ظروف خروج سيد الشهداء علیه السلام من المدينه المنوره

اشارة

ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة المنوّرة

تألیف: السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

زبان : عربی

صفحات: 324 ص

موضوع: امام حسین علیه السلام

خیراندیش دیجیتالی : بیادبود مرحوم حاج سید مصطفی سید حنایی

ص: 1

اشارة

ص: 2

الديباجة

الحمد لله الّذي لا إله إلّا هو الملك الحقّ المبين، المدبِّر بلا وزير، ولا خلقٌ مِن عباده يستشير، الأوّل غير موصوف، والباقي بعد فناء الخلق، العظيم الربوبيّة، نور السماوات والأرضين وفاطرهما ومبتدعهما، بغير عمَدٍ خلقهما، فاستقرّت الأرضون بأوتادها فوق الماء، ثمّ علا ربُّنا في السَّماواتِ الْعُلى، الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى، فأنا أشهد بأنّك أنتَ الله، لا رافع لما وضعت، ولا واضعَ لما رفعت، ولا معزَّ لمَن أذلَلت، ولا مذلّ لمَن أعزَزْت، ولا مانع لما أعطيت، ولا معطيَ لما منعت ((1)).

اللَّهُمَّ واجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِك، وَنَوَامِيَ بَرَكَاتك، عَلَى محمّد عَبْدِك وَرَسُولك، الْخَاتِمِ لِمَا سَبَقَ، وَالْفَاتِحِ لِمَا انْغَلَقَ، وَالْمُعْلِنِ الْحَقَّ بِالْحَقِّ، وَالدَّافِعِ جَيْشَاتِ الأَبَاطِيلِ، وَالدَّامِغِ صَوْلاتِ الأَضَالِيلِ، كَمَا حُمِّلَ، فَاضْطَلَعَ قَائِماً بِأَمْرِكَ، مُسْتَوْفِزاً فِي مَرْضَاتِك، غَيْرَ نَاكِلٍ عَنْ قُدُمٍ، وَلا وَاهٍ فِي عَزْمٍ، وَاعِياً لِوَحْيِكَ، حَافِظاً لِعَهْدِكَ، مَاضِياً عَلَى نَفَاذِ أَمْرِكَ، حَتَّى أَوْرَى قَبَسَ الْقَابِسِ، وَأَضَاءَ الطَّرِيقَ لِلْخَابِطِ، وَهُدِيَتْ بِهِ الْقُلُوبُ بَعْدَ

ص: 3


1- بحار الأنوار: 83 / 332 باب 45.

خَوْضَاتِ الْفِتَنِ وَالآثَامِ، وَأَقَامَ بِمُوضِحَاتِ الأَعْلامِ وَنَيِّرَاتِ الأَحْكَامِ، فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ، وَخَازِنُ عِلْمِكَ الْمخْزُونِ، وَشَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ، وَبَعِيثُكَ بِالْحَقِّ، وَرَسُولُكَ إِلَى الْخَلْقِ((1)).

اللّهم وضاعِفْ صلواتِكَ ورحمتَك وبركاتِكَ على عِترة نبيِّك، العترةِ الضائعة الخائفة المستذَلَّة، بقيّةِ الشجرة الطيّبة الزاكية المباركة، وأعلِ _ اللّهمّ _ كلمتَهُم، وأفلِجْ حجّتَهم، واكشِفِ البلاءَ واللّأْواءَ، وحَنادِسَ الأباطيل والعمى عنهم، وثبِّتْ قلوبَ شيعتهم وحزبَكَ على طاعتهم وولايتهم ونصرتهم وموالاتهم، وأَعِنْهم، وامنحهم الصبرَ على الأذى فيك، واجعل لهم أيّاماً مشهودة، وأوقاتاً محمودةً مسعودة، توشِكُ فيها فَرَجَهم، وتُوجِبُ فيها تمكينهم ونصرهم، كما ضمِنتَ لأوليائك في كتابك المنزَل، فإنّك قلتَ _ وقولك الحقّ _: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الاْرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً﴾ ((2)).

والعن اللّهم أوّلَ ظالمٍ ظلَمَ حقَّ محمّد وآلِ محمّد، وآخرَ تابعٍ له على ذلك، اللّهم وأهلِك مَن جعل يومَ قتلِ ابنِ نبيِّك وخيرتك عيداً،واستهَلَّ به فَرَحاً ومَرَحاً، وخُذْ آخرَهم كما أخذتَ أوّلهم، وأضعِفِ اللّهمّ العذابَ والتنكيل على ظالمي أهل بيت نبيّك، وأهلِكْ أشياعَهُم

ص: 4


1- نهج البلاغة: 101 خ 72.
2- مصباح المتهجّد: 785.

وقادتَهم، وأَبِر حماتهم وجماعتهم ((1)).

وصلّ اللّهمّ على حبيبي ومالك رقّي وسيّدي وإمامي، الشهيد السعيد، والسبط الثاني، والإمام الثالث، والمبارك، والتابع لمرضاة الله، المتحقّق بصفات الله، والدليل على ذات الله، أفضلِ ثقات الله، المشغول ليلاً ونهاراً بطاعة الله، الناصر لأولياء الله، المنتقِم من أعداء الله، الإمام المظلوم، الأسير المحروم، الشهيد المرحوم، القتيل المرجوم، الإمام الشهيد، الوليّ الرشيد، الوصيّ السديد، الطريد الفريد، البطل الشديد، الطيّب الوفيّ، الإمام الرضيّ، ذو النسب العلي، المنفِق الملي، أبو عبد الله الحسين بن علي (علیهما السلام) .

منبع الأئمة، شافع الأُمّة، سيّد شباب أهل الجنّة، وعَبرة كلّ مؤمنٍ ومؤمنة، صاحب المحنة الكبرى، والواقعة العظمى، وعَبرة المؤمنين في دار البلوى، ومَن كان بالإمامة أحقّ وأولى، المقتول بكربلاء، ثاني السيّد الحصور يحيى ابن النبيّ الشهيد زكريا (علیه السلام) ، الحسين بن عليّ المرتضى.

زين المجتهدين، وسراج المتوكّلين، مفخر أئمّة المهتدين، وبضعة كبد سيّد المرسلين (صلی الله علیه و آله) ، نور العترة الفاطميّة، وسراج الأنساب العلويّة،وشرف غرس الأحساب الرضويّة، المقتول بأيدي شرّ البريّة، سبط الأسباط، وطالب الثأر يوم الصراط، أكرم العِتَر، وأجلّ الأُسَر، وأثمر الشجر، وأزهر البدر، معظّمٌ مكرّمٌ موقّر، منظّفٌ مطهَّر..

أكبر الخلائق في زمانه في النفس، وأعزّهم في الجنس، أذكاهم في

ص: 5


1- مصباح المتهجّد: 785.

العرف، وأوفاهم في العرف، أطيب العرق، وأجمل الخلق، وأحسن الخلق، قطعة النور، ولقلب النبيّ (صلی الله علیه و آله) سرور، المنزَّه عن الإفك والزور، وعلى تحمّل المحن والأذى صبور، مع القلب المشروح حسور، مجتبى الملك الغالب، الحسين بن عليّ بن أبي طالب ((1)).

الّذي حمَلَه ميكائيل، وناغاه في المهد جبرائيل، الإمام القتيل، الّذي اسمه مكتوبٌ على سرادق عرش الجليل: «الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة»، الشافع في يوم الجزاء، سيّدنا ومولانا سيّد الشهداء (علیه السلام) ((2)).

الّذي ذكره الله في اللوح الأخضر، فقال: «... وجعلتُ حسيناً خازنَ وحيي، وأكرمتُه بالشهادة، وختمتُ له بالسعادة، فهو أفضل مَن استُشهِد، وأرفعُ الشهداء درجة، جعلتُ كلمتي التامّة معه، والحجّةَ البالغةَ عنده، وبعترته أُثيبُ وأعاقِب» ((3)).الّذي قال فيه جدُّه المبعوث رحمةً للعالمين (صلی الله علیه و آله) : «حسين منّي وأنا من حسين، أحبّ الله مَن أحبّ حسيناً» ((4)).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) _ وهو الصادق الأمين _ : «إنّ حُبّ عليٍّ قُذِف في قلوب المؤمنين، فلا يحبُّه إلّا مؤمن، ولا يبغضه إلّا منافق، وإنّ حُبَّ الحسن والحسين قُذِف في قلوب المؤمنين والمنافقين والكافرين، فلا ترى لهم

ص: 6


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 113 -- تحقيق: السيّد علي أشرف الحسيني.
2- معالي السبطين: 61.
3- كمال الدين: 2 / 290 ح 1.
4- بحار الأنوار: 45 / 314.

ذامّاً» ((1)).

فمِن أيِّ المخلوقات كان أُولئك المردة العتاة، وأبناء البغايا الرخيصات، الّذين قاتلوه بغضاً لأبيه، وسبوا الفاطميّات، ولم يحفظوا النبيّ (صلی الله علیه و آله) في ذراريه؟!!

قال الإمام سيّد الساجدين (علیه السلام) : «.. أيّها الناس، أصبحنا مطرّدين مشرّدين شاسعين عن الأمصار، كأنّا أولاد ترك وكابل، مِن غير جُرمٍ اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين، ﴿إِنْ هذا إلّا اخْتِلاقٌ﴾. فوَالله لو أنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) تقدّم في قتالنا كما تقدّم إليهم في الوِصاية بنا لَما ازدادوا على ما فعلوا بنا، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، مِن مصيبةٍ ما أعظمها، وأوجعها، وأفجعها، وأكظّها، وأقطعها، وأمرّها، وأفدحها، فعند الله نحتسبه فيما أصابنا وما بلغبنا، إنّه عزيزٌ ذو انتقام» ((2)).

ولكنّ الله لهم بالمرصاد، فإنّ دمه الزاكي الّذي سكن في الخُلد، واقشعرّت له أظلّة العرش، وبكى له جميع الخلائق، وبكت له السماوات السبع، والأرضون السبع، وما فيهن، وما بينهنّ، ومَن يتقلّب في الجنّة والنار مِن خلقِ ربّنا، وما يُرى وما لا يُرى، سوف لا ولم ولن يسكن، لأنّه قتيل الله وابنُ قتيله، وثارُ الله وابنُ ثاره، ووِترُ الله الموتور في السماوات والأرض ((3))، حتّى «يبعث الله قائماً، يفرّج عنها الهمّ والكربات».

ص: 7


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 47، بحار الأنوار: 43 / 281 باب 12.
2- بحار الأنوار: 45 / 147.
3- اُنظر: بحار الأنوار: 98 / 151 باب 18.

قال الحسين (علیه السلام) : «يا ولدي يا علي، والله لا يسكن دمي حتّى يبعث الله المهدي» ((1)).

فذلك قائم آل محمّد (عجل الله تعالی فرجه الشریف) يخرج، فيقتل بدم الحسين بن علي (علیهما السلام) .. «وإذا قام _ قائمنا _ انتقم لله ولرسوله ولنا أجمعين» ((2)).

وقد بشّر بذلك رسول ربّ العالمين (صلی الله علیه و آله) ، فقال: «لمّا أُسري بي إلى السماء أوحى إليّ ربّي (جلّ جلاله) فقال: يا محمّد، إنّي اطلعت على الأرض اطلاعة فاخترتُك منها، فجعلتك نبيّاً، وشققتُ لك من اسمي اسماً، فأنا المحمود وأنت محمّد، ثمّ اطلعت الثانية فاخترتُ منها عليّاً،وجعلتُه وصيّك وخليفتك، وزوج ابنتك، وأبا ذريّتك، وشققتُ له اسماً من أسمائي، فأنا العليّ الأعلى وهو علي، وخلقت فاطمة والحسن والحسين من نوركما، ثمّ عرضت ولايتهم على الملائكة، فمَن قَبِلها كان عندي من المقرَّبين.

يا محمّد، لو أنّ عبداً عبدني حتّى ينقطع، ويصير كالشنّ البالي، ثمّ أتاني جاحداً لولايتهم، فما أسكنتُه جنّتي، ولا أظللته تحت عرشي.

يا محمد، تحبّ أن تراهم؟

قلت: نعم يا ربّ.

فقال (عزّ وجلّ): إرفَعْ رأسك. فرفعتُ رأسي، وإذا أنا بأنوار علي، وفاطمة، والحسن، والحسين، وعليّ بن الحسين، ومحمّد بن علي، وجعفر ابن محمّد، وموسى بن جعفر، وعليّ بن موسى، ومحمّد بن علي، وعليّ بن محمّد، والحسن

ص: 8


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 134.
2- بحار الأنوار: 52 / 376.

ابن علي، و(م ح م د) بن الحسن القائم في وسطهم كأنّه كوكبٌ درّي.

قلت: يا ربّ، ومَن هؤلاء؟

قال: هؤلاء الأئمة، وهذا القائم الذي يحلّل حلالي، ويحرّم حرامي، وبه أنتقم من أعدائي، وهو راحةٌ لأوليائي، وهو الذي يشفي قلوب شيعتك من الظالمين والجاحدين والكافرين، فيُخرِج اللّات والعُزّى طريَّين فيحرقهما، فلَفِتنَةُ الناس _ يومئذٍ _ بهما أشدّ من فتنة العجل والسامري» ((1)).وروى عبد الله بن سنان قال: دخلتُ على سيّدي أبي عبد الله جعفر ابن محمّدٍ (علیهما السلام) في يوم عاشوراء، فألفيتُه كاسفَ اللّون، ظاهر الحزن، ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤلؤ المتساقط، فقلت: يا ابن رسول الله، ممّ بكاؤك؟ لا أبكى الله عينيك.

فقال لي: «أوَ في غفلةٍ أنت؟! أما علمتَ أنّ الحسين بن علي أُصيبَ في مثل هذا اليوم؟!».

فقلت: يا سيّدي، فما قولك في صومه؟

فقال لي: «صُمْه من غير تبييت، وأفطره من غير تشميت، ولا تجعله يوم صوم كملاً، وليكن إفطارك بعد صلاة العصر بساعة على شربة من ماء، فإنّه في مثل ذلك الوقت من ذلك اليوم تجلّت الهيجاء عن آل رسول الله، وانكشفت الملحمة عنهم، وفي الأرض منهم ثلاثون صريعاً في مواليهم، يعزّ على رسول الله (صلی الله علیه و آله) مصرعهم، ولو كان في الدنيا _ يومئذٍ _ حيّاً لكان (صلی الله علیه و آله) هو المعزّى بهم».

ص: 9


1- كمال الدين: 1 / 252 باب 23 ح 2، بحار الأنوار: 52 / 379 ح 185.

قال: وبكى أبو عبد الله (علیه السلام) حتّى اخضلّت لحيته بدموعه..

ثمّ علّمه آداب يوم عاشوراء، وآداب الزيارة في ذلك اليوم، إلى أن قال: ثمّ قل:

«اللّهم عذّب الفجرة الذين شاقّوا رسولك، وحاربوا أولياءك، وعبدوا غيرك، واستحلّوا محارمك، والعن القادة والأتباع، ومن كان منهم فخب وأوضع معهم أو رضي بفعلهم، لعناً كثيراً.اللّهم وعجّل فرج آل محمّد (صلی الله علیه و آله) ، واجعل صلواتك عليه وعليهم، واستنقذهم من أيدي المنافقين المضلّين، والكفرة الجاحدين، وافتح لهم فتحاً يسيراً، وأتح لهم روحاً وفرجاً قريباً، واجعل لهم من لدنك على عدوّك وعدوّهم سلطاناً نصيراً..

اللّهم إنّ كثيراً من الأمّة ناصبت المستحفظين من الأئمّة، وكفرت بالكلمة، وعكفت على القادة الظلمة، وهجرت الكتاب والسنّة، وعدلت عن الحبلين اللَّذَين أمرتَ بطاعتهما والتمسّكِ بهما، فأماتت الحقّ، وجارت عن القصد، ومالأت الأحزاب، وحرّفت الكتاب، وكفرت بالحقّ لمّا جاءها، وتمسّكت بالباطل لمّا اعترضها، وضيّعت حقّك، وأضلّت خلقك، وقتلت أولاد نبيّك، وخيرةَ عبادك، وحمَلَةَ علمك، وورثة حكمتك ووحيك.

اللّهم فزلزل أقدام أعدائك، وأعداء رسولك، وأهل بيت رسولك.

اللّهم وأخرب ديارهم، وافلل سلاحهم، وخالف بين كلمتهم، وفتّ في أعضادهم، وأوهن كيدهم، واضربهم بسيفك القاطع، وارمهم بحجرك الدامغ، وطمّهم بالبلاء طمّاً، وقمّهم بالعذاب قمّاً، وعذّبهم عذاباً نكراً، وخذهم بالسنين والمثلات التي أهلكتَ بها أعداءك، إنّك ذو نقمةٍ من

ص: 10

المجرمين.

اللّهم إنّ سنّتك ضائعة، وأحكامك معطَّلة، وعترة نبيك في الأرض هائمة، اللّهم فأعن الحقّ وأهله، واقمع الباطل وأهله، ومُنّ علينا بالنجاة، واهدنا إلى الإيمان، وعجّل فرجنا، وانظمه بفرج أوليائك، واجعلهم لناودّاً، واجعلنا لهم وفداً» ((1)).

والصلاة والسلام على أصحاب الحسين (علیهم السلام) الّذين كشف لهم سيّد الشهداء (علیه السلام) «الغطاء، حتّى رأوا منازلهم من الجنّة، فكان الرجل منهم يقدم على القتل ليبادر إلى حوراء يعانقها، وإلى مكانه من الجنّة» ((2))، ووعَدهم ربُّ العزّة أن يعيد لهم الكرّة على أعدائهم، فقال: ﴿ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ﴾، يخاطب بذلك أصحاب الحسين ((3)).

اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد، وتوفّنا على الإيمان بك والتصديق برسولك والولاية لعليّ بن أبي طالب (صلوات الله عليه) والأئمّةِ من وُلده والبراءة من أعدائهم.. ((4)).

ص: 11


1- مصباح المتهجّد: 784، بحار الأنوار: 98 / 305 باب 24.
2- علل الشرائع: 1 / 229 باب 163 ح 1، بحار الأنوار: 44 / 297 باب 35 ح 1.
3- تأويل الآيات الظاهرة: 272.
4- اُنظر: المزار لابن المشهدي: 177، بحار الأنوار للمجلسيّ: 97 / 428، زيارة المولى مسلم بن عقيل (علیهما السلام) .

ص: 12

المقدّمة

اشارة

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على محمّدٍ وآله الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين.

أمّا بعد..

هذه مجموعة (المجالس) الّتي قُرئت في العامين 1435 و 1436 هجريّة في العشرة الثانية والثالثة من شهر محرّم الحرام، في بيت أخوَين حبيبين عزيزين، هما الحاج مصطفى إبراهيم السليمان والحاج حسين حميد الخزاعي.

وإنّي وإن لم أكن خطيباً بالمعنى الاصطلاحيّ للكلمة، فإنّي أسعى بجدٍّ أن أحشر نفسي _ «متطفّلاً »_ على المنبر بالمقدار الّذي تصدق علَيّ كلمة الناعي، فلعلّي أقوم يوم يقوم الناس لربّ العالمين وينادي المنادي: أين النعاة على حبيب الله وحبيب رسوله وحبيب الزهراء؟ فأقوم مع مَن يقوم، فتشملني الوعود الّتي وردت في الأحاديث الصحيحة الصريحة المتظافرة في «مَن بكى، ومَن أبكى»..

فطرحتُ هذا البحث كموضوعٍ للمنبر، من دون ملاحظةٍ لِما يحتاجه البحث من مقدّماتٍ أساسيّةٍ وأفكارٍ تحتاج إلى بيانٍ وتوضيحٍ واستدلال، معتمّداً في ذلك على الحضور المحصور وعلى التعليقات

ص: 13

والاسترسال بعد المنبر مع الحاضرين.

ثمّ طلب منّي بعضُ إخواني أن أطبع البحث _ ولو على شكل مسودّة _ ليناقشه ذوو الاختصاص، فتردّدتُ كثيراً، ثمّ استخرت الله وعزمت على الاستجابة.

والبحث أساساً يعتمد على نظرةٍ جديدة، أو ما يُعبَّر عنها بالمفردات العصريّة: «قراءة» لقيام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهي تحتاج إلى بيانٍ طويلٍ عريضٍ مفصَّل، يستدرج ذهن القارئ إلى النتائج، بَيْد أنّ ازدحام الأفكار وتشتّت البال وصعوبة الظروف وسعة المشروع الّتي لا تسعها طاقة الفرد الواحد كلّها عوامل كانت تمنعني من الإقدام.

وما أتمنّاه على القارئ الكريم أن يتفضّل علَيّ ويتكرّم، فيشملني بلطفه وصبره وتحمّله، ويلتفت إلى التنويهات التالية:

الأول: القراءة بمعزلٍ عن السوابق

أن يقرأ البحث مع إغفال جميع السوابق الذهنيّة العالقة في أعماقه منذ أن نشأ وهو يقرأ عن قيام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فإنّ البحث فيه ظرافةٌ وتدقيقٌ أحياناً، وهو مُبتنٍ على الاستدلال التاريخيّ، مع التسليم بالعامل الغيبيّ والدوافع الغيبيّة، والتسليم بعصمة سيّد الشهداء وإمامته، وأنّه الناطق عن الله المفترض الطاعة، والتسليم بما تؤدّي إليه الاعتقادات الحقّة الضروريّة، والتسليم لنتائج الاعتقاد بالعامل الغيبيّ، غاية ما فيالأمر أنّ البحث يُحاول أن يُثبت أنّ الدراسة التاريخيّة بالقراءة المتأنّية تؤدّي إلى نفس مؤدّى التفسير بالعامل الغيبيّ للقيام الحسيني.

ص: 14

فلْيتفضّل القارئ بانتزاع السوابق الذهنيّة والمسلَّمات غير الاعتقاديّة، إلى حين ينتهي من قراءة هذه الوُريقات.

الثاني: اجتناب العجَلة

من الضروريّ أن لا يستعجل القارئ الكريم بإصدار الحكم على ما يقرأ حتّى ينتهي من الكتاب، فإنّ أصل البحث طُرح بعنوان مجالس في أيّام محرّم الحرام، فربّما تأخّر فيه بحثٌ كان يقتضي التأليفُ تقديمه أو تقدّم ما يقتضي تأخيره، أو تداخلت فيه بعض الأفكار حيناً وتفكّكت حيناً آخر، وكيف كان فإنّ إتمام الكتاب قد يولّد صورةً أقرب إلى ما نريد التنويه إليه، فقد استعجلنا في كتابته، فلْيكن تأنّي القارئ جابراً لعجلتنا.

الثالث: ليس هذا كلّ البحث

إنّنا لم نستوفِ البحث برُمّته في هذه الأوراق، وإنّما استعرضنا جانباً واحداً وتناولنا فترةً وجيزةً لا تتعدّى الأيّام الثلاثة أو الأربعة على الأكثر من الأيّام التي سبقَت خروجَ سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة، والبحث طويلٌ والاستدلال عليه يستمرّ إلى ما بعد الشهادة، ويحتاج إلى استدلال بما قبل الخروج من المدينة أيضاً.

وعليه، فإنّ أصل البحث وإثبات أصل الفكرة الّتي تتلخّص بكلمة «إنّقيام الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) كان كلّه من أوله إلى آخره دفاعاً محضاً مقابل هجوم العدوّ وعزمه وإقدامه على قتله، كما قُتل جدُّه وأُمّه وأبوه وأخوه وأولاده المعصومين (علیهم السلام) »، وهذا ما يتطلّب دراسةً كاملةً

ص: 15

شاملة، وإثباتاتٍ قويّةً متوفّرةً في التاريخ بكثرة حسب فحصنا، وسوف نتابعها _ إن شاء الله تعالى _ إن بقيَ في العُمر بقيّة.

الرابع: توثيقات الكتاب

إلتزمنا أن لا نذكر متناً إلّا أنّ يلحقه التوثيق وذكر المصادر، وربّما كرّرنا ذكر المصادر تحت كلّ فقرةٍ كلّما اقتضت الضرورة ذكرها والاستشهاد بها، واعتمدنا المصادر التاريخيّة القديمة، واعتمدنا في تخريجها وتوثيقها على موسوعة الإمام الحسين (علیه السلام) (تاريخ إمام حسين (علیه السلام)) الموفّقة، مع مراجعة النصوص في المتون والكتب الأصليّة في الغالب.

فالرجاء أن يتفضّل القارئ بملاحظة ذلك، إذ أنّ توثيق البحث يساعد على تسهيل القبول والاقتناع به.

الخامس: هدف البحث

كلّ ما جاء في هذا البحث إنّما هو دراسةٌ وقراءةٌ للأحداث التاريخيّة، ومحاولةٌ لفهم قيام سيّد الشهداء (علیه السلام) وأسراره وفق نصوص التاريخ، وقد أشرنا في مواضع _ منها مقدّمة ترجمة رسالة العلّامة المجلسي (رحمة الله) فيبيان حكمة قيام سيّد الشهداء (علیه السلام) _ إلى النظريّات الّتي حاولَت تفسير قيام الإمام المظلوم (علیه السلام) ، فلا نعيد هنا، ولعلّنا نُوفَّق لتناولها بشكل مفصّل..

فالغرض لا يعدو كونه بحثاً لفهم وتفسير القيام المقدّس وفق نظرةٍ خاصّة، منتزعة في الإساس من الأحاديث الشريفة والنصوص المقدّسة، بَيد أنّها تحاول هنا الوصول إلى نفس النتائج من خلال

ص: 16

المتون التاريخيّة ليس إلّا، وبالتالي سيعرف المؤمن الحسينيّ مظلوميّة إمامه ومظلوميّة أهل البيت، ويعرف قدر دمعته وبكائه وتوجّعه لِما نزل بهم، ويُدرك شيئاً من شهقة سيّدة النساء فاطمة الّتي لا تفتر في كلّ يومٍ ودمعتها الّتي لا ترقأ أبداً، والله من وراء القصد.

السادس: إضافة بعض المطالب

توجد بعض المطالب لم تكن ضمن مواضيع المجالس الّتي تُليَت في شهر محرّم الحرام، وإنّما أُضيفَت بعد أنّ أُعدّ البحث ككتاب، من قبيل: «تعريف الثورة» في البداية، و«موقف المولى محمّد ابن الحنفيّة مع يزيد إلى آخر الخاتمة» في النهاية.

وربّما استخدمنا لفظ (القيام) في ثنايا البحث، ونقصد به (القيام بأمر الله)، فإنّ الإمام قائمٌ بأمر الله تعالى في كلّ حالاته وحركاته وسكناته، وكلّ واحدٍ من الأئمّة هو قائمٌ بأمر الله، وهم جميعاً القوّامون بأمره.

* * * * *لقد تحرّينا الاحتياط، وتقدّمنا في البحث خطوةً خطوة، كمن يمشي في منطقةٍ ملغومةٍ مظلمة، وقصدنا خدمة أهل البيت (علیهم السلام) ، وعزمنا الدفاع عن حريمهم وقداستهم وكلِّ ما يُنسَب إليهم، فإذا وقعنا بين خيارين: خيار التزام قداسة التاريخ والمؤرّخ، وخيار التزام قداسة الأولياء والأصفياء، فإنّنا اخترنا الخيار الثاني، طلباً لرضى الله ورسوله والأئمّة المعصومين (علیهم السلام) ..

فإن وُفّقنا في ذلك فهو فضلهم ومَنّهم وفيضهم وبركاتهم، وإلّا

ص: 17

فنستغفر الله، ونسأله أن يُعطينا أجر مَن أحسن عملاً، إنّه عفوٌّ جوادٌ كريم، وهو نِعم المولى ونعم النصير.

ونرجو من الله السميع العليم أن يتقبّل منّا هذا القليل، وينفعنا به ووالدينا يوم لا ينفع مالٌ ولا بنونٌ ولا خليل، ولا يحرمنا وأزواجنا وذرّياتنا خدمة زَين السماوات والأرضين سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) في الدنيا والآخرة، ويحشرنا في مماليك مولانا الغريب وعبيده المرضيّين، ويجعل عملنا وحبّنا واعتقادنا فيما يُرضيه ويُرضي النبيَّ الأمين (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) وذرّيّته الطاهرين المعصومين (علیهم السلام) ، بحقّ مولانا مُهيّج أحزان يوم الطفوف وأُخته الطيّبة فاطمة المعصومة (علیها السلام) .

اللّهمّ اغفر لنا ولوالدينا ولأزواجنا وذرّيّاتنا وإخواننا المؤمنين، وعجّل فرج وليّ أمرنا، الطالب بدم الإمام المظلوم غريب الغرباء (علیه السلام) ، آمين ربّ العالمين.السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

قم المقدّسة

12 / شعبان المعظّم / 1437 ه-

ص: 18

مقدّمات ضروريّة

اشارة

لقيام سيّد الشهداء (علیه السلام) تاريخٌ طويل، وطويلٌ جدّاً قبل خروجه من المدينة المنوّرة، وربّما لا يبالغ الإنسان إذا قال: إنّ تاريخ ما قبل القيام يمتدّ بامتداد التاريخ صعوداً إلى بداية الخِلقة وهبوط آدم (علیه السلام) إلى الأرض، وانطلاقِ التاريخ البشريّ منذ أن قتل قابيلُ هابيل، بل قبل ذلك بكثير، إذ أنّ شواهده وأحداثه تمتدّ إلى عالم الذرّ، وتسبق عالم الذرّ إلى عالم الأنوار قبل أن يخلق الله الأرض ومَن عليها، يوم كان سيّد الشهداء (علیه السلام) نوراً خلقه الله مع باقي الأنوار الخمسة قبل أن يخلق الخلق بآلاف السنين، فمنذ ذلك الحين وقبله بدأت آثار وأحداث ووقائع ومصائب الطفّ تتلى، وما سيجري في كربلاء يتجلّى، وسالت الدموع وانحدرت، وارتفع البكاء يهزّ الأرجاء قبل أن تُخلَق الأرض والسماء..

ونحن لسنا بصدد الخوض في هذا الموضوع الآن، فلا ضرورة لذكر أدلّته وشواهده، وهو من الضروريّات الواضحة لكلّ مَن جاس خلال ديار كلام الأنبياء والأوصياء والمعصومين، وما وصلنا منهم عن الله ربّ العالمين.

ولمّا كان الباحث والمتابع لا يستغني عن الملاحظة الخارجيّة والوقائع الّتي جرت على الأرض وسجّلها التاريخ ضمن تسجيله لحركة البشريّة

ص: 19

ممّا شاهده الراوي وأخبر به أو سمعه المؤرّخ وحدّث به، ولاحق ما شاهدَته العيونُ وسمعته الآذاان وما وعته القلوب أحياناً، فدوّنه أو رواه فأسمعه من دوّنه أو نقله من صدره إلى الصدور..

وقد سجّل لنا التاريخ انطلاقة سيّد الشهداء (علیه السلام) من مدينة الرسول (صلی الله علیه و آله) إلى مكّة، ثمّ إلى كربلاء، حيث أرض المصرع الموعودة منذ أن خلق الله سيّد الشهداء (علیه السلام) وتباهى بخلقه.. فتبارك الله أحسن الخالقين!

فلا يمكن للمتابع والباحث أن يسبر أغوار القيام الحسيني، ويتعقّب مجرياته ويدركها، ويدرسها دراسةً وافيةً حسب ما آتاه الله من قدرات وفتح عليه من آيات ذلك القيام المقدّس، إلّا إذا توقّف طويلاً عند المنطلق، وتأمّل في دواعي التحرّك والأسباب الّتي أزعجت أفراخ الرسول وجعجعت ((1)) بهم في وطنهم ومستقرّهم ومسقط رؤوسهم فأخرجتهم..

وإلى أين كانت وجهتهم يوم خروجهم من المدينة؟ من المدينة! وهل كانت الوجهة معلنة ضمن مقتضيات مجريات الأحداث، أو أنّها كانت غير معلنة، بيد أنّها محدّدة لمن يهمّه الأمر، أو أنّها كانت غير معلومة إلّا للإمام نفسه وبعض مقرّبيه؟ أو ما شاكل من الاحتمالات الأُخرى.وكيف كان، فإنّ خواتيم القيام وما يلازمه ويقتضيه من حركات لا تُدرَك إلّا بمعرفة البدايات والمنطلقات، ولا تتماسك قمم الجبال والبنيان إلّا على السفوح والأُسس والدعائم والأركان.

ص: 20


1- جعجع: ضيّق عليهم المكان (انظر: النهاية: مادّة جعجع).

ولكي نستطلع الظروف، ينبغي أوّلاً تقديم بعض المقدّمات والتمهيد ببعض الممهّدات الضروريّة جدّاً، الّتي لا يتسنّى استخلاص أيّ نتيجةٍ ولا استلهام أيّ فهمٍ له علاقة بالقيام الحسينيّ إلّا إذا جُعلَت هذه الأُمور كمقدّماتٍ ضروريّة يعتمد عليها الارتكاز، وينطلق منها القلب والذهن والفهم، وإنّما نذكر هنا شيئاً منها على عجل، ولاستقصائها موضعٌ آخَر:

المقدّمة الأُولى: علم الإمام (علیه السلام) بعاقبة القيام

اشارة

إنّ الإمام الحسين (علیه السلام) كان عالماً بمآل خروجه من المدينة المنوّرة على كلّ حال، وفي كلّ فرض، وهذا الأمر في غاية الأهمّيّة، وربما كان هو الأصل الأوّل الّذي ينبغي ملاحظته وأخذه بنظر الاعتبار في كلّ دراسةٍ جزئيّةٍ كانت أو كلّيّة، شاملةٍ كانت أو مقطعيّة؛ إذ لا يمكن افتراض ما لم يكن في الحسبان، ولا في المدى المنظور ولا غير المنظور، ولم يلحظ بتاتاً في القيام، لأيّ جهةٍ من جهات الحركة..

ونحن لا نريد الدخول في تفاصيل الموضوع عقائديّاً، ولا نريد التركيز على البُعد الغيبيّ في القيام المقدّس، فإنّ لذلك موضعاً آخر..

بَيد أنّنا سنقتصر على بيان هذه الحقيقة باختصار، باعتبار أنّها ربّمااتّضحت من خلال ما نعرفه من كلام المعصومين (علیهم السلام) سابقاً ولاحقاً.

ويمكن ملاحظة ذلك من خلال افتراض إحدى الحالات التالية، بعد الاعتذار من مقام سيّد الكائنات وحبيب الله وسيّد شباب أهل الجنّة، مليكنا الإمام الحسين (علیه السلام) ، إذ سنفترض بعض الفرضيّات لاستيعاب جميع الفروض :

ص: 21

الفرض الأوّل: علم الإمام (علیه السلام)

لقد ثبت من خلال أحاديث أهل البيت (علیهم السلام) أنّ الإمام يعلم بما كان وما يكون وما هو كائنٌ بإذن الله وبفضله ومَنّه على الإمام (علیه السلام) ، وعلى المخلوقات طُرّاً الّتي تحتاج ذلك، فلا حاجة لإثبات ذلك في هذا الموضع، وإنّما نذكره كأصل موضوع، وعقيدةٍ مسلَّمة بديهيّة شبّ عليها الصغير وورثها الكبير..

فهو (علیه السلام) يرى المستقبل كما يرى الحاضر والماضي، وكما يرى كفّ يده المقدّسة، ويخبر عن كلّ شيءٍ إذا شاء بأمر الله تعالى.

وقد أخبر سيّد الشهداء (علیه السلام) _ في مواطن عديدة ومواقف كثيرة _ تفاصيل ما سيجري عليهم في الطريق من المدينة المنوّرة ومكّة المكرّمة وطريق الفتح بالشهادة إلى كربلاء، وما سيجري فيها من مصائب وفجائع بجميع التفاصيل والجزئيّات، ولا يخفى ذلك على من تصفّح _ على عجلٍ _ كتب التاريخ والحديث.

الفرض الثاني: من خلال الإخبار الغيبيّ

لقد تظافرت الإخبارات الغيبيّة في بيان مجريات الأحداث مفصّلةً بكلّ الأبعاد والجزئيّات، عن سيّد المرسلين (صلی الله علیه و آله) محمّدٍ المصطفى، وسيّد الوصيّين عليٍّ المرتضى، وسيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء، وسيّد شباب أهل الجنّة السبط الأكبر الحسن المجتبى، وسيّد شباب أهل الجنّة خامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) .. وغيرها من الإخبارات الّتي

ص: 22

ملأت الكتب والأسفار من لدن آدم (علیه السلام) إلى النبيّ الخاتم (صلی الله علیه و آله) ، وقد أخبر بها الكهنة وأصحاب الكتب، وفي إخبار النبيّ (صلی الله علیه و آله) الأمين المتكثّر المتكرّر كفاية.

وقد تظافرت جميع طوائف الأُمّة على روايتها، فولّدت تواتراً معنويّاً لا يشكّ فيه مُكابر.

وهنا نعتذر من ساحة قدس مولانا ومليكنا سيّد الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام) ، لنفرض فرضاً لا يسع الخيال افتراضه لولا ضرورة البحث!

فلو أغمضنا النظر عن إمامة سيّد الشهداء (علیه السلام) _ وهو فرضٌ لا يكون حتّى من باب (فرض المحال ليس محالاً) _ وأغمضنا النظر عن كونه ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وابن أمير المؤمنين (علیه السلام) الذي ظلّله بالكساء وعاش معهم في نفس البيت، ولو فرضناه كواحدٍ من المسلمين _ فرضاً أبعد من المحال، ونعوذ بالله من هذا الفرض ومن الفرض الّذي سبقه _، فإنّه ومَن معه من أهل بيته قد سمعوا هذه الأخبار المتداولة المشهورةالمعروفة عند جميع المسلمين، بَرِّهم وفاجرهم..

وقد أخبر النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) بتفاصيل الواقعة وجزئيّات المصائب الّتي ستشهدها أرض كربلاء، ولا يخفى ذلك على مَن راجع التاريخ والحديث.

الفرض الثالث: مُجريات الأحداث ووضوحها للجميع

لقد سمعنا في التاريخ أنّ مجريات الأحداث كانت تدلّ بوضوحٍ أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) مقتولٌ لا محالة، ولا نريد هنا إطالة الكلام، ونكتفي

ص: 23

بالقول أنّ مثل عبد الله بن عمر وعبد الله بن عبّاس والفرزدق الشاعر وعبد الله بن مطيع وغيرهم من الناس قد علموا وعرفوا أنّ أهل الكوفة مَردوا على النفاق والخيانة والغدر بالطيّبين، وتعلّقوا بأغصان الشجرة الملعونة، وقطعوا أغصان شجرة طوبى، وقتلوا أمير المؤمنين والحسن المجتبى الأمين (علیهما السلام) ، ولم يلحظ ذلك سيّد الشهداء (علیه السلام) ؟! إنّ هذا لهو البهتان العظيم!

وبناءً على هذا المختصر المضغوط الّذي لا يحتاج إلى كثير بيانٍ واستدلالٍ وإثبات؛ لبداهته ووضوحه، فإنّ أيّ فهمٍ للقيام الحسينيّ ينبغي أن يكون ضمن هذه المعلومة القطعيّة الجزميّة المسلَّمة الّتي لا يمكن الحياد عنها وتجاهلها أو الالتفاف عليها.

المقدّمة الثانية: صفات المعصومين (علیهم السلام) وتكاليفهم الربّانيّة

وردت صفاتٌ لسيّد الشهداء (علیه السلام) في أحاديث أهل البيت (علیهم السلام) توصيفاً في الأحاديث الشريفة أو في الزيارات المقدّسة المنصوصة من المعصومين وأئمّة الدين (علیهم السلام) ، وفهمها الكثيرون وإن لم يصرّحوا بذلك، ولكنّها واضحةٌ من خلال استخلاصاتهم واستنتاجاتهم وتعبيراتهم عن أهداف ونتائج وآثار القيام الحسينيّ، أو ما يسمّونه ب- «ثورة الحسين (علیه السلام) »!

وهذه الصفات ثابتةٌ لسيّد الشهداء (علیه السلام) بلا ريب ولا أدنى ترديد، بيد أنّها ليست خاصّة به، وإنّما هي عامّة شاملة تنتشر على جميع المعصومين الأربعة عشر (علیهم السلام) بلا استثناء، وهي سواءٌ وردت في زياراتهم أو لم ترد، فإنّ الأحاديث الشريفة قد أبانت الحقيقة فيهم، فلا ينبغي

ص: 24

التوقّف في الاعتقاد بشمولها للأئمّة المعصومين (علیهم السلام) جميعاً بلا استثناء.

وهذا لا يعني أن لا نقول بوجود خصوصيّاتٍ خاصّةٍ بسيّد الشهداء (علیه السلام) من بين المعصومين (علیهم السلام) ، كما لا يُنكَر وجود خصوصيّاتٍ لكلّ واحدٍ منهم سوى الإمام الحسين (علیه السلام) ..

فما ورد في سيّد الشهداء (علیه السلام) من إقامة الدِّين، وإحياء شريعة سيّد المرسلين، وحفظ الدين وحفظ الشريعة، وإبقاء الدين المحمّديّ الخالص، وتخليد الإسلام وإبقائه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،وما شابه ذلك.. فإنّه جارٍ في كلّ فردٍ فردٍ من الأئمّة المعصومين (علیهم السلام) ؛ لأنّ الدين وحفظه _ في واقع الأمر _ قائمٌ أساساً بوجود شخص المعصوم، محفوظٌ بحفظه، وهو الوجود المقدّس الّذي بوجوده لا تسيخ الأرض بأهلها ولا يتهرّأ نظام الكون ولا ينفرط..

فالدين كان قبل سيّد الشهداء (علیه السلام) قائماً بالنبيّ وأمير المؤمنين والإمام الحسن الأمين (علیهم السلام) ، وبقيَ بعد سيّد الشهداء (علیه السلام) قائماً في وَلده زين العابدين وسيّد الساجدين (علیه السلام) ، وهو أسيرٌ مكبَّلٌ مصفَّدٌ محمولٌ إلى القرد الخليع المجدور، وبقيَ بعده بولديه الباقر والصادق (علیهما السلام) ، وهكذا إلى يومنا هذا، فإنّ الدين باقٍ ببقاء صاحب الأمر والزمان وليّ دم الحسين (علیه السلام) ..

فإنّ كلّ واحدٍ من الأئمّة المعصومين (علیهم السلام) يصدق عليه تماماً أنّه:

«الفائز بكرامتك، أكرمتَه بكتابك، وخصصته وائتمنته على وحيك، وأعطيته مواريث الأنبياء، وجعلته حجّةً على خلقك

ص: 25

من الأصفياء _ فأعذر في الدعاء وبذل مهجته فيك _ ليستنقذ عبادك من الضلالة والجهالة والعمى والشكّ والارتياب إلى باب الهُدى من الردى» ((1))..

ويصدق تماماً قولك:

«اللّهمّ إنّي أشهد أنّه وليُّك وابن وليّك، وصفيُّك وابنصفيّك، الفائز بكرامتك، أكرمتَه بالشهادة، وحبوته بالسعادة، واجتبيته بطيب الولادة، وجعلته سيّداً من السادة، وقائداً من القادة، وذائداً من الذادة، وأعطيتَه مواريث الأنبياء، وجعلته حُجّةً على خلقك من الأوصياء _ فأعذر في الدعاء ومنح النصح (النصحية) وبذل مهجته فيك _ ليستنقذ عبادك من الجهالة وحَيرة الضلالة» ((2))..

وهل ثمّة مَن يزعم أنّ أحد الأئمّة المعصومين (علیهم السلام) ليس كذلك _ والعياذ بالله _؟ سيّما إذا لاحظنا أنّ استنقاذ العباد في الزيارتين متمّمٌ ومتعلّقٌ بجعله حجّةً من الحجج الأصفياء والأوصياء، أي: جعلتَه حجّةً ليستنقذ عبادك.. فالاستنقاذ إنّما يكون بجعله حجّة، فبعد أن يجعله الله حجّةً للعباد ليستنقذهم يعذر الإمام في الدعاء ويمنح النصيحة ويبذل مهجته في الله خاصّة، لا في العباد، ولا من أجلهم، ولا لهم.. «فيك»!

ويؤيّد هذا المضمون ما ورد في زيارة الجامعة عامّة، وخصوصاً في

ص: 26


1- أُنظر: كامل الزيارات لابن قولويه: 228 ح 17.
2- التهذيب للطوسي: 6/113 ح 17 زيارة الأربعين.

قوله (علیه السلام) :

«وبذلتُم أنفسَكم في مرضاته، وصبرتم على ما أصابكم في جنبه، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر، وجاهدتم في الله حقّ جهاده، حتّى أعلنتم دعوته، وبيّنتم فرائضه، وأقمتم حدوده، ونشرتم شرائع أحكامه،وسننتم سنّته، وصرتم في ذلك منه إلى الرضى، وسلّمتم له القضاء، وصدّقتم من رسله من مضى» ((1)).

فجميعهم قد بذل نفسه ومهجته في الله، ليستنقذ العباد من الضلالة وحيرة الجهالة..

وقد ورد في زيارة النبيّ (صلی الله علیه و آله) :

«واستأصلتَ الكفر، وهدمت الشرك، ومحقت الضلالة، ونفيت الجهالة، وكشف الله عنهم بك البلاء، وردّ عن ديارهم بك الأعداء، ورفع من بينهم العداوة والبغضاء، وألّف بين قلوبهم، وأعاد الرحمة إلى صدورهم، وفتح الله عليهم أبواب النعم، وألبسهم حُلل العزّ والكرم» ((2)).

وورد في وصف النبيّ (صلی الله علیه و آله) على لسان صنوه وشقيقه أمير المؤمنين (علیه السلام) :

«فهداهم به من الضلالة، وأنقذهم بمكانه من الجهالة» ((3)).

ص: 27


1- عيون أخبار الرضا (علیه السلام) للصدوق: 2 / 274.
2- المزار لابن المشهدي: 65 زيارة رسول الله (صلی الله علیه و آله) (صلی الله علیه و آله) .
3- نهج البلاغة: 44.

وقال (علیه السلام) :

«فقد أضاءت به البلاد بعد الضلالة المظلمة والجهالة الغالبة» ((1)).

وقال (علیه السلام) :

«وأنّ محمّداً عبدُه ورسوله، بعثه بالحقّ نبيّاً، دالّاً عليه وهادياًإليه، فهدى به من الضلالة، واستنقذنا به من الجهالة، من يُطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً ونال ثواباً جزيلاً، ومن يعصِ الله ورسوله فقد خسر خسراناً مبيناً» ((2)).

وورد في وصف القرآن الكريم:

«وجعلتَه نوراً نهتدي من ظلم الضلالة والجهالة باتّباعه» ((3)).

وورد في وصف الإمام الجواد محمّد بن علي الرضا (علیه السلام) في الصلوات المرويّة:

«فكما هديتَ به من الضلالة، واستنقذتَ به من الجهالة» ((4)).

وكذا يلاحظ في الصلاة على باقي الأئمّة (علیهم السلام) ..

وورد في زيارة الصاحب (عجل الله تعالی فرجه الشریف) :

«فافعل ذلك بي وبجميع المؤمنين، حتّى ننظر إلى وليّك

ص: 28


1- نهج البلاغة: 210 خ 151.
2- الكافي: 1 / 142 ح 70 من خطبةٍ لأمير المؤمنين (علیه السلام) .
3- الصحيفة السجّادية: 176 دعاء 46 عند ختم القرآن.
4- جمال الأُأسبوع لابن طاووس: 491 الصلاة على الإمام الجواد (علیه السلام) .

صلوات الله عليه، ظاهر المقالة، واضح الدلالة، هادياً من الضلالة، شافياً من الجهالة» ((1)).

فهذه الصفات وغيرها ممّا جعلها في أوليائه الّذين اختارهم أئمّةً لعباده جميعها تجري فيهم، ويمكن لمن أراد الزيادة أن يراجع الأحاديث والزيارات، ليعلم أنّ كلّ واحدٍ من الأئمّة (علیهم السلام) قد أعذر بالدعاء والنصيحة، وحفظ الدين، وأقام شريعة سيّد المرسلين، وبذلمهجته في الله لاستنقاذ العباد، من النبيّ الخاتم (صلی الله علیه و آله) إلى الوليّ الخاتم (علیه السلام) .. نعم، قد يتميّز بعضُهم عن بعضٍ في بعض الخصائص الّتي شاءها الله له، وذلك بحثٌ آخر ليس هذا موضعه.

وبكلمة: فإنّ استنقاذ العباد إنّما يكون بالحجّة المنصوب من الله، لا بنوع القتلة الّتي يُقتَل بها الحجّة، وسيّد الشهداء (علیه السلام) كان مستنقذاً للعباد، سواءً قُتل في كربلاء بتلك القتلة مع أهل بيته وأصحابه أم لم يُقتَل، لأنّ الاستنقاذ يكون بشخصه لا بصفة قتله.

بل تتمّ به الحجّة ويتحقّق الاستنقاذ سواءً قام أو قعد، وسواءً قُتِل أو مات على فراشه، بغضّ النظر عن اعتقادنا أنّ «ما منهم إلّا مقتولٌ أو مسموم»، فإنّ الحجّة المنصوب من الله لا يُشتَرط فيه نوع الميتة، فإنّ الإمام الحسين سيّد الشهداء إمامٌ منصوبٌ من الله، سواءً قُتِل أو لم يُقتَل، وسواءً خرج إلى العراق أم لم يخرج، ولو عمّر الإمام الحسين مئات السنين في أرغد عيشٍ وفي مكانٍ أمينٍ ولم يُقتَل أبداً لا مسموماً ولا

ص: 29


1- كمال الدين للصدوق: 2 / 512 ح 43.

مذبوحاً، لَكان هو الإمام الحسين المفروض الطاعة من الله، وبه يقوم الدين وتقوم الدنيا بإذن ربّ العالمين.

فالإمام إمام، قام أو قعد، كان في السجن أو خارجه، قُتِل بالسيف أو مسموماً، كان مصفَّداً بالحديد على أقتاب المطيّات تصهره ومَن معه مِن آل رسول الله حرّ الهاجرات مُقاداً أسيراً إلى أرذل الخلق، أو كان حاكماً ظاهراً وسلطاناً مبسوط اليد، لا أثر لهذه الأُمور ولا مدخليّة لها بحالٍ فيكونه إماماً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، مقيماً لحدود الله مبيِّناً لأحكامه مفسِّراً لقرآنه مطبّقاً لشرائعه، وغيرها من الأُمور الّتي نعتقدها في الإمام ونقرؤها في الزيارات ونشهد بها لله في جميع المواطن والمواضع والمواقع.

فيكون قوله حينئذٍ: «فأعذر في الدعاء، وبذل مهجته فيك»، جملةً اعتراضيّة، ويكون الاستنقاذ بجعل الحجّة على الخلق من الأصفياء.

وهذه المقدّمة في غاية الأهمّيّة في فهم القيام المقدّس، كما سيتّضح من خلال البحث إن شاء الله.

المقدّمة الثالثة: تعريف الثورة

اشارة

لا شكّ أنّ مصطلح (الثورة) يُعدّ مصطلحاً محدثاً بما يحمله من معنىً انفعاليّ وسياسيّ واجتماعي، بالرغم من أنّ معناه كان منذ أقدم العصور، وكانت محاولات الفلاسفة والمؤرّخين حثيثةٌ لتقديم تعريفٍ لهذا المصطلح وبيان أبعاده وأمثلته ونماذجه، وتفسير ما يمكن أن ينطبق عليه من حالاتٍ ضمن المفاهيم المتصوّرة أو المقرّرة.

ص: 30

وربّما يلاحَظ أنّ أرسطو رسم صورةً للمجتمع ونظام الحكم، وما يمكن أن يقع بينهما من أنواع الصراعات والنزاعات الّتي تؤدّي إلى تغييراتٍ كلّيّةٍ أو جزئيّةٍ في المجتمع أو النظام الاجتماعيّ أو الحكم أو نظام الحكم.فالثورة في التاريخ الرومانيّ القديم هي: الخصام الأهليّ الّذي سبّب الاضطراب في الدولة المدنيّة الإغريقيّة.

وهي عند أرسطو: التحوّل شبه الطبيعيّ في شكلٍ من أشكال الحكومة إلى شكلٍ آخَر.

وهو يرى أنّ هناك عدّة عوامل لقيام الثورات، ويرى أنّ أسباب قيام الثورة بصفةٍ عامّة يعود إلى الشعور بالرغبة في المساواة، أو الرغبة بعدم المساواة، ذلك الشعور الّذي يولّد آثاراً نفسيّةً كبيرةً، ويذكي الوعي عند البعض ممّا يدفعه إلى القيام بالثورة وتحريض الآخرين على القيام بها.

ويقول: إنّ المذاهب والاتّجاهات السياسيّة المختلفة تعترف بحقوق الأفراد في المساواة، إلّا أنّ الواقع يوضّح أنّها عند التطبيق تحيد عن هذه المساواة. ويرى أنّ الطبقة الأدنى قد تثور في محاولةٍ للحصول على مساواتها بالطبقة الأعلى، والطبقة الأعلى قد تثور إذا أحسّت بأنّها لم تعُد مميّزة، فتثور للمحافظة على تفوّقها وتميّزها.

لذا فإنّ أرسطو يُرجع أسباب الثورات إلى عنصرٍ أساسيّ، وهو عدم الرضى والرغبة في المساواة الكلّيّة أو الجزئيّة، وقد اعتبر ذلك العلّة العامّة التي تهيّئ النفوس للثورة ((1)).

ص: 31


1- أُنظر: علم الاجتماع السياسيّ لمولود زايد الطبيب: 100، الفكر السياسيّ لحوريّة توفيق مجاهد: 101.

وعرّفها بوليبيوس (المؤرّخ اليونانيّ 118 _ 200 ق.م) أنّها: الدورةالمحدّدة المتكرّرة الّتي تحكم الشؤون الإنسانيّة، لأنّها مدفوعةٌ دائماً نحو الحدود القصوى.

وقد قرّر الكتّاب والمتخصّصون بآداب الإغريق والرومان أنّ كلمة (الثورة) الّتي نستعملها لا تعني تماماً معنى الكلمات الّتي استخدمها المؤرّخون القدامى ((1)).

بيد أنّ هذا المصطلح بما يحمل من شحنات سياسيّة واجتماعيّة، يفهمها المخاطَب والمتكلِّم اليوم ضمن التصوّرات المؤسَّسة في الأذهان، له معنىً يكاد يكون مفهوماً رغم الاختلاف الشديد في تفسيره وتحديد أبعاده والمرادات منه، والمساحات الشاسعة أو الضيّقة من الحركات والتغيّرات الاجتماعيّة والسياسيّة والفكريّة، بل والعلميّة الّتي يمكن أن يحتويها هذا الاصطلاح.

ويلاحظ أنّ لفظ (الثورة) قد تداوله علماء التاريخ والاجتماع الغربيّين بشكلٍ واسع، وراحوا يقدّمون له التفسير، وأَوغلوا في البحث عن أبعاده وحيثيّاته وأسبابه ونتائجه بشكل مطّردٍ وحثيثٍ بعد الثورة الفرنسيّة، وازداد التركيز عليه بعد الثورة الروسيّة «البلشفيّة».

ثمّ جعلوا يستعملون المصطلح الّذي نحتوه على غرار معطيات الثورة الفرنسيّة، وحاولوا تحديد معالمه على أساس الثورة الروسيّة، وجعلوا

ص: 32


1- أُنظر: في الثورة لحنة ارندت: 28 ترجمة: عطا عبد الوهّاب.

يطبّقونه على بعض الحركات الاجتماعيّة والسياسيّة في تاريخ أورپّا،فأطلقوا على الحرب الأهليّة في إنجلترا الّتي سبقت الثورة الفرنسيّة لملاحظة النتائج الّتي أسفرت عنها من التغيير الاجتماعيّ والتغيّرات في نظام الحكم والنظم الحاكمة، وهكذا..

وكيف كان، فإنّ مصطلح (الثورة) محدَثٌ بما يتضمّنه من معنىً خاصّ، كما سنلاحظ من خلال ما ذكروه له من تعاريف على اختلاف المذاهب والمشارب والاتّجاهات في تعريفه، انطلاقاً من الأيدلوجيّات والمتبنّيات الفكريّة والعقائديّة، والمعالجات التاريخيّة أو الميدانيّة لتتبّع العيّنات والشرائح والشواهد الخاضعة للدراسة.

ففسّر لفظ (الثورة) كلٌّ حسب أيدلوجيّته ومتبنّياته، فتفاوتوا في نظراتهم حسب تفاوتهم في أيدلوجيّاتهم، فالماركسيّون _ مثلاً _ نظروا لها بمنظار الأدبيّات الماركسيّة في تحليل التطوّر الاجتماعيّ والصراع الحاكم بين الطبقات، فقالوا:

إنّ معنى الثورة الاجتماعيّة ووظيفتها لا يمكن فهمها إلّا حينما ننظر إلى تاريخ المجتمع على حقيقته، كسلسلةٍ متّصلةٍ من التشكيلات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، والثورة شكلٌ من أشكال الانتقال من تشكيلٍ إلى آخر، كما أنّها قفزةٌ من التشكيل الاقتصاديّ والاجتماعيّ البالي إلى تشكيلٍ أكثر تقدّماً، تكون الخاصيّة المميّزة السائدة له ومضمونه السياسيّ هو انتقال السلطة إلى الطبقات الثوريّة ((1)).

ص: 33


1- أُنظر: علم الثورة في النظرية الماركسية: 41 ترجمة: سمير كرم.

وعرّفها صاحب موسوعة علم الاجتماع أنّها:

التغيّرات الجذريّة في البُنى المؤسّسيّة للمجتمع، تلك التغيّرات الّتي تعمل على تبديل المجتمع ظاهريّاً وجوهريّاً من نمطٍ سائدٍ إلى نمطٍ جديدٍ يتوافق مع مبادئ وقيم وأيدلوجيّة وأهداف الثورة، وقد تكون الثورة عنيفة دمويّة، كما قد تكون سلميّة، وتكون فجائيّة سريعة أو بطيئة تدريجيّة.

وقالوا عن الثورة أنّها ضرورةٌ اجتماعيّةٌ سياسيّة، وظاهرةٌ مجتمعيّةٌ يعبّر بها الأفراد في المجتمع عن سخطهم وعدم رضاهم عن أوضاع اجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة متدنّية، وبذلك يصبح من حقّهم هدم الواقع المريض من أجل بناء مجتمعٍ سليمٍ تتجسّد فيه الحرّيّة والعدالة والمساواة، لذلك فإنّ الثورة عمليّة تغيير جذريّ يهدف إلى إعادة التكامل والتوازن الاجتماعيّ والنظم الاجتماعيّة السليمة، وقد أشار رادكليف براون إلى أنّ ذلك يعني أنّه ينبغي أن نميّز بين البناء الاجتماعيّ في حالة تفكّكه واضطرابه وبين رجوع المجتمع ثانيةً إلى حالة الملائمة والتكامل ((1)).

وعرّفها البروفسور هاري ايكشتاين أنّها محاولات التغيير بالعنف أنّ التهديد باستخدامه ضدّ سياسات في الحكم أو ضدّ حكّام أو ضدّ منظّمة.

ص: 34


1- أُنظر: علم الاجتماع السياسيّ لمولود زايد الطبيب: 100، علم الاجتماع السياسيّ للدكتور السيّد الحسيني: 355.

ويعرّفها برنتون أنّها تغييرٌ في الحكومة القائمة، يتجاوز الحدّ القانونيّويكون عنيفاً عادة.

ويقول بيترأمان أنّها انكسارٌ موقَّتٌ أو طويل الأمد لاحتكار الدولة للسلطة، يكون مصحوباً بانخفاض الطاعة ((1)).

والكلام في تعريف الثورة يطول، ولا يكاد يرسو على موضعٍ تجمع عليه جميع الاتّجاهات بكلّ تفاصيله وتفاسيره.

وهكذا اختلفوا في المداخل المفسّرة للثورة حسب اختلافهم في الزوايا الّتي يتناولونها منها..

فمنهم: مَن يركّز على دراسة النتائج الرئيسيّة للأعمال والأفعال الّتي تحلّل مصادر التذمّر والعنف، من قبيل جورج بيتي وكرين برنتون.

ومنهم: مَن فسّرها معتمّداً العوامل النفسيّة الّتي تدفع بالشخص للمشاركة في الحركات الثوريّة.

قال جوستاف لوبون في تعريف الثورة: إنّها مجموعةٌ من التحوّلات الفجائيّة في المعتقدات والأفكار والمذاهب. ويقول: إنّ المشاعر والعواطف هي دعائم المعتقدات السياسيّة والرئيسيّة ((2)).

ويذهب بعض علماء النفس إلى أنّ الثورة تعبيرٌ عن سيكلوجيّة الحشد، ويقارنونها مع الارتدادات إلى العقليّة البدائيّة الّتي يمكن ملاحظتها في حالات الانهيار العصبيّ ((3)).

ص: 35


1- أُنظر: علم الاجتماع السياسي لمولود زايد الطيب: 99.
2- الموسوعة السياسيّة للكيالي: 870.
3- الموسوعة السياسيّة للكيالي: 871.

واختلف مفكّرو اليسار في النظريّة المادّيّة التاريخيّة، فمنهم مَن جعل المساواتيّة هي العلامة الأبرز على التقدّم في الثورات، ومنهم من تبنّىالنظرة الليبراليّة، فقال: لا تكون الانتفاضات الجماهيريّة تقدّميّة أصلاً إلّا عندما تكون موجَّهةً ضدّ الحكّام المستبدّين وهادفةً لإقامة حكمٍ حُرّ.

وظهر خلال فترة الثورة الفرنسيّة وما بعدها اتّجاهٌ أطلقوا عليه: «التفسير المحافظ _ التشاؤميّ»، أفرز مفكّرين من قبيل نيتشه، وهؤلاء عرّفوا الثورة أنّها انفجاراتٌ شبه بربريّةً خارجةً عن السيطرة وانفعالات جماهيريّة مدمّرة.

واشتهرت نظريّة الحقّ الطبيعيّ الّذي يُعدّ تجسيداً للمفهوم البرجوازيّ للثورة، ويعتقد أنصارها أنّ الثورة ضروريّةٌ لتوطيد الحرّيّة والإخاء والمساواة، وتؤكّد هذه النظريّة أنّ الأفعال الثوريّة نتاجٌ طبيعيٌّ لحقوقٍ طبيعيّةٍ معيّنةٍ للإنسان وبعض المبادئ الخالدة كالعدالة، وليس بسبب الحاجات المادّيّة.

ثمّ انقلب أصحاب هذه النظريّة فيما بعد، واعتبروا الثورات عارضاً غير طبيعيّ في المجتمعات، وقد تعرّضت هذه النظريّة للنقد الشديد من قِبل جماعة، منهم سان سيمون وكونت وكارل ماركس الّذي وصفها بأنّها ليست علميّة، وأكّد على الطابع الحتميّ للثورات الّتي تحدث نتيجة ضروراتٍ اقتصاديّة ((1)).

ص: 36


1- أُنظر: علم الثورة في النظريّة الماركسيّة ليوري كرازين: 90.

وذهب كلٌّ من بروديون وكروبوتكين وغيرهما من مفكّري المذهب الفوضويّ في تفسير الثورات، إلى أنّ الثورة تحاول تحقيق العدالةبواسطة القوّة، ولكنّ الحاصل فعليّاً إنّما هو أن يحلّ استبدادٌ محلّ آخَر، ومع ذلك فإنّ الثورة مهما تآكلت وتراجعت فإنّها تُدخل قدراً معيّناً من العدالة على المجتمع، ومن شأن هذه الإنجازات الجزئيّة المتناثرة أن تفضي إلى انتصار العدالة في النهاية ((1)).

وذهب تالكوت بارسونز إلى أنّ الثورة انحرافاً مَرَضيّاً يؤدّي إلى خلخلة التوازن في بناء السلطة ((2))، وقال أصحاب هذه النظرية أنّ النسق الاجتماعيّ يتعرّض لصعوباتٍ حينما لا تستطيع القيَم القائمة تفسير التغييرات في الجوانب البيئيّة المحيطة، فيتطلّب الأمر إلى قيَمٍ جديدةٍ تكون قادرةً على تفسير احتياج البيئة المحيطة، وهذا ما يتمّ عن طريق التطوّر والثورة ((3)).

ويرى روبرت مرتون أنّ الاختلالات الوظيفيّة يمكن أن تؤدّي إلى حالةٍ من عدم الاستقرار، وأنّ التمرّد هو استجابةٌ لهذه الحالة ((4)).

ص: 37


1- أُنظر: الموسوعة السياسيّة للكيالي: 871.
2- أُنظر: علم اجتماع الثورة وخصائص المجتمع الثوريّ، فوزيّة العطيّة، مجلّّة كلّية الآداب العراقية، العدد الرابع والعشرين، 1979: ص 456.
3- أُنظر: علم الاجتماع السياسيّ قضايا العنف السياسيّ والثورة لشعبان الطاهر الأسود: 46.
4- أُنظر: علم الثورة في النظريّة الماركسية ليوري كرازين: 41.

وهذه الاختلالات الوظيفيّة الّتي يتعرّض لها المجتمع توجب التعديل والتغيير، فإذا قاومَت السلطة هذا التغيير فإنّ التغييرات تكتسب طابعاً ثوريّاً، ويدعى هذا الاتّجاه ب-- «البنائيّة الوظيفيّة».

وقد واجه هذا المذهب انتقاداتٍ عديدة.

واشتهر التفسير المادّي للتاريخ القائم على أساس القول بأنّ التناقض هو سبب التطوّر، ويرى ماركس أنّ الصراع الطبقيّ هو الموضوعالأصليّ للتاريخ، ولا يمكن أن ينتهي إلّا بالثورة، وأنّ سير التاريخ يفسّره التناقض بين مكوّنات الجانب المادّي للمجتمع، وأنّ الصراع بين المصالح المختلفة والمتعارضة أحياناً داخل النسق السيسيولوجيّ ضرورةٌ لازمةٌ للتغيير الاجتماعي ((1)).

ويرى ماركس أنّ القوى الإنتاجيّة في المجتمع تدخل في مرحلةٍ من تطوّرها في صراعٍ مع علاقات الملكيّة ومع الإطار الاجتماعيّ والسياسيّ القائم، وعندما تصبح معوّقة للإنتاج تحدث أزمة، وتبدأ حُقبةٌ من الثورات الاجتماعيّة، ولا تستطيع الطبقات الحاكمة ولا تريد الطبقات المستغلّة أن تعيشا معاً في ظلّ الشروط القائمة، وهذا التناقض بين الطبقات هو الّذي يُفضي إلى ثورةٍ عنيفة ((2)).

وهذه النظريّة تركّز في تفسير الثورة على الحتميّة الثوريّة الناتجة عن

ص: 38


1- أُنظر: علم الاجتماع السياسيّ قضايا العنف السياسيّ والثورة لشعبان الطاهر الأسود: 81.
2- أُنظر: الموسوعة السياسيّة للكيالي: 871.

العامل الاقتصاديّ فقط، وتنفي بالمطلق أيّ سببٍ آخر.

وظهرت نظريّةٌ أطلقوا عليها اسم «نظريّة تعبئة الموارد»، قدّمها كلٌّ من زالد ومكارثي في صورتها التأليفيّة المقرّرة، وهي ترى أنّ التنظيمات الوسيطة هي عصب الفعل الجماعيّ، وأنّ التنظيمات هي السبب الأساس في ظهور التعبئات الاجتماعيّة الّتي تعيشها المجتمعات المعاصرة.

وتقول هذه النظريّة أنّ الفاعلين الجماعيّين أُناسٌ عقلانيّون ويتصرّفون انطلاقاً من حساباتٍ دقيقة.ويشبّه كلٌّ من زالد وماكرثي منظّمات الحركات الاجتماعيّة بمديري المؤسّسات، حيث يتصرّفون في عددٍ معيّن من الموارد، مثل العمل والموظّفين والتمويل وغيرها، فهم يعتمدون في اختيار استراتيجيّات حركتهم على مفهومَي الربح والخسارة.

وشكّكت نظريّة التعبئة في وجود علاقةٍ سببيّةٍ وثيقةٍ تربط بين التحوّلات الاقتصاديّة والاجتماعيّة وظهور الكبت والحرمان اللذان يؤدّيان إلى الفعل الجماعيّ، إذ يعتقد زالد وماكرثي أنّ التنظيمات هي الّتي تخلق الحاجات المطلبيّة والاعتراضات المعبّئة، ويقولان: الاعتراضات والاستياءات يمكن تحديدها وخلقها والتلاعب بها من قِبل المديرين (القادة) والتنظيمات، فالأزمة تُعدّ فرصةً ومورداً مهمّاً تستغلّه التنظيمات للحركات الاجتماعيّة ((1)).

ص: 39


1- أُنظر: مقال سيسيولوجيا الثورة لقادري سميّّة شنين محمّّد المهدي.

* * * * *

وقد قسّموا الثورات فيما بعد إلى ثورةٍ سلميّةٍ وثورةٍ دمويّة عنيفة، وثورةٍ اجتماعيّة، وثورةٍ سياسيّة، وهكذا ذكروا لها أقساماً، وركّزوا في دراساتهم على أسباب الثورات ونتائجها، ووسائلها، ومراحلها، ومسمّياتها، ونجاحها وفشلها..

ونحن لا نريد الخوض في ذلك، ونكتفي بهذا القدر المشوَّش من المعلومات الّتي قد ترسم صورةً لمعنى الثورة عند مَن درسها ونظّر لهاكظاهرةٍ اجتماعيّةٍ أو سياسيّة، ضمن إطار اهتمامات السيولوجيا في الثقافة الغربيّة.

وكما أشرنا سابقاً، فإنّك لا تكاد تعثر على تعريفٍ أو تعليلٍ أو تحليلٍ موحَّدٍ يُجمِع عليه المختصّون، وسيأتي بعد تعريف سماحة الشيخ محمّد مهدي شمس الدين (رحمة الله) وحشره مع سيّد الشهداء (علیه السلام) .

معنى الثورة في اللغة العربيّة

الثَّور: الهيجان. ثار الشي ء: هاج، ويُقال للغضبان أهيج ما يكون: قد ثار ثائره وفار فائره، إذا هاج غضبه.

والثور: الوثب، وقد ثار إليه، إذا وثب. وثار به الناس، أي: وثبوا عليه.

والثور: السطوع. وثار الغبار: سطع وظهر، وكذا الدخان، وغيرهما، وهو مجاز. والثور: نهوض القطا من مجاثمه.

وثار الجراد ثوراً، وانثار: ظهر.

ص: 40

والثور: ظهور الدم، يقال: ثار به الدم ثوراً.

وأثاره هو، وأثره، على القلب، وثوره، واستثاره غيره، كما يُستثار الأسد والصيد، أي: هيّجه.

والثور: الذكر من البقر، والثور: ذكر البقر يُقدَّم للشرب ليتبعه إناث البقر، قاله أبو منصور.والثور: السيّد.

والثور: ما علا الماء من الطحلب والعرمض والغلفق ونحوه.

والثور: البياض الّذي في أصل الظفر، ظفر الإنسان.

والثور: كلّ ما علا الماء من القماش، ويقال: ثورت كدورة الماء فثار.

والثور: المجنون، وفي بعض النسخ: الجنون، وهو الصواب، كأنّه لهيجانه.

ومن المجاز: الثور: حمرة الشفق النائرة فيه، وهو انتشار الشفق، وثورانه: حمرته ومعظمه، ويقال: قد ثار يثور ثوراً وثوراناً، إذا انتشر في الأُفق وارتفع.

والثور: الأحمق، يقال للرجل البليد الفهم: ما هو إلّا ثور.

وفي التهذيب: ثورة من رجال، وثورة من مال، للكثير. وقال ابن الأعرابيّ: ثورةٌ من رجال، وثروة، يعني: عدد كثير، وثروة من مال لا غير.

والثوارة: الخوران، وفي الحديث: «فرأيت الماء يثور من بين أصابعه»، أي: ينبع بقوّةٍ وشدّة.

والثائر من المجاز: ثار ثائره وفار فائره، يقال ذلك إذا هاج الغضب.

ص: 41

وثور الغضب: حدّته.

والثائر أيضاً: الغضبان.

وأثار الأرض : قلبها على الحبّ بعد ما فتحت مرّة، وقال الله (عزّ وجلّ): ﴿وَأثَارُوا الأَرْضَ﴾، أي: حرثوها وزرعوها، واستخرجوا منهابركاتها، وأنزال زرعها.

وثاوره مثاورةً وثواراً _ بالكسر _، عن اللحيانيّ: واثبه وساوره.

وثور الأمر تثويراً: بحثه.

وممّا يُستدرك عليه:

يقال: انتظرْ حتّى تسكن هذه الثورة، وهي الهيج.

وقال الأصمعيّ: رأيتُ فلاناً ثائر الرأس، أي: منتشر شعر الرأس قائمه، وفي آخر: «يقوم إلى أخيه ثائراً فريصته»، أي: منتفخ الفريصة قائمها غضباً، وهو مجاز، وأراد بالفريصة هنا عصب الرقبة وعروقها، لأنّها هي الّتي تثور عند الغضب.

ومن المجاز: ثارت نفسه: جشأت، أي: ارتفعت، وجاشت، أي: فارت.

ويقال: مررتُ بأرانب فأثرتُها.

ويقال: كيف الدبى؟ فيقال: ثائرٌ وناقر، فالثائر: ساعة ما يخرج من التراب، والناقر: حين ينقر من الأرض، أي: يثب.

وثور البرك واستثارها، أي: أزعجها وأنهضها.

ومن المجاز أيضاً: ثور عليهم الشرّ، إذا هيّجه وأظهره، وثارت بينهم

ص: 42

فتنةٌ وشرّ، وثار الدم في وجهه.

وأثرت البعير أثيره إثارة، فثار يثور، وتثوّر تثوّراً، إذا كان باركاً فبعثه فانبعث، وأثار التراب بقوائمه إثارة: بحثه.وفلان في ثُوار شرّ، كغراب، وهو الكثير.

والثائر: لقب جماعةٍ من العلويّين ((1)).

وقد ذهب البعض إلى أنّ تعريف الثورة في اللّغة العربيّة إنّما هو وصفٌ للتمرّد الفرديّ أو الجمعيّ الانفعاليّ اليائس، غير الحامل لأيّ مشروع مجتمعيّ ولا لأيّ أملٍ في مستقبل أفضل ((2)).

ومَن يدقّق في ما ذكره صاحب لسان العرب وتاج العروس وغيرهما في كتب اللغة، يجد أنّ ثمّة تلائمٌ وانسجامٌ مع بعض المعاني المذكورة للثورة في الثقافة الغربيّة، بالخصوص إذا تجاوزنا الاقتصار على حاقّ اللفظ كما يذكره اللغويّ، إذ أنّها تضمّنت معاني الهيج والغضب والوثوب والاستثارة والتحشيد والكثرة من الرجال والغليان والتحريض، وما شاكل..

بيد أنّها تبقى جميعها تتحّدث عن انفعالاتٍ غير مدروسةٍ وغير مخطّطٍ لها وغير هادفة، ولا تحمل المعنى الاصطلاحيّ الّذي حدّدَته لها الثقافة الغربيّة، بعد أن استخدمتها في هذه الظواهر السيسيولوجيّة.

ص: 43


1- أُنظر: تاج العروس: مادة ثور.
2- أُنظر: مقال معجم المفاهيم الضروريّة: مفهومم الثورة فلسفيّاً وتاريخيّاً للعفيف الأخضر، مجلّة إيلاف، صدرت من لندن في 21 مايو 2001 م.

ولا يبدو تعريف لفظ الثورة في اللغة العربيّة غريباً في المعاجم اللغويّة المتقدّمة، لأنّ اللغويّ إنّما يتتبّع موارد استعمال اللفظ فيسجّله ويستشهد له بالشواهد الّتي يعثر عليها ويتصيّدها في كلام العرب.

والثورة بالمعنى المصطلح لم تُستخدَم سابقاً في كلمات العرب ولاثقافتهم وأدبيّاتهم، وهذا ما سنسمعه بعد قليل، وفي هذا شاهدٌ قويٌّ يرقى إلى مستوى الدليل أنّ لفظ الثورة بالمعنى المصطلَح لفظٌ حادثٌ في الأدبيّات العربيّة، لا يرجع إلى تاريخ استعمال ما قبل الثورة الفرنسيّة، حيث اشتهر في العالم الغربي، وبعد حركة الاستشراق والغزو الثقافيّ المدمّر الذي بدأه المستعمرون والمستشرقون.

تعريف الشيخ شمس الدين (رحمة الله)

اشارة

قال الشيخ محمّد مهدي شمس الدين رحمه الله وحشره مع سيّد الشهداء (علیه السلام) في كتابه (ثورة الحسين (علیه السلام)):

الثورة الصحيحة: هي الاحتجاج النهائيّ الحاسم على الواقع المعاش، فبعد أن تخفق جميع الوسائل الأُخرى في تطوير الواقع تصبح الثورة قدَراً حتميّاً لابدّ منه.

وقال:

والقائمون بالثورة الصحيحة هم دائماً أصحّ أجزاء الأُمّة، هم الطليعة، هم النُّخبة الّتي لم يأسرها الواقع المعاش، وإنّما بقيَت في مستوى أعلى منه، وإن كانت تدركه وتعيه وترصده وتنفعل به وتتعذّب بسببه.

ص: 44

تصبح الثورة قدر هذه النخبة ومصيرها المحتوم، حيث تخفق جميعُ وسائل الإصلاح الأُخرى، وإلّا فإنّ هذه النخبة تفقدمبرّرات وجودها إذا لم تثر، ولا يمكن أن يقال عنها أنّها نخبة، إنّها تكون نخبة حين يكون لها دورٌ تاريخيّ، وحين تقوم بهذا الدور.

ولابدّ أن تبشّر بأخلاقٍ جديدةٍ إذا حدثت في مجتمعٍ ليس له تراثٌ دينيّ وإنسانيّ يضمن لأفراده _ لو اتُّبع _ حياةً إنسانيّةً متكاملة، أو تُحيي المبادئ والقيَم الّتي هجرها المجتمع، أو حرّفها إذا كان للمجتمع مثل هذا التراث، كما هو الحال في المجتمع الإسلاميّ الّذي كانت سياسة الأمويّين المجافية للإسلام تحمله على هجر القيم الإسلاميّة واستلهام الأخلاق الجاهليّة في الحياة، وتوفُّر هذا الهدف في الثورة الصحيحة من جملة مقوّمات وجودها، لأنّ العلاقات الإنسانيّة في الواقع علاقاتٌ منحطّةٌ وفاسدة، وموقف الإنسان من الحياة موقفٌ متخاذل، أو موسومٌ بالانحطاط والانهيار، ولذلك انتهى الواقع إلى حدٍّ من السوء بحيث غدت الثورة علاجه الوحيد ((1)).

* * * * *

حاولنا الابتعاد عن مناقشة ما ذكرناه من تعاريف للثورة فيما سبق،

ص: 45


1- أُنظر: ثورة الحسين (علیه السلام) لمحمّد مهدي شمس الدين: 21.

باعتبار أنّنا لا ننوي الخوض في هذا الموضوع، وإنّما أردنا تقديم صورةٍ مجمَلةٍ عن الأُسس الّتي رسمَت الآفاق في الثقافة المعاصرةوالمباني الّتي قامت على أساسها الدراسات بعد عصر الاستشراق، ونكتفي هنا بالوقوف بكلّ خضوع وأدب بين يدي سماحة الشيخ شمس الدين (رحمة الله) ، باعتباره سجّل تعريفاً للثورة ككاتبٍ ومفكّرٍ إسلاميٍّ ملتزم، فيمكن أن يُناقش على أساس البديهيّات الدينيّة والضرورات الاعتقاديّة والنصوص الشرعيّة، ولا نريد الإطالة ونقتصر على وقفات عجلى.

الوقفة الأولى: الاحتجاج

اِحتجّ: احتجّ احتجاجاً (فعل).

احتجّ عليه: عارضه مستنكِراً فعْلَه.

احتجّ عليه: أقام الحُجّة.

احتجّ بالشيء: اتّخذه حُجّة.

احتجّ المكان المقدّس: حجّه، قصده.

احتجّ: (فعل: خماسي لازم متعدٍّ بحرف). اِحْتَجَجْتُ، أَحْتَجُّ، اِحْتَجَّ، مصدر احْتِجَاجٌ.

اِحْتَجَّ بكلامِهِ:اِتَّخَذَهُ حُجَّة.

ظلَّ الْمُتّهَمُ يَحْتَجُّ بِحُجَجهِ على بَراءتِه: يُقَدِّمُ حُجَجاً.

اِحْتَجَّ العُمَّالُ عَلى سُوءِ الْمُعَامَلَةِ وَنَقْصِ الأُجُورِ: رَفَعُوا احْتِجَاجاً مُسْتَنْكِرِينَ سُوءَ الْمُعَامَلَة.

ص: 46

احتجَّ البَيْتَ الحَرامَ: حَجَّهُ، قَصَدَهُ ((1)).

وعرّفوا الاحتجاج أيضاً في الاستعمالات الحديثة:

هو طريقةٌ للتعبير عن رأي جماعةٍ أو حزبٍ سياسيٍّ أو شخص، ويكون عادةً في منطقةٍ ذاتِ شُهرةٍ واسعة، لتوصيل الصوت إلى أغلب شرائح المجتمع ((2)).

يبدو من تعريف الاحتجاج أنّه المقارعة والمخاصمة بالدليل والبرهان، وربّما أفاد بوضوحٍ أكثر في الاستعمالات الحديثة معنى الاستنكار.

فهو لا يفيد معنى الحرب والقتال، وإذا ما أدّى الاحتجاج الى صِدامٍ مسلّحٍ وقتالٍ يخرج عن كونه احتجاجاً حينئذ!

الوقفة الثانية: النهائيّ الحاسم

يبدو أنّ الشيخ (رحمة الله) عرّف بنفسه المراد من النهائيّ الحاسم، فقال:

فبعد أن تُخفِق جميع الوسائل الأُخرى في تطوير الواقع، تصبح الثورة قدَراً حتميّاً لابدّ منه.

فهو _ على ما يبدو من كلامه _ عبّر بقوله: «بعد أن تُخفِق جميع الوسائل الأُخرى في تطوير الواقع» عن المراد بالنهائيّ، وبقوله: «تصبح الثورة قدَراً حتميّاً لابدّ منه» بالحاسم.

ص: 47


1- أُنظر: معجم المعاني: مادّة احتجاج.
2- أُنظر: الاحتجاجات وأشكالها / بوّابة الأهرام.

وبهذا كرّس الشيخ (رحمة الله) توظيف جميع الوسائل واستخدامها منأجل تغيير الواقع قبل الانطلاق بالثورة كشرطٍ مسبَق، أي: أنّ الثورة لا تكون حتماً ما دامت الوسائل الأُخرى غيرها غير مستخدمة.

فالثورة هي العلاج الأخير والنهائيّ بعد أن تتقطّع بقيّة السبل وتعجز الوسائل، باعتبارها ستحسم الموقف وتحقّق المطلوب.

ويمكن إن يُلاحظ على هذا التصوير، فيقال:

لقد بدأ تعريف (الثورة) بأنّها احتجاج، والاحتجاج لا يعدو كونه مقارعة الحُجّة بالحجّة أو المناضلة بالدليل والبرهان، وفي التعريف الحديث هي الاستنكار، والاستنكار هو إعلان الرفض والشجب ليس إلّا.

ولا يمكن توظيف أيّ وسيلةٍ من وسائل السعي لتغيير الواقع قبل استنكار ذلك الواقع ورفضه وشجبه.

فستكون الثورة وفق أوّل التعريف هي الخطوة الأُولى والوسيلة الأُولى، وهي في آخر التعريف الوسيلة الأخيرة الضروريّة الّتي تأتي بحكم الحتميّة كنتيجةٍ لعجز الوسائل السابقة.

ويمكن أن يكون مراد الشيخ (رحمة الله) من النهائيّ الحاسم أنّه الموقف الحاسم الّذي يُنهي المعاناة ويُغيّر الواقع، لولا أنّه فسّر بنفسه مراده فأغلق الباب أمام التظنّي والاحتمالات.

الوقفة الثالثة: الحاسم

حَسَمَ: (فعل)، حسم الشيء: قطعه (حسم بينهما الخلاف).

ص: 48

حسم الداء: أزاله بالدواء.

حسم العِرق: قطعه، ثمّ كواه لئلّا يسيل دمُه.

حسم عليه الشيء: منعه إيّاه.

حسمَت الأُمُّ طفلَها: منعَتْه الرضاع.

حسم القوم: أفناهم.

حَسَمَ: (فعلٌ ثلاثيٌّ متعدٍّ بحرف). حَسَمْتُ، أحْسِمُ، اِحْسِمْ، مصدر حَسْمٌ.

حَسَمَ العِرْقَ: قَطَعَهُ وَكَوَاهُ.

حَسَمَ الدَّاءَ: أزَالَهُ بِالدَّواءِ، حَسَمَ الطَّبِيبُ دَاءَ الْمَرِيضِ إذْ وَجَدَ الدَّوَاءَ الْمُلائِمَ.

حَسَمَ الأمْرَ مَعَهُ: أنْهَاهُ بِصِفَةٍ جِذْرِيَّةٍ، حَسَمَ أُمُورَهُ: حَسَمَ الخِلاَفَ بَيْنَهُمَا.

حَسَمَ الدَّيْنَ: أَسْقَطَ جُزْءاً مِنْهُ.

حَسَمَ عَنْهُ الأَمْرَ: أبْعَدَهُ لِيَسْتَرِيحَ مِنْهُ.

حَسَمَ عَلَيْهِ الخُرُوجَ: مَنَعَهُ إيَّاهُ.

والحاسِمُ: يقال: رأيٌ حاسم: قاطعٌ للجدل.

حاسم: (اسم). قاطع، بات، نافذ، صارم: (قرارٌ حاسم).

حاسِم: جمع: _ ون _ ات، (فاعلٌ مِنْ حَسَمَ).

أَصْدَرَ قَراراً حاسِماً: فاصِلاً.

خاضَ الجُنودُ مَعْرَكَتَهُمُ الحاسِمَةَ: النِّهائِيَّةَ، الفاصِلَةَ.

ص: 49

أَمْرُهُ حاسِمٌ: قاطِعٌ ((1)).

فالحسم هو القطع والبتّ والفصل والإنهاء، فالثورة ستكون هي الاحتجاج الّذي يبتّ في الوضع القائم ويفصله وينهيه ويقطعه ويمنعه، فإذا لم يتحقّق ذلك لا يصدق عليها التعريف، فالثورة إنّما تكون ثورةً حينما تكون فاصلةً بين عهدين، ومقوِّضةً للوضع القائم، فإذا فشلَت في تحقيق ذلك فلا يُطلَق عليها ثورة، وربّما أُطلق عليها تمرّدٌ أو انتفاضةٌ أو تململ، أو أيّ عنوان آخر سوى الثورة.

والحسم في الاحتجاج بالمعنى الرائج يعني مقارعة الحجّة بالحجّة، وبالتالي تعني الثورة غلَبة الحجّة الثائرة على الحجّة القائمة وحسمها وقطعها واستئصالها وإبادتها والقضاء عليها وإقامة الحجّة الثائرة مقامها، سواءً كان الحسم عسكريّاً، أو كان الحسم معنويّاً بمعنى استبدال القيَم والمُثل من خلال إبادة القيم الحاكمة وإقامة قيمٍ جديدة..

فإذا استمرّ الوضع القائم ما قبل الثورة ولم يتغيّر، وانتهى الحسم العسكريّ لصالح النظام الحاكم، فلا يصدق على التحرّك قبل أن يُسحَق عنوان الثورة، لأنّ الثورة لابدّ أن تُحدِث تغييراً حاسماً، أمّا إذا عجزَت عن ذلك لأيّ سببٍ كان فلا تُسمّى ثورة.

هذا هو حاصل التعريف الّذي نحن بصدد مناقشته، وغيرِه من التعاريف التي مرّ ذكرها.

ص: 50


1- أُنظر: معجم المعاني.

وربّما كان هذا التصوّر من وراء الحكم على حركة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) في الكوفة بالفشل وتكرار تعبيرهم عنها ب- «فشل الثورة»، إذ أنّ حركته لم تُحقّق التغيير الحاسم المطلوب، سواءً كان عسكريّاً أو أخلاقيّاً وفكريّاً وعقائديّاً وغيرها من القيَم، بل تمّ الحسم لصالح العدوّ على كلّ صعيدٍ ملحوظ، وبقيَ العدوّ قويّاً عسكريّاً، وقد انصاع له المجتمع طوعاً أو كرهاً، وبقيت قيَمُه هي الحاكمة، ومن هنا حكموا على حركته الّتي افترضوها «ثورة» بالفشل، والحال أنّه لم يكن يستهدف ذلك في حركته، ولم يفكّر به، ولم يخطّط له، ولم يكُ سوى سفيرٍ أدّى تكاليف السفارة بحذافيرها تماماً كما جاء في نصّ المرسوم الّذي وجّهه به سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى محلّ إنجاز مهمّته، وقد أتينا على تفصيل ذلك في الجزء الأوّل من وقائع السفارة تحت عنوان: مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ثائرٌ أم سفير؟

الوقفة الرابعة: حتميّة الثورة

ربما اقتضت هذه الملاحظة الوقوف طويلاً، بيد أنّنا لا نفعل ذلك؛ لأنّنا إنّما نذكرها هنا كمقدّمةٍ عجلى للدخول في أصل الموضوع، وللبحث المفصّل موضعٌ آخر سنأتي عليه في محلّه إن شاء الله تعالى.

وسنوجز الإشارة إلى الموضوع، فنقول:

يبدو أنّ الحتميّة الّتي يقصدونها إنّما هي نتيجة التفاعلات الاجتماعيّة والحركة السسيولوجيّة الّتي تحكم المجتمع، فتولّد إفرازاتٍ كنتائججزميّةٍ حتميّةٍ للصراع الاجتماعيّ، واختلفوا في تفسير عوامل

ص: 51

الصراع، لكنّهم اتّفقوا أنّه حاصلٌ بسبب التناقضات والصراعات المتولّدة في المجتمع.

وهذه الحتميّة الّتي أقرّتها المذاهب والإيدلوجيّات الوضعيّة الأرضيّة الّتي تدرس المجتمع بالمناظير الأرضيّة، سواءً كانت غربيّةً أو شرقيّة، كالحتميّة الّتي نادت بها المدرسة الماركسيّة، كلّها مبتنيةٌ على التخمين والدراسات المحصورة في ملاحظة الحركة الاجتماعيّة.

ولا يبدو أنّها تتحدّث عن سُنن إلهيّةٍ ثابتةٍ حاكمةٍ في المسيرة البشريّة، لا تقبل التحويل والتبديل والتغيير.

فهي تبقى على مستوى الملاحظة والاستقراء لحالةٍ أو حالاتٍ حاصلةٍ سابقاً، فتدرس الثورات وتحاول التحليل والتعليل واستكشاف العوامل والعلل المشتركة، وتعميمها على الحركات الحاضرة أو المستقبلة.

وبالتالي، فإنّها تفترض مقدّماتٍ هي ليست حتميّة، وإنّما متغيّرة وفق الواقع تحت حكم الزمان والمكان والشخصيّة والخصائص الاجتماعيّة والفرديّة والظروف السياسيّة، وغيرها من المؤثّرات المتغيّرة، ثمّ تفترض لها نتائج حاصلة من تلك المقدّمات بالضرورة، والحال أنّ المقدّمات نفسها ليست حتميّة ولا جزم بصحّتها ومقدّميّتها، ولا النتائج حتميّة بحكم تغيّر المقدّمات وعدم حتميّتها والجزم بها.

أمّا في البُعد الدينيّ فالبحث طويل، ويمكن اختزاله في كلمات:إنّ الحركة التغييريّة الدينيّة المنطلِقة من الأمر الإلهيّ، والتزام العمل بالتكليف الشرعيّ، وتحقيق الغرض والمراد الدينيّ، والسعي من أجل

ص: 52

تحقيق الهدف الربّانيّ، لا تحكمه الحتميّات الأرضيّة، ولا تفسّره وتعلّله النظريّة الوضعيّة، ولا ترقى إلى تحديد التكليف والمقدّمات والنتائج فيه نزعات النفس البشريّة..

فالنبيّ والوصيّ لا ينطلق في حركته التغييريّة نتيجة الانحلال الأخلاقيّ وما يبتلي به المجتمع من حالاتٍ وظروف، ويصل إليه الإنسان من انحدارٍ وانحطاطٍ أو رُقيٍّ وتطوّر، وطالما مرّت على المسيرة البشريّة فتراتٌ مظلمةٌ انغمَس فيها البشر في أعماق الضلال والانحطاط والتخلّف والوحشيّة، وربّما طالت بهم النكسة مئات السنين، كالفترات الّتي وقعَت بين النبوّات، من قبيل الفترة بين نبوّة عيسى ونبوّة النبيّ الخاتم (صلی الله علیه و آله) ، وهكذا الأمر لو تابعنا مسيرة التاريخ البشريّ منذ هبوط آدم إلى يوم الناس هذا.

أجل! يمكن أن يقال: إنّ المحرّك الأوّل والباعث الأصليّ لحركة النبوّات والوصايات الإلهيّة تنحصر في التكليف السماويّ الّذي يبعث في الناس الرسل، ويخلّف فيهم الأوصياء بعد الأنبياء، والنبيّ والوصيّ إنّما يتحرّك حينما يأمره الله، ويكمن ويلبد إذا أمره الله بذلك، فقد عاش نبيّنا محمّد (صلی الله علیه و آله) _ وهو أكمل البشر وسيّد الكائنات وأشرف الخلق _ أربعين عاماً من عُمره الشريف، يرى ما يرى ويلحظ الانحطاطوالتخلّف ووأْد البنات والأخلاقَ الذميمة الّتي غمست المجتمع البشريّ في حضيض الانتكاس والوحشيّة القاسية والانغماس في أوحال اللذّات الهابطة والاستغلال والجهل والضلال والحَيرة والتَّيه في مستنقع

ص: 53

الرذيلة والتعيّش على الغارة والسلب والنهب والسبي، وغيرها ممّا ورد في التاريخ والنصوص الدينيّة كوصفٍ وتقييمٍ لفترات طويلة سبقت البعثة المباركة، فقد عاشها النبيّ (صلی الله علیه و آله) ورآها بعينه، وتأذّى منها، وهو كمال الكمال البشريّ، ولم يتحرّك حركةً اجتماعيّةً إلّا حينما بعثه الله بالنبوّة، ثمّ أمره أن يصدع بما يُؤمَر بعد فترةٍ من بعثته.

وهنا تتهاوى النظريّات الوضعيّة الّتي تفترض حتميّة الثورة نتيجةً للتفاعلات والأواصر الحاكمة في الحركة الاجتماعيّة، إذ أنّ الحتميّة الدينيّة تقتضيها الأوامر الإلهيّة لا الظروف الاجتماعيّة، والأوامر الإلهيّة قائمةٌ على الحِكمة الإلهيّة لا على الحركة البشريّة، لأنّ الحركة البشريّة لا تكون إلّا ضمن الإرادة الربّانيّة المرسومة لحركة البشر منذ نبوّة آدم (علیه السلام) إلى هيمنة الوليّ الخاتم (علیه السلام) على الكون، وما يليه من حركةٍ تفضي إلى نهاية الدنيا وبداية الآخرة.

والّذي يبدو واضحاً من تعريف الشيخ _ رحمه الله وحشره مع الحسين (علیه السلام) _ كما هو دأب غيره من الكتّاب والمفكّرين أنّ مقصودهم من الحتميّة إنّما هي الحتميّة الأرضيّة المقصودة في النظريات الوضعيّة، إذ أنّ الحتميّة الدينيّة _ إن وُجِدَت _ فهي حتميّةٌ قائمةٌ على الأمروالتكليف الإلهيّ والمصالح والمفاسد، الّتي تتكشّف من الحكمة الربّانيّة والسلوك النبويّ، فربّما ابتلى الله قوماً بالسقوط، وسلّط عليهم طاغياً، عقوبةً لهم أو ابتلاءاً، أو خيّم عليهم بظرفٍ شديدٍ ليفتنهم ويمحّصهم ويرفعهم ويهيّأ أجيالهم لما هو أرقى، وهكذا..

ص: 54

فربّما كانت الحكمة الإلهيّة تقتضي أن يصمت الأحرار ويلبدوا، ويكونوا أحلاس بيوتهم، ولا يعدو حالهم أن يكونوا نَوَمة، وغيرها من المصطلحات الواردة في الأحاديث الشريفة، تماماً كما فعل النبيّ (صلی الله علیه و آله) في الفترة الّتي سبقَت أمره بأن يصدع بالأمر، وفي الفترة الّتي جلس فيها أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين وخليفة رسول ربّ العالمين عليّ بن أبي طالب (علیهما السلام) في داره وأغلق عليه بابه خلال سنوات النكبة، وصبره على خمسٍ وعشرين سنة من سنين المحنة العجاف، وكذا صبر الإمام المجتبى ودفع الحكم الظاهريّ إلى الطاغوت المتسلّط الجبّار العنيد المتهوّر معاوية، وكذا فعل الأئمّة المعصومون من عليّ بن الحسين السجّاد إلى صاحب الأمر (علیهم السلام) ، وقد كانت أُمور المجتمع بعد سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى سفال، وكانت كلّ حتميّات التاريخ المفروض حاكمة، بيد أنّ الإمام السجّاد (علیه السلام) الذي أنضج نحور القوم بكلامه، ومَن تلاه من أولاده المعصومين (علیهم السلام) قد اختاروا ترك التحرّك، فأبطلوا مفعول الحتميّة تحت طائلة الأمر الإلهيّ والتزام التكليف الشرعيّ وتنفيذ الإرادة السماويّة والعمل بالحكمة الربّانيّة.والظاهر أنّ السنن الإلهيّة الّتي تقوم عليها المجتمعات _ بل وحركة الأفراد _ هي شيءٌ غير الحتميّة الّتي أرسوا عليها قواعد الثورات.

الوقفة الخامسة: الأكثريّة المأسورة بالواقع

يبدو من التعريف المذكور أنّ الثورة إنّما هي من فعل النخب الّتي لم يأسرها الواقع، أمّا الأكثريّة العامّة فإنّها سيأسرها الواقع المعاش، فهي

ص: 55

تعيشه راضيةً به، قد اعتادته واستسلمت له أو اقتنعت به، ولا ترى فيه ما يلزم التغيير.

فربما استطاعت النخب أن تُقنِع الأكثريّة بما هي فيه من واقعٍ متدنٍّ وحياةٍ تعيسة، أو أنّ النخب إذا ثارت وحقّقت الأهداف ستقدّم البديل للأكثريّة فتُقنعها بالوضع الجديد، أو أيّ فرضٍ آخر.

المهمّ! أنّ الثورة في هذا التعريف من فعل النخب ليس إلّا، فستكون أشبه _ نقول: أشبه! _ ما تكون بالانقلاب، وليس للأكثريّة وجماهير الناس فيها دخل، وهو خلاف التعريفات المذكورة في المقام، حيث تفترض جميعاً أن يكون الشعب والأكثريّة ركناً مهمّاً من أركان الثورة.

ولا يبعد أن يكون الشيخ (رحمة الله) إنّما افترض الثورة من فعل «النخب»؛ ليتخلّص من الإشكال المقدَّر، إذ أنّ «ثورة الإمام الحسين (علیه السلام) » لم يكن فيها للأكثريّة أيّ دورٍ إيجابيٍّ يُذكر، بل كانت الأكثريّة ضدّه وعليه، وخرجَت لقتاله لصالح الحكم القائم والنظام الحاكم في السلطةوالمجتمع، بل لم ينضمّ إليها نخب الأُمّة جميعاً.

وبالرغم من نسبة الثورة للنخب في المجتمع وتجاهل الأكثريّة، فإنّ هذا التعريف ربّما يبقى قاصراً عن استيعاب النخب أيضاً، فلا يمكن تطبيقه على «ثورة الحسين (علیه السلام) »، إذ أنّ النخب الّتي شاركت في «الثورة» كانت نخباً من نوعٍ خاصّ، ولونٍ خاصّ، ومستوىً خاصٍّ من البشر ومن الأُمّة، أمّا «النخب» الّتي يمكن أن تشمل الكثير الكثير من وجوه الأُمّة ورجالاها وشخصيّاتها، من قبيل: «ابن عباس، ابن عمر،

ص: 56

ابن الحنفيّة»، وعشرات عشرات النخب الأُخرى من الصحابة والتابعين والقرّاء والعلماء والفقهاء، وغيرهم ممّن كان يستشعر السقم والظلم والانتكاس المستشري في الأُمّة ويعاني منها ويتضوّر ويُعلن ذلك، لم ينضمّ إلى «الثورة»، وحينئذٍ ينبغي أن نجعل الثورة من فعل «نخب النخب» والنمط الخاصّ من البشر الّذين يعيشون في الأُمّة، وغيرها من التعاريف، كلّ ذلك على فرض التعريف المذكور.

الوقفة السادسة: الثورة قدر النخبة الصحيحة

بناءاً على ما ذكره من حتميّة الثورة أصبحت الثورة:

قدر هذه النخبة ومصيرها المحتوم، حيث تخفق جميعُ وسائل الإصلاح الأُخرى، وإلّا فإنّ هذه النخبة تفقد مبرّرات وجودها إذا لم تثُر، ولا يمكن أن يقال عنها أنّها نُخبة، إنّها تكون نخبةً حين يكون لها دورٌ تاريخيّ، وحين تقوم بهذا الدور.وقد ناقشنا حتميّة الثورة، وتبيّن لنا أنّ الحتميّة في الفكر والعقيدة الدينيّة شيءٌ غير الحتميّة الّتي يذكرها المفكّرون الغربيّون، إذ أنّ الحتميّة عند الغربيّين هي عبارةٌ عن ترتّب مقدّماتٍ ضروريّة في مجتمعٍ ما تُنتج الثورة لا محالة، فالحتميّة ناشئةٌ من التفاعلات الاجتماعيّة والسياقات السسيولوجيّة، أمّا الحتميّة في الشريعة الدينيّة إنّما تنشئ من الأوامر الإلهيّة، فإن كان الأمر الإلهيّ يستدعي الثورة ثار المؤمن، وإن كان الأمر الإلهيّ يقتضي الصمت والصبر والتحمّل كمُنَ المؤمن ولبد امتثالاً لأمر الله.

ص: 57

فكيف يمكن أن تكون الثورة قدر النخبة ومصيرها المحتوم، وهي إن لم تثر فقدت مبرّرات وجودها وانسلخ عنها اسم «النخبة»، ولا تكون نخبة إلّا حين يكون لها دورٌ تاريخيٌّ فتقوم به؟ وهل ينحصر الدور التاريخيّ بالثورة؟

أجل، ربّما كان هذا التعريف صادقاً على النخب على الإطلاق في أيّ مجتمع أو أيّ أُمّة، بغضّ النظر عن التزامها الدينيّ وعلى الأخصّ التزامها الإسلاميّ، وأخصّ من ذلك التزامها وفق العقيدة الإماميّة الحقّة، ففي أيّ مجتمعٍ يعيش الوضع السيّء الذي تعيشه النخب وتتضوّر وتتأذّى منه وتفكّر في الأُمّة، فإنّها قد تتحرّك لإنقاذ بني البشر الّذين يعيشون تلك الظروف بدوافع شتّى لا نريد الدخول فيها، بل حتّى لو سلّمنا جدلاً، فإنّهم سيتحرّكون بمقتضى الحتميّة _ ونحن لا نعتقد بذلك _،أمّا تحرّك الإنسان تحت مظلّة الأمر الإلهيّ والتكليف الشرعيّ، فإنّ دوره التاريخيّ سينحصر فيما أطاع أو عصى، فإن أطاع الربّ والإمام فقد أدّى دوره التاريخيّ، وإذا عصى فقد انحسر وانكسر وتخلّف وتقاعس وتقاعد، بغضّ النظر عن الوضع الاجتماعيّ، فالمؤمن يتحرّك وفق الأوامر المعصومة، لا وفق التشخيصات الشخصيّة أو الذاتيّة أو الذوقيّة أو الاستنتاجات والفهوم ومجارات الظروف وتحيّن الفرص، فإذا ورد الأمر الشرعيّ بالقيام والثورة ثار المؤمن، سواءً كانت له مبرّراتٌ ظاهريّة ملحوظة للجميع أو لم تكن، وسواءً كانت الظروف مواتيةً أو كانت معاكسة، وسواءً كانت النخب معه أو ضدّه، وسواءً

ص: 58

استجابت له الأكثريّة أو خالفَته، فالحتميّة في سلوكيّات المجتمع والفرد المؤمن تنبع من الكتاب والسنّة وسيرة المعصوم، لا من التفاعلات والتناقضات الاجتماعيّة!

ثمّ إنّ المؤمن يستمدّ مبرّرات وجوده من التزامه المنهج الحقّ، ولا يضرّه وحشة الطريق وإن قلّ سالكوه، ويستمدّ مبرّرات وجوده من التزامه بالتكليف الشرعيّ والطاعة لربّ الأرباب..

فقد كان وجود الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وسيّد الخلق بعد النبيّ الأمين لا يحتاج إلى مبرّر من نوع المبرّرات المذكورة، وقد صبر وتجنّب الثورة امتثالاً لأمر الله وطاعةً لرسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ولم يفقد مبرّر وجوده، وكذا لم يفقد الإمام الحسن (علیه السلام) ومَن معه من المؤمنين الصابرينالمسلّمين له مبرّر وجودهم، ولم يفقد الإمام زين العابدين (علیه السلام) ومن معه من الشيعة الأبرار _ وهم نخب البشريّة جمعاء _ مبرّر وجودهم، وقد أعلنت له فئةٌ استعدادها لنصره بعد أن خطب فيهم وأنضج نحورهم وزلزل الوضع في الكوفة المنكوبة يومها.. ولم يفقد الإمام الباقر والإمام الصادق (علیهما السلام) ، وهلمّ جرّاً إلى الإمام الصاحب (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ، وجميع من عاصرهم ووازرهم ولازمهم وامتثل أمرهم مبرّرات وجودهم، رغم أنّهم عاشوا واقعاً قد لا يكون واقعٌ أسوء منه ولا أدنى، وعاصروا فترةً كانت الأُمّة ترزح فيها في حضيضٍ موبوءٍ وانكسارٍ وانتكاسٍ وارتكاسٍ بلغ به القاع ودمار القيَم والمُثل وانقلاب الموازين، حتّى صار المنكر معروفاً والمعروف منكراً، وهم مع ذلك صبروا ولبدوا، وأمروا أنصارهم وشيعتهم بالصبر، وأكّدوا لهم في

ص: 59

أحاديث كثيرةٍ متظافرةٍ مستفيضةٍ أنّ أيّ حركةٍ في المجتمع يمكن أن تحرّك الراكد الاجتماعيّ وتجلب النظر وتطفوا بالنخب إلى السطح وتكشفهم على الملأ ممنوعة ألبتّة، وأبوا لشيعتهم أن يكونوا رقماً _ ولو بسيطاً _ على مستوى التأييد القلبيّ لحركاتٍ ضخمةٍ وثوراتٍ عارمةٍ ضدّ الوضع القائم، سواءً على المستوى الاجتماعيّ أو مستوى السلطة والحكّام.

فهل فقد جميع الأئمّة (علیهم السلام) والنخب البشريّة الراقية السامية السامقة الّتي أحاطت بهم مبرّراتِ وجودهم؟!يبدو أنّ المداومة والإطالة في هذه الوقفة قد لا تكون مطلوبةً بأكثر من هذا المختصر المضغوط، وإن كان المفروض أن يُدعَم بالأحاديث والأدلّة الكافية الوافية المتوفّرة بكثرة.

ويجمع كلّ ما سبق كلمةٌ واحدة: إنّ النخبة المؤمنة تتحرّك وِفق التكليف الشرعيّ، وتستمدّ وجودها من الامتثال للتكليف الإلهيّ، وتطمئنّ إلى نجاحها حينما تكون قد توفّرت على الطاعة لله ولرسوله وللأئمّة المنصوبين من الله تعالى، سواءً كان ذلك في الثورة أو في الصبر والصمت والسكوت، والمهمّ إنّما هو الطاعة والطاعة فقط! ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذينَ قيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَريقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَريبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَليلٌ وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَ لا تُظْلَمُونَ فَتيلاً﴾.

ص: 60

الوقفة السابعة: الأخلاق الجديدة من مقوّمات وجود الثورة

ولابدّ أن تبشّر بأخلاقٍ جديدةٍ إذا حدثَت في مجتمعٍ ليس له تراثٌ دينيٌّ وإنسانيٌّ يضمن لأفراده _ لو اتُّبع _ حياةً إنسانيّةً متكاملة، أو تُحيي المبادئ والقيَم الّتي هجرها المجتمع، أو حرّفها إذا كان للمجتمع مثل هذا التراث، كما هو الحال في المجتمع الإسلاميّ الّذي كانت سياسة الأمويّين المُجافيةللإسلام تحمله على هجر القيَم الإسلاميّة واستلهام الأخلاق الجاهليّة في الحياة، وتوفّر هذا الهدف في الثورة الصحيحة من جملة مقوّمات وجودها، لأنّ العلاقات الإنسانيّة في الواقع علاقاتٌ منحطّةٌ وفاسدة، وموقف الإنسان من الحياة موقفٌ متخاذل، أو موسومٌ بالانحطاط والانهيار، ولذلك انتهى الواقع إلى حدٍّ من السوء بحيث غدت الثورة علاجه الوحيد.

من هنا تكون الأخلاق الجديدة الّتي تضمن لأفراد المجتمع الحياة الإنسانيّة المتكاملة، سواءً كانت أخلاقاً جديدةً أو كانت عبارةً عن إحياءٍ للمبادئ والقيَم المهجورة في المجتمع بعد أن نالها التحريف، من قبيل الأخلاق الإسلاميّة الّتي هجرها المجتمع، والتبشير بهذه الأخلاق الجديدة والعمل على تطبيقها وترسيخها في المجتمع من أهداف الثورة الصحيحة، وهي في نفس الوقت من مقوّمات وجودها، فإذا جمعنا هذا الهدف والمقوّم الأساسيّ إلى «النهائيّة والحسم» وغيرها ممّا ذكرناه في الوقفة الثانية والثالثة، يلزم أن تكون «الثورة» ثورةً إذا حقّقت هذا

ص: 61

التغيير، فإن لم تحقّقه ولم تصل إلى الهدف المنشود فقدَت مقوّماً من مقوّماتها، فلا تصلح لنيل درجة النجاح، لأنّها لم تحقّق هدفاً مهمّاً، بل لم تحقّق الهدف الرئيس والأساس والغرض المنشود منها، وهو تحكيم الأخلاق الجديدة أو بعث الأخلاق والمُثل والقيَم المندثرة، فهي إن توفّرت على ذلك واستطاعت أن تُعيد المياه إلى مجاريها _ كما فيمثال المجتمع الإسلاميّ _، بحيث أرجعَت الأُمّة والمجتمع إلى سابق عهده، وجعلَته يرفل في نعيم الأخلاق الحميدة ويستعيد القيَم ويُرجعها من حال الانقلاب والانتكاس إلى الحال السويّ والعدل والصحّة، وإلّا فلا يمكن أن تسجّل نجاحاً.

ولو فُرض أنّها استطاعت أن ترسو على مجتمع النخب وتقنعهم من دون القدرة على تغيير الواقع المعاش وسَوق المجتمع إلى الهدف المنشود، فإنّها سوف لا تكون قد حقّقت غرضاً ولا أصابت هدفاً، إذ أنّ النخب هي الّتي اكتوَت بنار الواقع المرير المريض وتلوّعَت به وتأذّت منه وعرفته، فلا حاجة إلى «ثورة» حتّى تصل إلى هذه النتيجة، و«الثورة» إنّما كانت قدَراً دفعت به الحتميّة لتغيير الواقع المعاش لا واقع النخب.

فإذا وضعت الثورة أوزارها، وكانت الأكثريّة والواقع المعاش على ما كان عليه قبل الثورة، فهذا يعني أنّ ما حصل ليس بثورة، وفق ما تبيّن لنا في الوقفة الثانية والثالثة، ولو أُطلِق عليها «الثورة» فهي محكومة بالفشل، إذ أنّها لم تنل من الواقع شيئاً ولم تُغيّر فيه.

ص: 62

الوقفة الثامنة: كلمةٌ موجَزة

نحسب أنّ الوقوف عند ما ذكروه من تعاريف للثورة عموماً وما ذكره الشيخ محمّد مهدي شمس الدين _ رحمه الله وحشره مع سيّده الحسين (علیه السلام) _ خصوصاً، يحتاج إلى وقفةٍ أطول بكثير، واستدلالٍ ومناقشةٍ علميّةٍ وافرة، بيد أنّنا اقتصرنا هنا على هذا القدر، لأنّها مجرّدمقدّمةٍ عجلى لبحثٍ طويل ربّما وفّقنا الله لتناوله في محلّه، فهي ومضةٌ خاطفةٌ نرجو أن تقدح عند ذوي الاختصاص ما يدفعهم لمناقشة هذه الفكرة بالردّ أو القبول.

وكيف كان، فإنّ جميع ما ذُكِر من تعاريف للثورة لا تبدو كافية لشمول قيام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، حتّى التعريف الّذي قدّمه الشيخ شمس الدين (رحمة الله) باعتباره مفكّراً إسلاميّاً وعالماً دينيّاً.

والّذي يبدو لنا من التأمّل في تعريفه أنّه يعتمد الملاحظة والتتبّع وما ورد في تعاريف الخبراء المتأخّرين لفهم الثورة وتحليلها وتعليلها ودراستها، ولا يبدو فيه أنّه تعريفٌ مستوحىً ومُستنبَط من حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) نفسها، بل يبدو أنّه قد حسم أمر التعريف وحدّد معالمه وراح يطبّقه على قيام الإمام (علیه السلام) ، والله العالم.

وسيتّضح لنا ذلك عند استيفاء البحث وإتمام هذه الدراسة، والله وليّ التوفيق، وهو من وراء القصد.

موازين دراسة الثورات

سمعنا _ قبل قليل _ بعض مؤدّيات بعض المدارس والمذاهب الّتي

ص: 63

درست الثورات منذ انطلاقها في أورپا، كالثورة الفرنسيّة كحدٍّ فاصلٍ واضحٍ مميّز في تاريخ الغرب، وكانوا ولا زالوا يتعاملون مع الثورات كإفرازاتٍ اجتماعيّةٍ سياسيّةٍ لها أسبابها وعواملها وظروفها ونتائجها..واختلفوا في تعريفها وطرق معالجتها وتحليلها واستخلاص الدروس والنتائج منها، بناءاً على اختلافهم في الإيدلوجيّات والعقائد والخلفيّات والمتبنّيات الفكريّة والأخلاقيّة ومتابعة الحركات الاجتماعيّة وردود الفعل البشريّة، وغيرها.

بيد إنّهم جميعاً اعتمدوا المشاهدة والملاحظة والتتبّع للأحداث، والبحث في المجتمع وظروفه وملابساته وحاجاته وتطلّعاته وسبر أغواره وفكّ رموز أواصره وروابطه وعلاقاته، وفق الطبيعة البشريّة والمعطيات النفسيّة والفكريّة والعقائديّة، فهم يبحثون في الجغرافيا، ويبحثون في الحاجيات والضرورات الإنسانيّة، سواءً الجسديّة منها أو الروحيّة والمعنويّة، كالتطلّع إلى العيش الرغيد والرفاهيّة والتمتّع باللذّات واستيفاء الشهوات، أو التطلّع إلى الحياة الكريمة في ظلّ العدالة والمساواة والحرّيّة ...

فهم يبحثون في الأرض وعلى الأرض وضمن نطاق الأرض، ويحاولون إشباع الغرائز السامية أو الدانية، ويحاولون استثارةة التراب للحصول على الحياة على الأرض وتأمين متطلّبات الطين والجسد والعيش في هذه الدنيا، سواءً كانت تفسيراتهم ماورائيّةً ذات طابع دينيّ، أو كانت مادّيّةً بحتةً لا تلحظ الجانب الغيبيّ بتاتاً.

ص: 64

ولا يخفى أنّ ما يذكره الباحثون الغربيّون _ على اختلافهم في دراسة الثورات _ يختلف من حيث معاني المصطلحات الموظَّفة والمذكورةكأسبابٍ أو أهدافٍ للثورات، فالحرّيّة بالمعنى الغربيّ هي غير الحرّيّة بالمعنى الشرقيّ أو بالمعنى الدينيّ أو بالمعنى الإسلاميّ، والعدالة والمساواة والحكم ونظام الحكم والحاكم والمحكوم وغيرها من الشعارات والأهداف المرسومة للثورات، فإنّ لهذه المصطلحات معانٍ خاصّةً تحمل الأبعاد العقائديّة والفكريّة والدينيّة..

وبكلمةٍ أُخرى: إنّ المدارس الّتي درست الثورات وحلّلَتها وبحثت عن أسبابها وعللها منذ الثورة الفرنسيّة فما بعد، كلّها كانت ولا زالت تدرس الثورة كظاهرةٍ أرضيّةٍ بحتةٍ منقطعةٍ عن العامل الغيبيّ، حتّى ولو كانت بدوافع ونوازع دينيّة!

وبهذه الروح وهذا النفَس وهذا النسق تعاملوا مع التاريخ، سواءً تاريخهم في الغرب، أو تاريخنا في الشرق، وتعاملوا مع ظهور نبوّة خاتم الأنبياء محمّد بن عبد الله (صلی الله علیه و آله) ومع مجريات تاريخ المسلمين بما فيها قيام سيّد الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام) ، فهي عندهم ظاهرةٌ اجتماعيّةٌ سياسيّة، ومفردةٌ ضمن حركة التاريخ ينبغي دراستها ضمن الضوابط المستنبطة من الثورات الّتي أُتيح لهم دراستها على غِرار الثورة الفرنسيّة والروسيّة وهكذا..

وهم يعتبرون الثورة حتميّةً تاريخيّةً لا محيص عنها، إلّا أقلّ القليل منهم، وإن اختلفوا في السبب المُنتِج لها.

ص: 65

ومَن يتأمّل في طريقة المستشرقين ومنهجهم في تحليل قيام سيّدالشهداء (علیه السلام) وغيره من الأحداث الّتي جرت في تاريخ المسلمين، لا يجد عناءاً للتثبّت ممّا ذكرناه، سيّما لمن يطّلع على متبنّياتهم الفكريّة وما قدّموه في دراساتهم التنظيريّة، وليس المقام مقام سرد الشواهد والأدلّة.

فهم يتناولون مجريات قيام الإمام الحسين (علیه السلام) كظاهرةٍ أرضيّة، بقطع النظر عن أيّ ارتباطٍ لها بالسماء، ولا يمكنهم وفق متبنّياتهم النظريّة أن يتعاملوا معها باعتبارها قياماً ربّانيّاً له أبعاد وامتدادات وبواعث ونتائج إلهيّة، أو أن يكون للعامل الغيبيّ فيها أيّ دورٍ مؤثّر.

أهمّ الوسائل في الغزو الثقافيّ

برمجة العقل البشريّ وبناء التكوين الفكريّ وقولبةة النفس البشريّة، بالخصوص عند النخب والطبقات المثقّفة والمتنوّرة في المجتمع، من أهمّ الأهداف عند الغازي الثقافيّ، فهو لا يبذل جهده على كلّ مفردةٍ على حدةٍ وكلّ أدبٍ والتزامٍ اجتماعي، ففي ذلك إتلافٌ غير منتج للوقت، ويكاد يكون الفشل محتوماً على المشروع مهما كانت الإمكانات ضخمة، والوسيلة الأنجع والأكمل والأسرع إنتاجاً هي أن تُبنى العقولُ والنفوس والعواطف والأفكار على مقدّماتٍ أصليّةٍ بناءاً ينتج بشكلٍ طبيعيٍّ نتائج متوخّاة مستهدفة لدى المخطّط للتغيير..

فإذا نجح الغازي في بناء عقول النخب والمفكّرين وفق موازينه ومعاييره، فإنّها سوف تتعامل مع المعلومات والمشاهدات والمعالجات ضمن تلك الموازين والمعايير، وبالتالي فهي ستنتج ما يرومه الغازي

ص: 66

ويخطّط له، ويتركه يفكّر كما يحلو له، لأنّه واثقٌ أنّ النتيجة سوف لن تكون إلّا ما يريد وبالطريقة التي يفكّر بها هو، وأنّه سيستنتج ما يستنتجه الغازي لاتّحاد المقدّمات!

وقد فعلوا هذا مع قيام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، إذ أنّهم تعاملوا معه كثورةٍ أرضيّةٍ محكومة بموازين الثورات الأرضيّة، على نسق الثورة الفرنسيّة وغيرها من الثورات في العالم بعد عصر الصناعة إلى يوم الناس هذا.

وفي زمنٍ انتشرت فيه شعارات التحرّر والحرّيّة والعدالة والمساواة، سواءً الّتي نادت بها الثورة الفرنسيّة والعالم الأورپيّ أو ما نادت به الثورة الروسيّة، وشهد العالم مواكبة التقدّم العلميّ والصناعيّ والتكنلوجيّ وازدهار المدنيّة والتطوّر، فكانت الشعارات البرّاقة الخلّابة الّتي جذبت إليها الناس في مجتمعات الشرق المعذّبة الرازحة تحت نَير الظلم والجور والفقر والتخلّف والجهل والظلام والبداوة..

فكان لابدّ من مسايرة التطوّر ومماشاة النهضة والثورة الّتي اجتاحت العالم، وتقديم النماذج الّتي تحمل القيَم والمثل الّتي تضاهي النموذج الّذي اكتسح المجتمعات والشباب، وتؤصّل له وتؤسّس وتمحو الهزيمة وتقلب التخلّف إلى السبق في تقديم المثل الأعلى لجميع الشعارات المطروحة في ثورات العهد الجديد والعصر العتيد.

فكانت طريقة المستشرقين طريقةً مؤثّرة، إذ أنّ التعامل مع التاريخ الإسلاميّ كحوادث أرضيّة اجتماعيّة سياسيّة بحتة يقدّم النموذج الأرقى في المناداة بالمساواة والعدالة والحرّيّة، مع شيءٍ من التنقيح

ص: 67

والتشذيب والتهذيب، إذ لا يمكن أن تكون الحرّيّة _ مثلاً _ في المجتمع الإسلاميّ الغابر كالحرّيّة في المجتمع الأورپيّ المعاصر.

ومن خلال هذه المتبنّيات والأفكار والرؤى والتعاريف الغربيّة للثورة ومقوّماتها وأسبابها وظروفها ونتائجها، تفتّقت أفكار المفكّرين والكتّاب والمثقّفين، وجرت أقلامهم وانطلقت ألسنتهم، فتناولوا تاريخ الإسلام وشخصيّاته وقيام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فراحوا يبحثون له عن أسباب ومقوّماتٍ ودوافع وظروفٍ ونتائج أرضيّةٍ بحتة وآثار اجتماعيّة وسياسيّة محضة..

وبقيَت ثُلّةٌ من المؤمنين الملتزمين من النخب والمفكّرين الّذينن حاولوا مزج البُعد الغيبيّ بالبعد الأرضيّ، بيد أنّ المنهج كان قد ترسّخ وبثّ أُسسه في أعماق الكيان، لذا تجد البُعد التحليليّ الاجتماعيّ والسياسيّ يخيّم على الدراسات مهما كانت تريد أن تُقحم العامل الغيبيّ، فهي لا تصيخ له ولا تصغي ولا توظّفه إلّا حين تعييها السبل وتغلق عليها أبواب الأفكار وتنكبس في موقفٍ من مواقف سيّد الشهداء (علیه السلام) لا يمكن تفسيره بالعوامل الأرضيّة بحال، فتضطرّ للرضوخ والاستسلام، فتلجأ إلى العامل الغيبيّ..

أمّا أصل البحث والتحليل والتعليل واستخلاص النتائج وتجميع الشواهد وملاحقة الأحداث والظروف، فإنّه يكون على أساس دراسة الثورات وفق الموازين الأرضيّة!

ص: 68

مقوّمات الثورة

لقد أسهبوا في بيان مقوّمات الثورة، سواءً من خلال التعاريف الّتي قدّموها لها، أو من خلال الدراسات والتفاصيل الّتي عالجوها من خلال دراسة العيّنات والشواهد المكتشفة بالتحليل والملاحظة الميدانيّة.

ويمكن تلخيص ما ذكروه وما يمكن ملاحظته في الثورات المعاصرة بما يلي:

إنّ كلّ ثورةٍ يُفترَض فيها وجود حكمٍ ظالمٍ غاشمٍ جائرٍ على عامّة الشعب أو الأكثريّة الساحقة فيه، وفسادٍ مستشرٍ في كلّ مرافق الدولة والنظام والحياة العامّة، وحرمانٍ يعيشه أغلب الناس، وتسلّطٍ وتفرّدٍ بالحكم والسلطان من قِبل واحدٍ أو حزبٍ أو جماعةٍ أو فئةٍ معيّنة، ربّما يكون ذلك بسبب عجز الدستور أو فشله أو تضمّنه لموادّ جائرة غير موزونة، فيتذمّر الناس ثمّ يستشري التذمّر.

فتتكوّن شعاراتٌ فيها ما يُرضي الناس ويحقّق آمالهم ومطالبهم ويلبّي احتياجاتهم، فيقوم لها قائدٌ (شخصٌ أو حزبٌ أو كتلةٌ) تتوفّر فيه المؤهّلات، أو تؤاتيه الظروف بحيث يستيجب له الجمهور فيفرزه المجتمع لأيّ سبب كان، فيرفع تلك الشعارات ويدعو إلى تغيير الوضع القائم السيّء إلى وضع جديد يتطلّع إليه الجمهور، فيقع الصراع بين السلطة الحاكمة والنظام الحاكم والأفراد المتسلّطين من قمّة الهرم فمادون، وبين الجمهور المنظوي تحت القيادة المقبولة لديه.

ص: 69

هذا باختصار بغضّ النظر عن الاختلاف في تفسير المصطلحات، ك- (الظلم) و(الحرمان) و(العدالة) و(الحرّيّة) وغيرها من الكلمات الدلاليّة الّتي يختلف الناس في تفسيرها حسب معتقداتهم ومذاهبهم الفكريّة ومتبنّياتهم..

فلابدّ للثورة من أركان، يمكن فهرستها:

1 _ وضعٌ قائمٌ غير مرضيّ.

2 _ أُمّة (شعب) أو أكثريّة متذمّرة غير راضية بالوضع القائم، تنزع إلى التمرّد والتغيير.

3 _ مطالب وشعارات وحاجيات وأهداف منشودة يتوخّى الشعب أو الأكثريّة تحقيقها (ربّما تنتظم فيما بعد في دستور).

4 _ قائد يجمع كلمة الناس ويوحّد صفّهم، يتبنّى ما تتبنّاه قواعده وجمهوره.

وربّما أقدم القائد _ سواءً كان فرداً أو حزباً أو تكتّلاً _ على توعية الناس وتحريضهم والتأثير على أفكارهم، بحيث يُلفتهم إلى وضعهم السيّء أو التطلّع إلى وضع أفضل.

فينتج اجتماع هذه الأركان صراعاً بين الوضع القائم والوضع المنشود.

* * * * *

هذا باختصارٍ شديدٍ وإشارةٍ سريعة، وثمّة مقدّمات أُخرى ربّما كانت من الأهمّيّة بمكان نؤجّل الحديث عنها، على أمل التوفيق لذكرها فيمحلّها إن شاء الله، وقد بنينا البحث كلّه على الاختصار والاكتفاء بالإشارات.

ص: 70

دواعي خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة

اشارة

يمكن تقسيم الظروف والدواعي لخروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة إلى قسمين، نكتفي بالإشارة إليهما:

القسم الأوّل: دواعي بعيدة المدى

اشارة

وهي تنقسم إلى مديَين:

المدى الأوّل: منذ صدر الإسلام

اشارة

لقد كان خطّ الكفر والشرك ممتدّاً يسير مع مسيرة الإنسان موازياً لها، بيد أنّنا لم نلحظ لخطّ النفاق ظهوراً واضحاً قبل الإسلام، إذ كان الأنبياء يدعون أقوامهم إلى الإسلام، فإمّا أن يقبلوا فيدخلوا في دائرة الإيمان، وإمّا أن يرفضوا فيعادوا الإسلام والمؤمنين.. أمّا أن يُظهِر بعضُهم الإسلام ويُبطِن الكفر ويعيش بين المسلمين ويعمل للكافرين، فهذا ما لم نجده كظاهرةٍ تحدّث عنها القرآن في إخباراته وقصصه عن الأُمم الماضية.

وبعد أن عرف المشركون أنّ سيّد الأنبياء وأشرفهم جاء بالرسالة

ص: 71

الخاتمة، وأن لا موضع للشرك بعد بعثة النبيّ الأمين (صلی الله علیه و آله) وتحصين الإسلام بالأئمّة المعصومين (علیهم السلام) ، اضطرّ المشركون للدخول في الإسلام مُرغَمين، لئلّا تُمحى آثارهم وتُستأصل شأفتهم وتُجتثّ جذورهم فلا تبقى لهم باقية.. فأظهروا الإسلام وأضمروا الشرك والكفر والطغيان، ليتمكّنوا من قلب الدين من الداخل، والإبقاء على العناوين الكبرى وتغيير معانيها، فحرّفوا معاني القرآن، وشوّهوا معالم الدين، وخدعوا الناس فجعلوهم يعبدون الله على سُنّة الوثنيّين، وكسّروا الأصنام الحجريّة وحطّموهما وأقاموا محلّها الأوثان البشريّة الّتي أزاحت معالم التوحيد وتربّعت على عرش المجتمع باسم الله وببُردة رسول الله (صلی الله علیه و آله) المسروقة المغتصبة قهراً..

فانحرف الناس وتديّنوا بالدين الجديد، ولم يبقَ على التوحيد وملّة إبراهيم الخليل ودين خاتم النبيّين إلّا الأوصياء بالحقّ وأتباعهم..

فاستشرى الضلال، وعمّت الجهالة، وأطبق الظلام، وعادت الجاهليّة بثوبٍ جديدٍ لتؤمّ الناس في المساجد بدلاً عن بيوت الأصنام، ورجعت الأُمّة القهقرى، فَسادَ الفساد، وخيّمت المفاهيم والأخلاقيّات البائسة، فظهرت الطبقيّة والتمايز القوميّ والإثنيّ والنعرات القبليّة والتفاوت المعيشيّ، وكلّ ما يلزم من انحسار شريعة الله وتحكيم شريعة الطاغوت..

وكان لابدّ من منقذٍ لهذه الأُمّة ومُنجٍ لهذا الدين، فكان قيام الحسين (علیه السلام) !

ص: 72

هذا باختصارٍ ما قامت عليها الكثير من النظريّات المتأخّرة في تفسير القيام الحسينيّ، وقد أطنب الكتّاب وأسهب الباحثون في تتبّع الشواهد والظواهر الاجتماعيّة الّتي أتت على البنيان الّذي شيّد صرحَه رسولُ الله (صلی الله علیه و آله) ..

بيد أنّ هذا التفسير لا يستقيم ولا يصمد أمام النقد كثيراً، ولا يفسّر جميع المواقف والحركات والإقدام الحسينيّ المستمّر.

ويمكن الاقتصار هنا على ذكر نموذجين من عجز هذا المنهج في تفسير القيام الحسينيّ:

النموذج الأوّل: وجود الحقّ بوجود حامله

إنّ هذا الانحراف كان منذ عصر النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وهذا ما لا يشكّ فيه مطّلعٌ على التاريخ وقارئٌ لكلام أهل البيت (علیهم السلام) ، وقد مضى على هذا المنوال في عصر إمامة أمير المؤمنين والإمام الحسن المجتبى وعشرة سنين من إمامة سيّد الشهداء (علیهم السلام) ، وكلّ ما حدث من مجريات القيام الحسينيّ إنّما كان في غضون خمسة أشهر وأيّام من أواخر إمامة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وبعد أقلّ من أسبوعين من نزو القرد الأُمويّ المجدور يزيد على المنبر.

فبماذا يفسّر القائلون بهذه النظريّة الصمت المطبق والمداراة والسكوت عن هذا الانحراف المروّع أيّام الأئمّة الّذين سبقوا سيّد الشهداء (علیه السلام) ، منذ عهد الرسول (صلی الله علیه و آله) إلى فترة عشرة أعوام من إمامة الإمام الحسين (علیه السلام) ؟!

ص: 73

ثمّ إنّ من تلا أيّام القيام الحسينيّ من الأئمّة (علیهم السلام) فعلوا ما فعل آباؤهم المعصومون، وهذا الإمام زين العابدين وسيّد الساجدين (علیه السلام) قد أنضج نحور القوم ورضيَ منهم رأساً برأس.. ثمّ جاء الأئمّة (علیهم السلام) ، وشاع وذاع صيتُهم، وتمكّنوا من أزمة المجتمع بعد أن فضح مقتل الحسين (علیه السلام) كلّ دسائس النفاق، فلم يغيّروا في دولة بني أُميّة بشيء، وخمد لهيب الأُمويّين فاتّقدت مشاعل العبّاسيّين، فقتلوا الأئمّة، وتتبّعوا العلويّين وأبادوا أتباعهم ولاحقوهم تحت كلّ حجرٍ ومَدَر، ثمّ وقعت الغَيبة، واستمرّ الطغيان حاكماً ممتدّاً في بيوت العثمانيّين، حتّى انتهت البنية ب- (سايكس بيكو)!

فما الذي تغيّر؟ ولا زال الانحراف حاكماً، ولا زالت السقيفة تظلّل على الأُمّة، ولا زال عبدة العجل يملؤون الآفاق، ولا زال أتباع السامريّ يحكمون البلاد والعباد، ولا زال أتباع الحقّ والمتمسّكون بأغصان شجرة طوبى مشرَّدين مطرودين ملاحَقين ومهدَّدين في أعراضهم ودمائهم وبلدانهم!

أمّا بيان الانحراف عقائديّاً ونظريّاً وفكريّاً، فأوّل مَن قام به في وجوه الظالمين (كقيامٍ مُعلَن) السيّدةُ الصدّيقة الكبرى (علیها السلام) بعد أن دافعت المغتصبين، حتّى مضت شهيدةً مظلومةً كسيرة الضلع محمرّة العين مسقطة الجنين مهتوكة الحريم..

ثمّ إنّ الحقّ والإمامة والأصالة قائمةٌ بشخص الإمام وذاته، ونظام الخلقة باقٍ على النسق والدوام بوجود شخص الإمام، فما دام شخص

ص: 74

الإمام موجوداً فالتوحيد والنبوّة والدين بكلّ تفاصيله موجودٌ أبداً، سواءً كان قيامٌ أم لم يكن.. وقد استمرّ الدين والحقّ والعدل ونفي تحريف المضلّين بوجود الإمام زين العابدين (علیه السلام) ، إلى يوم الناس هذا حيث يقوم بوجود صاحب الأمر (علیه السلام) وإن كان غائباً عن أنظار الظالمين، كما كان قائماً من قبل الإمام السجّاد (علیه السلام) بوجود أصحاب الكساء الخمسة (علیهم السلام) .

النموذج الثاني: استمرار سيّد الشهداء (علیه السلام) في قيامه رغم انعدام المقوّمات

لقد تبيّن من خلال كلّ المؤشّرات والقرائن والشواهد ومجريات الأحداث أنّ المجتمع قد خذل الإمام وضيّعه ولم ينصره، وذلك في المدينة وفي مكّة وفي الطريق إلى العراق..

ولم يبقَ أيُّ شكٍّ أو ترديدٍ في حقيقة ما يسمّونهم ب- «المسلمين»، فقد خانوا الإمام وغدروا ونكثوا ما يسمّونه «البيعة»، سيّما بعد شهادة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ، ووصول بلاغه بذلك، ووصول خبر خيانة الكوفة بقضّها وقضيضها.. وكان ذلك قبل أن يُؤسَر الإمام ويُحاصَر بقطعان عسكر ابن زياد في منطقة شِراف.. فلماذا استمرّ الإمام ميمّماً نحو كربلاء وقد مُنع من الدخول إلى الكوفة؟! وأخبر أن لا ناصر له ولا معين، وقد أُخِذ عليه وعلى مَن معه أقطار الأرض وآفاق السماء!

وهكذا تجد الكثير من المواقف والمشاهد لا يمكن تفسيرها إذا افترضنا أنّ المقصود من قيام سيّد الشهداء (علیه السلام) إنّما هو إسقاط حكمالأُمويّين،

ص: 75

وردم السقيفة على مَن فيها..

وهذا الموضوع له شُعبٌ وأعماقٌ بعيدة الغَور، لا نريد خوض غمارها الآن ولها موضعٌ آخر، كما لا نريد أن نلغي هذا الداعي من رأس، وإنّما نريد أن نقول: لا يمكن أن يكون هو كلّ شيءٍ وهو المفسِّر لجميع ما قام به سيّد الشهداء (علیه السلام) ، إذ إنّ البحث والتحليل والتعليل على النسق المشهور قام على أساس التعريف المعاصر لبعض المصطلحات الّذي تأسّس ونحت بعد الثورة الصناعيّة والثورة الفرنسيّة والثورة الروسيّة (البلشفيّة)، فتمّ تناول مجريات أحداث قيام سيّد الشهداء (علیه السلام) بناءاً على التعاريف والمدارس التحليليّة والتعليليّة والبحثيّة المفسّرة لحركات القيادات والقواعد ضمن الأسباب والظروف والنتائج الأرضيّة، كما أشرنا إلى ذلك قبل قليل.

المدى الثاني: قُبيل القيام

إعداد معاوية وأخذه البيعة لنغله يزيد

لقد جهد معاوية وبذل غاية المجهود في تأمير نغله يزيد، وعميَ عن دنياه وآخرته في سبيل تحقيق ذلك، وهو القائل:

ولولا هواي في يزيد لأبصرتُ رشدي ((1)) وعرفت قصدي ((2))..

ص: 76


1- أنساب الأشراف 5 / 28، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 118، البدء والتاريخ للمقدسي: 6 / 7.
2- الفتوح لابن أعثم: 4 / 344.

وقال ابن أعثم:

فطلعت أثقال معاوية ورحله إلى المدينة، فلمّا تقارب منها خرج الناس يلاقونه، وفيمن خرج إليه عبد الرحمان بن أبي بكر وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير والحسين بن علي، فلمّا نظر إليهم قطّب في وجوههم، ثمّ قال: ما أعرفني مفهمكم وطيشكم.

فقال له الحسين: مهلاً يا معاوية! فلسنا لهذه المقالة بأهل.

فقال: بلى والله، وأشدّ من هذا القول وأغلظ! فإنّكم تريدون أمراً، واللهُ يأبى ما تريدون.

قال: ثمّ دخل إلى المدينة، فنزلها، وأقبل إليه الناس مسلّمين، وجعل كلَّ مَن دخل إليه مسلّماً شكا إليه هؤلاء الأربعة، ثمّ جاؤوا ليدخلوا عليه فلم يأذن لهم، فتركوه ومضوا إلى مكّة ((1)).

* * * * *

لقد بايع الناسُ في مختلف الأمصار للقرد المجدور أيّام ملك معاوية، وأطبقت البلاد على الرعي في غابة الأُمويّين والتمسّك بأعواد الشجرة الملعونة والتمدّد في ظلّها الموبوء، وذلك في عهد إمامة سيّد شباب أهل الجنّة وسيّد الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام) ، وبعد شهادة السبطالأكبر الإمام الحسن (علیه السلام) ، إذ:

لم يلبث معاوية بعد وفاة الحسن إلّا يسيراً حتّى بايع ليزيد

ص: 77


1- الفتوح لابن أعثم: 4 / 235.

بالشام ((1)).

ولم يكن في الأمصار من يُحتمل فيه المخالفة إلّا الكوفة والبصرة، كما شهد بذلك المغيرة في حديثه مع معاوية عند بداية الترتيبات لبيعة يزيد، حيث قال له في حديثٍ طويل:

قال: أكفيك أهل الكوفة، ويكفيك زياد أهل البصرة، وليس بعد هذين المصرين أحدٌ يخالفك ((2)).

وفي سنة ستٍّ وخمسين شمل الذلُّ جميع البلدان، فبايع الناس ليزيد بولاية العهد بعد معاوية ((3))، فدعا الأخير بكتابٍ فقرأه على الناس باستخلاف يزيد إن حدث به حدَث الموت ((4))، ولم يزل يروّض الناس على بيعة يزيد في كلّ سنةٍ وفي كلّ موسم، ويعطي المقارب ويداني المتباعد، فمال الناس إلى بيعته وأجابوه إلى ذلك ((5)).

وبعد هلاك معاوية جدّد الناس بيعتهم لنغله يزيد، «فأصبح الناس فغدوا على البيعة ليزيد، وطُلب الحسين» ((6)).. «وكتب إلى الأقاليم

ص: 78


1- الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 1 / 151.
2- الكامل لابن الأثير: 3 / 249، نهاية الأرب للنويري: 20 / 348.
3- أُنظر: الكامل لابن الأثير: 3 / 249، نهاية الأرب للنويري: 20 / 348.
4- الردّ على المتعصّب العنيد لابن الجوزي: 31.
5- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 4 / 228، العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 368.
6- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 56، تاريخ مدينة دمشق: 14 / 207، ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من تاريخ دمشق لابن عساكر، المحمودي: 200، تهذيب ابن بدران: 4 / 328، مختصر ابن منظور: 7 / 138، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2608، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 415، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 162.

بذلك فبايعوه» ((1))..تفيد هذه التعبيرات أنّ الأقاليم والأمصار قد خنعت وبايعت وانتهى الأمر، ولم نسمع بتشكيكها في البيعة أو إبداء ما يخالف مقتضياتها، والإطلاق في عبارات المؤرّخين تُشعِر بدخول جميع البلدان في ذلك من دون استثناء، من أقصى ثغور بلاد المسلمين إلى أقصاها، فلا حاجة للتنصيص على أسمائها واحدةً واحدة.

تبييت معاوية قتل سيّد الشهداء (علیه السلام)

كان معاوية قد سمع أحاديث النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأميرِ المؤمنين والإمام الحسن الأمين (علیهما السلام) ، وغيرها من الإخبارات الغيبّية، لا شكّ في ذلك، وعلم أنّ المُلك سيكون له ولآل أُميّة، القرودِ الّتي تنزو على منبر النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وأنّ ابنه قاتلُ ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وهذا ما يعود بالتالي إلى العامل الغيبيّ، فلا نخوض في حديثه وقد بنينا بحثنا على النصّ التاريخيّ ومجريات الأحداث الظاهريّة..

وفي النصوص التاريخيّة شواهد كافية على عزم معاوية الأكيد أن يُثني الوسادة لنغله قبل أن يهوي في سقر، ولو كلّفه ذلك قتل المهاجرين والأنصار، وسيّدِهم وسيّدِ الكونين أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) ، وهدّد

ص: 79


1- حياة الحيوان للدميري: 1 / 91.

وأزبد وأرعد.

فبعد أن بايعه أهل العراق والشام [سنة 56]، سار إلى الحجاز في ألف فارس، فلمّا دنا من المدينة لقيه الحسين بن علي أوّلالناس، فلمّا نظر إليه قال: لا مرحباً ولا أهلاً! بُدنةٌ يترقرق دمها والله مهريقه!

قال: مهلاً، فإنّي _ واللهِ _ لستُ بأهلٍ لهذه المقالة.

قال: بلى، ولشرٍّ منها.

ثمّ دخل على عائشة، وقد بلغها أنّه ذكر الحسين وأصحابه فقال: لأقتلنّهم إن لم يبايعوا، فشكاهم إليها، فوعظَته وقالت له: بلغني أنّك تهدّدهم بالقتل، فقال: يا أُمّ المؤمنين! هم أعزّ من ذلك، ولكنّي بايعتُ ليزيد وبايعه غيرُهم، أفترَين أن أنقض بيعته [و]قد تمّت؟ قالت: فارفق بهم، فإنّهم يصيرون إلى ما تحبّ إن شاء الله. قال: أفعل ((1)).

وهذا المدى يبقى ضمن الفترة المتأخّرة المتاخمة لمُلك يزيد نفسه، إذ أنّها وقعت في أواخر أيّام ملك معاوية، ولأجل البيعة لنغله يزيد، فهي محسوبة في الدواعي الآنيّة الّتي سيأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى.

لكن لا يفوتنا هنا التنويه إلى أنّ معاوية كان قد عزم على قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأنّ بيعة يزيد بالنسبة له لا يمكن أن يُتساهل فيها مع أحد، حتّى لو كان سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) !

ص: 80


1- الكامل لابن الأثير: 3 / 251، نهاية الأرب للنويري: 20 / 356.

القسم الثاني: الدواعي الآنيّة

إعتمد الكتّاب والباحثون المتأخّرون نصّ الوصيّة الّتي كتبها سيّد الشهداء (علیه السلام) لأخيه محمّد ابن الحنفيّة، لبيان الدواعي الّتي أخرجَت خامس أصحاب الكساء من المدينة متوجّهاً إلى العراق، وجعلوها الأُسّ والجذر الّذي تتفرّع منه كلّ الدواعي الأُخرى، وكأن لا داعي سوى ما ورد في الوصيّة حصراً.

لذا سنتناول هذه الوصيّة بالبحث بشيءٍ من التفصيل، حيث سيتضمّن البحث فيها المرور على الدواعي الأُخرى.

ويمكن تقسيم البحث في هذه الوصيّة المغمورة سابقاً، المشهورة في هذا الزمان شهرةً عظيمة، إلى مستويين:

ص: 81

ص: 82

وصيّة سيّد الشهداء (علیه السلام) لأخيه محمّد ابن الحنفيّة

اشارة

نحاول استجلاء ما يتعلّق بالوصيّة واستكشاف معانيها ومغزاها ودلالاتها والتعرّف إلى سندها بفي عدّة مستويات:

المستوى الأوّل: البحث في السند والاعتبار

أوّل مَن حكى الوصيّة:

يبدو من خلال الفحص والتتبّع أنّ أوّل مَن حكى هذه الوصيّة إنّما هو ابن أعثم الكوفي (توفّي حدود 314 ه-) في الفتوح، ولم نجدها عند أيّ واحدٍ من المؤرّخين والرواة والعلماء ممّن سبق ابن أعثم، أو ممّن عاصره كالطبري.

وابن أعثم نفسه إنّما يرويها دون أيّ إسنادٍ حسب فحصنا، إذ يكرّر هو لفظة: «قال»، ثمّ يحكي، ويقصد بها نفسه كما يبدو ذلك جليّاً واضحاً من أوّل كتابه الفتوح.

ثمّ تختفي الحكاية تماماً، فلا تجد لها أثراً في الكتب والمصادر بعد ابن أعثم إلى القرن السادس، حيث نقلها عنه الخوارزمي (ت 568 ه-) في

ص: 83

المقتل، وفيها شيءٌ من التصحيح، سنسمعه بعد قليل.

حكاية ابن شهرآشوب:

اشارة

وقد نقل منها ابن شهرآشوب عبارةً دون ما سبقها ولا ما لحقها، وبترتيبٍ خاصٍّ كردٍّ على المعترضين على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، قال ابن شهرآشوب:

وكان محمّد ابن الحنفيّة وعبد الله بن المطيع نهياه عن الكوفة، وقالا: إنّها بلدةٌ مشؤومة، قُتِل فيها أبوك، وخُذِل فيها أخوك، فالزم الحرم؛ فإنّك سيّد العرب، لا يعدل بك أهل الحجاز، وتتداعى إليك الناس من كلّ جانب.

ثمّ قال محمّد ابن الحنفيّة: وإن نبَتْ بك لحقْتَ بالرمال وسعف الجبال، وتنفّلْتَ من بلدٍ إلى بلدٍ حتّى تفرق لك الرأي، فتستقبل الأُمور استقبالاً، ولا تستدبرها استدباراً.

وقال ابن عبّاس: لا تخرج إلى العراق، وكُنْ باليمن؛ لحصانتها ورجالها.

فقال (علیه السلام) : إنّي لم أخرج بطراً ولا أشراً ولا مُفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجتُ أطلب الصلاح في أُمّة جدّي محمّد (صلی الله علیه و آله) ، أُريد آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، أسير بسيرة جدّي وسيرة أبي عليّ ابن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أَولى بالحقّوهو

ص: 84

أحكم الحاكمين ((1)).

ويُلاحَظ في نصّ ابن شهرآشوب عدّة ملاحظات:

الملاحظة الأُولى: التلفيق

ينقل ابن شهرآشوب أوّلاً كلام ثلاثةٍ من المعترضين على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهم: ابن الحنفيّة وابن مطيع وابن عبّاس، ثمّ يقتطع نصّاً من الوصيّة فيجعله ردّاً عليهم جميعاً بلفظ: «فقال»، وكأنّه قولٌ له وليست وصيّة!

الملاحظة الثانية: حكايته عن ابن أعثم والخوارزميّ

يعتمد ابن شهرآشوب في رواية مقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) كثيراً على الخوارزمي وابن أعثم، كما يبدو جليّاً لمن تتبّعه، وقد لاحظنا ذلك بوضوحٍ عند تحقيق كتاب المناقب الّذي طُبع في اثني عشر مجلَّداً.

الملاحظة الثالثة: ترميم النصّ

إعتاد ابن شهرآشوب على النقل بالمعنى، أو ترميم النصّ وتقليمه والانتقاء منه، وعدم الالتزام الدقيق والنقل الحرفيّ عن المصادر، وهذا مُلاحَظٌ بوضوحٍ لمن تتبّع منهجه (رحمة الله) في النقل.

وربّما كان هو أوّل مَن شذّب وهذّب وحذف بعض ما لا يليق أويُشكّل هفوةً وخللاًاً في النصّ المحكيّ عن ابن أعثم، من قبيل عبارة:

ص: 85


1- المناقب لابن شهرآشوب: 10 / 143 بتحقيق: السيّد علي أشرف.

«وأسير بسيرة جدّي محمّد (صلی الله علیه و آله) ، وسيرة أبي عليّ بن أبي طالب، وسيرة الخلفاء الراشدين المهديّين رضي الله عنهم»..

ولا يخفى أنّ ابن شهرآشوب ينقل عن المقتل للخوارزمي (وهذا ما لاحظناه بالتتبّع)، وهو معاصرٌ له، إذ إنّ وفاة الأوّل سنة 588 ووفاة الأخير 568.

حكاية ابن أبي طالب ومَن بعده

ثمّ تختفي الحكاية مرّةً أُخرى بالكامل، حتّى يرويها محمّد بن أبي طالب (كان حيّاً إلى سنة 955 ه-)، وهو يصرّح أنّه يروي عن ابن أعثم، حيث يبدأ بسرد الأحداث من هلاك معاوية فيقول: «وذكر الإمام أحمد ابن أعثم الكوفي أنّ معاوية ...»، ثمّ يستمر بالرواية بلفظ: «قال: قال» ((1))، وقد شملها شيءٌ من الترميم الّذي فعله ابن شهرآشوب في مناقبه، كحذف ما يخصّ الخلفاء.

ثمّ حكاها الطريحي (ت 1085 ه-) في المنتخب.

ثمّ حكاها المجلسي في بحار الأنوار، ومثله البحراني في عوالم العلوم، وكلاهما صرّحا في النقل عن ابن أبي طالب ((2)).

ص: 86


1- أُنظر: تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 135.
2- أُنظر: بحار الأنوار: 44 / 328، عوالم العلوم للبحراني: 17 / 177.

غريبةٌ جدّاً

من الغريب جدّاً والمدهش حقّاً أن يُعرِض علماء الشيعة ومؤرّخوهم جميعاً _ حسب فحصنا _ عن رواية هذه الوصيّة أو مقاطع منها، سواءً مَن أرّخ للطفّ ولسيرة الأئمّة (علیهم السلام) ، ومَن استدلّ بسيرة سيّد الشهداء (علیه السلام) وأقواله لأيّ غرضٍ من الأغراض، أو سجّل أقوال الأئمّة (علیهم السلام) وروى أحاديثهم، كالمشايخ أصحاب الكتب الأربعة ومَن سبقهم ومن لحقهم، كابن قولويه والمفيد والطبرسيّ وابن شعبة والسيّد ابن طاووس وكثيرٍ من علمائنا الأبرار الأخيار.

والحال أنّ بعضهم يعتمد ابن أعثم أو الخوارزميّ في نقل وقائع الطفّ، كالسيّد ابن طاووس في اللهوف مثلاً.

وكذا فعل مؤرّخو العامّة، فلم يذكرها أحدٌ حسب فحصنا، لا ممّن سبق ابن أعثم، من قبيل ابن سعد والبلاذري واليعقوبي وغيرهم، ولا ممّن عاصره، كالطبري، ولا من جاء بعده عدا الخوارزمي.

أليس في إعراض كلّ هؤلاء العلماء والمؤرّخين مجالٌ واسعٌ للتأمّل وباعثٌ ومسوّغٌ ناهض للتريّث والتساؤل؟! وقد اجتمع تفرّد ابن أعثم والإعراض معاً!

فهي بالتالي قد بُليَت بثلاث بلايا: «التفرّد»، حيث تفرّد بنقلها ابن أعثم، و«الإعراض»، حيث أعرض عنها علماء الشيعة الأفذاذ الكبار ومؤرّخو العامّة، «والإرسال»، حيث رواها ابن أعثم من دون أيّ إسنادٍ ولا ذكر أيّراو.

ص: 87

إغفال السند

ذكرنا في مجموعة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) في الجزء الأوّل تحت عنوان «المدخل»، الموازينَ الّتي يُقبَل أو يُردّ على أساسها السند أو المتن التاريخيّ، وعرفنا هناك أنّ صحّة السند التاريخيّ أو سقمه ليس إلّا شاهداً أو قرينةً على الصحّة أو مقوّيّاً لها، والمناط الأصليّ إنّما هو صحّة المتن وفق الموازين المقرّرة من عدم المخالفة والتعارض مع الكتاب والسنّة والأُصول الموضوعة والمسلَّمات العقائديّة والمعرفيّة، وغيرها من الموازين المذكورة في محلّها.

وذكرنا هناك أيضاً إمكانيّة قبول المتن الموافق للموازين وإطراح الزيادات المخالفة.

وبناءاً على ذلك ربّما يقال: إنّ التركيز على ضعف السند أو انعدامه في قصّة الوصيّة هذه وتفرّد ابن أعثم لا يضرّ وفق الموازين المقرّرة، بل قد يقال: حتّى إعراض العلماء والمؤرّخين عنها لا يضعّفها.

وسنبني البحث على هذا، ونغضّ النظر عن السند تماماً، وندخل إلى تفاصيل دلالات الوصيّة بغضّ النظر عن سندها.

المستوى الثاني: حوار ابن الحنفيّة وسيّد الشهداء (علیه السلام) عند المؤرّخين

اشارة

ورد الحوار بين سيّد الشهداء (علیه السلام) وابن الحنفيّة في المصادر المتقدّمة والمعاصرة والمتأخّرة عن ابن أعثم، دون ذكرٍ للوصيّة التي تفرّد بنقلها الأخير، وسوف نذكر نماذج لهذا الحوار وفق ما ورد في تلك المصادر لتتّضح الصورة، ولكي لا نُطيل ونُثقِل نقتصر على ذكر عيّنات فقط دون

ص: 88

الاستطراد في إحصاء المصادر:

نموذج متقدّم: البلاذري (ت 279)

إنّ أوّل نصٍّ وجدناه لهذا الحوار رواه البلاذري، وهو لم يتقدّم كثيراً على ابن أعثم، بيد أنّنا لحظنا تاريخ الوفاة، وإن تقارب العصران، بل هما معاصران.

فإنّه [محمّد ابن الحنفيّة] قال له [للحسين بن علي (علیهما السلام) ]: يا أخي! أنت أعزّ الناس علَيّ، تنحَّ عن مروان ببيعتك وعن الأمصار، وابعث رسلك إلى الناس، فإن أجمعوا عليك حمدت الله على ذلك، وإن أجمع الناس على غيرك لم يُنقِص اللهُ دِينك ومروءتك وفضلك، إنّي أخاف أن تدخل بعض الأمصار ويختلف الناس فيك ويقتتلون، فتكون لأوّل الأسنّة، فإذا خيرُ الناس نفساً وأُمّاً وأباً قد ضاع دمُه وذُلَّ أهلُه.

قال: وأين أذهب يا أخي؟ قال: تنزل مكّة، فإن اطمأنّت بك الدار وإلّا لحقتَ باليمن، فإن اطمأنّت بك وإلّا لحقتَ بشعفالجبال، حتّى تنظر إلى ما يصير أمر الناس ويفرق لك الرأي ((1)).

نموذج معاصر الطبري (ت 310)

فإنّه [محمّد ابن الحنفيّة] قال له [للحسين بن علي (علیهما السلام) ]: يا أخي، أنت أحبّ الناس إليّ وأعزّهم علَيّ، ولستُ أدّخر

ص: 89


1- جمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 317.

النصيحة لأحدٍ من الخلق أحقّ بها منك، تنحَّ بتبعتك عن يزيد ابن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، ثمّ ابعث رسلك إلى الناس فادعُهم إلى نفسك، فإن بايعوا لك حمدت الله على ذلك، وإن أجمع الناس على غيرك لم يُنقِص اللهُ بذلك دِينك ولا عقلك، ولا يذهب به مروءتك ولا فضلك، إنّي أخاف أن تدخل مصراً من هذه الأمصار وتأتي جماعةً من الناس، فيختلفون بينهم، فمنهم طائفةٌ معك وأُخرى عليك، فيقتتلون، فتكون لأوّل الأسنّة، فإذا خير هذه الأُمّة كلّها نفساً وأباً وأُمّاً أضيعها دماً وأذلّها أهلاً.

قال له الحسين: فإنّي ذاهبٌ يا أخي.

قال: فانزل مكّة، فإن اطمأنّت بك الدار فسبيل ذلك، وإن نبَتْ بك لحقتَ بالرمال وشعف الجبال، وخرجتَ من بلدٍ إلى بلدٍ حتّى تنظر إلى ما يصير أمر الناس وتعرف عند ذلك الرأي،فإنّك أصوب ما تكون رأياً وأحزمه عملاً حين تستقبل الأُمور استقبالاً، ولا تكون الأُمور عليك أبداً أشكل منها حين تستدبرها استدباراً.

قال: يا أخي، قد نصحتَ فأشفقت، فأرجو أن يكون رأيك سديداً موفّقاً ((1)).

نموذج متأخّر: المفيد، المجلسي، البحراني، وغيرهم

فإنّه لمّا علم عزمَه على الخروج عن المدينة، لم يدرِ أين

ص: 90


1- تاريخ الطبري: 5 / 341.

يتوجّه، فقال له: يا أخي، أنت أحبّ الناس إليّ وأعزّهم علَيّ، ولستُ أدّخر النصيحة لأحدٍ من الخلق إلّا لك، وأنت أحقّ بها، تنحَّ ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، ثمّ ابعث رسلك إلى الناس فادعُهم إلى نفسك، فإن بايعك الناس وبايعوا لك حمدت الله على ذلك، وإن اجتمع الناس على غيرك لم يُنقِص الله بذلك دِينك ولا عقلك، ولا تذهب به مروّتك ولا فضلك، إنّي أخاف عليك أن تدخل مصراً من هذه الأمصار فيختلف الناس بينهم، فمنهم طائفةٌ معك وأُخرى عليك، فيقتتلون، فتكون لأوّل الأسنّة غرضاً، فإذا خير هذه الأُمّة كلّها نفساً وأباً وأُمّاً أضيعها دماً وأذلّها أهلاً.

فقال له الحسين (علیه السلام) : فأين أذهب يا أخي؟قال: انزل مكّة، فإن اطمأنَّت بك الدار بها فسبيل ذلك، وإن ثبت بك لحقتَ بالرمال وشعف الجبال، وخرجتَ من بلدٍ إلى بلدٍ حتى تنظر إلى ما يصير أمر الناس إليه، فإنّك أصوب ما تكون رأياً حين تستقبل الأمر استقبالاً.

فقال: يا أخي، قد نصحتَ وأشفقت، وأرجو أن يكون رأيك سديداً موفّقاً ((1)).

إنّ هذا النصّ المتفَّق عليه تقريباً بغضّ النظر عن الاختلافات،

ص: 91


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 32، بحار الأنوار: 44 / 326، العوالم للبحراني: 17 / 176، مناهل الضرب للأعرجي: 385، نفَس المهموم للقمّي: 71.

فإنّهم اتّفقوا على المضمون، ولا نريد أن نُطيل بذكر النصوص من باقي المصادر ((1))، فإنّها جميعاً تروي هذا المعنى بما فيها الفتوح، غير أنّها ترويها

ص: 92


1- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 40: فأمّا محمّد ابن الحنفيّة فإنّه أتاه، فقال: يا أخي، أنت أعزّ خلق الله علَيّ، ولستُ أدّخرك نصيحتي، تنحَّ عن الأمصار ما استطعت، ثمّ ابعث رسلك إلى الشام فادعُهم إلى نفسك، فإن بايعوك حمدت الله عليه، وإن اجتمع على غيرك لم يُنقِص الله بذلك دِينك ولا عقلك، ولا يذهب به مروءتك ولا فضلك، إنّي أخاف أن تأتي مصراً من الأمصار فيختلف الناس بينهم، فمنهم طائفةٌ معك والأُخرى عليك، فيقتتلوا، فتكون لأوّل الأسنّة، فإذا خير هذه الأُمّة نفساً وأباً وأُمّاً أضيعها دماً وأذلّها أهلاً. فقال له الحسين: فأين أذهب يا أخي؟ قال: انزل مكّة، فإن اطمأنّت بك الدار فسبيل ذلك، وإن نبَتْ لك لحقتَ بالرمال وشعف الجبال، وتنقّلتَ من بلدٍ حتّى يفرق لك الرأي، فتستقبل الأُمور استقبالاً وتستدبرها استدباراً. فقال: يا أخي، قد نصحتَ وأشفقت. الكامل لابن الأثير: 3 / 256: فإنّه قال له: يا أخي، أنت أحبّ الناس إليّ وأعزّهم علَيّ، ولستُ أدّخر النصيحة لأحدٍ من الخلق أحقّ بها منك، تنحَّ ببيعتك عن يزيد وعن الأمصار ما استطعت، وابعث رسلك إلى الناس وادعُهم إلى نفسك، فإن بايعوا لك حمدت الله على ذلك، وإن أجمع الناس على غيرك لم يُنقِص الله بذلك دِينك ولا عقلك، ولا تذهب به مروءتك ولا فضلك، إنّي أخاف أن تأتي مصراً وجماعة من الناس فيختلفوا عليك، فمنهم طائفةٌ معك وأُخرى عليك، فيقتتلون، فتكون لأوّل الأسنّة، فإذا خير هذه الأُمّة كلّها نفساً وأباً وأمّاً أضيعها دماً وأذلّها أهلاً. قال الحسين: فأين أذهب يا أخي؟ قال: انزل مكّة، فإن اطمأنّت بك الدار فسبيل ذلك، وإن نأت بك لحقتَ بالرمال وشعف الجبال، وخرجتَ من بلدٍ إلى بلدٍ حتّى تنظر إلى ما يصير أمر الناس ويفرق لك الرأي، فإنّك أصوب ما يكون رأياً وأحزمه عملاً حين تستقبل الأُمور استقبالاً، ولا تكون الأمور [عليك] أبداً أشكل منها حين تستدبرها. قال: يا أخي، قد نصحت وأشفقت، وأرجو أن يكون رأيك سديداً وموفّقاً إن شاء الله. نهاية الأرب للنويري: 20 / 380: فإنّه قال للحسين رضي الله عنهما: يا أخي، أنت أحبّ الناس إليّ وأعزّهم علَيّ، ولستُ أدّخر النصيحة لأحدٍ من الخلق أحقّ بها منك، تنحَّ ببيعتك عن يزيد وعن الأمصار ما استطعت، وابعث رسلك إلى الناس فادعُهم إلى نفسك، فإن بايعوك حمدت الله على ذلك، وإن اجتمع الناس على غيرك لم يُنقِص الله بذلك دِينك ولا عقلك، ولا يذهب به مروءتك ولا فضلك، إنّي أخاف أن تأتي مصراً وجماعةً من الناس فيختلفون عليك، فمنهم طائفةٌ معك وأُخرى عليك، فيقتتلون، فتكون لأوّل الأسنّة، فإذا خير هذه الأُمّة كلّها نفساً وأباً وأُمّاً أضيعها دماً وأذلّها أهلاً. قال الحسين: فأين أذهب يا أخي؟ قال: انزل مكّة، فإن اطمأنَّت بك الدار فسبيل ذلك، وإن نبَتْ بك لحقتَ بالرمال وشعف الجبال، وخرجتَ من بلدٍ إلى أُخرى حتّى تنظر إلى ما يصير أمر الناس ويفرق لك الرأي، فإنّك أصوب ما تكون رأياً وأحزمه عملاً حين تستقبل الأُمور استقبالاً، ولا تكون الأُمور أبداً أشكل منها حين تستدبرها. قال: قد نصحتَ وأشفقت، وأرجو أن يكون رأيك سديداً موفّقاً إن شاء الله. مقتل الحسين لأبي مخنف (المشهور): 14: فإنّه قال: يا أخي، أنت أعزّ الناس علَيّ وأحبّهم وأكرمهم لديّ، ولستُ أنصح أحداً أحبّ إليّ منك ولا أحقّ بالنصيحة، فبحقّي عليك إلّا ما أبعدتَ شخصك عن يزيد (لعنه الله)، وإيّاك والتعرّض له دون أن تبعث دعاتك في الأمصار، يدعون الناس إلى بيعتك، فإن فعل الناس ذلك حمدت الله، وإن اجتمعوا إلى غيرك فلم يُنقص الله بذلك فضلك، وإنّي خائفٌ عليك أن تأتي مصراً من هذه الأمصار في جماعةٍ من الناس فيختلفون عليك، فتكون بينهم صريعاً، فيذهب دمك هدراً وتنتهك حرمتك. فقال الحسين (علیه السلام) : يا أخي، فإنّي أجتهدُ أنزل مكّة، فإن اطمأنّت بيَ الدار أقمت ُ بها، وإن كانت الأُخرى لحقت بالرمال وسكنت الجبال، وأنظر ما يكون من الناس، وأستقبل الأُمور ولا أستدبرها. ثمّ قال لأخيه محمّد ابن الحنفيّة: أحسن الله جزاك، لقد نصحتَ يا أخي وأحسنت.

ص: 93

بدون زيادة ابن أعثم.

المستوى الثالث: البحث في الدلالات

اشارة

إنّ ثمّة مقدّمات ونكات ضروريّة ينبغي التقدّم بها قبل الخوض فيمتن الوصيّة، إذ إنّها تُعين على فهم دلالاتها، وربّما غيّرت المعنى تماماً عند المتلقّي والقارئ لها:

النكتة الأُولى: النصّ وصيّة

اشارة

يبدو أنّ من الواضح بما لا يحتاج إلى مزيد بيانٍ أنّ المتن الوارد عن سيّد الشهداء (علیه السلام) إنّما هو وصيّةٌ مكتوبةٌ باشر الإمام الحسين (علیه السلام) بنفسه كتابتها، ثمّ طواها وختمها بخاتمه ودفعها إلى أخيه محمّد ابن الحنفيّة.

ويشهد لذلك صياغتها والتصريح فيها بالوصيّة، وطريقة التعامل معها، كما سيتّضح من خلال الشواهد الّتي سنذكرها فيما يلي:

ص: 94

الشاهد الأوّل: دعا بدواةٍ وكتب فيه

بعد أن دار الحوار بين الإمام (علیه السلام) وابن الحنفيّة، قال: «ثمّ دعا الحسين بدواةٍ وبياضٍ وكتب فيه ...».

فهي ليست خطبة في الملأ، ولا كلام لفظيّ دار بين الإمام (علیه السلام) وبين أخيه أو رجلٍ آخر نطق به الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) وينتظر الردّ عليه أو التحاور فيه، وإنّما هو قطعة كُتبَت ليحتفظ بها.

الشاهد الثاني: التصريح بالوصيّة

لقد صرّح الإمام أبو الشهداء وسيّدهم (علیه السلام) بتعبيره عنها أنّها وصيّة، فقال في أوّلها: «هذا ما أوصى به الحسين بن عليّ بن أبي طالب لأخيه محمّد ابن الحنفيّة المعروف ولد عليّ بن أبي طالب»..ثمّ قال في آخرها: «هذه وصيّتي إليك يا أخي».

وفي هاتين العبارتين تصريحٌ واضحٌ لا لبس فيه، ولا يشكّ فيه ناظرٌ ولا يتردّد.

الشاهد الثالث: صياغة المقدّمة

«بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أوصى به الحسين بن عليّ بن أبي طالب لأخيه محمّد ابن الحنفيّة المعروف ولد عليّ بن أبي طالب:

إنّ الحسين بن عليّ يشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبدُه ورسوله، جاء بالحقّ من عنده، وأنّ الجنّة حقٌّ والنار حقّ، وأنّ الساعة آتيةٌ لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث مَن في القبور».

وهذه البداية واضحةٌ لائحة، تُخبر عن صياغة الوصيّة المعتادة عند

ص: 95

المسلمين منذ القديم، وسيأتي الحديث عنها ضمن الكلام عن فقرات الوصيّة إن شاء الله تعالى.

الشاهد الرابع: ختمها

قال: ثمّ طوى الكتابَ الحسين، وختمه بخاتمه، ودفعه إلى أخيه محمّد ابن الحنفيّة.

طوى سيّد الشهداء (علیه السلام) الكتاب، وختمه بخاتمه، ودفعه مطويّاً مختوماً، وهو ما يُفعَل بالوصيّة عادة.

* * * * *من الواضح أنّ الوصيّة إنّما تُفتَح بعد الوفاة.. ونحن لا ندري ما إذا كان ابن أعثم يروي لنا نصّ الوصيّة بعد شهادة الإمام السبط (علیه السلام) ، كأن يكون قد رواها عن ابن الحنفيّة بعد أن فتحها حينما بلغه خبر استشهاد الإمام المظلوم (علیه السلام) ، فقال مثلاً: إنّ البياض الّذي كتبه سيّد الشهداء (علیه السلام) عند توديعي والوصيّة الّتي ختمها ودفعها لي كانت تحتوي على هذا النصّ؟!

أو أنّه يرويها مباشرة، وأنّ الإمام حينما كتبها بلغت الراوي قبل أن يختمها ويدفعها لأخيه؟

وكيف كان، فإنّ الوصيّة لا يمكن أن تحتوي على منهاج عملٍ يريد أن يفعله الإنسان في حياته، وإنّما يكتب فيها ما يريد أن يبقى من بعده..

وكيف يضمّنها منهاجاً وبرنامجاً يريد أن يحقّقه ويسعى إلى تطبيقه

ص: 96

ويأمل أن ينفّذه وهو عازمٌ على الرحيل، وعالمٌ أنّه سوف لا يبقى في هذه الدنيا؟!

الوصيّة تُفتَح بعد الموت.. فإذا مات الرجل فما يعني أن يقول: إنّي أُريد أن أفعل كذا وكذا؟

سيّما إذا لاحظنا استخدام صيغة النفي ب- «لم».. «لم أخرج».. وهي صيغةٌ تفيد الماضي، واستخدام صيغة الماضي في قوله: «وإنّما خرجتُ»، باعتبار أنّ الوصيّة ستُفتَح بعد شهادته، فهو يتحدّث ويُخبر عن شيءٍ مضى، ويفسّر خروجاً انقضى.ولم يستخدم سيّد الشهداء (علیه السلام) _ وهو معدن البلاغة والفصاحة ومالك اللغة _ صيغة المضارع الدالّة على الاستقبال، ليُستفاد منها برنامج عمله وخطّة حركته وقيامه وما يروم من إقدامه على هذا الفعل، فيقدّم للناس ما هو عازمٌ على فعله إذا ما استولى على الحكم واستتبّ له الأمر، وإنّما يفسّر لهم ما هم عاجزون عن إدراكه وتفسيره، بعد أن وقعت الواقعة وقُضيَ الأمر!

فلا يمكن أن يُستفاد من هذه الوصيّة كبرنامجٍ لخطّةٍ مستقبليّةٍ رسمها سيّد الشهداء (علیه السلام) ليعمل بها نفسه، كيف وهي وصيّة؟ إنّما سيطّلع على مضامينها ابنُ الحنفيّة وغيره بعد أن يُجاور سيّد الشهداء ربَّه ويتسنّم ذُرى الجِنان وينال الدرجة الّتي لا ينالها إلّا بالشهادة..

فهي ردٌّ على الافتراءات والمزاعم وتفسيرٌ لما حصل، وليست برنامج عملٍ كما يصوّره البعض، وسيأتي بيان ذلك بالتفصيل عمّا قريبٍ إن

ص: 97

شاء الله تعالى.

النكتة الثانية: المخاطَب بالوصيّة

اشارة

توجّهَت هذه الوصيّة _ كما يبدو واضحاً للمتأمّل فيها _ إلى مخاطَبَين:

المخاطَب الأوّل: محمّد ابن الحنفيّة

يبدو من هذه الوصيّة أنّها موجَّهةٌ بالأساس إلى محمّد ابن الحنفيّة،وهذا ما صرّح به سيّد الشهداء (علیه السلام) نفسه، إذ قال في أوّلها: «هذا ما أوصى به الحسين بن عليّ بن أبي طالب لأخيه محمّد ابن الحنفيّة ...».

وقال في آخرها: «هذه وصيّتي إليك يا أخي».. ثمّ سلّم عليه بضمير الخطاب: «والسلام عليك».

ويشهد لذلك أيضاً أنّه (علیه السلام) طواها وختمها ودفعها إلى أخيه بالخصوص دون غيره.

فهو المخاطَب الوحيد، أو إن شئتَ فقُل: هو المخاطَب الأساس، وربّما كان هو المخاطَب وقصد معه غيره، من باب (إيّاكِ أعني واسمعي يا جارة).

المخاطَب الثاني: مَن اتّبع الهدى

ختم الوصيّة سيّد الشهداء (علیه السلام) بقوله: «والسلام عليك وعلى مَن اتّبع الهدى»..

أشعر إفراد ابن الحنفيّة بالسلام، وعزله عن السلام الثاني العامّ أنّ

ص: 98

السلام الثاني غير السلام الأوّل؛ إذ أنّ ابن الحنفيّة ممّن اتّبع الهدى، فيمكن أن يكون داخلاً تحت العنوان العامّ.

بيد أنّ قوله: ﴿وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى﴾ آيةٌ قرآنيّةٌ وردت في سورة طٓه، فيما علّم الله موسى وهارون ما يقولانه لفرعون عند لقائه، فحمّلهما رسالةً لفرعون فقال: ﴿فَأْتِياهُ فَقُولا إِنّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَني إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى﴾.

ولمّا كان فرعون ليس ممّن اتّبع الهدى في تلك اللحظة، خاطباه بهذا الخطاب لرعاية آداب الحوار.

وقد استخدمها النبيّ (صلی الله علیه و آله) الكريم في غير موضعٍ حينما كتب رسالةً إلى ملوك الفرس والروم وغيرهم ممّن لا يؤمن بالله العظيم.

فهو خطابٌ لا يُخاطَب به المؤمنين عادة، وإنّ لذلك شواهد وأمثلة كثيرة، فإذا خوطب به مؤمنٌ يكون خلاف شأنه ولا يليق بمقامه، ويفيد الاعتراف بإيمانه، لأنّه مؤمن، والمؤمن يُسلَّم عليه مباشرة، كما فعل سيّد الشهداء (علیه السلام) في سلامه على أخيه ابن الحنفيّة.

يلزم ممّا تقدّم أن يكون المخاطَب الآخر الّذي سلّم عليه سيّد الشهداء (علیه السلام) في آخر وصيّته هو مَن يستحقّ هذا النوع من السلام ويُخاطَب بمثل هذه الصيغة.

والمحصَّل من ذلك أنّ المخاطَب الآخر ليس من المؤمنين، وإنّما هو من المتمرّدين على الله وعلى رسوله وعلى أئمّة الهدى (علیهم السلام) .

ص: 99

فالمؤمن لا يحتاج إلى بيانٍ وتفسيرٍ لقيام سيّد الشهداء (علیه السلام) وحركته؛ لأنّه معتقدٌ بإمامه، واثقٌ من أنّه لا يصدر إلّا عن الله تبارك وتعالى، وهو يعتقد بعصمته، فلا يتّهمه بالأشر والبطر والإفساد والظلم..

وإنّما يفعل ذلك مَن يجهل الإمام (علیه السلام) أو يخاصمه ويعاديه ويتّهمه ويفتري عليه، وقد ردّ عليه الإمام (علیه السلام) بوصيّته، وسلّم عليه بشرط أنيتوب ويثوب ويتّبع الهدى فيشمله السلام، وإلّا فلا.

النكتة الثالثة: مكان صدور الوصيّة

إنّ من المهمّ جدّاً تحديد مكان كتابة الوصيّة وصدورها، لِما له من أثرٍ فاعلٍ في فهم النصّ وتحديد وجهته وأغراضه.

فقد صدرت الوصيّة _ كما هو واضحٌ من المتن _ في المدينة المنوّرة، وفي الساعة الأخيرة قبل أن يتوجّه سيّد الشهداء (علیه السلام) بمَن معه في ركب الشهادة الفاتح إلى مكّة المكرّمة.

قال ابن أعثم:

وتهيّأ الحسين بن علي، وعزم على الخروج من المدينة، ومضى في جوف الليل إلى قبر أُمّه فصلّى عند قبرها وودّعها، ثمّ قام عن قبرها وصار إلى قبر أخيه الحسن ففعل مثل ذلك، ثمّ رجع إلى منزله، وفي وقت الصبح أقبل إليه أخوه محمّد ابن الحنفيّة ((1)).

ص: 100


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 19.

وفي هذا تصريحٌ أنّ مجيء محمّد ابن الحنفيّة كان عندما عزم سيّد الشهداء (علیه السلام) على الخروج من المدينة، وبعد أن زار قبر أُمّه وأخيه وودّعهما الوداع الأخير.

وذكر أيضاً قول أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) لأخيه ابن الحنفيّة: «وإنّي قدعزمتُ على الخروج إلى مكّة».

وقال بعد أن ذكر وداعه مع أخيه ابن الحنفيّة: «وخرج في جوف الليل يريد مكّة بجميع أهله» ((1)).

النكتة الرابعة: زمان كتابة الوصيّة

قال ابن أعثم:

وتهيّأ الحسين بن عليّ وعزم على الخروج من المدينة، ومضى في جوف الليل إلى قبر أُمّه فصلّى عند قبرها وودّعها، ثمّ قام عن قبرها وصار إلى قبر أخيه الحسن ففعل مثل ذلك، ثمّ رجع إلى منزله، وفي وقت الصبح أقبل إليه أخوه محمّد ابن الحنفيّة ((2)).

وقال في آخر الوصيّة:

ثمّ طوى الكتابَ الحسين وختمه بخاتمه، ودفعه إلى أخيه محمّد ابن الحنفيّة، ثمّ ودّعه وخرج في جوف الليل يريد مكّة

ص: 101


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 21.
2- الفتوح لابن أعثم: 5 / 19.

بجميع أهله، وذلك لثلاث ليالٍ مضين من شهر شعبان في سنة ستّين، فجعل يسير ويقرأ هذه الآية: ﴿فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي من الْقَوْمِ الظَّالِمِين ﴾ ((1)).

في النصّ الأوّل الّذي تحدّث فيه ابن أعثم عن وداع سيّد الشهداء (علیه السلام) لقبر أُمّه وأخيه، أخبر أنّه (علیه السلام) ودّعهما في جوف الليل، وفي وقت الصبح من تلك الليلة أقبل إليه أخوه محمّد ابن الحنفيّة.. ثمّ قال بعد أن تمّت كتابة الوصيّة: إنّ الإمام دفعها لأخيه، ثمّ ودّعه وخرج في جوف الليل يريد مكّة، فيلزم أن يكون هذا الليل غير الليلة الّتي ودّع فيها قبر أُمّه وأخيه؛ إذ أنّ ابن الحنفيّة جاءه عند وقت الصبح..

ويلزم أيضاً أن يكون سيّد الشهداء (علیه السلام) قد بقيَ نهاره ذاك كلّه في المدينة بعد أن دفع وصيّته لأخيه، وذلك لأنّ ترتّب الأحداث حسب النصّ يقضي أن يكون ابن الحنفيّة قد جاء وقت الصبح عند الإمام (علیه السلام) وحدّثه، وكتب له الإمام (علیه السلام) الوصيّة ودفعها إليه، وانطلق في جوف الليل، وهذا يعني أنّه قد قضى نهاره ذلك كلَّه في المدينة حتّى هبط الليل وأرخى سدوله وتوغّل في ظلمته ونشر فحمته وبلغ جوفه، ثمّ تحرّك الركب ميمّماً مكّة.

هذا ما يُستفاد من مجموع العبارتين السابقة واللاحقة للوصيّة، بيد أنّ الملاحِظ يتنبّه إلى ارتباكٍ بيّنٍ في صياغة العبارة، نتيجة التفريعات

ص: 102


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 20.

واستشعار تتابع الأحداث وترتّب بعضها على بعض، فكأنّ مجيء ابن الحنفيّة وكلامه وكتابة الوصيّة ووداعه والانطلاق نحو مكّة كلّها مشاهد متلاحقة لا يفصلها شيء من مقاطع الزمن، والحال أنّ التدقيق يكشف وقوع زهاء نهارٍ كاملٍ بين الحوار والانطلاق.

كيف كان، فإنّ الظاهر من السياق أنّ الوصيّة كُتبَت في اليوم الأخيرمن وجود خامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) في المدينة المنوّرة، وقد كتبها قبل تركه وطن جدّه ومسقط رأسه..

وقد شذّ ابن أعثم في تحديد التاريخ هنا، إذ أنّه صرّح أنّ الركب انطلق من المدينة لثلاث ليالٍ مضين من شهر شعبان في سنة ستّين، والحال أنّ المشهور المعروف أنّه خرج ليومين بقيا من رجب سنة ستّين ((1))، كما ذهب إليه البلاذري والطبري والمفيد والفتّال والطبرسي والدياربكري وابن الجوزي واليافعي وغيرهم..

ص: 103


1- جمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 215، تاريخ الطبري: 5 / 343، الإرشاد للمفيد: 2 / 32، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار: 44 / 326، العوالم للبحراني: 17 / 176، مناهل الضرب للأعرجي: 385، نفَس المهموم للقمّي: 71، الإفادة للزيدي: 56، الاستيعاب لابن عبد البر: 1 / 381، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2572، تاريخ الخميس للدياربكري: 2 / 331، نور الأبصار للشبلنجي: 256، اعلام الورى للطبرسي: 223، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 324، مرآة الجنان لليافعي: 1 / 132.

النكتة الخامسة: المطلوب في الوصيّة

تُكتَب الوصيّة ويُعيَّن فيها الوصيّ حينما يُراد منه تنفيذها، فيكلَّف الوصيُّ بالقيام بها بعد وفاة الموصي، كأن يوصيه بما يهمّه في أمر ماله أو أهله أو عباداته وما شاكل..

وربّما كانت الوصيّة يخاطَب بها أحدٌ أو قومٌ أو عشيرةٌ أو قبيلةٌ أو طائفةٌ من الناس أو كلّهم، ويُطلَب منهم تنفيذها أيضاً، كأن يقال لهم: اتّقوا الله، أو اعملوا كذا ولا تعملوا كذا..

وربّما يُكتَب في الوصيّة شيءٌ لا يُقصَد به العمل به أو تنفيذه، وإنّما يُقصد منه ما يخصّ شأنه في الآخرة، كأن يتوسّل بالله وبآل البيت (علیهم السلام) ، ويتمنّى شيئاً يكرم به مثواه وتؤمّن به آخرته..أو أنّه يتعرّض لبيان بعض الحقائق والاعتقادات وما شابه ذلك، كما يفعل عادةً في أوّل الوصيّة من ذكر الشهادات، لبيان أنّ الميّت قد مات عليها وأنّها عقائده الّتي عاش بها وسيُحشَر عليها، ويُفسِّر أفعاله الّتي منعته الأيّام وضيقُها عن بيانها وتفسيرها وتفهيمها للآخرين..

وثمّة أغراض وبواعث أُخرى كثيرة لا ينفعنا حصرها هنا.

والظاهر من هذه الوصيّة _ بشهادة فقراتها _ الغرض الأخير، أي: إنّ الإمام (علیه السلام) تعرّض فيها لبيان بعض الحقائق، وتفسير ما فعله وإيضاح ما عجز عن إدراكه الآخرون، فهي في الحقيقة وصيّةٌ تفسيريّةٌ بيانيّةٌ توضيحيّة، يردّ فيها سيّد الشهداء (علیه السلام) على المعترضين والأعداء المغرضين، ويشرح فيها للمحبّين ويكشف لهم عمّا غاب عنهم، ولا

ص: 104

يظهر منها أنّه يُقدّم برنامج عملٍ لِما سيقوم به ولا الدعوة للاقتداء به، وإنّما يريد أن يردّ على مَن يفتري عليه فيما بعدُ بعبثيّة ما قام به، أو يبيّن لمن جهلها حقيقة أمره.

أما أصل الاقتداء بالإمام المعصوم (علیه السلام) فهو بحثٌ مفصَّلٌ لا يسعه هذا الموضع، وغاية ما نريد بيانه هنا أنّ الغرض من الوصيّة ليست هي الدعوة للاقتداء، أأمّا الاقتداء بأفعاله كإمامٍ فقد تناوله فطاحل العلماء وبحث فيه كبار الفقهاء، ولكلٍّ مذهبه في ذلك في تحديد ما إذا كان فعل سيّد الشهداء (علیه السلام) تكليفاً خاصّاً به أو أنّه تكليفٌ عامّ؟

ونحن لا نريد الخوض في هذا البحث؛ لأنّنا لسنا ممّن يقاس بأُولئكالعلماء، ولا يسمح لنا حجمنا في اقتحام لجج أُولئك الفقهاء الأعلام، ورحم اللهُ امرئاً عرف قدر نفسه، وليس هذا المقام موضع التعرّض لمثل هذه المسألة، فالبحث هنا تاريخيّ.

لكنّ ما نريد الإشارة إليه هنا هو أنّ ظاهر الوصيّة الّذي يشهد به السياق والسوابق واللواحق هو التفسير والبيان والتوجيه والردّ، لا الدعوة إلى الاقتداء، وهذا واضحٌ لا غبار عليه، ونحسب أنّه لا يحتاج إلى كثير تأمّل.

النكتة السادسة: ظروف صدور الوصيّة

الظرف الأوّل: مشهد خروج سيّد الشهداء (علیه السلام)

إنّ مشهد خروج الإمام الحسين (علیه السلام) _ وهو ظرف صدور الوصيّة

ص: 105

أيضاً _ من المفاصل الضروريّة في دراسة قيام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ويمكن من خلال معرفته بشكلٍ دقيقٍ تمييز الكثير من التصوّرات والانعكاسات المهمّة والمؤثّرة في فهم القيام، بيد أنّ دراسة ذلك لا يسعها هذا البحث، وسيأتي مزيد بيانٍ خلال هذه الدراسة، ويمكن أن نقول هنا بكلمةٍ واحدة:

إنّ الإمام الحسين (علیه السلام) لم يخرج من المدينة بسيّافةٍ ولا ترّاسة ((1))، وإنّما خرج من المدينة خائفاً يترقّب في أهل بيته، وقد بات الإمام (علیه السلام) في مدينة جدّه مهدَّداً، مباح الدم، مطلوباً للقتل، معرَّضاً في كلّ آنٍ لأن تُهتَك به حرمة المدينة المنوّرة، فخرج _ فداه العالمين _ متوجّهاً إلى مكّة، ولم يبدُ على حركته (علیه السلام) من المدينة أنّه عازمٌ على القيام أو «الخروج الإصطلاحيّ»، ولم يصرّح أيّ تصريحٍ يفيد ذلك.. وغاية ما فعله ثمّة أنّه تقبّض عن البيعة ((2))، وجعله العدوُّ بين خياراتٍ لا مناص عنها: إمّا

ص: 106


1- أُنظر: الأمالي للشجري: 1 / 167.
2- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 55، الإمام الحسين (علیه السلام) من تاريخ دمشق لابن عساكر، المحمودي: 200، تهذيب ابن بدران: 4 / 327، مختصر ابن منظور: 7 / 138، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2607، 2572، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 415، تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 341، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 198، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 162، نسب قريش للزبيري: 133، الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 1 / 175، جمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 368، 5 / 316، الأخبار الطوال للدينوري: 229، تاريخ اليعقوبي: 2 / 215، تاريخ الطبري: 5 / 339، 347، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 323، الأمالي للشجري: 1 / 170، 190، الإصابة لابن حجر: 1 / 332، تهذيب التهذيب لابن حجر: 2 / 349، العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 376، جواهر المطالب للباعوني: 2 / 263، إثبات الوصيّة للمسعودي: 126، التنبيه والإشراف للمسعودي: 303، الأمالي للصدوق: 151، بحار الأنوار: 44 / 312، 324، العوالم للبحراني: 17 / 161، 173، الإرشاد للمفيد: 2 / 30، روضة الواعظين للفتال: 146، الاستيعاب لابن عبد البر: 1 / 381، تاريخ الخميس للدياربكري: 2 / 331، نور الأبصار للشبلنجي: 256، إعلام الورى للطبرسي: 222.

البيعة وهي ما لا يمكن المصير إليها أبداً، أو القتل والقتال في المدينة، وبهذا تُهتَك حرمتها، وهو ما لا يريده سيّد شباب أهل الجنّة، أو الخروج منها، فخرج _ بأبي هو وأمّي _.

وكذلك الأمر في خروجه من مكّة، حيث أُبيح دمه، ودُبّر اغتياله ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة ((1))، فخرج منها متوجّهاً إلى الكوفة، حيث كانت ثمّة بعض الأصوات الواعدة بالنصر والدفاع عنه وفق ما ورد عليه من كتبهم ورسلهم، وهو عالمٌ جازمٌ متيقّنٌ تماماً وعدَ الله، وأنّه مقتول، فأصحر لمن معه وللعالمين بما قاله في البيان العظيم لمّا عزم (علیه السلام) على المسير إلى العراق، فقام خطيباً وقال:

الحمد لله، وما شاء الله، ولا قوّة إلّا بالله، وصلّى الله على رسوله وآله وسلّم.

ص: 107


1- سيأتي بحثه مفصّلاً إن شاء الله تعالى.

خُطّ الموت على وُلد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخيّر لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تقطّعها عُسلان الفلَوات بين النواويس وكربلاء، فيملأنّ منّي أكراشاً جوفاً وأجربةً سُغباً، لا محيص عن يومٍ خُطّ بالقلم، رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفّينا أُجور الصابرين، لن تشذّ عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لُحمته، هي مجموعةٌ له في حظيرة القدس، تقرّ بهم عينه وينجز لهم وعده.

مَن كان باذلاً فينا مهجته، وموطّناً على لقاء الله نفسه، فلْيرحل معنا، فإنّي راحلٌ مصبحاً إن شاء الله ((1)).

هذا هو البيان الأوّل المعلِن للانطلاق من مكّة إلى العراق.. يبدأ بخطّ الموت على وُلد آدم، ويمرّ بالشوق للأسلاف والوله للقاء الماضين في مقعد صدقٍ عند مليك العالمين، ويختصر المصيبة العظمى بانتظار المجرمين وتوثّبهم وتلهّفهم لملء أكراشهم وأجربتهم الجوعى السغبى، ثمّ التسليم لأمر الله وقضائه لليوم الّذي خُطّ بالقلم، ويختم بدعوة مَن توفّر فيه شرطان، هما: أن يكون باذلاً مهجته «فيهم».. «فيهم»! وموطّناً على لقاء الله نفسه!

ص: 108


1- أُنظر: نزهة الناظر للحلواني: 86، اللهوف لابن طاووس: 60، كشف الغُمّة للإربلي: 2 / 29، مثير الأحزان لابن نما: 41، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 230، بحار الأنوار: 44 / 366، العوالم للبحراني: 17 / 173.

ولو كان قد وُجد في مكّة مَن يحبّه وينصره ولا يخذله لَما خرج منها أبداً، كما قال هو بنفسه (علیه السلام) في كلامه مع ابن عبّاس وابن عمر:

فإنّي مستوطنٌ هذا الحرم، ومُقيمٌ فيه أبداً ما رأيتُ أهله يحبّوني وينصروني، فإذا هُم خذلوني استبدلتُ بهم غيرَهم، واستعصمت بالكلمة الّتي قالها إبراهيم الخليل (علیه السلام) لوات يوم أُلقي في النار: ﴿حَسبيَ الله وَنِعمَ الوَكيلُ﴾، فكانت النار عليه برداً وسلاماً ... وأقام الحسين (علیه السلام) بمكّة، قد لزم الصوم والصلاة ((1)) ((2)).

* * * * *

ولم ينقل لنا التاريخ أنّ ركب سيّد الشهداء (علیه السلام) كان ركبَ حربٍ وقتالٍ وهجومٍ مُدجّج بالسلاح ومثقل بالحديد والرماح، بل كان صورته في المنطلَقَين (المدينة ومكّة) على العكس من ذلك تماماً، فهو مجموعةٌ من النساء والأطفال، وعدد من الشبّان والفتيان من ذوي الأعمار الّتي لا تبلغ مرحلة الشباب أحياناً، من أمثال القاسم بن الحسن وأترابه من أولاد عقيل وأحفاده (علیهم السلام) ، وأكثرهم كان ممّن لم يُباشر قبل يوم الحسين (علیه السلام) قتالاً ولا مارس حرباً، رغم أنّهم أبهروا العقول وأذهلوا التاريخ، وأبدَوا مهاراتٍ قتاليّةً عاليةً لم يعهد صناديد عسكر السقيفة لها مثيلاً، لكن بالرغم من ذلك فإنّ قبل يوم الطفّ لم يكن هؤلاء الأبطال

ص: 109


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 44، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 193.
2- سيأتي إن شاء الله دراسة ظروف خروجه (علیه السلام) من مكّة بالتفصيل.

معروفين كرجال حربٍ بين الناس، فهم بين شابٍّ فتي، وبين فتىً لم يبلغ الحلم أو إنّه راهق، فالركب في ظاهر الحال لم يكن ركباً عسكريّاً إلّا في بعض رجاله، من قبيل نفس الإمام الحسين (علیه السلام) وأخيه أبي الفضل العبّاس (علیه السلام) ومسلم بن عقيل (علیهما السلام) .

وحملُ مقدارٍ من السلاح يحمي به المسافر نفسه ومن معه كان من ضروريّات السفر يومئذ، فلا يُعدّ المسافر الحامل للسيف أو الرمح أو كنانة النبل والقوس محارباً، وإنّما هي طبيعة الحركة في صحراء قاحلة معرّضة للسلب والنهب والتبييت.

ومن الواضح أنّ العدد الكبير من النسوة والأطفال الّذين كان يربو كثيراً على عدد الرجال الكبار، وقد خرج هؤلاء النسوة في كفالة مَن معهنّ من الرجال، فلابدّ أن يحملوا السلاح لحماية الركب رجالاً ونساءاً وشبّاناً وأطفالاً.

هذا والركب ليس ركباً عاديّاً يقطع الصحراء ليصل إلى مدينةٍ ما، بل هو ركبٌ مهدَّدٌ قد خرج من المدينة، والوالي مأمورٌ بقتل سيّدهم وإمامهم، وخرج من مكّة بعد أن بيّتوا قتله واغتياله، وأزلام القرد الأُمويّ ينتهزون منه الغرّة، ولا زالت كلاب السقيفة تعوي وتنتشر في كلّ منزلٍ وماءٍ وقريةٍ ومدينة، بل إنّ ذئاب الغابة الأُمويّة كانت تجوب الصحراء.

فمن الطبيعيّ إذن أن يحمل الركب معه مقداراً من السلاح ليحمي نفسه ومن معه، وهذا المقدار من السلاح لا يُعبَّر عنه بالسيّافة

ص: 110

والترّاسة ((1))؛ لما في هذا التعبير من إيقاعٍ حربيٍّ وجرسٍ تحذيريّ، وهو مُشعِرٌ بالإعداد والتسربل بالسلاح، وكأنّهم جيشٌ يُقلِق الصحراء باصطكاك عدّته وصهيل خيّالته ورجّالته.

هذا باختصارٍ ربّما يكون مُخِلّاً، غير إنّه كافٍ هنا لما نحن فيه، إذ يكشف لنا أنّ حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة ومكّة لم تكن في صورة جيشٍ وعسكرٍ قادمٍ على حربٍ وقتال، ولم يبدُ عليها أنّها كانت حركةً هجوميّة، وربّما كان هذا التصوير كلّه من أضاليل الأُمويّين، كما سنسمع فيما يأتي إن شاء الله.

الظرف الثاني: دم الإمام مطلوبٌ على كلّ حال

قال الجرو الأُمويّ ابنُ زيادٍ في ردّه على وصيّة ((2)) البطل الطالبيّ مسلم بن عقيل: وأمّا حسين، فإنّه إن لم يُردنا لم نرده ((3)).. مَن هو هذا الوضيع القزم المتهالك في خدمة القرد الأُمويّ الأجرب حتّى يريده أو يرده الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، أو يقصده بأيّ مستوىً من المستويات الّتي تجعله قريناً لسيّد الكائنات يومها وسيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ؟!

ثمّ إنّه كذب وفجر _ لعنه الله _ إذ إنّه طلب دم سيّد الشهداء (علیه السلام) من دون أن يريده أو يرده الإمام (علیه السلام) ، وإلّا فما الّذي دعاه أن ينظم

ص: 111


1- سيأتي قريباً إن شاء الله بحث المتون والنصوص التاريخيّة الواردة في المقام.
2- ناقشنا مفصّلاً الوصيّة وجواب ابن زياد في كتاب مسلم بن عقيل وقائع الشهادة، والنصّ مقتبس من هناك.
3- جمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 2 / 339، تاريخ الطبري: 5 / 375.

الصحراء خيلاً ورجالاً، ويرسل الكتائب تجوب الفيافي، ويفرضعلى الحرّ أن يمنعه من الرجوع أو التوجّه إلى أيّ جهةٍ إلّا أن ينزل على حكم الأدعياء أو يُقتَل هو ومن معه؟!

ومتى أرادهم الإمام الأبيّ؟

ففي المدينة أبى البيعة، فطُلب دمه، وأمر القرد الشاميّ الأجرب أن يبعث له الوالي برأس ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) مع جواب الكتاب ((1))، فخرج _ فداه روحي _ من المدينة وقد ضيّعوه وخذلوه وتركوه وحيداً ((2)).

توجّه إلى مكّة، وفيها طلبوا دمه، ودبّروا لقتله ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة ((3))، فخرج حبيب الله متوجّهاً إلى حيث أمره الله، حيث وصلت كتب الكوفيّين ورسلهم تدعوه إليهم.

وبعد أن قطعوا عليه الطريق في الصحراء عرض عليهم أن يرجع إذ خذلوه وكرهوا قدومه! فأبوا إلّا أن ينزل على حكم ابن زيادٍ أو يزيد، فأبى أن يُعطيهم بيده إعطاء الذليل ((4)).

فمتى _ إذن _ أرادهم وقصدهم؟ ((5)) وهل يمكن أن يكون مثل ابن

ص: 112


1- أُنظر: تاريخ اليعقوبي: 2 / 215، الفتوح لابن أعثم: 5 / 11، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 180.
2- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 18.
3- أُنظر: بحار الأنوار: 45 / 98.
4- أُنظر: الإرشاد للمفيد: 2 / 100، إعلام الورى للطبرسي: 240.
5- هذا كلّه مبنيّ على أنّ قيام سيّد الشهداء (علیه السلام) كلّه كان دفاعاً ولم يكن هجوماً أو ما يصطلح عليه عند المتأخّرين ب- «الخروج الاصطلاحيّ»، ولإثبات ذلك موضعٌ آخر.

زيادٍ رقماً يعتدّ به سيّد الشهداء (علیه السلام) ويحسب له ويجعل نفسه بإزائه؟ إنّ هذا لهو البهتان العظيم!

بل على العكس تماماً، كان ابن زياد مأموراً بملاحقة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وكان متوثّباً هو وأزلامه من قبيل عمر بن سعد للقضاء عليه واستئصال شأفة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وآل الله (علیهم السلام) جميعاً، وكانوا ينتظرون أنتعلِق مخالبهم به، فيقطّعون أوصاله ويملؤون منه أكراشاً، ويُشبِعون نهمهم لدماء آل أبي طالب، وينتقمون من سيّد الأنبياء (صلی الله علیه و آله) وسيّد الأوصياء (علیه السلام) ، ويثأرون لبدرٍ وأُحُدٍ والمشاهد الأُخرى.

أوَليس ابن زيادٍ هو القائل:

الآن إذ علقت مخالبنا به

يرجو النجاة ولات حين مناص! ((1))

وقد أصدر الدعيّ ابن الأدعياء الأوامر الصارمة لعبده ابن زياد وهدّده إن لم يظفر بسيّد الشهداء (علیه السلام) ، فكشفت تلك القرارات عن أجواء الرعب الّتي خيّمَت على المنطقة الممتدّة في الصحراء الّتي يتحرّك فيها الركب الحسينيّ الفاتح، وتُنبئ عن الارتجاج والزلزال الهائل الّذي ضرب الكوفة وضواحيها ومخارجها وموالجها، فالعيون حادّةٌ محدقةٌ تحصي الأنفاس في جميع الأرجاء، وتمتدّ إلى أقصى الخصوصيّات وتخترق حريم العشائر والقبائل والدور والبيوت والقوافل، والحركة مرصودةٌ ولو

ص: 113


1- تاريخ الطبري: 5 / 411، الكامل لابن الأثير: 4 / 53.

كانت دبيباً في رمال المفاوز والصحاري والقفار، والمسالح والمناظر والمراصد مزروعةٌ في كلّ اتّجاه، والربايا تجعل الطرق تحت الإشراف المباشر لملاحقات العساكر.. العساكر الّتي كانت تجوب الصحراء، تبحث عن الصيد السماويّ الأعظم.. المتعطّشة للولوغ في الدماء الزاكية، المتألّبة على انتهاك حرم الله وحرم رسوله.. وقد أعدّت مخالبها وأنيابهالتقطيع أوصال العترة الطاهرة، واشتدّ ولعها وتجيّش توحّشها لاستخراج العلقة من جوف سيّد الشهداء (علیه السلام) ..

وقد أُطلقت الوحوش الكاسرة على كلّ ما هبّ ودبّ في الكوفة، لتكون مجرّد التهمة كافيةً لاستباحة الحريم، والظنّة موجبةً لسفك الدم..

لقد التهبت شوارع الكوفة وأزقّتها، وانتشرت النار إلى أطرافها وأكنافها والمنازل والطرق المؤدّية إليها، واستسلم الناس فيها للطاغية حينما استخفّهم فأطاعوه، فازدحمت المناهج والسكك بالرجال، يتكالبون على التقرّب إلى ابن الأمة الفاجرة، فارتفع الضجيج وتعالى الصخب، وانبثّت الضوضاء تلفّ الأجواء، وتداخلت أصوات قعقعة السلاح وصهيل الخيل ودبك حوافرها وسنابكها وأزيز شحذ السيوف وبري الرماح وقدح النبال، وزعقات الرجال يخبطون الأرض ويثيرون رمال الفيافي والصحراء، يستعدّون لارتكاب الجريمة العظمى! ((1))

فأغضبَت اللهَ في قتلِهِ

وأرضَتْ بذلك

شيطانها

عشيّةَ أنهضَها بغيُها

فجاءتهُ تركبُ طُغيانَها

ص: 114


1- اقتباسٌ من كتاب (مسلم بن عقيل.. وقائع الشهادة).

بجمعٍ من الأرض سدَّ الفروج

وغطّى النجود وغِيطانها ((1))

فالإمام ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) مطلوبٌ على كلّ حال، وقد ضيّقوا عليه الدنيا برحبها.

ويضيّقُ الدنيا على ابن محمّدٍ

حتّى تقاذَفَه

الفضاءُ الأعظمُ

خرج الحسينُ من

المدينة خائفاً

كخروج موسى

خائفاً يتكتّمُخرج الحسينُ من

المدينة خائفاً

كخروج موسى

خائفاً يتكتّمُ

وقد انجلى عن مكّةٍ، وهو ابنُها

فكأنّما المأوى

عليه محرّمُ

لم يَدْرِ أين يُريح بُدْنَ ركابِهِ

وبه تشرّفَتِ

الحطيمُ وزمزمُ

روى الصدوق في أماليه مسنداً عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) في حديث، قال: كتب الجواب إلى عتبة: أمّا بعد، فإذا أتاك كتابي هذا فعجِّلْ علَيّ بجوابه، وبيِّنْ لي في كتابك كلَّ مَن في طاعتي أو خرج عنها، ولْيكن مع الجواب رأسُ الحسين بن علي.

فهو يطلب من عامله أن يكتب له بمن في طاعته أو خرج عنها، إلّا سيّد الشهداء (علیه السلام) فإنّه يطلب رأسه!!

فكان غاية ما يصبو ويرنو إليه أخوه ابنُ الحنفيّة وأقصى ما يتمنّاه أن يجد موضعاً يطمئنّ إليه الإمام، ويبقى هو وأهل بيته في مأمنٍ من كيد الأعداء ومخالب الوحوش، فيتقدّم للإمام أن يذهب إلى مكّة، فإن اطمأنّت به فهو المراد، وإن نبَتْ به!! مكّة الحرم الآمن للخلائق أجمعين تنبو بسيّد شباب أهل الجنّة؟! تنبو بمالكها ومشرّفها؟ ثمّ يقترح اليمن..

ص: 115


1- من قصيدةٍ للسيّد حيدر الحلي (رحمة الله) (رحمة الله) .

ويعود مرّةً أُخرى ليقول له: فإن اطمأنّت بك أرض اليمن وإلّا لحقتَ بالرمال وشعوب الجبال..

هذا من جانب ابن الحنفيّة.. وكذا هو همّ الآخَرين الّذين اعترضوا على الإمام في حركته نحو الكوفة، إذ إنّهم كانوا على قناعةٍ عاليةٍ واطمئنانٍ واثقٍ أنّ الأُمويّين سيقتلون حبيب الله وحبيب رسوله (صلی الله علیه و آله) .. وغاية ما يطمحون إليه أن يُريح الإمامُ بُدْنَ ركابه في موضعٍ منيعٍ يحولبين الثائرين لدماء شيوخ المشركين في بدر وأُحُد وحُنين، وبين ابن مَن قتل شيوخهم وثنى سواعدهم وأرغم أُنوفهم وشتّت جمعهم وهزمهم وأحزابهم..

أمّا من جانب الإمام (علیه السلام) ومرافقيه، فإنّهم لم يصدر منهم أيُّ تصريحٍ _ سوى ما قد يُستفاد من هذه الوصيّة على فهمٍ خاصّ _ يفيد تبييت العزم على «الخروج الاصطلاحيّ»، أو اكتساح مراكز الحكم والاستيلاء على السلطة بقصد إقامة الحكم وتنفيذ بيعة الغدير، وليس فيها ما يمكن استفادة ذلك منه، كما سيتّضح.

الظرف الثالث: محاصرة الإمام والتضييق عليه للبيعة

لقد حوصر الإمام (علیه السلام) ليُجبَر على البيعة، إذ ورد الأمر من القرد الأُمويّ المجدور أن يأخذه أخذاً ضيّقاً ليست فيه رخصة ولا هوادة، ولا يرخّص له في التأخير عن ذلك ((1))، فإن تأبّى ضُربَت عنقه وبُعِثَ برأسه

ص: 116


1- جمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 313، الأخبار الطوال للدينوري: 228، تاريخ الطبري: 5 / 338، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 322، الإرشاد للمفيد: 2 / 30، روضة الواعظين للفتّال: 146، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 324، العوالم للبحراني: 17 / 173، الردّ على المتعصّب العنيد لابن الجوزي: 34، الكامل لابن الأثير: 3 / 263.

إليه ((1)).

وقد استعجل مروان قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) إن أبى البيعة، وحرّض والي المدينة على ذلك ((2)).

ص: 117


1- أُنظر: المناقب لابن شهرآشوب: 10 / 141، تاريخ اليعقوبي: 2 / 215، الفتوح لابن أعثم: 5 / 10، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 179، مثير الأحزان لابن نما: 9، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 135، اللهوف لابن طاووس: 21، بحار الأنوار: 44 / 324، العوالم للبحراني: 17 / 174، نهاية الأرَب للنويري: 20 / 376، تاريخ ابن خلدون: 3 / 19، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 181.
2- أُنظر: ترجمة الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 1 / 176، جمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 317، الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 55، الإمام الحسين (علیه السلام) من تاريخ دمشق لابن عساكر، المحمودي: 200، تهذيب ابن بدران: 327، مختصر ابن منظور: 7 / 138، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2607، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 415، تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 341، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 198، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 162، الأخبار الطوال للدينوري: 230، تاريخ اليعقوبي: 2 / 215، تاريخ الطبري: 5 / 339، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 323، الفتوح لابن أعثم: 5 / 18، الإرشاد للمفيد: 2 / 30، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 324، العوالم للبحراني: 17 / 176، نفَس المهموم للقمّي: 68، روضة الواعظين للفتّال: 146، الأمالي للشجري: 1 / 170، إعلام الورى للطبرسي: 222، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 183، المناقب لابن شهرآشوب: 10 / 142، الكامل لابن الأثير: 3 / 264، مثير الأحزان لابن نما: 10، الجوهرة للبري: 41، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 135، اللهوف لابن طاووس: 23، نهاية الأرَب للنويري: 20 / 288، تاريخ ابن خلدون: 3 / 20، الفصول المهمّة لابن الصباغ: 182، المنتخب للطريحي: 2 / 419، مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مخنف المشهور: 12.

ثمّ عاد القرد الأُمويّ ليطالب برأس ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسيّد شابأهل الجنّة (علیه السلام) ، حينما كتب إليه الوليد يُخبره أنّ الحسين (علیه السلام) ليس يرى لهم عليه طاعةً ولا بيعة، فلمّا ورد الكتاب على ابن هند الفاجرة غضب لذلك غضباً شديداً، وكان إذا غضب انقلبت عيناه، فعاد أحول، فكتب إلى الوليد بن عُتبة يأمره أن يأخذ البيعة ثانياً من أهل المدينة، وليكن مع جوابه رأس الحسين بن علي ((1))..

ثمّ عاد الوليد ليُرسل الرسل إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) ويُحضره ويضيّق عليه، ويلحّ عليه بالبيعة ((2))..

فتوجّه سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى قبر جدّه في المدينة.. أجل، في

ص: 118


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 25، الأمالي للصدوق: 152، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 185، بحار الأنوار: 44 / 312، العوالم للبحراني: 17 / 161.
2- أُنظر: تاريخ الطبري: 5 / 341، الإرشاد للمفيد: 2 / 31، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار: 44 / 326، العوالم للبحراني: 17 / 176، نفَس المهموم للقمّي: 71، إعلام الورى للطبرسي: 222، الكامل لابن الأثير: 3 / 264، المنتخب للطريحي: 2 / 420.

المدينة.. يشكو إليه ويستشهده على الأُمّة، ويقول: فاشهد عليهم _ يا نبيّ الله _ أنّهم خذلوني وضيّعوني، وأنّهم لم يحفظوني، وهذا شكواي إليك حتّى ألقاك ((1))..

ثمّ عاد الوليد ليبعث ثالثاً خلفه، فلم يجده في منزله، فيحمد الله أنّه لم يبتلِ بدمه ولم يطالبه الله به.. يعني أنّه كان عازماً على تنفيذ أوامر القرد الأُمويّ لولا أنّ سيّد الشهداء قد خرج! ((2))

وقد جرت مكاتبةٌ بين يزيد وابن عبّاس في أمر خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة، في خبرٍ طويلٍ جاء في جواب ابن عبّاس:

وأمّا الحسين، فإنّه لمّا نزل مكّة وترك حرم جدّه ومنازل آبائه سألتُه عن مقدمه، فأخبرني أنّ عمّالك بالمدينة أساؤوا إليه،وعجّلوا عليه بالكلام الفاحش.أقبل إلى حرم الله مستجيراً به((3)..

الظرف الرابع: سيّد الشهداء (علیه السلام) مطلوبٌ عند الخروج من المدينة!

لم يهدأ أبناء الطلقاء والأدعياء حينما بلغهم خروج ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) من المدينة، وخافوا أن يفوتهم، وهم يريدون أن يقضوا عليه قبل أن

ص: 119


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 26، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 186.
2- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 27، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 186، بحار الأنوار: 44 / 328، العوالم للبحراني: 17 / 177، نفَس المهموم للقمّي: 72.
3- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136، وفي الأمالي للشجري: 1 / 182: وأمّا حسين! فإنّي لقيتُه فسألتُه عن مقدمه (يعني إلى مكّة)، فأخبرني أنّ عمّالك بالمدينة حرفت به، وعجّلت عليه، وأنظره رأيه..

يخرج من المدينة، فربّما علموا أنّ بضعة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وخامس أصحاب الكساء قد يجد أنصاراً يدافعون عنه، فيكثر القتلى بينهم كما عبّر ابن الحنفيّة وغيره، فسارعوا في طلبه..

قال الذهبي:

وخرج الحسين وابن الزبير من وقتهما إلى مكّة، وطُلِبا فلم يُقدَر عليهما ((1)).

البرّيّ:

... وولّاها [أي: المدينة] عثمان بن محمّد بن أبي سفيان، وهو الذي قال _ لمّا خرج الحسين عن المدينة ولم يبايع _: اركبوا كلّ بعيرٍ بين السماء والأرض فاطلبوه. فطلبوه فلم يدرك ((2)).

فدمُ سيّد الشهداء (علیه السلام) ورأسه المقدّس مطلوبٌ لأولاد الزواني يوم كان في المدينة، وهو مطلوبٌ لهم يوم خرج عنها!!

الظرف الخامس: دعوات الكوفيّين

لا يخفى على من سرّح نظره على صفحات التاريخ أنّ دعوات أهل الكوفة ورسلهم في تلك الفترة لم تصل إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) وهو في المدينة، وإنّما وصلته جميعاً في مكّة، وربّما ساهم في ذلك قصر الفترة وسرعة تتابع الأحداث، إذ أنّ هلاك الطاغية معاوية كان في النصف

ص: 120


1- موسوعة الإمام الحسين (علیه السلام) : 1 / 330 _ عن: تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 268، 341 _ عن: ابن سعد.
2- الجوهرة للبرّي: 41.

من رجب، وكان خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة في الثامن والعشرين منه، كما هو المشهور، فكانت الفترة بين هلاك كبير القرود الأُمويّ وخروج سيّد شباب أهل الجنّة من المدينة زهاء ثلاثة عشر يوماً..

ولم يكن يومها قد راج حديث القيام والتوجّه إلى الكوفة بتاتاً، ولا حديث الرسل والدعوات من أهل الكوفة، بل لم تكن ثمّة وجهةٌ محدّدة للإمام في الظاهر المنظور لعامّة الناس، ويشهد لذلك قول ابن الحنفيّة:

وإنّي خائفٌ عليك أن تدخل مصراً من الأمصار، أو تأتي جماعةً من الناس، فيقتتلون، فتكون طائفةٌ منهم معك وطائفة عليك ...

ثمّ اقتراحه على الإمام (علیه السلام) بعد ذلك أن يتوجّه إلى مكّة حينما سأله سيّد الشهداء (علیه السلام) قائلاً:

يا أخي، إلى أين أذهب؟ قال: اخرج إلى مكّة، فإن اطمأنّت بك الدار فذاك الّذي تحبّ وأُحبّ، وإن تكن الأُخرىخرجتَ إلى بلاد اليمن ... ((1)).

فلو كان ابن الحنفيّة يعلم وجهة سيّد الشهداء (علیه السلام) لما اقترح عليه مكّة واليمن، من دون الإشارة أو النهي عن الكوفة..

هذا عند ابن الحنفيّة وغيره، أمّا عند سيّد الشهداء (علیه السلام) وأفراد ركبه فإنّ الوجهة كانت معلومةً وقد عزموا عليها، وهي مكّة.. كما روى ابن

ص: 121


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 20.

أعثم نفسه في جواب الإمام على كلام أخيه، قال:

«وإنّي قد عزمتُ على الخروج إلى مكّة، وقد تهيّأتُ لذلك أنا وإخوتي وبنو إخوتي وشيعتي، وأمرهم أمري ورأيهم رأيي».

وهنا أيضاً لم يبدُ في كلام الإمام (علیه السلام) ما يفيد أنّ الوجهة هي الكوفة، فلم يصرّح بها ولم يُشِر إليها بتاتاً.. فكان ظاهر الحال هو التوجّه إلى مكّة، ومكّة فقط.

وفي ذلك شاهدٌ بل دليلٌ كافٍ لبيان أنّ الإمام لم يكن _ في ظاهر الحال _ يبيّت التوجّه إلى الكوفة ولا القيام المصطلح، ولا «الخروج الاصطلاحيّ»، ولا شيئاً من هذا القبيل، وكلّ ما في الأمر أنّ الإمام (علیه السلام) كان مهدَّداً، وكان دمه مطلوباً للقرد الأُمويّ المجدور، فخرج من المدينة خائفاً يترقّب لئلّا تُستباح به حرمة المدينة ولينجو من شرّ الأشرار.

ويؤكّد ذلك قول ابن الحنفيّة: أن تنجو بنفسك عن يزيد وعن الأمصار ما استطعت، وفي لفظ الخوارزمي: أن تتنحّى بنفسك عن يزيدبن معاوية ... ثمّ بعد أن يفترض في كلامه أن لا يجد الإمام (علیه السلام) في مكّة واليمن ما يطمئنّ به إلى أرضها، أن يلحق بالرمال وشعوب الجبال ويصير من بلدٍ إلى بلد.

الظرف السادس: خذلان الناس وبيعة أهل المدينة جميعاً

لقد سمعنا _ قبل قليل _ شكوى سيّد شباب أهل الجنّة لجدّه، وأنّ أُمّته خذلوه وضيّعوه ولم يحفظوه.. وكان أوّل الأُمّة خذلاناً له وتضييعاً هم أهل المدينة، وكانوا مشحونين بأحقادهم البدريّة وما تلاها من

ص: 122

أحقاد على أمير المؤمنين (علیه السلام) وذرّيّته الطيّبين، حتّى قال الإمام زين العابدين وسيّد الساجدين (علیه السلام) : «ما بمكّة والمدينة عشرون رجلاً يحبّنا» ((1)).

وقد رأيناهم بالأمس القريب يتكالبون على مهبط الوحي وبيت الرسالة، فهجموا على بضعة النبيّ (صلی الله علیه و آله) في دارها وأحرقوه على مَن فيه، وأسقطوا سبطه الشهيد المحسن، وقتلوا ابنته الصدّيقة الكبرى (علیها السلام) بعد أن ضربوها وروّعوها وكسروا ضلعها ولطموا حرّ وجهها، وفعلوا ما فعلوا بأخيه وابن عمّه وسبطه الأكبر (علیه السلام) ..

واليوم، حيث ينزو القرد الأُمويّ الأجرب على المُلك والسلطان، ويشتهي أن يكون هو المنتقم للأصنام، ويتمنّى أن يتبجّح بندائه «ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا»، فيطلب رأس ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) .. لم تجد في المدينة مَن يواسي سيّد الشهداء (علیه السلام) ولو بكلمة،فيقول له: يا ابن رسول الله، هذه مدينة جدّك ومسقط رأسك، وبكم فتح الله علينا وبلغنا ما بلغنا، فابقَ فإنّي سأدفع عنك!

فهم قد بايعوا يزيد الخمور والفجور منذ أيّام معاوية، وسارعوا إلى تجديد البيعة أذلّاء خاسئين، وتركوا حبيب الله وحبيب رسوله (صلی الله علیه و آله) ، فأصبح الناس، فغدوا على البيعة ليزيد، وطُلِب الحسين ((2)).. وكتب إلى

ص: 123


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4 / 104، بحار الأنوار: 34 / 297.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 56، تاريخ مدينة دمشق: 14 / 207، ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من تاريخ دمشق لابن عساكر، المحمودي: 200، تهذيب ابن بدران: 4 / 328، مختصر ابن منظور: 7 / 138، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2608، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 415، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 162.

الأقاليم بذلك فبايعوه ((1)).

فلم يبق أحدٌ إلّا وأشاح عن وجه الله واستقبل وجه يزيد المخمور، وأعرض عن التمسّك بحبل الله والعروة الوثقى، وتمسّك بذيل القرد الأُمويّ، ورفض التعلّق بأغصان طوبى، واستبدلها بالتدلّي في جهنّم بأعواد الشجرة الملعونة في القرآن، حتّى عبد الله بن عبّاس، فقد بايع له ((2)) وأمر بمبايعته ((3))..

إنّهم أبوا أن ينصروا ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وريحانته ويدافعوا عنه ويمنعونه لئلّا يُقتَل في حرم جدّه، فما حفظوه ولا حفظوا جدّه فيه، وخذلوه وأسلموه لسيوف المشركين، ثمّ رجعوا القهقرى فبايعوا ابن آكلة الأكباد الدعيّ الزاني السكّير يزيد بن معاوية على أنّهم خِوَلٌ له يحكم في أهليهم ودمائهم وأموالهم ما شاء، وأنّهم ممّا أفاء الله عليه بأسياف المسلمين، إن شاء وهب وإن شاء أعتق وإن شاء استرقّ! ((4))

ص: 124


1- حياة الحيوان للدميري: 1 / 91.
2- أُنظر: الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 1 / 173، تاريخ الطبري: 5 / 343، الكامل لابن الأثير: 3 / 265، نهاية الأرَب للنويري: 20 / 3852، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151.
3- أُنظر: الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 1 / 173.
4- تاريخ خليفة بن خياط: 149، الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 15، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 222، تاريخ الطبري: 5 / 495، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 88.

أيخرج سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) والذكرى الوحيدة الباقية من أصحاب الكساء والآل الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، والوديعة الأخيرة من ودائع النبيّ (صلی الله علیه و آله) في أُمّته بعد أن قُتل أبوه صالح المؤمنين (علیه السلام) بالسيف وقُتل صنوه (علیه السلام) مسموماً، ولم يخرج أحدٌ في توديعه وتشييعه، فضلاً عن الدفاع عنه؟!

فيما نسمع أنّ الوليد قد حبس ابن عمٍّ لعمر بن الخطّاب يقال له: عبد الله بن مطيع بن الأسود العدويّ، وأُمّه يقال لها: العجماء بنت عامر الخزاعيّة، وكان هواه مع ابن الزبير، فاجتمعت بنو عديّ ومشوا إلى الوليد وكلّموه، فقال: إنّما حبستُه بأمر يزيد، فنكتب وتكتبون. فوثب إليهم أحدهم وقال: نكتب وتكتبون وابن العجماء محبوس؟! لا والله لا يكون ذلك أبداً. فانطلقوا حتّى اقتحموا على ابن مطيع في السجن فأخرجوه، وأخرجوا مَن كان في السجن، ولم يتعرّض إليهم أحد! ((1))

نصر هؤلاء الأوغاد الغوغاء ابنَ العجماء، وخذلوا ابن فاطمة سيّدة النساء، وانتفضوا لابن عمّ عمر، وخنسوا عن ابن النبيّ (صلی الله علیه و آله) وابن عمّه وابن ابنته وريحانته (علیهم السلام) !

ولم نجد _ حسب الفحص _ أيّ مؤشّرٍ أو شاهدٍ أو دليلٍ يفيد أنّ الإمام (علیه السلام) حينما خرج من المدينة «قد خيّم الذعر على المدنيّين حينما رأوا

ص: 125


1- أُنظر: جمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 316، الفتوح لابن أعثم: 5 / 21.

آل النبيّ (صلی الله علیه و آله) ينزحون عنهم إلى غير مآب» ((1)).

* * * * *

هذه إطلالةٌ سريعةٌ خاطفةٌ عن بعض الظروف الّتي صدرت فيها الوصيّة، وسوف نحاول استعراض مشاهد أُخرى فيما يلي تحت عناوين مستقلّةٍ أفردناها للتنويه، وإن كانت تنضوي تحت هذا العنوان.

وربّما أطلنا الحديث هنا، وهو موضوعٌ شائكٌ يحتاج إلى تعمّقٍ واستدلالٍ أوسع وأدقّ وأعمق وأشمل من هذه السطور المحدودة، بيد أنّ هذا المقدار يكاد يكون ضروريّاً جدّاً لفهم الوصيّة الّتي نحن بصدد دراستها، وتبيّن معانيها وإدراك مغزاها وأغراضها.

النكتة السابعة: سبب الخروج في تصريحات سيّد الشهداء (علیه السلام)

اشارة

سمعنا _ قبل قليل _ شكوى حبيب الرسول لجدّه (صلی الله علیه و آله) ، وعرفنا إجمالاً ما جرى عليه من الملاحقة والإلحاح والتعريض للقتل.. يضاف إليها ما سنسمعه من تصريحات سيّد الشهداء (علیه السلام) أثناء خروجه أو بعده:

التصريح الأوّل: خرج منها خائفاً يترقّب

بعد أن جرى ما جرى، سار الحسين (علیه السلام) من المدينة نحو مكّة، وجعل يسير ويقرأ: ﴿فَخَرَجَ مِنْها خائفاً يَتَرقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّني مِنَ القَوْمِ الظالِمين﴾ ((2))..

ص: 126


1- أُنظر: حياة الإمام الحسين (علیه السلام) للقرشي: 13 م / 303.
2- أُنظر: تاريخ الطبري: 5 / 343، الفتوح لابن أعثم: 5 / 34، الإرشاد للمفيد: 2 / 32، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار: 44 / 332، العوالم للبحراني: 17 / 181، إعلام الورى للطبرسي: 223، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 189، الكامل لابن الأثير: 3 / 265، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 135، نهاية الأرَب للنويري: 20 / 380، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 183، المنتخب للطريحي: 2 / 421.

والآية تتحدّث عن خروج النبيّ موسى (علیه السلام) إلى مَديَن بعد أن طلبه فرعون ليقتله بالرجل الّذي وكزه موسى فقضى عليه ((1)).. وقد قرأها سيّد الشهداء (علیه السلام) عند خروجه من المدينة؛ لبيان الشبَه بين الخروجين من حيث كونهما مطلوبين للقتل، يبحثان عن مكانٍ آمنٍ يُنجيهما الله به من القوم الظالمين.

قال الطبرسي في المجمع:

ثمّ بيّن _ سبحانه _ خروج موسى من مصر إلى مدين، فقال: ﴿فَخَرَجَ مِنها﴾ أي: من مدينة فرعون ﴿خائفاً﴾ من أن يُطلَب فيُقتَل، ﴿يَتَرَقَّبُ﴾ الطلب، ﴿قالَ رَبِّ نَجِّني مِنَ القَومِ الظّالِمينَ﴾.

وقيل: إنّه خرج بغير زادٍ ولا ماء ولا حذاء ولا ظهر، وكان لا يأكل إلّا من حشيش الصحراء، حتّى بلغ ماء مَديَن ((2)).

وربّما لوّحت تلاوة هذه الآية إلى أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) كان مطلوباً لفراعنة العصر بالدماء العفنة الّتي أراقها أبوه في رضى الله _ تبارك

ص: 127


1- أُنظر: تفسير القمّي: 2 / 137.
2- مجمع البيان للطبرسي: 7 / 427.

وتعالى _ دفاعاً عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعن دِينه..

والفرق أنّ موسى (علیه السلام) بلغ مدين فأمِن، ثمّ رجع.. وبلغ سيّد الشهداء (علیه السلام) كربلاء الأرض الموعودة، فقُتل هناك ومَن معه، وأناخ فيها رحله.. وسيرجع!

التصريح الثاني: التمثّل بشعر ابن المفرّغ

تمثّل سيّد الشهداء (علیه السلام) ببيتين ليزيد بن مفرّغ، وهو يمشي بين رجلين يعتمد على هذا مرّةً وعلى هذا مرّةً أُخرى، حتّى دخل مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وهو يقول:

لا ذعرت السوام في

فلق الصبح

مغيراً، ولا

دعيت يزيدا

يوم أعطى مخافة الموت ضيماً

والمنايا

يرصدنني أن أحيدا ((1))

وقد علم الراوي عند سماع الأبيات أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) يُخبر عن ملاحقته ليُقتَل، وأنّه سيخرج من المدينة قريباً..

قال: فقلت عند ذلك: إنّه لا يلبث إلّا قليلاً حتّى يخرج، فما لبث أن خرج فلحق بمكّة، فلمّا خرج من المدينة قال:

ص: 128


1- أُنظر: جمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 368، تاريخ الطبري: 5 / 342، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 144، الأمالي للشجري: 1 / 185، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 186، الكامل لابن الأثير: 3 / 265، نهاية الأرَب للنويري: 20 / 381، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 135، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2605، الأغاني لأبي الفرج: 18 / 447، مروج الذهب للمسعودي: 3 / 54.

﴿فَخَرجَ مِنها خائِفاً يَتَرقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّني مِنَ القَومِ الظّالِمينَ﴾. ولمّا توجّه نحو مكّة قال: ﴿وَلَمّا تَوَجَّهَ تِلقَاءَ مَديَنَ قالَ عَسى رَبّي أن يَهديَني سَواءَ السَّبيلِ﴾ ((1))..

والأبيات ليزيد بن مفرّغ، وقد قالها وهو مطلوبٌ لابن زياد لينتقم منه، في قصّةٍ طويلة ((2))..

فهذان البيتان اللذان تمثّل بهما الإمام (علیه السلام) يعبّران أصدق تعبيرٍ عن الظرف الّذي خرج فيه سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة.. إنّه لم يذعر السوامّالهائمة الهاجعة في مرعاها في فلق الصبح، ولم يدع بشيء، بيد أنّه على يقينٍ أنّ المنايا ترصده بالتأكيد، وهي تريده أن لا يحيد عنها «أن أحيدا، أي: أن لا أحيد» ((3))، فهو مُلاحَقٌ لا لذنبٍ ولا لفعلٍ أتاه، مهدَّدٌ في نفسه وأهله وعياله..

سيّما أنّ الإمام (علیه السلام) تمثّل بأبياتٍ من قصيدةٍ طويلةٍ قاله شاعرٌ معاصرٌ مطلوبٌ لابن الأَمة الفاجرة بالخصوص!

التصريح الثالث: أبياتٌ لسيّد الشهداء (علیه السلام)

روى الطريحي في المنتخب، وكذا في المقتل المشهور لأبي مخنف، والقندوزي في الينابيع أبياتاً لسيّد الشهداء (علیه السلام) عند خروجه من المدينة،

ص: 129


1- الأغاني لأبي الفرج: 18 / 447.
2- أُنظر: ترجمة يزيد بن مفرغ وأخباره وقصصه في: الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني: 18 / 425.
3- أُنظر: السيرة لابن هشام: 3 / 771.

قالوا، واللفظ للطريحي:

فسار الحسين (علیه السلام) وهو يقول:

إذا المرء لم يحمِ بنيه وعرسه

ونسوته، كان اللئيم المسبّبا

وفي دون ما يبغي يزيد بنا غداً

نخوض حياض الموت شرقاً ومغربا ((1))

«ودلّ هذا الشعر على مدى عزمه على أن يخوض حياض الموت، سواءً أكانت في المشرق أم في المغرب، ولا يبايع يزيد بن معاوية» ((2)).

التصريح الرابع: لمّا وافى مكّة

فلمّا وافى سيّد الشهداء (علیه السلام) مكّة ونظر إلى جبالها، جعل يتلو هذه الآية: ﴿وَلَمّا تَوَجَّهَ تِلقاءَ مَديَنَ قالَ عَسَى رَبّي أن يَهديَني سَواءَ السَّبيلِ﴾ ((3))..

ص: 130


1- المنتخب للطريحي: 422، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 55، المقتل لأبي مخنف (المشهور): 15.
2- حياة الإمام الحسين (علیه السلام) للشيخ باقر شريف القرشي (رحمة الله) (رحمة الله) : 2 / 306.
3- أُنظر: تاريخ الطبري: 5 / 343، الفتوح لابن أعثم: 5 / 37، الإرشاد للمفيد: 2 / 32، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار: 44 / 332، العوالم للبحراني: 17 / 181، نفَس المهموم للقمّي: 79، إعلام الورى للطبرسي: 223، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 189، الكامل لابن الأثير: 3 / 260، نهاية الأرَب للنويري: 20 / 381، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 183، المنتخب للطريحي: 2 / 422.

فلمّا دخلها قال له عمرو بن سعيد الأشدق _ وكان والي مكّة _: ما أقدمك؟ فقال: عائذاً بالله وبهذا البيت! ((1))

وسيأتي تفصيل الكلام في ذلك عند الحديث عن ظروف خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة.

التصريح الخامس: جوابه لأبي هرم (أبي هرّة)

في حديث الإمام الصادق (علیه السلام) عن جدّه الإمام زين العابدين (علیه السلام) في المجلس الثلاثين من أمالي الصدوق:

ثمّ سار حتّى نزل الرهيمة، فورد عليه رجلٌ من أهل الكوفة يُكنّى: أبا هرم، فقال: يا ابن النبيّ، ما الّذي أخرجك من المدينة؟ فقال: ويحك يا أبا هرم! شتموا عرضي فصبرت، وطلبوا مالي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت، وأيمُ الله لَيقتلنّي، ثمّ لَيلبسنّهم اللهُ ذلّاً شاملاً وسيفاً قاطعاً، ولَيسلّطنّ عليهم مَن يذلّهم ((2)).وفي لفظ ابن أعثم وغيره، قال:

فلمّا أصبح الحسين، وإذا برجلٍ من الكوفة يكنّى: أبا هرّة الأزديّ، أتاه فسلّم عليه، ثمّ قال: يا ابن بنت رسول الله، ما

ص: 131


1- أُنظر: تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 135.
2- الأمالي للصدوق: 153، إثبات الهداة للحر: 2 / 573، بحار الأنوار: 44 / 314، العوالم للبحراني: 17 / 163.

الّذي أخرجك عن حرم الله وحرم جدّك محمّد (صلی الله علیه و آله) ؟ فقال الحسين: يا أبا هرّة، إنّ بني أُميّة أخذوا مالي فصبرت، وشتموا عرضي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت، وأيمُ الله _ يا أبا هرّة _ لَتقتلني الفئة الباغية، ولَيلبسهم اللهُ ذلّاً شاملاً وسيفاً قاطعاً، ولَيسلّطنّ الله عليهم مَن يذلّهم، حتّى يكونوا أذلّ من قوم سبأ إذ ملكتهم امرأةٌ منهنّ، فحكمت في أموالهم وفي دمائهم ((1)).

والهروب هنا ليس فيه بُعدٌ سلبيّ، وإنّما يعني الاحتماء والاحتراس والاحتراز والتوقّي، لأنّه لم يكن في مواجهة، أمّا لو كان في مواجهةٍ فهو القائل:

فإن نهزِم فهزّامون قدماً

وإن نُهزَم فغير

مهزَّمينا

وما إن طبّنا جُبنٌ، ولكن

منايانا ودولة

آخَرينا ((2))

التصريح السادس: هيهات منّا الذلة

قد اشتهر عن أبيّ الضيم وسيّد الشهداء (علیه السلام) ، حتّى صار شعاراً يحفظه الناس، قوله (علیه السلام) :

ص: 132


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 123، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 226، مثير الأحزان لابن نما: 23، اللهوف لابن طاووس: 70، المنتخب للطريحي: 2 / 389.
2- إثبات الوصيّة للمسعودي: 127، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 2 / 6، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 219، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2587، الاحتجاج للطبرسي: 2 / 24، بحار الأنوار: 45 / 83، مثير الأحزان لابن نما: 28، اللهوف لابن طاووس: 96.

ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة ((1))، وهيهات منّا الذلّة ((2))..

في خطبةٍ له يوم عاشوراء.

والسلّة: استلال السيوف ((3))، والذلّة: هي قبول البيعة، لأنّه (علیه السلام) يقول بعد ذلك مباشرة: «يأبى اللهُ ذلك ورسولُه والمؤمنون، وحُجورٌ طابت وأُنوفٌ حميّة ونفوسٌ أبيّة، أن نُؤثِر طاعة اللئام على مصارع الكرام»..

فالقضيّة _ كما يصوّرها كلام سيّد الشهداء (علیه السلام) _ تقوم على هجوم القرد الأُمويّ المسعور على الإمام الّذي أذهب الله عنه الرجس وطهّره تطهيراً، وقد جعله بين خيارين لا ثالث لهما:

إمّا أن يبايع يزيد الفسق والفجور والقمار والخمور والزنا والمجون، وهذه هي الذلّة بكلّ أبعادها وتفاصيلها وأشكالها.

ص: 133


1- إختلفوا في الألفاظ، بيد أنّها جمعياً تفيد نفس المعنى، ففي (إثبات الوصيّة) للمسعوديّ مثلاً: قد ذكر بين ثنيّة السلّة والذلّة، وهيهات منّا الدنيّة، وفي (تحف العقول): قد ركز بين اثنتين: بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الدنيّة..
2- أُنظر: إثبات الوصيّة للمسعودي: 127، تحف العقول للحرّاني: 274، الأمالي لأبي طالب الزيدي: 95، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 2 / 6، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 219، تهذيب ابن بدران: 4 / 333، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2587، الاحتجاج للطبرسي: 2 / 24، مثير الأحزان لابن نما: 28، اللهوف لابن طاووس: 96، بحار الأنوار: 45 / 8، العوالم للبحراني: 17 / 251.
3- أُنظر: لسان العرب: مادّة «سلل».

وإمّا أن يُقتَل، وهو لا يُقتَل حتّى يقاتل، وهو يعلم أنّه مقتولٌ بكلّ الحسابات الدنيويّة والغيبيّة.

فاختار معدنُ الإباء والمظهر الكامل التامّ لعزّة الله ورسوله والمؤمنين القتلَ في الله على الذلّة الممقوتة.* * * * *

نكتفي بهذا القدر، إذ ذكرنا نموذجاً من كلامه (علیه السلام) في المدينة وفي الطريق وفي كربلاء ((1))، وستأتي في ثنايا البحث شواهد ونماذج أُخرى، ولو أردنا الاستقصاء لَطال بنا المقام.

النكتة الثامنة: سبب الخروج من المدينة في فهم المؤرّخين

بالإضافة إلى عبارات المؤرّخين الّتي تُفرّع خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) بمن معه من المدينة على إلحاح الجراء الأُمويّة عليه، ومطالبته بالبيعة واستمرارهم بالنباح عليه ومحاولة انتهاشه، كما هو ظاهرٌ مِن تصفّح المتون التاريخيّة، فإنّ بعضهم صرّح بذلك، وسنذكر أقوال بعضهم كمثال، بغضّ النظر عن مناقشة عباراتهم، ولو كانت مخالفةً للأدب في مقام التعبير عن سيّد الكائنات وسيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ..

قال ابن كثير:

وصمّم على المخالفة الحسينُ وابن الزبير، وخرجا من المدينة

ص: 134


1- سيأتي البحث في ظروف خروجه (علیه السلام) من مكّة، وكذا الحديث عن ظروف الطريق وكربلاء إن شاء الله تعالى.

فارّين إلى مكّة ((1)).

ابن حجر:

وسبب مخرجه _ رضي الله عنه!! _ أنّ يزيد لمّا استخلف سنة ستّين أرسل لعامله بالمدينة أن يأخذ له البيعة على الحسين، ففرّلمكّة خوفاً على نفسه ((2)).

المسعودي:

وطُولب الحسين بالبيعة ليزيد بالمدينة، فسام التأخير، وخرج ((3)).

مسكويه:

وخرج عبد الله بن الزبير والحسين إلى مكّة لمّا أخذهما عامل يزيد بالبيعة، وكانا يومئذٍ بالمدينة ((4)).

الزيديّ:

خرج (علیه السلام) من المدينة حين ورد نعي معاوية، وطُولب بالبيعة ليزيد ... إلى مكّة ((5)).

الدميريّ:

ص: 135


1- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151.
2- الصواعق المحرقة لابن حجر: 117.
3- التنبيه والإشراف للمسعودي: 3 / 64.
4- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 39.
5- الإفادة للزيدي: 57.

ولم يبايعه الحسين بن علي _ رضي الله تعالى عنهما!! _ ولا عبد الله بن الزبير _ رضي الله تعالى عنه!! _، واختفيا من عامله الوليد بن عُقبة بن أبي سفيان، وأقاما مصرَّين على الامتناع إلى أن قُتِل الحسين _ رضي الله تعالى عنه!! _ بكربلاء ((1)).

ابن عنبة:

وأراده يزيد لعنه الله على البيعة، وكتب بذلك إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان عامله على المدينة، فلم يبايعه وخرج إلىمكّة ((2)).

فهذه التعابير وغيرها ((3)) تؤكّد أنّ خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة كان على أثر امتناعه عن البيعة، والتهديد الجدّي الّذي تعرّض له _ فداه العالمين _.

فكان خروجه (علیه السلام) بلحاظ ما جرى في المدينة، ومعالجةً للموقف هناك، ولا يبدو من فهم المؤرّخين أنّهم عبّروا عن شيءٍ مبيَّتٍ عند الإمام (علیه السلام) لما يسمّونه «الخروج الاصطلاحيّ»، وعن خطّةٍ مستقبليّةٍ محدّدة المعالم واضحة التفاصيل، تكشف عن برنامجٍ معَدٍّ سلفاً من المدينة، حيث يتوجّه سيّد الشهداء (علیه السلام) لهدم كيانٍ وإقامة كيانٍ آخَر

ص: 136


1- حياة الحيوان للدميري: 1 / 91.
2- عمدة الطالب لابن عنبة: 191.
3- أُنظر: الإرشاد للمفيد: 2 / 34، بحار الأنوار: 44 / 326، العوالم للبحراني: 17 / 176، إعلام الورى للطبرسي: 1 / 435.

وفق موازين الثورات ومتطلّباتها وركائزها وأركانها وأبعادها.

النكتة التاسعة: تصوّرات الأقرباء والمقرّيبن

كانت كلّ المؤشّرات عند المقرّبين عند سيّد الشهداء (علیه السلام) من أهله وذويه _ على الأقلّ _ تفيد أنّهم يرون الإمام الحسين (علیه السلام) مقتولاً لامتناعه عن البيعة، وأنّ خروجه من المدينة لينجو بنفسه وأهله من القتل هناك..

فقد حدّث عمر بن علي بن أبي طالب قال:

لمّا امتنع أخي الحسين (علیه السلام) عن البيعة ليزيد بالمدينة، دخلتُعليه فوجدتُه خالياً، فقلت له: جُعلتُ فداك يا أبا عبد الله، حدّثني أخوك أبو محمّد الحسن، عن أبيه (علیهما السلام) . ثمّ سبقني الدمعة وعلا شهيقي، فضمّني إليه وقال: حدّثك أنّي مقتول؟ فقلت: حُوشيتَ يا ابن رسول الله. فقال: سألتُك بحقّ أبيك، بقتلي خبّرك؟ فقلت: نعم، فلولا ناولت وبايعت!! فقال: حدّثني أبي أنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) أخبره بقتله وقتلي، وأنّ تربتي تكون بقرب تربته، فتظنّ أنّك علمتَ ما لم أعلمه؟ وأنّه لا أعطي الدنيّة من نفسي أبداً، ولَتلقينّ فاطمةُ أباها شاكيةً ما لقيَت ذرّيّتُها من أُمّته، ولا يدخل الجنّة أحدٌ آذاها في ذرّيّتها ((1)).

ص: 137


1- اللهوف لابن طاووس: 26.

فهو يتمنّى على سيّد الشهداء (علیه السلام) أن يُبايع ليأمن، «فلولا ناولت وبايعت» وتنتهي الحكاية، فلا يُقتَل بعدها أبو عبد الله الحسين (علیه السلام) !! وليس الأمر كذلك؛ إذ إنّهم لا يتركونه كما أكّد ذلك النبيّ (صلی الله علیه و آله) مُخبِراً عن الله، وأكّده الأئمّة المعصومون (علیهم السلام) ، وشهدَت به سوابق القوم وفعالهم.

وقد اجتمعن نساء بني عبد المطّلب للنياحة عليه لمّا همّ بالشخوص من المدينة، حتّى مشى فيهنّ الحسين (علیه السلام) وناشدهنّ، فقلن: فلِمَن نستبقي النياحة والبكاء؟ فهو عندنا كيوم مات فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعليٌّ وفاطمة ورقيّة وزينب وأُمّ كلثوم، فنُنشدك الله، جعلنا الله فداك منالموت يا حبيب الأبرار من أهل القبور. وأقبلَت بعض عمّاته تبكي وتقول: أشهد يا حسين لقد سمعتُ الجنّ ناحت بنوحك ((1)).

وعن سكينة بنت الحسين (علیه السلام) قالت: لمّا خرجنا من المدينة، ما كان أحدٌ أشدّ خوفاً منّا أهل البيت ((2)).

وستأتي الإشارة إلى بكاء أهل البيت وبني عبد المطّلب بعد أن قصّ عليهم سيّد الشهداء (علیه السلام) رؤياه.

النكتة العاشرة: فهم الشيعة في الكوفة

روى ابن أعثم والخوارزمي وابن أبي طالب، واللفظ للأوّل:

ص: 138


1- أُنظر: كامل الزيارات لابن قولويه: 96.
2- المنتخب للطريحي: 2 / 421، مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مخنف (المشهور): 15.

قال: وبلغ ذلك أهل الكوفة أنّ الحسين قد صار إلى مكّة، وأقام الحسين بمكّة باقي شهر شعبان وشهر رمضان وشوّال وذي القعدة [...].

وأقام الحسين بمكّة، قد لزم الصوم والصلاة، واجتمعت الشيعة بالكوفة.

قال: واجتمعت الشيعة في دار سليمان بن صُرَد الخزاعيّ، فلمّا تكاملوا في منزله قام فيهم خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعلى أهل بيته، ثمّ ذكر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب فترحّم عليه وذكر مناقبه الشريفة،ثمّ قال:

يا معشر الشيعة، إنّكم قد علمتُم بأنّ معاوية قد هلك، فصار [وصار] إلى ربّه وقدم على عمله، وسيجزيه الله تبارك وتعالى بما قدّم من خيرٍ وشرّ، وقد قعد في موضعه ابنه يزيد _ زاده الله خزياً _، وهذا الحسين بن عليّ قد خالفه وصار إلى مكّة خائفاً من طواغيت آل أبي سفيان، وأنتم شيعته وشيعة أبيه من قبله، وقد احتاج إلى نصرتكم اليوم، فإن كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه، وإن خفتم الوهن والفشل فلا تغرّوا الرجل من نفسه.

فقال القوم: بل ننصره ونقاتل عدوّه، ونقتل أنفسنا دونه حتّى ينال حاجته.

ص: 139

فأخذ عليهم سليمان بن صُرَد بذلك ميثاقاً وعهداً أنّهم لا يغدرون ولا ينكثون، ثمّ قال: اكتبوا إليه الآن كتاباً من جماعتكم أنّكم له كما ذكرتم، وسلوه القدوم عليكم ((1)).

يبدو من كلام سليمان بن صرد في خطابه لمَن اجتمع إليه أنّه قد أدرك أنّ خروج سيّد الشهداء الحسين بن علي (علیهما السلام) من المدينة إلى مكّة إنّما كان خوفاً من طواغيت آل أبي سفيان بعد أن خالف يزيد وأبىمبايعته، ودعاهم إلى نصره ومجاهدة عدوّه، وأنّهم إنّما يدعونه ليدفعوا عنه، فوعدوه أن ينصروه ويقاتلوا عدوّه ويقتلوا أنفسهم دونه..

وبغضّ النظر عن مناقشة الخطبة وما قاله سليمان بن صرد ومدى صدقه وصدق من وعده النصر، فإنّ جواب القوم _ لا شكّ _ كان على كلام سليمان، وقد حدّد سليمان صراحةً السببَ الّذي أدّى بالإمام الحسين (علیه السلام) إلى مكّة..

وهذا الكلام كلّه يخصّ هذا المقطع ممّا رواه ابن أعثم ((2)).

* * * * *

ويمكن اختصار كلّ ما مرّ من الشواهد والمشاهد التاريخيّة بكلمة:

إنّ القرد الأُمويّ المسعور المتشظّي حقداً والمتميّز غيظاً على سيّد

ص: 140


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 38، مقتل الحسين (علیه السلام) : 1 / 190، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 164.
2- إنّما استطرنا في ذكر بعض الشواهد من خارج المدينة لتوضيح الصورة، وتفصيل الكلام في الشواهد يأتي كلٌّ في محلّه إن شاء الله تعالى.

الشهداء (علیه السلام) أبى إلّا أن يأخذ البيعة من الطُّهر الطاهر ابن فاطمة البتول (علیها السلام) ، أو يأخذ رأسه!

والجميع يعلم أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) هو الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، وأنّ نفس أبيه بين جنبيه.. وهيهات أن يُرغَم على هذه البيعة فيقبل بالدنيّة، فلابدّ من الخيار الآخر.. لابدّ من قتله؛ لأنّه لا يبايع!

نقول: «لابدّ»؛ لأنّ ابن ميسون الفاجرة أبى أن يجعل مخرجاً ثالثاً، ولمّا كان الخيار الأوّل مستحيلاً كما صرّح به الإمام الحسين (علیه السلام) نفسه، فيلزم أن يتعيّن الثاني.هكذا هو الجوّ في المدينة عند خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من حرم جدّه، بل هكذا بقيَت الأجواء والظروف طيلة فترة الطريق إلى مكّة ثمّ إلى كربلاء.

هم لا ينزلون عن محاولاتهم في إرغام العزّ الإلهيّ، ويأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون وإمامهم.. وإمام الكون يحذّرهم وينذرهم ويدعوهم إلى الجنّة، فيرتدّون عليه ويردّون كلامه أن انزلْ على حكم القرود وأولاد البغايا، وهو يقول: «هيهات منّا الذلّة.. والله لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد».

النكتة الخاتمة: الاستنهاض والاستنصار!

في السرد السابق السريع العجلان توصيفٌ لظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة حفاظاً على حرمتها وحرمته وحرمة أهل بيته،

ص: 141

ولم نجد _ حسب الفحص _ أيَّ تصريحٍ يفيد صراحةً أو تلويحاً أنّ الإمام (علیه السلام) خطب في الناس أو في كبار القوم أو أنّه استنهض عامّة أهل المدينة ورجالها، أو دعاهم للقيام و«الخروج الاصطلاحيّ» معه، أو حرّضهم على الأُمويّين أو على شخص القرد المخمور يزيد، أو رتّب لقاءاتٍ أو محافلَ ومحاوراتٍ لكشف الظالم وتعرية يزيد القرد المخمور الحاكم، أو أيّ نشاطٍ سياسيّ أو اجتماعيّ أو عسكريّ آخر..

والحال أنّ المدينة هي مسقط رأسه، وتحتوي المجتمع الّذي شاهدهمع جدّه، وربما سمع فضائله ومناقبه من رسول الله (صلی الله علیه و آله) مباشرة، وهم _ كما يقولون _ فيهم من رجال الحلّ والعقد ورؤوس الصحابة والتابعين، ومركز الأنصار المبايعين على الدفاع والنصرة والمهاجرين.. وغيرها من الظروف المساعدة على إعلان «الخروج الاصطلاحيّ» والاستمداد من رجالها من سكّان المدينة والمجاورين والزائرين.

لم يكن الّذي كان أكثر من استمهالٍ للساعات وتمديدٍ للحظات الزمان، حتّى يتسنّى الخروج من المدينة بأمان.

أمّا في مكّة فسيأتي الكلام عنها إن شاء الله تعالى.

نكات تتعلّق بالوصيّة مباشرة

اشارة

أشرنا _ قبل قليل _ إلى جملة نكاتٍ ضروريّةٍ لفهم أجواء صدور الوصيّة، أمّا الآن فنتناول جملةً أُخرى من النكات، بيد أنّها تتعلّق بالوصيّة مباشرةً لا بالظروف المحيطة بها، وهي أيضاً لا تقلّ أهمّيّةً عن النكات السابقة:

ص: 142

النكتة الأُولى: ملاحظة اتّحاد الصدر والذيل في النصّ

ينبغي الالتفات إلى نكتةٍ مهمّةٍ تفيد في فهم النصّ الّذي نحن بصدد دراسته، وهي:

إنّ النصّ حينما يصدر في موضعٍ واحدٍ ويكون مترابط الأجزاء يدلّ بعضه على بعض، وتفسّر جملاته بعضها بعضاً وتشير إليها وتكونبمجموعها كلّاً واحداً، ويكون كلّ مقطع فيه ناظراً إلى المقطع الآخر، فحينئذٍ لا يمكن أن نجتزأ منه مشهداً ترسمه جملةٌ أو نقتطع جزء صورةٍ تحكيها عبارة، ونشتّت الحديث ونميّز بين صدره وذيله وهما مترابطان متواصلان مسترسلان يكمّل أحدهما الآخر ويبيّنه ويشرحه، تماماً كمن يأخذ بالإطلاق ويعرض عن القيد الموجود في نفس الجملة، على طريقة ﴿وَيلٌ لِلمُصَلّينَ﴾ أو ﴿لا إله﴾ دون إكمال الجملة..

فينبغي أن تُفهَم الوصيّة ككلٍّ واحد، ولا يؤخذ صدرها بمعزلٍ عن ذيلها، والحال أنّ ما في الذيل تتمّة للصدر، كما سيتبيّن لنا حينما نتناول متن الوصيّة إن شاء الله تعالى.

النكتة الثانية: أُحبّ المعروف وأُنكِر المنكر

اشارة

قال ابن أعثم:

وخرج الحسين بن عليٍّ من منزله ذات ليلة وأتى إلى قبر جدّه (صلی الله علیه و آله) ، فقال: السلام عليك يا رسول الله، أنا الحسين ابن فاطمة، أنا فرخك وابن فرختك، وسبطك في الخلَف الّذي خلّفتَ على أُمّتك (الخوارزمي: والثقل الّذي خلّفتَه في أُمّتك)،

ص: 143

فاشهدْ عليهم يا نبيّ الله أنّهم قد خذلوني وضيّعوني، وأنّهم لم يحفظوني، وهذا شكواي إليك حتّى ألقاك، صلّى الله عليكوسلّم. ثمّ وثب قائماً وصفّ قدميه، ولم يزل راكعاً وساجداً.

قال: ورجع الحسين إلى منزله مع الصبح، فلمّا كانت الليلة الثانية خرج إلى القبر أيضاً، فصلّى ركعتين، فلمّا فرغ من صلاته جعل يقول: اللّهمّ إنّ هذا قبر نبيّك محمّد، وأنا ابن بنت محمّد، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللّهمّ وإنّي أُحبّ المعروف وأكره المنكر، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ هذا القبر ومَن فيه ما اخترت من أمري هذا ما هو لك رضى.

قال: ثمّ جعل الحسين يبكي، حتّى إذا كان في بياض الصبح وضع رأسه على القبر فأغفى ساعة، فرأى النبيّ (صلی الله علیه و آله) قد أقبل في كبكبةٍ من الملائكة عن يمينه وعن شماله ومن بين يديه ومن خلفه، حتّى ضمّ الحسينَ إلى صدره وقبّل بين عينيه، وقال: يا بُنيّ يا حسين، كأنّك عن قريبٍ أراك مقتولاً مذبوحاً بأرض كربٍ وبلاء من عصابةٍ من أُمّتي، وأنت في ذلك عطشان لا تُسقى وظمآن لا تُروى، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي، ما لَهم؟ لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة! فما لهم عند الله من خَلاق، حبيبي يا حسين، إنّ أباك وأُمّك وأخاك قد قدموا علَيّ، وهم إليك مشتاقون، وإنّ لك في الجنّة درجاتٍ لن تنالها إلّا بالشهادة.

ص: 144

قال: فجعل الحسين ينظر في منامه إلى جدّه (صلی الله علیه و آله) ويسمع كلامه، وهو يقول: يا جدّاه، لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا أبداً، فخُذْني إليك واجعلني معك إلى منزلك.

قال: فقال له النبيّ (صلی الله علیه و آله) : يا حسين، إنّه لابدّ لك من الرجوع إلى الدنيا؛ حتّى تُرزَق الشهادة وما كتب الله لك فيها من الثواب العظيم، فإنّك وأباك وأخاك وعمّك وعمّ أبيك تُحشَرون يوم القيامة في زُمرةٍ واحدةٍ حتّى تدخلوا الجنّة.

قال: فانتبه الحسين من نومه فزعاً مذعوراً، فقصّ رؤياه على أهل بيته وبني عبد المطّلب، فلم يكن ذلك اليوم في شرقٍ ولا غربٍ أشدّ غمّاً من أهل بيت الرسول (صلی الله علیه و آله) ، ولا أكثر منه باكياً وباكية ((1)).

* * * * *

في النصّ المذكور مطالب وموادّ مهمّة لا نريد التعرّض لها بالتفصيل، ونكتفي بالإشارة السريعة إلى بعض ممّا له علاقة مباشرة ببحثنا هنا:

الإشارة الأُولى: الشكوى للنبيّ (صلی الله علیه و آله)

حسب نصّ ابن أعثم ومَن تبعه، فإنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) خرج ليلتين إلى قبر جدّه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فشكى في الليلة الأُولى لجدّه واستخار في الليلة الثانية ربَّه، فقال مخاطباً جدّه بعد السلام عليه:

ص: 145


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 26_ 29.

«يا رسول الله، أنا الحسين ابن فاطمة، أنا فرخُك وابن فرختك، وسبطك في الخلَف الّذي خلّفتَ على أُمّتك (الخوارزمي: والثقل الّذي خلّفتَه في أُمّتك)، فاشهدْ عليهم يا نبيَّ الله أنّهم قد خذلوني وضيّعوني، وأنّهم لم يحفظوني، وهذا شكواي إليك حتّى ألقاك، صلّى الله عليك وسلّم».

وقد بثّ ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) عند جدّه شكواه بعد أن عرّف نفسه: أنا الحسين ابن فاطمة.. أنا فرخك وابن فرختك.. سبطك، الخلف والبقيّة الباقية بعد الحسن المجتبى وأُمّه فاطمة الزهراء (علیهم السلام) ، الّذين خلّفهم في هذه الأُمّة ودائع، والثقل الّذي قرن القرآن به..

إنّها والله شكوى لوحدها.. أن يقول الحسين لجدّه:: أنا الحسين، أنا الحسين حبيبك، أنا الذكرى الوحيدة الّذي خلّفتَ في أُمّتك بعد أُمّي وأخي، أنا وديعتك في هذه الأُمّة، أنا الحسين ابن فاطمة، فرختك.. انتسب إليه بابنته المظلومة المهضومة الغريبة الحبيبة، الّتي كانت روحه الّتي بين جنبَيه.. كم في هذا الانتساب عند النبيّ (صلی الله علیه و آله) من تظلُّمٍ يهدّ الجبال الرواسي ويفجّر الدموع دماً على غربة سيّد شباب أهل الجنّة!

أيكون السبط العزيز الحبيب غريباً مخذولاً مضيَّعاً، وقد أودعه النبيّ (صلی الله علیه و آله) في هذه الأُمّة وديعة؟!

ثمّ يشكو له بعد أن يستشهده عليهم، ويخاطبه بصفة النبوّة، بالصفة الّتي يجب على مَن قبل نبوّته أن يطيعه بنصّ القرآن وصريح آياته..

فاشهدْ عليهم يا نبيّ الله أنّّهم قد خذلوني، وضيّعوني، وأنّّهم لميحفظوني، وهذا شكواي إليك حتّى ألقاك، صلّى الله عليك وسلّم.

ص: 146

ويؤكّد له شكواه ب- ««أأنّ»،» وبالضمير، و«قد»، وصيغة الماضي، ويكرّّر «أنّ» والضمير العائد لهم مرّتين في الجملة رغم قصرها، وقد قرن الضمير ب-- «أنّ»..

إنّهم قد خذلوني.. وضيّعوني.. وإنّهم لم يحفظوني!!

ويستخدم «ياء المتكلِّّم» للدلالة على نفسه المقدّسة، فلم يقل: خذلونا، أو: خذلوا ابنك.. فقد خذلوا شخصه وذاته الكريمة المقدّسة.. خذلوني.. ضيّعوني.. لم يحفظوني..

فمنذ اللحظة الأُولى الّتي دُعي فيها للبيعة وأبى إمام الإباء فطُلب دمُه واستهدوا رأسه المقدّس، تخلّى عنه الأوغاد والأوباش ودعاة الصحبة والبيعة على الدفاع عن النبيّ وأهل بيته بما يدفعون به عن أنفسهم وأهليهم وأكثر..

خذلوه في المدينة المنوّرة الّتي تعرفه كبيرهم وصغيرهم، وقد رأوه مع النبيّ (صلی الله علیه و آله) ورأوا ما يفعله النبيّ (صلی الله علیه و آله) ويقوله فيه وعنه، وشاهدوا حبّه له..

خذلوه، وضيّعوه، ولم يحفظوه!

يا لَغربتك يا حبيب الله وحبيب رسوله (صلی الله علیه و آله) !

الإشارة الثانية: المبيت عند النبيّ (صلی الله علیه و آله) حتّى الصباح

حينما روى ابن أعثم خروج الإمام المظلوم (علیه السلام) إلى قبر جدّه (صلی الله علیه و آله) في الليلة الأُولى، عقّب وقال: ورجع الحسين إلى منزله مع الصبح، وفي الليلة الثانية قال: ثمّ جعل الحسين يبكي حتّى إذا كان في بياض الصبح..

وكلا العبارتين تدلّان بوضوح أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) قد قضى

ص: 147

ليلتَيه عند قبر النبيّ (صلی الله علیه و آله) حتّى الصباح.

لقد بات سبط النبيّ (صلی الله علیه و آله) عند جدّه في تلك الليالي الأخيرة من حياته المباركة في المدينة.. يا لها من ساعاتٍ صعبةٍ مكفهرّة!! وهو عازمٌ على مفارقة تربة جدّه وأُمّه وأخيه، ومسقطِ رأسه والبيت الّذي كان مهبط الوحي ومنتدى الرسالة، وذكريات الأيّام الخوالي في كنَف رسول الله (صلی الله علیه و آله) ..

كيف خرج في تلك الظروف إلى قبر جدّه في الليل، وهو مهدَّد، وأهل بيته مهدَّدون؟!

هل كان عند قبر جدّه غيره من الناس الأجلاف؟

هل خرج وحده، أو مع ثُلّةٍ من فتيان بني أبي طالب؟

هل جاء أحدٌ من القوم ليتهجّد في المسجد أو يصلّي صلاة الصبح، فرأى سيّد الشهداء (علیه السلام) بتلك الحالة، واضعاً رأسه على قبر جدّه (صلی الله علیه و آله) وقد أغفى؟

هذه الأسئلة وغيرها لم يلتفت إليها المؤرّخ لغرضٍ أو لغير غرض،فلم يُجِب عليها، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم!

الإشارة الثالثة: البكاء حتّى الصباح

ثمّ جعل الحسين يبكي حتّى إذا كان في بياض الصبح.. هكذا عبّر المؤرّخ، وربّما يُستفاد من عبارته أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قد استمرّ في بكائه حتّى بان بياض الصبح، فكانت الدموع تتلألأ على لحيته الكريمة في فحمة الدجى، وهو عند قبر جدّه (صلی الله علیه و آله) ..

ص: 148

آه! لهفي لتلك الدموع وذاك البكاء! أيبكي حبيب الرسول وليس في القوم مَن يستمع بكاءَه ويسأله ويلتاع ويتحرّق لأنينه؟!!

الإشارة الرابعة: الاستخارة

بعد أن قضى سيّد الشهداء (علیه السلام) ليلته الأُولى يشكو إلى جدّه (صلی الله علیه و آله) ، شرع في الليلة الثانية بالاستخارة، فصلّى ركعتين، فلمّا فرغ من صلاته جعل يقول:

«اللّهم إنّ هذا قبر نبيّك محمّد، وأنا ابن بنت محمّد، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللّهمّ وإنّي أُحبّ المعروف وأكره المنكر، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ هذا القبر ومَن فيه ما اخترت من أمري هذا ما هو لك رضى».

وهنا يتقرّب إلى الله بنبيّه وابنة نبيّه..: «اللّهم إنّ هذا قبر نبيّك محمّد، وأنا ابن بنت محمّد»..ثمّ يعرض الحالة التي هو فيها: «وقد حضرني من الأمر ما قد علمت».. والله يعلمها، وقد أوجز سيّد الشهداء (علیه السلام) بقوله: قد حضرني من الأمر ما قد علمت.

فلو فهمناها ضمن الجوّ الّذي رسمه لنا المؤرّخ، فهو يُخبِر عن تخييره بين البيعة والقتل، وما جرى عليه في المدينة وما ينتظره في طريقه إلى كربلاء والفتح بالشهادة.

ثمّ يُقسِم على الله بالقبر ومَن فيه.. فللقبر وحده حرمةٌ يُقسِم بها على الله! ويسأله أن يختار له ما هو رضىً له، ورضاه لا شكّ هو رضى

ص: 149

الحسين (علیه السلام) ، ورضى الحسين رضاه؛ «رضى الله رضانا أهل البيت»..

الإشارة الخامسة: حبّ المعروف وإنكار المنكر

بعد أن استخار الله تبارك وتعالى وقال: «وقد حضرني من الأمر ما قد علمت»، أخبر الإمام المظلوم (علیه السلام) عمّا فعله أعداء الله وأعداء رسوله وأهل بيته من مضايقةٍ وتهديدٍ وطلبٍ لرأسه، وارتكازهم بين اثنتين: «السلّة أو الذلة»، وهيهات منه الذلّة؛ إذ يأبى الله له ذلك ورسولُه والحجور الطيّبة والأُنوف الحميّة ووالنفوس الأبيّة أن يؤثر طاعة اللئام على موتة الكرام، فأبى الإمام (علیه السلام) البيعة ليزيد القرود والفسق والفجور، وعدّ ذلك منكَراً، واستقبل القتل استقبالاً في الله، وعدّ ذلك معروفاً! «اللّهمّ وإنّي أُحبّ المعروف وأكره المنكر»..

إنّ الإمام الآن في المدينة مُخيَّرٌ من قِبَل أبناء الطلقاء الأدعياء بينالبيعة وبين القتل، وهو يشكو هذا الحال للنبيّ (صلی الله علیه و آله) بعد أن خذلَته الأُمّة وضيّعَته ولم تحفظه، ويستخير الله ليقضي الله ما أحبّ واختار له من الشهادة منذ أن خلق الله الخلق وقبل ذلك..

فكأنّ الإمام السبط الشهيد (علیه السلام) يقول: يا ربّ، إنّك تعلم أنّي أُحبّ المعروف وأكره المنكر، فكيف أُبايع هذه البيعة النكراء الذليلة؟!

ولا يخفى أنّ فهم هذا المقطع من كلام الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) مهمٌّ ومؤثّر جدّاً في فهم ما ورد في الوصيّة، كما سيتّضح إن شاء الله تعالى.

ولا شكّ أنّ الأنبياء والأوصياء والأئمّة المعصومين جميعاً كانوا يحبّون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد قاموا بذلك أحسن قيامٍ على

ص: 150

اختلاف مواقعهم وظروفهم، بل إنّما هو تكليفٌ ينبغي للمؤمن أن يعقد العزم والنيّة عليه ويسعى إلى امتثاله، فضلاً عن الأنوار المقدّسة للمعصومين (علیهم السلام) .

الإشارة السادسة: مؤدّى الرؤيا

لمّا استخار الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ربّه فقد خار الله له، وجاء جدّه النبي (صلی الله علیه و آله) ليخبره بخيرة الله تبارك وتعالى، فرآه في الرؤيا قد أقبل في كبكبةٍ من الملائكة عن يمينه وشماله ومن بين يديه ومن خلفه، حتّى ضمّ الحسين (علیه السلام) إلى صدره وقبّل بين عينيه، فأذاق سيّد الشهداء (علیه السلام) الحبَّ والحنان وضمّة الصدر والقُبلات الّتي كان ينعم بها أيّام حياة النبي (صلی الله علیه و آله) ، ثمّ خاطبه بكلمة: «يا بُني»، وناداه باسمه: «يا حسين»، ثمّ جعل يخبره بخيرة الله له وما سيؤول إليه أمره في هذه الدنيا، وأنّ هذا الأمر سيتحقّق قريباً، إنْ هي إلّا أيّامٌ ويرجع الحسين (علیه السلام) إلى صدر جدّه، لكن بعد أن يراه النبيّ (صلی الله علیه و آله) بنفسه مقتولاً، وحدّد له نوع القتل «مذبوحاً»، وعيّن له المكان «بأرض كربٍ وبلاء»، وشخّص له القتَلَة وهم «عصابةٌ من أُمّته»، متكاتفة متآزرةً متساندةً متعاضدةً في عصابةٍ واحدة، ثمّ عرّج على بقيّة المصيبة العظمى الّتي تنتظره، والحالة الّتي سيُقتَل بها مذبوحاً، فهو في ذلك عطشانٌ لا يُسقى وظمآنٌ لا يُروى.

ويا لها من فاجعة، إذ يُقتَل ابنُ رسول الله بهذه الصورة من عصابةٍ تفعل ذلك رجاء شفاعة جدّه سيّد الأنبياء (صلی الله علیه و آله) ، يقتلونه ويتقرّبون إلى الله بقتل حبيب الله وحبيب حبيب الله، فهم يتديّنون بقتله!!

ص: 151

بيد أنّ النبيّ أخبر _ _ ولله الحمد _ _ بخيبتهم، وبيّن مصيرهم وأنّهم سيُحرَمون الشفاعة ويبوؤون بغضب الله وسخطه، وما لهم عند الله من خَلاق..

ثمّ خاطبه: «حبيبي يا حسين! إنّ أباك وأُمّك وأخاك قد قدموا علَيّ، وهم إليك مشتاقون، وإنّ لك في الجنّة درجاتٍ لن تنالها إلّا بالشهادة».

اجتمع أصحاب الكساء (علیهم السلام) إلّا خامسهم سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهم مشتاقون إليه، وهو مشتاقٌ إليهم؛ «وما أولهني إلى لقاء أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف» ((1))، لقد اشتاق الحبيب إلى حبيبه، فهم جميعاً يستعجلون اللقاء..

وسيّد الشهداء (علیه السلام) يريد أن يلحق بجدّه، ويلتقي بالأحبّة من أهله، فجعل الحسين (علیه السلام) ينظر في منامه إلى جدّه (صلی الله علیه و آله) ويسمع كلامه، وهو يقول: «يا جدّاه! لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا أبداً، فخذني إليك، واجعلني معك إلى منزلك».

ولكن لا لقاء إلّا من أرض كربلاء.. فقال له النبيّ (صلی الله علیه و آله) : «يا حسين! إنّه لابدّ لك من الرجوع إلى الدنيا؛ حتّى تُرزَق الشهادة وما كتب الله لك فيها من الثواب العظيم، فإنّك وأباك وأخاك وعمّك وعمّ أبيك تُحشَرون يوم القيامة في زُمرةٍ واحدةٍ حتّى تدخلوا الجنّة».

إنّ الشهادة رسمت لسيّد الشهداء (علیه السلام) منذ أن أشرق نور الحسين (علیه السلام) على الكائنات، وكتب الله له بها درجةً خاصّةً به.. فإذا كان أخوه

ص: 152


1- المنتخب للطريحي: 2 / 389، اللهوف لابن طاووس: 60.

أبو الفضل العبّّاس (علیه السلام) قد رُزق منزلةً بشهادته بين يدَي إمامه يغبطه بها جميع الشهداء، فما بال منزلة سيّده وسيّد الشهداء (علیه السلام) ؟!

وهنا تبدّدَت جميع التصوّرات والخيالات، وتمزّقت كلّ المنسوجات الّتي حاكتها أذهان البشر المحدودة، وتحطّمت كلّ الصروح الّتي ارتفعت على هوادج حركة الشهيد الفاتح، لتعلن من ذاتيّاتها أهدافاً وأغراضاً ومقاصد لقيام الإمام (علیه السلام) الّذي كان يسير والمنايا تسير معه..لقد أخبر في رؤياً معصومةٍ رأى فيها معصومٌ معصوماً أنّه يخرج إلى مصرعه، وأنّه مقتولٌ مذبوحٌ تنتظره الشهادة في أرض كربٍ وبلاء!

فكيف يُتصوَّر في حقّ سيّد الشهداء (علیه السلام) وخامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) وقد أخبره جدّه الصادق المصدّق (صلی الله علیه و آله) أنّه يسعى إلى الشهادة المكتوبة له في كربلاء، ثمّ يُقال في حقّه أنّه قصد الكوفة؟! قصد ابن زياد؟! قصد يزيد؟! قصد إسقاط نظام؟! قصد محاربة اللئام لإقامة حكم الكرام؟!!

وبحثنا هذا كلّه وفق النصوص التاريخيّة، أأمّا إذا وسّعنا نطاق البحث إلى النصوص الشرعيّة والمتون المعصومة المرويّة الّتي تظافرت وتكاثرت حتّى ملأت أسفاراً، فلا مجال للاستدلال على قضيّةٍ تبدو أكثر من بديهيّةٍ ضروريّةٍ قطعيّةٍ جزميّةٍ لا يجرؤ أن يرتاب فيها مكابر!

الإشارة السابعة: حزن أهل البيت (علیهم السلام) وبكاؤهم

لقد قصّ سيّد الشهداء (علیه السلام) رؤياه على أهل بيته وبني عبد المطّلب، وقد قرأ لهم مصيبته على لسان جدّه (صلی الله علیه و آله) وذكر لهم مصرعه، إنّه مقتولٌ

ص: 153

مذبوحٌ عطشانٌ ظمآن، وبهذا قد أعلن لهم عن وُجهته وأبان لهم عمّا ستنتهي به رحلته، وكشف لهم عن الموضع الّذي سيُيَمّّم إليه وجهه.. إنّه يرحل إلى كربلاء، تزامله المنايا وتنتظره حفرته، فالنبيّ (صلی الله علیه و آله) قد نعاه إلى نفسه، وهو _ _ فداه العالمين _ _ قد نعى نفسه لأهل بيته وبني عبد المطّلب، فلمَن تُستبقى النياحة وتُدَّخر الدموع؟ فلم يكن ذلك اليوم فيشرقٍ ولا غربٍ أشدّ غمّاً من أهل بيت الرسول (صلی الله علیه و آله) ، ولا أكثر منه باكياً وباكية؛ لأنّهم علموا بالقطع واليقين أنّ هذا هو الوداع الأخير، وأنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) يخرج من المدينة ليبقى في كربلاء حتّى ينادي منادي السماء ويرفع راية الثأر بيد ولده المنتقم الأعظم للأولياء.

لقد اختار الله له لقاءه، واختار سيّد الشهداء (علیه السلام) لقاء الله ولقاء رسول الله ولقاء بقيّة أصحاب الكساء (علیهم السلام) وجميع الصدّيقين والصالحين والشهداء والأنبياء، فهذا هو الفراق، وبخروجه تتحقّق الوعود الإلهيّة والإخبارات النبويّة وإخبارات أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وغيرهما من الأنبياء والأوصياءء (علیهم السلام) الّذين أخبروا بقتل الإمام المظلوم العطشان (علیه السلام) ، من آدم إلى خاتم الأنبياء، بل إلى خامس أصحاب الكساء نفسه، والإمام الحسين (علیه السلام) سيصدّقهم جميعاً في الأرض الموعودة المفضّلة المذخورة له، أرض كربلاء، وفي اليوم المرصود له من ربّ الأرض والسماء، يوم عاشوراء!

النكتة الثالثة: الوصيّة برواية أهل البيت (علیهم السلام)

قد يُقال: إنّ العلّامة المجلسيّ نقل الوصيّة موضع البحث عن محمّد

ص: 154

ابن أبي طالب، ولم ينقلها عن الفتوح، وهو من مصادره في أخبار مقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وربّما فعل ذلك لِما في نقل ابن أبي طالب من التعديل في الوصيّة.ثمّ إنّه (رحمة الله) نقل مباشرةً بعد الوصيّة هذه نصّاً رواه المجلسي في غير موضعٍ من كتابه عن الصفّار في البصائر وغيره، بيد أنّه نقله هنا عن ابن أبي طالب أيضاً، والحال أنّ ابن أبي طالب رواه في أحداث خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة إلى العراق ((1))..

ويبدو من السياق أنّ العلّامة غوّاص بحار الأنوار قد فهم من النصّ الوصيّة، وأنّها عند خروجه من المدينة، ولذا ذكرها بعد تلك الوصيّة مباشرةً وكأنّه يريد أن يُشعِر القارئ أنّ ثمّة وصيّة أُخرى رُويَت عن طريق أهل البيت (علیهم السلام) لمحمّد ابن الحنفيّة، إن لم نفهم من نقله المعارضة والمقابلة.

قال العلّامة المجلسي بعد نقل الوصيّة المشار إليها مباشرة:

وقال محمّد بن أبي طالب:: روى محمّد بن يعقوب الكلينيّ ((2))

ص: 155


1- أُنظر: تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 231.
2- رواه الصفّار القميّ قال: حدّثنا أيّوب بن نوح، عن صفوان بن يحيى، عن مروان بن إسماعيل، عن حمزة بن حمران، عن أبي عبد الله (علیه السلام) ، قال: ذكرنا خروج الحسين وتخلّف ابن الحنفيّة عنه،، قال: قال أبو عبد الله:: «يا حمزة،، إنّي سأُحدّثك في هذا الحديث ولا تسأل عنه بعد مجلسنا هذا: إنّ الحسين لمّا فصل متوجّهاً دعا بقرطاسٍ وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن عليٍّ إلى بني هاشم، أمّا بعد، فإنّه مَن لحق بي منكم استُشهد معي، ومَن تخلّف لم يبلغ الفتح، والسلام (بصائر الدرجات للصفّار: 481 ح 5، اللهوف لابن طاووس: 129، المناقب لابن شهر آشوب: 3 / 23098، مثير الأحزان لابن نما: 39، الخرائج والجرائح للراوندي: 2 / 771، بحار الأنوار: 44 / 330 و45 / 84 و42 / 81، العوالم للبحراني: 17 / 179).

في كتاب (الرسائل)، عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن أيّوب بن نوح، عن صفوان، عن مروان بن إسماعيل، عن حمزة بن حمران، عن أبي عبد الله (علیه السلام) ، قال: ذكرنا خروج الحسين (علیه السلام) وتخلّف ابن الحنفيّة، فقال أبو عبد الله (علیه السلام) :: يا حمزة،، إنّّي سأُخبرك بحديثٍ لا تسألْ عنه بعد مجلسك هذا: إنّ الحسين لمّا فصل متوجّهاً دعا بقرطاسٍ وكتب فيه:بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن عليّ بن أبي طالبٍ إلى بني هاشم،: أمّا بعد، فإنّه مَن لحق بي منكم استُشهد، ومَن تخلّف لم يبلغ مبلغ الفتح، والسلام ((1))..

كيف كان، فإنّ ما قاله سيّد الشهداء (علیه السلام) كان مكتوباً؛ إذ أنّه دعا بقرطاسٍ وكتب فيه، وأنّ المخاطَب هم بنو هاشم، ولم يخصّ ابن الحنفيّة بالذكر في نصّ ما كتب الإمام (علیه السلام) ، بيد أنّ الإمام الصادق (علیه السلام) حدّد مصداقاً لما كتبه جدّه سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فنصّ على عمّه ابن

ص: 156


1- بحار الأنوار: 44 / 330.

الحنفيّة.. ونقل الحديث بألفاظٍ أُخرى ينصّه فيه بتوجيه الخطاب لاابن الحنفيّة وبني هاشم.

أضف إلى أنّ صياغة الكتاب أشبه بالرسالة منها بالوصيّة، ولم يصرّح الإمام الصادق (علیه السلام) بالمورد الّذي دفع إليه الكتاب، وربّما هذا هو الذي دعا ابن أبي طالب وغيره أن يفهم منه أنّه كتاب، فأدرجه في أحداث الطريق إلى العراق وأحداث الخروج من مكّة..

فقوله (علیه السلام) : «إنّ الحسين (علیه السلام) لمّا فصل متوجّهاً»، يمكن أن يصدق على التوجّه من مكّة إلى العراق، كما يصدق على توجّهه (علیه السلام) من المدينة إلى مكّة..

والكلام هنا ليس في أصل الحديث الشريف، وإنّما في كونه وصيّةً أو كتاباً، ليس إلّا.يبقى شيءٌ يمكن الاستفادة منه في هذا النصّ المقدّس على كلّ تقدير، وهو باختصار:

إنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) كان عازماً على الشهادة، ولم يكن في الحسبان أيُّ شيءٍ آخر سوى الشهادة المبشَّر بها منذ بدء الخليقة.. فإنّ مَن لحق به (منهم) استُشهد معه.. فهي الشهادة لا غير، لا برامج عمل مستقبليّة لإسقاط كيانٍ ولا إقامة كيان، ولا أيّ شيءٍ سوى القتل في الله؛ لأنّ الأعداء قد عزموا على تنفيذ ذلك مهما كلّف الأمر وتحت أيّ ظرف.

ومن الواضح جدّاً أنّ خطاب الكتاب محدّد ب-- «من» و«إلى»، فهو

ص: 157

من سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى بني هاشم، ومحصورٌ مرّةً أُخرى بقوله: «مَن لحق بي منكم»، أي: من بني هاشم على وجه الخصوص، وتعميم الكتاب إلى غيرهم يحتاج إلى مؤونةٍ وقرينة، غير متوفّرةٍ في النصّ نفسه، فلابدّ من البحث عنها من خارجه.

وعدم وجود «منكم» في الكتب المتأخّرة عن (البصائر) مثل كتاب الطبري الشيعي، فإنّه يُحمَل على السقط، لأنّ الصفّّار هو المصدر الأوّل والأقدم، ولو فرضنا عدم وجود «منكم» فإنّ الاختصاص يبقى على حاله، إذ إنّ الكتاب يحدّد الجهة المخاطَبة وهم بنو هاشم ((1)).

ص: 158


1- سيأتي تفصيل الكلام في الحديث ودلالاته في محلّه إن شاء الله تعالى.

النص

اشارة

يمكن تناول النصّ المتعلّق بالوصيّة كما ورد في كتاب ابن أعثم من خلال جزئين، إذ أنّه تضمّن حواراً بين محمّد ابن الحنفيّة وأخيه سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ثمّ دعا الإمام (علیه السلام) بدواةٍ وبياضٍ فكتب وصيّته.

ويبدو من خلال متابعة النصّ أنّ الجزء الأوّل منه له علاقةٌ وثيقةٌ بالوصيّة، ويحمل في طيّاته بعض الإشارات والتلويحات والتصريحات المتعلّقة بما جاء في بنود الوصيّة وفقراتها:

الجزء الأوّل: الحوار

اشارة

قال:

... وتهيّأ الحسين بن عليّ وعزم على الخروج من المدينة، ومضى في جوف الليل إلى قبر أُمّه فصلّى عند قبرها وودّعها، ثمّ قام عن قبرها وصار إلى قبر أخيه الحسن ففعل مثل ذلك، ثمّ رجع إلى منزله.

وفي وقت الصبح أقبل إليه أخوه محمّد ابن الحنفيّة، قال: فلمّا جاء إليه محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) قال: يا أخي، فدتك نفسي، أنت أحبُّ الناس إليّ وأعزّهم علَيّ، ولستُ والله أدّخر

ص: 159

النصيحة لأحدٍ من الخلق، وليس أحدٌ أحقَّ بها منك، فإنّك كنفسي وروحي وكبير أهل بيتي ومَن عليه اعتمادي وطاعته في عنقي، لأنّ الله _ تبارك وتعالى _ قد شرّفك وجعلك من سادات أهل الجنّة، وإنّي أُريد أن أُشير عليك برأيي فاقبله منّي.

فقال له الحسين: قل ما بدا لك.

فقال: أُشير عليك أن تنجو نفسك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، وأن تبعث رسلَك إلى الناس وتدعوهم إلى بيعتك، فإنّي إن بايعك الناس وتابعوك حمدتُ الله على ذلك، وقمتَ فيهم بما يقوم فيهم النبيّ (صلی الله علیه و آله) والخلفاء الراشدون المهديّون من بعده، حتّى يتوفّاك الله وهو عنك راضٍ، والمؤمنون كذلك كما رضوا عن أبيك وأخيك، وإن أجمع الناس على غيرك حمدت الله على ذلك، وإنّي خائفٌ عليك أن تدخل مصراً من الأمصار أو تأتي جماعةً من الناس فيقتتلون، فتكون طائفةٌ منهم معك وطائفةٌ عليك فتقتل منهم.

فقال له الحسين: يا أخي، إلى أين أذهب؟

قال: ااخرجْ إلى مكّة، فإن اطمأنّّت بك الدار فذاك الّذي تحبّ وأُحبّ، وإن تكن الأُخرى خرجتَ إلى بلاد اليمن، فإنّهم أنصار جدّك وأخيك وأبيك، وهم أرأف الناسوأرقّهم قلوباً وأوسع الناس بلاداً وأرجحهم عقولاً، فإن اطمأنّت بك أرض اليمن وإلّا لحقتَ بالرمال وشعوب الجبال، وصرتَ من بلدٍ إلى بلد، لتنظر

ص: 160

ما يؤول إليه أمر الناس ويحكم بينك وبين القوم الفاسقين.

فقال له الحسين: يا أخي، والله لو لم يكن في الدنيا ملجأٌ ولا مأوىً لَما بايعتُ والله يزيد بن معاوية أبداً، وقد قال (صلی الله علیه و آله) : اللّهمّ لا تُبارِك في يزيد.

قال: فقطع عليه محمّد ابن الحنفيّة الكلام وبكى، فبكى معه الحسين ساعة، ثمّ قال: جزاك الله يا أخي عنّي خيراً، ولقد نصحتَ وأشرتَ بالصواب، وأنا أرجو أن يكون إن شاء الله رأيك موفّقاً مسدّداً، وإنّي قد عزمتُ على الخروج إلى مكّة، وقد تهيّأتُ لذلك أنا وإخوتي وبنو إخوتي وشيعتي، وأمرهم أمري ورأيهم رأيي، وأمّا أنت يا أخي فلا عليك أن تقيم بالمدينة فتكون لي عيناً عليهم، ولا تخفْ علَيّ شيئاً من أُمورهم.

فقرات الجزء الأوّل:

اشارة

يمكن تقسيم الجزء الأوّل من المتن إلى فقراتٍ تسهّل علينا متابعته على عجل:

الفقرة الأولى: المقدّمة
كلام ابن الحنفيّة:
اشارة

فلمّاا جاء إليه محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) قال: يا أخي، فدتك نفسي، أنت أحبُّ الناس إليّ وأعزّهم علَيّ، ولستُ والله أدّخر النصيحة لأحدٍ من الخلق، وليس أحدٌ أحقَّ بها منك، فإنّك

ص: 161

كنفسي وروحي وكبير أهل بيتي ومَن عليه اعتمادي وطاعته في عنقي، لأنّ الله _ تبارك وتعالى _ قد شرّفك وجعلك من سادات أهل الجنّة، وإنّي أُريد أن أُشير عليك برأيي فاقبله منّي.

تضمّنت هذه الفقرات مطالب عديدة يمكن تناولها من خلال عدّة وقفات:

الوقفة الأُولى: مجيء ابن الحنفيّة

ربّما كان مجيء مولانا محمّد ابن الحنفيّة مفاجأً في مثل تلك الساعة المبكّرة من الصباح، بعد كلّ تلك الأحداث الجِسام الّتي هزّت المدينة وزعزعت الأرجاء وأزعجت خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ..

فمنذ أيّامٍ والمدينة ملتهبةٌ والأحداث متلاحقة، والرسل تترى على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، يستحضره الوالي المرّة تلو الأُخرى.. والآل محدقون بأبي عبد الله الحسين (علیه السلام) ، ونساء الهاشميّين يقمن المأتم والنياحة حتّىيمشي فيهنّ الإمام (علیه السلام) .. والإمام يعالج الوالي وأعوانه وأذنابه ليستعدّ للخروج في فلق الصبح.. والقبر تضعضع بمن فيه حزناً على خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) واستعداداً لاستقبال المصيبة العظمى.. وآل أبي طالب يعدّون العدّة للرحيل في ركب الفتح بالشهادة..

وربّما يعجز الكاتب عن تصوير تلك الأيّام وتلك الساعات المكفهرّة العصيبة الّتي عاشتها المدينة على وقع تهديدات القرد الأُمويّ والأقذار المتعلّقة بذيله، وقد ضاقت الدنيا بما رحُبَت على ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وقرّة عين الزهراء والوصي (علیهما السلام) ..

ص: 162

بيد أنّنا لم نسمع المؤرّخ والراوي يحدّثنا عن موقفٍ لمولانا ابن الحنفيّة، وكأنّه لم يكن في تلك الأيّام في المدينة ولا في مكّة.. وعلى حين غرّةٍ نجده يقصد الإمام (علیه السلام) ليتقدّم له ناصحاً يشير عليه برأيه..

أين كان (رضوان الله علیه) ؟ لا نسأل، فقد أمرنا الإمام الصادق (علیه السلام) أن لا نسأل بعد ما أخبرنا في حديثه لحمزة!

الوقفة الثانية: تقديمٌ قبل الإشارة

إنّ مولانا محمّد ابن الحنفيّة ابن أمير المؤمنين (علیه السلام) وابن خولة الحنفيّة الطيّبة الطاهرة، كبر ونشأ في ظلّ راعي الكون وإمام الخلق أجمعين، نهل العلم والأدب والأخلاق في بيتٍ تظلّله أفياء الكساء المقدّس، وتحت سقفٍ يستظلّ به ثلاثةٌ من أصحاب الكساء (علیهم السلام) ، وقد نهل من معين معادن العلم الإلهيّ ومهابط الوحي والملائكة؛ أبيه أمير المؤمنين وأخويهالإمامين الحسن والحسين (علیهم السلام) .. فهو يعرف جيّداً كيف يتقدّم بالكلام بين يدي سادات الأنام..

فلم يشرع في الإشارة والكلام قبل أن يقدّم مقدّمةً تؤهّله من الحديث بين يدي الإمام المفروض عليه طاعته..

فبدأ بهذه الفقرة الّتي تنمّ عن معرفته، وتُعرِب عن حبّه، وتكشف عن إخلاصه، وتُصحِر عن كوامنه الطيّبة تجاه أخيه الأكبر منه سبط نبيّ الرحمة وسيّد شباب أهل الجنّة..

فبدأ أوّلاً بمخاطبته بأخي.. ناداه بالأُخوّة، دون الاسم والكنية والألقاب، فالعلاقة أقوى العلاقات والارتباط أوثق الارتباطات؛ فهما

ص: 163

من حيث الأب مشتركان،، أبوهما أمير المؤمنين وسيّد الوصيّّين (علیه السلام) ، بيد أنّ مولانا محمّد ابن خولة الحنفيّة (رضوان الله عليها)، وسيّد الشهداء (علیه السلام) أُمّه فاطمة سيّدة نساء العالمين (علیها السلام) وبنت النبيّ الأمين (صلی الله علیه و آله) ، ولا سواء!

ثمّ جعل نفسه فداءًاً لأبي عبد الله الحسين (علیه السلام) ..

ثمّ جعل يتحدّث عن منزلة سيّد الشهداء (علیه السلام) ومقامه عنده، وأعرب عن شدّة حبّه واعتزازه بأخيه، فهو أحبّ الناس، ولا حبيب يبلغ حبّه، وأعزّهم عليه، فلا عزيز ينال عنده عزّه..

ثمّ أقسم أنّه لا يدّخر النصيحة لأحدٍ من الخلق، فهو يجود بها على الناس أجمعين من دون قيدٍ ولا شرط.. بيد أنّ بين الخلق تفاوتاً واختلافاًفي الأولويّات والقرب والاستحقاق، ومَن أحقّ بها ممّن يفديه مولانا محمّد بنفسه وهو أحبّ وأعزّ الناس عنده؟

ثمّ علّل تقدّمه بالنصيحة فقال:: فإنّك كنفسي، ولم يقل: إإنّك نفسي! فإذا أردنا أن نفهم كلامه وفق ما عهدناه في أولاد الأئمّة عامّة وأولاد أمير المؤمنين (علیه السلام) خاصّة من الأدب الرفيع والخلق السامي، فيلزم أن نقول: إنّه قال: كنفسي؛ لأنّه يعلم أنّه ومَن في الأرض جميعاً _ إلّا مَن استثناهم الله _ لا يمكن أن يعادلوا سيّد الشهداء (علیه السلام) ولا أن يكونوا مثله أو نفسه، وهو نفس سيّد الأنبياء وسيّد الأوصياء ودمهما ولحمهما.. ويبدو أنّ الكاف سارية المفعول في الروح أيضاً بالعطف، فهو كروحه..

وكبير أهل بيته.. كبيرهم بالعمر، إذ أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) هو البقيّة

ص: 164

الباقية من أصحاب الكساء، وهو أكبر مَن بقي من ذرّيّة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وآل أبي طالب من الذكور، فهو عميد الأُسرة وكبيرهم سنّاً ومقاماً، وجاهاً وسؤدداً، وكبيرهم في كلّ شيءٍ بلا استثناء، بل هو الكبير في العالَم كلِّه يومئذٍ وسيّدُ الكائنات طرّاً أجمعين..

ومن عليه اعتمادي.. اعتمد على الشيء: اتّكأ عليه ((1))، فهو يتّكأ ويعتمد ويستند على كبير الآل، فإذا ذهب سقط هو أيضاً فلا تقوم له قائمةا..

وهو يعتقد فرض طاعة سيّد الشهداء (علیه السلام) : وطاعته في عنقي.. واعتقادفرض الطاعة يلازم الاعتقاد بالإمامة، ثمّ يعلّل ذلك بقوله: لأنّ الله (تبارك وتعالى) قد شرّفك وجعلك من سادات أهل الجنّة! فهل هذا التعليل لبيان سبب الاعتقاد بفرض الطاعة؟ أو أنّه تعليلٌ للاعتماد عليه؟ أو تعليلٌ لكليهما ولما سبق؟ فإن كان التعليل للأوّل فسوف يكون فيه شيءٌ من الغرابة.

ثمّ شرع في بيان مراده.. وإنّي أُريد أن أُشير عليك برأيي، فاقبله منّي..

رأيٌ بإزاء طاعةٍ في عنقه؟! رأيٌ شخصيّ.. رأيي.. ثمّ دعوةٌ للقبول بصيغة الأمر الصريحة: فاقبله.. وأن يقبل منه: فاقبله منّي..

فأين الطاعة المفروضة؟! وأين الإشارة بالرأي؟ فأَشَارَ عَلَيَّ بكذا، أي: أراني ما عنده فيه من المصلحة ((2)).. فيكفي أن يُريه ما عنده في

ص: 165


1- أُنظر: لسان العرب: مادّة «عمد».
2- أُنظر: مجمع البحرين للطريحي: «مادّة شور».

الأمر من المصلحة، وله أن يقبل أو لا يقبل، إذ ّإنّ الطاعة له في عنق الآخرين، وليس له طاعةٌ في عنقه للآخرين أيّاً كانوا، فهو إمام الخلق أجمعين!

لكن، يمكن أن يُحمَل هذا الأمر على الرجاء والتمنّي، وهو ما يناسب أدب مولانا المكرّم ابن الحنفيّة.

بعد هذه المقدّمة الّتي تفيض أدباً وحبّاً وتكريماً، وتجيش منها العاطفة والرجاء والتمنّي والتوسّل، انبرى سيّد الشهداء (علیه السلام) للجواب.

جواب سيّد الشهداء (علیه السلام)

أذن له الإمام أن يبادر إلى صلب الموضوع الّذي قد أهمّه، وفتح المجال أمامه واسعاً لا حدود له، فقال له الحسين (علیه السلام) : قُلْ ما بدا لك!

ويبدو من هذا التعبير أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) نسب ما سيقوله ابن الحنفيّة إلى ابن الحنفيّة نفسه.. «قل ما بدا لك».. قل ما تراه ويبدو لك، وهو ما يبدو له شخصيّاً.. فهو رأيٌ شخصيٌّ خاصٌّ به نابعٌ من أعماقه وكوامنه الذاتيّة.

الفقرة الثانية: إبداء الرأي!
اشارة

لمّا حصل الإذن من الإمام (علیه السلام) ، انطلق المولى المكرّم ابن الحنفيّة ليعرض رأيه على سيّد الكائنات (علیه السلام) .

كلام ابن الحنفيّة
اشارة

فقال: أُشير عليك أن تنجو نفسك عن يزيد بن معاوية (أن

ص: 166

تنتحى بنفسك عن يزيد _ الخوارزميّ) وعن الأمصار ما استطعت، وأن تبعث رسلك إلى الناس وتدعوهم إلى بيعتك، فإنّي (فإن بايعك الناس حمدت الله على ذلك _ الخوارزميّ) إن بايعك الناس وتابعوك حمدت الله على ذلك، وقمت فيهم بما (كان) يقوم فيهم النبيّ (صلی الله علیه و آله) والخلفاء الراشدون المهديّون من بعده، حتّى يتوفّاك الله وهو عنك راضٍ، والمؤمنون كذلك (والمؤمنون عنك راضون) كما رضوا عنأبيك وأخيك، وإن أجمع (اجتمع) الناس على غيرك حمدت الله على ذلك (وسكتّ ولزمت منزلك)، وإنّي خائفٌ عليك أن تدخل مصراً من الأمصار أو تأتي جماعةً من الناس فيقتتلون، فتكون طائفةٌ منهم معك وطائفةٌ عليك، فتقتل منهم (بينهم).

تتضمّن الإشارة على سيّد الشهداء (علیه السلام) الواردة في هذه الفقرة من كلام مولانا السيّد محمّد بن أمير المؤمنين (علیه السلام) عدّة موادّ تُنفَّذ في مراحل متتاليةٍ متعاقبة، وكأنّه يرسم للإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) معالم الطريق الذي ستؤول _ عاقبة _ إلى إفلاته من المنيّة وتنجيه من القتل الّذي يلاحقه في الظاهر المنظور بفعل يزيد الخمور والفجور.

المادّة الأُولى: التنحّي عن يزيد وعن الأمصار

قال: أُشير عليك أن تنجو نفسك عن يزيد بن معاوية (أن تنتحي بنفسك عن يزيد _ الخوارزمي) وعن الأمصار ما استطعت..

ص: 167

تنجو نفسك:: تخلّص نفسك ((1))، وفي لفظ الخوارزمي: تنتحي» بنفسك، والمعنى واحد..

فالمادّة الأُولى الّتي يراها مولانا السيّد محمّد أن يختفي أبو عبد الله (علیه السلام) ويجتنب أيّ ظهورٍ مُعلَنٍ يكشف عن مكانه ويوفّر الفرصة للأدعياء بملاحقته ومتابعته..يريده أن ينجو بنفسه ويخلّصها من مخالب يزيد من خلال التغيّب عن عيونه وجواسيسه وجلاوزته وأذنابه، وإنّما يتحقّق ذلك بالابتعاد عن الأمصار ما استطاع أبو عبد الله (علیه السلام) إلى ذلك سبيلاً!

الابتعاد عن الأمصار يعني أن يسكن البوادي والقفار، وأن يبقى متنقّلاً بين السهول والجبال، متخفّياً بين الأحراش والأدغال!!

عجباً والله لا ينقضي! حبيب الله ووليّه ووصيّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) وخامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) ، ومَن هو أَولى بالناس من أنفسهم، يعيش مشرّداً لا يأوي إلى بلد، في الصحارى والقفار وشعوب الجبال؟!! أيكون ذلك؟!

يبدو أنّ وحوش الأُمويّين الكاسرة قد علقت مخالبها به، ولا حيلة عند المحبّ إلّا يفترض أيّ فرضٍ مهما كان لينجو بحبيبه!

المادّة الثانية: الدعوة للبيعة
اشارة

تنصّ المادّة الثانية من موادّ مشروع ابن الحنفيّة أن يبعث الإمام

ص: 168


1- أُنظر: لسان العرب: مادّة «نجو».

رسله إلى الناس ليدعوهم إلى بيعته: وأن تبعث رسلك إلى الناس وتدعوهم إلى بيعتك..

كانت الظروف واضحة المعالم أنّ الإمام (علیه السلام) سوف لا يستقرّ به المقام في مكّة، وسوف تنبو به اليمن، فلابدّ من الخيار الآخر في المادّة السابقة، وهي أن يلحق الإمام (علیه السلام) بمن معه، ولا شكّ أنّ المولى محمّد ابن أمير المؤمنين سوف لا يكون معهم، لأنّه يتحدّث عمّا يفعله سيّدالشهداء (علیه السلام) ومَن معه بضمير الخطاب ولا يحشر نفسه النفيسة معهم..

وبعد أن يلحق الإمام سيّد الكائنات (علیه السلام) بشعوب الجبال ومطاوي الرمال، ويختفي في الصحارى والفيافي والقفار، يبعث مِن هناك، مِن الموضع المجهول، حيث لا يعرفه أحدٌ إلى الناس، ويطلب منهم البيعة!!

وهنا أيضاً يحتمل أن لا يجيبه أحد، فماذا يفعل؟! هذا ما سيجيب عليه المولى ابن الحنفيّة في المادّة الرابعة بعد قليل.

والبيعة إنّما تكون لأغراضٍ عديدة، وتقوم بمهامّ شتّى مختلفة، إذ تختلف مؤدّياتها باختلاف موارد الإلزام فيها، فربّما أُخذت البيعة من أجل الخروج على الحاكم المتسلّط بغرض تغيير النظام وإقامة نظامٍ آخَر مكانه، وربّما أُخذت من أجل الدفاع عن شخصٍ ما مهدَّد ويريد الدفاع عن نفسه، فيجتمع حوله الرجال ويبايعونه على الدفاع عنه والإخلاص له ضدّ العدوّ الّذي قصده.. وربّما كانت البيعة تؤخذ لأغراضٍ أُخرى يجمعها جميعاً وفاء المبايِع للمبايَع..

فأيّ نوعٍ من أنواع البيعة اقترحها المولى محمّد ابن الحنفيّة على

ص: 169

الإمام (علیه السلام) ؟!

كأنّ عباراته توحي إلى نوعٍ خاصّ يريد من خلاله أن يُقنِع الإمام (علیه السلام) أنّ في بقائه حيّاً واجتنابه القتل الّذي لابدّ منه، ولو في شعوب الجبال ومطاوي الرمال والكهوف ومجاهيل الوديان، قد يكون مُثمِراً على احتمال، ممّا يوفّر فرصةً محتملَةً للقيام بأعباء الحكم، مضافاً إلى البقاءعلى قيد الحياة..

ويمكن أفادت ذلك من الاحتمالات الّتي عرضها المولى ابن الحنفيّة، وكانت جميعها سلبيّة غير مؤثّرة في حلّ المعضلة الّتي أراد حلّها، فهو يفترض الخروج من مكّة، وعقم الذهاب إلى اليمن، والالتجاء بعيداً عن الأمصار، وبعد ذلك كلّه يحتمل أن يكون هذا السلوك نافعاً على الاحتمالين، فهو إمّا أن يكسب الناس وتسنح له الفرصة، فيعود حاكماً مظفّراً، وإمّا أن يعيش ولا يُقتَل باعتباره نأى بنفسه بعيداً عن الأمصار، فلا تلاحقه العيون والأنظار ويبقى بعيداً عن متناول يد الظالم الغشوم..

وهنا ينبغي التنبيه إلى قضيّةٍ مهمّةٍ جدّاً:

تنبيه مهمّ:

يبدو أنّ ثمّة خلطاً خطيراً وقع عند دراسة الأهداف أو العلل الغائيّة والفاعلة أو الدوافع أو المسوّغات لقيام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فانبروا يحملون ما في تصوّرات الناس والأفراد وتصريحاتهم على مواقف سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فلمّا سمعوا أهل الكوفة مثلاً يدعون الإمام (علیه السلام) إلى البيعة والإطاحة بالحاكم الظالم وإخراج الوالي وما شاكل من المزاعم

ص: 170

والادّّعاءات الّتي ارتفعت من حناجر الجهلة والغوغاء والانتهازيّّين والسفلة، أو من بعض الشيعة المؤمنين الموالين الّذين استشعروا في هلاك معاوية شيئاًئاً من الفضاء السياسيّّ والتخلخل الحكومي،ّفاغتنموها فرصةً لنصر الحقّ وتكريس الفرصة لإعادة الخلافة الربّانيّة.

أمّا الشيعة الخلّص والموالون العارفون العالمون، من قبيل عابس بن أبي شبيب وحبيب بن مظاهر، فإنّهم «أدركوا بالحسين أكبر عيدٍ»، وأعلنوا استعدادهم ليكونوا «في منى الطفوف أضاحي»، ذَوداً عن شخص الإمام وعياله، وحفظاً لرسول الله في ذرّيّته وودائعه.. ويبدو ذلك جليّاً في تصريحاتهم ومواقفهم وما أصحروا به بين يدَي المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) .

وقد رأينا ذلك واضحاً أيضاً في كلمات الإمام الشهيد (علیه السلام) ردّاً على رسائل القوم وكتبهم وبيعتهم وتحمّسهم وهيجانهم، فكتب لهم المرّة تلو الأُخرى أن ينتظروا حتّى يقدم عليهم بنفسه ((1)) _ فداه العالمين _..

* * * * **

المهمّ في المقام أن نفرّق بين دعوات الناس وصرخاتهم وشعاراتهم وتصريحاتهم ومواقفهم أيّاً كانوا، وبين تصريحات سيّد الشهداء (علیه السلام) وأقواله ومواقفه!

إذا اتّضح هذا البيان، نعرف أنّ اقتراح مولانا ابن الحنفيّة هنا إذا كان

ص: 171


1- أتينا على ذكر رسائل الإمام (علیه السلام) إلى أهل الكوفة في مجموعة (المولى الغريب.. وقائع السفارة)، وسيأتي تفصيلها في محلّه إن شاء الله تعالى.

المقصود منه توفير البيعة من الناس من أجل الإطاحة بيزيد وسلطان بني أُميّة، فهو تصوّره خاصّة، وربّما كان من أجل ما ذكرناه قبل قليل، حيث أنّه كان يريد أن يُقنِع الإمام (علیه السلام) أنّ في اعتزاله وابتعاده عنالأمصار ومراسلة الناس من وراء شعوب الجبال ومطاوي الرمال قد يكون سبباً للبقاء وإقامة حكم الله، ومحفّزاً له على الابتعاد عن مواطن القتل الّتي كانت تشمل جميع الأمصار يومها..

والمفروض أنّ مولانا ابن الحنفيّة يعلم _ وقد عاش بنفسه _ ما جرى للناس من بيعتهم ليزيد ومبادرتهم ومسارعتهم للتهافت على قيء القرود الأُمويّة منذ أيّام معاوية، إذ أخذ البيعة ليزيد على الناس في الأمصار، ثمّ جدّدوا البيعة له بعد هلاك معاوية، وهم في طاعة الشيطان لا يسمعون سوى هتوفه..

وكانت المدينة يومها في قبضة الأُمويّين تماماً، بناسها وعقائدها وأفكارها وتوجّهاتها، حتّى عاد سيّد الشهداء (علیه السلام) بينهم غريباً مضيَّعاً وحيداً مخذولاً.. فعقائد السقيفة تحتبل القلوب والعقول والقوّات النظاميّة والشرطة والغوغاء كلّها في طاعة الوالي..

وكذا الأمر في مكّة المكرّمة؛ فالناس أعرضوا عن سيّد الشهداء (علیه السلام) وقبلة القلوب وكعبة الرضى الربّاني، وجعلوا يطوفون بأحجار، وكأنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يخرج من بين ظهرانيهم بأهله وعياله إلى القتل، ولم يسمعوه وهو يخطب: «خَطّ الموت على وُلد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة»!

ص: 172

وأمّا الكوفة، فقد كانت ثكنةً لعسكر السقيفة، ولم يتضعضع فيها أيُّ بناءٍ عسكريّ أو إداريّ، لا عند هلاك معاوية ولا بعد أن دخلها المولىالغريب (علیه السلام) سفيراً من سيّد الشهداء (علیه السلام) ولا بعد شهادته ولا عند خروجها لحرب ريحانة النبي (صلی الله علیه و آله) ، ولم يكن مع سيّد الشهداء (علیه السلام) وسفيره إلّا القلّة القليلة، حتّى على فرض حساب الزبد الاجتماعيّ الّذي طفح وكاتب إمام الأبرار وبايعه ثمّ رجعوا القهقرى إلى مواضعهم ومعتقداتهم ومصالحهم الّتي دعتهم لاتّخاذ موقفٍ مع الحقّ من أجل الوصول إلى باطلهم، وقد فصّلنا ذلك في مجموعة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) .

ولا ينبغي التعرّض للشام في مثل تلك الأيّام؛ فإنّهم كانوا عبَدَة القرود الأُمويّة منذ أن دخلوا الإسلام يومها..

فمن ذا الّذي كان يبايع الإمام المغيَّب في الأدغال وشعوب الجبال _ ونستغفر الله من هذا التعبير _ إذا خاطبهم عن طريق الرسل والكتب؟! وإلى متى سيبقى هناك حتّى تفيء القلوب الّتي كانت تنبض بحرارة السقيفة وولائها ومطامعها؟!

إذا كان الوجه المذكِّر برسول الله وخامس أصحاب الكساء وآل رسول الله بينهم وهم يرونهم مهدَّدین ملاحقین، تنبح عليهم كلاب الأُمويّين وتتوثّب عليهم ذئاب السقيفة وتترصّدهم قرود الشجرة الملعونة، وهم لا تهتزّ لهم شعرة ولا تنتفض بهم غيرة ولا حميّة ولا دين، فمتى سترعوي وتستجيب إلى دعوات سيّد الشهداء (علیه السلام) وهو في أقاصي

ص: 173

الأرض ومجاهيل الجبال والوديان والصحاري والقفار؟! وقد قالالإمام الغريب:: «الناس عبيد الدنيا، والدين لَعِقٌ على ألسنتهم، فإذا مُحّّصوا بالبلاء قلّ الديّانون»..

فبأيّ معنىً كانت البيعة في كلام مولانا ابن الحنفيّة لا يمكن تصوّر حصولها بالهيّن والوقت اليسير، وبنو أُميّة أحرص على الوقت، وقد وظّفوا الترهيب والترغيب والتضليل منذ عهد السقيفة إلى يوم الحسين (علیه السلام) في كربلاء، والناس هم الناس والقوم أبناء القوم!

المادّة الثالثة: فرض حصول البيعة
اشارة

بعد أن يبعث الإمام (علیه السلام) رسُلَه إلى الناس ويدعوهم إلى بيعته، يَفترض مولانا ابنُ الحنفيّة أحدَ احتمالين، نذكر الاحتمال الأوّل هنا ونتناول الاحتمال الثاني في المادّة الرابعة.

قال: فإنّي (فإن بايعك الناس حمدت الله على ذلك _ الخوارزميّ) إن بايعك الناس وتابعوك حمدت الله على ذلك، وقمتَ فيهم بما (كان) يقوم فيهم النبيّ (صلی الله علیه و آله) والخلفاء الراشدون المهديّون من بعده، حتّى يتوفّاك الله وهو عنك راضٍ، والمؤمنون كذلك (والمؤمنون عنك راضون) كما رضوا عن أبيك وأخيك...

وقفات:

هذا الاحتمال يقوم على أساس أن تفلح دعوات سيّد الشهداء (علیه السلام) وتؤثّر في الناس كتبه ورسله، فيبايعوه ويتابعوه، فينصرونه نصراً يمكّنه

ص: 174

من القيام بما يقوم به النبيّ (صلی الله علیه و آله) والخلفاء الراشدون من بعده، فيبقى على هذه الحالة لا ينازعه منازعٌ ولا يتمرّد عليه متمرّد، فتصفو له الأُمور ولا تكون كما كانت للنبيّ ولأمير المؤمنين وأخيه الحسن الأمين (علیهم السلام) ، حتّى يدركه الموت ويتوفّاه الله!! فيموت إذ يموت وقد كسب رضى الرحمان وعباده المؤمنين!

الوقفة الأُولى: مبايعة الناس

ذكرنا _ قبل قليلٍ _ أنّ الناس قد فرغوا من بيعة يزيد منذ عهد معاوية، وجدّدوها بعد هلاكه، وهم على طاعتهم وبيعته، ونضيف هنا أنّ الناس قد فرغوا من بيعة يزيد منذ يوم السقيفة، وقُضيَ الأمر، وهم على ما هم عليه لا تزحزحهم الأحداث عن معتقداتهم الّتي فيها مصالحهم ودنياهم، وقد استغفلوا أنفسهم ودلّسوا الدين ولبسوه لبس الفرو مقلوباً، حتّى زعموا أنّ في ذلك آخرتهم أيضاً.

وهذا ما يجعل الناظر في التاريخ يطمئنّ أنّ خذلان القوم لسيّد الشهداء ولأبيه ولأخيه (علیهم السلام) من قبل لم يكن مجرّد موقفٍ عابرٍ أو خوفٍ قاهرٍ أو طمَعٍ يسيل اللعاب ويدع الفم فاغراً.. وإنّما كان موقفاً عقائديّاً يتديّنون الله به حسب زعمهم، بل زعموا أنّهم يتقرّبون إلى الله بقتلهم سيّد شباب أهل الجنّة وريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ..

هكذا كانت الأكثريّة الكاثرة الغالبة على كلّ الأُمّة، وما الشيعة الّتي تتديّن بإمامة سيّد الشهداء (علیه السلام) وتعتقد فرض طاعته وتبايعه على بيعة الغدير إلّا أقلّيّة لا تكاد تبين..

ص: 175

ومَن كان هذا دينهم وقد عرف طيلة الستّين سنة ديدنهم لا يمكن أن يفترض فيهم الانصياع للحقّ والبيعة للإمام وااتّّباعه والإعراض عمّن اتّخذوهم أرباباً من دون الله وقتلوا من أجلهم سيّد المرسلين وسيّدة نساء العالمين وسيّد الوصيّين والإمام الحسن المجتبى (علیهم السلام) ، والإمام لا يدعوهم بشخصه ولا يلتقيهم بنفسه، وإنّما سيباشرهم من خلال بعث الرسل!!

الوقفة الثانية: ملاحقة الأعداء

لا يفترض في أعداء سيّد الشهداء (علیه السلام) وأعداء الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) أن يبقوا مكتوفي الأيدي، فيتركون ملاحقته وتسكن عنه أحقادهم وتخفت نيران ضغائنهم، وكأنّهم لا يعرفون الجغرافيا ولا يملكون جيوشاً ذات عديدٍ وعدّةٍ يمكنها أن تسدّ الفروج وتملأ الغيطان وتتعقّب سيّد الشهداء (علیه السلام) أين ما كان وحيث ما كان، إذ أنّه سيستمرّ في بعث الرسل ودعوة الناس إلى بيعته وتخذيلهم عن آل أبي سفيان وجند الشيطان.

لقد تقبّض سيّد الشهداء (علیه السلام) عن البيعة وأبى أن يُعطي بيده إعطاء الذليل، فلاحقوه حتّى قتلوه ومَن معه وسبوا عياله؛ لإبائه البيعة فقط، فكيف إن عمل على دعوة الناس إلى البيعة وهدّد كيانهم وعمل مباشرةً لإسقاط كلّ القرود الّتي نزت على منبر النبيّ (صلی الله علیه و آله) ؟ أكانوا يتركونه ولوكان في الثريّا؟!

الوقفة الثالثة: الإعلام المضادّ

لقد دأب جرذان السقيفة على تضليل الناس وإبعادهم عن أهل

ص: 176

البيت (علیهم السلام) والعملِ بما جاء به خاتم المرسلين (صلی الله علیه و آله) ، حتّى أقنعوا أتباعهم بما أرادوا وأخرجوا الحقّ عن أهله وقلبوا الموازين، ولم يكفّوا عن التضليل لحظةً من أيّامهم البائسة المشؤومة، حتّى أطلقوا على سيّد الشهداء (علیه السلام) عنوان (الخارجيّ)، وصار آل النبيّ غنائم وسبايا يُساقون، ليستشرفهم أهل المناقل والمناهل من بلدٍ إلى بلد! وفعلوا ما فعلوا حتّى لعنوا أمير المؤمنين ومولى الموحّدين وأخا النبيّ وصهره ووليّ الله وسيفه على منابر الأُمّة في صلوات الجمعة والجماعة، والشواهد والمشاهد على ذلك كثيرة..

وفي مثل هذا الجوّ وهذه الظروف وهذا العدوّ الغاشم اللئيم الظالم، أيُترَك سيّد الشهداء (علیه السلام) _ وهو في غياهب الصحارى وشعوب الجبال _ من دون محاربةٍ ومواجهةٍ إعلاميّةٍ شاملةٍ تضلّل الناس؟

كأنّ الاحتمال يفترض أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) يعمل لوحده، فيبعث الرسل لمن شاء متى شاء، ويقبله الناس فوراً أو بعد حين، فيحمد الله على ما أنعم ويشكره على ما يسّر وألهم!

لو كان الأمر كذلك لَما احتاج سيّد الشهداء (علیه السلام) للهجرة عن مسقط رأسه ومهبط الوحي الّذي نزل في بيته ومدينة جدّه.. لكان حريّاً بالناسأن يسمعوا استغاثته واستنصاره وشكواه إلى جدّه ونصروه، أو على الأقلّ لَمنعوه ودفعوا عنه وهو بين ظهرانيّهم!

الوقفة الرابعة: القيام بما كان يقوم به النبي (صلی الله علیه و آله) والخلفاء الراشدون

على فرض استجاب الناس لسيّد الشهداء (علیه السلام) وبايعوه ونصروه

ص: 177

حتّى قام فيهم بالأمر، قام فيهم بما كان يقوم فيهم النبيّ (صلی الله علیه و آله) والخلفاء الراشدون المهديّون من بعده..

مَن هم الخلفاء الراشدون المهديّون؟!

ثمّة احتمالاتٌ يمكن أن يكتشف منها المقصود من الخلفاء الراشدين المهديّين الواردة في كلام مولانا ابن الحنفيّة، وكذا في متن الوصيّة، كما سنسمع بعد قليل..

الاحتمال الأوّل: الأئمّة الهداة (علیهم السلام)

ربّما كان المقصود بالخلفاء الراشدين المهديّين هم أئمّة الهدى المعصومون (علیهم السلام) ، فإن كان مقصوده الأئمّة جميعاً مَن سبق سيّد الشهداء (علیه السلام) منهم ومَن لحق من أبنائه (علیهم السلام) فهو لا ينسجم مع السياق، وذلك:

أوّلاً: لأنّ السياق يشير إلى أنّ المقصود منهم مَن سبق سيّد الشهداء (علیه السلام) ، بقرينة قوله: «كان يقوم فيهم النبيّ والخلفاء..»، وفيه إشارةٌ واضحةٌ إلى الماضي..ثانياً: لم تنحصر سيرة الإمامين السابقين على سيّد الشهداء (علیه السلام) بالقيام بالأمر بالحكم وإدارة شؤون الدولة والناس، فقد صبر أمير المؤمنين (علیه السلام) وفي العين قذى وفي الحلق شجىً يرى تراثه نهباً خمسةً وعشرين سنة، ثمّ اشترطوا عليه سيرة الشيخين فأبى، حتّى بايعه الناس بعد عثمان خليفةً رابعاً، ولا نعتقد أنّهم قد جدّدوا له بيعة

ص: 178

الغدير، وإنّما بايعوه بنفس النَّفَس والطريقة والدِّين والأساس الّذي بايعوا فيه من سبقه، بمعنى أنّهم بايعوه وفق موازين السقيفة لا باعتبار التعيين والنصب الإلهيّ على لسان النبيّ (صلی الله علیه و آله) .. وعمل فيهم بالتقيّة والمداراة، وصبر على صرخاتهم في وجهه: وا سُنّة عُمراه! .. وتمرّد عليه الناكثون والقاسطون والمارقون، وقاتلوه وخرجوا عليه.

وأمّا أخوه الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) ، فلم يقم بالأمر بالمعنى الّذي يريدوه أكثر من شهور معدودة لم تصفو له فيها القلوب الوغرة، ثمّ صالح معاوية على ما هو مسطورٌ في التاريخ ومنصوصٌ عليه في الحديث.

فهذه هي سيرة الخليفتين الراشِدَين المعصومَين السابقَين على سيّد الشهداء (علیه السلام) !!

أمّا إذا كان المراد هم الأئمّة (علیهم السلام) من بعده والتسعة من ذرّيّته، فإنّ المفروض أن يقوموا هم بما قام به جدّهم سيّد الشهداء (علیه السلام) ويسيرون بسيرته، لا أن يسير هو بسيرتهم، والحال نرى أنّهم جميعاً لم يفعلواذلك، بل عملوا بالتقيّة ومداراة السلاطين، وأجّلوا ذلك جميعاً من النبيّ الخاتم (صلی الله علیه و آله) إلى وارث الأنبياء الإمام الحسن العسكري (علیه السلام) إلى اليوم الموعود، يوم يقوم الصاحب (عجل الله تعالی فرجه الشریف) (عجل الله تعالی فرجه الشریف) لانفراده بالأحكام، وهو المدّخر لإقامة حكم الله على الأرض.

الاحتمال الثاني: الخلفاء بعد النبي (صلی الله علیه و آله)

ربّما كان المقصود بالخلفاء الراشدين المهديّين هم مَن حكم بعد النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، ويشير إليه السياق ويؤكّده قوله: «من بعده»!

ص: 179

فهو إمّا أن يكون تقيّة! وهو بعيد؛ إذ أنّ المفروض أنّ الكلام يدور بين سيّد الشهداء (علیه السلام) وأخيه في ظروفٍ خاصّة، لا تساعد على حملها على التقيّة.

وإمّا أن يكون تأليفاً لقلوب أتباع العجل والسامريّ، واحتواء المجتمع القائم على تلك الأُسس، وهو بعيدٌ وعجيبٌ جدّاً..

فإن كان الأمر كذلك فلمَ امتنع أمير المؤمنين (علیه السلام) يوم الشورى البائسة؟! ولمَ أبى سيّد الشهداء (علیه السلام) البيعة ليزيد؟! أوَليس يزيد إفرازاً من إفرازات السقيفة وموازينها؟ أوَليس معاوية منصوباً من قِبَل عمر!!! ويزيد منصوباً من قِبل معاوية؟ وبالتالي تكون البيعة ليزيد مفردةً ممّا قام به «الخلفاء الراشدون المهديّّون»!!

ثمّ كيف يمكن لمثل ابن الحنفيّة أن يعبّر عن مثل هؤلاء الغاصبينوالعتاة المردة بالخلفاء الراشدين المهديّين؟! ثمّ يعبّر عنهم سيّد الشهداء بنفس التعبير؟! من غير ظرف تقيّةٍ توجِب ذلك في اللحاظ المنظور لنا!

الاحتمال الثالث: التحريف

ربّما زعم أحدٌ أنّ هذا اللفظ لم يُستعمَل من قبل، وأنّ اصطلاح «الخلفاء الراشدين» مُحدَث، وأنّه «أضافت يد التحريف: "وسيرة الخلفاء الراشدين المهديّين رضي الله عنهم"، وأنّ الراشدين اصطلاحٌ تأخّر استعماله عن عصر الخلافة الأُمويّة، ولم يرد في نصٍّ ثبت وجوده قبل ذلك، ويقصد بالراشدين الّذين أتوا إلى الحكم بعد رسول الله متوالياً من ضمنهم الإمام عليّ، فلا يصحّ أن يعطف الراشدين على اسم

ص: 180

الإمام، كلّ هذا يدلّنا على أنّ الجملة أُدخلَت في لفظ الإمام الحسين» ((1)).

ويمكن أن يُجاب:

أوّلاً: وروده في مسانيد العامّة عن النبي (صلی الله علیه و آله)

إنّ لفظ «الخلفاء الراشدين المهديّين» قد ورد بالحرف في ما رواه العوامّ عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) في مسانيدهم وكتبهم، كمسند أحمد وسنن ابن ماجة والترمذي وسنن سعيد بن منصور والسُنّّة لابن أبي عاصم وعشرات الكتب والمسانيد الأُخرى ((2)).ثانياً: ورد في أهل البيت (علیهم السلام)

القول بأنّه ورد في الأحاديث النبويّة وغيرها من الأحاديث، والمقصود منها أئمّة الهداة الخلفاء الحقّ المنصوبين يوم الغدير من الله، فلا شكّ في ذلك عندنا، بيد أنّ العوامّ رووها وحرّفوا معناها وطبّقوها وفق أهوائهم على من شاؤوا، وهو موضع الخلاف بيننا وبينهم، فهي مستعملةٌ وفق موازين السقيفة في رجالها، وليس هذا اللقب هو الوحيد الّذي سُرق

ص: 181


1- هامش معالم المدرستين لمرتضى العسكري: 3 / 50.
2- أُنظر: سنن ابن منصور: 1 / 202، مسند أحمد: 4 / 126، سنن ابن ماجة: 1 / 15، سنن الترمذي: 4 / 150، المستدرك للحاكم: 1 / 96، السنن الكبرى للبيهقي: 7 / 255، المصنّف للصنعاني: 6 / 288، السنة لابن أبي عاصم: 30، كتاب ابن خزيمة: 4 / 325، كتاب ابن حبّان: 1 / 179.

من أهل البيت (علیهم السلام) وأُلصق بأعدائهم وغاصبيهم، بل إنّهم سلبوا جميع ألقابهم وخلعوها على أصنامهم، حتّى الألقاب الخاصّة من قبيل «أمير المؤمنين»، وقد ورد الحديث عنهم (علیهم السلام) في ذلك.

ثالثاً: وروده على لسان مروان في تلك الأيّام

لقد ورد هذا المصطلح في كتاب ابن أعثم نفسه، وفي نفس تلك الأيّام على لسان مروان، يقصد منه المتسلّطون على الأُمّة بعد النبيّ (صلی الله علیه و آله) حسب الترتيب الّذي رسمَته السقيفة، وعدّ يزيد فيهم:

قال: فأرسل مروان إلى وجوه أهل المدينة، فجمعهم في المسجد الأعظم، ثمّ صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وذكر الطاعة وحضّ عليها، وذكر الفتنة وحذّر منها، ثمّ قال في بعض كلامه: أيّها الناس، إنّ أمير المؤمنين قد كبر سنّه، ورقّ جلده وعظمه، وخشيَ الفتنة من بعده،وقد أراه الله رأياً حسناً، وقد أراد أن يختار لكم وليّ عهدٍ يكون من بعده لكم مفزعاً، يجمع الله به الأُلفة ويحقن به الدماء، وأراد أن يكون ذلك عن مشورةٍ منكم وتراض، فماذا تقولون؟

فقال الناس من كلّ جانب: إنّا لا نكره ذلك إذا كان لله فيه رضى. فقال مروان: إنّه قد اختار لكم الرضى الّذي يسير فيكم بسيرة الخلفاء الراشدين المهديّين، وهو ابنه يزيد. قال: فسكت الناس ... ((1)).

وفي (المقتل) للخوارزمي: فقال مروان: فإنّه قد اختار لكم الرضى

ص: 182


1- الفتوح لابن أعثم: 4 / 232.

الّذي يسير فيكم بسيرة الخلفاء الراشدين المهتدين، وهو ابنه يزيد. قال: فسكت الناس ((1)).

رابعاً: تحوّل المصطلح إلى ميزانٍ شرعيّ!

كان هذا المصطلح قد تحوّل من قبل إلى قيمةٍ وميزانٍ شرعيّ يوازي الأمر الإلهيّ والسيرة النبويّة.

وهذا ما يشهد به التاريخ ونظريّات السقيفة وسلوكيّاتها، وقد عرضوا الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) على سيرة الشيخين وسُنّة النبيّ (صلی الله علیه و آله) في الشورى، فطُولب _ وهو الّذي يدور الحقّ معه حيثما دار _ أن يستنّ بسنّتَيهما ويسير بسيرتَيهما، فأبى، وقبل عثمان فملَك.

وورد على لسان مروان في أحداث سنة ستٍّ وخمسين أنّه قال حين خطبهم وحضّهم على الطاعة وحذّرهم الفتنة ودعاهم إلى بيعة يزيد،وقال: سنّة أبي بكر الهادية المهديّة ((2))..

وغير ذلك كثيرٌ ممّا يفيد أنّ هذا المصطلح كان قد راج يومها بفعل رجالات السقيفة، لتكون سُنّةً بسنّة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ومنهاجاًاً مقابل منهاج الله.

خامساً: ذكر الخاصّ قبل العامّ

أمّا أن «لا يصحّ أن يُعطَف الراشدين على اسم الإمام» لأنّه من

ص: 183


1- المقتل للخوارزمي: 1 / 171.
2- العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 371.

ضمن الخلفاء الراشدين، فإنّ في التركيز على ذكر الخاصّ قبل العامّ مقاصد تصحّحها الاستعمالات اللغويّة، سيّما إذا أفادت ولو من خلال الإشارة إلى وجود ثمّة فوارق بين السيرتين، أو أنّ هناك سيرتين، إذ إنّه ذكر سيرة جدّه وأبيه، وسيرة الخلفاء، فكأنّ ثمّة سيرتان وهو يريد أن يجمع بينهما، إحداهما سيرة الجدّ والأب، والأُخرى سيرة الخلفاء! فلا مانع من الاستعمال..

على أنّ كلام المولى ابن الحنفيّة يخلو من هذا العطف، وكلام سيّد الشهداء (علیه السلام) في الوصيّة ناظرٌ إلى كلام ابن الحنفيّة.

سادساً: متى امتدّت يد التحريف؟

هل امتدّت يد التحريف إلى كلام سيّد الشهداء فقط، أم أنّها وصلت إلى كلام ابن الحنفيّة أيضاً؟! فإنّ العبارة واردةٌ في الموضعين.

ثمّ إنّ المصدر الأوّل لهذه الوصيّة وكلام ابن الحنفيّة إنّما هو كتابالفتوح لابن أعثم حسب فحصنا، والنسخ المطبوعة للكتاب تتضمّن هذه العبارة في الموضعَين، وإنّما كنسها ابن أبي طالب، وربّما اعتقد أنّّها تحريفٌ ففعل ذلك، بيد أنّ هذا لا يكفي لإثبات التحريف، وربّما كانت هذه العبارة من الشواهد الّتي دعت جميع العلماء والمؤرّخين الشيعة إلى الإغماض عن الوصيّة وكلام ابن الحنفيّة، حتّى أُولئك الّذين شهدَت كتبهم وعباراتهم بأخذهم عن ابن أعثم، بل حتّى أُولئك الّذين صرّحوا بالأخذ عنه.

ص: 184

سابعاً: من قال بالتحريف فَهِم أنّ المقصود رجال السقيفة

يفيد قول القائل: إنّ هذا ممّا امتدّت له يد التحريف، أنّه لم يفهم من النصّ أنّ المراد منه هم أئمّة الهدى (علیهم السلام) ، وإنّما انحصر الفهم من العبارة بالحكّام بعد النبيّ (صلی الله علیه و آله) مباشرة، ولذا قال بالتحريف، ولو كانت قابلةً للتأويل عنده بالأئمّة الراشدين المهديّين المنصوبين من الله (علیهم السلام) لَمال إلى هذا التأويل واستدلّ له.

ثامناً: غضّ النظر عن العبارة

كيف كان، إن كانت هذه العبارة دخيلة أضافتها يد التحريف فلتسقط، فالكلام في أصل دلالات الوصيّة، وقد قرّرنا _ من قبل عند الحديث عن السند والاعتبار _ التعامل معها، بغضّّ النظر عن المضعّفات.

المادّة الرابعة: فرض عدم حصول البيعة
اشارة

المادّة الرابعة: فرض عدم حصول البيعةمن الطبيعيّ أن تردّ المادّة الرابعة هنا، إذ إنّ نتيجة مراسلات الإمام (علیه السلام) من موضع اختفائه في شعوب الجبال ومطاوي الرمال إمّا أن تكون استجابة الناس، فيكون الّذي أحبّ، وإمّا أن لا يستجيبوا واختاروا غيره.

وإن أجمع (اجتمع) الناس على غيرك حمدت الله على ذلك [وسكتّ ولزمت منزلك]».

ويمكن أن يُلاحَظ هنا:

الملاحظة الأُولى: الإمامة فرضٌ وليست اختيار

ص: 185

قد يوحي كلام المولى ابن الحنفيّة _ حسب هذا النصّ _ أنّ الإمام (علیه السلام) يعرض نفسه على الناس، والناس بالخيار إن شاؤوا اختاروه وإن شاؤوا رفضوه واختاروا غيره.

والحال أنّ الإمامة في الإسلام ليست كذلك، وإنّما هي فرضٌ من الله، وهو _ تعالى _ الّذي ينصب الإمام ويختاره للناس، و﴿مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ﴾ُ، وإنّما على الناس أن يختاروا الطاعة أو يختاروا المعصية، لا أن يختاروا الإمام (علیه السلام) ، والكلام في ذلك يطول، والبحث فيه عقائديٌّ دقيق ليس هذا محلّه.

الملاحظة الثانية: سكوت الإمام (علیه السلام) في المدينة

إنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) كان قد لزم الصمت ولم يُقدِم على أيّ موقف،حتّى بعث الوالي الرسلَ تترى تطلب منه أن يحضر عنده في جوف الليل وفي غير الوقت المعتاد الّذي يجلس فيه، ليأخذوا بيعته قبل أن يفشوا خبر هلاك طاغيتهم، فهم مَن بدؤوا بملاحقة الإمام (علیه السلام) ومتابعته والإلحاح عليه ((1))، وأزعجوه وركزوا بين السلّة والذلّة، وقد سمعنا _ كما ورد في

ص: 186


1- أُنظر: ترجمة الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 55، تهذيب ابن بدران: 4 / 327، مختصر ابن منظور: 7 / 138، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2607، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 415، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 162، الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 1 / 175، جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 314، الأخبار الطِّوال للدينوري: 229، تاريخ اليعقوبي: 2 / 215، تاريخ الطبري: 5 / 339، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 323، تاريخ الطبري: 5 / 347، الفتوح لابن أعثم: 5 / 13 _ 17، العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 376، جواهر المطالب للباعوني: 2 / 263، الأمالي للصدوق: 151، بحار الأنوار: 44 / 312، الإرشاد للمفيد: 2 / 30، روضة الواعظين للفتّال: 146، الاستيعاب لابن عبد البرّ: 1 / 381، تاريخ الخميس للدياربكري: 2 / 331، نور الأبصار للشبلنجي: 256، الأمالي للشجري: 1 / 170، 190، إعلام الورى للطبرسي: 222، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 2 / 181، المناقب لابن شهرآشوب: 10 / 141، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 264، نفَس المهموم للقمّي: 68، نهاية الأرَب للنويري: 20 / 387، مثير الأحزان لابن نما: 9، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 135، اللهوف لابن طاووس: 22، كتاب الفخري لابن طقطقي: 104، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 422، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 198، تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 341، مرآة الجِنان لليافعي: 1 / 132، تاريخ ابن خلدون: 3 / 19، تهذيب التهذيب لابن حجر: 2 / 348، الإصابة لابن حجر: 1 / 332، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 182، المنتخَب للطريحي: 2 / 419، شذرات الذهب لابن العماد: 67.

جميع المصادر _ بنَهَم ابن الزرقاء دبّاغة الأدم طريد النبيّ (صلی الله علیه و آله) وابن طريده للولوغ في دم سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وتأكيدِه على الوالي أن لا يدعه يخرج حتّى يُبايع أو يضرب عنقه..

قال الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) مخاطباً ابن عبّاس حينما اعترضه هو وابن عمر:

يا ابن عبّاس، فما تقول في قومٍ أخرجوا ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) من داره وقراره ومولده، وحرمِ رسوله ومجاورة قبره ومولده ومسجده وموضع مهاجره، فتركوه خائفاً مرعوباً، لا

ص: 187

يستقرّ في قرارٍ ولا يأوي في موطن، يريدون في ذلك قتله وسفك دمه، وهو لم يُشرِك بالله شيئاً ولا اتّخذ من دونه وليّاً، ولم يتغيّر عمّا كان عليه رسول الله (صلی الله علیه و آله) والخلفاء من بعده؟!! ((1))فالإمام (علیه السلام) قد لزم بيته ولم يبدر منه أيّ إقدامٍ لولا أنّهم أزعجوه وأخرجوه وتركوه في الحال الّتي وصفها هو _ فداه العالمين _.

الملاحظة الثالثة: إجماع الناس على بيعة غيره

لقد بايع الناس يزيداً في أقطارهم في عهد مُلك أبيه، وجاءته الوفود من الأمصار ((2))، وقد أكّد الناس بيعتهم في أعناقهم، وأعطوا عهودهم على ذلك ومواثيقهم ((3))، وبايع أهل مصر والشام والعراق ((4))، وبايع أهل الحجاز، ولم يبقَ صقعٌ له موقعٌ في الأهمّيّة إلّا وقد بايع أهلُه ليزيد القرود.

وبهذا قد حصل إجماع الناس واجتماعهم على غيره قبل أن يغيب في مطاوي الرمال وكهوف الجبال.. فلْيحمد الله وليلزم منزله ويسكت، ولا يتكلّف هو وأهل بيته الميامين التغرّب عند مسقط رأسه ومهبط الوحي وتربة سلفه الطاهرين!

ص: 188


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 38.
2- أُنظر: الكامل للمبرد: 1 / 30، الفتوح لابن أعثم: 4 / 232، العِقد الفريد لابن عبد ربّه، 4 / 369، مروج الذهب للمسعودي: 3 / 36، الكامل لابن الأثير: 3 / 250، نهاية الأرَب للنويري: 20 / 353، شرح النهج لابن أبي الحديد: 17 / 45.
3- من كلام لمعاوية مع عائشة،أُنظر: تاريخ اليعقوبي: 2 / 206.
4- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 4 / 232، العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 370.

وقد فعل (علیه السلام) ، لولا أنّهم بعثوا الرسل ولاحقوه وطالبوه بالبيعة للقرد المخمور، وركزوا بين السلّة والذلّة.

الملاحظة الرابعة: لو لزم الإمام منزله وسكت!

لو أنّ الإمام (علیه السلام) لزم منزله وسكت، فإنّهم لن يتركوه فيما بعد، وذلك أنّ دم الإمام (علیه السلام) مطلوبٌ على كلّ حال، ويؤكّد ذلك أنّ القرد المخمور المتهوّر كتب إلى واليه على المدينة الوليد بن عتبة كتاباً يطلبفيه رأس ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) على كلّ حال، وقال له:

أمّا بعد، فإذا ورد عليك كتابي هذا، فخُذ البيعة ثانياً على أهل المدينة بتوكيدٍ منك عليهم، وذر عبد الله بن الزبير؛ فإنّه لا يفوتنا ولن ينجو منّا أبداً ما دام حيّاً، ولْيكن مع جوابك إليّ رأسُ الحسين بن عليّ، فإن فعلتَ ذلك فقد جعلتُ لك أعنّة الخيل، ولك عندي الجائزة والحظّ الأوفر، والنعمة واحدة، والسلام ((1)).

يلاحَظ في هذا النصّ التصريح بقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) على كلّ حال، ولم ينتظر البيعة أو الحوار أو أيّ شيءٍ آخَر، إنّما هو يريد رأس الحسين (علیه السلام) مع الكتاب الّذي سيخبره بتجديد بيعة الناس.

وفيما رواه ابن أعثم وغيره كلامٌاً لسيّد الشهداء (علیه السلام) مع ابن عبّّاس وابن عمر، ذكر الأخير ترك البيعة والدخول في الصلح والإقامة في الوطن

ص: 189


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 25، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 185، وانظر: الأمالي للصدوق: 152، بحار الأنوار: 44 / 312.

وحرم الرسول، فأجابه سيّد الشهداء مرّتين، قال في مفتتح كلامه الأوّل: «أفٍّ لهذا الكلام أبداً ما دامت السماوات والأرض».. وقال في جوابه حينما قال له ثانية:

فارجع إلى المدينة، وإن شئتَ أن لا تبايع فلا تبايع أبداً، واقعد في منزلك.فقال له الحسين: هيهات يا ابن عمر، إنّ القوم لا يتركوني إن أصابوني، وإن لم يصيبوني فإنّهم يطلبوني أبداً حتّى أُبايع وأنا كاره، أو يقتلوني ((1)).

لقد خرج من المدينة مكرهاً، كما روى الطريحي في (المنتخب) أثناء ذكره لمشهد وداعه (علیه السلام) لقبر جدّه، قال:

ثمّ أتى قبر جدّه رسول الله (صلی الله علیه و آله) والتزمه وبكى بكاءاً شديداً، وقال: بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله، لقد خرجتُ من جوارك كرهاً، وقد فُرّق بيني وبينك، حيث أنّي لم أُبايع ليزيد بن معاوية، شاربِ الخمور وراكبِ الفجور، وها أنا خارجٌ من جوارك على الكراهة، فعليك منّي السلام ((2)).

كما يشهد له عرضه عليهم مرّةً بعد مرّةٍ أن يرجع من حيث أتى، وما

ص: 190


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 38 _ 44، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 190 وما بعدها، واللفظ للمقتل، وفي الفتوح: ««إنّ القوم لا يتركوني، وإن أصابوني وإن لم يصيبوني، فلا يزالون حتّى أُبايع وأنا كارهٌ أو يقتلوني»».
2- المنتخب للطريحي: 2 / 420.

شاكل، فأبوا إلّا أن ينزل على حكمهم.

الملاحظة الخامسة: مطالبة الإمام بالبيعة الذليلة

إنّهم كانوا يطالبون الإمام بالبيعة الذليلة، فهم لا يكفّون عنه مِن دون تحقيقها..

ويشهد لذلك قوله (علیه السلام) :: «هيهات منّا الذلّة»؛، تعبيراً عن تلك البيعة.

ويشهد لها أيضاً قول مروان حينما جاء يأمر إمام الثقلين بالبيعة للقردالمخمور..

فقال: أبا عبد الله، إنّي لك ناصح، فأطعني ترشد وتسدّد!! فقال الحسين: وما ذلك؟ قل حتّى أسمع! فقال مروان: أقول: إنّي آمرُك ببيعة أمير المؤمنين يزيد، فإنّه خَوَلُك في دِينك ودنياك ((1)). فاسترجع الإمام، وأبى وردّ قوله، فغضب الوزغ الطريد مروان من كلام الإمام الحسين (علیه السلام) ، ثمّ قال: واللهِ لا تفارقني أو تبايع ليزيد بن معاوية صاغراً!! ((2))

وفي خبر عمر بن علي أنّه قال: لمّا امتنع أخي الحسين عن البيعة ليزيد بالمدينة.. فهو لم يذكر سوى امتناع سيّد الشهداء (علیه السلام) ليس إلّا، ثمّ استمرّ يحدّث مجريات لقائئه بالإمام (علیه السلام) إلى أن يقول:

فتظنّ أنّك علمتَ ما لم أعلمه؟ وأنّه لا أُعطي الدنيّة من نفسي أبداً، ولتلقينّ فاطمةُ أباها شاكيةً ما لقيَت ذرّيّتُها من أُمّته ...

ص: 191


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 23_ 25، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 184 _ 185.
2- الفتوح لابن أعثم: 5 / 23، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 184.

وهنا لا يعدو الأمر عن الامتناع عن البيعة، الّتي أرادوا فرضها على الإمام فرضاً مستهجَناً بحيث عبّر عنها الإمام ب- «الدنيّة»!

ويؤكّد ذلك أيضاً ردود سيّد الشهداء (علیه السلام) على مَن اقترح عليه البيعة، فأخبره أنّه مقتولٌ لا محالة، فهو يقرّر أنّه مطلوبٌ للقتل، سواءً بايع أم لم يبايع ((1)).

الملاحظة السادسة: لو بايع الإمام (علیه السلام) !

الملاحظة السادسة: لو بايع الإمام (علیه السلام) !

حينما همّ بالخروج من مكّة، لقيَه ابن الزبير فقال: يا أبا عبد الله، إإنّك مطلوب! فلو مكثتَ بمكّة، فكنتَ كأحد حمام هذا الببيت واستجرتَ بحرم الله لكان ذلك أحسن لك. فقال له الحسين (علیه السلام) : يمنعني من ذلك قول رسول الله (صلی الله علیه و آله) : سيستحلّ هذا الحرم من أجلي رجلٌ من قريش، واللهِ لا أكون ذلك الرجل، صنع الله بي ما هو صانع ((2)).

وأكّد سيّد الشهداء (علیه السلام) في كلامه مع ابن الزبير وغيره عند خروجه من مكّة، فقال: «لئن أُقتَل خارجاً من مكّة بشبرٍ أحبّ إليّ من أن أُقتَل فيها، ولئن أُقتَل خارجاً منها بشبرَين أحبّ إليّ مِن أن أُقتَل خارجاً منها بشبر» ((3))، «واللهِ لئن أُقتل خارجاً منها بشبرٍ أحبّ إليّ من أن أُقتَل داخلاً

ص: 192


1- أُنظر: اللهوف لابن طاووس: 26، وما ذكرناه في البحث من مصادر لردود الإمام (علیه السلام) على المعترضين.
2- شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 143.
3- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 375. وانظر: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 219، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 161، التهذيب لابن بدران: 4 / 329، المناقب لابن شهرآشوب: 10 / 27 بتحقيق: السيّد علي السيّد جمال أشرف ، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 203، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 293، بحار الأنوار: 44 / 185، ذخائر العُقبى للطبري: 151، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 186، نور الأبصار للشبلنجي: 258، الصواعق المحرقة لابن حجر: 117.

منها بشبر، وأيمُ الله لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هذه الهوامّ لاستخرجوني حتّى يقضوا فيّ حاجتهم، واللهِ لُيَعتدُنّ علَيّ كما اعتدَت اليهودُ في السبت» ((1)).

وقال (علیه السلام) _ معلّقاً على كلام ابن الزبير _ : «إنّ هذا يقول لي: كن حماماً من حمام الحرم! ولئن أُقتَل وبيني وبين الحرم باعٌ أحبّ إليّ من أن أُقتَل وبيني وبينه شبر، ولئن أُقتَل بالطفّ أحبّ إليّ من أن أُقتَل بالحرم».

وفي حديث الإمام الصادق (علیه السلام) : «لا نستحلّها ولا تستحلّّ بنا، ولئن أُقتَل على تلّ أعفر أحبّ إليّ من أن أُقتُل بها» ((2)).وكتب عبد الله بن جعفر لسيّد الشهداء (علیه السلام) كتاباً وهو في مكّة، فأبدى له تخوّفه عليه وعلى أهل بيته من القتل وأن يطفأ نور الأرض، ثمّ وعده أن يأخذ له الأمان من يزيد وجميع بني أُميّة على نفسه وماله ووُلده وأهل بيته، فكتب إليه الإمام (علیه السلام) جواباً، وكان من جملته: «واللهِ _ يا ابن عمّي _ لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض لاستخرجوني حتّى

ص: 193


1- تاريخ الطبري: 5 / 385، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 145، الكامل لابن الأثير: 3 / 275.
2- كامل الزيارات لابن قولويه: 72 _ 73، بحار الأنوار: 45 / 85.

يقتلوني، واللهِ _ يا ابن عمّي _ لَيعتدُنّ علَيّ كما اعتدَت اليهودُ في يوم السبت، والسلام» ((1)).

ربّما يُفهَم من كلام الإمام (علیه السلام) الإخبار بالغيب، وهو فهمٌ صحيح، ونحن لا نريد هنا التعامل مع الأحاديث والروايات المتظافرة الواردة في المقام، لأنّنا بنينا البحث هنا على النصّ التاريخيّ فقط، بيد أنّ في مدلول كلام الإمام (علیه السلام) ما يفيد بوضوحٍ أنّه يريد بيان ملاحقته من قِبل قرود الأُمويّين الوحشيّة، وأنّه مطلوبٌ للقتل على كلّ حال، سواءً بايع أم لم يبايع!

وهذا البيان واضحٌ لا يحتاج إلى كثير تأمّل، بغضّ النظر عن الجانب الغيبيّ في إخباره (علیه السلام) بمكان شهادته، فهو (علیه السلام) يريد أن يقول إنّ القوم عزموا على قتله أين ما ثقفوه، وهو لا يريد أن يكون المقتول في فناء الكعبة، ويريد أن يخرج عنها لئلّا تُستحَلّ به، فسيّد الشهداء (علیه السلام) يرعى حرمة الكعبة، ويعلم أنّهم يطاردونه ليقتلوه أينما كان، وهو لا يريد أن يكون في مكّة.وقد صرّح (علیه السلام) بذلك حينما قال _ وهو الصدّيق، وأقسم على ما قال _: «أيمُ الله لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هذه الهوامّ لاستخرجوني حتّى يقضوا فيّ حاجتهم».. وفي لفظ ابن أعثم والخوارزميّ: «لاستخرجوني حتّى يقتلوني».

وإنّما خرج الإمام (علیه السلام) من مكّة قبل الحجّ، ولم يحجّ؛ لأنّهم كانوا

ص: 194


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 115، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 217.

عازمين على قتاله وقتله أو أسره في مكّة، وبذلك ستُهتَك حرمة مكّة والبيت الحرام، فإنّهم قد أعدّوا لذلك، وقدم عمرو بن سعيد بن العاص إلى مكّة يوم التروية في جندٍ كثيف، وقد أمره يزيد أن يُناجز الحسين القتال إن هو ناجزه أو يقاتله إن قدر عليه ((1))، وأوصاه أن يقبض على الحسين (علیه السلام) سرّاً، ويقتله غِيلة ((2))، فأحلّ الإمامُ من إحرامه وجعلها عُمرة، لأنّه لم يتمكّن من تمام الحجّ، مخافة أن يُقبَض عليه بمكّة فينفذ به إلى يزيد بن معاوية ((3)).

وكذا يمكن أن يُفهَم كلامه (علیه السلام) في كتابه لأخيه محمّد ابن الحنفيّة وبني هاشم، فإنّه (علیه السلام) إنّما قال:: «مَن لحق بي منكم استُشهد» ((4))، أفاد الإخبار الغيبيّ، ويمكن أن يفيد الإخبار عن مجريات الأحداث، إذ إنّهم قد عزموا على قتله ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة، فهو يريد أن يدعوهم للدفاع عنه ونصرته، ولما كانوا لا يتركونه أبداً حتّى يقتلوه، ومن جاء للدفاع عنه ونصرته لا يدعهم يصلون إليه وفيه عرقٌ ينبض، فهذا

ص: 195


1- اللهوف لابن طاووس: 62.
2- المنتخَب للطريحي: 2 / 289.
3- الإرشاد للمفيد: 2 / 68، روضة الواعظين للفتّال: 152، إعلام الورى للطبرسي: 230، مثير الأحزان لابن نما: 19، بحار الأنوار: 44 / 363.
4- بصائر الدرجات للصفّار: 501 ح 5، كامل الزيارات لابن قولويه: 75، دلائل الإمامة للطبري: 77، نوادر المعجزات: 109، الخرائج للراوندي: 2 / 771، مثير الأحزان لابن نما: 19، اللهوف لابن طاووس: 65، مختصر بصائر الدرجات للحلّي: 6، بحار الأنوار: 45 / 84.

معناه أنّ من لحق به منهم يستشهد جزماً..

فغايتهم قتله، كيف ما كان! ولو اختفى عنهم وابتعد واعتزل وناول وبايع وفعل ما فعل..

وقد اقترح عليه (علیه السلام) كثيرون أن يقيم في مكّة، ويتثبّت حتّى يدخل موسم الحجّ، فيدعوهم إلى نفسه فيبايعه أهل الموسم، يتذكّرون به الناس جدَّه، ويمضي حينئذٍ في جملتهم في جماعةٍ ومنَعَةٍ وسلاحٍ وعدّة ((1))، وقال له الفرزدق: بأبي أنت، لو أقمتَ حتّى يصدر الناس لَرجوتُ أن يتقصّف أهل الموسم معك. فقال (علیه السلام) : «لم آمنهم يا أبا فراس» ((2)).

وهذا يعني أنّ الإمام كان مهدَّداً في تلك الأيّام، مضيَّقاً عليه بحيث لا يسَعه البقاء في مكّة حتّى ينتهي موسم الحجّ.

لو كان الإمام ناول وبايع لَلاحقوه وقتلوه، كما فعلوا بأخيه الحسن المجتبى وباقي أولاده الأئمّة النجباء (علیهم السلام) ، وقد صرّح هو بذلك في أكثر من بيان وموضع: «واللهِ لا يدَعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي» ((3)).

ص: 196


1- الإنباء للعمراني: 14.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 63، مختصر ابن منظور لتاريخ ابن عساكر: 27 / 121.
3- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين لابن سعد: 50 رقم 280، تاريخ الطبري: 5 / 394، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 169، الإرشاد للمفيد: 2 / 77، بحار الأنوار: 44 / 375، العوالم للبحراني: 17 / 225، إعلام الورى للطبرسي: 232، الكامل لابن الأثير: 3 / 276.

قال العلّامة المجلسي:مع أنّه قد ظهر لك من الأخبار السابقة أنّه؟ (علیه السلام) هرب من المدينة خوفاً من القتل إلى مكّة، وكذا خرج من مكّة بعد ما غلب على ظنّه! أنّهم يريدون غيلته وقتله، حتّى لم يتيسّر له _ فداه نفسي وأبي وأُمّي وولدي _ أن يُتمّ حجّه، فتحلّل، وخرج منها خائفاً يترقّب، وقد كانوا (لعنهم الله) ضيّقوا عليه جميع الأقطار، ولم يتركوا له موضعاً للفرار.

ولقد رأيتُ في الكتب المعتبرة أنّ يزيد أنفذ عمرو بن سعيد ابن العاص في عسكرٍ عظيم، وولّاه أمر الموسم، وأمّره على الحاجّ كلّهم، وكان قد أوصاه بقبض الحسين؟ (علیه السلام) سرّاً، وإن لم يتمكّن منه بقتله غيلة، ثمّ إنّه دسّ مع الحاجّ في تلك السنة ثلاثين رجلاً من شياطين بني أُميّة، وأمرهم بقتل الحسين؟ (علیه السلام) على أيّ حالٍ اتّفق، فلمّا علم الحسين؟ (علیه السلام) بذلك حلّ من إحرام الحجّ، وجعلها عُمرةً مفردة.

وقد رُوي بأسانيد: إنّه لمّا منعه؟ (علیه السلام) محمّدُ ابن الحنفيّة عن الخروج إلى الكوفة، قال: واللهِ _ يا أخي _ لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض لَاستخرجوني منه حتى يقتلوني.

بل الظاهر أنه (صلوات الله عليه) لو كان يسالمهم ويبايعهم لا

ص: 197

يتركونه؛ لشدّة عداوتهم وكثرة وقاحتهم، بل كانوا يغتالونه بكلّ حيلة، ويدفعونه بكلّ وسيلة، وإنّما كانوا يعرضون البيعةعليه أوّلاً لعلمهم بأنّه لا يوافقهم في ذلك، ألا ترى إلى مروان (لعنه الله) كيف كان يُشير على والي المدينة بقتله قبل عرض البيعة عليه؟ وكان عُبيد الله بن زياد (عليه لعائن الله إلى يوم التناد) يقول: اعرضوا عليه فلْينزِلْ على أمرنا، ثمّ نرى فيه رأينا! ((1))

المادّة السابعة: نتيجة ترك العمل بالرأي
اشارة

بعد أن قدّم المولى ابن الحنفيّة مشورته وعرض رأيه على إمام زمانه خامس أصحاب الكساء وسيّد الشهداء (علیه السلام) ، قال:

وإنّي خائفٌ عليك أن تدخل مصراً من الأمصار أو تأتيَ جماعةً من الناس فيقتتلون، فتكون طائفةٌ منهم معك وطائفةٌ عليك، فتقتَل منهم [بينهم].

ويبدو أنّ هذه الفقرة تتضمّن جملةً من المفادات:

المفاد الأوّل: التعليل والتحذير

بدأ المولى ابن الحنفيّة وكأنّه يريد أن يحذّر الإمام (علیه السلام) من عاقبة الإعراض عن رأيه ومشورته، إذ إنّه عرض مشورته ورأيه، ثمّ عقّب على ذلك بخوفه على حياة الإمام (علیه السلام) ، فهو يريد أن يقول للإمام: إن لم تقبل

ص: 198


1- بحار الأنوار: 45 / 99، العوالم للبحراني: 17 / 323.

مشورتي فإنّ عاقبتك إلى القتل، فاحذرْ.

وهذا ما يفيد قوله: وإنّي خائفٌ عليك ...، الّذي يفيد تعليل الخوفالّذي ذكره في تتمّة كلامه، كما يفيد أنّك إن لم تقبل قولي فإنّي خائفٌ عليك، فهو تعليلٌ وتحذيرٌ في آنٍ واحد..

المفاد الثاني: ضرورة الأخذ برأيه

لم يذكر المولى ابن الحنفيّة أيّ خيارٍ آخَر سوى ما ذكره للإمام (علیه السلام) في رأيه ومشورته، وكأنّه يقول للإمام (علیه السلام) : إمّا أن تقبل قولي أو ستكون عاقبتك القتل، ولا خيار لك، فهو يعبّر بشكلٍ من الأشكال عن ضرورة الأخذ برأيه والعمل بمشورته.

المفاد الثالث: افتراض الافتراق

افترض المولى ابن الحنفيّة في كلامه أنّ الإمام (علیه السلام) إذا دخل مصراً من الأمصار سينقسم أهله إلى فرقتين، إحداهما معه والأُخرى عليه، وسيقع بينهما قتال..

ويقع الكلام في هذا الفرض ضمن نطاقين:

النطاق الأوّل: الناس عبيد الدنيا

قد سمعنا أخبار الأمصار الّتي كانت مرشّحةً لدخول سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فلم نجد ما افترضه ابن الحنفيّة، فهي:

إمّا المدينة: فقد خذلَته وتركته وحيداً مهدّداً، حتّى اضطرّته إلى الخروج منها تحت جنح الليل.

ص: 199

وإمّا مكّة: فقد رأيناها تنبو به وتخذله في فترةٍ أكثر ما تكون مزدحمةًبمَن يسمّونهم المسلمين، إذ خرج منها ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) أيّام الحجّ، أيّام الوقوف في منى وعرفات، وهي الأيّام الّتي يجتمع فيها الحجيج جميعاً.. فخرج منها.

وإمّا الكوفة: فقد انقلَبت عليه بقضّها وقضيضها، حتّى قتلَته وأهلَ بيته.

أمّا الجماعة الصابرة الثابتة على الحقّ من الّذين قُتِلوا معه، فهم بالحساب العدديّ لا يكاد يبين، وإن كانوا يعدلون أهل الأرض..

وكيف كان، فإنّ قدوم الإمام (علیه السلام) على أهل المصر لم يفرّقهم ويميّزهم فرقتين، إحداهما معه والأُخرى عليه، وإنّما كانوا جميعاً عليه! قتلوه إرضاءاً لأبناء البغايا وإخلاداً للدنيا، وقد قال _ فداه العالمين _: «الناس عبيد الدنيا، والدين لَعِقٌ [لغوٌ] على ألسنتهم».. ولو ذهب سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى أيّ مصرٍ من أمصار المسلمين يومها في أيّ صقعٍ من أصقاع الأرض لَكانت النتيجة واحدة؛ إذ إنّ القوم قد بايعوا القرد المخمور يزيد،اً وخنعوا له ورضوا بالدنيّّة وباعوا الذمم.. وربما أشار إلى ذلك ما ورد في زيارته (علیه السلام) : «ضمّن الأرض ومَن عليها دمَك وثارك يا ابن رسول الله» ((1)).

النطاق الثاني: تحذير الإمام من التفريق

يتضمّن كلام المولى ابن الحنفيّة إشعاراً مكشوفاً بالتحذير من إيقاع

ص: 200


1- أُنظر: كامل الزيارات لابن قولويه: 217 ح 12.

الفرقة بين أهل المصر الّذي سيدخله الإمام (علیه السلام) ، فيأتي جماعة! ولابدّأن تكون تلك الجماعة في مصرٍ من الأمصار، فيختلف أهل المصر ويفترقوا فرقتين.. ربّما يذكر هذا الكلام بمزاعم الأعداء الّذين افتروا على حبل الله المتين الّذي جعله العروة الوثقى الّتي توحّد البشر وتدفع عنهم التنازع والافتراق، فقالوا: إنّه بالإباء عن البيعة والتقبّض عنها يشقّ عصا المسلمين!!!

النطاق الثالث: افتراض قتل الإمام (علیه السلام)

لقد علمنا من خلال القرائن والشواهد _ _ وكثيرٌ منها يرقى إلى رتبة الأدلّة والبراهين _ _ أنّ الإمام (علیه السلام) لا مقام له في المدينة ما لم يُبايع أو يُقتَل هناك، وقد علم المولى ابن الحنفيّة بذلك تماماً، لذا اقترح على الإمام (علیه السلام) أن يلتحق بمكّة أو اليمن أو سفوح الجبال ومطاوي الصحارى والرمال..

وقد قرّر في هذه الفقرة من كلامه مع إمامه (علیه السلام) أنّه إن دخل إلى أيّ مصرٍ من الأمصار! أيّ مصر، أو أتى جماعةً من الناس، فإنّ مصيره إلى القتل لا محالة، لأنّه رسم المشهد بعد دخول سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى المصر المفترَض، وأنهاه بعد افتراق أهل المصر إلى طائفتين بقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ولم يفترض بتاتاً غلبة الطائفة المنضوية تحت راية الإمام (علیه السلام) الناصرة له.

النطاق الرابع: عدم ذكر الكوفة

هنا لم يفترض المولى ابن الحنفيّة دخول أقدام سيّد الشهداء (علیه السلام)

ص: 201

على الكوفة في فروضه، فهي لم تكن في الحسبان في تحرّك الإمام (علیه السلام) على المدى المنظور، فهو لم يقترحها على الإمام ولم ينهه عنها.

النطاق الخامس: القتل منهم أو بينهم

سبب الخوف الّذي ذكره ابن الحنفيّة إنّما هو افتراق القوم وقتل الإمام (علیه السلام) عاقبة، بيد أنّه لم يقل: إنّي أخاف عليك أن تُقتَل فحسب، وإنّما قال: تُقتَل منهم، أو بينهم _ على اختلاف النسخ _ .. وفي هذه التتمّة إيحاءٌ وإشعارٌ يختلف تماماً عمّا لو كان قد أطلق خوفه عليه من القتل مطلقاً.

وفي لفظ (منهم) إشعارٌ أنّ القوم هم الّذين سيقتلونه، سواءً كانوا معه أو عليه، وهو يتضمّن معنى الغدر.

وفي لفظ (بينهم) _ وربّما كان الأصحّ _ يفيد معنى ضياع الدم وعقم التحرّك، وطمس القداسة المحيطة بالدم الّذي سكن الخلد، إذ إنّه سيكون واحداً منهم ويُقتَل بينهم من دون أيّ امتيازٍ أو تمييز، فيضيع دمه كإنسان _ فضلاً عن كونه إماماً _ ، ويكون دمه بين الدماء.

جواب سيّد الشهداء (علیه السلام)

لقد سدّ المولى ابن الحنفيّة كلّ الأبواب، وأطبق على الأرجاء والأجواء، ولم يدَع لسيّد الشهداء (علیه السلام) _ حسب كلامه _ سبيلاً، وأشار عليه أن يتجنّب الدخول إلى أيّ مصرٍ من الأمصار، وحضر عليه أن يأتيأيَّ جماعةٍ من الناس؛ لأنّ عاقبة ذلك كلّه قتل سيّد الشهداء (علیه السلام)

ص: 202

وضياع دمه هدراً!

ثمّ وقف الآن ينتظر الردّ من سبط النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسيّد شباب أهل الجنّة، فأجابه الإمام (علیه السلام) ..

فقال له الحسين: يا أخي، إلى أين أذهب؟

لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.. إنّا لله وإنّا إليه راجعون.. ما أعظمها من ظليمة! إلى أين أذهب؟ مالِك الكونين وإمام الثقلين، خِيرة ربّ العالمين، تؤخذ عليه أقطار الأرض وآفاق السماء، فلا أرض تُقِلّه ولا سماء تُظِلّه، يُمنع عليه المقام في بلد جدّه ومسقط رأسه، ويُلاحق في وطنه؟!

إنّ ابن الحنفيّة يعلم تماماً أنْ لا مقام لسيّد الشهداء (علیه السلام) بعد يومه ذاك في المدينة إلّا أن يبايع، وهذا ما لا يكون، أو يُقتَل، وهذا ما لم يرد سيّد الشهداء (علیه السلام) أن يكون هناك، لئلّا تُهتَك بدمه حرمة حرم جدّه، فإن كان الأوغاد والقرود لا يعرفون للمدينة حرمة، فإنّ ابن النبيّ (صلی الله علیه و آله) الذي حرّمها يحفظها..

فإذن كان لابدّ من الخروج إلى المدينة، من دون الدخول إلى مصرٍ من الأمصار خوفاً على سيّد الشهداء (علیه السلام) من القتل وضياع الدم، فإلى أين يذهب؟

ولا شكّ أنّ الإمام (علیه السلام) إنّما سأل هذا السؤال نزولاً عند رغبة أخيه،وإتماماً للحجّة، وربّما كان فيه استدراجٌ للإقناع.. وإلّا فالإمام غنيٌّّ بالله عن العالَمين.

ص: 203

الفقرة الثالثة: إلى مكّة أو اليمن أو..
كلام ابن الحنفيّة:
اشارة

قال: اخرج إلى مكّة، فإن اطمأنّت بك الدار فذاك الّذي تحبّ وأُحبّ، وإن تكن الأُخرى خرجتَ إلى بلاد اليمن، فإنّهم أنصار جدّك وأخيك وأبيك، وهم أرأف الناس وأرقّهم قلوباً وأوسع الناس بلاداً وأرجحهم عقولاً، فإن اطمأنّت بك أرض اليمن وإلّا لحقتَ بالرمال وشعوب الجبال، وصرت من بلدٍ إلى بلدٍ لتنظر ما يؤول إليه أمر الناس، ويحكم بينك وبين القوم الفاسقين.

جهد أخو الإمام الحسين (علیه السلام) ابنُ الحنفيّة أن يمنع القتل عن الإمام، ولو بالتغيّب أأين ما كان، ولم يكن في حسبان ابن الحنفيّة أنّ الإمام يقوم للأخذ بزمام الأُمور، فهو يريد أن يُبعِد الإمامَ (علیه السلام) عن أنظار يزيد وأعوانه، وهو يبحث عن مكانٍ آمنٍ يقلّ الإمام (علیه السلام) وأهله، وهذا بنفسه شاهد _ بل دليلٌ _ على أنّ الإمام كان مطلوباً، وإنّما خرج للحفاظ على حياته وحياة مَن معه من أهل بيته، لئلّا تُهتَك بهم حرمة المدينة، هذا هو الدافع الأصليّ للخروج من المدينة عند ابن الحنفيّة وعند الإمام (علیه السلام) .

هذا هو الواقع الّذي يُحاصر الإمام (علیه السلام) والظروف الّتي تحيط به، وابنالحنفيّة يقدّم في هذه الفقرة للإمام (علیه السلام) خياراتٍ يمكن أن تنجيه من القتل الّذي يلاحقه:

الخيار الأوّل: مكّة

اُخرج إلى مكّة، فإن اطمأنّت بك الدار فذاك الّذي تُحبّ وأُحبّ..

ص: 204

هذا هو الخيار الأوّل، وهو أن يخرج إلى الأرض المقدّسة الّتي حرّمها الله، وجعل لكلّ مَن يدخلها حرمة، وجعلها بلداً آمناً حتّى للوحوش، وحرّم فيها إفزاع الطير.. وهي الوجهة الّتي توجّه إليها سيّد الشهداء (علیه السلام) .

فإن اطمأنَّت به الدار، فذاك الّذي يحبّ سيّد الشهداء (علیه السلام) كما فهم وعبّر عنه ابن الحنفيّة، وهو الّذي يحبّه ابن الحنفيّة أيضاً.. فالذي يحبّه الإمام (علیه السلام) وأخوه إنّما هو أن يجدوا داراً يطمئئنّّ فيها خامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) ، فلا يُلاحَق ولا يُقتَل!

هذا هو الغرض الأوّل والأخير، والمهمّ الّذي يبحث عنه الجميع، المُشير والمُشار عليه! دارٌ آمنة، مقامٌ آمن، بعيداً عن مضايقات قرود الأُمويّين وتهديداتهم..

الّذي يحبّه الإمام (علیه السلام) وابن الحنفيّة _ حسب هذا التصريح _ بكلّ صراحةٍ ووضوحٍ إنّما هو أرضٌ تقلّه وسماءٌ تظلّه، ودارٌ تحميه وتوفّر له الأمان، لا أكثر..الّذي يحبّه ابن الحنفيّة لأخيه، ويُخبِر عن حبّ أخيه أيضاً، أن يذهب الإمام (علیه السلام) إلى موضعٍ يأمن فيه من القتل..

مكّة البلد الآمن، منذ أن خلقها الله وفي أيّام الجاهليّة.. وقد زاد الإسلام في التأكيد على حرمتها وأنّها أمن.. يفترض ابن الحنفيّة أن لا تكون داراً آمِنةً لسيّد الشهداء (علیه السلام) وحرم الرسول وعياله، فيقول: وإن تكن الأُخرى.. أي: إن لم تكن لك حرماً آمناً!

إن لم يكن حرم الله آمناً لابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فأأيّ أرضٍ ستكون؟!

ص: 205

الخيار الثاني: اليمن

إن لم تكن مكّة أرضاً آمنةً لابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فلا يمكن أن يفترض بعدها أرضاً آمنةً أبداً، لذا صار ابن الحنفيّة يقدّم الخيار الآخر، وفي هذا الخيار ركّز فيه ابن الحنفيّة على (الإنسان)، أي إنّه لحّظ جانب الدفاع الّذي سيوفّره البشر لسيّد الشهداء (علیه السلام) كأنصارٍ يمكن أن يمنعوا القرود عنه (علیه السلام) ، إذ إنّ المكان الّذي جعله الله حراماً يأمن فيه الناس والحيوان لم يكن حاجزاً للقرود من الاعتداء فيه على ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فاقترح على الإمام (علیه السلام) أن يبحث عن أنصارٍ ورجالٍ يمكن أن يدافعوا عنه..

فهو في الخيار الأوّل اقترح الحصانة الربّانيّة والأمان الجغرافيّ، وهنا انحاز إلى توفير العنصر البشريّ، فقال:

وإن تكن الأُخرى خرجتَ إلى بلاد اليمن، فإنّهم أنصار جدّكوأخيك وأبيك، وهم أرأفُ الناس وأرقّهم قلوباً وأوسع الناس بلاداً وأرجحهم عقولاً..

ذكر المولى ابن الحنفيّة الدافع الّذي جعله يفكّر في اليمن كبديلٍ لمكّة، فأشار إلى علّتين:

العلّة الأُولى: العنصر البشريّ

ذكر المولى ابن الحنفيّة عدّة صفاتٍ لأهل اليمن ترجّحهم على غيرهم لاختيارهم كأنصارٍ يمكن الارتكان إليهم والاعتماد عليهم، ليكونوا ردءاً ويداً يصول بهم الإمام (علیه السلام) ويدفع عن نفسه القتل، وهذه الصفات والمؤهّلات هي الّتي ميّزت أهل هذه البلاد وجعلتهم خياراً يتقدّم به

ص: 206

ابن الحنفيّة بين يدَي الإمام (علیه السلام) ، وهي:

المؤهّل الأوّل: إنّهم أنصار جدّك وأخيك وأبيك

يشهد المولى ابن الحنفيّة لأهل اليمن شهادةً يحقّ لأهله أن يفخروا بها جيلاً بعد جيل، إذ يؤكّد أنّهم أنصار رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأنصار أمير المؤمنين (علیه السلام) وأنصار أبي محمّد الحسن الأمين (علیه السلام) ، فهم بالتالي أنصار سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) ما داموا قد عُرفوا بنصرة أصحاب الكساء السابقين..

وحينئذٍ قد توفّر العامل البشريّ المشهود له بالنصرة من قبل، وقد أدّواالاختبار حسب شهادة المولى ابن الحنفيّة مع أصحاب الكساء الثلاثة، وخرجوا مرفوعي الرأس بنجاحٍ وامتيازٍ موفّق.

المؤهّل الثاني: هم أرأفُ الناس وأرقّهم قلوباً

هم أرأف الناس، وأرقّهم قلوباً.. تتدفّق جوانححهم عاطفةً ورحمة، يتحسّسون معنى الحبّ والمودّة لآل البيت (علیهم السلام) ، وتجيش في أعماقهم حرارة الشوق لرؤية الوجه المذكِّر برسول الله (صلی الله علیه و آله) ، يُدرِكون معنى الغَيرة على حرم الله وحرم رسوله.

ولكي لا ندخل في تفاصيل بيان كلام المولى، نقتصر على كلمةٍ يمكن أن تكتنز كلّ المعاني الّتي قصدها (رضوان الله علیه) ، فنقول:

لمّا كانوا أرأف الناس وأرقّهم قلوباً، سوف لا ولن يفعلوا ما فعله جيش السقيفة في الكوفة بآل البيت (علیهم السلام) رجالاً ونساءاً وأطفالاً.. لن

ص: 207

يمنعوا الماء عنهم حتّى عن الطفل الرضيع.. لن يمثّلوا بحبيب الله وحبيب رسوله ويجرّوا الخيل عليه.. لن يسبوا نساءه.. لن يقتلوا أطفاله.. لن يمزّقوا أحشاء شبابه ويقطّعونهم آراباً.. ولَن ولَن، وألف ألف لَن ممّا فعله الوحوش الكواسر في كربلاء..

لمّا كانوا أرأف الناس وأرقّهم قلوباً، فإنّهم يحبّون سيّد الشهداء الحسين وآل الحسين (علیهم السلام) ، لأنّهم أهلٌ للمحبّة، وقد أمر الله ورسوله بمودّتهم وحبّهم.

قلوبهم مؤهّلة لحبّ سيّد الشهداء وآله (علیهم السلام) .المؤهّل الثالث: هم أرجح الناس عقولاً

هم أرجح الناس عقولاً.. يفهمون إذا فُهّموا، ويفكّرون قبل أن يُقدِموا، ويختارون الجنّة على النار إذا خُيّروا.. فالعقل ما اكتُسِب به الجِنان وعُبد به الرحمان.

قلوبهم سليمة، وهي أرقّ القلوب، تعمرها الرأفة، أحلامهم رزينة، عقولهم راجحة..

العلّة الثانية: العنصر الجغرافيّ

ثمّ هم أوسع الناس بلاداً.. أرضهم واسعةٌ شاسعة، تمتدّ على البحر وترتفع شاهقةً في السماء، جبالهم شامخةٌ متعالية، يعانقها السحاب في أدنى سفوحها، وتفرشها السهول وتحيط بها السواحل، أرضٌ منيعةٌ حصينةٌ عزيزةٌ مستعصيةٌ على الغزاة، لا يقتحمها غريبٌ ولا يسلكها

ص: 208

غيرهم إلّا بدليلٍ منهم، يتنقّلون في مدياتٍ واسعة، لا يمكن أن يحصرهم أو يحاصرهم أحد..

فالأرض الّتي حرّمها الله بالأمر الإلهيّ الّتي نبت بسيّد الشهداء (علیه السلام) .. يمكن أن تُستبدَل بأرضٍ أُخرى جعلها الله منيعةً بتضاريسها وجغرافيّتها.

إكتمال عناصر الغلَبة والحماية

يلاحَظ في اقتراح ابن الحنفيّة اكتمال جميع العناصر والظروف الّتي توفّر عوامل كافيةً للدفاع عن الإمام (علیه السلام) وتوفير الحماية اللازمة لهوتمنحه المنَعة، وبالتالي العيش الآمن والطمأنينة، والإإفلات من القتل الّذي يُلاحقه.

فهم من حيث السوابق أصحاب سوابق نظيفةٍ عامرةٍ بالوفاء والولاء لرسول الله وآله (علیهم السلام) ..

وهم من حيث القلوب والعقول في غاية الكمال إذا قيست إلى غيرهم من البلدان..

وهم من حيث الأرض في سعةٍ ومنعةٍ وحصانة..

وقد سمعنا الطرمّاح حين دنا من الحسين فقال له:

واللهِ إنّي لَأنظر، فما أرى معك أحداً، ولو لم يقاتلك إلّا هؤلاء الّذين أراهم ملازميك لَكان كفى بهم، وقد رأيتُ قبل خروجي من الكوفة إليك بيوم ظهر الكوفة، وفيه من الناس ما لم ترَ عيناي في صعيدٍ واحدٍ جمعاً أكثر منه، فسألتُ عنهم، فقيل:

ص: 209

اجتمعوا ليعرضوا، ثمّ يُسرّحون إلى الحسين، فأُنشدِك الله إن قدرت على ألّا تقدم عليهم شبراً إلّا فعلت! فإن أردتَ أن تنزل بلداً يمنعك الله به حتّى ترى من رأيك ويستبين لك ما أنت صانع، فسِرْ حتّى أُنزلك «مناع»، جبلنا الّذي يُدعى «أجأ»، امتنعنا واللهِ به من ملوك غسّان وحمير، ومن النعمان بن المنذر، ومن الأسود والأحمر، والله إن دخل علينا ذلّ قطّ،فأسير معك حتّى أُنزلك القرية، ثمّ نبعث إلى الرجال ممّن بأجأ وسلمى من طيء، فو الله لا يأتي عليك عشرة أيّامٍ حتّى تأتيك طيء رجالاً وركباناً، ثمّ أقمْ فينا ما بدا لك، فإن هاجك هيجٌ فأنا زعيمٌ لك بعشرين ألف طائيّ يضربون بين يديك بأسيافهم، والله لا يوصل إليك أبداً ومنهم عينٌ تطرف.

فقال له: جزاك الله وقومك خيراً! إنّه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قولٌ لسنا نقدر معه على الانصراف، ولا ندري على مَ تنصرف بنا وبهم الأُمور في عاقبة! ((1)) فإن يدفع الله عنّا فقديماً ما أنعم علينا وكفى، وإن يكن ما لابدّ منه ففوزٌ وشهادةٌ إن شاء الله ((2)).

ص: 210


1- أُنظر: تاريخ الطبري: 5 / 406، نهاية الأرَب للنويري: 20 / 421 _ 422، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 62، الكامل لابن الأثير: 3 / 281 _ 282، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 174، نفَس المهموم للقمّي: 194.
2- مثير الأحزان لابن نما: 19، بحار الأنوار: 44 / 369، العوالم للبحراني: 17 / 219.

وكان هذا الكلام بعد أن أسر الحرُّ وجيشُه سيّدَ الشهداء (علیه السلام) ، فلم يكن ثمّة مناص، بيد أنّ كلام الطرمّاح يؤكّد ما قاله ابن الحنفيّة في جميع الجهات من حيث العنصر البشريّ والعنصر الجغرافيّ والولاء والثبات وغيرها..

ويؤكّد أيضاً أنّ المطلوب إنّما هو المكان الآمِن الّذي يمكن أن يدفع عن الإمام الحسين (علیه السلام) وأهلهه القتل؛ أقم فينا ما بدا لك، فإن هاجك هيجٌ فأنا زعيمٌ لك ((1)).إنصراف سيّد الشهداء عن اليمن!

إقترح المولى محمّد ابن الحنفيّة على سيّد الشهداء (علیه السلام) _ عند اعتراضه في المدينة المنوّرة قبل خروجه إلى مكّة _ أن يقصد الإمامُ اليمن إن نبَتْ به مكّة، وكذلك فعل عبد الله بن عبّاس حين اعترض الإمامَ (علیه السلام) قبل أن يخرج من مكّة متوجّهاً إلى العراق، وكان التعليل دائماً أنّ للإمام ولأبيه شيعةً في اليمن، وأنّها أرض عُزلة، وهي أرضٌ طويلةٌ عريضةٌ كثيرة الجبال والوديان مترامية الأطراف وفيها حصونٌ وشِعاب، فيدعو الناس في الآفاق من هناك وهو في عزلة، ويكتب لهم ويُعلمهم مكانه، ويبثّ دعاته وكتبه، يأته الناس ويأتيه الّذي يحبّ في عافية ((2)).

ص: 211


1- سيأتي مناقشة كلام الطرمّاح بالتفصيل إن شاء الله تعالى.
2- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 373، الأخبار الطِّوال للدينوري: 243، تاريخ الطبري: 5 / 384، الفتوح لابن أعثم: 5 / 114، مروج الذهب للمسعودي: 3 / 64، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 56، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 328، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 160، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجي: 257.

وقد اقترح عليه الطرمّاح الذهاب معه إلى اليمن في ظرفٍ حوصر فيه سيّد الشهداء (علیه السلام) في الصحراء وتألّبت العساكر في الكوفة على حربه..

قال أبو مِخنَف:..

حدّثني جميل بن مرثد من بني معن، عن الطرمّاح بن عَديّ أنّه دنا من الحسين فقال له: واللهِ إنّي لَأنظر فما أرى معك أحداً، ولو لم يقاتلك إلّا هؤلاء الّذين أراهم ملازميك لَكان كفى بهم، وقد رأيتُ قبل خروجي من الكوفة إليك بيوم ظهر الكوفة، وفيه من الناس ما لم ترَ عيناي في صعيدٍ واحدٍ جمعاً أكثر منه، فسألتُ عنهم، فقيل: اجتمعوا ليعرضوا، ثمّ يُسرّحونإلى الحسين، فأُنشدك الله إن قدرتَ على ألّا تقدم عليهم شبراً إلّا فعلت! فإن أردت أن تنزل بلداً يمنعك الله به حتّى ترى من رأيك ويستبين لك ما أنت صانع، فسِرْ حتّى أُنزلك مناع جبلنا الذي يُدعى أجأ، امتنعنا واللهِ به من ملوك غسّان وحمير، ومن النعمان بن المنذر، ومن الأسود والأحمر، والله إن دخل علينا ذلٌّ قطّ، فأسير معك حتّى أُنزلك القرية، ثمّ نبعث إلى الرجال ممّن بأجا وسلمى من طيء، فو الله لا يأتي عليك عشرة أيّام

ص: 212

حتّى تأتيك طيء رجالاً وركباناً، ثمّ أقِمْ فينا ما بدا لك، فإن هاجك هيجٌ فأنا زعيمٌ لك بعشرين ألف طائيّ يضربون بين يديك بأسيافهم، والله لا يوصل إليك أبداً ومنهم عينٌ تطرف.

فقال له: جزاك الله وقومك خيراً! إنّه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قولٌ لسنا نقدر معه على الانصراف، ولا ندري على مَ تنصرف بنا وبهم الأُمور في عاقبة ((1)).

وروى السيّد في (اللهوف) عن الصادق (علیه السلام) ، أنّ ابن الحنفيّة عاد في مكّة ليقترح على سيّد الشهداء اليمن، قال في حديث:

سار محمّد ابن الحنفيّة إلى الحسين؟ (علیه السلام) في الليلة الّتي أراد الخروج صبيحتها عن مكّة، فقال: يا أخي، إنّ أهل الكوفة مَن قد عرفتَ غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خفتُ أن يكونحالك كحال مَن مضى، فإن رأيتَ أن تُقيم، فإنّك أعزّ مَن في الحرم وأمنعه.

فقال: يا أخي، قد خفتُ أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم، فأكون الّذي يُستباح به حرمة هذا البيت.

فقال له ابن الحنفيّة: فإن خفتَ ذلك فصِرْ إلى اليمن أو بعض نواحي البرّ؛ فإنّك أمنع الناس به، ولا يقدر عليك ((2)).

ص: 213


1- أُنظر: تاريخ الطبري: 5 / 406، نهاية الأرَب للنويري: 20 / 421، الكامل لابن الأثير: 3 / 281، نفَس المهموم للقمّي: 194.
2- اللهوف لابن طاووس: 63، بحار الأنوار: 44 / 364، العوالم للبحراني: 17 / 214، نفَس المهموم للقمّي: 164.

* * * * *

يمكن أن نلاحِظ هنا عدّة ملاحظات، رغم أنّ البحث يتعلّق بخروجه (علیه السلام) من مكّة أكثر، ولكن سنشير إليه هنا ونتناوله هناك إن شاء الله تعالى..

الملاحظة الأُولى: حضور الاقتراح في مراحل المسير

كان اقتراح اليمن حاضراً في جميع المحطّات المهمّة الّتي مرّ بها سيّد الشهداء (علیه السلام) أثناء مسيره من المدينة إلى العراق، ففي المدينة اقترح ابنُ الحنفيّة، وفي مكّة اقترح ابن عبّاس وابن الحنفيّة، وعلى مشارف كربلاء اقترح الطرمّاح.

الملاحظة الثانية: اتّفاق التعليل

اتّفقت أقوال الثلاثة الّذين اقترحوا اليمن على سيّد الشهداء (علیه السلام) علىتوفّر المتطلّبات في أرض اليمن من حيث الجغرافيّا والعُدّة والعدد والقوّة والولاء، إذ إنّهم جميعاً أكّدوا أنّ أهل اليمن شيعةٌ لأمير المؤمنين (علیه السلام) ، وفي بعض النصوص شيعةٌ للحسين وأبيه (علیهما السلام) ، وأنّها بلادٌ عريضةٌ طويلة، فيها الحصون والشعاب والرجال الأشدّاء، والتضاريس الّتي تزيد في منعتها وصمودها.

ص: 214

الملاحظة الثالثة: علم الإمام (علیه السلام) باليمن

إنّ ما ذكره ابن عبّاس وابن الحنفيّة ليس بالأمر الخفيّ على سيّد الشهداء (علیه السلام) _ بغضّ النظر عن علم الإمامة _، فقد عاشها سيّد الشهداء (علیه السلام) كما عاشوها وعرفها أفضل ممّا عرفوها، وهي ماثلةٌ بين عينيه، وهو محاصرٌ مهدَّدٌ بالقتل في كلّ ساعةٍ وفي كلّ آن، فليس في اقتراحهم شيءٌ جديدٌ غائبٌ عن سيّد الشهداء (علیه السلام) بحيث يكون تذكيرهم بها إيجاداً لحلٍّ وموضع أمانٍ ربّما غفل عنه سيّد الشهداء (علیه السلام) ، إذ إنّه أعرف منهم دون أدنى شكٍّ بناسها وخصوصيّّاتها وجغرافيّّتها ومؤهّلاتها وما تتوفّر عليه من عُدّة وعديد.

الملاحظة الرابعة: جواب الإمام (علیه السلام)

في جميع موارد الاقتراح، سواءً في المدينة أو في مكّة أو في الطريق، لم يُسمَع جوابٌ بالإيجاب من الإمام (علیه السلام) ولم يعلّق الإمام على ما ذكروه في تعليل اقتراحهم، ولم يقرّهم على ما ذكروه بالإثبات أو النفي، فهو لميؤكّد لهم ولاء اليمنيّیين ولم ينفه، وكذلك فعل في الموارد الأُخرى من التعليل.

الملاحظة الخامسة: لو كان اليمن جاهزاً لَأعلن

أقام سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة أربعة أشهرٍ وزيادة، وكانت المدّة كافيةً لبلوغ خبر مضايقته في المدينة وإزعاجه وملاحقته وإخراجه إلى الكوفة، فاجتمع أهل الكوفة وأرسلوا الرسل والكتب يدعونه ليتوجّه إليهم فيمنعونه ويدفعون عنه.

ص: 215

وقد شاع خبر إقامته وأهله في مكّة وذاع، وكانت الفترة كافيةً جدّاً لبلوغ الخبر إلى اليمن لإبداء أهلها استعدادهم للقيام بالواجب تجاه ودائع النبوّة.

فلمّا لم يرد عنهم أيُّ خبرٍ ولا كتابٍ ولا رسول، ولم تبدُ منهم أيّة بادرةٍ تُذكَر في التاريخ المطبوع، يُعلَم أنّ القوم كانوا في شُغلٍ عن إمامهم!

الملاحظة السادسة: اتّصال اليمن بالكوفة

كبرى القبائل الّتي كانت تقطن الكوفة يومها كانت منحدرةً من اليمن، ولها امتداداتها في البلدين، من قبيل مذحج وهمدان وغيرهما، وهي على اتّصالٍ مستمرٍّ وتماسّ دائمٍ بحكم الوشائج القبليّة والأُسريّة والعشائريّة، والعلاقات الاقتصاديّة وغيرها، فمن الطبيعيّ جدّاً أن يكونبينهم ثمّة تواصلٌ لا ينقطع، وهذا يعني أنّ الأخبار إن لم تصلهم عن طريق مكّة _ على فرض ذلك _ فإنّها ستصلهم عن طريق الكوفة، ويبدو أنّ في الوقت سعةً لذلك.

ومن جهةٍ أُخرى، فإنّ القبائل في الكوفة هي امتداداتٌ لقبائل اليمن، وبالتالي ستكون الكوفة عبارةً عن مختبرٍ يحكي الوضع النفسيّ والعقائديّ والولائيّ والاستعدادات الّتي يمكن أن تؤثّر في اتّخاذ الموقف، فمذحج هي مذحج في البلدين، ورجالها هم أنفسهم، وكذا بقيّة القبائل الأُخرى، فإذا خذلت مذحج في الكوفة فلا يبعد أن تخذل في اليمن، نقول:: لا يبعد، ولا نحكم عليها من خلال هذا التقريب.

ص: 216

الملاحظة السابعة: لم يستنصرهم سيّد الشهداء (علیه السلام)

إنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يستنصر أهل اليمن، ولم يشكُ إليهم، ولم يدعُهم للذبّ عنه، كما لم يفعل ذلك مع أهل المدينة ولا أهل مكّة، ولا أهل الكوفة، وإنّما أهل الكوفة هم ابتدؤوه ودعوه للقدوم عليهم، ولم يُرغِم أحداً في شرق الأرض وغربها على القيام بواجبه تجاهه، وهو إمامهم ووديعة ربّهم ونبيّهم، بل حتّى مَن لحق به، فإنّه أذن لهم المرّة تلو الأُخرى، فتفرّق عنه الكثير وثبت معه القليل.

وغاية ما فعله سيّد الشهداء (علیه السلام) أنّه امتنع عن البيعة، فطلبوه للقتل على رؤوس الأشهاد، فخرج من المدينة خائفاً يترقّب على علمٍ من الناس،ودخل مكّة على علمٍ من الناس، وقد عرفوا التهديد المُحدِق بالإمام (علیه السلام) ، وطار الخبر في الآفاق فبلغ الكوفة والبصرة، ويلزم أن يكون قد بلغ اليمن، وبهذا تكون الحجّة قد قامت عليهم، وبالرغم من ذلك لم يُعلنوا نصرهم واستعدادهم للذبّ عن ابن رسول الله وحبيبه.

الملاحظة الثامنة: دعوة الطرمّاح

سجّل الطبريّ دعوةً لسيّد الشهداء (علیه السلام) أن يتوجّه معه إلى اليمن، وضمن له نصرة أهلها عموماً ونصرة طيّ قبيلته خصوصاً.

وكانت دعوته غير ذات نفعٍ ولا جدوى، لعدّة أسباب:

السبب الأوّل: دعوة رجلٍ واحد

ثمانية عشر ألفاً على الأقلّ هم الّذين بايعوا وكاتبوا سيّد الشهداء (علیه السلام)

ص: 217

في الكوفة، ولم يثقْ بهم سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأرسل إليهم أخاه وسفيره المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ليستخبر نيّّاتِهم، ويرى إن كانوا كما أتت به كتبُهم ورسلُهم، فيكتب بذلك للإمام (علیه السلام) ، والطرمّاح شخصٌ واحدٌ وعد الإمامَ (علیه السلام) وعداً ليس مدعوماً من أحد، فالرسل والكتب القادمة من الكوفة كانت تحكي ما يعلنه المرسلون والمكاتبون من مواقف، ثمّ لم يعتمدها الإمام (علیه السلام) ، فكيف يعتمد قول الطرمّاح وهو لم يخوَّل من أحدٍ قطّ؟!

وكيف يُتولّى عن ثمانية عشر مبايعٍاً لوعد رجلٍ واحدٍ لا يختلفعنهم في مستوى المصداقيّة؟

السبب الثاني: وعدٌ مكذوب!

سمعنا _ قبل قليلٍ _ أنّ مجريات الأحداث تفيد بلوغ خبر سيّد الشهداء (علیه السلام) وركبه إلى أهل اليمن، لقربها من مكّة وتوافر الحجّاج واستمرار حركة التجّار والقوافل وانتشار خبر الإمام (علیه السلام) في مكّة والمدينة وغيرها من العوامل، ولم تبدر منهم بادرةٌ تفيد أنّهم على نصرة سيّد الشهداء (علیه السلام) والدفاع عنه، ولم يرسلوا رسولاً أو يكتبوا كتاباً أو ينبري أحدٌ منهم ليعد ما وعد به الطرمّاح..

فهو يعد على قومٍ قد تكشّفت مواقفهم من قبل، فهل يُقام لوعده وزنً ويُبنى علیى كلامه بناء؟!

السبب الثالث: الدعوة بعد الأسر

كانت الدعوة بعد أن أسر جيشُ الحرّ الإمامَ (علیه السلام) ومَن معه، ويشهد

ص: 218

لذلك قوله:

ولو لم يقاتلك إلّا هؤلاء الّذين أراهم ملازميك لَكان كفى بهم، وقد رأيتُ قبل خروجي من الكوفة إليك بيوم ظهر الكوفة، وفيه من الناس ما لم ترَ عيناي في صعيدٍ واحدٍ جمعاً أكثر منه، فسألتُ عنهم، فقيل: اجتمعوا ليعرضوا، ثمّ يُسرّحونإلى الحسين ((1)).

وكان الحرّ قد أُمر بملازمة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأن لا يفارقه حتّى يقدم به الكوفة، فلمّا امتنع عليه سيّد الشهداء (علیه السلام) وترادّا الكلام قال له الحرّ:

لم أُؤمر بقتالك، وإنّما أُمرتُ أن أقدم بك الكوفة، فإذا أبيتَ فخُذْ طريقاً لا يُدخِلك الكوفةَ ولا يردّك إلى المدينة، يكون بيني وبينك نصفاً، حتّى أكتب إلى الأمير عُبيد الله بن زياد ((2)).

وهذا يعني أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قد أُحيط بجيشٍ كان قوامه يزيد على ألف فارس، وحُوصر محاصرةً تامّة، منعوه بعدها من الرجوع إلى

ص: 219


1- أُنظر: تاريخ الطبري: 5 / 406، نهاية الأرَب للنويري: 20 / 421، الكامل لابن الأثير: 3 / 281، نفَس المهموم للقمّي: 194.
2- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 423، الإرشاد للمفيد: 2 / 82، روضة الواعظين للفتّال: 154، بحار الأنوار: 44 / 378، العوالم للبحراني: 17 / 228، نفَس المهموم للقمّي: 190، اللهوف لابن طاووس: 78، البدء والتاريخ للبلخي: 2 / 241.

بلده أو المضيّ في طريقه والانصراف عنهم ((1)).

فما تعني دعوة الطرمّاح في مثل هذا الجوّ الملتهب الّذي وصفه نفسه لسيّد الشهداء (علیه السلام) من الاستعدادات المتظافرة لحرب ريحانة النبيّ وركب الإمام (علیه السلام) في أسر جيش الحر،ّ الّذي أبى عليه أن يتحرّك أيّ حركةٍ تؤدّي إلى خروج الركب من براثن ابن زياد الّذي كان يترنّم بقوله::

الآن وقد علقت مخالبنا به

يرجو النجاةَ، ولات حين مناصِ

إلّا أن يقاتل سيّد الشهداءء (علیه السلام) ومَن معه عسكر الحرّّ، ليتوجّه بعدالقضاء عليهم مع الطرمّاح، وأهل البيت لا يبدؤون بقتال!

أضف إلى أنّها دعوةٌ غير مضمونةٍ كما سمعنا!

السبب الرابع: كتب أهل الكوفة ووعودهم

لقد وصلَت إلى الإمام (علیه السلام) كتب الكوفيّين ورسلهم، فهم قد ألزموا أنفسهم بعهدٍ وبيعةٍ مع الإمام (علیه السلام) ، وإن كانوا قد خذلوا ونكثوا بيعتهم، ولكن يمكن الاحتجاج عليهم بها، فقد احتجّ الإمام (علیه السلام) على الحرّ وجيشه حين خطب فيهم فقال:

«أيّها الناس! معذرةً إلى الله، ثمّ إليكم، إنّي لم آتِكم حتّى أتتني كتبكم، وقدمَت علَيّ رسلُكم، فإن أعطيتموني ما أطمئنّ

ص: 220


1- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 423، الإرشاد للمفيد: 2 / 82، روضة الواعظين للفتّال: 154، بحار الأنوار: 44 / 378، العوالم للبحراني: 17 / 228، نفَس المهموم للقمّي: 190، اللهوف لابن طاووس: 78، البدء والتاريخ للبلخي: 2 / 241.

إليه من عهودكم ومواثيقكم دخلنا معكم مصركم، وإن تكن الأُخرى انصرفتُ من حيث جئت» ((1)).

وكلام آخر يشبه هذا حسب ما ورد في المصادر على اختلاف ألفاظها.

كما احتجّ على القوم في كربلاء بالكتب والدعوات التي أرسلوها، فقال:

«يا شبث بن ربعيّ، يا حجّار بن أبجر، يا قيس بن الأشعث، يا يزيد بن الحارث! ألم تكتبوا إليّ أن قد أينعت الثمار، واخضرّالجناب، وطمّت الجمام، وإنّما تقدم على جند لك مجنَّد؟».

قالوا: لم نفعل.

ثمّ قال (علیه السلام) : «أيّها الناس! إذ كرهتموني، فدعوني أنصرف إلى

ص: 221


1- أُنظر: جُمل أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 380، الأخبار الطِّوال للدينوري: 247، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2622، تاريخ الطبري: 5 / 400، الفتوح لابن أعثم: 5 / 134، الإرشاد للمفيد: 2 / 78، روضة الواعظين للفتّال: 153، بحار الأنوار: 44 / 375، العوالم للبحراني: 17 / 225، نفَس المهموم للقمّي: 186، إعلام الورى للطبرسي: 232، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 229، الردّ على المتعصّب العنيد لابن الجوزي: 37، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 329، الكامل لابن الأثير: 3 / 279، مطالب السؤول لابن طلحة: 75، كشف الغُمّة للأربلي: 2 / 46، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 190، نور الأبصار للشبلنجي: 260، اللهوف لابن طاووس: 77، نهاية الأرَب للنويري: 20 / 416، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 172، جواهر المطالب للباعوني: 2 / 279.

مأمني» ((1)).

وقال في لفظٍ آخَر أو خطبةٍ أُخرى:

«يا أهل الكوفة! كتبتُم إليّ في القدوم، ثمّ صنعتم ما أرى» ((2)).

فكان جواب القوم أنّه غير تاركيه حتّى يذوق الموت عطشاً..

بيد أنّ أهل اليمن لم يعِدوا الإمام (علیه السلام) بوعد، ولم يكتبوا له كتاباً، ولم يُبايعوه على نصرته بحيث يمكن إلزامهم بما ألزموا به أنفسهم وإقامة الحجّة عليهم من هذا الطريق.. فما هو الضمان لو نكل القوم وخذلوا واستنكروا فعلة الطرمّاح وتنكّروا له؟!

خلاصة القول في موقف أهل اليمن

حسب ما قرأنا في النصوص التاريخيّة، لم نجد نصّاً يفيد أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قد كتب إلى أهل اليمن، وهو العالم بهم وبولائهم وبلادهم، كما أنّ أهل اليمن لم يكتبوا للإمام (علیه السلام) ولم يرسلوا له رسولاً، ولا يبدو أيّ تحرّكٍ أو حماسةٍ أو تأثّرٍ بما جرى على سيّد الشهداء (علیه السلام) وآل

ص: 222


1- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 396، تاريخ الطبري: 5 / 424، نفَس المهموم للقمّي: 240، الإرشاد للمفيد: 2 / 100، بحار الأنوار: 45 / 6، العوالم للبحراني: 17 / 250، إعلام الورى للطبرسي: 240، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 339، الكامل لابن الأثير: 3 / 287، نهاية الأرب للنويري: 20 / 439، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 202، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 179، جواهر المطالب للباعوني: 2 / 286.
2- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 425.

البيت الّذين معه، رغم شيوع خبر الإمام (علیه السلام) في المدينة ومكّة، وقرب اليمن من مكّة، واستمرار حركة القوافل التجاريّة وقوافل الحجّ في تلك الأيّام، وأقلّ ما يقال فيه: إنّ الصمت المطلق كان مُطبِقاً على الأجواء في اليمن، ولو كان ثمّة تفاعلٌ وانفعالٌ بمجريات الأحداث لَبان.

أضف إلى ذلك العمومات الواردة في المتون التاريخيّة الّتي تفيد أنّ أهل الأمصار والبلدان قد بايعوا ليزيد منذ زمن معاوية، وجدّدوا البيعة له بعد هلاك أبيه وتسلّقه أعواد المنبر.

الخيار الثالث: اللحاق بالجبال والرمال والترحّل

إذا نبَتْ به الأرضُ الّتي حرّمها الله، ونبَتْ به الأرضُ المنيعة بناسها وتضاريسها وسعتها، فلا حرمة الأرض تمنعه، ولا قوّة الرجال الأوفياء نفعَته، فماذا يصنع؟

قال ابن الحنفيّة: فإن اطمأنّت بك أرض اليمن، وإلّا لحقتَ بالرمال وشعوب الجبال، وصرتَ من بلدٍ إلى بلد...

وهنا لفتتان:

اللفتة الأُولى: البحث عن الاطمئنان

المفروض في كلام المولى ابن الحنفيّة أن ينحصر في البحث عن موطنٍ يحمي أخاه سيّد الشهداء (علیه السلام) فيطمئنّ فيه، ولذا قال له: فإن اطمأنّت بك أرض اليمن، فهو لا يبحث عن أرضٍ منيعةٍ ورجالٍ أقوياءٍ أوفياءٍ أشدّاءٍ إلّا ليدفع القتل عن سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ليس إلّا.وفي عباراته عند كلّ احتمالٍ يريد أن يفرض ما بعده إشعارٌ يكاد

ص: 223

يكون صريحاً في بيان وجهة خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة المنوّرة، فهو لا يريد أكثر من مكانٍ يؤويه ويحميه، ويُبعِد عنه أيدي القرود والذئاب المتوحّشة الكاسرة المتعطّشة للدماء الزكيّة.

اللفتة الثانية: التشرّد

على فرض أنّ اليمن أيضاً عجزت عن تحقيق الغرض والقيام بالواجب مع سيّد الشهداء (علیه السلام) وبضعة رسول ربّ السماء، فالخيار الثالث هو أن يلحق بالرمال وشعوب الجبال، ويصير من بلد إلى بلد!!

يا لله!

كم كان الحصار مطبقاً على آل الرسول (صلی الله علیه و آله) حتّى دعا المولى ابن الحنفيّة إلى التفكير في هذا الخيار؟!

وكم كانت الظروف قاسيةً بحيث شجّعت المولى ابن الحنفيّة على النطق بهذا الكلام بين يدي مليك الدنيا؟!

إنّ هذا الكلام يعني أنّ مخالب الأُمويّين قد علُقَت تماماً بريحانة النبيّ وغصن إبراهيم وفرع أمير المؤمنين (علیهم السلام) ..

يعني أنّ حلقة الحصار قد انطبقت تماماً، وليس فيها مجال مغرزٍ ولا سمّ خياط، فهو مُهدَّدٌ في طول الأرض وعرضها، لا يمكن أن يأوي إلى مصر من الأمصار، ولا يسكن في عمران..

إمّا أن يلحق بالرمال، يعني الصحارى والقفار، يعني سواحل البحاروالشطآن، يعني التوغّل في مجاهيل الأرض..

أو يلحق بشعوب الجبال، يغيب في الوديان، ويختبئ في الكهوف،

ص: 224

يعيش بين الحفر والصخور..

أو يتنقّل مشرَّداً بين البلدان، لا يستقرّ به المقام في بلدٍ حتّى يرحل إلى غيره قبل أن يعرفه الناس، يعيش مليك الدنيا وزَين السماوات والأرضين مختفياً مجهولاً لا يعرفه أحد، يدخل البلد ليخرج منه قبل أن يتمّ تشخيصه وتحديد موقعه والانقضاض عليه..

لا ندري والله كيف يمكن أن تُفهَم هذه العبارة ويُدرَك مغزاها ويُسبَر غورها ويُعرَف معناها.. ولا ندري كيف يمكن أن يتخيّل الإنسان الوضع الّذي كان يعيشه المولى ابن الحنفيّة الّذي اضطرّه إلى طرح هذا الخيار، وهو يعرف أخاه سيّد الشهداء (علیه السلام) وقد سمع من أبيه فيه الكثير!!

يبدو أنّ الأفضل أن تُترَك هذه الفقرة بكلّ تشعّباتها من دون إمعان النظر وتدقيق التأمّل فيها؛ فإنّ من حقّ التأمّل فيها أن يموت المؤمن ألف ألف مرّةٍ كمَداً على الإمام المظلوم المشرَّد المطارَد الغريب (علیه السلام) ، ولا يفي والله إذن أبداً..

وإلّا لحقت بالرمال!! وشعوب الجبال!! وصرت من بلدٍ إلى بلد!!

بيد أنّها تحكي مدى الحرج الّذي يضايق ابن الحنفيّة واضطراره وسلوكه أيّ مسلكٍ مهما كان ليخرج من حيرته، ويجد مخرجاً ينقذ به أخاه من براثن الأعداء ومخالب أولاد البغاء، فلا يُقتَل حبيب ربّالسماء.

أمد التشرّد ومآله

لقد جعل المولى ابن الحنفيّة أمداً لهذا التشرّد والترحّل والتغرّب عن

ص: 225

الأوطان والتخفّي عن عيون السلطان.. فقال:

لتنظر ما يؤول إليه أمر الناس، ويحكم بينك وبين القوم الفاسقين..

وسواءً كان هذا الأمد والنهاية مفترضةً في الخيارات جميعاً أو في الخيار الأخير، فهو يريد له أن يبقى حيّاً بعيداً عن القتل، حتّى ينظر ما يؤول إليه أمر الناس.. والظاهر من عبارته هو البقاء في الخيار الأخير، إذ افترض في الخيارين الأوّلين أنّ مكّة واليمن قد نبتا به.

وكيف كان، فإنّ الإمام قد نظر كما نظر ابن الحنفيّة ونظر الناس جميعاً ما آل إليه أمر الناس، فهذه المدينة قد أخرجَتْه، ومكّة قد نبَتْ به، واليمن لم تكن له موطناً آمناً، وقد أخذ معاوية البيعة لنغله قبل أن يهلك، وجدّد الناس البيعةَ لقردهم الجديد طواعيةً ورغبةً فيه وفي دنياه القذرة، وذلّت له الرقاب وركعت له الرؤوس واستسلمت له القبائل والأمصار.. فماذا ينتظر؟! لقد حدث كلّ هذا والإمام (علیه السلام) بين ظهرانيهم.

يبدو أنّ مؤدّى كلام ابن الحنفيّة (رضوان الله علیه) أن يبقى سيّد الشهداء (علیه السلام) وريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وبضعته مشردّاً هو وأهل بيته، حتّى يأتيه الموت في أيّ وادٍ سلك، فيقضي عليه ليرحل إلى ربّه، ليحكم بينه وبين القومالفاسقين!

جواب سيّد الشهداء (علیه السلام)
اشارة

فقال له الحسين: «يا أخي، واللهِ لو لم يكن في الدنيا ملجأٌ ولا مأوى لما بايعتُ واللهِ يزيد بن معاوية أبداً، وقد قال (صلی الله علیه و آله) :

ص: 226

اللّهمّ لا تُبارك في يزيد».

تضمّن جواب سيّد الشهداء (علیه السلام) على هذه الفقرة عدّة إيعازات:

الإيعاز الأوّل: الخطاب «يا أخي»

تبدو حرارة الحرقة الّتي تنهش ألسنة نيرانها أعماق ابن الحنفيّة على كلماته، وتبيّن الحيرة المتلكّأة في ثنايا الخيارات والاقتراحات الّتي تقدّم بها لأخيه.. فهو يبحث عن أيّ سبيلٍ يمكن أن يخرج به من قبضة الموت المُحدِقة بأهل بيته، ويريد أن يفعل أيّ عملٍ يمكن أن يعينه في استلال المخالب الّتي غرزت في أعناق إإخوته.. وربما دفعه إلى ذلك علمه بقدرة الإمام (علیه السلام) المعجزة، لعلّه يرى الرخاء والسرور في بقاء خامس أصحاب الكساء على قيد الحياة، لا اعتراضاً على القدَر ولا تمرّداً على المقدَّر، تماماً كما كانت تتوسّل أُمّ سلَمة إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) وتقول له: لا تفجعني بنفسك يا بُنيّ.. وهي قد سمعَت إخبار النبي (صلی الله علیه و آله) وكانت لا تزال تحتفظ بالتربة الّتي ناولها إيّاها، وإنّما هو قلب الأُمّ الحنون الرؤوم..فكانت كلمات محمّد ابن الحنفيّة تنمّ عن خوفه على الإمام (علیه السلام) وتوقّيه عليه، بدافع الحبّ والغيرة عليه، فأجابه الإمام (علیه السلام) بلفظٍ يتجاوب مع أحاسيسه ويلمس قلبه لمسةً حانيةً رقيقةً عطوفةً دافئة، تحرّك فيه استشعار التناغم، وتحسّس ما يجيش في أعماقه من أمواج المستقبل العاتية..

خاطبه الإمام (علیه السلام) بكلمةٍ رقيقةٍ تثير فيه النخوة، وتُقنِعه بأنّ

ص: 227

الإمام (علیه السلام) قد تجاوب مع الجياشات الّتي خفقت في أعماقه، وتستثير فيه العواطف الّتي استقبلها الإمام (علیه السلام) بطيب خاطر.. «يا أخي»!

الإيعاز الثاني: خيارات الإمام (علیه السلام)

أوعز الإمام (علیه السلام) إلى أخيه في عبارةٍ موجَزةٍ أنّ الخيارات المطروحة بين يدي الإمام (علیه السلام) في المدى المنظور للبشر العاديّ ثلاثٌ لا رابع لها، فهي مساراتٌ لا يمكن العدول عنها بتاتاً، وهي الّتي أشار إليها ابن الحنفيّة نفسه في كلامه تلويحاً أو تصريحاً..

المسار الأوّل: التشرّد

لقد أجاب الإمام (علیه السلام) أخاه بعبارةٍ واضحةٍ من خلال الفرض الّذي فرضه له، وهو: «لو لم يكن في الدنيا ملجأٌ ولا مأوى..»، فأفاده أنّ كلّ الاقتراحات الّتي تقدّمَ به سوف لن تنفع، فلا حرمة مكّةٍ تحفظ دمه، ولا اليمن تحمي حرمته، ولا مطاوي الرمال وشعوب الجبال تُكنّه، ولاالبلدان والأمصار تقلّه.. وسوف لن ينفع ذلك في الدفاع عنه ودفع القتل عن أهله وإإخوته وأنصاره المعدودين؛ لأنّهم يريدون قتله على كلّ حال!

فلو أنّ أهل الأرض كلّهم جميعاً خذلوه، كما فعلوا بالفعل، فإنّه سوف لن يستسلم ولن يُعطي الدنيّة ولن يقرّ قرار العبيد، وحاشاه من ذلك وهو أبيّ الضيم ومظهر العزّ الإلهيّ الّذي لا يُضام.

فالتشرّد لا يخيف الإمام (علیه السلام) ولا يضعف عزائم مَن معه، ولا يدعوه

ص: 228

للبيعة واختيار الحياة مع الظالمين.. ولا نهاية للتشرّد إلّا أن يلاحقه الموت فيقضي عليه كما يقضي على الناس أجمعين، وهذا ليس ممّا يليق بسيّد الخلق، وقد نفاه عن نفسه أشدّ النفي في أكثر من موقفٍ وموطن، كما فعل آباؤه المعصومون (علیهم السلام) .

ويبدو من كلام الإمام (علیه السلام) أنّه لم يفرض هذا الفرض، أي: أنّ كلامه (علیه السلام) لا يفيد أن يبقى مشرّداً حتّى تأتيه المنيّة، وإنّما يفيد بوضوح أنّ الأرض لو لم يكن فيها ملجأٌ ولا مأوى، فإنّه لا يبايع، وإن لم يبايع سيُقتَل، وقد اختار الجنان وجوار ربّ العالمين مأوىً وملجأ..

لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى، فلم يكن ما يدفع عنّي.. فيبقى الخيار بين البيعة والقتل؛ لعدم وجود المأوى والحرز الّذي يمنع القتل عنه، فإنّه لا يبايع، وبالتالي فإنّه سيختار القتل الكريم على الموت أو الحياة مع اللئام.المسار الثاني: البيعة

لم يصرّح ابن الحنفيّة (رضوان الله علیه) في ثنايا كلامه بدعوة الإمام (علیه السلام) للبيعة، ولكن يمكن أن يُشَمّ من جواب الإمام (علیه السلام) _ _ ولو بالتأمّل العميق _ _ أنّه كان يدعوه ولو ببواطن الكلمات البعيدة إلى ذلك، إذ ما معنى أن يردّ عليه الإمام (علیه السلام) بجعل فقدان الملجأ والمأوى في الدنيا بإزاء نفي البيعة المؤبَّد؟!

من هنا ربّما يُفهَم من كلام ابن الحنفيّة أنّه يريد أن يقول: إن لم تبايع يا أخي، فإمّا أن تبقى مشرَّداً لا ملجأ ولا مأوى لك في هذه الدنيا، أو أن

ص: 229

تُقتَل، أو أن تُبايع، فنفى الإمام (علیه السلام) البيعة، وافترض فقدان الملجأ والمأوى، فلم يبق إلّا أن يُقتَل ويختار السلّة ومصارع الكرام..

كما قد يُفهَم من كلام ابن الحنفيّة «الانتظار» ليرى ما يؤول إليه أمر الناس، ما معناه: إن آل أمر الناس إلى الإجماع على بيعة القرد المجدور، فبايع وادخل فيما دخل فيه الناس، ولا حُجّة عليك بعد أن خذلك الناس ورضوا أن يكونوا عبيداً للقرود! فردّ الإمام (علیه السلام) عليه ردّاً قاطعاً جازماً مؤبَّداً مؤكَّداً بالقسَم.

*** * * * *

ويبدو من قسَم الإمام (علیه السلام) ونفيه القاطع المؤبَّد أنّ ثمّة خصوصيّة ليزيد الّذي ذكره الإمام (علیه السلام) باسمه واسم أبيه، للتأكيد على شخصٍ بعينه وذاتٍ قذرةٍ معيّنة، وذكر دليلاً على امتناعه من البيعة لهذا القرد بالذات، وهوقول النبي (صلی الله علیه و آله) :: «اللّهمّ لا تُبارك في يزيد»، فهو يزيد شؤمٍ قد انتفت عنه البركة ألبتّة بدعوة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ..

وقد أكّد سيّد الشهداء (علیه السلام) ذلك أيضاً _ كما في نصّ ابن أعثم نفسه _ لوالي المدينة حينما طلبه للبيعة، فقال: «مثلي لا يبايع مثله»..

وفي هذا دلالةٌ واضحةٌ أنّ شخص يزيد مرفوضٌ عند سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) مكلَّفٌ بتكليفٍ خاصٍّ في الامتناع عن بيعة هذا الوغد خاصّة، ولذلك شواهد وقرائن كثيرة، وليس هذا موضع إثباته.

فالبيعة _ إذاً _ لا يمكن احتمالها ولا جعلها بالحسبان، وهي من

ص: 230

المحالات المؤبَّدة الّتي أقسم عليها أصدق الخلق.

المسار الثالث: ملاحقة الموت

لو لم يكن في الدنيا ملجأٌ ولا مأوى.. وقد أقسم الإمام (علیه السلام) أن لا يبايع يزيد بن معاوية أبداً، وأقسم يزيد الخمور والفجور بكلّ أوثانه الّتي يعبدها أن ينتقم لشيوخه الكفَرة الفجَرة، وأن يركز الإمام (علیه السلام) بين طاعة اللئام أو القتل، فلا محيص له من اختيار إحدى الطريقتين، ويأبى الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) وحُجورٌ طابت وطهرت للإمام (علیه السلام) أن يُؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام.. فقد انحصر الأمر، وتحقّق ما يريده يزيد وشيوخه!

إنّ البغيّ الماجن يزيد يعلم أنّ الإمام (علیه السلام) لا يناول، وقد استعجل قتلَالإمام (علیه السلام) في المدينة أو في مكّة أو في أيّ بقعةٍ من بقاع الأرض، ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة، فصار الإمام (علیه السلام) يختار أرض المصرع والموطن الّذي اختاره الله له منذ أن خلق الأرض، فعجّل الخروج من المدينة ومكّة لئلّا تُستباح به حرمة الحرمين.

الفقرة الرابعة: بكاؤهما معاً

قال: فقطع عليه محمّد ابن الحنفيّة الكلام وبكى، فبكى معه الحسين ساعة..

تبيّن من كلام الإمام (علیه السلام) وجوابه أن لا ملجأ ولا مأوى في الدنيا لأخيه، وأنّ القوم سوف لن يتركوه حتّى يقتلوه، وأن لا ناصر له ولا

ص: 231

معين، فقطع عليه الكلام وبكى..

بكى لغربته؟ بكى لوحدته؟ بكى لتشرّده؟ بكى لأنّ سيّد الكائنات الّذي يعرفه ويعلم أنّه الإمام المفروض الطاعة من الله لا يأويه وطنٌ ولا تقلّه أرضٌ ولا تظلّه سماء؟ بكى لأنّه علم أنّ القوم لن يتركوا أخاه حتّى يقتلوه، فهو مقتولٌ لا محالة وعلى كلّ حال؟

بكى لكلّ هذه الأُمور ولأُمورٍ أُخرى كثيرة ربّما لا ندركها أبداً..

وبكى معه سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) !

وأطالا البكاء.. إذ إنّهما بكيا ساعة.. بكيا مدّةً من الزمان ملحوظة، فالساعة هنا بمعنى الفترة من الزمان.. بكيا ساعة، ولم يبكيا قليلاً..

الفقرة الخامسة: تتمّة كلام سيّد الشهداء (علیه السلام)
اشارة

ثمّ قال: «جزاك الله يا أخي عنّي خيراً، ولقد نصحتَ وأشرتَ بالصواب، وأنا أرجو أن يكون _ إن شاء الله _ رأيك موفّقاً مسدّداً، وإنّي قد عزمتُ على الخروج إلى مكّة، وقد تهيّأت لذلك أنا وإخوتي وبنو إخوتي وشيعتي، وأمرهم أمري ورأيهم رأيي، وأمّا أنت يا أخي فلا عليك أن تقيم بالمدينة، فتكون لي عيناً عليهم، ولا تخف علَيّ شيئاً من أُمورهم».

أشار الإمام في هذه الفقرة من الحوار إلى ثلاث مجالات:

المجال الأوّل: التعليق على موقف أخيه
اشارة

بعد أن خاطبه بقوله: «يا أخي» بجميع ما تحمله هذه الكلمة الرقيقة

ص: 232

المؤثّرة من شحنات الحنان والعطف والاستقواء والارتكان، وبكى معه وواساه، قال له: «جزاك الله يا أخي عنّي خيراً، ولقد نصحتَ وأشرت بالصواب، وأنا أرجو أن يكون _ إن شاء الله _ رأيك موفّقاً مسدّداً».

ويُلاحَظ في هذه العبارة أنّها قابلةٌ للتقسيم إلى شقّين:

الشقّ الأوّل: الدعاء والشكر للموقف

كرّر الخطاب بلفظ الأُخوّة في جملةٍ دعائيّةٍ معترضة، وجزّاه خيراً عنه.. أي: إنّك قد أردتَ لي خيراً، وجزاك الله بهذه الإرادة خيراً عنّي، وقد بذلتَ ما بوسعك، فلم تقصِّر في النصيحة والإخلاص وإرادة الخير..وهو عبارة عن التعبير عن الشكر للموقف والتقدير لإبداء النصحية.. ما أعظم الإمام (علیه السلام) وأحفظه للأُخوّة والرحم والتواضع!

وأكّد له أنّه قد نصح وأخلص لأخيه.. ويبدو واضحاً من جوّ الحوار أنّ الأجواء المظلّلة عليه إنّما هي أجواء الأُخوّة والعلاقة النسَبيّة، وقد تعاملا فيما بينهما كأخوين، ولم يتعاملا كإمامٍ ومأموم، وسلطانٍ مفروض الطاعة من الله ورعيّةٍ مأمورةٍ بالطاعة والتسليم.

الشقّ الثاني: النصح والإشارة بالصواب

النصيحة: هي الخلوص والصدق، وتقديم المشورة بما يصلح المنصوح وإرادة الخير له.. وقد تقدّم المولى ابن الحنفيّة في ذلك الظرف العسير واليوم العصيب لأخيه سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) بما عنده، فبلغ غاية جهده في الإصحار عن كوامنه، واعتصر نفسه اعتصاراً ليفرج عن الأعاصير الّتي كانت تعصف بداخله، فقدّم ما يراه صالحاً وما يعتقده

ص: 233

سبيلاً للنجاة إوإنقاذاً لأهله من القتل.. فشهد له الإمام (علیه السلام) بذلك، فقال: لقد نصحت..

وأشرت بالصواب.. هذه هي المشورة الّتي جاءت من كلّ طاقته ومجهوده، واستجمع لها ابن الحنفيّة جميع قواه ورأيه وفكره وقلبه، فأشار بالصواب وِفق ما هو يفكّر به ويستوعبه ويدركه..

والصواب الّذي احتواه كلامه، يتلخّص في عمل كلّ ما يلزم من أجلالإفلات من مخالب القرد المهارش يزيد، وهذا ما كان يفعله الإمام (علیه السلام) بالفعل..

والخروج من المدينة إلى موضعٍ يوفّر الأمان لمن جعله الله أماناً للعالمين، وهو ما فعله الإمام (علیه السلام) بالفعل..

انتظار ما يؤول إليه أمر الناس بعيداً عن عيون الطاغوت، وهو ما فعله الإمام (علیه السلام) بالفعل..

وبكلمة،: فإنّ عمومات ما جاء في كلام ابن الحنفيّة كان صواباً بغضّ النظر عن التفاصيل.. بيد أنّ الإمام (علیه السلام) قرّر له صواب إشارته، وهي بالفعل كذلك وفق الحسابات الظاهريّة للعقول البشريّة، باستثناء المعصوم، فهذا ما قاله غير ابن الحنفيّة أيضاً، وقد دلّت عليه مجريات الأحداث وأرشدت إليه..

فالإمام (علیه السلام) لم يقل له: إنّي أعتقد صواب إشارتك، وإنّما أخبره عن صواب إشارته على نحو الإطلاق، وهي كذلك.. والحال أنّ الإمام (علیه السلام) قد نوّه إلى أنّه لا يبايع ولو لم يكن في الأرض ملجأٌ ولا مأوى!

ص: 234

وقد دعا الإمام (علیه السلام) له أن يكون رأيه موفّقاً مسدّداً بعد التعليق على مشيئة الله تبارك وتعالى..

وأنا أرجو أن يكون إن شاء الله رأيك موفَّقاً مسدَّّداً.

ويبدو أنّ الإمام (علیه السلام) أكّد على صواب إشارة أخيه في ما يخصّ الخروج إلى مكّة، لذا أخبره بعزمه ووجهته، فكأنّه يقول له: إنّي عاملٌبالخيار الأوّل من مشورتك.

المجال الثاني: بيان عزمه والإعلان عن وُجهته
اشارة

كان الخيار الأوّل الّذي اقترحه المولى ابن الحنفيّة على أخيه سيّد الشهداء (علیه السلام) أن يخرج إلى مكّة حرم الله الآمن.. فأخبره الإمام (علیه السلام) أنّه عازمٌ على التوجّه إليها..

وإنّي قد عزمتُ على الخروج إلى مكّة، وقد تهيّّأت لذلك أنا وإخوتي وبنو إخوتي وشيعتي، وأمرهم أمري ورأيهم رأيي.

وبهذا نوّه الإمام إلى عدّة تنويهات:

التنويه الأوّل: عزمه على الخروج إلى مكّة

أخبر الإمام (علیه السلام) أنّه قد عزم على الخروج إلى مكّة قبل أن يُشير عليه أخوه ابن الحنفيّة، وقد تهيّأ لذلك واستعدّ له، وهذه هي وُجهته الأُولى الّتي لم يذكر وجهةً أُخرى غيرها..

فالخيار الأوّل الّذي قدّمه ابن الحنفيّة قد اختاره الإمام (علیه السلام) من قبل وعزم عليه وتهيّأ له، ولم يكن يومها أيّ حديثٍ عن العراق والكوفة والقيام و«الخروج الاصطلاحيّ».. بل يلاحظ أنّ ابن الحنفيّة لم يذكر

ص: 235

الكوفة كخيارٍ لبيان عواقبه لكلّ ذي عينين..

الخروج كان إلى مكّة وانتهى.. لم يذكر له الإمام (علیه السلام) الخطوة الثانية بعد مكّة، وربّما حسب ابن الحنفيّة أنّ الخطوات ستأتي تباعاً كما رسمها.. لا ندري!المهمّ، إنّه سيتوجّه إلى مكّة.. مكّة فقطّ.. أمّا ما بعد مكّة؟ فهذا ما لم يذكره الإمام (علیه السلام) ولم ينوّه إليه من قريبٍ ولا من بعيد، ولم يذكر العراق ولا الكوفة، ولم تكن دعواتهم تصل إليه بعد..

«وإنّي قد عزمتُ على الخروج إلى مكّة، وقد تهيّأتُ لذلك».

التنويه الثاني: ذكر مَن يخرج معه

أكّد الإمام (علیه السلام) أنّه سيخرج هو بنفسه المقدّسة «أنا»، وذكر إإخوته وبنيي إإخوته وشيعته، لم يستثنِ أحداً من إإخوته، ولا من بني إإخوته، ولا من شيعته.. فأين سيكون المولى ابن الحنفيّة وأبناؤه من هذا الإطلاق؟!

وقد نسب الإمام (علیه السلام) الإخوة وأبناءهم إليه، ولم ينسبهم لابن الحنفيّة! لم يقل له: أنا وإإخوتك وأبناء إإخوتك.. والحال أنّهم إإخوته وأبناء إإخوته أيضاً! ويكفيهم شرفاً وعزّاً في هذه النسبة..

أمّا شيعته الّذين ذكرهم، فهو إمّا عطف تفسيرٍ للإخوة وأبنائهم، وهو بعيدٌ لا يساعد عليه السياق، أو أنّهم مواليه، وهو أيضاً لا يساعد عليه سياق الكلام والاستعمالات الرائجة، أو أنّ ثمة رجالاً من شيعته قد خرجوا معه من المدينة..

ص: 236

فهل هم من رجال المدينة؟ أو أنّهم من غيرها من الأصقاع قد التحقوا بسيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة ولازموه؟ أو أنّهم سيلتحقون به في الطريق؟ربّما كانوا بعض الرجال الّذين تجاهلهم التاريخ وتغافل عنهم، من قبيل الإإخوة الأربعة من فتيان اليمن والمعمّر المغربي،ّ وغيرهم ممّن نقرأ في تراجمهم أنّهم لازموا الإمام أمير المؤمنين والإمام الحسن المجتبى الأمين ثمّ لازموا سيّد الشهداء الحسين (علیهم السلام) ، وخرجوا معه إلى كربلاء..

وكيف كان، فإنّ هذه العبارة تفيد أنّ ثمّة مَن خرج مع سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة إلى مكّة من شيعته، وهم غير أهل بيته إوإخوته وأبناء إإخوته، فلا يصحّ _ والحال هذه _ أن يقال: إنّه لم يخرج مع الإمام الحسين (علیه السلام) من المدينة أحدٌ من شيعته أبداً، كما ذهب إليه بعض المحقّقين.

ولا يُدرى هل يمكن استشمام التعريض بابن الحنفيّة من هذا القول:

«أنا وإخوتي وبنو إخوتي وشيعتي»!

التنويه الثالث: صفة مَن يخرج معه

يبدو أنّ شيعتي هنا وردت صفةً لمن يخرج مع الإمام (علیه السلام) كصنف غير الأصناف الّذين سمّاهم، أي: إإخوته وبني إإخوته، ثمّ قال الإمام (علیه السلام) : «وأمرهم أمري ورأيهم رأيي».

كذا أخبر أعلم الخلق بالخلق، والإمام الصادق المبين الناطق عن ربّ العالمين، وقرّر أنّ الّذين يخرجون معه جميعاً إن كانوا إإخوته وبني إإخوته

ص: 237

أو شيعته، كلّهم مسلّمون له، متوافقون معه، راضون بما هو عازمٌ عليه، وأمرهم أمره، ورأيهم رأيه..

ربّما كان في كلامه (علیه السلام) إشعارٌ يفيد أنّ هؤلاء هم الّذين أطاعوه وصفّوا له من بين العالمين، وهو خارجٌ بهم..

ولا ندري ما إذا كان في هذا المقطع من الكلام أيضاً إشعارٌ بالتعريض بالمولى المكرّم ابن الحنفيّة أو لا.. إذ إنّ الإمام (علیه السلام) يؤكّد له أنّ الخارج معه مسلِّمٌ له مطيعٌ له متوافقٌ معه في الأمر والرأي! سيّما إذا لاحظنا استدراك الإمام بلفظ: «وأمّا أنت يا أخي»..

التنويه الرابع: معنى الخروج

سيأتي الكلام عن معنى الخروج المقصود في هذا الحوار وما يتلوه في الوصيّة، لذا سنقتصر هنا على الإشارة البعيدة لمعنى الخروج.

لا شكّ أنّ سياق الكلام يكشف بوضوحٍ عن مرامي الحديث ومقاصده، ولا يمكن حمل معنى الخروج هنا على أيّ معنىً اصطلاحيٍّ سوى معناه اللغويّ، والخروج في اللغة ضدّ الدخول، وهو عبارةٌ عن الانطلاق والتحرّك والتوجّه للحركة والانتقال الجغرافيّ من نقطةٍ يغاردها المتكلّم ويتركها كموضعٍ وموطنٍ ومقامٍ ومنزلٍ إلى موضعٍ آخر ومكانٍ غير المكان الّذي هو فيه.

المجال الثالث: بيان تكليف ابن الحنفيّة
اشارة

يبدو من قوله: «وأمّا» كأنّه استدراكٌ على ما ذكره من حال إإخوته وشيعته الخارجين معه، فقال له: «وأمّا أنت يا أخي فلا عليك أن تقيم

ص: 238

بالمدينة، فتكون لي عيناً عليهم، ولا تُخفِ علَيّ شيئاً من أُمورهم».

والعبارة تحتمل وجوهاً، ويمكن تفسيرها بالإيجاب والسلب.

أمّا الفهم الإيجابيّ فيقال: أمّا أنت يا أخي فلا تخرج معي، ولكن تقيم بالمدينة، فتكون عيناً، وهذا هو تكليفك تجاهي.. فإذا فعل ذلك فقد أدّى ما عليه، ويكون بقاؤه في المدينة إطاعةً لأمر إمامه، وليس المهمّ أن يُقتَل المؤمن كيف ما اتّفق، وإنّما المهمّ أن يكون في طوع إمامه وطاعته.

وربّما يقال: إإنّ الإمام (علیه السلام) يقول لأخيه:: أمّا أنت فلأنّك لا تتّفق معي، ولستَ على أمري ورأيي، ولا تنوي الخروج معي، ولا تعتزم نصرتي باليد، فلتكن عيناً لي على الأعداء.

وكيف كان، فمن المؤكّد أنّ المولى ابن الحنفيّة لم يخرج مع إمام زمانه (علیه السلام) ، وهو ابن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) ومن أقرب الناس إلى أخيه أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) ، فلا يمكن أن نحتمل فيه إلّا كلّ الخير والطاعة للإمام، هذا ما نستشعره من تكليفٍ بإزاء ابن الإمام العالم الفقيه ابن الحنفيّة، وما نذكره هنا بمستوى البحث ومعالجة الحدث التاريخيّ وفق الموازين الموظّفة في المقام، ولسنا بصدد الحكم على ما فعله المولى المكرّم ابن الحنفيّة والموقفِ الّذي اتّخذه، فهو أعرف بما فعل، وهو ابن إمامٍ وأخو إمامٍ وعمّ إمام!

إنّما يدور الكلام هنا بمقدار استنطاق النصوص والبحث العلميّالمحض، من دون اتّخاذ الموقف والحكم، إذ إنّ الباحث وغيره أقلّ وأدون من أن يتطاول إلى قمم الأولاد المباشرين للأئمّة المعصومين (علیهم السلام) ،

ص: 239

سيّما إذا كانوا ممدوحين من قِبَلهم.

نقول: إنّ عبارة الإمام (علیه السلام) الواردة في هذا الحوار فيها إيحاءاتٌ واشعاراتٌ ومعانٍ لا تكشف عن تفاعلٍ تامٍّ وانسجامٍ وتسليمٍ مطلَق، وحماسةٍ وذوبانٍ يمكن التعبير عنه بأنّ أمره أمر الإمام ورأيه رأي الإمام..

وقد أفاد النصّ أنّ التكليف الملقى على عاتق المولى ابن الحنفيّة هو البقاء بالمدينة، ليكون عيناً على الأعداء لصالح سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فيخبره بما يحدث ثمّة..

بيد أنّ هذا النصّ يواجه صعوباتٍ ومعارضاتٍ تمنع من الركون إليه والاستسلام له، ونحن لا نريد مناقشته مناقشةً مستفيضةً لئلّا نقع في المحذور ونتجاوز الحدّ المرسوم للعبيد عند التحدّث عن ساداتهم ومواليهم، وفهم وإدراك موقفهم ومعرفة مشاهدهم.. لذا سنكتفي بذكر معارض وصعوبة تعترض القول بهذا النصّ وتعسّر تصوّر هذا التكليف الخاصّ للمولى ابن الحنفيّة.

الأوّل: المعارض

ذكرنا سابقاً ما رواه العلّّامة المجلسيّ بعد نقل الوصيّة المشار إليها مباشرة، قال:وقال محمّد بن أبي طالب: روى محمّد بن يعقوب الكليني ((1))

ص: 240


1- رواه الصفّار القمّيّ، قال: حدّثنا أيّوب بن نوح، عن صفوان بن يحيى، عن مروان بن إسماعيل، عن حمزة بن حمران، عن أبي عبد الله (علیه السلام) ، قال: ذكرنا خروج الحسين وتخلّف ابن الحنفيّة عنه،، قال: قال أبو عبد الله:: «يا حمزة،، إنّي سأُحدّثك في هذا الحديث ولا تسألْ عنه بعد مجلسنا هذا: إنّ الحسين لمّا فصل متوجّهاً دعا بقرطاسٍ وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن عليّ إلى بني هاشم، أمّا بعد، فإنّه مَن لحق بي منكم استُشهد معي، ومَن تخلّف لم يبلغ الفتح، والسلام» (بصائر الدرجات للصفّار: 481 ح 5، اللهوف لابن طاووس: 129، المناقب لابن شهر آشوب: 3 / 23: 10، مثير الأحزان لابن نما: 39، الخرائج والجرائح للراوندي: 2 / 771، بحار الأنوار: 44 / 330 و45 / 84 و42 / 81، العوالم للبحراني: 17 / 179).

في كتاب (الرسائل)، عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن أيّوب بن نوح، عن صفوان، عن مروان بن إسماعيل، عن حمزة بن حمران، عن أبي عبد الله (علیه السلام) ، قال:

ذكرنا خروج الحسين (علیه السلام) وتخلّف ابن الحنفيّة، فقال أبو عبد الله (علیه السلام) :: «يا حمزة،، إنّّي سأُخبرك بحديثٍ لا تسألْ عنه بعد مجلسك هذا: إنّ الحسين لمّا فصَلَ متوجّهاً دعا بقرطاسٍ وكتب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن عليّ بن أبي طالب إلى بني هاشم،: أمّا بعد، فإنّه مَن لحق بي منكم استُشهد، ومَن تخلّف لم يبلغ مبلغ الفتح، والسلام» ((1))..

ويكفي هنا أن ننوّه إلى تعارض هذا النصّ المُسنَد إلى المعصوم (علیه السلام) مقابل النصّ التاريخيّ المرسَل المتفرّد الشاذّ، فالأوّل دعوةٌ للنصرة، والثاني أمرٌ بالقعود، ولا نعلّق أكثر من ذلك امتثالاً لأمر الإمام (علیه السلام) ، وللقارئ أن يستخلص ويتأمّل ويستنتج..

ص: 241


1- بحار الأنوار: 44 / 330.
الثاني: الصعوبة

يلاحظ لمن تابع التاريخ ولاحق الأحداث منذ خروج سيّدالشهداء (علیه السلام) من المدينة إلى شهادته في كربلاء اختفاء أخبار المولى ابن الحنفيّة تماماً، بالخصوص بعد انطلاق ركب الشهادة من مكّة إلى العراق، ولم نسمع في المصادر التاريخيّة القديمة ولا الّتي تليها _ حسب فحصنا _ أنّ المولى ابن الحنفيّة قد كتب إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) بخبرٍ أو نقل له معاينةً أو حتّى كتب إليه كتاباً مهما كان..

الجزء الثاني: متن الوصيّة

اشارة

لقد تناولنا الحوار الّذي سبق كتابة الوصيّة على عجلٍ رغم ما فيه من التفصيل، لأنّه يحتاج إلى دراسةٍ أوفى وأعمق؛ للعلاقة الوثيقة بينه وبين الوصيّة، ولا يسوّغ تناول الوصيّة وحدها مبتورةً عن سوابقها لمن أراد أن يدرسها دراسةً وافيةً تكتمل عنده الصورة، ويكوّن لنفسه إطاراً يتشكّل منه تأسيسٌ لفهم الوصيّة وبلوغ مدياتها واقتناص مداليلها وتحديد معاني ما جاء فيها.

وقد قدّمنا في بداية البحث مقدّماتٍ نحتاجها هنا، بيد أنّنا أعرضنا عن ذكرها لئلّا نعيد.

* * * * *

قال: ثمّ دعا الحسين بدواةٍ وبياضٍ وكتب فيه، فكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أوصى به الحسين بن عليّ بن أبي طالب لأخيه محمّد ابن الحنفيّة المعروف ولد عليّ بن أبي

ص: 242

طالب (رضی الله عنه) : إنّ الحسين بن عليّ يشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، جاء بالحقّ مِن عنده، وأنّ الجنّة حقٌّ والنار حقّ، وأنّ الساعة آتيةٌ لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث مَن في القبور. وإنّي لم أخرج أشِراً ولا بطراً ولا مُفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجتُ لطلب النجاح والصلاح في أُمّة جدّي محمّد (صلی الله علیه و آله) ، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي محمّد (صلی الله علیه و آله) وسيرة أبي عليّ بن أبي طالب وسيرة الخلفاء الراشدين المهديّين رضي الله عنهم، فمَن قبلني بقبول الحقّ فالله أَولى بالحقّ، ومن ردّ علَيّ هذا أصبر حتّى يقضي [الله] بيني وبين القوم بالحقّ، ويحكم بيني وبينهم [بالحقّ]، وهو خير الحاكمين. هذه وصيّتي إليك يا أخي، وما توفيقي إلّا بالله، عليه توكّلتُ وإليه أُنيب، والسلام عليك وعلى مَن اتّبع الهدى، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم».

قال: ثمّ طوى الكتابَ الحسين وختمه بخاتمه، ودفعه إلى أخيه محمّد ابن الحنفيّة، ثمّ ودّعه، وخرج في جوف الليل يريد مكّة بجميع أهله، وذلك لثلاث ليالٍ مضين من شهر شعبان في سنة ستّين، فجعل يسير ويقرأ هذه الآية: ﴿فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قال رَبِّ نَجِّنِي من الْقَوْمِ الظَّالِمِين﴾ ((1))(2).

ص: 243


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 20.
2- الفتوح لابن أعثم: 5 / 20.

*** * * * *

يمكن تقسيم الوصيّة إلى بنودٍ تسهّل علينا الوصول إلى مراميها إن شاء الله تعالى، وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام، تحتوي: الإطلالة والمقدّمة، ومتن الوصيّة، ثمّ خاتمة الوصيّة.

البند الأوّل: إطلالة الوصيّة ومقدّمتها

اشارة

«بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أوصى به الحسين بن عليّ ابن أبي طالب لأخيه محمّد ابن الحنفيّة المعروف ولد عليّ ابن أبي طالب (رضی الله عنه) : إنّ الحسين بن عليّ يشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأّن محمّداً عبده ورسوله، جاء بالحقّ مِن عنده، وأنّ الجنّة حقٌّ والنار حقّ، وأنّ الساعة آتيةٌ لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث مَن في القبور»..

تضمّن هذا البند محتويين:

المحتوى الأوّل: المخاطَب بالوصيّة

«بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أوصى به الحسين بن عليّ ابن أبي طالب لأخيه محمّد ابن الحنفيّة المعروف ولد عليّ ابن أبي طالب (رضی الله عنه) ...».

إنّ المخاطَب في هذه الوصيّة إنّما هو ابن الحنفيّة بعد أن جرى الحوار المفصَّل آنفاً بينهما، وكأنّه تفهيمٌ وإقناعٌ وتفسيرٌ للغوامض الّتي أطبقت على أعماقه، وبيانٌ للمجاهيل الّتي اجتاحته دوّاماتها، وفكٌّللرموز الّتي

ص: 244

أغلقت عليه بعد كلّ الّذي مضى من كلام.

وسيأتي في ختام الوصيّة مخاطَبٌ آخَر يحتاج إلى تفهيمٍ أشار إليه الإمام (علیه السلام) إشارةً من دون تصريح..

أجل، قد يكون الخطاب مع أخيه من باب «إيّاك أعني»، وقد أخذ ابن الحنفيّة عنواناًاً ليدلف منه إلى الآخرين، ولكن يبقى لابن الحنفيّة موضوعيّة يشهد لها السياق وطول الحوار واختتامه بالدموع! وسنعرف بعد قليلٍ أنّ المخاطَب الآخر المشار إليه له خصوصيّاته أيضاً بقرينة الصياغة والاستعمال.

المحتوى الثاني: إطلالة الوصيّة

إطلالة المتن.. كلامٌ يُنبئ عن مفارقة الدنيا والعزم على الرحيل إلى الآخرة، و«كأنّ الدنيا لم تكن والآخرة لم تزل»، وهي صياغةٌ معتادةٌ كانت ولا زالت في كتابة الوصيّة، سلك سبيلها الأوّلون ودرج عليها الآخرون ونسل عليها المؤمنون إلى يوم الناس هذا، إذ يبدأ المُوصي بتقديم الشهادات وذكر العقائد.

ولا نريد هنا الدخول في شرح تفاصيل ذلك وتفسير ما ورد في الوصيّة والإسهاب في بيان العقائد المشار إليها؛ فلذلك أهل، وما يخصّنا البحث التاريخيّ وما يتعلّق به في هذه الوصيّة.

البند الثاني: متن الوصيّة

اشارة

«وإنّي لم أخرج أشِراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما

ص: 245

خرجتُ لطلب النجاح والصلاح في أُمّة جدّي محمّد (صلی الله علیه و آله) ، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي محمّد (صلی الله علیه و آله) وسيرة أبي عليّ بن أبي طالب وسيرة الخلفاء الراشدين المهديّين رضي الله عنهم، فمَن قبلني بقبول الحقّ فالله أَولى بالحقّ، ومن ردّ علَيّ هذا أصبر حتّى يقضي [الله] بيني وبين القوم بالحقّ، ويحكم بيني وبينهم [بالحقّ]، وهو خير الحاكمين».

هذا المقطع يتضمّن أصل الوصيّة ومتنها الأصليّ المقصود في الكتابة، ويمكن تناول ما ورد فيها عبر عدّة تلويحات:

التلويح الأوّل: ترابط النصّ

لقد أشرنا فيما سبق إلى ما نريد الحديث عنه في هذا التلويح، ونعود إليه للتذكير على عجل، للأهمّيّة القصوى الّتي يحوزها هذا التلويح في إطار متابعة موادّ الوصيّة، ونحاول تجنّب استخدام الاصطلاحات التخصّصيّة الّتي يحتاجها البحث.

وخلاصة ما نريد التلويح إليه هنا هو أنّ النصّ مترابط، وما جاء فيه تجده يتابع المقصود بعباراتٍ متتاليةٍ متلاحقة، ومتماسكةٍ يكمل بعضهابعضاً، ويتمّم اللاحق السابق منها، غير مقطوعةٍ ولا مبتورة، تتشابك مضامينها من خلال القيود والحكومة والنظر إلى بعضها البعض، سواءً كانت كمقاطع ومفاصل، أو كجُمَلٍ وعبارات، أو مواقف وإشارات، أو تحليل وتفسير وبيانات، أو الإعلان عن عزم أو تكليف أو توضيحات..

ص: 246

فالمقدّمة الّتي احتوت الإطلالة ترتبط تماماً بالوسط الّذي ذكر متن الوصيّة وأصل ما يُراد بيانه، وهو مرتبطٌ تماماً بالخاتمة، إذ يستخدم العطف ب- (الواو) بعد الانتهاء من المقدّمة، ولم يبدأها بجملةٍ منفصلةٍ منعزلةٍ مقطوعةٍ مبتورة عن السابق، كما يشرع الخاتمة باسم الإشارة «هذه وصيّتي» في إشارةٍ إلى ما ذكره في البند الثاني حسب تقسيمنا.

وكذا يستمرّ القياس على باقي الفقرات، فيلاحظ الترابط الوثيق الّذي يأبى التفكيك والفصل بين قوله:: «وإنّي لم أخرج أشراً ...»، وقوله: «وإنّما خرجتُ لطلب ...»، وهكذا باقي عبارات الوصيّة وموادّها ومضامينها التعبيريّة، وليس من لطف الاستخدام والتوظيف أن يُجتزئ الجزء من العبارة ويُستنبط منه، ويوظَّف في الاستنتاج بقطع النظر عن سابقه أو لاحقه مع أنّه متّصلٌ به اتّصالاً يأبى التقطيع، تماماً كالقرينة المتّصلة اتّصالاً مباشراً الواردة ضمن النصّ الواحد، فلا يمكن التعويل على العموم مع وجود المخصّص ملاصقاً، ولا استفادة الإطلاق مع وجود المقيّد في نفس التعبير في الجملة الواحدة والمجلس الواحد، ولا يتّهم النصّ بالإجمال وهو يحتوي على المبيّن، وهكذا..فهي من قوله: «وإنّي لم أخرج ...» إلى قوله: «وهو خير الحاكمين» كلٌّ واحدٌ لا يتجزّأ، يتحدّث عن مرامٍ واحد، ويعبّر عن غايةٍ واحدة، تسعى مفرداته لبناء عباراته، وتجتمع عباراته لتكمل الصورة والبناء، وتعبّر عن غايةٍ وهدف، وتحكي مشهداً واحداً تريد مجموعة أدوات الوصيّة الحكاية عنه، وإن كان لكلّ واحدةٍ من المفردات والعبارات جمالها الآسر

ص: 247

وتأثيرها المباشر ودلالاتها الحيّة النابضة المتحرّكة الّتي يمكن توظيفها في مواضع مختلفة.. بيد أنّ الباحث إذا أراد استنطاقها للوصول إلى المراد من كلّ الوصيّة، فلا يصلح له إلّا أن يأخذها ككلٍّ مترابطٍ متماسكٍ متكامل!

التلويح الثاني: العطف بعد المقدّمة

بعد أن ذكر المقدّمة والإطلالة الّتي شهد فيها مولى الثقلين وإمام الموحّدين بما يشهد به المسلم في حياته وعند وفاته، ويرجو الله أن يبعثه عليه عند حشره ونشره من شهادة التوحيد والشهادة بالنبوّة والقيامة والجنّة والنار وغيرها.. كان بالإمكان أن يقطع الاسترسال ويبتدأ الكلام بجملةٍ جديدةٍ ليس لها أيّ علاقةٍ أو تلويح للارتباط بما سبق، بيد أنّ المتن جاء مبتدًءاً بالعطف على ما سبق للدلالة على التمسّّك بالاعتقادات المذكورة، فكأنّه يشير إلى أنّ هذه الاعتقادات الّتي تشترطفي الإنسان لتدخله دائرة المسلم، وتميّزه عن غيره من بني البشر على اختلاف اعتقاداتهم.. فيقول هذه الشهادات السابقة لي، وإنّي أنا الّذي شهدت بها لم أخرج ...

وهذه من المحن الناتجة من الإحن، ومن أعظم مصائب الدهر الّتي ابتُلي بها آل الرسول (صلی الله علیه و آله) وشيعتهم، بحيث صادر الأعداء وعبدة الأوثان وطواغيت السقيفة الدين وشريعة سيّد المرسلين، وجعلوا أهل الدين ورجال الله وأصحاب الكساء خوارج في إعلامهم وتعاملهم، ونفوا عنهم أيَّ علاقةٍ وارتباطٍ وكرامةٍ على الله وعلى رسوله (صلی الله علیه و آله) ، وقطعوا أيّ نسبٍ

ص: 248

وانتسابٍ لآل البيت بأبيهم وجدّهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فقالوا: أمّا عبد الله فنعم، وأمّا أخو رسوله فلا! وتركوا فاطمة سيّد النساء وابنة سيّد الأنبياء تصرخ فيهم: «اعلموا أنّي فاطمة، وأبي محمّد».. وشهروا آل الرسول في البلدان سبايا، يتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد والشريف والدنيّ والشاهد والغائب، وعرضوهم خوارج على الدين، كأن لا علاقة لهم بالنبيّ (صلی الله علیه و آله) ولا انتساب لهم ولا اتّصال بدينه..

وممّا يحزّ خيشوم المؤمن بالخناجر، ويقطع أوداج القلب، ويمزّق الحناجر، أن يسمع آخر نداءات سيّد الشهداء (علیه السلام) في كربلاء، فيجده يزأر فيهم في رجزه الأخير لبيان نفس ما انطلق به من وصيّته في المدينة، فيقول:أنا الحسين بن علي

آليتُ أن لا

أنثني

أحمي عيالات أبي

أمضي على دِين

النبيّ

وهذا ما ختم به سيّد الشهداء (علیه السلام) حياته: «أأمضي على دين النبي».. يقول لهم وللتاريخ ولمن سمع ويسمع، أنّي مسلمٌ أمضي على دين النبي (صلی الله علیه و آله) .. أُقتَل وأنا مسلم!! يا لها من مصيبة!!

كذا هو دأب الأُمّة، وانقلابها! وكذا هو حربها مع آل رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، إذ حاولوا قطع حتّى الوشائج الأُسَريّة والنسب وارتباط الدم بين النبيّ وآله..

ولإإثبات ذلك موضعٌ آخر، إذ يطول بنا المقام لو استرسلنا في بيان ذلك وإثباته بالشواهد والأدلّة والبراهين، وهو واضحٌ للمتأمّل في سير

ص: 249

الأحداث في التاريخ، وللمطلّع على ظليمة أهل البيت (علیهم السلام) وشكايتهم من انقلاب هذا الخلق المنكوس المتعوس المنحوس.

لذا من الضروريّ أن يُنقَل النصّ مع «الواو» العاطفة، ولا يصلح نقله كجملةٍ ابتدائيّة «إنّي»؛ ليعرف القارئ أو السامع أنّ العبارة لها ما قبلها، وليست هي كلمة ابتدائيّة مستأنفة، وبهذا يراعي الناقل الدقّة والأمانة في نقله لئلّا يروي نصّاً مبتوراً.

التلويح الثالث: معنى الخروج
اشارة

للخروج معنيان:

المعنى الأوّل: اللغويّ

الخروج في اللغة هو ما قابل الدخول، فهو نقيض الدخول ((1)).. ولابدّ أن يكون لهذا الخروج بداية ومنطلَق، فمن يخرج يلزمه أن يغادر مكاناً ما ويتركه إلى مكانٍ آخر.

ولا يخفى أنّ الوصيّة كُتبَت بعد أن دار حوارٌ طويلٌ بين سيّد الشهداء (علیه السلام) وأخيه محمّد ابن الحنفيّة، قد أتينا على ذكره مفصّلاً قبل قليل.. فالوصيّة إنّما هي بيانٌ لخروج محدَّدٍ معيّن.

والمكان الّذي يريد سيّد الشهداء (علیه السلام) مغادرته في هذه الآونة الّتي تتحدّث الوصيّة عنها هو المدينة المنوّرة الّتي عزم على الخروج منها..

فهو حينما يقول: «لم أخرج»، أي: لم أخرج من المدينة، و«إنّما

ص: 250


1- أُنظر: مجمع البحرين للطريحي، لسان العرب لابن منظور: مادّة «خرج».

خرجتُ»، أي: إنّما خرجتُ من المدينة..

والوصيّة لم تحدّد الوُجهة الّتي سيتوجّه إليها، أي لم تذكر المكان الّذي سيحلّ فيه بعد أن يغادر المدينة، بيد أنّ الحوار تكفّل بيان ذلك، إذ كان ابن الحنفيّة في حيرةٍ مذهلةٍ يبحث للإمام (علیه السلام) عن مكانٍ آمن، وكان الإمام (علیه السلام) قد أخبره أنّه قد عزم على الخروج إلى مكّة حرم الله الآمن..

ولم يكن أيّ مكانٍ آخر يُذكر _ لا في الوصيّة ولا في الحوار _ سوى هذين المكانين كوجهةٍ أوّليّةٍ للخروج، فموضع الخروج قد عرفناهمن تواجد الإمام (علیه السلام) يومها في وطنه ومسقط رأسه، والموضع المقصود عرفناه من تصريح الإمام (علیه السلام) لأخيه عند الإصحار عن عزمه وعزم من كان معه.

ولا يمكن تحميل العبارة أكثر من ذلك إن بقينا نحن والمعنى اللغويّ.. فتكون الوصيّة بياناً وتفسيراً للخروج والانتقال المكانيّ والتحرّك الجغرافيّ من المدينة ليس إلّا، والغاية من الخروج إنّما هي مكّة ليس إلّا !

وكأنّها جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر: لماذا تركتَ المدينة وطنَك ومسقطَ رأسك وتربة جدّك وأُمّك وأخيك؟ فأجاب الإمام (علیه السلام) في الوصيّة على هذا السؤال، على تفصيلٍ يأتي بعد قليلٍ إن شاء الله تعالى.

فالظاهر إنّ المقصود من «الخروج» هنا هو الخروج من المدينة على وجه الخصوص؛ للقرائن الحاليّة الحافّة بصدور النصّ، لا مطلق الخروج؛ لانتفاء المعنى الاصطلاحيّ من جهة، ولعدم تعيين الوجهة

ص: 251

الأخيرة في المسير من جهةٍ أُخرى، فالغاية المعلَنة هي مكّة فحسب، والكلام عن ««خرجتُ»» لا عن المكان الّذي سأقصده وأخرج إليه.

ويشهد لإرادة المعنى اللغويّ استشهاد الإمام (علیه السلام) بقوله تعالى: ﴿وَخَرَجَ مِنْها خَائِفَاً﴾ عند خروجه من المدينة، وغيره من الشواهد الّتي أتينا على ذكرها في بداية البحث.

المعنى الثاني: المعنى الاصطلاحيّ
اشارة

في (المِلل والنحل) للشهرستاني:

كلّ مَن خرج عن الإمام الحقّ الّذي اتّفقَت الجماعةُ عليه يُسمّى خارجيّاً، سواءً كان الخروج في أيّام الصحابة على الأئمّة الراشدين، أو كان بعدهم على التابعين بإحسانٍ والأئمّة في كلّ زمان ((1)).

والتعريف الّذي يذكره الشهرستانيّ إنّما هو على قواعد السقيفة وأُسسها، إذ عرّف الإمامَ الحقَّ بالإمام الّذي تتّفق الجماعة عليه، ولم يعرّفه بالإمام المنصوص عليه من الله المنصوب من قبل ربّ العزّة.

فالخارجيّ: هو مَن خرج وتمرّد على الحاكم مهما كان مادامت الجماعة قد اتّفقت عليه لأيّ سببٍ كان.. ولا نريد هنا اقتحام هذا الموضوع والخوض في تفاصيله وجزئيّاته، ويكفينا أنّنا عرفنا تعريف الخارجيّ.

ص: 252


1- المِلل والنحل للشهرستاني: 1 / 114.

فلا يمكن _ _ والحال هذه _ _ حمل «الخروج» في قوله (علیه السلام) : «وإنّي لم أخرج ... وإنّما خرجتُ» على المعنى الاصطلاحيّ المعروف الممسوح بشحنةٍ سياسيّةٍ فيما سبق ولحق، أي بما يسمّى اليوم في المصطلح السياسيّ والاجتماعيّ: التمرّد على الوضع القائم.. فالخروج يعني الانقلاب على الشرعيّة، والتمرّد على الحاكم الشرعيّ، واعتراض مسيرة الحكم والسلطان.وهذا ما لا يمكن تصوّره ولا تصويره في حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة، وذلك للموانع التالية:

المانع الأوّل: الإمام هو الشرعيّة

لا نريد الخوض في أبحاث عقائديّة، وقد عزمنا من أوّل البحث أن نستخدم الأدوات التاريخيّة والأحداث في الوصول إلى الغاية، لذا نكتفي هنا بالإشارة السريعة، بالخصوص أنّنا نخاطب العقل الشيعيّ في هذا البحث، وهو يُدرك ما نقول ويعرف الدليل عليه، وقد تحوّل عنده إلى بديهيّةٍ وضرورة من ضرورات المعتقد والإيمان..

فالمؤمن يعلم أنّ الحقّ مع الإمام المعصوم، يدور معه حيثما دار، والجماعة هم جماعة الحقّ وإن قلّوا، فلا معنى لإطلاق الخروج على الإمام المعصوم حينئذ، بل هو إطلاقٌ باطلٌ وحرام، يلزم منه الكفر والخروج عن الملّة! فكلّ سلطانٍ سوى سلطان الإمام المنصوب من الله زيفٌ باطلٌ وحقٌّ مغصوب، والأرض ومَن عليها ملكه وطوع إرادته وفي قبضته وطاعته.. فكيف يقول الإمام (علیه السلام) عن نفسه: «لم أخرج.. وإنّما

ص: 253

خرجتُ..»؟ فهل يعدّ الإمام (علیه السلام) نفسه خارجيّاً؟! حاشا لله!

المانع الثاني: لم يكن حديث «الخروج الاصطلاحيّ!!!» قد بانت لوائحه يومها

إنّ جميع ما بأيدينا من النصوص، وما توفّر لدينا من مصادر ومتون تاريخيّة، ونصوص مقدّسةٍ تعرّضت لنقل أحداث خروج سيّدالشهداء (علیه السلام) من المدينة، ورواية الظروف والمجريات بعد هلاك الطاغية المتفرعن والقرد المترهّل العجوز معاوية إلى خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة، لم تذكر حديث «الخروج الاصطلاحيّ»، وما يسمّونه الخروج على الوضع القائم والتعرّض للسلطة بقصد إسقاطها وقطع دابر الولاة والمتسلّطين على رقاب الناس يومها..

هذا حسب الفحص إلى يوم تسويد هذه الأوراق.

وكلّ ما وجدناه هو أنّ القرد المخمور المسعور يزيد تابع أباه الملعون في ملاحقة سيّد الشهداء (علیه السلام) وتخييره بين البيعة الذليلة ليزيد الخمور والفجور وبين القتل، ويأبى الله لخامس أصحاب الكساء أن يختار الدنيّة!

وإنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) كان مطلوباً مهدور الدم، فكان يريد النجاة بنفسه وأهل بيته بعيداً عن أعين الجبّارين البطّاشين والوحوش الكاسرة المتعطّشة لدمائه الزاكية، لئلّا تُهتَك به حرمة المدينة المنوّرة.

وهذا هو مفاد الأحداث والتصريحات والبيانات ومؤدّى الحوار الّذي دار بين سيّد الشهداء (علیه السلام) وأخيه ابن الحنفيّة، وقد أتينا على بيان ذلك

ص: 254

قبل قليل..

فلا الإمام (علیه السلام) قد صرّح بشيءٍ يفيد ذلك، ولا الآخرون فهموا ذلك، ولا محمّد ابن الحنفيّة نفسه فهم ذلك، وليس في الأرض بلدٌ يومها في شرق الأرض أو غربها _ لا الكوفة ولا غيرها _ كان قد كتب لسيّد الشهداء (علیه السلام) يدعوه للائتمام به والخروج الاصطلاحيّ بقيادته ضدّالجهاز الحاكم، بل كانت البلدان كلّها خانعةً خاضعة، قد أعلنت الطاعة وجدّدت البيعة، وحسبت كلّ مَن خرج عن ذلك قد فارق الجماعة وشقّ العصا..

ولا يمكن توظيف العامل الغيبيّ هنا، والقول بأنّ الإمام (علیه السلام) يُخبِر عن مستقبل حركته وقيامه وإن كان في المدينة؛ لأنّ إدخال العامل الغيبيّ في هذا البحث يقلب الموازين جميعاً، إذ لا يوجد في العامل الغيبيّ ما يشير إلى ما يسمّى «الخروج» بالمعنى الاصطلاحيّ، كما هو واضحٌ لمن قرأ النصوص المقدّسة والإخبارات الغيبيّة بشهادة سيّد الشهداء (علیه السلام) .

فإذا لم يكن حديث «الثورة = الخروج الاصطلاحيّ» هو المعنيّ بلفظ «الخروج» الوارد في الوصيّة، بغضّ النظر عن المانع الأوّل، فلابدّ أن يُحمَل حينئذٍ على المعنى اللغويّ.

المانع الثالث: الخروج فرية الأعداء

الخروج على السلطان.. الخروج على الجماعة.. شقّ العصا.. تفريق جماعة الأُمّة.. وغيرها من المصطلحات الّتي استخدمها جرذان السقيفة وقرود بني أُميّة في قلب الحقائق ولبس الدين لبس الفرو مقلوباً..

ص: 255

تسمعها بشكلٍ رتيبٍ متتالٍ متلاحقٍ في جميع لحظات مواجهة القرود المسعورة وعسلان الفلوات الساغبة لدماء الأبرار مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، منذ الساعة الأُولى الّتي تقبّض فيها أبيّ الضيم عن البيعة في المدينة، إلى خروجه من المدينة، إلى خروجه من مكّة، إلى مواقف وُلاة القردالمخمور في الكوفة النعمان وابن زياد وخطاباتهم وتهديداتهم لأهل الكوفة، إلى محاججة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) مع ابن الأَمة الفاجرة عُبيد القرود ابن زياد، إلى نزول سيّد الشهداء (علیه السلام) في كربلاء، ودخول السبايا مجلس ابن الأَمة الفاجرة، وطول طريق السبي من الكوفة إلى الشام، ومخاطبات القرد المخمور في مجلسه مع سبايا آل محمّد (صلی الله علیه و آله) ، وإلى يوم الناس هذا، حيث نسمعها من الأقذار المتعلّقة بذيول القرود الأُمويّة في عصرنا الراهن..

الجميع يفترون على سيّد الشهداء (علیه السلام) ويسمّونه وآله خوارج، ويكرّرون هذه الكلمة المُقذِعة الّتي يسيح منها الكفر والبغض والعداوة والشنئئان والحقد والضغينة على آل الرسول (صلی الله علیه و آله) .. رأس خارجيٍّّ خرج على يزيد.. سبايا خرج رجالهم على يزيد.. وغيرها من التعبيرات الّتي كانت ولا زالت تُستعمَل بكلّ وقاحةٍ وصلافةٍ وجرأةٍ على الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) .. ولا نريد الإطالة في ذكر النماذج والأمثلة للتدليل والاستشهاد على ما ذكرناه، إذ أنّنا نمشي مع الموضوع مسرعين نكتفي بقبسة العجلان، ونعلم أنّ المراجع لصفحات التاريخ يجد ما أشرنا إليه بسهولةٍ ويسر.

ص: 256

فهل يطلق سيّد الشهداء (علیه السلام) على نفسه ما يفتريه عليه عدوّه، ليكون له اعترافاً وإقراراً وتصديقاً لما يفتريه؟!

المانع الرابع: التعدّي ب-- (على)

عند تتبّع الاستعمال يُلاحَظ أنّ «الخروج» بمعناه الاصطلاحيّ يتعدّى ب- -(على)، فيقال: خرج على السلطان، أو على الحاكم، أو خرج على الخليفة، وخرج على الإمام، وهكذا..

ولافتراض التعدّي ب-- -(على) نحتاج إلى تقديرٍ تستقيم به الجملة، أي: «إنّي لم أخرج على السلطان.. وإنّما خرجتُ على السلطان» مثلاً، وهذا التقدير هو أوّل الكلام، وهو المطلوب إثباته.. فيما تكون العبارة مستقيمةً من دون الحاجة إلى تقديرٍ لو كان المقصود إنّما هو الخروج بالمعنى اللغويّ، فهو لم يخرج من المدينة أشراً، وإنّما خرج لطلب النجاح.. ولو احتجنا إلى قرينةٍ فتكفي فيه قرينة الحال والمقام.

وفي خروجه نفسه من المدينة إلى مكّة يتحقّق جميع ما ذكره صلوات الله عليه.

التلويح الرابع: ترابط الجملة

يلاحظ أنّ العبارة الواردة في الوصيّة متماسكة الأطراف، مترابطة الأجزاء، تأبى الاجتزاء الّذي ابتليت به من قِبل بعض المتعاملين معها، إذ أنّ الحصر الوارد فيها ب- -«إنّما» هو تفريعٌ على الجملة السابقة، وليس استئنافاً وحديثاً جديداً لا علاقة له بما سبقه..

وبعبارةٍ أُخرى: إنّ النفي الوارد في المقطع الأوّل قبل الحصر «لم أخرج

ص: 257

أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً» شرحَته الجملةُ اللاحقة بصيغة الحصر والإثبات، فما ورد في القسم الإيجابيّ من الجملة هو نفسه ما يشرح المنفيّ في قسم السلبيّ، فما نفاه (علیه السلام) في المقطع الأوّل أثبت ما يقابله في المقطع الثاني..

فلا يصلح _ والحال هذه _ رواية ما ورد في الوصيّة مجتزءاً، كأن يروى عنه من قوله:: «إنّما خرجتُ لطلب النجاح والصلاح..»؛ لأنّ هذه العبارة تعدّ شرحاً وبياناً وتتمّةً ومفسّرةً لما ورد من النفي في الجزء الأوّل منها: «إنّي لم أخرج..».

وهذا يعني أنّ شقَّي العبارة مترابط، يحكم الشقّ الثاني ما ورد في الشقّ الأوّل منها.

التلويح الخامس: التفهيم والتفسير ومعالجة الشبهة

من الواضح جدّاً للمتأمّل في هذا المقطع من الوصيّة أنّ الإمام (علیه السلام) ينفي جملةً من التهم والافتراءات الّتي يمكن أن تتوجّه إليه بسبب خروجه من المدينة ومغادرته وطنه ومسقط رأسه وتربة جدّه وأُمّه وأخيه، ثمّ يشرح موقفه والفائدة من خروجه ذاك.

فهو دفعُ دَخلٍ، ورفع إشكال، وبيان إعضال، فقد حارت العقول وذهلت الألباب وعجزت الحلوم عن إدراك خروجه، فمن قاسه بعقله هلك، ومن تعامل معه باعتباره فعلاً معصوماً سلّم له جعل يبحث له عن عللٍ ومسوّغاتٍ تبرّره، ومن تعامل معه بغير هذا الاعتقاد وهذه النظرة جعل يفسّره كما يحلو له ويجد له المخارج والمصحّحات، ومن

ص: 258

عامله بنظرةٍ دنياويّة محضة جعل ينظّر له ويستلهم منه، ومن نظر إليه بمنظار الأعداء أو من يرى القداسة في عدوّه فقط أو فيه وفي عدوّه على حدّ سواء، فربّما خطّأه واتّهمه وافترى عليه ولصق به زوراً وبهتاناً ما نفاه سيّد الشهداء (علیه السلام) عنه في الجزء الأوّل من العبارة..

فالعبارة بمجموعها من النفي والحصر تشرح موقف سيّد الشهداء (علیه السلام) وتبيّن الفائدة من خروجه من المدينة، وتنفي عن هذا الخروج ما يمكن أن يتّهم به لمن أدرك وقائع الخروج وشهدها أو لم يدركها ولم يشهدها وبقي الموقف عنده غامضاً مغبّشاً، فكان يظنّ أن لو بقي سيّد الشهداء (علیه السلام) في المدينة لَبقي في حرزٍ أمينٍ وأمانٍ وعيشٍ رغيد، لن يناله الأذى ولا يمسّه غلواء السلطان، ولا تزعزع عائلته وأهله المخاوف، وغيرها من التصوّرات الباطلة الّتي عرفنا بطلانها ومخالفتها لمجريات الأحداث، وقد ألحّ عليها بعضهم عند كلّ لقاءٍ مع الإمام (علیه السلام) كما فعل ابن عمر، إذ أنّ الإمام (علیه السلام) كان مهدور الدم مطلوب الرأس، خذله أهل المدينة شرّ خذلان، وتركوه وحده يعالج شراسة السلطان، ويقاوم ولع القرد المسعورر المخمور بدمه المقدّس الزاكي..

فكان ولا زال من يزعم أنّ في خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة أشر وبطر وإفساد وظلم، وتجاوز على السلطان والحكم والحاكم، وغيرها من التشويهات والتصويرات البائسة المريضة التافهة.. فأراد سيّد الشهداء (علیه السلام) أن يُفهِم مَن لم يفهم، ويبیّّن الحقيقة لمن لا يعلم، ويردّ على من اتّهم وزعم ما زعم، وأجاب كلّ من يريد أن يشوّه خروجه

ص: 259

ويتّهمه بهذه التهم الباطلة بنفيها عنه، وإثبات المصلحة في ما فعله، فداه العالمين..

فسيّد الشهداء (علیه السلام) وخامس أصحاب الكساء لم يكن بصدد بيان برنامج عمله الّذي من أجله خرج، وإنّما كان بصدد تفسير خروجه وتسويغه وتبريره، فهو في مقام الدفاع عمّا فعل، وإفهام الآخرين بأنّ في خروجه الصلاح والمصلحة والنجاح للأُمّة، وليس فيه فسادٌ ولا ظلم!

وهذه النكتة في غاية الأهمّيّة، وبها تكمن مفاتيح فهم الوصيّة، والبناء عليها والتعامل معها، ونمط التعامل معها ومعالجة ما ورد فيها.

ويمكن أن تختصَر بكلمة: إنّ النفي والحصر الوارد في العبارة الأُولى من الوصيّة، كمجموع، أي مجموع مفادّات النفي ومؤدّيات الحصر كلّها، كانت عبارةً عن تفسير وتفهيم وبيان للخروج من المدينة لمن لم يدرك ذلك، وليست هي عبارة عن برنامج عمل أراد سيّد الشهداء (علیه السلام) أن يقدّمه لمستقبل أيّامه وأيّام الأُمّة، وإنّما أراد أن يفهّم الأُمّة التي ستسأل، أو لا تكاد تفهم لخروجه سبباً، فيشوّش العدوّ عليها ويغذّيها بسمومه.. أراد الإمام (علیه السلام) أن يقدّم لها خروجه ويفسّره لهذه الأُمّة الّتي لا تعرف الإمام (علیه السلام) ، فهو يحكي ما مضى ويشرحه، لا أنّه يقدّم وصفةً لعمله وعمل الأُمّة في مستقبل أيّامها، لأنّهم ما كانوا يدركون لخروجه سبباً كما هو واضحٌ من تصريحات مثل ابن عمر وابن عباس، وكانوا يرون في مكثه في المدينة صلاحاً ونجاحاً له (علیه السلام) وللأُمّة.

ص: 260

وقد ذكرنا الشواهد الناهضة لهذا الفهم، ومنها كون النصّ وصيّة، والوصيّة لا تُفتَح إلّا بعد الموت، وأنّها وردت بلفط الماضي، إن كان في النفي أو الإثبات، فقوله: «لم أخرج» يفيد الماضي بحكم دخول «لم» على المضارع، فإنّها إذا دخلَت على المضارع أفادت الماضي، وكذا قوله في جملة الحصر «خرجت» بصيغة الماضي.. فهو يفسّر ما وقع ويشرح ما مضى، ولم يؤسّس للمستقبل!

التلويح السادس: معاني بعض المفردات المهمّة
اشارة

في النصّ بعض المفردات الدلاليّة المهمّة الّتي ينبغي أن تُشرَح ويُعرَف معناها اللغويّ قبل الدخول في بيان معنى الوصيّة، إذ إنّها تكشف الأبعاد المقصودة في الكلام عموماً وفي الوصيّة على وجه الخصوص.

المفردة الأُولى: الأشَر

الأَشَرُ: شدّة البطَر والفرح والنشاط، وأشر: بَطِر وكَفَر النعمة فلم يشكُرها، والفرح قد يكون من سرورٍ بحسب قضيّة العقل، والأَشَرُ لا يكون إلّا فرحاً بحسب قضيّة الهوى ((1)).

المفردة الثانية: البطَر

البطَر: شدّة النشاط والتبختر والتجبّر، وقلّة احتمال النعمة، وسوء

ص: 261


1- أُنظر: المفردات للراغب، لسان العرب، مجمع البحرين، المصباح المنير: مادّّة «أشر».

احتمال الغنى، والطغيان عند النعمة وطول الغنى، والدهش والحيرة، وبَطِرَ بالأمر: ثَقُل به ودَهِشَ فلم يَدْرِ ما يُقَدِّم ولا ما يؤخّر، والبطر في معنىً كالأشَرِ وغَمْطِ النعمة، يقال: بَطِرَ فلانٌ نعمةَ الله، أي: كأنّه مَرِحَ حتّى جاوز الشكر فتركه وراءه ((1)).

المفردة الثالثة: الفساد

الفسادُ: نقيض الصلاح، وتَفاسَدَ القومُ: تدابَروا وقطعوا الأرحام، والمَفْسَدَةُ: خلاف المصْلَحة، والاستفسادُ: خلاف الاستصلاح، فسّر الفساد بالقحط وقلّة الريع في الزراعات والبيوع ومحق البركات من كلّ شي ء، وقيل: هو قتل ابن آدم أخاه، ودم فاسد: أي ساقطٌ لا نفع فيه.

المفردة الرابعة: الظلم

الظُّلْمُ: وَضْع الشي ء في غير موضِعه. ومن أمثال العرب في الشَّبَه: مَنْ أَشْبَهَ أباه فما ظَلَم، قال الأصمعي: ما ظَلَم، أي ما وضع الشَّبَه في غير مَوْضعه، وفي المثل: مَن استرعى الذئبَ فقد ظلم، وأصل الظُّلم الجَوْرُ ومُجاوَزَة الحدّ، والظُّلْم: المَيْلُ عن القَصد، والعرب تقول: الْزَمْ هذا الصَّوْبَ ولا تَظْلِمْ عنه، أي لا تَجُرْ عنه، والظُّلْمُ: أخذك حقّ غيرك.

المفردة الخامسة: الطلب

الطَّلَبُ: مُحاوَلَةُ وِجْدانِ الشي ءِ وأَخْذِه. وطَلَبْتُ الشي ء أَطْلُبُهُ: أي أردته وابتغيتُه.

ص: 262


1- أُنظر: لسان العرب، وكتاب العين، ومجمع البحرين، وغيرها: مادة «بطر».
المفردة السادسة: النجاح

النُّجْحُ والنَّجاحُ: الظَّفَرُ بالشي ء. وقد أَنْجَحَ وقد نَجَحَتْ حاجتي وأَنْجَحَتْ وأَنْجَحْتُها لك، وأَنْجَحَها الله تعالى: أَسْعَفَني بإِدراكها. يقال: نَجَحَ فلان، وأَنْجَحَ، إذا أصاب طَلِبته، وقد أَنْجَحْتُ حاجَته إذا قضيتُها له، وتَنَجَّحْتُ الحاجةَ واسْتَنْجَحْتُها إِذا تَنَجَّزْتُها، ونَجَحَتْ هي ونَجَحَ أَمْرُ فلان: تَيَسَّرَ وسَهُل، وسار فلانٌ سيراً نَجِيحاً، أَي وَشِيكاً، وسَيرٌ ناجِحٌ ونَجِيحٌ: وَشِيك، ورجلٌ نَجِيحٌ: مُنْجحُ الحاجات، ورأْيٌ نَجِيحٌ: صواب.

المفردة السابعة: الصلاح

الصلاح: ضدّ الفساد، والإصلاح: نقيض الإفساد، والاسْتِصْلاح: نقيض الاستفساد، و«أَصْلَحَ:» أتى «بِالصَّلاحِ،» وَهُوَ الْخَيْرُ والصواب.

وفي (مجمع البحرين): قوله: ﴿أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ التأليف بينهم بالمودّة، وأَصْلَحَ الله المؤمن، أي: فعل تعالى بعبده ما فيه الصلاحُ والنفع، أَصْلَحْتُ بين القوم: وفّقت.

وفي الكتاب العزيز:

البقرة: ﴿وَإِذا قيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إنّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾.البقرة: ﴿ويَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ والله يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ولَوْ شاءَ الله لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ الله عَزيزٌ حَكيمٌ﴾.

ص: 263

النساء: ﴿لا خَيْرَ في كَثيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ومَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ الله فَسَوْفَ نُؤْتيهِ أَجْراً عَظيماً﴾.

الأعراف: ﴿وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها﴾.

هود: ﴿قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ورَزَقَني مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وما أُريدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُريدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وما تَوْفيقي إِلاَّ بِالله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإِلَيْهِ أُنيبُ﴾.

الحُجُرات:: ﴿وإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتي تَبْغي حَتَّى تَفي ءَ إِلى أَمْرِ الله فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وأَقْسِطُوا إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطين﴾.

الحُجُرات: ﴿إنّما الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ واتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾.

ومن نماذج الإصلاح في الحديث:

الكليني، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن حمّاد بن عثمان، عن الحسن الصيقل قال: قلتُ لأبي عبدالله (علیه السلام) :: إنّا قد روينا عن أبي جعفر (علیه السلام) في قول يوسف (علیه السلام) : ﴿أيَّتُها العِيرُ إنَّّكُم لََسَارِقون﴾َ، فقال:: واللهِ ما سرقوا،، وما كذب! وقال إبراهيم (علیه السلام) :: ﴿بَل فََعََلََهُ كَبيرُُهُم هَذا فَسْئَلوهُم إن كانُوا يَنطِقون﴾، فقال:: واللهِ ما فعلوا،، وما كذب! قال: فقال أبو عبد الله (علیه السلام) :: ما عندكم فيها يا

ص: 264

صيقل؟

قال: فقلت: ما عندنا فيها إلّا التسليم. قال: فقال: إنّ الله أحبّ اثنين وأبغض اثنين، أحبّ الخطر فيما بين الصفّين، وأحبّ الكذب في الإصلاح، وأبغض الخطر في الطرقات، وأبغض الكذب في غير الإصلاح، إنّ إبراهيم (علیه السلام) إنّما قال: ﴿بَل فََعََلََهُ كَبيرُُهُم هَذا﴾ إرادة الإصلاح، ودلالةً على أنّهم لا يفعلون، وقال يوسف (علیه السلام) إرادة الإصلاح.

الكافي، عنه، عن أبيه، عن صفوان، عن أبي مخلّّد السرّّاج، عن عيسى بن حسّان قال:: سمعتُ أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: كلّ كذبٍ مسؤولٌ عنه صاحبه يوماً، إلّا كذباً في ثلاثة: رجلٌ: كائدٌ في حربه فهو موضوعٌ عنه، أو رجلٌ أصلح بين اثنين يلقى هذا بغير ما يلقى به هذا يريد بذلك الإصلاح ما بينهما، أو رجلٌ وعد أهله شيئاً وهو لا يُريد أن يتمّ لهم ((1)).

الكليني، عن عليّ بن إبراهيم وغيره بأسانيد مختلفة رفعوه، قالوا: إنّماهدمت قريشُ الكعبة لأنّ السيل كان يأتيهم من أعلى مكّة فيدخلها، فانصدعت وسرق من الكعبة غزال من ذهب رجلاه من جوهر، وكان حائطها قصيراً، وكان ذلك قبل مبعث النبيّ (صلی الله علیه و آله) بثلاثين سنة، فأرادت قريش أن يهدموا الكعبة ويبنوها ويزيدوا في عرصتها، ثمّ أشفقوا من ذلك وخافوا إن وضعوا فيها المعاول أن تنزل عليهم عقوبة، فقال الوليد ابن المغيرة:: دعوني أبدأ، فإن كان لله رضىً لم يصبني شي ء، وإن كان غير ذلك كففنا. فصعد على الكعبة وحرّك منه حجراً، فخرجت عليه

ص: 265


1- الكافي: 2 / 342 ح 17.

حيّة وانكسفت الشمس، فلمّا رأوا ذلك بكوا وتضرّعوا وقالوا: اللّهمّ إنّا لا نريد إلّا الإصلاح، فغابت عنهم الحيّة، فهدموه ونحّوا حجارته حوله حتّى بلغوا القواعد الّتي وضعها إبراهيم ((1)).

التلويح السابع: موارد الاتّهام المردودة في الوصيّة

ماذا كان يقابل الخروج من المدينة؟!

لو لم يخرج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة، فما هي الخيارات المتاحة الّتي يمكن أن يأخذ بها _ والكلام دائماً حسب البحث التاريخيّ فقط _ ؟

الجواب الجاهز الواضح لهذا السؤال: أن يكون الإمام مخيَّراً _ وفق سلوكيّات القرد المخمور _ بين خيارين لا ثالث لهما: إمّا أن يبايع، أو أن يُقتَل.. الخيار بين السلّة والذلّة.. وهو لا يُقتل إلّا أن تكثر القتلى بينالطرفين، إذ يأبى الله له أن يختار الدنيّة، ويأبى سيّد الشهداء (علیه السلام) أن يعطي بيدهه إعطاء الذليل ((2)).

وهذا ما عجزت عنه العقول والأوهام والأحلام أن تدركه وتعيه وتستوعبه، فظنّ الناس _ سيّما مَن لا يعتقد بعصمة الإمام (علیه السلام) وإمامته _ أنّ عمله هذا غير مبرّر، ويلزم منه ما سينفيه من محاذير في متن الوصيّة.

فقد بايعت الأُمّة جمعاً في شرق الأرض الّتي يقطنها المسلمون يومها

ص: 266


1- الكافي: 2 / 217 ح 4.
2- نرجو أن لا يتعب المتابع من تكرار هذه الخيارات طيلة البحث، لأنّها العماد الّذي قام عليه، فلابدّ أن يتكرّر في كلّ مفصلٍ من مفاصله.

وغربها، ولم يبقَ من البلدان بلادٌ إلّا وقد خضعَت وخنعَت وأعلنت الطاعة، وما يسمّونه بلزوم الجماعة، فلماذا يخرج الإمام الحسين (علیه السلام) تاركاً المدينة إلى مكّة؟

فإنّ التقبّض عن البيعة ورفضها بالكامل واختيار القتل عليها، لا يهضمه الجاهلون ولا يدركه العالمون، فهم يرونه في حساباتهم الباطلة أشراً وبطراً وإفساداً وظلماً..

وهذه التهم الأربعة البائسة والتصوّرات الفاسدة قالها وتصوّرها الكثيرون ممّن عاصر الإمام (علیه السلام) ، والكثيرون ممّن لحق إلى يوم الناس هذا، وقد عبّروا عنها بتعابير مختلفة، فمنهم من صرّح بذلك ومنهم من لوّح، سواءً كان من الأصدقاء أو من الأعداء أو من المقرّبين أو من المبعّدين.

وقد تبيّن لنا في التلويح السابق معنى الكلمات التي ذكرها الإمام:«الأشر، البطر، الفساد، الظلم»..

وهي عناوين أربعة دأب الخصوم والجهلة من المعاصرين ومَن تبعهم إلى اليوم على ذكرها، وقد حصر الإمام (علیه السلام) جميع ما يمكن أن يقال أو يفسّر به خروجه أو يختلج في صدرٍ لم يفقه ما فعله الإمام (علیه السلام) ، فهي عناوين جامعة شاملة تستوعب أيّ تصوّر أو تفسير أو تهمة وافتراء يمكن أن يُرمى به خروجه من المدينة ورفضه للبيعة..

فلا يقال عنه: إنّه كان أشراً أو بطراً _ والعياذ بالله _، وإنّه كان في راحة بالٍ وسعة حالٍ يبحث عن المغامرة ويرتكب المخاطرة، لأنّ النعمة

ص: 267

قد أطغته وفراغ البال قد دعاه لركوب أمواج الفتن والتفنّن في تذوّق المحن، والخروج من السرّ الّذي يجعله مجهولاً مغموراً إلى العلن والتعريف باسمه والتنويه بموقفه ودعوة الناس إلى الإشادة به..

إنّه ليس مغامراً، كما يعبَّر عنه في هذا الزمان، وليس ممّن يبحث عن المواقف الصعبة ويهوى المجازفة وتستخفّه المخاطرة..

كما إنّه لم يكن في خروجه هذا مُفسِداً للأُمّة، ولا مفسداً للمجتمع، ولا مفسداً كما هم المفسدون الخارجون عن القانون، الباحثون عن الهرج والمرج وإرباك الأمن الاجتماعيّ، وطلّاب الجاه والوجاهة والدنيا ولو مزّق النسيج الاجتماعيّ وسلب الأمن والأمان من الناس..

هكذا يُتّهم خامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) ، وقد تعاملوا ولا زالوا يتعاملون معه بهذا النفَس الّذي يُزكم بخره الأُنوفَ والأرواح، إذ قالواويقولون عنه: إنّه شقّ العصا، وفرّق الجماعة، وتمرّد على السلطان، وورّط الناس، وأجبر الحاكم على قتله لأنّه نازعه سلطانه، وهو يعلم أنّه لا يبلغ ذلك، وفي هذا فساد الأُمّة وإفسادها، وشقٌّ لعصا الأُمّة ...

فردّ سيّد الشهداء (علیه السلام) على هذه الطائفة من الجهلة وقاصري النظر والعتاة والأوغاد والطغاة والمتمرّسين في قلب حقائق الدين والأخلاق والقيم..

تماماً كما ردّ (علیه السلام) على مَن زعم زُوراً أنّ في رفضه للبيعة وخروجه من المدينة تجنّباً لإراقة الدم الحرام فيها وهتك حرمتها ظلماً، فأجابهم أن ليس في خروجه هذا تجاوزاً للحدّ ولا وضعاً للشيء في غير موضعه، وإنّما

ص: 268

هو ذات العمل بحدود الله وهو عين الحكمة والصواب.

ولا نحسب أنّنا نحتاج _ ونحن نقصد الاختصار وتناول الموضوع على عجل _ إلى ذكر الشواهد والأدلّة والأقوال من المعاصرين للإمام (علیه السلام) ومن تبعهم إلى اليوم، ممّن اجترأ ووصف خروج الإمام (علیه السلام) بما نفاه هو عن نفسه (علیه السلام) .

فكأنّ لسان حال القوم مَن صرّح منهم ومن لم يصرّح: لماذا يخرج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة؟ فليبقَ فيها ويناول ويبايع ويدخل فيما دخل فيه الناس طرّاً، فلا يعرّض نفسه للقتل ولا الهجرة والتشريد، أمّا وقد أبى فخروجه إإذن یكون أشراً وبطراً أو فساداً وظلماً _ والعياذ باللهمن هذا القول _ ..

فردّ سيّد الشهداء (علیه السلام) على هؤلاء بهذه الوصيّة؛ ليفهمهم أنّ خروجه ليس كما يزعمون!

التلويح الثامن: الحصر تفسيرٌ للنفي
اشارة

لمّا لم يكن خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة أشراً ولا بطراً ولا إفساداً ولا ظلماً، فهو خروجٌ حكيمٌ موزونٌ مدروسٌ وفق الموازين الشرعيّة على كلّ المباني والمعتقدات.

لذا جاءت جملة الحصر بعد النفي هنا؛ لتبيّن هذه الحقيقة، وتشرح أنّ الخروج الّذي نفيَت عنه تلك الأوصاف يتّصف بالأوصاف المذكورة في جملة الحصر.

فجاءت عبارة الحصر لتفسير الخروج نفسه، ويمكن أن نفهم الحصر

ص: 269

على أحد الوجوه:

الوجه الأوّل:

أن يكون الحصر خاصّاً بما جاء بعده على نحو الخصوص.. «لطلب النجاح والصلاح»، وما تلا هذه الجملة كلّه يكون شرحاً لها وتفصيلاً لإجمالها، فيكون المعنى حينئذ:

إنّي إنّما خرجتُ لطلب النجاح والصلاح، وسأطلب النجاح والصلاح بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..

الوجه الثاني:

أن تكون فقرات الجملة كلّها مورداً للحصر كلٌّ على حِدة، أي: إنّما خرجتُ لطلب النجاح والصلاح، ولطلب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهكذا.

الوجه الثالث:

أن يكون الحصر خاصّاً بطلب النجاح والصلاح، وما بعدها يكون عملاً جديداً يريد أن يقوم به، ويشهد له اختلاف الفعل واختفاء العطف.. «طلب، أُريد، أسير».. رغم أنّ المعنى قد يكون واحداً في الفعلين الأوّلَين، بيد أنّ التغيير له دلالاته.

التلويح التاسع: التقابل بين النفي والحصر

يُلاحَظ أنّ الموارد الّتي نُفيَت في أوّل الكلام ترتبط ارتباط تقابلٍ مع الموارد الّتي وردَت في جملة الحصر.

ص: 270

فقد نفى في أوّل الكلام أن يكون خروجُه أشراً أو بطراً، وأثبت مقابله أنّه خرج لطلب النجاح والصلاح..

ونفى أن يكون في خروجه مُفسِداً، وأثبت بإزائه أنّه يريد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

ونفى أن يكون في خروجه ظالماً، وأثبت في مقابله أنّه يسير بسيرة جدّه وأبيه والخلفاء الراشدين!فالأشر البطر ليس له هدفٌ معقولٌ منطقيّ، وهو عبثيّ لا يروم من عمله سوى المغامرة وركوب الأهوال واستشعار لذّة المخاطرة، وحبّ المغامرة يأتي من الفراغ والشبع والطغيان على النعمة بعد الاستمكان منها.. وهذا ما نفاه سيّد الشهداء (علیه السلام) عن حركته وخروجه من المدينة..

وأثبت في مقابله أنّ الخروج له هدفٌ محدَّد، ويقصد النجاح والصلاح، فليس هو أشِرٌ ولا بطر، وليس في خروجه شقٌّ للعصا ولا تفريقٌ للأُمّة، وفق معنى الصلاح الّذي ذكره الطريحي في (المجمع): ﴿أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾: التأليف بينهم بالمودّة، وأَصْلَحَ الله المؤمن: أي فعل تعالى بعبده ما فيه الصَّلاحُ والنفع، أَصْلَحْتُ بين القوم: وفّقت.

ثمّ ذكر الإفساد، وقابله بما يصلحه ويعالجه ويقضي عليه، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو أهمّ وأعظم وأقوى الوسائل الفاعلة لمحاربة الفسادد والقضاء عليه، فدواء الفساد والوصفة الناجعة لمعالجته إنّما يكون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..

ثمّ ختم بنفي الظلم، والظلم: هو مجاوزة الحدّ والميل عن القصد ووضع

ص: 271

الشيء في غير موضعه وأخذ حقّ الغير.. وقابله بأنّه لم يفعل شيئاً ممّا يعنيه الظلم، لأنّه إنّما يخرج عملاً بسيرة النبيّ (صلی الله علیه و آله) والوصيّ (علیه السلام) والخلفاء..

ومَن سار بهذه السيرة فهو ليس ظالماً ولا متجاوزاً للحدّ ولا معتدياًعلى حقّ أحد..

وبهذه المقابلة يمكن أن يفكّ لغز استعمال «الخلفاء الراشدين»، حيث يُقال باختصارٍ شديد:

إنّ مَن يعتقد بسيرة النبيّ (صلی الله علیه و آله) والوصيّ (علیه السلام) ، يرى خروج الإمام (علیه السلام) موافقاً لها، ومَن يعتقد بسيرة الخلفاء يرى ذلك أيضاً، فخروجه (علیه السلام) موافقٌ لسيرة الماضين حقّاً كانوا أو باطلاً.. فهو لم يظلم بخروجه على كلّ تقديرٍ ووفق أيّ اعتقاد، وتقبّضه عن البيعة للقرد المخمور الّذي سلّطه بالقهر والجور أبوه على رقاب المسلمين لا يحيد عن سيرة حتّى الخلفاء الّذين سبقوه الّذين يصفهم الناس ب-- «الراشدين».. وبهذا أقام سيّد الشهداء (علیه السلام) الحجّة على العالمين، لا يخرج عن دائرة إلزامه أحدٌ من المؤمنين وممّن تسمَّوا بالمسلمين!

التلويح العاشر: معنى عبارة الحصر
اشارة

يمكن أن نفهم ما ورد من دلالاتٍ سوّرها الحصر من خلال التلميحات التالية:

التلميح الأوّل: اتّحاد الخروج

ص: 272

ربّما تكشّف لنا من خلال ما ذكرناه آنفاً أنّ الخروج المنفيّ هو نفسه الخروج الوارد في الحصر، فهو (علیه السلام) نفى خصالاً عن خروجه منالمدينة، وأثبت خصالاً لنفس ذلك الخروج من المدينة، ولم يقصد خروجاً آخر في قوله: «وإنّما خرجتُ لطلب..».

وهذا التلميح في غاية الأهمّيّة؛ لأنّ أخذه بنظر الاعتبار يجعل الحديث محصوراً عن الخطوة الأُولى من خطوات الحركة الحسينيّة كحركة انتقالٍ جغرافيّ ومغادرة بلد والاتّجاه نحو بلدٍ آخَر بعينه، ولا يشمل والحال هذه الحديث عن مجمل الخروج والانتقال.

ولو تسامحنا في الاستعمال وعمّمنا الخروج في الموضعين، وقلنا إنّ المقصود هو مطلق خروجه (علیه السلام) ، فإنّه يبقى المعنى لا يتجاوز إرادة حركة الانتقال الجغرافيّ والسير في الأرض حيثما كانت الوجهة، إن مكّة أو غيرها ممّا سيليها من البلدان بما فيها العراق.

التلميح الثاني: اتّصاف نفس الخروج بالخصال المذكورة

في مواجهة مَن زعم أو اتّهم أو سيفتري ويتّهم في المستقبل، ويُخضع عمل سيّد الشهداء (علیه السلام) للسؤال والتشكيك بجدوى مغادرة المدينة، لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ البقاء فيها والمناولة أسلم وأحكم وأبلغ في التأثير، وأتمّ وأكثر احتياطاً للدين ولشؤون المسلمين وحفظ عصاهم من الانشقاق وكلمتهم من الاختلاف، والحيلولة دون تجرّأ القرود على الدماء المقدّسة ومحاولة إبقاء سيّد الشهداء (علیه السلام) على قيد الحياة، لئلّا تأخذه سيوف الظالمين والمعتدين، كذا كانوا يزعمون، ولا يزالون..

ص: 273

في مواجهة هذا النمط البائس من التحليل والتفسير والتشخيص العليلالكليل المريض العاجز الفاشل، سطّر سيّد الشهداء (علیه السلام) في وصيّته ما يدفع عن هذا الخروج بالذات، وبيّن لهم أنّ ذات هذا الخروج والانتقال الجغرافيّ من بلدٍ إلى بلدٍ فيه هذه الخصال..

ففي خروجه هذا يتحقّق النجاح والصلاح للأُمّة، وفي خروجه هذا يتحقّق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي خروجه هذا يقيم السنّة ويتحقّق السير بسيرة النبي (صلی الله علیه و آله) والوصيّ (علیه السلام) ..

فنفس الخروج نجاحٌ وصلاحٌ وأمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر وسيرٌ بسيرة النبيّ (صلی الله علیه و آله) والوصيّ (علیه السلام) ..

فالحديث ينصبّ _ أوّلاً وبالذات _ على هذه الحركة الجغرافيّّة، وأنّ الخصال المذكورة تتحقّق بهذا الفعل الخارجيّ الّذي عزم عليه الإمام (علیه السلام) ومضى فيه، وأنّ مجرّد الخروج يفي بالمقصود.

ويشهد لذلك _ بالإضافة إلى ما مرّ _ قوله (علیه السلام) : «وأسير بسيرة جدّي ...»، ولم يقل: أسير فيكم.. فهو لا يريد _ حسب هذا الفهم من السياق _ أن يسير بسيرة جدّه بالتعامل مع أحد، وإنّما يريد أن يسير هو بنفسه بسيرة جدّه ويقيمها بفعله الخاصّ، وهو (الخروج) هنا، لا أنّه يريد أن يقيمها بين الناس بأفعالٍ تأتي فيما بعد.

وربّما يفهم من ذلك معنى «طلب النجاح والصلاح»، بل حتّى معنى «طلب الإصلاح»، فالإصلاح هو التوفيق وردم الخلاف أيضاً.

فيكون فعل المضارع «أُريد» و«أسير» للدلالة على الحاضر الحاصل

ص: 274

بعد الخروج، لا للدلالة على المستقبل القريب أو البعيد.

وبكلمة: فإنّ الخروج من المدينة تترتّب عليه هذه الخصال ويُنتِج هذه الفوائد والثمار.

التلميح الثالث: خرج ليحقّق الغرض

يمكن أن تُفهَم العبارة بفهمٍ آخَر، بأن يقال: إنّ ما بعد الحصر ورد كتعليل للخروج، على نحو العلّة الغائيّة، والفرق بين هذا التلميح والتلميح السابق أنّ التلميح السابق كان يفسّر نفس الفعل، فيما يرتّب هذا التلميح الخصال المذكورة كمعلولاتٍ مستهدفةٍ مقصودةٍ من الخروج، لا أنّها تتحقّق بمجرّد حصول الخروج..

فالإمام (علیه السلام) يذكر أنّه إنّما ترك وطن جدّه وغادر إلى مكّة، ليطلب ويبحث عن النجاح والصلاح لهذه الأُمّة، إذ لا يمكن أن يحقّقها في المدينة، وكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. فهو خارجٌ لأداء ما لم يتحقّق بالبقاء في المدينة، كأن يكون حضوره في مكّة يوفّر له فرصة الإصلاح والأمر بالمعروف مثلاً، بل مطلق الخروج، سواءً كان إلى مكّة أو غيرها من البلدان.

التلميح الرابع: الخروج بمعنى الحركة المعارضة

لو فرضنا أنّ معنى الخروج هنا هو «المعنى الاصطلاحيّ» الخاصّ، أي: إنّما قمتُ للمعارضة ومواجهة النظام الحاكم وغيرها من المؤدّيات الراشحة عن المعنى المصطلح..

فإنّ هذا المعنى لا يستقيم مع سياق الوصيّة السابق، ولا ينسجم مع سياقها اللاحق.

ص: 275

أمّا عدم الاستقامة مع السابق، فقد مرّ الحديث فيه بلحاظاتٍ شتّى وعباراتٍ مختلفة، وعرفنا ثمّة أنّ الخروج يأبى تفسيره بالمعنى المصطلح والمواجهة للنظام.

وأمّا عدم الانسجام مع اللاحق، فإنّ الوصيّة تتحدّث عن جملةٍ من الشعارات الّتي رُفعَت _ حسب هذا الفهم _ كطلب النجاح والصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة سيرة النبيّ (صلی الله علیه و آله) والوصيّ (علیه السلام) ، بيد أنّها تستمرّ لتبيّن الخيارات المترتّبة على قبول الآخر أو ردّه.

وليس في أيّ خيارٍ منها ذكرٌ أو إشارةٌ أو تصريحٌ أو تلويحٌ أو أيّ دلالةٍ ظاهرة أو باطنة تفيد أنّ المواجهة أو مقابلة السلطة أو الحكّام سواءً كانوا محلّيّين أو رؤوس السلطة بالقوّة والحرب والنزاع المسلّح والتهديد بالإبادة والسحق والإسقاط وغيرها من لوازم الخروج المصطلح.. إذ إنّه جعل ما يقابل الشعارات فرض قبولها، لأنّها الحقّ، أو ردّها فهو يصبر، كما سيأتي بعد قليل.

التلويح الحادي عشر: الخيارات على فرض القبول والردّ
اشارة

هكذا شرح الإمام _ وفق الوصيّة _ موقفه وفسّر خروجه من المدينة كإجراءٍ تلا ما جرى عليه في المدينة، ثمّ قال بعد ذلك:فمَن قبلني بقبول الحقّ فالله أَولى بالحقّ، ومن ردّ علَيّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ، ويحكم بيني وبينهم بالحقّ وهو خير الحاكمين.

بعد أن تبيّنت المسوّغات الكافية لخروجه من المدينة، افترض

ص: 276

الإمام (علیه السلام) أنّ الناس سيكونون على صنفين في طريقة تعاملهم معها واستيعابهم وإدراكهم وتفهّمهم:

الصنف الأوّل: مَن يقبل
اشارة

نحاول استجلاء ما تضمّنَته هذه العبارة من الوصيّة من خلال الإشارات التالية:

الإشارة الأُولى: مَن قبلني

في تعبير الوصيّة إشعارٌ يحسن الالتفات إليه، إذ إنّ الوصيّة نفَت ما نفَت وأثبتَت ما أثبتَت، وفيها ركنٌ مهمّ من أركانها، وهو كاتب الوصيّة نفسه، وكان بالإمكان أن يقول الإمام (علیه السلام) : فمن قبل منّي أو من قبل ما جئتُ به وذكرته كتفسير أو كأهداف لخروجي، بيد إنّه ركّز هنا على قبوله هو بشخصه صلوات الله عليه: «قبلني»، وفرّع بالفاء على ما سبق، ولم يقل: قبل ما أقول.. فالقبول والردّ عليه يتعلّق به شخصيّاً، وإن كان باعتباره قد صرّح بقصده لتلك الأهداف والأغراض الّتي رتّبها على خروجه، فمحور الوصيّة الذات المقدّسة المتمثّلة بسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهذا الوجود الخارجيّ المقدَّس، إإمّا أن يُقبل هو الحسين (علیه السلام) أو يُردّعليه.

الإشارة الثانية: الإمام هو الحقّ

يبدو أنّ «الباء» في قوله: ««بقبول الحقّ»» باء السببيّّة، أي: مَن قبلني بسبب قبوله للحقّ، إذ إنّ الإمام (علیه السلام) هو الحقّ بعينه، يدور معه الحقّ (علیه السلام) حيثما دار، فمن يقبل الحقّ فإنّه لا شكّ سيقبل الإمام (علیه السلام) ،

ص: 277

ومَن قَبِل الإمام (علیه السلام) فإنّه لا محالة يكون قد قبل الحقّ..

فالإمام (علیه السلام) هو الحقّ، وما جاء به هو الحقّ، ومن قبله إنّما قبل الحقّ.

الإشارة الثالثة: الله أَولى بالحقّ

قال (علیه السلام) :: فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أَولى بالحقّ..

يمكن أن تُفهَم العبارة بأحد فهمين:

الفهم الأوّل:

الإمام هو الحقّ المطلَق الّذي لا يشوبه الباطل أبداً، فمن قبله إنّما يقبله بسبب قبوله الحقّ، فمن يقبل الحقّ يقبل الإمام، ومن يقبل الإمام إنّما هو قبل الحقّ، إذ إنّ الحقّ يدور معه حيثما دار.. والله هو الحقّ، ومَن أَولى من الحقّ بقبول الحقّ.

الفهم الثاني:

إنّ الإمام هو الحقّ، ومن يقبله إنّما يقبل الحقّ لأنّه يتّبعه، والله أَولىبقبول الحقّ.. إلى هنا يشترك الفهمان، ويفترق هذا الفهم من حيث النتيجة اللازمة، فكأنّ الإمام يقول: إنّما خرجتُ خروجاً حقّاً، والله أَولى بقبول الحقّ منّي، فإذا قبلني الله فلا تأخذني بعد ذلك لومة لائم ما ضمنتُ رضى الله برضاه للحقّ، ومن قبلني من بعد فإنّما يقبل الحقّ ويتّبعه.

المهمّ أن يقبلني الله، فإن قبلني الله فليس لغيره عندي أثر.

وقد فسّر الإمام جوانب الحقّ في خروجه، فمن قبل فلنفسه، ومَن أبى

ص: 278

فإنّ الله أَولى بقبوله وهو الغاية والمبتغى، ولا قيمة لرضى غيره وسخطه وقبوله وردّه وتفهمّه وعدم إدراكه إن كان لا يأتي في طول رضى الله تبارك وتعالى.

* * * * *

كيف كان، فإنّ هذا الصنف يقبل الإمام لقبوله الحقّ، والله أَولى بالحقّ، فالله أَولى بقبول الإمام، وإذا قبل الله استغنى عن غيره.. ويكون هذا الصنف من الفائزين، لأنّه قد قبل ما قبله الله.

الصنف الثاني: مَن لم يقبل
اشارة

نحاول استكشاف ما ورد في هذه الفقرة الّتي تُعدّ من أهمّ فقرات الوصيّة، بل لعلّها هي الأهمّ على الإطلاق، لأنّها تحكي وتعلن عن الموقف النهائيّ والنتيجة الّتي تحسم الموقف وتُنهي المشهد، وتسلك المقدّمات في خيطٍ يربطها بالنتيجة المتوخّاة، وسوف نتناولها من خلالالإضاءات التالية:

الضوء الأوّل: تقابل القبول والردّ

قال قبل قليل: «مَن قبلني»، ويقول هنا: «ومَن ردّ علَيّ».. ولم يقل: مَن ردّني، فهو الحقّ والحقّ لا يُردّ، وهو الإمام، وليس للناس أن يردّوه وقد نصبه الله وعيّنه.

أجل! ربما ردّ عليه المبطلون العتاة المردة العصاة الجحدة.

الضوء الثاني: ارتباط الصدر والذيل

ربّما كان من الأنسب أن يقدَّم هذا الضوء في بداية التلويح الحادي

ص: 279

عشر، وقد أشرنا إليه إجمالاً فيما سبق في المقدّمات، بيد أنّنا ذكرناه هنا للأهمّيّة ولارتباطه الوثيق بهذه النتيجة المفاجئة.

إنّ فرضَي القبول والردّ المنصوص عليها في هذه الوصيّة يترتّب على ما ذكره سيّد الشهداء (علیه السلام) في وصيّته، أي إنّه أبان علل خروجه وفسّره، ثمّ جعل يقسّم الناس إلى صنفين في تعاملهم مع ما قاله في الوصيّة، فهم إمّا في صنف من قَبِلَه، أو في صنف من ردّ عليه، والمقصود ردّ ما كشف عنه من أغراض لخروجه.

فلا يمكن _ والحال هذه _ أن يُبتَر الصدرُ عن الذيل، أو يُفترَض أنّ هذا الكلام مُستأنَفٌ لا علاقة له ولا ارتباط بما سبق، وإنّما هو كلامٌ مترابطٌ متماسكٌ محبوكٌ تمتدّ وشائجه لترسم موقفاً واحداً لسيّدالشهداء (علیه السلام) منذ خروجه لهذه الأغراض إلى موقفه وتعامله مع الناس على اختلافهم في ردود أفعالهم في القبول والردّ..

وقد ذكر _ قبل قليل _ موقفه ممّن قَبِلَه، وقال: إنّه يقبله بقبول الحقّ، والله أَولى بالحقّ..

وهنا يذكر موقفه ممّن يردّ عليه ولا يقبله، ويشهد له قوله: «مَن ردّ علَيّ هذا»، إذ جاء باسم الإشارة للدلالة على ما قال.

الضوء الثالث: معنى الصبر

في كتاب (العين): الصبر نقيض الجزع.

وفي (المجمع): الصبر وهو حبس النفس عن إظهار الجزع. وعن بعض الأعلام: الصبر حبس النفس على المكروه امتثالاً لأمر الله تعالى،

ص: 280

وهو من أفضل الأعمال.

وفي (اللسان) و(النهاية): في أسماء الله تعالى: (الصَّبُور)، هو الّذي لا يُعاجِل العصاة بالانتقام، وهو من أبنية المبالغة، ومعناه قريبٌ من معنى الحَليم، والفرق بينهما أنّ المذنب لا يأمن العقوبة في صفة الصبور كما يأمنها في صفة الحليم.

الضوء الرابع: تقابل الردّ والصبر

يبدو أنّها مفاجأةٌ غير محسوبة،، ومباغتة غير متوقّعة، وأخذة سريعة خاطفة، وانفراج بعد كظمة حبست الأنفاس في الصدور، وإيقاع يدعو القارئ إلى الاستبطان العميق والتفكّر البعيد، وخاتمة تُشعِر الإنسان بلوعةٍتذوب لها القلوب وتغرق لها الآماق بالدموع، واستشعار يحكّ في أعماق الصدور جروحاً صكّ عليها الملح من المظلوميّة الّتي تبهر الأنفاس بشهيق البكاء وتدمي الحناجر بخناجر الغصص..

خرجت.. وأبنت.. وفسّرت.. وطلبت النجاح والصلاح.. وأرادت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وعزمت على السير بسيرة النبيّ (صلی الله علیه و آله) والوصيّ (علیه السلام) .. فمن ردّ علَيّ.. أصبر!!

من ردّ علَيّ.. أُواجهه.. أُحاربه.. أُقاتله.. أقتله.. أمحقه.. أكرهه؟!

خرجت لأُقاتل من أجل ما شرحت؟

مَن فسّر الخروج بمعناه الاصطلاحيّ، الخروج ضدّ الطغيان ومواجهة السلطان، يجد في هذه النهاية مفاجأة مروّعة.

مشهد ينتهي بغصّةٍ واحتمالٍ لا توصف صعوبته، ولا تبتلع غصّته،

ص: 281

إذ إنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) ختم الموقف بالصبر.. مَن ردّ علَيّ أصبر!

لقد عرض سيّد الشهداء (علیه السلام) ما عنده وقدّمه بوضوحٍ وبلاغةٍ وفصاحةٍ معهودة في أهل البيت (علیهم السلام) ، فمن قبله بقبول الحقّ فالله أَولى بالحقّ، ومن ردّ عليه، فقد أدّى ما عليه، وسيواجهه بالصبر!

من ردّ علَيّ أصبر.. أصبر.. أصبر..

لقد عزم سيّد الشهداء (علیه السلام) على الصبر عن القوم حتّى يقضي الله بينه وبينهم، بيد أنّهم عاجلوه ولم يصبروا عليه.. عزم على الصبر وصبر، ولکنّّهم استعجلوا قتله ولم يصبروا..لم يقل: ومَن ردّ علَيّ فإنّي سأُقاتله وأقتله وأقضي عليه وأحكم عليه.. وإنّما قال: أصبر!

يبدو أنّ علينا أنّ نصبر أيضاً ولا نتعجّل.. نصبر ولا نكمل الحديث، فالصبر على هاتا أحجى!

الضوء الخامس: أمد الصبر

لقد ذكرت الوصيّة أمدَين يكاد يكون أجلهما واحد، إذ إنّ الحكم هو نتيجة القضاء:

حتّى يقضي [الله] بيني وبين القوم بالحقّ، ويحكم بيني وبينهم [بالحقّ]، وهو خير الحاكمين.

متى سيقضي الله بينه وبينهم، ويحكم؟ في الدنيا؟ في الآخرة؟ في الدنيا والآخرة؟ العبارة مطلَقة تشمل الجميع، والله العالم.

ما هو القضاء؟ وكيف قضى ويقضي؟ وما هو الحكم الّذي حكم به

ص: 282

ويحكم وهو خير الحاكمين؟ هذا ما يحتاج إلى بحثٍ مفصَّلٍ مستقلّ لا يسعه هذا المختصر.

الضوء السادس: الصبر بمعنى القتل!

في (لسان العرب):

الصَّبْرُ: نَصْب الإِنسان للقَتْل، فهو مَصْبُور. وصَبْرُ الإِنسان على القَتْل: نَصْبُه عليه، يقال: قَتَلَه صَبْراً، وقد صَبَره عليه.

ورجل صَبُورَة _ بالهاء _ : مَصْبُورٌ للقتل، حكاه ثعلب. وفي حديثالنبيّ (صلی الله علیه و آله) أنّه نهى عن قَتْل شي ءٍ من الدوابّ صَبْراً، قيل: هو أَن يُمْسك الطائرُ أو غيرُه من ذواتِ الروح يُصْبَر حَيّاً ثمّ يُرْمَى بشيءٍ حتى يُقْتَل. قال: وأصل الصَّبْر الحَبْس، وكلّ مَن حَبَس شيئاً فقد صَبَرَه، ومنه الحديث: نهى عن المَصْبُورة، ونَهَى عن صَبْرِ ذِي الرُّوح، والمَصبُورة الّتي نهى عنها هي المَحْبُوسَة على المَوْت، وكلّ ذي روحٍ يصبر حيّاً ثمّ يُرمى حتّى يُقتَل، فقد قُتِل صبراً.

فربّما يقال: قوله: أصبر، يعني أصبر للقتل..

بيد أنّه لا يستقيم، إذ أنّ السياق لا يساعد عليه بتاتاً، وهو معنىً أجنبيّ لا ينسجم مع استرسال العبارة.. هذا من جهة.

ومن جهةٍ أُخرى: ينبغي أن يُقرأ بضمّ الهمزة: «أُصبر»؛ لتعطي المعنى المذكور، وهو غريب، باعتبار أنّ هذه القراءة لا تنسجم مع السياق، ولم يعهد أنّ أحداً من الأوّلين والآخرين قرأها بهذه القراءة، وباعتبار أنّ هذه الصيغة لم تعهد في الاستعمال، لأنّ الصبر هنا صفةٌ للقتل، فلا يصاغ

ص: 283

منها فعل، فيقال: أُقتَل صبراً، ولا يقال: أُصبر.

ثمّ إنّ «أُصبر» _ بالضمّ _ فِعل غيره وليس فعله، ولا تستقيم العبارة، إلّا أن يقول مثلاً: «أُقاتل حتّى أُصبر»، أو: «أَصبر حتّى أُصبر»..

ولو سلّمنا هذه القراءة، فإنّ النتيجة لا تتغيّر، وستبقى النهاية شجىً وغصصاً، وتحمل نفس الدلالات في معنى الصبر، إذ إنّه سيكون بمعنى أنّ من ردّني فإنّي مستسلمٌ للقتل الّذي يلاحقني، ثمّ لا أُعطي بيديإعطاء الذليل، وبمعنى قد ركز بين اثنتين بين السلّة والذلّّة.. وإنّي سأختار القتل الكريم، وسيقضي الله بيني وبينهم، فهي على كلّ حالٍ لم تخرج عن سياق باقي كلماته (علیه السلام) الّتي أخبر فيها أنّه ملاحقٌ ومطلوب الدم، وأنّ مثله لا يبايع مثل يزيد..

الضوء السابع: جامع الأضواء

تبيّن لنا من خلال ما ذكرته الوصيّة من الموقف مقابل مَن يردّ على الإمام (علیه السلام) ، ومن مجموع المقدّمات واللواحق، أنّ الوصيّة أجنبيّةٌ تماماً عمّا يحمّل على ألفاظها إذا لوحظت بشكلٍ عامّ واستوعبت النظرة جميع فقراتها ودُرسَت بمجموعها ككلٍّ مترابطٍ يفسّر بعضها بعضاً ويتبع لاحقها سابقها..

تبيّن أنّ حملها على معنى الخروج بالمعنى الاصطلاحيّ أو ما يعبّر عنه اليوم بمواجهة السلطة والخروج إلى ميادين القتال والحرب من أجل أغراض معيّنة، لا يستقيم ولا يساعد عليه نصّ الوصيّة، وإنّما هو فهمٌ حاصلٌ من اجتزاء عبارةٍ مبتورةٍ منقطعةٍ من جملةٍ كاملة، وتحميلها كلّ

ص: 284

ما قد لا تحتمله من المعاني، ومن افتراض سوابقٍ ذهنيّةٍ قبل الدخول في دلالات النصّ..

أمّا إذا أخذتَ بمجموعها، ضمن ظروف صدورها بكلّ تفاصيلها، يتبيّن أنّ الإمام (علیه السلام) فسّر خروجاً معيّّناً ووجهه، وكشف عن مسوّغاته وفوائده ونتائجه، ثمّ قال: إنّ مَن ردّ عليه هذا التفسير والمسوّغاتوالفوائد وزعم خلاف ذلك، فإنّه سيصبر حتّى يقضي الله ويحكم بينه وبينهم.

البند الثالث: خاتمة الوصيّة

اشارة

«هذه وصيّتي إليك يا أخي! وما توفيقي إلّا بالله، عليه توكّلتُ وإليه أُنيب، والسلام عليك وعلى مَن اتّبع الهدى، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم».

تضمّنت الخاتمة نكاتاً مهمّةً أشرنا إلى بعضها في المقدّمات بحكم ضرورة البحث، ونشير إليها هنا إجمالاً مع تتبّع باقي النكات.

النكتة الأُولى: عودٌ على بدء

أكّدت الوصيّة في أوّلها على المخاطَب بها، فكانت العبارة صريحةً واضحةً محدّدةً لا لبس فيها ولا تغبيش:

هذا ما أوصى به الحسين بن عليّ بن أبي طالب لأخيه محمّد ابن الحنفيّة المعروف ولد عليّ بن أبي طالب.

فهي منذ البداية موجَّهةٌ لأخيه محمّد بالذات، المحدَّد بالأب والأُمّ،

ص: 285

بحيث يصعب سرايتها إلى غيره من إخوان سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهم كثيرون، فضلاً عن غيرهم، لا سيّما أنّ الوصيّة صدرت بعد حوارٍ طويلٍ دار بينهما، حيث كانت علامات الحيرة والذهول باديةً على المولى ابن الحنفيّة.ثمّ عادت في النهاية لتؤكّد هذا الاختصاص بقوله: «هذه وصيّتي إليك يا أخي».. فهي وصيّةٌ لأخيه المميَّز في صدرها المشهور بابن الحنفيّة!

من هنا ربّما كان من العسير جدّاً تعميم الوصيّة لغيره، واستفادة كونها وصيّة لجميع العالمين من الأوّلين والآخرين، والحال أنّها لا تتضمّن أيّ إشارةٍ أو قيدٍ أو توضيحٍ أو بيانٍ أو إفادةٍ تساعد على سراية الوصيّة لغيره.. إلّا أن يقال: إنّها من باب «إيّاكِ أعني واسمعي يا جارة»، وهو احتمالٌ لطيفٌ يحتاج إلى قرائن لإثباته.

أجل! ربّما كان فيها إشارة ذكرناها في المقدّمة وسيأتي الحديث عنها بعد قليل.

النكتة الثانية: الخطاب بالأُخوّة

كما بدأ الوصيّة بخطاب «لأخيه محمّد»، ختمها أيضاً بخطاب الأُخوّة، فقال: «هذه وصيّتي إليك يا أخي».. وهي بالإضافة إلى ما ذكرناه سابقاً من إشعاراتٍ احتواها «الخطاب بالأخوّة»، فإنّ فيه إشعاراً إضافيّاً هنا ربّما استشعر منه التأكيد على الأُخوّة، وهذا يعني أنّ الإمام (علیه السلام) لا زال على أُخوّته مع المولى ابن الحنفيّة، وأن ليس بينهما أيّ كدَرٍ أو حزازةٍ أو مشكلةٍ بسبب ما جرى بينهما من حوار وجرّت إليه المواقف من بقاء ابن الحنفيّة وخروج سيّد الثقلين الإمام الحسين (علیه السلام) ، فالمولى المكرّم ابن

ص: 286

الحنفيّة لا زال محبوباً غير ذميم عند سيّد الشهداء (علیه السلام) ..

النكتة الثالثة: وما توفيقي إلّا بالله!

«هذه وصيّتي.. وما توفيقي إلّا بالله، عليه توكّلتُ وإليه أنيب ...».

قوله: ««وما توفيقي»» مقطعٌ من آية، يمكن أن تكون وحدها شرحاً كافياً وبياناً وافياً، إذ إنّها تجمع كلّ ما ورد في الوصيّة.

قال تعالى:

﴿قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَني مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُريدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُريدُ إِلّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفيقي إِلّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنيبُ﴾ ((1)).

النكتة الرابعة: سلام الختام

ختم الوصيّة بالسلام على أخيه، سلام المودّع الّذي لا يعود، والمفارقِ الّذي لا يجتمع بعد ذلك اليوم.. وربّما كان في ذلك تأكيدُ بقاءِ علاقة الوداد والمحبّة بين الإمام (علیه السلام) وأخيه.. كما تحتوي على تأكيد اختصاص الوصيّة بمحمّد ابن الحنفيّة الّذي سلّم عليه بالخصوص بضمير الخطاب.

ص: 287


1- هذه هي الآية 88 من سورة هود، ويحسن تلاوتها مع ما قبلها وما بعدها، فإنّها ترسم مشهداً يوضّح الصورة تماماً.

ثمّ أردف السلام عليه بالسلام على مَن اتّبع الهدى، وقد تحدّثنا عن ذلك آنفاً، وربّما استشعر من هذا السلام إمكان سراية الوصيّة لغير المخاطَب الأوّل فيها، بيد أنّنا عرفنا أنّ هذا الغير قد ميّزه الإمام (علیه السلام) عنأخيه الّذي بجّله وأكرمه بخطاب أخي، وبالسلام الخاصّ به، ثمّ خاطب من لا يريد أن يسلّم عليه بتحيّة الإسلام (السلام عليكم)، وإنّما خاطبه بالسلام العامّّ الّذي يُخاطَب به غير المؤمن عادة، فإن كان ثمّة مخاطبٌ آخَر غير المولى المكرّم، فإنّه ليس ممّن يُعتَدّ بإيمانه، وإنّما هو ممّن يُخاطَب بسلامٍ عامّ يشترط أن يدخل في الإيمان والهدى أوّلاً ليشمله ذلك، تماماً كما علّم الله نبيّه موسى (علیه السلام) ليخاطب فرعون، وكما فعل النبيّ (صلی الله علیه و آله) في كتبه إلى الملوك قبل إسلامهم.

وربّما قيل: إنّه سلامٌ مقيَّدٌ لمن اتّبع الهدى، ليُخرج غير المؤمنين من سلامه، وليس فيه تعريض، وهو إنّما يفيد تماماً عكس ما تقرّر سابقاً، وهو بالتالي استعمالٌ جديدٌ لهذا النمط من السلام.

فيقال: إن صحّ هذا الفهم _ رغم غرابته وندرة استعماله، بل لم نجد له استعمالاً بهذا المعنى حسب فحصنا _ فإنّ هذا يعني إنّ الإمام (علیه السلام) سلّم على القسم الأوّل ممّن ذكرهم في الوصيّة، وهم الّذين قبلوه بقبول الحقّ، إذ إنّ هؤلاء هم مَن اتّّبع الهدى.

فإنّ هؤلاء الّذين سلّم عليهم الإمام (علیه السلام) سلاماً عامّاً هم إمّا من يحتاج إلى تفسيرٍ للموقف، لأنّه على غير هدىً فسيتّهم الإمام (علیه السلام) ويفتري عليه بالافتراءات الّتي نفاها الإمام (علیه السلام) بالوصيّة، أو ممّن فهم

ص: 288

كلام الإمام (علیه السلام) الوارد في الوصيّة وقبله بقبول الحقّ، وإن كان الثاني يأباه السياق.وكيف كان، فإنّ الموصى له _ أوّلاً وبالذات _ إنّما هو أخو الإمام الحسين (علیه السلام) مولانا المكرّم محمّد ابن الحنفيّة، وإن كان معه أحدٌ _ أيّاً كان _ فإنّه قد أُشير له إشارةً بعيدةً جدّاً على فرض خروج الوصيّة منه إلى غيره.

النكتة الخامسة: ختام الخاتمة

أشبعت الخاتمة في الوصيّة بالرجوع والإرجاع إلى الله تبارك وتعالى، فما التوفيق إلّا بالله، وعليه التوكّل وإليه الإنابة، ومنه الحول والقوّة لا من غيره.. إنّه إقدامٌ على أمرٍ عسيرٍ لا يفقهه الناس، ولا يحتملونه وهم يستهزؤون به، تماماً كما استهزأ قوم شعيبٍ بنبيّهم حينما دعاهم إلى الحقّ، فأجابهم نبيّهم إنّه إنّما يريد الإصلاح ما استطاع، وما التوفيق إلّا من عند الله، فإليه الإنابة وعليه التكلان، ومنه الحول والقوّة، وهو العليّ العظيم.

النكتة السادسة: حياة ابن الحنفيّة

لمّا كان الموصي هو الإمام المعصوم الخامس من أصحاب الكساء (علیهم السلام) ، والوصيّة لا تُفتَح إلّا بعد وفاة الموصي، فهذا يعني أنّ الإمام المعصوم (علیه السلام) قد أخبر بفعله أنّ المولى ابن الحنفيّة سوف يبقى حيّاً إلى ما بعد شهادة أخيه الإمام (علیه السلام) ، إذ لو كان في علم الإمام (علیه السلام) موته قبل ذلك لما جعله وصيّاً، إلّا أن تكون ثمّة مصلحةٌ في الوصيّة له

ص: 289

مطلقاً.

ص: 290

لماذا لم يوصِ الإمامُ لولده زين العابدين (علیهما السلام) ؟

جرت العادة أن يوصي الإمام (علیه السلام) قبل رحيله إلى ولده المعصوم الإمامِ من بعده، وإذا كان سيّد الشهداء (علیه السلام) مُقبِلاً على عملٍ خاصّ رسم معالمه وخطواته المستقبليّة في هذه الوصيّة، فمَن أَولى بها من ابنه زين العابدين (علیه السلام) الإمام من بعده، ليكمل المشوار ويسير بسيرة أبيه وينفّذ له «مشروعه»!!! الّذي منعوه من إتمامه بقتله؟!

إنّه حدّد أهداف قيامه _ حسب هذه النظرة _ ورسم معالمها وخطواتها ودعا الناس إلى اتّباعها، وعيّن لهم المسار والأهداف وطرق التنفيذ، وقدّم لهم النموذج الأرقى والأسمى والأعلى لترويجه والتضحية والفداء من أجله.. فالأَولى والأجدر به الإمام من بعده؛ فهو الإمام، وبه تقوم مصالح الأنام وصلاحهم ونجاحهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وهو الأولى والأجدر والأكفأ والمكلّف بالسَّير بسيرة النبيّ (صلی الله علیه و آله) والوصيّ (علیه السلام) ، فلماذا يوصي سيّد الشهداء (علیه السلام) لأخيه ويترك ابنه؟!

يمكن الجواب على هذا السؤال الكبير العريض بعدّة أجوبة، تنسجم مع رأي من ذهب إلى أنّ الوصيّة كانت برنامج عملٍ لمستقبل القيام

ص: 291

الحسينيّ، وليست تفسيراً لخروجه من المدينة خائفاً يترقّب، ويمكن أن يتقدّم هذه الأجوبة إشارةٌ لا يمكننا البتّ بها، وإنّما نذكرها وليس لنا عليها إلى تسويد هذه الأوراق أدلّةٌ ولا شواهد، ولم نجد متَّسعاً من الوقت لإثباتها، وخلاصتها:

ربّما كان ابن أعثم ممّن يقول بإمامة مولانا محمّد ابن الحنفيّة، فجعل الوصيّة له!

نقول هذا ولا نزيد على ذلك؛ لعدم توفّر المعطيات الكافية للتدليل على ما ذكرناه، غير أنّه يبقى بمستوى الاحتمال مهما كان ضعيفاً.

* * * * *

وربّما أُجيب على هذا السؤال: إنّ الإمام (علیه السلام) اختار أخاه ابن الحنفيّة لأنّه يعلم أنّه لم يخرج معه، وأنّه سيبقى حيّاً، وهي في الحقيقة وصيّة لابنه عليّ بن الحسين السجّاد (علیه السلام) الإمام من بعده، وإنّما دفعها إلى أخيه عملاً بالتقيّة، وحمايةً لولده زين العابدين (علیه السلام) ، لئلّا يكون مطمعاً للأعداء وغرضاً لسهامهم، وقتلِه والقضاءِ عليه عاقبة.

بيد أنّ هذا الجواب لا يكاد يصمد، وذلك:

لأنّ الإمام الحسين (علیه السلام) قد نصّ فيها على اسم أخيه ابن الحنفيّة ونعَتَه نعتاً يجعله المقصود بالذات فيها، وأنّه الموصى له على وجه الخصوص.

ولأنّ التاريخ والحديث لم يروِ لنا أنّ هذه الوصيّة كانت أمانةً عند ابن الحنفيّة ليدفعها إلى ابن أخيه زين العابدين (علیه السلام) ، ولم يرو لنا _ حسب

ص: 292

فحصنا _ أنّ المولى المكرّم ابن الحنفيّة قد دفعها بالفعل إلى الإمام السجّاد (علیه السلام) .

ولو كانت الوصيّة تخصّ بشكلٍ من الأشكال الإمامَ زين العابدين (علیه السلام) ، لعرف كيف يحتفظ بها ولا يُعلِم بها أحداً، بحيث يكون في مأمنٍ رغم الوصيّة له، تماماً كما فعل مع باقي وصايا الإمامة وأماناتها.

ثمّ إنّ الإمام زين العابدين (علیه السلام) قد خرج مع أبيه سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وبهذا كان قد تعرّض للقتل بالفعل.

والأهمّ من هذا كلّه، أنّنا لم نجد _ في ما رُوي لنا من التاريخ والحديث _ ما يفيد أنّ الإمام زين العابدين (علیه السلام) قد نفّذ هذه الوصيّة بالمعنى الّذي يطرحه أصحاب هذا الرأي، إذ إنّ الإمام (علیه السلام) لم يُعهَد عنه سوى ما سمعناه في سيرته من التكتّم والبكاء والنياحة وممارسة مهامّ الإمامة المفوّضة له من الله وفق الأمر الإلهيّ..

وبكلمةٍ:: لم نسمع أنّه فعل ما فعل أبوه، لا هو ولا أولاده الّذين جاؤوا من بعده، وهم الأئمّة المعصومون (علیهم السلام) .

فلو كانت هذه الوصيّة عامّةً شاملةً ترسم برنامج عملٍ لمستقبل حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) ومستقبل الأُمّة جمعاء، ودعوةً للاقتداء به، وسلوك نفس الدرب الّذي سلكه، بمعنى التزام الخروج بالمعنى الاصطلاحيّ من أجل تحقيق الأغراض المرسومة ك- «مشروع عمل»، فلماذا لم يلتزمه أولاده المعصومون (علیهم السلام) ، وهم أَولى الناس بتنفيذ وصيّة أبيهم الحسين (علیه السلام) ؟!

ص: 293

أمّا أن يقال: إنّ الأئمّة (علیهم السلام) جميعاً قد مارسوا طلب الصلاح والنجاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسير بسيرة النبيّ (صلی الله علیه و آله) والوصيّ (علیه السلام) ، لكن لا بنفس الطريقة الّتي عمل بها أبوهم سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فهذا ما لا ينسجم مع مديات القول بالخروج بالمعنى الاصطلاحيّ.. وإن كانت النصوص المقدّسة مستفيضةً للدلالة على أنّ الأئمّة (علیهم السلام) جميعاً قد فعلوا ذلك، لكن ضمن ضوابط زمن الهدنة.

ص: 294

هل نفّذ ابن الحنفيّة الوصيّة؟

اشارة

إنّ البقيّة من أصحاب الكساء (علیهم السلام) وسيّد الشهداء (علیه السلام) يعلم _ وهو الإمام _ أنّ أخاه ابن الحنفيّة أهلٌ للوصيّة فأوصى له، وخصّه بها دون غيره.

ولا يشكّ أحدٌ في سموّ مقام المولى ابن الحنفيّة وعلوّ مرتبته وعظيم منزلته، وأنّه كان ممدوحاً أوصى به الإمام أمير المؤمنين والأئمّة الميامين (علیهم السلام) من بعده، وأنّ الدرجة الرفيعة من التُّقى والتديّن والالتزام وحميّة الدين والغيرة على الإمام الحسين (علیه السلام) ما بارحت مولانا المكرّم ابن الحنفيّة حتّى أتاه اليقين..

وتنفيذ الوصيّة والعمل بها من لوازم التقوى وضرورات الدين، وقد قبل الوصيّة حسب الفرض، فإن كانت الوصيّة هي برنامج عملٍ ودعوة للتنفيذ، فلابدّ أن يفترض فيه أنّه قد عمل بها ونفّذها، لأنّه هو المخاطب الأوّل فيها على كلّ تقدير.

فهل نفّذ ابن الحنفيّة الوصيّة؟

لقد أثبت التاريخ والحديث أنّ أولاد سيّد الشهداء المعصومين (علیهم السلام) لم ينفّذوا الوصيّة، إن كانت الوصيّة عمليّة ودعوة.

كما أنّنا لم نسمع في التاريخ قطّ _ حسب فحصنا _ أنّ عمّنا المعظّم

ص: 295

قد فهم منها أنّها وصيّة كما فهمها المتأخّرون، إذ إنّنا لم نسمع عنه موقفاً في التاريخ يفيد أنّه قد فعل ما فعل أخوه الإمام الحسين (علیه السلام) مع الحكّام والسلاطين الّذين عاصروه، بل لقد روى لنا ابن أعثم نفسه موقفاً يتنافى مع صلب الوصيّة، وفق هذا الفهم، ونحن نذكره هنا بغضّ النظر عن النفي والإإثبات، ومن دون مناقشته ودراسته دراسةً دقيقة، حيث إنّنا لا نقصد من الإشارة إليه سوى بيان أنّ مولانا عمّ الأئمّة (علیهم السلام) لو كان قد فهم منها ما فهمه المتأخّرون لاعتبرها وصيّةً يلزمه تنفيذها، والحال أنّ ما يرويه عنه ابن أعثم يضادّّ ذلك تماماً.

موقف ابن الحنفيّة مع يزيد المخمور حسب رواية ابن أعثم

روى ابن أعثم تحت عنوان (ذكر كتاب يزيد بن معاوية إلى محمّد ابن الحنفيّة ومصيره إليه وأخذ جائزته)، قال:

ثمّ كتب يزيد بن معاوية إلى محمّد بن علي وهو يومئذٍ بالمدينة، فكتب إليه:

أمّا بعد، فإنّي أسألُ الله لي ولك عملاً صالحاً يرضى به عنّا، فإنّي لا أرى اليوم في بني هاشم رجلاً هو أرجح منك فهماً وعلماً، ولا أحضر فهماً وحكماً، ولا أبعد من كلّ سفَهٍ ودنس، وليس من يتخلّق بالخير تخلّقاً ويتبجّل بالفضل تبجّلاً كمن جبله الله على الخير جبلاً، وقد عرفنا ذلك منك قديماً وحديثاًوشاهداً وغائباً، غير أنّي قد أحببتُ زيارتك والأخذ بالحظّ من رؤيتك ورأيك، فإذا نظرتَ في كتابي هذا فأقبِل إلينا آمناً

ص: 296

مطمئنّاً، أرشدك الله أمرك وغفر لك ذنبك، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

قال: فلمّا ورد الكتاب على محمّد بن عليّ، أقبل علیى ابنه جعفر وعبد الله فاستشارهما في ذلك، فقال له ابنه عبد الله: يا أبت! اتّقِ الله في نفسك ولا تصر إليه، فإنّي خائفٌ عليك أن يُلحقك بأخيك الحسين ولا يبالي. فقال محمّد: يا بنيّ، ولكنّي لا أخاف ذلك منه. فقال له ابنه جعفر: يا أبت! إنّه قد ألطفك في كتابه إليك، ولا أظنّ أنّه كتب إلى أحدٍ من قريش، أرشدك الله أمرك وغفر لك ذنبك، أرجو أن يكفّ الله شرّه عنك. فقال محمّد بن علي: يا بُنيّ، إنّي توكّلتُ على الله الّذي يُمسك السماء أن تقع على الأرض إلّا بإذنه، وكفى باللّه وكيلاً.

قال: ثمّ تجهّز محمّد بن علي وخرج من المدينة، وسار حتّى قدم على يزيد بن معاوية بالشام، فلمّا استأذن أذن له وقرّبه وأدناه وأجلسه معه على سريره، ثمّ أقبل عليه بوجهه فقال:

يا أبا القاسم، آجرنا الله وإيّّاك في أبي عبد الله الحسين بن علي، فو الله لئن كان نفعك فقد نفعني، ولئن كان أوجعكفقد أوجعني، ولو كنتُ أنا المتولّي لقتله لَما قتلتُه، ولَدفعت عنه القتل ولو كان بذهاب ناظري!! ولفديتُه بجميع ما ملكت يدي!! وإن كان قد ظلمني وقطع رحمي ونازعني حقّي، ولكنّ عُبيد الله بن زياد لم يعمل برأيي في ذلك، فعجّل عليه القتل

ص: 297

فقتله، ولن يستدرك ما فات، وبعد فإنّه ليس يجب علينا أن نرضى بالدية في حقّنا، ولكن يجب على أخيك رحمه الله أن ينازعنا حقّنا وما قد خصّنا الله به دون غيرنا، وعزيز علَيَّ ما ناله، والسلام، فهاتِ الآن ما عندك يا أبا القاسم!

قال: فتكلّم محمّد بن علي، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:

إنّي قد سمعتُ كلامك، فوصل الله رحمك، ورحم حسيناً وبارك له فيما صار إليه من ثواب ربّه والخُلد الدائم الطويل عند المَلِك الجليل، وقد علمنا أنّ من نقصك فقد نقصنا، ومن عزاك فقد عزانا من فرحٍ وترح، وأظنّ أنّك لو شهدت ذلك بنفسك لكنتَ ترى أجمل الرأي والعمل، ولَجانبت أسوأ الرأي والفعل والخطل، والآن فإنّ حاجتي إليك أن لا تُسمعني فيه ما أكره، فإنّه أخي وشقيقي وابن أبي، وإن زعمتَ أنّه ظلمك وقد كان عدوّاً لك كما تقول.

قال: فقال له يزيد:

إنّك لا تسمع فيه إلّا خيراً، ولكن هلمّ فبايعني، واذكر ماعليك من الدَّين حتّى أقضيه عنك!

فقال محمّد بن علي؟ (رضی الله عنه) :

أمّا البيعة فقد بايعتُك، وأمّا ما ذكرتَ من أمر الدَّين فما علَيّ دَينٌ والحمد لله، وإنّي من الله _ تبارك وتعالى _ بكلّ نعمةٍ سابغةٍ لا أقوم بشكرها.

ص: 298

قال: فالتفت يزيد إلى ابنه خالد فقال: يا بُنيّ، إنّ ابن عمّك هذا بعيدٌ من اللوم والدنس والكذب، ولو كان غيره كبعض مَن عرفت لقال: علَيّ من الدَّين كذا وكذا؛ ليستغنم أخذ أموالنا.

قال: ثمّ أقبل عليه يزيد فقال: بايعني يا أبا القاسم! فقال: نعم يا أمير المؤمنين.

فقال: إنّي قد أمرتُ لك بثلاثمئة ألف درهم، فابعث مَن يقبضها، إذا أردت الانصراف عنّا أوصلناك إن شاء الله.

قال: فقال له محمّد بن علي؟ (رحمة الله) : أيّها الأمير، لا حاجة لي في هذا المال ولا فيما جئت به.

فقال يزيد: فلا عليك أن تقبضه وتفرّقه فيمن أحببتَ من أهل بيتك. قال: فإنّي قد قبلتُه.

قال: فأنزله يزيد في بعض منازله، وكان محمّد بن عليّ يدخل إليه صباحاً ومساءً، وإذا وفدُ المدينة قد أقبلوا على يزيد وفيهم المنذر بن الزبير وعبد الله بن [أبي] عمرو بن حفص بن المغيرةالمخزوميّ وعبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الأنصاريّ، فأقاموا عند يزيد أيّاماً، فأجازهم يزيد لكلّ رجلٍ بخمسين ألف درهم، وأجاز المنذر بن الزبير بمئة ألف درهم.

فلمّا أراد الانصراف إلى المدينة أقبل محمّد بن علي؟ (رضی الله عنه) حتّى دخل على يزيد، فاستأذنه في الانصراف معهم إلى المدينة، فأذن له في ذلك، ووصله بمئتَي ألف درهمٍ أُخرى، وأعطاه

ص: 299

عروضاً بمئتي ألف درهم، ثمّ قال:

يا أبا القاسم، إنّي لا أعلم على وجه الأرض في مثل اليوم رجلاً هو أعلم منك بالحلال والحرام، وقد كنتُ أحببتُ أن لا تفارقني، وأن تعظني وتأمرني بما فيه حظّي ورشدي، فواللهِ لا أُحبّ أن تنصرف عنّي وأنت ذامٌّ لشيءٍ من أخلاقي.

قال: فقال له محمّد بن علي:

أمّا ما كان منك إلى الحسين فذاك شيءٌ لا تستدرك، وأمّا الآن فإنّي ما رأيتُ منك منذ قدمتُ عليك إلّا خيراً، ولو رأيتُ منك خصلةً أكرهها لَما وسعني السكوت دون ما أنهاك عنها، وأُخبرك بحقّ الله فيها الّذي أخذ الله تبارك وتعالى على العلماء في علمهم أن يبيّنوه للناس ولا يكتمونه، ولستُ مؤدّياً عنك مَن إلى ورائي من الناس إلّا خيراً، غير أنّي أنهاك عنشرب هذا الخمر المُسكر، فإنّه رجسٌ من عمل الشيطان، وليس من ولي أُمور الأُمّة ودع ي له بالخلافة على رؤوس الأشهاد على المنبر كغيره من الناس، فاتّقِ الله في نفسك وتدارك ما فات من أمرك، والسلام.

قال: فسُرّ يزيد بما سمع من محمّد بن عليّ سروراً شديداً، ثمّ قال:

إنّي قابلٌ منك ما أمرتني به، وإنّي أُحبّ أن تكاتبني في كلّ حاجةٍ تعرض لك من صلةٍ أو تعاهد،، ولا تقصّّرنّّ في ذلك.

ص: 300

فقال محمّد بن علي: أفعل ذلك إن شاء الله، ولا أكون إلّا عند ما تحبّ.

قال: ثمّ ودّعه محمّد بن علي، ورجع إلى المدينة، ففرّق ذلك المال كلّه في أهل بيته وسائر بني هاشم وقريش، [وما] ما سائر النساء والرجال والذرّيّة والموالي إلّا صار إليه شيءٌ من ذلك المال.

ثمّ خرج محمّد بن عليّ من المدينة إلى مكّة، فأقام بها مجاوراً، لا يعرف شيئاً غير الصوم والصلاة ((1)).

* * * * *قلنا:: ليس المقام مقام مناقشة الخبر ولا ردّه أو قبوله، بيد أنّنا أردنا أن نشير إلى أنّ ما صدر من سيّد الشهداء (علیه السلام) لأخيه ابن الحنفيّة إن كانت وصيّةً بالمعنى المشهور لتفسيرها لَفهم ذلك عمّنا المعظّم ولنفّذها بلا تردّدٍ ولا مواربة، والحال أنّ هذا الخبر رسم لنا مشهد تعامل المولى ابن الحنفيّة مع القرد المخمور..

بل في الخبر دلالةٌ قويّةٌ على أنّ الوصيّة خرجت مخرج التفسير والبيان والردّ على الافتراءات والبهتان، حيث أنّ القرد المخمور زعم زوراً أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) كان ظالماً له، وقد نازعه سلطانه الّذي جعله الله له، ونازعه حقّه وقطع رحمه، وأنّه كان يمكنه اجتناب ذلك، وهذا ما نفاه الإمام (علیه السلام) في وصيّته، ففي امتناعه عن البيعة وخروجه من المدينة

ص: 301


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 137 وما بعدها.

تحقيقٌ للصلاح والنجاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو سيرٌ بسيرة النبيّ (صلی الله علیه و آله) والوصيّ (علیه السلام) ، بل وحتّى الخلفاء الّذين يسمّونهم الناس بالراشدين.

ابن الحنفيّة لا يأذن لأبنائه بالخروج مع الإمام؟ (علیه السلام)

اشارة

روى ابن سعد وابن عساكر وابن العديم والمزّي والذهبي وغيرهم، قالوا:

وتبعهم [بني عبد المطّلب] محمّد ابن الحنفيّة، فأدرك حسيناً بمكّة، وأعلمه أنّ الخروج ليس له برأي يومه هذا، فأبىالحسين أن يقبل.

فحبس محمّد بن علي وُلده، فلم يبعث معه أحداً منهم، حتّى وجد الحسين في نفسه على محمّد، وقال: ترغب بولدك عن موضعٍ أصاب فيه؟ ((1))

فقال محمّد: وما حاجتي أن تُصاب ويصابون معك، وإن كانت مصيبتك أعظم عندنا منهم ((2)).

ص: 302


1- أُنظر: سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 205 _ عن ابن سعد.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 61، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 211، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 143، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2612، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 421، تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 343، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 165.

* * * * *

يمكن التعامل مع هذا المتن التاريخيّ من خلال النقاط التالية:

النقطة الأُولى: مَن هو أوّل مَن روى هذا المتن؟

اشارة

قال أحد المحقّقين: «ادّعى ابن عساكر في تاريخه ومن بعده المزّّي والذهبي أنّ ابن الحنفيّة لمّّا يئئِس في مكّة من تغيير عزم الإمام الحسين (علیه السلام) ومنعه من الخروج إلى العراق، منع وُلده من الالتحاق بالإمام (علیه السلام) »..

ثمّ قال: «لم نعثر على هذا _ أي: حبس محمّد أولاده عن الالتحاق بالإمام (علیه السلام) _ في كتبنا، بل في تواريخ غيرنا، سوى ما أورده ابن عساكر، ثمّ المزّّي ثمّ الذهبي. وقد أورد الذهبيّ هذه الرواية مرسلة، وكذلك أوردها المزّي، ولعلّهما أخذاها عن ابن عساكر الّذي أوردها بسندٍ فيهأكثر من مجهول، وفيه مَن اتّهمه ابن عساكر نفسه برقّة دينه كالبزّّاز، وفيه مَن هو ليس بالقويّ في حديثه كابن فهم» ((1)).

* * * * *

نحن لا نريد الوقوف عند هذه المناقشة طويلاً؛ احتراماً وتقديراً وتعظيماً وتكريماً للكتاب ومؤلّفه، بيد أنّها ضرورة البحث العلميّ، ولذا سنقف عندها وقوفاً مستعجلاً بكامل الخضوع.

فربّما أمكن الإيراد على هذه المناقشة:

ص: 303


1- مع الركب الحسيني: 2 / 264.
الإيراد الأوّل: أوّل مَن روى

يبدو أنّ أوّل مَن روى هذا المتن هو ابن سعد في طبقاته، وقد أخرجه السيّد المحقّق المرحوم عبد العزيز الطباطبائي في النسخة الّتي حقّقها وطبعها.

فيكون الناقل الأوّل أقدم بكثير من ابن عساكر، ويشهد لذلك أنّ الذهبي نقله في (سيَر أعلام النبلاء) عن ابن سعد.

وقد نقله أيضاً ابن العديم وابن بدران وابن منظور وابن كثير، وهم _ عاقبةً _ ينقلون عن ابن سعد أو ابن عساكر، فالنقل ليس منحصراً بالثلاثة المذكورين.

الإيراد الثاني: ملاحظة منهجيّة

ربّما يكون هذا الإيراد في غير موضعه، لاختلاف المباني في التعامل مع النصّ التاريخيّ، وإنّما نذكره بناءاً على ما قرّرناه في (مجموعة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) _ الجزء الأوّّل _ تحت عنوان: المدخل)، فإنّ ضعف السند بالموازين المقررّة في علم الرجال لا يمكن أن تؤثّر تأثيراً بليغاً في الخبر التاريخيّ، ولا يمكن إعمال موازين التشدّد السنديّ فيه، إذ إنّ ذلك سيؤدّي مؤدّياتٍ خطيرة، منها: نسف التاريخ إلّا القليل منه.

أجل، يمكن أن يكون ضعف السند وقوّته عاملاً مساعداً على التأكيد أو الخدش في الخبر، كقرينةٍ وشاهدٍ إضافيّ لا أكثر.

وقد وجدنا الكثير من المؤرّخين المعاصرين يعتمدون نصوصاً ابتُليَت

ص: 304

بالإرسال ووالتفرّد وإإعراض العلماء والمؤرّخين القدامى، كنصّ وصيّة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) لأخيه ابن الحنفيّة، الّتي انفرد بنقلها ابن أعثم (ت 314 ه-)، وقد رواها مرسلةً إرسالاً ليس فيه إشارة حتّى إلى الراوي المباشر الناقل للخبر، ولا نريد هنا الدخول في تفصيل ذلك، فله موضعٌ آخر، وقد تناولناه في هذا الكتاب.

النقطة الثانية: النقض بالآثار

اشارة

قالوا _ بعد المناقشة السنديّة _: فضلاً عن هذا، فإنّ هذا الأمر لو كانقد حصل فعلاً، لكان سُبّةً وسوءةً يُعيَّر بها ابن الحنفيّة وأبناؤه، ولكان لهذا الحدث آثار ممتدّة يُعرف من خلالها، كأن يُعاتَب ابن الحنفيّة أو أبناؤه من قِبل واحدٍ من أهل البيت (علیهم السلام) أو أكثر مثلاً، أو من قِبل أحد الهاشميّين، أو من قِبل بعض الناس، فيردّ محمّد _ أو أبناؤه _ مدافعاً عن موقفه في منع أولاده من الالتحاق بالإمام (علیه السلام) .

ولا شكّ أنّ جميع هذه الآثار _ أو بعضها _ سوف تنطبع على صفحة التاريخ، فنقرأها في المطبوع منه أو في المخطوط.

لكنّنا لا نجد شيئاً من هذا على صفحة التاريخ، ولا في المأثور عن أهل البيت (علیهم السلام) بصدد نهضة الإمام الحسين (علیه السلام) ، أو بصدد محمّد ابن الحنفيّة نفسه، بل ولا نجد له أثراً في المأثور عن ابن الحنفيّة وعن أبنائه((1)).

ص: 305


1- مع الركب الحسيني: 2 / 265.

ويمكن أن يتوقّف في قبول هذا الكلام:

التوقّف الأوّل: كرم أهل البيت (علیهم السلام) وسموّ أخلاقهم

إنّ من نافلة القوم أن يتحدّث الإنسان عن كرم أهل البيت (علیهم السلام) وسموّ أخلاقهم وتعاليهم عن العتب واللوم مع أرحامهم، وهذا ما لا يحتاج إلى إثباتٍ وذكر شواهد، وكثر ما سمعنا مبادرات أهل البيت (علیهم السلام) مع أرحامهم الّذين أساؤوا إليهم، بل واعتذارهم منهم وهم أصحاب الحقّ، والشواهد على ذلك كثيرة جدّاً لا تخفى على مَن راجعكتب السيَر والتاريخ على عجل.

ولنا في نفس المورد الّذي نحن فيه شاهدٌ قويّ، ذكرناه أكثر من موضع في هذا البحث، وهو رواية ابن حمران، وسمعنا كيف منع الإمامُ الصادق (علیه السلام) عن التمادي في مناقشة موقف المولى محمّد ابن الحنفيّة بعد أن ذكر له كتاب سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ثمّ أمره أن لا يعود إلى مثل هذا الحديث.

التوقّف الثاني: اعتذار القوم

لقد رُوي لنا أنّ مَن تخلّف عن ركب سيّد الشهداء (علیه السلام) من بني هاشم _ كابن عبّاس والمولى المكرّم محمّد ابن الحنفيّة _ كانوا يعتذرون بأنّ أصحاب الحسين (علیه السلام) مكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم، وأنّهم لا يزيدون ولا ينقصون ((1))، فهم قد توجّه إليهم لومٌ أو افترضوا أنّ ثمّة لومٌ

ص: 306


1- المناقب لابن شهرآشوب: 10 / 27، بحار الأنوار: 44 / 185، مدينة المعاجز للبحراني: 3 / 503.

قد يوجّه إليهم، فاعتذروا بهذا العذر، بغضّ النظر عن مناقشة ذلك، وهل يصحّ أن يكون ذلك عذراً أو لا يصحّ، فإنّ مناقشة ذلك لها محلّها الخاصّ، وإنّما ذكرنا ذلك لبيان أنّ اللوم قد توجّه إليهم أو إنّهم أحسّوا باللوم، فقدّموا له العذر حتّى رُوي إلينا.

التوقّف الثالث: كان لمحمّد أولاد

ولّد أبو القاسم محمّد ابن الحنفيّة أربعةً وعشرين ولداً، منهم أربعةعشر ذكراً ((1)).

وعقّب منهم اثنان: جعفر بن محمّد ابن الحنفيّة، قتيل الحَرّة، وعليّ ابن محمّد ابن الحنفيّة، وهو الأكبر ((2)).

وقد ذكرت قصّة استدعاء يزيد له الّتي ذكرناها قبل قليل أنّه استشار اثنين من أولاده، فيلزم أن يكون أولاده كباراً راشدين أيّام مقتل عمّهم سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) ، بحيث يستشيرهم أبوهم في الذهاب أو الإإفلات من الدعوة.

ونحن قد رأينا وسمعنا آل أبي طالب قد سجّلوا بدفاعهم عن سيّدهم وشيخهم وإمامهم أروع مواقف التاريخ على الإطلاق، وكان فيهم الفتیّ والغلام، فضلاً عن الشباب والكهول والرجال، وقد ألحق عبد الله بن جعفر أولاده بإمامهم، ولم يفعل ذلك ابن الحنفيّة.

ص: 307


1- أُنظر: عمدة الطالب لابن عنبة: 323.
2- أُنظر: عمدة الطالب لابن عنبة: 324.
التوقّف الرابع: الإشكال في المنع أو في الحضور

لا ندري إذا كان المقصود بتكذيب الخبر نفي حصول المنع من المولى المكرّم محمّد ابن الحنفيّة، أو نفي أصل عدم خروج أولاده مع الإمام (علیه السلام) ؟

فإن كان المقصود نفي الأوّل، فإنّ الأمر قد حصل على كلّ حال، سواءً بفعل منع أبيهم أو باختيارهم وعدم إرادتهم الذاتيّة.

وإن كان المقصود نفي الثاني، فإنّ في ذلك مغالبةً للتاريخ، فقد ثبتتاريخيّاً أنّ المولى المكرّم ابن الحنفيّة لم يخرج مع سيّد الشهداء (علیه السلام) لأيّ سببٍ كان، سواءً ما ذكره هذا الخبر من تيقّنه أنّ الإمام يمضي إلى الموت الّذي لابدّ منه، أو بسبب أمر الإمام له أن يبقى في المدينة، أو لأيّ سببٍ آخر، ليس هذا يعنينا الآن، فالمهمّ أنّه لم يخرج.

وكذا ثبت أنّ أيّ واحد من أولاده لم يحضر كربلاء، ولم نسمع باسم أحدهم في عداد الشهداء ولا الأسرى، فهم لم يخرجوا على كلّ حال، سواءً منعهم أبوهم أو أنّهم امتنعوا بدوافعهم الذاتيّة.

وکیف کان فلا یبعد ممّن منع أخاه الأکبر منه وإمامه من الخروج إلی الموضع الذي یصاب فیه أن یمنع أولاده الذین تحت ولایته عن ذلك.

نكتفي بهذا القدر؛ لأنّنا لا نريد أن ندخل في بحث موقف المولى المكرّم محمّد ابن الحنفيّة، ولا نريد الإطالة في مناقشة المتون التاريخيّة الّتي ذكرها ابن سعد ومَن تلاه في هذا الموضوع، ولا نريد إثبات شيءٍ أو نفيه، وإنّما ذكرنا هذه المناقشة استطراداً لا بقصد تسجيل موقف ومتابعة المتون متابعةً دقيقة.

ص: 308

الخاتمة

اشارة

يبدو من سير الأحداث _ لمن راجع التاريخ ولو على عجل _ أنّ القرد المترهّل العجوز معاوية قد أعدّ وهيّأ وعمل بجدّ لولاية نغله يزيد من بعده، فبذل الأموال واشترى الذمم ورغّب وأرهب، وذلك قبل هلاكه بسنين، وكان ذلك على مرأى ومسمع من سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فلم تبدر من الإمام خامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) بادرةٌ سوى إبائه عن البيعة حينما عُرضَت عليه قهراً أيّام معاوية، ولم يؤثّر عنه أنّه أعدّ واستعدّ وهيّأ وجمّع وحرّض وغيرها من النشاطات والفعّاليّات المعروفة، وإنّما أبى وامتنع ورفض وصبر!

وبعد هلاك الطاغية العجوز، لم يبادر الإمام سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) إلى أيّ مبادرة، رغم أنّ تهاوي الطاغوت كان قد اشتهر وذاع خبره قبل أن يهلك بفترةٍ غير قليلة، ربّما استمرّت بضع سنين، وكان الإمام (علیه السلام) يتوقّع ذلك _ بغضّ النظر عن علم الإمامة _، ويشهد له أنّ الوالي لمّا استحضرهم وأرسل إليهم في غير وقت أعرب الإمام (علیه السلام) عن هلاك الطاغية وأعلن ذلك لمن حوله.

مع ذلك كلّه لم يبادر الإمام (علیه السلام) إلى موقفٍ أو مبادرةٍ تكشف عن استعداداتٍ مسبقة كان الإمام (علیه السلام) قد خطّط لها وبيّتها وأعدّ واستعدّ

ص: 309

لهذه الساعة المنتظرة المتوقّعة، وهي هلاك الطاغية ونزو القرد الخليع المخمور على أعواد المنبر.

وبعد أن دخل على الوالي كلّمه وحاوره بالحكمة والموعظة الحسنة، ولم يكن منه سوى أنّه استمهله، وأخبره أنّه لن يبايع يزيد، ثمّ خرج منه وهو صابرٌ محتسب.

وبعد أن خرج من الوالي لم يبادر إلى أيّ مبادرةٍ يُستشفّ منها أنّ له موقفاً سوى إباء شخصه النفيس _ فداه العالمين _ عن البيعة، ثمّ لم يؤثَر عنه أنّه (علیه السلام) حرّض الناس على الوالي أو على يزيد الخمور أو على أيّ شيءٍ آخر، فلم يخطب ولم يستنهض ولم يستنصر ولم يعلن موقفاً يدعو الناس للالتحاق به، وهو مجتمع يقولون عنه أنّه مجتمع أهل الحلّ والعقد، ومجتمع الصحابة والتابعين ومركز الإسلام وغيرها من العناوين.. إنّ القوم قد بايعوا وألزموا أنفسهم الطاعة، ودانوا بالتبعيّة للقرود، ولهثوا وراء دنياهم العفنة القذرة، فلم يسمعوا بعد ذلك سوى هتوف الشيطان، ولم ترَ أعينهم سوى بريق الصفراء والبيضاء وزخارف العيش الوبيل وزخارف الدنيا الرخيصة..

هذا، وقد أكّدت النصوص التاريخيّة بوضوحٍ أنّ القرد المخمور المسعور قد أمر بقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) وطلب رأسه منذ اللحظة الأُولى الّتي تسلّق فيها على أعواد المنبر وخلّف أباه، وقد سالت لذلك لعاب الذئاب والوحوش الأُمويّة الكاسرة والأقذار المتعلّقة بأذنابها في المدينة،فتعجّل مروان قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وكان الوالي على استعدادٍ تامّ

ص: 310

لتنفيذ حكم القرد الراعي لهم، وما قاله من الحمد لله على خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) علّله لئلّا يبتلي بدمه، وهذا نفسه شاهدٌ على عدم امتناعه على الإقدام على ارتكاب الجناية العظمى.

فعزم _ روحي فداه _ على الخروج من المدينة، غريباً مخذولاً مضيَّعاً، لم يلتفت إليه أحدٌ من العالمين، ولم ينصره أحدٌ من الصحابة والتابعين، ولم يعده أحدٌ الدفاع عنه.. فكان إن بقيَ في المدينة وهو لم ولا ولن يبايع يزيد، ولا يعطي بيده إعطاء الذليل، فلابدّ أن يقع في المدينة المحرّمة القتلُ والقتال، وكان يُقتَل الإمام ومَن معه حسب الحسابات الظاهريّة، لأنّ السيوف والمال والعدّة والعدد مع بني أُميّة، فتُهتَك حرمتُه وحرمة دمه الزاكي الّذي سكن الخلد،، وحرمة المدينة المنوّرة الّتي حرّمها النبي (صلی الله علیه و آله) ، وكان مجتمع الصحابة والتابعين وأهل الحلّ والعقد يقتلونه!! فكان لابدّ أن يخرج، فخرج صابراً محتسباً..

* * * * *

ولا يبدو من التأمّل في النصوص التاريخيّة أنّ الإمام (علیه السلام) كان قد خطّط لخروجه من المدينة قبل أن يستدعيه الظالم ويخيّره بين البيعة الذليلة والقتل، أي :بين السلّة والذلّة، كما سمّاها سيّد الشهداء (علیه السلام) نفسه، والكلام دائماً حسب الحسابات الظاهريّة والنصوص التاريخيّة.

وما ورد في كتب أهل الكوفة بعد شهادة الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) وأجوبة الإمام (علیه السلام) عليها لا ينهض لإثبات ذلك، لأدلّة وشواهد ليس هذا محلّ بحثها بالتفصيل، لما فيها من ملاحظات دلاليّة، وأجواء

ص: 311

تفرض لها فهماً خاصّاً، والناس كانوا في جياشات عاطفيّة، وكانوا موتورين من موقف سيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) ، سيّما إذا لاحظنا أنّ الكتب الّتي وردَت على سيّد الشهداء كانت موقّعةً بأسماء الّذين اعترضوا على الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) غالباً، وهم الّذين رفعوا الصراخ عالياً بعد هلاك معاوية، ثمّ خمدت أصواتهم فلا نسمع لهم ركزاً إلّا بعد شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) ، من قبيل: سليمان بن صرد الخزاعيّ والمسيّب بن نجبة، فكانت فورةً عاطفيّةً وغلياناً كاذباً يحتاج إلى تسكينٍ وإدارةٍ وسيطرةٍ على الأجواء!

* * * * *

كما يبدو مِن تتبّع المتون التاريخيّة الّتي تحكي أحداث فترة هلاك الطاغية ونزو القرد الخليع المخمور على مقاليد الأُمور، أي: خلال زهاء أُسبوعين أو أقلّ منذ أن بلغ خبره إلى المدينة إلى حين خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) منها.. يبدو منها أنّ المؤرّخ لم يسجّل أيّ نشاطٍ اجتماعيّ أو تحريضيّ أو الإعلان عن أيّ موقفٍ سوى العزم على الخروج من المدينة.

وكانت الوجهة هي مكّة، ومكّة فقط! ولم يُسمَع أيُّ تصريحٍ من أيّ أحدٍ حتّى من سيّد الشهداء (علیه السلام) نفسه يفيد أو يشير إلى أنّ ثمّة وجهةأُخرى يمكن أن يتوجّه إليها سيّد الشهداء (علیه السلام) سوى مكّة..

ولم نعثر على نصٍّ يفيد أنّ الإمام (علیه السلام) قد أعلن «خروجاً بالمعنى المصطلح» من المدينة على يزيد، وغاية ما تفيده النصوص بصراحةٍ

ص: 312

واضحةٍ أنّ الإمام (علیه السلام) إنّما خرج من المدينة، لأنّ يزيد وأذنابه لاحقوا الإمام (علیه السلام) ملاحقةً جدّيّةً حقيقيّة، وقصدوا سفك دمه المقدّس، وطلبوا رأسه وطلبوه، فخرج!

* * * * *

ولا يخفى أنّ الفترة الّتي هجم فيها العدوّ على سيّد الشهداء (علیه السلام) في المدينة إلى خروجه منها لا تربو على اليومين أو الثلاثة أيّام، لم يسجَّل فيها للإمام (علیه السلام) موقفٌ سوى العزم على الخروج والتهيّؤ له، وقد صبر فترة إمامته، وهي زهاء عشر سنوات.

* * * * *

ثمّ شكى الإمام (علیه السلام) إلى جدّه شكواه الأخيرة، وشكى إليه هذه الأُمّة المتعوسة المنحوسة الّتي خذلته وضيّعته.

وقبل خروجه سجّل التاريخ لقاءًاً بينه وبين أخيه محمّد ابن الحنفيّة، وتفرّد ابن أعثم في نقل وصيّةٍ مرسلةٍ له، أعرض عنها العلماء الشيعة المتقدّمون والمؤرّخون، إلّا القليل القليل منهم كما فصّلنا ذلك في غضون البحث، وقد وُظّفَت على أساس فهمٍ خاصّ على أنّها بيان لإعلان القيام بالمعنى المصطلح، وقد ناقشناها مناقشةً مستفيضة.وبغضّ النظر عن سندها وعلله، فإنّ الوصيّة لو قرأناها ككلٍّ مترابطٍ وأخذنا بها جميعاً من دون اقتطاع فقرةٍ والتمسّك بها، فإنّها لا تفيد ما ذهبوا إليه، فهي من حيث الدلالة غير تامّةٍ على مراد مَن ذهب إلى ذلك بشواهد واضحة.

ص: 313

ثمّ إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطلب الإصلاح وغيرها جميعاً ممّا فعله الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) كما فعله آباؤه وأبناؤه المعصومون (علیهم السلام) جميعاً، ونحن نشهد لجميع الأنبياء والأوصياء أنّهم أحبّوا ذلك وفعلوه، ونخاطب كلّ واحدٍ منهم فنقول: «قد أقمتَ الصلاة، وآتيتَ الزكاة، وأمرتَ بالمعروف، ونهيتَ عن المنكر، وبذلتَ نفسك في مرضاة الله».. سواءً قاتلوا أم لم يقاتلوا!

وهل يُعدّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جرماً يستحقّ عليه القتل بتلك القتلة الفجيعة وسبي ودائع النبوّة وعقائل الوحي؟!

* * * * *

وبتعبيرٍ آخر:

إنّ الإمام (علیه السلام) لم يبادر أيّ مبادرةٍ منذ أن هلك الطاغوت، وإنّما كانت المبادرة من الطاغوت نفسه، فأحضروا الإمام (علیه السلام) وهجموا عليه.

ويبدو من النصوص الّتي مضت في هذا البحث أنّ كتب يزيد الأُولى كانت تطالب برأس سيّد الشهداء (علیه السلام) على كلّ حال، فلمّا هجموا على الإمام (علیه السلام) اتّخذ الإمام موقفاً دفاعيّاً عن نفسه وأهله، فخرج عن المدينةمضطرّاً، إذ صرّح في أكثر من موضع أنّهم أخرجوه وأرعبوه وأزعجوه وأخافوه، والخوف هنا ليس في مقابل القتل كما هو واضح، وإنّما هو في مقابل الأمن، والإمام (علیه السلام) لا يخاف من القتل ولا من الموت _ حاشاه _، بيد أنّ القوم قد ضيّقوا عليه وتركوا المدينة بلداً غير آمن له ولأهله، لأنّهم أقدموا على قتله لولا خروجه، فالخوف هنا مقابل الأمن من جهة،

ص: 314

ومقابل أن تهتك بدمه الزاكي حرمة المدينة، ولئلّا يقال إنّ مجتمع الصحابة قتلوه، مثلاً..

فخروج الإمام (علیه السلام) من المدينة كان تدبيراً على أثر تدبير قتله من قبل الأعداء، وكانت حركته حركةً دفاعيّةً محضة، كما أفادت النصوص التاريخيّة وسيَر الحوادث المرويّة.

فالإمام لم يبدأ هجوماً، ولم ينطلق هو مبتدءاً، وإنّما هجموا عليه فخرج..

هجموا فدافع، وكان دفاعه الخروج، لأنّ أهل المدينة خذلوه وضيّعوه ولم ينصروه، واصطفّوا مع العدوّ الظالم على ابن رسول الله وحبيبه.. فكان في خروجه إصلاحاً للأُمّة وفلاحاً ونجاحاً، وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وحمايةً للأُمّة..

وما قيام سيّد الشهداء (علیه السلام) كلّه إلّا حركة دفاعيّة ليس إلّا، ويشهد لذلك بقيّة مواقفه وتصريحاته وبياناته طيلة فترة قيامه بأمر الله!

وقد ختم حياته المقدّسة برجزه المعروف:أنا الحسينُ بنُ علي

آليتُ أن لا

أنثني

أحمي عيالاتِ أبي

أمضي على دينِ

النبيّ

ونودّ أن نختم هنا بإشارتين سريعتين، سيأتي تفصيل الكلام فيهما في محلّه إن شاء الله تعالى:

الإشارة الأُولى: الأخذ عن الإمام نفسه

أشرنا في أكثر من موضع أنّنا ينبغي أن نتابع بيانات الإمام (علیه السلام) منذ أن

ص: 315

خرج إلى أن استُشهد، ونحاول فهم القيام المقدّس من خلاله، ولا يهمّنا بعدئذٍ كلام غيره وبياناتهم، إلّا إذا كانت شارحةً وموضّحةً ومبيّنةً لكلماته (علیه السلام) ، فليقل ابن عبّاس وابن عمر وغيرهما أنّ المدينة كانت أمناً، وأنّ مكّة كانت أمناً، فلماذا يخرج، فليبق أو فليناول، فإنّه إن ناول لا يُقتَل.. فإنّنا لا نرتضي ذلك ما دام الإمام (علیه السلام) بنفسه يؤكّد بصراحةٍ واضحةٍ أنّ المدينة ليست بأمن، وأنّه إن لم يعجّل في الخروج من مكّة فإنّه لا يأمنهم على نفسه ولَأخذوه أخذاً، وأنّه إن بقي اغتالوه، وأنّهم سيقتلونه سواءً بايع أم لم يبايع، كما صرّح (علیه السلام) في أكثر من موضع وأخبر أنّهم لا يتركونه حتّى يستخرجوا العلقة المقدّسة من صدره، وأنّهم سيقضون فيه ما قضوا في أبيه وأخيه.. ولا حاجة لنا بتحليلاتنا وتعليلاتنا مع وجود كلامه (علیه السلام) الشريف في صفحات التاريخ نفسه!

ولا يهمّنا إن حاول العدوّ أن يصوّر ما فعله الإمام كخروج ضدّه، وأنّهظلمٌ للسلطان وتجاوزٌ على حدود ولايته وتسلّطه، فإنّ السلطان ينحت مسوّغاتٍ على مقاسات هواه لينفّذ ما يريد ويقضي ما يصبو إليه.

ولا يهمّنا صراخ الناس وضجيجهم وعجيجهم ولغطهم، ولينشروا من كلامهم ما ينشرون، وليرفعوا من الشعارات ما يرفعون، وليقولوا ما يقولون.. فإنّه لا يصحّ ولا يصلح أن نفسّر ونفهم قيام سيّد الشهداء (علیه السلام) من كلام الناس ومواقفهم ما دام سيّد الشهداء (علیه السلام) قد قال وأبان وفسّر!

ص: 316

الإشارة الثانية: دور الناس والأُمّة

تحتاج هذه الإشارة إلى دراسةٍ وافية، بيد أنّنا نقتصر هنا عليها كإشارة، ونحيل التفصيل فيها إلى محلّه إن شاء الله تعالى، وخلاصة القول فيها:

قد يُتصوَّر للوهلة الأُولى أنّ الصراع انحصر في كربلاء، وأنّ أطراف الصراع هم سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) والقرد المسعور المخمور، ومَن كان تبعاً للحقّ في قلّة عددهم وعُدّتهم ومَن كان تبعاً للشيطان في عدّتهم وعديدهم الذي تشكّل في صورة عسكر وجيش نظاميّ قاتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وقتله..

فيما يقع التغافل في طرفٍ ثالثٍ مؤثّرٍ غاية الأثر _ ودائماً في الحسابات الظاهريّة _ في الواقعة، وهم من يسمّونهم: الأُمّة! فإنّ هؤلاء قد عدَواا على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، إمّا بتسجيل مواقفهم في صفّ الظالم والمشاركة في قتاله، وإمّا بخذلانه واختيار الدنيّة تديّناً أو حبّاً في الدنيا،فإنّ الأُمّة الّتي اعتنقت دين العِجل والسامريّ، وأصغت إلى هتوف الشيطان، وقدّست إلى حدّ العبادة أعداء النبي (صلی الله علیه و آله) ، أو مالت إلى الدنيا وزخارفها وخافت على أموالها وأولادها وأخلدت إلى الدنيّة، على علمٍ منها، شاركت كلَّ المشاركة في ما جرى على سيّد الشهداء (علیه السلام) وما جرى على أهل بيته ومَن سبقه من أهل الكساء (علیهم السلام) ..

فهي سكتت يوم هُتكت حرمة النبيّ (صلی الله علیه و آله) في مدينته المقدّسة الّتي حرّمها ما بين عير وثبير، وعلى مرأى ومسمع من الصحابة، فجمعوا

ص: 317

الحطب على بيت الوحي وأحرقوا الدار، وفيها سيّد الوصيّين وسيّدة نساء العالمين وسيّدا شباب أهل الجنّة (علیهم السلام) بإجماع المسلمين، فعَدَوا على الصدّيقة فقتلوها على مقربةٍ من تربة أبيها..

ثمّ عدَوا على أمير المؤمنين (علیه السلام) ، فملؤوا قلبه قيحاً، وجرّعوه الكمد، وحاربوه، ورموه بشقّ العصا، وغيرها من الكبائر الّتي ارتكبوها في حقّه، ثمّ قتلوه.. والأُّة بين مباشرٍ وخاذل، طمعاً بما في أيدي القوم..

وعدَوا على السبط الأكبر (علیه السلام) ، حتّى صالح الطاغية، ونكث الطاغية عهود الصلح منذ اليوم الأوّل الّذي دخل فيه الكوفة، وهو يعلم أن ليس في القوم من سيكون في صفّ الإمام المجتبى (علیه السلام) ، ففعل ما فعل؛ لأنّه واثقٌ من رعيّته..

ثمّ عدَوا على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فخذلوه في البلدان، وتركوه طُعمةً للسيوف والسنان، ووقفوا يتفرّجون على عقائل الوحي وودائع النبوّة وهميطوفون بهم في البلدان، فرضوا بذلك وسكتوا، اعتقاداً منهم بدين السلطان أو رضىً منهم بدنياه وقيئه السائح عليهم من فضول الحطام.

إنّ هؤلاء هم العسكر الّذي قاتل به عسكر السقيفة وعسكر الكوفة أصحاب الكساء (علیهم السلام) وقتلوا سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فلماذا يبقون دائماً خارج دائرة التجريم والمحاسبة؟! بل ربّما يُلتمَس لهم العذر من خلال تحليل أوضاعهم النفسيّة والاجتماعيّة، فيُعتذَر لهم بالشلل النفسيّ وضعف الإرادة وازدواجيّة الشخصيّة، وما شاكل من المبرّرات الّتي دعتهم إلى خذلان سيّد الشهداء (علیه السلام) !! شللهم النفسيّ كان نتيجة حبّ

ص: 318

الدنيا أو التديّن بدين الأعداء، وكذا ضعف إرادتهم وازدواجيّتهم، فهي حالاتٌ مبتنيةٌ على أُسس الضلال والهوى الّذي نهى عنها الله والنبيّ والقرآن الكريم.

فلا ينبغي _ _ والحال هذه _ _ تجاهل دور الأُمّة والتدقيق في دراسة ردود أفعالها والإمعان في مواقفها.. ماذا فعل أهل المدينة وريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) يُهدَّد بالقتل بين أظهرهم؟ أوَليس قد ألّبوا أو خنسوا إرضاءاً للسلطان الّذي هم به يؤمنون؟ ولو خنسوا خوفاً وحبّاً في الحياة، أوَليس هم مدينون؟

وكذا في مكّة، أيخرج ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وخامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) والموسم على حاله لم يتزحزح فيه أيّ شيءٍ ولم يثيره أيّ شيء؟!والكلام يطول، سنتركه هنا لنلتقي في مواكبة ظروف حركة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) بين المدينة ومكّة، ثمّ في مكّة إلى حين الخروج منها.

* * * * *

وأخيراً: أتقدّم بالشكر الجزيل الموصول إلى القارئ الكريم على سعة صدره واستماعه إلى ما في الكتاب، والتأمّل والتدقيق فيه، سواءً اقتنع أو لم يقتنع.

أرجو من الله التوفيق والسداد، وأن يمدّ في عمري في خيرٍ وعافية، ويفتح علَيّ، ويصحّح نيّتي، فإنّي لا أرجو إلّا أن أألتزم الحقّ وأأكتشف الحقيقة، وأعرف الإمام المظلوم (علیه السلام) ، وأحشر نفسي ووالدَيّ وأولادي وأزواجي في خدّامه وعبيده.

ص: 319

ص: 320

محتويات الكتاب

الديباجة. 3

المقدّمة. 13

الأول: القراءة بمعزلٍ عن السوابق.. 14

الثاني: اجتناب العجَلة. 15

الثالث: ليس هذا كلّ البحث... 15

الرابع: توثيقات الكتاب... 16

الخامس: هدف البحث... 16

السادس: إضافة بعض المطالب... 17

مقدّمات ضروريّة. 19

المقدّمة الأُولى: علم الإمام (علیه السلام) بعاقبة القيام. 21

الفرض الأوّل: علم الإمام (علیه السلام) . 22

الفرض الثاني: من خلال الإخبار الغيبيّ.. 22

الفرض الثالث: مُجريات الأحداث ووضوحها للجميع.. 23

المقدّمة الثانية: صفات المعصومين (علیهم السلام) وتكاليفهم الربّانيّة. 24

المقدّمة الثالثة: تعريف الثورة. 30

معنى الثورة في اللغة العربيّة. 40

ص: 321

تعريف الشيخ شمس الدين (رحمة الله) . 44

موازين دراسة الثورات... 63

أهمّ الوسائل في الغزو الثقافيّ.. 66

مقوّمات الثورة. 69

دواعي خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة 71

القسم الأوّل: دواعي بعيدة المدى.. 71

المدى الأوّل: منذ صدر الإسلام. 71

المدى الثاني: قُبيل القيام. 76

القسم الثاني: الدواعي الآنيّة. 81

وصيّة سيّد الشهداء (علیه السلام) لأخيه محمّد ابن الحنفيّة 83

المستوى الأوّل: البحث في السند والاعتبار. 83

أوّل مَن حكى الوصيّة. 83

حكاية ابن شهرآشوب... 84

حكاية ابن أبي طالب ومَن بعده. 86

غريبةٌ جدّاً 87

إغفال السند.. 88

المستوى الثاني: حوار ابن الحنفيّة وسيّد الشهداء (علیه السلام) عند المؤرّخين.. 88

نموذج متقدّم: البلاذري (ت 279). 89

نموذج معاصر الطبري (ت 310). 89

نموذج متأخّر: المفيد، المجلسي، البحراني، وغيرهم.. 90

ص: 322

المستوى الثالث: البحث في الدلالات... 94

النكتة الأُولى: النصّ وصيّة. 94

النكتة الثانية: المخاطَب بالوصيّة. 98

النكتة الثالثة: مكان صدور الوصيّة. 100

النكتة الرابعة: زمان كتابة الوصيّة. 101

النكتة الخامسة: المطلوب في الوصيّة. 104

النكتة السادسة: ظروف صدور الوصيّة. 105

النكتة السابعة: سبب الخروج في تصريحات سيّد الشهداء (علیه السلام) . 126

النكتة الثامنة: سبب الخروج من المدينة في فهم المؤرّخين.. 134

النكتة التاسعة: تصوّرات الأقرباء والمقرّيبن.. 137

النكتة العاشرة: فهم الشيعة في الكوفة. 138

النكتة الخاتمة: الاستنهاض والاستنصار! 141

نكات تتعلّق بالوصيّة مباشرة. 142

النكتة الأُولى: ملاحظة اتّحاد الصدر والذيل في النصّ..... 143

النكتة الثانية: أُحبّ المعروف وأُنكِر المنكر. 143

النكتة الثالثة: الوصيّة برواية أهل البيت (علیهم السلام) . 154

النص..... 159

الجزء الأوّل: الحوار. 159

فقرات الجزء الأول: 161

الجزء الثاني: متن الوصيّة. 242

ص: 323

البند الأوّل: إطلالة الوصيّة ومقدّمتها 244

البند الثاني: متن الوصيّة. 245

البند الثالث: خاتمة الوصيّة. 285

لماذا لم يوصِ الإمامُ لولده زين العابدين (علیهما السلام) ؟ 291

هل نفذ ابن الحنفيّة الوصيّة؟. 295

موقف ابن الحنفيّة مع يزيد المخمور حسب رواية ابن أعثم.. 296

ابن الحنفيّة لا يأذن لأبنائه بالخروج مع الإمام (علیه السلام) . 302

النقطة الأُولى: مَن هو أوّل مَن روى هذا المتن؟. 303

النقطة الثانية: النقض بالآثار. 305

الخاتمة. 309

الإشارة الأُولى: الأخذ عن الإمام نفسه. 315

الإشارة الثانية: دور الناس والأُمّة. 317

ص: 324

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.