السيده بنت الحسين علیه السلام رقيه علیها السلام

اشارة

عنوان و نام پديدآور:السيّدة بنت الحسين علیه السلام رقيّة علیها السلام / تاليف علي السيد جمال اشرف الحسيني.

مشخصات نشر:اعتماد ما - دی 1397

مشخصات ظاهري: 524 ص

موضوع: حضرت رقیه علیها السلام

ص: 1

اشارة

ص: 2

السيّدة بنت الحسين (علیه السلام) رقيّة (علیها السلام)

تأليف: السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

ص: 3

ص: 4

الديباجة

الحمد لله الّذي لا إله إلّا هو الملِك الحقُّ المبين، المدبِّر بلا وزير، ولا خَلقٌ مِن عباده يستشير، الأوّل غير موصوف، والباقي بعد فناء الخلق، العظيم الربوبيّة، نور السماوات والأرضين وفاطرهما ومبتدعهما، بغير عمَدٍ خلقَهما، فاستقرّت الأرضون بأوتادها فوق الماء، ثمّ علا ربُّنا في السماواتِ العُلى، الرحمانُ على العرشِ استوى، له ما فِي السماواتِ وما ِي الأَرضِ وما بينهما وما تحتَ الثرى، فأنا أشهدُ بأنّك أنت الله، لا رافع لِما وضعت، ولا واضع لما رفعت، ولا معزَّ لمَن أذلَلت، ولا مُذلّ لمَن أعزَزْت، ولا مانع لما أعطيت، ولا معطيَ لما منعت ((1)).

اللَّهُمَّ واجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِك، وَنَوَامِيَ بَرَكَاتك، عَلَى محمّدٍ عَبْدِك وَرَسُولك، الْخَاتِمِ لِمَا سَبَقَ، وَالْفَاتِحِ لِمَا انْغَلَقَ، وَالْمُعْلِنِ الْحَقَّ بِالْحَقِّ، وَالدَّافِعِ جَيْشَاتِ الأَباطِيلِ، وَالدَّامِغِ صَوْلاتِ الأَضَالِيلِ، كَمَا حُمِّلَ، فَاضْطَلَعَ قَائِماً بِأَمْرِكَ، مُسْتَوْفِزاً فِي مَرْضَاتِك، غَيْرَ نَاكِلٍ عَنْ قُدُمٍ، وَلا وَاهٍ فِي عَزْمٍ،

ص: 5


1- ([1]) بحار الأنوار: 83 / 332 الباب 45.

وَاعِياً لِوَحْيِكَ، حَافِظاً لِعَهْدِكَ، مَاضِياً عَلَى نَفَاذِ أَمْرِكَ، حَتَّى أَوْرَى قَبَسَ الْقَابِسِ، وَأَضَاءَ الطَّرِيقَ لِلْخَابِطِ، وَهُدِيَتْ بِهِ الْقُلُوبُ بَعْدَ خَوْضَاتِ الْفِتَنِ وَالآثَامِ، وَأَقَامَ بِمُوضِحَاتِ الأَعْلامِ وَنَيِّرَاتِ الأَحْكَامِ، فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ، وَخَازِنُ عِلْمِكَ الْمخْزُونِ، وَشَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ،وَبَعِيثُكَ بِالْحَقِّ، وَرَسُولُكَ إِلَى الْخَلْقِ ((1)).

اللّهمّ وضاعِفْ صلواتِكَ ورحمتَك وبركاتِكَ على عِترة نبيِّك، العترةِ الضائعة الخائفة المستذَلَّة، بقيّةِ الشجرة الطيّبة الزاكية المباركة، وأعلِ _ اللّهمّ _ كلمتَهُم، وأفلِجْ حجّتَهم، واكشِفِ البلاءَ واللّأْواءَ، وحَنادِسَ الأباطيل والعمى عنهم، وثبِّتْ قلوبَ شيعتهم وحزبَكَ على طاعتهم وولايتهم ونصرتهم وموالاتهم، وأَعِنْهم، وامنحهم الصبرَ على الأذى فيك، واجعل لهم أيّاماً مشهودة، وأوقاتاً محمودةً مسعودة، توشِكُ فيها فَرَجَهم، وتُوجِبُ فيها تمكينهم ونصرهم، كما ضمِنتَ لأوليائك في كتابك المنزَل، فإنّك قلتَ _ وقولك الحقّ _: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الاْرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً﴾ ((2)).

ص: 6


1- ([1]) نهج البلاغة: 101 خ 72.
2- ([2]) مصباح المتهجّد: 785.

والعنِ اللّهمّ أوّلَ ظالمٍ ظلَمَ حقَّ محمّدٍ وآلِ محمّد، وآخرَ تابعٍ له على ذلك، اللّهم وأهلِك مَن جعل يومَ قتلِ ابنِ نبيِّك وخيرتك عيداً، واستهَلَّ به فَرَحاً ومَرَحاً، وخُذْ آخرَهم كما أخذتَ أوّلهم، وأضعِفِ اللّهمّ العذابَ والتنكيل على ظالمي أهل بيت نبيّك، وأهلِكْ أشياعَهُم وقادتَهم، وأَبِر حماتهم وجماعتهم ((1)).

وصلِّ اللّهمّ على حبيبي ومالك رقّي وسيّدي وإمامي، الشهيد السعيد، والسبط الثاني، والإمام الثالث، والمبارك، والتابع لمرضاة الله، المتحقّق بصفات الله، والدليل على ذات الله، أفضلِ ثقات الله، المشغول ليلاً ونهاراً بطاعة الله، الناصر لأولياء الله، المنتقِم من أعداء الله، الإمام المظلوم، الأسير المحروم، الشهيد المرحوم، القتيل المرجوم، الإمام الشهيد، الوليّ الرشيد، الوصيّ السديد،الطريد الفريد، البطل الشديد، الطيّب الوفيّ، الإمام الرضيّ، ذي النسب العلِيّ، المنفِق الملي، أبي عبد الله الحسين بن علي(علیهما السلام)..

منبع الأئمّة، شافع الأُمّة، سيّد شباب أهل الجنّة، وعَبرة كلّ مؤمنٍ ومؤمنة، صاحب المحنة الكبرى، والواقعة العظمى، وعَبرة المؤمنين في دار البلوى، ومَن كان بالإمامة أحقّ وأَولى، المقتول بكربلاء، ثاني السيّد الحصور يحيى ابن النبيّ الشهيد زكريا(علیه السلام)، الحسين بن عليّ المرتضى..

ص: 7


1- ([3]) مصباح المتهجّد: 785.

زين المجتهدين، وسراج المتوكّلين، مفخر أئمّة المهتدين، وبضعة كبد سيّد المرسلين؟صل؟، نور العترة الفاطميّة، وسراج الأنساب العلويّة، وشرف غرس الأحساب الرضويّة، المقتول بأيدي شرّ البريّة، سبط الأسباط، وطالب الثأر يوم الصراط، أكرم العِتَر، وأجلّ الأُسَر، وأثمر الشجَر، وأزهر البدر، معظّمٌ مكرّمٌ موقّر، منظّفٌ مطهَّر..

أكبر الخلائق في زمانه في النفس، وأعزّهم في الجنس، أذكاهم في العرف، وأوفاهم في العرف، أطيب العرق، وأجمل الخلق، وأحسن الخلق، قطعة النور، ولقلب النبيّ؟صل؟ سرور، المنزَّه عن الإفك والزور، وعلى تحمّل المحن والأذى صبور، مع القلب المشروح حسور، مجتبى الملِك الغالب، الحسين بن عليّ بن أبي طالب ((1)).

الّذي حمَلَه ميكائيل، وناغاه في المهد جبرائيل، الإمام القتيل، الّذي اسمه مكتوبٌ على سرادق عرش الجليل: «الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة»، الشافع في يوم الجزاء، سيّدنا ومولانا سيّدالشهداء(علیه السلام) ((2)).

الّذي ذكره الله في اللوح الأخضر، فقال: «... وجعلتُ حسيناً خازنَ وحيي، وأكرمتُه بالشهادة، وختمتُ له بالسعادة، فهو أفضل مَن استُشهِد، وأرفعُ

ص: 8


1- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 113 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف الحسيني.
2- ([1]) معالي السبطين: 61.

الشهداء درجة، جعلتُ كلمتي التامّة معه، والحجّةَ البالغةَ عنده، وبعترته أُثيبُ وأعاقِب» ((1)).

الّذي قال فيه جدُّه المبعوث رحمةً للعالمين(صلی الله علیه و آله): «حسين منّي وأنا من حسين، أحبّ الله مَن أحبّ حسيناً» ((2)).

وقال رسول الله؟صل؟ _ وهو الصادق الأمين _: «إنّ حُبّ عليٍّ قُذِف في قلوب المؤمنين، فلا يحبُّه إلّا مؤمن، ولا يبغضه إلّا منافق، وإنّ حُبَّ الحسن والحسين قُذِف في قلوب المؤمنين والمنافقين والكافرين، فلا ترى لهم ذامّاً» ((3)).

فمِن أيِّ المخلوقات كان أُولئك المردة العتاة، وأبناء البغايا الرخيصات، الّذين قاتلوه بغضاً لأبيه، وسبوا الفاطميّات، ولم يحفظوا النبيّ(صلی الله علیه و آله) في ذراريه؟!!

قال الإمام سيّد الساجدين(علیه السلام): «أيّها الناس، أصبحنا مطرّدين مشرّدين شاسعين عن الأمصار، كأنّا أولاد تركٍ وكابل، مِن غير جُرمٍ اجترمناه، ولا مكروهٍ ارتكبناه، ولا ثلمةٍ في الإسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين، ﴿إِنْ هذا إلّا اخْتِلاقٌ﴾. فوَاللهِ لو أنّ النبيّ(صلی الله علیه و آله) تقدّم في قتالنا كما تقدّم إليهم في الوِصاية بنا لَما ازدادوا على ما فعلوا بنا، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، مِن مصيبةٍ

ص: 9


1- ([2]) كمال الدين: 2 / 290 ح 1.
2- ([3]) بحار الأنوار: 45 / 314.
3- ([4]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 47، بحار الأنوار: 43 / 281 الباب 12.

ما أعظمها، وأوجعها، وأفجعها، وأكظّها، وأقطعها، وأمرّها، وأفدحها، فعند الله نحتسبه فيما أصابنا وما بلغ بنا، إنّه عزيزٌ ذو انتقام» ((1)).

ولكنّ الله لهم بالمرصاد، فإنّ دمه الزاكي الّذي سكن في الخُلد، واقشعرّت له أظلّة العرش، وبكى له جميع الخلائق، وبكت له السماوات السبع، والأرضون السبع، وما فيهنّ، وما بينهنّ، ومَن يتقلّب في الجنّة والنار مِن خلقِ ربّنا، وما يُرى وما لا يُرى، سوف لا ولم ولن يسكن، لأنّه قتيل الله وابنُ قتيله، وثارُ الله وابنُ ثاره، ووِترُ الله الموتور في السماوات والأرض ((2))، حتّى (يبعث الله قائماً، يفرّج عنها الهمّ والكرباتِ).

قال الحسين(علیه السلام): «يا ولدي يا عليّ، واللهِ لا يسكن دمي حتّى يبعث الله المهديّ» ((3)).

فذلك قائم آل محمّد؟عج؟ يخرج، فيقتل بدم الحسين بن علي(علیهما السلام).. «وإذا قام _ قائمنا _ انتقم لله ولرسوله ولنا أجمعين» ((4)).

وقد بشّر بذلك رسول ربّ العالمين؟صل؟، فقال:

«لمّا أُسريَ بي إلى السماء أوحى إليّ ربّي (جلّ جلاله) فقال: يا محمّد، إنّي

ص: 10


1- ([1]) بحار الأنوار: 45 / 147.
2- ([2]) أُنظر: بحار الأنوار: 98 / 151 الباب 18.
3- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 134.
4- ([4]) بحار الأنوار: 52 / 376.

اطّلعتُ على الأرض اطلاعةً فاخترتُك منها، فجعلتك نبيّاً، وشققتُ لك من اسمي اسماً، فأنا المحمود وأنت محمّد، ثمّ اطّلعتُ الثانيةفاخترتُ منها عليّاً، وجعلتُه وصيّك وخليفتك، وزوج ابنتك، وأبا ذريّتك، وشققتُ له اسماً من أسمائي، فأنا العليّ الأعلى وهو عليّ، وخلقت فاطمة والحسن والحسين من نوركما، ثمّ عرضتُ ولايتهم على الملائكة، فمَن قَبِلها كان عندي من المقرَّبين.

يا محمّد، لو أنّ عبداً عبدَني حتّى ينقطع ويصير كالشنّ البالي، ثمّ أتاني جاحداً لولايتهم، فما أسكنتُه جنّتي، ولا أظللتُه تحت عرشي.

يا محمّد، تحبّ أن تراهم؟

قلت: نعم يا ربّ.

فقال؟عز؟: إرفَعْ رأسك.

فرفعتُ رأسي، وإذا أنا بأنوار عليٍّ وفاطمة والحسن والحسين، وعليّ بن الحسين، ومحمّد بن عليّ، وجعفر بن محمّد، وموسى بن جعفر، وعليّ بن موسى، ومحمّد بن عليّ، وعليّ بن محمّد، والحسن بن علي، و (م ح م د) بن الحسن القائم في وسطهم كأنّه كوكبٌ دُرّي.

قلت: يا ربّ، ومَن هؤلاء؟

قال: هؤلاء الأئمّة، وهذا القائم الّذي يحلّل حلالي، ويحرّم حرامي، وبه أنتقم من أعدائي، وهو راحةٌ لأوليائي، وهو الّذي يشفي قلوب شيعتك من الظالمين والجاحدين والكافرين، فيُخرِج اللّات والعُزّى طريَّين فيحرقهما، فلَفِتنةُ الناس

ص: 11

_ يومئذٍ _ بهما أشدّ من فتنة العجل والسامري» ((1)).

وروى عبد الله بن سنان قال: دخلتُ على سيّدي أبي عبد الله جعفر ابن محمّدٍ(علیهما السلام) في يوم عاشوراء، فألفيتُه كاسفَ اللّون، ظاهر الحزن، ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤلؤ المتساقط، فقلت: يا ابن رسول الله، ممَّ بكاؤك؟ لا أبكى الله عينيك!

فقال لي: «أوَ في غفلةٍ أنت؟! أما علمتَ أنّ الحسين بن عليّأُصيبَ في مثل هذا اليوم؟!».

فقلت: يا سيّدي، فما قولك في صومه؟

فقال لي: «صُمْه من غير تبييت، وأفطره من غير تشميت، ولا تجعله يوم صوم كملاً، ولْيكُن إفطارك بعد صلاة العصر بساعةٍ على شربةٍ من ماء، فإنّه في مثل ذلك الوقت من ذلك اليوم تجلّت الهيجاء عن آل رسول الله، وانكشفت الملحمة عنهم، وفي الأرض منهم ثلاثون صريعاً في مواليهم، يعزّ على رسول الله(صلی الله علیه و آله) مصرعهم، ولو كان في الدنيا _ يومئذٍ _ حيّاً لكان(صلی الله علیه و آله) هو المعزّى بهم».

قال: وبكى أبو عبد الله(علیه السلام) حتّى اخضلّت لحيته بدموعه..

ثمّ علّمه آداب يوم عاشوراء، وآداب الزيارة في ذلك اليوم، إلى أن قال: «ثمّ قل: اللّهمّ عذّب الفجَرة الّذين شاقّوا رسولك، وحاربوا أولياءك، وعبدوا

ص: 12


1- ([1]) كمال الدين: 1 / 252 الباب 23 ح 2، بحار الأنوار: 52 / 379 ح 185.

غيرك، واستحلّوا محارمك، والعن القادة والأتباع، ومَن كان منهم فخب وأوضع معهم أو رضي بفعلهم، لعناً كثيراً. اللّهمّ وعجِّلْ فرج آل محمّد(صلی الله علیه و آله)، واجعل صلواتك عليه وعليهم، واستنقذهم من أيدي المنافقين المضلّين، والكفرة الجاحدين، وافتح لهم فتحاً يسيراً، وأتح لهم روحاً وفرجاً قريباً، واجعل لهم من لدنك على عدوّك وعدوّهم سلطاناً نصيراً. اللّهمّ إنّ كثيراً من الأُمّة ناصبَت المستحفظين من الأئمّة، وكفرت بالكلمة، وعكفت على القادة الظلمة، وهجرت الكتاب والسنّة، وعدلت عن الحبلين اللَّذَين أمرتَ بطاعتهما والتمسّكِ بهما، فأماتت الحقّ، وجارت عن القصد، ومالأت الأحزاب، وحرّفت الكتاب، وكفرت بالحقّ لمّا جاءها، وتمسّكت بالباطل لمّا اعترضها، وضيّعت حقّك، وأضلّت خلقك، وقتلت أولاد نبيّك، وخيرةَ عبادك، وحمَلَةَ علمك، وورثة حكمتك ووحيك، اللّهمّ فزلزل أقدام أعدائك، وأعداء رسولك وأهل بيت رسولك، اللّهمّ وأخرب ديارهم، وافلل سلاحهم، وخالف بين كلمتهم، وفتّ في أعضادهم، وأوهنكيدهم، واضربهم بسيفك القاطع، وارمهم بحجرك الدامغ، وطمّهم بالبلاء طمّاً، وقمّهم بالعذاب قمّاً، وعذّبهم عذاباً نكراً، وخذهم بالسنين والمثلات الّتي أهلكتَ بها أعداءك، إنّك ذو نقمةٍ من المجرمين. اللّهمّ إنّ سنّتك ضائعة، وأحكامك معطَّلة، وعترة نبيك في الأرض هائمة، اللّهم فأعِنِ الحقّ وأهله، واقمع الباطل وأهله، ومُنّ علينا بالنجاة، واهدنا إلى الإيمان، وعجّل فرجنا،

ص: 13

وانظمه بفرج أوليائك، واجعلهم لنا ودّاً، واجعلنا لهم وفداً» ((1)).

والصلاة والسلام على أصحاب الحسين(علیه السلام)، الّذين كشف لهم سيّد الشهداء(علیه السلام) (الغطاء، حتّى رأوا منازلهم من الجنّة، فكان الرجل منهم يُقدِم على القتل ليبادر إلى حوراء يعانقها، وإلى مكانه من الجنّة) ((2))، ووعدَهم ربُّ العزّة أن يعيد لهم الكرّة على أعدائهم، فقال: ﴿ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ﴾، يخاطب بذلك أصحاب الحسين ((3)).

اللّهم صلِّ على محمّدٍ وآل محمّد، وتوفّنا على الإيمان بك والتصديق برسولك والولاية لعليّ بن أبي طالب (صلوات الله عليه) والأئمّةِ من وُلده، والبراءة من أعدائهم ((4)).

ص: 14


1- ([1]) مصباح المتهجّد: 784، بحار الأنوار: 98 / 305 الباب 24.
2- ([2]) علل الشرائع: 1 / 229 الباب 163 ح 1، بحار الأنوار: 44 / 297 الباب 35 ح 1.
3- ([3]) تأويل الآيات الظاهرة: 272.
4- ([4]) أُنظر: المزار لابن المشهدي: 177، بحار الأنوار للمجلسيّ: 97 / 428 زيارة المولى مسلم بن عقيل(علیهما السلام).

المدخل

اشاره

يمكن وضع المعالم والشواخص ورسم الحدود الّتي يمكن أن تضبط حركتنا على صفحات التاريخ، وتجعلنا نقبل أو نردّ أو نتوقّف ونحن واثقون في كلّ حدَثٍ يتعلّق بتاريخ أهل البيت(علیهم السلام) عامّة وسيّد الشهداء(علیه السلام) وما يتعلّق بحركته خاصّة.

وهذه الحدود والضوابط ربّما تداخلَت بعضُها ببعض، غير أنّنا فصّلناها لتوضيح البيان أكثر، ومنها:

أوّلاً: اتّهام النصّ التاريخي

النصّ التاريخيّ المجرّد عندنا متَّهَمٌ وقابلٌ للمناقشة حتّى تثبت صحّته، بغضّ النظر عن السند!

إذ أنّنا لم نرَ مسوّغاً شرعيّاً ولا عقليّاً ولا عرفيّاً لتقديس المؤرّخ _ بما هو مؤرّخ _ سواءً كان مؤلّفاً أو راوياً.. بل إنّنا رأينا من خلال التتبّع والممارسة

ص: 15

خلاف ذلك تماماً، ورأيناه قاسياً فجّاً مدلّساً مموّهاً متلاعباً مزيّفاً، يروي الحدَث كما يحلو له، سواءً بحُسن نيّةٍ أو بسوء نيّة، وسواءً كان عامداً أو عن غير عمد، ويكفي أنّه بشرٌ غير مسدَّدٍبتسديدٍ خاصٍّ من الله، يقبل الخطأ والسهو والنسيان والعصيان، فضلاً عن ارتباطه الوثيق وعلاقته اللصيقة بالسلطان، والتزامه بلاط الطغيان، وركضه لاهثاً في ركب الملوك والحكّام..

ويبدو أنّ هذا واضحاً لكلّ مَن تصفّح أوراق التاريخ، وجاس خلال أروقته، وفتح مغالق عباراته وصياغاته وتراكيبه، وحدّق في مشاهده وصوره، ونظر بإمعانٍ إلى معالمه وشواخصه ومرتكزاته.. فلا حاجة لإطالة الكلام في الاستدلال عليه، ولمَن احتاج الدليل أن يراجع بنفسه أو يلحظ ذلك في موضعه، فليس هذا محلّ الإطناب والتفصيل.

ولا يخفى أنّ كلامنا يتركّز على المؤرّخ وراويه، أمّا إذا كان ثمّة عالمٌ من علماء الدين الحقّ قد كتب في التاريخ، فإنّ له مقامه ومنزلته واحترامه وتقديره الخاصّ الّذي يليق به ويستحقّه، بَيد أنّه يبقى في حصّة التاريخ يروي عن المؤرّخ، وتبقى مادّته الّتي يحرّرها مادّةً تاريخيّة، ولسنا نعهد مؤرّخاً من هذا النمط في القرون الأُولى، وإنّما هم متأخّرون جميعاً، إلّا إذا جعلنا كتاب (سُلَيم بن قيس) مادّةً تاريخيّة، فإنّه سيكون أقدم نصٍّ تاريخيّ في الإسلام على الإطلاق، غير أنّه يحمل روح الحديث والرواية ونورهما، بل هو كلّه كذلك، بعد أن قال سيّد الساجدين وزين العابدين(علیه السلام) أنّه «حديثنا

ص: 16

نعرفه» ((1)).

ثانياً: السند

اشارة

لكلّ علمٍ قوانين وضوابط وأدوات وموضوع تدور حوله مسائله وجزيئيّاته وتفاصيله، وله أُصوله وأجواؤه ونفسيّاته وتأثيراتهوتأثّراته.. ولا يصحّ توظيف قوانين علمٍ وأدواته في علم آخَر، إلّا إذا كان ثمّة اشتراكٌ واتّحادٌ في الموضوع!

وهنا نريد الإشارة من بعيدٍ إلى أنّ التاريخ وأسانيده وطرق إثبات الحدَث أو الحقيقة التاريخيّة يختلف تماماً عن علم الدراية والفقه والأُصول..

فالشواخص والموازين الفاعلة في الفقه لإثبات الحكم الشرعيّ لا يصحّ تحكيمها في مجال التاريخ، وإعمال نفس الضوابط، والارتكاز إلى ذات الأُصول الفنيّة (المتشدّدة) المعمول بها في الفقه بغية الوصول إلى الحكم الشرعيّ الإلزامي.. فإنّ لكلّ واحدٍ من هذه العلوم طرقه ووسائله للوصول إلى المعلومة المبتغاة فيه، بل ربّما كانت الموازين تختلف في نفس العلم الواحد، إذ أنّ التشدّد السنديّ المفروض في إثبات الحكم الشرعيّ الإلزاميّ بشقَّيه لا تكون فاعلة عند إثبات الحكم الترخيصيّ، حيث تتفعّل

ص: 17


1- ([1]) أُنظر: كتاب سُليم بن قيس: 131، بحار الأنوار للمجلسي: 1 / 79.

روايات «مَن بلغ»، ويُرتكن إلى قاعدة (التسامح بأدلّة السنن)..

من هنا يُعدّ التداخل الّذي يحصل في تحكيم قواعد (التشدّد السنديّ) في تمحيص الحدَث أو المعلومة التاريخيّة خلطاً غير موفّق ولا مستقيم وغير مُنتِج، بل سيكون عقيماً.

ولو أردنا إعمال مقاسات (التشدّد السنديّ) والتركيز على ميزان (الجرح والتعديل) في معالجات التاريخ، لَتبدّد التاريخ ومُحيَت صفحاته، ولَما سمعنا بما جرى في كربلاء، إلّا عمومات ونوادر ربّما صمدت في حقل الدراسات السنديّة، إذ أنّها وردت بأسانيد صحيحة عن أهل البيت(علیهم السلام)..

أمّا ما رواه ابن سعد والدينوريّ والطبريّ وابن أعثم وأضرابهم، فلا يُلتفَت إليه والحال هذه، فضلاً عن أن يكون مستحقّاً للمعالجة ليُرى ما إذا كان يصمد أو لا! إذ أنّ أخبارهم ورواياتهم بين مرسلةٍ إرسالاً أو مسندة إلى جماعاتٍ يكثر فيهم المجهول والكذّاب والمطعون، بل ربّما كان فيهم أولاد البغايا وقتَلَة أولادالأنبياء(علیهم السلام)..

فلابدّ إذن مِن الارتكان والرجوع إلى موازين المؤرّخ والناقد المتخصّص في التاريخ، ولا نلج التاريخ بسوابق ذهنيّة مثقلَة بالمقاسات والموازين الّتي حملناها من علوم الشريعة، كالفقه والأُصول والدراية والرجال!

ويمكن تقديم إطار واسع يحتوي جميع الأسانيد، فلا نحتاج بعدها التدقيق في كلّ مفردةٍ من خلال استيعاب حالات البحث السنديّ

ص: 18

عموماً:

الحالة الأُولى: صحّة السند والمتن

في هذه الحالة نفترض صحّة السند، وصحّة المتن ((1)) وفق الموازين المقرَّرة الّتي ستأتي في ثنايا هذا المدخل، فيكون السند قرينةً وشاهداً على الصحّة ومقوّياً لها.

الحالة الثانية: صحّة السند وفساد المتن

أن يكون السند التاريخيّ صحيحاً باعتبارات المؤرّخين، والمتن فاسداً وفق الموازين المقرَّرة، فلا قيمة للسند ولا المتن.

الحالة الثالثة: صحّة المتن وضعف السند

أن يصحّ المتن ويضعف السند، فلا قدرة للسند حينئذٍ على إسقاط المتن لتصحيحه وفق الموازين وموافقته لها، وغاية ما يفيد ضعف السند تشكيل ثغرةٍ يمكن لمَن أراد التشكيك أن يستند إليها،وربّما كان الكثير من أخبار التاريخ من هذا القبيل، إذ أنّ الأسانيد لا تصمد أمام ضوابط

ص: 19


1- ([1]) نقصد بالسند والمتن هنا: السند والمتن التاريخيّ، ولا نقصد بها أسانيد الحديث الشريف والروايات الواردة عن أهل بيت العصمة(علیهم السلام)، فإنّ لهذه الأسانيد والمتون بحوثاً وموازين خاصّة بها عند الفقهاء وعلماء الدراية، ولنا فيها كلامٌ يختلف تماماً عمّا نذكره هنا.

التشدّد السنديّ المعمول بها، وما أكثر الأحداث الّتي يرويها الأعداء والمجرمون الّذين شاركوا في قتال المولى الغريب(علیه السلام) وسيّد الشهداء(علیه السلام)، فلو اقتصر الباحث على الأخبار الصحيحة سنداً لَما بقيَ لنا من كربلاء وأخبارها إلّا أقلّ القليل، إن بقي!

الحالة الرابعة: فساد المتن والسند

أن يكون السند والمتن فاسداً، فيكون فساد السند قرينةً وشاهداً على فساد المتن.

ثالثاً: ارتكاز المؤرّخ على بنائه العقليّ

إنّ المؤرّخ مهما كان لابدّ أن يكون مرتكزاً إلى سوابقه ومرتكزاته وبنائه العقليّ والعقائديّ والنفسيّ ومؤهّلاته الذاتيّة، وغيرها من المؤثّرات في إدراك الحدث وفهمه وتقييمه وطريقة صياغته، سواءً كانت مرتكزاته اعتقاديّةً أو تربويّةً أو نفسيّة، أو بدوافع الأهواء والطمع بما عند السلطان، أو غير ذلك..

ولا نتصوّر ما يسمّونه بالموضوعيّة والتجرّد في طريقة صياغة الحدث عند غير المعصوم، ولو وُجد فهو أندر من النادر، بل ربّما لا يكون أبداً، فكلّ مَن يشهد حدَثاً ويرويه فهو يشهده ويرويه بمنظاره الخاصّ ووفق موازينه ومدركاته ومرتكزاته ومستوى فهمه.

ص: 20

ويحقّ لمن يقرأ الحدث ويريد أن يصوغه بطريقته الخاصّة البحث والتأمّل لاكتشاف مرتكزات الراوي، ثمّ مناقشته وفق مرتكزاته العقائديّة الّتي يعتقدها _ هو كمتلقّي _ حقّاً، ثمّ يصوّرهويصوغه من جديد، أو يتوقّف فيه، أو يرفضه ويردّه، بناءً على موافقته أو مخالفته لمعتقداته ومرتكزاته.

رابعاً: أخذ ما وافق الشروط المقرّرة

إنّ المؤرّخ وإن كان متّهَماً فيما يرويه؛ لاختلاف المرتكزات والعقائد، أو اتّهامه بالكتابة للسلطان الجائر على الأقلّ، فإنّه وراويه لا يعدّ كاذباً مطلقاً بحيث لا يجوز الأخذ عنه بتاتاً، كما لا يُفترض فيه العصمة، فربّما نقل لنا خبراً وحدّثَنا حديثاً يخلط فيه الواقع بما يحقّق رضى السلطان وأغراضه، أو يوافق معتقدات المؤرّخ وأهوائه، والحسم في التمييز العرض على الثوابت المقرّرة، فما احتواه الخبر ممّا يوافقها فهو مقبول، وما خالفها فهو متوقّفٌ فيه أو مردود.

وبناءً على هذا ربّما يكون في الخبر الواحد ما يُرَدّ وما يُقبَل وفق الموازين المقرّرة، لا اعتباطاً وتشهّياً وتحكيماً للهوى!

خامساً: طرح ما خالف الأُصول الاعتقاديّة

تُعدّ المتبنّيات العقائديّة والأُصول الموضوعة في العقيدة كبديهيّات ترجع إليها كلّ علوم الدين وما يتعلّق بتاريخ الإسلام وشريعته.

ص: 21

فإذا ورد أيُّ حدَثٍ يخالف صراحةً ما نعتقده من ضروريّات المذهب الحقّ، ويكون غير قابلٍ للتأويل بما ينسجم معها، فهو مطروح!

مثاله: ما يرويه معاوية من اختلافٍ وهجرانٍ بين أمير المؤمنين وسيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء(علیهما السلام) في شؤون الدنيا، وأنّ النبيّ(صلی الله علیه و آله) أصلح بينهما، فهذا الخبر مرفوضٌ مردودٌ نضرب به عرض الجدار بقوّةٍ ولا كرامة،لتعارضه مع اعتقادنا الضروريّ بعصمتهما، وبحاجة الخلق إليهما، وعدم احتياجهما إلى أحدٍ ((1)) على فرض أن يكون المصلح بينهماغير النبيّ(صلی الله علیه و آله).

ص: 22


1- ([1]) في (مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 8 / 60 _ بتحقيق: السيّد علي السيّد جمال أشرف): ابن عبد ربّه الأندلسيّ في (العِقد الفريد)، عن عبد الله بن الزبير، في خبرٍ عن معاوية بن أبي سفيان قال: دخل الحسن بن عليّ على جدّه(صلی الله علیه و آله) وهو يتعثّر بذيله، فأسرّ إلى النبيّ سرّاً، فرأيتُه فتغيّر لونه، ثمّ قام النبيّ حتّى أتى فاطمة فأخذ بيدها فهزّها إليه هزّاً قويّاً، ثمّ قال: يا فاطمة، إيّاكِ وغضب عليّ، فإنّ الله يغضب لغضبه ويرضى لرضاه. ثمّ جاء عليّ، فأخذ النبيّ بيده ثمّ هزّها إليها هزّاً خفيفاً، ثمّ قال: يا أبا الحسن، إيّاك وغضب فاطمة، فإنّ الملائكة تغضب لغضبها وترضى لرضاها. فقلت: يا رسول الله، مضيتَ مذعوراً وقد رجعتَ مسروراً؟! فقال: يا معاوية، كيف لا أُسَرّ وقد أصلحتُ بين اثنين هما أكرم الخلق؟ قال ابن بابويه: هذا غير معتمَد؛ لأنّهما منزَّهان عن أن يحتاجا أن يصلح بينهما رسول الله(صلی الله علیه و آله). ويحسن نقل تعليقتنا على الخبر في (المناقب): لم أعثر على الخبر في نسخة (العِقد الفريد) المتوفّرة لديّ . ثمّ إنّ الخبر منقولٌ عن (العِقد الفريد)، وهو مصدرٌ عامّيٌ لا يُعتمَد عليه فيما خالف قداسة أهل البيت(علیهم السلام). وراوي الخبر ابن الزبير عن معاوية بن أبي سفيان، وهي أسماء منطفئة ميتة، يفوح منها العفن والحقد على أهل البيت(علیهم السلام)، ومَن سعى في إطفاء نور الله وقاتل أمير المؤمنين(علیه السلام) واغتاله لا يتحرّج عن اغتيال شخصيّة الإمام والطعن في عصمته، أعاذنا الله من شرور أعداء أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين وبعل سيّدة نساء العالمين(علیهما السلام). أضف إلى ذلك ما سينقله المؤلّف بعد سطور عن ابن بابويه أنّه قال: (هذا غير معتمَد؛ لأنّهما منزّهان عن أن يحتاجا أن يصلح بينهما رسول الله(صلی الله علیه و آله))، وذلك لخلقهما العظيم، وهما أكرم الخلق فضلاً عن عصمتهما(علیهما السلام). ويبقى اعتذارنا للمؤلّف(رحمه الله علیه) أنّه بنى كتابه على التنزّل وإلزام الخصم، وإلّا ففي غيرها من الأحاديث غنىً وكفاية، وقد جعلَت تلك الأحاديث رضى السيّدة المقدّسة الصدّيقة المعصومة رضى الله، فيما جعل هذا الخبر رضاها رضى الملائكة!!! ومع ذلك، فإنّ الملائكة لا تفعل شيئاً إلّا عن أمر الله (تبارك وتعالى)، فهي بالتالي لا تغضب إلاّ لغضب الله ولا ترضى إلاّ لرضاه؟عز؟، فالخبر نفسه يؤكّد عصمتهما، حيث أنّ غضبهما غضب الله ورضاهما رضى الله، فكيف يصدر منهما ما نُسب اليهما؟! ولكنّ المؤلّف نقل الخبر ليحتجّ على معاوية وأنصاره بما رواه هو نفسه من جعل رضى الله في رضى أمير المؤمنين عليّ(علیه السلام) ورضى فاطمة(علیها السلام)، لأنّ الملائكة لا يفعلون إلّا ما يُؤمَرون، فهم عن أمر ربّهم يصدرون، وبهذا القدر نقبله من معاوية، أمّا باقي الخبر فهو من نسج نكراء بني أُميّة الّتي شربها معاوية من دماء آكلة الأكباد وأقرب الرجال وأكثرهم حظّاً منها أبي سفيان _ انتهى. أمّا الخبران اللذان نقلهما الشيخ الصدوق(رحمه الله علیه) وعلّق عليهما، فكلاهما عامّيّان، أحدهما عن أبي هريرة، والآخَر عن حبيب ابن أبي ثابت.

ص: 23

سادساً: أن لا يخالف التاريخ حديث أهل البيت(علیهم السلام)

يُشترط في الخبر التاريخيّ أن لا يخالف الحديث الشريف المرويّ عن أهل بيت العصمة(علیهم السلام)، فإنّ الحديث المرويّ عنهم بطرقنا _ بغضّ النظر عن كونه نصّاً معصوماً وما يترتّب على ذلك _ فإنّه يبقى في أقلّ التقادير نصّاً تاريخيّاً ينتسب إلى المعصوم(علیه السلام)، فإذا تعارض المؤرّخ كابن سعدٍ والطبريّ والبلاذريّ وغيرهم مع ما يرويه الكلينيّ والبرقيّ والصدوق وغيرهم عنهم(علیهم السلام)، فإنّنا نقدّم ما يرويه أعلامنا، ضمن الأُصول المقرّرة.

سابعاً: أن لا يخالف المسلّمات القطعيّة

يُشترط في النصّ التاريخيّ أن لا يخالف مرتكزاتنا القطعيّة بالأشخاص والوقائع، فلو روى لنا التاريخ ما يفيد _ ولو إشارةً _ جُبن أحد الأولياء أو فراره من الزحف غير متحيّزٍ إلى فئة، أو ارتكابه ما لا يليق بالمؤمن، سيّما إذا كان الخبر غير قابلٍ للتأويل بما يناسب شخصيّة ذلك الوليّ..

ص: 24

أو يروي لنا التاريخ ما يخالف المسلَّم التاريخيّ الثابت عن أهل البيت(علیهم السلام)، كتقييم شخص، أو رضاهم عنه، أو سخطهم عليه..

فمثلاً ثبت لنا تاريخيّاً تقييم سيّد الشهداء(علیه السلام) لمولانا مسلم بن عقيل(علیهما السلام)، وأنّه ثقته ومعتمده، وشهد له بالفضل، فكلّ ما سال به لعاب القلم التاريخيّ ممّا يخالف هذا التقييم والشهادة فهو مرفوضٌ مردود.

مثالٌ آخَر: إنّ معرفتنا القطعيّة بشجاعة مولانا مسلم بن عقيل(علیهما السلام) وإقدامه وشهامته ووفائه وبطولته وثباته واستقامته، وغيرها من محامد الأخلاق ومعاليها، وجميل الصفات وساميها.. فإذا ورد في التاريخ ما يدعو للريب فيها أو الطعن، أو محاولة إثبات خلاف ذلك من غير إمكان التأويل في تعبير المؤرّخ، فهو مرفوضٌ مردودٌ إلى نحر قائله من دون خوفٍ ولا تردّد، فالقداسة والحصانة ثابتةٌ لأولياء الله، والتجاسر عليهم أو رميهم بما لا يليق بهم عاقبته في غاية الخطورة، ولا يأمن العقاب عليه، والحال أنّ المؤرّخ لم تثبت له قداسةٌ ولا حصانة، فهو عارٍ عنها خالٍ منها حتّى نتبيّن ذلك فيه.

ومثالٌ على الوقائع: ثبت تاريخيّاً وشرعيّاً أنّ سيّد الشهداء الحسين(علیه السلام) استُشهد يوم العاشر من المحرّم الحرام، فأيّ نصٍّ تاريخيّ خالف هذا المسلَّم التاريخيّ لا قيمة له، ولا يصحّ الاعتماد عليه والاستدلال به.

ثامناً: أن لا يكون دفاعاً عن الظالم

أن لا يكون في كلام المؤرّخ ما يكون دفاعاً عن ظلم الظالم، وتبريراً

ص: 25

لمواقف السلطان الجائر الحاكم، وطمساً لمظلوميّة المظلوم، وتصويراً للحدَث بما يخدم صاحب البلاط والأجير والمأجور.

ففي مثل هذه الحالات نتريّث، ثمّ نجمع الشواهد، وندرس القرائن، ونحلّل المواقف، فربّما كان أصل الحدث قد حصل وفعَلَه السلطان، غير أنّه كان موقفاً يُراد له أن يُسجَّل في التاريخ لتحقيق الأغراض المنشودة، فحينئذٍ قد نقبل صدور الحدث بشرط أن يكون ضمن بيان دوافعه، بحيث لا يشكّل تزكيةً للظالم، أو إثباتاً لفضيلةٍ له هو عارٍ عنها ممنوعٌ منها.

وكذا إذا حدّثنا التاريخ بما يُثبِت منقبةً لعدوّ الله في موقفٍ يُثبت فيه ما لا يليق أو بضدّ تلك المنقبة لوليّ أهل البيت(علیهم السلام).

تاسعاً: أن لا يخالف إجماع الشيعة

أن لا يخالف بديهةً من بديهيّات الشيعة، والمجمَع عليه بينهم، وما اتّفقوا عليه، بشرط أن يكون المشهور المتّفَق عليه في الأعصار والأمصار غير معتمِدٍ على نصٍّ تاريخيّ معروف، وهو ما قد يُطلَق عليه ب (سيرة المتشرّعة)، كأن يشتهر عندهم عن طريق التناقل بالصدور كابراً عن كابر، أو استناداً إلى ما رُوي عندهم عن طريق أهل البيت(علیهم السلام)، وإن كان بالموازين الفنّيّة التخصّصيّة يُسمّى ضعيفاً.

فإذا كان إجماعهم واتّفاقهم مستنداً إلى نصٍّ تاريخيّ لمؤرّخ معروف، فقيمته قيمة ذلك النصّ التاريخيّ مضافاً إليه قيمة جديدة تُسنده وتجعله

ص: 26

أقوى نسبتاً من النصوص الأُخرى، وهي قيمة استناد الشيعة إليه.

فقد وردت الأخبار في التاريخ تُقرّر أنّ المباشر لقتل سيّد الشهداء(علیه السلام) هو سنان بن أنس (لعنه الله)، كما وردت أخبارٌ تقرّر أنّه شمر بن ذي الجوشن (لعنه الله)، فاشتهار الثاني عند الشيعة إن كان ناشئاً من الاعتماد على الأخبار الواردة في ذلك فحسب، تكون الشهرة بينهم مرجِّحاً قويّاً.

أمّا إذا كان النصّ المعتضد بالمشهور عند الشيعة يلزم منه إحدى المحاذير السابقة، ويؤدّي إلى اختراق الحدود المرسومة، فحكمه تماماً حكم أيّ نصٍّ تاريخيّ آخَر، حيث يكون معرَّضاً للنقاش، ومحلّاً للردّ والقبول، وخبراً قابلاً للتصديق والتكذيب.

عاشراً: استكشاف بعض الأحداث من الوقائع

اشارة

يمكن لمن قرأ التاريخ بتأمّلٍ أن يجمع عدّة أحداث يرويها المؤرّخون متفرّقةً ضمن عرض صورةٍ واحدة، فيجعلها مقدّماتٍ لاستخلاص نتيجةٍ تكون قوّتها بقوّة مقدّماتها.

فإذا كانت الأحداث متّفَقاً عليها، وعلى نسبةٍ عاليةٍ من القوّة على صفحات كتب المؤرّخين تكتسب النتيجة نفس القوّة والمتانة بالرغم من عدم ذكر المؤرّخ لها..

فربّما أخفاها المؤرّخ عامداً قاصداً لتحقيق غرضٍ ما، أو غفل عنها دون قصد، أو أعرض عنها اختصاراً، وما شاكل.

ص: 27

مثال:

المقدّمة الأُولى:

روى المؤرّخون أنّ سيّد الشهداء(علیه السلام) جعل فسطاطاً في مقدّمة مخيّمه وجعله للشهداء.

المقدّمة الثانية:

روى المؤرّخون أنّ سيّد الشهداء(علیه السلام) كان ينقل الشهداء _ سيّما الشهداء من آل البيت(علیهم السلام) _ إلى ذلك الفسطاط، وجمعَهم هناك، ولذلك أسبابٌ يمكن أن نتصوّرها، من قبيل حماية الأجساد المقدّسة من السحق تحت سنابك الخيل والحرب قائمةٌ على ساق، وفتح مجالٍ للعلويّات أن يندبنَ شهداءَهنّ بعيداً عن عيون الأعداء، والمرأة الثاكل قد تغفل عن نفسها وهي تندب وتنوح وتعول على حبيبها وفقيدها، وغيرها من الأسباب.

المقدّمة الثالثة:

نحن نعلم _ وفق ما أخبر به التاريخ _ أنّ الّذين استُشهدوا بقطع الرأس في كربلاء عددٌ محدودٌ جدّاً قد لا يتعدّى الخمسة، أحدهم سيّد الشهداء(علیه السلام)، والطفل الّذي قطعوا رأسه ورموا به نحو خيام الحسين(علیه السلام)، ووهب..

أمّا باقي الشهداء فقد حملهم الإمام سيّد الشهداء(علیه السلام) إلى الفسطاط

ص: 28

ورؤوسهم على أبدانهم.

المقدّمة الرابعة:

إنّ ابن سعدٍ (لعنه الله) أمر بقطف الرؤوس صباح اليوم الحادي عشر، ليجهّزها ويرفعها على الرماح ويحملها إلى ابن الأَمة الفاجرة.

المقدّمة الخامسة:

إنّ العلويّات من بنات أمير المؤمنين ومخدّرات الوحي والرسالة ونساء الإمام الحسين(علیه السلام) وبقيّة السيف من عقائل النبوّة وذراري رسول الله(صلی الله علیه و آله) وأيتام سيّد الشهداء(علیه السلام) من أولاد الزهراء(علیها السلام) كانوا في موضع مخيّم أبي عبد الله(علیه السلام)، عند فسطاط الشهداء، ولم يبعدوا ولم يخرجوا من كربلاء إلّا مع الرؤوس حيث حُملَت إلىالكوفة سبايا.

النتيجة:

هذه كلّها مقدّماتٌ رواها التاريخ، ويمكن أن نستنتج منها نتيجةً تكون قوّتها بقوّة هذه المقدّمات، وهي بكلمة:

إنّ القوم هجموا على مخيّم الحسين(علیه السلام) بعد صدور أمر اللعين، فكان العدوّ الغادر الجلف القاسي يجلس على صدر الشهيد وهو ميّت لا يدفع عن نفسه، ويقطع رأسه على مرأى من العلويّات والنساء والأطفال والأُمّهات والأولاد.

يجلس اللعين على صدر عليّ بن الحسين الأكبر، أو القاسم بن

ص: 29

الحسن(علیهم السلام)، و... ويعمل خنجره أو سيفه أو سكّينه بعنفٍ في عنق الشهيد، ويكسر عظام رقبته حتّى يحتزّ رأسه، وأُمّه وباقي العلويّات وقوفٌ ينظرنَ إلى هذا المشهد المروّع الّذي يزيل الجبال عن مستقرّها، ويصدّع الفؤاد، ويُزهِق النفس، ويستلّ الروح بقسوة..

احتزّوا رأس عليّ الأكبر(علیه السلام) شبيه النبيّ(صلی الله علیه و آله)، وأُمّه ليلى وأُخته سكينة وعمّته زينب واقفات ينظرنَ إليه.

احتزّوا رأس القاسم(علیه السلام)، وأُمّه رمله واقفةٌ تنظر إليه..

وهكذا قُل في جميع الشهداء الآخرين.

يا لها من مصيبةٍ ما أعظمها وأجلّها وأفدحها وأكظّها وأقدحها، والتاريخ لا يشير إليها، ويكتفي بالتعبير: (فأمر أن تُقطَف الرؤوس).

إنّه حدَثٌ عظيمٌ جسيمٌ مُستنتَجٌ من تلك المقدّمات، وليس لأحدٍ أن يعتبره لسان حال، أو خيال، وإنّما هو واقعٌ أدّت إليه الوقائع وأثبتَتْه المقدّمات.

وهذا مثالٌ ليس إلّا، ولمن أراد التوسّع أن يستحضر التاريخكلّه، سيجده مليئاً بالشواهد والمشاهد.

الحادي عشر: تفصيل المختصر

ربّما اختصر المؤرّخ حدثاً كاملاً أو أحداثاً في عبارةٍ لأيّ غرضٍ من أغراضه، وحينئذٍ يمكن فكّها والاستفادة منها، ونثر ما في بطنها، ليخرج منها

ص: 30

عسكرٌ كاملٌ أحياناً، أو حربٌ بكلّ تفاصيلها ((1)).

الثاني عشر: فكّ رموز كلام أهل البيت(علیهم السلام)

يُلاحَظ أنّ أهل البيت(علیهم السلام) عوّدونا على التعبير عن الأحداث التاريخيّة بعباراتٍ مختصرةٍ جدّاً، أو أشاروا إليها بأُسلوب التشفير والترميز، أو دمج الأحداث الضخمة الكبيرة وضغطها في رموز وألفاظ جزلةٍ قويّةٍ عميقةٍ لا تتعدّى الجملة المكوّنة من ثلاث أو أربع كلمات، بل قد تكون كلمةً أو كلمتين، بَيد أنّها تحكي حدثاً يستوعب صفحاتٍ كثيرةً إذا ما فُكّت الرموز، وذلك للتقيّة أو لأسباب أُخرى:

كقولهم: «سُبينا سبيَ تُركٍ وكابل»، أو: «سُبينا كما يُسبى الديلم».

أو قولهم: «ذُبح جدّي الحسين(علیه السلام) كما يُذبَح الكبش».

أو قول الرضا(علیه السلام): «يوم عاشوراء أذلّ عزيزنا».

أو خطب الصدّيقة الصغرى(علیها السلام)، وخطب سيّدالساجدين(علیه السلام)، وخطب الإمام سيّد الشهداء(علیه السلام)، وهكذا..

فإنّ التأمّل في مثل هذه العبارات المختصرة المكبوسة المشفَّرة ومتابعتها

ص: 31


1- ([1]) أُنظر تقسيمات قطعات عسكر ابن زياد في بحث معركة القصر من المجموعة الكاملة لوقائع السفارة (المولى الغريب مسلم بن عقيل(علیه السلام)).

من خلال الملازمات واستكشاف وجوه الشبَه والغوص في أبعاد التمثيل، يرسم صوراً ويحكي أحداثاً جِساماً يتمنّى المؤمن أن يموت ويُحرَق ألف مرّةٍ ولا يسمعها.

الثالث عشر: ملاحظة تفرّق الحدَث

يُلاحَظ تفرّق الحدَث عند المؤرّخ أحياناً كثيرة، فهو يستعرض حركة مولانا مسلم بن عقيل(علیهما السلام) مثلاً من مكّة إلى الكوفة ضمن عرضه لحركة قيام سيّد الشهداء(علیه السلام)، فيذكر انطلاقه من مكّة وهو يتحدّث عن أيّام إقامة سيّد الشهداء(علیه السلام) في مكّة، ثم يغيّب المشهد أحداث حركة المولى مسلم بن عقيل(علیهما السلام) ويستمرّ في الحديث عن قيام سيّد الشهداء(علیه السلام) وغيره من الأحداث، ثمّ يعود للحديث عن المولى الغريب(علیه السلام)، ممّا يؤدّي إلى تشتّت الذهن، وفتح المجال لتسريب الأكاذيب أو التلاعب بالحدث.

الرابع عشر: الاستناد إلى غير المصادر العربيّة

للدارس أو الباحث والمحقّق أن ينفلت من طوق الاقتصار على المصادر العربيّة للوصول إلى الأحداث والوقائع أو الحقائق التاريخيّة، فإنّ لكلّ أُمّةٍ طريقها إلى التاريخ، وربّما سجّلَت بطرقها أحداثاً لم تكن في مرمى النظر للراوي الّذي يعتمده المؤرّخ الكاتب بالعربيّة، أو أنّه رصد ما لم يهتمّ به الراوي الآخر، أو لم يلتفت إليه..

ص: 32

فما رواه المؤرّخ البريطانيّ وسجّله من (مطر السماء دماً في بريطانيا يوم عاشوراء) لا يمكن للمؤرّخ الّذي يعيش بالجزيرة أو العراق أن يسجّله في نفس يوم عاشوراء من تلك السنة؛ لأنّه خارجٌ عن مرمى نظره ونظر راويه.

فلماذا لا نعتمد أو _ على الأقلّ _ نستشهد بالمصادر الفارسيّة والتركيّة والأُردويّة، بل حتّى الإنجليزيّة والفرنسيّة وغيرها من اللغات والأُمم؟

قال الشيخ المحقّق عبد الواحد المظفر(رحمه الله علیه) في كتابه (بطل العلقمي):

”وكأنّي أسمع بعض القرّاء لكتابنا هذا من منتحلي الثقافة ومدّعي التنوير، وزمرة من التجدّديّين الّذين لا يريدون إثبات فضيلةٍ لأهل هذا البيت النبويّ المفخّم، وفئة من المتفقّهين بلا معرفةٍ وتمييز، وهناك فئامٌ يضرعون لأوهام وخيالات يسمّونها بالعقول، والعقول بريئةٌ من كلّ فكرٍ سطحيّ وخيالٍ وهميّ، سيقولون _ إذا مرّوا بهذه الحكايات _: كيف اعتمد مؤلّف كتاب (بطل العلقميّ) في نقل هذه الحكايات على الكتب الفارسيّة والتواريخ الأعجميّة، ومؤلّفوها يتمسّكون بالواهيّات ويعتمدون المراسيل؟ ... ولو شهد العبّاس بن عليّ(علیهما السلام) صفّين وكان في صفّ المحاربين لَذكره المؤرّخون أساتذة فنّ التاريخ، كالطبريّ والجزريّ والمسعوديّ وأضرابهم!

فيظنّ مَن لا معرفة له ولا إلمام بحقائق الأشياء أنّ هذه

ص: 33

المقالة مبتنيةٌ على أساسٍ محكَمٍ وبناءٍ مرصّفٍ في ركنٍ وثيق، وهي لدى التحقيق على جُرفٍ منهارٍ قد جرفه السيل، وعلى رأس منارٍ متداعي الأركان قد زعزعَته العواصف وهدّته القواصف.المؤرّخون الّذين لهم شهرة لم يضبطوا كلّ حادثة، ولم يقفوا على كلّ قضيّةٍ من القضايا التاريخيّة، فبعض الوقائع قد وصل إليهم نبؤه وبعضها لم يصل، والّذي لم يصلهم أكثر ممّا وصل إليهم، وقد فات الطبريّ ما استدركه عليه الجزريّ، وذكر المسعوديّ ما لم يذكره اليعقوبيّ، وهكذا، فما وصل إليهم فقد ذكروه، وما لم يصل إليهم لم يبقَ في طيّ الخفاء المُظلِم، بل برقت بارقةٌ من ذلك العلم فأضاء لطالبيه وأسفر لرائديه، فاقتضبوا منه شارده، واحتبلوا قنيصه، فكان كالمستدرك على مَن فاته العلم به.

وقد استدرك الحاكم النَّيسابوريّ على صحيحَي! مسلم والبخاريّ من الأحاديث الصحيحة على شرطهما ما ساوى حجم الكتابين معاً، والصحاح! الباقية الأربعة أو الثمانية _ بناءً على جعل الصحاح! عشرة عندهم _ كالاستدراك أيضاً على الصحيحين، هذا من ناحية أهل السنّة

ص: 34

والجماعة.

وأمّا من ناحية أهل التشيّع، فقد استدرك الميرزا النوريّ على (وسائل الشيعة) للحرّ العامليّ ما ساوى حجمها.

فلْيكن ما رواه هؤلاء العلماء من الأعاجم كالمستدرك على التواريخ المشهورة، وليست بأقلّ من متفرّدات (الأغاني) لأبي الفرج“ ((1))، ومتفرّدات الطبريّ وابن أعثم، وغيرهم..

وقد رأينا الطبريّ يروي الكثير الكثير ممّا لم يذكره السابقون له، ويفصّل في أحداثٍ تفصيلاً مطوَّلاً في حين اختصرها ابن سعدوالدينوريّ في سطور.. وهؤلاء ليسوا أحقّ بالثقة والاعتماد والتصديق من علمائنا الأبرار، وإن تأخّروا فترةً من الزمان قد تتجاوز القرن أو أكثر عنهم، سيّما إذا عرفنا أنّهم أصحاب مكتباتٍ وكتب خطيّة وصلت إليهم ولم تصلنا.

وسيأتي بعد قليلٍ تتمّةٌ لهذا الكلام.

النتيجة:

تبيّن ممّا مرّ: أنّ الترّ والشاقول الّذي يُقاس إليه التاريخ فيُرَدّ إليه الزائد ويُلحَق به الناقص، والميزان الّذي على أساسه يُقوّم الحدث التاريخيّ المرويّ، إنّما هو:

ص: 35


1- ([1]) بطل العلقميّ للمظفّر: 2 / 240.

1. كتاب الله.

2. سُنّة النبيّ(صلی الله علیه و آله) والأئمّة المعصومين(علیهم السلام).

3. الاعتقادات الضروريّة الحقّة.

4. المرتكزات الموافِقة للحقّ.

فما وافق كلام أهل البيت(علیهم السلام) أو لم يخالفه قبلناه (ومنه تتألّف منظومة العقائد والمسلّمات والمرتكزات الحقّة).

وما خالف ذلك فهو ساقطٌ لا يُعتمَد عليه، ولا يُعتَدّ به، ولا يُستدَلّ له!

ص: 36

يمكن توزيع البحث عن السيّدة بنت الحسين رقيّة(علیهما السلام) على عدّة مراحل:

المرحلة الأُولى: بعض المقدّمات الضروريّة لردّ دليل النافي.

المرحلة الثانية: بعض المقدّمات الضروريّة الّتي لها علاقة بالإثبات.

المرحلة الثالثة: بعض ما يتعلّق بالسيّدة بنت الحسين(علیه السلام) ومصيبتها.

المرحلة الرابعة: بعض النصوص الّتي ذكرت مصيبتها.

المرحلة الخامسة: شهادة الشعر والشعراء.

ص: 37

ص: 38

المرحلة الأُولى

اشارة

قبل الدخول في البحث عن السيّدة رقية بنت الإمام الحسين(علیه السلام)، يلزم تقديم جملةٍ من المقدّمات الضروريّة الّتي تُعدّ أساساً للموضوع، وربّما أغنانا متابعتها عن الكثير من البحث والتفصيل، وقد يكون بعضها شرحاً وتفصيلاً وتتميماً لما ذكرناه في المدخل.

نحاول سرد هذه المقدّمات على عجَل، ونقتضب الكلام فيها، ونكتفي بقبسة العجلان؛ اعتماداً على ذهن المتلقّي وخزينه وسوابقه العقائديّة والتاريخيّة والنفسيّة والفكريّة والثقافيّة.

فإذا تمّت هذه المقدّمات فإنّ حُجّة النافي ستُقطَع، فيبقى المجال للإثبات مفتوحاً.

ويمكن تقسيم هذه المقدّمات إلى مجموعتين:

ص: 39

ص: 40

المجموعة الأولى: مقدّمات عامّة

اشارة

تتضمّن هذه المجموعة جملةً من المقدّمات _ مهما كانت مختصرة _ تعالج الموضوع معالجةً عامّة، تشمل الحديث عن السيّدة رقيّة بنت الحسين وغيرها من أولاد الأئمّة(علیهم السلام) وأهل البيت عموماً.

المقدّمة الأُولى: التاريخ لم يُحصِ كلَّ شيء!

إنّ التاريخ لم يُحصِ كلّ شيء، وإنّما يروي المؤرّخُ ما يراه أو يسمعه من راويه، ضمن الضوابط الّتي تحكمه، سواءً كانت عقائديّةً أو فكريّةً أو نفسيّة، أو نزعات هواه، وغيرها ممّا يشكّل خلفيّاته وسوابقه ومتبنّياته ومرتكزاته، ويحقّق له أغراضه وأهدافه وآماله ومطالبه ومآربه، ولكثر ما تجده يتغاضى عن حدثٍ مهمّ، ويفصّل في حدثٍ جزئيّ ليس له قيمة ولا أثر، وفي روايات أبي الفرج في (الأغاني) أمثلةٌ ونماذج كثيرة لذلك، وهو في الغالب يتتبّع مجريات بلاط السلطان وما يحوم حوله ويتعلّق به، ويسلّط

ص: 41

الأضواء على نقاط تراها العيون ويشهدها الكثيرون.

أضف إلى أنّنا لو أحسنّا الظنّ بالراوي والمؤرّخ، فإنّه يبقى محدوداً بالزمان والمكان والحدود الطبيعيّة الّتي تحكم الإنسانالعادي، فهو يروي ما يشاهد وما تقع عليه عينُه أو تسمعه أُذُنه، وليس بالضرورة أن يُحصي كلّ جوانب الحدث وتفاصيله وجزئيّاته، فإذا كان واقفاً في موضعٍ ودارت معركةً ومشادّةً مثلاً بين جماعة، فهو إنّما يروي ما يسمعه ويراه ضمن إطار الزمان والمكان المحيطة به الّتي لا يمكنه كإنسانٍ عاديٍّ أن يتجاوزها، فيروي ما سمع من جهته، وما شاهد من موضعه، فلو حصل حدثٌ ما في جهةٍ أُخرى لا تطاله عينه ولا يبلغه مدى أُذُنه، فهو عاجزٌ عن روايته ونقله، لأنّه لم يره ولم يشهده.

أجل، قد يسمعه من آخَر حضر في الجهة الأُخرى للحدث، وبالتالي على القارئ والمتلقّي أن يجمع ويرتّب الصورة ويرسم المشهد من خلال مجموع النقول.

فما جرى في كربلاء مثلاً، إنّما يروي منه الراوي ما وقعَت عليه عينُه أو سمعه بأُذنه، وهو ما كان ظاهراً في الميدان، أمّا ما جرى داخل المخيّم الحسينيّ فلا يرويه إلّا مَن حضره، كما أنّه يعجز أو يغفل أو يتغافل عن نقل الكثير من الأحداث المتداخلة ضمن أحداث أعظم وأكبر وأشدّ، فلا يرويها، وربّما لا يهتمّ بها لأنّها لا تعني شيئاً بالنسبة له.

ص: 42

وربّما كان هذا هو السبب في غياب الكثير من مشاهد المصائب لحظة شهادة سيّد الشهداء الحسين(علیه السلام) على ألسنة الرواة المعروفين المتواجدين يومذاك، فالراوي الّذي اندكّ في نقل المصاب الأعظم، غفل عن تتبّع المشاهد الأُخرى الّتي وقعَت في المخيّم الحسيني، أو تغافل، واكتفى بتعبيرٍ إجماليّ يفيد ضعضعة مخيّم الحسين(علیه السلام)، وبكلمةٍ مقتضبة: عن التغيّر الكونيّ لحظة وقوع المصيبة العظمى.

إنّ المؤرّخ قد أغفل _ بشكلٍ ملفتٍ للنظر ومروّعٍ لطالب الحقيقة _ أحداث السبي، وما وقع فيه من مظالم وجناياتٍ تقشعرّ منها الجلود، وتوجل منها القلوب، وتندكّ لها الجبال الراسيات، ولولا ما أشار إليه أهل البيت في كلماتهم من توصيف سبيهم ك«العبيد»، «الإماء»، «سبي ترك وكابل» و«سبي الكفّار»، وما شابه هذه التعابير، لَانطمست آثار جريمة العدوّ.

ولو استعرضنا كتب التاريخ القديمة لا نجد لأحداث السبي ومصائبه إلّا أقلّ القليل من الأحداث الّتي يمتنع على المؤرّخ والراوي طمسها ودثرها، لأنّها فرضَت نفسها عليه فرضاً، وقد روت لنا المصادر الّتي تُعَدّ متأخّرةً بالنسبة إلى المصادر المعروفة بعض الأحداث.

ونحن نعلم بما لا يحتاج إلى استدلالٍ أنّ المؤرّخ قد تغافل عن ظليمة أهل البيت(علیهم السلام)، ولم يذكر إلّا أقلّ القليل منها، وحاول طمسها وحرف الأذهان عنها، وخُذْ على ذلك مثلاً من ظليمة السقيفة الّتي عدّها من

ص: 43

مفاخر الإسلام، وعدّ جرذانها رجالات الدين والتاريخ، وطمس ظليمة سيّدة نساء العالمين وسقطها المحسن الشهيد، وهلمّ جرّاً.

* * * * *

لكنّ هذا لا يمنع من تصيّد أقوال المؤرّخين والرواة وصفّها ورصفها وترتيبها كمقدّماتٍ تؤدّي بنا إلى نتائج لا يمكن التشكيك بها، لأنّها ناتجةٌ عن مقدّماتٍ رواها المؤرّخ وأقرّ بها القريب والبعيد، كما ذكرنا قبل قليلٍ في المدخل.

ونحن لا نريد هنا التفصيل، لأنّه خارجٌ عن موضوعنا، وما ذكرناه للتذكير فقط، وممّا نعذر به أنفسنا عن الاستدلال في كثير من المواطن:

أنّ مخاطبنا إنّما هو العقل الشيعيّ خاصّة، وهو أعرف بهذه الحقيقة، وهي من أوضح الواضحات عنده، وقديماً قيل: مِن أشكل المشكلات توضيح الواضحات.

* * * * *

إذا تبيّن ذلك، أليس من الضروريّ جدّاً في حسابات العدوّ أن يطمس ظليمةً يمكنه أن يُخفيها ويصادرها ويتنكّر لها لكثيرٍ من الظروف الموضوعيّة المحيطة بها، سيّما إذا كانت ظليمةً تواجهالعدوّ وتجعله عاجزاً عن تبرير فعلته الشنيعة وجريمته المروّعة؟

ص: 44

المقدّمة الثانية: التاريخ غمط حقّ أهل البيت(علیهم السلام)

لقد عوّدَنا التاريخ غمط حقّ أهل البيت(علیهم السلام) رجالاً ونساءً، فلم يحدّثْنا عن عظماء النساء من أهل البيت، كفاطمة بنت أسد(علیها السلام)، وفاطمة سيّدة النساء(علیها السلام)، وآمنة بنت وهب(علیها السلام) أُمّ أشرف الخلق وسيّد المرسلين(صلی الله علیه و آله)، وفاطمة أُمّ البنين(علیها السلام)، وأُمّهات الأئمّة وبناتهم(علیهم السلام)، ورجال الشيعة وجماجمهم، وغير ذلك.. والحال تجده يهتمّ بتفاصيل تافهة في حياة المغنّيات والساقطات، كما فعل أبو الفرج في (الأغاني) وغيرُه.

* * * * *

ولمّا كان حديثنا عن السيّدة رقيّة بنت الإمام الحسين(علیه السلام)، لذا سنحصر التساؤل هنا عن بنات الأئمّة(علیهم السلام) بالخصوص، وما أكثرهنّ، وما أقلّ تعرّض التاريخ والنسّابة لحياتهنّ، ولَطالما اقتصروا على ذكر الأسماء فقط، وما أكثر الموارد الّتي تساهل النسّابة في إحصاء أسمائهنّ أيضاً..

فهذه السيّدة فاطمة بنت الإمام موسى بن جعفر(علیهم السلام)، صاحبة القبر المشيد والمرقد المنيف والقبّة المذهّبة الّتي تكسر ضياء الشمس بتلألؤها وأشعّتها المتصاعدة في سماء مدينة قمّ المقدّسة، مع ما لها من مكانةٍ ومقام، حتّى رُويت فيها زيارةٌ وردَت عن المعصوم، بَيد أنّك لو قلّبتَ كتب التاريخ وتصفّحتها لا تكاد تعثر على شيء.

وعشرات البنات الأُخريات اللواتي ثبتت أسماؤهنّ في كتب النسب

ص: 45

واشتهرت بين الناس، بَيد أنّك لا تقف لهنّ على ترجمةٍ وافيةٍ ولا غير وافية.

والأكثر من ذلك: فإنّك لو أجهدتَ نفسك وأتعبتَ غيرك بالبحث معك، فإنّك لا تحصل على معلوماتٍ كافيةٍ عن السيّدة الصدّيقة الطاهرة زينب الكبرى(علیها السلام)، أو أُختها المظلومة أُمّ كلثوم(علیها السلام)، وما أقلّ ما حدّثَنا التاريخ عنهما في كربلاء، فضلاً عن باقي فترات حياتهما، إنْ قبل كربلاء أو بعدها.

وكذا الكلام في حياة السيّدة (القدّيسة) سَكينة بنت الحسين(علیهما السلام) وأُختها (القدّيسة) فاطمة الكبرى وفاطمة الصغرى(علیهما السلام).

فنحن في عوزٍ شديدٍ في مجال المعلومات لاستقصاء حياة أهل البيت عموماً بما فيهم أئمّة الهدى(علیهم السلام)، فكم حدّثنا التاريخ عن حياة الإمام الحسين(علیه السلام) قبل خروجه من المدينة، أو باقي الأئمّة(علیهم السلام) من أولاده؟

والشكوى هنا تطول ولا تنقضي، ولو أردنا سرد الأمثلة والنماذج والشواهد لَجرّنا الحديث إلى تأليف موسوعةٍ في ذلك تضمّ مئات الأسئلة في حياة كلّ واحدٍ من أهل البيت(علیهم السلام) وأولادهم وبناتهم، ثمّ لا نجد الجواب، إلّا أن نتصيّد استنتاجاً هنا أو استنباطاً هناك.

* * * * *

إذا كان هذا موقف التاريخ مع سادات الكون والأئمّة وأولادهم الّذين نوّروا الدنيا بأنوارهم(علیهم السلام)، وازدهر التاريخ بأسمائهم رغم محاولات طمسها

ص: 46

وإطفائها الّتي ما فتر يمارسها بضراوةٍ وقساوةٍ أعداؤهم قديماً وحديثاً، فهل سيكترث بسيّدةٍ صغيرةٍ بحساب السنين، لا يتعدّى عمرها أربع سنين، وُلدت في زمن المحنة، وماتت مظلومةً في عمق المحنة؟!

المقدّمة الثالثة: عدم اكتراث النسّابة بالنساء

بمراجعةٍ سريعةٍ لكتب النسب ومقارنة بينها، ينكشف بجلاءٍ للمُراجع أنّ علماء النسب لا يكترثون بالرجال إذا كانوا خاملي الذِّكر، فإذا ذكروهم اكتفوا بعَدّهم ضمن الأولاد والذرّيّة.

أمّا الرجال من ذوي الوجاهة والجاه، والّذين يُعدّون في العيون والرؤوس والجماجم ممّن يتركون أثراً على أيّ صعيدٍ كان، اجتماعيّاً أو سياسيّاً أو عسكريّاً أو أدبيّاً أو غير ذلك، فإنّ النسّابة لا يرى نفسه ملزَماً باستقصاء جميع ما في حياته من تفاصيل وأحداث، وإنّما يكتفي بالمقدار الّذي يرسم من خلاله صورةً للمتلقّي عن الاسم المنوَّه به، ويؤكّد ويشهد لما يميّزه، فالنسّابة لا يريد أن يسجّل أحداث التاريخ بالتفصيل، وإنّما يريد أن يترجم لهذا الرجل أو ذاك بحيث يُعرف نسبُه وامتداده صعوداً ونزولاً، لذا تجده في أكثر الأحيان يقتصر على ذِكر الأسماء من الآباء والأولاد والذرّيّة، ولا يتوقّف عند أحدهم إلّا قليلاً.

* * * * *

ولا يخفى على مَن تصفّح أوراق علماء النسب أنّهم لا يلتفتون إلى

ص: 47

النساء أبداً، ولا يعتبروهنّ استمراراً للعقب، ويعتبرون مَن خلّف إناثاً أو مَن يسمّونه (الميناث) أنّه منقرض، فإذا كان الشخص مهمّاً يذكرون أسماء بناته، وكأنّهم يذكروهنّ على مضض، ولا يدقّقون فيهنّ ولا يحفلون بهنّ.

أجل، قد يذكرون امرأةً ويشيدون بها ويمكثون عند ترجمتها قليلاً إذا فرضَت المرأةُ نفسها عليهم، كأن تكون ذات عِلمٍ أو مقامٍ اجتماعيّ خاصّ، أو سجّل لها التاريخ موقفاً مميّزاً، وما شاكل.

* * * * *

ومن المعلوم أنّ النسّابة لا يتابع تفاصيل حياة الرجال بشكلٍمستقلّ، سيّما الرجال الّذين سبقوه ولم يعاصرهم، وإنّما يعتمد في الغالب على التاريخ وراويه، فلا يعدّ من هذا الحيث عِلماً مستقلّاً يمكن الاعتماد عليه والاستغناء عن غيره من العلوم المرتبطة به في بابه.

* * * * *

فإذا راجعنا كتب علماء الأنساب والمؤرّخين الّذين يتعرّضون لذكر أولاد الأئمّة(علیهم السلام)، نجدهم يختلفون اختلافاً شديداً يصعب على المتابع أن يجمع بين أقوالهم إلّا أن يتوسّل بجملةٍ من القواعد والضرورات، أو الأخذ بالحدّ الأدنى أو الحدّ الأعلى، أو القدر المتيقّن، أو غيرها من وسائل الجمع والتأليف ورفع الاختلاف حسب قواعد الفنّ.

فتجدهم اختلفوا في عدد أولاد أمير المؤمنين(علیه السلام)، وفي أولاد الإمام

ص: 48

موسى بن جعفر(علیه السلام) يتردّدون بين أعداد قليلة وعدد الستّ أو السبع والثلاثين، ويُنهيهم بعضُهم _ كابن عنبة في (العَمدة) _ إلى ستّين، وقد اختلفوا في عدد أولاد الإمام سيّد الشهداء(علیه السلام) ذكوراً وإناثاً بين ستّة وخمسة عشر، وقد يزيدون وقد ينقصون، وقد يشتدّ اختلافهم في ذِكر الإناث والبنات أكثر لأسبابٍ سنأتي على ذكرها إن شاء الله (تعالى).

وكم من اسمٍ فات هذا النسّابة وأثبته نسّابةٌ آخَر بضرسٍ قاطع، وبالعكس.

* * * * *

بناءً على ما مرّ وما سيأتي، لا يصلح الاعتماد على النسّابة في النفي، فالنسّابة يصلح للإثبات ويُستشهَد به، ولا يصلح للنفي ولا يُستدلّ به!

سيّما إذا كان النفي لبنتٍ صغيرةٍ لا يتجاوز عمرها الأربع سنوات، ولا يمكن الاستناد إلى نفي بنتٍ صغيرةٍ إلى كتب علماء النسب والاحتجاج بهم على ذلك، بحيث نقول: لأنّنا استقصينا كتبالنسب فلم نجد للسيّدة رقيّة ذِكراً فيها فهي غير موجودة.

* * * * *

لو كان البحث يدور حول ولدٍ ذكرٍ عمره ثلاث أو أربع سنين، نحسب أنّ كتب النسب وأقوال علماء النسب غير محكّمة في النفي، كيف وهي بنتٌ صغيرة، فالطفل في هذا السنّ لا يعدو ذكره ولا يخرج حدّه عن سور بيته غالباً، فلو أثبته أُخِذ بقوله، لأنّه يُخبر عن موجودٍ قد يكون سمع خبره من

ص: 49

واحدٍ من أهل ذاك البيت.

فالنسّابة يرصد البيت حتّى يرى مِن هذا الطفل ما يثير فضوله أو يفرض عليه نفسه لسببٍ خاصّ، أو يشبّ ويكبر ويتميّز بشخصيّته الخاصّة الّتي تجتذب الأنظار، فيُعدّ في الإطار الّذي يجعله محسوباً معدوداً مذكوراً منوّهاً باسمه.

المقدّمة الرابعة: التشابه في الصور والأسماء

وفق قوانين الوراثة، ووفق ما سمعناه في الأخبار والأحاديث، لا يُعدّ اكتشافاً أن نعرف مدى التشابه الشديد بين بنات أهل البيت(علیهم السلام)، بالخصوص بنات أصحاب الكساء الخمسة(علیهم السلام)، في المظهر والخلق والشمائل والخصوصيّات، فكلّهم من مشكاةٍ واحدة، يشبه بعضهم بعضاً، ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ﴾ ((1))، إلى حدٍّ يصعب التمييز بينهنّ، وطالما سمعنا أنّ فاطمة بنت الحسين(علیهما السلام) أشبه الناس بأُمّها فاطمة الزهراء(علیها السلام)، وكذا الأمر في بقيّة البنات الطاهرات، فإنّهنّ أشبه ما يكنّ بأبيهنّ، وأبوهم سيّد الشهداء(علیه السلام) أشبه ما يكون بجدّه رسول الله(علیهم السلام) وأُمِّه فاطمةالزهراء، وهكذا.

* * * * *

ص: 50


1- ([1]) سورة آل عمران: 34.

أضف إلى ذلك تشابههنّ في الأسماء والكُنى والألقاب، فكم مِن فاطمة وفاطمة وفاطمة، وزينب وزينب وزينب، وكنية كلّ واحدةٍ منهنّ أُمّ كلثوم، وعليّ وعليّ وعليّ، وكنية كلّ واحدٍ منهم أبو الحسن، وما أكثر ذلك في بنات الأئمّة وأهل البيت(علیهم السلام).

فما أصعب _ والحال هذه _ حصول الاطمئنان بالاتّحاد والتعدّد والتمييز، وما أصعب إنكار بنتٍ أو ولدٍ والجزم بالاتّحاد والقطع بالعدم.

المقدّمة الخامسة: خِدر بنات الرسالة

لقد نشأت بنات الرسالة في بيوتٍ أذن الله أن تُرفَع، تحت سرادقات العزّ والكرامة، وامتزن بين الخلائق أجمعين بشدّة الخِدر وقوّة الستر والاحتشام والاحتجاب، وهنّ بنات بضعة النبيّ فاطمة(علیها السلام) الّتي قالت، وقد قال لها النبيّ: «أيّ شيءٍ خيرٌ للمرأة؟»، فقالت: «أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل»، فضمّها إليه وقال: «﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ﴾ ((1))، صدقت، إنّها بضعةٌ منّي» ((2)).

وحكى النقديّ قال: حدّث يحيى المازنيّ، قال: كنتُ في جوار أمير

ص: 51


1- ([1]) سورة آل عمران: 34.
2- ([2]) أُنظُر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 3 / 341، دعائم الإسلام للقاضي النعمان: 2 / 215، بحار الأنوار: 43 / 84 الباب 4 ح 7.

المؤمنين(علیه السلام) في المدينة مدّةً مديدة، وبالقرب منالبيت الّذي تسكنه زينب ابنته، فلا واللهِ ما رأيتُ لها شخصاً ولا سمعتُ لها صوتاً.

وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة جدّها رسول الله(صلی الله علیه و آله) تخرج ليلاً، والحسن عن يمينها، والحسين عن شمالها، وأمير المؤمنين أمامها، فإذا قربت من القبر الشريف سبقها أمير المؤمنين(علیه السلام) فأخمد ضوء القناديل، فسأله الحسن مرّةً عن ذلك، فقال: «أخشى أن ينظر أحدٌ إلى شخص أُختك زينب!» ((1)).

وقد امتزنَ بنات النبيّ(صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين والأئمّة الطاهرين(علیهم السلام) بالخفارة والخدر من بين نساء العالمين، وهذا الخدر والستر والحشمة والتواري عن الأنظار بنفسه يمنع النسّابة والمؤرّخ من الفضول، ويحجبه عن معرفة الكبار فضلاً عن الأطفال في البيت العلويّ الطاهر.

ويكاد لا يعرف أحدٌ عنهنّ شيئاً إلّا إذا كان من أهل البيت أنفسهم، ويكون حينئذٍ سوراً لخدر بنات الرسالة، فلا يحدّث إلّا بمقدار الضرورة القصوى، أو يحدث حدثاً يكشف عنهنّ، كما حدث في خروج سيّدة نساء العالمين(علیها السلام) خلف ابن عمّها أمير المؤمنين(علیه السلام)، وخروج السيّدة الصدّيقة الصغرى(علیها السلام) عند مصرع سيّد الشهداء(علیه السلام)، أو خروج بنات الوحي في

ص: 52


1- ([1]) زينب الكبرى للنقدي: 22، عوالم العلوم للبحراني (المستدرك): 11 _ 2 / 955، أعلام النساء لدخيّل: 16.

كربلاء للسبي..

بل إنّنا نحسب أنّ أهل البيت(علیهم السلام) لم يحدّثونا عن السيّدة فاطمة الزهراء(علیها السلام) الّتي دارت على معرفتها القرون الأُولى إلّا مجملاً بالمقدار الواجب الّذي يتوقّف عليه نجاتنافي الدنيا والآخرة.

فربّما يُعذر المؤرّخ والراوي إذا ابتُلي بالجهل وعدم التمييز والخلط في التشخيص، إن لم يكن عن سوء قصدٍ وإمعانٍ في تجاهل أهل البيت(علیهم السلام).

فلا نستغرب ولا نعجب إن رأينا المؤرّخ لا يعرف بنتاً صغيرةً من بنات سيّد الشهداء(علیه السلام) أو يعجز عن تشخيصها، فيضطرّ أحياناً إلى نقل الحدث من دون التصريح بالاسم!

* * * * *

سيأتي بعد قليلٍ بعض المقدّمات المهمّة المؤثّرة المتمّمة، من قبيل أصل تقديم قول المثبت على النافي.

ص: 53

ص: 54

المجموعة الثانية: مقدّماتٌ لها علاقةٌ مباشرةٌ بالسيّدة رقيّة(علیهاالسلام)

اشاره

تعالج هذه المقدّمات جملةً من الأُمور الّتي ترتبط ارتباطاً مباشراً ببحث السيّدة بنت الحسين(علیه السلام) رقيّة(علیها السلام):

المقدّمة الأُولى: استشهاد السيّدة رقية في خضمّ أحداثٍ ضخمة

لقد أوقفوا أهلَ البيت(علیهم السلام) على باب الشام ثلاثة أيّام؛ حتّى يزيّنوا البلدة، فزيّنوها بكلّ حُليٍّ وزينةٍ ومرآةٍ كانت فيها، فصارت بحيث لم ترَ عينٌ مثلها، ثمّ استقبلَتهم أهلُ الشام من الرجال والنساء مع الدفوف، وخرج أُمراء الناس مع الطبول والصنوج والبوقات، وكان فيهم أُلوفٌ من الرجال

ص: 55

والشبّان والنسوان يرقصون ويضربون بالدفّ والصنجوالطنبور، وقد تزيّن جميعُ أهل الشام بألوان الثياب والكحل والخضاب ((1)).

وقال سهل بن سعد:

خرجتُ إلى بيت المَقدِس حتّى توّسطتُ الشام، فإذا أنا بمدينةٍ مطردة الأنهار كثيرة الأشجار، قد علّقوا الستور والحجب والديباج، وهم فرحون مستبشرون، وعندهم نساءٌ يلعبن بالدفوف والطبول ... ((2)).

وروى السيّد ابن طاووس(رحمه الله علیه) عن كتاب (المصابيح)، بإسناده إلى جعفر بن محمّد(علیهما السلام) قال:

«قال لي أبي محمّد بن علي: سألتُ أبي عليَّ بن الحسين عن حمل يزيد له، فقال:

حمَلَني على بعيرٍ يطلع بغير وطاء، ورأس الحسين(علیه السلام) على علم، ونسوتنا خلفي ... والفارطة خلفنا وحولنا بالرماح، إنْ دمعَت من

ص: 56


1- ([1]) أُنظُر: نفَس المهموم للقمّي: 432 _ عن: كامل البهائي، معالي السبطين للمازندراني: 2 / 141.
2- ([2]) أُنظُر: مقتل الحسين(علیه السلام) للخوارزمي: 2 / 60، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 379.

أحدنا عينٌ قُرع رأسُه بالرمح، حتّى إذا دخلنا دمشق صاح صائح: يا أهل الشام! هؤلاء سبايا أهل البيت الملعون!!!» ((1)).

ويُنبئك عن كثرة تجمهر الناس واجتماعهم وشماتتهم وتشفّيهم وانشغالهم بالحدَث العظيم، ما رواه السيّد ابن طاووس(رحمه الله علیه)، قال:

وسار القوم برأس الحسين ونسائه والأسرى من رجاله،فلمّا قربوا من دمشق دنت أُمّ كلثوم من شمر _ وكان من جملتهم _ فقالت له: «لي إليك حاجة»، فقال: ما حاجتك؟ قالت:

«إذا دخلتَ بنا البلد فاحملنا في دربٍ قليل النظّارة، وتقدّم إليهم أن يُخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل وينحّونا عنها، فقد خُزينا من كثرة النظر إلينا ونحن في هذه الحال»!

فأمر في جواب سؤالها أن يجعل الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل؛ بغياً منه وكفراً، وسلك بهم بين النظّارة على تلك الصفة حتّى أتى بهم باب دمشق، فوقفوا على درج باب المسجد الجامع حيث يُقام السبي ((2)).

ص: 57


1- ([3]) أُنظُر: الإقبال لابن طاووس: 583، بحار الأنوار: 4 / 154، عوالم العلوم للبحراني: 17 / 413، نفَس المهموم للقمّي: 384.
2- ([1]) أُنظُر: اللهوف لابن طاووس: 174، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 381، بحار الأنوار: 45 / 127، عوالم العلوم للبحراني 17 / 427، نفَس المهموم للقمّي: 429.

في جوٍّ ملتهبٍ صاخب، وفي فترةٍ زمنيّة مكتظّةٍ بالأحداث الجِسام، مِن قبيل دخول حرم الله ورسوله(صلی الله علیه و آله) الى الشام، وقد اجتمع الناس والتحموا كأنّهم كتلةً واحدة، وازدحمَت الأزقّة والأسواق، والفارطة تحوم، والنظّارة يركب بعضُهم بعضاً لِيرموا أبصارهم في كلّ ناحية، والناس في هرج ومرج، وقد استعدّ أهل الشام بأمرٍ من يزيد القرود، واستعدّ قصر الخمور، فنُصِب ليزيد سريرٌ مرصَّعٌ وزُيّنَت داره بأنواع الزينة، ونُصِب أطراف سريره كراسي من الذهب والفضّة ((1))، وما صاحب ذلك من مجريات أحداث مجلس يزيد وغيرها ممّا اهتزّ له عرش المنتقم الجبّار..فقد انصرف اهتمام الراوي والمؤرّخ إلى تلك الأحداث المروعة الهائلة المهولة، فهو لا يكترث كثيراً، ولا يثيره _ في خضمّ تلك الأحداث الصاخبة المتلاحقة المتسارعة المتداخلة _ تسجيل وفاة طفلةٍ صغيرةٍ لا تعني شيئاً بالنسبة له، بحكم انتمائه العقائديّ للسلطان وتركيبته النفسيّة والذهنيّة والعاطفيّة.

وماذا تعني للراوي وفاة طفلةٍ صغيرة، وهو يلاحق الرؤوس على الرماح، وسبايا آل الرسول(صلی الله علیه و آله)، ومساجلات مجلس اللعين، والحرب الإعلاميّة الحامية الوطيس في تلك الفترة؟ فهل يحرّكه وفاة بنت الحسين(علیه السلام)، وهو

ص: 58


1- ([2]) أُنظُر: نفَس المهموم للقمّي: 432 _ عن: كامل البهائي.

يتعامل مع مقتل الحسين(علیه السلام) وينظر ببرودٍ وعدم اكتراثٍ إلى رأس خامس أصحاب الكساء(علیهم السلام) ومَن معه من أهل بيته(علیهم السلام) وأنصاره على رؤوس الرماح؟

وليس من عادة المؤرّخ والراوي _ بل قد تكون سجيّةً مطّردةً في الإنسان العادي _ الاهتمام بالحدث الصغير مع انشغاله بالحدث الأكبر.

أضف إلى ذلك ما سنسمعه بعد قليلٍ من وقوع المصيبة بعيداً عن الأضواء.

المقدّمة الثانية: وقوع الشهادة بعيداً عن العيون

جميع الكتب الّتي روت شهادة السيّدة رقيّة(علیها السلام) اتّفقَت على وقوع الشهادة بعيداً عن عيون الرواة، إلّا إذا استثنينا الجلاوزة الّذين أحضروا الرأس المقدّس على فرض دخولهم بالرأس وبقائهم وشهودهم تفاصيل الحدث.

فهي من حيث الزمان:

وقعت في أحشاء الليل، بعد أن نام الطاغية، ومضى هزيعٌ من الليل، وتوغّل الوقت باتّجاه أعماق الليل، وهبط الظلام وخيّم علىالشام.

وهي من حيث المكان:

وقعت في موضع منزوي، ومكانٍ لا يرتاده المرتادون، لأنّه في جانبٍ من قصر الطاغية، عبّر عنه بعضهم بالخربة، كأنّه موضعٌ مهجور، أو مستخدَمٌ

ص: 59

لأغراض تنسجم مع بقائه على خرابه، ولا نفتح العبارة أكثر من هذا، وللقارئ تصوّر ذلك.

وقد وقع الحادث وظاهر الخبر يحكي اجتماع النساء والأطفال عليها وإحاطتهم بها، فكانوا مُحدِقين بها حين وفاتها، وكان البكاء والنحيب والنوح والعويل عالياً، قبل وفاتها وحين وفاتها وبعدها، فربّما حجب ذلك أصل الحدث عن عين الراوي والحاضر المراقب للحدث من بعيد.

أضف إلى ذلك أنّ أصل الحدث _ كما ذكرنا أكثر من مرّة _ لا يهمّ المؤرّخ والراوي كثيراً، فما هو عنده سوى وفاة طفلةٍ صغيرةٍ لا تعني بالنسبة له شيئاً أبداً.

المقدّمة الثالثة: حصول الشهادة في بلدٍ لا يعرفون أهل البيت(علیهم السلام)

لقد حدّثَنا التاريخ أنّ أهل الشام كانوا يجهلون أهل البيت(علیهم السلام)، وقد سمعنا قصّة الشيخ مع الإمام السجّاد(علیه السلام) ((1))، وهذا يعني حصول الشهادة في مكانٍ ليس فيه مَن يعرف أهل البيت(علیهم السلام) أدنى معرفة.

فهم لا يعرفون الحسين(علیه السلام)، وهو سيّد شباب أهلالجنّة، ولا يعرفون

ص: 60


1- ([1]) أُنظُر: تجارب السلَف: 69، روضة الواعظين: 190.

الإمام السجّاد(علیه السلام)، وهو إمامٌ مفترض الطاعة وحفيد أمير المؤمنين(علیه السلام) وخليفة رسول الله(صلی الله علیه و آله) وصاحب بيعة الغدير، ولا يعرفون زينب بنت أمير المؤمنين وأُختها أُمّ كلثوم(علیهما السلام)، ولا يعرفون بنات سيّد الشهداء(علیه السلام)، ولا مخدّرات الوحي وعقائل النبوّة، فضلاً عن السيّدة رقيّة(علیها السلام) بعمرها المحدود وسنيّها القصيرة.

فلو كانت المتوفّاة امرأةً كبيرةً ذات اسمٍ معروفٍ بعد موقفٍ مشهود، فربّما كان ذلك يدفع الناس أو الراوي لتقصّي الأمر ومتابعة الأخبار، أمّا أن يسمع بوفاة بنتٍ صغيرة، وهو يجهلها ويجهل قدرها، فإنّه سوف لا يعتبره حدثاً يستحقّ المتابعة والتقصّي والرواية والحكاية، بناءً على متبنّياته وطبيعة اهتماماته.

المقدّمة الرابعة: حصول الشهادة بين الأعداء

حصول الشهادة بين الأعداء، وهم المعروفون بالتضليل الإعلاميّ وطمس الحقائق، وهذا ما لا يحتاج إلى مزيد بيان، وفي جوٍّ تكشّفَت فيه عورة الأُمويّين، وافتضحت سوأة الطاغوت، وصاروا يعملون جاهدين في تغطية عفن فعلهم، والتوسّل بالحيَل السياسيّة والإعلاميّة والخداع والكذب وجميع وسائل التعمية والتغطية والاستغفال والاستحمار وتخمير العقول والنفوس للتنصّل من تلك الجريمة النكراء الّتي لم يشهد لها التاريخ

ص: 61

مثيلاً.

ويشهد لذلك أنّهم أتوا على أخبار السبي فمحوها ومحقوها، فلا تكاد تجد لها تفاصيل من جناياتهم في أُمّهات المصادر التاريخيّة القديمة، إلّا أنْ تتصيّد ذلك من كلمات أهل البيت(علیهم السلام) الّتي حفّتها ظروف التقيّة وتجرُّع الغيظ وكظم النفس، لِما فيه مساسبالغيرة الإلهية المتمثّلة في الإمام أو مَن يليه من أولادهم وأحفادهم، فأهل البيت(علیهم السلام) _ سواءً الأئمّة أو أولادهم وبناتهم، بل حتّى ذراريهم إلى يومنا هذا _ يتغاضون ويفرغون ألمهم في قلوبهم، ولا يتكلّمون عن السبي إلّا من خلال عباراتٍ عامّة، لو فُتحَت أتَتْ على المؤمن الغيور وقتَلَته كمَداً، من قبيل قولهم: «سُبينا سَبْي كابل»، أو: «سُبوا كالإماء»، أو: «يتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد، والشريفُ والدنيّ، والشاهدُ والغائب».

فيما تجد التاريخ يتغافل ويتجاهل ويجهد في كتمان مجريات الأحداث والمصائب الّتي جرت على أهل البيت(علیهم السلام) في طريقٍ طويلٍ استغرق مسافاتٍ طويلةً وأيّاماً ثقيلة، من كربلاء إلى الكوفة ومن الكوفة إلى الشام.

أجل، قد تجد بعض التفاصيل في بعض كتب المقاتل ممّا يصنّفونه في الدرجة الثانية والثالثة، وكتب العلماء والمؤرّخين الفرس، والأتراك والهنود..

* * * * *

ص: 62

فكان من الطبيعيّ جدّاً أن تُطمَس أخبارُ هذه الشهيدة الغريبة، كما طُمسَت الكثيرُ الكثيرُ من مصائب أهل البيت(علیهم السلام)، وأخبار شهادة جدّتها الزهراء(علیها السلام) رغم مقامها ومعرفة المسلمين جميعاً لها، ولَطالما قال النبيّ(صلی الله علیه و آله): «مَن عرفني ...»، ولا زال صوتها يدوّي في مسامع الزمن: «اعلموا إنّي فاطمة وأبي محمّد(صلی الله علیه و آله)!».

ووفق ما نعرفه من التاريخ وما اعتدنا عليه من سيرة الأُمويّين وسلوكيّاتهم، نجد الأصل في كتمان هذه المصيبة والتعتيم عليها ومحو آثارها ومحق كلّ ما يمتّ لها بصلة.

المقدّمة الخامسة: تكتّم أهل البيت على شهادة رقيّة(علیها السلام)

لقد سمعنا التاريخ يحدّث عن شماتة العدوّ بالنبيّ(صلی الله علیه و آله) وبآله(علیهم السلام)، وسيّدِ الشهداء وأهل بيته وأصحابه(علیهم السلام)، وبشماتته بآل رسول الله(علیهم السلام) في السبي، وقد بلغ الذروة سليلُ البغاء والدعارة ابن الأَمة الفاجرة ابن زياد وسائسُه القرد المخمور يزيد في مجلسيهما، وكان العدوّ يشمت بكلّ شيء، فلا يبعد أبداً تكتّم أهل البيت على شهادة رقيّة(علیها السلام) في نفس الوقت؛ خوفاً من الشماتة، وخوفاً من نبش القبر.

وربّما شهد لذلك دفنها في نفس مكان إقامتهم، ليحرسوا القبر ما داموا هناك، ويحرسوه بعد رحيلهم بإخفاء الخبر، والتكتّم على المصيبة.

ص: 63

ولا يستبعد من الأعداء ومن أوباشهم القيام بهذه الجريمة العظمى، فقد حاول عمر نبش قبر الزهراء(علیها السلام)، لولا أنّ أمير المؤمنين(علیه السلام) أخفاه وعمّى عليه برشّ أربعين قبراً، فأشكل عليهم قبرها، وسنسمع بعد قليلٍ ما يشهد لذلك.

المقدّمة السادسة: اختفاء القبر

إختفى قبر الصدّيقة سيّدة نساء العالمين وخيرة الله في العالمين(علیها السلام)، ابنةِ رسول الله(صلی الله علیه و آله) خاتم النبيّين، وزوجةِ سيّد الأوصياء(علیه السلام)، وأُمّ سيّدَي شباب أهل الجنّة(علیهما السلام)، منذ أن دفنها أمير المؤمنين(علیه السلام)، وقد جهد الأعداء أن يكتشفوه منذ اليوم الأوّل، وأرادوا نبش القبورحتّى يعرفوه، لولا أنْ بادرهم غضبُ الله ونقمته عليُّ بن أبي طالب(علیهما السلام)، فخافوا ((1))، وبقيَ إلى يوم الناس هذا مخفيّاً غير معروف، يتلمّسه الشيعة والمحبّون في مظانّ يحدسونها حدساً ويخمّنونها تخميناً.

كما اختفى قبر أمير المؤمنين(علیه السلام) دهراً من الزمان، ولم يعرفه أحدٌ سوى أولاده المعصومين(علیهم السلام) ومَن خصّوهم من شيعتهم الأبرار المأمونين؛ خوفاً

ص: 64


1- ([1]) أُنظُر: الهداية الكبرى للخصيبي: 179، دلائل الإمامة للطبري: 136، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 3 / 363، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 16 / 281، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 1 / 569، بحار الأنوار: 43 / 171.

من بطش الجبّارين ورعونة الخوارج، ولأسباب هم أعرف بها، ثمّ عرفه المؤمنون في زمن إمامة الإمام الصادق(علیه السلام)، وعرفه هارون العبّاسيّ يوم كان خارجاً للصيد وطارد الظباء، في قصّةٍ معروفة ((1)).

وربّما فسّر ذلك الفرق بين ما ورد في زيارة عاشوراء برواية الإمام الباقر(علیه السلام) في (كامل الزيارات)، وما ورد برواية الإمام الصادق(علیه السلام)، فالأُولى ليس فيها سوى زيارة الإمام الحسين(علیه السلام)، والثانية فيها زيارة لأمير المؤمنين(علیه السلام)، وهي المعروفة بالزيارة السادسة في كتاب (مفاتيح الجنان) للشيخ عبّاس القمّي(رحمه الله علیه)، والدعاء المعروف بدعاء علقمة، إذ أنّ الإمام الباقر(علیه السلام) أهدى المؤمنين زيارة عاشوراء حين كان قبر أمير المؤمنين(علیه السلام) غير معروفٍ لديهم، فلمّا عرفوه أهداها الإمام الصادق(علیه السلام) كاملة.* * * * *

إنّ ما نعرفه بلا تردّد شراسةَ العدوّ وضراوته وقساوته وجلفيّته واستخفافه بالمقدّسات وانتهاكه للحرمات، وما أبداه من فنون الشماتة والحقد والبغضاء والكبر والعتوّ والطغيان وسحقه للقيَم وإقدامه على نبش القبور والاعتداء على الأجساد المطهَّرة.

لقد كان نبش القبور شماتةً وهتكاً وتشفّيّاً دأباً لهؤلاء الأجلاف، فقد

ص: 65


1- ([2]) أُنظُر للتفصيل كتاب (فرحة الغريّ في تعيين قبر أمير المؤمنين في النجف) لعبد الكريم بن أحمد بن طاووس.

نبش معاويةُ قبور شهداء أُحُد بحجّة إجراء عين ثمّة، ليعفّي آثارهم وينتقم من حمزة سيّد الشهداء(علیه السلام) ((1))، وأمر المتوكّل الديزج اليهوديّ وأرسله فنبش قبر سيّد الشهداء الحسين(علیه السلام) ومنع الناس الزيارة ((2))، ونبش العبّاسيّون قبور بني أُميّة في دمشق ((3)).

قال السيّد جعفر مرتضى العامليّ وهو يتحدّث عن دفن الشهداء حَمَلَة الرايات في مُؤتة:

قال ابن عنبة: دُفن جعفر وزيد بن حارثة وعبد الله بنرواحة في قبرٍ واحد، وعُمّي القبر ((4)).

ولم تُبذَل محاولةٌ حقيقيّةٌ لتحديد موضع دفنهم (رضوان الله

ص: 66


1- ([1]) أُنظُر: مواهب الجليل للرعيني: 3 / 76، المبسوط للسرخسي: 2 / 69، بدائع الصنائع لأبي بكر الكاشاني: 1 / 315، البحر الرائق لابن نجيم المصري: 2 / 320، شجرة طوبى للمازندراني: 2 / 285، صفة الصفوة لابن الجوزي: 1 / 147، الغدير للعلّامة الأميني: 5 / 77، الاستذكار لابن عبد البرّ: 3 / 90، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 1 / 326، السيرة الحلَبيّة: 2 / 539.
2- ([2]) أُنظُر: مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 428، الأمالي للشيخ الطوسي: 326 الرقم 653، بحار الأنوار: 45 / 394، عوالم العلوم للبحراني: 17 / 724.
3- ([3]) أُنظُر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 46 / 453، و53 / 127، البداية والنهاية لابن كثير: 10 / 49.
4- ([1]) عُمدة الطالب لابن عنبة: 36.

تعالى عليهم)، إلّا في العصور المتأخّرة.

وقد كان من الطبيعيّ أن يُعَمَّى موضع قبور الشهداء، فإنّ المنطقة قد بقيَت في يد الأعداء، إلى أن ظهر الإسلام فيها، ولكن لم يكن هؤلاء المسلمون ممّن يهتمّون بإظهار أمر آل أبي طالب، بل كان اهتمامهم منصبّاً على ما يناقض ذلك.

وقد أُخفيَ قبر عليّ بن أبي طالب(علیه السلام) حوالي مئة سنة، إلى أن أظهره الإمام الصادق(علیه السلام) في عهد المنصور العبّاسي.

كيف وقد نبش الحجّاج ثلاثة آلاف قبرٍ من أجل أن يعثر على جسد عليّ (لكي يُحرقه) ولا يُبقي له أثراً، فلم يُمكّنه الله من ذلك ((1)).

وقد أُخفيَ قبر زيد بن علي(علیهما السلام)، ثم لمّا عُرف صلبوه سنوات، ثمّ أحرقوه ((2)).

وعلينا أن لا ننسى قبر الزهراء(علیها السلام) الّذي لا يزال مجهولاً إلى يومنا هذا.

ص: 67


1- ([2]) روضات الجنّات: 2 / 54، وراجع أيضاً: تفسير القرآن الكريم (تفسير أبي حمزة الثُّمالي): 75.
2- ([3]) شجرة طوبى: 1 / 143، العِبَر وديوان المبتدأ والخبَر: 3 / 100، الإيضاح لابن شاذان: 399 الهامش _ عن: الكامل لابن الأثير: 5 / 90، والكافي: 8 / 251.

ولعلّها حين أرادت إعلان الاحتجاج على الّذين آذوها وضربوها، وأسقطوا جنينها، واغتصبوا منها فدكاً وسواها..

أرادت أيضاً: أن تحفظ جثمانها الطاهر من أن يتعرّض للنبش والهتك مِن قِبَل مَن حاول نبش قبر ولدها الإمام الحسين(علیه السلام)، وزوجها عليّ، ونبش قبر حفيدها زيد، كما هو ظاهر ((1)).

وقال ابن بطّوطة في رحلته:

وجدتُ في كتاب (المعلم في شرح صحيح مسلم) للقرطبي: أنّ جماعةً من الصحابة صحبهم أُوَيس القرنيّ من المدينة إلى الشام، فتُوفّي في أثناء الطريق في برّية لا عمارة فيها ولا ماء، فتحيّروا في أمره، فوجدوا حنوطاً وكفناً وماء، فعجبوا من ذلك، وغسّلوه وكفّنوه وصلّوا عليه ودفنوه، ثمّ ركبوا.

فقال بعضهم: كيف نترك قبره بغير علامة؟ فعادوا للموضع، فلم يجدوا للقبر من أثر.

قال ابن جزي: ويقال: إنّ أُوَيساً قُتِل بصفّين مع عليّ(علیه السلام)،

ص: 68


1- ([1]) الصحيح من سيرة النبيّ الأعظم للسيّد جعفر مرتضى: 20 / 155.

وهو الأصحّ إن شاء الله ... ((1)).

وبغضّ النظر عن معالجة موضع رحيل أُوَيس، فالّذي يهمّنا هنا تسجيل محو أثر القبر لمصلحةٍ يعلمها الله، فلماذا لا يُخفي قبر السيّدة رقيّة(علیها السلام) حمايةً لها من هتك الحرمة والنبش، وهي مدفونةٌ في أرض الأعداء، أو لأيّ مصلحةٍ أُخرى لا نعلمها؟فلا غرابة من اختفاء قبر السيّدة رقيّة على فرض ذلك، وقد أحاط به الأعداء طول الدهر والزمان، ويحسن أن نعيد هنا كلام السيّد العامليّ (حفظه الله) فيما يخصّ قبر جعفر بن أبي طالب وصحبه، بشيءٍ من التغيير يناسب الحديث عن مولاتنا السيّدة رقيّة:

لم تُبذَل محاولةٌ حقيقيّةٌ لتحديد موضع دفنها؟سها؟ إلّا في العصور المتأخّرة..

وقد كان من الطبيعيّ أن يُعَمّى موضع قبرها؛ فإنّ المنطقة قد بقيَت في يد الأعداء، ولم يكن الشاميّون ممّن يهتمّون بإظهار أمر آل أبي طالب، بل كان اهتمامهم منصبّاً على ما يناقض ذلك.

على أنّ قبرها كان معروفاً، وسيأتي الكلام عن قبرها(علیها السلام) في مواضع أُخرى إن شاء الله (تعالى).

ص: 69


1- ([2]) رحلة ابن بطّوطة (تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار): 1 / 35.

ص: 70

المرحلة الثانية

المرحلة الثانية:مقدّماتٌ لها علاقة بالإثبات

اشارة

بعدما سمعنا جملةً من المقدّمات الّتي تعرقل، بل تمنع النافي من النفي القاطع، وأنّه غير مُصيبٍ في ارتكانه إلى أقوال علماء النسب وأخبار المؤرّخين، سيّما أنّ أقصى ما يفعلونه أنّهم لا ينصّون على اسمها، أو يتغافلون عن التنويه بأخبارها..

فإذا ارتفعَت موانع النافي ولم يصمد دليله، أمكن الاكتفاء ببعض الشواهد والأدلّة للإثبات، لذا سنشير هنا باختصارٍ إلى بعض المقدّمات الّتي يمكنها أن تنهض بهذه المهمّة:

المقدّمة الأُولى: محاولة الأعداء إنكار أولاد الحسين(علیه السلام)

اشاره

مَن يتابع سير التاريخ وطريقة التعامل مع رسول الله(صلی الله علیه و آله) وأولاده المعصومين، يجد واضحاً أنّ العدوّ كان يسعى جاهداً لنفي الامتداد

ص: 71

العنصريّ وانتشار الذرّيّة وتكاثرها منذ عصر النبيّ(صلی الله علیه و آله)، وقد أطالوا ألسنتهم حتّى قالوا عن سيّد الخلق ومعدن البركة أنّه: أبتر! وشاء الله أن يجعل ذرّيّته في صلب أمير المؤمنين عليٍّ وفاطمة(علیهما السلام)، ويقطع الألسن الوقحة ويكسرشوكتهم.

ونحسب أنّ القوم نفوا ذرّيّة النبيّ(صلی الله علیه و آله) وتنكّروا لهم، فجعلوا بناته ربائب، وتطاولوا حتّى أنكروا انتساب السيّدة الصدّيقة فاطمة(علیها السلام) لأبيها(صلی الله علیه و آله)، وجهدوا لإقناع الناس أنْ لا علاقة بين سيّدة القيامة فاطمة(علیها السلام) وأبيها(صلی الله علیه و آله)، ولو قرأنا خطبة الصدّيقة المعروفة ب (الفدكيّة) بتأمّل وبهذه السابقة الذهنيّة، نجدها تؤكّد على انتسابها للنبيّ(صلی الله علیه و آله) في مواضع عديدة، وقد صرخت فيهم بقولها: «اعلموا أنّي فاطمة وأبي محمّد!».

ومارسوا هذا النوع من الإبادة مع باقي الأئمّة المعصومين(علیهم السلام)، بما فيهم سيّد الشهداء وخامس أصحاب الكساء(علیهم السلام)، حتّى قال قائلهم: وما كرامتك على رسول الله(صلی الله علیه و آله)؟

وربّما كان من مسوّغات هذه الحملة ودوافعها أنّهم جعلوا ينكرون أولاد الإمام الحسين(علیه السلام) ويقلّلونهم؛ كي لا يُقال عنهم أنّهم أبادوا ذرّيّة الإمام الحسين(علیه السلام)، واستأصلوا ذرّيّة النبيّ(صلی الله علیه و آله) من جديد الأرض، وليس بالعزيز أن نجد الشواهد والدلائل في التاريخ على ما نقول..

وسنذكر لذلك نموذجين كأمثلة، وللمتابع مجالٌ واسعٌ للتدليل عليه:

ص: 72

الملاحظة الأُولى: صلاة الألف ركعة عمل الأئمّة(علیهم السلام) جميعاً

إنّ صلاة الألف ركعة لم تكن عملاً يشغل الإمام(علیه السلام) عن الإنجاب، وليست هي خاصّة بسيّد الشهداء(علیه السلام)، فقد كان أمير المؤمنين(علیه السلام) يصلّيها، وهو حاكمٌ ظاهر الحكومة يدير شؤون الأُمّة في الظاهر المنظور، وقد أولد عدداً أنهاه بعضهم إلى أكثر من ستّين، ذكوراً وإناثاً، وكذا كان الإمام موسى بن جعفر الكاظم(علیه السلام) مُكثِراً، أولد ما يربو على السبعة والثلاثين، وأنهاهم ابن عنبة إلى ستّين، وقد ابتُليَ بالسجن زهاء خمسة عشر عاماً في

ص: 73

مجموع الفترات الّتي سُجن فيها.

وكانت صلاة الألف ركعة دأباً التزمه الأئمّة المعصومون(علیهم السلام) جميعاً، ولم تؤثّر على شيءٍ من أعمالهم ونشاطاتهم اليوميّة، والإمام الحسين(علیه السلام) لم يبتلى بالحكم الظاهريّ ولا بالسجن.

النموذج الأوّل: ما أقلّ وُلد أبيك

روى اليعقوبيّ في (تاريخه) قال:

قيل لعليّ بن الحسين(علیهما السلام): ما أقلّ وُلد أبيك؟ قال: العجب كيف وُلد له، إنّه كان يصلّي في اليوموالليلة ألف ركعة، فمتى كان يفرغ للنساء؟ ((1))

يُوحي هذا الخبر للمتلقّي أنّه يذكر منقبةً من مناقب الإمام(علیه السلام)، ويشيد بكثرة عبادته وشدّة اجتهاده في العبادة، والحال أنّ فيه عدّة ملاحظات تجعل المتلقّي يتريّث في قبوله:

الملاحظة الثانية: عدد أولاد الإمام(علیه السلام)

سنرى بعد قليلٍ ما أحصيناه من أولاد الإمام(علیه السلام) الّذين وردت أسماؤهم في كتب التاريخ والمقاتل والأنساب، ما يربو على الثلاثين بين ذكرٍ وأُنثى، فلو كان نصف هذا العدد يمكن المناقشةفيه، فإنّ العدد المتبقّي ليس بالقليل.

الملاحظة الثالثة: المقارنة مع الإمام الحسن(علیه السلام)

يروي لنا التاريخ أنّ عدد أولاد سيّد الشهداء(علیه السلام) قليلٌ لانشغاله بالصلاة والعبادة، فيما يروي لنا أنّ الإمام الحسن المجتبى(علیه السلام) قد تزوّج كذا عددٍ من النساء سوى الجواري والإماء، ويحصر أولاده في عددٍ لا يتجاوز الخمسة عشر ذكراً وأُنثى، والحال أنّ الإمام الحسن(علیه السلام) لم يترك صلاة الألف ركعة أيضاً، وكيف اقتصر على توليد خمسة عشر من أكثر من ثلاثمئة امرأةٍ أو تزيد كما يزعم المؤرّخ؟!

الملاحظة الرابعة: إبادتهم في كربلاء

لو أحصينا مَن عدّهم المؤرّخون وأرباب المقاتل في أولاد الحسين(علیه السلام)

ص: 74


1- ([1]) تاريخ اليعقوبي: 2 / 233، اللهوف لابن طاووس: 94، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 267، بحار الأنوار: 79 / 311 نفَس المهموم للقمّي: 234.

ممّن قُتل في كربلاء يوم عاشوراء، وافترضنا عدم الاتّحاد، نجد في كربلاء مجزرة إبادةٍ لأولاد الإمام(علیه السلام)، إذ كان العدوّ يريد استئصالهم، ولولا أنّ الله يأبى إلّا أن يتمّ نوره ويستمرّ نسل رسول الله(صلی الله علیه و آله)، لَما بقي منهم أحدٌ أبداً حتّى الإمام زين العابدين(علیه السلام).

من هنا نحسب أنّ العدوّ جعل يقلّل من أولاد الإمام(علیه السلام) ليعفّي على جرائمه، ويضطرّ الباحث للدخول في دوّامةٍ مذهلة، حين يقوم بإحصاء المقتولين في كربلاء، وما ورد على ألسنة النسّابة من حصر العدد في القليل من أولاد الإمام(علیه السلام)، ودعمه بمثل هذه القصص الّتي تبدو كأنّها مناقب يخشى المؤمن مناقشتها والمساس بها.

بَيد أنّنا لا نرى في منقبةٍ مخدوشةٍ يرويها العوامّ الّذين نهانا الإمام الرضا(علیه السلام) عن أخذ المناقب منهم، لأنّهم يزيدون وينقصون، ويديفون السمّ بالعسل، ولا نرى في مثل هذه المنقبة المجتزأة ما يضيف للإمام الكامل الّذي لا كمال بعده في عالمالمخلوقات، فهي لا تضيف للإمام(علیه السلام) شيئاً، ومناقشتها لا ينقص من الإمام(علیه السلام) شيئاً، فالإمام إمامٌ خلقه الله على عينه، كثرت ذرّيّته أم قلّت، ولو أراد لملأ العالم بأولاده وصلّى في اليوم عشرة آلاف ركعة!

النموذج الثاني: ذرّيّة المولى عليّ الأكبر

إتّفق علماء النسب والمترجمون قولاً واحداً أنّ المولى الأمير عليّ

ص: 75

الأكبر(علیه السلام) لم يعقّب، والحال أنّنا نقرأ في زيارته: «صلّى الله عليك وعلى عترتك وأهل بيتك وآبائك وأبنائك ...» ((1)).

ورُوي في (الكافي) الشريف:

عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن أبي الحسن الرضا(علیه السلام)، قال: سألتُه عن الرجل يتزوّج المرأة ويتزوج أُمّ ولد أبيها، فقال: «لا بأس بذلك».

فقلت له: بلَغَنا عن أبيك أنّ عليّ بن الحسين(علیه السلام) تزوّج ابنة الحسن بن عليّ(علیه السلام) وأُمّ ولد الحسن، وذلك أنّ رجلاً من أصحابنا سألني أن أسألك عنها. فقال: «ليس هكذا، إنّما تزوّج عليّ بن الحسين(علیه السلام) ابنة الحسن، وأُمّ ولدٍ لعليّ بن الحسين المقتول عندكم، فكتب بذلك إلى عبد الملك بن مروان، فعاب على عليّ بن الحسين(علیه السلام)، فكتب إليه في ذلك، فكتب إليه الجواب، فلمّا قرأ الكتاب قال: إنّ عليّ بن الحسين(علیه السلام) يضع نفسه، وإنّ اللهيرفعه» ((2)).

هذه نصوصٌ شرعيّةٌ وردت بأسانيد صحيحة في كتب معتبرة، تؤكّد أنّ المولى الأمير عليّ الأكبر(علیه السلام) كان قد عقّب، فيما نرى التاريخ يمحو أثره

ص: 76


1- ([1]) أُنظُر: كامل الزيارات لابن قولويه: 239، بحار الأنوار: 98 / 186 الباب 18.
2- ([1]) الكافي للكليني: 5 / 361 ح 1، قرب الإسناد للحِميَري: 370.

كاملاً.

إلّا أن يقال: المقصود مِن (لم يعقّب) أي: كان له أولاد، ولكن لم يستمرّ عقبه وانقطعَت ذرّيّته عن الامتداد، وبهذا نجمع بين قول المؤرّخ والرجاليّ والنصّ الشرعيّ المقدّس، وهو جمعٌ جميل، غير أنّ أحداً لم يفهم ذلك من أقوالهم، بل فهم البعض من قولهم: (لم يعقّب) أنّه لم يتزوّج أصلاً.

* * * * *

ربّما ناسب هنا أنّ نذكر أولاد الإمام سيّد الشهداء ذكوراً وإناثاً:

المقدّمة الثانية: أولاد الإمام سيّد الشهداء(علیه السلام)

اشارة

صرّح جماعةٌ بعدد الأولاد المقتولين، فجعلهم ستّةً من بني الحسين(علیه السلام)، كما فعل ابن شهرآشوب في (مناقب آل أبي طالب) وابن أبي طالب في (التسلية)، وتبعهما آخَرون، فقالوا:

واختلفوا في عدد المقتولين من أهل البيت ... وستّة من بني الحسين(علیه السلام)، مع اختلافٍ فيهم: عليّ الأكبر، وإبراهيم، وعبد الله، ومحمّد، وحمزة، وعلي، وجعفر، وعمر، وزيد، وذُبح عبد الله في حِجره ... ((1)).

ص: 77


1- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 112، بحار الأنوار: 45 / 62، عوالم العلوم للبحراني: 17 / 343، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 20، أسرار الشهادة للدربندي: 462، تظلّم الزهراء للقزويني: 241، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 328.

وعَدّهم أبو الفداء أربعة، فقال:

ورُوي أنّه قُتل مع الحسين(علیه السلام) ... ومن أولاد الحسين أربعة ((1)).

وعدّ البلخيّ المقتولين ثلاثة، فقال:

قُتل الحسين(علیه السلام) عطشاناً، وقُتل معه سبعةٌ من وُلد عليّ(علیه السلام)، وثلاثةٌ من وُلد الحسين، وتركوا عليّ بن الحسين ... ((2)).

وأطلق اليافعيّ من دون تحديد عددٍ معيَّن، فقال:

ثمّ قُتل جميعُ بنيه، إلّا عليّ بن الحسين المعروف بزين العابدين ((3)).

وذكر المازندراني:

أنّ للإمام الحسين(علیه السلام) ثلاثة أولادٍ أسماؤهم علي، وثلاثة أسماؤهم عبد الله، وجعفر، ومحمّد، كما ذكره أهل

ص: 78


1- ([1]) تاريخ أبي الفداء: 1 / 191.
2- ([2]) البدء والتاريخ للبلخي: 2 / 241.
3- ([3]) مرآة الزمان لليافعي: 1 / 133.

النسب ((1)).

* * * * *

ونحن سنسرد ما حصلنا عليه من أسماء، من دون التحقيق في الإثبات والنفي، ولا التوسّع في بيان أحوالهم وما ورد عنهم في كتب التاريخ والنسب، ونترك ذلك لذوي الاختصاص.

والّذي يهمّنا هنا:

رفع الحصر الوارد في كلمات بعض المؤرّخين والنسّابةوالعلماء، فهم وإن كانوا يحصرون بستّة أو بأربعة في موضعٍ من كتبهم، إلّا أنّهم يذكرون أكثر من العدد المحصور حينما يدخلون في سرد أحداث التاريخ ورواية المقتل.

ويكفي رفع الحصر هذا للجواب على مَن يعتمد أقوال النسّابة والمؤرّخ في النفي.

الذكور

1 - عليّ الإمام(علیه السلام)

له العقب من وُلد الحسين(علیه السلام).

ص: 79


1- ([4]) معالي السبطين للمازندراني: 1 / 405.
2 - عليّ الأكبر

هو عليّ الأكبر المقتول الشهيد بين يديه في كربلاء، متّفَقٌ عليه.

وأُمّه: ليلى بنت أبي مُرّة بن عروة بن مسعود بن معتب، من ثقيف، وأُمّها ابنة أبي سفيان بن حرب، وفيها يقول حسّان بن ثابت [الأنصاريّ]..

ونقتصر هنا على ذكر بعض النماذج من المصادر الّتي ذكرَته:

ابن سعد في الطبقات، الرسان في تسمية مَن قُتل، الزبير في نسب قريش، الخوارزميّ في مقتل الحسين(علیه السلام)، أبو الفرج في الأغاني، ابن حجر في الإصابة، الشجريّ في الأمالي، المحلّي في الحدائق الورديّة، سبط ابن الجوزيّ في تذكرة الخواصّ، الإربلي في كشف الغُمّة، ابن المطهّر في العدد، ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق، ابن منظور في المختصر، ابن الجوزيّ في المنتظم، ابن خيّاط في التاريخ، ابن قُتيبة في المعارف، المجلسي في بحار الأنوار، البهبهانيّ في الدمعة الساكبة، البلاذري في أنساب الأشراف، الطبريّ في التاريخ، ابن الأثير في الكامل، النويري في نهايةالإرب، ابن كثير في البداية والنهاية، البلخي في البدء والتاريخ، ابن أبي الثلج في تاريخ أهل البيت، ابن خشّاب في التاريخ، ابن فندق في اللباب، ابن الجوزي في صفة الصفوة، الدياربكري في تاريخ

ص: 80

الخميس، بناتكي في التاريخ، المخزوميّ في صحاح الأخبار، ابن طولولن في الأئمّة الاثنا عشر، الذهبيّ في سيَر الأعلام، اليعقوبيّ في التاريخ، القاضي النعمان في شرح الأخبار، الطبريّ في دلائل الإمامة، أبو نصر في سرّ السلسلة، الشيخ المفيد في الإرشاد، الحلّي في المستجاد، ابن الصبّاغ في الفصول، الشبلنجيّ في نور الأبصار، البحرانيّ في عوالم العلوم، القمّيّ في نفَس المهموم، المازندرانيّ في معالي السبطين، الميانجي في العيون العَبرى، الزيدي في الإفادة، اليمني في التحف، الحائريّ في ذخيرة الدارين، الزنجاني في وسيلة الدارين، المجدي، الطبرسيّ في إعلام الورى، الجزائريّ في الأنوار النعمانيّة، الطبرسيّ في تاج المواليد، السهيليّ في الروض، ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب، ابن إدريس في السرائر، المامقاني في التنقيح، الرازي في الشجرة المباركة، البري في الجوهرة، ابن طلحة في مطالب السؤول، الصبان في إسعاف الراغبين، الطبري في ذخائر العقبى، ابن الطقطقي في الأصيلي، ابن عنبة في عُمدة الطالب، المقريزي في اتعاظ الحنفاء، الموسوي في النفحة العنبريّة، خواندامير في حبيب السير، التفرشي في نقد الرجال، كيا جيلاني في سراج الأنساب، الطُّريحيّ في

ص: 81

المنتخب، القزويني في تظلّم الزهراء(علیها السلام)، العامليّ في التتمّة، المجلسيّ في جلاء العيون،القندوزي في ينابيع المودّة، المدرّسي في جنّات الخلود ((1)).

ص: 82


1- ([1]) أُنظُر: الطبقات لابن سعد: 5 / 156 _ 157، 164، ترجمة الإمام الحسين(علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 17، 75، 76، مقتل الحسين(علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 143، الأغاني لأبي الفرج: 3 / 230، الإصابة لابن حجر: 4 / 178، تسمية مَن قُتل للرسان (من تراثنا): 150، الأمالي للشجري: 1 / 170، الحدائق الورديّة للمحلّي: 1 / 120، نسب قريش للزبير: 58، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 299، كشف الغُمّة للإربلي: 2 / 90، 91، العدد لابن المطهّر: 318، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 44 / 149، 153، مختصر ابن منظور: 17 / 231، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 345، بحار الأنوار: 46 / 163، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 6 / 109، أعيان الشيعة للأمين: 1 / 629، تاريخ ابن خيّاط: 179، المعارف لابن قُتيبة: 213، جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 361، 422، تاريخ الطبري: 5 / 468، 466، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 293، نهاية الأرب للنويري: 20 / 455، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 185، البدء والتاريخ للبلخي: 2 / 145، تاريخ أهل البيت لابن أبي الثلج: 102، تاريخ مواليد الأئمّة لابن خشّاب: 177، لُباب الأنساب لابن فندق: 1 / 349، صفة الصفوة لابن الجوزي: 1 / 762، تاريخ الخميس للدياربكري: 2 / 300، تاريخ بناكتي: 104، صحاح الأخبار للمخزومي: 31، الأئمّة الاثنا عشر لابن طولون: 72، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 4 / 387، تاريخ اليعقوبي: 2 / 233، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 177، دلائل الإمامة للطبري: 74، سرّ السلسلة لأبي نصر: 30، الإرشاد للمفيد: 2 / 137، المستجاد للحلّي (مجموعة نفيسة): 450، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 199، نور الأبصار للشبلنجي: 277، عوالم العلوم للبحراني: 17 / 637، نفَس المهموم للقمّي: 524، معالي السبطين للمازندراني: 2 / 213، العيون العَبرى للميانجي: 191، الإفادة لأبي طالب الزيدي: 58، التحف لليمني: 57، ذخيرة الدارين للحائري: 1 / 137، وسيلة الدارين للزنجاني: 286، المجدي: 91، إعلام الورى للطبرسي: 251، الأنوار النعمانيّة للجزائري: 1 / 373، تاج المواليد للطبرسي (مجموعة نفيسة): 110، الروض الأنف للسهيلي: 325، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 77، السرائر لابن إدريس: 654، تنقيح المقال للمامقاني: 2 _ 1 / 280، الشجرة المباركة للرازي: 86، الجوهرة للبري: 49، مطالب السؤول لابن طلحة: 73، إسعاف الراغبين للصبان: 216، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 277، ذخائر العقبى للطبري: 151، الأصيلي لابن الطقطقي: 143، عمدة الطالب لابن عنبة: 192، اتعاظ الحنفاء للمقريزي: 13، النفحة العنبريّة للموسوي: 45، حبيب السير لخواندامير: 2 / 61، نقد الرجال للتفرشي: 231، سراج الأنساب لكياء جيلاني: 171، المنتخب للطريحي: 38، تظلّم الزهراء للقزويني: 241، التتمّة للعاملي: 75، جلاء العيون للمجلسي: 826، جنّات الخلود للمدرسي: 23، إسعاف الراغبين للصبان: 216، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 125.
3 - عليّ الأوسط

إقتصرنا على المصادر الّتي ذكرته مع أخوَيه عليّ الإمام وعليّ الأكبر(علیهما السلام)

ص: 83

في نصٍّ واحد، وقد عدّه جماعةٌ في الشهداء، كابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب، وابن أبي طالب في تسلية المجالس، والمجلسيّ في بحار الأنوار، والبحراني في عوالم العلوم، والبهبهاني في الدمعة الساكبة، والقزويني في تظلّم الزهراء(علیها السلام)، والأمين في أعيان الشيعة، والشبلنجي في نور الأبصار، وربّما كان أقدمهم ابن شهرآشوب في (مناقب آل أبي طالب) ((1)).

قال الشبلنجيّ في (نور الأبصار):وكان له _ يعني للحسين _ من الوُلد ستّ بنين وثلاث بنات، وهم: عليّ الأكبر، وأُمّه ليلى.. وعليّ الأوسط، وعبد الله، وعليّ الأصغر زين العابدين، ومنهم مَن يزعم أنّه الأكبر ... وأمّا عليّ الأكبر وعبد الله فاستُشهدا مع أبيهما بالطفّ، وعليّ الأوسط أصابه سهمٌ يومئذٍ فمات ... ((2)).

4 - عليّ الأصغر
اشارة

اقتصرنا على النصوص الّتي ذكرت العليِّين الثلاثة معاً، ووصفت

ص: 84


1- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 112، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 328، أعيان الشيعة للأمين: 1 / 579، بحار الأنوار: 45 / 62، عوالم العلوم للبحراني: 17 / 343، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 20، تظلّم الزهراء للقزويني: 241، أسرار الشهادة للدربندي: 462، جلاء العيون للمجلسي: 695.
2- ([1]) نور الأبصار للشبلنجي: 277.

الثالث بالأصغر، بحيث لا يمكن حمله على إرادة أحد العليَّين (الإمام أو الأكبر(علیهما السلام)).

قالوا: أصابه سهمٌ بكربلاء، رُمي بنشّابة.

ذكره:

ابن خشّاب في تاريخ مواليد الأئمّة، ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب، الإربلي في كشف الغمّة، المجلسيّ في بحار الأنوار، والبحراني في عوالم العلوم، ابن طلحة في مطالب السؤول، القمّيّ في نفَس المهموم، ابن الصبّاغ في الفصول، البهبهاني في الدمعة الساكبة، الصبان في الإسعاف، الطبريّ في دلائل الإمامة، الطبريّ في ذخائر العقبى، الدياربكري في تاريخ الخميس، ابن الطقطقي في الأصيلي، الموسويّ في النفحة العنبريّة ((1)).

ص: 85


1- ([2]) تاريخ مواليد الأئمّة لابن خشّاب (من مجموعة نفيسة): 177، كشف الغمّة للإربلي: 2 / 39، بحار الأنوار: 45 / 331، 330، عوالم العلوم للبحراني: 17 / 637،640، نفَس المهموم للقمّي: 525، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 77، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 22، مطالب السؤول لابن طلحة: 257، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 99، إسعاف الراغبين للصبان: 217، دلائل الإمامة للطبري: 74، ذخائر العقبى للطبري: 151، تاريخ الخميس للدياربكري: 2 / 300، الأصيلي لابن الطقطقي: 143، النفحة العنبريّة للموسوي: 45.

قال الإربلي:

قلت: قد أخلّ الحافظ بذكر عليٍّ زين العابدين(علیه السلام)، حيث قال: عليّ الأكبر وعليّ الأصغر، وأثبته حيث قال: ونسل الحسين من عليّ الأصغر، فسقط في هذه الرواية عليّ الأصغر، والصحيح أنّ العليِّين من أولاده ثلاثة كما ذكره كمال الدين ((1)).

ربّما كان المقصود هو:

قال ابن أعثم في (الفتوح):

فبقيَ الحسين فريداً وحيداً ليس معه ثانٍ إلّا ابنه عليّ، وهو يومئذٍ ابن سبع سنين، وله ابنٌ آخَر يُقال له: عليّ، في الرضاع، فتقدّم إلى باب الخيمة، فقال: «ناولوني ذلك الطفل حتّى أُودّعه»، فناولوه الصبيّ، فجعل يقبّله وهو يقول: «يا بُنيّ، ويلٌ لهؤلاء القوم إذ كان غداً خصمهم جدّك محمّد(صلی الله علیه و آله)».

قال: وإذا بسهمٍ قد أقبل حتّى وقع في لُبّة الصبيّ قتله، فنزل الحسين(علیه السلام) عن فرسه، وحفر له بطرف السيف ورمّله بدمه، وصلّى عليه ودفنه، ثمّ وثب قائماً وهو يقول: «كفر القوم وقِدماً

ص: 86


1- ([1]) كشف الغمّة للإربلي: 2 / 39 _ عن: الجنابذي، التتمّة للعاملي: 75.

رغبوا» ((1))..ثمّ ذكر الأبيات الّتي ذكرها في الاحتجاج في عبد الله بن الحسين(علیهما السلام).

يُلاحَظ أنّه ذكر هنا عليّاً في السابعة من عمره، ولا يُدرى هل يقصد به الإمام زين العابدين(علیه السلام) أو عليّاً آخَر؟

5 - جعفر
اشارة

قالوا:

لا بقيّة له، وأُمّه السلافة امرأةٌ من بلى بن عمرو بن الحاف بن قضاعة.

وقد اتّفق عددٌ كبيرٌ على عَدّه في أولاد سيّد الشهداء(علیه السلام)، وإنّما اختلفوا في موته أيّام حياة أبيه(علیه السلام)، أو أنّه استُشهد بين يديه، وذهب ابن قُتيبة إلى بقائه حيّاً بعد أبيه، وأخذوه مع السبايا أسيراً إلى الشام.

مَن ذكره مطلقاً دون النصّ على شهادته أو أسره

عدّه من أولاد سيّد الشهداء(علیه السلام) من دون النصّ على شهادته أو أسره:

ابن سعد في الطبقات، الخوارزمي في مقتل الحسين(علیه السلام)، أبو الفرج في الأغاني، ابن حجر في الإصابة، الخصيبي في الهداية الكبرى، الطبري في دلائل الإمامة، ابن شهرآشوب في

ص: 87


1- ([2]) الفتوح لابن أعثم: 5 / 209.

مناقب آل أبي طالب، ابن فندق في اللباب، ابن خشّاب في تاريخ مواليد الأئمّة، الإربلي في كشف الغمّة عن الجنابذي، المجلسي في بحار الأنوار، الطريحي في المنتخب، البهبهاني في الدمعة الساكبة، القزويني في تظلّم الزهراء(علیها السلام)، البحراني في عوالم العلوم، القمّي في نفَس المهموم، ابن الجوزي في صفة الصفوة، والمنتظم، الدياربكري في تاريخ الخميس، ابن طلحة في المطالب، ابن الصبّاغ في الفصول، الصبانفي الإسعاف، سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواصّ، الطبري في ذخائر العقبى، ابن الطقطقي في الأصيلي، بناكتي في التاريخ، الذهبي في سيَر الأعلام، المقريزي في الاتعاظ، المخزومي في الصحاح، العاملي في التتمّة، الشيخ المفيد في الإرشاد، العلّامة الحلّي في المستجاد، الشبلنجي في نور الأبصار، المازندراني في معالي السبطين، الميانجي في العيون، الزيدي في الإفادة، اليمني في التحف، المحلّي في الحدائق الورديّة، الزنجاني في وسيلة الدارين، الرازي في الشجرة المباركة، ابن عنبة في العمدة، الموسوي في النفحة، خواندامير في حبيب السير، كيا جيلاني في السراج، المجلسي في العيون، سپهر في ناسخ التواريخ، الحائري في

ص: 88

ذخيرة الدارين، آل بحر العلوم في تحفة العالم ((1)).

ص: 89


1- ([1]) أُنظُر: ترجمة الإمام الحسين(علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 17، مقتل الحسين للخوارزمي: 1 / 143، الأغاني لأبي الفرج: 3 / 230، الإصابة لابن حجَر: 4 / 178، الهداية الكبرى للخصيبي: 202، دلائل الإمامة للطبري: 74، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 77، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 22، المنتخب للطريحي: 38، تظلّم الزهراء للقزويني: 241، لباب الأنساب لابن فندق: 1 / 346، تاريخ مواليد الأئمّة لابن خشّاب (من مجموعة نفيسة): 177، كشف الغمّة للإربلي: 2 / 39، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 217، اتعاظ الحنفاء للمقريزي: 13، صحاح الأخبار للمخزومي: 31، التتمّة للعاملي: 75، الإرشاد للمفيد: 2 / 137، بحار الأنوار: 45 / 331، عوالم العلوم للبحراني: 17 / 640، نفَس المهموم للقمّي: 525، صفة الصفوة لابن الجوزي: 1 / 762، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 348، تاريخ الخميس للدياربكري: 2 / 300، مطالب السؤول لابن طلحة: 257، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 99، إسعاف الراغبين للصبان: 217، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 277، ذخائر العقبى للطبري: 151، الأصيلي لابن الطقطقي: 143، تاريخ بناكتي: 1 / 191، المستجاد للعلّامة الحلّي (من مجموعة نفيسة): 450، نور الأبصار للشبلنجي: 277، معالي السبطين للمازندراني: 2 / 213، العيون العَبرى للميانجي: 191، الإفادة للزيدي: 58، التحف لليمني: 57، الحدائق الورديّة للمحلّي: 1 / 116، وسيلة الدارين للزنجاني: 286، المجدي: 91، الشجرة المباركة للرازي: 87، عمدة الطالب لابن عنبة: 192، النفحة العنبريّة للموسوي: 45، حبيب السير لخواندامير: 2 / 61، سراج الأنساب لكيا جيلاني: 171، جلاء العيون للمجلسي: 826، ناسخ التواريخ لسپهر (حياة الإمام سيّد الشهداء الحسين(علیه السلام)): 4 / 325، ذخيرة الدارين للحائري: 1 / 137، تحفة العالم لآل بحر العلوم: 1 / 310.
مات في حياة أبيه الحسين(علیه السلام)

قال جماعةٌ منهم أنّه مات في حياة أبيه الحسين(علیه السلام) ((1))، وقد أفادت عباراتهم في الظاهر أنّه درج ومات، ولم يُقتَل، بَيد أنّ العبارة إذا لوحظت على إطلاقها من دون استفادة (الموت)الطبيعيّ منها، فإنّها يمكن أن تجتمع مع مَن قال أنّه استُشهد مع أبيه، حيث يصدق عليه أنّه مات في حياة أبيه.

ص: 90


1- ([1]) أُنظُر: الإرشاد للمفيد: 2 / 137، كشف الغُمّة للإربلي: 2 / 39، المستجاد للعلّامة الحلّي (من مجموعة نفيسة): 450، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 199، بحار الأنوار: 45 / 329، عوالم العلوم للبحراني: 17 / 637، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 21، نور الأبصار للشبلنجي: 277، نفَس المهموم للقمّي: 524، معالي السبطين للمازندراني: 2 / 213، العيون العَبرى للميانجي: 191، الإفادة لأبي طالب الزيدي: 58، التحف لليمني: 57، الحدائق الوردية للمحلّي: 1 / 116، ذخيرة الدارين للحائري: 1 / 137، وسيلة الدارين للزنجاني: 286، المجدي: 91، إعلام الورى للطبرسي: 250، الأنوار النعمانيّة للجزائري: 1 / 373، تاج المواليد للطبرسي (من مجموعة نفيسة): 110، النفحة العنبريّة للموسوي: 45، إسعاف الراغبين للصبان: 216، نور الأبصار للشبلنجي: 277، أعيان الشيعة للأمين: 1 / 579.
نصّوا على شهادته

نصّ جماعةٌ على أنّه قُتِل مع أبيه سيّد الشهداء الحسين(علیه السلام)، من قبيل ابن سعد في (الطبقات)، قال:

وقُتل مع الحسين بن عليّ بن أبي طالب: ... عليّ بن الحسين الأكبر ... وعبد الله بن الحسين، قتله هاني بن ثُبيت الحضرميّ، وجعفر بن الحسين ... وأبو بكر بن الحسين ابن عليّ ... وعبدالله بن الحسين، قتله ابن حرملة الكاهليّ من بني أسد ((1)).

وذكر مثله وعَدّه في المستشهَدين:

الزبيريّ في نسب قريش، وابن أبي الثلج في تاريخ أهل البيت، والخشّاب في التاريخ، وابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب ((2))، والمجلسي في بحار الأنوار، والبحراني في عوالم العلوم، والبهبهاني في الدمعة الساكبة، والدربندي في أسرار الشهادة، والقزويني في تظلّم الزهراء(علیها السلام)، وابن أبي طالب في التسلية، والمجلسي في جلاء العيون ((3)).

ص: 91


1- ([1]) ترجمة الإمام الحسين(علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 75، 76.
2- ([2]) عَدّه في المقتولين على الاختلاف.
3- ([3]) أُنظُر: نسب قريش للزبيري: 57، تاريخ أهل البيت لابن أبي الثلج: 102، تاريخ ابن خشّاب: 177، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 112، بحار الأنوار: 45 / 62، عوالم العلوم للبحراني: 17 / 343، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 20، أسرار الشهادة للدربندي: 462، تظلّم الزهراء للقزويني: 241، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 328، جلاء العيون للمجلسي: 695.
عدّه في الأُسراء

ذكر ابن قُتيبة في (الإمامة والسياسة) أنّه أُخذ مع الأسرى ((1)).

* * * * *

كيف كان، فإنّ الجميع اتّفقوا على عَدّه في أولاد سيّد الشهداء(علیه السلام)، بغضّ النظر عن اختلافهم في موته واستشهاده وأسره.

6 - عبد الله

اتّفقوا على أنّه قُتل مع أبيه(علیه السلام).

أُمّه: الرباب بنت امرئ القيس، كلبيّة.

وقد عدّه في المستشهدين مع أبيه(علیه السلام):

ابن سعد في الطبقات، الخوارزمي في مقتل الحسين(علیه السلام)، أبو الفرج في الأغاني، ابن حجر في الإصابة، الزبيري في نسب قريش، البلاذري في الأنساب، الطبري في التاريخ، ابن أبي الثلج في تاريخ أهل البيت، ابن خشّاب في التاريخ،

ص: 92


1- ([1]) الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 6.

الخصيبي في الهداية الكبرى، المسعودي في التنبيه والأشراف، الطبراني في المعجم الكبير، الشجري في الأمالي، الهيثمي في مجمع الزوائد، القاضي النعمان في شرح الأخبار، الطبري في دلائل الإمامة، أبو نصر في سرّ السلسلة، المفيد في الإرشاد وفي الاختصاص، الإربلي في كشف الغُمّة، الحلّي في المستجاد، ابن الصبّاغ في الفصول، المجلسي في بحار الأنوار، البحراني في عوالم العلوم، البهبهاني في الدمعةالساكبة، الشبلنجي في نور الأبصار، القمّي في نفَس المهموم، المازندراني في معالي السبطين، الميانجي في العيون، الزيدي في الإفادة، اليمني في التحف، المحلّي في الحدائق، الحائري في ذخيرة الدارين، الزنجاني في وسيلة الدارين، المجدي، الطبرسي في إعلام الورى، الجزائري في الأنوار، ابن فندق في اللباب، ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب، ابن الجوزي في المنتظم، ابن طلحة في المطالب، الصبان في الإسعاف، سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواصّ، الكنجي في الكفاية، الطبري في الذخائر، الدياربكري في تاريخ الخميس، ابن الطقطقي في الأصيلي، النويري في النهاية، بناتكي في التاريخ، الذهبي في سيَر الأعلام والعبر والتاريخ، الزرندي في الدرر، الصفدي في الوافي، اليافعي في المرآة، ابن

ص: 93

كثير في البداية والنهاية، المقريزي في الاتعاظ، المخزومي في الصحاح، التفرشي في النقد، الحائري في المنتهى، الطريحي في المنتخب، القزويني في تظلّم الزهراء(علیها السلام)، ابن العماد في الشذرات، العاملي في التتمّة، القندوزي في ينابيع المودّة، الأمين في أعيان الشيعة ((1))، الموسوي في

ص: 94


1- ([1]) أُنظُر: ترجمة الإمام الحسين(علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 17، 75، 76، مقتل الحسين(علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 143، الأغاني لأبي الفرَج: 3 / 230، الإصابة لابن حجَر: 4 / 178، نسب قريش للزبيري: 57 _ 59، جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 422، تاريخ الطبري: 5 / 468، تاريخ أهل البيت لابن أبي الثلج: 102، تاريخ مواليد الأئمّة لابن خشّاب (من مجموعة نفيسة): 177، الهداية الكبرى للخصيبي: 202، التنبيه والأشراف للمسعودي: 303، المعجم الكبير للطبراني: 3 / 108، الأمالي الخمسيّة للشجري: 2 / 185، مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 197، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 177، دلائل الإمامة للطبري: 74، سرّ السلسلة لأبي نصر: 30، الإرشاد للمفيد: 2 / 137، كشف الغمّة للإربلي: 2 / 39، المستجاد للعلّامة الحلّي (من مجموعة نفيسة): 450، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 199، بحار الأنوار: 45 / 329، عوالم العلوم للبحراني: 17 / 637، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 21، نور الأبصار للشبلنجي: 277، نفَس المهموم للقمّي: 524، معالي السبطين للمازندراني: 2 / 213، العيون العَبرى للميانجي: 191، الاختصاص للمفيد: 82، الإفادة لأبي طالب الزيدي: 58، التحف لليمني: 57، الحدائق الورديّة للمحلّي: 1 / 116، ذخيرة الدارين للحائري: 1 / 137، وسيلة الدارين للزنجاني: 286، المجدي: 91، إعلام الورى للطبرسي: 250، الأنوار النعمانيّة للجزائري: 1 / 373، لُباب الأنساب لابن فندق: 1 / 346، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 77، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 340، مطالب السؤول لابن طلحة: 257، إسعاف الراغبين للصبان: 217، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 277، كفاية الطالب للكنجي: 455، ذخائر العقبى للطبري: 151، تاريخ الخميس للدياربكري: 2 / 300، الأصيلي لابن الطقطقي: 143، نهاية الأرب للنويري: 20 / 461، تاريخ بناكتي: 1 / 191، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 217، العبر للذهبي: 1 / 65، تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 352، درر السمطين للزرندي: 218، الوافي بالوفيات للصفدي: 12 / 425، مرآة الجنان لليافعي: 1 / 131، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 189، اتعاظ الحنفاء للمقريزي: 13، صحاح الأخبار للمخزومي: 31، نقد الرجال للتفرشي: 231، منتهى المقال للحائري: 4 / 383، المنتخب للطريحي: 38، تظلّم الزهراء للقزويني: 241، شذرات الذهب لابن العماد: 1 / 66، التتمّة للعاملي: 75، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 151 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، أعيان الشيعة للأمين: 1 / 579، النفحة العنبريّة للموسوي: 45.

النفحة ((1)).

7 - عبد الله، قتله هاني بن ثُبيت الحضرمي

قال ابن سعد في ترجمة الإمام الحسين(علیه السلام) من (الطبقات):

ص: 95


1- ([1]) ذكره على نحو القيل.

وقُتل مع الحسين بن عليّ بن أبي طالب: ... عليّ بن الحسين الأكبر ... وعبد الله بن الحسين، قتله هاني بن ثُبيت الحضرميّ، وجعفر بن الحسين ... وأبو بكر بن الحسين ابن علي ... وعبدالله بن الحسين، قتله ابن حرملة الكاهليّ من بني أسد ((1)).

يُلاحَظ أنّه ذكر عبد الله بن الحسين مرّتين، وذكر لكلّ واحدٍ منهما قاتلاً غير الّذي ذكره للآخَر، ممّا يفيد التعدّد، بغضّ النظر عن افتراض التصحيف من قبيل (عبد الله) و(عُبيد الله) أو ما شاكل.

وقد ذكر القاضي النعمان أيضاً عبد الله، وذكر قاتله هاني بن ثبيت الحضرميّ، فقال:

وكان عبد الله بن الحسين هذا يومئذٍ صغيراً، وكان في حِجْر أبيه الحسين(علیه السلام)، فجاءه سهمٌ فذبحه، رماه به هاني بن ثبت الحضرمي ((2)).

8 - عبد الله المقتول مبارزة

قال ابن قُتيبة في (الإمامة والسياسة):

ص: 96


1- ([1]) ترجمة الإمام الحسين(علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 75، 76.
2- ([2]) شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 178.

قال: فرأى رجلٌ من أهل الكوفة عبدَ الله بن الحسين بن عليٍّ على فرس، وكان من أجمل الناس، قال: لأقتلنّ هذا الفتى. فقيل له: ويحك، ما تصنع بقتله؟ دَعْه!قال: فحمل عليه فضربه، فقطع يده، ثمّ ضربه ضربةً أُخرى فقتله، ثمّ قتلوا جميعاً ((1)).

وذكر سبط ابن الجوزيّ عبد الله بن الحسين في المبارزين، فقال:

ثمّ من بعده عون بن جعفر، ثمّ القاسم بن الحسين بن عليّ، ثمّ عبد الله بن الحسين، ثمّ عبد الله بن عليّ، ثمّ عثمان بن عليّ، ثمّ عبد الرحمان بن عقيل، ثمّ محمّد بن عبد الله بن جعفر، ثمّ الحسين(علیه السلام)، وتتابعوا بعده ((2)).

9 - عبد الله الّذي خرج بعد

في (معالي السبطين) للمازندراني:

في (بحار الأنوار): وخرج غلامٌ من تلك الأبنية ((3))، إلى آخره.

ص: 97


1- ([1]) الإمامة والسياسة لابن قُتيبة الدينوري: 1 / 6.
2- ([2]) تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 256.
3- ([3]) في (تاريخ الطبري: 5 / 449، نفَس المهموم للقمّي: 329): قال هشام: حدّثَني أبو الهذيل _ رجلٌ من السكون _، عن هانئ بن ثبيت الحضرميّ قال: رأيتُه جالساً في مجلس الحضرميّين في زمان خالد بن عبد الله وهو شيخٌ كبير، قال: فسمعتُه وهو يقول: كنتُ ممّن شهد قتل الحسين، قال: فوَاللهِ إنّي لَواقفٌ عاشر عشرة ليس منّا رجلٌ إلّا على فرس، وقد جالت الخيل وتصعصعت، إذ خرج غلامٌ من آل الحسين وهو مُمسكٌ بعودٍ من تلك الأبنية، عليه إزارٌ وقميص، وهو مذعورٌ يتلفّت يميناً وشمالاً، فكأنّي أنظر إلى درّتين في أُذنيه تذبذبان كلّما التفت، إذ أقبل رجلٌ يركض، حتّى إذا دنا منه مال عن فرسه، ثمّ اقتصد الغلام فقطعه بالسيف. قال هشام: قال السكوني: هانئ بن ثبيت هو صاحب الغلام، فلمّا عُتب عليه كنّى عن نفسه. وقال أبو الفرج في (مقاتل الطالبيّين: 79): قال المدائني: فحدّثني مخلّد بن حمزة بن بيض وحباب بن موسى، عن حمزة بن بيض قال: حدّثني هانئ بن ثبيت القايضي زمن خالد، قال: قال: كنتُ ممّن شهد الحسين، فإنّي لَواقفٌ على خيولٍ إذ خرج غلامٌ من آل الحسين مذعوراً، يلتفت يميناً وشمالاً، فأقبل رجلٌ منّا يركض حتّى دنا منه، فمال عن فرسه، فضربه، فقتله. وفي (مقتل الحسين(علیه السلام) للخوارزمي: 2 / 31): قال: وخرج غلامٌ من تلك الأبنية، في أُذنيه قرطان، وهو مذعور، فجعل يلتفت يميناً وشمالاً وقرطاه يتذبذبان، فحمل هانئ بن بعيث فقتله. وفي (الكامل لابن الأثير: 3 / 294): وخرج غلامٌ من خباءٍ من تلك الأخبية، فأخذ بعودٍ من عيدانه وهو ينظر كأنّه مذعور، فحمل عليه رجل، قيل: إنّه هانئ ابن ثبيت الحضرميّ، فقتله. وقال ابن كثير في (البداية والنهاية: 8 / 186): وقال هانئ بن ثبيت الحضرمي: إنّي لَواقفٌ يوم مقتل الحسين عاشر عشرة، ليس منّا رجلٌ إلّا على فرس، إذ خرج غلامٌ من آل الحسين وهو مُمسكٌ بعودٍ من تلك الأبنية، وعليه إزارٌ وقميص، وهو مذعورٌ يلتفت يميناً وشمالاً، فكأنّي أنظر إلى درّتين في أُذنيه تذبذبان كلّما التفت، إذ أقبل رجلٌ يركض فرسه، حتّى إذا دنا من الغلام مال عن فرسه، ثمّ أخذ الغلام فقطعه بالسيف. قال هشام السكوني: هانئ بن ثبيت هو الّذي قتل الغلام، خاف أن يُعاب ذلك عليه، فكنّى عن نفسه. وفي (تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 313، بحار الأنوار: 45 / 45، عوالم العلوم للبحراني: 17 / 288، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 332، نفَس المهموم للقمّي: 328، أعيان الشيعة للأمين: 1 / 609): قال: وخرج غلامٌ من تلك الأبنية، وفي أُذنيه درّتان، وهو مذعور، فجعل يلتفت يميناً وشمالاً، فحمل عليه هانئ بن ثبيت فقتله، فصارت شهربانو تنظر إليه ولا تتكلّم كالمدهوشة.

ص: 98

قال صاحب (الناسخ): لقد بالغتُ في الفحص عنه، حتّى ظهر لي أنّه عبد الله بن الحسين(علیه السلام)، خرج من الخيمة بعد شهادة عليّ الأكبر خائفاً وَجِلاً مرعوباً مذعوراً، بحيث ترتعد فرائصه ويتغيّر لونه ويطلبالمهرب، وينظر يميناً وشمالاً وفي أُذُنيه قرطان من اللؤلؤ يتذبذبان، فحمل عليه هاني بن بعيث [خ ل: ثبيت] فقتله ((1)).

ص: 99


1- ([1]) معالي السبطين للمازندراني: 1 / 412.
10 - عبد الله في سند رواية

روى ابن عساكر خبراً عن عبد الله بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، فقال:

أنبأنا أبو الحسن عليّ بن المسلم، وأبو عبد الله محمّد بن عليّ بن أبي العلاء، وأبو محمّد بن الأكفاني، وأبو محمّد بن صابر، وأبو إسحاق الخشوعيّ، قالوا: أنبأنا أبو القاسم بن أبي العلاء، أنبأنا أبو نصر عبد الوهّاب بن عبد الله بن عمر المرّي، أخبرنا محمّد بن سليمان الربعي، حدّثنا أبو العبّاس محمّد ابن سعيد بن عُبيد الله بن فطيس، حدّثنا جعفر بن محمّد ابن مسعدة، حدّثنا محمّد بن خالد بن يزيد الباهلي، حدّثنا الفضل بن داوود الهاشميّ، حدّثنا طلحة بن كامل ((1))، عن محمّد بن هشام العاد، عن عبد الله بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، عن أبيه، عن جدّه أنّ رسول الله(صلی الله علیه و آله) قال: «المغبون لا محمود ولا مأجور» ((2)).

11 - عبد الله المولود في الحرب

قال الرسان والشجري والمحلّي:

ص: 100


1- ([2]) قال ابن عساكر: كذا قال، والصواب: كامل بن طلحة.
2- ([3]) تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 56 / 68.

وكان ولدٌ للحسين بن عليّ(علیه السلام) في الحرب، فأُتيَ به وهو قاعد، وأخذه في حِجره ولبّاه بريقه،وسمّاه عبد الله، فبينما هو كذلك إذ رماه حرملة بن الكاهل بسهمٍ فنحره، فأخذ الحسين(علیه السلام) دمه فجمعه ورمى به نحو السماء، فما وقعت منه قطرةٌ إلى الأرض.

قال فضيل:

وحدّثني أبو الورد أنّه سمع أبا جعفرٍ يقول: «لو وقعت منه إلى الأرض قطرة لَنزل العذاب».

وهو الّذي يقول الشاعر فيه:

وعند غنيّ قطرةٌ من دمائنا

وفي أُسُدٍ أُخرى

تُعَدّ وتُذكَرُ ((1))

وقال اليعقوبي:

حتّى بقيَ وحده ما معه أحدٌ من أهله ولا وُلده ولا أقاربه، فإنّه لَواقفٌ على فرسه إذ أُتيَ بمولودٍ قد وُلد في تلك الساعة، فأذّن في أُذُنه وجعل يحنّكه، إذ أتاه سهمٌ فوقع في حلق الصبيّ فذبحه، فنزع الحسين(علیه السلام) السهم من حلقه وجعل يلطّخه بدمه ويقول: «واللهِ لَأنت أكرمُ على الله من الناقة، ولَمحمّدٌ

ص: 101


1- ([1]) تسمية من قتل للرسان: 150، الأمالي للشجري: 1 / 170، الحدائق الوردية للمحلي: 1 / 120.

أكرم على الله من صالح». ثمّ أتى فوضعه مع وُلده وبني أخيه ((1)).

وذكره الحائريّ والزنجانيّ باسم عبد الله عن (الحدائق الورديّة)، وقالا:

وأُمّه أُمّ إسحاق بنت طلحة بن عُبيد الله التَّيميّة زوجة الحسين(علیه السلام) ...ثمّ قالا:

ومن هنا قال السيّد الجليل السيّد حيدر الحلّي(رحمه الله علیه):

له الله مفطورٌ من الصبر قلبُه

ولو كان من صُمّ

الصفا لَتفطّرا

ومنعطفٌ أهوى لتقبيل طفله

فقبّل منه قبلَه السهمُ منحرا

لقد وُلدا في ساعةٍ هو والردى

ومِن قبله في نحره

السهمُ كبّرا

وكذا قال المازندراني ((2)).

12 - غلامٌ يشبه القمر وفي أُذُنيه درّتان (ابن الحسين(علیه السلام))

في (جواهر المطالب) للباعوني:

ثمّ إنّ شمر _ لعنه الله وأخزاه _ استنهض جماعةً من

ص: 102


1- ([2]) تاريخ اليعقوبي: 2 / 231.
2- ([1]) ذخيرة الدارين للحائري: 1 / 161، وسيلة الدارين للزنجاني: 280، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 427.

الشجعان، وجاء بهم حتّى أحاط بفسطاط الحسين، ولم يبقَ أحدٌ يحول بينه وبينه، فجاء غلامٌ يشبه القمر يشتدّ وفي أُذُنيه درّتان، فخرجت زينب بنت عليّ تردّه، فامتنع عليها، وجاء إلى أبيه الحسين، فضربه رجلٌ منهم بالسيف، فاتّقاها بيده وصاح: يا أبتاه! فقال الحسين: «يا بُنيّ، احتسِبْها عند الله، أجرك على الله، حتّى تلحق بآبائك الصالحين» ((1)).

13 - ابنٌ للحسين(علیه السلام) عمره ثلاث سنوات

قال ابن سعد:والحسين جالس، عليه جُبّةُ خَزٍّ دكناء، وقد وقعت النبال عن يمينه وعن شماله، وابنٌ له _ ابن ثلاث سنين _ بين يديه، فرماه عُقبة بن بشر الأسديّ فقتله ((2)).

وقال الذهبيّ:

والحسين جالس، عليه جُبّة خزٍّ دكناء، والنبل يقع حوله، فوقعت نبلةٌ في ولدٍ له ابن ثلاث سنين ... ((3)).

وربّما كان هو المقصود في لفظ أبي الفرج وغيره:

ص: 103


1- ([2]) جواهر المطالب للباعوني: 2 / 288.
2- ([1]) ترجمة الإمام الحسين(علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 73.
3- ([2]) سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 203.

حدّثَني أحمد بن شبيب، قال: حدّثنا أحمد بن الحارث، عن المدائنيّ، عن أبي مِخنَف، عن سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم قال: دعا الحسين بغلامٍ فأقعده في حِجره، فرماه عُقبة بن بشر فذبحه ((1)).

14 - صبيٌّ من صبيان الحسين(علیه السلام)

قال ابن سعد:

وجاء صبيٌّ من صبيان الحسين يشتدّ حتّى جلس في حِجر الحسين، فرماه رجلٌ بسهم، فأصاب ثغرة نحره فقتله، فقال الحسين: «اللّهمّ إنْ كنتَ حبستَ عنّا النصر، فاجعل ذلك لِما هو خيرٌ في العاقبة، وانتقم لنا من القوم الظالمين» ((2)).

وقال ابن الجوزيّ:

وجاء صبيٌّ من أولاد الحسين فجلس في حِجره، فرماهرجلٌ منهم بسهم، فوقع الصبيّ ميّتاً ((3)).

ص: 104


1- ([3]) مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 59، بحار الأنوار: 45 / 47، عوالم العلوم للبحراني: 17 / 290، أسرار الشهادة للدربندي: 409، ذخيرة الدارين للحائري: 1 / 140، وسيلة الدارين للزنجاني: 281.
2- ([4]) ترجمة الإمام الحسين(علیه السلام) من الطبقات: 73.
3- ([1]) الردّ على المتعصّب العنيد لابن الجوزي: 39.
15 - الولد الّذي استسقى له الحسين(علیه السلام) واستُشهد في ساحة القتال

قال سبط ابن الجوزيّ والقمّيّ وغيرُهما:

قال هشام بن محمّد: لمّا رآهم الحسين مصرّين على قتله، أخذ المصحف ونشره وجعله على رأسه، ونادى: «بيني وبينكم كتاب الله وجدّي محمّد رسول الله. يا قوم! بمَ تستحلّون دمي؟ ألستُ ابن نبيّكم؟ ألم يبلغكم قول جدّي فيّ وفي أخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة؟ إن لم تصدقوني فاسألوا جابراً وزيداً بن أرقم وأبا سعيد الخدري، أليس جعفر الطيّار عمّي؟».

فناداه شمر: الساعة ترد الهاوية!

فقال الحسين: «الله أكبر، أخبرَني جدّي رسول الله فقال: رأيتُ كأنّ كلباً ولغ في دماء أهل بيتي. وما أخالك إلّا إيّاه».

فقال شمر: أنا أعبد الله على حرفٍ إن كنت أدري ما تقول!

فالتفت الحسين، فإذا بطفلٍ له يبكي عطشاً، فأخذه على يده وقال: «يا قوم! إنْ لم ترحموني فارحموا هذا الطفل».

فرماه رجلٌ منهم بسهمٍ فذبحه، فجعل الحسين يبكي ويقول: «اللّهمّ احكُمْ بيننا وبين قومٍ دعونا لينصرونا فقتلونا».

فنُودي من الهواء: دَعْه يا حسين؛ فإنّ له مُرضِعاً في الجنّة.ورماه حُصَين بن نُمير بسهمٍ فوقع في شفتيه، فجعل الدم يسيل من شفتيه وهو يبكي ويقول: «اللّهمّ إنّي أشكو إليك ما

ص: 105

يُفعَل بي وبإخوتي ووُلدي وأهلي» ((1)).

16 - المحسن السقط

قال ياقوت الحمَويّ:

جوشن: جبلٌ في غربي حلَب، ومنه كان يُحمَل النحاس الأحمر، وهو معدنه، ويُقال: أنّه بطل منذ عبر عليه سبي الحسين بن عليّ ونساؤه، وكانت زوجة الحسين حاملاً، فأسقطَت هناك، فطلبت من الصنّاع في ذلك الجبل خبزاً أو ماءً، فشتموها ومنعوها، فدعَت عليهم، فمن الآن مَن عمل فيه لا يربح.

وفي قِبَلَي الجبل مشهدٌ يُعرَف بمشهد السقط، ويُسمّى: مشهد الدكّة، والسقط يُسمّى: محسن بن الحسين ((2)).

قال الشيخ القمّي(رحمه الله علیه):

إعلمْ أنّ في قرب حلب مشهداً يُسمّى مشهد السقط، ومشهد

ص: 106


1- ([1]) تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 252، نفَس المهموم للقمّيّ: 350، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 424، العيون العَبرى للميانجي: 172، وسيلة الدارين للزنجاني: 284.
2- ([2]) معجم البلدان لياقوت: 2 / 155، نفَس المهموم للقمّي: 428، العيون العَبرى للميانجي: 251.

الدكّة على جوشن، وهو بالفتح ثمّ السكون والشين المعجمة، جبلٌ مطِلٌّ على حلب، فيه مقابر ومشاهد للشيعة.ثمّ ذكر بعض المقابر، وقال:

والسقط هو محسن بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب(علیهم السلام)، وإنّي تشرّفتُ بزيارته في هذه السنة، وهي سنة اثنتين وأربعين بعد ثلاثمئة وألف، في مرجعي من زيارة بيت الله الحرام، وشاهدتُ عمارة المشهد الشريف، وكانت مبنيّةً من صخورٍ عظيمةٍ في نهاية الإتقان والاستحكام، ولكنّ الأسف أنّها لأجل المحاربة الواقعة بحلب تهدّمت بنيانها، وهي الآن مخروبةٌ منهدمةٌ ساقطةٌ حيطانها على سقوفها خاويةٌ على عروشها.

ثمّ ذكر كلام الحمَويّ _ كما ذكرناه _ في (معجم البلدان)، ثمّ قال:

وأهل حلَب يعبّرون عنه بالشيخ محسّن _ بفتح الحاء وشدّ السين المكسورة _، وأوّل مَن عَمّر هذا المشهد _ على ما أعلم _ سيف الدولة الحَمْدانيّ.

قال ضياء الدين يوسف بن يحيى بن الحسين الصنعانيّ (المتوفى سنة 1111) في كتاب (نسمة السحر بذكر من تشيّع وشعر)، وقد رأيتُ مجلّداً منه في المشهد الغرويّ (على

ص: 107

ساكنه السلام)، قال في أحوال سيف الدولة:

وذكر ابن طيّ في (تاريخ حلب): أنّ سيف الدولة هو الّذي عمّر مشهد الدكّة بظاهر حلَب، بسبب أنّه رأى نوراً على مكانه وهو بأحد مناظره في حلب، فلمّا أصبح ركب إلى هناك وأمر بالحفر، فوجد حجراً مكتوباً عليه: هذا المحسن بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب(علیه السلام).

فجمع العلويّين وسألهم، فقال بعضهم: إنّهم لمّا مرّوا بالسبي أيّام يزيد من حلب، فطرحت إحدى نساءالحسين(علیه السلام) بهذا الولد. فعمّره سيف الدولة، وقال: إنّ الله أَذِن لي في عمارته على اسم بنت نبيّه.

ويُعرف الموضع بالجوشن ((1)).

وذكره السيّد المقرّم(رحمه الله علیه) في (مقتل الحسين(علیه السلام)) ((2))، وذكره غيرهم..

17 - أبو بكر

لأُمّ ولد.

عدّه جماعةٌ في المستشهَدين:

ص: 108


1- ([1]) نفَس المهموم للقمّي: 678 _ عنه: معالي السمطين للمازندراني: 2 / 134، وسيلة الدارين للزنجاني: 378.
2- ([2]) مقتل الحسين(علیه السلام) للمقرّم: 445.

قال ابن سعدٍ والطبريّ:

ورمى عبد الله بن عُقبة الغنويّ أبا بكر بن الحسين بن عليّ، فقُتل ... ((1)).

وقال ابن سعدٍ والبلاذريّ:

وقُتل مع الحسين بن عليّ بن أبي طالب: ... عليّ بن الحسين الأكبر ... وعبد الله بن الحسين، قتله هاني بن ثُبيت الحضرميّ، وجعفر بن الحسين ... وأبو بكر بن الحسين ابن عليّ ... وعبد الله بن الحسين، قتله ابن حرملة الكاهليّ مِن بني أسد ((2)).

وقال المسعوديّ والطبرانيّ والشجَريّ والهيثميّ والقاضي النعمان وابن الجوزيّ وأبو الفرج وابن الأثير وابن كثير والنويريّوغيرهم:

قُتل معه .... مِن ولده ثلاثة: عليّ الأكبر، وعبد الله الصبي، وأبو بكر، بنو الحسين بن عليّ ((3)).

ص: 109


1- ([3]) ترجمة الإمام الحسين(علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 73، 76، تاريخ الطبريّ: 5 / 448.
2- ([4]) ترجمة الإمام الحسين(علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 75، 76، جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 422.
3- ([1]) التنبيه والأشراف للمسعودي: 303، المعجم الكبير للطبراني: 3 / 108، الأمالي الخمسيّة للشجري: 2 / 185، مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 197، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 177، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 340، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 197، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 277، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 57، الكامل لابن الأثير: 3 / 294، نهاية الإرب للنويري: 20 / 457، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 187.

ورأى الرازيّ في (الشجرة المباركة) أنّه متّحدٌ مع جعفر! ((1))

وقال أبو نصر البخاري: أنّه مات صغيراً قبل أبيه ((2)).

18 - عمرو
اشارة

اتّفق على ذكره جماعة، واختلفوا في عَدّه مع الشهداء أو الأسرى أو من شهداء السبي.

عدّه في الناجين:

الدينوريّ، وابن العديم، والقاضي النعمان، وخواندامير، والسيّد ابن طاووس، وابن كثير، وابن الصبّاغ، والشبلنجي ... قالوا:

ولم ينجُ مِن أصحاب الحسين ووُلده ووُلد أخيه إلّا ابناه، عليّ الأصغر، وكان قد راهق، وإلّا عمر، وقد كان بلغ أربع

ص: 110


1- ([2]) أُنظُر: الشجرة المباركة للرازي: 87.
2- ([3]) سرّ السلسلة لأبي نصر: 30.

سنين ((1)).

من شهداء السبي:

قال ياقوت في (بلد):

بلد، وربّما قيل لها: بلط _ بالطاء _ ... وهي مدينةٌ قديمةٌ على دجلة فوق الموصل، بينهما سبعة فراسخ، وبينها وبين نصيبين ثلاثة وعشرون فرسخاً.

قالوا: إنّما سُمّيَت (بلط) لأنّ الحوت ابتلعَت يونس النبيّ(علیه السلام) في نينوى مقابل الموصل وبلطته هناك، وبها مشهد عمر بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ((2)).

عَدّه في الشهداء:

وعدّه في الشهداء ابن شهرآشوب في (مناقب آل أبي طالب)، والمجلسيّ، والبحرانيّ، والبهبهانيّ، وابن أبي طالب، وغيرُهم ((3)).

ص: 111


1- ([4]) الأخبار الطوال للدينوري: 259، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2630، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 196، حبيب السيَر لخواندامير: 2 / 61، تحفة العالم لآل بحر العلوم: 1 / 311، اللهوف لابن طاووس: 194، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 195، الفصول المهمّة لابن الصباغ: 195، نور الأبصار للشبلنجي: 265.
2- ([1]) معجم البلدان لياقوت: 1 / 715 _ عنه: تحفة العالم لآل بحر العلوم: 1 / 311.
3- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 112، ذكره ابن شهرآشوب على الاختلاف، بحار الأنوار: 45 / 62، عوالم العلوم للبحراني: 17 / 343، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 20، أسرار الشهادة للدربندي: 462، تظلّم الزهراء للقزويني: 241، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 328، جلاء العيون للمجلسي: 695.
19 - محمّد
ذكروه مطلقاً بدون ذِكر حياته أو شهادته:

عَدّه في جملة أولاد الإمام سيّد الشهداء(علیه السلام) كثيرون،منهم:

الخصيبيّ في الهداية الكبرى، والطبريّ في دلائل الإمامة، والزيدي في الإفادة، واليمني في التحف، والمحلّي في الحدائق، والحائري في ذخيرة الدارين، والزنجاني في وسيلة الدارين، وابن فندق في اللباب، وابن الخشّاب في التاريخ، والإربلي في كشف الغُمّة، والمجلسيّ في بحار الأنوار، والبحراني في عوالم العلوم، والقمّي في نفَس المهموم، وابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب، والبهبهاني في الدمعة الساكبة، وابن طلحة في المطالب، وابن الصبّاغ في الفصول، والصبّان في الإسعاف، والطبري في الذخائر، والدياربكري في تاريخ الخميس، والعاملي في التتمّة ((1)).

ص: 112


1- ([1]) الهداية الكبرى للخصيبي: 202، دلائل الإمامة للطبري: 74، الإفادة لأبي طالب الزيدي: 58، التحف لليمني: 57، الحدائق الورديّة للمحلّي: 1 / 116، ذخيرة الدارين للحائري: 1 / 137، وسيلة الدارين للزنجاني: 286، لُباب الأنساب لابن فندق: 1 / 346، تاريخ مواليد الأئمّة لابن خشّاب (من مجموعة نفيسة): 177، كشف الغُمّة للإربلي: 2 / 39، بحار الأنوار: 45 / 331، عوالم العلوم للبحراني: 17 / 640، نفَس المهموم للقمّي: 525، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 77، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 22، مطالب السَّؤُول لابن طلحة: 257، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 99، إسعاف الراغبين للصبّان: 217، ذخائر العقبى للطبري: 151، تاريخ الخميس للدياربكري: 2 / 300، التتمّة للعاملي: 75.
عدّه فيمن نجا من القتل وأُخِذ في السبي:

قال ابن قُتيبة، وابن أبي الثلج، وابن خشّاب، والقاضي النعمان، وغيرُهم:فقُتِل يومئذٍ الحسين بن عليّ ... وثلاثةٌ من بني هاشم، وأُسِرَت نساءٌ من نسائهم، وفيهم: فاطمة بنت الحسين بن عليّ، وفيهم: محمّد بن عليّ، وابنا جعفر، ومحمّد بن الحسين بن عليّ ((1)).

وقال ابن عبد ربّه، والباعونيّ القمّي، وغيرهما:

ص: 113


1- ([1]) الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 6، تاريخ أهل البيت لابن أبي الثلج: 102، تاريخ ابن خشّاب: 177، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 196.

قال أبو عُبيد: حدّثنا حجّاج، عن أبي معشر قال: قُتل الحسين بن عليّ، وأُسِر اثنا عشر غلاماً من بني هاشم، فيهم محمّد بن الحسين ... ((1)).

وروى ابن عبد ربّه، عن الرياشي قال: أخبرني محمّد بن أبي رجاء، قال: أخبرني أبو معشر، عن يزيد بن زياد، عن محمّد بن الحسين بن عليّ ابن أبي طالب قال:

أُتي بنا يزيد بن معاوية بعدما قتل الحسين، ونحن اثنا عشر غلاماً، وكان أكبرنا يومئذٍ عليّ بن الحسين، فأُدخِلنا عليه، وكان كلُّ واحدٍ منّا مغلولةً يده إلى عُنقه ... ((2)).

وكذا قال ابن قُتيبة في (الإمامة والسياسة)، والقاضي النعمان في (شرح الأخبار)، والمازندراني في (معالي السبطين)، والمدرّسي في (جنّات الخلود)، والشبلنجي في (نور الأبصار)، وآل بحر العلوم في (التحفة) ((3)).

ص: 114


1- ([2]) العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 385، جواهر المطالب للباعوني: 2 / 278، نفَس المهموم للقمّي: 386
2- ([3]) العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 382.
3- ([4]) جنّات الخلود للمدرسي: 23، نور الأبصار للشبلنجي: 277، تحفة العالم لآل بحر العلوم: 1 / 311.
عُدّ في جملة الشهداء(علیهم السلام):

عدّه في جملة الشهداء بين يدَي سيّد الشهداء(علیه السلام) جماعة، منهم:

ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب، المجلسي في بحار الأنوار وجلاء العيون، والبحراني في عوالم العلوم، والبهبهاني في الدمعة الساكبة، والدربندي في أسرار الشهادة، والقزويني في تظلّم الزهراء(علیها السلام)، وابن أبي طالب في المجالس، وسبط ابن الجوزي في تذكرة الخواصّ، والمازندراني في معالي السبطين ((1)).

مات في حياة أبيه:

قال الموسوي في (النفحة)، والشبلنجي في (نور الأبصار)، والأمين في (أعيان الشيعة): أنّه مات في حياة أبيه ((2)).

ص: 115


1- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 112 (عدّه في المقتولين على الاختلاف)، بحار الأنوار: 45 / 62، عوالم العلوم للبحراني: 17 / 343، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 20، أسرار الشهادة للدربندي: 462، تظلّم الزهراء للقزويني: 241، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 328، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 277، معالي السبطين للمازندراني: 3 / 213، جلاء العيون للمجلسي: 695.
2- ([2]) النفحة العنبريّة للموسوي: 45، نور الأبصار للشبلنجي: 277، أعيان الشيعة للأمين: 1 / 579.

والكلام هنا تماماً كما ذكرنا سابقاً، فإنّ القول بموته في حياة أبيه قد لا يعارض القول بشهادته بين يدَي أبيه، إلّا إذا قلنا أنّ مفاده أنّه مات صغيراً قبل كربلاء.

20 - عمران

عدّه في الأسرى الميرخواند في (الروضة) ((1)).

21 - القاسم بن الحسين

عَدّه البلاذريّ وابن الجوزيّ والهيثميّ في جملة الشهداء، ورووا عن المدائني قال:

قُتل الحسين .... وعليّ بن الحسين، وعبد الله، وأبا بكر، والقاسم، بنو حسين ((2)).

وذكره ابن شهرآشوب ((3))، والمجلسي، والبحراني، والبهبهاني، والقزويني، وذكروا مبارزته ورجزه ((4)).

ص: 116


1- ([1]) روضة الصفا لميرخواند: 3 / 169.
2- ([2]) جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 422، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 340، مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 197.
3- ([3]) ذكره ابن شهرآشوب، وذكر القاسم بن الحسن(علیهما السلام) أيضاً.
4- ([4]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 108، بحار الأنوار: 45 / 42، عوالم العلوم للبحراني: 17 / 285، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 327، تظلّم الزهراء: 201.
22 - إبراهيم

عَدّه في أولاد سيّد الشهداء(علیه السلام):

أبو طالب الزيدي في الإفادة، اليمني في التحف، المحلّي في الحدائق، الحائري في ذخيرة الدارين، الزنجاني في وسيلة الدارين، ابن فندق في اللباب، والأمين في أعيان الشيعة ((1)).

وعَدّه في الشهداء:ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب (على الاختلاف)، المجلسي في بحار الأنوار وجلاء العيون، البحراني في عوالم العلوم، البهبهاني في الدمعة الساكبة، الدربندي في أسرار الشهادة، القزويني في تظلّم الزهراء(علیها السلام)، والأمين في أعيان الشيعة ((2)).

ص: 117


1- ([5]) الإفادة لأبي طالب الزيدي: 58، التحف لليمني: 57، الحدائق الورديّة للمحلّي: 1 / 116، ذخيرة الدارين للحائري: 1 / 137، وسيلة الدارين للزنجاني: 286، لباب الأنساب لابن فندق: 1 / 346، أعيان الشيعة للأمين: 1 / 610.
2- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 112، بحار الأنوار: 45 / 62، عوالم العلوم للبحراني: 17 / 343، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 20، أسرار الشهادة للدربندي: 462، تظلّم الزهراء للقزويني: 241، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 328، جلاء العيون للمجلسي: 695، أعيان الشيعة للأمين: 1 / 610.
23 - حمزة

عَدّه في الشهداء:

ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب (على الاختلاف)، المجلسي في بحار الأنوار وجلاء العيون، البحراني في عوالم العلوم، البهبهاني في الدمعة الساكبة، الدربندي في أسرار الشهادة، القزويني في تظلّم الزهراء(علیها السلام)، ابن أبي طالب في التسلية ((1)).

24 - زيد
اشارة

عَدّه في الشهداء:ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب (على الاختلاف)، المجلسي في بحار الأنوار وجلاء العيون، البحراني في عوالم العلوم، البهبهاني في الدمعة الساكبة، الدربندي في أسرار الشهادة، القزويني في تظلّم الزهراء(علیها السلام)، ابن أبي طالب في

ص: 118


1- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 112، بحار الأنوار: 45 / 62، عوالم العلوم للبحراني: 17 / 343، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 20، أسرار الشهادة للدربندي: 462، تظلّم الزهراء للقزويني: 241، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 328، جلاء العيون للمجلسي: 695.

التسلية ((1)).

أولاد لم يُصرَّح بأسمائهم

لو تابعنا النصوص التاريخيّة، نجد أحداثاً ومصائب كثيرة ذكرها المؤرّخون والرواة حصلَت لأولاد سيّد الشهداء(علیه السلام)، بَيد أنّها لم تصرّح بأسمائهم، نذكر هنا نموذجين، ولمن أحبّ المتابعة مراجعة المصادر:

قال الدينوريّ وابن العديم وغيرهما:

وبقيَ الحسين وحده، فحمل عليه مالك بن بِشر الكنديّ، فضربه بالسيف على رأسه، وعليه برنس خزّ، فقطعه، وأفضى السيف إلى رأسه فجرحه، فألقى الحسين البرنس، ودعا بقلنسوةٍ فلبسها، ثمّ اعتمّ بعمامة، وجلس، فدعا بصبيٍّ له صغير فأجلسه في حِجره، فرماه رجلٌ من بني أسد، وهو في حِجر الحسين بمشقص، فقتله ((2)).وروى الطبريّ وابن الجوزيّ وابن كثير والباعونيّ وغيرهم، بسندٍ عن

ص: 119


1- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 112، بحار الأنوار: 45 / 62، عوالم العلوم للبحراني: 17 / 343، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 20، أسرار الشهادة للدربندي: 462، تظلّم الزهراء للقزويني: 241، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 328، جلاء العيون للمجلسي: 695.
2- ([2]) الأخبار الطِّوال للدينوي: 258، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2629.

أبي جعفر(علیه السلام) _ في خبرٍ طويل _ قال:

«وجاء سهمٌ فأصاب ابناً له معه في حِجره، فجعل يمسح الدم عنه ويقول: اللّهمّ احكُمْ بيننا وبين قومٍ دعونا لينصرونا فقتلونا. ثمّ أمر بحبرةٍ فشقّها ثمّ لبسها، وخرج بسيفه فقاتل حتّى قُتِل (صلوات الله عليه)» ((1)).

البنات

25 - فاطمة الكبرى
اشارة

أُمّها: أُمّ إسحاق بنت طلحة بن عُبيد بن عثمان بن عمرو بن كعب ابن سعد بن تَيم بن مُرّة.

إتّفق النسّابة والمؤرّخون على عَدّها في أولاد الإمام سيّد الشهداء(علیه السلام)، بما لا يحتاج إلى مزيد توثيق، وسنقتصر على ذكر جملةٍ ممّن ذكرها:

ابن سعد في الطبقات، الشيخ المفيد في الإرشاد، الصبان في إسعاف الراغبين، ابن حجر في الإصابة، الطبرسي في إعلام الورى، الأمين في أعيان الشيعة، أبو الفرج في الأغاني، الزيدي في الإفادة، ابن قُتيبة في الإمامة والسياسة، الجزائري

ص: 120


1- ([1]) تاريخ الطبري: 5 / 389، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 340، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 197، جواهر المطالب للباعوني: 2 / 287.

في الأنوار، ابن طولون في الأئمّة، المجلسي في بحار الأنوار وجلاء العيون، البلخي في البدء والتاريخ، الطبرسي في التاج، ابن أبي الثلج في التاريخ،الدياربكري في تاريخ الخميس، بناكتي في التاريخ، ابن خشّاب في التاريخ، العاملي في التتمّة، اليمني في التحف، آل بحر العلوم في التحفة، سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواصّ، البلاذري في الأنساب، المدرسي في جنّات الخلود، الباعوني في الجواهر، البري في الجوهرة، خواندامير في حبيب السير، المحلّي في الحدائق، الطبري في دلائل الإمامة، الطبري في ذخائر العقبى، الحائري في ذخيرة الدارين، البهبهاني في الدمعة الساكبة، الذهبي في سيَر الأعلام، الرازي في الشجرة، القاضي النعمان في شرح الأخبار، المخزومي في الصحاح، ابن الجوزي في صفة الصفوة، ابن عبد ربّه في العِقد الفريد، البحراني في عوالم العلوم، الميانجي في العيون، ابن الصبّاغ في الفصول، الإربلي في كشف الغمّة (عن الجنابذي)، ابن فندق في اللباب، المجدي، العلّامة الحلّي في المستجاد، ابن طلحة في المطالب، ابن قُتيبة في المعارف، المازندراني في معالي السبطين، الخوارزمي في مقتل الحسين(علیه السلام)، ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب، ابن الجوزي في

ص: 121

المنتظم، سپهر في ناسخ التواريخ، الزبيري في النسب، الموسوي في النفحة، القمّي في نفَس المهموم، الشبلنجي في نور الأبصار، الخصيبي في الهداية الكبرى، الزنجاني في وسيلة الدارين، القندوزي في ينابيع المودّة ((1)).

ص: 122


1- ([1]) ترجمة الإمام الحسين(علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 17، 77، جلاء العيون للمجلسي: 826، جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 361، جنّات الخلود للمدرسي: 23، جواهر المطالب للباعوني: 2 / 278، الجوهرة للبرّي: 49، حبيب السير لخواندامير: 2 / 61، الحدائق الورديّة للمحلّي: 1 / 116، دلائل الإمامة للطبري: 74، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 21، ذخائر العقبى للطبري: 151، ذخيرة الدارين للحائري: 1 / 137، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 203، الشجرة المباركة للرازي: 87، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 196، صحاح الأخبار للمخزومي: 31، الإرشاد للمفيد: 2 / 137، إسعاف الراغبين للصبّان: 216، الإصابة لابن حجر: 4 / 178، إعلام الورى للطبرسي: 250، أعيان الشيعة للأمين: 1 / 579، الأغاني لأبي الفرج: 3 / 230، الإفادة لأبي طالب الزيدي: 58، الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 6، الأنوار النعمانيّة للجزائري: 1 / 373، الأئمّة الاثنا عشر لابن طولون: 72، بحار الأنوار: 45 / 329، 331، البدء والتاريخ للبلخي: 2 / 145، تاج المواليد للطبرسي (من مجموعة نفيسة): 110، تاريخ الأئمّة لابن أبي الثلج (من مجموعة نفيسة): 18، تاريخ الخميس للدياربكري: 2 / 300، تاريخ بناكتي: 1 / 191، تاريخ مواليد الأئمة لابن خشّاب (من مجموعة نفيسة): 177، التتمّة للعاملي: 75، التحف لليمني: 57، تحفة العالم لآل بحرالعلوم: 1 / 311، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 277، صفة الصفوة لابن الجوزي: 1 / 762، العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 385، عمدة الطالب لابن عنبة: 192، عوالم العلوم للبحراني: 17 / 637، 640، العيون العَبرى للميانجي: 191، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 199، كشف الغُمّة للإربلي: 2 / 39 (عن الجنابذي)، لباب الأنساب لابن فندق: 1 / 346، المجدي: 91، المستجاد للعلّامة الحلّي (من مجموعة نفيسة): 450، مطالب السؤُول لابن طلحة: 257، المعارف لابن قُتيبة: 213، معالي السبطين للمازندراني: 2 / 213، مقتل الحسين(علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 143، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 77، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 348، ناسخ التواريخ (سيّد الشهداء(علیه السلام)): 4 / 325، نسب قريش للزبيري: 57 _ 59، النفحة العنبريّة للموسوي: 45، نفَس المهموم للقمّي: 386، 524، نور الأبصار للشبلنجي: 277، الهداية الكبرى للخصيبي: 202، وسيلة الدارين للزنجاني: 286، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 151 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف.
شقيقة الإمام السجّاد(علیه السلام)

وقال ابن عنبة:

إنّ فاطمة الكبرى هي شقيقة الإمام السجّاد(علیه السلام)، على ما يُقال.

ثمّ إنّ فاطمة بنت الحسين(علیه السلام) أُمّ أولاد الحسن المثنّى ابن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، وهي _ فيما يُقال _ من أُمّ

ص: 123

عليٍّ زين العابدين، فإن كانت ولادة كسرى فضيلة فقد حصلت لأولاد الحسن أيضاً ... ((1)).

26 - سكينة

أُمّها: الرباب بنت امرئ القيس بن عَديّ بن أوس بن جابر بن كعب ابن عليم بن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب.

وهي _ كأُختها فاطمة _ لم يختلفوا فيها، ولم يتخلّف أحدٌ عن ذكرها، فلا حاجة إلى تكرار المصادر هنا.

27 - زينب

عَدّها في بنات سيّد الشهداء(علیه السلام):

ابن خشّاب في التاريخ، ابن أبي الثلج في التاريخ، الخصيبي في الهداية الكبرى، الطبري في دلائل الإمامة، والطبريّ الآخَر في ذخائر العقبى، الصبان في الإسعاف، ابن الصبّاغ في الفصول، ابن طلحة في المطالب، ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب، والمجلسي في بحار الأنوار، الدياربكري في تاريخ الخميس، العامليفي التتمّة، آل بحر

ص: 124


1- ([1]) عمدة الطالب لابن عنبة: 192.

العلوم في التحفة، التستري في التواريخ، البهبهاني في الدمعة الساكبة، البحراني في عوالم العلوم، الإربلي في كشف الغُمّة، ابن فندق في اللباب، الموسوي في النفحة، القمّي في نفَس المهموم، الشبلنجي في نور الأبصار ((1)).

قال ابن فندق في (لباب الأنساب):

ماتت صغيرة، وأُمّها شهربانو بنت يزدجرد ((2)).

وقال الزبيدي في (تاج العروس):

وزينب ابنة الحسين بن عليّ، أُمّها الرباب أُمّ سكينة ... ((3)).

ص: 125


1- ([1]) تاريخ مواليد الأئمّة لابن خشّاب (من مجموعة نفيسة): 177، إسعاف الراغبين للصبان: 216، 217، بحار الأنوار: 45 / 331، تاريخ الخميس للدياربكري: 2 / 300، تاريخ أهل البيت لابن أبي الثلج: 102، التتمّة للعاملي: 75، تحفة العالم لآل بحر العلوم: 1 / 311، تواريخ النبيّ(صلی الله علیه و آله) والآل(علیهم السلام) للتستري: 122، دلائل الإمامة للطبري: 74، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 22، ذخائر العقبى للطبري: 151، عوالم العلوم للبحراني: 17 / 640، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 99، كشف الغُمّة للإربلي: 2 / 38، 39، لباب الأنساب لابن فندق: 1 / 350، مطالب السؤول لابن طلحة: 257، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 77، النفحة العنبرية للموسوي: 45، 46، نفَس المهموم للقمّي: 525، نور الأبصار للشبلنجي: 277، الهداية الكبرى للخصيبي: 202.
2- ([2]) لباب الأنساب لابن فندق: 1 / 346.
3- ([3]) تاج العروس للزبيدي: 1 / 290.

وروى ابن عساكر في (تاريخ مدينة دمشق) وابن منظور في (المختصر) مسنداً حضورها في الطفّ عن حميد بن مسلم الأزديّ،قال:

سماع أُذني من الحسين وهو يقول: «قتل الله قوماً قتلوك _ يعني ابنه عليّاً الأكبر ابن الحسين _، ما أجرأهم على انتهاك حرمة الرسول! على الدنيا بعدك الدثار».

وكأنّي أرى امرأةً خرجَت كأّنها شمسٌ طالعة، تنادي: يا أخاه! فقيل: هي زينب بنت حسين. وأكبّت عليه، فجاء الحسين وأخذ بيدها وردّها إلى الفسطاط ((1)).

28 - فاطمة الصغرى

هي الّتي خلّفها الإمام سيّد الشهداء(علیه السلام) في المدينة، والّتي اشتهر اسمها بين الشيعة _ أعزّهم الله _ ب (فاطمة العليلة)، وقد ذكروا قصّة الغراب الّذي وقع في دم سيّد الشهداء(علیه السلام) وطار حتّى وقف على جدار دارها، فعرفت منه الخبر، فخاطبته:

نعب الغراب، فقلتُ: مَن

تنعاه؟ ويلك يا غراب!

قال: الإمام، فقلتُ: مَن؟

قال: الموفَّقُ للصواب

ص: 126


1- ([1]) تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 73 / 126 (تراجم النساء)، مختصر ابن منظور: 9 / 174، قال ابن عساكر بعد أن نقل الخبر: لم أجد لزينب هذه ذكراً في كتب النسب للزبير.

إلى آخر الأبيات..

ذكر قصّة الغراب مع فاطمة الصغرى:

الخوارزمي في مقتل الحسين(علیه السلام)، ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق، ابن منظور في المختصر، ابن العديم في بغية الطلب، الحموئي في فرائد السمطين، المجلسي في بحار الأنوار، البحراني في عوالم العلوم، البهبهاني في الدمعة الساكبة، الدربندي في أسرارالشهادة، الميانجي في العيون، الشبلنجي في نور الأبصار، الأميني في فاطمة بنت الحسين، وغيرهم ((1)).

29 - أُمّ كلثوم

ذكرها ابن فندق في (اللباب)، وقال: ماتت صغيرة، وأُمّها أيضاً شهربانو بنت يزدجرد ((2)).

ص: 127


1- ([1]) مقتل الحسين(علیه السلام) للخوارزمي: 2 / 92، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 74 / 19، تراجم النساء: 286، مختصر ابن منظور: 20 / 358، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2646، فرائد السمطين للحموئي: 2 / 163، بحار الأنوار: 45 / 171، عوالم العلوم للبحراني: 17 / 490، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 380، أسرار الشهادة للدربندي: 445، العيون العبرى للميانجي: 190، نور الأبصار للشبلنجي: 384، فاطمة بنت الحسين للأميني: 28 وما بعدها، وغيرهم.
2- ([2]) لباب الأنساب لابن فندق: 1 / 346.
30 - صفيّة

روى الطريحي في (المنتخَب)، والمجلسي في (بحار الأنوار)، والبحراني في (عوالم العلوم)، والبهبهاني في (الدمعة الساكبة)، والقزويني في (تظلّم الزهراء)، والسيّد هاشم البحراني في (مدينة المعاجز)، والدربندي في (أسرار الشهادة)، والمازندراني في (معالي السبطين)، حكايةً عن السدّي، قال:

أضافني رجلٌ في ليلةٍ كنتُ أُحبّ الجليس، فرحّبتُ به وقرّبته وأكرمته، وجلسنا نتسامر، وإذا به ينطلق بالكلام كالسيل إذا قصد الحضيض، فطرقتُ له، فانتهى في سمره إلى طفّ كربلاء، وكان قريب العهد من قتل الحسين(علیه السلام)، فتأوّهتُ الصعداء وتزفّرت كمداً، فقال: ما بالك؟ قلت: ذكرتَ مصاباً يهون عنده كلّ مصاب. قال: أما كنتَ حاضراً يوم الطفّ؟ قلت: لا،والحمد لله. قال: أراك تحمد، على أيّ شيء؟ قلت: على الخلاص من دم الحسين، لأنّ جدّه(صلی الله علیه و آله) قال: «مَن طُولب بدم ولدي الحسين يوم القيامة لَخفيف الميزان». قال: قال هكذا جدّه؟ قلت: نعم، وقال(صلی الله علیه و آله): «ولدي الحسين يُقتَل ظلماً وعدواناً، ألا ومَن قتله يدخل في تابوتٍ من نار، ويُعذَّب [بعذاب] نصف أهل النار، وقد غُلّت يداه ورجلاه، وله رائحةٌ يتعوّذ أهل النار منها، هو ومَن شايع وبايع أو رضي بذلك،

ص: 128

﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ﴾ ((1))، لا يُفَتّر عنهم ساعة، ويُسقَون من حميم جهنّم، فالويل لهم من عذاب جهنّم».

قال: لا تصدِّق هذا الكلام يا أخي. فقلت: كيف هذا، وقد قال(صلی الله علیه و آله): «لا كذبت ولا كذبت»؟! قال: ترى قالوا: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): «قاتل ولدي الحسين لا يطول عمره»، ها أنا وحقِّك قد تجاوزتُ التسعين، مع أنّك ما تعرفني. قلت: لا والله. قال: أنا الأخنس بن زيد. قلت: وما صنعتَ يوم الطفّ؟ قال: أنا الّذي أُمّرتُ على الخيل الّذين أمرهم عمر بن سعد بوطي جسم الحسين بسنابك الخيل، وهشّمت أضلاعه، وجررت نطعاً من تحت عليّ بن الحسين وهو عليل حتّى كببتُه على وجهه، وخرمت أُذُنَي صفيّة بنت الحسين لقرطين كانا في أُذنيها.

قال السدّي: فبكى قلبي هجوعاً، وعيناي دموعاً، وخرجت أُعالج على إهلاكه، وإذا بالسراج قد ضعفت،فقمت أظهرها، فقال: اجلس. وهو يحكي لي متعجّباً من نفسه

ص: 129


1- ([1]) سورة النساء: 56.

وسلامته، ومدّ إصبعه ليظهرها فاشتعلَت به، ففركها في التراب فلم تنطفِ، فصاح بي: أدرِكْني يا أخي! فكببتُ الشربة عليها وأنا غيرُ محبٍّ لذلك، فلمّا شمّت النار رائحة الماء ازدادت قوّة، وصاح بي: ما هذه النار؟ وما يطفئها؟ قلت: ألقِ نفسك في النهر. فرمى بنفسه، فكلّما ركس جسمه في الماء اشتعلَت في جميع بدنه كالخشبة البالية في الريح البارح.

هذا وأنا أنظره، فوَاللهِ الّذي لا إله إلّا هو لم تُطفَأ حتّى صار فحماً، وسار على وجه الماء، ألا لعنة الله على الظالمين، ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ ((1)) ((2)).

* * * * *

ذكرها في توديع الإمام الحسين(علیه السلام): (مقتل الحسين(علیه السلام)) لأبي مخنف

ص: 130


1- ([1]) سورة الشعراء: 227.
2- ([2]) المنتخَب للطريحي: 180، بحار الأنوار: 45 / 321، المعالم للبحراني: 17 / 634، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 185، تظلّم الزهراء للقزويني: 335، مدينة المعاجز للبحراني: 4 / 92 الرقم 145، أسرار الشهادة للدربندي: 566، معالي السبطين للمازندراني: 2 / 242.

(المتداول) ((1)).

وذكرها سپهر في (ناسخ التواريخ)، وأنّها حضرت في التوديع أيضاً في خبرٍ مفصَّل، قال _ ما ترجمته _:لمّا انتهى الإمام(علیه السلام) من كلامه مع الأشقياء رجع إلى سرادق العزّ، قالت زينب(علیها السلام): فلمّا رأيتُه راجعاً إلى الخيام دخلتُ خيمتي وجلستُ كي لا يراني وأنا خارج الخيمة، فلمّا دخل الخيام قال: أين زينب؟ قلت: لبيك يا أخي. ثمّ طلب أُمَّ كلثوم، ثمّ قال: ادعو لي: رقية، صفيّة، سكينة، وفاطمة. فلمّا حضرنا جميعاً قال: ... ((2)).

31 - أُمّ عبد الله

ذكرها الموسويّ في (النفحة العنبريّة) ((3)).

32 - لم تُسَمّ الرابعة

قال تاج الدين العامليّ في (التتمّة): أسماء الإناث: زينب، وسكينة، وفاطمة، ولم تُسَمّ الرابعة ((4)).

ص: 131


1- ([3]) مقتل الحسين(علیه السلام) لأبي مخنف (المتداول): 84.
2- ([1]) ناسخ التواريخ (حضرت زينب كبرى(علیها السلام)) لسپهر: 1 / 212.
3- ([2]) النفحة العنبريّة للموسوي: 45.
4- ([3]) التتمّة للعاملي: 75.
33 - أُمّ أنيس

روى الهنديّ في (كنز العمّال) خبراً قال:

(الأحزاب)، «إنّ هذا لمن المكتوم، لولا أنّكم سألتموني عنه ما أخبرتكم به، إنّ الله؟عز؟ وكّل بي ملكَين، لا أُذكَر عند عبدٍ مسلمٍ فصلّى علَيّ إلّا قال ذانك الملكان: غفر الله لك. وقال الله وملائكته جواباً لذينك الملكين: آمين».

(طب، عن الحكم بن عبد الله بن خطّاف، عن أُمّ أنيس بنت الحسين بن عليّ، عن أبيها) قال: «قالوا: يا رسول الله، أرأيتَ قول الله؟عز؟: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَىالنَّبِيِّ﴾ ((1))»، قال: فذكره ((2)).

ظاهر النقل أنّها تروي عن الحسين بن عليّ دون إرسالٍ ولا رفع، فربّما أفاد ذلك أنّها بنت الحسين بن عليّ بن أبي طالب(علیهم السلام).

34 - مليكة

ذكر البلاذريّ مليكة بنت الحسين بن عليّ(علیهم السلام)، وقال: إنّ جعفر بن مصعب تزوّجها فأولدَت له حمزة. قال:

وأمّا جعفر بن مصعب، وكان سرياً، فتزوّج مليكة بنت

ص: 132


1- ([1]) سورة الأحزاب:56.
2- ([2]) كنز العمّال للهندي: 2 / 35 _ 36 الرقم 3027.

الحسين بن عليّ، فولدَت له حمزة، فقُتل _ وابنٌ له يقال له: عمارة _ يوم قديد، وله بالمدينة عقب ... ((1)).

35 - خديجة

عَدّها من وُلده(علیه السلام): ابن فندق في (لباب الأنساب) ((2)).

36 - خولة

لها قبرٌ يُزار في لبنان، وقد ألّف بعض المعاصرين كتاباً باسمها.

37 - رقيّة

هي محلّ البحث في هذا الكتاب، وسيأتي الكلام عنها مفصَّلاً إن شاء الله (تعالى).

المقدّمة الثالثة: قاعدة تقديم قول المثبت على النافي

اشارة

قال الشيخ المظفّر(رحمه الله علیه) في كتابه (بطل العلقميّ)، وهو يتحدّث عن عدد شهداء أولاد جعفر بن أبي طالب بين يدَي سيّد الشهداء(علیه السلام):

ولعلّ قائلاً: الاقتصار على الأقلّ متيقَّن، والأكثر مشكوكٌ فيه.

فنقول: إنّ القائل بالأكثر مُثبِت، والقائل بالأقلّ نافي،

ص: 133


1- ([3]) جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 9 / 448.
2- ([4]) لباب الأنساب لابن فندق: 1 / 350.

والمُثبتُ مقدَّمٌ على النافي، وهذه قاعدةٌ معمولٌ بها عند الفريقين السنّة والشيعة.

فممّن نصّ عليها واستدلّ بها الصدوق القمّي (أعلى الله مقامه)، ذكر في (إكمال الدين) في قصّةٍ مطوَّلةٍ يحتجّ في إثبات ولد الإمام الحسن العسكريّ(علیه السلام) على مَن نفى وجوده، وهو الإمام المنتظر الحجّة؟عج؟، وهذه عبارته:

لا يجوز أن نشكّ في كلّ مَن يموت ولا عقب له ظاهراً.

قيل له: لا نشكّ في أنّ الحسن(علیه السلام) كان له ولدٌ من عقبه، شهادة من أثبت له ولداً من فضلاء ولد الحسن والحسين(علیهما السلام) والأخيار، لأنّ الشهادة يجب قبولها هي شهادة المثبت لا شهادة النافي، وإن كان عدد النافين أكثر من عدد المثبتين ...

إلى آخر كلامه، واستدلّ بقصّة خفاء ولادة موسى(علیه السلام) ((1)).

ولا شكّ أنّ القاعدة إجماعيّةٌ عند الشيعة مقرَّرةٌ فيأُصول الفقه، وكذلك هي عند السنّة، نصّ عليها محمّد بن إبراهيم اليمانيّ الشافعيّ في (الروض الباسم)، وغيرُه من علمائهم،

ص: 134


1- ([1]) أُنظُر: كمال الدين للصدوق: 1 / 80.

وإيراد كلامهم تطويل ... ((1)).

وقال الشيخ(رحمه الله علیه) في موضعٍ آخَر عند الحديث عن عدد إخوة العبّاس(علیهم السلام) لأبيه أمير المؤمنين(علیه السلام)، وذِكره اختلاف الأقوال فيهم:

ونحن نسير في هذه المواضيع مع مَن أثبت الأكثر، وليست قاعدة الاختصار على الأقلّ تُجدي هنا فيقال: إنّه المتيقَّن؛ لأنّ ذلك في التكليف الّذي هو خلاف الأصل عند علماء أُصول الفقه.

على أنّ تلك القاعدة هناك يرجَّح فيها _ أيضاً _ جانب الأكثر، لأنّ قاعدة الاحتياط تعضده، ويكون معها الخروج عن عهدة التكليف متيقَّنة، ومع الأقلّ مشكوكة.

وفي مقامنا هذا يجب المصير إلى قول مَن أثبت الأكثر لأمرين:

أحدهما: إنّ المُثبِت مقدَّمٌ على النافي، وذلك لأنّ النافي لم يعلم فنفى، والمثبت قد علم وعرف فأثبت.

وثانيهما: تعبير من اقتصر على الأقلّ بقوله فلان الأكبر، ولم يذكر الأصغر، والقاعدة تقضي في قول القائل: جاء فلان الأكبر، وهي قاعدة (أفعل التفضيل) أن يكون هناك صغيرٌ

ص: 135


1- ([1]) بطل العلقمي للشيخ عبد الواحد المظفر: 1 / 298.

وهذا أكبر منه، ومثله القائل: فلان الكبير أو فلان الصغير، وكلّ واحدٍ منهما دليل وجود الآخر، وإلّا لم تكنفائدة لهذا التقييد ((1)).

واستدلّ كذلك ب (قاعدة المثبت مقدَّمٌ على النافي) في إثبات عدد أولاد عبد المطّلب ((2)).

فإذا ثبتَتْ هذه القاعدة، وقام الإجماع عليها، وتمّ الاستدلال بها على ولادة النبيّ موسى(علیه السلام)، وهو حُجّة الله على الخلق، ونبيٌّ من أنبياء أُولي العزم(علیهم السلام)، والاستدلال بها على ولادة الإمام الصاحب (أرواحنا فداه) ووجوده، وهو خاتم الأولياء ووَعْدُ الله الّذي لا يُخلِف الميعاد، مع خفاء ولادتهما وانقطاع أخبارهما مدّةً مديدة من الزمان، فإنّ الاستدلال بها على غيرهما أوضح وأيسر وأقوى وأمتن!

وبعبارةٍ أُخرى:

إنّ المثبت يعلم ويعرف مستنداً إلى الأدلّة والشواهد، سواءً كانت مشاهداتٍ عينيّة، أو قيام البيّنة، أو الشياع والشهرة والاستفاضة، أو الاستدلال بالآثار والأدلّة العقليّة، أو لأيّ سببٍ آخَر يصحّ الارتكان إليه، ثمّ يثبت ما اعتقد بوجوده وعلمه وما رآه.

ص: 136


1- ([1]) بطل العلقميّ للمظفّر: 1 / 373.
2- ([2]) أُنظُر: بطل العلقميّ للمظفّر: 1 / 298.

أمّا النافي، فإنّه يسعى لإثبات ما هو غير موجود، وحينئذٍ سيواجه عقبتَين كؤودتَين يعجز عن تجاوزهما والقفز فوقهما:

الأُولى: الإمكان العقليّ

مهما ذكر النافي في هذا المقام من أدلّةٍ تاريخيّةٍ ورجع إلى الكتب والمصادر وفعل ما فعل، فإنّه يعجز عن ردّ الإمكان العقليّ، فلو لم يذكر أحدٌ من العالمين بنتاً لسيّد الشهداء(علیه السلام) مثلاً أو ولداً، يبقى افتراض أن يكون له ولد _ ذكراً كان أو أُنثى _ ممكناً عقليّاً.

الثانية: الاستقصاء

نقتصر هنا على نقل بعض ما تفضّل به سماحة السيّد جعفر مرتضى (حفظه الله) في مقام الردّ على بعض النافين لموارد استعرضها في كتابه (زينب ورقيّة في الشام)، ونكتفي بما أورده في كتابه هذا بالذات، لأنّه على تماسٍ مباشرٍ مع موضع بحثنا:

قال في مقام الردّ على السيّد الأمين حين قال: إنّه لم يرَ في كلام أحدٍ من المؤرّخين أنّها _ أي: السيّدة زينب(علیها السلام) _ جاءت مع زوجها إلى الشام سنة المجاعة، ثمّ حكم بأنّه حدس واستنباط..

قال (حفظه الله):

ونقول: إنّ عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود.. وكم من المصادر الّتي تلفت عبر العصور.. فإنّها تعدّ بعشرات

ص: 137

الأُلوف، ولم يصل إلينا منها سوى النزر اليسير.

ويشهد لذلك:

أنّنا نجد الكثير من النصوص تنقل عن مصادر لم نسمع إلّا باسمها، ونحن نقرأ في كتب التراجم وفهارس المصنّفات أسماء الآلاف من الكتب الّتي صنّفها العلماء الّذين بلغَتنا أسماؤهم، وهم أقلّ القليل.. ولا نجد لهذه المصنّفات أثراً.

فما معنى أن يُصدِر(رحمه الله علیه) حكمه الجازم بأنّ مجيئها مع زوجها إلى مزارعه وقراه بالشام مجرّد حدسٍ وتخمين؟!

ومِن أين عرف أنّ صاحب كتاب (تحيّة أهل القبور) قد ذكر ما ذكره على سبيل الحدس والاستنباط؟!

بل هناك كثيرٌ من المخطوطات الحاضرة بين أيدي الناس لا تزال مطالبها مدفونة فيها لم تُستخرَج، ولم تُنشَر، ولم تُنقَل، ولم يطّلع عليها أحد.وقال (حفظه الله) أيضاً:

قوله(رحمه الله علیه): لم يذكر مؤرّخٌ أنّ عبد الله بن جعفر كان له قرى ومزارع خارج الشام حتّى يأتي إليها.

يُجاب عنه: بأنّ هذا النفي منه(رحمه الله علیه) يحتاج إلى أن يكون قد اطّلع على كلّ ما دوّنه من العلماء في كتبهم وتصانيفهم،

ص: 138

ونحن نقطع بأنّ ذلك لم يحصل؛ لأنّ عمره(رحمه الله علیه) لا يفي بقراءة مقدارٍ ضئيلٍ من الكتب المطبوعة، فكيف بالمخطوطات الّتي في البلد الّذي عاش فيه، وهو دمشق، فضلاً عن الكتب الّتي في سائر البلاد ممّا هو مطبوعٌ ومخطوط، مع غضّ النظر عمّا أتلفَته يد الأيّام عبر التاريخ، وهو أضعاف أضعاف ما بقيَ لنا منه.

وقال في مقام الردّ على السيّد الأمين(رحمه الله علیه) أيضاً حين قال: (ليس في كلام أحدٍ ممّن تقدّم على أنّها تُسمّى زينب وتُكنّى أُمّ كلثوم، سوى كلام المفيد):

... ثانيهما: إنّ عدم وجدان السيّد الأمين لا يبرّر له الحكم بعدم الوجود، ولا يُجيز له هذا النفي القاطع والشامل، فإنّ نفيه هذا يقتضي أن يكون قد اطّلع على جميع مؤلّفات أهل الإسلام القدماء، المخطوط منها والمطبوع، وما وصل وما لم يصل إلينا منها، ولا شكّ في أنّ السيّد الأمين لا يدّعي ذلك لنفسه، ولو ادّعاه فإنّ أحداً لن يقبله ((1)).

* * * * *

تأكيداً لما قاله سماحة السيّد (حفظه الله)، أقول:

ص: 139


1- ([1]) زينب ورقيّة في الشام: 85.

عندي في مكتبتي الخاصّة أكثر من ثلاثة آلاف عنوان _ أقول: عنوان، لا كتاب _ في موضوع سيّد الشهداء(علیه السلام)، وأكثر من ثلاثمئة كتابٍ بين مخطوطةٍ ومصوَّرةٍ وحجريّة، فهل اطّلع عليها النافي، وهي كتب محصورة في مكانٍ واحد، فضلاً عن آلاف الكتب المتناثرة المنتشرة في مكتبات العالم.

فمن العسير أن نتصوّر عالماً يجازف بالاستدلال على النفي بعدم ذِكر السيّدة رقية(علیها السلام) في كتب علماء النسب والتاريخ، لأنّه سيُطالَب بالدليل، ولا نجد دليلاً يسعفه.

(ويكفي في ردّ كلامه مطالبته بالشاهد والدليل عليه) ((1))..

المقدّمة الرابعة: طرق إثبات النسب

اشارة

إتّفق المسلمون وأجمع علماء الشيعة _ أعزّهم الله، ورحم الماضين منهم وحفظ الباقين _ قولاً واحداً أنّ مِن طرق إثبات النسَب البيّنة أو الاستفاضة، وعبّر عنها بعضٌ بالشياع.

البيّنة

رُوي عن ابن أبي عُمَير، عن هِشام بن سالم، عن أبي عبد اللَّه(علیه السلام) قال: «إنّما جُعِلَت البيّناتُ للنسب والمواريث

ص: 140


1- ([1]) زينب ورقيّة في الشام، للسيّد جعفر مرتضى العاملي: 33 _ 34.

والحدود» ((1)).

أمّا البيّنة: فهي شهادة الرجلين العادلين ((2))، على تفصيلٍ يختلف باختلاف موارد الشهادة وبحوثها ومتعلّقاتها، بَيد أنّالمتّفَق عليه بين علمائنا (أعزّهم الله) سابقاً وإلى اليوم، بل بين المسلمين جميعاً، أنّ النسب يثبت بقيام البيّنة، أي: بشهادة رجلَين عادلَين.

وقد شاهدنا عشرات العلماء والمراجع والمجتهدين وملايين المؤمنين _ باحتساب كلّ مَن زار على مرّ السنين _ زاروا هذا المرقد المطهَّر قاصدين زيارة بنت الحسين رقيّة(علیهما السلام)..

ألا يُعَدّ هذا بمثابة شاهدَين عادلَين لإثبات نسب هذه الطيّبة الصغيرة لأبيها خامس أصحاب الكساء(علیهم السلام)؟ سيّما أنّنا لا يسَعنا أن نسأل جميع مَن زارها من المعاصرين من العلماء والناس أجميعن ومَن سبقنا من الأجيال الّتي توالت على مرّ السنين ونلاحقهم ونطالبهم بالدليل على اعتقادهم، والسبب الّذي دعاهم للتصديق بأنّ هذه هي بنت الحسين(علیه السلام) المدفونة في هذا المكان.

ويكفي أن نعتقد في رجلين منهم _ سيّما إذا كانوا من العلماء والمراجع وعليّة الشيعة ووجوههم وجماجمهم _ أنّه إنّما يزور ويقصد هذا

ص: 141


1- ([2]) النوادر للأشعري: 86 ح 195، وانظر أيضاً: قرب الإسناد للحِميَري: 53 ح 171.
2- ([3]) أُنظُر: مصباح المنهاج للسيّد محمّد سعيد الحكيم: 146.

المكان لاعتقاده عن علمٍ أو عمّا يتاخم العلم، أو عن قيام البيّنة الشرعيّة، أو لأيّ سببٍ شرعيّ أو عقليّ أو عقلائيّ أورث عنده العلم والاطمئنان بنسبة هذا المكان لهذه الطيّبة الطاهرة..

أوَليس في جميع هؤلاء الرجال والنساء المؤمنين والمؤمنات على اختلاف مستوياتهم وشرائحهم وانتماءاتهم ما يُعَدّ بقوّة شهادة رجلَين عادلين؟!!

الاستفاضة

قال في (المسالك):

... ما يكفي فيه السماع، فمنه النسَب، فيجوز أن يشهد بالتسامع أنّ هذا الرجل ابن فلان، وأنّ هذه المرأة إذاعرفها بعينها بنت فلان، أو أنّهما من قبيلة كذا، لأنّه أمرٌ لا مدخل للرؤية فيه، وغاية الممكن رؤية الولادة على فراش الإنسان، لكن النسب إلى الأجداد المتوفّين والقبائل القديمة لا يتحقّق فيه الرؤية ومعرفة الفراش، فدعَت الحاجة إلى اعتماد التسامع ...

وصفة التسامع في ذلك أن يسمع الشاهدُ الناسَ ينسبون المشهودَ بنسبةٍ إلى ذلك الرجل أو القبيلة، ولا يعتبر التكرّر

ص: 142

ولا امتداد مدّة السماع ... ((1)).

وقال في (إيضاح الفوائد):

قال ابن الجُنيد: لا يصحّ الشهادة بالتسامع في أمرٍ من الأُمور، إلّا أن تتّصل الشهادة على الشهادة إلى إقرارٍ أو رؤية، إلّا في النسَب وحده وما لا يجب به على غير حاضر ((2)).

وفي (إرشاد الأذهان) للعلّامة:

قال الشيخ: ولو شهد عدلان صار السامع شاهِدَ أصل، لأنّ ثمرة الاستفاضة الظنّ ... ((3)).

وقال صاحب (الجواهر):

تثبت ولاية القاضي بما يثبت به غيرها من سماع إنشائها والإقرار به، أو البيّنة على ذلك، أو الاستفاضة الّتي تسمّى بالشياع الّذي يحصل غالباً منه سكون النفس واطمئنانها بمضمونه ...

وكذا غيرها (يعني الولايات) أيضاً ممّا جرت السيرة فيأنّه يثبت بالاستفاضة من النسب ولو من طرف الأُمّ على

ص: 143


1- ([1]) مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام: 14 / 228.
2- ([2]) إيضاح الفوائد في شرح مشكلات القواعد لفخر المحققين: 4 / 438.
3- ([3]) إرشاد الأذهان إلى أحكام الإيمان للعلامة الحلّي: 2 / 160.

الأصحّ، والملك المطلق، والموت، والنكاح، والوقف، والعتق، والرقّ، ونحوها، لا لبعض ما ذكره غير واحدٍ من الاعتبارات، كعسر إقامة البيّنة عليها ونحوه ممّا لا يصلح أن يكون مدركاً لحكمٍ شرعيّ، بل للسيرة فيما قامت عليه منها مؤيّدةً بما قيل من أنّ المراد بظاهر الحكم في مرسل يونس ((1)) عن أبي عبد الله(علیه السلام) الاستفاضة، قال فيه:

(سألتُه عن البيّنة إذا أُقيمَت على الحقّ، أيحلّ للقاضي أن يقضي بقول البيّنة من غير مسألة إذا لم يعرفهم؟

قال: فقال: «خمسة أشياءٍ يجب على الناس الأخذ فيها بظاهر الحكم: الولايات، والمناكح، والذبائح، والشهادات، والمواريث، فإذا كان ظاهره ظاهراً مأموناً جازت شهادته، ولا يُسأل عن باطنه»).

وفي (الفقيه) ((2)): (الأنساب) مكان (المواريث)، كما أنّ فيما حضرني من بعض نُسَخ (التهذيب) ((3)): (الحال) بدل (الحكم)، بل هو الّذي رواه عنه في (الوافي) و(الوسائل).

ص: 144


1- ([1]) أُنظُر: وسائل الشيعة: الباب 22 من أبواب كيفيّة الحكم ح 1.
2- ([2]) أُنظُر: مَن لا يحضره الفقيه للصدوق: 3 / 9 ح 29.
3- ([3]) أُنظُر: تهذيب الأحكام للطوسي: 6 / 288 ح 798.

ولعلّه بناءً على أنّ المراد بظاهر الحكم هو ما ظهر بين الناس من الحكم، بمعنى نسبة المحمول إلى الموضوع في الأُمور المذكورة، إذ هو معنى الشياع والاستفاضةالمذكوران، بل هما ظاهر الحال أيضاً.

كما أنّ المراد من الاكتفاء به في الشهادات أنّه تجوز الشهادة بما يحصل منه بمعنى، كما يقول: (دارُ زيدٍ وقفٌ، وعمرو بن خالد)، ونحو ذلك ممّا هو متعارفٌ بين الناس من الحكم في ذلك إذا كان شائعاً، كما يومئ إليه الصحيح الآتي، أو أنّ المراد متعلّق الشهادة من عدالةٍ أو جرح.

وعلى كلّ حال، فلا ريب في أنّه مؤيّدٌ لما عرفت.

وفي صحيح حريز ((1)) قال:

(كانت لإسماعيل بن أبي عبد الله(علیه السلام) دنانير، وأراد رجلٌ من قريش أن يخرج إلى اليمن، فقال إسماعيل: يا أبه، إنّ فلاناً يريد الخروج إلى اليمن، وعندي كذا وكذا ديناراً، أفتَرى أن أدفعها يبتاع لي بها بضاعةً من اليمن؟

فقال أبو عبد الله(علیه السلام): «يا بُنيّ، أما بلغك أنّه يشرب الخمر؟».

فقال إسماعيل: هكذا يقول الناس.

ص: 145


1- ([1]) أُنظُر: وسائل الشيعة للحرّ العامليّ: الباب 6 من كتاب الوديعة ح 1.

فقال: «يا بنيّ، لا تفعل!».

فعصى أباه ودفع إليه دنانيره، فاستهلكها ولم يأتِ بشيءٍ منها.

فخرج إسماعيل، وقضى أنّ أبا عبد الله(علیه السلام) حَجّ، وحجّ إسماعيل تلك السنة، فجعل يطوف البيت وهو يقول: اللّهمّ أجِرْني واخلُفْ علَيّ.

فلحقه أبو عبد الله(علیه السلام) فهمزه بيده مِن خلفه، وقال له: «مَهْ يا بُنيّ! فلا واللهِ ما لَك على الله هذا، ولالك أن يأجرك، ولا يخلف عليك، وقد بلغك أنّه يشرب الخمر فائتمنتَه».

فقال إسماعيل: يا أبه، إنّي لم أره يشرب الخمر، إنّما سمعتُ الناس يقولون.

فقال: «يا بُنيّ، إنّ الله؟عز؟ يقول في كتابه: ﴿يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ ويُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ ((1))، يقول: يصدّق لله ويصدّق للمؤمنين، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدِّقْهم، ولا تأتمن شارب الخمر، فإنّ الله (تعالى) يقول: ﴿وَلٰا تُؤْتُوا السُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ﴾ ((2))، فأيّ سفيهٍ أسفه من شارب الخمر؟ إنّ شارب الخمر لا يُزوَّج إذا خطب، ولا يُشفّع إذا

ص: 146


1- ([1]) سورة التوبة: 61.
2- ([2]) سورة النساء: 5.

شفع، ولا يؤتمَن على أمانة، فمن ائتمنه على أمانةٍ فاستهلكها لم يكن للذي ائتمنه على الله أن يأجره ولا يخلف عليه»).

إذ هو كما ترى كالصريح في اعتبار الشياع الّذي هو أعلى أفراده قول الناس وشهادة المؤمنين، ونحوهما ممّا هو مذكورٌ فيه، وبه أدرجه فيما دلّ على النهي عن ائتمان شارب الخمر.

ومنه يُعلَم أنّه لا مدخليّة لمفاده الّذي يكون تارةً علماً وأُخرى متاخماً له وثالثةً ظنّاً غالباً في حُجّيّته، وإنّما المدار على تحقّقه، بل ظاهر الصحيح المزبور عموم اعتباره لغير المذكورات في المتن، بل صريحه ثبوت الفسق به، ولعلّه كذلك وإن اقتصر الجماعة على الأُمور المخصوصة، لكنّ المراد غلبة تحقّق الشياع فيها، لا أنّ المراد عدم اعتباره وإن فرض تحقّقه في غيرها، إذ لادليل على ذلك، بل لعلّ ظاهر الأدلّة خلافه، بل صريح بعضهم ثبوت الهلال وغيره به، وحينئذٍ فالتحقيق ما عرفت.

ولا ينافي ذلك ما في بعض النصوص ((1)) من حصر الحجّة والقضاء بالبيّنات، إذ هو من قبيل العامّ والخاصّ بعد فرض

ص: 147


1- ([1]) أُنظُر: وسائل الشيعة للحرّ العاملي: الباب 2 من أبواب كيفيّة الحكم ح 1.

قيام الدليل على حُجّيّته، مع احتمال كون المراد أنّها حجّة مطلقاً بخلاف الشياع، فإنّ المعتبر منه قلّ ما يتفق في غالب الموضوعات، خصوصاً إذا كان المراد شياع الحكم الّذي هو بمعنى التصديق، كأن يقول: زيد بن عمرو، مثلاً، لا الإطلاق الّذي هو ليس من ذلك، وفرقٌ واضحٌ بينهما كما أَومى إليه في خبر يونس المزبور ... ((1)).

وكيف كان، فقد اتّفق الجميع على ثبوت النسب به ((2)).

أي: بالاستفاضة والشياع والتسامع.

وجاء في أجوبة مسائل ابن إدريس في فرض تعارض قول النسّابة والاستفاضة:

مسألة: هاهنا قومٌ علويّون لي من نشأت، وإلى هذا اليوم ما سمعتُ أحداً يقول فيهم شيئاً، وهم يتزوّجون عند العلويّين ويزوّجون العلويّين، وليس فيهم ولا بينهم مراء، واليوم قد جاء ابن التقيّ عبد الحميد ((3)) وعملنسبة العلويّين ولم

ص: 148


1- ([2]) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: 40 / 55 وما بعدها.
2- ([3]) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: 41 / 133.
3- ([4]) هو النسّابة عبد الحميد بن عبد اللّه بن أُسامة بن أحمد، أبو عليّ بن التقيّ الهاشميّ العلويّ الحسينيّ الزيديّ الشريف النقيب، عاش خمساً وسبعين سنة، وكان إماماً في الأنساب، واشتغل على ابن الخشّاب، وتوفّي سنة سبعٍ وتسعين وخمسمئة. قال ياقوت: حدّث النقيب شرف الدين يحيى بن أبي زيد نقيب البصرة أنّه لم يكن تحت السماء أحدٌ أعرف من ابن التقيّ بالأنساب. وكان يحدّث عن معرفةٍ بالعجائب، وكان مع ذلك عارفاً بالطبّ والنجوم وعلوم كثيرة من الفقه والشعر وغيره. هكذا ترجمه الصفديّ في (الوافي بالوفَيات: 18 / 72)، وفي الهامش ذكر جملةً من مصادر ترجمته فراجِع (منقول).

يجعلهم فيها، وقال: إنّ هؤلاء القوم الّذي يُنسَبون إليه لم يعقّب. وقد وافقه قومٌ آخَر من أهل البلد الّذي هم فيه، وهم علويّون ظاهرهم العدالة، أعني الّذين طعن فيهم، هذا مع ارتفاع خبرهم وشناعة اسمهم بالعلويّة عند العلويّين والعامّة، ومنهم فقراء وغير فقراء، والأمر ملتبسٌ فيهم!

الجواب _ وباللّه التوفيق _:

أمّا ما ذكره في السؤال مِن أنّ هؤلاء القوم عند أهل البلد ليس بينهم مراءٌ في كونهم علويّين، فإن كان هذا القول مستفيضاً بين الناس، فالشهادة به جائزة، لأنّ شهادة الاستفاضة في النسب مقبولة.

فأمّا من ذكره في السؤال فلا يُقبَل قوله في ذلك، ولا يجوز

ص: 149

تقليده في هذا الأمر الجليل، ولا يحرم صاحب الخمس بقول نسّابة، فالنبيّ؟صل؟ قال في هذا المعنى ما رُوي: محمّد بن عبد اللّه بن عبد المطّلب بن هاشم، وقال فيآخَر الكلام عند قوله ابن هاشم: كذب النسّابون ((1)). ألا ترى إلى تكذيبه؟صل؟ النسّابين، واقتصاره على مَن ذكر من آبائه (رحمة اللّه عليهم)؟ ((2))

والبحث في هذا الباب مفصَّلٌ واسعٌ في كتب العلماء _ قدّس الله أسرارهم، وتغمّدهم برحمته، وحشرهم مع مَن يتولّون من أئمّتهم(علیهم السلام) _، ولا يسعنا هنا أن نخوض فيه، ولا توثيقه بالإرجاع إلى كتب الفقهاء والعلماء، إذ أنّ المسألة متّفَقٌ عليها على صعيد الفتوى، وإن كان ثمّة اختلافٌ فهو في الاستدلال والتفاصيل.

* * * * *

إذا تبين ذلك ووقع موقع القبول، فإنّ مفاده أنّ المؤمن اليوم يسعه أن يشهد بوجود سيّدةٍ مظلومةٍ يُقال لها: رقيّة بنت الإمام الحسين(علیهما السلام)، مستنِداً في ذلك إلى الاستفاضة والتسامع والشياع، بل يمكنه أن يشهد أنّها

ص: 150


1- ([1]) أُنظُر: عُمدة الطالب لابن عنبة: 28، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 1 / 134 ط الحيدريّة.
2- ([2]) أجوبة مسائل ورسائل في مختلف فنون المعرفة لابن إدريس الحلّي: 296.

مدفونةٌ في هذه البقعة المشرّفة، ولا يخفى على أحدٍ مدى سعة الشياع الحاصل اليوم، فقد شاع وذاع خبرها وطار اسمها في الآفاق وسكن في القلوب، بل وما قبل اليوم إذا اعتمدنا كتب العلماء ومؤلّفات الخطباء الّتي ذكرتها بكثرةٍ وانتشارٍ خلال فترةٍ تزيد عن الأربعة أو الخمسة قرون الّتي وصلَتنا ووقفنا عليها.

إنّ العلماء والفقهاء _ بل حتّى في الفقه الوضعي _ يكتفون بالاستفاضة والشياع في قريةٍ صغيرةٍ أو بلدٍ صغير، والحال أنّ نسبة السيّدة المظلومة رقيّة قد طبّقت الآفاق وانتشرت في أرجاءالأرض، وصارت مهوىً للأفئدة ومناراً يقصده المؤمن والمسلم والسائح من غير المسلمين، ليزوروا قبر بنت الحسين(علیهما السلام)!

المقدّمة الخامسة: سيرة المتشرّعة والعقلاء

اشارة

إذا ثبت سلوكٌ للمتشرّعة، واتّصل هذا السلوك بعصر المعصوم، استدلّوا بهذا السلوك على إثبات الحكم الشرعيّ، مستندين في ذلك على الارتكاز، فاجتماع المتشرّعة على أمرٍ ينهض إلى مستوى الدليل الشرعيّ بالشروط المذكورة في محلّها.

كما أنّ ثبوت سلوك العقلاء الممتدّ إلى زمن المعصوم المعتضِد بإمضائه، يرقى هذا السلوك إلى مستوى إثبات الحكم الشرعيّ أيضاً ضمن الضوابط.

ص: 151

ونحن هنا لسنا بصدد إثبات حكمٍ شرعيّ، لذا لا نريد توظيف سيرة المتشرّعة وسيرة العقلاء بالمعنى الاصطلاحيّ، وإنّما نريد أن نوظّف تظافر سيرة المتشرّعة والعقلاء على الإقرار بوجود قبرٍ لسيّدةٍ من بنات الحسين(علیه السلام) في دمشق الشام.

لذا لا نحسب أنّ للنافي المناقشة في هذا الدليل، مِن حيث اتّفاق المتشرّعة والمؤمنين على زيارة هذا القبر باعتباره قبراً للسيّدة رقيّة بنت الحسين(علیهما السلام)، وليس في هذا المقدار شكٌّ ولا ترديد.

أجل، يمكن أن يُقال: إنّ هذا الأمر اشتهر في الآونة الأخيرة، وربّما عرفنا سبب الاشتهار، فسيكون قيمة اتّفاقهم بقيمة الخبر الّذي ولّد ذلك الاتفاق.

ويُجاب على ذلك:

أوّلاً:

إنّ ما يُعبَّر عنه بالآونة الأخيرة ليس دقيقاً، إذ أنّ ما نعلمه نحنمن حكاية النزول إلى القبر وترميمه ليس بالقريب، وهو يمتدّ إلى أكثر من قرنٍ من الزمان، فهو إنْ كان متأخِّراً بالنسبة إلى القرون الأُولى، فإنّه لا يُعَدّ آونةً أخيرةً لمن يعيش هذا اليوم.

ثانياً:

إنّ ما اشتهر هو النزول إلى القبر وترميمه، وليس وجود القبر نفسه،

ص: 152

ونفس القصّة المرويّة تشهد لذلك، إذ أنّ الرؤيا الّتي تعاهدوا القبر ورمّموه بسببها تؤكّد أنّ ثَمّة قبراً كان موجوداً، وأنّ الناس كانوا يعرفونه، وكان عليه بناءٌ وأبوابٌ وأقفال، وأنّ أمره كان إلى الوليّ أو الوالي، فهذه وغيرها كلّها تصلح أن تكون شواهد على وجود القبر واشتهاره بين الناس قبل تاريخ النزول إليه وترميمه.

بعبارةٍ أُخرى:

إنّ الرؤيا لا تفيد من قريبٍ ولا من بعيدٍ أنّ القوم اكتشفوا القبر من خلال الرؤيا، وأنّ الرؤيا كانت سبباً لمعرفة الموقع وتحديد المكان، وبالتالي فإنّهم حفروا ونقّبوا واكتشفوا قبراً، وإنّما تفيد أنّ قبراً موجوداً معهوداً معروفاً مشيَّداً دخلَت عليه المياه من الداخل، فكانت الرؤيا لاستنقاذ الجسد المقدّس.

فلم تكن الرؤيا السبب في كشف القبر والإعلان عنه، وإنّما كانت سبباً في ترميم الموجود القائم المعروف المعهود.

ثالثاً:

إنّنا عاصرنا القبر وعرفناه للسيّدة رقيّة بنت الحسين(علیه السلام)، وعاصرنا الجيل الّذي سبقَنا من آبائنا وكانوا يزورونه باعتباره قبر السيّدة رقيّة(علیها السلام)، وعاصر آباؤنا أجدادَهم وروى لنا آباؤنا أنّ آباءهم زاروا السيّدة رقيّة(علیها السلام)، وهكذا إلى الحدّ الّذي بلغَنا خلال عدّة أجيال، فلْنفترض ثلاثةً لا أكثر،

ص: 153

وهو القدر المتيقَّن الّذي لا يناقش فيه أحد..

يبقى ما سبق هذه الأجيال الثلاثة، فالأصل أنّهم كانوا قد سمعوا عمّن سبقهم، سيّما إذا كان الكلام عن المؤمنين، وكان فيهم المرجع والمجتهد والعالم والشاعر والسائح والرجل والمرأة، وهكذا جميع شرائح المجتمع.

وهذا القدر كافٍ في الاستناد إلى مَن سبقنا والاعتماد عليه في قبول وجود هذا القبر لهذه السيّدة الجليلة.

أمّا النافي، فإنّه لا يقوى على نفي ما سبق؛ لافتقاره الدليل على نفي شيءٍ موجودٍ اليوم قامت سيرة المؤمنين _ بل وغير المؤمنين _ على قبوله، ودون إثبات عدم وجود هذا القبر تاريخيّاً عراقيل تمنعه تماماً، إذ أقصى ما يمكنه الاستدلال به عدم وروده في كتب المؤرّخين والرحّالة وغيرهم مثلاً، وقد اتّفقنا في مقدّماتٍ سابقةٍ أنّ هذا النمط من النفي لا يُعدّ منهجاً علميّاً من جهة، لأنّ عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود، وليس ثَمّة مَن يدّعي أنّه قد تصفّح كلّ كتاب كتبه الناس طيلة تاريخ المسلمين.

فإذا فقد النافي الدليل، كانت سيرة الناس المعاصرين المتواصلة إلى ما نعرفه من الأجيال الّتي عاصرناها من الآباء والأجداد كافيةً للإثبات!

رابعاً: النافي متأخِّر

ذكر السيّدةَ رقيّة(علیها السلام) ودفنَها في الشام علماءٌ من القرن السابع، واستمرّوا يروون مصيبتها في الكتب منذ أكثر من سبعمئة عام إلى اليوم،

ص: 154

وقد زارها القاصي والداني، وكبارُ العلماء والمجتهدين والمراجع والمحدّثين، وذكروا مصيبتها على المنابر في مجالس المؤمنين، ولم نسمع أحداً يشكّك أو ينفي، إلّا ما ظهر في عصرنا الراهن (عصر اشتداد الفتن)، وقد انحصر التشكيك أو النفي فيجملةٍ من المحقّقين خاصّة، معتمدين على أدلّةٍ لا تصمد أمام النقد، من قبيل: عدم ذكرها في كتب النسّابة، وما شاكل..

ولو افترضنا أنّ محقّقاً نقّر ونقّب وبعثر بطون الكتب، فعثر على قولٍ عند أحدهم يشكّك أو يناقش في وجود القدّيسة الصغيرة، فإنّه يبقى شاذّاً يقابله عشرات، بل لا نبالغ إنْ قلنا: مئاتٌ ممّن أثبتوا مصيبتها ودلّوا على قبرها.

يبدو أنّ قول النافي هو القول المحدث في الأزمان المتأخّرة جدّاً، بل قد لا يصدق عليها الأزمان المتأخّرة، وإنّما هي في الزمن المعاصر الراهن.

خامساً: استمرار ظروف التقيّة

منذ أن دُفنَت السيّدة بنت الحسين رقيّة(علیهما السلام)، والشام هي الشام، تظلّلها أجواء التقيّة، فلو أنّ خبر القبر اختفى مدّةً من الزمان، أو وقع ثمّة اشتباهٌ في اسم المدفون في هذا القبر أو ذاك، فإنّه من الطبيعيّ جدّاً، سيّما أنّ المحيطين بالقبر وربّما حتّى القيّمون عليه ليس لهم كثير اطّلاع، ولا حتّى قليل معرفةٍ بأهل البيت(علیهم السلام) وأولادهم.

فلو فرضنا فرضاً أنّ المثبِت لم يتوفّر على شواهد كافية ترقى إلى الأدلّة

ص: 155

لإثبات تواصل سيرة المتشرّعة والعقلاء على انتساب هذا القبر إلى هذه السيّدة وامتداده إلى زمن وقوع المصيبة، فإنّ النافي يعجز عن الإنكار الباتّ؛ لإمكان خدش نفيه بالتقيّة المانعة من الانتشار والتحقيق والتدقيق، ووجوده اليوم ظاهراً يُنبئ عن وجوده بالأمس، ولو على نحو الاحتمال الّذي لا يقابله دليل النافي.

أضف إلى ذلك:

ما أشرنا إليه في غير موضع، وإنّما أفردناه هنا لأهميّته ولوجود إشارةٍ إضافيّةٍ تخصّ المقام:

إنّ وفاة طفلةٍ صغيرةٍ في ظروفٍ خاصّةٍ وفي خضمّ أحداثٍجسامٍ عظيمةٍ لا تُعدّ شيئاً يُذكر بالنسبة للعدوّ الّذي ارتكب كلّ تلك الجنايات والجرائم العظمى، وكذا لغير العارف بأهل البيت(علیهم السلام)، وليس في الأمر بالنسبة لهم مثاراً للاهتمام، ولا محرّكات للاحتفاظ بشيءٍ من أخبارها وآثارها.

فيما نجد الموضوع بالنسبة للمسلم المتديّن أو المؤمن العارف يُعَدّ في غاية الأهمّيّة والخطورة، فرقيّة(علیها السلام) بضعةٌ من الإمام سيّد شباب أهل الجنّة(علیه السلام)، ومن سيّد الأنبياء(صلی الله علیه و آله) وسيّد الأوصياء وسيّدة النساء فاطمة الزهراء(علیهما السلام)، ولو كانت قد ماتت ميتةً طبيعيّةً عاديّةً لَكانت في غاية القداسة، ولَكان قبرها مزاراً يُقصَد وموضعاً يُطلَب فيه التقرّب إلى الله

ص: 156

(تبارك وتعالى).

وهذا ما يدعو بعض المؤمنين أو المتعاطفين أو المحبّين أو المهتمّين بالأمر لأيّ غرضٍ كان أن يجدّوا في تحديد موضع القبر والدلالة عليه لمن وجدوا فيه وجداً وشوقاً وحبّاً لآل البيت، وبهذا يروى لنا موضع القبر وخبر مَن فيه بالصدور كابراً عن كابرٍ بما يلتئم حتّى مع ظروف التقيّة.

المقدّمة السادسة: قانون الأثر والمؤثّر

اشارة

إستدلّوا على وجود الله بقانون الأثر والمؤثّر، ومعرفة العلّة من خلال مشاهدة المعلول، واستدلّوا على النبوّة بتواتر الأخبار بظهور المعجزات، فقالوا: تواتر النقل أنّ عيسى(علیه السلام) كان يُحيي الموتى ويُبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، وأنّ موسى(علیه السلام) جاء بعصاً تلقف ما يأفكون، وأنّ خاتم النبيّين(صلی الله علیه و آله) جاء بعليٍّ أمير المؤمنين(علیه السلام)، وبالقرآن الكريم، وهكذا..

وقد تواتر النقل بظهور المعجزات والكرامات واستجابة الدعوات وقضاء الحوائج بالتوسّل إلى الله بالسيّدة المظلومة بنتالحسين(علیهما السلام) الصغيرة، ويبدو أنّ أحداً من المؤمنين لا يناقش في ذلك، وهو على مستويَين:

المستوى الأوّل: ما ظهر عند قبرها المبارك

لقد قصد القبرَ الشريف ملايين من المؤمنين وغيرهم طيلة هذه السنين

ص: 157

المتمادية، وتوسّلوا إلى الله بصاحب القبر الّذي يعتقدون أنّه لبنت الحسين رقيّة(علیها السلام)، فأجاب الله دعواتهم، وأظهر عند القبر المعهود قدرته وسلطانه، وعمّ مَن شاء منهم بلطفه ورحمته وعطائه، وهذا من المسلّمات الّتي لا تُنكَر، ولا نريد الدخول في التفاصيل وذكر الأمثلة للتدليل، لوثوقنا أنّ كلّ مؤمنٍ في مشارق الأرض ومغاربها بلغه شيءٌ من ذلك عموماً ولو على نحو الإجمال، إنْ لم يكن هو أو أحد أقربائه أو أحبّائه والمقرّبين إليه قد نال من تلك الكرامات مباشرةً أو عَمَّه خيرها وبركاتها.

المستوى الثاني: ما ظهر في غير موضع قبرها

اشارة

لقد رأينا وسمعنا، ورأى الناس وسمعوا، ما لا يُحصى عدداً ولا يُحصَر، ولو أردنا استقصاء الموارد الّتي يتوسّل بها المؤمنون في مشارق الأرض ومغاربها إلى الله بهذه الصغيرة المظلومة سليلة الأنبياء والأوصياء(علیهم السلام)، نحسب أنّ ذلك لا يفتر على مدار الساعة، ومدار الليل والنهار، فلا تكون ساعة، بل لحظةً لا يحصل مؤمنٌ مبتلىً في موضعٍ من أصقاع الأرض يتوسّل إلى الله (تعالى) بهذا الفرع الزاكي والبضعة الطيّبة لخامس أصحاب الكساء(علیهم السلام)، وأنّ الله (سبحانه وتعالى) يجيب دعواتهم، ويقضي حوائجهم، ويسهّل أُمورهم ببركة هذا التوسّل الخاصّ بهذه النبعة الذاوية على رأس أبيها.

وأقلّ ما يمكن الاستشهاد به لذلك: كثرة المجالس المعقودة لِذكر مصيبتها والتقرّب إلى الله بها، فلا يكاد يخلو يومٌ بليله أو نهاره ولاتكاد تخلو

ص: 158

ساعةٌ من مجلسٍ لها، أو مباشر للوفاء بنذره، أو الإنفاق وفاءً لما أكرمه الله بها من قضاء حوائجهم، والكلام في طول الأرض وعرضها.

* * * * *

يمكن أن يستفاد ممّا ذكرناه آنفاً الفوائد التالية:

الفائدة الأُولى: الكشف عن قبرها

إنّ هذه الكرامات والمعاجز ((1)) إنّما تحقّقَت _ إن كان عند القبر أو في أيّ مكانٍ آخَر _ بسبب التوسّل إلى الله بهذه النبعة الطيّبة، وهي كلّها معلولاتٌ وآثارٌ للتوسّل بها على وجه الخصوص بالاسم والنسبة والصفة الّتي يعرفها المتوسِّل.

وهي بالتالي مع تكرّرها بشكل مستمرّ تكشف عنها.

الفائدة الثانية: الكشف عنها

التوسّل بها بعيداً عن قبرها واستجابة الدعوات ببركاتها في كلّ مكانٍ من أرجاء المعمورة، يكشف عنها، بغضّ النظر عن موضع قبرها، لأنّ التوسّل والإجابة حصلَت بها بما هي بنت الحسين رقيّة(علیهما السلام).

الفائدة الثالثة: لزوم التغرير بالعباد

لمّا كانت الدعوات والتوسّلات من المؤمنين، والإجابة والتحقّق من

ص: 159


1- ([1]) نقصد بالمعجزة المعنى اللغوي، وليس المعنى الاصطلاحي.

الله (تبارك وتعالى)، وليس مَن يشكّ في كونه حقّاً لا باطل فيه، فإن لم تكن ثمّة رقيّة(علیها السلام) ربّما لزم منه التغرير من الله _ والعياذ بالله _ بعباده المؤمنين، فربّما أجاب الله عبيده مرّةً أومرّتين كرامةً لهم، بغضّ النظر عمّن توسّلوا به، أمّا أن يتوسّل به ملايين المؤمنين ب (رقيّة بنت الحسين(علیهما السلام)) فيجيبهم بما لا يُحصى ولا يُحصَر عدداً، وهي ليس لها وجودٌ بتاتاً، فإنّه لا ينسجم مع معتقداتنا، والكلام في ذلك يطول، وليس هذا موضعه، لذا سنكتفي بهذا القدر.

ولا يمكن حمل صدور كلّ هذا العدد المفتوح الّذي لم يتوقّف إلى اليوم _ وسيبقى إن شاء الله (تعالى) _ على الصدفة، لأنّ الصدفة لا تتكرّر، وليس هذا النمط من الادّعاء والتفكير من شيَم المؤمن وأخلاقيّاته وأدبيّاته.

فيكون حينئذٍ تكرّرها وتكثّرها يؤدّي إلى تراكم الاحتمالات وإثبات وجودها، لتضاؤل الاحتمال المخالف إلى حدّ انعدام احتمال الخطأ فيها بتظافر الاحتمالات غير المعدودة.

المقدّمة السابعة: التبادر

اشارة

يحتاج التبادر إلى علمٍ ارتكازيٍّ مترسِّخٍ في النفس، فإذا تبادر من لفظٍ معيَّنٍ معنىً معيَّناً مثلاً، فإنّ هذا التبادر نتاج ارتكازٍ راسخٍ في النفس، بغضّ النظر عن أسباب حصوله.

والتبادر الذائع عند العامّة والخاصّة والمخالف والمؤالف اليوم هو

ص: 160

انتساب هذا القبر الواقع في هذه البقعة الخاصّة لشخصٍ معيَّن، بحيث إذا سأل السائل أيَّ فردٍ متواجدٍ أو مارٍّ من هناك، لَأجاب على الفور من دون أيّ تلكّؤٍ أو لعثمةٍ أنّه قبر رقيّة بنت الحسين(علیهما السلام).

ولا تجد مَن يخالف ذلك، حتّى القلّة القليلة الّتي قد يكون لها كلام، فإنّه لو كان مارّاً مِن هناك وسأله سائلٌ لَقال فوراً: قبر السيّدة رقيّة(علیها السلام)، وإذا كان من أهل الوسوسة والاحتياط الزائد لَقال: يقولون أنّه قبر رقيّة(علیها السلام)، وهؤلاء على قلّتهم الّتيلا تكاد تبين بين الجموع الّتي لا تُحَدّ ولا تُحصَر، فإنّهم محكومون بالتبادر.

سيّما أنّ هؤلاء القليلين عدداً إذا ناقشوا، ناقشوا في أصل وجود السيّدة ونسبتها للإمام(علیه السلام)، فهم يزعمون أنْ لا رقيّة للإمام الحسين(علیهما السلام)، فلا تصل النوبة لإنكارهم نسبة القبر إليها، ومَن ناقش في نسبة القبر بين أُولئك القليل عدداً أقلّيّةٌ لا يُعرف لها عدد.

ص: 161

ص: 162

نكات

النكتة الأُولى: موافقة قول المُثبِت للاحتياط

مع أنّ النافي لا يعتمد على دليل، ولا يعضده شاهدٌ سوى ما ذكروه من عدم الوقوف على اسمٍ لها في كتب النسّابة أو كتب المؤرّخين القدماء الأوائل، وهو دليلٌ ظاهر العوار، ومعوزٌ يفتقر لمقوّمات القوّة الّتي تؤهّله للارتكان إليه والاستناد عليه، لِما سمعناه فيما مضى.

فإنّه مع ضعف المستند، يخالف الاحتياط الّذي يلائم هذا النوع من البحث، فلو كانت ثمّة بنتٌ للحسين(علیه السلام) اسمها رقيّة(علیها السلام) جرى عليها ما جرى، فهو المطلوب، والنافي خاسر؛ إذ فاته الكثير من المنجيات، وفرص الشفاعة والتوسّل، وسيبقى فاغر الفم مبهوتاً مبهوراً لا يدري ما يقول لو سأله سيّدُ الشهداء(علیه السلام) أو سألَته السيّدة القدّيسة الصغيرة(علیها السلام): لماذا أنكرتَ نسبي، ونفيتَني عن أبي، وأعرضت عن ظليمتي، ومحوت من سجلّ الظالم الجناية الّتي ارتكبها معي، ومنعت دمعةً كانت تنهمر من عينٍ مؤمنةٍ من أجل مصيبتي، وسفّهت الملايين الملايين من شيعتي، وكذّبت المئات أو الآلاف من العلماء والخطباء والمؤمنين في مظلمتي؟ وغيرها من الأسئلة،

ص: 163

فماذا عساه أن يعتذر أو يجيب؟!

أيكفيه أن يردّ فيقول: إنّي بحثتُ في ما وقع بيدي من كتب جماعةٍ من أعدائكم المختفين تحت أرائك السلاطين، المتسكّعين فيبلاطات الحاكمين، من الّذين يكتبون على أنغام صرير سكك الدراهم والدنانير الراقصة في بطون البدرات، فلم أجد لكِ ذكراً؟

أمّا على فرض أن لا تكون بنتاً في الواقع لسيّد الشهداء(علیه السلام)، لو فرضنا ذلك فرضاً، وليس الأمر كذلك، فلا يُلام أحدٌ على بكائه وحزنه على مصيبةٍ محتملةٍ ممكنة الوقوع، وظليمةٍ متصوّرةٍ لا تبعد عن القلوب، ولا يستبعد حصولها وفق ما يعهده المطّلع على التاريخ وسلوك الأعداء.

ولو سُئل الباكي عليها والمتفجّع لمصابها، لَاحتجّ بحُجج كثيرة عديدة، وأسند مقاله إلى روايات «مَن بلغ» وغيرها ممّا تسالم عليه أهل العقل والنقل.

وبعبارةٍ أُخرى:

إنْ صحّ قول النافي فليس المُثبِت بخاسر، أو صحّ قول المثبت فالخسارة على النافي!

النكتة الثانية: ما هي فائدة نفيها؟

لو كان يلزم من قول المثبت تالي فاسد، أو يؤدّي إلى مؤدّياتٍ تخدش بساحة القدس المطهّرة لآل البيت(علیهم السلام)، وتمسّ كرامتهم ومنزلتهم ومراتبهم

ص: 164

السامية، وغيرها ممّا يحرّك في المؤمن الغيرة على الله وعلى آل الله، لَكان البحث في الموضوع، والتشبّث بأيّ شاهدٍ أو دليلٍ يعضد النافي سلوكاً محموداً يُؤجَر عليه المؤمن، ويستحقّ التعظيم والتكريم، ويستدعي أن ينزله المؤمنون في منازل مرموقة، ويعترفون له بمقاماتٍ ساميةٍ محمودة، ويشكرون له فضله وعلمه وجهده المبذول في الذبّ عن ساحة أولياء الله وأحبّائه.

أمّا في مثل هذا المورد الّذي نحن بصدد البحث عنه، فهل تترتّب فائدةٌ من قبيل الفوائد الّتي ذكرناها آنفاً؟!

وهل لوازمه لوازم ذات خطورة تؤثّر سلباً على الدين وأهلالدين وعلى عقائد وأحكام المؤمنين؟!

إنّها مضت صغيرة، لم يُمهلها الدهر حتّى تكبر فينتسب إليها قومٌ بالباطل مثلاً، فيثمر البحث حينها نفي نسب مَن انتحل الانتساب إليها.. ولم تورث تَرِكة فيطالب بها أحدٌ اليوم، ولم ترد مصيبتها في مصادر ذات بال _ حسب رؤية النافي _ فيمكن الاستناد إليها في إثبات حكمٍ شرعيّ إلزاميّ بكلا شقَّيه.

إذن، ما هي الفائدة والثمرة الّتي يمكن أن تترتّب على النفي؟

والحال أنّ قول النافي تلزم منه لوازم غير محمودة ولا مرضيّة، حتّى لمن يحاولون ذلك، لأنّهم مؤمنون متديّنون يعادون أعداء أهل البيت(علیهم السلام) ويتبرّؤون منهم.

ص: 165

النكتة الثالثة: من لوازم قول النافي..
اشارة

إنّ من لوازم قول النافي الّتي سنذكرها كإشاراتٍ مستعجلة:

اللازم الأوّل: تبرئة الظالم

تبرئة الظالم ومحو ظليمة _ ولو محتملة في رأيه _ من سجلّه المشؤوم، وتلميع وجهه من سوادٍ قد اعتراه من مصيبةٍ عظيمة.

وفي ذلك مجازفة ارتكاب المخاطر والأهوال من خلال مسايرة مرادات الظالم ومقاصده.

اللازم الثاني: نفي الظليمة

ومن لوازم قول النافي: نفي مفردةٍ من الظلم وقعَت على سيّد الشهداء(علیه السلام) وآله الأبرار(علیهم السلام)، ونفي ظليمةٍ وقعَت لهذه الطفلة اليتيمة(علیها السلام)، ونفي ظليمةٍ حلّت بعترة النبيّ(صلی الله علیه و آله) وذرّيّة الوصيّ(علیه السلام)، فضجّوا لها وبكوا وانتحبوا.

اللازم الثالث: تجفيف الدموع

ومن لوازم قول النافي: تجفيف دمعةٍ يمكن أن تسيل، فتُنجي مؤمناً من نار الجحيم، ومنع حسرةٍ يمكن أن تتلجلج في صدر متفجّعٍ لآل رسول الله(صلی الله علیه و آله)، وإزالة غمامة حزنٍ يمكن أن تهطل بغيث الرحمة على قلب منكسرٍ لمصيبة ابنة سيّد الشهداء(علیه السلام).

ص: 166

اللازم الرابع: إشاعة نَفَس الوسوسة والتشكيك

ومن لوازم قول النافي: إغلاق النوافذ الّتي يمكن أن يتنفّس منها قلبٌ أوغرَته الشكوك، وحيّره التردّد، ووقف متذبذباً لا يدري ما يفعل، فهو في دوّامةٍ غامرةٍ من الهواجس والمخاوف، يرى قلبه بين الإقدام والإحجام، فيسمع قول النافي، فتسري فيه نيران الحيرة والتردّد والشكوك والوساوس، فتأتي على الباقي في حنايا القلب من التسليم لأهل البيت(علیهم السلام).

سيّما إذا كان من الضعفاء، وقد قضى عمره يسمع بالنكبة الّتي حلّت بآل البيت(علیهم السلام) في الشام، وما جرى على هذه اليتيمة الصغيرة(علیها السلام)، ثمّ يسمع ممّن يثق به أنّ القصّة لا أصل لها ولا جذور، فتجتثّ الكلمات قلبه من قراره، وتطرحه في مهاوي التشكيك في كلّ شيء، ويتسرّب لهيب الشكّ ودخانه القاتم إلى أعماق وجوده فيزلزل كيانه، ويجعله موسوساً شكّاكاً في كلّ ما هو مسلَّمٌ متّفَقٌ عليه، وربّما اقتحمت عليه الهواجس والوساوس فنخرت عقائده وأفكاره..

لا يُقال:

إنّ هذا الكلام يسدّ على الباحث طريق البحث والتنقيب ومناقشة التاريخ والتوصّل إلى الحقائق..

فإنّ طريق التنقيب والبحث والتحقيق في التاريخ مفتوحٌ ومرغوب، ولكن في الحدود المرسومة الّتي تنفع المؤمنين، وتُدافع عن أئمّة الدين(علیهم السلام) وأتباعهم الطيّبين، وتطهّر ساحاتالقدس من لوث الطواغيت والمجرمين،

ص: 167

ولا يلزم منها تسويغٌ لفعل الظالمين، وغير ذلك ممّا ذكرناه في بداية البحث تحت عنوان (المدخل).

أمّا في مثل المورد الّذي نحن فيه، فلا نحسب أنّ ثمرةً طيّبةً تترتّب على قول النافي، بل على العكس تماماً، نظنّه تضييعاً لرأس المال الثمين _ وهو العُمر _ في بحثٍ شائك، وسيراً في حقلٍ مسبع يؤدّي إلى متاهاتٍ لا تنفع سالكها يوم يقوم الناس لربّ العالمين، ولا يعدّها ذخيرةً تضيء له وحشة القبر وتكون له نوراً يوم الحشر ونوراً على الصراط ونوراً يسعى بين يديه إذا قام للحساب بين يدَي ديّان الدين، ونستبعد أن يعدّه المؤمن زاداً يقدّمه لسيّد الشهداء(علیه السلام) ليباهي به هناك ويطلب عليه أجراً.

النكتة الرابعة: توظيف الواقع مقابل توظيف الخيال

هذه النكتة تصلح أن تكون تتمّةً للنكتة السابقة:

لو تنزّلنا وسرنا مع النافي إلى آخر الحدود، فربّما يقال: ما فائدة النفي؟ وما هي أهدافه؟ والناس يختلقون الأحداث والشخصيّات من خلال القصص والروايات والفنون الجديدة، ويسخّرون كلّ الإمكانات في كلّ عصرٍ لتسليط الضوء على حالةٍ اجتماعيّة، أو ظلم سلطان، أو إبراز ظليمةٍ ولو مفترضة، وما شاكلها من الغايات، وقد جدّوا واجتهدوا في تهييج الخيال في قصص وروايات وحكايات انتشر بعضها وأخذ بُعداً عالميّاً وتُرجِم إلى لغات الأرض، ونحن لا نريد الدخول في سوق الأمثلة والنماذج وذِكر

ص: 168

الأسماء، وهي غير خافيةٍ على أحد، ولها تاريخها وتأثيرها في حياة الناس أجمعين.

وقد تعرّضنا لظلمٍ وجرَتْ لنا من المصائب والمظالم والمواقفوالمشاهد ما يصلح بجدارةٍ ليكون أعظم الدروس، ويُنتفَع منه كأروع التجارب، وصُبَّت على أئمّتنا مصائب (لو أنّها صُبَّت على الأيّام صِرنَ لياليا).

فما هو المسوّغ الّذي يدعونا لننكر أو نتنكّر لواقعٍ موجودٍ وبنيانٍ قائمٍ مشيَّد، وروايةٍ وردت في كتب كثيرة رواها من العلماء مَن هو محلٌّ للقبول والاعتماد، وبعيدٌ عن مظنّة الكذب والخداع، ومنزَّهٌ عن الانسياق إلى سراب الخيال والافتعال؟!

ص: 169

ص: 170

المصادر الّتي ذكرَت السيّدة بنت الحسين رقيّة(علیهما السلام)

اشارة

مرّ معنا في المقدّمات كلام المحقّق الشيخ المظفّر(رحمه الله علیه)، وعرفنا أنّ الاقتصار على بعض المصادر القديمة فقط، والأخذَ من بعض المؤرّخين دون غيرهم، ورفضَ ما تلاها من كتب علمائنا الأبرار، يُعَدّ مجازفةً تكلّفنا الكثير من الخسائر، ومخاطرةً منهجيّةً تشطح بنا بعيداً، وتُفقدنا الكثير من المشاهد، وربّما الحقائق والمعلومات التاريخيّة.

إنّ مَن يتابع كتب التاريخ والمؤرّخين، يجد ما يشهد لما نقوله.

إنّ الطبريّ صاحب التاريخ (ت 310 ه) يبعد عن عصر النبوّة زهاء ثلاث قرون، وعن عصر الإمام سيّد الشهداء(علیه السلام) ما يربو على القرنين، قد روى لنا أخباراً لم يروها مَن سبقه من المؤرّخين، وما أكثرها في كتابه بحيث لا تحتاج إلى توثيقٍ وذكر النماذج والأمثلة، إذ لا تكاد قصّة أو خبر ممّا رواه في كتابه لا يكون مثَلاً لما قلنا، ويمكن معرفة ذلك بأدنى مقارنةٍ بينه وبين مَن سبقه من المؤرّخين.

ص: 171

وكذا ابن أعثم (ت 314 ه) المعاصر للطبريّ، رغم أنّه مجهولٌ جهالةً تامّة، ولم يرد فيه إلّا قول ياقوت الحمَويّ في (معجم الأُدباء)، ولم يزد أن عرّفه بجملةٍ لا تبلغ السطر، وإرساله أخباره في كتابه (الفتوح) إرسالاً، وكثرة متفرّداته.. يُعتمَد عليه ويُعدّ مصدراً تُؤخَذ منه وصيّة الإمام سيّد الشهداء(علیه السلام) لأخيهمحمّد ابن الحنفيّة، الّتي حصروا فهم القيام وتفسيره على أساسها، ورتّبوا عليها نتائج خطيرة استنبطوا منها أحكاماً وتكاليف وفهوماً وتفاسير ونظريّات ولا زالت تفيض وتفيض، وهو خبرٌ تفرّد به ابن أعثم، وأرسله دون أن يذكر فيه حتّى الراوي المباشر، وأعرض عنه العلماء والمؤرّخون من الشيعة والسنّة إلى القرن الحادي عشر ((1)).

وكذا يمكن أن يُقال في عشرات المؤرّخين والمؤلّفين المتأخّرين عن العصر الأوّل، وهم مورد اعتمادٍ وقبول، مع علمنا أنّهم من رجال العامّة وكبارهم، ومن روّاد البلاطات وأتباع السلاطين فكريّاً وعقائديّاً وعاطفيّاً، هواهم على هوى السلطان، ورأيهم مِن رأيه، وقولهم مِن قوله..

فلماذا لا يكون لعلمائنا الأبرار الأخيار الموثوقين المرموقين الأتقياء نفس المسوّغ والمبرّر الّذي يدعونا للأخذ بزيادات مثل الطبريّ الّتي لم ترد عند المؤرّخين الأوائل من أمثال ابن سعدٍ وغيره؟!!

ص: 172


1- ([1]) على تفصيلٍ أتينا على ذِكره في كتاب (ظروف خروج سيّد الشهداء(علیه السلام) من المدينة).

* * * * *

قد رأينا _ من خلال التتبّع _ الكثيرَ من علمائنا يروُون عن كتب يصرّحون بأسمائها وأسماء مؤلّفيها، وأنّها وصلَت إليهم وكانت لديهم واستقرّت في مكتباتهم، وهي مفقودةٌ اليوم لا نجد لها أثراً، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر مَن تتبّعناهم شخصيّاً:

ذكر الشيخ ابن شهرآشوب في مقدّمة كتابه مصادره الّتي اعتمدها في (مناقب آل أبي طالب)، سواءً كتب السنّة أو الشيعة، وعدّها واحدةً واحدة، وقال إنّه إنّما ذكرها في مقدّمة كتابه ليُخرج كتابه عن حدّ المراسيل، بَيد أنّ بعض تلك المصادر والكتب مفقودةٌاليوم تماماً، وهي كتبٌ لا تُنكَر ومؤلّفوها معروفون.

وكذا لو تتبّعنا كتاب (كشف الغُمّة) للإربلّي، فإنّه يروي عن كتب مفقودة اليوم.

وكم من كتابٍ يروي عنه القندوزيّ في (ينابيع المودّة) مباشرة، وهو غير متوفّر اليوم إلّا في معاجم الكتب، أو له نسخ مخطوطة محدودة في المكتبات العالمية.

وهكذا دواليك، قُلْ: في الكثير من الكتب.

وثمّة علماء كانوا قد عُرفوا منذ عصورهم أنّهم أصحاب مكتباتٍ تحوي النوادر من المخطوطات، من قبيل السيّد ابن طاووس، والشيخ الطوسيّ،

ص: 173

وغيرهما، وكم من العلماء القريبين من عصرنا لا زالت مكتباتهم الخاصّة العظيمة موجودة إلى اليوم، من قبيل مكتبة صاحب (الغدير) وصاحب (العبقات) والشيخ البسطاميّ والشيخ حبيب الله الكاشانيّ (تغمّدهم الله برحمته ورضوانه)، وقد رووا لنا في كتبهم أخباراً عن كربلاء تُذيب الصخور، ولم نقف على كتب مكتباتهم، رغم وجودها.

ولا يخفى على مَن تتبّع بعض العصور السالفة أنّ السلاطين توجّهوا توجّهاً خاصاً لقيام الإمام الحسين(علیه السلام) في بعض الفترات، حتّى استحدثوا لها وزارةً خاصّةً بالشعائر والمراسم الحسينيّة، وصار التأليف في موضوع سيّد الشهداء(علیه السلام) مفخَراً يتباهى به العلماء ويهدونه إلى السلطان، فكان النتاج في تلك الفترة غزيراً، لا زال متراكماً إلى اليوم في المكتبات على شكل مخطوطات أو مصوّرات أو مطبوعات حجريّة، ومنها ما نال الاهتمام فطُبع طبعات حديثة.

وكان السلطان _ بما يمتلك من ميزانيّةٍ ماليّةٍ مفتوحةٍ وعلاقاتٍ واسعة _ يوفّر أيّ كتابٍ أو مخطوطةٍ في العالم يطلبها منه عالمٌ من العلماء، ليقضي منها وطَراً ويأخذ منها ما يريد.

لذا توفّروا على مصادر وكتب ومخطوطات كثيرة نادرة، قد لايتسنّى لغيرهم الوقوف عليها، تماماً كما حصل للعلّامة غوّاص (بحار الأنوار) وغيره من علماء تلك الفترات.

ص: 174

وقد اندثرت تلك الموارد، أو رقدت في رفوف المكتبات العامّة، أو دُفنَت في المكتبات الخاصّة، وربّما وقعت بأيدي لا تعرف كيف تنتفع منها أو تنفع بها.

* * * * *

ولا ننسى أنّ الموضوع الّذي نتحدّث فيه يختصّ بالتاريخ وأحداثه، وليس بالفقه ومسائله وأحكامه، والفرق بين العِلمَين واضح.

فلماذا _ إذن _ نتعامل بجفاءٍ وقسوةٍ وقطيعةٍ وتغافلٍ وتجاهلٍ تامٍّ أو شبه تامٍّ مع جحافل العلماء، بأعدادهم الضخمة الكبيرة، وشخصيّاتهم الفذّة العظيمة، وهم متديّنون أتقياء أبرار أخيار، تطمئنّ النفس إلى كلامهم، وترتاح الروح إلى صفائهم، وتسكن القلوب إلى وثاقتهم وإيمانهم؟!

هذا كلّه لا يعني أن نأخذ كلَّ ما ورد في كتبهم، وإنّما تبقى _ باعتبارها كتب تاريخ _ خاضعة لما ذكرناه في المدخل، مع ميزة روايتها في كتب الشيعة.

قال السيّد جعفر مرتضى العامليّ (حفظه الله وسدّده ورعاه):

ونحن وإن كنّا لم نجد الأسباب الّتي ذكروها في المصادر الّتي اطّلعنا عليها لأيٍّ من مؤلّفي القرون الأُولى، ولكنّنا نعترف بأُمور:

أوّلها: إنّنا لا ندّعي لأنفسنا الإحاطة بمؤلّفات السابقين، ولا

ص: 175

الاطّلاع التامّ على كلّ ما وصل إلينا وطُبع منها، فضلاً عن أن ندّعي المعرفة حتّى بأسماء الموجود ممّا بقيَ لنا من مخطوطاتها، فعدم وجداننا هذه المنقولات لا يدلّ بالضرورة على عدم وجودها، فلا يحقّ لنا المبادرة إلىالإنكار والنفي القاطع لها.

الثاني: إنّنا نعرف في علمائنا (رضوان الله تعالى عليهم) الاستقامة على جادّة الحقّ والصدق، والخير والصلاح، والأمانة، والدين والورع، فإن كان هناك اختلالٌ في بعض ما ينقلونه فآفتُه مِن غيرهم، أعني بذلك: الّذين أخذوا منهم، ورووا عنهم ... ((1)).

وقد استدلّ المحقّقون المعروفون من ذوي الباع في عالم التأليف والتحقيق في عصرنا الحاضر بمصادر متأخّرة، لإثبات ما يعتقدون ويذهبون إليه، من قبيل العلّامة السيّد جعفر مرتضى العامليّ، حيث استدلّ لإثبات قبر السيّدة زينب في الشام بمصادر من القرن الثاني عشر، وكان أقدمها تاريخ ابن عساكر الّذي يعود تاريخ وفاة مؤلّفه إلى النصف الثاني من القرن السادس (561 ه) كأقدم مصدر ((2)).

ص: 176


1- ([1]) زينب ورقيّة في الشام: 103.
2- ([2]) أُنظُر: زينب ورقيّة في الشام: 77 _ 83.

واستدلّ لسبب إطلاق هذه الكنية (أُمّ كلثوم) على العقيلة زينب(علیها السلام) بما رواه سپهر الابن صاحب (الطراز المذهَّب)، وصاحب (الخصائص الزينبيّة)، مِن أنّ النبيّ(صلی الله علیه و آله) قال: «أُوصي الشاهد والغائب من أُمّتي وأخبروهم أن يلزموا هذه الصبيّة؛ لأنّها تشبه خالتها أُمّ كلثوم» ((1)).

والأمثلة على ذلك لا تكاد تُحصَر، وفيما ذكرنا كفاية.

* * * * *

بعد هذه المقدّمة نحاول الإشارة إلى المصادر الّتي ذكرت مصيبة السيّدة المظلومة بنت الحسين(علیهما السلام) من خلالعدّة روافد:

الرافد الأوّل: المصادر الأُولى
اشارة

المشهور أنّ المصدر الأوّل الّذي ذكر مصيبة السيّدة بنت الحسين(علیه السلام) هو عماد الدين الطبريّ في كتابه (كامل البهائي) _ فارسيّ _، والحال أنّ العماد الطبريّ يروي عن كتاب (الحاوية / الهاوية)، لذا فإنّنا جعلناه المصدر الأوّل.

المصدر الأوّل: (الحاوية)، (الهاوية)

روى الشيخ عماد الدين الطبريّ خبر وفاة يتيمة سيّد الشهداء(علیه السلام)

ص: 177


1- ([3]) أُنظُر: زينب ورقيّة في الشام: 84.

عن كتاب (الحاوية)، والشيخ العماد _ كما سنسمع بعد قليل _ من عيون العلماء وجماجمهم وبحورهم العميقة العذبة، لا يتمنّع عمّن وقف على ساحله من رفده من معينه الفيّاض، فهو موضعٌ للثقة، وموردٌ للتقدير والاعتماد والارتكان إلى قوله، وقد أخبر في غير موضعٍ من كتابه أنّه روى عن كتاب (الحاوية).

فالمفروض أن يكون كتاب (الحاوية) هذا أو (الهاوية) هو المصدر الأوّل للخبر، وليس (كامل) الشيخ العماد.

أمّا كتاب الحاوية:

فقد قال الشيخ عبّاس القمّي(رحمه الله علیه) في (الفوائد الرضويّة) ما ملخّص ترجمته:

إنّ صاحب كتاب (الروضات) ذهب إلى أنّ كتاب (الحاوية) هو لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم بن خنيس الأنصاريّ ((1)).الّذي قال عنه السرخسيّ (ت 483 ه) في (المبسوط):

المُقدَّم في علم الأخبار ((2))، وهو من أصحاب أبي حنيفة،

ص: 178


1- ([1]) أُنظُر: الفوائد الرضويّة في أحوال علماء المذهب الجعفريّة للشيخ عبّاس القمّي: 1 / 201.
2- ([1]) أُنظُر: المبسوط للسرخسي: 1 / 3.

وقد ذكر صاحب (الروضات) شواهد لِما ذهب إليه من نفس كتاب (الكامل) ((1)).

والمتحصَّل من كلام الشيخ القمّيّ(رحمه الله علیه) أنّه يُرجّح أن يكون كتاب (الحاوية) للقاسم بن محمّد بن أحمد المأمونيّ السنّي.

ويبدو أنّه هو نفس الكتاب الّذي يروي عنه العلّامة الحلّي في (نهج الحقّ)، غير أنّه ذكره باسم (الهاوية)، فقال:

ومنها: ما رواه كتاب (الهاوية) فيه [أي: في معاوية] أنّ معاوية قتل أربعين ألفاً من المهاجرين والأنصار وأولادهم ((2)).

وقد ذكره بعضهم بالاسمَين معاً: (الحاوية)، و(الهاوية) ((3)).

ولا يبعد أن يكون اسم (الهاوية) أصحّ؛ لمناسبة العنوان مع ذِكر مثالب معاوية، ولاحتمال سهو النسّاخ الفُرس في كتاب (كامل البهائي)، وقصّة الهاء ذات العينين والهاء ذات العين الواحدة (يُقصد بها الحاء) مشهورةٌ معروفة، يبدو أنّها كانت من القديم، وهي لا زالت إلى يوم الناس هذا، إذ أنّهم يُسمّون (الحاء): (هاء) ذات عينٍ واحدة، مقابل (الهاء) ذات

ص: 179


1- ([2]) أُنظُر: الفوائد الرضويّة في أحوال علماء المذهب الجعفريّة للشيخ عبّاس القمّي: 1 / 201.
2- ([3]) نهج الحقّ للعلّامة الحلّي: 312.
3- ([4]) أُنظُر: كتابخانه ابن طاووس لإنان كلبرك: 293 الرقم 175.

العينَين.

فإنّ صحّ الاتّحاد، وهو غير بعيدٍ للقرائن والشواهد، فهو يفيد أنّ الكتاب كان عند العلّامة الحلّي أيضاً، وهو والطبري متعاصران.

* * * * *

قد بحثنا كثيراً عن المأمونيّ الّذي ذكره الشيخ القمّي، فعثرنا على القاسم بن محمّد المأموني، ذكره الذهبيّ في (سيَر أعلام النبلاء) تحت عنوان: ابن المأموني، فقال:

القاسم بن محمّد بن هشام الرعيني، السبتي، المالكي، الفقيه، عُرف بابن المأموني.

أخذ عن: عبد الرحيم بن العجوز، وأبي عبد الله بن الشيخ، وأبي محمّد الباجي، وحجّ، وسمع بمصر من الحافظ عبد الغني، وعبد الوهّاب بن منير.

تصدّر بالمرية ((1)) للإقراء والفقه.

روى عنه: أبو المطرف الشعبي، وأبو بكر بن صاحب الأحباس القاضي، وغانم المالقي، وولده حجّاج.

تُوفّي سنة ثمانٍ وأربعين وأربع مئة ((2)).

ص: 180


1- ([1]) مدينة كبيرة من أعمال الأندلس.
2- ([2]) سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 18 / 7، تاريخ الإسلام للذهبي: 30 / 186.

فإن كان هذا هو القاسم المأمونيّ الّذي قصده الشيخ عبّاس القمّي(رحمه الله علیه)، وكان اسم جدّه (أحمد) في غير محلّه، لأنّنا لم نعثر على القاسم المأمونيّ غير هذا _ حسب فحصنا _، وهو من كبار علماء السنّة، وقد صرّح الشيخ(رحمه الله علیه) أنّه سنّي، فيكون مؤلّف (الحاوية) من أبناء القرن الرابع والخامس.

وإن كان غيره ولم نقف على ذِكره، فهو لا يبدو قريباً من عصر العماد الطبريّ والعلّامة الحلّي، ويلزم أن يكون قديماً معتمَداًعند العامّة ليعتمد عليه مثل هذين العلَمَين في محاججة أهل اللجاج.

وعلى قول صاحب (الروضات)، فإنّ المؤلّف من أصحاب أبي حنيفة، فيكون المصدر متوغّلاً في القِدَم.

* * * * *

كيف كان، فإنّ العماد صرّح بالنقل عنه في مواضع كثيرة من كتابه (الكامل)، ومنها في هذا الموضع (خبر وفاة بنت الحسين(علیه السلام) في الشام)، وهذا يلزم أن يكون ثمّة مَن روى الخبر قبل العماد الطبريّ، فلا يصحّ أن يُقال: إنّ الراوي الأوّل هو الطبريّ!

المصدر الثاني: (كامل البهائيّ)
اشارة

قال الشيخ الآغا بزرگ الطهرانيّ في (الذريعة):

(كامل البهائي): فارسيّ، في الإمامة وشرح ما جرى بعد

ص: 181

الرسول(صلی الله علیه و آله) في السقيفة، ولذ يُسمّى ب (كامل السقيفة) أيضاً.

للشيخ عماد الدين الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ الطبريّ، وفي النسخة المطبوعة بدّل جدّه عليّ الطبريّ بالحسن.

وهو المعاصر للخواجه نصير الدين الطوسي، كتبه بأمر الوزير بهاء الدين محمّد بن الوزير شمس الدين محمّد الجويني صاحب الديوان، والمتولّي لحكومة إصفهان في دولة هلاكوخان المغول.

أوّله: (سبحان بر يكى پادشاهي كه بساط عضمت او در اوهام اُنس وجان نگنجد، ولا يحيطون به علما ...).

ويظهر من أواخره أنّه صنّفه في طول اثني عشر سنة، وفرغ منه في 675 ه.

قال في (الرياض): هو كتابٌ كبيرٌ في مجلّدَين،والمتداول منه المجلّد الأوّل، وهو في أحوال أمير المؤمنين(علیه السلام) وإثبات إمامته وإبطال غيره، والمجلّد الثاني في أحوال باقي الأئمّة(علیهم السلام)، وقد رأيتُ منه نسخةً تامّةً بكاشان عند كلانتر تلك البلدة، وأُخرى باُسترآباد في كتب المولى حسين الأردبيليّ، ويوجد أيضاً نسخةٌ عتيقةٌ عند المولى ذو الفقار،

ص: 182

ونسخةٌ تامّةٌ في إصفهان عند الميرزا أشرف ابن الميرزا حسيب، والّذي عندنا إنّما هو المجلّد الأوّل منه، وقال قبل ذلك: إنّ الموجود عندي هو المجلّد الأوّل إلى آخر شهادة الحسين(علیه السلام).

أقول: الميرزا أشرف هو صاحب (فضائل السادات) المطبوع، وقد كانت عنده النسخة بتمامها، وينقل عنها في كتابه، كما صرّح به في (الرياض)، فلو وجد في كتابه النقل عن (الكامل) مع عدم وجوده في النسخة المطبوعة منه يعلم أنّه منقولٌ عن مجلّده الثاني، فإنّ المطبوع منه هو المجلّد الأوّل فقط كما يأتي.

ونسخة الرضويّة المكتوبة في (974 ق) مطابقٌ مع المطبوع، ونسخةٌ في (المجلس: 2077) غير مؤرَّخةٌ يرجع إلى القرن الثامن، ساقط الأوّل والآخِر.

وله أيضاً (المناقب) الّذي سمّاه (مناقب الطاهرين) وألّفه في (673)، وصنّفه بأمر الوزير المذكور، وله (أربعين البهائيّ) أيضاً، وله (معارف الحقايق) كما يأتي، وينقل عن (الكامل) في أوائل عاشر (بحار الأنوار) وغيره، وينقل عنه أيضاً في (فضائل السادات) كما مرّ.

ص: 183

وقد طُبع في بمبئي في 1323 المجلّد الأوّل فقط، وفيه حكاية سماعه في إصفهان في (603) عن مفتييزيدي، ومنه إلى فراغ الكتاب أزيد من سبعين سنة، فإمّا تاريخ السماع غلط أو أنّه كان من المعمّرين، لأنّه ألّف (أسرار الأئمّة(علیهم السلام)) في 698، والأوّل أظهر، لأنّ النسخة المطبوعة مغلوطةٌ في الغاية.

وأمّا المجلّد الثاني فما عثرتُ عليه إلى اليوم ((1)).

وقال السيّد إعجاز حسين في (كشف الحجُب):

(الكامل البهائيّ): في السقيفة، بالفارسيّة، في إمامة الأئمّة الاثني عشر (صلوات الله عليهم) ومطاعن أعدائهم، سيّما خلفاء الثلاثة، للشيخ الجليل والعالم النبيل حسن بن عليّ ابن محمّد بن حسن الطبريّ المازندرانيّ، صنّفه في عهد شمس الحقّ والدين محمّد بن محمّد صاحب الديوان، في حدود سنة خمسٍ وسبعين وستّمئة، أوّله: (سبحان بر يكي پادشاهي كمه بساط عظمت أو در اوهام إنس وجان أنه گنجد، ولا يحيطون به علماً _ إلخ ... ((2)).

ص: 184


1- ([1]) الذريعة للآغا بزرگ الطهراني: 17 / 253 الرقم 132.
2- ([2]) كشف الحجب والأستار للسيد إعجاز حسين: 421 الرقم 2311.

هذا هو الكتاب باختصار.

ومؤلّفه:

عماد الدين، من مفاخر الشيعة في عصره، وهو معاصرٌ للعلّامة والمحقّق الحلّيَّين، والخواجة نصير الدين الطوسي، والسيّد ابن طاووس، وغيرهم من فحول علمائنا (رفع الله مقامهم).

يُعدّ _ إذا ذُكر _ في القمم السامقة، ويُعدّ من الذخائر الّتي ناوشت أعداء أهل البيت(علیهم السلام) وخصومهم، وهو ذا باعٍ طويل، وبئرٌ عميقٌ لا تنزف دلاؤه، وقصرٌ مشيدٌ قام بناؤه على العلوم الواسعة، والمُبحر في أعماق العلوم العقليّة والنقليّة، اتّفقعلماؤنا على ذِكره بعبارات الثناء والإطراء، والتوثيق، والاحترام والتقدير، والضبط والتحقيق، يُعتمَد على قوله، ويُرتكَن إلى ما ينقل، ويُستنَد إلى ما يقول.

قالوا عنه:

الشيخ الفقيه، الموثوق به عند العلماء الأعيان، العالِم الخبير، المتدرّب النحرير، المتكلّم الجليل، المحدّث النبيل، آراؤه الفقهيّة منقولةٌ في الكتب، نقلها الشهيد الثاني في (رسالة صلاة الجماعة)، والمحقّق السبزواريّ في (ذخيرته) عند مبحث صلاة الجمعة، وكذلك القاضي نور

ص: 185

الله التُّستريّ، وآخَرون ((1)).

كان من أفاضل عصره، ومن فحول الإماميّة وأكابرهم، له مصنَّفاتٌ كثيرةٌ جيّدةٌ في الفقه والحديث والكلام وغيرها، هَمّ فيها بتشييد قواعد الدين وتحقيق حقائق المذهب ((2)).

إشتهر عند الفقهاء بعماد الدين ((3)).

ويظهر من كتبه الفقهيّة أنّه كان من مراجع التقليد المبرّزين ((4)).

ومصنّفاته ومؤلّفاته تنمّ عن عميق علمه، وصفاء اعتقاده،وثباته في دِينه، ورسوخه في إيمانه، وتمرّسه في فنّ الكلام، وتضلّعه في ما اطّلع عليه من علومٍ واحتواه قلبُه من فنون، نذكر جملةً منها، اصطدناها من كتاب (الذريعة) للشيخ المرحوم الآغا برزگ الطهرانيّ، وسنجد في ثنايا الحديث عن كتبه ذكره العاطر والثناء عليه وتبجيله وتعظيمه.

ص: 186


1- ([1]) أُنظُر: مقدّمة كتاب أسرار الإمامة، ورياض العلماء: 1 / 268، أعيان الشيعة: 5 / 213.
2- ([2]) أُنظُر: مقدّمة كتاب أسرار الإمامة، ورياض العلماء: 1 / 274، أعيان الشيعة: 5 / 213، الذريعة: 2 / 40.
3- ([3]) أُنظُر: الذريعة: 15 / 333 الرقم 2154.
4- ([4]) أُنظُر: الذريعة: 23 / 183.
الأربعون حديثاً

في فضائل أمير المؤمنين(علیه السلام) وإثبات إمامته.

للشيخ عماد الدين الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ الطبريّ، المعاصر لخواجة نصير الدين الطوسي، ويُقال له: (أربعين البهائي)، لأنّه صنّفه بأمر الأمير الوزير بهاء الدين محمّد بن الوزير شمس الدين محمّد الجويني، المتولّي لحكومة بلاد إيران في دولة هلاكوخان، ويظهر من أوّل كتابه (كامل البهائيّ) الفارسيّ أنّ الأربعين هذا أيضاً فارسيّ ((1)).

أسرار الإمامة

ويُقال له: (الأسرار)، و(أسرار الأئمّة(علیهم السلام)) أيضاً.

للشيخ المتكلّم الفقيه عماد الدين الحسن بن عليّ بن محمّد بن الحسن الطبرسيّ، المعروف بالعماد الطبريّ، أو: عماد الدين الطبريّ، عند نقل أقواله في الفقه، وهو صاحب (كامل البهائيّ) الّذي ألّفه سنة 675، وصرّح فيه بأنّه مازندراني.

قال في (الرياض): (رأيتُ أسرار الإمامة هذا في أردبيل، وعندنا منه نسخة)، ثمّ قال بعد كلامٍ طويل: (رأيتُ في الخزانة الصفويّة بأردبيل من مؤلّفات العماد الطبريّ رسالةً في الإمامة، وكان تاريخ تأليفها سنة 698،

ص: 187


1- ([1]) الذريعة: 1 / 414 الرقم 2143.

وأظنّ أنّه عين كتاب أسرار الإمامة له).

وحكى في (الرياض) عن (أسرار الإمامة) هذا أُموراً، منها: إحالة المؤلّف فيه إلى كتابه في معجزات النبيّ والأئمّة(علیهم السلام)، ولعلّ مراده كتاب (مناقب الطاهرين) الّذي ألّفه سنة 673. ومنها: إحالته إلى كتابه الكبير في الإمامة الّذي ألّفه بالريّ والغريّ. ومنها: أنّه ألّف كتابه المتوسّط في الإمامة بالفارسيّة، ثمّ عرّبه بالتماس جماعة، وألّف (أسرار الأئمّة)، وظاهر كلامه أنّ (أسرار الأئمّة) اسمٌ للمعرَّب. ومنها: بعض فتاوى المؤلّف، مثل قوله بتوقّف الجمعة على حضور السلطان العادل الباسط اليد، كما نقله عنه الشهيد في (رسالة الجمعة)، وكذا نقله عنه المحقّق السبزواريّ في مبحث صلاة الجمعة من كتابه (الذخيرة).

ثم استرسل في نقل النماذج إلى أن قال:

ومنها: ما يلوح من الكتاب من أنّه كان من أواخر مؤلّفاته، وقد ألّفه عند كبره وضعف بصره ((1)).

تحفة الأبرار

في أُصول الدين، فارسي.

للشيخ الفقيه المتكلّم، عماد الدين الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ ابن الحسن الطبرسيّ الآمليّ، مؤلّف (كامل البهائيّ) سنة 675، وكتاب

ص: 188


1- ([1]) الذريعة: 2 / 40 الرقم 157.

(أسرار الإمامة) الّذي ألّفه أواخر عمره سنة 698، كما مرّ.

أوّله: (حمد بي عدد وثناي بي حد مر واجب الوجودي را كه خالق كون ومكان ورازق أهل زمين وآسمان وعقل بخش إنس وجان است).

رتّبه على مقدّمةٍ فيها ستّة فصول، في ثانيها ذكر المؤلّفاسمه، وبعد المقدّمة عشرة أبواب، في كلّ بابٍ مقدّمة وفصول في مسائل التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة، وقد بسط القول فيها وفي الردّ على مَن أنكرها، ألّفه بالتماس بعض الأبرار، وذكر فهرس الأبواب في أوّله.

رأيتُ نسخةً ناقصة الآخر منه في مكتبة الشيخ ميرزا محمّد الطهراني، تنتهي إلى الباب الثامن، وأُخرى كتابتها سنة 1086 عند الحاج الشيخ علي أكبر الخوانساري النجفي، وهي تامّة، وينقل عنه في (فضائل السادات)، ويأتي في الميم معرّبه للشيخ نجف بن سيف النجفي ((1)).

العُمدة

في أُصول الدين وفروعه الفرضيّة والنقليّة، فارسي.

للشيخ عماد الدين الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن الحسن الطبريّ المازندرانيّ، الشهير عند الفقهاء بعماد الدين الطبري، معاصر الخواجة نصير الدين والعلّامة الحلّي، وهو كتابٌ جامعٌ بفوائد جمّة، منها: التعرّض لموارد كثيرة من إجماعات الإماميّة.

ص: 189


1- ([1]) الذريعة: 3 / 405 الرقم 1453.

كانت نسخته عند صاحب (الروضات) كما ذكره ... ((1)).

الكفاية في الإمامة

للشيخ المتكلّم الفقيه عماد الدين الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ الطبري، المعاصر للمحقّق الحلّي والخواجة نصير الدين الطوسي ... كتبه أيّام إقامته بأصفهان في 672، وكان مقيماً فيها سبعة أشهر، بأمر الوزير بهاء الدين محمّد بن شمس الدين محمّد الجوينيّ صاحب الديوان، المتولّي لحكومة إيران في دولة السلطان هلاكوخان المغول ((2))

مناقب الطاهرين في فضائل أهل البيت المعصومين(علیهم السلام)

للشيخ عماد الدين الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن الحسن الطبريّ، صاحب (كامل البهائيّ) الّذي هو في المثالب، ويقال له: (كامل السقيفة) أيضاً كما مرّ.

وهذا أيضاً فارسيّ، وكتبه أيضاً بأمر الوزير بهاء الدين محمّد ابن الوزير شمس الدين محمّد الجويني صاحب الديوان، في دولة هلاكوخان، وفرغ منه _ كما في (كامل البهائي) _ سنة ثلاثٍ وسبعين وستّمئة، ينقل عن (المناقب) في (فضائل السادات) للمير محمّد أشرف تلميذ المجلسيّ الثاني،

ص: 190


1- ([2]) الذريعة: 15 / 333 الرقم 2154.
2- ([3]) الذريعة: 18 / 95 الرقم 839.

وصرّح في (الرياض) أنّ (المناقب) موجودٌ الآن عند الميرزا أشرف ابن الميرزا حسيب، ومراده صاحب (فضائل السادات)، وذكر في أوّل (كامله) أنّه بدء في كتابه (مناقب الطاهرين) بأحوال الرسول(صلی الله علیه و آله) من ولادته إلى وفاته، ثمّ سائر المعصومين إلى خاتم الأوصياء، وذكر أحوالهم ومعجزاتهم ومناقبهم وسيَرهم وما لحقهم من ظلم المنافقين والخوارج، وفرغ من (المناقب) سنة 673، كما صرّح به في (كامله) ((1)).

نقض المعالم للرازي

والناقض هو العماد الطبريّ الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ.

قال في آخر كتابه (كامل بهائي) الّذي فرغ منه 675 ما ترجمته: وفي هذا اليوم فرغت من (نقض معالم فخر الدين الرازي)، وهو عربيّ، في مجلّد ... ((2)).

نهج العرفان إلى سبيل الإيمان

في الفقه.لعماد الطبريّ الحسن بن عليّ بن محمّد، صاحب (بضاعة الفردوس) و(تحفة الأبرار) و(كامل البهائي)، وغيرها.

ص: 191


1- ([1]) الذريعة: 22 / 329 الرقم 7311.
2- ([2]) الذريعة: 24 / 290 الرقم 1504.

ينقل عنه الشهيد الثاني في (رسالة الجمعة) القول باشتراط حضور الإمام في وجوبه، وهو الظاهر من كتابه (أسرار الإمامة) أيضاً.

وكذا ينقل عنه المحقّق السبزواريّ في (الذخيرة) ((1)).

المنهج في فقه العبادات والأدعية والآداب

للشيخ عماد الدين الطبري، صاحب (الكامل البهائيّ) و(أربعين البهائيّ) وغيرهما، المعاصر للمحقّق الحلّي.

قال في أوّل كامله: (إنّ فيه كلّ ما يحتاج إليه المكلّف في السنة من الأعمال والآداب، النوافل والفرايض والأحكام، وكيفيّة العبادات وغيرها).

ولكنّ صاحب (الرياض) عبّر عنه ب (الفصيح المنهج) في العبادات من الصلاة والصوم والزكاة والخمس، وبعد مقدار صفحةٍ قال: رأيتُ له في أصفهان كتاباً في فروع الفقه، بتمامها بالفارسيّة على نهجٍ لطيف، وأظنّ أنّه كتاب (الفصيح) المذكور سابقاً ((2)).

جوامع الدلائل والأُصول

في إمامة آل الرسول(صلی الله علیه و آله).

للشيخ عماد الدين حسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن محمّد بن

ص: 192


1- ([1]) الذريعة: 24 / 422 الرقم 2208.
2- ([2]) الذريعة: 23 / 182 الرقم 8563.

الحسن الطبريّ، معاصر الخواجة نصير الدين الطوسي، وصاحب (الكامل البهائيّ) الفارسيّ، الّذي ألّفه في (675)، وصرّحنفسه في أواسط (الكامل) بأنّه ألّف الجامع هذا بالعربيّة ((1)).

وله كتب ومؤلّفات أُخرى معروفة، تُعَدّ من كنوز التراث الشيعي.

* * * * *

هذان هما المصدران المشهور أنّهما الأصل في رواية خبر وفاة السيّدة بنت الحسين(علیه السلام) في الشام.

أمّا (الحاوية / الهاوية)، فالظاهر أنّه قديم، وهو في القدر المتيقّن متقدّمٌ على عصر العماد الطبريّ، ويبدو من كثرة الاستشهاد به والإرجاع إليه في (كامل البهائيّ) _ القائم على أساس المحاججة مع الخصوم _ أنّه كتابٌ معروفٌ معتمَدٌ عندهم، يصلح ليكون دليلاً وحُجّةً مقنعةً لهم.

وأمّا (كامل البهائيّ) نفسه، فيكفي فيه جلالة مؤلّفه ووثاقته واعماد العلماء عليه، وقد سمعنا ما ورد في الكتاب والمؤلّف، فلا نعيد.

لكن نحبّ أنّ ننوّه هنا:

إنّ العماد وكتابه (الكامل) لا يقلّ اعتباراً عن كتاب (اللهوف) للسيّد ابن طاووس المتوافق معه في القرن، وغيره من كتب العلماء من أبناء القرن

ص: 193


1- ([1]) الذريعة: 2 / 250 الرقم 1200.

السابع الّذين سمعنا أسماءهم الشريفة، من أمثال المحقّق الحلّيّ والعلّامة.

بل ربّما يُقال: إنّ كتاب (الكامل) أصلح وأوفق بالاعتبار؛ بلحاظ تخصّص مؤلّفه في موضوعه!

الرافد الثاني: مصادر بعد (الحاوية / الهاوية) و(الكامل)
اشارة

عند مراجعة المصادر المتأخّرة، يجد المتابع بعض المؤلّفين والكتّاب يعتمدون مصدرَين آخرَين بالإضافة إلى مصدرَي الرافد الأوّل، وهما:

الشيخ الكاشفي، (روضة الشهداء)

قال الطهرانيّ(رحمه الله علیه):

فارسي، ملمّع، للمولى الواعظ الحسين بن عليّ الكاشفىّ البيهقي، المتوفّى حدود 910 ه ... واحتمل بعضٌ أنّه أوّل مقتلٍ فارسيّ شاعت قراءته بين الفرس، حتّى عُرف قاريه ب (روضه خوان)، ثم توسّع في هذا العنوان إلى هذا الزمان حتّى يُقال لكلّ قارئ: (روضه خوان)، لكن يأتي (مقتل الشهيد) الفارسيّ المقدَّم على (روضة الشهداء)، وكذا (مقتل الشهداء) الّذي نقل عنه في (روضة الشهداء) مكرّراً، وذكر أنّه تأليف أبي المفاخر الرازيّ، وذكر بعض شعره، وقد طُبع (روضة الشهداء) في لاهور 1287 وبمبئي 1331 وطهران 1333 ه.ش و1334 ه.ش ((1)).

ص: 194


1- ([1]) الذريعة للآغا بزرگ الطهراني: 11 / 295 الرقم 1775.

وقد تُرجم إلى العربيّة والتركيّة وغيرها من اللغات.

والمؤلّف هو الفاضل الأديب ((1)) حسين بن عليّ الكاشفيّ البيهقيّ السبزواريّ ثم الهرويّ، المعروف بالولي حسين الكاشفيّ البيهقيّ، وبالواعظ الهروي.

صوفي، أديب، شاعر، فقيه، محدّث، مفسّر، منجّم. تُوفّي بهراة.

من آثاره:

تفسير سورة يوسف بلسان العرفان.

روضة الصفا في مقتل الحسين(علیه السلام). لوامع الشمس في أحكام طوالع سنيّ العالم.

ما لابدّ منه في المذهب.

ورشحات عين الحياة في مناقب مشايخ النقشبنديّة ((2)).

وقال الشيخ عبّاس القمّي(رحمه الله علیه):

العالم الفاضل المولى حسين بن عليّ البيهقيّ السبزواري، واعظٌ جامعٌ للعلوم الدينيّة، مفسّر، محدّثُ متبحِّرٌ خبير.

كان زوج أُخت المولى عبد الرحمان الجامي.

له مصنّفات كثيرة، منها:

ص: 195


1- ([2]) مستدرك سفينة البحار للنمازي: 5 / 254.
2- ([1]) معجم المؤلّفين لكحّالة: 4 / 34.

جواهر التفسير ومختصره.

وأنوار السهيليّ في تهذيب كليلة ودمنة، ألّفه باسم الأمير أحمد الشهير بالسهيلي.

وأخلاق محسني، فارسي، كتبه باسم الشاه سلطان حسين ميرزا ابن بايقرا وولده محسن ميرزا.

وروضة الشهداء.

وغير ذلك..

تُوفّي بهراة في حدود سنة 910 ((1)).

له ترجمةٌ مفصَّلةٌ في (أعيان الشيعة) للسيّد الأمين ((2)).

الشيخ الطُّريحيّ(رحمه الله علیه)، (المنتخَب)

هو الشيخ فخر الدين بن محمّد عليّ بن أحمد بن طُريح النجفي (ت 1085 ه)، طُبع مكرّراً، ويقال له: (مجالس الطريحي)، و(المجالس الفخريّة)، و(المنتخب الكبير) ((3)).يعرّفه الحرّ العامليّ(رحمه الله علیه) بقوله:

ص: 196


1- ([2]) الكُنى والألقاب للشيخ عبّاس القمّي: 3 / 105.
2- ([3]) أُنظُر: أعيان الشيعة للسيّد محسن الأمين: 6 / 121.
3- ([4]) الذريعة: 22 / 420 الرقم 7696.

فاضل، زاهد، ورع، فقيه، شاعر، جليل القدر.

له كتب، منها: (مجمع البحرين)، وهو عند الشيعة ك (النهاية) عند السنّة، فقد استعرض فيه اللغات الواردة في الكتاب والسنّة، و(الفخريّة) في الفقه، و(المنتخَب) في المقتل.

وله كتابٌ آخَر في بيان لغات القرآن، سمّاه: (نزهة الخاطر وسرور الناظر).

وله في أُصول الفقه: (شرح المبادئ الأُصوليّة للعلّامة)، ومنها فوائد الأُصول ((1)).

الرافد الثالث: مصادر القرن الحادي عشر وما بعد
اشارة

يكاد المتابع لكتب القرن الحادي عشر وما بعده إلى يومنا هذا يعجز عن حصر المؤلّفين الّذين ذكروا مصيبة السيّدة بنت الحسين(علیها السلام) الّتي قضت على رأس أبيها(علیه السلام) في الشام، بَيد أنّنا اقتصرنا على ذِكر جملةٍ منها كنموذجٍ ليس إلّا، من دون مراعاةٍ لتاريخ وفاياتهم أو تاريخ تأليف كتبهم، ونعتذر منهم جميعاً لذكر أسمائهم مجرّدةً عن الألقاب الّتي يستحقونها بجدراة.

وقد عزمنا على كتابة تراجم مختصرة لكلّ واحدٍ من المؤلّفين، ليتّضح للقارئ أنّ فيهم المجتهد والمرجع والعالم الواسع والأديب البارع والتاريخيّ المتضلّع، وهكذا.. بَيد أنّنا أعرضنا عن ذلك نروم بذلك الاختصار، ونبتعد

ص: 197


1- ([1]) موسوعة طبقات الفقهاء: 2 / 408 الرقم 4.

عن الإطناب والإطالة، معتمدين على متابعة القارئ اللبيب،فاكتفينا بذكر نموذجَين من الترجمة المختصرة، وإن كان فيمن تركنا ترجمتهم أعاظم مكرّمون.

ونحن إذ نذكر هؤلاء الأعلام وكتبهم ومؤلّفاتهم ليكونوا شهوداً، فكلّ مَن ذكرها فهو في الحقيقة شهد على وجودها وانتسابها لأبيها، وقد مرّ معنا كفاية قيام البيّنة، والاستفاضة لإثبات ذلك، وفي هؤلاء الأفذاذ ما يقيم البيّنات الكثيرة المتظافرة والاستفاضة والشهرة المقنعة، كما سيأتي بعد قليل.

(1) الدربنديّ، (أسرار الشهادة)

إكسير العبادات في أسرار الشهادات

للشيخ العالم المخلص الصفيّ المولى ((1)) آقا بن عابد بن رمضان بن زاهد الشيرواني الأصل، الحائريّ، الشهير بالدربندي.

كان فقيهاً إماميّاً أُصوليّاً، متكلّماً، خطيباً.

تتلمذ في العراق على عليّ بن جعفر كاشف الغطاء في الفقه، وعلى محمّد شريف بن حسن عليّ المازندرانيّ الحائريّ في أُصول الفقه، وشارك في علوم متنوّعة وبرع في أكثرها.

ولبث في كربلاء مدّةً طويلة، وتوجّه إلى إيران فأقام في طهران.

ص: 198


1- ([1]) الذريعة: 2 / 279 الرقم 1134.

ووعظ ودرّس، وكان يرقى المنبر في عاشوراء ويذكر مقتل الحسين(علیه السلام)، ويبكي ويُظهِر أشدّ الحزن.

أخذ عنه جماعة، منهم: محمّد بن سليمان التنكابنيّ، وقد حضر بحثه في شرح ابن أبي الحديد ل (نهج البلاغة)، والسيّد محمّد رضا الموسويّ الهنديّ، وأُجيز منه.

وصنّف كتباً ورسائل، منها:

شرح منظومة (الدرّة النجفيّة)، في الفقه، للسيّد محمّد مهدي بحر العلوم، سمّاها: (خزائن الأحكام).

رسالة عمليّة بالفارسيّة، في التقليد والطهارة والصلاة.

خزائن الأُصول، مطبوعٌ في جزئين، الأوّل في أُصول الفقه، والثاني في أُصول العقائد والدراية والرجال.

حُجّيّة الأُصول المثبتة بأقسامها في أُصول الفقه.

قواميس القواعد، في دراية الحديث والرجال وطبقات الرواة.

المسائل التمرينيّة، مطبوعٌ مع خزائن الأُصول.

جواهر الإيقان، مطبوعٌ بالفارسيّة، في مقتل الإمام الحسين(علیه السلام).

إكسير العبادات في أسرار الشهادات، مطبوع، ويُقال له: (أسرار الشهادة).

الجوهرة، مطبوعٌ مع (أساس الأُصول) و(رسالة الغيبة) للسيّد دلدار

ص: 199

علي، في الفلك.

رسالةٌ في علم الإكسير.

سعادات ناصري، مطبوعٌ بالفارسيّة، وهو ترجمةٌ لبعض (إكسير العبادات).

الفنّ الأعلى في الاعتقادات.

وغير ذلك..

تُوفّي بطهران سنة ستّ أو خمس وثمانين ومئتين وألف (1285) ((1)).

(2) البهبهاني، (الدمعة الساكبة)
اشارة

الدمعة الساكبة، في المصيبة الراتبة، والمناقب الثاقبة، والمثالبالعائبة.

للحاج المولى محمّد باقر بن عبد الكريم الدهدشتي البهبهاني، النجفيّ المسكن والمدفن، تُوفّي بها في (1285 ه).

كبيرٌ في خمس مجلّدات ... وذكر مآخذ الكتاب مفصّلاً وإنشاء خطبته وديباجته الميرزا محمّد الهمدانيّ نزيل الكاظميّة، والملقَّب بإمام الحرمين، المتوفّى أواخر (1303 ه)، كما ذكره في المجلّد الأوّل من كتابه (المحاسن) ...

وطُبع في أوّل المجلّد الأوّل تقاريظ كثيرٍ من علماء عصره، مثل: السيّد

ص: 200


1- ([1]) موسوعة طبقات الفقهاء: 13 / 9 الرقم 3916.

الشيرازي، السيّد حسين الكوه كمري، السيّد علي بحر العلوم، الحاج مولى علي الخليلي، الفاضل الإيرواني، الشيخ محمّد حسين الكاظمي، الشيخ راضي آل خضر، الشيخ مهدي آل كاشف الغطاء، الشيخ نوح الجعفري، الشيخ عبد الحسين نعمة الطريحي، الشيخ جعفر بن الشيخ محسن الأعسم، وللفضلاء الأُدباء قصائد في مدحه ... ((1)).

(3) محمد رفيع كزاي، (بكاء العالمين) (مصوّرة مخطوطة): 396.

(4) الشيخ محمّد باقر البيرجندي، (مفتاح الفردوس) (حجري): 246.

(5) الشيخ محمّد حسن اليزديّ، (أنوار الشهادة) (حجري) (تأليف 1285 ه): 147.

(6) الشيخ حبيب الله الكاشاني (ت 1340 ه)، (تذكرة الشهداء) (حجري): 193.

(7) الشيخ محمّد علي النجفي، (حزن المؤمنين) (حجري)،المجلس7، الفصل 7: 313.

(8) محمّد علي التبريزي، (مظاهر الأنوار) (حجري): 241.

(9) السيّد إبراهيم الميانجي، (العيون العبرى): 284.

(10) قربان بن رمضان الرودباري القزويني، (كتاب مأتمكدة) (حجري):

ص: 201


1- ([1]) الذريعة: 8 / 264 الرقم 1118.

189.

(11) الآخوند المولى أحمد منظور الخوانساري الأصفهاني، (عُمدة المصائب) (حجري) (تأليف 1300 ه): 2 / 356، (ت 1323).

(12) محمّد علي الأصفهاني، (بحر البكاء) (حجري): 562.

(13) السيّد آقا مهدي، (رياض المصائب) (حجري): 407، الروضة 44.

(14) محمّد صالح البرغاني (ت 1283 ه)، (مخزن البكاء) (حجري): 290، المجلس 13.

(15) محمّد إبراهيم بن محمّد باقر المروزي، (طوفان البكاء) (حجري): 344.

(16) السيّد محمّد باقر مجتهد زاده (ت 1335 ه)، (مرقاة الإيمان) (حجري)، (مزامير الأولياء).

(17) المقدّس الزنجاني، (مفتاح الجنّة) (حجري) (تأليف 1285 ه): 176.

(18) محمّد شفيع بن محمّد حسين كزازي، (أسرار الابتلاء للأولياء) (حجري).

(19) إسماعيل السبزواري، (جامع النورين)، المسمّى ب (إنسان) (حجري): 342.

(20) محمّد جواد اليزدي الخراساني، (شعشعة الحسيني) (حجري) (تأليف 1346 ه): 171.

ص: 202

(21) نوروز علي بن محمّد باقر البسطامي، (تحفة الحسينيّة)(حجري) (تأليف 1274): 389.

(22) عبد الخالق بن عبد الرحيم اليزدي، (مصائب المعصومين) (حجري): 402.

(23) صدر الدين واعظ القزويني (ت ح 1330 ه)، (رياض القدس) المسمّى ب (حدائق القدس) (حجري): 2 / 323.

(24) السيّد إمداد عليّ بن أحمد عليّ الحسيني، (مجالس الأحزان) (حجري): 299.

(25) محمّد حسن القزويني، (رياض الأحزان) (حجري): 142.

(26) محمّد جعفر روضة خون تبريزي، (بحر المصائب) (حجري): 4 / 395.

(27) عبد الرحيم الكرمانشاهي (1232 _ 1305 ه)، (سرّ الأسرار في مصيبة أبي الأئمّة الأطهار) (حجري): 355.

(28) الشيخ عبّاس القمّي، (منتهى الآمال)، القسم 4 (حجري): 204.

(29) الشيخ عبّاس القمّي، (نفَس المهموم): 456.

(30) الشيخ محمّد مهدي المازندرانيّ الحائري، (معالي السبطين): 2 / 170.

(31) السيّد بحر العلوم، (مقتل الحسين(علیه السلام)): 294.

(32) الزنجاني، (وسيلة الدارين): 393.

ص: 203

(33) رضيّ بن نبي القزويني (ت 1118 ه)، (تظلّم الزهراء).

(34) مهدي النراقي (1128 _ 1209 ه)، (محرّق القلوب).

(35) حسن بن خليل الخوئي، (جنّات الخلود) (انتهى من تأليفه 1125 ه).

(36) محمّد إبراهيم الاصفهاني، (كنز المصائب) (تأليف 127 ه).

(37) محمّد حسن القزويني، (رياض الشهادة) (طبع 1273).

(38) محمّد حسين شهرابي أرجستاني، (أنوار المجالس) (تأليف 1280).(39) رفيع كرمارودي، (ذريعة النجاة) (تأليف 1302 ه).

(40) عبد الجبّار بن زين العابدين الشكوئي، (مصباح الحرمين) (تأليف 1321 ه).

(41) السيّد محمّد علي الشاه عبد العظيمي (ت 1334 ه)، (الإيقاد في وفيات النبيّ والزهراء والأئمّة(علیهم السلام)).

(42) عبد الحسين الحائري، (الفاجعة العظمى) (ط 2 _ 1379).

(43) محمّد باقر الملبوبي، (الوقائع والحوادث).

(44) السيّد هاشم الخراساني (ت 1350 ه)، (منتخب التواريخ).

هؤلاء نماذج ليس إلّا، ولو أردنا الأحصاء والاستقصاء لَطال بنا المقام.

ص: 204

قد يُقال:

إنّ هؤلاء قد اعتمدوا المصادر الأُولى، من قبيل (كامل البهائيّ) أو (المنتخَب) للطريحيّ أو (روضة الشهداء) للكاشفيّ، فلا عِبرة بكثرتهم.

ويمكن الجواب على ذلك:

الجواب الأوّل: ربّما كانت لهم طرق أُخرى

لقد ذكرنا قبل قليلٍ أنّ الكثير من هؤلاء الأعلام كانوا أصحاب مكتبات، وكانوا من ذوي الحظوة والمكانة عند السلطان وذوي الوجوه في أزمانهم، فربّما كان عند بعضهم مصدرٌ آخَر غير هذه المصادر الأوّليّة الّتي عرفناها واشتهرت بيننا.

وقد يتأكّد هذا الاحتمال في العلماء الّذين روَوا خبر الوفاة بشكلٍ يتفاوت في التفاصيل مع الخبر المذكور في المصادر الّتي نعدّها أوّليّة، أو أنّهم رووا أخباراً أُخرى عن السيّدة زيادةً على خبر وفاتها.

وقد يتأكّد الاحتمال أيضاً فيمن لم يصرّح باسم المصدر الّذيأخذ عنه، ففيهم مَن يذكر مصدره ويكون هو نفس المصدر الّذي نعرفه، ومنهم مَن لا يذكر المصدر، وإنّما يباشر إلى نقل الخبر مباشرةً كعادته في بقيّة كتابه.

الجواب الثاني: عدم مخالفة شروط القبول

لقد ذكرنا في أكثر من موضع أنّ خبر وفاة السيّدة(علیها السلام) لا يتضمّن شيئاً

ص: 205

يخالف الشروط المذكورة لقبول الخبر التاريخيّ، من قبيل تضييع حقٍّ من حقوق أهل البيت(علیهم السلام)، أو تلميع وجه الظالم العسوف المتجبّر، أو خدش ساحة القدس المطهَّرة لآل النبيّ(صلی الله علیه و آله) وشيعتهم، وغيرها ممّا ذكرناه في المدخل.

فلمّا لم يكن في ما قبلوه وشهدوا له وأثبتوه ما يخالف الشروط الّتي ذكرناها في المدخل، فيكون قبولهم لها مؤيّد ومؤكّد.

الجواب الثالث: كلّ واحد منهم شاهد

لقد ذكرنا عدداً قليلاً جدّاً ممّن جردنا كتبهم على عجل، ومن بعدها أعداد أُخرى يصعب حصرها، وفيهم مَن هو موردٌ للثقة والاعتماد بجدارةٍ وقوّة، بل فيهم من ائْتَمَنه الناس والمؤمنون على أنفسهم وآخرتهم، وأخذوا عنه شرائع دينهم وأحكام شرعهم، ويمكن للمؤمن غير المتخصّص أن يجعل كلّ واحدٍ من هؤلاء الطيّبين شاهداً.

فكثرتهم وتكاثرهم على نقل الخبر يفيد قبولهم له واعتمادهم إيّاه، وهي عبارةٌ عن شهاداتٍ متراكمةٍ يعضد بعضها بعضاً، من دون معارضٍ سابقٍ لها ينقضها.

ومَن سبق (الحاوية) و(الكامل) و(المنتخب) و(الروضة) إن لم يُثبِت فهو لا ينفي.

ص: 206

الجواب الرابع: حصول الاطمئنان

إجتماع كلّ هؤلاء الّذين ذكرناهم كنماذج، وغيرهم كثيرٌ جدّاً، واشتهار الأمر اليوم إلى حدٍّ تجاوز الاستفاضة إلى الإجماع عند العلماء والمؤمنين والناس، وعدم وجود مخالفٍ أو نافٍ أو متردّدٍ في العصور الّتي سبقَت عصرنا، يورث في النفس ما يربو على الاطمئنان عند عامّة الناس، بغضّ النظر عن مآخذهم ومصادرهم الّتي اعتمدوها، ونعود لنكرّر أنّ أصل الخبر أيضاً لا يتضمّن شيئاً يتعارض مع الموازين الموظَّفة في هذا الباب المذكورة في المدخل.

الرافد الرابع: عدّة أدّلةٍ وشواهد
اشارة

إستدلّ جماعةٌ بعدّة أدّلةٍ ذكروها في مقام الإثبات، نحاول المرور بها ك (تُرَع) في هذا الرافد:

التُّرعة الأُولى: أبو مِخنَف!: وصيّة الإمام الحسين(علیه السلام)
اشارة

قال في المقتل المتداوَل لأبي مخنف، وهو يروي وقائع الوداع:

ثمّ نادى(علیه السلام): «يا أُمّ كلثوم، ويا زينب، ويا سكينة، ويا رقيّة، ويا عاتكة، ويا صفيّة! عليكنّ منّي السلام، فهذا آخِر الاجتماع، وقد قرب منكم الافتجاع».

فصاحت أُمّ كلثوم: يا أخي، كأنّك استسلمتَ

ص: 207

للموت ... ((1)).

إستدلّوا بهذا المتن من خلال مقدّمتين:

المقدّمة الأُولى: قِدَم المقتل

قالوا: إنّ مقتل أبي مخنف من أقدم المتون.

وقال بعضهم: هو أوّل متنٍ روى لنا وقائع الطفّ.كذا قالوا، ولا نريد الدخول في بحثٍ تفصيليّ عن المقتل المرويّ عن أبي مخنف، فبحثه يطول.

وما يبدو للمتابع أنّ هذه النسخة المتداولة ليست هي (مقتل الحسين(علیه السلام)) لأبي مخنف الأصليّ، وهو كتابٌ لا يُعرَف مؤلّفه، ولا تاريخ تأليفه، وفيه من الغرائب والمتفرّدات ما يُوحِش المطّلع على المتون التاريخيّة أحياناً، وإذا قورنَت محتوياته بما رواه مثل الطبريّ عن أبي مخنف يكاد يورث الاطمئنان أنّ هذا الكتاب المتداول لا يمتّ إلى أبي مخنف بصلة، على فرض صحّة ما رواه الطبريّ عنه.

وربّما كان هذا هو السبب الّذي دعا بعض مَن يعتمده من المصنّفين الفرس إلى تسميته ب (المقتل الصغير)، ممّا يُوحي أنّ هذا المقتل غير المقتل المعهود لأبي مخنف.

ص: 208


1- ([1]) مقتل الحسين(علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 84.

كيف كان، فهو ليس مصدراً ناهضاً يمكن الاحتجاج به، لمن لا يعتدّ به ولا يقيم له وزناً.

* * * * *

أمّا ما رُوي عن نسخةٍ من نسخ (اللهوف)، فربّما يُقال:

إنّ ورود متنٍ في نسخةٍ واحدةٍ دون باقي النسخ، أو النسخة المعتمَدة المطبوعة، يشكّل ثغرةً تضعّف الاستناد إليها وتُربك الاستدلال بها، إضافةً إلى أنّ السيّد(رحمه الله علیه) صاحب (اللهوف) معاصرٌ للعماد الطبريّ.

المقدّمة الثانية: النصّ على اسم السيّدة
اشارة

إستدلّوا بنداء الإمام سيّد الشهداء(علیه السلام) لكوكبةٍ من بنات الوحي: «يا أُمّ كلثوم، ويا زينب، ويا سكينة، ويا رقيّة، ويا عاتكة، ويا صفيّة!».

وقد جاء اسم السيّدة رقيّة(علیها السلام) بعد أن ذكر السيّدتَين الطاهرتَين: أُمّ كلثوم وزينب، ثمّ سكينة(علیهم السلام)، وسبق اسمها لاسمَي عاتكة وصفيّة(علیهما السلام)، والظاهر أنّ عاتكةوصفيّة(علیهما السلام) أسمَي بنات الإمام الحسين(علیه السلام)، فيكون قد انتهى من نداء أُختيه وبادر إلى ذِكر بناته: سكينة، رقيّة، عاتكة، صفيّة(علیهم السلام).

وربّما يُجاب على ذلك بما يلي:

أوّلاً: توجّه الخطاب للكبار دون الصغار

إنّ النداء كان متوجِّهاً إلى النساء اللواتي يعتمد عليهنّ سيّد

ص: 209

الشهداء(علیه السلام) كأعمدةٍ لمعسكره بعد فقده، وهنّ اللواتي يتوجّه إليهنّ العدوّ باعتبارهنّ محور الأسرى وقطب باقي الأيتام والأرامل.

فليس من المناسب أن يكون الخطاب لطفلةٍ صغيرةٍ وهو يخاطب النساء الكبار.. هكذا قالوا!

بَيد أنّ الملاحَظ في النصّ أنّه يحمل روح الوداع والإيذان بالفراق والفقد.. «عليكنّ منّي السلام، فهذا آخر الاجتماع، وقد قرب منكم الافتجاع»، وحينئذٍ قد تكون الصغيرة أَولى منه بالكبيرة.

ثانياً: المخاطَبةُ بنتُ أمير المؤمنين(علیه السلام)

قد يُقال: إنّ رقيّة بنت أمير المؤمنين(علیه السلام) أُخت الحسين(علیه السلام) وزوجة المولى الغريب مسلم بن عقيل(علیهما السلام) كانت حاضرةً في كربلاء أكيداً، وقد نصّت بعض المقاتل أنّ ولدها عبد الله(علیه السلام) قُتِل وهي واقفةٌ تنظر إليه، فيكون نداء الإمام(علیه السلام) لها مع أخواتها زينب وأُمّ كلثوم(علیهما السلام) أوفق من نداء رقيّة(علیها السلام) البنت الصغيرة.

أضِفْ إلى أنّ لرقيّة بنت أمير المؤمنين(علیهما السلام) ميزةً في كربلاء، باعتبارها فقدَت زوجها وأبناءها بين يدَي سيّد الشهداء(علیه السلام)، فهي أَولى من غيرها بالتسلية والعزاء والوداع.

وربّما أُجيب:إنّ اسمها جاء بعد اسم السيّدة سكينة بنت الحسين(علیهما السلام)، وذكرها

ص: 210

الإمام(علیه السلام) في عداد بناته، وهو بمثابة شاهدٍ على أنّ المراد ابنته لا أُخته.

ثالثاً: الخطاب للأخوات!

قد يُقال:

إنّ اسم عاتكة الوارد بعد اسم السيّدة ليس معروفاً في بنات سيّد الشهداء(علیه السلام)، ولم يذكرها أحدٌ فيما ورد في أسماء بنات الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام)، والسيّدة صفيّة قد تكون أُخت الحسين(علیه السلام) وقد تكون بنته، فإذا كان الخطاب موجَّهاً إلى الأخوات، وكذا السيّدة سكينة، فربّما كان الخطاب للأخوات دون البنات، ويشهد له أنّ الإمام(علیه السلام) لم يذكر ابنته فاطمة الكبرى وكانت في كربلاء بالاتّفاق، ولم يخاطب الإمام(علیه السلام) أزواجه وغيرهنّ من النساء، وكأنّه كان وداعاً خاصّاً بالأخوات، وربّما كان ثَمّة وداعٌ آخَر لباقي النساء والبنات، لكنّه غير هذا.

ولو قلنا أنّ السيّدة سكينة هي بنت الإمام(علیه السلام) دون أُخته، فإنّ للسيّدة سكينة الحبيبة إلى قلب سيّد الشهداء(علیه السلام) خصوصيّةً تسوّغ دخولها في الخطاب.

ويمكن أن يُجاب على ذلك:

إنّ عدم ورود اسم عاتكة في بنات سيّد الشهداء(علیه السلام) يُجاب بنفس الجواب الّذي تقدّم لمن نفى ورود اسم السيّدة رقيّة(علیها السلام) في كتب الأنساب والتاريخ.

ص: 211

ثمّ إنّ الإمام(علیه السلام) نادى هذه الثلّة من المفجوعات من عقائل الوحي، وليس المقصود فيها الترتيب، وربّما شهد له أنّ الإمام _ حسب النصّ _ ذكر أُمّ كلثوم قبل السيّدة زينب، والحالأنّها أكبر منها ومقدَّمةٌ عليها في جميع مواقف الطفّ.

فهو(علیه السلام) ذكر مَن ناداهنّ لا على نحو الترتيب، ومادامت السيّدة صفيّة قد ذُكرت في بناته، والسيّدة سكينة موجودة في بناته، فحتّى لو افترضنا أنّ عاتكة ليست بنته وإنّما هي أُخته، فما المانع أن يأتي اسمها بين أسماء بناته؟ إذ أنّ الترتيب غير مقصود.

بل قد يقال:

إنّ الوداع كان خاصّاً بالبنات دون الأخوات ودون غيرهنّ من النساء، لأنّ اسم أُمّ كلثوم ورد في بنات الإمام سيّد الشهداء(علیه السلام)، كما نصّ عليه ابن فندق، والباقي مذكوراتٌ في البنات، إلّا عاتكة، فربّما كانت ولم نعرفها.

الترعة الثانية: شعر سيف بن عُميرة
اشارة

إستدلّوا أيضاً بالنصّ على اسمها في قصيدةٍ طويلةٍ لسيف بن عُميرة، رواها الشيخ الطريحيّ في (المنتخَب)، قال:

وسكينةٌ عنها السكينة فارقَت

لمّا ابتديت بفرقةٍ وتغيّرِ

ورقيّةٌ رقّ الحسود لضعفها

وغدا ليعذرها الّذي لم

يعذُرِ

ولأُمّ كلثومٍ يجدّ جديدها

لثم عثيب دموعها لم يكررِ

ص: 212

لم أنسها وسكينةً ورقيّةً

يبكينه بتحسّرٍ وتزفُّرِ

يدعون أُمَّهُمُ البتولةَ فاطماً

دعوى الحزين الوالِهِ

المتحيِّرِ

يا أُمَّنا، هذا الحُسين مجدَّلاً

مُلقىً عفيراً مثل بدرٍ

مزهرِ ((1))

* * * * *يمكن أن ينهض الاستدلال من خلال المقدّمات التالية:

المقدّمة الأُولى:

سيف بن عميرة من الرواة الّذين رووا عن الإمام الصادق(علیه السلام)، وهو من الممدوحين، فيكون النصّ متوغّلاً في القِدَم يمتدّ إلى عصر الأئمّة(علیهم السلام)، ويكفي أن يكون أحد أصحاب الأئمّة(علیهم السلام) يذكرها وينصّ على اسمها، فتعضده الشواهد والأدلّة الأُخرى.

المقدّمة الثانية:

ذَكَر السيّدةَ سكينة ورقيّة(علیهما السلام)، ثمّ عرّج على ذِكر أُمّ كلثوم(علیها السلام)، ثمّ قال: إنّه لم ينسهنّ وهنّ يبكين ويدعون أُمّهم البتولة فاطماً، والصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء(علیها السلام) أُمٌّ لبنات الإمام سيّد الشهداء(علیه السلام) وأُمٌّ لأُمّ كلثوم، أمّا رقيّة بنت الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام) فلا تكون فاطمة الزهراء(علیها السلام) أُمّها.

ويلاحَظ أنّه ذكر عيّنةً من أخوات سيّد الشهداء(علیه السلام)، وعيّنةً من

ص: 213


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 435.

بناته، وهنّ في نفس الوقت عيّنةٌ للكبار، ثمّ ذكر عيّنةً للصغار، فجاء بالسيّدة رقيّة(علیها السلام) كمثالٍ يمكن أن يرسم المشهد لكلّ الأطفال في الركب الحسينيّ.

المقدّمة الثالثة:

نسمعه يصف السيّدة رقيّة ب (الضعف الّذي يرقّ له الحسود)، والضعف الموصوف يناسب سنّ الطفولة والصغر أكثر ممّا يناسب المرأة الكبيرة المتجلّدة الصبورة الّتي قدّمت بسخاءٍ زوجَها وأولادها واحتسَبَتْهم عند الله (تبارك وتعالى).

المقدّمة الرابعة:
اشارة

ربّما كان المقصود من أُمّ كلثوم هنا هي زينب بنت سيّدالشهداء(علیه السلام) الّتي تقدّم ذكرها في أولاد الإمام(علیه السلام)، وقد ذكرها كثيرون، وأُمّ كلثوم كنيتها، فيكون المقصود في الأبيات بنات الإمام سيّد الشهداء(علیه السلام) دون غيرهنّ.

* * * * *

ويمكن أن يُناقَش في ذلك:

المناقشة الأُولى:

إنْ كان سيف بن عميرة هو الراوي المعروف، فالقصيدة تمتدّ إلى ذلك الزمان، بَيد أنّ المصدر الّذي أوردها متأخّر، إذ أنّ الشيخ الطريحيّ(رحمه الله علیه) تفرّد بروايتها في (المنتخب) _ حسب الفحص _، والشيخ الطريحيّ(رحمه الله علیه) من أبناء

ص: 214

القرن الحادي عشر، كما لا يخفى.

المناقشة الثانية:

لقد روى الشيخ الطريحيّ(رحمه الله علیه) القصيدة، وقال في أوّلها: قصيدةٌ لسيف ابن عميرة. ولا ندري إن كان تقديمها من الشيخ نفسه، أي: أنّ الشيخ نفسه هو الّذي كتب قبلها أنّها لسيف، وليس النسّاخ ومَن جاء من بعده ممّن طبع الكتاب.

المفروض أن يكون التقديم له، ولكن يبقى أنّه لم يعرّف سيف بن عميرة هذا، فلم يذكره بصفةٍ أو بقرينةٍ تؤكّد أنّه هو نفس سيف بن عميرة الراوي، فربّما كان ثمّة سيف آخَر معاصرٌ للشيخ أو قبله بقليل، وأن يكون أكثر من واحدٍ يتّحدون بالاسم ليس بعزيز في كلّ عصرٍ وزمان، فكيف بعصورٍ مختلفة.

ثمّ إنّنا لم نقف على هذه القصيدة فيما يُروى عن سيف بن عميرة الراوي، فكيف يمكن التأكّد والاطمئنان أنّها له دون غيره؟

ويكفي للتنصّل من القصيدة واهتزاز الاستدلال بها ورود هذا الاحتمال الّذي لا يمكن تأكيد أحد طرفَيه أو نفيه.

إلّا أن يقال:

إنّ المتبادر من سيف بن عميرة هو الراوي، لذا ذكرهالشيخ(رحمه الله علیه) دون قرينة، تماماً كما يُقال: زرارة، أو محمّد بن مسلم، أو جابر، وهكذا، فإنّ

ص: 215

الاشتهار يورث التبادر، فلا يحتاج إلى قرينةٍ تعينه حينئذ.

غير أنّ استقامة مثل هذا التبادر في غير مجال الرواية والحديث يحتاج إلى إثبات.

المناقشة الثالثة:

إنّ ثمّة مَن يقول:

إنّ السيّدة الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء(علیها السلام) ولدت بنتاً اسمها رقيّة(علیها السلام)، فقد تكون هي المقصودة، وحينئذٍ يناسب أن تُنسَب إلى فاطمة الزهراء(علیها السلام).

ووصفها بالضعف الّذي يرقّ له قلب الحسود، إن كان المقصود رقيّة بنت أمير المؤمنين(علیه السلام)، فإنّه يناسبها بعد أن فقدَت زوجها وأولادها، وقد قُتلوا على عينها وهي واقفةٌ بشكلٍ فجيعٍ تنهدّ له الجبال، كما رواه أبو الفرج الإصفهانيّ والطبريّ وغيرُهما، فليس الوصف أَولى بإحدى السيّدتَين من الأُخرى، فكلتاهما مفجوعةٌ قد أوهن جسمها المصاب الّذي أبكى السماوات والأرضين ومَن فيهنّ ومن بينهنّ وجميع خلق ربّنا ممّا يُرى وممّا لا يُرى.

المناقشة الرابعة:

يمكن أن يكون نسبة السيّدة رقيّة بنت أمير المؤمنين(علیه السلام) أُخت الحسين(علیه السلام) إلى السيّدة الصدّيقة الزهراء(علیها السلام) من باب التغليب، أو مِن

ص: 216

باب أنّها هي المعزّى الأوّل بسيّد الشهداء(علیه السلام)، وهي أُمّهم جميعاً، وهي صاحبة المصاب، ونحن إلى اليوم نخاطب السيّدة الصدّيقة الكبرى(علیها السلام) إذا أردنا تقديم العزاء.

فشكايتهم لها باعتبارها أُمّهم جميعاً، وليس في التعبيرات العُرفيّة والشعريّة هذه الدقّة بحيث لا يصحّ له بتاتاً أن ينسب رقيّةتجوّزاً وبعناية إلى الصدّيقة الزهراء(علیها السلام)، تماماً كما جعل السيّدة الصدّيقة فاطمة(علیها السلام) أُمّاً لسكينة، والحال أنّها جدّتها.

* * * * *

كيف كان، فإنّ في الأبيات إشارةً تكاد تنهض للإثبات في حال التغاضي عن بعض المناقشات المذكورة وإمكان ردّها.

الترعة الثالثة: نصّ ابن فندق في (اللباب)
اشارة

عَدّ ابن فندق في (اللباب) أولاد الإمام سيّد الشهداء(علیه السلام)، ثمّ قال:

ولم يبقَ مِن أولاده إلّا زين العابدين وفاطمة وسكينة ورقيّة ... ((1)).

ولم يذكرها عند عَدّ بنات الإمام(علیه السلام)، وإنّما ذكر أُمّ كلثوم.

* * * * *

ص: 217


1- ([1]) لباب الأنساب لابن فندق: 1 / 346.

يمكن الاستدلال بنصّ ابن فندق مؤلّف (اللباب)، وهو:

أبو الحسن حجّة الدين، عليّ بن أبي القاسم زيد بن محمّد بن الحسين بن فندق بن أيّوب بن الحسن بن أحمد بن عبد الرحمان بن عبد الله بن عمر بن الحسن بن عثمان بن أيّوب بن خزيمة بن عمرو بن خزيمة ابن ثابت الصحابي.

فهو من ذريّة الصحابيّ ذي الشهادتين خُزيمة بن ثابت.

مولده في سبزوار (من نواحي بيهق)، سنة تسعٍ وتسعين وأربعمئة.

حفظ في صباه كتباً في الأدب واللغة وغريب القرآن والمنطق وغير ذلك.وحضر وهو مراهقٌ درسَ أحمد بن محمّد المَيْداني، واختلف إلى إبراهيم الخزّاز المتكلّم، وقرأ (نهج البلاغة) على الحسن بن يعقوب بن أحمد القاري.

وكان المترجَم فقيهاً، مؤرّخاً، لغويّاً، متكلّماً، ذا معرفةٍ بعلوم عصره من الطبّ والحساب والنجوم وغير ذلك، مصنِّفاً في كلّ ذلك.

وصفه ابن شهرآشوب ب : فريد خراسان، وقال العلّامة: هو فريد خراسان..

وألّف السيّد محمّد مشكاة البيرجنديّ أُستاذ جامعة طهران رسالةً مفصّلةً في ترجمة أحوال البيهقيّ هذا.

ص: 218

قال السيّد المرعشيّ(رحمه الله علیه):

لا شكّ أنّه كان موالياً محبّاً لأهل بيت العصمة(علیهم السلام)، وكان إماميَّ المذهب، كما يظهر من كتابَيه القيّمَين: (تأريخ بيهق)، و(لُباب الأنساب).

صنّف بضعةً وسبعين كتاباً، منها:

(تاريخ حكماء الإسلام).

(لُباب الأنساب والألقاب والأعقاب)، طُبع بتقديم السيّد شهاب الدين المرعشيّ، وتحقيق السيّد مهدي الرجائي، ضمن منشورات مكتبة المرعشيّ بقمّ سنة 1410 ه.

(معارج نهج البلاغة)، طُبع بتحقيق محمّد تقي دانش پژوه، ضمن منشورات مكتبة المرعشيّ بقمّ سنة 1409 ه.

توفّي ببيهق سنة خمسٍ وستّين وخمسمئة ((1)).

فالمؤلّف من أعلام القرن السادس الهجريّ، وقد صرّح بوجود بنتٍ لسيّد الشهداء(علیه السلام) تُدعى رقيّة(علیها السلام)، ونصّعلى اسمها.

* * * * * *

لكن ربّما يواجه هذا الاستدلال بعض الإشكالات:

ص: 219


1- ([1]) أُنظُر: فهرس التراث للسيّد الحسينيّ الجلالي: 1 / 581، وموسوعة طبقات الفقهاء: 6 / 187.
الإشكال الأوّل:

يُلاحَظ في نصّ ابن فندق شيءٌ من الارتباك والاضطراب، فهو حينما يعدّد أولاد الإمام(علیه السلام) يذكر أُمّ كلثوم، ولم يذكر السيّدة رقيّة، ثمّ حينما عدّ الباقين من أولاد الإمام(علیه السلام) ذكر رقيّة فيهم.

ويمكن أن يُردّ هذا الإشكال بأن يُقال:

لمّا ذكر ابن فندق أُمّ كلثوم في الأولاد، ثمّ ذكر السيّدة رقيّة في الباقين، ولم ينصّ هو ولا غيره على قتل واحدةٍ من بنات الإمام سيّد الشهداء(علیه السلام) في كربلاء، فربّما أفاد ذلك أنّ أُمّ كلثوم ورقيّة متّحدة، وقد ذكرها أوّلاً بالكنية، ثمّ ذكرها فيما بعد بالاسم.

إذ أنّ المفروض أن يذكر أُمّ كلثوم في عداد الباقين، لِعدم النصّ ولا الإشارة إلى شهادتها أو موتها في كربلاء.

وربّما يصعب تصوّر السقط أو السهو، فلو كان شيءٌ من ذلك لَكان المفروض أن يتكرّر اسم إحداهما، فيذكر رقيّة في عداد الأولاد وفي عداد الباقين، أو يذكر أُمّ كلثوم كذلك، فيسقط أحد الاسمين من موضعٍ واحد، لا أن يذكر أحد الاسمين في موضعٍ والاسم الآخَر في موضعٍ آخر.

الإشكال الثاني:

عدّ ابن فندق السيّدة بنت الحسين رقيّة(علیهما السلام) في عداد الباقين، والحال أنّ السيّدة اليتيمة قضت على رأس أبيها في الشام، والمفهوم من

ص: 220

قوله:

ولم يبقَ من أولاده إلّا زين العابدين وفاطمة وسكينةورقيّة ((1)).

أنّها عاشت بعد أبيها وطال بها العمر ومرّ بها الزمان، مثل الإمام زين العابدين(علیه السلام) وأُختيها فاطمة وسكينة(علیهما السلام).

فلمّا عرفنا أنّها مضَت في الشام، فلا يصلح أن يُقال عنها أنّها بقيت بعد أبيها.

ويمكن أن يُجاب:

يبدو أنّ ابن فندق كان يستعرض الناجين من أولاد سيّد الشهداء(علیه السلام) من طفّ كربلاء، وليس يريد أن يتابع مَن عاش بعدها زماناً طويلاً أو بقي بعدها بيوم، فلو كانت السيّدة رقيّة(علیها السلام) قد مضت في الكوفة لَعدّها من الباقين أيضاً، لأنّه يريد الإشارة إلى مَن خرج منهم سالماً من كربلاء، عاش بعدها أو قضى أو قُتِل ولو بعد حين.

ثمّ إنّ بقاء السيّدة رقيّة(علیها السلام) ردحاً من الزمن دام فترةً استغرقتها المسيرة من كربلاء إلى الكوفة، وما جرى في الكوفة، ثمّ المسير إلى الشام، وما جرى في الشام، ثمّ اختيار لقائها بأبيها عند مليكٍ مقتدر، يصحّ أن يُطلَق عليه أنّها ممّن بقي بعد أبيها، فليست المدّة بالقصيرة جدّاً بحيث يمنع تسويغ

ص: 221


1- ([1]) لباب الأنساب لابن فندق: 1 / 346.

الاستعمال فيها.

الحاصل:

قد يُقال: رغم المشاكل المذكورة في كلام ابن فندق، فإنّ ثمّة معلومة تنسجم مع ما ذُكر، ويمكنها أن تقاوم الإشكالات وتنهض، وتتلخص بما يلي:

كيف ما كان، فإنّ ما ورد في كتاب ابن فندق يفيد أنّ بنتاً للإمام الحسين(علیه السلام) كانت تسمّى رقيّة.بعبارةٍ أُخرى:

يكفي لمن أراد الاستدلال بكلام ابن فندق أن يقول: إنّ ابن فندق نصّ على اسم رقيّة في بنات الإمام الحسين(علیه السلام)، وهذا كافٍ في ردّ مَن زعم أنّ اسمها لم يرد في كتب علماء النسب، ثم ليكن (رقيّة) اسماً أو لقباً أو أيّ شيءٍ يُراد افتراضه.

المهمّ في الأمر أنّ ابن فندق قد نصّ على بنتٍ اسمها رقيّة للحسين(علیه السلام)، بقيَت بعده أو قضت في الشام، فلا يسوغ لأحدٍ أن يقول أنّ اسم رقيّة لم يرد في عداد بنات الإمام الحسين(علیه السلام) عند النسّابة!

الترعة الرابعة: نصّ المازندرانيّ عن الحمزاويّ

نقل العلّامة المازندرانيّ في (معالي السبطين):

ص: 222

وبنته الأُخرى رقيّة، وقال الحمزاويّ في كتاب (النفحات) ((1)): وكانت للحسين(علیه السلام) بنتٌ تُسمّى رقيّة، وأُمّها شاه زنان بنت كسرى، خرجَت مع أبيها الحسين(علیه السلام) من المدينة حين خرج، وكان لها من العمر خمس سنين، وقيل: سبع سنين، حتّى جاءت معه إلى كربلاء ...

ثمّ يقول:

فهؤلاء الثلاثة خرجن معه: سكينة، وفاطمة الكبرى، ورقيّة، وأمّا رقيّة فقد تُوفّيَت بالشام، كما ذكرنا في محلّه ... ((2)).

ربّما قصد الشيخ المازندرانيّ(رحمه الله علیه) بالحمزاوي:حسن العدَويّ الحمزاويّ، الّذي وُلد في (1221 ه)، وتُوفّي بالقاهرة سنة (1303 ه)، وهو فقيهٌ مالكيّ، من قرية (عدوة) بمصر، تعلّم ودرس بالأزهر ((3))، وكان من الأعلام والأساتذة، وله مؤلّفاتٌ كثيرة، منها: (النفحات النبويّة في الفضائل العاشوريّة) ((4)).

ص: 223


1- ([1]) قال إسماعيل باشا البغداديّ في (إيضاح المكنون: 2 / 667): (النفحات النبويّة في الفضائل العاشوريّة)، للشيخ حسن العدَويّ الحمزاويّ.
2- ([2]) معالي السبطين للمازندراني: 2 / 213.
3- ([1]) أُنظُر: الأعلام للزركلي: 2 / 199.
4- ([2]) إيضاح المكنون لإسماعيل باشا البغدادي: 2 / 667.

ويبدو كلامه واضحاً لا يحتاج إلى تقريبٍ وبيان، وهو من علماء العامّة ومن مشاهير أساتذة عصره في الأزهر، كما ذكروا في ترجمته، ويقتضي أن تكون له مصادر ومنابع وطرق وصل بها إلى هذه المعلومة.

نعم، قد يقال:

إنّ في تحديد أُمّها بشاه زنان بنت كسرى ثغرةٌ يصعب ردمها، بعد ما ورد عن الإمام الرضا(علیه السلام) _ كما روى الشيخ الصدوق(رحمه الله علیه) في (العيون) _ أنّها (رضوان الله عليها) نفست بولدها الإمام زين العابدين(علیه السلام)، كما سيأتي بعد قليل.

بَيد أنّ هذا لا يمنع من توظيف تصريحه بالاسم (رقيّة)، ونسبتها إلى الإمام سيّد الشهداء(علیه السلام)، فيكون الكلام كما مرّ في ما قاله ابن فندق، إذ أنّه يُعَدّ شهادةً على وجود بنتٍ للإمام(علیه السلام) بهذا الاسم.

فيصلح أن يكون كلامه شهادةً تُضاف إلى بقيّة الشهادات، رغم تأخّره، لأنّه من أبناء القرن الثاني عشر والثالث عشر.

الترعة الخامسة: الدربنديّ واليزديّ عن بعض الكتب المعتمَدة

قال العلّامة الدربندي:في بعض الكتب المعتمَدة، وروى قريباً منه بأدنى تفاوت آيةُ الله الشيخ حسن اليزديّ في (مهيّج الأحزان)، واللفظ للأخير:

ص: 224

عن حميد بن مسلم قال: كنتُ في معسكر ابن زياد، فرأيتُ الطفل مذبوحاً على يدَي سيّد الشهداء(علیه السلام)، ورأيتُ امرأةً خرجَت من خيمة النساء، غطّى نورها شعاع الشمس، تجرّ أذيالها، تقوم مرّةً وتقع أُخرى، وهي تنادي: وا ولداه، وا قتيلاه، وا مهجة قلباه! فجاءت حتّى ألقت بنفسها على الطفل، وخرج معها من الخيمة عدّةٌ من البنات حتّى ألقين بأنفسهنّ على الطفل، وكان الحسين(علیه السلام) يكلّم القوم، فلمّا سمع أصواتهنّ رجع الى تلك السيّدة فوعظها وصبّرها وسلّاها، وأرجعها الى الخيمة.

فسألتُ عنها، فقيل لي: هذه أُمّ كلثوم. وسألتُ عن البنات معها، فقيل: فاطمة وسكينة ورقيّة ... ((1)).

يفيد هذا النصّ أنّ الخارجات من الخيمة في شهادة الطفل الرضيع: السيّدة أُمّ كلثوم، ومعها بنات، هنّ أخوات الطفل الثلاثة، والحدَث والسياق والظروف تشهد أنّ المراد هنا رقيّة أُخت الطفل الذبيح وليس غيرها.

هذا اعتماداً على نقل مثل آية الله اليزديّ والعلّامة الدربندي.

ص: 225


1- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 402 _ عن: مهيّج الأحزان لليزدي.
الترعة السادسة: رواية سپهر

روى سپهر الابن في (ناسخ التواريخ) _ قسم السيّدة زينب بنت أمير المؤمنين(علیهما السلام)، قال ما ترجمته:بعد أنّ كلّم الإمام جماعة الأشقياء، رجع إلى سرادق الحرم المقدّس، قالت زينب(علیه السلام): فلمّا رأيتُ أخي يرجع إلى الخيام دخلتُ خيمتي وجلست فيها، لئلّا يراني خارج الخيمة.

فلمّا دخل الخيام، قال: أين زينب؟ قلت: لبيك يا أخي. ثمّ دعا أُمّ كلثوم، ثمّ دعا رقيّة وصفيّة وسكينة وفاطمة ... ((1)).

إلى آخِر ما روى من وصيّة الإمام لهنّ.

وهذا السياق _ فيما يبدو _ واضحٌ في أنّ المدعوّات أوّلاً السيّدتان زينب وأُمّ كلثوم، ثمّ دعا الإمام(علیه السلام) بناته الأربعة، وربّما أفاد النصّ أنّه(علیه السلام) دعا الصغيرة ثمّ الأكبر فالأكبر، فتكون رقيّة(علیها السلام) الّتي دعاها الإمام هنا ابنته لا أُخته، بشهادة السياق والتفريق بين الأخوات والبنات في الدعوة.

هذا بالاعتماد على رواية سپهر.

ص: 226


1- ([1]) ناسخ التواريخ _ حضرت زينب كبرى(علیها السلام) لسپهر: 1 / 212.
الترعة السابعة: رواية البكري!!!
اشارة

قالوا:

وورد أيضاً ذكرٌ لرقيّة هذه _ يعني بنت الإمام الحسين(علیه السلام) _ في رواية البكري، ونُسب إليها شعرٌ في تلك الرواية أيضاً، فراجِع.

والشعر يقول:

عينُ جودي بالبكاء والعويل

لأخ الفضل والسخاء الفضيل

طيّب الأصل في الفضيلة ماضٍسَمْهريٌّ في النائبات أصيل

والشطر الأوّل لا يتناسب في الوزن مع بقية الشعر ... ولعلّ الصحيح: عين جودي بعبرةٍ وعويل.

ولكنّ الظاهر: أنّ كلام البكريّ لا يمكن الاعتماد عليه؛ فإنّ هذه الطفلة الصغيرة لا يُتوقَّع منها هذا الشعر ... ((1)).

* * * * *

نحن نستميح مَن نناقش أقوالهم _ مِن علمائنا الأبرار السابقين بالهجرة

ص: 227


1- ([1]) زينب ورقيّة في الشام: 113.

والإيمان والتأليف والتحقيق _ عذراً، ونقبّل أياديهم الكريمة، ونقول بكلّ خضوعٍ وتأدُّبٍ ورعايةٍ لمقامهم وسبقهم في خدمة أهل البيت(علیهم السلام)، لكنّ البحث العلميّ يأذن للتلاميذ الصغار أن يُشكلوا ويناقشوا آباءهم وأساتذتهم.

يمكن مناقشة القول المذكور بما يلي:

المناقشة الأُولى: مصدر إضافي

إنْ كان أحمد بن عبد الله البكريّ صاحب كتاب (الأنوار ومفتاح السرور والأفكار) الّذي يروي عنه العلّامة المجلسيّ(رحمه الله علیه) في بحار الأنوار قد روى لرقيّة هذه الأبيات، فهذا يعني أنّ ثَمّة مصدراً آخَر من القرن السادس يسبق المصدر المعروف (كامل البهائي) قد نصّ على السيّدة رقيّة(علیها السلام).

فإذا كان ثمّة مَن يذهب إلى أنّ هذه هي رقيّة بنت الحسين(علیهما السلام)، فسوف يسعفنا بمصدرٍ مهمّ، وهو البكريّ، ويضاف إلى قائمة مَن ذكروها ونصّوا عليها، ولنترك الشعر إذا كان فيه أيّ إشكالٍ أو كان لا يناسب عمرها، ونكتفي بأنّها ممّننصّ عليها البكري!

ولكن مع الأسف ليس الأمر كذلك، كما سيتبيّن بعد قليل.

المناقشة الثانية: وزن الشعر

الشطر الأوّل من البيت الأوّل من الشعر الّذي قيل عنه: (لا يتناسب في الوزن مع بقيّة الشعر)، فإنّه ورد في المصدر بهذه الصورة: (يا عين جودي

ص: 228

بالبكا والعويل) ((1))، والمفروض أن نقرأ (العويل) ساكنة، فيستقيم الوزن.

وحتّى في نسخة (بحار الأنوار) إذا قرأنا (بالبكا) مع حذف الهمزة و(العويل) بالتسكين، فإنّ الوزن يستقيم، وعلى أقصى التقادير نشدّد جوّدي، والمعتمد نسخة المصدر المتوفّر، وما في نسخة المصدر لا يحتاج إلى إجراء أيّ تعديل.

المناقشة الثالثة:

لو فرضنا أنّ الشعر للسيّدة رقيّة بنت الحسين(علیه السلام)، فما وجه الاستبعاد؟

بيتان من الشعر، ليس فيهما صورٌ عميقةٌ معقَّدة، ولا ألفاظٌ غريبة، ولا تركيبات هندسيّة ترسم العمارة الشعريّة، وإنّما هي ألفاظٌ معتادة في الرثاء، وصورةٌ رتيبة في المدح والنياحة، يقولها الناس دائماً في مثل هذه المواضع للتعبير عن الحزن والألم، ولو راجعنا شعر الرثاء لكثرما نجد الشطر الأوّل يتكرّر في أقوال الراثين.

وهي بنت أبيها الإمام الحسين(علیه السلام)، وجدُّها أمير المؤمنين(علیه السلام) ورسول الله(صلی الله علیه و آله)، وأُمّها فاطمة الزهراء(علیها السلام) سيّدة نساء العالمين، وهم مَن خضعلهم العرب في البلاغة والأدب، وقد عاشت في بيت معدن اللغة والكلام والفصاحة والبيان.

ص: 229


1- ([1]) الأنوار للبكري: 48.

وقد لا يغيب عن أحدٍ من الناس معاصرة بنتٍ في الرابعة من عمرها أن تقول كلاماً هذا اليوم يفغر السامع فاه، لأنّه لا يحسب أنّها تُحسن مثل هذه الكلمات، وهذه بيوت الناس تشهد للبنات في هذه السنّ بحلاوة اللسان وطراوة البيان.

وقد كثر في هذه السنّ حفَظَةُ القرآن كاملاً، ما جعله ظاهرةً غير نادرة، ولا نريد الدخول في ذكر النماذج والتدليل على ما نقول، إذ نحسب أنّ الجميع قد شاهد بنفسه من النماذج ما يكفي، وسيأتي بعد قليلٍ شعر ابنة أبي الأسود الدُّؤلي.

المناقشة الرابعة: مَن هي رقيّة هذه؟

نحسب أنّ ثمّة مَن جهّز بطاقةً فاعتمدوها من دون التأكّد ومراجعة المصدر، إذ أنّ رقيّة الّتي قالت هذين البيتين هي رقيّة بنت هاشم جدّ النبيّ(صلی الله علیه و آله)، ولا يخفى على مَن راجع (بحار الأنوار) بحثاً عن حياة النبيّ الأعظم؟صل؟!! أنّ الجزء الخامس عشر من (بحار الأنوار) خاصٌّ بحياة النبيّ محمّد(صلی الله علیه و آله).

ففي (بحار الأنوار):

قال: وكان آخر مَن رثاه [أي: هاشم] من بناته رقيّة، فإنّها

ص: 230

جعلَت تندب وتقول: ... ((1)).

فليست هذه رقيّة هي بنت الإمام الحسين(علیه السلام) ليكون الشعر يناسب عمرها أو لا يناسبه!

الترعة الثامنة: مقال الشعراني!
اشارة

في كتاب (زينب ورقيّة في الشام):

قال الشعراني: إنّ رقيّة بنت الحسين مدفونةٌ في المشهد القريب من جامع دار الخليفة أمير المؤمنين يزيد، ومعها جماعةٌ من أهل البيت، وهو معروفٌ الآن بجامع شجرة الدرّ، وهذا الجامع على يسار الطالب للسيّدة نفيسة ((2)).

وكلام الشعرانيّ هذا يُعطي أنّ رقيّة بنت الإمام الحسين(علیه السلام) مدفونةٌ في مصر لا في الشام ((3)).

* * * * *

ص: 231


1- ([1]) بحار الأنوار: 15 / 55.
2- ([1]) راجع: معالي السبطين: 2 / 171، والمنتخب للطريحي (ت 1085 ه)، وإكسير العبادات: 3 / 411 و412، وأسرار الشهادة: 515، والإيقاد: 179 و180 _ عن كتاب: عوالم العلوم للبحراني (من هامش كتاب زينب ورقيّة في الشام: 112).
3- ([2]) أُنظُر: زينب ورقيّة في الشام: 112.

يمكن مراجعة هذا الكلام من خلال بعض الوقفات:

الوقفة الأُولى:

يبدو أنّ النقل حصل عن كتاب (معالي السبطين) للعلّامة المازندراني، والمازندرانيّ نقل عن كتاب الشبلنجي، إذ قال الشبلنجيّ في (نور الأبصار):

قال الشعرانيّ في الباب العاشر من (المنن): وأخبرني _ يعني الخواصّ _ أنّ رقيّة بنت الإمام عليّ (كرم الله وجهه) في المشهد القريب من جامع دار الخليفة أمير المؤمنين، ومعها جماعةٌ من أهل البيت _ انتهى.وهو معروفٌ الآن بجامع شجرة الدرّ، وهذا الجامع على يسار الطالب للسيّدة نفيسة، والمكان الّذي فيه السيّدة رقيّة عن يمينه، ومكتوبٌ على الحَجر الّذي بابه هذا البيت:

بقعةٌ شُرّفت بآل النبيّ

وببنت الرضا عليٍّ رقيّة

هذا وقد أخبرني بعض الشوام أنّ للسيّدة رقيّة بنت الإمام عليّ (كرّم الله وجهه) ضريحاً بدمشق الشام، وأنّ جدران قبرها كانت قد تعيّبَت، فأرادوا إخراجها منه لتجديده، فلم يتجاسر أحدٌ أن ينزله من الهيبة، فحضر شخصٌ من أهل البيت يُدعى السيّد ابن مرتضى، فنزل في قبرها، ووضع

ص: 232

عليها ثوباً لفّها فيه وأخرجها، فإذا هي بنتٌ صغيرةٌ دون البلوغ، وقد ذكرتُ ذلك لبعض الأفاضل، فحدّثَني به ناقلاً عن أشياخه ((1)).

والظاهر من عبارة صاحب (معالي السبطين) أنّه لم ينقل عن (المنن) للشعرانيّ مباشرة، حيث يقول:

في تأليف بعض معاصرينا، قال: قال الشعرانيّ في الباب العاشر من كتاب (المنن) ... ((2)).

ولا يبعد أن يكون قد نقل عن (نور الأبصار) للشبلنجي، إذ أنّ تاريخ وفاة الشيخ المازندرانيّ الحائريّ (1358 ه)، وتاريخ وفاة الشبلنجي (1308 ه) ((3))، فيصحّ أن يعبّر عنه بالمعاصر.

الوقفة الثانية:

تختلف العبارات في الكتب الثلاث، فالموجود في (المنن الكبرى) للشعراني، حسب فحصنا، وقد نظرتُ في ثلاث نسخ ل (المنن الكبرى)، نسخة خطّيّة، وأُخرى حجريّة، وثالثة مطبوعة، فما وجدتُه هو ما قاله في

ص: 233


1- ([1]) نور الأبصار للشبلنجي: 363 _ 364.
2- ([2]) معالي السبطين للمازندراني: 2 / 170.
3- ([3]) أُنظُر: الموسوعة الميسّرة في تراجم أئمّة التفسير والإقراء والنحو واللغة: 2741 الرقم 3626.

معرض حديثه عن التزامه بزيارة كلّ مَن دُفن من أهل البيت(علیهم السلام) في مصر، وذكر القبور الّتي دلّه عليها شيخه، وكان من بينها قوله:

وأخبرني أنّ رقيّة بنت الإمام عليّ(علیه السلام) في المشهد القريب من جامع دار الخليفة أمير المؤمنين، ومعها جماعةٌ من أهل البيت ((1)).

وقد أكّد المازندرانيّ في نقله عن معاصره _ كما أكّد الشبلنجيّ نفسه _ أنّه ينقل عن الباب العاشر من كتاب (المنن)، وما نقلناه وجدناه في الباب العاشر، لذا نستبعد أن يكون قد ذكر باقي العبارة في موضعٍ آخَر من الكتاب لم نوفَّق للوقوف عليه، وقد احتطنا فبحثنا في مواضع أُخرى من الكتاب فلم نعثر على شيءٍ ممّا نُسب إليه سوى ما ذكرناه آنفاً.

ويؤكّد ذلك إلى حدّ الاطمئنان والجزم أنّ الشبلنجيّ بعد أن ينقل عبارة صاحب (المنن) يختم الكلام على عادتهم سابقاً بقوله: (انتهى)، للتأكيد على انتهاء موضع النقل واستئناف الكلام من جديد.

وقد صرّح الشعرانيّ وكذا من نقل عنه أنّ القبر المقصود في المشهد القريب من جامع دار الخليفة أمير المؤمنين هو قبر السيّدة رقيّة بنت عليّ(علیه السلام)، ولم يُشِر إلى السيّدة رقيّة بنتالحسين(علیه السلام) من قريبٍ ولا من

ص: 234


1- ([1]) المنن الكبرى للشعراني: النسخة الخطّيّة: الورق 167، النسخة الحجريّة: 35، النسخة المطبوعة: 477.

بعيد.

الوقفة الثالثة:

بناءً على ما ذكرنا في الوقفة الثانية، لا معنى لافتراض أنّ ”كلام الشعرانيّ يعطي أنّ رقيّة بنت الإمام الحسين مدفونةٌ في مصر لا في الشام“ ((1))؛ لأنّ الشعرانيّ لم يذكر سوى السيّدة رقيّة بنت عليّ(علیه السلام) الّتي يعتقد _ حسب إرشاد شيخه _ أنّها مدفونةٌ في مصر!

الوقفة الرابعة:

عنوان قبر السيّدة رقيّة في مصر الّذي ذكره الشعرانيّ في (المنن) ونقله عنه الشبلنجيّ يقتصر الإشارة إلى أنّه:

”في المشهد القريب من جامع دار الخليفة أمير المؤمنين، ومعها جماعةٌ من أهل البيت“.

فهو لم يصرّح باسم يزيد، وربّما كان من زيادة النسّاخ ل (المعالي)، أو من سهو قلمه المبارك الشريف، حيث جرى استرسالاً من دون قصد.

فلا يشكّل حينئذٍ قرينةً على أنّ المراد من قصر الخليفة هو قصر يزيد بالذات، ليُحتمَل أن يكون المراد دمشق الشام لا مصر.

أمّا باقي التوضيحات والاسترسال في تحديد المكان بقوله.

ص: 235


1- ([1]) أُنظُر: زينب ورقيّة في الشام: 112.

”وهو معروفٌ الآن بجامع شجرة الدرّ، وهذا الجامع على يسار الطالب للسيّدة نفيسة، والمكان الّذي فيه السيّدة رقيّة عن يمينه ...“.

فمن الواضح أنّه تتمّةٌ من الشبلنجي، سيّما أنّه قالها بعد أنكتب: (انتهى).

الوقفة الخامسة:

قال الشبلنجيّ بعد أن ختم كلام الشعراني:

ومكتوبٌ على الحجَر الّذي بابه هذا البيت:

بقعةٌ شُرّفت بآل النبيّ

وببنت الرضا عليٍّ رقيّة

هكذا ورد البيت في كتاب الشبلنجي، وقد ورد في (معالي السبطين) بلفظٍ آخَر، قال:

ومكتوبٌ على الحجَر الّذي ببابه هذا البيت:

بقعةٌ شُرّفَت بآل النبيّ

وببنت الحسين الشهيد رقيّة

ممّا يؤسَف له أنّنا لم نحصل على نسخةٍ خطّيّةٍ لكتاب العلّامة المازندراني، وهذا طبيعيٌّ جدّاً، لأنّه كتبه في زمن الطباعة، فإن كان هذا في نسخته الّتي هي بخطّه _ رحمه الله وحشره مع سيّد الشهداء _، فلعلّه من سهو قلمه الشريف المبارك.

وكيف كان، فإنّ البيت الّذي ذكره الشبلنجيّ يؤكّد أنّ المدفونة في تلك

ص: 236

البقعة هي بنت عليّ(علیه السلام)، سواءً كانت بنت عليٍّ أمير المؤمنين(علیه السلام)، أو بنت عليٍّ أمير المؤمنين بالوسائط، أو بنت الإمام عليّ الرضا(علیه السلام)، كما زعم بعضهم.

الوقفة السادسة:

يبقى قول الشبلنجيّ _ ونؤكّد: قول الشبلنجيّ، وليس الشعرانيّ! _:

هذا وقد أخبرني بعض الشوام أنّ للسيّدة رقيّة بنت الإمام عليّ (كرّم الله وجهه) ضريحاً بدمشق الشام، وأنّ جدران قبرها كانت قد تعيّبَت، فأرادوا إخراجها منهلتجديده، فلم يتجاسر أحدٌ أن ينزله من الهيبة ... ((1)). إلى آخر ما قال.

فإنّ الاستدراك بقوله: (هذا)، يفيد أنّه بعد أن نقل كلام الشعرانيّ وذِكره لقبر رقيّة بنت عليّ(علیه السلام)، كأنّه تصوّر أنّ رقيّة الّتي تعيّب قبرها في الشام هي نفسها رقيّة بنت عليّ(علیه السلام) الّتي في مصر، بمعنى أنّه يريد أن يقول: إنّ ثمّة قولين في قبر رقيّة بنت عليّ(علیه السلام): أحدهما في مصر، ويوجد قولٌ آخَر يفيد أنّه في الشام.

وبناءً على هذا يبدو أنّ اشتباه الشبلنجيّ وخطأه ظاهر، لا يحتاج إلى مناقشةٍ ولا مزيد بيان، وأنّ التشابه في الاسم هو الّذي ورّطه.

ص: 237


1- ([1]) نور الأبصار للشبلنجي: 363 _ 364.
الوقفة السابعة:

لقد اتّضحَت الثغرة الّتي التبسَت على الشبلنجيّ فأوقعَته في الخطأ، وعلى فرض أنّه لم يخلط، فإنّ نسبة السيّدة رقيّة بنت الحسين(علیهما السلام) إلى الإمام عليّ(علیه السلام) ممكن! تماماً كما قال سماحة السيّد جعفر مرتضى العامليّ وهو يناقش نسبة السيّدة رقيّة لعليّ في البيت الّذي ذكره الشبلنجي، قال السيّد:

وأمّا نسبتها في الشعر إلى عليّ، فلا تدلّ على أنّها من بناته لصلبه، فيصحّ نسبتها إليه ولو كثرت الوسائط بينها وبينه ((1)).

فيمكن أن يقال هنا أيضاً:

إنّ نسبة الشبلنجيّ رقيّة(علیها السلام) _ وهو يروي ما حدّثه به بعض أهل الشام _ إلى أمير المؤمنين عليّ(علیه السلام) يصحّ،وإن كانت بنت الإمام الحسين(علیه السلام)، وليس ثَمّة وسائط كثيرة، وإنّما هي واسطةٌ واحدة.

الوقفة الثامنة:

يشهد لاشتباه الشبلنجيّ والتباس الأمر عليه، أنّ كلّ ما رواه في قصّة تعيّب القبر، رُوي عن غير طريقه في حقّ السيّدة بضعة الحسين(علیه السلام)

ص: 238


1- ([2]) زينب ورقيّة في الشام: 122.

الصغيرة رقيّة(علیها السلام)، وحينئذٍ ينبغي أن نجعل ذلك شاهداً على اشتباه الشبلنجي، لا نافياً لأصل الخبر بحُجّة أنّ رقيّة بنت أمير المؤمنين عليّ(علیه السلام) كانت امرأةً كاملةً كبيرةً ربّما يصل عمرها إلى أربعين سنة ونقول:

فما معنى قولهم: إنّها كانت بنتاً صغيرةً دون البلوغ؟ ((1))

فإنّ أهل الشام حينما أخبروا الشبلنجي، تحدّثوا له عن رقيّة بنت الحسين(علیه السلام)، فخلط أو التبس الأمر على الشبلنجي، فظنّها بنت عليّ(علیه السلام)، إن كان قد قصد نسبتها إلى الإمام عليّ(علیه السلام) مباشرة، وظنّ أنّ هناك قبرين للسيّدة رقيّة بنت عليّ(علیه السلام)، كما هو ظاهر استدراكه ب (هذا).

الوقفة التاسعة:

لو فرضنا أنّ الشبلنجيّ كان مُحِقّاً في خلطه، أو أنّ ثَمّة خبراً يفيد أنّ المدفونة في الشام وفي تلك البقعة بالذات الّتي تعيّبَت ورُمّمت، فإنّ التعارض ليس بين كلام الأعلميّ والشبلنجيّ المتأخّرَين، وإنّما التعارض بين كلام العماد الطبريّ والكاشفيّ والطريحيّ من جهة، والشبلنجيّ المتأخّر عنهم جميعاً من جهةٍ أُخرى!ولمّا كانت المصادر الثلاثة الأُولى المتقدّمة على الشبلنجيّ بقرون الّتي نصّت أنّ بنت الحسين(علیه السلام) دُفنَت في تلك البقعة، وأنّ خبر تعيّب القبر

ص: 239


1- ([1]) أُنظُر: زينب ورقيّة في الشام: 130.

حكى لنا صغرها وما على بدنها المقدّس من آثار الضرب وما إلى ذلك، يلزم أن نقدّم كلام المتقدّمين، ونحمل كلام الشبلنجيّ على السهو والخطأ والاشتباه.

الوقفة العاشرة:

رواية الشبلنجيّ لخبر تعيّب القبر، أيضاً يفيد أنّ القبر كان قائماً، وقد تعيّبَت جدران القبر، كما نصّ على ذلك، فثمّة قبرٌ إذاً مِن قبلُ كان قائماً مبنيّاً له جدرانٌ قبل ذلك التاريخ، وكان معروفاً أنّه قبرٌ لسيّدةٍ اسمها: (رقيّة)!

ورُبّ هذا التسالم والتوافق هو الّذي جعل قلم الشيخ المازندرانيّ يسترسل فيكتب _ وهو ينقل عن الشبلنجي _:

ومكتوبٌ على الحجَر الّذي ببابه هذا البيت:

بقعةٌ شُرّفَت بآل النبيّ

وببنت الحسين الشهيد رقيّة

أو أنّ الشيخ المازندرانيّ(رحمه الله علیه) كان واثقاً من اشتباه الشبلنجي، فبدّل الاسم في المواضع كلّها برقيّة بنت الحسين(علیهما السلام)، أو أنّه قد توفّر على نسخةٍ من كتاب الشبلنجيّ لم نقف عليها، والله العالم.

ويشهد لذلك ما قاله(رحمه الله علیه) بعد أن نقل كلام الشبلنجي، حيث أضاف:

وكان متنها مجروحاً من كثرة الضرب، وقد ذكرتُ ذلك لبعض الأفاضل، فحدّثَني به ناقلاً له عن بعض أشياخه.

ص: 240

وتقدّم أنّ عمرها كان أربع سنين ((1)).

* * * * *

كيف كان، لا نحسب أنّ في كلام الشبلنجيّ ما يصلح أن يُستدَلّ به على نفي ما ثبت في الشام، وللحديث عن قبر السيّدة رقيّة بنت عليّ(علیه السلام) في مصر الّذي ذكره الشعراني ونقل عنه الشبلنجي حديثٌ آخَر ليس هذا محلّه.

الترعة التاسعة: رواية الطُّريحيّ وغيره
اشارة

روى الطريحيّ(رحمه الله علیه) في (المنتخَب) وآخرون، قالوا:

وصار أهل الكوفة يناولون الأطفال الّذين على المحامل بعض التمر والخبز والجوز، فصاحت بهم أُمُّ كلثوم وقالت: يا أهل الكوفة، إنّ الصدقة علينا حرام! وصارت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال ومن أفواههم، وترمي به إلى الأرض.

قال: كلّ ذلك والناس يبكون على ما أصابهم.

ثم إنّ أُمّ كلثوم أطلعت رأسها من المحمل وقالت لهم: يا أهل الكوفة، تقتلنا رجالكم، وتبكينا نساؤكم؟! فالحاكم بيننا وبينكم الله يوم فصل القضاء.

ص: 241


1- ([1]) أُنظُر: معالي السبطين: 2 / 171.

فبينما هي تخاطبهم، وإذا بضجّةٍ قد ارتفعَت، وإذا هم بالرؤوس يقدمهم رأس الحسين، وهو رأسٌ أزهريٌّ قمريٌّ أشبه الخَلْق برسول الله، ولحيته كسواد التيح ((1)) قد اتّصل بها الخضاب، ووجهه دائرة قمرٍ طالع، والريحتلعب بها يميناً وشمالاً، فالتفتت زينبُ فرأت رأس أخيها، فنطحت جبينها بمقدم المحمل، حتّى رأينا الدم يخرج من تحت قناعها، وأومت إليه بحرقةٍ وجعلت تقول:

يا هلالاً لمّا استتمّ كمالا

غاله خسفُه فأبدى غروبا

ما توهّمتُ يا شقيقَ فؤادي

كان هذا مُقدَّراً

مكتوبا

يا أخي، فاطم الصغيرة ((2))

كلِّمْها

فقد كاد قلبُها أن

يذوبا

يا أخي، قلبك الشفيق علينا

ما له قد قسى وصار

صليبا؟

يا أخي، لو ترى عليّاً لدى الأسر

مع اليتيم ((3)) لا يطيق وجوبا

كلّما أوجعوه بالضرب ناداك

بذلٍّ يفيض دمعاً سكوبا

يا أخي، ضمّه إليك وقرّبه

وسكّن فؤاده المرعوبا

ص: 242


1- ([2]) في (بحار الأنوار) و(الدمعة الساكبة) و(نفَس المهموم) و(معالي السبطَين): (السبج)، وفي (الأسرار): (الشبح).
2- ([1]) في (المنتخَب): (الصغرى).
3- ([2]) في (الدمعة الساكبة) للبهبهاني: (اليُتم)، والظاهر أنّه الصحيح.

ما أذلّ اليتيم حين ينادي

بأبيه، ولا يراه مجيبا ((1))قالوا:

إنّ فاطمة الصغيرة (الصغرى) المذكورة في هذه الأبيات هي السيّدة رقيّة بنت الحسين(علیه السلام).

وربّما يعترض على هذا الكلام:

الاعتراض الأوّل:

يبدو أنّ المصدر الأقدم لهذه الأبيات هو (المنتخَب) للطريحيّ، وربّما نقل الطريحيّ عن (المقتل) لأبي مخنف، كما صرّح به القندوزيّ في (ينابيع المودّة)، و(المقتل) المتداوَل لأبي مخنف مرّ الكلام فيه، فلا نعيد.

هذا بغضّ النظر عمّا قد يُقال في نسبة الأبيات كلّها للسيّدة الصدّيقة الصغرى(علیها السلام)، الّتي كانت تُفرغ عن لسان أمير المؤمنين(علیه السلام).

ص: 243


1- ([3]) انظر: المنتخب للطريحي: 2 / 477، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 44، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 114، عوالم العلوم للبحراني: 17 / 372، أسرار الشهادة للدربندي: 468، نفَس المهموم للقمّي: 399، معالي السبطين للمازندراني: 2 / 99، وسيلة الدارين للزنجاني: 356، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 86 _ بتحقيق: السيّد علي جمال أشرف _ عن: أبي مخنف، الكبريت الأحمر للبيرجندي: 246.
الاعتراض الثاني:

إنّ القول بأنّ المقصود من فاطمة الصغيرة (الصغرى) المذكورة في الأبيات هو السيّدة رقيّة(علیها السلام) يحتاج إلى دليلٍ أو شاهد، ولا يلوح ثمّة دليلٌ على ذلك.

إلّا أن يقال:

إنّ بعض الكتب ذكرتها بهذا الاسم، فيمكن الجمع بين القولين، باعتبار أنّ (رقيّة) كان اللقب، والاسم فاطمة الصغيرة.

ص: 244

المرحلة الثالثة: رقيّة بنت الحسين الشهيد (علیهما السلام)

اشارة

ص: 245

ص: 246

إسمها

لا مشاحة في الاسم

اتّفقَت المصادر _ سابقها ولاحقها _ على رواية أصل مصيبة السيّدة بنت الحسين(علیه السلام)، وأنّها قضت بعد أن رأت رأس أبيها، واختلفَت في التفاصيل، حيث وردت في المصادر الأُولى مختصرةً نسبيّاً، وبدأ التفصيل من الشيخ الطريحيّ(رحمه الله علیه) وما بعده على ما يبدو.

وكانت المصادر الأوّليّة تروي أصل المصيبة وتذكرها بعنوان بنتٍ صغيرةٍ للحسين(علیه السلام)، ثمّ أتت المصادر فيما بعد على ذكر اسمها..

فمنهم مَن سمّاها: السيّدة زبيدة ((1)).

ومنهم: السيّدة رقيّة.

ومنهم: السيّدة فاطمة.

ص: 247


1- ([1]) أُنظُر: أنوار المجالس للأرجستاني: 53 _ طبع حجري، طوفان البكاء للمیرزا محمّد إبراهیم المروزي المعروف بالجوهري: 237 _ (حجري) فرغ من تأليف الكتاب (1250).

ومنهم: السيّدة فاطمة الصغرى.

ومنهم: السيّدة فاطمة الصغيرة.

ولا مشاحة في الاسم، إن كان رقيّة أو فاطمة، أو لم يُذكَر لهااسمٌ أصلاً؛ لأنّ الجميع يُخبر عن بنتٍ للإمام غريب الغرباء وسيّد الشهداء الحسين(علیه السلام) جرى عليها ما جرى في الشام، وسلّمَت روحها إلى بارئها بعد أن أُوتي لها برأس أبيها(علیه السلام).

يبقى تعدّد الاسم، فما أكثر اختلاف علماء النسب والتاريخ في الأسماء وهم يؤرّخون لشخصيّاتٍ كبيرةٍ معروفةٍ مشهورة، سيّما أنّ أهل البيت(علیهم السلام) التزموا بجعل الكنية واللقب لأولادهم منذ الصغر والطفولة، وهو ما أمروا به الناس أيضاً، وهذا الأمر واضحٌ لا يحتاج إلى استدلالٍ واسترسالٍ في ذِكر النماذج والشواهد والأمثال.

وقد ورد في الحديث الشريف كما في (الأمالي) للصدوق مسنداً عن عبد العظيم بن عبد الله الحسنيّ، قال: حدّثَني الحسن بن عبد الله، عن يونس بن ظبيان قال:

قال أبو عبد الله الصادق(علیه السلام): «لفاطمة(علیها السلام) تسعة أسماءٍ عند الله؟عز؟: فاطمة، والصدّيقة، والمباركة، والطاهرة، والزكيّة، والرضيّة،

ص: 248

والمرضيّة، والمحدّثة، والزهراء» ((1)).

أطلق عليها الإمام(علیه السلام) لفظ الأسماء، لا الألقاب! وتكثُّر الأسماء أمرٌ عاديٌّ وطبيعيٌّ جدّاً.

ولا ضَير في تعدّد أسماء السيّدة ما داموا قد اتّفقوا أنّها بنت الحسين(علیه السلام).

وربّما كان لها اسمٌ واحد، والباقي ألقاب، أو أنّ كلّ واحدٍ منهم وقف على مصدرٍ يذكرها باسمٍ أو بلقبٍ فسجّله، فيكون هذا من الشواهد الّتي تدعم القضيّة، سيّما إذا عرفنا أنّهم من العلماء الصالحين الموثوقين.

ص: 249


1- ([1]) الأمالي للصدوق: 688 المجلس 86 ح 18.

ص: 250

عُمرها

في المصدر الأوّل الّذي وقفنا عليه (الحاوية / الهاوية _ عنه: كامل البهائي) ذكر أنّ عمرها كان أربع سنوات.

وكذا ذكرها الكاشفي(رحمه الله علیه) في (روضة الشهداء) ((1)).

وذكرها الطريحي(رحمه الله علیه) في (المنتخَب): ثلاث سنوات ((2))، ونقل عنه الآخَرون.

هذه هي المصادر الأوّليّة.

وروى العلّامة المازندرانيّ، عن الحمزاويّ قال:

وكان لها من العمر خمس سنين، وقيل: سبع سنين، حتّى جاءت معه إلى كربلاء ... ((3)).

ص: 251


1- ([1]) أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 389.
2- ([2]) أُنظُر: المنتخب للطريحي: 2 / 140، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 141، أسرار الشهادة للدربندي: 515، نفَس المهموم للقمّي: 456، تظلّم الزهراء للقزويني: 279، العيون العَبرى للميانجي: 284، وسيلة الدارين للزنجاني: 393.
3- ([3]) معالي السبطين للمازندراني: 2 / 213.

وكيف كان، فإنّ المفروض أن يُعتمَد قول المصدر الأقدم، وهما: (الكامل) و(الروضة).

أمّا المتأخّرون عن (المنتخَب)، سيّما الّذين يصرّحون بالأخذ عنه، وهم كُثُر، فيرجع الكلام معهم إلى الكلام مع (المنتخَب).ف (المنتخب) إمّا أن يكون مصدره (الكامل) والكاشفيّ أو أحدهما، فيرجع قوله إليهما، ويُحمَل على السهو أو الاشتباه وغيرها من التسويغات.

وإمّا أن يكون له مصدرٌ آخَر غيرهما، فهو يعضد المصادر السابقة عليه، وتكون المصادر السابقة على (المنتخَب) ثلاثةً بدل اثنين، ويُحمَل الاختلاف في العمر على أيّ محملٍ لا يخدش في أصل الخبر، سيّما والاختلاف بين الخبرين في سنةٍ واحدة، ومن الصعب تمييز هذا الفرق القليل بحساب الأعمار.

وأمّا ما نقله المازندرانيّ عن الحمزاويّ، فهو على نحو القيل والتردّد بين الخمس والسبع، وهو يُعتبَر متأخّراً عن المصادر الثلاثة الأُولى، الناقل والمنقول عنه.

وعلى كلّ الاحتمالات، فإنّ الفرق لم يكن بمستوىً يمكن أن يخدش في أصل القضيّة، بعد أن اتّفق الجميع على كونها طفلةً صغيرة!

ص: 252

أمّها

قيل: أُمّها شاه زنان بنت كسرى، كما نقل العلّامة المازندرانيّ الحائريّ عن الحمزاويّ ((1))، وهو بعيدٌ إلى حدٍّ لا يمكن التسليم له؛ لِما ورد عن الإمام الرضا(علیه السلام) أنّ شاه زنان نفسَت بعليّ بن الحسين السجّاد(علیه السلام) ((2)).

وقيل: أُمّها أُمّ إسحاق بنت طلحة، واستدلّوا لذلك باستبعاد أن تكون أُمّ إسحاق هي أُمّ فاطمة الكبرى بنت الإمام الحسين(علیه السلام)، لأنّ أُمّ إسحاق كانت زوجة الإمام المجتبى(علیه السلام)، تزوّجها الإمام الحسين(علیه السلام) بعد شهادة أخيه بوصيّةٍ منه، وهذا يعني أن يكون زواج سيّد الشهداء(علیه السلام) بها بعد سنة واحدٍ وخمسين، والحال أنّ السيّدة فاطمة كبرى بنات سيّد الشهداء(علیه السلام) كانت متزوّجةً من ابن عمّها الحسن المثنّى في كربلاء، وهي بالاتّفاق أكبر من السيّدة سكينة أُختها(علیهما السلام).

ويشهد لذلك أنّ الزركليّ في (الأعلام) ((3)) حدّد سنة ولادة السيّدة

ص: 253


1- ([1]) أُنظُر: معالي السبطين للمازندراني: 2 / 213.
2- ([2]) أُنظُر: عيون أخبار الرضا(علیه السلام) للصدوق: 2 / 128 ح 6.
3- ([3]) أُنظُر: الأعلام للزركلي: 5 / 115.

فاطمة الكبرى بنت الحسين(علیهما السلام) بسنة أربعين للهجرة، فيكون عمرها في كربلاء عشرين سنةً أو واحداً وعشرين.وقد نصّ المؤرّخون والنسّابة أنّ أُمّ إسحاق وَلدت للإمام الحسين(علیه السلام) فاطمة، فلمّا كانت فاطمة الكبرى(علیها السلام) مولودةً قبل أن تدخل السيّدة أُمّ إسحاق بيت الإمام سيّد الشهداء(علیه السلام)، فيلزم أن تكون فاطمة المولودة منها غير فاطمة الكبرى(علیها السلام) الّتي هي أكبر بنات سيّد الشهداء(علیه السلام).

وبما أنّ ثمّة مَن ذهب إلى أنّ من أسماء رقيّة بنت سيّد الشهداء(علیه السلام): فاطمة، فناسب أن تكون المولودة من أُمّ إسحاق هي فاطمة الصغيرة الملقَّبة برقيّة.

وبهذا البيان أو ببياناتٍ أُخرى استقربوا أن تكون أُمّ السيّدة رقيّة هي أُمّ إسحاق بنت طلحة، ولا يبدو لأحدٍ دليلٌ قاطعٌ وبرهانٌ ساطعٌ ولا وثيقة تاريخيّة أو نَسَبيّة يمكن الركون إليها والاستناد عليها والخروج بنتيجةٍ جازمة، وكلّ ما هو مذكورٌ لا يتعدّى الاحتمال والتخمين.

ونحسب أنّ ذلك كلّه لا ضرورة له، فليس المهمّ تحديد أُمّها بدقّة ما دامت هي بنت الحسين(علیه السلام)، فلْتكن من أيّ وعاءٍ من نسائه أو أُمّهات أولاده، وكلّ أزواج الحسين(علیه السلام) وأُمهات أولاده طيّباتٌ طاهراتٌ نقيّات

ص: 254

(رضوان الله عليهنّ أجمعين) ((1)).

ص: 255


1- ([1]) ذكروا للإمام سيّد الشهداء(علیه السلام) عدّة نساء، نذكر عشرةً منهنّ، بغضّ النظر عن النفي والاثبات: شهربانو، عائشة بنت خليفة بن عبد الله الجعفيّة، عائشة بنت عثمان، أُمّ إسحاق بنت طلحة، ليلى بنت أبي مُرّة بن عروة بن مسعود، الرباب بنت امرئ القيس الكلبيّة، القاعية، هند بنت سهل بن عمرو العامريّ، عاتكة، أُمّ المحسن المسقط ... أُنظُر: المحبر لابن حبيب: 290، الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 166، أعلام النساء لكحّالة: 1 / 34، ذخيرة الدارين للحائري: 1 / 38، المصباح للكفعمي: 522، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 208، و45 / 329، و46 / 153، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 21، و6 / 105، التتمّة للعاملي: 75، تاريخ الطبري: 6 / 52، الكامل لابن الأثير: 3 / 368، نفَس المهموم للقمّي: 594، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 40، عوالم العلوم للبحراني: 17 / 88 و637، الوافي بالوفيات للصفدي: 21 / 281، ترجمة الإمام الحسين(علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 17، نسب قريش للزبيري: 59، المعارف لابن قُتيبة: 213، جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 361، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 177، الإرشاد للمفيد: 2 / 137، كشف الغُمّة للإربلّي: 2 / 39، المستجاد للعلّامة الحلّي: 450، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 199، نور الأبصار للشبلنجي: 277، الإفادة للزيدي: 58، الحدائق الورديّة للمحلّي: 1 / 116، المجدي: 91، إعلام الورى للطبرسي: 251، الأنوار النعمانيّة للجزائري: 1 / 373، تاج المواليد للطبرسي: 111، لُباب الأنساب لابن فندق: 1 / 350، مقتل الحسين(علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 143، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 77، الجوهرة للبري: 49، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 277 و254 و255، نهاية الإرب للنويري: 20 / 461، تاريخ بناكتي: 104، حبيب السير لخواندامير: 2 / 61، جلاء العيون للمجلسي: 826، جنّات الخلود للمدرسي: 23، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 152، ناسخ التواريخ لسپهر: 4 / 325، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 405، تحفة العالم لآل بحر العلوم: 1 / 311، نفَس المهموم للقمّي: 460، تواريخ النبيّ والآل للتستري: 108، فاطمة بنت الحسين للأميني: 13، دوائر المعارف: 25.. ومصادر أُخرى كثيرة.

ص: 256

مصيبتها

اشارة

قبل الدخول إلى بيت الأحزان في الشام، ينبغي التنويه إلى بعض الملاحظات الجديرة بالالتفات:

التنويه الأوّل: اختلاف الروايات والأخبار

ربّما لا يلتفت القارئ العادي الّذي يختار كتاباً من بين عشرات بل مئات الكتب التاريخيّة فيقرأه، فلا يرى ثمّة اختلافاً في الروايات والأخبار، لأنّه إنّما اختار كتاباً واحداً، وقد راجع المؤلّف _ حسب الفرض _ مجموع المصادر، فنقّب ونقّر وقدّم وأخّر وناقش وبحث، فقرّر أن يختار نصّاً من بين ركام النصوص الواردة في حدَثٍ ما، فأثبته دون غيره.

بَيد أنّ المؤلّف والمحقّق الباحث الّذي يُبحِر في التاريخ، ويرحل بعيداً بين السطور، ويغوص في بطون الكتب، ربّما لا يجد خبراً واحداً من دون اختلافاتٍ شديدةٍ تصل أحياناً إلى حدّ التناقض والنفي والإثبات.

أمّا في التفاصيل والجزئيّات، فلا يكاد يخلو الحدَث في الكتاب الواحدمن اختلافاتٍ واسعة.

ص: 257

وهذه حقيقةٌ لا يمكن إنكارها، ولها مسوّغاتها ومبرّراتها، وليس هذا موضع بيانها، وقد مرّت بعض الإشارات إلى ذلك في المدخل والمقدّمات.

فلا يسوغ لمؤرّخٍ أو محقِّقٍ أن ينفي حدثاً أو يردّه لمجرّد وجودبعض التهافت في النقول، أو الاختلاف في التصوير، أو في التفصيل والإجمال، وما شاكل.. ولو جعلنا هذا مسوّغاً للنفي والردّ لَما بقي شيءٌ من التاريخ بتاتاً!

التنويه الثاني: تصوير الراوي والمؤرّخ

الخبر التاريخيّ يرويه المؤرّخ أحياناً في صورة خبرٍ أو روايةٍ عن راويه، فيلتزم النصّ المرويّ بحذافيره، وقد ينقله بتصرّفٍ وتصويرٍ يحاول رسم مشهدٍ معيَّنٍ بالشكل الّذي يريده الكاتب، ليبلغ واقعاً بلونٍ خاصّ، ربّما قصد المؤلّف إيحاء بعض أفكاره ومعتقداته وتصوّراته من خلال صياغة عبارته.

وهذا النمط من النقل الّذي يبلغ أحياناً حدّ الحكاية والأُسلوب القصصيّ في بعض الكتب التاريخيّة، غير عزيزٍ في التراث.

وحينئذٍ لا يمكن جعل العبارة والتصوير الواضح أنّه من بنان وريشة المؤلّف ملاكاً ينتقص به من مصداقيّة الخبر، وإنّما يُؤخَذ بأصل الخبر ويُنتفَع من تصويراته ما دامت منسجمةً مع الخبر ومتوائمةً معه، ويُغضى عن نِتاج قلمه وتصوّراته وتصويراته.

ص: 258

التنويه الثالث: الاتّفاق على القدر المتيقَّن من مجموع الأخبار

قد تختلف الروايات في التفصيل والإجمال ونقل بعض الجزئيّات، وتتعارض في تلك التفاصيل، وقد تكون بعض التفاصيل غير مرغوبٍ فيها، وقد تكون قابلةً للمناقشة، وقد تكون بمستوىً يحسن ردّها وإسقاطها.

بَيد أنّ مجموع الأخبار حينما تتّفق على أصل الحدَث، وبعضِ التفاصيل أو الأساسيّات والخطوط العريضة، فإنّها تفيد الإجماع المركَّب على ما اتّفقوا على نقله، ويتّفق الجميع على تثبيت تلك الخطوط العريضة، وتكون عاملاً يقوّيه ويعضد بعضها بعضاً،فالمفروض أن يؤخَذ بالقدر المتيقّن المتّفق عليه، ولا يُطرَح بالكلّيّة وهم قد اتّفقوا على نقله، لمجرّد النقاش في بعض التفاصيل.

بمعنى:

إنّ وجود بعض التفاصيل غير المرغوب فيها _ إن وُجِدَت _ في خبر شهادة بنت الحسين(علیه السلام)، وقد اختلف الرواة في نقلها، فلا يسوّغ أن ننقض أصل الخبر، بحجّة هذه التفاصيل الّتي قد تكون غير مرغوبةٍ عند أحدٍ ومرغوبةً ومنطقيّةً ومعقولةً عند الآخَر.

التنويه الرابع: اعتماد النصّ الأقدم

حينما يكون مصدرٌ أقدَمٌ يروي خبراً، ولا يكون مخالفاً لشروط القبول،

ص: 259

فالمفروض أن يكون هو المعتمَد في البحث الّذي يطرح محتوى الخبر للمناقشة والنفي والإثبات.

ويمكن توظيف ما يليه من المصادر الّتي تروي بعض التفاصيل في ترميم النصّ واستكمال الصورة وتصوير المشهد، ولا يسوغ الإعراض عن المصدر الأقدم أو المصدر الأوّل للخبر بالكامل.

التنويه الخامس: الترجمة

إنّ المصدر الأوّل لخبر السيّدة هو كتاب (كامل البهائي)، وهو كتابٌ فارسيّ، والظاهر من الشواهد أنّ كتاب (الحاوية) أو (الهاوية) كتابٌ عربيّ، فيكون أصل الخبر بالعربيّة، فربما ترجم العمادُ النصَّ العربيّ ترجمةً حرّةً غير حرفيّة، فتكون بعض التفاصيل ناتجةً عن الصياغة والتعبير، ولا دَخَل لها في أصل الحدث، كما يلاحَظ في اختلاف الترجمات في الدقّة والتزام الحرفيّة لنفس كتاب (الكامل).* * * * *

بعد هذه التنويهات المقتضَبة، نحاول قراءة موارد، قيل:

إنّها مزيد تمحيصٍ وتدبُّرٍ في رواية وضع الرأس بين يدَي

ص: 260

الطفلة رقيّة ((1)).

وسننقل النصّ الّذي رواه سماحة السيّد جعفر مرتضى العامليّ في كتابه (زينب ورقيّة في الشام)..

قال تحت عنوان:

تقديم الرأس إلى رقيّة:

رُوي

أنّه لمّا قدم آلُ الله وآلُ رسوله على يزيد في الشام، أفرد لهم داراً، وكانوا مشغولين بإقامة العزاء، وإنّه كان لمولانا الحسين(علیه السلام) بنتاً عمرها ثلاث سنوات، ومن يوم استُشهد الحسين ما بقيت تراه، فعظم ذلك عليها واستوحشت لأبيها، وكانت كلّما طلبَته يقولون لها: غداً يأتي ومعه ما تطلبين. إلى أن كانت ليلةٌ من الليالي رأت أباها بنومها، فلمّا انتبهَت صاحت وبكت وانزعجت، فهجّعوها وقالوا: لما هذا البكاء والعويل؟! فقالت: آتوني بوالدي وقرّة عيني. وكلّما هجّعوها ازدادت حزناً وبكاءً، فعظم ذلك على أهل البيت، فضجّوا بالبكاء وجدّدوا الأحزان، ولطموا الخدود

ص: 261


1- ([1]) أُنظُر: زينب ورقيّة في الشام: 126 وما بعدها.

وحثوا على رؤوسهم التراب، ونشروا الشعور وقامالصياح.

فسمع يزيد صيحتهم وبكاءهم، فقال: ما الخبر؟ قالوا: إنّ بنت الحسين الصغيرة رأت أباها بنومها، فانتبهَت وهي تطلبه وتبكي وتصيح. فلمّا سمع يزيد ذلك قال: ارفعوا رأس أبيها وحطّوه بين يديها، لتنظر إليه وتتسلّى به.

فجاؤوا بالرأس الشريف إليها مغطّىً بمنديلٍ ديبقي، فوُضع بين يديها وكُشف الغطاء عنه، فقالت: ما هذا الرأس؟! قالوا لها: رأس أبيك. فرفعَته من الطشت حاضنةً له، وهي تقول:

«يا أباه، مَن ذا الّذي خضّبك بدمائك؟!

يا أبتاه، مَن ذا الّذي قطع وريدك؟!

يا أبتاه، مَن ذا الّذي أيتمني على صِغَر سنّي؟!

يا أبتاه، مَن بقيَ بعدك نرجوه؟!

يا أبتاه، مَن لليتيمة حتّى تكبر؟!

يا أبتاه، مَن للنساء الحاسرات؟!

يا أبتاه، مَن للأرامل المسبيّات؟!

يا أبتاه، مَن للعيون الباكيات؟!

يا أبتاه، من للضائعات الغريبات؟!

يا أبتاه، مَن للشعور المنشرات؟!

ص: 262

يا أبتاه، مِن بعدك وا خيبتنا!

يا أبتاه، مِن بعدك وا غربتنا!

يا أبتاه، ليتني كنتُ الفدى!

يا أبتاه، ليتني كنتُ قبل هذا اليوم عميا!

يا أبتاه، ليتني وُسِّدتُ الثرى، ولا أرى شيبك مخضَّباً بالدماء!».

ثم إنّها وضعت فمها على فمه الشريف، وبكت بكاءً شديداً حتّى غُشيَ عليها، فلمّا حرّكوها فإذا بها قد فارقَتروحُها الدنيا.

فلمّا رأوا أهلُ البيت ما جرى عليها، أعلنوا بالبكاء، واستجدّوا العزاء، وكلُّ مَن حضر من أهل دمشق، فلم يُرَ في ذلك اليوم إلّا باكٍ وباكية.

فقامت زينب بنت أمير المؤمنين(علیه السلام) وقالت: «أظننتَ يا يزيد حيث أخذتَ علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نُساق كما تُساق ...».

ثمّ تذكر الرواية خطبة السيّدة زينب المعروفة الّتي تخاطب فيها يزيد بأقسى العبارات، والّتي مِن جملتها قولها:

«منتحِياً على ثنايا أبي عبد الله سيّد شباب أهل الجنّة، تنكتها بمخصرتك ...»، إلى آخر الخطبة المعروفة الّتي

ص: 263

سارت بها الركبان..

ثمّ تذكر الرواية قول ذلك الشاميّ ليزيد: هَبْ لي هذه الجارية.. مشيراً إلى فاطمة الصغرى بنت الحسين(علیه السلام) ... ((1)).

وفي (كامل البهائي):

إنّ نساء أهل بيت النبوّة أخفَين على الأطفال شهادة آبائهم، وقلن لهم: إنّ آباءكم قد سافروا إلى كذا وكذا، وكان الحال على ذلك المنوال حتّى أمر يزيد بأن يَدخلنَ داره، وكان للحسين(علیه السلام) بنتٌ صغيرةٌ لها أربع سنين، قامت ليلةً من منامها وقالت: أين أبي الحسين؟!وذكر نحو ما تقدّم، لكنه قال: إنّ تلك الصبيّة لمّا وضعوا رأس أبيها في حِجرها فزعت وصاحت، فمرضت وتُوفّيَت في أيّامها بالشام ((2)).

ص: 264


1- ([1]) راجع: المنتخب للطريحي: 140 _ 142، وإكسير العبادات: 3 / 411 و412، ومعالي السبطين: 2 / 170 و171 _ عن: المنتخَب، وعن: نفَس المهموم، والإيقاد: 179 و180 _ عن: عوالم العلوم للبحرانيّ، وعن: أسرار الشهادة: 515 (من هامش كتاب زينب ورقيّة).
2- ([1]) كامل البهائي، تأليف عماد الدين الطبري (ت 676 ه): 2 / 302، وطبعة أُخرى: 2 / 179 _ عن: كتاب الحاوية، لقاسم بن محمّد بن أحمد المأموني، وعنه: نفَس المهموم، ومعالي السبطين: 2 / 170، ووسيلة الدارين في أنصار الحسين: 394 (من هامش كتاب زينب ورقيّة: 126).

وستأتي الترجمة الكاملة لرواية (كامل البهائيّ) إن شاء الله (تعالى).

* * * * *

القيل الأوّل:

اشارة

إنّ الطاغية يزيد قد سمع صيحة وبكاء عائلة الحسين(علیه السلام) في تلك الليلة..

ولستُ أدري إن كان يصحّ قوله: إنّ قصر الخليفة كان ملاصقاً للخربة الّتي وُضع فيها أُولئك النسوة!! إذ كيف تُترك تلك الخربة في مرأىً ومسمعٍ من الوفود الّتي تؤمّ ذلك القصر؟ فإنّه قصر الخلافة، وموضع إظهار الشوكة والعنجهيّة، وكيف لا يستحي أُولئك الجبابرة من هذا الأمر؟

واللافت هنا: أنّ الخربة كانت قريبةً من القصر، ومن المخدع الّذي ينام فيه الخليفة إلى حدّ أنّ الخليفة يسمع بكاء الموجودين فيها! ((1))

ص: 265


1- ([2]) أُنظُر: زينب ورقيّة في الشام: 126.

ويمكن أن يُناقش في هذا القيل من خلال النقاط التالية:

النقطة الأُولى: المصادر المذكورة والخرابة

يُعدّ كتاب (الكامل) المصدر الأوّل بعد كتاب (الحاوية / الهاوية)، ويُعدّ (المنتخَب) هو الثالث بعد (روضة الشهداء) بملاحظة تاريخ وفاة المؤلّفين، والّذي رُوي عنه هنا إنّما هو (المنتخب) و(الكامل)، وفي كلا الكتابين لم يرد لفظ (الخرابة).

فالرواية الأُولى _ حسب الترتيب في النقل هنا _ قالت: (أفرد لهم داراً)، وفي رواية (الكامل): (بأن يدخلن داره).

وربّما كان نقلهم إلى الخربة بعد ذلك، وسيأتي الكلام عن الخربة بعد قليل.

وحينئذٍ لا يبقى لهذا التمحيص والتدبّر محلّ؛ إذ ليس ثمّة خرابة في النصوص المذكورة يمكن أن تشين قصر الخليفة حتّى يستحي أُولئك الجبابرة من هذا الأمر.

النقطة الثانية: إمكان إنزالهم بالقرب من مخدع الطاغية

ما دامت العائلة في دار يزيد _ حسب فرض هاتين الروايتين _، فلا يبعد والحال هذه أن تكون دارهم قريبةً من داره، أو البيت الّذي أُنزلوا فيه قريباً من مخدعه.

ص: 266

بل ربّما ساعد ما يشير إليه من خوفه من انقلاب الوضع عليه، ومن تعاطف الناس مع آل الله، أن يجعلهم في الحصن الّذي هو يعيش فيه، ليأمن تعاطف الناس معهم والسعي في تخليصهم، ولأهداف أُخرى لسنا بصدد معالجتها.

النقطة الثالثة: استبعاد سماع يزيد أصواتهم

مع ما نعيشه اليوم من تلوّثٍ بيئي، وأصواتٍ مزعجةٍ تجوب السماء والأرض والأجواء والبرّ والبحر، فإنّ صيحة عددٍ كبيرٍ من الأرامل والأيتام إذا ضجّوا وصاحوا صيحةً واحدةً في جوف الليل،يمكن أن تغطّي محلّةً كاملةً أو منطقةً مترامية، توقض النائم وتُفزع الناس وتُخرجهم من بيوتهم.

فكيف ستملأ الصيحة والصرخة والنياحة والعويل من قلوبٍ مفجوعةٍ ونساءٍ مثكولةٍ وأطفالٍ مرعوبةٍ مذعورةٍ الأجواء؟ وإلى أيّ مدى ستصل أصوات صراخهم في مثل تلك الأيّام الّتي لم يكن شيءٌ يعكّر هدوء الليل وسكونه؟ فلو افترضنا أنّهم كانوا قد أُنزلوا في خربة، وكانت الخربة بعيدةً عن مخدع يزيد، لَبلغه الصوت، وهو الّذي كان يعيش تلك الأيّام حالةً من الذعر كأيّ طاغوت!

النقطة الرابعة: إمكان وجود الخرابة

على فرض أنّهم أُنزلوا في خرابة، فإنّ ذلك ممكنٌ ومُتصوَّرٌ جدّاً، إذ أنّ الرواي يُطلِق على المكان الّذي أُنزلوا فيه خرابةً نسبةً إلى عمران قصر

ص: 267

الطاغية، فإنّ القصر مهما كان _ قديماً وحديثاً _ يحتاج إلى موضعٍ تُركَن فيه الوسائل المستخدَمة في النقل ذاك اليوم، وهي مهما تكن نظيفةً ومرتَّبةً تبقى مكاناً للاحتفاظ بوسائل النقل المتاحة تلك الأيّام، وهي تُعَدّ بالنسبة للقصر خرابة.

النقطة الخامسة: لا يُشترط أن تكون الخرابة في المقدّمة

مَن قال أنّ هذه الخرابة كانت في مقدّم القصر، وعلى مرأى ومسمعٍ مِن الوفود الّتي تؤمّ ذلك القصر؟ فليس ثمّة مصدرٌ أو كتابٌ صرّح بذلك أو أشار إليه!

وليس من المعتاد أن يكون مخدع الطاغوت يُشرِف على مداخل القصر وقريباً من أبوابه الشارعة للداخلين، وإنّما يكون القسم الأماميّ من القصور _ كما هو المعهود سابقاً ولاحقاً _ لاستقبال الضيوف والأُمور المتعلّقة بالإدارة والمُلك، وتكون الأقسام الداخليّة للحياة الخاصّة والعائلة.

فمن الممكن أن تكون (الخرابة) في القسم الخلفيّ من القصر،الّذي يضمّ كلّ الملحقات المتمّمة، من قبيل المطابخ، والاصطبلات الخاصّة بالقصر، والمخازن، وما شاكل.. ويمكن أن تكون في مثل هذه المواضع أماكن لا يُلتفَت إليها كثيراً، بل قد تكون خراباً، وربّما كان موضعاً مسيَّجاً بسورٍ ظاهره جميلٌ وباطنه خراب، لا سقف له.

ص: 268

القيل الثاني:

اشارة

كيف استطاعت تلك الطفلة الّتي هي بعمر ثلاث سنواتٍ أن ترفع الرأس الشريف من الطشت؟ ((1))

ويمكن أن نعالج هذا القيل من خلال التلميحات التالية:

التلميح الأوّل:

الرواية الأصليّة الأُولى هي رواية الطبريّ في نسختها الفارسيّة، وفيها:

وملاعين سر بياورد ودر كنار آن دختر چهار ساله نهادند.

وترجمة (در كنار): أي (إلى جنب)، بمعنى وُضع إلى جنبها أو بجانبها.

وفي لفظ الترجمة المذكورة سابقاً: (لمّا وُضع رأس أبيها في حِجرها فزعت)، فهي لم تحمله في كلا اللفظين، وإنّما وضعوه (جنبها) في اللفظ الفارسي، و(في حِجرها) في الترجمة المذكورة أوّلاً.

والمتن الأوّل هو المعتمَد حسب الفرض؛ لأنّه الأقدم والأضبط.

التلميح الثاني:

إنّ رفع الرأس لا يعني بالضرورة أنّها حملَته وقامت تدور به بحيث أخرجَته من الطشت، ويكفي أنّها احتضنته وضمّته إلى صدرها وحرّكَته ولو

ص: 269


1- ([1]) أُنظُر: زينب ورقيّة في الشام: 126.

قليلاً، وربّما رفعته نحوها ولو بمقدار، فيصدق عليها أنّها رفعته، والمفروض أن يُفهَم لفظ الخبر بما يناسب عمرها.

أضِفْ إلى أنّ حمل الرأس قليلاً يصدق عليه الرفع، وهو ممكنٌ لبنتٍ عمرها أربع سنوات، بالخصوص إذا كانت في ظرفٍ خاصٍّ وحالةٍ خاصّة، ولَطالما صدَرَ من الناس في الظروف الخاصّة ما لا يصدر منهم في الظروف العاديّة، كما لا يخفى، فالاستبعاد ليس في محلّه أساساً.

التلميح الثالث:

لقد سمعنا المعاجز تترى ويتلو بعضُها بعضاً من الرأس المقدّس، ولَطالما تصرّف تصرّف الحيّ الظاهر: فتكلّم، وقرأ القرآن، وانفجر منه الدم حينما رُمي بالحجر.. وبقي بضّاً غضّاً نضراً معطَّراً، كأنّ الحياة تنبض فيه مدّةً طويلةً من الزمن، حين طافوا به البلدان وداروا به في الأمصار وصلبوه، حتّى دُفن..

فلماذا لا نفترض _ ولو كاحتمالٍ معقولٍ ومتوقَّع وعاديّ جدّاً _ فرضيّة تصرّف الرأس الشريف وارتفاعه لها وإعانتها على حمله، أو على فرض عدم إمكان حمله أن يجعل الله فيها القوّة الكافية لتحمل الرأس ولو لحظة؟

ولا يمكن إسقاط الخبر بالاستبعادات والاستحسانات الّتي تختلف بين الناس في القبول والردّ.

ص: 270

القيل الثالث:
اشارة

إنّ الكلمات الّتي ينسبها الرواة إلى هذه الطفلة، لا تصدر عادةً عمّن هي في مِثل سنّها ((1)).

يمكن أن يُناقَش هذا القيل من خلال التوضيحات التالية:

التوضيح الأوّل:

لقد أشرنا فيما سبق أنّ السيّدة بنت الحسين(علیه السلام) طفلةٌ بحساب السنين، بَيد أنّها ليست كباقي الأطفال، فهي حفيدة النبيّ(صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين وفاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين(علیهما السلام)، وهي بنت الحسين(علیه السلام)، وهي مِن أهل بيتٍ زُقّوا العلم زقّاً، كباراً وصغاراً، (كهولهم خير الكهول، وشبابهم خير الشباب، ونساؤهم خير النساء، ونسلهم خير النسل، لا يخزى ولا يبزى)، تظهر لهم الملائكة وهي ألطف بهم من أهليهم ((2))، وتزدحم الملائكة في بيوتهم حتّى تزاحمهم على تكاتهم، فيتّخذون من زغبها سخباً

ص: 271


1- ([1]) أُنظُر: زينب ورقيّة في الشام: 126.
2- ([2]) في (بصائر الدرجات للصفّار: 1 / 90 ح 1) و(الكافي للكليني: 1 / 393 ح 1) وغيرهما، واللفظ للأوّل: عن مسمع كردين قال: قلتُ لأبي عبد الله(علیه السلام): إنّي اعتللت، فكنتُ إذا أكلتُ عند الرجل تأذّيتُ به، وإنّي أكلتُ من طعامك ولم أتأذَّ به! قال: «إنّك لَتأكل طعام قومٍ تصافحهم الملائكة على فُرُشهم». قال: قلت: ويظهرون لكم؟! قال: «هم ألطف بصبياننا منّا».

وتعاويذ لأولادهم ((1)).وقد قضت عمرها القصير في كنف سيّد البلاغة واللغة وأمير الفصاحة والأدب سيّد الشهداء الإمام الحسين(علیه السلام)، فهل يصعب عليها وقد فتحت لسانها في مثل هذا الجوّ أن تفوه بكلماتٍ خرجَت من قلبها المكلوم، وروحها المتعطّشة للقاء أبيها، وقد التقَتْه؟!

التوضيح الثاني:

نسمع في حالاتٍ عاديّةٍ من بناتٍ في سنّ الرابعة، بل حتّى الثالثة، كلماتٍ تثير الإعجاب، وتُدهش الناس أو الوالدين، وهذا ما يلاحظه الجميع في هذه الأيّام وفي كلّ زمان، وكم من الأطفال في هذه السنّ حفظوا القرآن، أو حفظوا جزءاً كبيراً منه، ولا نريد الدخول في ضرب الأمثلة، فهي كثيرةٌ يتسنّى الوقوف عليها بسهولة.

ص: 272


1- ([3]) في (بصائر الدرجات للصفّار: 1 / 93 ح 14)، و(الكافي للكليني: 1 / 394 ح 3)، وغيرهما، واللفظ للثاني: عن أبي حمزة الثُّماليّ قال: دخلتُ على عليّ بن الحسين(علیه السلام)، فاحتبستُ في الدار ساعةً، ثمّ دخلت البيت وهو يلتقط شيئاً، وأدخل يده من وراء الستر فناوله مَن كان في البيت، فقلت: جُعلتُ فداك، هذا الذي أراك تلتقطه أيّ شيءٍ هو؟ فقال: «فضلة من زغب الملائكة، نجمعه إذا خلونا، نجعله سيحاً لأولادنا». فقلت: جُعلتُ فداك، وإنّهم لَيأتونكم؟ فقال: «يا أبا حمزة، إنّهم لَيزاحمونا على تكأتنا».

ولا ننسى أنّها بنتٌ عربيّةٌ من آباء عرب، تعيش في معادن اللغة والبلاغة والفصاحة.

وقد روى لنا التاريخ قصّة بنت أبي الأسود الدُّؤلي، وكانت طفلةً صغيرةً في سنّ الخامسة أو السادسة، تقول شعراً وتتكلّم بكلامٍ قد يعجز عنه الكبار.

رُوي أنّ معاوية أرسل إلى أبي الأسود الدُّؤليّ هديّةً منها حلواء، يريد بذلك استمالته وصرفه عن حبّ أمير المؤمنين عليّ(علیه السلام)، فدخلَت ابنةٌ صغيرةٌ له خماسيٌّ أو سداسيٌّ عليه، فأخذَت لقمةً من تلك الحلواء وجعلَتها في فمها، فقال لها أبوالأسود: يا بنتي ألقيه؛ فإنّه سُمّ، هذه حلواء أرسلها إلينا معاوية لِيخدعنا عن أمير المؤمنين ويردّنا عن محبّة أهل البيت(علیهم السلام). فقالت الصبيّة: قبّحه الله، يخدعنا عن السيّد المطهَّر بالشهد المزعفر، تبّاً لمرسله وآكله. فعالجت نفسها حتّى قاءت ما أكلَته، ثمّ قالت باكية:

أبِالشهد المزعفر يا ابن هندٍ

نبيع عليك أحساباً ودِينا؟

معاذ الله، ليس يكون هذا

ومولانا أميرُ المؤمنينا ((1))

ص: 273


1- ([1]) أُنظُر: روض الجنان وروح الجنان لأبي الفتوح الرازي: 17 / 270، الأربعون حديثاً لمنتجب الدين بن بابويه: 81، الكنى والألقاب للقمّي: 1 / 10، أعيان الشيعة للأمين: 2 / 275، ربيع الأبرار للزمخشري: 5 / 322.
التوضيح الثالث:

إنّها لم تُنشئ شعراً فيه من الخيال والصور ما يعجز عنه فحول الشعراء عن رسمها وصياغتها، وإنما عبّرت عن مشاهد رأتها كلَّها بعينَيها، وعاشتها بنفسها.

فإذا أرادت بنتٌ في سنّ الرابعة أن تعبّر عن حسرتها ويُتمها ومصابها وألمها ووجدها، وهي تتكلّم بلغتها الأُمّ (العربيّة)، فماذا عساها أن تقول؟ أكانت تقول غير ما قالته السيّدة:

«من الّذي أيتمني على صِغَر سنّي؟».

ثم إنّ السيّدة رأت ما جرى على عمّاتها وأخواتها وركب السبايا، فعبّرت عنها بلغتها العربيّة، وما دامت في سنٍّ يمكنها أن تتكلّم، فلماذا نستبعد صدور كلماتٍ عفويّةٍ بسيطةٍ غير معقّدةٍ ولا غريبةٍ ولا صعبة، ولا تحتاج إلى مراجعة قواميس وكتب اللغةلفهمها؟

فالألفاظ عاديّةٌ بسيطةٌ مستعملة، والصور مشاهَدةٌ بالعيان يُدركها كلّ ذي عينين.

التوضيح الرابع:

لقد عاشت السيّدة أحداث كربلاء ومصائبها، وأحداث السبي ومآسيه، وسمعَت من النساء اللواتي كنّ معها كباراً وصغاراً يكرّرن هذه العبارات، فلنقل _ ولو فرضاً _ أنّها حفظتها ووظّفَتها ساعة احتاجت إليها،

ص: 274

فهي ليست بالأصالة لها ومن إنشائها، وفي الطيور ما يحفظ كلام البشر بالتكرار، فكيف ببنت خامس أصحاب الكساء(علیهم السلام)؟!

القيل الرابع:
اشارة

كيف سمح الّذين حضروا ذلك المجلس بأن تُعامل تلك الطفلة البريئة بهذه المعاملة القاسية؟!

وإذا كان الإمام السجّاد(علیه السلام) حاضراً بينهم، فلماذا لم ينههم عن وضع الرأس بين يدَي تلك الطفلة أيضاً؟ ((1))

ربّما أثار هذا القيل العجب، وذلك للأسباب التالية:

السبب الأوّل:

إنّ وضع الرأس المقدّس بين يدَي الطفلة _ حسب الخبرَين المذكورَين وغيرهما ممّن روى المصيبة _ كان بأمر يزيد، وبتنفيذجلاوزته، فلا عجب ولا استغراب من (التعامل مع تلك الطفلة البريئة بتلك المعاملة القاسية).

فلم يكن أهل البيت هم الّذين طلبوا ذلك أو دعوا إليه، ولم يكونوا هم الّذين استحضروا الرأس المقدّس، وقد أشجاهم وأحزنهم إحضار الرأس، وربّما فاجأهم، كما أشجى وأحزن وفاجأ السيّدة رقيّة(علیها السلام).

ص: 275


1- ([1]) أُنظُر: زينب ورقيّة في الشام: 126.
السبب الثاني:

هل كان أمر الجلاوزة والظالمين بيد الإمام السجّاد والسيّدة زينب(علیهما السلام)؟ وهل كانوا سيطيعونهما إذا منعا أو أمرا أمراً أو نهَيا نهياً؟

لقد كان الجميع في السبي أسرى، وكان الظالم يفعل ما يريد حسب مجريات الأحداث الّتي ساقها لنا المؤرّخ.

السبب الثالث:

إنّ الأعمار والأقدار والآجال _ حسب الظواهر، بغضّ النظر عن علم الإمامة _ بيد الله؟عز؟، والسلوك المتوقَّع من كلّ عاقلٍ حضر في تلك الواقعة حينما فَجعَت السيّدةُ اليتيمة الدنيا ببكائها ووجدها وشوقها لأبيها ومطالبتها برؤيته، أن يستقبل مجيء الرأس المقدّس، لعلّه يكون سبباً لتسكين لوعتها وتسليتها وعزائها.

ولم يكن من النتائج الحتميّة بل ولا حتّى المحتملة أن يؤدّي رؤيتها لرأس أبيها _ حسب سير الأحداث _ إلى موتها ولحوقها بأبيها، فما معنى منع أهل البيت حينئذ؟

السبب الرابع:

هذا، بغضّ النظر عن لحن عبارة الطبريّ بالفارسيّة وغيره أيضاً، الّذي يُوحي بوضوحٍ أنّ القرد المخمور المسعور يزيد إنّماأمر بذلك ونفّذه الجلاوزة

ص: 276

لأنّه كان يرمي إلى أذى أهل البيت، والشماتة بهم والإمعان في التنكيل بهم، بل صرّح بعض الكتّاب بذلك في مؤلّفاتهم.

وما يمنع هؤلاء الأوغاد والوحوش الكواسر الأجلاف الجفاة القساة عن ارتكاب كلّ دنيّة، وإيجاد كلّ رزيّةٍ بعد قتل سيّد شباب أهل الجنّة وخامس أصحاب الكساء الحسين(علیه السلام) وذبح أطفاله وسبي عياله؟!

القيل الخامس:
اشارة

ما معنى سؤال تلك الطفلة عن ذلك الرأس؟ ألم تكن تعرف أباها؟! ((1))

يمكن الوقوف عند هذا القيل من خلال البيانات التالية:

البيان الأوّل:

لا يوجَد في المصدر الأوّل (كامل البهائيّ) هذا السؤال، فقد قال:

إنّ تلك الصبيّة لمّا وضعوا رأس أبيها في حِجرها فزعَت وصاحت، فمرضت وتوفّيَت ...

فلْنعتمد النصّ الأوّل هنا، وهو أوفق وأَولى وأقوى.

ص: 277


1- ([1]) أُنظُر: زينب ورقيّة في الشام: 127.
البيان الثاني:

ليس بالضرورة أن يكون هذا السؤال سؤالاً استفهاميّاً تقصد منه التعرّف إلى مجهولٍ لا تعرفه، وإنّما هو سؤالٌ استنكاريٌّ تقصد منه التعبير عن الصدمة والكشف عن التعجّب والذهول لِما ترى،وكأنّها لا تريد أن تصدّق ما ترى لشدّة الصدمة.

ولو أردنا المناورة على ألفاظ الخبر _ كما رأيناه في المصادر _ لَتبيّن أنّها سألت ب «ما»، فقالت: «ما هذا الرأس؟»، ولم تقل: لمَن هذا الرأس؟ فهي تعرف لمن، بَيد أنّها تريد الاستنكار والتعبير عن التعجّب والذهول والصدمة!

البيان الثالث:

ما يمنع أن لا تكون عرفَته في لحظة؟ لأنّه قد خُضّب بالدماء، وغيّرته يد الجزّار حين أمر ابن زياد بتقويره ((1))، وأُثخن بالجراحات، وربّما أصابه

ص: 278


1- ([1]) في: تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 147، مقتل الحسين(علیه السلام) للخوارزمي: 2 / 52، مرآة الجنان لليافعي: 1 / 135، مدينة المعاجز للبحراني: 267، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 149، واللفظ للأوّل: ذكر عبد الله بن عمرو الورّاق في كتاب (المقتل): أنّه لمّا حضر الرأس بين يدَي ابن زيادٍ (لعنه الله)، أمر حجّاماً فقال: قوِّرْه. فقوره، وأخرج لغاديده ونخاعه وما حوله من اللحم، واللغاديد: ما بين الحنك والصفحة العنق من اللحم. فقام عمرو بن الحريث المخزوميّ فقال لابن زياد: قد بلغتَ حاجتك من هذا الرأس، فهبْ لي ما ألقيت منه. فقال: ما تصنع به؟ فقال: أُواريه. فقال: خُذْه. فجمعه في مطرف خزّ كان عليه، وحمله إلى داره، وهي بالكوفة تُعرف بدار الخزّ، دار عمرو بن الحريث المخزوميّ، فغسله وطيّبه وكفّنه ودفنه في داره. ألا لعنة الله على الظالمين!

من البلاء والأذى خلال الفترة الّتي كان عند القرد المخمور يزيد، مهما كانت الفترة قصيرة، وقد شمت به وطعنه بالقضيب في أنفه وعينه وشفتَيه، وغيرها من المصائب الّتي يهتزّ لها العرش ممّا جرى على الرأس المقدّس.وكلّ هذه الجراحات والدماء وما لحق الرأس المقدّس من الأذى قد يجعلها لا تميّزه، أو تبقى متردّدةً ولو لحظةً لتقول: «ما هذا الرأس؟».

البيان الرابع:

ربّما كان سؤالها بمعنى تحصيل الاطمئنان، والتعبير عن الغبطة بفوزها بلقاء رأس أبيها، فكأنّها تقول لهم: أعلم أنّه رأس أبي، بَيد أنّي أسأل ليطمئنّ قلبي، وأُعبّر لكم عن مدى ما أعيشه في كامني بسبب لقائي بأبي، فهل هذا هو أبي حقّاً؟ وهذا الأُسلوب متداولٌ إلى يوم الناس هذا، كأن يُقال لأحد: مات أبوك؟ فيسأل: هل حقّاً مات؟ أو يراه على المغتسل، فيسأل مَن إلى جنبه من أهله وإخوته: أهذا أبي على المغتسَل؟ تفجّعاً.

وإن كان قد غرق مثلاً أو مات بحادثٍ لا يُرجى أن يُعثر له على

ص: 279

جثمان، فإذا عثروا عليه وجيء به لأهله، فكأنّهم يفرحون لحصولهم عليه رغم حزنهم بموته، فيسأل أحدهم: هل هذا أبي؟ كأنّه لا يصدّق أنّهم قد استعادوه وفازوا بالنظر إليه مرّةً أُخرى.

القيل السادس:

بل ألم تكن ترى الرأس الشريف وهم في الطريق، حين كانوا يسيرون بالرؤوس الشريفة بين المحامل، مُشالةً فوق الرماح، كما نصّت عليه الروايات؟ ((1))وقد أعطى سهلُ بن سعدٍ الساعديّ حاملَ الرأس الشريف شيئاً من المال لُكي يبعده عن النساء؛ ليشتغل الناس بالنظر إليه دونهنّ، فأعطاه أربعمئة دينار ((2))، كما يُقال ((3)).

ص: 280


1- ([1]) الملهوف: 210، ومقتل الحسين(علیه السلام) للخوارزمي: 2 / 125 و126، ومثير الأحزان لابن نما: 97، وبحار الأنوار: 45 / 127، ووسيلة الدارين في أنصار الحسين: 380، ونفَس المهموم: 429 و430، وراجع: مقتل الحسين(علیه السلام) للمقرّم: 347 و348 (من هامش كتاب زينب ورقيّة في الشام: 127).
2- ([1]) مقتل الحسين(علیه السلام) للمقرّم: 349، وعوالم العلوم: 17 / 427، ومقتل الحسين(علیه السلام) للخوارزمي: 2 / 60 و61، ووسيلة الدارين في أنصار الحسين: 380 (من هامش كتاب زينب ورقيّة في الشام: 127).
3- ([2]) أُنظُر: زينب ورقيّة في الشام: 127.

نحسب أنّ ما ذكرناه في القيل الخامس يكفي للردّ على هذا القيل، وهو كما يبدو تتمّة للكلام السابق، وإن جاء تحت رقمٍ مستقلٍّ عن السابق في الكتاب ((1)).

القيل السابع:
اشارة

ألم يكن الأطفال (ورقيّة منهم ومعهم) يسمعون ندب النساء في مجلس يزيد للحسين(علیه السلام)، ويذكرونه باسمه، وتسمع تصريحات الناس مِن حولها بقتل أبيها(علیه السلام)؟!

فكيف خفيَ عليها وعلى سائر الأطفال قتل الإمام الحسين ومَن معه من سائر الرجال، والحال هذه؟ ((2))

ربّما كان هذا هو القيل الأهمّ، والإشكال الّذي يمكن أن يسجّل على الخبر، ويمكن معالجته بالمعالجات التالية:

المعالجة الأُولى:

يبدو أنّ هذا الإشكال وغيره ممّا مرّ ترد على جملةٍ واحدةٍ فقط، وهي إخفاؤهم قضيّة الشهادة، ويمكن اقتطاع هذه الجملة من أصل الخبر،

ص: 281


1- ([3]) أُنظُر: زينب ورقيّة في الشام: 127.
2- ([4]) أُنظُر: زينب ورقيّة في الشام: 127.

وغاية ما يُقال: إنّها طفلةٌ اشتاقت للنظر إلى أبيها، وكفى، وسؤالها عن الرأس له توجيهاتٌ أتينا على ذِكر بعضها في القيل الخامس.

ولا ننسى أنّ أصل الخبر مُترجَمٌ من الفارسيّة، وأنّ مثل الكاشفيّ والطريحيّ نقلا الخبر بأُسلوبٍ قصصيّ يناسب التلاوة في المجالس، ولم يستعملا العبارات العلميّة، ولم يقصدا ضبط قواعد الرواية والالتزام حرفيّاً بالألفاظ والجُمَل والعبارات الّتي تروي تفاصيل الحدث.

وورود إشكالٍ أو غموضٍ في عبارةٍ واحدةٍ _ وإن كانت جزءاً من الحدث _ لا تُسقِط الحدث من رأسٍ ويُكذَّب بها الخبرُ كلُّه!

المعالجة الثانية:

إنّ التعبير بإخفاء الشهادة عن الأطفال وإخبارهم أنّ الشهداء في سفر، وما شاكل من التعبيرات، لا يعني بالضرورة عدم علم الأطفال والسيّدة رقيّة(علیها السلام) بشهادة أبيها وبقتله، كيف وهي كانت حاضرةً في كربلاء، وكانت شاهدةَ المصيبة الراتبة؟ وتماماً كما ذُكر في نفس هذا القيل، فقد رأت الرأس وسايرَته في طريق السبي وفي مجلس ابن الأَمة الفاجرة ابن زياد والقرد المخمور يزيد، وغيرها من المواضع.

فالمفروض أن يُفهَم الكلام بما يناسب علمها ومعرفتها بما جرى، سيّما أنّ مَن نقل ذلك يعلم ذلك أيضاً، من قبيل العماد الطبريّ والشيخ الطريحيّ، بل وغيرهما ممّن جاء بعدهما إلى يوم الناس هذا.

ص: 282

بكلمةٍ أُخرى:

لا يبدو هذا الكلام متيناً، وكأنّه اكتشافٌ لأمرٍ خفيّ على مَن سبق ممّن روى المصيبة، فلابدّ أن يكون ثمّة مصحِّحٌ للاستعمال بما يناسب علمها ومعرفتها بالرأس المقدّس وبقتل أبيها وشهادته.

المعالجة الثالثة:

يمكن افتراض ما يصحّح هذا الاستعمال ويوائم الإخفاء وعلمَ السيّدة وغيرها من الأطفال بما جرى، من خلال تصوّر العادة الجارية إلى اليوم بين الناس.

فإنّ الأُسرة إذا فقدَت الأب أو الأُمّ، وفيها مَن هو لا زال صغيراً في سنّ الثالثة أو الرابعة، فإنّه يعي تماماً موت أبيه أو أُمّه، وربّما خرج مع المشيّعين وحضر الدفن، وشاهد أباه يُوارى الثرى ويُطبَق عليه القبر وتُسدّ فرج اللحد، ويتركه الناس ويرجعون، فيرجع معهم يبكي ويصرخ يريد أباه أو أُمّه، فبمَ يُقنعونه ويسلّونه ويعزّونه ويهجّعونه؟

إنّهم يَعِدونه العودة، وأنّه في سفرٍ وسرعان ما يرجع إليهم، وهو قد لا يرى أنّ ثمّة رجعة، سواءً كان يعي حقيقة الموت والرحيل عن الدنيا أو لا يعيها، ولكنّه يجد في هذا الكلام عزاءً وسلوة.

وهذا ما ينسجم تماماً مع علم السيّدة(علیها السلام) بشهادة أبيها(علیه السلام) وقتله وحمل رأسه على الرماح، والأمر ليس مخفيّاً عليها.

ص: 283

بَيد أنّ هذا هو الأُسلوب المتّبَع سابقاً ولاحقاً مع الأطفال كتعزيةٍ وتسليةٍ وتسكين.

ولَطالما كان الندب يُصاغ بلفظ الاستغاثة والاستحضار والحثّ على المشاهدة والشهود والحضور، فتُسلّى النادبة بألوان الكلمات والعبارات، وكم نسمع فيها ما يتضمّن وعد النادبة بحضوره لها من عالمه ومتابعته لها، أو بوعدها بتعويضها بالباقين أو بالعوَضمن الله أو بتقييض البديل لها من الله، وهكذا.. فهذه استعمالاتٌ عرفيّةٌ لا يُقصَد بها الدقّة العلميّة والتعبيرات الحدّيّة، فكما يَعِدون في الاستعمال العرفي النادبة الكبيرة بمثل تلك الوعود، يعدون النادبة الصغيرة والأطفال بمثل وعود العودة من السفر.

المعالجة الرابعة:

قال في المتن المذكور عن (كامل البهائي):

إنّ نساء أهل بيت النبوّة أخفَين على الأطفال شهادة آبائهم، وقلن لهم: إنّ آباءكم قد سافروا إلى كذا وكذا، وكان الحال على ذلك المنوال حتّى أمر يزيد بأن يدخلن داره، وكان للحسين(علیه السلام) بنتٌ صغيرةٌ لها أربع سنين، قامت ليلةً من منامها وقالت: أين أبي الحسين؟! ...

يُلاحَظ أنّه يذكر قضيّةً كلّيّةً وحديثاً عامّاً عن إخفاء شهادة الآباء على الأطفال، ثمّ يذكر رؤيا السيّدة، فهو لا يصرّح أنّ الأمر كان مخفيّاً على

ص: 284

السيّدة رقيّة(علیها السلام) بالذات، وإنّما قد يُستفاد ذلك من السياق ومن تطبيق (الأطفال) عليها، فيُفهَم أنّها لمّا كانت ضمن الأطفال فيلزم أن يكونوا قد أخفَوا عليها أيضاً!

لكنّه لمّا لم يكن صريحاً في ذلك، فيمكن استثناء هذه اليتيمة المميَّزة، وافتراض ذلك لمَن هو أصغر منها أو لغير أولاد الإمام المباشرين؛ لتميّزها عن غيرها من الأطفال، لأنّها بنت خامس أصحاب الكساء(علیهم السلام)، وهي ميزةٌ كافية.

المعالجة الخامسة:

المعالجة الخامسة ((1)):

إنّ السيّدة رقيّة(علیها السلام) لم تسمع ندب النساء للحسين(علیه السلام) في مجلس يزيد فحسب، بل سمعَته في كربلاء، وفي الكوفة، وفي الشام، وفي الطريق، وطيلة الفترة، في كلّ يومٍ وليلة.

لكن ألم يكن هذا كافياً لتحفظ منهم الندب، وتحفظ الكلمات الّتي قالتها عند لقائها برأس أبيها؟

وقد ذكرنا ذلك، فلا نعيد.

ص: 285


1- ([1]) أطلقنا عليها معالجة؛ مسامحةً واسترسالاً.
القيل الثامن:
اشاره

ذكرَت الرواية: أنّ السيّدة زينب قد خطبت خطبتها المعروفة الّتي تخاطب فيها يزيد بذلك الخطاب العظيم، مع أنّها خطبت بها في مجلس يزيد وبحضوره، حينما أدخل السبايا عليه، والرأس الشريف أمامه، وهو ينكث ثناياه الشريفة بمخصرته.

وهذه الرواية تقول: إنّ يزيد لم يكن حاضراً بينهم، وإنّما أرسل الرأس إليهم ليضعوه بين يدَي الطفلة، وإنّ ذلك كان في الليل.. فمِن أين جاء يزيد حتّى صارت تخاطبه زينب(علیها السلام) بذلك الخطاب، ثمّ جرى ما جرى مع ذلك الشاميّ؟! ((1))

يمكن أن يُجاب على هذا القيل بالردود التالية:

الردّ الأوّل:

إنّ المصدر الأوّل لذكر مصيبة السيّدة رقيّة(علیها السلام) هو (كامل البهائيّ) عن (الحاوية) أو (الهاوية)، كما ذكرنا مراراً، فالمفروض أن يكون هو المعتمَد بالأساس في رواية أصل الخبر!

وما ورد في هذا القيل إنّما نقله الشيخ الطريحيّ(رحمه الله علیه) في (المنتخَب)، وهو

ص: 286


1- ([2]) أُنظُر: زينب ورقيّة في الشام: 128.

متأخّرٌ عن العماد الطبريّ صاحب (الكامل)، وفي (الكامل) لا توجد هذه التتمّة.

فإن كان في هذه التتمّة نقاش، فلْيناقش متن الشيخ الطريحيّ(رحمه الله علیه)، ولْيسقط منه ما لم يكن في خبر الطبريّ، فتبقى أصل المصيبة على حالها، ويُؤخَذ المتّفَق عليه بينهما.

الردّ الثاني:

قال الشيخ الطريحيّ(رحمه الله علیه) قبل أن ينقل مصيبة السيّدة يتيمة الحسين(علیه السلام) الّتي قضت على رأس أبيها:

فيا إخواني، إذا ذكرتُ ما أصابهم من الآلام في تلك الأوقات والأيّام اعتراني الهمّ والحزن، حتّى أكاد أن تُسلَب روحي من البدن، فأشتهي مَن أبثّ حزني إليه، لِيساعدني ما أنا عليه.

ثمّ نقل خبر السيّدة رقيّة والرأس المقدّس، ثمّ قال:

فقامت زينب بنت أمير المؤمنين(علیه السلام) وقالت: «أظننتَ يا يزيد حيث أخذتَ علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نُساق كما تُساق ...».

ثمّ تذكر الرواية خطبة السيّدة زينب(علیها السلام) المعروفة الّتي تخاطب فيها يزيد بأقسى العبارات، والّتي من جملتها قولها:

«منتحياً على ثنايا أبي عبد الله سيّد شباب أهل الجنّة،

ص: 287

تنكتها بمخصرتك ...»، إلى آخر الخطبة المعروفة الّتي سارت بها الركبان.

ثمّ تذكر الرواية قول ذلك الشاميّ ليزيد: هَبْ لي هذه الجارية. مُشيراً إلى فاطمة الصغرى بنت الحسين(علیه السلام) ... ((1)).

فلو لاحظنا بداية كلامه(رحمه الله علیه) واسترساله في نقل مصائب الشام، نعرف أنّه لا يريد إفادة أنّ خطبة السيّدة(علیها السلام) كانت في نفس ذلك الموضع، وفي نفس ذلك الوقت من الليل، وأنّ يزيد حضر عندهم.

وإنّما هما حدَثان مستقلّان متعلّقان بمصائب الشام ووقائعها، ذكر أحدهما ثمّ بادر إلى الآخَر.

الردّ الثالث:

لا يستفاد من التفريع في قوله: (فقامت) أنّ الحدثين مترتّبَين فوراً، ولو أفاد ذلك فلْنفترض سقطاً أو وجود فاصلةٍ في النسخة الأصليّة، كسطر

ص: 288


1- ([1]) راجع: المنتخب للطريحي: 140 _ 142، وإكسير العبادات: 3 / 411 و412، ومعالي السبطين: 2 / 170 و171 _ عن: المنتخب، وعن: نفَس المهموم، والإيقاد: 179 و180 _ عن: كتاب عوالم العلوم للبحراني، وعن: أسرار الشهادة: 515 (من هامش كتاب زينب ورقيّة).

ٍ فارغٍ أو أيّ علامةٍ كان المؤلّفون سابقاً يستعملونها للفصل بين المطالب في الكتاب، إن وُجدَت، تماماً كما نستعمل اليوم (التنجيم) وما شاكل.

إذ أنّ من الواضح كما قالوا: (إنّ الخطبة المعروفة قد سارت بها الركبان)، وكذا خبر استيهاب السيّد فاطمة(علیها السلام)، ومشهورٌ عند المؤرّخين متى حصل ذلك وفي أيّ ظرفٍ ومكان.ومجرّد افتراض فاصلٍ بين الكلامين يكفي لانتفاء احتمال اتّفاق المصائب الثلاثة في آنٍ ومكانٍ واحد.

الردّ الرابع:

ربّما صاغ الشيخ الطريحيّ(رحمه الله علیه) العبارة بتلك الصياغة، وهو يعلم والكلّ يعلم أنّ ظروف وزمان ومكان المصائب الثلاثة مختلفة، بَيد أنّه أراد أن يُشير إلى إشارةٍ ذكيّةٍ وقويّة، تفيد أنّ خطبة السيّدة الصدّيقة الكبرى(علیها السلام) وإن وقعَت بعد ذلك بيومٍ أو أكثر، إلّا أنّها كانت جمرة مصابٍ أوقدتها مصيبة السيّدة رقيّة(علیها السلام)، فكانت السيّدة الصدّيقة(علیها السلام) قد ردّت على فعلة يزيد الشنيعة الّتي أودت بحياة هذه الطفلة البريئة من خلال خطبتها، بالإضافة إلى ما فعله أمام الناس من التجاسر على الرأس المقدّس، وكلا المصيبتين لها علاقةٌ بالاجتراء على الرأس المقدّس، فيكون من دوافع خطاب السيّدة(علیها السلام) ومحركاتها مصيبة السيّدة المظلومة رقيّة(علیها السلام).

ص: 289

الردّ الخامس:

ربّما كان حسب متابعة الشيخ الطريحي(رحمه الله علیه) وما توصّل إليه أنّ مصيبة السيّدة رقيّة(علیها السلام) وقعت في وقتٍ متأخّرٍ من الليل، أو قريبٍ من الفجر، وهو لا يبعد حتّى من خلال النظر في النصوص الأُخرى، ثمّ وقعَت مصيبة نكث الرأس المقدّس بالمخصرة واستحضار آل الله واستيهاب السيّدة فاطمة(علیها السلام) في صباح ذلك اليوم، بحيث لا يرى ثمّة فترة زمانيّة طويلة، فحسبها في ظرفٍ واحدٍ وزمنٍ واحد، وألغى الخصوصيّات المكانيّة، ثمّ ربط الأحداث لبيان ارتباط المصائب وتتابعها على أهل البيت(علیهم السلام).

القيل التاسع:
اشارة

هل صحيحٌ أنّ يزيد قال لسائله في ذلك المجلس بالذات: وتلك زينب بنت أمير المؤمنين؟! وكيف يعترف لأبيها وهو أبغض خلق الله إليه بأنّه أمير المؤمنين؟! ((1))

يمكن أن يجاب على هذا القيل المطروح بشكل سؤالٍ بعدّة أجوبة:

الجواب الأوّل:

يُلاحَظ أنّ هذا السؤال والخطاب خارجٌ عن موضوع السيّدة

ص: 290


1- ([1]) أُنظُر: زينب ورقيّة في الشام: 128.

رقيّة(علیها السلام)، وهو مرتبطٌ بخبر استيهاب السيّدة فاطمة(علیها السلام) وردّ القرد المخمور يزيد عليه، فسواءً صحّ هذا القيل أو لم يصحّ، وسواءً ثبت أم لم يثبت، فهو أجنبيٌّ عن محلّ البحث، ولا علاقة له بموضوع السيّدة رقيّة(علیها السلام)، فلا ينفع كإشكالٍ يمكن أن يُستقوى به للتأثير على موضوع البحث سلباً.

الجواب الثاني:

لقد أشرنا فيما سبق إلى أنّ كتاب (المنتخَب) للشيخ الطريحيّ(رحمه الله علیه) مرتَّبٌ على شكل مجالس، ومُعَدٌّ للقراءة في المآتم، وهو كان ولا زال في كثيرٍ من المجالس المادّة الأساسيّة لنمطٍ خاصٍّ من المجالس في بعض مناطق الشيعة (أعزّهم الله)، فأُسلوبه قائمٌ على القصّة والحكاية، لا على التدقيق العلميّ، وغرضه التعليم والإبكاء.

وعليه، فإنّ من المتوقَّع جدّاً أن يكون تعبيره ب (أميرالمؤمنين) من لفظ المؤلّف، وليس هو من أصل الخبر، فإنّ خبر استيهاب السيّدة فاطمة(علیها السلام) موجودٌ في المصادر بكثرة، وليس فيه هذا اللفظ، ومن طبيعة المؤمن المتديّن إذا أراد أن يذكر مولى الموحّدين وسيّد الوصيّين(علیه السلام) أن يذكره بلقبه الّذي لقّبه الله به واختصّه به دون العالمين: (أمير المؤمنين).

فمجرّد وجود هذا اللفظ الّذي قاله المؤلّف على لسان يزيد الملعون لا يخدش الخبر، ولَطالما فعلها المؤمنون ويفعلونها، لاعتقادهم بأمير المؤمنين(علیه السلام) لا لاعتقاد المنقول عنه، وإذا راجعنا كتاب (المنتخب) نجد

ص: 291

هذا الاستعمال دارجاً وشائعاً جدّاً في كتابه، وفي كتب الآخَرين أيضاً.

الجواب الثالث:

بعد أن استوهب الشاميّ السيّدة فاطمة(علیها السلام)، وألحّ في طلبه، وردَّته السيّدة الصدّيقة الصغرى(علیها السلام) وردّه يزيد، قال الشاميّ _ كما في (المنتخب) _:

مَن هذه الجارية؟

قال يزيد (لعنه الله): هذه فاطمة الصغرى بنت الحسين، وتلك زينب بنت أمير المؤمنين.

فقال الشامي: لعنك الله يا يزيد، تقتل عترة نبيّك وتسبي ذرّيّته؟!

فقال يزيد: لَأُلحقنّك بهم.

وفي هذا السياق لا يستبعد أن يطلق يزيد الخمور هذا اللقب على الإمام عليّ(علیه السلام) وإن كان عدوّه، فهو من الألقاب الّتي ثبتت لأمير المؤمنين عليّ(علیه السلام) بالاتّفاق، وقد كان يزيد في مقام توجيه رفضه وردّه للاستيهاب، فإنّه وإن كان قد سبى الذرّيّة، بَيد أنّها ذرّيّة أمير المؤمنين(علیه السلام)، فلا يصلح لمثل هذا الشاميّ أن يستوهب منهنّ!

ص: 292

القيل العاشر

وحول مقدار عمر رقيّة وصغر سنّها نقول:

قال الشبلنجيّ أيضاً: وقد أخبرني بعض الشوام أنّ للسيّدة رقيّة بنت الإمام عليّ (كرّم الله وجهه) ضريحاً بدمشق الشام، وأنّ جدران قبرها كانت قد تعيّبَت، فأرادوا إخراجها منها لتجديده، فلم يتجاسر أحدٌ أن ينزله لأجل الهيبة، فحضر شخصٌ من أهل البيت يُدعى: السيّد ابن مرتضى، فنزل في قبرها، ووضع عليها ثوباً لفّها فيه وأخرجها، فإذا هي بنتٌ صغيرةٌ دون البلوغ ((1)).

أضاف الحائريّ قوله: وكان متنها مجروحاً من كثرة الضرب، وقد ذكرتُ ذلك لبعض الأفاضل، فحدّثَني به ناقلاً له عن بعض أشياخه ((2)).

وتقدّم أنّ عمرها كان أربع سنين ((3)).

ص: 293


1- ([1]) نور الأبصار: 117، ومعالي السبطين: 2 / 171، وراجع: إكسير العبادات: 3 / 411 و412، والمنتخَب للطريحي: 140.
2- ([2]) معالي السبطين: 2 / 170 و171.
3- ([3]) معالي السبطين: 2 / 171.

قال الحائري: قال الحمزاوي في كتاب (النفحات): وكانت للحسين(علیه السلام) بنتٌ تُسمّى رقيّة، وأُمّها شاه زنان بنت كسرى، خرجَت مع أبيها الحسين(علیه السلام) من المدينة حين خرج، وكان لها من العمر خمس سنين، وقيل: سبع سنين، حتّى جاءت معه إلىكربلاء ... إلخ.

ثمّ قال الحائري: وأمّا رقيّة فقد تُوفّيت بالشام، كما ذكرنا في محلّه ((1)).

ويبدو لنا أنّ هذه هي نفس القضيّة الّتي ذكرها الأعلميّ في كتابه (تراجم النساء: 2 / 103 و104)، والشيخ مهدي الحائري في كتابه (معالي السبطين: 2 / 171)، فراجع. وقال: إنّ هذه القصّة كانت حدود سنة 1280 ه ق.

ويُلاحَظ:

أوّلاً: إنّ ما ذكره الشبلنجيّ يناقض ما ذكره الأعلميّ، فهذا يقول: إنّ رقيّة هذه هي بنت الحسين(علیه السلام)، والشبلنجيّ يقول: إنّها بنت عليّ(علیه السلام).

ثانياً: إنّ الشبلنجيّ زعم أنّها كانت بنتاً صغيرةً دون البلوغ،

ص: 294


1- ([1]) معالي السبطين: 2 / 171.

مع أنّ هذا يناقض قوله: إنّها بنت عليّ(علیه السلام)؛ فإنّ رقيّة بنت عليّ إن كانت هي الّتي تزوجَت بمسلم بن عقيل، وقد استُشهِد بعض أولادها المجاهدين في كربلاء، فهي امرأةٌ كاملة، ربّما يصل عمرها إلى أربعين سنة، فما معنى قولهم: إنّها كانت بنتاً صغيرةً دون البلوغ؟!

وإن كانت بنتاً أُخرى لعليّ(علیه السلام) اسمها رقيّة، فما ومَن الّذي ذهب بها إلى الشام في زمن معاوية، وقبل استشهاد الإمام الحسن(علیه السلام)، حتّى ماتت في الشام قبل البلوغ؟! ولماذا هذا الترديد في عمرها ما بين ثلاثٍ وأربعٍ إلى خمسٍ إلى سبع سنوات؟! وإن كانذهابها إلى الشام سنة إحدى وستّين، فكيف يكون عمرها ما بين ثلاثٍ إلى سبع سنوات؟! ((1))

ناقشنا هذا القيل في الروافد، فلا نعيد.

القيل الحادي عشر:
اشارة

قالوا:

(1) بما أنّ:

الشعرانيّ قال: إنّ رقيّة بنت الحسين (مدفونة) في المشهد

ص: 295


1- ([1]) أُنظُر: زينب ورقيّة في الشام: 128.

القريب من جامع دار الخليفة أمير المؤمنين يزيد، ومعها جماعةٌ من أهل البيت، وهو معروفٌ الآن بجامع شجرة الدرّ، وهذا الجامع على يسار الطالب للسيّدة نفيسة ((1)).

وكلام الشعرانيّ هذا يعطي: أنّ رقيّة بنت الإمام الحسين(علیه السلام) مدفونةٌ في مصر لا في الشام.

(2) وبما أنّ:

أكثر المصادر لا تذكر للإمام الحسين(علیه السلام)بنتاًباسم رقيّة، بل تذكر سكينة وفاطمة ((2))، يضيف البعض بنتاً اسمها زينب ((3))، وبعضهم أضاف بنتاً رابعة، ولكنّه سمّى منهنّ

ص: 296


1- ([2]) راجع: معالي السبطين: 2 / 171، وراجع: المنتخب للطريحي (المتوفّى سنة 1085 ه): 140، وإكسير العبادات: 3 / 411 و412، وأسرار الشهادة: 515، والإيقاد: 179 و180 _ عن: كتاب عوالم العلوم للبحراني (من هامش كتاب زينب ورقيّة في الشام: 112). ويلاحظ أنّ قول الشعرانيّ فقط تجده في (معالي السبطين)، والباقي يبدو أنّه توثيقٌ لأصل خبر البنت الصغيرة الّتي تُسمّى رقيّة وكان لها ثلاث سنين..
2- ([1]) راجع على سبيل المثال: تذكرة الخواصّ: 1 / 243 (من هامش كتاب زينب ورقيّة: 113).
3- ([2]) دلائل الإمامة: 181، وراجع: كشف الغمّة: 2 / 39، ومناقب آل أبي طالب: 4 / 85، والهداية الكبرى: 202، وإسعاف الراغبين (بهامش نور الأبصار): 198، وتاريخ الأئمّة لابن أبي الثلج: 18، ومواليد الأئمّة لابن الخشّاب: 20 (من هامش كتاب زينب ورقيّة: 113).

ثلاثة، ولم يسمِّ الرابعة ((1)).

الأمر الّذي يشير إلى أنّ كلمة أربع كانت من سهو القلم، وأنّ الصحيح ثلاث بدل أربع.

(3) وبما أنّ:

المصادر الكثيرة تحدّثَت عن أنّه قد كان لأمير المؤمنين(علیه السلام) بنتٌ اسمها رقيّة، بل ذكرت طائفةٌ منها أنّه كان له بنتان: إحداهما رقيّة الكبرى، والأُخرى رقيّة الصغرى ((2)).

(4) وبما أنّ:

رقيّة زوجة مسلم صحبت أولادها مع سيّد الشهداء أبي عبد الله الحسين(علیه السلام) من المدينة إلى كربلاء((3)).

ص: 297


1- ([3]) الفصول المهمّة: 2 / 851، وكشف الغمّة: 2 / 490، ومطالب السَّؤول: 2 / 30 (من هامش كتاب زينب ورقيّة: 114).
2- ([4]) وسيلة الدارين: 422 و423، وتهذيب الكمال: 20 / 479، وذكر رقيّة الصغرى أيضاً في: إعلام الورى: 1 / 396، وفي الإرشاد للمفيد: 1 / 354 (من هامش كتاب زينب ورقيّة: 114).
3- ([1]) راجع: معالي السبطين: 2 / 277 (من هامش كتاب زينب ورقيّة في الشام: 116).
(5) وبما أنّ:

رقيّة بنت أمير المؤمنين(علیه السلام)، ولعلّها امرأة مسلم بن عقيل(علیه السلام) قد سُبيَت مع مَن سُبي إلى دمشق، إذ لم نجد ما يدلّ على أنّ ابن زياد قد أفرج عن أيٍّ من السبايا اللواتي أُخذنَ في كربلاء، كما أنّنا لا نجد مبرّراً للاحتفاظ بأيّ منهنّ في السجن في الكوفة.

النتيجة!!!
اشارة

قالوا:

وهذا يدلّنا على أنّ رقية المدفونة بدمشق هي بنت عليّ(علیه السلام)، وليست رقيّة بنت الحسين(علیه السلام) ((1)).

هذه خلاصة المقدّمات الخمسة الّتي ذُكرت لاستحصال النتيجة العجيبة الغريبة عن المقدّمات تماماً، كما سيتّضح _ إن شاء الله _ بعد أن نتعرّف على عجلٍ على بعض تلك الغرائب العجيبة:

الغريبة الأُولى:

الكلام المنقول عن الشعرانيّ هو ما تفرّد به صاحب (معالي السبطين)، كما تبيّن لنا فيما مضى، فلا نعيد.

ص: 298


1- ([2]) أُنظُر: زينب ورقيّة في الشام: 112 _ 118.

وهذه غريبةٌ عجيبةٌ أن تُنقَل عبارة الشعرانيّ عن غير كتابه، ويُستدلّ بعبارة الناقل؟ وقد صرّح الشعرانيّ وصرّح الشبلنجيّ نقلاًعنه أنّ المدفونة في مصر هي رقيّة بنت عليّ(علیها السلام)، وليست بنت الحسين(علیه السلام)، فكيف يمكن الاستدلال بكلامٍ واضح الاشتباه فيه _ لوجود الأصل المنقول عنه _ لإفادة (أنّ رقيّة بنت الإمام الحسين(علیه السلام) مدفونةٌ في مصر لا في الشام)؟!!

وعليه، فلا يمكن الاعتماد على هذه المقدّمة، وقد انخرمَت مِن رأس.

الغريبة الثانية:

لقد مرّ معنا مفصَّلاً أنّ إسناد النفي إلى عدم ذكر النسّابة ليس بمعتمد، سيّما أنّ مَن حصر بالإثنين قد اتّضح خطؤه، لورود أسماء غيرهما في كتب معتدّ بها ويعتمد عليها، كالسيّدة زينب بنت الحسين(علیه السلام).

ثمّ إنّ الرابعة الّتي لم تُسَمّ إنّما ذكرت بعد التصريح بثلاث أسماء، كما قال تاج الدين العامليّ في (التتمّة):

أسماء الإناث: زينب، وسكينة، وفاطمة، ولم تسمّ الرابعة.

ثمّ قال:

وقال ابن الخشّاب: وُلد له(علیه السلام) ستّة بنين وثلاث بنات، ولا يبعد أن يكون قد أسقط الرابعة الّتي لم تسمّ في القول

ص: 299

المتقدّم ((1)).

فهي معدودة، ولا مجال لحمله على سهو القلم، ولا البتّ بأنّ الصحيح ثلاث بدل أربع.ولنا في ما مضى من كلامٍ في هذه المقدّمة ما يغنينا عن الإعادة، وبهذا تهتزّ هذه المقدّمة أيضاً، ولا تصلح للاعتماد عليها والاستناد إليها.

الغريبة الثالثة:

إثبات وجود بنتٍ لأمير المؤمنين(علیه السلام) أو بنتين أو ثلاثة أو مئة بنفس الاسم، لا يؤثّر على الاستدلال على النفي، فإنّ في بنات الأئمّة(علیهم السلام) مِن غير أمير المؤمنين(علیه السلام) ومن بنات الناس أجمعين بهذا الاسم الكثير، فما علاقته بالنفي والإثبات لبنت الإمام الحسين(علیه السلام)؟ فمجرّد وجود بنتٍ للإمام أمير المؤمنين(علیه السلام) بهذا الاسم هل ينفي أو يُثبِت وجود بنتٍ بهذا الاسم لسيّد الشهداء(علیه السلام)؟

الغريبة الرابعة:

الكلام هنا تماماً كما هو الكلام في الغريبة السابقة، فإنّ إثبات وجود السيّدة رقيّة بنت الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام) وحضورها يوم الحسين(علیه السلام) لا

ص: 300


1- ([1]) أُنظُر: التتمّة لتاج الدين العاملي: 76.

ينفي ولا يُثبت وجود السيّدة رقيّة بنت الحسين(علیه السلام) في كربلاء، وغاية ما يمكن الاستفادة منه من النصوص الّتي ذُكرت، وهي نفس النصوص الّتي وظّفها مَن استدلّ بها على وجود رقيّة بنت الحسين(علیهما السلام)، بغضّ النظر عن مدى صوابيّة استدلالهم.

فهل يعني وجود بنتٍ لأمير المؤمنين(علیه السلام) باسم رقيّة يمنع من القول بوجود بنتٍ بهذا الاسم للحسين(علیه السلام)؟!

ثمّ ما يلفت النظر في هذه الغريبة: أنّ الاستدلال على وجود السيّدة رقيّة بنت الحسين(علیهما السلام) كان يعتمد كتباً لمؤلّفين متأخّرين جدّاً، وأقدمها هو (اللهوف) للسيّد ابن طاووس _ على نسخة _، فيكون أقدم المصادر المعتمدة _ السيّد ابن طاووس _معاصراً لعماد الدين الطبريّ صاحب (الكامل) الّذي روى مصيبة السيّدة بنت الحسين(علیهما السلام)، ومَن تلاه من المؤلّفين الّذين رووا مصيبتها أقدم من المصادر الّتي وُظّفَت لإثبات وجود السيّدة رقيّة بنت أمير المؤمنين(علیها السلام) في كربلاء، فكيف صارت المصادر المعاصرة والمتأخّرة جدّاً معتمَدة ((1)) لإثبات وجود بنت الأمير(علیه السلام)، ولم تكن المصادر الّتي ذكرت بنت الحسين(علیه السلام) معتمدة؟!!

ص: 301


1- ([1]) توجد مصادر قديمة وشواهد كافية لإثبات حضور السيّدة بنت أمير المؤمنين(علیه السلام) وزوجة المولى الغريب مسلم بن عقيل(علیهما السلام) في كربلاء، بَيد أنّ المستدلّ وظّف المصادر المتأخّرة!

وبهذا تخدش هذه المقدّمة أيضاً، ولا يصلح الاعتماد عليها والاستناد إليها والاستفادة منها في سلسلة مقدّمات الإثبات أو النفي.

الغريبة الخامسة:

والكلام هنا تماماً كالكلام في الغريبتَين السابقتَين، إذ أنّ وجود السيّدة رقيّة بنت أمير المؤمنين(علیهما السلام) مع السبايا ما علاقته بعدم وجود السيّدة رقيّة بنت الحسين(علیهما السلام)؟!

ونحن لا نريد الوقوف عند التعليلات الّتي أُثبت بها وجود السيّدة بنت الأمير(علیه السلام) بين السبايا، فإنّ الاحتفاظ بها في الكوفة ربّما تكون له مبرّرات، تماماً كما فعل ابن الأَمة الفاجرة بولدَي مسلم بن عقيل الصغيرَين اللذَين ذُبحا في العتيكات (المسيّب)، كما رواه الشيخ الصدوق بسندٍ صحيحٍ في (الأمالي)، فما هو المبرّر الّذي دعا ابن زياد للاحتفاظ بولدَي مسلم(علیه السلام)؟ فهو أيضاً يمكن أن يكون مبرّراً للاحتفاظ بزوجة مسلم بن عقيل(علیهما السلام) في الكوفة.طبعاً نحن لا نريد إثبات ذلك، ولا نقول به، وليس لنا فيه بحثٌ يمكن أن يُثبت أو ينفي، بَيد أنّنا أردنا أن نقول:

إنّ الطاغية الظالم العسوف المتجبّر قد يجد من المبرّرات ما لا تخطر في أذهان الطيّبين الطاهرين، فلا يمكن الاستدلال بما نجده من المبرّرات أو لا نجده.

ص: 302

الغريبة السادسة: النتيجة

نجد هنا قفزةً غير موفقة وغير متوقّعة من تلك المقدّمات الّتي لم يتمّ منها شيءٌ إلى نتيجةٍ لا علاقة لها بالمقدّمات، على فرض تماميّتها كمقدّمات وارتباطها بموضوع الاستدلال.

وهذا يدلّنا على أنّ رقيّة المدفونة بدمشق هي بنت عليّ(علیه السلام)، وليست رقيّة بنت الحسين(علیه السلام).

إنّ مَن يذكر دفن السيّدة رقيّة بنت الحسين(علیهما السلام) يمتلك المصادر الّتي تنصّ على وفاتها في الشام وتصرّح به، أمّا هذه المقدّمات فهي لم تُشِر من قريبٍ ولا من بعيدٍ إلى وفاة السيّدة رقيّة بنت الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام) في الشام.

فما هو الدليل على وفاة السيّدة بنت أمير المؤمنين في الشام؟ وهل يكفي وجودها في السبي لتكون قد ماتت ودُفنَت هناك؟

كان المفروض أن تستكمل المقدّمات بذِكر ما يدلّ على وفاة السيّدة رقيّة بنت أمير المؤمنين في الشام، ولو من خلال الشواهد والنصوص، ولكنّها لم تأتِ في السياق، وإنّما حصلَت طفرةٌ مفاجئة..

وخلاصة الاستدلال:

بما أنّ رقيّة بنت أمير المؤمنين(علیه السلام) موجودةٌ في كربلاء، وجاءت إلى الشام مع السبي، وقد ذكرها علماء النسب، وبما أنّ السيّدة رقيّة بنت الحسين(علیه السلام) لم يثبتها علماء النسب في بنات الحسين(علیه السلام)، إذن فالمدفونة

ص: 303

في الشام هي بنت الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام)!!!

ويُلاحَظ عبور خبر وفاة السيّدة رقيّة بنت الإمام عليّ(علیه السلام) والاجتياز فوراً إلى أنّها مدفونة، لكن كيف ومتى وأين ولماذا ماتت؟ فهذا ما لم تذكره الكتب بشأن السيّدة بنت أمير المؤمنين(علیهما السلام)! وإنّما ذكرته بشأن السيّدة رقيّة بنت الحسين(علیهما السلام)، فكيف صارت المذكور وفاتها غير معتمَدة، والّتي لم تذكر وفاتها معتمَدة؟!

القيل الثاني عشر:
اشارة

قالوا:

وذكر ابن الحوراني (المتوفّى سنة ألفٍ على الظاهر) أنّ السيّدة رقيّة مدفونةٌ داخل باب الفراديس بدمشق، فقد قال:

وفي كتاب (محض المآرب في فضل الإمام عليّ بن أبي طالب) لابن المبرد: وذكر ابن أبي الدنيا، عن الزبير بن أبي بكر أنّه وُلد لعليّ ولدان: عمر ورقيّة الكبرى _ توأمان _، وأُمّهما الصهباء، ويقال: اسمها أُمّ حبيب بنت ربيعة من بني تغلب، مِن سبي خالد بن الوليد.

وقال ابن المبرّد في هذا المصنّف: ومنهم رقيّة الصغرى،

ص: 304

ذكره الذهبيّ، وهذا المعوَّل عليه، ولا تلتفت إلى غير هذا؛ فهو هذيانٌ مشغل، والله العالم ((1)).ونقول: يُلاحَظ ما يلي:

ألف: قوله: الزبير بن أبي بكر، ولعلّ الصحيح: ابن بكّار (170 _ 256 ه)؛ لأنّه شيخ ابن أبي الدنيا (208 _ 281 ه).

ب: إنّه ينقل عن ابن المبرّد، والظاهر أنّه يوسف بن حسن بن أحمد بن عبد الهادي الصالحيّ الحنبليّ (840 _ 909).

ج: إنّه ذكر دفن رقيّة بنت أمير المؤمنين(علیه السلام) في الشام، ولم يُشِر إلى رقيّة بنت الحسين(علیه السلام)، وإن كانت عبارته قد جاءت غير منتظمة، فقد قال المعلّق على الكتاب حسام عبد الوهّاب الجابي: لعلّه ذكر هذا إشارةً إلى أنّ السيّدة رقيّة بنت عليّ بن أبي طالب مدفونةٌ في حيّ العمارة، وفي مسجدٍ يقال له: مسجد السيّدة رقيّة ((2)).

وفي هذا القيل مناقشاتٌ تدعو القارئ إلى العجب:

ص: 305


1- ([1]) الإشارات إلى أماكن الزيارات، المسمّى: زيارات الشام (ط سنة 1401 ه.ق _ دمشق) ص 25 _ 27 (من هامش كتاب زينب ورقيّة في الشام: 118).
2- ([1]) أُنظُر: زينب ورقيّة في الشام: 118 _ 119.
العجيبة الأُولى:

لقد بحثنا في كتاب ابن الحورانيّ المذكور (الإشارات إلى أماكن الزيارات، المسمّى بزيارات الشام) في نسخةٍ خطّيّة ((1))، فلم نجد النصّ المذكور، ولم نجد إشارةً إلى رقيّة، لا بنت الإمام عليّ(علیه السلام) ولا بنت الإمام الحسين(علیه السلام)، وقد تصفّحناالمخطوطة من أوّلها إلى آخرها أكثر من مرّة احتياطاً للأمر، فلم نجد شيئاً من المنقول عنه، هذا حسب فحصنا في المخطوطة، ولم نتوفّر على المطبوعة، والله العالم.

العجيبة الثانية:

النصّ المذكور كدليل، نقلاً عن ابن الحورانيّ عن كتاب (محض المآرب)، لا ذكر فيه لدفن السيّدة رقيّة، أيّاً كانت منهما، فهو يذكر أنّ لأمير المؤمنين(علیه السلام) بنتين باسم رقيّة، أمّا دفن أحدهما في باب الفراديس فليس فيه إشارة إلى ذلك من قريبٍ ولا من بعيد.

أوَليس المفروض أن يذكر المؤلّف موضع الشاهد من الكتاب الّذي يريد أن يستند عليه؟

أين موضع الشاهد في النصّ الّذي جعله شاهداً ودليلاً؟

أين ذكر النصّ دفن السيّدة رقيّة _ أياً كانت منهما _ في باب

ص: 306


1- ([2]) مصوَّرة المخطوطة من مكتبة الملك سعود، قسم المخطوطات، الرقم 5990.

الفراديس؟

ليس في النصّ موضع شاهد، لأنّ أصل الكتاب لم يذكر السيّدة رقيّة، كما تبيّن لنا من المخطوطة.

العجيبة الثالثة:

لو فرضنا أنّ كتاب (محض المآرب) قد نصّ على أنّ للإمام أمير المؤمنين(علیه السلام) رقيّتين: كبرى وصغرى، ونحن لم نعثر على هذا الكتاب فيما فحصنا، فهل يكفي نصّه على وجود رقيّتين أو رقيّة واحدة للإمام أمير المؤمنين(علیه السلام) دليلاً لتكون هي المدفونة في الشام؟

العجيبة الرابعة:

يلاحَظ أنّ ما نقله ابن الحورانيّ عن (محض المآرب) لابن المبرّد كلّه مخدوشٌ ومغلوط، تعوزه الدقّة والصحّة، وهو سقيمٌ مرتبك، فقد قال سماحة السيّد جعفر مرتضى العاملي (حفظه الله)بعد نقل النصّ المذكور:

ونقول: يُلاحَظ ما يلي:

ألف: قوله: الزبير بن أبي بكر، ولعلّ الصحيح: ابن بكّار (170 _ 256 ه)؛ لأنّه شيخ ابن أبي الدنيا (208 _ 281 ه).

ب: إنّه ينقل عن ابن المبرّد، والظاهر أنّه يوسف بن حسن بن أحمد بن عبد الهادي الصالحيّ الحنبليّ (840 _ 909).

ج: إنّه ذكر دفن رقيّة بنت أمير المؤمنين(علیه السلام) في الشام، ولم

ص: 307

يُشِر إلى رقيّة بنت الحسين(علیه السلام)، وإن كانت عبارته قد جاءت غير منتظمة، فقد قال المعلّق على الكتاب حسام عبد الوهّاب الجابي: لعلّه ذكر هذا إشارةً إلى أنّ السيّدة رقيّة بنت عليّ بن أبي طالب مدفونةٌ في حيّ العمارة، وفي مسجدٍ يقال له: مسجد السيّدة رقيّة ((1)).

فثَمّة مشكلةٌ في الزبير، ولا يُعلَم إن كان هو ابن أبي بكر أو ابن بكّار، ولا يُعلَم من هو ابن المبرّد الّذي ينقل عنه هذا النصّ، فقد يكون _ كما استظهر سماحة السيّد _ هو يوسف بن حسن الحنبليّ (المتوفّى سنة 909 ه)، وقد يكون غيره، على أنّ ابن المبرّد المستَظهَر من أبناء القرن العاشر، فلا يُعدّ مصدراً متقدّماً على المصادر الّتي ذكرت السيّدة رقيّة بنت الإمام الحسين(علیه السلام).

العجيبة الخامسة:

يبدو أنّ اسمه قد جاء هنا بالخطأ أيضاً، إذ أنّ المحقّق المذكور لكتاب زيارات الشام هو (بسّام الجابي) وليس (حسام).

وهنا واجهتنا مشكلةٌ معضلةٌ لم نقف لها على حلّ، إذ أنّ المخطوطة

ص: 308


1- ([1]) أُنظُر: زينب ورقيّة في الشام: 118 _ 119.

الّتي وقعَت بأيدينا _ وهي منسوخةٌ في القرن الثالث عشر _ لم تذكر السيّدة رقيّة(علیها السلام)، لا في ذكر مشاهد باب الفراديس، ولا في موضعٍ آخَر من الكتاب، كما ذكرنا.

وما نُقل عن الكتاب كدليلٍ لم يذكر مدفن السيّدة رقيّة(علیها السلام) ولا قبرها، وإنّما ذكر فقط كلام المعلّق، فعلى أيّ موضعٍ علّق حسام (بسّام)، وعلى أيّ عبارةٍ علّق؟ وكيف علّق على ما لا ذِكْر له؟

ربّما يكون الكلام منقولاً عن كتابٍ آخَر ليس هو لابن الحورانيّ، إذ أنّ ثَمّة كتاباً آخَر اسمه (الإشارات إلى معرفة الزيارات) لعليّ بن أبي بكر الهرويّ (ت 611)، بَيد أنّنا رجعنا إلى هذا الكتاب أيضاً، فوجدناه لا يأتي على ذِكرٍ لرقيّة، أيّاً كانت، بنت الإمام عليّ(علیه السلام) أو بنت الإمام الحسين(علیه السلام).

فمِن أين جاء ذِكر دفن السيّدة رقيّة(علیها السلام) هنا؟!

العجيبة السادسة:

قالوا:

ذكر ابن الحورانيّ (المتوفّى سنة ألفٍ على الظاهر) أنّ السيّدة رقيّة مدفونةٌ داخل باب الفراديس بدمشق، فقد قال: ...

ثم نقلوا نصّاً لا علاقة له بالدفن أبداً.

مع ذلك، فإنّ رقيّة هذه الّتي دُفنَت في باب الفراديس لم تُشخَّص إن كانت بنت أمير المؤمنين(علیه السلام) أو بنت الحسين(علیه السلام)، فكيف لنا أن نجعلها

ص: 309

بنت الإمام عليّ(علیه السلام)؟ وبأيّ دليل؟ فقط لمجرّد أنّ الإمام عليّاً(علیه السلام) عنده بنت بهذا الاسم، ثمّ نتجاهل ونتغافل عمّا رواه أمثال العماد الطبريّ؟!

هذا كلّه بغضّ النظر عن أنّ ابن الحورانيّ لم يذكر ذلك في كتابه، ولم يأتِ على اسم رقيّة أبداً _ حسب فحصنا للمخطوطة الّتي وقعَت بأيدينا _.

العجيبة السابعة:

إنّ المستدلّ نفسه يقول: (إنّ عبارته قد جاءت غير منتظمة) ((1))، وهذه العبارة المزعومة لم نقرأها نحن، ولم نقف عليها لا في كتاب المستدلّ ولا في الكتاب الّذي نقل عنه المستدلّ، فالحديث يدور حول عبارةٍ ليست موجودة.

ولكن مع ذلك، فإنّ المستدلّ لم يستطع الاعتماد عليها، وإنّما اعتمد على التعليقة ليستفيد أنّها رقيّة بنت عليّ(علیه السلام)! ولو كانت العبارة _ الغائبة _ فيها دلالةٌ واضحةٌ لَما احتاج الاستدلال بالمعلِّق واستظهاره وقوله: (لعلّ).

فالعبارة مرتبكةٌ قد جاءت غير منتظمة _ حسب وصف المستدلّ _، وإلّا فنحن لم نقرأها ولم نعرفها ولم ندرِ ما هي حتّى نحكم عليها.

القيل الثالث عشر:

لقد استدلّوا بأقوالِ معاصرٍ على أنّ المدفونة في الشام هي رقيّة بنت

ص: 310


1- ([1]) أُنظُر: كتاب زينب ورقيّة في الشام: 119.

الإمام عليّ(علیهما السلام)، وناقشوا مناقشات تكاد تكون واهية لا يُنظر إليها ولا يُعتدّ بها، في قول مَن قال أنّ رقيّة بنت الإمام عليّ(علیه السلام) مدفونة في مصر، واستنتجوا من ذلك أنّ المدفونة في الشام هي رقيّة بنت الإمام عليّ(علیه السلام) لا بنت الإمام الحسين(علیه السلام).

وكأنّهم يقولون:

بما أنّ رقيّة بنت الإمام عليّ(علیه السلام) ليس لها قبرٌ في مصر، إذن فقبرها في الشام ((1)).

ولا ندري كيف حصلَت هذه النتيجة؟ وكيف ترتّبَت مقدّماتها؟ وما علاقة المقدّمات بالنتيجة؟ وما هو الدليل على أنّ رقيّة بنت أمير المؤمنين(علیه السلام) قد ماتت في الشام؟ وأيّ رقيّةٍ منهنّ كانت، الكبرى أم الصغرى؟ وما الّذي جاء بها إلى الشام؟ أكان في السبي، أم قبله، أم بعده؟

وقد مرّ معنا الكلام في ذلك، فلا نعيد.

القيل الرابع عشر:
اشارة

بعد أن عرفنا ما استدلّوا به من مقدّماتٍ غريبةٍ وأجنبيّةٍ عن النتيجة، وأنّ النتيجة تقفز بشكلٍ يفاجئ المتابع، ويبقى في حيرةٍ من أمره، لا يدري

ص: 311


1- ([1]) أُنظُر: كتاب زينب ورقيّة في الشام: 119 _ 120.

من أين انبثقت هذه النتيجة ولا علاقة للمقدّمات بها ولا ارتباط، قالوا:

فتلخّص أنّ الراجح هو:

أنّ السيّدة رقيّة الّتي يُزار قبرها في دمشق هي بنت أمير المؤمنين(علیه السلام)، لا بنت الإمامالحسين(علیه السلام)!!! ((1))

بغضّ النظر عن المناقشات الّتي يمكن أن يُناقَش به هذا الاستخلاص والاستنتاج، فإنّ ثَمّة حقيقة كامنة فيه، تتلخّص:

إنّ ما يفيده (التلخيص) _ بلا شكٍّ ولا تردّد _ أنّ ثَمّة سيّدة اسمها (رقيّة)، مدفونة في الشام في موضع القبر المعروف، إذ أنّ قولهم: (أنّ السيّدة رقيّة الّتي يُزار قبرها في دمشق) يمكن أن نستفيد منه عدّة إفادات:

الإفادة الأُولى:

إنّ هناك قبراً في دمشق يُزار، وهذا ما لا شكّ فيه، وقد اتّفقنا عليه.

الإفادة الثانية:

إنّ هذا القبر هو لسيّدةٍ اسمها (رقيّة)، وهذا أيضاً ما لا شكّ فيه ولا تردّد.

ص: 312


1- ([1]) أُنظُر: زينب ورقية في الشام: 130.
الإفادة الثالثة:

تمّ الاتّفاق على أنّها بنت أمير المؤمنين(علیه السلام)، إمّا مباشرةً _ كما يزعمون _، أو بالواسطة، أي هي بنت الحسين بن عليّ بن أبي طالب(علیهم السلام)، ونسبة بنت الحسين(علیه السلام) إلى أمير المؤمنين عليّ(علیه السلام) تصحّ، ولو كثرت الوسائط بينها وبينه ((1))، كيف والواسطة واحدة؟

الإفادة الرابعة:

زعموا أنّها بنت أمير المؤمنين(علیه السلام) بلا واسطة، وقدعرفنا أنّ هذا الزعم لا سند له ولا دليل يمكن أن يُرتكن إليه ويُعتمَد عليه، فلا دليل على وفاة بنت أمير المؤمنين رقيّة(علیهما السلام) في السبي في الشام، ولم يذكر ذلك أحدٌ من المتقدّمين ولا من المتأخّرين، ولا دليل على أنّ رقيّة بنت أمير المؤمنين(علیهما السلام) كانت قد قدمت الشام في غير سفر السبي.

الإفادة الخامسة:

ذكر العماد الطبريّ _ وغيره كثيرون _ أنّ بنتاً للإمام الحسين(علیه السلام) قد ماتت في مصيبةٍ تهدّ الرواسي في الشام، ودُفنَت هناك، وقال كثيرون أنّ اسمها (رقيّة)، واشتهر عند المتقدّمين والمتأخّرين أنّ هذا القبر الّذي يُزار لها.

ص: 313


1- ([2]) أُنظُر: كتاب زينب ورقيّة في الشام: 122.
الإفادة السادسة:

قد عرفنا صحّة النسبة بالوسائط، فالمفروض أن يُحمل قولُ مَن قال: إنّ المدفونة في الشام رقيّة، على رقيّة بنت الحسين(علیهما السلام)؛ وذلك لأنّ الأكثر قد نسبها إلى الحسين(علیه السلام) مباشرة، ونسبها القليل إلى أمير المؤمنين(علیه السلام) بواسطةٍ واحدة.

أو يُحمل قول مَن قال: أنّها بنت الإمام عليّ(علیه السلام)، على الاشتباه والسهو، سيّما أنّ بعضهم يصرّح بذكر مصيبتها، وذكر النزول إلى القبر، وأنّهم وجدوها دون البلوغ، وهذه الصفات تنطبق على بنت الحسين(علیه السلام) لا بنت أمير المؤمنين(علیه السلام) الّتي كانت امرأةً كاملةً ربّما بلغت الأربعين سنة ((1)).

ص: 314


1- ([1]) أُنظُر: كتاب زينب ورقيّة في الشام: 130.
الخاتمة
اشارة

تبيّن لنا _ من خلال هذه الدراسة _ أنّ النافي صنفان:

الصنف الأول: ناقش في أصل وجود السيّدة

ثَمّة مَن ناقش من متأخّري المتأخّرين في أصل وجود السيّدة، واعتمد في ذلك على حصر النسّابة بنات الإمام في عددٍ محدَّد، وأنّه لم يأتِ اسمها في عِداد بنات الإمام(علیه السلام) عندهم.

وقد تبيّن لنا أنّ دليلهم هذا مهزوزٌ ضعيف، كذّبه النسّابة والمؤرّخ، على التفصيل المذكور في أصل البحث.

وربّما اعتمد آخَرون على خدش المصادر الّتي ذكرتها، وقد أتينا على تفصيل الكلام في ذلك، وتبيّن لنا أنّ هذا الدليل كليلٌ عليلٌ مترنّحٌ غير ناهضٍ ولا يصمد للنقاش.

الصنف الثاني: ناقش في المدفون في الشام

أمّا مَن ناقش في نسبة القبر الموجود القائم في دمشق الشام لها، ومحاولة نسبته إلى عمّتها رقيّة بنت الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام)، فإنّ ما ذكروه

ص: 315

من الأدلّة كان بمستوىً من الضعف والتزلزل، وعدم التماسك والارتجاج، بحيث لا يجمل مناقشتها ولا التعرّض لها، إذ بدَت أنّها أدلّةٌ قائمةٌ على مقدّمات مفكَّكة لا علاقة لها بالموضوع، وتفتقر إلىالمقدّمة الأهمّ، وهي إثبات وفاة السيّدة رقيّة بنت الإمام عليّ(علیه السلام) في الشام، ولو من مصدرٍ معاصر، ومع ذلك فقد ناقشناها إتماماً للبحث وإماطةً للشبهة وتأكيداً للأمر.

ونضيف هنا كلمة:

إنّ إثبات قبرٍ للسيّدة رقيّة بنت أمير المؤمنين في الشام وفي هذه البقعة بالذات لو ثبت، لا ينفي أن تكون البقعة المطهَّرة تضمّ جسدَين مقدَّسين، ولا يمنع من ذلك، فعلى فرض كون السيّدة بنت أمير المؤمنين مدفونة في هذه البقعة، فإنّ هذا لا يكون دليلاً على عدم وجود رقيّة أُخرى في تلك البقعة، وإنّما يثبت الأُولى فقط.

* * * * *

بعد أن تهاوت أدّلة النافي، وجدنا من الشواهد والدلائل الكثير ممّا يشهد لهذه السيّدة المظلومة ولمصيبتها، وينهض بجدارةٍ للإثبات.

* * * * *

ونرجو من الله السداد لنا ولإخواننا المؤمنين، والتوفيقَ لما فيه رضى سيّد الشهداء الإمام الحسين(علیه السلام)، لنكون ممّن يساهم في فضح أعداء زين

ص: 316

السماوات والأرضين، وبيان جنايتهم العظمى وجريمتهم النكراء الّتي أتت على آل النبيّ الأمين(صلی الله علیه و آله)، وشدّ قلوب المؤمنين بساداتهم وأئمّتهم أئمّة الهدى الطيّبين الطاهرين(علیهم السلام).

والحمد لله ربّ العالمين.

ص: 317

ص: 318

المرحلة الرابعة: السيّدة رقيّة في الكتب

اشارة

إخترنا جملةً من النصوص والمتون الّتي ذكرت السيّدة المظلومة بنت الإمام غريب الغرباء، رقيّة(علیها السلام)، وهي بين متنٍ عربيّ وفارسيّ مترجَم إلى العربيّة، فأدرجناها ضمن المرحلة الرابعة، ليكون هؤلاء العلماء الأبرار الّذين ذكروها _ على الأقلّ _ شهوداً على وجودها ونسبتها إلى أبيها وعلى ما جرى عليها ودفنها في الشام.

وحاولنا ما استطعنا أن نختار نصوصاً تختلف في طريقة العرض والسرد وأُسلوب البيان، وتختلف في التفاصيل أحياناً، لتكون نموذجاً ليس إلّا، فربّما كان مجموع النصوص يقدّم رسماً يوضّح المشهد ويُكمل الصورة.

واقتصرنا على هذا العدد القليل، رغم أنّ الكتب الّتي ذكرتها كثيرة، خوفاً من الإطالة والخروج عن غرض الكتاب.

وما ذكرناه من المتون بعد العماد الطبريّ والكاشفيّ والطريحيّ إنّما جاء ترتيبها حسب وقوع الكتاب بأيدينا ومباشرتنا لنقله أو ترجمته، من دون

ص: 319

مراعاةٍ لتاريخ الوفاة وما شاكل.

وقد ذكرنا الأسماء مجرّدةً عن الألقاب والصفات، مع الاعتذار لهم وللقارئ الكريم، وكذا جرى ذكر الأسماء عند ذكر الشعراء، معأنّهم يستحقّون الألقاب الفاخرة والمفاخر الزاخرة والصفات الحميدة، بَيد أنّنا نخشى أن نقصّر في ذلك معهم، ونعتمد على أسمائهم اللامعة وشخصيّاتهم المعروفة المشهورة، وقاماتهم وقممهم السامقة.

ص: 320

(كامل البهائيّ)، عماد الدين الطبريّ

قال الشيخ عماد الدين الطبريّ في كتابه (كامل البهائيّ) ما ترجمته:

في كتاب (الحاوية): أنّ نساء آل بيت النبوّة كُنّ يُخفين على الأولاد والبنات الصغار مقتل الرجال في كربلاء، فكنّ يسلّين الأطفال، ويقلن لهم أنّ أباك في سفرٍ وسيعود.

فلمّا أتوا بهم إلى دار يزيد، وكان بينهم بنتٌ صغيرةٌ لها أربع سنوات، استيقظَت ذات ليلةٍ من نومها وقالت: أين أبي الحسين؟ لقد رأيتُه الساعة في المنام، وهو مضطربٌ وقلقٌ جدّاً.

فضجّ النساء والأطفال جميعاً بالبكاء والعويل، وكان يزيد نائماً فاستقظ من نومه، فسأل عن سبب ذلك، فأخبروه بالحال، فأمر اللعين في الحال أن يُحضِروا رأس أبيها ويضعونه بين يديها.

فجاء الملاعين بالرأس ووضعوه بين يديها تلك البنت ذات السنين الأربعة، فسألت: ما هذا؟ قال الملاعين: هذا رأس أبيكِ! ففزعت البنت وصرخت وتأثّرت ومرضت، وسلّمت

ص: 321

روحها إلى بارئها في غضون تلك الأيّام ((1)).

ص: 322


1- ([1]) كامل البهائيّ، لعماد الدين الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن الحسن الطبريّ، المشهور بعماد الدين الطبريّ، تحقيق وتصحيح: أكبر صفدري قزويني، طبع: إنتشارات مرتضوي، ص 523.

(روضة الشهداء)، الكاشفي (ت 910 ه-)، ترجمة: السيّد شعاع فاخر

وفي (كنز الغرائب): إنّ يزيد أنزل أهل البيت في موضعٍ من قصره، وكانت للإمام الحسين ابنةٌ في الرابعة من عمرها، تحبّ أباها حبّاً جمّاً ويحبّها، ومنذ استُشهد أبوها ما زالت تلحّ في سؤالها: أين أبي؟ فيجيبونها بأنّه ذهب لحاجةٍ وهو عائدٌ لتوّه، ويسلّونها بأنواع المسلّيات، وكانت في شوقٍ مُلحٍّ لرؤية أبيها.

فرأت أباها ذات ليلةٍ في المنام، وهي في قصر يزيد، وقد وضعها في حِجْره، فلشدّة ما داخَلَها من الفرح انتبهَت، فلم تجد أباها، فازداد اشتياقها، وعظمت لوعتها واضطربت حالها، وأخذت بالبكاء، فسألوها عن سبب بكائها، فقالت: الآن كنتُ أجلس إلى جنب أبي، فلمّا فتحتُ عينَيّ لم أره إلى جانبي، قولوا لي أين أبي؟ فإنّي لا أُطيق فراقه بأكثر من هذا. وكلّما حثّوها على الصبر والتحمّل تجيبهم:

اَلله يعلم أنّني لا صبر لي في الصبح أفقده وفي الإمساءِ وصاحت: أُريد أبي، خُذوني إليه أو ليأتني!

فلمّا سمع أهل البيت حديثها، علَت الصيحة منهم مرّةً

ص: 323

واحدة، وزاد بكاؤهم ونحيبهم، فنتبّه يزيد مرعوباً من بكائهم، وأرسل مَن يستطلع خبرهم وما الّذي جرى لهم، فأخبروه بواقع الحال مِن أنّ بنتاً للحسين(علیه السلام) اشتاقت إلى أبيها، فهي تبكي لفراقها إيّاه يحملها الشوق على ذلك.

فقال يزيد: خذوا إليها رأسه، لعلّها تسلو بذلك أو تنسى.فحمل حاشية يزيد الرأس في طبق فضّةٍ مغطّىً بمنديل من السندس، وأقبلوا به إلى موضع أهل البيت، وقال: يقول يزيد: أروها الرأس لعلّها تتسلّى به.

ولكن لمّا وضعوا الطبق بين يديها سألت: ما هذا؟ قالوا: هذا ما كنتِ تطلبين. فأزاحت المنديل عنه، وإذا بها ترى رأساً موضوعاً على ذلك الطبق، فتناولته بكلتا يديها، وحدّقت فيه طويلاً، فعرفت أنّ الرأس رأس أبيها، فتأوّهَت طويلاً، ومسحت وجهها بوجهه، وإذا بها قد فارقت الحياة.

فعاد العزاء والمناحة لأهل البيت مرّةً ثانية، وتجدّدت مصيبة الشهداء.

... [أبياتٌ بالفارسيّة]

عُدتَ يا أيّها الأجل*بالعزا يقتل الأمل

آل طه بمأتمٍ * لمصابٍ دهى جلَل

ص: 324

بركامٍ على السما * مازج السهل والجبل

وبحارٍ تماوجت * موجها يشبه القلل

إنّه الدمع ممطرٌ * ليس ذا عارض أطل

أترى البرق لامعاً * من قلوبٍ بدت شُعَل؟

مَن أراد البكا من ال * إنس والجنّ حيّهل

أحرقت نار حزنهم * كلّ حافٍ ومنتعل ((1))

ص: 325


1- ([1]) روضة الشهداء للكاشفي: 745 _ 747 _ بترجمة: السيّد شعاع فاخر.

(المنتَخب)، الشيخ الطريحيّ. والبهبهانيّ، الدربنديّ، القمّيّ ...

روى الطريحيّ في (المنتخب)، والقزوينيّ في (تظلّم الزهراء(علیها السلام))، والبهبهانيّ في (الدمعة الساكبة)، والدربنديّ في (أسرار الشهادة)، والقمّيّ في (نفَس المهموم)، وغيرهم.. واللفظ للأوّل:

أنّه لمّا قدم آل الله وآل رسوله على يزيد في الشام، أفرد لهم داراً، وكانوا مشغولين بإقامة العزاء، وإنّه كان لمولانا الحسين(علیه السلام) بنتاً عمرها ثلاث سنوات، ومِن يوم استُشهد الحسين ما بقيَت تراه، فعظم ذلك عليها، واستوحشَت لأبيها، وكانت كلّما طلبت يقولون لها: غداً يأتي ومعه ما تطلبين.

إلى أن كانت ليلةٌ من الليالي رأت أباها بنومها، فلمّا انتبهت صاحت وبكت وانزعجت، فهجّعوها وقالوا: لمَ هذا البكاء والعويل؟ فقالت: آتوني بوالدي وقرّة عيني.

وكلّما هجّعوها ازدادت حزناً وبكاءً، فعظم ذلك على أهل البيت، فضجّوا بالبكاء، وجدّدوا الأحزان، ولطموا الخدود، وحثوا على رؤوسهم التراب، ونشروا الشعور، وقام الصياح، فسمع يزيد صيحتهم وبكاءهم.

فقال: ما الخبر؟ قالوا: إنّ بنت الحسين الصغيرة رأت أباها

ص: 326

بنومها فانتبهت، وهي تطلبه، وتبكي وتصيح.

فلمّا سمع يزيد ذلك قال: ارفعوا رأس أبيها وحطّوه بين يدَيها، لتنظر إليه وتتسلّى به.

فجاؤوا بالرأس الشريف إليها مغطّىً بمنديلٍ ديبقي، فوُضِع بين يديها وكُشف الغطاء عنه، فقالت: ما هذاالرأس؟ قالوا لها: رأس أبيك.

فرفعَته من الطشت حاضنةً له، وهي تقول: يا أباه! مَن ذا الّذي خضبك بدمائك؟ يا أبتاه! مَن ذا الّذي قطع وريدك؟ يا أبتاه! مَن ذا الّذي أيتمني على صغر سنّي؟ يا أبتاه! مَن بقيَ بعدك نرجوه؟ يا أبتاه! مَن لليتيمة حتّى تكبر؟ يا أبتاه! مَن للنساء الحاسرات؟ يا أبتاه! مَن للأرامل المسبيّات؟ يا أبتاه! مَن للعيون الباكيات؟ يا أبتاه! مَن للضائعات الغريبات؟ يا أبتاه! مَن للشعور المنشّرات؟ يا أبتاه! مِن بعدك وا خيبتنا؟ يا أبتاه! مِن بعدك وا غربتنا؟ يا أبتاه! ليتني كنت الفداء، يا أبتاه! ليتني كنتُ قبل هذا اليوم عمياء، يا أبتاه! ليتني وُسِّدْتُ الثرى ولا أرى شيبك مخضَّباً بالدماء.

ثمّ أنّها وضعت فمها على فمه الشريف، وبكت بكاءً شديداً حتّى غُشي عليها، فلمّا حرّكوها فإذا بها قد فارقَت روحُها الدنيا، فلمّا رأوا أهل البيت ما جرى عليها أعلنوا بالبكاء

ص: 327

واستجدّوا العزاء، وكلّ من حضر من أهل دمشق، فلم يُرَ في ذلك اليوم إلّا باكٍ وباكية ((1)).

* * * * *

قال العلّامة الدربنديّ:

أقول: إنّ مَن تأمّل في شدّة كفر يزيد (لعنه الله) وزندقته، وشدّة قساوة قلبه، وكثرة بغضه وعناده لأهلالبيت(علیهم السلام)، علم أنّ مقصوده من إنفاذ الرأس الشريف (روحي له الفداء) وإرساله إلى أهل البيت في الحبس والسجن لم يكن أن تتسلّى به تلك الصغيرة المظلومة اليتيمة، بل كان مقصوده من ذلك إهلاكها بفعله هذا، ووقوع الحرم والسبايا في حالةٍ مثل حالتهنّ يوم عاشوراء في الطفّ.

بل إنّ ذلك الكافر الزنديق كان يترجّى بفعله ذلك وبهلاك تلك اليتيمة الصغيرة المظلومة، هلاك جمعٍ من الحرم والسبايا.

ص: 328


1- ([1]) المنتخَب للطريحي: 2 / 140، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 141، أسرار الشهادة للدربندي: 515، نفَس المهموم للقمّي: 456، تظلّم الزهراء(علیها السلام) للقزويني: 279، العيون العبرى للميانجي: 284، وسيلة الدارين للزنجاني: 393.

ثمّ إنّه لمّا صُبّت في ذلك اليوم على أهل البيت مصائب، لو أنّها صُبّت على الأيّام صِرنَ لياليا، وذلك بسبب رؤيتهم الرأس الشريف (روحي له الفداء) ومشاهدتهم هلاك تلك اليتيمة المظلومة الصغيرة، وتذكّرهم في تغسيلها وتكفينها وتدفينها الأجسادَ الطاهرات والأجسام الطيّبات المطروحة بلا رأسٍ في أرض كربلاء، والأبدان المجروحات، والجسوم المرضوضات المنبوذات بلا غُسلٍ ولا أكفان في عرصة البلاء، صار يومهم ذلك كيوم عاشوراء، فضجّت النساء الحاسرات، ورفعن الأصوات، وأحاطت ولولتهنّ بأصقاع دمشق وأطرافها، وصار أهلها بين الباكين والباكيات، وذلك حيث ذُهل أهلها عن فطرتهم الثانويّة المانعة عن الرقّة والترحّم والبكاء على آل الله وآل الرسول، ورجعوا إلى مقتضيات الفطرة الأوّليّة من الرقّة والترحّم والبكاء على أهل البيت، فحينئذٍ كثر التحديث والتحادث بينهم بظلم يزيد (لعنه الله) وشدّة كفره وزندقته، وكادوا أن يخرجوا عليه ويُزيلوا دولته، فصار هذا أيضاً سبباً من أسباب غلبة الخوف والخشية على يزيد (لعنه الله)، ووقوع الرعب في قلبه وتطلّبه المعاذير، وإسراعه بعد ذلك إلىإطلاق أهل البيت عن المحبس والسجن، وستطّلع إن شاء الله على جملةٍ أُخرى

ص: 329

من الأسباب والدواعي ((1)).

ص: 330


1- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 515. ولنا على كلامه تحفُّظٌ فيما يخصّ تأثّر أهل الشام وخوف يزيد وإمكان خروجهم عليه، فإنّ ذلك جميعاً من التحليلات الّتي لا تعتمد على مستند، وكلّ ما في التاريخ من حوادث وإشارات تفيد أنّ أهل الشام كانوا في الأعمّ الأغلب على دِين يزيد ومعاوية، إذ أنّهم أخذوا معالم دينهم من القرود النازية على منبر الرسول(صلی الله علیه و آله)، ولم يعرفوا حرمةً لآل النبيّ والبتول(علیها السلام)، والحديث في ذلك مفصَّلٌ لا يسعه هذا الهامش.

(مصائب المعصومين)، اليزدي

... لمّا وصلوا إلى دمشق وأدخلوهم في مجلس يزيد (عليه لعائن الله)، وآذى كلّهم بأنواع الأذى، أمرهم بالسجن، وكان أهل البيت (أرواحنا فداهم) فيه في الأيام في حرّ الشمس، وفي الليالي في الظلمة، حتّى تقشّرَت وجوههم، فأصابهم فيه مصيبةٌ عظيمة.

فإنّه رُوي في بعض الكتب:

أنّه كانت بين الأُسارى بنتٌ صغيرةٌ لمولانا الحسين، وكانت تحبّ أباها كثيراً، وكان الحسين بالنسبة إليها شديد المحبّة، وهي في أكثر الأيّام والليالي كانت باكيةً على مفارقة أبيها، ومجرّحةً قلوب أهل البيت بذِكره، وقد مضى من عمرها ثلاث سنوات، ومِن يوم استُشهد الحسين ما بقيَت تراه، فعظم ذلك عليها، واستوحشت لأبيها، وكانت كلّما طلبت أباها يقولون: غداً يأتي ومعه ما تطلبين.

إلى أن كانت ليلةٌ من الليالي رأت أباها في نومها، فلمّا انتبهت صاحت وبكت وانزعجت، فهجّعوها فقالوا: ما هذا البكاء والعويل؟ فقالت: آتوني بوالدي وقرّة عيني. فكلّما هجّعوها ازدادت حزناً وبكاءً.

ص: 331

فعظم ذلك على أهل البيت، فضجّوا بالبكاء، وجدّدوا الأحزان، ولطموا الخدود، وحثوا على رؤوسهم التراب، ونشروا الشعور، وقام الصياح.

فسمع يزيد (لعنه الله) صيحتهم وبكاءهم، فقال: ما الخبر؟ قالوا: إنّ بنت الحسين الصغيرة رأت أباها بنومها، فلمّا انتبهت صاحت وبكت وانزعجت وطلبت أباها.

فلمّا سمع يزيد ذلك قال: ارفعوا رأس أبيها وحطّوه بينيدَيها، لتنظر إليه وتتسلّى به.

فجاؤوا بالرأس الشريف إليها، وهو مغطّىً بمنديلٍ ديبقي، فوُضع بين يديها وكُشف الغطاء عنه، فقالت: ما هذا الرأس؟ فقالوا: هذا رأس أبيك. فرفعته من الطست حاضنةً له، وهي تقول: يا أبتاه! مَن ذا الّذي خضّبك بدمائك؟ يا أبتاه! مَن ذا الّذي قطع وريديك؟ يا أبتاه! مَن ذا الّذي أيتمني على صِغَر سنّي؟ يا أبتاه! مَن لليتيمة حتّى تكبر؟ يا أبتاه! مَن للنساء الحاسرات؟ يا أبتاه! مَن للأرامل المسبيّات؟ يا أبتاه! مَن للعيون الباكيات؟ يا أبتاه! مَن للضائعات الغريبات؟ يا أبتاه! مَن للشعور المنشورات؟ يا أبتاه! مِن بعدك وا خيبتاه، يا أبتاه! مِن بعدك وا غربتاه، يا أبتاه! ليتني كنتُ لك الفداء،

ص: 332

يا أبتاه! ليتني كنتُ قبل هذا اليوم عمياء، يا أبتاه! ليتني وُسِّدت الثرى ولا أرى شيبك مخضّباً بالدماء.

ثم إنّها وضعَت فمها على فمه الشريف، وبكت بكاءً شديداً حتّى غُشي عليها، فلمّا حرّكوها وإذا هي قد فارقت روحها الدنيا.

فلمّا رأى أهل البيت ما جرى عليها، أعلنوا بالبكاء واستجدّوا العزاء، وكلّ مَن حضر من أهل دمشق، فلم يُرَ في ذلك الوقت إلّا باكٍ وباكية.

إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وسيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون ((1)).

ص: 333


1- ([1]) مصائب المعصومين، لعبد الخالق بن عبد الرحيم اليزدي، انتهى من تأليف الكتاب (1241)، الطبعة الحجريّة: 360.

(رياض القدس)، صدر الدين واعظ القزويني

اشارة

قال الشيخ صدر الدين واعظ القزوينيّ في رياض القدس (طبع حجري): 2/ 323:

أحوال بنت الحسين(علیه السلام) في الخرابة

أسفي على فاطمة البتول، وعلى أولادها وذراريها المظلومين، المسموم بعضهم، والمقتول بعضهم، والمأسور بعضهم بأيدي الطغاة وأراذل العراق والشام، القاطنين بالمنزل الخراب، المهتضمين من محنة الاغتراب، والسمية كبارهم لمحنة المتوفاة، وصغارهم في غصّةٍ وحسرات، سيّما الصغيرة المظلومة الّتي سُبيَت من العراق، واحترقت بنار الاشتياق، زينب(علیها السلام).

* * * * *

لمّا أنزلوا أولاد الرسول وذراري فاطمة البتول في خرابة الشام، كان أُولئك الغرباء المظلومين والسبايا المفجوعين يبكون ليلاً ونهاراً على شهدائهم الشبّان وينوحون، ولا يفترون ساعة.

وكان إذا صار العصر يصطفّ الأطفال الأيتام الصغار على باب الخربة، فيرون أهل الشام مسرورين فرحين، يأخذون بأيدي أطفالهم _ وقد حملوا الطعام والشراب _ وهم يرجعون

ص: 334

إلى بيوتهم، فكان هؤلاء الأطفال المُتعَبين المحزونين مثل الطيور المكسورة الجناح يلوذون بعمّتهم، ويقولون: يا عمّتاه، أوَليس لنا بيوت؟ أوَليس لنا آباء؟ فتقول فخر المخدّرات: أجل يا نور عيني، بيوتنا في المدينة، وآباؤكم في سفر.وكان بين تلك السيّدات البنات الصغيرات، بنيّةٌ صغيرةٌ للإمام يُقال لها: فاطمة، قد عذّبها الهجران وغصص الفراق، وعانت آلام الجوع والعطش، وتجرّعَت أوصاب السفر وحرقة فقدان الأب والأخ، ولوّعتها السياط وكعوب الرماح وهي على ناقةٍ بلا وطاءٍ ولا غطاء، فكانت قد عافت عمرها وسئمت الحياة، فقد أثّر اليتم والتشريد في اليتيمة المظلومة الصغيرة أثراً بليغاً.

وفي ذات ليلةٍ من ليالي إقامتهم في الخرابة، هجم الهمّ والغمّ على قلب الصغيرة، فتمنّت النظر إلى جمال وجه أبيها، وكان أبوها يحبّها حبّاً شديداً.

قال الشيخ الربّاني الشيخ حسن الدهستاني:

كان الحسين له ابنةٌ صغرى، اسمها

كاسم البتول الطهر أكرم بضعةِ

ص: 335

كملت ثلاث سنين ((1))، ولكن عقلها

عقل الكوامل من خيار العترةِ

وكان سيّد الشهداء يحبّ أُمَّه فاطمة الزهراء حبّاً شديداً، فكان يسمّي بناته: فاطمة، ويسمّي أولاده: عليّاً، ويميّزهم بالألقاب: عليّ الأكبر، عليّ الأوسط، عليّ الأصغر، فاطمة الصغرى، فاطمة الكبرى.

وكانت سكينة هذه البنت المظلومة لها من العمر ثلاث أو أربع سنين، واسمها فاطمة أيضاً، وهي رغم صغر سِنّها إلّا أنّ عقلها كان عقل المخدّرات الكفوءات، وكان يحبّها سيّد الشهداء حبّاً شديداً.

فالسبط مشغوفٌ بها حبّاً

فما زالت لديه يشمّها

كالوردوكانت تنام في الليل في حِجر الإمام، وذلك أنّها حينما حضرت عند جسد أبيها صبغت شعرها من دم نحره، وقالت: يا أبه، إذا أظلم الليل فمَن يحمي حِماي؟!

[وداع السيّدة مع أبيها]

وروى في (الرياض) عن بعض مؤلّفات الأصحاب حال هذه البنت

ص: 336


1- ([1]) قال المؤلّف: أربع سنين.

المضطربة المفجوعة على نحو الإطناب والتفصيل، وإن كان الكثير من أرباب المقاتل يروون عن السيّد في (اللهوف) وغيره، لكنّ الواقعة المُحرِقة للقلوب الّتي يرويها صاحب التوفيق في يوم عاشوراء بعد شهادة الأقارب والأحباب، جاء الإمام المستضام حتّى وقف بين الخيام يودّع المخدّرات، وكان للحسين بنتٌ عمرها ثلاث سنوات، فجعل يقبّلها وقد نشفت شفتاها من العطش، فالتفتت إليه وقالت: يا أبتاه، العطش العطش! فإنّ الظمأ قد أحرق كبدي. ثمّ أجلسها في حِجره وهو يسلّيها ويصبّرها ويتحنّن عليها.

ثم إنّه(علیه السلام) تجهّز ولبس لامة حربه واعتدّ بعدّته، وأوصى ولده زين العابدين بوصاياه، وخرج من الخيمة، فلحقَته ابنته الصغيرة وتعلّقت بأذياله وهي تبكي وتقول: يا أبه، أين تمضي عنّا، ولا حميّ لنا غيرك؟! فقال لها: «اجلسي عند الخيمة، لعلّي آتيكِ بالماء يا نور عيني».

ثم توجّه نحو الميدان، فلمّا دنا نحو القوم وكشفهم عن المشرعة، جعلوا ينتشرون بين يديه كالجراد، فلمّا اقتحم المشرعة ناداه العسكر: يا حسين، أتلتذّ بالماء وقد هجم الأعراب على خيمة حرمك؟ فخرج الإمام من المشرعة، ورجع إلى خيامه وهو يعلم أنّهم كاذبون، فلم يذقِ الماء،

ص: 337

وإنّما رموه بسهمٍ وقع في فمه.

فلمّا رجع إلى الخيمة رأته ابنته الصغيرة مُقبِلاً على فرسه مسرعاً، قامت راكضةً نحوه واضعةً يديها على خاصرتيها وقالت: يا أبه، أتيتَني بالماء.

وا مصيبتاه، استحى الإمام وقال لها: «لا قرّةَ عيني، اصبري، فلعلّي آتيكِ بالماء في المرّة الثانية». ثمّ توجه نحو الميدان، فلم ترَ البنت وجه أبيها بعد تلك الساعة.

[وداعها في المصرع]

اشارة

ولكن حينما مرّوا بجميع الأسرى والنساء كباراً وصغاراً على مصارع الشهداء، فلمّا وصلوا إلى مصرع الإمام المرمّل بالدماء، رأينه جثّةً بلا رأس، فوقعن عليه، واشتدّ منهنّ البكاء والعويل، فجعلَت السيّدة سكينة تأخذ الدم من نحر أبيها وتصبغ به شعرها وجبينها، واشتدّ بكاء السيّدة زينب وخرجت حسراتها وزفراتها دموعاً وعبراتٍ تحرق الآماق، فأخذت البنت إلى حضنها، وجعلت تغطّي وجهها بفاضل ردنها؛ لئلّا ترى أباها مخضّباً بالدماء، وكانت الطفلة قد أدركَت بعقلها ومشاعرها ما يجري، ولماذا حجبوها عن المنظر، فقالت: دعوني أُقبّله وأطلب منه ما وعدني به.

ص: 338

فكانت النسوة يسلّينها ويقلن لها: لا ترينه الآن، وغداً يأتي ومعه ما تطلبين.

إنقضى ذلك اليوم، والبنت لا تفتر تسأل عن أبيها وتبكي، وتقول: أي أبي ووالدي والمحامي عنّي! والنساء يسلّينها ويُسكتنها ويعزّينها.

[رقيّة في الطريق بين الكوفة والشام]

حملوهم من كربلاء إلى الكوفة ومن الكوفة إلى الشام على نياقٍ هزيلة، يحثّون المطى ويستعجلون المسير، فكانت تتضوّر وتتوجّع رقيّة من ركوب الناقة، وتبكي وتقول لأُختها السيّدة سكينة: أيا أُخت، قد ذابت من السير مهجتي، فاسألي الجمّال القاسي ينزلنا ساعةً لنستريح، أو يُبطئ المسير، فقد أعيانا السفر وكاد يقضي علينا فنموت، واسألي الحادي: متى نبلغ إلى المنزل في الطريق فنستريح؟

وا ويلاه، من مصائب آل الرسول وذراري فاطمة البتول!

[في الشام]

لمّا وصلوا إلى الشام المشؤوم، وحضروا مجلس يزيد فرأوا ما رأوا، وأنزلوهم في الخرابة، ضاق قلب البنت الصغيرة في تلك الخرابة، فلا فراش ولا سراج، ولا ماء ولا طعام، في النهار

ص: 339

تحت أشعّة الشمس، وفي الليل بكاء النساء وعويلهم ونياحتهم لا يفترون.

وفي ذات ليلةٍ هاج بها الشوق إلى رأس أبيها، فجلست في زاويةٍ من الخرابة واضعةً رأسها بين ركبتيها، وهي تبكي وتصبّ الدموع، وتخاطب أباها وتشكو له وتستعدي عنده، ولا زالت باكيةً حتّى بلّت الأرض من دموعها، فأزهرت وروداً وزهراً، فوضعت رأسها على رمال المحنة والهموم، وهي في تلك الحال فهوّمت عينيها، فرأت في عالم الرؤيا رأس أبيها في طشتٍ من ذهب بين يدَي يزيد، وهو ينكث ثناياه وشفتيه بالخيزران، والرأس يستغيث إلى ربّ السماء، وكأنّهيقول:

تركتُ الخلق طرّاً في هواكا

وأيتمتُ العيال لكي أراكا

فلمّا رأت رأس أبيها بهذا الحال جزعت وفزعت، وأفاقت من نومها تبكي وتقول: وا أبتاه، وا قرّة عيناه، وا حسيناه! وصرخت صرخةً اضطرب لها كلُّ مَن كان في الخرابة، وهي تصرخ: آه، وا أبتاه، وا قرّة عيناه، يا أبتاه، يا غريب، يا طبيبي! فاجتمع حولها أخواتها وعمّاتها، يسألونها عن سبب ضجّتها وعويلها واضطرابها، وهي تقول: آتوني بوالدي وقرّة عيني،

ص: 340

لأنّي رأيت رأسه بين يدَي يزيد ينكث شفتيه وأسنانه بالخيزران، وهو يستغيث إلى ربّه. فكلّما أرادوا إسكاتها لم تسكت، وهجّعوها فلم تهجع، وكانت تزداد لوعتها ويشتدّ بكاؤها وعويلها، فجاء الإمام زين العابدين وأخذ أُخته وضمّها إلى صدره وجعل يسلّيها ويعزّيها ويصبّرها، ويقول لها: «اسكتي يا نور عيني، فإنّ بكاءكِ أحرق قلوبنا»، فلم تهدأ البنت المظلومة، ولم تسكن رنّتها ونياحتها، وكأنّها تقول:

أين الحسين أبي وغاية مطلبي

ومدلّلي ومقبّلي ومسكّني؟

فبكت في حِجر أخيها الإمام زين العابدين حتّى غُشي عليها وانقطع نفسها، فضجّوا بالبكاء، وجدّدوا الأحزان، وحثوا على رؤوسهم التراب، ولطموا الخدود، وشقّوا الجيوب، وقام الصياح، فبلغ صياحهم وعويلهم سَمْع يزيد.

وفي نسخة: قال طاهر بن عبد الله الدمشقي: كان رأس يزيد في حجري، وكنت أقصّ له، وكان رأس ابن فاطمةفي طشت، فلمّا ارتفعت الضجّة والصيحة من الخرابة رأيتُ الغطاء ينكشف عن الطشت، وارتفع الرأس حتّى بلغ قريباً من السقف، وقال بصوتٍ رفيع: «أُختي، سكّتي ابنتي!».

قال طاهر: ثمّ رأيت الرأس التفت إلى يزيد وقال: «يا يزيد، ما

ص: 341

لك؟ وما صنعتُ معك حتّى قتلتني وسبيت عيالي؟».

فلمّا سمع يزيد الصوت والنداء، قام وسألني: يا طاهر، ما الخبر؟ قلت: لا أعلم ما جرى في الخرابة حتّى ارتفع صارخهم عويلهم، وقد رأيتُ الرأس المقدّس ارتفع من الطشت. وأخبره ما رأى وما سمع.

فأرسل يزيد غلاماً إلى الخرابة فسألهم عن الخبر، قالوا: بنتٌ صغيرةٌ للإمام رأت أباها في النوم، فاستيقظَت تبكي وتصرخ، فرجع الغلام إلى يزيد فأخبره، فقال يزيد: ارفعوا رأس أبيها إليها، واطرحوه في حِجرها، فعسى إذا نظرت إليه تسلّت. فوضعوا الرأس المطهّر في طشتٍ وحملوه إلى الخرابة.

فأتوا به في الطشت يلمع نورُهُ

كالشمس، بل هو فوقها في البهجةِ

فجاؤوا بالرأس الشريف وهو مغطّىً بمنديلٍ ديبقيّ، فكُشف الغطاء عنه، فقالت: ما هذا الرأس؟ قالوا: رأس أبيكِ الحسين. فانكبّت عليه تقبّله وتبكي، وتضرب على رأسها ووجهها حتّى امتلأ فمها بالدم.

وفي (المنتخَب): وهي تقول: يا أبتاه! مَن ذا الّذي خضّبك

ص: 342

بدمائك؟ يا أبتاه! مَن ذا الّذي قطع وريديك؟ يا أبتاه! مَنذا الّذي أيتمني على صغر سنّي؟ يا أبتاه! مَن لليتيمة حتّى تكبر؟ يا أبتاه! مَن للنساء الحاسرات؟ يا أبتاه! مَن للأرامل المسبيّات؟ يا أبتاه! مَن للعيون الباكيات؟ يا أبتاه! مَن للشعور المنشورات؟ يا أبتاه! مِن بعدك وا خيبتاه، مِن بعدك وا غربتاه، يا أبتاه! ليتني كنتُ لك الفداء، ليتني كنتُ قبل هذا اليوم عمياء، يا أبتاه! ليتني وُسّدت الثرى ولا أرى شيبك مخضّباً بالدماء.

وفي (الرياض):

يا رأس يا رأس قد هيّجتَ أحزاني

لما جرى لك يا روحي وجثماني

يا رأس يا رأس قد هّجتَ لي شَجَناً

يزيد في القلب منه وَقْدُ نيراني

يا رأس يا رأس كيف الصبر عنك ولي

قلبٌ يقلّب في وجدٍ وأشجاني

أيا ذبيحاً بلا ذنبٍ ولا سببٍ

ويا قطيعاً رفيعاً فوق خرصاني

يا والدي، هدّ ركني البينُ، وا أسفى

ص: 343

عليك، إذ كنتَ دون الناس ترعاني

يا والدي، ليتني كنتُ الفداء ولا

أراك والرأس مشهور ببلداني

رجالنا قُتلوا، أطفالنا ذُبحوا

نساؤنا سُلبوا، وا طول أحزاني

وهكذا كانت اليتمية الصغيرة لا تفتر عن النياحة والبكاء، وتصبّ الدمع، حتّى أضحت أنفاسها تتقطّع واختنقت بعبرتها، وصارت كحمامةٍ مذبوحةٍ بالفأس، تتقلّب على الرأس فتقبّله من اليمين تارةً وتلطم رأسها،وتقبّله من اليسار تارةً وتنوح وتندب، وتمسح لحيته ومحاسنة المخضَّبة بالدماء بيدها تارة، وكان الرأس طريّاً نديّاً كأنّه قُطِع الساعة، فكانت كلّما مسحت الدم من شيبه احمرّ الشيب كما كان أوّلاً.

فكانت اليتيمة المظلومة تمسح وتبكي وهي تقول: يا أبتاه! مَن للنساء الثاكلات؟ آه، وا ويلاه!

ثمّ إنّها وضعت فمها على فمه الشريف وبكت طويلاً، فناداها الرأس: «بُنيّة، إليّ إليّ، هلمّي، فأنا لكِ بالانتظار». فلمّا سمعَت روحُ المخدّرة الصغيرة هذا الصوت، غُشي عليها

ص: 344

غشوةً لم تُفِق بعدها، فحرّكوها فإذا هي قد فارقت روحُها الدنيا، فارتفعت الضجّة والصيحة من أهل البيت بالنياحة والعويل، حتّى سمع مَن كان حولهم من الجيران، فاجتمعوا يستجلون الخبر، ويبكون مع بنات فاطمة الزهراء! فكان كيوم قتل الإمام الحسين(علیه السلام).

[تجهيزها ودفنها]

دعوا الغاسلة، وأحضروا الكفن والكافور، وجاؤوا بالسراج وبلوحٍ من الخشب وضعوا عليه الطفلة المعصومة، فاشتغلت الغاسلة بغسلها، والنساء يلطمن وجوههنّ ورؤوسهن، فلمّا انتهت من غسلها كفّنوها بثوبها الممزّق؛ لأنّ الشهيد يُكفَّن بثوبه، ودفنوها في نفس تلك الخرابة.

[الوداع مع قبرها]

لمّا عزم أهل البيت على الرجوع من الشام، مرّت بالقافلة على باب الخرابة، فأخرجَت السيّدة زينب رأسهامن المحمل وخاطبت النساء الشاميّات وقالت: في هذه الخرابة وديعةٌ لنا عندكم، فأحفظوها كما تحفظون أرواحكم،

ص: 345

زوروا قبرها، ورشّوا عليه الماء ((1)).

ص: 346


1- ([1]) رياض القدس للواعظ القزويني: 2 / 323 _ 327 _ بترجمة: السيّد علي جمال أشرف.

(الإمام الحسين وأصحابه)، الشيخ فضل عليّ القزوينيّ (ت 1367 ه-)، بتحقيق: السيّد أحمد الحسيني

رقيّة بنت الحسين(علیه السلام)

إختلفوا في عدّ بنات الحسين، كما اختلفوا في عدد أولاده الذكور، وسيأتي في ترجمة محمّد بن الحسين في الخاتمة ما هو المختار في عدد أولاده الذكور، إن شاء الله (تعالى).

أمّا عدد الإناث من أولاده فهما اثنان: سكينة وفاطمة، هذا مختار المفيد في (الإرشاد)، وبه قال الحافظ عبد العزيز الأخضر الجنابذي: زينب وسكينة وفاطمة، وقيل: ثلاثة، قال به ابن الخشّاب.

والمشهور بين علماء النسب _ على ما صرّح به ابن أبي طلحة _ أربع، قال كمال الدين محمّد بن أبي طلحة القرشيّ الشافعيّ في (مطالب السَّؤول في مناقب آل الرسول): كان للحسين من الأولاد عشرة، ستّة ذكور وأربع أناث، قال: وهذا قولٌ مشهور، قيل: بل كان له أربع، بنتين وابنين، والأوّل أشهر.

ثمّ قال: زينب وسكينة وفاطمة، وبه قال عليّ بن عيسى الإربلّيّ في (كشف الغُمّة)، والطبريّ في (كامل البهائيّ)، وهو الخيار.

ص: 347

وفي (دُرر الأصداف): إنّ للحسين فاطمة الصغرى وفاطمة الكبرى، قال في الحسين ما في (درر الأصداف) وبكلّ ما في (مطالب السَّؤول) و(الفصول المهمّة).

فالحاصل: أنّه كان للحسين أربع بنات: زينب، وسكينة، وفاطمة الصغرى، وفاطمة الكبرى.

أمّا سكينة فقد مرّ ذكرها، وأمّا الفاطمتان فستُذكران،وأمّا زينب فهي الّتي قد اشتهرت في ألسنة أصحابنا المتأخّرين والمعاصرين وفي جملةٍ من مقاتل أصحابنا ب (رقية بنت الحسين)، وهي المدفونة في الشام، وعليها قبّةٌ ولها مزارٌ باسم رقيّة، ونحن نقتفي آثار المتأخّرين في الاسم.

وقد اشتبه على الأمين المعاصر _ دامت أيّام إفاداته _ حيث قال: إنّ المدفونة في الشام رقيّة بنت أمير المؤمنين. وهذا منه _ مع طول باعه واطّلاعه بالأنساب _ اشتباهٌ واضحٌ وزللٌ لائح.

وقد تشرّفتُ بزيارتها؟سها؟ كِراراً، ووجدتُها من أبواب الحوائج، فقُضيَت حوائجي وسُهّل لي مهمّي في مدّة عمري، بحيث لو كتبتُ ما تفضّل لي ربّي بشفاعتها وقضاء حوائجي بالتوسّل إليها لَكان رسالةً مستقلّة، وسنذكر قضيّةً واحدةً في

ص: 348

ذيل الترجمة.

[كيفيّة وفاتها]

اشارة

وأمّا كيفيّة وفاتها، فعلى ما في (كامل البهائيّ) نقلاً عن كتاب (الخافية)، قال:

إنّ نساء أهل بيت النبوّة يخفين على الأطفال شهادة آبائهم، ويقلن لهم: إنّ آباءكم قد سافروا إلى كذا وكذا.

وكان الحال على ذلك المنوال حتّى أمر يزيد بإدخال النساء داره، وكان للحسين بنتٌ صغيرة لها أربع سنين، قامت ليلةً من منامها وقالت: أين أبي الحسين؟ فإنّي رأيتُه الساعة في المنام مضطرباً شديداً.

فلمّا سمعَت النسوة ذلك بكين، وبكي معهنّ الأطفال، فارتفع العويل، وانتبه يزيد من نومه وقال: ما الخبر؟ فقصّوا عليه الواقعة، فأمر بأن يذهبوا برأس أبيها إليها.فأتوا بالرأس الشريف ووضعوه في حِجْرها، فقالت: ما هذا؟ قالوا: رأس أبيكِ الحسين. ففزعت الصبيّة، وصاحت، فمرضت وتُوفّيَت في أيّامها بالشام ((1)) _ انتهى.

ص: 349


1- ([1]) راجع: كامل البهائي: 2 / 179.

وفيه ما لا يخفى؛ إذ صريح كلامه أنّ الواقعة كانت في دار يزيد، وأنّها مرضت أيّاماً وتُوفّيَت، وهذا خلاف ما عليه أصحابنا المؤرّخون والمحدّثون، إذ كلّ مَن ذكر القصّة قال: إنّها كانت في الخربة، أسكنهنّ يزيد قبل إفراد الدار لهنّ، وأنّها ماتت في الساعة ومن حينه. وما ذكره في (الخافية) كان مراعاةً ليزيد وتطهيراً له، كما هو دأبه ودأب أبناء نحلته، كما مرّ، إذ ليس في كتبهم ذكرٌ للخرابة، وما فعل يزيد بهنّ في الشام من طوافهنّ في الأسواق وهتكهنّ وإهانتهنّ، كما في كتب أصحابنا (رضي الله عنهم)، بل إنّما ذكروا في كتبهم ملاطفة يزيد ومحبّته إلى السبايا والأُسارى، وتبرأته عن قتل الحسين وسبي أهل بيته وغير ذلك، حفظاً منهم لمقام الخلافة، كي لا يسري إلى غيره، فتدبّر.

وأمّا ما رُوي في مقاتل أصحابنا وما هو الصحيح عندنا، ويدلّ عليه ما سيأتي فيما وعدناك من قريب:

أنّه لمّا أدخلوا السبايا إلى الشام وطافوا بهنّ في الأسواق، أسكنوهنّ في الخربة الّتي كانت قريباً من دار يزيد، وكان للحسين طفلةٌ صغيرةٌ لها أربع سنين، قد طلبَت أباها، وكلّما كانت تطلب يُقال لها: قد سافر.

ص: 350

وفي بعض الليالي طلبت أباها طلباً شديداً، وكلّماوعدوها لم تسكن من البكاء، فبكيَت بكاءً شديداً وطلبت أباها طلباً مُجدّاً، حتّى نامت على تلك الحال، فلمّا أفاقت من نومتها قالت: أين أبي الحسين؟ فإنّه كان عندي الساعة. فعلمَت النساء أنّها رأته في المنام، فبكين وبكي الأطفال، حتّى انتهى الخبر إلى يزيد، فأمر برأس أبيها أن يذهبوا به إليها، فأتوا بالرأس الشريف في طشتٍ مغطّىً بمنديل، ووُضع بين يديها، فقالت: ما هذا؟ قالوا: رأس أبيك.

وفي بعض المقاتل: فلمّا رفعت المنديل علمَت أنّه رأس أبيها، فبكت بكاءً عالياً، وبكين معها النساء، وهي تقول: يا أبتاه! مَن الّذي خضّبك بدمائك؟ يا أبتاه! مَن الّذي قطع وريديك؟ يا أبتاه! مَن الّذي أيتمني على صِغَر سنّي؟ يا أبتاه! مَن بقي بعدك نرجوه؟ يا أبتاه! مَن لليتيمة حتّى تكبر؟

وفي بعض المقاتل: إنّها أخذت من دم أبيها وخضّبَت به شعرها ووجهها.

ثم إنّها وضعت فمها على فمه الشريف، وبكت بكاءً شديداً حتّى غُشي عليها، فلمّا حرّكوها فإذا هي فارقَت روحها الدنيا، فلمّا رأى أهل البيت ما جرى عليها أعلنوا بالبكاء واستجدّوا العزاء.

ص: 351

وفي تاريخ سنة إحدى وستّين، الّذي ألّفه المؤرّخ اعتضاد الدولة بأمر السلطان ناصر الدين شاه الغازي، في وقائع سنة إحدى وستّين وما جرى في العالَم في خصوص هذه السنة، والنسخة المطبوعة موجودة عندنا، نقل عن تاريخ الافرنج وتاريخ الروم، عن رجلٍ نصرانيّ كان سفيراً من ملك الروم في الشام من عهد معاوية إلى زمان يزيد، وله حكاياتٌ وقصص، قال:

كنتُ أزدلف إلى دار يزيد وبابه في كلّ أُسبوعٍ مرّتين،وكان مروري إلى دار الخلافة عن خرابةٍ كانت في الطريق، وفي بعض الأيّام حين ذهابي إلى دار الخلافة مررتُ على الخرابة، فإذا ازدحامٌ في باب الخرابة واجتماعٌ من الناس رجالاً ونساءً، يمدّون أعناقهم إلى داخل الخرابة ويقومون على أصابعهم لينظروا إلى ما في الخرابة، فقلت لرجل: لماذا هذا الاجتماع؟! قال: إنّ طفلاً صغيراً من السبايا والأُسارى قد ماتت.

فنظرتُ إلى داخل الخرابة، فإذا جنازة طفلٍ مطروحةٌ على الأرض، وحولها نسوةٌ وصبيان ينوحون ويبكون، فرقّ قلبي من هذه المنظرة، فمضيتُ إلى دار الخلافة، وكان رجوعي

ص: 352

قبل الظهر، فمررتُ أيضاً بالخرابة، فإذا الناس كما كانوا والنسوة يببكون حول الطفل، فمضيت.

ويظهر منه أنّ يزيد لم يأذن لهم بالدفن، ولم يُرسِل إليهنّ سدراً ولا كافوراً ولا كفناً، فدفنوها بلباسها.

ويؤيّد ذلك ما اشتهر عند أهل الشام وحكى لي جماعةٌ منهم وينقلونها خلَفاً عن سلَف:

إنّ في السنة الّتي جرى السيل في الشام وخربت محلّة الخرابة خرب القبر، فلمّا أرادوا تعميره فإذا بالطفلة كأنّها ماتت من ساعتها، وكان لباسها سوداً، وكُفّنت بلباسها، ولم يقدر أحدٌ ولم يجرؤ أن يُخرج الطفلة من القبر حتّى يسوّوه، وكان في الشام جليلٌ شريفٌ عالِمٌ له من العمر مئة سنة، فجاء وأخذ الطفلة في حِجْره حتّى سوّوا القبر، فدفنها.

[المؤلّف يرى في المنام ما جرى على السيّدة، وأحداث أُخرى]

وأمّا الّذي وعدناك:

فإنّي كنتُ من قديم الأيّام متفكّراً في أمر هذه الطفلة، وأنّه كيف يُتصوّر لها من العمر أربع سنين كانت في عزّةٍ ونعمةٍ تعيش مع أعمامها وأخواتها في نهاية العزّة والجلال، فقُتل أبوها، وأُسرَت في نهاية الذلّ والمهانة والجوع والعطش، مع

ص: 353

ورودها في المقتل وفي الكوفة والرؤوس على الرماح بين يديها إلى الشام، وما وقع في الطريق وجرى في المنازل، ثمّ الدخول إلى الشام بأسوء الأحوال والرؤوس أمامها، ثمّ مجلس يزيد، ثمّ الإسكان في الخرابة، كيف يمكن أن لا تعلم الطفلة قتل أبيها وسراة قومها؟ مع أنّ أطفالهم في الذكاء والفطانة غير أطفالنا! تختلج ببالي بعض الوجوه الّتي لا تسكن إليها النفس، وكنت متفكّراً متحيّراً في ذلك.

حتّى هداني الله إلى ذلك في بعض أسفاري من النجف إلى كربلاء حين اشتغالي بالنجف، وأظنّه في سنة أربعٍ وعشرين بعد الثلاثمئة وألف، وكنتُ مسافراً مع بعض إخواني من طريق الشطّ والطويريج، وبلغنا أنّ جماعةً من الزوّار سلبوهم بين خانقين وقزل رباط، وكذا في طريق النجف، زاد في فكري أنّ هذه الأموال المنهوبة على مَن تُحسب؟ حتّى وصنا إلى كربلاء، وكانت الليلة ليلة التروية.

ولمّا تشرّفتُ إلى الحضرة الحسينيّة خطر ببالي قصّة الطفلة بالشام، فبكيتُ عند القبر أشدّ البكاء، وفي نفسي التعجّب من ذلك، وكيف يمكن؟ وكيف لم تعلم الطفلة ولم تطّلع على قتل أبيها؟!

ص: 354

وعندما رجعت إلى المنزل محزوناً باكياً وحيداً، فلمّا أردت النوم تصفّحتُ في المنزل على كتابٍ لأُطالع فيه قبل النوم، فإذا في البيت كتاب مقتلٍ للعالم الربّاني والمحقّق الصمداني ملّا حسن القزويني؟ق؟، فإنّه ألّف مقتلاً في الشهادة ومقتلاً في الأسر، ومقتل الأسر مطبوعٌ ومقتل الشهادة غير مطبوع، وهو من أحسن المقاتل.

فلمّا فتحت الكتاب فإذا فيه:

في مقاتل بعض أصحابنا أنّ طفلةً للحسين(علیه السلام) لها أربع سنين تفقّدَت أباها في الخرابة، وكلّما عالجوا لإسكاتها لم تسكت، إلى أن أُتيَ لها رأس أبيها ... إلى آخر ما مرّ.

وفيه:

إنّ الطفلة أخذت من حلقوم أبيها دماً طريّاً وخضّبَت به وجهها وشعرها.

فاشتدّ حزني وبكيت ساعة، فنمتُ في هذه الحالة.

وكنتُ بين النوم واليقظة، فإذا أنا واقفٌ على تلّ الزينبيّة، والتلّ عظيمٌ ليس فيه إلّا جماعة من النسوة والصبية، حافيات حاسرات باكيات، وإلى جنب التلّ خيامٌ محروقة، وفي التلّ من الأشياء ما لا يحصي عدده إلّا الله (تعالى) من الألبسة والأقمشة، وأثاث البيت وأثاث السفر، وما يُحتاج

ص: 355

إليه في الحضر والسفر، والذهب والفضّة، وكلّها متميّزات كومة إلى جنب كومة، وفي وسط التلّ أشياء مخصوصة متميّزة وباقي الأشياء حولها.

وكان أكثر ما في حول التلّ الذهب المسكوك والفضّة المسكوكة، وكنت متفكّراً، فإذا سيّدتي زينب؟سها؟ قالت: يا فلان، هذه الأشياء الّتي تراها في التلّ وحوله هيالأشياء المنهوبة من زائرينا، وهذه الأموال من الفضّة والذهب وغيرها هي الأموال المصروفة في زيارتنا وعزائنا، والّذي تراه في وسط التلّ هي الأموال المنهوبة منّا في الليلة الحادية عشرة من المحرّم، وباقي الأشياء والأموال تُحسَب من أموالنا المنهوبة في تلك الليلة، وكلّما يُصرَف منّا أو يُنهَب في زيارتنا يحسب من أموالنا المنهوبة، وكلّها مجتمعةٌ في مكانٍ واحد.

قلت: يا سيّدتي، فأيّها مالي المصروف فيكم؟

فأشارت إلى كومةٍ صغيرةٍ فيها قليلٌ من الذهب والفضّة، وقالت: هذا مالك المصروف.

وكنت إذاً في حالةٍ لا يُدرى، حال سرورٍ أو حال حزن.

فبينا أنا في هذا الحال نظرتُ إلى جنب التلّ، فرأيتُ في المذبح نسوةً وصبيةً حول جسدٍ بلا رأسٍ مرمَّلٍ بالدماء، وهنّ

ص: 356

باكيات صارخات، ومعهن صبيّة، وكانت أقربهنّ إلى الجسد سيّدتي ومولاتي زينب (روحي لها الفداء)، واضعة إحدى يديها على صدر أخيها وفي حِجرها طفلة صغيرة مغطّاة بفاضل كُمّها، وكلّما تعالج الطفلة أن ترفع الغطاء وتنظر تمنعها السيّدة؟سها؟ بيدها الأُخرى، ورأيتُ في هذه الحالة ما لا أقدر أن أكتبه، فإذ سيّدتي ومولاتي زينب قالت: يا فلان، هكذا صنعنا مع هذه الطفلة من كربلاء إلى الشام، بحيث لم تعلم أنّ أباها قد قُتل!

فبكيتُ بكاءً عالياً، ثمّ سِرتُ مع النسوة والصبية حتّى دخلنا الشام، ورأيتُ أُموراً لا أقدر على كتابتها ممّا جرى عليهنّ في الطريق، فوردنا الخربة، وأيّة خربة!

وكنتُ مبهوتاً ممّا رأيت، فإذا رأيتُ أنّ رأسالحسين(علیه السلام) بين يدَي الطفلة وهي تأخذ من دم أوداجه وتخضّب به وجهها وشعرها، وهنّ باكيات أشدّ البكاء، وشهقت الطفلة شهقةً فماتت.

كنت في هذا الحال، وإذا بصاحب البيت عند الباب يصيح: يا فلان، ممَّ بكاؤك؟ وقد أزعجتنا ببكائك وأيقظتنا من النوم! فقلت له: لرؤياً رأيتُها.

هذا ما رأيتُ في المنام، ما نقصتُ منه شيئاً منها ولا زدت

ص: 357

عليها، والله الموفّق ((1)).

ص: 358


1- ([1]) الإمام الحسين(علیه السلام) وأصحابه، للعلّامة الشيخ فضل عليّ القزوينيّ: 3 / 44 _ 50 _ بتحقيق: السيّد أحمد الحسينيّ.

(طوفان البكاء)، المروزي

قال المروزيّ في كتابه (طوفان البكاء) ما ترجمته:

رُوي بسندٍ صحيح أنّ زبيدة بنت الحسين _ كان لها من العمر ثلاث سنين _ كانت منذ أن ابتُليَت بفراق أبيها وقعَت فريسة أيدي الجُفاة الكفّار، كانت تبكي ليلها ونهارها، وتقول نادبة: أسعدوني، وأخبروني أين أبي؟ فكان مِن حولها من الغرباء يقولون لها: إنّ أباكِ في سفر، وسيعود غداً.

وفي ذات ليلةٍ رأت أباها في المنام، فلمّا أفاقت تعلّقت بأزياق ((1)) عمّتها زينب وهي تقول: يا عمّتي الحبيبة، أُريد أبي! يا عمّتي، لو كان أبي في سفرٍ لَعاد ولعزّاني وسلّاني وتحنّن علَيّ، ولو كان الآن عندي لَمسح عنّي غبار الغربة وطيّب خاطري.

فتجدّدت الأحزان على أهل البيت من كلام هذه الطفلة الصغيرة، وعلموا أنّها رأت أباها في الرؤيا، فكلّما عزّوها وسلّوها لم تهجع ولم تسكت، فارتفعت أصوات أُولئك الغرباء، وشقّت الأجواء وبلغت أعنان السماء، فاستيقظ

ص: 359


1- ([1]) الزيق من القميص أو الثوب: ما أحاط منه بالعُنق، والجمع: أزياق (أُنظُر: المعجم الرائد).

يزيد العنيد القاسي من النوم، فسأل عن سبب الصراخ والعويل، فقالوا: يا يزيد، خلّف مظلوم كربلاء الحسين بنتاً عمرها ثلاث سنين، وقد رأت الليلة أباها في المنام، فتجدّدَت الأحزان على أهل البيت، وهي الآن تتوسّل بأهلها الغرباء تريد أباها، وتقول: آتوني بوالدي وقرّةعيني.

قال يزيد: زبيدة طفلةٌ صغيرة، ماتت أو عاشت سواء، احملوا لها رأس أبيها لعلّها تتسلّى به.

فجعلوا رأس المظلوم خامس أصحاب الكساء في إناءٍ من الذهب، وأدخلوه إلى الخرابة الّتي كان الأسرى فيها، فلمّا وضعوا الإناء أمام اليتيمة قالت: ما هذا؟ فقال أهل البيت: هذا ما كنتِ تطلبين. فلمّا رفعوا الغطاء وقعَت عينها على محاسنه المخضّبة بالدماء، فضربت بكلتا يديها على رأسها وقالت: يا أبتاه! مَن ذا الّذي أيتمني على صِغَر سنّي؟ يا أبتاه! ليتني كنتُ لك الفداء، يا ليتني كنتُ قبل هذا اليوم عمياء.

ثمّ إنّها وضعت فمها على في أبيها، وفدته بروحها، فارتفعَت الضجّة من أهل البيت حتّى ضجّ لها سكّان الملأ الأعلى، حتّى رقّ الدعيّ القاسي الّذي لا يعرف الرحمة يزيد، فأمر أن

ص: 360

يُنقل سبايا آل محمّدٍ من الخرابة إلى قصره ... ((1)).

ص: 361


1- ([1]) طوفان البكاء، للمیرزا محمّد إبراهیم المروزيّ المعروف بالجوهري: 237، فرغ من تأليف الكتاب (1250)، طبع حجري.

(كنز المصائب)، محمّد إبراهيم الأصفهاني

قال محمّد إبراهيم في (كنز المصائب) ما ترجمته:

رُوي أنّ لسيّد الشهداء بنتاً لها من العمر ثلاث سنين، تُدعى رقيّة، ولو أنّ امرئاً نظر إلى حال تلك الطفلة الصغيرة بعين قلبه لَبكى عليها ما دام حيّاً، ولو استمع أحدٌ بإذن روحه كلماتها الّتي قالتها في فراق والدها، تقطّع قلبه ولو كان أشدّ صلابةً من الحَجَر.

قالوا: كانت تشتاق إلى أبيها منذ أن فارقَته، وكانت تُبدي لوعتها وجزعها، وكانت تسأل هذا وذاك: أين أبي؟ فيجيبونها: إنّه سيأتي غداً.

هكذا كانت إلى أن أنزلوهم في منزل الّذي أسكنوا فيه أهل البيت في الشام، وفي ليلةٍ رأت أباها في المنام، فلمّا استيقظت لم تجده، فطار قلبها، فجعلت تصرخ وتبكي وتصيح: آتوني بوالدي وقرّة عيني.

فلمّا رأى أهل البيت حال الصغيرة المظلومة، تجدّدت الأحزان والمصائب عليهم، فنشروا الشعور، وخمشوا الخدود، ونثروا التراب، فارتفعت ضجّتهم وعلا عويلهم حتّى بلغت أصواتهم مسامع يزيد الأرعن، فسأل: ما الخبر؟ قالوا: بنتٌ

ص: 362

صغيرةٌ للحسين رأت أباها في المنام، وهي الآن تبكي وتريد أباها، فتجدّدت الأحزان والمصائب على أهل البيت.

قال يزيد: خذوا لها رأس أبيها، لعلّها تراه فتسكت وتهجع!

فوضعوا رأس سيّد الشهداء في طبقٍ وغطّوه بمنديلٍ من الاستبرق، وحملوه إلى الطفلة الصغيرة ووضعوه أمامها، قالت: ما هذا؟ قالوا: ما تطلبين. فلمّا كشفَتالغطاء رأت رأساً كأنّه الشمس الساطعة، قالت: لمَن هذا الرأس؟

آهٍ آه، احترقت قلوب أهل البيت، وارتفعت أصواتهم بالعويل والبكاء، وقالوا: هذا رأس أبيك. فحقّقت النظر فيه، فعرفته أنّه رأس أبيها، فضربَت بكلتا يديها على أُمّ رأسها، وضمّته إلى صدرها، وقالت: يا أبتاه! مَن ذا الّذي أيتمني على صِغَر سنّي؟ يا أبتاه! مَن بقي لنا بعدك نرجوه؟ يا أبتاه! مَن ليتيمتك حتّى تكبر؟ يا أبتاه! مَن للنساء الحاسرات؟ يا أبتاه! مَن للأرامل المسبيّات؟ يا أبتاه! مَن للعيون الباكيات والشعور المنشورات؟ يا أبتاه! مَن للضائعات الغريبات؟ يا أبتاه! مِن بعدك وا مصيبتاه، يا أبتاه! مِن بعدك وا غربتاه، يا أبتاه! ليتني كنتُ لك الفداء، يا أبتاه! ليتني كنتُ قبل هذا اليوم عمياء، يا أبتاه! ليتني وُسّدتُ الثرى ولا أرى شيبك مخضَّباً بالدماء.

ص: 363

ثمّ إنّها وضعت فمها على فم أبيها ووقعت عليه، فلمّا حرّكوها وجدوها ميّتة، قد سلّمت روحها إلى بارئها، فتجدّدت الأحزان على أهل البيت، وتذكّروا ما جرى على الإمام العطشان في كربلاء، فندبوه وضجّوا بالبكاء والنياحة، ولطم من حضر من أهل الشام على رؤوسهم!

والطهر فاطمة الصغرى تنوح على ال

حسين نوح كئيب القلب ذي شَجَنِ

وتستغيث أباها: يا أباه ترى

.....

وزينبٌ أُختُه للخدّ لاطمةً

تشكو إليه بقلبٍ موجَعٍ حزنِ

يا ليتني قبل هذا اليوم في حدثٍولا أراك خضيب الشيب والذقنِ

وأُمّ كلثوم تدعو وهي باكية

بمدمعٍ هاطلٍ كالعارض الهَتِنِ

أخي أخي، بعد صوني يا حسين لقد

أصبحتُ أُسبى كسبيِ الروم في المُدُن

ص: 364

يا ليت عين رسول الله ناظرة

إليّ والفاجر الملعون يسلبني

يا ليت عين أمير المؤمنين إلي

بين الأعادي بهذا اليوم ينظرني

حسرى مجرّدة، وا وليلتاه فلا

أرى كفيلاً بهذا اليوم يكفلني

وتستغيث إلى الزهراء فاطمة

بنت النبيّ، ودمع العين كالمُزُنِ

يا أُمُّ قومي من الأجداث نادبةً

على الحسين، مقيمِ الفرض والسنَنِ

يا أُمُّ قومي انظري رأس الحسين أخي

كالبدر يُشرق فوق الذابل ...

يا أُمّ قومي انظري السجّاد ...

يُساق نحو يزيد الفاجر اللكنِ

ص: 365

فيا لها حسرةً لا تنقضي أبداً

حتّى ترى حُجّة الرحمان ذي المنَنِ

((1))حتّى ترى حُجّة الرحمان ذي المنَنِ

((2))

ص: 366


1- ([1]) كنز المصائب، لمحمّد بن إبراهيم الأصفهاني: 357، طبع سنة (1274 ه)، حجري.
2- ([1]) كنز المصائب، لمحمّد بن إبراهيم الأصفهاني: 357، طبع سنة (1274 ه)، حجري.

(معالي السبطين)، الشيخ المازندراني

ورُوي هذا الخبر في بعض التأليفات بوجهٍ أبسط.

في (المنتخَب) للطريحي، وفي (الإيقاد) للسيّد الجليل ثقة الإسلام السيّد محمد علي الشاه عبد العظيمي؟ق؟، ما ملخّصه:

إنّه كانت للحسين(علیه السلام) بنتٌ صغيرةٌ يحبّها وتحبّه، وقيل: كانت تسمّى: رقيّة، وكان لها ثلاث سنين، وكانت مع الأسراء في الشام، وكانت تبكي لفراق أبيها ليلها ونهارها، وكانوا يقولون لها: هو في السفر.

فرأته ليلةً في النوم، فلمّا انتبهت جزعت جزعاً شديداً، وقالت: ايتوني بوالدي وقرّة عيني. وكلّما أراد أهل البيت إسكاتها ازدادت حزناً وبكاءً، ولبكائها هاج حزن أهل البيت، فأخذوا في البكاء، ولطموا الخدود، وحثوا على رؤوسهم التراب، ونشروا الشعور، وقام الصياح.

فسمع يزيد صيحتهم وبكاءهم، فقال: ما الخبر؟ قيل له: إنّ بنت الحسين الصغيرة رأت أباها بنومها، فانتبهت وهي تطلبه، وتبكي وتصيح.

فلمّا سمع يزيد ذلك قال: ارفعوا إليها رأس أبيها، وحطّوه بين

ص: 367

يديها تتسلّى. فأتوا بالرأس في طبقٍ مغطّىً بمنديل، ووضعوه بين يديها.

فقالت: ما هذا؟ إنّي طلبت أبي، ولم أطلب الطعام! فقالوا: إنّ هنا أباك.

فرفعت المنديل، ورأت رأساً، فقالت: ما هذا الرأس؟ قالوا: رأس أبيكِ. فرفعت الرأس، وضمّته إلى صدرها وهي تقول: يا أبتاه! مَن ذا الّذي خضّبك بدمائك؟ يا أبتاه! مَن ذا الّذي قطع وريديك؟ يا أبتاه! مَن ذا الّذي أيتمني على صِغَر سنّي؟ يا أبتاه! مَن لليتيمة حتّى تكبر؟ يا أبتاه! مَن للنساء الحاسرات؟ يا أبتاه! مَن للأرامل المسبيّات؟ يا أبتاه! مَن للعيون الباكيات؟ يا أبتاه! مَن للضائعات الغريبات؟ يا أبتاه! مَن للشعور المنشورات؟ يا أبتاه! مِن بعدك وا خيبتاه، مِن بعدك وا غربتاه، يا أبتاه! ليتني لك الفداء، يا أبتاه! ليتني قبل هذا اليوم عمياء، يا أبتاه! ليتني توسّدتُ التراب ولا أرى شيبك مخضّباً بالدماء.

ثمّ وضعَت فمها على فم الشهيد المظلوم، وبكت حتّى غُشي عليها، فلمّا حرّكوها فإذا هي قد فارقت روحُها الدنيا، فارتفعت أصوات أهل البيت بالبكاء، وتجدّد الحزن والعزاء،

ص: 368

ومَن سمع من أهل الشام بكاءهم بكى، فلم يُرَ في ذلك اليوم إلّا باكٍ أو باكية.

فأمر يزيد بغسلها وكفنها ودفنها!!! ((1))

ص: 369


1- ([1]) معالي السبطين للمازندراني: 2 / 170.

(أنوار الشهادة)، الشيخ حسن اليزديّ

وفي كتاب (عوالم العلوم) وغيره من الكتب:

كان في الأسرى صبيّةٌ صغيرةٌ من بنات الإمام الحسين، قيل: اسمها رقيّة، وكان لها ثلاث سنين، وكان الإمام يحبّها حبّاً شديداً، وكانت هذه الصغيرة تبكي ليلها ونهارها بعد شهادة أبيها، فكانت تُقرح قلوب أهل البيت، وكانت تسألهم: أين أبي؟ ولمَ فرّقوا بيننا وبينه؟ فكانوا يقولون لها: إنّ أباكِ في سفر ((1)). وهي مع ذلك لا تهجع ولا تسكن، ولا تنقطع عن البكاء في خرابة الشام.

ص: 370


1- ([1]) سؤالها عن أبيها يمكن حمله على التشكّي والتعبير عن اللوعة، أمّا تسليتها بأنّ أباها في سفرٍ فهو تعبير الكتّاب وتصويرهم للموقف، إذ أنّها قد عاشت كربلاء وما جرى على أبيها مِن قتل، وهي لا زالت في السبي ترى رأس أباها وإخوتها وأهل بيتها وأصحابهم على الرماح، وهي ابنة الحسين ومن أهل البيت(علیهم السلام)، فلا يُتصوَّر أنّها لا تعلم وأنّها تتسلّى بهذه الوعود. ولا ينبغي أن يُعتبَر هذا من الإشكالات والمضعّفات، كما يحاول البعض أن يوظّفه في قضيّة السيّدة المظلومة رقيّة، إذ إنّه تعبير الكاتب والراوي وتصوّره وتصويره، فلا يُحاكم به أصل الخبر، فتطرح الإضافات والتحليلات والصياغات الّتي يقحمها المؤرّخ أو الراوي أو الكاتب، ويؤخَذ بأصل الخبر!

فرأت في ليلةٍ أباها في الرؤيا، وجعلت تشكو إليه ألم الفراق وما جرى لهم في السبي، ثمّ أفاقت فلم ترَ أباها، فجعلت تبكي وتنوح وتصرح، فاجتمع أهل البيت حولها، فاحتضنوها وحملوها، وجعلوا يسلّونها، ويسألونها عن سبب بكائها.

قالت: الآن رأيتُ أبي قد جاءني وأجلسني في حِجره، فأين أبي؟ ايتوني بوالدي وقرّة عيني.فلمّا انتبهت صاحت وبكت وانزعجت، فهجعوها وقالوا: لمَ هذا البكاء والعويل؟ فقالت: آتوني بوالدي وقرّة عيني. وكلّما هجّعوها، ازدادت حزناً وبكاءً، فعظم ذلك على أهل البيت، فضجّوا بالبكاء وجدّدوا الأحزان، ولطموا الخدود وحثوا على رؤوسهم التّراب ونشروا الشعور، وقام الصياح.

فسمع يزيد صيحتهم وبكاءهم، فقال: ما الخبر؟ قالوا: إنّ بنت الحسين الصغيرة رأت أباها بنومها، فانتبهَت وهي تطلبه وتبكي وتصيح. فلمّا سمع يزيد ذلك قال: ارفعوا رأس أبيها وحطّوه بين يديها، لتنظر إليه وتتسلّى به.

فجاؤوا بالرأس الشريف إليها مُغطّىً بمنديل ديبقيّ، فوُضع بين يديها وكُشف الغطاء عنه، فقالت: ما هذا الرأس؟ قالوا لها: رأس أبيك. فرفعَته من الطشت حاضنةً له، وهي تقول: يا

ص: 371

أباه! مَن ذا الّذي خضّبك بدمائك؟ يا أبتاه! مَن ذا الّذي قطع وريدك؟ يا أبتاه! مَن ذا الّذي أيتمني على صِغَر سنّي؟ يا أبتاه! مَن بقيَ بعدك نرجوه؟ يا أبتاه! مَن لليتيمة حتّى تكبر؟ يا أبتاه! مَن للنساء الحاسرات؟ يا أبتاه! مَن للأرامل المسبيّات؟ يا أبتاه! مَن للعيون الباكيات؟ يا أبتاه! مَن للضائعات الغريبات؟ يا أبتاه! مَن للشعور المنشّرات؟ يا أبتاه! مِن بعدك واخيبتنا، يا أبتاه! مِن بعدك واغربتنا، يا أبتاه! ليتني كنت الفدى، يا أبتاه! ليتني كنتُ قبل هذا اليوم عميا، يا أبتاه! ليتني وُسّدتُ الثرى ولا أرى شيبك مخضَّباً بالدماء.

ثمّ إنّها وضعَت فمها على فمه الشريف، وبكت بكاءً شديداً حتّى غُشي عليها، فلمّا حرّكوها فإذا بها قد فارقت روحُها الدنيا، فلمّا رأوا أهل البيت ما جرى عليها أعلنوابالبكاء واستجدّوا العزاء، وكلّ مَن حضر من أهل دمشق، فلم يُرَ في ذلك اليوم إلّا باكٍ وباكية ((1)).

ص: 372


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 140، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 141، نفَس المهموم للقمّي: 456.

فأمر يزيد الخبيث الملعون أن تجهَّز وتغسَّل وتكفَّن وتدفَن.

قال الراوي: فلمّا أرادوا حملها من الخرابة رُفعَت الأعلام السود، واجتمع الناس من أهل الشام رجالاً ونساءً يبكون ويلطمون الصدور ((1))، فغسّلوها وكفّنوها وصلّوا عليها ودفنوها في مقابر الشام، وقبرها الآن ظاهرٌ معروفٌ مشهور.

قال المؤلّف الحزين: هذه الطفلة وإن كانت غريبة، لكنّ بني أُميّة غسّلوها وكفّنوها! فداءً للمولى الغريب الّذي قطّعوا بدنه المطهّر إرباً إرباً، وتركوه عارياً ثلاثة أيّامٍ مُلقىً على الصعيد تصهره الشمس دون غُسلٍ ولا كفن، ولم يكتفوا بذلك حتّى سحقوه بحوافر خيولها المنحوسة، بحيث اختلط جلده ولحمه برمال كربلاء.

سُئل الإمام المعصوم عن سبب الرائحة الطيّبة الساطعة من تربة كربلاء، ولم يكن ذلك في تربة المدينة والنجف، قال:

ص: 373


1- ([2]) يوجد خبرٌ آخر في كتب المتأخّرين أوفق بحال أهل البيت وعداوة أهل الشام لهم من هذا الكلام، يقول: إنّهم أخرجوها إلى مقابر الشام، فلمّا وصلوا إلى المقبرة وجدوا الأوباش والغوغاء قد تجمّعوا هناك، فجعلوا يصرخون ويصيحون، ويقولون: لا تدفنوا هذه الخارجيّة بنت الخارجيّ في مقابر المسلمين! فاضطرّ أهل البيت إلى إرجاعها إلى الخرابة ودفنوها هناك.

«لأنّ تربة كربلاء امتزج بها دم الحسين ولحمه، فهذا العطر من ذاك».

إنّا لله وإنّا إليه راجعون ((1)).

وداع رقيّة الصغيرة

روى هلال بن نافع قال: كنتُ بين الصفّين، فرأيتُ صغيرةً باكيةً جاءت وأخذت بذيل أبيها وقالت: يا أبه، انظر إليّ، فإنّي عطشانة. فنظر إليها الحسين وقال لها: «اصبري يا بُنيّة، الله يسقيكِ، فإنّه وكيلي». ثمّ أخذ بيدها حتّى أرجعها إلى الخيمة.

قال هلال بن نافع: فسألتُ عنها، فقيل: هذه رقيّة بنت الحسين. وكان لها من العمر ثلاث سنوات، فرقّ قلبي لتلك الصغيرة ((2)).

ص: 374


1- ([1]) أنوار الشهادة لليزدي: 275 وما بعدها _ بترجمة: السيّد علي أشرف.
2- ([2]) أنوار الشهادة لليزدي: 191 _ بترجمة: السيّد علي أشرف.

(بحر المصائب)، محمّد جعفر روضه خوان التبريزي

اشارة

في (بحر المصائب) لمحمّد جعفر التبريزي: 4 / 394 (طبع حجري):

وحكاية طاهر، كما نقلها صاحب (تحفة الذاكرين) عن (مشكاة) المرحوم الآخوند، ونقلها جناب الحاج البرقانيّ(رحمه الله علیه) في (المجالس)، وكذا ذكرها صاحب (المفتاح)، قالوا:

في أيّام إقامة أهل بيت رسول ربّ العالمين في شام المحنة، كان رجلاً هناك يُدعى: طاهر بن عبد الله، وكان طاهر يعيش في بيت يزيد، وكان نديماً ليزيد اللئيم اللعين، يحضر عنده في أغلب الليالي فيسامره ويروي له القصص.

قال طاهر: كنتُ ذات ليلةٍ عند الدعيّ يزيد، وقد مضى هزيعٌ من الليل، فقال لي: يا طاهر، إنّي مستوحشٌ في هذه الليلة، وقد ضاق قلبي وامتلأ فؤادي حزناً وهمّاً وكرباً، وإنّي لَفي ملالةٍ وكلالة، حتّى لا أقدر على مجالسةٍ ولا مقالة، فاجعل رأسي في حِجرك، ولا تحدّثني عن سوء فعالي وما سلف منّي؛ لأنّي يكفيني ما أنا فيه من سوء الحال وبُعد الأعمال وضيق البال وضياع المال ((1)).

ص: 375


1- ([1]) في المتن: (وبيق المال).

قال طاهر: فجعلتُ رأسه المشؤوم في حِجري، فنام اللعين، وكان حينها الرأس المقدّس _ رأس سيّد الشهداء(علیه السلام) _ في طشتٍ من الذهب موضوع في ذلك البيت، فلمّا مضى من الليل ساعة سمعتُ عويلمخدّرات الإمام الحسين قد ارتفع من الخرابة، وكان اللعين غرقاً في نومه، وأنا غارقٌ في الهموم، أُفكّر في نفسي: أيّ ظلمٍ وجورٍ ارتكبه يزيد التباب في حقّ ذرّيّة أبي تراب؟ فنظرتُ إلى الطشت، فرأيتُ الدموع تجري من عينَي الإمام الحسين، فتعجّبت، ثمّ نظرتُ فرأيت كأنّ الرأس ارتفع بمقدار أربعة أذرع، وانفرجَت شفتاه كأنّهما أكمام وردٍ يتفتّح، ثمّ قال بصوتٍ حزينٍ ضعيفٍ خرج من فمه المعجز وهو يقول: «اللّهمّ هؤلاء أولادنا وأكبادنا، وهؤلاء أصحابنا».

قال طاهر: فلمّا رأيت الرأس على هذه الحالة فزعت ودُهشت، فقمت حتّى أشرفتُ على الخرابة، وكانت الخرابة تقع خلف قصر يزيد، وتصوّرتُ أنّ واحداً من أهل البيت قضى نحبه ومات، فارتفعت أصواتهم بالبكاء والنحيب، فلمّا أشرفتُ على الخرابة رأيت أهل البيت الأطهار قد أحاطوا بطفلةٍ مفجوعة، والطفلة تلطم رأسها وتنوح وتعول

ص: 376

وتقول: يا عمّتي ويا أُختي، أين أبي؟ أين أبي؟

فناديتهم: ما الخبر؟ وماذا جرى حتّى ارتفعت الأصوات بالبكاء والعويل؟ قالوا: طفلة صغيرة من أطفال الحسين رأت أباها في المنام، فاستيقظت تتوسّل بنا تريد أباها، وكلّما سلّيناها وعزّيناها وصبّرناها لم تهجع ولا تهدأ.

آه، يا أنصار سيّد ذوي الشفاه الذابلة من الظمأ..

لقد سلّى الإمام بناته بعد شهادته عدّة مرات، منها: ابنته سكينة في المصرع، حين قال لها: «شيعتي ما إن شربتم ...»، إلى آخره.

والثانية: ابنته الصغيرة الّتي جاءت إلى الرأس المقدّس حين عُلّق في الشام على شجرة، فجلست عنده وجعلت تبكي وتندبه، فسلّاها وعزّاها وصبّرها، كما في رواية(وسيلة النجاة).

الثالثة: ابنته الصغيرة الّتي روى طاهر فقال: بينا أنا كذلك، إذ رأيتُ الرأس المقدّس ارتفع في الهواء حتّى وقف على رأس ابنته، وتحركت شفتاه المباركة وقال: «يا بنتي ويا قرّة عيني، إنّني هاهنا أنظركِ وأسمع صوتكِ».

قال طاهر: فرأيت البنت حينما سمعَت صوت أبيها ارتاعت وتلوّعت، وجعلت تبكي.

ص: 377

قال طاهر: رأيت الرأس المقدّس عاد يتكلّم مرّةً أُخرى وقال: «يا بنيّة اصبري ولا تبكي، إنّكِ ستهلكين، وبكاؤك يُهلكني يا قرّة عيني».

وكأنّ البنت تقول: يا أبة، ما لك تنظر إليّ مِن بعيدٍ ولا تقترب منّي، كأنّك تخشى أن يُحرقك لهيب زفراتي، أو تغرقك أمواج الغموم الّتي تضرب قلبي.

وكأنّي بالطفلة وضعت يديها على عينيها الدامعتين الشابحتين، وقالت: انظروا، أبي قد نظر إليّ.

فلمّا ارتفع صوت الطفلة المكلومة بالبكاء والعويل المُشجي، ارتفعَت أصوات أهل بيت «لولاك» حتّى بلغَت الأفلاك، بما يسلب اللب ويفتّت الأكباد.

قال طاهر: بعد أن رأيت بعيني وسمعت بأُذني هذه المعجزة المؤلمة، رجعتُ إلى يزيد البغيّ النجس السفّاك، فرأيتُه قد استيقظ من نومه، وهو ينظر إلى الرأس المقدّس وقد استولى عليه الخوف والهلع والرعب والفزع، حتّى جعل يرتعد كأنّه أغصان الصفصاف، فالتفت إليه الرأس الشريف وقال: «يا ابن معاوية، ما الّذي عملتُه معك فأنزلتَ بي كلّ هذا الظلم والجَور والجفاء، وأنزلت أهل بيتي في خرابة، وطرحت بدني

ص: 378

جثّةً بلا رأس على الرمضاء، وسحقته بحوافر خيل الجَور؟».

قال الراوي: ثمّ توجّه الرأس الشريف إلى الله الخبير اللطيف، وقال: «اللّهمّ انتقم منه بما عاملني وظلمني وأهلي، وسيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون».

فلمّا سمع يزيد (لعنه الله) ذلك ارتعدت فرائصه، وكادت أن تنقطع مفاصله، وقال (شعراً):

الويلُ لي ممّا به دهاني

دهري من الهموم والأحزانِ

وفي رواية الفاضل البراغاني عن (المنتخَب): إنّ يزيد السافل اللئيم سأل طاهراً، فلمّا علم الحال أرسل الرأس المقدّس إلى البنت الصغيرة في الخرابة.

آه يا شيعة! وقعت عين الصغيرة على الرأس المقدّس، وكان قد ألمّ الغبار بمحاسنه، وغطّت الدماء عيونه، وبانت عليه آثار عبث حجام اللئام وأذيّته، وحملة الرمح والسنان، وعصا خيزران يزيد، فكأنّها لم تعرفه، فسألَت عنه، فلمّا عرفَته وضعَت فمها على فمه، وناحت نياحةً جعلت من الخرابة نينوى، فقالت: يا أباه! مَن ذا الّذي أيتمني على صِغَر سنّي؟ يا أبتاه! مَن لليتيمة حتّى تكبر؟ يا أبتاه! مَن للأرامل المسبيّات؟ ومَن للعيون الباكيات؟ ومَن للضائعات

ص: 379

الغريبات؟ يا أباه! مَن للشعور الناشرات، والجيوب المشقوقات، والخدود الملطومات؟ يا أبتاه! مِن بعدك وا خيبتاه، يا أبتاه! مِن بعدك وا غربتاه، يا أبتاه! ليتني كنتُ لك الفداء، يا أبتاه! ليتني كنت اليوم عمياء، يا أبتاه! ليتني وُسّدت الثرى ولا أرى شيبك مخضّباًبالدماء.

فكأنّها تمثّلت بهذه الأبيات، وعبراتها تجري:

يا دهرُ مهلاً، كم تجور

وتعتدي

ولكم بأحبابي تروح

وتغتدي؟

وأسأت أحبابي بما أشمتّ بي

كلّ العداة بما

صنعت من الردي

وقد اشتفى قلبُ العدوّ بما

رأى

من غربتي أو كربتي وتوحّدي

لم يكفِهِ ما حلّ بي من كربةٍ

وفراقِ أحبابي وطرفٍ أرمدِ

حتّى بُليت بضيق سجنٍ ليس لي

فيه أنيسٌ غير عضٍّ باليدِ

ومدامعٍ تهمي كفيض سحائبٍ

وغليل شوقٍ تارةً لم تُخمَدِ

وصبابةٍ وملالةٍ وتذكّرٍ

وتحسُّرٍ وتنفّسٍ وتنهّدِ

شوقٌ أكابده وحزنٌ متلِفٌ

ووقعت في وجدٍ مقيمٍ مقعدِ

قال الراوي: إنّها جزعت وبكت حتّى صارت مغشيّاً عليها، فلمّا حرّكوها فإذا هي قد فارقت روحُها الدنيا.

آه، وا حزناه! ما حال زينب الكبرى(علیها السلام)؟ ووا لهفاه، ما حالة النساء الثكلى في هذا المصاب الجليل والحزن الطويل؟

ص: 380

وما فعلوا في تلك الليلة الظلماء والخرابة الخالية من السراج والفراش والماء؟ فلا كفن لها موجود، ولا سدر ولا حنوط، ولا تابوت معهود، ولا قائل يقول: أيّها الناس مات الغريب، والصلاة على هذه اليتيمة المظلومة، واجتمعت الفاطميات بالبكاء والعويل.

ولله درّ [محمّد بن] السمين الشاعر حيث قال في مصابهم بالحزن الطويل:

جمعن النساء الفاطميّات حُسّراً

عليهن من نسج الثكول برودُنوادب يخدشن الوجوه تفجّعاً

وتلطم بالأيدي لهنّ خدودُ

وفاطمة الصغرى تعانق أُختها

سكينة؛ خوف السبي،

وهو مكيدُ

تقول وللأحزان في قلب مبدع

ومبدٍ لأسرار الهموم مُعيدُ

وزينب قالت: يا أُمّي، يا أُخي

ومَن لي من دون الأنام عميدُ

أخي، مَن يلمّ الشمل بعد شتاته؟

ومَن لبناء المكرمات يشيد؟

وكلّ مصابٍ جاء بعدك هيّنٌ

وما هان في هذا

المصاب شديدُ

مصابٌ له في كلّ قلب مصيبةٌ

سهامٌ لحبّات القلوب تبيدُ

* * * * *

وفي (المفتاح) أيضاً: إنّ يزيد العنيد بعد أن سمع عويل أهل بيت النبيّ المجيد، خاف واضطرب.

ص: 381

قال طاهر بن الحارث بن عبد الله الدمقاني: كنتُ عند يزيد حاضراً، فأراد أن يسأل عن سبب هذا البكاء والصراخ، فإذا به نظر إلى رأس الحسين(علیه السلام)، وكان في طشتٍ من ذهب، رآه معلّقاً في الهواء مرتفعاً مقدار أربع أذرعة، يجري من عينيه الدمع، وهو يقول: «اللّهمّ هؤلاء أولادنا وأهلونا»، ثمّ توجّه إلى يزيد وقال: «يا ابن معاوية، كيف لك الراحة وقد حبست عيالي في الخرابة، وفرّقت بين رأسي وجسدي بالعداوة؟ استعدّ لجواب جدّي وأبي وأُمّي عند الله المَلِك الجبّار أيّها الغدّار»، ثمّ قال: «إلهي، أنت أعلم بعذاب هذا اللعين في يوم الجزاء والبقاء، ولكن ... أجر بعملهعاجلاً في دار الفناء» ((1)).

قال طاهر: ارتعد عند ذلك فلم يتمالك، وبهت مليّاً، ثمّ أرسل الرأس الشريف إلى الخرابة، ليسكّن منهنّ الحزن والكآبة ... إلى آخر الحكاية _ انتهى.

ألا لعنة الله على القوم الظالمين.

* * * * *

ورويت قصّة طاهر _ بحسب الظاهر _ في بعض كتب المقاتل كما يلي، والعلم عند الله العالِم بحقائق الأقاويل،

ص: 382


1- ([1]) كذا العبارة في المتن باللغة العربيّة.

فقد ورد في (مفتاح البكاء) عن كتاب (بحر الأنساب)، عن سليمان بن عبد الشيرازيّ قال:

كنتُ في دمشق أيّام جاؤوا بأهل البيت الأطهار إلى الشام وأسكنوهم في الخراب، وكانت لي خلطةٌ واتّصالٌ بطاهر بن حارث الدامغانيّ، مع ما كان بي من الضيق والتكدّر، فحدّثَني بهذه الحكاية في تلك الأيّام وقال:

يا سليمان، كنتُ ذات ليلةٍ عند يزيد العنيد، وكان رأس المظلوم العطشان سيّد الشهداء في طشتٍ من ذهب، فوضع اللعين رأسه المشؤوم في حِجري ونام، فلمّا مضى هزيعٌ من الليل فإذا بالأصوات قد ارتفعَت من الأسرى، بحيث رقّ قلبي عليهم وأجريت الدمع مثل السيل، فرأيت الرأس الشريف معلّقاً في الهواء، والدمع من عينَيه يجري ويذرف، فقال: «إلهي، إنّ هؤلاء أولادي وأهل حرمي وأخواتي».

وكان ممّا يناسب المقام لو تقال هذه الكلمات لأهل البيت الغرباء المضطربين:

سلامٌ عليكم، ليس لي عنكمُ غنىًوإنّي على الحالَين في القرب والبُعدِ

ص: 383

أحنّ إليكم كلّ وقتٍ وساعةٍ

وأشتاقكم شوق العطاش إلى الوردِ

وعندكمُ سمعي ولُبّي وناظري

وتذكاركم عندي ألذّ مِن الشهدِ

وكأنّ الرأس المقدّس كان ينطق ويبكي، فلمّا رأيتُ ذلك من الرأس المقدّس الممتحَن وأهل بيت العصمة والمحن، شققتُ جيبي وصرخت ذاهلاً: يا أولاد الحسين وعترة رسول الثقلين، ما أصابكم وما وقع فيكم؟ فما هذه الصرخة والبكاء والضجّة؟

يا عينُ سحّي الدمع كالطوفانِ

فعسى بدمعي تنطفي

أحزاني

قال الراوي: فأجابوني: اعلَمْ أيّها المنادي، إنّ للحسين بنتاً صغيرة، اسمها فاطمة، لها أربع سنوات، وكان أبوها يحبّها حبّاً شديداً، ويتفقّد حالها تفقّداً شديداً، وهي تذكر أباها وتطلبه منّا، فلا نقوم بجوابها إلّا بالبكاء والحنين، وهي تقول: أين أبي؟ أين أبي؟ وقلبي إليه مشتاق، والصبر على بُعده علَيّ شاقّ.

قال: فلمّا سمعتُ منهم تلك المقالة المؤلمة خنقَتني العَبرة، وأقلقتني هذه الحالة الموجِعة، فبكيت بكاءً عالياً، وصرخت صراخاً صاخباً، حتّى قام يزيد (لعنه الله) فنظر إلى

ص: 384

الرأس الشريف قد عُلّق في الهواء، والضجيج والعجيج قد علا من الخرابة، فبُهِت وارتعش واضطرب من الدهش، فاستخبر منّي الخبر، فحكيت له، فإذا الرأسالشريف قد توجّه وقال: «يا ابن معاوية القذر، إنّي ما فعلتُ بك؟ فقد ألقيتَ أجسادنا في الطفّ بلا رؤوس، وضيّقت على أولادنا في الحبس، أوَ ما علمت أنّهم أولاد الرسول وبنات البتول؟».

قال طاهر: فلمّا سمع يزيد (لعنه الله) ذلك الطعن والملامة، أخذَته الرعدة والندامة!!! فتمثّل بهذا بالويل والعويل!!!

وشُلّت يد الأيام ثمّ تقطّعَت

فسُحقاً لدهرٍ ساورتني همومُهُ

ثمّ أرسل الرأس الشريف إلى أهل البيت، فلمّا نظرت فاطمة إلى رأس أبيها قد تلطّخ بدمه وخُضّب شيبُه، صرخت وقالت: واهاً واهاً يا أبتاه، واهاً واهاً يا سيّداه!

أبي يا قتيل الأدعياء، كسرتَني

وأورثتني حزناً طويلاً مطوّلا

أبي، ليتني أصبحت عميا ولا أرى

جبينَك والوجه الجميل

مرمَّلا

أبي، كنتُ أرجو أن أكون لك الفدا

فقد خبتُ فيما كنتُ

فيه أُؤمّلا

وتدعو إلى الزهراء بنتِ محمّدٍ

أيا أُمّ ركني قد وهى وتزلزلا

ثمّ أنّت وناحت، إلى أن أجابت داعي الله، وسقطت وقد فارقت روحها، فأرواحنا لها الفداء.

وفي كتب بعض أرباب المقاتل: إنّ أهل البيت الغرباء قضوا

ص: 385

ليلتهم الطويلة تلك يصرخون: وا حسيناه، وا غربتاه! وأقاموا المأتم والمناحة كأنّهم في يوم عاشوراء، حتّى تزلزلت الأرض ومادت السماء.

قال الراوي: فلم يبقَ مِن أهلها رجالاً ونساءً إلّا قداجتمعوا وبكوا على حالهم وشدّةِ أحوالهم وكثرة مصائبهم وذلّة غربتهم وكربتهم، ولعنوا ظالميهم وخاذليهم، فلعنة الله على الظالمين والقاتلين لآل محمّدٍ أجمعين، بحقّ محمّدٍ وآله الطاهرين.

الوقعة الخامسة: شهادة بنت سيّد الشهداء

الوقعة الخامسة: في بيان وفاة بنت سيّد الشهداء والإمام المجيد، في خرابة الشام، البنت صاحبة المحنة، ممّا نزل بها من الظلم والجَور في حبس يزيد البائس، عليه وعلى آبائه وتابعيه لعنة الله الملِك العلّام، ولعنة كلّ لاعنٍ إلى يوم القيام.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الّذي جعل تذكّر مصائب أهل بيت الرسالة وذِكر نوائب معادن أنوار الجلالة ذريعةً إلى غفرانه ووسيلةً إلى نيل رضوانه، وصيّر أنبائهم والبكاء والإبكاء والتباكي عليهم سبباً

ص: 386

إلى رضوان جنانه وموجباً لمزيد إحسانه.

وصلاةٌ متواترةٌ دائمةٌ متضافرةٌ على سيّد الأنبياء، وقدوة أرباب المحن والابتلاء، محمّدٍ وآله قادة الأصفياء وسادة الشهداء، وخلاصة أصحاب المصائب والبلاء، لاسيّما الجزع على ريحانة سيّد الثقلين وقرّة كلّ عين، ربيب حِجر الزهراء البتول، وربيب صدر الرسول، وحبيب سيف الله المسلول، غريب كربلاء، وأسير البلايا، مولانا ومولى الكونين أبي عبد الله الحسين(علیه السلام).

آهٍ آه، كيف يُجدَّل الحسين وبنو أبيه على الرمال؟ وكيف يعلى كريمه على القنا كالهلال، وتسبى ذراريه في أيدي اللئام، وتسكن أطفاله في خرابة الشام؟آهٍ وا ويلاه، كم مِن نادباتٍ فيها: يا جدّاه، ووا محمّداه، ووا عليّاه، ووا فاطمتاه! وكيف لو نظر عليّ المرتضى إلى العلويّات، ونظرت فاطمة الزهراء إلى الفاطميّات، وهنّ حول الصغيرة نادبات، والخدود لا طمات، وقائلات: يا قوم، ماتت صغيرة مظلومة؟ فويلٌ دائمٌ ولعنٌ متفاقمٌ على أعدائهم وظالميهم وقاتليهم، ذوي الحقد والبغضاء، أبداً سرمداً إلى يوم الجزاء.

ص: 387

أيا عين ابكي واسكبي العبراتِ

وجودي بجري الدمع بالوجناتِ

ويا قلب لا تفرح، وكن متوجّعاً

حزيناً ومشجوناً بطول حياةِ

ويا جسم ذُبْ حزناً، ويا نفس ليتكِ

لتخرج من جسمي مع الزفراتِ

ويا قوم نوحوا واضربوا برؤوسكم

ونوحوا بطول الحزن والحسراتِ

على السيّد المقتول بالظلم والجفا

غريباً وظمآناً بشطّ فراتِ

ونوحوا ذراري المصطفى وبناتِهِ

بقين بلا ثوبٍ ومنتشراتِ

ونوحوا على بنت الحسين سكينةٍ

غريب أسير وعطشان مع اللهفاتِ

ونوحوا على الكلثوم يا قوم، واسكبوا

دماءً مع العبرات ممتزجاتِ

ص: 388

ونوحوا عليها حين تدعوا لأُمّها

ونوحوا عليها حين تدعوا لأُمّها

أيا أُمُّ قومي خيرةَ الملِكاتِ

لتنظر نسواناً شققن جيوبها

وتنظر أطفالاً متن بالحرقاتِ

آهٍ آه يا أحباب الروح وخلصاء القلب.

لمّا كانت وفاة السيّدة مريم الأُمّ الرؤوم للنبيّ عيسى(علیهما السلام)، مناسبة جدّاً لما نحن فيه ومؤيّدة وشاهدة لما نريد أن نقول، لهذا فإنّنا سنجعل الحديث عنها مقدّمةً لكلامنا:

في (معالم الزلفى) للسيّد هاشم البحراني، عن وهب بن منبه أنّه قال:

وجدتُ في بعض الكتب أنّ عيسى بن مريم قال لأُمّه: يا أُمّاه، إنّي وجدتُ ممّا علّمني الله أنّ هذه الدار دار فناءٍ وزوال، ودار الآخرة هي الّتي لا تخرب أبداً، تعالي أجيبيني يا أُمّاه، نأخذ من هذه الدنيا الفانية إلى الآخرة الباقية. فانطلَقا إلى جبل لبنان، وكانا فيه يصومان النهار ويقومان الليل، يأكلان من ورق الأشجار ويشربان من ماء الأمطار، فمكثا في ذلك زماناً طويلاً.

ثمّ إنّ عيسى هبط ذات يومٍ من الجبل إلى الوادي يلتقط

ص: 389

الحشيش والبقول لإفطارهما، فلمّا هبط عيسى نزل ملَك الموت على مريم، وهي معتكّفةٌ في محرابها، فقال: السلام عليكِ يا مريم القائمة القانتة. فغُشي على مريم من هول ملك الموت، ثمّ أفاقت، فقالت: مَن أنت يا عبد الله؟ فقد اقشعرّ من صوتك جلدي، وارتعدَت فرائصي، وطار عقلي! فقال: أنا الّذي لا أرحم الصغير لصِغَر سِنّه، ولا أُوقّر الكبير لكبره، أنا الّذي لا أستأذن على الملوك، ولا أهاب الجبابرة، أنا مخرّب الدور والقصور، وعامرالقبور، والمفرّق بين الجماعات والإخوة والأخوات والآباء والأُمّهات، أنا قابض الأرواح، أنا ملَك الموت. فقالت: جئتني زائراً أم قابضاً؟ قال: بل جئتُك قابضاً، فاستعدّي للموت. قالت له: يا ملَك الموت، ألا فأْذَنْ لي حتّى يرجع ولدي وحبيبي وقرّة عيني وثمرة فؤادي عيسى، فاتزوّد منه ومن ريحه. قال: لم أُومر بذلك، وإنّما أنا عبدٌ مأمور، واللهِ لا أستطيع أن أقبض روح بعوضةٍ حتّى يأمرني ربّي بذلك، وقد أمرني أن لا أزلّ قدماً عن قدم حتّى أقبض روحك. فقالت له: يا ملك الموت، سلّمتُ لأمر الله، فاقبِضْ ما أمرك الله (تعالى). فدنا ملك الموت فقبض روحها إلى السماء، وصعد بروحها إلى السماء.

ص: 390

فأبطأ عيسى في ذلك اليوم عن وقته، فلم يأتِ حتّى دخل وقت العشاء الآخرة، فلمّا صعد الجبل ومعه الحشيش لإفطار أُمّه، فلمّا نظر إليها رآها وهي كنائمةٍ في محرابها، فظنّ أنّها قد أدّت الفرائض ونامت لتستعين على العبادة، فطرح ما كان معه من الحشيش والبقل، ثمّ استقبل المحراب، ولم يزل قائماً يصلّي حتّى مضى ثلث الليل، ثمّ نظر إلى أُمّه وهي كالنائمة، فجاء حتّى وقف عليها فنادى بصوتٍ حزين مِن قلبٍ محزون: يا أُمّاه، قد هجم الليل، وأفطر الصائمون، ما لَكِ الليلة لا تقومين لعبادة الرحمان؟!

فلم يفطر، يريد بذلك ما تحبّ، فراجع عيسى وقال: إنّ لكلّ رقدةٍ حلاوة، واللهِ لَأدعنّ أُمّي على نومها، ولَأُصلّينّ عنها وِردها. ثمّ استقبل المحراب، فلم يفطر، يريد بذلك برّ أُمّه والإفطار معها.

فلم يزل قائماً يصلّي حتّى مضى ثلثا الليل، فلمّا نظر إلى أُمّه كالنائمة وهي لا تقوم، أنكر حالها، وجاء حتّى وقفعليها ونادى بصوتٍ حزينٍ وقلبٍ مكروب، فقال: السلام عليكِ يا أُمّاه، قد أفطر الصائمون، وقام العابدون، ما لَكِ لا تقومين إلى عبادة الرحمان؟ أفلم تجيبيني؟

ثمّ رجع إلى نفسه وقال: إنّ لكلّ رقدةٍ حلاوة، وللعين حظّ. ثمّ

ص: 391

استقبل المحراب، ولم يفطر، فلم يزل قائماً حتّى طلع الفجر، وجاء إليها وعرف أنّها ميّتة، فوضع خدّه على خدّها، وفمه على فمها، ويده على رأسها، ونادى: السلام عليكِ يا أُمّاه، حملتِني في بطنك، وأرضعتِني بثدييك، وسهرتِ ليلكِ وأتعبتِ نهارك.

آه من تلك الساعة الّتي رأى فيها سيّد الشهداء ابنته في الخيمة قد هلكت من العطش، والساعة الّتي نظر فيها السيّد السجّاد إلى السيّدة سكينة وقد ماتت ...

فبكت الملائكة في السماوات، والجنّ، وارتعد الجبل وصاح صياحاً بالبكاء، فأوحى الله إلى الملائكة: ما يُبكيكم؟ قالوا: يا ربّنا، ما ترى روحك؟ فأوحى الله (تعالى): روحي وكلمتي، وأنا أرحم. فإذا منادٍ ينادي: يا عيسى، ارفع رأسك، فقد ماتت أُمّك، فعظم أجرك.

لا أدري كيف كان حال الملائكة يوم عاشوراء، وكيف أسكتهم الله وعزّاهم؟

فجعل عيسى يبكي ويقول: مَن لوحشتي؟ ومَن أنيسي في غربتي؟ ومن يعينني على طاعة ربّي؟

آه، وا لهفاه لاستغاثة سيّد العطاشى يوم عاشوراء ...

ص: 392

فأوحى الله إلى الجبل أن كلِّمْ روحي بالموعظة، فكان الجبل ينادي: يا روح الله، ما هذا الجزع؟ أتريد مع الله أنيساً.

ثمّ هبط من ذلك الجبل إلى قريةٍ من قرى بني إسرائيل،فنادى بصوتٍ حزين: السلام عليكم يا بني إسرائيل.

فخرجن ذوات الخدور من خدورهنّ، وقلن: مَن أنت يا عبد الله؟ فقد أضاء من حُسن وجهك نور!

فقال: أنا روح الله عيسى ابن مريم، إنّ أُمّي ماتت غريبة، فأعينوني على غُسلها وكفنها ودفنها.

آه، وا لهفاه على سيّد الشهداء وهو ينادي عندما تُحمل أجساد الشهداء ويبلغ خبر مقتلهم، لاسيّما حين نادى أخواته لمّا جاؤوا بجسد عليّ الأكبر، وحين دفن مولانا عليّ الأصغر، وحين جعل ينادي ويستنهض أنصاره وأهل بيته ...

فقالوا: يا روح الله، إنّ هذا الجبل كثير الأفاعي والحيّات، لم يسلكه آباؤنا وأجدادنا منذ ثلاثمئة سنة، فهذه الخيوط والكفن، فسِرْ به.

فتولّى عنهم عيسى، فردّ(علیه السلام)، فلقي رجلان، فقال لهما: أُمّي ماتت غريبة في هذا الجبل، فأعينوني على غسلها ودفنها.

فقالا: إنّا أُرسلنا لذلك، أنا جبرئيل، وهذا ميكائيل، وهذا الحنوط وأكفان الجنّة، يا عيسى أعرِضْ بوجهك، فإنّ الحور

ص: 393

العين يهبطن عليها لغسلها.

فأعرض عيسى بوجهه حتّى هبطَت الحور العين، فغسّلنها وحنّطنها، وتولّى جبرئيل حفر قبرها، وشقّ الجبل شقّاً، وجعل رأسها ممّا يلي القبلة الّتي كانا يصلّيان إليها، ثمّ صلّى عليها عيسى وجبرئيل وميكائيل مع الملائكة، فلمّا دفنوها عرج جبرائيل وميكائيل إلى السماء، فرجعن الحور العين إلى الجنّة باكيات.

ثمّ قال عيسى: يا إلهي، قد ترى مكاني وتسمع كلامي، ولا يخفى عليك شيءٌ من أمري. ثمّ قال: أُمّي ماتت، ولمأشهدها عند وفاتها، فأْذَن لها تتكلّم معي، أسألها عمّا أُريد.

آه! كم هي هذه الكلمات مناسبةٌ لحال السيّد السجّاد والسيّدة زينب في أرض المصرع عند سيّد الشهداء ...

فأوحى الله إليه: إنّي قد أذنتُ لها بالجواب، فاسألْها. فناداها عيسى: يا أُمّاه! فأجابته من جوف القبر: حبيبي وقرّة عيني، لمَ أخرجتني من قصوري وأزعجتني من مكاني؟ فقال: يا أُمّاه، كيف وجدتِ مصيرك والقدوم على ربّك؟ قالت: جئتُ إلى خير مصير، وقدمتُ على ربٍّ كريم، فوجدتُه راضياً غير غضبان. قال: يا أُمّاه، كيف وجدتِ سكرات

ص: 394

الموت؟ قالت: والّذي بعثك بالحقّ نبيّاً واصطفاك بالرسالة، ما ذهبَت مرارة الموت من حلقي وضرْبُ ملَك الموت بين كتفي ومعاينته بين عيني، وعليك السلام إلى يوم القيامة. ثمّ ختم على لسانها.

فهبط عيسى، وجعل يسيح في الأرض _ انتهى.

آه من حديث راحيل مع يوسف النبيّ(علیه السلام)، وحديث فاطمة الزهراء مع سيّد الشهداء(علیه السلام) ...

* * * * *

فاستمع الآن إلى خبر وفاة بنت سيّد الشهداء، وإن كنّا قد حرّرناها كراراً ((1))، وخلاصتها برواية صاحب كتاب (أبواب الجنان) في الجزء الثالث، والشيخ الطريحيّ، ومولانا حسين الكاشفي، والجامي المصري، وصاحب (المفتاح)، و(رياض المصائب)، وابن نما، والسيّد ابنطاووس، و(نجاة)، والميلاني، وسائر أرباب التوايخ والمقاتل.

إستمع خبر وفاة بنت سيّد الكائنات الّتي قضَت بالحزن والحسرات في خرابة الشام المحن والآهات بظلم يزيد العنيد مرتكب الجنايات:

ص: 395


1- ([1]) يقصد في كتابه (بحر المصائب).

لما صفّد صيادوا الظلم والجَور غزلال المحنة والهمّ والغمّ، وقيّدوا حمائم حرم سيّد الأُمم، وحبسوهم في خرابة الحبس، فاستقرّت طيور رياض الإمامة في قفص حبسها المتهاوي، جعلوا رؤوسهم بين ركبهم كأنّهم العندليب إذا أدخل رأسه في ريش صدره وجعل يئنّ وينوح حزناً ووجداً، وكأنّهم الورود الذابلة الّتي تذوي وتلتوي نحو الأرض، حتّى إذا بدأ الهدوء يدبّ دبيباً والجفون تحمى وتثقل، كانت طفلة سبيّة صغيرة اسمها فاطمة، وعمرها ثلاث أو أربع سنوات _ وسيأتي التحقيق في ذلك إن شاء الله _، بقيت كذكرى من صاحب القباء المطرّز بالدماء في عرصة كربلاء، وسبيل السعادة سيّد الشهداء، وسلطان القيامة يوم الجزاء، قد ارتفعت منها الرنّة كأنّها جرس القافلة، يهتزّ بأنينٍ وحنينٍ ويثير الشجون والأحزان.

وهذه الطفلة هي غير السيّدة سكينة الّتي كان اسمها السيّدة أمينة، وهما ليستا من أُمٍّ واحدة، وإنّما هي طفلةٌ صغيرةٌ من أطفال الإمام المتعال، وكانت لصغر سنّها معزَّزةً يدلّلها أبوها ولا يفارقها، ويُجلسها في حجره دائماً ويتحنّن عليها، وكانت هذه الطفلة المعصومة قد اعتادت على هذه

ص: 396

المحبّة والحنان والاهتمام الخاصّ من أبيها الرؤوف، فلمّا استشهد الإمام العادل في الأنام كانت في جميعالمراحل والمنازل تخاطب عمّاتها المحزونات وأخواتها المفجوعات المشرّدات: أين أبي الحبيب الرؤوف العطوف؟ وأين مَن كان بلسم جراحي ومُجلي كروبي وهمومي وغمومي؟ وكأنّها تقول:

فيا ليت أنّي حيث تدنو منيّتي

شممتُ الّذي ما بين عينيك والفمُ

وليت طهوري كان ريقك قلّة

وليت حنوطي من مشاشك والدمُ

وليت أتى بي في المنام ضجيعتي

لدى الجنّة الخضراء يوفي الترحّمُ

وكانت بنات سلطان المدينة المفجوعات الحزينات يسلّينها كلّ مرةٍ بلسان، ويعزّينها ويصبّرنها كلّ يوم، ولكن كانت زهرة بساتين اليأس كلّما مرّت على رياض ياسمين الأحزان وإقحوان الغموم والأشجان اقتطفت منها وشمّتها بحسرةٍ وحيرة، وكلّما سمعت عندليب الأسى وبلابل الجزع تشدو رمتها بطرفها وشاطرتها ترانيم الجوى والحسرة وبكت

ص: 397

معها، حتّى انحنى قدّها في سفرة الأسى والاكتئاب تلك، وتشعّث شعرها وانتشرت جدائلها العنبريّة، وشحب لون وجهها الجلناري، وكلمّا نزلوا في منازل الطريق جلست منزويةً جانباً تذكر أباها جلسة الحزين، تضع رأسها بين ركبتَي الهمّ والغمّ، وتستثير قلبها المليء بالألم وتقيم المناحة كأنّها تخاطب نفسها.

وكانت كلّما كلّمتها عمّتها زينب بكلماتٍ تشبه كلمات أبيها سلطان العرب، كان قلبها يشتعل ويذوب، وكأنّها تبثّ همومها إليها وتشكو لواعجها لديها، وتعتذر عن مناحتها وأنينها، فهي تناغي أباها كعندليبٍ يغرّدوكفراشةٍ تحوم حول الشمعة لتلقي نفسها في نارها.

فكانت في خلواتها تناجي ربّها حيناً، وتشكو لربّ العالمين وتلتجيء إليه، وتعجّ بالتوسّل لديّان الدين، وتستعديه على القوم الظالمين.

هكذا كان حال هذه الطفلة المضطربة مع أهل البيت المشرّدين المحزونين، حتّى انتهى الأمر فحطّت قافلة المشرّدين في خرابة الشام، ونشرت فيها ما في القلوب من الغربة والجوى والآلام، وكانت هذه الطفلة كلّما نزلوا منزلاً أو

ص: 398

قطعوا في الصحارى والقِفار مسافةً تسأل عن أبيها، ولا تفتر، وتنادي: أبي، أبي! يعني أنّها كانت تطلبه وتريده في كلّ آن، وتبحث عنه منزلاً بعد منزل، وكأنّها تنادي مَن معها من الأحباب: أين مَن كان يضمّني في حِجْره، ويُجلسني في حضنه، وينعش روحي ويطبّب جروحي، ولا يفارقني أبداً؟ ما لي لا أراه، ولا يحضر عندي؟ أما يعلم ألم الفراق وحرق البعاد؟ بلى، إنّه يعلم ذلك، فلمَ لا يسعفني وينجيني من لهيب نيران الفراق؟

وفاطمة الصغيرة في بكاها

تقول: إليك يا أبتاه خُذني

وأسكِنْ روعتي ممّا جرى لي

لأنّ مصيبة العظمى دهاني

فلو كان يرى حالي وما لي

لماذا لم يجي أن يخلصاني!

فكلّما جهد بنات سلطان الولاية والسبايا المكروبين أن يصبّروها ويسلّوها، لم تسكت الطفلة المظلومة ولم تهجع، ولم ترَ لنفسها سلوة.وإذا مسّك الزمانُ بضرّ

عظمت دونه الخطوب

وجلّت

وأتت بعده نوائب أُخرى

سئمت نفسك الحياة وملّت

فاصبري وانظري بلوغ الأماني

فالرزايا إذا توالت تولّت

وإذا أوهنت قواك وجلّت

كشفت عنك جملةً وتخلّت

ص: 399

فكانوا يقولون لها: أيّتها الحزينة الّتي فارقها الأمل وحرّمت على نفسها السكينة، إنّ أباكِ ذهب ليحضر الطواف على الكعبة، فاهجعي، ولا تُغرقي قلبك بسيول الدموع. فكانت تلك الصغيرة _ بفطنتها الهاشميّة وذكائها الفاطميّ _ تأبى، وتبحث عن أباها، حتّى بلغ بها الأمر أنّها لا تطيق السؤال ولا يقنعها جواب الآل، وكانت تمثّل أباها بين عينيها وتخاطبه وتشكو إليه حالها وما يصنعه القوم الأجلاف، وتقول:

أبي، سلبوا ثوبي وما كان ساتري

وقرطي وخلخالي وحجلي وقنعتي

لقد صرتُ ما بين الأعادي سليبةً

لقد طال سهري فيك واشتدّ لوعتي

ألا لو رأت عيناك ما قد مضى بنا

بكيتَ بحرّ القلب حتّى القيامةِ

وتشكو له حيناً ما حمّلها الدهر من المصائب والمحن، وما تجرّعَته في تلك السفرة من الآهات والآلام والضرب والشجن.

فلمّا طالت بها أيّام الفراق، ولم تسمع من أحدٍ بشرى اللقاء مع أبيها، دقّت حينها أجراس الكدر والمحنواعتصر قلبها،

ص: 400

وفارقها الصبر وحاصرها الجزع، وسلب قرارها في ليل المآسي والرزايا الجائحة، سيّما حين كانت ترى أطفال الشام ينحدرون إلى منازلهم نحو أُمّهاتهم، أيديهم بأيدي آبائهم وهم يلبسون ألوان الثياب ويأكلون ألوان الفواكه والطعام، تغمرهم الفرحة وتعلو وجوههم البشرى والسرور، فكان قلبها يعتصر ألماً وعيونها تفيض دمعاً، وتضطرب لذلك اضطراباً شديداً، وتقول لعمّتها بنت أبي تراب: ألا ترين هؤلاء الأطفال وهم يفرحون ويمرحون، وفي أحضان آبائهم يرفلون ويسعدون، فكيف تريدين منّي أن أصبر وأتسلّى؟!

فكان سلوك هذه البنت ومقالها يحرق قلوب أهل البيت الأطهار، سيّما السيّدة زينب المشرّدة وأُمّ الأيتام، فكانت تضمّ الطفلة إلى صدرها وتحتضنها، وتضع خدّها على خدّها، وتوصيها بالصبر وتقول لها: اتّخذي الصبر شعاراً، والتحمّل دثاراً، فلعلّ زمان الفراق ينقضي، ويأتي الدهر بأبيكِ الرؤوف، ويحصل بينكما اللقاء، فيسمع منكِ ويسلّيك ويعزّيك.

فكأنّها تجيب عمّتها وتقول: أجل يا عمّة، إنّي أعلم أنّ هذا هو حال الأسر والسبي، وأعلم أنّكِ تقومين بواجبكِ، وأعلم أنّ عادة المسافر إلى كعبة المقصود وأداء مناسك المعبود

ص: 401

ليست كذلك، فمن يذهب إلى أداء المناسك لا يبقى عياله في الخراب، ولا تدور عليهم الأفلاك، ولا يبلس أهله السواد، ولا يضربهم الشمر على وجوههم ويصفعهم آناً بعد آن، ولا يطوّق ولده زين العباد بالجامعة في عُنقه، ولا يُسبى عياله إلى الشام المشؤوم، ويُتركون بينالجفاة والأوغاد.

وهكذا جعلت هذه الوردة _ الّتي لم يُمهِلها الدهر حتّى تتفتّح أكمامها _ تبكي وتدور في الخرابة، وتتلفّت وهي تنادي: أبي، أبي! وكأنّها تخاطب الليل وتقول له: أيّها الليل البهيم الأسود، لمَ توشّحتَ بالسواد؟ ألِبستَ المسوح عزاءً؟ أتشعر أيّها الليل بألم الفراق؟ أنت كما أنا قد فرّ منك الصبر ولازمك الاضطراب؟ أتشاطرني المِحنة والمصاب؟ تعالَ أيّها الليل لنقتسم الهموم ونسكن هذه الخرابة، لنقيم المأتم فيها في الليل والنهار.

فلمّا رأت السيّدة زينب اضطراب الطفلة وأنينها يزداد، بادرت إليها واحتضنتها مرّةً ثانية، وجهدت أن تسلّيها وتُسعدها، ولكن دون جدوى، فقالت فاطمة: يا عمّتي، لا الصيّاد يرحم، ولا القلب يهدأ، ولا أنتِ تقصّرين في عزائكِ وتسليتك، لأنّ مَن يريده قلبي ويتمنّاه ليمسح عليه ويقشع

ص: 402

غمام الكآبة عنه لا يأتي، فلا تقلقي علَيّ، لأنّي لا أتمالك نياحتي وأنيني، فاتركيني لحالي، فإنّي لا أُفارق النياحة والبكاء ما دام فيّ قوة وعرق ينبض، فاتركوني أحترق وأُلقي بنفسي كالفراشة في شعلة شمعتي الّتي أتمثّلها في روحي ونفسي وقلبي.

أيا عمتا، لو أستغيث بوالدي

ولو كان حيّاً سامعاً لَدعاني

وإن كان ماء البحر متّ من

الظما

فأين أبي ماء

الوصال سقاني؟

أيا عمّتا، إنّي أعلم أنكِ صادقة في ما تقولين، ولكن إنّي أعلم أيضاً كيف سأقضي وأموت.

فلم تجد عمّتها المضطربة سوى أن تقول في عزائهاوتسليتها: يا نور عيني، اهجعي الليلة، فلعلّ صبح اللقاء ينبلج فجره فينقذكِ ممّا أنتِ فيه من الهمّ والغمّ والأحزان.

فداخل الطفلة المعصومة من بشائر عمّتها السرور، فوصلت أغصان قلبها بحبال وصل أبيها، فرُبّ غائبها يعود ومسافرها يرجع، وينقشع عنها كدر الفراق بانقشاع ظلام الليل، فكانت تتقلّب أحوالها، فمرّةً تخلد إلى الأمل بلقاء الأب، ومرّةً تغرّد كالبلبل الحزين وتبكي، وتشدو بما يفيض من قلبها الكئيب، تشكو وتبثّ همومها إلى الليل، ومرّةً تنفث

ص: 403

آهاتها فتتكدّر زرقة السماء من أشجانها.

هكذا كانت هذه الطفلة المكلومة تبكي وتأنّ وتنوح، حتّى وضعَت رأسها في تلك الخرابة الّتي لا يظلّها سقفٌ ولا تحميها باب، وكأنّها دمعةٌ هطلت على التراب، فلمّا رأين بنات الوحي ومخدّرات الرسالة وعقائل الإمامة هذه الجمرة قد خفت أوارها، وشمعة بيت الأحزان قد انطفأت، ونائحة المأتم قد سكنت، اختاروا السكوت وجلسن عند رأس سليلة النبيّ المختار وقد غمرت قلوبهنّ الكآبة.

بينا هم كذلك إذ رأت الطفلة الصغيرة في عالم المثال أنوار أبيها كالشمس الطالعة في فلك الإمامة، وقد أشرق عليها، وأخذها في حِجره واحتضنها، وجعل يمسح عن وجهها وشعرها الغبار، وقبّلها في وجهها، فجعلت الطفلة المعصومة المظلومة الّتي كانت تعاني ألم الفراق مع ما بها من ألمٍ واضطرابٍ تخاطب أباها الحبيب وتشكو له، وتقصّ عليه كلّ ما جرى عليها من الإذلال وأذيّة القوم الفجّار الكفّار، وما جرى عليها منذ أن غارت عليهم الأنذال فسلبوهم ونهبوهم إلى الساعة الّتيحصل فيها هذا اللقاء.

وكانت السيّدة زينب المفجوعة تسمع آهات قلب هذه

ص: 404

الطفلة ومقالها وشكواها لأبيها، وترى حالها وما يعتريها، فتلتهب نيران المصاب، وتتأجّج جمرات اللوعة في قلبها، وتحبس ذلك في صدرها، وتتلوّى وتتضوّر ولا تُبدي ذلك على ظاهرها، وتدعو الله أن يُلهم هذه الصغيرة الصبر والسلوان بعد أن تفيق من نومها.

آه، بينا هم كذلك إذ استيقظت قرينة الدمع والآه من النوم، ولم يمهلها الدهر الخؤون، ولم ترضَ لها الأيّام الغدّارة أن ترتاح ساعةً من الزمان فترقد وتهوّم عيناها، ففرّق بينها وبين أبيها فملأ الحزن قلبها.

فلمّا أفاقت من نومها صرخت: بابا! فلم تسمع جواباً، ثمّ صرخت: عمّة، قومي واشعلي لنا مصباحاً، فقد جاء أبي كي يسلّي الأيتام ويعزّي أخواته. فاختنقَت السيّدة زينب الحزينة بعَبرتها، فلم تردّ عليها، فالتفتت الطفلة إلى المخدّرات الطاهرات وأخواتها المفجوعات، وهي مضطربةٌ فزعة، تتقلّب على تراب الخربة، تبشّرهنّ بقدوم أبيها وحضوره معهنّ في الخربة، فبادرن بنات سيّد الشهداء السبايا الأسيرات واجتمعن عندها يسألنها عن سبب بكائها وصراخها، فكأنّها تجيبهم وتقول: الآن كنتُ في حِجر أبي، وقد وضعتُ رأسي على صدره، ولكن سرعان ما رجعتُ إلى

ص: 405

ألم الفراق.

وكأنّها أنشأت تخاطبهنّ وتقول: يا بنات النبيّ العظيم، أين أبي؟ آتوني بوالدي وسلوة مهجتي، لقد كاد أن يذوب فؤادي ويحترق كبدي، وتخرج الروح من جسدي، لأنّي أقول بدمعٍ همول: تعالَ يا أبي، ما كان أسرعفرقتي، ومَن ذا الّذي مِن بعدك يكون أليفي؟ دائي ودوائي منك يا سيّد الورى، فدائي نواك والدواء بوصلة، يا أبه، لم ابتعدتَ عنّا وتركتنا نهيم في وديان الفراق؟ ما الّذي دعاك أن تفارق الأيتام والغرباء مرّةً أُخرى على عجل؟

فما راقني مِن بعد بُعده

ولا شاقني من ساقني بوصاله

فلمّا سمع المشرّدون كلام الطفلة، علموا أنّها رأت أباها في المنام، ولهذا فهي تضطرب كأنّها سمكة أُخرجَت من الماء، فضمّوا اليتمية إلى الصدور واحتضنوها وسلّوها، سيّما السيّدة زينب الكبرى، حيث ضمّتها إلى صدرها وهي باكية، وقالت لها: يا نور عيني، إنّ هذا لقاءك أباكِ كان في المنام.

فقالت لها: يا عمّة، أنتِ أُمّ الأيتام وأنتِ أبوهم، الآن كان أبي الرؤوف عندي، وقد ضمّني إليه وأجلسني في حِجره،

ص: 406

فشكوتُ له ما جرى علَيّ من ذلك الأسر والتشريد، وما نعانيه من آلام السفر والسبي، فتحنّن علينا وسأل عنّي، وقال: يا نور عيني، كيف مرّت عليكِ أيّام الفراق والهجران؟ فقلت: كنتُ باكيةً حزينة، ودموع جارية وآهاتي لا تنقطع. قال: فمَن كان يواسيكِ، وفي المصاب يشاطركِ ويعزّيكِ؟ قلت: دموعي. قال: مَن كان ينتصر لكِ ويحميكِ؟ قلت: أنيني وآهاتي الّتي تحرق الروح. قال: كيف كانت ذكرى أبيكِ؟ قلت: بكبدٍ محروقٍ وقلبٍ قطّعت نياطه الأحزان والهموم.

ثمّ إنّ الطفلة شبكت يديها وتعلّقت بعنق عمّتها واحتضنتها، وقالت: يا عمّتاه، سألني أبي عن ثيابي والحُليّ، فقلت له: إنّ أهل الكوفة سلبوها منّي، وسألنيعن يتمي وأسري وسبيي وتشريدي، فشكوتُ له يزيد وشمر وسنان الأشقياء. وقالت: ثمّ بعد سألني وسألني، وتنفّس الصعداء، وأطلق من صدره المثخن بالجراح آهة، وسألني عنكِ، وكأنّي أجبتُه: عمّتي لها قلبٌ وآلاف الجراح، كانت للأيتام أُمّاً تارةً وأباً تارةً أُخرى، ولو لم تكن معنا عمّتي في السفر لم أطق فراق الأب في محنة السفر.

يا عمّتاه، بعد كلّ ما دار بيني وبينه من كلام، هفوتُ له فطوّقتُ عنقه بذراعي، وجعلت أشكو له الفراق، فقلت له: يا

ص: 407

أبه، لا تهجرني، ولا تتركني مرّةً أُخرى للأسى، وإذا كنتَ عازماً على الذهاب فإمّا أن تعدني بالعودة سريعاً أو تأخذني معك. فكأنّه قال لي: أنا لا أصبر على فراقكِ بنتاه، فسرعان ما آخذكِ عندي.

عمّتاه، هل تيسّر لنا مصباحٌ نشعله، فنرى لعلّنا نرى أثر أقدامه فأتبعها، لعلّي أبلغ منزله الّذي ينزل فيه، ومأواه الّذي يأوي إليه؟ فلا طاقة لي بعد الساعة على الهجران، ولا يقرّ لي قرارٌ إلّا أن أكون عند أبي.

قالت عمّتي: يا نور عيني، كان إلى اليوم الصبر شعاركِ والتحمّل دثاركِ، فاصبري كما كنتِ تصبرين، فلعلّ الصبح ينفجر بتحقيق الأمل، ويريح قلبك المتعَب بتحصيل المنى، ويحوّل يأسك رجاءً، أليس الصبح بقريب؟

فكأنّ الطفلة قالت: يا عمّتاه، لقد تقطّعَت حبال الرجاء، وتحوّل الصبر إلى جزع، أفقدني تجلّدي، فإلى مَ يتحمّل قلبي الصغير محنة الفراق والبُعد عن أبي الفقيد؟ وأُقسم أنّ شرب كأس المنيّة أهون علَيّ من البقاء في ثياب الأسى والحزن والصبر على الفراق والبعد.وكأنّ عمّتي تقول: كذا هو القدَر، وعليكِ التسليم للقدر، ولا

ص: 408

يذوق طعم الوصال إلّا مَن يتجرّع كؤوس الفراق، ولا يستقرّ في حِجر الراحة والدعة إلّا مَن صبر في حِجر الفراق والهجران، ولا تنال الكنوز إلّا بالصبر والمشقّة وتحمّل الصعاب، ولا يذهب الليل إلّا أن يمحوه نور الصباح.

قلت: صدقتِ يا عمّتي، أنتِ سلوة الغرباء، ولكنّ قلبي لا يرتاح إلّا بالبكاء، ولا يهجع إلّا بالأنين، اتركيني يا عمّتي وحالي، فإمّا أن أهدم أركان هذا العالم السيّء بدموعي وآهاتي وصراخي، وإمّا أن أكون ضحيّةً في سبيل الوفاء.

وكلّما حاولت زينب ومَن معها من أهل البيت المعذَّبين أن يهجّعوها ويسلّوها ويسكّنوا لوعتها ويهدّؤوها، كانت تردّ عليهم بكلماتٍ تزيد في شجاهم وتحرق قلوبهم، وكأنّها تريد أن تقول لهم: لا سلوة لي ولا عزاء، إنّي أرى الرجاء وقلبي يحدّثني أنّ القضاء يحكم الليلة ويحقّق اللقاء.

فلمّا رأت السيّدة زينب منها ما رأت، وأنّها لا تقرّ بقرارٍ ولا تتسلّى بسلوة، لم تتمالك نفسها، فأخذت الطفلة وجعلت رأسها على صدرها، وجعلت تهدهدها وتناغيها، وكأنّي بها تقول لها في أُذنها: نوحي يا بُنيّة كي أنوح معكِ، فكلانا مهيض الجناح كسير القلب، أنا أستشعر الجذوة الّتي تشتعل في صدركِ من الجوى والشوق لأبيك، فلا عجب أن

ص: 409

تضطربين، متى يصبر المفجوع؟ فلا أمنعكِ مِن بعد هذا، فأعولي وأصرخي وأندبي ما استطعتي، فلعلّ هذهالندبة تبلغ بكِ أباكِ.

فجعلت هذه الطفلة الصغيرة تنوح وتندب، فاجتمع حولها طيور المحن والبلاء، وجعلوا يندبون وينوحون، وارتفعت أصواتهم بالرنّة والعويل، سيّما السيّدة زينب، ولَنِعم ما قال الشيخ صالح بن عبد الوهّاب في مصيبة الآل الأطياب:

نوحوا أيا شيعة المولى أبا الحسنِ

على الحسين غريب الدار والوطنِ

وابكوا عليه طريحاً بالطفوف على ال

رمضاء مختضب الأوداج والذقنِ

وابكو على صدره بالطفّ ترضضه

خيول أهل الخنا والحقد والإحَنِ

وابكوا على رأسه بالرمح مشتهراً

إلى يزيد اللعين الفاجر اللكن

وابكوا على السيّد السجّاد معتقلاً

في أسره، مستذلاً، ناحل البدنِ

ص: 410

وابكوا بنات رسول الله بين بني

اللئام يُشهرن في الأمصار والمدنِ

وا حرّ قلباه، وا حزني لابنته

سكينة حاسراً والدمع كالمزنِ

تقول: وا ضيعتي بعد الحسين أبي

وا ذلّتي، وا عنا قلبي، ووا حَزَني

والطهر فاطمة الصغرى تنوح على ال

حسين نوح كئيب القلب ذي شجَنِوتستغيث أباها: يا أباه ترى

من ذا يجود على يُتمي ويرحمني؟

وزينب أُخته للخدّ لاطمة

تشكو عليه بقلبٍ موجع حزنِ

أيا أخي، يا ضيا عيني، ويا أملي

فقدانكم يا كفيلي اليوم ضيّعني

أمسيتُ بين الأعادي لا كفيل ولا

مساعد في ملمّاتي يساعدني

ص: 411

يا ليتني قبل هذا اليوم في جدَثٍ

ولا أراك خضيب الشيب والذقنِ

وأُمّ كلثوم تدعو وهي باكية

بمدمعٍ هاملٍ كالعارض الهَتِنِ

أخي أخي، يا ابن أُمي، يا حسين لقد

تجدّدَت لي أحزانٌ على حزني

أخي أخي، بعدكم مَن ذا ألوذ به

ومن يساعدني في حادث الزمنِ؟

أخي أخي، بعد جدّي والوصيّ أبي

وفقدكم لثياب الحزن ألبسني

وهكذا فقد ارتفعت ضجّة الأيتام وصرخات الغرباء في تلك الليلة، فكانت كهجومٍ ليليّ صاعق على يزيد الكافر، فأوقضت الدعيَّ من نومه المشؤوم فزعاً مرعوباً، فلمّا أفاق سأل عن تلك المناحة والأنين والضجّة والعويل، فبادرت أَمةٌ من إمائه إلى مأوى السبايا، ثمّ رجعَت إلى يزيد اللعين فقالت: طفلةٌ صغيرةٌ كأنّها لم تكُ تشهدشهادة أبيها، وقد رأته في المنام، فضجّ الآل الأطياب وجدّدوا النياحة والعويل، وهي لا زالت تنادي: أبي أبي، ولا تفتر، وهي

ص: 412

بنياحتها تذيب القلوب وتسلب.

ورُوي في كتاب (بحر الأنساب) وكتاب (مقتل الشهداء) و(مقتل) أبي مِخنَف وسائر المقاتل الجديدة، عن طاهر بن الحارث الدامقانيّ أنّه قال:

كنتُ تلك الليلة عند يزيد الخبيث، وكان الرأس المقدّس في طشتٍ من ذهب، فلمّا ارتفعَت الضجّة من جهة الغرباء المفجوعين، رأيتُ الرأس المقدّس قد ارتفع في الهواء، كأنّه يبكي ويقول: «اللّهمّ هؤلاء أولادنا وأهلونا».

فاستيقظ، فلمّا رأى الرأس وسمع الصراخ والعويل فزع فزعاً شديداً وارتعد مرعوباً، فالتفت الرأس إلى يزيد الخبيث وقال: «يا ابن معاوية، كيف تنام هانئاً وأنت أنزلتَ بناتي وأخواتي في خرابة؟ إلى متى تشمخ بسلطانك؟ إلى متى تتغافل عن خصومة سيّد البشر والوليّ الحاكم وانتقام الربّ الديّان وسطوته يوم المحشر؟»، ثمّ قال بصوتٍ حزين: «اللّهمّ ربّي، إنّك أَولى بجزائه في الآخرة، وأنت أعرف بما تجازيه به، ولكن عجِّل له في جزاء الدنيا عاجلاً غير آجل».

فلمّا رأى الدعيّ الخبيث ما رأى من الرأس المقدّس وسمع كلامه، ارتعدت فرائصه وجعل يرتجف خوفاً، وأطرق مفكّراً ثمّ قال: ضعوا رأس سيّد الأخيار في طبقٍ من الذهب، وغطّوه

ص: 413

بمنديلٍ موشَّحٍ بالذهب، واشعلوا الشموع، واحملوا الرأس المقدّس الأنور بكامل التقدير والاحترام إلى أهلبيت سيّد الأنام، وأوصلوه إلى بنت الإمام عالي المقام.

فحمله الجلاوزة إطاعةً لأمر الخبيث على أيديهم، وتوجّهوا نحو الخرابة، فارتفعَت في تلك الأثناء الضجّة إلى المُلك والملكوت والملأ العلويّ، وجلجلت الصيحة من عالم الجبروت، وعلت الأصوات من عالم اللاهوت، كأنّها تقول: أيّ تسليةٍ من يزيد المشؤوم يقدّمها لابنة الإمام المظلوم؟ أوَليست هي تجديدٌ لأحزان أهل البيت الّذين لازمتهم الهموم والغموم؟ وأيّ رأفةٍ يحنو بها على أخوات سيّد الشهداء؟ أو أنّه أراد بذلك أن يعيد عليهنّ المصاب والمحنة، ويرمي جراحهنّ بسهمٍ مسمومٍ من جديد؟

جاؤوا برأس الإمام المبين إلى مأتم السبايا، ونادوا: يا سكّان زوايا العزلة والفراق، وعطاشى زلال الوجد والأشواق، اجتمعوا واتركوا النياحة والعويل، فقد جئناكم بما يهجع الطفلة ويشفي لها الغليل.

فاجتمع الغرباء المظلومين جميعاً لاستقبال سلطان العطاشى، ومِن شدّة شوقهم جعلوا يركضون ويتهافتون على

ص: 414

زيارة الرأس المقدّس، فقام للمأتم ساقٌ وللعزاء سوق، فقد أحيى الحسين المنزل الخراب، فضجّوا ضجّةً واحدة، وارتفعت الصراخ والعويل الّذي زلزل العالم، لاسيّما السيّدة زينب الكبرى، فإنّها أخذت تطوف مذهولةً مدهوشةً على المصباح الّذي أنار الخرابة.

ومن العجائب، والعجائبُ جمّةٌ

قرب الحبيب وما إليه وصولُ

كالعيس في البيداء يقتلها الظما

والماء فوق ظهورها محمولُوجعلَت تشكو إليه لواعجها وأشجانها، وتبثّ إليه ما في صدرها مِن أسىً وألم، وانهمرت دموعها كالمزن، وكأنّها تخاطبه وتقول: يا أخي، يا شقيق فؤادي، لا تسلني عن همومي وأحوالي وتشرّدي، فروحي ملتهبةٌ من الأحزان، وقلبي ذائبٌ من الآلام والأشجان، أخي، يا ذكراي من جدّي وأبي، تمنّت أُختك الموت لئلّا تبقى بعدك ...

وهكذا فتحت له فصلاً من دفتر المحنة، وشرحَت له طوماراً من المصيبة، وكذا فعل آل الرسول، جعلوا يشكون له ما جرى عليهم من الآلام والمصائب.

ص: 415

ثمّ إنّ بنات سلطان الرجال نشرن الشعور وهنّ مدهوشات مذهولات، وقلوبهنّ محترقة بالآلام والآهات، حملن الرأس المقدّس إلى يتيمة درّة العصمة، فلمّا رأت الطبق يعلوه النور وحالة النساء منشورات الشعور، تعجّبَت، ثمّ سألت: ما هذا؟ وإنّي لا أشتهي شيئاً سوى أن أرى أبي! فلم يجرؤ أحدٌ على ردّ جوابها، إلّا السيّدة أُمّ المصائب زينب، فقالت لها: لا تحزني يا عمّة، ولا تقلقي، فقد تحقّق رجاؤكِ.

فلمّا كشفوا الغطاء، رأت الطفلة رأساً كأنّه الشمس وقد خُضّبت محاسنه الشريفة، ففزعت وسألت عمّتها: ما هذا الرأس؟ ما أشبهه برأس أبي! فارتفعت الصيحة من آل البيت المفجوعين، وكأنّهم قالوا بصوتٍ واحد: إنّه ما رأيته في المنام، ها أنتِ تشاهدينه في العيان.

فلمّا عرفَت المظلومة رأس أبيها لم تتمالك، ووقعت عليه فوضعت شفتها على شفتيه الذابلة من العطش، ووجهها على وجهه، وجعلت تأنّ أنيناً موجعاً، وهي تقول: يا أبتاه!

الرأس هذا، فأين الجسم مرتمياًأين العراق، وأين الشام يا أبتا؟

ص: 416

لهفي لجبهتك الغرّاء كم سجدت

لله طول الدجى في الترب يا أبتا

لهفي لعينك كم سحّت مدامعها

من خشية الربّ في الأسحار يا أبتا

سكّن سكينة من لطمٍ أضرّ بها

ومن نياحٍ تشقّ القلب يا أبتا

أُنظر رقيّة في ضعفٍ يرقّ لها

قلب العدوّ إذا صاحت: فيا أبتا

يا ليتني كنتُ قبل الآن ميّتةً

ولا أرى رأسك في ذي الحال يا أبتا

يا أبه، مَن ذا الّذي خضّبك بدمك؟ ومَن ذا الّذي قطع وريديك؟ يا أبتاه، مَن ذا الّذي أيتمني على صِغر سنّي؟ يا أبتاه، مَن بقي بعد نرجوه؟ يا أبتاه، مَن ليتيمةٍ حتّى تكبر؟ يا أبه بأيّ سيفٍ قتلوك؟ وبأي بحر عزقوك؟ قتل الله قوماً قتلوك، يا أبه، مَن للنساء الحاسرات؟ ومَن للأرامل المسبيّات؟ مَن للعيون الباكيات؟ ومَن للشعور المنشورات والجيوب المشقوقات؟ يا أبتاه، مِن بعدك وا خيبتاه، يا أبتاه، من بعدك وا غربتاه، يا أبه، مَن ذا الّذي يرحمنا ويحمينا؟ ومَن ذا الّذي

ص: 417

يكفلنا ويدارينا؟ يا أبتاه، ليتني كنتُ لك الفداء، وقبل هذا اليوم عمياء، ليتني وُسّدتُ الثرى، ولا أرى شيبك مخضّباً بالدماء.

لهفي لبنته تنعاه وتندبه:***يا عارياً كست الأرياح جثّته

ودمعها أسفاً كالدرّ منشورُ***قميص ترب بأرض الطفّ منحورُ

وغسّلته الظبا من دم منحره***وشيبه قطنه والترب كافورُ

ونعشه من قنا الخِطّيّ أرفعها***والقبر في قلب مَن والاه محفورُ

يا سيّدي، ما ترى الأيتام حولك وال***سجّاد يُسحَب في الأقياد مأسورُ؟

ثمّ جعلَت تشكو إليه ما في قلبها من الحسرة والجوى والألم والمعاناة، وتخبره بما جرى عليها من المحن والآهات، حتّى تمكّنت من قلب أبيها بحيث لا يمكن أن يفارقها وتفارقه، وعندها وضعت فمها على فمه الشريف وبكت بكاءً شديداً، وأنّت أنّةً خرجت من أعماق قلبها المصدوع، ارتجفَت لها السماوات والأرض، ثمّ انطلق طائر روح بنت الرسول من قفص الجسد، وحلّقت إلى أعلى علّيّين، لتستقرّ في عشّ حضن أبيها الرؤوف الرحيم.

وهكذا هجعت وسكنت، فلمّا رآها أهل بيت العصمة قد هدأت لا تأنّ ولا تحنّ، وقد خمدت أنفاسها، فبادرت إليها

ص: 418

السيّدة المظلومة زينب فحرّكتها، فإذا هي قد فارقت روحها الدنيا، فنادت وصاحت: يا بنات رسول الله(صلی الله علیه و آله)، هلممن، فقد ماتت بنت أخي وقرّة عيني وفلذة كبدي، هلممن يا بنات رسول الله، وأسعِدنني، وقلن لي ما أقول وكيف أصبر! فاجتمع أهل البيت الأطهار، وأحاطوا بنعش الطفلة الغريبة كالحلقة، وأقاموا المأتم،وارتفعت منهم الرنّة والنياحة والعويل.

ولله درّ القائل:

محن الزمان سحائبٌ مترادفةْ***هي بالفؤاد وبالفواجع ساجمةْ

وإذا الهموم تعاورتك فسلِّها***بمصاب أولاد البتولة فاطمةْ

آه، يا أصحاب العزاء المفجوعين، لقد رُوي في (معالم الزلفى) عن ابن يعقوب بإسناده، عن أبان، عن أبي بصير، عن أحدهما(علیهما السلام) قال: «لمّا ماتت رقيّة بنت رسول الله(صلی الله علیه و آله)، قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): الحقي بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون وأصحابه». قال: «وفاطمة(علیها السلام) على شفير القبر تنحدر دموعها في القبر، ورسول الله(صلی الله علیه و آله) يتلقّاه بثوبه قائماً يدعو، قال: إنّي لَأعرف ضعفها، وسألتُ الله؟عز؟ أن يجيرها من ضمّة القبر» ((1)).

ص: 419


1- ([1]) الكافي للكليني: 3 / 241 ح 18.

آه، أيّها الأعزّاء المفجوعين، انظروا السيّدة فاطمة الزهراء كيف كانت تبكي على قبرٍ مع وجود أبيها المعظّم، فكيف سيكون بكاء سكينة وفاطمة العروس أخوات رقيّة ونياحتهنّ حين جلسن عند جسد قبر رقيّة وهي مطروحة غريبة في تلك الخربة؟

روى الميلانيّ وصاحب (المفتاح) أنّ السيّدة زينب الكبرى اشتدّ بها الهمّ والغمّ والكرب، فحملت رأس أخيها وضمّته إلى صدرها، وجعلت وجهه مقابل وجهها، وجلست عند جسد الطفلة المظلومة وصرخَت وجعلتتشكو له وتقبّله وتشمّه، وتطوف حول جسد الطفلة المعصومة المظلومة.

أصاب فؤادي محنة بعد محنة***تجدّد حزني يوم مجدد

فكيف ألذّ العيش أو أعرف الكرى***وقلبي على جمر الغضا يتوقّد؟

وفي بعض الأخبار أنّ السيّدة زينب ما فترت انحنى ظهرها وشاب شعرها، ولم ترقأ لها دمعة، وكانت دائمة الحزن بعد فاجعة كربلاء ومحنة الشام وشماتة الأعداء، حتّى لحقت بأُمّها.

وهكذا قضى أهل البيت الغرباء المشرّدين تلك الليلة في المأتم والعزاء والنحيب والعويل والبكاء، حتّى ضجّت لهم

ص: 420

سكّان الأفلاك والأملاك، فلمّا أصبح الصباح كانت الخربة قد تحوّلت إلى بيت الأحزان، فاجتمع أهل الشام الأشقياء مقابل الخربة وازدحموا ازدحاماً شديداً، فلمّا رأوا جسد الطفلة مطروحاً على الأرض والكآبة تخيّم على أهل بيت الرسالة، ارتفعت صيحاتهم وضجّوا ضجّةً واحدةً وبلغت صرخاتهم إلى عنان السماء، فخاف يزيد وفزع، فأذن إذناً خاصّاً وعامّاً، فهرعوا إلى تجهيزها ودفنها!! وازدحم الناس ازدحاماً لا يوصف!! ولم يُرَ في ذلك اليوم إلّا باكٍ وباكية!! فغسّلوها وكفّنوها ودفنوها في ذلك المسجد الخرابة، الّذي صار إلى يومنا هذا مشهوراً معروفاً عند الخاصّ والعامّ، ومزاراً لحجّاج بيت الله الحرام، والحمد لله الملك العلّام، والصلاة والسلام على محمّدٍ وآله خير الأنام، ولعنة الله على القوم الظالمين إلى يوم القيام.* * * * *

آهٍ آه، أيّها المحبّين استمعوا إلى هذا الحديث الّذي يزيد في قلوبكم اللوعة على بنت سيّد الشهداء(علیه السلام)، كما ورد في كتاب (بصائر الدرجات)، عن بكر بن جناح، عن رجل، عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «لمّا ماتت فاطمة بنت أسد أُمّ أمير المؤمنين، جاء عليٌّ(علیه السلام) عند النبيّ، فقال له رسول الله(صلی الله علیه و آله): يا أبا

ص: 421

الحسن، ما لَك؟ قال: أُمّي ماتت!»، قال: «فقال النبيّ(صلی الله علیه و آله): وأُمّي والله! ثمّ بكى، وقال: وا أُمّاه! ثمّ قال لعليّ(علیه السلام): هذا قميصي فكفِّنْها فيه، وهذا ردائي فكفّنها فيه، فإذا فرغتم فآذنوني. فلمّا أُخرجَت صلّى عليها النبيّ(صلی الله علیه و آله) صلاةً لم يُصلّ قبلها و لا بعدها على أحدٍ مثلها، ثمّ نزل على قبرها فاضطجع فيه، ثمّ قال لها: يا فاطمة، قالت: لبّيك يا رسول الله، فقال: فهل وجدتِ ما وعد ربُّكِ حقّاً؟ قالت: نعم، فجزاك الله جزاء. وطالت مناجاته في القبر، فلمّا خرج قيل: يا رسول الله، لقد صنعت بها شيئاً في تكفينك ثيابك ودخولك في قبرها وطول مناجاتك وطول صلاتك، ما رأيناك صنعته بأحدٍ قبلها! قال: أمّا تكفيني إيّاها، فإنّي لمّا قلتُ لها: يُعرَض الناس يوم يُحشَرون من قبورهم، فصاحت فقالت: وا سوأتاه، فلبستها [فألبستها] ثيابي، وسألت الله في صلاتي عليها أن لا يبلي أكفانها حتّى تدخل الجنّة، فأجابني إلى ذلك، وأمّا دخولي في قبرها فإنّي قلت لها يوماً: إنّ الميّت إذا دخل قبره وانصرف الناس عنه دخل عليه ملكان منكَرٌ و نكير فيسألانه، فقالت: وا غوثاهبالله، فما زلت أسأل ربّي في قبرها حتّى فتح لها روضةً من قبرها إلى الجنّة و روضةً من رياض الجنّة» ((1)).

ص: 422


1- ([1]) بصائر الدرجات للصفّار: 1 / 287 ح 9.

ليتك كنتَ حاضراً يا رسول الله في كربلاء لتكفّن الحسين وتدفنه، أو كنت في الشام لتحضر بنتك الصغيرة وتنظر إليها في خرابة الشام وقد بقيَت مدّةً بلا كفنٍ ولا دفن.

تنبيهٌ وتذييل

في كتاب (روضة الشهداء) و(مقتل) الميلانيّ و(كنز الغرايب) و(مفتاح البكاء):

إنّ يزيد الكافر أرسل عدّة أفرادٍ إلى آل الله يعزّونهم ويسلّونهم، وهذه عبارة (المفتاح):

فلمّا اطّلع يزيد اللعين على ذلك، أرسل إلى أهل البيت مَن يعزّيهم ويسلّيهم في هذا المصاب!!!

وفي بعض كتب المصائب أنّ اللعين مع ما كان عليه من القساوة والشقاوة، فإنّه حضر جنازة تلك المظلومة!!! _ انتهى.

وأيضاً في (المفتاح) و(تحفة الذاكرين): إنّ يزيد اللعين الأثيم أذن لجماعةٍ من بني هاشم وأهل الشام أن يدفنوا بنت سيّد الأنام بكلّ حفاوةٍ واحترامٍ في المسجد الخرابة في الشام!!!

ولله درّ القائل:

ص: 423

غريبون عن أوطانهم وديارهم

تنوح عليهم في البراري وحوشُها

وكيف ولا كيف تبكي العيون لمعشرٍوكيف ولا كيف تبكي العيون لمعشرٍ

سيوف الأعادي في الفلاة تنوشها

بدورٌ توارى نورها وتغيّرَت

محاسنُها، ثوب الفلاة نعوشها

وفي (المفتاح) أيضاً و(تحفة الذاكرين): أنّ في ليلة دفن تلك البنت المظلومة كان أهل البيت في أحزانٍ وهموم، وقد بان الحزن والهمّ على أُمّ كلثوم أكثر من غيرها، فكانت تبكي بحرقةٍ وحرارةٍ مضطربة لا تهدأ، وتدور في الخرابة وهي تنوح وتندب مُعوِلة، وكلّما عزّوها وسلّوها لم تتسلّ ولم تسكن، فكانت ندبتها ونياحتها تهزّ الأرض والسماء، وهي تقول:

واللهِ ما لي أنيسٌ بعد فرقتها***إلّا البكاء ولطم الخدّ باللدمِ

ولا ذكرتُ الّذي أبدى الزمان لها***إلّا جرت أدمعي ممزوجةً بدمِ

فسألوها عن سبب شدّة حزنها ومحنتها، فقالت: كانت الصغيرة المظلومة نائمةً البارحة على صدري، فلمّا أفقتُ رأيتُها تبكي بكاءً شديداً ولا تهدأ، فسألتها عن سبب ذلك، فقالت: يا عمّتاه، أيكون في هذا البلد أيتامٌ وسبايا أسرى

ص: 424

مشرَّدين مثلنا؟ أما يقبلون أنّنا من المسلمين، فلماذا يمنعون عنّا الماء والطعام؟! فهذا المصاب قد أسهرني وأبكاني.

وقال فخر الدين؟ق؟ في مقتله:

فيا إخواني، مصابهم هو الّذي حرمنا الهجوع، وأسكب من أعيننا سحائب الدموع، وقلّل صبرنا، وأذهل فكرنا، وهدم منّا الأركان، وأسلمنا إلى الذلّ والهوان، فالحكَمالله، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.

[إسمها]

إختلفوا في اسمها السامي على أقوال:

ففي (المنتخَب) و(كشف الغموض) و(روضة الشهداء) و(مصائب الأبرار) و(تحفة الذاكرين)، لم يذكروا لها اسماً.

وفي كتاب (نجاة الخافقين) و(أصل البكاء) و(عين البكاء): اسمها سكينة، بناءً على بعض الأخبار.

وفي بعض الكتب مثل (مقتل) القزويني و(اقيانوس): اسمها رقيّة، على وزن سُميّة.

وقال صاحب (طوفان البكاء): اسمها زُبَيدة، على وزن جُهَينة.

ص: 425

وفي كتاب (رياض المصائب) و(بحر الأنساب) و(مقتل) الميلانيّ عن أبي مخنف: اسمها فاطمة.

إنتهى كلامهم، زيد إكرامهم.

لله باكٍ على أحبابه جزعاً***قد كنت أحذر هذا قبل أن يقعا

ما كان واللهِ شوم الدهر يتركني***حتّى يجرّعني من بعدهم جُرعا

إنّ الزمان رأى ألف السرورلنا***فدبّ بالبين فيما بيننا وسعى

فلْيصنع الدهرُ ما قد شاء***مجتهداً فلا زيادة شيء فوق ما صنعا

إشارةٌ لطيفةٌ مخفية

إعلم أنّ في كلّ بلدٍ وديارٍ وصحارى وفيافي وقفارٍ وبحارٍ وجبالٍ وأمصارٍ لابدّ من وجود علامةٍ ورسمٍ ومشهدٍ واسمٍ من العلامات والقبور وخوارق العادات،وهي تنتسب إلى الأئمّة، لاسيّما الإمام أمير المؤمنين والإمام سيّد الشهداء والإمام موسى الكاظم، وذلك لتنتشر أسماؤهم المباركة ومعاجزهم وكراماتهم ومناقبهم وفضائلهم في جميع الأنحاء، وتجري أسماؤهم ومحامدهم على الألسن إلى يوم القيامة، كما هو حاصلٌ إلى يومنا هذا، وبهذا تتمّ الحجّة وتقطع الأعذار عن جميع الموجودات والمخلوقات، كما أنّها تكون سبباً للإفاضات اللامتناهية على جميع الشيعة والمحبّين.

ص: 426

وهي كذلك إشارةٌ وإعلانٌ عن ظلم بني أُميّة وبني العبّاس وسائر الظلَمة والمجرمين، فتأمّلْ.

وفي (المستطرف): أتى إعرابيٌّ إلى عليّ(علیه السلام) فسأله شيئاً، فقال: «واللّهِ ما أصبح في بيتي شي ءٌ فضل عن قوتي». فولّى الأعرابيّ وهو يقول: واللّهِ لَيسألنّك اللّه عن موقفي بين يديك يوم القيامة، فبكى عليٌّ(علیه السلام) بكاءً شديداً، وأمر بردّه، وقال: «يا قنبر، ائتني بدرعي الفلانيّة»، فدفعها إلى الأعرابيّ، وقال: «لا تُخدعَنّ عنها، فطالما كشفتُ بها الكروب عن وجه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)». فقال قنبر: يا أمير المؤمنين، كان يجزيه عشرون درهماً! فقال: «يا قنبر، واللّه ما يسرّني أنّ لي زنة الدنيا ذهباً وفضّةً فتصدّقتُ به وقبل اللّه منّي ذلك، وإنّه يسألني عن موقف هذا بين يدَي».

وقال زيد بن أسلم: إنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) قال: «أعطوا السائل ولو جاء على فرس». وما سُئل(علیه السلام) شيئاً قطّ فقال: لا.

وسأل رجلٌ الحسن(علیه السلام)، فقال له: «ما وسيلتك؟»، قال: وسيلتي أنّي أتيتك عام أوّل فبررتني.فقال: «مرحباً بمَن توسّل إلينا بنا»، ثمّ وصله وأكرمه ((1)).

ص: 427


1- ([1]) المستطرف للابشيهي: 300.

آهٍ آه، أيّها المحبون أنصفوا، هذا رسول الله يقول: أعطوا السائل ولا تردّوه، وهذا زوج البتول يدفع درعه، وهذا ابن البتول يُكرم الفقير، أيصلح أن تبقى بنت السيّد المختار ووليّ الأبرار الأخيار في خرابة الشام المظلمة بلا طعام، حتّى تقضي ليلها البهيم على التراب والحصى؟!

قال بعض الذاكرين والواعظين:

إنّ يزيد اللعين أمر غلمانه أن يذهبوا إلى أهل البيت الأطهار فيسكتوهم بالعصيّ والسياط، ويمنعوهم عن البكاء والنياحة تلك الليلة، لئلّا يعكّروا عليه ليلته.

وفي الصباح خاف من ملامة الناس ومذمّتهم، فأذن إذناً عامّاً، فجاؤوا بإمرأةٍ لتغسّلها، فلمّا جرّدت الغاسلة الطفلة المظلومة من ثياب رأت آثار السياط والعصيّ على بدنها، فصرخت: واللهِ لقد قُتلَت هذه الطفلة بضرب السياط وكعوب الرماح.

فكأنّ أهل الشام والأشقياء قد ارتفعت ضجّتهم وعويلهم، حتّى ملأت أرجاء الأرض والسماء!

وقالوا آخَرون: إنّ السيّدة زينب والسيّدة أُمّ كلثوم تولّوا غسلها، وتولّى أهل البيت دفنها، وذلك بأمر الإمام سيّد

ص: 428

الساجدين(علیه السلام) ومساعدته.

ونِعْم ما قال سليمان بن قتّة الهاشميّ:

ألا يا بني الرسول لقد قلّ الاصطبار، ألا يا بني الرسولخلت منكم الديار، ألا يا بني الرسول فلا قرّ لي قرار، جودي عليهم يا عين بانغزار، على النساء مع الصبية الصغار، ألا وصلّى الله على أحمد المختار، وآله الأطهار، ولعنة الله والناس أجمعين على الظلّام الكفّار، بعدد الّذي عند الله الملك الجبّار.

قضى الله أنّ البغي يصرع أهلَه***وأنّ على الباغي تدور الدوائرُ

ومَن يحتفر بئراً ليصرع واحداً

سيُصرَع يوماً بالّذي هو حافرُ

وفي المثَل السائر: إنّ المُسيء ستكفيه مساويه ((1)).

ولَنعم ما قيل في معاكسة الزمان والمكان:

ترحّلْ عن مكانٍ فيه ضيمٌ***وخلِّ الدار تنعى مَن بناها

فإنّك واجدٌ أرضاً بأرضٍ***ونفسك لم تجد نفساً سواها

ولا تبعث رسولك في مهمٍّ***فما للنفس ناصحة سواها

وقيل أيضاً:

ولا تجزع لحادثة الليالي***فكلّ مصيبةٍ يأتي انتهاها

ص: 429


1- ([1]) أُنظُر: بدائع السلك في طبائع الملك لابن الأزرق: 1 / 533 المسالة 11.

ومَن كانت منيّته بأرضٍ***فليس يموت في أرضٍ سواها

ولا تبعث رسولك في مهمٍّ***فما للنفس ناصحة سواها

وقيل أيضاً:

اُنظر إلى ما ترى يا أيّها الرجلُ

وكن على حذرٍ من قبل أن تزلُ

وقدّمِ الزاد من خيرٍ، تفوز به

فكلّ ساكن دارٍ سوف يرتحلُ

وانظر إلى معشرٍ زانوا منازلهم

فأصبحوا في الثرى رهناً بما عملوا

بنوا، فما نفع البنيان، وادّخروا

لم يُنجِهم مالُهم لمّا انقضى الأجلُ

كم أمّلوا غير مقدورٍ لهم، فمضوا

إلى القبور، ولم ينفعهم الأملُ

واستُنزلوا من أعالي عزّ وثبتهم

لذلّ ضيق لحودٍ، ساء ما نزلوا

فجاءهم صارخٌ من بعد ما دُفنوا

أين الأسرّة والتيجان والحُلل؟

ص: 430

أين الوجوه الّتي كانت محجَّبةً

من دونها تُضرَب الأستارُ والكلل؟

فأفصح القبر عنهم حين سائلهم

أمّا الخدود فعنها الورد منتقلُ

قد طالما أكلوا يوماً وما شربوا

فأصبحوا بعد طيب الأكل قد أُكلوا!

[نقل أهل البيت إلى بيتٍ فيه رسومٌ ونقوش]

من جملة الأُمور الّتي اتفقَت في الشام، أنّ أهل البيت أُدخلوا بيتاً فيه نقوشٌ ورسوم، وخلاصة الخبر كما ورد في كتاب (لسان الواعظين) وكتاب (مجالس المتّقين) وبعض الكتب الأُخرى غير المشهورة:بعد أن اجتمع أخوة يوسف بيوسف، دار بينهم حديثٌ طويل، ثمّ أرسلهم إلى بيتٍ نقش فيه قصّة إخوة يوسف وما فعلوه بأخيهم يوسف بكلّ تفاصيلها، فلمّا نظر إليها رونيل وباقي الإخوة خجلوا، فلم يأكلوا الطعام فيها، فأمر يوسف أن ينقلوا إلى بيتٍ آخَر، فأفردوا لاثنين من الإخوة بيتاً، وبقي بنيامين وحده في بيتٍ آخر، فبكى بنيامين، فسأله يوسف عن سبب بكائه، فقال: أبكي لأنّ شقيقي أكله الذئب

ص: 431

فبقيتُ وحدي. فقال يوسف: هل تزوّجت؟ قال: نعم. قال: ولك أولاد؟ قال: نعم، ثلاثة. قال: ما سمّيتَهم؟ قال: سمّيتُ أحدهم ذئب، والثاني قميص، والثالث دم، فكلّما ناديتُهم ذكرتُ أخي يوسف. فبكى يوسف، وعزّى أخاه وسلّاه، وقال: لا تحزن، إنّي سآكل معك بدلاً عن أخيك. فلمّا مدّ يوسف يده إلى الطعام بكى أخوه، وقال: ما أشبه يدك بيد أخي يوسف. فحينئذٍ كشف يوسف له عن نفسه وعرّف أخاه، وأمره أن يكتم ذلك ... إلخ.

وورد أيضاً في بعض الكتب غير المشهورة وفي (مجالس المتّقين)، أنّ يزيد الخبيث ابن الزواني كان قد أعدّ بيتاً نقش فيه صور واقعة كربلاء ويوم عاشوراء بالتفصيل، مِن أوّل شهيدٍ استُشهد في كربلاء وسبي العيال إلى الكوفة، وكتب أسماء الشهداء وكيفيّة استشهادهم وقطع رؤوسهم، وصور أخواتهم وأُمّهاتهم وقد جلسن عندهم، فتعمّد اللعين في نقل أهل البيت الأطهار إلى ذلك البيت، فلمّا وقعَت عيون آل الله على صور شهدائهم ونظروا إلى تلك الوجوه، اضطربوا وضجّوا، وصاروا في حالٍ لا يمكن لأحدٍ أن يتصوّره.

فإن كان قد وقع هذا الحادث، فهو يعني أنّ يوم عاشوراء تكرّر

ص: 432

في الشام، وإلّا فالعلم عند الله والراسخين في العلم.

* * * * *

ورُوي في بعض الكتب: أنّ يعقوب قال ليوسف وهو يحاوره: مَن الّذي سبّب هذه المحنة يا بُنيّ، أنا أم أنت؟ فقال يوسف: أنا كنت السبب، لأنّي لم أكتم رؤياي وحدّثتُ بها إخوتي. قال يعقوب: أنا كنتُ السبب، لأنّي لم أُودعك عند الله، وقلت: أخاف أن يأكله الذئب، وأودعتُك عند إخوتك.

فبينا هما يتحادثان إذ هبط جبرئيل، وقال: يقول الله (تبارك وتعالى): لقد انصفتما، وكلاكما مبرَّءٌ من الذنب، إن إلّا نزغ الشيطان اللعين، وهو الّذي ارتكب هذا الذنب.

وفي التفسير: بعد أن كلّم يوسف إخوته وأحرجهم، قال لهم: كيف أكل الذئب يوسف وأنتم معه؟ أخرَجوا له قميص يوسف، فقال: عجبٌ لهذا الذئب، كيف أكل يوسف ولم يمزّق قميصه؟ فخجلوا.

آهٍ وا لهفاه، لقميص سيّد الشهداء الّذي عرضوه على فاطمة ومحمّد ابن الحنفيّة وغيرهم، كان ممزّقاً مضرّجاً مضمّخاً بالدماء ... إلخ.

ثمّ إنّ يوسف أخرج لهم الوثيقة الّتي كتبوها حين باعوا يوسف من مالك الخزاعيّ، وكانت بالخطّ العِبريّ، وقال

ص: 433

لهم: مَن منكم يقرأ هذا الخط؟ فلمّا

نظروا فيها عرفوها، فبُهتوا وتحيّروا، وجعلوا ينظر بعضهم إلى بعض، فصرخ فيهم يوسف: اقرؤوا بصوتٍ رفيع!

وكانوا قد كتبوا فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، ويقول إبراهيم: هذا ما اشترى مالك الخزاعيّ من آل يعقوبغلاماً، يُقال له: يوسف، بعشرين درهماً، نقد لهم الثمن وضمن الدرك، أشهد الله (تعالى) بذلك على أنفسهم، وكفى بالله شهيداً.

فلمّا فرغوا من القراءة قال لهم: أنتم قلتم: إنّ يوسف أكله الذئب، والحال أنّكم بعتموه، واشتريتم عقوق أبيكم، فلابدّ أن أنتقم منكم. فأمر السيّاف، فجعلوا يتضرّعون إليه ويتوسّلون به، وقالوا: أيّها الملِك اعفُ عنّا، وإن كنت لا تعفو وتريد قتلنا فابعثْ بثيابنا وهي مضرّجةٌ بدمائنا إلى أبينا، لتكون ذكرى عند أبينا، فهو لا ذكرى عنده من أولاده سوى ثيابهم المضرّجة بالدماء! وجعلوا يبكون.

فبينا هم كذلك إذ هبط جبرئيل من عند الربّ الجليل، وقال: أيْ يوسف، كفاهم هذا المقدار من التهديد، وعليك أن تُظهِر نفسك لهم.

آهٍ وا لهفاه، لخوف أولاد مسلم وارتعادهم حينما نظرا سيف

ص: 434

الحارث اللعين مشهوراً.

وآهٍ وا لهفاه، لأهل البيت الأطهار ووحشتهم حينما نظروا إلى سيّاف ابن زيادٍ ويزيد يشهروا السيف على السيّد السجّاد ... إلخ.

* * * * *

وفي بعض الكتب أيضاً وفي (مجالس المتّقين):

إنّ أربعة أشياءٍ تجرّأت في الخلوة كي لا يُخاف منها إذا برزت وظهرت في العلن:

أوّلها: عصى موسى، صارت حيّةً تسعى في طور سيناء، كي لا يخاف منها موسى في مصر إذا صارت أفعى وابتعلت ما يأفكون.

والثاني: تكلّم عيسى مع أُمّه، فناداها من تحتها كي لاتخاف إذا تكلّم حينما لأُمّها الناس، فأشارت إليه، كقوله: ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ ((1)).

ص: 435


1- ([1]) سورة مريم: 27 _ 30.

والثالث: عُرض على النبيّ الأعظم في المعراج كلّ شيءٍ وأُخبر به، حتّى ما سيجري في يوم المحشر والقيامة، كي لا ينبهر يوم العرض الأكبر ويقدم عرصة المحشر للشفاعة.

والرابع: اختلى يوسف بأخيه بنيامين وعرّفه نفسه، وقال له: سنجعل الصاع في رحلك، ونتّهمك بالسرقة، ونأخذك به ونحتفظ بك عندنا، فلا تخف ولا تحزن.

ألا لعنة الله على الظالمين!

ص: 436

(مقتل الحسين (علیه السلام))، السيّد بحر العلوم

قالوا: ثمّ إنّ يزيد بن معاوية أمر، فأنزلوا آل رسول الله وحرائر النبوّة والرسالة وبنات عليّ والزهراء في سكنٍ لا يقي من حرٍّ ولا برد، وليس فيه سقفٌ يُظلّهم عن حرارة الشمس، فكانت الشمس تصهرهم في حرّ الظهيرة، حتّى تقشّرت وجوههم وجلودهم من حرارة الشمس.

ونُقل عن بعض التواريخ: أنّ عائلة الحسين(علیه السلام) وأرامل آل محمّدٍ بعد قتل رجالهنّ يوم الطفّ وسبيهنّ من بلدٍ إلى بلد، كانوا يخفون على صغار الأطفال واليتامى قتل أوليائهم وآبائهم، فإن بكى يتيمٌ أو يتيمةٌ أباه أو أخاه ناغوه باللطف، وأخبروه بأنّه في سفرٍ وسوف يعود من سفره، فكانوا بهذا ونحوه يشغلون اليتامى والأطفال عن الشعور بألم اليتم ومرارة المصاب.

حتّى إذا جيء بهم إلى الشام وأنزلوهم في خربةٍ إلى جنب قصر يزيد (لعنه الله)، قالوا: وكانت للحسين(علیه السلام) طفلةٌ صغيرةٌ لها من العمر أربع سنين، وكانت مع الأسرى في خربة الشام، وكانت تبكي لفراق أبيها ليلاً ونهاراً، وهم يقولون لها: هو في السفر.

ص: 437

فبينما هي نائمةٌ ذات ليلةٍ في الخربة، إذ انتبهت مذعورةً باكيةً تقول: أين أبي؟ الآن قد رأيتُه، إيتوني بأبي، أُريد أبي. وكلّما أرادوا إسكاتها ازدادت جزعاً وبكاءً.

فعند ذلك تعالى الصراخ من العيال والأطفال، حتّى وصلت الصيحة إلى يزيد فانتبه من نومه، فسأل عن الحدث، فأخبروه: أنّ طفلةً للحسين رأت أباها فيالمنام، فانتبهت تطلبه وتبكي عليه.

فأمر (لعنه الله) فجاؤوا برأس الحسين(علیه السلام) في طشت _ أو طبقٍ _ ووضعوه بين يديها، وهو مغطّىً بمنديل، وقالوا لها: هذا رأس أبيكِ.

فلمّا نظرت إليه اضطربَت وصرخت، وأهوت على الرأس وضمّته إلى صدرها وهي تنادي: أبه يا أبه! مَن الّذي خضّبك بدمائك؟ أبه يا أبه! مَن الّذي قطع وريدك؟ أبه يا أبه! مَن الّذي أيتمني على صِغَر سنّي؟ أبه يا أبه! مَن لليتيمة حتّى تكبر؟ ... ولم تزل تعول وتنوح وتبكي على أبيها وتندبه، حتّى فارقَت روحُها الدنيا، وهي واضعة فمها على فم أبيها الحسين.

فتجدّد المصاب على حرائر الرسالة، وازداد البكاء والنحيب

ص: 438

لحال هذه الطفلة اليتيمة، ولم يُرَ في ذلك اليوم أكثر باكٍ ولا باكيةٍ منهم، فأمر يزيد بغسلها وكفنها ودفنها في الخربة!!! ((1))

بكاء أُمّ كلثوم عليها

قال السيّد بحر العلوم في (المقتل):

وذكر بعض الأكابر: أنّ أُمّ كلثوم كان جزعها وبكاؤها ونحيبها على تلك الطفلة أشدّ وأبلغ من باقي العيال، فما كانت تهدأ وتسكن طيلة تلك المدّة الّتي قضوها في الشام.

فقالت لها العقيلة زينب الكبرى: يا أُخيّه، ما هذا الجزع والبكاء والهلع؟ كلّنا أُصبنا بفقد هذه الطفلة، ولم يخصّكالمصاب وحدك!

فقالت لها: يا أُختاه، لا تلوميني، كنت واقفةً عشيّة أمس بعد العصر _ وإلى جنبي هذه الطفلة _ بباب الخربة في وقت انصراف أطفال أهل الشام من مدارسهم إلى بيوتهم وأهاليهم، فكان بعضهم يقف بباب الخربة للتفرّج علينا ثمّ يذهب، فقالت لي هذه الطفلة: عمّة، إلى أين يذهب هؤلاء الأطفال؟ قلت لها: إلى منازلهم وأهاليهم. فقالت لي: عمّة،

ص: 439


1- ([1]) مقتل الحسين(علیه السلام) لبحر العلوم: 294.

ونحن ليس لنا منزلٌ ولا مأوى غير هذه الخربة؟ ... وأنا يا أُختاه كلّما ذكرتُ هذا الكلام منها لم تهدأ لي زفرة، ولم تسكن لي عَبرة ((1)).

ص: 440


1- ([1]) مقتل الحسين(علیه السلام) لبحر العلوم: 294.

(نفَس المهموم)، الشيخ عبّاس القمّي، و(معالي السبطين)، المازندراني

قال الشيخ عبّاس القمّيّ والعلّامة المازندرانيّ _ واللفظ للأوّل _:

وفي (الكامل البهائيّ) نقلاً من كتاب (الحاوية): أنّ نساء أهل بيت النبوّة أخفين على الأطفال شهادة آبائهم، و[كنّ] يقلن لهم: إنّ آباءكم قد سافروا إلى كذا وكذا، وكان الحال على ذلك المنوال حتّى أمر يزيد بأن يدخلن داره.

وكان للحسين(علیه السلام) بنتٌ صغيرةٌ لها أربع سنين، قامت ليلةً من منامها وقالت: أين أبي الحسين(علیه السلام)؟ فإنّي رأيتُه الساعة في المنام مضطرباً شديداً.

فلمّا سمع النسوة ذلك بكين، وبكى معهنّ سائر الأطفال، وارتفع العويل.

فانتبه يزيد من نومه وقال: ما الخبر؟ ففحصوا عن الواقعة وقصّوها عليه، فأمر بأن يذهبوا برأس أبيها إليها.

فأتوا بالرأس الشريف وجعلوه في حِجرها، فقالت: ما هذا؟ قالوا: رأس أبيك. ففزعت الصبيّة وصاحت، فمرضت،

ص: 441

وتُوفّيَت في أيّامها بالشام ((1)).

ص: 442


1- ([1]) نفَس المهموم للقمّي: 456، معالي السبطين للمازندراني: 2 / 170.

(وسيلة الدارين)، الزنجاني

وفي (نفَس المهموم)، ناقلاً عن (الكامل البهائيّ)، نقلاً من كتاب (الحاوية):

إنّ نساء أهل بيت النبوّة أخفَين على الأطفال شهادة آبائهم، ويقلن لهم: إنّ آباءكم قد سافروا إلى كذا وكذا. وكان على ذلك المنوال حتّى كان من أمر يزيد ما كان.

وكانت للحسين(علیه السلام) طفلةٌ لها أربع سنين، قامت ليلةً من منامها وقالت: أين أبي الحسين؟ فإنّي رأيتُه الساعة في المنام مضطرباً شديداً. فلمّا سمع النسوة ذلك بكين، وبكى معهنّ سائر الأطفال وارتفع العويل.

فانتبه يزيد من نومه وقال: ما الخبر؟ ففحصوا عن الواقعة وقصّوها عليه، فأمر (لعنه الله) بأن يذهبوا برأس أبيها إليها.

فأتوا بالرأس الشريف إليها مغطّىً بمنديل، قالوا: إنّه رأس أبيكِ. فرفعته من الطشت حاضنةً له، وهي تقول: يا أبتاه! مَن ذا الّذي خضبك بدمائك؟ يا أبتاه! مَن ذا الّذي قطع وريديك؟ يا أبتاه! مَن ذا الّذي أيتمني على صِغَر سنّي؟ يا أبتاه! مَن بقي بعدك نرجوه؟ يا أبتاه! مَن لليتيمة حتّى تكبر؟

وذكر لها من هذه الكلمات إلى أن قال: ثم إنّها وضعَت فمها

ص: 443

على فمه الشريف، وبكت بكاءً شديداً حتّى غُشي عليها، فلمّا حرّكوها فإذا هي قد فارقت روحها الدنيا.وقبرها في دمشق خلف المسجد الأُمويّ ((1)).

ص: 444


1- ([1]) وسيلة الدارين للزنجاني: 393.

(مخزن البكاء)، البرغانيّ

معاشرَ الشيعة، تصوّروا ما جرى على الأسرى في الشام، فإنّ قلوبكم ستحترق، وعيونكم ستنهمر دموعها، وسيتنغّص عيشكم، وتُحرّمون اللذائذ على أنفسكم، فكيف يهنأ أحدكم بعيشٍ أو يخلد إلى نومٍ على فراشٍ وثيرٍ وسبايا آل الرسول يبكون وينوحون في الخربة ولا يفترون؟! سيّما إذا سمعت الخبر الّذي سأرويه عن شهادة بنت الحسين(علیه السلام) الصغيرة في خربة الشام.

في (المنتخَب): رُوي أنّه لمّا قدم آل الله وآل رسوله على يزيد في الشام، أفرد لهم داراً، وكانوا مشغولين بإقامة العزاء، وإنّه كان لمولانا الحسين(علیه السلام) بنتاً عمرها ثلاث سنوات، ومن يوم استُشهد الحسين ما بقيت تراه، فعظم ذلك عليها واستوحشت لأبيها، وكانت كلّما طلبته يقولون لها: غداً يأتي ومعه ما تطلبين.

إلى أن كانت ليلة من الليالي رأت أباها بنومها، فلمّا انتبهت صاحت وبكت وانزعجت، فهجعوها وقالوا: لما هذا البكاء والعويل؟ فقالت: آتوني بوالدي وقرّة عيني. وكلّما هجّعوها ازدادت حزناً وبكاءً، فعظم ذلك على أهل البيت، فضجّوا

ص: 445

بالبكاء، وجدّدوا الأحزان، ولطموا الخدود، وحثوا على رؤوسهم التراب، ونشروا الشعور، وقام الصّياح.

فسمع يزيد صيحتهم وبكاءهم، فقال: ما الخبر؟ قالوا: إنّ بنت الحسين الصغيرة رأت أباها بنومها، فانتبهَت وهي تطلبه وتبكي وتصيح. فلمّا سمع يزيد ذلك قال: ارفعوا رأس أبيها وحطّوه بين يديها؛ لتنظر إليه وتتسلّى به.فجاؤوا بالرأس الشريف إليها مُغطّىً بمنديلٍ ديبقي، فوُضع بين يديها وكُشف الغطاء عنه، فقالت: ما هذا الرأس؟ قالوا لها: رأس أبيك.

أيّها الشيعي! إن كنتَ ترى نفسك مخلوقاً من فاضل طينة الإمام الحسين، فعلامة ذلك أنّك لا تتمالك نفسك وأنت تسمع هذه المصيبة، ولابدّ أن تجري دموعُك على خدّك، فإن اعرتك قساوة القلب فلابدّ لك أن تحزن على الأقلّ وتتباكى؛ لتستوجب الجنّة بذلك.

ولا تنسَ أنّ الرأس المقدَّس يسمع ويرى ويحسّ بما يجري حوله، أما سمعته بأُذنَي قلبك وهو يتلو القرآن، ويكلّم ابن وكيد وزيد بن أرقم وغيرهم؟ فهو الآن يرى ابنته وما يجري عليها، فضجّ مع من ضجّ في الخربة وابكِ معهم، فإنّك

ص: 446

تسمع ما تقوله هذه البنت الصغيرة وأنت فاضل طينتهم..

فرفعَته من الطشت حاضنةً له, وهي تقول: يا أباه! مَن ذا الّذي خضّبك بدمائك؟ يا أبتاه! مَن ذا الّذي قطع وريدك؟ يا أبتاه! مَن ذا الّذي أيتمني على صِغَر سنّي؟ يا أبتاه! مَن بقيَ بعدك نرجوه؟ يا أبتاه! مَن لليتيمة حتّى تكبر؟ يا أبتاه! مَن للنساء الحاسرات؟ يا أبتاه! مَن للأرامل المسبيّات؟ يا أبتاه! مَن للعيون الباكيات؟ يا أبتاه! مَن للضائعات الغريبات؟ يا أبتاه! مَن للشعور المنشّرات؟ يا أبتاه! مِن بعدك واخيبتنا، يا أبتاه! مِن بعدك واغربتنا، يا أبتاه! ليتني كنتُ الفدى، يا أبتاه! ليتني كنتُ قبل هذا اليوم عميا، يا أبتاه! ليتني وُسّدتُ الثرى ولا أرى شيبك مخضَّباً بالدماء.

ثمّ إنّها وضعَت فمها على فمه الشريف، وبكت بكاءً شديداً حتّى غُشيَ عليها، فلمّا حرّكوها فإذا بها قد فارقتروحها الدنيا، فلمّا رأوا أهل البيت ما جرى عليها، أعلنوا بالبكاء واستجدّوا العزاء، وكلّ مَن حضر من أهل دمشق، فلم يُرَ في ذلك اليوم إلاّ باك وباكية ((1)).

ص: 447


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 136 / 1 المجلس 7 الباب 2.

فداءً لمظلوميّتكَ وغربة أهل بيتكَ يا أبا عبد الله، ماذا جرى على أُولئك المفجوعين عند غسل تلك الصغيرة وتكفينها ودفنها؟! ((1))

ص: 448


1- ([2]) مخزن البكاء للبرغاني _ بترجمة: السيّد علي أشرف.

المرحلة الخامسة : الشعر

اشارة

ص: 449

ص: 450

سيف بن عُميرة، في قصيدةٍ طويلة:

وسكينة، عنها السكينة فارقَت***لمّا ابتديت بفرقةٍ وتغيّرِ

ورقيّة، رقّ الحسود لضعفها***وغدا ليعذرها الّذي لم يَعذُرِ

ولأُمّ كلثومٍ يجدّ جديدها***لثم عثيب دموعها لم يكررِ

لم أنسها، وسكينةً، ورقيّةً***يبكينه بتحسُّرٍ وتزفُّرِ

يدعون أُمَّهُمُ البتولةَ فاطماً***دعوى الحزين الوالِهِ المتحيِّرِ

يا أُمَّنا، هذا الحسين مجدَّلاً***مُلقىً عفيراً، مثل بدرٍ مزهرِ ((1))

ص: 451


1- ([1]) المنتخَب للطريحي: 435.

السيّد محمّد تقي بحر العلوم:

لهف نفسي لزينبٍ وهي ثكلى***يلتظي قلبُها دموعاً وآها

كم رأت في خرابة الشام أحزاناً***تسيخ الجبالُ مِن بَلواها

رأتِ الذلّ والهوان، وقيدَ***الأسر، فازداد حزنُها وشجاها

ورأت ما يمضّ من ألم اليُتم***مصاباً يعزّ عن أن يُضاهى

طفلة بنتُ أربعٍ أو ثلاثٍ***يشهق العطرُ من عبير شذاها

فلذة من فؤاد أحمد، يجري***من عليٍّ وفاطمٍ ريّاها

هي بنت الحسين، لم تعرف اليُتم***ولم تدرِ كيف تنعى أباها

ألِفَت حِجْرَه وثيراً من المهد***وكان الشغوف إذ يرعاها

لم تزل تسأل الأرامل والأيتام***عنه، ولم تحصِّلْ مُناها

وغفت عينُها لتهجع بلواها***وتنسى مصابها وأساها

وإذا بالكرى طيوفٌ حُبالي***بالمآسي، وليتها لن تراها

رأت الوالد العطوف بعينَيها***فهبّت مذعورةً مِن رؤاها

وانبرت تشتكي له الذلّ واليُتم***فتذوي القلوب من شكواها

واستفاقت من غفوة الضيم تبكي***وتنادي، ولا يُجاب نداها

يا أبي، يا أبي، أُريد أبي***الآن، فقد كان لي ظِلالاً وجاها

فاستجاشت عواطف الثكل بالح***زين ضجيجاً من أرضها لسماها

ص: 452

وتعالى البكاء واستشرت الآهات***والتاعَ في النفوس جواها

فاستفزّ الصراخ نوم يزيدٍ***وهو في قصره، فأبدى انتباها

قال: ماذا جرى لعائلة الأسر؟***ألم يُنسِها الكرى شجواها؟

قيل: بنت الحسين في حلم النوم***رأته، فاشتطّ منها نهاها

فأفاقت تريد شخص أبيها***فهي لم تقتنع بغير مُناها

قال: ذا رأسه، احملوه إليها***فعسى تستعيض عنه، عساها

فأتوها به، فأهوت عليه***بانعطافٍ أضاع منها هداها

وانحنت فوقه تقبّل فاه***وهو من عطفه يقبّل فاها

وتناديه: يا أبي، أيّ سيفٍ***جذّ منك الأوداج حتّى براها؟

يا أبي، مَن تراه خضّب منك***الشيب بالدم، مَن ترى أشقاها؟

يا أبي، مَن إلى الأرامل والأيتام***يعنى بها، ومَن يرعاها؟

يا أبي، أين غبتَ عنّا؟ فقد***ضاقت رحاب الصدور مِن لؤاها

يا أبي، عزّ أن نراك ترى***الأيتام حسى، والعزّ فضل رداها

واستجاشت بها العواطف حرّى***يفجر الصخر من شجى نجواها

ثمّ سرعان ما اسكانت على***رأسِ أبيها تبثّه شكواها

فإذا بالمصاب يضرى فيبدي***جثّةً بزّها الحمام رواها

حلمٌ وانطوى، وأجهش تأريخٌ***وظلّت مأساتها تنعاها

ص: 453

الملّا أحمد منظور، في (عمدة المصائب):

يا غيرة الله اغضبي لمحمّدٍ***ولآله الأبرار أكرم عترةِ

أيكون في الأُسراء عترة أحمدٍ***وتُعدّ في الأُمراء آل أُميّةِ؟!

ويُرى الحسين على الجبين معفّراً***ويزيد في المُلك المكين الأثبتِ

وبنات هندٍ في قصور الغرقد***سحبت ذيول الكبرياء وجرّتِ

وبنات فاطمة البتول تبدّلت***تيجان عزّتها بقيد مذلّةِ

...

كان الحسين له ابنةٌ صغرى، اسمها***كاسم البتول الطهر أكرم بضعةِ

كملت ثلاث سنين، لكن عقلها***عقل الكوامل من خيار العترةِ ((1))

...

قالوا لها: يأتي غداً، فتصبّرَت***فاستخبرت من بعد ثاني مرّةِ

لا زال هذا دأبهم معها إلى***أن أبصرته ليلةً في هجعةِ

فتنبّهَت، لا تستطيق من البكا***تدعو بعمّتها الزكيّة: عمّتي

أين الحسين أبي، وغايةُ مطلبي***ومدلّلي، ومقبّلي، ومسكّتي؟أين الحسين أبي،

ص: 454


1- ([1]) البيتان من رياض القدس للواعظ القزويني: 2 / 323، نسبها للشيخ حسن الدهستاني.

فتصارخت في وجهها عمّاتها***فدعى يزيد بشرح تلك القصةِ

قال: اطرحوا رأس الحسين بحِجرها***فإذا نظرَت إليه تسلّتِ

فأتَوا به في الطشت يلمع نوره***كالشمس، بل هو فوقها في البهجةِ

قالت: فماذا؟ قيل: رأس أبيكِ ذا***قالت: أمذبوحٌ؟ ألا وا حسرتي!

مَن حزّ رأسك يا أبي، ومَن ارتقى***من فوق صدرك قابضاً باللمّةِ؟

مَن كبّه فوق الصعيد، ومَن برى***منه الوريد معانداً للملّةِ؟

وتصعّد الزفرات من حسراتها***وجداً، وتدمح شهقةً بي زفرةِ

وغدت تمرّغ خدّها في نحره***شوقاً، وتمزج رشقةً في لثمةِ

حتّى قضت فمها على فمه، وقد***خرّت عليه، ولم تزل في سكرةِ ((1))

ص: 455


1- ([1]) عمدة المصائب للملّا أحمد منظور: 357 وما بعدها.

الشيخ عبد المنعم الفرطوسي:

أنزلوهم في خربةٍ ليس فيها***غير مهد الثرى وسقف السماءِ

لا تقيهم حرّ الهجير بظلٍ***وهو يُصلي، ولا لهيبَ ذُكاءِ

والإمامُ السجّاد يخرج حيناً***بعد حينٍ مِن شدّة البرَحاءِ

هارباً من حرارة الشمس فيها***مستجيراً بالظلّ بعد العراءِ

كان يلقى سهلاً، فيشكو إليه***ما يلاقي من الأذى والعناءِ

فتجيء الحوارء عَدْواً إليه***وهي تدعو بندبةٍ ورثاءِ:

يا حمانا الزاكي، إلى أين تمضي؟***أنت بُقيا الآباء والأبناءِ

فيخلّي عنه ويمضي إليها***مستظلاً من عطفها برداءِ

وتراءى الحسينُ يوماً لعينَي***طفلةٍ عند ساعةِ الإغفاءِ

فاستفاقت وطالبت بأبيها***وتعالى الصراخُ بين النساءِ

فأتَوها برأسه، فأكبّت***فوقه مستغيثةً بالبكاءِ

شهقت شهقةً فماتت عليه***حين أهوت على صعيد الفناءِ

حرّكوها، وما بها من حُراكٍ***فنعاها السجّادُ للحوراءِ

وهي كانت في أصلها حين تنمى***خير بنتٍ لسيّد الشهداءِ

ص: 456

السيّد مصطفى جمال الدين:

لَهفَ نَفْسِي لِزَيْنَبٍ وَهيَ ثَكْلَى***يَتَلَظَّى قَلْبُها دُمُوعاً وَآها

كَمْ رَأَتْ فِي خَرابَةِ الشَّامِ***أَحْزاناً تَسِيخُ الجِبالُ مِنْ بَلْوَاها

وَرَأَتْ ما يَمُضُّ مِنْ أَلَمِ اليُتْمِ***مُصاباً يَعُزُّ عَنْ أَنْ يُضاهَى

هِيَ بِنْتُ الحُسيْنِ، لَمْ تَعْرِفِ اليُتْمَ***وَلَمْ تَدْرِ كَيْفَ تَنْعَى أَباها

لَمْ تَزَلْ تَسأَلِ الأَرامِلَ وَالأيتامَ***عَنْهُ، وَلَمْ تَحْصَلْ مُناها

رَأَتْ الوالِدَ العَطوفَ بِعَيْنِها***فَهَبَّتْ مَذْعُورَةً مِنْ رُؤاها

وَاسْتَفاقَتْ مِنْ غَفْوَةِ الضَّيْمِ تَبْكِي***وتُنادِي، فَلا يُجابُ نِدَاها

فَاسْتَفَزَّ الصُّراخُ نَوْمَ يَزِيدٍ***وَهُوَ فِي قَصْرِهِ، فأَبْدَى انْتِباها

قالَ: ذَا رَأْسُهُ احمِلُوهُ إِلِيها***فَعَسَى تَسْتَعيضُ عَنْهُ عَساها

وَانْحَنَتْ فَوْقَهُ تُقَبِّلُ فَاهُ***وَهوَ مِنْ عَطْفِهِ يُقَبِّلُ فَاها

وَتُنادِيهِ: يا أَبِي أَيّ سَيْفٍ***جَذَّ مِنْكَ الأَوْداجَ حتّى بَراها؟

يا أَبِي، مَنْ تَراهُ خَضَّبَ مِنْكَ***الشَّيْبَ بِالدَّمِ، مَنْ تُرَى أَشْقاها؟

وله أيضاً:

في الشام، في مثوى أُميّة مرقدُ***يُنبيك كيف دم الشهادة يخلُدُ

صرحٌ من الإيمان، زهوُ أُميّةٍ***وشموخ دولتها لديه يسجدُ

رقدَت به بنت الحسين، فأوشكَت***حتّى حجارة ركنه تتوقّدُ

ص: 457

كانت سبيّة دولةٍ تبني على***جثث الضحايا مجدها وتُشيّدُ

حتى إذا دالت، تساقط فوقها***بأسُ الحديد، وقام هذا

المسجدُ هيّا استفيقي يا دمشق وأيقظي***وغداً على وضرِ القمامة

يرقدُ واريهِ كيف تربّعَت في عرشهِ***تلك الدماء، يضوءُ فيها المشهدُ

مَن راح يعدل مَيل بدرٍ أمسهُ***فُلّت صوارمه ومال به الغدُ

ستظلّ هندٌ في جحيم ذحولها***تجترّ أكباد الهدى وتعربدُ

ويظلّ مجدُكِ يا رقيّة عِبرةً***للظالمين على الزمان يتجدّدُ

يذكو به عطر الأذان، ويزدهي***بجلال مفرقة النبيّ محمّدُ

ويكاد من وهج التلاوة صخره***يندى، ومن وضح الهدى يتورّدُ

وعليه أسراب الملائك حُوّمٌ***وهموم أفئدة الموالي حشّدُ

وبه يطوف فمُ الخلود مؤرّخاً***بالشام قبر رقيّةٍ يتجدّدُ

ص: 458

الشيخ أحمد الوائلي:

في ربى قاسيون قبرٌ صغيرٌ***فيه غصنٌ من البتول نظيرُ

تربةٌ هوّمَت رقيّةُ فيها****حضن الطهر رملُها والحفيرُ

عندها من محمّدٍ وعليٍّ***والحسين الشهيد شيءٌ كثيرُ

والسمات الطيّبات تراثٌ***يتجلّى به البشيرُ النذيرُ

يحمل العبرة الصريحة إنّ ال***حقّ يبقى، ويذهب التزويرُ

والضريح الّذي يضمّ نسجاً***علويّاً بالاحترام جديرُ

يطل الورد عاطش الروح منه***وبيوت النبيّ نبعٌ نميرُ

وبدرب العيون صرحٌ***تسامى الفنّ فيه وأبدع التعميرُ

روضةٌ تأشب النظارة فيها***ويجلّي أبهاءها التنويرُ

إن أطلّت شمس الصباح عليها***يتبارى بها السنا والعبيرُ

وصخورٌ تماوجَت بالمرايا***فكأنّ الشعاع فيها غديرُ

ويخطّ البلّور والذهب الإبريز***ما عنه يعجز التصويرُ

حفلت بالشموخ مبنىً ومعنىً***فالمزايا جنباً لجنبٍ تشيرُ

أيه بنتَ الحسين، يومكِ يُسرٌ***وأمام الطغاة يومٌ عسيرُ

اَلمدى فيكِ بالخلود طويلٌ***والمدى عند شانئيكِ قصيرُ

والرقيم الّذي على صرحك الشا***مخ فيه البيانُ والتفسيرُ

ص: 459

أن يحيق الهوان الآسر الباغي***ويسمو كما يشاءُ الأسيرُ

وتروح القصور والترف الفاجر***والوشي لامعاً والحريرُ

والعروش الّتي على البغي قامت***وجنودٌ ومنبرٌ وأميرُ

أيدانيك ظالمٌ بسريرٍ***وقد انحطّ للهوان السريرُ؟

ممّن اجترّ حقد بدرٍ وأُحدٍ***وتمادى سُعاره الشرّيرُ

مِن رعيلٍ دم الشهادة فيهم***ملأ قرقارة الشراب خميرُ

ولأسنان أُمّهم في لحومٍ***ممّن استُشهدوا بأُحدٍ صريرُ

فذريهم إلى الهوان مصيراً***وليدُم منكِ للخلود مصيرُ

يا ابنة المتّقين، عاقبة الأبرار***عمّا ينالهم تبريرُ

أُنظري خربةً أقمتِ بها بالشام***تُرُب فراشها وحصيرُ

إنّها عبرةٌ على شفة التاريخ***يشتارها السميعُ البصيرُ

أنتِ فيها رمزٌ وصرخةُ حقٍّ***عند سمع الطغاة منها هديرُ

صاح فيها صوت الضمير وعدلٌ***في الموازين لو أفاق الضميرُ

سيطال الخراب أروقة الظلم***ويجتاح صرحها التدميرُ

وسيبدو للتائهين بأنّ الله***في فعل ما يشاء قديرُ

أيّها الشجنة الّتي أذبلتها***لوعةُ الأسر والفلا والهجيرُ

فهي من زحمة القيود على الصدر***أنينٌ شهيقها والزفيرُ

ص: 460

طفلةٌ يكمن الذهول بعينيها***فيبدو بدمعها التعبيرُ

حملَت قلبها الكسير على يُتمٍ***وقلب اليتيم قلبٌ كسيرُ

إنّها برعمٌ، وما اشتدّ منها***عودها الغضّ والفؤاد الغرير

ُلم يزل مثلها تهدهده هذه الدنيا***والحلم والفراش الوثيرُ

فإذا بالزمان يُثقِل كتفيها***بما قد ينوء منه ثبيرُ

فهي جسمٌ يدافع السوط بالكفّ***وعينٌ بدمعها تستجيرُ

يا لَوجدي وقد مررتُ عليها***وعلى القبر من أساها سطورُ

فبدى طيفها لعيني نِضواً***من سياطٍ حدا بهنّ الغرورُ

قد تعاورنها ودُرن عليها***وهي من وقعها الأليم تدورُ

وبراها السرى، ففي عودها الناحل***وهنٌ مبرّحٌ وضمورُ

تسأل الأُمّهات أين أبوها***كيف أغضى وهو الشفيق الغيورُ؟

كُنّ يوهمنها بأنّ أباها***غائبٌ، حان عوده والحضورُ

غير أنّ الغياب طال عليها***والعشيّ امتدّت بها والبكورُ

وألحّت تريده ذات يومٍ***فهو في قعر ذهنها محفورُ

فأتوها بالرأس أذيل خدّيه***هجيرٌ ونحره منحورُ

فهوت فوقه وأغفت كما***أغفى على دفء أُمّه عصفورُ

حضنت رأسه وأسلمت الروح***وجفّت كما تجفّ الزهورُ

ص: 461

أيّها الزائرون، في ودّ ذي القربى***سعيتم، فسعيكم مشكورُ

هل لمحتم شمائل الأُمّ في البنت؟***فللفرع ما روته الجذورُ

ما هو القبر، بل شعائر قدسٍ***في محاريبها يطوف الشعورُ

يُكتب السعي في المسير إليها***فهي آثار فضلها مأثورُ

الثمو تربها الطهور احتساباً***إنّ ترباً ضمّ الطهورَ طَهورُ

وانظروا كيف يزدهي القبر فيها***والتراتيل والشذى والنورُ

فلكم أوحشت قبور بأهليها***وشعّت بساكنيها قبورُ

ص: 462

السيّد سلمان هادي آل طعمة:

ضريحكِ إكليلٌ من الزهر مورقُ***به العشق من كلّ الجوانب مُحدِقُ

ملائكة الرحمان تهبط حوله***تسبّح في أرجائه وتحلّقُ

شممتُ به عطر الربى متضوّعاً***كأنّ الصبا من روضه الخلد يعبَقُ

إليه غدا الملهوف مختلج الرؤى***وعيناه بالدمع الهتون ترقرقُ

كريمة سبط المصطفى، ما أجلّها***لها ينحني المجدُ الأثيل ويُخفِقُ

أُرومتها طابت كحسن خصالها***لديها غدا العاني يحبّ ويومِقُ

إلى ذروة العزّ انتمت، وتسابقت***ومن راحتَيها بان فضلٌ مطوّقُ

وأيّدها الباري بكلّ فضيلةٍ***وخير محلّاً بالعلى وهو يُغدقُ

كأنّ الدجى ينشقّ عن سِحر وجهها***كما يطلع البدرُ المنيرُ ويُشرِقُ

أطِلّي على الدنيا كشمسٍ منيرةٍ***لها بقلوب المخلصين تعلّقُ

أطِلّي، فهذا الكون يشدو صبابةً***لمجدكِ مهتاجاً ويهفو ويرمقُ

وبُوحي بآيات الجلال، فإنّنا***عطاشى إلى بحر المُنى يتدفّقُ

فيا جذوةً في النفس يحلو أوارها***وكلّ محبٍّ نحوها يتشوّقُ

ويا قبساً من نور أحمد يزدهي***بطيب فِعالٍ عبر طيفٍ ويطرقُ

ويا قبساً من نور أحمد يزدهي***بطيب فِعالٍ عبر طيفٍ ويطرقُ

نشأتِ على حبّ الحسين وفضلِه***وحزتِ من الجاه الّذي لا يصدَّقُ

وإنّكِ أهلٌ للخلود وشأوه****فذاك هو المجد العظيم الموفّقُ

ص: 463

وحبّكِ هذا ساكن القلب والحشا***سيبقى مناراً للهدى يتألّقُ

شعائر قدسٍ تملأ الأرض رحمةً***مدى العمر، تزهو للبرايا وتُبرِقُ

وأيّ مزارٍ صار للناس ملجأً***إليه التجى الراجي، وفاض التصدّقُ

يتيمةَ أرض الشام، ألف تحيّةٍ***إليكِ، وقلبي بالمودّة ينطقُ

ص: 464

السيّد الأمين:

قال بيتين في تجديد قبر السيّدة رقيّة بنت الحسين(علیه السلام)، وكان قد جدّده الميرزا علي أصغر خان وزير الصدارة في إيران عام 1323، فأرّخه السيّد وقال:

وقد أرّختُ ذلك بتاريخٍ منقوشٍ فوق الباب، أقول فيه من أبيات:

له ذو الرتبة العليا عليٌّ***وزير الصدر في إيران جدَّدْ

وقد أرّختُها: (تزهو سناءً***بقبر رقيّةٍ من آل أحمد) ((1))

ص: 465


1- ([1]) أعيان الشيعة للأمين: 7 / 34.

السيّد عامر الحلو:

بِدِمَشق قبرُكِ يا رُقيّةُ يُشرِقُ***وبِهِ عِظاتٌ بالحقيقةِ تَنطِقُ

كنتِ أسيرةَ دولةٍ مغرورةٍ****فعَصَفْتِ فيما زَوَّروا أو لَفّقُوا

وإذا بِها عندَ النهايةِ عِبرةٌ***وإذا بقبرِك فيه تَزهو (جُلَّقُ)

وإذا بِمجدِكِ، وهو مَجدُ محمّدٍ***زاهٍ، ويَخترِقُ المَدى ويُحلِّقُ

تلك الحقيقةُ سوف يبقى نورُها***أبَدَ الزمانِ على العوالم يَخفِقُ

ويَظَلّ هَدْيُ محمّدٍ طُولَ المدى***رغمَ الصِّعابِ وهَولِها يَتعمّقُ

والكونُ يخضعُ للرسالةِ خاشعاً***ويَدينُ فيها غَربُه والمَشرِقُ

وهو الّذي قد رامَه في كربلا***نحرُ الحسينِ، وفَيضُه المُتدفِّقُ

ويَظَلُّ صَرحُكِ يا رقيّةُ شامخاً***بالطيّباتِ، وبالمَفاخِرِ يَعبَقُ

ولقد ذكرتُكِ يا رُقيّةُ بالشَّجى***لَمّا رُزِئتِ وغابَ عنكِ المُشْفِقُ

لَمّا غَفَت عيناكِ مِن تعَبِ السِّبا***ورأيتِ والدَكِ يَحِنُّ ويُشفِقُ

ففَزِعتِ باكيةً عليهِ بِلَوعةٍ***والقلبُ مِن وَقْعِ الأسى يَتحرّقُ

وعَلا النحيبُ على الحسينِ بِخَربةٍ***نَطَقَ البكاءُ بها، وكَلَّ المَنطقُ

وأتَوا برأسِ السِّبطِ في غَسَقِ الدُّجى***فحضَنْتِه، والكلُّ فيه أحدَقُوا

ورَقَدتِ رَقْدتَكِ الأخيرةَ جَنبَهُ***ولَقَد رحَلْتِ، وأنتِ نَبعٌ مُغْدِقُ

نَبعُ الطفولةِ والبراءةِ والصِّبا***نبعٌ يَظَلّ على المدى يَتدَفّقُ

ص: 466

نبعُ التُّقى، نبعُ الهدايةِ والنُّهى***نبعٌ أصيلٌ في المكارمِ مُعْرِقُ

ويَظلّ قبرُكِ يا رُقيّةُ كعبةً***للزائرين به تَطوفُ وتُحْدِقُ

ص: 467

الأُستاذ إبراهيم رفاعة:

تبكي السماءُ لزهرة الزهراءِ***وتمور أرضُ الله في الأرزاءِ

والطير تندبها بحَرّ نشيجها***تسبيحة الأشجار فيض دماءِ

بنتُ الحسين رقيّةٌ، رقّت لها***غلظ القلوب بلوعة الرحماءِ

أدمى رقيقَ فؤادها جَورُ العِدى***لليتم سهمٌ، ثمّ سهم سباءِ

هي رقّة الأزهار، كيف يمسّها***لسع السياط بزجرةٍ وجفاءِ؟!

هي بنت طه، كيف يُسلَب قرطُها***وتُساق سبياً في لظى البيداءِ؟!

اَلله أكبر، قد تشقّق جلدها***في رحلة الآلام والإعياءِ

الكون أفجعه حنينُ يتيمةٍ***تدعو أباها سيّدَ الشهداءِ

حضنَت أباها، بل مدمّى رأسه***فالجسم منه رهين كرب بلاءِ

وشكت له شكوى ظليمة فاطمٍ***تشكو الفراق وقسوة اللؤماءِ

فبكى لها الرأس الشريف وروحُه***ضمّت إليه روحها ببكاءِ

وعلا نداءُ القدس حزناً مُعلِناً***عرج الحسين بزهرة النجباءِ

بمصابها هزّت قواعد شامهم***ضحّت؛ لتحمي موكب الأُسراءِ

لحقَت رقيّةُ بالشهيد شهيدةً***أدمت قلوب الأهل والغرباءِ

خلدت على جسد الشريف علائمٌ***أثر السياط كدملج الزهراءِ!

ص: 468

وله أيضاً:

صَنَعوا بالحسينِ ما صنعوهُ***دونَ أن تَشتَفي لهم أظغانُ

إنّهُ حِقدُهُم على اللهِ يَغلي***فاستَباحُوا.. وما اكتَفى

الغَلَيانُ فتَعاوَت ذِئابُهُم وقُرُودٌ***مِن أُمَيٍّ يَؤمُّها الشيطانُ

وتداعَوا لِيُحرِقُوها خياماً***لحسينٍ.. فاستَعبَرَ القرآنُ

إنّ فيها كرائماً ثاكلاتٍ***لَوَّعَتها الخطوبُ والأشجانُ

خِيَمُ السَّترِ والجلالِ، وفيها***عِرضُ بيتِ النبيِّ عِزّاً يُصانُ

أضرَمُوا النارَ في خيامِ الثكالى***فهي فيها تَسري، ويعلو الدخانُ

قَهقَهَ الحِقدُ مِن أُميّةَ لمّا***في خِباهُم تَلامَظَت نِيرانُ

أكلَت نارُ بُغضِهِم لعليًّ***بيتَ طه، فمالَتِ الحِيطانُ

وتَهاوَت سُتُورُهُ، واستَبانَت***حُرُماتٌ مقدَّساتٌ حَصانُ

مَن يَخالُ النساءَ كيف أُريعَت***والصبايا قد هالَها العُدوانُ؟

يا لَها اللهُ مِن بقيّةِ سَيفٍ***في مَآسٍ يَؤجُّها سُفيانُ

وهمُ مَن همُ.. فِراخُ رسولِ اللهِ***مَن هُم لِعَينِهِ الأجفانُ

يُشرِقُ النورُ والعُذوبةُ منهم***ولدى العرشِ عِطرُهُم رَيحانُ

ألِفُوا اللطفَ والهَنا من حسينٍ***إذ هو الحُبُّ كلُّهُ والأمانُ

فَزِعوا هائمينَ ذُعراً حُفاةً***في فَلاةٍ.. فضَجّتِ الوِديانُ

كلّ طفلٍ في الرَّوعِ قلبٌ رَجُوفٌ***مَن رأى الطيرَ غالَهُ الرَّجَفانُ؟!

ص: 469

كم صَبيٍّ قضى بسَحقِ خُيُولٍ***وصبايا شَبَّت لها الأردانُ؟!

ورُقَيٌّ.. والنارُ تَلهَبُ جمراً***في أساها، وتَرجُفُ السِّيقانُ

شَهِقَت شهقةً، وأُغمِي عليها***وأفاقَت، تَرُوعُها الذُّؤبانُ!

وهي مَن تُشبِهُ البتولَ، وكانت***مِن أبيها تَضُمُّها الأحضانُ

مشهدٌ يجعلُ الصَّبورَ جَزوعاً***ورزايا يُشَلُّ فيها البيانُ

ورُقَيٌّ أميرةٌ.. دُرّةُ التا***جِ بها مَفرِقُ الخُلودِ يُزانُ

رَوَّعُوا قلبَها بأسرٍ وضربٍ***وهْي نورٌ مِزاجُهُ الإحسانُ

عُمرُها في السنينِ: بنتُ ثلاثٍ***شَيّبَ البَينُ شَعرَها والهوانُ

أوَ تُسبَى سكينةٌ، وهي دوماً***لأبيها سَكينةٌ وضمانُ؟!

بَدَّلُوا العُرسَ والخِضابَ عليها***بِعَزاءٍ آهاتُهُ ألوانُ

مَن رأى قَبلَها عروسَ المَعالي***وهي تُمسي أسيرةً لا تُعانُ؟!

مَن رأى القاسمَ الحبيبَ بيومِ ال***عُرسِ عَبَّ الدماءَ منه السِّنانُ؟!

قمرٌ أحمرٌ، تَجلّى صريعاً***زادَ في حُسنِهِ الردى والطِّعانُ

حَسبُهُ أنّهُ فتىً حَسَنيٌّ***جادَ بالروحِ قلبُهُ الوَلهانُ

ص: 470

وله أيضاً:

اشارة

مُزِجَت روحُها بروحِ أبيها..

(حبيبة قلب أبيها، شهيدة السَّبي، رُقيّة بنت الحسين(علیهما السلام))

1

أسكَنُوهُم خَرابةً مُزدَراةً***لِيَقُولوا.. وقولُهُم كُفرانُ:

"إنّ بَيتاً لأحمدٍ باتَ مَحواً***وقصورٌ فيها يزيدٌ..تُزانُ"

قد أرادوا دَفنَ اسمِ أحمدَ، حتَّى***ليس يَبقَى من ذِكرِهِ عُنوانُ!

قالَها قبلَهُ أبوهُ جِهاراً***إذ تَنَزَّى، وغَرَّهُ الصَّولَجانُ ((1))

ص: 471


1- ([1]) روى الزبير بن بكّار _ المُمالئ لمعاوية بن أبي سفيان والمُخاصِم لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(علیه السلام) _ واقعةً حكاها المُغيرة بن شُعبة الّذي كان في خطّ معاوية.. أنّ معاوية قال له يوماً: أيُّ ذِكرٍ أرجو بقاءَه ... وإنّ ابنَ أبي كبشة [يريد به رسول الله(صلی الله علیه و آله) على سبيل السخرية والذمّ] لَيُصاحُ به كلّ يوم خمس مرّات: "أشهد أنّ محمّداً رسول الله"، فأيُّ عملي يبقى، وأيّ ذكرٍ يدوم بعد هذا؟! لا أباً لك! لا واللهِ إلّا دَفناً دَفناً! (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5 / 130). وكانت "ابن أبي كبشة" من تسميات المشركين للنبيّ(صلی الله علیه و آله)، وكثيراً ما كان أبو سفيان يطلقها عليه تعريضاً وانتقاصاً منه (روحي فداه).

وهُمُ اليومَ في البلادِ مُلُوكٌ***أسَّسَ الشركُ مُلكَهُم والدِّنانُ ((1))

وأبَى اللهُ للحسينِ خُضُوعاً***ونُفُوسٌ أبِيَّةٌ مَكرُمانُ

فتَجَلَّى في كربلاءَ عزيزاً***فوقَ ما تَحلُمُ الدُّنَى والزمانُ

ثُمّ كانت فجائعٌ ورزايا***ليس يُحصي تَعدادَها العَدّانُ

ذَبَّحُوا الطُّهرَ _ وَيلَهُم _واستَباحُوا***حُرَمَ اللهِ عُنوَةً.. واستَهانُوا

وبَناتُ النبيِّ تُؤسَرُ سَبياً***وإلى الشامِ ساقَها العُدوانُ

ها هي الآنَ.. والخَرابَةُ حَبسٌ***مُظلِمٌ مُوحِشٌ.. ولا أعوانُ!

لَوعَةٌ إثرَ لَوعَةٍ، وعذابٌ***في عذابٍ، وغُربَةٌ، وارتِهانُ

أيُّ طَودٍ يُطيقُ ما حَمَلَتهُ***والمآسي في قلبِها نِيرانُ؟!

2

أقبَلَ الليلُ ذاهلاً، تَعثُرُ الأق***دامُ مِنهُ، تَؤُودُهُ الأحزانُ

ورأى مَحبِسَ الأسيراتِ في صَم***تٍ كئيبٍ.. فضاؤهُ أنّانُ

هَدَّهُنَّ الإعياءُ والسَّفَرُ الغا***شِمُ والثُّكلُ والأسَى والهَوانُ

واليَتيماتُ.. قصّةٌ ليس تُحكَى***كلَّ آنٍ.. فُصُولُها لَهَبانُ

طالَ منها بُكاؤها.. كيف تَقوَى***أن تُداوي قُرُوحَها الأجفانُ؟!

ص: 472


1- ([1]) دِنان: جمعُ دَنّ، وهو: وِعاءٌ ضخمٌ للخمر، وكان بنو أُميّة يتعاطونه.

كم تُداري قلوبَها زينبُ العَل***ياءُ أُمّاً غريبةً لا تُعانُ؟!

هي قلبٌ مُقَطَّعٌ، وهي صبرُ ال***صبرِ، تبكي لِرُزئها الأشجانُ

أوَ تَغفُو عُيُونُها.. واليتامَى***ألفُ جُرحٍ نَزيفُها سَهرانُ؟!

هَدَأت ساعةً عُيُونُ الأُسارَى***غَشِيَتها تَهوِيمَةٌ فاستَكانُوا

قد تنامُ العُيُونُ في هَدأَةِ اللي***لِ غِراراً، وقلبُها يقظانُ

وأفاقَت رُقيّةٌ.. قد شَجاها***في رُؤاها ما يَبعَثُ الهِجرانُ

فَتَعالَى بُكاؤها في نَشيجٍ***يَفطُرُ القلبَ شَجوُهُ الحَنّانُ

يا بُكاها.. يتيمةٌ قد أُضِيمَت***باضطِهادٍ، وسَلَّها الحِرمانُ

إنّ دمعَ اليتيمِ يَخرِقُ حتّى***حُجُبَ الغيبِ، سَهمُهُ شُهبانُ

فإذا السِّجنُ مَأتمٌ يَتَلَوَّى***ضَجَّ في الليلِ نَوحُهُ المِرنانُ

ما الّذي عايَنَت رُقيّةُ حتّى***قد فَرى قلبَها الصغيرَ العِيانُ؟!

3

أنصَتَ الليلُ مُشفِقاً لأساها***فتَفَرَّت مِن قلبِهِ الخِيطانُ

إنّها لَوعَةٌ.. تُنادي أباها***وأبوها المُقَطَّعُ الأُرجُوانُ

لا تُطيقُ الحياةَ بعدَ حسينٍ***كلُّ شيءٍ مِن بَعدِهِ صَوحانُ ((1))

ص: 473


1- ([1]) صَوحان: جافٌّ يابس.

حَبّةُ القلبِ للحسينِ رُقَيٌّ***وحسينٌ لِقَلبِها الرَّيحانُ

قد أتاها في النومِ حُلماً حَنُوناً***والمُناغاةُ حُلوَةٌ رَيَعانُ

فرَمَت نفسَها إليهِ احتِضاناً***ثمّ فَزَّت، يَشُوقُها اللُّقيانُ

هو ذا شَوقُها إليهِ لَهِيبٌ***مَن يَرُدُّ التِهابَهُ..البُركانُ؟!

4

نَقَلَ الليلُ باكياً لفضاءِ ال***شامِ نَوحاً دَوِيُّهُ طَنّانُ

إنّها صَرخَةُ القُلوبِ.. ونَدّت***فاقشَعَرّت مِن رَعدِها الحِيطانُ

فَزِعَت شامُهُم، ورِيعَ يزيدٌ***والأُسارَى وقَصرُهُ جِيرانُ

نَزَلَ الصَّوتُ كالصَّواعقِ رَجماً***ويَزيدٌ في قصرِهِ سَكرانُ

صاحَ بالجُندِ آمِراً:"سَكِّتُوها!***بأبيها سَيَسكُنُ الصَّيَحانُ"!

"هو ذا الرأسُ ضَيفُنا! فاحمِلُوهُ***لِتَراهُ.. وتَشبَعَ النُّسوانُ"!"

5

فُتِحَ البابُ، والسُّجُونُ ظلامٌ***فاستَنارُوا.. وأسرَعَ السَّجّانُ!

فاستَرابَت صِغارُ آلِ عليٍّ!***إنّهُ الليلُ.. والعِدا لُؤمانُ

بَيدَ أنّ الضياءَ قد سَبَقَ الجُن***دَ،وشيءٌ _ جاؤوا بهِ _ شَعشَعانُ!

نَظَرَت طفلةُ الحسينِ مَلِيّاً***بِعُيُونٍ أفاضَها الدَّمَعانُ

أيُّ زادٍ أتَوا بهِ ليس يَعنِي***ها، أبوها مُرادُها الفَردانُ

ص: 474

6

طَلَبَتهُ شَوقاً، فلَبَّى نِداها***وهو رأسٌ.. وجِسمُهُ فِلذانُ ((1))

جِيءَ بالرأسِ مُشرِقاً يَتَلالا***وعليهِ مِندِيلُ قَزٍّ ((2)) مُزانُ!

عَجَباً للطُّغاةِ.. بالأمسِ كانُوا***شَهَّرُوهُ، يَطُوفُ فيهِ السِّنانُ

ثمّ جابُوا بهِ المَدائنَ بَغياً!***طالَ ما نالَ رأسَهُ استِهوانُ!

وهو ذا اليومَ مُكرَماً حَمَلُوهُ***وحريرُ الغِطاءِ زاهٍ مُلانُ!

لَم يكونوا هُمُ الأُلى أكرَمُوهُ***وهُمُ الغِلّ قادَهُ الشَّنَآنُ

إنّها رغبةُ الحسينِ، وشاءَت***أن يُغَطَّى، فأذعَنَ الطُّغيانُ

سَتَرَ الرأسُ نفسَهُ مِن حَياءٍ***فالمَصُوناتُ سَبيُهُنَّ هَوانُ!

أَعِتابٌ للرأسِ وهو قَطيعٌ؟!***ما إلى الرأسِ للعِتابِ لسانُ

كيف يَلقَى سكينةً مُستَباةً؟!***كيف يَلقَى رُقيّةً تُستَهانُ؟!

أيَرى زينبَ الشقيقةَ في أس***رِ الأعادي.. وقَهرُها ألوانُ؟!

يا حياءَ الحسينِ! حارَ حياءُ ال***خَلقِ فيهِ، فما لَهُ أقرانُ

فَلَو انّ الحياءَ مُثِّلَ شخصاً***ما عَداهُ.. وسَهمُهُ الغَلبانُ ((3))

7

ص: 475


1- ([1]) فِلذان: جمع فِلذَة، وهي القِطعة من الشيء.
2- ([2]) قَزّ: حرير.
3- ([1]) ما عَداه: ما جاوَزَه . وقد قال النبيّ(صلی الله علیه و آله): «لو كان الحياءُ رَجُلاً لَكان الحسين» (مئة منقبةٍ لابن شاذان القمّي: 136) . وقال أيضاً: «رأس الدين الحياء».

وَضَعُوهُ.. والنورُ يَزهَرُ حُسناً***قَمَريّاً، صفاؤهُ مَوَجانُ

إنّها ليلةٌ.. ولا كاللَّيالي!***نابِضٌ عُمقُ سِرِّها، إضحِيانُ ((1))

إنّ أمراً مُخَبَّأً سوف يُبدَى***لَحَظاتٌ.. ويَنجَلي الدَّهَشانُ!

.. وأزاحُوا الغِطاءَ، فانهَلّ عِطرٌ***يأسِرُ القلبَ نَشرُهُ الرَّيّانُ

عَرَفَتهُ رُقيّةٌ.. يا ضَناها!***ورَأت رأسَهُ.. فَرُجَّ الكِيانُ:

لا تَرى بالعُيُونِ، لا النُّطقُ يَحكي***لا زمانٌ هنا.. ولا أكوانُ!

هو رأسُ الحبيبِ.. كيف تُلاقِي***هِ قَطيعاً مُنَوَّراً يَزدانُ؟!

إنّها الرُّوحُ.. شوقُها لحبيبِ ال***روحِ وَجدٌ مُؤَلَّهٌ سُبحانُ

وَضَعَت رأسَها عليهِ احتِضاناً***وأطالَ اشتِياقَها الإحتِضانُ

وبُكاها نشيجُ قلبٍ مُذابٍ***وزفيرٌ وشَهقَةٌ واحتِقانُ ((2))

وغريبٌ من طفلةٍ كلُّ هذا ال***نَّوحِ وَجداً.. كأنّهُ الطُّوفانُ!

أُوقِظَت في القلوبِ كُلُّ المآسي***جُدِّدَت كربلا.. وعادَ الزمانُ

ص: 476


1- ([2]) إضحِيان: صافٍ مُضيء كأنّه وقت الضُّحَى.
2- ([1]) احتِقان الحُزن: تَجَمُّعُه في النفس وتَراكُمه واحتباسُه.

إنّها كربلا.. قيامةُ يومٍ***هو للهِ يومُهُ الفَردانُ

وعُيُونُ الحسينِ تَنظُرُ للأُس***رَةِ حُزناً.. أغوارُهُ غَلَيانُ

ما الّذي قد جَرَى على الخَدِّ مِنهُ؟!***أدُمُوعٌ.. وماؤها جَرَيانُ؟!

يا حَنانَ الحسينِ! تَدري رُقَيٌّ***دُونَهُ الماءُ رِقَّةً والحنانُ

مُزِجَت روحُها بروحِ أبيها***فَهُما واحِدُ السَّنا جَذلانُ

واستَهامَا إلى العُلَى في عُرُوجٍ***وَحدَهُ اللهُ سِرُّهُ الفَتّانُ

هَدَأَ النَّوحُ راضياً.. واستَكانَت***لأبيها.. ونَفسُها اطمِئنانُ

8

مَن أتَى قبرَها أحَسَّ حُسَيناً***هو سِرٌّ في قبرِها أسيانُ ((1))

ليس في نورِ كربلاءَ كبيرٌ***وصغيرٌ.. ونُورُهُم بُرهانُ

هي مِرآةُ جَلوَةٍ لأبيها***وهو مِرآةُ ربِّهِ تُستَزانُ

وعجيبٌ أمرُ المَرايا؛ ففيها***قد تَرى العينُ ما لا يَراهُ العِيانُ

إنّهُم مَجمَعٌ لأسرارِ قُدسِ اللهِ***غَيباً.. وصَدرُهُم خَزّانُ

9

يا لَها اللهُ مِن شهيدةِ سَبيٍ***أطلَعَ الشوقُ رُوحَها والعِيانُ

ص: 477


1- ([2]) أسيان: حزين، والأسى: الحزن.

فأضاءَت في الشامِ تَزهُو مَناراً***يَتَحَدَّى ما قد جَنَى الطغيانُ

ليس يُمحَى ذِكرُ الحسينِ.. مُحالٌ***وهو ذِكرٌ للهِ باقٍ.. أمانُ

هو عِزٌّ للأصفِياءِ جميعاً***وعلَى صدرِ فخرِهِم نِيشانُ

ص: 478

الأُستاذ إسماعيل خليل أبو صالح:

خبّريني يا روضةً في الشآمِ***كيف نلتِ بها رفيعَ المقامِ؟

طفلةٌ، لم تناهز الحلم، لكن***هي فرعٌ من دوحةٍ للكرامِ

مَن أبوها؟ مَن جدّها؟ مَن أخوها؟***سائليها لها انحنِ باحترامِ

سائليها، تجبك أنّ أباها***بدماه سقى عُرى الإسلامِ

وهي مَن جدّها تسامى عُلوّاً***وفخاراً على جميع الأنامِ

وأخوها ذاك الّذي ميّزته***ثفنات من فرط ذاك القيامِ

فلماذا رقيّة الطهر ذاقت***في صباها أهوال فعل اللئام؟!

أكذا الأجر والمودّة في القربى***لطه، يا أُمّة الأقزام؟!

حكمة الله قد قضت أن يضام ال***حُرّ، لكن الخلد للمستضامِ

ودليلي رقيّةٌ، إن تَزُرها***تجد التبر راسفاً بالرخامِ

وحوالي ضريحها تجد الناس***قياماً أو ركّعاً للسلامِ

ثمّ عرّج على يزيد وشاهد***كيف صار الخرابُ دار الطُّغامِ

عظة المرء بين تلك وهذا***كيف يسمو أو يهوي مثل الحُطامِ

ص: 479

الأُستاذ إبراهيم جواد الدمشقي:

لمَن البكاء وحرقة العبراتِ؟***لمَن العويل ورنّة الآهاتِ؟

لمَن الجموع تلاطمَت أمواجها***وتدافعَت أفواجها سكراتِ؟

نظراتها حيرى، وأكبدها لظىً***وقلوبها موقودة الجمراتِ

لرقيّةٍ بنت الحسين رنينها***وأنينها المشفوع بالزفراتِ

بنت الإمام، أخي الإمام، ابن الإمام***أبي الأئمّة سادة الساداتِ

لعظيمةٍ ما جاوزت بعضاً من الأ***عوام أو بعضاً من السنواتِ

قد أُشربَت لبن الشهادة مترعاً***صافٍ من النزعات والنزغاتِ

قد طهّر الله الحكيم فؤادها***من كلّ رجسٍ من هوى الرغباتِ

فرنت لمرقدها الجموعُ تبثّه***أشجانها مشبوبة اللفحاتِ

سكبت على القفص المذهّب دمعَها***وسقَته من عبقاتها نفحاتِ

وقفت بأرض الطفّ ترمق فيلقاً***سدّ القضاء بكلّ باغٍ عاتِ

جاؤوا يصدّون الحسين وصحبه***ويروّعون نساءه الخَفِراتِ

شهدَت بعينيها مصارع أهلها***مستبسلين مشمّرين كُماةِ

مُنعوا ورود الماء، وهو أمامهم***قُتلوا على ظمأٍ بشطّ فراتِ

حُزّت رؤوسهُمُ، ورُضّت أضلعٌ***وتوزّعت مزقاً على الفلواتِ

ص: 480

رأت المشاهد، لو رآها ضيغمٌ***صعب العريكة بالغ الفتكاتِ

لَتفجّرت منه الدماءُ تفجّعاً***وقضى صريعاً خامد الحركاتِ

لكنّها بنت الحسين، وقلبها***قلب الحسين، محصَّن الجنَباتِ

فاقت أسود الغاب صبراً، واحتوت***سيل الكروب بعزمةٍ وثباتِ

صبرت على البلوى وغالبَتِ الأسى***وعلت كوالدها على النكباتِ

حتّى إذا رأت الحسين مسربلاً***بدم الشهادة طيّب العبقاتِ

والرأس حُزّت، والجبين معفّرٌ***والشيب خُضّب بالدما الأرجلاتِ

نادته: يا أبتاه، مَن ليتيمةٍ***مَن للنساء الرُّمّل الثكلاتِ؟

يا والدي، لهفي عليك ممزّقاً***والقلب ساجٍ ساكن النبضاتِ

أبَ يا أبي، ما العيش بعدك سائغٌ***مَن عاش بعدك عاش كالأمواتِ

أنا يا أبي ما خفتُ بعدك كربةً***أبداً، ولا هبتُ الّذي هو آتِ

عزّ الفراق علَيَّ يا أبتي، فما***معنى الحياة وأنت أنت حياتي؟

خُذني إليك أبي، فلستُ قريرةً***بالعيش دونك، فاستجب دعواتي

خذني إليك، فما الوداع يروقني***أبتاه لا أقوى على المأساةِ

وقد استجاب لها الإمام، وضمّها***بين الحنايا حانيَ اللمساتِ

أخذت إليها الرأس، وهي تشمّه***وتكحّل الأنظار بالنظراتِ

وتخاطب الرأس الشريف مروعةً***والقلب منها دائم الحرقاتِ

ص: 481

بكت الصغيرة، والإمام بحضنها***وعلا النشيج فهيّج الصرخاتِ

وغفت على الرأس المخضّب بالدما***مخنوقة الأنفاس والنبراتِ

فقضت شهيدة حزنها ومصابها***بنت السنين الخمس كالومضاتِ

وقضى لها الله الخلود على المدى***بين الورى وبوارف الجنّاتِ

تأتي الجموع لترتوي من كوثرٍ***ثَرّ العطاء مبارك الثمراتِ

وتعود تحمل زمزماً في فكرها***وفؤادها يزكو مع السجداتِ

والشام، نِعم الشام، قد أنِسَت بها***وتشوّقت لليُمن والبركاتِ

وتعاهدت تُعلي المقام مكرّماً***وتحوطه بالحبّ والدعواتِ

وتبّرأت من عُصبةٍ منبوذةٍ***خانت عهود الله والآياتِ

عاثت فساداً في البلاد، وأظهرت***فيها الفواحش، فعل شرّ طُغاةِ

إنّ الملوك إذا استباحوا أُمّةً***جعلوا أعزّة أهلها نكراتِ

هذي فعال بني أُميّة في الورى***من عهد صخرٍ عابد اللذّاتِ

حتّى يقوم بدوره سفيانها***ابن الطليق وصاحب الغدراتِ

فإليكِ يا بنت الحسين تحيّتي***وعليكِ حزني دائم العبراتِ

ص: 482

السيّد محمّد مهدي السويج:

طفلةٌ للحسين في الشام ماتت***وهي ولهى مع الأسارى شجيّةْ

كم أرادوا لها إماتة ذِكرٍ***فعلت فوق مستوىً فيه حيّةْ

فكأنّ الزهراء فيها تجلّت***فعليها أنوارها النبويّةْ

وهي أيضاً عن فاطمٍ لأبيها***بضعةٌ أحمديّةٌ علويّةْ

ولها في رسالة السبط دورٌ***مع أطفاله لشرح القضيّةْ

في دُنا التضحيات من دون دين***الله جارت عليه أُميّةْ

وبطيف المنام لاقت أباها***وسريعاً تمّ اللقا بالمنيّةْ

فغدا قبرها مزاراً يطوف الناس***فيه في غدوةٍ وعشيّةْ

ويرى عند قبرها الشريف سناءٌ***عبر هذي الأجيال يهدي البريّةْ

كلّما جدّد البناء عليه***جدّد العهد في قلوبٍ زكيّةْ

لم تزل ترتقي وتهوي عداها***فبحقٍّ كانت تُسمّى رقيّةْ

ص: 483

الشيخ صادق ابن الشيخ جعفر الهلالي:

قبسٌ شعّ في الشآم بهيّا***يوم وارى الثرى رفاة رُقيّا

هي بنت الحسين وابنة طه***فاح منها عطر الولاء نديّا

هي مَن جدّها عليٌّ، تسامت***في مقامٍ يزهو به علويّا

راح يهفو الفؤاد من كلّ فجٍّ***عارفاً حقّها محبّاً تقيّا

فهنيئاً لتربة الشام فخراً***علويّاً طالت بذاك الثريّا

تحضن الطهر، تزدهي بشذاها***فتعمّ الدهور عطراً زكيّاً

شتموا جدّها الوصيّ لدهرٍ***فغدا الفعل منهم مخزيّا

أين منهم (يزيد)، أين أبوه؟***أين تلك القصور؟ لم تكُ شيّا

قد أطاحت تلك الفعال بذكراه***وأفنت عهداً مضى مطويّا

وإذا الآل رحمة الله في الأرض***وبابٌ يهدي الصراط السويّا

يا ابنة الطاهرين، فيكِ استضاءت***هذه الأرض بالسناء زهيّا

وضعوكِ بخربةٍ كالأُسارى***واستضاموا مقامكِ المرضيّا

وعليّ السجّاد في لوعة الحزن***ومن حوله النساء بكيّا

لم يراعوا كرامةً لرسول الله***فيه، ولم يراعوا الوصيّا

هو يومٌ بيوم بدرٍ أفاضوا***فيه حقداً لدى النفوس غويّا

ورثوه حقداً قديماً على الإسلام***واستهدفوا هناك الوصيّا

ص: 484

فبسيف الإسلام أوترهم كفراً***بأمر من الإلهِ جليّا

فاشترواها دنياً بآخرة الله***وضنّوا بها البقاء الهنيّا

ثمّ ضاعت دنياهمُ في سرابٍ***ثمّ ضاعوا فما نرى حربيّا

وإذا بابنة الحسين تحدّت***يوم وافت بصرحها مبنيّا

يا ابنة الأكرمين، يا صرخة الحقّ***تعالت على الزمان دويّا

مهجةَ المرتضى ونفْسَ حسينٍ***مَن هوى في الطفوف المفاوز طيّا

فرأت في المنام وهي تناجي***لأبيها الحسين قلباً حفيّا

فأفاقت مذعورة القلب تدعو:***عمّتي، شمت والدي المرضيّا

وتعالى البكاء من شدّة الحزن***وراح الصدى يهزّ الدعيّا

قال: يا قوم، ذاك رأس أبيها***قدّموه لها لتسلو مليّا!

عانقَته، ولا تزال تناغيه***وترجو حنانه الأبويّا

مَن لنا بعدك الحما ياحمانا***ورجانا، وقد فقدنا الحميّا؟

ثمّ فاضت وفارقت روحُها الدنيا***وعاد المصاب خطباً جليّا

إيه يا طفلة الحسين ونوراً***شعّ في هذه الربوع مُضيّا

في مقامٍ أعزّه الله فيها***يبعث اللطف بكرةً وعشيّا

وضريحٍ لمرقد الطهر يعلو***شرفاً قبرها بدا ذهبيّا

فغدى صرخةً يضجّ بياناً***تعلن الحقّ كالنساء جليّا

ص: 485

هذه مهجةٌ لآل عليٍّ***ينشر الدهر فضلها النبويّا

فانحنت دونها عروش بغاةٍ***وغدا الذكر منهم منسيّا

فإذا بالأسير يكتسح الظليم***يجلي ستارة المغشيّا

هكذا آل أحمدٍ وعليّ***زاحموا الدهر واستضافوا الثريّا

لا صلاة دون الصلاة عليهم***وكفاهم بذاك فخراً عليّا

تلك ديناً فيها أعزّهم الله***ولقّاهم الرضى أُخرويا

آلَ مروان، كم بنيتم عروشاً***وملكتم دنياً وحكماً شهيّا

وحلمتم إنّ الأُمور إذا ما***حزتموها قد فزتموا دنيويّا؟

قد بنيتم عهداً بظلم أُولى الأمر***ولكنّه اغتدى مفنيّا

نهجكم كلّه على الحقّ بغيٌ***وانحرافٌ جاز الصراط السويّا

ونسيتم يوم المعاد الّذي فيه***عذابٌ للظالمين صليّا

تدّعوها خلافةً، ولَأنتم***طلقاء لم تحظ من ذاك شيّا

ما دهاءٌ فيكم، ولكنّه الغدر***ولولاه ما استقمتم مليّا

قد كسبتم دنياً وعشتم هواها***حيث أغضبتم الإله العليّا

قد أتتكم عواقب السوء فيها***قد جنيتم منها ضلالاً وغيّا

فانظروها بجنبكم ترقد الأبرار***تسمو بعزّها أبديّا

ص: 486

الأُستاذ لبيب وجيه بيضون:

يا آل طه المصطفى أهل الكرم***حزتم فخاراً ليس تنساه الأُممْ

أنتم سراج الحقّ ما بين الورى***تاج المعالي أنتمُ رمز الشيم

لاسيّما بنت الحسين المجتبى***تعلو مآذنها على كلّ القمم

لاسيّما بنت الحسين المجتبى***تعلو مآذنها على كلّ القمم

وقبابها مشهورةٌ في جلقٍ***تُلقي الضياء على البسيطة والشمم

في خربةٍ وُضعَت، تلوذ بزينبٍ***ولقد أمضّ بها وأضناها السقم

لمّا رأت رؤيا أبيها كامداً***ضجّت لرؤياها تنوح من الألم

طلبت أباها، قيل: سافر مدّةً***حتّى رأته قطيع رأس كالعلم

آوته في حِجْرٍ تقبّل مبسماً***منه ودمع العين يذرف كالديم

شهقت عليه شهقةً فيها الأسى***راحت بها لله تشكو من ظلم

سبحان ربّي، يمهل الطاغي ولا***يهمله،حاشا، فهو عدلٌ إن حكم

ص: 487

الأُستاذ أسعد علي:

على نيّةٍ نُطقي يفاوض صمته***ونخلة عذراء الهدى تتمايلُ

ألا ليت قومي يذكرون كرامةً***رقيّة تزجيها لمن يتراسلُ

رقيّة رمزٌ، لا يطوّقها المدى***بآدم والعيّ الحنون يواصلُ

لتنتخب الموت الجميل نموّه***تتت زهراً، فالطيوب رسائلُ

يطوِّر ما قالت رقيّة رُقيةً***يقام بها الموتى وتزهو الذوابلُ

إذا جعفرٌ طارت بكفّيه مؤتةٌ***ففي أُحُدٍ يحمي المزارع هاطلُ

وإن قيل في الدنيا نموت تجيبهم***نموت على الحسنى فموتي باطلُ

عباءتي الأفلاك تغتمر الدجى***رُقيّة روحي فالشروق جدائلُ

كذلك نحيا أو نموت لغايةٍ***فأطوار موسيقي الحياة مراحلُ

ص: 488

الشيخ محمّد جواد السهلاني:

هذا هو الصرح الممرّد مرقدٌ***لرقيّةٍ بنت الحسين الطاهرةْ

سيظلّ مرقدها مناراً للهُدى***يهدي الذوات من النفوس الحائرةْ

وترى الملائك خُشّعاً من حوله***كحجيج مكّة في حشودٍ زائرةْ

هذي اليتيمة من سلالة حيدرٍ***طالت أُرومتها فأضحت نادرةْ

ما أَمّها ذو حاجةٍ إلّا انقضَت***فهي الملاذ من الأُمور الجائرةْ

هذا هو الشرف العظيم مخلَّدٌ***بالرغم من كيد الطغاة الماكرةْ

اَلله يرفع شأن آل محمّدٍ***ويعيش غيرهم حياةً خاسرةْ

أهديتُها هذا الشعور لآلئاً***كيما أنال به ثواب الآخرةْ

ص: 489

الشيخ جعفر الهلالي:

قف عند جلقٍ واستقرئ بها العجبا***وانظر لعاقبة الأبرار منقلبا

واستنطق الزمن الماضي بما حفلت***أيّامُه، حيث ضجّت في الورى صخبا

كيف انطوت دولةٌ كانت محصَّنةً***منها القلاع، وقد مُدّت لها طُنبا؟

تسعون عاماً ونيف قد مضت خبباً***للمُلك ما شيّدوا للمُلك ما جُلبا

كأنّما هي طيفٌ مرّ منصرماً***أو كالسراب لألباب الورى خلبا

فما السبيل لنيل المجد مملكةً***أو أن تحوز بها الأموال والنشبا

وإنّما المجد بالتقوى، وإن قصرت***منك الحياة وعشت الهمّ والتعبا

سَلْ عن أُميّة في دنيا مفاتنها***بالغوطتين تريك المنزل الخربا

تُريك أنّ ديار الظلم خاويةٌ***وأنّ ما حاولوا قد عاد منقلبا

وسل عن الآل من أبناء حيدرةٍ***أيّام عاشوا بدنيا دهرهم غُربا

فها هو الدهر يحني هامه عظماً***لمجدهم حين يسمو عزّةً وإبا

في كلّ بقعة أرضٍ من عبيرهمُ***رَوحٌ يعطّر مِن أرجائها التُربا

كانت هنا طفلةٌ في دار غربتها***أسيرةً زاد فيها الوجد واضطربا

وكان ثمّة باغٍ عاد منتصراً***بزعمه، راح يثني عِطفه طربا

إذا به وهو لا قبرٌ ولا أثرٌ***بذكره وبه ناعي الفنا نعبا

وذي اليتيمة والأيّام تنشرها***ذكراً حديثاً جميلاً طيّباً عذبا

ص: 490

قبر بزاويةٍ مرّت به عصر***أضحى يناطح في عليائه الشهبا

ثوت رقيّة فيه فاكتسى شرفاً***غداة ضمّ الهدى والهَدي والحسبا

ومن لطه نمتها في أرومتها***أُمٌّ طهور فقد عزّت بها نسبا

من قبل ألفٍ ومثواها تقدّسه***هذي الدُنار غمّ من عادى ومن غصبا

للعائذين على أعتابها زمرٌ***من الأنام ترجّي عندها الرغبا

حتّى الملائك رهنٌ عند حضرتها***يباركون بها مَن زار أو ندبا

هذا هو العزّ، لا مُلكٌ له حشمٌ***هبّت به الريح حتّى صيّرته هَبا

قِفْ بالمساعي الّتي تسمو النفوس بها***جوداً، تريك جميل الفعل مُطّلبا

تريك أنّ ثمار الحبّ ما برحت***تُجنى، وأنّ ضياء الحقّ ما غَرُبا

وأنّ للخير ما زالت هنا هممٌ***ميمونة القصد ترجو الجنّة الطلبا

سعت لترفع هذا الصرح مرخصةً***هذي الجهود، تريك الصنعة العجبا

تُريك من روعة التصميم هندسةً***قد أحكمته، فأضحى كالسنا لهبا

أنّى اتّجهت فروح الفنّ ماثلة***يبدو بها المرمر اللمّاع منتصبا

قد جدّدوه ضريحاً عزّ مفتخراً***فيه تزاحم تلك الفضّة الذهبا

وله أيضاً:

قف عند باب رقيّةٍ تتضرّعُ***واقصد حماها، فهو حصنٌ أمنعُ

بنت الحسين سمت عُلاً وجلالةً***لجلالها هذى الخلائق خُشّعُ

ص: 491

أبداً تأمُّ ضريحها وجلالها***وبها لواهب مجدها تستشفّعُ

ص: 492

الأُستاذ علي عسيلي العاملي:

أيُّ صوْتٍ أيْقَظَ الرجْسَ اللَّعِينْ***كادَ مِنْهُ القصرُ مفطورًا يلينْ

أنْزلَ الأملاكَ تبكي في أنينْ***قيلَ هٰذي طِفلَةٌ تَرْجُو الحُسَيْن

ضمَّها في طيْفِها بَعْدَ الفِراقْ***فَشكَتْ والقلبُ يكويهِ اشتِياقْ

يا أبي، طافتْ بِنَا عُجْفُ النِّياقْ***وسياطُ الشِّمرِ تعلو المَنكِبَيْنْ

بينما تشكو لَهُ مُرَّ العَذَابْ***إِذْ بها قامتْ وعنها السِّبطُ غابْ

قعدَتْ تدعو وضَجَّتْ بانتحابْ***أينَ ذاكَ العطفُ والتَّحنانُ أينْ؟

وكأنِّي بابنِ سُفْيانٍ يصيحْ***سكِّتُوا ذاكَ البُكا كيْ أسْتريحْ

ثمَّ نادى: إحملوا هذا الذبيحْ***بعدما بالسَّوطِ أدمى الوجنتينْ

أعوَلَتْ لمّا رأَتْ رأسَ الحَبِيبْ***ثغْرُهُ المقروعُ أدماهُ القضيبْ

فحنَتْ لثماً على الخدِّ التّريبْ***وقضَتْ تنعَى قَطيعَ الودَجَين

وله أيضاً:

ولرأسِ شبلِ الطهرِ يومٌ أصعبٌ***في الشامِ أذهلَ هَوْلهُ الأذهانالمّا

رأتْ بنتُ الحسينِ بطيفها***أنَّ الحسينَ يضمُّها لهفانا

يحنو عليها لاثماً متودّداً***بيديهِ يمسحُ دمعَها الهتّانا

لكنّها سُرعانَ ما نظرت إلى***رأسٍ خضيبٍ بالدما سُرعانا!

"منْ ساعةٍ عاينتُ وجهك سالماً***بالله قل لي ما دهاكَ الآنا؟!

ص: 493

لأرى العيونَ الغائراتِ وجبهةً***كُسرتْ وخدّاً وُسِّدَ التربانا

وأرى به ثغراً فأذكرُ حينما***راحَ اللعينُ يكسّرُ الأسنانا"

لا، لمْ يجبها، فانثنتْ مذهولةً***لتزيد فوقَ شجونه أشجانا

حزني له في (الأربعينَ)مطأطئاً***يُبدي التأسّفَ باكياً خجلانا

ويقولُ: "عذراً عُدتُ دونَ رقيّةٍ***لمْ تحتملْ جَلَداً ولا نسيانا

ماتتْ شهيدةَ عشقها لحسينِها***وثيابُها بقيَتْ لها أكفانا

عطِشاً قضى في كربلاءَ فؤادهُ***وفؤادُها أيضاً قضى عطشاناً"

ص: 494

؟؟؟

وداع السيّدة رقيّة(علیها السلام) لأبيها يوم العاشر من المحرّم.. تطلب من عمّتها زينب أخذها إلى ساحة كربلاء لتودّع أباها الوداع الأخير، وهذا هو الحوار (بلسان الحال):

يا عمّتاهُ، الى الغريبِ خُذيني***فعساهُ يرحمُ دمعتي وحنيني

فأنا المدلّلةُ الصغيرةُ عندهُ***وإذا شكوتُ لهُ الأسى يُرضيني

قَدِمَتْ إليه، وكلّمَته.. وصوتُها***ما بين صوتٍ والِهٍ وحزينِ

أبتاهُ، إن ترحلْ ويصرعك الردى***فمِنَ الأعادي مَنْ عساهُ يقيني؟

واذا طلبتُ الماءَ والعبّاسُ قد***قُطِعت يداهُ، فمَن تُرى يَسْقيني؟

أبتاهُ، إن حرقَ الأعادي دارَنا***فمنِ الّذي في دارِه يُؤْويني؟

واذا اللِّئامُ أتت لنهبِ سلاسلي***وأساوري، فمنِ الّذي يَحميني؟

أبتاهُ، إن شَرَع الطغاةُ بضرْبِنا***مَن ذا سيرحمُ دمعتي وأنيني؟

ابتاهُ! لا تترُكْ رقيّةَ وحدَها***تُسبى إلى ابن أُميّة الملعونِ

فأجابها والدمعُ غطّى وجهَهُ:***بِنْتاهُ، بالزهراءِ لا تُبكيني

ما لي سوى الرحمان عونٌ في البلا***فإليه اشكو كلَّ ما يؤذيني

قد شاءَ ربُكِ أن يراني والدّما***غُسلي، ومِنْ هذا الثرى تكفيني

وأراد ان أُردى غريباً ظامئاً***وَيَحِزُّ شمرٌ بالحسامِ وتيني

فلَسوف أمضي مِثلَ جدّيَ أحمدٍ***والمرتضى، من أجل صونِ الدينِ

ص: 495

واللهُ خيرُ مدبّرٍ لأُمورِنا***هو عونُ كُلِّ معَذَّبٍ مِسكينِ

عادَتْ مَعَ الحَسَراتِ تشكو بَثَّها***لله خيرِ مؤيٍّدٍ و مُعينِ

وتوجّهَتْ نَحوَ المدينةِ تشتكي***مُرَّ المُصابِ لِجدِّها الميمونِ

جدّاهُ، ما لي بعْدَ سِبطِكَ مِن حِمىً***فادعُ الإلهَ، لَعلّه يُنجيني

ما لي حياةٌ أبتغيها دونَهُ***فهُوَ الحياةُ لِقلبيَ المشجونِ

هُوَ كهفُ أمني، والمُكفْكِفُ دمعتي***في الكونِ لم تُبصرْ سِواهُ عُيوني

هُوَ نَبضُ قلبي،والأنيسُ لِوحشتي***وإذا قضى فَوَداعُهُ يُرديني

وأنا المُعَذَّبةُ الّتي ما لي سِوى***حُضْنُ الحُسَينِ وسيلةً تَشْفيني ...

ولقد أَذابَ القلبَ جمرُ مصيبتبي***والخدُّ فتَّتَهُ بدمعِ حنينِ

والسبيُ أتعبني، وأجَّجَ لوعتي***والشمرُ كادَ بِسَوطِه يُرديني

فأويْتُ هاربةً ألوذ بعمّتي***فغدت بدرْعِ إبائِها تَحميني

فالسوطُ تَدْرَؤهُ بِراحةِ كَفِّها***ومنَ العِصِيّ بجسمِها تكفيني

فغفوتُ مِن جَهدِ المسيرِ إذا به***طيفُ البتولةِ فاطمٍ يأتيني

ناحَتْ، وضمّتني على الصدر الّذي***قد كانَ يَحضُنُ مَنْ عليهِ أنيني

فأفقتُ أَنشُدُهُ، وأُنشدُ عطفَهُ***أبتاهُ أقدِم يا عمادَ الدين

فأتَوا برأسٍ للحبيبِ مضرَّجا***فذُهِلْتُ، إذ خابَتْ هناكَ ظنوني

حتّى استجابَ اللهُ خالصَ دعوتي***فرحلتُ عن دارٍ أثارَ شُجوني

ص: 496

ظنُّوا بأنَّ الموتَ يُفنيني وما***علموا بأنّ الموتَ ما يُحييني

ص: 497

السيّد وائل الموسوي:

رقيّةُ يا عذبةَ المبسَمِ***ويا نغمةً حُلوةً في فمي

ويا نبضَ حبّي وطيفَ الحياة***وجمراً من الشوقِ يكوي دمي

بُنيّةَ قلبي، إلى مَ الجفا***وحتى مَ نلتامَ يا بلسمي؟

أما أن تؤوبي إلى والدٍ***مشوقٍ وفي حِجْره ترتمي؟

فصاحت رقيّةُ: يا والدي***وفزّت بليلٍ بلا أنجُمِ

فضجّت لها خِربةٌ بالشآم***بكاءً على قلبِها المُضرَمِ

وجيء إليها برأس الحسين***بطشتٍ من الذّهب المُعلم

فقامت تجرُّ حنينَ الفراق***كما حنّ للماءِ قلبٌ ظمي

أزاحت من الطشتِ منديلَه***وإذ قمرٌ عافرٌ بالدمِ

رأته ونادت: أهذا أبي***أهذا العميدُ، أهذا الحمي؟!

أبي، ضربوني بقرعِ السياط***ولمّا تزل ترتجفْ أعظُمي

فخرّت على ثغره، والدموع***تمازج خدّاً لها بالدمِ

وفاضَ بها الشوقُ في روحِها***وماتت وقُبلتُها في الفمِ

ص: 498

الأُستاذ إحسان محمّد شاكر:

رقيّةُ يا درّةَ الأنبياء***تبلّجتِ عن صدفِ الخاتَمِ

أيا نبعةَ الوحي ميست دماك***بطيبِ الرضاعةِ من فاطمِ

ويا نسلَ أحمدَ صفواً حباك***بأكرمَ ما فاضَ من مُكرمِ

فوجهكِ قرآنُ هذا الوجود***يُترجم عن قلبكِ المفعَمِ

وتأويلُ آياته في الطفوف***لديكِ من الحادثِ المحكمِ

فأنتِ وإن خصّك الواصفون***بأقدسَ ما ضمَّ في المعجمِ

لَأرفعُ ممّا ينالُ البيان***وممّا تخطّ يدُ الراقمِ

وإن خصّكِ صِرفُ هذا الزمان***بكأسٍ أمرَّ من العلقمِ

فذاك لما نافَ من معدنٍ***براكِ وما جلّ من مَنجمِ

وما مِدحتي لكِ ممّا يُقال***غلوٌّ، ولا قولةُ الحالِمِ

ولا راعني فيكِ عذلُ الغواة***كفاني جوابٌ لمن تنتمي

فقد خصّكِ اللهُ في دوحةٍ***تبرعمتِ في فرعها الأكرمِ

أيا زهرةً ألبستها السياط***رداءَ البراءة كالعندمِ

دماءٌ على عاتقيها تسيل***ونبعاً ينزّ من البرعمِ

وعطرُ الغضارةِ منها يفوح***بطيبِ القداسةِ من هاشمِ

ولم أنسها إذ حنتْ رأسَها***على الرأسِ ساجدةً للدمِ

ص: 499

تؤدّي مناسكَ حجِّ السبا***وتسعى تلبّي بلثمِ الفمِ

وكعبتُها الرأسُ فيه تطوف***بسرٍّ من العشقِ لم يُعلمِ

فلم يُرَ في الجنّ ما كابدت***ولا في الملاكِ ولا الآدمِ

وما حجُّها مثلُ حجّ الخليل***وموسى وعيسى ولا آدمِ

وأفردها حبُّها للحسين***بمنسكَ من حجِّهم أعظمِ

فما طافَ من قبلِها الطائفون***بأقدسَ من بيتها الأكرمِ

ولا مُحرِمٌ قبلُها بالدما***توضأَ من فيضِ نحرٍ دمي

فلا عينُ عيسى وموسى الكليم***ولا عينُ حوّا ولا مريمِ

رأت زفّةَ العُرسِ بين السيوف***تحنّي دماً وفرةَ القاسمِ

ولا العاكفونَ رأوا خيمةً***لهم سجّرتها يدُ المضرِمِ

ولم يُصفَعوا بأكفِّ الطغاة***وليس لهم راحمٌ أو حمي

ولا الزاهدونَ أطافوا بهم***أُسارى يساقون كالمَغنمِ

وأنّى رأتْ أعينُ الأنبياء***رضيعاً ظميّاً بسهمٍ رُمي

تردّى ظميّاً، ولو لا السهام***تحزّ وريديه لم يُفطمِ

وخيلاً تدوسُ عُراةَ الصدور***ولله ما ديسَ مِن أعظُمِ

ورأساً على رأسِ رمحٍ تطوف***به أرؤسٌ غرّ كالأنجمِ

ولا شهدَتْ أعينُ الأنبياء***دماءَ القيودِ على المِعصمِ

ص: 500

ولم تصلَ حرَّ لهيبِ السياط***تجولُ على المتنِ كالأرقَمِ

فتنهشُ لحماً تودُّ العروش***لتقبيلهِ هيبةً ترتمي

ونسوةَ يسلبها خدرَها***ظَلومٌ، فتُهدى إلى أظلَمِ

وأطفالَ أيتامَ عطشى جياع***على الهُزلِ في مقفرٍ مظلمِ

قضيتِ المناسكَ إطراقةً***على الرأسِ في صحوة الملهمِ

وقلبُكِ نارٌ تذيبُ الجِمارَ***لهيباً ولم تطفَ بالساجمِ

فلا مثلَ حجِّكِ من حِجّةٍ***ولا مثلَ طفِّكِ من موسمِ

ولا حرماً فاز في كعبةٍ***كطستٍ حوى كعبةً في الدمِ

فلم يُرَ كالطست من مسجدٍ***وليس كمثلكِ من مُحرمِ

ولا مثلَ طُهرِكِ طهرُ الدماء***وليس كمثلكِ من قائمِ

ولا مثلَ إسرائك عندَ السُّرى***ولا كعروجِكِ في العالَمِ

بُراقُكِ فيه نجيعُ الدماء***وقصدُكِ للأوحدِ الأقدمِ

رقيّةُ يُهنيك هذا العروج***به عُدتِ للأصلِ، فلْتسلمي

فلا كالسبا في الورى رحلةٌ***ولا كحسينِكِ من مَغنمِ

ص: 501

الميرزا عادل الاشكناني:

يا لَلصَّبَابَةِ قلبي لمْ يَنَلْ أرَبَهْ***فهَيِّجُوا حُزْنَهُ كيْ تَسْمَعُوا طَرَبَهْ

وقَلِّبُوا الجُرْحَ حتى ينْتَشِي***ألماً وأبْرِقوُا الجَفْنَ حتّى تُهرقِوا سُحُبَهْ

وفَتِّشُوا في حنايا الصَّدرِ عن كمَدٍ***ما زال يكشِفُ من أسرارِهِ عَجَبَهْ

وسائلوا الرَّبْعَ والأطلالَ عن دَنِفٍ***قد كان جَلْدَاً، ولكنَّ الهَوَى غَلَبَهْ

فالوَجْدُ أرَّقهُ، والصَّدُّ مَزَّقهُ***والبُعْدُ أزهقه، والهَجْرُ

قد شَعَبَهْ والرِّيحُ تُحْرِقُهُ في روْحِها وغدا***يَغُصُّ بالبارِدِ السَّلْسَالِ إنْ شَرِبَهْ

فيَا نسائِمَ مَغْنَىً أهلُهُ ظعَنُوا***وأضرمُوا في الحَشا يوْمَ السُّرى لهَبَهْ

هُبَّوا عليهم ونادُوا في بقِيَّتِهِمْ***رفقاً بقلبِ رَهِيفٍ يشتكي وَصَبَهْ

إن كان هذا النَّوى والبَيْن عَنْ سَبَبٍ***فقد رَجَاكم بأنْ تُبدُوا لهُ سَبَبَهْ

وناشِدُوهمْ إلى الأعتابِ هل لهُمُ***عَوْدٌ، فعَبْدُهُمُ لَمْ يَبْرَحِ العَتَبَهْ

أيَّامُ هِجرانِكُمْ زادت لواعِجَهُ***وفوقَ كُرْبَتِهِ زادَت لَهُ كُرَبَهْ

والليلُ يُمسي عليه بالمصاب كما***على رُقيّةَ أمسى اللّيلُ بالخَرِبَهْ!

لَمْ أنسها والكرَى أورى تلهُّفَها***فاستيْقَظَتْ مِنْ كَراها وهْي مُرتَعِبَهْ

تُريدُ والِدَها، ذا رأسُ والِدِها***يزيدُ _ يا للأسى _ فوق القنا نَصَبَهْ

أنَّت، فأنَّت صياخيدُ الصّخورِ لها***وقلبُها ليْتَهُ ما نالَ ما طَلَبَهْ

أنَّت، فأنَّت صياخيدُ الصّخورِ لها***وقلبُها ليْتَهُ ما نالَ ما طَلَبَهْ

أتَوْ إليها بِطَستٍ فيهِ مُنْيَتُها***لا، بل مَنيَّتُها بالطَّسْتِ مُرْتَقَبَهْ

ص: 502

جاؤوا بهِ قمراً بالنَّزْفِ مُحْتَجِبَاً***لله من قمرٍ نَزْفُ الدِّما حَجَبَهْ

وباسمُ الثغر قد أمسى ومَبسَمُهُ***مُجَرَّحٌ بالظَّما والنَّكْتُ بالقَصَبَهْ

حتّى إذا شاهَدَتهُ أعْوَلَتْ وبكتْ***وناشدتهُ وقالت: يا حسينُ أبَهْ

مَن ِالّذي مِنْكَ في ذا العُمْرِ أيتَمَني***والشَّيْبُ يا والدي مَنِ ذا الّذي خَضبه؟

مَن لليتيمَةِ يا كهفَ اليتيمَةِ إذْ***للشّام سيقَتْ إلى نسْلِ الدَّعيِّ هِبَةْ

فانظر إلى مِعْصَمي والقَيْدُ سَوَّرَهُ***وعايِنِ الحَزَّ في السَّاقَيْنِ والرَّقَبَةْ

واسْتَخْبِر الخدَّ كيفَ الحَرُّأذبَلَهُ***وسائِل الاُذْنَ عن قُرطي ومَن سَلَبَهْ؟

وناشد المَتْنَ عن آثارِ زُرقَتِهِ***فمتنُ بنِتِكَ سَوْطُ الشِّمْرِ قد ضرَبَهْ

وبينما هَيَ في أوْجِ الصُّراخِ خَبَتْ***لكن عَلَت حولَها الصَّرْخاتُ والجَلَبهْ

حتّى نعى فقْدَها السجَّادُ محتسباً***ماتت رُقيَّةُ فوقَ النَحْرِ مُحتَسِبَةْ

ص: 503

محمّد الكاظمي:

وعلا _ بحالِكِ ليلةٍ _ صوتُ ابنةٍ***لابن الهُداة الغُرّ، صكّ المسمعا

فلقد رأتهُ في المنام، لصدره***قد ضمّها، صدراً رحيباً واسعا

لكنّها إغفاءةٌ، وتصرّمَت**لمّا استفاقَت، والفؤادُ تصدّعا

فكأنّها همسَت بصوتٍ خافتٍ:***ما بالُ حُلْوِ لِقاك يمضي مُسرعا؟!

وتكسّرَت في صدرها مِن وَجْدِها***والنائباتِ النازلاتِ الأضلُعا

صاحت: أبي، يا حانياً ببناتِهِ***صارت بناتُك بعد عِزّك ضُيَّعا

أبه يا أبه، هلّا تزورُ مُقامَنا؟***فالثاكلاتُ عليك تنزفُ أدمعا

أبه يا أبه، ها عمّتي مِن نوحها***قلبي _ ونوحِ النائحاتِ _تروّعا

ألِقاك عزّ، فلا أرى إلّا إذا***في الأسر رأسك فوق رمحٍ يُرفَعا؟!

تاللهِ، إن كان اللقا مُتنائياً***باعدتُ بين جوارحي والمضجعا

حتّى أراك وأنت مبتسماً، إذاً***أغفو على متنٍ، وحيناً أهجعا

وإذا بهم جاؤوا برأس أزهرٍ***غطَّوه بالمنديل، وهو الأضوعا

كشفوه عنها، فاستجاش حنينُها*** قد هالها هولُ اللقاء وأفزعا

قالت: فما هذا؟!أرأسُك والدي؟***مَن ذا به فعل الفِعال وقرّعا؟

وهنا إلى خدَّيه مدّت كفَّها***حان الوصالُ به، ولا مَن يمنعا

كفَّين ناعمتَين تمسح خدّه***يا ليت نحري دون نحرك يُقطعا

ص: 504

وحنَت على الرأس القطيع، وشجوُها***قد أفزعَ السبْعَ الشِّداد وأجزعا

ورنَت إليه، ودمعُ عينَيها همَتْ***نثرت على خدَّيه دُرّاً لامعا

حضَنَته رأساً بالدماء مخضَّباً***والقلبُ مِن عظم المصاب تفجّعا

وبحِجْرها قد لاذ رأسُ حسينها***مَن كان يوماً للبرايا مفزعا

لهفي لها، قد خاطبَته شجىً، فيا***لله قلبُ رقيّةٍ ما قد وعى!

مَن ذا الّذي للشيب خضّبَ بالدِّما؟***مَن ذا الّذي قطع الوريد وأجدعا؟

مَن ذا الّذي قد خاطَ ثوبَ اليُتمِ لي؟***مَن للأسير إذا بسبيٍ قد سعى؟

مَن لليتيم، وأنت كنتَ ملاذَه؟***مَن للثواكل، تستغيثُ فتُقرَعا؟

ذا زينبٌ مِن ذُلّ أسرٍ تشتكي***زينُ العباد بقيدِه متوجّعا!

حتّى إذا خفيَ النشيجُ، وهوّمَت***عينا الصبيّةِ، غاب منها المطلعا

لحقَت _ كجدّتها _ بوالدها لُقىً***وإلى الحسين الروح عادت مُسرعا

عظمَت رزيّتُها وجلّت حينما***زينُ العباد لزينبٍ رزءً نعى!

ص: 505

ص: 506

محتويات الكتاب

الديباجة.......... 5

المدخل......... 15

أوّلاً: اتّهام النصّ التاريخي.... 15

ثانياً: السند.... 17

الحالة الأُولى: صحّة السند والمتن.......... 19

الحالة الثانية: صحّة السند وفساد المتن... 19

الحالة الثالثة: صحّة المتن وضعف السند.......... 19

الحالة الرابعة: فساد المتن والسند.......... 20

ثالثاً: ارتكاز المؤرّخ على بنائه العقليّ........ 20

رابعاً: أخذ ما وافق الشروط المقرّرة.......... 21

خامساً: طرح ما خالف الأُصول الاعتقاديّة.... 21

سادساً: أن لا يخالف التاريخ حديث أهل البيت(علیهم السلام)......... 24

سابعاً: أن لا يخالف المسلّمات القطعيّة........ 24

ثامناً: أن لا يكون دفاعاً عن الظالم.... 25

تاسعاً: أن لا يخالف إجماع الشيعة.... 26

عاشراً: استكشاف بعض الأحداث من الوقائع......... 27

مثال:.......... 28

ص: 507

المقدّمة الأُولى:... 28

المقدّمة الثانية:... 28

المقدّمة الثالثة:... 28

المقدّمة الرابعة:........... 29

المقدّمة الخامسة:......... 29

النتيجة:... 29

الحادي عشر: تفصيل المختصر....... 30

الثاني عشر: فكّ رموز كلام أهل البيت(علیهم السلام)........ 31

الثالث عشر: ملاحظة تفرّق الحدَث... 32

الرابع عشر: الاستناد إلى غير المصادر العربيّة...... 32

النتيجة:........ 35

المرحلة الأُولى......... 39

المجموعة الأولى: مقدّمات عامّة....... 41

المقدّمة الأُولى: التاريخ لم يُحصِ كلَّ شيء!........... 41

المقدّمة الثانية: التاريخ غمط حقّ أهل البيت(علیهم السلام).......... 45

المقدّمة الثالثة: عدم اكتراث النسّابة بالنساء.......... 47

المقدّمة الرابعة: التشابه في الصور والأسماء........ 50

المقدّمة الخامسة: خِدر بنات الرسالة.......... 51

المجموعة الثانية: مقدّماتٌ لها علاقةٌ مباشرةٌ بالسيّدة رقيّة(علیها السلام) 55

المقدّمة الأُولى: استشهاد السيّدة رقية في خضمّ أحداثٍ ضخمة....... 55

المقدّمة الثانية: وقوع الشهادة بعيداً عن العيون...... 59

ص: 508

المقدّمة الثالثة: حصول الشهادة في بلدٍ لا يعرفون أهل البيت(علیهم السلام) 60

المقدّمة الرابعة: حصول الشهادة بين الأعداء......... 61

المقدّمة الخامسة: تكتّم أهل البيت على شهادة رقيّة(علیها السلام)... 63

المقدّمة السادسة: اختفاء القبر........ 64

المرحلة الثانية: مقدّماتٌ لها علاقة بالإثبات.... 71

المقدّمة الأُولى: محاولة الأعداء إنكار أولاد الحسين(علیه السلام)... 71

النموذج الأوّل: ما أقلّ وُلد أبيك..... 73

الملاحظة الأُولى: صلاة الألف ركعة عمل الأئمّة(علیهم السلام) جميعاً....... 73

الملاحظة الثانية: عدد أولاد الإمام(علیه السلام)....... 74

الملاحظة الثالثة: المقارنة مع الإمام الحسن(علیه السلام).... 74

الملاحظة الرابعة: إبادتهم في كربلاء... 74

النموذج الثاني: ذرّيّة المولى عليّ الأكبر........... 75

المقدّمة الثانية: أولاد الإمام سيّد الشهداء(علیه السلام)...... 77

الذكور......... 79

1 عليّ الإمام(علیه السلام).... 79

2 عليّ الأكبر... 80

3 عليّ الأوسط.......... 83

4 عليّ الأصغر.......... 84

ربّما كان المقصود هو:........ 86

5 جعفر.......... 87

مَن ذكره مطلقاً دون النصّ على شهادته أو أسره... 87

مات في حياة أبيه الحسين(علیه السلام)..... 90

نصّوا على شهادته..... 91

ص: 509

عدّه في الأُسراء........ 92

6 عبد الله........ 92

7 عبد الله، قتله هاني بن ثُبيت الحضرمي.... 95

8 عبد الله المقتول مبارزة..... 96

9 عبد الله الّذي خرج بعد....... 97

10 عبد الله في سند رواية........... 100

11 عبد الله المولود في الحرب...... 100

12 غلامٌ يشبه القمر وفي أُذُنيه درّتان (ابن الحسين(علیه السلام))..... 102

13 ابنٌ للحسين(علیه السلام) عمره ثلاث سنوات......... 103

14 صبيٌّ من صبيان الحسين(علیه السلام)........ 104

15 الولد الّذي استسقى له الحسين(علیه السلام) واستُشهد في ساحة القتال 105

16 المحسن السقط........... 106

17 أبو بكر... 108

18 عمرو..... 110

عدّه في الناجين:..... 110

من شهداء السبي:... 111

عَدّه في الشهداء:.... 111

19 محمّد...... 112

ذكروه مطلقاً بدون ذِكر حياته أو شهادته:.......... 112

عدّه فيمن نجا من القتل وأُخِذ في السبي:........... 113

عُدّ في جملة الشهداء(علیهم السلام):...... 115

مات في حياة أبيه:... 115

20 عمران.... 116

21 القاسم بن الحسين....... 116

22 إبراهيم... 117

ص: 510

23 حمزة..... 118

24 زيد........ 118

أولاد لم يُصرَّح بأسمائهم.......... 119

البنات....... 120

25 فاطمة الكبرى.... 120

شقيقة الإمام السجّاد(علیه السلام).......... 123

26 سكينة..... 124

27 زينب...... 124

28 فاطمة الصغرى........... 126

29 أُمّ كلثوم........... 127

30 صفيّة..... 128

31 أُمّ عبد الله......... 131

32 لم تُسَمّ الرابعة... 131

33 أُمّ أنيس........... 132

34 مليكة...... 132

35 خديجة.... 133

36 خولة...... 133

37 رقيّة....... 133

المقدّمة الثالثة: قاعدة تقديم قول المثبت على النافي........ 133

الأُولى: الإمكان العقليّ.... 137

الثانية: الاستقصاء......... 137

المقدّمة الرابعة: طرق إثبات النسب......... 140

البيّنة........ 140

الاستفاضة.......... 142

ص: 511

المقدّمة الخامسة: سيرة المتشرّعة والعقلاء........ 151

أوّلاً:......... 152

ثانياً:........ 152

ثالثاً:........ 153

رابعاً: النافي متأخِّر........ 154

خامساً: استمرار ظروف التقيّة... 155

المقدّمة السادسة: قانون الأثر والمؤثّر..... 157

المستوى الأوّل: ما ظهر عند قبرها المبارك..... 157

المستوى الثاني: ما ظهر في غير موضع قبرها......... 158

الفائدة الأُولى: الكشف عن قبرها...... 159

الفائدة الثانية: الكشف عنها.... 159

الفائدة الثالثة: لزوم التغرير بالعباد.... 159

المقدّمة السابعة: التبادر.... 160

نكات......... 163

النكتة الأُولى: موافقة قول المُثبِت للاحتياط.......... 163

النكتة الثانية: ما هي فائدة نفيها؟... 164

النكتة الثالثة: من لوازم قول النافي......... 166

اللازم الأوّل: تبرئة الظالم.......... 166

اللازم الثاني: نفي الظليمة......... 166

اللازم الثالث: تجفيف الدموع..... 166

اللازم الرابع: إشاعة نَفَس الوسوسة والتشكيك......... 167

النكتة الرابعة: توظيف الواقع مقابل توظيف الخيال......... 168

المصادر الّتي ذكرَت السيّدة بنت الحسين رقيّة(علیهما السلام) 171

ص: 512

الرافد الأوّل: المصادر الأُولى........ 177

المصدر الأوّل: (الحاوية)، (الهاوية)..... 177

أمّا كتاب الحاوية:....... 178

المصدر الثاني: (كامل البهائيّ)... 181

الأربعون حديثاً........... 187

أسرار الإمامة... 187

تحفة الأبرار..... 188

العُمدة.... 189

الكفاية في الإمامة....... 190

مناقب الطاهرين في فضائل أهل البيت المعصومين(علیهم السلام).......... 190

نقض المعالم للرازي.... 191

نهج العرفان إلى سبيل الإيمان......... 191

المنهج في فقه العبادات والأدعية والآداب.... 192

جوامع الدلائل والأُصول......... 192

الرافد الثاني: مصادر بعد (الحاوية / الهاوية) و(الكامل)... 194

الشيخ الكاشفي، (روضة الشهداء)....... 194

الشيخ الطُّريحيّ(رحمه الله علیه)، (المنتخَب)... 196

الرافد الثالث: مصادر القرن الحادي عشر وما بعد.......... 197

(1) الدربنديّ، (أسرار الشهادة).......... 198

(2) البهبهاني، (الدمعة الساكبة)......... 200

(3) محمد رفيع كزاي، (بكاء العالمين).......... 201

(4) الشيخ محمّد باقر البيرجندي، (مفتاح الفردوس)........... 201

(5) الشيخ محمّد حسن اليزديّ، (أنوار الشهادة)....... 201

(6) الشيخ حبيب الله الكاشاني (ت 1340 ه)، (تذكرة الشهداء)..... 201

ص: 513

(7) الشيخ محمّد علي النجفي، (حزن المؤمنين)....... 201

(8) محمّد علي التبريزي، (مظاهر الأنوار)..... 201

(9) السيّد إبراهيم الميانجي، (العيون العبرى)........... 201

(10) قربان بن رمضان الرودباري القزويني، (كتاب مأتمكدة)........ 201

(11) الآخوند المولى أحمد منظور الخوانساري الأصفهاني، (عُمدة المصائب) 202

(12) محمّد علي الأصفهاني، (بحر البكاء)..... 202

(13) السيّد آقا مهدي، (رياض المصائب)....... 202

(14) محمّد صالح البرغاني (ت 1283 ه)، (مخزن البكاء).......... 202

(15) محمّد إبراهيم بن محمّد باقر المروزي، (طوفان البكاء)......... 202

(16) السيّد محمّد باقر مجتهد زاده (ت 1335 ه)، (مرقاة الإيمان)......... 202

(17) المقدّس الزنجاني، (مفتاح الجنّة)......... 202

(18) محمّد شفيع بن محمّد حسين كزازي، (أسرار الابتلاء للأولياء)........ 202

(19) إسماعيل السبزواري، (جامع النورين)، المسمّى ب (إنسان)... 202

(20) محمّد جواد اليزدي الخراساني، (شعشعة الحسيني)..... 202

(21) نوروز علي بن محمّد باقر البسطامي، (تحفة الحسينيّة)........ 203

(22) عبد الخالق بن عبد الرحيم اليزدي، (مصائب المعصومين)..... 203

(23) صدر الدين واعظ القزويني (ت ح 1330 ه)، (رياض القدس) المسمّى ب (حدائق القدس) 203

(24) السيّد إمداد عليّ بن أحمد عليّ الحسيني، (مجالس الأحزان)... 203

(25) محمّد حسن القزويني، (رياض الأحزان).......... 203

(26) محمّد جعفر روضة خون تبريزي، (بحر المصائب)...... 203

(27) عبد الرحيم الكرمانشاهي (1232 _ 1305 ه)، (سرّ الأسرار في مصيبة أبي الأئمّة الأطهار) 203

(28) الشيخ عبّاس القمّي، (منتهى الآمال)..... 203

(29) الشيخ عبّاس القمّي، (نفَس المهموم).... 203

(30) الشيخ محمّد مهدي المازندرانيّ الحائري، (معالي السبطين)... 203

(31) السيّد بحر العلوم، (مقتل الحسين(علیه السلام))......... 203

ص: 514

(32) الزنجاني، (وسيلة الدارين)........ 203

(33) رضيّ بن نبي القزويني (ت 1118 ه)، (تظلّم الزهراء)....... 204

(34) مهدي النراقي (1128 _ 1209 ه)، (محرّق القلوب)........ 204

(35) حسن بن خليل الخوئي، (جنّات الخلود)........... 204

(36) محمّد إبراهيم الاصفهاني، (كنز المصائب)....... 204

(37) محمّد حسن القزويني، (رياض الشهادة).......... 204

(38) محمّد حسين شهرابي أرجستاني، (أنوار المجالس)..... 204

(39) رفيع كرمارودي، (ذريعة النجاة).......... 204

(40) عبد الجبّار بن زين العابدين الشكوئي، (مصباح الحرمين)...... 204

(41) السيّد محمّد علي الشاه عبد العظيمي (ت 1334 ه)، (الإيقاد في وفيات النبيّ والزهراء والأئمّة(علیهم السلام)) 204

(42) عبد الحسين الحائري، (الفاجعة العظمى)......... 204

(43) محمّد باقر الملبوبي، (الوقائع والحوادث)........ 204

(44) السيّد هاشم الخراساني (ت 1350 ه)، (منتخب التواريخ).... 204

قد يُقال:..... 205

الجواب الأوّل: ربّما كانت لهم طرق أُخرى....... 205

الجواب الثاني: عدم مخالفة شروط القبول....... 205

الجواب الثالث: كلّ واحد منهم شاهد..... 206

الجواب الرابع: حصول الاطمئنان......... 207

الرافد الرابع: عدّة أدّلةٍ وشواهد.... 207

التُّرعة الأُولى: أبو مِخنَف!: وصيّة الإمام الحسين(علیه السلام)....... 207

المقدّمة الأُولى: قِدَم المقتل..... 208

المقدّمة الثانية: النصّ على اسم السيّدة....... 209

أوّلاً: توجّه الخطاب للكبار دون الصغار.... 209

ثانياً: المخاطَبةُ بنتُ أمير المؤمنين(علیه السلام).......... 210

ثالثاً: الخطاب للأخوات!..... 211

ص: 515

الترعة الثانية: شعر سيف بن عُميرة.... 212

المقدّمة الأُولى:.......... 213

المقدّمة الثانية:.......... 213

المقدّمة الثالثة:.......... 214

المقدّمة الرابعة:......... 214

المناقشة الأُولى:........ 214

المناقشة الثانية:........ 215

المناقشة الثالثة:......... 216

المناقشة الرابعة:........ 216

الترعة الثالثة: نصّ ابن فندق في (اللباب)....... 217

الإشكال الأوّل:........... 220

الإشكال الثاني:.......... 220

الحاصل:......... 222

الترعة الرابعة: نصّ المازندرانيّ عن الحمزاويّ........ 222

الترعة الخامسة: الدربنديّ واليزديّ عن بعض الكتب المعتمَدة......... 224

الترعة السادسة: رواية سپهر.... 226

الترعة السابعة: رواية البكري!!!........ 227

المناقشة الأُولى: مصدر إضافي........ 228

المناقشة الثانية: وزن الشعر........... 228

المناقشة الثالثة:......... 229

المناقشة الرابعة: مَن هي رقيّة هذه؟.......... 230

الترعة الثامنة: مقال الشعراني!........... 231

الوقفة الأُولى:........... 232

الوقفة الثانية:........... 233

الوقفة الثالثة:... 235

ص: 516

الوقفة الرابعة:........... 235

الوقفة الخامسة:......... 236

الوقفة السادسة:......... 237

الوقفة السابعة:.......... 238

الوقفة الثامنة:........... 238

الوقفة التاسعة:.......... 239

الوقفة العاشرة:......... 240

الترعة التاسعة: رواية الطُّريحيّ وغيره.......... 241

الاعتراض الأوّل:........ 243

الاعتراض الثاني:....... 244

المرحلة الثالثة: رقيّة بنت الحسين الشهيد (علیهما السلام)... 245

إسمها........ 247

لا مشاحة في الاسم.......... 247

عُمرها....... 251

أمّها.......... 253

مصيبتها..... 257

التنويه الأوّل: اختلاف الروايات والأخبار... 257

التنويه الثاني: تصوير الراوي والمؤرّخ.... 258

التنويه الثالث: الاتّفاق على القدر المتيقَّن من مجموع الأخبار...... 259

التنويه الرابع: اعتماد النصّ الأقدم.......... 259

التنويه الخامس: الترجمة... 260

تقديم الرأس إلى رقيّة:...... 261

ص: 517

رُوي......... 261

وفي (كامل البهائي):...... 264

القيل الأوّل:.......... 265

النقطة الأُولى: المصادر المذكورة والخرابة..... 266

النقطة الثانية: إمكان إنزالهم بالقرب من مخدع الطاغية........ 266

النقطة الثالثة: استبعاد سماع يزيد أصواتهم..... 267

النقطة الرابعة: إمكان وجود الخرابة..... 267

النقطة الخامسة: لا يُشترط أن تكون الخرابة في المقدّمة....... 268

القيل الثاني:......... 269

التلميح الأوّل:...... 269

التلميح الثاني:..... 269

التلميح الثالث:..... 270

القيل الثالث:......... 271

التوضيح الأوّل:.... 271

التوضيح الثاني:... 272

التوضيح الثالث:... 274

التوضيح الرابع:... 274

القيل الرابع:......... 275

السبب الأوّل:....... 275

السبب الثاني:...... 276

السبب الثالث:...... 276

السبب الرابع:...... 276

القيل الخامس:...... 277

البيان الأوّل:........ 277

ص: 518

البيان الثاني:....... 278

البيان الثالث:....... 278

البيان الرابع:....... 279

القيل السادس:...... 280

القيل السابع:........ 281

المعالجة الأُولى:... 281

المعالجة الثانية:... 282

المعالجة الثالثة:... 283

المعالجة الرابعة:........... 284

المعالجة الخامسة:......... 285

القيل الثامن:......... 286

الردّ الأوّل:.......... 286

الردّ الثاني:......... 287

الردّ الثالث:......... 288

الردّ الرابع:......... 289

الردّ الخامس:...... 290

القيل التاسع:........ 290

الجواب الأوّل:...... 290

الجواب الثاني:..... 291

الجواب الثالث:..... 292

القيل العاشر......... 293

القيل الحادي عشر:.......... 295

(1) بما أنّ:........ 295

(2) وبما أنّ:....... 296

ص: 519

(3) وبما أنّ:....... 297

(4) وبما أنّ:....... 297

(5) وبما أنّ:....... 298

النتيجة!!!........... 298

الغريبة الأُولى:..... 298

الغريبة الثانية:..... 299

الغريبة الثالثة:..... 300

الغريبة الرابعة:.... 300

الغريبة الخامسة:........... 302

الغريبة السادسة: النتيجة.......... 303

القيل الثاني عشر:........... 304

العجيبة الأُولى:.... 306

العجيبة الثانية:.... 306

العجيبة الثالثة:..... 307

العجيبة الرابعة:... 307

العجيبة الخامسة:.......... 308

العجيبة السادسة:.......... 309

العجيبة السابعة:... 310

القيل الثالث عشر:........... 310

القيل الرابع عشر:........... 311

الإفادة الأُولى:...... 312

الإفادة الثانية:...... 312

الإفادة الثالثة:...... 313

الإفادة الرابعة:..... 313

ص: 520

الإفادة الخامسة:... 313

الإفادة السادسة:... 314

الخاتمة...... 315

الصنف الأول: ناقش في أصل وجود السيّدة......... 315

الصنف الثاني: ناقش في المدفون في الشام......... 315

المرحلة الرابعة: السيّدة رقيّة في الكتب...... 319

(كامل البهائيّ)، عماد الدين الطبريّ......... 321

(روضة الشهداء)، الكاشفي (ت 910 ه)، ترجمة: السيّد شعاع فاخر 323

(المنتَخب)، الشيخ الطريحيّ. والبهبهانيّ، الدربنديّ، القمّيّ ........ 326

(مصائب المعصومين)، اليزدي...... 331

(رياض القدس)، صدر الدين واعظ القزويني....... 334

أحوال بنت الحسين(علیه السلام) في الخرابة... 334

[وداع السيّدة مع أبيها]... 336

[وداعها في المصرع]..... 338

[رقيّة في الطريق بين الكوفة والشام]... 339

[في الشام].......... 339

[تجهيزها ودفنها].......... 345

[الوداع مع قبرها]......... 345

(الإمام الحسين وأصحابه)، الشيخ فضل عليّ القزوينيّ (ت 1367 ه)، بتحقيق: السيّد أحمد الحسيني 347

رقيّة بنت الحسين(علیه السلام)........... 347

[كيفيّة وفاتها]...... 349

[المؤلّف يرى في المنام ما جرى على السيّدة، وأحداث أُخرى]........ 353

ص: 521

(طوفان البكاء)، المروزي........... 359

(كنز المصائب)، محمّد إبراهيم الأصفهاني.......... 362

(معالي السبطين)، الشيخ المازندراني....... 367

(أنوار الشهادة)، الشيخ حسن اليزديّ....... 370

وداع رقيّة الصغيرة........ 374

(بحر المصائب)، محمّد جعفر روضه خوان التبريزي....... 375

الوقعة الخامسة: شهادة بنت سيّد الشهداء...... 386

تنبيهٌ وتذييل........ 423

[إسمها].... 425

إشارةٌ لطيفةٌ مخفية........ 426

[نقل أهل البيت إلى بيتٍ فيه رسومٌ ونقوش].... 431

(مقتل الحسين (علیه السلام))، السيّد بحر العلوم........... 437

بكاء أُمّ كلثوم عليها........ 439

(نفَس المهموم)، الشيخ عبّاس القمّي، و(معالي السبطين)، المازندراني 441

(وسيلة الدارين)، الزنجاني.......... 443

(مخزن البكاء)، البرغانيّ... 445

المرحلة الخامسة: الشعر..... 449

سيف بن عُميرة، في قصيدةٍ طويلة:......... 451

السيّد محمّد تقي بحر العلوم:........ 452

الملّا أحمد منظور، في (عمدة المصائب):........... 454

الشيخ عبد المنعم الفرطوسي:....... 456

السيّد مصطفى جمال الدين:......... 457

ص: 522

وله أيضاً:........... 457

الشيخ أحمد الوائلي:......... 459

السيّد سلمان هادي آل طعمة:....... 463

السيّد الأمين:........ 465

السيّد عامر الحلو:........... 466

الأُستاذ إبراهيم رفاعة:...... 468

وله أيضاً:........... 469

وله أيضاً:........... 471

الأُستاذ إسماعيل خليل أبو صالح:........... 479

الأُستاذ إبراهيم جواد الدمشقي:..... 480

السيّد محمّد مهدي السويج:......... 483

الشيخ صادق ابن الشيخ جعفر الهلالي:..... 484

الأُستاذ لبيب وجيه بيضون:......... 487

الأُستاذ أسعد علي:........... 488

الشيخ محمّد جواد السهلاني:....... 489

الشيخ جعفر الهلالي:........ 490

وله أيضاً:........... 491

الأُستاذ علي عسيلي العاملي:....... 493

وله أيضاً:........... 493

؟؟؟........... 495

السيّد وائل الموسوي:....... 498

الأُستاذ إحسان محمّد شاكر:......... 499

ص: 523

الميرزا عادل الاشكناني:.... 502

محمّد الكاظمي:...... 504

ص: 524

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.