العباس ابن اميرالمؤمنین حامل لواء الحسین علیهم السلام

اشارة

العباس ابن اميرالمؤمنین حامل لواء الحسین علیهم السلام

سیدعلی سید جمال اشرف الحسینی

زبان: عربی

صفحات: 613 ص

موضوع: حضرت ابوالفضل العباس علیه السلام

خیراندیش دیجیتالی : بیادبود مرحوم حاج سید مصطفی سید حنایی

ص: 1

اشارة

ص: 2

العباس ابن اميرالمؤمنین حامل لواء الحسین علیهم السلام

سیدعلی سید جمال اشرف الحسینی

ص: 3

ص: 4

الدیباجة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي لا إله إلّا هو الملك الحقّ المبين، المدبّر بلا وزير، ولا خلق من عباده يستشير، الأوّل غير موصوف، والباقي بعد فناء الخلق، العظيم الربوبية، نور السماوات والأرضين وفاطرهما ومبتدعهما، بغير عمد خلقهما، فاستقرّت الأرضون بأوتادها فوق الماء، ثم علا ربّنا في السَّماواتِ الْعُلى الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى، فأنا أشهد بأنّك أنت الله، لا رافع لما وضعت، ولا واضع لما رفعت، ولا معزّ لمن أذللت، ولا مذلّ لمن أعززت، ولا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت(1).

اللَّهُمَّ واجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِك، وَنَوَامِيَ بَرَكَاتك عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِك وَرَسُولك، الْخَاتِمِ لِمَا سَبَقَ، وَالْفَاتِحِ لِمَا انْغَلَقَ، وَالْمُعْلِنِ الْحَقَّ بِالْحَقِّ، وَالدَّافِعِ جَيْشَاتِ الأَبَاطِيلِ، وَالدَّامِغِ صَوْلاتِ الأَضَالِيلِ، كَمَا حُمِّلَ، فَاضْطَلَعَ قَائِماً بِأَمْرِكَ، مُسْتَوْفِزاً فِي مَرْضَاتِك،َ غَيْرَ نَاكِلٍ عَنْ قُدُمٍ، وَلا

ص: 5


1- بحار الأنوار : 83/332 باب 45.

وَاهٍ فِي عَزْمٍ، وَاعِياً لِوَحْيِكَ، حَافِظاً لِعَهْدِكَ، مَاضِياً عَلَى نَفَاذِ أَمْرِكَ، حَتَّى أَوْرَى قَبَسَ الْقَابِسِ، وَأَضَاءَ الطَّرِيقَ لِلْخَابِطِ، وَهُدِيَتْ بِهِ الْقُلُوبُ بَعْدَ خَوْضَاتِ الْفِتَنِ وَالآثَامِ، وَأَقَامَ بِمُوضِحَاتِ الأَعْلامِ، وَنَيِّرَاتِ الأَحْكَامِ، فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ، وَخَازِنُ عِلْمِكَ الْمخْزُونِ، وَشَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ، وَبَعِيثُكَ بِالْحَقِّ، وَرَسُولُكَ إِلَى الْخَلْقِ(1).

اللهم وضاعف صلواتك ورحمتك وبركاتك على عترة نبيك العترة الضائعة الخائفة المستذلّة، بقية الشجرة الطيّبة الزاكية المباركة، وأعل - اللهم - كلمتهم، وأفلج حجّتهم، واكشف البلاء واللأواء، وحنادس الأباطيل والعمى عنهم، وثبّت قلوب شيعتهم وحزبك على طاعتهم وولايتهم ونصرتهم وموالاتهم، وأعنهم وامنحهم الصبر على الأذى فيك، واجعل لهم أياماً مشهودة، وأوقاتاً محمودة مسعودة، توشك فيها فرجهم، وتوجب فيها تمكينهم ونصرهم، كما ضمنت لأوليائك في كتابك المنزل، فإنّك قلت - وقولك الحقّ -: )وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الاْرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً((2).

والعن اللهم أوّل ظالم ظلم حقّ محمد وآل محمد، وآخر تابع له على ذلك، اللهم واهلك من جعل يوم قتل ابن نبيك وخيرتك عيداً،

ص: 6


1- نهج البلاغة : 101 خ 72 .
2- مصباح المتهجد : 785 .

واستهلّ به فرحاً ومرحاً، وخذ آخرهم كما أخذت أوّلهم، وأضعف اللهم العذاب والتنكيل على ظالمي أهل بيت نبيك، واهلك أشياعهم وقادتهم، وأبر حماتهم وجماعتهم(1).

وصلّ اللهم على الشهيد السعيد، والسبط الثاني، والإمام الثالث، والمبارك، والتابع لمرضاة الله، المتحقّق بصفات الله، والدليل على ذات الله، أفضل ثقاة الله، المشغول ليلاً ونهاراً بطاعة الله، الناصر لأولياء الله، المنتقم من أعداء الله، الإمام المظلوم، الأسير المحروم، الشهيد المرحوم، القتيل المرجوم، الإمام الشهيد، الولي الرشيد، الوصي السديد، الطريد الفريد، البطل الشديد، الطيب الوفي، الإمام الرضي، ذو النسب العلي، المنفق الملي، أبو عبد الله الحسين بن علي عليهما السلام.

منبع الأئمة، شافع الأمّة، سيّد شباب أهل الجنّة، وعَبرة كلّ مؤمن ومؤمنة، صاحب المحنة الكبرى، والواقعة العظمى، وعَبرة المؤمنين في دار البلوى، ومن كان بالإمامة أحقّ وأولى، المقتول بكربلاء، ثاني السيّد الحصور يحيى ابن النبي الشهيد زكريا(علیهما السلام)، الحسين بن علي المرتضى(علیهما السلام).

زين المجتهدين، وسراج المتوكّلين، مفخر أئمة المهتدين، وبضعة كبد سيّد المرسلين(صلی الله علیه واله)، نور العترة الفاطمية، وسراج الأنساب العلوية،

ص: 7


1- مصباح المتهجد : 785 .

وشرف غرس الأحساب الرضوية، المقتول بأيدي شرّ البريّة، سبط الأسباط، وطالب الثأر يوم الصراط، أكرم العتر، وأجلّ الأسر، وأثمر الشجر، وأزهر البدر، معظّم، مكرّم، موقّر، منظّف مطهّر..

أكبر الخلائق في زمانه في النفس، وأعزّهم في الجنس، أذكاهم في العرف، وأوفاهم في العرف، أطيب العرق، وأجمل الخلق، وأحسن الخلق، قطعة النور، ولقلب النبي(صلی الله علیه واله) سرور، المنزّه عن الإفك والزور، وعلى تحمّل المحن والأذى صبور، مع القلب المشروح حسور، مجتبى الملك الغالب، الحسين بن علي بن أبي طالب:(1).

الذي حمله ميكائيل، وناغاه في المهد جبرائيل، الإمام القتيل، الذي اسمه مكتوب على سرادق عرش الجليل ((الحسين مصباح الهدى، وسفينة النجاة))، الشافع في يوم الجزاء، سيّدنا ومولانا سيّد الشهداء(علیه السلام) (2).

الذي ذكره الله في اللوح الأخضر، فقال: . . وجعلت حسيناً خازن وحيي، وأكرمته بالشهادة، وختمت له بالسعادة، فهو أفضل من استشهد، وأرفع الشهداء

درجة، جعلت كلمتي التامّة معه، والحجّة البالغة عنده، وبعترته أثيب وأعاقب(3).

الذي قال فيه جدّه المبعوث رحمة للعالمين(صلی الله علیه واله):

ص: 8


1- المناقب لابن شهرآشوب تحقيق السيّد علي أشرف: 10/113.
2- معالي السبطين : 61 .
3- كمال الدين : 2/290 ح 1 .

حسين منّي وأنا من حسين، أحبّ الله من أحبّ حسيناً(1).

وقال رسول الله(صلی الله علیه واله)، وهو الصادق الأمين: إنّ حبّ علي قذف في قلوب المؤمنين، فلا يحبّه إلّا مؤمن، ولا يبغضه إلّا منافق، وإنّ حبّ الحسن والحسين قذف في قلوب المؤمنين والمنافقين والكافرين، فلا ترى لهم ذامّاً(2).

فمن أيّ المخلوقات كان أولئك المردة العتاة، وأبناء البغايا الرخيصات، الذين قاتلوه بغضاً لأبيه، وسبوا الفاطميات، ولم يحفظوا النبي(صلی الله علیه واله) في ذراريه.

قال الإمام سيّد الساجدين(علیه السلام): .. أيّها الناس، أصبحنا مطرّدين مشرّدين شاسعين عن الأمصار، كأنّا أولاد ترك وكابل، من غير جرم إجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، )إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ( .

فوالله لو أنّ النبي(صلی الله علیه واله) تقدّم في قتالنا كما تقدّم اليهم في الوصاية بنا لما إزدادوا على ما فعلوا بنا، فإنّا لله وإنّا اليه راجعون، من مصيبة ما أعظمها، وأوجعها، وأفجعها، وأكظّها، وأقطعها، وأمرّها، وأفدحها، فعند الله نحتسبه فيما أصابنا، وما بلغ بنا، إنّه عزيز ذو إنتقام(3).

ولكنّ الله لهم بالمرصاد، فإنّ دمه الزاكي الذي سكن في الخلد،

ص: 9


1- بحار الأنوار : 45/314 .
2- المناقب :، بحار الأنوار : 43/281 باب 12.
3- بحار الأنوار : 45/147 .

واقشعرّت له أظلّة العرش، وبكى له جميع الخلائق، وبكت له السماوات السبع، والأرضون السبع، وما فيهن، وما بينهن، ومن يتقلّب في الجنّة والنار من خلق ربّنا، وما يرى وما لا يرى، سوف لا ولم ولن يسكن، لأنّه قتيل الله وابن قتيله، وثار الله وابن ثاره، ووتر الله الموتور في السماوات والأرض(1)

حتّى ((يبعث الله قائماً يفرج عنها الهمّ والكربات)).

قال الحسين(علیه السلام): يا ولدي، يا علي، والله لا يسكن دمي حتّى يبعث الله المهدي(2).

فذلك قائم آل محمد: يخرج، فيقتل بدم الحسين(علیه السلام) بن علي . . وإذا قام - قائمنا - انتقم لله ولرسوله ولنا أجمعين(3).

وقد بشّر بذلك رسول ربّ العالمين(صلی الله علیه واله) فقال: لمّا أسري بي إلى السماء أوحى إليّ ربّي - جلّ جلاله - فقال: يا محمد، إنّي اطلعت على الأرض اطلاعة فاخترتك منها، فجعلتك نبيّاً، وشققت لك من اسمي اسماً، فأنا المحمود وأنت محمد، ثم اطلعت الثانية فاخترت منها علياً، وجعلته وصيّك وخليفتك، وزوج ابنتك، وأبا ذريّتك، وشققت له اسماً من أسمائي، فأنا العلي الأعلى، وهو علي، وخلقت فاطمة والحسن والحسين من نوركما، ثم عرضت ولايتهم على الملائكة، فمن قبلها كان عندي من المقرّبين.

ص: 10


1- انظر بحار الأنوار : 98/151 باب 18.
2- المناقب :.
3- بحار الأنوار : 52/376.

يا محمد، لو أنّ عبداً عبدني حتّى ينقطع، ويصير كالشنّ البالي، ثم أتاني جاحداً لولايتهم، فما أسكنته جنّتي، ولا أظللته تحت عرشي.

يا محمد، تحبّ أن تراهم؟

قلت: نعم يا ربّ.

فقال عزّ وجلّ: ارفع رأسك، فرفعت رأسي، وإذا أنا بأنوار علي، وفاطمة، والحسن، والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمد بن علي، وعلي بن محمد، والحسن بن علي، و((م ح م د)) بن الحسن القائم في وسطهم، كأنّه كوكب درّي .

قلت: يا ربّ، ومن هؤلاء؟

قال: هؤلاء الأئمة، وهذا القائم الذي يحلّل حلالي، ويحرّم حرامي، وبه أنتقم من أعدائي، وهو راحة لأوليائي، وهو الذي يشفي قلوب شيعتك من الظالمين والجاحدين والكافرين، فيخرج اللّات والعزى طريين فيحرقهما، فلفتنة الناس - يومئذٍ - بهما أشدّ من فتنة العجل والسامري(1).

وروى عبد الله بن سنان قال: دخلت على سيّدي أبي عبد الله جعفر بن محمد(علیهما السلام) في يوم عاشوراء، فألفيته كاسف اللّون، ظاهر الحزن، ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤلؤ المتساقط، فقلت: يا ابن رسول الله، ممّ بكاؤك؟ لا أبكى الله عينيك.

ص: 11


1- كمال الدين : 1/252 باب 23 ح 2، بحار الأنوار : 52/379 ح 185.

فقال لي: أو في غفلة أنت؟! أما علمت أنّ الحسين بن علي أصيب في مثل هذا اليوم؟!

فقلت: يا سيّدي، فما قولك في صومه؟

فقال لي: صمه من غير تبييت، وأفطره من غير تشميت، ولا تجعله يوم صوم كملاً، وليكن إفطارك بعد صلاة العصر بساعة على شربة من ماء، فإنّه في مثل ذلك الوقت من ذلك اليوم تجلّت الهيجاء عن آل رسول الله، وانكشفت الملحمة عنهم، وفي الأرض منهم ثلاثون صريعاً في مواليهم، يعزّ على رسول الله صلى الله عليه وآله مصرعهم، ولو كان في الدنيا - يومئذٍ - حيّاً لكان صلّى الله عليه وآله هو المعزّى بهم.

قال: وبكى أبو عبد الله(علیه السلام) حتّى اخضلّت لحيته بدموعه..

ثم علّمه آداب يوم عاشوراء، وآداب الزيارة في ذلك اليوم الى أن قال: ثم قل:

اللهم عذّب الفجرة الذين شاقّوا رسولك، وحاربوا أولياءك، وعبدوا غيرك، واستحلّوا محارمك، والعن القادة والأتباع، ومن كان منهم فخب وأوضع معهم، أو رضي بفعلهم لعناً كثيراً.

اللهم وعجّل فرج آل محمد(صلی الله علیه واله)، واجعل صلواتك عليه وعليهم، واستنقذهم من أيدي المنافقين المضلّين، والكفرة الجاحدين، وافتح لهم فتحاً يسيراً، وأتح لهم روحاً وفرجاً قريباً، واجعل لهم من لدنك على عدوّك وعدوّهم سلطاناً نصيراً..

اللهم إنّ كثيراً من الأمّة ناصبت المستحفظين من الأئمة، وكفرت

ص: 12

بالكلمة، وعكفت على القادة الظلمة، وهجرت الكتاب والسنّة، وعدلت عن الحبلين اللّذين أمرت بطاعتهما، والتمسّك بهما، فأماتت الحقّ، وجارت عن القصد، ومالأت الأحزاب، وحرّفت الكتاب، وكفرت بالحقّ لمّا جاءها، وتمسّكت بالباطل لمّا اعترضها، وضيّعت حقّك، وأضلّت خلقك، وقتلت أولاد نبيك، وخيرة عبادك، وحملة علمك، وورثة حكمتك ووحيك .

اللهم فزلزل أقدام أعدائك، وأعداء رسولك، وأهل بيت رسولك.

اللهم وأخرب ديارهم، وافلل سلاحهم، وخالف بين كلمتهم، وفتّ في أعضادهم، وأوهن كيدهم، واضربهم بسيفك القاطع، وارمهم بحجرك الدامغ، وطمّهم بالبلاء طمّاً، وقمّهم بالعذاب قمّاً، وعذّبهم عذاباً نكراً، وخذهم بالسنين والمثلات التي أهلكت بها أعداءك، إنّك ذو نقمة من المجرمين .

اللهم إنّ سنّتك ضائعة، وأحكامك معطلة، وعترة نبيك في الأرض هائمة، اللهم فأعن الحقّ وأهله، واقمع الباطل وأهله، ومنّ علينا بالنجاة، واهدنا إلى الإيمان، وعجّل فرجنا، وانظمه بفرج أوليائك، واجعلهم لنا ودّاً، واجعلنا لهم وفداً(1).

والصلاة والسلام على أصحاب الحسين(علیه السلام) الذين كشف لهم سيّد الشهداء(علیه السلام) ((الغطاء حتّى رأوا منازلهم من الجنّة، فكان الرجل منهم

ص: 13


1- مصباح المتهجد : 784، بحار الأنوار : 98/305 باب 24.

يقدم على القتل ليبادر إلى حوراء يعانقها، وإلى مكانه من الجنّة(1)))،

ووعدهم ربّ العزّة أن يعيد لهم الكرّة على أعدائهم فقال: )ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ( يخاطب بذلك أصحاب الحسين(علیه السلام) (2).

ص: 14


1- علل الشرائع : 1/229 باب 163 ح 1، بحار الأنوار : 44/297 باب 35 ح1.
2- تأويل الآيات الظاهرة : 272.

المقدمة

لم يختلج في الفكر ويخطر في الذهن إفراد ترجمة ل-((أبي الفضل العباس بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیهما السلام))) ذاك البطل المجاهد، والسيّد العظيم المتفادي عن الانقياد للمذلّة أنفة وإباء، الناهض بالدفاع عن الإمام والإمامة معاً غيرةً وحماساً، الذي أحيا مآثر الإيمان، وأسّس للدفاع عن الأخلاق أسساً محكمة رصينة، وأعطى للمتديّنين في الدفاع عن الإمام والإمامة والدين دستوراً صحيحاً، وقانوناً واجب الاتباع، وعلّم البشر كيفية الإخلاص للعظماء المحقّين، ونهج لهم سبيل التفاني أمام أئمة الدين الراشدين(علیهم السلام).

فرأينا من واجب حقّه علينا خدمته، وخشينا أن يدركنا الأجل ولم نوفق لذلك، فاستعجلنا الزمن، وسابقنا الأيام، وحاولنا إحياء ساعات العمر تعرّضاً لنفحات روح أبي الفضل العباس(علیه السلام)، فربما لم يسع الزمن بعد اليوم أن نعيش بعض الأيام في رحابه الفواحة بأريج التسليم والوفاء والنصيحة لسيّد شباب أهل الجنّة(علیه السلام)، والعبقة بروح الغيرة والثبات والاستقامة والدفاع عن حريم الله، وحريم رسوله، وناموس

ص: 15

الدين، وحرم أمير المؤمنين(علیه السلام).

فاخترنا كتاب ((بطل العلقمي)) للشيخ المحقّق الشهير عبد الواحد المظفر(1)

باعتباره موسوعة بعيدة الغور، مترامية الأطراف في

ص: 16


1- تجد بعض ترجمته في : ماضي النجف وحاضرها 3/367، شعراء الغري 6/161، معجم المؤلفين العراقيين، مؤلفين كتب جابي /214، الذريعة إلى تصانيف الشيعة، من أعلام الفكر والأدب : 302 . العلامة المؤرخ المتتبّع الشيخ عبد الواحد ابن الشيخ أحمد ابن الشيخ حسن ابن الشيخ جواد ابن الشيخ حسين ابن الشيخ مظفر، آل المظفر النجفي . ولد في النجف الأشرف في شهر محرم سنة 1310 ه-، ونشأ في أسرة دينية اشتهر رجالها بالفضل والعلم، ولها علماء بارزون . تخرّج على أعلام النجف ومراجعها، وثابر على التحصيل حتى حاز المراتب العالية، وجدّ في الأخذ والطلب حتى عدّ من أفاضل الحوزة . من أساتذته في الفقه والأصول : شيخ الشريعة الأصبهاني، الشيخ علي بن الباقر الجواهري، الشيخ مهدي المازندراني، ميرزا محمد حسين النائيني، السيد أبو الحسن الأصفهاني، الشيخ ضياء الدين العراقي، الشيخ محمد حسن كاشف الغطاء، والشيخ أحمد كاشف الغطاء. عالم متقن، باحث محقّق واسع الإطلاع، كثير القراءة في متنوّع الكتب المتصدّية لمختلف الثقافات، لم يقنع في أبحاثه قطّ باليسير من التنقيب والفحص . كان وديعاً في أخلاقه، متواضعاً لجلسائه، هادئاً في أحاديثه، عفيفاً عمّا في أيدي الناس، بعيداً عن الملق، متّصفاً بخلال إنسانية نبيلة، نشطاً في مطالعاته مع شيخوخته. كان ذا سعة في الآفاق العلمية، والسخاء في العطاء، لا يبخل أبداً ببذل ما رزقه الله - تعالى - من العلم والمعرفة . قال الشيخ جعفر محبوبة : (( له خبرة واسعة وإطلاع تامّ على التاريخ الإسلامي، خصوصاً سيرة أهل البيت: وسيرة أحوالهم .. انقطع في مقتبل عمره وعنفوان شبابه لسبر كتب السير والتاريخ حتى مهر في هذا الموضوع، ألّف كثيراً من الكتب في هذا الموضوع وغيره من المواضيع المفيدة، فاضل ملمّ جامع وأديب وشاعر ...)). انصرف إلى التأليف والتصنيف مع طول نفس في البحث والتنقيب، وتشعّب في الموضوع، وخلّف آثاراً جيدة في مواضيعها، مستقصاة في مراميها، طبع بعضها في النجف الأشرف، وأكثرها غير مطبوع. انتقل إلى مدينة (( الدير)) بالبصرة داعياً مرشداً لأحكام الدين، وإماماً لجماعة المؤمنين في مسجدها الجامع الكبير. أما كتبه، فهي : 1 - الأساليب الخلابة . ردّ على ابن حزم في تفضيل الصحابة على القرابة . 2 - إعجاز القرآن في ما اكتشفه العلم الحديث . 3 - أعلام النهضة الحسينية ((ستّة أجزاء)) . 4 - الأمالي المنتخبة في العترة المنتجبة ((طبع في ثلاثة أجزاء)) . 5 - البشرى ببعثة البشير . 6 - البطل الأسدي حبيب بن مظاهر ((طبع سنة 1370)) . 7 - بطل العلقمي ((طبع في النجف بثلاثة أجزاء سنة 1375 - 1396، وأعيد طبعه في قم المقدّسة . 8 - تقرير أبحاث النائيني في أصول الفقه . 9 - توضيح الغامض من أسرار السنن والفرائض ((مطبوع)) . 10 - حياة النبي(صلی الله علیه واله). 11 - ردع الناكب عن فضيلة المواكب. 12 - ديوان شعره . 13 - سفير الحسين(علیه السلام) : مسلم بن عقيل(علیه السلام). 14 - سلمان المحمدي ((طبع سنة 1371 وأعيد في قم)) . 15 - السياسة العلوية شرح عهد مالك الأشتر . 16 - سيدة النسوان : سكينة بنت الحسين(علیهما السلام). 17 - شبيه رسول الله(صلی الله علیه واله) علي بن الحسين الأكبر(علیهما السلام). 18 - فارس ذي الخمار مالك بن نويرة . 19 - قائد القوات العلوية مالك الأشتر ((طبع 1370)) . 20 - كشف المستور (( أنجز منه أربعة أجزاء)) . 21 - المستدرك على مقاتل الطالبيين ((جزءان كبيران)) . 22 - معراج النبي(صلی الله علیه واله). 23 - الميزان الراجح ((كبير في الرجال)) . 24 - نزهة الأبصار في الأدب . 25 - النقد والحلّ لمسائل الدين . 26 - ولادة النبي(صلی الله علیه واله). 27 - وفاة أمير المؤمنين(علیه السلام). 28 - وفاة النبي(صلی الله علیه واله) ((طبع سنة 1370)) . توفي في ((الدير)) شهر جمادى الآخرة سنة 1395 ه-، ونقل جثمانه إلى النجف الأشرف، ودفن به، وأرّخ وفاته بعضهم بقوله : جنّات عدن تباهت والحور بالشوق أكثر بالخلد نادى فأرّخ داعي الوحيد المظفر

ص: 17

الحديث عن حياة هذا البطل الهاشمي الذي ارتفعت هامته على الرماح.

وكان الشيخ المؤلف قد بذل جهده وصبّه في ترجمة حافلة جامعة بين التاريخ والفلسفة والآداب والفقه، ونظمها في كتاب ضخم حاوي لجميع ما يحتاج إليه المؤرّخ والفلسفي والخطيب الحسيني فيما يخصّ الفصول التي أدرجها فيه...

ص: 18

بيد أنّنا رأينا فيه استرسالاً واستطراداً يبتعد بالقاريء عن ضفاف العلقمي، ويشرد به إلى مسافات شاسعة تغيّبه عن مشهد كربلاء، وربما أشعرت القاريء بوجود قامات تقارب قامة أبي الفضل العباس(علیه السلام) شموخاً وارتفاعاً من خلال ذكر الأمثلة، وبعث الرجال من بطون الكتب وطيّات صفحات التاريخ، وهذا ما لا يناسب المقام حيث أنّ موقف أبي الفضل(علیه السلام) وما رسمه لنا في يوم الحسين(علیه السلام) على ضفاف العلقمي لا يمكن أن يقاس بيوم أو بموقف أو بقامة ترتفع في أيّ فترة من فترات التاريخ...

وربما استطرد في كثير من الأحيان لبيان فكرة لا تدخل في ثنايا الترجمة إلاّ بمؤونة ثقيلة تخرق نسيج الذهن المتابع للمشهد الكربلائي، وتضيّع عليه معالم الصورة.

ويبدو أنّ المؤلف كتب كتابه في خضم أجواء خاصّة أضفت على دواته باعتباره موسوعة بعيدة الغور، مترامية الأطراف في الحديث عن حياة هذا البطل الهاشمي الذي ارتفعت هامته على الرماح.

وكان الشيخ المؤلف قد بذل جهده وصبّه في ترجمة حافلة جامعة بين التاريخ والفلسفة والآداب والفقه، ونظمها في كتاب ضخم حاوي لجميع ما يحتاج إليه المؤرّخ والفلسفي والخطيب الحسيني فيما يخصّ الفصول التي أدرجها فيه...

بيد أنّنا رأينا فيه استرسالاً واستطراداً يبتعد بالقاريء عن ضفاف العلقمي، ويشرد به إلى مسافات شاسعة تغيّبه عن مشهد كربلاء، وربما أشعرت القاريء بوجود قامات تقارب قامة أبي الفضل العباس(علیه السلام) شموخاً وارتفاعاً من خلال ذكر الأمثلة، وبعث الرجال من بطون الكتب وطيّات صفحات التاريخ، وهذا ما لا يناسب المقام حيث أنّ موقف أبي الفضل(علیه السلام) وما رسمه لنا في يوم الحسين(علیه السلام) على ضفاف العلقمي لا يمكن أن يقاس بيوم أو بموقف أو بقامة ترتفع في أيّ فترة من فترات التاريخ...

وربما استطرد في كثير من الأحيان لبيان فكرة لا تدخل في ثنايا الترجمة إلاّ بمؤونة ثقيلة تخرق نسيج الذهن المتابع للمشهد الكربلائي، وتضيّع عليه معالم الصورة.

ويبدو أنّ المؤلف كتب كتابه في خضم أجواء خاصّة أضفت على دواته الشريفة ألواناً فرضتها تلك الأيام، فربما تجد قلمه الشريف يسيل حبره أكثر وهو يذكر العروبة والقومية والأمجاد العربية، وما شاكل من مصطلحات ذاعت وانتشرت يومذاك.

فالكتاب يعدّ أكبر موسوعة في حياة ((بطل العلقمي)) غير أنّ مواضيعه ليست كلّها في رحاب العلقمي وبطله، فأردنا أن نختصر المسافة بيننا وبين تأليف كتاب عن أبي الفضل العباس بن أمير المؤمنين(علیهما السلام)، ونقدّم ما يخصّ بطل العلقمي للقاريء الكريم دون أن يسافر بعيداً على صفحات كتاب الشيخ المظفر حتّى يصطاد معلومة

ص: 19

ذكرها عن العباس(علیه السلام) من بين أكداس الأحداث التاريخية، ويميّز اسمه من بين الأعداد الضخمة لأسماء الرجال المذكورين في عداد اسمه، ولعلّه يضطرّ إلى قراءة موقف أو مشهد لبعض رؤوس الشرك أو الضلال قبل وبعد الإسلام لكي يتوصّل إلى موقف أبي الفضل(علیه السلام) أو تدفعه ضرورة مسايرة المؤلف إلى المرور تحت رايات الفجرة واللئام الكفرة من أجل الوقوف تحت ظلال راية العباس(علیه السلام).

فحذفنا ما رأيناه غريباًً عن الموضوع، واختصرنا ما رأيناه زائداً، ومحونا ما شممنا منه رائحة المدح أو التقرير لفعل الظلمة الذين وقفوا في وجه أهل البيت:، وأضفنا إليه ما تصوّرناه تتميماً للكتاب، وإن كان لا يعدو كونه كقبسة عجلان.

وربما فرض علينا السياق التقديم والتأخير، أو إضافة عنوان أو حذف آخر، وهكذا على أمل أن نوفّق في مستقبل العمر إن بقي فيه بقية أن نكتب كتاباً عن حامل لواء الحسين(علیه السلام) وفق منهجنا وطريقتنا في دراسة التاريخ.

ورتّبناه على ترتيب المؤلف في فصول ثلاثة:

الفصل الأوّل:

في نسبه من جهة الآباء والأمّهات والأعمام والأخوال والإخوة مع الاقتصاد في التراجم.

الفصل الثاني:

ص: 20

في ولادة العباس(علیه السلام)، وكناه وألقابه، وصفاته النفسية والبدنية، وما يناسب ذلك.

الفصل الثالث:

في مقتله(علیه السلام)م، وفي ذكر وظائفه، وبعض الخطط الحربية، ومدفنه وكراماته.

باذلين في ذلك الوسع، مؤدّين الجهد خدمة لسيّد الشهداء(علیه السلام)، وقضاءاً لشيء يسير من الحقّ الواجب لهذا البطل العظيم الذي كانت له مرتبة سامية، ومكانة مكينة عند الله ورسوله(صلی الله علیه واله) وأئمة أهل البيت الهداة:، لا من حيث فدى بروحه إمام الحقّ المفترضة طاعته على الخلق أجمعين فحسب، وضحّى نفسه في سبيل الدين خاصّة، وجعل حياته الثمينة ثمناً لساعات من حياة سيّد الشهداء(علیه السلام) وإمام الزمان ولشرع سيّد المرسلين(صلی الله علیه واله) وحرس حرم الله وحرم رسوله وحرم أمير المؤمنين والإمامين الحسنين: فقط، بل لما كان فيه من السجايا الحميدة، والمزايا الفاضلة، والخصال المحبوبة، وقد جمع أبو الفضل خصالاً كثيرة من خصال الفضل، وكلّها سببت له محبّة الله ورسوله(صلی الله علیه واله) والأئمة الميامين: والمؤمنين، بل الخلق الأجمعين، مثل: الزهد، والعبادة، والحلم، والشجاعة، والحزم، والثبات، والبصيرة في الدين، والشهامة، والسخاء، وحسن الخلق، والإيثار، والوفاء، والفصاحة، والصباحة.

قال الشاعر:

ص: 21

لقد قال الرسول مقال صدقٍ

وخير القول ما قال الرسول

إذا الحاجات فرّت فاطلبوها

إلى من وجهه حسنٌ جميلُ

وقد وسمه الله أيضاً بسمات بدنية كمالية غير الصباحة، كالقوّة، والبسطة في الجسم، فإنّه(علیه السلام) كان أيّداً قويّاً، مديد القامة طوالاً، عظيم الهامة، وهي سمة السيادة.

وقد امتنّ الله - تعالى - على من حباهم هذه الصفات واختصّهم بها، فقال

- تعالى - ممتنّا على قبيلة عاد الشهيرة بقوله: )وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً(»(1).

وقد امتنّ على طالوت بقوله: «)وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ(»(2).

وقد امتنّ على نبيّه موسى بن عمران(علیه السلام) حاكياً ما اقتصّه من خبره عن ابنة العبد الصالح شعيب: )يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ((3).

فلاجتماع هذه المزايا والخصال لإبي الفضل العباس(علیه السلام) حاز شرفاً شريفاً وفخراً فاخراً، امتاز على ما عدا أهل العصمة في الدنيا والآخرة.

أمّا الدنيا: فهذا مرقده الشريف، وقبّته المنيفة مقصد الزائرين،

ص: 22


1- الاعراف : 69 .
2- البقرة : 247 .
3- القصص : 26 .

وملجأ ذوي الحاجات، يقصده الناس من البلاد النائية، والأقطار الشاسعة، للزيارة وطلب الحوائج، فإليه وإلى أبيه وأخيه تشدّ الرحال من الشرق والغرب.

وأمّا في الآخرة: فقد أخبرنا بمنزلته السامية ومرتبته العظيمة الإمام السجاد علي بن الحسين زين العابدين(علیهما السلام) حيث يقول: (( إنّ لعمّي العباس درجة يغبطه بها جميع الشهداء)).

ومن كان يغبطه جميع الشهداء على درجته ومنزلته، فهو المقدّم بلا ارتياب.

وإنّما غبطه جميع الشهداء لعلوّ درجته، واستوجب علوّ الدرجة عليهم بأمور إنفرد بها عنهم، منها:

إنّه قاسى أكثر ممّا قاسوه عناءاً، وكابد أشدّ ممّا كابدوه محناً، وقد جاء في الأثر: (( الأجر على قدر المشقّة))، وقد اختصّ(علیه السلام) بالإيثار الذي سنذكره، وبتضحية أشقّائه نصب عينيه الواحد تلو الآخر، كانوا ثلاثة لأمّه شباب لا أعقاب لهم، وبتضحية ولديه نصب عينيه أحدهما عقيب الآخر، ولم نعلم أنّ هذين الأمرين إجتمعا لواحد من الشهداء سوى أخيه الحسين(علیه السلام).

أمّا المحن التي كابدها دون الشهداء، فالعطش الذي أصابه يوم القتال، ومداراة نساء مذعّرات ترهب هجمات الأعداء آونة فآونة، وترقب الأسر ساعة فساعة، ومداراة أطفال صغار أرعبهم ضجيج

ص: 23

الأعداء، ووقع سنابك الخيل، وأرهبهم ومض الأسلحة وبريقها ولمعانها المدهش.

وكابد من المحن أن شاهد مصارع الأحبّة من إخوته وذوي قرباه الذين لم يسمح الدهر لهم بنظير.

ومن المحن التي شاهدها، وقد غطّت على كافة المحن أن شاهد وحدة أخيه الحسين(علیه السلام) وندائه ((وا قلّة ناصراه، وا غربتاه)).

ومن المحن التي شاهدها، وهي ممّا يؤلم مهجة الغيور، ويقرح قلب الأبيّ المتحمّس، صراخ العائلة، وهتاف العقائل المخدرات ينادين (( أبا عبد الله! ردّنا إلى حرم جدّنا))، وهو يقول لسيّدتهنّ زينب الحوراء(علیها السلام): ((هيهات، جرى القضاء وجفّ القلم)).

فهذه المحن مع تلك الخصائص والخصال قد أوجبت له زيادة فضل على الشهداء، فكان به من مجموع أجر الشهادة، وأجر الصبر على الإبتلاءات العظيمة، ودوران الأمر بين حياته وحياة سيّد شباب أهل الجنّة في ساعة من ساعات الزمن في طفّ كربلاء، درجة يغبطه بها جميع الشهداء.

ومن جهة ثانية: إنّ الشهادة نوعين:

شهادة للدعاية في سبيل إشادة الدين، والدعوة إلى الإسلام، وذاك سبيل الغزاة والمجاهدين.

ص: 24

وشهادة للدفاع عن حشاشة المعصوم، والمدافعة عن حياته، والذبّ عن ناموس الله وحرم رسوله، وهذه سبيل الخلّص والخواص، وهي بلا ريب أفضل الشهادتين،

لأنّ حفظ النبي والإمام(علیهما السلام) أفضل من جلب رجل إلى الإسلام، ولذلك كانت وقعة بدر أفضل الوقائع، والبدري أفضل من غيره، وشهيد بدر أفضل من سائر الشهداء، لأنّها لم تكن غزوة في سبيل توسعة الإسلام، بل كانت دفاعاًً عن حشاشة رسول الله(صلی الله علیه واله) ووقاية له.

ثم وقعة أحد، وهي دونها رتبة في الفضل، وإنّما كانت دونها في الفضل، وقد اشتركتا معاً في الدفاع عن حشاشة النبي(صلی الله علیه واله)، لأنّها كانت أكثر عدداً، وأحسن عُدداً، فإنّ من شهد بدراً أقلّ ممّن شهد أحداً من الصحابة بالضعف، أو أقلّ منه، ومن شهد أحداً أكثر عدداً وأكمل عُدداً، وبالقرب منهم المدينة، وهي حصن حصين، وفيها جمع تخلّفوا عن الحرب، فكانت محنة أهل بدر أعظم، وموقفهم أشدّ حراجة، فاذا كانت المحنة أقوى والشدّة أعظم كان الجزاء أوفر، والحباء أكبر.

وممّا لا يستراب فيه أنّ محنة شهداء كربلاء أعظم المحن، وبلاءهم أشدّ البلاء من حيث قلّة العدد، وانقطاع المدد، وبعد الأهل والوطن، وهم في حصار شديد في فلاة قاحلة وبادية جرداء عُدم فيها الماء، وعزّت الأقوات، وأدهشهم مع ذلك البلاء المبرم صراخ النسوة، وصياح الصبية.

كلّ هذا - ونحوه - ممّا لم يبتلى به أهل بدر لإمكان مجيء المدد اليهم لو

ص: 25

طلبوه، وحصول النجدة إن أرادوها، والأهل والوطن منهم قريب لو أرادوا إنسحاباً، ووجود الماء عندهم، وحصول الأقوات لديهم.

فمن أجل إجتماع هذه المحن الظاهرة للعيان وغيرها من الأسرار التي لا ينظمها بيان نال أهل كربلاء الدرجات العلى، وقد أصاب الشاعر نعتهم بقوله:

هم خير أنصار براهم ربّهم

للدين أوّل عالم التكوين وقوله:

هم أفضل الشهداء والقتلى الأولى

مُدحوا بوحي في الكتاب مبين

***

وأخيراً: ما كان في هذا الكتاب رضا لله ولرسوله وللأئمة الطاهرين فهو رضا لنا وللقارئين، وما كان خلافاً لذلك فنحن والقارئ منه براء.

ونرجو من الله السميع العليم أن يتقبّل منّا هذا القليل، ويرضي عنّا العباس بن أمير المؤمنين وأخو الإمامين الحسن والحسين:، وعمّ الأئمة النجباء الميامين، وحامي خدر العقائل من بني ياسين، وينفعنا به يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا خليل، ولا يحرمنا وأزواجنا وذرّيّاتنا خدمة زين السماوات والأرضين سيّد الشهداء الحسين(علیه السلام) في الدنيا والآخرة، وينوّر أبصارنا بالنظر إلى وجهه الكريم في الدنيا وعند الموت وفي القبر والآخرة، ويجعل عملنا وحبّنا واعتقادنا فيما يرضيه ويرضي

ص: 26

النبي الأمين(صلی الله علیه واله) وأمير المؤمنين(علیه السلام)، وذرّيّته الطاهرين، بحقّ سيّدنا ومولانا مهيّج أحزان يوم الطفوف وأخته فاطمة المعصومة التي يدخل الشيعة الجنّة بشفاعتها أجمعين.

الله اغفر لنا ولوالدينا ولأزواجنا وذرّيّاتنا وإخواننا المؤمنين وعجّل فرج وليّ أمرنا، آمين ربّ العالمين.

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

16/8/1432

ص: 27

الفصل الأوّل: في نسب العباس بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(صلی الله علیه واله)

اشارة

وفيه ذكر آبائه من أمير المؤمنين(علیه السلام) إلى عدنان، وذكر أمّهاته وأخواله وأعمامه وإخوته.

ص: 28

سلسلة آبائه الكرام إلى عدنان

اتّفق علماء الأنساب وقالوا قولاً واحداً في اتصال نسب رسول الله(صلی الله علیه واله) إلى عدنان، واختلفوا فيما بين عدنان وآدم(علیه السلام)، ونحن نورد ما اتّفقوا فيه، ونترك ما اختلفوا فيه.

ذكر ابن اسحاق برواية ابن هشام في سيرته، والسيّد الداوودي في عمدته، وابن قتيبة في معارفه، والمسعودي في مروجه، والقلقشندي في نهايته، وابن واضح في تاريخه، والطبري في تاريخه، والحلبي والدحلاني في سيرتيهما، وغيرهم من النسّابين، وجميع ما ذكرنا ينسبون رسول الله(صلی الله علیه واله)، ونحن نوصله بالعباس بن أمير المؤمنين(علیهما السلام)، فنقول: هو:

ص: 29

أبو الفضل العباس الأكبر، ابن وصي رسول الله علي، بن أبي طالب، بن شيبة الحمد عبد المطلب، بن هاشم، بن عبد مناف، بن قصي، بن كلاب، بن مرّة، بن كعب، بن لؤي، بن غالب، بن فهر، بن مالك، بن النضر، بن كنانة، بن خزيمة، بن مدركة، بن إلياس، بن مضر، بن نزار، بن معد، بن عدنان.

هذا نسب اتّفق عليه النسابون، ولكلّ واحد من هؤلاء الآباء الكرام شرف ورئاسة، ومجد ضخم، وكلّ واحد منهم في عصره سيّد قومه، وزعيمهم المقدّم عليهم، بما امتاز به من كرم الأصل، ومكارم الأخلاق، لأنّ كلّ فرد منهم لا يشبهه من في عصره - لا عربي ولا أعجمي - في جميع المكارم، وسائر السجايا والشيم، فهو الممتاز من حيث الصفة البدنية، كالصباحة، وحسن الملامح، والسيماء التي يتفرّس منها كلّ خير، وكما كساه الله الجمال والبهاء كساه المهابة والجلالة وحسن الهيئة وبجّله في أعين الناظرين، وجعل له رهبة في قلوب المناوئين.

أمّا من حيث الصفات النفسيّة النفيسة فقد أربى عليهم وفاقهم كمالاً كما راقهم جمالاً، فلا يدانيه رئيس ولا متوّج في جلّ المحامد، كالبطولة، والنشاط الذاتي لاقتناء المكارم، نحو الشجاعة والسخاء والفصاحة وسائر المفاخر المنتخبة، والمكارم المتخيّرة عند عامّة العقلاء، وكلّ واحد منهم قاد قومه في الحروب، وكان مع تفوّقه بفنّ القيادة مظفّراً منصوراً.

ص: 30

ونحن نختصر لكلّ عظيم منهم على ترجمة مختصرة من مطوّلات آثاره، ونورد موجزاً من المبسوط في أحواله ممّا به الكفاية، إن شاء الله.

1- عدنان بن أد:

الجدّ الأعلى لرسول الله(صلی الله علیه واله)، وإليه ينتهي النسب المتّفق عليه.

قال زيني دحلان في سيرته عن الزبير بن بكار: إنّ أوّل من وضع أنصاب الحرم عدنان.

وقيل: هو أوّل من كسى الكعبة..

وجاء إنّما سمّي عدنان من العدن، وهو الإقامة، لأنّ الله أقام ملائكة لحفظه، وسبب ذلك: أنّ أعين الإنس والجنّ كانت إليه مصروفة، وأرادوا قتله، وقالوا: لئن تركنا هذا الغلام حتّى يدرك مدارك الرجال ليخرجنّ من ظهره من يسود الناس، فوكّل الله به من يحفظه...

وذكر مثله الديار بكري في تاريخ الخميس، والمسعودي في إثبات الوصية، وزاد بعد قوله ((من يحفظه)): فنشأ أحسن أهل زمانه خلقاً وخُلقاً.

وفي تاريخ الخميس: إنّ الملك الموكّل بحفظه علّمه ملّته، وإنّ فيه نور رسول الله(صلی الله علیه واله).

وذكر ابن واضح شرفه، وأنّه أوّل من وضع أنصاب الحرم وكسى

ص: 31

الكعبة.

وذكر هؤلاء كلّهم: إنّ عدنان أصل القبائل العدنانية كلّها، ومنه تفرّقت شعوبها وقبائلها، وولد له ولدان: عك بن عدنان، واختلط باليمن، فانتسب اليهم، ومعد بن عدنان، وهو الأصل الثاني للقبائل العدنانية الإسماعلية.

وفي قصيدة الناشيء الشاعر الشهير، وذكرها جماعة من المؤرّخين منهم ابن كثير في البداية، يقول فيها:

وما زال عدنان إذا عدّ فضله

توحّد فيه عن قرين وصاحب

فتزوّج معد معانة ابنة جوشم [ جوشن ] بن جلهمة، فولدت له نزار بن معد.

ولد عدنان:

معد وعك.

ص: 32

وعن السهيلي: الحارث بن عدنان أيضاً، والمذهب بن عدنان.

وعن غير السهيلي: الضحاك خامساً، وعدن، وأبين ابنا عدنان، نسب هذا القول للطبري.

كلّ هذا حكاه ابن كثير في تاريخ البداية والنهاية على خلاف في الأربعة، وإتفاق في معد وعك.

2 - معد بن عدنان:

أشهر العرب في عصره، وأعظمهم فخراً، وهو الأصل الثاني للعرب العدنانية، حتّى كان يقال في تقسيم العرب هكذا: عدناني ومعدي.

قال ابن واضح في تاريخه(1) .: كان معد أوّل من وضع رحلاً على جمل وناقة، وأوّل من زمّها بالنساع..

كان معد بن عدنان شريفاً زعيماً قائداً مظفّراً منصوراً، وبطلاً شجاعاً، وسخيّاً جواداً، ومؤمناً موحّداً، ذا عفّة وشهامة، وجدّ وصرامة، مرهوباً مهاباً، مسدّد الرأي، مجدوداً موفّقاً، ذا غارات ومغازي، يصاحبه فيها النصر والظفر، وكان سرّ تلك الغلبة هو التأييد الربّاني، ومن لحظته العناية الربّانية استعلى، وكان نور النبي(صلی الله علیه واله) يتلألأ في غرّته، وتسطع أنواره في جبينه.

ولمّا مات أبوه عدنان احتوى على ميراثه المجدي، وحاز تراثه الشرفي، من لواء وقوس، وأفراس وأسلحة وغيرها، وذاك اللواء هو لواء شيث بن آدم، أو لواء الخليل إبراهيم على الرأيين التاريخيين، والقوس هي العربية قوس إسماعيل(علیه السلام)، وإنّما حاز ذلك معد، لأنّه أكبر إخوته وأنبلهم، وأسيرهم ذكراً، وأبعدهم صيتاً ومغاراً، وأكثرهم مآثراً وآثاراً، فله الصوت الأوّل في أندية المجد، والصيت الذائع في أرجاء الجزيرة العربية.

ص: 33


1- تاريخ اليعقوبي 1/183 طبعة النجف .

ومنذ استقلّ معد بالزعامة مع ما فيه من الكفاءة، واجتماع غرائز الفضل والمواهب الإلهية نهض بأعباء الزعامة أفضل نهوض، وقام بشؤون الرئاسة القيام المرضي، فحمل اللواء، ونشر عَلَمَه المظفّر الخافق بالنصر والغلبة، وقاد جيشه المؤلّف من أربعين جنديّاً من ولده وأسرته، فكان يلقى بذلك الجيش الصغير الجيوش الكبيرة، ويصدم بذلك العدد النزر الأعداد الكثيرة.

قال المسعودي: في إثبات الوصية(1): إنّما سمّي معداً، لأنّه كان صاحب حروب وغارات... ولم يواقع أحداً إلاّ رجع منصوراً مظفّراً، فجمع من المال ما لم يجمعه أحد في زمانه.

وقال الديار بكري في تاريخ الخميس(2): وأمّا معد بن عدنان، ففيه نور رسول الله(صلی الله علیه واله).

وقد صرّحوا أنّه كان على دين إبراهيم(علیه السلام)، نصّ عليه الطبري، ورواه عنه الدحلاني(3)، ولفظه: روى الطبري في تاريخه عن ابن عباس قال: كان عدنان ومعد وربيعة وخزيمة وأسد على ملّة إبراهيم، فلا تذكروهم إلاّ بخير...

ولو استوفينا الأقوال في إثبات إيمانهم لخرجنا عن الموضوع، وفي بائية الناشيء:

ص: 34


1- إثبات الوصية : 73 ط النجف .
2- تاريخ الخميس 1/166 الطبعة الأولى بمصر .
3- السيرة الدحلانية : 1/13 بهامش السيرة الحلبية .

وكان معد عدّة لوليّه

إذا خاف من بطش العدوّ المحارب

ولد معد

أمّا ولد معد بن عدنان منهم: نزار، وقضاعة، وقنص، وأياد، قاله ابن إسحاق(1).

وتفصيل أحوالهم يستدعي تطويلاً، فراجع كتاب الأنساب..

3 - نزار بن معد بن عدنان:

كان نزار من سادات العرب وحكمائهم، وقد فاق أهل زمانه جمالاً وكمالاً، ففي بائية الناشئ:

وحلّ نزار من رياسة أهله

محلاً تسامى عن عيون الرواقب

قال ابن واضح في تاريخه(2): كان نزار بن معد سيّد بني أبيه وعظيمهم، ومقامه بمكة.

زاد في تاريخ الخميس(3): أنّ قبره وقبر ابنه ربيعة بذات الجيش قرب المدينة.

ص: 35


1- سيرة ابن هشام 1/10 ط الأولى .
2- تاريخ اليعقوبي : 1/183 .
3- تاريخ الخميس : 1/167 .

وفي السيرة الدحلانية(1): إنّ نزار لمّا ولد نظر أبوه إلى نور النبي(صلی الله علیه واله) بين عينيه، ففرح فرحاً شديداًً، ونحر وأطعم، وقال: إنّ هذا كلّه نزر - أي قليل - في حقّ هذا المولود، فسمّي ((نزاراً))، وكان أجمل أهل زمانه، وأكبرهم عقلاً.

وفي السيرة(2): إنّه أوّل من كتب الكتاب العربي.

وقال الماوردي في أعلام النبوة(3)، بعد أن ذكر أباه معداً: ثم ازداد العزّ بولده نزار، وأبسطت به اليد، وتقدّم عند ملوك الفرس، واجتباه بشتاسف ملك الفرس.

وقال الأب لويس اليسوعي(4): نزار بن معد بن عدنان: هو من العرب المستعربة، ولد له أربعة أولاد، وهم: مضر، وربيعة، وأياد، وأنمار، تفرّع منهم قبائل كثيرة.

واتفق علماء النسب أنّه لا عقب له غير هؤلاء الأربعة، ونزار هو الأصل الثالث للقبائل العدنانية، فيقال: عدناني، ومعدي، ونزاري، ولا جامع لهم بعد نزار.

ص: 36


1- السيرة الدحلانية : 1/11 هامش الحلبية .
2- الحلبية السيرة الحلبية 1/19 .
3- أعلام النبوة : 118 .
4- شرح مجاني الأدب : 1/23 .

4 - مضر بن نزار الملقّب بمضر الحمراء:

جدير بالذي افتخر به أن يعطس شامخاً، ويتنحنح باذخاً، ويلمس السماء قاعداً، ويتناول الثريّا ساجداً.

قال ذلك الشاعر - ومهما بالغ في الافتخار فالشعر أعذبه أكذبه -:

إذا مضر الحمراء كانت أرومتي

وقام بنصري حازم وابن حازم

عطست بأنف شامخ وتناولت

يداي الثريّا قاعداً غير قائم

وفي بائية الناشئ:

وفي مضر يستجمع الفخر كلّه

إذا اعتركت يوماً زحوف المقانب

لا غرو لو استجمعت المفاخر كلّها في مضر، وهل المفاخر إلاّ مواهب يفيضها الله - تعالى - على من يشاء من عباده، إنّ مضر بن نزار تفرّد من ناحية الفيض الربّاني عن أقرانه بما حباه الله به من الخصال الحسنة، وتميّز على معاصريه بما اكتسبه من الفضائل التي دلّته عليها الفطرة، فأصبح بمعنوية هذين الأمرين فريد وقته، ونادرة عصره، وإليه انتهى مجد العدنانية، وفخر المعدية، فكانت له الرئاسة والزعامة على كافة ولد عدنان، وله أعظم مكرمة، وأجل منقبة نال بها شرف المحيا والممات ما حواه صلبه، وتلألأت به غرّته الغراء من نور سيّد البشر وخاتم الأنبياء نبيّنا محمد(صلی الله علیه واله).

ص: 37

ففي السيرتين الحلبية والدحلانية(1)، واللفظ للأخير: إنّ مضراً إنّما سمّي مضراً، لأنّه كان يمضر القلوب - أي يأخذها - لحسنه وجماله، ولم يره أحد إلاّ أحبّه، وكان يشاهد في وجهه نور النبي(صلی الله علیه واله).

ومن كلامه: خير الخير أعجله، فاحكموا أنفسكم على مكروهها، واصرفوها عن هواها فيما أفسدها، فليس بين الصلاح والفساد إلاّ صبر فواق، وهو ما بين الحلبتين.

وهو أوّل من حدى للإبل، وكان من أحسن الناس صوتاً، ويقال له: مضر الحمراء، وقبره بالروحاء.

وقال ابن واضح(2): وأمّا مضر بن نزار، فسيّد ولد أبيه، وكان كريماً حكيماً.

فذكر لتسمية مضر وجوها أربعة أشهرها عند المؤرّخين: اختصاصه بالحمر من الإموال.

قال المسعودي في إثبات الوصية(3): إنّما سمّي مضر، لأنّه أخذ بالقلوب، فلم يره أحد إلاّ أحبّه، وكان كلّ واحد منهم - يعني أجداد النبي(صلی الله علیه واله) - يأخذ على ابنه أن لا يتزوّج إلاّ أطهر النساء في زمانه، وكانت الكتب تعلّق في البيت الحرام، فلم تزل معلّقة من لدن إسماعيل

ص: 38


1- السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية : 1/13 .
2- تاريخ اليعقوبي 1/186 .
3- إثبات الوصية : 74 .

إلى أيام الفيل.

وقال الديار بكري في تاريخ الخميس(1): وتزوّج نزار امرأة يقال لها ((عبيدة))، فولدت له مضر، وكان مسلماً على ملّة إبراهيم، وفيه نور رسول الله(صلی الله علیه واله)، وإنّما سمّي مضر، لأنّه أخذ بالقلب، ولم يكن يراه أحد إلاّ أحبّه.

يقال: إنّه هو أوّل من سنّ الحداء للإبل، وكان من أحسن الناس صوتاً.

وفي الإكتفاء: ولد نزار بن معد أربعة بنين: مضرّ وربيعة، وأنمار، وإياد، وإليه دفع أبوه حجابة الكعبة فيما ذكره الزبير، وقد ذكر هو والحلبي وغيرهما أحاديثاً من طرقهم تصرّح بإسلامه.

أولاد مضر:

لم يكن لمضر غير رجلين أحدهما إلياس، والثاني إلناس.

5 - إلياس بن مضر:

رأس العدنانية بعد أبيه مضر، وزعيمها المطاع.

وفي بائية الناشئ:

ص: 39


1- تاريخ الخميس 1/167 .

وللياس كان اليأس منه مقارناً

لأعدائه قبل إعتداد الكتائب

كان إلياس بن مضر مطاعاً في العرب لا يرد له رأي، ولمّا استلم زمام الرئاسة بعد أبيه مضر نهض بأعبائه نهوضاً حسناً، وازداد مجده، وتضاعف سؤدده، وهابته العرب وعظّمته، وألقت إليه أزمة الطاعة، واعترفت له بالسيادة، وأذعنت لجودة رأيه، فاستكانت خاضعة، فجدّد لها سنن إبراهيم الخليل(علیه السلام) بعد أن تركها حقباً، وبلغ من شرفه عند العرب أن سمّت داء الحبن، أو داء الاستسقاء داء إلياس، لأنّه توفيّ فيه.

قال ابن واضح في تاريخه(1): كان إلياس بن مضر قد شرف وبان فضله، وكان أوّل من أنكر على بني إسماعيل ما غيّروا من سنن آبائهم، وظهرت منه أمور جميلة رضوا به رضا لم يرضوا بأحد من ولد إسماعيل(علیه السلام)، فردّهم إلى سنن آبائهم حتّى رجعت سننهم تامّة على أوّلها، وهو أوّل من أهدى البدن إلى بيت الله، وأوّل من وضع الركن بعد هلاك إبراهيم(علیه السلام)، فكانت العرب تعظّم إلياس تعظيم أهل الحكمة.

وقال علي دده الحنفي في كتاب محاضرات الأوائل والأواخر(2): وأوّل من أرسل البدن إلى البيت إلياس بن مضر، وكان يسمع تلبية النبي(صلی الله علیه واله) في صلبه، وهو أوّل من وضع مقام إبراهيم(علیه السلام) للناس بعد الطوفان، ولم

ص: 40


1- تاريخ اليعقوبي 1/187 .
2- محاضرات الأوائل والأواخر : 60 .

تزل العرب تعظّمه، وقال رسول الله(صلی الله علیه واله): لا تسبّوا إلياس بن مضر، وهو من مؤمني أهل الفترة.

وذكر الحلبي والدحلاني الشافعيان، واللّفظ للأخير(1): وتواتر أنّ جدّه(علیه السلام) إلياس

كان يسمع من صلبه تلبية رسول الله(صلی الله علیه واله) المعروفة في الحجّ، وكان كبيراً عند العرب، يدعونه سيّد العشيرة، ولا يقضون أمرا دونه، وهو أوّل من أهدى البدن، وجاء في الحديث: لا تسبّوا إلياس، فإنّه كان مؤمناً، وكان في العرب مثل لقمان الحكيم في قوله.

وقال الدياربكري في تاريخ الخميس: وتزوّج مضر خزيمة، فولدت له إلياس.. ثم ذكر مثلما ذكروا وقال: إنّ العرب كانت تعظّمه تعظيم أهل الحكمة كلقمان وأشباهه.

وكان يدعى كبير قومه، وسيّد عشيرته، ولا يقطع أمر ولا يقضى دونه.

وقال ابن واضح(2): كان إلياس قد أصابه السلّ، فقالت خندف امرأته: لئن هلك لا أقمت ببلد مات فيه، وحلفت أن لا يظلّها بيت، وأن تسيح في الأرض.

فلمّا مات خرجت سائحة في الأرض حتّى هلكت حزناً عليه، وكانت وفاته يوم الخميس، فكانت تبكيه، وإذا طلعت الشمس في

ص: 41


1- السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية 1/11 .
2- تاريخ اليعقوبي 1/187 .

ذلك اليوم بكت حتّى تغيب، فصارت مثلاً.

قيل لرجل من إياد هلكت امرأته ألا تبكيها؟ فقال:

ولو أنّه أغنى بكيت كخندف

على الياس حتّى ملّها السر تندب

إذا مونس(1) لاحت خراطيم شمسه

بكت غدوة حتّى ترى الشمس تغرب

والرباب زوجة سيّد الشهداء الحسين بن علي(علیهما السلام)، وان لم تسح في الأرض، لكنّها أبت أن يظلّها ظلّ في حرّ وفي برد، وتنوح كلّ يوم تطلع في الشمس إلى أن تغيب.

للشيخ المظفر :

فإن تك ليلى بنت حلوان فاتها

من الياس نجم من نجوم المكارم

فإنّ ابنة الكلبي في يوم كربلا

لقد فقدت شمس الضحى بابن فاطم

فإن تك ساحت في البسيطة خندف

وناحت لفقد إلياس نوح الحمائم

فإنّ ابنة الكلبي طول حياتها

أليفة نوح وانعقاد مآتم

أولاد إلياس

أولاد إلياس ثلاثة باتفاق النسابين، وهم: مدركة، وطابخة، وقمعة، وهذه ألقاب لهم.

6 - مدركة بن الياس بن مضر:

ص: 42


1- مونس : يوم الخميس عند العرب القدماء .

كان مدركة - واسمه عمرو على الراجح، ويقال: عامر - من سادات العرب، وأشراف أهل اللّسان الفصيح، وكان جواداً شجاعاً فصيحاً، حسن الوجه حلو الشمائل، كريم السجايا والطباع جم الفضائل، ممدوحاً عند العرب.

في بائية الناشيء:

ومدركة لم يدرك الناس مثله

أعفّ وأعلى عن دني المكاسب

وفي السيرة الحلبية(1) وابن إسحاق: قيل له مدركة، لأنّه أدرك كلّ عزّ وفخر كان في آبائه، وكان فيه نور رسول الله(صلی الله علیه واله).

وقال ابن واضح(2): كان مدركة بن إلياس سيّد ولد نزار، قد بان فضله، وظهر مجده.

وفي تاريخ الخميس(3): فتزوّج إلياس بن مضر امرأة يقال لها ((مخة)) - وفي حياة الحيوان: خندف - فولدت له مدركة، وكان اسمه عامر.

وقال الطبري في التاريخ(4): اسمه عمرو وأمّه خندف، وربيعة ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وأمّها ضريّة بنت ربيعة

ص: 43


1- السيرة الحلبية 1/28 .
2- تاريخ اليعقوبي 1/188 .
3- تاريخ الخميس 1/169 .
4- تاريخ الطبري 3/189 .

بن نزار، قيل: بها سمّي حمى ضرية.

وإخوة مدركة لأبيه وأمّه: عامر وهو طابخة، وعمرو وهو قمعة.

ويقال: إنّه أبو خزاعة.

وفي تاريخ ابن الأثير(1): اسمه عمرو، ويكنى ((أبا هذيل))، ويقال: أبا خزيمة.

أولاده:

عند ابن إسحاق أنّه له ولدين: أحدهما خزيمة، والثاني هذيل.

وذكر ابن عبد البرّ في الانباه على أسماء الرواة(2): إنّ أمّها هند بنت وبرّة أخت كلب بن وبرّة.

7 - خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر:

كان خزيمة عظيم الرئاسة، ضخم الشرف، محكم العقل، ذا حنكة وتجارب، ورفق وأناة، وكان من حكّام العرب والقضاة المشهورين فيهم، لا ترّد له قضية قضاها، ولا يخالف له حكم حكم به، وكان من الأجاود الكرماء، والخطباء ذوي اللسن والفصاحة، واحد الشجعان

ص: 44


1- الكامل في التاريخ 2/13 ط 1 .
2- الانباه على أسماء الرواة : 37 .

الأبطال، وكان ظاهر الوسامة باهر الجمال.

في بائية الناشيء:

ومن قبله أبقى خزيمة حمده

تليد تراث عن حميد الأقارب

قال المسعودي في إثبات الوصية(1): إنّما سمّي خزيمة لأنّه خزم نور آبائه.

وقال ابن الواضح في تاريخه(2): كان خزيمة أحد حكام العرب، ومن يعدّ له الفضل والسؤدد.

وفي السيرتين الحلبية والدحلانية واللفظ للأخير(3): وخزيمة قيل: إنّه تصغير خزمة، وإنّما سمّي ذلك، لأنّه خزم - أي جمع فيه - نور النبي(صلی الله علیه واله) الذي كان في آبائه.

وفي تاريخ الخميس(4): فولد مدركة بن إلياس بن مضر نفراً، منهم: خزيمة بن مدركة، وهذيل بن مدركة، وأمّهما امرأة من قضاعة، قيل: هي سلمى بنت سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة . وقيل: اسم أمّ خزيمة قزيمة.

وإنّما سمّي خزيمة، لأنّه خزم نور آبائه، وفيه نور رسول الله(صلی الله علیه واله)، فبقي

ص: 45


1- إثبات الوصية : 74 .
2- تاريخ اليعقوبي : 1/189 .
3- السيرة الدحلانية : 1/12 بهامش الحلبية .
4- تاريخ الخميس : 1/170 .

سنين لا يدري كيف يتزوّج حتّى أري في منامه أنّه تزوّج برّة بنت طابخة، فتزوّجها، وكانت - يومئذٍ - سيّدة قومها في الحسن والجمال، فولدت له كنانة.

وفي الاكتفاء: فولد خزيمة بن مدركة كنانة وأسداً وأسدة والهون.

وخزيمة هذا اسمه لا خلاف في ذلك.

8 - كنانة بن خزيمة بن مدركة:

حاز كنانة شرفاً، وأربى على كلّ شرف، وامتاز بمآثر مجد جديدة أبقاها لأعقابه مفخراً، وقد اكتسبها بجدّه ومساعيه، وحصّلها بجهوده العظيمة، فضمّ إلى كرم الآباء ومآثر الأسلاف فضائل النفس، ونتائج الأعمال الصادقة، والأفعال الصالحة، فاصبح محبوباً للعرب بإخلاصه وتفانيه في سبيل تخليد مجدهم، وبما منحه الله - تعالى - من صدق الفراسة والحدس، وحسن الذكاء والفطنة، أصبح حكماً وحكيماً للعرب تقصده خاصّتها وعامّتها للاستفادة من فضائله وفواضله، فمن راغب في الحكميات، ومن طالب لفصل الخصومات، ومستجد للنوال، ومستجير من عاديات الرجال.

في بائية الناشئ:

لعمري لقد أبقى كنانة قبله

محاسن تأبى أن تطوع لغالب

ص: 46

ذكر الحلبي والدحلاني في سيرتيهما(1)، واللفظ للأخير: ومن ذلك ما نقل عن جدّه(صلی الله علیه واله) كنانة بن خزيمة أنّه كان شيخاً عظيماً تقصده العرب لعلمه وفضله، وكان يقول: قد آن خروج نبي من مكة يدعى ((أحمد)) يدعو إلى الله والى البرّ والإحسان ومكارم الأخلاق فاتبعوه تزدادوا شرفاً، وعزّاً إلى عزّكم، ولا تفنّدوا ما جاء به فهو الحقّ.

وقال ابن واضح في تاريخه(2): وظهر في كنانة بن خزيمة فضائل لا يحصى شرفها وعظمتها.

وذكر في تاريخ الخميس ما لفظه(3): وفي كنانة نور رسول الله(صلی الله علیه واله)، وإنّما سمّي كنانة لأنّه لم يزل في كنّ من قومه، تزوّج كنانة ريحانة، فولدت له النضر بن كنانة.

أولاد كنانة

أمّا أولاد كنانة فأربعة على المشهور: النضر، ومالك، وملكان...

وذكر ابن عبد البرّ في كتاب الأنباه(4) عن ابن الكلبي أنّهم أكثر من عشرة، ولكن لم يذكر أسمائهم.

ص: 47


1- سيرة الدحلانية : 1/11 .
2- تاريخ اليعقوبي : 1/191 .
3- تاريخ الخميس : 1/171 .
4- الأنباه : 67 .

9 - النضر بن كنانة:

اعتلا شرف النضر على شرف آبائه اعتلاءاً مفرطاً، وفاق كلّ عربي في عصره بجميع سمات الفضل ومزاياه، وبلغ من السؤدد المرتبة السامية حتّى أنّ عظماء الملوك تسعى في توطيد رئاسته، وتوكيد وثائق سيادته.

في بائية الناشئ:

وللنضر طول يقصر الطرف دونه

بحيث التقى ضوء النجوم الثواقب

والنضر هو قريش على الراجح من الأقوال.

قال الداوودي في عمدة الطالب(1): النضر واسمه قيس، وإنّما سمّي النضر لجماله ووضائته.

وقال المسعودي في إثبات الوصية(2): وإنّما سمّي النضر لأنّ الله - تعالى - اختاره وألبسه نضرة، وسمّي النضر قريشاً.

فكلّ من ولد النضر قرشي، وهو الذي قال: رأيت كأنّما خرجت من ظهري شجرة خضراء حتّى بلغت عنان السماء، وأنّ أغصانها نور في نور، فلمّا انتبهت أتيت الكعبة، وأخبرت من فيها بذاك، فقالوا: إن صدقت رؤياك صرف إليك العزّ والكرم، وخصصت بالحسب

ص: 48


1- عمدة الطالب : 11 طبع الهند .
2- إثبات الوصية : 47 .

والسؤدد، فاعطاه الله - تعالى - ذلك.

ونظر الله - تعالى - نظرة إلى الأرض، فقال لملائكته: انظروا من أكرم أهل الأرض اليوم عندي، وأنا أعلم وأحكم.

فقالت الملائكة: ربّنا وسيّدنا! ما نرى أحداً يعبدك بالوحدانية مخلصاً إلاّ نوراً واحداً في ظهر رجل من ولد إسماعيل.

فقال الله - تعالى -: اشهدوا اخترته لنطفة حبيبي محمد(صلی الله علیه واله).

قال: فبسط له الحرم بالعزّ والشرف.

وقال الدياربكري في تاريخ الخميس(1): اسمه قيس، وإنّما سمّي النضر لنضارة وجهه وجماله.

وفي السيرتين الحلبية والدحلانية(2)، واللفظ للأخير: والنضر إنّما لقّب به لنضارة وجهه وإشراقه وجماله من نور النبي(صلی الله علیه واله).

وقال ابن الأثير في تاريخه(3): يكنّى أبا يخلد، كني بابنه يخلد، وعامّة النسابين يذكر ((مخلد))، فلعلّه هنا كان تصحيفاً.

واسم النضر قيس، وقيل: إنّ النظر بن كنانة كان اسمه قريشاً.

وقيل: لمّا جمعهم قيل لهم، والتقرّش التجمّع.

وقيل: لمّا ملك قصي الحرم وفعل أفعالاً جميلة قيل له ((القرشي))،

ص: 49


1- تاريخ الخميس : 1/170 .
2- السيرة الدحلانية : 1/12 .
3- الكامل في التاريخ : 2/12 .

وهو أوّل من سمّي به، وهو من الاجتماع أيضاً، أي: لاجتماع الخير فيه.

وقد قيل في تسمية قريش قريشاً أقوالاً كثيرة لا حاجة إلى ذكرها.

أولاد النضر بن كنانة:

قال ابن الأثير في التاريخ(1): بعد قوله ((أمّه برّة)): وإخوته لأبيه وأمّه: نضير، ومالك، وملكان، وعامر، والحرث، وعمرو، وسعد، وعوف، وغنم، ومخرمة، وجرول، وغزوان، وجدال.

10 - مالك بن النضر بن كنانة:

وقد ساد مالك بن النضر بني إسماعيل، وترأّس على سائر ولد عدنان، فعظم شرفه في العرب، فانقادوا به وأطاعوه، وكان جواداً كريماً، ملك القلوب بمكارمه

وجودة أخلاقه، وهو قريش على بعض الأقوال التي ذكرها صاحب عمدة الطالب.

وفي بائية الناشئ:

وما زال منهم مالك خير مالك

وأكرم مصحوب وأكرم صاحب

قال الحلبي في سيرته(2): قيل له: مالك، لأنّه ملك العرب، ومثله في

ص: 50


1- الكامل في التاريخ 2/12 .
2- السيرة الحلبية : 1/18 .

إثبات الوصية للمسعودي(1) وتاريخ الخميس للدياربكري.

وقال ابن واضح في تاريخه(2): وكان مالك بن النضر عظيم الشأن.

وكان لمالك أخوان: يقال لأحدهما ((يخلد))، فدخلت يخلد في بني عمرو بن الحارث بن مالك بن كنانة، فخرجوا من جماع قريش، والآخر منهما يقال له ((الصلت)) لم يبق من ذرّيّته أحد.

وقال ابن الأثير في التاريخ(3): وكنيته أبو الحارث، وأمّه عاتكة بنت عدوان، وهو الحرث بن قيس عيلان، ولقبها عكرشة، وقيل غير ذلك.

11 - فهر بن مالك بن النضر بن كنانة:

وهو الأصل الثاني لقريش قبل أن تسمّى قريشاً، فيقال لهم: بنو فهر وبنو النضر، أو هو قريش - على قول مشهور - ترأس فهر بعد أبيه مالك رياسة عامّة وازداد ملكه ضخامة واعتلا مجده وشرفه سناءاً ورفعة وإليه تنسب أعظم القبائل العربية فيقال: الفهرية، وتوسمت سمات الخير والفضل عليه، وعرفت سجايا المجد منه في حياة أبيه، فتوسّم منه الخير في زمن الطفولية:

إنّ الهلال إذا رأيت نموّه

أيقنت أن سيصير بدراً كاملاً

ص: 51


1- إثبات الوصية : 74 .
2- تاريخ اليعقوبي 1/193 .
3- الكامل في التاريخ : 2/12 .

والفهر في لغة العرب: الهاون من الحجارة سمّي به الرجل، ولأسباب اختارت العرب هذه الأسماء ذكرها هنا يؤدي بنا إلى الشذوذ.

وكان الفهر من العلماء والأجواد والشجعان والأبطال، وكان مظفراً في حروبه، منصوراً على الخصماء، خدمته السعادة في حياته حتّى مات، وهو قريش في أحد الأقوال.

في بائية الناشئ:

وكانت لفهر في قريش خطابة

يعوذ بها عند اشتجار المخاطب

قال ابن واضح في تاريخه(1): وظهر في فهر بن مالك علامات فضل في حياة أبيه، فلمّا مات أبوه قام مقامه.

فيروى أنّ فهر بن مالك قال لابنه غالب حين حضرته الوفاة:

أي بني! إنّ في الحذر انغلاق النفس، وإنّما الجزع قبل المصائب، فاذا وقعت مصيبة ترتجز لها، وإنّما القلق في غليانها، فاذا قامت فبرّد حرّ مصيبتك بما ترى من وقع المنيّة أمامك وخلفك، وعن ويمينك وعن شمالك، وما ترى في آثارها من محق الحياة، ثم اقتصر على قليلك، وإن قلّت منفعته، فقليل ما في يدك أغنى لك من كثير ممّا أخلق وجهك إن صار اليك.

وقال الماوردي في أعلام النبوة(2): كان فهر في زمانه رئيس الناس

ص: 52


1- تاريخ اليعقوبي : 1/233 ط دار صادر .
2- أعلام النبوة : 123 .

في مكة، وقصدها حسان بن عبد كلال في حمير وقبائل اليمن ليهدم الكعبة، وينقل أحجارها إلى اليمن، ليبني بيتاً في اليمن يجعل حجّ الناس إليه، فنزل نخلة، وأغار على سرح مكة، فسار إليه فهر في كنانة وأحلافهم من قبائل مضر، فانهزمت حمير، وأسر الحارث بن بهر حسان بن عبد كلال، فبقي في يد فهر ثلاث سنين أسيراً بمكة، حتّى فدا نفسه وخرج، فمات بين مكة واليمن، فعظم بهذا الشأن فهر، وعزّت قريش حين حمى مكة ومنع من هدم الكعبة.

وفي لفظ الحلبي بعد سياق القصّة(1): فهابت العرب فهراً وعظّموه وعلا أمره.

قال في تاريخ الخميس: فتزوّج مالك بن النضر جندلة بنت الحارث بن جندل بن عامر بن سعد بن الحارث بن مضاض الجرهمي، فهي جرهمية، وحادية عشرة من الجدّات النبوية، فولدت له فهر بن مالك، وهو جماع قريش عند الأكثر.

وفي الاكتفاء: إنّ قريشاً هو اسمه الذي سمّته به أمّه، ولقّبته فهراً، ومثله في تاريخ الطبري.

وذكر ابن الأثير أنّه كان يكنّى ((أبا غالب))، وأنّه ناهض حسان الحميري بقريش وكنانة وخزيمة وأسد وجذام وغيرهم...

ص: 53


1- السيرة الحلبية : 1/18 .

أولاد فهر:

قال ابن كثير في البداية والنهاية: وولد فهر غالباً ومحارباً وحارثاً وأسداً، وأمّهم ليلى بنت سعد بن هذيل بن مدركة، قال ابن هشام: وأختهم لأبيهم جندلة بنت فهر.

12- غالب بن فهر بن مالك:

ساد غالب بعد أبيه فهر، وترأّس بمكة، ونال شرفاً ومجداً، وكان من رجال العرب المبرّزين وذوي النباهة والصيت، وكان من المبجّلين المحترمين عند ملوك عصره، وهو الأصل الأوّل لقريش البطاح، وكان مفخرهم وعزّهم، ويجدون في الانتماء إليه مفخرة، ويجدون في الحرب تحمّساً إذا تنادوا ((يا آل غالب)).

وفي بائية الناشئ:

وفي غالب بأس أبي اليأس دونهم

يدافع عنهم كلّ قرن مغالب

قال ابن واضح في التاريخ(1): فلمّا مات فهر، شرف غالب بن فهر وعلا أمره..

وفي تاريخ ابن كثير: قال ابن اسحاق: فولد غالب بن فهر لؤي بن غالب، وتيم بن غالب، وهم الذين يقال لهم ((بنو الأدرم))، وأمّهما

ص: 54


1- تاريخ اليعقوبي : 1/192 .

سلمى بنت عمرو الخزاعي.

قال ابن هشام: وقيس بن غالب، وأمّه سلمى بنت كعب بن عمرو الخزاعي، وهي أمّ لؤي.

13 - لؤي بن غالب بن فهر:

كانت ملامح لؤي بن غالب ترجمان شرفه، وأسارير غرّته عنوان مجده، فكان يتوسّم فيه الخير في عهد أبيه، لذكائه وفطنته وجودة حدسه، ولمّا توفّي أبوه وساد قومه لم يقتصر على مآثر الأسلاف ومفاخر الآباء التالدة، بل ضمّ إليها فضائل نفسية عصماء.

وفي بائية الناشئ:

وألوى لؤي بالعداة فطوّعت

له همم الشمّ الأنوف الأغالب

قال ابن قتيبة في المعارف: وأمّا لؤي بن غالب، فينتهي إليه عدد قريش وشرفها.

وقال ابن واضح في تاريخه: قد كان لؤي بن غالب سيّداً شريفاً بيّن الفضل.

قال الطبري في التاريخ: وأمّ لؤي - فيما قال هشام - عاتكة بنت يخلد بن النضر بن كنانة، وهي أوّل العواتك التي ولدن رسول الله(صلی الله علیه واله) من قريش، وله أخوان من أبيه وأمّه يقال لأحدهما: تيم، والآخر: الأدرم، وما زاد ابن الأثير على ما في الطبري سوى الكنية، فإنّه قال:

ص: 55

يكنّى ((أبا كعب)).

أولاد لؤي بن غالب:

قال ابن كثير في البداية والنهاية: قال ابن اسحاق: فولد لؤي بن غالب أربعة نفر: كعباً، وعامراً، وسامة، وعوفاً.

وفي مناهج الألباب المصرية ما لفظه: قد كان لماوية امرأة لؤي بن غالب أولاد منه، فقالت يوماً: أيّ بنيك أحبّ اليك؟ قال: الذي لا يردّ بسط يده بخل، ولا يلوي لسانه عجر - بالراء المهملة أي لكنة - ولا يلوّن طبيعته سفه، وهو أحد ولدك بارك الله فيك، يعني كعب بن لؤي أحد أجداده(صلی الله علیه واله).

14 - كعب بن لؤي بن غالب:

كلّ وصف ربما يتجاوز الواصف فيه قدر موصوفه في المدح والتفريط مبالغة وإغراقاً في الإطراء والثناء إلاّ ما كان من وصف آباء النبي(صلی الله علیه واله)، فإنّ الواصف لهم يقصّر، وإن ظنّه السامع مبالغاً في الثناء وغالياً في الإطراء، ولا إغراق في قولنا: إنّ كعب بن لؤي إن لم يكن ملكاً سياسياً، فإنّ له عظمة الملوك وقدر السلاطين، لأنّ رياسة عظيمة في مكة وضواحيها بشكل مملكة حاطها بالعدل والإحسان، وحصّنها بالمعروف، وحماها بالعزم من كلّ معتد، ومنعها من الغزاة والطامعين، وضمّ إلى أخلاقه ومزاياه مجد الأسلاف ومآثر الآباء، فقل

ص: 56

بلا تحاش: إنّه أجود العرب نائلاً، وأعظم العرب وأكثرهم فواضلاً وفضائلاً.

في بائية الناشئ:

وكعب علا عن طالب المجد كعبه

فنال بأدنى السعي أعلا المراتب

قال الماوردي في أعلام النبوة: وأفضت معالم الحجّ من أوزاع مضر الى قريش فوليها منهم كعب بن لؤي بن غالب، فكان يجمع الناس في كلّ يوم جمعة ويخطب فيه على قريش، فيأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويقول:

حرمكم عظّموه وتمسّكوا به، فسيأتي له جلي نبأ عظيم، وسيخرج منه نبي كريم.

وهو أوّل من أفصح بالنبوة حين شاهد آثارها، وعرف أسرارها من انقياد العرب إليه تديّنا بحرمهم، وإعظاما لكعبتهم...

ذكر أبو نعيم الأصبهاني في دلائل النبوة(1) وابن واضح في تاريخه(2) واللفظ للأخير:

فأمّا كعب بن لؤي، فكان أعظم ولد أبيه قدراً واعظمهم شرفاً، وكان أوّل من سمّى يوم الجمعة ب-((الجمعة))، وكان يسمّى ((عروبة))، فجمعهم فيه، وكان يخطب عليهم ويقول:

ص: 57


1- دلائل النبوة : 1/22 طبع حيدر آباد .
2- تاريخ اليعقوبي : 1/194 طبع النجف .

اسمعوا وتعلّموا وأقيموا واعلموا أنّ الليل ساج، والنهار ضاح، والأرض مهاد، والسماء عماد، والجبال أوتاد، والنجوم أعلام، والأوّلون كالآخرين، والإنباء ذكر، فصلوا أرحامكم، واحفظوا أصهاركم، وثمّروا أموالكم، فهل رأيتم من هلك رجع؟ أو من مات نشر؟ الدار أمامكم، والظنّ غير ما تقولون، وحرمكم زيّنوه وتمسّكوا به، فسيأتي له نبأ عظيم، وسيخرج منه نبي كريم.

ثم يقول:

نهار وليل كلّ أوب بحادث

سواء علينا ليلها ونهارها

يؤبان بالأحداث حين تأوّبا

وبالنعم الضافي علينا ستارها

صروف وأنباء تغلّب أهلها

لها عقد ما يستحلّ مرارها

على غفلة يأتي النبي محمد

يخبّر أخباراً صدوقاً خبارها

ثم يقول:

فياليتني شاهد فحواء دعوته

وإذ قريش تبغي الحقّ خذلانا

لو كنت ذا سمع وذا بصر ويد ورجل لتنصّبت إليه تنصّب الجمل،

ولأرقلت إليه إرقال الفحل، فرحاً بدعوته، وجذلاناً بصرخته.

فلمّا مات كعب أرّخت قريش بموت كعب .. وفي دلائل أبي نعيم: إنّ بين موته ومبعث النبي(صلی الله علیه واله) أو مولده ستمائة وستون سنة، وكذلك في السيرتين الدحلانية والحلبية.

وفي الحلبية: أنّه قيل له ((كعب)) لعلوّه وارتفاعه، لأنّ كلّ شيء علا

ص: 58

وارتفع فهو كعب، ومن ثم قيل للكعبة ((كعبة))، ولعلوّه وارتفاع شأنه أرّخوا بموته، حتّى كان عام الفيل أرّخوا به، وبعد عام الفيل أرّخوا بموت عبد المطلب.

أولاد كعب بن لؤي:

وهم ثلاثة: مرّة، وعدي، وهصيص، قاله في البداية والنهاية عن ابن إسحاق.

15- مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب:

كان رجلاً شريفاً سيّداً مطاعاً مسموع الكلمة عند العرب، نافذ الأمر عند عشيرته، انتقلت إليه الزعامة العدنانية، وولاية الحرم الشريف بعد أبيه كعب، وإنّ هذه النفسية التي حواها مرّة لتمثّل الإباء الحرّ والمجد والصميم، وإنّ الروح التي فيه لجديرة باكتساب كلّ خصال الكمال، فأصبح في أمّ القرى مثالاً للكمالات.

وفي بائية الناشئ:

ومرّة لم يحلل مريرة عزمه

سفاه سفيه أو محوبة حائب

قال ابن واضح(1): كان مرّة بن كعب سيّداً هماماً...

ص: 59


1- تاريخ اليعقوبي : 1/195 .

ويكنّى ((أبا يقظة))، قاله في سبائك الذهب.

قال في تاريخ الخميس(1): وتزوّج كعب وحشية بنت شيبان بن محارب بن فهر، فهي فهرية أيضاً، وسابعة الجدات النبويات، فولدت له مرّة.

أولاد مرّة:

قال ابن كثير في البداية والنهاية: وولد مرّة ثلاثة: كلاب بن مرّة، وتيم بن مرّة، ويقظة بن مرّة، من أمهات ثلاث.

ويذكر ابن الأثير في تاريخه: أنّ أمّ كلاب هند بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث بن فهر.

16 - كلاب بن مرّة:

واسمه حكيم، وقد قرّر قواعد الزعامة تقريراً متقناً، وقد أقامها على أسس محكمة، وكان مع شرف الأرومة ومجد المحتد كسوباً للمكارم، فعّالاً للفضائل، وقد ساد العدنانية بعد أبيه، وهابته القبائل العربية، واعترف له بالرئاسة.

ص: 60


1- تاريخ الخميس 1/173 .

وقال ابن واضح(1): وشرف كلاب بن مرّة وجلّ قدره، واجتمع له شرف الأب والجدّ من قبل الأمّ.

وفيه يقول الشاعر:

حكيم بن مرّة ساد الورى

ببذل النوال وكفّ الأذى

أباح العشيرة أفضاله

وجنّبها طارقات الردى

17- قصي بن كلاب:

قال الداودي في العمدة(2): قصيّ، واسمه زيد، وإنّما سمّي قصيّاً لأنّ أمّه فاطمة بنت سعد بن شبل الأزديّة من أزد شنؤة تزوّجت بعد أبيه كلاب ربيعة بن حزام بن سعد بن زيد القضاعي، فمضى إلى قومه، وكان زهرة بن كلاب كبيراً، فتركته عند قومه وحملت زيداً معها، لأنّه كان فطيماً، فسمّي قصيّاً، لأنّه أقصي عن داره، وشبّ في حجر ربيعة بن حزام، لا يدري إلاّ أنّه أبوه إلى أن كبر، فتنازع مع بعض بني عذرة، فقال له العذري: الحق بقومك، فإنّك لست منّا، قال: وممّن أنا؟ قال: سل أمّك تخبرك.

فسألها، فقالت: أنت - والله - أكرم منهم نفساً ووالداً ونسباً، أنت ابن كلاب بن مرّة آل الله وعند بيته، فكره قصيّ المقام دون مكة،

ص: 61


1- تاريخ اليعقوبي : 1/195 .
2- العمدة : 10 .

فأشارت عليه أمّه أن يقيم حتّى يدخل الشهر الحرام، ثم يخرج مع حجّاج قضاعة، ففعل.

فلمّا سار إلى مكة الشريفة تزوّج إلى حليل بن حبشية الخزاعي ابنته حبّى، وكان حليل يلي أمر الكعبة، وعظم أمر قصيّ حتّى استخلص البيت من خزاعة، وحاربهم وأجلاهم عن الحرم، وصارت إليه السدانة والرفادة، وجمع قبائل قريش - وكانت متفرّقة في البوادي - فأسكنها في الحرم، ولذلك سمّي مجمعاً.

قال الشاعر:

أبوكم قصيّ كان يدعى مجمعاً

به جمع الله القبائل من فهر

وبنى دار الندوة، وهي أوّل دار بنيت بمكة، فلم يكن يعقد أمر تجتمع فيه قريش إلاّ فيها، فصار له مع السدانة والرفادة والسقاية الندوة(1)...

قال الماوردي في أعلام النبوة بعد أن ذكر إجلاء خزاعة عن مكة وجمعه قبائل قريش: وكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء، وصارت سنّته في قريش كالدين لا يعمل بغيره، فزادت القوّة بجمعهم حتّى عقد الألوية، وجدّد بناء الكعبة، وهو أوّل من بناها بعد إسماعيل(علیه السلام)، وبنى دار الندوة للتحاكم والتشاجر والتشاور، وهي أوّل

ص: 62


1- دار الندوة كمحكمة سياسية تفصل الدعاوى والخصومات، وبها تشهر الحرب، ويعقد الصلح والهدنة، وتقع المشاورة، وتعقد الألوية، وتنفذ سائر الأحكام .

دار بنيت بمكة(1).

ثم قال: فولي قصيّ البيت، وأمر مكة، وجمع قومه من منازلهم إلى مكة، وتملّك على قومه وأهل مكة، فملّكوه، فكان قصيّ أوّل بني كعب أصاب ملكاً أطاع له به قومه، فكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء، فحاز شرف مكة كلّه، وقطع مكة أرباعاً بين قومه، فأنزل كلّ قوم من قريش منازلهم من مكة التي أصبحوا عليها.

فسمّته قريش مجمعاً لما جمع من أمرها، وتيمّنت بأمره، فما نكحت امرأة، ولا تزوّج رجل من قريش، ولا يتشاورون في أمر نزل بهم إلاّ في داره، ولا تدرع امرأة من قريش إلاّ في بيته، ولا يخرج عير من قريش فيرحلون إلاّ من داره، ولا يقدمون إلاّ نزلوا داره، فكان أمره في حياته وبعد موته كالدين المتّبع لا يعمل بغيره، واتّخذ لنفسه دار الندوة.

قيل: كانت في جهة الحجر والميزاب عند المقام الحنفي اليوم، وجعل بابها إلى مسجد الكعبة، ففيها كانت قريش تقضي أمورها، ولم يكن يدخلها من قريش من غير ولد قصيّ إلاّ ابن أربعين سنة، وكان يدخلها ولده كلّهم وحلفاؤهم..

مات قصيّ عام أربعمائة وثمانين ميلادية مسيحية، قاله مير علي في تاريخ العرب.

ص: 63


1- أمّا الباقون كالطبري والدياربكري واليعقوبي والسير الثلاثة، فقد أطنبوا في ذلك.

18 - عبد مناف بن قصيّ:

انتهى الشرف القرشي والمجد العدناني إلى عبد مناف بن قصيّ، وحاز مآثر أبيه، قال الحلبي والدحلاني في سيرتيهما واللفظ للأخير(1): وعبد مناف واسمه المغيرة، وكان يقال له ((قمر البطحاء)) لحسنه وجماله.

قال: ووجد كتاب في حجر: أنا المغيرة بن قصيّ، أوصي قريشاً بتقوى الله - جلّ وعلا -، وصلة الرحم.

وقال الداودي في العمدة(2): وعبد مناف اسمه المغيرة، وكان يدعى ((القمر)) لجماله، ويدعى ((السيّد)) لشرفه وسؤدده، ومثله ذكر الطبري(3).

وقال الماوردي في أعلام النبوة(4): ثم أفضت رئاسة قريش بعد قصيّ إلى ابنه عبد مناف، فجدّ وزاد وساد، حتّى قال فيه الشاعر:

((كانت قريش بيضة فتغلّقت))

وكان اسمه المغيرة، وكان سمّي ((القمر)) لجماله، واستحكمت رئاسته بعد أبيه لجوده وسياسته، ثم بنيه.

وقال ابن واضح: ورأس عبد مناف بن قصيّ، وجلّ قدره، وعظم

ص: 64


1- السيرة الدحلانية : 1/7 .
2- العمدة : 12 .
3- تاريخ الطبري : 1/181 .
4- أعلام النبوة : 123 .

شرفه، ولمّا كبر أمر عبد مناف بن قصيّ جاءته خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة يسألونه الحلف ليعزّوا به، فعقد بينهم الحلف الذي يقال له ((حلف الأحابيش))، وكان مدبّر بني كنانة الذي سأل عبد مناف الحلف عمرو بن هاني بن معيص بن عامر، وكان تحالف الأحابيش على الركن يقوم رجل من قريش والآخر من الأحابيش، فيضعان أيديهما على الركن فيحلفان:

((وحرمة هذا البيت والمقام والركن والشهر الحرام على النصر على الخلق جميعاًً حتّى يرث الله الأرض ومن عليها، وعلى التعاقد والتعاون على كلّ من كادهم من الخلق جميعاًً، ما بلّ بحر صوفة، وما قام حراء وثبير، وما طلعت شمس من مشرقها إلى يوم القيامة)).

ونقل السويدي عن ابن الأثير أنّه قال: كان له الشوكة في قريش.

وقال القلقشندي في نهاية الأرب: كان يسمّى ((فخر البطحاء))، وكان له الشوكة في قريش.

وفي تاريخ الخميس عن الواقدي أنّه قال: مات قصيّ بمكة، فدفن في الحجون، فتنافس الناس بعده على الدفن في الحجون، وكان نور رسول الله(صلی الله علیه واله)في عبد مناف، وكان في يده لواء نزار وقوس إسماعيل.

وفي شفاء الغرام: فلم تزل السقاية والرفادة والقيادة لعبد مناف بن قصيّ يقوم بها حتّى توفي.

ص: 65

19- هاشم بن عبد مناف:

إنّ هاشم بن عبد مناف شهرته تغني عن توصيفه، لم يلد إسماعيل في هذه السلالة الكريمة أجلّ ولا أعظم من هاشم، ولا أفخر، ولا أذكر، ولو كان يستغني أحد عن شرف الآباء ومجد الأسلاف لاستغنى عنه هاشم بنفسه، لأنّ نفسه ذات الشمائل الكريمة والسجايا الفاضلة قد ابتدعت له مجداً لا يدرك، وعزّاً لا ينال، من حيث تمامية الخلقة، كالجمال واعتدال القامة، وحسن التشكيل والتخطيط البدني، ومن حيث تمامية الأخلاق، كالكرم والشجاعة والفصاحة، وما لا أستطيع له عدّاً.

فاذا أضيفت هذه الأخلاق إلى كرم النجار ومجد الأرومة كان سيّد العرب غير مدافع، ولست أقول: إنّ هاشم فخر قريش على العرب خاصّة، بل أقول: فخر العرب على الأمم قاطبة، وهو الذي سنّ الرحلتين.

وكان هو الأصل في الانتساب الفارق بين الأشراف وسائر قريش، فاذا قيل: هاشمي، فقد بلغ المنتمي إليه أقصى الفخر، وولّد في قلب كلّ قرشي حسرة إذ لم ينتمي إليه.

وسرّ آخر لم تصل إليه أفكارنا أنّ الانتساب إليه باق ما بقي الدهر، على أنّك لم تعرف قرشياً بعينه في الدنيا غير قبيلته، والأموي يكتم نسبه حذراً من الوصمة التي تلحقه من أعمال بني أميّة الفاجرة.

ص: 66

وفخراً آخر لهاشم، هو أعظم من كلّ ما ذكرنا: أنّه والد الذريّة الطاهرة، فالنبوة

والإمامة جعلهما الله في ولده.

قال الداودي في عمدة الطالب: هاشم، اسمه عمرو، ويقال: عمرو العلا، ويكنى أبا نضلة، وإنّما سمّي بهاشم لهشمه الثريد للحاجّ، وكانت إليه الرفادة، وهو سنّ الرحلتين، رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام، ومات بغزّة من أرض الشام، وفيه يقول مطرود بن كعب الخزاعي:

عمرو العلا هشم الثريد لقومه

ورجال مكة مسنتون عجاف

وكان هاشم يدعى ((القمر))، ويدعى ((زاد الركب))(1).

قال الماوردي في أعلام النبوة(2): وملك هاشم الرفادة والسقاية، واستقرّت له الرئاسة، وصارت له قريش تابعة تنقاد لأوامره، وتعمل برأيه، وتنافرت قريش وخزاعة إليه، فخطبهم بما أذعن له الفريقان بالطاعة، فقال في خطبته:

ص: 67


1- أزواد الركب من قريش: هاشم هذا، وأبو طالب عليهماالسلام، وأبو أميّة المخزومي، والد أمّ سلمة زوجة النبي صلى الله عليه و آله، وقد سمّي بهذا آخرون .
2- أعلام النبوة : 24 .

أيّها الناس! نحن آل إبراهيم، وذريّة إسماعيل، وبنو مضر، وبنو النضر بن كنانة، وبنو قصيّ بن كلاب، وأرباب مكة، وسكان الحرم، لنا ذروة الحسب، ومعدن المجد، ولكلّ في كلّ خلف يجب عليه نصرته، وإجابة دعوته إلاّ ما دعا إلى عقوق عشيرة أو قطع رحم.

يا بني قصيّ أنتم كغصني شجرة، أيّهما كسر أوحش صاحبه، والسيف لا يصان إلاّ بغمده، ورامي العشيرة يصيبه سهمه، ومن أمحكه اللجاج أخرجه إلى البغي.

أيّها الناس! الحلم شرف، والصبر ظفر، والمعروف كنز، والجود سؤدد، والجهل سفه، والأيام دول، والدهر غير، والمرء منسوب إلى فعله، ومأخوذ بعمله،

فاصطنعوا المعروف تكسبوا الحمد، ودعوا الفضل تجانبكم السفهاء، وأكرموا الجليس يعمر ناديكم، وحاموا عن الخليط يرغب في جواركم، وأنصفوا من أنفسكم يوثق بكم.

وعليكم بمكارم الأخلاق، فإنّها رفعة، وإيّاكم والأخلاق الدنيئة، فإنّها تضع الشرف، وتهدم المجد.

ألا وإنّ نهنة الجاهل أهون من جريرته، ورأس العشيرة يحمل أثقالها، ومقام الحليم عظة لمن انتفع به.

فقالت قريش: رضينا بك أبا نضلة - وهي كنيته -.

فانقلبوا إلى ما أمر به من شريف الأخلاق، ونهى عنه من مساوئ

ص: 68

الأفعال، فهل صدر إلاّ عن غزارة فضل، وجلالة قدر، وعلوّ همة، وما ذاك إلاّ لاصطفاء يراد، وذكر يشاد، لأنّ توالي ذلك في الآباء يوجب تناهيه في الأبناء...

في تاريخ الخميس: كان أوّل بني عبد مناف موتاً هاشم، مات بغزّة من أرض الشام، واختلف في سنّه حين مات: فقيل: سنّه 20، وقيل: سنّه 25.

وفي المنتقى: كان هاشم أفخر قومه وأعلاهم، وكانت مائدته منصوبة لا ترفع في السراء والضراء، وكان يحمل ابن السبيل، ويأوي الخائف، وكان نور رسول الله(صلی الله علیه واله) في وجهه يتوقّد شعاعاً، ويتلألأ ضياءاً، ولا يراه حبر من الأحبار إلاّ قبّل يديه، ولا يمرّ بشيء إلاّ سجد إليه، تفد إليه قبائل العرب ووفود الأحبار، ويحملون بناتهم ويعرضونهن عليه ليتزوّج بهن، حتّى بعث إليه هرقل ملك الروم وقال: إنّ لي بنتاً لم تلد النساء أجمل منها، ولا أبها وجهاً، فاقدم إليّ حتّى أزوّجكها، فقد بلغني جودك وكرمك، وإنّما أراد بذلك نور رسول الله(صلی الله علیه واله) الموصوف عندهم في الإنجيل، وكان هاشم يأبى، وكان ينطلق إلى جبل ثبير يسأل الله ثم يرجع.

ثم ساق الكلام إلى تزويجه بسلمى أمّ عبد المطلب ووفاته بغزّة من أرض الشام، وكانت سنة 510 للميلاد، قاله مير علي في تاريخ العرب.

ص: 69

20- عبد المطلب بن هاشم:

عبد المطلب، وما أدراك ما عبد المطلب؟! هو لباب المجد، ومحض السؤدد.. عبد المطلب ملك الجزيرة العربية، وسلطان العدنانية والقحطانية، عاهلها العظيم، وزعيمها القدير، سمت به همّته العليا، وشيمته الشماء الى ارتقاء المرتبة السامية، والرقي إلى الدرجة العالية، وتمّ له الفخر بثلاثته التي لا ينازع فيها: كرم الأصل، ومجد الأرومة، وعزّة النفس، وحسن السجايا، وفخر السلالة والعترة.

فإنّ رجلاً ينتظم في سلسلة آبائه هاشم، فقصيّ، فكعب، فالنضر، فمضر، فمعد، فعدنان، فإسماعيل ذبيح الله(علیه السلام)، فإبراهيم خليل الله(علیه السلام).

وفي سلسلة السلالة النامية محمد رسول الله(صلی الله علیه واله)، فعلي وصي رسول الله(علیه السلام)، فالحسنان سبطا هذه الأمّة(علیهما السلام)، فمهديّها(علیه السلام)، فالطيار، فحمزة(علیهما السلام).

وفي سلسلة صفاته، سيادة البطحاء، فسقاية الحجاج، فإطعام طير السماء والوحش، ويدعى بالفيّاض، وذي الحوضين، ومن سجد له الفيل، ونصر بالأبابيل، واسسقي به الغمام، فذاك أعظم رجل قامت عنه الحرائر، وأجلّ شخص ولدته العقائل.

قال الماوردي في أعلام النبوة(1): وانتقلت السقاية والرفادة والرئاسة إلى عبد المطلب، وأخذ نوفل عهداً من الأكاسرة بالعراق، وصارت

ص: 70


1- أعلام النبوة : 136 .

رحلته إليها، وأخذ عبد المطلب عهداً من ملوك الشام وأقيال حمير في اليمن، وصارت رحلته إليها، وحفر عبد المطلب حين قوى واشتدّ زمزم، وأخرج منها ما كان ألقاه فيها عامر بن الحارث الجرهمي من غزالي الكعبة، وحجر الركن، فضرب الغزالين صفائح ذهب على الكعبة، ووضع الحجر في الركن.

وصار عبد المطلب سيّداً عظيم القدر، مطاع الأمر، نجيب النسل، حتّى مرّ به أعرابي وهو جالس في الحجر وحوله بنوه كالأسد، فقال: إذا أحبّ الله إنشاء دولة خلق لها أمثال هؤلاء، فأنشأ لهم بالنبوة دولة خلّد بها ذكرهم، ورفع بها ذكرهم، حتّى سادوا الأنام، وصاروا الأعلام، وصار كلّ من قرب إلى رسول الله(صلی الله علیه واله) من آبائه أعظم رئاسة وتنوّهاً، وأكثر فضلاً وتألّها...

قال في تاريخ الخميس: رأى هاشم في منامه أن تزوّج سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، فهي نجارية، وثانية الجدّات النبويات، وكانت كخديجة في زمانها! لها عقل وحلم، فولدت له عبد المطلب، واسمه شيبة الحمد، وقد قيل: عامر، وفيه نور رسول الله(صلی الله علیه واله).

وروي أنّ عبد المطلب كان حجّة، وأبو طالب كان وصيّه(1).

وفي الإكتفاء: فولد هاشم بن عبد مناف أربعة نفر وخمسة نسوة:

ص: 71


1- بحار الأنوار : 15/117 .

عبد المطلب وأسد - وهو أبو فاطمة أمّ علي(علیهما السلام) - وأبا صيفي - واسمه عمرو - ونضلة، والشفاء، وخالدة، وصفيّة، ورقيّة، وحمنة، وأمّ عبد المطلب منهم سلمى بنت عمرو النجارية... وساق نسبها.

وكانت وفاته عام 579 ميلادية، قاله مير علي في تاريخ العرب(1).

ومن شعره الحكمي:

لنا نفوس لنيل المجد عاشقة

ولو تسلّت أسلناها على الأسل

لا ينزل المجد إلاّ في منازلنا

كالنوم ليس له مأوى سوى المقل(2)

21- أبو طالب بن عبد المطلب بن هاشم:

وهنا يفترق العباس عن رسول الله(صلی الله علیه واله)، لأنّه(صلی الله علیه واله) ابن عبد الله بن عبدالمطلب:، ووالد العباس علي بن أبي طالب بن عبد المطلب:.

انتهى كلّ مجد وشرف وسؤدد في الآباء الكرام والأسلاف العظام إلى أبي طالب(علیه السلام)، وقد ساد أبو طالب(علیه السلام) في حياة عبد المطلب، وتكاملت فيه آلات الرئاسة، فكان معتمد عبد المطلب، وأوثق بنيه في نفسه، ولا يعوّل في المهمّات إلاّ عليه، ولهذا لمّا عرض له أعظم مهمّ يهتمّ به بعد موته، وهو رعاية رسول الله(صلی الله علیه واله) وكفالته، لم يجد للتوصية به أهلاً إلاّ ولده أبا طالب(علیه السلام)، فلذلك قال مخبراً عن ثقته به أن يقوم بما أوصاه فيه

ص: 72


1- تاريخ العرب : 7 .
2- مناهج الألباب : 71 .

من هذا المهم قائلاً:

وصّيت من كنّيته بطالب

عبد مناف وهو ذو تجارب

هذا بعد أن قال له:

أوصيك يا عبد مناف بعدي

بمؤتم بعد أبيه فرد

فكانت محاماة أبي طالب(علیه السلام) عن رسول الله(صلی الله علیه واله) ودفاعه دونه وذبّه عنه من فضائله العظيمة، ومكارمه ذات الشأن، لأمرين لا يستريب فيهما إلاّ جاهل:

أحدهما: أنّ النبي(صلی الله علیه واله) تمكّن بتلك المحاماة من تبليغ الرسالة، ونشر الدعوة الإلهية، فكان أبو طالب(علیه السلام) عضده وناصره، فالإسلام والدين طالبي علوي.

ثانيهما: كفاه مؤنة الإهتمام لمصالحه الشخصية، وفرّغه بما كفاه من أموره لمصالح الدعاية الربّانية، وبث مواد الإصلاح والمهمّات الدينية، فكان رسول الله(صلی الله علیه واله) طول حياة أبي طالب(علیه السلام) يأوي إلى كافل كافي، وناصر قوي.

فلمّا مات أبو طالب(علیه السلام) نالت قريش من رسول الله(صلی الله علیه واله)بغيتها، وكابد منها أهوالاً، ولاقى أموراً صعاباً حتّى كان يتجوّل في القبائل والعشائر، فلم يجد مأوى، ولم يصب ناصراً، فقصد ثقيفاً وعامراً وربيعة وغيرهم، فلم يلقى منهم من يجيره من قومه ليبلّغ رسالة ربّه، حتّى قال(صلی الله علیه واله):

ص: 73

((ما أسرع ما وجدنا فقدك يا عمّ))

فما ظنّك برجل كانت حياته عزّ الإسلام، ووفاته ثلمة

لا تسدّ فيه، فهل تجد بربّك شرفاً يقارب هذا، أو مجداً يدانيه؟...كلاّ.

قال ابن أبي الحديد الكاتب:

فلولا أبو طالب وابنه

لما مثل الدين شخصاً فقاما

فذاك بمكّة آوى وحاما

وهذا بيثرب لاقى الحماما

إنّ أبا طالب(علیه السلام) زعيم قريش وسيّدهم، وعظيم أهل مكة.

وجملة الأقوال في اسمه ثلاثة:

أحدهما: إنّ اسمه كنيته.

وثانيهما: عمران.

وثالثهما: عبد مناف.

قال ابن واضح(1): فكفل رسول الله(صلی الله علیه واله) بعد وفاة عبد المطلب أبو طالب(علیهما السلام) عمّه، فكان خير كاف، وكان أبو طالب(علیه السلام) سيّداً شريفاً مطاعاً مهيباً.

وخرج به(صلی الله علیه واله) إلى بصرى من أرض الشام، وهو ابن تسع سنين، قال: والله لا أكلك إلى غيري، وربّته فاطمة بنت أسد بن هاشم امرأة أبي طالب(علیها السلام)، وأمّ أولاده جميعاًً.

ص: 74


1- تاريخ اليعقوبي : 2/20 .

ثم قال(1): وتوفي أبو طالب بعد خديجة(علیهما السلام) بثلاثة أيام، وله 86 سنة، وقيل: 90 سنة.

ولمّا قيل لرسول الله(صلی الله علیه واله): إنّ أبا طالب قد مات، عظم ذلك في قلبه، واشتدّ له جزعه، ثم دخل فمسح جبينه الأيمن أربع مرّات، وجبينه الأيسر ثلاث مرّات، ثم قال: يا عمّ، ربيت صغيراً، وكفلت يتيماً، ونصرت كبيراً، فجزاك الله عنّي خيراً، ومشى بين يدي سريره، وجعل يعرضه ويقول: وصلتك رحم، وجزيت خيراً.

وقال: اجتمعت على هذه الأمّة في هذه الأيام مصيبتان، لا أدري بأيّهما أنا أشدّ جزعاً، يعني مصيبة خديجة وأبي طالب(علیهما السلام).

ثم قال: واجترأت قريش على رسول الله(صلی الله علیه واله) بعد موت أبي طالب(علیه السلام)، وطمعت فيه، وهمّوا به مرّة بعد أخرى، وكان رسول الله(صلی الله علیه واله) يعرض نفسه على قبائل العرب في كلّ موسم، ويكلّم شريف كلّ قوم، لا يسألهم إلاّ أن يؤووه ويمنعوه، ويقول: لا أكره أحداً منكم، إنّما أريد منكم أن تمنعوني ممّا يراد بي من القتل، حتّى أبلّغ رسالات ربّي، فلم يقبله أحد، وكانوا يقولون: قوم الرجل أعلم به...

وقال الداودي في عمدة الطالب: وكان أبو طالب مع شرفه وتقدّمه

ص: 75


1- تاريخ اليعقوبي : 2/23 .

جمّ المناقب، غزير الفضل، ومن أعظم مناقبه كفالته لرسول الله(صلی الله علیه واله)، وقيامه دونه، ومنعه إياه من كفار قريش، حتّى حاصروه في الشعب ثلاث سنين.

ثم قال: ومن مناقبه أنّه استسقى بعد وفاة أبيه عبد المطلب، فسقي...

وقال ابن أبي الحديد الكاتب في الشرح: قال الزبير: فأمّا أبو طالب بن عبد المطلب، واسمه عبد مناف، وهو كافل رسول الله(صلی الله علیه واله) وحاميه من قريش وناصره، والرفيق به والشفيق عليه، ووصيّ عبد المطلب فيه، فكان سيّد بني هاشم في زمانه.

قال الزبير: وأبو طالب أوّل من سنّ القسامة في الجاهلية في دم عمرو بن علقمة، ثم أثبتتها السنّة في الإسلام، وكانت السقاية في الجاهلية بيد أبي طالب، ثم سلّمها إلى أخيه العباس.

قال: وكان أبو طالب شاعراً مجيداً...

وفي تاريخ الخميس: كان عبد المطلب بعد هاشم يلي الرفادة، فلمّا توفي قام بذلك أبو طالب في كلّ موسم حتّى جاء الإسلام، وهو على ذلك، وقد كان النبي(صلی الله علیه واله) أرسل بمال يعمل به الطعام سنة 9، ثم عمل به النبي(صلی الله علیه واله) في حجّة الوداع سنة

10، وهو طعام الموسم الذي كان الحكّام يطعمونه أيام الحجّ بمكة وبمنى حتّى تنقضي أيام الموسم.

وقال ابن حجر العسقلاني في الإصابة بعد ذكر نسبه: واشتهر بكنيته، واسمه عبد مناف على المشهور، وقيل: عمران.

وقال الحاكم: أكثر المتقدّمين على أنّ اسمه كنيته، ولد قبل النبي

ص: 76

ب-((35 سنة))، ولمّا مات عبد المطلب أوصى بمحمد(صلی الله علیه واله) إلى أبي طالب، فكفله وأحسن تربيته، وسافر به إلى الشام وهو شاب، ولمّا بعث قام بنصرته وذبّ عنه من عاداه، ومدحه عدّة مدائح، منها قوله لمّا استسقى أهل مكة فسقوا:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة الأرامل

ومنها قوله من قصيدة:

وشقّ له من اسمه ليجلّه

فذو العرش محمود وهذا محمد

وذكر الدحلاني والحلبي وسبط ابن الجوزي في التذكرة، واللفظ للثاني(1): إنّه لمّا حضرته الوفاة دعا بني عبد المطلب، فقال: لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد(صلی الله علیه واله) وما اتبعتم أمره، فاطيعوه ترشدوا...

23- أمير المؤمنين ويعسوب الدين ووصيّ رسول ربّ العالمين وقائد الغرّ المحجلين أبو الحسن علي بن أبي طالب(علیهما السلام):

قال الشيخ المظفر :

إمام هدى لم ينظر الخلق مثله

سوى المصطفى المختار من ولد آدم

إنّ الكاتب مهما مكّنته البلاغة من أساليب البيان وفنون التبيان،

ص: 77


1- السيرة الدحلانية 1/150، السيرة الحلبية : 383، تذكرة الخواص : 5 .

ليقف موقف البكيّ العاجز عن تحديد أقلّ صفاته، وأدنى مناقبه، فمهما سطّر من الكلم المرصفة، والألفاظ المتخيّرة، لا يبلغ أدنى مرقاة في مدح من قال الله فيه:

)إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُوتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ((1).

فهذا ثناء من أعظم الثناء، إذ قرن الفلاح بموالاته، وجعل ولايته كولايته وولاية رسوله(صلی الله علیه واله)، وهيهات أن يصف الواصف، وينعت الناعت من تاهت الأفكار في توصيفه، أو يبلغ المطري حقيقة من تحيّر ذوو العقول في نعوته، حتّى قيل:

إن قلت ذا بشر فالعقل يمنعني

وأختشي الله من قولي هو الله

فالواجب علينا ترك الخوض في جميع ما زلّت به الأقدام فيه من كلا طرفي الإفراط والتفريط، ونسير على الجادة الوسطى، ونقول:

إنّه الإمام الحقّ، المفترض الطاعة، الواجب الاتباع بالنصّ عليه من الله ورسوله(صلی الله علیه واله).

وإذا رجعنا إلى صفاته، قلنا:

هو أخو رسول الله(صلی الله علیه واله)، وصنوه، وصهره، ووارثه، ووصيّه، وأبو سبطيه، وزوج ابنته، وحامل لوائه، وساقي حوضه، وكاشف

ص: 78


1- المائدة : 55 و 56 .

الكرب عن وجهه، ومنجز عدته، وقاضي دينه، ووزيره، وناصره، وأحبّ الناس إليه، وأقدمهم عنده، وأخصّهم به، وآثرهم وأحظاهم...

ومن جهة ثانية نقول: هو أوّل الناس إيماناً، وأقدمهم إسلاماً، صلّى إلى القبلتبن، وهاجر الهجرتين، وبايع البيعتين، وقمع نخوة الشرك ببدر وأحد وحنين، وسائر المشاهد، أشدّ الناس اجتهاداً في العبادة، وأعظمهم جدّاً في الطاعة، وأكثرهم في الجهاد أثراً.

ومن جهة ثالثة نقول: هو إمام البررة، وقاتل الفجرة، ومرغم الكفرة، صاحب المناقب والسوابق، وأبو الذريّة الطاهرة، وزوج البتول المطهّرة، باب مدينة العلم، ويعسوب الدين، وسيّد المسلمين...

ومن جهة رابعة نقول: هو أعلمهم، وأحلمهم، وأكرمهم، وأشجعهم، وأكثرهم مناقب، وأعظمهم فضائل....

ومن جهة خامسة نقول: أسيسهم للأمّة حيث ألّف بين فريقين يبرء أحدهما من الآخر: العثمانية والعلوية، فجمعهم بسياسته، وحارب بهم أعداءه، وأعدلهم، وأورعهم، وأزهدهم، وأفصحهم، وأصلحهم لخلق الله، وأعبدهم، وأعفّهم، وأوعاهم لقول رسول الله(صلی الله علیه واله) لمّا نزلت: ((وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ)) سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي، إلى آخر ما لا نطيق له عدّاً.

ومن جهة سادسة: من حيث الخصائص التي له، كالولادة في الكعبة، والرقي على منكب النبي(صلی الله علیه واله) لمّا أراد(علیه السلام) تكسير الأصنام التي في ظهر الكعبة، والتربية النبويّة في حجر النبوة، فإنّه ربّاه رسول الله(صلی الله علیه واله).

ص: 79

وتقديم الصدقة في مناجاة رسول الله(صلی الله علیه واله)، وقد اتّفق العلماء أنّه اختصّ بها، والتصدّق بالسرّ والعلانية في الليل والنهار، واتّفقوا أنّه اختصّ بها، وفي الموضعين نزل القرآن بالثناء عليه، وكاختصاصه بالمناجاة لرسول الله (صلی الله علیه واله) في عدّة مواضع، ذكرها العلماء، وكاختصاصه بأنّه لا يصيبه الرمد، ولا يناله مسّ الحرّ والبرد، وكاختصاصه بقلع باب خيبر الذي لا يفتحه ولايغلقه إلاّ أربعة وأربعون، وكاختصاصه بقلع الصخرة عن العين، وكاختصاصه بكون ضرائبه شفع، وضرباته وتر، وما ضرب ضربة وشاكلت أختها... إلى غير ذلك.

ومن جهة سابعة: كثرة معاجزه التي منها: إخباراته بالغيب، كإخباره بأسماء من يقتل من رؤساء أهل الكوفة، وإخباره بمن يحمل راية معاوية إذا دخل الكوفة، وإخباراته لأصحابه بالصفة التي يقتلون بها، وكإخباره عن الحجّاج وعبد الملك بن مروان، وإخباره بإمرة مروان، وأنّها قصيرة، حيث قال: دعوه فإنّ له إمرة كلعقة الكلب أنفه، وكإخباره عن الزنج المتغلّبين على البصرة، وكإخباره عن المدن التي تبنى بعد زمانه كبغداد، وغير ذلك ممّا يطول.

ومن معاجزه: ردّ الشمس عليه مرّتين، مرّة في حياة رسول الله(صلی الله علیه واله)، ومرّة في خلافته في مسيره لحرب الخوارج بالنهروان، ومشهد الشمس معروف إلى اليوم بالحلّة من أرض العراق، وغير ذلك من معاجزه المشهورة التي رواها العلماء.

وأنا أعتذر إلى القرّاء من تحرير ترجمة لمولانا أمير المؤمنين(علیه السلام)،

ص: 80

لأنّي إن كتبت قليلاً أكون قد قصّرت، وإن كتبت كثيراً أكون قد تجاوزت خطّة هذا الكتاب المبتني على الإختصار، وكيف تحرّر مناقب من لو اجتمع الجنّ والإنس كتاباً والشجر أقلاماً والبحر مداداً ما أحصت مناقبه(1).

***

وهنا يتمّ لإبي الفضل العباس(علیه السلام) مجده الوراثي الذي كانت تفتخر به أشراف العرب وساداتها وزعماؤها.

ولا يظنّ ظانّ أنّ نسباً كريماً ومجداً وراثياً تسلسل كابراً عن كابر، وتوارثته الأبناء عن الآباء كهذا النسب الكريم.

فاعتبره من لدن آدم إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: لم تجد فيه إلاّ نبيّاً كريماً، وملكاً عظيماً، وزعيماً ذا كرم وشجاعة وأخلاق مرضية فاضلة توجب له التقدمة على غيره، فلم يزل الشرف يتوالى

ص: 81


1- وبهذا قد استوفينا الكلام على النسب المتّفق عليه عند النسابين، وبقي من نسب العباس بن علي(علیهما السلام) ما وقع فيه الاختلاف من حيث النقص والزيادة، وذلك في السلسلة الكريمة من عدنان إلى آدم(علیه السلام) أبي البشر، فمن أراد تفصيل ذلك فليرجع إلى ابن إسحاق في السيرة النبوية، والمسعودي في مروج الذهب، والداودي في عمدة الطالب، والطبري في التاريخ، وغيرهم فإنّهم قد بيّنوا الاختلاف فيما بين عدنان وآدم(علیه السلام)، وفي نقل أقوالهم في هذا الكتاب فوت الغرض المقصود فيه الإفادة، فوجب تحرّي الاقتصار.

وراثياً في الأعقاب حتّى انتهى إلى أشرف الأعقاب وأكرمهم رسول الله(صلی الله علیه واله) وأمير المؤمنين(علیه السلام)، فوقف عند غايته، وانتهى إلى حدّه، فإنّ شرفهما قد شرف الأصل والفرع، وأصبح مفتخر الأبناء، ومفخر الآباء:

كم من أب قد علا بابن له شرفاً

كما علا برسول الله عدنان

إذن فيطمئن كلّ ذي فكرة وروية وفطنة أنّ نسباً تسلسل من لدن آدم(علیه السلام) إلى عبد الله وأبي طالب ابني عبد المطلب:، وينظم في سلسلته الذهبية محمداً المصطفى(صلی الله علیه واله)، وعلياً المرتضى(علیه السلام)، وأسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب، وساقي الحجيج والطيار في الجنّة بجناحين أخضرين مع الملائكة جعفر، والسبطين الحسن والحسين(علیهما السلام) سيّدا شباب أهل الجنّة يتفوّق على كلّ نسب بلا استثناء.

ولا يشكّ ذو العقل والذكاء أنّ مثل هذا النسب الرفيع أنّه لينتج أبناءاً كراماً، وأولاداً أكفاء أماجداً، تزدان بهم غرّة الدهر وطلعة الزمان، حيث أنّهم يمثّلون كلّ مكرمة مجدية، ويحيون كلّ مأثرة فخرية خالدة إلى الأبد، ليكتسبوا بذلك حسن الأحدوثة، وجميل الإطراء، وجميل الثناء في سائر الأزمنة والعصور، وأنّهم عريقون في السؤدد، متأصّلون في الزعامة والمجد، فيتهافتون على نيل مكارم الآباء، ويتهالكون على تحصيل مكارم السلف الصالح من آبائهم الكرام، بالمساعي الحميدة، والنهوض باكتساب ما يزيد الشرف بهجة ورفعة، غير متّكلين على ما لهم من المجد الوراثي والشرف النسبي الموروث،

ص: 82

فقد سمت بهم هممهم ونهضت بهم شيمهم إلى اكتساب الفضائل، وتحصيل المكارم، ليلحقوا بآبائهم في كسب المفاخر قولاً وفعلاً.

وقد أجاد الجعفري عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر الطيّار بقوله:

لسنا وإن أحسابنا كرمت

يوماً على الأحساب نتّكل

نبني كما كانت أوائلنا

تبني ونفعل مثلما فعلوا

لم يقل فوق ما مافعلوا مع عدم إخلاله بالنظم، لأنّ سلوك مثل ذلك سبيل واجب الأدب، وحقّ الصدق الذي يتحرّاه الأديب حيث أنّ في أوائله الذين يفخر بهم سيّد الكائنات محمد(صلی الله علیه واله) الذي قال له الله تعالى: )وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(، وأمير المؤمنين وسيّد الوصيين علي بن أبي طالب(علیهما السلام) الذي قال له جبريل(علیه السلام) يوم أحد:

لا سيف إلاّ ذو فقار

ولا فتى إلاّ علي

والفتوة معنى بجميع الكمالات.

والحسن والحسين(علیهما السلام) سيّدا شباب أهل الجنّة اللذين قال فيهما رسول الله(صلی الله علیه واله): إنّهما شنفا العرش، وحمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله(صلی الله علیه واله) الذي قال فيه رسول الله(صلی الله علیه واله): حمزة سيّد الشهداء، وجعفر الطيّار الذي قال فيه النبي(صلی الله علیه واله):

ص: 83

إنّ الله - تعالى - جعل لجعفر بن أبي طالب جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة حيث شاء.

فليس باستطاعة أحد - وإن جدّ واجتهد وسار حثيثاً - أن يلحق بهم، أو يفعل مثل فعالهم، فضلاً عن مساواتهم أو الإتيان بما يفوق على أعمالهم، أو يرى على مكتسبهم من خصال الكمال، وهيهات، فأين الثريا وأين الثرى؟ وقد قيل:

فأين الثرى وأين الثريّا

وأين معاوية من علي

***

فإذا نظرت في هذه السلسلة الكريمة المباركة، طيبة النجار والأرومة، العريقة في الشرف والسؤدد، علمت أنّها قد أنتجت أبناءاً كراماً شادوا مجد آبائهم، وسادوا بمزاياهم الفاضلة نظرائهم وأكفائهم، ولا يتطرّق لذهنك أدنى تشكيك أنّ موقف أبي الفضل العباس بن أمير المؤمنين(علیهما السلام) تجاه الأعداء يوم كربلاء، والتزامه خطّة الإباء الموروثة له من الآباء، وهي صريح كلمات أخيه الحسين بن علي(علیهما السلام)يوم كربلاء التي من جملتها:

ص: 84

ألا إنّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين إثنتين: بين الذلّة والسلّة، هيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله وجذور - وفي نسخة البحار: وجدود - طابت، وحجور طهرت، وأنوف حميّة، ونفوس أبيّة من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام...

فرفض العباس بن علي(علیهما السلام) خطّة المذلّة والهوان أنفة من الضيم، وتفادياً من الرضوخ للوضعاء، وقد قال في مثل ذلك الموقف الرهيب شاعر الحماسة:

أبا قومنا أن ينصفونا فأنصفت

قواطع في أيماننا تقطر الدما

على حين أعطي العباس(علیه السلام) الأمان، وضمن له حفظ حياته، وتكفّل له بسلامة نفسه، لكنّه رفض تلك الخطّة الذميمة التي يلفظها الحسب الكريم، مؤثراً هذه القتلة السعيدة على تلك الحياة التعيسة التي يلازمها الضيم المقيم والهوان المخيم في نظر الحرّ دناءة، وفي رأي الغيور لؤم لا يرتكبه أمثاله من أهل الحفاظ، وأرباب البصائر الدينية، فإنّهم يخوضون غمرات الحروب قاذفين بنفوسهم في المتالف حياطة للحفيظة، ورعاية للشرف، وصيانة للتديّن من جميع ما لا ترضاه الشريعة، ولا يقبله دين الله القويم.

ص: 85

فيتقدّم لورد حياض المنيّة تقدّم العطاش لورد الزلال العذب ببصيرة مبصرة، وعزم ثاقب، ويقين قويم، فيلاقي الأهوال بحماس الدين والحفيظة، ويستسهل الصعاب بالعزيمة والعزم الراسخين في طبيعته الراسيين في أعماقه.

وحينما تقطّب وجوه الأبطال تلوح أسارير النور على جبهته، ويتألّق ضياء السرور على غرّته، ويستنير سناء بهجته المشرق من طلعته المنيرة الغرّاء، فتنجلي بضيائها اللامع دياجير الرهج المتراكم قتامه، وكلّما إزدادت وجوه الأبطال كلوحة وعبوسة إزداد ابتهاجاً وابتساماً، وازدان وجهه ضياءاً وإشراقاً، رافضاً كلّ علاقة لا تناسب منصبه السامي، ومرتبته الرفيعة، فامتشق أبو الفضل - بل أبو الفضائل - بذلك الحماس الإبائي، والشعور الأنفي يوم الطفّ حساماً قاطعاً يرشح بالمنيّة، ويرعف بالمنون.

ص: 86

الأمهات

أمّا بالنسبة من حيث الأمهات، فإنّه(علیه السلام) يشارك رسول الله(صلی الله علیه واله) في العواتك والفواطم، ويفارقه في إثنين منهما: فاطمة بنت أسد، أمّ أبيه أمير المؤمنين(علیهما السلام)، وفاطمة بنت أبي المحل الكلابية، وهي أمّه أمّ البنين(علیها السلام)، ونحن نذكرهما معاً، ونورد ما يتعلّق بشرفهما بإيجاز:

1 - فاطمة بنت أسد بن هاشم:

فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، وهي أمّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیهما السلام)، كانت امرأة جليلة محترمة عاقلة من النساء مبجّلة، ذات قدر وجلالة وشرف في قومها، وصحابية من أجلّ الصحابيات وأفضلهن، وكانت من الفقيهات المحدّثات، وهي من السابقات في الإسلام، وكانت قد قامت بخدمة النبي(صلی الله علیه واله) أحسن قيام، فكانت تبرّه وتؤثره على أولادها، وتحرص على خدمته، وتجهد أن لا يجوع ولا يعرى ولا يشعث، فلم تزل مجتهدة في مواصلة برّه وإلطافه

ص: 87

حتّى كبر وتزوّج، واستقلّ بأمر نفسه، فلذلك كان يعدّها أمّاً، فتألم عند وفاتها وحزن، ومشى خلف جنازتها حافياً، ونزل في قبرها، واضجع فيه، وكساها ثوباً من ثيابه وضع فوق أكفانها، لتحشر يوم القيامة كاسية، وفضائلها كثيرة.

تزوّجها ابن عمّها أبو طالب(علیه السلام)، ولم يتزوّج امرأة غيرها، فولدت له أربعة بنين وبنتين.

فالبنون: طالب، وهو الأكبر، وبه كنّي أبوه، ثم عقيل، وهو العلاّمة النسّابة، ثم جعفر، وهو الطيّار ذو الجناين، ثم علي(علیه السلام)، وهو أمير المؤمنين، ووصيّ رسول ربّ العالمين، وهو أصغرهم سنّاً، وأكبرهم سناءاً، وكلّ واحد منهم أصغر من الآخر

بعشر سنين على الترتيب من أمير المؤمنين(علیه السلام) إلى طالب.

وأمّا البنتان: فهما جمانة وفاختة المكنّاة بأمّ هاني.

نسبها من الآباء

ونسب فاطمة من الآباء قد تقدّم، وأبوها أسد كان سبب إنشاء الرحلتين، ذكر رفاعة في مناهج الألباب المصرية(1) عن ابن عباس: أنّ السبب في ذلك هو أنّ قريشاً كانوا إذا أصاب واحد منهم مخمصة خرج هو وعياله إلى موضع، وضربوا على أنفسهم خباءاً حتّى يموتوا

ص: 88


1- مناهج الألباب المصريّة : 148 .

إلى أن جاء هاشم بن عبد مناف، وكان سيّد قومه، وكان له ابن يقال له ((أسد))، وكان له ترب من بني مخزوم يحبّه ويلعب معه، فشكى إليه الضرّ والمجاعة، فدخل أسد على أمّه يبكي، فأرسلت إلى أولئك العيال بدقيق وشحم، فعاشوا أياماً، ثم أتى ترب أسد إليه مرّة أخرى، فشكى إليه من الجوع، فقام هاشم خطيباً في قريش، فقال:

إنّكم أجدبتم جدباً تقلّون فيه وتذلّون، وأنتم أهل حرم الله، وأشرف ولد آدم، الناس لكم تبع، قالوا: نحن تبع لك، فليس عليك منّا خلاف.

فجمع كلّ بني أب على الرحلتين في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف الى الشام، فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير، حتّى كان فقيرهم كغنيهم، فجاء الإسلام وهم على ذلك...

نسبها من الأمهات

في مقاتل الطالبيين(1): فاطمة بنت أسد، أمّها فاطمة، وتعرف بحبّى بنت هرم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي.

وأمّها: حذية بنت وهب بن ثعلبة بن واثلة بن عمرو بن سنان بن محارب بن فهر.

وأمّها: فاطمة بنت عبيدة بن منقذ بن عمرو بن معيص بن عامر بن

ص: 89


1- مقاتل الطالبيين : 3 .

لؤي.

وأمّها: سلمى بنت عاصم بن ربيعة بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر.

وأمّها: عاتكة بنت أبي همهمة - واسم همهمة عمرو بن عبد العزى - بن عامر بن عميرة بن وديعة بن الحارث بن فهر.

وأمّها: تماضر بنت أبي عمرو بن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي.

وأمّها: حبيبة، وهي أمة الله بنت عبد ياليلى بن سالم بن مالك بن حطيط بن جشم بن قسي، وهو ثقيف.

وأمّها: فلانة بنت مخزوم بن أسامة بن صبح بن وائلة بن نصر بن صعصعة بن ثعلبة بن كنانة بن قين بن فهم بن عمرو بن قيس عيلان بن مضر.

وأمّها: ريطة بنت يسار بن مالك بن حطيط بن جشم بن ثقيف.

وأمّها: كلية بنت قصيبة بن سعد بن بكر بن هوزان.

وأمّها: حبّى بنت الحارث بن النابغة بن عميرة بن عوف بن نضر بن معاوية بن بكر بن هازن.

وفاطمة بنت أسد أوّل هاشمية تزوّجت هاشمياً وولدت له، وأدركت النبي(صلی الله علیه واله) فأسلمت، وحسن إسلامها... ثم أورد نبذة من فضائلها.

ص: 90

وقال السيّد الداودي في عمدة الطالب(1): هي أوّل هاشمية ولدت لهاشمي، وكانت جليلة القدر، كان رسول الله(صلی الله علیه واله) يدعوها ((أمّي))، ولمّا توفّيت صلّى عليها، ودخل قبرها، وترّحم عليها.

وقال العسقلاني في الإصابة(2): قال الزبير بن بكار: هي أوّل هاشمية ولدت خليفة، ثم بعدها فاطمة الزهراء(علیها السلام).

قال ابن سعد: كانت امرأة صالحة، وكان النبي(صلی الله علیه واله) يزورها ويقيل في بيتها... وذكرها ابن عبد البرّ في الاستيعاب وغيره.

نبذة من فضائلها:

نذكر هنا نبذة من فضائلها - على سبيل الاختصار - على ما روته العامّة:

روى أبو نعيم الأصبهاني في حلية الأولياء(3) بإسناده قال:

ص: 91


1- عمدة الطالب : 15 .
2- الإصابة 4/390 .
3- حلية الأولياء 3/121 .

لمّا ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم - أمّ علي بن أبي طالب(علیهما السلام) - دخل عليها رسول الله(صلی الله علیه واله)، فجلس عند رأسها، فقال: يرحمك الله، فإنّك كنت أمّي بعد أمّي، تجوعين وتشبعيني، وتعرين وتكسيني، وتمنعين نفسك طيّب الطعام وتطعميني، تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة.

ثم أمر أن تغسّل ثلاثاً ثلاثاً... ثم خلع رسول الله(صلی الله علیه واله) قميصه وألبسها إياه كفّنها فوقه، ثم دعا رسول الله(صلی الله علیه واله) جماعة يحفرون قبرها، فلمّا بلغوا اللحد حفره رسول الله(صلی الله علیه واله) وأخرج ترابه بيده، فلمّا فرغ دخل رسول الله(صلی الله علیه واله) فاضطجع فيه... وصلّى عليها، وأدخلها اللحد...

وما روته العامّة كثير، وما روته الشيعة أكثر، منه:

ص: 92

ما رواه ثقة الإسلام الكليني في أصول الكافي بإسناده عن جعفر بن محمد الصادق(علیهما السلام) قال: إنّ فاطمة بنت أسد - أمّ أمير المؤمنين(علیه السلام) - كانت أوّل امرأة هاجرت إلى رسول الله(صلی الله علیه واله) من مكة إلى المدينة على قديمها، وكانت من أبرّ الناس برسول

الله(صلی الله علیه واله).

فسمعت رسول الله(صلی الله علیه واله) يقول: إنّ الناس يحشرون يوم القيامة كما ولدوا، فقالت: وا سوأتاه، فقال لها رسول الله(صلی الله علیه واله): إنّي أسأل الله - تعالى - أن تكوني كاسية، وسمعته يذكر ضغطة القبر، فقالت: وا ضعفاه، فقال لها رسول الله(صلی الله علیه واله): إنّي أسأل الله - تعالى - أن يكفيك ذلك.

فقالت لرسول الله(صلی الله علیه واله) يوماً: إنّي أريد أن أعتق في سبيل الله هذه، فقال لها (صلی الله علیه واله): إن فعلت أعتق بكلّ عضو منها عضواً منك من النار.

فلمّا مرضت أوصت إلى رسول الله(صلی الله علیه واله)، وأمرت أن يعتق خادمها...

فبينا هو ذات يوم قاعد أتاه أمير المؤمنين(علیه السلام)، وهو يبكي، فقال رسول الله(صلی الله علیه واله): ما يبكيك؟ فقال(علیه السلام): ماتت أمّي فاطمة، فقال رسول الله(صلی الله علیه واله): أمّي والله.

وقام(صلی الله علیه واله) مسرعاً حتّى دخل إليها وبكى، ثم أمر النساء أن يغسّلنها وقال(صلی الله علیه واله): إذا فرغتن فلا تحدثن شيئاً حتّى تعلمنني، فلمّا فرغن أعلمنه بذلك، فأعطاهن أحد قميصيه الذي يلي جسده،

ص: 93

وأمرهن أن يكفّنها فيه.

فلمّا فرغن من غسلها وكفنها دخل رسول الله(صلی الله علیه واله) فحمل جنازتها على عاتقه، فلم يزل تحت جنازتها حتّى أوردها قبرها، ثم وضعها ودخل القبر، فاضطجع فيه، ثم قام فأخذها على يديه حتّى وضعها في القبر، ثم انكب عليها طويلاً يناجيها ويقول لها: ابنك، ابنك، ثم خرج وسوّى عليه، ثم انكب على القبر، فسمعوه يقول: لا اله إلاّ الله، اللهم إنّي استودعها إياك، ثم انصرف.

فقال له المسلمون: إنّا رأيناك فعلت شيئاً لم تفعله من قبل؟!

فقال: اليوم فقدت برّ أبي طالب(علیه السلام)، إن كانت ليكون عندها الشيء فتؤثرني به على نفسها وولدها، وإنّي ذكرت القيامة، وأنّ الناس يحشرون عراة، فقالت: وا سوأتاه، فضمنت لها أن يبعثها الله كاسية، وذكرت ضغطة القبر، فقالت: وا

ضعفاه، فضمنت لها أن يكفيها الله ذلك، فكفّنتها بقميصي، واضجعت في قبرها لذلك، وانكببت عليها فلقّنتها ما تسأل عنه، فإنّها سئلت عن ربّها فقالت، وسؤلت عن رسولها فأجابت، وسئلت عن وليّها وإمامها .. فقلت: ابنك ابنك(1)...

وقد دفنت في البقيع في الموضع المعروف عند قبور الأئمة المعصومين:.

ص: 94


1- المراد بابنها هو أمير المؤمنين عليه السلام .

2- أمّ العباس فاطمة الكلابية(علیهما السلام):

اسمها(علیها السلام)

اسمها: فاطمة(1).

وفي تاريخ الخميس: إنّ اسمها ((وايس(2)))، وقد إنفرد به، ولم يذكره أحد غيره، ولعلّه تصحيف، فهو يقول بعد أن يذكر العباس وإخوته(علیهما السلام): وأمّهم أمّ البنين وايس(3) بنت حزام... فلعلّها تصحيف ((وتسمّى))، أو ((واسمها))، أو ما شاكل.

وفي الهداية الكبرى: وكان له(علیه السلام) عبد الله والعباس وجعفر وعثمان من أمّ البنين، وهي جعدة ابنة خالد بن زيد الكلابية(4)، وهو غريب وشاذ جدّاً.

وقد صرّح باسمها كثير من العلماء والنسّابة كابن عنبة في عمدة الطالب، وأبي نصر البخاري في سرّ السلسلة العلوية(5)، والظاهر أنّ أمّ البنين من الألقاب التي غلبت حتّى نسي الاسم.

ص: 95


1- عمدة الطالب : 356، أعلام النساء : 4/40، تنقيح المقال : 3/70، إبصار العين : 25، أعيان الشيعة : 7/429، أدب الطف : 1/72، لواعج الأشجان : 178 .
2- تاريخ الخميس للدياربكري : 2/284 .
3- وفي بعض النسخ من تاريخ الخميس : « وايسي)) .
4- الهداية الكبرى للحسين بن حمدان الخصيبي : 94 .
5- سرّ السلسلة العلوية لأبي نصر البخاري : 88 .

كنيتها

أم البنين(1)3

تطلق العرب هذه الكنية على المرأة تفاؤلاً لها بالبنين، وتطلق أيضاً على المرأة المتزوّجة إذا ولدت ثلاثة أولاد.

ومن الواضح أنّ أمير المؤمنين(علیه السلام) إنّما تزوّج هذه الحرّة الأبيّة طلباً للولد، كما ورد في نصّ المرسوم الذي أصدره لأخيه عقيل يوم أمره بخطبتها، فقال: انظر لي امرأة ولدتها الفحولة من العرب من ذوي البيوت والنسب والحسب والشجاعة لكي أصيب منها ولداً يكون شجاعاً وعضداً ينصر ولدي هذا - وأشار إلى الحسين(علیه السلام) - يواسيه في طف كربلاء..

فمن الطبيعي - إذن - أن تكنّى أمّ البنين، لأنّ الغرض الأوّل من إختيارها هو طلب الأولاد.

والكنية أدب شرعي وموروث عرفي يلاحظ فيه عادة وصف شائع أو إحترام وتوقير خاصّ، وقد تغلب الكنية حتّى ينسى الاسم تماماً، كما حدث لأم أيمن، وأم سلمة، وكذلك كانت أمّ البنين(علیها السلام).

ص: 96


1- مروج الذهب : 3/63، تاريخ الطبري : 3/393، تاريخ اليعقوبي : 2/213، الفصول المهمة : 141، سرّ السلسلة العلوية : 88، المناقب لابن شهرآشوب : 3/304، كشف الغمّة : 1/441 .

وفي هذه الكنية مزيداً من التكريم والتعظيم والتفاؤل والتبجيل للأم، فما أعظم الأمّ حينما تكون أمّا للرجال الأبطال الذين ارتفعت هاماتهم على كلّ مرتفعات التاريخ، ودخلوا البيوت التي إذن الله أن ترفع، وصاروا مديحاً وتمجيداً وثناءاً لا ينتهي لأمّهم الطاهرة النقيّة.

وقد اشتهرت بهذه الكنية، بيد أنّنا إذا راجعنا الموروث الشعبي الشيعي، أو

الأدبي - شعراً كان أو نثراً - نجد لها كنى كثيرة، منها:

أم العباس، أمّ الأربعة، أمّ الفداء، أمّ النشامى، أمّ الوفاء، بنت الفحول، بنت الحمولة.

وكذلك نجد لها ألقاباً كثيرة، منها: باب الحوائج، البدوية، أمة الزهراء(علیها السلام)، الشفيعة، الميسّرة، المخدّرة، زوجة أمير المؤمنين(علیه السلام)، شريكة زينب(علیها السلام) في المصاب، المضحّية، البكائة على الحسين(علیه السلام)، الوفية، الحرّة(1) ..

نسبها

اقتصرنا هنا على رهط أمّ البنين والدة العباس(علیهما السلام)، ولم نذكر كلّ رجالهم خشية السأم والملل، ولو استوعبنا فرسان بني عامر من سائر البطون، كهلال ونمير وقشير وسواءة وعقيل، وغيرهم من بطون كعب

ص: 97


1- انظر ما يتعلّق باسمها وكناها وألقابها في كتابنا أمّ البين(علیها السلام) والدة حامل لواء الحسين(علیه السلام).

لاحتجنا إلى كتاب مستقل، وفاتنا الغرض المقصود الذي أراده مولانا أمير المؤمنين(علیه السلام)، وندب له أخاه عقيلاً في اختيار هذه المرأة الجليلة التي غفل أكثر الناس عن معرفة منزلتها في بيت البطولة والفروسية، حيث اكتنفها مثل هؤلاء الأبطال، فإنّه - ولا شكّ - ستلد ولداً شجاعاً وبطلاً لا تقوم له الأبطال نجدة وثباتاً.

وسنذكر هنا ما يناسب الكتاب ممّا لهم من المآثر إجمالاً، ككونهم من الحمس، وأنّهم لقاح لا يدينون لأحد من الملوك، ونذكر بني كلاب خاصة، لأنّهم بيت بني عامر، وما قيل فيهم، ونذكر جماعة من أبطالهم وساداتهم، ليعرف قدر أمّ البنين(علیها السلام) من حيث النسب.

نكات مهمّة

نكات مهمّة(1)

وينبغي الإشارة إلى بعض النكات قبل ذكر نسبها:

النكتة الأولى: التقاء نسبها ونسب أمير المؤمنين(علیه السلام)

خلق الله شجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تنتهي إِلى حبيبه

ص: 98


1- نقلنا أكثر ما يتعلّق بأم البنين(علیها السلام) من كتابنا ((أم البنين والدة حامل لواء الحسين(علیه السلام))).

مُحَمَّدٍ(صلی الله علیه واله)، فَأَخْرَجَهُ(صلی الله علیه واله) مِنْ أَفْضَلِ الْمَعَادِنِ مَنْبِتا، وَأَعَزِّ الأَرُومَاتِ مَغْرِسا، مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي صَدَعَ مِنْهَا أَنْبِيَاءَهُ، وَانْتَجَبَ مِنْهَا أُمَنَاءَهُ، عِتْرَتُهُ خَيْرُ الْعِتَرِ، وَأُسْرَتُهُ خَيْرُ الأُسَرِ، وَشَجَرَتُهُ خَيْرُ الشَّجَرِ، نَبَتَتْ فِي حَرَمٍ، وَبَسَقَتْ فِي كَرَمٍ، لَهَا فُرُوعٌ طِوَالٌ، وَثَمَرٌ لاَ يُنَالُ(1).

فمن اتّصل بهذه الشجرة وتعلّق بغصن منها فقد نال شرف الدارين، وتسنّم ذرى المجد، وكان حظّه الأوفر في النسب ؛ لأنّها سلسلة مباركة شكّل حلقاتها الموحّدون من البشر، ونوّرها الأنبياء والأوصياء بأنوارهم التي جعلها الله هداية للخلق وأوتاداً للأرض.

ومن مفاخر أمّ البنين(علیها السلام) في النسب أنّها تلتقي مع النبي الأعظم(صلی الله علیه واله) وأمير المؤمنين(علیه السلام) في جدّهم ((مضر)).

ولم يكن لمضر غير رجلين:

أحدهما: ((إلياس)) وإليه تنتهي شجرة النبي(صلی الله علیه واله) وأمير المؤمنين(علیه السلام).

والثاني: ((الناس)) وإليه تنتهي شجرة أمّ البنين(علیها السلام).

النكتة الثانية: آباء موحّدون

ذكرنا قبل قليل اتّحاد نسب أمّ البنين(علیها السلام) بالشجرة النبوية المباركة في جدّهم ((مضر))، ولا شكّ في أنّ آباء النبي(صلی الله علیه واله) وأمير المؤمنين(علیه السلام)

ص: 99


1- نهج البلاغة : 139 .

موحّدون إلى آدم(علیه السلام).

أمّا باقي سلسلة النسب في آباء أمّ البنين(علیها السلام) من جدّها ((أبي حزام)) إلى مضر، فإنّ القرائن والشواهد تؤكّد وجود موحّدين فيهم، ونكتفي هنا بذكر بعض الشواهد.

الشاهد الأوّل: امتناعهم عن محاربة النبي(صلی الله علیه واله)

قال ابن إسحاق: لمّا سمعت هوازن برسول الله(صلی الله علیه واله)، وما فتح الله عليه من مكّة، جمعها مالك بن عوف النصري، فاجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلّها، واجتمعت نصر وجشم كلّها، وسعد بن بكر وناس من بني هلال، وهو قليل، ولم يشهدها من قيس عيلان إلاّ هؤلاء، ((وغاب عنها فلم يحضرها من هوازن كعب وكلاب، فلم يشهدها منهم أحد له اسم)) ..

وساق الحديث وما جرى من حوار بين دريد بن الصمّة ومالك بن عوف، فقال دريد لمالك: ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهدها منهم أحد، قال: غاب الحدّ والجدّ، ولو كان يوم علاء ورفعة ما غاب عنه كعب ولا كلاب(1) ..

الشاهد الثاني: كلام أحد الأجداد

ص: 100


1- انظر تفصيل القصّة في السيرة لابن هشام : 3/266 .

ذكر الجاحظ في البيان والتبيين قال: خطب صعصعة بن معاوية إلى عامر بن الضرب العدواني بنته عمرة، وهي أمّ عامر بن صعصعة، فقال:

يا صعصعة، إنّك أتيتني تشتري منّي كبدي، وأرحم ولدي عندي أبغيتك أو رددتك، والحسيب كفؤ الحسيب، والزواج الصالح أب بعد أب، وقد أنكحتك خشية أن لا أجد مثلك، أفرّ من السرّ إلى العلانية، أنصح ابنا، وأودع ضعيفاً قوياً.

يا معشر عدوان، خرجت من بين أظهركم كريمتكم من غير رهبة ولا رغبة عنكم من خطّ له شيء جاءه، ربّ زارع لنفسه ما حصده غيره، أقسم لو قسّم الحظوظ على قدر الجدود ما ترك الأوّل للآخر ما يعيش به، ولكن رزق آكل من آجل وعاجل، إنّ الذي أرسل الحيا أنبت المرعى، ثمّ قسّمه لكلّ فم بقلة، ومن الماء

جرعة، ترون ولا تعلمون، وإن يرى ما أصف لكم إلاّ كلّ قلب واعي، ولكلّ مرعى راعي، ولكلّ خلق خلق، كيّس أو حمق، وما رأيت شيئاً قطّ إلاّ سمعت حسّه، ووجدت مسّه، وما رأيت شيئاً خلق نفسه، وما رأيت موضوعاً إلاّ مصنوعاً، وما رأيت شيئاً إلاّ ذاهباً، ولا غانماً إلاّ خائباً، ولا نعمة إلاّ ومعها بؤس، ولو كان يميت الناس الداء لأحياهم الدواء(1).

قال الشيخ المظفّر : استدلّ هذا العربي العاري عن الفلسفة

ص: 101


1- المعمّرين لأبي حاتم السجستاني، والبيان والتبيين للجاحظ : 2/59 .

والحكمة النظرية بفطنته الغريزية وعقله الفطري على إثبات الباري تعالى، وإبطال المادّة بأمور:

أحدها: أنّ الاتّحاد بين الخالق والمخلوق باطل، فلابدّ من التغاير للضرورة القاضية أنّ المصنوع غير الصانع، فإذا كانت المادّة متأثّرة في نفس وجودها، فلابدّ من وجود مؤثّر فيها، لأنّه لم ير شيئاً خلق نفسه من حيث أنّه كان عدماً، والمعدوم لا يؤثّر في الموجود شيئاً، فلابدّ أن يكون المؤثّر فيه موجوداً وهو غيره، وهو الذي أنقذه من العدم الأزلي.

ثانيهما: الاستقراء والتتبّع، فإنّا تتبّعنا الأشياء الموجودة واستقرينا كلّ مصنوع، فلم يوجد إلاّ من له صانع، فالبناء له باني، والزرع له زارع، وهكذا بقيّة الأشياء، فينتج هذا الاستقراء أنّ لهذا الكون مكوّناً، وإلاّ لجاز أن يكون المصنوع بلا صانع.

ثالثهما: اختلاف الطبائع ودليل اختلافها اختلاف الأخلاق، ولو كانت الطبيعة هي الموجدة لما تباينت الأخلاق، ولوجب أن يكون كلّ إنسان بليداً، وكلّ إنسان فطناً، إذ الطبيعة واحدة، والمادّة لا تختلف في الأفراد العاقل والمجنون، فهي فيهما سواء.

رابعها: أنّ جميع الموجودات مدركة بالحواسّ، وكلّما أدركته الحواسّ فهو حادث، وذلك في قوله: ((سمعت حسّه ووجدت مسّه)).

خامسها: الفناء، وذلك أنّ القديم لا يجوز عليه الفناء، إذ لو جاز عليه الفناء لاختلّ النظام القائم بتدبيره، فلو كانت المادّة هي الموجدة

ص: 102

لما جاز عليها الفناء لما ذكرنا من بقاء النظام، وفناؤها كاشف عن وجود محدث لها، وهو المدبّر لهذا الكون والحافظ لنظامه.

ثمّ استدلّ بسير الحوادث المكدّرة للمسرّات في أنّ الدنيا ليست دار بقاء لكثرة ما فيها من الأرزاء والبؤس، ولو كانت دار بقاء لخلت من ذلك، فلابدّ أن يكون وراءها دار تدوم فيها النعمة، ولا يطرء عليها البؤس.

ثمّ ردّ على من يزعم أنّ الأمراض التي تعرض للنفوس مسبّبة عن جراثيم أو ما شاكلّها، وأنّها إذا تمادت أوجبت تلاشي القوى وانحلالها، فتؤدّي إلى التلف، فلابدّ من مكافحتها بالأدوية والعقاقير لتحفظ للنفس صحّتها وبقاءها، فقال: ((لو كان الداء كما زعموا قاتلاً لكان الدواء محيياً))، فإنّك تزعم أنّ الدواء يعيد للنفس صحّتها، وعندك أنّ ذلك فيما جرّبته في الأصحّاء، ونحن نقول: إنّ هؤلاء قد قسّم الله لهم بقاء مدّة أراد أن يبلغهم إيّاها، ولكن جرّب دواءك فيمن مات، فإن أحياه دواؤك عرفنا أنّ الداء هو الذي قتله، فإذا الدواء لم يحيه فالداء لم يقتله، وإنّما أماته الله باستيفاء طعمته وانقضاء مدّته(1).

الشاهد الثالث: كلامهم في بلاط كسرى

ذكر ابن عبد ربّه في العقد الفريد مفاخر مفصّلة بين كسرى والنعمان

ص: 103


1- بطل العلقمي : 1/131 - 133 .

بن المنذر، وقال: إنّ النعمان لمّا رجع إلى الحيرة عاصمة ملكه أحبّ أن يجمع أشراف كلّ قبيلة شريفة من العرب وينتخب النبلاء من ذوي البيوت والسابقة في المجد والسيادة، ويرسلهم إلى كسرى ليبرهنوا على مجد العرب، وليفتخروا عليه بفضلهم في بلاطه، فإنّ ذلك أقوى للحجّة عليهم.

فجمع من أشراف العرب من سلّمت له الرئاسة، واعترف بزعامته، وأجمعت العرب على شرف بيته وسؤدد أسرته، فكانوا جماعة منهم ثلاثة من قبيلة أمّ البنين(علیها السلام) ورهطها الأدنى، وهم بنو كلاب، وهم خالد بن جعفر الكلابي، وعلقمة بن علاثة العامري الكلابي، وعامر بن الطفيل العامري الكلابي.

فقام خالد بن جعفر فتكلّم، وكان ممّا قاله: أحضر الله الملك إسعاداً، وأرشده إرشاداً، إنّ لكلّ منطق فرصة، ولكلّ حاجة غصّة، وعيّ المنطق أشدّ من عيّ السكوت، وعثار القول أنكأ من عثار الوعث، وما فرصة المنطق عندنا بما نهوى، وغصّة المنطق بما لا نهوى غير مستساغة، وترك ما أعلم من نفسي ويعلم مَن سمع أنّي له مطيق أحبّ إليّ مِن تكفلّي ما أتخوّف ويتخوّف منّي...

فقال كسرى: نطقت بعقل، وسموت بفضل، وعلوت بنبل.

ثمّ قام علقمة بن علاثة العامري الكلابي، فتكلّم بكلام جمع فيه الفخر والبلاغة، وجزالة المعنى ورشاقة اللفظ، حتّى قاطعه كسرى خشية أن يأتي منه كلام يحمله على السخط عليه، فقال: حسبك

ص: 104

أبلغت وأحسنت.

ثمّ قام عامر بن الطفيل العامري الكلابي، فقال: كثر فنون المنطق، وليس القول أغمى من حندس الظلماء، وإنّما الفخر بالفعال، والفخر بالنجدة والسؤدد مطاوعة القدرة، وما أعلمك بقدرنا، وأبصرك بفضلنا، وبالحري إن أدالت الأيّام، وثابت الأحلام أن تحدث أمور لها أعلام.

قال كسرى: وما تلك الأعلام؟ قال: تجتمع الأحياء من ربيعة ومضر على أمر يذكر..

قال كسرى: متى تكهّنت يا ابن الطفيل؟ قال: لست بكاهن، ولكنّي بالرمح طاعن...

فاعترف لهم كسرى بالسيادة، وكتب إلى النعمان في التوصية بهم، وأنّ كلّ

واحد منهم سيّد يصلح لموضعه(1).

وتجد في كلامهم ذكر الله الواحد الأحد صريحاً واضحاً، وانتظار ظهور النبي(صلی الله علیه واله) الذي ستجتمع عليه الأحياء من ربيعة ومضر على أمر يذكر.

الشاهد الرابع: قول معاوية بن مالك بن جعفر بن كلاب

قال معاوية بن مالك بن جعفر بن كلاب في أبيات له يحمد الله

ص: 105


1- انظر : العقد الفريد : 1/171 - 172 .

عزّوجلّ:

وكنت إذا العظيمة أفزعتهم

نهضت ولا أدبّ لها دباب

بحمد الله ثمّ عطاء قومي

فكّون الغنائم والرقابا

النكتة الثالثة: اهتمام أمير المؤمنين(علیه السلام) بنسب أمّ البنين(علیها السلام)

لمّا كان الغرض من التزويج بأم البنين(علیها السلام) ولادة العباس(علیه السلام) ليكون ناصراً لولده الحسين(علیه السلام) في طفّ كربلاء، فلابد أن تكون الشجاعة غرضاً مطلوباً لأمير المؤمنين(علیه السلام)، ولذا قال: ابغني امرأة ولدتها الفحولة من العرب لأتزوّجها فتلد لي غلاماً فارساً... فقال له عقيل: تزوّج أمّ البنين الكلابية، فإنّه ليس في العرب أشجع من آبائها(1) ..

فإنّ للشجاعة مكانة خاصّة عند عموم العرب، بل البشر جمعياً، وإنّها من موجبات السؤدد والشرف، وقد مدح الشارع الأقدس، وحثّ عليها الدين الحنيف، واعتبرها من خصال المؤمن.

وآباء أمّ البنين(علیها السلام) وأسرتها سادات العرب شجاعة وفروسية وشعراً وخطابة وكرماً وجوداً بعد بني هاشم، فهم إذن بغية الإمام الذي يريد غلاماً يدّخره لولده الحسين(علیه السلام) يحمل لواءه في طفّ كربلاء،

ص: 106


1- عمدة الطالب : 324 .

لأنّ البنت التي قد ولدها مثل هؤلاء الأبطال الشجعان جديرة أن تنجب فيما تلد، ولا تلد إلاّ شجاعاً بطلاً وفارساً مقداماً، وقد عرّقت الشجاعة في أولادها من كلا الطرفين.

قال الفاضل الدربندي في أسرار الشهادة:

ص: 107

قيل: إنّ زهير بن القين أتى عبد الله بن عقيل قبل أن يقتل، فقال له: يا أخي، ناولني الراية، فقال له عبد الله: أفيّ قصور؟! قال: لا، ولكن لي بها حاجة.

قال: فدفعها إليه، فأخذها زهير، وأتى العباس بن علي(علیهما السلام) وقال: يا بن أمير المؤمنين، أريد أن أحدّثك بحديث، فقال: حدّث فقد حلا وقت الحديث.

حدّث ولا حرج عليك فإنّما

تروي لنا متتابع الإسناد

فقال له: اعلم يا أبا الفضل، إنّ أباك أمير المؤمنين(علیه السلام) لمّا أراد أن يتزوّج بأُمك أمّ البنين بعث إلى أخيه عقيل، وكان عارفاً بأنساب العرب، فقال له: يا أخي، أريد منك أن تخطب لي امرأة من ذوي البيوت والنسب والحسب والشجاعة لكي أُصيب منها ولداً يكون شجاعاً وعضداً ينصر ولدي هذا - وأشار إلى الحسين(علیه السلام) - يواسيه في طفّ كربلاء، وقد ادّخرك أبوك لمثل هذا اليوم، فلا تقصّر عن حلائل أخيك وعن أخواتك.

فارتعد العباس(علیه السلام) وتمطّى في ركابه حتّى قطعه وقال: يا زهير، تشجّعني في مثل هذا اليوم؟! والله لأُرينك شيئاً ما رأيته قطّ(1)...

وعلى كلّ حال فإنّ المرأة الوحيدة التي نصّ أمير المؤمنين(علیه السلام) على

ص: 108


1- أسرار الشهادة : 2/497، معالي السبطين : 1/434، بطل العلقمي للمظفّر : 1/120 .

الاهتمام بنسبها من بين زوجاته(1) جميعاًً هي أمّ البنين(علیها السلام)، وفي ذلك دلالة واضحة على مدى طهارة هذا النسب، وسطوع نجومه، ونظافة أصوله وفروعه.

وهذا هو الذي دعانا إلى التركيز والتوسّع - ولو بشكل نسبي - في هذا المجال.

النكتة الرابعة: الخلاف في اسم أبيها

وقع الخلاف في اسم أبيها، فمنهم من قال: اسمه ((حرام)) بالحاء المهملة والراء المهملة بعدها ألف وميم.

ومنهم من قال: اسمه ((حزام)) بالزاء المعجمة، وهو المشهور.

قال الشيخ عبد الواحد المظفّر : وهو غلط قطعي، والله العالم.

وقال سبط ابن الجوزي في تذكرته: أمّ البنين بنت حزام، وقيل: بنت خلّة(2)، وهو غريب..

النكتة الخامسة: الاختلاف في كونها من أقرباء لبيد الشاعر

قال البلاذري: أمّ البنين بنت حزام بن ربيعة أخي لبيد بن ربيعة

ص: 109


1- حينما نتكلم عن زوجات أمير المؤمنين(علیه السلام) دائماً نقصد جميع زوجاته عدا فاطمة الزهراء(علیها السلام)، لأنّها(علیها السلام) سيدة النساء ولا تقاس بهنّ ولا بغيرهنّ من نساء الدنيا والآخرة .
2- تذكرة الخواص : 57 الباب الثالث في ذكر أولاد أمير المؤمنين(علیه السلام).

الشاعر، وأخوها مالك بن حزام الذي قتل مع المختار بالكوفة(1).

وقال الشهيد الأوّل في الدروس: أمّ البنين بنت حزام بن خالد بن ربيعة أخي لبيد الشاعر(2).

وقال السيّد الأمين في الأعيان: أمّ البنين فاطمة بنت حزام بن خالد بن ربيعة، أخي لبيد الشاعر بن عامر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، الكلابية زوجة أمير المؤمنين(علیه السلام) (3).

وأكّد ابن حجر في الإصابة على التفريق بين رجلين يدعى كلّ منهم ((حرام)) أحدهما والد أمّ البنين(علیها السلام)، والآخر أخو لبيد الشاعر، فقال تحت رقم 1970:

حرام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد بن كلاب بن ربيعة العامري، ثمّ الوحيدي،

له إدراك، وتزوّج علي بن أبي طالب بنته أمّ البنين بنت حرام، فولدت له أربعة أولاد: العباس، وعبد الله، وعثمان، وجعفرا، قتلوا مع أخيهم الحسين يوم كربلاء، ذكر ذلك هشام بن الكلبي، والزبير بن بكّار.

ثمّ قال بلا فصل تحت رقم 1971: حرام بن ربيعة بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب العامري، ثمّ الجعفري، أخو لبيد الشاعر، له إدراك، وسيأتي ذكر أبيه وجدّه.

ص: 110


1- أنساب الأشراف : 192 .
2- الدروس : 2/25 .
3- أعيان الشيعة : 8/389 .

وكان ولده مالك من رؤساء الكوفة، وهو ممّن قتله المختار بن أبي عبيد عند طلبه بدم الحسين، ويشتبه به حرام بن ربيعة بن الوحيد بن كعب بن كلاب، والد أمّ البنين امرأة علي، ولدت له العباس وجعفراً وغيرهما، وأبوها من أهل هذا القسم أيضاً(1).

قال الشيخ المظفّر : وهنا إيضاح لابدّ منه، نذكره للفارقة، فإنّ في بني كلاب من اسمه ((حرام)) غير والد أمّ البنين، وقد وقع في هذه المزلّة بعض العلماء، ويقصد به حرام بن ربيعة الجعفري أخو لبيد الشاعر، الذي ذكره ابن حجر قبل قليل، وقال: إنّه يشتبه به مع والد أمّ البنين(علیها السلام)، والله العالم.

النكتة السادسة: الاختلاف في اسم جدّها

وقع الخلاف في اسم جدّها أيضاً:

فقال الشيخ المفيد في الإرشاد: أمّ البنين بنت حزام بن خالد بن دارم(2).

وكذا قال الشيخ الطبري في تاج المواليد وإعلام الورى(3)، وابن أبي فتح الإربلي

في كشف الغمّة(4)، وابن الصبّاغ المالكي في الفصول

ص: 111


1- الإصابة : 2/144 - 145 رقم 1970 و1971 .
2- الإرشاد للشيخ المفيد : 1/354 .
3- تاج المواليد المجموعة للشيخ الطبرسي : 18، إعلام الورى : 1/395 .
4- كشف الغمة : 2/67 .

المهمة(1).

ولم يوافقهم على ذلك الشيخ التستري في قاموس الرجال، فقال: ووهم هنا المفيد أيضاً، فقال في الإرشاد: ((أمّ البنين بنت حزام بن خالد بن دارم))، فبدّل ((ربيعة)) ب-((دارم))(2).

قال الطبري في التاريخ: أمّ البنين بنت حزام - وهو أبو المحلّ - ابن خالد بن ربيعة بن الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب(3) ..

وقال الشيخ محمد بن إدريس الحلّي في كتاب السرائر في آخر كتاب الحجّ: ونسب شيخنا المفيد في الإرشاد العباس بن علي(علیهما السلام) المسمّى ب-((السقّا))، ويسمّيه أهل النسب: ((أبا قربة)) المقتول بكربلاء، صاحب راية الحسين(علیه السلام) ذلك اليوم، أمّه أمّ البنين بنت حزام بن خالد بن ربيعة، وربيعة هذا هو أخو لبيد الشاعر بن عامر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وليست بني دارم التميميّين، وقال ابن حبيب النسّابة في كتاب المنمّق لمّا ذكر أبناء الحبشيات من قريش، ذكر من جملتهم العباس بن علي بن أبي طالب(علیهما السلام)، وهذا خطأ منه وتغفيل وقلّة تحصيل(4)!!

وقال الشيخ المظفّر :

ص: 112


1- الفصول المهمة في معرفة الأئمّة : 1/642 .
2- قاموس الرجال : 12/196 .
3- تاريخ الطبري : 5/89 .
4- السرائر : 1/657 .

أراد العلاّمة الفاضل محمد بن إدريس الحلّي أن يصحّح غلط الشيخ المفيد - بزعمه - فوقع في خطأ أعظم من ذلك، لأنّ ما في الإرشاد يمكن حمله على السهو، أو غلط النسّاخ، أو ما يجري مجراه من التوجيه المقبول، إذ من المستبعد جدّاً خفاء مثل هذا على الشيخ المفيد، أمّا ابن إدريس فلا يمكن توجيه غلطه ولا

الاعتذار عنه بكلّ صورة...

وأنا أقول باحتشام وتعظيم للعلاّمة صاحب السرائر، وبلا تجاسر عليه، ولا مسّ لكرامته: أنّ في كلامه وهم ظاهر، وخطأ من ثلاث وجوه، إن كان خطأ المفيد من وجه واحد:

أمّا الوهم، فظنّه أنّ المفيد عنى ((دارم تميم))، وهذا وهم منه، إذ ليس في كلام المفيد تصريح به، ولم يصل النسب بتميم حتّى يصحّ ما قال صاحب السرائر، غايته أنّه ذكر أنّ في آبائها من يسمّى دارماً، وعنده أنّه دارم العامري لا دارم التميمي.

وغفل ابن إدريس عن تصريحات المفيد في مواضع عديدة بأنّها كلابية وعامرية، كما في قضية الشمر وخطابه للعباس(علیه السلام)، وغيرها من القضايا التي غفل عنها ابن إدريس.

أمّا الخطأ فمن وجوه ثلاثة:

أحدها:

خلطه بين ((حرام)) والد أمّ البنين(علیها السلام) وبين الذي هو أخو لبيد، وقد فرّق بينهما في الإصابة ما سمعت، وقد أوردناه لردّ هذا الاشتباه.

ص: 113

ثانيهما:

جعله ربيعة أخا للبيد الشاعر، وربيعة إنّما هو والد لبيد لا أخوه باتّفاق النسّابين.

ثالثها:

الخلط بين البطنين، فإنّ لبيد جعفري، وأمّ البنين وحيدية، والوحيد وجعفر أخوان كلاهما ابنا كلاب، ومن كان جعفرياً لا يكون وحيدياً إلاّ أن تفرض الأخوّة من جهة الأمّهات.

قال ابن قتيبة في المعارف: وأمّا كلاب بن ربيعة، وكان فيه نوك، وولده جعفر ومعاوية وربيعة وأبو بكر وعمرو والوحيد ورواس والأضبط وعبد الله.

فمن بني رواس وكيع المحدّث، ومن بني الوحيد أمّ البنين كانت عند علي بن أبي طالب، فولدت له العباس وعبد الله وجعفر.

وأمّا معاوية بن كلاب، فمنهم الضباب، وهم: حسل وحسيل، وضب بنو معاوية.

وأمّا عمرو بن كلاب، فلهم عدد كثير، وفيهم قوم يقال لهم ((دودان))، ومن عمرو يزيد بن الصعق.

وأمّا جعفر بن كلاب، فولده الأحوص وخالد ومالك وعتبة بنو

ص: 114

جعفر بن كلاب.

ثمّ ذكر ما سنذكر من أشرافهم، وقال: وأمّا ربيعة، فهو أبو لبيد الشاعر، وأمّا أبو بكر بن كلاب، فمن ولده القرطات: قرط وقريط ومقرط.

ومنهم الضحّاك بن السفيان، استعمله رسول الله(صلی الله علیه واله) على بني سليم.

ومنهم المحلق بن حنتم الذي قال الأعشى: ((وبات على النار الندى والمحلق(1)))...

النكتة السابعة: نسبتها

الوحيدية:

في كتاب المنمّق:... أمّ البنين الوحيديّة(2).

وفي المعارف لابن قتيبة والجوهرة للبري: أمّ البنين بنت حرام الوحيدية(3).

وفي الأخبار الطوال للدينوري: أمّ البنين العامرية من آل الوحيد(4).

ص: 115


1- المعارف : 39 .
2- كتاب المنمّق لمحمد بن حبيب البغدادي : 351 .
3- المعارف: 211، الجوهرة في نسب الإمام علي وآله للبري : 58 .
4- الأخبار الطوال للدينوري : 257 .

وقال بعضهم: الوحيدة، من أعراض المدينة، بينها وبين مكّة(1)، وبنو وحيد قوم من بني كلاب، والنسبة إلى المحل والطائفة محتملة.

الكلابية:

في المناقب: أمّ البنين ابنة حزام بن الخالد الكلابية(2).

وفي أنساب الأشراف للبلاذري والدرّ النظيم: أمّ البنين الكلابية(3).

وفي الإمامة والسياسة والكامل في التاريخ:.. أمّ البنين بنت حرام الكلابية(4).

وفي المجدي: أمّ البنين بنت حزام الكلابية(5).

العامرية:

قال الطبراني في المعجم الكبير: وقتل العباس بن علي بن أبي طالب:، وأمّه أمّ البنين عامرية(6).

ص: 116


1- معجم البلدان للحموي : 5/364 .
2- مناقب آل أبي طالب : 3/89 .
3- أنساب الأشراف : 70، الدرّ النظيم لابن حاتم العاملي : 411 .
4- الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري، تحقيق الزيني : 2/6، الكامل في التاريخ لابن الأثير : 3/397، تاريخ اليعقوبي : 2/213 .
5- المجدي في أنساب الطالبين : 15 .
6- المعجم الكبير للطبراني : 3/103 .

وقال ابن أعثم الكوفي: أمّ البنين . . . العامرية(1).

وقال الدينوري: أمّ البنين العامرية(2).

وقال الشيخ الطوسي : أمّ البنين بنت حزام . . . من بني عامر(3).

آباء أمّ البنين(علیها السلام)

قال الداودي في عمدة الطالب: فاطمة بنت حزام بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن الناس بن مضر(4)، وهنا يلتقي نسبها بنسب أمير المؤمنين(علیه السلام).

وفي مقاتل الطالبيين: أمّ البنين بنت حرام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد، وهو عامر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة(5).

وفي الهداية الكبرى: . . وكان له(علیه السلام) عبد الله والعباس وجعفر وعثمان من أمّ البنين، وهي جعدة ابنة خالد بن زيد الكلابية(6)!!!.

وفي شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي: أمّهم أمّ البنين بنت حزام

ص: 117


1- الفتوح لأحمد بن أعثم الكوفي : 5/113 .
2- الأخبار الطوال للدينوري : 257 .
3- رجال الطوسي : 102 .
4- عمدة الطالب : 323 .
5- مقاتل الطالبيين : 22 .
6- الهداية الكبرى للحسين بن حمدان الخصيبي : 94 .

بن خالد بن ربيعة بن الوليد(1).

وقال الشيخ المفيد في الإرشاد: أمّهم أمّ البنين بنت حزام بن خالد بن دارم(2)، وقد مرّ الكلام في ذلك.

ويؤيد ما ذكرناه سابقاً من احتمال وقوع التصحيف أو الاشتباه ما ذكره الشيخ نفسه في الاختصاص حيث قال: أمّ البنين بنت حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد بن عامر(3).

وفي المناقب: أمّ البنين ابنة حزام بن الخالد الكلابية(4).

وفي كتاب الفتوح لابن أعثم: أمّ البنين بنت حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد بن كلاب العامرية(5).

وقال ابن كثير: أمّ البنين بنت حرام، وهو المحلّ بن خالد بن ربيعة بن كعب بن عامر بن كلاب(6).

وقال المسعودي: أمّ البنين ابنة حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد، وهو عامر بن كعب بن عامر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة

ص: 118


1- شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي : 3/185 .
2- الإرشاد : 1/354 .
3- الاختصاص : 82 .
4- مناقب آل أبي طالب : 3/89 .
5- الفتوح لابن أعثم : 5/113 .
6- البداية والنهاية : 7/367 .

بن معاوية بن بكر بن هوازن(1).

وفي تاريخ الطبري: أمّ البنين بنت حزام، وهو أبو المجل، ابن خالد بن ربيعة بن الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب(2).

وفي إكمال الكمال: أمّ البنين بنت حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد، وهو عامر بن كعب بن عامر بن كلاب(3).

وفي شرح ابن أبي الحديد: أمّ البنين بنت حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد من بنى كلاب(4).

وفي تاريخ خليفة: أمّ البنين بنت حازم بن خالد من بني الوحيد أحد بني كلاب(5).

وقال الشيخ الطوسي: أمّ البنين بنت حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد، من

بني عامر(6).

وقال ابن سعد في الطبقات: أمّ البنين بنت حزام بن خالد بن جعفر بن ربيعة بن الوحيد بن عامر بن كعب بن كلاب(7).

ص: 119


1- التنبيه والإشراف للمسعودي : 258 .
2- تاريخ الطبري : 4/118 .
3- إكمال الكمال لابن ماكولا : 1/518 .
4- شرح نهج البلاغة : 9/243 .
5- تاريخ خليفة لخليفة بن خياط العصفري : 178 .
6- رجال الطوسي : 102 .
7- الطبقات الكبرى لابن سعد : 3/20 .

وقال أبو نصر البخاري: أمّ البنين، فاطمة بنت أبي المجل، حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد - وهو عامر - ابن كعب بن عامر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية ابن بكر بن هوازن(1).

أُمهات أمّ البنين(علیها السلام)

في عمدة الطالب: أمّها: ليلى بنت سهل بن مالك، وهو ابن أبي براء، عامر ملاعب الأسنّة، ابن مالك بن جعفر بن كلاب.

وأمّها: عامرة بنت الطفيل بن عامر.

وأمّها: كبشة بنت عروة الرحّال بن عتبة بن جعفر بن كلاب(2).

وأمّها: فاطمة بنت عبد شمس بن عبد مناة(3) . ..

وقال أبو الفرج الإصفهاني:

وأمّها: ثمامة بنت سهيل بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب.

وأمّها: عمرة بن الطفيل - فارس قرزل - بن مالك الأحزم - رئيس

ص: 120


1- سرّ السلسلة العلوية : 88 .
2- في معجم مقاييس اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس زكريا : 4/82 : وفي المثل : ابنك من دمي عقبيك، وكأنّ أصل ذلك في عقيل بن مالك، وذلك أنّ كبشة بنت عروة الرحّال تبنته فعرم عقيل على أمّه يوماً، فضربته، فجاءتها كبشة تمنعها، فقالت : ابني ابني، فقالت القينية، وهي أمة من بني القين : ابنك من دمي عقبيك، أي ابنك هو الذي نفست به وولدته حتى أدمى النفاس عقبيك لا هذا .
3- عمدة الطالب : 356 .

هوازن - بن جعفر بن كلاب.

وأمّها: كبشة بنت عروة الرحّال بن عتبة بن جعفر بن كلاب.

وأمّها: أمّ الخشف بنت أبي مغولة، فارس هوازن، ابن عبادة بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.

وأمّها: فاطمة بنت جعفر بن كلاب.

وأمّها: عاتكة بنت عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب.

وأمّها: آمنة بنت وهب بن عمير بن نصر بن قعين بن الحرث بن دودان بن أسد بن خزيمة.

وأمّها: بنت جحدر بن ضبيعة الأغر بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن ربيعة بن نزار.

وأمّها: بنت مالك بن قيس بن ثعلبة.

وأمّها: بنت ذي الرياستين - وهو خشين - ابن أبي عصم بن شمخ بن فزارة.

وأمّها: بنت عمرو بن صرمة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان(1) . ..

وفي سرّ السلسلة العلوية لأبي نصر البخاري: أمّ البنين فاطمة... وأمّها: ليلى بنت سهيل بن عامر بن مالك، وهو أبو ملاعب الأسنّة، وأمّها:

ص: 121


1- مقاتل الطالبيين : 52 .

عمرة بنت الطفيل بن عامر، وأمّها: كبشة بنت عروة الرحّال ابن عتبة بن جعفر بن كلاب، وأمّها: فاطمة بنت عبد شمس بن عبد مناف(1).

نجوم في سلسلة النسب

قبيلة أمّ البنين(علیها السلام) من أشرف القبائل العربية شرفاً، وأجمّهم للمآثر الكريمة التي

تفتخر بها سادات العرب، ويعترف لها بالسيادة حتّى أضدادها وحسّادها ومعادوها، وذلك لكثرة نوابغها من الرجال المبرّزين والزعماء الممتازين بأكمل الصفات الكريمة، وأتمّ الخصال الممدوحة، كالكرم والشجاعة والفصاحة شعراً وخطابة.

وكان رجالهم من التميّز والشرف والسؤدد بمكان فرضوا فيه على علماء النسب والتاريخ والرواة أن يسجّلوا مآثرهم، ويولوا الاهتمام البالغ بتدوين أسماءهم وخطبهم ووقائعهم وأيّامهم باعتبارهم شخصيات مبرّزة تعدّ من سادات تلك العصور.

ونحن نذكر هنا شيئاً مختصراً عنهم، وعن بعض النجوم اللامعة في تاريخهم.

بنو عامر:

كان بنو عامر من ((الحمس))، وكانوا ((لقاحاً)) لا يدينون لأحد من

ص: 122


1- سرّ السلسلة العلوية : 88، عمدة الطالب : 356 .

الملوك.

الحمس:

قال الزمخشري في الفائق في غريب الحديث: الحمس: قريش ومن دان بدينهم في الجاهلية، واحدهم أحمس، سمّوا لتحمّسهم، أي تشدّدهم في دينهم.

والحمسة: الحرمة، مشتقّة من اسم الحمس، لحرمتهم بنزولهم الحرم، وكانوا لا يخرجون من الحرم، ويقولون: نحن أهل الله، لسنا كسائر الناس، فلا نخرج من حرم الله، وكان الناس يقفون بعرفة، وهي خارج الحرم، وهم كانوا يقفون فيه حتّى نزل: ((ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ))، فوقفوا بعرفة(1).

وقال الفيروزآبادي: حمس - كفرح -: اشتدّ وصلب في الدين والقتال، فهو حمس وأحمس، وهم حمس.

والحمس: الأمكنة الصلبة جمع: أحمس، وهو لقب قريش وكنانة وجديلة، ومن تابعهم في الجاهلية، لتحمّسهم في دينهم أو لالتجائهم بالحمساء، وهي الكعبة، لأنّ حجرها أبيض إلى السواد.

وفي الكافي عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال:

ص: 123


1- الفايق في غريب الحديث : 1/274 .

كانت العرب في الجاهلية على فرقتين: الحلّ، والحمس، فكانت الحمس قريشاً، وكانت الحلّ سائر العرب، فلم يكن أحد من الحلّ إلاّ وله حرميّ من الحمس، ومن لم يكن له حرميّ من الحمس لم يترك أن يطوف بالبيت إلاّ عرياناً.

وكان رسول الله(صلی الله علیه واله) حرمياً لعياض بن حمّار المجاشعي، وكان عياض رجلاً عظيم الخطر، وكان قاضياً لأهل عكاظ في الجاهلية، فكان عياض إذا دخل مكّة ألقى عنه ثياب الذنوب والرجاسة، وأخذ ثياب رسول الله(صلی الله علیه واله) لطهرها، فلبسها وطاف بالبيت، ثمّ يردّها عليه إذا فرغ من طوافه.

فلمّا أن ظهر رسول الله(صلی الله علیه واله) أتاه عياض بهديّة، فأبى رسول الله(صلی الله علیه واله) أن يقبلها وقال: يا عياض، لو أسلمت لقبلت هديّتك، إنّ الله - عزّ وجلّ - أبى لي زبد المشركين.

ثمّ إنّ عياضاً بعد ذلك أسلم وحسن إسلامه، فأهدى إلى رسول الله(صلی الله علیه واله) هديّة، فقبلها منه(1).

وقال ابن إسحاق: وكانت قريش - لا أدري قبل بناء الكعبة أو بعده - ابتدعت رأي الحمس، رأيا رأوه وأداروه بينهم، فقالوا: نحن بنو إبراهيم، وأهل الحرم، وولاة البيت، وقاطنوا مكّة وسكّانها، فليس لأحد من العرب مثل حقّنا، ولا مثل منزلتنا، ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا، فلا تعظّموا شيئاً من الحلّ كما تعظّمون الحرم، فإنّكم إن

ص: 124


1- الكافي : 5/142 ح3 .

فعلتم ذلك استخفّت العرب حرمتكم، وقالوا: قد عظّموا من الحلّ مثل ما عظّموا من الحرم.

فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها، وهم يقرّون ويعرفون أنّها من المشاعر والحج ودين إبراهيم(علیه السلام)، ويرون لسائر العرب أن يقفوا عليها، وأن يفيضوا منها، إلاّ أنّهم قالوا: نحن أهل الحرم فليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة، ولا نعظم غيرها كما يعظمها الحمس، والحمس أهل الحرم.

ثمّ جعلوا لمن ولدوا من العرب من ساكني الحلّ والحرم مثل الذي لهم لولادتهم إيّاهم يحلّ لهم ما يحلّ لهم، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم.

وكانت كنانة وخزاعة قد دخلوا معهم في ذلك، ثمّ ابتدعوا في ذلك أموراً لم تكن، فقالوا: لا ينبغي للحمس أن يأقطوا الإقط، ولا يسلئوا السمن، وهم حرم، ولا يدخلوا بيتاً من شعر، ولا يستظلّوا إلاّ في بيوت الأدم ما داموا حراماً.

ثمّ رفعوا في ذلك فقالوا: لا ينبغي لأهل الحلّ أن يأكلوا من طعام جاؤوا به معهم من الحلّ في الحرم إذا جاؤوا حجّاجاً أو عمّاراً، ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أوّل طوافهم إلاّ في ثياب الحمس، فإن لم يجدوا شيئاً منها طافوا بالبيت عراة، فإن تكرّم منهم متكرّم من رجل أو امرأة لم يجد ثوباً من ثياب الحمس فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحلّ ألقاها إذا فرغ من طوافه لم ينتفع بها، ولم يمسّها ولا أحد غيره أبداً، وكانت العرب تسمّي تلك الثياب ((اللقا)).

ص: 125

فحملوا العرب على ذلك، فدانت به، ووقفوا على عرفات وأفاضوا منها، فأطافوا بالبيت عراة، وأخذوا بما شرعوا لهم من ذلك، فكان أهل الحلّ يأتون حجّاجاً وعمّاراً، فإذا دخلوا الحرم وضعوا أزوادهم التي جاؤوا بها وابتاعوا من طعام الحرم، والتمسوا ثياباً من ثياب الحرم، إمّا عارية وإمّا بإجارة، فطافوا فيها، فإن لم يجدوا طافوا عراة، أمّا الرجال فيطوفون عراة، وأمّا النساء فتضع إحداهنّ ثيابها كلّها إلاّ درعاً تطرحه عليها ثمّ تطوف فيه، فقالت امرأة من العرب، وهي كذلك تطوف:

اليوم يبدو بعضه أو كلّه

وما بدا منه فلا أحلّه

ومن طاف منهم في ثيابه التي جاء فيها ألقاها فلم ينتفع بها هو ولا غيره، فقال قائل من العرب يذكر شيئاً تركه لا يقربه، وهو يحبّه:

كفى حزناً كري عليه كأنّه

لقا بين أيدي الطائفين حريم

يقول: لا يمسّ، فكانوا كذلك حتّى بعث الله - عزّ وجلّ - نبيّه(1).

***

قال ابن هشام: وحدّثني أبو عبيدة النحوي: أنّ بني عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن دخلوا معهم في ذلك، وأنشدني

ص: 126


1- سيرة ابن إسحاق : 2 / 80 - 83، السيرة النبوية لابن هشام الحميري : 1 / 128 - 131 .

لعمرو بن معديكرب:

أعباس لو كانت شياراً جيادنا

بتثليث ماناصيت بعدي الأحامسا

قال ابن هشام: تثليث: موضع من بلادهم، والشيار: السمان الحسان، يعنى بالأحامس: بني عامر بن صعصعة، وبعباس: عباس بن مرداس السلمي، وكان أغار على بني زبيد بتثليث، وهذا البيت من قصيدة لعمرو.

وأنشد للقيط بن زرارة الدارمي في يوم جبلة:

أجذم إلى إنّها بنو عبس

المعشر الجلة في القوم الحمس

لأنّ بني عبس كانوا يوم جبلة حلفاء في بني عامر بن صعصعة(1).

ص: 127


1- يوم جبلة يوم كان بين بني حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وبين بني عامر بن صعصعة، فكان الظفر فيه لبني عامر بن صعصعة على بني حنظلة، وقتل يومئذٍ لقيط بن زرارة بن عدس، وأسر حاجب بن زرارة بن عدس، وانهزم عمرو بن عمرو بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم بن مالك بن حنظلة، ففيه يقول جرير للفرزدق: كأنّك لم تشهد لقيطاً وحاجباً وعمرو بن عمرو إذ دعوا يالدارم وهذا البيت في قصيدة له. ثمّ التقوا يوم ذي نجب، فكان الظفر لحنظلة على بني عامر، وقتل يومئذٍ حسان بن معاوية الكندي، وهو ابن كبشة، وأسر يزيد بن الصعق الكلابي، وانهزم الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب، أبو عامر بن الطفيل، ففيه يقول الفرزدق: ومنهن إذا نجى طفيل بن مالك على قرزل رجلاً ركوض الهزائم ونحن ضربنا هامة ابن خويلد نزيد على أمّ الفراخ الجواثم وهذا البيتان في قصيدة له. فقال جرير: ونحن خضبنا لابن كبشة تاجه ولاقى امرأ في ضمّة الخيل مصقعا وحديث يوم جبلة ويوم ذي نجب أطول ممّا ذكرنا.

وقد وضع الله - تعالى - أمر الحمس، وما كانت قريش ابتدعت منه على الناس بالإسلام حين بعث الله به رسوله(صلی الله علیه واله).

روى الكوفي في المناقب: عن ابن عباس قال: بعث رسول الله(صلی الله علیه واله) أبا بكر على الموسم، وبعث معه بهؤلاء الآيات من براءة، وأمره أن يقرأها على الناس أن يرفع الحمس - قريش وكنانة وخزاعة . . - إلى عرفات، فسار أبو بكر حتّى نزل بذي الحليفة، فنزل جبرئيل على النبي(صلی الله علیه واله)، فقال: ((لن يؤدّي عنك إلاّ رجل منك)).

ثمّ إنّ رسول الله(صلی الله علیه واله) بعث علي بن أبي طالب(علیهما السلام) في أثر أبي بكر، فأدركه بذي الحليفة، فلمّا رآه أبو بكر قال: أمير أو مأمور؟ فقال: بل مأمور، بعثني إليك رسول الله(صلی الله علیه واله) لتدفع إليّ براءة، فدفعها إليه، وانصرف أبو بكر إلى النبي(صلی الله علیه واله) فقال: يا رسول الله، ما لي نزعت منّي براءة؟ أنزل فيّ شيء؟

ص: 128

قال: لا، ولكنّه لا يبلّغ عنّي غيري أو رجل منّي، وأنا وعلي من شجرة واحدة والناس من أشجار شتّى(1)(2).

الرئاسة والشجاعة

كانت الرئاسة والحكومة في بني عامر بن صعصعة، ولم تزل فيهم.

قال أبو عمر: جاء الإسلام وأربعة أحياء قد غلبوا الناس كثرة: شيبان بن ثعلبة، وجشم بن بكر بن تغلب، وعامر بن صعصعة، وحنظلة بن مالك، فلمّا جاء الإسلام خمد حيّان وطمى حيّان، طمى بنو شيبان وعامر بن صعصعة، وخمد جشم وحنظلة(3).

وعدّهم دغفل النسّابة في أشراف قبائل الجاهلية وقال: وأمّا بنو

ص: 129


1- في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 15/204 : قال أبو عثمان : وكان الزبير بن عبد المطّلب شجاعاً أبيّاً، وجميلاً بهيّاً، وكان خطيباً شاعراً، وهو الذي يقول : ولولا الحمس لم يلبس رجال ثياب أعزّة حتى يموتوا ثيابهم شمال أو عباء بها دنس كما دنس الحميت ولكنّا خلقنا إذ خلقنا لنا الحبرات والمسك الفتيت وكأس لو تبين لهم كلاماً لقالت إنّما لهم سبيت تبين لنا القذى إن كان فيها رضين الحلم يشربها هبيت ويقطع نخوة المختال رقيق الحدّ ضربته صموت بكفّ مجرّب لا عيب فيه إذا لقي الكريهة يستميت
2- مناقب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لمحمد بن سليمان الكوفي : 1/469 ح371 .
3- الإنباه لابن عبد البرّ : 97 .

عامر فكثير سادتهم، مخشيّة سطوتهم، ظاهرة نجدتهم(1) ..

وقال عنهم ابن القرية: وبنو عامر أطولها رماحاً، وأكرمها صباحاً(2) ..

ونسب أبو هريرة إلى النبي(صلی الله علیه واله) أنّه سئل عن بني عامر فقال(صلی الله علیه واله): جمل أزهر يأكل من أطراف الشجر(3) ..

وقال زهير بن جذيمة العبسي عند منصرفه من النعمان في سياق ما جرى في قصّة مقتل ابنه شاس:

ولكن حمتهم عصبة عامرية

يهزّون في الأرض القصار العواليا

مساعير في الهيجا مصاليت في الوغى

أخوهم عزيز لا يخاف الأعاديا

يقيمون في دار الحفاظ تكرّماً

إذا ماقني القوم أضحت خواليا

وقال شاس الأسدي في سياق نفس القصّة:

لا تدخلوا على بني عامر، فإنّي أعلم الناس بهم قد قاتلتهم وقاتلوني، وهزمتهم وهزموني، فما رأيت قوماً قطّ أقلق بمنزل من بني عامر، والله ما وجدت لهم مثلاً إلاّ الشجاع، فإنّه لا يقرّ في جحره قلقاً وسيخرجون إليكم، والله لئن نمتم هذه الليلة لا تشعرون بهم إلاّ وهم منحدرون إليكم(4) ..

ص: 130


1- أمالي القالي : 25 .
2- شذرات الذهب : 1/93 .
3- تاريخ بغداد : 2/195 .
4- تاريخ اليعقوبي : 1/186 .

بنو كلاب

روى الميداني عن يونس بن حبيب أنّه قال: زعموا أنّ رقيّة بنت جشم بن معاوية - يعني ابن بكر بن هوازن - ولدت نميراً وهلالاً وسواءة، ثمّ اعتاطت، فنظرت إليها كاهنة ومست بطنها، وقالت: ربّ قبائل فرق، ومجالس حلق، وطعن خرق في بطنك، فأمخضت ربيعة بن عامر(1)... وهو أبو كلاب وكعب، وأمّ كلاب اسمها مجد من قريش.

ومجد هي أمّ كلاب وكليب وكعب بني ربيعة بن عامر بن صعصعة، وهي بنت تميم بن مرّة بن غالب بن فهر، وهي التي جعلت بني عامر حمساً ..

وفرسان بني كلاب وأبطالهم ورؤساؤهم الذين قادوا هوازن في الحروب وشهرت نكايتهم في العرب، ونحن إن أوردنا كلّ فرسان بني عامر يطول بنا المقام... ولا نذكر كلّهم، بل نذكر مقدار ما يستبين به أهمّية هذه القبيلة، ودقّة اختيار مولانا أمير المؤمنين(علیه السلام) لها على سائر نساء العرب.

وإذا عرفت فرسان رهطها الأدنى لا يخفى عليك فرسان بقيّة قومها من بني عامر، مثل: بني نمير الذين هم جمرة العرب، وبني قشير، وبني عقيل، وبني البكّاء، وأمثال هؤلاء، كعمرو بن عامر فارس الضحيا،

ص: 131


1- مجمع الأمثال : 1/221 .

وخداش بن زهير، وغيرهما من الفرسان المضروب بهم المثل.

ولدت أمّ البنين الكبرى لمالك بن جعفر بن كلاب خمسة، كلّ واحد منهم سيّد من سادات قومه، ورئيس من رؤسائهم، وقائد من قوّادهم، وهم: ربيعة بن مالك، وهو ربيعة المقترين، وهو أبو لبيد الشاعر، ومعاوية بن مالك بن جعفر، وهو معوذ الحكّام، والطفيل بن مالك، وهو فارس قرزل، وهو أبو عامر بن الطفيل، وعامر بن مالك، وهو ملاعب الأسنّة، وسلمى بن مالك، وهو نزال المضيق، وفيها ضرب المثل، فقالت العرب: أنجب من أمّ البنين، ذكره أبو هلال العسكري في جمهرة الأمثال على هامش الميداني(1)، والميداني أيضاً في مجمع الأمثال(2)، وهي ابنة عمرو بن عامر فارس الضحيا العامري.

وبهؤلاء الخمسة افتخر لبيد بن ربيعة في مجلس النعمان بن المنذر ملك الحيرة حيث يقول:

نحن بنو أمّ البنين الأربعه(3)

ونحن خير عامر بن صعصعه

الضاربون الهام وسط المجمعه

ص: 132


1- جمهرة الأمثال على هامش مجمع الأمثال : 2/242 .
2- مجمع الأمثال : 2/205 .
3- جعلهم أربعة لضرورة الشعر، اضطرّته القافية إلى ذلك .

فلم ينكر عليه النعمان ولا أحد من العرب، لأنّ لهم شرفاً لا يدافع(1).

ومن بني جعفر خالد بن جعفر مدرك الثأر، والأحوص بن جعفر قائد مضر يوم خزازي، وقائد قومه يوم شعب جبلة، وعامر بن الطفيل أحد فرسان العرب المجمع على فروسيّتهم في الجاهلية، ولبيد الشاعر المشهور صاحب المعلقة أحد فرسانهم وأجوادهم جاهلية وإسلاماً، وأربد بن قيس، وهو أربد الحتوف بطل مارد، وهو أخو لبيد، وجبّار بن صخر بن سلمى فارسهم في الجاهلية والإسلام، ويزيد بن الصعق الكلابي، وعتبة بن جعفر، وابنه عروة الرحّال، وعلقة بن علاثة الصحابي، والضحّاك بن سفيان الكلابي، والمحلق ممدوح الأعشى، وجواب وهو مالك بن كعب الكلابي، وشتير بن خالد، وابنه عتبة بن شتير، وغيرهم ممّن ستعرف أسماءهم.

ربيعة المقترنين

وهو ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب، وهو فارس ذي العلق،

ص: 133


1- للأبيات تتمّة تجدها في جمهرة الأمثال للعسكري : 2/118 رقم 1362، « قولهم : قد قيل ذلك إن حقّاً وإن كذبا)) .

ووالد لبيد الشاعر المشهور، الذي كان من سادات بني عامر جوداً وشجاعة وقيادة، قادهم في كثير من الحروب، وقتلته بنو أسد.

معاوية بن مالك بن جعفر بن كلاب

وهو معوذ الحكّام، وهو سيّد من سادات بني عامر، ومن شعرائهم وأبطالهم المشهورين، وهو عمّ لبيد الشاعر.

قال الآمدي في المؤتلف والمختلف(1): قيل له: معوذ الحكّام لشيء كان جرى بين بني عقيل وبني قشير، فأصلح بينهم، وهو غلام حديث السنّ، وسمّي بذلك ببيت قاله في أبيات كثيرة:

أعوذ بعدها الحكام مثلي

إذا ما الأمر في الأشياع نابا

وهو القائل:

تفاخرني بكثرتها قريط

فيا لك والد الحجل الصقور

بغاث الطير أكثرها فراخاً

وأمّ الباز مقلات نزور

فإن أك في عدادكم قليلاً

فإنّي في عدوّكم كثير(2)

ص: 134


1- المؤتلف والمختلف : 188 .
2- انظر : معجم الشعراء : 391 .

***

الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب ((فارس قرزل))

وهو أبو عامر ابن الطفيل، فارس العرب، وكان الطفيل من فرسان بني عامر في الجاهلية، ومن الرؤساء والأجواد والشعراء.

قال ابن قتيبة في ترجمة ابن عامر: وأبوه فارس قرزل، وقال بعض الشعراء لعامر:

فإنّك يا عام بن فارس قرزل

عن القصد إذ يممت ثهلان جائر(1)

والطفيل وأخوه ملاعب الأسنّة أسرا معبد بن زرارة التميمي يوم رحرحان، في قصّة طويلة ذكرها ابن عبد البر في العقد الفريد(2).

أبو براء ملاعب الأسنّة

واسمه عامر - على المشهور -، وقيل: عمرو بن مالك بن جعفر بن كلاب، فارس العرب، مجمع على فروسيّته، أدرك الإسلام وأسلم على المشهور.

وهو الذي أجار أصحاب رسول الله(صلی الله علیه واله) فغدر بهم عامر بن الطفيل يوم بئر معونة، فمات أبو براء كمداً وحزناً، وكان معروفاً عند العرب بالشجاعة والفروسيّة والشرف.

قال العسقلاني في الإصابة: أبو براء المعروف بملاعب الأسنّة، ذكره

ص: 135


1- الشعر والشعراء : 118 .
2- انظر : العقد الفريد : 3/313 .

خليفة والبغوي وابن البرقي والعسكري وابن قانع البارودي وابن شاهين وابن السكن في الصحابة، وقال الدار قطني: له صحبة.

وروى ابن الأعرابي في معجمه عن عامر بن مالك قال: بعثت إلى رسول الله(صلی الله علیه واله) ألتمس منه دواء، فبعث اليّ بعكّة من عسل.

وذكر ابن شبة أنّ النبي(صلی الله علیه واله) استعمله على بني جعفر، وقال(صلی الله علیه واله) للضحّاك بن سفيان الكلابي: استوص به خيراً - يعني عامراً -.

وأوّل من لقّبه ((ملاعب الأسنّة)) ضرار بن عمرو القيسي، ولقّبه الرويم، وذلك في يوم السوبان.

وقال ابن قتيبة في الشعراء: ملاعب الأسنّة، هو عمّ لبيد، وهو عامر بن مالك، وسمّي ((ملاعب الأسنّة)) بقول أوس بن حجر فيه:

ولاعب أطراف الأسنّة عامر

فراح له حظّ الكتيبة أجمع(1)

وكان ملاعب الأسنّة أخذ أربعين مرباعاً في الجاهلية.

وقيل: لقول حسّان بن نمير، وقد رآه بين فرسان أطافوا به يقاتلهم: ما هذا إلاّ ملاعب الأسنّة . وقيل غير ذلك.

وكان أبو براء مع البطولة والقيادة والسيادة شاعراً مجيداً.

قال ابن نباتة في شرح الرسالة: يزعمون أنّه لمّا تنافر ابن أخيه عامر بن الطفيل مع علقمة بن علاثة سأل عمّه الإعانة، فأعطاه نعليه وقال: إستعن بهما في مفخرتك، فإنّي ربعت فيهما أربعين مرباعاً، مع أنّه كان

ص: 136


1- الشعر والشعراء : 90 .

كارهاً للمنافرة، وفي ذلك يقول:

أؤمر أن أسبّ بني شريح

ولا والله أفعل ما حييت

ومن شعره:

دفعتكم عنّي وما دفع راحة

بشيء إذا لم تستعن بالأنامل

يضعضعني حلمي وكثرة جهلكم

عليّ وإنّي لا أصول بجاهل

براء بن أبي براء

ملاعب الأسنّة، عامر بن جعفر بن كلاب الكلابي، كان فارساً شاعراً بطلاً من أبطال بني كلاب في العصر الجاهلي، قتل يوم النتأة، وقد ذكر ابن الأثير قصّة هذا اليوم مفصّلاً(1).

ربيعة بن أبي براء

ملاعب الأسنّة، أخو المتقدّم، كان صحابياً فارساً من فرسان بني كلاب، وبطلاً من أبطال العرب.

وذكر غير واحد من أهل المغازي أنّه أهدى لرسول الله(صلی الله علیه واله) بغلة أو ناقة، ورأيت له رواية عن أبي الدرداء من طريق حبيب بن عبيد عنه ..

وقال الدياربكري في تاريخ الخميس في أفراس النبي(صلی الله علیه واله): واللحيف كأمير وزبير، فرس لرسول الله(صلی الله علیه واله)، لأنّه كان يلحف الأرض بيديه،

ص: 137


1- الكامل في التاريخ : 1/399 .

أهداه له ربيعة بن أبي البراء، فأثابه عليه من نعم بني كلاب(1).

وذكر الطبري في تاريخه(2) وابن عساكر في تاريخ دمشق أنّ ربيعة هذا طعن عامر بن الطفيل برمحه وضربه بسيفه طلباً بخفرة أبيه.

قال ابن عساكر في قصّة أصحاب الرجيع: ثمّ إنّ النبي(صلی الله علیه واله) لقى ربيعة ابن ملاعب الأسنّة، فقال له: ما فعلت ذمّة أبيك؟ فقال: نقضتها بضربة سيف أو بطعنة رمح، فقال له: نعم(3).

نهشل بن عبيدة نزال المضيق

ابن مالك بن جعفر بن كلاب الجعفري الكلابي، أحد أبطال الجاهلية، وسادات بني عامر وأشرافهم وفرسانهم، قتل يوم النتأة مع براء بن أبي براء، قتلهما بنو عبس، ذكره ابن عبد ربّه في العقد الفريد في قصّة هذا اليوم(4).

مدرك الثأر خالد بن جعفر بن كلاب

الملقّب بالأصبغ، وذي الشامة، الجعفري الكلابي، أحد سادات العرب وأبطالهم الأُباة الحماة، وممّن يضرب به المثل في الشجاعة، ومن

ص: 138


1- تاريخ الخميس : 1/206 .
2- تاريخ الطبري : 3/35 .
3- تاريخ دمشق : 7/198 .
4- العقد الفريد : 2/235 .

أشهر رجالات العرب فروسيّة وصيتاً، شهد يوم السلان من حروب العدنانية والقحطانية، وله فيه ذكر ذائع وشعر مشهور، وهو قائد هوازن ووافدهم إلى الملوك، وكان له عند الملوك محلّ سامي، وهو الذي أنكر الظلم والجور والبغي في الأرض والإسراف في إراقة دماء الأبرياء مع كونه شابّاً لم يكتهل، وانتقم من الجائر زهير بن جذيمة العبسي.

وأمّ خالد ((خبيئة الغنوية)) إحدى المنجبات من نساء العرب، فإنّها ولدت لجعفر بن كلاب: مالك، الملقّب بالطيّان، لكثرة ما يطوي بطنه ويؤثر على نفسه، وخالد، الملقّب بالأصبغ لشامة بيضاء في مقدّم رأسه، وربيعة، الملقّب بالأحوص لصغر عينيه، كلّ واحد منهم ساد قومه، وأجمع على ذلك علماء العرب في مجلس معاوية(1).

قال الشريف المرتضى في أماليه: فأمّا خبر مقتل زهير بن جذيمة العبسي أبي قيس، فاختلف الرواة في سببه، فيقال:

إنّ هوازن بن منصور كانت تؤتي الأتاوة زهير بن جذيمة، ولم تكثر عامر بن صعصعة بعد، فهم أذلّ في رحم، فأتت عجوز من هوازن إلى زهير بن جذيمة بسمن في نحي، فاعتذرت إليه وشكت السنين التي تتابعت على الناس، فذاقه، فلم يرض طعمه، فدعّها - أي دفعها - بقوس في يده عطّل في صدرها، فسقطت وبدت عورتها.

فغضبت من ذلك هوازن وحقدته إلى ما كان في صدرها من الغيض

ص: 139


1- انظر : الأغاني لأبي الفرج : 16/19 .

كانت يومئذٍ قد أمرت بنو عامر بن صعصعة - أي كثرت - فآلى خالد بن جعفر بن كلاب، فقال: والله لأجعلنّ ذراعي وراء عنقه حتّى أُقتل أو يُقتل.

وفي ذلك يقول خالد بن جعفر:

أريغوني أراغتكم فإنّي

وحذفة كالشجا تحت الوريد

مقربة أواسيها بنفسي

وألحفها ردائي في الجليد

لعلّ الله يمكنني عليها

جهاراً من زهير أو أسيّد

فإمّا تثقفوني فاقتلوني

فمن أثقف فليس إلى خلود(1)

وقيل في سبب قتله غير ذلك ..

وقد قتل خالد بن جعفر الكلابي غيلة، اغتاله الحارث بن ظالم المرّي من غطفان، فقتله وهو نائم في جوار الأسود بن ا لمنذر ملك الحيرة.

وفي ذلك يقول عبد الله بن جعدة:

شقّت عليك العامرية جيبها

أسفاً وما تبكي عليك ظلالا

يا حار لو نبّهته لوجدته

لا طائشاً رعشاً ولا معزالا

فاغرورقت عيناي لمّا أبصرت

بالجعفري وأسبلت إسبالا

فلنقتلنّ بخالد سرواتكم

ولنجعلنّ الظالمين نكالا

فإذا رأيتم عارضاً متلبّيا

منّا فإنّا لا نحاول مالا

ص: 140


1- أمالي المرتضى : 1/125 .

فثارت بسبب مقتل خالد حروب هائلة، ووقعت وقائع طاحنة، واستعرت نيران كفاح إندلع لسانها في جزيرة العرب، وتطاير شررها على الشعبين القحطاني والعدناني، واصطلى برهجها المتأجّج قبائل تميم وأسد، وقبائل اليمن وغطفان، وغيرها، وقتل فيها أعلام العرب، وسادات مضر واليمن ..

وقتل الحارث بن ظالم بعد أن نبت به البلاد، وضاقت في وجهه الدنيا، ولم يجد أحداً يأويه أو يجيره من العرب، فقصد ملوك غسّان بالشام مستجيراً بهم، وقتله من أجاره جزاء عمله . . . هذا هو المشهور.

وفي مجاني الأدب: أنّ المنذر قبض عليه فقتله بخالد ((سنة 600 ميلادية))(1).

الأحوص بن جعفر بن كلاب

الجعفري العامري، قائد مضر يوم خزازي، وقائد هوازن يوم رحرحان وشعب جبلة وغيرهما، وكان من أعلام العرب وساداتها وشعرائها، وكان هو الوافد على ملوك التبابعة في طلب الصلح بين الشعبين ..

والأحوص من الإحتياص أي الحزم والتحفّظ . . ويحتمل أن يكون

ص: 141


1- مجاني الأدب : 2/603 .

لقب الأحوص اشتقّ من هذا لشدّة تحفّظه وحزمه في الأمور.

قال أبو زياد الكلابي: أخبرنا من أدركنا من مضر وربيعة: أنّ الأحوص بن جعفر بن كلاب كان على نزار كلّها يوم خزاز، وهو الذي أوقد النار على خزاز، ويوم خزاز أعظم يوم التقت فيه العرب في الجاهلية.

مات الأحوص كمداً على ابنه عمرو.

عوف بن الأحوص

ابن جعفر بن كلاب، فارس العصا، واسم فرسه ((العصا))، وهو جدّ علقمة بن علاثة، وكان عوف بن الأحوص بطلاً شجاعاً فارساً ذا رأي وتجربة، مصيباً في ما يشير به، وشاعراً مجيداً فحلاً من شعرائهم.

ومن شعره:

ومستنبح يبغي المبيت ودونه

من الليل باباً ظلمة وستورها

رفعت له ناري فلمّا اهتدى بها

زجرت كلابي أن يهرّ عقورها

فبات وقد أسرى من الليل عقبة

بليلة صدق غاب عنها شرورها

إذا قيلت العوراء ولّيت سمعها

سواي ولم أسأل بها ما دبيرها

وله:

أبى حسبي وفاصلتي ومجدي

وإيثاري المكارم والمساعي

وقومي هم أحلّوني وحلّوا

من العليا بمرتقب يفاع

ولم أظلف عن الشعراء عرضي

كما ظلف الوسيقة بالكراع

ص: 142

شهد يوم رحرحان، ويوم شعب جبلة، وكان هذا اليوم من عظام أيّام العرب، ويوم الفجار وغيرها، وفي كلّها له صوت.

شريح بن عوف بن الأحوص

من أشهر فرسان بني عامر وأبطالهم في الجاهلية، له الصيت الذائع في أيّامهم المشهورة، مثل يوم رحرحان ويوم جبلة وغيرهما، وهو قاتل لقيط بن زرارة التميمي قائد الجيش في جبلة . . وأخباره كثيرة.

يزيد بن الصعق الكلابي

فارس بني كلاب وشاعرها في العصر الجاهلي، وشهد الوقائع العظمى مثل رحرحان وجبلة وغيرهما، وظهرت آثاره فيهما، وهو الذي أسر رؤية بن رومانس أخا النعمان بن المنذر، وقائد جيشه لحرب بني عامر.

قال المرزباني في معجم الشعراء: يزيد بن الصعق الكلابي العامري فارس بني

عامر وشاعرهم، كان بطلاً مشهورا مسلّم بالفروسيّة(1).

وقال الجواليقي في شرح أدب الكاتب: وليزيد بن عمرو الكلابي أبيات مؤسّسة منها: ((كأمس الدابر))، وهي:

أعقرتموا جملي برحلي قائماً

ورميتم جاري بسهم ناقر

ص: 143


1- معجم الشعراء : 494 .

فاذا ركبتم فالبسوا أدراعكم

إنّ الرماح بصيرة بالحاسر

إذ تظلمون وتأكلوا صديقكم

فالظلم تارككم بجدّ عاثر

إنّي سأقتلكم ثنا وموحّداً

وتركت ناصركم كأمس الدابر

ولهذه الأبيات قصّة، وهي تحكي قوّة عقله، وإدراكه لقبح الظلم والبغي والجور، وأنّها تؤدّي بصاحبها إلى الدمار، وتوجب له العثار، وتلوّث سلوكه بالعار والشنار.

وقد استجارت بيزيد هذا باهلة فأجارهم من بني جعدة بن كعب.

أبو عقيل لبيد بن ربيعة

ابن مالك بن جعفر، الشاعر المشهور، صاحب المعلّقة، كان صحابياً، من فحول شعراء الجاهلية، وترك الشعر في الإسلام، وقال: أبدلني الله بالشعر سورة البقرة وآل عمران، فلم يقل في الإسلام شعراً إلاّ بيتاً واحداً، وهو قوله:

الحمد لله إذ لم يأتني أجلي

حتّى لبست من الإسلام سربالا

وكان من أجواد العرب وفرسانهم الشجعان، زاد بالإسلام عزّاً، وكان شيعيّاً، وكان يطعم ما هبت الصبا، فإذا هبت الصبا قال قائلهم: أعينوا أبا عقيل على مروّته.

وقدم لبيد الكوفة وأقام بها إلى أن مات، فدفن في صحراء بني جعفر بن كلاب.

ومن شعره ما قاله في مرثية أخيه أربد:

ص: 144

فلا جزع إن فرّق الدهر بيننا

فكلّ امرء يوماً به الدهر فاجع

وما الناس إلاّ كالديار وأهلها

بها يوم خلّوها وغدوا بلاقع

وما المرء إلاّ كالشهاب وضوءه

يحور رماداً بعد ما هو ساطع

وما المال والأهلون إلاّ ودائع

ولا بدّ يوماً أن تردّ الودائع

وما الناس إلاّ عاملان فعامل

يتبر ما يبني وآخر رافع

فمنهم سعيد آخذ بنصيبه

ومنهم شقيّ بالمعيشة قانع

أليس ورائي إن تراخت منيّتي

لزوم العصا تحني عليها الأصابع

أخبر أخبار القرون التي مضت

أدبّ كأنّي كلّما قمت راكع

فأصبحت مثل السيف أخلق جفنه

تقادم عهد القين والسيف قاطع

فلا تبعدنّ إنّ المنيّة موعد

علينا فدان للطلوع وطالع

أعاذل ما يدريك إلاّ تظنّيا

إذا رحل السفار من هو راجع

أأجزع ممّا أحدث الدهر بالفتى

وأيّ كريم لم تصبه القوارع

وأخبار لبيد كثيرة، وشعره مشهور، ومعلّقته معروفة.

أربد الحتوف الجعفري الكلابي

اسمه عمرو، وهو أخو لبيد بن ربيعة لأمّه، ولقبه ((أربد الحتوف))، كان بطلاً مارداً شجاعاً متمرّداً، وأبوه قيس من فرسان بني عامر، وجدّه جزء بن خالد من فرسانهم وساداتهم، وهو فارس شحمة - اسم فرس -، وقد اعترف عامر بن الطفيل له بالفروسيّة، وأقرّ له بالبطولة والفتك، ومع كونه بطلاً كان شاعراً مجيداً.

ص: 145

عروة الرحّال الكلابي

الجعفري، أحد سادات مضر في الجاهلية، وشجعان قيس وأبطال بني عامر،

وكان من أجواد العرب وشعرائهم حيث كان الشعر من فضائل العرب، وكان من ذوي العقل والشهامة، وأحد الأربعة الذين اجتمعت عليهم هوازن كلّها.

وكان من الرحّالين إلى الملوك المحترمين عندهم، وبرحلته إلى الملوك لقّب ب-((الرحّال)).

وكان يعرف بجهارة الصوت، وزعموا أنّه رحل إلى معاوية بن الجون الكندي، فغزى معاوية بني حنظلة قومه من بني عامر، واستصحبه معه، فلمّا كان بواردات قال لمعاوية: إنّ لي حقّ صحبة ورحلة، وأريد أن أنذر قومي من هاهنا، وبينه وبينهم مسيرة ليلة، فعجب معاوية منه، فأذن له، فصاح: يا صباحاه، ثلاث مرّات، فسمعه قومه من الشعب، فاستعدوا لذلك(1) ..

وبسبب مقتله هاجت حروب طاحنة بين الكنانية وقريش، وبين هوازن ذهبت فيها نفوس كثيرة قتل فيها من مشاهير قريش ((العوام)) والد الزبير وأحيحة بن سعيد بن العاص، وهو أكبر أولاده، والمكنّى به، وعرفت هذه الحروب بحروب الفجار.

ص: 146


1- شرح رسالة ابن زيدون بهامش شرح لاميّة العجم : 1/90 .

الضحّاك بن سفيان الكلابي

أحد بني بكر بن كلاب، شاعر، فارس، من الصحابة والأبطال المشهورين، والقوّاد القديرين، أسلم ووفد على النبي(صلی الله علیه واله)، وتولّى له قيادة بعض السرايا..

وقال الواقدي: كان على صدقات قومه، وكان من الشجعان، يعدّ بمائة فارس، وبعثه النبي(صلی الله علیه واله) على سريّة، وفيه يقول العباس بن مرداس:

إنّ الذين وفوا بما عاهدتهم

جيش بعثت عليكم الضحّاكا(1)

قال ابن سعد(2): كان ينزل نجد في حوالي ضرية، وكان والياً على من أسلم من قومه.

وقال ابن عساكر في تاريخ دمشق: كان الضحّاك سيّافاً لرسول الله(صلی الله علیه واله) قائماً على رأسه متوشّحاً سيفه، وكانت بنو سليم في تسعمائة، فقال رسول الله(صلی الله علیه واله): هل لكم في رجل يعدل بمائة يوفّيكم ألفاً؟ فوفّاهم بالضحّاك(3).

قال الغزالي: روي أنّ الضحّاك بن سفيان الكلابي كان رجلاً دميماً قبيحاً، فلمّا بايعه النبي(صلی الله علیه واله) قال: إنّ عندي امرأتين أحسن من هذه

ص: 147


1- الإصابة : 2/306 .
2- الإصابة : 2/306 .
3- تاريخ دمشق : 7/258 .

الحميراء، وذلك قبل أن تنزل آية الحجاب، فهلاّ أنزل لك عن أحدهما، فتتزوّجها وعائشة تسمع، فقالت: هما أحسن أمّ أنت؟ فقال: بل أنا أحسن منهما وأكرم، فضحك رسول الله(صلی الله علیه واله)(1) ..

قال الزركلي في الأعلام: مات الضحّاك سنة 11 هجرية.

***

نكتفي بهذا القدر من ذكر أسماء أبطال قبيلة أمّ العباس(علیه السلام) ورجالهم وفرسانهم، ولو أردنا استقصاءهم في كتاب ضخم لضاقت بهم أوراقه.

وفي النموذج الذي ذكرناه كفاية لمن أراد أن يتعرّف إلى موقع هذه المرأة الكريمة في بيت الفروسيّة والشجاعة والبطولة والإقدام والكرم والسخاء وحماية الجوار.

قال السيّد المقرّم : ومنه - أي من نسبها - عرفنا آباءها وأخوالها، ويعرّفنا التاريخ: أنّهم فرسان العرب في الجاهلية، ولهم الذكريات المجيدة في المغازي بالفروسيّة والبسالة، مع الزعامة والسؤدد حتّى أذعن لهم الملوك، وهم الذين عناهم عقيل بن أبي طالب(علیهما السلام) بقوله: ليس في العرب أشجع من آبائها ولا أفرس ..

وذلك مراد أمير المؤمنين(علیه السلام) من البناء على امرأة ولدتها الفحولة من

ص: 148


1- إحياء العلوم : 2/113 .

العرب، فإنّ الآباء لابدّ وأن تعرق في البنين ذاتيّاتها وأوصافها، فإذا كان المولود ذكراً بانت فيه

هذه الخصال الكريمة، وإن كانت أنثى بانت في أولادها، وإلى هذا أشار صاحب الشريعة الحقّة بقوله: ((الخال أحد الضجيعين، فتخيّروا لنطفكم))(1).

ص: 149


1- العباس عليه السلام للمقرّم : 69 .

أبو الفضل العباس(علیه السلام) معمّ مخول

إذا نظرت في هذا النسب الذي سقناه، ولم نستوفه كما ينبغي في كلا طرفي منتمى العباس بن أمير المؤمنين علي بن طالب: من العمومة والخؤولة علمت أنّه تكامل فيه المجد الوراثي، لأنّ الأعراق النسبية تؤثر في الفروع، وربما تكون الغلبة للنساء على ارتسام شيمها وشيم آبائها في غرسها ما يثمر في الأولاد ثمراً حلواً أو مرّاً، فاذا كان الرجل والمرأة في المرتبة السامية من الشرف، والسؤدد فأيّهما علق شبه المولود به فقد كمل، ولا يدخل على المولود من ناحية الأبوين النقص إلاّ إذا كان أحدهما وضيعاً.

وقد اتفق على تقرير هذا المعنى وتأييده العقل والشرع والطب والعرف وجرت على التسليم له العرب جاهلية وإسلاماً حتّى يومنا هذا، وربما كان تشاكل الطباع المتقاربة وتشابهها في الآباء والأبناء هو السبب في قول مولانا أمير المؤمنين(علیه السلام) لأخيه عقيل في خطبة أمّ البنين(علیها السلام).

ص: 150

وقد استفاضت الأحاديث النبوية وغيرها من أحاديث أئمة أهل البيت: في تأكيد هذه المسألة، كقوله(صلی الله علیه واله): إيّاكم وخضراء الدمن، قيل: ومن هي يا رسول الله؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء.

والدمنة: هي مجتمع الأرواث والأبعار والأبوال، فتنبت فيها بقلة خضراء، أصل هذه البقلة من هذه الأوراث، فالمرأة الحسناء في بيت الفجور كذلك خبيثة الأصل، فهي تمتصّ منه بطبعها.

وهذا كقوله(صلی الله علیه واله): العرق دساس.

وقوله(علیه السلام): إيّاكم والحمقاء، فإنّ ولدها إلى أفن، بعد قوله: تخيّروا لنطفكم.

وأصل ذلك كلّه القرآن المجيد، فإنّ القرآن أوّل من نبّه على ذلك حيث يقول: ((وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاّ نَكِداً)).

وقد وردت أحاديث كثيرة جدّاً، منها:

ص: 151

ما رواه ثقة الإسلام الكليني في فروع الكافي بإسناده عن الصادق(علیه السلام) قال: قال النبي(صلی الله علیه واله): اختاروا لنطفكم، فإنّ الخال أحد الضجيعين(1).

وبإسناده قال: قام رسول الله(صلی الله علیه واله) خطيباً، فقال: إيّاكم وخضراء الدمن، قيل: يا رسول الله، وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء.

رواهما الحرّ العاملي في كتاب وسائل الشيعة، وزاد بإسناده قال: قال رسول الله(صلی الله علیه واله): أنكحوا الأكفاء، وانكحوا إليهم، واختاروا لنطفكم.

وعن الصادق(علیه السلام) قال: الشجاعة في أهل خراسان، والباه في أهل بربر، والسخاء والحسب في العرب، فتخيّروا لنطفكم.. في أحاديث كثيرة.

فينبغي للكريم أن لا يتزوّج إلاّ من الأكفاء.

***

فاذا عرفت جميع ما حرّرناه علمت أنّ الولد الحسيب من الطرفين، الكريم من ناحية الأصلين، أيّهما أشبه من أبويه أو عمّيه وخاليه، فإنّه يكون كريماً من غير شكّ، وإذا أشبه الجميع، فذاك الرجل الوحيد، والفتى الممتاز.

ص: 152


1- الكافي : 5/2 .

وإذا أمعنت النظر في جميع ما ذكرنا من الشواهد عرفت أنّ توافق العقلاء على شيء يوجب القطع به، وإنّ من له شرف الآباء والأمّهات فهو الممدوح عند العرب ويسمّونه المعمّ المخول، ويعنون بالمعمّ المخول أنّه كريم الأعمام والأخوال، والشواهد على هذا كثيرة لا تحصى.

وبهذا نعرف أنّ أبا الفضل العباس(علیه السلام) بن أمير المؤمنين(علیه السلام) أشجع العرب، وأشدّهم بأساً من حيث أنّه معمّ مخول:

أمّا من حيث العمومة، فما يقول القائل في بيت منهم رسول الله(صلی الله علیه واله) أشجع الخلق قاطبة، وقد فرّ عنه الجيش يوم أحد، وثبت هو وأمير المؤمنين(علیه السلام)، وانهزم الناس يوم حنين، وثبت هو(صلی الله علیه واله) وتسعة معه من بني عبد المطلب.

ومنهم أمير المؤمنين(علیه السلام) أشجع البشر الذي عجبت الملائكة من ثباته حتّى قال قائلهم:

لا سيف إلاّ ذو الفقار

ولا فتى إلاّ علي

وكانت له درع لها صدر ولا ظهر لها، فقيل له في ذلك، فقال(علیه السلام): إن أمكنت عدوّي من ظهري فلا أبقى الله عليه إن أبقى عليّ.

ومنهم الحسن والحسين وطالب بن أبي طالب:، وهو الذي امتنع من قريش في بدر بسيفه حين رجع فلم يتبعه أحد منهم خوفاً، وما صنع أحد من قريش صنعه، وفيهم كثير ممّن يكره حضور بدر.

ومنهم جعفر الطيار، وهو أوّل عربي عقر فرسه في سبيل الله.

ومنهم حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله.

ص: 153

ومنهم الزبير بن عبد المطلب صاحب حلف الفضول، والذي حمى مكة أن يظلم بها أحد، وكانت قريش لا تبرم أمراً حتّى يشهده، وهو الذي طرد حرب بن أميّة حتّى استجار منه بأبيه عبد المطلب.

ومنهم أبو طالب بن عبد المطلب(علیهما السلام) قائد قريش في حروب الفجار، وشهد له رسول الله(صلی الله علیه واله) حيث قال: ((لو أنّ الناس كلّهم ولدهم أبو طالب ما كان فيهم إلاّ شجاعاً)) ذكره ابن أبي الحديد وغيره في قصّة أمّ هانئ في فتح مكة، وكلّ بني عبد المطلب شجعان.

وأمّا من حيث الخؤولة، فقد عرفت فرسان بين كلاب، ومن فرسان بني عامر غيرهم كثير، منهم: عمرو بن عامر فارس الضحيا، ومعاوية الأخيل، ومعاوية بن البكاء، وخداش وجابر ابنا سمرة، وعبد الله بن الطفيل، والمنتفك، وغيرهم ممّا طوينا عن ذكرهم صفحاً إيثاراً للاختصار على التطويل.

إذن يطمئن كلّ ذي فكرة وروية أنّ نسباً تسلسل من لدن آدم(علیه السلام) حتّى انتهى إليه، ونظم في سلسلته محمد المصطفى(صلی الله علیه واله)، وعلي المرتضى(علیه السلام)، وأسد الله وأسد رسوله، والطيار، والسبطين:، لا نظير له ولا مثيل، ولا يشكّ في تفوّقه على كلّ نسب لعربي وغيره، ولا شكّ فهو مفتخر البشرية قاطبة.

وحيث علمنا ما للعباس(علیه السلام) من الشرف من حيث الآباء، ومن حيث الأمهات، بقي علينا أن نحرّر تراجم موجزة جدّاً لأعمام

ص: 154

العباس(علیه السلام) نقتصد فيها..

عمومة العباس(علیه السلام)

أعمامه ثلاثة: طالب وعقيل وجعفر(علیهما السلام):

1 - طالب بن أبي طالب:

أمّا طالب بن أبي طالب، وهو أكبر ولد أبي طالب، وبه كان يكنى، أمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، أوّل هاشمية ولدت لهاشمي، ولم يتزوّج أبو طالب(علیه السلام) غيرها.

وكان طالب بن أبي طالب من رجال قريش وفتيان بني هاشم شجاعة وفصاحة، وله شعر جيّد، وهو أكبر إخوته باتفاق علماء النسب، نصّ على ذلك جماعة، منهم: ابن شهرآشوب والمجلسي واليعقوبي والمسعودي، وغيرهم من الشيعة، وابن إسحاق والطبري وابن الصباغ وابن قتيبة وسبط ابن الجوزي والخوارزمي، وغيرهم من العامّة.

قال الخوارزمي في المناقب عن الزبير بن بكار قال: ولد أبو طالب بن عبد المطلب طالباً، لا عقب له، وعقيلاً، وجعفر، وعلياً:، كلّ واحد منهم أسنّ من صاحبه بعشر سنين على الولاء، وأمّ هاني، واسمها فاختة، وأمّ كلّهم فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف ..

ص: 155

وقال سبط ابن الجوزي في التذكرة في ذكر أولادها:... وطالب أكبرهم، وكنيته أبو بريد، وكان عالماً بأنساب قريش.

وقال المجلسي في البحار بإسناده عن الصادق(علیه السلام) قال: لمّا خرجت قريش إلى بدر أخرجوا بني عبد المطلب، ومعهم طالب بن أبي طالب، فنزل رجّازهم يرتجزون، ونزل طالب بن أبي طالب يرتجز:

طالب بن أبي طالب

لاهم أمّا يغزون طالب

في عصبة محالف محارب

في مقنب من هذه المقانب

فليكن المسلوب غير السالب

وليكن المغلوب غير الغالب

فقالت قريش: إنّ هذا ليغلبنا فردّوه.

وفي رواية أخرى عن الصادق(علیه السلام): أنّه كان أسلم.

وقال ابن شهرآشوب في المناقب: وإخوته(علیه السلام) طالب وعقيل وجعفر، وعلي(علیه السلام) أصغرهم، وكلّ واحد منهم أصغر من أخيه بعشر سنين بهذا الترتيب، وأسلموا كلّهم، وأعقبوا إلاّ طالب، فإنّه أسلم ولم يعقّب . ..

شعر طالب:

كان شاعراً مجيداً، جمع بين الجزالة والسلالة، في سيرة ابن هشام: قال ابن اسحاق: قال طالب بن أبي طالب يمدح رسول الله(صلی الله علیه واله):

ألم تعلموا ما كان في حرب داحس

وجيش أبي يكسوم إذ ملؤوا الشعبا

فلولا دفاع الله لا شيء غيره

لأصبحتموا لا تمنعون لكم سربا

ص: 156

فما إن جنينا في قريش عظيمة

سوى أن حمينا خير من وطأ التربا

أخا ثقة في النائبات مرزء

كريماً ثناه لا بخيلاً ولا ذربا

يطيف به العافون يغشون بابه

يؤمّون بحراً لا نزوراً ولا صربا

وفي قوله ((فلولا دفاع الله)) في قصّة أبي يكسوم صاحب الفيل.

وفي قوله: ((خير من وطأ التربا)) يعني به النبي(صلی الله علیه واله) دليل قاطع على إسلامه.

2 - عقيل بن أبي طالب:

العلامة النسابة الفصيح اللسان الحاضر الجواب الذي لا يجارى في محاورة، ولا يقام له في خطاب، كان سريع البديهية، حاد الذهن، وقّاد القريحة، حاضر الجواب، لسانه كسنانه، وجوابه أحدّ من شفرة السيف، وكان شجاعاً شهد غزوة مؤته وما بعدها من غزوات النبي(صلی الله علیه واله)، وكان أبوه أبو طالب(علیه السلام) شديد المحبّة له، ورسول الله(صلی الله علیه واله) يحبّه حبّاً شديداًً لأمرين سنذكرهما إن شاء الله.

وقد كان عقيل مبغوضاً إلى قريش لعلمه بمساوئهم، فهو ينشرها ولا يخفيها، فيفتضحون بذلك، فلذا أبغضوه ونسبوا إليه كلّما يشينه ويوجب القدح فيه، حتّى أنّهم نسبوا إليه الانحراف عن أخيه أمير المؤمنين(علیه السلام)، وزعموا أنّه فارقه ولحق بمعاوية، وجرّ هذا التشنيع عليه بغضهم له.

ذكر ابن عبد البرّ وابن الأثير والعسقلاني - والألفاظ متقاربة - واللفظ

ص: 157

للأوّل: عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي، يكنى أبا زيد، روينا أنّ رسول الله(صلی الله علیه واله) قال: يا أبا يزيد إنّي أحبّك حبّاً لقرابتك منّي، وحبّاً لما كنت أعلم من حبّ عمّي إياك. وستأتي رواية الصدوق في ذلك.

قال العدوي:... شهد غزوة مؤتة، وكان أكبر من أخيه جعفر بعشر سنين... وكان عقيل أنسب قريش وأعلمهم بأيامهم، ولكنّه كان مبغّضاً إليهم، لأنّه كان يعدّ مساوئهم.

قال: وكانت له طنفسة تطرح في مسجد رسول الله(صلی الله علیه واله) يصلّي عليها، ويجتمع إليه في علم النسب وأيام العرب، وكان أسرع الناس جواباً، وأحضرهم مراجعة في القول، وأبلغهم في ذلك.

قال: وحدّثني ابن الكلبي عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان في قريش أربعة يتحاكم اليهم ويقف عند قولهم - يعني في النسب - عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل الزهري، وأبو جهم بن حذيفة العدوي، وحويطب بن عبد العزى العامري.

زاد غيره: كان عقيل أكثرهم ذكراً لمثالب قريش، فعادوه لذلك، وقالوا فيه بالباطل، ونسبوه إلى الحمق، واختلقوا عليه أحاديث مزورة.

وقال الجاحظ في البيان والتبيين: كان عقيل بن أبي طالب نسّاباً عالماً بالأمهات، بيّن اللسان، شديد الجواب، لا يقوم له أحد.

ص: 158

وقال: وكان عقيل رجلاً قد كفّ بصره، وله بعد لسانه ونسبه وأدبه وجوابه، فلمّا فضل نظرائه من العلماء بهذه الخصال صار لسانه أطول.

وذكر ابن أبي الحديد: قال معاوية لعقيل: إنّ فيكم ليناً يا بني هاشم؟

قال: نعم، إنّ فينا ليناً من غير ضعف، وعزّاً من غير عنف، وإنّ لينكم يا معاوية غدر، وسلمكم كفر.

فقال معاوية: ولا كلّ هذا يا أبا يزيد.

وقال معاوية يوماً وعنده عمرو بن العاص: لأضحكك من عقيل.

فلمّا سلّم، قال معاوية: مرحباً برجل عمّه أبو لهب.

فقال عقيل: وأهلاً برجل عمّته )حَمّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ(.

فقال معاوية: يا أبا يزيد، ما ظنّك بعمّك أبي لهب؟

قال: إذا دخلت النار فخذ إلى يسارك تجده مفترشاً عمّتك حمالة الحطب،

أفناكح في النار خير أمّ منكوح؟

قال: كلاهما شرّ والله.

وقال له معاوية يوماً: ما أبين الشبق في رجالكم يا بني هاشم.

قال: لكنّه في نسائكم أبين...

وذكر في العقد الفريد قال: دخل عقيل على معاوية وقد كفّ بصره، فأجلسه معاوية على سريره، ثم قال: أنتم معشر بني هاشم تصابون في أبصاركم.

ص: 159

قال: وأنتم معشر بني أميّة تصابون في بصائركم.

صفة عقيل وبعض حكاياته:

قال أبو الحجاج البلوي في كتاب ((ألف باء)): عقيل بن أبي طالب كان طوالاً، وكان أحد العشرة الذين طولهم عشرة أشبار.. وعشرة أشبار بشبر نفسه.

لم يشهد عقيل الجمل وصفين مع أخيه أمير المؤمنين(علیه السلام)، بل تخلّف عنه لغير شكّ في إمامة أخيه ولا خذلان له، بل امتثل أمر إمامه بالتخلّف في المدينة، ليكون له عيناً في الحجاز، يكتب إليه بما يحدث.

روى الصدوق القمّي في كتاب الأمالي عن ابن عباس قال: قال علي(علیه السلام) لرسول الله(صلی الله علیه واله): إنّك لتحبّ عقيلاً؟

قال: إي والله، إنّي لأحبّه حبّين: حبّاً له، وحبّاً لحبّ أبي طالب له، وإنّ ولده لمقتول في محبّة ولدك، فتدمع عليه عيون المؤمنين، وتصلّي عليه الملائكة المقرّبون.

ثم بكى رسول الله(صلی الله علیه واله) حتّى جرت دموعه على صدره، ثم قال: اللهم إنّي أشكو اليك ما تلقى عترتي من بعدي(1)...

ونقلها جماعة منهم الوحيد البهبهاني في التعليقة وأبو علي الرجالي والفاضل المجلسي وغيرهم، والمشار إليه في هذه الرواية المستحقّ

ص: 160


1- الأمالي للصدوق : 88 مج 27 ح3.

لصلاة الملائكة المقرّبين وبكاء المؤمنين الشهيد مسلم بن عقيل(علیهما السلام)، البطل العظيم، فإنّه حريّ بذلك، لأنّه وقف في الكوفة موقفاً نبيلاً حفظ فيه وصيّة المصطفى بالعترة الطاهرة، وأدّى أجر الرسالة الذي لم يسأل الله غيره في موالاتهم حيث يقول: )قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى((1)، فأدّى من محض الإخلاص لسيّد الشهداء الحسين بن علي(علیهما السلام) ما أبهر به عقول ذوي العقول وحيّر ألباب ذوي الألباب.

رجل يقاد أسيراً ليقتل، فيستعبر باكياً، ليس على نفسه - والنفس لا أعزّ منها عند أكثر البشر ولا أغلى - بل للحسين(علیه السلام)، فيقال له: أتبكي وأنت تطلب ما تطلب؟ فيقول: لا - والله - ما لنفسي بكيت، وإن كنت لا أحبّ لها تلفاً، بل أبكي للحسين(علیه السلام) وآل الحسين.

فهذا لعمرك الإخلاص في المحبّة، وهذه هي المواساة العظيمة التي يعزّ لها النظير في التاريخ، وقلّما عرف قبله رجل قيّد إلى المنيّة سحباً لا تهمّه حياته، وإنّما يهمّه سيّده، إلاّ هذا البطل العظيم، فإنّه قد أبدى هذا الإخلاص العجيب، وقد رفرف طير المنيّة على رأسه، وكلّ حالاته معجبة.

هل سمعت أو ذكر لك أنّ بطلاً من الأبطال أو شجاعاً من الشجعان - مهما بلغ من الشجاعة - حارب بلدة عظيمة بأسرها؟ وأيّ بلدة؟ الكوفة أعظم المدن في ذلك العصر، وأكبر الأمصار محتشدة بالسكان

ص: 161


1- الشورى : 23 .

مكتضة بالجيوش المرابطة للغزو، وكان فيها ثمانون ألف جندي مسلح سوى من لم يثبت له الديوان ((دائرة النفوس)) اسماً في المتطوّعة والسكان، فانثالت كلّها عليه رجالها تحاربه في الأزقة، ونساؤها وصبيانها تقذفه بالحجارة من أعالي السطوح، وترمي عليه أطنان القصب المستعرة بالنيران، فلم ترهبه تلك المظاهرة البدائية، ولا زعزعته الكوارث المحدقة به، ولا هالته أهوالها، بل كان يشتدّ ويشدّ عليهم مصلتاً سيفه، فيهربون قدّامه أشتاتاً،

وهو يرتجز: ((آليت لا أقتل إلاّ حرّا))

لم يزل هذا دأبه، يفني الجمع بعد الجمع، ويبيد الكتيبة بعد الكتيبة، حتّى أحدثت هجماته في البلدة رجّة عظيمة أرعبت قلب الطاغي المتمرّد، فمثل هذا حريّ بصلاة الملائكة المقرّبين وبجريان دموع المؤمنين.

3 - جعفر الطيار مع الملائكة في الجنّة:

نحن نعتذر من عدم الاستيفاء لكثرة فضائله، فلا تحسب أنّ جعفر الطيار كرجل شريف خاصّة، أو بطل مجاهد فقط، بل هو عالم وشجاع وكريم وعفيف وعاقل وزاهد، وكلّ خصلة توجب التفضيل قد حيزت له مع قرابته من رسول الله(صلی الله علیه واله)، وسبقه إلى الإسلام، وكونه من الدعاة إليه، ومن الأمراء المشهورين، أمّره رسول الله(صلی الله علیه واله) على مهاجرة الحبشة من المسلمين، وأمّره في

ص: 162

سرية مؤتة التي استشهد فيها، وبلغ من الشجاعة مبلغاً عظيماً ثبت أمام جيش الرومان الجرار الذي لا ينقص عدده على ما قيل على مائة ألف، وهو في كتيبة صغيرة فوق الثلاثمائة رجل بيسير، لم يكتف بالثبات أمام ذلك الجيش الهائل دون أن عقر فرسه، ليشدّ بذلك عزم أصحابه، ويرتفع عنهم الضعف والوهن.

قال الحلبي في سيرته وفي أسد الغابة: إنّ أبا طالب رأى النبي(صلی الله علیه واله)وعلياً(علیه السلام)يصلّيان، وعلي(علیه السلام) على يمينه، فقال لجعفر(علیه السلام): صل جناح ابن عمّك، فصلّى عن يساره.

وكان إسلام جعفر بعد إسلام أخيه علي(علیه السلام) بقليل.

كنيته بابنه وفعله، كان يكنى ((أبو عبد الله)) بابنه عبد الله الجواد، ويكنى ب-((أبي المساكين)) لحبّه إيّاهم، كنّاه بذلك رسول الله(صلی الله علیه واله).

قال أبو نعيم الأصبهاني في حلية الأولياء(1) عن أبي هريرة قال: كنت لا آكل الخمير، ولا ألبس الحرير، وألصق بطني من الجوع، واستقري الرجل الآية من كتاب الله هي معي كي ينقلب بي فيطعمني، وكان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب، وكان ينقلب فينا فيطعمنا ما كان في بيته، إن كان ليخرج إلينا العكّة، فنشقها فنلعق ما فيها.

وعن أبي هريرة قال: كان جعفر يحبّ المساكين، ويجلس إليهم يحدّثهم ويحدّثونه، وكان رسول(صلی الله علیه واله) يسمّيه أبا المساكين ...

ص: 163


1- حلية الأولياء : 1/117 .

وهو متّفق عليه عند العامّة والشيعة، وفي غرر الخصائص الواضحة(1): قال جعفر بن أبي طالب: يا أبه إنّي لأستحي أن أطعم طعاماً وجيراني لا يقدرون على مثله، فقال أبوه: إنّي لأرجو أن يكون فيك من عبد المطّلب شبه.

سرور رسول الله(صلی الله علیه واله) بقدوم جعفر(علیه السلام):

ذكر ابن عبد البرّ في الاستيعاب(2): كان جعفر من المهاجرين الأوّلين هاجر إلى الحبشة، وقدم منها على رسول الله(صلی الله علیه واله) حين فتح خيبر، فتلقّاه النبي(صلی الله علیه واله) واعتنقه وقال: ما أدري بأيّهما أنا أشدّ فرحاً بقدوم جعفر أمّ بفتح خيبر، وكان قدوم جعفر في السنة السابعة من الهجرة.

واختطّ له رسول الله(صلی الله علیه واله) داراً إلى جنب المسجد ...

وقد رواه أيضاً أكثر المحدّثين من الخاصّة والعامّة:

روى الحرّ العاملي في وسائل الشيعة(3) كثيراً من الأحاديث، منها

ص: 164


1- غررالخصائص الواضحة : 453 .
2- الاستيعاب : 1/81 .
3- وسائل الشيعة : 8/50 ح 10070 .

عن بسطام عن أبي عبد الله الصادق(علیه السلام) قال:

قال له رجل: جعلت فداك أيلتزم الرجل أخاه؟

قال: نعم إنّ رسول الله(صلی الله علیه واله) يوم فتح خيبر أتاه الخبر أنّ جعفراً قد قدم فقال: والله ما أدري بأيّهما أنا أشدّ سروراً: بقدوم جعفر أمّ بفتح خيبر، فلم يلبث أن جاء جعفر، فوثب رسول الله(صلی الله علیه واله) فالتزمه وقبّل ما بين عينيه.

قلت: الأربع ركعات التي بلغني أنّ رسول الله(صلی الله علیه واله) أمر جعفراً أن يصلّيهما؟

فقال: لمّا قدم جعفر عليه قال: ألا أعطيك؟ ألا أمنحك؟ ألا أحبوك؟

قال: فتشوّق الناس ورأوا أنّه يعطيه ذهباً وفضّة، قال: بلى يا رسول الله.

قال: صلّ أربع ركعات متى ما صلّيتهنّ غفر لك ما بينهنّ، إن استطعت كلّ يوم، وإلاّ فكلّ يومين، أو كلّ جمعة، أو كلّ شهر، أو كلّ سنة، فإنّه يغفر لك ما بينهما(1) ...

الخصال التي شكرها الله لجعفر وهي تدلّ على وفور عقله:

ص: 165


1- لصلاة جعفر(علیه السلام) كيفية خاصّة مذكورة في كتب الحديث والفقه .

روى الصدوق القمّي في كتاب من لا يحضره الفقيه(1) عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر(علیهما السلام) قال: أوحى الله - عزّ وجلّ - إلى رسول الله(صلی الله علیه واله): إنّي شكرت لجعفر بن أبي طالب أربع خصال، فدعاه رسول الله(صلی الله علیه واله)، فأخبره.

فقال: لولا أنّ الله أخبرك ما أخبرتك: ما شربت خمراً قطّ، لأنّي علمت أنّي إن شربتها أزالت عقلي، وما كذبت قطّ، لأنّي علمت أنّ الكذب ينقص المروة، وما زنيت قطّ، لأنّي خفت إن عَملت عُملت بي، وما عبدت صنماً قطّ، لأنّي علمت أنّه لا يضرّ ولا ينفع.

فضرب النبي(صلی الله علیه واله) على عاتقه وقال: حقّ على الله - عزّوجلّ - أن يجعل لك جناحين تطير بهما مع الملائكة في الجنّة ...

شبه جعفر برسول الله(صلی الله علیه واله):

وأشبه جعفر النبي(صلی الله علیه واله) بالخلْق والخلُق.

قال الحلبي في سيرته: كان رسول الله(صلی الله علیه واله) يقول له: أشبهت خلقي وخلقي.

وفي لفظ:

ص: 166


1- من لا يحضره الفقيه : 4/397 ح 5847 وراجع أيضا : علل الشرائع 2/558 ح1، الأمالي للصدوق : 133 ح 127، ورواه المجلسي وغيره عن الصدوق .

جعفر أشبه الناس بي خلقاً وخلقاً ...

وذكره ابن عبد البرّ في الاستيعاب، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة.

الجراحات التي أصابت جعفر يوم شهادته:

قال أبو نعيم في حلية الأولياء: عن ابن عمرو قال: كنت مع جعفر(علیه السلام) في غزوة مؤته، فالتمسنا جعفراً، فوجدنا في جسده بضعاً وسبعين ما بين طعنة ورمية.

وعنه قال: فقدنا جعفراً(علیه السلام) يوم مؤته، فطلبناه في القتلى، فوجدنا بين طعنة ورمية بضعاً وتسعين، ووجدنا ذلك في ما أقبل من جسده.

وعن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: حدّثني أبي الذي أرضعني، وكنّا في تلك الغزوة ((غزوة مؤته)) قال: والله لكأنّي أنظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرس له شقراء، ثم قاتل حتّى قتل.

وعن ابن اسحاق قال:

يا حبّذا الجنّة واقترابها

طيّبة وبارد شرابها

والروم روم قد دنا عذابها

عليّ إن لاقيتها ضرابها

قال ابن عبد البرّ في الاستيعاب: ثم غزا جعفر(علیه السلام) مؤته سنة 8 من الهجرة، فقتل فيها.

قال الزبير: بعث رسول الله(صلی الله علیه واله) بعثة إلى مؤتة في جمادى الأولى سنة 8 هجرية، فأصيب بها جعفر بن أبي طالب8 حتّى قطعت يداه جميعاًً

ص: 167

ثم قتل، فأبدله الله جناحين يطير بهما في الجنّة حيث شاء.

وعن سالم بن أبي الجعد قال: رأى النبي(صلی الله علیه واله) في النوم جعفر بن أبي طالب(علیهما السلام) ومنكبيه وما أقبل منه تسعين جراحاً ما بين ضربة بالسيف وطعنة بالرمح.

نعي جعفر(علیه السلام) والنياحة عليه:

قال في الاستيعاب: ولمّا أتى النبي(صلی الله علیه واله) نعي جعفر(علیه السلام)، أتى امرأته أسماء بنت عميس فعزّاها في زوجها جعفر(علیه السلام)، ودخلت فاطمة(علیها السلام) وهي تبكي وتقول: وا عمّاه! فقال رسول الله(صلی الله علیه واله): على مثل جعفر فلتبكي البواكي ...

وهذا الحديث مشهور عند الحفاظ من أهل السنّة رواه أهل السير كلّهم، منهم: ابن إسحاق والحلبي والدحلاني وغيرهم.

روى الطبري في ذخائر العقبى(1): إنّ النبي(صلی الله علیه واله) نعى جعفراً وزيداً قبل أن يجيء خبرهم، وعيناه تذرفان. خرّجه في الصفوة.

وعن أسماء بنت عميس قالت: لمّا أصيب جعفر وأصحابه، دخل عليّ رسول الله(صلی الله علیه واله) وقد دبغت أربعين منيئاً - وفي رواية: منيئة - وعجنت عجيني، وغسلت بنيّ، ودهنتهم ونظّفتهم،

ص: 168


1- ذخائر العقبى : 218 .

فقال رسول الله(صلی الله علیه واله): آتيني ببني جعفر، فأتيته بهم، وذرفت عيناه.

فقلت: يا رسول الله(صلی الله علیه واله) بأبي أنت وأمّي ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال: نعم، قتل اليوم هو وأصحابه.

قالت: فقمنا واجتمع النساء وخرج رسول الله(صلی الله علیه واله) إلى أهله، فقال: لا تغفلوا عن آل جعفر أن تصنعوا لهم طعاماً، فإنّهم قد شغلوا بأمر صاحبهم.

ثم ذكر بعده الحديث الذي فيه: على مثل جعفر فلتبكي البواكي.

تسليم جعفر على النبي(صلی الله علیه واله) بعد شهادته ورد النبي(صلی الله علیه واله) عليه:

قال العسقلاني في الإصابة(1): عن ابن عمر قال:

ص: 169


1- الإصابة : 1/238 .

كنّا مع النبي(صلی الله علیه واله)، فرفع رأسه إلى السماء، فقال: وعليكم السلام(صلی الله علیه واله) ورحمة الله وبركاته.

فقال الناس: يا رسول الله! ما كنت تصنع؟ فقال(صلی الله علیه واله): مرّ بي جعفر بن أبي طالب في ملأ من الملائكة فسلّم عليّ.

وفي الجزء الرابع من فوائد أبي سهل بن زياد القطان، عن ابن عباس: بينما رسول الله(صلی الله علیه واله) جالس وأسماء بنت عميس قريبة منه، إذ قال: يا أسماء هذا جعفر بن أبي طالب قد مرّ مع جبرئيل وميكائيل، فردّي عليه السلام ..

ثم قال: فعوّضه الله عن يديه جناحين يطير بهما حيث شاء ...

والأحاديث بهذا مرويّة بكثرة.

مكانة جعفر ومنزلته عند أمير المؤمنين(علیه السلام):

قال ابن عبد البرّ في الاستيعاب، والعسقلاني في الإصابة، واللفظ له: عن الشعبي عن عبد الله بن جعفر قال: ما سألت علياً(علیه السلام) فامتنع، فقلت له: بحقّ جعفر إلاّ أعطاني.

الافتخار بجعفر الطيار(علیه السلام):

والحقّ أنّ جعفراً لم يكن مفخراً لبني هاشم خاصّة، بل هو فخر البشرية قاطبة، من حيث شجاعته الباهرة، وأنّه ثبت أمام جيش

ص: 170

عدّته مائة ألف رجل - كما نصّ عليه ابن أبي الحديد وغيره - وهو في جيش عدّته ثلاثمائة - يزيدون قليلاً عشراً أو ثلاثة عشر - وقد حاولوا الرجوع والتقهقر، فقوّى عزمهم وثبّتهم، فوقف تجاه ذلك الجيش اللجب لم يتزعزع حتّى تزعزع الجبال الرواسي، ولم يزول لو تزول الشمّ الرواسخ، ثم لم يكتفي بهذا الثبات المدهش حتّى عقر الشقراء، وأقبل نحو المنيّة راكضاً على قدميه، فقطعت يده اليمنى، فالتزم اللواء والسيف باليسرى، فقطعت اليسرى، فضمّ الباقي منهما على اللواء، لكيلا يسقط فيتضعضع عسكره، حتّى ضرب على يافوخه بالسيف، فسقط هو واللواء.

فهذا هو موقف الفخر، وهذه هي الفعلة الحميدة التي توجب التنويه والثناء

على مجد الماجد، ومثل هذا المجاهد الكبير الذي علم الناس كيفية التفادي للدين، وكيف يكون الدفاع عن الإسلام، وأظهر من الحماس الذي يسمّى ب-((الحفاظ)) ما يبهر العقول.

نعم! لم تزل الحماة من بني هاشم مظهر كلّ مكرمة، وأعجوبة من عجائب الحروب الهائلة، ولا عجب لمن كان أخوه علي بن أبي طالب(علیهما السلام)، وابن عمّه محمد(صلی الله علیه واله)، وعمّه حمزه وأبوه أبو طالب، أن يكون في الشجاعة المثل الأعلى، وفي الثبات مفخراً وقدوة، وتعويض الله - تعالى - له الجناحين عن اليدين ما أبقى له ولولده ورهطه ولكلّ مسلم مفتخراً باقياً على ممرّ الأحقاب، وحريّ بمن افتخر فيه أئمة الهدى:، كأمير المؤمنين علي المرتضى، والحسن المجتبي،

ص: 171

والحسين شهيد كربلا، وغيرهم من عظماء بني هاشم، أن يكون له الصدر في أندية الفخار، والكرسي الأوّل في مجتمعات الفضائل.

قال ياقوت الحموي في معجم الأدباء(1): إنّ معاوية كتب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیهما السلام): أنّ لي فضائلاً: كان أبي سيّداً في الجاهلية، وصرت ملكاً في الإسلام، وأنا صهر رسول الله(صلی الله علیه واله)، وخال المؤمنين، وكاتب الوحي.

فقال: أميرالمؤمنين(علیه السلام): أبالفضائل تفتخر عليّ يابن آكلة الأكباد؟ اكتب إليه يا غلام:

محمد النبي أخي وصهري

وحمزة سيّد الشهداء عمّي

وجعفر الذي يمسي ويضحي

يطير مع الملائكة ابن أمّي

وبنت محمد سكني وعرسي

منوط لحمها بدمي ولحمي

وسبطا أحمد ولداي منها

فمن منكم له سهم كسهمي

سبقتكموا إلى الإسلام طرّاً

وليداً ما بلغت أوان حلمي

وأوجب لي ولايته عليكم

رسول الله يوم غدير خم

فويل ثم ويل ثم ويل

لمن يلقى الإله غداً بظلمي

قال: فقال معاوية: اخفوا هذا الكتاب لا يقرؤوه أهل الشام فيميلوا إلى ابن أبي طالب(2) ...

ص: 172


1- معجم الأدباء : 5/366 .
2- ورواها من العامّة الهيثمي الشافعي في الصواعق المحرقة، وأسقط منها بيت الغدير، ولكنّه قال : قال البيهقي : إنّ هذا الشعر ممّا يجب على كلّ متوان في علي(علیه السلام) حفظه، ليعلم مفاخره في الإسلام . ورواه كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي في مطالب المسؤول، وأورد الحلبي الشافعي في سيرته منها بيتاً واحداً، وهو ((سبقتكوا إلى الإسلام))، ورواها مفتي الشافعية زيني دحلان في سيرته على هامش الحلبية كلفظ الهيثمي، ورواه محمد بن يوسف البلخي الشافعي في كتاب مناقب الثلاثة علي والحسن والحسين(علیهم السلام).

وافتخر به أبو محمد الحسن بن علي(علیهما السلام) في مجلس معاوية بقصّة مطوّلة، وافتخر به سيّد الشهداء الحسين(علیه السلام) يوم كربلا، رواه كمال الدين ابن طلحة في مطالب المسؤول، ورواها غيره.

وافتخر به الإمام زين العابدين(علیه السلام) في مجلس يزيد بن معاوية.

وهذا الباب واسع لا يسعنا إيراد أكثر ممّا ذكرنا، وإلاّ فإنّ أمير المؤمنين(علیه السلام) افتخر به في مقامات عديدة، واحتجّ به على أهل الشورى في أمر البيعة.

تأبين جعفر(علیه السلام):

تأبين جعفر(علیه السلام) كثير، منه: قول حسان بن ثابت الأنصاري في قصيدة أوردها ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق، منها:

رأيت خيار المسلمين تواردوا

بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر

وزيد وعبد الله حين تتابعوا

جميعاًً وأسباب المنيّة تخطر

غداة مضوا بالمؤمنين يقودهم

إلى الموت ميمون النقيبة أزهر

أغرّ كضوء البدر من آل هاشم

أبيّ إذا سيم الظلامة مجسر

ص: 173

فطاعن حتّى مال غير مؤسد

بمعترك فيه قنا متكسّر

فصار مع المستشهدين ثوابه

جنان وملتف الحدائق أخضر

فكنّا نرى في جعفر من محمد

وفاء وأمراً حازماً حين يأمر

وما زال في الإسلام من آل هاشم

دعائم عزّ لا يزال ومفخر

هموا جبل الإسلام والناس حوله

رضام إلى طود يروق ويبهر

بهاليل منهم جعفر وابن أمّه

علي ومنهم أحمد المتبختر

وحمزة والعباس منهم ومنهموا

عقيل وماء العود من حيث يعصر

بهم تفرج اللأواء في كلّ مأزق

عماس إذا ما ضاق بالناس مصدر

ص: 174

إخوة العباس بن أمير المؤمنين(علیهما السلام)

اختلف النسابون في عدد أولاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیهما السلام) اختلافاً عظيماً، فبين من اقتصر في الذكور منهم على أحد عشر، وبين من وصل بهم إلى الثلاثة وعشرين ذكراً، ونحن نسير في هذه المواضيع مع من أثبت الأكثر، وليست قاعدة الاختصار على الأقلّ تجدي هنا، فيقال: إنّه المتيقّن، لأنّ ذلك في التكليف الذي هو خلاف الأصل عند علماء أصول الفقه، على أنّ تلك القاعدة هناك يرجع فيها أيضاً جانب الأكثر، لأنّ قاعدة الاحتياط تعضده، ويكون معها الخروج عن عهدة التكليف متيقّنة، ومع الأقلّ مشكوكة، وفي مقامنا هذا يجب المصير إلى قول من أثبت الأكثر لأمرين:

أحدهما: إنّ المثبت مقدّم على النافي، وذلك لأنّ النافي لم يعلم فنفى، والمثبت قد علم وعرف فأثبت.

وثانيهما: تعبير من اقتصر على الأقلّ بقوله ((فلان الأكبر))، ولم يذكر الأصغر، والقاعدة تقضي في قول القائل ((جاء فلان الأكبر))،

ص: 175

وهي قاعدة أفعل التفضيل أن يكون هناك صغير وهذا أكبر منه، ومثله القائل ((فلان الكبير)) أو ((فلان الصغير))، وكلّ واحد منهما دليل وجود الآخر وإلاّ لم تكن فائدة لهذا التقييد.

ولعلّ قائلاً يقول: الاقتصار على الأقلّ متيقّن والأكثر مشكوك فيه، فنقول: إنّ القائل بالأكثر مثبت، والقائل بالأقلّ نافي، والمثبت مقدّم على النافي، وهذه قاعدة معمول بها عند الفريقين العامّة والشيعة.

فممّن نصّ عليها واستدلّ بها الصدوق القمّي ، ذكر في إكمال الدين في قصّة مطوّلة يحتج في إثبات ولد الإمام الحسن العسكري(علیه السلام) على من نفى وجوده، وهو الإمام المنتظر الحجّة - عجّل الله فرجه - وهذه عبارته:

لا يجوز أن نشكّ في كلّ من يموت ولا عقب له ظاهراً، قيل له: لا نشكّ في أنّ الحسن(علیه السلام) كان له ولد من عقبه شهادة من أثبت له ولداً من فضلاء ولد الحسن والحسين(علیهما السلام) والأخيار، لأنّ الشهادة التي يجب قبولها هي شهادة المثبت لا شهادة النافي، وإن كان عدد النافين أكثر من عدد المثبتين .. إلى آخر كلامه، واستدلّ بقصّة خفاء ولادة موسى(علیه السلام).

ولا شكّ أنّ القاعدة إجماعية عند الشيعة مقرّرة في أصول الفقه، وكذلك هي عند العامّة نصّ عليها محمد بن إبراهيم اليماني الشافعي في الروض الباسم، وغيره من مشايخهم، وإيراد كلامهم تطويل، وسيأتي لهذه القاعدة مزيد إيضاح.

ص: 176

أولاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیهما السلام):

1 - الحسن السبط، أمّه فاطمة الزهراء(علیهما السلام).

2 - الحسين السبط، أمّه فاطمة الزهراء(علیهما السلام).

3 - المحسن السبط، أمّه فاطمة الزهراء(علیهما السلام).

4 - العباس الأكبر، أمّه أمّ البنين الكلابية(علیهما السلام).

5 - جعفر الأكبر، أمّه أمّ البنين الكلابية(علیهما السلام).

6 - العباس الأصغر،أمّه أمّ ولد، وقيل: عربية.

7 - جعفر الأصغر، أمّه أمّ ولد.

8 - محمد الأكبر، أمّه خولة الحنفية.

9 - عثمان الأكبر، أمّه أمّ البنين.

10 - محمد الأوسط، أمّه أمامة.

11 - عثمان الأصغر، أمّه أمّ ولد.

12 - محمد الأصغر، أمّه أمّ ولد، وقيل: عربية.

13 - عبدالله الأكبر، أمّه أمّ البنين.

14 - عمر الأكبر، وهو الأطرف، أمّه التغلبية.

15 - عبد الله الأصغر، أمّه النهشلية.

16 - عمر الأوسط، وهو الشهيد أمّه أمّ ولد.

ص: 177

17 - عبيد الله قتيل المذار، أمّه النهشلية.

18 - عمر الأصغر، أمّه أمّ ولد . على قول صاحب الحدائق الوردية.

19 - عون الأكبر، أمّه أمّ ولد.

20 - يحيى، أمّه الخثعمية.

21 - عون الأصغر، أمّه الخثعمية، وقيل غيرها.

22 - عمران - على قول - أمّه أمّ ولد .

23 - معين، أمّه أمّ ولد.

24 - عتيق - على قول - أمّه ولد.

25 - عبد الرحمن، أمّه أمّ ولد . على قول صاحب المجدي.

26 - إبراهيم، أمّه أمّ ولد.

27 - أبو بكر، أمّه النهشلية.

***

ويستفاد من مجموع الأقوال: أنّ الشهداء من ولد أمير المؤمنين(علیه السلام) يوم كربلاء أحد عشر رجلاً:

1 - سيّدهم وسيّد الناس جميعاًً الحسين بن علي(علیهما السلام).

2 - العباس الأكبر وإخوته الأشقاء.

ص: 178

3 - جعفر الأكبر.

4 - عبد الله الأكبر.

5 - عثمان الأكبر.

6 - أبو بكر.

7 - محمد الأصغر.

8 - محمد الأوسط.

9 - عون.

10 - عمر الأصغر.

11 - إبراهيم - على قول مشهور -.

أشقاء العباس: :

روي في بعض كتب المقاتل:

ص: 179

أنّ العباس(علیه السلام) قال لإخوته يوم العاشر: اشتروا الجنّة اليوم وذبّوا عن سيّدنا وإمامنا.

وقال أيضاً: تقدّموا حتّى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله... تقدّموا بنفسي أنتم فحاموا عن سيّدكم حتّى تموتوا دونه.. أقدموا على عسكر ابن سعد إقدام الشجعان، واملأوا صدورهم ووجوههم بالضرب والرمي والطعان... لا تقصّروا في نصرة إمامكم وافدوه بأرواحكم، ولا تقولوا نحن أبناء أب واحد، فإنّه إمامنا وسيّدنا وحجّة الله على من فوق الثرى، أمّه فاطمة الزهراء(علیها السلام) سيّدة نساء العالمين، وهو قرّة عين النبي الأمين(صلی الله علیه واله) .

فتقدّموا جميعاًً، فصاروا أمام الحسين(علیه السلام) يقونه بوجوههم ونحورهم، فلمّا رآهم الحسين(علیه السلام) بكى وقال: جزاكم الله ربّ العالمين(1).

وكان أنصار سيّد الشهداء(علیه السلام) قد تقدّموا يتسابقون إلى المنايا، ويسارعون إلى أداء حقّ آل محمد(صلی الله علیه واله)، وأدّوا ما عليهم في الذبّ عن إمامهم، وعن حرم الله وحرم نبيّهم(صلی الله علیه واله)، فصعدوا الواحد تلو الأخر إلى جنان الخلد.

ثمّ جاء دور أهل البيت:، فتقدّموا الواحد تلو الآخر يستأذنون الإمام(علیه السلام)، ويتقدّمون إلى الجنان حتّى قضوا جميعاً، وبقي الحسين(علیه السلام) وحيداً غريباً مستغيثاً.

ص: 180


1- عن كتاب محن الأبرار : 279 .

فالتفت العباس إلى إخوته: وقال: تقدّموا أمامي لأحتسبكم، فكان أوّل من تق-دّم منه-م:

عبد الله بن علي بن أبي طالب(علیهما السلام):

ولد بعد أخيه العباس(علیهما السلام) ولم يعقّب(1).

قال أهل السير:

ص: 181


1- وهو معروف عند جمهور العلماء ، ذكره ابن قتيبة في المعارف والشبلنجي في نور الابصار، والمحب الطبري في ذخائر العقبى والرياض النضرة ، وابن الصبّاغ في الفصول المهمّة والكنجي الشافعي في كفاية الطالب والمسعودي في التاريخ والشيخ المفيد في الإرشاد وآخرون يطول تعدادهم .

إنّه لمّا قتل أصحاب الحسين(علیه السلام) وجملة من أهل بيته دعا العباس(علیه السلام) إخوته الأكبر فالأكبر، وقال لهم: تقدّموا، فأوّل من دعاه عبد الله أخوه لأبيه وأمّه، فقال: تقدّم يا أخي حتّى أراك قتيلاً وأحتسبك، فإنّه لا ولد لك.

فتقدّم بين يديه، وجعل يضرب بسيفه قدماً، ويجول فيهم وهو يقول:

أنا ابن ذي النجدة والأفضال

ذاك علي الخير ذو الأفعال

سيف رسول الله ذو النكال

في كلّ يوم ظاهر الأهوال

فقاتل قتالاً شديداً، فاختلف هو وهانئ بن ثبيت الحضرمي ضربتين، فقتله هانئ ((لعنه الله)) .

وكذلك ذكر المجلسي في البحار وملاّ عبد الله في مقتل العوالم والخوارزمي في مقتله وآخرون.

لقد عرّف نفسه في رجزه بصفات أبيه التي لا يمكن أن تكون في غيره، من ذا يكون جامعاً لكلّ هذه الصفات من النجدة والإفضال، والعمل بالمعروف بالأفعال قبل الأقوال، وهو الخير المحض الذي لا يعرف الخير إلاّ به.

وهو ابن سيف النبي(صلی الله علیه واله)، فكان النبي(صلی الله علیه واله) يقاتل به، ويذّب به عن حرم الله، ويرغم به أنوف الكافرين، ويصبّ به نكاله على المنافقين والمشركين، وقد ذاق بعض من يقف الآن في معسكر الشياطين في الجهة المقابلة لجبهة الحقّ واليقين في كربلاء الحسين(علیه السلام) هو بنفسه أو

ص: 182

أبوه أو بعض ذويه نكال سيف أمير المؤمنين(علیه السلام)، وارتجفت أعضاؤهم، وارتعدت مفاصلهم في كلّ ساعة تعرّضوا فيها لنقمة خاتم الأنبياء وغضب سيّد الوصيّين.

وبهذا الرجز المزمجر، يتقدّم سليل الشجاعة والإباء عمومة وخؤولة، فيرهب القوم

بسيفه ونسبه ونسبته.

وجاء في الزيارة المرويّة عن الإمام صاحب الزمان ((عجل الله فرجه)) التي رواها السيّد ابن طاووس في كتاب ((الإقبال)) والمجلسي في ((البحار)) وفيها يقول(علیه السلام):

((السلام على عبد الله بن أمير المؤمنين مبلي البلاء، والمنادي بالولاء في عرصة كربلاء، والمضروب مقبلاً ومدبرا، لعن الله قاتله هانئ بن ثبيت الحضرمي)) .

وفي هذه الفقرة شهادة من الإمام صاحب الأمر ((عجل الله فرجه)) لعبد الله بثلاثة من الفضائل:

الأولى: أنّه أعلن بولاء الحسين(علیه السلام) بين الصفوف، ونادى بالولاية في عرصة كربلاء.

الثانية: أنّه كان له بلاء محمود في دفاعه ومحاماته عن أخيه الحسين(علیه السلام)، وقد أدّى ما عليه دفاعاً عن دينه وإمامه، وإلاّ لما كان لذكر ((مبلي البلاء)) محلّ.

الثالثة: ثباته في ذلك الموقف الرهيب والمعترك الهائل العصيب حيث وقف هدفاً للسلاح في وسط الحومة حتّى أصيب مقبلاً ومدبراً، يريد

ص: 183

أنّه أحيط به من كلّ جانب، واكتنفه الأعداء من كلّ جهة، وكان هو كارّاً عليهم الكرّة بعد الكرّة، فيقبل على جماعة فيهزمهم، ويعود إلى أخرى فيطردهم، ولقد قتل محاطاً به مثل الحسين(علیه السلام) والعباس وعلي بن الحسين الأكبر، ومسلم بن عقيل شهيد الكوفة:.

وقد تضمّنت هذه الفقرة أنّه ضرب مقبلاً ومدبراً، ومن المعلوم أنّ العسكر لا يتكاتف ويحمي بعضه بعضاً على كثرته إلاّ لشدّة بأس البطل المهاجم له، والشجاع المنازل له، الذي تعجز عن مواجهته الأبطال، وهذه غاية الشجاعة ونهاية البطولة.

ولا غرو أن كان آية من آيات البطولة والفروسية والإقدام، فأبوه أميرالمؤمنين(علیه السلام) سيّد أبطال العالم الذي كانت الملوك ترسم صورته على سيوفها كما فعل ذلك ((سليمان القانوني)) ملك الأتراك العثمانيين، فقد كان له سيف عليه صورة علي بن أبي طالب(علیهما السلام)، وقد هتف به رضوان خازن الجنان وجبرئيل سفير وحي الرحمن في بدر وأحد ((لا سيف إلاّ ذوالفقار ولا فتى إلاّ علي))، وإخوته الحسن والحسين(علیهما السلام) والعباس(علیه السلام)، والعمومة بنو هاشم أفرس العرب، وهل تعدّ أمّة من الأمم مثل أبي طالب وحمزة وجعفر الطيار: في أمثالهم، والخؤلة بنو عامر، وفيهم مثل فارس الضحيا، وفارس قرزل، وفارس العصا، وفارس شحمه، وملاعب الأسنّة، ومدرك الثأر، والرحّال في أمثالهم، فهو معمّ مخول معرّق الشجاعة .

قد أنجبت أم البنين فديتها

فرسان حرب أصبحوا مثالا

ص: 184

أسداً ضراغمة بمعمة الوغى

سمّ العداة أماجداً أبطالا

لا تعجبين لبأسهم وثباتهم

في موقف لو فيه رضوى زالا

الليث حيدرة وفاطم لبوة

ولدا لوقعة كربلا أشبالا

نفسي الفدا لو أردين ظما

بحر المنيّة طامياً أجالا

وورد أيضاً في زيارته:

السلام عليك يا عبد الله بن علي بن أبي طالب ورحمة الله وبركاته، فإنّك الغرّة الواضحة، واللمعة اللائحة، ضاعف الله رضاه عنك، وأحسن لك ثواب ما بذلته منك، فلقد واسيت أخاك وبذلت مهجتك في رضا ربّك(1) .

عثمان بن علي بن أبي طالب: :

أمّه أم البنين(علیها السلام).

روي عن أمير المؤمنين(علیه السلام) أنّه قال: إنّما سمّيته عثمان بعثمان بن مظعون أخي.

وعثمان بن مظعون بن حبيب بن وهيب بن حذافة بن جمح القرشي الجمحي، أسلم بعد ثلاثة عشر رجلاً، وهاجر الهجرتين، وشهد بدراً، وكان أوّل رجل مات بالمدينة سنة اثنتين من الهجرة، وكان ممّن حرّم على نفسه الخمر في الجاهلية، وممّن أراد الاختصاء في الإسلام، فنهاه

ص: 185


1- بحار الأنوار : 98/245 باب 35 .

رسول الله(صلی الله علیه واله)وقال: عليك بالصيام، فإنّه مجفرة، أي قاطع للجماع..

ولمّا مات جاء رسول الله(صلی الله علیه واله) إلى بيته وقال: رحمك الله أبا السائب، ثمّ انحنى عليه فقبّله، ثمّ صلّى عليه ودفنه في بقيع الغرقد، ووضع حجراً على قبره، وجعل يزوره.

ثمّ لمّا مات إبراهيم(علیه السلام) ولده بعده قال: الحق - يا بنيّ - بفرطنا عثمان بن مظعون.

ولمّا ماتت زينب ابنته(علیها السلام) قال: الحقي بسلفنا الخير عثمان بن مظعون.

وإنّما استطردنا في ذكر عثمان شيئاً ما امتثالاً للمولى أمير المؤمنين(علیه السلام) الذي سمّى ولده باسمه، ونعود إلى عثمان بن أمير المؤمنين(علیه السلام).

قال أهل السير:

ص: 186

لمّا قتل عبد الله بن علي(علیهما السلام) دعا العباس عثمان(علیهما السلام) وقال له: تقدّم يا أخي، كما قال لعبد الله، فتقدّم إلى الحرب يضرب بسيفه ويقول:

إنّي أنا عثمان ذو المفاخر

شيخي علي ذو الفعال الطاهر

هذا حسين سيّد الأخاير

وسيّد الصغار والأكابر

بعد النبي والوصي الناصر

فرماه خولي بن يزيد الأصبحي بسهم فأوهطه(1) حتّى سقط لجنبه، فجاءه رجل من بني أبان بن درارم فقتله واحتزّ رأسه(2).

وقد عرّفنا عثمان في رجزه أنّه صاحب المفاخر، فليس في عسكر العدوّ من يقابله في مكرماته ومفاخره، فمن منهم ينتمي إلى نسب ناصع كنسبه، وهو ابن علي أمير المؤمنين(علیه السلام) الذي وصفه بصفتين:

أحدهما: أنّه ذو الفعال، وصاحب المواقف والمناقب، والنجدة ومبيد الكتائب، الشديد البأس، العظيم المراس، الذي أتعب كتّابه الكرام الكاتبين في تسجيل فعاله وخيراته.

والأخرى: أنّه الطاهر، ونقرأ في الزيارة التي يرويها علقمة: أشهد أنّك طهر طاهر مطهّر من طهر طاهر مطهّر.

ثمّ أشاد بأخيه سيّد الشهداء(علیه السلام) وذكر لهم أنّه ((سيّد الأخاير))، وفي

ص: 187


1- أوهطه : أضعفه وأثخنه بالجراحة وصرعه صرعة لا يقوم منها .
2- المناقب لابن شهرآشوب : 3/256 ، لواعج الأشجان : 179 ، إبصار العين : 35 .

رواية لواعج الأشجان ((خيرة الأخاير))، و((سيّد الصغار والأكابر)) فلم يكن ثمّة من يكون سيّداً إلى جنب الحسين(علیه السلام) إلاّ من سبقه وهم النبي(صلی الله علیه واله) والوصي، فهو وصيّ الأوصياء، ووارث خاتم الأنبياء(صلی الله علیه واله)...

***

قال الإمام المنتظر - عجل الله تعالى فرجه - في زيارة الناحية:

السلام على عثمان بن أمير المؤمنين سميّ عثمان بن مظعون، لعن الله راميه بالسهم خولي بن يزيد الأصبحي الأيادي والأباني الدارمي .

وجاء في زيارته أيضاً:

السلام عليك يا عثمان بن علي بن أبي طالب ورحمة الله وبركاته، فما أجلّ قدرك، وأطيب ذكرك، وأبين أثرك، وأشهر خيرك، وأعلى مدحك، وأعظم مجدك(1)...

واللائح من هذه الفقرات أنّ عثمان كان عالماً عارفاً فقيهاً خلوقاً بحيث استحقّ هذه الصفات النادرة والمدائح التي لا يستحقّها إلاّ من كان جديراً بها.

وجلالة القدر، وطيب الذكر، وبيان الأثر، وشهرة الخير، وعلوّ

ص: 188


1- بحار الأنوار : 98/245 باب 35 .

المدح، وعظمة المجد كلّها تناسب العالم الذي قد ذاع صيته، وانتشر علمه وأدبه، وخلّف من وراءه تراثا ينفع، ويؤتي أكله كلّ حين بإذن ربّه، فيكون له لسان صدق في الآخرين .

جعفر بن علي بن أبي طالب(علیهما السلام):

أبو عبد الله، جعفر الأكبر، شقيق العباس(علیه السلام)، أحد الشهداء مع الحسين(علیه السلام).

كان يلقّب بجعفر الأكبر، ويكنّى بأبي عبد الله، أمّه أمّ البنين(علیها السلام) الكلابية.

قال أبو الفرج الإصفهاني في ((مقاتل الطالبيّين)): وجعفر بن علي بن أبي طالب، أمّه أمّ البنين..

وقال أبو مخنف في حديث الضحّاك المشرقي: إنّ العباس بن علي(علیهما السلام) قدّم أخاه جعفراً بين يديه، لأنّه لم يكن له ولد...، فشدّ عليه هانئ بن ثبيت الحضرمي الذي قتل أخاه.

وقال نصر بن مزاحم عن أبي جعفر محمد بن علي(علیهما السلام): إنّ خولي بن يزيد الأصبحي ((لعنه الله)) قتل جعفر بن علي(علیه السلام) .

قال في ناسخ التواريخ: جعفر الأكبر(علیه السلام)، ويكنّى أبا عبد الله، وأمّه أمّ البنين(علیها السلام) أمّ العباس(علیه السلام)(1)..

ص: 189


1- ناسخ التواريخ : 2/306 .

وذكر صاحب ((الدرّ النظيم)): أنّ أمير المؤمنين(علیه السلام) سمّاه باسم أخيه جعفر الطيّار(علیه السلام)، لأنّ أمير المؤمنين(علیه السلام) كان شديد المحبّة له.

قال أهل السير: لمّا قتل أخو العباس لأبيه وأمّه عبد الله وعثمان دعا جعفراً: فقال له: تقدّم إلى الحرب حتّى أراك قتيلاً كأخويك، فاحتسبك كما احتسبتهما، فإنّه لا ولد لكم، فتقدّم وشدّ على الأعداء يضرب فيهم بسيفه وهو يقول:

إنّي أنا جعفر ذو المعالي

ابن علي الخير ذي النوال

ذاك الوصي ذو الندى والوالي

حسبي بعمّي شرفاً وخالي

فشدّ عليه خولي بن يزيد الأصبحي فأصاب شقيقته أو عينيه فقتله(1)

.

وقال أبو مخنف: بل شدّ عليه هانئ بن ثبيت الحضرمى الذي قتل أخاه فقتله(2).

قال الإمام المنتظر ((عجل الله فرجه)) في زيارة الناحية:

ص: 190


1- المناقب لابن شهرآشوب : 3/256 .
2- إبصار العين : 35 .

السلام على جعفر بن أمير المؤمنين، الصابر بنفسه محتسباً، والنائي عن الأوطان مغترباً، المستسلم للقتال، المستقدم للنزال، المكثور بالرجال، لعن الله قاتله هانئ بن ثبيت الحضرمي .

ويظهر من عبارات الإمام - أرواحنا فداه - من الفضائل لجعفر بن أمير المؤمنين(علیهما السلام) ما يميّزه عمّن سواه من الشهداء، فقوله(علیه السلام)، وبأيّ معنى أخذ الصبر سواء كان الصبر على مكابدة الأهوال ومكافحة الأبطال، ففي ذلك غاية المدح بالفروسية.

وإن كان الصبر على محبّته لإمامه الحسين(علیه السلام) وموالاته له وثباته وعزمه أن يفديه بنفسه ويقيه بمهجته، ففي ذلك غاية المدح من الوجهتين: البصيرة والمعرفة بحقّ الإمام المفترض الطاعة، وهذا دليل العلم والفقاهة، ومن حبّ المواساة له بالنفس التأسي به في جميع الحالات، فهذا دليل على أنّه في غاية الكمال ونهاية الأدب.

وإن أريد بالصبر الصبر على معاناة الأمور الشاقّة من الجوع والعطش، لأنّهم حصروا في فلاة جرداء قاحلة، وبادية قفراء قاحلة، قد ملك عليهم الأعداء شريعة الفرات، وقطعوا عليهم طريق الميرة، وصدّوا القوافل التي تحمل الأقوات إليهم، فعطشوا وجاعوا، وفي تخصيص جعفر(علیه السلام) بالصبر على هذا لا يخفى ما فيه من مزيد الفضل، والإشارة إلى ما فيه من الإيثار والتضحية والتحمّل والمعاناة.

وأمّا قوله(علیه السلام): ((النائي عن الأوطان)) مع أنّ كلّ من كان مع الحسين(علیه السلام)كان نائياً عن الأوطان، وجميعهم قد اغتربوا، فما معنى

ص: 191

تخصيص جعفر؟!

فالظاهر - والله العالم - أنّه إنّما خصّ بذلك لأ نّه كان بعد شابّاً لم يذق طعم الغربة، ولم يجرّبها من قبل، سيّما أنّه كان صاحب نضارة ورونق جميل، قد تربّى في المدينة، لم يقو على لفحات السموم ومعاناة شعل الهجير، لأنّه أصغر إخوته.

ومن المعلوم أنّ صغير الأولاد يكون في الموضع الأتمّ من الشفقة في نظر الأمّ الشفيقة، فانّها تبرّه كثيراً وتتعاهده بالنظافة والتعطير، وترجيل الشعر، ولذيذ المطعم وشهيّ المشرب.

فإذا كان نائياً عن الأوطان - والحال هذه - فإنّه يلاقي عنتاً، ويجابه شدّة شديدة، ويعاني صعوبة صعبة، ومشقّة شاقّة، سيّما من فقد برّ الوالدة المشفقة وعطفها وحدبها عليه وألطافها، فتبيّن الغربة فيه أكثر من غيره.

ومن هنا يعرف أنّ ولد أمير المؤمنين(علیه السلام) أشجع العرب، لأنّهم ما شاهدوا حروباً، ولا خاضوا المعارك، ولا وقفوا في صفّ قبال الأعداء، سوى الحسنين(علیهما السلام) وابن الحنفية والعباس(علیه السلام)، وهم جميعاً شباب في ريعان الشبيبة ونضرة الصبا، بين من أدرك البلوغ وبين من تجاوزه بيسير، وقد شبّوا ونشأوا في أحضان المدينة حتّى إذا كشفت حرب كربلاء عن ساقها، وبرزت كالحة عابسة شوهاء المنظر كريهة المخبر، شمّروا السواعد، وشحذوا مرهفات القواطع، وساقوا تلك الأبطال المحنكة والفرسان المجرّبة سوق الأغنام، وفرّت أمامهم

ص: 192

كاليعافير أو الحمر المستنفرة، وطاروا بين أيديهم طيران القطا والنعام المشرّد، وتفرقوا تفرّق الجراد المنتشر، ولولا غلبة الأقدار ما كثرتهم تلك الجماهير، ولا غلبتهم كثرة الجموع، وقد علم حملة التاريخ والأثر وعلماء الأخبار والسير أنّهم أفنوا جماهير أهل الكوفة، وقد تركوا في كلّ حي من أحيائها نائحة، وفي كلّ بيت من بيوتها صارخة:

آل علي يوم طفّ كربلا

قد تركوا في كلّ دار نائحه

من دخل الكوفة لم يسمع بها

في سائر الأحياء إلاّ صائحه

قد خلّد التاريخ للحشر لهم

أعمال مجد وفعالاً صالحه

فيا لها فادحة خالدة

قد أنست الشيعة كلّ فادحه

أولئك الشبان المنعّمون من أهل البيت النبوي أظهروا البسالة والشجاعة ما أدهش الأبطال المجرّبة والشجعان الخبراء بفنّ البطولة .

وبقيّة الفقرة تصف ثبات جعفر الأكبر(علیه السلام) في ساحات الوغى وغبار المعمعة،

وتذكر أنّهم ما قتلوه إلاّ تكاثروا عليه واحتوشوه من كلّ مكان.

حكى جعفر في كربلا بأس جعفر

كما قد حكى بالضرب والده القرما

وأدّى حقوق المجد والفخر من حكى

بأفعاله الغرّ الأب القرم والعمّا(1)

ص: 193


1- بطل العلقمي : 3/514 .

الفصل الثاني: فی ولادة العباس (علیه السلام) وکناه و القباه. وصافتة النفسیه والبدنیة. و ما یناسب ذالک.

اشارة

ص: 194

ولادة العباس الأكبر(علیه السلام) ومقدار سّنه

قال الشيخ المظفر :

فعلى ضفاف العلقمي بكربلا بطل

العروبة بدر هاشم قد هوى

وأبو ألائمّة قام يعدو نحوه

صلتا عندما ما سقط اللوى

وسقى المهنّد من نجيع رقابهم

ودم البغاة لسيفه الصادي روى

أن عاد محنىّ الأضالع باكياً

نحو المخيّم وهو منهّد القوى

لا غرو إذ مفقوده أسمى فتى

فقد الكرام يثير عاصفة الجوى

والقبّة الزرقاء تجري أدمعاً

حمرا ولكن فيه تحسد نينوى

***

اختلف المؤرّخون في مقدار سنّه:

قال السيّد الداودي في عمدة الطالب: قتل العباس(علیه السلام) وله 34 سنة.

ص: 195

هذا القول هو المشهور، فتكون ولادته(علیه السلام) سنة 26 من الهجرة، فيكون سنّه عند شهادة أبيه أمير المؤمنين(علیه السلام) دون البلوغ!

ويعارض هذا القول قول من قال: أنّ العباس(علیه السلام) روى عن أبيه، وأنّه شهد صفين محارباً، كما نصّ عليه الخوارزمي في المناقب، والقائني في الكبريت الأحمر، وسيجيء ذكر ذلك.

وقول الطبري وغيره: أنّ أمّ البنين والدة العباس(علیه السلام) أوّل من تزوّجها أمير المؤمنين(علیه السلام) بعد وفاة الزهراء(علیها السلام) أو هي الثانية، وخولة الحنفية هي الثالثة، كما أنّ أبا الفضل هو أكبر أولاد أمّ البنين(علیها السلام)، وعليه: فيكون لدة محمد بن الحنفية.

وأمّا اليوم الذي ولد فيه فلم أجد فيه نصّاً، وإنّما ينقل الفاضل المعاصر الشيخ جعفر النقدي في كتابه ((زنيب الكبرى)) عن الفاضل الشيخ محمد علي الأردبادي: أنّه رأى في كتاب فارسي يسمّى ((أنيس الشيعة)) لمؤلفه السيّد محمد عبد الحسين ابن السيّد محمد عبد الهادي الهندي من معاصري الشاه فتح علي، وأهدى له الكتاب سنة 1344 ه- يذكر أنّ ولادة العباس الأكبر(علیه السلام) في يوم الجمعة رابع شهر شعبان سنة 26 ه-.

ص: 196

نشأة العباس الأكبر

لا شكّ إنّه(علیه السلام) تربّى في أحضان الإمامة، ونشأ في حجور العصمة، وشبّ مرتضعاً درّ النبوة، وشارباً لبان الوحي الإلهي، ونشأ في مدينة النبي طيبة مدينة الوحي وعاصمة النبوة، لا خلاف في ذلك، إنّما هاجر مع أبيه(علیه السلام) إلى العراق مدّة خلافته، ثم رجع مع أخويه الإمامين(علیهما السلام)، وأقام في خدمتهما حتّى خرج مع أخيه الحسين(علیه السلام) إلى العراق فاستشهد بكربلاء.

ص: 197

كنى العباس بن علي(علیهما السلام)

للعباس(علیه السلام) أربع كنى إثنتان عرف بهما قديماً، وإثنتان عرف بهما حديثاً، عرفته بهما الناس، وغيرها المشهور في الموروث الشعبي الشيعي والموروث الأدبي الفصيح والدارج (الشعبي).

الكنيتان القديمتان

فالقديمتان هما: أبو القاسم، وأبو الفضل، كنّي بابنيه القاسم والفضل، وهذه الأخيرة هي المشهورة حتّى لا يكاد يعرف غيرها.

فقيل: إنّه كنّي بولده الفضل.

وقيل: إنّ كلّ من تسمّى ب-((عباس)) من بني هاشم كنّي ب-((أبي الفضل))، كالعباس بن عبد المطلب، والعباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وغيرهما.

والظاهر أنّ هذه الكنية له(علیه السلام) قد اشتقّت من فضائله، فإنّه(علیه السلام) قد

ص: 198

توسّم فيه سمات الفضل منذ الصغر وزمن الطفولية، فلقّبوه به، وإليه يشير بعض من رثاه بقوله:

أبا الفضل يا من أسّس الفضل والإبا

أبى الفضل إلاّ أن تكون له أبا

فالمتوسّمون لما توسّموا في جبينه المشرق سمات الفضل، وظهرت لهم في ملامحه الفضائل على حدّ ما قيل:

إنّ الهلال إذا رأيت نموّه

أيقنت أن سيصير بدراً كاملاً

فكنوه أبا الفضل عند ظهور تلك الأمارات والدلائل، وقد قيل:

قلم العلا قد خطّ فوق جبينه

أثر النجابة ساطع البرهان

فالعباس(علیه السلام) أبو الفضل والفضائل.

الكنيتان الحديثتان

أمّا الكنياتان الحديثتان في الموروث الشعبي: فأبو فاضل وابن البدويّة.

فأبو فاضل، هو أبو الفضل سواء.

وابن البدويّة فقد اشتهرت هذه عند بعض الناس، وقد يكون السبب في إطلاقها أحد أمرين:

الأوّل:

أن يكون إشارة إلى أصلها السكني الذي انحدرت منه، وهو البادية،

ص: 199

وهو بالتالي يرجع إلى الأمر الثاني.

فابن البدويّة نظراً إلى أنّ أمّ العباس(علیه السلام) كانت من العرب التي تقطن البادية أنفة من ذلّ الأمصار، وفراراً من هوان المدنية الذي تأباه نفوس العرب الأقحاح.

الثاني:

أن يكون إشارة إلى ما تحمله الكلمة من معاني، لا باعتبار كونها من سكّان البادية حقيقة، بل باعتبار أنّ المرأة البدوية تمتاز بالنجابة والأصالة والشجاعة والطهارة والكرم والإيمان الفطري الراسخ الذي يستدلّ بالسماء ذات الأبراج والأرض ذات الفجاج على اللطيف الخبير، فهي تعيش النقاء والصفاء والصدق والحقيقة والإباء وسلامة الطبع، فلا إلتواء في طبعها، ولا بخل في جبلّتها...

أبو فرجة

وأمّا كنيته عندهم ب-((أبي فرجة))، فليس بكنية، بل هي لقب بصورة الكنية، حيث لم تكن للعباس بنت تسمّى ((فرجة))، وإنّما لقّبوه بهذا، لأنّه كان كثيراً ما يفرّج عنهم الكربات إذا توسّلوا به إلى الله - تعالى -، وأقسموا عليه بحقّه، وهذه عندهم من الأمور القطعية، وقد جرّبناها بأنفسنا.

قال الشيخ المظفر :

ص: 200

كم فرّج الله عنّا كلّ معضلة

كرامة منه للعباس شبل علي

ورحمة الله خصّتنا بفضلهم

عند الصعاب وعمّت فيه كلّ ولي

ص: 201

ألقاب العباس الأكبر(علیه السلام)

اللّقب يعرّفه النحويّون بأنّه ما أشعر برفعه المسمّى أو ضعته، يعنون أنّه أكسبه شهرة في المدح أو الذمّ، ومثال المشعر بالمدح كجذل الطعان وصيّاد الفوارس، ومثال المشعر بالذمّ كالأعشى والأعمش، وهذا في العرب كثير.

أمّا أهل البيت:، فليس لهم لقب ذمّ أصلاً، إنّما ألقابهم للمدح خاصّة، لأنّه لا عيب فيهم في خلقٍ ولا خُلقُ، وقد قال الشاعر:

حبى علياً ولكن وصفه حسن

وفعله المرتضى يحلو به الشغف

فتى من الشرف الأعلى له نسبٌ

وهل لغير عليّ يحصل الشرف؟

***

وألقاب أبي الفضل العباس(علیه السلام) نوعان: قديمة ومستحدثة، استحدثها

ص: 202

الناس، واشتقوها من صفاته وفضائله.

الألقاب القديمة

فالألقاب القديمة كثيرة، منها ما هو مشهور عند علماء التاريخ والسير، ومنها دون ذلك في الشهرة.

فأمّا المشهورة عند النسابين والمؤرخين فهي:

((السقاء))، أو ((ساقي عطاشى كربلاء))، ويسمّى لذلك ((أبا قربة))، قاله أبو الفرج في المقاتل، والدياربكري في تاريخ الخميس وغيرها.

و((قمر العشيرة))، أو ((قمر بني هاشم)).

و((بطل العلقمي))، أو ((بطل المسناة)).

((حامل اللواء))، أو ((حامل لواء الحسين(علیه السلام))).

و((كبش الكتيبة)).

و((العميد))، أو ((عميد عسكر الحسين(علیه السلام))).

و((حامي الظعينة))، أو ((حامي ظعينة كربلاء)).

وكلّ هذه الألقاب مشهورة، وهو معروف بها، وهي مشتقّة من أفعاله الكريمة وصفاته الفائقة.

وحيث أنّ لكلّ واحدة من هذه الألقاب اعتباراً عظيماً عند العرب قدّمناها، لنذكر ما لها من الميزة والاعتبار، ثمّ نذكر بقية الألقاب التي

ص: 203

دونها في الشهرة، كالطيّار، وما شاكله من الألقاب في الموروث الشعبي.

ونسأل الله التوفيق لما يحبّ، والتسديد لما نقول، والمعونة فيما نملي في فضل أهل بيت نبيه(صلی الله علیه واله).

إنّ جميع هذه الألقاب ممدوحة عند الجاهليين والإسلاميين، بل هي من مفاخرهم، والمتّصف بها محبوب لديهم أتمّ المحبّة، ينظرون إليه بعين التبجيل والاحترام، ويرون مقامه في المفاخر أسمى مقام.

السقّاء أو سقّاء عطاشى كربلاء

هذا لقب نبيل اختص به أبو الفضل العباس بن علي(علیهما السلام) حتّى بلغ من شهرته أنّه إذا اُطلق انصرف إلى العباس الأكبر(علیه السلام)، وإن شاركه فيه أبوه(علیه السلام) وأسلافه الكرام.

السقاية وأقسامها

والسقاية هي إرواء العطاشى من البشر في حالتي السلم والحرب، وأشرفها سقاية الحرب، وهي فضيلة من فضائل الإنسانية، وأحد مكارم العرب ومفاخرها العظيمة، وإنّها من المآثر الشريفة.

فالسقاية نوعان: سقاية في الحرب، وسقاية في السلم.

ص: 204

والسقاية السلمية نوعان:

الأوّل: ما كانت لإحياء النفوس المشرفة على الهلاك من النفوس البشرية المحترمة.

والثاني: ما كان غير ذلك، وهو أيضاً نوعان:

الأوّل: ما كان القصد فيها إسداء المعروف إلى بني الإنسان بداعي التقرّب إلى الله - تعالى - في فعل الخير.

والثاني: ما كان القصد بها طلب الدنيا من نيل مال أو حصول سمعة.

ومن القسم الأوّل: سقاية العباس الأكبر(علیه السلام) لعطاشى كربلاء، وسقاية أبيه أمير المؤمنين(علیه السلام) لعطاشى الصحابة يوم بدر.

ثم إنّ السقاية بأنواعها لا تقع إلاّ بفعل الرجل بنفسه مباشرة بيد أو قول:

إمّا المباشرة اليدويّة: فهي أن يستقي بنفسه ويحمل الماء، أو يحمي

ص: 205

أصحابه من الأعداء فيستقون.

وأمّا القولية: فهي أن يطلب فيعطى، أو يدعو فيجاب.

ويفرّق بينهما فيقال في اليدويّة ((السقاية))، وفي القولية ((استسقاء))، لأنّه يدعو ويستمطر، فتمطر بدعاءه، أو يدعو فينبع الماء من حجر، ومن تحت أخمصه، أو خفّ ناقته، كرامة له، كما كان ذلك من فحص النبي إسماعيل(علیه السلام) برجله فنبعت زمزم، وانبعثت ناقة عبد المطلب ونبع الماء من تحت خفّها، وجرى من ذلك لنبينا محمد(صلی الله علیه واله) الكثير.

وجميع هذه الأنواع من السقاية تختصّ ببني هاشم دون سائر العرب وقريش، وبعضها تراث أبيهم إسماعيل وجدّهم قصيّ حازوه دون القبائل، والبقية خصوصيّة خصّهم الله - تعالى - بها.

السقاية السلمية

النوع الأوّل من السقاية السلمية

فالسقاية على جهة السماح في بذل الأموال الطائلة على إرواء الظمأ كرماً وجوداً، فقصّة تسلسلها في بني هاشم معروفة، فإنّها من مؤسّسات قصيّ بن كلاب، ثم ورثها ابنه عبد مناف بن قصيّ، ثم ابنه هاشم بن عبد مناف.

ولمّا مات هاشم كان ابنه عبد المطلب صغيراً عند أخواله، فقام بها عمّه المطلب بن عبد مناف حتّى كبر، فسلمّها إليه، وظهرت

ص: 206

لعبد المطلب سقاية أعظم منها خصوصيّة خصّه الله بها، فاظهر له زمزم، وهذه الكرامة لا يدّعيها مدّع غير بني هاشم إلى يوم القيامة.

ولمّا توفي عبد المطلب قام بها ابنه أبو طالب(علیهما السلام)، وبعده صارت للعباس بن عبد المطلب، ثم ملكها رسول الله(صلی الله علیه واله) يوم فتح مكة...

أمّا الاستسقاء في الجدب:

إذا أخلفت السحب وظنت السماء بالمطر وفات الأرض طيب القطر، وهذا نوع شريف ومأثرة كريمة تظهر بها كرامة المستسقي وفضيلة الطالب له حيث أنّ الله - تعالى - يغيث العالم بدعوته، ويحيي ميت البلاد ببركته، وهو قد خصّ ببني هاشم دون قريش وسائر العرب.

فقد استسقت العرب بعبد المطلب وأبي طالب(علیهما السلام) في عصر الجاهلية، وبرسول الله(صلی الله علیه واله) في مقامات عديدة في الإسلام، ولولا أنّها من خصوصيات بني هاشم ما استسقى الصحابة بالحسن والحسين(علیهما السلام)، واستسقاءات مولانا أمير المؤمنين(علیه السلام)معلومة.

النوع الآخر من السقاية السلمية

هو ظهور الماء على طريق المعجزة والكرامة، وذاك ممّا لا يستريب فيه أحد أنّه من خصائص بني هاشم، فقد نبع الماء من خفّ ناقة عبد المطلب مرّتين، ونبعت عين ماء لرسول الله(صلی الله علیه واله) شرب منها عمّه

ص: 207

أبو طالب لمّا عطش بسوق ذي المجاز، ونبعت العين من تحت الصخرة لأمير المؤمنين(علیه السلام) في مسيره إلى صفين، وغير ذلك ممّا رواه ثقاه العلماء.

السقاية الحربية

أمّا السقاية الحربية: فلا خفاء إنّها أجلّ السقايات، وإن كانت السقاية على نحو المعجزة عظيمة في بابها، ولكن ّهذه تمتاز على الجميع لما فيها من المخاطرة بالنفس، وتعريضها للتلف، ولا يتجاسر عليها إلاّ من تمّت شجاعته، وكملت مروّته وحميّته، وهذه اختصّ بها أمير المؤمنين(علیه السلام) وأنجاله دون سائر الصحابة وسائر العرب.

وهي أيضاً من خصائص بني هاشم ومفاخرهم، فأصبحت فضيلة لآل عبد المطلب، ومكرمة لهم دون الناس أجمعين، فقد سقى أمير المؤمنين(علیه السلام) جيش رسول الله(صلی الله علیه واله) يوم بدر ويوم الحديبية، وقد خاف المسلمون من الدنو إلى القليبين.

وسقاهم رسول الله(صلی الله علیه واله) في تبوك من وشل نزر ثماد، وقد اشرفوا على الهلكة، وببركته عاد بحراً لا ينزف ماؤه، كما عاد ماء بئر بضاعة الوشل بحراً لما بصق فيه.

وسقى الحسين(علیه السلام) جيش أهل العراق بصفين، وقد ملك عليهم معاوية وأهل الشام شريعة الفرات.

ص: 208

وسقى أبو الفضل العباس بن أمير المؤمنين(علیهما السلام) جيش الحسين(علیه السلام)، وقد ملك عليهم عمر بن سعد شرائع الفرات يوم كربلاء.

سقاية الحسين(علیه السلام) لأهل العراق

قد تكرّرت سقاية الحسين(علیه السلام) لأهل العراق سقاهم ثلاث مرّات بدعائه وسيفه ووعائه:

أمّا سقايته لهم بدعائه فقد أشرنا لها.

وأمّا سقايته لهم بسيفه، فقد روى بعض علمائنا أنّ معاوية لمّا ملك الشريعة على أهل العراق يوم صفين بعث أمير المؤمنين(علیه السلام) في الخيل الحسين بن علي(علیهما السلام) ومالك بن الحارث الأشتر، فأزالا أهل الشام عنها وملكاها، فوردها أهل العراق وصارت في أيديهم حتّى انقضت الحرب.

وأمّا سقايته لهم بإناءه ووعاءه، فذاك لمّا لقيه الحرّ بن يزيد الرياحيّ، وقد أثّر العطش فيه وفي جنده.

روى الطبري في التاريخ عن عبد الله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديين، ورواها الشيخ المفيد وغيره عنهما قالا: أقبل الحسين(علیه السلام) حتّى نزل شراف، فلمّا كان وقت السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا...

ثم ساق القصّة في مسيره ولقاء الحر وقال: فقال الحسين(علیه السلام):

ص: 209

اُسقوا القوم وارووهم من الماء ورشّفوا الخيل ترشيفا.

فقام فتيانه وسقوا القوم من الماء حتّى ارووهم من الماء، وأقبلوا يملأون القصاع والطساس والأتوار من الماء، ثم يدنونها من الفرس، فإذا عبّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عزلت عنه، وسقوا آخر حتّى سقوا الخيل كلّها.

قال هشام: حدّثني لقيط عن عليّ بن الطعان المحاربي قال: كنت مع الحرّ بن يزيد، فجئت في آخر من جاء من أصحابه، فلّما رأى الحسين(علیه السلام) ما بي وبفرسي من العطش، قال: أنخ الرواية - والرواية عندنا السقاء - ثم قال: يابن أخي! أنخ الجمل، فأنخته، فقال:أشرب.

فجعلت كلّما شربت سال الماء من السقاء، فقال: أخنث السقاء - أي أعطفه-،

قال: فجعلت لا أدري كيف أفعل.

قال: فقام الحسين(علیه السلام)، فخنثه فشربت وسقيت فرسي . ..

هذه هي الهمم العالية، وهذه شيم الأحرار الراقية، هذه شمائل السادات العظماء . ..

ولو كانت هذه الفعلة الكريمة منه إلى رجال شرف ومفخرة لكانت منّة من أعظم المنن، ونعمة من أكبر النعم طوّقهم بها كريم، وأسدى لهم يداً بيضاء يجب شكرها على أعقاب الأعقاب، ونسل النسل، ولكن - يا للأسف - صادفت تلك المنّة العظيمة، واليد البيضاء النفوس الخسيسة، ذات الأكباد الغليظة، والطباع الجافية الجلفية، والأعراق

ص: 210

الدنيئة، فأصبح الشكر الواجب عليها كفراناً وجحوداً.

لم يمض على هذه القصّة أكثر من عشرة أيام حتّى قابله أولئك الأوغاد الطغام بأشدّ ما يكون من القسوة، وأظهروا من الغلظة والجفاء والوقاحة القحّة والصلف والفظاظة والسقوط ما لم يقع له نظير، وحصروه في فلاة جرداء مقفرة، ومفازة بعيدة عن الريف، ومنعوه ورد المباح المشترك بين سائر الخلق، ويقول قائلهم بلا أكتراث ولا مبالاة ولا حياء ولا امتعاض، ممّا يأنف منه سفلة العبيد فضلاً عن الأحرار، ولا يجسر على التلفّظ بما دونه الدني: يا حسين! اُنظر إلى ماء الفرات كأنّه بطون الحيات، والله لا تذوق منه قطرة واحدة . ..

مع علمهم أنّه ابن رسول الله(صلی الله علیه واله) وريحانته، وابن سيّد الأوصياء، وابن سيّدة النساء، وهو وأخوه سيّدا شباب أهل الجنّة، وأنّه إمام حقّ مفترض الطاعة نصّاً صريحاً، لقول رسول الله(صلی الله علیه واله) فيه وفي أخيه الحسين(علیه السلام): ولداي هذان إمامان قاما أو قعدا.

فلم يرعوا تلك الحرمة، ولم يفوا بتلك المنّة، ولم يجازوا بتلك اليد ولا بأبعاضها، فقد حملته الرقّة وأخذته الرأفة حتّى بدوابهم التي تحملهم إلى حربه، فأمر بترشيفها وإراوئها، فما رقّ أولئك الجلاف ولا على طفله الرضيع، فيرسلوا إليه جرعة من الماء قبل أن يرسلوا السهم الشرير إلى نحره الشريف، وقد أحسن من قال:

أرى الإحسان عند الحرّ ديناً

وعند النذل منقصة وذمّا

ص: 211

كماء المزن في الأصداف درّ

وفي بطن الأفاعي صار سمّا

فضل سقي الماء

وردت أحاديث كثيرة في سقاية الأضياف والمجتازين، نذكر بعضها تيمّناً، وهذا النوع لا يخصّ بني هاشم، بل يعمّ جميع المسلمين، ولفضيلته جعل المسلمون السقايات المسمّاة ب-((السبيل)) في الطرق والجواد التي هي مظنّة العطش.

ذكر الدربنديّ في أسرار الشهادة عن الصادق(علیه السلام): من سقى الماء في موضع يوجد فيه الماء كان كمن أعتق رقبة، ومن سقى الماء في موضع لا يوجد فيه الماء كان كمن أحيا نفساً، ومن أحيا نفساً، فكأنّما أحيا الناس جميعاًً.

وعن النبي(صلی الله علیه واله) قال: إنّ الله يحبّ إبراد الكبد الحرّاء، ومن سقى كبداً من بهيمة أو غيرها أظلّه الله يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه.

والأحاديث كثيرة متقاربة المعنى، وهي وغيرها نصّ في فضل من سقى الماء في السّلم آمناً على نفسه من القتل، واثقاً بسلامته من التلف، فكيف لو قارن سقي الماء مظنّة تلف النفس والإشراف على العطب، وهذه الفضيلة امتاز بها مولانا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(علیهما السلام) وولده لا سيما العبّاس الأكبر(علیه السلام)، والشبل من ذلك الأسد.

ونقول بلا تجاسر على مولانا أمير المؤمنين(علیه السلام): إنّ موقف العبّاس(علیه السلام) أفظع هولاً، وإن كان كلا الموقفين رهيب، حيث أنّ

ص: 212

أمير المؤمنين(علیه السلام) سقى الصحابة في بدر والحديبيّة، وليس فكره متعلّقاً بشيء سوى عطش رجال كبار يصبرون على مكابدة الظمأ، ويستطيعون معاناة شدّة العطش.

وأمّا حراجة الموقف من حيث قوّة العدوّ وشدّة شوكته فلا يرهبه أمير المؤمنين(علیه السلام)، لأنّه لا يخاف الأعداء قلّوا أو كثروا، كيف وهو القائل لأهل الكوفة: اُخرجوا معي ثمّ فرّوا عنّي، فإنّي - والله - لا اُبالي أوقعت على الموت أو وقع الموت عليّ، ولألف ضربة بسيف في سبيل الله أهون عليّ من موتة على فراش.

وهو القائل يوم البصرة، وقد طلب شراباً فأتوه بعسل، فذاقه وقال: هذا عسل طائفيّ، فقال له ابن أخيه جعفر: عجباً منك يا عمّ في مثل هذا الموقف تعرف الطائفيّ من غيره، فقال: والله يابن أخي ما ملأ صدر عمّك من جمعهم هذا شيء.

وإنّ أبا الفضل العبّاس بن عليّ(علیهما السلام) سقى العطاشى بكربلاء، وكان قصد المسنّاة، دع عنك ما عليها من العسكر العظيم، فإنّه ابن أبيه لا يرهب الجموع المتكدّسة أمامه قلّت أمّ كثرت، وليس فكره متعلّقاً بعطش الكبار فقط، بل قصد المشرعة بعد أن سمع صراخ الأطفال وضجيج النساء: وا عطشاه، فهزّته الحميّة الشمّاء، وأنهضته الهمّة العالية حين سمع له رنّة عظيمة

ص: 213

لشدّة الظمأ والصبية يتصارخون، فمنهم من قصد مخيّم الأنصار يطلب منه الماء، ومنهم من تعلّق بأذيال الحوراء زينب، وإنّها(علیها السلام) - كما في بعض المقاتل - توجّهت لبعض مضارب الأنصار تطلب فيها ماءاً لبعض الصبية الرضّع، وخلفها لمّة كبيرة من الصبيان كلّهم ينادون ((وا عطشاه))، فأبت مروّة العبّاس(علیه السلام) وشيمته أن يغضي على تلك الحالة المزعجة، وارتاع لها وارتاح لورد المنيّة قبل ورد المباح المحرّم عليهم، وصمّم بعزمه الثابت على قصد المشرعة، وإن أقامت عليها سدّاً منيعاً أسلحة الأعداء، فاعتقل القناة عاقداً بها العلم حاملاً للقربة منتضياً مرهفه، فما عاد إلاّ بالماء على رغم الأعداء .

سقاية أبي الفضل(علیه السلام) لعطاشى كربلاء

قد تكرّرت منه السقاية، وليست سقاية واحدة، حسبما استفدنا ذلك من الأخبار الواردة في المقتل الشريف.

السقاة يوم الطفّ السقاة يوم كربلاء ثلاثة:

إثنان علويّان: العبّاس الأكبر، وعليّ بن الحسين الأكبر، وواحد همدانيّ هو برير بن خضير.

أمّا علي بن الحسين(علیهما السلام) فذكر قصّة سقايته فخر الدين الطريحي في المنتخب، فراجعها، ورواها الصدوق القمّي في الأمالي، وأنّه بعثه في

ص: 214

ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً، وراجعها في قصّة المقتل من الأمالي، ورواها الدربنديّ في أسرار الشهادة.

وأمّا سقاية برير، فرواها صاحب أسرار الشهادة، وتبعه صاحب معالي السبطين، وتركنا ذكر القصّتين حذر التطويل، وفوت الغرض المقصود.

أمّا سقاية العبّاس(علیه السلام):

فقد تكرّرت منه مراراً، منها: ليلة العاشر حين نفذ بأمر أخيه الحسين(علیه السلام) لطلب الماء.

ومنها: يوم العاشر، قبل مقتله إذ سمع صراخ العائلة، وضجّة الصبية من الظمأ، فاستأذن سيّده الحسين(علیه السلام)، وفي هذه النوبة تمكّن من الوصول إلى المشرعة، وملأ القربة، لكنّه لم يتمكّن من إيصال الماء إلى العائلة، لأنّ حرس الماء قد تداعوا عليه من كلّ صوب، وأحاطوا به من كلّ وجه، فقطعوا عليه خطّ الرجعة، وعلموا أنّ سلامة القربة تحثّه على اختراق تلك الصفوف، وأنّ الجموع مهما تراكمت وتكاثفت عليه سيشقّها نافذاً إلى الحسين(علیه السلام)، وأنّه يصل إلى مقصده لا محالة، فرأوا من المستحيل صدّه عن مقصده، إلاّ بإراقة ماء القربة، فتعمّدوا القربة وجعلوها هدافاً، ورشقوه رشقاً متواصلاً، فأصابها بعض السهام المسدّدة نحوها فشقّها، وأريق الماء، فكانت هي السبب ليقف هدفاًً للسهام وغرضاً للأسنّة والظباة، وآثر - حينئذٍ - المنيّة على مواجهة العائلة

ص: 215

اللهيفة التي ترقب طلوعه عليها بالمنعش والمنقذ من لهفة الصدا، وسنورد ذلك مفصلاً في حديث شهادته إن شاء الله.

السقاية الاُولى

ذكر عامّة أرباب المقاتل: أنّ أهل الكوفة منعوا سيّد الشهداء الحسين(علیه السلام) من الوصول إلى الشريعة ثلاثة أيام، لذلك أورد أبو مخنف في المقتل الصغير، وسبط ابن الجوزي في التذكرة شهادة العبّاس(علیه السلام) يوم السابع من المحرّم.

قال سبط بن الجوزي في التذكرة: لمّا رحل الحسين(علیه السلام) من القادسية وقف يختار مكاناً ينزل فيه، وإذا سواد الخيل أقبل كالليل، كأنّ راياتهم أجنحة النسور، وأسنّتهم اليعاسيب، فنزلوا مقابلهم، ومنعوهم الماء ثلاثة أيام.

وروى العلامة المجلسي في البحار، والدربندي في الأسرار، والبحراني في مقتل العوالم، وعبد الخالق اليزدي في مصائب المعصومين، ومشاهير المؤرّخين، كابن الأثير وابن كثير والطبري، وهذا نصّ الطبري بعد أن ذكر أنّ الحسين(علیه السلام) منع من الماء ثلاثة أيام قال:

ص: 216

فلمّا اشتدّ العطش بالحسين(علیه السلام) وأصحابه دعا العباس بن علي بن أبي طالب: أخاه، فبعثه في ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً، وبعث معهم عشرين قربة، فجاؤوا حتّى دنو من الماء ليلاً، واستقدم أمامهم باللواء نافع بن هلال الجملي، فقال عمرو بن بن الحجاج الزبيدي: من الرجل؟ - وفي كلام غيره: من القوم؟ -

فقال نافع: ابن عمّ لك، قال: وما جاء بك؟

قال: جئنا لنشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه، قال: فاشرب هنيئاً.

قال: لا - والله - لا أشرب منه قطرة وحسين عطشان ومن ترى من أصحابه، فطلعوا عليه، فقال: لا سبيل إلى سقي هؤلاء، فإنّما وضعنا بهذا المكان لمنعهم الماء.

فلمّا دنا منه أصحابه قال لرجاله: أملأوا قربكم، فشدّ الرجالة فملأوا قربهم،

وثار إليهم عمرو بن الحجاج وأصحابه، فحمل عليهم العباس بن علي(علیهما السلام) ونافع بن هلال، فكفّوهم، ثم انصرفوا إلى رحلهم، فقالوا: امضوا وقفوا دونهم، فعطف عليهم عمرو بن الحجاج(1) وأصحابه، واطّردوا قليلاً.

ص: 217


1- إنّ عدوّ اللّه عمرو بن الحجاج قتله اللّه بالعطش أيام المختار، ذكر قصّة هلاكه بالعطش صاحب الأخبار الطوال .

ثم إنّ رجلاً من صداء طعن من أصحاب عمرو بن الحجاج طعنه نافع بن هلال، فظن أنّها ليست بشيء، ثم إنّها انتقضت بعد ذلك، فمات منها، وجاء أصحاب الحسين(علیه السلام) فأخلوها عليه(1)..

أمّا السقاية الأخرى فستأتي في الإيثار، وفي شهادته.

قال الشيخ المظفر :

يسقي البسيط دماً في حدّ صارمه

إن فاتها الريّ من هطّالة المزن

ويستقي للعطاشى وهو ذو ظمأ

أضرّه لاهب الهيجاء والجنن

ولفحة من هجير القيظ كافحها

والشمس تقدح ناراً في الحصا السخن

أمّ الشريعة يعدو بالسقاء وقد

غصّت بجمع من الفجّار ذي إحن

غداة أعلن داعي الكفر مبتهجاً

بكثرة الحشد في سرّ وفي علن

انظر حسيناً إلى ماء الفرات جرى

عذب الرواء برود الطعم كاللبن

فلن تذق قطرة منه ولا جرعاً

حتّى تموت لهيف القلب ذا حزن

فهزّت البطل العبّاس شيمته

إلى القراع كهزّ الريح للغصن

نادى أخاه سليل الوحي في أدب

أنت الصبور وصبري بالهموم فني

دعني اُجالدهم أشفي غليل حشى

ذابت حريقاً على ذي الحقد والإحن

فإنّ لي ثار في قبائلهم

دماء قومي وإخواني وذي شجنى

يا سيّدي كيف صبري والجميع غدوا

مثل الأضاحي بلا غسل ولا كفن

وصرخة النسوة الثكلى تحرّكني

على القراع لأهل الغيّ والفتن

ص: 218


1- هكذا رواها أبو الفرج في المقاتل نهار العاشر وهو وهم .

وهدّ ركن اصطباري الباكيات ظما

من نسل خير الورى الهادي أبي حسن

وإنّما ضجّة الباكين من عطش

تهزّ أرسخ طود شامخ القنن

وكم رضيع يقاسي الموت من ظمأ

جفّت ثدا امّه عن درّة اللبن

دعني أموت ولم أسمع مروّعة

من العقائل تشكو شدّة المحن

قال الحسين له حامي على حرم

مصونة بحجاب الوحي من زمن

فكلّ ذي شيمة شمّاء مبتهج

بالموت دون هوان العرض والسنن

وقال الشيخ محمّد حسن بن الشيخ باقر حيدر من تخميس له لبيتي أبي الحبّ الكربلائيّ:

يا من فدى النفس من أجلي على عجل

هيّجت ما بأخيك اليوم من علل

أخي أبا الفضل يا ذخري ويا أملي

أبوك كان لجدّي مثل كونك لي

بنفسه نفس من آخاه يفديها

جدّي بوالدك الرحمن آزاره

على العدى وبه للذين أظهره

فكان ناصر دين الله مفخره

أبوك ساقي الورى في الحشر كوثره

وأنت أطفالنا بالطفّ ساقيها

كبش الكتيبة

ومن ألقاب العبّاس بن أمير المؤمنين(علیهما السلام) ((كبش الكتيبة)) أو ((كبش

ص: 219

كتيبة الحسين(علیه السلام) ).

والكبش تطلقه العرب على مقدّم العسكر أميراً كان أو ملكاً، وعلى الشجاع الذي لا يقاوم بأساً ونجدة.

قال الفيروزآبادي في القاموس: الكبش الحمل إذا انتهى، وإذا خرجت رباعّيته،

جمعه أكبش وكباش وأكباش، وسيّد القوم وقائدهم . ..

وليس هو حقيقة، بل هو مجاز، لأنّ الكبش حقيقة وفي أصل الوضع يرأس القطيع من الأغنام والظباء، ويحميها بنطاحه، ولمّا كان قائد الجيش ورئيس القوم والبطل الحربيّ يرأس الجيش، ويحميه بيده وتدبيره قيل له: كبش، وله جرأة على النطاح، وإقدام كما شهد الوجدان بذلك، فإنّ الكبش إذا ناطح كبشاً لم ينصرف عنه حتّى يحجز بينهما أو يقتل أحدهما الآخر.

ولا يطلق الكبش في الحرب عند العرب، إلاّ على من تكاملت فيه سمات البطولة وجمعت فيه صفات الرجوليّة.

ولقّب بهذا اللقب قبل أبي الفضل العباس بن علي(علیهما السلام) رجلان من أعظم رجال العرب وأشهرها:

أحدهما: بطل المشركين بلا نزاع طلحة بن أبي طلحة القرشيّ من آل عبد الدار، فكان يلقّب كبش الكتيبة، قتله أمير المؤمنين(علیه السلام) يوم أحد، فسُرّ بقتله رسول الله(صلی الله علیه واله)، وبقتله فلت شوكة المشركين وكسر حدّهم.

والثاني: بطل المسلمين غير مدافع، وهو مالك بن الحارث الأشتر

ص: 220

النخعيّ، صاحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیهما السلام) بطل العرب المشهور، كان يلقّب ((كبش العراق)).

اختصاص أبي الفضل(علیه السلام) بكبش كتيبة الحسين(علیه السلام):

هذا لقب يختصّ به أبو الفضل العبّاس الأكبر بن أمير المؤمنين(علیه السلام) دون سائر شهداء كربلاء، وقد اختصّه بهذا اللقب أخوه الحسين(علیه السلام)، وجعله من ألقابه الممّيزة له، وذلك حين أتاه يطلب منه الرخصة للهجوم على جيوش أهل الكوفة المحيطة به، وقد أكثر الشعراء في تأبينه من ذكر هذا اللقب، فقال بعضهم بلسان حال سيّد الشهداء الحسين(علیه السلام):

عبّاس كبش كتيبتي وكنانتي

وسريّ قومي بل أعزّ حصوني

وقال الأزريّ :

اليوم بان عن الكتائب كبشها

اليوم فلّ عن البنود نظامها

حامي الظعن، أو حامي ظعينة كربلاء

هذا لقب مشهور شائع إطلاقه على أبي الفضل العبّاس بن أمير المؤمنين(علیهما السلام)، ومن نعوته السائرة، فقد قال السيّد جعفر الحلّي في تأبينه:

حامي الظعينة أين منه ربيعة

أم أين من عُليا أبيه مكدّم

وقال الشيخ المظفر :

ص: 221

حامي ظعينة كربلاء بصارم

صادى الحديد رواه قحف الرأس

وكأنّهم خصّوه بهذا اللقب للفرق بينه وبين أخيه سيّد الشهداء الإمام الحسين بن علي(علیهما السلام) الملقب ب-((حامي الإسلام)) و((حامي الشرع المقدّس))، ورتبة العبّاس(علیه السلام) دون رتبة الحسين(علیه السلام).

ومن جهة ثانية: إنّ الإمام الحسين(علیه السلام) هو الأمير والسيّد والقائد، ولا يباشر كلّ المهمّات بنفسه، وأنّه لابدّ للرئيس من معتمد يقوم مقامه، وينوب عنه في المهمّات، وكان من أهل الكفاءة، وله الأهلية في القيام بواجبه ليحصل الاعتماد عليه في ما رشح له، وحيث لم يكن عند سبط النبي(صلی الله علیه واله) أهمّ من القيام بحياطة العائلة المخدّرة وحمايتها في تلك الفيافي الموحشة والمفاوزة المقفرة، وكان من أوثق القادمين معه في نفسه أخوه العبّاس الأكبر وابنه علي الأكبر، لما فيهما من الكفاءة لكلّ مهمّ يناط بهما، فوظّفهما لهذه المهمّة، فكانا يقومان بترحيل العائلة وإنزالها، ويتوليّان حراستها مع فتيان العلويّين، وأكثرهما قياماً بهذا الواجب وأشدّهما مباشرة لهذه الوظيفة أبو الفضل العباس(علیه السلام).

ولمّا قتل علي الأكبر(علیه السلام) قبل عمّه العباس(علیه السلام) قام أبو الفضل(علیه السلام) بالمحاماة عن المخيم، وصدّ هجمات العدوّ عنه، لأنّ أجلاف الأعداء يتقصّدون إيصال الرعب لتلك العقائل المخدّرة، حيث أنّهم متيقّنون أنّ في إرعابها كسراً لقلب الحسين(علیه السلام)، لما عرفوه من شدّة غيرته على حرمه، فكانت كتائب الإرهاب الأمويّة تقصد إخافة النسوة بكلّ جهودها، ولكن موقف الحسين(علیه السلام) في جبهة القتال اليمنى، والعباس(علیه السلام)

ص: 222

في الجهة اليسرى، يصدّان هجمات الإرهاب العدائية عن المخيم، ويحرسان المذاعير من النسوة الخفرة، وهنّ ما دمن ينظرن الأخوين الكريمين يتعاضدان في الحملة ويتناصران في الجولة في غاية الوثوق بالسلامة من تعدّيات المعتدّين عليهن، والشرع المقدّس يؤكّد حفظ الحرم وصيانه العرض أشدّ تأكيد.

حماية العباس(علیه السلام) للظعائن:

قد عرفت أنّ حماية العبّاس(علیه السلام) للظعائن كانت من حين سار الحسين(علیه السلام) من المدينة إلى أن نزل الغاضريّة، وكذلك العشرة أيّام التي أقامها الحسين(علیه السلام) حتّى استشهد، وكان العبّاس بن أمير المؤمنين(علیه السلام) أمير الحرس الحسينيّ الذي يقوم بحراسة المخيّم، وقد أكثر الشعراء من ذكر ذلك، وهو منظوم باللسانين العربيّ والعامّي، ومعروف في المراثي الحسينيّة، واشتهر على ألسنة الذاكرين أنّ زينب الحواراء(علیها السلام) لمّا مرّوا بالسبايا على جثث القتلى خاطبت العبّاس(علیه السلام) بما يتضمّن العتاب له والحثّ على حمايتها في مثل هذه الحالة التي صارت إليها، وأوقعها الزمان فيها بعد فقد الحماة.

ويذكر الذاكرون أيضاً: أنّه لمّا أقبل عسكر السقيفة إليهنّ بالنياق ليركبن عليها جعلت النساء تركب بعضها بعضاً حتّى بقيت زينب(علیها السلام) وحدها حوّلت وجهها إلى نحو العلقميّ ونادت:

ص: 223

أخي أبا الفضل! أنت الذي أركبتني يوم خروجنا من المدينة، فمن يركّبني الآن يابن والدي.

ولم يفسح لي المجال في تتبّع هذه المقالة واستخرجها من مظانّها، واُعوّل فيها على مصادرها، فإن كانت رواية، فالعهدة على الراوي، وإن كنت حكاية حال، واستخراج من فحوى القصّة، فنعم الاستنباط، إذ المعلوم أنّ شباب العلوييّن، ويرأسهم أبو الفضل(علیه السلام) هم الذين ركّبوا العقائل الحسينيّة حين خرجوا من المدينة، فوجب أن يتولّى ركوبهنّ للمسير عن وادي كربلاء، لولا حيلولة المنيّة دون ذلك.

قال الشيخ المظفر :

أبا الفضل يابن عليّ الفخار

وصنو النبيّ وحامي الذمار

حميت ظعائن آل الرسول

بتلك الفيافي وتلك القفار

فما راعها رائع مزعج

ويمناك تحمل ذات الفقار

إلى أن نزلتم بوادي الطفوف

وقد كنت كالحصن والمستجار

وبعد افتقادك سار النساء

بذلّ السباء وذلّ الإسار

فلو كنت حيّاً ترى زينباً

تصوب المدامع صوب القطار

وتلك العقائل بعد الحجا

بسُلبن الملاحف حتّى الإزار

ولم يترك القوم من ساتر

لتلك المصونات حتّى الخمار

تستّرن قد قيل بالراحتين

عن الناظرين بضوء النهار

فقم يا كميّ إلى ظعنكم

فقد سار يطوي وهاد القفار

ص: 224

حامل اللواء

قد شاع هذا اللقب بين الناس، فتعرّفه المسلمون القدماء بحامل لواء الحسين(علیه السلام)، وتسمّيه العرب اليوم في اللغة الدارجة ب-((البيرغجي))، وهذه نسبة تركيّة، وتطلق عليه الفرس لفظ ((علمدار حسين))، وقد كان هذا اللقب - حمل اللواء - أشهر ألقاب العبّاس الأكبر(علیه السلام)، وأسيرها ذكراً، لأنّ ذلك قد صدر من أخيه الإمام الحسين(علیه السلام) فعلاً وقولاً.

أمّا الفعل، فقد تكرّر منه(علیه السلام) مراراً، منها: لمّا أراد الحملة قال: أنت حامل لوائي، ومنها: لمّا وقف عليه صريعاً، وسنورد جميع ذلك في فصل مقتله(علیه السلام) إن شاء الله.

وقد أكثر الشعراء من مدحه بحمل اللواء، كقول بعضهم عاقداً قول الحسين(علیه السلام):

لمن اللواء اُعطي ومن هو جامع

شملي وفي ظنك الزحام يقيني

في أشعار كثيرة يأتي بعضها في تأبينه(علیه السلام).

حمل اللواء عند الأُمم:

حمل اللواء مكرمة عظيمة عند جميع الاُمم والشعوب في سائر الأزمنة والعصور سوى هذه الأزمنة التي نحن فيها، وإن أجمعوا على أنّه شعار الدولة، فإنّ لحامل اللواء عند الاُمم قاطبة في جميع الأزمان - إلاّ

ص: 225

ما أستثيناه - مرتبة راقية ومكانة مكينة ومحلّ سامي لا من حيث شجاعة حامل اللواء فقط، بل من حيث أنّه نظام العسكر، فمتى كان العلم ثابتاً، فالجيش منتظم وشمله ملتئم، وإذا سقط اللواء تبدّد العسكر.

وعادة العرب ذات التفاخر بمآثرها ومجدها أن تجتمع تحت ألويتها وراياتها، وتثبت في المراكز التي تثبت فيها الرايات، فلا تزول والألوية ثابتة.

واللواء عند العرب لزعيم القبيلة، ولقائد الجيش، وأمير العسكر يحمله أمامه من قبيلته أو من جنده أشهرهم ذكراً، وأعظمهم بطولة، وأشدّهم بأساً وشجاعة، وأكثرهم نجدة وبسالة، وربّما حمله الزعيم بنفسه.

قال الجاحظ في البيان والتبيين: إنّا نجد رؤساء جميع أهل الملل وأرباب النحل قد اتّخذوا في الحروب الرايات والأعلام وإنّما ذلك كلّ خرق سود وحمر وصفر وبيض، وجعلوا اللواء علامة للعقد والعلم في الحرب مرجعاً لصاحب الجولة، وقد علموا أنّها وإن كانت خرقاً على عصي إنّ ذلك أهيب في القلوب وأهول في الصدور وأعظم في العيون.

وحامل اللواء سواء كان هو الزعيم أو غيره ليحافظ على اللواء أشدّ من محافظته على نفسه، فلو طعن أو ضرب لم يكترث بنفسه ما دام متمكّناً من إمساك اللواء ولو قطّعت أعضاؤه واُبينت مفاصله، فلا يعبأ بسقوط أيّ عضو منه ما لم يسقط اللواء منه، لأنّ حفظ نظام الجيش

ص: 226

منوط به، فإنّه متى سقط اللواء تضعضع العسكر، وربّما فرّوا وتبّدوا لذلك.

لذلك لمّا قطعت يدا جعفر بن أبي طالب(علیهما السلام)، وهو الطيّار شقيق أمير المؤمنين(علیه السلام) يوم مؤتة ضمّ الباقي من يديه القطيعتين على اللواء لئلاّ يسقط فيتضعضع جيش المسلمين، فضرب على رأسه، فوقع ميّتاً، فأخذ اللواء زيد بن حارثة الكلبّي مولى رسول الله(صلی الله علیه واله)، الأمير الثاني لهذا الجيش.

واحتذى حذو الطيّار ابن أخيه أبو الفضل العبّاس بن أمير المؤمنين(علیهما السلام)، كما سنذكر.

حماية اللواء الأعظم:

لابدّ لقائد القوّات المقدّم وزعيم الجيش وعميد العسكر أن ينتخب من أبطال الجيش المجرّبين وفرسانه المعروفين بالنجدة والبسالة، والمشهود لهم بالشجاعة والفروسيّة، فيؤلّف منهم كتيبة تكون حامية اللواء الأعظم، وردءاً لصاحب العلم الأكبر.

وقد كانت في صفّين كتيبتان:

أحدهما: لأهل الشام تسمىّ ((الخضريّة))، لأنّ علامتها الخضرة.

وثانيهما: لأهل العراق تسمّى ((رجراجة))، لارتجاجها بالسلاح.

وكلّ واحد من الكتيبتين مؤلّفة من عدد كبير من الأبطال المشتهرين بالفروسيّة، قيل: إنّ كلّ واحدة منهما عشرة آلاف دراع أعدّتا لحماية

ص: 227

اللواء والمكافحة عن العلم الأعظم.

فيجب على زعيم كلّ جيش وقائد كلّ عسكر أن يتخيّر نخبة أبطاله، وينتخب كلّ جريء مجرّب يؤلّف منهم حامية للعلم وحرساً للوائه يرصده ويراقبه، ليذبّ

عنه من قصده من الأعداء، فإنّ العدوّ يعلم أنّه متى سقط اللواء اختلّ نظام الجيش، وتبدّد جمعه، وذهب جنده شتاتاً، فلذلك تقصد حامية الأعداء مركز صاحب اللواء، فإذا كان لذلك اللواء حامية كافحت عنه وصدّت هجمات عدوّها، فحافظ حامل لواءها على مركزه مستقرّاً ثابتاً، وإذا لم تكن له حامية، فربّما قتل فاختلّ النظام، وإذا كانت الحامية يأخذه بعضهم إن قتل، وأكثر ما تكون حامية اللواء من شجعان قوم حامله، لأنّ اللواء مجد وفخار ومكرمة لحامله وقومه، ولو سقنا الحكايات طال بنا المقام.

واللواء يرفع أمام الجيش فلا يتقدّم الجيش في الزحف حتّى يتقدّم اللواء، وكذلك راية القبيلة فإنّهم يطوفون بها ويقفون عندها فإذا وقفت وقفوا وإذا سارت ساروا تبعاً لها، فحامل اللواء هو بمنزلة القطب للرحى.

وكانوا يعقدون الألوية والرايات بالرماح، ولذلك يقول مولانا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(علیهما السلام) يوم البصرة لولده محمّد بن الحنفيّة:

إطعن بها طعن أبيك تحمد

لا خير في الحرب إذا لم توقد

ص: 228

بالمشرفّي والقنا المسدّد

وكانوا يختارون الرمح الليّن ذا الاهتزاز والتأوّد، ذكر أهل السير أنّ أمير المؤمنين عليّا(علیه السلام) لمّا دفع لواءه الأعظم للمرقال يوم صفّين دعى برمح ليشدّه به، فأتي برمح فهزّه فانكسر، فاُتي بآخر فوجده جاسياً فألقاه، فاُتي بثالث فوجده ليّنا فعقد فيه لواءه.

ألوية الحسين(علیه السلام) وراياته في حربه

وهي التي استشهد فيها في كربلاء، تلك الفاجعة العظمى والوقعة الكبرى التي

بقيت ذكراها على ممرّ الأحقاب، فقد كان(علیه السلام) منذ خروجه من الحجاز عقد لواء ودفعه إلى أخيه الفضل العبّاس الأكبر(علیه السلام)، ذلك البطل العلويّ العظيم، فحمله بين يديه إلى حين التحام تلك الحرب التي جلبت لاُمية خزي الأبد، وجرّت إليها شؤم الدهر، فهاجم قوّات الأعداء المحدقة بهم مراراً عديدة، واستنقذ بعض أنصارهم الذين طوّقهم الأعداء، وكان أبو الفضل(علیه السلام) لا يقف في حملته دون أن ينتهي إلى مركز عميد عسكر الأعداء، ليرعب بتلك الهجمات قلوب اُمراء القوّات المعادية، ويذكّرهم بالشجاعة العلويّة التي لم تغب عنهم ذكراها أيّام كافحوا معه أهل الجمل وصفّين.

لك موقف بالطفّ أنسى أهله

حرب العراق بملتقى صفّين

فلم يزل أبو الفضل العبّاس(علیه السلام) على شدّة الخطر مبتهجاً مرتاحاً، ووجوه الأعداء كالحة مقطبة، لحراجة الموقف وفظاعة المعترك، يعدو

ص: 229

رافلاً بالحديد مغيراً على جواده المحلّق كنسر الجوّ منقضّاً على حرس الشرائع وتلك القوّات المتكدّسة على ضفافها، فيصدم تلك الحامية، ويشقّ صفوفها المتراصّة، ويخترق خطوطها المحصنة، وينزل بعد امتلاك المشرعة إلى الماء، فيملأ السقاء لعطاشى آل الرسول(صلی الله علیه واله).

وعقد الحسين(علیه السلام) رايتين، دفع أحدهما لقائد الجبهة اليمنى زهير بن القين البجليّ، والاُخرى لقائد الجبهة اليسرى حبيب بن مظاهر الأسديّ.

وفي رواية المرنديّ: إنّ الحسين(علیه السلام) عقد رايات كثيرة.

وقد أكثر الشعراء في مراثيه(علیه السلام) من ذكر اللواء، كقول بعضهم عن لسان الحسين(علیه السلام):

لمن اللوى اُعطي ومن هو جامعشملي وفي ظنك الزحام يقيني

من ألقاب العباس(علیه السلام)

من ألقاب العبّاس(علیه السلام): العميد والسفير، وهما من الألقاب المشهورة، وسيأتي ذكرهما إن شاء الله.

***

ص: 230

ومن ألقاب العبّاس الأكبر(علیه السلام) ما هو دون ما تقدّم في الشهرة، منها: الصابر، والمحتسب، والمواسي، والطيار.

أمّا الصبر والاحتساب، فأمر ظاهر، فإنّه(علیه السلام) صبر على الظمأ وحدود السلاح، واحتسب نفسه العزيزة، ونفوس إخوته الأشقّاء، وأولاده الأعزّاء في ذات الله، ففدى بنفسه وبهم أخاه الإمام(علیه السلام)، واحتسب جميع ما أصابه في ذات الله.

وأمّا المواساة فسنذكرها في صفاته، وجميع هذه الخصال جاء مدحه بها عن لسان أئمّة أهل البيت: في زيارته وغيرها.

الطيار

وسرّ هذا اللقب أنّ أبا الفضل العبّاس بن أمير المؤمنين عليّ(علیهما السلام) لمّا قطعت يداه المباركتان على اللواء يوم كربلاء جعل الله - تعالى - له جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة، كما جعل لعمّه جعفر بن أبي طالب(علیهما السلام)، وهذا نصّ صحيح ورد عن الإمام زين العابدين(علیه السلام).

روى الصدوق القمّي في كتاب الأمالي بالإسناد إلى ثابت بن أبي صفيّة - يعني أبا حمزة الثمالي - قال:

ص: 231

نظر عليّ بن الحسين(علیهما السلام) إلى عبيد الله بن العبّاس(علیه السلام)، فاستعبر، ثمّ قال: ما من يوم أشدّ على رسول الله(صلی الله علیه واله) من يوم قتل فيه عمّه حمزة بن عبد المطّلب أسد الله وأسد رسوله، وبعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمّه جعفر بن أبي طالب، ولا يوم كيوم الحسين(علیه السلام) ازدلف إليه فيه ثلاثون ألف رجل يزعمون أنّهم من هذه الاُمّة، كلّ يتقرّب إلى الله بدمه، وهو يذكّرهم بالله فلا يتّعظون حتّى قتلوه بغياً وظلماً.

ثم قال:

رحم الله عمّي العبّاس فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه حتّى قطعت يداه، فأبدله الله بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة، كما جعل لجعفر بن أبي طالب(علیهما السلام)، وإنّ للعبّاس عند الله منزلة يبغطه به جميع الشهداء يوم القيامة..

قال الشيخ المظفر يذكر لقب الطيّار:

طارت جماهير العدوّ مروعة

من خوف بأسك أيّها الطيّار

وكشفت حرّاس الشريعة فاتكاً

بالملحدين كأنّك الكرّار

فملكتها رغم الأعادي عنوة

بالسيف عزمك جحفل جرّار

وملأت من عذب الروى ذاك السقا

والقلب فيه من الأوام أوار

ما ذقت من ذاك المعين تذكّراً

عطشى الحسين ويهنّك الإيثار

إنّ الحسين أذاب مهجته الظما

فعلاك حين ذكرته استعبار

ناديت هوني بعد سبط محمّد

يا نفس إنّي المؤثر الصبّار

يسقيك إذ واسيته من حوضه

يوم القيامة جدّه المختار

ص: 232

أقبلت تركض بالسقا مبادراً

خيم الحسين وما أفاد بدار

قطعت يداك وشقّ بالسهم السقا

والخيل كردسها لك الأشرار

فوقفت بين جموعم لا يمنة

بقيت تقيك ولم تعنك يسار

فقد الحسين بك الحميّة والوفا

وأخاً تحاذر باسمه الأقدار

قد كنت تحمل في الجلاد لوائه

ولك الفخار علامة وشعار

ألقاب العبّاس(علیه السلام) في الموروث الشعبي

للعبّاس الأكبر(علیه السلام) ألقاب في الموروث الشعبي، وهي كثيرة جدّاً مشتقّة من صفاته وأفعاله، كما كان القدماء يشتقّون اللقب من صفات الملقّب به، منها:

المتستعجل

يعنون إنّه(علیه السلام) يسرع في قضاء حوائج الراغبين إليه المتوسّلين به وبأهله الكرام إلى الله الذين هم من أعظم الوسائل عنده، وأجلّ الذرائع لديه، وهذه صحيحة ومشاهدة يعضدها الوجدان، والتجربة برهان، فإنّه(علیه السلام) ما توسّل به متوسّل إلى الله - تعالى - ولا استشفع فيه متشفّع مع خلوص نيّة وصحّة عقيدة ويقين صادق وإخلاص ثابت إلاّ وقضى الله حاجته عاجلاً، ويسّرها وسهّلها سريعا.

ص: 233

المضهضب

وضهضبت النار في اللهجة الشعبية اشتدّ لهبها، وعظم استعارها بالوقود، يعنون إنّه(علیه السلام) شديد البطش، سريع الفتك بالمعتدين والمتجرّئين عليه، فإنّ الحالف فيه كاذباً، والمجترء بأكل نذره أو حجده، أو جعل له شرطاً ولم يف به، وما شاكل ذلك، فإنّه ينكب سريعاً من دون إمهال، ويبطش به البطش العاجل، وذلك مشاهد محسوس تعرفه العامّة والخاصّة.

أبو الشارة

وهذا لقب وليس كنية - كما يظنّ - لأنّه بدء ب-((أب))، فإنّ ((أب)) هنا بمعنى صاحب الشارة، وهذه الشارة، وهي نوع من كراماته الكثيرة المشهورة، والتي لا شكّ فيها ولا ارتياب ولا خفاء فيها، لأنّه قد اشترك الجميع في العلم بها.

ومعنى الشارة: هو أن يصيب الحالف كذباً أو المعتدي بأيّ نوع كان نكبة إمّا موت أو حرق أو غرق أو مرض مزمن، وما شاكل هذا، وقد قصف الله أعمار من حلفوا به كذباً، أو منعوا تأدية حقوقه، أو تجاسروا عليه عتوّاً وتكبّراً، وجميع هذه من الاُمور المتسالم عليها عند عموم الشيعة، وتواترت أخبارها لديهم يتناقلها الخلف عن السلف، وينقلها الحاضر للغائب، ولم تخصّ الشعية بمشاهدة تلك الكرامات الباهرة، بل شاهدها غيرهم وكتمها عناداً بعضهم وإنحرافاً

ص: 234

بعضهم.

قال الشيخ المظفر :

لقد شاهدت رهان سيّد رسلها

بمكّة لم يخصص بذلك عارف

ولمّا اغتدى كالشمس دانت طوائف

ومالت عن التصديق فيه طوائف

كذلك برهان ابن حيدر ظاهر

جليّ ولكن مال عنه المخالف

أبو راس الحار

وهو لقب أيضاً لا كنية، ومعناه عندهم سرعة غضبه في ذات الله، وعدم سماحه للجائر، وعدم عفوه عن المجرم مهما كان، وسرعة إجابته لمن توجّه له بحاجة أو نخاه نخوة.

الترهب بيبانه

يعني ((أبوابه))، ويعنون أنّ أبواب حضرته الشريفة ومرقده المقدّس مخوفة مرهوبة، لكثرة ما بان منه(علیه السلام) من الكرامات المسمّاة ب-((الشارة)) حتّى أنّ الداخل إلى حضرته المقدّسة يمتلئ رعباً وهيبة له، وذلك لكثرة ما شاهدوا على أبوابها من اُناس تجاسروا عليه بحلف أو سرقة أو إقدام بغير احترام، فجعلهم آية ونكالاً، فسبّب ذلك في صدورهم هيبة ورهبة، وغرضهم التعبير عمّا يفهمه العلماء العارفون من أنّ لوليّ الله هيبة تمتلئ منها صدور الناس.

ص: 235

باب الحوائج وقاضي الحاجات

لعلّ هذا اللقب قديم للعبّاس(علیه السلام) والغرض من ذلك قضاء الحاجات لمن توسّل به واستشفع إلى الله فيه، وهذا أيضاً مجرّب.

قال الشيخ المظفر : لقد حدّثني من يوثق به ويعتمد على قوله من المجاورين لسيّدنا العبّاس(علیه السلام): إنّ إمرأة جميلة بديعة الحسن كانت تطوف بقبر أبي الفضل العبّاس(علیه السلام)، فرآها شابّ يطوف بقبره أيضاً، فأعجبته فلم يتمالك دون أن لمسها بيده، فدعت عليه، فشلّت يده، ودعا الله بجاه العبّاس(علیه السلام) أن يزوّجه إيّاها، وبعد مدّة تزوّج إمرأة، وهو لا يعرف تلك الامرأة.

فلمّا آنست به سألته عن سبب شلله، فأخبرها بالقصّة، قالت له: ياهذا! وأنت قد قضى الله حاجتك، إنّها هي الامرأة التي دعت عليك في ساعة كذا في وقت كذا بعلامة كذا، فعرف القصّة، وحمد الله على ذلك.

المصفّي ( بالياء المنقّطة )

وهو من التصفية، ومعناه عندهم حسم الخصومة بين المتشاجرين إذا انتهت إليه، فإنّ المتّهم الذي يصرّ على المناكرة والحجود إذا اُريد منه الحلف بحضرة سيّدنا العبّاس(علیه السلام) لا يحلف خوفاً، ولابدّ له من الاعتراف، فتنتهي الخصومة، وإذا حلف علموا أنّه بريء ممّا قرف به،

ص: 236

فتنحسم مادّة النزاع والتشاجر على الحالين جميعاًً، وهذا معنى قولهم المصفّي .

أبو فرجة

لقب لا كنية، وهم لا يقصدون أنّ له بنتاً تسمّى فرجة إنّما يقصدون أنّه يقصدون أنّه يفرّج الكرب عن القاصد إليه والمستجير بجانبه والمتوسّل إلى الله بجاهه

وجاه أهل بيته الكرام والألقاب في الموروث الشعبي كثيرة يكفي هذا المقدار منها.

قال الشيخ المظفر :

ليست كرامته تخفى على أحد

إلاّ على حاسد في غيّه سبحا

أم كيف تخفى وأدناها إذا ظهرت

من شبل حيدر مثل الشمس زاد ضحى

بعض الكرامات كنّا شاهدين لها

وبعضه شاهدتها سائر الصلحا

يا أيّها الناس إنّ الواثقين بهم

فازوا وخاب الذي عن حبّهم جمحا

فكم جلى الله عنّا في محبّتهم

كرباً وذنباً عفى عنّا بهم ومحى

فلازموا حبّهم تنجو بحبّهموا

يوم القيامة وأعصوا من جفى ولحى

فالشاهرون عليهم سيف بغيهموا

خابوا ومبغض آل الله ما ربحا

لأنّهم حجّة الباري وخيرته

أهل التقى وخير الاُمّة الصلحا

إلعن يزيد وثني ابن الدعيّ ولا

تنسى ابن سعد من اللعنات مصطبحا

ص: 237

القاطعين يد العبّاس سيّدنا

والقاتلين حسيناً سيّد الصلحا

من لو يوازن بالدنيا وساكنها

مكارماً ومزايا خيرة رجحا

ص: 238

صفات العبّاس الأكبر(علیه السلام)

الصفات قسمان: خَلقيّة وخُلقيّة، فالاُولى صفات البدن نحو الجمال، وطول القامة، وطول العنق، وتناسب الأعضاء، وما شاكل ذلك.

والثانية صفات النفس نحو الكرم، والشجاعة، والعلم، والحلم، وماشابه ذلك.

الصفات البدنيّة للعبّاس(علیه السلام)

كان سيّدنا العبّاس بن علي(علیهما السلام) من أحسن الناس خلقة وشكلاً وأتمّهم بدناً ومحاسناً، ويعدّ من رجال بني هاشم المتميّزين بصفاتهم الجسمانية من الجسامة، وطول القامة، والجمال الباهر، وقد وصفه بعض المؤرّخين، وهو أبو الفرج الأصبهانيّ فقال:

ص: 239

كان جسيماً وسيماً يركب الفرس المطهّم ورجلاه تخطّان في الأرض.

أثر الضخامة في إرهاب العدو ومدح البسطة الجسمّية:

لا شكّ أنّ للضخامة تأثيراً في إرهاب العدوّ وإرغامه، وكلّما كان البطل جسيماً ضخماً طوالاً كان في الصدور أهيب، وللأعداء أرهب، وكان في البطولة مقدّماً، لأنّ البطولة تكسو الرجال مهابة، فيصبح لدى أعدائه مهيباً مرهوباً.

ولم يزل وصف البطولة عند العرب القدماء فخراً لكماتها الممتازين وفرسانها المشهورين، لأنّ البطولة في الشخص تشتمل على أنواع من إرهاب الأعداء نحو الشجاعة وشدّة البأس والبطش والجرأة والإقدام والقوّة.

والضخامة البدنيّة ممدوحة، وبالأخصّ طول القامة، وقد امتنّ الله - تعالى - على عبيده عاد حيث خلقهم ضخام الأبدان طوال القامات بقوله: ((وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةُ))، وقوله - تعالى - توبيخاً لبني إسرائيل على امتناعهم من طاعة طالوت لمّا ملّكه عليهم بقوله تعالى: ((وَزَادَهُ بَسْطَةُ فَي الْعِلْم وَالْجسْمِ)).

وقد قال مولانا سيّد الشهداء أبو عبد الله الحسين(علیه السلام) في أحد

ص: 240

أصحابه، وهو عبد الله بن عمير الكلبيّ، وقد رآه طويلاً جسيماً: أحسبه للأقران قتّالاً.

قال الطبري في تاريخه:

خرج يسار مولى زياد بن أبيه وسالم مولى عبيد الله بن زياد، فقالا: فليخرج إلينا بعضكم، فوثب حبيب بني مظاهر وبرير بن حضير، فقال لهما الحسين(علیه السلام): اجلسا.

فقام عبد الله بن عمير الكلبي، فقال: أبا عبد الله، رحمك الله، ائذن لي لأخرج إليهما، فرآه الحسين(علیه السلام) رجلاً آدماً طويلاً شديد الساعدين بعيد ما بين المنكبين، فقال الحسين(علیه السلام): إنّي أحسبه للأقران قتّالاً، اُخرج إذا، فخرج إليهما، فقالا: من أنت؟ فانتسب لهما، إلى آخره . ..

فلضخامة الجسم وطول القامة أثر مهمّ في إرهاب الأعداء وإخافة الخصم.

ولم تزل العرب في قديمها وحديثها تعدّ الطول مفتخراً لها، وتقدّم الطوال في الحروب تهويلاً على الأعداء، وأشعارها وأخبارها ناطقة، وهي كثير لا تضبط في هذه العالجة.

قال الشاعر:

طويل نجاد السيف ليس بحبتر

إذا اهتزّ واسترخت عليه الحمائل

وطول حمائل السيف كناية عن طول القامة

وقال توبة بن مضرس السعديّ:

ص: 241

ولمّا التقى الصفّان واختلف القنا

نهالاً وأسباب المنايا نهالها

تبيّن لي أنّ القمامة ذلّة

وأنّ أشدّاء الرجال طوالها

القمامة القصر في القمامة.

وقال جرير الخطفيّ:

تعالوا ففاتونا ففي الحكم مقنع

إلى الغرّ من أهل البطاح الأكارم

فإنّي لأرضى عبد شمس وما قضت

وأرض الطوال البيض من آل هاشم

امتداد القامة في قبيلة بني هاشم

قد اشتهرت قبيلة بني هاشم بن عبد مناف بضخامة الأجسام وطول القامات مع الوسامة وحسن البيان، وبنو هاشم أشهر وأذكر وأفخر وأميز بجميع خصال الحمد من جميع القبائل.

قال الحلبي الشافعي في سيرته في حديث مولد النبي(صلی الله علیه واله): روي عن اُمّه(صلی الله علیه واله)أنّها قالت:

ص: 242

لمّا أخذني ما يأخذ النساء - أي عند الولادة - وإنّي لوحيدة في المنزل رأيت نسوة كالنخل طولاً، كأنّهنّ من بنات عبد المطّلب ما رأيت أضواء منهنّ وجوهاً، وكأنّ واحدة من النساء تقدّمت إليّ فاستندت إليها، وأخذني المخاض، واشتدّ عليّ الطلق، وكأنّ واحدة منهنّ تقدّمت إليّ، وناولتني شربة من الماء أشدّ بياضاً من اللبن، وأبرد من الثلج، وأحلى من الشهد، فقالت لي: اشربي، فشربت، ثمّ قالت الثالثة: ازدادي، ثمّ مسحت بيدها على بطني، وقالت: بسم الله اُخرج بإذن الله، فقلن لي: نحن آسية أمرأة فرعون، ومريم بنت عمران(1) . ..

وهذا يفيد أنّ بنات عبد المطّلب كنّ متميّزات على غيرهنّ من النساء في إفراط الطول.

وكان عليّ بن عبد الله بن عبّاس مفرطاً في الطول فكان إذا طاف كأنّ الناس حوله مشاة وهو راكب، وكان مع هذا الطول إلى منكب أبيه عبد الله بن عبّاس،

وعبد الله إلى منكب أبيه العبّاس، وكان العبّاس إلى منكب أبيه عبد المطلب(2)، كذا قال المبرد في الكامل(3).

الطوال من بني هاشم:

ص: 243


1- السيرة الحلبيّة 1/72 .
2- السيرة الحلبيّة : 1/73 .
3- الكامل للمبرّد : 1/66 .

قال ابن قتيبة في المعارف(1): العبّاس بن عبد المطّلب كان يمشي في الطواف كأنّه عمارية على ناقة، والناس كلّهم دونه، وكان عليّ بن عبد الله بن العبّاس طويلاً جميلاً.

وكان حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله بطلاً جسيماً طوالاً.

وكان عقيل بن أبي طالب رجل طويل القامة مفرطاً في الطوال، قال أبو الحجّاج البلوي الشافعي في كتاب ألف با: كان عقيل بن أبي طالب طوالاً، وكان أحد العشرة الذين طولهم عشرة أشبار.

وكان ثوب أمير المؤمنين(علیه السلام) عشرة أشبار.

والعرب تكني عن طويل القامة ب-((رفيع العماد)) و((طويل النجاد)).

قالت الخنساء في رثاء أخيها صخر:

أعينيّ جوادا ولا تجمدا

ألا تبكيان لصخر الندى

طويل النجاد رفيع العماد

وساد عشيرته أمردا

قال المبّرد في الكامل: تريد بطول نجاده طوله قامته، وهذا ممّا يمدح به الشريف.

وطول العنق في الرجل ممدوح عند العرب، وكذلك طول الساعد، لأنّه إذا طال وصل إلى الأعداء.

قال الشمردل بن شريك اليربوعيّ:

ص: 244


1- المعارف لابن قتيبة : 256 .

يشبّهون ملوكاً في نجالتهم

وطول أنضية الأعناق واللمم

إذا بدى المسك يندى في مفارقهم

راحوا كأنّهم مرضى من الكرم

قال المبرد في الكامل(1): ((طوال أنضية الأعناق))، النضو مركّب النصل في السنخ، وضربه مثلاً، وإنّما أراد طوال الأعناق.

وقال معوّذ بن بشر المازنيّ في طول الأذرع والسواعد:

لهم أوجه بيض حسان وأذرع

طيال ومن سيما الملوك نجائر

قال قيس بن ثعلبة البكريّ:

دعوت بني قيس إليّ فشمّت

خناذيذ من سعد طوال السواعد

إذا ما قلوب القوم طارت مخافة

من الموت أرسو بالنفوس المواجد

إذا جمحت حرب بهم جمحوا لها

ولم يقصروا دون المدى المتباعد

البطولة واجتماع خصالها في العبّاس الأكبر(علیه السلام)

اجتمعت الصفات الأربعة، وهي: الشجاعة، وطول القامة، وطول الساعد، والجسامة في العبّاس الأكبر بن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(علیهما السلام)، وهذه هي البطولة، فليس البطل عند العرب إلاّ الشجاع الجريء الطويل القامة الضخم الجسم الشديد العضد الطويل الساعد.

وهي عند الشعوب الحرّة والاُمم المتمدّنة صفة جمع لعامّة الكمالات،

ص: 245


1- الكامل : 1/44 .

فهم لا يصفون بها إلاّ من تمّت محاسنة، وكملت مزاياه وصفاته النفسيّة والبدنيّة، فلا يطلقون لفظ ((البطل)) إلاّ على من لا نظير له في قطره، ولا مثيل له في شعبه، ولذلك ينعتون الملوك والدعاة الكبار والمصلحين والمبشّرين من الأنبياء وغيرهم، ورجال الاُمّة المبرّزين الممتازين على غيرهم بالبطولة.

فإذا كانت البطولة عنوان المحاسن ومجمع الكمالات، فلا شكّ ولا ارتياب أنّ أبا الفضل العبّاس الأكبر بن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب: قد تكاملت فيه صفات المكارم، واجتمعت له مزايا الكمال، وحاز جلّ الفضائل الموجبة للتنويه والإطراء له مدحاً وتقريظاً، لأنّه كما ستعرف كان شجاعاً شديد البأس ذا نجدة عظيمة وثبات مدهش، وكان عالماً فقيهاً حكميّاً، وخطيباً بليغاً وشاعراً فصيحاً، ووفيّاً أبيّاً، وكريماً جواداً، صاحب مواساة وإيثار، وكان ورعاً زاهداً عابداً.

وقد وصفه أبو الفرج الأصبهاني في كتاب مقاتل الطالبيّين بقوله:

كان العبّاس بن عليّ رجلاً وسيماً جسيماً يركب الفرس المطهّم ورجلاه تخطّان في الأرض، وكان يسمّى قمر بني هاشم، ويلقّب السقّا، ويسمّيه أهل النسب أبا قربة ...

وقد جمعت هذه الفقرات من صفات أبي الفضل(علیه السلام) الوسامة، وهي عبارة عن بداعة الشكل والمنظر، ويعبّر عنها بالملاحة، وحسن الملامح، ولطافة الشكل، وقمر بني هاشم نعت له بالجمال الذي هو أصل

ص: 246

الوسامة، لأنّ الوسامة رونق الجمال تبرزه الملامح، وتظهره الشمائل.

وأثبت له نوراً من حيث أنّه قمر هذه القبيلة الممتازة بحسنها وجمالها، وطول القامة بقوله: رجلاه تخطّان الأرض، والجسامة، وهو عبارة عن كونه ممتلئ الأعضاء والبدن، والبطولة، وهو كذلك، فإنّه بطل العلقميّ، وقد قال الأسديّون الذين شاركوا في دفن الشهداء: للإمام زين العبادين(علیه السلام): بقي بطل على المسنّاة، وقد قال الاُزري :

بطل أطلّ على العراق مجلّياً

فأعصوصبت فرقاً تمور شامها

والحلّي في تأبينه:

بطل تورّث من أبيه شجاعة

فيها اُنوف بني الضلالة ترغم

حسنه وجماله(علیه السلام)

ومن صفات العبّاس بن أمير المؤمنين الحسن والجمال، لأنّه قمر بني هاشم، وقد كساه الله - تعالى - ثوب الجمال، وردّاه برداء الحسن البديع، وذاك ممّا يزيده فضلاً، ويكسبه مجداً، حيث أنّ الجمال رداء الله الذي ألبسه لأنبياءه، وامتنّ به على أهل الخير والصلاح، وكما كساه الله الأتقياء البررة فقد سربل به الأشراف العظماء.

إنّ العرب لتمدح بالحسن وصباحة الوجه ساداتها وزعماءها، وقد

ص: 247

حدّثنا التاريخ بقصص كثيرة تؤكّد ذلك.

وقد قرّر علماء الطبيعة أنّ خير الألوان وأفضلها أعدلها، هو البياض إذا اُشرب بحمرة، وعلاه نور وإشراق، قال الشاعر:

هجان عليها حمرة في بياضها

تروق لها العينان والحسن أحمر

وكلّما علت الوجه لمعات إشراق وتلألؤ وأسارير إضاءة وأنوار كان أجمل وأكمل.

وذلك لون وجه أبي الفضل العبّاس بن أمير المؤمنين(علیهما السلام)، وهو أيضاً لون الأنبياء:، ولون سيّد الرسل وخاتم الأنبياء محمّد(صلی الله علیه واله) وأهل بيته الهداة، فإنّ نبيّنا محمّد(صلی الله علیه واله) - ولا نظير له في العالم كلّه - كان(صلی الله علیه واله) عظيم النور يهتدي إليه الناس في الظلماء بنور جبينه، وابنته سيّدة النساء فاطمة الزهراء(علیها السلام) يجتمعن النساء فيغزلن على إشراق وجهها وتلألؤ غرّتها، وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب والحسن والحسين : كان يستدير النور على جباههم استدارة الهالة على البدر، فصباحة الوجه من دلائل الفضل وإمارات الخير.

قال الشاعر:

لقد قال الرسول مقال صدق

وخير القول ما قال الرسول

إذا الحاجات فرّت فأطلبوها

إلى من وجهه حسن جميل

وهو عقد لقوله(صلی الله علیه واله): ((اُطلبوا الخير عند حسان الوجوه)).

ص: 248

أنواع الجمال:

الجمال نوعان: نوع يدرك بالبصر، كإشراق الوجه واحمراره، وملاحة العينين، وأمثال ذلك، فهو الحسن والصباحة.

ونوع يدرك بالفكر، ممّا تظهره الملامح والهيئة من تناسب الأعضاء في الشكل، وحسن التخطيط وإبداع الخلقة، وإتقان الصورة من حيث التركيب البديع وظرافة الأعطاف، وقد اختلفوا، فمن قائل: إنّ الحسن هو النوع الأوّل، والجمال هو النوع الثاني، ومنهم من يقول بالعكس.

وفي المزهر للسيوطي(1): قال الثعالبي في فقه اللّغة: عن ثعلب عن بن الأعرابي:

الصباحة في الوجه، والوضاءة في البشرة، والجمال في الأنف، والملاحة في الفم، والحلاوة في العينين، والظرف في اللسان، والرشاقة في القدّ، واللباقة في الشمائل، وكمال الحسن في الشعر.

وحيث أنّ الحسن والجمال من خيرات الله وفواضله التي أفاضها على عباده، ومن نعمه التي أسداها إلى خلقه، فهو يحبّ من ظهرت عليه تلك النعمة إذا قام بواجب شكرها في تأدية ما افترض عليه من فرائضه وسننه، وإذا لم يقم بذلك الواجب وقابله بجحود النعمة والكفران لزمه ما لزم كافري النعم من المقت والبغض لهم.

ص: 249


1- المزهر : 1/263 .

وليس غرضنا بيان معنى الجمال وحقيقته على الدقّة الحكميّة، بل يكفي معرفته بهذا الاُسلوب، وأنّه من نعم الله - تعالى - على العباد، وأنّه من صفات الأنبياء، وأنّه ممدوح عند الأمم، ويعدّ في مكارم أشرافهم وساداتهم، أمّا حسن نبيّ الله يوسف(علیه السلام)، فقد كفانا القرآن الكريم نعته، وأمّا نبيّنا محمّد(صلی الله علیه واله) فقد اتّفق الفريقان على أنّه أجمل البشر، وتعدادهم في المقام ونقل أقوالهم يوجب تطويلاً.

جمال أبي الفضل العبّاس(علیه السلام):

فأبو الفضل العبّاس الأكبر بن أمير المؤمنين(علیه السلام) ممّن وسمهم الله بميسم الجمال والوسامة، وكساهم أردية الحسن كرامة منه، لأنّهم أهل الكرامة، وهذا أمر لا نحتاج إلى إثباته بأكثر ممّا ذكرنا، وقد سمعت ما قاله أبو الفرج وكذلك غيره، فكونه يلقّب بقمر بني هاشم أمر معروف عند المؤرّخين، وحسبك بمن يكون قمر هذه العشيرة الفائقة على عامّة البشر بجمالها الباهر وحسنها الزاهر، وقد أكثر الشعراء من نعته بالجمال في مراثيه الكثيرة، وأوّل من فتح لهم هذا الباب سيّد الشهداء أبو عبد الله الحسين(علیه السلام)، ففي أسرار الشهادة للفاضل الدربندي : قال فيه الحسين(علیه السلام) لمّا وقف عليه:

أيا ابن أبي نصحت أخاك حتّى

سقاك الله كأساً من رحيق

ويا قمر منيراً كنت عوني

على كلّ النوائب في المضيق

وقال الاُزري :

ص: 250

الله أكبر أيّ بدر خرّ من

اُفق الهداية فاستشاط ظلامها

وقال السيّد جعفر الحلّي ، وهو يخبر أنّ الحسين(علیه السلام) مشى إليه حين سقط:

فمشى لمصرعه الحسين وطرفه

بين النساء وبينه متقسّم

إلفاه محجوب الجمال كأنّه

بدر بمنحطم الوشيج ملثّم

وقال الشيخ المظفر :

قمر العشيرة ليثها مقدامها

قنّاص أسد الخميس في الأخياس

***

حيث قد عرفت بعض صفات العبّاس بن أمير المؤمنين(علیهما السلام) البدنيّة، وهي الجسامة، والوسامة، وامتداد القامة، وطول العنق والساعدين مع عبالتهما، فنعرّفك الآن بعض صفاته النفسيّة، وأخلاقه الحميدة ومزاياه الكريمة.

وقد اتفق الواصفون لأبي الفضل العباس على نقل سمتين جميلتين في وجهه الجميل:

أحدهما: علامة السجود في وجهه، فقال من رآه حيّاً وشاهد رأسه على الرمح: ((وكان بين عينيه سجّادة)).

والسمة الثانية: البسمة التي ما فارقت محيّاه حتّى حينما رفع رأسه على عالي السنان، كما وصفه الواصفون.

ص: 251

صفات العبّاس الأخلاقية

صفات العباس(علیه السلام) النفسية وهي الأخلاق

إنّ الذات القائمة بصفاتها الرائقة شمائلها، ومزايا ذات العباس الأكبر بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: ليعيا البليغ الحاذق عن تحديد أخلاقها وصفاتها، لأنّ الصفات التي ضمنها هيكله القدسي، واحتوى عليها قالبه المصفّى عن عامّة النقائص، لأنّها قد اقتطعت من هيكل العصمة الأقدس، وقالب الإمامة الأزهر الذي صفّاه الله في قالب الأنوار القدسيّة، وبوتقة الأسرار العلوية، والغصن لا شكّ يستمدّ من الدوحة، والفرع يحكي الأصل ويغتذي منه.

فعلي وصيّ الرسول الأعظم وسيّد أوصياء الأنبياء أدهش العقلاء في صفاته ومزاياه، وحيّر ألباب المفكّرين في حالاته، فتهات فيه طوائف، وضلّت عنه آخرون، واعتدل فيه فريق بين الإفراط والتفريط، وهما النصب والمغالاة، فالمعتدلون المقتصدون في نعت حقيقته وتوصيف ذاته وتحديد شخصيته بما لها من مزايا الكمالات ليقفون موقف القصور والعجز، فلذا قال فيه الشاعر:

ماذا أقول بمن حطّت له قدم

في موضع وضع الرحمن يمناه

إن قلت ذا بشر فالعقل يمنعني

واختشي الله من قولي هو الله

وأبو الفضل العباس الأكبر(علیه السلام) وراث تلك الشمائل العلوي، وحائز

ص: 252

جلّ تلك الصفات الحيدريّة، فالبطولة والفصاحة والعلم والسخاء والنجدة والمهابة والصلاح والتقوى والزهد والبصيرة وقوّة الإيمان والجمال والصحابة والقوة والذكاء، وما سيمرّ عليك من نعوت فائقة لخلقه وخلقته.

قال الشيخ المظفر :

لقد جمع العباس كلّ فضيلة

تزان بها عرب المقاول والعجم

وآل علي المرتضى خيرة الورى

لهم حكمة التبليغ للحقّ والحكم

سما بمعاليه أبو الفضل واعتلا

ألا كلّ من يحوي صفات العلى يسمو

له الجود والإقدام والحلم والتُقى

وقد زانه الإيمان والحكم والعلم

***

فالعباس الأكبر بن أمير المؤمنين(علیهما السلام) جامعة الفضائل، وكلّية الكمالات، بما أنّ نفسه الهاشمية منطبعة بمكارم الأخلاق والشيم بحسب فطرتها، وأصل خلقتها، ولا يشركهم - يعني بني هاشم - في هذه الفضيلة أحد من الناس، وقد أوضح لنا هذه الحقيقة سيّدنا وإمامنا السجاد زين العابدين بن الحسين(علیهما السلام) بقوله بخطبته المشهورة في مجلس اللعين يزيد بن معاوية:

ص: 253

أيّها الناس! اٌعطينا ستّاً وفُضلنا بسبع ...

والدلالة عليه أيضاً وجدانية وشاهدها معها، إذ لا يوجد في الهاشميين بخيل ولا جبان ولا عيي، وإن وجد فالعلّة من جهة الأمّهات.

وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیهما السلام): نحن أفصح وأسمح وأحمى لما وراء ظهورنا من بني أميّة.

وقال معاوية بن أبي سفيان - الخصم الألدّ لبني هاشم -: إذا لم يكن الهاشمي جواداً لم يشبه أصله.

فالعباس الشهيد(علیه السلام) من لباب بني هشام، وصميم عبد مناف، وقد زاده فضلاً على فضله صحبته لأهل الفضائل، وخدمته لسادات أرباب المكارم، فقد قضى حياته، وأفنى عمره في صحبة أكرم الخلق بعد النبي(صلی الله علیه واله) شمائلاً وشيماً، وأفضلهم أخلاقاً ومزايا، وأكملهم طباعاً وسجابا، وتزداد المرآة بالجلاء صفاء، والسيف بالصقالة رونقاً، فأمير المؤمنين(علیه السلام) - وهو والده الأكرم وأبوه - سيّد أرباب الفضائل، والحسن والحسين(علیهما السلام) أخواه سيّدا شباب أهل الجنّة وخير الإخوة وأفضل الأشقّاء، وقد شهد لهما رسول الله(صلی الله علیه واله) في تشبّههما به، وهو(علیه السلام) على خُلقِ عظيم.

فاكتسب العباس(علیه السلام) بصحبتهم زيادة على ما في جبلته وفطرته من سجايا الخير وشيم الصلاح ما امتاز به على عامّة أرباب الأخلاق الحميدة والصفات الكريمة.

ص: 254

وفي العباس من كرم السجايا

كثير ليس يحصر في مقال

وفاء نجدة زهد وعلم

وإيثار وصدق في المقال

عفاف ظاهر حلم وجود

وبأس صادق عند النزال

لقد كان من عطف المولى - سبحانه وتعالى - على وليّه المقدّس سلالة الخلافة الكبرى سيّد الأوصياء أن جمع فيه صفات الجلالة من بأس وشجاعة وإباء ونجدة، وخلال الجمال من: سؤدد وكرم ودماثة في الخلق وعطف على الضعيف، كلّ ذلك مع البهجة في المنظر، ووضاءة في المحيّا من ثغر باسم ووجه طلق تتموّج عليه آيات الحسن، ويطفح عليه رواء الجمال، وعلى أسرّة جبهته أنوار الإيمان، كما كانت تعبق من أعرافه فوائح المجد، متأرّجة من طيب العنصر.

ولمّا تطابق فيه الجمالات الصوري والمعنوي قيل له ((قمر بني هاشم)) حيث كان يشوء بجماله كلّ جميل، ويبذّ بطلاوة منظره كلّ أحد، حتّى كأنّه الفذّ في عالم البهاء، والوحيد في دنياه، كالقمر الفائق بنوره أشعة النجوم، وهذا هو حديث الرواة: كان العباس(علیه السلام) وسيماً جميلاً يركب الفرس المطهّم ورجلاه يخطّان في الأرض، ويقال له ((قمر بني هاشم)).

قال الشيخ المظفر :

أبو الفضل اقتدى في كلّ فضل

بوالده عليّ ذي المعالي

وبالسبطين من فاقا البرايا

جميعاًً بالخلائق والفعال

فما مثل لوصّي طه

ولا السبطين في شرف الخصال

ص: 255

سوى من لا يكون له مثيل

نبيّ الله خيرة ذي الجلال

وفي العبّاس من كرم السجايا

كثير ليس يحصر في مقال

وفاء نجدة زهد وعلم

وإيثار وصدق في المقال

عفاف ظاهر حلم وجود

وبأس صادق عند النزال

نحن أجملنا الكلام في ذكر محاسن أخلاق العبّاس بن أمير المؤمنين(علیهما السلام)، فوجب أن نذكرها تفصيلاً لينتفع بذلك القرّاء.

كرم العبّاس الأكبر وسخاؤه

نحن لا نبرهن على إثبات ذلك بأكثر ممّا خلّدته الآثار التاريخيّة أنّ هذه القبيلة - إعني الهاشميّة - ليس فيها غير الجواد الذي لا يجارى، والكريم الذي لا يبارى.

قال الثعالبي في ثمار القلوب: كان يقال أربعة كانوا ومحال أن يكونوا: زبيريّ سخيّ، ومخزوميّ متواضع، وهاشميّ شحيح...

وقد تحرّى علماء المثالب أن يقدحوا في بني هاشم بوجود بخيل يتقرّبون بثلبه إلى قلوب بني أميّة فما وجدوا في قديمهم أحداً، بل ولا في حديثهم فرداً يجعلونه موضعاً للثلب.

فإذا استبان أنّ هذه القبيلة لا بخيل فيها سوى المنصور - عملاً بظاهر الأنساب، فبالقطع يكون العبّاس بن أمير المؤمنين(علیهما السلام) من الأجواد، سواء كانت الأخلاق سجايا وغرائز أو وراثة واكتساب، وذلك لأنّ السخاء والكرم سجيّة وغريزة في قومه، وسبيل ذلك واضح

ص: 256

فيهم، فإنّ سجايا بني هاشم الكرم، وعلى القول: أنّها مكتسبة فهي تحصل بطول الصحبة والتمرين، فتألف وتعتاد وتقوم العادة مقام الطبع، فلا شكّ أنّه(علیه السلام) قد عاشر أكرم الخلق وأجودهم: أباه عليّاً وأخويه الحسن والحسين:، وإنّما لم يشهر شهرة غيره بالكرم لعدم انفصاله عن خدمتهم، وخاصّة خدمة أخيه الحسين(علیه السلام)، حتّى في حياة أبيه وأخيه الحسن(علیه السلام)، وأنّه كان ملازماً له كالحاجب له كما سيجيء، فخفي ذكر كرمه بكرم أخوية الحسن والحسين(علیهما السلام)، والشمس تخفي أنوار

الكواكب، كما قال النابغة الذبياني للنعمان بن المنذر:

لأنّك شمس والملوك كواكب

إذا طلعت لم يبدو منهنّ كوكب

***

وبعد هذا كلّه يدلّ على كرمه اُمور:

الأوّل: إنّه جاد بنفسه لأخيه الحسين(علیه السلام)، وقد قال أبو تمام الطائي لممدوحه:

وجاد بالنفس إذ ضنّ الجواد بها

والجود بالنفس أقصى غاية الجود

وكثيرا ما يجود الجواد بماله، وإن كان خطيراً ويبخل بنفسه، قال بعض من رثى أصحاب الحسين(علیه السلام):

جادوا بأنفسهم عن نفس سيّدهم

وقد رأوا لبثهم من بعده عارا وحريّ بمن يرى اللبث بعد إمامه في الدنيا عاراً وشناراً أن يجود له بنفسه الغالية ويبذل له روحه العزيزة.

ص: 257

الثاني: يدلّ على سخاء أبي الفضل بن أمير المؤمنين(علیهما السلام) إيثاره العطاشى من أهله على نفسه.

الثالث: قضاؤه الحاجات حيّاً وميّتاً كما لقّب بهذا السبب ((قاضي الحاجات)) و((باب الحوائج))، أمّا قضاؤه لها في حياته فظاهر من حيث أنّه كان منقطعاً لخدمة أخيه الحسين(علیه السلام)، وكان له كالباب والحاجب، فتقضى الحاجات على يده، وقد ظهرت في كربلاء منه آثار مشهورة بقضاء الحاجات.

أمّا قضاؤه الحاجات بعد شهادته إلى اليوم، فحدّث ولا حرج، وسيأتي في فصل كراماته بعض الحكايا، وقد مدحه بعض الشعراء بالسخاء وقضاء الحاجات فقال:

للشوس عباس يريهم وجهه

والوفد ينظر باسماً محتاجها

باب الحوائج ما دعته مروعة

في حاجة إلاّ ويقضى حاجها

بأبي أبا الفضل الذي من فضله

السامي تعلّمت الورى منهاجها

زجّ الثرى من عزمه فوق السما

حتّى علت في تربة أبراجها

قطعت يداه وطالما من كفّه

ديم السماحة أمطرت ثجّاجها(1)

وللشيخ المظفر فيه أيضاً:

أبو الفضل ذو كرم باهر

يحيّي الوفود وزوّاره

بطلق المحيّا كبدر السماء

وقد حسد البدر أنواره

ص: 258


1- معالي السبطين .

وما الغيث مثل ندا كفّه

على الجدب واصل أمطاره

فما الجود غير قضا حاجة

فسل زائريه وسل جاره

إذا غبت عنه وفات العيان

يبلّغك الناس أخباره

بأنّ أبا الفضل أصل النجاح

وسائل عن الغيث آثاره

فإن تنسى هذا أتنسى السماح

بمهجته للحسين وإيثاره

وذي غاية الجود عند الكرام

فدع عنك كعباً وأخباره

ونوّه بشبل عليّ الفخار

وردّد مدى الدهر تذكاره

وما لّقب(علیه السلام) بأبي الفضل إلاّ لكونه ذا فضل ظاهر حسبما ذكرنا، ولذا قيل فيه:

أبا الفضل يامن أسّس الفضل والإبا

أبى الفضل إلاّ أن تكون له أبا

علم العبّاس الأكبر(علیه السلام) وفقهه

لا أحسب أنّ أحداً يشكّ أو يرتاب في علم العبّاس الأكبر(علیه السلام)، وأنّه من الفقهاء العظام، والعلماء الأعلام، لا أرتاب في قولي إنّ جاحد ذلك مجازف مغامر، بل متجاوز طور الأدب الديني معدوم الحياء.

نعم، نقول بكلّ صراحة من غير تشكيك ولا ارتاب: أنّه لا أحد أعرف بحقائق الأديان، ولا أعلم بنواميس الشريعة الإسلاميّة وأحكام الدين المقدّس من رجل ذهبت حياته في خدمة الأئمّة سادات العلماء في أقطار الأرض، ومرجعهم في سائر الفنون، كأبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأخويه الحسن والحسين(علیهما السلام)، حتّى

ص: 259

أنّه(علیه السلام) لم يفارق تلك الأنوار المقدّسة لحظة واحدة، ولم يبتعد عن تلك الأبواب المحترمة خطوة، فليله ونهاره ملازم لخدمتهم ملازمة الظلّ لذي الظلّ، مع حرصهم على تثقيف الأباعد وتعليم الغرباء، فكيف لا يثقّفون الأقارب، ولا يعلّمون الأرحام؟! ومن المعلوم أنّ بالملازمة يحصل العلم سماعاً وتعليماً...

فكيف لا يمتاز العبّاس الأكبر(علیه السلام) وهو خرّيج كلّية الحقائق وتلميذ أساتذة الحقّ وأئمة الدين ومن جعلهم الله عيبة علمه، ومخزن سرّه، ومعدن صفاته وأسراره، ومن تخرّج من تلك المدراس الروحانية، وجعل في الصفّ المقدّم من صفوف تلك الكلّيّات الراقية، فبالحريّ أن يفوز بالنجاح، وأن يحصل له الامتياز على من عدى أساتذته العظماء، وأساتذة علماء الأُمة قاطبة، ومعلّمي علماء الإسلام عامّة الفنون.

والعبّاس الأكبر(علیه السلام) أبوه الأنزع البطين الذي قال فيه رسول الله(صلی الله علیه واله): أنا مدينة العلم وعليّ بابها، وقال هو(علیه السلام) عن نفسه: هذا سفط العلم، هذا لعاب رسول الله(صلی الله علیه واله)- يعني صدره الشريف - علّمني رسول الله(صلی الله علیه واله) ألف باب من العلم يفتح لي من كلّ باب ألف باب.

وكيف لا ينخرط في سلك العلماء من هذا أبوه وأخوه الحسن والحسين(علیهما السلام)، وإنّهما أفاضا شؤبوباً واحداً من علومهما على أخيهما محمّد الأكبر بن الحنفيّة، فأصبح من جهابذة العلماء، ولم يلازمهما ملازمة العبّاس(علیه السلام)، وإن لازمهما أكثر من غيره عدى العبّاس

ص: 260

الشهيد(علیه السلام)، فإنّه أكثر منه ملازمة لهما، وأعظم مواظبة، فلا شكّ أنّه الوحيد في الفقاهة والعلم.

ولعلّ الجاهل بحقائق الأشياء يتطرّقة التشكيك في أنّ العبّاس الأكبر(علیه السلام) لو كان فقيهاً عالماً لاشتهر بذلك شهرة أخية محمّد بن الحنفيّة، وعدّ في صفّ علماء الهاشميّين، وهذه تخيّلات وأوهام، لم يشتهر محمّد بن الحنفيّة في حياة أبيه وأخويه الحسن والحسين(علیهما السلام):

((ومن ورد البحر استقلّ السواقيا))

كلاّ لا ترد الناس السواقي والبحار طامية، ولا تحتسي الأوشال والأنهار طافحة، فلمّا جفت تلك الأنهار، ونضبت تلك البحار، وبقي الجدول جارياً، ورده الوارد، واستقى منه الظمئآن، فمحمّد الأكبر والعبّاس الأكبر في حياة أبيهما وأخويهما سواء في عدم الشهرة العلميّة، ولو بقي العبّاس الأكبر(علیه السلام) بقاء محمّد بن الحنفيّة لرزق في العلم صيتاً ونال شهرة، ولسارت بمعارفه الركبان لكن:

عجّل الخسوف عليه قبل أوانه

فمحاه قبل مظنّة الأبدار

وقد كان أبو الفضل العبّاس(علیه السلام) معروفاً بالعلم، فهذا العسقلاني الشافعي يصرّح في كتاب الإصابة فيمن روى عن أمير المؤمنين علي(علیه السلام) من أعلام الصحابة وأعيان التابعين، ثمّ يقول: ومن بقيّة التابعين عدد كثير من أجلّهم أولاده محمّد بن عمر والعبّاس...، ومحمد هو ابن الحنفية، وعمر هو الأطرف.

على أنّ العبّاس(علیه السلام) قد صدرت منه اُمور يوم الطفّ دلّت على وفور

ص: 261

علمه، كنفضه الماء من يده تأسّياً بالإمام الحسين(علیه السلام) وإيثاره له، كما سنذكره في الإيثار والمواساة، وهذه مسألة فقهيّة، وهي أنّ الإيثار راجح شرعاً لورود الأدلّة السمعيّة من الآيات والروايات، وما دلّت عليه الأدلّة السمعيّة فهو راجح شرعاً، فهذه من مسائل الفقه، وما صدرت منه تلك الفعلة الحميدة على جهة الفطرة والبداهة فحسب، بل على جهة الاختيار للمحبوب المطلوب شرعاً.

وكقوله(علیه السلام) في خطاباته الموجّهة تجاه أخيه الحسين(علیه السلام) - كما يجيء في آدابه - نحو قوله

((سيّدي يابن رسول الله(صلی الله علیه واله)))، ولم يخاطبه بأخي، لعلمه أنّ مرتبة الإمامة فوق كلّ مرتبة، ومهما كان الأخ، فلا ينبغي أن ينزل نفسه للإمام إلاّ منزلة العبد، فيخاطبه خطاب المملوك للمولى ب-((سيّدي))، والمخاطبة بالاُخوّة دليل المكافأة، ولا يكافئ الإمامة شيء كالنبوّة، وهذا من الفقة في الدين والأدب الراقي وتفخيم ذي الشأن مستحبّ شرعاً ومطلوب عقلاً.

وأبو الفضل(علیه السلام) يعرف واجب تفخيم الإمام عقلاً واحترامه تديّناً.

للشيخ المظفر :

ألا أنّ عبّاس بن حيدر عالم

بواجب دين الله والراجح الشرعي

يعظّم أرباب الإمامة موفياً

لهم حقّهم في الأصل للحقّ والفرع

وكقوله(علیه السلام) لإخوته الأشقّاء الذين هم من اُمّه اُمّ البنين:

ص: 262

تقدّموا يا بني اُمّي لأحتسبكم، فإنّه لا ولد لكم، وهذا القول منه(علیه السلام) مشهور رواه عامّة أرباب المقاتل، واختلفوا في ضبط العبارة، فالطبري المؤرّخ هذا لفظه في تاريخه قال:

وزعموا أنّ العبّاس بن عليّ قال لإخوته من أبيه واُمّه عبد الله وجعفر وعثمان: يابني اُمّي! تقدّموا حتّى أرثكم فإنّ لا ولد لكم ففعلوا فقتلوا(1) . . ..

وهذا تصحيف، والأصل حتّى أراكم(2)، فصحّفه الراوي بأرثكم.

وأمّا أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري، فلفظه في الأخبار الطوال(3):

ولمّا رأى ذلك العبّاس قال لإخوته عبد الله وجعفر وعثمان بني علي:، واُمّهم جميعاً اُمّ البنين العامريّة الوحيديّة: تقدّموا بنفسي أنتم فحاموا عن سيّدكم حتّى تموتوا دونه، فتقدّموا جميعاًً، فضاربوا أمام الحسين(علیه السلام) بوجوههم ونحورهم...

وأمّا أبو الفرج عليّ بن الحسين الأصبهاني، فلفظه في مقاتل الطالبيّين عن الضحّاك المشرقي قال:

ص: 263


1- تاريخ الطبري : 6/257 .
2- حيث كانت تكتب « أريكم)) .
3- الأخبار الطوال : 254 .

قال العبّاس بن علي(علیهما السلام) لأخيه من أبيه واُمّه عبد الله بن علي(علیهما السلام): تقدّم بين يدي حتّى أراك واحتسبك، فإنّه لا ولد لك، فتقدّم بين يديه . ..

وذكر مثله في أخويه عثمان وجعفر.

وأمّا الشيخ المفيد أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان، فلفظه في كتاب الإرشاد:

فلمّا رآى العبّاس بن عليّ(علیهما السلام) كثرة القتلى في أهله قال لإخوته من اُمّه، وهم عبد الله وجعفر وعثمان: يابني اُمّي! تقدّموا أمامي حتّى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله، فإنّه لا ولد لكم . ..

وهذا بعينه لفظ الشيخ المحقّق جعفر بن نما الحلّي في مثير الأحزان.

وينتج من هذه الأقوال اُمور كلّها تدلّ على فقاهته وعلمه:

الأوّل: قوله ((تقدّموا لأراكم قد نصحتم لله ولرسوله . . .))، جهة الفقاهة في هذا أنّه(علیه السلام) قد علم أنّ أفضل الجهاد ما كان بالنفس والنفيس، أمّا نفسه فعازم على بذلها لأخيه الحسين(علیه السلام)، وهو واثق بذلك من نفسه، وأمّا النفيس، وليس لديه هناك أنفس من إخوته الأشقّاء، فأحبّ أن يقدّمهم ويكون قد بذل في الجهاد نفسه ونفسيه، ولا شكّ بتضاعف الأجر على ذلك.

ويتفرّع على مسألة تقديم العبّاس(علیه السلام) لإخوته من الفروع الفقهيّة ما خفي على كثير من مهرة الفنّ وأساتذة الصنعة مثل مسألة الشكر على النعمة.

ص: 264

والعبّاس(علیه السلام) يرى من أتمّ نعم الله عليه وأفضلها عنده الشهادة في سبيله، ومن إتمامها أن يرزقها الله - تعالى - لإخوته الذين هم أعزّ ما لديه من حاضري إخوته بعد الحسين(علیه السلام)، فإذا تفضّل الله عليهم بالشهادة ورزقهم إيّاها فقد أسعدهم وأنالهم

كرامته، فوجب عليه الشكر الذي يجب عقلاً وشرعا عند تجدّد كلّ نعمة، إذ شكر المنعم واجب بالإدلّة العقليّة والنقليّة.

الثاني: الاحتساب، فقوله(علیه السلام) ((تقدّموا لأحتسبكم))، وفي هذا الاحتساب يتضاعف الأجر، لعلمه أنّه إذا توالت الفوادح وتواترت المصائب، وصبر عليها الصابر محتسباً، فقد تضاعف أجره عند الله، ولا إشكال أنّه إذا شاهد مصارع إخوته الأشقّاء واحداً بعد واحد، فقد تضاعف له العناء والأسف، ولو أنّهم قتلوا قتلة واحدة كان لها حكم المصيبة الواحدة، ولكن المصائب تتعدّد بقتل الواحدة تلو الواحد، فتتضاعف لذلك الأحزان.

ومن فروع هذه المسألة الفقهيّة مسألة الصبر، فإنّ الذي يبتلى بفقد الأعزّاء وأنفس الأشياء وأغلاها عنده، ثمّ يصبر ويحتسب، يكون له الأجر المضاعف، ويجزيه الله - تعالى - أفضل جزاء الصابرين.

وقد حصل لأبي الفضل العبّاس(علیه السلام) في هذه القتلة ثلاثة أشياء توجب الكرامة ومزيد الحباء عند الله - تعالى -: الشهادة والشكر والصبر، وهذا من عجيب الفقه الذي يتحرّاه الفقيه العليم في مثل ذلك الموقف الحرج والمقام الصعب ذي الأهوال والتهاويل الذي طارت منه

ص: 265

الأذهان، واندهشت فيه الفكر وحارت الألباب.

قال الشيخ المظفر :

جئني بمثل أبيه كنز علومها

هيهات يوجد أو فتى كأخيه

إنّ الفتى كأبيه في أخلاقه

قد قيل إنّ الابن سرّ أبيه

وقد استبان أنّ أبا الفضل العباس(علیه السلام) في أرقى درجة اليقين التي لا يمكن أن يتجاوزها إلاّ من كان معصوماً بالعصمة الإلهيّة التي هي حقيقة النبوّة والإمامة، فيصدق قوله(علیه السلام):

فليس هذا من فعال ديني

ولا فعال صادق اليقين

بالإقبال بكلّيّته على مواجهة ربّ الأرباب والمجاورة له في دار البقاء والتخلّي عن هذه الدار الفانية ذات الأكدار والشواغل الكثيرة الموجبة لحجب المريد عن مواصلة المراد، والحائل بينه وبين التجلّيات الحقيقيّة، فإذا قطع هذه العلائق الدنيويّة فهو صادق اليقين في الشوق المستغرق به من حبّ الذات التي جلّت عن مثل هذه الإطلاقات، ودنى منها بإخلاص التوحيد دنوّ الواجد المتفاني في محبّة مراده الأعظم.

وليست علوم أهل البيت: بمكتسبة ومحصّلة بدراسة المصنّفات وقراءة المؤلّفات، وإنّما هي منح ربّانيّة وإضافات إلهيّة يفيضها عليهم: واهب العقول، وصاحب المواهب العالية منذ عهد الطفوليّة.

فصاحة العبّاس الأكبر(علیه السلام)

ص: 266

لا خفاء أنّ قريشاً أفصح العرب وبلغتهم نزل القرآن، وأفصح قريش هم بني هاشم، وأفصح من بني هاشم رسول الله(صلی الله علیه واله) وبعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیهما السلام) وسيّدة نساء فاطمة الزهراء والحسن والحسين:، ومن الفصحاء الخطباء محمّد بن الحنفيّة وعبد لله بن العبّاس وعبد الله بن جعفر الطيار، ومن نسائهم زينب الحوراء واُمّ كلثوم بنتا أمير المؤمنين : وفاطمة وسكينة بنتا الحسين:، وتعداد الفصحاء من هذه القبيلة تطويل وشهرتها تغني عن إيراد الحجج.

والعبّاس الأكبر(علیه السلام) فرع من تلك الشجرة اليانعة المثمرة، وغصن من تلك الدوحة الباسقة التي تفيّأت بظلّها طوائف الإسلام.

وعلى كلّ حال ففصاحة بني هاشم لا يستريب بها كلّ ذي معرفة بأساليب الكلام وفنونه، ولا يشكّ فيها أرباب التمييز للكلام الفصيح.

أمّا أبو الفضل العبّاس(علیه السلام) فمعروف بفصاحة اللسان، قال الفاضل الدربندي في الأسرار: قد ذكر أنّ بعض الأبطال تهددّه، وكان جريئاً ذا سطوة مرهوبة، وأنّ العبّاس(علیه السلام) لم يكترث بموقفه، فأجابه قائلاً له بثبات ورباطة جأش:

ص: 267

إنّي أرى كلامك كالسراب الذي يلوح، فإذا قصد صار أرضاً بواراً، والذي أمّلته أن أستسلم لك، فذاك بعيد الحصول، صعب الوصول، وإنّي - يا عدوّ الله ورسوله - معوّد للقاء الأبطال، والصبر على النزال، ومكافحة الفرسان، وبالله المستعان، ومن كملت هذه الصفات فيه فليس يخاف من برز إليه، ويلك أليس لي اتصال برسول الله(صلی الله علیه واله)؟! أنا غصن متّصل لشجرته، وزهرة من نور ثمرته، ومن كان من هذه الشجرة فلا يدخل تحت الذمام، ولا يخاف ضرب الحسام، وأنا ابن علي لا أعجز عن مبارزة الأقران، وما أشركت لمحة بصر، ولا خالفت رسول الله(صلی الله علیه واله) فيما أمر، وأنا منه الورقة من الشجرة، وعلى الاُصول تنبت الفروع، فأصرف عنّا ما أمّلت فما أنا ممّن يأسى على الحياة، أو يجزع من الوفاة، فخذ في الجدّ واصرف عنك الهزل، وأنشأ يقول:

صبراً على جور الزمان القاطع

ومنيّة ما إن لها من دافع

لا تجزعنّ فكلّ شيء هالك

حاشى لمثلي أن يكون بجازع

فلئن رمانا الدهر منه بأسهم

وتفرّق من بعد شمل جامع

فلكم لنا من وقعة شابت لها

قمم الأصاغر من ضراب قاطع

ومن الشعر المنسوب للعبّاس(علیه السلام):

ص: 268

للّه عين رأت ما قد أحاط بنا

من اللئام وأولاد الدعيّات

ياحبّذا عصبة جادت بأنفسها

حتّى تحلّ بأرض الغاضريّات

الموت تحت ذباب السيف مكرمة

إذ كان من بعده سكنى لجنّات

أمّا خطبته المشهورة على ألسنة خطباء المنابر الحسينّية والتي يقول فيها: ((هذه ثيابنا قد لبسناها أكفاناً لنا)) فمعروفة عندهم..

قال الشاعر :

ورث الفصاحة من أبيه وإنّه

لخطيب أندية الفخار الأبين

من عصبة فاقوا الأنام فصاحة

إن يخطبوا فوق المنابر أحسنوا

سيّان ألسنهم وحدّ سيوفهم

لا بل أمضّ من السيوف الألسن

ما فيهموا إلاّ خطيب مصقع

عند الخطابة أو أديب محسن

قس بن ساعدة إذا قايسته

فيهم بعدل فهو أبكم ألكن

شجاعة العبّاس الأكبر(علیه السلام)

لا شكّ أنّ الشجاعة من الغرائز النفسيّة والطبائع المرتكزة في القوى الذاتيّة، لكنّها تقوى وتضعف بحسب الممارسة، فأشبهت الهيئات والملكات واستحق المتّصف بها المدح والإطراء.

ص: 269

معنى الشجاعة لغة:

العرب تسمّي الحيّة الذكر وهو العربد ((العربيد)): الشجاع، فأطلقته على الرجل الجريء المقدام خوّاض الأهوال والغمرات، وذلك لأنّ العربد ((العربيد)) في لعابه السمّ المتلف، وكذلك الرجل الشجاع في سيفه التلف، وفي ملاقاة كليهما المخاطرة، ومظنّة الهلاك والعطب.

قال ابن الأثير في النهاية: الشجاع - بالضمّ والكسر - الحيّة الذكر، وقيل: الحيّة مطلقاً.

وقال الفيّومي في المصباح المنير: شجع - بالضمّ - شجاعة قوي قلبه واستهان بالحروب جرأة وإقداماً، فهو شجيع وشجاع، وبنو عقيل تفتح الشين حملاً له على نقيضه، وهو جبان، وبعضهم يكسر للتخفيف.

وذكر مثل هذا الطريحي في مجمع البحرين وقال: الشجاع الأقرع حيّة قد تمعط فروة رأسها لكثرة سمّها، والشجاعة شدّة القلب عند البأس، وقد شجع الرجل شجاعة قوي قلبه واستهان بالخطوب جرأة وإقداماً.

وحيث أنّ حقيقة الشجاعة صبر وثبات وحمل النفس على مكروه وممقوت، لأنّها بالطبع تحبّ البقاء وتكره الفناء، ومن لوازمها الجبلّيّة الفطريّة التعاظم والبذج، لأنّ من خاض الأهوال ولم يبالي بالمعاطب يستشعر في نفسه عظمة، ويعتريه تباذج وشمخ، وحيث أنّ للنفس الإنسانيّة حاكميّة على الشجاعة فوجب أن تقهر تلك النخوة الغضبيّة، وتكسر تلك السورة الشيطانيّة، وقمعها وكسرها بما يسمّى عند العقلاء

ص: 270

حلماً، وعند المتشرّعين عفواً، فاندرجت تحت الشجاعة اُمور هي كما نصّ عليها ابن مسكوية في تهذيب الأخلاق، ولفظه:

الفضائل التي تحت الشجاعة: كبر النفس، النجدة، عظم الهمّة، الثبات، الصبر، الحلم، عدم الطيش، الشهامة، والفرق بين هذا الصبر والصبر الذي في العفّة أنّ هذا يكون في الاُمور الهائلة، وذلك يكون في الشهوات الهائجة.

أمّا كبر النفس، فهو الاستهانة باليسير، والإقتدار على حمل الكرامة، فصاحبه أبداً يؤهّل نفسه للاُمور العظائم مع استخفافه لها.

وأمّا النجدة، فهي ثقة النفس عند المخاوف حتّى لا يخامرها جزع.

وأمّا عظم الهمّة، فهي فضيلة للنفس تحتمل بها سعادة الجدّ وضدّها من الشدائد التي تكون عند الموت.

وأمّا الثبات، فهو فضيلة للنفس تقوى بها على احتمال الآلام ومقاومة الأهوال خاصّة.

وأمّا الحلم، فهو فضيلة للنفس تكبر بها الطمأنينة، فلا تكون شغبة، ولا يحرّكها الغضب بسهولة وسرعة.

وأمّا السكون الذي نعني به عدم الطيش، فهو إمّا عند الخصومات، وإمّا في الحروب التي يذبّ بها عن الحريم أو عن الشريعة، وهي قوّة للنفس تقسر حركتها في هذه الأحوال لشدّتها.

وأمّا الشهامة، فهي الحرص على الأعمال العظام توفّقاً للاُحدوثة الجميلة.

ص: 271

الشجاعة بين نقيضين

والشجاعة بين نقيضين ذميمين:

فإنّ تجاوز الحدّ في الإفراط والتفريط مذموم، ولذا قالت العرب في أمثالها: كلّ شيء تجاوز حدّه انعكس إلى ضدّه، وقال شاعرهم:

((كلا طرفي قصد الاُمور ذميم))

فالإفراط في التأخّر مذموم، لأنّه جبن، والإفراط في التقدّم أيضاً مذموم، لأنّه تهوّر يجرّ إلى العطب، فالتهوّر والجبن مذمومان، لأنّهما خارجان عن حدّ الاعتدال.

ثمرة الشجاعة وفوائدها:

والشجاعة نوعان: دينيّة ودنيويّة، ولكلّ واحدة منهما ثمرة وفائدة:

فالدينيّة ثمرتها: إشادة الدين، وإظهار الحقّ، ونشر العدل، وإبطال الجور والأظاليل التي تنتجها بدع المجرمين.

وأمّا الدنيويّة ففائدتها: حفظ شؤونه، وبلوغ غاياته، ونيل مقاصده، وبهما معاً حميّاته الشرف والجاه، وصيانة العرض.

غايات الشجعان ومقاصدهم:

إنّ لكلّ شجاع غاية ينحوها، وهدف يرمي إليه، إمّا قصد تأسيس مملكة، وإشادة سلطنة، أو دفاع عن وطن، أو تخلّص عن ذلّ

ص: 272

واستعباد، أو اكتساب رفعة ووجاهة، أو نيل مرتبة سامية، وما شاكل ذلك من المقاصد العقلانية، وأنبلها المحاماة عن الأعراض، والكفاح على الدين، والمحاماة عن عظيم من العظماء الروحانّيين، كلّ هذه الغايات من مقاصدة الشرف ومناحي المجد والسؤدد، وهي مقدّرة عند جميع ذوي العقول، ومحترمة لدى كافّة النبلاء، وأقربها للمحامد،

وأحراها بالتبجيل والإحترام من كان دفاعه نصرة للحقّ والعدل، وتشييداً للدين، ومكافحة للإستبداد الممقوت، والجور الصارم، والمدافعة عن نفس يجب حفظها بكلّ ما يمكن الوصول إليه، كنفس النبيّ والإمام المعصوم المفترضة طاعتهما على الخلق أجمعين، وجميع هذه الغايات نبيلة.

من مقاصد أبي الفضل العبّاس بن أمير المؤمنين علي(علیهما السلام):

أمّا أبو الفضل العباس(علیه السلام)، فإنّ غرضه الأقصى الذي ينحوه، وهدفه الأبعد الذي يسدّد الرمية إليه، هو نصرة الدين، وحماية الإمام الحسين(علیه السلام)، إمام الحقّ والعدل الذي قام يكافح استبداد ولاة الجور من آل حرب، ورعاة النفاق والفجور وماحي الإسلام وماحقي السنّة ومحيي البدعة والأضليل من بني اُميّة، وقد صرّح أبو الفضل(علیه السلام) ببعض مقاصدة كقوله:

((أذبّ عن دين النبيّ أحمد))

وكقوله:

ص: 273

إنّي اُحامي أبدا عن ديني

وعن إمام صادق اليقين

وكقوله:

((نفسي لنفس السيّد الطهر وقا))

صرّحت كلّ هذه الأشعار: بأنّ أقصى غاياته المدافعة عن إمامه الحسين(علیه السلام)، ونصرة دين الله الذي قهرته سلطة بني اُمّية، وأذلّه استبدادهم الجبّار، ومحقته إثرتهم الفاجرة.

شجاعة العبّاس الأكبر:

أمّا شجاعته(علیه السلام)، فهي المثل الأعلى، ووصفها الأكمل ونعتها الأتمّ، وهي عظيمة الأثر في صفوف أهل الكوفة، شديدة النكاية فيهم، وقد تفنّن الشعراء في نعته بالشجاعة فنوناً.

حضوره صفّين:

قد شهد قبل كربلاء صفّين، وفي بعض الكتب الفارسيّة أنّه كان محارباً، ويشهد له ما ذكره الخطيب الخوارزمي الحنفي في كتاب المناقب: أنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیهما السلام) لبس ثياب ابنه العبّاس(علیه السلام) في بعض أيّام صفّين، لمّا برز لقتال كريب فارس أهل الشام، وحيث أنّ هذه القصّة تشتبه بقصّة العبّاس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب لزمنا نقل القصّتين، ليرتفع الإشكال، ويزول الشكّ، فإنّه ذكروهما معاً، لفظه:

ص: 274

ثمّ خرج من عسكر معاوية كريب بن أبرهة من آل ذي يزن، وكان مهيباً قويّاً يأخذ الدرهم فيغمزه بإبهامه، فتذهب كتابته، فقال له معاوية: إنّ عليّاً يبرز بنفسه، وكلّ أحد لا يتجاسر على مبارزته وقتاله، فقال كريب: أنا أبرز إليه.

فخرج إلى صفّ أهل العراق ونادى: ليبرز إليّ علي، فبرز إليه مرتفع بن وضّاح الزبيدي، فسأله: من أنت؟ فعرّفه بنفسه، فقال: كفؤ كريم، ثمّ تكافحا فسبقه كريب بالضربة فقتله، ونادى: ليبرز إليّ أشجعكم أو علي.

فبرز إليه شرحبيل بن بكر، وقال لكريب: يا شقي! ألا تفكّر في لقاء الله ورسوله يوم الحساب من سفك الدم الحرام؟ فقال كريب: إنّ صاحب الباطل من آوى قتله عثمان، وهو صاحبكم!! ثمّ تكافحا مليّاً، فقتله كريب.

ثمّ برز إليه الحارث بن اللجلاج الشيباني، وكان زاهداً صوّاماً قوّاماً، وهو يقول:

هذا علي والهدى حّقاً معه

نحن نصرناه على من نازعه

ثمّ تكافحا، فقتله كريب.

فدعا عليّ(علیه السلام) ابنه العبّاس، وكان تامّاً كاملاً من الرجال، فأمره أن ينزل عن فرسه وينزع ثيابه، ففعل، فلبس علي(علیه السلام) ثيابه وركب

ص: 275

فرسه، ولبس ابنه العبّاس(علیه السلام) ثيابه(1) وركب فرسه، لئلاّ يجبن كريب عن مبارزته، فلمّا همّ علي(علیه السلام) بذلك جاء عبد الله بن عدي الحارثي وقال: يا أمير المؤمنين! بحقّ إمامتك ائذن لي في مبارزته، فإن قتلته وإلاّ قتلت شهيداً بين يديك، فأذن له علي(علیه السلام)، فتقدّم إلى كريب، وهو يقول:

هذا علي والهدى يقوده

من خير عيدان قريش عوده

لا يسأم الدهر ولا يروده

وعلمه معاجز وجوده

فتصاولا ساعة، ثمّ صرعه كريب.

ثمّ برز إليه علي(علیه السلام) متنكّراً، وحذّره الله وسخطه، فقال كريب: أترى سيفي هذا؟ قد قتلت به كثيراً مثلك! ثمّ حمل على علي(علیه السلام) بسيفه، فاتّقاه بجحفته، ثمّ ضربه علي(علیه السلام) على رأسه فشقّه حتّى سقط نصفين، وأنشأ علي(علیه السلام) يقول:

النفس بالنفس والجروح قصاص

ليس للقرن بالضراب خلاص

إلى آخر القصّة.

ثّم ذكر قصّة العبّاس بن ربيعة بما لفظه، قال:

برز اليوم التاسع عشر من حرب صفّين من أصحاب معاوية عثمان بن وائل الحميري - وسمّاه المسعودي وغيره عرار بن أدهم - وكان يعدّ بمائة فارس، وله أخ يسمّى حمزة يعدّهما معاوية للشدائد، فجعل عثمان

ص: 276


1- يدلّ هذا على أنّ العباس(علیه السلام) في سنّ الشباب كان رشيد البدن فارعاً بحيث لابس أمير المؤمنين(علیه السلام).

يلعب برمحه وسيفه، والعبّاس بن الحارث بن عبد المطلب ينظر إليه من ناحية مع سليمان بن صرد الخزاعي، فقال له العبّاس: أبرز إليه، وقد نهاني أمير المؤمنين(علیه السلام)، وفي نفسي أنّي أقتله، فبرز إليه العبّاس وهو يقول:

بطل إذا غشي الحروب بنفسه

حصد الرؤوس كحصد زرع مثمر

فتكافحا مليّاً فلم يظفر أحدهما بصحابه، فقال سليمان للعبّاس: ألا تجد فرصة؟ فقال: فيه شجاعة، ثمّ انثنى عليه فضربه فرمى رأسه ووقف مكانه.

فبرز إليه أخوه حمزة، فأرسل إليه علي(علیه السلام) ونهاه عن مبارزته، وقال له: إنزع ثيابك وناولني سلاحك وقف مكاني، وأنا أخرج إليه، فنتكّر علي(علیه السلام)، وخرج إلى حمزة، فظنّ حمزة أنّه العبّاس الذي قتل أخاه، فضربه علي(علیه السلام) فقطع أبطه وكتفه ونصف وجهه ورأسه، فعجب اليمانّيون وهابوا العبّاس.

وبرز إلى علي(علیه السلام) عمرو بن عبس الجمحي، وكان شجاعاً، فجعل يلعب برمحه وسيفه، فقال علي(علیه السلام): هلمّ للمكافحة فليس هذا وقت لعب، فحمل عمرو على علي(علیه السلام) حملة منكرة، فاتّقاه عليّ(علیه السلام) بجحفته، ثمّ ضربه علي(علیه السلام) على وسطه، فأبان نصفه وبقي نصفه على فرسه.

فقال عمرو بن العاص لمعاوية: ما هذه إلاّ ضربة علي(علیه السلام)، فكذّبه معاوية، قال: قل للخيل تحمل عليه، فإن ثبت مكانه فهو علي،

ص: 277

فحملوا عليه، فثبت لهم ولم يتزعزع، وجعل يقتل فيهم حتّى قتل منهم ثلاثة وثلاثين رجلاً . . ..

وهذا صريح أنّ العبّاس الأكبر(علیه السلام) كان فارساً بصفّين كامل الأهبة والعدّة يقف في صفّ المجالدين، فيستعير أمير المؤمنين(علیه السلام) آلته ولباسه، فلا يفرّق بينهما، وقد صرّح الكربلائيّ في معالي السبطين بأنّه كان محارباً، وقال: قال الطريحي: إنّ العباس(علیه السلام) كان مع أبيه أمير المؤمنين(علیه السلام) في الحروب والغزوات، ويحارب شجعان العرب ويجالدهم كالأسد الضاري، حتّى يجدّلهم صرعى، وفي يوم صفّين كان(علیه السلام) عوناً وعضداً لأخيه الحسين(علیه السلام)، وأعان الحسين(علیه السلام) في فتح الفرات وأخذ الماء من أصحاب معاوية، وهزم أبا الأعور عن الماء.

ثمّ قال: قال الحاج شيخ محمّد باقر البرجندي القائني في كتابه المسمّى الكبريت الأحمر: قال بعض من يوثق به: إنّ يوماً من أيّام صفّين خرج شابّ من عسكر أمير المؤمنين(علیه السلام) وعليه لثام، وقد ظهر منه من آثار الشجاعة والهيبة والسطوة بحيث أنّ أهل الشام قد تقاعدوا عن حربه وجلسوا ينظرون إليه، وغلب عليهم الخوف والخشية، فما برز إليه أحد، فدعا معاوية برجل من أصحابه يقال له ((ابن شعثاء))، وكان يعدّ بعشرة آلاف فارس، فقال له معاوية: اُخرج إلى هذا الشابّ فبارزه، فقال: يا أمير المؤمنين! إنّ الناس يعدّونني بعشرة آلاف فارس، فكيف تأمرني بمبارزة هذ الفتى؟ فقال له: إفعل.

ص: 278

فبعث إليه بأحد أولاده فقتله الشابّ، ثمّ بعث إليه بآخر فقتله الشابّ، حتّى بعث جميع أولاده فقتلهم الشابّ فعند ذلك خرج ابن شعثاء وهو يقول: أيّها الشابّ! قتلت جميع أولادي، والله لأثكلنّ بك أباك وأمّك، ثمّ حمل اللعين وحمل عليه الشابّ، فدارت بينهما ضربات، فضربه الشابّ ضربة قدّه نصفين، فألحقه بأولاده، فعجب الحاضرون من شجاعته، عند ذلك صاح أمير المؤمنين(علیه السلام) ودعاه وقال: إرجع يا بنيّ، لئلاّ تصيبك عيون الأعداء، فرجع وتقدّم أمير المؤمنين(علیه السلام)وأرخى اللثام عنه وقبّله بين عينيه، فنظروا إليه، فإذا هو قمر بني هاشم العبّاس بن أمير المؤمنين . ..

دفاع الشيخ المظفررحمه الله عن التواريخ الفارسيّة

قال الشيخ المظفر : وكأنّي أسمع بعض القرّاء لكتابنا هذا من منتحلي الثقافة، ومدّعي التنوير، وزمرة من المتجدّدين الذين لا يريدون إثبات فضيلة لأهل هذا البيت النبويّ المفخّم، وفئة من المتفقّهين بلا معرفة وتمييز، وهناك فئام يضرعون لأوهام وخيالات يسمّونها بالعقول، والعقول بريئة من كلّ فكر سطحيّ، وخيال وهمىّ، سيقولون إذا مرّوا بهذه الحكايات: كيف اعتمد مؤلّف ((كتاب بطل العلقمي)) في نقل هذه الحكايات على الكتب الفارسيّة والتواريخ الأعجميّة، ومؤلّفوها يتمسّكون بالواهيّات، ويعتمدون المراسيل، ولو شهد العبّاس بن عليّ(علیهما السلام) صفّين، وكان في صفّ المحاربين،

ص: 279

لذكره المؤرّخون أساتذة فنّ التاريخ، كالطبري والجزري والمسعودي وأضرابهم؟!

فيظنّ من لا معرفة له ولا إلمام بحقائق الأشياء أنّ هذه المقالة مبتنية على أساس محكم، وبناء مرصّف في ركن وثيق، وهي لدى التحقيق على جرف منهار قد جرفه السيل، وعلى رأس منار متداعي الأركان قد زعزعته العواصف وهدّته القواصف.

المؤرّخون الذين لهم شهرة لم يضبطوا كلّ حادثة، ولم يقفوا على كلّ قضيّة من القضايا التاريخيّة، فبعض الوقائع قد وصل إليهم نبؤه وبعضها لم يصل، والذي لم يصلهم أكثر ممّا وصل إليهم، وقد فات الطبريّ ما استدركه عليه الجزريّ، وذكر المسعوديّ ما لم يذكره اليعقوبيّ، وهكذا، فما وصل إليهم فقد ذكروه، وما لم يصل إليهم لم يبق في طيّ الخفاء المظلم، بل برقت بارقة من ذلك العلم، فأضاء لطالبيه، وأسفر لرائديه، فاقتضبوا منه شارده، واحتبلوا قنيصه، فكان كالمستدرك على من فاته العلم به، وقد استدرك الحاكم النيسابوريّ على كتابي مسلم والبخاريّ من الأحاديث على شرطهما ما سوى حجم الكتابين معاً، والكتب الأربعة الباقية، أو الثمانية بناء على جعل ما يسمّونه الصحاح عشرة عندهم كالاستدراك أيضاً على الحصيحين، هذا من ناحية العامّة.

وأمّا من ناحية أهل التشيّع، فقد استدرك الميرزا النوري على وسائل الشيعة للحرّ العاملي ما ساوى حجمها، فليكن ما رواه هؤلاء العلماء

ص: 280

من الأعاجم كالمستدرك على التواريخ المشهورة، وليست بأقلّ من متفرّدات الأغاني لأبي الفرج.

على أنّ المؤرّخين الشهيرين الطبريّ والجزريّ ذكرا أشهر رجال الإسلام شجاعة وتقدّما فيمن حضر صفّين القعقاع بن عمرو التميمي فارس العرب، وهو الذي كتب خالد بن الوليد إلى أبي بكر يطلب منه أن يمدّه بجيش، فأمدّه بالقعقاع وحده، فقال عمر بن الخطّاب: أتمدّه برجل واحد؟ فقال أبو بكر: لا يهزم جيش فيه هذا!! ولم يضبطا له قصّة تدلّ على نباهة ذكره في تلك الحرب التي تسابق فيها أبطال الإسلام على إحياء الذكر الخالد مع منافسة الشرف بين القطرين المتقابلين، وفي حربه مع أمير المؤمنين علي(علیه السلام) بصفّين ذكرا للخاملين من العرب أثراً ولم يذكرا له ولنظيره في الشجاعة عبيد الله بن الحرّ الجعفي مع زعمهما أنّه شهد مع معاوية صفّين، وكذلك نظيره في الشهرة مالك بن مسمع البكري مع شهرة هذين الرجلين وسير أثرهما في الحروب الإسلامية، فإذا جاز أن يقال أهملا ذكر هؤلاء الأبطال لعدم علمهما بما صدر منهما في ذلك الموقف جاز مثل ذلك في العبّاس بن أمير المؤمنين(علیه السلام)، وإذا جاز أن يقال: إنّهما لم يدوّنا كلّما كان من الوقائع، لأنّ في استيفائها ما يربي على حجم الكتابين بالضعف، قلنا: إنّ موقف العبّاس الأكبر(علیه السلام) ممّا لم يدوّناه ودوّنه علماء الفرس.

وأمّا الإستبعاد لصغر السنّ، وأنّ الممارسة للحروب مظهر الشجاعة، فمسلّم في غير أهل البيت:، فإنّهم أهل بيت الشجاعة والبطولة، وإنّ

ص: 281

صغر السنّ لا يحول بينهم وبين الشجاعة، وعدم مباشرة الحروب لا يقصر بهم عن البطولة والفروسيّة.

هذا أبوه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیهما السلام) قد شهد بدراً ولم يمارس حرباً قبلها، وكانت سنّه دون العشرين سنة، وقد علمت ما جرى منه على صناديد قريش طواغيت العرب وجبابرتها، حتّى أفنى شجعانهم، وأباد أبطالهم، وفرّ منه أبطال لا يخطر ببال أحدهم أنّهم يفرّون، ولا يتخيّل متخيّل أنّهم ينهزمون مثل عمرو بن عبد ودّ العامري الذي قتله يوم الخندق، وهو قائد الأحزاب، والحارث بن هشام المخزومي شقيق أبي جهل، وغيرهم.

وهذا أخوه محمّد الأكبر المعروف بابن الحنفيّة، شهد البصرة مع أبيه وهو صغير السنّ، ولم يشهد قبلها حرباً، فأبدى من الفروسيّة ما أبهر الفرسان الماهرين، وتعجّب له أبطال العرب، فقد كان أبطال الصحابة من الأنصار كخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين وغيره من كماة الأنصار يفضّلونه بالشجاعة على كلّ أحد سوى أبيه وأخويه الحسن والحسين: فهو في تلك الحرب الطاحنة حامل لواء أبيه الأعظم، ولا يحمل اللواء إلاّ الممتاز في الشجاعة.

وهؤلاء فتيان بني أبي طالب الذين قتلوا يوم الطفّ، فقد ظهر لهم من الشجاعة ما لم يظهر لكماة الأبطال على صغر السنّ وعدم مباشرة الحروب، فإنّ علي بن الحسين الأكبر(علیهما السلام) والقاسم بن الحسن(علیهما السلام) كلّ واحد منهما كان قبل حرب الطفوف ربيب ترف، وأليف نعمة، وكذلك

ص: 282

عبد الله بن مسلم بن عقيل.

هذا كلّه على القول المشهور في عمره الشريف(علیه السلام)، أمّا على القول بأنّه من لدة أخيه محمد فيكون في ذلك اليوم شاباً كبيراً يافعاً.

وأمّا كون الفارس الذي قتله العبّاس(علیه السلام) يعدّ بعشرة آلاف، فقد يجوز مثل ذلك ويصدر، فقد ادّعى عمران بن حطّان السدوسي الخارجي الصفري أنّ مجزأة بن ثور البكري السدوسي فتح بلدة وحده، ونحن لا نذكر أمير المؤمنين عليّاً(علیه السلام)، لأنّه أعظم من أن يقاس به أحد، وإلاّ فقد كان جيش النبيّ(صلی الله علیه واله) إثنى عشر ألفاً، فهزمته هوازن، فيجب أن يكون جمع هوازن مكافئاً لجيش النبي(صلی الله علیه واله) إن لم يكن أكثر، وردّهم أمير المؤمنين علي(علیه السلام) وحده بسيفه، فقد قابل أكثر من عشرة آلاف، ولكن لا يقاس بأمير المؤمنين علي(علیه السلام) إنسان، ولكن حسبك بالأشتر النخعي وأمثاله ما يكون لك شاهداً على وجود أشخاص يعدّون بالاُلوف.

شجاعة العبّاس بن عليّ(علیهما السلام)

ويكفي لمعرفة شجاعته(علیه السلام) ما كان منه يوم كربلاء: أمّا عدد من قتلهم فمختلف فيه: ففخر الدين الطريحي ومن وافقه من العلماء - رضوان الله عليهم - فيقولون: قتل ثمانين بطلاً، وصاحب الكبريت الأحمر وصاحب أسرار الشهادة، فيقولون:

ثمانمائة فارس، والجمع بين القولين سهل بحمل الثمانين على المشاهير من الأبطال، وباقي العدد على ما

ص: 283

دونهم، وبين هذين القولين أقول بالزياردة والنقصان، ونحن نذكر القولين ونترك ما عداهما:

قال فخر الدين الطريحي في المنتخب(1):

ص: 284


1- المنتخب للطريحي : 1/27 مجلس 4 .

روي أنّ العبّاس بن عليّ(علیهما السلام) كان حامل لواء أخيه الحسين(علیه السلام)، فلمّا رأى جمع عسكر الحسين(علیه السلام) قتلوا وإخوته وبني عمّه بكى، وإلى لقاء ربّه اشتاق وحنّ، فحمل الراية وجاء نحو أخيه الحسين(علیه السلام) وقال: يا أخي! هل من رخصة؟ فبكى الحسين(علیه السلام) بكاء شديداًً حتّى ابتلّت لحيته بالدموع، ثمّ قال: يا أخيّ كنت العلامة من عسكري، ومجمع عددي، فإذا أنت قتلت يؤول جمعنا إلى الشتات، وعمارتنا تنبعث إلى الخراب، فقال العبّاس(علیه السلام): فداك روح أخيك يا سيّدي قد ضاق صدري من حياة الدنيا واُريد أن آخذ الثار من هؤلاء المنافقين، فقال الحسين(علیه السلام): إذا غدوت إلى الجهاد، فاطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء.

فلمّا أجاز الحسين(علیه السلام) أخاه العبّاس برز كالجبل العظيم، وقلبه كالطود الجسيم، لأنّه كان فارساً هماماً، وبطلاً ضرغاماً، وكان جسوراً على الطعن والضرب في ميدان الكفاح والحرب.

فلمّا توسّط الميدان وقف وقال: يا عمر بن سعد! هذا الحسين ابن بنت رسول الله(صلی الله علیه واله) يقول لكم: قتلتم أصحابه وإخوته وبني عمّه، وبقي وحيداًً فريداً مع أولاده وعياله، وهم عطاشى قد أحرق الظمأ قلوبهم، فاسقوه شربة من الماء، فإنّ أطفاله وعياله وصلوا إلى الهلاك، وهو يقول لكم: دعوني أذهب إلى طرف

ص: 285

الروم والهند واُخلّي لكم الحجاز والعراق، وأشرط لكم أنّي غدا في القيامة لا أخاصمكم عند الله حتّى يفعل الله بكم ما يريد.

فلمّا أوصل إليهم العبّاس(علیه السلام) الكلام عن أخيه الحسين(علیه السلام) فمنهم من سكت ولم يردّ

جواباً، ومنهم من جعل يبكي، فخرج الشمر وشبث بن ربعيّ لعنهما الله فجاء نحو العبّاس(علیه السلام) وقالا: يابن أبي تراب! لو كان وجه الأرض ماء وهو تحت أيدينا ما سقيناكم منه قطرة إلاّ أن تدخلوا في بيعة يزيد، فتبسّم العبّاس(علیه السلام) ومضى إلى أخيه الحسين(علیه السلام)، وعرض عليه ما قالوا، فطأطأ رأسه إلى الأرض وبكى حتّى بلّ أزياقه، فسمع الحسين(علیه السلام) الأطفال وهم ينادون: العطش العطش.

فلمّا سمع العبّاس(علیه السلام) رمى بطرفه إلى السماء وقال: إلهي وسيّدي! اُريد أن أعتدّ بعدّتي، وأملأ لهؤلاء الأطفال قربة من الماء، فركب فرسه وأخذ رمحه والقربة في كتفه، وكان قد جعل عمر بن سعد - لعنه الله - أربعة آلاف خارجي موكّلين على الماء لا يدعون أحداً من أصحاب الحسين(علیه السلام) يشرب منه.

فلمّا رأوا العبّاس(علیه السلام) قاصداً إلى الفرات أحاطوا به من كلّ جانب ومكان، فقال لهم: ياقوم! أنتم كفرة أم مسلمون؟ هل يجوز في مذهبكم ودينكم أن تمنعوا الحسين وعياله شرب الماء والكلاب والخنازير يشربون منه والحسين(علیه السلام) مع أطفاله وأهل بيته يموتون من العطش، أما تذكرون عطش القيامة؟

ص: 286

فلمّا سمعوا كلام العبّاس(علیه السلام) وقف خمسائمة رجل فرموه بالنبال والسهام، فحمل عليهم، فتفرّقوا هاربين كما يتفرّق عن الذئب الغنم، وغاص في أوساطهم حتّى قتل منهم على ما نقل ثمانين فارسا، فهمز فرسه إلى الماء، وأراد أن يشرب فذكر عطش الحسين(علیه السلام) وعياله وأطفاله، فرمى الماء من يده وقال: والله لا أشربه وأخي الحسين(علیه السلام) وعياله وأطفاله عطاشى، لا كان ذلك أبداً، ثمّ ملأ القربة وحملها على كتفه الأيمن، وهمز فرسه وأراد أن يوصل الماء إلى الخيمة، فاجتمع عليه القوم، فحمل عليهم فتفرّقوا عنه، وسار نحو الخيمة فقطعوا عليه الطريق، فحارهم محاربة عظيمة، فصادفه نوفل الأزرق! فضربه على يمنيه فبراها، فحمل العبّاس(علیه السلام) القربة على كتفه الأيسر، فضربه نوفل على كتفه الأيسر فقطعها من الزند، فحمل القربة بأسنانه،

فجاء سهم فأصاب القربة، فانفرت واُريق الماء، ثمّ جاء سهم آخر فوقع في صدره، فقلب عن فرسه إلى الأرض، فصاح بأخيه الحسين(علیه السلام): أدركني . . فلمّا سمع كلامه أتاه فرآه طريحا، فصاح: وا أخاه! وا عبّساه! وا قرّة عيناه! وا قلّة ناصراه! ثمّ بكى بكاء شديداًً، وحمل العبّاس(علیه السلام) إلى الخيمة . ..

وهذا حديث كتبناه كما وجدناه، وهو يخالف المشهور من وجوه:

أحدها: كون الذي قطع يديه نوف الأزرق، والمشهور عند المؤرّخين أنّ الذي قطع يديه زيد بن رقاد الجنبي من مذحج وحكيم

ص: 287

بن الطفيل السنبسي من طيّ.

ثانيها: أنّ الحسين(علیه السلام) حمله إلى الخيمة، يعني خيمة الشهداء، والمشهور - وهو الصحيح - أنّه بقي في مكانه.

ثالثها: إنّ الحسين(علیه السلام) تنازل لأهل الكوفة عن مخاصمتهم عند الله بدل سماحهم له بالإنصراف حيث شاء، وهذا لا يصحّ بعد أن قتل أصحابه وأهل بيته، كماصرّح به سيّد الشهداء(علیه السلام) نفسه لأحد أصحابه حينما وعظهم بعد أن قتلوا أصحاب خامس أصحاب الكساء، ولكن الطريحي فقيه معتمد، وهو أعرف بمسلكه، وعلينا نحن بيان العلل المانعة.

وأمّا القائلون بأنّ العبّاس(علیه السلام) قتل ثمانمائة فارس فنصّ الدربنديّ في أسرار الشهادة(1): وفي رواية عبد الله الأهوازي عن جدّه قال: قال إسحاق بن حيوة - لعنه الله -:

لمّا أقبل العبّاس(علیه السلام) بالجود، فثرنا عليه كالجراد الطائر، فصيّرنا جلده كالقنفذ.

قال: فحمل عليهم العبّاس، فتفرّقوا عنه هاربين كما يتفرّق عن الذئب الغنم، وغاص في أوساطهم، فقتل على ما نقل ثمانمائة فارس . . . والخبر مطوّل.

ص: 288


1- أسرار الشهادة : 321 .

ترجيح قول الطريحي :

هذا أمر لا يحتاج إلى البيان في اختيار أيّ الأقوال أقرب إلى المعقوليّة، وإن كان لا منافاة بينهما لما ذكرنا، ولكنّي أجد في مدرك التفكير أنّ العبّاس(علیه السلام) لا يجسر كلّ أحد على الدنّو منه لشهرته بالشجاعة، فلا يدنو منه إلاّ الجريء المقدام، ولا أجد من تهون عليه نفسه إلاّ عدد الثمانين، فما دون، وقد سمعنا من بعض المطّلعين على سبيل المذاكرة أنّ الأشتر النخعي يوم صفّين كان يقتل العدد الذي يقتله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیهما السلام) عرف ذلك من تكبيره، لأنّه لم يقتل بطلاً إلاّ كبّر، فيعدّ الأشتر التكبير، فيجد ما قتله هو بعدد ذلك التكبير، والسرّ في هذا هو ما ذكرنا من أنّ المقدم على أمير المؤمنين علي(علیه السلام) أقلّ ممّن يقدم على الأشتر، وكان الناس يوصي بعضهم بعضاً بعدم مبارزته.

فقد قال معاوية بن أبي سفيان لحريث مولاه، وكان فارس أهل الشام: اتّق علياً وضع رمحك حيث شئت، وقال لعمرو بن العاص، وقد أشار عليه بمبارزة أمير المؤمنين(علیه السلام): يا عمرو! إنّما أردت قتلي لتصفو لك الشام، أما علمت أنّ ابن أبي طالب ما بارزه أحد إلاّ وسقى الأرض من دمه.

فالشجاعة العبّاسية فرع الشجاعة العلويّة قدّت منها قدّاً، وهذا الشبل من ذاك الأسد، وقد قيل فيه:

بطل تورّث من أبيه شجاعة

فيها اُنوف ذوي الضلالة ترغم

ص: 289

وكان أبو الفضل العبّاس(علیه السلام) يوم كربلاء إذا استحلم أحد من أنصار أخيه الحسين(علیه السلام) شدّ على القوم واستنقذه، وليست المحاماة عن الأصحاب واستنقاذ من أحاطت به الجيوش يوم كربلاء إلاّ له ولأخيه الحسين(علیه السلام)، وهو حامي الكلّ، نعم ذكر المؤرّخون، ومنهم الطبري في التاريخ(1) قال: فأمّا الصيداوي عمر بن خالد

وجابر بن الحارث السلماني وسعد مولى عمر بن خالد ومجمع بن عبد الله العائذي، فإنّهم قاتلوا في أوّل القتال، فشدّوا مقدمين بأسيافهم على الناس، فلمّا وغلوا عطف عليهم الناس، فأخذوا يحوزونهم وقطعوهم من أصحابهم غير بعيد، فشدّ عليهم العبّاس بن علي فاستنقذهم، فجاؤوا وقد جرحوا، فلمّا دنا منهم عدوّهم شدّوا بأسيافهم فقاتلوا في أوّل الأمر حتّى قتلوا في مكان واحد . ..

للمظفر :

أفديك يا قمر العشيرة منجداً

للواقعين بشدّة الأهوال

ما زلت تنجد في الحروب من اغتدى

غرض المنيّة يوم كلّ نزال

أنجدت صبحك ضارباً ثبج العدى

في حدّ عضب لامع كزلال

وتركت جند المارقين جزائراً

للوحش في يزنيك العسّال

فرّقت جمع بني الخنا فتفرّقوا

كالشاء عند تقحّم الريبال

ص: 290


1- تاريخ الطبري : 6/255 .

أنقذت صحبك والمنيّة أحدقت

فيهم بيوم مفعم الأهوال

لكن رأوا رفض الحياة غنيمة

فاستقدموا شدّاً بلا إمهال

علماً بأنّ الفوز بعد فراقها

بنعيم جنّات نفيس غالي

وقد أكثر الشعراء من نعت العبّاس الأكبر(علیه السلام) بالشجاعة، ويأتي في رثائه ذكر ذلك، ومنه قول بعضهم:

هو العبّاس ليث بني نزار

ومن قد كان لللاجي عصاما

هزبر أغلب تخذ اشتباك

الرماح بحومة الهيجا أجاما

فمدّت فوقه العقبان ظلاً

ليقريها جسومهموا طعاما

أبيّ عند مسّ الضيم يمضي

بعزم يقطع العضب الحساما

وفاء العبّاس الأكبر(علیه السلام)

ومن صفات العبّاس بن أمير المؤمنين(علیهما السلام) الوفاء، وهذا الخلق من أظهر أخلاقه الفاضلة وأشهر سجاياه الكريمة، فقد كان(علیه السلام) وفيّاً كريماً، والوفاء شيمة موروثة له من أسلافه الكرام، وسجيّة طبع عليها وهو غلام، والوفاء من أكرم خصال البشر، ومن الصفات المحمودة التي حرّض الشارع المقدّس عليها، وأكّد الألتزام بها، ونهى عن ترك التخلّق بها.

مظاهر الوفاء:

مظاهر الوفاء كثيرة، منها: الثبات على البيعة، وإمضاء العهد

ص: 291

والوعد، وإخلاص الطاعة للنبيّ والإمام المفروضة طاعته من الله - تعالى - نصّاً.

معنى الوفاء لغة:

قال الفيروزآباديّ في القاموس: وفى بالعهد - كوعى - وفاءاً ضدّ غدر كأوفى، والشيء وفي - كصلّى - تمّ وكثر.

وقال ابن الأثير في النهاية(1): أوفى الله ذمّتك أي أتمّها، ووفت ذمّتك أي تمّت، واستوفيت حقّي أخذته تمامّاً.

وقال الفيّوميّ في المصباح المنير(2): وفيت بالعهد والوعد أفي به وفاءاً، والفاعل وفيّ، والجمع أوفياء وأوفيت به إيفاءاً.

قال أبو زيد: أوفى نذره أحسن الإيفاء به، ثمّ قال: وفّى الشيء بنفسه يفي إذا تمّ.

وقد استبان من جميع هذا الفقرات أنّ الوفاء هو التمام والإتمام، وممّا لا شكّ فيه أنّ العبّاس الأكبر شهيد الطف قد تمّ على بيعة الحسين(علیه السلام)، وأتمّ وعده له بالنصرة، فلم يغّير ولم يبدّل.

معنى الوفاء عرفا وعقلاً:

ص: 292


1- النهاية 4/223 .
2- المصباح المنير 2/300 .

أمّا معناه العرفيّ، فهو كاللغويّ لا يختلف عنه، وهو معناه الشرعيّ، وأمّا معناه العقليّ فقد قال الجرجانيّ في التعريفات(1): الوفاء هو ملازمة طريق المواساة، ومحافظة عهود الخلطاء.

مدح الوفاء وتوكيد الالتزام به:

آيات القرآن لا خفاء فيها على القارئ، وهي كثيرة كقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينّ أمَنُوا أَوفُوا بَالْعُقُودِ))(2).

وكقوله ((أَوْفُوا بَالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤولاً))(3).

وكقوله في مقام المدح ((وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ))(4).

وكقوله في مقام النهي ((وَلاَ تَنقُضٌوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكيِدهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً))(5).

وكقوله في مقام الوعد والوعيد ((فَمَن نَكَثَ فَإِنَّنَما يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَن أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُوتِيهِ أَجْراً عَظِيماً))(6)، وهي كثيرة، وكذلك الأحاديث مشهورة ومستفيضة.

ص: 293


1- التعريفات : 174 .
2- المائدة : 1 .
3- الإسراء : 34 .
4- المؤمنون : 8 .
5- النحل : 91 .
6- الفتح : 10 .

ثمرة الوفاء وفوائده:

فاطمئنان النفس وثقتها به، ولولا الوفاء ما أطمأنّ شخص بشخص، ولا وثق إنسان بإنسان، وبالوفاء جرت المعاملات على نظام العدل، وقطعت جراثيم التعدّيّات، وبه انتظمت اُمور الراعي والرعيّة، إلى غير ذلك من الثمرات التي لا تجهل.

وليس وجوب الوفاء خاصّاً بالعهد، بل يجب الوفاء بالوعد أيضاً وبالنذر وبالبيعة وللجار والنزيل وبالطاعات كلّها، لأنّ الله - تعالى - أخذ العهد والميثاق على العباد، وهم في الأصلاب حين قال ((أَلسْتُ بِرَبِّكُمْ))، وأشهدهم بذلك على أنفسهم، وقد ورد ذلك في الأحاديث الصحيحة أنّ الحجر الأسود يشهد لمن استلمه من العباد بالموفاة، وإذا وجب ذلك بحسب الميثاق المأخوذ على العباد وجب الوفاء به على الإنسان، ويجب قيام كلّ عضو من الإنسان في الوفاء بتكليفه الخاصّ به.

وفاء العبّاس بن أمير المؤمنين(علیهما السلام) والنصّ عليه:

لا برهان على إثبات وفاء العبّاس بن أمير المؤمنين(علیهما السلام) أكبر من شهادة الإمام جعفر بن محمّد الصادق(علیهما السلام) في زيارته التي رواها الشيخ أبو القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه القمّيّ في كتاب كامل الزيارة(1) بسند

ص: 294


1- كامل الزيارة : 256 ط النجف .

معتبر وفيها: ((أشهد لك بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة لخلف النبيّ المرسل والسبط المنتجب والدليل العالم والوصيّ المبلَّغ والمظلوم المهتضم..)).

وفيها عند الدخول إلى الحرم يقول: ((فجزاك الله أفضل جزاء وأكثر الجزاء وأوفى جزاء أحد ممّن وفى بيعته واستجاب له دعوته وأطاع ولاة أمره . .)) إلى آخر الزيارة المباركة.

وهذا ظاهر، لأنّ جميع أفعال العبّاس بن عليّ(علیهما السلام) يوم الغاضريّة وفاء منه بحقّ الطاعة المأخوذة في الميثاق على البشر، والوفاء برعاية حقّ الإمام(علیه السلام)، والوفاء بالبيعة، والوفاء بالوعد له بالنصرة، والوفاء برعاية حقّ الصحبة والجوار، إلى غير ذلك من أنواع الوفاء المحمود الذي أدّاه أبو الفضل(علیه السلام).

قال الشيخ المظفر :

أوفى الأماجد في عهد وفي عدة

وفي ذمام وفاء غير منكور

شبل الوصيّ وفى للسبط بيعته

إذ أخلفت وعده أهل المعاذير

فقام بالطفّ والهنديّ في يده

كشعلة النار في ظلماء ديجور

يستحصد القوم حصد الزرع مجتهداً

بذي الفقار فسائل يوم عاشور

إباء العبّاس الأكبر(علیه السلام)

ص: 295

ومن صفات العبّاس الأكبر(علیه السلام) النفسيّة: الإباء، هذا الخلق النفسي من أميز أخلاقه وأشهر صفاته، ولا تقصر شهرته عن شهرة الشجاعة.

والإباء هو من شيم الأحرار وشمائل الكرام، ومن أمارات المجد ودلائل النجابة وعزّة النفس، وأحد نتائج الشجاعة التي هي إحدى فضائل النفس واُصولها الأربعة، فإنّ النفس العزيزة يحدث لها امتناع عن قبول الضيم والرضوخ لذلّ الإستعباد، فمتى ما سيمت ضيماً أو اُريد بها هواناً نفرت نفرة المهرة العربيّة عند صلصة اللجام، ومثلت هذه النفس الحرّة والروح الكريمة الموتتين اللتين ستلاقيهما لا محالة، ولا بدّ لها من أحدهما، الموتة الحميدة على حدود السيوف المسلولة، والموتة الذميمة على فراش الذلّة والهوان، فتختار أحد الموتتين.

والإباء محبوب لكلّ نفس حرّة في كلّ دور من أدوار حياة البشر، وهو الذي أكّدته الشرائع السماويّة والكتب المقدّسة، وندبت إليه الأسفار المنزلة من عند الله - تعالى - فهو الإباء الذي يكون في سبيل دفع الاستعباد الجائر، ومقاومة الطاغوت الجبّار، ذاك هو الإباء الحرّ، وهو مرّ المذاق، كريه الطعم إلاّ في فم من استعذبه على مجاجة مذاقه ومرارة طعمه.

وقد أسّس لهذا الإباء الحسين بن عليّ(علیهما السلام) واقتفى أثره أهل بيته الأحرار الأماجد اُباة الضيم وحماة الاُنوف، فاقتدى به وبهم سائر من عاف الذلّ وترفّع عن الرضوخ للهوان، ولذلك يقول قائلهم، وقد صمّم

ص: 296

على الموت مستدفعاً به ضيم الحياة، ومؤثراً عزّ المنيّة على ذلّ العيشة الدنيّة:

وإنّ الاُولى بالطفّ من آل هاشم

تأسّوا فسنّوا للكرام التأسّيا

معنى الإباء لغة:

قال في القاموس: أبى الشيء يأباه إباء وإباءة بكسرهما: كرهه، والأبيّة التي تعاف، والتي لا تريد عشاء، وأبيت الطعام كرهته، ورجل أبيّاً - محرّكة - امتنع فهو آب وآبي.

وقال في المصباح: أبى الرجل يأبى إباء - بالكسر والمدّ - إباية: امتنع فهو آب وآبي.

وقال في النهاية: الإباء أشدّ الامتناع.

والإباء هو الامتناع من المذلّة، وهو كما علمت نتيجة الشجاعة.

قال في سلوك المالك(1): الأنفة وهي نبو النفس عن الاُمور الدنيّة.

وقال(2): وأن يحدث عن تركيب الشجاعة مع العفّة الغيرة على الحرم وإنكار الفواحش.

والعرب يرون تضحية النفس في سبيل حفظ الشرف وعدم الانقياد للسلطة الجائرة الجبّارة متجاوزاً حدّ الشجاعة، ويسمّون الاتّصاف بها

ص: 297


1- سلوك المالك في تدبير الممالك : 26 .
2- سلوك المالك في تدبير الممالك : 33 .

إباء وأنفة وحميّة، فيقولون للمتّصف بها: حمي الأنف، وأبي الضيم، ويقولون: فلان غيور فخور أنف، وفلان ذو أنفة.

كلّ هذه الألفاظ تطلق على من تجاوز وصف الشجاعة إلى وصف أرقى منها وأنبل، وكانت هذه الصفات من ممّيزات بني هاشم، وشعار الحماة من آل عبد المطّلب لذلك يقول راثي الحسين(علیه السلام):

قل بقوم بهمو يحمى الطريد

واستقام الكون فيهم والوجود

أبرغم منكموا ساد يزيد

يا اُباة الضيم ما هذا القعود

والموالي اليوم سادتها العبيد

واختصّ بها الحسين بن عليّ(علیهما السلام) وأهل بيته دون سائر العرب، فإذا قيل: ((أبيّ الضيم)) لا يتبادر منه إلاّ الحسين(علیه السلام)، والتبادر علامة الحقيقة، فإنّ موقف الحسين(علیه السلام) في كربلاء بإزاء تيّار العدوّ المتلاطم، وثباته في ذلك الموطن الحرج الذي تزلّ فيه أقدام الشجعان ممّا أدهش العقول وحيّر الأفكار وأذهل الألباب حتّى أصبح ذلك السيّد العظيم نحيرة المجد والشرف، وضحيّة الفخر والسؤدد، ولذلك أصبح أسوة الأشراف، وقدوة العظماء المتأثّرين بعده، كما تمثّل بعضهم وقد ليم على الإقدام: ((وإنّ الاُولى بالطفّ))، البيت المتقدّم.

أسباب الإباء وثمراته:

وهي كثيرة، أهمّها في النظر من حيث السبيّة هي عزّة النفس، فإنّ النفس متى كانت عزيزة امتنعت عن كلّ وصمة تمسّ الشرف، وعافت

ص: 298

كلّ دنيّ محتقر يدنسّ المجد والسؤدد، وهان عليها الموت مع العزّ.

وأهمّ الثمرات في الإباء هو التخلّص ممّا يلحق المجد من عار الأبد وخزي الدهر، فإنّ الراضخ للهوان المحتمل للاهتضام سيعيش قليلاً وينتقل إلى الفناء ذميماً ممقوتاً مع تحمّله عناء الذلّ الطويل والخزي الوبيل، والأبي يعيش قليلاً عزيزاً، ويموت كريماً حميداً، ما ذكره حرّ إلاّ وأثنى عليه، ولا نعت عند شهم إلاّ قرظه وأطراه، ولا ثار ثائر في طلب مكرمة أو تفادياً من جور أو تخلّصاً من ذلّ إلاّ هتف باسمه ونوّه فيه تنويه مخلص مقتدياً به اقتداء المأموم بإمامه العادل.

قال عبد العزيز بن نباتة السعديّ في سيّد الشهداء الحسين(علیه السلام):

والحسين الذي رأى الموت في ال-

-ع--زّ حياة والعيش في الذلّ قتلا

وقال يزيد بن مفرغ الحميريّ وتمثّل بها الإمام الحسين بن عليّ(علیهما السلام):

لا ذعرت السوام في فلق الصب--ح

مغيراً ولا دعوت يزيدا

يوم أعطى من المخافة ضيماً

والمنايا يرصدنني أن أحيدا

وروى الراغب الأصبهاني الشافعي في محاضرات الأدباء(1) أبياتاً قالها الإمام الحسين بن عليّ(علیهما السلام) يوم قتل وهي:

أذلّ الحياة وذلّ الممات

وكلاً أراه طعاماً وبيلا

فإن كان لابدّ إحداهما

فسيرا إلى الموت سيرا جميلاً

فالحسين(علیه السلام) المثال الحقيقي للإباء، والمثال الأعلى لكلّ اُحدوثة مجد

ص: 299


1- محاضرات الاُدباء 3/60 .

يتحدّث بها كريم نفس وحميّ أنف، فقد أصبح بما سنّه من الإباء وعزّة النفس وامتناعها من الرضوخ للمذلّة والهوان اُسوة كلّ ذي نفس شمّاء، وقدوة كلّ ذي همّة قعساء.

والآبون أقسام: قسم يأنف لاهتضام جار أو نزيل.

وقسم يأنف من هوان يمرّ به يسومه إيّاه ذو رفعة واقتدار.

وقسم يأنف من هتك عرض واهتضام الحرم.

وقسم وهو أشرف هذه الأقسام وأذكرها وأفخرها، وهو الذي يأنف من الرضوخ لإمرة جبّار وضيع، وسلطة أثيم معتدي يروم استعباد الأحرار، ويحاول السيطرة على الكبراء بسلطته الجبّارة الجائرة، ويجهد في إذلالهم بقوّته القاهرة، وعند الشيعة شمم وشموخ وعزّة نفس وكبرياء متمنّعة بمجدها السامي وفخرها الشامخ والإباء الذي سنّ لقمع ولاة الجور وردع أئمّة الفجور وحكّام الجبروتيّة هو الذي أسّسه أبو الائمة شهيد كربلاء سبط رسول الله(صلی الله علیه واله) أبو عبد الله الحسين بن عليّ(علیهما السلام) حين نهض تلك النهضة الكريمة، وقام ذلك القيام المقدّس المقدّر المحترم عند جميع الأحرار إلى يومنا هذا، وهو الذي يتمسّك به أرباب الغيرة والحميّة.

وقد تمثّل سيّد الشهداء الحسين(علیه السلام) بقول شاعر الأنصار، وقد ليم على الجهاد مع النبيّ(صلی الله علیه واله) وخوّف بالموت:

سأمضي وما بالموت عار على الفتى

إذا ما نوى حقّا وجاهد مسلما

وواسى الرجال الصالحين بنفسه

وجاهد مثبوراً وفارق مجرما

ص: 300

فالقيام الحسيني له مبادئ تشتمل على غايات شريفة، وهي نشر العدل بين الأمّة والتسوية والمساوات في القسم، ونشر الأحكام كلّها التي فرضتها شريعة الإسلام، ولها خواتم تشتمل على فضائل شتّى كاختيار القتلة الحميدة على الحياة الذميمة، وعدم الإنقياد للوضعاء الأدنياء، واختيار السعادة السرمديّة بإحياء الذكر في الأجيال المتعاقبة وهي حياة خالدة أبد الدهر.

إباء أبي الفضل بن أمير المؤمنين(علیهما السلام):

قد بذل له الأمان ولإخوته الأشقّاء خاصّة غير الأمان الذي اُعطي للحسين(علیه السلام)ولأصحابه عموماً، وقام بطلب الأمان من ابن زياد للعبّاس(علیه السلام) وإخوته رجلان من أخوالهم في ظاهر الأنساب، وهما عبد الله بن أبي المحل الكلابي والشمر بن ذي الجوشن الكلابي الضبابي، وكانت له منزلة عند ابن زياد ومكانة مكينة، فقاما إليه لمّا صمّم على قتل الحسين(علیه السلام) وطلبا منه الأمان لبني اُختهم العبّاس وإخوته.

ذكر ابن الأثير في تاريخ الكامل(1) والطبريّ في تاريخ الاُمم والملوك ولفظه(2):

أبو مخنف عن الحارث بن حصيرة عن عبد الله بن شريط العامري قال: قبض شمر بن ذي الجوشن الكتاب - يعني بقتل الحسين(علیه السلام) - قام

ص: 301


1- الكامل في التاريخ لابن الأثير : 4/33 .
2- تاريخ الطبري : 6/236 .

هو وعبد الله بن أبي المحل، وكانت عمّته اُمّ البنين ابنة حزام عند عليّ بن أبي طالب(علیهما السلام)، فولدت له العبّاس وعبد الله وجعفر وعثمان، وقال عبد الله بن أبي المحل بن حزان بن خالد بن ربيعة بن الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب: أصلح الله الأمير إنّ بني اُختنا مع الحسين، قال: فإن رأيت أن تكتب لهم أماناً فعلت؟ قال: نعم ونعمة عين.

فأمر كاتبه فكتب لهم أماناً، فبعث به عبد الله بن أبي المحل مع مولى له يقال له ((كزمان))، فلمّا قدم عليهم دعاهم، فقال: هذا أمان بعث به خالكم، فقال الفتية: إقرأ خالنا السلام وقل له: لا حاجة لنا في أمانكم، أمان الله خير من أمان ابن سميّة.

قال: فأقبل شمر بن ذي الجوشن بكتاب عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد، فلمّا قدم عليه فقرأه، فقال له عمر: ما لك؟ ويلك! لا قرّب الله دارك وقبّح ما أقدمت به عليّ، والله إنّي أظنّك أنت نهيته أن يقبل ما كتبت به إليه، فأفسدت علينا أمر كنّا رجونا أن يصلح، لا يستلسم - والله - حسين، إنّ نفس أبيه بين جنبيه.

فقال له شمر: وما أنت فاعل؟ أتمض لأمر أميرك وتقتل عدوّه! وإلاّ فخلّ بيني وبين الجند والعسكر.

فقال: ولا كرامة لك، وأنا أتولّى ذلك منهم.

قال: فدونك أنت فكن على الرجّالة!

قال: فنهض إليه عشيّة الخميس لتسع مضين من المحرّم.

ص: 302

قال: وجاء شمر حتّى وقف على أصحاب الحسين(علیه السلام) وقال: أين بنوا اُختنا؟

فخرج إليه العبّاس وجعفر وعثمان بنو عليّ، فقالوا له: ما لك؟ وما تريد؟

فقال: أنتم يا بني اُختي آمنون.

فقال الفتية: لعنك الله ولعن أمانك - وإن كنت خالنا - أتؤمننا وابن رسول الله(صلی الله علیه واله)لا أمان له.

أمّا الشيخ المفيد والسيّد ابن طاووس وابن نما(1)، فذكروا أمان الشمر خاصّة

ونصّ السيّد في الملهوف(2):

ورد كتاب عبيد الله بن زياد على عمر بن سعد يحثّه على تعجيل القتال، ويحذّره من التأخير والإمهال، فركبوا نحو الحسين(علیه السلام)، وأقبل شمر بن ذي الجوشن ونادى: أين بنو اُختي عبد الله وجعفر والعبّاس وعثمان؟

فقال الحسين(علیه السلام): أجيبوه ولو كان فاسقاً، فإنّه بعض أخوالكم!

فقالوا له: ما شأنك؟ فقال: يابني اُختي! أنتم آمنون فلا تقتلوا أنفسكم مع أخيكم الحسين، والزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد!

ص: 303


1- مثير الأحزان : 31 .
2- الملهوف : 77 .

فقال له العبّاس بن علي(علیهما السلام): تبّت يداك، وبئس ما جئت به من أمانك يا عدوّ الله، أتأمرنا أن نترك أخانا وسيّدنا الحسين بن فاطمة(علیهما السلام)، وندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء؟!

فرجع الشمر إلى عسكره مغضباً.

وهذا أمر مشهور عند أرباب المقاتل، وهذا هو الإباء الحرّ، وهذه هي الحميّة الخالصة، والأنفة المحضة، فإن عدّ بعض من الاُباة الآنفين من المذلّة وقد بذل له الأمان مرّة واحدة، فقد تكرّر بذل الأمان للعبّاس وإخوته:، فكان أربع مرّات:

مرّتان له بالاشتراك مع أخيه الحسين(علیه السلام) في أمان عمرو بن سعيد، وأمان عبيد الله بن زياد للحسين(علیه السلام) وأصحابه، وقد رفض أبو عبد الله الحسين(علیه السلام) الإثنين، وأبو الفضل معه.

ومرّتان كانتا له خاصّة، كما سمعت، فرفضهما أيضاً أبو الفضل.

وقد أحسن من قال:

أبا الفضل يامن أسسّ الفضل والإبا

أبى الفضل إلاّ أن تكون له أبا

وقال الشيخ محمّد رضا الاُزري البغدادي من قصيدة:

وأشمّ لا يحتل دار هضيمة

أو يستقلّ على النجوم رغامها

وقال الشيخ المظفر :

أبو الفضل ردّ أمان العدى

وسار إلى الموت مستعجلا

وقال اخسؤوا ياعبيد الورى

فلسنا نطيع شرار الملا

أنخضع للذلّ لا والحفاظ

ومجد أبينا عليّ العلا

ص: 304

وطعم المنيّة عند الحفاظ

وإن كان مرّا لدينا حلا

ألا حبذا الموت موت الكرام

على العزّ والذلّ منّا فلا

وللحرّ نفس تعاف الهوان

وتهوي على العزّ أن تقتلا

فهيهات نذعن لابن الدعيّ

وحكم الطليق لئيم الملا

وهذي السيوف بأيماننا

عطاش الحدود لورد الطلا

فلسنا نغادر أرض الطفوف

ولم نرتحل قطّ عن كربلا

وقد تبعتنا طيور السما

تروم قراها ووحش الفلا

سنشبعها من لحوم العدا

فلا تشتكي الجوع مستقبلاً

وقد صدق القول منه الفعال

ونال الفخار وحاز العُلا

وقال أيضاً:

أليس أبو الفضل الذي أسس الإبا

وسنّ لنا شرع الحفاظ جديدا

فكم مّرة اُعطي الأمان فعافه

وخُيِّر فاختار الممات حميدا

تردّى ثياب الفخر بيضاً نقّية

أجدن المعالي نسجهنّ برودا

فنفسي الفدا للمكتسي الحمد والثنا

ومستطعم مرّ الحفاظ برودا

فما حدّثته النفس أنّ حياته

ألذّ وأحلى أن يموت سعيدا

وما حدّثته النفس أن يحيى ساعة

يرى حكماً في المسلمين يزيدا

مواساة العباس بن علي(علیهما السلام)

ص: 305

ومن صفات العبّاس بن عليّ(علیهما السلام) المواساة.

والمواساة ربّما اشتبهت بالإيثار كما اختلط ذلك على البعض.

الفرق بين الموساة والإيثار:

هي أنّ الإيثار معناه تقديم من آثرته على نفسك وإن أضرّ بك، والموساة هي المساهمة بين نفسك وغيرك، ولا يلزم من الموساة تقديم من واسيت على نفسك، بل يكفي في تحقيقها أن تشاركه في السرّاء والضرّاء إذا كانت الموساة في النفس، وفي العسر واليسر إذا كانت الموساة بالمال.

والموساة من الكرم والجود بكلا قسميها، أي الموساة بالنفس وبالمال، والتحقيق في ذلك:

إنّ الموساة والإيثار وإن كانا شعبة من شعب الكرم الذي هو نتيجة العفّة، ومن أكمل أخلاق النفس وأجلّ فضائلها إلاّ أنّهما يفترقان من حيث المورد والسبب:

أمّا المورد: فإنّ الإيثار مورده حيث يمتنع الاشتراك لحصول المانع، كتعذّر الوصول إليه، أو عدم كفايته للجميع، وما شابه ذلك، والموساة حيث يمكن الاشتراك.

وأمّا السبب: فالإيثار سببه علوّ الهمّة وعظم النفس، والموساة سببها دماثة الأخلاق ولطافة الشمائل وحسن الثقة بالله - تعالى - والاعتماد عليه في العسر واليسر.

ص: 306

معنى الموساة لغة:

قال ابن الأثير في النهاية(1): الإسوة والموساة - وهي بكسر الهمزة وفتحها -:

القدوة، والموساة: المشاركة والمساهمة في المعاش والرزق، وأصلها الهمزة فقلبت واوا تخفيفاً.

وقال الفيروزآبادي في القاموس: والإسوة - بالكسرة - ولا يكون ذلك إلاّ من كفاف، فإن كان من فضل فليس بمواساة.

وقال الفيّومي في المصباح المنير(2): الإسوة - بالكسرة والضمّ - القدوة، وتآسيت به وتأسيت: اقتديت، وآسيته بنفسي بالمدّ: سوّيته، ويجوز إبدال الهمزة واوا في لغة اليمن، فيقال: واسيته.

فالموساة: هي معاونة الأصدقاء والمستحقيّن ومشاركتهم في الأموال والأقوات.

وقيل: إنّ الموساة هي معاونة الأصدقاء والمستحقّين.

أقسام الموساة

وهي تنقسم إلى أقسام:

أحدهما:

ص: 307


1- النهاية لابن الأثير : 3/13 .
2- المصباح المنير : 1/12 .

بالمال كمواساة أهل الحاجة بماله، والبرّ بهم ومراعاتهم.

والثاني: بالبدن، وذلك كنصرة المرء صاحبه بالمضاربة دونه.

والثالث: بالعلم، وذلك كتأديب الرجل صاحبه ومداواته بعلمه.

والرابع: في الكلام، وذلك مناضلة المرء عن صاحبه بالخصومة عنه.

وقد أكثر العرب من التمدّح بالمواساة، فقال زهير بن أبي سلمى:

على مكثريهم حقّ من يعتريهموا

وعند المقلّين السماحة والبذل

وعطاء المقلّ مواساة إذ لا فضل عنده.

حثّ الشارع على المواساة

فالمواساة عند العرب من أجلّ مآثرهم التي يمتدحون بها ويفتخرون فيها جاهليّة وإسلاماً.

وقد أكّدها الشارع المقدّس وحثّ عليها، والأحاديث في الحثّ عليها كثيرة منها:

ص: 308

ما رواه الحرّ العاملي في كتاب وسائل الشيعة(1) عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق(علیهما السلام): لم يدع أحد معونة أخيه المسلم حتّى يسع فيها ويواسيه إلاّ اُبلي بمعونة من يأثم به ولا يؤجر.

وعن معلّى بن خنيس قال: خرج أبو عبد الله الصادق(علیه السلام) في ليلة وقد رشّت السماء وهو يريد ظلّة بني ساعدة، فاتّبعته، فإذا هو قد سقط منه شيء، فقال: بسم الله، اللهمّ ردّ علينا، فأتيته فسلّمت عليه، فقال: أنت معلّى؟ قلت: نعم جعلت فداك، قال: ألمس بيدك فما وجدت من شيء فأدفعه إليّ.

فإذا بخبز منتشر، فجعلت أدفع إليه ما وجدت، فإذا أنا بجراب من خبز، فقلت: جعلت فداك! أحمله عنك.

فقال: لا أنا أولى به منك، ولكن أمض معي، فأتينا ظلّة بني ساعدة، فإذا نحن بقوم نيام، فجعل يدسّ الرغيف والرغيفين تحت ثوب كلّ واحد منهم حتّى أتى على آخره، ثمّ أنصرفنا.

فقلت: جعلت فداك! يعرف هؤلاء الحقّ؟

فقال: لو عرفوا لواسيناهم بالدقّة، والدقّة هي الملح.

إلى آخر ما رواه في الوسائل.

ص: 309


1- وسائل الشيعة 2/527 .

فائدة الموساة وثمرتها:

ولها فائدتان مهمّتان دنيويّة واُخرويّة:

أمّا الفائدة الدنيويّة: فاكتساب الحمد والثناء، وهو أوّل مطلوب للأشراف يشترونه بأغلا الأثمان، فالمواسي يجمع الأنواع الأربعة، وخاصّة الموساة بالنفس

والموساة بالمال، فإنّهما يكسبان المتّصف بهما مجداً وسؤدداً، ويورثانه فخراً وعزّاً، ويوجبان له الثناء المؤبّد، والمدح الخالد ما دام النوع البشريّ يدبّ على وجه الكرة الحدباء.

وأمّا الفائدة الاُخرويّة: إن كان الداعي للمواساة هي التقوى، وسببه الصلاح لا كما يفعله أهل الجاهليّة من إرادة المدح والتقريظ، فالأجر المضاعف والحباء الجزيل في جنّات عدن التي اُعدّت للمتّقين.

مواساة العبّاس بن أمير المؤمنين(علیهما السلام):

وكانت مواساة العبّاس لأخيه الحسين(علیهما السلام) بثلاثة أنواع من الموساة: بالنفس، والمال، والكلام، فإنّ احتجاجه على أهل الكوفة معروف شعراً ونثراً، وقد نقلته المقاتل والتواريخ.

وكانت مواساته له ديانة وتقوى لم يرد بذلك إلاّ وجه الله وصلة رسوله(صلی الله علیه واله) وصلة الرحم لم يرد ذكراً ولا فخراً، ولكن الله - تعالى - إذا علم من شخص حسن نيّة وإخلاص نشر فضائله وسيّر ذكره في الخافقين.

وقد مدح العبّاس بن عليّ(علیهما السلام) بهذه الموساة أئمّة أهل البيت(علیهما السلام):

ص: 310

فقد قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(علیهما السلام) للعبّاس(علیه السلام) في زيارته المرويّة في كامل الزيارة لابن قولويه : ((أشهد لقد نصحت للّه ولرسوله ولأخيك فنعم الأخ المواسي لأخيه)).

وقال مولانا الإمام صاحب الزمان المهدي المنتظر - عجّل الله فرجه - في الزيارة المعروفة بزيارة الناحية:

((السلام على أبي الفضل العبّاس بن أمير المؤمنين المواسي أخاه بنفسه، الآخذ لغده من أمسه، الفادي له، الواقي الساعي إليه بمائه، المقطوعة يده، لعن الله قاتله يزيد بن الرقاد الجنبي وحكيم بن الطفيل الطائي)).

أمّا الشعراء فأكثروا مدحه لمواساته، قال بعضهم:

أحقّ الناس أن يُبكي عليه

فتى أبكى الحسين بكربلاء

أخوه وابن والده عليّ

أبو الفضل المضرّج بالدماء

ومن واساه لا يثنيه شيء

وجاد له على ظمأ بماء

وقال الشيخ جعفر بن نما الحلّي :

حقيق بالبكاء عليه حزناً

أبو الفضل الذي واسا أخاه

وجاهد كلّ كفّار ظلوم

وقابل من ضلالهموا هداه

فداه بنفسه للّه حتّى

تفرّق من شجاعته عداه

وجاد له على ظمأ بماء

وكان رضا أخيه مبتغاه

وللشيخ المظفر من أبيات:

ص: 311

نعم المواسي للحسين بنفسه

وبسيفه للدين نعم الآسي

وللسيّد محسن العامليّ:

لا تنس للعبّاس حسن بلائه

بالطفّ عند الغارة الشعواء

واسى أخاه بها وجاد بنفسه

في سقي أطفال له ونساء

ردّ الاُلوف على الاُلوف معارضاً

حدّ السيوف بجبهة غرّاء

وله أيضاً:

واذكر أبا الفضل هل تنسى فضائله

في كربلا حين جدّ الأمر فالتبسا

واسى أخاه وفاداه بمهجته

وخاض في غمرات الموت منغمسا

وللمظفر أيضاً:

إنّ الموساة من أخلاق أسرته

في العسر واليسر والبأساء والبأس

فالمستجير بهم يأوي إلى حرم

سامي الذرى لاذ فيه سائر الناس

وكلّما كان فيهم من مكارمهم

تجمّعت لمواسي السبط عباس

المناصحة لسيّد شباب أهل الجنّة

ومن صفات العبّاس بن أمير المؤمنين(علیهما السلام) المناصحة للحسين(علیه السلام) إمامه، فإنّه(علیه السلام) بذل تمام الجهد في نصيحة أخيه الحسين(علیه السلام)، وظهرت مناصحته له في الجهاد بين يديه، والقيام بواجب الإخلاص والطاعة له.

ص: 312

معنى المناصحة

النصيحة والمناصحة معناهما واحد، ولكن اختلفا بالإضافة إلى ما نُسبا إليه من المضافات إليهما:

فإن كان المورد مورد مشورة وإبداء رأي، أو مدافعة قوليّة فقط، فتلك النصيحة.

وإن كان مورد مجالدة لا مجادلة بمقال، بل باجتذاب مشرفيّة واعتقال يزنيّة، فتلك المناصحة، والمعنى واحد، وهو الإخلاص قولاً وفعلاً.

والنصحية أفضل صفة في النوع البشري، كما أنّ نقيضها - وهو الغشّ - أقبح خصلة في الإنسان.

والنصيحة تجب لعامّة المؤمنين إعانة وإرشاداً بحقّ وإلى حقّ، كما يحرم نقيضها، وهو الغشّ لقوله(صلی الله علیه واله): من غشّنا فليس منّا، يعني المؤمنين.

فإن كانت النصحية للمعصوم، كالنبيّ والإمام كانت أعظم في الوجوب درجة، وأبلغ تأكيداً.

وتطرّف بعضهم، فقال: هي واجبة لكلّ من اعتمد عليك ووثق بك، وقد كان في طبع جماعة من الأشراف النصحية حتّى للأعداء، والأدلّة العقليّة والنقليّة على لزوم النصيحة والالتزام بالمناصحة كثير.

معنى النصيحة والمناصحة لغة:

ص: 313

قال الفيروزآبادي في القاموس: نصحه وله نصحاً - بالضمّ - نصاحة ونصاحيّة، وهو ناصح ونصيح، من نصح ونصاح، والاسم النصيحة ونصح: خلص.

وقال ابن الأثير في النهاية: في الحديث ((إنّ الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامّتهم)): والنصيحة كلمة يعبرّ بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له، وأصل النصيحة في اللغة الخلوص، يقال: نصحته ونصحت له.

ومعنى نصيحة الله: صحّة الاعتقاد في وحدانيّة الله، وإخلاص النيّة في عبادته.

والنصيحة لكتاب الله: هو التصديق به والعمل بما فيه.

ونصيحة رسوله(صلی الله علیه واله): التصديق بنبوّته ورسالته والانقياد لما أمر به ونهى عنه.

ونصيحة الأئمّة: وهم أئمّة أهل البيت النبوي: الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، والنصيحة لهم معناها التصديق بإمامتهم، وأنّها فريضة من الله، ونصّ من رسوله(صلی الله علیه واله) والتسليم لهم، والانقياد لأوامرهم ونواهيهم.

مظاهر النصيحة وأسبابها وثمراتها:

للنصيحة مظاهر وأسباب وثمرات:

أمّا مظاهرها: فالمشورة، فإنّ المستشار يظهر نصح المستشير، وإذا

ص: 314

لم يستشره وعلم مصلحة له وكان مسلماً أظهرها.

والمحاماة بجدّ واجتهاد وبذل الجهد في ما تلزم فيه المحاماة.

والإرشاد للمتعلّم والسائل ببذل الجهد في تعليمهما ما ينفعهما، وإرشادهما إلى ما فيه مصلحتهما.

والمحافظة على الطاعات والمواظبة عليها.

والإرشاد إلى إمامة من فرض الله إمامتهم من أئمّة أهل البيت: الإثني عشر.

أسباب المناصحة:

وهي كثيرة: منها: العفّة، فإنّ العفيف يأنف من الغشّ حتّى لعدوّه.

ومنها: الديانة، فإنّ المتديّن يرى من واجبه الديني المبالغة في مصالح المؤمنين،

وفي أيّ عمل كان وقام به من أعمال وأقوال ترضي الله ورسوله(صلی الله علیه واله).

ومنها: الحياء، فإنّ الحييّ لا يغشّ، وإنّما ينصح استحياء من نسبة الغشّ إليه.

ومنها: الصدق، فإنّ الصادق لا يكذب، فيقول له: قد نصحتك، وهو له غاش.

ومنها: سلامة الذات والفطرة، فإنّ سليم الذات لا يغشّ، ولا يرى النصح إلاّ لازماً، وما ذاك إلاّ لسلامة نفسه وفطرته على هذا الخلق الحسن.

ص: 315

ثمرات المناصحة:

وأهمّها أنّها تفيد الاجتماع، ويكون داعياً إلى الأنفة، وموجباً للثّقة والاطمئنان.

ومن ثمراتها عند المتديّن: الفوز بما وعد الله من كرامة أرباب العمل الصالح من المخلصين لدينهم.

ومن ثمراتها: اكتساب الحمد، فإنّ الناصح ممدوح، وله القبول حتّى عند الأعداء، فإنّ الناصح له وقع في القلوب، وأثر في النفوس كبير.

الأدلّة على فضيلة المناصحة:

في الكتاب المجيد آيات كثيرة كقوله تعالى ((إِذَا نَصَحُوا لله وَرَسُولِهِ)).

وقد حكى النصح عن كثير من أنبيائه كقوله: ((وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ)).

وقوله حكاية عن نوح(علیه السلام): ((وَلاَ يَنفَعُكُمْ نَصْحِي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أنصَحَ لَكُمْ)).

وقوله حكاية عن صالح:((وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِن لاَتُحَبُّونَ النَّاصِحِينَ)).

وأمّا الأحاديث، فهي أيضاً كثيرة منها:

ص: 316

ما رواه ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكليني في أصول الكافي عن الإمام الباقر محمّد بن عليّ(علیهما السلام) قال: قال رسول الله(صلی الله علیه واله): لينصح الرجل منكم أخاه كنصيحته لنفسه.

وعن الإمام الصادق(علیه السلام) قال: قال رسول الله(صلی الله علیه واله): إنّ أعظم الناس عند الله منزلة يوم

القيامة أمشاهم في أرضه بالنصيحة لخلقه.

الحثّ على قبول النصيحة:

روى الكلينيّ في الكافي عن أبي العديس قال: قال أبو جعفر(علیه السلام): ياصالح! اتّبع من يبكيك وهو لك ناصح، ولا تتّبع من يضحكك وهو لك غاش، وستردون جميعاًً إلى الله.

ردّ النصيحة مقرون بالنكبة:

من ردّ النصيحة فنكب وأصيب بضرر الدنيا أو في الدين فقد شهدت الوقائع التاريخّية على تارك النصيحة بالعطب الدينيّ والدنيويّ.

أمّا من ردّ النصيحة فأهلك نفسه وأتلف دينه وأذهب مروّته فكثير، وأشهر من لبس هذا الجلباب المخزي، وتردّى بهذا الرداء الفاضح عمر بن سعد بن أبي وقّاص الزهريّ قاتل الحسين بن عليّ(علیهما السلام).

ص: 317

قال الطبريّ في التاريخ(1): لمّا كان من أمر الحسين(علیه السلام) ما كان، دعا عبيد الله بن زياد عمر بن سعد، فقال: سر إلى الحسين(علیه السلام) فإذا فرغنا ممّا بيننا وبينه سرت إلى عملك .

فقال عمر بن سعد: إن رأيت أن تعفيني فافعل.

فقال له عبيد الله: نعم على أن تردّ لنا عهدنا.

قال: فلمّا قال له ذلك قال له عمر بن سعد: أمهلني اليوم حتّى أنظر.

قال: فمضى عمر يستشير نصحائه، فلم يكن يستشير أحد إلاّ نهاه .

قال: وجاء حمزة بن المغيرة بن شعبة، وهو أبن اُخته، فقال: اُنشدك الله يا خال أن تسير إلى الحسين(علیه السلام) فتأثم بربّك وتقطع رحمك، فو الله لئن تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض كلّها لو كان لك خير لك أن تلقى الله بدم الحسين(علیه السلام).

فقال له عمر: أفعل إن شاء الله.

وعن عمّار بن عبد الله الجهنيّ، عن أبيه قال: دخلت على عمر بن سعد وقد اُمر بالمسير إلى الحسين(علیه السلام)، فقال لي: إنّ الأمير أمرني بالمسير إلى الحسين(علیه السلام)، فأبيت ذلك عليه، فقلت له: أصاب الله بك مراشدك، أجل فلا تفعل ولا تسر إليه.

قال: فخرجت من عنده، فأتاني آت وقال: هذا عمر بن سعد

ص: 318


1- تاريخ الطبريّ: 6/23 .

يندب الناس إلى الحسين(علیه السلام).

قال: فأتيت فإذا هو جالس، فلمّا رآني أعرض عنّي بوجهه، فعرفت أنّه قد عزم على المسير إليه، فخرجت من عنده.

وذكر فخر الدين الطريحيّ في المنتخب(1) والفاضل المجلسيّ في البحار(2) ما لفظه:

ثمّ إنّ ابن زياد نادى في عسكره: معاشر الناس! من يأتيني برأس الحسين وله الجائزة العظمى، وأعطه ولاية الري سبع سنين.

فقام إليه عمر بن سعد وقال: أصلح الله الأمير! أنا أمضي إليه وأمنعه من شرب الماء وآتي برأسه.

ثمّ مضى من وقته وساعته ودخل منزله، فدخل عليه أولاد المهاجرين والأنصار وقالوا: يا بن سعد! تخرج إلى حرب الحسين وأبوك سادس الإسلام(3)؟! فقال: لست أفعل ذلك.

ثمّ جعل يفكّر في ملك الري وقتل الحسين(علیه السلام) فأضلّه الشيطان وأعمى قلبله،

فاختار قتل الحسين(علیه السلام).

ولفظ المجلسي : لمّا جمع ابن زياد قومه لحرب الحسين(علیه السلام) كانوا سبعين ألف فارس، فقال ابن زياد: أيّكم يتولّى قتل الحسين وله ولاية

ص: 319


1- المنتخب: 2/93.
2- بحار الأنوار: 10/196.
3- هذا مشهور، وهو غير صحيح، وكثيراً ما اشتهر شيء وهو خلاف الواقع، سادس الإسلام هو خباب بن الأرت لا سعد بن أبي وقّاص.

أيّ بلد شاء؟ فلم يجبه أحد منهم، فاستدعى بعمر بن سعد لعنه الله وقال: يا عمر اُريد أن تتولّى حرب الحسين بنفسك، فقال له: اعفيني من ذلك.

فقال ابن زياد: قد أعفيتك فاردد علينا عهدنا الذي كتبنا لك بولاية الري.

فقال عمر: أمهلني الليلة، فقال: قد أمهلتك.

فانصرف عمر بن سعد إلى منزلة، وجعل يستشير قومه وإخوانه ومن يثق به من أصحابه فلم يشر عليه أحد بذلك.

وكان عند عمر بن سعد رجل من أهل الخير يقال له ((كامل))، وكان كاملاً كاسمه ذا رأي وعقل ودين كامل، وكان صديقاً لأبيه من قبله، فقال له: يا عمر! ما لي أراك بهيئة وحركة فيما الذي أنت عازم عليه؟

فقال عمر: إنّي قد وُلِّيتُ أمر هذا الجيش في حرب الحسين، وإنّما قتله عندي وأهل بيته كأكلة آكل أو كشربة ماء، وإذا قتلته خرجت إلى ملك الري.

فقال له كامل: اُفّ لك يا عمر بن سعد تريد أن تقتل الحسين بن بنت رسول الله! اُفّ لك ولدينك، يا عمر أسفهت الحقّ، وضللت عن الهدى؟! أما تعلم إلى حرب من تخرج؟ ولمن تقاتل؟ إنّا لله وإنّا إليه راجعون، والله لو اُعطيت الدنيا بما فيها على قتل رجل واحد من اُمّة محمّد(صلی الله علیه واله) لما فعلت فكيف تريد تقتل الحسين بن بنت رسول الله(صلی الله علیه واله)؟

ص: 320

وما الذي تقول غداً لرسول الله(صلی الله علیه واله) إذا وردت عليه وقد قتلت ولده وقرّة عينه وثمرة فؤاده وابن سيّدة نساء العالمين وابن سيّد الوصيّين، وهو سيّد شباب أهل الجنّة من الخلق أجمعين، وإنّه في زماننا هذا بمنزلة جدّه في زمانه، وطاعته علينا كطاعته، وإنّه باب الجنّة والنار، فاختر لنفسك ما أنت مختار، فإنّي أشهدت بالله

إن حاربته وقتلته أو أعنت عليه أو على قتله لا تلبث بعده في الدنيا إلاّ قليلاً.

فقال عمر: فبالموت تخوّفني؟! وإنّي إذا فرغت من قتله أكون أميراً على سبعين ألف وأتولّى ملك الري؟!

فقال كامل: إنّي اُحدّثك بحديث صحيح أرجو لك فيه النجاة إن وفّقت للقبول:

اعلم أنّي سافرت مع أبيك سعد إلى الشام فانقطعت بي مطيّتي عن أصحابي، وتهت وعطشت، فلاح لي دير راهب فملت إليه، ونزلت عن فرسي وأتيت إلى باب الدير لأشرب الماء، فأشرف عَلَيّ راهب من ذلك الدير وقال: ما تريد؟

فقلت: إنّي عطشان.

فقال: أنت من اُمّة هذا النبيّ الذي يقتل بعضهم بعضاً على حبّ الدنيا مكالبة ويتنافسون فيها على حطامها؟

فقلت له: أنا من الاُمّة المرحومة اُمّة محمّد(صلی الله علیه واله).

فقال: لا إنّكم شرّ اُمّة! فالويل لكم يوم القيامة، وقد غدرتم عترة نبيّكم، تقتلون رجالهم، وتسبون نسائهم، وتنهبون أموالهم.

ص: 321

فقلت له: يا راهب! نحن نفعل ذلك؟

قال: نعم، وإنّكم إذا فعلتم ذلك عجّت السماوات والأرضون والجبال والبحار والوحوش والأطيار باللعنة على قاتلهم، ثمّ لا يلبث قاتله إلاّ قليلاً، ثمّ يظهر رجل يطلب بثأره، فلا يدع أحداً شرك في دمه إلاّ قتله وعجّل الله بروحه إلى النار.

ثمّ قال لي الراهب: إنّي لأرى لك قرابة من قاتل هذا الابن الطيّب، والله إنّي لو أدركت أيّامه لوقيته بنفسي من حدّ السيوف.

فقلت: يا راهب! إنّي اُعيذ نفسي أن أكون ممّن يقاتل ابن بنت رسول الله(صلی الله علیه واله).

قال: إن لم تكن أنت فرجل قريب منك، وإنّ قاتله عليه نصف عذاب أهل

النار، وإنّ عذابه أشدّ من عذاب فرعون وهامان.

ثمّ ردم الباب في وجهي ودخل يعبد الله وأبى أن يسقيني الماء.

قال كامل: فركبت فرسي ولحقت بأصحابي، فقال لي أبوك سعد: ما أبطأ بك عنّا يا كامل؟

فحدّثته بما سمعت من الراهب فقال لي: صدقت، ثمّ إنّ سعدا أخبرني أنّه نزل بدير هذا الراهب مرّة قبلها، فأخبره أنّه هو الذي يقتل ابن بنت رسول الله(صلی الله علیه واله) فخاف أبوك سعد من ذلك، وما خشي إلا أن تكون أنت قاتله، فأبعدك عنه وأقصاك، فاحذر يا عمر أن تخرج عليه، فيكون عليك نصف عذاب أهل النار.

قال: فبلغ الخبر ابن زياد، فاستدعى بكامل فقطع لسانه، فعاش

ص: 322

يوماً أو بعض يوم ومات .

ردّ أهل الكوفة نصيحة الناصحين:

والناصحون لهم كثيرون، منهم:

نصيحة برير بن خضير الهمداني المشرقي:

قال الشلبنجيّ الشافعيّ في نور الأبصار(1) في حديث كربلاء:

ص: 323


1- نور الأبصار: 117.

فحالوا بين الحسين(علیه السلام) وبين الماء، فعند ذلك ضاق الأمر على الحسين(علیه السلام) وعلى أصحابه، واشتدّ بهم العطش، وكان مع الحسين(علیه السلام) رجل من أهل الزهد والورع يقال له: يزيد بن حصين الهمدانيّ(1)، فقال للحسين(علیه السلام): ائذن لي يا بن رسول الله آتي عمر بن سعد واُكلّمه في الماء، لعلّه أن يرتدع، فأذن له.

فجاء الهمداني إلى عمر بن سعد، وكلّمه في الماء، فامتنع ولم يجبه إلى ذلك،

فقال له: هذا ماء الفرات يشرب منه الكلاب والدوابّ! وتمنع منه ابن بنت رسول الله(صلی الله علیه واله) وأولاده وأهل بيته العترة الطاهرة يموتون عطشاً، وقد حلت بينهم وبين ماء الفرات، وتزعم أنّك تعرف الله ورسوله؟!

فأطرق عمر بن سعد وقال: يا أخا همدان! إنّي لأعلم ما تقول، وأنشأ يقول:

دعاني عبيد الله من دون أهله

إلى خصلة فيها خرجت لحيني

فوالله ما أدري وإنّي لواقف

على خطر لا أرتضيه ومين

أآخذ ملك الريّ والريّ بغيتي

إو أرجع مأثوماً بقتل حسين

وفي قتله النار التي ليس دونها

حجاب وملك الريّ قرّة عيني

ثمّ قال: يا أخا همدان! ما أجد نفسي تجيبني إلى ترك ملك الري لغيري.

ص: 324


1- الظاهر أنّ يزيد بن حصين تصحيف برير بن خضير.

فرجع يزيد بن حصين الهمدانيّ إلى الحسين(علیه السلام) وأخبره بمقالة ابن سعد.

أمّا ابن طلحة الشافعيّ في مطالب السئول، فذكر: أنّ الهمدانيّ لم يسلّم على ابن سعد، فقال ابن سعد: يا أخا همدان! ما منعك من السلام عليّ؟ ألست مسلماً أعرف الله ورسوله؟!!

فقال الهمدانيّ: لو كنت مسلماً كما تقول لما خرجت إلى عترة رسول الله(صلی الله علیه واله) تريد قتلهم، وبعد! فهذا ماء الفرات وذكر مثلما تقدّم(1).

نصيحة زهير بن القين

ومنهم: زهير بن القين البجليّ، ذكر أبو جعفر الطبريّ في التاريخ(2) عن كثير بن عبد الله الشعبيّ قال:

ص: 325


1- مطالب السئول: 76.
2- تاريخ الطبري: 6/243.

لمّا زحفنا قبل الحسين(علیه السلام)خرج إلينا زهير بن القين على فرس له ذنوب شاك في السلاح، فقال:

يا أهل الكوفة! نذار لكم من عذاب الله نذار، إنّ حقّاً على المسلم نصحية

أخيه المسلم، ونحن حتّى الآن إخوة على دين واحد وملّة واحدة ما لم يقع بيننا بينكم السيف، وأنتم للنصيحة منّا أهل، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنّا اُمّة وكنتم اُمّة.

إنّ الله قد ابتلانا وإيّاكم بذرّيّة نبيّه محمّد(صلی الله علیه واله) لينظر ما نحن وأنتم عاملون، إنّا لندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية عبيد الله بن زياد، فإنّكم لا تدركون منهما إلاّ بسوء عمر سلطانها كلّه ليسملان أعينكم، ويقطعان أيدكم وأرجلكم، ويمثّلان بكم، يرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقرّاءكم، أمثال حجر بن عديّ وأصحابه وهاني بن عروة وأشباهه.

قال: فسبّوه وأثنوا على عبيد الله بن زياد ودعوا له، وقالوا: لا نبرح حتّى نقتل صاحبك ومن معه، أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيد الله سلماً.

فقال: عباد الله! إنّ ولد فاطمة(علیها السلام) لأحقّ بالودّ والنصر من ولد سميّة، فإن لم تنصروهم فاُعيذكم بالله أن تقتلوهم، فخلّوا بين هذا الرجل وبين ابن عمّه يزيد بن معاوية، إنّ يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين(علیه السلام).

فرماه شمر بن ذي الجوشن بسهم وقال: اُسكت! أسكت الله

ص: 326

نامتك! أبرمتنا بكثرة كلامك!

فقال له زهير: يا بن البوّال على عقبيه ما إيّاك اُخاطب، إنّما أنت بهيمة، والله وما أظنّك تحكم من كتاب الله آيتين، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم.

فقال له شمر: أما والله، إنّ الله قاتلك وقاتل صاحبك عن ساعة.

فقال زهير: أفبالموت تخوّفني، فوالله للموت معه أحبّ إليّ من الخلد معكم.

ثمّ أقبل على الناس رافعاً صوته، فقال: عباد الله! لا يغرّنّكم من دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه، فوالله لا تنال شفاعة محمّد(صلی الله علیه واله) قوماً أهرقوا دماء ذرّيّته وأهل

بيته، وقتلوا من نصرهم وذبّ عن حريمهم.

قال: فناداه رجل فقال: إنّ أبا عبد الله يقول لك: فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه فأبلغ في الدعاء لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت لو نفع النصح والإبلاغ(1).

وقد أكثر أصحاب الحسين(علیه السلام) من نصح أهل الكوفة فغلبت عليهم شقوتهم، فأطاعوا الشيطان المغوي، واتّبعوا الهوى المردي.

المناصحة للإمام المعصوم(علیه السلام):

ص: 327


1- انظر شرح خطبة زهير بن القين، وبيان أبعادها في كتاب زهير بن القين علوي خرج يتلقى الحسين(علیه السلام) للسيد علي أشرف.

إنّ إصحاب الإمام أمير المؤمنين عليّ وسيّد الشهداء الحسين(علیهما السلام) مثال الإخلاص الحقيقيّ، والتفادي الواقعي، وهم أهل فناء في ولائهم أحياءاً وأمواتاً.

قال السيّد ابن طاوس في كتاب اللهوف: قيل لمحمّد بن بشر الحضرمي في تلك الحال: اُسر ابنك بثغر الريّ.

فقال: عند الله أحتسبه ونفسي، ما كنت اُحبّ أن يؤسر وأنا أبقي بعده.

فسمع الحسين(علیه السلام) قوله، فقال: رحمك الله أنت في حلّ من بيعتي فاعمل في فكاك ابنك.

فقال: أكلتني السباع حيّاً إن فارقتك.

قال: فاعط ابنك هذه الأثواب البرود يستعين بها في فداء أخيه، فأعطاه خمسة أثواب قيمتهاألف دينار.

والمشهور أنّ المأسور هو محمّد بن بشر، كما يذكر جماعة من المؤرّخين كالطبريّ.

وقصّة مسلم بن عوسجة لمّا مشى إليه الحسين(علیه السلام) وحبيب مشهورة في وصيّته

لحبيب بالمناصحة للحسين(علیه السلام) ولم يوصه بأمر من اُموره، ولهذا قال الشاعر:

نصروه أحياء وبعد مماتهم

يوصي بنصرته الشفيق شفيقا

أوصى ابن عوسجة حبيباً قال

قاتل دونه حتّى الحمام تذوقا

ص: 328

مناصحة أبي الفضل ابن أمير المؤمنين(علیهما السلام) لأخيه الحسين(علیه السلام):

مناصحة أبي الفضل(علیه السلام) كانت قوليّة وفعليّة:

أمّا القوليّة:

فقد مرّ عليك من أقواله وأشعاره ما يكفيك، ومن مناصحته القوليّة ما مرّ آنفاً من قوله لإخوته: حاموا عن سيّدكم وإمامكم الحسين(علیه السلام).

وقوله(علیه السلام) لأشقّائه: تقدّموا يا بني اُمّي حتّى أعلم أنّكم قد نصحتم لله ولرسوله(صلی الله علیه واله)...

أمّا المناصحة الفعليّة:

فأثرها ظاهر، قطعت يمينه وشماله، وهو واقف في خطّة الحرب ثابت في ساحة القتال لم يطلب لنفسه ملجأ ولا مأمناً، ولم يعد لأخيه الحسين(علیه السلام) يحتمي به من الأعداء حاذر أن يغتمّ لأجله الحسين(علیه السلام)، فثبت في مركزه بعد قطع يديه ووقف من غير يدين يذبّ بهما عن نفسه، فكأنّه قطعة جبل صلد لا يتزعزع، أو زبرة حديد لم تتحلحل، وإنّ هيبته تمنّع العدوّ من الاقتراب إليه حتّى اغتاله بعضهم متستّراً بنخلة، ففضخ هامته بعامود الحديد، فانجدل صريعاً على وجه الثرى، فهذه من أعظم المناصحة وأجلّها.

ص: 329

وقد مدح بهذه المناصحة وإثنى بها عليه الأئمّة المعصومون(علیهما السلام):

قال الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق(علیهما السلام) في زيارته التي رواها ابن قولويه في كامل الزيارة:

((أشهد لك بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة لخلف النبيّ المرسل

والسبط المنتجب والوصيّ المبلّغ والمظلوم المهتضم...)).

وفي محلّ آخر منها:

((أشهد أنّك قد بالغت في النصيحة وأعطيت غاية المجهود)).

وفي محلّ آخر منها:

((أشهد أنّك قد نصحت للّه ولرسوله ولأخيك)).

وفي محلّ آخر:

((أشهد أنّك قد بالغت في النصيحة وأدّيت الأمانة وجاهدت عدوّك وعدوّ أخيك فصلوات الله على روحك الطيّبة وجزاك الله من أخ خيراً ورحمة الله وبركاته)).

معنى قوله ((أدّيت الأمانة))

وقوله(علیه السلام) ((أدّيت الأمانة)) يحتمل وجوهاً:

الأوّل:

إنّ الإمامة منصب إلهيّ ووظيفة ربّانيّة قد أخذ عهدها في الميثاق الأوّل، وهي المشار إليها بقوله تعالى: )إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَاَنَة عَلَى

ص: 330

السَّماوّاتِ والأرْضِ((1) الآية، فكانت هذه الأمانة هي الإمامة، كما أشار إليها ابن أبي الحديد الكاتب الحنفيّ المعتزليّ في خطاب أمير المؤمنين عليّ(علیه السلام):

أنت الأمانة لا يقوم بحملها

خلقاء هابطة وأطلس أرفع

تأبى الجبال الشمّ عن تقليدها

وتضجّ تيهاء ويشفق برقع

وعرضها عبارة عن التعهّد والالتزام بواجب طاعة الإمام التي افترضها الله على عامّة البشر، فكان هذا العرض على المخلوقات عرض اختبار لا عرض اختيار، إذ لا خيرة لمخلوق مع إرادة الخالق، وإباء السماوات والأرض ومن معناها ليست

إباية امتناع ومعصية، بل إباية عدم تكليف، فحملها الإنسان الذي هو أظهر أفراد الأنواع المكلّفة من الحيوانات، لأنّه محسوس بخلاف الملك والجنّ، فإنّها أجسام غير مرئيّة، ولهذا جحدها الجاهلون من الفلاسفة، فكان الإنسان ظلوماً بحملها في العهد السابق واللاحق، فيقول: بخّ بخّ مرّة، ويقول مرّة اُخرى: وسّعوها في قريش تّتسع، وكلّ من قام بطاعة الإمام ونصره فقد أدّى الأمانة، وأبو الفضل من أعظم أفراد هذا القسم.

الثاني:

ص: 331


1- الأحزاب: 72.

إنّ الحسين(علیه السلام) من العترة التي هي أحد الثقلين الذين أوصى رسول الله(صلی الله علیه واله) اُمّته في التمسّك بهما وبحفظهما والاقتداء بهما، وجعلهما أمانة عند اُمّته، وأبو الفضل العبّاس(علیه السلام) من الأعيان الأوفياء بتأدية هذه الأمانة، وإيصالها لرسول الله(صلی الله علیه واله) محترمة معظّمة، بذل دون حفظها نفسه النفيسة، وجعل يتلقّى السلاح بوجهه وصدره ونحره لئلاّ يصل إلى وديعة رسول الله(صلی الله علیه واله) منه شيء، وضحّى إخوته وولده لفداء الحسين(علیه السلام).

الثالث:

البيعة للحسين(علیه السلام) والبيعة أمانة عند المبايع، وإنّ التزامه بشرائطها تأدية لها، والقتل من أظهر مصاديق الوفاء، وأجلى مظاهر التأدية للأمانة، ولهذا كان كلّ من أراد الشهادة من أصحاب الحسين(علیه السلام) يقف أمامه ويستأذن للبراز ويقول: السلام عليك يا أبا عبد الله أوفيت يابن رسول الله؟

فيقول(علیه السلام): نعم، أنت أمامي في الجنّة، فاقرأ جدّي وأبي واُمّي عنّي السلام، وقل لهم: تركت حسيناً وحيداًً فريداً لا ناصر له ولا معين.

الرابع:

ويحتمل في تأدية الأمانة وجهاً رابعاً، وهو ما رواه بعض أرباب

ص: 332

المقاتل من أنّ مولانا أمير المؤمنين(علیه السلام) أوصى ولده العبّاس الأكبر(علیه السلام)بنصرة أخيه الحسين(علیه السلام)، فكانت هذه التوصية أمانة عنده من أبيه(علیه السلام) فقد أدّاها وسقط عنه فرض التكليف بها.

الخامس:

أن تكون الأمانة هي ما روي عن رسول الله(صلی الله علیه واله) في خبر شهادته(علیه السلام) في حديث طويل:

فقال: يا بلال ائتني بولدي الحسن و الحسين، فانطلق فجاء بهما، فأسندهما إلى صدره، فجعل يشمّهما.

قال علي(علیه السلام): فظننت أنهما قد غمّاه - أي أكرباه - فذهبت لأؤخرهما عنه، فقال: دعهما - يا علي - يشمّاني وأشمّهما، ويتزوّدا مني وأتزوّد منهما، فسيلقيان من بعدي زلزالاً وأمراً عضالاً، فلعن الله من يحيفهما [يخيفهما]، اللهم إني أستودعكهما وصالح المؤمنين(1).

***

وكلّ هذه الوجوه صالح للحمل عليه، ولا مانع من إرادة الجميع،

ص: 333


1- الأمالي للطوسي: 600 مج 27، كشف الغمّة للأربلي: 1/409.

وإن كان الحمل على الإمانة أظهر لمصير أكثر المفسّرين إلى أنّ المراد الأمانة هي الإمامة.

الشعر في مدح العباس(علیه السلام) بالمناصحة

أمّا الشعر في مدح العبّاس(علیه السلام) بالمناصحة:

فهو كثير ومنه قول الإمام السبط سيّد الشهداء الحسين(علیه السلام) فيما رواه الفاضل الدربنديّ في أسرار الشهادة(1) ولفظه قال:

فلمّا أتاه الحسين(علیه السلام) رآه صريعاً على شاطئ الفرات بكى، ثمّ قال: وا أخاه وا

عبّاساه! الآن أنكسر ظهري وقلّت حيلتي، ثمّ قال: جزاك الله عنّي يا أخي يا أبا الفضل العبّاس خيراً.

قيل: ثمّ أنشأ:

أخي يا نور عيني ياشقيقي

فلي قد كنت كالركن الوثيق

أيا ابن أبي نصحت أخاك حتّى

سقاك الله من كأس رحيق

أيا قمراً منيراً كنت عوني

على كلّ النوائب في المضيق

فبعدك لا تطيب لنا حياة

سنجمع في الغداة على الحقيق

ألا لله شكوائي وصبري

وما ألقاه من ظمأ وضيق

وقال الأزري البغدادي الحاج محمّد رضا:

وأخ كريم لم يخنه بمشهد

حيث السراة كبابها إقدامها

ص: 334


1- أسرار الشهادة: 322.

وللشيخ المظفر :

فديت أبا الفضل من ناصح

لسبط الرسول ونعم النصيح

فداه فدته نفوس الأنام

بكلّ نفيس وغال ربيح

وحرص أبي الفضل في حفظه

بما يستطيع كحرص الشحيح

الإيثار

ومن صفات العبّاس الأكبر ابن أمير المؤمنين(علیه السلام) الإيثار.

وإيثار أبي الفضل العبّاس لأخيه الحسين(علیه السلام) يوم كربلاء ممّا لا شكّ فيه ولا ارتباب، والإيثار خصلة حميدة، وسجيّة فاضلة من سجايا الكرام، وأخلاق أهل العفّة والديانة، وأرباب المجد والسؤدد، وكونها من صفات المدح فممّا لا يرتاب فيه إلاّ أعوج السليقة، أو جاهل محض لا إلمام له بسير العقلاء، ولا معرفة عنده بأدلّة الأحكام.

معنى الإيثار لغة:

قال الفّيوميّ في المصباح المنير: آثرته بالمدّ فضّلته.

وقال فخر الدين الطريحي رحمه الله في مجمع البحرين: )وَيُؤثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ( أي يقدّمون على أنفسهم، من قولهم آثره على نفسه أي قدّمه وفضّله.

وقال ابن الأثير في النهاية: ويستأثر عليكم أي بفضل عليكم غيركم في الفيء.

ص: 335

وقال رشيد الوطواط في غرر النصائح الواضحة(1): ويقال: مراتب العطاء ثلاثة: سخاء وجود وإيثار؛ والسخاء إعطاء الأقلّ وإمساك الأكثر، والجود إعطاء الأكثر وإمسالك الأقلّ، والإيثار إعطاء الكلّ من غير إمساك لشيء، وهذه أشرف المراتب وأعلاها وأحقّها بالمدح، فإنّ إيثار المرء غيره على نفسه أفضل من إيثار نفسه على غيره، وكفى بهذه الخلّة شرفاً مدح الله تعالى أهلها بقوله: )وَيُؤثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ((2)...

مراتب الإيثار وأقسامه

الإيثار مرتبة هي أعلا مرتبة في السخاء، ودرجة هي أرقى درجة في الجود، وإذا كان كذلك فمراتب الإيثار لا تضبط، لأنّها نسبيّة وتختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، ويتميزّ منها مرتبتان بالإضافة إلى ما آثر به وبذله لغيره.

القسم الأوّل من الإيثار: بذل النفس

وهو الإيثار بالنفس وهو أفضل قسمي الإيثار وأعلا مراتبه وقال أبو تمام الطائيّ:

يجود بالنفس إذ ظنّ الجواد بها

والجود بالنفس أقصى غاية الجود

ص: 336


1- غرر النصائح الواضحة: 234.
2- الحشر: 9.

إيثار أمير المؤمنين(علیه السلام)

آثر سيّد المسلمين أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(علیهما السلام) رسول الله(صلی الله علیه واله) بحياته وفداه بنفسه وإيثاره أفضل كلّ إيثار في الدنيا، لأنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(علیهما السلام) باهى الله به ملائكته وأنزل فيه قرآناً يّتلى في المحاريب قوله تعالى)وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ(، وحديث مبيت أمير المؤمنين(علیه السلام) على فراش رسول الله(صلی الله علیه واله) ليلة الهجرة من أشهر الأحاديث، وهو متواتر بمعناه.

وقد بات أمير المؤمنين(علیه السلام) على فراش النبيّ(صلی الله علیه واله) يقيه بنفسه مرّتين: مرّة في الشعب في حياة أبي طالب(علیه السلام)، ومرّة ليلة الهجرة، وتدوال الشعراء نقل المبيت على الفراش فأكثروا من النظم(1).

وللشيخ المظفر :

أمن بات مثلوج الفؤاد مكانه

عليه قريش الغدر سلّت مواضيها

فنام قرير العين في الدار هادئاً

وضوضا قريش تستجيش حواليها

كمن بات في الغار المنيع عيونه

من الخوف قرحن الدموع مآقيها

يقول له خير النبيّن لا تخف

ولا تخش إنّ الله ذي العرش كافيها

فلم تطمئنّ النفس عن جيشانها

ولا القلب عن دقّاته هادئاً فيها

ولو كان من أهل الشجاعة والتقى

لواسى رسول الله أحمد هاديها

ص: 337


1- أنظر مناقب ابن شهر آشوب.

إيثار أنصار سيّد الشهداء الحسين(علیه السلام) له:

هو الإيثار المحمود وكلّ واحد منهم قد آثر الحسين(علیه السلام) بنفسه وفداه بروحه لو نفع الإيثار وقبلت الفدية.

فهذا سعيد بن عبد الله الحنفيّ وقف هدفاًً للسلاح دونه، وهو يصلّي ببقيّة أصحابه صلاة الخوف، والحنفيّ يتلقّى كلّ طعنة بصدره، وكلّ ضربة بنحره حتّى قتل.

قال الطبريّ في التاريخ: ثمّ صلّوا الظهر صلّى بهم الحسين صلاة الخوف ثمّ أقتتلوا بعد الظهر فاشتدّ قتالهم ووصل إلى الحسين فاستقدم الحنفيّ أمامه فاستهدف لهم وهم يرمونه بالنبل يميناً وشمالاً قائماً بين يديه، فما زال يرمي حتّى سقط...

وقال السيّد ابن طاوس في اللهوف: وجد فيه ثلاثة عشر سهماً سوى ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح...

قال الطبري(1):

ص: 338


1- تاريخ الطبري: 6/252.

فلمّا رأى أصحاب الحسين إنّهم قد كثروا، وإنّهم لا يقدرون أن يمنعوا حسيناً ولا أنفسهم تنافسوا في أن يقتلوا بين يديه، فجاء عبد الله وعبد الرحمن ابنا عزرة الفغاريّان، فقالا: يا أبا عبد الله! عليك السلام، حازنا العدوّ إليك، فأحببنا أن نُقتل بين يديك نمنعك وندفع عنك.

فقال: مرحباً بكما اُدنوا منّي، فدنوا منه، فجعلا يقاتلان قريباً منه، وأحدهما

يقول:

قد علمت حّقاً بنو غفار

وخندف بعد بني نزار

لنضربنّ معشر الفجّار

بكلّ عضب صارم بتّار

ياقوم ذودوا عن بني الأحرار

بالمشرفيّ والقنا الخطّار

قال: وجاء الفتيان الجابريّان سيف بن الحارث بن سريع ومالك بن عبد بن سريع، وهما ابنا عمّ وأخوان لاُمّ، فأتيا حسيناً، فدنوا منه وهما يبكيان.

فقال: أي ابني أخي ما يبكيكما؟ فوالله إنّي لأرجو أن تكونا بعد ساعة قريري عين .

فقالا: جعلنا الله فداك، لا والله ما أنفسنا نبكي، ولكن نبكي عليك نراك قد اُحيط بك ولا نقدر على أن نمنعك .

فقال: جزاكما الله أحسن جزاء المتّقين...

ص: 339

وقال(1): قال عابس بن أبي شبيب الشاكريّ: يا أبا عبد الله! أما والله ما أمسى على ظهر الأرض قريب أو بعيد أعزّ عَلَيّ ولا أحبّ إليّ منك، ولو قدرت أن أدفع عنك الضيم والقتل بشيء أعزّ عَلَيّ من نفسي ودمي لفعلته، السلام عليك يا أبا عبد الله، أشهدك أنّي على هداك وهدى أبيك، ثمّ مشى بالسيف مصلتاً نحوهم، وبه ضربة على جبينه...

فهؤلاء الأعلام من العلماء والفطاحل العظماء من الفقهاء قد أحبّوا أن يجمعوا إلى فضيلة الشهادة فضيلة زيارة الحسين(علیه السلام) وفضيلة البكاء عليه وفضيلة الاهتمام له، فقد ورد في الحديث عن المعصومين: ما معناه: إنّ نفس المهموم لنا أهل البيت عبادة..

***

وقد آثر العبّاس الأكبر(علیه السلام) أخاه الحسين(علیه السلام) بنفسه وفداه بروحه، وعلى سبيله سلك شهداء كربلاء، فإنّ الجميع آثروا الحسين(علیه السلام)بنفوسهم، غير أنّ فداء العباس(علیه السلام) اختلف عن فدائهم وإيثاره تميّز عن إيثارهم، لأنّ الأمر دار بين شخصه النفيس وشخص سيّد الكونين

ص: 340


1- اللهوف: 91، تاريخ الطبري: 6/253.

وإمام الثقلين، في ساعة من ساعات التاريخ...

وباقي الشهداء في سائر الحروب الدينيّة ليسوا كذلك، لأنّ الشهداء مع رسول الله(صلی الله علیه واله)لم يظهر منهم ما ظهر من أولئك من الإقدام على المنيّة، والاقتحام على الموت، مع علمهم أنُهم لو تركوا لكانوا في مأمن ومنعة، وموقفهم في صفّ الحسين(علیه السلام) لا يمنّيهم بالسلامة، ولا يبشرّهم بالبقاء في الحياة الدنيا أبداً.

وأصحاب النبيّ(صلی الله علیه واله) دلائل الظفر عندهم لائحة، وأمارات الغلب بهم واضحة، والقرآن يخبرهم بذلك، كما في بدر وخبير: )وّإَذْ يّعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتْينْ أَنَّهَا لَكُمْ((1) و)وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا((2).

والنبي(صلی الله علیه واله) يخبرهم بحسن العاقبة، وسلامة النفس والظفر، ومع ذلك يقولون: )وَّما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورا((3).

فأين هؤلاء ممّن أذن لهم الحسين(علیه السلام)بالانصراف وأخبرهم أنّهم يقتلون جميعاًً، فيقولون: لو كانت الدنيا لنا باقية وكنّا فيها مخلّدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها، هؤلاء وأبيك جوهر الرجال ولباب الفضيلة.

القسم الثاني: بذل القوت

ص: 341


1- الأنفال: 7.
2- الفتح: 20.
3- الأحزاب: 12.

الإيثار بالقوت، فقد آثر أهل بيت الرسول(صلی الله علیه واله) بأقواتهم وباتوا طاوين ثلاثاً، فنزلت سورة )هل أتى( مدحاً، وآية ((ويؤثرون))، وآثر أمير المؤمنين(علیه السلام) أصحابه مراراً عديدة

كالمقداد وعمّار وغيرهما.

وآثر أبو الفضل العبّاس بن أمير المؤمنين أخاه الحسين(علیه السلام) بالماء فلم يشربه مع كونه شديد الظمأ، فقضى عطشاناً.

وقد هجم أبو الفضل العباس(علیه السلام) على الفضيلة النبيلة واختيار الفعلة الحميدة، وهي الإيثار بنفسه وعلى نفسه، وهذه الفضيلة المعروفة في فضائل أسلافه السادات الأماجد الذين آثروا بنفوسهم وعلى نفوسهم مراراً عديدة، وقد نزل القرآن المجيد في مدحهم آيات وسور تتلى في المحاريب وعلى الأعواد، وتذاع في الأندية والمجتمعات...

الدلالة على رجحان الإيثار:

لا شكّ في رجحانه الشرعيّ لقوله تعالى في معرض المدح للمؤثرين )وَيُؤثِرُونَ عَلَى أّنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شَحَّ نَفْسِهِ فِأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ((1)، فأثبت سبحانه الإيثار مع الخصاصة، وهي شدّة الحاجة، ثمّ قرن الفلاح بترك الشحّ الذي تشتدّ حاجتها إليه، ومن توقّى هذا الشحّ في الخصاصة وهو الإيثار فقد أفلح عند الله.

ص: 342


1- الحشر: 9.

وهذه الآية نزلت في أهل البيت: وهم أهل الكساء: عليّ وفاطمة والحسن والحسين، فآل محمّد(صلی الله علیه واله) نزل بهم ضيف وليس عندهم غير ما يكفيه، فقدّموه له وأطفأوا السراج لئلاّ يراهم ولا شيء عندهم وباتوا طاوين.

وقال تعالى: )وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكيِنا وَيَتِيما وَأَسِيرا((1) إلى آخر السورة، وهي مع اتفاق المفسّرين أنّها نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين: ظاهرة في مدح الإيثار، لا تفاقهم أنّهم باتوا ثلاثاً طاوين، وأطعموا هذه الأصناف

الثلاثة، وذلك في نذر الحسن والحسين(علیهما السلام) لمّا مرضا.

أمّا الأحاديث فكثيرة جدّاً، منها ما رواه الصدوق القمّي في الفقيه قال:

ص: 343


1- الإنسان: 8.

قال الصادق(علیه السلام): خياركم سمحائكم، وشراركم بخلائكم، ومن خالص الإيمان البرّ بالإخوان والسعي في حوائجهم، وإنّ البارّ بالإخوان ليحبّه الرحمن، وفي ذلك مرغمة للشيطان، وتزحزح عن النيران، ودخول الجنان.

ثمّ قال لجميل: أخبر بهذا غرر أصحابك.

قلت: جعلت فداك! من غرر أصحابي؟

قال: هم البارّون بالإخوان في العسر واليسر.

ثمّ قال: ياجميل! أما إنّ صاحب الكثير يهون عليه ذلك، وقد مدح الله - عزّ وجلّ - في كتابه صاحب القليل فقال:)وّيُؤثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(.

إيثار العبّاس الأكبر ابن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(علیهما السلام):

إيثار العبّاس للحسين(علیهما السلام) بالنوعين معاً، فإنّه آثره بنفسه وعلى نفسه: أمّا إيثاره بنفسه، فتبيّن من تضحية نفسه أمامه، وقد صرّحت بهذا أشعاره التي منها:

((نفسي لنفس الطاهر الطهر وقا))

وأمّا إيثاره للحسين(علیه السلام) على نفسه، فذاك حين رمى الماء من يده وقال:

ص: 344

لا ذقت الماء وابن رسول الله عطشان، مع كونه قد أشرف على التلف من الظمأ وقد نطقت بذلك أشعاره كقوله:

يا نفس من بعدالحسين هوني

وبعده لا كنت أن تكوني

هذا حسين شارب المنون

وتشربين بادر المعين

قد صرّح(علیه السلام) في هذا الشعر أنّه آثر أخاه الحسين(علیه السلام) ليس على سبيل الارتكاز الجبلّي ولا بداعي الطبع الفطري، ولا طاوع فيه الخلق الغريزي، وإنّما كان ذلك عن

فقه في الدين وعلم بما للمؤثر على نفسه من عظيم الأجر، وبالأخصّ إذا كان الإيثار للإمام المفترض الطاعة، ذلك حيث يقول فيه:

وليس هذا من شعار ديني

ولا فعال صادق اليقين

لأنّ شعائر هذا الدين الموساة والإيثار حسبما سمعت من مدح القرآن للمؤثرين، وما ورد من إيثار رسول الله(صلی الله علیه واله) وأهل بيته.

والصادق اليقين في أنّ الله يجزي بالعمل الصالح ويثيب على الإحسان، فأنّه يحصل له القطع بأنّ من آثر الحسين(علیه السلام) بنفسه أو على نفسه كمن آثر رسول الله(صلی الله علیه واله) وقد قال في الحديث المتفق عليه: حسين منيّ وأنا من حسين.

فالموالي له ينال أعظم درجة الأجر عند الله، فإذا حاد عن سنن الإيثار له وانحرف عن جادة الموساة، فلا يشبه فعله فعل الصادق اليقين بأنّ إيثار العترة الطاهرة، ومواساة السلالة المطهّرة من أفضل

ص: 345

الطاعات، وأجلّ المقرّبات عند الله، بل هي ممّا افترض الله تعالى على الاُمّة القيام بها بقوله تعالى )قُل لاَ أَسأَلُكُمْ عَلَيْهِ أّجْرا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى((1).

وقوله(صلی الله علیه واله) في حديث الثقلين: احفظوني في أهل بيتي، فأبو الفضل أدّى هذه الفريضة كما قد أدّى سائر الفرائض.

قال فخر الدين الطريحي في المنتخب(2):

ص: 346


1- الشورى: 23.
2- المنتخب: 2/94.

لمّا اشتدّ العطش بالحسين(علیه السلام) وأصحابه دعى بأخيه العبّاس وقال له: اجمع أهل بيتك واحفروا بئر.

ففعلوا ذلك فطمّوها، ثمّ حفروا اُخرى فطمّوها، فتزايد العطش عليهم، فقال العبّاس لأخيه الحسين(علیهما السلام): يا أخي! أما ترى ما حلّ بنا من العطش، وأشدّ الأشياء علينا عطش الأطفال والحرم.

فقال الإمام(علیه السلام): امض إلى الفرات واتنا بشيء من الماء، فقال: سمعاً وطاعة.

فضمّ إليه رجالاً وسار حتّى أشرفوا على الشريعة، فتواثب عليهم الرجال وقالوا: ممّن القوم؟

فقالوا: نحن من أصحاب الحسين(علیه السلام).

فقالو: ما تصنعون؟

قالوا: قد كضّنا العطش وأشدّ من ذلك علينا عطش الحرم والأطفال.

فلمّا سمعوا ذلك منهم هجموا عليهم ومنعوهم، فحمل عليهم العبّاس(علیه السلام)، فقتل منهم رجالاً، وجدّل أبطالاً حتّى كشفهم عن المشرعة، ونزل فملأ قربته، ومدّ يده ليشرب، فذكر عطش الحسين(علیه السلام) فنفض يده وقال: والله لا ذقت الماء وسيّدي الحسين(علیه السلام)عطشان.

ثمّ صعد المشرعة، فأخذه النبل من كلّ مكان حتّى صار جلده كالقنفذ من كثرته، فحمل عليه رجل من القوم فضربه ضربة

ص: 347

قطع بها يمينه، فأخذ السيف بشماله، فحمل عليه آخر فقطعها، فانكبّ وأخذ السيف بفمه، فحمل عليه رجل فضربه بعمود من حديد على اُمّ رأسه، ففلق هامته ووقع على الأرض وهو ينادي: يا أبا عبد الله! عليك منّي السلام.

فلمّا رأى الحسين(علیه السلام)أخاه قد صرع نادى: وا أخاه! وا عبّاساه! وا مهجة قلباه! عزّ عَلَيّ والله فراقك، ثمّ حمل على القوم وكشفهم عنه، ثمّ نزل إليه وهو يبكي حتّى اُغمي عليه...

وذكره في مقتل العوالم وفي مصائب المعوصومين وفي أسرار الشهادة وفي البحار.

وقد ذكر مدحه بهذا الإيثار، فقال الحاج محمّد رضا الاُزريّ البغدادي من قصيدة:

وأبت نقيبته الزكيّة ريّها

وحشا ابن فاطمة يشبّ ضرامها

وقال الحاج هاشم الكعبيّ من قصيدة:

حتّى حوى بحرها الطامي فراتهموا

الجاري ببحر من الهنديّ ملتطم

فكفّ كفّاً من الورد المباح وفي

أحشائه ضرم ناهيك من ضرم

وهل ترى صادقاً دعوى إخوته

روى حشاً وأخوه في الهجير ظمي

حتّى ملا مطمئنّ الجاش قربته

ثم انثنى مستهلاً قاصد الحرم

وللمظفر:

يا بن الوصيّ جزاك الله صالحة

ياطيّب النفس والأعراق والشيم

آثرت سبط رسول الله محتسباً

بذاك ترجو رضا الرحمن ذي الكرم

ص: 348

فعن يقين بلا شكّ يخالطه

بأنّ إيثاره من أفضل النعم

والعقل والشرع في الإيثار متّفق

في أنّ رتبته العليا من الكرم

لمّا ملكت الفرات العذب رمت بأن

تطفي أوار فؤاد صار ذا ضرم

فلم تذق قطرة من ماءه أبداً

والسبط ظام مع الأطفال في الخيم

هذي الموساة والإيثار يشكره

ربّ البريّة والأحرار في الأمم

لقد مضيت حميداً نلت مرتبة

في حملك العلم بل في حملك العلم

يكفيكم مدح ربّ العالمين لكم

عن مدحة الناس في بسط من الكلم

وقد مدح العبّاس(علیه السلام) مدحه الأئمّة: بالإيثار كما في حديث الإمام زين العابدين(علیه السلام) لمّا نظر إلى عبيد الله بن العبّاس، وقال في جملة ما قال: إنّه آثر وأبلى وفدى أخاه الحسين(علیه السلام)، كما سيجيء أن شاء الله.

الزهد والنسك

الزهد هو الإعراض عن الدنيا وزينتها، وإطراح الملاذّ الشهوانّية التي يستطيبها سائر الناس، والرضا بما قسّم الله من الرزق، وأن ينزل نفسه في هذه الدار منزلة المرتحل سريعاً إلى مقصده والقاصد حثيثاً إلى غايته، فإنّه إذا نزل منزل في أثناء سفره بقصد الراحة، فإنّه لا يهتمّ فيه بأكثر من أنّه يقيم قليلاً ليريح بدنه وراحلته ويأخذ ما يقوّي نفسه من الطعام الميسور، ثمّ يرتحل عنه إلى غيره.

ص: 349

ومن علم أنّ مكثه في هذا المنزل يسيراً لا وجه لإكثاره من رخرفته وتنميقه، فإنّه ليس بمنزل قرار، وتنقيح موطن النزول المؤقّت بما يوجب كلفة وعناء، ويستتبع مشقّة وعنتاً جهل محض، وغرور صرف.

فالدنيا عند الصلحاء وأهل الدين بمنزلة المحلّ الذي ينزله المسافر ريثما يستريح فيه ثمّ ينتقل عنه، فهم لذلك ينزلون أنفسهم منزلة السفار وعباري السبيل، ولهذا ما شيّدوا البنيان، ولا زخرفوا الجدران، ولا نمّقوا الغرف، ولا نظّفوا القاعات المجلسيّة ونصبوا فيها الكراسيّ والأسرّة، ولا مهّدوا صالونات المنام بمهاد الأرائك المخمّلة، ولا تأنّقوا بنقوش غرفة الاستراحة، ولا غرسوا الحدائق الغنّاء حول المساكن والقصور، بل كانت نفوسهم منصرفة عن نعومتها ونعيمها، بل طلّقها العظماء من أهل البيت:.

فقد قال مولانا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(علیهما السلام) للدينا وقد تمثلّت له بصورة امرأة جميلة: أبي تعرّضت؟ أمّ إليّ تشوّقت؟ غرّي غيري قد طلّقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك...

وقال سيّد الشهداء أبو عبد الله الحسين بن عليّ(علیهما السلام) وقد تمثّلت له يوم الطفّ

بصورة امرأة جملية وقالت: تزوّجني أرد عنك هذا الجمع: إعزبي ويحك أما علمت أنّ مطلقّات الآباء لا تحلّ للأبناء.

وفي الشعر المرويّ عن زين العابدين(علیه السلام) كما في كشكول الشيخ البهائي:

ص: 350

عتبت على الدنيا فقلت إلى متى

اُكابد بؤساً همّه ليس ينجلي

أكلّ كريم من عليّ نجاره

يروح عليه الماء غير محلّل

فقالت نعم يابن الحسين رميتكم

بسهمي عناداً منذ طلقّني علي

معنى الزهد لغة:

قال في المصباح المنير: زهد في الشيء وزهد عنه أيضاً زهداً بمعنى تركه وأعرض عنه، فهو زاهد، والجمع زهّاد.

ومعنى الزهد الاصطلاحي أخصّ من معناه اللغويّ، لأنّه مخصوص بالرغبة عن كلّ محقّر في نظر الشرع المقدّس أو تركه أولى، واللغويّ هو الرغبة في ترك كلّ شيء فمن ترك الواجبات يسمّى في عرف أهل اللغة زاهداً فيه، فيقال: زهد في الصلاة أي رغب عنها، ومثل هذا لا يسمّى زهداً في الشرع، بل يسمّى فسقاً.

الزهد في الأحاديث:

جاء تفسير الزهد في أحاديث أهل البيت(1):، فمن الأحاديث عن سيّد الزهّاد بعد رسول الله(صلی الله علیه واله) وعنه أخذ الزهّاد والنسّاك الطريقة في الزهد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(علیهما السلام) رواه الصدوق القمّي

ص: 351


1- فسّره كثير من الزهّاد كلّ بحسب مدركه التصّوريّ ومعقوله الفكريّ، إذ ليست له حقيقة مضبوطة عندهم، ولأنّه من المؤسّسات الإسلاميّة التي هي مدار الانصراف عن التهالك في الاُمور العاجلة، والإقبال على الاُمور الباقية في دار الآخرة.

في معاني الأخبار(1) عن الإمام الصادق(علیه السلام) قال:

قيل لأمير المؤمنين(علیه السلام): ما الزهد في الدنيا؟ قال: تنكّب حرامها.

وعن أبي الطفيل قال: سمعت أمير المؤمنين(علیه السلام)يقول: الزهد في الدنيا: قصر الأمل، وشكر كلّ نعمة، والورع عمّا حرّم الله عليك.

وعن إسماعيل بن مسلم قال: قال أبو عبد الله يعني الإمام الصادق(علیه السلام): ليس الزهد في الدنيا بإضاعة المال، ولا بتحريم الحلال، بل الزهد في الدنيا أن لا تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله تعالى.

وعن عليّ بن هاشم البريديّ عن أبيه عن أبي جعفر يعني الإمام الباقر(علیه السلام): إنّ رجلاً سأله عن الزهد، فقال: الزهد عشرة أشياء، فأعلى درجات الزهد أدنى درجات الورع، وأعلى درجات الورع أدنى درجات اليقين، وأعلى درجات اليقين أدنى درجات الرضا، ألا إنّ الزهد في آية من كتاب الله تعالى )لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَافاتَكُمْ وَلاَتَفْرَحُوا بِمَا آتاكُمْ((2).

والأحاديث كثيرة، ولا نطيل بالإكثار من النقل.

مدح الزهد ورجحانه:

ص: 352


1- معاني الأخبار: 74 ب 94.
2- الحديد: 23.

كلّما دلّ على مذمّة الدنيا والانخداع بظلّها الزائل، والركون إلى نعيمها الفاني المضمحلّ من الآيات والروايات، فهو مدح للزهد، كقوله تعالى )لَكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ( الآية.

وكقوله )وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا((1) إلى غيرهما من آيات القرآن الكريمة، وأمّا الأحاديث فلا تحصى كثرة.

زهد العبّاس بن أمير المؤمنين(علیهما السلام):

إنّ العبّاس بن أمير المؤمنين قد شبّ ونشأ في صحبة أزهد الخلق أبيه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وأخويه الحسن والحسين:، وفي الحديث ما معناه، إذا

خفي عليك مال فانظر فيما ينفق، وإذا خفي عليك حال شخص فانظر من يصحب.

قال الشاعر:

صاحب أخا ثقة تحضى بصحبته

فالطبع مكتسب من كلّ مصحوب

وقال أعشى بني عوف:

فاعتبر الأرض بأسمائها

واعتبر الصاحب بالصاحب

فأبو الفضل العبّاس أوّلاً: كان من بيت خلقهم الله للآخرة لا

ص: 353


1- طه: 131.

للدنيا، فهو بطبعه وجبلّته يطلب ما خلق له، ويجانب ما لم يخلق له، فلا يجد لنعيم الدينا لذّة، ولا لزخرفها فائدة.

ثانياً: إنّه تربية أهل الزهد، وتهذيب أهل النسك، ومربيّه ومهذّبه من طلّق الدنيا طلاقاً لا رجعة فيه، ومع ذلك يدلّ على زهده اُمور:

منها: ما سيجيء في عبادته من بيان أثر السجود بين عينيه.

ومنها: ما سيجيء في بصيرته في دينه، وفي فصل إيمانه ويقينه.

ومنها: ما ورد في زيارته عن الإمام جعفر الصادق(علیه السلام) حيث يقول:

((فنعم الصابر المجاهد المحامي الناصر والأخ الدافع عن أخيه، المجيب إلى طاعة ربّه، الراغب فيما زهد فيه غيره من الثواب الجزيل والثناء الجميل...)).

وليست هذه الرغبة في الثواب المضاعف والثناء الدائم إلاّ الزهد في الدنيا الفانية والإعراض عن زهرتها وزهوتها اللذين شغلا طلاّب الدنيا وعشّاق الشهوات عن اختيار الأعمال الصالحة المنوط بها الثواب والكرامة.

ومنها: إعراضه عن زهرة دنياه وهو في ريعان العمر والعيش الغضّ، فأعرض عن ذلك المحبوب الطبيعيّ والمرغوب الفطريّ، فردّ الأمان واستقبل الأسنّة والحداد.

وقد قال من عرّف الدرجة الراقية في الزهد: هي أن يزهد في نفسه.

وقال بعضهم: الزهد: قصر الأمل.

قد صرّح كثير من العلماء: بأن الجهاد بإقبال وجدّ هو حقيقة الزهد.

ص: 354

فرفض الحياة والابتشار بالمنيّة من أعظم درجات الزهد واليقين، وقد علم كلّ أحد أنّ العبّاس بن أمير المؤمنين(علیهما السلام) رفض الحياة وأقبل على الموت بابتهاج، وقد ردّ الأمان على أهل الكوفة، كما علمت ذلك في إبائه، وامتنع من قبول الرخصة التي أتتهم من سيّد الشهداء الإمام الحسين(علیه السلام) بالإنصراف عنه وطلب النجاة لأنفسهم على أنّهم في حلّ ولا حرج عليهم ولا إثم.

فقد روى الشيخ المفيد والسيّد ابن طاوس وابن الأثير والطبريّ وغيرهم، واللفظ للطبريّ(1):

ص: 355


1- تاريخ الطبريّ: 6/238.

عن عليّ بن الحسين(علیهما السلام) قال:

جمع الحسين(علیه السلام) أصحابه عند قرب المساء، قال عليّ بن الحسين(علیهما السلام): فدنوت منه لأسمع ما يقول وأنا مريض، فسمعت أبي يقول لأصحابه:

أثني على الله - تبارك وتعالى - أحسن الثناء، وأحمده في السرّاء والضراء، اللهمّ إنّي أحمدك على أن كرّمتنا بالنبوّة، وعلّمتنا القرآن، وفقّهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة، ولم تجعلنا من المشركين.

أمّا بعد: فإنّي لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي جميعاًً خيراً.

ألا وإنّي أظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، ألا وإنّي قد رأيت لكم فانطلقوا جميعأً في حلّ ليس عليكم منّي ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً.

ثم قال في حديث الضحّاك المشرقيّ، فقال:

ص: 356

وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، ثمّ تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتّى يفرّج الله، فإنّ القوم إنما يطلبونني، ولو قد أصابوني لهوا عن طلب

غيري.

فقال له إخوته وأبناؤه وبنوا أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر: لِمَ نفعل؟ لنبقي بعدك؟ لا أرنا الله ذلك أبداً، بدأهم بهذا القول العبّاس بن عليّ(علیهما السلام)ثمّ إنّهم تكلّموا بهذا ونحوه....

وفي أسرار الشهادة(1) عن الخرايج عن عليّ بن الحسين(علیهما السلام) قال:

ص: 357


1- أسرار الشهادة: 347.

كنت مع أبي(علیه السلام) في الليلة التي قُتل في صبيحتها، فقال لأصحابه: هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً فإنّ القوم إنما يريدونني، ولو قتلوني لكم لم يلتفتو إليكم، وأنتم في حلّ وسعة.

قالوا: لا والله لا يكون هذا أبداً.

فقال(علیه السلام): إنّكم تُقتلون غداً كلّكم ولا يفلت منكم رجل.

قالوا: الحمد لله الذي شرّفنا بالقتل معك.

ثمّ دعا وقال: إرفعوا رؤوسكم وانظروا، فجعلوا ينظرون إلى مواضعهم ومنازلهم من الجنّة، وهو يقول لهم: هذا منزلك يافلان، وهذا قصرك يافلان، وهذه زوجتك يافلان.

فكان الرجل يستقبل الرماح والسيوف بصدره ووجهه ليصل إلى منزله في الجنّة، ورواه الصدوق في علل الشرائع مختصراً.

للشيخ المظفر :

يا بن الوصيّ الذي سارت فضائله

في الخافقين رواها العرب والعجم

زهدت في العيش والأيّام مقبلة

هذا لعمر أبيك الزهد والكرم

فإنّ من يزهد الدنيا ويرفضها

والعيش فان ومنه العمر منصرم

فليس يشبه زهد الزاهدين بها

والعمر غضّ كثغر الحور مبتسم

يهنيك يابن عليّ كلّ مكرمة

ومفخر عجزت عن مثله الاُمم

أبوك بعد رسول الله خير فتى

تنمى إليه المعالي الغرّ والشيم

جمّ المناقب لا تحصى فضائله

خير الأنام على رغم الاُولى رغموا

ص: 358

كانت منازل هارون له جمعت

إلاّ النبوّة فضل ليس ينكتم

فكنت للسبط يا تاج الفخار كما

أبوك للمصطفى في كفّه العلم

فخضتما غمرات الموت دونهما

حيث المصاليت منها زلّت القدم

فالله يجزيكما الخيرات ما طلعت

شمس النهار وجادت للثرى الديم

العبادة

العبادة ذات تفاصيل مطوّلة لا يتّسع لنا استقصاؤها ولا استيفاء فروعها، ونحن نلخص منها ما يستفيده المطالع ولا يتضجّر به القارئ، ويرجع في التفاصيل إلى الكتب الموضوعة لها.

معنى العبادة

معناها اللغويّ: هي الانقياد والإطاعة.

ومعناها الشرعيّ: هي الإخلاص في الإطاعة والانقياد السالم من شائبة الإشراك.

ومعناها عند الفقهاء: هي كلّ فعل مشروط بقصد القربة.

فبين المعنيين الأخيرين توافق حيث أنّ القربة لا تقع إلاّ مع الإخلاص، ولا يكون الفعل مقرّباً إلاّ إذا خلا من شائبة إشراك.

والمعنى اللغويّ أعمّ من المعنى الشرعيّ، لأنّه يصدق على العبادة الفاسدة، والعبادة المحرّمة كعبادة الأوثان، فإنّها تسمّى عبادة لغة، ولا تسمّى عبادة شرعاً.

ص: 359

قال الشاعر:

اُحبّكم وهلاكي في محبّتكم

كعابد النار يهواها وتحرقه

وقال سديف المكّيّ يمدح بني الحسن السبط ويذّم بني العبّاس:

ما تنقضي دولة أحكام قادتها

فينا كأحكام قوم عابدي وثن

وقد حكى الله تعالى في القرآن المجيد قول عبدة الأوثان: )مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى((1) في آيات كثيرة سمّيت عبادتهم هذه مع فسادها عبادة.

وقد جمع المعنيين الصحيح والفاسد سورة )يا أيّها الكافرون..(.

فالنبيّ(صلی الله علیه واله) لا يعبد عبادتهم الفاسدة، وهم لا يعبدون عبادته الصحيحة.

قال الفيّوميّ في المصباح: عبدت الله أعبده عبادة، وهي الانقياد والخضوع، والفاعل عابد، والجمع عبّادة وعبدة، ثمّ استعمل فيمن اتّخذ إلهاً غير الله وتقرّب إليه، فقيل: عابد الوثن والشمس وغير ذلك...

عبادة العبّاس بن أمير المؤمنين(علیهما السلام):

عبادة أبي الفضل العبّاس(علیه السلام) قد كانت بجميع أعضائه:

فلسانه، عبد الله بالذكر والشكر، والدعاء والاستغفار، والأمر

ص: 360


1- الزمر: 3.

بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعاية إلى إمامة أمامه وأخيه الحسين(علیه السلام).

أمّا جبهته، فقد أثّر بها السجود.

وأمّا عينه، فقد نبت بها السهم في الجهاد دون إمامه .

وأمّا يداه، فقطعتها من الزند بعد أن عبد بها الله تعالى أنواعاً من العبادة، جاهد بها الأشرار، ورفعها في الأذكار، وبسطها في العطاء والسجود والركوع، وغير ذلك.

وأمّا رأسه، فقد فضخت هامته بعامود الحديد.

وأمّا رجلاه، فقد قام بها في كلّ عبادة، وسعى بها إلى كلّ خير، ومشى بها إلى الجهاد، وحمل الماء لعطاشى آل محمّد(صلی الله علیه واله)، وآخر عبادة عبد بها أنّه جعل يفحص بهما حين سقط على شاطئ العلقميّ مفضوخ الهامة مقطوع اليدين، وقد قطعهما العدوّ حنقاً عليه لما أبلى فيهم، كما قاله القاضي النعمان المغربي في شرح الأخبار.

وأمّا وجهه الكريم، فقد سالت عليه الدماء في سبيل الله، وسال عليه مخّ اليافوخ المفضوخ.

وأمّا صدره الشريف، فقد وزّعته الأسنّة والسيوف والنبال المحدّدة.

وهكذا سبيل سائر أعضائه حتّى جاء في وصفه إنّه إذا حمل منه جانب سقط

الآخر لكثرة ضرب السيوف وطعن الرماح.

ص: 361

أثر السجود

وأمّا عبادته بالمعنى المصطلح، وهو كثرة الصلاة حتّى يحصل من الإكثار منها أثر في أعضاء السجود، فذاك أمر معروف نصّ عليه العلماء.

قال أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيّين(1): قال المدائنيّ: حدّثني أبو غسّان، عن هارون بن سعد، عن القاسم بن الأصبغ بن نباتة قال:

رأيت رجلاً من بني أبان بن دارم أسود الوجه، وكنت أعرفه جميلاً شديد البياض، فقلت له: ما كدت أعرفك.

قال: إنّي قلت شابّاً أمرداً مع الحسين بين عينيه أثر السجود، فما نمت ليلة منذ قتلته إلاّ أتاني فيأخذ بتلبابي حتّى يأتي جهنّم، فيدفعني فيها، فأصيح فما يبقى أحد في الحيّ إلاّ سمع صياحي، قال: والمقتول العبّاس بن عليّ(علیهما السلام).

وهذا حديث مشهور رواه عامّة أهل المقاتل، وهنا استراب السيّد جعفر بحر العلوم في كتابه ((تحفة العالم)) بأنّ هذا الحديث لا يصحّ في العبّاس الأكبر(علیه السلام) لقوله ((غلام أمرد))، ويصحّ في العبّاس الأصغر(علیه السلام).

وهذا وجه وجيه لو كانت الرواية عند جميع من رواها كذلك، ففي كلام سبط ابن الجوزيّ في التذكرة(2) موافقة لما في المقاتل قال:

ص: 362


1- مقاتل الطالبيّين: 45.
2- تذكرة الخواص: 159.

عن القاسم بن الأصبغ المجاشعيّ قال: لمّا اُتي بالرؤوس إلى الكوفة إذا بفارس أحسن الناس وجهاً قد علّق في لبب فرسه رأس غلام أمرد كأنّه القمر ليلة تمّه، والفرس يمرح، فإذا طأطأ رأسه لحق الرأس بالأرض، فقلت له: رأس من هذا؟ فقال: رأس العبّاس بن عليّ، فقلت: ومن أنت؟ قال: حرملة بن الكاهن الأسديّ.

قال: فلبث أيّاماً وإذا بحرملة ووجهه أشدّ سواداً من القار، فقلت له: رأيتك يوم حملت الرأس وما في العرب أنظر وجهاً منك، وما أرى اليوم لا أقبح ولا أسود وجهاً منك!

فبكى وقال: والله منذ حملت الرأس إلى اليوم ما تمرّ بي ليلة إلاّ وإثنان يأخذان بضبعي، ثمّ ينتهيان بي إلى نار تأجّج، فيدفعاني فيها، وأنا أنكص، فتسفعني كما ترى، ثمّ مات على أقبح حال.

وأمّا من رواها ولم يعبّر بأمرد، بل قال: رجل، فمنهم الصدوق القمّي ، ونقلها عنه الفاضل المجلسي في البحار(1)، ونصّها للصدوق في ثواب الأعمال(2):

عن القاسم بن الأصبغ قال:

ص: 363


1- بجار الأنوار: 10/270.
2- ثواب الأعمال: 11.

قدم علينا رجل من بني دارم ممّن شهد قتل الحسين(علیه السلام) مسودّ الوجه، وكان رجلاً جميلاً شديد البياض، فقلت له: ما كدت أعرفك لتغيّر لونك، فقال: قتلت رجلاً من أصحاب الحسين أبيض بين عينيه أثر السجود وجئت برأسه.

قال القاسم: لقد رأيته على فرس له وقد علّق الرأس بلبانها، وهو يصيب ركبتها، قال: فقلت لأبي: لو أنّه رفع الرأس قليلاً، أما ترى ما تصنع به الفرس بيديها؟

فقال: يا بنيّ! ما يصنع به أشدّ لقد حدّثني فقال: ما نمت ليلة منذ قتلته إلاّ أتاني في منامي حتّى يأخذ بضبعي فيقودني فيقول: انطلق، فينطلق بي إلى جهنّم، فيقذف بي فيها حتّى أصبح.

قال: فسمعت بذلك جارة له، فقالت: ما يدعنا ننام شيئاً من الليل من صياحه.

قال: فقمت في شباب من الحيّ، فأتينا أمرأته فسألناها، فقالت: قد أبدى على

نفسه، وقد صدقكم.

والصدوق معتمد، وإذا كانت القاعدة الاُصوليّة هي حمل المطلق على المقيّد، فإنّها تعارضها قاعدة الأصل عدم الزيادة.

على أنّ رواية الصدوق مقيّدة أيضاً برجل، والأمرد في خبر الأصفهاني وسبط لعلّه وهم من الراويّ، فإنّ أبا الفرج وسبط لا يثبتان عبّاساً أصغر، وعمر العباس الأكبر عندهما سنّه 34 سنة، فوافق حديث الصدوق، وبقي الوهم من المحدّث عن القاسم بن الأصبغ.

ص: 364

ومن المحتمل القويّ أنّ القاسم قال عن نفسه: رأيته وأنا أمرد، فظنّ الراوي أنّ المقتول كان أمرد، على أنّه من الغريب حمل الغلام على عادة العرب من إطلاقه على الكهل، كما قال النابغة الذبيانيّ للحارث بن أبي شمر ملك غسّان:

هذا غلام حسن وجهه

مقتبل العمر سريع التمام

وقالت ليلى الأخيليّة في مرثيّة توبة بن الحمير الخفاجيّ عشيقها:

غلامان كانا استوردا كلّ سورة

من المجد ثمّ استوسقا في المصادر

وهذا كثير في كلام أهل اللسان، وأمّا توصيفه بالأمرد، فليس بعزيز في كلامهم لضرب من التجوّز، فقد يطلقون الأمرد على الملتحي، إذا لم يبلغ سنّ الكهولة، كما في قصّة عين أباغ:

وأرسل المنذر الأكبر ملك الحيرة إلى الحارث الأكبر ملك غسّان: أعددت لك الكهول على الفحول، فأجابه الحارث: أعددت لك المرد على الجرد.

وليس المراد من المرد الذين لا شعر في وجوههم، بل هم الذين لم يتجاوزوا سنّ الكهولة، وهم في الدرجة القصوى من النشاط والقوّة، فإذا اُريد بالأمرد الخالي من الشعر احتاج إلى قيد، فيقال أمرد أجرد، كما حديث: أهل الجنّة مرد جرد، أو يقال: أمرد لا نبات بعارضه، فالأمرد يستعمل فيمن أنبت من الرجال مجازاً، وكلام العرب مبنيّ على التوسعة.

ص: 365

الدلالة على عبادة العباس(علیه السلام)

أمّا الدلالة على عبادة العبّاس(علیه السلام) على جهة العموم، فقد روى الشيخ المفيد في الإرشاد في أخبار الليلة العاشرة من المحرّم أنّ الحسين(علیه السلام)قام ليله كلّه يصلّي ويستغفر ويدعو ويتضرّع، وقام أصحابه كذلك يصلوّن ويدعون ويستغفرون.

وقال الطبريّ عن الصحّاك المشرقيّ: فلمّا أمسى الحسين(علیه السلام)وأصحابه قاموا الليل كلّه يصلّون ويستغفرون ويدعون ويتضرّعون.

وقال السيّد ابن طاوس في اللهوف: وبات الحسين(علیه السلام) وأصحابه تلك الليلة، ولهم دويّ كدوي النحل بين راكع وساجد وقائم وقاعد... وكلّ هذه تدلّ بعمومها على عبادة أبي الفضل(علیه السلام).

قال الشيخ المظفر :

سمياء عبّاس الشهيد بوجهه

سيما أبيه الخير والأسلاف

أثر السجود بجبهة ابن المرتضى

عنوان تقواه بغير خلاف

من معشر سيماهم بوجوههم

غرّ محجلّة من الأشراف

ولهم على الأعراف أكرم موقف

يتوسمّون دلائل الأوصاف

طوبى لمن عرفوا وويل دائم

للمنكرين من العذاب الضافي

فعلى الصراط لنا النجاة بحبهّم

ولدى الحساب ومشهد الأعراف

ص: 366

البصيرة والإيمان

البصيرة في الدين تلازم قوّة الإيمان ملازمة حقيقة لا تنفكّ عنها، لأنّ الإيمان له مراتب، فأدناها مرتبة التصديق بما جاء به النبيّ(صلی الله علیه واله) مع عدم رسوخه في النفس.

قال تعالى: )وّمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ أنَقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ( الآية.

وهذا الحرف من الإيمان، وهو الطرف والجهة الواحدة، وهي جهة الرخاء فقطّ، وأمّا سائر الجهات، وهي جهات الابتلاء والتمحيص، فلا يشكّ معها، ويزول إيمانه ويصبح كما قال الله تعالى: )خّسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ(.

والمتبصّر في دينه تامّ الإيمان من جميع جهاته، فكلّما زاد البلاء واشتّدت المحنة يزداد ثباتاً، كما قال تعالى: )وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانا وَتَسْليِما(.

فأعلا مرتبة التصديق هو التسليم لكلّ ما جاء من قبل الله، وذلك عند رسوخ العقيدة في النفس، فلذلك لا يتزعزع من كلّ شيء يضطرب منه ضعيف الإيمان، ولا يرتاب ولا يشكّ ولا يتزلزل ولو تظافرت المحن، كما قال المقداد بن عمرو لرسول الله(صلی الله علیه واله):

ص: 367

لو ضربونا - يعني قريشاً - حتّى يبلغو بنا برك الغماد لعلمنا أنّا على حقّ وهم على باطل.

وكما قال أبو اليقظان عمّار بن ياسر يوم صفّين: لو ضربونا - يعني أهل الشام - حتّى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا إنّا على حقّ وهم على باطل.

ويسمّى صاحب هذا الاعتقاد قويّ الإيمان، وصلب الإيمان، ونافذ البصيرة، ومتبصّراً في دينه، وما شاكل هذا.

وهذه المرتبة العليا من الإيمان، لأنّ مراتب الإيمان الراسخ تتفاوت شدّة وضعفاً، وإن كانت أضعفها قويّاً متمكّناً، فتكون في بعض الأشخاص أقوى منها في البعض الآخر، مع اشتراكهم جميعاًً في قوّة الإيمان، ورسوخ العقيدة، ونفوذ

البصيرة، نظير اشتراك أفراد الأبيض مع البياض مع تفاوتها في الشدةّ والضعف، وقد جاء في الحديث عن أهل البيت(علیهما السلام): الإيمان عشر درجات.

معنى الإيمان لغة:

الإيمان: هو التصديق المجرّد، حكى الله عن أولاد يعقوب بقوله: )وَمَا أَنتَ بِمُؤمنٍ لَنَا( يعني بمصدّق، ومن أسماء الله - تعالى - المؤمن، لأنّه يصدّق أنبيائه بإظهار المعجز على أيديهم في دعوى النبوّة.

قال في القاموس: آمن إيماناً صدّق، والإيمان: الثقة، وإظهار

ص: 368

الخشوع، وقبول الشريعة.

قال الشريف الجرحانيّ في التعريفات: الإيمان في اللغة التصديق بالقلب.

معنى الإيمان شرعاً:

قد فرق الله - تعالى - بين الإسلام والإيمان بقوله: )قالت الأعراب آمنا قُل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم( الآية، وقد ورد الحديث به من طريق أصحابنا عن أئمتنا: وهو كثير، ومنه ما حدّث به ثقة الإسلام الكليني في اُصول الكافي(1):

ص: 369


1- اُصول الكافي: 241.

عن سماعة قال: قلت لأبي عبد الله جعفر الصادق(علیه السلام): أخبرني عن الإسلام والإيمان أهم مختلفان؟

فقال: إنّ الإيمان يشارك الإسلام والإسلام لا يشارك الإيمان.

فقلت: فصفهما.

فقال(علیه السلام): الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله والتصديق برسول الله(صلی الله علیه واله) به حقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث، وعلى ظاهره جماعة الناس، والإيمان الهدى، وما ثبت في القلوب من صفة الإسلام، وما ظهر من العمل، والإيمان أرفع من

الإسلام بدرجة، لأنّ الإيمان يشارك الإسلام في الظاهر، والإسلام لا يشارك الإيمان في الباطن، وإن اجتمعا في القول والصفة.

وفي معناه غيره، وهو دليل على أنّ الإيمان أخصّ من الإسلام.

وعن أبي بصير عن أبي جعفر الباقر(علیه السلام) قال: سمعته يقول: )قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا( فمن زعم أنّهم آمنوا فقد كذب، ومن زعم أنهم لم يسلموا فقد كذب.

وفي حديث أبي حمزة عن الإمام الباقر(علیه السلام) المروي في الكافي لثقة الإسلام الكليني(1):

ص: 370


1- اُصول الكافي: 238.

قال(علیه السلام): بني الإسلام على خمس: على الصلاة والزكاة والصوم والحجّ والولاية، ولم ينادي بشيء كما نودي بالولاية.

ومثله حديث الفضيل عن الباقر(علیه السلام)، وزاد فيه: فأخذ الناس بأربع وتركوا واحدة - يعني الإمامة -.

أمّا حديث عجلان بن أبي صالح عن الإمام الصادق(علیه السلام) فعدّ الاُصول هكذا بنصّ الحديث:

قلت لأبي عبد الله (ع): أوقفني على حدود الإيمان!

فقال: شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمد رسول الله(صلی الله علیه واله)، والإقرار بما جاء به من عند الله، والصلوات الخمس، وأداء الزكاة، وصوم شهر رمضان، وحجّ البيت، وولاية وليّنا، وعداوة عدوّنا، والدخول مع الصادقين.

ومن أراد الزيادة فليراجع الكافي وغيره من كتب علمائنا.

البصيرة في الدين:

وهي ثمرة الإيمان، وهي كناية عن المعرفة الصادقة بحقيقة الإيمان، والإحاطة التامّة بجميع ما يقول به الدين، ويشاد به الإسلام، والاطلاع والخبرة بضلالة المضلّ وباطل المبطل.

معنى البصيرة لغة:

هي المعرفة عند أهل اللغة، قال ابن الأثير في النهاية: على بصيرة

ص: 371

أي على معرفة من أمركم ويقين.

وقال الفيروز آباديّ في القاموس: والبصيرة عقيدة القلب والفطنة...

قال فخر الدين الطريحي في مجمع البحرين(1) في قوله تعالى )قد جاءكم بصائر من ربكم((2) أي حجّة مبيّنة، واحدها بصيرة، وهي الدلالة يستبصر بها الشيء على ما هو به، وهو نور القلب كما أنّ البصر نور العين، سمّيت بها للدلالة، لأنّها تجلي القلب ويبصر بها.

إنّ للقلب عيون نورانيّة أنفذ شعاعاً من شعاع البصر، ولهذا وصفها الله تعالى بالعمى حيث قال: )فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور((3) وقال الشاعر:

قلوب العاشقين لها عيون

ترى ما لا يراه الناظرونا

وقال عبد الله الأنصاري في منازل السائرين: قال تعالى: )قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني( البصيرة ما يخلصك من الحيرة..

إيمان العبّاس بن أمير المؤمنين(علیهما السلام) وبصيرته:

هو فيهما في عداد أهل بيته:، لأنّه(علیه السلام) قد جمع كلّ الأسباب الموجبة لنفاذ البصيرة من الأخبار الصادقة عن الأئمة الطاهرين كأبيه

ص: 372


1- مجمع البحرين: 256 طبع تبريز.
2- الأنعام: 104.
3- الحجّ: 46.

وأخويه السيّدين الحسن والحسين:،

ومشاهدة المعجزة، والتفكّر في صحيفة الوجود، وصفاء النفس والكشف، فقد صحّ أنّ أصحاب الحسين(علیه السلام)كشف لهم، وليس وراء عبّادان قرية.

ويشهد له الإمام جعفر الصادق(علیه السلام)فيما رواه السيّد الداودي وغيره ولفظه في عمدة الطالب:

قال الصادق جعفر بن محمد(علیهما السلام): كان عمّنا العبّاس بن عليّ(علیهما السلام) نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد مع أبي عبد الله(علیه السلام) وأبلى بلاء حسناً ومضى شهيداً، ودم العبّاس(علیه السلام) في بني حنيفة..

وقوله(علیه السلام) في زيارته التي رواها ابن قولويه في كامل الزيارة:

((أشهد أنّك لم تهن ولم تنكل وأشهد أنّك مضيت على بصيرة من دينك مقتدياً بالصالحين ومتبعاً للنبيين))..

وقد بلغ العبّاس بن أمير المؤمنين(علیه السلام) الدرجة العليا للإيمان، لأنّ الإمام(علیه السلام) أثبت له أمرين: قوّة الإيمان والبصيرة، وأثبت هو لنفسه - كما عرفت في ما مضى - درجة صدق اليقين، وسرى الإيمان في جميع جوارحه، وأنبثّ في عامة أعضائه، وخالط لحمه ودمه، واستغرق في حبّ الله - تعالى - وفنى إحساسه في حبّ الذات الصمديّة، فليس يرى في الوجود إلاّ الله، ولا يشعر بغير كمالاته - تعالى -، فإنّ الحبّ الصحيح يوجب الاستغراق، ويستولي على كيان الشعور، ويستلب المشاعر والحواسّ.

وفي بسط الإيمان على الجوارح حديثان رواهما الكلينيّ في الكافي

ص: 373

أحدهما عن أبي عمرو الزبيريّ عن الإمام الصادق(علیه السلام)(1).

ص: 374


1- في الكافي: 2/34 ح1: عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ بَكْرِ بْنِ صَالِحٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ بُرَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو الزُّبَيْرِيُّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالَ: قُلْتُ لَهُ: أَيُّهَا الْعَالِمُ أَخْبِرْنِي أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا لَا يَقْبَلُ اللَّهُ شَيْئاً إِلَّا بِهِ قُلْتُ: وَ مَا هُوَ؟ قَالَ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَعْلَى الْأَعْمَالِ دَرَجَةً وَ أَشْرَفُهَا مَنْزِلَةً وَ أَسْنَاهَا حَظّاً قَالَ: قُلْتُ: أَلَا تُخْبِرُنِي عَنِ الْإِيمَانِ أَقَوْلٌ هُوَ وَ عَمَلٌ أَمْ قَوْلٌ بِلا عَمَلٍ؟ فَقَالَ: الْإِيمَانُ عَمَلٌ كُلُّهُ وَ الْقَوْلُ بَعْضُ ذَلِكَ الْعَمَلِ بِفَرْضٍ مِنَ اللَّهِ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ وَاضِحٍ نُورُهُ ثَابِتَةٍ حُجَّتُهُ يَشْهَدُ لَهُ بِهِ الْكِتَابُ وَ يَدْعُوهُ إِلَيْهِ، قَالَ: قُلْتُ صِفْهُ لِي جُعِلْتُ فِدَاكَ حَتَّى أَفْهَمَهُ. قَالَ: الْإِيمَانُ حَالَاتٌ وَ دَرَجَاتٌ وَ طَبَقَاتٌ وَ مَنَازِلُ فَمِنْهُ التَّامُّ الْمُنْتَهَى تَمَامُهُ وَ مِنْهُ النَّاقِصُ الْبَيِّنُ نُقْصَانُهُ وَ مِنْهُ الرَّاجِحُ الزَّائِدُ رُجْحَانُهُ. قُلْتُ: إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَتِمُّ وَ يَنْقُصُ وَ يَزِيدُ؟ قَالَ نَعَمْ، قُلْتُ: كَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى فَرَضَ الْإِيمَانَ عَلَى جَوَارِحِ ابْنِ آدَمَ وَ قَسَّمَهُ عَلَيْهَا وَ فَرَّقَهُ فِيهَا فَلَيْسَ مِنْ جَوَارِحِهِ جَارِحَةٌ إِلَّا وَ قَدْ وُكِّلَتْ مِنَ الْإِيمَانِ بِغَيْرِ مَا وُكِّلَتْ بِهِ أُخْتُهَا فَمِنْهَا قَلْبُهُ الَّذِي بِهِ يَعْقِلُ وَ يَفْقَهُ وَ يَفْهَمُ وَ هُوَ أَمِيرُ بَدَنِهِ الَّذِي لَا تَرِدُ الْجَوَارِحُ وَ لَا تَصْدُرُ إِلَّا عَنْ رَأْيِهِ وَ أَمْرِهِ وَ مِنْهَا عَيْنَاهُ اللَّتَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا وَ أُذُنَاهُ اللَّتَانِ يَسْمَعُ بِهِمَا وَ يَدَاهُ اللَّتَانِ يَبْطِشُ بِهِمَا وَ رِجْلَاهُ اللَّتَانِ يَمْشِي بِهِمَا وَ فَرْجُهُ الَّذِي الْبَاهُ مِنْ قِبَلِهِ وَ لِسَانُهُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ وَ رَأْسُهُ الَّذِي فِيهِ وَجْهُهُ فَلَيْسَ مِنْ هَذِهِ جَارِحَةٌ إِلَّا وَ قَدْ وُكِّلَتْ مِنَ الْإِيمَانِ بِغَيْرِ مَا وُكِّلَتْ بِهِ أُخْتُهَا بِفَرْضٍ مِنَ اللَّهِ تَبَارَكَ اسْمُهُ يَنْطِقُ بِهِ الْكِتَابُ لَهَا وَ يَشْهَدُ بِهِ عَلَيْهَا فَفَرَضَ عَلَى الْقَلْبِ غَيْرَ مَا فَرَضَ عَلَى السَّمْعِ وَ فَرَضَ عَلَى السَّمْعِ غَيْرَ مَا فَرَضَ عَلَى الْعَيْنَيْنِ وَ فَرَضَ عَلَى الْعَيْنَيْنِ غَيْرَ مَا فَرَضَ عَلَى اللِّسَانِ وَ فَرَضَ عَلَى اللِّسَانِ غَيْرَ مَا فَرَضَ عَلَى الْيَدَيْنِ وَ فَرَضَ عَلَى الْيَدَيْنِ غَيْرَ مَا فَرَضَ عَلَى الرِّجْلَيْنِ وَ فَرَضَ عَلَى الرِّجْلَيْنِ غَيْرَ مَا فَرَضَ عَلَى الْفَرْجِ وَ فَرَضَ عَلَى الْفَرْجِ غَيْرَ مَا فَرَضَ عَلَى الْوَجْهِ. فَأَمَّا مَا فَرَضَ عَلَى الْقَلْبِ مِنَ الْإِيمَانِ فَالْإِقْرَارُ وَ الْمَعْرِفَةُ وَ الْعَقْدُ وَ الرِّضَا وَ التَّسْلِيمُ بِأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ إِلَهاً وَاحِداً لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَ لَا وَلَداً وَ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ ص وَ الْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنْ نَبِيٍّ أَوْ كِتَابٍ فَذَلِكَ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى الْقَلْبِ مِنَ الْإِقْرَارِ وَ الْمَعْرِفَةِ وَ هُوَ عَمَلُهُ وَ هُوَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً وَ قَالَ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ وَ قَالَ الَّذِينَ آمَنُوا بِأَفْوَاهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَ قَالَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ فَذَلِكَ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ عَلَى الْقَلْبِ مِنَ الْإِقْرَارِ وَ الْمَعْرِفَةِ وَ هُوَ عَمَلُهُ وَ هُوَ رَأْسُ الْإِيمَانِ. وَ فَرَضَ اللَّهُ عَلَى اللِّسَانِ الْقَوْلَ وَ التَّعْبِيرَ عَنِ الْقَلْبِ بِمَا عَقَدَ عَلَيْهِ وَ أَقَرَّ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَ قَالَ وَ قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ إِلهُنا وَ إِلهُكُمْ واحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَهَذَا مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى اللِّسَانِ وَ هُوَ عَمَلُهُ. وَ فَرَضَ عَلَى السَّمْعِ أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنِ الِاسْتِمَاعِ إِلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَ أَنْ يُعْرِضَ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَهُ مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ عَنْهُ وَ الْإِصْغَاءِ إِلَى مَا أَسْخَطَ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ فَقَالَ فِي ذَلِكَ وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ثُمَّ اسْتَثْنَى اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ مَوْضِعَ النِّسْيَانِ فَقَالَ وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَ قَالَ فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ وَ قَالَ عَزَّ وَ جَلَّ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ وَ قَالَ وَ إِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَ قالُوا لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَ قَالَ وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً فَهَذَا مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى السَّمْعِ مِنَ الْإِيمَانِ أَنْ لَا يُصْغِيَ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ وَ هُوَ عَمَلُهُ وَ هُوَ مِنَ الْإِيمَانِ. وَفَرَضَ عَلَى الْبَصَرِ أَنْ لَا يَنْظُرَ إِلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْ يُعْرِضَ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِمَّا لَا يَحِلُّ لَهُ وَهُوَ عَمَلُهُ وَ هُوَ مِنَ الْإِيمَانِ فَقَالَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ فَنَهَاهُمْ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى عَوْرَاتِهِمْ وَ أَنْ يَنْظُرَ الْمَرْءُ إِلَى فَرْجِ أَخِيهِ وَ يَحْفَظَ فَرْجَهُ أَنْ يُنْظَرَ إِلَيْهِ وَ قَالَ وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ مِنْ أَنْ تَنْظُرَ إِحْدَاهُنَّ إِلَى فَرْجِ أُخْتِهَا وَ تَحْفَظَ فَرْجَهَا مِنْ أَنْ يُنْظَرَ إِلَيْهَا وَ قَالَ كُلُّ شَيْ ءٍ فِي الْقُرْآنِ مِنْ حِفْظِ الْفَرْجِ فَهُوَ مِنْ الزِّنَا إِلَّا هَذِهِ الْآيَةَ فَإِنَّهَا مِنَ النَّظَرِ. ثُمَّ نَظَمَ مَا فَرَضَ عَلَى الْقَلْبِ وَ اللِّسَانِ وَ السَّمْعِ وَ الْبَصَرِ فِي آيَةٍ أُخْرَى فَقَالَ وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ يَعْنِي بِالْجُلُودِ الْفُرُوجَ وَ الْأَفْخَاذَ وَ قَالَ وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا فَهَذَا مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى الْعَيْنَيْنِ مِنْ غَضِّ الْبَصَرِ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ وَ هُوَ عَمَلُهُمَا وَ هُوَ مِنَ الْإِيمَانِ. وَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى الْيَدَيْنِ أَنْ لَا يَبْطِشَ بِهِمَا إِلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَ أَنْ يَبْطِشَ بِهِمَا إِلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ وَ فَرَضَ عَلَيْهِمَا مِنَ الصَّدَقَةِ وَ صِلَةِ الرَّحِمِ وَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الطَّهُورِ لِلصَّلَاةِ فَقَالَ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَ قَالَ فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها فَهَذَا مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى الْيَدَيْنِ لِأَنَّ الضَّرْبَ مِنْ عِلَاجِهِمَا. وَفَرَضَ عَلَى الرِّجْلَيْنِ أَنْ لَا يَمْشِيَ بِهِمَا إِلَى شَيْ ءٍ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ وَ فَرَضَ عَلَيْهِمَا الْمَشْيَ إِلَى مَا يُرْضِي اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ فَقَالَ وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا وَ قَالَ وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ وَ قَالَ فِيمَا شَهِدَتِ الْأَيْدِي وَ الْأَرْجُلُ عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَ عَلَى أَرْبَابِهِمَا مِنْ تَضْيِيعِهِمَا لِمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ بِهِ وَ فَرَضَهُ عَلَيْهِمَا الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ فَهَذَا أَيْضاً مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى الْيَدَيْنِ وَ عَلَى الرِّجْلَيْنِ وَ هُوَ عَمَلُهُمَا وَ هُوَ مِنَ الْإِيمَانِ. وَفَرَضَ عَلَى الْوَجْهِ السُّجُودَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهَارِ فِي مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ فَقَالَ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فَهَذِهِ فَرِيضَةٌ جَامِعَةٌ عَلَى الْوَجْهِ وَ الْيَدَيْنِ وَ الرِّجْلَيْنِ وَ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً. وَقَالَ فِيمَا فَرَضَ عَلَى الْجَوَارِحِ مِنَ الطَّهُورِ وَ الصَّلَاةِ بِهَا وَ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ لَمَّا صَرَفَ نَبِيَّهُ (صلی الله علیه واله)إِلَى الْكَعْبَةِ عَنِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ فَسَمَّى الصَّلَاةَ إِيمَاناً. فَمَنْ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ حَافِظاً لِجَوَارِحِهِ مُوفِياً كُلُّ جَارِحَةٍ مِنْ جَوَارِحِهِ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ عَلَيْهَا لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ مُسْتَكْمِلًا لِإِيمَانِهِ وَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَ مَنْ خَانَ فِي شَيْ ءٍ مِنْهَا أَوْ تَعَدَّى مَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ فِيهَا لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ نَاقِصَ الْإِيمَانِ. قُلْتُ: قَدْ فَهِمْتُ نُقْصَانَ الْإِيمَانِ وَ تَمَامَهُ فَمِنْ أَيْنَ جَاءَتْ زِيَادَتُهُ؟ فَقَالَ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ قَالَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً، وَ لَوْ كَانَ كُلُّهُ وَاحِداً لَا زِيَادَةَ فِيهِ وَ لَا نُقْصَانَ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فَضْلٌ عَلَى الْآخَرِ، وَ لَاسْتَوَتِ النِّعَمُ فِيهِ، وَ لَاسْتَوَى النَّاسُ وَ بَطَلَ التَّفْضِيلُ، وَ لَكِنْ بِتَمَامِ الْإِيمَانِ دَخَلَ الْمُؤْمِنُونَ الْجَنَّةَ، وَ بِالزِّيَادَةِ فِي الْإِيمَانِ تَفَاضَلَ الْمُؤْمِنُونَ بِالدَّرَجَاتِ عِنْدَ اللَّهِ وَ بِالنُّقْصَانِ دَخَلَ الْمُفَرِّطُونَ النَّارَ.

ص: 375

ص: 376

قال الشيخ المظفر :

إيمان شبل عليّ ظاهر الأثر

للناظرين ما قد جاء في الخبر

بأنّه صلب إيمانٍ بصيرته

في الدين نافذة أكرم بخير سري

فدى الحسين بنفس لا مثيل لها

بعد الأئمة والسادات للبشر

ص: 377

مطهّر النفس من عيب يدنسها

مقدّم في سبيل الخير ذا أثر

أبوه أكرم خلق الله قاطبة

بعد النبي المعلى خيرة الخير

به افتخار بني عدنان قاطبة

على بني يعرب إذ كان من مضر

وشبله السيّد العبّاس موقفه

بالغاضرية فيه خير مفتخر

فيا له موقف تبقى فضائله

ما دام يمشي على الغبراء من بشر

وراحل لجنان الخلد جهّز من

جند ابن ميسون آلافاً إلى سقر

لولا الكمين الذي أردى بساعده

لم يبقى حيّاً يحامي قطّ عن عمر

برى الكمين يديه والعدى أحتوشوا

ذاك الكمي احتواش السغب للجزر

آداب العبّاس الأكبر(علیه السلام)

معنى الأدب في اللغة:

قال الفيروزآبادي في القاموس: الأدب - محرّكة - الطريق وحسن التناول، أدب كحسن أدباً فهو أديب، وأدبته كعلمته فتأدب وأستأدب..

وهذا المعنى هو المتداول عند عامّة الناس تجدهم يقولون للوقح الجريء والبذيء المتفحش: تأدّب واستأدب، ويوصون الصغير والعامّي فيقولون: تأدّب مع الكبير ومع العالم، أي الزم ناحيته في الهدوء والسكون والكلام المحمود وفي الجلوس وأمثالها.

قال الفيومي في المصباح المنير: أدّبته أدباً من باب ضرب علّمته

ص: 378

رياضة النفس ومحاسن الأخلاق.

وقال أبو زيد الأنصاري: الأدب يقع على كلّ رياضة محمودة يتخرّج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل، والجمع آداب.

وقال الجواليقي في شرح أدب الكاتب(1): فالأدب الذي كانت العرب تعرفه هو ما يحسن من الأخلاق وفعل المكارم، مثل ترك السفه، وبذل المجهود، وحسن اللقاء.

أنواع الأدب:

لكلّ طائفة من طوائف الإسلام وفرقهم اصطلاح خاصّ في الأدب، وبهذا يتنوّع الأدب إلى أنواع ثلاثة:

الأدب العربي:

ويطلق في مصطلح أهل اللسان على جميع العلوم المأخوذة عن قدماء العرب

التي هي لسانهم، كاللغة والنحو والصرف والاشتقاق والمعاني والبيان والبديع وأوزان الشعر وأمثالها، وقد يطلق الأدب ويراد به ديوان العرب، وهو الشعر والقوافي خاصّة، وهذه العلوم تكون داخلة فيه، لأنّه بها يسمّى شعراً، وإطلاق الأدب على الشعر لفظ مولّد فيما قاله الخفاجي في شفاء الغليل.

ص: 379


1- شرح أدب الكاتب: 13.

الأدب الشرعي:

وهو مصطلح المتشرعة من علماء الدين عبارة عن الأخذ بالفرائض والسنن الثابتة في الشريعة النبوية والمأثورة عن أئمة أهل البيت: وتهذيب النفس عن رذائل الأخلاق التي نهى عنها الشارع، كما في وصيّة النبي(صلی الله علیه واله)لأمير المؤمنين(علیه السلام) ولأبي ذر الغفاري، ووصيّه أمير المؤمنين(علیه السلام) لولديه الحسن الزكي ومحمد بن الحنفية وأمثال ذلك، وتثقيف النفس بمحاسن الصفات التي ندب الشارع المقدّس إليها، ويجمع هذه ألآداب أمران: فعل ما رغب فيه، وترك ما نهى عنه.

الأدب العرفاني:

وأهل العرفان قسمان: قسم هم أهل الطريقة، وهم أرباب التصوّف والتقشّف التصنّعي، ومسلكهم وعر في الآداب بحمل المريد على طريقتهم في اُمور ابتدعوها أكثرها موافقة لمذاهب أهل الحلول من صوفيّة الفلاسفة وتناسخيتهم، ويزعمون أنّها ثبتت لديهم بطريق الكشف والشهود.

وقسم هم أهل الحقيقة، وهم النسّاك وأهل الزهد حقيقة، والمتورّعون الأتقياء، لم يسلكوا مسالك الصوفية، ولم يتّخذوا التقشّف طريقة، ولم يزعموا أنّ الغيبة والشهود أحوالاً، بل مسلكهم اقتفاء طريقة الشارع المقدّس، واقتباسهم التهذيب النفسيّ من شريعة سيّد

ص: 380

المرسلين(صلی الله علیه واله) ومنهاج الأئمة المعصومين:، فالآداب عندهم ما جاءت به الشريعة المحمدية، كترك ما لا يعنيه من الفضول قولاً وفعلاً، وتحمّل ما يقدر عليه تكليفاً، واجتناب ما لا يجوز شرعاً، فهذه الطريقة العرفانية من هذا الوجه تتّفق مع الأدب الشرعي، ومن فسّره إنما فسّره على الطريقة الأولى، فلذلك افترق عن الأدب الشرعي.

آداب أبي الفضل العباس بن أمير المؤمنين

قد جمع(علیه السلام) هذه الأنواع من الأدب التي أشرنا إليها جميعاًً، وهي الأدب العلمي الذي هو فن المنظوم والمنثور من الكلام العربي، والأدب الشرعي الذي هو عبارة عن المحافظة على ما ورد في الشرع، والأدب الروحاني العرفاني وهو عبارة عن تهذيب النفس عن ذميم الأخلاق، ومراعاة حقوق الاحترام لأهل الرفعة والمنصب السامي، وقد استبان ممّا سبق تفوّقه في الأدب العلمي والشرعي والعرفاني فيما ذكرناه من علومه وعبادته.

وأمّا أدبه السلوكي ففي سلوكه الأدبي الذي ظهر في صحبته لأخيه الإمام الحسين(علیه السلام) فسلوك الأبرار، وطريقته طريقة الصلحاء الأخيار، قد قضى حياته معه لا يردّ عليه قولاً، ولا يعارضه في فعل، وإذا أمره مضى لأمره، وإذا وجهه في مهمّ لا يبرم أمراً ولا ينقضه حتّى يطالع قوله ويحيل ذلك إليه قبولاً وردّاً.

ولم يخاطبه مدّة حياته إلا بقوله: سيّدي أو يا بن رسول الله،

ص: 381

وما جرى مجراهما من المخاطبات الدالّة على الاحترام، ويعرض كثيراً عن الخطاب بالإخوة، وإن نطق بها أحياناً، لعلمه أنّها تشعر بالكفاءة، وإنها ممّا يخاطب بها الأكفاء الأكفاء، فيصلح مثل ذلك للحسين(علیه السلام) في خطاب الحسن(علیه السلام)، أمّا من عداهما من ولد علي(علیه السلام) فلا يخاطبهما بمثل هذا الخطاب المشعر بالمكافأة والمساواة، وإنما يصلح لهم من باب الأدب أن يخاطبوهما بخطاب العبد للمولى والمسود للسيّد، ولا كفوء للحسين(علیه السلام) في نظر العباس(علیه السلام) وإن كان هو أخوه النسبي وابن أبيه، لكنّه كان يجلّه ويحترمه ويرى أنّه سيّده وإمامه وابن رسول الله(صلی الله علیه واله)، فيرى أنّ هذا هو الأصوب والأوفق لذلك.

كان لا يخاطبه إلا سيّدي يا بن رسول الله(صلی الله علیه واله) أو يكنّيه بأبي عبد الله أو ما شابه ذلك، إلا في موارد الحنان والإشفاق حيث خاطبه عند آخر نقطة من حياته، وقرب الوقت الذي لفظ فيه نفسه الزكية، وذلك عند سقوطه على شاطيء العلقمي مقطوع اليدين مفضوخ الهامة، والسهم قد شكّ عينه، فنادى: السلام عليك يا أبا عبد الله أدركني يا أخي!

هذه كلمة الحنان الدافئة، التي كان الحسين(علیه السلام) يشتهي أن يسمعها من أخيه أبي الفضل، يا للأسف إنها قارنت الأحزان الموجعة لقلب الحسين(علیه السلام)، وقد كان يودّ سماعها مقترنة بالمسرّة والابتهاج، لأنّ هذا الأخ المصافي والشقيق المهذّب إذا خاطب الأخ العظيم المحترم في بعض الآنات بلفظ الأخوة، فإنّه يلتذّ ويشتاق لسماعها، ففاه أبو الفضل بهذه

ص: 382

الكلمة عندما أزف على فراقه، وإن خلى بعض المقاتل عن ذكرها، لكن المعروف إنّه قال: أدركني يا أخي، مع قوله: يا أبا عبد الله ويا بن رسول الله، فروى كلّ ما وصل إليه.

ويدلّ على أدب العباس(علیه السلام) القصّة التاريخية المشهورة وقد رواها جماعة منهم الشيخ المفيد والطبري في التاريخ، وهي قصّة زحف عسكر ابن سعد على الحسين(علیه السلام) عصر الخميس نهار التاسع من المحرم، وإن الحسين(علیه السلام) أرسل العباس بن علي(علیهما السلام) إليهم ليعرف أمرهم، وأنّهم أخبروه أنّهم يريدون نزول الحسين(علیه السلام)على حكم ابن زياد أو قتله، والعباس يعلم أنّ الحسين(علیه السلام) لا ينزل على حكم الدعي، لكنّه سلك طريق الأدب مع أخيه الحسين(علیهما السلام) فلم يقل: إنّه لا ينزل على حكم ابن زياد، بل قال لهم: لا تعجلوا حتّى ارجع إليه وأخبره بما ذكرتم.

هذا ما رواه المفيد والطبري، لقد سلك طريق الأدب بأنّه لم يجب على حسب علمه حتّى رجع إلى أخيه الحسين(علیهما السلام) وأخبره، وخذ القصّة بتفصيلها من التاريخ.

وهذه مرتبة عظيمة من مراتب الأدب السلوكي تدلّ على معرفة محكمة بحقّ الإمام.

ص: 383

ويقول صاحب معالي السبطين: إنّه ما كان يجلس بين يدي الحسين(علیه السلام) إلا بإذنه، كان له كالعبد الذليل بين يدي المولى الجليل ممتثلاً لأوامره ونواهيه، مطيعاً له، وكان له كما كان أبوه لرسول الله(صلی الله علیه واله)، ومن تأدبه لم يكن يخاطب الحسين(علیه السلام)إلا ويقول له: يا سيّدي، يا أبا عبد الله، يا بن رسول الله، وما كان يخاطبه بالأخوة - قيل - مدّة عمره إلا مرّة واحدة خاطب الحسين(علیه السلام) بالأخوة، وهي الساعة التي ضربوه بالعمود...

وليس الأمر كما ذكر، بل خاطبه قبلها بأخي، كما في القصّة التي أشرنا إليها من حديث زحف القوم، وإنّه قال: يا أخي! أتاك القوم، حسبما رواه المفيد والطبري وغيرهما، لكنّه قليل بالنسبة إلى سائر المقامات، فإنّ سلوكه بها بخطاب التعظيم له.

قال الشيخ المظفر :

آداب شبل علي أفضل الأدب

في الدين موروثة عن سادة العرب

عن الوصي علي وهو والده

وسيّد الرسل طه خير منتجب

وإنّما أفضل الآداب ما أخذت

تعلّماً عن وصي صادق ونبي

ما قال للسبط إلا سيّدي أبداً

ولم يقل يا أخي يوماً ويا بن أبي

إلا قليلاً ومنها عند مصرعه

نادى أخي ونداه واضح السبب

أراد يوفيه حقّاً للأخوة لم

يفصح به قبل ذا في سالف الحقب

فظنّها حسرة تبقى بمهجته

وما له بسواها قطّ من إرب

ورام تجديد عهد بالحسين وقد

حمّ الفراق وجدّ الموت في الطلب

ص: 384

فجاءه السبط بادي الحزن مكتئباً

يكفكف الدمع بالكمين ذا كرب

ألفاه مثل هلال خرّ من أفق

تذري الرياح عليه سافي الترب

أهوى عليه ودمع العين منحدر

مثل الجمان على خدّين كالذهب

نادى أبا الفضل من يحمي حماك ومن

يحمل لواك فقم يا فارس العرب

ولم يزل عنده حتّى قضى فمضى

نحو المخيم بادي الحزن والنصب

فاستقبلته بنات الوحي صارخة

هاذي تقول أخي قل لي وتلك أبي

أين الذي كان مأوانا ومؤلنا

ومن يجود لنا بالبارد العذب

فاستعبر السبط حزناً حين قال قضى

يا زينب البطل المغوار فاحتسبي

فحسبي الله قالت والدموع جرت

مثل السحاب بهطّال ومنسكب

لكن سكينة قالت من تلهّفها

خذني إليه ليسقيني من العذب

صبراً سكين فأمر الله ليس له

من دافع إنّه قد خطّ في الكتب

وإنّني لاحق فيه ومرتحل

إلى الجنان لجدّي المصطفى وأبي

ألا استعدّي لذلّ الأسر واعتمدي

على السباء وهتك الستر والسلب

وقال الشيخ المظفر أيضاً:

بدم الشهادة لا بحبر خطّ في

غرر المعالي للتحرّر أسطرا

عباس نهضته الوحيدة منهج

للناهضين ومن يروم تحرّرا

قد باع أغلى ما لديه على العلا

هي نفسه وبها المفاخر قد شرى

هو مصلح من مصلحين ومرشد

من مرشدين وفيهموا صلح الورى

والدين دين العدل حقّاً دينهم

والحقّ مثل الصبح لما أسفر

ص: 385

دين الهداية لا الغواية دينهم

ما كان هذا الدين ديناً مفترى

ضربوا خراطيم الغواة وأرجعوا

ما زاغ للإسلام فاعتدل السرى

لكن أمية لم يرقها كسرهم

هبلاً ولا آساف في أمّ القرى

كتمت نواياها لحقن دمائها

وجميع من رام النفاق تستّرا

خافوا سيوف محمد ووصيّه

إذ كن يمطرن النجيع الأحمرا

أخفوا تحرّقهم حذاراً إذ رأوا

هبلاً كآنية الزجاج مكسّرا

حتّى إذا امتلكوا الخلافة عنوة

ونزوا على الأعواد أبدوا المنكرا

فتكشفت أستارهم مذ أعلنت

أسرارهم بغض النبي مكبرا

وأعانهم من لم يشايع أحمدا

إلا رياء أو نفاق أو مرا

حتّى يقول الساخطون لدينه

ما كان وحي ذاك قول مفترى

فتجمّعوا وتحزّبوا وتعاقدوا

أن لا يلي أمر الخلافة حيدرا

لم يكفهم غصب الوصي حقوقه

وله الخلافة بالنصوص بلا مرا

حتّى رموا قلب الزكي بشربة

للسمّ ذاب بها الحشا فتفسّرا

ثم استجاشوا للحسين بكربلاء

ملء الفضا جنداً عليه وعسكرا

ذادوه من ماء الفرات وورده

مهر اُمّه عنده يذاد تجبّرا

قتلوه عطشاناً وأجروا خيلهم

عدوا عليه وغادروه بالعرا

ص: 386

الفصل الثالث : فی مقتله (علیه السلام) و فی ذکر وظائفه،وبعض الخطط الحربیة و مدفنه و کرامته

اشارة

ص: 387

منزلة أبي الفضل العباس(علیه السلام) عند الله تعالى

لا ريب أنّ المنزلة تكون بنيل الفضيلة ونيل الفضيلة عند الله تكون بالطاعة له، وتعلو المنزلة وتسمو الفضيلة بصحّة الاعتقاد وخلوصه وبكثرة الأعمال الخيرية، فكلّما كان الإنسان حريصاً على تحصيل الفضل، مجتهداً في الطاعة، كثير الخيرات، يكون عند الله عظيم المنزلة، كبير الفضيلة، سامي الدرجة، عالي المرتبة..

والفضيلة عند الله تزداد كلّما ازدادت أعمال الإنسان الخيرية، وأكثر من اكتساب الأعمال الصاحلة.

الولاية والتسليم والبراءة

وأهمّ تلك الأعمال عند الله تعالى الولاية والتسليم لأئمة الحقّ الذين فرض الله طاعتهم، والبراءة من أعدائهم، والعبادة بأنواعها لقوله تعالى: )وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون(، فأخبر سبحانه أنّه لم

ص: 388

يخلقهم سواماً مهملين، ولا بهائم مرسلين، همّهم الدنيا، منهمكون في لذّاتها الفانية، متكالبين على نعيمها البائد، واثقين بظلّها الزائل.

أمّا أبو الفضل العباس(علیه السلام) ففي الصفّ الأوّل من صفوف المتّقين، وفي الطليعة المتقدّمة من طلائع المتعبّدين، ومن أعلام الرافضين للدنيا التاركين لزبرجها، ومن عيون الأوّابين المتألهين الدائبين في العبادة، والمواظبين على أعمال البرّ والطاعة، والمسارعين إلى مرضاة الله واكتساب رضوانه في السرّ والعلانية.

الجهاد

والجهاد على الدين لقوله تعالى: )إنّ الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا((1) وقوله: )فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسم على القاعدين درجة((2) إلى غيرهما .

وأبو الفضل(علیه السلام) في هذه الفضيلة أثره بارز، ومقامه فيها مشهور في الأجيال كلّها، ويميّز بهذا الجهاد على سائر المجاهدين بثباته وإقدامه، وبحسن نيّته وإخلاصه، وقد أحسن راثيه بقوله له:

لك موقف بالطفّ أنسى أهله

حرب العراق بملتقى صفين

ص: 389


1- الصف: 4.
2- النساء: 95.

تعليم الجاهل

وتعليم الجاهل وإرشاد من ضلّ طريق الهداية وزاغ عن القصد لقوله تعالى: )والذين جاهدوا فينا لنهديهم سُبُلنا((1)، وهذه المجاهدة ليست المجاهدة البدنية، بل الدعاية إلى الدين وإيضاح محاسنه، وهي عبارة عن تعليم الجاهل وإرشاد الضال، وإقناع الزائغ بالوعظ والإرشاد، وبثّ الخطب النافعة وإلقاء الكلمات المؤثرة الجذابة المتضمّنة للترغيب والترهيب، المشوقة للجنان المزخرفة، المحذّرة من النيران المسجّرة، وتذكير الإنسان الغافل عن نعم الله تعالى بإيقاظه إلى ما ناله من العافية في الدين والدنيا، والسلامة من الفتن والأراجيف المضرّة، وإلفات نظر هذا الإنسان الطائش المنتشي بنشوة الجهل بمواقع إفضال الله الوفيرة وآلائه الدارة ونعمه المغدقة عليه، ليرى ما سخّر الله له من الموجودات الكائنة على السواء الحيّة منها والجماد، وهذا ما أخذه الله على العلماء.

وفي الحديث النبوي:

إذا تظافرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه وإلا فعليه لعنه الله.

ومعناه وجوب القيام بالوعظ والتذكير والإنذار والتحذير ومقاومة الضلالات وقمع البدع، وعلى مثل ذلك أرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين، وأنزل الكتب السماوية مفسّرة لذوي العقول غوامض

ص: 390


1- العنكبوت: 69.

المشكلات، ولا يجهل محلّ أبي الفضل(علیه السلام) في هذه المسألة، وقد ذكرنا فيما تقدّم بعض مقاماته في وعظ الأعداء.

التقوى

والتقوى لقوله الله تعالى: )ولباس التقوى ذلك خير((1)، وقوله تعالى: )إن أكرمكم عن الله أتقاكم((2)، ولم يزيّن الله العباد بزينة أفضل من التقوى، كما هو نصّ الحديث النبوي.

وفي الاُولى ردّ على المفتخرين بالملابس الفاخرة المتباهين بالكسوة الثمينة.

وفي الآية الثانية ردّ على المفتخر بالآباء والأسلاف دون الأعمال الصالحة المستغني عن كرم الفعل بكرم الأصل.

ويروي لمولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب8:

لعمرك ما الإنسان إلا ابن دينه

فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب

لقد رفع الإسلام سلمان فارس

وقد وضع الشرك النسيب أبا لهب

الزهد

والزهد في الدنيا والعزوف عن مقتنياتها وترك نفائسها المنقصة التي

ص: 391


1- الأعراف: 26.
2- الحجرات: 13.

يسمونها بالكماليات إيثاراً للآخرة على الاُولى، علماً منه بأنّ الله تعالى جعل نصيب المؤمن الأوفر في وفوده عليه لقوله تعالى: )وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك

ربك فترضى((1)، وقوله تعالى: )ومن كان يريد حرث الدنيا نوته منها وما له في الآخرة من نصيب((2).

فالعاقل لا يترك نصيب الآخرة الوافر لنصيب الدنيا الناقص.

الصبر

والصبر بأنواعه لقوله تعالى: )ومن يتق الله يجعل له مخرجا((3)، وقوله تعالى: )إن الله مع الصابرين((4).

ومن كان الله معه، فقد رفع منزلته، وقد عرفت صبر العباس(علیه السلام) فيما سبق.

الشكر

ص: 392


1- الضحى: 4.
2- الشورى: 20.
3- الطلاق: 2.
4- البقرة: 153.

والشكر لقوله تعالى: )وسنجزي الشاكرين((1).

الإحسان

والإحسان بأنواعه، وهو أيضاً بجمع أنواع الخيرات، قال الله تعالى: )إن الله يأمر بالعدل والإحسان((2)، وقال تعالى: )إنا لا نُضيعُ أجر من أحسن عملاً((3).

اليقين

واليقين، قال الله تعالى: )واعبد ربك حتّى يأتيك اليقين(.. إلى غير ذلك من الفضائل الدينية..

وقد اتصف بكلّ هذه الصفات، وتحلّى عامّة هذه الفضائل أبو الفضل العباس(علیه السلام)، كما حاز غيرها من صفات الكلام وقد تقدّم.

وجوه منزلته عند الله

فكان له من مجموع هذه عند الله منزلة عظيمة ومقام أسمى، والفضل

ص: 393


1- آل عمران: 145.
2- النحل: 90.
3- الكهف: 30.

الذي له عند الله يقع من وجهين:

المنزلة والدرجة في الجنان

من حيث المنزلة والدرجة في الجنان العالية، وهذا ما تتباهى به هناك عباد الله الصالحون وأوليائه العاملون، فهم يتفاخرون فيما حبوا به من الكرامات، لأنّ الله - تعالى - يمنحهم الكرامة مقابلة للعمل الصالح وجزاء للطاعة، ويحبوهم تفضّلاً أضعاف ما استحقّوه بالعمل، وقد نصّ على ذلك حديث الإمام زين العابدين(علیه السلام) السابق: ((إنّ لعمّي العباس درجة بغيطه بها جيمع الشهداء)).

الحياة الخالدة

ومن حيث الحياة الخالدة حياة الذكرى الجميلة وهذه من ناحيتين:

الحياة البرزخية

الحياة البرزخية، لقوله تعالى )ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون((1)، وليس المراد بالحياة في هذه الآية إلا الحياة في البرزخ، وإلا لما كانت فضيلة للشهداء إذ أنّ الحياة الكبرى للحساب، واستيفاء المثوبة والعقوبة تشترك فيها الأتقياء

ص: 394


1- آل عمران: 169.

والأشقياء، ويتساوى فيها الصالح والطالح، وقد قال الله تعالى

في المعذبين في النار )كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها((1)، وقوله تعالى )لا يموت فيها ولا يحيى((2).

والآيات كثيرة وناصّة على هذا وناطقة صراحة بحياة الكافرين في محاورتهم للملائكة واستغاثتهم وطلبهم الماء من أهل الجنّة، وغير ذلك ممّا لو استقصيناه لأسهبنا.

ولولا هذه الحياة في المحشر لما كان لكثرة الثواب وشدّة العذاب الذي أوعد الله بها عباده وجعلهما جزاء للطاعة والمعصية من فائدة، إذ الميت لا يعرف لذّة النعيم، ولا يحسّ بمسّ العذاب الأليم.

فإذا المراد بحياة الشهداء هي الحياة البرزخية كما أشار لذلك النبي(صلی الله علیه واله) فقال: مرّ عليّ جعفر بن أبي طالب في رعيل من الملائكة، فسلّم عليّ فرددت عليه السلام.

فإذا اتصلت هذه الحياة بحياة الجميع، فتكون مدّة موتهم قليلة جدّاً بمقدار انتقالهم من هذه الدار إلى الدار الاُخرى، كالمجتاز من دهليز، وكالمارّ من شارع إلى آخر، وهو بمنزلة الذي ينام ثم يستيقظ، ويغفو وينتبه، وهذا معتقد علماء الشهداء.

قال مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیهما السلام) لمّا ضربه ابن ملجم

ص: 395


1- النساء: 56.
2- طه: 74.

المرادي: فزت وربّ الكعبة.

وقال عمير بن الحمام الأنصاري أحد شهداء بدر مع النبي(صلی الله علیه واله): بخ بخ ما بيني وبين دخول الجنّة إلا أن أرمي هذه التميرات، لتميرات كانت في يده يأكل منها، فرماها واستقدم فاستشهد.

وقال برير بن حضير الهمداني المشرقي سيّد القراء الشهيد مع مولانا الحسين بن

علي(علیهما السلام) ما بيننا وبين أن نعانق الحور العين إلا أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم.

وقال علي بن الحسين الأكبر(علیهما السلام) الشهيد مع أبيه الحسين(علیهما السلام) بطفّ كربلاء: هذا جدّي رسول الله(صلی الله علیه واله) قد سقاني شربة لا أظمأ بعدها، وغير ذلك ممّا يمنعنا من إيراده التطويل.

بقاء الشعائر

ومن حيث بقاء الشعائر في قصد زيارته من أدنى الأرض وأقصاها، وإحياء الذكرى بإقامة التذكار في الأجيال، ونصب مأتم العزاء في القرى والأمصار، وإعلان النياحة وتدفّق المواكب العزائية اقتراناً بزيارة أخيه الحسين(علیه السلام) ونياحته، وقصد المواكب قبّتيهما حاملة أعلام الحزن السوداء، لاطمة الصدور، حفاة الأقدام، حاسري الرؤوس،

ص: 396

حتّى أنّ الفرد منهم لو اُصيب بأعزّ مفقود من اُسرته أو ثكل أيّ عزيز من رهطه لما أدّى له عشر ما أدّى للحسين والعباس(علیهما السلام) من اللطم واللدم وإعلان الصرخة والبكاء.

وما دامت الدنيا باقية، فالزوّار متدفّقة كالسيول، والمواكب تتلو المواكب قاصدة تلك المراقد، وجاهرة بالعزاء المبرح في مختلف أقطارها، معلنة مراثيه بمتباين لهجاتها وألسنتها.

وأضف لهذا ظهور الكرامات الباهرة عند مرقده المقدّس، وهي من الدواعي الكبرى لإحياء هذه الذكرى، وتجديد تذكار المأساة.

منزلة الغبطة

لأبي الفضل(علیه السلام) فضيلة الحياتين: البرخزية والتذكارية، وفضيلة الدرجة الراقية في جنّة المأوى، وهي التي تدعو بسموّها إلى الغبطة عليها من جميع الشهداء، وتعرب بارتفاعها في الدرجات العلى عن منافسة المقتولين على الإيمان والحقّ والعدل لصاحبها، فهي لا شكّ من أسمّى رتب الشهداء، ومن أرفع درجات السعداء.

ولعلّ الناظر في هذا الحديث يقول بتعميمه وتسريته إلى أعظم شهيد كحمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله سيّد الشهداء وجعفر الطيّار ذي الجناحين، فيرتاب في التفضيل عليهما، وليس الحديث الشريف بناظر إلى التفضيل، ولا لامح جهة المفاضلة، وإنّ للمفاضلة أدلّة اُخرى.

ص: 397

لكن الحديث يذكر أنّ درجة العباس(علیه السلام) يغبطه بها جميع الشهداء حتّى جعفر وحمزة، والغبطة تمني نيل ما حصل للمغبوط، وإن لم تكن من جهة فضيلته الشخصية، بل من حيث فضيلة نفس الشهادة وعظم خطرها، وهذا شيء نلفت إليه نظر أهل الوعي والشعور، لأنّ شهادة العباس(علیه السلام) اشتملت على خصائص ومميّزات لكلّ واحدة فضلها على حياله، ولم تحصل لهذين الشهيدين العظيمين حمزة وجعفر(علیهما السلام)، كالإيثار الذي وقع من أبي الفضل لأخيه الحسين(علیهما السلام) على نفسه لمّا رمى الماء من يده، وسقاية العطاشى من آل محمد(صلی الله علیه واله)، وردّ الأمان الذي بذل له خاصّة، والمحن التي ابتلي بها، وبعضها يوجب دهشة المحارب وانذهاله، وفي مداراتها العناء الشديد والمشقّة الشاقة، وقد جاء الحديث: الأجر على قدر المشقّة.

فمن تلك المحن مدارات نساء مذعورة، وعقائل مرعوبة، وصبية تتصارخ وتضجّ ضجيجاً يؤلم قلب الغيور، ويجرح ضمير المتحمّس وقد تؤثر صدعاً في كبد الحرّ صاحب الشعور والوجدان، وهو مع ذلك في الآونة تلو الآونة يحمل شاباً كفلقة بدر وكشظية كوكب وهّاج تجسّدت الدماء عليه، ووزّعته الأسلحة إراباً مفصّلاً، وينقل إلى الخيمة الحين بعد الحين كهلاً لا نظير له في شمائله وأوصافه قتيلاً فيضعه بين القتلى، وكلّ هؤلاء الشبان والكهول ليس لهم شبيه على وجه الأرض، وفيهم الأخ الشقيق، وابن الأخ الشفيق، وولد العمّ الذي هم كطاقة

ص: 398

ريحان مسّها وهج السمائم فذبلت، وولد هو قطعة كبد وفلذة قدّت من القلب فربت ونمت، هكذا جرت له الأقدار مقاسات هذه الأرزاء، ومكابدة هذه المحن العظام.

ويلتفت إلى سيّده وإمامه الحسين(علیه السلام) قد تفانى جيمع من يدافع عنه، وقتل كلّ من يقيه بنفسه، وذهب عامّة من يفديه بروحه، فهو لا يطمع له بالحياة، ولا يرجو له البقاء، ليهون عليه الخطب، ويسهل الأمر، وتهون المصيبة كما هانت على حمزة وجعفر اطمئنانهما بسلامة رسول الله(صلی الله علیه واله)، فإنّ معه من يقوم بالدفاع عنه والمجادلة دونه.

وليس أمام حمزة وجعفر(علیهما السلام) صبية تزعجهما، ولا نسوة تشغلهما بصراخها وعويلها كما شغلت بطل العلقمي(علیه السلام) صرخة تلك النسوة المذعورة، وما أحرج موقفه تجاه الصبيان العطاشى والتجاءهن إلى عاطفته يسترحمنه ويستدررن تلك العاطفة المتدفّقة بالحنان والعطف: هذه تقول: عمّ اسقني، واُخرى تقول: أما ترى حالي؟ وثالثة تقول: تفتت كبدي؟ ورابعة تقول: عمّي من لي؟ وخامسة: أين أبي؟ وسادسة: تناشده أين تركت أخي؟ وسابعة تقول: فديتك احملني إلى عمومتي يسقوني ماءاً، هذه وأمثالها ممّا يفتت الأكباد ويقرح الأعين.

ص: 399

ولم يجري لحمزة وجعفر(علیهما السلام) مثل ما جرى للعباس(علیه السلام)، ولم يصبهما مثل ما أصابه من الظمأ، ولم ينقطع عنهما الإمداد، ولم يحصرا في فلاة جرداء قاحلة، ولم يشاهدا مصارع الأحبّة، ولم يدر الأمر بين حياته وحياة إمامه في ساعة من الزمن بحيث يقدّم حياته بالقطع واليقين ليبقى إمامه ويحمي حرمه ويؤخر سبيهن ويؤجل الغارة عليهن إلى غير ذلك من الاُمور التي شاهدها أبو الفضل العباس(علیه السلام)، فقابلها برباطة جأش وبثبات مدهش، فكان كما مدحه الإمام جعفر الصادق(علیه السلام) بقوله: ((نعم الصابر المجاهد)).

قال الشيخ المظفر :

فمحنتك العظمى بساحة كربلا

أبا الفضل تندكّ الرواسي أمامها

تشاهد أجلاف البريّة حاصرت

بجرداء من أرض الطفوف أمامها

وقد منعت ورد المباح عياله

فجاءتك تشكو يا حماها أوامها

وقد أرعبت صبيانه زعقاتها

وقد سددت نحو الخيام سهامها

فصلت بسيف النصر صلتاً مجرّداً

تحوط وتحمى خدرها وخيامها

فأرجعت جند الغي قسراً إلى الورى

كليث الشرى غضبان لاقى سوامها

وما زلت حتّى فارق الكفّ زنده

تفلّق في عضب الغرارين هامها

فعاقك والأقدار أعظم عائق

لنفس المحامي أن تنال مرامها

فلم تستطع إيصال ما كنت حاملاً

من الماء كي تروي العطاشى أوامها

وقعت على شاطى ء الفرات مجدّلاً

بقفراء قد أذكى الهجير ضرامها

وكلّما اشتد البلاء وعظم العناء تضاعف الأجر حسبما نطقت به

ص: 400

الأحاديث الشريفة، وكلّما تضاعف الأجر علت المنزلة، وكلّما علت المنزلة حصلت الغبطة، وبهذا يحكم العقل والوجدان - لو حكم - فإنّ جيش الملك لو كان فيه قوّاد قام أحدهم بعدّة أعمال عظيمة في صالح الاُمّة والسلطان، وأتى بعدّة خدمات لم يأتي بها أحد سواه أليس يستوجب عند شعبه الثناء الجميل، وعند مليكه أسمى الرتب وأرقى الدرجات، فيحبوه بعدّة أوسمة من الدرجة الاُولى، ويرقّيه إلى أسمى مراتب الشرف، وإنّ المساوي له في المرتبة والتفوّق عليه في الوظيفة سيغبطه على ذلك لا ريب ولا شك فيه، فكلّما عاين تلك المرتبة التي اكتسبها بجلائل أعماله، ولم يتهيأ له هو القيام بمثل تلك الأعمال ولا ساعدته الظروف على اكتسابها ليضلّ دائماً مظهراً للغبطة يتمنّاها ويودّها.

وإن شئت فقل: إنّ تلك المنزلة خصوصية خصّ الله بها أبا الفضل العباس(علیه السلام) دون غيره من العالمين.

فهذا ما نظر إليه الحديث الشريف، وكلام المعصوم مبني على الحكمة، وإن أردت أن تشقّ إلى المفاضلة طريقاً وتثبت الأفضلية بالأعمال الصالحة، فأعمال

الجميع أمامك وقارن بينها وقف مع كثرتها وتميّزها واحتكم إن شئت واحكم بما أرشدك إليه العلم.

للمظفر :

أبو الفضل إن نال عند الإله

مراتب في الجنّة العاليه

فتلك مآثره الصالحات

أتاحت له الرتبة الراقيه

ص: 401

لقد جاهد القوم حقّ الجهاد

بصبر وفي نية صافيه

وآثر بالنفس سبط الرسول

كما قد سقى العترة الظاميه

ولما رأى قومه ظاعنين

جميعاًً إلى عيشة راضيه

تقدّم نحو أخيه الحسين

وعيناه أدمعها جاريه

يقول له يا بن خير الورى

ويا بن المطهرة الزاكيه

سئمت الحياة ولا صبر لي

وأسمع في حيّك الواعيه

فدعني أموت ولم أستمع

لباكٍ عليك ولا باكيه

فسار إلى الموت مستقدماً

وصار إلى جنّة عاليه

للفاضل الدربندي في أسراره(1) كلام قف عليه: وفيه:

ص: 402


1- أسرار الشهادة: 336.

وقد حكى جمع من الصلحاء أنّ واحداً من أهل كربلاء، وهو الآن موجود - يعني في عصره - كان يزور سيّد الشهداء(علیه السلام) في كلّ يوم وليلة مرّتين أو ثلاثاً، ولا يزور العباس(علیه السلام) إلا بعد مضي عشرة أيام من زيارته، فرأى في المنام الصدّيقة المعصومة الزهراء فاطمة(علیها السلام)، فسلّم عليها فأعرضت عنه، فقال لها: سيّدتي ما تقصيري؟

فقالت(علیها السلام) له: استقلالك من زيارة ولدي.

قال: أزور ولدك كلّ يوم ثلاث مرّات .

قالت: نعم، تزور ولدي الحسين(علیه السلام) هكذا، ولا تزور ولدي العباس إلا قليلاً.

فانظروا أيّها الإخوان إلى عظمة شأن العباس فيما أعطاه الله ممّا نشاهده وممّا لا نشاهده.. إلى آخر ما قال والكلام مطول، وجدير بأبي الفضل(علیه السلام) أن يفضل، وحريّ به أن يقدّم.

وختاماً لهذا المقام نورد كلمة للشيخ محمد طه نجف في كتاب الإتقان(1) فإنّها عظيمة عند التأمّل، وافية بالمطلوب، بلغت على وجازتها ما لم تبلغه المطوّلات من العبارات، وهذا نصّها:

ص: 403


1- الإتقان: 75 ط النجف.

العباس بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیهما السلام) أبو الفضل هو أجلّ من أن يذكر في المقام، بل المناسب أن يذكر عند ذكر أهل بيته المعصومين عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام.

قال هذا في قسم الثقات، وهو كما يقول: العباس(علیه السلام) فوق الثقة منزلة وأعظم بآلاف المراحل.

للشيخ المظفر :

وإني لأستشفي بذكر ابن حيدر

إذا مسّني سقم أو انتابني ضرّ

طبيبي أبو الفضل العميد وحبّه

لدنياي والاُخرى هو الكنز والذخر

ونحن الإماميون كان شعارنا

ولاء علي والحسين وذا فخر

وحبّ الهداة الغرّ منهم وإنّهم

لنا عصمة مهما استطال بنا العمر

نلوذ بقبر ابن الوصي بكربلا

وذا كعبة الزوار مهما دعي قبر

مقام له عند المهيمن شامخ

وقدر رفيع الشأن ما مثله قدر

لقد خلّد الرحمن في الدهر ذكره

وما الفضل إلا ما اُشيد له الذكر

وفي الحشر لم يعط شهيد عطائه

لذا صار مغبوطاً وهذا له سرّ

ص: 404

منزلة أبي الفضل العبّاس عند أخيه الحسين(علیهما السلام)

هي منزلة عظيمة جدّاً، فإنّ للمنزلة حيثيات واعتبارات توجب ارتفاعها، وتقتضي عظمتها، منها: الأخوة والصحبة.

ومنها: الفضل أو كمالات الشخص ومحاسن أخلاقه.

ومنها: الطاعة وغير ذلك.

فمن حيث الأخوة والخدمة والإخلاص والمحبّة وكمال الأدب، فقد عرفت ذلك، وكذلك قد مضى ذكر خصاله الحميدة وسجاياه الفاضلة ممّا يوجب مزيد الرغبة في المتّصف بها، وتؤكّد له القبول عند العظماء وذووا الشأنية والمقدرة من الأقرباء، فأكّدت هذه الشمائل والأوصاف الممتازة في نفس سيّد الشهداء الحسين(علیه السلام) محبّة أخيه العبّاس الأكبر(علیه السلام)، وأدّت إلى تقديمه على من سواه من الأصفياء والمخلصين وسائر الأحباء الذائبين في محبّته بالتفادي العظيم والتضحية الكريمة فضلاً عن بقية الأشقاء الكرام.

ص: 405

فإذا انضمت هذه الفضائل المكتسبة إلى سجاياه المبرّزة في جبلته وطبعه كالإباء والفروسية والسخاء، والمقتبسة له من الهداة البررة أهل العصمة: نحو العلم والبصيرة والتقوى والمروة والوفاء والصلاح والعفّة وغير ذلك، تعرف أنّ للعباس(علیه السلام) عند أخيه الحسين السبط(علیه السلام) مكانة مكينة ومرتبة سامية ومحلّ رفيع؛ لأنّ الفضل يعرفه ذو الفضل، فتعرف أنّ اختصاصه به أعظم اختصاص لا من ناحية الإخاء فقط، بل من وجهة الفضائل، ولم يزل سير العقلاء ورأي الحلماء تفضيل مثل هذا الأخ على من سواه، وتقديمه على غيره، حسبما اتجهت به وجهة الفضائل الجمّة والسجايا الفذّة.

حزن سيّد الشهداء على أبي الفضل العباس(علیهما السلام) وتأبينه له

وكم تجد في التاريخ ممّن فقد أخاً كريماً وشقيقاً ماجداً، فدام أليف الحسرة واللوعة لمضاضة فقد ذلك العزيز المبجّل مصاحباً البكاء والنياحة، أليف اللهفة والحرقة لافتقاد ذاك الراحل المقدّر.

وهناك رجال كثير قد مسّتهم تلك اللوعة الممضّة، وذاقوا تلك الجرعة المرّة، فاحتسوا صابها المرّ الممزوج بذعاف ممعّر، فندبوا إخوتهم أشجى ندبة، واستعبروا لفقدهم بعبرة لاذعة، واستشعروا الحزن والوجد لأجلهم، فمنهم من أخرجه الجزع عن سمت الوقار، ومنهم تدرّع الصبر ولبس جلباب التجلّد، وإن عظمت المصيبة،

ص: 406

وأمضّت الفادحة، كفّاً للعاطفة الجامحة، وزمّاً لها بزمام الوقار، وإلجاماً لها بما ندبت إليه الشريعة الغراء المحمدية من الصبر الجميل احتساباً للأجر المضاعف، وخلوداً إلى ما يرومه الشرف من التمادح بالسلوة، وإن جلّ الفادح وعظمت الرزية.

فهذا سيّد الشهداء قدوة الصابرين، وإمام المتجلّدين الحسين بن علي(علیهما السلام) ينفض يده من تراب قبر الزكي المؤتمن أبي محمد الحسن(علیه السلام) ويفيض عينه سجلاً أو سجلّين، فيقوم قائماً على قبره حزيناً مكتئباً فيقول:

أأدهن رأسي أمّ تطيب مجالسي

وخدّك معفور وأنت سليب

وأستمتع الدنيا بشيء أحبّه

ألا كلّ ما أدنى إليك حبيب

فما زلت أبكي ما تغنّت حمامة

عليك وما هبّت صباً وجنوب

وما هملت عيني من الدمع قطرة

وما اخضرّ في دوح الحجاز قضيب

بكائي طويل والدموع غزيرة

وأنت بعيد والمزار قريب

غريب وأطراف البيوت تحوطه

ألا كلّ من تحت التراب غريب

فلا يفرح الباقي خلاف الذي مضى

وكلّ فتى للموت فيه نصيب

وليس حريب من اُصيب بماله

ولكن من وارى أخاه حريب

ولم تزل الأمم مجبولة على نياحة الأخوة النبلاء الذين جمعوا محاسن الأخلاق، وحازوا مزايا الحمد، وتقمّصوا الفضيلة وخلعوا الرذيلة، ولكن من لم يكن كالحسين(علیه السلام) الوقور في القدرة، فهو يذهب في الجزع كلّ مذهب، ويرد من الهلع كلّ مورد، ويجري في غلوائه مطلق العنان

ص: 407

بدون حدّ إلى غير أمد وغاية، ويذهب في أفانين الحزن لغير تحديد ونهاية.

وللأخ بحسب الفطرة والارتكاز الجبلّي وقع ومحلّ يوحي باختياره وانتخابه من سائر طبقات الأرحام.

وقد علّل الشاعر أنّ الأخ لا يخلف، وليس هو تحت قدرة المكتسب بخلاف المال، فإنّه إذا ذهب يعاد بالاكتساب، ويسترجع بالكدّ والتحصيل، وغيرها من الأسباب، فلذلك قال:

يمضي أخوك فلا تلقى له خلفاً

والمال بعد ذهاب الأصل مكتسب

وعدّ لقمان الحكيم مصيبة الأخ من قواصم الظهر ما احتسب ما عداه من مصائب الأقارب غنيمة من أعظم الغنائم، فقد قرأنا في أخباره أنّه قدم من سفر له طويل، فلقي غلاماً له في بعض الطريق، فقال له: يا غلام! ما فعل أبي؟ قال: مات، قال: ملكت أمري .

قال: ما فعلت زوجتي؟ قال: ماتت، قال: جدّد فراشي .

قال: ما فعلت اُمّي؟ قال: ماتت، قال: استرحت من عقوقها.

ما فعلت اُختي؟ قال:ماتت؟ قال: سترت عورتي.

ما فعل ولدي؟ قال: مات، قال: يجيء غيره .

قال: ما فعل أخي؟ قال: مات، قال لقمان: الآن انكسر ظهري...

وقد قال هذه الكلمة بعينها سيّد الشهداء أبو عبد الله الحسين(علیه السلام) حين وقف على أخيه العباس(علیه السلام).

ص: 408

في أسرار الشهادة(1):

ص: 409


1- أسرار الشهادة: ص321.

في حديث: فأتاه الحسين(علیه السلام) كالصقر إذا انحدر على فريسته، ففرّقهم يميناً وشمالاً بعد أن قتل من المعروفين سبعين رجلاً، فجاء نحو العباس(علیه السلام) وهو ينادي: وا أخاه! وا عباساه! الآن انكسر ظهري وقلّت حيلتي.

ثم انحنى عليه ليحمله، ففتح العباس(علیه السلام) عينيه، فرأى أخاه الحسين(علیه السلام) يريد أن يحمله، فقال له: إلى أين تريد يا أخي؟ فقال: إلى الخيمة، فقال: يا أخي! بحقّ جدّك رسول الله(صلی الله علیه واله) عليك أن لا تحمليني، دعني في مكاني هذا، فقال(علیه السلام): لماذا؟ قال: لأني مستح من ابنتك سكينة، وقد وعدتها بالماء ولم آتها به...

فقال الحسين(علیه السلام): جزيت عن أخيك خيراً حيث نصرته حيّاً وميتاً.

قال: فوضعه على مكانه ورجع إلى الخيمة يكفكف دموعه بكمّه، فلمّا رأوه مقبلاً أتت إليه ابنته سكينة ولزمت عنان جواده وقالت: يا أبتاه! أين عمّي العباس؟ أراه أبطأ، وقد أوعدني بالماء وليس له عادة أن يخلف وعده..

فعندها بكى الحسين(علیه السلام) وقال: يا بنتاه! إنّ عمّك العباس قد قتل، وبلغت روحه الجنان.

فلمّا سمعت زينب(علیها السلام) صرخت ونادت: وا أخاه! وا عباساه! وا قلّه ناصراه! وا ضيعتنا بعدك!

فقال لها الحسين(علیه السلام): إي والله وا ضيعتنا بعده! وا انقطاع ظهراه!

ص: 410

فجعلت النساء يبكين ويندبن عليه،وبكى الحسين(علیه السلام) معهن....

وفي مصائب المعصومين(1): فانقلب عن فرسه وصاح إلى أخيه الحسين(علیه السلام): أدركني، فقال الحسين(علیه السلام): الآن انكسر ظهري وقلّت حيلتي.

فلمّا أتاه رآه صريعاً على شاطئ الفرات، فبكى. ومثله في مقتل العوالم(2).

وقد رثاه بذلك الشعراء حاكين مقالة الحسين(علیه السلام)، فمنها قول بعضهم:

فمشى إليه السبط ينعاه كس-

-رت الآن ظهري يا أخي ومعيني

والسيّد جعفر الحلي قال:

ما خلت بعدك أن تشلّ سواعدي

وتكفّ باصرتي وظهري يقصم

وحقيق أن يكون فقد الأخ الكريم من قواصم الظهر، لأنّه العضد والساعد والناصر والمساعد، والعدّة للحرب، والسلاح للكفاح، لم يرض الرجل الصميم بأن يعدّ الأخ عوناً فقط، ولا مسعداً فحسب، بل ترقى وعدّه مع ذلك عدّة للنوائب وسلاحاً للخطوب، وإن الوحيد المنفرد من الإخوة كالأعزل الذي لا سلاح له، وهو في خطّة الحرب وحومة ميدان القتال، فقال:

أخاك أخاك إن من لا أخاً له

كساع إلى الهيجا بغير سلاح

ص: 411


1- مصائب المعصومين: 360.
2- عوالم العلوم: 95.

بيد أنّ مطمح الأنظار، ومحطّ أفكار النبلاء من الإخوة من كان مستكملاً للصفات الجميلة، ومستجمعاً للكمالات، ومن تتبع أحوال الرجال وسبر مزاياهم لم يجد نظيراً للعباس بن أمير المؤمنين(علیهما السلام)، فإنّ له أكمل منزلة، ورقى بمزاياه الرتبة العليا، ونال الدرجة السامية، وما سطّرناه سابقاً من محاسنه ليبرهن على أنّه الأسمى في أندية الفخار رتبة، والأعلى في صفّ المقدّمين مرتبة، وكرسيّه الأوّل في قاعات المفاخر، وله الصدر في منتدى الفضائل.

ولذلك أذرى عليه الحسين(علیه السلام) وهو الصبور عبرته، ورقرق وهو المتجلّد دمعته أمام أعين الشامتين، وبمرأى من الكاشحين، فما أرخص الحسين(علیه السلام) عليه دمعته الغالية إلا لعظمته، ولا بذل عبرته النفيسة إلا وهو أنفس شيء يعدّه الإنسان المحترم.

وصبر الحسين(علیه السلام) وتجلّده في كلّ مأساة وفادحة ونكبة مؤلمة ممّا لا يصل إليه

الواصل، ولا تستطيع تلمسه يد المتناول، وقد قيل فيه:

للّه درّك يا صبور على الأذى

ولأنت أقدر قادر يتخلّص

وقد عجبت لصبره ملائكة السماء، لكن جلالة الفقيد وعظمة الراحل أجرت تلك العبرات العزيزة، وأرسلت تلك الدمعة الغالية، كما أجرت مدامع سيّد الكائنات رسول الله(صلی الله علیه واله) أصبر الخلق على المصائب وأجلدهم عند صدمات النوائب مصيبة عمّه حمزة يوم اُحد، ومصيبة ابن عمّه جعفر يوم مؤتة، فمن بكاء رسول(صلی الله علیه واله) على عمّه حمزة وابن عمّه جعفر، وبكاء الحسين على أخيه العبّاس(علیهما السلام) عرفنا أنّ لهؤلاء

ص: 412

الشهداء الثلاثة رتبة عالية ومحلّ سامي، وقد وقف رسول الله على عمّه حمزة وأبّنه بكلمات لاذعة وألفاظ موجعة تأخذ من القلب مأخذها...

والحسين(علیه السلام) أبّن العباس(علیه السلام) بكلمات محزنة يحترق بلذعتها القلب، وتجري بسماعها الدمعة الحارة، منها ما رواه في أسرار الشهادة بقوله:

وفي رواية أخرى: فضربه رجل منهم بعمود حديد ففلق هامته وانصرع عفيراً على الأرض يخور بدمه وهو ينادي: يا أبا عبد الله! عليك مني السلام .

فلمّا سمع الإمام(علیه السلام) قال: وا أخاه! وا عباساه! وا مهجة قلباه! إلى أن قال: فبكى بكاء شديداًً حتّى بكى جميع من كان حاضراً، وقال(علیه السلام): جزاك الله من أخ خيراً لقد جاهدت في الله حقّ جهاده.

وزاد الطريحي في المنتخب بعد هذه الألفاظ: يعزّ عليّ والله فراقك، وإنّه أغمي عليه من شدّة البكاء، وقد عرفت أنّ المفقود عظيم.

ولا ريب أنّ التأبين وهو تعداد محاسن الميت كما عرّفوه إنما يستحقّه العظيم من الناس لشرفه وسؤدده، ولأعماله الصالحة ولمآثره الجميلة، أو لأنّ له منزلة عظيمة من المحبّة في قلب المؤبّن، فعند ذلك يلقي كلمات التوجّع ويفوه بألفاظ التأسّف ويظهر التفجّع له.

تأبين الحوراء زينب بنت أمير المؤمنين لأخيها الحسين(علیهما السلام):

ص: 413

وقد أبّنت الحوارء زينب بنت أمير المؤمنين أخيها الحسين: حينما مرّوا بهن على جثث القتلى حيث جعلوا طريقهم على المعركة ليضاعفوا الأحزان على مخدرات الوحي والرسالة.

ذكر الدربندي في أسرار الشهادة(1) والسيّد ابن طاوس في اللهوف(2) والطبري واختصرها وهذا نصّ المختصر في تاريخه(3): عن قرّة بن قيس الحنظلي قال:

ص: 414


1- أسرارا الشهادة: 467.
2- اللهوف: 262.
3- تاريخ الطبري: 6/262.

نظرت إلى تلك النسوة لمّا مررن بحسين وأهله وولده صحن ولطمن وجوههن.

قال: فاعترضتهنّ على فرس فما رأيت منظراً من نسوة قطّ كان أحسن من منظر رأيته منهن ذلك! والله لهنّ أحسن من مهى يبرين!! فما نسيت من الأشياء لا أنسى قول زينب ابنة فاطمة(علیهما السلام) حين مرّت بأخيها الحسين(علیه السلام) صريعاً، وهي تقول: يا محمداه! يا محمداه! صلّى عليك ملائكة السماء، هذا حسين بالعراء، مزمّل بالدماء، مقطّع الأعضاء، يا محمداه! وبناتك سبايا، وذرّيّتك مقتلة تسفي عليها الصبا.

قال: فأبكت والله كلّ عدو وصديق..

أمّا الدربندي فلفظه في مرور الحرم على مصارع الشهداء من آل الرسول(صلی الله علیه واله):

إعلم إنّ المستفاد من أخذ جامع الأخبار والروايات هو أنّ مرور النساء على مصارع الشهداء كان في اليوم الحادي عشر من المحرم بعد الزوال، لأنّ ذلك الوقت كان وقت ارتحال عمر بن سعد - لعنه الله - مع عسكره من كربلاء إلى الكوفة، ثم قد اختلفت أقوال أصحاب المقاتل في أنّ ذلك المرور هل كان بطلب من النساء والتماسهن ذلك، أو كان ذلك عدواة وعناداً من ابن سعد؟ فأكثر أصحاب المقاتل قد صاروا إلى الأوّل والبعض منهم إلى الثاني.

فقال السيّد في اللهوف:

ص: 415

ثم أخرجوا الحرم من الخيمة، واشعلوا فيها النار، فخرجن حواسر مسلبات حافيات باكيات يمشين سبايا في أسرّ الذلّة، فقلن: بحقّ الله إلا ما مررتم بنا على مصرع الحسين(علیه السلام).

فلمّا نظر النسوة إلى القتلى صحن وضربن وجوههن، قال الراوي: فو الله لا أنسى زينب بنت علي(علیها السلام) وهي تندب الحسين(علیه السلام) وتنادي بصوت حزين وقلب كئيب:

يا محمداه! صلّى عليك مليك السماء، هذا حسين مزمّل بالدماء، مقطّع الأعضاء، وبناتك سبايا، إلى الله المشتكى، وإلى محمد المصطفى، وإلى علي المرتضى، وإلى حمزة سيّد الشهداء.

يا محمداه! هذا حسين بالعراء تسفي عليه الصبا، قتيل أولاد البغايا، يا حزناه! يا كرباه! اليوم مات جدّي محمد رسول الله، يا أصحاب محمد! هؤلاء ذرّيّة المصطفى يساقون سوق السبايا.

وفي رواية: يا محمد! بناتك سبايا وذرّيّتك مقتّلة تسفي عليها ريح الصبا، هذا حسين محزوز الرأس من القفا، مسلوب العمامة والردا، بأبي من عسكره يوم الإثنين نهبا، بأبي من فسطاطه مقطّع العرى، بأبي من لا غائب فيرجى ولا جريح فيداوى، بأبي من نفسي له الفدا، بأبي المهموم حتّى قضى، بأبي العطشان حتّى مضى، بأبي من شيبته تقطر بالدما، بأبي من جدّه رسول الله إله السما، بأبي من هو سبط نبي الهدى، بأبي ابن محمد المصطفى، بأبي ابن خديجة الكبرى، بأبي ابن علي المرتضى، بأبي ابن فاطمة

ص: 416

الزهراء سيّدة النساء، بأبي ابن من ردّت له الشمس حتّى صلّى.

قال الراوي: فأبكت كلّ عدوّ وصديق.

ثم إنّ سكينة اعتنقت جسد أبيها فاجتمع إليها عدّة من الأعراب حتّى جرّوها عنه.

هذا ما في اللهوف، وأمّا ما في بعض الكتب المعتبرة الأخرى فهو ما روي عن عبد الله بن أويس عن أبيه أنهم جاؤوا بالنساء عناداً وعبروا بهن على مصارع القتلى من آل الرسول، فلمّا رأت أمّ كلثوم أخاها الحسين(علیه السلام) تسفي عليه الرياح وهو مكبوب ومسلوب وقعت من أعلى البعير إلى الأرض واحتضنت أخاها، وهي تقول ببكاء وعويل:

يارسول الله! اُنظر إلى جسد ولدك ملقى على الأرض بغير دفن، كفنه الرمل السافي عليه، وغسله الدم الجاري من وريديه، وهؤلاء أهل بيته يساقون اُسارى في أسر الذلّ ليس لهم من يمانع عنهم، ورؤوس أولاده مع رأسه الشريف على الرماح كالأقمار، يا محمد المصطفى! هذه بناتك سبايا وذرّيّتك مقتلة.

فما زالت تقول هذا القول حتّى أبكت كلّ صديق وعدوّ حتّى رأينا دموع الخيل تتقاطر على حوافرها، وساروا بها وهي باكية حزينة لا ترقى لها دمعة ولا تبطل لها عبرة.

ص: 417

ثم ذكر(1)

ما لفظه: روى بعضهم

ص: 418


1- أسرار الشهادة: 468.

أنّه كان للحسين(علیه السلام) بنت صغيرة وكانت بين تلك السبايا جالسة حول أبيها قابضة على كتفه وكفّه في حضنها، فتارة تشمّ كتفه، وتارة تضع أصابعه على فؤادها، وتارة على عينها، وتأخذ من دمه الشريف وتخضّب شعرها ووجهها، وهي تقول: وا أبتاه! قتلك أقرّ عيون الشامتين وسرّ المعاندين، يا أبا عبد الله! ألبستني بنو اُمية ثوب اليتم على صغر سني، يا أبتاه! إذا أظلم الليل من يحمي حماي، يا أباتاه! اُنظر إلى رؤوسنا..! وإلى أكبادنا الملهوفة، وإلى عمّتي المضروبة، وإلى اُمّي المسحوبة.

قال: فذرفت عند ندبتها العيون، فأتاهم زجر اللعين وقال: إنّ الأمير نادى

مناديه بالرحيل فهلمّوا واركبو.

فأتت البنت إلى السائق اللعين فوقعت بين يديه وقالت: يا هذا! سألتك بالله وجدّي رسول الله(صلی الله علیه واله) أنتم اليوم تقيمون أو ترحلون؟ قال: بل راحلون!

قالت: يا هذا! إذا عزمتم على الرحيل سيروا بهذه النسوة واتركوني عند والدي، فإني صغيرة السنّ ولا أستطيع الركوب، فاتركوني عند والدي أبكي عليه، فإذا متّ عنده سقط عنكم ذمامي ودمي، فدفعها عنه وأبعدها منه.

فلاذت بأبيها سيّد الشهداء - روحي له الفداء - واستجارت به، فأتى إليها وجذبها من عند أبيها، فقالت له: يا هذا! إنّ لي أخاً صغيراً، فدعني أودعه.

ص: 419

فأمهلها فتخطّت خطوات قليلة، لأنّه كان قريباً من أبيه(علیه السلام)، فلمّا وقعت عيناها عليه تحسّرت، ثم إنها لثمته لثمات متتابعات، ثم أجلسته ووضعته في حضنها، وجعلت فيها على نحره الشريف ونادت: يا أخي! لو خيّروني بين المقام عندك أو الرحيل عنك لاخترت المقام ولو أنّ السباع تأكل لحمي، فها أنا راحلة عنك غير جافية لك، وهذه نياق الرحيل تتجاذبنا على المسير، قد أتونا بها مهزولة، لا موطئة ولا مرحولة، وناقتي يا أخي مع هزلها صعبة الانقياد، فلا أدري أين يريد بنا أهل العناد، فاقرأ جدّي علي المرتضى وجدّتي فاطمة الزهراء عني السلام وقل لهما: اُختي شاكية إليكما حالها، قد خرموا اُذنيها، وفصموا خلخالها.

ثم إنها وضعت فمها على شفتيه وقبلّت خديه، فأتاها السائق اللعين فجذبها عنه، وأركبها قهراً.

فلمّا ركبت الناقة التفتت إلى أبيها وقالت: يا أبة! ودّعتك الله السميع العليم وأقرؤك السلام، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم...

للمظفر :

إنّما هذه اليتيمة أشجت

كلّ قلب بندبة وعويل

حين مرّوا بها بجسم أبيها

حوله خير فتية وكهول

أعولت عنده وقالت دعوني

عنده لا اُحبّ عنه رحيلي

اتركوني أبكي أبي وشقيقي

نور عيني عسى أبلّ غليلي

ص: 420

ولو أنّ السباع تأكل من

لحمي لا اُبالي في قرب خير سليل

أنهضوها عن جسم والدها البرّ

بضرب السياط والتنكيل

ثم لاذت به وما رحموها

شرّ قوم وعصبة وقبيل

فاستغاثت بالسبط وهو صريع

بدموع دفّاقة كسيول

أبتا ما ترى صنيع عداكم

سلبوني من بعد قرطي حجولي

كلّما مررت بهذه الحادثة يتفتت كبدي لوعة، وينصدع قلبي حرقة، إنها ولا اُغالي لو قلت: من القصص المروّعة والحكايات المحزنة التي تثير اللوعة، وتبعث الشجا، وتستدرّ الدمعة، وتستدعي العبرة.

ولعلّ مستغرباً يستغرب مثل هذه القصّة، ويعدّها من ضروب الأقاصيص، أمّا الشكّاك والمنحرف فندعه وعقيلته السخيفة التي قادته إلى التشكيك في مسلّمات التاريخ وقطعياته.

وأمّا غير هذا المتعجرف وسوى هذا المتطرّف إذ يرتاب فيها من ناحية صدور هذه البلاغة ووقوع هذه الإبانة العجيبة الأسلوب من طفلة صغيرة السنّ، فلا ريب أنّ هذا المستريب جاهل بأهل البيت النبوي، وما خصّهم الله به من الذكاء الفطري، وجبلهم عليه من الإفصاح.

للشيخ المظفر :

إن كانت الطفلة في سنّها

صغيرة فالعقل منها كبير

لأنّها تنمى إلى دوحة

فيحاء تزهو وسط روض نضير

فروعها خير شباب الورى

وحيدر الأصل وطاها البشير

ص: 421

أوراقها تزهو وأغصانها

تسبق إذ تسقى بخير وخير

ينمو به الفرع ويزهو كما

تزهو النباتات بماء نمير

بيان هذي البنت إرث لها

من صاحب الإسرا أتى والغدير

معرفة منزلة العباس عند الحسين من الحزن عليه وتأبينه

ومن هنا تعرف إنّ للعباس(علیه السلام) عند أخيه الحسين(علیه السلام) أعظم المنازل وأسمى المراتب لمحبّته إيّاه ولفرط إعجابه به لا من حيث الأخوة، وإن كانت بعض المقتضي للمحبّة، بل من حيث الأعمال الصالحة والمآثر الكريمة والطباع الفاضلة والسجايا المحمودة، وإنّه أعظم من ضحى نفسه أمامه وفاداه، وإنّه أشدّهم همّة في المحامات عنه، وأفضلهم شجاعة وأكثرهم برّاً وألفاظاً به، وأسرعهم قياماً بخدمته، وأحسنهم إيثاراً له ومناصحة، فلتلك الأسباب وغيرها أبّنه بما سمعت، وإلا فقد تسمع كمية من استشهد مع الحسين(علیه السلام) من إخوته، ولعلّ عددهم يزيد على خمسة عشر، وكلّ واحد منهم كان حبيباً إليه، فما سمعنا أنّه قال عند قتله: الآن أنكسر ظهري وقلّت حيلتي وشمت بي عدوي، على ما ذكره السيّد هبة الدين الشهرستاني في النهضة الحسينية(1).

ص: 422


1- النهضة الحسينية: 106.

والفقيد الذي يوجب افتقاده شماتة الأعداء وذهول الرئيس الحازم عن تدبير الحيلة في المصلحة الحربية المهمّة في مقابلة العدو المتكالب لفقيد عظيم ومنزلته لا تقاس بها منزلة، ورتبته لا تدانيها رتبة، وقد دلّ دلالة واضحة أن أثره في حياته كان كبيراً حتّى يكون أهلاً لئن يوصف بهذه الأوصاف، وإنما يشمت العدوّ بفقد من يعدّ فقده كسراً في عدوّه وهدّاً عظيماً في ناحية خصمه.

إنّ هذه الكلمات الثلاثة من سيّد الشهداء(علیه السلام) وردت لبيان فضيلة العباس(علیه السلام) وكشف حقيقته المخفية على الجاهلين بقدره، وأنّ له منزلة عظيمة، بل هي أعظم

منازل الشهداء معه وأرفعها وأعلاها.

وهو مع ذلك فقد كان باب الحسين(علیه السلام) كما كان أمير المؤمنين علي(علیه السلام) أبوه باب رسول الله(صلی الله علیه واله) ومنزلته منه تلك المنزلة، فقد كان رسول الله(صلی الله علیه واله) يعدّ علياً(علیه السلام) لكلّ عظيمة، ويدعوه عند كلّ نازلة، ويختصه ويحبوه ويكرمه، وكذلك كان أبو الفضل العباس(علیه السلام) عند الحسين(علیه السلام) يعدّه لكلّ عظيمة، ويدعوه لكلّ نازلة، كما سمعت من حديث ردّ العسكر الزاحف إليه يوم التاسع، وبعثه لجلب الماء من الفرات، وانتدابه لا ستنقاذ أصحابه الذين اقتطعهم جيش عمر بن سعد.

قال هبة الدين الشهرستاني في نهضة الحسين(علیه السلام) (1): كان الحسين(علیه السلام) مستميتاً ومستميت كلّ من كان معه، وكانت أنفسهم الشريفة متشربة

ص: 423


1- النهضة الحسينية: 106.

من كأس التضحية، وريانة من معين التفادي، وفي مقدّمة هؤلاء أبو الفضل أكبر إخوة الحسين(علیه السلام) الممتاز في الكمال والجمال، وقمر بني هاشم، وحامل راية الحسين(علیه السلام)، وعقيد آماله في المحافظة على رحله وعياله، لذلك شقّ على الحسين(علیه السلام) إن يأذن له بالبراز إلى الأعداء....

للمظفر :

قل لأبي الفضل عليه السلام

شبل علي الطهر مولى الأنام

فدتك نفسي ونفيسي معاً

يا بن إمام وأخاً للإمام

نلت على رغم العدى رتبة

مقامها في العزّ أسمى مقام

قد كنت باب ابن نبي الهدى

وركن جيش السبط عند الخصام

والجيش بالركن كما حققوا

يقوى إذا أتقن عقد النظام

وتحمل الراية قدّامه

تضرب بالسيف وجوه الطغام

نظمت بالرمح الكلى طاعناً

وناثراً بالسيف أيد وهام

تنفض كالصقر ولكنّما

صيدك صيد القوم دون الحمام

أوصلت فالليث سطى مغضباً

مستبدل الأنياب حدّ الحسام

فلا يلام السبط لمّا مضى

محدوب الظهر يؤم الخيام

إنّ الأخ الناصح فقدانه

ليقصم الظهر أشدّ انقصام

لو سيم بالدنيا لما باعه

ومن سمى الأقران أنى يسام

وإنّ من كنت له ناصراً

يا بن علي أبداً لن يضام

ص: 424

الوظائف السامية التي للعباس الأكبر عند الإمام الحسين(علیهما السلام)

إنّ هذه الوظائف التي نلمّ بها هي من أعظم الوظائف في عصر الحضارة والمدنيّة، والتي تلحظها الدول الحرّة والممالك الراقية بعين الإحترام والتبجيل بما لها من عناية، وما لها من ميزة خاصّة، فالشخص الذي يحظى بواحدة من هذه الوظائف يكون له الكرسي الأوّل في صفّ كراسي أعيان الدولة، ويقابله عاهل الأمّة مقابلة التشريف، ويختصّه بالعناية الزائدة، فما ظنّك بمن حظى بهذه الوظائف الأربعة، وحازها كلّها، وحمل أوسمتها أجمع، ذاك من لا يقاس به إنسان في شعبه واُمّته.

وحيث كان الحسين بن علي(علیهما السلام) ملك الدنيا والآخرة وسلطانها بعد جدّه وأبيه وأخيه عليهم الصلاة والسلام من الوجهتين السياسيتين: سياسة الآخرة والدنيا، فالسياسة الدينية فيهما واحدة من جهة إتجاهها إتجاهاً مستقيماً حقيقاً على معدل واحد من حيث النظام والتشكيل

ص: 425

الذي يقتضيه حفظ النظام العسكري، وإن اختلفت المقاصد والأغراض، وتباينت الغايات والأهداف.

فالملك السياسي الدنيوي غايته وهدفه إستقامة الملك، ومقصده سلامة الدولة والسلطنة وحفظ كيانها، وتركيز سيطرتها، وتعميم نفوذها الخارجي الاستعماري.

والملك السياسي الديني مقصده الأسمى وغرضه الوحيد حفظ نظام الدين، وغايته حماية الملّة وحراسة الشريعة عن التغيير والتبديل، وتوسيع نطاق الدعوة إليه بأساليبه السلمية، إلا أن تضطره الظروف إلى اتخاذ وسائل الحرب.

السفير

وحيث كان الهدف واحد، والمنحى واحد، وهو المحافظة على بقاء النظام وحفظه لأجل استدامة السلطة الحكومية التي يتوصّل بها إلى إشادة ما قصد له - دينياً كان المقصود أو دنياوياً - لابد له حينئذٍ من دعاية لأجل جذب النفوس إليه بواسطة السفارة، أو من ينوب عن تلك الدولة، ولا يقوم بهذه الوظيفة المهمّة إلا رجل مثقّف محنك ذا تجربة ومهرة فنية قد درس السياسة درساً متقناً، وألمّ بالعلوم إلماماً كافياً، مع كونه شديد الإخلاص لدينه وأميره متفانياً في ترقّي دولته وحكومته إن كان سياسياً دنياوياً صرفاً عاقلاً حكيماً يمثّل أميره

ص: 426

وإمامه تمثيلاً بديعاً، ويصوره بأحسن تصوير على كلا الحالين وبدون فرق بين المصلح الديني والأمير السياسي المحض، وهو المعبر عنه السفير، أو وزير الخارجية، أو القنصل، إذ ربما تجتمع هذه الألقاب وربما تنفرد.

أمّا قدماء المسلمين فيطلقون عليه اسم الوالي الخاصّ أحياناً، والوكيل والداعي أحياناً، ويعنون به نائب الخليفة والسلطان عند الحكومات الأجنبية أو في داخلية البلاد للاُمور الخاصّة، وقد يكون ممثلاً لأمّته وشعبه وسفيراً عن حكومته خارج المملكة، وهو بهذا الاسم، وربما أطلقوا عليه اسم الرسول.

وهذه الوظيفة بأيّ معانيها اُخذت، وبأيّ سمّيتها: سفارة أو نيابة أو ولاية كانت لمسلم بن عقيل بن أبي طالب: فإنّه كان نائب الحسين(علیه السلام) في الكوفة وسفيره عند أهل العراق.

وقد يكون السفير سفيراً في المسائل الخاصّة ما بين الملك وشعبه، أو بينه وبين دولة أجنبية، ويحدّد له الملك تلك المسألة الخاصة تحديداً لا يتجاوزه، فيحمل إليهم رسائله وخطاباته المتضمّنة لإرادته، ويطلعه على أسراره، وهذه الوظيفة كانت للعباس بن علي(علیهما السلام).

معنى السفارة:

حيث أنّ هذا اللفظ مادة عربية مستعملة في معنى الإيضاح اشتق

ص: 427

منها هذا لمناسبة بينهما، لأنّ السفير يوضّح مقاصد منتدبه، وتلك المادة إمّا تكون هي الإسفار، إذ يقال: أسفر الصبح إذا وضح، أو من السفور، وهو رفع الحجاب، يقال: امرأة سافرة: يعني واضحة المنظر لا يسترها حجاب ولا نقاب.

قال الفيومي في المصباح المنير(1): سفرت الشمس طلعت سفراً من باب ضرب، وسفرت بين القوم أسفر بينهم - بالكسر - أصلحت، فأنا سافر وسفير.

وقيل: الوكيل ونحوه سفير، والجمع سفراء، وكأنّه مأخوذ من قولهم سفرت الشيء سفراً من باب ضرب إذا كشفته وأوضحته، لأنّه يوضح ما ينوب فيه ويكشفه، وسفرت المرأة سفوراً كشفت وجهها فهي سافر، وأسفر الصبح إسفاراً أضاء، وأسفر الوجه إذا علاه جمال.

وفي القاموس: سفر الصبح يسفر أضاء وأشرق كأسفر، والحرب ولّت والمرأة كشفت عن وجهها فهي سافر، وسفر بين القوم أصلح يسفر ويسفر سفراً وسفارة وسفارة فهو سفير.

وقال بعد كلام: والسفراء الكتبة جمع سافر، والملائكة يحصون الأعمال .

وفي مجمع البحرين(2): السفر: - بالكسر - الكتاب يسفر عن

ص: 428


1- المصباح المنير: 1/173.
2- مجمع البحرين: 304.

الحقائق، والسفير الرسول بين القوم يزيل ما بينهم من الوحشة، والسفارة - بالكسر - الرسالة، فالرسول والملائكة والكتب مشتركة في كونها سافرة عن القوم بما أشبته عليهم.

وفي الحديث: حقّ إمامك عليك في صلاتك بأن تعلم أنّه تقلّد السفارة - أي الرسالة - بينك وبين ربّك.

معاني السفير:

يتحصّل لنا من مجموع الأقوال أنّ للسفير ستّة معان:

أحدها: إنّ السفير هو الرسول، وهو واسطة التبليغ.

الثاني: إنّ السفير هو الوكيل، وهو النائب في أمر خاصّ أو عام.

الثالث: إنّ السفير هو الكاتب المختصّ بوظيفة المخصّص لشأن مهمّ.

الرابع: المصلح، وهو الساعي في إخماد ثورة أو تسكين مشاغبات بين عشيرتين أو حكومتين أو شعب وحكومة.

الخامس: المفسّر المتكفّل بيان ما أشكل من الاُمور الغامضة، وإيضاح الموادّ المبهمة من الأحكام الشرعية والحقوقية السياسية الكاشف عن دقائقها ومخبآتها وخفاياها كشفاً مقبولاً.

السادس: الشخص البارز بصورة ترفع التلبيس، والظاهر بصفة تزيل التشكيك، كالصبح المسفر بما يزيل الشكّ عن إقبال طلوع الشمس

ص: 429

سفارة العباس(علیه السلام)

وسفارة العباس بن أمير المؤمنين(علیهما السلام) بين الحسين(علیه السلام) وبين شيعته وبينه وبين الأجانب كانت سفارة خاصّة في أوقات معينه، فهو سفير موقّت لا سفير دائمي كمسلم بن عقيل، فمن سفارته ما قدّمناه من أنّه بعثه للجيش الزاحف عليه نهار التاسع فراجعه.

العميد

وكما أنّه لابد له من دعاية يمثلها معتمد خبير مدرّب يقوم بهذا وينظر في المصالح وينظّم الاُمور السياسية خارج العاصمة، لابدّ له أيضاً من جيش عسكري مدرّب على أحسن نظام وأجود طراز في التثقيف والتمارين الحربية على الأساليب والفنون الملائمة للعصر، وإذا اضطر إلى تأليف جيش احتاج إلى توظيف عميد له، ولابدّ أن يكون مثقفاً ماهراً في الفنون التمرينية والأساليب العسكرية، شجاعاً ثابت القلب، ليحمي عسكره وجنده بثباته، محنّكاً ذا تجارب وفكر ليحصنه بفكره ورويّته، ويقويه بتجاربه وخبرته، ويتولى تقسيمه على المنهج الحربي حسبما تدعو إليه القواعد الحربية وتقتضيه النظم الفنية، كتقسيمه إلى فرق، فأفواج، فكتائب، فسرايا، ففصائل إن كان كبيراً، وإلى كتائب وفصائل إن كان صغيراً، ويخطط الخطط الدفاعية والهجومية وغير ذلك.

ص: 430

وهذه الوظيفة - أي وظيفة عميد العسكر - كان يتلقّاها العباس الأكبر بن أمير المؤمنين عند أخيه الحسين بن عليّ(علیهما السلام)، وليس غيره لهذه الوظيفة عنده.

خصال العميد ووجه التسمية

وإنما سمّي عميداً لأنّه عليه اعتماد الجيش وبه يثقفون في الملمّات وفي الشدائد الحربية، فهو بمنزلة عمود الخيمة وعماد البناء الذي عليه يعتمد السقف وتقوم الخيمة، أو لأنّ عليه اعتماد السلطان.

وعلى كلّ لا يكون عميداً للعسكر إلا من كان شجاعاً مقداماً من غير تهوّر ذا جرأة وثبات، خوّاضاً للغمرات، قذّافاً بنفسه في الأهوال والمتالف مع تحرّي الظفر والفوز، ومجرّباً خبيراً بفنون الحرب وأساليبها، محنّكاً ذا مهارة فنية وثقافة حربية وخبرة تامّة بشؤون الإقدام والإحجام والتقدّم والتأخر ليقي نفسه وجيشه من

العطب إن لم يكن مستميتاً، فإنّ عميد الجيش ما دام في مركزه يخفق لواؤه على رأسه، فالعساكر ثابتة في مراكزها على نظامها وترتيبها الذي رتبه، فإذا زال عن مركزه ولم يكن إنسحاباً بانتظام يعلم به القوّاد، أو قتل ولم يقم مقامه نظيره اختلّ النظام وتبدّد الجيش ونال العدوّ منه ما يريد.

ولهذا قال القائل وقد سُئل عن مالك الأشتر بعد موته:

ص: 431

ما أقول بمن هزمت حياته أهل الشام، وهزم موته أهل العراق.

معنى العميد لغة:

قال في القاموس: والسيّد كالعميد ورئيس العسكر.

وفي مجمع البحرين: وعميد القوم وعمودهم سيّدهم، ومنه قوله(علیه السلام): من عميد هذا الجيش، أي كبيرهم الذي إليه المرجع.

وقال الزمخشري في أساس البلاغة: وهو عميد قومه وعمود حيّه أي قوامهم.

وفي المنجد: عميد القوم سيّدهم وسندهم وظاهر في مقدم الجيش، لأنهم يسندون أمرهم إليه ويستندون عليه كما يستند البناء على العمود.

وربما أطلق الناس لفظ ((العجيد)) لمقدّم الغزو، ويلقّبون العباس بن أمير المؤمنين(علیهما السلام) بالعجيد، وما أدري ما يعنون بالعجيد، أهو العقيد المصطلح عليه عند الدول الحديثة الذي هو دون العميد بمرتبتين، لا أظن أنهم يعرفون هذا الإصطلاح العسكري الجديد، خصوصاً وقد عاشوا أزمنة الأتراك المشبعة بالألفاظ التركية كيوزباشي وبميباشي وأمثالهما، أمّ يعنون به الرئيس كما هو في لغة العرب، وهذا هو الأقرب لإصالة عدم النقل، ولأنّ العامّة يطلقونه على مقدّم الغزو.

والعشائر وسكّان البوادي والأرياف يسمّون الرئيس الغازي ودليل الغازين منهم إذا دلّهم على عدوّ لهم أو على محلّ تحصل لهم فيه ((نهيبة))

ص: 432

غنيمة ((العجيد))، فيقولون: فلان عجيد الغزو، وفلان عجيد الرجبة، وعجيد السرية، وتاه العجيد يعنون الدليل، في هذا الأخير.

ثم إنّ للعجيد عندهم شروطاً:

أحدها: أن يكون رئيساً.

الثاني: أن يكون شجاعاً، ويطلقون عليه لفظ رجّال زين.

الثالث: أن يكون خبيراً بالطريق، ودليلاً حاذقاً يسلك بهم على غير الجواد المسلوكة والطرق المألوفة خوفاً من الإنذار للمغزويين، وحذراً من الطلب إذا كرّوا راجعين، ولهم حكايات وأقاصيص في دلالة هؤلاء بالأهوار والبوادي.

ويتبين أنّ المعنى العامّي هو المعنى اللغوي، وأنّ العجيد هو العميد، وأنّ عليه اعتماد الغازين، سواء كان دليلاً فقط أو دليلاً ورئيساً معاً.

على أنّ العميد هو رئيس الجيش الأوّل، وربما كان عند العوام الرئيس الثاني، إذا كان الرئيس العام يعني رئيس القبائل معهم، فيقولون: الشيخ سعدون السعدون وعجيد الجوارين ابن كبيح، وعجيد البدور شرشاب، وعجيد الغزي ابن حبيب، وهكذا.

العباس عميد عسكر الحسين(علیه السلام)

فالعباس الأكبر هو عميد عسكر الحسين(علیه السلام) مفاد ما دلّت عليه الروايات الورادة في كتب المقاتل، والتي اعتنى بضبطها علماء هذا الشأن، وقد عبر عنها الحسين(علیه السلام) بقوله:

ص: 433

أنت مجمع عددي والعلامة من عسكري.

وقول العباس(علیه السلام) له لما أراد حمله إلى خيمة الشهداء: أنا مجمع عددك والعلامة من عسكرك(1)، وهي صريحة في إرادة العميد، لأنّه مجمع العسكر والعلامة لهم، لأنّه حامل لوائهم، والإشارة النظامية معه.

قال في معالي السبطين: كان لواء الحسين(علیه السلام) معه، وكان أميراً وزيراً وسفيراً...

قال الشيخ المظفر :

هو العميد لجيش السبط يوم دعا

أنصاره جاهدوا الكفار في الدين

قوموا إلى الموت ذي رسل العداة لكم

يعني السهام وحوطوا آل ياسين

فقام أنصاره الأفذاذ واستبقوا

للموت شوقاً إلى الولدان والعين

دعا العميد معي خلفي فأتبعها

صحابه الغرّ زحفاً للميادين

كأنّما الحرب زفّت في الجلاد لهم

أبهى عروس من البيض الخواتين

ما مثل موقفهم بالطفّ معركة

لا يوم اُحد ولا أيام صفين

سبعون شهم من الأبطال يرهبهم

سبعون ألف من الشوس الملاعين

طعانهم بحراب السمر تحسبها

جناد كوفان فيها نفث طاعون

هبت بجيش ابن سعد الرجس زوبعة

من عزمهم نسفته دون توهين

وربّ عاصفة هوجاء قد قلعت

ما حصّنته البرايا أيّ تحصين

ص: 434


1- أسرار الشهادة:

جدّد لهم ذكريات المجد محتفلاً

بمنتدى الفخر ممزوجاً بتأبين

مثل على مسرح العليا عميدهم

تمثيل حيّ شعور راسخ الدين

واروي لهم عزمه العالي وهمّته

بما يلذّ ويحلو من أفانين

الحاجب والمرافق

ومن وظائف العباس بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیهما السلام) الحجابة، لأنّه الحاجب والمرافق للحسين(علیه السلام) حيث أنّ الحسين(علیه السلام) كما كان له سفير وعميد للجيش كذلك كان عنده ((المرافق الخاص)) باصطلاح المدنيين، و((الحاجب)) باصطلاح القدماء، وإن لم يكن محتجباً حقيقة ليتولى شؤونه الخاصّة، ولا يفارقه في سفر ولا حضر، ولا في قيام ولا قعود لاُمور شتّى إلا في شؤونه النفسية، وتلك الاُمور التي يلازمه لأجلها منها أن يتولّى المدافعة عنه إذا أراد اغتياله أحد أعدائه، لأنّ من كان بهذا المنصب من العظمة وارتفاع الشأن فلا ريب أنّه بمعرض الخطر من ناحية الاغتيال السرّي والفتك العلني، وقد علمت ما جرى لأمير المؤمنين(علیه السلام).

وكما أنّه ينتفع به لذلك ينتفع به أيضاً لإرسال رسول أو إحضار شخص أو ما شاكله من المهمّات الفوتية، فيقوم الحاجب أو المرافق بمباشرة هذه الأعمال.

ولابد فيه من الكفاءة والمعرفة والعقل والشجاعة والعلم واليقظة والبصيرة والإخلاص لمن ولاه ذلك.

ص: 435

هذه الوظيفة كان يتولّاها أبو الفضل العباس بن أميرالمؤمنين(علیهما السلام)عند أخيه الحسين(علیه السلام) لاجتماع هذه الصفات فيه، وهي لا تحوجنا إلى تقديم الشاهد واستدعاء الحجّة للإتفاق على أنّ أخصّ بني هاشم بالحسين(علیه السلام) وأقربهم منه أخوه العباس الأكبر وابنه علي الأكبر، والعباس(علیه السلام) أكثر مباشرة لأعمال الحسين(علیه السلام).

معنى المرافق لغة وعرفاً:

معلوم أنّ المعنى اللغوي للمرافق هو الرفيق المصاحب ما دام في رفقته وصحبته، فإذا فارقه زال الاسم عنه، كما نصّ عليه صاحب القاموس وغيره، وهذا المعنى هو المرتكز في أذهان عامّة الناس والسائد على أفهامهم.

لكن ذكر اللغويون للمرافق معنى قريب المأخذ ينطبق على ما نريد، وهو أنّ المرافق الحاذق الماهر المتأني في حوائجه والطبيب الحاذق، ومن مجموع هذه المعاني أخذ صفة المرافق للملك عند المدنيين.

وظيفة المرافق

وكان في العصور القديمة يتولّى المقابلات الرسمية وعرض القضايا والاتصالات موظف واحد يطلقون عليه اسم ((الحاجب)) كرئيس الديوان اليوم، وله وظيفة المقابلات من قسم التشريفات، وله أعوان

ص: 436

ومساعدون، وأمّا البوّاب فهو الذي يلازم الباب برسم الخدمة.

فالحاجب ومعاونه يرافقان الملك في تجوالاته وأسفاره، ويلازمان بابه سفراً وحضراً، ولا يفرّقون بين الحاجب والمرافق، وهو المسؤول عن حفظ الملك، فمتى أدخل أحد بدون أمره أو دخل داخل لا يعلم به عوقب أشدّ العقوبة وجوزي بأوجع الجزاء.

مرافقا الحسين

وإذا عرفت وظيفة المرافق قديماً وحديثاً تعرف أنّ للحسين بن علي(علیهما السلام) مرافقين، وهما أخوه أبو الفضل العباس وابنه علي الأكبر(علیهما السلام)، فإنهما كانا يلازمان بابه، ويمشيان في ركابه، وإذا دخل على بعض الأمراء كانا معه، كلّ ذلك حفظاً له وحياطة له، وقياماً بواجب أمره.

فقد تحدّث المؤرّخون وأرباب المقاتل في قصّة دخول الحسين(علیه السلام) على الوليد بن عتبة والي يزيد على المدينة، وقد دعاه ليلاً إلى بيعة الفاجر يزيد، وإنّ الحسين(علیه السلام) جمع فتيانه وجعلهم على باب الوليد.

ويتحدّث اليزدي في مصائب المعصومين(1) في أخبار كربلاء قال:

ص: 437


1- مصائب المعصومين: 224.

ثم أرسل الحسين(علیه السلام) إلى عمر بن سعد: إني اُريد أن اُكلمك فالقني الليلة بين عسكري وعسكرك، فخرج إليه ابن سعد في عشرين وخرج إليه الحسين(علیه السلام) في مثل ذاك.

فلمّا التقيا أمر الحسين(علیه السلام) أصحابه فتنحّوا عنه، وبقي معه أخوه العباس وابنه علي الأكبر(علیهما السلام)، وأمر عمر بن سعد أصحابه فتنحّوا عنه، وبقي معه ابنه حفص وغلام له.

فقال له الحسين(علیه السلام) ويلك! أما تتقي الله الذي إليه معادك؟! أتقاتلني وأنا ابن من قد علمت؟! دع هؤلاء القوم وكن معي، فإنّه أقرب لك إلى الله.

فقال عمر بن سعد لعنه الله: أخاف أن تهدم داري!

فقال له الحسين(علیه السلام): أنا أبنيها لك.

فقال: أخاف أن تؤخذ ضيعتي، فقال الحسين(علیه السلام) أنا أخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز.

فقال: لي عيال وأخاف عليهم من ابن زياد! ثم سكت ولم يجبه إلى شيء.

فانصرف عنه الحسين(علیه السلام) وهو يقول: ما لك؟! ذبحك الله على فراشك عاجلاً، ولا غفر لك يوم حشرك، فوالله إني لأرجو أن لا تأكل من برّ العراق إلا يسيراً، فقال ابن سعد لعنه الله: في الشعير كفاية عن البرّ! مستهزءاً بذلك القول...

ص: 438

للشيخ المظفر :

أبا الفضل إنّ السبط سبط محمد

مليك بني الدنيا وأنت المرافق

تقوم على أعتاب سدّة بابه

تبادر في حاجته وتسابق

ويوم أتى دار الوليد صحبته

وحولك من عدنان غرّ غرانق

ويوم ابن سعد قمت والسيف مصلت

على رأسه والسبط فيك لواثق

وإن شمّرت عن ساقها الحرب عنوة

وسالت كزخّار السيوف فيالق

تسل رهيف الشفرتين وما اتقت

مضاربه أدراعها واليلامق

وتترك أشتاتاً من الرعب صيدها

فسيح الفضا فيما تراه مضائق

فلم تعطهم قوّاتهم قطّ قوّة

ولا نفعتهم سمرهم والبوارق

وفرّوا ولكن مثل حمر بقفرة

لها القسور الدامي البراثن سائق

تكدّست القتلى فكانت روابياً

وبحر الدما فيه الخيول زوارق

وقايضهم بالحتف سيفك في الوغى

لدى الضرب لكنّ النفوس وثائق

أصاعقة ذاك الحسام أمّ أنّه

شهاب هوى انقضّت وراه الصواعق

أبوك الذي لم تشهد الحرب مثله

مغاربها تعنوا له والمشارق

فقد كان في فنّ الشجاعة معجزاً

ومعجزه في كلّ هيجاء خارق

فبدر واُحد بل حنين وخيبر

شواهد في إعجازه ومصادق

وصفين بل يوم الخريبة إذ أتى

يسوق لظعن الأم بالشرّ سائق

وأنت ابنه تروي لنا حملاته

وقد كان ما ترويه بالضرب صادق

تقدّ كما قد قدّ شطرين قرنه

وقد هدرت للمعلمين شقاشق

ص: 439

تقطّ كما قطّ اليراع رقابه

وتبري كما تبري القداح مرافق

الحجابة والحاجب

كما يحتاج الملك إلى السفير والعميد والمرافق في السفر ومقامات الخطر يحتاج إلى الحاجب ليقوم بعرض الكتب الواردة عليه من الآفاق، ويأخذ الأجوبة منه فيدفعها إلى أربابها، ويتناول من يده الرسائل فيسيّرها إلى البلدان والنواحي النائية والدانية، ويتولّى أمر إدخال الواردين عليه من الآفاق من الوفود ورسل الملوك ورؤساء القبائل واُمراء الجيوش وقادة الجنود وولاة المدن واُمراء الخراج والجباة ومدراء الاستخبار وأصحاب الأسرار وعامّة ذوي الحاجات، وكلّ هذه الاُمور تناط قديماً

بموظف يمسى بالحاجب، وربما كان المرافق هو الحاجب، وربما كان غيره.

وهذا العنوان - أي عنوان الحجابة - من العناوين المهمّة قديماً، وقد طرأت عليه تطورات كثيرة، وترقيات وتحسينات، وأحياناً تفاجئه آفات سقوط، فما زال بين طورين ضعف وقوة تتجاذبه قوّتان هبوط وصعود وارتفاع وانخفاض إلى أن وصل إلى هذا الزمان، فاكتسبت الحجابة دائرة كبرى، وسمّيت بإدارة الديوان، وإن نسخ اسم الحجابة لفظاً، فقد ثبت معناه، كما سمعت في المرافق.

إلفات نظر مهم

وأوّل مهمّ نلفت إليه أنظار القراء، وننبه المطالعين عليه أنّ نسبة

ص: 440

الحجاب لرسول الله(صلی الله علیه واله) وأئمة أهل البيت النبوي: ليست حقيقية، بل هو شبه حجاب، لأنهم لم يحتجبوا عن الناس، إنما كانوا يختلطون بهم، وكانوا يلتقون الناس على عهد النبي(صلی الله علیه واله) وأمير المؤمنين علي(علیه السلام) في المسجد الأعظم.

وهذه سيرهم تنطق باختلاطهم بالناس، ومجالستهم للعامّة، وأنهم يؤاكلون الفقراء، وربما افترش أحدهما عباءته ونام في المسجد، وربما توسّد ذراعه وانضجع على التراب، وكلّ هذه الأعمال ممّا تنفي عنهم اتخاذ الحجاب الحقيقي الذي أحدثته الجبروتية الأموية في الإسلام، وأوّل مؤسس له في الملّة معاوية بن أبي سفيان.

حقيقة الحجاب:

هي التستر عن الناظرين والترفّع عن مخالطة الناس، وهو ضدّ السفور والابتذال بكلّ معنى، لأنّ السفور البروز والظهور على حالة التكشّف والابتذال، فالاحتجاب ضدّه، وهو الاختفاء عن النظّار، وهو محمود في النساء، لأنّ العقائل عند العرب أعزّ من نفائس الأموال المثمنة التي تصان وتحفظ في صناديق الحديد كالجواهر الفريدة والعقود النفيسة ذات الأثمان الراقية، فيقفل عليها بالأقفال الثقيلة، ويرتج عليها أقوى رتاج بعد أن تستودع الخزائن الحريزة، والحجاب مفهوم بسيط.

معنى الحجاب لغة:

ص: 441

قال الفيروزآبادي في القاموس: حجبه حجباً وحجاباً ستره، وقد احتجب، والحاجب البواب جمعه حجبة، والحجاب ما احتجب به.

وقال الفيومي في المصباح: حجبه حجاباً في باب قتل منعه، ومنه قيل للستر: حجاباً، لأنّه يمنع المشاهدة، وقيل للبواب: حاجب، لأنّه يمنع من الدخول، والأصل في الحجاب جسم حائل بين جسدين، وقد استعمل في المعاني، فقيل: العجز حجاب بين الإنسان ومراده، والمعصية حجاب بين العبد وربّه...

قال أحمد بن أبي الربيع في سلوك المالك: وأمّا الحاجب فهو واسطة بين الملك وبين من يريد لقاءه ليرتب الناس بين يدي الملك كما يليق بمجلسه...

وقال: وصفته أن يكون فهماً ذا خلق واسع ومنطق بارع.

وأن يكون طويلاً جسيماً وسيماً لتروع العيون هيبته وهيئته.

وأن يكون ذا عقل وحكمة يدلّانه على صواب ما يأتي ويذر.

وينبغي أن يكون لا مكفهراً ولا سهلاً، ليّن الانقياد، ويجب عليه أن يعرف مراتب الداخلين على الملك فينزلهم منازلهم...

ذم الحجاب للرجال:

الأحاديث في ذمّه كثيرة منها ما رواه ثقة الإسلام الكليني في اُصول الكافي عن الإمام الصادق(علیه السلام) قال:

ص: 442

أيما مؤمن كان بينه وبين مؤمن حجاب ضرب الله - عزّ وجلّ - بينه وبين الجنّة سبعين ألف سور، ما بين السور إلى السور مسيرة ألف عام.

وروى عن أبي حمزة عن أبي جعفر(علیه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك ما تقول في

مسلم أتى مسلماً زائراً أو طالب حاجة، وهو في منزله، فاستأذن عليه فلم يأذن له، ولم يخرج إليه؟!

قال: يا أبا حمزة، أيّما مسلم أتى مسلماً زائراً أو طالب حاجة، وهو في منزله، فاستأذن له ولم يخرج إليه، لم يزل في لعنة الله حتّى يلتقيا.

فقلت: جعلت فداك، في لعنة الله حتّى يلتقيا؟!

قال: نعم يا أبا حمزة(1).

حجابة العباس الأكبر(علیه السلام) كيف كانت؟

قد عرفت أنّه لم يكن لرسول الله(صلی الله علیه واله) ولا لأحد من عترته: جميعاًً حجاب، وليس هذا الكتاب موضع نقل الأحاديث في هذا المعنى، فليس لهم كما للملوك الجبابرة وطواغيت الأمم حجبة وبوّابون، وإنما لهم خدم وعندهم رجال مختصّون مخصّصون لقضاء حوائجهم يلازمون أبوابهم في سائر الأوقات أشبه شيء بخدم الخاصّة للملوك من غير

ص: 443


1- الكافي: 2/365.

عبيدهم ومماليكهم يسمونهم ((بوّابين)) إشعاراً بالاختصاص، وإشارة إلى المواظبة، ويطلق عليهم اسم الحجاب توسعة في الكلام على ضرب من المجاز تمييزاً لهم عن العبيد الأرقاء، وموالي العتاقة، لأنهم أحرار كجويرية بن مسهر العبدي عند أمير المؤمنين(علیه السلام)، وحذيفه الغفاري عند الحسن بن علي(علیهما السلام)، والعباس بن علي وعلي بن الحسين عند الحسين:.

للشيخ المظفر :

أبو الفضل عند ابن النبي مقدّم

بإخلاصه من بين أهل وأصحاب

فقد كان مختصّاً به ومقرّباً

لديه لهذا لقّبوه ببواب

ولم تك عند السبط دار إمارة

فيحتاج مثل الطائشين لحجاب

فقد كان مستناً بسنّة جدّه

وسيرته المثلى وأفضل آداب

ترى بابه مفتوحة أمّها الورى

يحييهم بشراً بأهل وترحاب

إذا ما لقى المحتاج يلقاه باسماً

ولم يمزج العطف الجميل بإرهاب

ومن رام إرشاداً وعلماً يمدّه

ومن رام إسعاف حباه بإيجاب

فهاتيك أخلاق النبي وهذه

شمائله الحسنى تفيض بإرغاب

فحجابة العباس لأخيه الحسين(علیهما السلام) من نمط ما ذكرنا عن النبي(صلی الله علیه واله) وعترته:، فإنّه كان يلازم بابه ليقوم بقضاء حوائجه ومهمّاته، فإذا أراد أمراً يتعلّق بشأن من شؤونه التي هي خارج السدّة الشريفة أمر أخاه العباس أو ولده علي الأكبر(علیهما السلام) بذلك فسارعا إلى قضاء ذلك اللازم، وأسرعا في إنجاز ذلك المهمّ الذي عرض له(علیه السلام)، لأنّهما

ص: 444

مخصّصان لهذه الوظيفة.

قال الطبري في التاريخ(1) في حديث كربلاء: فلمّا دنا منه القوم دعا براحلته فركبها، ثم نادى بصوت عالٍ يسمعه جلّ الناس:

أيّها الناس! اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتّى أعظكم بما يحقّ لكم عليّ، وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم، فإن قبلتم عذري، وصدّقتم قولي، وأعطيتموني النصف كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم عليّ سبيل، وإن لم تقبلوا منّي العذر ولم تعطوني النصف من أنفسكم ((فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمّة ثم أقضوا إلي ولا تنظرون))(2)، ((إنّ وليي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولى الصالحين))(3) .

فلمّا سمع أخواته كلامه صحن وبكين وبكى بناته وارتفعت أوصواتهن أرسل

إليهن أخاه العباس بن علي وعلياً ابنه وقال لهما: سكّتاهن فلعمري ليكثرن بكائهن...

وهذه وإن لم تدلّ صراحة على الحجابة بمعناها السالف، لكنّها صريحة بملازمتها له واختصاصهما به، وترشيحهما لما يهمّه، وقد مرّت شواهد كثيرة تدلّ على مواظبتهما للخدمة الحسينية، وخاصة

ص: 445


1- تاريخ الطبري: 6/243.
2- يونس: 71.
3- الأعراف: 196.

العباس(علیه السلام) الذي لم يدع ملازمته آناً ما سفراً وحضراً حتّى في آخر حياته، كما سيجيء في مقتله وشهادته عن الشيخ المفيد وغيره إنّه(علیه السلام) قصد المسناة وبين يديه أخوه العباس(علیه السلام).

فقد ظهر ممّا ذكرناه أنّ للعباس(علیه السلام) عند أخيه الحسين - صلوات الله عليه - أربعة وظائف مهمّة، هي: السفير، والعميد، والمرافق، والحاجب، سوى وظائف عسكرية اُخرى تلقّاها يوم العاشر من المحرم اقتضتها حراجة الموقف سنشير إليها في الخطط العسكرية، وهذه الوظائف الأربعة وظائف سامية ورتب نبيلة كما عرفتها.

للشيخ المظفر :

جمعت وظائف ساميات جمّة

للشهم عباس بن ساقي الكوثر

فله السفارة والحجابة دائماً

وهو المرافق بل عميد العسكر

قد خصّه فيها الحسين فزاده

فضلاً على فضل له لم ينكر

بذّ الكرام بما حبى من رتبة

وصفاته العليا وطيب العنصر

قرم مشا للموت دون إمامه

طلق المحيّا مشية المتبختر

باع النفيس ونفسه في كربلا

لكن سوى طيب الثنا لم يشتر

ص: 446

الدخول إلى الحرب تشكيل الخطط الحربية بكربلاء

الخطط الحربية تتشكّل بشكلين لا ثالث لهما: خطّة هجوم، وخطّة دفاع، عند سائر الاُمم الحاضرة والغابرة، وفي جميع الحروب النظامية وغير النظامية، وسواء كانت الطريقة هي الكرّ والفرّ، أو الاصطفاف أو الكردسة أو تفرقة الجند على طريقة الحضارة الحادثة، كلّ ذلك سواء في طريقي الهجوم والدفاع لا يشذّ عن هذا غير اُسلوب اللصوص وخطط القرصان وقطاع الطريق وأهل الغارات والسرايا المغيرة والبعوث التي ترسلها الملوك وقوات الثغور المرابطة قد تتّبع هذا النظام وقد تغايره، لكن الجيوش المنظمة المتقابلة هذه خططها وهذه أنظمتها سواء تكافأ الجيشان في القوّة أم اختلفا، فلابد من تنظيم خطّتين: أحدهما للهجوم، والاُخرى للدفاع.

فالحسين بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیهما السلام) اختار خطّة للدفاع بديعة جدّاً نظراً منه لقلّة عسكره، وضخامة جيش الأعداء،

ص: 447

وانقطاع المدد من جيشه الصغير عدداً، واتصال الإمداد بجيش عدوّه الكبير عدداً، فإنّ القوّات تتلو القوّات، والجحافل تقفو الجحافل حتّى قيل:

ملأوا القفار على ابن بنت محمد

جنداً وملؤ صدورهم ذحل

بجحافل بالطفّ أوّلها

وأخيرها بالشام متصل

أمّا قائد قوات الأعداء عمر بن سعد، فقد اختار في تنظيم جيشه الكبير المقابل لجيش الحسين(علیه السلام) الصغير ما تفعله الجيوش الصغيرة في مقابلة الجيوش الكبيرة، وتعتمده الأجناد القليلة في ملاقاة الأجناد الكثيرة، وهو الكردسة.

وهذا النظام الذي اختاره عمر بن سعد يدلّ أنّ قوّة ثبات جيش سيّد الشهداء الحسين(علیه السلام) الصغير أعظم من قوّة جيشه الجرار، وهو كما ظنّ الخبيث.

خطة الدفاع:

الخطّة التي رسمها الإمام الحسين(علیه السلام) لجنده اليسير عدداً في الدفاع والدفع لذلك الجيش العرمرم الضخم الذي أحاط بجيش الحسين(علیه السلام) من جميع الجهات، وإنّ الحسين(علیه السلام) رأى عند نزوله بكربلاء تلاعاً ثلاثة متقاربة ترسم بصورة هلال، فيتقّن أنها تكون مكاناً ومكمناً لخيول الأعداء، وذلك حيث يقول لنافع بن هلال:

ص: 448

خرجت أتفقّد هذه التلاع مخافة أن تكون مكمناً لخيول الأعداء يوم تحملون ويحملون.

فاحتاط منها لئلا يأتيه العدوّ من خلف، كما وقع لجيش النبي صلى الله عليه و آله يوم اُحد وجيشه لقلّته لا يستطيع الممانعة والمدافعة مستقبلاً ومستدبراً، وإذا فرّقته الحملة لم يستطع أن يحمي ما وراء ظهره، وإنما يستطيع الممانعة والمدافعة للعدوّ باجتماعه وانضمام بعضه إلى بعض، فكان من لوازم الحزم واليقظة اتخاذ وسيلة لصدّ هجمات العدوّ عليه من خلفه، وليضطرّه إلى المكافحة من أمام، فاحتفر خندقاً من وراء المخيّم يحيط بجميع الخيم من جهات ثلاثة على شكل هلال أيضاً، فكان الخندق محيطاً بجيشه ومخيّمه من الجنبات الثلاثة: اليمين واليسار والوراء، وملأه بالحطب حتّى إذا شبّ القتال ونشبت الحرب أضرم فيه النار، فيمنع من أراد الاقتحام من ناحيته، ويردّ من حاول الهجوم عليه من هذه الجنبات، فيكون قتاله للأعداء من جهة واحدة، ويلقاهم من وجه واحد، لأنّ الخندق المضطرم بالنار لا يقتحمه فارس، ولا يقتحمه راجل، فأصبح هو والتلال الثلاثة المشرفة كأمنع حصن، وأحصن سدّ، وأقوى استحكام يقيمه محارب لجيش مصحّر لعدوّه.

تعبئة الحسين(علیه السلام) لجنده:

ونحن نبدأ بتعبئة الجيشين المتقابلين في كربلاء: جيش سيّد الشهداء الحسين بن علي(علیهما السلام) وجيش قائد القوات عسكر السقيفة الأموية عمر

ص: 449

بن سعد، وسأرسم ذلك إن شاء الله مستنتجاً ما اُحرره من أسفار التاريخ ومقتضباً له من مجموعة الأثار

المتصدّية لإيراد وقائع ذلك اليوم الفظيع والموقعة المؤلمة والمذبحة التي هي أفضع مذبحة بشرية واجهها التاريخ ضحي فيها بسلالات الأنبياء، وأضع أمام ذلك خريطة ليفهم القارئ أنّ جيش الحسين(علیه السلام) كان في ضمن جيوش الأعداد كنقطة في دائرة، أو خرزة في وسط حلقة، وخذ رسم الخريطة:

ثم إنّ الحسين(علیه السلام) عبّأ أصحابه وقسّم جنده إلى ثلاثة أقسام، فتكوّنت له ثلاث كتائب صغيرة، فجعل واحدة في الوسط، وهو القلب، واثنين مجنبتين ميمنة وميسرة، وهذا التقسيم للرجالة المشاة، فجعل قائد المجنبة اليمنى، وهي عشرون رجلاً زهير بن القين البجلي، وقائد المجنبة اليسرى، وهي أيضاً عشرون رجلاً حبيب بن مظاهر الأسدي، وجعل قائد كتيبة القلب، وهي ثلاثون رجلاً أخاه العباس بن علي(علیهما السلام)، ودفع إليه لواء العسكر، وهو لواؤه الأعظم، ووضع له كرسي فجلس عليه في مركز القلب خلف موقف حامل اللواء، وهذه الكتائب الثلاثة أقامها حرساً للأخبية والبيوت، ولتصدّ هجمات العدوّ على تخوم ذلك المناخ.

وجعل قائد القوات جميعاًً أخاه العباس(علیه السلام)، وجعل له حرساً خاصّاً أقامه على رأسه ليدفع عنه من قصده من مردة الأعداء، وهذا الحرس مؤلّف من أربعة أبطال من أنصاره، وهم: نافع بن هلال الجملي

ص: 450

البجلي، وحنظلة بن أسعد الشبامي الهمداني، وأبو ثمامة الصائدي الهمداني، وسعيد بن عبد الله الحنفي، ورأّس عليهم ابنه علي الأكبر(علیه السلام)، فعلي الأكبر(علیه السلام) رئيس الحرس الحسيني الخاصّ، ونافع بن هلال تلقّى وظيفة إمارة الرماة، فكان من رجال الحرس الخاص وقائداً للرماة.

ثم ألف(علیه السلام) كتيبة رابعة وهي كتيبة الخيالة ((الفرسان))، ويبلغ عدد فرسانها سبعين فارساً جعلها كبكبة واحدة، وجعل كتيبة الرماة أمام كتيبة الخيل حامية لها من هجمات الأعداء المفاجئة، وجعلها صفّاً واحداً أمام فرسانه، وفي هذه الكتيبة من مهرة الرماة الفانين وخبرائهم، ومن لا تخطئ له رمية إلا نادراً، أمير الكتيبة نافع بن هلال وأبو الشعثاء يزيد بن المهاصر الكندي أحد بني هند، وكانت معه مائة نبلة نثلها أمام قدمي الحسين(علیه السلام)، وكان يقول: ((بنو بهدلة فتيان العرجلة))، فأصاب بخمسة وتسعين نبلة، وكان كلّما رمى نبلة قال الحسين(علیه السلام): اللهم سدّد رميته، واجعل ثواب عمله الجنّة.

وكذلك فعل نافع بن هلال، وكان يكتب على النبلة اسمه واسم أبيه، فيرمي فلا يخطئ.

تعبئة جيش عمر بن سعد لعنه الله:

ص: 451

أمّا عمر بن سعد - لعنه الله - فجعل تلك الخيل الكثيرة كراديساً، وهو عبارة عن كوكبة واحدة مجموعة من فرسان، وأمرها أن تحوم على عسكر الحسين(علیه السلام) من جهاته الأربعة، وجعل على الخيل كلّها عزرة بن قيس الأحمسي البجلي.

وعبأ العسكر تعبئة الحرب على النظام المعمول به في تلك العصور: فقسّم إلى ميمينة وميسرة، وهما المجنبتان، وقلب وساقه، وجعل قائد المجنبة اليمنى الميمنة عمرو بن الحجاج الزبيدي المذحجي، وجعل لكلّ كتيبة وسريّة قائداً، وعلى المجنبة اليسرى الميسرة شمر بن ذي الجوشن الضبابي من بني كلاب بن عامر، وجعل اللواء لواء العسكر لدريد مولاه، وهو على القلب، ووضع له كرسي في مركز القلب، فجلس عليه من وراء الحامية وخلف الصفوف.

وجعل على خيل الكشف والطلائع التي تمنع القاصدين إلى الحسين(علیه السلام) عن الالتحاق به وتردّ الخارجين لطلب الميرة أو لاستنهاض قبيلة الأزرق الشبامي من همدان، وهو الذي حارب الأسديين الذين استنهضهم حبيب بن مظاهر لنصرة الحسين(علیه السلام)، فردّهم على أعقابهم وحال بينهم وبين الوصول إلى الحسين(علیه السلام) بقوّته التي لم تكن لهم طاقة بمقاومتها، فرجعوا إلى حيّهم وارتحلوا من ليلتهم مخافة أن يبيّتهم عسكر ابن سعد، وهذا الشقي التعيس قتله القاسم بن الحسن(علیهما السلام) فيما قيل.

وجعل على كردوس من الخيل كثير بن عبد الله الشعبي شعب

ص: 452

همدان، وكان فاتكاً فاجراً شيطاناً مارداً أموي العقيدة عثمانياً متصلّباً قاسي القلب لئيم المحضر عديم الحياء، فهو من شرّ خلق الله وأخبثهم وأجرأهم على سفك دم محترم، وهو القائل لعمر بن سعد لمّا ندبه لمواجهة الحسين(علیه السلام) ليسأله عن مقدمه إلى العراق وما يريد به، قال: والله إن أمرتني أن أفتك به فعلت، فقال: لا ما آمرك أن تفتك به، ولكن سله ما الذي أقدمه علينا؟

فاتجه اللعين يحمل خبثاً وشرارة، ويضمر غشّاً ودغلاً، وينوي فجوراً وغدراً، ولمّا رآه الحسين(علیه السلام) مقبلاً سأل عنه، فقال أبو ثمامة الصائدي من همدان: يا أبا عبد الله! هذا والله شرّ أهل الأرض وأجرأهم على دم....

وجعل ابن سعد على كردوس آخر مسروق بن وائل بن حجر الحضرمي الكندي، فرجع عن حرب الحسين(علیه السلام) لمّا رأى استجابة دعائه سريعاً على عبد الله بن حوزة.

ثم صفّ ابن سعد الرجالة صفوفاً، ويقال: كردسهم أيضاً قبالة الحسين(علیه السلام)، وأعطى القيادة العامّة على كتائب المشاة لشبث بن ربعي من بني عمر بن تميم، وكان مؤذّن سجاح المتنبئة مع ابن النواحة مؤذّنها الآخر.

وصفّ ابن سعد الرماة أمام الخيل المكردسة صفوفاً، وهم عشرة آلاف رامي، وجعل قيادتهم لمدير شرطة ابن زياد حصين بن تميم التميمي، وهو الذي كان على القادسية، ووجّه الحرّ الرياحي ليجعجع

ص: 453

بالحسين(علیه السلام) إن لقيه، وهو الذي قبض على رسول الحسين(علیه السلام) قيس بن مسهر الصيداوي، فأرسله إلى ابن زياد فقلته، ولهذا اللعين أخبار رديئة اُطلب ترجمته من كتاب ((الميزان الراجح للمظفر)).

ثم نظم ابن سعد - لعنه الله - كتائب القبائل، وجعلها أربعة فرق، كما هي عادة قبائل أهل الكوفة، وكلّ فرقة تشتمل على أفواج، فجعل أهل العالية هم أهل

المدينة فرقة، وهؤلاء قريش وكنانة والأنصار ومزينة وغيرهم، وولي قيادة هذه الفرقة عبد الله بن زهير بن سليم الأزدي، وهذا الخبيث قاده الشقاء إلى هذا الموطن، وإلا فقد كان شهد مع أمير المؤمنين علي(علیه السلام) حروبه، وهو ابن أخي مخنف بن سليم، وكان مخنف صحابياً شيعياً، ومات على ذلك ولم يبدّل كما بدل ابن أخيه هذا الشقي، اللهم نعوذ بك من عاقبة السوء.

وجعل على الفرقة الثانية التي تجمع كندة وربيعة وحضرموت ومن معهم قيس بن الأشعث بن قيس الكندي، وهذا الخبيث هو الذي استلب قطيفة الحسين(علیه السلام)، فعيرته العرب بذلك، ولقّبوه بقيس القطيفة، وهذا الرجل ملعون من بيت شقاوة ملعون هو وأبوه وأخوه وابن أخيه كلّهم أشقياء، فأبوه الأشعث خارجي وشارك ابن ملجم وأعانه على قتل أمير المؤمنين(علیه السلام)، وأخوه محمد بن الأشعث قتل مسلم بن عقيل وشارك في قتل الحسين(علیه السلام)، وابن أخيه عبد الرحمن بن محمد شارك في قتل مسلم بن عقيل، وأشار على مصعب بن الزبير بقتل أصحاب المختار، فذبح منهم أربعة آلاف صبراً بعد أن أعطاهم الأمان،

ص: 454

وأخته جعدة بنت الأشعث سمّت الحسن بن علي(علیهما السلام).

وجعل عمر بن سعد على الفرقة الثالثة التي تجمع تميماً وهمدان شبث بن ربعي التميم بعد أن كان الحرّ هو القائد لهذه الفرقة، فتركها ولحق بالحسين(علیه السلام)، وشبث هذا كما عرفته ممّن ارتد مع سجاح، وكان يؤذّن لها، وراجع الإسلام وشهد صفين مع أمير المؤمنين(علیه السلام) ثم تحوّل خارجياً، وراجع ظاهراً واعتقد الخارجية باطناً، وهو شريك عمرو بن حريث وجرير بن عبد الله البجلي والأشعث بن قيس في مبايعة الضبّ وخلع بيعة أمير المؤمنين علي(علیه السلام)، ثم خرج إلى حرب الحسين(علیه السلام)، ثم حارب المختار، فهو يتقلّب في الضلالة أولاً وأخيراً.

وجعل ابن سعد على الفرقة الرابعة التي تجمع مذحجاً وأسداً ومن معهم عبد

الرحمن بن أبي سبرة الجعفي من مذحج، وهذا الخبيث كان صحابياً وقوّياً من أقوياء العرب، ولكنّه كان أموي الرأي عثماني العقيدة، وهو من شهود الزور الذين شهدوا على حجر حتّى قتله معاوية.

ثم رتّب عمر بن سعد حرس الشرائع، فجعلها كتائب، وكان حرس الشرائع قوّياً، والشرائع كلّها على ضفاف نهر العلقمي، وهو شعبة من الفرات الأعظم يسمّى بالفرات الأصغر، فمنها:

شريعة الغاضرية، وتسمّى اليوم ((أرض الحسينية))، وتبعد عن معسكر الحسين(علیه السلام) بمقدار ميلين تقريباً.

وشريعة نينوى أو أراضي السليمانية اليوم، وهذه المشرعة تبعد عن

ص: 455

عسكر الحسين(علیه السلام) بمقدار ميل ونصف ميل تقريباً.

وشريعة المسناة أو قنطرة العلقمي، وهذه الشريعة تبعد عن معسكر الحسين(علیه السلام) بنصف ميل، فهي أقرب الشرائع إلى معسكر الحسين(علیه السلام)، ومنها استقى العباس(علیه السلام)، وعلى ضفتها سقط، وبالقرب منها مرقده الشريف.

وشريعة النواويس، وهي بالقرب من مرقد الحرّ الرياحي اليوم، وتبعد عن معسكر الحسين(علیه السلام) بما يزيد على ميلين، وتعتبر أبعد الشرائع عن مخيم الحسين(علیه السلام).

وأمراء حرس هذه الشرائع:

عمر بن الحجاج الزبيدي في أربعة آلاف مسلح مدجّج من الأقوياء، والأزرق الشبامي، وإسحاق بن حيوة الحضرمي، ويقال: الأزرق الشبامي.

وكلّ واحد من هؤلاء القوّاد كان يتلقّى وظيفتين وأكثر في جيش عمر بن سعد، فالأزرق الشبامي كان على خيل الكشف، وأمير حرس الماء، وعمرو بن الحجاج على المجنبة اليمنى ((الميمنة)) وعلى حرس الماء وعلى خيل الطلائع، والشمر على المجنبة اليسرى، وعلى قطعة من الخيالة، وعلى حرس المشاة ليلاً، والحصين بن تميم على الشرطة وعلى الرماة من الجنود، وعزرة بن قيس على فرق الخيالة وعلى الحرس الليلي، وهكذا كثير من الباقين.

ص: 456

اختيار ابن سعد للكردسة شأن الضعيف مع القوي:

بقي علينا أن نفهم لم اختار عمر بن سعد - لعنه الله - الكردسة، وإنما يختار الكردسة الضعيف في قبال القوي، وتعوّل عليها القلّة في جنب الكثرة، وقوّة العدوّ القوّية وتفوّقه في الاستعداد، فتخشى منه الغلبة، فيخاف الجيش الصغير أن يحطمه الجيش الكبير ويغلبه بكثرته، فيركن إلى الكردسة حين تظهر له أمارات عدم المقاومة لذلك الجيش الضخم المستعدّ، فيضطر القائد المجرّب إلى الكردسة ليبيّن أثرها إذا اجتمعت، وتظهر نكايتها في الصدمة.

فهل ترى عمر بن سعد استقلّ جيشه الكثير الجرار المتلاحق الإمداد؟ أمّ استكثر جيش الحسين(علیه السلام) الصغير العدد الفاقد المدد؟

كلا، لا هذا ولا ذاك، ولكنّه استعظم جيش الحسين(علیه السلام) بثبات رجاله الأفذاذ، لأنهم من أهل الحفاظ والبصيرة في الدين، والمستميتين، وهم فرسان العرب وأبطالهم المتميّزون بالنجدة والشجاعة، شهدت لهم الوقائع الإسلامية والفتوحات وحروب الجمل وصفين والنهروان بالبطولة، وتحامتهم الأبطال في المعارك، وحادت دون لقائهم الكماة، فتيقّن ابن سعد أنّ جيشه الكبير لا يثبت أمام صدمتهم، ولا تقف خيله الكثيرة لخيلهم القليلة، وليس لجيشه استماتتهم، ولا تبصّرهم في دينهم، فإنما كلّه فساق طمّاعون ومرّاق مخادعون، وهو سيندك أمام صدمة التبصّر الديني، وينهار عند الاحتكاك بأسطوانة الاستماتة المحكم، ورصيف التفاني الثابت على

ص: 457

اُسسه القويمة.

فرأى من التدبير الفني الحربي - والحالة هذه - التعويل على الكردسة لعلمه أنّ أصحابه وإن كثر عددهم واستكمل عددهم، وأضعفوا على جيش الحسين(علیه السلام) أضعافاً كثيرة، لكنّ عزم كلّ فرد من أفراد هذا الجيش الصغير أقوى بالضعف المضاعف من عزم ذاك العدد المتكاتف بالكثرة، وفرق بين من يقاتل طمعاً وخوفاً وتعذيراً، وبين من يقاتل تديّناً وتبصيراً واستماتة وتفانياً.

وعمر بن سعد وقوّاده يعرفون شجاعة أصحاب الحسين(علیه السلام) وبسالتهم ونجدتهم في الحروب معرفه دقيقة، معرفة حقيقية، معرفة واقعية، معرفة تجربة واختبار لا مجرد ظنّ وتخمين لما شهدوه وعاينوه من فعالهم في المغازي والفتوحات الإسلامية، فكان الواحد منهم يكاد يلتهم الجيش بأسره لولا عوائق القدر وحيلولة القضاء المبرم، ومع ذلك فلهم به البطشة الكبرى والنكاية التي لا يمحى ذكرها مدى الأزمان، وهم في قدرة ولهم مقدرة أن يأتوا على الجمع بحذافيره والحشد بأسره لولا الأقدار والظمأ الذي حال بينهم وبين مشاهدة السماء لشدّته، فكان كالدخان المنعقد في الأجواء.

وقد عضدت تلك البسالة والنجدة وشدّة الشكيمة والحفاظ والحمية بصيرة الدين، وصفاء النيّة في الاعتقاد، واليقين وبلوغهم في الإيمان الدرجة القصوى، وارتقائهم في الديانة إلى أرفع المراقي، ولهم مع ذلك الرجاء بموعود الله تعالى للمجاهدين في سبيله، والثقة بصدق وعده

ص: 458

لمن حامى عن دينه، ودعا إلى سبيل ربّه.

وهم كذلك مستميتون في سبيل العزّ، متفانون في إحياء الذكرى الجميلة، مستميتون في الدفاع عن عرض النبي(صلی الله علیه واله) وحرم الله ورسوله(صلی الله علیه واله)، وعن حبيبهم وحبيب الله وسيّد شباب أهل الجنّة، وقد يبلغ الفرد المستميت ما لا يبلغه الجيش الجرار، فالاستماتة لها أثرها ولها مفعوليتها.

وجيش عمر بن سعد خال من البصيرة، وقد عدم الإسلامية وسلب روح الإيمان، وهو متيقّن سوء العاقبة، وواثق بتعاسة المنقلب، وله مندوحة النجاة إذا ما فرّ أو أنهزم.

ومن كانت هذه صفته فهو قليل، وإنّ كثير جمعه ضعيف، وإن كمل استعداده واتصلت إمداده، فإنّه لا يثبت أمام الحائز لتلك الصفات، وإن قلّ العدد وانقطع المدد، فإنّ المتصف بهذا لا يرى إلا الموت إمامه، ويعلم أن لا سبيل إلى الحياة وهو مستقبل دار البقاء الآخرة مستدبر دار الفناء الدنيا، معرض عن زهرتها وزهوها، ومتجاف عن نضرتها وغضارتها، فهو يقدم بثبات روح الإيمان إقدام المستميت المتبصّر بما هو أثبت من قنن الرواسي، وأرسى من أركان الشامخات الرواسخ، معقله سيفه، وحصنه رمحه، واستحكامه بطشه، إذا تلبط الكماة بالاستحكام، وتحصن الأبطال بالمعاقل.

للشيخ المظفر :

لهم عزمهم حصن حصين وبطشهم

بجيش العدى في الحرب أقوى المعاقل

ص: 459

فسل صحف التاريخ تنبئك إنّهم

مساعير من أعلا حماة القبائل

وهم نخبة من خير عدنان عنصراً

ومن يعرب أهل الحفاظ الأماثل

لقد أصحرتهم كالاُسود كريهة

يحامون عن ثقل الهدى والعقائل

رعوا لرسول الله فيهم وصاية

وقد جالدوا عنهم بغاة الغوائل

غداة أثار الغدر حرباً عليهم

فسار بجيش ذا قناً وقنابل

ومن بايعوهم بعد توكيد عهدهم

غدو بين حربي شديد وخاذل

ولم يحفظ العهد الوكيد بنصرهم

سوى نفر غرّ كرام قلائل

سروا في ركاب السبط للموت عنوة

وما كانت الدنيا لديهم بطائل

فقد بذلوها أنفساً عزّ مثلها

فداء حسين خير حاف وناعل

وقالوا هي الفردوس لا شيء غيرها

فسيروا إلى ريحانها سير عاجل

فابن سعد - لعنه الله - كردس الخيل لهذا الغرض، وقد استشعر أهل الكوفة هذا من أصحاب الحسين(علیه السلام)، فلذلك استقبلوهم بكمال الاستعداد خوفاً على عطب جيشهم الكبير، واستئصال عددهم الكثير بين ذلك العدد النزر والجيش الصغير، فاحتطوا لذلك بكردسة الخيل، وقدّموا كتائب الرماة، ثم كتائب المطاعنة أهل الرماح المشرعة التي لا تقدم على أسنّتها الخيل، وأضافوا إليها أصحاب المقاليع الذين يقذفون الحجارة بالمقلاع، ومع ذلك كلّه فقد استبان الخلل في الكوفيين، وظهر عياناً عند المقاومة وساعة الالتحام.

وإنّ تلك الخيل المكردسة كراديساً، فإنّ العشرة آلاف فرس المكردسة، والعشرون ألفاً المشاة انهارت أمام حملات أصحاب

ص: 460

الحسين(علیه السلام)، واختلّت أنظمتها، وسبعون فارساً يقاوم عشرة آلاف فارس أو أكثر، كما قال السيّد الهندي في استنهاض الإمام المهدي المنتظر(علیه السلام) ويرثي بذلك جدّه الحسين(علیه السلام):

هب أنّ جندك معدود فجدّك قد

لاقى بسبعين جيشاً ما له عدد

ولهول الصدمة من هجمة السبعين فارساً على العشرة آلاف فارس، واندحار العشرة آلاف أمام السبعين، بل الثلاثين، أرسل قائد كتائبها وأمير سراياها العام عزرة بن قيس الأحمسي إلى القائد العام عمر بن سعد يشكو إليه عدم ثبات خيله أمام هذه الخيل اليسيرة، ويستنجده ويستعين به في تقوية خيله بالقوّة المرامية، وهي عشرة آلاف لتعقر الخيول التي يمتطيها أصحاب الحسين(علیه السلام)، وهذا لفظ الطبري في تاريخه(1):

وقاتلهم أصحاب الحسين(علیه السلام) قتالاً شديداًً، وأخذت خيلهم تحمل، وإنما هم إثنان وثلاثون فارساً، وأخذت لا تحمل على جانب من خيل أهل الكوفة إلا كشفته، فلمّا رأى ذلك عزرة بن قيس، وهو على خيل أهل الكوفة، وإنّ خيله تنكشف من كلّ جانب بعث إلى عمر بن سعد عبد الرحمن بن حسن فقال: أما ترى ما تلقي خيلي منذ اليوم من هذه العدّة اليسيرة، إبعث إليهم الرجال والرماة.

فقال لشبث بن ربعي: ألا تقدّم إليهم بالرماحة؟

ص: 461


1- تاريخ الطبري: 6/249.

فقال: سبحان الله! أتعمد إلى شيخ مضر وأهل المصر عامّة تبعثه في الرماة لم تجد من تندب لهذا أو يجزي عنك غيري؟

قال أبو زهير العبسي: أنا سمعته في إمارة مصعب يقول: لا يعطي الله أهل هذا المصر خيراً أبداً، ولا يسدّدهم لرشد، ألا تعجبون إنّا قاتلنا مع علي بن أبي طالب ومع ابنه من بعده آل أبي سفيان خمس سنين، ثم عدونا على ابنه وهو خير أهل الأرض نقاتله مع آل معاوية وابن سمية الزانية، ضلال يا لك من ضلال!

قال: ودعا عمر بن سعد الحصين بن تميم فبعث معه المجففة، وهم خمسمائة من المرامية، فأقبلوا حتّى إذا دنوا من الحسين(علیه السلام) وأصحابه رشقوهم بالنبل، فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم وصاروا رجالة..

فهذا قائد كتائب الخيالة وسرايا الفرسان يستغيث بأمير الأمراء وقائد القوات العام من سرية خيل عدد فرسانها إثنان وثلاثون ما صبرت كتائبه وسراياه لها حتّى عززت قوّته بقوّة المرامية من أصحاب الأقواس والمقاليع الذين يقذفون الحجارة والسهام، وهم عشرة آلاف على ما رواه غير الطبري.

وهذا قائد المجنبة اليمنى عمرو بن الحجاج الزبيدي يهجّن عقل أصحابه، ويفيل رأيهم، ويستحمقهم في المبارزة لأصحاب الحسين(علیه السلام)، لأنّه قد عاين أنّه ما برز منهم أحد لأصحاب الحسين(علیه السلام) إلا وقتل، وكان خبيراً ببطولتهم وفروسيتهم، وعارفاً بشجاعتهم المدهشة حيث كانت تجمعه وإياهم الملاحم في الفتوحات والمغازي،

ص: 462

وأيام الجمل وصفين والنهروان، فلهذا يتقدّم لأصحابه بالنصيحة، وينذرهم بالخطر في مبارزتهم، ويعرفهم أنّه سفه واغترار، كما تحدّث الطبري في التاريخ(1) بما نصّه:

فصاح عمرو بن الحجاج بالناس: يا حمقاء! أتدرون لمن تقاتلون؟ فرسان المصر قوماً مستمتين، لا يبرزنّ لهم منكم أحد، فإنهم قليل وقلّ ما يبقون، والله لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم.

فقال عمر بن سعد: صدقت الرأي ما رأيت، وأرسل إلى الناس يعزم عليهم لا يبارز رجل منكم رجلاً منهم...

وخذ إليك نبذة من اعتراف أهل الكوفة بتفوّق أصحاب الحسين(علیه السلام) شجاعة ونجدة في الأفراد والجماعة كلّ ذلك عن تاريخ الطبري:

منها: قول شبث بن ربعي التميمي في مسلم بن عوسجة الأسدي في قصّة استشهاده، قال(2):

ص: 463


1- تاريخ الطبري: 6/249.
2- تاريخ الطبري: 6/249.

فصاحت جارية له فقالت: يا بن عوسجتاه! يا سيّداه! فقال أصحاب عمرو بن الحجاج: قتلنا مسلم بن عوسجة الأسدي!

فقال شبث: ثكلتكم اُمهاتكم! إنما تقتلون أنفسكم بأيديكم، وتذلّلون أنفسكم لغيركم، تفرحون أن يقتل مثل مسلم بن عوسجة، أما والذي أسلمت له، لربّ موقف له قد رأيته في المسلمين كريم، لقد رأيته يوم سلق أذربيجان قتل ستّة من المشركين قبل أن تتام خيول المسلمين، أفيقتل منكم مثله وتفرحون؟!

وقول أيوب بن مشرح الهمداني الخيواني في الحرّ بن يزيد اليربوعي الرياحي لفظه: إنّ أيوب بن مشرح الخيواني كان يقول: أنا والله عقرت بالحرّ بن يزيد فرسه حشأته سهماً فما لبث أن أرعد الفرس واضطرب وكبا، فوثب الحرّ عنه كأنّه ليث والسيف في يده وهو يقول:

إن تعقروا بي فإنا ابن الحرّ

أشجع من ذي لبد هزبر

قال: فما رأيت أحداً قطّ يفري فريه.

قال: فقال له أشياخ من الحيّ: أنت قتلته؟ قال: لا والله ما أنا قتلته، ولكن قتله غيري، وما اُحب أني قتلته، فقال له أبو الوداك: ولم؟ قال: زعموا أنّه كان من الصالحين، فوالله لئن كان ذلك إثماً لأن ألقى الله بإثم الجراحة والموقف أحبّ إليّ من أن ألقاه بإثم قتل واحد منهم!!!!

فقال له أبو الوداك: ما أراك إلا ستلقى الله بإثم قتلهم أجمعين، أرأيت لو أنّك رميت هذا فعقرت ذا ورميت آخر، ووقفت موقفاً وكررت

ص: 464

عليهم، وحرّضت أصحابك وكثّرت أصحابك، وحمل عليك فكرهت أن تفرّ، وفعل آخر من أصحابك كفعلك وآخر وآخر كان هذا وأصحابه يقتلون؟! أنتم شركاء كلّكم في دمائهم.

فقال له: يا أبا الوداك! إنّك لتقنّطنا من رحمة الله!!! وإن كنت وليّ حسابنا يوم القيامة فلا غفر الله لك إن غفرت لنا، قال: هو ما أقول لك(1).

ومنها: قول ربيع بن تميم الهمداني من أهل الكوفة في عابس بن أبي شبيب الهمداني الشاكري ولفظه(2):

ص: 465


1- أبو الوداك هذا هو ابن نوف البكالي صاحب أمير المؤمنين(علیه السلام)، وكان أبو الوداك كأبيه نوف شيعياً، وله بلاء عظيم في حروب الطلب بثأر الحسين(علیه السلام) أيام المختار، ترجمه الشيخ المظفر في كتابه ((الميزان الراجح)) وذكر أخباره.
2- تاريخ الطبري: 6/254.

عن رجل من همدان يقال له ((ربيع بن تميم)) شهد ذلك اليوم قال: لمّا رأيته مقبلاً عرفته وقد شاهدته في المغازي، وأنّه أشجع الناس، فقلت: أيّها الناس! هذا أسد الأسود، هذا ابن أبي شبيب لا يخرجن إليه أحد منكم، فأخذ ينادي: ألا رجل لرجل؟ فقال عمر بن سعد - لعنه الله -: ارضخوه بالحجارة.

قال: فرمي بالحجارة من كلّ جانب، فلمّا رأى ذلك ألقى درعه ومغفره، ثم شدّ على الناس، فوالله لرأيته يكرد أكثر من مأتين من الناس، ثم إنهم تعطّفوا عليه من كلّ جانب فقتل.

قال: فرأيت رأسه في أيدي رجال ذوي عدّة، هذا يقول: أنا قتلته، وهذا يقول: أنا قتلته، فأتوا عمر بن سعد - لعنه الله - فقال: لا تختصموا، هذا لم يقتله إنسان واحد، ففرّق بينهم بهذا القول.

وفي رواية غيره: لم يتقله إنسان واحد.

وهل حدّثك التاريخ في غابره وحاضره مثل هذا الرجل؟ إنّ الأبطال مهما بلغوا في البطولة يعتصمون بالحصون والمعاقل، ويتّخذون الأدراع والمغافر للوقاية، حتّى أنّ بعضهم ليظاهر بين درعين، ويلبس بيضتين أو بيضة ومغفراً، وهذا البطل المستميت يلقى درعه، ويرمي مغفره وترسه، عجب في البطولة وفريد في الرجولية.

ومنها: قول قاتل برير بن حضير الهمداني المشرقي، وخذ القضية

ص: 466

بنصّها وطولها(1): عن عفيف بن زهير بن الأخنس، وكان شهد مقتل الحسين(علیه السلام) قال:

وخرج يزيد بن معقل من بني عميرة من ربيعة، وهو حليف لبني سليمة من عبد القيس، فقال: يا برير! كيف ترى صنع الله بك؟

قال: صنع الله والله بي خيراً وصنع بك شرّاً.

قال: كذبت، وقبل اليوم ما كنت كذوباً، هل تذكر وأنا اُماشيك في بني لوذان وأنت تقول: إنّ عثمان بن عفان كان على نفسه مسرفاً، وإنّ معاوية بن أبي سفيان ضالّ مضلّ، وإنّ إمام الهدى والحقّ علي بن أبي طالب؟

فقال برير: أشهد أنّ هذا رأيي وقولي.

فقال يزيد بن معقل: أشهد أنّك من الضالّين.

فقال برير بن حضير: هل لك فلاُباهلك، ولندعو الله أن يلعن الكاذب ويقتل

المبطل، ثم أخرج فلاُبارزك.

قال:

ص: 467


1- تاريخ الطبري: 6/247.

فخرجا فرفعا أيديهما إلى الله يدعوانه أن يلعن الكاذب، وأن يقتل المحقّ المبطل، ثم برز كلّ واحد منهما إلى صاحبه، فاختلفا ضربتين، فضرب يزيد بن معقل بريراً ضربة خفيفة لم تضرّه شيئاً، وضربه برير بن حضير ضربة قدّت المغفر وبلغت الدماغ، فخرّ كأنما هوى من حالق، وإنّ سيف ابن حضير لثابت في رأسه، فكأني أنظر إليه ينضنضه من رأسه، وحمل عليه رضي بن منقد العبدي فاعتنق بريراً، فاعتركا ساعة، ثم إنّ بريراً قعد على صدره، فقال رضي: أين أهل المصاع والدفاع؟

قال:

ص: 468

فذهب كعب بن جاير بن عمرو الأزدي ليحمل عليه، فقلت له: هذا برير بن حضير القارئ الذي كان يقرئنا القرآن في المسجد! فحمل عليه برمح حتّى وضعه في ظهره، فلمّا وجد مسّ الرمح برك عليه، فعض بوجهه وقطع طرف أنفه، فطعنه كعب بن جابر حتّى ألقاه عنه، وقد غيّب السنان في ظهره، ثم أقبل عليه يضربه بسيفه حتّى قتله.

قال عفيف: كأني أنظر إلى العبدي الصريع قام ينفض التراب عن قبائه ويقول: أنعمت عليّ يا أخا الأزد لا أنساها أبداً.

قال: فقلت: أنت رأيت هذا؟ قال: نعم رأي عيني وسماع اُذني.

فلمّا رجع كعب بن جابر قالت له امرأته أو اُخته النوار بنت جابر: أعنت على ابن رسول الله وقتلت سيّد القراء؟! لقد أتيت عظيماً من الأمر والله لا اُكلّمك من رأسي كلمة أبداً .

وقال كعب بن جابر:

سلي تخبري عنّي وأنت ذميمة

غداة حسين والرماح شوارع

ألم آت أقصى ما كرهت ولم يخل

عليّ غداة الروع ما أنا صانع

معي يزني لم تخنه كعوبه

وأبيض مخشوب الغرارين قاطع

فجرّدته في عصبة ليس دينهم

بديني وإنّي با بن حرب لقانع

ولم ترى عيني مثلهم في زمانهم

ولا قبلهم في الناس إذا أنا يافع

أشدّ قراعاً بالسيوف لدى الوغى

ألا كلّ من يحمي الذمار مقارع

وقد صبروا للطعن والضرب حسّراً

وقد نازلوا لو أنّ ذلك نافع

ص: 469

فابلغ عبيد الله إما لقيته

بأنّي مطيع للخليفة سامع

قتلت بريراً ثم حمّلت نعمة

أبا منقذ لمّا دعا من يماصع

قال: وزعموا أنّ رضي بن منقذ العبدي ردّ بعد على كعب بن جابر قوله فقال:

فلو شاء ربّي ما شهدت قتالهم

ولا جعل النعماء عند ابن جابر

لقد كان ذاك اليوم عاراً وسبّة

تعيّره الأبناء بعد المعاشر

فيا ليت إنّي كنت من قبل قتله

ويوم حسين كنت في رمس قابر

وللشيح المظفر يردّ على كعب بن جابر قوله السابق:

أيا كعب كعب الكلب شرّ عظامه

نباحك في غاب الضراغم ضائع

تبجّحت في لدن الكعوب ومرهف

وما ذاك في نادى المفاخر نافع

تجرّده فيمن تخالف دينهم

فما لك منهم أيّها الرجس شافع

ودينهموا دين الإله ووحيه

بأبياتهم يتلى وتملى الشرائع

وحسبك إذ خلّفتهم متديّناً

بدين ابن حرب للصلاح تنازع

أبوه أبو سفيان خصم لجدّهم

وللشرّ في نفس ابن حبّ منازع

فهاجر عنهم نحو طيبة فاحتمى

بأنصاره إذ لم ترعه الروائع

وعيناك لم تنظر شبيهاً من الورى

لعصبة حقّ عن حسين تدافع

ولا نظرت عينا سواك مثيلهم

ومظهر أفذاذ الرجال الوقائع

قتلت بريراً مستطيلاً بقتله

ففخرك مردود عليك وضائع

فلو كنت قرماً يحتمي الذمّ لم تجئ

على غرّة للؤم فيك مشارع

ص: 470

لقد جئته مستدبراً فطعنته

وليث الشرى فوق الفريسة راكع

فهلا لك الخزي الطويل أذنته

ليعلم أيّ الفارسين الممانع

ولو كانت الاُنثى مكانك أدركت

فقد كان ألهاه الكمّي المصارع

وتدعو عبيد الله عبداً مجدّعاً

وليس ندا أهل الشقاوة نافع

ومنها: ما رواه الطبري في غير موضع وغيره من العلماء: أنّ بعض أهل الكوفة لام صديقاً له ممّن شهد قتل الحسين(علیه السلام) وقال له: قتلتم ابن رسول الله(صلی الله علیه واله) والعباد الصالحين وقرّاء أهل المصر!

فقال: ثارت إلينا عصابة أيديها في مقابض سيوفها، لو ونينا عنهم ساعة لأتوا على الجمع بحذافيره، فما نصنع لا اُم لك؟

ونكتفي بهذا المقدار.

وسائل الظفر التي أتخذها جيش العدو:

إنّ ابن سعد - لعنه الله - كان على يقين من أنّ كثرة جمعه لا تجديه نفعاً في مقاومة هؤلاء الكرام الذين هم نخبة العالم وصفوة الإنسانية وزبدة البشرية ولباب الكائن في ذاك العصر، ومن هذه الوجهة حكّمت التجارب الحربية في نفسه كردسة الخيل وتقديم المرامية والتطويق والحصار ومنع المنازلة وإلقاء الذعر في نفوس النساء والصبيان بكلّ ما وجد إليه سبيلاً، ليوهن عزم المحاربين، وأمثال ذلك فيما يتصوّره خياله الباطل ووهمه الزائف.

أمّا اللعين ابن زياد، فقد كان من أوثق عرى الغلبة عنده، وأقوى

ص: 471

حبال الظفر في نفسه حتّى من جيشه الجرار الذي ملأ الفضاء وسدّ الآفاق منع الحسين(علیه السلام) وأصحابه الماء لاعتقاده أنّ هذه العدّة اليسيرة في جيش الحسين(علیه السلام) وإن قلّت، والعصبة المستنزرة العدد التي قطع مددها لا يقاومها مقاوم، فلا وسيلة أقرب إلى

القضاء عليها سريعاً وإبادتها عاجلاً وإتلافها بأسرع وقت إلا أن يمنعها من ورد الماء، لتموت عطشاً، فإنّ الحياة لا بقاء لها مع العطش، ولا يمكن أن يعيش ذو روح بغير ماء، خصوصاً الإنسان، فكانت هذه النيّة الخبيثة والفكرة الملعونة تختلج نفسه الشريرة أنها ستكون من أهمّ التحوطّات، وأقوى وسائل الدفاع في نفس ذلك الشيطان المتمرّد واللقيط الجبار، والدعي المنبوذ بأقبح الألقاب، فصدر أمره الرسمي إلى أمير اُمرائه وقائد قوّاته المرتكس في الضلال عمر بن سعد:

أمّا بعد؛ فحل بين الحسين وأصحابه وبين الماء، وأمنعهم أن يذوقوا منه قطرة...

فبادر ابن سعد على الفور لامتثال ذلك الأمر القاسي بتنظيم الحرس على الشرائع الأربعة، فنظمها كما سمعت، وقوّاها بالأسلحة، وجعل لها قوات إضافية إحتياطية، فلم يضعضع ذلك أصحاب الحسين(علیه السلام) ولا أدخل وهناً عليهم، بل زادهم بصيرة وثباتأً وعزماً ونشاطاً، فتقوّت عزائمهم وإن ضعفت الأبدان، وقد صار العطش بينهم وبين السماء كالدخان، لكن صرخة النساء، وضجّة الأطفال الذين بلغ بهم صبرهم لشدّة الظمأ أثّرت في أنفسهم كسراً، وفي قلوبهم صدعاً وجرحاً لا

ص: 472

يندمل، كما ينبئ عنه كلام عميده العباس بن علي(علیهما السلام) في قوله لأخيه الحسين(علیه السلام) كما سمعته سابقاً.

لكن قابلوا هذه الشدّة الشديدة، والمحنة الصعبة العظيمة بالصبر والاحتساب لكلّ ما أصابهم في جنب الله، إنّ امتلاك الشريعة والغلبة على الماء، وتقوية حرسه بالاستحكامات المنيعة، وحمايته بالقوّة القويّة التي لا يتمكّن المقابل من خرق خطوطها الأمامية ولا الاستيلاء عليها له الأثر التام في الرجحان الحربي، وإنّه الكفيل بتفوّق من ملك الماء وضمين له بالغلبة إذا استحكمه استحكاماً منيعاً، وجعل عليه خطّ دفاع قوّي يصدّ هجمة المقابل، فإنّ الرجحان الحربي يكون له، لأنّ نفوس من منعو الماء تضعف، وهممهم تقلّ، وعزائمهم تنكسر وتهن، وإن

كانوا غالبين ابتداءاً يصبحوا مغلوبين بالتالي، بهذا قضت التجارب، ودلّت الاختبارات العديدة.

حيث أنّ الماء ضروري للحياة، وهو مادة البقاء وجزؤها المقوّم، والبطل وغيره إذا أصابه العطش الشديد ربما يصل إلى درجة لا يكاد يبصر ما أمامه وما خلفه، وقد لا يقوى على حمل السلاح فضلاً عن المجالدة، وربما تلف كما تلف كثيرون ممّن احتال عليهم أعداؤهم فأضلوهم في المفاوز العديمة المياه، فهلكوا عطشاً.

إنها لقضية مسلّمة وظاهرة وجدانية يعرفها كلّ أحد، لذلك كانت اُمية الفاجرة تستغل هذه الفرصة الهمجية، وتستعمل هذه الأعمال المنكرة القبيحة القاسية الفظّة الصارمة المخالفة لمناهج الإنسانية،

ص: 473

المحضورة في الديانة السماوية، فلا يزالون يحصرون أعداءهم في البوادي والمفاوز إذا سبقوا إلى شرائع الماء، ويصرّون على منعهم من ورد المباح المشترك بين البشرية وغيرها، وهو موزّع على الإنسانية بالسواء، كما قال رسول الله(صلی الله علیه واله) في الخبر المشهور: ثلاثة الناس فيها شرع سواء: الماء والنار والكلاء.

فمنع بني اُمية الماء لمن حاربهم من الناس مخالف لسلك البشرية والقاعدة الدينية، كما صنع جيش اللعين يزيد بجيش الحسين عليه السلام يوم كربلاء، وإنّ هذا الخبيث في أعماله اقتدى وتأسّى بأبيه معاوية مبتدع كلّ قبيح في الإسلام ومخترع كلّ مشوه لسمعته، فإنّه بصفين حصر جيش أمير المؤمنين علي(علیه السلام) في البيداء، ومنعهم من الماء، لأنّه سبقهم إلى النزول على شريعة الفرات، وقال في جملة ما أجاب به من نهاه عن منعهم الماء: دعوهم يعطشوا يوماً، فإنهم إذا لم يشربوا انصرفوا، وكان انصرافهم هزيمتهم.

وهذا رأي فايل وتفكير خاطئ خاب مرتئيه، وضلّ مدبّره، أيظنّ انصراف جيش قوّي القوّة عظيم الاستعداد والأهبة فيه فرسان العرب وأبطال المسلمين وأرباب الحفيظة من أهل العراق والحجاز واليمن، وقائدهم الأعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أشجع الناس؟!

هيهات نجاح ابن آكلة الأكباد، إنّ أبا الحسن(علیه السلام) القرم وجّه كتيبتين من جنده، كتيبة من المشاة الرجالة وكتيبة من الفرسان الخيالة بقيادة الأشتر عدد الكتيبتين عشرة آلاف مسلّح، فصدموا الجيش الشامي

ص: 474

العرمرم البالغ عدده على أقلّ ما قيل: مائة وعشرين ألفاً، وأفقدوه على أعاظم قوّاده وأركان اثني عشر ركناً خمسة بيد المشاة، وسبعة بيد الأشتر، عدى سواهم من القواد، واضطرّوا ذلك الجيش إلى تخليه الشريعة والارتفاع إلى البرّ بمقدار أربعة أميال، وامتلكوا شريعة الفرات، وقد كان هذا الحصار اليسير والمنع الموقّت قد أثر في نفوس جيش أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیهما السلام) وأصابهم الخلل فاهتمّ أمير المؤمنين(علیه السلام) اهتماماً عظيماً حيث أنّه كان يقصد الجلاد على الدين، فحرّض أصحابه وحرّكهم وشجّعهم وهوّن الأمر عليهم، وأثار شعراؤهم وخطباؤهم النخوة فيهم، وأهاجوا الحماس بما ألقوا من الخطب والأشعار حتّى دبّت نشوة الحفاظ في رؤوسهم، وتغلغلت الحميّة في أدمغتهم، وهزّتهم الحفيظة، وشهّت لهم الأريحية ورد حياض المنية قبل ورد الشريعة، فيثاروا مصمّمين على امتلاك المشرعة، طالبين من أمير المؤمنين(علیه السلام) أن يفسح لهم مجال الجلاد، فشدّوا بفيلق قد خيروا جنده الناهض بين ورد المنون أو ورد المعين، فشدّت الرجالة مشرعة الأسنة، وأغارت الخيالة مصلتة السيوف، فأقحموها شريعة الفرات، وطار الجيش الشامي كاليعافير إلى قلب البادية، وفرّوا كحمر مستنفرة إلى حيث تقيم الأضبة واليرابيع، وصممّ العراقيون على منع الشاميين من الورود إيفاء للكيل بالكيل، ومقابلة للوزن بالوزن.

فأبى أبو الحسن(علیه السلام) إلا الكرم والرأفة ومقابلة الإساءة بالإحسان،

ص: 475

فإنّ العفو من سماته، والصفح من شمائله، فأباح لأهل الشام الورود، فكانت الشريعة مورد الجمعين على الاشتراك.

وليست نسبة جيش أمير المؤمنين(علیه السلام) الباسل المتميّز بكثرة العدد كنسبة جيش الحسين(علیه السلام) المستميت في قلّة العدد، فإنّ جيش أمير المؤمنين علي(علیه السلام) على أقلّ ما قيل: تسعون ألفاً، وجيش الحسين(علیه السلام) مع قلّة العدد أقوى عزماً وأشدّ ثباتاً وأعظم صبراً من جميع الجيوش الجرّارة الملتحمة في المعارك الطاحنة.

وليست تحوطات ابن زياد من حركة أصحاب الحسين(علیه السلام) مقصورة على هذا، بل اتخذ عامّة التدابير الأخرى للتحوطات(1)، وكلّ ذلك لم يوهن عزمهم، ولم يفتّ في أعضادهم، بل زادهم إقداماً وتسرّعاً إلى الموت، والعادة قاضية بأنّ القوّة القوية تضعف معها عزائم المعارضين، إلا هذه العصابة، فإنّ عزائمها تقوى كلّما ازدادت قوّة الأعداء، وتستأسد وتستبسل كلّما تكاثرت جموع المحاربين لهم، وهذا ممّا لم يشهد التاريخ مثله في قديم أزمنته وحديثها، جزاهم الله أحسن الجزاء .

ص: 476


1- انظر للتفصيل: الميزان الراجح في تراجم التوابين للشيخ المظفر.

صفة القتال يوم كربلاء وشهادة العباس بن أمير المؤمنين(علیهما السلام)

استبان أنّ العباس بن علي(علیهما السلام) هو عميد العسكر الحسيني، وأنّ مركزه القلب، وعرفنا كيفية تنظيم الجيش الحسيني، وأنّ تعبئته هلالية الشكل، وعنه أخذ المتأخّرون التعبئة الهلالية.

والآن نذكر كيفية محاربة العباس الأكبر(علیه السلام) بطل الهاشميين وكيفية شهادته.

وهنا قد اختلف أرباب المقاتل واضطربت كلماتهم في وقت شهادته(علیه السلام) وكيفيتها، وصفة شهادته ومن قتله.

أمّا وقت شهادته(علیه السلام):

فالأقوال في ذلك ثلاثة:

أنّه قُتل قبل جميع الشهداء رضوان الله عليهم، وأفرط أهل هذا القول حتّى زعم بعضهم أنّه قُتل يوم السابع، وآخر يوم التاسع كمقتل

ص: 477

أبي مخنف الصغير، أو المقتل المنسوب إليه، وجزم به بعض متأخّرين الفرس ونور العين لأبي إسحاق الإسفرائني(1)، ويظهر من كلامه أنّه استشهد قبل شهادة الحسين(علیه السلام) بيوم، هكذا يقول في نور العين(2) بعد ذكره لمحاربة العباس(علیه السلام) قال:

ثم ضربه رجل منهم بعمود من حديد على رأسه ففلق هامته، فانصرع إلى الأرض وهو ينادي: يا أخي! يا حسين! عليك مني السلام، فحمل الحسين(علیه السلام) على القوم وحاربهم حرباً شديداًً حتّى قتل منهم ثمانمائة فارس، وأتى إليه وحمله، وأتى به فطرحه بين القتلى، وكان الليل قد أتى عليه، فباتوا تلك الليلة.

وفي الصباح ركب القوم ورجعوا على الحسين(علیه السلام)، فتذكّر أخاه العباس(علیه السلام) وشفقته عليه، وجعل ينادي: وا غوثي بك يالله يا غياثاه، ثم يخرج من قومه فارس بعد فارس، وكلّ منهم يقتل مقتلة عظيمة ثم يقتل، فيحمل على القوم نحو المائتين والثلاثمائة والأكثر والأقلّ، ثم يحمله ويأتي به إلى موضع القتلى، ولم يزل حتّى قُتل جميع الأنصار والمهاجرين الذين معه، وهو يأتي بهم واحداً بعد واحد...

وهذا القول ضعيف جدّاً.

وأضعف منه قول أبي مخنف في المقتل الصغير إن صحّت نسبته إليه،

ص: 478


1- بغض النظر عن صحّة نسبة الكتاب للمؤلف.
2- نور العين: 20.

فإنّه يذكر شهادة العباس الأكبر(علیه السلام) يوم السابع، وهذان القولان غاية في الشذوذ، بل صدمة للقطعي الذي لا يشكّ فيه أحد أنّ العباس(علیه السلام) لم يدفن إلا يوم دفن الحسين(علیه السلام)، وكيف يتركه الحسين(علیه السلام) هذه المدّة من غير دفن، أو يتركه بين جموع أعدائه يمثلون به أشدّ التمثيل، وهو إذ ذاك قوّي منيع لا يحول دون مقصده حائل، وسلامة أصحاب الضواري الساغبة إلى طعم المنيّة لا يعوقها عن حملة عائق، إذن فلا نعدّ هذا قولاً، وإن ذكرناه للتنبيه على ضعفه وترك الجنوح إليه.

وهو الذي عليه عامّة أهل التاريخ من أنّه(علیه السلام) استشهد يوم العاشر بعد شهادة أكثر الأنصار، واستشهد قبله فتية من بني هاشم، إمّا كلّهم أو بعضهم، لأنّ أهل هذا القول قد اختلفوا على قولين، وبهذا الاختلاف وضمّه إلى ذلك القول الشاذ تكون الأقوال ثلاثة.

أحد القولين: أنّه سبق علياً الأكبر(علیه السلام) بالشهادة، وعليه جماعة من أرباب المقاتل منهم فخر الدين الطريحي.

وعبد الرزاق اليزدي، فيقول في مصائب المعصومين(1) بعد شهادة قاسم بن الحسن والعباس بن أمير المؤمنين(علیهما السلام): تقدّم علي بن الحسين(علیهما السلام) وهو المشهور بعليّ الأكبر...

ومنهم سبط ابن الجوزي الحنفي في التذكرة(2) فقد قال: قال الشعبي:

ص: 479


1- مصائب المعصومين: 266.
2- تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي: 145.

أوّل قتيل منهم العباس بن علي، ثم علي بن الحسين الأكبر.

ومنهم ملا عبد الله في مقتل العوالم، فإنّه ذكر شهادة العباس(علیه السلام) سابقة على شهادة علي الأكبر(علیه السلام)، وبعد أن أتمّ الكلام على شهادة العباس(علیه السلام) قال(1): ثم تقدّم علي بن الحسين(علیهما السلام).

وكذا قال الفاضل المجلسي في البحار، وهو قول محمد بن شهر آشوب في المناقب، وسنذكر ذلك إن شاء الله، وغير هؤلاء.

ثاني القولين: أنّه آخر من قتل من بني هشام قبل شهادة الحسين(علیه السلام)، وإنّ أوّل قتيل من بني هشام هو علي بن الحسين الأكبر، وقد كثرة القائل به من المؤرّخين، وبه قال أبو الفرج الأصبهاني بعد ما نقلناه عنه من قول الشعبي، وأبو حنيفة الدينوري المؤرخ في الأخبار الطوال(2)، وهذا لفظه: وبقي العباس بن علي(علیهما السلام) قائماً أمام الحسين(علیه السلام) يقاتل دونه، ويميل معه حيث مال، حتّى قُتل رحمة الله عليه، وبقي الحسين(علیه السلام) وحده...

والطبري في تاريخه ذكر أنّ علي بن الحسين(علیه السلام) أوّل قتيل من بني هاشم، والشيخ المفيد في كتاب الإرشاد، والشيخ جعفر بن نما الحلي في مثير الأحزان، والسيّد ابن طاوس في كتاب اللهوف، ولفظهم جميعاًً:

ص: 480


1- العوالم: 95.
2- الأخبار الطوال: 255.

أنّه لمّا اشتدّ العطش بالحسين(علیه السلام) فركب المسناة يريد الفرات والعباس أخوه بين يديه، فاعترضته خيل ابن سعد، فرمى رجل من بني أبان بن دارم الحسين(علیه السلام) بسهم فأثبته في حنكه الشريف، فانتزع - صلوات الله عليه - السهم، وبسط يديه تحت حنكه حتّى امتلأت راحتاه من الدم، ثم رمى به، ثم قال: اللهم إني أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيك، ثم اقتطعوا العباس عنه، وأحاطوا به من كلّ جانب حتّى قتلوه(علیه السلام)، فبكى الحسين(علیه السلام) لقتله بكاء شديداًً...

وآخرون غير هؤلاء يقولون بمثل هذا القول، فيكون العباس(علیه السلام) آخر من استشهد من العلويين، وكلامنا المتقدّم في اللواء يعطيك صورة واضحة بتأخر شهادته عن غيره.

شهادته(علیه السلام)

للشيخ المظفر :

بطل أبوه حمى النبي محمداً

في كلّ ملحمة بحدّ حسامه

سل عنه اُحداً بعد بدر واعتبر

في خيبر النكراء عن إقدامه

والصاحبين الناهضين لمرحب

فبرا كلمح البرق من قدامه

والليث حيدر حين زمجر راعه

وأقام مبهوتاً على إحجامه

أبليس شجّعه فكّر وإنّه

كرّ سيورده حياض حمامه

ص: 481

قد عاجلته يد الوصيّ بضربة

شطرته متزناً إلى أقدامه

فعلي ناصر أحمد في معرك

هاب الصحاب الكلّ عن إقحامه

هاذي حنين هل أتاك حديثها

هي ترجمانك عن علو مقامه

ذا شبله العباس مثّل عزمه

لمّا تقدّم حاسراً عن لامه

متدرّعاً بثابته وحسامه

كالنار يلهب في الوغى بضرامه

علم الفخار يرف فوق متونه

والجيش ذعراً فرّ عن أعلامه

أمّ المسناة التي قد سدّها

جيش الطغاة بمتقن استحكامه

نسفت قواعدها الحصينة همة

من يمنع البركان عن إقدامه

حاز الشريعة عنوة ومنكساً

جيش الدفاع وساحقاً في هامه

مدّ اليد البيضاء يغرف غرفة

يروي حشا قدحت أوار أوانه

فرماه مؤتسياً بسبط محمد

وبعاطش الأكباد من أرحامه

قلّ السقاء وسار فيه مبادراً

نحو الخيام وذاك جلّ مرامه

كي ترتوي أكباد آل محمد

ويبلّ بارده لقلب إمامه

***

كيفية شهادته(علیه السلام):

فقد اختلف فيها الناقلون أيضاً، فمنهم من يذكر أنّه مشى أمام أخيه

ص: 482

الحسين(علیه السلام) فاقتطعوه منه، كما مرّ.

ومنهم من يذكر أنّه بارز مرّات قتل في آخرها، وهذا لا ينافي ما تقدّم، إذ كان للمرّة الأخيرة مشى أمام الحسين(علیه السلام) فاقتطعوه، ولفظهم هذا مجمل، لأنّه لم يبيّن صفة اقتطاعه، فوجب المصير إلى قول المفصّل الذي يقول: قطعت يمينه وشماله، وفضخت هامته، لأنّ المعارضة بين القولين معارضة المجمل للمبين، والمجمل يحمل على المبين بحسب الاُصول العلمية، ويعنون أنّ المبين شرح للمجمل، فالذي يقول إنّه مشى أمام أخيه الحسين(علیه السلام) لم يورد تفصيلاً ولا بيان كيف كان اقتطاعه، ولا بيان كم مرّة حمل على القوم، إنما قصد أنّه آخر مراحل حياته(علیه السلام) كانت كذلك، أمّا المبين فقد تعرّض للكمية والكيفية، كيف قاتل، وكيف قُتل، فذاك آثر الاختصار فأجمل، وهذا أحبّ التفصيل فبيّن، وكثر من العلماء اعتماداً على الشهرة لم يذكروا شهادة العباس(علیه السلام) رأساً كالصدوق القمّي في الأمالي، والشهيد الواعظ محمد بن أحمد بن الفتال النيسابوري في روضة الواعظين، وما ترك ذكر مقتله إلا للاكتفاء بشهرته ومعروفيته، وعلى هذا جرى من لم يفعل، فإنّه اقتصر على ذكر آخر نقطة لفظ بها نفسه النفيسة وروحه الطيبة، وخذ المقتل الشريف مفصّلاً:

قال رشيد الدين محمد بن علي بن شهرآشوب المازندراني في

ص: 483

المناقب(1):

كان العباس السقاء قمر بني هاشم صاحب لواء الحسين(علیه السلام) وأكبر الإخوان، مضى يطلب الماء، فحملوا عليه وحمل عليهم، وجعل يقول:

لا أرهب الموت إذا الموت زقا

حتّى أوارى في المصاليب لقا

نفسي لنفس الطاهر الطهر وقا

إنّي أنا العباس أغدو بالسقا

ولا أخاف الشرّ يوم الملتقى

ففرّقهم، فكمن له زياد بن رقاد الجهني من وراء نخلة، وعاونه حكيم بن الطفيل السنبسي، فضربه على يمينه، فأخذ السيف بشماله، وحمل عليهم وهو يرتجز:

والله إن قطعتموا يميني

إني أحامي أبداً عن ديني

وعن إمام صادق اليقين

نجل النبي الطاهر الأمين

فقاتل حتّى ضعف، فكمن له حكيم بن الطفيل الطائي من وراء نخلة، فضربه على شماله، فقال:

يا نفس لا تخشي من الكفار

وأبشري برحمة الجبّار

مع النبي المصطفى المختار

قد قطعوا ببغيهم يساري

فأصلهم يا ربّ حرّ النار

ص: 484


1- المناقب لابن شهر آشوب تحقيق السيّد علي أشرف: 10/357.

وفي مصائب المعصومين ومقتل العوالم(1) وتذكرة الشهداء للملا حبيب الكاشاني(2) وأسرار الشهادة للملا الدربندي: إنّ العباس لمّا رأى وحدة أخيه الحسين(علیه السلام) أتى أخاه وقال: يا أخي! هل من رخصة؟

فبكى الحسين(علیه السلام) بكاء شديداًً، ثم قال: يا أخي! أنت صاحب لوائي، وإذا

مضيت تفرّق عسكري.

وروي أنّه قال: يا أخي أتتركنى في هذه البيداء بين هؤلاء القوم وتمضي(3)؟!

فقال العباس(علیه السلام): قد ضاق صدري، وسئمت من الحياة، واُريد أن أطلب ثأري من هؤلاء المنافقين، فقال الحسين(علیه السلام): فاطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء.

وفي تذكرة الشهداء:

ص: 485


1- مصائب المعصومين: 259، مقتل العوالم: 92.
2- تذكرة الشهداء لآية الله حبيب الكاشاني ترجمة السيّد علي أشرف: 303 وما بعدها.
3- تذكرة الشهداء لآية الله حبيب الكاشاني ترجمة السيّد علي أشرف: 315.

روي أنّه قال له: إنّ أبي أوصاني أن أفديك بنفسي في مثل هذا اليوم، وأن لا أخذلك ولا أفارقك، فقد خرجت في يوم من أيام صفين إلى القتال فقاتلت ورجعت إلى أبي أمير المؤمنين(علیه السلام) وكان الغبار على وجهي والعطش أذبل شفتي، فدعاني إليه ومسح الغبار بيديه وقال: إذا رأيت أخاك الحسين(علیه السلام) في عرصة كربلاء وحيداًً فريداً فلا تقصّر في الدفاع عنه، وضحّي بنفسك دونه.

يا ابن رسول الله(صلی الله علیه واله) أريد اليوم أن أعمل بوصيّة أبي وأفديك بنفسي.

فقال الحسين(علیه السلام): يا أخي كنت العلامة من عسكري ومجمع عددنا فإذا أنت غدوت يؤول جمعنا إلى الشتات، وعمارتنا تنبعث إلى الخراب.

فقال العباس(علیه السلام): لقد تأجّل حمل اللواء إلى الآخرة، فاذن لي في القتال والتضحية بالنفس دونك.

فلمّا أكثر العباس من الإلحاح وبالغ في طلب الإذن، والأطفال ينادون العطش، قال الإمام(علیه السلام): إنّك تصير إلى الشهادة، ولكن اطلب أولاً لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء، واخرج إلى القوم فعظهم وانصحهم، فلعلهم يسقون هؤلاء النسوة والأطفال شيئاً من الماء، أما ترى ما حلّ بنا من العطش، وأشدّ الأشياء علينا عطش الأطفال والحرم.

وروي أنّه قال: اركب إلى الفرات فلعلّك تأتي بالماء.

ص: 486

قال الدربندي في حديث أبي مخنف: وقال له العباس(علیه السلام): سمعاً وطاعة.

وروي أنّه لمّا توسط الميدان وقف وقال: يا ابن سعد هذا الحسين بن بنت رسول الله(صلی الله علیه واله) يقول: إنّكم قتلتم أصحابه وإخوته وبني عمّه وبقي فريداً مع أطفاله وعياله، وهم عطاشى قد أحرق الظمأ قلوبهم، فاسقوهم شربة من الماء، لأنّ أطفاله وعياله شارفوا على الهلاك من حرارة الشمس والظمأ...

فخرج الشمر وشبث بن ربعي، فجاءا نحو العباس(علیه السلام) وقال: قل لأخيك: لو كان وجه الأرض كلّه ماء وكان تحت أيدينا ما سقيناكم منه قطرة إلا أن تدخلوا في بيعة يزيد!

فتبسم العباس(علیه السلام) من قولهم - كيف يتوّقع هؤلاء المسوخ أن يبايع معدن الطهارة والقدس ليزيد معدن النجاسة والرجس - ومضى إلى أخيه الحسين(علیه السلام) وعرض عليه ما قالوا.

فلمّا يأس الأطفال من الماء صرخوا وبكوا بصوت عال وهم ينادون: العطش.

فلمّا سمع العباس(علیه السلام) ذلك رمق بطرفه إلى السماء، وقال: إلهي وسيّدي أريد أن أعتدّ بعدّتي وأملأ لهؤلاء الأطفال قربة من الماء...

وفي بعض الروايات :

ص: 487

قبّل ما بين عينيه وودّعه، يعني أنّه ودّعه وداع من لا يعود.

وروي أنّ العباس(علیه السلام) لم يودّع أحداً غير أنّ الإمام(علیه السلام) ذهب إليه وعانقه وودّعه ومشى خلفه، وهو ينظر إليه نظر موّدع لا يعود ويتنفس الصعداء ويبكي.

وفي رواية: أنّ فراق وجه أبي الفضل العباس صعب على الإمام(علیه السلام) فناداه، فالتفت إليه العباس(علیه السلام)، فرأى أخاه باكي العين، وهو يقول: أخي اصبر هنيئة حتّى أراك مرّة أخرى.

فلمّا رأى العباس(علیه السلام) دموع أخيه وسمع مقالته قال: أو أقتل يا أبا عبد الله(علیه السلام)؟ فبكى الإمام واعتنقا وجعلا يبكيان حتّى كادا يسقطان إلى الأرض، ثم إنّ الحسين(علیه السلام) قبّله في جبهته وودّعه.

وفي بعض الكتب:

ص: 488

إنّه جاءت سكينة بالقربة وقالت: يا عمّ! العطش، فقصد نحو الفرات.

قال: فسار العباس(علیه السلام) حتّى أشرف على الفرات، وفي أطرافه أصحاب ابن زياد لعنه الله، فقالوا: من أنت؟ فقال: أنا العباس بن علي بن أبي طالب، فقالوا: ما تصنع ها هنا؟ قال: كظّنا العطش وأشدّ الأشياء علينا عطش الحسين(علیه السلام).

فلمّا سمعوا كلامه حملوا عليه حملة رجل واحد، فقاتلهم العباس(علیه السلام)، فقتل منهم رجالاً أبطالاً وأنشأ:

اُقاتل القوم بقلب مهتد

أذبّ عن سبط النبي أحمد

أضربكم بالصارم المهنّد

حتّى تحيدوا عن قتال سيّدي

إنّي أنا العباس ذو التودّد

نجل علي المرتضى المؤيّد

قال: فلمّا فرغ من شعره حمل على القوم، ففرّقهم يميناً وشمالاً، وقتل رجالاً أبطالاً، وأنشأ:

لا أرهب الموت إذا الموت رقا

حتّى اُوارى ميتاً عند اللقاء

إنّي صبور شاكر للملتقى

ولا أخاف طارقاً إن طرقا

بل أضرب الهام وأفري المفرقا

إنّي أنا العباس صعب في اللقاء

نفسي لنفس الطاهر السبط وقا

قال: فلمّا فرغ من شعره حمل على القوم وكشفهم عن المشرعة ونزل ومعه القربة، فملأها ومدّ يده ليشرب، فذكر عطش الحسين(علیه السلام) فقال: والله لا ذقت الماء وسيّدي الحسين(علیه السلام) عطشان،

ص: 489

ثم رمى الماء من يده وخرج والقربة على ظهره، ويقول:

يانفس من بعد الحسين هوني

فبعده لا كنت أن تكوني

هذا حسين شارب المنون

وتشربين بارد المعين

هيهات ما هاذي فعال ديني

ولا فعال صادق اليقين

وفي بعض الكتب:

ص: 490

إنّ جواد أبي الفضل العباس لمّا رأى العباس(علیه السلام) رمى بالماء ولم يشرب رفع رأسه ولم يشرب هو أيضاً.

قال: ثم صعد إلى المشرعة، فثوّروا عليه النبال من كلّ مكان كالجراد المنتشر، وهو يقاتل والقربة على كتفه حتّى صار درعه كالقنفذ، وهو لا يبال ما دام السقاء سالماً، وكلّ همّه إيصال الماء إلى الحسين وأهل بيته: الذين أحرق الظمأ أكبادهم في تلك الرمضاء، فلمّا رأوا السقاء سالماً لا تصل إليه نبالهم حملوا عليه مرّة أخرى بالسيوف والرماح، والعباس(علیه السلام) يقاتلهم، ومع ذلك لم يجرؤ أحد من الاقتراب إليه، وكلّ من ضربه في تلك الحال إنما توصّل إليه بالكمين، فبينما العباس(علیه السلام) يقاتل القوم كمن له رجل يقال له: زيد بن ورقاء(1) فضربه على يمينه، فبراها كبري القلم، فأخذ السيف بشماله وأنشأ يقول:

والله إن قطعتموا يميني

لأحمين جاهداً عن ديني

وعن إمام صادق اليقين

سبط النبي الطاهر الأمين

نبيّ صدق جاءنا بالدين

مصدّقاً بالواحد الأمين

قال: فحمل على القوم فقتل منهم رجالاً كثيراً، ونكّس أبطالاً والقربة على ظهره، فلمّا نظر عمر بن سعد إلى ذلك قال: يا ويلكم! ارشقوا القربة بالنبل فوالله إن شرب الحسين الماء أفناكم

ص: 491


1- كذا البحار وفي الأسرار وأبي مخنف ((أبرص بن سنان))، ، وفي بعض النسخ: ((زيد بن الرقاد))، وقيل: أعانه عليها حكيم بن الطفيل الطائي.

عن آخركم، أما هو الفارس ابن الفارس البطل ابن البطل المداعس.

قال: فحملوا عن العباس(علیه السلام) حملة منكرة، فقتل منهم مقتلة عظيمة، فكمن له لعين حكيم بن الطفيل(1) وراء نخلة فضربه على شماله فطارت من الزند، فانكب

على السيف بأسنانه، وقال: اللهم إنّ أطفال الحسين(علیه السلام) عطاشى! وحمل على القوم وهو يقول:

يا نفس لا تخشي من الكفار

وأبشري برحمة الجبار

مع النبي سيّد الأبرار

وجملة السادات والأخيار

قد قطعوا ببغيهم يساري

فأصلهم يا ربّ حرّ النار

ثم حمل على القوم ويداه تنضحان دماً، فحملوا عليه جميعاًً فقاتلهم قتالاً شديداًً، فلمّا رأى القوم الظالمون أنّه سيصل بالقربة إلى الخيمة عجّلوا عليه فجاءه سهم، فأصاب القربة وأريق ماؤها، فوقف العباس(علیه السلام) آيساً من الحياة، لأنّه إنما كان يقاتل ليوصل الماء إلى الشفاه الذابلات من أطفال آل البيتول، فلمّا وقف العباس(علیه السلام) وقد كضّه العطش ونزف الدماء أحاط به القوم فرماه لعين بسهم في صدره وضربه رجل منهم بعمود حديد(2)

ص: 492


1- وروي أنّه عبد الله بن يزيد الشيباني.
2- عمود الحديد تسميه العامة اليوم ب-((الدبوس)) و ((الدنبوس)) وهو من أسلحتهم، وقد أشتهر بحمله في المعارك الحربية القديمة جماعة من أبطال العرب المسلمين مثل المقداد بن عمرو البهرائي المعروف بابن الأسود وحمزة بن عبد المطلب على ما ذكر ومالك بن الحارث الاشتر.

ففلق هامته، وانصرع عفيراً على الأرض يخور بدمه، وهو ينادي: يا أبا عبد الله! عليك مني السلام، يا أخا أدرك أخاك .

فلمّا سمع الإمام(علیه السلام) نداءه قال: وا أخاه وا عباساه وا مهجة قلباه!

فلمّا سمع الأطفال العطشى نداء الحسين(علیه السلام) وبكاءه خرجوا من الخيام دفعة واحدة وهم يبكون بكاءاً عالياً وألقوا بأنفسهم على التراب وهم ينادون: العطش، العطش.

ثم حمل الحسين(علیه السلام) على القوم وهم يفرّون بين يديه وهو يقول: أين تفرّون وقد قتلتم أخي وكسرتم ظهري؟!

وروي:

ص: 493

أنّ ذا الجناح وقف ولم ينبعث خطوة واحدة، فنظر الإمام(علیه السلام) وإذا بكفّي

أبي الفضل العباس(علیه السلام) على الأرض، فنزل الحسين(علیه السلام) فأخذهما وجعل يمسحهما على وجهه ويقبّلهما، وقال: لقد قتلوا أخي!

فركب مرّة أخرى وهو ينادي: أخي عباس! ومضى قليلاً ثم وقف ذو الجناح ثانية، فنظر وإذا بالقربة ممزّقة وهي على الأرض، فبكى ومضى حتّى وصل إلى الفرات، فرأى أخاه مقطعاً إرباً إرباً، وذلك أنّ القوم لمّا رأوا الحسين(علیه السلام) مقبلاً إلى أخيه أحاطوا بالعباس(علیه السلام) وهو صريع، وتكاثروا عليه وجعلوا يضربونه بالسيوف ويطعنونه بالرماح حتّى قطعوه إرباً إرباً، وأخذ بعضهم قطعاً من بدن العباس(علیه السلام) ورفعوها على رؤوس الرماح.

قال القاضي أبو حنيفة النعمان في شرح الأخبار: قطعوا يديه ورجليه حنقاً عليه لما أبلى فيهم.

فكشفهم الحسين(علیه السلام) عنه ونزل إليه وأخذ رأسه أخيه، فضمّه إلى صدره وجعله في حجره وجعل يمسح الدم والتراب عنه، وبكى بكاءاً شديداًً حتّى أبكى جميع من كان حاضراً وقال: جزاك الله من أخ خيراً لقد جاهدت في الله حقّ جهاده..

وفي البحار:

ص: 494

فلمّا رآه الحسين(علیه السلام) صريعاً على شاطيء الفرات بكى وأنشاً يقول:

تعدّيتم يا شرّ قوم ببغيكم

وخالفتموا دين النبي محمد

أما كان خير الرسل أوصاكم به

أما نحن من نسل النبي المسدد

أما كانت الزهراء أمّي دونكم

أما كان من خير البريّة أحمد

لعنتم وأخزيتم بما قد جنيتم

فسوف تلاقوا حرّ نار توقّد

ثم خرجت النساء وبكين عليه وعلت أصواتهن بالبكاء والنحيب حتّى بكت لبكائهن ملائكة السماء، فأدخلهن الحسين(علیه السلام) إلى الخيام.

للشيخ المظفر

أبا الفضل أبكيت الحسين وإنّه

صبور على جلّ الخطوب صليب

فلم يبكه إلا افتقادك إنّه

عظيم له تحت الضلوع ندوب

فلا لوم إذ يبكيك إذ قمت بالذي

يحقّ له والناصرون ضروب

فكنت له طوع الإرادة لم تهن

وأنت له دون الحماة حبيب

وقد كان أن يدعو أجبت ملبياً

فها هو يدعو ما يراك تجيب

ألم تسمع الصوت الذي قد دعا به

وأنت على شاطي الفرات تريب

وكنت تجيب الصوت من أبعد المدى

فلم لا أجيب الصوت وهو قريب

***

ص: 495

بكاء سيّد الشهداء(علیه السلام)

لم ينفرد هذا الناقل لبكاء الحسين(علیه السلام) على أخيه العباس(علیه السلام)، بل هو المشهور عند أرباب المقاتل، وهو يكشف أنّ درجة العباس(علیه السلام) أعظم الدرجات سمواً وارتفاعاً وأسماها مفخراً، إنّ من أجرى افتقاده دمعة الحسين(علیه السلام) الصبور، وأسبل مصابه عبرة الإمام(علیه السلام) الأبيّ الغيور، الذي يأنف أن يشاهد منه العدوّ الكاشح وهناً وانصداعاً، أو يرى انكساراً، فيتجلّد تجلّد الأباة، ويصبر صبر الكرام، وقد بلغ من محافظته(علیه السلام) على هذه الغاية السامية أن لايدع النساء يبكين خوفاً من شماتة الأعداء، أليس هو القائل لابنه علي الأكبر وأخيه العباس(علیهما السلام) وقد سمع بكاءهن عصر التاسع في خطابه للأعداء: أسكتاهن فلعمري إنّ البكاء أمامهن!

نعم، إنّ في الرجال من يستحقّ البكاء، ويستأهل أن تستدرّ العظماء عليه حلب أجفانها، وتسيل عصارة دموعها، هذا سيّد البشر أبو القاسم محمد رسول الله(صلی الله علیه واله) لم توازن ثباته الجبال الرواسي، ولم تعدل صبره الصمّ الصلاد قد جزع لعمّه حمزة بن عبد المطلب، ورثى لابن عمّه جعفر الطيار، وبكاهما وأستبكى لهما حيث قال في حمزة: ((لكن حمزة لا بواكي له))، وقال في جعفر:

ص: 496

((على مثله فلتبكي البواكي)).

وما بكاهما إلا لعظمتهما وجلالة قدرهما، وبكى عمّه أبا طالب(علیه السلام) حين توفي وقال: ((وصلتك رحم يا عمّ وجزاك الله خيراً))، وبكى ولده إبراهيم، فهذا البكاء دليل عظمة المبكى وبرهان سمّوه.

والذي أبكى النبي(صلی الله علیه واله) شديداًً على عمّه حمزة أنّه وقف عليه فرآه ممثّلاً به أسوأ تمثيل، قد شقّ بطنه، وبقر عن كبده، وجدع أنفه وأذناه ومذاكيره، كلّ ذلك من فعل آكلة الأكباد هند جدّة يزيد بن معاوية، فاشتدّ بكاؤه عليه لذلك، وقال: وما وقفت موقفاً هو أغيط لقلبي منه.

والحسين(علیه السلام) وقف على أخيه العباس(علیه السلام) فرآه قد مثّل به، فرأى منه ما استاء له وتغيّظ منه، فاحترق قلبه حزناً، وترقرقت عبرته وجداً عليه حيث وجده مقطوع اليدين والرجلين، مفضوخ الهامة، دمه يسيل مختلطاً بمخّ دماغه، السهم قد نبت في عينه، ويروى أنّ سهماً شكّه في قلبه، ولا ريب أنّه خرج من ظهره، لأنّه لم تبقى له يد ينتزع بها السهم، أو يتلقّى بها الأرض إذا سقط عن الجواد، خصوصاً على المروي: أنّ الذي ضربه بالعمود جاءه من خلف ظهره، فسقط على وجهه، ويروى أنهم احتوشوه لمّا سقط حتّى وزّعوه بالسيوف.

وقد ورد في بعض روايات دفن الشهداء :

ص: 497

أنّه كلّما حمل منه جانب سقط جانب.

ومهما شكّكوا في صحّة بعض الروايات، فلا شكّ في فضخ الهامة وقطع الكفين وسهم العين، وإذا كان الحسين(علیه السلام) وجده مكبوباً على وجهه، فالحالة محزنة، وإذا كان السهم في القلب، فهو لا شكّ يلاقي الأرض فتدفعه بقوّتها وقوّة السقوط من ظهر الجواد المشرف، فيخرج السهم من قفاه لا محالة.

قاتل العباس

أمّا قاتل العباس بن علي(علیه السلام) فاختلف فيه العلماء فقيل: هو زرعة بن شريك الدارمي من تميم، وقيل: زيد بن رقاد الجنبي من مذحج، ويقال جهني من قضاعة، وقيل: حكيم بن الطفيل السنبسي من طي، وقيل غير ذلك، والدارمي هو الذي صرّحت به الزيارة المروية عن صاحب الزمان عجّل الله فرجه، وأمّا الجنبي والسنبسي فعليهما نصّ المؤرّخين، ولفظ أبي الفرج في المقاتل(1): عن أبي جعفر الإمام محمد الباقر(علیه السلام): إنّ زيد بن رقاد الجهني وحكيم بن الطفيل الطائي قتلاً العباس بن علي(علیهما السلام)....

والجمع ممكن بأن يكون على ما صرحت به الأخبار أنّ الجنبي قطع يمينه، والسنبسي قطع يساره، والدارمي ضربه بالعمود.

ص: 498


1- مقاتل الطالبين: 34.

وأمّا رواية سبط ابن الجوزي في التذكرة من أنّ قاتل العباس(علیه السلام) حرملة ابن الكاهن الأسدي فيمكن حملها على أنّه مشترك معهم، لأنّه صاحب السهم الذي وقع في عينه المباركة، فيكون هؤلاء الأربعة قد اشتركوا في قتله، ويؤكّده رواية من روى أنّ حرملة صاحب السهم الذي وقع في قلبه.

انتقام الله تعالى من قتله العباس(علیه السلام):

أمّا الدارمي التعيس فقد عاقبه الله وجعله عبرة لأهل الجور والظلم فيما عاجل الله به قتلة الحسين(علیه السلام) من العقوبة في الدنيا.

وأمّا الجنبي والسنبسي، فأخذهما المختار وقتلهما، وكذلك حرملة.

صفة قتل الطائي:

ذكر الجزري والطبري واللفظ للأخير في تاريخه(1) قال:

ثم إنّ المختار بعث عبد الله بن كامل إلى حكيم بن الطفيل الطائي السنبسي، وكان قد أصاب سلب العباس(علیه السلام)، فأتاه عبد الله بن كامل فأخذه، ثم أقبل به، فذهب أهله فاستغاثوا بعدي بن حاتم، فلحقهم في الطريق فكلّم عبد الله بن كامل فيه، فقال: ما إليّ من أمره شيء، وإنما ذاك إلى الأمير المختار، قال: فإني آتيه، قال: فاته راشداً.

ص: 499


1- تاريخ الطبري 128/7 .

فمضى عدي نحو المختار وكان قد شفّعه في نفر من قومه أصابهم يوم جبانة السبيع لم يكونوا نطقوا بشيء من أمر الحسين(علیه السلام)، فقالت الشيعة لابن كامل: إنّا نخاف أن يشفّع الأمير عدي بن حاتم في هذا الخبيث فدعنا نقتله، قال: شأنكم به.

فلمّا انتهوا به إلى دار العنزيين وهو مكتوف نصبوه غرضاً، ثم قالوا له: سلبت ابن علي(علیه السلام)ثيابه، والله لنسلبنّك ثيابك وأنت حيّ تنظر، فنزعوا ثيابه ثم قالوا له: رميت حسيناً(علیه السلام) واتخذته غرضاً لنبالك وقلت: تعلّق سهمي بسرباله ولم يضرّه، وأيم الله لنرمينّك كما رميته بنبال ما تعلّق منها بك أجزأك، قال: فرموه رشقاً واحداً، فوقعت به منهم نبال كثيرة فخرّ ميتاً.

قال أبو مخنف: فحدّثني أبو الجارود عمّن رآه قتيلاً كأنّه قنفذ لما فيه من كثرة النبل....

وبنو سنبس رهط الشقي حكيم بن الطفيل من قبائل طي.

أما صفة قتل ابن الرقاد:

فذكرها المؤرّخان المذكوران أيضاً، ونصّ الطبري(1) قال:

وبعث المختار عبد الله الشاكري إلى رجل من جنب يقال له ((زيد بن رقاد))، وكان يقول: لقد رميت فتى منهم بسهم، وإنّه لواضع كفّه على

ص: 500


1- تاريخ الطبري: 128/7 .

جبهته يتّقي النبل، فأثبت كفّه في جهبته، فما استطاع أن يزيل كفّه عن جبهته.

قال أبو مخنف: فحدّثني أبو عبد الأعلى الزبيدي أنّ ذلك الفتى عبد الله بن

مسلم بن عقيل، وإنّه قال حيث أثبت كفّه في جبهته: اللهم إنهم استقلّونا واستذلّونا، اللهم اقتلهم كما قتلونا، وأذلّهم كما ذلّونا، ثم إنّه رمى الغلام بسهم آخر فقتله، فكان يقول: جئته ميتاً فنزعت سهمي الذي قتلته به من جوفه، ولم أزل اُنضنض السهم من جبهته حتّى نزعته، وبقي النصل في جبهته مثبتاً ما قدرت على نزعه.

فلمّا أتى ابن كامل داره أحاط به واقتحم الرجال عليه، فخرج مصلتاً بسيفه وكان شجاعاً!!!

فقال ابن كامل: لا تضربوه ولا تطعنوه برمح، ولكن ارموه بالنبل وارجموه بالحجارة، ففعلوا ذلك به فسقط.

فقال ابن كامل: إن كان به رمق فاخرجوه، فأخرجوه وبه رمق، فدعا بنار فحرقه بها وهو حي لم تخرج روحه...

بنو جنب رهط هذا الشقي من مذحج.

أمّا صفة قتل ابن الكاهن:

ص: 501

فيروي الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي في كتاب الأمالي(1) بالإسناد إلى المنهال بن عمرو الاسدي قال:

ص: 502


1- الأمالي للطوسي: 149 .

دخلت على علي بن الحسين(علیه السلام) منصرفي من مكّة فقال: يا منهال! ما صنع حرملة بن كاهن الأسدي؟ فقلت: تركته حيّاً بالكوفة.

قال: فرفع يديه جميعاًً فقال: اللهم أذقه حرّ الحديد، اللهم أذقه حرّ النار.

قال المنهال: فقدمت الكوفة وقد ظهر المختار بن أبي عبيدة وكان لي صديقاً.

قال: فمكثت في منزلي أياماً حتّى انقطع الناس عنّي، فركبت إليه فلقيته خارجاً من داره، فقال: يا منهال! لم تأتنا في ولايتنا هذه، ولم تهنئنا بها، ولم تشركنا فيها.

فأعلمته أني كنت بمكة، وأني قد جئتك الآن، وسايرته ونحن نتحدّث حتّى أتى الكناس، فوقف وقوفاً كأنّه ينتظر شيئاً، وقد كان أُخبر بمكان حرملة، فوجّه في طلبه، فلم نلبث أن جاء قوم يركضون وهم يشتدّون حتّى قالوا: أيّها الأمير! البشارة قد أخذ حرملة بن كاهن.

فما لبثنا أن جيء به فلمّا نظر إليه المختار قال: الحمد لله الذي أمكنني منك، ثم قال: الجزار الجزار، فاُتي بجزار فقال: إقطع يديه، فقطعتا، ثم قال: إقطع رجليه، فقطعتا، ثم قال: النار النار.

فقلت: سبحان الله! فقال: يا منهال! إنّ التسبيح لحسن ففيم سبّحت؟

ص: 503

فقلت: أيّها الأمير دخلت في سفرتي هذه منصرفي من مكة على علي بن الحسين(علیهما السلام) فقال لي: يا منهال! ما فعل حرملة بن الكاهن الأسدي؟ فقلت: تركته حيّاً بالكوفة، فرفع يديه جميعأً وقال: اللهم أذقه حرّ الحديد، اللهم أذقه حرّ النار.

قال: فنزل عن دابّته فصلّى ركعتين، فأطال السجود، ثم قام فركب وقد أُحرق حرملة، وركبت معه وسرنا، فحاذيت داري فقلت: أيّها الأمير! إن رأيت أن تشرفني وتكرمني وتنزل عندي وتتحرّم بطعامي.

فقال: يا منهال! تعلمني أنّ علي بن الحسين(علیهما السلام) دعا بأربع دعوات فأجابه الله على يدي، ثم تأمرني أن آكل؟! هذا يوم صوم شكرا لله تعالى على ما فعلته بتوفيقه.

وسبب دعوة الإمام زين العابدين(علیهما السلام) على حرملة خاصّة وأفراده بالدعاء عليه دون سائر قتلة الحسين(علیه السلام) لجرأته العظيمة على الله لمقارفته فظائعاً شتى، منها ذبح الطفل الرضيع في حجر أبيه مع أنّه رمى العباس(علیه السلام) بسهم أصاب عينه، ورمى الحسين(علیه السلام) بسهم وقع في صدره، وهو غير سهم أبي الحتوف المحدّد الذي وقع في لبّة قلبه.

وتمثّل قساوته البالغة أقصاها امتناع العسكر من إجابة عمر بن سعد وإسراعه لما انتدبه عند إقبال الحسين(علیه السلام) بطفله المشرف على الموت من الظمأ عبد الله الرضيع يستسقي له الأعداء، فسارع اللعين متقبلاً ذاك الاقتراح القاسي من الغوي قائد الغواة في أن يحسم نزاع العسكر،

ص: 504

فتحرّى عدوّ الله رقبة الطفل البيضاء، واستهدف ومضة عنقه اللماعة التي تشعّ على ذراع أبيه الحنون المنعطف، فسدّد المشوم رميته صوب هدفه، وقرطس بسهمه الناقع سمّاً رقبة الطفل الضعيف الذي يستدرّ عاطفة الحنان، ويستدعي حدب الإنسانية، فذبحه من الوريد إلى الوريد.

ويزعم أقسى الخليقة قلباً وأغلظ البشرية كبداً أنّه رقّ لذاك الطفل الذي جيء به يسقى الماء السلسال، فسقي من دمه السيّال، متى زعم هذا العاتي تلك الرقّة المزعومة وانكسار الخاطر المكذوب حين أحسّ الطفل المغمى عليه من العطش بحرارة السهم الحادّ فاستخرج يده من القماط لائذاً بالأب العطوف، عائذاً بالوالد الحنون، معتنقاً إيّاه عناق وداع وفراق لا عناق استقبال وتلاق.

وربّ رضيع أرضعته قسيّهم

من النبل ثدياً درّه الثرّ فاطمه

فلهفي له مذ طوّق السهم جيدّ

كما زيّنته قبل ذاك تمائمه

ولهفي له لما أحسّ بحرّه

وناداه من طير المنية حائمه

هفا لعناق السبط مبتسم اللمى

وداعاً وهل غير العناق يلائمه

إنّ مثل هذه لو صوّرها الخيال على مسرح الفكر لما تيقّن صدق هذه المخيلة الشاذة بتصوير مثل هذه البشعة النكراء، فكيف إذا كانت حقيقة وواقعة من إنسان العدوان، إنسان القسوة، إنسان الجلفية، قد قلنا أنّه إنسان إفهاماً وتفهيماً في التمثيل، وإلا فإنّه شيطان متمرّد تشكّل بصورة إنسان، ومارد متشيطن تقمّص بقالب بشر، بل سبع

ص: 505

نهم وذئب مقرم يقضم بأنياب مطامعه لحوم التوحيد، ويقطع بنواجذ شرهه أعصاب الدين.

ولعظم هذه الجريمة وفظاعتها وضع الحسين(علیه السلام) يده تحت نحر الطفل حتّى إذا

امتلأت من دمه رمى بها إلى اُفق السماء قائلاً: اللهم لا يكن أهون عليك من فصيل، ولا غرابة أن لا يرجع إلى الأرض من ذلك الدم الطاهر الزكي قطرة، ولا عجب لو ترشفته السماء الصافية الأديم ترشفاً، وطرّزت به آفاقها، ولوّنت به شفقها المحمر دوماً، ليترجم للأجيال القادمة فعال تلك العاصبة الشريرة.

وهذا الجرم العظيم وهذه الجرأة البالغة وغيرها استدعت من الإمام السجاد(علیه السلام) الاهتمام بالدعاء عليه خاصّة، ولعلّ اختيار إعدامه حرقاً لأنّ هذا اللعين قد أحرق بفعله قلوباً: قلب اُمّه الرباب المصابة بوحيدها، وقلب أبيه المذبوح طفله على ذراعيه، وقلوب آل البيت جميعاًً من حضر منهم كربلاء ومن لم يحضر، وقلوب شيعتهم إلى يوم القيامة، اللهم أذقه حرّ النار، استجاب الله لك يا أبا محمد.

ص: 506

مرقد العباس(علیه السلام)

مرقد العباس(علیه السلام) حيث يزار الآن باتفاق الناس لم يخالف في ذلك مخالف لتظافر النصوص الواردة في دفن الشهداء:، وأنهم دفنوا كلّهم حول قبر الحسين(علیه السلام) إلا الحرّ بن يزيد الرياحي والعباس(علیه السلام) دفن حيث سقط.

السرّ في إبقائه حيث سقط:

إنّ الحسين(علیه السلام) لم يحمل العباس(علیه السلام) إلى خيمة الشهداء كما حمل إليها بقية الشهداء من أصحابه وأهل بيته، لأنّه(علیه السلام) نصب خيمة في وسط المعركة يحمل إليها كلّ من استشهد من أصحابه وأهل بيته، وربما أفردها من المخيم وجعلها وسط لدواعي عديدة منها:

الداعي الأوّل:

الداعي الحفاظي وذلك أنّه(علیه السلام) من لباب أرباب الحفاظ والشيم

ص: 507

وسادات أرباب الغير والحمية الذين يغارون على الحرم، ويغالون في صونها ببذل المجهود، وبكلّ ما في وسع الجهود، وفي جيشه نساء مخدّرة، وعقائل محترمة مصونة بصيانة الجلالة والعظمة، ومسترة بستر الاحترام والتجلّة، مرخى عليها رواق الحشمة والعظمة، والمرأة مهما كانت محتفظة بوقارها مبالغة في التمسك بسترها إذا رأت بعينها فقيداً عزيزاً تنذهل، وقد يغلبها الجزع لعظم الصدمة، فتلهوا عن الوقار، وتذهل عن الاحتشام، وربما تبدو حاسرة أو تظهر سافرة مكشوفة الوجه للنظار، فإنّ المذهول المندهش لخوف شديد أو لصدمة جائحة ممضّة لا يحتفظ كما في آنات الأمن والسرور.

وقد قال الربيع بن زياد أحد بني عبس ورئيسهم في الجاهلية في رثائه مالك بن زهير العبسي لما قتلته فزارة:

من كان مسروراً بمقتل مالك

فليأتي نسوتنا بوجه نهار

يجد النساء حواسراً يندبنه

يلطمن أوجههن بالأسحار

فمحافظة على هذه المقاصد العليا والغايات الشريفة أبعد أشخاص الشهداء عن أعين العقائل، فالحسين(علیه السلام) حافظ تمام المحافظة على عدم إزعاج العقائل من خدورهن كي لا تصاب لمذهولة غرّة، وتنال من مذعورة غفلة بسقوط خمار أو رفع برقع أو كشف نقاب عن وجه محجبة لا زال تصونه النبوة بقداستها ويستره الوحي بجلاله.

فلم يحمل أخاه العباس(علیه السلام) إلى هذه الخيمة التي تجمع الشهداء من أنصاره وأهل بيته، والتي هي غير بعيدة عن المخيم الحسيني، ولا نائية

ص: 508

عن أخبية النساء.

الداعي الثاني:

راعى في إبقاء العباس(علیه السلام) في موضع سقوطه غير ما ذكرنا أمور أخرى تشفّ لمتأمّلها عن عظمة شأنه، وترمز إلى شموخ محلّه وسمو منصبه، إذ أنّه عنوان الفضائل ورمز الجلالة:

إنّه(علیه السلام) قصد بذلك إظهار فضيلته المستقبلة، وإبانة جلالته في الأجيال الآتية، ليعرف قدره، ويستبين تفوّقه الذي يلتئم مع شخصيته الفذّة، ويتّفق مع أهليته، فأحبّ لذلك أن يبقى هناك، ليدفن في موضعه حتّى يكون له قبر مشيّد بانفراده، وعلم ظاهر، ومرقد مشهور، فيمتاز بعد وفاته كما امتاز في حياته، وليبقى ذاك القبر المقدّس، والضريح المتسامي للضراح، والقبّة السامقة تفاخر نجوم الثريا شموخاً وارتقاء، ويبقى ذاك المرقد المنيف مقصد العدوّ الذي يسمّيه الإمام العباس(علیه السلام)، والولي الذي يسمّيه قاضي الحاجات على السواء، وليخضع الجريء في أعتابه فيقول بعامّيته: ((الترهب بيبانه))، هذا سرّ واضح يتجلّى لنا نوره متألّقاً.

الداعي الثالث:

إنّه(علیه السلام) حين صرع أخوه العباس(علیه السلام) لم يبق معه أحد من أنصاره

ص: 509

وأهل بيته من يحمله، فإنّ العباس(علیه السلام) كان بطلاً ممتازاً بالجسامة، ومعروفاً بالضخامة، فيحتاج إلى من يحمله ليحامي عن الحسين(علیه السلام)، ويدفع عنه الأعداء، فإنّه لو حمله هو بنفسه ما وجد له من يحمي ظهره من العدوّ الغادر الذي يتحيّن الفرص في قتله، ويتحرّى الوصول إلى القضاء عليه بكلّ ما أمكنه من جهود، وحيث لا حيّ في الخيام ممّن له قابلية الدفاع، لأنهم قتلوا وجرحوا جراحات تمنعهم من الجلاد، فإذن ليس إلا الإمام العليل(علیه السلام) الذي أسقط عنه الدفاع عدم التمكّن من القيام، وعدم الاستقلال بالنهوض وحده إلا متوكئاً على شيء أو معتمداً على إنسان، ومن كان بهذه الصفة لا يستطيع أن يحمي ظهر المحارب الذي شُغل بالحمل عن الحملة، وهناك صبية صغار ونسوة مذاعير، فلا مجال لحمله(علیه السلام) ولم تسنح فرصه لنقله.

الداعي الرابع:

إنّ الحسين(علیه السلام) لمّا وصل إلى أخيه العباس(علیه السلام) عقيب ندائه: أدركني يا أخي، وشقّ إليه الصفوف العدوانية المتكدّسة على مصرعه شقّاً، وصدع جموعها بجولته ألفاه بآخر رمق من الحياة يكاد أن يلفظ آخر نفسه له، وما كلّمه تلك الكلمات الوجيزة الحارّة اللاذعة إلا ولفظ مع آخرها روحه الزكية، وختم بها حياته الطيبة، ولا معنى لحمل من حضره الموت الذي لابد منه مع أنّ الغرض الذي يحمل من أجله الشهداء، وهو الخوف من أن يجهز العدو على الجريح قد زال بوفاته،

ص: 510

فأبقاه في موضعه.

الداعي الخامس:

إنّ في المخيّم من نساء وأطفال وجرحى في خيمة القتلى كانوا جميعاًً غير مرتاعين ولا منزعجين وحياة العباس(علیه السلام) قائمة، واثقين شبحه قائماً في المعركة يجالد الأعداء، فهم في منعة، وأملهم وطيد بأنّه سيّدفع عنهم التعدّيات العدوانية، وإنّه يقوم بالدفاع المشترك مع أخيه الحسين(علیه السلام) والتعاون معه، وبذلك الدفاع الثنائي من الأخوين سيكون المخيم كعرينة الليث، وسيبقى المنزل العائلي كغابة الأسود تزأر أمامها السباع الضواري، وما دامت الأسود تهدر والنمور تزأر لا تدنو الوحوش، فلا تقترب الذئاب الساغبة فيها، فإذا هذا الصوت الأسدي الصاخب من ناحية اقتحامها الذئب المخاثل هذا، ويرون أنّ حياة الحسين(علیه السلام) مضمونة بضمان السلامة ما قام أبو الفضل ينافح عنه ويكافح دونه، وقد جعل نفسه وقاية له، وحياته فداء لحياته، فإذا حمله إلى الخيمة، فإنهم ولا شكّ إذا رأوه قتيلاً يرتاعون أشدّ الارتياع، ويندهشون أعظم الاندهاش، ويخالجهم الرعب والذعر الذي لم يخالجهم وشخصه بالوجود، ويحسبون لقتل الحسين(علیه السلام) ألف حساب، وقد عقدوا فيه آمالهم، فإذا قتل العباس(علیه السلام) فإنّه سيستقتل ويستهدف للأعداء ويصحر لهم وقد فقد المحامي والمدافع لا ريب في ذلك، لأنّه مطلوب أهل الكوفة،

ص: 511

والغاية المقصودة من تحشدّهم، وقد فتحت الثغرة بقتل العباس(علیه السلام)، ولاحت الثلمة في الحصّ لرامقها، فترك العباس(علیه السلام) في موضع سقوط متعين لهذه المصلحة الحربية، والحسين(علیه السلام) معروفة مهارته الحربية، وخبرته بفنون القتال، فهو القائد المحنّك، والزعيم المجرّب، فإبقاء الفقيد العزيز في موضعه أقرب للمصلحة الحربية من تهايج النساء المذعورة، وهيجان الصبية المرعوبة، فإنّ إزعاجها وقلقها يزعج راحة قلب الغيور ويقلقه.

الداعي السادس:

إنّ بعض أهل المقاتل يصرّح أنّ العباس(علیه السلام) أحبّ ذلك واختاره لأمرين:

إحدهما: ما ذكرنا في نزول الموت به.

وثانيها: الاستحياء من الوعد الذي قطعه لسكينة(علیها السلام) بإحضار الماء لها، ولم يأتها به لحيلولة الأقدار دون ذلك، فأقسم على أخيه الحسين(علیه السلام) بحرمة جدّه رسول الله(صلی الله علیه واله) أن يدعه في مكانه، ولا خفاء أنّ خلف الوعد ولو كان لسبب قهري صعب عند ذوي الشهامة والمروّة، والاعتذار عسير عند صاحب الإباء والحفيظة، ونفس العباس(علیه السلام) الحرّة، وشعوره الحي، ويقظته الوقّادة تأبى أن تتوسّم في ملامحه، أو ترتسم في أسارير غرّته الغراء آثار الخلف وعدم الوفاء بالموعود، ولو كان بغير اختيار لغلبة الأقدار وحيلولة القضاء بينه وبين مبتغاه،

ص: 512

وعرقلة المنيّة لنجاح مسعاه والفوز والظفر بموعوده.

وهنا يقول اليزدي في مصائب المعصومين(1): روي في بعض المقاتل أنّه لمّا رأى الحسين(علیه السلام) أخاه العباس(علیه السلام) قد وقع على الأرض مقطّع الأعضاء مزمّل بالدماء بكى بكاء عالياً، فقال له: هل من وصية؟

قال: يا أخي! وصّيتي أن لا تحملني إلى الخيام ما دمت حيّاً.

فسأله عن سببه؟ قال: إني أستحي من سكينة، لأني ما قدرت على إتياني لها بشربة من الماء، ثم ارتحل روحنا لروحه الفداء.

هكذا تجد النفوس الزكية والأرواح الطيبة إن نظر الموعد إلى وجه الموعود كسراً وهضماً، إذ لم يبلغه الأمل ولم يوصله إلى البغية ولم يمكنه من المراد.

الداعي السابع:

يظهر من بعض المقاتل ما يمكن أن نعدّه سبباً آخر، وهو أنّ جسد العباس(علیه السلام) قد وزّعته أسلحة الأعداء توزيعاً، وفصّلته مفاصلاً وآراباً بحيث لا يمكن حمله لتساقط أعضائه، فيحتاج في حمله إلى وعاء ((سدية)) لتجمع أعضائه الموزّعة، وهذا غير بعيد عن النظر الدقيق، فإنّ التفكّر في قسوة جيش السقيفة، وغلظة أكباد اُمرائه وقوّاده

ص: 513


1- مصائب المعصومين: 360 .

وجلفيتهم وأخلاقهم الجافية في عموم بني الإنسان، فإذا اُضيف إلى هذا بغضهم لآل علي(علیه السلام) الذي أباد أسلافهم في حروبه ونظر إلى حنقهم الزائد على العباس(علیه السلام) خاصّة، وتأثّرهم من حدّ صارمه الخاطف في ساحة الجلاد، والذي نثر جماجم أعيانهم وهام أبطالهم على وهاد كربلاء قادهم إلى التشفّي الغليظ الشائك منه بتوزيع أشلائه المباركة غيظاً وحنقاً عليه.

روي في بعض الكتب: أنّ من كثرة الجراحات الحالّة عليه لم يقدر الحسين(علیه السلام) أن يحمله إلى محلّ الشهداء، فترك جسده الشريف في محلّ مقتله ورجع(علیه السلام) باكياً إلى الخيام..

***

ويلزمنا هنا بيان أمرين:

أحدهما: دفن الشهداء كيف كان؟

ثانيهما: التعريف بكربلاء القديمة وبعض قراها، لتعرف ((الغاضرية)) و((نينوى)) و((العقر))..

دفن الشهداء وأين دفنوا؟

إنّ أبا الفضل(علیه السلام) بدون ارتياب ولا تشكيك دفن على مسناة

ص: 514

العلقمي، وهذا متواتر في النقل، وعليه عمل الشيعة من حين دفنهم إلى يومنا هذا.

قال فخر الدين الطريحي في المنتخب(1): وأمّا العباس(علیه السلام) فإنّه دفن ناحية منهم في موضع المعركة عند المسناة، وقبره ظاهر على ما هو الآن.

وقال السيّد الداودي في العمدة(2): وقبره - يعني العباس(علیه السلام) - قريب من الشريعة حيث استشهد، وكان صاحب راية أخيه الحسين(علیه السلام) ذلك اليوم..

وقال الشيخ المفيد في الإرشاد(3): ودفنوا العباس بن علي(علیهما السلام) في موضعه الذي قتل فيه على طريق الغاضرية حيث قبره الآن.

وقال ملا محمد حسن القزويني في رياض الأحزان(4):

ص: 515


1- منتخب الطريحي: 18/1 .
2- العمدة: 323.
3- الإرشاد: 258.
4- رياض الأحزان: 38 .

اتفق أهل السير وأرباب الخبر على أنّ قوماً من بني أسد جاؤوا إلى مصرع الحسين(علیه السلام) بعد أن خلت ساحة ذلك البرّ من سواد العسكر لدفن تلك الجثث الشريفة والأجساد المطهّرة والأبدان المنوّرة، ولم يتعرّض أحد ممّن يعتمد عليه لبيان موجب انبعاثهم لذلك.

نعم حكى السيّد الجزائري: أنّ ما رآه زراع العلقمي وسمعه دعاه إلى ذلك من غير ذكر منه وبيان أنّه أخبر بني أسد بما ظهر له، فوافقه منهم جماعة على عزيمة الدفن أم لا؟ وإن كان شراء الحسين(علیه السلام) ما شراه من أرض كربلاء من أهل الغاضرية مع إخباره إيّاهم بشهادته وشهادة أصحابه، وكانت تلك الأرض مدفناً لهم وحفرة وتربة، وشرط عليهم ما شرط بعد حبس الأرض أنهم جاؤوا لدفنه وفاء ببعض ما شرطوا له(علیه السلام) .

وفي بعض ما ألّف في المقتل:

ص: 516

أنّ نساء الغاضرية بعد ما مضى الموعد وشاع ذكر قتله(علیه السلام) اجتمعت وقالت للرجال: ألا تذهبون إلى مصارع آل الرسول توارونهم وتحرسونهم من السباع وعسلان القاع؟ أما تخافون الله؟ أما تؤمنون برسول الله(صلی الله علیه واله)؟

فقالوا لهن: نعم لكن نخاف من العتل الزنيم عبيد الله بن زياد أو ما علمتن ما صنع بآل الرسول وأولاد فاطمة البتول؟

فقلن لهم: إن كنتم تخافون على أنفسكم وعلينا منه، فإنّا لا نخاف على أنفسنا وعليكم، ونذهب الآن إلى دفن أجساد الشهداء، وأنفسنا لهم الفداء، والله يعطي الجزاء .

فلمّا قلن ذلك صحن وضججن وتهيئن للخروج بآلات الحفر للقبور، فحين ما رأى الرجال والفتيان هذا من النسوان أخذتهم الغيرة والحمية!!! وأقبلوا لمصارع

الشهداء لدفنهم ومواراتهم.

قال: إنّ جسد الحسين(علیه السلام) مع من كان معه من الشهداء كان ملقى ثلاثة أيام في عرصة كربلاء، فجاءهم أهل الغاضرية، والغاضرية قرية على شاطئ الفرات، وكانوا من بني أسد، فأقبلوا إليهم وقالوا: يا للمسلمين! تلك الجثث والأجساد عرضة للأسود والذئاب! كلا والله فاتقو الله واحذروا من غضبه، فاجتمع عند ذلك كلّهم وجاؤوا إليهم، فأخبروهم ودفنوا جثة الحسين(علیه السلام) هناك بلا رأس، ودفنوا علي بن الحسين عند رجليه وسائر الشهداء في الموضع المعروف إلا العباس بن علي(علیهما السلام)،

ص: 517

فإنهم دفنوه في مصرعه على طريق الغاضرية..

وقال صاحب رياض الأحزان، قال(1): وفي كامل الزيارة: إنّه لمّا ارتحل عمر بن سعد - لعنه الله - مرّ بالشهداء قوم من بني أسد مرتحلين من الغاضرية، فلمّا وصلوا كربلاء رأوا حالة الشهداء أقاموا ودفنوا الحسين(علیه السلام) وحده وعلي بن الحسين(علیهما السلام) عند رجليه والعباس بن علي(علیهما السلام) في شاطئ العلقمي، والباقين من الشهداء في حفرة عظيمة دفنوهم بأسرهم في موضع واحد، وأشخص أقرباء الحر بن يزيد جثته إلى قبيلتهم فدفنوه هناك.

وأطال في نقل الأقوال، ولا حاجة بنا إلى الإطالة في النقل بعد العلم بأنّ المباشر لدفن الشهداء هو الإمام علي بن الحسين زين العابدين(علیه السلام)، وأعانه على ذلك بنو غاضرة من بني أسد.

ويهمّنا بيان اُمور:

أحدها: أين قبور العلويين وقبور أنصار؟

ثانيها: كم مكثوا بلا دفن؟

ثالثها: هل استقلّ الأسديون بدفنهم أم أعانهم غيرهم؟

الجهة الاُولى: قبور الشهداء

تصرّح الأحاديث أنّ الشهداء حفرت لهم حفيرتان:

ص: 518


1- رياض الأحزان: 39 .

واحدة: للعلويين ممّا يلي رجلي الحسين(علیه السلام).

والثانية: لأنصارهم خلف حفرتهم.

كما صرّحت أخبار اُخر أنّ الحائط أو الحائر - على الأصحّ - محيط بهم، ولأجل أن نفقه رمز مجموعة الأخبار، لنستنتج منها صورة واضحة نفهم منها امتداد هذه الحفرة إلى أين ينتهي، يجب علينا أن نفهم عدد هؤلاء الشهداء بالضبط وكيفية الدفن.

لا ريب أنّ أقلّ ما روي في شهداء بني هاشم ثمانية عشر، وفي الأنصار سبعين، هذا هو المتيقن، لأنّه أقلّ الأقوال، وهم أكثر من ذلك قطعاً، ويتفسّح في جانب الكثرة.

فإذا قلنا: أنّ الدفن هو الشرعي، لا أنهم جمعوهم جمع الحاجيات في المستودعات، فلابد أن يشقّ لكلّ واحد في الحفيرة ضريح لا يقلّ عرضه عن متر واحد، فإذا قست ثمانية عشر متراً من رجلي الحسين(علیه السلام) إلى الرواق الشرقي استوعبت قبور الهاشميين الرواق الشرقي كلّه، وربما أخذت من الصحن شيئاً، إذ مسافة الساحة من رجلي الحسين(علیه السلام) إلى الرواق الشرقي لا يزيد عن هذا المقدار إن لم تنقص عنه.

وإذا انتقلنا إلى حفرة الشهداء كذلك بجعل الواحد إلى جنب الآخر نحتاج إلى سبعين متراً - على الأقلّ - باتجاه سور الصحن الشرقي إن لم يزد عن هذا المقدار فلا ينقص عنه، فلابد أن تكون مساحة مراقد الشهداء أوسع من هذه الدائرة الضيقة المحصورة في الرواق الحسيني.

ص: 519

ولا يعقل أن يجزم بها إلا على إلغاء الدفن الشرعي، وجعلها مستودعات

للجثث الواحدة فوق الأخرى، كمستودعات أكياس الحبوب، وهذا ما لا يجوز التفوّه به، ومحال أن يفعله الإمام زين العابدين(علیه السلام)، بل حتّى لو اقتصرنا على الأسديين محال أن يفعلوا ذلك وهم عقلاء مسلمون أنهضتهم حمية الدين واقامتهم غيرة الإسلام على مواراة خير رجاله ونخبة أبنائه أن يستهينوا بهم ويقذفوا بهم في الحفر كما تقذف السلع في المستودعات، وفيهم من رهط النبي(صلی الله علیه واله)، ومن عباد الله الصالحين أهل النسك والزهد والعبادة، فليعمل من شاء فكره الدقيق ليظهر له ما ظهر لنا، ونرجوا من الله التسديد.

فلنتق الله ولنحذر انتهاك حرمة أجساد الشهداء الطاهرة لخير الأصحاب، زواراً ومتولّين وقائمين على خدمة الروضة الحسينية المقدّسة، ولا شكّ أنّ الاحتياط في احتجاز الجانب الشرقي من الصحن الشريف ممّا يلي رجلي سيّد الشهداء(علیه السلام) بالمقدار الذي يقطع الزائر أنّه لا يمشي على تلك الجثث الزواكي الطواهر ولا يعلوها بقدمه، فإنّ في ذلك من الآثار ما هو غاية في الخطورة وغاية في الهبوط وإساءة الأدب والانحدار، كما أنّ فيه آثاراً تكوينة تؤذي الزائر وتحرمه الكثير من الفيوضات، وما ضرّنا أن يكون الشبّاك المقدّس كبيراً يسمح لأكثر الزوار أن يتمسكوا به على كثرتهم.

وهذا الأمر يخصّ بالدرجة الأولى العلماء وذوي الوجاهة وأصحاب الكلمة المسموعة، والقائمين على خدمة الروضة الحسينية المقدّسة، ولو

ص: 520

أنّهم أعرضوا عن ذلك وتركوا الاهتمام به - والعياذ بالله - لأيّ سبب كان، فهو لا يسوّغ للزائر أن يرتكب مثل هذه الوقاحة.

الجهة الثانية: بقاء الأجساد الطاهرة بلا دفن ثلاثاً

قد شاع على ألسنة المؤرّخين واقتبسه مهم الشعراء أنّ الحسين(علیه السلام) بقي ثلاثة أيام بلا دفن، وقد يتوهّم المتوهّم من قول الطبري وابن الأثير وابن كثير من مؤرّخي

العامّة، وهما ناقلان عن الطبري، ومن كلام الشيخ المفيد وابن شهر آشوب وابن طاوس من مؤرّخي الشيعة أنّ بني أسد دفنوا الشهداء بعد قتلهم بيوم، فيكون دفن الشهداء يوم الحادي عشر، وهذا خطأ، فقد نصّ أهل هذا القول على ارتحال عمر بن سعد - لعنه الله - بعد إكمال اليوم الحادي عشر، كما هو في قول الطبري في التاريخ بعد أن ذكر أنّه أرسل رأس الحسين(علیه السلام) يوم مقتله إلى ابن زياد قال(1): وأقام عمر بن سعد يومه ذلك والغد، ثم أمر حميد بن بكير الأحمري، فأذّن في الناس بالرحيل إلى الكوفة...، ومثله قال ابن الأثير وابن كثير.

وقول الطبرسي في إعلام الورى(2): وأقام هو - يعني ابن سعد - بقيّة يومه واليوم الثاني إلى الزوال، ثم نادى في الناس بالرحيل وتوجّه نحو الكوفة..

ص: 521


1- تاريخ الطبري: 262/6.
2- إعلام الورى: 148.

وهنا نفهم أنّه لا يتمّ لهم رحيل إلا ليلة الثانية عشر، ولا تبلغ الأخبار برحيلهم إلى بني أسد إلا يوم الثاني عشر لانقطاع المارّة هيبة ورهبة للجيش، فإن كانوا في حيّهم نزولاً فقد يجوز أنهم دفنوهم في اليوم الثاني عشر، وهو ثالث يوم قتلهم، فيكون بقاؤهم بلا دفن يومان ونصف.

وإن كانوا في البادية قد فرّوا من وجه جيش عمر بن سعد - لعنهم الله - على ما هو المروي والعمل عليه اليوم، فيكون رجوعهم إلى حيّهم يوم الثاني عشر بعد التيقّن لارتحال الجيش، فيعودون مساءاً - يعني ليلة الثالث عشر - ويغدون صباحاً على دفن الشهداء لا يكون ذلك الوقت إلا وقت فراغهم من إصلاح منازلهم، فتكمل ثلاثة أيام ملفقة، وهذا هو الموافق لما نصّ عليه الدينوري، قال في الأخبار الطول(1): وأقام عمر بن سعد - لعنه الله - بعد مقتل الحسين(علیه السلام) يومين، ثم أذّن في الناس بالرحيل...

وقد أكثر الشعراء من ذكر هذا، قال الشاعر كما في رياض الأحزان:

يا عين جودي بالدموع فإنّما

يبكى الحزين بحرقة وتفجّع

يا عين ألهاك الرقاد بطيبة

عن ذكر آل محمد بتوجّع

باتت ثلاثاً بالصعيد جسومهم

بين الوحوش وكلّهم في مصرع

وقال الشريف الرضي من قصيدة في رثاء جدّه الحسين(علیه السلام):

ص: 522


1- الأخبار الطوال: 256.

للّه ملقاً على الرمضاء غصّ به

فم الردى بعد إقدام وتشمير

تحنو عليه الربى طوراً وتستره

عن النواظر أذيال الأعاصير

تهابه الوحش أن تدنوا لمصرعه

وقد أقام ثلاثاً غير مقبور

الجهة الثالثة: الإمام لا يدفنه إلا إمام

وذلك في حضور الإمام زين العابدين(علیه السلام) بكربلاء وقت دفن الشهداء لأجل مواراة تلك الأجساد الطيبة والأبدان الزاكية، وإنزال كلّ جثمان في حفرته، وإلحاد كلّ جسم مطهّر في قبره، فالناس في هذا صنفان، وفي إثباته ونفيه فريقان:

الصنف الأوّل يقول: دفنهم أهل الغاضرية وسكت، ولم يصرّح بانفرادهم، وإنهم استقلّوا بدفنهم، ولم يصرّح بالنفي لاشتراك أحد معهم.

الصنف الثاني: يثبت حضور الإمام زين العابدين(علیه السلام) في ذلك الوقت، وهو الذي تولى مواراة الشهداء ودفنهم، وبيده أنزل أباه الحسين(علیه السلام) إلى ضريحه المقدّس، وهذا هو الأوفق بمنهج مذهب الجعفرية، واُصول قواعد الإمامية، بل هذه العقيدة أصل من اُصول مذهب الإثنى عشرية من أنّ المعصوم لا يتولى أمره إلا المعصوم، وقد دلّت عليه الأحاديث الصحيحة عن أئمة أهل البيت: واحتجّوا به على مخالفيهم.

وأصل ذلك توصيه النبي(صلی الله علیه واله) أن لا يغسّله غير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیه السلام)، وأمر أمير المؤمنين علي(علیه السلام) للفضل بن العباس بن

ص: 523

عبد المطلب لمّا دعاه لمعاونته على تجهيز النبي(صلی الله علیه واله) أن يعصّب عينيه معلّلاً ذلك بأنّه لا يرى أحد من النبي(صلی الله علیه واله) في تلك الحال إلا طمست عيناه، وقد روته أهل الخلاف في كتبها، ولذكره محلّ آخر، ومعناه أنّ النبي(صلی الله علیه واله) معصوم لا يطلع عليه إلا معصوم، وأمير المؤمنين معصوم دون الفضل، فاحتاج الفضل إلى شدّ عينيه دون أمير المؤمنين علي المعصوم، وقصدنا ها هنا إيراد ما روته الشيعة، فإنّه معتقدها وافقها الخصم أمّ لا.

روى أبو عمرو الكشي في كتابه(1) عن إسماعيل بن سهل قال: حدّثني بعض أصحابنا وسألني أن أكتم اسمه قال:

ص: 524


1- رجال الكشي: 289 .

كنت عند الرضا(علیه السلام) فدخل عليه علي بن أبي حمزة وابن السراج وابن المكاري - هؤلاء من الواقفة - فقال له ابن أبي حمزة -البطائني -: ما فعل أبوك؟ قال: مضى، قال: مضى موتاً(1)؟ قال: نعم، قال: على من عهد؟ قال: إليّ، قال: فأنت إمام مفترض الطاعة من الله؟ قال: نعم .

قال ابن السراج وابن المكاري: قد والله أمكنك من نفسه!

قال: ويلكما وبما أمكنت؟ أتريدان أن آتي بغداد وأقول لهارون أنا إمام مفترض الطاعة، والله ما ذاك عليّ، وإنما قلت ذلكم عندما بلغني اختلاف كلمتكم وتشتّت أمركم، لئلا يصير سرّكم في يد عدوّكم.

قال له ابن أبي حمزة: لقد أظهرت شيئاً ما كان يظهره أحد من آبائك ولا يتكلّم به.

قال: بلى لقد تكلّم خير آبائي رسول الله(صلی الله علیه واله) لمّا آمره الله أن ينذر

ص: 525


1- التعبير بالموت ليس مقابل القتل، وإنما مقابل الغيبة.

عشيرته الأقربين جمع أهل بيته أربعين رجلاً وقال لهم: أنا رسول الله إليكم، فكان أشدّهم تكذيباً له وتأليباً عليه عمّه أبو لهب، فقال لهم النبي(صلی الله علیه واله): إن خدشني خدش فلست بنبي،

هذا أوّل ما أبدع لكم آية النبوة، وأنا أقول: إن خدشني هارون خدشاً فلست بإمام، هذا أوّل ما أبدع لكم من آية الإمامة.

فقال له علي - يعني ابن أبي حمزة -: إنّا روينا عن آبائك أنّ الإمام لا يلي أمره إلا إمام مثله!

فقال أبو الحسن الرضا (علیه السلام): فأخبرني عن الحسين بن علي(علیهما السلام) كان إماماً أو كان غير إمام؟ قال: كان إماماً، قال: فمن ولي أمره؟ قال: علي بن الحسين(علیهما السلام).

قال: وأين كان علي بن الحسين(علیهما السلام)؟

قال: كان محبوساً بالكوفة في يد عبيد الله بن زياد.

قال: خرج وهم كانوا لا يعلمون حتّى ولي من أمر أبيه ثم انصرف.

فقال أبو الحسن(علیه السلام): إنّ هذا الذي أمكن علي بن الحسن(علیه السلام) أن يأتي كربلاء فيلي أمر أبيه، فهو أمكن صاحب هذا الأمر - يعني نفسه - أن يأتي بغداد فيلي أمر أبيه ثم ينصرف، وليس في حبس ولا في إسار،

ص: 526

إلى آخر الحديث، ورواه الصدوق في عيون أخبار الرضا(علیه السلام) وغيره من كتبه.

وروى الكليني في اُصول الكافي(1) باب أنّ الإمام لا يغسّله إلا إمام من الأئمة بسنده عن أبي معمر قال: سألت الرضا(علیه السلام) عن الإمام يغلسّه الإمام؟ قال: سنّة موسى بن عمران.. وذكر أحاديثاً غيره.

قال صاحب رياض الأحزان(2): قد قال أبو إبراهيم - يعني الكاظم(علیه السلام) - لمسيب بن زهير في حديث طويل: إنّ الملعون سندي بن شاهك يزعم أنّه يرتكب تغسيلي وتكفيني، هيهات هيهات، لا يكون هذا أبداً، فإنّ الأنبياء العظام وأوصياءهم لا يغسّلهم ولا يكفّنهم إلا نبي أو وصيّ نبي...إلى آخر ما ذكر فإنّه عقد فصلاً

لإثبات هذا أطال فيه، ولا معنى للتطويل في إثبات أمر هو ثابت عند الإمامية ومن أساسيات عقائدهم.

حضور الإمام زين العابدين(علیه السلام)

ص: 527


1- اُصول الكافي: 151.
2- رياض الأحزان: 41 وما بعدها.

قال الفاضل الدربندي في أسراره: روى السيّد نعمة الله الجزائري في كتاب مدينة العلم عن رجاله عن عبد الله الأسدي أنّه قال:

ص: 528

كان إلى جنب العلقمي حيّ من بني أسد، فتمشّت نساء ذلك الحيّ إلى المعركة، فرأين جثث أولاد الرسول وأفلاذ حشاشة الزهراء البتول وأولاد علي أمير المؤمنين فحل الفحول وأولادهم في هاتيك الصحاري وتلك القفار تشخب الدماء من جراحاتهم، وقلن لأزواجهن ما شاهدنه، ثم قلن لهم: بم تعتذرون من رسول الله(صلی الله علیه واله) وأمير المؤمنين وفاطمة الزهراء إذا وردتم إليهم أنّكم لم تنصروا أولادهم ولا دافعتهم عنهم بضربة سيف ولا بطعنة رمح ولا بحذفة سهم؟

فقالوا لهن: إنّا نخاف من بني اُمية.

وقد لحقتهم الذلّة وشملتهم الندامة من حيث لا تنفعهم، وبقين النسوة يجلن حولهم ويقلن لهم: فاتتكم نصرة تلك العصابة النبوية والذبّ عن هاتيك الشنشنة العليّة العلوية، فقوموا الآن إلى أجسادهم الزكية فواروها، فإنّ اللعين ابن سعد قد وارى أجساد من أراد مواراته من قومه، فبادروا إلى مواراة أجساد آل رسول الله وارفعوا عنكم العار، فماذا تقولون إن قالت العرب لكم: إنّكم لن تنصروا ابن بنت نبيكم مع قربه وحلوله بناديكم، فقوموا واغسلوا بعض الدرن منكم.

فقالوا: نفعل ذلك.

فأتوا المعركة وصارت همّتهم أوّلاً مواراة الحسين(علیه السلام) ثم الباقين، فجعلوا ينظرون الجثث في المعركة فلم يعرفوا جثة الحسين(علیه السلام) من بين تلك الجثث، لأنها بلا رؤوس!

ص: 529

فبينما هم كذلك إذا بفارس مقبل إليهم حتّى إذا قاربهم قال: ما بالكم؟

قالوا: إنّا أتينا لنواري جثّة الحسين(علیه السلام) .

فلمّا سمع ذلك حنّ وأنّ وجعل ينادي: وا أبتاه! يا أبا عبد الله! ليتك حاضراً وتراني أسيراً...

ثم قال لهم: أنا أرشدكم إليه.

فنزل عن جواده وجعل يتخطّى القتلى، فوقع نظره على جسد الحسين - روحي له الفداء - فاحتضنه وهو يبكي ويقول: يا أبتاه! بقتلك قرّت عيون الشامتين، يا أبتاه بقتلك فرحت بنو اُمية، يا أبتاه بعدك طال حزننا، يا أبتاه بعدك طال كربنا.

قال: ثم مشى قريباً من جسده فأهال يسيراً من التراب، فإذا قبر محفور ولحد مشقوق، فأنزل الجثة الشريفة وواراها في ذلك المرقد الشريف على ما هو الآن.

قال: ثم إنّه جعل يقول: هذا فلان وهذا فلان والأسديون يوارونه.

فلمّا فرغ منهم مشى إلى جثّة العباس بن أمير المؤمنين(علیهما السلام) فانحنى عليه، وجعل ينتحب ويقول: يا عمّاه! ليتك تنظر حال الحرم والبنات وهن ينادين: واغربتاه!

ثم أمر بحفر لحده وواره هناك.

ثم عطف على جثث الأنصار، وحفر حفيرة واحدة واراهم فيها إلا

ص: 530

حبيب بن مظاهر دفنه ناحية عن الشهداء.

قال: فلمّا فرغ الأسديون من مواراتهم، قال لهم: هلمّوا لنواري جثّة الحرّ الرياحي.

قال: فمشى وهم خلفه حتّى وقف عليه وقال: أمّا أنت فقد قبل الله توبتك، وزاد في سعادتك ببذلك نفسك أمام ابن رسول الله(صلی الله علیه واله).

قال: فأراد الأسديون حمله إلى محلّ الشهداء قال: لا، بل في مكانه واروه.

فلمّا فرغو من مواراته ركب ذلك الفارس جواده، فتعلّق به الأسديون وقالوا: بحقّ من واريته بيدك، من أنت؟

فقال: أنا حجّة الله عليكم، أنا علي بن الحسين، جئت لأواري جثّة أبي ومن معه من إخواتي وأعمامي وأولاد عمومتي وأنصاره الذين بذلوا مهجهم دونه، وأنا راجع إلى سجن ابن زياد، وأمّا أنتم فهنيئاً لكم، لا تجزعوا أن تضاموا فينا، فودّعهم وانصرف عنهم، وأمّا الأسديون، فإنهم رجعوا إلى حيّهم..

نقد الخبر

ربما ينتقد الناقد هذه الرواية بنقدين:

النقد الأوّل:

لِمَ يسأل الأسديون من الفارس قائلين له: من أنت؟ وقد عرفوه

ص: 531

بقوله: يا أبتاه ويا عمّاه؟

والجواب عن هذا سهل، فإنّ تلك المعرفة إجمالية، فأرادوا منه المعرفة التفصيلية المشخّصة، لأنّه يجوز أن يخاطب الرجل الرجل العظيم ذا الشأنية والعظمة بلفظ الأب والعمّ على جهة التبجيل والاحترام، وإن لم يكن ابناً أو ابن أخ نسبي، كما قال رسول الله(صلی الله علیه واله) الخالة والدة، والعمّ والد، وقال الله تعالى في نساء النبي(صلی الله علیه واله): ((وأزواجه أمهاتهم))كلّ ذلك على جهة الاحترام والتجلّة، فسؤالهم عنه ليعرفوه أنّه من الخطاب الحقيقي النسبي أمّ المعظمين المحترمين له من المسلمين الذين يرون عظمة منزلته، وأنّ احترامه فوق احترام الأبوين الحقيقيين.

النقد الثاني:

كيف يتوقّف الأسديون عن معرفة جسد الحسين(علیه السلام) ولا شكّ أنّ جسده معلوم لأمرين لا يستريب فيهما أحد:

أحدهما: استعلاء نوره على أنوارهم، وإشراق أشعته، وقد أجاد الكعبي بقوله في مرثية له:

ومجرّح ما غيّرت منه القنا

حسناً ولا أخلقن منه جديدا

قد كان بدراً فاغتدى شمس الضحى

مذ ألبسته يد الدماء برودا

ثانيهما: الهيبة الإلهية التي جلّلت جسده الشريف، فإنها ليست لباقي

ص: 532

الشهداء معه، وبها حرست تلك الأجساد الطاهرة المنبوذة في بطاح الفلاة من هوام الأرض ووحوش الفلا حتّى هابت الدنو منهم، وحتى أصبحت السباع الضارية والوحوش الساغبة تلك الهيبة حرساً للأجساد الطاهرة، وقد قال الشريف الرضي:

تهابه الوحش أن تدنو لمصرعه

وقد أقام ثلاثاً غير مقبور

ثم أنّ هناك قرائن وأمارات وعلائم تعيّن للأسديين جسد الحسين(علیه السلام) وتفرده عن أجساد باقي الشهداء:

1 علمت بنو أسد أنّ الخيل قد وطئت صدر الحسين(علیه السلام) وظهره.

2 طارت الأنباء إليهم على ألسنة الركبان والمارّة من عابري الطريق أنّ الأعداء لمّا قطعوا رأس الحسين(علیه السلام) تركوه مكبوباً على وجهه!

3 قد علم الأسديون أنّ الحسين(علیه السلام) قد جمع أصحابه الشهداء في محلّ واحد، وبقي هو في محلّ مصرعه لم يحمله أحد، والأعداء لا حاجة لهم في وضعه مع أصحابه، وقد عرف الأسديون ذلك.

4 ما نبأهم به الزراع على نهر العلقمي أنّه شاهد أسداً رابضاً عند جسد الحسين(علیه السلام) يحرسه، فهو يشاهده كلّ ليلة قبل دفنه يأتي حتّى يربض عند الجسد المنفرد عن الأجساد، فيلثمه ويشمّه ويتمسّك به، ثم يبعد عنه قليلاً فيربض إلى الصباح.

فهذه القرائن لا يحتاج معها الأسديون إلى سؤال عن معرفة الجسد الشريف.

ص: 533

والجواب عن هذا: أنهم قد عرفوا جسد الحسين(علیه السلام) بالاعتبارات السالفة لكن تردّدهم ربما كان لأمرين:

أحدهما: لزيادة العلم، فإنّ هذا أمر من الاُمور الكبرى التي لها أهمّتيها العظمى في الأجيال المتعاقبة على زيارة هذه المراقد، والمسؤول عن تعيينها من باشر الدفن

وقام بمهمّة المواراة، فكلّما ازداد علماً ويقيناً كان أبلغ في العذر، ولا ريب أنّ بالدلالة الصريحة مع تلك الأمارات تكون الحادثة حادثة علم يقيني لا يتطرّقه ريب ولا يتخلّله تشكيك .

ثانيها: إنّ تردّدهم حول الأجساد وإكثارهم من الذهاب والإياب لم يكن منبعثاً عن شكّ في تعيين جثمان الحسين الأقدس(علیه السلام)، فإنّه معلوم لديهم بأنواره وهيبته، ولكن تردّد حيرة وذهول وأصابتهم الدهشة والانفعال الحادّ والتألم الحارّ اللاذع من فعل أعدائهم الأجلاف فيما جنوه عليهم من التمثيل القاسي، فقد أحلّ بهم أرذال المخلوقات ما لا تجنيه الكفرة من الجنايات مستفظة في أموات زهقت نفوسهم وفارقت أرواحهم أجسادهم من قطع الرؤوس والأيدي وسلب الأبدان، هذا أمر عظيم يوجب التفكّر فيه والحيرة ويبعث التردّد.

وشيء آخر يلزم الأسديين التفكّر فيه فيطول لذلك تردّدهم ليصيبوا جهة الرأي هو كيفية دفن هذه الأجساد الملقاة بقرب الحسين(علیه السلام)، ويبحثون عن معرفة الأعيان منهم، لأجل أن يجيبو عن السؤال المتوجّه إليهم فيما بعد عن مراقدهم، فهذا موجب تفكيرهم والموحي

ص: 534

إليهم التردّد عن سرعة الإقدام لا لأن الحسين(علیه السلام) لم يعرف عنهم.

***

للشيخ المظفر في خطاب ضريح سيّد الشهداء(علیه السلام)في بعض زيارته له في صفر:

يا قبر زرتك والدموع ذوارف

منّي ونيران الأسى تتوقّد

يا قبر هل تدري بأنّك روضة

من جنّة المأوى وريّك أبرد

يا قبر هل تدري بأنّك كعبة

لحجيج زوّار الأنام ومقصد

يا قبر أنت مطاف أملاك السما

منهم ركوع في ثراك وسجّد

حسد الضراح ضريح من ورايته

طاب الضريح وطاب فيه المشهد

يا قبر فيك إمامة مهدية

تهدى بها جلّ الأنام وترشد

يا قبر فيك وديعة لمحمد

بل فيك ريحان جناه أحمد

يا قبر قد أصبحت مرقد سبطه

تالله ما يحكي جلالك مرقد

يا قبر غابت فيك شمس هداية

للعالمين وحلّ فيك الفرقد

يا قبر فيك إمام عدل حقّه

فرض به صحّ الحديث المسند

يا قبر قد واريت جثّة سيّد

ما مثله وعلا أبيه سيّد

ما للحسين مماثل في سؤدد

كلا وما مثل ابن فاطم يوجد

أبواه حيدر والبتول وجدّه

خير الورى وهو النبي محمد

ص: 535

يا قبر هذا الروح ينزل زائراً

سبط النبي من السماء ويصعد

ووراه أفواج الملائك أهبطوا

لصلاة بارئهم عليه ردّدوا

فمسبّح ومهلّل ومكبّر

منهم ومنهم حامد وممجّد

أنا مؤمن يا قبر في أهل الكسا

والحقّ حقّهموا بذلك أشهد

يا قبر عندي نيّة لو أنّني

أدركته استشهدت حيث استشهدوا

لكنّني أخّرت فاشهد أنّني

في نصره بشبا يراعي أجهد

لا زلت يا قبر ابن فاطم عامراً

تؤتي من الفجّ العميق وتقصد

يا قبر حدّثني فلست بحاضر

يوماً به قتل الحسين السيّد

هل شكّ بالسهم المحدّد قلبه

واُبين رأس ابن النبوة واليد

قل لي وهل داست عوادي خيلهم

صدراً على علم النبوة يوصد

قل لي وهل سلبت عقائل أحمد

حتّى البراقع ساءني ما أوردوا

هل أحرقوا فسطاطه وتناهبوا

أثقاله والنار فيه أوقدوا

هل ركّبوا فوق الجمال عياله

حسرى وسائقها عنيف ملحد

هل ربّقوها بالحبال وكهفها

زين العباد مغلّل ومصفّد

إنّي سمعت بأنّه في شدّة

من سقمه إذ سار وهو مقيّد

قل لي فما قالت سكينة إذ رأت

جسم الحسين حواه قاع أجرد

قل لي وما قالت رباب في ابنها

مذ كان ملقى والحصى يتوقّد

قل لي وزينب كيف كانت حالها

وشقيقها لثرى الربى متوسّد

والشمس تصهره بلفح هجيرها

والجسم من كلّ اللباس مجرّد

ص: 536

هل أنّها همّت لترمي نفسها

أي قبر تقتلني الهموم فأنشد

إنّي وقفت عليك أذري دمعتي

حزناً كغادية الحيا لا تجمد

وقصدت قبراً بالشريعة حلّه

بدر العشيرة والهمام الأمجد

شبل الإمام أخو الإمام ومن له

مجد العشيرة حبوة والسؤدد

فوقفت أسفح عبرتي ومناشداً

وكذاك من طلب الحقيقة ينشد

يا قبر عباس بن حيدر ذي العلا

وافاك عبد الواحد المسترشد

هل أنت يا قبر الشهيد مجيبه

عمّا يسائل وهو باك مكمد

هل عينه سهم الأعادي شكّها

وتعمّد اليافوخ منه الأعمد

أم هل بروا بري القداح أكفّه

ما يصنع الضرغام إن تبري اليد

قل لي فهل ردّت يداه لجسمه

والرأس حتّى ضمّهن المرقد

يا مشهد العباس تِه فخراً به

واسموا بعلياه فنعم المشهد

المزارات الأربعة لباب الحاجات أبي الفضل العباس بن أمير المؤمنين(علیهما السلام)

تشاد لأبي الفضل العباس باب الحسين بن أمير المؤمنين علي باب رسول الله(صلی الله علیه واله) أربعة مزارات تزار وتعظّم، وهذه إحدى الخصائص العباسية التي اختصّ بها دون سائر الشهداء، فإنّا لم نعرف لسائر الشهداء بعد الحسين بن علي(علیهما السلام) منذ عصر النبوة إلى يومنا هذا من شيّدت له أربعة مزارات مواضع، وكلّ واحد منها يقصد بالزيارة

ص: 537

ويطاف به ويتبرّك فيه، كما يتبرّك بركن البيت الأعظم، ويلثم كما يلثم الحجر الأسعد، ويلتزم ويستلم كما يمسك الملتزم ويستلم ركن الحطيم.

ليس هذا بعد الحسين(علیه السلام) ريحانة الرسول(صلی الله علیه واله) الذي شيّدت له عدّة مزارات إلا لحامل لوائه أبي الفضل العباس الأكبر(علیه السلام)، فكانت هذه المزارات الأربعة في التبرّك بها من أزمنة قديمة:

مزار الرأس الشريف في العاصمة الأموية دمشق الشام، ومزاراته الباقية تشرّفت بها كربلاء حيث احتوت عليها وضمّتها جميعاًً، وإن تفرّقت في أرجائها، فمزار الجثمان الأقدس حيث القبّة المشيّدة والمرقد السامي والضريح المبارك المشهور، ومزار الكفّين خارج الصحن، كما سنحقّق موضعهما.

احتفظت بهذه الآثار شيعة الحسين(علیه السلام) وعظّمت هذه المزارات لهذه الأعضاء العباسية الكريمة منذ عصر الشهادة في أوّل النصف الأخير من القرن الأوّل الهجري إلى اليوم، بالخلف يقتفي السلف، لأنها قد شهدت لها الأسفار التاريخية بوقع الكفّين القطيعين كلّ واحدة من ناحية، وسقوط الجسد في موضع الضريح الحالي، والعضو الرئيس المبارك صلب حيث المزار المشاد في دمشق العاصمة لسوريا اليوم.

لم تغفل شيعة الحسين(علیه السلام) على التنقيب والبحث عن الأثار المقدّسة لأهل البيت

النبوي لتقوم بما ندبها الله تعالى إليه من واجب التعظيم لأوليائه، وحثّها عليه من احترام السلالة النبوية المحترمة بقوله تعالى: )ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب(.

ص: 538

إنّ الله تعالى ليدلّ الناس على جلالة أوليائه عنده، ويرشدهم إلى عظيم منزلتهم لديه، ويعرّفهم أقدارهم ومحلّهم الخطير السامي، وعلو مكانتهم الرفيعة، ولكنّ الناس ليصدفون عن الحقيقة اللامعة، وينفرون عن البرهان الساطع، ويتعامون عن الحقّ الواضح، والحقّ تطفح غمرته، ولا يقاوم تياره، ولا يردّ سيله الهائل، ولا يحول دون جريانه حائل.

للشيخ المظفر :

دعوا يا خصماء آل أحمد لجا

جكم وجانبوا لؤم الجدل

فقد تنكّبتم طريق رشدكم

غيا وزيغا ثم بؤتم بالفشل

فقد أشاد الله بالرغم لكم

مشاهد الغرّ بني خير العمل

فلا يضرّ أحمد أو رهطه

جحود من زاغ عناداً وأضل

إن تنصروا الله إذن ينصركم

قد قاله ربّ الورى عزّ وجل

ومن أطاع الله عزّ إسمه

أطاعه الخلق وما شاء فعل

ويرفع الله الذين آمنوا

برحمة منه إلى أسمى محل

فهذه قباب آل أحمد شيدت على

التقوى وإخلاص العمل

فهي قذى عيون جاحد يهم

ووهي الأعضاء ذوي البغضا شلل

وكلّ من لام على إتيانها

فذاك عندي ذو جنون وخبل

مراقد سمت فخاراً وعلت

على الضراح وارتقت أسمى محل

ص: 539

ترمي على أعتابها تيجانها

كلّ الملوك ومشاهير الدول

لأنّهم سلالة طيّبة عليهم

الوحي من الله نزل

لم يجد المعادي لآل محمد(صلی الله علیه واله) سبيلاً إلى القدح في فضائلهم التي هي غرر في جباه الليالي والأيام، ولم يرى وسيلة للغضّ، وألحّ به داء العداء المزمن فأخذ يتّجه إلى القدح في أعمال شيعتهم ظنّاً منه أنّه قد فتح رتاج مقفل يدخل منه إلى محو آثارهم، فشنّع عليهم بأنّ زيارة القبور بدعة، وأنّ الطواف بها حرام.

للشيخ المظفر :

حرم الله روح من قال هذا

روح جنّاته وأصلاه نارا

إنّما أسّس الزيارة طاها

إذ لقتلى الأصحاب في اُحد زارا

ولقد صحّت الرواية عنه

إنّه زار من توفّوا مرارا

استغوى المنحرف فئة من السخفاء بتمويهه واستجاش عادمي البصيرة والتفكير فنوّه بذلك الإنكار الطائشون إعلاناً ناقدين لهذه الفضيلة واسمين لها بالهمجية، وهي في الحقيقة نقد لشارع الإسلام، وتشنيع على من تلقّى الوحي عن الله تعالى الذي أرسله للاُمّة بشيراً ونذيراً، وليس هذا بنقض على شيعة الحسين(علیه السلام) إنما هو نقض على جدّ الحسين(علیه السلام) القائل: زوروا القبور فإنها تذكّركم الآخرة، ولم يكتفي بالقول المجرّد بل باشر فعلاً فزار قبر اُمّه بالأبواء، وزار

ص: 540

شهداء اُحد والبقيع، وأمر بزيارتهم والإكثار منها، وجعل لبعض صلحاء أصحابه أمثال ابن مظعون علامة يهتدي بها الزائر لقبورهم.

وهكذا أشادت الصحابة آثار نبيّها المباركة، وتبرّكوا بجميع ما حلّ فيه وظهرت فيه بركته من مجالسه حتّى شادوا المزارات لمجالسه وآثاره المباركة في البوادي كمسجد الشجرة في الحديبية ومسجد مجلسه أمام العوسجة عند خيمة اُم معبد حتّى تخيّل من أعوزه الفقه في الدين وحمله الحقد الدفين على سيّد المرسلين وأثرى من عدم التفكير أنها ستعبد بتطاول الزمان كما عبدت الأشجار أهل الجاهلية، فأمر بطمس تلك الآثار المباركة ومحوها فاُزيلت.

أمّا الشيعة العلماء رفضوا هذه الحماقة وتركوا هذه الغباوة الفاضحة، وأحيوا سنّة النبي الهادي(صلی الله علیه واله)، واقتفوا أثر الرسول المصلح(صلی الله علیه واله)، وتبعوا سنّة أصحابه الفقهاء الأخيار والأفاضل العلماء، فشيّدوا قباب آل محمد(صلی الله علیه واله) وتتبعوا آثارهم، فجعلوا لها أعلاماً كما جعلت الصحابة لآثار النبي(صلی الله علیه واله) أعلاماً تُقصد، وأبنية يلوذ بها المتوسّلون إلى الله، ويطوف بها ذوو الحاجات عنده.

ومن تلك الآثار التي اهتمّ الشيعة بتشييدها المزارات الأربعة لأبي الفضل العباس الأكبر ابن أمير المؤمنين(علیهما السلام).

للشيخ المظفر :

باب الحسين أبو الفضل بن حيدرة

الله شاد له أسمى مزارات

ثلاثة بربوع الطفّ عمّرها

بالزائرين وفرداً عند شامات

ص: 541

فأصبحت مثل بيت الله طاف بها

من كلّ فج اُناس أهل حاجات

مزار كفّيه معروف ومشهده

ملاذ زواره في كلّ أوقات

ترى الملوك على أبواب حضرته

ترمي بتيجان تمليك ثمينات

كم لاذ في مرقد العباس من ملك

وذلّ في بابه من آمر عاتي

ومشهد الرأس في الشامات تقصده

أهل الحوائج في كلّ العشيات

صلّى الإله على العباس كم ظهرت

في قبره من كرامات وآيات

عناية الله طول الدهر تحرسه

إلى النشور وحتّى حشر أموات

وكلّ من عرف الرحمن نيّته

بمحض إخلاص تقريب وطاعات

أعطاه ما لا رأت عين ولا سمعت

اُذن فواضل نعماء وخيرات

فخلّد الله في الدنيا لذكرهمو

وفي المعاد حباهم خير جنات

قد أوقفنا التاريخ على خبر محزن ونبأ مقلق، وهو أنّ الحسين والعباس(علیهما السلام) وزعا أوصالاً بالسيوف وقطّعا آراباً بحدود الأسلحة.

وصرّح لنا التاريخ بأنّ الحسين(علیه السلام) اُبين من جسده الشريف أربعة أعضاء:

إصبعه الذي قطعه بجدل بن سليم الكلبي لأجل الخاتم، وكفاه اللذان قطعهما الجمال على التكّة، ورأسه الذي قطعه الشمر أو سنان أو خولي أو أخوه شبل على الخلاف.

والعباس(علیه السلام) قد قطع كفّه اليمنى حكيم بن الطفيل الطائي السنبسي، وقطع كفّه اليسرى زيد بن رقاد المذحجي الجنبي، وقطع رأسه الشريف أيضاً، فنحن قد علمنا هذا من التاريخ، فنريد أن نعرف أين

ص: 542

دفنت هذه الأعضاء الكريمة المبانة.

قال الشيخ المظفر: وقبل أن اُحرر ما ذكره المؤرّخ أبدي رأيي، وإنّي لا أشكّ أنّ الأعضاء الشريفة المفصولة من الأجساد الطاهرة عدى الرؤوس دفنت مع الأجساد:

أمّا إصبع الحسين(علیه السلام) وكفّاه، فلأنها لم ترمى بعيداً عن الجثة، بل رميت إلى جنبها، فدفنها مع الجثة واضح لا خفاء فيه.

وأمّا كفّا أبي الفضل فهما وإن وقعا ناحية عن الجثة وعدم وجود من يضمّها إليها بعد القتل لكن الذي يقوى في الظنّ أنهما عند الدفن التقطا ودفنا مع الجثة، والمزاران المشهوران لهما إنما شيّدا على موضع قطعهما، وقد ورد في بعض المقاتل أنّ الإمام زين العابدين(علیه السلام) التقط كفّي عمّه العباس(علیه السلام) ودفنهما مع جسده المبارك في الضريح.

***

وقال الأصطخري المعروف بالكرخي إبراهيم بن محمد الفارسي في كتاب المسالك إلى الممالك: وعلى باب جيرون حيث نصب رأس يحيى بن زكريا نصب رأس الحسين بن علي(علیهما السلام)...

وقال محمد بن حبيب النسابة البصري في كتاب المحبر: ونصب يزيد بن معاوية رأس الحسين وقتل معه العباس وجعفر وعثمان وعبد الله

ص: 543

ومحمد المكنى أبا بكر بني علي بن أبي طالب، وأبو بكر بن الحسن والقاسم وعبد الله أبناء الحسن، وعلي وعبد الله أبناء الحسين، وعبد الله وجعفر وعبد الرحمن بنو عقيل بن أبي طالب ومحمد بن أبي سعيد بن عقيل ومسلم بن عقيل، ومحمد وعون أبناء عبد الله بن جعفر، فحملت رؤوسهم إلى يزيد بن معاوية (لعنة الله عليه) فنصبها بالشام وبعث برأس الحسين فنصب بالمدينة..

مشهد رأسه الكريم

يحصر الخلاف في مدافن رؤوس الشهداء الشريفة ورأس أبي الفضل العباس(علیه السلام) في ثلاث مواضع:

أحدها: الشام.

وثانيها: بالمدينة حيث بعث يزيد بالرؤوس مع السبايا أو وحدها فدفنت بالبقيع.

وثالثها: وهو المشهور عند الإمامية أعادها الإمام زين العبادين(علیه السلام) فدفنها مع الأجساد الطاهرة في كربلاء، فكربلاء لهذه الهياكل القدسيّة ضمير انفصال واتصال، ومحور افتراق واجتماع، تفرّقت فيها أعضاؤها بالسيوف واجتمعت فيها تلك الأوصال، واتصلت الرؤوس بالأبدان بعد الانفصال.

ص: 544

ما جرى على رأس أبي الفضل العباس(علیه السلام):

ذكر سبط ابن الجوزي في التذكرة(1): حكى هشام بن محمد، عن القاسم بن الأصبغ المجاشعي قال: لما اُتي بالرؤوس إلى الكوفة إذا بفارس أحسن الناس وجهاً، وقد علّق في لبب فرسه رأس غلام أمرد كأنّه القمر ليلة تمامه، والفرس تمرح، فإذا طأطأ رأسه لحق الرأس بالأرض، فقلت له: رأس من هذا؟ فقال: رأس العباس بن علي، قلت: ومن أنت؟ قال: حرملة بن الكاهل الأسدي .

قال: ولبثت أياماً وإذا بحرملة وجهه أشدّ سواداً من القار، فقلت له: لقد رأيتك يوم حملت الرأس وما في العرب أنضر وجهاً منك، وما أرى اليوم أقبح ولا أسود وجهاً منك!

فبكى وقال: والله منذ حملت الرأس إلى اليوم ما تمرّ علي ليلة إلا وإثنان يأخذان بضبعي، ثم ينتهيان بي إلى النار تأجج، فيدفعاني فيها وأنا أنكص، فتسفعني كما ترى، ثم مات على أقبح حال..

وإن حرملة بعد هذا التعذيب السماوي عذبه المختار لمّا قتله، ولعذاب الآخرة أشدّ وأبقى.

للمظفر :

تعلّق رأس عباس اُميّ

بجيد الخيل من حنق عليه

ص: 545


1- تذكرة الخواص: 159 .

فتدخله إلى كوفان عمداً

ويضربه الجواد بركبتيه

وذاك لأنّها بالطفّ كانت

بها حلّ الفنا من راحتيه

فلم تشفي برضخ الرأس منه

ولا في قطعها كلتا يديه

وكم باءت اُميّة بالمخازي

وأخزى الخزي ما اجترمت إليه

بعد أن فعل الشقي برأس العباس(علیه السلام) ما سمعت أمر ابن زياد أن يرفع على قناة كسائر الرؤوس، ويطاف به معها في السكك والشوارع، ثم ساروا بتلك الرؤوس جميعاًً مرفوعة على الرماح حتّى دخلوا الشام.

ذكر ملا حسن القزويني في رياض الأحزان عن المنتخب حديث سهل بن سعد(1) ومن جملته:

رأيت باباً عظيمة وقد دخلت فيها الأعلام والطبول، فقالوا: الرأس يدخل من هذا الباب، فوقفت هناك، وكلّما تقدّموا بالرأس كان أشدّ لفرحهم، وارتفعت أصواتهم، وإذا برأس الحسين(علیه السلام) والنور يسطع منه كنور رسول الله(صلی الله علیه واله).

وفي الكامل في السقيفة قال سهل:

ص: 546


1- رياض الأحزان: 104 .

أوّل ما رأيته من الرؤوس رأس العباس أبن علي، فخلت أنّه يضحك، ورأيت رأس الحسين(علیه السلام) في هيبة عظيمة مع نور يسطع منه سطوعاً عالياً بلحية مدوّرة قد خالطها الشيب، وقد خضبت بالوسمة، أدعج

العينين، أزجّ الحاجبين، أقنى الأنف، متبسماً إلى السماء، شاخصاً ببصره إلى نحو الاُفق، والريح تلعب بلحيته يميناً وشمالاً كأنّه أبوه أمير المؤمنين(علیه السلام)، وكان على رمح عمر بن منذر الهمداني، وساق الحديث بطوله.

ويذكر(1) عن التبر المذاب عن الزهري أنّه قال: لمّا جاءت الرؤوس كان يزيد - لعنه الله - على منظرة جيرون فأنشد:

لمّا بدت تلك الرؤوس وأشرقت

تلك الشموس على ربا جيرون

صاح الغراب فقلت صح أو لا تصح

فلقد اقتضيت من النبي ديوني(2)

ويذكر(3) عن نسخ المقتل المنسوب لأبي مخنف:

ص: 547


1- رياض الأحزان: 105.
2- حياة الإمام الحسين(علیه السلام) من التبر المذاب لابن الخافي تحقيق السيّد علي أشرف: 179.
3- رياض الأحزان: 107.

أنّ الرؤوس أدخلوها من باب الخيزران، وأن رأس الحسين(علیه السلام) مع الشمر.

قال:.. وأقبل من بعده رأس العباس(علیه السلام) يحمله قشعم الجعفي لعنه الله، وأقبل من بعده رأس علي بن الحسين(علیهما السلام) يحمله سنان بن أنس النخفي لعنه الله، وأقبلت من بعده السبايا يقدمهم علي بن الحسين(علیهما السلام)...

مزار رأس أبي الفضل العباس(علیه السلام) بالشام:

قلنا: إنّ الخلاف في رؤوس شهداء كربلاء غير الحسين(علیه السلام) ينحصر في ثلاثة مواضع: بالمدينة، وكربلاء، وبدمشق الشام.

ذكر السيّد محسن الأمين العاملي في كتاب أعيان الشيعة تحت عنوان ((مشهد رؤوس العباس وعلي الأكبر وحبيب بن مظاهر: بدمشق)) ونصّه:

رأيت بعد سنة 1321 في المقبرة المعروفة بمقبرة باب الصغير بدمشق مشهداً وضع فوق بابه صخرة كتب عليها ما صورته:

((هذا مدفن رأس العباس بن علي ورأس علي بن الحسين الأكبر ورأس حبيب بن مظاهر)).

ثم إنّه هدم - بعد ذلك بسنتين - هذا المشهد واُعيد بناؤه واُزيلت هذه الصخرة، وبني ضريح داخل المشهد، ونقش عليه أسماء كثيرة لشهداء كربلاء، ولكن الحقيقة أنّه منسوب إلى الرؤوس الشريفة الثلاثة المقدّم

ص: 548

ذكرها بحسب ما كان موضوعاً على بابه كما مرّ.

وهذا المشهد الظنّ يقوى بصحّة نسبته، لأنّ الرؤوس الشريفة بعد حملها إلى دمشق والطواف بها وانتهاء غرض يزيد من إظهار الغلبة والتنكيل بأهلها والتشفي لابد أن تدفن في إحدى المقابر، فدفنت هذه الرؤوس الثلاثة في مقبرة باب الصغيرة، وحفظ محلّ دفنها، والله أعلم(1).

قال الشيخ المظفر : يناقش هذا السيّد في أمرين:

أحدهما: قوّة ظنّه تصادم النصوص المصرّحة بأنّ الرؤوس نقلت إلى المدينة ودفنت بالبقيع، والنصوص المصرّحة بأنّ الرؤوس الشريفة اُعيدت إلى الجثث بكربلاء، ولا قيمة للظنّ في قبال النصّ، فإذن هذا المشهد بني على أساس صلبها بهذا الموضع، أو أنها دفنت إلى حين رجوع السبايا، فنبشت واُعيدت إلى الجثث أو دفنت بالبقيع.

ثانيهما: حصر النسبة لهذه الرؤوس الثلاثة المقدّسة لا مبرر له من نقل ولا من عقل، والذي كتب على الصخرة لا يدلّ على الحصرة في هذه الثلاثة، وإنما كتبت أسماء هؤلاء الثلاثة لجلالتهم، وأنهم رؤساء الشهداء وأعيانهم، فنسب المشهد إليهم ورؤوس الباقين معهم، كما اشتهر المرقد الشريف الذي يلي رجلي الحسين(علیه السلام) باسم علي الأكبر، وباقي شهداء بني هاشم معه بالاتفاق.

ص: 549


1- أعيان الشيعة 209 /4 قسم أ .

فإذن الحقّ مع ما نقش على ضريح هذا المشهد، إذ لا معنى لدفن رؤوس هؤلاء الثلاثة في هذا الموضع وتبعيد غيرهم عنهم، فإمّا أن تحكم بدفنهم هنا فأحكم بدفن الجميع، وإن قلت بالنقل فقل بنقل الجميع.

للمظفر :

أقدارهم عظمت وجلّت فانتمت

كلّ البلاد لفخرها ترجو ألسنا

حتّى ادّعت مثوى الرؤوس بأرضها

مصر وأرض الشام كي تلق المنى

لكنّما مثوى الرؤوس بكربلا

حقّاً وتزعمه البلاد تيمّنا

لا بأس فالتذكار فخر خالد

فلتعمر الأقطار فيه موطنا

من كان حيّاً أينما حيّيته

ردّ التحية هاهنا أو هاهنا

مزار الكفين لأبي الفضل العباس(علیه السلام)

قد اُسس في كربلاء مشهدان أو مزاران حوالي صحن العباس بن أمير المؤمنين(علیهما السلام) رقم على أحدهما ((مشهد الكفّ اليمنى))، وعلى الثاني ((مشهد الكفّ اليسرى)).

وهذا شيء توارثه الخلف عن السلف، وتراث مجد خلّفه الماضي للباقي، وليست هذه الآثار من المحدثة، ولا من الأشياء التي لم تبتن على اُسّ قديم، بل هي سائرة مع بقية آثارهم، وتتعاهدها يد العمران إن طرقها طول الزمان بالتضعضع، أو أشرف بها على الانهيار، فإذن هي صحيحة الإسناد الفعلي لا القولي، إذ كلّ جيل يتبع الجيل السابق في

ص: 550

احترامها وتعاهدها بالعمارة والتنميق حتّى تتصل بأوّل الأجيال التي اُشيدت بها مشاهدهم وقبابهم، وهذا ما يسمّيه الناس بالسيرة العملية، ويحتج بها الفقهاء على إثبات الأحكام الشرعية.

فلا شكّ ولا ريب في هذين المقامين، ولكن يبقى الكلام هل دفن الكفان في هذين الموضعين؟ أم أنّه الموضع الذي قطعت فيه؟

يستبعد أن يكون مدفنهما، وذلك لوجود نوع من الاطمئنان الوجداني بأنّ الإمام الذي دفن جثّة العباس(علیه السلام) ألحق بها الكفين لقرب محلّهما منها، ولا حجاب حتّى يقال: إنهما لم يريا، ولا حاجة للأعداء بحملهما حتّى نظن أنهم حملوهما، ثم اُعيدا للبدن، كما حفظت على ذلك آثار كثيرة على هذا الطراز.

وعلى ما صرح به أرباب المقاتل من سقوط كلّ كفّ له(علیه السلام) تحت نخلة في ناحية من نواحي المسناة يكون المزاران المعروفان لها حوالي صحنه الشريف قد شيّدا على أساس ما ورد في حديث شهادته(علیه السلام) حيث أنّ يده اليمنى قطعت، وهو صادر من

المشرعة طالباً للخيم كي يوصل الماء لعيال الحسين(علیه السلام)، فعارضوه فقطع يده اليمنى زيد بن رقاد المذحجي ثم الجنبي، ولمّا قطعت تقدّم إلى أخيه فعارضه أيضاً حكيم بن الطفيل الطائي السنبسي، فقطع اليسرى ومذ أمنوا بقطع يديه صدّوه بجماهيرهم المتكاثفة عن الوصول إلى الخيمة، وأرجوه قليلاً إلى الوراء، وهنا ضربوه بالعمود الحديد، فسقط حيث مشهده الآن قرب مشهدي الكفّين الشريفين، كما حدّثنا التاريخ، ورسمه لنا الأثر الباقي إلى اليوم.

ص: 551

وصفة المزارين كما يلي:

مزار الكفّ اليمنى:

في جنوب الصحن العباسي(علیه السلام) قريب من باب الصحن الشرقي، وهو مشهد ملصق بالجدار عند مفترق أربعة طرق حوله بعض حوانيت، وعليه شباك نحاس صغير مقفل بقفل، ونقش عليه بيتان بالفارسية نصّها:

أفتاد دست راست خدايا زبيكرم

بر دامن حسين برسان دست ديگرم

دست چبم بجاست أگر نسيت دست راست

أما هزار حيف كه يك دست بي صداست

ولا تاريخ للشعر ولا لبناء المشهد، وعلى لوحه رسم كفّين متقابلتين نقشتا بالقاشاني.

مزار الكف اليسرى:

في المشرق من الصحن الشريف في السوق الذي يحاذي باب القبلة، ويعرف بسوق ((باب العباس الصغير))، وعلى جداره الكاشاني شباك من النحاس الأصفر المسمّى ((شبه وبرنج)) منقوش في الكاشي أبيات شعر تنسب للشيخ محمد السراج هي هذه:

سل إذا ما شئت واسمع واعلم

ثم خذ منّي جواب المفهم

ص: 552

إنّ في هذا المقام انقطعت

يسرة العباس بحر الكرم

ها هنا ياصاح طاحت بعد ما

طاحت اليمنى بجنب العلقمي

إجر دمع العين وابكيه أساً

حقّ أن تبكي بدمع عن دم

ويظهر من الشعر لمن تأمّله أنّ الموضعين اُشيد فيهما البناء تذكاراً لسقوطهما فيهما لا أنهما دفنا فيهما.

وهذا كلّه نقوله ونراه جليّاً في الواقف على هذين المزارين يتذكّر كيف قطعت يمنى العباس ويسراه؟ وكيف ضمّ الباقي منهما على اللواء؟ وإذا وقف على ضريحه المقدّس ليذكر كيف فلقت هامته بعمود الحديد؟ وكيف سقط على ضفاف العلقمي ونادى أخاه.

فالواقف على مزار الكفّ اليمنى كأنّه يرى ويشاهد بريق سيف الشقي زيد بن رقاد وحده المخالط لعضو أبي الفضل الأكرم، والواقف على مزار الكفّ اليسرى كأنّه يلحظ بعينيه سيف التعيس حكيم بن الطفيل يطيح به ذاك العضو المشرف.

للشيخ المظفر :

يمناك للجيران يمن وفي

يسراك يسرى دائماً للنزيل

جئت لنهر العلقمي صائلاً

كضيغم قد هاج من وسط غيل

ملكت نهر العلقمي عنوة

يا بطل العرب! بحدّ الصقيل

ملأت بالرغم لهم قربة

من مائه العذب الروي السليل

قصدك تسقى منه أهل الكسا

وكلّ عطشان لطه سليل

فتّت أكباد بني المصطفى

حرّ الظما كي تطفي منها الغليل

ص: 553

فاحتوشوك القوم بعداً لهم

وهدّت الأرض لعظم الصهيل

فالفوج يتلو الفوج في زحفهم

وأنت كالضرغام بين الرعيل

حتّى صبغت الأرض من هامهم

وخضت بالأشقر ذاك المسيل

ويح ابن رقاد فماذا جنى

بقطع يمناك بضبّ صقيل

وطاحت اليسرى التي يسرها

عمّ بسيف المعتزي للطفيل

والرأس من عاموده قد جرا

مع الدم المخ فأمسى يسيل

ورحت ظمئآن الحشا عاطشاً

تسقى من الكوثر والسلسبيل

كلّ مزار لابن حامي الحمى

عميد جيش ابن النبي الجليل

فهو لمن لاذ به والتجى

نعم الحمى للمحتمي والمقيل

من اُسرة الوحي وما مثلهم

في سائر الخلق وعزّ المثيل

فالوحي والتنزيل في دورهم

ينزل فيه دائماً جبرئيل

يهدي التحايا لهم دائماً

من حضرة القدس العلي الجليل

وهذا الوضع للمشهدين يفصح عمّا ذكره التاريخ أنّ العباس(علیه السلام) خرج من الفرات قاصداً مخيم الحسين(علیه السلام)، فاعترضه زيد بن رقاد الجنبي فقطع يمينه، فسار على قصده حاملاً سيفه بيساره، فاعترضه حكيم بن الطفيل السنبسي فقطع يساره، فسار

ص: 554

على قصده فضرب بعامود الحديد، فسقط في موضع مشهده المقدّس.

مثوى العباس المقدس

عمارة المشهدين المقدّسين الحسيني والعباسي

في تشييد ضريح الحسين والعباس(علیهما السلام) وعمارة مشهديهما ننقل ما وجدناه في بعض المجلات وفي كتاب معالي السبطين وكلاهما متقارب، وهي ((رسالة كربلاي معلى))، ولفظ المعالي(1):

في كتاب الحرمين في عمارة المشهدين لثقة الإسلام السيّد حسن الصدر قال:

ص: 555


1- معالي السبطين: 178 .

وأمّا قبر سيّدنا الحسين(علیه السلام) فقد أخذ الله ميثاق الناس من هذه الأمّة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماء أنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرّقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرّجة فيدفنونها، وينصبون بهذا الطف علماً لقبر سيّد الشهداء(علیه السلام) لا يدرس أثره، ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيام، كما في حديث زائدة عن الإمام السجاد(علیه السلام)، وقد أخرج الحديث بطوله ابن قولوية في كامل الزيارة، وهو صريح في أنّ الذين دفنوه أقاموا رسماً لقبره(علیه السلام) ونصبوا علماً، أي علامة وبناء لا يدرس أثره.

قال الشيخ المظفر : ولما زاره جابر كان للقبر الشريف رسم وعلامة، ولذا قال لعطية: ألمسني القبر.

وفي بعض الكتب سنة 65 بنى المختار قبر الإمام(علیه السلام) بناء بالجصّ والآجر، وأصبح القبر مزاراً للناس.

قال (قدس سرّه):

ص: 556

وفي الآثار الأخر أنّه كان ظاهراً عامراً(1) يقصده الناس للزيارة وقضاء الحوائج، ويظهر منه المعجز الباهر، فيشهد البرّ والفاجر، حتّى أني رأيت في أصل نوادر علي بن أسباط، وهو من أصحاب أبي عبد الله الصادق(علیه السلام): أن في العام الذي قُتل فيه الحسين(علیه السلام) قصد قبره النساء العقم من أهل أطراف البلاد حتّى جاء إلى قبره الشريف نحو مائة امرأة، فتخطين قبره الشريف، فحملن كلّهن وولدن.

ثم ذكر بعض الأحاديث منها ما ذكره السيّد ابن طاوس في الإقبال عن الحسين بن أبي حمزة أنّه قال:

خرجت في آخر زمن بني اُمية وأنا اُريد قبر الحسين(علیه السلام)، فأتيت الغاضرية حتّى إذا نام الناس اغتسلت ثم أقبلت اُريد القبر حتّى إذا كنت على باب الحائر، وذكر الحديث، وهو نصّ في أنّ للحائر باب، والباب لا يكون إلا لبناء.

ثم قال(2):

ص: 557


1- يشهد له ما ذكره الطبري في التاريخ وابن نما في أخذ الثار: أنّ التوابين ازدحموا على قبره أشدّ من أزدحامهم على الحجر الأسود.
2- معالي السبطين: 179.

قال السيّد الجليل محمد بن أبي طالب في كتاب تسلية المجالس: قد بني عليه مسجد، ولم يزل كذلك بعد بني اُمية، وفي زمن بني العباس إلا على زمن هارون العباسي، فإنّه خرّبه وقطع السدرة التي كانت نابتة عنده.

ثم قال: وأخرج الشريف فخار بن معد ومحمد بن المشهدي في المزار الكبير حديث صفوان الجمال قال: قال لي مولاي جعفر بن محمد(علیه السلام): إذا أردت زيارة قبر الحسين بن علي(علیهما السلام)...

إلى أنّ قال: فإذا أتيت الباب فقف خارج القبّة وارمي بطرفك نحو القبر وقل... ثم أدخل رجلك اليمنى القبّة وأخّر اليسرى، وقل.. ثم ادخل الحائر وقم بحذائه بخشوع، وذكر زيارة وارث المعروفة.

وفي البحار والمزار الكبير قال: ووجدت في نسخة قديمة من مؤلّفات أصحابنا قال: إذا أتيت باب القبّة فاستأذن وقل... ثم ادخل فقف على القبر، إلى آخر ما ذكره.

ثم قال:

ص: 558

زيارة اُخرى عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: إذا وصلت إلى الفرات فاغتسل.. إلى أن قال: وقف بالباب وكبر أربعاً وثلاثين تكبيرة، إلى آخر ما ذكره.

وأخرج ابن قولوية بإسناده المعنعن إلى أبي حمزة الثمالي عن أبي عبد الله الصادق(علیه السلام) قال: إذا أردت زيارة قبر العباس بن علي(علیهما السلام) وهو على شطّ الفرات بحذاء الحائر، فقف على باب السقيفة وقل: سلام الله وسلام ملائكته.. إلى أن قال: ثم ادخل وانكب على القبر وقل: السلام عليك أيّها العبد الصالح.. وذكر كثيراً كلّه عن السيّد بن طاوس.

ثم قال(1): أقول: لم يزل مشهد الحسين(علیه السلام) معموراً إلى أيام هارون العباسي.

ثم ذكر عن الشيخ الطوسي ما معناه أنّ الرشيد أمر بكرب قبر الحسين(علیه السلام)، وقطع السدرة التي عنده، وأنّ جرير بن عبد الحميد رفع يديه عند سماع الحديث وقال: الله أكبر جاءنا فيه حديث عن رسول الله(صلی الله علیه واله) أنّه قال:

ص: 559


1- معالي السبطين: 180 .

لعن الله قاطع السدرة ثلاثاً، فلم نقف على معناه حتّى الآن، لأنّ القصد بقطعها تغيير مصرع الحسين(علیه السلام) حتّى لا يقف الناس على قبره.

وقال محمد بن أبي طالب في تسلية المجالس عند ذكره لمشهد أبي عبد الله(علیه السلام) ما هذا لفظه بحروفه:

وقد كان بني عليه مسجد، ولم يزل كذلك بعد بني اُمية، وفي زمن بني العباس إلى زمن هارون، فإنّه خرّبه وقطع السدرة التي كانت نابتة عنده، وكرب موضع القبر، ثم اُعيد زمن المأمون وغيره إلى أن حكم المتوكّل من بني العباس، فأمر بتخريب قبر الحسين(علیه السلام) وقبور أصحابه وكرب مواضعها، وأجرى الماء عليها إلى أن قتل المتوكّل وقام بعده ابنه المنتصر، فأعاد القبور في أيامه، إلى أن خرج الداعيان الحسن ومحمد ابنا زيد بن الحسن، فأمر محمد بعمارة المشهدين: مشهد مولانا أمير المؤمنين ومشهد الحسين8، وأمر بالبناء عليهما، وبعد ذلك بلغ عضد الدولة الغاية في تعظيمهما وعمارتهما والأوقاف عليهما، فكان يزورهما كلّ سنة .

وقال في البحار: إنّ المنتصر لمّا قتل أباه وتخلّف بعده أمر بعمارة الحائر وبنى ميلاً على المرقد الشريف.

وكان تملك المنتصر في شوال سنة 247، وقد سقطت عمارة المنتصر 273، أخرج الحديث السيّد ابن طاوس في أمان الاخطار، وذكر مختصر الحديث، وأنّ السقيفة سقطت على زوار الحسين(علیه السلام) فلم تضرّ منهم

ص: 560

أحداً، وذلك في ذي الحجّة سنة 273.

ثم ذكر كلام ابن الأثير في تخريب المتوكّل للقبر الشريف، وتخريب دور المجاورين، وكلام الشيخ الطوسي، وليس هذا موضع ذكره.

وقال الحائري(1): وفي أيام المعتضد وجّه محمد بن زيد الداعي ملك طبرستان، فبنى المشهد الحائري بناء مشيداً كما نصّ على ذلك السيّد ابن طاوس في فرحة الغري، ومحمد بن أبي طالب في كتاب المقتل وغيرهما، وكان ابتداء تملّك المعتضد سنة 279 وانتهائه 289، فتكون عمارة محمد بن زيد في أثناء هذه المدّة.

ثم استولى عضد الدولة البويهي على العراق، ودخل بغداد في شوال سنة 363، وعمّر المشهدين: مشهد أمير المؤمنين ومشهد الحسين(علیه السلام)، وبلغ الغاية في تعظيمهما والأوقاف عليهما، وتوفي في شوال سنة 373، وكانت ولايته العراق خمس سنين وستة أشهر، وكان عمره 75 سنة، وحمل إلى مشهد أمير المؤمنين(علیه السلام) فدفن به.

وجدّدت عمارة المشهد تجديداً حسناً قبل هذه العمارة الموجودة الآن، وكانت للحائر خزانة معظمة أخذها المسترشد بن المستظهر المتملّك سنة 511.

قال ابن شهر آشوب في المناقب: أخذ المسترشد مال الحائر وقال: إنّ القبر لا يحتاج إلى الخزانة، وأنفق على العسكر، فلمّا خرج قتل هو

ص: 561


1- معالي السبطين: 182 .

وابنه الراشد.

ثم قال بعد كلام(1): فتحصّل من مجموع ما ذكرناه أنّ مشهد مولانا الحسين(علیه السلام) بني خمس مرّات غير العمارة الموجودة أو ستّة:

الاُولى: أيام بني اُمية، كما قد عرفت بني عليه مسجد، وله باب شرقي وباب غربي، وأنّه لم يزل كذلك إلى أيام هارون العباسي.

الثانية: عمارته بعد كرب هارون العباسي إلى أيام المتوكّل .

الثالثة: عمارة المنتصر إلى سقوطه سنة 273.

الرابعة: عمارته بعد هذا السقوط، وهي عمارة محمد بن زيد الداعي الحسني.

الخامسة: عمارة عضد الدولة ابن ركن الدولة، وكانت سلطنته بعد موت أبيه أيام الطائع بن المطيع.

السادسة: عمارته بعد حريق حدث سنة 407، وهي عمارة الحسن بن مفصل أبو محمد الرامهرمزي وزير سلطان الدولة الديلمي، وهو الذي بنى سور الحائر الحسيني، كما حكاه السيّد المرعشي في كتاب مجالس المؤمنين في طبقات الشيعة عن تاريخ ابن كثير، وإنّ الوزير المذكور قتل سنة 413، وهي العمارة التي وصفها ابن بطوطة، والسور هو السور الذي ذكره الشيخ ابن إدريس سنة 588 في كتاب المواريث من السرائر.

ص: 562


1- معالي السبطبن: 183.

السابعة: العمارة الموجودة الآن، وليست بويهية، لأنّ تاريخها سنة 767 بعد إنقضاء دولة بني بويه ب-220 سنة، لأنّ إنقضاء الدولة البويهية سنة 447، فما اشتهر بين الناس أنّ هذه العمارة الموجودة إلى الآن بويهية لا وجه له، وقد ذكرنا موضع تاريخ العمارة، وأنّه فوق المحراب القبلي ممّا يلي الرأس، وأنّه سنة 767 .

وكذلك ظهر توهّم من قال: أنها عمارة بني العباس، لأنّ دولتهم انقضت قبل هذا التاريخ سنة 656، وقد ذكر لي اسم صاحبها السيّد الجليل - سلّمه الله - خازن الحرم الحائري السيّد عبد الحسين بن السيّد الخازن السيّد علي بن السيّد الخازن السيّد جواد طاب ثراه، فلم يبقى ببالي، ولكن ببالي أنّه مكتوب مع التاريخ فراجعه، (انتهى ما في نزهة الحرمين للسيّد المرحوم).

وقال السيّد الجليل السيّد عبد الحسين الخازن: قد ذكرت للسيّد - متّع الله المسلمين بطول بقائه - أنّ البناء الموجود اليوم على قبره الشريف أمر السلطان أويس الإيلكاني .

وفيه أيضاً: قال إبراهيم المجاب بن محمد بن الإمام الكاظم(علیه السلام) وقبره في رواق حرم الحسين(علیه السلام)، وهو أوّل من سكن الحائر من الموسوية، كان ضريراً يسكن الكوفة أوّلاً، ثم سكن كربلاء، وكان أبوه محمد العابد لكثرة صومه وصلاته.

وقال السيّد بحر العلوم في الفوائد الرجالية: إنّ قبر السيّد المرتضى وأخيه السيّد الرضي في كربلاء، وإنّ المكان المعروف في بلدة الكاظمية

ص: 563

بقبرهما إنما هو موضع دفنهم أوّلاً ثم نقلا إلى كربلاء، ولا بأس في زيارتهما بهذا الموضع، وإنما أبقوا ذلك لعظم شأنهما.

ثم قال : وإبراهيم الأصغر بن الإمام الكاظم(علیه السلام) فقبره في كربلاء خلف قبر الحسين(علیه السلام) بستّة أذرع، ويلقّب بالمرتضى، وهو المعقب المكثر جدّ السيّد المرتضى والسيّد الرضي، وجدّ جدّ أشراف الموسويين، ومعه جماعة من أولاده كموسى بن أبي شحمة وأولاده، وجدّنا الحسين القطيعي وجماعة من أولاده في سردابين متّصلين خلف الضريح المقدّس كانت قبورهم ظاهرة، فلمّا عمّر الحرم العامر الأخير محو آثارهم ومعهم قبر السيّد المرتضى والسيّد الرضي وأبوهما وجدّهما موسى الأبرش، وقيل: دفنا مع السيّد إبراهيم المجاب في الصندوق وليس بمعلوم. (انتهى ما في كتاب نزهة أهل الحرمين في عمارة المشهدين للسيّد المرحوم السيّد حسن الصدر المتوفى سنة 1254ه- المدفون ببلدة الكاظمية)، و(انتهى ما لخّصناه عن معالي السبطين لمؤلفة الشيخ مهدي المازندراني نزيل كربلاء).

والمنقول عنه وهو السيّد الصدر معتمد في النقل، لكن بعض المواضع فيها مجال فسيح للبحث وميدان واسع للمناقشة طويناها حذر التطويل، وقد أوردنا كلامه مختصراً ولم نحكه بطوله.

أمّا صاحب كتاب كربلاي معلى(1) فقد ذكر مثله إلى حين عمارة أويس الإيلخائي (الإيلكاني)، ثم قال:

ص: 564


1- كربلاي معلى: 15 .

وأتمّه ولده السلطان حسين، وفي سنة 932 أهدى السطان إسماعيل الصفوي صندوقاً إلى القبر الطاهر الحسيني، وفي سنة 1048 شيّد السلطان مراد الرابع العثماني القبّة المنوّرة وجصّصها، وفي سنة 1135 نهضت زوجة السلطان نادر شاه كريمة حسين الصفوي إلى تعمير المسجد المطهر (يعني الصحن الشريف) والقبّة على الطراز الأخضر (يعني الكاشي).

وفي أوائل القرن الثالث عشر أهدى فتح علي شاه أحد ملوك إيران السبيكة من الفضه (يعني الشباك)، وفي سنة 1216 أمر محمد علي شاه بتزيين الحرم الشريف وتعميره، وبذل بذلك مبالغاً، ويوجد اليوم في أعلى الأبواب المعظمة فوق الآيات القرآنية فيما يقابل الوجه الشريف وحوالي هذه المنارة (أمرت زوجة فتح علي شاه بتذهيب المأذنتين) يعني المنارتين.

في سنة 1275 غشيت قبّة الحرم بالذهب على نفقه ناصر الدين شاه، كما هو مكتوب على حائط فوق الباب بسطر من ذهب.

وفي سنة 1358 أهدى إمام الإسماعيلية شباكاً من الفضّة عظيم جداً.

***

والمرقد المنيف العامر بعناية الله تعالى وحراسته قد تلونا عليك

ص: 565

صفحة من تاريخ عمارة المشهد الحسيني، ويشاركه مرقد أخيه أبي الفضل في كثير منها، وقد كانت خصوصيات اختصّ بها أبو الفضل(علیه السلام) كما اختص أخوه الحسين(علیه السلام) بهدايا وتحف، وأمثال ذلك ممّا يلزمنا أن نقتضب عنواناً نخصّصه بعمارة مشهد أبي الفضل(علیه السلام) وبعض ما قدّمه الملوك والتجار الكبار من الخدمة له وخذ ملخصها:

في سنة 1032 من الهجرة النبوية بني الشاه طهماسب قبّة العباس(علیه السلام) بالكاشي، وجعل على صندوق الضريخ المقدّس شباكاً من الحديد، ونظم الرواق والصحن وبنى البهو أمام الباب المقدّم للحرم، وأهدى إلى مشهده الشريف فرشاً من صناعة الإيرانيين الممتازة.

وفي سنة 1155 في عصر نادر الشاه الأفشاري نقشت بعض الأروقة بالبلور على نفقه نادر شاه، وأهدى إلى حرم العباس(علیه السلام) هدايا وتحفاً.

وفي سنة 1117 زار العتبات المقدّسة وزير نادر شاه، فجدّد صندوق الضريح وعمّر الرواق، وأهدى ثريا للضياء ليوقد فيها الشمع في صحنه المطهر.

وفي عام 1136 أمر الشاه محمد بن ميرزا القاجاري بتبديل الشباك الحديدي بالفضي فصنع كما أمر.

وفي عام 1259 أحدث عمارة في المشهد الشريف العباسي سلطان أود الهندي وهو محمد علي شاه بن السلطان ماجد علي شاه .

وفي سنة 1216 بعد النكبة الموجعة والحادثة النكراء وهجوم

ص: 566

الوهابية المشركين على كربلاء المقدّسة مركز التوحيد والإباء، وما أحدثوا فيها من شنائع الأعمال وفظائع الأعمال، وتعدّيهم على الحرمين الشريفين بالتخريب ونهب الذخائر والنفائس والمجوهرات التي يعزّ وجودها عند عظماء السلاطين، نهضت بالشاه فتح علي حمّيته وأقامته فبنى قبّة الحسين(علیه السلام)، وصدّر الأيوان بالذهب، وجعل للضريح صندوقاً وشباكاً من الفضّة، وبنى قبّة العباس(علیه السلام) بالكاشي البديع.

بنى الحاج شكر الله الأفشاري أيوان الطارمة التي لأبي الفضل(علیه السلام) بالذهب، وكتب اسمه في صدر الأيوان بالذهب، وذلك بمساعي الفقيه المرحوم الشيخ زين العابدين المازندراني نزيل كربلاء المتوفى بها سنة 1309، وتاريخ التذهيب 1309 .

ثم إنّ نصير الدولة ذهّب منارة العباس(علیه السلام)، وكان الصائغ يغشّ الطلاء الذهبي بالصفر، ولمّا وقفوا على الحقيقة استدعوا به، فجيء به من بغداد إلى كربلاء، فلمّا دخل صحن العباس(علیه السلام) اضطرب واسود وجهه ومات من الغد.

وإنّ التذهيب لإيوان الباب الأوّل لمدخل قبّة العباس(علیه السلام) لملك لكناهور محمد شاه، وزاد في الصحن محمد صادق الأصفهاني دوراً اشتراها، وتسقيف الطارمة للسلطان عبد الحميد خان، وجعل السيّد مرتضى سادن الروضة العباسية باباً من الفضّة، ومن الباب المتوسّط من الأبواب الثلاثة التي في الطارمة .

وفي سنة 1266 جاء تاجر زنجاني برخام، ففرش الحضرة والصحن

ص: 567

بذلك الرخام، وجلب الصنّاع معه من إيران، وكان التاجر يعرف بالحاج محمد حسين، ويلقّب بالحجار باشي، كما حدّثني الخطيب الاُستاذ الشيخ علي بازي قال: طلب مني السيّد حسن كليدار الروضة العباسية أن أنظم أبياتاً فيها تاريخ ورود الرخام وانتهاء العمل في سنة 1366، فنظمتها ومن خطّه نقلتها:

ذا رخام لم يشاهد مثله

بل ولمّا يكتشفه من أحد

صبغة الله ومن أحسن من

صبغة الله له صبغة يد

هو من إيران قد جاء به

خيرة الحاج الهمام المعتمد

لقّب (الحجار باشي) لما

حاز من أيد جسام لا تعد

حقّق الله أمانيه غداً

وهنيئاً لفتى ينجو بغد

من أخ السبط وآل المصطفى

سوف يجزي بنجاح مطّرد

فحسين فيه أرّخت إلى

بطل الطفّ أبي الفضل ورد

ماء كربلاء القديمة أو نهر العلقمي:

هذا نهر قديم لا يدري من حفره وأجراه، ولعلّه كان أسبق من عصور الأكاسرة، وصدره من فوق سدّة الهندية قريباً من بلدة المسيّب على محاذاة نهر الحسينية الحالي يمرّ بكربلاء حيث مرقد سيّدنا العباس الأكبر بن أمير المؤمنين(علیهما السلام)، فإذا اجتازه إلى قرية نينوى انعطف متّجهاً إلى الجنوب الشرقي إلى قرية برس ((أو البرس))، وله مخاضة أو معبر بالقرب من ناحية ذي الكفل ((الچفل)) تعرف بقرية شاهي تحاذي

ص: 568

الخان المعروف اليوم بخان الحماد ((أو خان النصف)) بين النجف وكربلاء، ثم يمرّ باتجاهه مشرّقاً حتّى يصل بلدة الكوفة، وعليه تعتمد في شربها وسقي بساتينها، ولها أنهار غيره تأتي من الجنوب الشرقي، والتي تعرف اليوم بأراضي الشامية وعقر بابل.

وآثار العلقمي باقية إلى اليوم في جنوب شرقي كربلاء بين الخانين: خان النخيلة وخان الحماد، واسمه كذلك عند عامّة الناس ((العلقمي)) مفخمة قافة، فهو الآن بين شطّ الهندية وشواطئ البادية، وقد دمّره الوزير مؤيد الدين بن العلقمي، وآل العلقمي أصلهم من أهل هذا النهر سكنوا النيل من الحلّة، وكان مؤيد الدين وزير المستعصم آخر ملوك بني العباس.

قال السيّد جعفر آل بحر العلوم في تحفة العالم(1): والعلقمي اسم نهر اقتطع من الفرات إلى كربلاء ومنه إلى الكوفة، وكان هو الباعث على عمران الكوفة، وفيها أثره إلى الآن ظاهر قرب مرقد أبي الفضل العباس سلام الله عليه .

أمّا السيّد هبة الدين الشهرستاني فلفظه في نهضة الحسين7: وأمّا نهر الفرات فعموده الكبير ينحدر من عاليه يسقي القرى إلى ضواحي الكوفة، وكذلك يشقّ من عمود النهر الشطّ من لدن الرضوانية نهر كفرع منه يسيل على بطاح ووهاد شمال شرقي كربلاء وحتّى ينتهي إلى

ص: 569


1- تحفة العالم 193 /2.

قرب مثوى سيّدنا العباس(علیه السلام) إلى نواحي الهندية، ثم ينحدر فيقترن بعمود الفرات في شمال غربي ذي الكفل الكوثى القديمة، ويسمّى حتّى اليوم العلقمي.

وكان هذا الفرات الصغير من صدره إلى مصبّه يسمّى العلقمي، والطف اسم عام لأراض تنحسر عنها المياه، وسمّيت حوالي نهر العلقمي البارزة من شواطئه طفّاً لذلك، وسمّي ما جرى للإمام الحسين(علیه السلام) فيه واقعة الطف(1).

واتفق المؤرّخون أنّ أحد المعسكرين كان على سورا، وسورا نهر الجربوعية.

قال المسعودي في التنبيه والاشراف يصف الفرات: ثم ينقسم الفرات إلى جهتين: قسم منها يتوجّه مسيراً إلى المغرب يسمّى ((العلقمي)) يمرّ بالكوفة وغيرها، والقسم الآخر يسمّى ((سورا)) يمرّ بمدينة سوار إلى النيل والطفوف(2)...

لا يعني طفوف كربلاء، فقد كان ذلك يمرّ به العلقمي، وإنما عنى به نيل الحلّة نهر المحاويل الحالي، والطفوف طفوف الحلّة.

وقد أكثر الشعراء من ذكره في مراثي الحسين(علیه السلام)، ومنهم من سمّاه ((الفرات)) كعبد الباقي العمري بقوله:

ص: 570


1- نهضة الحسين(علیه السلام): 67 .
2- التنبيه والأشراف: 47 .

بعداً لشطّك يا فرات فمرّ لا

تحلو فإنّك لا هني ولا مري

أيسوغ لي منك الورود وعنك قد

صدر الإمام سليل ساقي الكوثر

ومنهم من سمّاه ((العلقمي)) باسمه الشائع المشهور، كالسيّد جعفر الحلّي في

رثاء العباس(علیه السلام):

وهوى بجنب العلقمي وليته

للشاربين به يداف العلقم

وقال الشاعر العلوي الموسوي السيّد عبد الهادي الطعان من آل السيّد عطية بيتين هما:

جرعت أعداءك يوم الوغى

في حدّ ماضيك من العلقم

وقد بذلت النفس دون الحمى

مجاهداً يا بطل العلقمي

للشيخ المظفر :

ماء الفرات صداق للبتولة قد

صحّ الحديث وجاءت فيه أنباء

والاُمّ عند جيمع الناس إن فقدت

تحوي مواريثها لا ريب أبناء

فللحسين من الزهراء فاطمة

إرث ويحرم وهو الوارث الماء

يموت ظامي الحشا والغاصبون له

منه رواء وتروى المعز والشاء

هذا عجيب ونكر سهّلته لهم

سقيفة الغدر حتّى استفحل الداء

عاشت اُمية والإجرام سنّتها

ومنكرات أفاعيل وأسواء

تمضي العصور والأجيال قد نشرت

صحيفة لأميّ السوء سوداء

تلك القرى وهي أنفال لوالده

نصّ الجلي وما في النصّ إخفاء

ص: 571

قد احتوت وهي غناء جيوشكم

وتحتوي جيشه بيداء جرداء

ص: 572

أولاد العباس بن علي(علیه السلام) وأحفاده

الحسن بن العباس، عبيد الله بن العباس، محمد بن العباس (استشهد بكربلاء) اُمّهم جميعاًً اُم الفضل الصغرى لبابة بنت عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب .

الفضل بن العباس، عبيد الله بن العباس، القاسم بن العباس (استشهد بكربلاء).

اختلف النسابون في عدد أولاده، فمنهم المقلّ المقتصر على واحد، ومنهم الموصل عددهم إلى ستّة ذكور.

وخذ ما قاله النسابون في طرفي القلّة والكثرة:

قال ابن قتيبة في المعارف(1): وأمّا العباس بن علي فقتل مع الحسين بن علي ابن أبي طالب، فولد العباس: عبيد الله، اُمّه لبابة بنت عبيد الله بن عباس، وله عقب...

ص: 573


1- المعارف: 65 .

وقال صاحب ناسخ التواريخ(1): وولد له ولدان أحدهما الفضل، والثاني عبيد الله...

أمّا محمد والقاسم، ذكر محمداً في الشهداء ابن شهر آشوب في المناقب وتبعه المجلسي في البحار، وذكرهما معاً في الشهداء أبو إسحاق الإسفرايني في نور العين، وصاحب مطلوب كلّ طالب في أنساب آل أبي طالب فارسي مطبوع ذكر أنهما بارزا وسنذكر كلامهما.

وعبد الله - مكبراً - مذكور في بعض كتب الأنساب المخطوطة.

وفي رياض الجنان(2): إنّ عبد الله بن العباس بن علي كان طفلاً في الطف واُخذ مع السبايا، وعبيد الله بن العباس، ولا عقب للعباس إلا منه عند جمهور النسابين، إلا ابن قتيبة وصاحب طبقات الحنفية، فإنهما ذكرا للحسن بن العباس عقباً.

عبيد الله بن العباس:

كان رجلاً جليلاً فاضلاً ربّاه الإمام زين العابدين وزوّجه بنته خديجة، وجمع له معها ثلاث حرائر من بنات الأشراف يقصد بذلك تنمية نسل عمّه العباس(علیه السلام).

قال المجلسي في البحار: قال الزبير بن بكار: كان للعباس ولد اسمه

ص: 574


1- ناسخ التواريخ 306 /5 .
2- رياض الجنان: 368 طبع بمبئي.

عبيد الله كان من العلماء(1).

وقال أبو نصر البخاري في سرّ السلسلة العلوية: عبيد الله بن العباس تزوّج أربع عقائل كرام: رقية بنت الحسن بن علي بن أبي طالب، واُمّ علي بنت علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: فلم تلد له، واُم أبيها بنت عبد الله معبد بن العباس بن عبد المطلب، وابنة مسور بن مخرمة الزهري.

فولد لعبيد الله ابن العباس عبيد الله والحسن اُمّهما ابنة عبد الله بن معبد بن العباس بن عبد المطلب، والعدد والنسل في ولد الحسن بن عبيد الله، وتوفي الحسن بن عبيد الله وهو ابن 67 سنة.

قال السيّد حسون البراقي النجفي في النفحة العنبرية: في بحر الأنساب: أولاد العباس المعقّبين: عبد الله وعبيد الله والفضل.

وذكر في حدائق الألباب أولاد العباس المعقّبين الحسن وعبد الله، ثم ذكر عقبهما.

أمّا ابن عنبة في العمدة، فإنّه ذكر عبيد الله بن العباس، وهو المعقّب، وكذا في سبائك الذهب.

فعبيد الله هو المشهور بالعقب، وهو المقدّر والمحترم، وكان الإمام زين العابدين(علیه السلام) عظيم العناية به، كثير الشفقة عليه، ما نظر إليه إلا بكى، ولا لمحه إلا استعبر، وكان يحبّه ويؤثره ويقدّمه على سائر

ص: 575


1- بحار الأنوار 700 /9 طبع تبريز.

أقربائه، ويقرّبه ويدنيه يتذكر به موقف أبيه العباس(علیه السلام) ذلك الموقف الكريم أمام إمامه الحسين(علیه السلام)، ذلك الموقف الذي ألبس الإنسانية أردية الفخار، وكسى المؤمنين كساء الرفعة.

وكان عبيد الله طفلاً عند قتل أبيه العباس(علیه السلام) بقي عند اُمّه بالمدينة، ولما طرق المدينة نبأ تلك المأساة الممضة وشاع خبر تلك المذبحة المؤلمة في أحياء يثرب، فسدّدت سهام آلامها إلى الصميم من قلب كلّ عقيلة فاطمية بنوافذها، وممّن شكّ قلبها بالسهم المحدّد ذي الشعب الفتاكة هي فاطمة اُم البنين(علیها السلام)، فهي امرأة رقيقة الجنان، قويّة العاطفة، وحصّتها من تلك الفادحة عند الاقتسام الوافية، وسهمها من تلك المأساة عند المساهمة الأوفى، فكانت تحمل عبيد الله الشبل الآساد الأربعة وخلف الليث الخادر على كتفها، وتمضي به إلى بقيع المدينة فتندب أولادها الآساد الأربعة أشجى ندبة، وتبكيهم أوجع بكاء وأحزنه، وكان ندبتها تؤثر حتّى في قلوب القساة التي هي بالجلاميد الصماء أشبه، وتنصدع رقّة لها أفئدة الأعداء الغلاظ.

وقد كان العدوّ الألد والخصم الأقسى والبغيض الأجفى إذا سمع ندبتها البليلة بصوت الرقّة الندية بسجع الحنان لا يملك نفسه الشريدة حتّى يستعبر، ولا يستطيع المكاتمة دون أن يغلبه البكاء انجذاباً لتلك الرنّة المحزنة والحنة المشجية.

قال المجلسي في بحاره حكاه عنه صاحب رياض الأحزان ولفظه: وأمّا دار العباس بن علي(علیهما السلام) وإخوته فلم يكن بها منهم أحد رجع

ص: 576

إليها.

قال الشيخ محمد السماوي في إبصار العين: أنا أسترقّ جدّاً من رثاء اُمّه (يعني العباس(علیه السلام)) فاطمة اُم البنين(علیها السلام) الذي أنشده أبو الحسن الأخفش في شرح الكامل، وقد كانت تخرج إلى البقيع كلّ يوم ترثيه وتحمل ولده عبيد الله، فيجتمع لسماع رثائها أهل المدينة، فيبكون لشجي الندبة، قولها:

يا من رأى العباس

كرّ على جماهير النقد

ورواه من أبناء حيدر

كلّ ليث ذي لبد

نُبّئت أنّ ابني اُصيب

برأسه مقطوع يد

ويلي على شبلي أما

ل برأسه ضرب العمد

لو كان سفيك في يد

يك لما دنا منه أحد

وقولها:

لا تدعونّي ويك اُم البنين

تذكريني بليوث العرين

كان بنون لي اُدعى بهم

واليوم أصبحت ولا من بنين

أربعة مثل نسور الربى

قد واصلوا الموت بقطع الوتين

تنازع الخرصان أشلاءهم

فكلّهم أمسى صريعاً طعين

يا ليت شعري أكما أخبروا

بأنّ عباساً قطيع اليمين

ص: 577

محمد والقاسم الشهيدان مع عمّهما الحسين(علیه السلام):

هما ولد العباس بن علي(علیهما السلام) ولا عقب لهما، واستشهدا مع عمّهما الحسين(علیه السلام) بطف كربلاء.

أمّا محمد وحده فنصّ عليه محمد بن شهر آشوب في المناقب في شهداء الطف وقال: قتل مع أبيه العباس(علیه السلام)، وتبعه الفاضل المجلسي في البحار، والدربندي في أسرار الشهادة، وملا عبد الله في مقتل العوالم.

ونصّ على شهادته وشهادة أخيه القاسم وأنهما قتلا محاربين مبارزة أبو إسحاق الإسفرائيني، والنسابة صاحب مطلوب كلّ طالب المطبوع في إيران فارسي، والقائني في الكبريت الأحمر، وهو فارسي أيضاً، وملخص ما ترجمناه منهما:

إنّ العباس(علیه السلام) لمّا ضرب بالعمود وسقط على المسناة، وإنّ الحسين(علیه السلام) مشى إليه ورآه بتلك الحالة، وأنّه بعد رجوعه منه جعل ينادي: وا غوثاه بك يا الله، وا قلّة ناصراه، فخرج إليه من الخيمة محمد بن العباس والقاسم بن العباس يناديان: لبيك يا مولانا نحن بين يديك، وأجابهما الحسين(علیه السلام) بشهادة أبيكما الكفاية، فقالا: لا والله يا عمّاه.

وبعد وداع عمّهما خرجا إلى الميدان، ثم ذكرا أنهما قتلا عدداً كثيراً من الأعداء، وثلما من جيش أهل الكوفة ثلماً كبيرة.

ولا عجب فالشبل من ذاك الأسد، أبوهما العباس وجدّهما

ص: 578

أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب فارس المشارق والمغارب، وعمومتهما الحسن والحسين ومحمد ابن الحنفية، وعمومة الأب جعفر الطيار وطالب وعقيل، وعمومة الجدّ حمزة، وأخوال الأب ملاعب الأسنة ونزال المضيف وفارس قرزل ومدرك الثار وأربد الحتوف.

أمّا أبو إسحاق فذكر في نور العين(1) أنّه بعد نداء الحسين(علیه السلام) واستغاثته عند فقد الأنصار وبعد شهادة العباس(علیه السلام) خرج إليه من الخيمة غلامان، أحدهما محمد بن العباس، والثاني أخوه القاسم، وهما يقولان: لبيك يامولانا نحن بين يديك، فقال: كفاكما قتل والدكما، فقالا: لا والله يا عمّاه، بل أنفسنا لك الفداء، فاذن لنا بالبراز . وساق قصّة شهادتهما...

هذا ما نقله هؤلاء الثلاثة ونقلناه بمعناه، ولم نحك الألفاظ فليراجعها من أرادها.

ص: 579


1- نور العين: 20 .

أحفاد العباس بن أمير المؤمنين(علیه السلام)

لقد ازدان التاريخ بعدد كبير من أحفاد العباس(علیه السلام)، وقد برز منهم أعلام في العلم والأدب والتجارة والصناعة والزراعة، وغير ذلك من المهن الحرّة الشريفة.

وكانت لهم منزلة عظيمة، وكمثل على ذلك اعتبارهم بمنزلة بني فاطمة الزهراء(علیها السلام)، فعن معاوية بن عمّار قال: قلت للصادق(علیه السلام): كيف قسّمت فدك بعد ما رجعت إليكم قال: لولد العباس(علیه السلام) ربع والباقي لنا(1)، وعلى ذلك فقس.

ونحن نقتصر هنا على ذكر نماذج منهم، ونختصر في ذلك على بعض الأحفاد:

عبيد الله الثاني ( الأمير ):

لعبيد الله بن العباس حفيد من ولده الحسن اسمه عبيد الله أيضاً، ويعرف ب-((الأمير))، ذلك لأنّه تولّى على إمارة الحرمين مكّة والمدينة في بداية العصر العباسي، فقد جاء في تاريخ الطبرسي أنّ هارون العباسي

ص: 580


1- سرّ السلسلة العلوية : 89، العباس للمقرّم : 81 .

ولاّه بعد ولاية صالح بن الرشيد.

الحمزة بن عبيد الله الثاني:

ولعبيد الله الثاني هذا ولد اسمه الحمزة كان عالماً أديباً فصيحاً شاعراً شجاعاً، وكان يشبه جدّه الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام) .

قال الداوودي في العمدة: زاده المأمون مائة ألف درهم في العطاء لذلك الشبه.

محمد بن الحمزة بن عبيد الله الثاني:

وللحمزة بن عبيد الله الثاني ولد اسمه محمد عرف بالشهيد، لأنّه قتل غيلة ظلماً وعدواناً أيّام القرامطة، وكان عالماً سخيّاً شجاعاً فصيحاً جمع من الفضائل ما قلّ أن يجمع في غيره.

كما أنّه كان من رجال الأعمال والعقار والضياع مثرياً محسناً وجيهاً محبوباً... مع أنّه كان في غربة عن وطنه المدينة، فقد كان في طبرية بالأردن، وبها قتل مأسوفاً عليه، وعقبه يعرفون ب-(( بني الشهيد))(1).

العباس بن الحسن بن عبيد الله بن العباس(علیه السلام):

وللحسن بن عبيد الله بن العباس(علیه السلام) ولد اسمه العباس أيضاً،

ص: 581


1- عن كتاب بحر الانساب للعميدي : 66.

وللعباس الثاني هذا ولد اسمه عبد الله، ويعرف بالخطيب، وكان هو وأولاده من الأعيان البارزين، وكان شاعراً مجيداً كما جاء ذلك في كتاب ((العمدة)).

وله ولد اسمه القاسم كان فقيهاً محدّثاً ذا وجاهة كبيرة، وكان قاضي الحرمين مكّة والمدينة، كما كان من أصحاب الإمام الحسن العسكري(علیه السلام)، جاء ذلك في كتاب المناقب لابن شهرآشوب رحمه الله .

الحمزة بن الحسن بن عبيد الله بن العباس(علیه السلام):

كما ولعبيد الله الأوّل بن العباس(علیه السلام) من ولده الحسن حفيد اسمه الحمزة أيضاً .

والحمزة هذا جدّ والد الحمزة الغربي المكنّى ب-((أبي يعلى بن علي بن الحمزة بن الحسن بن عبيد الله بن العباس(علیه السلام)))، وهو ثقه جليل القدر، كما في كتاب تحفة العالم للسيّد بحر العلوم(1)، وكان مؤلّفاً عارفاً نبيلاً، ومن مشايخ الإجازة ورواة

الحديث، هكذا كان، بل أكثر كما قال عنه المؤرّخون والنسّابون وعلماء علم الحديث.

وله كتاب ((التوحيد))، وكتاب (( الزيارات والمناسك))، وكتاب ((الردّ على محمد بن جعفر الأسدي))(2).

وقبره في الحلّة قرب القرية المزيدية، وللحمزة الغربي هذا كرامات

ص: 582


1- تحفة العالم : 2/34 .
2- عن رجال النجاشي : 101 .

باهرة حيّاً وميّتاً، ولذلك ترى قبره الواقع في القرية المذكورة بين قبائل آل سلطان حافلاً بالزائرين يقصده ذووا الحاجات للتوسّل إلى الله بمقامه عنده(1) عملاً بقوله تعالى )وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ(.

هذه نماذج من أحفاد العباس(علیه السلام) ممّن احتلوا المراكز العليا في مختلف الميادين.

يهنيك يا أمّ البنين بسادة

من أفضل الأبناء والأحفاد

وقال الشيخ هادي كاشف الغطاء رحمه الله:

أمّ البنين طابت الأبناء

منك كما قد طابت الآباء

أمّ الأسود من بني عمر العلى

أمّ الحماة والأباة النبلا

أمّ أبي الفضل وأمّ جعفر

وأمّ عبد الله شبل حيدر

وأمّ عثمان الذي أسماه

باسم ابن مظعون الأب الأوّه

الأنجبين الطاهرين أنفسا

الأكرمين الطيّبين مغرسا(2)

ص: 583


1- لصاحب كتاب ((مشاهد العترة الطاهرة)) السيّد كمونه رحمه الله تحقيق عن قبره في الموضع المشار إليه.
2- أنظر كتاب أم البنين(علیها السلام) والدة حامل لواء الحسين(علیه السلام) للسيّد علي أشرف.

من كرامات العباس بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیهما السلام)

هي كثيرة جدّاً لا تحصى أو تحصى النجوم، ولا تعدّ أو تعدّ قطرات الغيوم، تتوالى على ممرّ الأيام، وتتجدّد متتالية بتجدّد العصور والأعوام، وقد جمع جمّ من المؤلفين بعض هذه الكرامات ووثقوها وأثبتوها في كتب وأسفار ضخمة، منها كتاب ((جهرة درخشان قمر بني هاشم - سيماء قمر بني هاشم الوضاء)) للشيخ المرحوم علي الرباني الخلخالي في خمسة أجزاء ضخمة.

والكرامة كالمعجزة في كونها خارقة للعادة وقاهرة للنواميس الطبيعية.

أمّا كرامات العباس بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیهما السلام) فواردة مورد التواتر، بل متواترة قطعية في كلّ عصر وفي كلّ عام من أعوام الحياة وشاهدها العيان ودليلها الوجدان:

له قبّة سامي الضراح ضريحها

بها تكشف البلوى ويستدفع الضرّ

ص: 584

وفيها شفاء للسقام وثروة

لذي الفقر إن وافى إليها انتهى الفقر

وفيها على رغم الحسود لخائف

أمان من البلوى وفي ظلّها النصر

***

لدى قبّة العباس حلو الغرائز

تشاهد بالعينين شتّى المعاجز

تجد عندها القصّاد من كلّ بلدة

وما صادر من عنده غير فائز

فثق زائر العباس إن زرت قبره

برضوان ربّ وهو أسنى الجوائز

ونجح الأماني والشفا عند قبره

وأمن من الأرزاء عند الهزاهز

فما غيره بعد النبي وآله

أئمتنا من مستجار لعاجز

أقام لهم باري الأنام مراكز

مقدّسة أكرم لها من مراكز

تزورهم الأحياء منّا ومن يمت

نزورهم على بعد المدى في الجنائز

فدع عنك قول الحاسدين لفضلهم

فلا تلقى في الحساد غير التغامز

فمن طيشهم قالوا الزيارة بدعة

ومن هذر قالوا البكا غير جائز

وهم يتركوا نصّ النبي محمد

لمن قال إنّ الدين دين العجائز

إنّ تسجيل كرامات العباس بن أمير المؤمنين(علیهما السلام) وضبط ما صدر منها من حين شهادته إلى يومنا هذا خارج عن الوسع والطاقة، وليس في مقدور إنسان أن يضبط كلّ الوقائع التي تتجدّد بتجدّد الأيام، وقد

ص: 585

نقل ثقاة العلماء مثل الصدوق الشيعي الإمامي، وأبو الفرج الأصفهاني الزيدي، وسبط ابن الجوزي الحنفي، وغيرهم قصّة قاتله الذي يجيء إليه كلّ ليلة، وهو حي فيغتّه في نار جهنم، فيصرخ صراخاً عالياً يفزع الجيران ويوقظ النوام قد شاهدوه مسودّ الوجه بعد أن كان صبيحاً، وقد تقدّمت القصّة.

أمّا الكرامات الواقعة في عصرنا ممّا شاهدناه ونقله لنا الثقاة فكثيرة جدّاً، وبالأخص تعجيل الله العقوبة لمن تعدّى عليه وتجاوز، وهو ما تسمّيه الناس بالشارة، وقد بلغ الرعب منه في نفوس عامّة الشيعة وخاصتهم حتّى أهل العامّة المختلطين بالشيعة يرهبون سيّدّنا العباس(علیه السلام) أشدّ الرهبة، فهم إذا أرادوا عقد موادعة، ويسمّونه بلسانهم علق وعطوة، أو أرادوا عقد صلح بتسليم الديّة، ويسمونها بلسانهم فصل، عقدوا راية باسم العباس(علیه السلام)، وجعلوه كفيلاً وثوقاً منهم بأنّ الله ينتقم من المعتدي سريعاً بدون إمهال، فهم مطمئنون بسرعة الانتقام من المتجاوز على صاحبه، والذي يسمّونه بلسانهم كاسر راية العباس(علیه السلام) منكوب عندهم لا يرتابون في ذلك، فهم لذلك يسمّون القوي من المشائخ الكبار والسلطان إذا كان واسطة صلحهم وسبب قبول بعضهم الديّة ((الفصل)) من بعض الواجفة وعليه تنكيل الخارق لعهود المصالحة التي أجراها ذلك الرئيس القوي من رؤساء العشائر، وهو مع قوّته واقتداره لا يطمئن بنفسه وبقوّة عشائره على التنكيل حتّى يعقد الراية باسم العباس(علیه السلام)، ويكون هو الواجفة في

ص: 586

((الفصل))، وكذلك العلق والعطوة، فإنّ المتجاوز والعباس الواجفة ينكب بدون إمهال قبل تنكيل الشيخ فيه، ويصاب إمّا ببدنه أو بفقد أعزّ ما لديه من مال وقرابة، أو يفقد هو نفسه، وهذا أمر معلوم عندهم لا يمتارون فيه ولا يرتابون، وإنّ التعدّي من عشيرة بكاملها لا من فرد، فهو إمارة تلفها وتشتتها وذهاب رجالها وأموالها، وكلّ واحد من أفراد العشائر إذا ذاكرته بهذا أفاض عليك بأحاديث متنوّعة من هذا الطرز يحصل بمجوعها التواتر.

أمّا التحالف، وهو أنواع عند العشائر، وهو اُعجوبة بكلّ أنواعه:

منها: أنّ شخصاً يخاف من شخص خيانة أو غدراً فيحلّفه بالعباس فيحلف ذلك، ولا يطمئن بحلفه له حتّى يعطيه سيف العباس، فيرفع الحالف عصا أو خنجراً أو عوداً من الأرض فيغرسه فيها، ويقول: هذا سيف العباس(علیه السلام) لا أخونك ولا أغدر بك، فيطمئن المحلوف له، فإذا خان الحالف أو غدر أصابه البلاء.

ومنها: إذا أراد أحدهم من الآخر سلعة أو خطب ابنته أو البنت التي يعشقها، فلا يطمئن بمواعيدهم له، فيرفعون عصا كالسابق ويقول الحالف: هذا سيف العباس(علیه السلام) لك إنّ ما أردته لك لا أبيعه من غيرك ولا اُزوج البنت من أحد سواك، فيكون سبيل هذا الحلف بسيف العباس(علیه السلام).

وهكذا لهم شكل آخر في مثل هذين النوعين من الحلف بأن يحفر نقرة في الأرض ويقول: هذه نقرة العباس(علیه السلام) فطمّها، فإذا طمّها علم

ص: 587

أنّه يفي، فإذا خانه بعد ذلك نكب.

ومنها: حلف الخصومات والمنازعات في جميع أنواع التهم من سرقة وقتل ودين وما أشبهه، فإنهم متى تفاقم الأمر واشتدّت الخصومة، ولم تستطع حلّها علماء الدين ولا رؤساء العشائر ولا موظفوا الدولة طلبوا المصفي، وهو العباس(علیه السلام)، فينتهي

النزاع بالحلف بالعباس(علیه السلام)، فينتهي قبل السفر باعتراف المتّهم، وفي أثناء السفر أو في الصحن الشريف، إمّا باعتراف المتّهم أو ببراءته بالحلف، وإن حلف مع تلوثه بالجريمة نكب إمّا في نفس الصحن، أو في عودته، ولا يقضي المجرم سنته إلا منكوباً، ولهذا يختارون الحلف بالعباس(علیه السلام) دون القرآن المجيد، لأنّ الله تعالى عندهم أقلّ حلمه أربعين سنة، وكذلك النبي(صلی الله علیه واله) وأمير المؤمنين، والحسين(علیه السلام)، يقولون: إنّ النبي(صلی الله علیه واله) فعلوا ما فعلوا معه من كسر رباعيته ونثر التراب عليه، وعلي(علیه السلام) قادوه بحمائل سيفه، والحسين فعلوا معه ما فعلوا ومع ذلك صبروا، ولكن العباس(علیه السلام) ليس كالأئمة:، ولهذا إذا قصدوا صاحوا: أبو راس الحار، المستعجل، المصفّي، فالمحلّف عندهم لا يجوز أن يزور الحسين(علیه السلام) قبل تأدية الحلف، لأنهم يقولون: إذا دخل قبّة الحسين(علیه السلام) فقد استجار به، والعباس(علیه السلام) لا يخفر جوار أخيه الحسين(علیه السلام)، بلسانهم: لا يأخذ دخيل أخيه.

هذه اُمور مكشوفة لكلّ إنسان، أمّا قضاء الحاجات ونجاح الآمال، فحدّث ولا حرج، وقد علم الشيعة كلّهم إنّه ما توسل إلى الله به

ص: 588

متوسّل إلا وقضى حاجته، ولا سأله بحرمته سائل إلا وتيسّر عليه مطلوبه، فلذلك سمّي بباب الحوائج .

للمظفر :

أبو الفضل ابن داحي الباب أعلا

إله العرش في الدنيا مقامه

وكم من معجزات باهرات

له قد عرفوها بالكرامه

حباه الله فيها منه فضلاً

كذا فرع النبوة والإمامه

فمن حين الشهادة قد تجلّت

لناظرها وتوصل بالقيامه

فكم من لائذ فيه حماه

وكم من خائف أضحى عصامه

وكم من معدم أضحى غناه

وكم ذي عاهة داوى سقامه

وكم قد حفّت الأخطار شخصاً

فلمّا جاءه لاقى السلامه

كرامة: وفا بحاجته وزيادة

قال الشيخ المظفر: حدّثني الخطيب الأديب الشيخ جاسم قسام عن الفقيه السيّد جاسم إمام جامع الصياغ في النجف، وكان رجلاً صالحاً ظاهر الخشوع وأثر الزهد عليه بيّن: أنّ رجلاً علوياً من سكّان بلدة الكاظمية، وكان غنيّاً مثرياً يجهز الزائرين لمرقد الحسين(علیه السلام) ويعينهم ويزوّدهم بالأقوات وأسباب الراحة ويبذل لهم المعونة والإسعاف بالنقليات من البغال وغيرها، ويقوم بالنفقة على من رافقه إلى زيارة الحسين(علیه السلام)، فابتلي بالفقر في بعض الأعوام، وأصابته ضائقة شديدة

ص: 589

وفاقة وحاجة عجز معها عن تأدية ما كان يقوم فيه، واحتاج إلى ما يسدّ به حاجة رفقائه جرياً على عادته، فما تيسّر له لذلك، ولم ترض نفسه بقطع العادة، فقام بكري حيوانات النقل، وأوعد المكاريين أن يوفيهم الكراء بكربلاء، واستدان من التجار ما يكفي لقوت من صحبه إلى الزيارة موعداً لهم بالوفاء عند رجوعه.

فلمّا وصل إلى الحائر الحسيني وألقى أثقاله هناك قصد الحرم الحسيني الشريف ووقف تجاه القبر المقدّس وأنشأ يقول:

جئت أسعى إليك من غير زاد

قاصر الخطو أحمل الآثاما

لم يدع لي الحياء عندك نطقاً

ربما يمنع الحياء الكلاما

فخرج من القبر ولم ينل منه مقصوده، فقال في نفسه: أخطأت لم أجب جهة الطلب، عليّ أن أدخل البيت من بابه وباب الحسين(علیه السلام) هو أبا الفضل(علیه السلام)، فجاء إلى ضريح أبي الفضل العباس(علیه السلام) فأنشا يقول:

أبا الفضل أنت الباب للسبط مثلما

أبوك علي كان باب لأحمدا

إذا أنت لم تسعف بمقصد وافد

إلى السبط لم ينجح له السبط مقصدا

ثم خرج من القبر فلقي رجلاً فناوله ورقة تحويل على بعض التجار فيها وفاء بحاجته وزيادة.

كرامة: شفاء من السلّ القتّال

قال الشيخ المظفر : لدينا في النجف شاب علوي اسمه السيّد سعيد

ص: 590

بن السيّد إبراهيم البهبهاني، هو وأبوه من خطباء المنبر الحسيني، حدّثني بقصّته جماعة من الخطباء، ثم سمعتها منه مشافهة، وملخصها:

أنّه اُصيب بداء السل وعالجه كثير من الأطباء الحذّاق والدكاترة المتخصّصين بعلاج هذا الداء العضال حتّى يئسوا من برئه، وأجمعوا أنّه لا يبرء، وجزموا بموته عن قريب.

فلمّا سمع منهم تضاعفت أحزانه وأقلقله الخوف، ولم يرى وجهاً يرجو منه الشفاء، ولم يجد سبباً لبرء هذا الداء القتّال، فرأى مناماً فيه أنّ رجلاً يشير عليه بقصد باب الحوائج أبي الفضل العباس(علیه السلام)، فلمّا استيقظ قصد زيارة العباس بن أمير المؤمنين(علیهما السلام) للاستشفاء بضريحه الأقدس.

فلمّا وصل إلى المشهد الشريف واضطجع إلى جنب الضريح أخذ البرء يدبّ في بدنه، والشفاء يسري في عروقه، ولاحت عليه أمارات الشفاء، وظهرت علامات العافية، ولم يطل الوقت حتّى عوفي بإذن الله وكرامة العباس(علیه السلام)، وها هو حي وفي تمام الصحّة والعافية، وقد أخبرني أنّ له شعراً في ذلك لم أكتبه عنه، وهذه قصص كثيرة لو تلوناها عليك لأسهبنا.

كرامة

ص: 591

قال الفاضل الدربندي في أسرار الشهادة(1): ثم إنّ مقاماته النورانية، أي تصرّفه في جملة المواضع لأجل هذه النشأة من استخلاص زوار الحسين(علیه السلام) في طرق الزيارة من شرّ الأشرار الكفار، وإيصال جمع منهم إلى القافلة بعد أن ضلّوا الطريق ممّا

حصل به العلم لكلّ مؤمن مستبصر، فما يقع في كلّ عصر من ذلك القبيل يغني عن كلّ ما نقل في عصر سابق عليه، وهكذا خارق العادات والكرامات الصادرة عند قبره الشريف، فاقتصر على ذكر بعض من ذلك ممّا أتيقن بوقوعه:

من ذلك ما أخبرني به السيّد الأجل السيّد أحمد نجل السيّد الأفخم السيّد الشريف نصر الله المدرّس الحائري بأني كنت مع جمع من الخدّام قاعدين في الصحن الشريف للحضرة العباسية، فبينما نحن كذلك إذا خرج رجل من الحرم الشريف راكضاً عجلاً واضعاً إحدى يديه على خنصر يده الاُخرى حتّى إنّه خرج من الصحن!

فقمنا مسرعين نحوه، فلقيناه بعد أن خرج من الصحن، فرفع يده من أصل الخنصر، فإذا خنصره مقطوعة من أصلها والدم يسيل منها سيلان الماء من الميزاب، فرجعنا إلى الحرم الشريف مسرعين، فوجدنا خنصره بين شبكات الضريح معلّقة عليها ولم تقطر قطرة منها كأنها عضو من أعضاء غير حيّ، ثم إنّ هذا الرجل قد مات بعد ليلة من ذلك اليوم، وكان ذلك لأجل صدور تقصير منه كالإهانة أو مخالفة عهد أو

ص: 592


1- أسرار الشهادة: 325 .

نذر ونحو ذلك.

للشيخ المظفر :

سلام على باب الحوائج عباس

شبل الوصيّ علي فارس الناس

إنّ حامي الحمى الحسنى مواهبه

في الدين والعلم والمعروف والباس

هو المجن لأحداث الزمان لنا

والعون عند لقاء الفادح القاس

إنّ الحديث الذي يروي كرامته

عندي صحيح على العينين والراس

قد ثبّت الله فيهم ركن ملّته

ولا يثبتن البنا إلا بآساسي

وإنّهم عندنا سفن النجاة لنا

وما علينا بنقد الخصم من باس

نرجو الشفاعة منهم في المعاد لنا

لسنا من الفوز بالفردوس في ياس

وإنّما ربّنا من حوض كوثرهم

كأس هنيّ رويّ طاب من كاس

سيأمرون غداً فينا إلى غرف

محفوفة برياض الورد والآس

فالآمنون من النيران شيعتهم

إن أوقدت بالحجارة الصلد والناس

وإنّ شيعتهم في الحشر منزلهم

بين النبيّين مثل الخضر والياس

روح وريحان فيها والنعيم بها

عرف ذكا نشره من طيب أنفاس

والجاحدون لهم في قعر مظلمة

مع الشياطين في ذلّ وإبلاس

يكبّ ظالمهم والقاتلون لهم

على المناخر في النيران والراس

إن تشتكي فاطم الزهراء ما لقيت

أبناؤها من صنيع الاُمة القاسي

تجيئ تحمل رأس السبط مهجتها

وطفله ويدي ذي الفضل عباس

ص: 593

هناك يشتدّ سخط الله إذ غضبت

بنت النبي على الجاني من الناس

ونكتفي بما ذكره الشيخ المظفر ، وذلك لأنّ كرامات أبي الفضل العباس(علیه السلام) لا تنتهي ولا تعدّ ولا تحصر، وممّا لا شكّ فيه أنّ كلّ شيعي قد عاش أكثر من كرامة في حياته، إمّا له شخصياً أو لأحد القريبين منه أو غيرهم بحيث يكون هو فيها شاهد عيان أو سامع مباشر، فمن أراد إحصاء كرامات العباس(علیه السلام) فعليه أن يحصي حياة الشيعة، بل وغير الشيعة أحياناً كثيرة.

ص: 594

تأبين أبي الفضل العباس(علیه السلام) ومراثيه

كثر تأبين العباس بن أمير المؤمنين(علیهما السلام) ورثاه عامّة الشعراء في سائر العصور بمختلف الألسنة، ومتنوع اللهجات من الفارسية والهندية والتركية والانجليزية والفرنسية والكثير من اللغات واللهجات الأفريقية والعربية بنوعيها القريض والحسجة - وهو اللغة الدارجة العامّية - وبلغت في إثارة الحماس وتهييج الحزن فوق ما بلغته اللغة الفصيحة، ولو جمعت تلك المراثي لبلغت عدّة مجلدات ضخمة الحجم.

وسنورد نموذجاً منها وإن تكرّر طبعه وحفظه أكثر الخطباء.

قصيدة الأزري

فمنه قول الحاج محمد رضا الاُزري البغدادي في تأبين أبي الفضل العباس(علیه السلام) من قصيدته التي بارى فيها معلقة لبيد، قال :

أوما أتاك حديث وقعة كربلا

أنّى وقد بلغ السماء قتامها

ص: 595

يوم أبو الفضل استجار به الهدى

والشمس من كدر العجاج لثامها

كأنّ هذا الأديب يشير بقوله ((استجار به الهدى)) إلى أنّ أبا الفضل جدير أن يلقّب بمجير الهدى، واشتقاق اللقّب كثيراً ما يكون مشتقّاً من صفات الملقّب به، أو من فعل صادر من أفعاله، فكان البطل العلوي مجيراً للهدى.

والبيض فوق تحسب وقعها

زجل الرعود إذا اكفهرّ غمامها

فحمى عرينته ودمدم دونها

ويذبّ من دون الشرى ضرغامها

من باسل يلقى الأسنّة باسماً

والشوس يرشح بالمنيّة هامها

هذه غاية البطولة ونهاية الفروسية أن يخوض التي تزداد فيها وجوه الأبطال كلوحاً وعبوسة، وترشح هامها دماً باسماً مبتهجاً يحسب رشحات قامات الأبطال رشحات وجنات الخدود الموردة.

وأشمّ لا يحتلّ دار هضيمة

أو يستقلّ على النجوم رغامها

فكما أنّه من المستحيل استعلاء الرغام الذي هو التراب على أنجم السماء المرتفعة عنه ارتفاعاً لا يحدّ بالضبط والدقّة كان من المستحيل أن يحتلّ العباس(علیه السلام) الأبيّ النفس الحميّ الأنف دار مذلّة وهوان، وهي أبعد من متناول شممه من الرغام من نجوم السماء.

أو لم تكن تدري قريش أنّه

طلّاع كلّ ثنيّة مقدامها

ليست قريش وحدها تدري أنّه طلاع الثنايا المخوفة والنجود المرعبة، بل العرب قاطبة تعلم أنّه الطلاع للثنايا المخوفة والمقدام في

ص: 596

الأهوال ساعة الزحف والسابق إلى خوض تيّار الأخطار، فهو مقدام الأمم لا قريش خاصّة.

بطل أطلّ على العراق مجلّياً

فاعصوصبت فرقاً تمور شئامها

لا شكّ أنّ الألوية والنواحي المرتبطة بعاصمة من العواصم إذا عصفت إحدى الزوابع فزعزعت ذلك القطر أو انفجرت بعض البراكين فنسفت ذلك الإقليم ارتجت العاصمة وشملها الرعب - وإن بعدت - خوفاً أن تهبّ من ضواحيها تلك الزوبعة الهائلة أو يفجر في نواحيها ذلك البركان الشديد، فتندكّ معاقلها، وتنهار حصونها، وتنسف أبراجها، وتزعزع شوامخ رواسيها، فبركان الشجاعة العباسية المنفجر في الجيش الأموي الكوفي زوبعة البطولة العلوية التي هبّت بمعسكر جند السقيفة وآل حر،ب فمارت لنبئه الشام فرقاً من صدمته وخوفاً من هوله.

وشأ الكرام فلا ترى من اُمّة

للفخر إلا ابن الوصيّ إمامها

هو ذاك موئل رأيها وزعيمها

لو جلّ حادثها ولدّ خصامها

وأشدّها بأساً وأرجحها حجى

لو ناص موكبها وزاغ أقدامها

تضرب العرب مثل المبالغة في نعت الجيوش العظيمة ذات الثبات في الزحف والمقاومة عند الضرب والصبر في الجلاد اعتماداً على قوّتها من حيث الكثرة والاستعداد والصبر، فيقولون: كتائب كالجبال، أو هي جبال من حديد، أو جبال لا تزول من مقرّها إلا أن تضرب بجبال

ص: 597

مثلها، هكذا يقولون، وبهذا ينطقون، وقد قال معاوية يوم صفين في ربيعة العراق، وكانوا في ميسرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیهما السلام):

إذا قلت قد ولّت ربيعة أقبلت

كتائب منهم كالجبال تجالد

وقولهم جبال من حديد نظراً لما عليهم من الأدراع والمغافر الحديدية، وقد قال بعض قوّاد صفين: ولقيت جبال الحديد يدكّ بعضها بعضاً، وجبال الحديد هذه يوم الطف قد لاقاها أبو الفضل العباس(علیه السلام) بجبال أعظم منها دكّها بها، وهي عزمه وثباته ونجدته وبأسه وحفاظه وبصيرته ويقينه، فهو فرد في شخصه جموع في صفاته.

ولكم له من غضبة مضريّة

قد كاد يلحق بالسحاب ضرامها

يشير بهذا البيت إلى قول شاعر مضر وفارسها في عصر الجاهلية:

إذا ما غضبنا غضبة مضريّة

هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما

واستعار المعنى الأديب الاُزري، لأنّ أبا الفضل العباس(علیه السلام) أحقّ به وأولى، لأنّه صدّق قوله بفعله، وغضبة أبي الفضل(علیه السلام) كما يتحدّث بعض الخطباء تركت الخيل يسحق بعضها بعضاً.

أغرى به عصب ابن هند فانثنت

كلح الجباه مطاشة أحلامها

ثم انثنى نحو الفرات ودونه

حلبات عادية يصلّ لجامها

فكأنّه صقر بأعلى جوّها

جلّى فحلّق ما هناك حمامها

أو ضيغم شثن البراثن ملبد

قد شدّ فانتثرت ثبا أنعامها

لولا أنّ سنّة العرب الجارية عند شعرائهم، وسيرة اُدبائهم المتبعة

ص: 598

منذ أوّل العصور العربية إلى اليوم من تشبيه البطل المرهوب بسباع الطيور الخاطفة كالصقور الكاسرة وضواري الوحوش الهائجة كالضواري المفترسة، وذلك إذا راموا المبالغة في الشجاعة والإقدام لأنكرنا على هذا الشاعر البليغ تشبيه العباس(علیه السلام) بالصقر والضيغم، فما قيمة الصقر والأسد في جنب شجاعة العباس(علیه السلام).

فأبت نقيبته الزكية ريّها

وحشا ابن فاطمة يشبّ ضرامها

وكذلكم ملأ المزاد وعبّها

وانصاع يرفل بالحديد همامها

حتّى إذا دانا المخيم جلجلت

سوداء قد ملأ الفضا أرزامها

فجلا تلاتلها بجاشٍ رابط

فتقاعست منكوسة أعلامها

ومذ استطار إليهمو متطلّعاً

كالأيم يلهب بالشواظ سمامها

حسمت يديه يد القضاء بمبرم

ويد القضا لم ينتقض إبرامها

وإنما أحال هذا الأديب قطع يد العباس(علیه السلام) على مبرم القضاء ومحتوم الأقدار، لأنّ الدنو منه ليس في مقدور الأبطال، والاقتراب إليه لم يكن في وسع الشجعان، لصولته المرهوبة، وسطوته المخشيّة، فإنّ الأسد إذا صال أرعب، والصقر إذا انقض خطف، والقنيص لا يفلت من خالب البازي، والفريسة لا تخلص من أنياب الضاري، فكلّ بطل في حربه محايد، وكلّ كمي جريء عن لقائه متباعد، فهم في تأخّر وتقهقر وفرار وإدبار يمطرون عليه من بعد شئآبيب السهام، ويشرعون أجمات الرماح، وهم على الأدبار مقعون، وعلى الأعقاب ناكصون، حتّى

ص: 599

مكّنهم القضاء المبرم من الاختفاء خلف النخيلات الجاثمة على ضفاف المسناة، وهذه اُخت السدّة التي مكنت الخوارج من أبيه فارس الإسلام وبطل البشرية، فالقدر أتاح لهذين الصنفين الشريرين مكامن من نخلات وسقوف لاغتيال الليثين والتمكين من الأسدين.

واعتاقه شرك الردى دون الشرى

أنّ المنايا لا تطيش سهامها

الله أكبر أيّ بدر خرّ من

اُفق الهداية فاستشاط ظلامها

فمن المعزّي السبط سبط محمد

بفتى له الأشراف طأطأ هامها

وأخ كريم لم يخنه بمشهد

حيث السراة كبا بها إقدامها

أيّها الأديب من بقي مع السبط فيعزيه بهذا الأخ الكريم وقد قتل جميع الأحبّة، لعلّك تستنهض النسوة المذاعير إلى تعزيته، وتستصرخ العقائل الثكلى في الإسراع إلى تسليته؟ نعم قمن بذلك المهم عند عودته من مصرعه، هذه تقول: أين أخي؟ وهذه أين عمّي؟ وهذه أين حماي وحارسي؟ وهذه أين كفيلي في مسيري؟ وهذه أين مروّي لهفة ظمأي؟

تالله لا أنسى ابن فاطم إذ جلا

عند العجاج يكفهر قتامها

من بعد أن حطم الوشيج وثلّمت

بيض الصفاح ونكست أعلامها

وافى به نحو المخيم حاملاً

من شاهقي علياء عزّ مرامها

وهوى عليه ما هنالك قائلاً

اليوم بان عن اليمين حسامها

اليوم سار عن الكتائب كبشها

اليوم بان عن الصلاة إمامها

ص: 600

اليوم آل إلى التفرّق جمعنا

اليوم حلّ عن البنود نظامها

اليوم خرّ عن الهداية بدرها

اليوم غاب عن البلاد غمامها

اليوم نامت أعين بك لم تنم

وتسهّدت اُخرى فعزّ منامها

نحن لا نتفق مع هذا الأديب في رأيه أنّ الحسين حمل العباس(علیهما السلام) إلى المخيم، وقد سبق ذلك، لكنّا نتّفق معه على رأيه الأخير: اليوم نامت أعين، والصواب داعي الوفاق حيث أنّ أهل الكوفة مع كثرتهم وكثافة جيشهم كانوا لا ينامون الليل في حياة العباس(علیه السلام)، فهم يتحارسون خوفاً منه أن يهجم عليهم أو يبيّتهم كما هجم عليهم في ورد الشريعة ليلة العاشر قهراً بحدّ السيف واستولى عليها بالغلبة،

وانشمرت تلك الاُلوف انشمار الريشة في الهواء العاصف، فملأ الأسقية والقرب وأوصلها إلى مخيم الحسين(علیه السلام)، وجيش الأعداء راغم، فلبقاء أثر تلك الرهبة في صدورهم فهم لا ينامون، ويتحسّسون أنباءه كما يتحسّس القطا شخص الصائد.

ومن في مخيم الحسين(علیه السلام) كانوا واثقين بحراسته لهم ((والليث في باب العرينة يزأر من يقتحم))، فكلّ من في الخيم من رجال ونساء مطمئن بحياطة لهم منه في حمى منيع الجانب، وحصن راسخ الأركان وثيق الرتاج، فهدأوا وأطمأنوا فناموا، وعند فقده تبدّلت الأحوال وانعكس الوضع، فأمن الخائف فنام، وانزعج الآمن فساهر، وما غفت له عين واكتحل بغمض مقلة.

أشقيق روحي هل تراك علمت إذ

غودرت وانثالت عليك لئامها

ص: 601

إن خلت أطبقت السماء على الثرى

أو دكدكت فوق الربى أعلامها

لكن أهان الخطب عندي أنّني

بك لاحق أمراً قضى علامها

ولهذه القصيدة بقية.

***

وقال آخر في رثاء العباس الأكبر(علیه السلام):

أنّى ويوم الطف أضرم في الحشا

جذوات وجد من لظى سجين

يوم أبو الفضل استفزّت بأسه

فتيات أحمد أو بنو ياسين

في خير أنصار براهم ربّهم

للدين أوّل عالم التكوين

نعم، هم خير أنصار باعتبار اجتماع صفات الفضل ومزايا الحمد فيهم بحيث لم يفقدوا خصلة واحدة من خصال المجد والفخر، ولا فضيلة من فضائل الإنسانية، فقد تكاملت لهم صفات المفاخر، واجتمعت فيهم متفرّقاتها .

وبالإضافة إلى ما تحمّلوا من عظيم البلاد، وقد صحّ الحديث المروي من الطريقين، ومعناه أنّ الأجر يتضاعف بتضاعف البلاء، ولهذا كان البدريون أفضل الصحابة، وكلّما كانت المشقّة أشدّ والابتلاء أعظم كان الجزاء أوفر والأجر أكبر والحباء أكثر، لأنّ الأجر على قدر المشقّة، وأفضل الاُمور أحمزها، ولا نعرف في كلّ الأنصار من يمكن أن يقاس

ص: 602

بأنصار الحسين(علیه السلام).

وقال أيضاً:

فأصدر النصر لم يعبأ بمورده

فعاد حيران بين الورد والصدر

فرقى على نهر الجزارة هيكل

أنجبن فيه نتائج الميمون

متقلّداً عضباً كأنّ فرنده

نقش الأراقم في خطوط بطون

وأغاث صبيته الظما بمزادة

من ماء مرصود الوشيج معين

حتّى إذا قطعوا عليه طريقه

بسداد جيش بارز وكمين

فثنى مكردسها نواكص وانثنى

بنفوسها سلباً قرير عيون

ودعته أسرار القضا لشهادة

رسمت له في لوحها المكنون

حسموا يديه وهامه ضربوه في

عمد الحديد فخرّ خير طعين

فمشى إليه السبط ينعاه كسرت

الآن ظهري يا أخي ومعيني

عباس كبش كتيبتي وكنانتي

وسريّ قومي بل أعزّ حصوني

يا ساعدي في كلّ معترك به

أسطو وسيف حمايتي بيميني

لمن اللوا أعطي ومن هو جامع

شملي وفي ضنك الزحام يقيني

أمنازل الأقران حامل رايتي

ورواق أخبيتي وباب شؤوني

لك موقف بالطفّ أنسى أهله

حرب العراق بملتقى صفّين

أو لست تسمع ما تقول سكينة

عمّاه يوم الأسر من يحميني

ص: 603

***

قصيدة السيّد صالح الحلّي

عبست وجوه الناس خوف البا

س والعباس فيهم ضاحك متبسم

قلب اليمين على الشمال وغاص في الأ

وساط يحصد بالرؤوس ويحطم

وثنى أبو الفضل الفوارس نكّصاً

فرأوا أشدّ ثباتهم أن يهزموا

ما كرّ ذو بأس له متقدّماً

إلا وفرّ ورأسه المتقدّم

صبغ الخيول برمحه حتّى غدا

سيّان أشقر لونها والأدهم

ما شدّ غضباناً على ملمومة

إلا وحلّ بها البلاء المبرم

وله إلى الإقدام سرعة هارب

فكأنّما هو بالتقدّم يسلم

حتّى إذا اشتبك النزال وصرّحت

صيد الرجال بما تجنّ وتكتم

وقع العذاب على جيوش أمّية

من باسل هو في الوقائع معلم

ما راعهم إلا تقحّم ضيغم

غيران يعجم لفظه ويدمدم

بطل تورّث من أبيه شجاعة

فيها أنوف بني الضلالة ترغم

يلقى السلام بشدّة من بأسه

فالبيض تثلم والرماح تحطّم

عرف المواعظ لا تفيد بمعشر

صمّوا عن النبأ العظيم كما عموا

وانصاع يخطب بالجماجم والكلى

فالسيف ينثر والمثقّف ينظم

أو تشتكي العطش الفواطم عنده

وبصدر صعدته الفرات المفعم

ص: 604

لو سدّ ذي القرنين دون وروده

نسفته همّته بما هو أعظم

ولو استقى نهر المجرّة لارتقى

وطويل ذابله إليها سلّم

حامي الظعينة أين منه ربيعة

أم أين من عليا أبيه مكدّم

في كتفه اليسرى السقاء يقلّه

وبكفّه اليمنى الحسام المخذم

مثل السحابة للفواطم ريّه

ويصيب حاصبه العدوّ فيرجم

بطل إذا ركب المطهّم خلته

جبل أشمّ يخبّ فيه مطهّم

قسماً بصارمه الصقيل وإنّني

في غير صاعقة السما لا أقسم

لولا القضا لمحى الوجود بسيفه

والله يقضي ما يشاء ويحكم

حسمت يديه المرهفات وإنّه

لولا القضا من حدّهنّ لأحسم

فغدا يهمّ بأن يصول فلم يطق

كالليث إذ أظفاره تتقلّم

أمن الردى من كان يحذر بأسه

أمن البغاث إذا أصيب الضيغم

وهوى بجنب العلقمي وليته

للشاربين يداف فيه العلقم

فمشى لمصرعه الحسين وطرفه

بين الخيام وبينه متقسّم

ألفاه محجوب الجمال كأنّه

بدر بمنحطم الوشيج ملثّم

فأكبّ منحنياً عليه ودمعه

صبغ البسيط كأنّما هو عندم

قد رام يلثمه فلم ير موضعاً

لم يدمه عضّ السلاح فليثم

نادى وقد ملأ البوادي صيحة

صمّ الصخور لهولها تتألّم

أأخي يهنيك النعيم ولم أخل

ترضى بأن أرزى وأنت منعّم

ص: 605

أأخي من يحمي بنات محمد

إن صرن يسترحمن من لا يرحم

ما خلت بعدك أن تشلّ سواعدي

وتكفّ باصرتي وظهري يقصم

لسواك يلطم بالأكفّ وهذه

بيض الضبا لك في جبيني تلطم

***

قصيدة الشيخ المظفر

أشكو قساوته عليّ وجوده

من دون صحبي فيّ للعباس

شبل الوصيّ وناصر الدين الذي

تغني مهابته عن الحرّاس

قمر العشيرة ليثها ومدامها

قنّاص آساد الشرى ذو الباس

صعب المراس إذا تظافرت القنا

ما أن سواه بحصن صعب مراس

هو صاحب السيف الصقيل يسلّه

لا يتّقي في الحرب بالأتراس

روّاه من هام الكماة ورمحه

ينقضّ مختطفاً سراة الناس

حامي ظعينة كربلاء بصارم

صادي الحديد رواه قحف الراس

سل عنه يوم الطفّ لمّا أقبلت

ملأ القفار كتائب الأرجاس

يوماً عبوساً قمطريراً شرّه

متطاير بتهافت الأنفاس

جلّاه والمغوار فيه عابس

سيف تشعشع في يد العباس

ما قطّبت فرسانها إلا سطا

متبسماً بطلاقة استئناس

ص: 606

يسطو عليهم في بسالة حيدر

في عزم حمزة فارس المهراس

متمايلاً بين القنا كتمايل ال-

-نشوان بين شقيقها والآس

متسربلاً في الروع درعاً ضافياً

من عزمه وحفاظه والباس

يرتاح للبيض الحداد وومضها

مثل ارتياح أخي الطلا للكاس

سلّ الحسام فلا ترى مذ سلّه

إلا هويّ يد وقحفة راس

ثلّت عروش الكفر شفرة حدّه

والدين أصبح ثابت الآساس

بأبي ابن خير الناس بعد محمد

من لا نظير له بكلّ الناس

نعم المواسي للحسين بنفسه

وبسيفه للدين نعم الآسي

***

وله أيضاً:

لا أنس موقف عباس بن حيدرة

يوم الطفوف ولا آثاره أبدا

واسى أخاه بنفس لا عديل لها

ودونه قدّم الإخوان والولدا

كي يفتدي سبط خير الأنبياء بهم

أبا الأئمة حقّاً سيّد الشهدا

لمّا تفانى سراة الناصرين له

وكلّ شهم كريم ماجد فقدا

ولم ير في خيام السبط من رجل

غير العليل ولم يسمع مجيب ندا

أتى الحسين ودمع العين منحدر

مثل الجمان على الأبريز قد نضدا

ص: 607

نادى أيبن رسول الله أوحشني

أن لا أرى في خيامي باقياً أحدا

وإنّني لم أطق صبراً ولا جلداً

فقد الأحبّة منّي أذهب الجلدا

نفسي تحبّ لقاء الله عن عجل

كيما ترافق في جنّاته السعدا

دعني أموت فموت العزّ أشوق لي

ولا أراك لدى الأعداء منفردا

لا أستطيع دفاع الموت عنك لما

باليت في دفعه بالنفس مجتهدا

لكنّما الموت أمر لا مردّ له

وما بدفع القضا من حيلة أبدا

ولست أملك إلا النفس أجعلها

لك الفدا ووقاء لم أقل فندا

أتيت أطلب منك الإذن قد سئمت

نفسي الحياة وعيشي قد غدا نكدا

إنّي أرى كلّ حرّ من ذوي رحمي

ورد المنيّة قبلي ظامئاً وردا

من مات تحت ظلال السمر ميتتهم

فذاك حيّ يلاقي عيشة رغدا

وعد المهيمن حتّى لا خلاف له

والنفس راغبة فيما به وعدا

قال الحسين له أما عزمت على

قتال الذي بغياً عليّ عدا

خذ السقاء لتستسقي لصبيتنا

ماء فجمر الظما في قلبها اتّقدا

قد كنت حدّ حسامي أن أجرّده

على الأعادي ولي في الشدّة العضدا

هذا رضيعي منذ اليوم قد ذبلت

منه الشفاء وما درّت عليه ثدا

فقال سمعاً لأمر ابن الرسول ومن

عليّ طاعته مفروضة أبدا

فودّع السبط والهنديّ في يده

مع السقا وعلى جمع العدوّ عدا

لمّا رأته جنود الكفر عن كثب

قالوا أبو الفضل هذا أم عليّ بدا

ص: 608

أم إنّه قابض الأرواح لاح لنا

أم نافخ الصور وافى لابساً جسدا

كأنّما آذن الباري بقدرته

محو البريّة حتّى لن يدع أحدا

ما راعهم غير صوت ابن الوصيّ أنا

نجل الوصيّ ألا فلتخسأ البعدا

صيد الكماة لوت أعناقها هرباً

مثل العفرني رأى دون الشرى نقدا

والضأن تذهب في البيداء مجفلة

عن الرعاة إذا ما عاينت أسدا

والثابتون حياء في مراكزهم

لدى القراع فما لاقوا بها رشدا

إنّ المنيّة من ستّ الجهات بهم

محيطة وأقام المشرفي رصدا

فلم يزل يحصد الهامات مرهفه

حصد الزروع ولم يضبط بهم عددا

فأورد الناكثي الميثاق صارمه

ناراً تلظّى وبئس الورد إذ وردا

نزّاعة للشوى ناراً مسجّرة

من عصبة الله لا تطفى إذن أبدا

إنّ الزبانية الأفظاظ تضربهم

مقامعاً مذ بهم حادي الفناء حدا

لولا القضاء وأمر كان عنّ له

إذ رام أن يلحق الأبرار بالسعدا

لم يبق من جيش أهل الغدر مرهفه

من نافخ ضرمة أو مخبر أبدا

لكن أتى القدر الجاري بمبرمه

فأورد البطل المرهوب بحر ردى

حتّى هوى في ضفاف النهر منجدلاً

ومخّ يافوخه في عينه جمدا

ونبلة العين قد أودت بناظرها

ونبلة القلب منه شكّت الكبدا

هذا وأسياف أهل البغي ما تركت

عضواً صحيحاً ولا كفّاً ولا عضدا

لمّا رأى القوم قد طافوا به زمراً

والكلّ منهم يراه حانقاً حردا نادی

ص: 609

نادى أغثني أبا السجاد يا بن أبي

لكن لنزف الدما لم يفصحن بندا

فأقبل السبط مثل الصقر حين هوى

على البغاث فخلّى جمعهم بددا

ثم انحنى يلثم العباس منتحباً

وقد تنفّس من حرّ الأسا صعدا

يدعو كسرت أخي ظهري وقد شمتت

بي العداة وهم والله شرّ عدا

وإنّ أعظم ما لاقى أخو كرم

شماتة من عدوّ خالطت حسدا

ماذا أقول لأطفال ومرعبة

من النساء إذا ما عدت منفردا

إن قلن لي أين حامينا وحارسنا

إذا العدوّ لنا بالسوء قد قصدا

فما الجواب وما قولي لظامئة

تقول أبعد عمّي اليوم لا بعدا

***

وله أيضاً:

يا حامل العِلم بل يا حامل العَلَم

والقائل الفضل في الأحكام والحكم

ونائلاً كلّ مطلوب بهمّته

ما لم تنله كبار العزم بالهمم

فإنّ يومك يوم الطفّ سدت به

يابن الوصي سراة العرب والعجم

يا جامعاً لخصال المجد أجمعها

وحائزاً لمزايا الحمد والشيم

إن يذكر العلم منكم كان منبعه

أو يوصف الجود كنتم منتهى الكرم

سر يا أبا الفضل للعليا على مهل

مداك ما رامه ماش على قدم

لم يخلق الله بعد الأنبياء فتى

والأوصياء بصلب طاب أو رحم

ص: 610

يحكي علاك فلا والله ما نظرت

عين العلا شبه العباس في شهم

والدين يشكر أعمالاً نهضت بها

والمجد يحسبها من أفضل النعم

وكيف تنسى العلا يوماً لقيت به

داعي المنون بثغر منك مبتسم

حفظت حقّ حسين حين ضيّعه

أهل الشقاء بنو عبّادة الصنم

وفيت إذ نقضوا ما أكّدوه له

أهل الضلال من الأيمان والقسم

لمّا دعا السبط أين الحافظون بنا

محمّداً خيرة الباري من النسم

أجبت لبّيك داعي الله حفظكموا

فرض من الله محتوم على الأمم

فقد أجابك قلبي يابن فاطمة

كما أجابت يدي داعي الهدى وفمي

فكنت في ذاك أولى العالمين به

وكنت أوفاهموا بالعهد والذمم

قام الحسين بوعظ القوم ممتطياً

لناقة المصطفى العضباء من قدم

عليه برد يمان كان يلبسه

خير البريّة في الأعياد ذي علم

وقد تعمّم محتجّاً بعمّته

وهي السحاب وطرف الناس عنه عمي

في كفّه سوطه الممشوق يحمله

وسيفه الصارم المعروف بالخذم

نادى انصتوا فاسمعوا قولي وموعظتي

وراجعوا عقلكم يا أسفه الأمم

فهل يحلّ لكم قتلي وسفك دمي

لفاجر جاهر في فسقه أثم

رماه شمر بسهم من جهالته

والشمر شرّ امرء يمشي على قدم

وقال هذا جواب الوعظ فابتدرت

سهامهم نحوه كالقطر من ديم

ثم انكفا قابضاً بالكفّ شيبته

يشكو ظلامته لله ذي الحكم

ص: 611

نادى الحسين كماة الحرب أسرته

وصحبه سرواة العرب والعجم

قوموا إلى الموت ذي رسل العدو لكم

تواثبوا كأسود الغاب والأجم

وقد دعا بأخيه وابن والده

عباس حلو السجايا طاهر الشيم

وقال يا بطل الهيجا وفارسها

أنت العميد فقف في القلب بالعلم

وفي اليمين زهير الليث قائدها

وفي اليسار حبيب الخير ذو الشمم

فلم يزل ثابتاً في خطّ مركزه

حتّى قضى كلّ قرم باسل وحمي

ولم يرى في خيام السبط من أحد

سوى الأرامل والأيتام والخدم

أتى الحسين ودمع العين منحدر

وقلبه من حماس الجدّ ذا ضرم

ناده يابن رسول الله قد فنيت

أهل الحفاظ جميعاًً من ذوي رحمي

لم يبق غيري ومن عزمي اللحاق بهم

ولا أراك خضيباً في نجيع دم

فودّع السبط توديع الفراق له

ولم يرد عودة حيّاً إلى الخيم

ثم امتطى الأدهم الميمون فارسه

وسار يمسح وجه الأرض بالقدم

وصاح فيهم أنا العباس فانقسمت

أبطالها بين مصروع ومنهزم

وهكذا صولة الضاري وصيحته

فيها تشتّت قطعان من الغنم

ولم يزل يحصد الهامات مبتدراً

شطّ الفرات بقلب عاد ذا ضرم

حتّى إذا ملك الأوفى شريعتها

وزمّ من مائها كفّاً لبلّ فم

تذكّر السبط والأطفال ثمّ رمى

بالماء من كفّه فعل التقي الشهم

قال المواساة للأطهار من خلقي

وإنّ إيثار آل الله من شيمي

ص: 612

وعاد للحرب والفسّاق قد قطعوا

طريقه فانتحى ضرباً على القمم

وجلّل الأرض بالقتلى وصيّرها

بحراً عظيماً ولكن زاخراً بدم

حتّى إذا اجتاز في خطّ الكمين برا

كفّيه رجسان من عبّادة الصنم

وشكّ مقلته سهم وهامته

مفضوخة بعمود الملحد الأثم

فخرّ حول ضفاف النهر سافحة

دماؤه فاحصاً للترب القدم

يدعو الحسين أغثني يا أخي وقضى

ظامي الحشا واللوا حول العميد رمي

1432/8/16

1432/4/6

ص: 613

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.