة التوبة والتي وردت الإشارة إلى مضمونها نزلت في أواخر السنة التاسعة للهجرة، ويحتمل قوياً أن بقية سورة البراءة ومنها هذه الآية محل البحث نزلت في

السنة التاسعة للهجرة، أي في السنة الأخيرة من عمر النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله.

وعلى هذا الأساس فإنّ «آية الصادقين» نزلت في أواخر عمر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وبذلك عملت على تهيئة الأرضيّة اللازمة لولاية وخلافة أميرالمؤمنين عليه السلام.

الشرح والتفسير

الشرح والتفسير

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» نرى في هذه الآية الشريفة أن اللَّه تعالى يخاطب المؤمنين والمسلمين ويأمرهم بأمرين:

الأوّل: أن يلتزموا بتقوى اللَّه تعالى والتي تعدُّ أهم رأس مال المؤمن وميزان القرب من اللَّه تعالى، وكلّما ازدادت حالة التقوى في السالك إلى اللَّه فإنه سيكون أقرب إلى اللَّه تعالى، وكلّما قلّ منسوب التقوى في الإنسان كان ذلك علامة على ابتعاده من اللَّه تعالى حيث نقرأ في الآية 13 من سورة الحجرات:

«يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ».

ونقرأ في الآية 63 من سورة مريم أن التقوى هي بمثابة جواز عبور الإنسان على الصراط ودخوله الجنّة:

آيات الولاية فى القرآن، ص: 103

«تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا».

فالتقوى في نظر الإسلام مهمة في عملية الصعود بالإنسان إلى مدارج الكمال وتعني أن يعيش الإنسان الخوف والخشية من اللَّه تعالى بحيث يدفعه ذلك إلى اجتناب الذنوب ولا يحتاج معها إلى ضوابط خارجية.

الثاني: هو أن اللَّه تعالى يأمر المؤمنين في هذه الآية الشريفة أن يكونوا مع الصادقين.

من هم الصادقين؟

من هم الصادقين؟

سؤال: هل أن المراد من «الصادقين» في هذه الآية الشريفة، والذين أمر اللَّه تعالى المسلمين باتباعهم هم أشخاص معيّنون، أو أن المراد هو المعنى اللغوي لهذه الكلمة، أي أن يتبع الإنسان كلُّ شخص صادق؟

الجواب: نحن نرى أن المراد من «الصادقين» في هذه الآية الشريفة ليس كلُّ إنسان صادق بل أفرادٌ مخصوصون،

والشاهد على ذلك وجود قرينتين في هذه الآية:

1- أنه لو كان المراد من كلمة «الصادقين» هو المعنى العام لا الخاصّ فيجب أن يقول «كونوا من الصادقين» لا «مع الصادقين» لأن الواجب على جميع المسلمين أن يكونوا صادقين لا مجرد أن يكونوا مع الصادقين، وعلى هذا الأساس يتّضح من وجوب اتباع الصادقين والكون معهم أن المراد بهم هم أشخاص معيّنون بحيث يجب على المسلمين إتباع هؤلاء الأشخاص.

2- والشاهد الآخر على هذا المعنى أن ظاهر الآية يدلّ على أن إتباع هؤلاء غير مقيّد بقيود أو شروط، وعليه فإنّ إطلاق وجوب إتباعهم يدلُّ على ضرورة أن يكون هؤلاء الصادقون معصومين ومصونين من الخطأ والإشتباه والزلل لأنه لولم يكونوا كذلك فلا يصحّ للمسلمين إتباعهم مطلقاً بل عليهم الإبتعاد عنهم في حالات الزيغ والخطأ والمعصية.

وعلى هذا الأساس فبما أن وجوب اتباع «الصادقين» ورد بصورة مطلقة لزم أن يكون هؤلاء الصادقين أشخاصاً معينين ومعصومين من الخطأ والذنب ليتسنّى للآخرين اتباعهم بصورة مطلقة.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 104

والنتيجة هي أنه إما أن يكون اتباع هؤلاء الصادقين ورد بصورة مطلقة فيكون «الصادقون» يراد بهم أشخاص معينون، أو أن ترد كلمة «الصادقين» بصورة مطلقة وتشمل جميع من كان صادقاً فيلزم التقيد في إتباعهم، ونظراً لما تقدّم من القرينتين في هذه الآية الشريفة فإنّ الاحتمال الأول هو الصحيح، فعليه فإنّ كلمة «الصادقين» مقيّدة والإتّباع مطلق، والمراد منه أشخاص معيّنين الذين يمكن للمسلمين إتّباعهم بصورة مطلقة.

نظرية علماء أهل السنّة

نظرية علماء أهل السنّة

أما المفسّرون من أهل السنّة فقد أنقسموا في تفسيرهم لهذه الآية إلى قسمين،

فبعضٌ لم يبحث هذه المسألة بصورة جيدة ولم يهتم لتفسير كلمة «الصادقين» فيها ومرّ عليها مرور الكرام.

وبعض آخر ذكر مطالب متنوعة في تفسيرها حتّى أنهم ذهبوا إلى أن «الصادقين» يجب أن يكونوا معصومين أيضاً لأنّ الاطاعة والإتباع ورد بصورة مطلقة ولا يصحّ ذلك إلّا بإتباع المعصوم ولكن مع ذلك فإنّ المسبوقات الفكرية والأحكام الذهنية لم تسمح لهؤلاء أن يصلوا إلى الحقيقة في تفسيرهم لهذه الآية.

الفخر الرازي من جملة المفسّرين من الطائفة الثانية فمضافاً إلى أنه يرى أن «الصادقين» يجب أن يكونوا معصومين يعتقد كذلك أن هذه الآية لا تختص بعصر نزول النصّ وزمان حياة النبيّ صلى الله عليه و آله بل في كلّ زمان يكون هناك شخص صادق معصوم في الامّة الإسلامية يجب على المسلمين إطاعته شرعاً.

ولكنه عندما أراد تشخيص مصداق «الصادقين» تورط في مسبوقاته الذهنية وابتلى بالتفسير بالرأي وقال: «نحن نعترف بأنه لابدّ من معصوم في كلّ زمان، إلّاأنا نقول: ذلك المعصوم هو مجموع الامّة».

أي أن الامة الإسلامية لو اتفقت على رأي واحد في مسألة معيّنة فيجب على الجميع إتباع هذا الرأي، والنتيجة هي أن قوله تعالى «كونوا مع الصادقين» هو أن يكون المسلمون في كلّ عصر وزمان يسيرون جنباً إلى جنب مع مجموع الامّة الإسلامية.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 105

ولكننا نسأل من الفخرالرازي: هل أن هذا التفسير كان يتبادر إلى ذهن المسلمين في عصر نزول الوحي وفي أذهان الصحابة في وقت نزول الآية؟ وأساساً فإنّ مسألة «الإجماع» طرحت بعد قرون من عصر النزول فكيف يستنبط الفخر الرازي من هذه

الآية «إجماع الامّة»؟

ولا شكّ أن هذا التفسير مجانب للصواب وأن أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله لم يفهموا من كلمة «الصادقين» سوى عدّة من الأشخاص المعينين الذين يتمتعون بمقام العصمة.

وعلى هذا الأساس، فلا شكّ في أن «الصادقين» يتمتعون بمقام العصمة من الذنوب والأخطاء، هذا أوّلًا ...

وثانياً: أنهم موجودون في كلّ عصر وزمان ولا يختص وجودهم في زمان النبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

ثالثاً: أن عددهم معيّن ومحدد.

فالامور الثلاثة أعلاه تستفاد من نفس هذه الآية الشريفة كما مرّ تفصيل الكلام عنه آنفاً «1» ولكنّ مصداق «الصادقين» لا يتضح ويتبين من الآية نفسها بل لابدّ من الإستفادة من الروايات الشريفة.

تفسير آية الصادقين بضميمة الآيات الاخرى

تفسير آية الصادقين بضميمة الآيات الاخرى

لو جلسنا في مقابل القرآن جلسة التلميذ وأبعدنا أذهاننا عن المسبوقات الذهنية والمذهبية وتدبرنا في آيات هذا الكتاب العظيم بإخلاص ورغبة صادقة فإنّ القرآن الكريم يعرّف لنا الصادقين في آيات اخرى حيث يقول تعالى في الآية 15 من سورة الحجرات:

«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ

آيات الولاية فى القرآن، ص: 106

وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ».

فطبقاً لهذه الآية الشريفة فإن «الصادقين» مضافاً إلى إيمانهم باللَّه ورسوله أو إيمانهم بالمبدأ والنبوّة التي يشترك في هذه العقيدة جميع المسلمين فإنّهم يختصون بخصوصيات اخرى لا يشترك معهم سائر المسلمون:

1- إنهم بعد الإيمان باللَّه ورسوله لم يعيشوا الريب والشك ولا للحظة واحدة بل كانوا يعيشون الإيمان واليقين الراسخ في جميع مراحل حياتهم.

2- والآخر أن هذا الإيمان المذكور لم ينحصر في عالم

القلب واللسان فحسب، بل إنّ آثاره تجلت بوضوح على مستوى الممارسة والعمل، ولهذا فإنّهم يتحركون في جهادهم في سبيل اللَّه من موقع القرب من اللَّه وبدافع من طلب رضاه فقط لا بدوافع اخرى فيبذلون المال والأنفس في هذا السبيل.

ومع الإلتفات إلى هاتين الخصوصيتين النادرتين يجب علينا التفتيش والفحص بين أصحاب الرسول الأكرم لنعثر على الشخص الذي يتمتّع بهذه الصفات والخصوصيات ويكون من الصادقين.

ولدى رجوعنا لتاريخ صدر الإسلام نصل إلى هذه الحقيقة، وهي أن الشخص الوحيد الذي يتمتع بهذه الصفات هو عليّ بن أبي طالب عليه السلام لأن جميع حياته كانت مليئة بالجهاد بالمال والنفس ولم يشك أو يتردد طرفة عين في إيمانه وعقيدته.

ومن أجل إثبات هذه الحقيقة نذكر ثلاث وقائع مختلفة مما يذكره التاريخ الإسلامي عن حياة هذا الإمام وجهاده بالمال والنفس وإيمانه الراسخ باللَّه ورسوله:

1- عندما تحرك المشركون في مكّة للقضاء على الإسلام وتآمروا في كيفية الطريق إلى تحقيق هذه الغاية وصممّوا على تنفيذ مؤامرة قتل النبي الأكرم صلى الله عليه و آله. ومن أجل أن لا تقوم عشيرة النبي صلى الله عليه و آله بالإنتقام من القاتل أو الإقتصاص منه قرّروا أن يقوم بهذه العملية عدّة أشخاص من جميع القبائل فاختاروا لذلك أربعين شخصاً من الأقوياء والشجعان في القبائل العربية ليهجموا على بيت النبوّة ليلًا وينفّذوا هذه العملية.

ولكنّ اللَّه تعالى أخبر نبيّه الكريم بواسطة الوحي بهذه المؤامرة الخطيرة، فقام النبي

آيات الولاية فى القرآن، ص: 107

لأجل التخلص من هذه المؤامرة بالهجرة إلى المدينة ولكن من أجل أن لا يلتفت الأعداء

إلى غيبته لزم أن يختار شخصاً شجاعاً مستعداً للموت لينام على فراش النبي في الليلة المقررة فكان أن اختار النبي الإمام علي عليه السلام لهذه المهمة.

وطبقاً للروايات «1» الواردة في هذه الحادثة فإن رسول اللَّه قال لأميرالمؤمنين عليه السلام عندها:

إنني قد امرت أن اهاجر إلى المدينة ولكنّ هناك أربعين رجلًا مسلّحاً من أربعين قبيلة يحاصرون هذا البيت وينتظرون طلوع الفجر ليهجموا على هذا البيت ويقتلونني فهل أنت يا عليّ مستعد لتنام في فراشي لأتمكن من التحرك نحو المدينة؟

فأجاب علي عليه السلام الذي ملأ قلبه العشق للنبيّ وللرسالة ولم يتردد أو يشك لحظة في إيمانه وعقيدته: «يا رسول اللَّه إذا أنا نمت في فراشك فهل تصل سالماً إلى المدينة؟»

كان هذا السؤال مهماً جداً بالنسبة إلى الإمام علي عليه السلام فلم يسأل عن مصيره هو والخطر المحدق به في هذه الليلة بل كان فكره مشغولًا فقط بسلامة معشوقه وحبيبه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

وقال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: نعم سأصل سالماً إن شاء اللَّه.

فوقع الإمام علي عليه السلام من فوره على الأرض ساجداً للَّه تعالى سجدة الشكر على سلامة الرسول ولعلّ هذه كانت أوّل سجدة شكر في الإسلام.

فهل نجد شخصاً غير علي ابن أبي طالب يعيش العشق والحبّ لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى هذه الدرجة؟

نحن بدورنا نعشق هذا الإمام ونتّبع في عقيدتنا وسلوكنا هذا الإنسان الكامل.

وهكذا نام الإمام علي عليه السلام في فراش النبي ووصل النبي سالماً إلى المدينة فلما أصبح الصباح هجم الأعداء على بيت النبي فنهض الإمام علي عليه السلام عندما سمع الضجة من فراشه، فوجد الأعداء أن هذا النائم ليس هو مرادهم ومقصودهم فسألوا عليّاً:

أين محمّد؟

وبدون أن تتخلل ذرة من الخوف في قلب الإمام علي عليه السلام قال: وهل أودعتموه عندي حتّى تسألوا هذا السؤال؟

آيات الولاية فى القرآن، ص: 108

فبهت الأعداء من هذا الجواب القاطع لهذا الشاب الشجاع وقالوا فيما بينهم: إنّ هذا شاب ساذج وقد خدعه محمّد صلى الله عليه و آله.

فلمّا سمع الإمام علي عليه السلام ذلك منهم وأنهم يتحدّثون عن حبيبه بلغة الإهانة قال لهم كلاماً جميلًا جداً وعميق المغزى:

إنّ اللَّهُ قَدْ أَعْطانِي مِنَ الْعَقْلِ ما لَوْ قُسِّمَ عَلى جَمِيع حُمَقاءِ الدُّنيا وَ مَجانِينها لصارُوا بِهِ عُقَلاء وَمِنَ القُوَّةِ ما لَوْ قُسِّمَ عَلى جَمِيعِ ضُعَفاءِ الدُّنْيا لَصارُوا بِهِ أَقْوياءَ، وَمِنَ الشُّجاعَةِ ما لَوْ قُسِّمَ عَلى جَميعِ جُبَناءِ الدُّنْيا لَصارُوا بِهِ شَجْعاناً. «1»

عندما سمع الأعداء هذا الجواب تملكهم اليأس وأطرقوا برؤوسهم خارجين من المنزل.

فلو كان لدى الإمام علي عليه السلام ذرة من الشك والتردد بالنسبة إلى إيمانه باللَّه والرسول فهل يعقل أن يخاطر بحياته مثل هذه المخاطرة؟

2- في واقعة احد تمكن الأعداء من تحقيق نصر عسكري على المسلمين بسبب غفلة المسلمين وطمعهم في حطام الدنيا ومضافاً إلى ذلك فقد استفاد الأعداء من هذه الغفلة وتحركوا من موقع الحرب النفسية ضد المسلمين حيث صاح أميرهم لما رأى النبي صلى الله عليه و آله جريحاً في ميدان القتال «لقد قُتل محمّد!» ولما سمع المسلمون هذا النداء هرب الكثير منهم من ميدان القتال كما تقول الرواية، ولكنّ الإمام علي عليه السلام الذي كان مؤمناً بانتصار الإسلام وبوعد اللَّه تعالى ولم يتردد لحظة في هذه العقيدة الراسخة

لم يلتفت إلى هذا النداء وبقي مستمراً في قتال الأعداء حتّى أصاب جسده الشريف جراح كثيرة ولكنه استمر في القتال والدفاع عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بحيث أدّت شجاعته وإيمانه وسعيه البالغ في دفع الخطر عن النبي صلى الله عليه و آله إلى إجهاض كيد العدو وأدرك المسلمون أن النبي صلى الله عليه و آله لم يقتل لحد الآن، ولذلك عاد الكثير منهم إلى ميدان القتال، وعلى أيّة حال انتهت الحرب بكلِّ ما تضمنته من صعوبات وتحديات واندحر الأعداء وهم مصابون باليأس من الغلبة على الإسلام وتوجهوا إلى مكّة، وهكذا اصيب الإمام علي عليه السلام في هذه المعركة بما يقارب من 90 جرحاً فأرسل له النبيّ صلى الله عليه و آله طبيبين ليعالجاه ويضمدا جراحه ولكنهم سرعان ما عادوا إلى

آيات الولاية فى القرآن، ص: 109

رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهما يقولان: يا رسول اللَّه إنّ جراح علي ابن أبي طالب إلى درجة من الكثرة والتقارب بحيث أننا كلّما سعينا لمعالجة جرح انفتح علينا جرح آخر.

يقول الشبلنجي العالم المعروف لدى أهل السنّة في كتاب «نور الأبصار»: إنّ عليّ بن أبي طالب بعد واقعة احد قال لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: لقد أصابتني في هذه المعركة الشديدة مع المشركين ستة عشر ضربة عميقة بحيث إنني وقعت على الأرض أربع مرّات وفي كلّ مرّة كنت أرى شخصاً نورانياً يساعدني على النهوض من الأرض ويقول: انهض ودافع عن رسول اللَّه، فمن هو يا رسول اللَّه؟ «1»

قال النبيّ صلى

الله عليه و آله: لتقر عينك يا عليّ هذا جبرئيل أمين الوحي.

نعم إنّ هذة الواقعة يصدقها القرآن الكريم بقوله: «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» «2».

والخلاصة هي أن هذه الحادثة تدلُّ على المرتبة العليا لجهاد الإمام علي عليه السلام بماله ونفسه من جهة وكذلك على إيمانه الراسخ ويقينه القوي باللَّه ورسوله وما وعده اللَّه تعالى من نصر الإسلام على المشركين من جهة اخرى. إذن فهو مصداق كلمة «الصادقين» في هذه الآية الشريفة.

3- وفي حرب الأحزاب عندما تقدّم عمرو بن عبدود العامري بطل العرب وعبر الخندق وأخذ ينادي المسلمين ويطلب البراز فلم يستجب له إلّاعليّ بن أبي طالب عليه السلام وتكرر هذا العمل ثلاث مرّات وفي كلّ مرّة ينهض الإمام علي عليه السلام من مكانه وهو مستعد لمبارزته.

وهكذا توجه علي بن أبي طالب نحو هذا العدو الغاشم بإيمان راسخ وشجاعة عظيمة فدعى له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالنصر، ثمّ إن المعركة بين علي وعمرو بن عبدود انتهت بغلبة الإسلام على الكفر، وانتصر الإمام علي عليه السلام على عدوه في هذه المواجهة والمبارزة.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 110

وبينما كان الإمام علي عليه السلام جالساً على صدر عمرو بن عبدود لحزّ رأسه، بصق عمرو في وجه الإمام علي عليه السلام وشتمه «1» فما كان من الإمام علي عليه السلام إلّاأن نهض وأخذ يتمشّى في ميدان المعركة، وكان المسلمون ينظرون إلى مجريات الحادثة بدقة وتعجب، وبعد دقائق

عاد بطل حرب الأحزاب إلى مكانه وقطع رأس عدو اللَّه.

وبعد هذه الحادثة سُئل الإمام علي عليه السلام عن سبب قيامه وانتظاره لحظات قبل أن يقدم على قتل عمرو فقال:

قَدْ كانَ شَتَمَ امِّي وَتَفَلَ في وَجْهي فَخَشِيتُ أَنْ أَضْرِبَهُ لِحَظِّ نَفسي فَتَرَكْتُهُ حَتَّى سَكَنَ ما بي ثُمَّ قَتَلْتُهُ فِي اللَّهِ. «2»

وفي هذا يقول الشاعر الشيخ الازري رحمه الله وهو يحكي هذه الواقعة المهمّة:

ظهرت منه في الورى سطوات ما أتى القوم كلّهم ما أتيها

يوم غصّت بجيش عمرو بن ودّ لهوات الفلا وضاق فضاها

فدعاهم وهم الوف ولكن ينظرون الذي يشبّ لظاها

فابتدى المصطفى يحدث عما يوجر الصابرون في اخريها

فالتووا عن جوابه كسوامٍ لا تراها مجيبة من دعاها

فإذا هم بفارس قرشي ترجف الأرض

خيفة أن يطاها

قائلًا ما لها سواي كفيل هذه ذمة عليّ وفاها

فانتضى مشرفيه فتلقى ساق عمرو بضربة فبراها

يا لها من ضربة حوت مكرمات لم يزن ثقل أجرها ثقلاها

هذه من علاه احدى المعالي وعلى هذه فقس ما سواها

وعلى هذا الأساس فإنّ علائم الإيمان الراسخ مشهودة في حياة الإمام علي عليه السلام كلّها، وحينئذٍ نفهم جيّداً بالإستفادة من القرائن وبمعونة الآيات القرآنية الاخرى أن المراد من «الصادقين» هو عليّ بن أبي طالب

الصادقين في الروايات

الصادقين في الروايات

لو اقتصرنا على رواية الثقلين المهمة وضممناها إلى الآية الشريفة لرأينا أنها تلقي ضوءاً قوياً على مفهوم الآية وتوضح مصداق «الصادقين» وهم الأشخاص الذين ذكرتهم رواية الثقلين بأنهم أهل البيت الأئمّة المعصومين عليهم السلام الذين ينبغي التمسّك بهم دائماً، فيكون التمسّك بهم مانعاً من الضلال، ومضافاً إلى الرواية المذكورة هناك روايات متعددة ناظرة إلى هذه الآية الشريفة، وكمثال على ذلك نورد ما يلي:

1- نقل خمس أشخاص من مشاهير وكبار علماء أهل السنّة وهم: السيوطي «1»، الخوارزمي «2»، العلّامة الثعلبي «3»، العلّامة الكنجي «4»، والحاكم

الحسكاني «5»، وهؤلاء كلّهم يروون عن الصحابي المعروف ابن عبّاس أو جابر بن عبداللَّه الأنصاري حيث يقول:

«كُونُوا مَعَ الصَ ادِقِينَ، أيْ كُونُوا مَعَ عَلِيِّ بْنَ أَبي طالِبٍ».

ووردت بعض العبارات في هذه الروايات «هو عليّ بن أبي طالب» أو «نزلت في عليّ ابن أبي طالب» «6» وهي كلّها تؤدي معنى واحداً.

2- نقل الحاكم الحسكاني في «شواهد التنزيل» مضافاً إلى الرواية المذكورة آنفاً رواية اخرى عن «عبداللَّه بن عمر» حيث قال:

«مَعَ الصَّادِقِينَ أَيْ مَعَ مُحَمّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِه». «7»

والملفت للنظر أن هذه الرواية تذكر سائر أهل البيت المعصومين عليهم السلام في عداد الصادقين.

3- ويروي سليم بن قيس الذي يقول عنه العلّامة المجلسي في بحار الأنوار أنه شخص

آيات الولاية فى القرآن، ص: 112

ثقة حيث يقول في تفسير كلمة «الصادقين»:

«فقال سلمان: يا رسول اللَّه، أعامة هي أم خاصّة؟ فقال: أما المؤمنون فعامة لأن جماعة المؤمنين امروا بذلك، وأما الصادقون فخاصّة لأخي علي والأوصياء من بعده إلى يوم القيامة» «1».

وطبقاً لهذه الرواية فإن «الصادقين» هم الأئمّة المعصومين عليهم السلام.

4- ويقول العلّامة الكنجي في كتاب «كفاية الطالب» و «ابن الجوزي» في كتابه «التذكرة»: قال علماء السِير: معناه كونوا مع عليّ وأهل بيته «2» وهكذا يروي المؤرّخون في معنى «كونوا مع الصادقين» أن المراد بهم هم عليّ وأهل بيته عليهم السلام.

وطبقاً لهذا الحديث فإنّ «الصادقين» هم الأئمّة الاثنا عشر عليهم السلام للشيعة.

توصية آية الصادقين

توصية آية الصادقين

ومما تقدّم من صفات وخصائص المعصومين عليهم السلام وأنهم المجاهدون، العابدون، الراكعون، الساجدون، القائمون، الصائمون، الزاهدون، العالمون، المتقون، الذاكرون، الخاشعون، وأمثال ذلك فإنّ

هذه الصفات تجتمع في مصداق كلمة «الصادقين»، وهذا يعني أن حالة «الصدق» لها دور مهم جداً في مصير الإنسان «وليس المسلم فحسب»، ولهذا السبب فإنّ الآية الشريفة وصفت أئمّة الهدى بهذه الصفات.

ومع الإلتفات إلى أهمية هذا الموضوع نذكر بعض ما ورد عن الإمام علي عليه السلام في هذا الصدد:

1- «الصِّدْقُ عِمادُ الإسْلامِ وَدَعامَةُ الإيمانِ». «3»

فلو سقط عمود البناء لانهار البناء تماماً، فلو أن المسلم لم يتّصف ويتحلّى بصفة الصدق فلا معنى لإسلامه وإيمانه.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 113

2- «الصِّدقُ أَقْوى دَعائِمِ الْإيمانِ» «1»

وهذا يعني أن الصدق يقترن مع مفهوم عمود الخيمة بحيث لو زال العمود لحظة لانهدمت الخيمة.

3- «الصِّدقُ صَلاحُ كُلِّ شَي ءٍ وَالْكِذْبُ فَسادُ كُلِّ شَي ءٍ» «2».

وفي الحقيقة فإنّ الصدق لو ساد في المجتمع وكان جميع أفراد المجتمع يتحلّون بهذه الصفة وكان الرجل وزوجته يعيشان حالة الصدق في البيت، وكذلك الموظفون في الإدارات والشركاء في محيط التجارة والحكّام في دائرة الحكومة والسياسة والطلاب والتلاميذ في أجواء المدرسة والجامعة، والخلاصة لو كان جميع أفراد المجتمع يتحركون في تعاملهم وتفاعلهم مع الآخرين من موقع الصدق فإن ذلك بلا شكّ سوف يحلّ الكثير من المشاكل والتحدّيات التي يواجهها المجتمع البشري.

إنّ جميع المشاكل والمصاعب تنبع من عدم الصدق في التعامل وفي الكلام.

وهذا المعنى يصدق أيضاً في البعد العالمي للمجتمع البشري، وعلى سبيل المثال إذا كانت الدول والحكومات التي تدّعي حقوق الإنسان صادقة في الإستفادة من هذا العنوان الجميل لكانت البشرية في عالمنا المعاصر تعيش حالة أفضل بكثير ممّا هي عليه الآن. ولكننا نرى أن هذا

الإدعاء قد انحرف عن مسيره فلا نجد معالم الصدق في التعامل بين الدول التي لا تفكر إلّابمصالحها الذاتية وعلى حساب الظلم والجور والفساد الفاحش، وعلى هذا الأساس فلو أن جاسوساً اسرائيلياً يقدم للمحاكمة في نقطة من العالم فإن صراخ هؤلاء المدّعون لحقوق الإنسان سيعلو ويطغى على كلّ شي ء، ولكن إذا تم سحق الشعب الفلسطيني وقتل آلاف الأشخاص من أفراد هذا الشعب المظلوم فلا نجد أي اعتراض من هؤلاء بل مع كثير التعجب والتأسف نجدهم يقدّمون معالم التأييد السياسي والاقتصادي والعسكري إلى الظالم على حساب المظلوم.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 114

وهكذا ندرك جيداً عمق ما تحدّث به أميرالمؤمنين: «إنّ الكذب فساد كلّ شي ء».

والنتيجة هي أن آية «الصادقين» توحي لجميع المسلمين بل جميع البشرية بأن يكونوا مع الصادقين.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 115

الفصل الثاني: آيات فضائل أهل البيت عليهم السلام

آية التطهير

اشارة

آية التطهير 6

[سورة الأحزاب (33): آية 33]

وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ وَ آتِينَ الزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33)

«سورة الأحزاب/ الآية 33»

أبعاد البحث

أبعاد البحث

إن آية التطهير هي آية اخرى من الآيات التي تتعلّق بولاية أميرالمؤمنين والأئمّة المعصومين عليهم السلام. هذه الآية الشريفة والتي ينبغي التدبّر في كلّ كلمة من كلماتها تدلُّ أيضاً على عصمة الأئمّة الأطهار عليهم السلام.

مقدّمة

مقدّمة

إنّ الآيات 28- 34 من سورة الأحزاب كلّها وردت في خطاب نساء النبيّ صلى الله عليه و آله ومن بين هذه الآيات الشريفة السبعة وردت آية التطهير بلسان متفاوت ومضمون مختلف، ومن ذلك تغيير الضمائر في هذه الآية، فإننا نرى في الآيات الشريفة قبلها ورد خمس وعشرين ضمير أو فعل يدلُّ على المؤنث، وبعد آية التطهير أيضاً نجد ضميرين وفعل كذلك يدلُّ على التأنيث ولكنّ جميع الضمائر والأفعال في آية التطهير التي تقع وسط 27 ضميراً وفعلًا مؤنثاً قد وردت بلسان المذكر، أو أن الضمير فيها يعود على المذكر والمؤنث كليهما، والخلاصة أن الضمائر فيها لا تختصّ بالمؤنث.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 118

فهل أن هذا التفاوت هو من باب الإتفاق والصدفة، أو أن له حكمة خاصّة؟

بلا شكّ أنه لم يقع صدفةً بل له علّة خاصّة لابدّ من أخذها بنظر الإعتبار.

فإذا كان المراد من آية التطهير هو نساء النبي صلى الله عليه و آله فلماذا تبدلّ الخطاب في هذه الآية ولم يرد فيها الضمائر الخاصّة بالمؤنث؟

لا شكّ أن مضمون الآية ومحتواها وتغيير الضمائر والأفعال يدلُّ على أن المراد منها ليس هو نساء النبي صلى الله عليه و آله، وسيأتي توضيح أكثر لهذا الموضوع في البحوث القادمة.

الشرح والتفسير: آية التطهير، برهان واضح للعصمة

الشرح والتفسير: آية التطهير، برهان واضح للعصمة

تقدّم أنه ينبغي التدبر في كلّ كلمة من كلمات هذه الآية الشريفة مورد البحث لاستجلاء المراد الحقيقي منها:

1- كلمة «إنّما» تستعمل للحصر في اللغة العربية ويتّضح من هذه الكلمة أن المضمون الوارد في هذه الآية الشريفة لا يتعلق بجميع المسلمين

وإلّا لا معنى لاستخدام هذه الكلمة.

«الرجس» الذي تحدّثت عنه هذه الآية لم يرفع من الجميع بل أراد اللَّه رفعه من بعض الأفراد بخصوصهم، مضافاً إلى أن «الرجس» يراد به رجس خاصّ، وقد أراد اللَّه إزالته عن أفراد معينين وتطهيرهم منه.

وبما أن التقوى العادية تستوعب جميع المسلمين والواجب على جميع المسلمين تطهير أنفسهم من الرذائل والذنوب، فإنّ المراد من هذه الآية وما يختصّ بهؤلاء الأفراد المعينين يجب أن يكون أعلى ممّا يراد من الأشخاص العاديين في تقواهم وحركتهم في خط الطاعة والإيمان.

2- «يُرِيدُ اللَّهُ».*

فما هو المراد من إرادة اللَّه؟ هل هي الإرادة التشريعية أو الإرادة التكوينية؟

الجواب: للإجابة على هذا السؤال يلزمنا بعض التوضيح حول مفهوم الإرادة التكوينية والتشريعية:

آيات الولاية فى القرآن، ص: 119

الإرادة التشريعية: هي الإرادة التي تعني أوامر اللَّه تعالى ودستوراته من الواجبات والمحرمات الواردة في الشريعة المقدّسة، والآية 185 من سورة البقرة هي أحد الآيات التي وردت فيها الإرادة الإلهية بمعناها التشريعي حيث ذكر اللَّه تعالى في هذه الآية الشريفة بعد بيان وجوب صوم شهر رمضان المبارك واستثناء هذا الحكم بالنسبة إلى المسافر والمريض يقول:

«يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ».

فالمقصود من الإرادة الإلهية هنا هي الإرادة التشريعية، أي أن أحكام اللَّه تعالى في شهر رمضان سهلة ويسيرة للإنسان المؤمن بل إن جميع أحكام الإسلام هي كذلك، ولذلك قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«بُعِثْتُ إلَيْكُمْ بِالْحَنَفِيَّةِ السَّمْحَةِ السَّهْلَةِ». «1»

«الإرادة التكوينية» هي الإرادة التي تستخدم في مقام الخلق والتكوين فقد أراد اللَّه تعالى

خلق العالم وخلق سائر الكائنات والمخلوقات.

وكمثال على هذه الإرادة الإلهية ما ورد في الآية 82 من سورة يس حيث يقول تبارك وتعالى في هذه الآية:

«إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ».

فالمقصود من هذه الإرادة في الآية الشريفة هي الإرادة التكوينية، وفي الحقيقة أن قدرة اللَّه تعالى على هذا الكون وسلطته على الكائنات إلى درجة من الشدّة والإستحكام بحيث إنه إذا أراد أن يخلق مثل هذا العالم الذي نعيش فيه فيكفي أن يصدر أمره بذلك، وطبقاً للأقوال العلماء أن الشمس أكبر من الأرض بمليون ومائتين ألف مرّة ويحتوي على مائة ميليارد نجم في المنظومة الشمسية في مجرتنا لوحدها وحجم كلُّ واحد منهما بحجم الشمس بالمقدار المتوسط، فلو أراد اللَّه أن يخلق مثل هذا العالم لكفى أن يأمر ويقول: كن فيكون «الْعَظَمَةُ للَّهِ الْواحِدِ الْقَهّارِ».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 120

وبعد أن تعرّفنا على هذين المعنيين للإرادة الإلهية نتساءل: هل أن المراد بالإرادة الإلهية في آية التطهير هي الإرادة التشريعية أو التكوينية؟ أي أن اللَّه تعالى هل أراد من أهل البيت أن يعيشوا الطهارة والإبتعاد عن الرجس والرذائل، أو أن اللَّه تعالى هو الذي سيقوم بتطهير هؤلاء الأشخاص من الرجس والرذيلة؟

الجواب: بلا شكّ أن المراد هنا الإرادة التكوينية، لأن الأمر بالطهارة والتقوى لا يختص بأهل البيت بل هو دستور عام وتشريع شامل لجميع المسلمين، في حين أننا قرأنا سابقاً أن مقتضى كلمة «إنّما» هو الحصر بدائرة معيّنة، وهم أهل البيت عليهم السلام ولا يشمل جميع المسلمين.

والنتيجة هي أن اللَّه تعالى

بإرادته التكوينية أراد أن يسجّل فضيلة وموهبة اخرى لأهل البيت عليهم السلام ويمنحهم «العصمة» في واقعهم الروحي وملكاتهم الأخلاقية بحيث يبتعدون عن كلّ رجس ورذيلة ويعيشون الطهارة من الذنوب والخطايا.

سؤال: هل أن العصمة في هؤلاء المعصومين تتمتع بحالة من الجبر؟

وبعبارة اخرى: هل أن هؤلاء العظماء يجتنبون المعاصي والذنوب من دون اختيار منهم؟ فلو كان كذلك فإنّ العصمة لا تعني شيئاً في دائرة الإمتياز الأخلاقي والإيماني.

الجواب: إنّ الشي ء إذا كان محالًا في دائرة أعمال الإنسان فهو على قسمين: 1- المحال العقلي، 2- المحال العادي.

«المحال العقلي» هو أن يكون وقوع الشي ء محالًا كأن تكون هذه اللحظة من الزمان ليلًا ونهاراً في آن واحد، فهذا عقلًا محال، أو تقرأ كتاباً عدد صفحاته 400 و 500 صفحة في نفس الوقت، فهذا من المحال عقلًا لأنه جمع بين النقيضين والجمع بين النقيضين محال عقلًا «1».

ولكن تارة يكون وقوع العمل ممكن عقلًا ولكنه عادة ممتنع، ومثاله أن كلُّ إنسان عاقل لا يظهر في الشارع وأمام الناس عارياً، فهذه المسألة ممكنة عقلًا ولكنها محالٌ عادةً، وعليه

آيات الولاية فى القرآن، ص: 121

فالناس بالنسبة إلى هذه الحالة معصومين لأن عقلهم لا يبيح لهم ارتكاب مثل هذا العمل الذي قبحه واضح وجلي، إذن فجميع أفراد البشر يمكن أن تكون لهم عصمة جزئية بالنسبة إلى بعض الذنوب والأفعال.

ولو تقدّمنا خطوة إلى الامام رأينا أن بعض الناس قد تكون لهم عصمة جزئية بالنسبة إلى بعض الأفعال التي هي محال عادةً، من قبيل أن من المحال أن يقوم رجل دين معروف في اليوم

الواحد والعشرين من شهر رمضان المبارك وفي محراب المسجد وهو جالس على سجادة الصلاة بشرب الخمر أمام الناس، فهذا من المحال، ولكنه ليس من المحال العقلي بل إن صدوره من مثل هذا الشخص محال عادةً لأن عقله لا يسمح له بارتكاب مثل هذا العمل في هذا المكان وهذه الموقعيّة.

وأمّا المعصومون عليهم السلام فيتمتعون بمقام العصمة في مقابل جميع الذنوب والخطايا، أي أنه رغم كونهم من الناحية العقلية يمكن صدور الذنب والمعصية منهم، ولكنّه غير ممكن عادةً لأن عقلهم وتقواهم ومعرفتهم بالنسبة إلى جميع الذنوب والمعاصي كعلم الشخص العادي بالنسبة إلى الخروج عارياً إلى الشارع، فكما أن الإنسان العادي معصوم من مثل هذا الذنب، فالأئمّة المعصومون عليهم السلام أيضاً يتمتعون بمقام العصمة في مقابل جميع الذنوب، فمن المحال عادةً أن يقوموا بارتكاب المعصية حتّى لو كان صدورها منهم ممكن عقلًا.

إذن فالعصمة هنا ليست أمراً جبرياً وليست بحيث تكون خارجة عن اختيار المعصومين عليهم السلام وإلّا فلا قيمة لمثل هذه الأعمال.

والنتيجة هي أن الإرادة الإلهية في هذه الآية الشريفة هي إرادة تكوينية، والعصمة هنا لا تسلب الإختيار والإرادة من الأئمّة المعصومين عليهم السلام ولا تجبرهم على ترك المعصية والذنوب بل إنّ هؤلاء الرجال لا يتوجهون نحو الذنوب بكمال حريتهم واختيارهم.

3- المراد من «الرِّجس»

الرجس بمعنى القبيح، فتارةً يطلق على الامور المادية القبيحة، واخرى على الامور المعنوية القبيحة، وثالثة قد يطلق ويستعمل على كلا الأمرين كما ذكر ذلك الراغب في مفرداته.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 122

ولكلِّ مورد من هذه الموارد الثلاثة في استعمال كلمة «الرجس»

هناك شاهد من القرآن الكريم:

ألف- الرجس المعنوي: وهو ما ورد في الآية 125 من سورة التوبة.

«وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ».

فإنّ عبارة «في قلوبهم مرض» تطلق غالباً على المنافقين ومن كانوا يعيشون المرض القلبي حقيقةً في نفاقهم، وإلّا فإنّ الإنسان السليم إمّا أن يقبل الأوامر الإلهية ويكون مسلماً أو يردّها ويكون كافراً، ولكن أن يقبلها في الظاهر وفي عالم العمل والممارسة ولكنه لا يعتقد بها في قلبه، فهذا هو النفاق وهو نوع من المرض القلبي.

وعلى أيّة حال فإنّ كلمة «الرجس» في هذه الآية الشريفة وردت بمعنى القبح المعنوي فإنّ النفاق نوع من القبح المعنوي لا القبح المادي الظاهري.

ب- الرجس الظاهري والمادي: وهو ما ورد في الآية 145 من سورة الأنعام:

«قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ...».

ومن الواضح أن الرجس استخدم في هذه الآية الشريفة بمعنى القبح المادي والظاهري.

ج- الرجس المعنوي والمادي: ونقرأ في الآية 90 من سورة المائدة أن «الرجس» استخدم بكلا المعنيين:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».

وهنا نجد أن «الرجس» في هذه الآية الشريفة استخدم في كلا المعنيين المادي والمعنوي لأن الخمر له حكم النجاسة المادية، ولكن القمار والأزلام ليست كذلك بل هي من الرجس المعنوي.

والنتيجة هي أن كلمة «الرجس» في الآيات الشريفة لها معنى عام وتشمل جميع القبائح الظاهرية والمعنوية والأخلاقية والعقائدية والجسمية والروحية، وعليه فإنّ اللَّه تعالى في آية التطهير وبإرادته التكوينية قد طهّر أهل البيت عليهم السلام من جميع

أنواع الرجس بمعناه الواسع.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 123

والدليل على أن الرجس استخدم في هذه الآية الشريفة في جميع أنواع الرجس المادي والمعنوي هو إطلاق هذه الكلمة، أي أن هذه الكلمة لم ترد بالآية الشريفة مقيّدة بقيد أو مشروطة بشرط بل وردت بصورة مطلقة وبدون قيد أو شرط، فلذلك تستوعب في مضمونها جميع أنواع الرجس.

«وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» هذه الجملة في الواقع تأكيد وتفسير للجملة السابقة «لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ» فطبقاً لهذه الآية فإن «أهل البيت» طاهرون من الرجس وكلُّ عمل قبيح بالإرادة الإلهية التكوينية، فهم يتمتعون بمقام العصمة المطلقة.

من هم أهل البيت؟

من هم أهل البيت؟

يستفاد من الآية الشريفة محل البحث أن «أهل البيت» يتمتعون بخصوصية تميّزهم عن سائر المسلمين وهي مقام الطهارة والعصمة المطلقة، ولكن هنا يثار هذا السؤال وهو: من هم أهل البيت؟

وفي مقام الجواب عن هذا السؤال هناك نظريات مختلفة في تفسير كلمة «أهل البيت» حيث نكتفي هنا بذكر أربعة منها:

1- ما ذكره بعض المفسّرين من أهل السنّة من أن المراد من أهل البيت هنا زوجات النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله «1» وطبقاً لهذا التفسير لا يكون الإمام عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام من أهل البيت، وبعبارة اخرى أن أهل البيت هم الذين يرتبطون بالنبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله برابطة سببية لا نسبية.

ودليلهم على هذه النظرية هي أن آية التطهير وردت ضمن آيات قرآنية تتعلق بنساء النبيّ صلى الله عليه و آله فهناك آيات قبلها وبعدها تتحدّث عن نساء النبيّ صلى الله عليه و

آله، وسياق الآية يقتضي أن هذه الآية الشريفة أيضاً متعلّقة بنساء النبيّ صلى الله عليه و آله.

ولكن هذه النظرية باطلة لِدليلين:

الأوّل: أنه كما تقدّم سابقاً من أن الآيات الخمسة قبل آية التطهير وكذلك صدر الآية

آيات الولاية فى القرآن، ص: 124

32 من سورة الأحزاب التي وقعت آية التطهير في ذيلها تتضمن 25 ضمير وفعل وردت بصياغة المؤنث وفي الآية التي تليها «الآية 33» هناك فعل وضمير يختص بالمؤنث أيضاً، ولكن ضمائر وأفعال آية التطهير كلّها تعود إلى المذكر أو تشمل المذكر والمؤنث وعليه لا تكون شاملة لبعض نساء النبي لوحدهنّ قطعاً.

وعلى هذا الأساس ونظراً إلى أن القرآن هو كلام اللَّه تعالى وقد ورد بأبلغ بيان وأفصح عبارة، ولذلك لابدّ أن يكون هناك سبب في تغيير الضمائر والأفعال حيث يكون المراد من أهل البيت هم أفراد غير نساء النبي بحيث إن اللَّه تعالى غيّر من سياق الآية وجعلها متميّزة عن بقية الآيات الشريفة.

فطبقاً لهذا البيان يكون المراد من أهل البيت ليس نساء النبي قطعاً بل المقصود أشخاص آخرون لابدّ من البحث عنهم من خلال الأدلّة والبراهين.

الثاني: هو أنه بالإلتفات إلى ما تقدّم من شرح وتفسير آية التطهير فإنّ أهل البيت يتمتعون بمقام العصمة المطلقة، ولا نجد من العلماء والمفسّرين من الشيعة والسنّة يقولون بعصمة نساء النبي، فإن نساء النبي رغم أنهنَّ نساء مؤمنات ولكن لا يمكن ادعاء العصمة لهنّ بل يمكن ادعاء أن البعض قد ارتكبن ذنوب كبيرة ثبتت بالأدلة القاطعة وكنموذج على ذلك:

كان عليّ بن أبي طالب عليه السلام الخليفة الوحيد الذي

كان يتمتع من جهة بالتنصيب من قبل اللَّه تعالى، ومن جهة اخرى تمت خلافته بانتخاب المسلمين وكان هذا الانتخاب يختلف عن الإنتخابات السابقة للخلفاء، لأن الخليفة الأوّل لم ينتخبه سوى عدّة قليلة في سقيفة بني ساعدة ثمّ أجبروا الناس على بيعته لاحقاً، وأما الخليفة الثاني فتم نصبه من قبل الخليفة الأوّل، والخليفة الثالث تولّى سدة الخلافة بثلاث آراء من الشورى الذين نصبهم الخليفة السابق، ولكن الإمام علي عليه السلام واجه في مسألة بيعته للخلافة رغبة جميع الناس وازدحامهم وإصرارهم على البيعة رغم أن ذلك كان على خلاف ميله ورغبته حتّى أنه قال:

«حتّى لقد وُطي ء الحسنان». «1»

آيات الولاية فى القرآن، ص: 125

ولكن بالرغم من ذلك فإننا نرى أن إحدى نساء النبيّ رفعت لواء المعارضة والمخالفة لهذا الخليفة ووصي النبي صلى الله عليه و آله بالحقّ ونقضت بيعته وتحركت على خلاف وصية النبي لنساءه بأن لا يخرجن من بيوتهن، فتحركت وخرجت من المدينة وركبت الجمل متوجهة إلى البصرة، وعندما وصلت إلى منطقة الحوأب وسمعت صوت الكلاب تذكرت قول النبي صلى الله عليه و آله لها وقالت: «إنا للَّه وإنا إليه راجعون! ردّوني ردّوني، هذا الماء الذي قال لي رسول اللَّه: لا تكوني التي تنبحك كلاب الحوأب». «1»

عندما سمعت باسم هذه المنطقة وقيل لها أنها تدعى «الحوأب» عزمت على الرجوع ولكن الأشخاص المتصدين لتثوير الناس للحرب منعوها من ذلك بشتّى الحيل واستمرت في مسيرها.

فهل أن مثل هذه المرأة التي خالفت كلام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ورفعت لواء المعارضة والحرب على

خليفته بالحقّ وسببت في سفك دماء أكثر من 17 ألف نفر من المسلمين هل أنها معصومة وطاهرة من الرجس والمعصية؟

والملفت للنظر أن هذه المرأة هي قد اعترفت بخطأها بنفسها، وفي مقام الجواب على من سألها عن سبب إقامتها هذه الحرب الضروس وأنه من المسؤول عن كلّ هذه الدماء؟

أظهرت الأسف وقالت انه من التقدير الإلهي وتمنت أن هذه الواقعة لم تكن قد وقعت.

وعلى الرغم من أنها اعترفت بخطأها بحيث لا يمكن قبول أيّ توجيه وتبرير لذلك فإنّ بعض العلماء المتعصبين من أهل السنّة ذهبوا إلى أن ذلك نوع من الإجتهاد وأن عائشة لم تكن على خطأ في ذلك.

فهل يصحّ هذا الكلام والإدعاء؟ هل أن الإجتهاد في مقابل خليفة النبيّ بالحقّ والذي تقول عنه عائشة «انه أفضل الناس وكلُّ من أبغضه كافر» اجتهاد صحيح؟ فإذا فتحنا هذه الذريعة وقبلنا بهذا التبرير في هذا المورد فلا يبقى أيُّ مذنب على وجه الأرض، لأن كلّ خطأ له تبرير واجتهاد ويمكن للإنسان أن يحمل معصيته على سبيل الإجتهاد والإستنباط.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 126

والنتيجة هي أن حرب الجمل لم يكن لها أيُّ تبرير منطقي، ولا شكّ في أنّ الأشخاص الذين تولّوا إشعال هذه الحرب من المذنبين والخاطئين ولا يمكن القول أنهم مطهرون من الرجس والذنب.

2- النظرية الثانية أن المراد من أهل البيت هنا الرسول الأكرم والإمام عليّ والحسن والحسين وفاطمة عليهم السلام ونساء النبي «1».

وطبقاً لهذه النظرية فإنّ أحد الإشكالات الثلاثة المتقدمة على النظرية الاولى (الإشكال الأوّل) سينتهي، وبما أن مجموعة النساء والرجال في مقام الخطاب

فانه يستعمل في حقّهم ضمير المذكّر وصحّ مجي هذه الآية بضمير المذكر، ولكن يبقى الإشكالين الآخرين (حيث تقدّم بيانهما في الردّ على النظرية الاولى) وعليه فإنّ هذه النظرية غير قابلة للقبول.

3- وذهب بعض آخر من المفسّرين إلى أن المراد من «أهل البيت» هم القاطنون في مكّة المكرّمة، وقالوا إنّ المراد من «أهل البيت» هنا هو بيت اللَّه الحرام والكعبة المعظمة، وعليه فإنّ «أهل البيت» في هذه الآية هم أهالي مكّة.

وبطلان هذه النظرية واضح أيضاً حيث يرد عليها الإشكالين السابقين في النظرية الاولى، مضافاً إلى أن أهالي مكّة لا يمتازون عن أهالي المدينة حتّى يقال بأن اللَّه تعالى أذهب عنهم الرجس وطهّرهم من الذنب.

4- وهي نظرية جميع علماء الشيعة والتي لا يرد عليها أي من واحد من الإشكالات السابقة وهي أن المراد من «أهل البيت» في هذه الآية هم أشخاص معينون من أهل البيت، أي الإمام عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وعلى رأسهم النبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

والشاهد على صحّة هذه النظرية انه لا يرد أيّ من الإشكالات الثلاثة المذكورة في النظرية الاولى، مضافاً إلى الروايات الكثيرة الدالّة على صحّة هذه النظرية الرابعة حيث يقول العلّامة الطباطبائي في «الميزان» بأن عدد هذه الروايات يبلغ أكثر من سبعين رواية «2»،

آيات الولاية فى القرآن، ص: 127

والملفت للنظر أن أكثر هذه الروايات مذكورة في مصادر أهل السنّة المعتبرة ومنها:

1- صحيح مسلم «1» الذي هو من أهم الكتب الحديثية المعتبرة لديهم.

2- صحيح الترمذي «2» وهو أحد الصحاح الستة لدى أهل السنّة.

3- المستدرك على

الصحيحين «3».

4- السنن الكبرى للبيهقي «4» هذا الكتاب رغم أنه يحوي غالباً الروايات الفقهية إلّاأنه يتضمن روايات غير فقهية.

5- الدرّ المنثور للسيوطي. «5»

6- شواهد التنزيل «6» للحاكم الحسكاني النيشابوري.

7- مسند أحمد «7».

وعلى هذا الأساس فإن الروايات التي تفسر «أهل البيت» بالخمسة من آل الكساء هي من جهة أكثر عدداً، ومن جهة اخرى مذكورة في الكتب المعتبرة جداً لدى أهل السنّة.

الفخر الرازي يتحدّث عن هذه الروايات ومقدارها وميزان اعتبارها ويعترف بهذه الحقيقة ويقول في ذيل تفسير آية المباهلة «الآية 61 من آل عمران»:

واعلم أن هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث «8».

والنتيجة هي أن الروايات التي تفسر «أهل البيت» بهؤلاء الخمسة لا تقبل النقاش من حيث المقدار والإعتبار، ونكتفي هنا بذكر رواية واحدة من مجموع هذه الروايات، وهي رواية الكساء.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 128

هذه الرواية ذكرت في المصادر الحديثية على نحوين:

1- بالتفصيل 2- باختصار.

أما حديث الكساء المفصّل والذي يُقرأ عادةً لشفاء المرضى وحل المشكلات فليس بحديث متواتر، ولكن حديث الكساء المختصر متواتر في مضمونه حيث تقول الرواية:

«عن امّ سلمة (زوجة النبي) أن النبي كان في بيتها وجاءته فاطمة بالطعام، فقال لها: ادع لي بعلك وابنيك. فجاؤوا فتناولوا الطعام ثمّ نشر صلى الله عليه و آله عليهم الكساء وقال:

اللّهُمَّ إنَّ هؤُلاءِ أَهْلُ بَيْتي وَخاصَّتي اذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ، فَنَزَلَ جِبْرَئيلُ «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً».

فقلت: يا رسول اللَّه وأنا معكم؟ فقال: إنكِ على خير» «1».

وفي حديث آخر نقلت هذه الواقعة عن عائشة أيضاً «2».

والنتيجة

أن أهل البيت طبقاً لهذه الروايات هم الخمسة من أهل الكساء.

سؤال: ما هي الحكمة من هذا العمل؟ ولماذا أقدم الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله على ضمّ أهل بيته تحت الكساء وأن يقول هذه العبارة الجميلة؟ ولماذا لم يأذن لُامّ سلمة وعائشة أن يدخلا تحت الكساء؟

الجواب: إنّ هدف النبي الأكرم صلى الله عليه و آله من كلّ هذه التشريفات والدقائق المحفوفة بهذه الواقعة هو أنه أراد أن يميّز أهل البيت ويعرّفهم للناس بحيث لا يبقى معه أيُّ غموض أو إبهام وحتّى لا يقول الأشخاص الذين يأتون بعد ذلك الزمان أن المراد من «أهل البيت» هم أشخاص آخرين.

ولهذا السبب فإنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله لم يكتفِ بهذه التشريفات أيضاً بل طبقاً للرواية المذكورة في مصادر مختلفة منها «شواهد التنزيل» نقلًا عن أنس بن مالك الخادم الخاص لرسول اللَّه تقول: أن رسول اللَّه بعد هذه الحادثة كان يأتي كلّ يوم قبل أذان الصبح وقبل إقامة صلاة الجماعة إلى بيت عليّ وفاطمة ويقف أمام البيت ويكرر هذه العبارة:

آيات الولاية فى القرآن، ص: 129

«الصَّلاةَ يا أَهْلَ الْبَيْتِ. «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً».

وهذا العمل استمر إلى ستة أشهر بلا انقطاع «1».

هذه الرواية أعلاه نقلت أيضاً عن أبي سعيد الخدري حيث يقول أيضاً:

«إنّ النبي الأكرم كان يعمل هذا العمل لمدّة ثمانية أشهر» «2».

ولعلّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قد استمر على هذا العمل أكثر من هذه المدّة ولكن أنس ابن مالك اقتصر على

ستة أشهر وأبو سعيد الخدري اقتصر على ثمانية أشهر «3».

وعليه فإنّ هدف النبي في فصل أهل البيت عن نسائه وتعيين المصداق الكامل والواضح لكلمة «أهل البيت» هو بيان هذه الحقيقة للمسلمين بشكل واضح وجلي بحيث لا نجد مورداً آخر قام النبي صلى الله عليه و آله بتكرار عمل معيّن إلى هذه الدرجة، فهل أن كلّ هذه التأكيدات والتوصيات والتوضيحات لا تكفي للقول بأن أهل البيت هم هؤلاء الخمسة؟ وهل من الصحيح أن نفسّر هذه الآية بتفسيرات بعيدة عن أجواءها؟

لماذا يذهب البعض في مثل هذه القضية الواضحة كالشمس في رابعة النهار إلى مذاهب متفرقة ويوقعوا أنفسهم والآخرين في مزالق الضلالة والإنحراف؟

الجواب على هذا السؤال واضح أيضاً، وهو أن التفسير بالرأي والمسبوقات الفكرية لهؤلاء تشكل حجاباً سميكاً على بصيرتهم فلا يدركوا معه ما يخالف نظراتهم المسبقة حتّى وإن كانت كوضح الصبح أو لا يريدون أن يقبلوا بالحقيقة.

ربّنا! نسألك أن تأخذ بأيدينا في طريق الهداية والحقّ دائماً ولا تحرمنا من أنوار هدايتك لحظة واحدة.

إلهنا! جنبنا من الوقوع في التفسير بالرأي وخاصة بالنسبة إلى القرآن الكريم والمعارف الدينية وإعنا بالبرهان القاطع على الوصول إلى الحقّ والحقيقة.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 130

الجواب على الأسئلة

الجواب على الأسئلة

قد تثار بعض الأسئلة وعلامات الإستفهام حول آية التطهير، حيث نستعرض هنا نماذج من هذه الأسئلة ونجيب عليها:

السؤال الأوّل: إنّ أكثر ما تدلُّ عليه آية التطهير هو عصمة أهل البيت، أي الإمام علي، وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وعلى رأسهم النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، ولكن الآية محل البحث لا

ترتبط بمسألة الإمامة والولاية.

وبعبارة اخرى: إننا نبحث هنا عن الآيات الشريفة التي تدلُّ على ولاية وإمامة أميرالمؤمنين عليه السلام، والآية المذكورة لا تدلُّ على هذا الأمر بل غاية ما تدلُّ عليه هو عصمة أهل البيت، فلماذا نستدلّ بهذه الآية الشريفة على الإمامة؟

الجواب: لو ثبت مقام العصمة لأهل البيت عليهم السلام فإنّ الإمامة سوف تثبت لهم أيضاً، لأنه كما تقدّم أن الطاعة للإمام هي مطلقة وغير مقيّدة بقيد أو شرط، ولا يمكن تحقق هذا المعنى من الطاعة إلّالمن كان يتحلّى بمقام العصمة، أي أن الإمام يجب أن يكون معصوماً، ومن جهة اخرى فلو تقرر أن يكون الإمام منتخباً من الناس أو منصوباً من قبل غيره فإنّه مع وجود المعصوم لا ينبغي التمسّك بإطاعة غير المعصوم.

يقول تبارك وتعالى في الآية 124 من سورة البقرة في حديثه عن النبي إبراهيم عليه السلام عندما نصبه اللَّه تعالى إماماً للناس بعد أن نجح في الإبتلاءات والإمتحانات الصعبة وبعد أن كان يتحلّى بمقام النبوّة وكان من اولي العزم وخليلًا للرحمن، فإنّ إبراهيم بعد أن نال مقام الإمامة طلب من اللَّه تعالى استمرار الإمامة في ذرّيته «وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي» فأجابه اللَّه تعالى:

«لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ».

ومن هنا نعلم أن العصمة جزءٌ لا يتجزأ من الإمامة، والأشخاص الذين تلوثوا بالظلم لا يصلحون لهذا المقام الشريف حتّى لو كانوا قد انحرفوا وتلوثوا بالمعصية في أزمنة سابقة.

السؤال الثاني: سلمنا أن الإمام يجب أن يكون معصوماً، ولكن هل يعني هذا أن كلّ معصوم إمام؟ ألم تكن فاطمة الزهراء عليها السلام معصومة، إذن فلماذا لم تكن إماماً؟

الجواب: إنّ العصمة بالنسبة إلى النساء لا تستلزم مقام الإمامة، ولكنها بالنسبة إلى

آيات الولاية فى القرآن، ص: 131

الرجال هناك ملازمة بينهما، ولهذا لا نجد معصوماً بين رجال العالم غير النبيّ والأئمّة الطاهرين عليهم السلام.

السؤال الثالث: تقدّم في الأبحاث السابقة أنّ اختلاف الضمائر في آية التطهير مع الضمائر قبلها وبعدها والتي تتحدّث فيها الآية الشريفة عن نساء النبي صلى الله عليه و آله هو السبب في أن يكون المخاطب في آية التطهير غير نساء النبي، في حين أننا نجد مثيلًا لهذا الإختلاف في الضمائر في قصة البشارة لإبراهيم عليه السلام بالولد في شيخوخته، لأنّ المخاطب في الآية الشريفة هو زوجة النبيّ إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى:

«قالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ». «1»

فطبقاً لهذه الآية أنّ المخاطب بضمير «عليكم» هو زوجة النبيّ إبراهيم.

الجواب: إنّ المخاطب في جملة «أتعجبين» هو زوجة إبراهيم فقط، ولهذا ورد الفعل بصورة المفرد للمخاطب المؤنث، ولكنّ المخاطب بكلمة «عليكم» هو جميع أفراد اسرة النبيّ إبراهيم من الزوج والزوجة، في حين أن المخاطب في آية التطهير وطبقاً للأدلّة السابقة لا يمكن أن يكون نساء النبي لا بالإستقلال ولا بالإنضمام إلى الخمسة أصحاب الكساء.

السؤال الرابع: إذا كان المخاطب في آية التطهير هو الخمسة من أصحاب الكساء فقط، إذن فلماذا وردت آية التطهير ضمن الآية التي تتحدّث عن نساء النبي؟

الجواب: إنّ آيات القرآن الكريم كما ذكر العلّامة الطباطبائي «2» وآخرون لم تنزل في وقت واحد، بل كانت الجمل المذكورة تنزل أحياناً في آية واحدة على فترات متباعدة، حيث إنّ آيات القرآن نزلت بحسب الحاجة والحوادث الواقعة، وعلى هذا الأساس فمن الممكن

أن تكون الآية التي تتحدّث عن نساء النبي صلى الله عليه و آله قد نزلت في فترة معيّنة ثمّ نزلت بعد ذلك آية التطهير وبعد طلب النبيّ الكريم المبني على طهارة أهل البيت، وبعد ذلك نزلت آيات اخرى تتعلق بظروف خاصّة وحوادث معيّنة اخرى، وعليه فلا يلزم من ذلك أن يكون هناك ارتباط وثيق بين آيات القرآن الكريم أجمع.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 132

النتيجة: إن آية التطهير تدلُّ من جهة على عصمة الخمسة من أصحاب الكساء عليهم السلام، وتدلُّ أيضاً على ولاية وإمامة أميرالمؤمنين عليه السلام من جهة اخرى.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 133

آية المودة

اشارة

آية المودة 7

[سورة الشورى (42): آية 23]

وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24)

«سورة الشورى / الآية 23»

أبعاد البحث

أبعاد البحث

عندما نستعرض آراء ونظرات علماء أهل السنّة ومفسّريهم حول هذه الآية نجد أنهم قد تورطوا في ظاهرة التفسير بالرأي نتيجة المسبوقات الفكرية والذهنية لديهم، ولهذا نرى أن تفسيرهم لهذه الآية الشريفة عجيب وغريب جدّاً حيث سنتطرق إليه لاحقاً، وأما علماء الشيعة فنجد لديهم تفسيراً واضحاً وجليّاً لهذه الآية الشريفة من خلال الإستيحاء من تعاليم أهل البيت عليهم السلام.

نظرة إلى الآيات السابقة

نظرة إلى الآيات السابقة

ونرى من اللازم لأجل توضيح المطلب في تفسير آية المودّة أن يكون لدينا بحث إجمالي حول الآية السابقة، أي الآية 22 من سورة الشورى ، وكذلك صدر آية المودّة الذي لم نذكره آنفاً.

تقول الآية: «وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ».

بعد أن ذكر اللَّه تعالى في الآيات السابقة عاقبة الظالمين تتطرق هذه الآية لذكر مستقبل

آيات الولاية فى القرآن، ص: 134

المسلمين الذين يتحركون من موقع الإيمان والعمل الصالح ولا يقنعون بمجرد الشهادة بالتوحيد ونبوّة النبي الأكرم بل يتحركون على مستوى الممارسة والعمل للإتيان بالخيرات والأعمال الصالحة، وفي هذه الآية الشريفة وضمن بيان العاقبة الحسنة للمؤمنين هؤلاء تقرر ثلاثة أنواع مهمة من الثواب الاخروي المعدّ لهم:

1- «فِي رَوْضاتِ الْجَنّاتِ» فأوّل ثواب يحصل عليه هؤلاء المؤمنين في الآخرة هو دخولهم إلى الجنّة.

سؤال: أين تقع «روضات الجنّات»؟

الجواب: عندما نستقري الآيات القرآنية فإننا لا نجد هذه العبارة سوى في آية 22 من سورة الشورى ، والعرب يطلقون على الحدائق الطرية والبساتين النضرة كلمة «روضة» وجمعها «روضات».

وبالطبع أحياناً تطلق هذه الكلمة على محل اجتماع الماء، ولكن المراد بكلمة «روضة» في هذه الآية هو المعنى الأوّل، إذن فروضات الجنّات

تعني بساتين الجنّة اليانعة.

سؤال: نظراً إلى أن جميع أماكن الجنّة ومناطقها على شكل بساتين وحدائق نضرة ويانعة، فما معنى عبارة «في روضات الجنّات»؟

الجواب: يستفاد من العبارة أعلاه أنه مضافاً إلى دخولهم الجنّة فإنّ بساتين خاصّة تكون من نصيب هؤلاء المؤمنين.

والنتيجة هي أن أوّل ثواب وامتياز للمؤمنين الذين يعملون الصالحات هو «روضات الجنّات».

2- «لَهُمْ ما يَشاءُونَ» فإنّ المؤمنين الذين يعملون الصالحات مضافاً إلى الإمتياز الأوّل وسكنهم في روضات الجنّات فإنّهم ينالون هناك كلّ ما يشاءون، وفي الحقيقة أننا لا نجد مسألة يمكن أن تتصور أعلى من هذا المعنى بالنسبة إلى النعم المادية، بحيث إن الإنسان ينال كلّ ما يريده ويطلبه.

3- «عِنْدَ رَبِّهِمْ» ويشمل هذا النِعم المادية والمعنوية في الجنّة، فمن حيث النِعم المادية فقد تقدّم أن المؤمنين الذين عملوا الصالحات يعيشون في أحسن الأحوال، ومن الجهة المعنوية

آيات الولاية فى القرآن، ص: 135

كذلك أيضاً لأنهم يعيشون مقام القرب الإلهي «عند ربّهم» وهو المقام الذي ذكر للشهداء في سورة آل عمران الآية 169، وأما المراد بعبارة «عند ربّهم»، وما هي البركات المترتبة على هذا المقام؟ فغير معلوم لنا.

«ذلِكَ هُوَ الْفَضلُ الْكَبيرُ» فبما أن هؤلاء المؤمنين يعيشون في أفضل الحالات المادية والمعنوية في روضات الجنّات فلذلك عبّر اللَّه تعالى عن هذا المقام بأنه «فضل كبير»، وعندما يطلق اللَّه تعالى هذه الكلمة على نعمة وموهبة من المواهب الإلهية يتبيّن من ذلك عظمة هذه النعمة والموهبة بحيث تفوق حدّ التصور.

والنتيجة: أن معيار العبودية للَّه تعالى أمران: الإيمان والعمل الصالح، وعليه فإنّ الامور الاخرى من قبيل العلم

والثروة والقدرة والإعتبار الإجتماعي وأمثال ذلك لا تكون ذات قيمة إلّاإذا قيست بهذا المعيار وتحرّك الإنسان معها في خطّ الإيمان والعمل الصالح.

«ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ» ففي هذه الآية الشريفة تكرر القول بأن الامور المذكورة سابقاً «روضات الجنّات»، «لهم ما يشاءُون» و «عند ربّهم» هي مواهب يبشّر اللَّه تعالى بها المؤمنين من ذوي الأعمال الصالحة لكي تساهم هذه البشارة في رفع ثقل الطاعة وتحمل المسؤولية وتمنح الإنسان قوّة في خط التصدي للأهواء والشهوات.

ومع الإلتفات إلى ما ذكرنا أعلاه حول الآية الشريفة، نبدأ بشرح وتفسير آية المودّة:

الشرح والتفسير: مودّة أهل البيت، أجر الرسالة

الشرح والتفسير: مودّة أهل البيت، أجر الرسالة

«قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً» لاشكّ أن نبي الإسلام صلى الله عليه و آله تحمّل في طريق إبلاغ الرسالة ونشر الدعوة السماوية، أتعاباً كثيرة ومشقّات باهظة ولكنه بالرغم من ذلك لم يطلب أجراً مقابل هذه الأتعاب والمشقّات، وعندما جاءه بعض المسلمين وقالوا له: إذا كنت تشكو من فاقة ونقص مالي فإننا نضع بين يديك أموالنا بدون قيد أو شرط، فنزلت الآية أعلاه «1»

آيات الولاية فى القرآن، ص: 136

وأكدّت على أن النبي لا يريد أجراً في مقابل أداء الرسالة وتبليغ الدعوة.

«إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى » وهنا يستثني القرآن الكريم من الأجر شيئاً واحداً، وهو أن نبي الإسلام لا يطلب من المسلمين شيئاً بعنوان أجر الرسالة إلّا «المودّة» لأقربائه وأرحامه.

والنتيجة هي أن نبي الإسلام لم يطلب شيئاً بعنوان أجر في مقابل أتعابه وزحماته للإسلام والمسلمين سوى أمراً واحداً وهو «مودّة أقربائه وأرحامه».

من هم القربى؟

من هم القربى؟

إنّ جميع الأبحاث التي تدور حول هذه الآية الشريفة تتركز على كلمة «القربى» وتفسيرها، فمن هم القربى في هذه الآية والذين طلب رسول اللَّه من المسلمين مودّتهم ومحبّتهم بعنوان أجر الرسالة؟

بعض العلماء والمفسّرين مرّوا على هذه الآية مرور الكرام ولم يتعبوا أنفسهم في تدبّرها والتأمل فيها، ولعلّ ذلك لأنهم لم يجدوا فيها إنسجاماً مع تصوراتهم القبلية ومسبوقاتهم الفكرية، في حين أن الآية الشريفة عميقة المغزى ، ولأجل أن ندرك عظمة هذه الآية بما فيها من معانٍ عميقة علينا أن نستوحي ونستعين لهذا الغرض من الآيات القرآنية الاخرى التي تتحدّث في هذه المسألة على

لسان سائر الأنبياء عليهم السلام.

لو أمعنّا النظر في سورة الشعراء لرأينا أن مسألة أجر الرسالة قد طرحت قبل نبي الإسلام على لسان خمسة من الأنبياء العظام وهم: نوح، هود، صالح، لوط، وشعيب عليهم السلام، ولكن هؤلاء الأنبياء لم يذكروا في استغنائهم عن الأجر مسألة المودّة في القربى، حيث ذكروا جميعاً هذه المسألة بقولهم:

«وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ» «1».

وهنا يثار هذا التساءل: كيف لم يطلب هؤلاء الأنبياء أجراً في مقابل أداء الرسالة ولكن

آيات الولاية فى القرآن، ص: 137

رسول الإسلام طلب الأجر عليها بعنوان «المودّة في القربى»؟

هل أنّ مقام هؤلاء الأنبياء أعلى من مقام نبي الإسلام؟

بلا شكّ أن محمّد المصطفى أفضل من جميع الأنبياء، ولهذا ورد في القرآن الكريم أن كلُّ نبيٍّ من الأنبياء يأتي يوم القيامة شاهداً على امّته ولكنّ نبي الإسلام يأتي شاهداً على جميع هؤلاء الشهداء «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» «1».

والحقيقة أن هذه المسألة تزداد غموضاً وعمقاً، فكيف يطلب نبي الإسلام الذي هو أفضل الأنبياء الإلهيين أجراً على عمله في حين أن جميع الأنبياء لم يطلبوا أجراً من أقوامهم؟

الحقيقة أن الآية الشريفة تحتاج إلى مزيد من البحث والدقّة والتدبّر، رغم أن البعض قد تهاون في ذلك ومرّ عليها مرور الكرام ليمنع من يقظة الضمير ولئلّا يبتلى بعذاب الوجدان.

سؤال: ما هو غرض النبي الأكرم صلى الله عليه و آله من طلب هذا الأجر؟ هل أنه يهدف من طلبه هذا إرضاء مصالحه الشخصية، أو أنه

يهدف من وراء ذلك إلى تحقيق غايات مقدسة اخرى يعود نفعها على المسلمين أنفسهم؟

الجواب: وفي مقام الجواب على هذا السؤال نرى من الضروري أن نضع آيتين من القرآن الكريم إلى جانب آية المودّة لكي تفسّر الآيات بعضها بعضاً:

1- نقرأ في الآية الشريفة 47 من سورة سبأ:

«قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ».

هذه الآية الشريفة توضح بعض الإبهام في آية المودّة حيث يتّضح أن نبي الإسلام صلى الله عليه و آله لم يطلب أجراً من قومه كما هو حال سائر الأنبياء، إلّاأن مسألة «المودّة في القربى» في الحقيقة تعود للناس أنفسهم.

2- ونقرأ في الآية 57 من سورة الفرقان والتي هي في الحقيقة مفسّرة للآية 47 من سورة سبأ حيث تبيّن الفائدة والنفع من «المودّة في القربى»:

«قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 138

فالآية السابقة بيّنت على أن أجر الرسالة لم يكن بدافع المصلحة الشخصية للنبي صلى الله عليه و آله، بل يعود النفع فيها للناس، وهذه الآية الشريفة تبيّن أن مسألة أجر الرسالة يستوحي مقوّماته من استمرار الأهداف الإلهية من الرسالة، وفي الحقيقة أن النفع يعود إلى أصل الدين.

النتيجة هي أن مسألة «أجر الرسالة» لم يكن يقوم على أساس النفع الشخصي لنبي الإسلام بل كان النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله كسائر الأنبياء في عدم طلبه الأجر الشخصي من الناس، ولكنّ أجر الرسالة المذكور في آية المودّة

هو في الحقيقة باعث على استمرار الرسالة ودوام الدين، ومع الإلتفات إلى هذه الحقيقة وهي أن «مودّة القربى» لها هذا الإعتبار الكبير بحيث تمثّل عاملًا مهماً لاستمرار الرسالة، فهل يصحّ التعامل مع هذه الآية الشريفة من موقع عدم الإهتمام بالتدبّر فيها حذراً من انقلاب الآراء والأفكار المسبقة؟

تفسير «القربى » في نظر الشيعة

تفسير «القربى » في نظر الشيعة

يتفق علماء الشيعة على أن المراد من «القربى» في هذه الآية الشريفة هم أهل بيت النبوّة عليهم السلام، ولاشكّ أن «الولاية» هي استمرار للرسالة وعدل النبوّة، ولهذا فإنّ هذا الأجر «مودّة القربى» ينسجم مع الرسالة، مضافاً إلى أن الولاية تقود الناس في خطّ الإيمان والتقوى والإنفتاح على اللَّه تعالى.

إذا فسّرنا آية المودّة وفقاً لما ذكره علماء الشيعة ومفسّروهم فسوف يتّضح جيداً المعنى الكامل في آية المودّة مضافاً إلى الآيات الاخرى المتعلقة بها، وسوف يتبين أن الإرتباط فيما بينها هو ارتباط منطقي وصحيح، والملفت للنظر أن دعاء الندبة الذي هو في الحقيقة دورة كاملة من المعارف الإلهية المشحونة بالولاية يذكر في مضامينه الآيات الثلاث المذكورة آنفاً، ويستنتج منها نتيجة مهمة ويتّضح أن الأئمّة هم الطرق والوسائل إلى اللَّه تعالى والذين يقودون الناس إلى رحمة اللَّه ورضوانه.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 139

نظرات أهل السنّة في معنى «القربى»

نظرات أهل السنّة في معنى «القربى»

وقد ذكر أهل السنّة تفاسير مختلفة لهذه المفردة القرآنية لا تنسجم كلّها مع الآية الشريفة، وإليك بعض النماذج منها:

1- قيل إن المراد من «القربى» هو محبة أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله ومودتهم ولكن من دون الولاية والإمامة والخلافة، أي الإكتفاء بالإرتباط العاطفي والعلاقة الظاهرية فقط بأهل بيت النبي صلى الله عليه و آله.

ولكن هل يمثل هذا المعنى والمفهوم من المودّة عدلًا للرسالة؟

هل أن المحبة العاطفية فقط وبدون الولاية والإمامة يمكنها أن تكون أجراً للرسالة وبمثابة العدل لها؟

مضافاً إلى ذلك كيف يطلب نبي الإسلام صلى الله عليه و آله أجر

الرسالة بالمعنى الذي ذكروه لها، في حين أن جميع الأنبياء السابقين لم يطلبوا من أقوامهم مثل هذا الأجر بل كانوا يطلبون أجرهم من اللَّه تعالى؟ وعليه فإنّ مثل هذا التفسير لا يمكن قبوله.

2- وذهب آخرون إلى أن المراد من «القربى» هو الأعمال الصالحة التي تقرب الإنسان من اللَّه تعالى، وعليه فإنّ «المودّة في القربى» تعني العشق والشغف بالأعمال الحسنة والرغبة في الصلاة، الصوم، الحجّ، الجهاد، صلة الرحم، احترام الكبار وأمثال ذلك، فهذه الأعمال الصالحة والسلوكيات الحسنة هي التي تمثل أجر الرسالة.

3- وذهب البعض إلى أن كلمة «في» الواردة في هذه العبارة بمعنى «اللام»، وفي هذه الصورة يكون معنى الآية هو «أن أجر رسالتي وما عملته في تبليغ الرسالة الإلهية لكم هو أن تحبونني لأنني من أرحامكم وأقرباءكم» ثمّ ذكروا شجرة النسب للنبي صلى الله عليه و آله وتفاصيل ارتباطه النسبي مع قريش لبيان مقصودهم بحيث تبيّن أن جميع القبائل العربية يرتبطون بشكل أو بآخر مع النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله في النسب.

ولكن هذا التفسير واضح البطلان لأنه:

أوّلًا: إن استعمال «في» بمعنى «اللام» قليل جداً ونادر في لغة العرب وليس هناك دليل وشاهد على أن المراد من العبارة المذكورة هو هذا المعنى.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 140

ثانياً: إن محبة النبي صلى الله عليه و آله لوحدها لا تمثل عدل النبوّة والرسالة ويجب أن يكون أجر الرسالة متناسبة مع الرسالة نفسها.

فهل أن قوله «عليكم أن تحبونني ولا تؤذونني لأنني من أقربائكم» يمثل عدل الرسالة؟

ألا يكون مثل هذا التفسير باعثاً على هبوط

المعنى السامي للآية الشريفة؟

4- والتفسير الآخر الذي هو أوهن من التفسير السابق هو أن يقال: إنّ المراد من الآية الشريفة هو «المودّة في قرباكم وأن أجر رسالة النبي هو أن تحبّوا أقرباءكم وأرحامكم».

الإنسان يجد في نفسه رغبة شديدة في عدم تصديق وجود مثل هذا التفسير لدى هؤلاء العلماء، ولكنّ مع الأسف نجد البعض يصرّحون بذلك.

إنّ بطلان هذا الرأي هو أوضح من أن يحتاج إلى كلام، فهل أنّ مودّة الأقرباء للإنسان المسلم تمثل عدل للرسالة؟ وهل أن مودّة الأقرباء تعتبر استمراراً للنبوّة؟

أجل، عندما نتعامل مع الآيات الشريفة بسذاجة وسطحية ونحكّم المسبوقات الفكرية عليها فسوف نبتلي بمثل هذه الأخطاء والتفاسير التعسفية.

فهل أن هذا التفسير والتفسير السابق يتناسب وينسجم مع الآية الشريفة، أو أن كلّ إنسان له اطلاع قليل على لغة العرب وبلاغتهم سوف يلتفت إلى عدم انسجام مثل هذه التفاسير مع الآية الشريفة؟ ولهذا السبب فإنّ هؤلاء العلماء أنفسهم اعترفوا أن هذه التفاسير مجازية وغير حقيقية، أو أنها من قبيل الإستثناء المنقطع وهو أيضاً بدوره نوع من المجاز.

لماذا نفسّر الآية القرآنية بشكل يوقعنا في هوة المعاني المجازية وغير الحقيقية؟

لماذا لا نفسر المودّة في القربى بمعنى الولاية والإمامة والذي ينسجم تماماً مع الآية محل البحث وسائر الآيات المتعلّقة بها؟

اعتراف مفروض

اعتراف مفروض

ومن عجائب الأيّام أن الكثير من مفسّري أهل السنّة رووا حديثاً مفصّلًا عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله في ذيل هذه الآية الشريفة حول محبّة أهل البيت ومودتهم، بحيث إنّ الإنسان

آيات الولاية فى القرآن، ص: 141

عندما يقرأ هذا الحديث الطويل والجذّاب ويتفكر

قليلًا في مضامينه السامية ومعانيه الراقية يمتلكه العجب والحيرة من تلكم التفاسير الجوفاء والبعيدة عن روح الآية الشريفة وأجواءها.

وهنا ننقل ما أورده الفخر الرازي في تفسيره من الحديث النبوي حيث يقول:

«نَقَلَ صاحِبُ الكَشّافِ «1» عَنِ النَّبِيِّ الأكرم صلى الله عليه و آله قوله (ثمّ يورد اثني عشر فقرة جذّابة وعميقة المضامين في هذا الحديث الشريف).

1- مَنْ ماتَ عَلى حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ ماتَ شَهيداً.

فهل أن مثل هذه المحبّة هي محبّة عادية وطبيعية وفارغة من الولاية والإمامة؟

إذا كانت كذلك فهل يعقل أن يكون هذا المحبّ في صفوف الشهداء؟

أو أن المراد من هذه المحبّة هي الحالة التي تدفع الإنسان في مدارج الكمال والمعنويات إلى أن يصل إلى مرتبة الشهداء، وهي المحبّة المشروطة بالولاية والإمامة؟

2- أَلا وَمَنْ ماتَ عَلى حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ ماتَ مَغْفُوراً لَهُ.

ما هي هذه المحبّة التي تعمل على تطهير الإنسان من الذنوب والآثام بحيث أنه عندما يحين أجله فإنه سيموت طاهراً من كلِّ ذنب وستغفر له جميع الذنوب والمعاصي؟ هل أن مثل هذه المحبّة والمودّة هي محبّة اعتيادية؟

3- أَلا ومَنْ ماتَ عَلى حُبِّ آلِ مُحَمّدٍ ماتَ تائِباً.

أي أن هذه المحبّة تقع بديلًا للتوبة، فلو أن الإنسان لم يوفق للتوبة من الذنوب في هذه الدنيا وكان محبّاً لأهل البيت فإنه يموت كما يموت التائب من الذنوب، فما هي حقيقة هذه المحبّة؟

4- أَلا وَمَنْ ماتَ عَلى حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ ماتَ مُؤْمِناً مُسْتَكْمِلَ الْإيمانِ

فهل يعقل أن يرتبط الإنسان بأهل البيت عليهم السلام برابطة اعتيادية وطبيعية ثمّ يفضي ذلك إلى كمال الإيمان؟

من المسلّم وجود مضمون عميق في هذه الكلمات بحيث يؤدي بالإنسان إلى الترقّي

آيات الولاية فى القرآن، ص: 142

والسير في خطّ الإيمان والتقوى ليصل بالتالي إلى أعلى مرتبة منه.

5- أَلا وَمَنْ ماتَ عَلى حُبِّ آلِ مُحَمّدٍ بَشَّرَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ بِالْجَنَّةِ ثُمَّ مُنْكِرٌ وَنَكيرٌ

ونتساءل: ما هذه المحبّة والمودّة التي تسبب في أن ينال الإنسان البشارة بالجنّة عند موته؟

6- أَلا وَمَنْ ماتَ عَلى حُبِّ آلِ مُحَمّدٍ يُزِفُّ إلَى الْجَنَّةِ كَما تُزِفُّ الْعَرُوسُ إلى بَيْتِ زَوْجِها

أي سوف يقاد إلى الجنّة باحترام فائق وتقدير كبير، أجل فإنّ إكسير محبّة آل محمّد عليهم السلام له مثل هذه الآثار والمعطيات العجيبة.

7- أَلا وَمَنْ ماتَ عَلى حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ فُتِحَ لَهُ فِي قَبْرِهِ بابانِ إلَى الْجَنَّةِ

سؤال: لماذا يفتح له بابان إلى الجنّة؟

الجواب: لعلّ إحداهما ببركة النبوّة والاخرى ببركة الولاية والإمامة.

8- أَلا وَمَنْ ماتَ عَلى حُبِّ آلِ مُحَمّدٍ جَعَلَ اللَّهُ قَبْرَهُ مَزارَ مَلائِكَةِ الرَّحْمَةِ

هل يعقل أن تكون المحبّة العادية سبباً في تحويل قبر المؤمن إلى مزار للملائكة؟

9- أَلا وَمَنْ ماتَ عَلى حُبِّ آلِ مُحَمّدٍ مات عَلَى السُّنَّةِ وَالْجَماعَةِ

في هذه العبارات المذكورة أعلاه، نرى بوضوح آثار المحبّة والمودّة لأهل البيت، ثمّ إن الحديث الشريف يذكر ثلاث عبارات اخرى تتحدّث عن العاقبة السيئة لبغض وعداوة أهل البيت عليهم السلام.

10- أَلا وَمَنْ ماتَ عَلى بُغْضِ آلِ مُحَمَّدٍ جاءَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ

إنّ من يعيش البغض لآل محمّد صلى الله عليه و آله من شأنه أن يهوي إلى أسفل درجات الشقاء بحيث يكون آيس من رحمة اللَّه.

11- أَلا وَمَنْ ماتَ عَلى بُغْضِ آلِ مُحَمَّدٍ ماتَ كافِراً

هذا الأثر السيى ء لبغض آل محمّد هو أسوأ مما قبله.

12- أَلا وَمَنْ ماتَ عَلى بُغْضِ آلِ مُحَمَّدٍ لَمْ يَشُمَّ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ

آيات الولاية فى القرآن، ص: 143

والجدير بالذكر أن رائحة الجنّة كما ورد في بعض الروايات تصل إلى مسافة ألف عام «1».

وطبقاً لهذه الرواية الشريفة فإنّ معنى العبارة أعلاه أن الشخص الذي يعيش حالة البغض لآل محمّد ليس فقط أنه يكون محروماً من دخول الجنّة، بل سوف يبتعد عنها بمسافة 500 عام بحيث لا يتمكن من شم رائحتها، والخلاصة أن مثل هذا الشخص بعيد عن الجنّة جداً.

كيف يستطيع الإنسان أن يصدّق بأن عالماً كبيراً مثل الفخر الرازي يروي هذه الرواية الجميلة والعميقة المضمون والمحتوى وبكلّ هذه المعطيات المهمة والآثار الجليلة ثمّ يفسّر المحبّة والمودّة ومن دون التدبّر في هذه المضامين بالمحبّة الظاهرية والعاطفة الطبيعية؟

والأعجب من ذلك أنه بعد أن نقل الرواية المذكورة آنفاً شرع بتوضيح المراد من آل محمّد عليهم السلام الذين هم محور هذه الرواية فقال:

«هذا هو الذي رواه صاحب الكشاف وأنا أقول: آل محمّد صلّى اللَّه عليه وسلم هم الذين يؤول أمرهم إليه، فكلّ من كان أمرهم إليه أشدّ وأكمل كانوا هم الآل، ولا شك أن فاطمة وعلياً والحسن والحسين كان التعلق بينهم وبين رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أشدّ التعلقات وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر» «2».

من الملفت للنظر هو أن هذه العبارات ذكرها عالم سنّي متعصب، والمفهوم من هذه الكلمات هو أقرب ما يكون إلى ما يقوله الشيعة بحيث إنني عندما كنت أقرأ هذه الكلمات شككت في لحظة أن هذا الكتاب الذي أقرأه هل هو من تفاسير السنّة أو الشيعة؟ فلعلني أقرأ تفسيراً لأحد علماء الشيعة، ولكن عندما نظرت إلى

الغلاف انتبهت إلى أنني أقرأ تفسير الفخر الرازي.

سؤال: نظراً لما ورد في متن آية المودّة وكذلك ما ورد في الآيات الاخرى المرتبطة بها

آيات الولاية فى القرآن، ص: 144

وبالتأمل والدقّة في الرواية الشريفة المذكورة آنفاً، هل يعقل أن تكون المحبّة والمودّة التي هي محور البحث في الآية الكريمة والرواية الشريفة يراد منها المحبّة العادية بدون الولاية والإمامة؟

ألا يمكن أن نقطع ونتيقن بأن المراد من المودّة هنا هو الولاية والإمامة التي هي استمرار للرسالة وعدل النبوّة؟

لولم يكن كذلك فما هو التفسير المناسب الذي يمكن بواسطته تفسير الآيات والروايات المذكورة في محل البحث؟

علينا أن نشكر اللَّه تعالى على ما وفقنا لمحبّة وولاية أهل البيت عليهم السلام وكذلك نشكر والدينا اللذين غرسا في قلوبنا ولاية آل محمّد عليهم السلام.

تفسير المودّة في كلمات الإمام الصادق عليه السلام

تفسير المودّة في كلمات الإمام الصادق عليه السلام

ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله:

«ما أَحَبَّ اللَّهَ مَنْ عَصاهُ» «1».

وعلى هذا الأساس فإنّ الإنسان الذي يتحرّك في سلوكه الفردي والإجتماعي من موقع المخالفة للإمام علي عليه السلام فإنه لا يحبّه قطعاً، ولهذا فإنّ المحبّة الحقيقية هي التي تقود الإنسان في خط الطاعة والعبودية للَّه تعالى، ولهذا السبب نقول أن المحبّة والمودّة بدون الإتباع العملي والطاعة والعبودية هي أساساً ليست بمحبّة حقيقية ومودّة واقعية.

وهنا نلفت النظر إلى هذه القصة:

كان «حاجب» أحد الشعراء الماهرين ويتمتع بقريحة جيدة وصفاء قلب، وأحياناً كان يقوم بنضم بعض الأبيات الشعرية على مذاق العوام، وفي أحد الأيّام أنشد قصيدة في وصف التعلّق بأميرالمؤمنين علي عليه السلام وقال:

آيات الولاية فى القرآن، ص: 145

يا حاجب إذا كانت المعاملة في الحشر مع علي فأذنب ما شئت فإني ضامن

أي أن حبّ عليّ عليه السلام كافل للنجاة يوم القيامة حتّى لو غرق الإنسان في بحر الذنوب، وبهذا تكون المحبّة للإمام عليّ عليه السلام كما وردت في الشعر أعلاه بمثابة ضوء أخضر للمذنبين ليرتكبوا ما يشاؤون من الذنوب والمعاصي.

وفي نفس الليلة رأى هذا الشاعر الإمام علي عليه السلام في عالم الرؤيا فقال له الإمام عليه السلام:

- يا حاجب ما هذا الشعر الذي قلته؟

فقال حاجب: وكيف أقول؟

فأصلح له الإمام هذا البيت من الشعر وقال:

يا حاجب إذا كانت المعاملة في المحشر مع عليّ فأخجل من علي وقلل من الذنب

وعليه فإنّ المحبّة والمودّة هنا بمعنى التحرّك في خطّ الطاعة والرسالة والتقوى والإبتعاد عن الذنوب.

تفسير آية المودّة من خلال الروايات

تفسير آية المودّة من خلال الروايات

لقد وردت في شرح وتفسير هذه الآية الشريفة روايات مختلفة من طرق الشيعة والسنّة، وفيما يلي نماذج من هذه الروايات:

1- نقل «أحمد» من كبار علماء أهل السنّة في كتابه «فضائل الصحابة» عن سعيد ابن جبير عن عامر هذه الرواية:

لَمَّا نَزَلَتْ «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى » قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ؟ مَنْ قَرابَتُكَ؟ مَنْ هؤُلاءُ الَّذِينَ وَجَبَتْ عَلَيْنا مَوَدَّتُهُمْ؟ قالَ: عَلِيٌّ وَفاطِمَةُ وَ ابْناهُما، وقالَها ثَلاثاً. «1»

آيات الولاية فى القرآن، ص: 146

ونستوحي من هذه الرواية الشريفة عدّة امور:

الأوّل: إنّ الرواية أعلاه تصرّح بأن المراد من القربى في هذه الآية هم أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله لا النبي نفسه ولا أقرباء المسلمين ولا مطلق الأعمال الصالحة والخيّرة.

مضافاً إلى أن كلمة القربى هنا لا تستوعب جميع أقرباء النبي صلى الله عليه و آله، بل تتحدّد بأشخاص معدودين ذُكرت أسماءهم في هذه الرواية.

الثاني: ونستوحي أيضاً أن هذا السؤال والإستفهام عن القربى كان يدور في أذهان الصحابة أيضاً ولذلك لم يتوجّهوا صوب الإحتمالات الواهية التي ذكرها بعض علماء أهل السنّة بل فهموا بصورة مباشرة من المودّة هنا هي مودّة أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله، وكذلك أدركوا أن الآية لا تقصد بالقربى جميع أقرباء النبي صلى الله عليه و آله ولذلك طلبوا من النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أن يحدّد لهم هؤلاء الذين وجبت مودّتهم.

الثالث: أن أصحاب النبي صلى الله عليه و آله فهموا من هذه الآية وجوب المودّة والمحبّة للقربى كما ذهب إليه جميع علماء الشيعة وكذلك أهل السنّة أيضاً، ومع غض النظر عن التفاسير الواردة في كلمة «القربى » فإنّهم يرون وجوب مودّة أهل البيت عليهم السلام ومحبتهم، ولكن نكرر السؤال هنا وهو: لماذا وجبت محبّة أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله؟

هل أن هذه المسألة حال بعض الأحكام الشرعية التي لا ندرك مغزها وفلسفتها، أي من قبيل الامور التعبدية؟ أو ليست كذلك بل الغرض منها واضح وهو أن هذه المحبّة تقع مقدمة لسلوك الإنسان

في خط الإطاعة لهؤلاء العظماء واتباعهم؟

إذا أردنا أن يكون لدينا تفسير صحيح لآية المودّة وسائر الآيات المرتبطة بها بالإستعانة بالرواية المطوّلة التي ذكرها الفخر الرازي والرواية المذكورة آنفاً والروايات التي ستأتي لاحقاً، لوجد القوم بأن الحكمة في هذه المحبّة والمودّة هي ما يقود الإنسان نحو الولاية والحكومة والخلافة، الولاية التي تقع رديفاً للرسالة وعدلًا للنبوّة، فكما أن الرسالة هي عماد الإسلام فكذلك الولاية هي أساس قوامها واستمرارها.

ولاسيّما إذا التفتنا إلى هذه الحقيقة، وهي أن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالرغم من وجود أقرباء وأرحام مثل العبّاس وأولاده وكذلك أولاد أبي طالب وسائر أبناء عبدالمطلب وأحفاده

آيات الولاية فى القرآن، ص: 147

فإنه أشار بالتحديد إلى عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، فهذا يمكنه أن يكون قرينة قويّة على أن المراد بالمودّة هنا هي الولاية والإمامة، حيث إنّ المحبّة العادية تشمل جميع أقوام النبي ويجب على الإنسان مودّتهم أجمع.

2- أورد المرحوم الطبرسي في «مجمع البيان» عن الحاكم الحسكاني في «شواهد التنزيل» نقلًا عن أبي امامة الباهلي الرواية التالية عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ونقرأها أيضاً في مضمونه في دعاء الندبة حيث يقول:

«إنَّ اللَّهَ تَعالى خَلَقَ الانْبياءَ مِنْ أَشْجارٍ شَتّى وَخَلَقَ أَنَا وَعَلِيّاً مِنْ شَجَرَةٍ واحِدَةٍ فَانَا أَصْلُها وَعَلِيٌّ فَرْعُها وَفاطِمَةُ لِقاحُها وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ ثِمارُها وَ أَشْياعُنا أَوْراقُها، فَمَنْ تَعَلَّقَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصانِها نَجا وَمَنْ زاغَ عَنها هَوى وَلَوْ أَنَّ عبداً عَبَدَ اللَّهَ بَيْنَ الصَّفا وَالْمَرْوَةِ الْفَ عامٍ ثُمَّ الْفَ عامٍ ثُمَّ الْفَ عامٍ حَتَّى يَصيرَ كَالشَّنِّ الْبالي «1»

ثُمَّ لَمْ يُدْرِكَ مَحَبَّتَنا كَبَّهُ اللَّهُ عَلى مِنْخَرَيْهِ فِي النَّارِ ثُمَّ تَلا: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ». «2»

في هذه الرواية الشريفة ننلاحظ عدّة نقاط:

الأوّل: إنّ هذه الرواية أيضاً تصرّح بأن «المودّة بالقربى» هي مودّة أهل البيت الطاهرين عليهم السلام، وتدلُّ بصورة جليّة وبتعبيرات مثيرة جدّاً على أن هذه المحبّة والمودّة ليست اعتيادية بل هي المحبّة التي تفضي إلى الولاية والخلافة.

الثاني: إنّ الرواية المذكورة آنفاً ترسم في الحقيقة معالم «الشجرة الطيبة» «3» الواردة في القرآن الكريم، وأحد تفاسير الشجرة الطيبة يماثل في مضمونه ما ورد في هذه الرواية.

الثالث: إنّ أوراق الأشجار تقوم بحفظ وحراسة الثمار، فلو لم تكن للشجرة أوراق فإنّ الثمار ستتعرض للذبول في مقابل أشعة الشمس وسائر الآفات المحتملة.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 148

إنّ وظيفة الشيعة وفقاً لهذه الرواية الذين يمثّلون أوراق هذه الشجرة الطيبة هي حفظ وحراسة الثمار الطيبة لهذه الشجرة، أي الإمامة والولاية والزعامة.

الرابع: ويستفاد من هذه الرواية أيضاً أن العبادة بين الصفا والمروة لها شأن خاص لا يوجد في سائر أماكن المسجد الحرام، ولكن حتّى هذه العبادة في هذا المكان المقدّس لا تساوي شيئاً بدون الولاية.

الخامس: نكرر أيضاً أنه لو كان المراد من المحبّة في هذه الرواية وسائر الروايات المشابهة هي المحبّة العادية فإنّ هالة من الإبهام والغموض ستحيط بجميع هذه الأحاديث والروايات، ولكن إذا فسّرنا المودّة هنا بالولاية والإمامة فسيرتفع ذلك الغموض ويتّضح المعنى بصورة جليّة.

3- يروي السيوطي في «الدرّ المنثور» رواية معروفة عن الإمام زين العابدين حيث يقول: «عندما أنزلوا اسارى

كربلاء في مكان من المسجد الجامع جاء شيخ ودنا من نساء الحسين وعياله فقال: الحمد للَّه الذي قتلكم وأهلككم وأراح البلاد من رجالكم وأمكن أميرالمؤمنين (يزيد) منكم. فقال له علي بن الحسين عليهما السلام:

- يا شيخ هل قرأت القرآن؟

قال: نعم.

قال: فهل عرفت هذه الآية «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى »؟

قال: نعم.

قال علي: فنحن أهل القربى يا شيخ.

قال: فبكى الشيخ ساكتاً نادماً على ما تكلم به وقال: باللَّه إنكم هم؟ فقال عليّ ابن الحسين: تاللَّه إنا لنحن من غير شك وحقّ جدّنا رسول اللَّه ...» «1».

إنّ مجموع هذه القرائن والشواهد تدلُّ على أن المودّة المذكورة في الآية الشريفة والروايات المتعلّقة بها لا يمكن أن تكون مودّة عادية ومحبّة بمعنى التعلّق العاطفي فقط.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 149

ملاحظات مهمة

ملاحظات مهمة

1- وفقاً لبعض آيات القرآن الكريم فإنّ المحبّة يجب أن تقود الإنسان للطاعة والعبودية، حيث يقول تبارك وتعالى في الآية 31 من سورة آل عمران:

«قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ».

وعلى هذا الأساس فإنّ الإنسان إذا أحبّ شخصاً وجب عليه إطاعته، ونحن عندما ندّعي محبّة أهل البيت عليهم السلام يجب علينا اتباعهم واطاعتهم وإلّا فإنّ إدّعاءنا المحبّة والمودّة لا يكون صادقاً، وسنتطرق لاحقاً إلى شرح أكثر حول معطيات هذه الآية الشريفة.

2- تقدّم أن آية المودّة تدلُّ مع قطع النظر عن جميع الروايات والآيات الاخرى على ولاية وإمامة أميرالمؤمنين والأئمّة المعصومين عليهم السلام ومع الأخذ بنظر الإعتبار الروايات الواردة في شأن نزولها

فإنّ دلالتها ستكون أوضح بكثير، وإذا وضعنا هذه الآية إلى جانب الآيات الاخرى المتعلّقة بالولاية مثل آية إكمال الدين، آية التبليغ، آية الصادقين وآيات مماثلة اخرى فإنّ دلالتها ستكون واضحة جدّاً.

3- أما الآلوسي المفسّر المعروف من أهل السنّة فقد ذكر إشكالين في تفسيره «روح المعاني» وقد اتّضح جوابهما من خلال الأبحاث السابقة، ولذلك سنكتفي هنا بذكر هذين الإشكالين فحسب:

الف: كيف طلب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من المسلمين محبّة ومودّة ذوي القربى بعنوانها أجر الرسالة في حين لم يطلب سائر الأنبياء مثل هذا الأجر من أقوامهم؟

والجواب على هذا السؤال كما تقدّم هو أن هذا الأجر يعود بالفائدة على جميع أفراد المجتمع الإسلامي لا على الرسول صلى الله عليه و آله نفسه.

ب: لو سلّمنا بأن المراد من القربى هنا هم أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله والمفروض محبّتهم ومودّتهم، ولكن ما العلاقة بين هذه المودّة من جهة وبين الإمامة والخلافة من جهة اخرى كما يدّعي الشيعة؟

والجواب على هذا السؤال أيضاً واضح، حيث إنّ أجر الشي ء لابدّ وأن يماثله في القيمة

آيات الولاية فى القرآن، ص: 150

ويتطابق معه في الإعتبار، والمحبّة التي تفضي إلى الولاية والإمامة هي التي تنسجم وتتناسب مع الرسالة، وأما المحبّة العادية والفارغة من الولاية فلا شكّ أنها بعيدة عن مضمون الرسالة، وبما أننا نعتقد بأن اللَّه تعالى حكيم ويجازي الأعمال بمثلها وبما يناسبها من الجزاء، وكذلك النبي الأكرم صلى الله عليه و آله حكيم أيضاً ولا يطلب إلّاالأجر المناسب أيضاً، يكون المراد بلا شكّ من المحبّة

مورد البحث هو الإمامة والولاية.

معطيات آية المودّة

معطيات آية المودّة

ماذا تعني المودّة المذكورة في الآية الشريفة بعنوان أجر الرسالة؟

وماذا يفهم من حبُّ علي عليه السلام وذريته الطاهرين عليهم السلام؟

وفي مقام الجواب ينبغي القول أن المحبّة والمودّة على نحوين:

1- المحبّة الكاذبة والزائفة.

2- المحبّة الحقيقية والواقعية.

ومن أجل توضيح المطلب بصورة جليّة ينبغي التوغل إلى أعماق النفس ونرى الدافع لمثل هذه المحبّة والمودّة.

فلماذا نحبّ الإمام علي؟ هل لأجل أمواله، أو لأجل كمالاته الإنسانية والمعنوية، أو لأجل علمه، أو لشجاعته، أو لكرمه وتقواه، أو لإيثاره وتضحيته، أو لجهاده وحمايته النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، أو لأجل امور اخرى؟

إذا كنّا نحبّ الإمام علي لأجل القيم الأخلاقية والمثل الإنسانية التي كان يعتقد بها، فهل نشعر في أنفسنا باشعاعة من تلك القيم الرفيعة؟ فإن لم نشعر بذلك فمثل هذه المحبّة والمودّة كاذبة وزائفة، وإن كانت فينا بارقة من هذه القيم والمُثل الإنسانية فإنّ المودّة هنا تكون حقيقية وواقعية.

ينبغي أن نمتحن أنفسنا بهذا المعيار والملاك ونتحرك نحو تشخيص نوع المحبّة والمودّة فينا نحو الإمام علي بهذا المقياس لكي لا نعيش التوهم الزائف وندّعي كذباً حبُّ علي بن أبي طالب، ولو كنّا نعيش مثل هذه المحبّة الزائفة فعلينا تغييرها والسعي نحو التحلّي بالمحبّة من

آيات الولاية فى القرآن، ص: 151

النوع الثاني ونتحرك في سبيل تقويتها وترشيدها.

إنّ أحد القيم التي كان أميرالمؤمنين عليه السلام ملتزماً بها بشدّة هي تقديم الضابطة على الرابطة، والمثال على ذلك هو قصّة الحديدة المحماة التي سمعتموها مراراً، ولكن لا بأس باستعراضها مرّة اخرى :

عندما وصلت الخلافة إلى الإمام

علي عليه السلام بعد سنوات من السكوت والمظلومية والجلوس في البيت جاء إليه أخوه عقيل، وكان فقيراً ومعيلًا، من المدينة إلى الكوفة لعلّه يحصل على نصيب أوفر من بيت المال، وكان الإمام حينذاك يتناول عشاءه على سطح البيت لشدّة حرارة الجوّ في مدينة الكوفة ولكنّ عشاءه لم يكن شبيهاً بعشاء السلاطين والامراء ولذلك لم يشاركه عقيل في تناول العشاء وقال لأخيه:

أعطني ما أقضي ديني وعجّل سراحي حتّى أرحل عنك، قال: فكم دينك يا أبا يزيد؟

قال: مائة ألف درهم، قال: لا واللَّه ما هي عندي ولا أملكها ولكن اصبر حتّى يخرج عطائي فاواسيكه ولولا أنّه لابدّ للعيال من شي ء لأعطيتك كلّه، فقال عقيل: بيت المال في يدك وأنت تسوفّني إلى عطائك؟ وكم عطاؤك؟ وما عساه يكون ولو أعطيتينه كلّه؟ فقال: ما أنا وأنت فيه إلّابمنزلة رجل من المسلمين. وكانا يتكلمان فوق قصر الأمارة مشرفين على صناديق أهل السوق فقال له علي: إن أبيت يا أبا يزيد ما أقول فأنزل إلى بعض هذه الصناديق فاكسر أقفاله وخذ ما فيه، فقال: وما في هذه الصناديق؟ قال: فيها أموال التجار، قال أتأمرني أن أكسر صناديق قوم قد توكلّوا على اللَّه وجعلوا فيها أموالهم؟ فقال أميرالمؤمنين عليه السلام: أتأمرني أن أفتح بيت مال المسلمين فأعطيك أموالهم وقد توكلّوا على اللَّه وأقفلوا عليها؟ وإن شئت أخذت سيفك وأخذت سيفي وخرجنا جميعاً إلى الحيرة فإنّ بها تجاراً مياسير فدخلنا على بعضهم فأخذنا ماله، فقال: أوسارقاً جئت؟ قال: تسرق من واحدٍ خير من أن تسرق من المسلمين جميعاً «1».

ثمّ إنّ الإمام علي عليه السلام أحمى حديدة وقرّبها من يد أخيه عقيل فلمّا رأى عقيل أن أخاه

آيات الولاية فى القرآن، ص: 152

غير مستعد لخروج عن خطّ العدالة ولو للحظة واحدة نهض قائماً وغادر المكان.

أين نجد في تاريخ البشرية أن سلطاناً مقتدراً وبيده اختيار الخزانة يتصرف مثل هذا التصرف مع أخيه من أجل حفظ العدالة؟

إلهنا، وفقّ المسؤولين في حكوماتنا الإسلامية ليكونوا مثل أمير الأحرار ويتحركوا في أداء مسؤولياتهم من موقع تقديم «الضوابط» على «الروابط».

مراتب المحبّة

مراتب المحبّة

إنّ للمحبّة كما في سائر الامور مراتب متعدّدة ومراحل مختلفة، ومحبّة الناس لأميرالمؤمنين عليه السلام ليست بمرتبة واحدة، فبعضهم يعيش المحبّة الكاذبة فهي مجرد لقلقة لسان ولا تمتد بجذورها إلى القلب، والبعض الآخر تمتد محبّتهم إلى قلوبهم ولكنّها ليست عميقة الجذور بل سطحية، والطائفة الثالثة تمتد محبّتهم إلى أعماق قلوبهم بحيث تستوعب جميع وجودهم ونفوسهم وترسم معالم شخصيتهم بلون المحبوب، فسلوك مثل هؤلاء الأشخاص هو سلوك علوي، وكلامهم كلام علوي، وأخلاقهم أخلاق علوية، والخلاصة أن كلَّ وجودهم وأفعالهم وسلوكياتهم تفوح برائحة الإمام علي، وهذه أعلى مراتب المحبّة، المرحلة التي يجد الإنسان نفسه غير مستعد لأن يبادل هذه المحبّة بأيِّ شي ء آخر بل يجد نفسه مستعداً للتضحية بنفسه من أجل هذه المحبّة والمودّة.

وكمثال على هذه المحبّة الخالصة نذكر هذا النموذج:

ميثم التمّار، العاشق الخالص

ميثم التمّار، العاشق الخالص

في أحد الأيّام قال الإمام علي عليه السلام لأحد عشاقه الذي كان يعيش الولاء المطلق له:

- سوف تُصلب في المستقبل القريب بسبب دفاعك عني وحبّك لي فكيف يكون حالك حينئذٍ؟

ولكنّ هذا العاشق لم يتردد لحظة ولم يشعر بشي ءٍ من الخوف ولم يتهرب من المسؤولية والولاية بل أظهر السرور البالغ وقال: سيّدي أين المكان الذي سوف اصلبُ فيه؟

آيات الولاية فى القرآن، ص: 153

فأشار الإمام علي عليه السلام إلى نخلة من نخيل الكوفة وقال: سوف تُصلب على جذع هذه النخلة.

هذا العاشق الخالص لم يبتعد عن الإمام ولم يهرب من تلك المدينة ويترك أهله ودياره بل أزداد حبّاً وعشقاً للإمام علي.

كان في كلّ يوم يتوجّه إلى تلك النخلة ويهتم بعنايتها وسقيها

ويصلّي ركعتين عندها ويتحدّث معها حديث العاشق لمعشوقه:

- أيتها النخلة لقد خُلقت لي وخلقت لك وسوف يصلب بدني على جذعك بسبب حبّي للإمام علي عليه السلام ... «1» أين نحصل على مثل هذا الإنسان العاشق في تاريخ البشرية؟

وحان اليوم الموعود وتمّ صلب هذا العاشق على ذلك الجذع ولكنّ عشقه لمحبوبه لم يخفّ لحظة بل أزداد توهجاً واشتعالًا وشرع بذكر فضائل ومناقب الإمام علي عليه السلام حتّى أن الأعداء لم يتحملوا منه ذلك وأمروا بقطع لسانه وهكذا ضحّى بنفسه في سبيل مراده.

سؤال: أليست التقية واجبة في نظر الإسلام؟ إذن فلماذا لم يستخدم هؤلاء الأشخاص عنصر التقية للمحافظة على أنفسهم واجتناب إلقاء أنفسهم في التهلكة؟

الجواب: إنّ التقية كما هي واجبة في بعض الموارد فكذلك تكون حراماً في موارد اخرى، فعندما يتعرض أساس الدين والمذهب للخطر وتسود الظلمة والإنحراف جميع أرجاء المجتمع الإسلامي ويتعرض الأحرار للسجن والقتل فحينذاك يجب على من يتمكن من إيصال صوته إلى الناس أن يفضح قوى الإنحراف هذه ويتصدى بكلّ وسيلة لجهاز الحكم، وفي هذه الصورة فإنّ التقية ليست فقط غير واجبة بل إذا تستر الإنسان المسلم بالتقية فإنه يكون قد ارتكب معصية كبيرة.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 155

آية المباهلة

اشارة

آية المباهلة 8

[سورة آل عمران (3): آية 61]

خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3)

«سورة آل عمران/ الآية 61»

أبعاد البحث

أبعاد البحث

إنّ آية المباهلة هي إحدى الآيات الاخرى المتعلّقة بولاية أميرالمؤمنين عليه السلام والحسن والحسين عليهما السلام، في هذه الآية الشريفة التي تتحدّث عن موضوع المباهلة بين المسلمين ونصارى نجران تثبت من جهة حقّانيّة الإسلام ورسوله الكريم صلى الله عليه و آله ومن جهة اخرى تبين سمو مقام أهل بيت النبي عليهم السلام وعلو درجتهم، ومن جهة ثالثة بالإمكان إثبات ولاية وخلافة أميرالمؤمنين عليه السلام بواسطتها.

مقدّمة

اشارة

مقدّمة

قبل الشروع بتفسير آية المباهلة الشريفة نرى من اللازم التنبيه على نقطتين:

1- المباهلة آخر الدواء

1- المباهلة آخر الدواء

إنّ الآيات 35 إلى 60 من سورة آل عمران تتحدّث عن النبي عيسى عليه السلام وتذكر في

آيات الولاية فى القرآن، ص: 156

طياتها قصة ولادة هذا النبي الكريم ومقاماته المعنوية وشخصية امّه وفضائلها الكريمة وحديثه مع الملائكة والمائدة السماوية ومسائل اخرى، وبعد كلّ هذه الأبحاث المطوّلة عن النبي عيسى عليه السلام يوصي اللَّه تبارك وتعالى نبي الإسلام ويقول بأن النصارى بعد بيان كلّ هذه الامور بشكل منطقي ومستدل لو لم يقبلوا الإسلام واختاروا طريقاً آخر وأصرّوا على عنادهم فعليك بمباهلتهم ليتّضح الحقّ.

2- ماذا تعني المباهلة؟

2- ماذا تعني المباهلة؟

«المباهلة» من مادة «بَهْل» ويعني في لغة العرب ترك الشي ء، والعرب عندما تلد الناقة يشدون على ثدييها لئلّا يشرب طفلها جميع اللبن في ضرعها ولكن أحياناً يفتحون الضرع ليشرب طفل الناقة ما يشاء من اللبن، فيقال حينئذٍ لهذه الناقة التي انفتح ضرعها «ابل باهل».

وأما في الإصطلاح فلها معنى آخر فهو: عندما يتقدم شخصان للحوار فيما بينهما بأدلة عقلية ومنطقية ولا يستطيع أحدهما إقناع الآخر برأيه وعقيدته فهنا يحقّ لكلِّ واحد منهما أن يباهل الآخر ويقول: «إذا كنت أنا على الحقّ وأنت على الباطل فعليك غضب اللَّه»، ويكرر الآخر هذه العبارة، فيقال لهذا العمل مع توفر شرائطه «مباهلة».

ومن الواضح أن هذا المعنى الإصطلاحي يرتبط بالمعنى اللغوي لأن الشخص الذي يدّعي أنه على حقّ يقول: إنني أترك الطرف الآخر لقضاء اللَّه واحيله إلى قدرة اللَّه.

الشرح والتفسير: الدعوة إلى المباهلة

الشرح والتفسير: الدعوة إلى المباهلة

«فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ» أي: أيّها النبي بعد البحث والمناقشة مع هؤلاء النصارى عن عيسى ابن مريم عليهما السلام وبعد تقديم الأدلّة المتقنة والبراهين الساطعة حول تفاصيل حياة عيسى ابن مريم فإنهم إذا أصرّوا مع ذلك على عنادهم ولجاجتهم ولم يبصروا الحقّ والحقيقة فهناك طريق آخر لاستمرار الدعوة الإلهية وهو اختيار المباهلة معهم.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 157

«فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ».

في هذا المقطع من الآية الشريفة يعيّن القرآن الأشخاص الذين سيشتركون في مراسم المباهلة، وعليه يوجّه الخطاب إلى النبي الأكرم ويقول: أيّها النبي

قل لهؤلاء تعالوا لنتباهل وليأتي كلُّ طرف منا بأربع فئات من جماعته وأهل ملّته ليشتركوا في هذه المراسم:

1- رئيس المسلمين، أي النبي الأكرم صلى الله عليه و آله من جهة ورئيس نصارى نجران من جهة اخرى.

2- أبناءنا وأبناءكم.

3- نساءنا ونساءكم.

4- أنفسنا وأنفسكم.

وسيأتي في الأبحاث اللاحقة الكلام عن المراد من «أبنائنا» و «نسائنا» و «أنفسنا» بشكل مفصل.

«ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ» فبعد أن ذكرت الآية الشريفة الطوائف الأربع المفروض اشتراكهم في مراسم المباهلة، ذكرت كيفية إجراء هذه المراسم بأن تتم بهذه الصورة: إن كلُّ شخص كاذب ويدّعي أنه على الحقّ كذباً وزوراً فإن عليه لعنة اللَّه وعذابه، ليتّضح الحقّ للناس وتتجلّى معالم الحقيقة للجميع.

هل تحققت المباهلة؟

هل تحققت المباهلة؟

وهنا يثار سؤال: هل تحققت مراسم المباهلة وفقاً للشروط التي ذكرها القرآن الكريم؟

وفي صورة تحقّقها فماذا كانت النتيجة؟

الجواب: إنّ القرآن الكريم لم يذكر شيئاً عن وقوع المباهلة في الواقع الخارجي ولا يمكننا استيحاء وقوعها من سياق الآيات الكريمة، ولكنّ هذه الواقعة معروفة ومشهورة في تاريخ الإسلام.

فطبقاً لما ذكرته كتب المؤرخين أن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله طرح موضوع المباهلة وكيفيتها مع نصارى نجران وعيّن اليوم الخاصّ لإجراء المباهلة، ولكنّ الاسقف الأعظم للنصارى الذي يعدّ أعلى مقام ديني لدى النصارى قال لهم:

آيات الولاية فى القرآن، ص: 158

«انظروا محمّداً في غدٍ، فإن غدا بولده وأهله فاحذروا مباهلته. وإن غدا بأصحابه فباهلوه فإنه على غير شي ء».

وعلى أيّة حال فقد حل اليوم الموعود وشاهد النصارى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قادماً ومعه

طفلين هما الحسن والحسين عليهما السلام وكذلك علي وفاطمة عليهم السلام، فقال الأسقف الأعظم عندما رأى هذا المنظر:

«إني أرى وجوهاً لو دعوا اللَّه لاستجاب لهم وفي ذلك هلاككم» «1».

وهكذا امتنع من المباهلة ووافق النبي الأكرم على انسحابهم وتراجعهم.

لقد ذكرت كتب التواريخ قصة المباهلة بشكل مختصر كما مرّ آنفاً، يقول أبوبكر الجصّاص من علماء القرن الرابع الهجري في كتابيه «أحكام القرآن» و «معرفة علوم الحديث» عبارتين جميلتين في هذا الصدد:

1- قال في كتاب «أحكام القرآن»:

إنّ رواة السّير ونقلة الأثر لم يختلفوا في أنّ النبي صلى الله عليه و آله أخذ بيد الحسن والحسين وعلي وفاطمة ودعا النصارى الذين حاجّوه إلى المباهلة «2».

2- ويقول أيضاً في كتاب «معرفة علوم الحديث»:

قد تواترت الأخبار في التفاسير عن عبداللَّه بن عبّاس وغيره أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أخذ يوم المباهلة بيد علي والحسن والحسين وجعلوا فاطمة ورائهم ثمّ قال: هؤلاء أبناؤنا وأنفسنا ونساؤنا «3».

وعلى هذا الأساس هناك روايات وأحاديث كثيرة جدّاً في شأن نزول وتفسير آية المباهلة حيث نكتفي هنا بذكر رواية واحدة منها:

آيات الولاية فى القرآن، ص: 159

جاء في كتاب صحيح مسلم في باب «فضائل الصحابة» رواية مثيرة وجذّابة رواها سعد بن أبي وقاص: أن معاوية قال لسعد: «ما منعك أن تسبّ أباتراب «1»؟ قال: أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن رسول اللَّه فلن أسبّه لئن تكون لي واحدة منها أحبّ إليّ من حمر النعم، ثمّ ذكر قصة تبوك عندما استخلف النبي علياً على المدينة، فلما قال الإمام علي: أتخلّفني على النساء

والأطفال؟ قال له رسول اللَّه: «ألا ترضى أن تكون مني كهارون من موسى إلّاأنه لا نبي بعدي، والثانية في معركة خيبر عندما أرسل رسول اللَّه الأوّل والثاني لفتح خيبر فرجعا آيسين فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «لأعطينّ الراية غداً لرجل لا يملّ من الحرب ولا يدير ظهره للعدو». فتطاولت الأعناق لذلك، فنظر رسول اللَّه فيهم فلم ير علياً، فسأل عنه فقيل: هو أرمد، فقال: عليّ به، فجاء الإمام علي فتفل رسول اللَّه في عينه فشفي من ساعته فدفع إليه الراية وكان الفتح على يده. وأما «الثالثة» فهي لما نزلت هذه الآية «قل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ...» حيث دعا رسول اللَّه علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: اللّهم هؤلاء أهلي ...

وقال سعد بعد ذلك لمعاوية: هل يحقّ لي بعد هذا أن أسبّ علياً؟ فسكت معاوية وندم على مقولته» «2».

من هم أبناءنا، نساءنا، أنفسنا؟

من هم أبناءنا، نساءنا، أنفسنا؟

لا خلاف ظاهراً بيننا وبين أخوتنا من أهل السنّة في أن المراد من «نساءنا» هو فاطمة الزهراء بنت رسول اللَّه عليها السلام وكذلك اتّفق علماء الشيعة وأهل السنّة أن المراد من «أبناءنا» الحسن والحسين عليهما السلام.

وعلى هذا الأساس فإن المحور الأصلي في هذا البحث يدور حول تفسير كلمة «أنفسنا»

آيات الولاية فى القرآن، ص: 160

ولذلك نرى من الضروري تفصيل البحث حول هذه العبارة.

يقول القاضي نوراللَّه الشوشتري في كتابه القيّم «احقاق الحقّ»:

أجمع المفسّرون على أن «أبناءنا» إشارة إلى الحسن والحسين عليهما السلام و «نساءنا» إشارة إلى فاطمة عليها السلام و «أنفسنا» اشارة إلى علي عليه السلام.

وذكر آية اللَّه

العظمى المرعشي في حاشيته على هذا الكتاب نقلًا عن ستين كتاباً «من كتب أهل السنّة» ما يؤيد هذا المطلب «1»، والمفهوم من هذا الكلام واضح جدّاً بحيث ذكره أهل السنّة قاطبة في كتبهم.

ولكن مع الأسف نجد أن بعض مفسّري أهل السنّة وعلى الرغم جميع هذه الروايات تورطوا بشراك التعصّب والتفسير بالرأي فذكروا تفسيرات مدهشة لهذه الآية الشريفة، ونكتفي هنا بذكر نموذجين منها:

1- يقول الألوسي في «روح المعاني» بعد اعترافه بعدم وجود شخص آخر مع النبي صلى الله عليه و آله في المباهلة غير علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ومع تأكيده بأنه لا ينبغي لكلّ إنسان مؤمن الشك في هذه المسألة يستعرض دليل علماء الشيعة ويدّعي أن المراد من «أنفسنا» هو النبي نفسه، وأما الإمام علي فيندرج في كلمة «أبناءنا» لأن العرب تطلق على الصهر كلمة الابن أيضاً «2».

وجواب هذا الكلام واضح جدّاً، لأنه طبقاً لهذه الآية الشريفة فإنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قد دعى : أبناءنا وأنفسنا ونساءنا، فلو كان المراد من «أنفسنا» هو النبي نفسه فماذا يعني أن يدعو الإنسان نفسه إلى المباهلة؟

ونظراً إلى أن القرآن الكريم هو أفصح بيان في اللغة العربية فمن المسلّم أنه لا يذكر كلاماً غير فصيح مثل هذا الكلام ولا يأمر النبي صلى الله عليه و آله بأن يدعو نفسه، إذن فالمراد من «أنفسنا» لا يمكن أن يكون هو النبي صلى الله عليه و آله نفسه قطعاً، مضافاً إلى أننا لم نقرأ في كلام العرب أنهم يطلقون

آيات الولاية فى القرآن، ص: 161

كلمة

الإبن على الصهر، ومثل هذا الإستعمال غريب جدّاً ويحمل على المجاز البعيد.

ولا نستغرب من هذه التأويلات والآراء التي هي من إفرازات التعصّب الأعمى بحيث إن مثل هذا التعصّب قد يدفع الإنسان أحياناً ومن أجل حفظ عقائده والدفاع عنها أن يفرض آراءه وعقائده هذه على القرآن الكريم.

2- والأعجب من ذلك من نراه من نظرية «محمّد عبده» في تفسير المنار، فعندما يصل إلى هذه الآية يقول في تفسيرها:

الروايات متّفقة على أنّ النبي صلى الله عليه و آله اختار للمباهلة عليّاً وفاطمة وولديهما ويحملون كلمة نسائنا على فاطمة وكلمة أنفسنا على عليٍّ فقط ومصادر هذه الروايات الشيعة ومقصدهم منها معروف «1».

والواقع أن كلام محمّد عبده هذا عجيب جدّاً ومتناقض مع صدر الآية وذيلها، لأنه ادّعى في بداية كلامه اتفاق الروايات على هذا المطلب ولكنه في ذيلها ينسب هذا الرأي إلى الشيعة.

ومضافاً إلى ذلك «كما تقدّم سابقاً» أنّ هذا الكلام مجانبٌ للصواب لأن أكثر الروايات المذكورة وخلافاً لمدّعاه مذكورة في مصادر أهل السنّة.

ونحن لا نملك في مقابل هذا الكلام الواهي سوى إظهار التأسف.

وعلى أيّة حال فإنّ آية المباهلة كما تقدّم بيانه من الآيات المحكمة والصريحة التي تدلُّ دلالة واضحة على ولاية أميرالمؤمنين عليه السلام وأبنائه الطاهرين عليهم السلام.

سؤال: صحيح أن آية المباهلة تعد فضيلة كبيرة لأميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، ولكن ما هو ارتباطها بمسألة الولاية والإمامة لأميرالمؤمنين حيث إن البحث هنا يتعلق بالآيات التي تتحدّث عن الولاية والإمامة؟

الجواب: رأينا فيما سبق أن المراد «أنفسنا» في آية المباهلة هو الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وعندما يخاطب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله ابن عمه الإمام علي عليه السلام بأنه «نفسه» فهل أن

آيات الولاية فى القرآن، ص: 162

مقصوده من ذلك هو المعنى الحقيقي للنفس أو المعنى التنزيلي والإعتباري؟

لاشكّ أن المعنى الحقيقي غير مقصود هنا، أي أن علي ليس هو النبيّ نفسه، إذن فالمراد من ذلك أن الإمام عليّ عليه السلام يتمتع بالفضائل والكمالات والمقامات المعنوية التي يتمتع بها الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، فهو كالنبي في الشجاعة والرشادة والشهامة والتقوى والإيثار وسائر الكمالات والمقامات المعنوية الاخرى، والنتيجة هي أن الإمام علي عليه السلام نازل منزلة النبي صلى الله عليه و آله في المقامات والكمالات وتالي تلوه.

ومع الإلتفات إلى هذا المطلب يتّضح أن الخليفة بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والذي لابدّ وأن يكون منصوباً من اللَّه تعالى أو الامّة الإسلامية هو الشخص الذي يحوز هذه المقامات ويكون مثل النبي في سماته وكمالاته أو في مرحلة دانية منه.

ألا ينبغي أن يكون الشخص الذي ينتخبه الناس لهذا المقام أو يكون منصوباً بالنصب الإلهي لهذا المقام كالنبي صلى الله عليه و آله في فضائله وكمالاته وخاصة في مسألة التقوى والعصمة؟

ومع فرض وجود مثل هذا الشخص ألا يكون قبيحاً لدى العقل انتخاب أشخاص آخرين لهذا المقام؟

وعلى هذا الأساس فإنّ انطباق كلمة «أنفسنا» على الإمام علي عليه السلام يؤدي إلى تجسير العلاقة بين هذا المعنى وبين مفهوم الولاية والإمامة، وبذلك يتم إثبات الولاية لأميرالمؤمنين.

ربّنا: وفقنا لمعرفة قدر هذه النعمة العظيمة وهي ولاية أهل البيت عليهم السلام وارزقنا عنايتهم في الدنيا وشفاعتهم في العقبى .

آيات الولاية فى القرآن، ص: 163

آية سورة الدهر

اشارة

آية سورة الدهر 9

[سورة الإنسان (76): الآيات 5 الى 10]

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59)

«سورة الدهر/ الآيات 5- 10»

أبعاد البحث

أبعاد البحث

إن أحد الفضائل والمناقب المهمة للإمام علي عليه السلام بل فضائل أهل البيت ومناقبهم هو ما ورد في آيات سورة الإنسان حيث تحدّث القرآن الكريم في ثمانية عشر آية من 31 آية من هذه السورة حول هذه الفضيلة العظيمة، وبعض الآيات الشريفة هذه تحدّثت عن أصل القضية، وهناك أربعة عشر آية اخرى تحدّثت عن جزاء وثواب هذا العمل العظيم الذي قامت به هذه الاسرة الطاهرة، وسوف يأتي تفاصيل هذه الواقعة وتفسير هذه الآيات الكريمة لاحقاً.

شأن النزول

شأن النزول

لقد ذكرت كتب التفسير شأن نزول هذه الآيات محل البحث، وقد أورد العلّامة الأميني

آيات الولاية فى القرآن، ص: 164

في كتابه «الغدير» شأن نزولها من أربعة وثلاثين كتباً من كتب أهل السنّة «1»، ونقل القاضي نوراللَّه الشوشتري هذا المطلب من 36 كتاباً من كتبهم «2»، وعلى هذا الأساس فإنّ شأن النزول لهذه الآيات متواتر تقريباً، وخلاصة ما ورد في شأن نزولها والمتّفق عليه في جميع المصادر الروائية والتفسيرية هو مايلي:

إنّ الحسن والحسين مرضا فعادهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في ناس معه فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك، فنذر علي وفاطمة وفضة إن برءا مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيّام فشفيا وما معهم شي ء فاستقرض عليّ ثلاثة أصوع شعير فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال: السَّلامُ عَلَيْكُمْ يا اهْلَ بَيْتِ محمّد مسكينٌ من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم اللَّه من موائد الجنّة، فآثاروه وباتوا لم يذوقوا إلّاالماء «3»، فأصبحوا صياماً فلما أمسوا

ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم سائل يتيم فآثاروه ووقف عليهم أسير «4»

آيات الولاية فى القرآن، ص: 165

في الثالثة ففعلوا مثل ذلك فلما أصبحوا أخذ عليّ بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فلما أبصرهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع قال: ما أشد ما يسوؤني ما أرى بكم وقام وانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها فساءه ذلك فنزل إليه جبرئيل وقال: خذها يا محمّد هنئك اللَّه في أهل بيتك فأقرأه السورة.

الشرح والتفسير: الخصائص الخمسة لأهل البيت عليهم السلام

الشرح والتفسير: الخصائص الخمسة لأهل البيت عليهم السلام

إنّ أربعة آيات من الآيات الثمانية عشر في هذه السورة تتحدّث عن أصل العمل الذي قام به هؤلاء الأشخاص، وأربعة عشر آية منها تتحدّث عن الأجر والثواب الإلهي الذي ينتظر هؤلاء، وفي البداية نستعرض تفسير الآيات الأربع منها حيث يشير القرآن فيها إلى خمس خصال من فضائل ومناقب أهل البيت عليهم السلام:

1- الوفاء بالعهد

«يُوفُونَ بِالنَّذْرِ» فأوّل عمل أخلاقي لهؤلاء هو الوفاء بالنذر بحيث ينبغي أن يكون هذا العمل اسوة لسائر أتباعهم وشيعتهم، حيث نرى بعض أفراد الشيعة ينذرون في حالة مواجهتهم للمصائب والبلايا والمشاكل ولكنهم عند زوال هذه البلايا والمشاكل ويحين وقت العمل بالنذر فإنهم يتحركون من موقع التغافل وعدم الإهتمام، فتارةً يشككون في صيغة النذر، واخرى يترددون في التنفيذ العملي للنذر، والخلاصة يمتنعون من الوفاء بالنذر بكلِّ ذريعة، كما هو الحال عندما يواجه الشخص خطراً محدقاً بحيث يكون احتمال بقائه على قيد الحياة قليلًا جدّاً، فحينئذٍ يتوجه إلى اللَّه تعالى

بالنذر الثقيل ويعاهده على العمل به ثمّ يتفق أن ينجو من هذا الخطر، وعندها يتوجه هذا الشخص إلى مرقد الإمام الذي نذر له ذلك النذر ويقول مخاطباً له: أيّها الإمام، لقد نذرت في تلك اللحظات الخطيرة نذراً ثقيلًا، فلماذا صدّقت بكلامي وطلبت من اللَّه أن ينقذني؟

أجل، إن بعض المسلمين هم مصداق الآية الشريفة:

آيات الولاية فى القرآن، ص: 166

«فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ» «1».

ولكن أهل البيت عليهم السلام لم يكونوا كذلك، فهم لا يكتفون بالوفاء بالنذر فقط بل يوفون بجميع تعهّداتهم والتزاماتهم الأخلاقية ومسؤولياتهم الإجتماعية، لأن ذلك من علامات الإيمان «2» والمسلم الحقيقي يجب أن يتصف بهذه الصفة الأخلاقية وهي الوفاء بالعهد والنذر حتّى لو كان ذلك بضرره.

2- الخوف من القيامة

«وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً» والخصلة الثانية من خصائص هؤلاء الأشراف والأولياء هو أنهم يخافون من يوم القيامة، وطبعاً ليس ذلك بسبب خوفهم من احتمال أن يتوجه إليهم ظلم بحقّهم بل يخافون من محكمة العدل الإلهية لأن جميع أعمال الإنسان الصغيرة والكبيرة ستعرض في ذلك اليوم ويُحاسب عليها الإنسان كما ورد في قوله تعالى «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» وهذا هو الذي يخيفهم ويثير في أنفسهم الفزع والخشية لأن ذلك اليوم يُحاسب الإنسان على ما قدّم وأخر، وفي تلك المحكمة الإلهية سيحاسب الصغير والكبير، المرأة والرجل، الغني والفقير، العالم والجاهل، والخلاصة جميع أفراد البشرية، فالإعتقاد بتحقّق ذلك اليوم المهيب يثير

في الإنسان الخوف والرهبة.

3- معونة الفقراء والمساكين

«وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً» الخصلة الثالثة التي ذكرتها هذه الآيات الشريفة لأهل البيت عليهم السلام والتي تعتبر محور هذا البحث هو مواساتهم للمساكين وتقديمهم يد العون للمحرومين في المجتمع الإسلامي، فهؤلاء الأولياء بالرغم من احتياجهم إلى الطعام نراهم يؤثرون الفقراء والمساكين على أنفسهم ويقدمون ما لديهم من الطعام إلى المسكين واليتيم والأسير، وفي هذه الآية الشريفة إشارة إلى ثلاث طوائف من المحرومين والمحتاجين في المجتمع:

آيات الولاية فى القرآن، ص: 167

الف- «المسكين» وهذه الكلمة مشتقة من مادّة «سكون» أي الفقر والحاجة الشديدة بحيث تدع الإنسان ساكناً وقابعاً إلى الأرض من شدّة الحاجة والفاقة، فيجب على المسلمين والمؤمنين أن يأخذوا بيد هؤلاء المحرومين والفقراء والمساكين الذين لا يستطيعون أن يوفروا لأنفسهم وأهلهم ما يحتاجونه من أوّليّات الحياة والمعيشة، وأن يمدوا يد العون لهؤلاء المحرومين ويشاركوهم في النعم التي يعيشون فيها ويواسونهم بها.

ب- «اليتيم» وهو الطفل الذي فقد وليه وأباه، فرغم أنّ اليتيم قد لا يكون محتاجاً من الناحية المادية ولكنه يعيش أزمة عاطفية وهو في أشد الحاجة إلى المحبّة والحنان من الآخرين، وقد ذكروا أنه في إحدى الزلازل التي وقعت أخيراً وكثرت فيها الضحايا من أهالي المدينة أو القرية عثروا على صبي فقد خمسين شخصاً من عائلته وأرحامه كالأب والامّ والأخوات والاخوة والأعمام والعمات والخالات وذرياتهم، والخلاصة أنه فقد جميع أرحامه وأقربائه، فمثل هذا الشخص يعيش الحاجة الشديدة إلى المحبّة والعاطفة وسوف ينهار حتماً إن لم يجد من يعوّضه عن

هذه الخسارة المعنوية والروحية.

ج- «الأسير» ومعناه واضح حيث يقال للشخص الذي ابتعد عن بيته ووطنه ومدينته وعاش في بلد آخر غريباً ووحيداً، فيمكن للأسير أن يكون ثرياً في وطنه ولكنه بعد وقوعه في الأسر فانه يستحق المساعدة والمحبّة.

وعلى أيّة حال فإنّ الإنسان المؤمن والمسلم يجب أن يمد يد العون في دائرة استطاعته وامكانيته إلى جميع الأفراد المحرومين والمتضررين في المجتمع، وفي هذا الزمان قد لا يوجد مصداق لأحد هذه الطوائف الثلاث المذكورة في الآية الشريفة، ولكن هناك طوائف اخرى تعيش الفاقة والحاجة الشديدة إلى المساعدة والمعونة، المرضى بالسرطان، والجذام والأمراض المزمنة الاخرى، السجناء، البنات اللواتي في سن الزواج ولكنهنّ محرومات من الذهاب إلى بيت العرس لفقدانهن الجهيزية ووسائل المعيشة، وهناك طوائف اخرى محتاجة أيضاً.

فهل نحن نتحرك من موقع الإيثار والشفقة على هؤلاء المحرومين كما رأينا في سلوك أهل البيت عليهم السلام؟

آيات الولاية فى القرآن، ص: 168

هل نعلم بحالة الجيران وما هم عليه من الفاقة والحاجة؟

هل نعلم بكيفية معيشتهم وإفطارهم وسحورهم؟

هل نحن مطلعون على أحوال وأوضاع أرحامنا وأقربائنا؟

إذا كان جواب هذه الأسئلة بالنفي (والعياذ باللَّه) هل يمكننا مع ذلك أن ندّعي بأننا من شيعة أهل البيت؟

4- الإخلاص

«إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً» الفضيلة الرابعة للإمام علي وزوجته وطفليه هي مسألة «الإخلاص» للَّه تعالى في عملهم هذا، وهي فضيلة عظيمة جدّاً، حيث قالوا:

إننا نتقدم إليكم بهذه المساعدة والمعونة تقرباً إلى اللَّه تعالى وطلباً لرضاه ومن دون أي دافع آخر من الدوافع الدنيوية ولذلك لا نطلب منكم شيئاً

دنيوياً ولا نتوقع منكم حتّى الشكر.

عندما نقرأ هذه الكلمات ونكررها في أذهاننا هل يمكننا أن نتصور أن إنساناً من أفراد المجتمع يمكنه أن يدّعي هذا الإدعاء غير الأولياء؟

والأكثر من ذلك لو أن الطرف المقابل تحرك نحوهم من موقع الإهانة وتجاسر عليهم بدل أن يتقدّم إليهم بالشكر فإن حالهم لا يتفاوت أبداً عن السابق.

إنّ الإخلاص هو جوهر العمل الصالح، ولذلك أكد عليه الإسلام كثيراً وتقدّم إلى المسلمين بتعليماته وتوصياته أن يهتموا بكيفية العمل لا بكميته وعدده، أي أن ركعة واحدة يصليها المسلم بإخلاص أفضل عند اللَّه من ألف ركعة يصليها بدون إخلاص.

5- الخوف من اللَّه

«إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً» الخامس من خصائص هؤلاء هو:

الخوف من اللَّه تعالى.

ولعلك تسأل: تقدّم في الخصلة الثانية أنهم يخافون من المعاد والقيامة وهنا نجد الخوف من اللَّه تعالى فما هو الفرق بينهما؟

آيات الولاية فى القرآن، ص: 169

الجواب: لا يلزم أن يكون الخوف من اللَّه تعالى متلازماً ومتزامناً مع الخوف من جهنم والقيامة والعذاب الاخروي بل يمكن أن يعيش الإنسان الخشية والهيبة من عظمة اللَّه، فعندما يفكر الإنسان المؤمن بعظمة اللَّه تعالى فإنّ الخوف والخشية والمهابة تسري في جميع أركان وجوده ومفاصل بدنه، ويكون حاله كما لو توجه لملاقاة شخصية مهمة وأراد أن يقول له شيئاً، فمن المحتمل أن تستولي عظمة ذلك الشخص عليه فلا يستطيع النطق والكلام حينها رغم أن ذلك الشخص هو إنسان عطوف وحسن الأخلاق جدّاً، وعليه فإنّ هذه الخصلة الخامسة تتفاوت مع الخصلة الثانية والخوف من اللَّه تعالى يراد به هنا

الخوف من عظمة اللَّه وكبريائه.

آيات الأجر والثواب

آيات الأجر والثواب

تقدّم أنّ في هذه السورة أربعة عشر آية من آياتها تتحدّث عن الأجر العظيم الذي ينتظر هؤلاء الأولياء جزاءاً لإيثارهم وتضحيتهم اتجاه المحرومين، ولا نجد في القرآن الكريم مثل هذا الثواب العظيم بأي عمل من الأعمال الصالحة التي تصدر من المؤمنين، بمعنى أننا نرى أن خمسة عشر نوعاً من الثواب ورد بصورة متوالية في هذه السورة، ولو أمعنا النظر أكثر في هذه الآيات الأربعة عشر لوجدنا عشرين نوعاً من الثواب على ذلك العمل، وسوف نستعرض هذه المثوبات في 12 فقرة لاحقاً، ولكن قبل بيان هذه المثوبات نرى من الضروري تقديم مقدّمة:

المقارنة بين الثواب الدنيوي والاخروي

المقارنة بين الثواب الدنيوي والاخروي

بلا شكّ أنّ نعم ومواهب الآخرة تختلف عن نعم ومواهب الدنيا، لأنه بالرغم من استخدام الألفاظ البشرية والقوالب الدنيوية في شرح وتوضيح تلكم المواهب الاخروية ولكن يبقى مفهومها ومحتواها له ماهية غيبية واخروية، وعلى هذا الأساس فما نسمعه ونتصوره من النعم والمواهب الاخروية ليس سوى شبح من حقائق ذلك العالم، ولا ينبغي أن نتوقع إدراك حقائق تلك النعم في هذه الدنيا كما هو الحال في الجنين في بطن امّه حيث لا

آيات الولاية فى القرآن، ص: 170

يمكنه إدراك حقائق هذا العالم الدنيوي مهما بالغت امّه في إفهامه حسب الفرض ومهما كان ذكياً كابن سينا، فإنه لا يستطيع تصور ما يجري في هذا العالم سوى اشباح وأوهام، ولذلك ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قوله:

«إنَّ اللَّهَ يَقُولُ: اعْدَدْتُ لِعِبادِيَ الصّالِحينَ ما لا عَيْنٌ رَأتْ، وَلا اذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»

«1».

وعلى هذا الأساس فمن الممكن أن يكون لكلمة معنىً خاص في عالمنا الدنيوي هذا ولكنه يحمل معنىً آخر عند استعماله في مورد النعم والمواهب الاخروية في الجنّة، وسيأتي توضيح أكثر في البحوث اللاحقة حول هذا الموضوع.

وبعد بيان هذه المقدّمة نستعرض النعم الاثني عشر في الجنّة لهؤلاء الأولياء:

النعم الاثنا عشر في الجنّة

النعم الاثنا عشر في الجنّة

1- السكينة والهدوء النفسي

«فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً» فأوّل نعمة ينالها هؤلاء الأولياء في الجنّة هي نعمة الإستقرار والهدوء النفسي حيث يدفع عنهم اللَّه تعالى شرور ذلك اليوم ومشكلاته ومصاعبه ويغرقهم في أجواء الفرح والسرور، ويتّضح من ذكر الآيات الشريفة نعمة الهدوء النفسي والسكينة الروحية باعتبارها أوّل نعمة من النعم الإلهية في الجنّة كونها نعمة مهمة وثمينة جدّاً، والحقيقة هي أنها كذلك حيث إنّ الاطمئنان الروحي للإنسان يمثل أغلى شي ء يناله الشخص في الدنيا والآخرة، ويتبين هذا المعنى في الأشخاص الذين يمتلكون مختلف المواهب والنعم في الدنيا ولكنهم لا يعيشون الإستقرار والهدوء النفسي فإنّ هذه النعم والإمكانات المادية والدنيوية تتحول إلى أدوات لتثوير حالة القلق والإضطراب والعذاب النفسي لهؤلاء، ولهذا نرى أن الكثير من الأثرياء وأبناء الامراء قد يتوجهون نحو الإنتحار للتخلص من عناصر القلق والإضطراب النفسي، ويقال

آيات الولاية فى القرآن، ص: 171

أن إحدى الغابات في أمريكا الواقعة إلى جانب إحدى المدن الامريكية تسمّى غابة الانتحار حيث يتوجه إليها الأشخاص الأثرياء الذين يمتلكون كلّ شي ء في الدنيا سوى الإستقرار والهدوء النفسي وينتحرون هناك ويقضون على حياتهم البائسة.

وفي المقابل نرى أن بعض الأشخاص بالرغم من

كونهم يعيشون الفقر المدقع ولا يمتلكون من وسائل الحياة إلّاالقليل جدّاً ومع ذلك يعيشون الإستقرار الروحي في درجات عالية في حياتهم الفردية والإجتماعية.

فلو أنك تسأل: كيف يمكن تحصيل هذه النعمة المهمة في حركة الحياة؟

نقول: إنّ اللَّه تبارك وتعالى ذكر في الآية 82 من سورة الأنعام أن هذه النعمة العظيمة تكون من نصيب المؤمنين الذين يتحركون في خط الطاعة والتقوى :

«الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ».

وفي الآية 28 من سورة الرعد يقرر أن ذكر اللَّه وعدم الغفلة عنه بمثابة المنبع الدائم للخير والبركة والأمن والإستقرار النفسي.

2- بساتين الجنّة «وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً».

وإحدى المواهب الاخروية للأفراد هي أنهم يسكنون في بساتين الجنّة التي تختلف في جميع امورها عن بساتين الدنيا، تلك البساتين التي يجري من تحتها الأنهار، والأشجار الخضراء اليانعة طوال السنة وتؤتي ثمارها في جميع الفصول، الأشجار التي لا تحتاج لقطف ثمارها أن يتحمل الإنسان بعض التعب في ذلك بل تحضر بنفسها بمجرد إرادة الإنسان المؤمن وتضع نفسها بين يديه.

3- الراحة والرفاهية «مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ».

«أرائك» جمع «أريكة» والأصل فيها التخت الذي تجلس عليه العروس ثمّ اطلقت على جميع الكراسي الجميلة، فأهل الجنّة يجلسون في بساتينها على أرائك جميلة ويتكئون عليها ويتنعمون بنعيم الجنّة، وعبارة «متكئين» تعبير ظريف وجميل لأن الإنسان لا يعيش هذه الحالة من الجلوس متكئاً على الأريكة إلّاوهو ناعم البال مرتاح الضمير آمن الخاطر، فلو كان قلقاً ومضطرباً فإنه لا يمكنه الجلوس في مثل هذه الحالة والإتكاء على الأريكة بل تراه يقوم ويقعد ويتحرك من هنا ومن هناك.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 172

4- الأجواء المعتدلة والنسيم العليل «لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً».

هواء الجنّة معتدل جدّاً فليس هناك شمس الصحراء المحرقة ولا يحتاج الإنسان إلى أجهزة التبريد، وليس الجو بارداً جدّاً ليحتاج الإنسان أجهزة للتدفئة بل يعيش الإنسان هناك الربيع الدائم والنسيم العليل، ولا شكّ أن في الجلوس والاتكاء على الأرائك الجميلة في مثل هذا الجو الناعم وتحت ظلال الأشجار المثمرة واليانعة، لذّة لا توصف وسعادة لا تتصور.

سؤال: هذه الآيات الشريفة تنفي وجود الشمس في الجنّة، ولكن الآيات اللاحقة تتحدّث عن وجود ظلال لأشجار الجنّة، فلو لم تكن هناك شمس فكيف يُعقل أن تكون هناك ظلال للأشجار، أليس هذا من التناقض؟

الجواب: أوّلًا: إنّ القرآن لا يقول أن في الجنّة لا يوجد شمس، بل يقول أن أهل الجنّة لا يرون الشمس، أي أن أشجار الجنّة متراكمة الأغصان وكثيفة الأوراق إلى درجة أن أهل الجنّة لا يرون الشمس بسبب كثافة هذه الأشجار وارتفاعها.

ثانياً: إنّ المراد بقوله «لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً» أنهم لا يحسون بحرارة الشمس الشديدة، فالآية لا تنفي وجود شمس معتدلة، وعليه فلا يوجد هناك تناقض في البين.

5- الظلال والفواكه «وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا».

إنّ أشجار الجنّة تظلل على هؤلاء المؤمنين بأغصانها وتدني إليهم ثمارها حتّى ينالون منها ما يشاؤون دون أن يتعبوا أنفسهم في الصعود عليها وقطف ثمارها.

6- الخدم من الغلمان «وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ».

وكلّما أرادوا شيئاً أمروا الخدم والغلمان من الولدان المخلدون الذين هم في جمالهم كاللؤلؤ المنثور ليحققوا لهم ما يريدون، بل لا يحتاج هؤلاء الغلمان إلى الأمر والنهي لأنهم يتحركون من موقع الخدمة لصاحبهم وسيّدهم

دائماً.

7- الثياب الجميلة جدّاً «عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ».

حيث يلبس أهل الجنّة أنواع الملابس الجميلة والبرّاقة والمصنوعة من الحرير الناعم ومن السندس والإستبرق، فحتّى الملابس التي كانت حرام عليهم في الدنيا فإنه يباح لهم لبسها وارتداؤها في الآخرة.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 173

8- الزينة «1»

«وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ».

فيباح لهم في الجنّة التزيّن بأنواع الزينة ولبس الأسورة من الذهب والفضة.

9- أدوات الضيافة الراقية «وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا».

إنّ الأدوات التي يستخدمها الإنسان في تناول غذائه والآنية التي يستخدمها في طعامه لها أهمية خاصّة، فلو أن أفضل الأغذية وأطيب الأطعمة والأشربة وضعت في آنية وأقداح غير مناسبة ووسخة فإنّ ذلك بإمكانه أن يسلب الشهية من الإنسان حتّى لو كان جائعاً، ولكن على العكس من ذلك إذا كان الغذاء عادياً ولكن تمّ تقديمه بآنية جميلة ومناسبة ونظيفة فإنّ ذلك من شأنه أن يثير في الإنسان الشهيّة للأكل، ولذلك نجد أن آنية الجنّة وأكوابها التي يستخدمها أهالي الجنّة مصنوعة من الفضة والذهب والبلور وعلى هيئة جميلة وجذّابة جدّاً، وطبعاً الفضة في ذلك العالم تختلف عن الفضة في هذه الدنيا حيث إن تلك الآنية من الفضة شفافة كالزجاج.

10- أنواع النِعم والمواهب «وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً».

فعندما يرد المؤمن الجنّة ويرى المواهب العظيمة والنِعم الكثيرة التي توضع تحت اختياره فإنه يرى ما لا يمكن وصفه من النعيم.

11- الملك العظيم «وَ مُلْكاً كَبِيراً» إنّ أهل الجنّة بالنسبة إلى الإمكانات والخدم والحشم والمنزلة العظيمة التي لديهم يعيشون الملك والسلطنة العظمى

وكأن كلّ واحد منهم يعيش السلطنة والملك على دولة مستقلة ومملكة عظيمة.

12- أنواع المشروبات: إنّ إحدى النعم والمواهب المقررة لأهل الجنّة والتي ذكرها القرآن في موارد متعدّدة هي أنواع الخمور والمشروبات الخاصة بأهل الجنّة، الخمر الذي لا يزيل عقل الإنسان بل يثير فيه روح النشاط والوجد والسرور، ونقرأ في هذه الآيات من

آيات الولاية فى القرآن، ص: 174

سورة الدهر أن هناك ثلاث أنواع من الأشربة في الجنّة:

ألف- شراب الكافور «إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً».

وهنا تتحدّث الآية عن شرابٍ ممزوج بعطر الكافور وهو المادة التي تضاف إلى الماء في تغسيل الميت ولها خاصية مضادّة للتعفن، ولكنها تستخدم في لغة العرب بمعنى أوسع، فتطلق على كلّ شي ء معطر ذي رائحة طيبة، وعليه فالمراد من شراب الكافور هو الشراب المعطّر الذي يثير لدى أهل الجنّة لذّة كبيرة عند تناوله.

ب- شراب الزنجبيل «وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا».

الزنجبيل أيضاً يستعمل في معناه المتداول والمعروف وكذلك بمعنى عطور خاصّة، ولكن هنا ورد بالمعنى الثاني حيث يتناول أهل الجنّة شراباً ممزوجاً بعطر الزنجبيل.

ج- الشراب الطهور «وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً».

النوع الثالث من أنواع الأشربة التي يتناولها أهل الجنّة هو الشراب الطهور حيث يسقيهم اللَّه تعالى هذا الشراب في الجنّة.

هذه التعبيرات المتنوعة في مفردة الشراب تستحق الدقّة والتأمل، فعندما يتحدّث عن شراب الكافور يعبر عنه بجملة «يشربون» أي أن أهل الجنّة يتناولون هذا الشراب بأيديهم، أما في مورد شراب الزنجبيل وردت العبارة بجملة «يسقون» أي أن خدم الجنّة يقدّمون هذا الشراب لهؤلاء المؤمنين، وبالنسبة إلى

الشراب الطهور ورد التعبير ب «سقاهم ربّهم» أي أن اللَّه تعالى هو الذي يسقيهم هذا الشراب الطاهر في الجنّة.

ماذا يعني الشراب الطهور؟

ماذا يعني الشراب الطهور؟

ورد في رواية أن أهل الجنّة عندما يشربون هذا الشراب فإنه:

«يُطَهِّرُهُمْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ سَوَى اللَّهِ» «1».

ويقول النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في حديث آخر عن آثار هذا الشراب الطهور في نفوس أهل

آيات الولاية فى القرآن، ص: 175

الجنّة أنه:

«فَيُطَهِّرُ اللَّهُ بِهَا قُلُوبَهُمْ مِنَ الْحَسَدِ». «1»

إنّ الحسد يُعد أحد الرذائل الأخلاقية التي يبتلى بها البشر في حركة الحياة الدنيا، فأحياناً يمتلك الإنسان جميع النعم الدنيوية والإمكانات المعيشية في هذه الحياة ولكنه مع ذلك لا يتحمل أن يرى الآخرين يمتلكون أيضاً مثل هذه الإمكانات والنعم ويعيشون براحة وسعادة، فالحسد بمثابة السجن الذي يسلب من الحاسد طعم الراحة والإستقرار ويورده في وادي الضلالة والشقاء، وعلى أيّة حال فإنّ أحد المعطيات المهمّة للشراب الطهور هي إزالة هذه الرذيلة من واقع الإنسان وتطهير قلبه من هذه الصفة الأخلاقية الذميمة.

سؤال: إنّ الآيات الشريفة محل البحث قد ذكرت نِعم ومواهب مختلفة وتطرّقت إلى ذكر التفاصيل والجزئيات لبعض هذه النِعم بصورة دقيقة ولكنّها لم تذكر أحد النِعم المهمّة التي طالما ذكرها القرآن الكريم لأهل الجنّة، وهي النعمة التي تخطر على بال كلّ إنسان، أي نعمة «حور العين» فلا نجد كلاماً حول هذه النعمة المهمة في هذه الآيات الشريفة، فما هو السبب في ذلك؟

الجواب: يرى بعض المفسّرين «2» أنّ الآيات الشريفة أعلاه نزلت لتتحدث عن فاطمة الزهراء عليها السلام، ولم يذكر اللَّه تعالى نعمة

«حور العين» فيها احتراماً لفاطمة الزهراء، وهذا شاهد آخر في شأن نزول هذه الآيات وأنها نزلت في الإمام علي عليه السلام وأهل بيته، وإلّا فلا مبرر لعدم ذكر الحور العين في عداد النعم والمواهب الإلهية في الجنّة.

والخلاصة أنّ هذه النِعم الإثني عشر الواردة ضمن أربعة عشر آية من هذه السورة خاصة ب «الأبرار» الذين يقف على رأسهم الإمام علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام.

شبهات وردود

اشارة

شبهات وردود

آيات الولاية فى القرآن، ص: 176

ومع الأسف فإنّ البعض طرح في ذيل هذه الآيات المتعلّقة بفضائل أهل البيت عليهم السلام وكذلك آيات الولاية والإمامة شبهات وعلامات استفهام لا نشاهد مثيلها لدى تفسيرهم لسائر آيات القرآن الكريم، وطبعاً فإنّ الغرض من طرح هذه الشبهات معلوم مسبقاً، لأنهم إذا قبلوا بأن هذه الآيات واردة في فضائل الإمام علي وسائر الأئمّة عليهم السلام فلابدّ أن يقولوا بإمامتهم وخلافتهم بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، لأنه كما تقدّم سابقاً أن الإمامة لو كانت انتصابية من اللَّه تعالى فإنه عزّوجلّ لا يختار أيّ شخص لهذا المقام سوى الأفضل والأعلم والأشجع، ولا يمكن أن يترك الأفضل ويختار المفضول فإنّ ذلك على خلاف مقتضى الحكمة الإلهية، وإذا كانت الإمامة انتخابية فإنّ العقلاء ينبغي أن يختاروا لهذا المقام الأفضل من بين الأفراد، ومع وجود الأفضل لا يصحّ أن يختاروا المفضول، ولكن هذه الحقيقة تتقاطع مع أهواء البعض ومسبوقاتهم الفكرية، ولذلك يتحركون في تفسيرهم لهذه الآيات من موقع التشكيك بهذه الفضائل أو السعي لتهميش هذه المناقب الواردة في هذه الآيات لئلّا يتورّطوا بعذاب

الوجدان وتأنيب الضمير، ومن هنا نستعرض بعض هذه الشبهات والذرائع التي تمسّكوا بها:

1- سورة الإنسان مكّية

1- سورة الإنسان مكّية

قالوا: إنّ سورة الدهر لم تنزل بالمدينة بل في مكّة، ومن المعلوم أن الإمام الحسن والحسين عليهما السلام قد ولدوا بعد الهجرة في السنة الثانية والثالثة من هجرة النبي إلى المدينة، وعليه فإنّ زمان نزول هذه السورة كان قد سبق ولادة هذين السيّدين بعدّة سنين، فما ذكر في شأن نزولها لا يتناسب مع كونها مكّية، ولذلك ذهب البعض إلى أن شأن نزول هذه الآيات كالتالي:

«جاء رجل من الحبشة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال له رسول اللَّه: سل واستفهم، فقال:

يا رسول اللَّه: فضلتم علينا بالألوان والصور والنبوّة، أفلا رأيت إن آمنت بما آمنت به وعملت بمثل ما عملت به إني لكائن معك في الجنّة؟ قال: نعم والذي نفسي بيده انه ليُرى

آيات الولاية فى القرآن، ص: 177

بياض الأسود في الجنّة من مسيرة ألف عام» «1» ثمّ نزلت عليه السورة «هل أتى» «2».

والخلاصة أن ما ذكر في سبب النزول السابق لا يتناسب مع كون السورة مكّية.

الجواب: أوّلًا: إنّ الكثير من المفسّرين والمحدّثين والمؤرّخين يرون أن سورة الدهر نزلت في المدينة، وقد صرّح البعض بهذا المعنى ولكن البعض الآخر لم يصرّحوا بذلك بل ذكروا أن شأن نزولها كان في علي وأهل بيته عليهم السلام وهذا يدلّ بالملازمة أن سورة الدهر مدنيّة.

وقد ذكر القاضي نوراللَّه الشوشتري في المجلد الثالث من كتابه «احقاق الحقّ» الصفحة 157 فصاعداً أسماء هؤلاء العلماء الذين نشير إلى طائفة منهم:

1- «الزمخشري»

وهو من المفسّرين المعروفين لدى أهل السنّة ومن مشاهيرهم فقد صرّح في كتابه المعروف «الكشّاف» بأن سورة الإنسان مدنية «3».

2- «الواحدي» وهو عالم آخر من مشاهير أهل السنّة حيث اختار هذا الرأي في «أسباب النزول» «4».

3- «ابن الجوزي» هو الآخر من علماء أهل السنّة حيث يرى مدنية سورة الدهر «5».

4- «الگنجي» حيث اختار هذه النظرية في كتابه «كفاية الطّالب» «6».

5- «الطبري» حيث اختار هذه الرأي في «ذخائر العقبى» «7».

6- «الآلوسي» يرى أيضاً بأن هذه السورة مدنية «8».

7- «الفخر الرازي» الذي هو أشهر مفسّري أهل السنّة حيث اختار هذه النظرية

آيات الولاية فى القرآن، ص: 178

أيضاً «1».

8- «القرطبي» المفسّر المعروف حيث ذكر في تفسيره هذه العبارة:

ذكر الثّعلبي في تفسيره: وقال أهل التفسير انّها نزلت في علي وفاطمة وجارية لهما اسمها فضّة «2».

وقال أهل التفسير أنها نزلت في عليّ وفاطمة وجارية لهما اسمها فضة.

والخلاصة انه طبقاً لشهادة علماء الإسلام هؤلاء فإنّ سورة الدهر مدنية بلا شكّ.

ثانياً: ويستفاد من الآية الشريفة «وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً» أن هذه السورة مدنية، لأن الأسير لم يكن له وجود في مكّة حينذاك بل وجد بعد هجرة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله والمسلمين إلى المدينة وتشريع حكم الجهاد وبعدما حدثت معارك وغزوات النبي صلى الله عليه و آله، وعليه فإنّ وجود كلمة «أسير» في هذه الآيات يدلُّ على أن هذه السورة مدنية.

وأمّا ما ذكر في شأن النزول من الغلام الحبشي فإنه لا يتناسب إطلاقاً مع آيات سورة الدهر، لأنّ شأن النزول هذا

ليس له ارتباط بإطعام المسكين واليتيم والأسير، وعليه فإنه لا ينسجم مع آيات هذه السورة ولا ينبغي الإعتناء بما يخالف القرآن الكريم من شأن النزول.

2- التعارض بين الوجوب والإستحباب

2- التعارض بين الوجوب والإستحباب

وهنا يثار سؤال: هل يليق بالإمام علي عليه السلام أن يدفع طعامه وطعام أهل بيته الذين تجب نفقتهم عليه إلى السائل؟ في حين أن اللَّه تعالى يقول في الآية 219 من سورة البقرة ضمن الإجابة على السؤال الذي تقدّم به بعض المسلمين إلى النبي صلى الله عليه و آله عمّا يصحّ لهم إنفاقه، فقال:

آيات الولاية فى القرآن، ص: 179

«قُلِ الْعَفْوَ» أي ما زاد على الضروري واللازم في حياة الإنسان.

فإذا كانت آيات سورة الدهر نزلت في حقّ عليّ وأهل بيته عليهم السلام إذن فلماذا تبرع الإمام بالطعام الذي يحتاجونه إلى السائل؟

الجواب: إنّ هذا الكلام يثير العجب واقعاً وخاصّةً فيما لو صدر من شخص يدّعي المعرفة والعلم، لأنّ مثل هذه المعاذير والحجج تشير إلى معالم الجهل وعدم الإطلاع، وتوضيح ذلك أن «الإنفاق» شي ء و «الإيثار» شي ء آخر، ومع الأسف أن من يطرح هذا الإشكال لا يدرك التفاوت بين الإنفاق والإيثار.

ونقرأ في الآية التاسعة من سورة الحشر في وصف الأنصار:

«وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ».

إنّ بعض الأشخاص قد يصلون في مرتبة الكمال المعنوي إلى درجة ومقام «الإيثار»، فعلى رغم حاجتهم الشديدة ينفقون ما يحتاجونه على الآخرين.

وقد ورد في شأن نزول هذه الآية: «أن شخصاً أتى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فشكى إليه الجوع، فبعث رسول اللَّه صلى الله

عليه و آله إلى منزله، فقالت له زوجته: ما عندنا إلّاالماء، فقال رسول اللَّه: من لهذا الرجل الليلة؟ فتعهده رجل من الأنصار وصحبه إلى بيته ولم يكن لديه إلّاالقليل من الطعام لأطفاله، وطلب أن يؤتى بالطعام إلى ضيفه وأطفأ السراج، ثمّ قال لزوجته: نوّمي الصبية، ثمّ جلس الرجل وزوجته على سماط الطعام فتظاهروا بالأكل ولم يضعوا شيئاً في أفواههم، وظنّ الضيف أنهم يأكلون معه، فأكل حتّى شبع وناموا الليلة، فلما أصبحوا قدموا على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فنظر إليهم وتبسّم (دون أن يتكلم)، فنزلت الآية أعلاه وأثنت على إيثارهم» «1».

وعلى هذا الأساس فإن من يطرح مثل هذه الشبهة فإنه لم يقرأ جميع آيات القرآن الكريم، وإلّا فلا ينبغي الشكّ بأن مقام الإيثار أعلى مرتبة من مقام الإنفاق بحيث لا يناله إلّا من اوتي حظاً عظيماً من الإيمان والخلوص، ولذلك يعد الإيثار من الصفات الخاصّة بالمؤمنين الحقيقيين.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 180

مضافاً إلى أن الإمام علي عليه السلام كما ورد في قصة سورة الدهر لم يقدم إلى السائل سوى طعامه فقط لا طعام جميع أفراد الاسرة، ثمّ إنّ فاطمة الزهراء عليها السلام قدّمت طعامها إلى السائل بكلّ اختيار ورغبة وهكذا صنع الحسن والحسين عليهما السلام وهذا يدلُّ على غاية الإيثار الذي يذكره القرآن الكريم من موقع الثناء والمدح.

وأمّا في مورد قوله تعالى «قُلِ الْعَفْوَ» فهناك نظريتان في المراد منها، إحداهما أن المراد من «العفو» هو الشي ء الزائد عن حاجة الإنسان «1»، ولكن الإحتمال الثاني هو أن يكون «الْعَفْوُ هُوَ

الطَّيِّبُ مِنَ الْمالِ» ولذلك لابدّ من التصدّق على الفقير والمسكين من هذا النوع من الأموال «2» لا كلّ ما زاد عن حاجة الإنسان واستغنى عنه في حياته فإنّه يقوم بالتصدّق به إلى الفقراء، لأنه في هذه الصورة سوف لا يصل إلى حقيقة البر والإحسان في قوله تعالى «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» «3».

وعليه فإنّ قوله «قُلِ الْعَفْوَ» يحتمل قوياً أن يراد به التوصية ببذل أفضل ما بأيدي الإنسان من أموال ووسائل إلى الفقراء لا أنه يتصدّق بما لا يحتاج إليه، وهذا هو معنى الإيثار الذي أشارت إليه آيات سورة الدهر.

وبالإلتفات إلى ما تقدّم آنفاً فإننا لا نجد تنافياً بين آية «قُلِ الْعَفْوَ» وبين شأن نزول آيات سورة الدهر، بل وأكثر من ذلك فإنها منسجمة معها ومؤيدة لها.

3- آيات سورة الدهر عامة أو خاصّة؟

3- آيات سورة الدهر عامة أو خاصّة؟

سؤال: هل أن آيات سورة الدهر التي وردت في وصف «الأبرار» وما ذكر من أنواع المثوبات والجزاء في الجنّة لهؤلاء تختص بالإمام علي عليه السلام وزوجه وابنيه، أو هي عامة وشاملة لجميع الأشخاص الذين يتصفون بصفة «الأبرار»؟ وإذا كان الإحتمال الثاني هو

آيات الولاية فى القرآن، ص: 181

المتعيّن «1» إذن فلماذا نحصر الآيات الشريفة بأهل بيت النبوّة؟

الجواب: أوّلًا: إنّ الشواهد والقرائن الموجودة في الآيات الشريفة لا يمكن تطبيقها على جميع الأبرار، بل تنطبق على أبرار معينين، مثلًا يستفاد من هذه الآيات أن الأبرار المقصودين فيها هم الذين نذروا للَّه تعالى وعملوا بذلك النذر وتحركوا من موقع الإيثار العظيم في إنفاقهم على المسكين واليتيم والأسير، وعليه فإنّ الآيات

محل البحث لا تستوعب الأبرار الذين لم يتصفوا بهذه الصفات كالنذر وأشباهه.

ثانياً: على فرض أن الآيات المذكورة عامّة وشاملة لجميع الأبرار ولكن بدون شك أنها شاملة لشأن نزولها أيضاً بل إنّ الإمام عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام من أبرز مصاديق الأبرار قطعاً.

والخلاصة إنّ آيات سورة الدهر تعد من مناقب أهل البيت عليهم السلام وفضائلهم ومن معالم أحقيتهم لمقام الإمامة والخلافة بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

توصيات الآية

1- أهميّة إسداء المعونة إلى المحتاجين

1- أهميّة إسداء المعونة إلى المحتاجين

إنّ المحور الأساس الذي تدور حوله الآيات الثمانية عشر في هذه السورة والذي استوجب كلّ هذه المثوبات العظيمة هو مسألة إسداء يد العون إلى المحتاجين والمحرومين، وهذا يدلُّ بوضوح على أهميّة هذه المسألة في دائرة المفاهيم القرآنية وأن اللَّه تعالى يولي أهمية خاصّة إلى هذا الموضوع، فكلُّ من أراد الدخول تحت مظلّة عناية اللَّه ورحمته الواسعة يجب أن يهتم بقضاء حوائج المحتاجين وإشباع جوعة الجائعين ورفع حرمان المحرومين، ولو انه ارتفع في مدارج الكمال أكثر من ذلك وتحرّك من موقع الإيثار إلى المحتاجين فلا شكّ أنّ عناية اللَّه ولطفه ورحمته ستشمل هذا الإنسان، ومن أجل توضيح هذا الموضوع وبيان أهمية مساعدة المحرومين والمحتاجين نذكر روايتين في هذا المجال:

آيات الولاية فى القرآن، ص: 182

1- يقول الإمام علي عليه السلام في كتابه ووصيته إلى ابنه الإمام الحسن عليه السلام:

وَاعْلَمْ أَنَّ امَامَكَ عَقَبَةً كَؤُوداً، الْمُخِفُّ فِيهَا احْسَنُ حَالًا مِنَ الْمُثْقِلِ، وَ الْمُبْطِى ءُ عَلَيْهَا اقْبَحُ حَالًا مِنَ الْمُسْرِعِ، وَانَّ مَهْبِطَكَ بِهَا لَا مَحَالَةَ امَّا عَلَى جَنَّةٍ أَوْ عَلَى نَارٍ، فَارْتَدْ لِنَفْسِكَ

قَبْل نُزُولِكَ، وَوَطِّى ءِ الْمَنْزِلَ قَبْلَ حُلُولِكَ، فَلَيْسَ بَعْدَ الْمَوْتِ مُسْتَعْتَبٌ، وَلَا إلَى الدُّنْيَا مُنْصَرَفٌ «1».

وهكذا نرى أن أفضل وسيلة لعبور هذا المضيق الخطر والعقبة الكؤود وأفضل زاد لسفر القيامة والورود في صحراء المحشر هو مساعدة الفقراء والمحتاجين والإحسان إليهم، فهذا العمل في الحقيقة يشبه ما إذا دفعنا ما نحتاجه في صحراء المحشر إلى هؤلاء الفقراء والمساكين في الدنيا ليحملوه عنا ثمّ يعيدونه إلينا في ذلك اليوم العسير، فهل هناك أفضل من هذه المعاملة المربحة؟

2- وينقل المحدّث الكليني وهو من كبار علماء الشيعة حديثاً في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال:

ثَلَاثٌ مَنْ اتَى اللَّهَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ اوْجَبَ اللَّهُ لَهُ الْجَنَّةِ؛ الْانْفاقُ مِنْ اقْتَارٍ «2»، وَالْبِشْرُ لِجَمِيعِ الْعَالَمِ «3»، وَالْانْصَافُ مِنْ نَفْسِهِ. «4»

وهكذا ندرك أهمية أن يرى الإنسان حقّه وحقوق الآخرين بعين واحدة وينصف الناس من نفسه، ولهذا ورد في رواية اخرى قوله عليه السلام:

انَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمَرْءَ الْمُسْلِمَ الَّذِي يُحِبُّ لَاخيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَيُكِرْهُ لَهُ مَا يُكْرِهُ لِنَفْسِهِ. «5»

آيات الولاية فى القرآن، ص: 183

2- المعيار في العمل ليس كميّته

2- المعيار في العمل ليس كميّته

والشي ء الآخر الذي يمكن أن نستوحيه من آيات سورة الدهر هي أن الإسلام يرى أن المعيار الصحيح للأعمال يكمن في كيفية العمل لا كميته ومقداره، لأن جميع ما أنفقه هؤلاء الأولياء في هذه الاسرة الطاهرة لا يتجاوز عدّة كيلوغرامات من الشعير، ولكن بما أن هذا العمل كان متوائماً مع الأخلاص وكان بدافع رضا اللَّه تعالى فقط فإنّ هذا الدافع هو الذي رفع قدر ذلك العمل وترتبت عليه تلك المثوبات العظيمة

التي وردت في هذه السورة، فعنصر «الإخلاص» يحقّق معجزة في تغيير ماهيّة العمل، فأحياناً يوصل قيمة العمل إلى ألف ضعف وأحياناً اخرى إلى مليون ضعف وثالثة إلى مليارد ضعف، وقد يصل بالعمل أحياناً إلى ما يستوعب في قيمته جميع عبادات الجن والانس إلى يوم القيامة «1»، وعلامة مثل هذا الأخلاص هي أن الإنسان الذي يتحرك في عمله من موقع الإخلاص لا يرى سوى اللَّه تعالى في عمله هذا ولا يتوقع أجراً من أحد غيره بل لا يتوقع الشكر عليه، وقد يصل الإنسان بدرجة من الإخلاص أن يتساوى عنده الشكر مع الإهانة فلا يفرح بالشكر ولا يتألم من السبّ والإهانة في مقابل هذا العمل، فهنيئاً لمن يعيش هذا المقام وهذه الروحية المخلصة.

3- إنعكاس آيات سورة الدهر في الأشعار

3- إنعكاس آيات سورة الدهر في الأشعار

إنّ شأن نزول آيات سورة الدهر في الإمام علي عليه السلام وأهل بيته عليهم السلام كان إلى درجة من الوضوح والبداهة حتّى أننا نجدها في أشعار الشعراء أيضاً، حيث نقرأ في أشعار محمّد بن إدريس المطلبي الشافعي الذي هو من أئمّة أهل السنّة «2» أنه قال هذه الأشعار في الإمام

آيات الولاية فى القرآن، ص: 184

علي عليه السلام:

إلى مَ إلى مَ وَحَتّى مَتى اعاتَبُ فِي حُبِّ هذَا الْفَتى

وَهَلْ زُوِّجَتْ فاطِمُ غَيْرَهُ

وفِي غَيْرِهِ هَلْ أَتى «هَلْ أَتى »؟ «1»

آيات الولاية فى القرآن، ص: 185

آية التوبة لآدم

اشارة

آية التوبة لآدم 10

[سورة البقرة (2): آية 37]

قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2)

«سورة البقرة/ الآية 37»

أبعاد البحث

أبعاد البحث

الآية الشريفة أعلاه تبين من جهة بعض زوايا قصة آدم عليه السلام ومن جهة اخرى تعتبر دليلًا مهماً على مشروعية التوسل وطلب الشفاعة، ومن جهة ثالثة تتحدّث عن عنصر التوبة والإنابة إلى اللَّه تعالى، وتعدّ من آيات الفضائل للخمسة الطاهرين ومضافاً إلى الامور المذكورة آنفاً في هذه الآية الشريفة فهناك روايات واردة في كتب العامّة والخاصّة تشير إلى ارتباط هذه الآية الشريفة بأهل البيت عليهم السلام كما سيتّضح ذلك في طيّات البحث.

الشرح والتفسير: التوبة والإنابة إلى اللَّه تعالى

الشرح والتفسير: التوبة والإنابة إلى اللَّه تعالى

«فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ» فبعد أن جرى ما جرى من وسوسة إبليس وإخراج آدم وحواء من الجنّة التفت آدم إلى أنه ظلم نفسه، وبسبب وساوس الشيطان تمّ إخراجه من تلكم الأجواء المرفّهة وذلك النعيم العظيم حيث خرج بعدها إلى أجواء المشقّة والبلاء في الحياة الدنيا، ثمّ إنّ آدم فكّر هنا وصمم على جبران الخطأ الذي صدر منه وتوجه

آيات الولاية فى القرآن، ص: 186

بكلِّ وجوده إلى اللَّه تعالى في حالة من الندم الشديد والحسرة العظيمة، فشمله لطف اللَّه تعالى في هذا الحال كما تقول الآية الشريفة:

«فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».

وأما ما هي هذه الكلمات وما هو المراد منها؟ فسيتّضح ذلك في المباحث اللاحقة.

«إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» التوبة في الأصل بمعنى «الرجوع» ووردت في الآيات القرآنية بمعنى الرجوع من الذنب، هذا فيما لو نسبت هذه الكلمة إلى الشخص المذنب، ولكن أحياناً تنسب هذه الكلمة إلى اللَّه تعالى وتعني حينئذٍ الرجوع بالرحمة على

العبد، أي الرحمة التي سلبت من العبد بسبب معصيته وارتكابه للذنب تعود إليه عندما يتحرك هذا الإنسان في خطّ الطاعة والإنابة إلى اللَّه تعالى.

وعلى أيّة حال فإنّ الجملة أعلاه «انَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحيمُ» هي السبب في قبول توبة آدم.

دروس من قصة آدم وحواء

دروس من قصة آدم وحواء

ونستوحي دروساً مهمة من قصة آدم وحواء الواردة في العديد من الآيات القرآنية الكريمة «1» وتتضمن مفاهيم بنّاءة ومؤثرة في حياة الإنسان المعنوية والأخلاقية ينبغي الإلتفات إليها:

1- إنّ اللَّه تعالى يقرّر جعل آدم بعنوانه خليفة اللَّه في الأرض «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» «2».

فما هي الشروط التي لابدّ أن تتوفر في هذا الخليفة؟ وهل أن جميع أفراد البشر هم خلفاء اللَّه، أو أن هذا المقام السامي وهذا اللباس الفاخر لا يناله ولا يرتديه إلّامن اوتي حظاً عظيماً منهم؟

لابدّ من التدبّر في الآيات الشريفة لمعرفة هذه الامور والمعارف المهمة.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 187

2- إنّ الملائكة سألوا اللَّه تعالى من موقع الإستفهام لا من موقع الإعتراض: «أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ» «1».

فمن أين علمت الملائكة بسوابق الإنسان وأنه سيرتكب الجرائم في الأرض؟

3- إنّ اللَّه تعالى خاطب الملائكة بقوله «إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ» «2» ثمّ إنه تعالى علّم الأسماء لآدم ثمّ سأل الملائكة عن هذه الأسماء فأظهروا جهلهم بها وعدم اطلاعهم عليها، وهنا أمر اللَّه تعالى آدم أن يعلمهم بالأسماء فعندما علّمهم وعرّفهم بها أدرك الملائكة خطأهم واعترفوا بجهلهم وقصورهم، فهنا قد يتساءل: ما هو علم الأسماء؟ ماذا كان يتضمن العلم بأسرار الخلقة والكائنات بحيث

رفع مقام آدم إلى تلك الدرجة السامية؟

4- ثمّ إنّ اللَّه تعالى أمر جميع الملائكة بالسجود لآدم «قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا» «3» فكيف نال آدم ذلك المقام الرفيع بحيث أصبح مسجوداً لجميع الملائكة؟ ومن هنا ندرك التفاوت والفرق بين المذهب الذي يرفع من قدر الإنسان إلى ذلك المستوى الرفيع وبين المذاهب الأرضية التي تهبط بالإنسان إلى مستوى القردة والحيوانات.

5- في بداية الخلقة سكن آدم وحواء الجنّة، فأين كانت هذه الجنّة؟ هل كانت بستان من بساتين الدنيا، أو أنها جنّة الآخرة؟ وفي هذه الصورة كيف تمّ إخراج آدم وحواء منها؟

6- كيف استطاع الشيطان خداع آدم؟ وبأي شكل تمكّن الشيطان من دفع آدم باتجاه التلوّث بالخطيئة وترك الأولى «أي العمل الذي تركه أولى من فعله»؟

7- عندما أكل آدم من الشجرة الممنوعة فإنه وجد نفسه عرياناً وسقطت جميع ملابسه عنه ولهذا اضطر إلى التستر بأوراق الشجر فماذا كانت الشجرة الممنوعة؟ ومن أين صنعت تلك الملابس وما هو جنسها ونوعيتها؟

8- عندما وجد آدم نفسه عرياناً التفت إلى خدعة الشيطان وندم على فعله.

9- ولأجل جبران خطئه وجب عليه التوبة والإنابة إلى اللَّه تعالى، وينبغي عليه

آيات الولاية فى القرآن، ص: 188

لتحقيق هذا الغرض أن يتقرب إلى اللَّه تعالى بشخص معيّن فمن هو هذا الشخص؟

10- ورغم أن توبة آدم قد قُبلت ولكنه اخرج من الجنّة وسكن في الأرض، فهل أنه سكن الجنّة هو وزوجته بشكل مؤقت من البداية، أو أن المقرر أن يخلّد فيها ولكنه بسبب ارتكابه لترك الأولى اخرج منها؟

إنّ النقاط العشرة المتقدّمة تحتاج جميعها إلى دراسة دقيقة وبحث

وافر ومفصّل، ولكننا هنا سنشير فقط إلى النقطة التاسعة منها بما يتناسب مع الآية مورد البحث، أي مسألة توسل آدم في هذه الآية.

توسل النبي آدم

توسل النبي آدم

عندما تم إسكان آدم وحواء في الجنّة أباح لهما اللَّه تعالى الإستفادة من جميع النعم والمواهب فيها إلّاشجرة واحدة أمره بالإبتعاد عنها وعدم تناول شي ء منها، وهكذا استمر آدم وحواء في حياتهما السعيدة في الجنّة ولم يقتربا من الشجرة الممنوعة، ولكنّ الشيطان الذي تلّقى ضربة قاصمة عند خلق آدم وتمّ إخراجه من الجنّة وأصبح مورد اللعنة الأبدية كان يتحين الفرصة للانتقام من آدم، ولهذا شرع بالوسوسة لآدم وحواء ليدفعهما نحو الشجرة الممنوعة والتلوّث بالخطيئة.

ونعلم أن الشيطان عندما يوسوس للإنسان بالخطيئة فإنه لا يتقدم بالإنسان باقتراح ممارسة الذنب بصورة مباشرة بل يغطّي الذنب بأقنعة زائفة وبرّاقة وجذّابة بحيث إنّ الإنسان عندما يتحرّك نحو الذنب يتصور أنه يقدم على عبادة ويؤدي وظيفته الشرعية كما يحدّثنا القرآن الكريم عن ملكة سبأ وقومها المشركين الذين كانوا يعبدون الشمس:

«وَجَدْتُها وَ قَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ» «1».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 189

وعلى هذا الأساس تقدّم الشيطان في خداعه ووسوسته لآدم بالقول:

«هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ» «1».

إنّ الإنسان يطلب البقاء والخلود بفطرته ويفزع من الفناء والعدم، والأشخاص الذين يعيشون الخوف من الموت فإنهم يتصورون أن الموت يعني الفناء والعدم، ولكنّ المؤمنين وأتباع أهل البيت لا يرون الموت سوى قنطرة ينتقلون منها إلى عالم أكبر وأوسع، ولذلك فلا يشعرون بالخوف

من الموت.

وعلى أيّة حال فإنّ الشيطان وبهذه الحيلة والخدعة من أن الشجرة الممنوعة تورث البقاء والخلود في الجنّة استطاع إغفال آدم عن النهي الإلهي وجرّه إلى التناول من الشجرة، ثمّ إنّ آدم أدرك خدعة الشيطان وندم بشدّة على ما صدر منه وأراد التوبة إلى اللَّه والإنابة إليه ولكنه لم يكن يعرف طريق التوبة هذا، فعلّمه اللَّه تعالى كيفية التوبة والتوسل بأن ألقى إليه كلمات استخدمها آدم في عملية التوبة، فكانت النتيجة أن قبل اللَّه تعالى توبته وأعاده إلى مقامه الكريم لدى اللَّه تعالى، واستطاع آدم بهذه التوبة أن يوجّه ضربة قاصمة اخرى للشيطان الرجيم والعدو الرئيسي للإنسان.

ماذا كانت الكلمات؟

ماذا كانت الكلمات؟

أما المراد من «الكلمات» التي تلّقها آدم من اللَّه تعالى وتوسل بها إلى اللَّه ليقبل توبته فهناك آراء مختلفة في تفسيرها، ونكتفي هنا بالإشارة إلى ثلاث نظريات منها:

1- إنّ المراد من الكلمات هو ما ورد في الآية 23 من سورة الاعراف في قوله تعالى:

«رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ».

فعندما نطق آدم وحواء بهذه الكلمات قبل اللَّه تعالى توبتهما «2».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 190

2- إنّ المراد من الكلمات كما يرى «مجاهد» هي هذا الدعاء:

اللّهُمَّ لا الهَ إلّاانْتَ، سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ رَبِّ انّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي انَّكَ خَيْرُ الْغافِرينَ. اللّهُمَّ لا الهَ إلّاانْتَ، سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ رَبِّ انّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَارْحَمْنِي، انَّكَ انْتَ ارْحَمُ الرّاحِمِينَ. اللّهُمَّ لا الَهَ الّا انْتَ، سُبْحانَكَ وَبِحَمْدِكَ رَبِّ انّي ظَلَمْتُ نَفْسِي، فَتُبْ عَلَيَّ انَّكَ انْتَ التَّوّابُ الرَّحيمُ. «1»

3- إنّ المراد

من الكلمات هو: النبي محمّد، الإمام عليّ، فاطمة، الحسن والحسين عليهم السلام أي أن آدم توسل إلى اللَّه تعالى بهؤلاء الخمسة الطاهرين واستشفع إلى اللَّه بهم فقبل اللَّه تعالى توبته ببركتهم «2».

وهناك أحاديث كثيرة وردت في مصادر الشيعة وأهل السنّة تؤيد النظرية الثالثة هذه، رغم إمكانية الجمع بين النظريات الثلاث المذكورة آنفاً ولا منافاة فيما بينها، أي أن آدم توسل بهؤلاء الخمسة الأطهار، ولكنّ صيغة التوبة وردت على لسانه كما رأينا في النظرية الاولى والثانية.

وكما رأينا أن بعض علماء أهل السنّة رجّحوا النظرية الثالثة التي هي مورد اتفاق علماء الشيعة وأوردوا روايات تدلُّ على هذا المطلب، نشير هنا إلى ثمانية منهم:

1- العلّامة البيهقي في كتاب دلائل النبوّة «3».

2- العلّامة ابن عساكر في المسند «4».

3- العلّامة السيوطي في تفسير الدرّ المنثور «5».

4- العلّامة السيوطي في جمع الجوامع «6».

5- العلّامة الكاشفي في معارج النبوّة «7».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 191

6- العلّامة القندوزي في ينابيع المودّة «1».

7- العلّامة ابن المغازلي في المناقب «2».

8- العلّامة النطنزي في الخصائص العلويّة «3».

ونكتفي هنا بذكر عدّة نماذج من هذه الروايات الشريفة:

الف) ينقل ابن المغازلي عن ابن عبّاس قوله:

سُئِلَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه و آله عَنِ الْكَلِماتِ التي تَلَقّاها آدَمَ، قال: سَئَلَهُ آدَمُ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ وَفاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ الّا ما تُبْتَ عَليّ فَتابَ عَلَيْهِ. «4»

ب) وينقل ابن عساكر في مسنده عن الخليفة الثاني قوله:

قالَ آدَمُ: اسْئَلُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ الّا غَفَرْتَ لِي- إلى قوله عليه السلام- وَلَوْ لا هُوَ ما خَلَقْتُكَ. «5»

ورغم أن عمر بن الخطاب

لم ينسب هذه الرواية إلى النبي الأكرم ولكنّ مثل هذه المفاهيم والمطالب لا يطلّع عليها غير النبي أو الإمام المعصوم عليهم السلام ولذلك فمن المسلّم أنه سمعها من نبي الإسلام صلى الله عليه و آله.

ج) وينقل العلّامة النطنزي هذه الرواية في «الخصائص العلوية»:

إنَّ الْكَلِماتِ الَّتي تَلَقّاها آدَمُ مِنْ ربَّه: اللّهُمَّ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ وَفاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ الّا تُبْتَ عَلَيْهِ فَتابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. «6»

وفي ذيل هذه الرواية ورد أنه عندما قُبلت توبة آدم صنع آدم لنفسه خاتماً وكتب على فصه اسم نبي الإسلام بعنوان «رسول اللَّه» واسم علي بن أبي طالب بعنوان «أميرالمؤمنين».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 192

الخلاصة أنه طبقاً للروايات الكثيرة الواردة في كتب الفريقين «وما ذكر آنفاً كانت نماذج من روايات كثيرة في هذا الباب» أن المراد من الكلمات التي توسل بها آدم إلى اللَّه تعالى وقبلت توبته ببركة هذه الكلمات هم «الخمسة الأطهار» فهل أن هذا المقام السامي في عالم الوجود تحقّق لشخص آخر غير أهل البيت عليهم السلام؟

ألا تدلُّ هذه الفضيلة العظيمة على أن هؤلاء الأشخاص هم أفضل البشر على الإطلاق؟

إذا كان كذلك (وهو كذلك حتماً) وأراد اللَّه تعالى أن يختار خليفة لنبيّه الكريم فهل يعقل أن تسمح حكمة اللَّه تعالى بأن يكون أشخاص آخرون خلفاء لرسول اللَّه مع وجود الشخص الأفضل؟

وإذا أراد الناس أن يختاروا لأنفسهم شخصاً بعنوانه إماماً وخليفة عليهم فهل يجيز العقل أن يختار العقلاء أشخاصاً آخرين مع وجود الأفضل منهم؟ والحكم إليكم.

هل أن التوسل مشروع؟

هل أن التوسل مشروع؟

مع الأسف أن مكّة المكرمة والمدينة المنورّة ومقدّرات هاتين

المدينتين المباركتين قد وقع بيد الوهابيين الذين يعيشون الإعتقادات الجافّة والخشنة ويرتدون ثياب القداسة الزائفة في مخالفتهم الشديدة لمسألة التوسل هذه ويمنعون المسلمين من زيارة قبر النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله والتوسل بمقامه وكرامته عند اللَّه تعالى وكذلك زيارة قبور أئمّة البقيع الطاهرين عليهم السلام وسائر عظماء الإسلام المدفونين في البقيع، فمن أين لهم الحقّ في تحميل عقائدهم الخشنة على سائر المسلمين حتّى على الكثير من أهل السنّة أيضاً؟

لو كان لهم مثل هذا الحقّ فلماذا لا يتحركون لفرض كيفية الصلاة التي يعتقدون بها في وجوب التكتف على سائر المسلمين؟

هذه بعض الأسئلة وعلامات الإستفهام التي تراود كلّ مسلم يزور مكّة والمدينة ولا يجد جواباً لها ... أجل إن الوهابيين يخالفون بشدّة مسألة التوسل ويرون أنها تتنافى مع التوحيد وأنها من قبيل الشرك باللَّه تعالى! وقد حان الكلام لبحث مسألة التوسل ومشروعيته من خلال الآيات القرآنية وروايات المعصومين عليهم السلام.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 193

أقسام التوسل

أقسام التوسل

للتوسل أقسام مختلفة:

1- تارةً يكون المخاطَب لنا هو النبي أو الإمام نفسه، من قبيل ما ورد في دعاء التوسل حيث يخاطب الداعي كلُّ واحد من المعصومين فرداً فرداً ويطلب من هؤلاء الطاهرين أن يشفعوا له عند اللَّه بما لديهم من الجاه والمقام والكرامة عنده، ففي هذا النوع من التوسل نحن نطلب حاجتنا في الحقيقة من اللَّه تعالى ونجعل هؤلاء المعصومين وسائط في هذا الطلب.

2- وتارةً اخرى يكون المخاطَب هو اللَّه تعالى، ولكنّ الداعي يخاطب اللَّه تعالى بحقِّ الشخص الذي يعتبره وجيهاً عند اللَّه ليضمن استجابة

حاجته وطلبه كما توسل آدم إلى اللَّه تعالى بالخمسة الطاهرين:

«اللّهُمَّ يا حَميدُ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَيا عالِيُ بِحَقِّ عَلِيٍّ وَيا فاطِرُ بِحَقِّ فاطِمَةَ وَيا مُحْسِنُ بِحَقِّ الْحَسَنِ وَيا قَديمَ الْاحْسانِ بِحَقِّ الْحُسَيْنِ».

وفي هذا النحو من التوسل يطلب المتوسل حاجته من اللَّه أيضاً ويجعل كرامة هؤلاء الأولياء واسطة لضمان الإستجابة.

3- وفي قسم ثالث يكون اللَّه تعالى هو المخاطَب أيضاً ولكننا نقسم عليه بحقِّ الشخص الذي له وجاهة عند اللَّه ليستجيب لنا دعاءنا ويقضي حاجتنا، من قبيل أن يقال: إلهنا نقسم عليك بنبي الإسلام أو بالقرآن الكريم أو بغير ذلك من المقدّسات، إلّاما قضيت حاجتنا.

ولكنّ الوهابيين يحرّمون جميع أقسام وأنواع التوسل هذه ويعتبرونها نوعاً من الشرك، وهنا نلفت النظر إلى بعض مقولات رموزهم وعلمائهم:

1- يقول محمّد بن عبدالوهاب في كتابه «التوحيد» الذي ينبغي أن يسمّى بكتاب «الشرك»:

إنّ هذا الشّرك الأكبر «1»

(أي التوسل).

آيات الولاية فى القرآن، ص: 194

2- يقول الصنعاني أحد علماء الوهابية أيضاً:

من توسّل بمخلوق فقد أشرك مع اللَّه غيره واعتقد ما لا يحلّ اعتقاده. «1»

3- ويقول ابن تيمية المؤسس الحقيقي للفكر الوهابي:

من توسّل بعظيم عند اللَّه ... فهذا من أفعال الكفّار والمشركين. «2»

والخلاصة هي أن من يعتقد بمذهب الوهابية يرى أن أي نوع من التوسل هو شرك باللَّه تعالى وأن المتوسل منحرف عن الإسلام الحقيقي، ولذلك يتحركون في مكّة والمدينة بذريعة «الشرك» و «البدعة» من موقع إلحاق الأذى وإيجاد المشاكل لحجاج بيت اللَّه الحرام وزوار المدينة المنورّة.

مقام التوحيد ومكانته السامية

مقام التوحيد ومكانته السامية

ولأجل بيان هذه الحقيقة وهي أن التوسل لا يتنافى إطلاقاً مع

التوحيد نرى من اللازم في البداية توضيح معنى التوحيد وبيان مقامه السامي في دائرة المعتقدات الإسلامية، وباعتقادنا أن التوحيد هو أصل وأساس الدين ويلعب دوراً أساسياً في جميع الامور المتعلّقة بالدين والسلوك الديني، إنّ اللَّه تعالى واحد، وجميع الأنبياء دعوا أقوامهم إلى شي ء واحد، وأن جميع الناس سوف يبعثون بعد الموت، وأن الكعبة هي قبلة المسلمين، والقرآن لدى جميع المسلمين واحد، والخلاصة أن التوحيد يمثل الأصل والأساس لجميع اصول الدين وفروعه، ولهذا فإنّ التوحيد ليس أصلًا من اصول الدين فقط بل يستوعب جميع اصول الدين وفروعه، والتوحيد بمثابة خيط المسبحة الذي يربط جميع حباتها بحيث لولا التوحيد لا يبقى للدين من معنى كما أنه لولا خيط المسبحة لا يبقى معنى لوجود المسبحة، وبالالتفات إلى هذا المعنى للتوحيد ومكانته العليا بين العقائد والمفاهيم الإسلامية فإننا نعتقد بأن كلّ أمر يتنافى مع التوحيد فهو مرفوض ومردود.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 195

أقسام التوحيد

أقسام التوحيد

للتوحيد أقسام ومراتب متعدّدة، ونشير هنا إلى أربعة مراتب مهمّة للتوحيد:

1- توحيد الذات: يعني الإعتقاد بأن اللَّه تعالى واحد في ذاته، وليس المراد بأنه واحد في العدد أي موجود واحد لا إثنين لأنه على أساس المعنى الأوّل للتوحيد أن اللَّه واحد، بمعنى أن الإنسان لا يتصور له شبيه ومثيل، ولكن على المعنى الثاني يمكن تصور الشبيه والمثيل رغم انعدام الوجود الخارجي لهذا الشبيه.

وعلى هذا الأساس فإنّ الآية الاولى من سورة التوحيد «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» تفسر بمعنى قوله تعالى في هذه السورة أيضاً «لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» فلا نظير له

ولا شبيه ولا يمكن تصور النظير والشبيه له.

2- توحيد الصفات: فجميع صفات اللَّه تعالى تعود إلى حقيقة واحدة، فليست صفة العلم شي ءٌ آخر غير القدرة، والقدرة الإلهية أيضاً ليست شيئاً آخر غير الأزلية، وهكذا سائر الصفات الاخرى تعود في الحقيقة على الذات، ولكن بالنسبة إلى الإنسان فيمكن القول أن علمه في روحه، وشجاعته وقدرته في عضلاته، ورحمته في قلبه، ولا يصحّ هذا القول بالنسبة إلى اللَّه تعالى فإنّ ذاته المقدسة هي علم وقدرة وحياة وغير ذلك.

3- توحيد الأفعال: إنّ كلُّ فعل أو حركة أو ظاهرة في هذا العالم هي في الواقع من تجليّات الذات المقدسة ولا شي ء بإمكانه أن يؤثر في عالم الوجود بدون إذنه ومشيئته «لا مُؤَثِّرَ فِي الْوُجُودِ الَّا اللَّهُ» فعندما تحرق النار شيئاً فإنّ ذلك بإذن اللَّه، ولذلك رأينا أن نار نمرود لم تستطع إحراق إبراهيم لأن اللَّه تعالى لم يأذن لها بذلك، وعندما يطفى ء الماء النار فذلك أيضاً بمشيئة اللَّه، وكلُّ ما نعمل من عمل فإن ذلك بإذن اللَّه لأنه تعالى هو الذي أقدرنا على ذلك ومنحنا الإختيار والحرية والقدرة والعقل لنتصرف كيف ما نريد، فكلُّ ذلك حصلنا عليه من اللَّه تعالى، وكلُّ حركة من حركاتنا تعود إلى ذاته المقدسة، والخلاصة أن المؤثر للاستقلال هو اللَّه تعالى وما بقي من الأسباب فليس لها قدرة على التأثير إلّابمشيئة اللَّه وإرادته.

4- توحيد العبادة: إنّ العبادة لا ينبغي أن تكون إلّاللَّه تعالى ولا يوجد موجود يليق

آيات الولاية فى القرآن، ص: 196

بالعبادة غير اللَّه تعالى، كما يشاهد من بعض الشيعة عندما

يدخلون المشاهد المشرّفة لأحد الأئمّة الأطهار عليهم السلام فإنّهم يقبلون الأرض أو عتبة الباب، فهو في الحقيقة من قبيل سجدة الشكر للَّه تعالى أنه وفقهم لزيارة أوليائه لا أنها سجود للإمام (والعياذ باللَّه) لأن الشيعة لا يعتقدون بأي موجود يستحق العبادة والسجود غير اللَّه تعالى ولا يسجدون لغير اللَّه، ولذلك نوصي الشيعة أن يتركوا هذا العمل أيضاً أي سجدة الشكر أمام الضريح المقدّس دفعاً لهذا التوهم وألا يكون ذلك ذريعة بيد البعض ليتحركوا ضد الشيعة من موقع التهويل والإتهام، وعلى أيّة حال فإنّ العبادة لا تكون إلّاللَّه تعالى.

هذه المراتب الأربع للتوحيد تعتبر المراتب الأصلية للتوحيد رغم وجود مراتب اخرى متفرعة عليها نظير: توحيد الحاكمية «1»، توحيد الشارعية «2»، توحيد المالكية «3»، وأمثال ذلك «4».

ومن هنا يتضح أن الإنسان المسلم إذا اعتقد بما ذكر أعلاه من حقيقة التوحيد فإنه كامل الإيمان وموحد في نظر الإسلام، ولكن الوهابيين الذين يدّعون التوحيد ويرفضون الشرك لم يدركوا عمق هذه المراتب للتوحيد الواردة في تعاليم أئمّة أهل البيت عليهم السلام ولذلك فهم يتهمون الآخرين بالشرك دائماً.

الأشاعرة والتفسير الخاطى ء للتوحيد الأفعالي

الأشاعرة والتفسير الخاطى ء للتوحيد الأفعالي

الأشاعرة وهم أحد مذاهب أهل السنّة عندما لم يستوعبوا الفهم الصحيح للتوحيد

آيات الولاية فى القرآن، ص: 197

الأفعالي ذهبوا إلى الجبر وأن الإنسان مجبور على أفعاله، لأنهم تصوروا إنّ الإنسان إذا كان مختاراً في أفعاله فإنّ ذلك يعني الشرك في دائرة التوحيد الأفعالي، في حين أن هذه العقيدة (وهو الجبر) تثير علامات الإستفهام في كافة اصول العقيدة من النبوّة والقيامة والإمامة والعبادات التي أمر بها الإسلام.

والحقيقة أن

الإنسان لو كان مخيّراً ومجبوراً في أفعاله وكان يعيش فقدان الإرادة والإختيار في حركته في الحياة فما معنى مؤاخذته ومساءلته يوم القيامة؟

كيف يمكننا توجيه عقاب المذنبين وثواب المطيعين في الحياة الآخرة؟ لأن كلًا من المطيع والعاصي كانا يتحركان في سلوكهما من دون اختيار وإرادة، فلا المذنب اختار أن يكون مذنباً ولا المطيع اختار أن يكون مطيعاً، فلماذا إذن يستحق الأوّل العقوبة والثاني المثوبة؟

إذا قلنا بالجبر فلا ينبغي لأي محكمة أن تعاقب المجرم على جريمته لأنه مجبور حسب الفرض على ذلك.

هل يصحّ أن نعاقب النار على إحراقها لإنسان بري ء؟

هل يعقل أن نحاكم البحر ونقضي عليه بالعقاب الصارم لأن إنساناً بريئاً غرق في مياهه؟

هل يمكننا محاكمة الكهرباء فيما لو أدّت إلى قتل شخص بري ء؟

بديهي أن جواب هذه الأسئلة بالنفي وستكون مثل هذه المحاكمة مضحكة ومدعاة للسخرية، وهكذا حال الإنسان المجبور على أفعاله فإنه يكون حاله حال الماء والنار والكهرباء فيما لو أقدم على ارتكاب جريمة.

والملفت للنظر أن أصحاب هذه النظرية يخالفون نظريتهم في مقام العمل والممارسة، فلو أن أحداً صفعهم لرأيناهم يعترضون عليه، ولو أنّ لصاً دخل إلى بيوتهم وسرق منها شيئاً لقاموا بتقديمه إلى المحكمة، في حين أن الإنسان إذا كان مجبوراً وفاقداً للإرادة فلا معنى للاعتراض والشكاية، ولكننا نرى هذا التناقض بوضوح بين قول أصحاب عقيدة الجبر وبين أفعالهم وممارساتهم.

لعلّ القارئ العزيز يتصور أن هذه المطالب ما هي إلّاأفكار وتوهمات تجول في مدارات

آيات الولاية فى القرآن، ص: 198

الذهن فقط من دون أن يكون لها رصيد واقعي من الأشخاص المؤيدين لها، ولكن

مع الأسف فهناك الكثير من الأشخاص المغفلين الذين يتحركون في دائرة العقيدة والمذهب من موقع الدفاع الشديد عن هذه النظرية الباطلة وقد كتبوا في ذلك كتباً متنوعة.

أجل، فإنّ هؤلاء الأشخاص عندما لم يستطيعوا إدراك مغزى التوحيد الأفعالي ذهبوا إلى الجبر وغفلوا عن أن اللَّه تعالى هو الذي وهب للإنسان الإختيار والإرادة، وعندما نقول أن الإنسان حرٌّ ومختار في أفعاله فإنما ذلك على أساس أنّ كلّ هذه الامور متصلة باللَّه تعالى وبمشيئته، وبذلك لا يكون هناك تقاطعاً بين اختيار الإنسان والتوحيد الأفعالي.

وقد ذهب الأشاعرة والجبرية إلى أكثر من ذلك، فقد أنكروا عالم الأسباب والمسببات وقالوا: إنّ النار لا تحرق أبداً بل اللَّه تعالى هو الذي يحرق، وكذلك ذهبوا إلى أن الحجر لا يكسر الزجاج بل بمجرد أن يقترب منه ويمسه فإنّ اللَّه تعالى يقوم بكسر الزجاج.

أجل، فإنهم أنكروا مثل هذه الامور البديهية بسبب تفسيرهم الخاطى ء للتوحيد الأفعالي، ورأينا أن التوحيد الأفعالي لا يتنافى إطلاقاً مع إختيار الإنسان وإرادته، وكذلك لا يتنافى مع عالم الأسباب لأن الإرادة السببية في عالم المخلوقات كلّها تعود في الأصل إلى اللَّه تعالى، فإنه هو الذي وهب الإنسان القدرة والقوّة والعقل والإختيار والإرادة، وبما أن هذه الامور جميعاً من اللَّه تعالى إذن يصحّ نسبتها جميعاً إليه رغم أن الإنسان لا يتجرد من المسؤولية وحرية الإنتخاب في دائرة الفكر والعقيدة والممارسة.

ولأجل توضيح المطلب أكثر نضرب لذلك مثالًا:

عندما يدفع الأب بعض المال لولده لينفقه في مصارفه ومعيشته فالأب من جهة يمكنه في أي لحظة أن يأخذ هذا المال باعتباره ماله وملكه رغم أن الإبن إذا اشترى بهذا المال شيئاً فإن المسؤولية تقع عليه لا على الأب.

والنتيجة هي أن التوحيد الأفعالي لا يتنافى مع اختيار

الإنسان وإرادته ولا ينبغي أن نتصور أن ذلك يدخلنا في دائرة الشرك.

هل ينسجم التوسل مع التوحيد؟

هل ينسجم التوسل مع التوحيد؟

آيات الولاية فى القرآن، ص: 199

سؤال: لماذا يتصور الوهابيون أن التوسل هو نوع من الشرك؟ وكيف يتقاطع التوسل مع أحد مراتب التوحيد المتقدّمة؟ وهل أن التوسل يتنافى مع توحيد الذات، أو مع توحيد الصفات؟

بلا شكّ أن التوسل لا يتنافى إطلاقاً مع توحيد الذات والصفات، ولكن هل يثير التوسل مشكلة في دائرة العبادات والتوحيد الأفعالي؟ إذا كان الجواب بالإيجاب من قبل الوهابيين فينبغي القول بأنهم وقعوا في اشتباه كبير لأن الشيعة عندما يتوسلون بالنبي أو الأئمّة المعصومين أو القرآن الكريم لا يرون أن ذلك من العبادة لهؤلاء إطلاقاً كما هو الحال في عبادة المشركين للأصنام والأوثان وتصورهم أنها شفعاء لهم عند اللَّه، بل نحن نطلب من هؤلاء الأولياء أن يتوسطوا لنا بما لديهم من جاه ومقام عند اللَّه تعالى لحلِّ مشاكلنا واستجابة دعائنا، وعلى هذا الأساس فإنّ الفرق بين التوسل وبين عبادة المشركين واضح جدّاً، والشخص الذي يتصور أن توسل الشيعة إنما هو مثل عبادة المشركين للأوثان في الحقيقة هو إنسان بعيد عن الإنصاف وجادة الصواب.

مضافاً إلى ذلك أن التوسل بالخشب والحجر لا يعود على الإنسان إطلاقاً بالنفع والضرر، وهذا المعنى لا يقبل القياس بالتوسل بالإمام والنبي والقرآن والتقرّب بهم إلى اللَّه تعالى، والنتيجة هي أن التوسل لا يتنافى مع توحيد الذات ولا توحيد الصفات ولا التوحيد في العبادة. إذن فما هو مقصود الوهابيين من قولهم بأن التوسل شرك؟ وما هي المرتبة من مراتب التوحيد التي

يرون أنها تتنافى مع التوسل؟

الجواب: الظاهر أن مقصود الوهابيين من أن التوسل شرك هو أنه يتنافى مع التوحيد الأفعالي، لأن الشخص الذي يتوسل بالنبي أو الإمام ويطلب منه حلّ مشكلته فإنه يرى أن غير اللَّه تعالى له تأثير في عالم الخلق، ونعلم أن التأثير منحصر باللَّه تعالى ولو أن الإنسان اعتقد بأن غير اللَّه يمكنه أن يؤثر في عالم الوجود فهو نحو من أنحاء الشرك.

والجواب على هذا الكلام هو أن الشيعة لا يرون للنبي والإمام والقرآن تأثيراً في عالم الخلقة في عرض اللَّه تعالى، بل في طول القدرة الإلهية، ولا تكون قدرتهم مؤثرة إلّابإذن اللَّه ومشيئته، وهذا المعنى لا يتنافى إطلاقاً مع التوحيد الأفعالي، نعم إذا قلنا إنّ النبي أو الإمام يؤثر في عالم الخلقة بالإستقلال «نعوذ باللَّه» فهذا هو الشرك، ولكن لا أحد يقول بهذا المعنى،

آيات الولاية فى القرآن، ص: 200

فعندما نقول أن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله يشفع لنا عند اللَّه ويتوسط في حلِّ مشكلاتنا ليكون اللَّه تعالى هو الذي يحلّ هذه المشكلة أو يشافي المريض أو يرزق الفقير فإنّ ذلك ليس من الشرك بل هو عين التوحيد.

وبما أن هذا المعنى انعكس في دائرة المفاهيم القرآنية بوضوح فينبغي القول بأن هؤلاء الوهابيين لا يقبلون بالقرآن أيضاً، لأن الآية 49 من سورة آل عمران تردّهم ردّاً قاطعاً وتبطل إدعاءاتهم الفارغة واتهاماتهم الباطلة وذلك في قوله تعالى:

«أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ».

فنرى أن عيسى عليه السلام يخاطب بني إسرائيل ويقول بانني بعثت رسولًا إليكم من قبل اللَّه تعالى

ومعي معجزة، ثمّ يذكر ثلاث معجزات:

1- «أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ».

وهكذا نرى أن المسيح عليه السلام يقول بأنني أصنع لكم طيراً من طين ثمّ أنفخ فيه الحياة والروح فيتحول هذا التمثال الطيني إلى طائر حي بإذن اللَّه، أي إنني لا أستطيع التأثير في هذه الأشياء في عرض قدرة اللَّه ومشيئته بل إن قدرتي وتأثيري إنّما هي بإذن اللَّه وليست مهمتي سوى أن أنفخ في هذا التمثال ليتحول إلى طائر فيه حياة وشعور بإذن اللَّه.

2- «وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ».

المعجزة الاخرى لعيس بن مريم عليه السلام هي شفاء المرضى المزمنين والأعمى والأبرص وإحياء الموتى، وطبعاً كلّ هذه الأعمال إنّما أقوم بها بمشيئة اللَّه وإذنه ولا تتصوروا أنني إله أو ابن إله فلست سوى وسيلة لتحقيق هذه الأغراض، والمصدر الحقيقي هو اللَّه تعالى، فإحياء الموتى وشفاء المرضى كلّها صادرة من ساحته المقدسة.

3- «وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ».

العلامة الثالثة لنبوّة عيسى ابن مريم انه كان يخبرهم بما لديهم من أطعمة وأغذية في بيوتهم ويخبرهم بما يأكلون من طعام وشراب كلُّ ذلك بتعليم اللَّه تعالى.

وهذه الآية الشريفة تمثل ردّاً حاسماً على من ينكر الولاية التكوينية أو ينكر مشروعية التوسل ويتصور بأن ذلك يتنافى مع التوحيد الأفعالي، وعليه فإذا نسبنا هذه الأفعال إلى غير اللَّه تعالى واعتقدنا بأن الإنسان يمكنه أن يؤثّر في عالم الأسباب والمسببات بإذن اللَّه

آيات الولاية فى القرآن، ص: 201

ومشيئته فإن هذا المعنى لا يتنافى مع

التوحيد إطلاقاً.

التوسل في القرآن

التوسل في القرآن

ومضافاً إلى ما تقدّم فهناك آيات قرآنية عديدة تذكر مسألة التوسل بصراحة وإليك بعض النماذج والأمثلة على ذلك:

1- نقرأ في الآية 97 من سورة يوسف قوله تعالى:

«قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ».

عندما وصل خبر يوسف وأنه في كامل الصحّة والعافية إلى أبيه واخوته تحرّك الأخوة لجبران خطئهم واشتباههم من موقع التوبة والإستغفار وجاءوا إلى أبيهم وتوسطوا إليه ليستغفر لهم اللَّه تعالى وجعلوه واسطتهم إلى اللَّه تعالى ليغفر لهم شنيع فعلتهم، فأجابهم يعقوب بقوله:

«سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ». «1»

وطبقاً لهذه الآية الشريفة فإنّ أبناء يعقوب المذنبين توسلوا إلى أبيهم النبي وطلبوا منه أن يتوسط لهم إلى اللَّه تعالى ليغفر لهم ويعفو عنهم، وعليه فلا إشكال في أن نتوسل بنبي الإسلام صلى الله عليه و آله أو الأئمّة المعصومين عليهم السلام أو القرآن الكريم أو المقدسات الاخرى ونجعلها واسطتنا إلى اللَّه تعالى لطلب الفرج واستجابة الدعاء وأمثال ذلك.

2- ونقرأ في الآية 64 من سورة النساء:

«وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً».

إنّ اللَّه تعالى في هذه الآية الشريفة يعلّم الناس طريق التوسل، وفي مقابل هاتين الآيتين

آيات الولاية فى القرآن، ص: 202

من القرآن الكريم نرى أن الوهابيين يحرّمون ويمنعون التوسل، فما هو المسوغ لهم لهذا المنع؟

التوسل بالعظماء والأولياء بعد وفاتهم

التوسل بالعظماء والأولياء بعد وفاتهم

إنّ الوهابيين يفتقدون إلى الجواب المنطقي في مقابل هذه الآيات القرآنية والبراهين العقلية ولذلك اضطروا

إلى تعديل مواقفهم من مسألة التوسل وأجازوا التوسل بالنبي في حياته ومنعوه بعد وفاته.

إنّ هؤلاء لم يلتفتوا إلى لوازم هذا الرأي، لأن ذلك يعني أن الشرك وفقاً لهذه العقيدة مباح في حياة النبي ولكنه حرام بعد وفاته، وبعبارة اخرى أن لازم ذلك أن يكون الشرك على نحوين: 1- الشرك المباح، 2- الشرك المحرّم والممنوع.

فهل سمعتم عالماً ينطق بمثل هذا الكلام؟

هل سمعتم أحد المسلمين يقول بأن الشرك مباح في بعض الأحيان؟

إنّ بطلان الشرك بمثابة قانون عقلي كلّي لا يقبل الإستثناء، ولكنّ الوهابيين هم طائفة متخلّفة فكرياً وعلمياً دون سائر المذاهب الإسلامية حيث لا يمكن قياسهم بعلماء دمشق ولا بعلماء الأزهر ولا بعلماء الشيعة وفضلاء الحوزات العلمية.

مضافاً إلى ذلك نقول: كيف اختلف الحال بين وجود النبي على قيد الحياة وبعد الوفاة؟

فرغم أن بدن النبي قد مات ودفن في التراب ولكن بدون شكّ أن روحه بعد خروجها من البدن الشريف ستكون أقوى على مستوى التأثير والإدراك.

والقرآن الكريم يقرر الحياة البرزخية للشهداء ويقول في الآية 169 من سورة آل عمران:

«وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ».

فعندما يكون الشهداء أحياءاً بعد موتهم ويتناولون الطعام عند ربّهم كما تقول الآية التي بعدها أنهم يشهدون أعمال أحبتهم ورفقاءهم في هذه الحياة الدنيا، فهل أن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله الذي يتمتع بمقام أسمى بكثير من مقام الشهداء لا تكون له حياة برزخية؟

بلا شكّ أن النبي يعيش الحياة البرزخية في أعلى المستويات، ولذلك نرى أن المسلمين في ختام كلِّ صلاة يسلمون عليه ويقولون:

آيات الولاية فى القرآن، ص: 203

«السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ».

فلو لم يكن النبي حيّاً فلماذا هذا السلام، وعلى من يكون، وماذا يعني؟

النتيجة هي أن التوسل بالأولياء جائز في حال حياتهم وبعد موتهم، ولا فرق هناك بين موت هؤلاء وحياتهم في هذه المسألة.

التوسل في الروايات

التوسل في الروايات

لقد ورد التوسل في روايات الفريقين الشيعة والسنّة بشكل واسع، ونشير هنا إلى بعض هذه الروايات الواردة في مصادر أهل السنّة:

1- ينقل البيهقي أحد علماء أهل السنّة عن أنس «الخادم الخاصّ للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله» قوله:

جاء رجل من الأعراب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأنشد يقول:

اتَيْناكَ وَالْعُذْراءُ يُدْمِي لِبانَها وَقَدْ شَغَلَتْ امُّ الصَّبِيَّ عَنِ الطِّفْلِ

وَلَيْسَ لَنا الّا الَيْكَ فِرارُنا وَايْنَ فِرارُ الْخَلْقِ الّا الَى الرُّسُلِ

فعندما سمع النبي صلى الله عليه و آله بحال هذا الرجل المؤلمة تأثّر كثيراً وتوجّه إلى المسجد وهو يجرّ بردائه من شدّة الهمّ والحزن، فصعد المنبر ورفع يديه للدعاء، وما زال يدعو حتّى نزل المطر ونجى الناس من القحط «1».

فطبقاً لهذه الرواية فإنّ ذلك الأعرابي توسل في زمان حياة النبي صلى الله عليه و آله به، ولم يمنعه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من ذلك أو ينهاه.

2- ويورد البخاري في كتابه رواية في هذا المجال، وهي أن الناس أصيبوا بالقحط في أيّام رسول اللَّه صلى

الله عليه و آله فجاؤوا إليه يشكون إليه حالهم، فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فنزل المطر، فقال النبي صلى الله عليه و آله:

آيات الولاية فى القرآن، ص: 204

«لَوْ كانَ أَبُو طالِبٍ حَيّاً لَقَرَّتْ عَيْناهُ» «1».

وهذه الجملة من كلام النبي صلى الله عليه و آله إشارة إلى ما كان من النبي قبل البعثة من دعاء أبي طالب لنزول المطر وكان النبي يومذاك رضيعاً، فأخذه أبوطالب وأقسم على اللَّه تعالى بحقّ هذا الطفل إلّاما أنزلت علينا المطر. فاستجيب دعاؤه ونجا الناس من الهلاك والقحط، ثمّ إن أبا طالب أنشد أبياتاً من الشعر مطلعها:

وَابْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمامُ بِوَجْهِهِ ثَمالُ الْيَتامى عِصْمَةٌ لِلْأَرامِلِ «2»

والخلاصة أن الناس طبقاً لهذه الرواية كانوا قبل البعثة وبعدها يتوسلون إلى اللَّه تعالى بالنبيّ الكريم صلى الله عليه و آله ولن يتحرك النبي الأكرم لمنعهم من هذا العمل بل إنه أثنى عليه بحيث إنه طلب من البعض أن يقرأوا أشعار أبي طالب التي قالها بمناسبة واقعة الإستسقاء فتكفل الإمام علي عليه السلام بهذه المهمة.

3- قال السمهودي أحد كبار علماء أهل السنّة في كتابه «وفاء الوفاء» عن مالك أحد أئمّة المذاهب الأربعة لأهل السنّة: ناظر أبو جعفر أميرالمؤمنين مالكاً في مسجد الرسول صلى الله عليه و آله فقال مالك: يا أميرالمؤمنين لا ترفع صوتك في المسجد فإن اللَّه تعالى أدب قوماً فقال:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا

تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ» «3»، ومدح قوماً فقال: «إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ» «4»، وذمّ قوماً فقال: «إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» «5».

فقال منصور: هذا كان في حياته لا بعد مماته.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 205

فقال مالك: «حُرْمَتُهُ مَيِّتاً كَحُرْمَتِهِ حَيّاً». «1»

وطبقاً لهذا الكلام فإن احترام النبي واجب في حال حياته وبعد مماته والتوسل به جائز أيضاً على أيّة حال.

4- وقد ذكر «ابن حجر» من علماء أهل السنّة المعروفين والإنسان المتعصب جدّاً في كتابه «الصواعق المحرقة» اعترافات مهمة لصالح الشيعة، ومن تلك الإعترافات ما أورده من شعر الإمام الشافعي حيث يقول:

آلُ النَّبيِّ ذَريعَتي وَهُمْ الَيْهِ وَسيِلَتِي

ارْجُو بِهِمْ اعْطى غَداً بِيَدِ الْيُمْنى صَحيفَتِي «2»

النتيجة: أن التوسل بأولياء الدين والمقدّسات كالقرآن الكريم لا تتنافى إطلاقاً مع التوحيد الأفعالي، وقد ورد التمجيد والترغيب في القرآن والروايات الشريفة للمسلمين لمثل هذا العمل.

لا تجوز العبادة لغير اللَّه

لا تجوز العبادة لغير اللَّه

سؤال: لقد قلتم أن العبادة خاصّة باللَّه تعالى ولا ينبغي عبادة غير اللَّه لأن ذلك يحسب من الشرك في

حين أننا نجد في بعض الآيات القرآنية أنها تتحدّث عن السجود لغير اللَّه تعالى من قبيل:

1- ما ورد في قصة آدم وحواء عندما خلق اللَّه آدم وأمر الملائكة بالسجود له:

«فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ». «3»

فلو كانت العبادة لغير اللَّه تعالى شرك فلماذا ورد الأمر في هذه الآية الشريفة بالسجود لآدم؟

2- وفي سورة يوسف عندما تحرك الاخوة مع الوالدين من الصحراء متوجهين إلى مصر بعد أن علموا بحياة يوسف، حيث يحدّثنا القرآن الكريم عن اللحظة التي التقى فيها

آيات الولاية فى القرآن، ص: 206

هؤلاء بالنبي يوسف وقال:

«وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً». «1»

فطبقاً لهذه الآية الشريفة فإنّ أبناء يعقوب سجدوا ليوسف، فلو كان السجود لغير اللَّه شركاً، فكيف نفسر ما ورد في هذه الآية الشريفة؟

3- عندما ورد بنو إسرائيل بيت المقدّس فإنّ الآية تذكر هذه الواقعة وأن بني إسرائيل سجدوا عند ورودهم المعبد في بيت المقدّس كما نقرأ ذلك في الآية 58 من سورة البقرة:

«وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ».

والخلاصة أن هذه الآيات الثلاث تتحدّث عن السجود لغير اللَّه فكيف يتناغم ذلك مع التوحيد في العبادة؟

الجواب: تقدم أن حرمة الشرك وعدم جواز السجود لغير اللَّه واختصاص العبادة باللَّه تعالى إنّما هو قانون كلّي لا يقبل الإستثناء، فالشرك لا يمكن أن يتواءم مع التوحيد في أي مرتبة من مراتبه، وعليه فإنّ السجود الوارد في الآيات المذكورة لا يعني العبادة بل هو

سجود الشكر والتعظيم للَّه تعالى على نعمه ومواهبه العظيمة.

عندما سجد الملائكة لآدم ففي الحقيقة أنهم سجدوا للَّه تعالى الذي خلق مثل هذا المخلوق العظيم، إذن فالسجود في الواقع كان للَّه تعالى ولكن بسبب خلق آدم.

وهكذا في اخوة يوسف فإنهم سجدوا شكراً للَّه تعالى لأجل النعمة العظيمة التي أولاها اللَّه تعالى لأخيهم يوسف، ولأجل نجاتهم من الحياة الصعبة والشاقّة في صحراء كنعان ورؤيتهم أخيهم بعد سنوات من الفراق وبالتالي انتقالهم إلى مصر ليعيشوا حياة طيبة ومرفهة وكريمة، فلأجل ذلك سجدوا شكراً للَّه تعالى، كما هو الحال في بني إسرائيل الذين سجدوا للَّه تعالى لا لمسجد بيت المقدّس.

عندما يقوم المسلمون والحجاج بأداء صلاة الجماعة حول الكعبة ويسجدون للَّه تعالى في صلاتهم هذه أمام بيت اللَّه الحرام، فهل معنى هذا أنهم سجدوا للكعبة، أو أن أحداً من

آيات الولاية فى القرآن، ص: 207

المسلمين لا يسجد للكعبة بل يسجد للَّه تعالى ويعبده وحده ولكن في مقابل الكعبة؟

وعلى هذا الأساس فإنّ السجود في جميع الموارد هو للَّه تعالى، وفي الحقيقة هو مصداق بارز لعبادة اللَّه رغم أن الدوافع قد تكون متفاوتة ومختلفة، والنتيجة هي أن الآيات الثلاثة المذكورة آنفاً لا تعدُّ استثناءاً من القاعدة الكليّة في توحيد العبادة.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 209

الفصل الثالث آيات الفضائل الخاصّة بالإمام عليّ عليه السلام

آية ليلة المبيت

اشارة

آية ليلة المبيت 1

[سورة البقرة (2): آية 207]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3)

مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)

اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لا الضَّالِّينَ (7)

«سورة البقرة/ الآية 207»

أبعاد البحث

أبعاد البحث

هذه الآية الشريفة المعروفة بآية «ليلة المبيت» تعتبر إحدى أهم الآيات الواردة في فضائل أميرالمؤمنين عليه السلام، وهي الفضيلة العظيمة التي لم تتحقق لأحد من المسلمين غير الإمام علي عليه السلام حيث تشير الآية الشريفة أعلاه إلى ما قام به الإمام علي في ليلة هجرة النبي صلى الله عليه و آله إلى المدينة ومنامه في فراشه كما سيأتي توضيحه لاحقاً.

شأن النزول

شأن النزول

يرى كثير من علماء الشيعة وأهل السنّة أن الآية مورد البحث نزلت في حقِّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام، حيث ذكروا هذا الموضوع في كتبهم إلى درجة أن هذه الواقعة قد وصلت إلى حدّ التواتر، أي أنها من الكثرة بحيث لا يمكن إنكارها.

وخلاصة قصة ليلة المبيت كما يلي:

عندما أحسّ أعداء الإسلام ومشركوا مكّة المعاندون بخطر الإسلام والدعوة السماوية بدأوا يتحركون على مستوى التآمر والتخطيط لقمع هذا الدين الجديد في المهد وطرحوا

آيات الولاية فى القرآن، ص: 212

ثلاث خطط خطرة لمواجهة دعوة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، فقالوا: «إما أن نقتل هذا النبي، أو نلقيه في السجن بحيث لا يتمكن أيُّ شخص من رؤيته والحديث معه، أو نقوم بإبعاده عن أرض الحجاز» «1».

إنّ الشواهد التاريخية تشير إلى أنهم اختاروا الرأي الأوّل الذي هو أخطر الثلاثة، واختاروا من أجل تجسيد هذه الفكرة على أرض الواقع الخارجي أربعين شخصاً من مختلف قبائل العرب يتصفون بالشجاعة والمهارة ليقوموا بمحاصرة بيت النبوّة ليلًا ثمّ يتمكنوا من قتل النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، وهكذا صنع هؤلاء الأشخاص وجاءوا ليلًا وأحاطوا ببيت

النبوّة ثمّ تسلّقوا الجدار أو نفذوا من كوة فيه وانتظروا حتّى تحين الفرصة المناسبة لقتل النبي.

ولكنّ اللَّه تعالى أخبر نبيَّه الكريم بواسطة الوحي بمؤامرة المشركين فعزم النبي صلى الله عليه و آله على الخروج من مكّة، ولكنه لتحقيق هذا الهدف والتخلّص من هذه المؤامرة الشيطانية ينبغي أن يقوم بأمرين:

الأوّل: أن يقوم بالتوجّه إلى خارج مكّة وفي الطريق المعاكس لطريق المدينة، أي أنه بدلًا من أن يتوجّه شمالًا نحو المدينة فإنّه تحرك إلى الجنوب منها لكي لا يلتفت الأعداء إلى خروجه من مكّة وهجرته إلى المدينة وليمنعهم من ملاحقته.

الثاني: لابدّ وأن يجد الشخص المناسب لينام في مكانه لإيهام الأعداء بعدم خروج النبي من البيت فيؤخرهم عن ملاحقته والقبض عليه.

ولهذا الغرض قال لعلي ابن أبي طالب عليه السلام: «اتشح ببردي الأخضر ونم على فراشي».

فقال الإمام علي عليه السلام: إذا نمت على فراشك فهل ستنجو من الخطر وتصل إلى المدينة بسلام؟ «2»

فقال النبيّ: نعم يا عليّ، فسجد الإمام علي عليه السلام شكراً للَّه تعالى، ويقال أنها أول سجدة شكر كانت في الإسلام.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 213

وبعد أن وضع النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عليّاً في فراشه خرج من مكّة متستّراً وتحرّك إلى جهة الجنوب على عكس مسير المدينة حتّى وصل إلى غار ثور، وبعد أن يأس الأعداء من العثور عليه تحرّك إلى المدينة ووصل إليها بسلام.

لاشكّ أن ليلة المبيت كانت ليلة حسّاسة ومهمة جدّاً ومصيرية بالنسبة إلى الإسلام والمسلمين وكان بطل هذه الليلة هو أميرالمؤمنين عليه السلام وعندما كان النبي متوجّهاً

إلى المدينة أوحى اللَّه تعالى إليه بهذه الآية محل البحث حيث تحدّثت هذه الآية عن إيثار وتضحية الإمام علي عليه السلام العظيمة.

اعترافات علماء أهل السنّة

اعترافات علماء أهل السنّة

رأينا آنفاً ما ورد في شأن نزول هذه الآية الشريفة ولا يختص ذلك بعلماء الشيعة بل نقله الكثير من علماء أهل السنّة، ومنهم: «الطبري» «1»، «ابن هشام» «2»، «الحلبي» «3»، «اليعقوبي» «4» (وكلّهم من مشاهير مؤرّخي أهل السنّة) و «أحمد» «5» من فقهاء أهل السنّة و «ابن الجوزي» «6»، و «ابن الصبّاغ المالكي» «7».

والملفت للنظر ما أورده «أبو جعفر الإسكافي» الشارح المشهور لنهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي، حيث قال في هذا الصدد:

قد ثبت بالتّواتر حديث الفراش ... ولا يجحده إلّامجنون أو غير مخالط لأهل الملّة ...

وقد روى المفسّرون كلّهم: إنّ قول اللَّه تعالى: ومن النّاس من يشري نفسه ابتغاء مرضات اللَّه انزلت في عليّ عليه السلام ليلة المبيت على الفراش «8».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 214

والنتيجة هي أن جميع علماء الإسلام من الشيعة والسنّة متفّقون على أن آية ليلة المبيت نزلت في شأن أميرالمؤمنين عليه السلام وما قام به من تضحية وإيثار عظيم.

الشرح والتفسير: التجارة الرابحة

الشرح والتفسير: التجارة الرابحة

«وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ» فبعض الناس يضحّون بأنفسهم في سبيل مرضات اللَّه والتقرّب إليه، وكما تقدّم أن عليّ بن أبي طالب قام بهذا العمل العظيم وباع نفسه في تلك الليلة ابتغاء مرضات اللَّه وكان المشتري هو اللَّه تعالى، وقيمة هذه البضاعة هو رضا اللَّه تعالى.

«وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ» فهل يمكن أن يتصور مفهوم اللطف والرأفة أعلى من كون اللَّه تعالى هو الذي يشتري روح الإنسان بأغلى ثمن؟

المعاملة مع اللَّه

المعاملة مع اللَّه

هناك ثلاث آيات في القرآن الكريم تتحدّث عن المعاملة مع اللَّه تعالى ولابأس بالإشارة إليها وإجراء مقارنة بين مضامينها:

الآية الاولى: ما ورد في سورة التوبة الآية 111:

«إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».

في هذه المعاملة والتجارة العظيمة نرى أن اللَّه تعالى من جهة هو المشتري، والمؤمنون والمجاهدون هم البائع، والبضاعة الموضوعة للتجارة هي نفوس المؤمنين وأرواحهم، والثمن هو الجنّة، واللطيف في الأمر أن سند أو وثيقة هذه المعاملة مكتوبة في ثلاث كتب سماوية معتبرة (القرآن والإنجيل والتوراة)، وهذه المعاملة المباركة تحدّثت عنها هذه الآية الشريفة بأنها «فوز عظيم» وباركت للبائعين على هذه الصفقة، والحقيقة أن هذه المعاملة والتجارة

آيات الولاية فى القرآن، ص: 215

عظيمة جدّاً، لأن المشتري فيها يشتري ما يتعلّق به وما هو ملكه بأغلى

الأثمان من البائع، ألا تعتبر هذه المعاملة من قبيل «الفوز العظيم»، ألا تستحق التبريك والتهنئة؟

الآية الثانية: ما ورد في الآيات 10- 13 من سورة الصف من موضوع تجارة اخرى بين اللَّه وعباده حيث نقرأ في هذه الآيات الأربع:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* وَ أُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ»

في هذه المعاملة المربحة نجد أيضاً أن البائع هو المؤمنين، والمشتري هو اللَّه تعالى، والبضاعة أو المبيع هو نفس روح الإنسان المؤمن، وقيمتها غفران الذنوب ودخول الجنّة، المساكن الطيبة فيها، النصر القريب (فتح مكّة)، وهكذا نرى أن اللَّه تعالى يعبّر عن هذه المعاملة والتجارة الكبيرة بعبارة «الفوز العظيم» ويبارك ويهنى ء هؤلاء المتاجرون.

الآية الثالثة: ما ورد في سورة البقرة الآية 107 (الآية محل البحث)، وكما رأينا أن البائع هو عليّ بن أبي طالب عليه السلام والمشتري هو اللَّه تعالى، والبضاعة في هذه المعاملة هو روح عليّ بن أبي طالب عليه السلام، والثمن هو رضا اللَّه تعالى.

المقارنة بين المعاملات الثلاث

المقارنة بين المعاملات الثلاث

رأينا أن الآيات الكريمة تتحدّث عن ثلاث معاملات وردت في سورة التوبة، الصف، البقرة، وقد تقدّم شرحاً لما ورد فيها ونجد أوجه للتشابه فيما بينها من قبيل أن اللَّه تعالى في كلّ هذه المعاملات الثلاث هو المشتري، والبائع هم المؤمنون، والبضاعة مورد المعاملة هي أرواح المؤمنين وأنفسهم، ولكن هنا تفاوت في قيمة هذه الأجناس في كلِّ واحدة منها، فتارة

يشتري اللَّه تعالى نفوس المؤمنين في مقابل الجنّة، واخرى يشتريها بثمن أعلى، فمضافاً إلى الجنّة هناك المساكن الطيبة وغفران الذنوب والنصر الدنيوي، ولكن في المعاملة الثالثة وهي الآية محل البحث (آية ليلة المبيت) نرى أعلى الأثمان والقيم ألا وهو رضا اللَّه تعالى،

آيات الولاية فى القرآن، ص: 216

وبديهي أن رضا اللَّه تعالى لا يمكن قياسه مع الجنّة وأمثالها من المواهب الاخروية، واللطيف أن هذا الثمن متناسب جدّاً مع روحية الإمام علي عليه السلام حيث نقرأ في كلماته الجذّابة يخاطب اللَّه تعالى ويقول:

«إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنّتك ولكني وجدتك أهلًا للعبادة فعبدتك». «1»

مقارنة اخرى

مقارنة اخرى

بالرغم من أن الإمام علي عليه السلام كان يواجه خطراً كبيراً في ليلة المبيت ولكنه نام على فراش النبي صلى الله عليه و آله وهو مسرور ولم يسمح للخوف أن يتسرب إلى نفسه، وفي الصباح الباكر عندما هجم الأعداء على بيت النبي صلى الله عليه و آله ورأوا بكامل الدهشة أن خطتهم قد أجهضت وأن النائم في الفراش هو عليّ بن أبي طالب، فما كان منهم إلّاأن خاطبوا الإمام علي بكلمات موهنة، فأجابهم من موقع الدفاع عن الدين والنبي بكلمات جميلة جدّاً تعكس شجاعة أميرالمؤمنين وعقله الكبير وبأسه الشديد وسوف يأتي لاحقاً ما ورد في هذا الصدد إن شاء اللَّه.

وأما أبو بكر فقد خرج مع النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وتخلص من الخطر ولجأ إلى غار ثور، وعندما سمع صوت أقدام الأعداء الذين خرجوا من مكّة في أثر النبي، اصفر لونه

وملأ الخوف والرعب قلبه ووجوده بحيث يمكن إدراك ذلك بنظرة بسيطة إلى وجهه، ولهذا بدأ النبي صلى الله عليه و آله بتسليته ليزيل بعض الوحشة والخوف الذي سيطر عليه، وعليك أن تدرك مضمون هذه الحادثة من هذا المختصر.

جمال التعبير في آية ليلة المبيت

جمال التعبير في آية ليلة المبيت

نقرأ في آيات سورة التوبة وسورة الصف قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى » و «هَلْ أَدُلُّكُمْ

آيات الولاية فى القرآن، ص: 217

عَلى تِجارَةٍ» ففي هذه العبارات نفهم أن اللَّه تعالى هو المشتري، وهو الذي يرغّب البائعين إلى بيع متاعهم وبضاعتهم، ولكننا نقرأ في آية ليلة المبيت «وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ» ومعنى هذه العبارة أن البائع هنا يتقدّم بعرض بضاعته ويبتدأ بالمعاملة. ومن الواضح أن التعبير الأدبي في هذه الآية الشريفة أروع وألطف، لأن الشخص الذي يقدم نفسه على طبق الإخلاص ويعرضها للبيع لا يجد في نفسه رغبة إلّابعد ترغيب المشتري رغم أن عمله هذا لا يخلو من التقدير بلاشك.

مضافاً إلى ذلك فإنّ الآية محل البحث تبدأ بكلمة «مِنْ» التبعيضية في قوله «وَمِنَ النّاسِ» أي أن هذا العمل العظيم لا يتمكن من أداءه إلّابعض الناس في حين أن الآيتين السابقتين تطرح مسألة المعاملة مع اللَّه والمعاوضة بالجنّة والنجاة من النار في إطار عام وشامل «اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنينَ».

إرتباط آية ليلة المبيت مع الآيات التي قبلها

إرتباط آية ليلة المبيت مع الآيات التي قبلها

إذا دققنا النظر في الآيات الثلاث قبل آية ليلة المبيت أدركنا عظمة عمل الإمام علي عليه السلام ومقامه الرفيع عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وفي ذلك يقول تعالى:

«وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا».

أي أن بعض المنافقين الذين يتمتّعون بظاهر جميل وخادع عندما يرونك يظهرون المحبّة والتملق ويتحدّثون بشكل تشعر فيه بالإعجاب في حين أن باطنهم شي ء آخر.

«وَ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ

أَلَدُّ الْخِصامِ».

فإن اللَّه تعالى عالم بما يخفي هؤلاء المنافقين المخادعين رغم أنهم يشهدون اللَّه على ما في قلوبهم، هؤلاء الأشخاص ذوو الظاهر الأنيق والكلام الجميل هم ألدّ «1» أعداء الإسلام وهم منافقون، وتشير هذه الآيات إلى «الاخنس بن شريق» المنافق المعروف الذي يظهر من كلامه غير ما يبطن بحيث إنّ ظاهره وكلامه يجذب كلَّ مخاطب إليه لحسن بيانه وجمال

آيات الولاية فى القرآن، ص: 218

مظهره حيث كان يتظاهر بالقداسة والإيمان والتقوى ولكنه في الواقع شخصية منحطّة وسافلة ولا يعتقد باللَّه ولا برسوله إطلاقاً «1».

وفي الآية التي تليها يشير اللَّه تعالى إلى واقع هذا الشخص «الأخنس» ونفاقه في حركة الحياة والواقع الإجتماعي:

«وَ إِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ».

فمن علامات نفاق الأخنس وسائر المنافقين هو أنهم عندما يخرجون من مجلسك يتحركون في حياتهم الفردية والإجتماعية من موقع الإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل رغم علمهم بأن اللَّه تعالى لا يحبُّ هذه الأعمال القبيحة «2»، وطبعاً هناك احتمال أن كلمة «تولّى» تعني الولاية والحكومة، أي أن هؤلاء الأشخاص إذا استلموا زمام الامور وتولّوا أمر الحكومة والسلطة أفسدوا في الأرض وزرعوا بذور النزاعات والفساد والإنحطاط وعملوا على تخريب المزارع وإهلاك الأنعام.

وقد ورد أنّ «الأخنس» جاء إلى منطقة في بلاد الإسلام وشرع في الإفساد وتخريب مزارع المسلمين في تلك المنطقة وقتل أغنامهم وحيواناتهم «3»، ولكنه عندما جاء إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله شرع بالتملّق والتحدّث بكلمات معسولة خادعة.

«وَ إِذا قِيلَ لَهُ

اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَ لَبِئْسَ الْمِهادُ».

وعندما يسعى المؤمن في نصيحة هؤلاء الأشخاص وتحذيرهم من مغبّة هذه الأعمال ويحثّهم على تقوى اللَّه تعالى واجتناب الأعمال الإجرامية، والخلاصة عندما يتحرّك على مستوى أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر فإن هؤلاء المنافقين ليس فقط لا يستمعون إلى

آيات الولاية فى القرآن، ص: 219

النصيحة بل يزدادون عناداً وغروراً وتعصّباً ويصرّون على أعمالهم الدنيئة من موقع العناد والتكبّر، ومن الواضح أن مصير هؤلاء الأشخاص لا يكون سوى جهنم.

والخلاصة أن القرآن الكريم يصوّر لنا في هذه الآيات الثلاث عناد أعداء الإسلام وسلوكياتهم المنحرفة، وعندما نضع هذه الآيات إلى جانب آية ليلة المبيت فلابدّ أن يتحول الكلام إلى استعراض أحبّ الأشخاص إلى اللَّه وأكثرهم إيماناً وانشداداً للإسلام والمسلمين، وعليه فإنّ الإمام علي الذي نزلت في حقّة آية ليلة المبيت وقدّم نفسه على طبق الإخلاص فداءاً للنبي هو أحبّ الأشخاص إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وبلا شكّ إنّ علاقة النبي صلى الله عليه و آله بالأشخاص لا تكون إلّاعلى أساس إيمانهم وحبّهم للَّه تعالى لا على أساس العواطف الساذجة والميول الدنيوية.

ارتباط آية ليلة المبيت بولاية أميرالمؤمنين عليه السلام

ارتباط آية ليلة المبيت بولاية أميرالمؤمنين عليه السلام

سؤال: ما هي علاقة الآية الشريفة «ليلة المبيت» مع إمامة وخلافة أميرالمؤمنين عليه السلام بعنوانه أوّل خليفة بعد رسول اللَّه وإمام المسلمين؟ وبعبارة اخرى إنه على فرض قبول أهل السنّة بأن الآية أعلاه نزلت في شأن علي بن أبي طالب، ولكن كيف يمكن إثبات أن هذه الآية تدلُّ على خلافة وإمامة أميرالمؤمنين عليه السلام بعد رسول

اللَّه صلى الله عليه و آله مباشرة؟

الجواب: رأينا في الأبحاث المتقدّمة أن الإمام علي عليه السلام يعتبر أشجع المسلمين وأكثرهم تضحية وإيثاراً وأخلصهم للَّه تعالى، ومن جهة اخرى نعلم أن إمام المسلمين وخليفة رسول اللَّه يجب أن يكون أعلم الناس وأشجعهم وأكثرهم إيماناً وإيثاراً، وعلى هذا الأساس فإنه إذا كانت مسألة الإمامة والخلافة انتصابية، أي أن اللَّه تعالى هو الذي ينصب الخليفة بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فإنه مع وجود الإمام علي عليه السلام الذي يحوز على الشرائط المذكورة للإمامة، فلا معنى لأن يختار اللَّه شخصاً آخر غيره ويعمل على خلاف مقتضيات الحكمة الإلهية، وإذا كانت هذه المسألة انتخابية (كما يعتقد الاخوة من أهل السنّة) فإنّ مقتضى العقل هو أن لا يختار المسلمون شخصاً آخر غير من تتوفر فيه هذه الصفات، وعليه فإنّ انتخاب غير الإمام علي عليه السلام يكون على خلاف مقتضيات العقل والشرع.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 220

الجواب عن بعض الشبهات

اشارة

الجواب عن بعض الشبهات

وقد نرى من البعض أنهم يسعون في تفسير الآية الشريفة بعيداً عن المفهوم منها والمدلول الحقيقي لها وذلك لما تحمل هذه الآية الشريفة من مضامين تتعلق بمسألة الخلافة والإمامة، حتّى لا يتمكن أحد من الإستدلال بها على خلافة أميرالمؤمنين عليه السلام، وهنا نستعرض بعض الشبهات وعلامات الإستفهام ونجيب عنها:

1- آية ليلة المبيت تتعلق بالآمرين بالمعروف

1- آية ليلة المبيت تتعلق بالآمرين بالمعروف

العلّامة الطبرسي وهو المفسّر الشيعي المعروف نقل رواية مرسلة عن أهل السنّة تتحدّث عن هذه الآية الشريفة وأنها نزلت في شأن من قتل في طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر «1» وعليه فإنّ الآية محل البحث لا ترتبط بشكل أو بآخر بخلافة أميرالمؤمنين وإمامته.

الجواب: إن سياق آية ليلة المبيت يدلُّ على أن الآية المذكورة ليست واردة في شأن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، لأنه طبقاً لما تقدّم من الشرح والتفسير أن هناك خطر كبير يهدد الشخص مورد نظر الآية، وهو الخطر الذي يصل إلى حدّ الموت والقتل، ومثل هذا الخطر قلّما يتفق للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وعليه فإن سياق الآية الشريفة يوحي إلى أنها لا ترتبط بمسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مضافاً إلى أن الرواية المذكورة مرسلة وليست بحجّة.

2- إنّ الآية مورد البحث واردة في شأن أبي ذرّ

2- إنّ الآية مورد البحث واردة في شأن أبي ذرّ

ويرى البعض أن الآية الشريفة واردة في شأن أبي ذرّ الغفاري «2» الصحابي المعروف للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله ولا ترتبط بمسألة إمامة أميرالمؤمنين عليه السلام وخلافته.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 221

الجواب: إنّ هذا الرأي بعيد عن الصواب ومجانب للواقع، لأن الشواهد التاريخية تدلُّ على أن أبا ذرّ الغفاري لم يتعرض لحادثة مهمة تهدد حياته بالخطر في عصر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، وعليه لا يمكن التصديق بأن هذه الآية الشريفة نازلة في حقّه رغم أن شخصية أبي ذرّ وخدماته العظيمة وخاصّة بعد رحلة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله

وفي عصر السكوت والإرهاب لا غبار عليها ولا يمكن إنكارها.

3- إنّ الآية الشريفة تتعلّق بجميع المهاجرين والأنصار

3- إنّ الآية الشريفة تتعلّق بجميع المهاجرين والأنصار

وذهب البعض إلى أن آية ليلة المبيت تتعلّق بجميع المهاجرين والأنصار «1»، أي أن جميع المسلمين في زمان النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وحين نزول هذه الآية كانوا مشمولين لمضمونها، وعليه فإنّ الآية محل البحث لا تختص بالإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام «2».

الجواب: إنّ بطلان هذا الكلام من أوضح الواضحات لأن الآية الشريفة تصرّح بأن هذا الإفتخار والكرامة يختصّ ببعض المسلمين وغير شاملة لجميع أفراد المجتمع الإسلامي، وعليه لا يمكن إدعاء أن جميع المهاجرين والأنصار مشمولين لآية ليلة المبيت

4- هل يعلم الإمام علي عليه السلام بموته أو حياته؟

4- هل يعلم الإمام علي عليه السلام بموته أو حياته؟

سؤال: هل إنّ الإمام علي عليه السلام كان عالماً بعاقبة هذا العمل؟ وهل إنه كان يعلم بأنه سوف ينجو من هذا الخطر الكبير ويبقى حيّاً بعد هذه الواقعة أم لا؟

إذا كان يعلم أن المشركين لا يتمكنون من قتله وانه سيبقى على قيد الحياة فإن مبيته في فراش النبي لا يمثّل قيمة وافتخار كبير، وإن لم يكن يعلم فسيكون لهذا العمل قيمة كبيرة ولكنّ الإشكال يردُ من جهة اخرى، وهو أن الأئمّة يعلمون الغيب فكيف لم يعلم الإمام علي عليه السلام بعاقبة هذا العمل؟

آيات الولاية فى القرآن، ص: 222

الجواب: طبقاً لتحقيقات العلماء وتصريح بعض الروايات أن علوم الأئمّة بالنسبة إلى الغيب والمستقبل هي من العلوم الإرادية، أي أنهم لو أرادوا أن يعلموا لعلموا، وإن لم يريدوا ذلك لا يعلمونه «1»، فمن الممكن في هذه الواقعة إنّ الإمام علي عليه السلام لم تتعلق إرادته

بمعرفة عاقبة هذا العمل ونهايته، ولذلك كان احتمال الخطر مرتسماً في ذهنه، ومع ذلك كان مستعداً للتضحية والإيثار العظيم، وعلى هذا الأساس فإن الواقعة المذكورة تعدّ افتخاراً كبيراً لأميرالمؤمنين عليه السلام ولا تتنافى مع علم الغيب للأئمّة، والإلتفات إلى هذه النكتة بإمكانه أن يزيل الكثير من الشبهات والإشكالات حول علم الأئمّة للغيب.

سؤال: لقد قلت «إنّ الإمام علي عليه السلام لم تتعلق إرادته بأن يعلم مصيره ولذلك فإنّ احتمال الخطر موجود ومع ذلك بات الإمام علي عليه السلام على فراش النبي صلى الله عليه و آله وكان ذلك فضيلة كبيرة ومنقبة عظيمة له» في حين أنه قد ورد في بعض الروايات إنّ الإمام كان مطّلعاً على أنه سوف لا تصيبه مصيبة وسوف لا يواجه مشكلة في هذه العمل وقد ضمن له النبي الأكرم صلى الله عليه و آله السلامة والنجاة من الخطر «2»، وعليه فكيف تعدّ آية ليلة المبيت فضيلة ومنقبة لأميرالمؤمنين عليه السلام؟

الجواب: يمكننا الجواب على هذا الإشكال بصورتين:

الف: إنّ هذه الرواية مرسلة ولا سند لها وقد أوردها العلّامة الأميني بصورة مرسلة عن تفسير الثعلبي «3»، وبما إنها تفتقد إلى السند فلا يمكن الإعتماد عليها «4».

ب: هناك ثلاث شروط لقبول الرواية: الأوّل هي أن يكون سند الرواية معتبر، الثاني:

آيات الولاية فى القرآن، ص: 223

أن لا تكون الرواية مخالفة لآيات القرآن الكريم، الثالث: أن تكون مقبولة لدى علماء الدين، والرواية المذكورة مضافاً إلى ضعف سندها فهي غير مقبولة ومخالفة للقرآن الكريم، لأن اللَّه تعالى ذكر هذا العمل لأميرالمؤمنين في آية ليلة المبيت

من موقع المدح والثناء والتمجيد وعبّر عنه بأنه معاملة مع اللَّه تعالى في حين أن الرواية المذكورة على فرض اعتبار سندها فإنّ عمل أميرالمؤمنين عليه السلام وفقاً لهذه الرواية ليست له قيمة وأهميّة خاصّة بل هو بمثابة أمر عادي، وعليه لا يمكن الإعتماد على هذه الرواية المخالفة لآية من آيات القرآن الكريم بحيث يمكن من خلالها تهميش هذا العمل العظيم الذي قام به أميرالمؤمنين عليه السلام (فتدبّر).

5- من هو المخاطب للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله؟

5- من هو المخاطب للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله؟

سؤال: ويرى البعض أن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عندما أراد أن يضع شخصاً مكانه في الفراش في تلك الليلة قال للمسلمين: أيكم مستعد لأن يبيت في فراشي في هذه الليلة؟ ولم يتقدّم أحد سوى علي بن أبي طالب عليه السلام حيث أظهر موافقته على استقبال هذا الخطر.

فهل هذا المطلب صحيح، أو أن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله تحدّث في هذا المورد إلى الإمام علي عليه السلام خاصّة؟

الجواب: نحن لم نر في الكتب المعتبرة أن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله طرح هذا الموضوع بين أصحابه، مضافاً إلى أن هذا المطلب لا ينسجم مع العقل، لأن هذا الموضوع لو سمعه جميع الأصحاب فسوف يفتضح الأمر ويصل الخبر إلى أعداء الإسلام الذين كانوا يتآمرون على حياة النبي صلى الله عليه و آله وبالتالي سيتحركون للتصدي لهذا العمل وإجهاضه، ولهذا نعتقد بأن هذه الخطّة والفكرة تمّت بسريّة كاملة، ولم يعلم بها سوى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله والإمام علي عليه السلام وبعض الأشخاص الآخرين، وأما سائر المسلمين فكانوا لا يعلمون بها.

بقي هنا امور

1- أشعار حسّان ابن ثابت في وصف الواقعة

1- أشعار حسّان ابن ثابت في وصف الواقعة

كان حسّان ابن ثابت «1» من الشعراء المعاصرين للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وله علاقة خاصّة في

آيات الولاية فى القرآن، ص: 224

الخليفة الحقيقي للنبي فقد أنشد قصائد رائعة في فضائل أميرالمؤمنين عليه السلام وخاصّة في واقعة غدير خم التاريخية وبعض أبياتها يتعلق بحادثة ليلة المبيت كما

وردت في كتب المؤرّخين:

مَنْ ذا بِخاتَمِهِ تَصَدَّقَ راكِعاً وَاسَرَّها فِي نَفْسِهِ إسْراراً

مَنْ كانَ باتَ عَلى فِراشِ مُحَمَّدٍ وَمُحَمَّدٌ اسْرى يَؤُمُّ الْغارا

مَنْ كانَ فِي الْقُرْآنِ سُمّىَ مُؤْمِناً فِي تِسْعِ آياتٍ «1»

تُلينَ غَزاراً «2»

والخلاصة إنّ حادثة ليلة المبيت كانت معروفة ومشهورة إلى درجة أنها انعكست في قصائد شعراء العرب.

2- مصير الإمام علي عليه السلام في تلك الليلة

2- مصير الإمام علي عليه السلام في تلك الليلة

بعد أن عقد أعداء الإسلام العزم على مؤامرتهم في القضاء على النبي صلى الله عليه و آله قرروا أن يهجموا على بيته ليلًا وينفذون مؤامرتهم، ولكن أحد قادة المشركين «أبوجهل أو أبو لهب» منعهم من هذا العمل وقال: لا تهجموا عليه ليلًا لأن من المحتمل أن تكون في البيت زوجته وأطفاله وسيصيبهم الخوف والرعب وهم أبرياء «3».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 225

ولهذا السبب أخّروا هجومهم إلى بواكر الصباح، وعندما حانت اللحظة المناسبة وهجموا على بيت النبي صلى الله عليه و آله وهم يقصدون قتله، قام الإمام علي عليه السلام من الفراش قبل أن يصلوا إليه وصاح بهم: ماذا تريدون؟

وعندما تفاجأ المشركون بهذا الأمر

ورأوا علي ابن أبي طالب في فراش النبي أخذتهم الدهشة وقالوا: يا عليّ نحن نريد محمّداً فأين هو؟

فأجابهم: هل أودعتموه عندي حتّى تطلبوه مني؟

فتحيّروا في جوابه وماذا يصنعون به، هل يقتلونه أو يتركونه؟ فقال أبو جهل: لنترك هذا الشاب المغامر فقد خدعه محمّد وأنامه في فراشه لينجو بنفسه.

فلمّا سمع الإمام علي عليه السلام بهذه الكلمات الموهنة له ولرسول اللَّه قال بمنتهى الشجاعة والجرأة:

أَلي تَقُولُ هذا يا ابا جَهْل! إن اللَّه قَدْ اعْطانِي مِنَ الْعَقْلِ ما لَوْ قُسِّمَ عَلى جَميعِ حُمَقاءِ الدُّنْيا وَ مَجانينِها لَصاروُا بِهِ عُقلاءَ، وَمِنَ الْقُوَّةِ ما لَوْ قُسِّمَ عَلى جَميعِ ضُعَفاءِ الدُّنْيا لَصاروُا بِهِ اقْوياءَ، وَمِنَ الشُّجاعَةِ ما لَوْ قُسِّمَ عَلَى جَميعِ جُبَناءِ الدُّنْيا لَصاروُا بِهِ شَجْعاناً. «1»

فأنا قد عرفت نبي الإسلام صلى الله عليه و آله وآمنت بالإسلام عن معرفة ولذلك تقدّمت إلى هذا العمل بكلِّ إخلاص وإيمان، وبعد أن حدثت بينهما مشادّة خرج أعداء الإسلام من بيت النبوّة خجلين وآيسين وخرج الإمام علي عليه السلام من هذه الواقعة مرفوع الرأس ومسروراً لأدائه المهمة الرسالية.

3- اللَّه تعالى يباهي بإيثار أميرالمؤمنين عليه السلام

3- اللَّه تعالى يباهي بإيثار أميرالمؤمنين عليه السلام

لقد أورد «الثعلبي» وهو أحد مفسّري أهل السنّة المعروفين للآية مورد البحث، رواية جميلة وجذّابة حول حادثة ليلة المبيت نذكرها هنا كما رواها هو:

آيات الولاية فى القرآن، ص: 226

«لما عزم النبي صلى الله عليه و آله على الهجرة إلى المدينة، ترك علي بن أبي طالب في مكّة ليؤدي الديون التي عليه والأمانات إلى أهلها، وأمره ليلة خرج إلى الغار وقد أحاط المشركون بالدار، أن

ينام على فراشه، وقال له: اتشح ببردي الأخضر ونم على فراشي فإنه لا يصل منهم إليك مكروه إن شاء اللَّه، ففعل ذلك علي عليه السلام فأوحى اللَّه تعالى إلى جبرئيل وميكائيل أني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟

فاختار كلاهما الحياة، فأوحى اللَّه تعالى إليهما: أفلا كنتما مثل علي؟ آخيت بينه وبين محمّد فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة، أهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه، فنزلا فكان جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه ينادي:

بَخٍّ بَخٍّ لَكَ يَابْنَ ابِي طالِبٍ، مَنْ مِثلُكَ؟ وَقَدْ باهَى اللَّهُ بِكَ مَلائِكَةَ السَّماواتِ وَفَاخَرَ بِكَ». «1»

فهل يتصور مقام أعلى من هذا المقام؟!

ومن هنا ندرك أن الشيعة عندما يعظّمون أهل هذا البيت ويتبعون أميرالمؤمنين عليه السلام فإن ذلك لا يعني التعصّب الأعمى على مستوى الحساسيّة المذهبية بل بسبب مقاماته المعنوية السامية وفضائله الكثيرة.

توصية الآية

كلّ شي ء في سبيل نيل رضا اللَّه

كلّ شي ء في سبيل نيل رضا اللَّه

بالرغم من أن الآية الشريفة كما أشرنا سابقاً، نزلت في ليلة هجرة النبي صلى الله عليه و آله وفي شأن الإمام علي عليه السلام، ولكنها كسائر الآيات القرآنية تتضمن حكماً كلياً وعاماً، فمن حيث إن هذه الآية تقع في مقابل الآية السابقة «وَمِنَ النّاس مَنْ يُعْجِبُكَ ...» فيتضح جيداً أن هذه الطائفة من الناس التي تشير إليها هذه الآية محل البحث تقع في مقابل الطائفة السابقة، ويتمتع أفرادها بصفات وخصائص تقع في النقطة المقابلة لصفات اولئك وخصائصهم،

آيات الولاية فى القرآن، ص: 227

فاولئك أفراد يتسمون بالأنانية والغرور والعناد والتكبّر ويتعاملون مع الناس بلغة النفاق

والرياء ويتظاهرون أنهم إنما يريدون الإصلاح ويتحركون في خطّ الإيمان ظاهراً ولكنّ سلوكهم وأفعالهم ليس فيها سوى الإفساد في الأرض وهلاك الحرث والنسل، ولكن هذه الطائفة في آية ليلة المبيت لا يتعاملون مع أحدٍ سوى اللَّه تعالى ولا يبخلون بشي ءٍ في سبيله ولا يطلبون سوى رضاه ولا يرون العزّة والكرامة إلّاتحت ظلّه وعنايته، ولذلك فإنّ أمر الدين والدنيا يتقوّم بتضحية هؤلاء وحركتهم الإصلاحية في خطّ الرسالة والمسؤولية والحقّ والحقيقة «1».

إنّ توصية هذه الآية الشريفة لجميع المسلمين هو أن يخرجوا من أجواء الطائفة الاولى ويدخلوا في أجواء الطائفة الثانية ...

وطبعاً ليس هذا بالأمر الهيّن.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 229

آية سقاية الحاج

اشارة

آية سقاية الحاج 2

[سورة التوبة (9): الآيات 19 الى 22]

ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9)

«سورة التوبة/ الآيات 19- 22

أبعاد البحث

أبعاد البحث

في هذه الآية الشريفة التي تعرف بين المفسّرين بآية «سقاية الحاج» نواجه فضيلة اخرى من فضائل الإمام علي عليه السلام حيث تفضي إلى إثبات إمامته وخلافته بعد رسول اللَّه، وتبيّن أن الأشخاص الذين يرون أن سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام تساوي الإيمان باللَّه والهجرة والجهاد في سبيله، بعيدون عن طريق الصواب، وسيأتي تفصيل ذلك في طيّات البحث.

شأن النزول

شأن النزول

إنّ آية «سقاية الحاج» تخبرنا عن حادثة وقعت في عصر الرسالة ولا تهدف إلى بيان

آيات الولاية فى القرآن، ص: 230

قانون كلّي في ذلك، أي أن هذه الحادثة والمقارنة المذكورة في الآية الشريفة وقعت عملًا في الواقع الخارجي، فللآية الشريفة شأن نزول خاصّ ولهذا ذكر لها موارد عديدة في شأن نزولها وخلاصة ما ورد في شأن النزول المعروف لها هو:

إنّ العبّاس ابن عبدالمطلب وشيبة قعدا يفتخران في المسجد الحرام فقال العبّاس لشيبة:

أنا أشرف منك، أنا عمّ رسول اللَّه ووصي أبيه وساقي الحجيج «1».

فقال شيبة: أنا أشرف منك أنا أمين اللَّه على بيته وخازنه «2»، أفلا إءتمنك كما إءتمنني؟

فاطلع عليهما عليّ ابن أبي طالب عليه السلام فأخبراه بما قالا فقال علي: أنا أشرف منكما، أنا أوّل من آمن وهاجر «وعليه فإنه لا افتخار في سقاية الحاج أو عمارة المسجد الحرام» بل الفخر بالإيمان باللَّه والهجرة في خطِّ الإيمان به والجهاد في سبيله.

فلما سمع العبّاس ذلك انطلق إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وذكر له ما جرى بينه وبين الإمام علي عليه السلام وشكاه عنده على أساس أن الإمام علي عليه السلام قد

ادحض حجّته وأهمل مقامه ومنزلته.

فأرسل النبي الأكرم صلى الله عليه و آله شخصاً في طلب الإمام علي فعندما حضر بين يديه سأله النبي عن الواقعة وقال له: ماذا قلت لعمّك العبّاس حتّى أغضبته؟

فقال عليّ عليه السلام: لم أقل سوى الحقّ ولكن عمّي غضب من كلام الحقّ، ثمّ بيّن لرسول

آيات الولاية فى القرآن، ص: 231

اللَّه صلى الله عليه و آله المحادثة التي جرت بينهم وأضاف إنني لم أكن في مقام التظاهر بالفخر والتعريف بنفسي بل أردت أن أقول أن سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام لا تعتبر أرقى افتخار يناله الإنسان بل هناك مقامات أعلى وافتخارات أكبر من ذلك، وهنا نزلت الآية الشريفة محل البحث وأيّدت كلام الإمام علي عليه السلام «1».

وقد ورد شأن النزول هذا في اثني عشر كتاباً على الأقل معروفاً لدى أهل السنّة تتحدّث عن تفسير القرآن، أو التاريخ الإسلامي، أو الروايات الشريفة فمن ذلك:

1- أسباب النزول لمؤلفه العلّامة الواحدي «2».

2- تفسير العلّامة خازن البغدادي «3».

3- تفسير العلّامة القرطبي «4».

4- تفسير الفخر الرازي «5».

5- الدرّ المنثور للعلّامة السيوطي «6».

6- تفسير أبو البركات النّسفي «7».

7- الفصول المهمّة للصبّاغ المالكي «8».

8- كفاية الطالب للگنجي الشافعي «9».

9- تاريخ الخطيب البغدادي «10».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 232

10- مناقب ابن المغازلي «1».

11- تاريخ ابن العساكر «2».

12- ربيع الأبرار للزمخشري «3».

وعلى هذا الأساس فإن شأن النزول المذكور لا يدانيه شك ولا ريب.

ملاحظة مهمّة!

ملاحظة مهمّة!

بلا شكّ كان العبّاس ابن عبدالمطلب عند نزول آية سقاية الحاج مؤمناً مجاهداً وهكذا الحال مع «شيبة» فقد كان مؤمناً وله سوابق جهادية، إذن فكيف افتخر الإمام علي عليه السلام بإيمانه وجهاده عليهما والحال أنهما يتصفان بصفة الإيمان والجهاد أيضاً؟

وجواب هذا السؤال هو أن الإمام علي عليه السلام أراد أن يقول لهما أنا أوّل شخص آمنت باللَّه وبرسوله من الرجال وأوّل شخص هاجر إلى المدينة بعد هجرة النبي الكريم صلى الله عليه و آله، وأوّل مجاهد في سبيل اللَّه ورسوله، وبهذا فقد سبقهما في الإسلام والهجرة والجهاد، وهذه الفضيلة منحصرة في عليّ بن أبي طالب.

الشرح والتفسير: الإيمان باللَّه، أفضل الامور!

الشرح والتفسير: الإيمان باللَّه، أفضل الامور!

«أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَ عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ جاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ».

من هذا السياق للآية الشريفة يتّضح جيّداً وقوع مثل هذه المقارنة بين سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام من جهة، وبين الإيمان باللَّه والجهاد في سبيله من جهة اخرى، ولكن اللَّه تعالى قرّر أنّ هذه المقارنة غير صحيحة وغير سليمة فإنّ الإيمان باللَّه واليوم الآخر

آيات الولاية فى القرآن، ص: 233

والجهاد في سبيل اللَّه لا يقارن مع سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام لأن الإيمان والجهاد بلا شكّ أعلى وأفضل من السقاية والعمارة.

«وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» ولعلّ هذا التعبير يشير إلى أن المقارنة المذكورة ليست فقط غير صحيحة بل هي نوع من الظلم للشخص الذي سبق الناس في الإيمان باللَّه واليوم الآخر والجهاد في سبيله.

«الَّذِينَ آمَنُوا

وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ» فهؤلاء الذين تحركوا بهدف حفظ إيمانهم ونشر الدين والرسالة السماوية من موقع الهجرة وضحّوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللَّه وإعلاء كلمته هم أفضل عند اللَّه وأعظم درجة.

وبعد أن يردّ اللَّه تعالى في الآية الاولى أصل المقارنة المذكورة يعبّر عنها بأنها نوع من الظلم ويصرّح في هذه الآية بأن الإيمان والهجرة والجهاد أهم وأعظم من السقاية والعمارة.

«يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوانٍ» فبعد أن يردّ على المقارنة المذكورة ويصرح بأن الإيمان والجهاد والهجرة أفضل وأعظم يشير في الآيتين التاليتين إلى عاقبة أهل الإيمان والجهاد والهجرة ويبشّرهم بما يلي:

1- إنّ اللَّه تعالى يبشّر هؤلاء بأنهم مشمولين برحمته ومرتبة القرب منه.

2- البشارة الاخرى هي أن اللَّه تعالى قد رضي عنهم، وما أعظم النعمة في أن يعلم الإنسان بأن محبوبه ومعبوده راضٍ عنه!

3- «وَ جَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ* خالِدِينَ فِيها أَبَداً» وليست البشارة بجنّة واحدة بل ورد التعبير بجنّات ونِعم ومواهب خالدة في ذلك العالم، ومعلوم أن أحد معايب النِعم الدنيوية هي أنها معرّضة للزوال والفناء ولكنّ النِعم والمواهب الاخروية خالدة وباقية أبداً.

«أَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ» فهل أن هذه الجملة بشارة إلى نعمة اخرى قد أعدّها اللَّه تعالى لأهل الإيمان والجهاد والهجرة مضافاً إلى رحمة اللَّه ورضوانه والجنّات الخالدة، وهي النعمة التي لا يمكن للإنسان أن يتصورها ولا يقدر على وصفها ولذلك أجملت الآية بيانها، أو أنها إشارة إلى النِعم والمواهب المذكورة آنفاً وهي تأكيد لها.

كلا الإحتمالين واردان في مفهوم الآية الشريفة.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 234

إرتباط آية سقاية الحاج مع الإمامة

إرتباط آية سقاية الحاج مع الإمامة

بما أن الإمام علي عليه السلام يتمتع بفضيلة السبقة إلى الإيمان والجهاد وليس أحد من المسلمين غيره يتمتع بهذه الفضيلة، فعليه يكون الإمام علي عليه السلام أفضل المسلمين، ومن الواضح أن اللَّه تعالى إذا أراد نصب خليفة لرسوله فإنه لا يتجاوز الأفضل فيختار المفضول بل وحتّى الفاضل، لأن اللَّه تعالى حكيم وتقديم المفضول على الفاضل والفاضل على الأفضل يخالف مقتضى الحكمة الإلهية، ولو كانت مسألة الخلافة انتخابية فإنّ عقلاء الناس لا يتوجهون ويختارون الفاضل أو المفضول مع وجود الأفضل، وعليه فإنّ هذه الآية الشريفة يمكنها أن تكون دليلًا لإثبات إمامة أميرالمؤمنين.

اعتراف أحد علماء السنّة

اعتراف أحد علماء السنّة

وقد ذكر أحد علماء السنّة أنه:

«أنتم الشيعة يمكنكم إثبات جميع اصول الدين التي تعتقدون بها بواسطة الروايات الموجودة في كتبنا، لأن كتبنا ومصادرنا الروائية مليئة بالروايات التي تؤيد عقائدكم وآراءكم».

ثمّ أضاف يقول: «إنّ قدماءنا كانوا سطحيين وساذجين حيث كانوا ينقلون أيّة رواية تصل إليهم في كتبهم» «1».

ونحن نتعجب من هذا التناقض، لأنهم يذكرون بالنسبة إلى كتبهم ومصادرهم وخاصّة «الصحاح الستة» على مستوى التعريف والثناء والمدح:

«إنّ روايات هذه الكتب منتخبة بدقّة كبيرة وجميع الروايات المذكورة فيها معتبرة لأنه أحياناً يتمُّ انتخاب عدد قليل من الروايات من بين ألف رواية» «2».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 235

ألا يتناقض هذا الكلام مع كلام ذلك العالم السنّي المذكور آنفاً؟ إنّ هذه الأشكال من التناقض هي نتيجة نوعية التفكير لدى الإنسان الذي يؤمن أوّلًا ثمّ يتوجه نحو الآيات والروايات الشريفة ويحاول إسقاط عقائده عليها، ولو أن

الإنسان حضر مقابل الآيات والروايات وجلس متتلمذاً عندها ومستوحياً من مضامينها ومرتوياً من منهلها فإنه سوف لا يواجه مثل هذا التناقض العجيب.

توصية الآية

اشارة

الإتّباع العملي لأولياء الدين

إنّ بيان فضائل ومناقب الأئمّة الأطهار عليهم السلام وخصوصيّاتهم الأخلاقية والإجتماعية والسياسية أمر جيّد وضروري ولكنه لا يكفي في مقام الإعتقاد والإيمان بل ينبغي على الإنسان أن يجعلهم اسوة وقدوة له في ممارساته وسلوكياته في حركة الحياة والواقع الإجتماعي، وفي الآيات مورد البحث نقرأ ثلاثة امور بعنوان أنها أركان الدين، وأن الإمام علي عليه السلام قد بلغ ما بلغ من المرتبة السامية بسبب حركته في خطّ هذه الأركان الثلاثة وهي:

الإيمان، الهجرة، الجهاد في سبيل اللَّه بالمال والنفس. فإذا أردنا الإقتداء بالإمام علي عليه السلام وبأولياء الدين فلابدّ من تجسيد هذه الاصول الثلاثة في حياتنا العملية وإحيائها في أعماق وجودنا وقلوبنا.

ومن أجل تقوية الإيمان في وجودنا هناك طريقان: الأوّل: مطالعة ودراسة الشي ء الذي نؤمن به، مثلًا لأجل تقوية إيماننا باللَّه وتعميقه في قلوبنا لابدّ من النظر والتفكّر في أسرار عالم الخلقة والسعي إلى زيادة الآفاق العلمية في أسرار الكون وآيات الكتاب السماوي كما يحثّنا القرآن دائماً على ذلك، والخلاصة هي أن تعميق الإيمان بأي شي ء يحتاج إلى دراسة ذلك الشي ء والإنفتاح الفكري على تفاصيله.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 236

الثاني: هو طريق بناء الذات وتهذيب النفس وتطهير القلب من شوائب التعلّقات الدنيوية، لأن الإيمان نور يشرق على قلب الإنسان، وكلّما كانت مرآة القلب صافية وشفافة انعكس النور عليها بصورة أفضل، فلو كان القلب ملوثاً بالخطايا والذنوب فإنّ مرآة

القلب لا تعكس نور الإيمان حينئذٍ بصورة جيّدة.

وأما بالنسبة إلى الهجرة فقد يتصور البعض أن هذا الأصل المهم في أجواء الدين السماوي خاصٌّ بالمسلمين في صدر الإسلام، وبعد هجرة المسلمين إلى المدينة انتهى عهد الهجرة في حين أن روايات أهل البيت عليهم السلام تقرر خلاف هذا المطلب، حيث نقرأ في الرواية الواردة عن الإمام علي عليه السلام قوله:

«الْهِجْرَةُ قائِمَةٌ عَلى حَدِّها الْاوَّل». «1»

وتأسيساً على هذا فإنّ الهجرة مستمرّة كالإيمان والجهاد إلى يوم القيامة، والواجب على المسلمين أن يهاجروا في مختلف الظروف والأحوال، وطبعاً ففي الكثير من الحالات يختلف شكل الهجرة، ولذلك نقرأ قول الإمام علي عليه السلام:

«يَقُولُ الرَّجُلُ هاجَرْتُ وَلَمْ يُهاجِرْ، انَّمَا الْمُهاجِرُ مَنْ هاجَرَ السَّيِّئاتِ وَلَمْ يَأْتِ بِها» «2».

أجل، فالمهاجر الحقيقي هو الشخص الذي ترك القبائح والرذائل والذنوب وتحرّك في خطّ الطاعة والعبودية والتقوى وهاجر من السيئات إلى الحسنات والأعمال الصالحة، والمهاجر الواقعي هو الشخص الذي يهجر أصدقاء السوء ورفاق مجالس البطالين والملوثين بالذنوب ويبتعد عنهم، الهجرة من المال الحرام، من المقام الحرام، من الذنوب، واجبة ولازمة، وبديهي أن هذا النمط من الهجرة لا يختصّ بالمسلمين في أوائل البعثة بل هو وظيفة جميع المسلمين إلى يوم القيامة.

وأمّا الأصل الثالث وهو الجهاد بالنفس والمال فذلك أيضاً مورد الإبتلاء في كلّ عصر وزمان، فالجهاد بالنفس والمال لا يقبل التعطيل والنسخ وخاصّة مع وجود الأعداء الحاقدين الذين يعبّر عنهم القرآن الكريم «قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ» «3»، الأعداء

آيات الولاية فى القرآن، ص: 237

الذين لا يلتزمون بأي مبدأ إنساني وأصل أخلاقي ومستعدون

لإرتكاب كلّ جناية وجريمة في سبيل المحافظة على منافعهم اللامشروعة، ففي مقابل مثل هذا العدو الخطر ينبغي على المسلمين أن يكونوا مستعدين دائماً للتصدي له والجهاد ضده وأن يكونوا دائماً في حيوية ونشاط وحماسة، ولهذا السبب فنحن نعتقد بأن الأشخاص الذين يتحركون على مستوى تضعيف أو إماتة روحية الشجاعة والجهاد والتصدي للظالمين في نفوس المسلمين بذريعة الألعاب الملوّثة أو حتّى التسليات الدنيوية الرخيصة فإنّ هؤلاء يقومون بخيانة كبيرة لبلدهم ولأنفسهم ولدينهم.

ربّنا، زد في حرارة نور الإيمان في قلوبنا حتّى نتمكن بنور الإيمان أن نهاجر من أجواء الذنوب الظلمانية وننقذ أنفسنا والآخرين بسلاح الجهاد في سبيل اللَّه.

الإتّباع العملي لأولياء الدين

بحثان

1- لماذا لم يرد إسم الإمام علي عليه السلام في القرآن؟

1- لماذا لم يرد إسم الإمام علي عليه السلام في القرآن؟

سؤال: إذا كان الإمام علي عليه السلام هو المنصوب من اللَّه لأمر الخلافة بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مباشرة- كما تعتقدون بذلك وتسعون لإثبات هذا المطلب من خلال الآيات القرآنية- إذن فلماذا لم يرد اسم الإمام علي بصراحة في القرآن الكريم حتّى ننتهي من كلِّ هذه الأبحاث والإختلافات؟

الجواب: نظراً إلى أن إسم «علي» لم يكن منحصراً بالإمام علي عليه السلام كما هو الحال في «أبو طالب» حيث لم تكن هذه الكنية منحصرة بوالده، بل هناك العديد من الأشخاص بين العرب يسمون باسم «علي» و «أبو طالب» وعلى هذا الأساس لو ورد اسم «علي» بصراحة في القرآن الكريم فإن هؤلاء الأشخاص الذين لم يروق لهم قبول هذه الحقيقة سيتحركون بذرائع مختلفة إلى تطبيق هذا الإسم على شخص آخر، ولهذا كان من الأفضل ذكر الصفات والخصائص المنحصرة بالإمام علي عليه السلام في القرآن الكريم وتعريفه للناس من هذا الطريق لكيلا يتم تطبيق هذه الصفات والخصائص على غيره من

الأشخاص، ولهذا اختار اللَّه تعالى في القرآن الكريم هذا المنهج والسبيل لإرشاد الناس إلى الإمام علي عليه السلام بعنوانه وليّ

آيات الولاية فى القرآن، ص: 238

المؤمنين وخليفة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بلا فصل، رغم أن الأشخاص الذين في قلوبهم مرض ويتحركون في خطّ الإنحراف والزيغ يفسّرون هذه الآيات الكريمة بشكل آخر.

سؤال آخر: ورد في الحديث الشريف عن يونس بن عبدالرحمن قال: قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: إن قوماً طالبوني باسم أميرالمؤمنين في كتاب اللَّه عزّوجلّ، فقلت لهم: من قوله تعالى: «وَ جَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا» «1».

فقال: «صَدَقْتَ هُوَ هكَذا» «2».

فهل أن هذه الرواية تتفق مع ما ذكرتم من عدم ذكر اسم الإمام علي عليه السلام صريحاً في القرآن الكريم؟

الجواب: بلا شكّ إنّ مفردة «عليّا» الواردة في الآية الشريفة هذه ليست اسم شخص معيّن (أي ليست اسم علم) بل هي وصف لكلمة «لسان»، وأما الرواية المذكورة فغير معتبرة من حيث السند، لأن أحد رواتها «أحمد بن محمّد السياري» وهو ضعيف جدّاً، وهو الشخص الذي نقل الكثير من روايات تحريف القرآن، ولهذا فالروايات التي يقع في سندها هذا الرجل غير مقبولة وغير معتبرة، ويقول العلّامة الاردبيلي في شرح حاله: «هو رجل ضعيف وفاسد المذهب ورواياته فارغة وغير قابلة للاعتماد» «3» وعلى هذا الأساس فالرواية أعلاه غير معتبرة.

2- لماذا لم يقضِ النبي صلى الله عليه و آله على المنافقين؟

2- لماذا لم يقضِ النبي صلى الله عليه و آله على المنافقين؟

سؤال: إنّ المنافقين وجّهوا بلا شكّ في عصر النبي صلى الله عليه و آله وبعد رحلته ضربات قاسية للدعوة الإسلامية وللمجتمع

الإسلامي وهم الذين تبنوا الإنحراف الذي حصل في مسألة الخلافة والإمامة، ولا شكّ أن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله كان يعرف هؤلاء الأشخاص ويعلم بنفاقهم، ومع الإلتفات إلى هذا المعنى فلماذا لم يتحرك النبي صلى الله عليه و آله في حال حياته للقضاء

آيات الولاية فى القرآن، ص: 239

عليهم ليضمن بذلك سلامة الدعوة الجديدة والامّة الإسلامية؟

الجواب: إنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أجاب على هذا السؤال في حديث شريف حيث قال:

«لولا إنّي أكره أن يقال: إن محمّداً استعان بقوم حتّى إذا ظفر بعدوّه قتلهم، لضربت أعناق قوم كثير» «1».

ولكن مع الإلتفات إلى هذا الإتّهام الذي يفضي في الواقع إلى اهتزاز عقيدة الناس بالنبوّة والدين الجديد، فمن أجل أن لا يثور هذا التوهم والتصور في أذهان الناس فإنّ النبي لم يحرك ساكناً ضد المنافقين بل كان يتحمل آذاهم ويصبر على مشاكساتهم.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 241

آية النصرة

اشارة

آية النصرة 3

[سورة الأنفال (8): آية 62]

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)

«سورة الأنفال/ الآية 62»

أبعاد البحث

أبعاد البحث

هذه الآية الشريفة التي تسمّى بآية النصرة هي آية اخرى من آيات فضائل ومناقب أميرالمؤمنين عليه السلام.

سؤال: إنّ موضوع البحث هو الآيات المتعلقة بمسألة الإمامة والخلافة لأميرالمؤمنين عليه السلام فما هو ارتباط هذه الآية مع مسألة الإمامة؟

الجواب: إنّ الآيات المستخدمة لإثبات إمامة وخلافة أميرالمؤمنين عليه السلام بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على قسمين:

القسم الأوّل: الآيات التي تدلُّ بصراحة ووضوح على إمامة أميرالمؤمنين مثل آية «إكمال الدين» و «آية الولاية» وأمثال ذلك التي تقدّم الكلام عنها في الفصل الأوّل.

القسم الثاني: الآيات التي لا تدلُّ على مسألة الإمامة والخلافة بصورة مباشرة بل تتضمن فضائل أميرالمؤمنين الخاصّة، وبالإمكان مع الإستعانة بمقدمة عقلية إثبات الإمامة أيضاً بهذه الآيات الكريمة، كما تقدّم نظير ذلك في الآيات السابقة وسيأتي أيضاً في شرح وتفسير آية النصرة وسائر الآيات من هذا القبيل.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 242

الشرح والتفسير: التعبئة الكاملة والإستعداد التام

الشرح والتفسير: التعبئة الكاملة والإستعداد التام

لأجل توضيح مضمون آية النصرة نرى من اللازم الحديث عن آيات 60- 63 من سورة الأنفال، وهي قوله تعالى:

«وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ».

هذه الآية الشريفة مطلقة وتستوعب جميع الأمكنة والأزمنة والأدوار التاريخية في المجتمعات الإسلامية، لأنها لا تتحدّث عن أسلحة معيّنة وخاصّة ينتهي مفعولها بانتهاء زمانها وتخرج من حيّز الإستعمال، بل ورد التعبير بكلمة «قوّة» أي أن المسلمين يجب عليهم التهيؤ دائماً للأعداء والتسلّح بأنواع الأسلحة التي تثير فيهم القوّة والقدرة على التصدي لأعداء الإسلام فيجب عليهم أن يتسلحوا بالأسلحة المتطورة ويجهّزوا جيوشهم بالأنظمة العسكرية المتقدمة،

وكلمة «قوّة» تشمل مضافاً إلى الأسلحة الأشياء الاخرى التي تستخدم في الحرب ضد الأعداء من قبيل: أجهزة الإعلام التي تعتبر في العصر الحاضر سلاحاً فعّالًا يستخدم في القضاء على روحية العدو، كما أن هذه الكلمة تشمل أيضاً الامور الاقتصادية والأخلاقية والإجتماعية كذلك، والخلاصة إنّها تطلق على كلِّ ما ينفع المسلمين في جهادهم ضد العدو ويمكّن المسلمين من إجهاض محاولاته الرامية إلى الإستيلاء على البلاد الإسلامية والقضاء على الإسلام.

«تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَ عَدُوَّكُمْ وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ».

في هذا المقطع من الآية الشريفة يتحدّث القرآن عن الهدف والغاية من تهيئة وسائل القوّة والسلاح للمسلمين، فالهدف من هذا التهيؤ والإستعداد ليس هو قتل الناس وتخريب العالم والإغارة على المساكين والمحرومين بل الهدف هو الدفاع المشروع فيجب تعبئة جميع القوى والطاقات وتهيئة جميع أنواع الأسلحة لكيلا يتجرأ العدو على الهجوم على البلد الإسلامي بل لا يدور في ذهنه أن يهجم يوماً عليكم، لأن الظالمين والجبّارين متى ما وجدوا فرصة للهجوم والغارة على الضعفاء والدول الفقيرة والضعيفة فإنهم لا يجدون رادعاً أمامهم من العدوان والحرب، والقوّة العسكرية هي العامل الأساس لمنع هؤلاء من

آيات الولاية فى القرآن، ص: 243

عدوانهم، ولذلك فإنّ رفع المستوى العسكري بإمكانه أن يخيف الأعداء، أي أعداء اللَّه وأعداءكم، والعدو الظاهر والعدوّ الخفي والمستور، فالهدف من زيادة القوّة الدفاعية والقدرة العسكرية يجب أن يكون من منطلق الدفاع المنطقي والمشروع أمام تعدّي الآخرين.

«وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ».

بلا شك فإنّ

تقوية البنية الدفاعيّة للبلد الإسلامي ورفع مستوى القوّة العسكرية لجيش الإسلام واستخدام مختلف الأسلحة المتطورة ورفع المستوى الفني، الإقتصادي، الإعلامي، الأخلاقي، الإجتماعي وأمثال ذلك رغم أنه يحتاج إلى رصيد مالي ضخم وكبير ولكن يجب على المسلمين تأمين هذه النفقات فكلّما ينفق في هذا السبيل وفي خطّ تقوية الإسلام والبلد الإسلامي فإنّ اللَّه تعالى سيعيده إليكم وسوف لا تتضررون من ذلك حتماً.

«وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».

فرغم أن المسلمين ينبغي عليهم تعبئة جميع طاقاتهم ورفع مستواهم العسكري والنظامي ولكن إذا أراد العدو يوماً أن يمدّ إليكم يد الصلح فعلى المسلمين أن يقبلوا بذلك ولا ينبغي عليهم الإصرار على الحرب، فهذه الآية الشريفة تعتبر جواباً قاطعاً لبعض الأبواق الإستعمارية التي تصر على أن الإسلام دين السيف ويدعو إلى الحرب دائماً، فإنّ الإسلام إذا كان دين الحرب فلا معنى لأن يدعو إلى الصلح ويفرض على المسلمين أن يصافحوا اليد التي تمتد إليهم بالصلح والسلم.

ثمّ إنّ اللَّه تعالى يحذّر المسلمين:

«وَ إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ».

فرغم أن الإسلام يدعو إلى الصلح ويأمر المسلمين كذلك أن يستجيبوا لدعوات الصلح التي تصدر من العدو ولكنه يحذّر المسلمين أن يأخذوا جانب الحيطة والحذر من مكر الأعداء وخدعهم، فحتّى في حال الصلح يجب على المسلمين أن يحتفظوا بقوّتهم العسكرية وقدرتهم الدفاعية بأعلى المستويات لكيلا يطمع فيهم العدو ويستغل هذه الفرصة في أجواء الصلح ويهاجم المسلمين على حين غرّة، فقد يكون طلبه للصلح بسبب أنه وجد

آيات الولاية فى القرآن، ص: 244

نفسه ضعيفاً ويريد أن يجدد قواه ويزيد من قدراته العسكرية فيقترح على المسلمين الصلح الكاذب ويشغلهم مدّة لمحادثات الصلح حتّى يتهيأ من جديد لانزال ضربة قاصمة بالمسلمين، ولكنّ المسلمين إذا تحركوا في أجواء الصلح من موقع الحذر والإحتياط واحتفظوا بقواهم العسكرية فإنهم سيأمنون من كيد العدو، الإمام علي عليه السلام يوصي قائده الشجاع مالك الأشتر في عهده له بأن يستغل أية فرصة للصلح مع العدو ولكنه يحذّره من مكر الأعداء ويقول:

«ولا تدفعنّ صلحاً دعاك إليه عدوّك وللَّه فيه رضى ... ولكن الحذر كلّ الحذر من عدوّك بعد صلحه، فإنّ العدوّ ربّما قارب ليتغفّل فخذ بالحزم، واتّهم في ذلك حسن الظّن». «1»

ثمّ إنّ اللَّه تعالى في ختام الآية الشريفة يقول للنبي الكريم صلى الله عليه و آله بأن اللَّه تعالى سيكفيك مكرهم في هذه الصورة فهو الذي أيّدك بنصره وبالمؤمنين:

«وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».

فليس بإمكانك أن تؤلف بين قلوب العرب والقبائل العربية المتنازعة والمتعادية بأدوات المال والقوّة وأمثالها فلو أنك أنفقت عليهم جميع ثروات الأرض لم تتمكن من تأليف قلوبهم ولكنّ اللَّه تعالى هو الذي ألّف بينهم، وهذه نعمة عظيمة عليك وعلى المسلمين.

إنّ الآيات الأربع المذكورة آنفاً تحتاج إلى أبحاث معمّقة ودراسات كثيرة لاستكشاف مضامينها واستجلاء معانيها ولكننا نكتفي بهذا المقدار ونصرف النظر إلى مباحث اخرى.

من هم المؤمنون؟

من هم المؤمنون؟

سؤال: في حقّ من نزلت آية النصرة هذه، ومن هو المقصود بالمؤمنين؟

آيات الولاية فى القرآن، ص: 245

الجواب: وردت روايات كثيرة في هذا المجال ذكرها العلّامة الأميني في «الغدير» «1»، وكذلك ذكرها صاحب «احقاق الحقّ» «2» وهذه الروايات على قسمين:

الأوّل: الروايات التي تقول: بأن أوّل ناصر ومعين للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله هو الإمام علي عليه السلام وهذه الآية الشريفة تشير إلى الإمام علي.

الثاني: الروايات التي تتحدّث عن نصرة الإمام علي عليه السلام للنبي ولكنّها لا تذكر شيئاً عن تطبيق آية النصرة عليه، ونكتفي بذكر رواية واحدة من كلٍّ من هذين القسمين:

1- ما أورده ابن عساكر صاحب كتاب «تاريخ دمشق» عن أبي هريرة «3» أنه قال:

«مَكْتُوبٌ عَلَى الْعَرْشِ لا الهَ إلّاأنَا وَحْدِي، لا شَريكَ لي، وَمُحَمَّدٌ عَبْدي «4» وَرَسُولي، ايَّدْتُهُ بِعَلِيٍّ وَذلِكَ قَوْلُهُ «هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ»». «5»

وهنا لابدّ من التلميح بثلاث نقاط:

أوّلًا: بالرغم من أن أبا هريرة لم يصرّح بنسبة هذه الرواية إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله ولكن مع الأخذ بنظر الإعتبار جملة «مَكْتُوبٌ عَلَى الْعَرْشِ» يتّضح جيّداً أن أبا هريرة سمعها من النبي لأنه لا يمكنه أن يدّعي هذا بنفسه.

ثانياً: إنّ شأن نزول آيات القرآن على نحوين: الأوّل: شأن النزول المنحصر بفرد معيّن مثل آية «إكمال الدين» و «آية الولاية» وأمثالهما من الآيات التي نزلت في شأن عليّ ابن أبي طالب بالخصوص ولا تستوعب في أجواءها غيره من المسلمين.

الثاني: شأن النزول العامّ والذي لا ينحصر بفرد معيّن ولكن هناك مصداق أكمل لمضمون هذه الآيات الشريفة حيث يرد ذكر هذا المصداق عادةً في الروايات من قبيل «آية

آيات الولاية فى القرآن، ص: 246

النصرة» الواردة في حقّ المسلمين بشكل عامّ ولكنّ الإمام علي عليه السلام هو المصداق البارز والكامل لها.

ثالثاً: مضافاً إلى ابن عساكر هناك مؤرّخين وعلماء نقلوا في كتبهم هذه الرواية أيضاً ومنهم:

الف) محبّ الدين الطبري في «الرياض» «1».

ب) السيوطي في «الدرّ المنثور» «2».

ج) القندوزي في «ينابيع المودّة» «3».

د) العلّامة الگنجي في «كفاية الطالب». «4»

2- وقد ذكر العلّامة الأميني روايات كثيرة بأسناد اخرى أن الإمام علي عليه السلام هو أوّل ناصر للنبي صلى الله عليه و آله ولكنّها لا تصرّح بأن المراد من الآية الشريفة هو عليّ بن أبي طالب، ومن جملة هذه الروايات ما ورد عن «أنس بن مالك» عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنه قال:

«لَمَّا عُرِجَ بِي: رَأَيْتُ عَلى ساقِ العَرْشِ مَكْتُوباً: لا الهَ إلَّااللَّهُ، محمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، ايَّدْتُهُ بِعَلِيٍّ، نَصَرْتُهُ بِعَلِيٍّ» «5».

الحديث الشريف هذا مذكور في مختلف كتب أهل السنّة ومنها:

1- ذخائر العقبى «6».

2- مناقب الخوارزمي «7».

3- فرائد الحمويي «8».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 247

4- الخصائص الكبرى للسيوطي «1» وكتب اخرى «2».

امّا ما ذكر في هذا الحديث «على ساق العرش مكتوباً» فيدلُّ على أهمية هذه المسألة بحيث أنها كتبت على ساق العرش الإلهي وذكرت إلى جانب اسم اللَّه تعالى واسم رسوله اسم علي ابن أبي طالب أيضاً، وهذا يدلُّ على أن الإمام علي عليه السلام هو المصداق البارز والفرد الكامل لعنوان الناصر، وبديهي أن اللَّه تعالى إذا أراد أن يختار خليفة لرسوله الكريم فإنه يختار من

بين المسلمين الأفضل والأكمل منهم لهذا المقام، وإذا أراد المسلمون أن يختاروا شخصاً لهذا المقام فإنّ العقل يحكم بضرورة اختيار مثل هذا الشخص.

توصية الآية

الدفاع عن الإسلام بكلّ القوى

الدفاع عن الإسلام بكلّ القوى

رأينا في الآيات الشريفة المذكورة آنفاً دور الإمام علي عليه السلام وأهميته الكبيرة في نصرة النبي الكريم صلى الله عليه و آله وحماية الرسالة السماوية، إنّ أميرالمؤمنين عليه السلام قد حصل على هذا المقام في ظلّ تحركه الدائب وسعيه المستمر في الدفاع عن قائد المسلمين في أحلك الظروف وأشد الأزمات، وعندما كان الإسلام على شرف الإنهيار والسقوط فإنّ الإمام علي عليه السلام كان يبذل كلّ ما اوتي من قوّة للدفاع عن هذا الدين الإلهي، مثلًا في حرب احد حيث إنهزم جميع المسلمين وتركوا النبي صلى الله عليه و آله لوحده في ميدان القتال نجد أن الإمام علي عليه السلام استمر في قتال الأعداء ومناجزتهم ولم يكن له علم بحال النبي صلى الله عليه و آله ولكنه كان يعلم أن النبي ما زال في الميدان وأنه ليس بالإنسان الذي يفر من قتال العدو، ولهذا ففي حين أنه كان مشغولًا في قتال الأعداء كان يبحث عن النبي صلى الله عليه و آله في الميدان فرآه في أحد الجوانب وقد كسرت ثنيته المباركة وسال الدم من فمه وجبهته، فما كان من الإمام علي عليه السلام إلّاأن أخذ يدور حوله ويذبّ الأعداء عنه حتّى تحمّل جراحاً بليغة في سبيل الدفاع عن النبي صلى الله عليه و آله «3»، وعلى الشيعة

آيات الولاية فى القرآن، ص: 248

أيضاً أن يبذلوا كلّ

شي ء من نفس ومال وأخلاق وحُسن معاشرة ومحبّة وعلم وجميع القابليات والإمكانات التي لديهم في سبيل الدفاع عن الإسلام لكي يردوا يوم القيامة مرفوعي الرأس ولا يردون عرصات المحشر في حالة الخجل من النبي صلى الله عليه و آله والإمام علي عليه السلام.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 249

آية علم الكتاب

اشارة

آية علم الكتاب 4

[سورة الرعد (13): آية 43]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَ لا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)

«سورة الرعد/ الآية 43»

أبعاد البحث

أبعاد البحث

الآية الاخرى من آيات فضائل الإمام علي عليه السلام التي يمكن اعتبارها دليلًا على إمامته هي آية «علم الكتاب» حيث تقرر هذه الآية أن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله استشهد بشاهدين على صدق ادعائه: أحدهما اللَّه تعالى، والآخر «من عنده علم الكتاب» فكيف تقرر شهادة هذين على صدق دعوى النبي، ومن هو المراد ب «من عنده علم الكتاب»؟ فذلك ما سيأتي تفصيله لاحقاً، ولكن قبل استعراض تفسير الآية نرى أن من الضروري الإشارة إلى مقدمة:

لا تقبلوا أمراً بدون دليل

لا تقبلوا أمراً بدون دليل

إنّ أحد تعليمات القرآن الكريم الأساسية هو أنه يوصي جميع المسلمين بل جميع الناس أن لا يقبلوا شيئاً وفكرة وعقيدة بدون دليل، أجل فإنّ الإسلام يؤكد على قبول العقيدة إذا كانت مقترنة مع الدليل والبرهان.

ونقرأ في القرآن الكريم أربع آيات تشير إلى هذا الموضوع حيث تقول:

آيات الولاية فى القرآن، ص: 250

«قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ» «1».

المخاطَب في هذه الآيات تارةً هم اليهود والنصارى حيث يأمر اللَّه تعالى نبيّه الكريم بأن يقول لهم أن يأتوا بدليل وبرهان على صدق مدّعياتهم (من قبيل أنه لا يرد أحد غيرهم الجنّة).

وتارةً اخرى يكون المخاطب هم المشركون الذين يدّعون ادعاءات زائفة في شأن الأصنام، فهؤلاء يجب عليهم أن يقدّموا الدليل العقلي على دعواهم وإلّا فلا يقبل منهم ما يقولون.

بل إنّ أحد الآيات هذه تشير إلى يوم القيامة أيضاً، فهناك لو أن أحداً إدعى شيئاً يجب أن يكون ادعاؤه مقروناً بالدليل والبرهان.

وعلى هذا الأساس يستفاد من الآيات أعلاه أنه لابدّ لكلّ قوم وأتباع كلّ مذهب أن

يأتوا بالدليل على أفكارهم وعقائدهم «2»، وهذه الثقافة القرآنية الراقية إذا تمّ تجسيدها على مستوى الممارسة والعمل فإنّ من شأنها أن تقف حائلًا أمام الخرافات والأفكار الزائفة

آيات الولاية فى القرآن، ص: 251

والعقائد الواهية وحتّى أمام الشائعات وأنواع التهم والتخرّصات، وفي مثل هذا المجتمع القرآني لا يمكن لأي فئة مغرضة إيجاد حالة من التشويش والإضطراب في الذهنية المسلمة ليصطادوا السمك في الماء العكر ويركبوا أمواج الضلالة والأزمات الإجتماعية وبالتالي يذبحوا الإسلام عند عتبة أغراضهم ومنافعهم الشخصية، وعلى هذا الأساس فإنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله استشهد لصدق دعواه بدليلين وشاهدين معتبرين بحيث يقبل شهادتهم كلُّ إنسان.

ومع الإلتفات إلى هذه المقدمة نشرع في تفسير الآية الشريفة:

الشرح والتفسير: الشهود على النبوّة

الشرح والتفسير: الشهود على النبوّة

«وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا» وعليه فإنه ينبغي على النبي صلى الله عليه و آله لإثبات صدق دعواه ورسالته أن يأتي بالدليل والبرهان وفقاً لما قرّره القرآن الكريم من قاعدة وقانون في دائرة الفكر والمعتقدات، ولهذا فإنّ اللَّه تعالى يقول في سياق الآية الشريفة:

«قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ».

فهنا ذكر النبي شاهدين: الأوّل هو اللَّه تعالى، والثاني هو الشخص الذي عنده «علم الكتاب» أي الشخص الذي يعلم بجميع ما في الكتاب لا بجزء منه، وهذان الشاهدان كافيان لمن كان يتحرك في طلب الحقّ والحقيقة.

كيفية شهادة اللَّه

كيفية شهادة اللَّه

سؤال: إنّ اللَّه تعالى غائب عن الأنظار ولا يستطيع أحد من الناس أن يراه فكيف يشهد بصدق رسالة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وصدق دعواه؟

الجواب: إنّ اللَّه تعالى من خلال المعجزات التي يضعها تحت اختيار النبي صلى الله عليه و آله يمثّل شاهد صدق على رسالة نبي الإسلام لأنه من المحال على اللَّه الحكيم أن يضع أكثر من معجزة بل مئات المعاجز بيد مدّعي النبوّة الكاذب ليضل عباده، فاللَّه تعالى لا يمكن أن يضل عباده بهذه الصورة، وعليه فعندما يضع اللَّه تعالى العديد من المعجزات بيد النبي فإنه يشهد بذلك على صدقه.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 252

من هو الذي «عنده علم الكتاب»؟

من هو الذي «عنده علم الكتاب»؟

يذكر العلّامة الطبرسي في مجمع البيان ثلاث نظريات في هذا المجال:

1- أن المراد بقوله «مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ» هو اللَّه تعالى، وفي الحقيقة فهذه الجملة بمثابة عطف تفسيري على «باللَّه» الذي ورد في صدر الآية، فكليهما بمعنى واحد، وعليه ففي هذه الآية الشريفة لا يوجد أكثر من شاهد واحد يشهد على صدق إدعاء نبي الإسلام صلى الله عليه و آله وهو اللَّه تعالى «1».

ولكنّ هذه النظرية مردودة، لأن الأصل الأولي في العطف هو التعدد والجملة المعطوفة تقرر مطلباً جديداً غير المعطوف عليه، والعطف التفسيري خلاف الأصل، وهذه الحقيقة يذعن لها علماء اللغة والأدب العربي، وعليه فما لم يتوفر لنا دليل معتبر على أن الجملة أعلاه هي عطف تفسيري، فلابدّ من حملها على معنىً آخر غير المعطوف عليه لئلّا نقع في إشكالية التكرار، ولذلك فالنظرية الاولى

غير مقبولة.

2- ومنهم من ذهب إلى أن المراد من جملة «مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ» هم اولئك الأشخاص من أهل الذمّة الذين اعتنقوا الإسلام ومنهم «عبداللَّه ابن سلام» «2» العالم اليهودي، ولكنه كان منصفاً وقد قرأ علامات نبوّة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في التوراة وعندما رآها منطبقة على محمّد بن عبداللَّه صلى الله عليه و آله وعلم أنه مرسل من اللَّه تعالى آمن به في حين أنه لو بقي على دين اليهودية كان يحظى بمنزلة كبيرة بينهم وقد يحصل من ذلك الكثير من الأموال والثروات، ولكنه عندما علم بحقيقة الأمر سحق أهواءه النفسية واعتنق الإسلام، ولهذا فإن هذا الشخص هو الذي عنده «علم الكتاب» أي كان يعلم بعلائم النبي في التوراة ويشهد بذلك، إذن فإن هذه الآية تقرر شاهدين على صدق ادعاء النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، وبعبارة اخرى إنّ اللَّه تعالى والكتب السماوية السابقة تشهد بصدق نبوّة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله.

ولكنّ هذه النظرية أيضاً غير مقبولة، لأن سورة الرعد من السور المكية في حين أن

آيات الولاية فى القرآن، ص: 253

عبداللَّه ابن سلام اعتنق الإسلام في المدينة، وعلى هذا الأساس فإنّ زمان نزول الآية محل البحث قبل إيمان عبداللَّه بن سلام بعدّة سنوات فلا يمكن أن تشير الآية إلى إيمان هذا الشخص وشهادته.

3- وهي النظرية التي وردت في الكثير من كتب التفسير والتاريخ والحديث حيث تقرر أن المراد بجملة «من عنده علم الكتاب» هو الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام «1».

يقول أبوسعيد الخدري

من علماء الإسلام وصحابة النبي صلى الله عليه و آله والمقبول لدى أهل السنّة والشيعة:

«سألت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن هذه الآية: الذي عنده علم من الكتاب «2» قال: ذاك وزير أخي سليمان بن داود عليه السلام، وسألته عن قول اللَّه عزّوجلّ: قل كفى باللَّه شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب، قال ذاك أخي علي بن أبي طالب» «3».

ويروي هذه الرواية مضافاً إلى أبي سعيد الخدري: عبداللَّه ابن عبّاس، سلمان، سعيد ابن جبير، محمّد ابن الحنفية، زيد بن علي وآخرون أيضاً، ومن جملة من ذكر هذه الرواية في كتابه: القرطبي «4»، السيوطي «5»، العلّامة الدشتكي الشيرازي «6»، الترمذي «7» وآخرون، وعليه فإن أفضل تفسير لجملة «من عنده علم الكتاب» هو أن المراد منها الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام.

كيف يشهد الإمام علي عليه السلام بالنبوّة؟

كيف يشهد الإمام علي عليه السلام بالنبوّة؟

سؤال: مع الإلتفات إلى الروايات الكثيرة الواردة في شأن نزول هذه الآية الشريفة التي

آيات الولاية فى القرآن، ص: 254

تؤيد أنها واردة في شأن الإمام علي عليه السلام، يثار هنا سؤال آخر وهو: كيف يمكن أن يشهد الإمام علي عليه السلام على نبوّة ورسالة النبي محمّد صلى الله عليه و آله؟

وفي مقام الجواب عن هذا السؤال نذكر مثالين على ذلك:

ألف) إذا دخل أحد الأشخاص مدينة معيّنة ولم يكن له فيها أيُّ شخص يعرفه، وحينما يحين وقت يتوجه إلى المسجد ليدرك فضيلة صلاة الجماعة وفضيلة الصلاة أوّل الوقت، فمع العلم بأنه لا يعرف أحداً من هذه المدينة كيف يمكنه أن يتثبت من

عدالة إمام الجماعة ويقتدي به؟

يقول الفقهاء: إنّ مجرد حضور مجموعة من الأشخاص من أهل الإطلاع والفضل واقتداءهم به يمكنه أن يكون بمثابة الشهادة على عدالة إمام الجماعة، من قبيل أن مئات من رجال الدين والشيوخ يقتدون به في صلاتهم، فمن هنا يتبيّن لنا عدالة إمام الجماعة من خلال اقتداء المأمومين هؤلاء.

ب) إذا رأينا شخصاً من أهل الخبرة والفضل ومورد احترام الناس يأتي إلى استاذ من الأساتذة ويجلس بين يديه ليتعلم ويتتلمذ على يد هذا الاستاذ الذي لا نعرفه إطلاقاً، فمن خلال معرفتنا بعلم وفضل التلميذ ندرك عظمة الاستاذ وعلمه الواسع، وعلى سبيل المثال إذا رأينا الشيخ الأنصاري أو العلّامة الحلّي يدرسان ويتعلمان عند استاذ غير معروف، فمن خلال التلميذ ندرك عظمة الاستاذ.

وبالنظر إلى هذين المثالين نجيب على السؤال المذكور:

عندما نطالع شخصية الإمام علي عليه السلام ونراه متفوقاً في جميع الصفات الأخلاقية والإنسانية نرى أنّ مثل هذا الإنسان مع عظيم علمه ومعرفته بحيث إنّ الإنسان الذي يقرأ «نهج البلاغة» ويتدبر فيه وفيما يتضمنه من معارف عميقة وعلوم غزيرة لا يصدّق أن هذا الكتاب هو حصيلة ترشحات من فكر إنسان، ولهذا قيل عن نهج البلاغة: «دون كلام الخالق وأعلى من كلام المخلوق».

الإمام علي مع ذلك القضاء العجيب والمحيّر في أدق المشكلات والمحاكمات والذي نجح بأفضل وجه في ردّ حقوق المظلومين ...

آيات الولاية فى القرآن، ص: 255

الإمام علي مع شديد عبادته وتقواه والتزامه الديني بحيث إنه في حال الصلاة لا يلتفت إلى شي ء آخر سوى اللَّه تعالى ولذلك كانوا في الموارد التي لا يستطيعون

معالجته في غير الصلاة ينتظرونه ليصلّي حتّى يخرجوا السهام من بدنه الشريف وهو غافل عنها ...

الإمام علي مع شهامته وشجاعته المحيّرة والتي تضرب بها الأمثال بحيث لم يغلب في أيِّ حرب وقتال ولم يفر ولا مرّة واحدة من الأعداء ...

الإمام علي مع التزامه الشديد بالعدالة بحيث لا يمكن لأحد من الناس أن يخرجه عن حدّ العدالة وأخيراً استشهد بسبب هذا الإلتزام والإنضباط الأخلاقي بالعدالة.

أجل، فإنّ الإمام علي عليه السلام بهذه الصفات والخصائص الاخرى يمثل رمز الإنسان الكامل، وهذا الشخص قد آمن بنبي الإسلام صلى الله عليه و آله وجعل حياته وقفاً لتبليغ هذا الدين واعتبر نفسه عبداً من عبيد محمّد، ألا يتبين لنا من خلال إيمان الإمام علي عليه السلام حقانية إدّعاء النبي الأكرم صلى الله عليه و آله والرسالة السماوية؟ وبهذا يكون الإمام علي شاهداً آخر على نبوّة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله.

ونعتقد أن هذا الشاهد على نبوّة النبي محمّد صلى الله عليه و آله إلى درجة من الأهمّية بحيث إنه لو فرضنا أن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لم يأتِ بأي دليل آخر سوى شهادة علي ابن أبي طالب لكفى.

المقارنة بين آصف بن برخيا وعلي بن أبي طالب عليه السلام

المقارنة بين آصف بن برخيا وعلي بن أبي طالب عليه السلام

كان آصف بن برخيا وزير النبي سليمان عليه السلام وقد وردت قصته في سورة النمل وهي:

«عندما تحركت ملكة سبأ من اليمن باتجاه النبي سليمان لتسلم على يده خاطب سليمان وزراءه ومشاوريه من الجن والإنس وقال:

أيكم يقدر على أن يأتيني بعرش الملكة من اليمن قبل أن تصل إلينا؟

فقال أحد العفاريت من الجنّ: أنا آتيك به ولكنّ ذلك يحتاج إلى مدّة من الزمان قد تصل إلى بضع ساعات وسوف أحضره

عندك قبل إتمام هذه الجلسة.

والظاهر أن النبي سليمان لم يقبل هذا الإقتراح وأراد حضور العرش بأسرع من هذا الوقت ولهذا قال شخص آخر وكان لديه علم من الكتاب وهو «آصف بن برخيا»: إنني

آيات الولاية فى القرآن، ص: 256

قادر على إحضاره عندك قبل أن تطرف عينك، فما أن فتح سليمان عينه وإذا به يرى عرش الملكة حاضراً عنده، وحينذاك توجه سليمان بالشكر إلى اللَّه تعالى على هذه النعم والمواهب العظيمة «1».

إن آصف بن برخيا وبسبب اطلاعه على بعض علم الكتاب والإسم الأعظم استطاع أن يقوم بهذا العمل الخارق للعادة، في حين أنّ الإمام علي عليه السلام لديه علم الكتاب أجمع وكذلك الإسم الأعظم فهل يمكن قياس قدرة آصف ابن برخيا بقدرة الإمام علي عليه السلام؟

من هذا البحث يمكننا التطرق إلى الولاية التكوينية للأئمّة الأطهار، لأن معنى العلم التكويني ليس هو أننا نعتقد بأن الإمام علي عليه السلام خالق السماوات والأرض «ونعوذ باللَّه» بل يعني أنّ هؤلاء الأولياء يتصرفون بعالم الوجود بإذن اللَّه تعالى ومشيئته ويشبه تصرفهم عمل آصف ابن برخيا.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 257

آية المؤذّن وآية الأذان

اشارة

آية المؤذّن و آية الأذان 5- 6

ومن جملة الآيات التي تتعلق بفضائل الإمام علي عليه السلام هي الآيات 44 من سورة الأعراف، والآية 3 من سورة التوبة حيث يقول تعالى في الآية 44 من سورة الأعراف:

7/ 44 ويقول في الآية 3 من سورة

التوبة:

[سورة التوبة (9): آية 3]

رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9)

أبعاد البحث

أبعاد البحث

إنّ كلمة «مؤذّن» وردت في القرآن الكريم مرّتين حيث تتحدّث عن عالم الآخرة، وقد وردت في الآية 44 من سورة الأعراف، وفي الآية 70 من سورة يوسف وهكذا كلمة «أذان» وردت مرّة واحدة في الآية 3 من سورة التوبة، وكلُّ واحدة من هاتين الآيتين ترتبط بشأن الإمام علي عليه السلام.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 258

«أذان» في الإصطلاح يراد به مجموعة الأذكار الخاصّة التي تقال حينما يحين وقت الصلاة لدعوة الناس إلى الصلاة والمسجد ولكن في اللغة يراد بها مطلق الإعلان، فتارةً يكون الإعلان مقارناً للتهديد، واخرى لإعلان الحرب، وثالثة لإعلان وقت الصلاة، وبتعبير آخر أن «الأذان» تعني إخبار الناس بالخبر بصورة علانية، إذن فالأذان لا يختصُّ بالإعلان عن وقت الصلاة بل يستوعب معنىً واسعاً.

تفسير الآية 42 من سورة الأعراف

حوار أهل الجنّة وأهل النار

حوار أهل الجنّة وأهل النار

ولأجل توضيح معاني ومفاهيم آية المؤذّن نرى من اللازم أن نبدأ بالآيات التي قبلها:

«وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ».

جملة «لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» جاءت كجملة معترضة في الآية أعلاه وتشير إلى نكتة مهمة، وهي أن جميع الأشخاص لا يستوون في الإيمان والعمل الصالح ولا يصحّ أن يتوقع الإنسان من جميع الناس التساوي في الإيمان والعمل الصالح، بل كلُّ شخص يُكلّف بمقدار قدرته وإدراكه ولياقته، وبدون شك أن إيمان الإمام علي عليه السلام وسلمان وأبي ذرّ ليس بمستوى إيمان سائر الناس، ولذلك فالمتوقع من هؤلاء الأشخاص الأولياء غير ما يتوقع من الأشخاص العاديين، والخلاصة هي أن كلُّ إنسان مؤمن

يدخل الجنّة بحسب قابليته وإيمانه وعمله الصالح.

«وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ».

فهنا تتحرّك الآية الشريفة لبيان صفات المستحقين للجنّة بعد ورودهم إليها فأوّل ما يواجه المؤمن لدى دخوله الجنّة هي أن اللَّه تعالى يطهر قلبه من أدران الحسد والحقد تماماً ويعود إليها الصفاء والطهر والخلوص، وكلمة «غلّ» تقال لحركة الماء الخفية تحت النباتات، وبما أن عنصر الحسد والحقد يتحرك في قلب الإنسان بصورة خفية ومستورة فلذا قيل عنه بأنه «غلّ».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 259

سؤال: هل يعقل أنّ أهل الجنّة يعيشون الحسد والحقد ومع ذلك يدخلهم اللَّه الجنّة؟

الجواب: يستفاد من بعض الروايات أن بعض الدرجات الخفيفة للحسد والحقد يمكنها أن تكون لدى المؤمن وما لم يظهرها الإنسان لا تحسب ذنباً ومعصية ولا تتنافى مع الإيمان «1»، وبهذا فإنّ اللَّه تعالى يطهّر قلوب هؤلاء المؤمنين من أهل الجنّة من هذه الدرجة الضعيفة من الحسد والحقد ليعيشوا في الجنّة بكامل السعادة والطمأنينة والراحة النفسية.

«تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ» إنّ أهل الجنّة يسكنون في قصور وبيوت تجري من تحتها الأنهار، أي أن اللَّه تعالى قد بنى لهم هذه القصور والبيوت على الأنهار الجارية، وهذا من جملة النعم الاخروية على أصحاب الجنّة والتي وردت في الكثير من الآيات الشريفة.

«وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَ ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ» فعندما يشاهد أهل الجنّة كلُّ هذه النعم العظيمة والألطاف الإلهيّة الجليّة يتوجهون إلى ربّهم من موقع الشكر والثناء ويقولون: الحمد الذي هدانا لهذه

النعم والمواهب الكثيرة ولولا عناية اللَّه ورعايته ما كنّا لنهتدي إليها ولا نسلك الطريق إلى الجنّة، وأنّ رسل اللَّه وأنبياءه كانوا يقولون الحقّ، أجل، فإنّ أهل الجنّة يعترفون بأن الهداية التشريعية للأنبياء والأولياء والكتب السماوية وكذلك الهداية التكوينية المنبعثة من الجوانب النفسانية والفطرية المودعة في وجود الإنسان هي التي أدّت بهم إلى اختيار طريق الجنّة وكسب رضا اللَّه تعالى ونيل ألطافه وعناياته.

«وَ نُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» فبعد أن يشكر أهل الجنّة اللَّه تعالى على عظيم نِعمه التي لا تحصى يقال لهم أن أدخلوا الجنّة فهي التي ورثتموها بأعمالكم.

«وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا» فعندما يستقر أهل الجنّة في مساكنهم وقصورهم وينظرون إلى ما حولهم بحثاً عن أصدقائهم ومعارفهم لا يجدون أفراداً منهم ويدركون أنهم صاروا من أهل النار وحرموا الورود إلى الجنّة وبذلك يخاطبون أهل النار:

آيات الولاية فى القرآن، ص: 260

«إننا قد وجدنا ما وعد ربُّنا حقّاً وقد تبيّن لنا صحّة الطريق الذي سلكناه في الدنيا وأوصلنا هذا الطريق من خلال الإيمان والعمل الصالح إلى الجنّة وحظينا بجميع ما وعد اللَّه تعالى للمؤمنين فهل وجدتم ما وعد ربُّكم حقّاً؟ هل تحققت وعود اللَّه في حقّكم من العقاب على ما ارتكبتم من الذنوب والجرائم؟

«قالُوا نَعَمْ» وهكذا يجيب أهل النار على هذا السؤال بالإيجاب وأن اللَّه قد أنجز ما وعدهم من العذاب والعقاب الاخروي.

سؤال: لماذا يسأل أهل الجنّة هذه الامور من أهل

النار؟

الجواب: يحتمل أن سؤالهم كان لغرض تحصيل إطمئنان أكثر وإيمان أعلى بما وعد اللَّه رغم أن أهل الجنّة يؤمنون بجميع ما وعدهم الأنبياء من امور الغيب ويعتقدون به ولكنهم عندما يرون ذلك بامّ أعينهم أو يسمعون من أهل النار تحقّق الوعيد الإلهي بحقّهم فإنّ إيمانهم سيزداد ويتعمق أكثر.

الإحتمال الآخر هو أنهم يسألون أهل النار من أجل التهكم والذم والتقريع لهم كما كان أهل النار يلومون المؤمنين في الدنيا ويذّمونهم ويسخرون منهم على اعتقاداتهم وإيمانهم بالغيب فهذه المساءلة نوع من المقابلة بالمثل.

«فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ» كختام للمحاورة المذكورة بين أهل الجنّة وأهل النار لابدّ وأن يكون هناك من يختم هذا الحوار ولذلك ورد النداء الإلهي «أن لعنة اللَّه على الظالمين» وتنتهي بذلك المساءلة ويسدل الستار على هذه المحاورة.

من هو المؤذّن؟

من هو المؤذّن؟

سؤال: من هو المؤذّن في الآية 44 من سورة الأعراف؟ ومن هو هذا الشخص الذي يختم الحوار المذكور بالنداء الإلهي والذي توحي الآية أن له سلطة على الجنّة والنار والقيامة؟ ومن هو هذا الشخص الذي يسمعه جميع الناس في ذلك اليوم ويختم بكلامه عملية المحاورة بين أهل الجنّة وأهل النار؟

الجواب: هناك روايات متعددة مذكورة في مصادر الشيعة وأهل السنّة تؤكد على أن

آيات الولاية فى القرآن، ص: 261

المؤذّن هو الإمام علي عليه السلام، وعلى سبيل المثال نشير إلى نماذج منها:

1- أورد الحاكم الحسكاني الحنفي من أهل السنّة في «شواهد التنزيل» عن محمّد ابن الحنفية عن الإمام علي عليه السلام أنه قال:

«أَنا ذلِكَ الْمُؤذِّنُ».

وروى الحاكم بسنده عن أبي

صالح عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما أنّه قال: قال علي رضى الله عنه: في كتاب اللَّه أسماء لي لا يعرفها الناس منها المؤذن «1».

2- وكذلك نقل الحافظ أبو بكر ابن مردويه في كتاب «المناقب» أن المؤذّن هو عليّ بن أبي طالب عليه السلام «2».

3- ونقل الآلوسي أحد المفسّرين المعروفين من أهل السنّة في تفسير «روح المعاني» عن ابن عبّاس أنه قال:

«الْمُؤَذِّنُ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ» «3».

4- وذكر الشيخ سليمان القندوزي مؤلف كتاب «ينابيع المودّة» في كتابه هذا أن المراد بالمؤذّن هو عليّ بن أبي طالب «4».

5- ونقل هذا المعنى مير محمّد صالح الكشفي الترمذي في «المناقب» «5».

هل أنّ مقام المؤذّن يعدّ فضيلة؟

هل أنّ مقام المؤذّن يعدّ فضيلة؟

سؤال: لقد ذهب بعض المثقفين والكتّاب الإسلاميين الذين تورطوا في شراك التعصّب المذهبي عندما يصل إلى هذه الآية الشريفة والروايات المذكورة فيها ينكر كون مقام المؤذّن فضيلة للإمام علي عليه السلام ويقول: «على فرض أن يكون المؤذن هو الإمام علي عليه السلام، ولكن هذا

آيات الولاية فى القرآن، ص: 262

المعنى لا يعدّ افتخاراً له، لأنه لابدّ أن يكون هناك مؤذن يوصل النداء الإلهي للناس في المحشر، ولا يختلف الحال فيمن يكون هو المؤذن».

الجواب: والجواب على هذا الكلام واضح لأن هذا المؤذّن إنما يعلن شيئاً بأمر اللَّه تعالى فهو رسول من اللَّه لإلقاء هذا الكلام على أهل المحشر أي الناطق الرسمي عن اللَّه وهي وظيفة خطيرة وثقيلة، وعليه فإنّ هذا المقام يدلُّ على أهمية ومكانة هذا الشخص بحيث يبين للناس الرسالة الإلهية بصورة جيّدة في يوم القيامة، ومع الإلتفات

إلى محتوى هذه الرسالة وأنها تشمل لعنة اللَّه على الظالمين فلابدّ أن لا يكون هذا المؤذّن من الأفراد الملوثين بالظلم في الدنيا، وإلّا فلا يوجد أحد يلعن نفسه، ولهذا فإنّ مقام المؤذّن في ذلك اليوم لا يعدُّ مقاماً عادياً يستطيع أيُّ شخص أن يقوم به، وعليه فإنّ هذا المقام يعدّ فضيلة كبيرة لمن يناله.

لماذا يغمض بعض مفسّري أهل السنّة أبصارهم عن إدراك الحقائق ويمرون على المضامين القرآنية مرور الكرام بهدف الإحتفاظ على عقائدهم الموروثة وأحياناً ينكرون مضامين الوحي من أجل ذلك؟!

تفسير الآية 3 من سورة التوبة

تفسير الآية 3 من سورة التوبة

أما تفسير «آية الأذان» في سورة التوبة والتي تعد هي الاخرى من آيات فضائل الإمام علي عليه السلام ولها ارتباط وثيق بآية «المؤذّن» السابقة، نرى من اللازم بعض التوضيح حول الآيات الاولى من سورة التوبة:

عندما فتحت مكّة في السنة الثامنة للهجرة وتمّ القضاء على الشرك وعبادة الأوثان وإزالة الأصنام من أرض الوحي ودخل العرب في الإسلام ورأى مشركو مكّة تعامل النبي صلى الله عليه و آله معهم من موقع المحبّة والعفو والصفح، أدّى ذلك إلى دخول الناس في الإسلام زرافات ووحدانا، وانتهت هذه السنة بجميع ما وقع بها من حوادث كبيرة، وأراد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في السنة التاسعة للهجرة أن يحجّ حجّة الوداع ولكنه بسبب وجود بعض الامور لم يرَ من المناسب أن يحجّ في تلك السنة وذلك:

الف: إنّ بعض المشركين وعبدة الأوثان كانوا يأتون من البادية لزيارة بيت اللَّه الحرام، وعلى الرغم من أن الكعبة قد تمّ تطهيرها من الأصنام والأوثان إلّاأنّ هؤلاء الوثنيين كانوا

آيات الولاية فى القرآن، ص: 263

يأتون إلى البيت الحرام ويطوفون حوله وينشدون بعض الأشعار والشعارات الجاهلية حين الطواف تخليداً لذكر الأصنام.

ب: ما زال بعض الناس يطوفون بالبيت عراة كما كانوا في السابق لأنهم كانوا يعتقدون أن لباس الطائف الذي يطوف فيه حول البيت يجب عليه أن يتصدّق به إلى الفقير، ولهذا فلو أن الشخص خلع لباسه وطاف عرياناً ثمّ بعد أن ينتهي من الطواف يرتدي لباسه فلا يجب عليه التصدّق به على الفقير، ولذلك فمن لم يكن راغباً في التصدق بلباسه يقوم بخلع لباسه والطواف عارياً، وأحياناً يكون الطائف بالبيت امرأة، فنتصور كيف يكون حال الطواف مع وجود امرأة عريانة بين الطائفين وكيف تتبدل الأجواء المعنوية والروحية في ذلك المكان المقدّس إلى أجواء شهوانية وحيوانية؟

فنظراً إلى هذه الامور انصرف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن أداء الحجّ في السنة التاسعة حتّى نزلت الآيات الاولى من سورة التوبة وأمر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أن يعلن في مراسم الحجّ في السنة العاشرة للهجرة لجميع المشركين أربعة امور:

1- «لا يَحِجَّنَّ الْبَيْتَ مُشْرِكٌ» فبعد السنة العاشرة للهجرة لا يحقُّ لأي مشرك أن يحجّ البيت ولا يحقُّ له دخول المسجد الحرام، هذا البيت الذي بناه بطل التوحيد ومحطم الأصنام فلا يكون مكاناً للأصنام بعد الآن، ولا ينبغي للمشركين والوثنيين أن يطوفوا حول بيت اللَّه إلّا أن يتركوا عقائدهم الخرافية جانباً.

2- «وَلا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيانٌ» فبعد الآن لا يحقُّ لأي شخص أن يطوف بالكعبة عرياناً ويلوّث تلك الأجواء المعنوية والروحية بهذا العمل الشنيع.

3- «وَلا يَدْخُلَ الْبَيْتَ الّا مُؤمِنٌ» ففي السابق كان الدخول إلى داخل الكعبة مباحاً للجميع (خلافاً لهذا الزمان حيث لا

ينال هذه السعادة إلّابعض الأشخاص القليلين) فكان المسلمون والمشركون يدخلون داخل الكعبة باستمرار وبدون أي مانع ولكن بعد إبلاغ هذا النداء لا يحقُّ لمشرك أن يدخل الكعبة.

4- «وَمَنْ كانَتْ لَهُ مُدَّةٌ فَهُوَ إلى مُدَّتِهِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُدَّةٌ فَمُدَّتُهُ ارْبَعَةُ اشْهُرٍ» فالمشركون الذين كان لديهم عهد وميثاق مع رسول اللَّه على ترك الحرب والقتال ولم

آيات الولاية فى القرآن، ص: 264

يذكروا مدّة محدودة لعهدهم هذا، فلهم فرصة أربعة أشهر لينضموا إلى الإسلام، وبعد انتهاء هذه المدّة لا يبقى عهد وميثاق بينهم وبين النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، وأما من كان له عهد مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لمدّة معيّنة ولم تنتهِ هذه المدّة ولم يرتكب ما يخالف العهد ولم يتحرّك على مستوى معونة أعداء الإسلام فإن عهده محترم إلى نهاية المدّة «1».

وهكذا وجد النبي الأكرم صلى الله عليه و آله نفسه مأموراً بإبلاغ هذه التعليمات والأوامر الإلهية في أيّام الحجّ من السنة العاشرة للهجرة وإخبار المشركين بها، فاختار النبي لهذه المهمة أبابكر ليقرأ الآيات الاولى من سورة التوبة على المشركين في أيّام الحجّ، وتوجه أبوبكر نحو مكّة لأداء هذه المهمة ولكن لم يمض سوى القليل حتّى هبط جبرئيل الأمين على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقال له:

«إنه لن يؤديها عنك إلّاأنت أو رجل منك» فدعى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله الإمام علي عليه السلام وقال له: «إلحقه فردّ عليَّ أبابكر وبلّغها أنت» ففعل ذلك الإمام علي عليه السلام وأخذها من أبي

بكر وأبلغها عامة المشركين في أيّام الحجّ «2».

ويقول الطبرسي في هذا المجال:

اجمع المفسّرون ونقلة الأخبار انّه لمّا نزلت براءة رفعها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى أبي بكر، ثمّ أخذها منه ودفعها إلى عليّ بن أبي طالب «3».

وقد أوضحنا بالتفصيل ما ذكره «صاحب مجمع البيان» والمقدار المشترك بين جميع الروايات هو ما ذكرنا وقد أورد صاحب كتاب «احقاق الحقّ» هذا المعنى من أربعين كتاب من كتب أهل السنّة. «4»

آيات الولاية فى القرآن، ص: 265

الإختلاف في الجزئيات

الإختلاف في الجزئيات

وطبعاً الروايات المذكورة تختلف بعض الشي ء في جزئياتها وتفاصيلها، ونشير إلى بعض منها:

لقد ورد في بعض الروايات أن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أركب علياً على ناقته المعروفة ب «العضباء» فوصل علي إلى أبي بكر في مسجد الشجرة على مقربة من مكّة وأحد المواقيت المعروفة لحجّ التمتع والعمرة وأبلغه أمر رسول اللَّه، فتألم أبوبكر من ذلك وعاد إلى المدينة وقال لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «انْزَلَ فِيَّ شَيْ ءٌ؟».

فقال له النبي صلى الله عليه و آله: «لا، إلّاأنّي امِرْت أنْ ابَلِّغُهُ أنا أو رَجُلٌ مِنْ أهْلِ بَيْتي» «1».

والخلاصة أنه يستفاد من هذه الروايات أن تغيير الشخص المأمور بإبلاغ هذه الآيات لم يكن من جهة النبي بل إنّ اللَّه تعالى هو الذي أمره بذلك، وعلى أيّة حال فإنّ هذه المهمة والمسؤولية قد القيت على عاتق أميرالمؤمنين عليه السلام وبذلك تحرك الإمام نحو أداء هذه المأمورية وأراح النبي من القلق الذي كان يساوره في مورد الحجّ حيث أشرنا إليه سابقاً وبذلك تهيّأت

مقدّمات سفر النبي صلى الله عليه و آله إلى مكّة للإتيان بحجّة الوداع.

الشرح والتفسير: الإنذار الهام للمشركين

الشرح والتفسير: الإنذار الهام للمشركين

«بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» وبذلك تمّ إلغاء جميع العهود التي كانت بين المسلمين والمشركين والتي لم يكن لها مدّة زمنية محددة.

«فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَ أَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ».

سؤال: لماذا نقض رسول اللَّه عهوده مع المشركين، وهل يشمل هذا النقض جميع معاهدات النبي؟

آيات الولاية فى القرآن، ص: 266

الجواب: يستفاد من الآيات التالية أن مسألة إلغاء العهود كانت في موارد العهود التي ليست لها مدّة أو انتهت مدّتها، وكذلك العهود التي لم تنته مدتّها ولكنّ المشركين نقضوا العهد وتعاونوا مع أعداء الإسلام والمسلمين كما حصل في حرب الأحزاب وأمثالها، وأما العهود التي لم تنته مدّتها ولم يتخلف أصحابها عن مضمون العهد ولم يساعدوا أعداء الإسلام بشي ء فإنّ مثل هذه العهود باقية على قوّتها وفاعليتها إلى انتهاء المدّة المقررة كما ورد ذلك في الآية الرابعة من سورة التوبة لأن العهد محترم جدّاً في نظر الإسلام حتّى لو كان مع العدو، فلو اقتضت المصلحة أن يكون للمسلمين عهد وميثاق مع الكفّار فيجب أن يحترم المسلمون هذا العهد ويلتزموا به.

«وَ أَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ».

بالنسبة إلى «الحجّ الأكبر» وردت تفاسير مختلفة وأفضلها هو أن المراد من الحجّ الأكبر هو «حجّ التمتع» الذي يتضمّن في مناسكه الوقوف في عرفات والمشعر الحرام ومنى والهدي ورمي الجمرات وأمثال ذلك، والمراد

من الحجّ الأصغر هو «عمرة التمتع» «1»، وعلى أيّة حال فلابدّ من دراسة هذا الإعلان الإلهي في حجّ التمتّع للسنة التاسعة للهجرة وماذا كان مضمونه ومحتواه؟ وتستمر الآيات الشريفة بالقول:

«أَنَّ اللَّهَ بَرِي ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ» ولهذا فإنّ جميع المعاهدات ملغيّة بعد إعلان براءة اللَّه ورسوله من المشركين، وعلى هذا الأساس فإنّ أمام المشركين والكفّار طريقان لا أكثر: الأوّل هو أن يتوبوا إلى اللَّه ويتركوا الشرك ويدخلوا في الإسلام.

«فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» لأنّ ذلك يؤمن لهم الأمن في الدنيا والسعادة في الآخرة من خلال العمل بتعليمات الإسلام وأداء الواجبات وترك المحرمات.

الثاني: «وَ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَ بَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» ولو أصرّوا على الشرك والحرب مع الحقّ فإنهم لا يستطيعون الخروج من دائرة القدرة الإلهية ومضافاً إلى أن العذاب الإلهي الأليم بانتظارهم.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 267

هل تعدّ هذه المهمة فضيلة؟

هل تعدّ هذه المهمة فضيلة؟

سؤال: طبقاً لما تقدّم آنفاً إنّ الإمام علي عليه السلام أصبح مأموراً من قبل النبي صلى الله عليه و آله بإبلاغ الآيات الاولى من سورة التوبة إلى المشركين في أيّام الحجّ، وقد كانت هذه المأمورية بعهدة أبي بكر في البداية إلّاأن رسول اللَّه أخذها منه ودفعها إلى علي ابن أبي طالب عليه السلام فهل يعدُّ ذلك فضيلة للإمام علي عليه السلام؟

الجواب: إنّ بعض المتعصبين تحركوا على مستوى تهميش هذه الفضيلة والتقليل من أهميّتها فقالوا: إنّ علّة تبديل هذه المأمورية هو ما كان من التقاليد الرسمية والأعراف بين العرب، لأن العرب كانوا عندما

يريدون إرسال رسالة إلى شخص معين يقوم صاحب الرسالة نفسه أو يختار واحداً من أهل بيته وأرحامه لأداء هذه الرسالة وايصالها إلى الطرف الآخر، ولهذا عزل النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أبابكر وأرسل علي عليه السلام مكانه، وعليه فإنّ هذه المأمورية المذكورة لا تعدُّ فضيلة للإمام علي عليه السلام «1».

ولكنّ الإنصاف أن هذا الكلام بعيد جدّاً عن الحقيقة لأنه:

أوّلًا: من أين ثبت أن التقاليد العربية كانت كذلك؟ وأيُّ كتاب ذكر هذه القضية؟ وهل يمكن إلغاء فضيلة مهمة لمجرد احتمال غير ثابت؟

ثانياً: على فرض وجود مثل هذا العرف بين العرب في ذلك الوقت فإنّ تغيير المؤدي لهذه الرسالة المهمة لا يرتبط بتقاليد العرب وأعرافهم لأن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله كما ورد في الروايات المذكورة آنفاً قد تلقى الأمر بذلك من اللَّه تعالى.

وعلى هذا الأساس فلا شكّ في أن هذه المهمة والمأمورية تعدّ فضيلة كبيرة للإمام علي عليه السلام، ومع الإلتفات إلى هذا المطلب فلو أن اللَّه تعالى أراد أن ينصب خليفة على المسلمين بعد رسول اللَّه فلابدّ أن يكون هذا الإنسان هو الأفضل وله فضائل أكثر، وإذا أراد الناس انتخاب شخص لهذا الغرض فلابدّ أن يكون هو الأفضل بمقتضى العقل.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 268

ارتباط آية الأذان والمؤذّن

ارتباط آية الأذان والمؤذّن

إنّ المثوبات والعقوبات في الآخرة هي في الحقيقة انعكاس للأعمال الإنسان في الدنيا، ويتّضح هذا المطلب أكثر بالإلتفات إلى كيفية ارتباط هذه المثوبات والعقوبات الاخروية بأعمال الإنسان في حركة الحياة الدنيوية.

عندما يحشر الإنسان المرابي في عرصات المحشر في حالة

من الإضطراب في السلوك وكأنه سكران لا يقدر على الحركة ويترنح ويسقط بين الحين والآخر إلى الأرض كلُّ ذلك يحكي عن سلوكه في الحياة الدنيا حيث كان بعمله القبيح يتحرك من موقع الإخلال الإقتصادي في المجتمع وإثارة الأزمات الإجتماعية بعمله وأكله الربا فيزلزل أساس المجتمع الإسلامي ويثير فيه الإرتباك والخلل، إذن فعدم تعادله في المشي يوم القيامة يحكي عن واقع دنيوي بهذا المعنى بسبب ارتكابه لهذا الذنب الكبير، فهو في الحقيقة إنعكاس لأعماله في الدنيا «1».

وإذا كان الظالم في الآخرة يواجه الظلمات ويسير كالأعمى في عرصات المحشر فذلك بسبب أنه كان يحوّل الدنيا في نظر المظلومين إلى ظلام بحيث لا يرون كلّ شي ء في حياتهم الدنيوية يعبّر عن الخير والسعادة والهناء، إذن فالظلمات التي تحيق بالظالم في الآخرة هي انعكاس ونتيجة للظلمات التي كان يقدمها للمظلوم في حياته الدنيوية.

وإذا قرأنا في النصوص الدينية أن المؤمن يحشر يوم القيامة ومعه نور بين يديه وفي أيمانه يقوده إلى رضوان اللَّه ومغفرته فإنما ذلك بسبب أن الكثير من الأشخاص قد اهتدوا بنور إيمانه في الدنيا وسلكوا طرق الحقّ والحقيقة وابتعدوا عن خطّ الباطل والإنحراف.

والخلاصة أن جميع المثوبات والعقوبات في عالم الآخرة هي انعكاس لأعمال الإنسان في الدنيا.

ومع الإلتفات إلى هذا المطلب فإذا كان الإمام علي عليه السلام هو المؤذّن للنبي في دار الدنيا والمبلغ رسالته إلى المشركين في مكّة وفقاً لما ورد في الآية الثالثة من سورة التوبة فإنه

آيات الولاية فى القرآن، ص: 269

سيكون في الآخرة هو «المؤذّن» الذي يوصل النداء الإلهي إلى أهل

النار ويخبرهم بأن اللعنة الإلهية قد شملتهم بسبب ظلمهم الذي ارتكبوه في الدنيا.

إذا كان الإمام علي عليه السلام في الآخرة هو المؤذن والشخص الذي يختم الحوار الدائر بين أهل الجنّة وأهل النار فانّ ذلك بسبب كون كلامه في الدنيا فصل الخطاب بين الحقّ والباطل وقد أبلغ المشركين الكلام الأخير والإنذار النهائي، فهل هذه فضيلة قليلة؟

هل هناك شخص آخر غير الإمام علي من المسلمين أو من أتباع الأديان الإلهية الاخرى يتمتع بمثل هذه الفضيلة؟

الحكمة في تغيير المأمور بإبلاغ آيات سورة البراءة

الحكمة في تغيير المأمور بإبلاغ آيات سورة البراءة

سؤال: تقدّم أن جميع المفسّرين من الشيعة وأهل السنّة أتفقوا على أن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أرسل في البداية أبابكر لإبلاغ آيات سورة التوبة ثمّ عزله ونصب الإمام علي مكانه، فهل ندم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على عمله الأوّل بحيث تحرّك على مستوى تغييره وتبديله، أو أن كلا الأمرين كان بتعليم الوحي وبأمر إلهي؟ والخلاصة أنه ما هي الحكمة في هذا التبديل والتغيير؟

الجواب: وجواب هذا السؤال واضح فإنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله كان مدركاً لما يفعله في كلا الحالين وكان هدفه هو إعلام الناس وإخبارهم بالشخص الأفضل وإلفات نظرهم إلى هذه الحقيقة ليخرجوا تصورهم الساذج عن الأفضل الموهوم وليهديهم ويرشدهم إلى الأفضل الحقيقي والواقعي، ولهذا الغرض قام في البداية بتسليم هذه المأمورية إلى أبي بكر ثمّ عزله ونصب عليّاً مكانه ليفهم الناس بأن الإمام علي عليه السلام أفضل من أبي بكر ومن جميع المسلمين.

ولم تكن هذه أوّل مرّة يقوم النبي صلى الله عليه و آله بهذا العمل بل سبق ذلك موارد اخرى من هذا القبيل كلُّها تصب في هذا الهدف المهم.

مثلًا نرى أن النبي صلى الله

عليه و آله في واقعة خيبر قد أعطى الراية إلى أبي بكر ليقود جيش الإسلام ويفتح قلعة خيبر ولكنه استمر به الحال إلى العصر وهو يسعى جاهداً أن يتغلب على العدو ويفتح الحصن ولكنه لم يوفق بذلك، وفي اليوم الثاني سلّم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الراية إلى عمر بن

آيات الولاية فى القرآن، ص: 270

الخطّاب ولكنه فشل في هذه المأمورية كصاحبه، وفي الليلة الثالثة قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«لأعطين الراية غداً لرجل يحبّ اللَّه ورسوله ويحبُّه اللَّه ورسوله كرّار غير فرّار لا يرجع حتّى يفتح اللَّه على يديه». قال له أصحابه: إذا كان مقصودك هو علي بن أبي طالب فإنه أرمد.

فدعاه النبي صلى الله عليه و آله إليه فلما رآه أرمداً يشكو من عينيه تفل في عينه فانفتحت وشفي من ذلك المرض فأعطاه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الراية وكان الفتح على يديه.

فلماذا أعطى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الراية في البداية إلى إثنين من أصحابه ثمّ أعطاها للإمام علي عليه السلام؟

الجواب على هذا السؤال واضح فإنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله يريد أن يبيّن للناس عملًا أفضلية الإمام علي عليه السلام.

وهكذا في معركة الأحزاب عندما جاء عمرو بن عبد ود بطل المشركين وعبر الخندق وطلب البراز فلم يبرز له أحد سوى الإمام علي عليه السلام، ولكنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله امتنع في البداية، وفي المرّة الثانية طلب عمرو بن عبد ود البراز فلم يقم له

إلّاعلي عليه السلام، ومرة اخرى طلب منه النبي صلى الله عليه و آله أن يجلس.

وفي المرّة الثالثة طلب عمرو البراز أيضاً وأخذ يرتجز ويقول:

ولقد بححت من النداء في جمعكم هل من مبارز ...

إنكم تقولون بأن قتلاكم يذهبون إلى الجنّة أليس فيكم من يشتاق إلى الجنّة؟

وفي هذه المرّة أيضاً لم يبرز له سوى علي ابن أبي طالب عليه السلام.

وهنا أذن له رسول اللَّه بالبراز والتوجه إلى ميدان القتال وقد كتب اللَّه النصر على يديه أيضاً واستطاع قتل عمرو بن عبدود العامري «1» وهنا نرى أيضاً أن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قام بهذه المناورة لاثبات أفضلية الإمام علي عليه السلام على مستوى العمل ليثبت للمسلمين مكانته ومنزلته الإجتماعية.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 271

آية المحسنين

اشارة

آية المحسنين 7

[سورة الزمر (39): الآيات 32 الى 34]

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3)

«سورة الزمر/ الآيات 32- 34»

أبعاد البحث

أبعاد البحث

تحدّثت هذه الآيات من سورة الزمر عن طائفتين من الناس: الاولى أظلم الناس والثانية أصدق الناس، ثمّ استعرضت عقوبات الظالمين ومثوبات الصادقين، والموضوع المهم الذي يجب دراسته والتأمل فيه في هذه الآيات هو: من هو أصدق الناس والذي عبّرت عنه الآية الشريفة بالمحسن؟

الشرح والتفسير: أظلم الناس!

الشرح والتفسير: أظلم الناس!

«فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَ كَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ» فهنا نرى نحوين من الكذب:

1- الكذب على اللَّه. 2- الكذب على رسول اللَّه، ولاشكّ أن جميع أنواع الكذب يُعتبر

آيات الولاية فى القرآن، ص: 272

رذيلة أخلاقية ومن الذنوب الكبيرة ولكن من الواضح أن الكذب على اللَّه وعلى رسوله أقبح وأخطر أنواع الكذب وقد تترتب عليه إفرازات رهيبة ومعطيات مشؤومة.

سؤال: ما هو الكذب الذي كان المشركون ينسبونه إلى اللَّه ورسوله صلى الله عليه و آله؟

الجواب: إنّ بعض أشكال الكذب للمشركين هو:

ألف) إنهم كانوا يرون أن الملائكة بنات اللَّه.

ب) كان البعض منهم يعتقدون بأن اللَّه تعالى راض عن عبادة الأوثان ويرون أن الأوثان واسطة بينهم وبين اللَّه تعالى لتشفع لهم عنده.

ج) بعض المشركين كانوا يعتقدون بأن للَّه تعالى ولداً ويذهبون إلى أن المسيح ابن اللَّه.

د) أحياناً يحرّمون بعض الأشياء ويحللون اخرى وينسبون ذلك إلى اللَّه تعالى كذباً وزوراً.

هذه الامور وأمثالها من الأكاذيب كانوا ينسبونها إلى اللَّه عزّوجلّ، وبما أنها تتزامن مع عدم التصديق بالرسالات الإلهية والأنبياء الإلهيين والتحرّك في حياتهم الدنيوية على مستوى التصدّي للدعوة السماوية ومحاربة أهل الحقّ الذين أرسلهم اللَّه تعالى لهداية البشر فإنّ عملهم هذا يفضي في النهاية إلى تكذيب الأنبياء وإنكار

دعوتهم الإلهية، ولذلك كان هؤلاء الأفراد هم أظلم الناس ليس لأنفسهم فحسب بل ظلم لجميع الناس ولجميع الرسالات السماوية والكتب الإلهية.

أمّا ظلمهم لأنفسهم لأنهم أوصدوا أبواب السعادة والفلاح على أنفسهم بتكذيبهم هذا وسلكوا بأقدامهم في خطّ الضلالة والإنحراف والباطل متجهين إلى جهنم.

وأما ظلمهم للناس فذلك لأنهم عملوا على إضلالهم وقادوهم نحو وادي الشقاء والضلالة، فحالهم حال أهل البدع الذين قد تستمر بدعتهم وآثار عملهم القبيح آلاف السنين وأحياناً إلى يوم القيامة بحيث إنهم لا يستطيعون جبران ما صدر منهم وإصلاح الخلل حتّى في صورة الندم.

أما ظلمهم للآيات الإلهية والرسالات السماوية فكما ورد في الآية الشريفة 103 من سورة الأعراف حيث يقول اللَّه تعالى:

«ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 273

وطبقاً لصريح هذه الآية الشريفة فإنّ عدم قبول الآيات الإلهية وإنكار الكتب السماوية ومعجزات الأنبياء يعدّ نوعاً من الظلم لهذه الآيات الإلهية لأنّ الإنسان عندما يتحرك لمنع الشي ء القابل لهداية الناس من التأثير والفاعلية، ففي الحقيقة إنه يرتكب ظلماً بحقّه، مضافاً إلى أنه ظلم الناس حقّهم في الإستفادة منه، وعليه فإنّ الأشخاص الذين يعملون على تشويه سمعة الإسلام أو يقومون بالإساءة إلى الإسلام من خلال أعمالهم القبيحة أو يتحركون على مستوى تفسير وتأويل قوانين الإسلام حسب رأيهم وأفكارهم فكلُّ ذلك من أشكال الظلم للإسلام.

والخلاصة هي أن أظلم الناس هو الشخص الذي يكذب على اللَّه وعلى رسوله، وعقوبة مثل هذا الشخص شديدة جدّاً كما وردت في الآية الشريفة:

«أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ» فإنّ مصير مثل هذا الإنسان الظالم الذي ظلم نفسه ومجتمعه والآيات الإلهية هو جهنم، فهي مثوى للكافرين، فهنا نرى أن الآية الشريفة لا تصرّح ببيان عاقبة أظلم الناس بل طرحت المسألة على شكل سؤال واستفهام، وهذا بنفسه تعبير دقيق ويحتاج إلى التأمل حيث إنّ مثل هذا المصير ومثل هذه العقوبة لهؤلاء الأشخاص تكون متوقعة لدى جميع الناس.

«وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ».

أما الطائفة الثانية فتقع في النقطة المقابلة للطائفة الاولى فهم الذين يصدّقون بمن جاء بالنبوّة الصادقة ويصدّقون كذلك برسالتهم فهؤلاء هم المتّقون، فرغم أن الآية الشريفة لا تذكر مفردة «أتقى» ولكننا يمكننا أن نفهم بدليلين أن هاتين الفئتين هم أتقى الناس: أحدهما بقرينة المقابلة مع الطائفة السابقة وهم أظلم الناس، أي أن الآية عندما تجعلهم في مقابل المكذّبين للَّه ورسوله وفي مقابل أظلم الناس فإنّ هؤلاء المصدّقين باللَّه ورسوله هم أتقى الناس حتماً، والآخر إنّ جملة «هم المتقون» تدلُّ على الحصر، وتعني أن هؤلاء هم أهل التقوى فقط وهم المتقون الحقيقيون، وعلى هذا الأساس فإنّ المثوبات المقررة لهؤلاء المتقين في القرآن الكريم تختص بهؤلاء الأشخاص الذين أشارت إليهم هذه الآية الشريفة مضافاً

آيات الولاية فى القرآن، ص: 274

إلى ما يناله المتقون في الجنّة من النعم والمواهب العامّة التي ينالها جميع المؤمنين من أهل الجنّة فإنّهم يختصون بمواهب خاصّة ورد ذكرها في الآية التي بعدها:

«لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ».

وهكذا نرى أن درجات ومقامات هؤلاء المتقين في الآخرة

إلى درجة من العظمة والسمو بحيث إنهم ينالون من المواهب ما لا يعدُّ ولا يحصى فكلُّ ما يريدون ويطلبون فإنهم سيحصلون عليه، وهذه النعمة لا يمكن أن يتصور فوقها شي ء.

من هو «الذي جاء بالصدق» ومن «صدّق به»؟

من هو «الذي جاء بالصدق» ومن «صدّق به»؟

سؤال: ما هو المراد من جملة «الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ» وجملة «الَّذِي صَدَّقَ بِهِ»؟

الجواب: إنّ المراد من الجملة الاولى هو النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، والمراد من الجملة الثانية هو الإمام علي عليه السلام، رغم أن الجملة الثانية تشمل جميع المؤمنين برسالة النبي صلى الله عليه و آله الذين آمنوا وصدّقوا برسالته ولكن بلاشكّ أن عليّ بن أبي طالب عليه السلام هو المصداق الأكمل والأتم لهذه العبارة.

وقد ورد هذا المعنى في الكثير من كتب الشيعة وأهل السنّة، ونكتفي بالإشارة إلى بعض منها:

1- نقل «ابن المغازلي» وهو من أساطين علماء أهل السنّة في كتابه المعروف ب «المناقب» عن المفسّر المعروف «المجاهد» قوله:

«فِي قَوْلِهِ تَعالى : «الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ»؛ رَسُولُ اللَّهِ وَ «الَّذِي صَدَّقَ به» عَلِيٌّ «1».

2- ونقل «ابن عساكر» هذه الرواية أيضاً «2».

3- وكذلك العلّامة «الگنجي» في «كفاية الطالب» نقل هذه الرواية من بعض العلماء «3».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 275

4- وصرّح «القرطبي» بهذا المطلب في تفسيره «1».

5- واختار «أبو حيّان الأندلسي» هذا التفسير أيضاً «2».

6- وذهب «السيوطي» في تفسيره «الدرّ المنثور» إلى هذا الرأي «3».

7- وذهب «الترمذي» صاحب كتاب «المناقب المرتضوية» إلى هذا الرأي أيضاً «4».

8- «الآلوسي» ذهب في تفسيره «روح المعاني» إلى اختيار هذا التفسير من بين جملة علماء أهل السنّة «5».

الفخر الرازي المخالف الوحيد

الفخر الرازي المخالف الوحيد

فعلى رغم كلّ هؤلاء المفسّرين والرواة الذين فسّروا الآية الشريفة مورد البحث بالنبي صلى الله عليه و آله والإمام علي عليه السلام فإنّ الفخرالرازي رفع لواء المعارضة

والمخالفة وزعم: «أن المراد من الجملة الثانية هو أبوبكر لأنه هو الملقّب بالصدّيق».

وأجابه القاضي نوراللَّه التستري بجواب قاطع وقال:

«لم يرد هذا المطلب الذي ذكره الفخر الرازي في أي كتاب قبله، ونعلم أن الفخر الرازي لم يكن من أصحاب النبي، إذن فكلامه في تفسير هذه الآية لا يقوم على أساس متين».

وعليه فإنّ بطلان هذا الرأي لا يحتاج إلى زيادة بيان وتوضيح «6».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 277

آية السابقون الأولون

اشارة

آية السابقون الأولون 8

[سورة التوبة (9): آية 100]

الم (1)

«سورة التوبة/ الآية 100»

أبعاد البحث

أبعاد البحث

بالرغم من أن الآية الشريفة أعلاه تتحدّث عن ثلاثة طوائف من المؤمنين وتبشّر السابقين من كلِّ طائفة منهم ببشارات عظيمة ولكن من بين السابقين هؤلاء يوجد سابق يقع في الصف الأوّل، وهو أوّل شخص من السابقين، وطبقاً للروايات الكثيرة التي ستأتي لاحقاً إنّ هذا الشخص الذي حمل راية الصدق ليس هو إلّاعليّ ابن أبي طالب عليه السلام.

الشرح والتفسير: السابقون في الإسلام

الشرح والتفسير: السابقون في الإسلام

«وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ» في هذه الآية الشريفة يحدّثنا القرآن عن ثلاث طوائف:

الطائفة الاولى: «المهاجرون» وهم المسلمون الذين أسلموا في مكّة المكرمة وواجهوا ضغوطاً كبيرة من المشركين وأعداء الدين، وعندما هاجر النبي صلى الله عليه و آله إلى المدينة هاجروا

آيات الولاية فى القرآن، ص: 278

معه لإنقاذ أنفسهم من تلكم الضغوط وأشكال الأذى والتعذيب ولغرض تقوية الدين الجديد، فتركوا بيوتهم وأموالهم وأراضيهم وأقوامهم وقبيلتهم والخلاصة تركوا كلّ شي ء وهاجروا إلى المدينة بأيدي خالية، وهناك واجهتهم أخطار كثيرة، فمن جهة خطر المشركين في مكّة الذين كانوا بصدد الإنتقام منهم وقتلهم، ومن جهة اخرى عدم وجود العمل المناسب وكذلك حالة الغربة وأجواء الوحدة والبعد عن القوم والوطن وأمثال ذلك من الأخطار والتبعات المترتبة على الهجرة، ولكنّ هؤلاء المسلمين الحقيقيين استقبلوا هذه الأخطار وهاجروا إلى المدينة، وقد كان البعض منهم يمر بحالة اقتصادية سيئة للغاية بحيث كانوا ينامون في «الصفّة» إلى جانب مسجد النبي وهم المعروفون بأصحاب الصفّة حيث كانوا يقضون ليلهم ونهارهم في ذلك المكان ولم يكن لديهم ممّا يقيم أودهم إلّاالقليل جدّاً ومع

ذلك كانوا على استعداد دائم لتقديم الخدمات للإسلام متى حلّت الحاجة إليهم.

الطائفة الثانية: «الأنصار» وهم المسلمون الذين دخلوا الإسلام في المدينة واستجابوا لدعوة الرسول إلى الإسلام ودعوه ليهاجر إليهم وأبدوا استعدادهم لبذل كلِّ إمكاناتهم في سبيل الإسلام، هؤلاء استقبلوا المهاجرين الذين هاجروا إليهم من مكّة ووضعوا بيوتهم وكلُّ ما يملكون تحت اختيارهم وتعاملوا معهم كاخوة لهم، وطبعاً هؤلاء بذلوا كلَّ جهدهم وآثروا المهاجرين على أنفسهم رغم أن الوضع المالي لبعضهم لم يكن على ما يرام.

الطائفة الثالثة: «التابعون» وهم المسلمون الذين جاءوا إلى الدنيا بعد المهاجرين والأنصار وسلكوا مسلكهم وتحركوا مثلهم في خطّ الإيمان والرسالة، وهؤلاء هم الذين يسمّون ب «التابعين» «1» أي الذين اتبعوا الطائفتين السابقتين، وعليه فطبقاً لهذا التفسير يكون التابعون هم النسل الثاني للمسلمين ويشمل جميع المسلمين إلى يوم القيامة في كلِّ عصر ومكان، أي أن المسلمين في الزمان الحاضر الذين تحركوا في خطّ نصرة الإسلام والهجرة نحو رضا اللَّه تعالى يصدق عليهم عنوان «التابعين» الذين ورد ذكرهم في هذه الآية

آيات الولاية فى القرآن، ص: 279

الشريفة، لأنه كما تقدّم سابقاً أنّ الهجرة لا تختصّ بالمسلمين في أوائل البعثة بل هي ممكنة في كلِّ زمان ومكان، وتعني الهجرة من أجواء الذنوب إلى أجواء الطاعة، ومن دائرة الرذائل إلى دائرة الفضائل، ومن الظلمات إلى النور.

سؤال: ماذا تعني مفردة «بإحسان» التي وردت في الآية الشريفة لوصف «التابعين»؟

الجواب: هنا يوجد احتمالان في تفسير هذه المفردة:

الأوّل: أن لا يكون إتّباع المهاجرين والأنصار بالكلام فقط بل ينبغي أن يتجسّد في الواقع العملي في حركة الإنسان،

وبعبارة اخرى أن يتّبع المسلم المهاجرين والأنصار بشكل جيّد ودقيق.

الإحتمال الثاني: أن يتّبع الإنسان المهاجرين والأنصار في أعمالهم الحسنة لا في جميع الأفعال والسلوكيات الاخرى، لأنه كان بين المسلمين الأوائل بعض الأشخاص الذين كانوا يتحركون في حياتهم الفردية والإجتماعية على خلاف تعليمات النبي صلى الله عليه و آله وأحكام الإسلام.

وخلافاً لما يراه أهل السنّة من عدالة وعصمة جميع صحابة النبي «1» فنحن نعتقد أن الصحابة ليسوا معصومين جميعاً، والآية الشريفة أعلاه يمكنها أن تكون دليلًا جيّداً على

آيات الولاية فى القرآن، ص: 280

مقولة الشيعة، وعليه فإنّ التابعين يجب أن يتبعوا المهاجرين والأنصار في الأعمال الحسنة والأفعال الصالحة لا في جميع الأفعال والأقوال حتّى لو كانت على خلاف مسير الحقّ.

«رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» وهكذا نرى أن اللَّه تعالى بعد أن ذكر هذه الطوائف الثلاث من السابقين في الإسلام أثنى عليهم ومدحهم وبشّرهم بالثواب العظيم المادي والمعنوي.

أمّا الثواب المعنوي فهو عبارة عن رضا اللَّه تعالى عنهم ورضوانهم عن اللَّه تعالى أيضاً، أما رضا اللَّه عنهم فواضح لأنهم تحركوا في خطّ نصرة الإسلام والمسلمين وسلكوا طريق الهجرة والطاعة والعبودية للَّه تعالى، وهذه الامور تستوجب رضا اللَّه عنهم، والمراد من رضاهم عن اللَّه تعالى هو أن اللَّه في عالم البرزخ ويوم القيامة يعطيهم كلَّ ما يريدون ويطلبون ويتحقّق بذلك رضاهم عنه.

وأمّا المثوبات المادية لهؤلاء فهي الجنّات التي تتصف بصفتين: أحدهما أن المياه تجري تحت أشجارها دائماً، والاخرى أن أهل الجنّة

يمكثون فيها أبداً فليس هناك خوف من انتهاء النعيم بل هم مخلدون فيها، وبلا شك فإنّ رضا اللَّه عنهم ورضاهم عن اللَّه تعالى وتمتعهم بالجنّات التي تجري من تحتها الأنهار تعدّ ثلاث مواهب عظيمة لأهل الجنّة بحيث لا يتصور فوز فوق هذا الفوز.

أوّل رجل مسلم

أوّل رجل مسلم

سؤال: يستفاد من الآية 100 من سورة التوبة أن السابقين هم ثلاث طوائف ولكنّ السؤال الذي يثار هنا هو: من هو الأسبق من هؤلاء؟ ومن هو أوّل شخص من المسلمين استجاب لدعوة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله إلى الإيمان وآمن به؟

الجواب: هناك روايات كثيرة وردت في ذيل هذه الآية الشريفة تقرر أن أوّل مسلم من الرجال اعتنق الإسلام هو عليّ بن أبي طالب صلى الله عليه و آله، وأوّل امرأة اعتنقت الإسلام هي السيّدة خديجة عليها السلام.

وهذا الرأي متفق عليه بين جميع علماء الإسلام من الشيعة وأهل السنّة ويعدّ من

آيات الولاية فى القرآن، ص: 281

الواضحات لديهم حتّى أن بعض علماء أهل السنّة ادّعوا الإجماع على هذا الرأي ومن ذلك:

1- يقول ابن عبدالبر العالم السنّي المعروف:

اتّفقوا على أن خديجة أوّل من آمن باللَّه ورسوله وصدّقته فيما جاء به، ثمّ عليٌّ بعدها «1».

2- ويقول أبوجعفر الإسكافي المعتزلي استاذ ابن أبي الحديد المعتزلي الذي توفي في سنة 240 عن أوّل من أسلم واستجاب لدعوة النبي صلى الله عليه و آله:

قد روى النّاس كافة افتخار عليّ بن أبي طالب بالسّبق إلى الإسلام «2».

3- ويقول الحاكم النيشابوري في «مستدرك الصحيحين» الذي يعدّ رديفاً لصحيح البخاري وصحيح مسلم:

لا أعلم خلافاً

بين أصحاب التواريخ أنّ عليّ بن أبي طالب رضى اللَّه عنه أوّلهم إسلاماً وإنّما اختلفوا في بلوغه «3».

ومضافاً إلى ما تقدّم آنفاً من إدعاء الإجماع على أسبقية الإمام علي عليه السلام لاعتناق الإسلام يروي العلّامة الأميني 25 رواية من الأئمّة المعصومين عليهم السلام ويذكر 66 قولًا من أكابر علماء الإسلام والشعراء المتقدمين في هذا المجال، وقد ذكر بعض علماء الشيعة 100 حديثاً من منابع أهل السنّة في هذا المجال، ويعتبر هذا العدد كثيراً جدّاً «4».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 282

أجل، إنّ هذه المسألة تعتبر في المستويات العُليا من الإتقان والإعتبار ولذلك فالشيعة يفتخرون بها، ولابدّ لنا نحن الشيعة أن نفتخر ونقدر هذه النعمة العظيمة نعمة التشيّع علينا والتي تعلّمناها من والدينا وأرشدنا إليها علماؤنا، ولابأس بالإشارة إلى بعض الروايات في هذا الصدد:

1- يروي أنس خادم النبي صلى الله عليه و آله أنه:

نُبِّي النّبي يوم الإثنين وأسلم عليٌّ يوم الثّلثاء. (وفي رواية اخرى) بعث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوم الإثنين وصلّى عليٌّ يوم الثّلثاء «1»».

سؤال: هل أن عليّ بن أبي طالب عليه السلام لم يسجد لصنم قطّ ولم يعتقد بغير التوحيد؟

الجواب: إنّ عليّ ابن أبي طالب وبشهادة التاريخ لم يسجد حتّى لحظة واحدة أمام صنم ولم يختر ديناً غير دين التوحيد «2»، وعليه فإنّ معنى الرواية أعلاه هي أن الإمام علي عليه السلام أسلم بعد يوم واحد من البعثة المباركة ولا ينافي هذا أنه كان قد عانق الإسلام بقلبه قبل ذلك.

2- ويقول سلمان الفارسي الصحابي المعروف بالنسبة إلى أوّل

الناس إسلاماً:

أوّل هذه الامّة وروداً على نبيّها الحوض أوّلها إسلاماً عليّ بن أبي طالب «3».

وكما سبق وأن ذكرنا أن المثوبات الاخروية هي إنعكاس لأعمال الإنسان في الدنيا، وبما

آيات الولاية فى القرآن، ص: 283

أن الإمام علي عليه السلام كان أوّل مسلم في الدنيا، إذن فهو أوّل شخص يرد الحوض على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله يوم القيامة.

3- ويعترف الخليفة الثاني عمر ابن الخطّاب بهذه الحقيقة كما يروي عبداللَّه بن عبّاس الصحابي المعروف وتلميذ أميرالمؤمنين عليه السلام ويقول:

كنت أنا ونفر من المسلمين عند عمر بن الخطّاب وتحدّثنا عن أوّل من أسلم، فنقل لنا عمر حديثاً وقال:

أمّا عليٌّ فسمعت رسول اللَّه يقول: فيه ثلاث خصال لوددت أن تكون لي واحدة منهن، وكانت أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس كنت أنا وأبوعبيدة وجماعة من أصحابه إذ ضرب النبيّ صلى الله عليه و آله على منكب عليٍّ فقال يا علي: «انْتَ أَوَّلُ الْمُؤْمِنينَ إيماناً، وَأَوَّلُ الْمُسْلِمينَ إسْلاماً، وَانْتَ مِنّي بِمَنْزِلَةِ هارُونَ مِنْ مُوسى ». «1»

سؤال: هل أن جملة «أوّل المسلمين إسلاماً» عبارة اخرى عن «أوّل المؤمنين إيماناً» أو لها معنى آخر؟

الجواب: إنّ الإيمان يتعلق بالإعتقادات القلبية والباطنية لدى الإنسان، بينما الإسلام هو إبراز هذه الإعتقادات وإظهارها على اللسان، وعليه فإنّ الإمام علي عليه السلام كما أنه أوّل من آمن بقلبه برسول اللَّه، فكذلك هو أوّل شخص أبرز وأظهر ذلك الإيمان على لسانه.

قيمة الإيمان قبل البلوغ

قيمة الإيمان قبل البلوغ

سؤال: هل كان عليّ ابن أبي طالب عليه السلام بالغاً عندما تشرّف بدين الإسلام؟ فلو لم يكن قد وصل سنّ

البلوغ فهل يعتبر إيمانه في هذه السنّ فضيلة ليقال أنه أوّل المسلمين إسلاماً؟

الجواب: وفي الجواب على هذا السؤال ينبغي تقديم نقطتين:

الاولى : إذا لم يكن الإنسان قد وصل إلى سنّ البلوغ ولكنه مع ذلك يعتبر صبيّاً ذكيّاً وعاقلًا ومميّزاً بين الخير والشر والحسن والقبيح، فبنظرنا أن إيمان مثل هذا الشخص مقبول، وليس فقط أنه مقبول على مستوى الإيمان، بل كما يقول الفقهاء أن عبادات هذا الصبي

آيات الولاية فى القرآن، ص: 284

المميّز صحيحة وصلاته، صومه، حجّه وعمرته وسائر العبادات التي قد يأتي بها مراعياً لجميع الشروط والأركان صحيحة ومقبولة.

وبتعبير فقهاء الإسلام إنّ عبادات هذا الشخص شرعيّة لا تمرينية «1»، وعليه فعندما تكون عبادات الصبي غير البالغ صحيحة وشرعية فإيمانه مقبول بطريق أولى، والنتيجة هي أن إيمان الصبي المميّز قبل البلوغ مقبول.

ومضافاً إلى ذلك فنحن نعتقد أن مثل هؤلاء الصبية المراهقين مسؤولون في مقابل الذنوب والمعاصي ولا يمكن صرف هذه المسؤولية عنهم لمجرد عدم بلوغهم سنّ التكليف وإعطاءهم الضوء الأخضر لأرتكاب الذنوب، ولهذا فلو أنّ الصبي المميّز الذي لم يبلغ سنّ التكليف كان يعلم جيّداً أن قتل إنسان بري ء هو عمل قبيح فارتكب هذا العمل وقتل بريئاً فإنه يضمن ديّته وهو مسؤول أمام اللَّه تعالى.

النتيجة هي أن الشخص غير البالغ إذا كان عاقلًا ومميّزاً فإنّ إيمانه مقبول، وعليه فإنّ البلوغ ليس شرطاً لقبول الإسلام والإيمان.

الثانية: لقد وصل بعض الأنبياء الإلهيين في سنّ الطفولة إلى مقام النبوّة، فكيف لا يكون البلوغ شرطاً في مقام النبوّة الذي هو أعلى كثيراً من قبول مجرد الإيمان، ولكنه يكون

شرطاً في قبول الإسلام؟ ونكتفي بذكر مثالين لنيل مقام النبوّة في مرحلة الطفولة:

1- النبي يحيى عليه السلام وصل إلى النبوّة في سنّ الطفولة، وقد ذكر اللَّه تعالى ذلك في الآية 12 من سورة مريم وقال:

«يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا».

2- النبي عيسى عليه السلام أيضاً وصل مرتبة النبوّة في سنّ الطفولة كما يحدّثنا القرآن الكريم في الآية 30 من سورة مريم على لسان هذا النبي ويقول:

«قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا».

وعندما يؤكد هذا النبي الكريم على أنه عبداللَّه فمن أجل أن النصارى لا يتخذونه بعد

آيات الولاية فى القرآن، ص: 285

ذلك إبناً للَّه تعالى، وعندما يقول «جعلني» ولم يقل «يجعلني» فإنّما ذلك لأنه نال هذه المرتبة السامية، أي مرتبة النبوّة في مرحلة الطفولة.

وقد ورد عن بعض الأنبياء أنهم نالوا هذا المقام أيضاً في مرتبة الطفولة «1».

والخلاصة أنه عندما لا يشترط في النبوّة سنّ خاصّ وهي ذلك المقام الرفيع فبطريق أولى لا يشترط في الإيمان وقبول الإسلام سنٌّ خاصّ كالبلوغ.

الثالثة: إنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله كان مأموراً في أوّل البعثة ولمدّة ثلاث سنوات أن يدعو عشيرته الأقربين ويعرض الإسلام عليهم، أي بعد أن دعاهم إلى الإسلام في هذه السنوات الثلاث بصورة خفية وسريّة «2» وآمن أفراد قلائل به، امر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بتبليغ الرسالة بصورة علنية، ولذلك أمر النبي عليّاً عليه السلام أن يهيّئ مقدمات الضيافة لقومه وأمره أن يهيّئ طعاماً مناسباً بمعونة غيره من المسلمين ودعا رؤساء

قومه وعشيرته إلى ذلك المجلس، فحضر الضيوف وتناولوا الطعام وبعد الإنتهاء من تناول الطعام قام النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وعرض دينه الجديد عليهم وأخبرهم بأنه رسول من اللَّه تعالى إليهم ثمّ قال: «أيّكم يؤازرني على هذا الأمر ويكون أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي» فأحجموا كلّهم ولم يستجب أحد لطلبه غير علي عليه السلام وكرر النبي دعوته لهم ثلاثاً وفي كلّ مرّة لم يستجب له غير علي عليه السلام فقال النبي صلى الله عليه و آله لهم:

«انَّ هذَا اخِي وَوَصِيّي وَخَليفَتي عَلَيْكُمْ فَاسْمَعُوا لَهُ وَاطيعُوهُ». «3»

وطبقاً لنظر ورأي من يعتقد بأن عليّ بن أبي طالب كان له من العمر عندما أسلم عشر

آيات الولاية فى القرآن، ص: 286

سنوات ولهذا فإنّ إيمانه غير معتبر وليس له قيمة، فهذا يعني أن الإمام كان له من العمر في هذه الواقعة ثلاثة عشر سنة، فلو لم تكن قيمة لإيمان عليّ بن أبي طالب في هذا السنّ إذن فلماذا قال في حقّه النبي الأكرم صلى الله عليه و آله هذه العبارات الجذّابة واعتبره خليفة له؟!

إنّ من يشك في هذه الفضيلة فهو في الحقيقة يشك في اعتبار قول النبي صلى الله عليه و آله وفعله، ولو قيل أن مثل هذا الكلام يكون له اعتبار فيما لو كان الإمام له من العمر ثلاثة عشر سنة، فيجب أن نقبل هذه الحقيقة وهي أن إيمان علي حتّى لو كان في سنّ العاشرة من العمر فهو ذو قيمة واعتبار.

الرابعة: ومضافاً إلى ما تقدّم لا نرى أن مسألة عدم بلوغ

الإمام علي عليه السلام في هذه الواقعة حقيقة مسلّمة وقطعية، بل هناك اختلاف بين علماء الإسلام في هذه المسألة، كما ذكر صاحب مستدرك الصحيحين مشيراً إلى هذا المطلب في الأبحاث السابقة، ولابأس باستعراض بعض نظرات وآراء علماء الإسلام في هذه المسألة:

الف: يقول ابن عبدالبر في كتاب «الإستيعاب» المجلد 2، الصفحة 471:

أوّل من أسلم بعد خديجة عليّ بن أبي طالب وهو ابن خمس عشر سنة أو ستّ عشر سنة «1».

ب: ويذكر صاحب كتاب «اسد الغابة في معرفة الصحابة» في المجلد 4، الصفحة 17 ثلاث نظريات في هذا المجال، وطبقاً لإحدى هذه النظريات أن عمر الإمام في ذلك الوقت كان خمسة عشر سنة.

ج: ويتعرض العلّامة المجلسي أيضاً إلى هذه المسألة وينقل سبعة أقوال حولها «2».

وعلى هذا الأساس فإنّ عدم بلوغ الإمام علي عليه السلام حين تشرّفه بالإسلام لا يعتبر مسألة قطعية ومسلّمة بل هناك اختلاف في وجهات النظر بين علماء الإسلام.

والخلاصة هي أن الروايات الكثيرة والمتواترة تشهد على أن الإمام علي عليه السلام أوّل رجل

آيات الولاية فى القرآن، ص: 287

اعتنق الإسلام وآمن بالرسول صلى الله عليه و آله وبذل النصرة وعلى فرض قبول عدم بلوغه في ذلك الوقت فإن ذلك لا يقلل شيئاً من هذه الفضيلة.

أوّل المؤمنين، امتياز كبير

أوّل المؤمنين، امتياز كبير

ولعلّ البعض يتصور بأن «أوّل المؤمنين» لا يعدُّ امتيازاً وفضيلةً لأميرالمؤمنين ولا يختلف الحال بين من سبق الناس إلى الإيمان وبين من التحق بالإسلام بعده، ولكنّ الإنصاف هو وجود تفاوت كبير وبون شاسع بينهما، ولأجل توضيح هذا المطلب نستعرض قصة «سحرة فرعون»:

يذكر القرآن الكريم

أن فرعون أمر بأن يجمعوا له جميع السحرة من سائر بلاد مصر لمواجهة النبي موسى عليه السلام، وفي اليوم الموعود أحضرهم جميعاً وبذل لهم الوعود الكثيرة ومنها أن يكونوا من المقرّبين إلى البلاط الفرعوني «قال نعم و إنكم إذن لمن المقرّبين» «1».

وقد هيّأ فرعون جميع مستلزمات النصر والغلبة في ذلك اليوم بحيث كان مطمئناً إلى انتصاره في مواجهة موسى وهارون وحلّ ذلك اليوم، وألقى السحرة في البداية عِصيّهم وحبالهم وسحروا أعين الناس وانقلبت هذه العصي والحبال إلى أفاعي وثعابين مخيفة.

ثمّ إنّ موسى عليه السلام ألقى عصاه بأمر من اللَّه تعالى نحو سحر السحرة فانقلبت العصى إلى ثعبان عظيم وبدأ يلتقم حبالهم وعِصيّهم وحطّم بذلك سحرهم ومكيدتهم، فأدرك السحرة أن هذا الشخص ليس بساحر وأنه مؤيّد من قبل اللَّه تعالى ولذلك سجدوا جميعاً وقالوا:

«آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ» «2».

وكان إيمان هؤلاء السحرة الذين جمعهم فرعون لغرض مواجهة موسى، مؤثراً بشدّة في تقوية ودعم جبهة الحقّ ويعدّ ضربة قاصمة إلى فرعون والملأ، لأن الناس عندما شاهدوا أن السحرة أنفسهم آمنوا وصدّقوا بموسى وميّزوا بين «المعجزة» وبين «السحر» كان ذلك

آيات الولاية فى القرآن، ص: 288

دافعاً ومحرّكاً لهم على الإيمان بموسى وبالرسالة السماوية، وعندما شاهد فرعون هذه الظاهرة العجيبة شرع بالحديث مع السحرة من موقع التهديد والإرعاب وقال لهم:

«لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ» «1».

ولكنّ نور الإيمان جعل من تعذيب فرعون لهؤلاء السحرة سهلًا ويسيراً ولذلك أعلنوا استعدادهم لتقبّل كلّ أشكال التعذيب والقتل على التخلّي عن اعتقادهم وإيمانهم:

«إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ

لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ» «2».

ويستفاد من هذه الآيات الشريفة أن «أوّل المؤمنين» يعدّ امتيازاً كبيراً للإنسان بحيث إنه يعتبر كفّارة لجميع الذنوب السابقة، والعلّة في ذلك واضحة، لأنه ليس كلُّ شخص مستعداً لأن يكون أوّل المؤمنين ويتقبّل الأخطار والأضرار وجميع التبعات والتحدّيات التي يفرضها الواقع المخالف عليه، ولذلك فإنّ ثواب «أوّل المؤمنين» يمتاز عن سائر أشكال المثوبات الاخرى.

الإمام علي عليه السلام كان أوّل المؤمنين بين المسلمين جميعاً ولذلك يعدُّ امتيازاً خاصّاً وفضيلة مهمّة له حيث يعبر ذلك عن شجاعته وشهامته عندما لبّى نداء النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وشخّص الحقّ من الباطل وأن هذه الدعوة هي دعوة إلهيّة، ولذلك لم يتردد لحظة في الإستجابة لدعوة النبي وحظى بمنزلة «أوّل المؤمنين إيماناً».

الإنسان الشيعي ينبغي عليه أن يتحلّى بهذه الخصلة والفضيلة أيضاً وعندما تشيع الفحشاء وتسود المفاسد في المجتمع عليه أن يكون أوّل من يتقدّم لكسر حاجز الصمت والتصدّي لهذه المفاسد والقبائح على المستوى الفكري والأخلاقي ويكون أوّل الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وعلى الإخوان الأعزاء الذين يشتركون في مجالس الفرح والسرور فيما لو شاهدوا أن المجلس قد تلوّث بالذنوب والمعاصي ولا أحد من الحاضرين يتصدّى للنهي عنها فلا ينبغي أن يكون حاله كحال بقية الناس، ففي ذلك تكمن الفضيحة

آيات الولاية فى القرآن، ص: 289

والمشاركة في الإثم، بل يجب عليه ترك هذا المجلس وأن يتقبّل جميع أشكال اللوم والذمّ من الحاضرين من طيب خاطر وفي سبيل اللَّه.

إنّ الشيعي الصادق لأميرالمؤمنين عليه السلام لا ينبغي له أن يخاف ويستوحش

من الوحدة في مسير الحقّ وفي حركته في خطّ الإمام علي، لأنه عليه السلام يقول:

«لا تَسْتَوْحِشُوا فِي طَريقِ الْهُدى لِقِلَّةِ اهْلِهِ» «1».

والخلاصة أن مقام «أوّل المؤمنين» يحتاج إلى شجاعة أكثر ومعرفة أوسع وقدرة نفسيّة على تحطيم القيود والتقاليد السائدة في المجتمع المتخلّف وهذه امور قد اجتمعت في الإمام علي عليه السلام.

إنّ سحرة فرعون بإيمانهم بالنبي موسى ونيلهم لمرتبة أوّل المؤمنين به فإنهم ليس فقط تخلّصوا من أجواء الظلم والكفر والشرك بل أصبحوا في صفّ الشهداء، أجل فإنهم في صباح ذلك اليوم كانوا في صفّ الفراعنة وأنصار فرعون وفي تلك الليلة أمسوا في صفّ الشهداء «2» لأن فرعون جسّد تهديده بقتلهم وصلبهم فكان أن استشهدوا جميعاً في تلك الليلة.

ومن الجدير بالذكر أن إيمان الأشخاص في المراحل البعدية يعدّ ثمرة لإيمان الأوائل، ولهذا فإنّ القسم الأعظم من أصحاب وأتباع النبي موسى قد أمنوا به بسبب إيمان وشهادة هؤلاء السحرة، وهذه إحدى الآثار الكثيرة لدماء الشهداء.

توصية الآية

معرفة الفضائل مقدّمة للعمل!

معرفة الفضائل مقدّمة للعمل!

عندما نتحدّث عن فضائل الإمام علي عليه السلام أو سائر أئمّة أهل البيت عليهم السلام فلا ينبغي أن نكتفي بمجرد الكلام والإستماع، بل يجب بعد معرفة هذه الفضائل أن نتحرّك على مستوى

آيات الولاية فى القرآن، ص: 290

الممارسة والعمل لتجسيد هذه الفضائل والمناقب في حياتنا وأفعالنا وأقوالنا، وتأسيساً على هذا فإذا رأينا أن الآيات الكريمة تتحدّث عن أميرالمؤمنين عليه السلام من موقع المدح والثناء وأنه «صادق ومصدق» فلابدّ أن يكون الشيعي كذلك أيضاً في تأييد كلام الحقّ والصدق وأن يبعد عن نفسه المؤثرات العاطفيّة والمزاجيّة،

واللطيف أن المؤمن إذا سمع كلام الحقّ حتّى من الشيطان نفسه فعليه أن يستمع له ويصدّق بكلام الحقّ كما أمر اللَّه تعالى نبيه نوح بأن يستمع لكلام الشيطان عندما نصحه حتّى لو كانت النصيحة من الشيطان نفسه «1».

وهنا نلفت نظر المؤمنين الصادقين والمصدّقين إلى حديثين شريفين في هذا المجال:

1- قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

لا تَنْظُرُوا الى كَثْرَةِ صَلاتِهِمْ وَصَوْمِهِمْ وَكَثْرَةِ الْحَجِّ وَالْمَعْرُوفِ وَ طَنْتَنَتِهِمْ بِاللَّيْلِ، وَلكِنِ انْظُرُوا إلى صِدْقِ الْحَديثِ وَأداءِ الْامانَةِ. «2»

والخلاصة هي أنه طبقاً لهذا الحديث النبوي الشريف أن الملاك والمعيار في تقييم الإنسان هو صدقه وأمانته.

2- قال الإمام علي عليه السلام:

الْايمانُ انْ تُؤْثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى الْكِذْبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ. «3»

فطبقاً لهذا الحديث الشريف فإنّ مقتضى الإيمان هو ملازمة الصدق والحقّ وأن المؤمن لا يمكن أن يكون كاذباً.

نسأل اللَّه تعالى أن يجعلنا من المتحلّين بالإيمان والسائرين على خطى أميرالمؤمنين عليه السلام وأن نقتبس من فضائله ومناقبه وخاصّة فضيلة الصدق والتصديق بالحقّ والحقيقة.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 291

آية المحبّة

اشارة

آية المحبّة 9

[سورة مريم (19): آية 96]

أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38)

«سورة مريم/ الآية 96»

أبعاد البحث

أبعاد البحث

هذه الآية الشريفة وبشهادة كتب أهل السنّة ومصادرهم نزلت في شأن الإمام علي عليه السلام حيث تذكر الروايات الشريفة أن الإمام علي عليه السلام هو المصداق الأكمل والأتم لهذه الآية الشريفة، وقد ذكرت لهذه الآية بحوث متنوّعة منها: ارتباط الإيمان والعمل الصالح بالمحبّة في القلوب، وكذلك آراء ونظريات علماء أهل السنّة في شأن نزول هذه الآية، ومباحث اخرى أيضاً من هذا القبيل سيأتي تفصيلها لاحقاً.

التوغّل والنفوذ في القلوب أهم رأس مال القادة

التوغّل والنفوذ في القلوب أهم رأس مال القادة

إنّ أهم رأس مال للقادة السياسيين والإجتماعيين في مختلف المجتمعات البشرية هو ما يتمتعون به من محبّة في قلوب الناس، بحيث إنّ المشاريع والاطروحات الإجتماعية المهمّة لا تتحقق بدون وجود هذه العاطفة والإنجذاب نحو القائد في عرصات المجتمع وعلى مستوى الجمهور.

ولهذا فإنّ مشاركة الناس في الامور الإجتماعية والسياسية والثقافية وحتّى العسكرية

آيات الولاية فى القرآن، ص: 292

يعدّ أمراً ضرورياً جدّاً في عملية الإصلاح الإجتماعي أو نجاح الحكومة، ومن أجل تحصيل هذه الغاية فلابدّ من النفوذ إلى قلوب الناس وجذب مودّتهم وكسب حبّهم، وعندما نرى أن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قد نجح في مدّة قصيرة أن ينشر دعوته السماوية إلى شرق العالم وغربه ويوحّد قلوب المسلمين ويزيل عنهم الأحقاد والتعصّبات القديمة ويشكّل جيشاً موحّداً وقويّاً استطاع بواسطته أن يوصل دعوته الإلهية إلى شتّى بقاع المعمورة فإنّ ذلك كان بسبب أخلاقه السامية ونفوذه العجيب في قلوب الناس من المسلمين وغير المسلمين كما يحدّثنا القرآن الكريم عن هذه الحقيقة ويقول:

«فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ

فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ». «1»

وهكذا بالنسبة إلى النبي إبراهيم عليه السلام عندما هاجر بأمر من اللَّه تعالى إلى مكّة وأسكن زوجته وطفله الرضيع في أرض قاحلة لا ماء فيها ولا غذاء ومن دون زاد ومتاع إلى جانب بيت اللَّه الحرام، رفع يديه للدعاء وقال:

«رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ». «2»

فكان إبراهيم عليه السلام يعلم أن النفوذ إلى القلوب هو أعظم رأس مال للإنسان ولهذا طلب من اللَّه تعالى أن يجعل محبّة أهل بيته في قلوب الناس.

الإمام الخميني رحمه الله بدوره لم يكن لديه منذ بداية الثورة ولآخر يوم من أيامها سلاحاً مهمّاً من الأسلحة المتعارفة ليواجه بها أعوان الشاه وجيشه المسلّح، ولكنه كان يمتلك سلاحاً أقوى فاعليّة وأمضى قوّة من جميع الأسلحة المتطورة لطاغوت زمانه، وهو المحبّة في قلوب الناس وتعاطف الجماهير مع دعوته الإلهية، والخلاصة أن عنصر النفوذ في القلب يعدّ أهم رأس مال للقادة والمصلحين في سائر المجتمعات البشرية.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 293

الشرح والتفسير: إرتباط الإيمان والعمل الصالح بمسألة النفوذ في القلوب

الشرح والتفسير: إرتباط الإيمان والعمل الصالح بمسألة النفوذ في القلوب

«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا».

في هذه الآية الشريفة نرى ارتباطاً بين الإيمان والعمل الصالح من جهة والنفوذ إلى قلوب الناس من جهة اخرى، حيث يقرر اللَّه تعالى في هذه الآية الشريفة المحبّة في قلوب الناس نتيجة الإيمان والعمل الصالح، ومعنى هذه العبارة هي أنه من الممكن

أن يتسلط الإنسان بقوّة السلاح والسيف على الناس بأجسادهم وأبدانهم، ولكنه لا يستطيع إطلاقاً أن يتسلط على قلوبهم وأرواحهم ويفتح طريقاً إلى أعماق وجدانهم بالقوّة والقهر.

سؤال: إذن ما هي حقيقة العلاقة بين الإيمان والعمل الصالح من جهة وبين النفوذ إلى قلوب الناس والمقبولية العامة في أوساط المجتمع من جهة اخرى؟ هل يمكننا أيضاً تحصيل هذه النعمة الكبيرة من خلال الإيمان والعمل الصالح؟

الجواب: بالإمكان تصوير هذه العلاقة الثنائية على نحوين:

الأوّل: أن يكون هذا الإرتباط المعنوي والإلهي وفقاً لحكمة اللَّه تعالى التكوينية كما هو الحال في المحبّة التي جعلها اللَّه تعالى لموسى عليه السلام في قلب فرعون وزوجته في حال طفولة موسى، حيث إن فرعون أمر بأن يقتل جميع الأطفال الذكور من بني إسرائيل في مصر بهدف القضاء على العدو المحتمل، ولكن اللَّه تعالى قد قذف في قلبه حبّ موسى وجعله يربّي موسى في بيته وقصره، ومن هنا أراد اللَّه تعالى أن يظهر قدرته الفائقة لفرعون والفراعنة بأنهم لا يمكنهم التصدّي لإرادة اللَّه ومشيئته ولا يمكن لأي قدرة أن تقف مانعاً وحائلًا دون إرادة اللَّه فيما لو تعلقت بشي ء من الأشياء، فمثل هذه العلاقة العاطفية والمحبّة القلبية لا تكون اكتسابية بل هي موهبة من اللَّه تعالى.

الثاني: العلائق العاطفية العاديّة القابلة للتحليل المنطقي، فإنّ العمل الحسن والصالح يتمتع بجاذبيّة وحتّى الأشخاص المنحرفين والفاسدين ينجذبون نحو حسن الأعمال وجمالها الأخلاقي.

مثلًا «الأمانة» تعتبر من الأعمال الصالحة، والإنسان الأمين يعدّ إنساناً صالحاً ومورد

آيات الولاية فى القرآن، ص: 294

قبول الناس وحبّهم واحترامهم، فحتّى اللصوص وقطّاع الطرق يحبّون من

يتمتع بهذه الفضيلة ويعتمدون عليه على مستوى الإرتباط الإجتماعي وقد يضعون أموالهم المسروقة أمانة ووديعة عنده، وعليه فإنّ العمل الصالح وكذلك الإيمان لهما جاذبية لقلوب الناس، والثمرة المترتبة على ذلك هي النفوذ إلى قلوب الناس، والشخص الذي يرغب في أن تكون له مكانة ومحبّة في قلوب الناس يكفي أن يكون إنساناً مؤمناً صالحاً، فإذا أدرك الناس ذلك منه فإنّ قلوبهم ستتجه نحوه ولا حاجة إلى عمل خاص في هذا السبيل.

الطهارة والعفّة هي الاخرى أحد الأعمال الصالحة ذات القيمة الأخلاقية العالية، وهذه الفضيلة إلى درجة من الأهمّية بحيث إنّ الأشخاص الذين يعيشون التلوّث في الخطيئة يعشقونها فعندما يريدون الزواج وتشكيل اسرة يتوجهون إلى العوائل الشريفة ويخطبون النساء العفيفات ويجتنبون الزواج من الملوّثات، والملفت للنظر أن الإمام علي عليه السلام وهو مورد البحث في هذه الآية قد وصل في معراجه المعنوي وتكامله الإنساني إلى أعلى درجة من حيث الإيمان والعمل الصالح من جهة ونفوذه في قلوب الناس من جهة اخرى.

شأن نزول آية المحبّة

شأن نزول آية المحبّة

بالرغم من أن مفهوم الآية الشريفة مورد البحث عام وشامل لكلِّ مؤمن يعمل الأعمال الصالحة حيث ينتج هذا الإيمان والعمل الصالح المحبّة في قلوب الناس، ولكن بلا شك أن المصداق الأكمل والأدق لهذه الآية الشريفة هو أميرالمؤمنين عليه السلام، كما ورد التصريح بذلك في كتب أهل السنّة المختلفة رغم سعي البعض لإنكار هذه الحقيقة الواضحة.

ويقول العلّامة الحلّي في كتاب «احقاق الحقّ» «1» في شأن نزول الآية المذكورة أنها نزلت

آيات الولاية فى القرآن، ص: 295

في حقّ علي بن أبي طالب عليه

السلام، ولكن القاضي روزبهان من علماء أهل السنّة يردّ على كلام العلّامة هذا ويقول:

ليس هذه الرواية في تفسير أهل السنّة، وإن صحت دلّت على وجوب محبّته وهو واجب بالاتّفاق «1».

والملفت للنظر أن المحققين من الشيعة ذكروا في هامش الكتاب المذكور «احقاق الحقّ» نقلًا عن 17 كتاب من كتب أهل السنّة أن روايات تتعلق بالإمام علي عليه السلام في هذا المورد، من بين هذه الكتب ستة منها من كتب التفسير، فكيف يبرر مثل هذا التناقض في كلمات علماء أهل السنّة؟ هل أن القاضي روزبهان لم يقرأ هذه الكتب، أو أنه قرأها ولكن حجاب التعصّب والعناد منعه من قبول هذه الروايات؟

وعلى أيّة حال فالكتب المذكورة هي ما يلي:

1- تفسير الثعلبي «2».

2- تفسير الكشّاف لمؤلفه الزمخشري المفسّر المعروف لدى أهل السنّة «3».

3- تفسير العلّامة النيشابوري والذي ورد في هامش تفسير الطبري «4».

4- السيوطي في الدرّ المنثور «5».

5- العلّامة الشوكاني في تفسيره «6».

6- الآلوسي في روح المعاني «7».

ونكتفي في ذكر روايتين من هذه الكتب المذكورة:

الف: ما أورده «روح المعاني» أن البراء بن عازب الصحابي المعروف قال:

آيات الولاية فى القرآن، ص: 296

قالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه و آله لِعَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وَجْهَهُ: «قُلِ اللّهُمَّ اجْعَلْ لِي عِنْدَكَ عَهْداً وَاجْعَلْ لِي فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنينَ وُدّاً» فَانْزَلَ اللَّهُ سُبْحانَهُ هذِهِ الْآيَةَ.

وَكانَ مُحَمَّدُ بْنُ الحنفيّة رضى الله عنه يَقُولُ: لا تَجِدُ مُؤْمِناً الّا وَهُوَ يُحِبُّ عَلِيّاً كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وَجْهَهُ وَاهْلَ بَيْتِهِ «1».

سؤال: ما هو المراد من العهد المذكور في هذه الرواية؟

الجواب: يحتمل أن يكون هذا العهد

هو ما ورد في آية سابقة قبل هذه الآية محل البحث، أي الآية 87 من سورة مريم حيث ورد فيها:

«لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً».

وعليه فالمراد من العهد هو الشفاعة، فالنبي الأكرم يقول للإمام علي عليه السلام: اطلب من اللَّه تعالى أن تنال مقام الشفاعة وأن يجعل محبّتك في قلوب المؤمنين وهي المحبّة التي وردت في دعاء إبراهيم الخليل واستمرت إلى زمان نبي الإسلام صلى الله عليه و آله وستبقى إلى يوم القيامة.

ب: ويذكر العلّامة الشوكاني نقلًا عن الطبراني عن ابن عبّاس إنه قال:

نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ ابي طَالِبٍ «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...» قالَ مَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنينَ «2».

وعلى أيّة حال فقد رأينا أن هذه الآية الشريفة تقرر وجود رابطة وثيقة بين الإيمان والعمل الصالح من جهة والمحبّة في قلوب الناس من جهة اخرى، وطبقاً للروايات الواردة فإنّ المصداق الأكمل لها هو أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

التفاسير الاخرى للآية مورد البحث

التفاسير الاخرى للآية مورد البحث

ومضافاً إلى التفسير المتقدم فهناك تفاسير اخرى للآية المذكورة ومنها:

الف) إن المراد من الآية الشريفة ليس هو أن المحبّة توجد في قلوب المسلمين والمؤمنين

آيات الولاية فى القرآن، ص: 297

جميعاً اتجاه فرد معيّن أو أفراد بالخصوص، بل المراد أن الإيمان والعمل الصالح يورثان المحبّة في قلوب جميع المؤمنين بالنسبة إلى بعضهم البعض، وبعبارة اخرى إنّ المحبّة في قلوب المؤمنين متوجهه لجميع المؤمنين لا إلى فرد بالخصوص.

ب) إنّ هذه الآية الشريفة تشير إلى يوم القيامة فإنّ اللَّه تعالى في ذلك اليوم يجعل المحبّة

في قلوب المؤمنين بحيث يحبُّ بعضهم بعضاً، وعليه فهذه الآية لا تتعلق بما نحن فيه.

ج) إنّ المراد من الآية الشريفة هو الإمام علي عليه السلام فقط ولا تشمل أي مؤمن آخر، وما ورد في العبارة من صيغة الجمع لا يثير مشكلة، لأن صيغة الجمع تأتي أحياناً لغرض الإحترام «1».

ولكن الانصاف أن جميع التفاسير هذه غير متنافية فيما بينها وبالإمكان الجمع فيما بينها في المفهوم من الآية الشريفة والتي تستوعب جميع المؤمنين الذين يعملون الصالحات رغم أن المصداق الأكمل والأتم هو أميرالمؤمنين عليه السلام، كما هو الحال في اختلاف الأنوار شدة وضعفاً من قبيل: نور الشمعة، المصباح، القمر، الشمس، ولكن بلا شكّ أن نور الشمس هو المصداق الأكمل والأتم لمفهوم النور.

توصية الآية الشريفة

الشيعة بمثابة السراج المنير

الشيعة بمثابة السراج المنير

تقدّم أن قلنا أكثر من مرّة إنه ينبغي على الشيعة وأتباع أميرالمؤمنين عليه السلام السعي لمعرفة فضائل ومناقب الإمام علي وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام ولكن بلا شك لا ينبغي الإكتفاء بهذا المقدار بل يجب التحرّك بعد معرفة هذه الفضائل في خطّ العمل بها وتجسيدها على مستوى الواقع النفسي والإجتماعي والسعي في طريق النجاة والفلاح وإرشاد الناس إلى هذا الطريق أيضاً، يجب على شيعة الإمام علي عليه السلام أن يكونوا قدوة واسوة في الإيمان والعمل الصالح لكي

آيات الولاية فى القرآن، ص: 298

يهتدي الناس بنور إيمانهم إلى خطّ الصلاح والتقوى والإنفتاح على اللَّه، وهذا المعنى هو الذي يبعث المحبّة لهم في قلوب الآخرين وبالتالي يستوجب رضا أهل البيت عليهم السلام عنهم وسرورهم بمثل هؤلاء الأتباع، لا أن يتحرك الشيعة

بشكل يبعث على خجل هؤلاء الأولياء من أعمالهم «1».

مباحث اخرى

1- نفوذ المحبّة في قلوب الجميع

1- نفوذ المحبّة في قلوب الجميع

إنّ ظاهر الآية الشريفة هي أن الإيمان والعمل الصالح لا يستوجبان فقط نفوذ المحبّة في قلوب المؤمنين بالنسبة إلى ذلك الشخص بل إنّ شعلة هذه المحبّة تسري إلى قلوب غير المؤمنين وتعمل على تسخيرها ولهذا فإنّ أعداء الإمام علي عليه السلام أيضاً يشعرون بالمحبّة له رغم أن أهواءهم النفسانية لا تسمح لهم بإظهار هذا الحبّ ولكن قد يفلت من كلماتهم هذا الأمر.

وهذا ما ورد في كتب التاريخ مراراً من أن معاوية كان يسأل من بعض شيعة الإمام علي عليه السلام عند ملاقاتهم به عن حالات أميرالمؤمنين وأفعاله، وبعد أن يستمع لما يذكرونه من ثناء ومدح لأميرالمؤمنين يؤيدهم في ذلك «2».

وأما عمرو بن العاص وهو الرجل الثاني من قادة العصيان والتمرد والإنحراف والذي يعدّ الشريك الأوّل لجرائم معاوية بل إنّ معاوية كان يأتي بالدرجة الثانية في المكر والحيلة والإفساد بعد عمرو بن العاص، هذا الشخص يقول في قصيدته المعروفة باسم «الجلجليّة» «3»

آيات الولاية فى القرآن، ص: 299

يعترف فيها بالجرائم التي ارتكبت في زمن معاوية وكذلك في فضائل الإمام علي عليه السلام ويقول:

مُعاوِيَةُ الْحالَ لا تَجْهَل وَعَنْ سُبُلِ الْحَقِ لا تَعْدِل

وَكِدْتُ لَهُمْ انْ اقامُوا الرُّماحَ

عَلَيْهَا الْمَصاحِفَ فِي الْقَسْطَل

نَسيتَ مُحاوَرَةَ الْاشعَري وَنَحْنُ عَلى دُومَةِ الْجَنْدَل؟

خَلَعْتُ الْخِلافَةَ مِنْ حَيْدَرٍ كَخَلْعِ النَّعالِ مِنْ الْارْجُل

وألبستها فيك بعد الأياس كلبس الخواتيم بالأنمل

وكم قد سمعنا من الْمُصْطَفى وَصَايَا مُخَصَّصَةً فِي عَلِيٍّ؟

وَفِي يَوْمِ خُمٍّ رَقى مِنْبراً يُبَلّغُ والرَّكْبُ لَمْ يَرْجُل

وَفِي كَفِّهِ كَفِّهِ مُعْلِناً يُنادِي بِامْرِ الْعَزيزِ الْعَلِيّ

وَقالَ فَمَنْ كُنْتُ مَوْلىً لَهُ فَهذا لَهُ الْيَوْمَ نِعْمَ الْوَلِيّ

وَانّا وَما كَانَ مِنْ فِعْلِنا

لَفِي النّارِ فِي الدَّرْكِ الْاسْفَلِ «1»

2- مفهوم العمل الصالح في القرآن

2- مفهوم العمل الصالح في القرآن

إنّ العمل الصالح في نظر الإسلام في دائرة المفاهيم القرآنية أمر مهم جدّاً بحيث إنّ سبعين آية من آيات القرآن الكريم بحثت هذا المعنى والمفهوم، والعمل الصالح له مفهوم واسع وشامل لكلِّ عمل يصبُّ في دائرة رضا اللَّه تعالى، وقد ورد في الحديث النبوي الشريف ما يوضح سعة دائرة هذا المفهوم للعمل الصالح:

الْايمانُ بِضْعَةٌ وَسَبْعُونَ (سِتُّونَ خ ل) شُعْبَةً أَعْلاها شَهادَةُ انْ لا الهَ الَّا اللَّهُ وادْناها اماطَةُ الْأذى عَنِ الطَّريقِ «2».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 300

هذه الرواية الشريفة مضافاً إلى أنها تشير إلى سعة دائرة العمل الصالح فإنها تقرر هذه الحقيقة وهي أن الإسلام يهتم بأدنى وأصغر مسائل الحياة الفردية والإجتماعية للمسلمين ويوصي المسلمين بالإهتمام حتّى بالامور الجزئية.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 301

آية السابقون

اشارة

آية السابقون 10

[سورة الواقعة (56): الآيات 10 الى 12]

ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65)

«سورة الواقعة/ الآيات 10- 12

أبعاد البحث

أبعاد البحث

هذه الآيات الشريفة تستعرض فضيلة اخرى من فضائل الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام أيضاً والتي اعترف بها علماء السنّة بصورة واسعة، فنقرأ في هذه الآيات الشريفة التي تتحدّث عن طوائف ثلاث من الناس يوم القيامة، تعليمات راقية ومطالب مهمة تتعلق بمسيرة الإنسان في حركة الحياة الدنيوية، وسيأتي تفصيل البحث لاحقاً.

مضمون سورة الواقعة

مضمون سورة الواقعة

إنّ سورة الواقعة كسائر سور القرآن الكريم تتضمن مفاهيم عميقة ومواضيع مثيرة للغاية، والأصل والمحور في مواضيع آيات هذه السورة المباركة هو الحديث عن المعاد والحياة الاخروية، فالآيات الاولى من هذه السورة تستعرض علائم وآثار يوم القيامة حيث يبدأ هذا اليوم بانقلاب كبير في عالم الوجود كما هو الحال في الإنقلاب والإنفجار الذي حدث في بداية ظهور الأرض والمجرّات والسماوات، وعليه فإنّ الدنيا بدأت بإنفجار مهيب وستنتهي أيضاً كذلك، فعندما تقوم القيامة تهتزّ الأرض بشدّة وتتحطم الجبال

آيات الولاية فى القرآن، ص: 302

العظيمة وتتلاشى في الفضاء نتيجة اصطدامها فيما بينها في الفضاء بحيث تتحول إلى غبار منثور، وبعد ذلك يقوم اللَّه تعالى بخلق عالم الآخرة على خرائب وأطلال عالم الدنيا ويخلق أرضاً وسماءاً جديدة، وفي ذلك اليوم تدبُّ الحياة في الأموات ويبعثون من قبورهم مرّة ثانية ويكونون على ثلاث طوائف:

1- «أصحاب الميمنة» وهم السعداء والمفلحون في ذلك اليوم.

2- «أصحاب المشئمة» «1»

وهم الأشخاص الذين يواجهون الشقاء والمصير السيي ء وتقدّم إليهم صحيفة أعمالهم بيدهم الشمال.

3- «السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ» وهذه الطائفة من الناس هم أسعد حظاً من الطائفة الاولى وهم الذين ينالون وسام مقام القرب من اللَّه تعالى بحيث لا يدانيهم في هذا

المقام والمنزلة أحد من المؤمنين.

وبهذا التقسيم القرآني لطوائف الناس في ذلك اليوم تشرع الآيات الكريمة باستعراض أنواع المثوبات والعقوبات المقرّرة لأفراد هذه الطوائف الثلاث، المثوبات التي تثير الوجد والفرح في قلوب المؤمنين، والعقوبات الرهيبة التي تثير الفزع والخوف لدى كلّ إنسان.

وتتحدّث الآيات 11 إلى 26 عن المثوبات المقرّرة للسابقين والمقرّبين، وهي المثوبات غير القابلة للتصور أحياناً، وتتحدّث الآيات 27 إلى 40 عن مثوبات أصحاب اليمين، ومن الآية 41 فما بعد يتحدّث القرآن الكريم عن عقوبات أصحاب الشمال بصورة مفصلة.

الشرح والتفسير: من هم السابقون؟

الشرح والتفسير: من هم السابقون؟

آيات الولاية فى القرآن، ص: 303

«وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» وهم الذين ينبغي أن يكونوا اسوة وقدوة لجميع أفراد البشر في حركتهم المعنوية وسيرهم التكاملي في خطّ الإيمان والرسالة.

سؤال: من هم هؤلاء السابقون الذين ينالون مقام القرب من اللَّه تعالى؟

الجواب: لقد ذكرت تفاسير مختلفة للمقصود من هذه العبارة:

1- السابقون في الإيمان.

2- السابقون في الجهاد.

3- السابقون في العبادة والصلاة اليومية.

4- السابقون في التوبة.

5- السابقون في طاعة اللَّه.

6- السابقون في دخول الجنّة.

7- السابقون في الهجرة.

8- السابقون في أعمال الخير.

وهناك تفاسير اخرى أيضاً «1».

ولكننا نرى عدم وجود منافاة بين هذه التفاسير المذكورة للآية الشريفة، وعليه فلا ينبغي أن نقيّد الآية بأحد الموارد المذكورة بل نرى أن المفهوم منها يستوعب جميع ما ورد لها من هذه التفاسير، وعلى أيّة حال فالسابقون يتّسمون بفضائل جمّة ويختصّون بخصائص مهمّة ترتفع بهم في عالم الملكوت، وأسمى مقام لهم هو مقام القرب الإلهي، وبلاشك أن اللذّة التي يعيشها هؤلاء السابقين في هذا المقام العظيم ترتفع

عن كلِّ لذّة اخرى.

«فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ» وهذا التعبير بصيغة الجمع يشمل كافة النِعم المادية والمعنوية في الجنّة، وقد يشير أيضاً إلى أن بساتين الجنّة هي محل النعيم الحقيقي لا غير خلافاً لبساتين الدنيا التي قد تكون سبباً للتعب والشقاء، وهكذا بالنسبة إلى حال المقرّبين وتفاوت مقامهم

آيات الولاية فى القرآن، ص: 304

في الآخرة بالنسبة إلى الدنيا لأنّ مقامهم الدنيوي كان مقترناً مع تحمل المسؤوليات والأتعاب والمشاكل في حين أن مقامهم الاخروي هو التنعم الخالص بالمواهب الإلهية في الجنّة.

فهل تليق هذه المواهب والمثوبات الإلهية لغير السابقين؟

نسألك اللّهمّ بلطفك وكرمك أن تحشرنا مع هذه الطائفة وتجعلنا من المقرّبين عندك.

الإمام علي عليه السلام المصداق الأتم والأكمل للسابقين

الإمام علي عليه السلام المصداق الأتم والأكمل للسابقين

كما تقدّم آنفاً فإنّ مفهوم الآية الشريفة شامل وعام في دائرة السابقين ويستوعب في مضمونه جميع الأشخاص الذين سبقوا الآخرين في الإيمان والجهاد والصلاة والتوبة والمسير في خطّ الطاعة والعبودية والدخول إلى الجنّة وأمثال ذلك، ولكن طبقاً لما ورد في الروايات الشريفة أن الإمام علي عليه السلام هو أسبق السابقين في هذه الموارد والمصداق الأتم والأكمل لهذه الآية الشريفة، وهنا نلفت النظر إلى بعض ما ورد في هذه الروايات:

الف) ما ورد عن المفسّر والراوي المعروف ابن عبّاس المقبول لدى السنّة والشيعة أنه قال:

سابِقُ هذِهِ الْامَّةِ عَلِيُّ بْنُ أبي طَالِبٍ «1».

ب) وقال ابن عبّاس أيضاً في رواية اخرى:

يُوشَعُ بْنُ نُونْ سَبَقَ إلى مُوسى ، وَمُؤْمِنُ آلِ ياسين سَبَقَ الى عيسى ، وَعَلِيُّ بْنُ ابي طالِبٍ سَبَقَ إلى مُحَمَّدٍ «2».

ج) عندما أراد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إجراء عقد

الزواج بين الإمام علي عليه السلام وابنته فاطمة الزهراء عليها السلام قال مخاطباً لإبنته:

زَوَّجْتُكِ بأَوَّلِ مَنْ آمَنَ بِي وَعَرَفَنِي وَساعَدَنِي «3».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 305

أجل، فطبقاً لهذه الروايات والروايات الاخرى التي لم نذكرها هنا رعاية للاختصار فإنّ الإمام علي عليه السلام هو أسبق السابقين من جميع المسلمين، فهل من اللائق مع وجود مثل هذا الإمام اختيار شخص آخر لخلافة النبي؟

وما أجمل ما قاله الشاعر العربي:

الَيْسَ اوَّلُ مَنْ صَلّى بِقِبْلَتِهِمْ وَاعْلَمُ النّاسِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ «1»

إذن فلماذا مع وجود عليّ بن أبي طالب عليه السلام واعترافهم بأفضليته وأسبقيته يتم اختيار شخص آخر وترجيحه عليه؟

الروايات المذكورة آنفاً وردت في منابع متعددة لدى أهل السنّة ونكتفي هنا بذكر 10 مصادر ومنابع منها:

1- إبن المغازلي في المسند «2».

2- السبط ابن الجوزي في التذكرة «3».

3- ابن كثير الدمشقي «4».

4- محيي الدين الطبري في الرياض النضرة «5».

5- السيوطي في الدرّ المنثور «6».

6- ابن حجر في الصواعق المحرقة «7».

7- العلّامة الشوكاني في فتح القدير «8».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 306

8- مير محمّد صالح الترمذي في المناقب المرتضوية «1».

9- الآلوسي في روح المعاني «2».

10- القندوزي في ينابيع المودّة «3».

ومع الإلتفات إلى كثرة هذه الروايات الواردة في شأن الإمام علي عليه السلام في ذيل

الآية الشريفة فهل يعقل أن اللَّه تعالى يختار شخصاً آخر للخلافة مع وجود الإمام علي عليه السلام وفضائله الكثيرة؟

تفسير السابقين على لسان النبي صلى الله عليه و آله

تفسير السابقين على لسان النبي صلى الله عليه و آله

وقد ورد في الحديث النبوي الشريف أن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قال:

«السّابِقُونَ إلى ظِلِّ الْعَرْشِ طُوبى لَهُمْ».

قيلَ: يا رَسُولُ اللَّهِ وَمَنْ هُمْ؟ قال:

1- «الَّذِينَ يَقْبَلُونَ الْحَقَّ إذَا سَمِعُوهُ»

إنّ السابقين يتّصفون بأنهم يذعنون للحقّ أياً كان ومن أي شخص سمعوه حتّى لو كان من عدو أو صبي صغير فلا يجدون في أنفسهم حرجاً ولا تعصباً أو تكبّراً على الحقّ، فعندما يدرك الإنسان خطأه وتتضّح له آفاق الحقيقة فيجب عليه أن يتحرك من موقع الشجاعة والشهامة ويعترف بخطئه ويقبل بالحقّ وليعلم أن ضرر الإعتراف بالخطأ أقلُّ بكثير من ضرر العناد والإصرار على الخطأ وعدم الإعتراف به.

2- «وَ يَبْذَلُونَهُ إذا سَألُوهُ»

فلا يحقُّ للسابقين كتمان الحقّ، لأن كتمان الحقّ من الذنوب الكبيرة، ولذلك لا يقولون أننا قد نتعرض للضرر من قول الحقّ أو قد يتألم والدنا أو والدتنا أو زوجتنا أو صديقنا وجارنا من قول الحقّ، فهم يعلمون أن الواجب يحتم عليهم أن يشهدوا بما يعلمون أنه الحقّ

آيات الولاية فى القرآن، ص: 307

والصواب كما ذكر اللَّه تعالى ذلك في الآية الشريفة 283 من سورة البقرة وقال:

«وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ».

3- «وَيَحكُمُونَ لِلنّاسِ كَحُكْمِهِمْ لِانْفُسِهِمْ» «1».

الخصوصيّة الاخرى للسابقين هي أنهم يحبّون لغيرهم ما يحبّون لأنفسهم ولا يحكمون لغيرهم إلّابما يرونه صلاحاً لأنفسهم، وبعبارة

اخرى أنهم يرون منافعهم ومنافع الآخرين بعين واحدة، وبلاشك إنّ هذه المرتبة الأخلاقية لا تتيسر لكلِّ شخص وليس من اليسير أن ينظر الإنسان لمصالح الآخرين كما يرآها لنفسه ويذعن للحقّ من دون أن تتدخل في ذهنه عناصر الأنانية، وبذلك ينال مرتبة السابقين.

إذا عمل الإنسان المعاصر بهذه التعليمات النبوية الثلاث فإنّ العالم سوف يتبدل إلى جنّة، ولكن مع الأسف فإنّ تعامل دعاة حقوق الإنسان مع الشعوب الاخرى من موقع الإنتهازية والرياء حوّل المجتمع البشري إلى كيانات مهزوزة وبدّل العالم إلى جهنم محرقة ولم يبق من حقوق الإنسان في أذهان البشر سوى أوهام خاوية وتوهيمات زائفة، فعندما يسمع أبناء البشر إدعاءات هؤلاء المدّعين والمنادين لحقوق الإنسان يتبادر إلى أذهانهم مفاهيم جديدة وهي «حفظ منافع السلطات الإستكبارية بأي قيمة وبأي شكل كان».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 309

آية اذُن واعية

اشارة

آية اذُن واعية 11

[سورة الحاقة (69): الآيات 11 الى 12]

حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)

«سورة الحاقة/ الآيات 11 و 12»

أبعاد البحث

أبعاد البحث

هذه الآية الشريفة «آية اذن واعية» من الآيات الاخرى التي تتحدّث عن فضائل أميرالمؤمنين عليه السلام، وطبقاً للروايات الواردة في ذيل هذه الآية الشريفة فإنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قد دعا اللَّه تعالى أن يكون علي ابن أبي طالب من جملة الأشخاص الذين يتمتعون بالاذن الواعية وقد استجاب اللَّه تعالى له هذا الدعاء، وسيأتي شرح وتفصيل هذه الروايات وتفسير الآية مورد البحث والمفهوم من عبارة «اذن واعية» في البحوث اللاحقة.

الشرح والتفسير: قصة الأنبياء

الشرح والتفسير: قصة الأنبياء

لقد بحث القرآن الكريم قصص الأنبياء في هذه السورة «سورة الحاقة» بل في غيرها من السور القرآنية الكريمة من زوايا مختلفة ومتنوعة.

سؤال: لماذا تطرّق القرآن الكريم لبيان تاريخ الامم والأقوام السالفة واستعرض قصص الأنبياء السابقين، فهل أن القرآن كتاب تاريخ؟

آيات الولاية فى القرآن، ص: 310

الجواب: القرآن كتاب لتهذيب الإنسان، والتاريخ البشري له دور مهم في تعليم وتربية الإنسان في حركة حياته الفردية والإجتماعية، والخلاصة أن الإنسان يعيش التجربة والحوادث المتنوعة في هذه الحياة وما أحسن أن يستفيد الإنسان من تجارب الآخرين على مستوى العبرة والسلوك العملي لا أن يتمنّى كما يقول بعض الشعراء أن يعيش ويحيى مرتين ويجعل إحدى الحياتين لممارسة التجارب والثانية للاستفادة من تلكم التجارب الماضية.

يقول تبارك وتعالى في الآية 111 من سورة يوسف:

«لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ».

ويشير أيضاً في بداية سورة الحاقة إلى قصص الأنبياء والسابقين مع أقوامهم حيث سنتعرض هنا إلى شرح وتفسير هذه الآيات المباركة:

«وَ جاءَ فِرْعَوْنُ وَ مَنْ قَبْلَهُ وَ الْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ».

إنّ فرعون والأقوام

التي سبقته أي قوم شعيب، عاد، ثمود وأقوام اخرى وكذلك المدن المؤتفكة أي المنقلبة والمدمَّرة بسبب تلوّث أهلها بالخطيئة والذنوب الكبيرة، «المؤتفكات» جمع «مؤتفكة» وتشير إلى قصة قوم لوط عندما نزل عليهم العذاب الإلهي وأصابهم الزلزال المهيب ودمر بيوتهم ومنازلهم بحيث إنّ الرائي لها يحسبها قد انقلبت رأساً على عقب وبعد الزلزال نزل عليهم مطر من الشهب والأحجار الموسومة ودمّر ما تبقّى من آثارهم، والسبب في نزول هذا العذاب هو ممارستهم الخطيئة والإصرار على الذنوب حيث أشارت الآية إلى هذا المعنى «بالخاطئة».

«فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً».

إنّ الأقوام السالفة تحرّكوا في سلوكياتهم مقابل دعوة الأنبياء من موقع العناد والإبتعاد عن الحقّ ولذلك أنزل عليهم اللَّه تعالى العذاب الشديد، والتعبير بقوله «ربّهم» إشارة إلى أنّ اللَّه تعالى أراد تهذيبهم وصلاحهم بإرساله الأنبياء إليهم ولكنّ بعض الناس أصرّوا على معتقداتهم الزائفة ولم يستجيبوا لدعوات الأنبياء وتعاليمهم الإلهية والصادرة من ولي أمرهم ومربّيهم ولذلك استحقوا العذاب والعقاب الشديد.

«إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 311

وتشير هذه الآية إلى قصة نوح عندما أمطرت السماء بأمر اللَّه تعالى بماء منهمر وتفجّرت الأرض بالعيون الفوّارة وجرى السيل المهيب بحيث لم يستغرق سوى مدّة قليلة حتّى عمّ الماء أرض المعمورة ولم تسلم من الطوفان حتّى الجبال ولذلك أمر اللَّه تعالى نوح ومن معه من المؤمنين بركوب السفينة لينقذوا أنفسهم من الغرق، ولكن الوثنيين والمشركين ومنهم ابن نوح الذين أصرّوا على سلوك خطّ الباطل والشرك والإنحراف غرقوا جميعاً في هذا الطوفان، هؤلاء كانوا

يسخرون يوماً من النبي نوح عليه السلام لصنعه السفينة بعيداً عن البحر بل اتهموه بالجنون أيضاً وعندما حدث الطوفان وأمطرت السماء ذلك المطر العجيب وجدوا أنفسهم في معرض العقاب الإلهي وهلكوا جميعاً بسوء أفعالهم.

«لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ».

فالقرآن الكريم يشير هنا إلى أن استعراض قصص الأقوام السالفة والأنبياء الإلهيين ليس بهدف بيان وقائع تاريخية محضة بل الهدف والغاية من ذلك هو كسب العبرة واستيحاء التجارب من أحداث التاريخ الغابر والإستفادة منها لممارسات الحاضر ولا يتدبّر في هذه الامور ويستفيد منها إلّامن كانت له اذن واعية ونفس متذكرة لتحفظ هذه الحوادث والقصص التاريخية، «وعى» بمعنى حفظ الشي ء في القلب وفي المصطلح الجديد تطلق هذه الكلمة «الوعي» على من يتعامل مع الأحداث بذهنية متحركة وفكر جيّد، وعليه فعبارة «اذنٌ واعية» تعني الشخصية التي تستوعب الحدث وتحفظه لتستفيد منه على مستوى التطبيق والممارسة ولا تتركه في طيّات النسيان كما هو الحال في المثال المعروف «يسمع من هذه الاذن ويخرجه من اذنه الاخرى » فالإنسان الواعي لا يتعامل مع مستجدات الواقع بهذه الصورة بل يسمع بكلا اذنيه ويحفظ ما سمعه في قلبه ليكون صاحب الاذن الواعية، والعين البصيرة، والقلب السليم، والعقل المتفكّر.

من هو صاحب الاذن الواعية؟

من هو صاحب الاذن الواعية؟

بالرغم من أن الآية الشريفة لها مفهوم واسع وشامل لجميع الأفراد الذين يتّسمون بهذه السمة «الاذن الواعية» ولكن طبقاً لما ورد في الروايات الكثيرة في تفسير هذه الآية فإنّ

آيات الولاية فى القرآن، ص: 312

المصداق الأتم والأكمل للُاذن الواعية هو الإمام علي عليه السلام.

وقد ورد في بعض الروايات

أنه عندما نزلت هذه الآية الشريفة قال النبي الأكرم صلى الله عليه و آله مخاطباً للإمام علي عليه السلام:

«سَأَلْتُ اللَّهَ انْ يَجْعَلَها اذُنَكَ يا عَلِيٌّ».

ويقول الإمام علي عليه السلام: بعد هذه الواقعة كنت إذا سمعت شيئاً من النبي أحفظه ولا أنساه.

وقد ورد في روايات اخرى أيضاً أن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله دعا بهذا الدعاء أوّلًا ثمّ نزلت الآية الشريفة.

أما الرواية المذكورة آنفاً فقد وردت في مصادر متعددة لأهل السنّة وكنموذج على ذلك نشير إلى بعضها:

1- القرطبي في الجامع لأحكام القرآن «1».

2- العلّامة المتقي الهندي في منتخب كنز العمّال «2».

3- العلّامة الآلوسي في روح المعاني «3».

4- العلّامة الواحدي النيشابوري في أسباب النزول «4».

5- أبو نعيم الاصفهاني في حلية الأولياء «5».

6- الطبري في تفسيره «6».

7- الزمخشري في الكشّاف «7».

8- الثعلبي في تفسيره «8».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 313

9- العلّامة الاندلسي المغربي في البحر المحيط «1».

10- الگنجي في كفاية الطالب «2».

ورغم أن الفخر الرازي يتحرك في مباحث الإمامة والولاية من موقع التعصّب الكبير إلّا أنه نقل حديثاً طريفاً ذيل الآية الشريفة، فبعد أن ذكر دعاء النبي للإمام علي عليه السلام حول نزول هذه الآية قال نقلًا عن أميرالمؤمنين:

«فَما نَسيتُ بَعْدَ ذلِكَ وَما كَانَ لِي انْ انْساهُ» «3».

أي أن قلب الإمام علي أصبح خزانة الوحي الإلهي ومركز الكلمات النبويّة بعد دعاء النبي الأكرم صلى الله عليه و آله له.

التناقض في كلام الشيخ روزبهان

التناقض في كلام الشيخ روزبهان

وقد ذكر الشيخ روزبهان في ردّه على العلّامة الحلّي عندما وصل إلى هذه الآية الشريفة وقال:

لمّا نزلت

هذه الآية، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لعلي عليه السلام سألت اللَّه تعالى أن يجعلها اذنك، قال علي: «فَما نَسيتُ بَعْدَ هذَا شَيئاً». وهذا يدلُّ على علمه وحفظه وفضيلته.

وذكر الشيخ روزبهان بعد نقله لهذا الحديث الشريف: إنّ هذه الرواية تدلُّ على علم الإمام علي وحافظته القوية وفضيلته السامية.

ولكنه بعد أن ذكر الرواية الشريفة وما عقّب عليها من عبارات في ذيلها في مدح علي قال: ولكنّ هذه الامور لا تدلُّ على إمامته وخلافته بعد الرسول مباشرة «4».

والجواب على هذا الكلام واضح، لأن أحد دعائم الإمامة وأركانها هو العلم والمعرفة، وبما أن الإمام هو خليفة الرسول فيجب أن يستوعب الشريعة وتعليمات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله

آيات الولاية فى القرآن، ص: 314

كاملًا ويكون بالتالي حلّالًا لمشكلات الناس ومن البديهي أن اللازم للإمامة والخلافة هو أن يكون الخليفة بمستوىً كبير ومرتبة عالية من العلم والمعرفة ليكون مستحقاً للخلافة وأهلًا لقيادة الامّة إلى ساحل النجاة، ولذلك نقول إنّ عليّ ابن أبي طالب وباعترافكم أعلم وأفضل من جميع من يدعي الخلافة بعد رسول اللَّه، فأيُّ عاقل يبيح لنفسه أن يختار شخصاً آخر للخلافة مع وجود مثل هذه الشخصية العظيمة؟

وعلى هذا الأساس فكيف تدلُّ هذه الآية الشريفة على علم الإمام علي عليه السلام وتقواه العظيمة ولا تدلُّ على خلافته وإمامته؟ أليس هذا من التناقض؟

ملاحظة ظريفة من الفخر الرازي

ملاحظة ظريفة من الفخر الرازي

الفخر الرازي في تفسيره لكلمة «اذنٌ واعية» يطرح هذا السؤال:

لماذا وردت «اذنٌ واعية» بصورة المفرد والنكرة ولم ترد بصيغة الجمع والمعرفة؟

ثمّ يجيب على هذا السؤال

بثلاث امور:

1- «للايذان بأنّ الوعاة فيهم قلّة» فإنّ اللَّه تعالى يريد بهذا التعبير إفهام المخاطبين بأن أصحاب الاذن الواعية قليلون وغير معروفين بين الناس.

2- «لتوبيخه الناس بقلّة من يعي منهم» فأراد اللَّه تعالى بهذه العبارة توبيخ الناس وذمّهم على قلّة من يأخذ الامور من موقع الوعي والفهم السليم.

3- «للدّلالة على أنّ الاذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن اللَّه فهي السّواد الأعظم عند اللَّه وأنّ ما سواه لا يلتفت إليهم» «1»

فصاحب الاذن الواعية يعادل جمع غفير من الناس في واقع الأمر.

ومع الإلتفات إلى هذا البيان وكذلك ما ورد في الروايات من أن المراد بالاذن الواعية هو علي بن أبي طالب عليه السلام، تكون النتيجة أنّ مصداق هذه الآية الشريفة هو أميرالمؤمنين عليه السلام وهذا المطلب يؤيد ما ورد في شأن النزول ومن دعاء النبي الأكرم صلى الله عليه و آله للإمام علي عليه السلام.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 315

علي مع الحقّ والحقّ مع علي

علي مع الحقّ والحقّ مع علي

ومن أجل توضيح الأبعاد المختلفة من شخصية الإمام علي عليه السلام وامتيازات وخصائص خليفة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالحقّ نلفت نظر القارئ الكريم إلى ثلاث روايات وردت في مصادر أهل السنّة:

1- ينقل الطبراني عن امّ سلمة زوجة الرسول عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنه قال:

عَلِيٌّ مَعَ القُرْآنِ وَالْقُرْآنُ مَعَ عَلِيٍّ لا يَفْتَرِقانِ حَتّى يَرِدا عَلَيَّ الْحَوْضَ «1».

سؤال: عندما يقول النبي «علي مع القرآن والقرآن مع علي» فماذا يقصد بذلك؟ هل يقصد أن الإمام علي كان يحمل معه القرآن دائماً، أو أن

مراده هو أنه عليه السلام حافظ للقرآن، أو مراده شي ء آخر؟

الجواب: إنّ مراده من هذه الجملة هو أن تفسير القرآن والعلم بآياته ومعارفه موجود لدى عليّ بن أبي طالب عليه السلام ولا يفترق عنه وكذلك العمل بمضامينه ودستوراته فإنها تتجسد في سلوكيات أميرالمؤمنين فهو العالم والعامل بالقرآن الكريم، فالعلم في القرآن والعمل به لا ينفكّان عن الإمام علي عليه السلام، وهذا في الحقيقة امتياز كبير وفضيلة عظيمة لم ترد في حقّ أي واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله.

دعاء النبي صلى الله عليه و آله في حقّ علي عليه السلام

علي عليه السلام أفضل القضاة!

علي عليه السلام أفضل القضاة!

3- جاء شخص إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقال:

عن الصادق عن أبيه عليهما السلام: إنّ ثوراً قتل حماراً على عهد النبي صلى الله عليه و آله فرفع ذلك إليه وهو في أناس من أصحابه فيهم أبوبكر وعمر، فقال: يا أبابكر اقضِ بينهم، فقال: يا رسول اللَّه بهيمة قتلت بهيمة ما عليهما شي ء. فقال صلى الله عليه و آله: يا عمر اقض بينهم. فقال مثل قول صاحبه.

فقال: يا علي اقض بينهم. فقال: نعم يا رسول اللَّه، إن كان الثور دخل على الحمار في مستراحه ضمن أصحاب الثور، وإن كان الحمار دخل على الثور في مستراحه فلا ضمان عليهم. فرفع النبي صلى الله عليه و آله يده إلى السماء فقال: الحمد للَّه الذي جعل مني من يقضي بقضاء النبيين «1».

فقال النبي الأكرم صلى الله عليه و آله تأييداً لقضاء الإمام علي عليه السلام في هذا المورد:

«اقْضاكُمْ عَلِيٌّ» «2».

إن قضاء الإمام علي عليه السلام في هذه الواقعة هو المصداق لما ورد في فقه الشيعة كقاعدة كلية وهي «عندما يكون السبب أقوى من المباشر فالسبب ضامن» وفي القصة المذكورة آنفاً

كانت البقرة هي المباشرة للقتل وصاحب البقرة الذي تركها حرة ولم يربطها هو المسبب للقتل، وبما أن السبب أقوى لمكان العقل والشعور وليس للحيوان ذلك العقل والشعور ولهذا فالسبب هو الضامن «3».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 317

وطبقاً لما تقدّم فصاحب «الاذن الواعية» هو الإمام علي عليه السلام الذي لا يفترق عن القرآن الكريم وأعلم المسلمين بأمر القضاء وأفضل الصحابة وأعرفهم بكتاب اللَّه، ومع الأخذ بنظر الإعتبار ما تقدّم فإن اللَّه تعالى إذا أراد أن ينصب شخصاً للخلافة والإمامة بعد النبي الأكرم صلى الله عليه و آله فهل يعقل أن ينصب شخصاً آخر لهذا المقام غير الإمام علي عليه السلام؟ ولو قلنا بأن هذا المقام يتم باختيار الناس فهل يقرر العقلاء وأصحاب الفكر مع وجود الإمام علي عليه السلام بكلُّ هذه الفضائل والصفات السامية، انتخاب غيره لهذه المهمة؟

نرى أن من اللازم أن نتوجه مرّة اخرى إلى اللَّه تعالى ونرفع أيدينا بالشكر والثناء من صميم القلب على هذه النعمة العظيمة وهي أن وفقنا لاتباع مثل هذا الإنسان الكامل والعظيم وجعلنا من شيعة الإمام علي عليه السلام وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام ونشكر كذلك آباءنا وامهاتنا الذين عرّفونا بالإمام علي عليه السلام وعملوا على تربيتنا بحبّ هذا الإنسان العظيم وولايته ونشكر أيضاً جميع المعلمين والأساتذة والعلماء على طول التاريخ على ما تحمّلوا من أتعاب ومشقّات لكي يرفعوا لواء الولاية في هذا البلد الإسلامي العريق «ايران» ونطلب من اللَّه تعالى أيضاً:

إلهنا، أرزقنا العشق والمودّة الدائمة لهذا الإمام العزيز واحيي قلوبنا وأرواحنا بهذه الولاية والمحبّة واجعل

نسلنا وذريتنا إلى يوم القيامة من شيعة الإمام علي عليه السلام الحقيقيين.

ربّنا، اغثنا في اللحظات الحرجة وساعات الإحتضار ومواقف المحشر والقيامة بالإمام علي وأهل بيته الطاهرين.

إلهنا وفّقنا إلى أن نكون في أعمالنا وأقوالنا من أتباع أهل البيت عليهم السلام بحيث ننال بذلك رضاك والمنزلة عندك.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 319

آية صالح المؤمنين

اشارة

آية صالح المؤمنين 12

[سورة التحريم (66): آية 4]

وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً (66)

«سورة التحريم/ الآية 4»

أبعاد البحث

أبعاد البحث

الآية الشريفة المذكورة آنفاً هي الآية المعروفة بآية «صالح المؤمنين» وهي من جملة الآيات التي تدلُّ باعتراف الشيعة وأهل السنّة على فضيلة اخرى من فضائل الإمام علي عليه السلام الكثيرة، والحديث عن دلالة هذه الآية على فضيلة أميرالمؤمنين عليه السلام وارتباطها بمسألة الولاية والإمامة سيأتي في الأبحاث اللاحقة بالتفصيل.

شأن النزول

شأن النزول

هذه الآية هي الآية الرابعة من آيات سورة التحريم، وقد وردت روايات عديدة في أسباب نزول هذه السورة في كتب الحديث والتفسير والتاريخ عن الشيعة والسنّة انتخبنا أشهر تلك الروايات وأنسبها وهي:

كان رسول اللَّه يذهب أحياناً إلى زوجته (زينب بنت جحش) فتبقيه في بيتها حتّى «تأتي إليه بعسل كانت قد هيّأته له صلى الله عليه و آله ولكن لمّا سمعت عائشة بذلك شقّ عليها الأمر، ولذا قالت: إنّها قد اتّفقت مع «حفصة» إحدى «أزواج الرسول» على أن يسألا الرسول بمجرّد أن

آيات الولاية فى القرآن، ص: 320

يقترب من أي منهما بأنّه هل تناول صمغ «المغافير» «1» وفعلًا سألت حفصة الرسول صلى الله عليه و آله هذا السؤال يوماً وردّ الرسول بأنّه لم يتناول صمغ «المغافير» ولكنه تناول عسلًا عند زينب بنت جحش، ولهذا أقسم بأنّه سوف لن يتناول ذلك العسل مرّة اخرى، (خوفاً من أن تكون زنابير العسل هذا قد تغذّت على شجر صمغ «المغافير») وحذّرها أن تنقل ذلك إلى أحد (لكي لا يشيع بين الناس أنّ الرسول قد حرّم على نفسه طعاماً حلالًا فيقتدون بالرسول ويحرّمونه أو ما يشبهه على أنفسهم، أو خوفاً من أن تسمع زينب وينكسر قلبها وتتألّم

لذلك).

لكنها أفشت السرّ فتبيّن أخيراً أنّ القصة كانت مدروسة ومعدّة فتألّم الرسول صلى الله عليه و آله لذلك كثيراً فنزلت عليه الآيات السابقة لتوضّح الأمر وتنهى من أن يتكرر ذلك مرة اخرى في بيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «2».

وجاء في بعض الروايات أنّ الرسول ابتعد عن زوجاته لمدّة شهر بعد هذا الحادث «3»، انتشرت على أثرها شائعة أنّ الرسول عازم على طلاق زوجاته، الأمر الذي أدّى إلى كثرة المخاوف بينهنّ «4» وندمن بعدها على فعلتهن.

الشرح والتفسير: أصحاب وأنصار النبي صلى الله عليه و آله

الشرح والتفسير: أصحاب وأنصار النبي صلى الله عليه و آله

نرى من اللازم في تفسير الآية مورد البحث إلقاء نظرة إجمالية على الآيات السابقة لها لتوضيح المراد منها.

بلا شك أن شخصية كبيرة مثل شخصية النبي الأكرم صلى الله عليه و آله لا تتعلق بذاته وشخصه

آيات الولاية فى القرآن، ص: 321

كواحد من الناس بل تتعلق بجميع أفراد المجتمع الإسلامي والمجتمع البشري أيضاً، وعليه فلو واجه مؤامرة في بيته ومن أقرب الناس إليه فإنّ هذه المؤامرة رغم كونها خاصّة ومحدودة بدائرة صغيرة إلّاأن ذلك لا يعني أن نمرُّ عليها مرور الكرام ومن موقع عدم الإهتمام فإنّ حيثية النبوّة وهذا المقام العظيم لا ينبغي أن يكون «والعياذ باللَّه» العوبة بيد هذا وذاك، فلو فُرض أن واجه النبي مثل هذه الحال فلابدّ أن يتعامل مع هذا الموقف بجديّة وقاطعيّة لئلّا يسري الأمر إلى موارد اخرى.

الآيات الاولى من سورة التحريم في الحقيقة تتضمن أمراً قاطعاً من اللَّه تعالى لنبيّه الكريم أن يتّخذ موقفاً صارماً من هذه الحادثة، ومن أجل

حفظ كرامة النبي وحيثيته تقول الآية:

«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ».

ومعلوم أن هذا التحريم لم يكن تحريماً شرعياً بل كما سيأتي توضيحه في الآيات اللاحقة أنه كان بمثابة قَسَم من النبي الكريم صلى الله عليه و آله، ونعلم أن القسم على ترك بعض المباحات لا يعدُّ من الذنوب، وعليه فإنّ جملة «لِمَ تحرّم» لم ترد بعنوان عتاب وتوبيخ بل هو نوع من الشفقة واللطف، كما يقال لمن يتعب نفسه كثيراً في خدمة الآخرين ومن دون أن يعود عليه إلّا بالنفع القليل: لماذا تتعب نفسك كثيراً وتعمل كلّ هذه الأعمال ولا تنتفع منها إلّاالقليل؟

«وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ»، ثمّ إنّ اللَّه تعالى يختم الآية الشريفة بالغفران والرحمة للزوجات اللواتي سببّن وقوع هذه الحادثة فيما لو صدقن في التوبة إلى اللَّه تعالى، أو هي إشارة إلى أنّ الأفضل للنبي الكريم صلى الله عليه و آله أن لا يقسم مثل هذا القسم بحيث يحتمل أن يتسبب في إقدام بعض زوجاته على مستوى الجرأة والجسارة.

وتضيف الآية التالية «قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ» وبهذا جعل اللَّه تعالى كفّارة القسم ليتحرر الإنسان من قَسَمه ولا يتورط في الذنب في الموارد التي يكون ترك العمل مرجوحاً «من قبيل الآية مورد البحث» في هذه الصورة يجوز حنث اليمين ولكن لأجل حفظ حرمة اليمين فالأفضل دفع كفّارة.

«وَ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» وهو الذي بيّن لكم طريق النجاة والتخلّص من

آيات الولاية فى القرآن، ص: 322

هذه الأيمان وفتح لكم أبواب حلّ

المشكل بحكمته، ويستفاد من الروايات الشريفة أن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بعد نزول هذه الآية أعتق رقبة وتحرر من القسم الذي حرّم بواسطته ما كان حلالًا له.

وتتحرّك الآية التي بعدها على مستوى شرح وبيان الواقعة بتفصيل أكثر وتقول:

«وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ».

فهنا تتحدّث الآية الشريفة عن حديث النبي صلى الله عليه و آله لبعض أزواجه في سرّ معيّن ولكنّ هذه الزوجة لم تحفظ السرّ بل أفشته وأعلنت عنه، ولكن ماذا كان هذا السرّ ومن هي الزوجة التي تحدّث النبي معها وأطلعها على هذا السرّ فسوف يأتي في بحث شأن النزول لاحقاً.

ويتّضح من مجموع هذه الآيات القرآنية أنّ بعض نساء النبي صلى الله عليه و آله مضافاً إلى توجيه الإساءة إليه بكلامهنّ فإنّهنّ لم يحفظنّ السرّ معه والذي يعتبر أهم العناصر في العلاقات الزوجية بأن تكون الزوجة وفيّة لزوجها وتحفظ أسراره، ولكننا نرى خلاف ذلك في بيت النبوّة، ومع ذلك فنلاحظ أن سلوك النبي الأكرم صلى الله عليه و آله مع كلّ هذه التعقيدات والمواقف السلبية من بعض زوجاته إلّاأنه لم يكن مستعداً للكشف عن جميع السرّ الذي أفشته زوجته ويوّبخها على ذلك بل اكتفى بالإشارة إلى بعضه فقط «عرّف بعضه وأعرض عن بعض» ولذا ورد في الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنه قال:

ما اسْتَقْصى كَريمٌ قَطُّ لَانَّ اللَّهَ يَقُولُ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَاعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ «1».

ثمّ تتوجه الآية بالخطاب إلى الزوجتين مورد البحث وتقول:

«إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما» فلو انتهيتما من إساءة النبي عليه السلام وتبتما إلى اللَّه فإنّ ذلك يعود عليكما

بالنفع لأنّ قلوبكما قد انحرفت بهذا العمل عن خطّ الحقّ وتلوثت بالذنب.

والمراد بهاتين الزوجتين كما صرّح به المفسّرين من الشيعة والسنّة: «حفصة» بنت عمر

آيات الولاية فى القرآن، ص: 323

بن الخطّاب و «عائشة» بنت أبي بكر «1»، وبما أن مثل هذه الحالات السلبية تعتبر ظاهرة خطيرة في بيت النبوّة فيما لو تكررت في المستقبل فإنّ اللَّه تعالى يحذّرهما في هذه الآية من الإستمرار في سلوك هذا الطريق الشائن ويقول:

«وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ».

وهذا التعبير يشير إلى هذه الحقيقة وهي أن هذه الواقعة قد أضرّت بالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله كثيراً وآلمت قلبه الطاهر إلى درجة أن اللَّه تعالى يهبُّ للدفاع عنه، ورغم أن القدرة الإلهية كافية في عملية الدفاع عن النبي إلّاأن القرآن الكريم أضاف إليها حماية جبرئيل والمؤمنين الصالحين والملائكة في دفاعهم عن رسول اللَّه.

من هو صالح المؤمنين؟

من هو صالح المؤمنين؟

إنّ ما يلفت النظر في الآية المذكورة ويقع في البحث هو أنه: ما المراد من عبارة «صالح المؤمنين»؟ هل يقصد بها شخص معيّن، أو أن هذا التعبير شامل لجميع المؤمنين الصالحين؟

بلاشك أن «صالح المؤمنين» له معنى شامل وعام بحسب الظاهر حيث يستوعب جميع المؤمنين الصالحين والمتقين رغم أن كلمة «صالح» قد وردت في هذه الجملة بصيغة المفرد لا الجمع، ولكن بما أنها استعملت بمعنى الجنس فيستفاد منها المفهوم العام، ولكن لاشكّ أن مفهوم «صالح المؤمنين» له مصداق أتمّ وأكمل، ويستفاد من خلال الروايات المتعددة أن هذا المصداق

الأكمل والفرد الأتم هو «أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام» وهذا المعنى ذكره الكثير من علماء أهل السنّة في كتبهم ومن ذلك:

1- العلّامة الثعلبي «2».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 324

2- العلّامة الگنجي في كفاية الطالب «1».

3- أبوحيان الأندلسي «2».

4- السبط ابن الجوزي «3».

5- السيوطي في الدرّ المنثور «4».

6- الآلوسي في روح المعاني «5».

7- الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل «6».

8- العلّامة البرسويي في روح البيان «7».

9- ابن حجر في الصواعق «8».

10- علاء الدين المتقي في كنز العمّال «9».

وقد ذكر الحاكم الحسكاني الحنفي في ذيل هذه الآية الشريفة «ثمانية عشر رواية» من طرق مختلفة تؤكد على أن المراد بكلمة «صالح المؤمنين» هو علي بن أبي طالب، ونكتفي هنا بذكر ثلاث روايات منها:

1- تقول اسماء بنت عميس إنّني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول:

صالِحُ الْمُؤْمِنينَ عَلِيُّ بْنُ أَبي طالِبٍ «10».

2- وينقل ابن عبّاس عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنه قال عن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام:

آيات الولاية فى القرآن، ص: 325

هُوَ صالِحُ الْمُؤْمِنينَ «1».

3- ويقول عمّار ابن ياسر إنني سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: دعاني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقال:

أَلا ابَشِّرُكَ؟ قُلْتُ: بَلى يا رَسُولَ اللَّهِ وَما زِلْتَ مُبَشِّراً بِالْخَيْرِ! قالَ: قَدْ انْزَلَ اللَّهُ فيكَ قُرْآناً. قُلْتُ: وَما هُوَ يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قالَ: قُرِنْتَ بِجَبْرَئيلِ

ثُمَّ قَرَأَ: وَجِبرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنينَ ... «2»

وخلاصة الكلام أن الروايات الواردة في هذا المورد كثيرة وقد ذكر المفسّر المعروف «البحراني» في تفسيره «البرهان» بعد أن ذكر رواية في هذا المجال عن محمّد بن عبّاس أنه نقل 52 حديثاً وروايةً حول هذا الموضوع من طرق الشيعة وأهل السنّة ثمّ نقل بعض هذه الأحاديث.

والنتيجة هي أن الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام يعتبر أفضل ناصر ومعين لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعد اللَّه تعالى وجبرئيل الأمين، وعليه فمن يكون مؤهلًا لمقام الخلافة والإمامة بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله غيره؟ ألا تعتبر هذه الروايات دليلًا على أن علي بن أبي طالب عليه السلام أفضل أفراد الامّة وأعلاهم شأناً بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟

وإذا كان هكذا وأراد اللَّه تعالى أن ينصب شخصاً لمقام الخلافة والإمامة بعد النبي الأكرم فهل تسمح الحكمة الإلهية بأن يختار اللَّه تعالى شخصاً آخر غيره لهذا المقام؟ وإذا أراد الناس والعقلاء أن يختاروا لهم شخصاً لحيازة هذا المقام المهم فهل يسمح العقل السليم أن يختاروا شخصاً غير من كان أفضل ناصر ومعين لنبي الإسلام بعد اللَّه وجبرئيل؟

أجل، فإنّ الإمام علي عليه السلام كان يعيش النصرة الدائمة للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله في جميع المواقف والأحداث والميادين وأنه الأولى بحيازة مقام الخلافة بعد النبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

توصية الآية

توصية الآية

آيات الولاية فى القرآن، ص: 326

نستوحي من عبارة «صالح المؤمنين» أن الآية الشريفة توصي الجميع بالإيمان والصلاح والخير، وتوصي جميع أتباع أميرالمؤمنين أن

لا يتوقفوا على عتبة «قبول الإسلام» بل يتحركوا من موقع تعميق الإيمان باللَّه وباليوم الآخر وأن يمتد هذا الإيمان إلى أعماق وجدانهم وقلوبهم ويتجسد على مستوى الجوارح وممارسة الأعمال الصالحة ليكونوا من صالح المؤمنين.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 327

آية الإنذار والهداية

اشارة

آية الإنذار والهداية 13

[سورة الرعد (13): آية 7]

يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)

«سورة الرعد/ الآية 7»

أبعاد البحث

أبعاد البحث

هذه الآية الشريفة أيضاً من الآيات المتعلّقة بولاية وإمامة أميرالمؤمنين عليه السلام حيث بحث فيها العلماء والمفسّرون أبحاثاً متنوعة، ويستفاد من الروايات أنها تدلُّ مضافاً إلى ولاية أميرالمؤمنين عليه السلام ولاية وإمامة جميع الأئمّة المعصومين عليهم السلام كما سيأتي تفصيل ذلك في الأبحاث القادمة.

الشرح والتفسير: ذرائع مختلفة

الشرح والتفسير: ذرائع مختلفة

«وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ» والظاهر من هذه الآية الشريفة أن الكفّار طلبوا هذه المرّة أمراً منطقياً لأنّ كلّ نبي لابدّ له لإثبات حقانيّته وأنه مرسل من اللَّه تعالى من معجزة يثبت فيها هذا الإدعاء، وهنا طلب الكفّار معجزة من نبي الإسلام صلى الله عليه و آله، ويجيبهم اللَّه تعالى على طلبهم المعقول هذا بقوله:

«إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 328

تناسب صدر الآية وذيلها

تناسب صدر الآية وذيلها

سؤال: هل هناك تناسب وانسجام بين صدر الآية الشريفة وذيلها؟ وهل أن الجواب على طلب المشركين من النبي بأن يأتيهم بآية ومعجزة هو «إنّما أنت منذر ...»؟

الجواب: لأجل العثور على الترابط بين صدر الآية وذيلها لابدّ من مراجعة الآيات الاخرى التي تتحدّث عن طلب الكفّار للمعجزة من النبي الكريم صلى الله عليه و آله.

ويحدّثنا القرآن الكريم في الآيات 90- 93 من سورة الإسراء على لسان المشركين:

«وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ» هنا يقول الكفّار بإننا لن نؤمن لما تقول حتّى تأتينا بمعجزة، ثمّ طلبوا منه سبع معاجز كما نريد ونشتهي، أي أن المعجزات التي تأتي بها من دون أن تكون مطابقة لميلنا ورغبتنا فلا فائدة فيها، بل لابدّ أن تكون المعجزة حسب رغبتنا وميلنا «1».

ويستفاد من ظاهر الآية أنهم ذكروا سبع معاجز في دائرة طلبهم وتوقعهم من النبي، والظاهر أن هذا الطلب صدر من أشخاص متعددين كلُّ واحد منهم طلب معجزة معيّنة:

1- «حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً» فأوّل معجزة طلبوها

من النبي الأكرم صلى الله عليه و آله هو أن يفجر لهم في أرض الحجاز وصحراءها المحرقة عيناً تفيض بالماء الزلال وتفور بالمياة العذبة ليشرب منها الناس ودوابهم ويسقون مزارعهم.

2- «أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً» وهذه المعجزة أيضاً لها بعد في إحياء الأراضي الميّتة وعمران المنطقة من خلال إيجاد بساتين مليئة بأشجار العنب والنخيل وتجري من خلالها المياه.

3- «أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً» وهنا نرى طلباً غير معقول وهو أنهم أرادوا من النبي أن يدعو اللَّه تعالى لإنزال العذاب عليهم على شكل مطر من الأحجار السماوية لهلاكهم، وهذا الطلب إذا تحقّق فإنهم سيؤمنون ويذعنون لدعوة النبي.

4- «أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلًا» وهكذا نرى إنّ الإنسان عندما يصل به العناد واللجاجة إلى أعلى المراتب لا يلتفت إلى ما يقول، فهؤلاء لم يقولوا: إذهب بنا إلى اللَّه

آيات الولاية فى القرآن، ص: 329

والملائكة بل طلبوا من النبي صلى الله عليه و آله أن يأتي إليهم باللَّه والملائكة ويحضرهم عندهم.

5- «أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ» والطلب الخامس لإثبات النبوّة أنهم أرادوا أن يبني النبي لنفسه قصراً مجللًا بالذهب والزخارف والنقوش، لأن سكّان مكّة كانوا فقراء غالباً فلو أنك كنت تملك مثل هذا القصر العظيم والجذّاب فهذا يدلُّ على أنك مرسل من اللَّه تعالى.

6- «أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ» والذريعة السادسة هي أنهم طلبوا من النبي لإثبات صدق دعواه أن يطير في السماء أمام أعينهم ليذعنوا للحقّ ويؤمنوا بدعوته.

7- «وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا

كِتاباً نَقْرَؤُهُ» وتمادى بعض الكفّار في عنادهم ولجاجتهم وطلبوا من النبي مضافاً إلى طيرانه في السماء أمام أعينهم عليه أن يأتيهم بكتاب من اللَّه إليهم ليقرؤوه.

وكما ترون أن هذه المعاجز السبعة المذكورة في الآية الشريفة تتعلّق بعضها بعمران وإحياء الأرض، وبعض آخر تتضمن الهلاك والموت لهؤلاء المعاندين والمغرورين، والقسم الثالث يتضمن أعمال غير معقولة وغير منطقية، والقسم الرابع لا يتعدّى أن يكون مجرد ذريعة واهية وليس طلباً حقيقياً.

لو كان الأنبياء يتحرّكون في تعاملهم مع أقوامهم من موقع القبول لكلِّ مقترحاتهم والإتيان بالمعجزات كما يرغبون فإنّ بعض الجهلاء والمعاندين والمتذرّعين سيطلبون كلّ يوم معجزة من نبيّهم وسيكون الدين الإلهي ملعبة بأيديهم، ولهذا فإن اللَّه تعالى كان يعطي لكلِّ نبي من الأنبياء معجزة أو معجزات عديدة لبيان حقّانيته وإثبات رسالته ولا يهتم لمطالبات مثل هؤلاء الأشخاص اللجوجين.

ومع الإلتفات إلى هذا المقدمة المطوّلة نعود إلى الآية الشريفة حيث تقول الآية «وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ».

وفي الجواب على هذا الطلب المعقول حسب الظاهر يمكن القول: إنّ نبي الإسلام قد أتى بالمعجزة من اللَّه تعالى بحيث عجز الجن والإنس عن الإتيان بمثلها كما تصرّح الآية 88 من هذه السورة:

«قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 330

فعندما جاء النبي صلى الله عليه و آله لهم بمعجزة من اللَّه تعالى لن يتمكنوا من الإتيان بمثلها مضافاً إلى معجزات اخرى، فلا معنى لطلبهم معجزة

اخرى من النبي الكريم، ولذلك أمر اللَّه تعالى أن يقول في جوابهم: «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ» فمسؤوليتك هي الإنذار والتحذير وليست الإتيان بالآية والمعجزة فإننا نحن الذين نقرر شكل المعجزة وكيفيتها، ولكلِّ قومٍ شخص يهديهم إلى الحقّ.

وعلى هذا الأساس يتّضح التناسب والإنسجام بين صدر الآية وذيلها.

من هو المنذر والهادي؟

اشارة

من هو المنذر والهادي؟

ولغرض توضيح معنى هاتين المفردتين يمكننا البحث في هذا الموضوع من طريقين:

الأوّل: تفسير الآية بدون ملاحظة الروايات

الأوّل: تفسير الآية بدون ملاحظة الروايات

فهل تعني هذه الآية الشريفة أن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله هو «المنذر» وهو «الهادي»؟ أو أنه منذر فقط والهادي شخص آخر؟

وهنا توجد ثلاث نظريات في تفسير هاتين الكلمتين:

1- يرى البعض أن هاتين الكلمتين تعودان كلاهما إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، فهو المنذر وهو الهادي في نفس الوقت.

ولكن الإنصاف إن هذا القول مجانب للصواب ولا ينسجم مع ظاهر الآية ولا يتناسب مع أجواء الفصاحة والبلاغة في اللغة العربية، لأنّ هاتين الكلمتين لو كانتا تعودان على شخص واحد فمقتضى الفصاحة والبلاغة أن تقول الآية:

«أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ» لا أن تكون كلمة «هادٍ» في جملة مستقلة ومنفصلة عن الجملة الاولى، وعليه فإنّ الظاهر من الآية أن تكون كلمة «هادٍ» متعلّقة بشخص آخر غير نبي الإسلام صلى الله عليه و آله حيث ينبغي استكشافه من خلال القرائن والشواهد الاخرى.

2- وذهب آخرون إلى أن «المنذر» يعود إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بينما «الهادي» يعود إلى اللَّه تعالى، فالنبي هو المنذر للناس، واللَّه تعالى هو الهادي لكلِّ قوم إلى الصراط المستقيم وطريق الحقّ.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 331

ولكن يمكن أن يقال في مقام الجواب أن هذه النظرية أيضاً لا تنسجم مع ظاهر الآية الشريفة لأن كلمة «هادٍ» وردت في هذه الآية «نكرة» في حين أن اللَّه تعالى هو أعرف المعارف وأجلى ما يكون عن الخفاء

والتنكير، مضافاً إلى أن ظاهر الآية يدلُّ على وجود «هادٍ» لكلِّ قوم من الأقوام السالفة لا أن الهادي لجميع الأقوام هو شخص واحد، وعليه فإنّ هذا التفسير لا يتناسب مع أجواء الآية الشريفة.

3- هو أن يقال بأن الهادي شخص آخر غير اللَّه تعالى وغير نبيّه الكريم، فهل يمكن أن يكون المقصود بهذه الكلمة هم العلماء من كلِّ قوم وطائفة؟ كلا، لا يمكن أن يكون المقصود هو العالم من كلِّ قوم، لأن كلمة «هادٍ» وردت نكرة كما تقدّم، والنكرة تدلُّ على الوحدة، أي أن لكلِّ قوم وطائفة هادٍ واحد من الناس، فمن هو هذا الشخص الهادي للُامّة الإسلامية؟

ومع الأخذ بنظر الإعتبار مجموع ما تقدّم من أبحاث في تفسير هذه الآية يمكن القول في شرح معناها والمراد منها كما يلي:

«أيُّها النبي: أنت المنذر والمؤسس للرسالة الإسلامية والدين الإسلامي ولكلِّ دين هناك شخص بمثابة الحافظ والحارس لهذا الدين والذي يأخذ بعهدته هداية الناس إلى اللَّه تعالى وسوقهم إلى الحقّ».

ومن جهة اخرى فإنّ اتحاد السياق يقتضي أن يكون تعيين هذا الهادي ونصبه من قبل اللَّه تعالى، كما أن المنذر وهو النبي الأكرم صلى الله عليه و آله معيّن ومنصوب من اللَّه تعالى.

وعلى هذا الأساس فإنّ الهادي لا يقصد به اللَّه تعالى أو النبي أو علماء الامّة بل يجب أن يكون شخصاً آخر معيّناً ومنصوباً من قبل اللَّه تعالى.

ومن جهة ثالثة فإنّ الشخص الوحيد الذي ورد في حقّه نصٌّ صريح من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على ولايته وإمامته هو الإمام علي عليه السلام ولا يوجد نصٌّ في هذا الشأن لغيره من الصحابة، وحتّى أن علماء أهل السنّة لم يدّعوا مثل هذا الإدعاء، وعليه فلو قلنا أنّ

«المنذر» هو رسول اللَّه و «الهادي والإمام» هو الإمام علي عليه السلام المنصوب لهذا المقام من قبل اللَّه تعالى وبواسطة نبيّه الكريم فإنّ هذا المعنى يتناسب مع أجواء الآية الشريفة.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 332

الطريق الثاني: تفسير الآية بملاحظة الروايات الشريفة

الطريق الثاني: تفسير الآية بملاحظة الروايات الشريفة

وهناك روايات عديدة ناظرة إلى بيان المراد من هذه الآية الشريفة حيث نشير هنا إلى خمسة نماذج منها، ثلاثة منها من مصادر وكتب أهل السنّة ورواية واحدة من مصادر الشيعة، أما الرواية الخامسة فمذكورة في كتب الفريقين.

1- يقول ابن عبّاس الراوي والمفسّر المعروف:

لَمّا نَزَلَتْ «أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ» وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ، فَقالَ: أَنَا الْمُنْذِرُ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ عَلَى مِنْكَبِ عَلِيٍّ، فَقالَ: أَنْتَ الْهادِي يا عَلِيّ، بِكَ يَهْتَدِي الْمُهْتَدُونَ مِنْ بَعْدِي «1».

هذه الرواية الشريفة مذكورة في مصادر أهل السنّة وهي صريحة على أن المقصود ب «الهادي» هو علي ابن أبي طالب عليه السلام.

2- وجاء في كتاب «شواهد التنزيل» «2» و «الدرّ المنثور» عن أبي برزة الأسلمي أنه قال:

سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و آله يَقُولُ: «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ» وَضَعَ يَدَهُ عَلى صَدْرِ نَفْسِهِ، ثُمَّ وَضَعَها عَلى صَدْرِ عَلِيٍّ وَيَقُولُ «لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ» «3».

وهذه الرواية أيضاً مذكورة في كتابين من الكتب المعتبرة لدى أهل السنّة، وقد رواها شخص آخر غير ابن عبّاس ونجد أنها تصرّح بأن «الهادي» هو علي بن أبي طالب عليه السلام.

3- وجاء في كتاب «مستدرك الصحيحين» المعروف لدى علماء أهل السنّة، رواية في تفسير الآية المذكورة

عن الإمام علي عليه السلام نفسه:

عَنْ عَلِيٍّ: «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ» قالَ عَلِيُّ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله الْمُنْذِر وَأَنَا الْهادِي «4».

وطبقاً لهذه الرواية المذكورة في كتاب آخر من كتب ومصادر أهل السنّة المعروفة أن الإمام علي عليه السلام هو الهادي.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 333

سؤال: من المعلوم في علم الدراية والحديث أن الراوي لو روى حديثاً يتضمن مدحه والثناء عليه فإنّ هذه الرواية لا تكون مقبولة، فكيف يمكن الإستدلال بالرواية المذكورة آنفاً على المطلوب والحال أن الراوي هو الإمام علي عليه السلام نفسه؟

الجواب: إنّ هذا الكلام صحيح بالنسبة إلى غير المعصومين، ولكن بالنسبة إلى المعصومين الذين لا يتصور في حقّهم الخطأ والذنب فغير صادق، والإمام علي عليه السلام باعتقاد جميع الشيعة معصوم، وكذلك يرى أهل السنّة أن الأحاديث والروايات الواردة عن جميع الصحابة وأحدهما الإمام علي عليه السلام، حجّة ودليلًا شرعياً، وعليه فالإشكال المذكور مردود وغير وارد لدى كلا الفريقين.

4- ما ورد في مصادر الفريقين العامّة والخاصّة من حديث الإسراء حيث رواه أهل السنّة عن ابن عبّاس «1» ورواه علماء الشيعة عن ابن مسعود، ويروي هذان عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هذه الرواية، حيث قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

لَمّا اسْرِيَ بي الَى السَّماءِ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي و بَيْنَ رَبّي مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَ لا نَبِيُّ مُرْسَلٌ وَ لا حاجَةٌ سَأَلْتُ إلّا أَعْطانِي خَيْراً مِنْها فَوَقَعَ فِي مَسامِعي «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ» فَقَلْتُ: إِلهي أَنَا الْمُنْذِرُ، فَمَنِ الْهادِي؟

فَقالَ: يا مُحَمَّد ذاكَ عَلِيُّ بْنُ أَبي طالِبِ غايَةُ الْمُهْتَدِينِ، إمامُ الْمُتَّقِينَ، قائِدُ الغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ «2»؛ وَمَن يَهْدِي مِنْ امَّتِكَ بِرَحْمَتِي إلَى الْجَنَّةِ «3».

هذه الرواية الجذّابة والشيقة تبيّن بجلاء تطبيق الآية محل البحث على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله والإمام علي عليه السلام في السماء.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 334

توصيات آية الولاية والإنذار

اشارة

توصيات آية الولاية والإنذار

هذه الآية الشريفة لا تقتصر على بيان بعض البحوث الإعتقادية والتاريخية، بل تتضمن توصيتان لجميع المسلمين والشيعة في عصرنا الحاضر وتفتح لهم أبواب الحياة الكريمة والعقيدة السليمة في هذا الزمان وجميع الأزمنة وبإمكانها فيما لو جسّدها الإنسان على مستوى الممارسة والعمل أن تحلّ كثيراً من مشكلاته في حركة الحياة:

1- التعصّب هو الحجاب والمانع!

1- التعصّب هو الحجاب والمانع!

يستفاد من المقطع الأوّل لهذه الآية الشريفة أن الإنسان لا يمكنه أن يصل بأدوات التعصّب واللجاجة إلى أي مرتبة من مراتب المعرفة والكمال الإنساني، فلو أراد الإنسان أن يدرك الحقّ والحقيقة فينبغي عليه أن يتحرّك في خطّ الحقّ من موقع التسليم والإذعان لا من موقع التفسير بالرأي وتحكيم الآراء المسبقة وإتّباع الأهواء النفسية، ولهذا نرى أن الآيات القرآنية والروايات الشريفة قد نهت بشدّة عن «الجدال بالباطل» وحذّرت من عاقبة إتّباع هذا الطريق المنحرف للوصول إلى الحقّ، حيث يقول القرآن الكريم في الآية الثالثة من سورة الحجّ:

«وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ».

فالمجادلة بالباطل في هذه الآية الشريفة قد جعلت رديفاً لإتباع الشيطان المريد، وهذا يعني أن الإنسان إذا صار في خطّ الجدل والمراء وتعامل في حواره مع الآخرين بلغة التعصّب والإبتعاد عن المنطق فإنه يكون قرين «الشيطان المريد».

ونقرأ في الروايات الإسلامية ما يؤكد هذا المضمون من أن أحد الحجب والموانع المهمة للإيمان والوصول إلى مرتبة اليقين هو الجدال بالباطل والمناقشة مع الطرف المخالف بلغة الإتهام وعدم التمسك بالبرهان المنطقي والعقلاني، فقد ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قوله:

«ما ضَلَّ قَوْمٌ إلّا أَوْثَقُوا الْجِدالَ» «1».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 335

فطبقاً لهذه الرواية الشريفة أن العامل الوحيد للضلالة والإبتعاد عن الحقّ هو البحث غير المنطقي والجدال من موقع الخصومة والتعصّب المذهبي.

سؤال: لماذا كانت جميع أسباب وعوامل الضلالة والزيغ تمتد بجذورها إلى الجدال بالباطل؟

الجواب: لأن الإنسان لو وجد في نفسه إذعاناً وتسليماً للحقّ فإنّ الدعاة إلى الحقّ كثيرون في هذه الدنيا وبإمكان الإنسان أن يجد طريق الهداية والإيمان الصحيح بيسر وسهولة، وقد ورد أن الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام في جوابه لهارون الرشيد عندما طلب منه الموعظة والنصيحة قال:

«ما مِنْ شَي ءٍ تَراهُ عَيْناكَ إلّاوَفِيهِ مَوْعِظَةٌ» «1».

أي أن جميع ما في الأرض من كائنات ومخلوقات وظواهر طبيعية هي في الحقيقة موعظة لمن فتح قلبه على اللَّه والحقّ، فالسماء بكلِّ ما تحوي مجرّات عظيمة وشموس منيرة ما هي إلّا موعظة، ظاهرة الزمان والمكان موعظة، الحوادث المفرحة والمرّة موعظة، أجل فكلّ هذه الامور تكون موعظة بشرط أن يتمتع الإنسان باذنٌ واعية وعينٌ بصيرة وفؤاد حيّ.

وتأسيساً على هذا فإنّ الحقّ لا يخفى على طلّاب الحقّ وعشّاق الحقيقة، ومن وقع في وادي الضلالة والإنحراف فإنه يعاني من مشكلة في واقعه النفساني قبل كلِّ شي ء وبالتالي يعيش مرض الجدال بالباطل.

وقد أتّضح ممّا تقدّم أنه لا تفاوت بين المباحث والمواضيع الدينية والأخلاقية والسياسية وأمثال ذلك، فمثلًا ما نقرأه في الصحف والإعلام حول المسائل السياسية يتدخل فيه هذا العنصر بالذات، أي أن كلُّ طرف من الأطراف المتنازعة لا يريد أن يذعن ويسلّم للحقّ بل يريد أن يحكّم رأيه ويفرض نظره على الآخرين بعيداً عن معايير الحقِّ والإنصاف، وإلّا فإنّ تشخيص الحقّ في المسائل السياسية لا يكون مشكلًا

وعسيراً أيضاً، ولكن عندما تتدخل المسألة في إطار التعصّب المذهبي والمنافع الشخصية والحزبية فإنّ

آيات الولاية فى القرآن، ص: 336

الإنسان يبتعد عن أجواء الحقّ وسيختفي نور الحقّ بغشاوة سميكة من ظلمات الأهواء النفسانية.

ونقرأ في رواية اخرى عن أميرالمؤمنين ومولى المتقين أنه قال:

«الْجَدَلُ فِي الدِّينِ يُفْسِدُ الْيَقِينَ» «1».

لأن الإنسان عندما يعيش حالة الجدل الدائم مع الآخرين فتدريجياً يطرح رغباته وميوله وأفكاره الشخصية المستوحاة من الأهواء النفسية في لباس الدين والمذهب ويتصور أن هذا الرأي ما هو إلّاقراءة سليمة للدين وللمفاهيم القرآنية.

والخلاصة أنه ورد النهي الشديد والأكيد في الآيات والروايات الشريفة عن الجدل بالباطل، وأما الجدل بالحقّ والحوار المنطقي والهادف والذي يقوم على أساس الأدلّة والبراهين العقليّة ويكون الهدف منه هو إيضاح الحقيقة واستجلاء كوامن الحقّ من دون أن تكون رغبة لدى الطرفين في الإستعلاء والغلبة والتفوق على الخصم فإنّ مثل هذا الجدال والحوار ليس فقط لا إشكال فيه بل هو مأمور به من قبل اللَّه تعالى، حيث نقرأ في الآية 125 من سورة النحل قوله:

«وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ».

2- الإقتداء بالهادي

2- الإقتداء بالهادي

والتوصية الثانية للآية الشريفة والتي تستفاد من المقطع الثاني لها هي أن المسلمين لو أرادوا الهداية إلى اللَّه تعالى والسير في خطّ التقوى والإيمان فلابدّ أن يتّخذوا الإمام علي عليه السلام قدوة وعلى أساس من كونه «هادياً» للمسلمين.

الإمام علي عليه السلام في أخلاقه وسلوكياته وأقواله وكتبه المشحونة بالمعارف العالية والمفاهيم السامية وكلماته القصار المليئة بالموعظة والحكمة، وتاريخ حياته الملي ء بالدروس والعبر، وآداب معاشرته وأخلاقه الجذّابة مع الآخرين، ومديريته القوية والرصينة،

آيات الولاية فى القرآن، ص: 337

واسلوب تعامله وتفاعله مع الأحداث والأشخاص والأقوام من الداخل والخارج، وأخيراً إرشاداته وتعليماته الإنسانية كلُّها يمكن أن تكون اسوة وقدوة لجميع المسلمين في حركتهم الدنيوية وسلوكهم المعنوي في خطّ التكامل الأخلاقي والإلهي.

ونحن الذين ندّعي الولاية لهذا الإمام العظيم وندّعي أننا من أتباعه فما هو مقدار الفاصلة بين حياتنا وتعاملنا وأفكارنا مع حياة ذلك الإمام وأفكاره وأخلاقه؟ لنرى طعام الإمام علي عليه السلام كم كان زهيداً وبسيطاً، ولباسه في أوج اقتداره وحكومته كم كان رخيصاً وساذجاً، فهل أن زخارف الدنيا وتجملاتها استطاعت أن تقيّد الإمام علي عليه السلام وهو في أعلى مواقع القدرة بحبائلها وأن تؤسره بأسلاكها، بل نقرأ في التواريخ أن تشييع الإمام ومراسم تكفينه ودفنه كانت بسيطة للغاية، ولكن مع الأسف أنّ بعض من يدّعي أنه شيعة علي عليه السلام يعيش في عالم الزخارف الدنيوية البرّاقة وقد أصبح أسيراً لاحابيلها الموهومة، بل إنّ المراسم التي تجرى لهم بعد وفاتهم من بذل الطعام ومجالس الفاتحة والعزاء مليئة بالمظاهر البرّاقة ومشحونة بعناصر الهوى والفخفخة بحيث لا نجد شبهاً بينها وبين مجالس العزاء الحقيقية بل قد تنفق في هذه المجالس ملايين الدنانير من دون أن تكون الدوافع سليمة والغايات إلهية.

وقد سمعت قبل مدّة خبراً قد يكون مفرحاً من جهة ومثيراً للقلق من جهة اخرى، وهو:

«مات أحد الأشخاص فقرر أولياء الميت وأبناؤه أن ينفقوا مصارف مجلس العزاء ومراسم الفاتحة على الامور الخيرية، فجلسوا لمحاسبة نفقات مجلس العزاء هذا فتبيّن أنه قد يصل إلى خمسة ملايين تومان، فقرّر هؤلاء الأبناء

أن ينفقوا هذا المبلغ على البنات من العوائل الفقيرة لكي يأمّنوا لهم جهاز العرس وأثاث البيت الزوجي بدلًا من صرفه على مجلس العزاء والفاتحة، فكان هذا المبلغ يكفي لتجهيز عشرة بنات، أي يكفي لتكوين عشر عوائل جديدة ومحتاجة».

هذا الخبر هو مقلق ومثير للتشويش من جهة المبالغ الطائلة التي تصرف على مجالس العزاء هذه، ومن جهة اخرى مفرح ومثير للإرتياح والإنبساط بأن يقوم أولياء الميت وورثته بخطوة مهمة مستوحاة من العقل والوجدان ويقرّروا إنفاق ذلك المبلغ الكبير على امور خيرية وإنسانية.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 338

ما المانع من أن يقوم المسلم بإنفاق مثل هذه المبالغ الكبيرة على امور إنسانية وموارد خيرية بدلًا من بذلها لمظاهر خاوية وتشريفات زائفة؟

عزيزي القارئ: إنّ توفير مقدّمات الزواج للشباب المحتاجين ليست وظيفة وتكليف الوالدين فقط بل هو تكليف عام لجميع المسلمين كما تقول الآية الشريفة:

«وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ» «1».

فهذه الوظيفة في الحقيقة تتعلق بجميع أفراد المجتمع، ولا يقتصر الحال على مسألة الزواج بل سائر المشكلات والمعضلات التي تواجه الشباب والفتيات في مجتمعاتنا الإسلامية حيث ينبغي أن نمدُّ لهم يد العون ونسعى في حلّ مشاكلهم والتخفيف من آلامهم وهمومهم في حركة الحياة من قبيل مشكلة «العطالة» التي تمثل العامل المهم لكثير من المفاسد الإجتماعية، وكذلك مشكلة «المسكن» ومشكلة «التحصيل الدراسي» وأمثال ذلك.

ينبغي علينا وبالإلهام من سيرة أميرالمؤمنين عليه السلام أن نتحرر من قيود وأسر التشريفات والظواهر البرّاقة والإبتعاد عن منزلقات الزخارف الدنيوية ونعيش البساطة والطهارة والنقاء في الحياة الفردية والإجتماعية بل

يجب على الحكومة الإسلامية مضافاً إلى توفير المناخ المناسب لمثل هذه السلوكيات والقيم الأخلاقية والثقافية لجميع أفراد المجتمع أن يقوم المسؤولون أنفسهم بالعمل بهذا المبدأ المقدّس لكي يمكنهم في حال إصلاح هذه الأزمة الإجتماعية والإدارية، إصلاح قسم مهم من الفساد الإقتصادي والتخلف الإجتماعي الذي تعاني منه البلدان الإسلامية وبالتالي يتسنّى للمسلمين التخلص من التبعية للأجنبي والإستعمار الذي لا يفكر إلّافي مصالحه الشخصية ومنافعه المادية، ونستطيع إن شاء اللَّه ببركة ذلك الإمام الهمام أن نحفظ عزّة وكرامة الامّة الإسلامية ونحلّ مشكلاتها.

نسأل اللَّه تعالى أن يوفقنا لاستماع قول الحقّ ويرزقنا اذناً واعية لفهم هذه التعليمات المهمة الواردة في دائرة المفاهيم القرآنية ثمّ يوفقنا لتجسيد هذه المفاهيم على مستوى العمل والتطبيق والإستفادة من ثمراتها الكثيرة وبركاتها العميمة إنه أرحم الراحمين ... آمين يا ربّ العالمين.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 339

آية خير البريّة

اشارة

آية خير البريّة 14

[سورة البينة (98): الآيات 7 الى 8]

قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)

«سورة البيّنة/ الآية 7 و 8»

أبعاد البحث

أبعاد البحث

هذه الآية الشريفة أيضاً من الآيات التي تتعلّق بموضوع الإمامة والخلافة، وتدلُّ بدقائق عباراتها الظريفة على أحقيّة مقام الإمامة والخلافة للإمام علي عليه السلام، ولا يوجد فيها اختلاف على مستوى السياق والمدلول «خلافاً للآيات السابقة» وأما كيفية الإستدلال بهذه الآية لإثبات الولاية والإمامة فيحتاج إلى دقّة وتدبّر خاصّ كما سيأتي بيانه لاحقاً.

الشرح والتفسير: أفضل المخلوقات وشرّها

الشرح والتفسير: أفضل المخلوقات وشرّها

من أجل إيضاح المراد من الآية الشريفة «آية خير البريّة» واستجلاء المفهوم منها نرى من الضروري أن نشرع بشرح الآية السادسة من سورة البيّنة:

«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 340

أي أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين لم يقبلوا بالإسلام وكذلك المشركون وعبادة الأوثان يشتركون في العاقبة و المصير الاخروي فجميعهم يردون جهنم خالدين فيها.

«أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ».

وهذا هو السبب في أنهم مخلّدون في نار جهنم، وكأن هذه الجملة وردت في مقام الدليل لبيان سبب خلود هؤلاء في نار جهنم «1».

ويستفاد من الآيات السابقة لهذه الآية الشريفة أن هؤلاء ليسوا من الكفرة العاديين بل هم طائفة من الكفّار الذين فهموا الرسالة الإلهية واتّضحت لديهم الحجّة والبيّنة وعلموا بحقّانيّة الإسلام والرسالة السماوية ولكنّهم مع ذلك أصرّوا على عنادهم ولجاجتهم وانطلقوا في عداءهم مع الحقّ والعدل من موقع الخصومة والعدالة، وعليه فإنّ هذه الآية لا تشمل كلُّ الكفّار والمشركين وأهل الكتاب حتّى لو تحرّكوا في خطّ الباطل والكفر من موقع الجهل والغفلة، فالخطأ الذي ينطلق من موقع الغفلة والإندفاع العفوي ليس كالخطأ الذي

ينطلق من موقع التمرّد والجحود مع وعي الموقف ووضوح الرؤية.

وبعد أن ذكرت الآية الشريفة شرّ المخلوقات تحرّكت الآية التي بعدها لبيان أفضل المخلوقات وقالت:

«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ».

فقد ذكرت هذه الآية الشريفة لأفضل مخلوقات اللَّه ثلاث صفات وخصوصيات:

1- «الَّذينَ آمَنُوا» فالخصوصية الاولى لهؤلاء هي إيمانهم باللَّه تعالى والنبي الأكرم صلى الله عليه و آله ويوم القيامة، وعليه فإنّ المشركين وجميع الأشخاص الذين لا يدينون بدين الإسلام خارجون عن هذه الدائرة ولا يتّصفون بهذه الصفة الكريمة.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 341

2- «وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ» الخصوصية الثانية للأشخاص الذين هم «خير البريّة» هو أنهم يتحرّكون في واقعهم الإجتماعي من موقع العمل الصالح الذي يستوحي مقوّماته من الإيمان والإعتقاد في عالم القلب والروح.

«العمل الصالح» «1» يتضمن معنىً عاماً وشاملًا، وقد ورد في الروايات الشريفة أن أدنى مرتبة له هو «اماطَةُ الْأذى عَن الطَّريقِ» وأعلى مرتبة له هو اعتناق دين الحقّ والشهادة بالتوحيد «وأعْلاها شَهادَةُ انْ لا الهِ إلّااللَّه» «2».

والخلاصة أن الصفة الثانية لهؤلاء هي أنهم يعملون الأعمال الصالحة.

3- «ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ» الخصوصية الثالثة لهؤلاء الأشخاص هي أنهم يتمتعون بمقام «الخشية» من اللَّه تعالى، فمضافاً للإيمان والعمل الصالح فإنهم يعيشون حالة الخشية والخضوع والإذعان للحقّ تعالى والتسليم لأوامره وتعليماته.

سؤال: هل أن «الخشية» هي شي ء آخر غير الإيمان والعمل الصالح؟

الجواب: نعم، إنّ الخشية مرتبة أعلى من الإيمان والعمل الصالح، والظاهر أنها تعني الإحساس بالمسؤولية، فتارةً يعيش الإنسان الإيمان والعمل الصالح ولكن ذلك لا يعني أنه يتحلّى بعنصر الإحساس

بالمسؤولية ولا يكون إيمانه وعمله الصالح مسترفداً من إحساسه بالمسؤولية بل بسبب العادة والتربية وأجواء الاسرة والمحيط الإجتماعي، وتارةً اخرى يتحرّك الإنسان في إيمانه وعمله الصالح على أساس من أحساسه بالمسؤولية، فمثل هذا الإنسان يتعامل مع الأحداث والأشخاص والمواقف المختلفة من منطلق إحساسه بالمسؤولية ويكون سلوكه وممارساته في حركة الحياة الفردية والإجتماعية قائمة على هذا الدافع النفساني والوجداني.

والنتيجة هي أن «خير البريّة» هم الذين يتمتعون بثلاث صفات: الإيمان، العمل الصالح، الإحساس بالمسؤولية.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 342

وبعد ان تنتهي الآية الشريفة من تعريف «خير البريّة» وتبيين صفاتهم وخصائصهم تتعرض كذلك لبيان أجرهم وثوابهم عند اللَّه وتقول:

«جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ».

إنّ ثواب «خير البريّة» في الدار الآخرة يتضمن الثواب المادي والمعنوي على السواء، لأن الإنسان مركّب من جسم وروح، فجسمه يطلب الثواب المادي، وروحه تشتاق إلى الثواب المعنوي.

أما الثواب المادي لهؤلاء الصالحين فهو عبارة عن الجنّة الخالدة والبساتين اليانعة التي تجري من تحت أشجارها الأنهار «1» والمياة العذبة بصورة دائمة.

البساتين على نحوين:

1- البساتين التي تردُّ إليها المياه من خارجها ويتمُّ سقي أشجارها بالماء بين كلِّ حين وآخر وعلى فواصل زمنيّة معيّنة، فالمياه لا تجري دائماً في جداولها وسواقيها.

2- البساتين التي تتوفر فيها المياه بصورة دائمة وتجري في سواقيها وبين أشجارها، وبلاشك أن مثل هذه البساتين تنعم أشجارها بطراوة خاصّة ومشهد جذّاب ولا يخشى عليها الجفاف والذبول، فبساتين الجنّة التي تقدّم وصفها في الآية الشريفة هي من النوع الثاني، فهي خضراء يانعة دائماً.

«خالِدِينَ فِيها أَبَداً» فكما أن

الكفّار والمشركين وأهل الكتاب الذين وقفوا من الرسالة الإلهية موقف المعاند والعدو مخلدون في نار جهنم، وكذلك المؤمنون الذين يعيشون الإحساس بالمسؤولية ويترجمون إيمانهم وإحساسهم هذا على مستوى الممارسة والأعمال الصالحة هم مخلدون في الجنّة أيضاً.

«رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ» وتشير هذه الجملة إلى الثواب المعنوي لهؤلاء المؤمنين، وهو أن اللَّه تعالى ينعم عليهم بالمواهب الاخروية العظيمة إلى درجة أنهم يعيشون الرضا والسرور الفائق، ومن جهة اخرى فإنّ لطف اللَّه تعالى ورحمته بهؤلاء يبلغ إلى الحدّ الذي يرضى اللَّه عزّوجلّ عنهم.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 343

فما أعظم هذا المقام الشامخ، وما أعظم هذه المرتبة السامية التي لا تتصور فوقها مرتبة في عالم الكمال والنعمة والسعادة.

والنتيجة التي نستخلصها من هذه الآيات الشريفة الثلاث أنها ذكرت خصوصيّات «شرُّ البريّة» وعقوباتهم في الدار الآخرة، وكذلك صفات وخصوصيّات «خير البريّة» وأجرهم وثوابهم عند اللَّه في يوم القيامة.

خير البريّة في الروايات

خير البريّة في الروايات

سؤال: هل أن المفهوم من هذه الآية الشريفة عام أو خاصّ؟

وبعبارة اخرى: هل أنّ «خير البريّة» يشمل جميع المؤمنين الذين يعملون الصالحات، أو يتحدد بفئة خاصّة منهم؟

الجواب: ومن أجل التوصل إلى جواب هذا السؤال نرى من اللازم الرجوع إلى الروايات الواردة في شأن نزول هذه الآيات الكريمة:

طبقاً للروايات الكثيرة الواردة في مصادر وكتب الشيعة وأهل السنّة أن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله ذكر في تفسير «خير البريّة» أنهم: عليّ وشيعته، وقد وردت هذه الروايات في كتب مختلفة، منها:

1- «شواهد التنزيل» لمؤلفه الحاكم الحسكاني «1».

2- «الصواعق المحرقة» تأليف ابن حجر الهيثمي «2»

3-

«الدرّ المنثور» للسيوطي «3».

4- «نور الأبصار» لمحمّد الشبلنجي «4».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 344

5- «تفسير الطبري» «1».

6- «روح المعاني» للآلوسي «2».

7- «المناقب» للخوارزمي «3».

8- «فتح الغدير» للعلّامة الشوكاني «4».

وقد أورد صاحب كتاب «شواهد التنزيل» في كتابه هذا أكثر من عشرين رواية في ذيل آية خير البريّة، وقد اخترنا منها ثلاث روايات كنموذج لتقرير المطلوب، وهي كالتالي:

الف) يقول جابر بن عبداللَّه الأنصاري الصحابي المعروف: كنت جالساً مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وجماعة من أصحابه عند الكعبة، وإذا بعليّ قد ظهر لنا من بعيد، فلمّا رآه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال لأصحابه:

«قَدْ أَتاكُمْ أَخي، ثُمَّ الْتَفَتَ إلَى الْكَعْبَةِ، فَقالَ وَرَبِّ هذِهِ الْبُنْيَةِ! إنَّ هذا وَشِيعَتَهُ هُمُ الفائزونَ يَوْمَ الْقيامَةِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: أَما وَاللَّهِ إنّهُ أَوَّلُكُمْ إيماناً باللَّهِ، وَاقْوَمُكُمْ بأمر اللَّهِ وَأَوفاكُم بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَقْضاكُمْ بِحُكْمِ اللَّهِ وَأَقْسَمُكُمْ بِالسَّوِيَّةِ وَأَعْدَلُكُمْ فِي الرَّعيَّةِ وَأَعْظَمُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَزِيَّةً. قالَ جابِرُ فَأَنْزَلَ اللَّه: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ...

خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» فَكانَ عَلِيٌّ إذا أَقْبَلَ قالَ أَصْحابُ مُحَمّدٍ: قَدْ أَتاكُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ بَعْدَ رَسُول اللَّهِ» «5».

ويستفاد من العبارة الواردة في ذيل هذه الرواية الشريفة أنها كانت مشهورة بين المسلمين في صدر الإسلام، وعليه فإنّ الرواة لها لا يقتصرون على ابن عبّاس وجابر بن عبداللَّه وأبو برزة.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 345

ب) ويقول جابر في رواية اخرى:

أنه عندما نزلت آية خير البريّة، التفت النبي الأكرم صلى الله عليه و آله إلى علي بن أبي طالب عليه السلام وقال:

«هُمْ أَنْتَ وَشِيعَتُك، تَرِدُّ عَلَيَّ وَشِيعَتُكَ رَاضِينَ مَرْضِيِّيْنَ» «1».

ج) يقول أبو برزة الأسلمي: عندما نزلت آية خير البريّة قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لعلي بن أبي طالب:

«هُمْ أَنْتَ وَشِيعَتُكَ يا عَلِيّ، وَميعادُ ما بَيْني وَبَينكَ الْحَوْضُ» «2».

د) ويروي ابن عساكر في شرح هذه الآية الشريفة «آية خير البريّة» عن عائشة رواية طريفة، (ورغم أن عائشة لم تكن على علاقة جيّدة مع علي بن أبي طالب وقد قامت بوجهه في حرب الجمل) قال:

«وفي رواية لعائشة عن عطاء قال سألت عائشة عن علي فقالت: ذاك خير البشر لا يشك فيه إلّاكافر» «3».

والنتيجة أنه طبقاً للروايات الكثيرة الواردة في تفسير آية خير البريّة أن المراد من «خير البريّة» هو علي بن أبي طالب عليه السلام.

سؤال: ويطرح الآلوسي في روح المعاني سؤالًا بهذه الصورة:

إذا كان المراد من خير البريّة هو علي بن أبي طالب عليه السلام فهل أنه أعلى مقاماً من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟ لأنّ كلمة «خيرالبريّة» في الآية الشريفة وردت بشكل مطلق، ومفهومها أن المصداق لها هو أفضل من جميع الناس.

الجواب: لو تدبرنا في مضمون الآية الشريفة لأتضح الجواب عن هذا السؤال، لأنه كما تقدّم أن أحد الشروط التي لابدّ أن تتوفر في «خير البريّة» هو الإيمان، أي الإيمان باللَّه والرسول وسائر مبادئ وأحكام الإسلام، وعليه فإنّ الإمام علي من جهة اعتقاده وإيمانه العميق باللَّه تعالى ورسوله الكريم هو خير البريّة، فكيف يمكن أن يكون الإمام علي

آيات الولاية فى القرآن، ص: 346

وبسبب اعتقاده وإيمانه برسول اللَّه هو خير البريّة وفي نفس الوقت يكون أعلى مرتبة من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله نفسه؟ ولهذا السبب ورد في رواية جابر بن عبداللَّه الأنصاري المذكورة في منابع أهل السنّة أنّ عليّ بن أبي طالب خير البريّة بعد رسول اللَّه.

سؤال آخر: ما هي العلاقة بين الآية الشريفة وبين مسألة الإمامة والخلافة لأميرالمؤمنين عليه السلام؟ وعلى فرض أن يقبل أهل السنّة بأن علي بن أبي طالب هو خير البريّة كما ورد في رواياتهم، ولكن كيف يمكن الإستدلال بهذه الآية على إمامته وخلافته بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟

الجواب: بالنسبة إلى طريقة تعيين الخليفة بعد النبي هناك اختلاف بين الشيعة وأهل السنّة، فالشيعة يرون أن الخليفة والإمام بعد رسول اللَّه يجب أن يكون منصوباً ومعيّناً من قبل اللَّه تعالى «1»، إذن فتعيين الخليفة في نظر الشيعة هو أمر انتصابي لا انتخابي، ولكنّ أهل السنّة يرون أن تعيين الخليفة بعد النبي هو أمر انتخابي ويجب أن يختاره الناس إماماً وزعيماً لهم، فإذا حظى بموافقة الناس وانتخابهم له صار خليفة لرسول اللَّه.

وطبعاً إنّ هذا الإختلاف في مفهوم وطريقة تعيين الخليفة لا يؤثر في المفهوم من الآية الشريفة لأنه لو كانت الخلافة انتخابية أو انتصابية فإنّ الإمام علي هو الوحيد اللائق لهذا المقام، لأنه لو كانت انتصابية كما يعتقد الشيعة فمع وجود الإمام علي الذي هو خير البريّة وأفضل مخلوقات عالم الوجود فإنّ اللَّه الحكيم لا يختار شخصاً آخر غيره لهذا المقام وإلّا لكان منافياً لمقتضيات الحكمة الإلهية، ولو كانت المسألة انتخابية فهل

يعقل مع وجود أفضل الناس وأعلمهم أن يختار العقلاء شخصاً آخر لهذا المقام؟

من الواضح أن ما يعتذر به البعض من أنّ المسلمين في ذلك الزمان لم يكونوا يعرفون الأفضل والأعلم هو عذر غير مقبول مع وجود كل هذه الروايات الكثيرة التي مرّت سابقاً ومع اشتهار مقام الإمام علي عليه السلام ومناقبه وفضائله بعنوان إنه «خير البريّة».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 347

ومع الإلتفات إلى ما تقدّم يتّضح جيّداً ارتباط الآية الشريفة مع مسألة الولاية والإمامة.

السؤال الثالث: إنّ الأفضل عادةً يكون شخصاً واحداً لا أكثر، وعليه كيف يكون الإمام علي وشيعته هم الأفضل؟

الجواب: إنّ مقام أفضل الخلق له مراتب، فيمكن أن يكون أحد الأشخاص على رأس الهرم في سلسلة الأفاضل، وهناك أشخاص آخرون يقعون في المراتب التي تلي هذه المرتبة، وهناك طائفة ثالثة أدنى منها وهكذا، وعليه فإنّ الإمام علي يقف على رأس الهرم في الأفضلية ويأتي شيعته في المراحل الدانية.

والنتيجة لجميع هذه الأبحاث أن «خير البريّة» ومن يحوي الصفات الثلاثة: الإيمان، العمل الصالح والإحساس بالمسؤولية، هم علي وشيعته.

توصيات آية خير البريّة

اشارة

توصيات آية خير البريّة

إنّ هذه الآية الشريفة والروايات الواردة في تفسيرها تتضمن توصيات مختلفة، منها:

1- نظام القيم في الإسلام

1- نظام القيم في الإسلام

إنّ قيمة كلُّ دين أو مذهب تكمن في منظومة القيم لذلك الدين أو المذهب، وببيان أوضح: إنّ كلُّ دين أو مدرسة فكرية وفلسفية تدور حول محور أساسي، وذلك المحور يكون بمثابة النظام القيمي والمعيار الذي ترسل فيه معالم ذلك الدين والمدرسة الفكرية، وكمثال على ذلك:

الف: ذكرت الآيات الكريمة في حديثها عن منظومة القيم الأخلاقية للمجتمع الفرعوني الطاغوتي كما ورد ذلك في الآية 51 من سورة الزخرف على لسان فرعون:

«وَ نادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلا تُبْصِرُونَ».

هنا نرى أن فرعون يفتخر بتسلطه على مصر واستلامه زمام الامور في حكومة مصر،

آيات الولاية فى القرآن، ص: 348

تلك الحكومة المستبدة والديكتاتورية، وهذا السياق القرآني يعبّر في الحقيقة عن نظام القيم في حكومة فرعون، وعلى هذا الأساس فالإنسان الجيّد في نظر فرعون والفراعنة هو الحاكم والمتسلط على الناس حتّى لو كان متوغلًا في الفساد والجريمة والظلم، أما الإنسان السافل والساقط فهو من يعيش بعيداً عن أجواء السلطة والحكومة حتّى ولو كان من الناحية الأخلاقية يتّصف بأفضل الصفات والفضائل الأخلاقية، ولهذا اعترض فرعون على موسى ودعواه النبوّة والرسالة من اللَّه تعالى وقال:

«فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ» «1» (ليؤيدوا كلامه من كونه مرسل من اللَّه تعالى).

أي أن موسى عليه السلام وطبقاً لرؤية الفراعنة ونظامهم الأخلاقي كان

يعيش بعيداً عن أجواء القدرة والثروة والحكومة إذن فلا يستحق مقام النبوّة والرسالة.

والنتيجة هي أن المعيار الأخلاقي في النظام الفرعوني هو القدرة والثروة والزينة.

ب: وهناك بعض الأنظمة الأخلاقية في بعض المجتمعات والمذاهب الاخرى تعتبر أن كثرة الأموال والأولاد والثروة هي المعيار، كما ورد في الآية الشريفة 35 من سورة سبأ:

«وَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ».

فهؤلاء يعيشون بنظام من القيم الأخلاقية التي تدور حول محور القوى الإنسانية والإقتصادية، وطبقاً لهذه العقيدة وهذه الرؤية فإنّ الإنسان الجيّد والمحترم هو من يتمتع بأموال كثيرة وثروة طائلة وأبناء كثيرين وخاصّة إذا كان هؤلاء الأبناء ذكور كما هو حال العرب في زمن الجاهلية حيث كانت العائلة السعيدة هي التي يتوفر فيها كثرة في الأولاد الذكور، لأن ذلك يمنحهم القدرة على القتال والغارة وعمليّات السلب والنهب أو ينتفع الأب من معونتهم في أعماله الشخصية والإجتماعية.

والخلاصة أن مثل هذا النظام الأخلاقي يعتمد بالدرجة الاولى على مبدأ القوّة البشرية والكثرة في الأموال والأولاد.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 349

وأمّا بالنسبة إلى الرؤية الإسلامية ومنظومة القيم في دائرة المفاهيم القرآنية فإنها تختلف عمّا تقدّم من النظم والمعايير الثقافية، فكلُّ ذلك لا يعدّ في نظر الإسلام معياراً وقيمةً ذات أهميّة على مستوى حياة الإنسان الأخلاقية والمعنوية رغم أنها قد تنفع أحياناً في كونها وسيلة وأداة للتوصل بها إلى الأهداف المقدسة والغايات الدينية فتكون مطلوبة وإيجابية حينئذٍ.

القرآن الكريم يردُّ على ما ذكرناه آنفاً من النظام القيمي للطائفة الأخيرة ويقول:

«وَ ما أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ

عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَ هُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ» «1».

فهذه الآية الشريفة وضمن رفضها للنظام الأخلاقي الذي يستوحي مقوماته من القوّة البشرية والإقتصادية تطرح النظام الأخلاقي والمعيار القيمي في دائرة المفاهيم الإسلامية وتذكر «الإيمان» و «العمل الصالح» كمفردات معيارية للنظام الأخلاقي في الإسلام، لأن هذه الامور هي التي توصل الإنسان إلى معراج الكمال المعنوي وتقوده في حركته الصاعدة نحو اللَّه تعالى لا المال والأولاد والامور الدنيوية الاخرى.

ويقول تبارك وتعالى في الآية 13 من سورة الحجرات ضمن اعتبار التقوى محور آخر من محاور النظام الأخلاقي في الإسلام ويخاطب الناس كافة:

«يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ».

عندما جاء الإسلام بنظام أخلاقي جديد يقوم على الإيمان والعمل الصالح والتقوى فإنه استبدل القيم الجاهلية القديمة بهذه القيم السماوية والإنسانية وخلق بذلك تحولًا عظيماً في هيكلية المجتمع البشري وقدّم إلى البشرية أشخاصاً مثل «أبي ذرّ» و «سلمان» و «ميثم التمّار» بدلًا من «أبي جهل» و «أبي لهب» و «أبي سفيان».

إنّ آية «خير البريّة» تقرر إنّ منظومة القيم في الإسلام تقوم على أساس «الإيمان» و

آيات الولاية فى القرآن، ص: 350

«العمل الصالح» و «الإحساس بالمسؤولية» وتقرر بأن أفضل الناس هم الذين يتميّزون بهذه السمات الأخلاقية والدينية الثلاث، ولكننا نرى مع الأسف في عالمنا المعاصر أن قيم الجاهلية عادت لتحكم من جديد فالإنسان الأفضل هو الذي يمتلك دولارات أكثر أو

يتمتع بقدرة اقتصادية أعظم أو يمتلك قوّة عسكرية أكبر، ولكن كلّ هذه الامور لا تعدّ معياراً أساسياً في منظومة القيم والمفاهيم الإنسانية.

2- تاريخ ظهور الشيعة

2- تاريخ ظهور الشيعة

يتصور البعض أو يلقّن نفسه بهذا المفهوم الزائف عن الشيعة، وهو أن الشيعة ظهرت إلى الوجود كمذهب وتيار إسلامي منذ زمن الصفويين أو بعد ذلك وليس لهم امتداد تاريخي في القرون السابقة.

ولكن يتضح بطلان هذا التصور بمجرّد إلقاء نظرة عابرة على ما ورد في الروايات الإسلامية وكتابات المؤرّخين ومن ذلك ما ورد في الروايات الشريفة في ذيل آية «خير البريّة» والتي تقدّم ذكرها وأن كلمة «الشيعة» ذكرت لأوّل مرّة على لسان الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وأراد منها أتباع علي بن أبي طالب عليه السلام، وعلى هذا الأساس فإنّ تاريخ ظهور الشيعة يتزامن مع تاريخ ظهور الإسلام وقد سبق ظهور هذا المذهب جميع المذاهب الإسلامية الاخرى.

ومع الأخذ بنظر الإعتبار هذا الأمر يتّضح جيّداً أن بعض الأشخاص الذين يتحركون من موقع الغفلة أو التغافل أو العناد على مستوى اتهام الشيعة والتعريض بهم بما تقدّم، هم بعيدون عن الحقّ والصواب ومشمولون لقول الشاعر:

وَإن كُنْتَ لا تَدْري فَتِلْكَ مُصِيبَةٌ وَإنْ كُنْتَ تَدْري فَالْمُصيبَةُ أَعْظَمُ

أي أن بعض العلماء من الفرق الإسلامية إذا لم يكونوا يعلمون بهذه الأحاديث والروايات وغير مطّلعين عليها فهذه مصيبة (بحيث إنّ الإنسان الذي يدّعي العلم يجهل هذه الروايات).

وإذا كانوا مطّلعين عليها ولكنهم ينكرونها ويتغافلون عنها من موقع العناد والتعصّب فمصيبتهم أعظم وأكبر.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 351

إلهنا أحفظنا من التورط في منزلقات التعصّب الأعمى وأبعدنا عن آثاره المشؤومة وعواقبه الوخيمة.

(جديد 3)

3- ماذا تعني كلمة الشيعة؟

سؤال: إنّ الروايات الواردة في هذا البحث تصف شيعة الإمام علي عليه السلام كأنهم أفضل من خلق اللَّه تعالى، ومع الإلتفات إلى هذا المقام السامي للشيعة، نريد أن نعرف من هم هؤلاء الشيعة؟

الجواب: وفي المقام الجواب على هذا السؤال لابدّ من استعراض معنى كلمة «الشيعة» والبحث فيها من ثلاث جهات:

ففي البداية نبحث المعنى اللغوي لهذه الكلمة، ثمّ موارد استعمالها في القرآن الكريم، في الثالثة نستعرض بعض الروايات التي تتعرض لوصف الشيعة الحقيقيين.

الف: الشيعة في اللغة: إنّ هذه الكلمة «الشيعة» تعني في اللغة «الإنتشار مع القدرة»، فالشي ء الذي يمتد وينتشر في مناطق مختلفة مع القدرة والقوّة يطلق عليه «شيعة» والنتيجة أن الشيعة في اللغة تطلق على الفئة والجماعة المنتشرة والقوية في نفس الوقت.

ب: الشيعة في القرآن: وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في أربعة موارد، أحداها ما ورد في شأن النبي إبراهيم عليه السلام في سورة الصافات، الآية 83 و 84:

«وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ* إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ».

هذه الآية الشريفة وصفت إبراهيم بأنه من شيعة النبي نوح عليه السلام، أي أنه استمرار لخطّ النبي نوح عليه السلام، والآية الثانية ترسم معالم التوفيق الذي ناله إبراهيم في هذا المجال حيث توجه إلى خالقه وربّه بقلب سليم «1» من أدران الشرك وتلوثات الخطايا.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 352

والآية الاخرى

التي وردت فيها كلمة الشيعة هي الآية 15 من سورة القصص حيث تتعرض هذه الآية إلى قصة موسى عليه السلام وتقول:

«وَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ...».

كلمة «شيعة» في هذه الآية الشريفة اطلقت على أتباع النبي موسى عليه السلام ويمكننا أن نستوحي من هذا التعبير أن النبي موسى كان قد شكّل جماعة له قبل النبوّة وربّاهم على طريق الحقّ والإيمان.

والنتيجة هي أن كلمة شيعة في الآيات أعلاه وردت في حقِّ بعض الأنبياء وأتباعهم.

ج: الشيعة في الروايات: لقد وردت كلمة «شيعة» في الروايات الشريفة بشكل واسع ومستفيض، ونكتفي هنا بذكر ثلاث نماذج منها:

1- ما ورد في خطاب الإمام علي لأحد أصحابه ويدعى «نوف البكالي» قال:

«أَتَدْري يا نَوْفُ مَنْ شيعَتِي؟»

فقال نوف: لا وَاللَّه.

فشرع الإمام يبين له أوصاف الشيعة الحقيقيين ومن ذلك أنه قال: «رُهْبانٌ بِاللَّيْلِ وَاسْدٌ بِالنَّهار» «1»

فيعيشون في الليل الشوق والمناجاة والتبتل إلى اللَّه تعالى، وفي النهار يتحركون في دفاعهم عن الإسلام وخدمة المسلمين من موقع الإخلاص والشجاعة الفائقة ولا تأخذهم في ذلك لومة لائم.

2- وورد في رواية اخرى في أوصاف الشيعة:

«إنَّما شَيعَتُنا أَصْحابُ الْارْبَعَةِ الأعْيُنِ؛ عَيْنانِ فِي الرَّأْسِ وَعَينانِ فِي الْقَلْبِ» «2»

أي أن الشيعي ينبغي أن يكون شخصاً قوياً، شجاعاً، واعياً، يقظاً، فاهماً وعالماً لا أن

آيات الولاية فى القرآن، ص: 353

يكون ساذجاً وسطحياً ويتعامل مع الأحداث من موقع الهويمات والأوهام الهشة والمطلقات الخاوية.

3- وقال شخص للإمام

الباقر عليه السلام: «الحمد للَّه على كثرة شيعتكم».

فنظر إليه الإمام نظرة ذات مغزى وقال له: إنما تقوله عن شيعتنا:

هَلْ يَعْطِفُ الْغَنيُّ عَلَى الْفَقيرِ؟ وَ يَتَجاوَزُ الْمُحْسِنُ عَنِ الْمُسِي ءِ وَ يَتَواسَوْنَ؟

قُلتُ: لا.

قالَ: لِيْسَ هؤُلاءِ الشِّيعَةُ، الشِّيعَةُ مَنْ يَفْعَلُ هَكَذا «1».

أجل، فإنَّ الشخص الشيعي يجب أن يكون قائم الليل يقظ وعامل في النهار ويتعامل مع الواقع والأحداث بمنطق العقل والفهم السليم ويساعد الفقراء والمساكين ويعفو عن المسيئين ويشارك الناس في همومهم ويواسيهم في غمومهم.

آيات الولاية فى القرآن، ص: 355

آية الحكمة

اشارة

آية الحكمة 15

[سورة البقرة (2): آية 269]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)

اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لا الضَّالِّينَ (7)

«سورة البقرة/ الآية 269»

أبعاد البحث

أبعاد البحث

بلاشك إنّ الإسلام له دور هام وأساسي في ترويج العلم وتشويق الناس إلى سلوك طريق المعرفة أكثر من جميع الأديان الإلهية والشرائع السماوية، ولذلك فلو قيل عن الإسلام بأنه دين العلم والمعرفة فلايعدُّ هذا الكلام جزافاً، والآية مورد البحث من جملة الآيات التي عبّرت عن «الحكمة والمعرفة» بأنها «خير كثير»، أما ما هي علاقة الآية الشريفة بفضائل أميرالمؤمنين عليه السلام؟ فسيأتي في الأبحاث اللاحقة ونسأل اللَّه تعالى أن يجعلنا من جملة هؤلاء الأشخاص الذين رزقوا الحكمة وأدركوا حقائق الامور، آمين يا ربّ العالمين.

الشرح والتفسير: الحكمة هي الخير الكثير!

الشرح والتفسير: الحكمة هي الخير الكثير!

«يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ» ذكروا للحكمة معاني كثيرة من قبيل: «أن الحكمة عبارة عن معرفة أسرار عالم الوجود» و «العلم بحقائق القرآن» و «الوصول إلى الحقّ على مستوى

آيات الولاية فى القرآن، ص: 356

القول والعمل» وأخيراً «الحكمة هي معرفة اللَّه» «1» ويمكن جمع هذه المعاني كلّها بمعنى ومفهوم واسع.

وبما أن القرآن الكريم تحدّث في الآية السابقة (الآية 268 من سورة البقرة) أن اللَّه تعالى وعد أن يبارك على الإنفاق وأن يغفر لمن ينفق في سبيل اللَّه وحذّره من وسوسة الشيطان وتخويفه من الفقر، ففي هذه الآية الشريفة أشار إلى هذه الحقيقة القرآنية وهي أن «الحكمة» هي الأداة والوسيلة للتمييز بين «الإلهي» و «الشيطاني» وبذلك يستطيع الإنسان أن يتخلص من وساوس الشيطان ويبعد نفسه عن الوقوع في مصائده وفخاخه.

وأما في عبارة «من يشاء» فلا تتضمن أن اللَّه تعالى يرزق الحكمة والمعرفة بدون مبرر وبطريقة عشوائية بل إنّ مشيئة اللَّه وإرادته مقرونة دائماً مع

الحكمة، أي أنه لا يعطي الحكمة لمن لا يستحق ولا يليق بها، بل يؤتي الحكمة ويروي عطش الإنسان لها فيما لو كان الإنسان قابلًا لها ومستعداً لتقبلها.

«وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً».

وبالرغم من أن اللَّه تعالى هو الذي يؤتي الحكمة لعباده إلّاأن هذه الآية لم تذكر الفاعل لهذا العطاء، بل اقتصرت على القول «ومن يؤتَ الحكمة» وهذا التعبير يشير إلى أن الحكمة والمعرفة بذاتها حسنة وجيّدة من أي مكان حصل عليها الإنسان فلا يختلف حالها في الحسن باختلاف مصدرها، والملفت للنظر أن الآية الشريفة تقرر هذه الحقيقة، وهي أن كلّ من رزق العلم والمعرفة والحكمة فقد رزق الخير الكثير لا «الخير المطلق» لأنّ الخير المطلق أو السعادة المطلقة لا تكمن في العلم والحكمة فقط بل إنّ العلم والحكمة هي أحد أدوات الخير والسعادة.

«وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ» «تذّكر» يعني حفظ العلوم والمعارف في واقع النفس والروح و «الألباب» جمع «لُب» وبما أن لُب الشي ء هو أهم جزء من أجزائه وأفضل أقسامه ولذلك اطلق على العقل كلمة «لُب» لأنه أفضل أجزاء الإنسان، فالآية الشريفة تقول: إنّ

آيات الولاية فى القرآن، ص: 357

أصحاب العقل والمعرفة هم فقط الذين يدركون هذه الحقائق، ويتذكرونها وينتفعون منها، ورغم أن جميع الناس يتمتعون بالعقل «سوى المجانين» ولكنّ اولوا الألباب لا يقال لجميع العقلاء بل المراد الأشخاص الذين يستخدمون عقولهم ويتحركون في سلوكهم العملي من موقع الإستفادة من نور العقل وضياء الحكمة ويتدبّرون في امورهم.

الإمام علي عليه السلام صاحب الحكمة

الإمام علي عليه السلام صاحب الحكمة

إنّ آية الحكمة هذه

تدلُّ على أن «كلُّ من رُزق الحكمة فقد رُزق الخير العميم والكثير» ولكنها ساكتة عن مصداق هذا المفهوم العام ولا تقرر من هو هذا الشخص في الواقع الخارجي، ولكن الروايات العديدة المذكورة في طرق الشيعة وأهل السنّة ذكرت بأن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام هو المصداق لها وهو الذي يتمتع بالحكمة الإلهية، وهنا نستعرض بعض هذه الروايات:

1- ذكر «الحاكم الحسكاني» العالم السنّي المعروف نقلًا عن «ربيع بن خيثم» أنه ذكر علي عليه السلام عنده فقال:

لَمْ ارَهُمْ يَجِدُونَ عَلَيْهِ فِي حُكْمِهِ وَاللَّهُ تَعالى يَقُولُ: «وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ اوتِيَ خَيْراً كَثيراً» «1».

2- ويقول ابن عبّاس: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

مَنْ أَرادَ أَنْ يَنْظُرَ إلى إبْراهِيمَ فِي حِلْمِهِ وَإلَى نُوحٍ فِي حِكْمَتِهِ وَالى يُوسُفَ فِي إجْتماعِهِ فَلْينَنْظُرْ إلى عَلِيِّ بْن ابي طالِبٍ «2».

ونفس هذه الرواية وردت بشكل آخر عن «ابن الحمراء» حيث يقول: كنّا عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فجاء علي بن أبي طالب عليه السلام فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

مَنْ سَرَّهُ انْ يَنْظُرَ إلى آدَمَ فِي عِلْمِهِ وَنُوحٍ فِي فَهْمِهِ وَإبْراهيمَ فِي خُلَّتِهِ فَلْيَنْظُرْ إلى عَلِيِّ بْنِ أبي طالِبٍ «3».

آيات الولاية فى القرآن، ص: 358

3- وفي رواية اخرى عن ابن عبّاس يقول:

«كنت عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فسئل عن علي، فقال:

قُسِّمَتِ الْحِكْمَةُ عَشْرَةَ أَجْزاءَ، فَاعْطِيَ عَليٌّ تِسْعَةَ اجْزاءَ وَاعْطِيَ النّاسُ جُزْءاً وَاحِداً» «1».

هذه المضامين الواردة في الروايات الشريفة توضح بصورة جيّدة أن الشخص الذي رُزق الحكمة والمعرفة

في الامّة الإسلامية بعد رسول اللَّه هو علي بن أبي طالب عليه السلام وأنه لا يصل إليه أحد من الصحابة في العلم والمعرفة، وبما أن أهم ركن من أركان الإمامة هو العلم والحكمة والمعرفة فإنّ أجدر الناس لهذا المقام بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هو علي بن أبي طالب عليه السلام.

سعة علم الإمام علي عليه السلام وحكمته

1- المرجعية العلمية للإمام علي عليه السلام

1- المرجعية العلمية للإمام علي عليه السلام

يقول أنس ابن مالك خادم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إنّ رسول اللَّه قال لعلي بن أبي طالب عليه السلام:

«انْتَ تَبيّنُ لِامَّتِي ما اخْتَلَفُوا فِيهِ بَعْدِي» «2».

وأحد وظائف الإمامة والولاية المهمة هي حفظ حريم القرآن وخزانة العلوم النبوية ونقلها بصورة صحيحة إلى العلماء والفقهاء وشرح ما أشكل عليهم من مفاهيم وأحكام

آيات الولاية فى القرآن، ص: 359

إلهية، وتتّضح أهمية هذا الدور والوظيفة للإمامة فيما لو علمنا أن الكثير من الامم والبلدان التي حققت انتصارات على امم اخرى كبيرة ولكنها عجزت في نفس الوقت عن التصدّي للثقافة الأجنبية وبالتالي لم تستطع حفظ ثقافتها ودينها وغلبت أخيراً على أمرها كما هو الحال في هجوم المغول على البلاد الإسلامية وانتصارهم في ميادين القتال والحرب على المسلمين إلّاأنهم سرعان ما غُلبوا في مقابل القرآن والإسلام واعتنقوا بذلك الإسلام بل أصبحوا من المدافعين عنه والمروّجين له.

الإمام علي عليه السلام اهتم بعد رحيل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بهذا الأمر المهم جدّاً «الثقافة الإسلامية» وشرع بجمع القرآن وأقسم على أن لا يرتدي رداءه ويخرج من البيت قبل إتمام هذه المهمة إلّا أن يكون

خروجه للصلاة «1»، ثمّ شرع بتعليم وتفسير القرآن الكريم في ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وظاهره وباطنه، إلى أولاده وتلاميذه كالإمام الحسن والحسين عليهما السلام وابن عبّاس وابن مسعود وأمثالهم كما تعلّمها من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وليكون ذلك حصناً ثقافياً للُامّة الإسلامية أمام الغزو الثقافي والعقائدي الذي قد يتعرض له علماء الإسلام في ظلّ الفتوحات الكثيرة واختلاط الحضارات والثقافات السائدة بين الأقوام البشرية حينذاك وليأمن حاجة المسلمين الفقهية والحقوقية من هذه المعارف الإلهية ويبيّن الاصول العقائدية والأحكام الفقهية وغيرها من المسائل الثقافية بأفضل وجه وأحسن صورة للمسلمين.

2- الإمام علي عليه السلام باب مدينة العلم

2- الإمام علي عليه السلام باب مدينة العلم

وقد ورد في صحيح الترمذي أن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قال:

«انَا دارُ الْحِكْمَةِ وَعَلِيٌّ بابُها» «2».

ومن المسلّم أن كلُّ من أراد الدخول في الدار فعليه أن يردها من بابها كما ورد في الآية الشريفة 189 من سورة البقرة «وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها» وعليه فكلُّ من أراد العلم

آيات الولاية فى القرآن، ص: 360

والمعرفة والوصول إلى خزائن الحكمة لدى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله فعليه أن يبدأ مساره من الإمام علي عليه السلام فهو مفتاح هذه الخزائن ويطلب منه العلم والمعرفة.

3- الإمام علي عليه السلام وتفسير القرآن
4- الإمام علي عليه السلام واضع علم النحو

4- الإمام علي عليه السلام واضع علم النحو

لقد أمر الإمام علي عليه السلام لغرض صيانة القرآن من التحريف اللغوي والأدبي أبا الأسود الدؤلي أن يكتب قواعد علم النحو كما علّمه اصوله ومبادئه، ثمّ إنّ أبا الأسود الدؤلي وبالإستفادة من علم النحو هذا عمل على إعراب القرآن الكريم «3».

5- الإمام علي عليه السلام وعلم الكلام 5- الإمام علي عليه السلام وعلم الكلام

5- الإمام علي عليه السلام وعلم الكلام

يقول ابن أبي الحديد في مقدمة شرح نهج البلاغة: إنّ علم الكلام هو أشرف العلوم وقد اقتبسه العلماء من الإمام علي عليه السلام «4».

ويقول الأربلي في كشف الغمّة إنّ أئمّة الكلام يعني الأشاعرة، المعتزلة، الشيعة والخوارج،

آيات الولاية فى القرآن، ص: 361

كلُّهم ينتسبون إلى ذلك الإمام «1».

6- الإمام علي عليه السلام وعلم الفقه

6- الإمام علي عليه السلام وعلم الفقه

مضافاً إلى فقهاء الإمامية الذين أخذوا فقههم من الإمام علي عليه السلام نرى أن أحمد ابن حنبل أخذ فقهه من الشافعي، والشافعي أخذ فقهه من محمّد بن الحسن ومالك، ومحمّد بن الحسن تعلم الفقه من أبي حنيفة، وتعلّم كلٌّ من مالك وأبو حنيفة الفقه على يد الإمام الصادق عليه السلام، وفقه الإمام الصادق عليه السلام ينتهي إلى جدّه علي بن أبي طالب عليه السلام «2».

7- الإمام علي عليه السلام وعلم الباطن

7- الإمام علي عليه السلام وعلم الباطن

يقول الدكتور أبو الوفاء الغنيمي التفتازاني استاذ جامعة القاهرة وشيخ الطريقة في مقدّمته على كتاب «وسائل الشيعة»: «إنّ المشايخ وأصحاب الطريقة كالرفاعي، البدوي، الدسوقي، الگيلاني وهم من أجلّة علماء أهل السنّة يصلون بطريقتهم إلى أئمّة أهل البيت عليهم السلام ومنهم إلى الإمام علي عليه السلام ومنهم إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله لأنّ النبي صلى الله عليه و آله قال: «انا مدينة العلم وعليّ بابها» «3»

وهذه الحقيقة لدى العرفاء والتي تسمّى بعلم المكاشفة وعلم الباطن لم يملكها أحد سوى الإمام علي عليه السلام «4»، وهناك شواهد كثيرة في أكثر كتب أهل السنّة على اختصاص الإمام علي عليه السلام بهذا العلم، وكمثال على ذلك نرى أن عمر بن الخطّاب عندما أراد استلام الحجر قال: اقبّلك وإنّي لأعلم أنك حجر لا تضرُّ ولا تنفع ولكن كان رسول اللَّه بك حفياً، ولولا أنني رأيت رسول اللَّه يقبلك ما قبلتك.

فقال له الإمام علي عليه السلام: بلى، واللَّه إنه ليضرّ وينفع، قال: وبمَ قلت ذلك يا أباالحسن؟

قال: بكتاب اللَّه تعالى. قال: أشهد أنك لذو علم بكتاب اللَّه تعالى، فأين ذلك من الكتاب؟

قال: قول اللَّه عزّوجلّ: «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ

بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا» ... فلمّا أقروا له بالربوبية كتب أسماءهم في رقّ

آيات الولاية فى القرآن، ص: 362

وأودعه هذا الحجر ثمّ قال له: اشهد لمن وافاك بالموافاة يوم القيامة ... فقال عمر: لا عشتُ في امّة لست فيها يا أباالحسن (بتلخيص).

8- الإمام علي عليه السلام وخلافة النبي صلى الله عليه و آله

8- الإمام علي عليه السلام وخلافة النبي صلى الله عليه و آله

لقد اتّضحت من خلال الأبحاث السابقة للقاري ء الكريم هذه الحقيقة، وهي: أن الشخص الذي يعترف الجميع (الموافقون والمخالفون والأصدقاء والأعداء) أنه أعلم الناس وأفضلهم بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هو اللائق لمقام الخلافة والإمامة بعد النبي الأكرم صلى الله عليه و آله لا غير، ولهذا ورد أن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله ذكر في خطبته الغرّاء في غدير خمّ هذين المطلبين (المرجعيّة العلميّة والخلافة) وقال:

«مَعاشِرَ النّاسِ! هذا اخِي وَوَصِيّي وَواعِي عِلْمِي وَخَليفَتِي» «1».

والتأمّل والتفكّر بهذه الخصوصيات الأربع المذكورة في هذا الحديث الشريف تبيّن حقائق كثيرة لطلّاب الحقيقة:

1- «أخي»: فلو أن الإنسان أراد إظهار احترامه وتقديره لمن يكبره في السنّ فإنه يعبّر عنه بكلمة «أبي» وعندما يريد إظهار المحبّة والعاطفة بالنسبة إلى من هو أصغر منه سنّاً فيقول عنه «ابني» وعندما يريد إظهار العلاقة والمحبّة لمن يكون رديفه في السنّ فإنه يعبّر عنه بأنه «أخي» لأن الاخوة المعنوية تعني الإرتباط الروحي القريب بين شخصين على أساس المساواة، وعليه فإنّ عبارة «أخي» في الحديث الشريف تتضمن حقيقة كبيرة، وهي أن الإمام علي عليه السلام

في واقعه وشخصيته يساوي النبي صلى الله عليه و آله أو أن شخصيته تقترب إلى حدٍّ كبير إلى شخصية الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، وبعبارة اخرى إنّ كلمة «أخي» تتضمن المفهوم والمعنى الذي ورد في آية المباهلة «أنفسنا وأنفسكم».

2- «وصيّي»: طبقاً لعقيدة أهل السنّة فإنّ الأنبياء لا يورثون، وعليه فإنّ الإمام علي عليه السلام لا يكون وصيّاً لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله في مجال الأموال والثروة، ونعلم أن النبي لم يخلف من ذريته عند وفاته سوى فاطمة الزهراء عليها السلام ولذلك لا معنى لأن يكون الإمام علي عليه السلام

آيات الولاية فى القرآن، ص: 363

وصيّاً على أبنائه وذريته، وعلى هذا الأساس فإنّ الإمام علي عليه السلام وصي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في المسائل المتعلقة بالدين، أجل إنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله ولغرض تكميل واستمرار الدعوة السماوية والدين الإلهي جعل من الإمام علي عليه السلام وصيّاً له على هذا الأمر.

3- «واعي علمي»: «وعى» على وزن «سعى» ويراد بها كما ذكر أهل اللغة: حفظ الشي ء في القلب، أي أن يتفكر الإنسان في شي ء معين ويحفظه في قلبه ويجعله نبراساً له ومصباحاً يضي ء طريق حياته، وعليه فإن الإمام علي عليه السلام قد وعى جميع العلوم النبوية والمعارف الإلهية وجعلها تحت اختيار المسلمين ليستضيئوا بنورها ويسلكوا في خطّ الهدى والعقيدة والرسالة بضوءها.

فهل يصحّ مع وجود مثل هذه الشخصية الممتازة أن نقلد امور الخلافة وزمام تدبير الامّة بيد شخص آخر؟

4- «وخليفتي على من آمن بي»: وفي الحقيقة

إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في هذه الجملة- التي تعتبر نتيجة منطقية للجملات الثلاث المتقدمة- لم يدع ذريعة واحدة للمخالفين، وأعلن بصريح العبارة للعالم أجمع استخلافه للإمام علي عليه السلام من بعده، فلم يكتف صلى الله عليه و آله بكلمة «خليفتي» لئلّا يقول أهل البدع والأهواء «إن مراد النبي هو الوصاية على الأهل والأولاد لا الخلافة على المسلمين»، فقد بيّن النبي صلى الله عليه و آله بصريح العبارة وبأفضل بيان خلافة وإمامة الإمام علي عليه السلام وأولاده على جميع المسلمين إلى قيام القيامة.

النتيجة: انه بالرغم من أن الضروري هو التأكيد على مرجعيّة أهل البيت عليهم السلام العلميّة وعلى رأسهم الإمام علي عليه السلام، إلّاأنّ فصل مسألة الإمامة عن الخلافة أمر خطير وخطأ كبير ويترتب عليه لوازم سلبية كثيرة لا يلتزم بها أحد.

«وآخر دعوانا أن الحمد للَّه ربّ العالمين»

انتهى

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.