ظروف حركه سيد الشهداء علیه السلام بين المدينه و مكه

اشارة

ظروف حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) بين المدينة ومكّة

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

زبان: عربی

تعداد صفحات: 300ص

موضوع: امام حسین علیه السلام

خیراندیش دیجیتالی : بیادبود مرحوم حاج سید مصطفی سید حنایی

ص: 1

اشارة

ص: 2

ظروف حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) بين المدينة ومكّة

تأليف:

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

ص: 3

ص: 4

الديباجة

الحمد لله الّذي لا إله إلّا هو الملِك الحقُّ المبين، المدبِّر بلا وزير، ولا خَلقٌ مِن عباده يستشير، الأوّل غير موصوف، والباقي بعد فناء الخلق، العظيم الربوبيّة، نور السماوات والأرضين وفاطرهما ومبتدعهما، بغير عمَدٍ خلقَهما، فاستقرّت الأرضون بأوتادها فوق الماء، ثمّ علا ربُّنا في السماواتِ العُلى، الرحمانُ على العرشِ استوى، له ما فِي السماواتِ وما ِي الأَرضِ وما بينهما وما تحتَ الثرى، فأنا أشهدُ بأنّك أنت الله، لا رافع لِما وضعت، ولا واضع لما رفعت، ولا معزَّ لمَن أذلَلت، ولا مُذلّ لمَن أعزَزْت، ولا مانع لما أعطيت، ولا معطيَ لما منعت ((1)).

اللَّهُمَّ واجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِك، وَنَوَامِيَ بَرَكَاتك، عَلَى محمّدٍ عَبْدِك وَرَسُولك، الْخَاتِمِ لِمَا سَبَقَ، وَالْفَاتِحِ لِمَا انْغَلَقَ، وَالْمُعْلِنِ الْحَقَّ بِالْحَقِّ، وَالدَّافِعِ جَيْشَاتِ الأَباطِيلِ، وَالدَّامِغِ صَوْلاتِ الأَضَالِيلِ، كَمَا حُمِّلَ، فَاضْطَلَعَ قَائِماً بِأَمْرِكَ، مُسْتَوْفِزاً فِي مَرْضَاتِك، غَيْرَ نَاكِلٍ عَنْ قُدُمٍ، وَلا وَاهٍ فِي عَزْمٍ،

ص: 5


1- بحار الأنوار: 83 / 332 الباب 45.

وَاعِياً لِوَحْيِكَ، حَافِظاً لِعَهْدِكَ، مَاضِياً عَلَى نَفَاذِ أَمْرِكَ، حَتَّى أَوْرَى قَبَسَ الْقَابِسِ، وَأَضَاءَ الطَّرِيقَ لِلْخَابِطِ، وَهُدِيَتْ بِهِ الْقُلُوبُ بَعْدَ خَوْضَاتِ الْفِتَنِ وَالآثَامِ، وَأَقَامَ بِمُوضِحَاتِ الأَعْلامِ وَنَيِّرَاتِ الأَحْكَامِ، فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ، وَخَازِنُ عِلْمِكَ الْمخْزُونِ، وَشَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ، وَبَعِيثُكَ بِالْحَقِّ، وَرَسُولُكَ إِلَى الْخَلْقِ ((1)).

اللّهمّ وضاعِفْ صلواتِكَ ورحمتَك وبركاتِكَ على عِترة نبيِّك، العترةِ الضائعة الخائفة المستذَلَّة، بقيّةِ الشجرة الطيّبة الزاكية المباركة، وأعلِ -- اللّهمّ -- كلمتَهُم، وأفلِجْ حجّتَهم، واكشِفِ البلاءَ واللّأْواءَ، وحَنادِسَ الأباطيل والعمى عنهم، وثبِّتْ قلوبَ شيعتهم وحزبَكَ على طاعتهم وولايتهم ونصرتهم وموالاتهم، وأَعِنْهم، وامنحهم الصبرَ على الأذى فيك، واجعل لهم أيّاماً مشهودة، وأوقاتاً محمودةً مسعودة، توشِكُ فيها فَرَجَهم، وتُوجِبُ فيها تمكينهم ونصرهم، كما ضمِنتَ لأوليائك في كتابك المنزَل، فإنّك قلتَ -- وقولك الحقّ -- : ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الاْرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً﴾ ((2)).

ص: 6


1- نهج البلاغة: 101 خ 72.
2- مصباح المتهجّد: 785.

والعنِ اللّهمّ أوّلَ ظالمٍ ظلَمَ حقَّ محمّدٍ وآلِ محمّد، وآخرَ تابعٍ له على ذلك، اللّهم وأهلِك مَن جعل يومَ قتلِ ابنِ نبيِّك وخيرتك عيداً، واستهَلَّ به فَرَحاً ومَرَحاً، وخُذْ آخرَهم كما أخذتَ أوّلهم، وأضعِفِ اللّهمّ العذابَ والتنكيل على ظالمي أهل بيت نبيّك، وأهلِكْ أشياعَهُم وقادتَهم، وأَبِر حماتهم وجماعتهم ((1)).

وصلِّ اللّهمّ على حبيبي ومالك رقّي وسيّدي وإمامي، الشهيد السعيد، والسبط الثاني، والإمام الثالث، والمبارك، والتابع لمرضاة الله، المتحقّق بصفات الله، والدليل على ذات الله، أفضلِ ثقات الله، المشغول ليلاً ونهاراً بطاعة الله، الناصر لأولياء الله، المنتقِم من أعداء الله، الإمام المظلوم، الأسير المحروم، الشهيد المرحوم، القتيل المرجوم، الإمام الشهيد، الوليّ الرشيد، الوصيّ السديد، الطريد الفريد، البطل الشديد، الطيّب الوفيّ، الإمام الرضيّ، ذي النسب العلِيّ، المنفِق الملي، أبي عبد الله الحسين بن علي (علیهما السلام) ..

منبع الأئمّة، شافع الأُمّة، سيّد شباب أهل الجنّة، وعَبرة كلّ مؤمنٍ ومؤمنة، صاحب المحنة الكبرى، والواقعة العظمى، وعَبرة المؤمنين في دار البلوى، ومَن كان بالإمامة أحقّ وأَولى، المقتول بكربلاء، ثاني السيّد الحصور يحيى ابن النبيّ الشهيد زكريا (علیه السلام) ، الحسين بن عليّ المرتضى..

ص: 7


1- مصباح المتهجّد: 785.

زين المجتهدين، وسراج المتوكّلين، مفخر أئمّة المهتدين، وبضعة كبد سيّد المرسلين (صلی الله علیه و آله و سلم) ، نور العترة الفاطميّة، وسراج الأنساب العلويّة، وشرف غرس الأحساب الرضويّة، المقتول بأيدي شرّ البريّة، سبط الأسباط، وطالب الثأر يوم الصراط، أكرم العِتَر، وأجلّ الأُسَر، وأثمر الشجَر، وأزهر البدر، معظّمٌ مكرّمٌ موقّر، منظّفٌ مطهَّر..

أكبر الخلائق في زمانه في النفس، وأعزّهم في الجنس، أذكاهم في العرف، وأوفاهم في العرف، أطيب العرق، وأجمل الخلق، وأحسن الخلق، قطعة النور، ولقلب النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) سرور، المنزَّه عن الإفك والزور، وعلى تحمّل المحن والأذى صبور، مع القلب المشروح حسور، مجتبى الملِك الغالب، الحسين بن عليّ بن أبي طالب ((1)).

الّذي حمَلَه ميكائيل، وناغاه في المهد جبرائيل، الإمام القتيل، الّذي اسمه مكتوبٌ على سرادق عرش الجليل: «الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة»، الشافع في يوم الجزاء، سيّدنا ومولانا سيّد الشهداء (علیه السلام) ((2)).

الّذي ذكره الله في اللوح الأخضر، فقال: «... وجعلتُ حسيناً خازنَ وحيي، وأكرمتُه بالشهادة، وختمتُ له بالسعادة، فهو أفضل مَن استُشهِد، وأرفعُ

ص: 8


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 113 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف الحسيني.
2- معالي السبطين: 61.

الشهداء درجة، جعلتُ كلمتي التامّة معه، والحجّةَ البالغةَعنده، وبعترته أُثيبُ وأعاقِب» ((1)).

الّذي قال فيه جدُّه المبعوث رحمةً للعالمين (صلی الله علیه و آله) : «حسين منّي وأنا من حسين، أحبّ الله مَن أحبّ حسيناً» ((2)).

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) -- وهو الصادق الأمين -- : «إنّ حُبّ عليٍّ قُذِف في قلوب المؤمنين، فلا يحبُّه إلّا مؤمن، ولا يبغضه إلّا منافق، وإنّ حُبَّ الحسن والحسين قُذِف في قلوب المؤمنين والمنافقين والكافرين، فلا ترى لهم ذامّاً» ((3)).

فمِن أيِّ المخلوقات كان أُولئك المردة العتاة، وأبناء البغايا الرخيصات، الّذين قاتلوه بغضاً لأبيه، وسبوا الفاطميّات، ولم يحفظوا النبيّ (صلی الله علیه و آله) في ذراريه؟!!

قال الإمام سيّد الساجدين (علیه السلام) : «أيّها الناس، أصبحنا مطرّدين مشرّدين شاسعين عن الأمصار، كأنّا أولاد تركٍ وكابل، مِن غير جُرمٍ اجترمناه، ولا مكروهٍ ارتكبناه، ولا ثلمةٍ في الإسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين، ﴿إِنْ هذا إلّا اخْتِلاقٌ﴾. فوَاللهِ لو أنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) تقدّم في قتالنا كما تقدّم إليهم في الوِصاية بنا لَما ازدادوا على ما فعلوا بنا، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، مِن مصيبةٍ

ص: 9


1- كمال الدين: 2 / 290 ح 1.
2- بحار الأنوار: 45 / 314.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 47، بحار الأنوار: 43 / 281 الباب 12.

ما أعظمها، وأوجعها، وأفجعها، وأكظّها، وأقطعها، وأمرّها، وأفدحها، فعند الله نحتسبه فيما أصابنا وما بلغ بنا، إنّه عزيزٌ ذو انتقام» ((1)).

ولكنّ الله لهم بالمرصاد، فإنّ دمه الزاكي الّذي سكن في الخُلد، واقشعرّت له أظلّة العرش، وبكى له جميع الخلائق، وبكت له السماوات السبع، والأرضون السبع، وما فيهنّ، وما بينهنّ، ومَن يتقلّب في الجنّة والنار مِن خلقِ ربّنا، وما يُرى وما لا يُرى، سوف لا ولم ولن يسكن، لأنّه قتيل الله وابنُ قتيله، وثارُ الله وابنُ ثاره، ووِترُ الله الموتور في السماوات والأرض ((2))، حتّى (يبعث الله قائماً، يفرّج عنها الهمّ والكرباتِ).

قال الحسين (علیه السلام) : «يا ولدي يا عليّ، واللهِ لا يسكن دمي حتّى يبعث الله المهديّ» ((3)).

فذلك قائم آل محمّد (عجل الله تعالی فرجه الشریف) يخرج، فيقتل بدم الحسين بن علي (علیهما السلام) .. «وإذا قام -- قائمنا -- انتقم لله ولرسوله ولنا أجمعين» ((4)).

وقد بشّر بذلك رسول ربّ العالمين (صلی الله علیه و آله و سلم) ، فقال:

«لمّا أُسريَ بي إلى السماء أوحى إليّ ربّي (جلّ جلاله) فقال: يا محمّد، إنّي

ص: 10


1- بحار الأنوار: 45 / 147.
2- أُنظر: بحار الأنوار: 98 / 151 الباب 18.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 134.
4- بحار الأنوار: 52 / 376.

اطّلعتُ على الأرض اطلاعةً فاخترتُك منها، فجعلتك نبيّاً، وشققتُ لك من اسمي اسماً، فأنا المحمود وأنت محمّد، ثمّ اطّلعتُ الثانية فاخترتُ منها عليّاً، وجعلتُه وصيّك وخليفتك، وزوج ابنتك، وأبا ذريّتك، وشققتُ له اسماً من أسمائي، فأنا العليّ الأعلى وهو عليّ، وخلقت فاطمة والحسن والحسين من نوركما، ثمّ عرضتُ ولايتهم على الملائكة، فمَن قَبِلها كان عندي من المقرَّبين.

يا محمّد، لو أنّ عبداً عبدَني حتّى ينقطع ويصير كالشنّ البالي، ثمّ أتاني جاحداً لولايتهم، فما أسكنتُه جنّتي، ولا أظللتُه تحت عرشي.

يا محمّد، تحبّ أن تراهم؟

قلت: نعم يا ربّ.

فقال (عزّ وجلّ): إرفَعْ رأسك.

فرفعتُ رأسي، وإذا أنا بأنوار عليٍّ وفاطمة والحسن والحسين، وعليّ بن الحسين، ومحمّد بن عليّ، وجعفر بن محمّد، وموسى بن جعفر، وعليّ بن موسى، ومحمّد بن عليّ، وعليّ بن محمّد، والحسن بن علي، و (م ح م د) بن الحسن القائم في وسطهم كأنّه كوكبٌ دُرّي.

قلت: يا ربّ، ومَن هؤلاء؟

قال: هؤلاء الأئمّة، وهذا القائم الّذي يحلّل حلالي، ويحرّم حرامي، وبه أنتقم من أعدائي، وهو راحةٌ لأوليائي، وهو الّذييشفي قلوب شيعتك من الظالمين والجاحدين والكافرين، فيُخرِج اللّات والعُزّى طريَّين فيحرقهما، فلَفِتنةُ الناس

ص: 11

- يومئذٍ -- بهما أشدّ من فتنة العجل والسامري» ((1)).

وروى عبد الله بن سنان قال: دخلتُ على سيّدي أبي عبد الله جعفر ابن محمّدٍ (علیهما السلام) في يوم عاشوراء، فألفيتُه كاسفَ اللّون، ظاهر الحزن، ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤلؤ المتساقط، فقلت: يا ابن رسول الله، ممَّ بكاؤك؟ لا أبكى الله عينيك!

فقال لي: «أوَ في غفلةٍ أنت؟! أما علمتَ أنّ الحسين بن عليّ أُصيبَ في مثل هذا اليوم؟!».

فقلت: يا سيّدي، فما قولك في صومه؟

فقال لي: «صُمْه من غير تبييت، وأفطره من غير تشميت، ولا تجعله يوم صوم كملاً، ولْيكُن إفطارك بعد صلاة العصر بساعةٍ على شربةٍ من ماء، فإنّه في مثل ذلك الوقت من ذلك اليوم تجلّت الهيجاء عن آل رسول الله، وانكشفت الملحمة عنهم، وفي الأرض منهم ثلاثون صريعاً في مواليهم، يعزّ على رسول الله (صلی الله علیه و آله) مصرعهم، ولو كان في الدنيا -- يومئذٍ -- حيّاً لكان (صلی الله علیه و آله) هو المعزّى بهم».قال: وبكى أبو عبد الله (علیه السلام) حتّى اخضلّت لحيته بدموعه..

ثمّ علّمه آداب يوم عاشوراء، وآداب الزيارة في ذلك اليوم، إلى أن قال: «ثمّ قل: اللّهمّ عذّب الفجَرة الّذين شاقّوا رسولك، وحاربوا أولياءك، وعبدوا غيرك، واستحلّوا محارمك، والعن القادة والأتباع، ومَن كان منهم فخب وأوضع

ص: 12


1- كمال الدين: 1 / 252 الباب 23 ح 2، بحار الأنوار: 52 / 379 ح 185.

معهم أو رضي بفعلهم، لعناً كثيراً. اللّهمّ وعجِّلْ فرج آل محمّد (صلی الله علیه و آله) ، واجعل صلواتك عليه وعليهم، واستنقذهم من أيدي المنافقين المضلّين، والكفرة الجاحدين، وافتح لهم فتحاً يسيراً، وأتح لهم روحاً وفرجاً قريباً، واجعل لهم من لدنك على عدوّك وعدوّهم سلطاناً نصيراً. اللّهمّ إنّ كثيراً من الأُمّة ناصبَت المستحفظين من الأئمّة، وكفرت بالكلمة، وعكفت على القادة الظلمة، وهجرت الكتاب والسنّة، وعدلت عن الحبلين اللَّذَين أمرتَ بطاعتهما والتمسّكِ بهما، فأماتت الحقّ، وجارت عن القصد، ومالأت الأحزاب، وحرّفت الكتاب، وكفرت بالحقّ لمّا جاءها، وتمسّكت بالباطل لمّا اعترضها، وضيّعت حقّك، وأضلّت خلقك، وقتلت أولاد نبيّك، وخيرةَ عبادك، وحمَلَةَ علمك، وورثة حكمتك ووحيك، اللّهمّ فزلزل أقدام أعدائك، وأعداء رسولك وأهل بيت رسولك، اللّهمّ وأخرب ديارهم، وافلل سلاحهم، وخالف بين كلمتهم، وفتّ في أعضادهم، وأوهن كيدهم، واضربهم بسيفك القاطع، وارمهم بحجرك الدامغ، وطمّهم بالبلاءطمّاً، وقمّهم بالعذاب قمّاً، وعذّبهم عذاباً نكراً، وخذهم بالسنين والمثلات الّتي أهلكتَ بها أعداءك، إنّك ذو نقمةٍ من المجرمين. اللّهمّ إنّ سنّتك ضائعة، وأحكامك معطَّلة، وعترة نبيك في الأرض هائمة، اللّهم فأعِنِ الحقّ وأهله، واقمع الباطل وأهله، ومُنّ علينا بالنجاة، واهدنا إلى الإيمان، وعجّل فرجنا، وانظمه بفرج أوليائك، واجعلهم لنا ودّاً، واجعلنا لهم وفداً» ((1)).

ص: 13


1- مصباح المتهجّد: 784، بحار الأنوار: 98 / 305 الباب 24.

والصلاة والسلام على أصحاب الحسين (علیه السلام) ، الّذين كشف لهم سيّد الشهداء (علیه السلام) (الغطاء، حتّى رأوا منازلهم من الجنّة، فكان الرجل منهم يُقدِم على القتل ليبادر إلى حوراء يعانقها، وإلى مكانه من الجنّة) ((1))، ووعدَهم ربُّ العزّة أن يعيد لهم الكرّة على أعدائهم، فقال: ﴿ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ﴾، يخاطب بذلك أصحاب الحسين ((2)).

اللّهم صلِّ على محمّدٍ وآل محمّد، وتوفّنا على الإيمان بك والتصديق برسولك والولاية لعليّ بن أبي طالب (صلوات الله عليه) والأئمّةِ من وُلده، والبراءة من أعدائهم ((3)).

ص: 14


1- علل الشرائع: 1 / 229 الباب 163 ح 1، بحار الأنوار: 44 / 297 الباب 35 ح 1.
2- تأويل الآيات الظاهرة: 272.
3- أُنظر: المزار لابن المشهدي: 177، بحار الأنوار للمجلسيّ: 97 / 428 زيارة المولى مسلم بن عقيل (علیهما السلام) .

المقدّمة

(1)

اشارة

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على محمّدٍ وآله الطاهرين، واللّعن الدائم على أعدائهم أجمعين من الأوّلين والآخرين.

أمّا بعد:

ربّما صوّر البعضُ خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة كمنطلقٍ (للثورة)، وأنّه قد أعلنها منذ اللحظة الأُولى من خلال فعلَين متمازجَين لا يقبلان التفكيك إلّا اعتباراً، وهما: رفض البيعة، وطلب الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبهذا يكون سيّد الشهداء (علیه السلام) قد اختار المواجهة مع النظام الحاكم يومها، وعزم على الانقضاض عليه، سواءً تركه يزيد الخمور أم ألزمه بالبيعة.

(وامتزاج عامل رفض البيعة بعامل طلب الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني أنّ الأُمويّين لو تركوا الإمام الحسين (علیه السلام) وشأنه ولم يطالبوه بالبيعة لَما تركهم وشأنهم، ولَما

ص: 15

كفّ عنهم) ((1)).

(والمتأمّل في البيانات الأُولى الّتي صرّح بها الإمام (علیه السلام) يكتشف بوضوحٍ حقيقة الامتزاج الّذي لا يقبل التفكيك بين هذين العاملَين، إنّ رفض الإمام (علیه السلام) البيعة ليزيد في مجلس والي المدينة آنئذٍ الوليد بن عُتبة كان قد امتزج منذ اللحظات الأُولى بعامل طلب الإصلاح في الأُمّة وإقامة الخلافة الحقّة في احتجاجه (علیه السلام) حين قال للوليد بن عُتبة:

«أيّها الأمير، إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلَف الملائكة، ومحلّ الرحمة، وبنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجلٌ فاسق، شارب خمر، قاتل النفس المحرّمة، مُعلِنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة» ((2))) ((3)).

بَيد أنّ هذه الفكرة لا تكاد تصمد أمام النقد والمتون التاريخيّة الكثيرة الّتي وردت تتحدّث عن حوادث خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة المنوّرة، ونحن قد أتينا على تفصيلها وبيانها في كتاب (ظروف خروج سيّد

ص: 16


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 367.
2- الفتوح لابن أعثم: 5 / 14.
3- مع الركب الحسينيّ: 1 / 366.

الشهداء (علیه السلام) من المدينة)، فلا حاجة لتفصيل الكلام هنا، إلّا بعض الإشارات السريعة..

الإشارة الأُولى: اعتماد ابن أعثم

هذه الفكرة تقوم بالأساس على اعتماد نصّ ابن أعثم عموماً، وما أورده في وصيّة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) لأخيه ابن الحنفيّة، والحال أنّ مَن روى أحداث خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة ليس ابن أعثم وحده، وإنّما رواها المؤرّخون جميعاً من القدماء والمتأخّرين.

والحال أنّ ابن أعثم نفسه مجهولٌ لا يُعرَف عنه شيءٌ سوى اسمه، وزعم ياقوت أنّه ورد في حقّه أنّه كان من الشيعة، ولا يُعلم من أيّ فرقةٍ من فرق الشيعة كان، ولم تتوفّر عن ابن أعثم معلومةٌ تعرّفه بأكثر ممّا ذكرنا حسب فحصنا.

وذكره صاحب (الأعيان) وقال: ذكره ياقوت في (معجم الأدباء) بهذا العنوان وقال: كان شيعيّاً، وهو عند أصحاب الحديث ضعيف ... ((1)).

وكلّ مَن ترجم له وذكر اسمه وتاريخه (الفتوح) ووصفه بالتشيّع إنّما اعتمد ياقوتَ على ما يبدو.

ص: 17


1- أعيان الشيعة للأمين: 2 / 481.

فابن أعثم لا يُعدّ رجلاً معروفاً موثوقاً ضابطاً معتمداً حسب الضوابط الفنيّة.

ويُلاحِظ مَن تتبّع كتابه (الفتوح) أنّه يمتاز بخصوصيّاتٍ مِن قبيل أُسلوبه القصصيّ الاستعراضي، ومن قبيل بعض النصوص الّتي تشي باعتقادٍ خاصٍّ كان يعتقده المؤلّف، حيث يسمّي سيّد الشهداء (علیه السلام) (أمير المؤمنين) في أكثر من موضع، ويروي بعضها على لسان بعض الشخصيّات الّتي لا يُحتمَل في حقّها أنّها تصف سيّد الشهداء (علیه السلام) بهذه الصفة، وتبدو الروح الثوريّة الهائجة مسيطرة على نصوصه ومتونه، سيّما فيما يخصّ سيرة سيّد الشهداء (علیه السلام) .

الإشارة الثانية: تفرّد ابن أعثم

لقد روى المؤرّخون أحداث استحضار الإمام (علیه السلام) من قِبَل والي المدينة (الوليد)، وما دار بينهما من حوار، وانفرد ابن أعثم من بين الجمّ الغفير من المؤرّخين المعروفين بنقل عبارات معيّنة، من قبيل قوله: «أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة»، فما سبق هذه الزيادة من الاستنظار والاستمهال حتّى الصباح، أو حتّى يدعو الناس ويدعو الإمام (علیه السلام) معهم في باقي المصادر، بَيد أنّ هذه الزيادة وردت عند ابن أعثم فقط، ومَن جاء من بعده -- من قبيل الخوارزميّ وابن نما والسيّد ابن طاووس -- إنّما نقل عنه، باعتبار أنّ هؤلاء كان دأبهم النقل عنه في أكثر مواضع كتبهم ومقاتلهم.

ص: 18

وكذا الوصيّة، فإنّ ابن أعثم تفرّد في نقلها، ولم يروها أحدٌ قبله، ولا أحدٌ ممّن عاصره، بل وأعرض عنها مَن جاء بعده، حتّى مَن اعتاد النقل عنه، كالسيّد ابن طاووس والشيخ ابن نما، على تفصيلٍ أتينا على تتبّعه في كتاب (الظروف)، فلا نعيد.

ولكن ينبغي أن نعرف هنا: إنّ إلغاء جميع المتون التاريخيّة واعتماد ما تفرّد به ابن أعثم ورواه مرسَلاً، قد يشكّل ثغرةً غير قابلة للردم في مسيرة البحث والاستنتاج التاريخي، سيّما إذا كان لقضيّةٍ في غاية الخطورة، ولدعوىً لها أثرٌ على أعلى المستويات، وتتضمّن الحديث عن أقدس الدماء الّتي سكنت الخلد.

الإشارة الثالثة: معنى الزيادة

ما تفرّد بنقله ابن أعثم، خلافاً لجميع المتون المتوفّرة من زيادة قول الإمام (علیه السلام) : «ننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة»، ليس بالضرورة يعني أنّ الإمام (علیه السلام) أراد مزج رفض البيعة ليزيد منذ اللحظة الأُولى ب- (إقامة الخلافة الحقّة)، إذ أنّ جميع مَن كتب في تفسير سيرة سيّد الشهداء (علیه السلام) من المؤمنين بما فيهم من تبنّى هذا الرأي، يجزم أنّ الإمام (علیه السلام) لم يكن يطلب الخلافة ولا إقامة الحكم الحقّ، لأنّه كان يعلم بالجزم واليقين كما يعلم كلّ

ص: 19

مَن راجع النصوص المقدّسة والإخبارات الغيبيّة أنّ الإمام (علیه السلام) ستكون عاقبة حركته الشهادة، وأنّه (مقتولٌ لا محالة)! ((1))

فبالإضافة إلى تفرّد ابن أعثم ونقله المرسل، ومجهوليّته، ومجهوليّة مَن يروي عنه، فإنّ الإمام (علیه السلام) لم يستهدف من حركته إقامة (الخلافة الحقّة) بالاتّفاق، فلابدّ أن نفهم هذا النصّ -- على فرض صحّته -- بما ينسجم مع حركة الإمام (علیه السلام) ومآلها الّذي لا نشكّ فيه، ولا يشكّ فيه أحدٌ ممّن آمن بالله وبرسوله (صلی الله علیه و آله) وبأمير المؤمنين (علیه السلام) ، وأصحاب هذا الرأي هم من خيار المؤمنين، فلا يمكن أن يحملوا كلام الإمام (علیه السلام) على ما لا يحتمله.

ويكفي في تصوير هذه الزيادة أنّ الإمام (علیه السلام) أراد أن يُثبت لهم أن لا قياس ولا مقارنة بينه -- وهو خامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) والإمام المفترض الطاعة على الخلق بنصّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونصّ أبيه (علیه السلام) ، والإنسان الكامل الّذي لا كمال للإنسان بعده، بما فيه من مزايا إلهيّة وعطايا ربّانية وعلوم سماويّة، وأنّ الخلق كلّهم يحتاجون إليه وهو لا يحتاج إلى أحدٍ منهم -- وبين يزيد شارب الخمر الفاسق القاتل للنفس المحرّمة، والقرد الّذي نزا على المنبر عدواناً وطغياناً وتجبّراً وعتوّاً على الله وعلى خلقه.

ص: 20


1- أُنظر: الهداية الكبرى للخصيبي: 202، بحار الأنوار: 44 / 331، العوالم للبحراني: 17 / 180، نفَس المهموم للقمّي: 76، الدر النظيم لابن حاتم الشامي: 549، مشارق أنوار اليقين للبرسي: 162.

ولإثبات ذلك طرقٌ ووسائل كثيرة لا تُحدّ ولا تُحصَر، والإمام (علیه السلام) هو حجّة الله البالغة، وهو أعرف بها من غيره من الخلق، ولا ينحصر الأمر بالمواجهة المسلّحة، وقد قام الإمام (علیه السلام) جزماً بما يلزم خلال فترة إمامته كلّها منذ زمن معاوية، كما قام بذلك جدّه وأبوه وأُمّه وأخوه وأبناؤه المعصومون (صلوات الله عليهم أجمعين).

الإشارة الرابعة: الاجتهاد مقابل النصوص

عُمدة ما يُذكَر من دليلٍ للقول بأنّ الأُمويّين لو تركوا الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) لَما تركهم: رفض البيعة، وطلب الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وامتزاج هذين العاملين بما لا يقبل التفكيك إلّا على المستوى الاعتباري.

وهذا الاستدلال مبنيٌّ على الاستنتاج والتحليل، وهما فاعلان حينما تنعدم النصوص الصريحة والتصريحات الواضحة والبيانات الجليّة، فإذا أردنا استنتاج فكرةٍ أو تحليل موقفٍ لابدّ من مراجعة النصوص والمتون الواردة في المقام، والاطمئنان إلى أنّ الموقف مورد التحليل والاستنتاج لم يكن فيه كلامٌ واضحٌ من نفس صاحب الموقف، فلنا -- حينئذٍ -- أن نُعمِل الأفكار ونشحذ الأذهان.

أمّا في المواطن الّتي نرى تصريحاتٍ واضحةً وبياناتٍ صريحةً تشرح الموقف من نفس صاحب الموقف، وفي أكثر من موطن، فلا يصلح والحال

ص: 21

هذه تحميله بُنات الأفكار ونتاجات التصوّرات.

وهاتان النقطتان الأساسيّتان (رفض البيعة، وطلب الإصلاح) لا يلزمان المواجهة، ولا يفيدان أنّ الإمام (علیه السلام) سوف لن يتركهم إن تركوه، ولا يشيان بعزم الإمام (علیه السلام) على المواجهة، فقد طلب الإصلاح في الأُمّة وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر الأئمّةُ (علیهم السلام) جميعاً، من دون هذه المواجهة، وقد فعلها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) منذ اليوم الأوّل للانحراف من دون مواجهةٍ مسلَّحة، وتاركهم، كما تاركهم الإمام المجتبى (علیه السلام) ، وتاركهم سيّد الشهداء (علیه السلام) خلال فترة زهاء عشرة سنين من إمامته، وتاركهم الإمام زين العابدين (علیه السلام) والأئمّة (علیهم السلام) من بعده، وهم يقومون بالأمر ويطلبون الإصلاح في الأُمّة، ونشهد لهم جميعاً أنّهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر.

ولم نجد نصّاً موظَّفاً يدلّ على ما ذهب إليه أصحاب هذا الرأي، لا في المدينة ولا بعدها إلى أن رجع الركب الحسينيّ إلى المدينة، إلّا ما يُزعَم من لفظ الوصيّة، وهي كما سمعنا مرسَلةٌ تفرّد بها ابن أعثم وأعرض عنها العلماء والمؤرّخون، فلا تُعدّ نصّاً يمكنه الحكومة على كلّ ما ورد في الباب من نصوص مقدّسة ومتون تاريخيّة.

بل إنّ متن الوصيّة أيضاً لا يحتوي في دلالاته على أنّ الإمام (علیه السلام) سوف لن يتركهم إن تركوه، كما سيأتي في الإشارة التالية.

ص: 22

الإشارة الخامسة: دلالات الوصيّة لا تنسجم مع الدعوى

لقد ناقشنا دلالات الوصيّة مفصّلاً في كتاب (الظروف)، لذا سنقتصر هنا على إشارةٍ سريعة، ونحيل التفصيل إلى هناك لمن أحبّ المتابعة والاطّلاع أكثر.

لقد ورد في نفس الوصيّة أنّ الإمام (علیه السلام) قال:

«فمَن قبلني بقبول الحقّ فالله أَولى بالحقّ، ومن لم يقبلني أصبر حتّى يحكم الله ...».

فلم يهدّد الإمام (علیه السلام) بالمواجهة، وإنّما جعل الخيار مقابل الردّ الصبر، وفي متن الوصيّة دلالاتٌ أُخرى واضحةٌ على ذلك.

الإشارة السادسة: كفاية رفض البيعة

يمكن الاكتفاء برفض البيعة لبيان ظلم العدوّ وعدم الإقرار له بالأحقّيّة، وإثبات الانحراف، وعدم (إضفاء المشروعيّة والمصادقة على تحوّل شكل الحكم الإسلاميّ إلى مُلكٍ وراثيّ عضوض)، من دون الحاجة إلى المواجهة المسلّحة.

الإشارة السابعة: دعوى لا تستقيم من رأس

لقد أفادت النصوص التاريخيّة أنّ الأُمويّين لم يتركوا الإمام (علیه السلام) وحاله ما لم يبايع أو يقتل، وهذا صريح المواقف والتصريحات الّتي صدرت من

ص: 23

العدوّ ومن سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهم الّذين بدؤوا الإمام (علیه السلام) فاستحضروه وخيّروه، بل هدّدوه وشهروا السيف عليه ما لم يبايع في المدينة، كما فعل مروان في مجلس الوليد، بل طلبوا رأس سيّد الشهداء (علیه السلام) سواءً بايع أم لم يبايع، كما كتب يزيد في كتابه إلى الوليد!

بناءً على هذا، فإنّ فرض أن لو تركوه لَما تركهم لا يستقيم من رأس؛ لأنّهم لم يتركوه بالفعل، فمن أين نكتشف موقف الإمام (علیه السلام) ، ولا دليل لنا عليه ولا شاهد إلّا ما استنتجناه من تحليل نصٍّ مرسَلٍ متفرّد رواه مجهول!

الإشارة الثامنة: عرض الإمام (علیه السلام) أن يتركوه!

وردت في الكتب التاريخيّة بعض النصوص الّتي تؤكّد أنّ الإمام (علیه السلام) عرض عليهم مراراً طيلة فترة المسير حتّى شهادته أن يتركوه، وهو تاركهم، وقد خطب فيهم وسألهم عن سبب قتله والمسوّغات الّتي تدعوهم لقتله، فأبوا إلّا أن ينزل على حكمهم أو يقتلوه، وسنأتي على ذكرها في محلّها إن شاء الله (تعالى)، وهي لا تخفى على مَن تصفّح كتب التاريخ.* * * * *

إنّ مناقشة هذه الفكرة تطول، وتحتاج إلى كتابٍ مستقل، بيد أنّ هذه المجموعة من الكتاب الأوّل فيها (ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة)، وهذا الجزء الخاصّ بدراسة حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) بين المدينة

ص: 24

ومكّة، وما سيليها إن شاء الله من بحوث، كلّها تتابع سيرة سيّد الشهداء (علیه السلام) وفق نظرةٍ تختلف تماماً عن هذه الفكرة، فلا يمكن اختصارها كلّها في وُريقاتٍ محدودة، وقد أتينا على بحث بعضها في لقاء الفرزدق بالإمام الحسين (علیه السلام) على مشارف مكّة، فربّما استطاع هذا البحث بفروعه وتشعّباته أن يناقش هذه الفكرة مناقشةً كافيةً وافية، إن شاء الله (تعالى).

ولكن يمكن اختزال النقاش في هذه الفكرة بكلمة:

إنّ الفكرة أساساً تعتمد نصّاً غير ناهضٍ سنداً ولا دلالة، وهي استنتاجٌ مقابل نصوص كثيرة صريحة، سواءً كانت أحاديث شريفة أو بيانات من سيّد الشهداء (علیه السلام) نفسه وردت في المتون التاريخيّة، أو تصريحات العدوّ نفسه.

وهذه الفكرة تؤول -- عاقبةً -- إلى القول بأنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) كان قد بدأ الهجوم وبيّته، وأنّ السلطة والأُمويّين كانوا في موقف الدفاع، والحال أنّ النصوص والشواهد التاريخيّة وسير الحوادث والنصوص المقدّسة كلّها تفيد العكس من ذلك تماماً، إذ كان العدوّ هو الّذي هجمعلى سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وكان الإمام (علیه السلام) في موقف الدفاع، ولم يكن الإمام (علیه السلام) في موقف المواجهة والمهاجمة، ورفض البيعة لوحده، بل حتّى بانضمام طلب الإصلاح وإرادة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يفيد أنّ الإمام (علیه السلام) سوف لن يتركهم إن تركوه!

ص: 25

(2)

نقرأ كثيراً ونسمع كثيراً مَن يقول: إنّما استعجل الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) الخروج من المدينة خوفاً على (ثورته) أن تُخنَق أو تُقبَر في المدينة ...

ربّما كان هذا التصوّر ناشئاً عن الموروث الذهنيّ الّذي يتناول الكاتب أو المتكلّم من خلاله حركةَ سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فهو يقرّر مقدّماً أنّ ثمّة (مشروعاً)! ينطلق من أجل تحقيقه الإمام (علیه السلام) ، ثمّ يقرأ الحركة من خلال هذا المشروع المقرَّر!

(صحيحٌ أنّه (علیه السلام) كان قد خرج من المدينة خشية الاغتيال خوفاً على نفسه الشريفة، وخوفاً من أن تُهتَك حرمة حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) بقتله غِيلةً أو في مواجهةٍ مسلّحة..

لكنّ الصحيح في العُمق! أيضاً أنّ هذا الخوف كان يقع ضمن إطار خوفٍ أكبر، وهو خوفه (علیه السلام) من أن تُخنَق ثورته المقدّسة قبل اشتعالها بقتله غيلةً في المدينة، في ظروفٍ زمانيّةٍ ومكانيّةٍ وملابساتٍ مفتعَلَةٍ يقوم بإعدادها وإخراجها الأُمويّون أنفسهم، يستطيعون من خلالها الاستفادة حتّى من حادثة

ص: 26

قتله لصالحهم إعلاميّاً ...) ((1)).

أمّا قتل الإمام (علیه السلام) : فقد أمر به صراحةً يزيد الخمور والفجور في كتابه إلى واليه، وأمّا الاغتيال: فقد خرج الإمام (علیه السلام) إلى الوالي وأخذ معه ثلاثين رجلاً ليكون قد امتنع، لأنّه (غير مأمونٍ) كما قال سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقد أمر مروان بقتله، وفي بعض المتون شهر سيفه.

وكتب ابن عبّاس ليزيد كتاباً قال فيه:

... وما أنسَ من الأشياء، فلستُ بناسٍ اطّرادك الحسين بن عليّ من حرم رسول الله إلى حرم الله، ودسّك إليه الرجال تغتاله، فأشخصتَه من حرم الله إلى الكوفة، فخرج منها خائفاً يترقّب، وقد كان أعزّ أهل البطحاء بالبطحاء قديماً، وأعزّ أهلها بها حديثاً، وأطوع أهل الحرمين بالحرمين لو تبوّأ بها مقاماً واستحلّ بها قتالاً، ولكن كره أن يكون هو الّذي يستحلّ حرمة البيت وحرمة رسول الله، فأكبر من ذلك ما لم تكبر، حيث دسستَ إليه الرجال فيها ليقاتل في الحرم ... ((2)).

فخروج الإمام (علیه السلام) من مدينة الرسول (صلی الله علیه و آله) لأنّها لم تعد مأمناً لابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، صرّحت به المتون والشواهد التاريخيّة، كما دلّت عليه

ص: 27


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 376.
2- تاريخ اليعقوبي: 2 / 249.

مداليل تصريحات الإمام (علیه السلام) وبياناته قبل الخروج، من قبيل تلاوته قوله(تعالى): ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ﴾ ((1)).

أمّا ما اعتُبر (الصحيح في العمق)! فلا دليل عليه، ولا شاهد، ولا تصريح، ولا بيان، سوى التحليل والتصوّرات المسبقة في الموروث الذهنيّ الّتي افترضناها.

وبعبارةٍ أُخرى:

إنّ خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة حفاظاً على نفسه من القتل أو الاغتيال، وحفاظاً على حفظ حرمة المدينة، متّفَقٌ عليه بين جميع الأطراف، ولا يخالِفُ فيه أحدٌ أو ينفيه أو يشكّك فيه، وقد دلّت عليه المتون التاريخيّة والمواقف والتصريحات المسجّلة.

أمّا الزائد عن ذلك، فقد يقع فيه الخلاف، بل قد وقع بالفعل، ولم يذكر له مَن تبنّاه دليلاً واضحاً، ولا شاهداً ناهضاً، ولا حجّةً لائحة، بل أفادت الأدلّة والشواهد خلاف ذلك.

فسبيل الاحتياط أن يلتزم الباحث بالقدر المتيقّن، ويعبر إلى ما زاد على نحو الاحتمال، أو التوقّع والتصوّر، لأنّه يحاول هنا استكشاف موقف المعصوم ويتعامل مع حركةٍ يمكن أن تترتّب عليها أُمورٌ عظام، والمهمّ جدّاً

ص: 28


1- سورة القصص: 21.

من الأحكام، فلا يصلح الارتكان إلى نصّ تاريخيّ مرسل واحد غيرتامّ الدلالة على الموضوع، وحصر الدليل على قرار المواجهة مع الحكم الأُمويّ ابتداءً به.

ص: 29

(3)

اشارة

قد يُقال: إنّ استمهال الإمام (علیه السلام) : «نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون»، وطلبه أن يؤجّل حتّى يدعو الوالي الناس فيدعوه معهم، يفيد إرادة الاستثمار الإعلاميّ والتوظيف التبليغيّ، فيُقال:

(إنّ ما أوصلنا إليه التأمّل في هذه المسألة هو:

إنّ الإمام الحسين (علیه السلام) أراد في إجابته على طلب الوالي منه البيعة ليزيد بأن يُدعى إليها علناً مع الناس: استثمار قوّة وسعة تأثير العامل الإعلاميّ والتبليغيّ في الاجتماع الجماهيريّ العام الّذي تدعى إليه الأُمّة في المدينة للبيعة عادة، ذلك لأنّه (علیه السلام) لو أعلن عن رفضه البيعة ليزيد أمام جماهير أهل المدينة، وفضح أمام هذه الجموع الحاشدة حقيقة يزيد في فسقه واستهتاره، وحرّضهم على رفض البيعة له، واستنهضهم للثورة ضدّه، وأعلن أمامهم عن قيامه هو (علیه السلام) ، وبيّن لهم ما هو عازمٌ على النهوض به، ودعاهم بما هو مأثورٌ وشائعٌ من الأخبار عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في حقّه إلى تأييده ونصرته والخروج معه، لَكان لهذا العامل أثرٌ كبيرٌ جدّاً على أهل المدينة باتّجاه تعبئتهم

ص: 30

لرفض البيعة ليزيد ولنصرة الإمام (علیه السلام)) ((1)).

وهذا الكلام مجرّد تأمّلٍ وتحليل، ليس إلّا، لا تساعد عليه المتون التاريخيّة، ولا تسنده الوقائع، ولا تؤيّده الظروف والأجواء، ولا تنهض به مؤشّرات مجريات الأحداث، وذلك:

أوّلاً: خذلوا الإمام (علیه السلام) على علم

إنّ الناس قد سمعوا ما قاله رسول الله (صلی الله علیه و آله) في حقّ سيّد الشهداء (علیه السلام) وحقّ بني أُميّة، وفي يزيد الفسق والفجور بالذات، وأعرضوا عن ذلك واستسلموا للدنيا وزخارفها واتّبعوا هتوف الشيطان، وصمّوا أسماعهم وعموا أبصارهم عن الحقّ، فما تنفع دعوتهم (بما هو مأثورٌ وشائعٌ من الأخبار عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في حقّه)، فهو مأثورٌ وشائعٌ بينهم!

ثانياً: التزام الناس بالبيعة ليزيد

لقد بايع الناس يزيد القرود منذ عهد أبيه معاوية، وهم يعتقدون أنّها بيعةٌ ملزمة، سواءً كان بدافع دينيّ أو بدافع دنيوي، أو تحت طائلة الخوف والترغيب والترهيب، وقد غدوا على تجديد البيعة، وأكّد الوالي أنّهم انصاعوا وخضعوا وجدّدوا البيعة إلّا النفر الّذين استثناهم، وفيهم سيّد

ص: 31


1- أُنظر: مع الركب الحسينيّ: 1 / 358.

الشهداء (علیه السلام) ، وحسبوا ذلك التزاماً بالجماعة وحذراً من الفرقة وشقّ العصا، وبهذا خذلوا سيّد الشهداء (علیه السلام) وضيّعوه، كما صرّح به نفسه -- فداه العالمين -- في شكواه عند قبر جدّه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وفي غير موضع.

ثالثاً: موافقة الوالي على الإمهال

لقد استمهل الإمامُ (علیه السلام) الواليَ حتّى يصبح ويصبحون وينظر وينظرون، وطلب منه أن يدعوه مع الناس، فأمهله الوليد، وإن اعترض مروان، بيد أنّ النصوص التاريخيّة تصرّح أنّ الموقف الرسميّ للوالي كان يعتمد قبول ما قاله الإمام (علیه السلام) ، ولذا خرج الإمام (علیه السلام) من عنده على هذا الاتفاق.

فلو كان الإمام (علیه السلام) يريد توظيف اجتماع الناس والقيام بالخطوات المذكورة من الخطب والتذكير والاستنهاض والتحريض والدعوة للخروج معه، فقد توفّرت الفرصة، إذ رضيَ منه الوالي بذلك وأمهله، فلماذا عجّل الإمام (علیه السلام) بالخروج من المدينة من دون انتظار للحضور مع الناس حين يدعوهم الوالي للبيعة؟

رابعاً: توفّر الفرص

كان مسجد النبيّ (صلی الله علیه و آله) مركز المدينة المنوّرة، وكان الناس يجتمعون فيه للجمعة والجماعة والزيارة والتهجّد والعبادة والمجاورة، وهو لا يخلو من روّادٍ ليلاً ونهاراً، سواءً من أهل المدينة أو الزوّار والمجاورينوالمعتمرين وغيرهم.

ص: 32

وكان بالإمكان دعوة أهل المدينة بنداءٍ واحدٍ يجمعهم في المسجد النبويّ الشريف، فإن حضر الناس جميعاً، وإلّا كان فيمن يحضر -- ولو للجماعة -- كفاية لتبليغ الأمر في المدينة الّتي لم تكن الأخبار تخفى فيها كثيراً.

فلا يبدو اجتماع الناس للبيعة عند الوالي ضرورة ملحّة مع إمكان تبليغ الناس في غير موضع وفي غير زمان مع حضور الوالي أو عدم حضوره، بل كان بالإمكان أن يدعو الإمام (علیه السلام) شيوخ القبائل ووجهاء القوم ورؤوس الصحابة وكبار التابعين، وقد لا يكلّف ذلك الكثير من الوقت، ويبلّغهم بكلّ ما يريد، أو ليذكّرهم بعهودهم والتزاماتهم مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في حماية أهل بيته والدفاع عنهم، ولم يفعل (علیه السلام) ، لأنّهم قد أصحروا وأبانوا وكشفوا بكلّ وضوحٍ عن مواقفهم، وأبدوا له خذلانهم وتضييعهم له (علیه السلام) .

خامساً: استثمار الطريق

سنعرف فيما يأتي من البحث أنّ الإمام (علیه السلام) قطع المسافة بين المدينة ومكّة بزهاء نصف المدّة المعهودة، وهذا يعني أنّه (علیه السلام) أسرع بالمسير، واختصر التوقّف في المنازل وطوى المراحل، ولم يسجّل لنا التاريخ لقاءاتٍ وخطباً ونشاطاتٍ وتحريضاً ودعواتٍ للخروج، واستقطاباً لجمع الأنصار،وتجييشاً ضدّ النظام الحاكم، ودعوةً للالتحاق، وغيرها ممّا يذكرونه.. وفي سرعة المسير ما يشهد لذلك.

فإن كان الإمام (علیه السلام) يريد الاستثمار الإعلاميّ والتوظيف التبليغيّ،

ص: 33

لكان في الطريق سعة، سيّما أنّه كان يمشي على الطريق الأعظم، وهو طريقٌ مزدحمٌ بالمارّة والمسافرين والتجّار والحجّاج والمعتمرين، علاوةً على أهل المنازل والمراحل والمدن الكبيرة الآهلة بالسكّان الّتي يمرّ بها في الطريق.

سادساً: انطلاق الركب في الليل

لقد اتّفقت المصادر والمتون التاريخيّة -- إلّا الشاذّ منها كما سيأتي في البحث -- على خروج الإمام (علیه السلام) في الليل، ولو كان الإمام (علیه السلام) يريد الاستثمار الإعلاميّ والتوظيف التبليغيّ لَخرج في وضح النهار، ولَجعل خروجه من مسجد النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وخطب في الناس وحرّضهم وجيّشهم ودعاهم للخروج معه.

سابعاً: دور السلطة!

لو افترضنا أنّ الإمام (علیه السلام) كان ينتظر حتّى يُدعى مع الناس، ثمّ يقوم بالاستثمار الإعلاميّ ويخطب ويحرّض الناس ويدعوهم إلى نصرتهويجيّشهم على الحاكم، فالمفروض أن لا نغفل الجانب الثاني، وكأنّ الوالي وجلاوزته ومروان وأذنابه لم يكن لهم حولٌ ولا طولٌ ولا قوّةٌ ولا موقف، وكأنّهم سيقفون مكتوفي الأيدي ينصتون إلى الإمام (علیه السلام) ، بل ربّما يتأثّرون بكلامه، كما نفترض أنّ الناس سيسارعون إلى الإمام (علیه السلام) وترتفع منهم صرخات: لبيك لبيك أبا عبد الله!

ص: 34

إنّ ما عهدناه من أوامر يزيد القرود وموقف مروان، وتهديدات الوليد، وجهوزيّة القوّات التابعة للسلطة، كلّها تفيد أنّهم سيواجهون الإمام (علیه السلام) ، وستقع المواجهة، فيقع المحذور الّذي خرج من أجله سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة المنورة!

ص: 35

(4)

لقد أعلن الإمام (علیه السلام) منذ زمن معاوية رفضه البيعة ليزيد، فقد بايع الناسُ ولم يبايع الإمام (علیه السلام) ، فبيّت معاوية قتل الإمام (علیه السلام) ((1))، ولكنّه لم يُكرِه الإمام (علیه السلام) على البيعة، فكانت المتاركة، و(كانت قاطعيّة الإمام (علیه السلام) في رفض البيعة ليزيد منذ تلك الأيّام وإلى أن صار يزيد حاكماً هي هي، لم تتذبذب ولم يعتورها ضعفٌ أو فتور).

والّذي تغيّر إنّما هو موقف العدوّ، إذ أبى إلّا أن يُكره الإمام (علیه السلام) على البيعة، وهو يعلم مسبقاً أنّه سيأبى ذلك ولا يعطي بيده، ولا يختار طاعة اللئام على مصارع الكرام، والأشياء تُعرَف بأشباهها، فموقف الإمام (علیه السلام) واحد، وموقف العدوّ واحدٌ في جميع المراحل.

ص: 36


1- أُنظر: الكامل لابن الأثير: 3 / 251، نهاية الإرب للنويري: 20 / 356. وانظر: للمزيد كتاب ظروف خروج الإمام الحسين (علیه السلام) من المدينة، تحت عنوان: (تبييت معاوية قتل سيّد الشهداء (علیه السلام)).

(5)

يبدو أنّ من الواضح جدّاً لمن تصفّح المتون التاريخيّة وتابع سير الأحداث أنّه:

(لم تصل إلى الإمام (علیه السلام) وهو في المدينة -- في غضون أيّام إعلانه رفض البيعة ليزيد إلى حين خروجه عنها -- أيّة رسالةٍ من أهل الكوفة تُنبئ عن علمهم بموت معاوية، وعن دعوتهم الإمام (علیه السلام) إليهم، ولا من مكّة أيضاً، ولا من سواهما) ((1)).

وأنّ الرسائل الّتي وصلت إلى الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة من أهل الكوفة كانت بمبادرةٍ منهم، ولم يكن الإمام (علیه السلام) قد أرسل إليهم أو حرّضهم أو جيّشهم واستنهضهم، أو دعاهم للخروج معه! وإنّما هم كاتَبوه ودعوه، ثم إنّه (علیه السلام) لم يعتمد وعودهم حتّى أرسل إليهم أخاه وثقته ومعتمده مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ، ليرى فيهم مدى توافق كتبهم مع عزائمهم ورأي ذوي الحِجى منهم!

ص: 37


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 426.

(6)

لقد قام البحث في هذا الجزء من حركة سيّد الشهداء (بين المدينة ومكّة) على أساس ما تقدّم من بحث (ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة)، فمن الصعب التفريق بينهما، فهما مترتّبان، بل متداخلان أحياناً؛ إذ أنّ البحث الأوّل تناول مناقشة أهمّ وثيقةٍ اعتمدها المعاصرون في تفسير قيام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهي وصيّة الإمام (علیه السلام) لأخيه محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) ، وكلّ ما سبقها من مقدّماتٍ وبحوثٍ إنّما كان توطئةً لفهم الوصيّة، وتمهيداً لإدراك مغازيها ومعانيها ومدلولاتها، حيث تبيّن هناك أنّ الوصيّة لابدّ أن تُفهَم ككلٍّ متماسكٍ يشرح بعضه بعضاً، ولا يمكن التفكيك بين صدرها وذيلها وباقي فقراتها وبنودها، ومن ثَمّ يتبيّن أنّ دلالتها ستختلف تماماً عمّا يذهب إليه الكثيرون.

هذا بالإضافة إلى مناقشتها من حيث السند، واتّضاح أنّها مرسلةٌ إرسالاً تامّاً، وقد تفرّد بها ابن أعثم في كتابه (الفتوح)، والحال أنّ ابن أعثم نفسه مجهولٌ لم نتوفّر على ترجمةٍ له، وقد أعرض عنها العلماء الشيعة والمؤرّخون السنّة إلّا عدداً محدوداً لا يبلغ عدد أصابع اليد الواحدة، وقد استمرّ الإعراض إلى القرن الحادي عشر الهجريّ، حيث نقلوها بشيءٍ من

ص: 38

التصرّف الطفيف، بيد أنّه خطير، وهو النصّ الّذي رواه محمّد بن أبي طالب في (التسلية)، وهكذا على تفصيلٍ ذكرناه في محلّه.

وعالجنا ثمّة -- فيما سبق من الدراسة -- الظروف الّتي خيّمَت على أجواء الخروج من المدينة، وكانت ظرفاً لصدور الوصيّة، باعتبارها دخيلةً بشكلٍ مباشرٍ في فهم فقراتها ومعرفة معناها.

من هنا ربّما يجد المتابع تكرّر الإحالة إلى الكتاب السابق، أو شيءٍ من التكرار في بعض المطالب، ولو باختصارٍ أو إشاراتٍ وما شاكل، وعذرنا في ذلك خطورة الموضوع ودقّته وارتباطه وتشابك موضوعاته وتداخل أحداثه، واقتضاء ضرورة البحث توظيف بعض النصوص بلحاظاتٍ مختلفةٍ وِفق ما تدعو إليه الحاجة.

* * * * *

نؤكّد هنا -- كما أكّدنا في بحث (الظروف) -- على أنّ البحث لم يتمّ، والفكرة لم تكتمل إلّا إذا أتممنا المسير في ركاب سيّد الشهداء (علیه السلام) الّذي كان يسير والمنايا تسير معه، فنرجو بكلّ خضوعٍ وأدبٍ وتوسّلٍ والتماسٍ أن يمهلنا القارئ الكريم ويعاملنا بحلمه، حتّى يوفّقنا الله ويبارك لنا سيّد الشهداء (علیه السلام) وأُمُّه الزهراء وأصحاب الكساء والأئمّة النجباء (علیهم السلام) لإتمام ذلك، وله أن يناقش هنا بما يناسب هذا المقطع الخاصّ من الدراسة، بعد التفضّل بكرم القارئ وسماحته وصبره ومَنّه بقراءة المادّة بعيداً عن الموروث الذهنيّ وركام الخزين المعهود، والله وليّ التوفيق.

ص: 39

* * * * *

لقد تحرّينا الاحتياط، وتقدّمنا في البحث خطوةً خطوة، كمن يمشي في منطقةٍ ملغومةٍ مظلمة، وقصدنا خدمة أهل البيت (علیهم السلام) ، وعزمنا الدفاع عن حريمهم وقداستهم وكلِّ ما يُنسَب إليهم، فإذا وقعنا بين خيارين: خيار التزام قداسة التاريخ والمؤرّخ، وخيار التزام قداسة الأولياء والأصفياء، فإنّنا اخترنا الخيار الثاني، طلباً لرضى الله ورسوله والأئمّة المعصومين (علیهم السلام) ..

فإن وُفّقنا في ذلك فهو فضلهم ومَنّهم وفيضهم وبركاتهم، وإلّا فنستغفر الله ونسأله أن يعطينا أجر مَن أحسن عملاً، إنّه عفوٌّ جوادٌ كريم، وهو نِعم المولى ونِعم النصير.

* * * * *

ونرجو من الله السميع العليم أن يتقبّل منّا هذا القليل، وينفعنا به ووالدَينا يوم لا ينفع مالٌ ولا بنونٌ ولا خليل، ولا يحرمنا وأزواجنا وذرّيّاتنا خدمة زين السماوات والأرضين سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) في الدنيا والآخرة، ويحشرنا في مماليك مولانا الغريب وعبيده المرضيّين، ويجعل عملنا وحبّنا واعتقادنا فيما يرضيه ويرضي النبيّ الأمين (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) وذرّيّته الطاهرين المعصومين (علیهم السلام) ، بحقّ مولانا مهيّج أحزان يوم الطفوف وأُخته الطيّبة فاطمة المعصومة (علیهما السلام) .

اللّهمّ اغفر لنا ولوالدينا ولأزواجنا وذرّيّاتنا وإخواننا المؤمنين، وعجِّل

ص: 40

فرج وليّ أمرنا، الطالب بدم الإمام المظلوم غريب الغرباء (علیه السلام) ، آمين ربّ العالمين.

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

قم المقدّسة

ص: 41

ص: 42

مختصر ما حدث قُبَيل الخروج

اشارة

هلك معاوية، ونزا القرد المخمور المسعور على أعواد المنبر، وكانت الأمصار قد بايعت له من قبل على يد أبيه، وأسرعوا إلى تجديد البيعة في بلدانهم وأمصارهم، وسيّد الشهداء (علیه السلام) ماكثٌ في مدينة جدّه لم يُحرّك يداً ولا رِجلاً، ولم ينطق ببنت شفة.

بعث الوالي (الوليد) نصف الليل إلى سيّد الشهداء الإمام الحسين بن علي (علیهما السلام) ((1)) ولم يمهله حتّى الصباح، وإنّما روّع أهل البيت (علیهم السلام)

ص: 43


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 55، ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من تاريخ دمشق لابن عساكر: 199 -- بتحقيق: المحمودي، تهذيب ابن بدران: 4 / 327، مختصر ابن منظور: 7 / 138، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2607، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 415، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 162، نسب قريش للزبيري: 133، الإرشاد للمفيد: 2 / 30، الاستيعاب لابن عبد البرّ: 1 / 381، تاريخ الخميس للدياربكري: 2 / 331، نور الأبصار للشبلنجي: 256، الجوهرة للبري: 41، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 198، تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 341، مرآة الجنان لليافعي: 1 / 132.

واستعجلهم، وكان أمره مريباً، إذ بعث على الإمام (علیه السلام) في غير وقت.

كان قد عزم منذ اللحظة الأُولى على قتل الإمام (علیه السلام) وتعريضه للخطر الجدّي، وقد خشيَ الإمام (علیه السلام) على نفسه كما خشي عليه ابن الزبير أيضاًفيما أصحر به، فقال للإمام (علیه السلام) : فإنّي أخافه عليك إذا دخلت أن لا تنجو من شرّه ((1)). فقال له الإمام (علیه السلام) : «لا آتيه إلّا وأنا على الامتناع قادر» ((2)).

وفي رواية ابن أعثم:

إنّي خائفٌ عليك أن يحبسوك عندهم، فلا يفارقونك أبداً دون أن تبايع أو تُقتَل. فقال الحسين: «إنّي لستُ أدخل عليه وحدي، ولكن أجمع أصحابي إليّ وخدَمي وأنصاري وأهل الحقّ من شيعتي، ثمّ آمرهم أن يأخذ كلّ واحدٍ منهم سيفه مسلولاً تحت ثيابه، ثمّ يصيروا بإزائي، فإذا أنا أومأت إليهم وقلت: يا آل الرسول ادخلوا، دخلوا وفعلوا ما أمرتُهم به، فأكون على الامتناع، ولا أُعطي المقادة والمذلّة من نفسي..» ((3)).

ص: 44


1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 182.
2- أُنظر: تاريخ الطبري: 5 / 339، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 323، الكامل لابن الأثير: 3 / 264، نفَس المهموم للقمّي: 68، نهاية الإرب للنويري: 20 / 387.
3- الفتوح لابن أعثم: 5 / 13، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 2 / 181.

* * * * *

خرج إليه سيّد الشهداء (علیه السلام) في جماعةٍ من مواليه وأهل بيته، وأقعدهم على الباب وقال لهم: «إنّ الوليد قد استدعاني في هذا الوقت، ولستُ آمَنُ أن يكلّفني فيه أمراً لا أُجيب إليه، وهو غير مأمون، فكونوا معي، فإذا دخلت إليه فاجلسوا على الباب ((1))، فإن ارتفعصوتي أو دعوتكم فاقتحموا الدار علَيّ بأجمعكم من غير إذن، ثمّ اشهروا السيوف، ولا تعجلوا، فإن رأيتم ما تكرهون فضعوا سيوفكم، ثمّ اقتلوا من يريد قتلي ((2))، وإلّا فمكانكم فلا تبرحوا حتّى أخرج إليكم» ((3)).

ثمّ خرج الإمام (علیه السلام) من منزله وفي يده قضيب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وهو في ثلاثين رجلاً من أهل بيته ومواليه وشيعته ((4))، ثمّ قال لهم: «انظروا ماذا

ص: 45


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 30، روضة الواعظين للفتّال: 146، بحار الأنوار: 44 / 324، العوالم للبحراني: 17 / 173، نفَس المهموم للقمّي: 68.
2- الفتوح لابن أعثم: 5 / 13، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 2 / 181.
3- أُنظر: الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 1 / 175، الأخبار الطِّوال للدينوري: 229، تاريخ الطبري: 5 / 339، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 323، الإرشاد للمفيد: 2 / 30، بحار الأنوار: 44 / 324، نفَس المهموم للقمّي: 68، روضة الواعظين للفتّال: 146، إعلام الورى للطبرسي: 222، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 135، تاريخ ابن خلدون: 3 / 19، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 182.
4- أُنظر: اللهوف لابن طاووس: 22، بحار الأنوار: 44 / 325، العوالم للبحراني: 17 / 174.

أُوصيكم فلا تتعدّوه، وأنا أرجو أن أخرج إليكم سالماً إن شاء الله ((1))، ولا تقتلوا أحداً ولا تثيروا الفتنة» ((2)).

دخل سيّد الشهداء (علیه السلام) على الوالي الطاغوت، وأمر مروان بقتل الإمام (علیه السلام) خامس أصحاب الكساء ((3))، فقام مروان وجرّد سيفه وقال: مُرْ

ص: 46


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 13، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 2 / 181.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 142 -- بتحقيق: السيّد علي جمال أشرف، بحار الأنوار: 44 / 325، العوالم للبحراني: 17 / 175.
3- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 55، ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من تاريخ دمشق لابن عساكر: 200، تهذيب ابن بدران: 4 / 327، مختصر ابن منظور: 7 / 128، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2607، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 415، تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 341، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 198، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 162، نسب قريش للزبيري: 133، الإمامة والسياسية لابن قُتيبة: 1 / 175، جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 216، الأخبار الطِّوال للدينوري: 229، تاريخ اليعقوبي: 2 / 215، تاريخ الطبري: 5 / 339، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 323، الفتوح لابن أعثم: 5 / 17، الإرشاد للمفيد: 2 / 30، روضة الواعظين للفتّال: 146، بحار الأنوار: 44 / 324، نفَس المهموم للقمّي: 68، الأمالي للشجري: 1 / 170، إعلام الورى للطبرسي: 222، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 183، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 264، مثير الأحزان لابن نما: 10، الجوهرة للبرّي: 41، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 135، اللهوف لابن طاووس: 22، نهاية الإرب للنويري: 20 / 378، تاريخ ابن خلدون: 3 / 20، الفصول المهمّة لابن الصباغ: 182.

سيّافك أن يضرب عنقه قبل أن يخرج من الدار، ودمُه في عنقي! وارتفعت الصيحة، فهجم تسعة عشر رجلاً من أهل بيته وقد انتضوا خناجرهم، فخرج الحسين (علیه السلام) معهم ((1)).

* * * * *ألحّ الطاغية على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وجعل يبعث إليه الرسل تترا في الليل، وسيّد الشهداء (علیه السلام) يعلّلهم ويداريهم ويهدّأهم ويستمهلهم ليلتهم تلك، ويكرّر لهم: «أصبحوا، ثمّ ترون ونرى، كفُّوا حتّى تنظرون وننظر وترون ونرى ((2))، نصبح ونأتيك مع الناس ((3))، ادعُ الناس وادعونا معهم، فإنّ مثلي لا

ص: 47


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 142 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف، نفَس المهموم للقمّي: 69.
2- أُنظر: تاريخ الطبري: 5 / 340، الإرشاد للمفيد: 2 / 31، روضة الواعظين للفتّال: 147، إعلام الورى للطبرسي: 222، جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 314، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 264، نهاية الإرب للنويري: 20 / 380، بحار الأنوار: 44 / 326، العوالم للبحراني: 17 / 176، نفَس المهموم للقمّي: 71.
3- تاريخ اليعقوبي: 2 / 215.

يبايع سرّاً» ((1)).

وفي لفظ البلاذريّ:

«وأمّا البيعة، فإنّ مثلي لا يبايع سرّاً، ولا أراك ترضى منّي إلّا بإظهارها على رؤوس الناس، فإذا خرجتَ إليهم فدعوتهم إلى البيعة دعوتنا، فكان أمراً واحداً» ((2)).

وفي لفظ المفيد:

فقال الحسين (علیه السلام) : «إنّي لا أراك تقنع ببيعتي ليزيد سرّاً، حتّى أُبايعه جهراً فيعرف ذلك الناس». فقال له الوليد: أجل. فقال الحسين (علیه السلام) : «فتصبح وترى رأيك في ذلك» ((3)).

وفي لفظ الدينوري:فقال الحسين: «إنّ مثلي لا يعطي بيعته سرّاً، وأنا طوع يديك،

ص: 48


1- الردّ على المتعصّب العنيد لابن الجوزي: 34.
2- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 316، تاريخ الطبري: 5 / 339، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 323، الفتوح لابن أعثم: 5 / 17، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 183، الكامل لابن الأثير: 3 / 264.
3- الإرشاد للمفيد: 2 / 30، بحار الأنوار: 44 / 324، العوالم للبحراني: 17 / 173، نفَس المهموم للقمّي: 68، روضة الواعظين للفتّال: 146، إعلام الورى للطبرسي: 222 وفيه: «فنصبح ونرى في ذلك».

فإذا جمعتَ الناس لذلك حضرتُ وكنتُ واحداً منهم» ((1)).

وكانوا على الحسين أشدّ إبقاءً ((2))، وبايع الناس جميعاً حتّى العبدَين: ابن عباس وابن عمر ((3)).

ثمّ أرسل الوالي إلى كلّ مَن كان من شيعة ابن الزبير ممّن كان هواه معه وميله إليه، فأخذه وحبسه، وفيمن حُبس يومئذٍ ابن عمٍّ لعمر بن الخطّاب يُقال له: عبد الله بن مطيع بن الأسود العدَويّ، وأُمّه يقال لها: العجماء بنت عامر بن الفضل بن عفيف بن كُليب الخزاعيّة.

وحُبس أيضاً مصعب بن عبد الرحمان بن عوف الزهريّ، فتدخّل ابن عمر ورجالٌ من بني عَديّ، وأبوا أن يُسجَن صاحبهم، فاعتذر الوالي أنّه إنّما حبسه بأمر يزيد، وقال لهم:

فنكتب وتكتبون.

فوثب أبو جُهَم بن حُذيفة العدَويّ فقال: نكتب وتكتبون؟! وابن العجماء محبوس؟! لا والله لا يكون ذلك أبداً.

ص: 49


1- الأخبار الطِّوال للدينوري: 229.
2- تاريخ الطبري: 5 / 340.
3- أُنظر: الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 1 / 173، تاريخ الطبري: 5 / 343، الكامل لابن الأثير: 3 / 265، تذكرة الخواصّ لابن الجوزي: 135، نهاية الإرب للنويري: 20 / 382، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151.

ثمّ وثب بنو عَديّ فجعلوا يحضرون حتّى صاروا إلى باب السجن، فاقتحموا على عبد الله بن مطيع وهو في السجن، فأخرجوه وأخرجوا كلَّ مَن كان في السجن، ولم يتعرّض إليهم أحد، فلحق ابن مطيع بابن الزبير، ثمّ رجع بعد فأقام بالمدينة! ((1))

ربّما أفادت هذه القصّة أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يكن له في المدينة مَن له فيه هوىً أو مَن يميل إليه ومَن يكون من شيعته، إذ لو كان لَحُبس.

وإنّما بقي الإمام الحسين (علیه السلام) ليلةً بعد ابن الزبير، باعتبار أنّهم اشتغلوا بابن الزبير، (فأقام الحسين تلك الليلة في منزله) ((2)).

وقد كان الوليد أغلظ للحسين (علیه السلام) ، فردّ عليه الإمام الحسين (علیه السلام) ، وأخذ بعمامته فنزعها من رأسه، فقال الوليد: إنْ هجنا بأبي عبد الله إلّا أسداً ((3)).

ص: 50


1- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 316، الفتوح لابن أعثم: 5 / 21.
2- أُنظر: إعلام الورى للطبرسي: 222، جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 314، تاريخ الطبري: 5 / 340، الكامل لابن الأثير: 3 / 264، نفَس المهموم للقمّي: 70، نهاية الإرب للنويري: 20 / 379.
3- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 55، تهذيب ابن بدران: 4 / 327، مختصر ابن منظور: 7 / 138، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2607، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 415، تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 341، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 198، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 162.

فعندها كتب الوليد إلى يزيد بن معاوية يُخبره بما كان من أهل المدينة ... ثمّ ذكر له بعد ذلك أمر الحسين بن عليّ (علیهما السلام) أنّه لا يرى لناعليه طاعةً ولا بيعة، فلمّا ورد الكتاب على يزيد غضب لذلك غضباً شديداً، وكان إذا غضب انقلبت عيناه فعاد أحول، فكتب إلى الوليد بن عُتبة:

من عبد الله يزيد أمير المؤمنين، إلى الوليد بن عتبة، أمّا بعد، فإذا ورد عليك كتابي هذا، فخُذ البيعة ثانيةً على أهل المدينة بتوكيدٍ منك عليهم، وذَرْ عبد الله بن الزبير؛ فإنّه لن يفوتنا ولن ينجو منّا أبداً ما دام حيّاً، ولْيكن مع جوابك إليّ رأس الحسين ابن عليّ، فإن فعلتَ ذلك فقد جعلتُ لك أعنّة الخيل، ولك عندي الجائزة والحظّ الأوفر ... ((1)).

فالمطلوب في المدينة منذ الأيام الأُولى رأس حبيب الله وريحانة النبي (صلی الله علیه و آله) وعزيز الزهراء (علیها السلام) وقرّة عين سيّد الأوصياء (علیه السلام) خامس أصحاب الكساء الحسين بن عليّ (علیهما السلام) ، ولم يكن التخيير إلّا ذريعة، لأنّهم كانوا

ص: 51


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 25، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 185، الأمالي للصدوق: 152، بحار الأنوار: 44 / 312، العوالم للبحراني: 17 / 161.

يعلمون أنّه (لا ولم ولن) يُبايع.

هذه خلاصة الأحداث قبل الخروج، وقد أتينا على تفصيل جملةٍ منها في كتاب (ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة).

الحصيلة في نقاط:

ويمكن أن نلخّص حصيلة ما ورد في النقاط التالية:

(1)

إنّ العدوّ هو الّذي بادر فأرسل إلى الإمام (علیه السلام) في غير وقت، وخيّره بين البيعة والقتل.

(2)

ضيّق العدوّ على الإمام (علیه السلام) أشدّ التضييق، وكان خطره مُحدِقاً بالإمام (علیه السلام) ومتوقَّعاً، ممّا جعل ابن الزبير يُظهِر خشيته على الإمام (علیه السلام) ، وجعل الإمام (علیه السلام) يحتاط لأمره قبل الدخول عليه، وقد صرّح العدوّ على لسان مروان بعزمه على حبس الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) وقتله وعدم امتناعه عن ذلك، وقد صرّح الإمام (علیه السلام) أنّ العدوّ غير مأمون، وأكّد ذلك بخروجه في جماعةٍ من فتية بني هاشم.

وقد سمّى الإمام (علیه السلام) من اللحظة الأُولى البيعة (المقادة والمذلّة من نفسي).

ص: 52

(3)

بدأ العدوّ بشتم الإمام (علیه السلام) وأغلظ له، وأقدم مروان على قتل الإمام (علیه السلام) وشهر سيفه، وأمر بصراحة الوالي أن يأمر بضرب عنقه، وإنّما كان ذلك امتثالاً لأمر القرد المسعور يزيد.(4)

لم يكن يزيد يريد البيعة من سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة، وإنّما كان يريد قتله على كلّ حال، وقد صرّح بذلك في كتابه إلى واليه، حيث أكّد عليه أن يجدّد البيعة على الناس وطلب منه رأس خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) مع جواب الكتاب، من دون تخييره بين البيعة والقتل، وإنّما أمر بالقتل فقط لمجرّد امتناعه.

(وليكن مع جوابك إليّ رأس الحسين بن عليّ، فإن فعلتَ ذلك فقد جعلتُ لك أعنّة الخيل، ولك عندي الجائزة والحظّ الأوفر) ((1)).

(5)

صرّح العدوّ في كتابه إلى سائسه القرد المخمور أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يفعل سوى أنّه لم يرَ عليه ليزيد الخمور طاعةً ولا بيعة، وليس أكثر من

ص: 53


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 25، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 185، الأمالي للصدوق: 152، بحار الأنوار: 44 / 312، العوالم للبحراني: 17 / 161.

ذلك، ولو كان لسيّد الشهداء (علیه السلام) نشاطٌ آخَر يمكن أن يهدّد السلطة والسلطان لَأشار إليه.

(6)

حرص الإمام (علیه السلام) منذ الساعة الأُولى أن لا يكون هو قد بدأ بقتلٍ أو قتال، وأكّد على الفتية الّذين خرج بهم أن لا يقدموا على أيّ شيءٍ ما لميأمرهم الإمام (علیه السلام) ، وأن يتجنّبوا القتل، وأن لا يثيروا فتنة، وعلى فرض دخولهم أن يقتلوا مَن يريد قتله فقط.

(7)

لم يُعلِن الإمام (علیه السلام) -- وفق جميع النصوص -- عند الوالي سوى تقبّضه عن البيعة، وفي بعضها صرّح بامتناعه عن البيعة فقط، إلّا ما ورد من زيادةٍ عند ابن أعثم لا تفيد التهديد المسلّح.

(8)

لم يُعلن الإمام (علیه السلام) عند الناس ولا عند الوالي عن أيّ عزمٍ على شيءٍ أو التصريح باتّخاذ أيّ موقف غير التقبّض عن البيعة، ولم يحرّض على السلطة ولا على الوالي، ولا على يزيد، ولا على الأُمويّين، ولم يُعلِن لهم عن عزمٍ عنده على مقارعتهم ومواجهتهم وتجييش الناس عليهم، ولا أيّ نشاطٍ آخَر سوى الامتناع، والامتناع عن البيعة فقط.

(9)

ص: 54

لم يطلب الإمام (علیه السلام) من الوالي سوى الاستمهال حتّى يدعو الناس جميعاً إلى البيعة، ثمّ يدعوه معهم.

(10)

لم يبتّ الإمام (علیه السلام) بالامتناع عن البيعة عند الاستمهال، وإنّما أكّد أنّه يُصبح ويصبحون، ويرى ويرَون، وينظر وينظرون، وأجّل البتّ بالأمر إلىحين دعوته مع الناس أجمعين.

(11)

لم يصرّح الإمام (علیه السلام) للوالي ولا لغيره عن الخطوة الثانية بعد دعوته مع الناس وما سيفعله.

(12)

لم يُعلن الإمام (علیه السلام) ولم يُشِر ولم يلوّح للوالي ولا لغيره من أذناب السلطة أنّه يبيّت العزم على ترك المدينة والخروج منها.

(13)

تسارعَت الأحداث بحيث لم يبقَ الإمام (علیه السلام) بعد تخييره بين مناولة القرود والقتل في المدينة إلّا زهاء ثلاثة أيّامٍ على أقصى التقادير، وظّف فيها الإمام (علیه السلام) يوماً منها لتشاغلهم بملاحقة ابن الزبير.

(14)

لم يسجَّل للإمام (علیه السلام) أيّ نشاطٍ أو موقف أو تعامل مع الناس على أيّ صعيد، من قبيل الاجتماع بهم، أو الخطبة فيهم، أو تحريضهم على

ص: 55

السلطة، أو دعوتهم لنصرته، وقد تشاغل بنفسه وأهله استعداداً للسفر.

(15)

لم يُلحَظ أيُّ موقفٍ إيجابيٍّ من الناس عامّة، ولا من الشخصيّات والوجوه والصحابة والتابعين تجاه سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ولم يعلنوا له النصرة،ولم يدفعوا عنه، فيما انتصر بنو عَديّ لصاحبهم عبد الله بن مطيع ومَن حُبس معه.

(16)

كان خروج الإمام (علیه السلام) مُباغتاً مفاجئاً، لم يحسب له العدوّ ولم يتوقّعه.

(17)

خرج الإمام (علیه السلام) قبل أن يدعو السلطان الناس دعوةً عامّةً لتجديد البيعة.

* * * * *

ستأتي عدّة نقاطٍ أُخرى مهمّة بعد قليل، كهيئة خروجه وزمان خروجه..

ص: 56

سبب امتناع الإمام (علیه السلام) عن البيعة

اشارة

ربّما شرّق المحلّلون وغرّبوا، وغاصوا وحلّقوا، ورتّبوا مقدّماتٍ واستنتجوا، وصوّروا مبانيَ وقواعدَ وأسّسوا، وشيّدوا ركائز ومنها انطلقوا، محاولين سبر أبعاد إباء سيّد الإباء (علیه السلام) عن البيعة ليزيد، وخروجه من المدينة المنوّرة قاصداً مكّة المكرّمة، ومنها إلى العراق، بيد أنّنا نرى في بيانات الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) الّتي رواها لنا التاريخ كفايةً في استجلاء الأمر واكتمال الصورة واتّضاح المشهد، وبعدها لا ضرورة للتكلّف والاستماع إلى مَن يحاول أن يضفي على قيام سيّد الشهداء (علیه السلام) الظلال الّتي تُسقِطها سوابقه الذهنيّة وتصوّراته واستخلاصاته.

ونكتفي هنا بذكر نماذج من بيانات سيّد الشهداء (علیه السلام) وتصريحاته الّتي ذكرها المؤرّخون، من دون تعليقٍ ولا بحثٍ وتحقيق، لأنّنا أتينا على بيان ذلك في كتاب (الظروف)..

روى ابن أعثم قول الإمام (علیه السلام) مخاطِباً ابن الزبير:

«إنّي لا أُبايع ليزيد، ويزيد رجلٌ فاسقٌ معلن الفسق، يشرب الخمر، ويلعب بالكلاب والفهود، ويبغض بقيّةآل الرسول، لا والله لا

ص: 57

يكون ذلك أبداً» ((1)).

وفي حديث الإمام الصادق (علیه السلام) ، عن أبيه، عن جدّه زين العابدين (علیهم السلام) : قال الوالي مخاطِباً الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) : إنّ أمير المؤمنين أمرك! أن تبايع له!

فقال الحسين (علیه السلام) : «قد علمتَ إنّا أهل بيت الكرامة، ومعدن الرسالة، وأعلام الحقّ الّذين أودعه الله (عزّ وجلّ) قلوبنا، وأنطق به ألسنتنا فنطقَت بإذن الله (عزّ وجل)، ولقد سمعتُ جدّي رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: إنّ الخلافة محرَّمةٌ على وُلد أبي سفيان. وكيف أُبايع أهل بيتٍ قد قال فيهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) هذا؟» ((2)).

وروى ابن نما في (مثير الأحزان):

قال ابن أبي زريق: وأنا أنظر إلى مروان وقد أسرّ إلى الوليد أن اضربْ رقابهم، ثمّ قال جهراً: لا تقبل عذرهم، واضرب رقابهم! فغضب الحسين وقال: «ويلي عليك يا ابن الزرقاء! أنت تأمر بضرب عنقي؟ كذبتَ ولؤمت، نحن أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ويزيد فاسق شارب الخمروقاتل النفس، ومثلي لا يبايع

ص: 58


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 13، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 2 / 181.
2- الأمالي للصدوق: 151، بحار الأنوار: 44 / 312، العوالم للبحراني: 17 / 161 عن الإمام عليّ بن الحسين السجّاد (علیه السلام) .

لمثله» ((1)).

وقال ابن الطقطقيّ في كتاب (الفخري):

وخرج من المدينة قاصداً مكّة، متأبّياً من بيعة يزيد، آنِفاً من الانخراط في زمرة رعيّته ((2)).

سبب امتناع الإمام (علیه السلام) ببيان الإمام (علیه السلام) وتصوير العدوّ

أورد ابن أعثم نصّاً جمع فيه سبب امتناع الإمام (علیه السلام) عن البيعة، وفق ما صرّح به سيّد الشهداء (علیه السلام) وما كشف عنه الوزغ مروان بن الحكم، من خلال حوارٍ دار بينهما، ونحن إذ نذكره هنا كنموذج ليس إلّا، ونحيل التفصيل إلى ما مرّ في أوائل البحث.

قال:

وأصبح الحسين من الغد، خرج من منزله ليستمع الأخبار، فإذا هو بمروان بن الحكم قد عارضه في طريقه، فقال: أبا عبد الله! إنّي لك ناصح، فأطعني ترشد وتسدَّد.فقال الحسين: «وما ذلك؟ قل حتّى أسمع».

ص: 59


1- مثير الأحزان لابن نما: 10.
2- كتاب الفخري لابن الطقطقي: 104.

فقال مروان: أقول: إنّي آمرك ببيعة أمير المؤمنين يزيد، فإنّه خولك في دينك ودنياك.

قال: فاسترجع الحسين، وقال: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام؛ إذ قد بُليَت الأُمّة براعٍ مثل يزيد».

ثمّ أقبل الحسين على مروان وقال: «ويحك! أتأمرني ببيعة يزيد، وهو رجلٌ فاسق؟! لقد قلتَ شططاً من القول يا عظيم الزلل! لا ألومك على قولك، لأنّك اللعين الّذي لعنك رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأنت في صلب أبيك الحكَم بن أبي العاص، فإنّ مَن لعنه رسول الله (صلی الله علیه و آله) لا يمكن له ولا منه [إلّا] أن يدعو إلى بيعة يزيد».

ثمّ قال: «إليك عنّي يا عدوّ الله، فإنّا أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، والحقّ فينا وبالحقّ تنطق ألسنتنا، وقد سمعتُ رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: الخلافة محرّمةٌ على آل أبي سفيان وعلى الطلقاء أبناء الطلقاء، فإذا رأيتم معاوية على منبري فافقروا بطنه، فوَاللهِ لقد رآه أهل المدينة على منبر جدّي فلم يفعلوا ما أُمِروا به، قاتلهم الله بابنه يزيد! زاده الله في النار عذاباً».قال: فغضب مروان بن الحكم من كلام الحسين، ثمّ قال: واللهِ لا تفارقني أو تبايع ليزيد بن معاوية صاغراً، فإنّكم آل أبي تراب قد مُلئتم كلاماً وأُشربتُم بغض آل بني سفيان، وحقّ عليكم أن تبغضوهم، وحقّ عليهم أن يبغضوكم.

ص: 60

قال: فقال له الحسين: «ويلك يا مروان! إليك عنّي، فإنّك رجس، وإنّا أهل بيت الطهارة الّذين أنزل الله (عزّ وجلّ) على نبيّه محمّدٍ (صلی الله علیه و آله) فقال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ ((1))».

قال: فنكّس مروان رأسه لا ينطق بشيء، فقال له الحسين: «أبشِرْ -- يا ابن الزرقاء -- بكلّ ما تكره من الرسول (صلی الله علیه و آله) يوم تقدم على ربّك، فيسألك جدّي عن حقّي وحقّ يزيد».

قال: فمضى مروان مغضباً حتّى دخل على الوليد بن عُتبة، فخبّره بما سمع من الحسين بن عليّ ((2)).

ص: 61


1- سورة الأحزاب: 33.
2- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 23، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 184، مثير الأحزان لابن نما: 10، اللهوف لابن طاووس: 24، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 326، العوالم للبحراني: 17 / 175، نفَس المهموم للقمّي: 70.

ص: 62

شكوى سيّد الشهداء (علیه السلام) قبل الخروج

شكى سيّد الشهداء (علیه السلام) حاله إلى الله (عزّ وجلّ) وإلى رسوله (صلی الله علیه و آله) عند وداع قبره، وقال لأخيه عمر بن عليّ في خبرٍ ذكرناه في (ظروف خروج الإمام (علیه السلام) من المدينة):

«وأنّه لا أُعطي الدنيّة من نفسي أبداً، ولَتلقينّ فاطمة أباها شاكيةً ما لقيَت ذرّيّتُها من أُمّته، ولا يدخل الجنّة أحدٌ آذاها في ذرّيّتها» ((1)).

وعبّر عن شكواه ممّا يلقى من القوم، ومن خذلانهم في مواقف عديدة ومشاهد كثيرة، أتينا على ذكرها في كتاب (الظروف)، فلا نعيد.

ص: 63


1- اللهوف لابن طاووس: 26.

ص: 64

وداع الإمام (علیه السلام) لقبر جدّه وأمّه وأخيه (علیهم السلام)

خرج الإمام الحسين (علیه السلام) فجدّد العهد بجدّه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وشكى إليه ((1))، على تفصيلٍ أتينا على ذكره في كتاب (ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة).

ومضى في جوف الليل إلى قبر أُمّه، فصلّى عند قبرها، وودّعها، ثمّ قام عن قبرها وصار إلى قبر أخيه الحسن (علیه السلام) ففعل مثل ذلك ((2)).

وفي (مهيّج الأحزان):

وقف وقال: «السلام عليكِ يا أُمّاه، حسينكِ جاء لوداعك، وهذه آخر زيارته إيّاك».

ص: 65


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 26، الأمالي للصدوق: 152، بحار الأنوار: 44 / 312، العوالم للبحراني: 17 / 161، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 186.
2- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 29، مقتل الحسين للخوارزمي: 1 / 187، بحار الأنوار: 44 / 329، العوالم للبحراني: 17 / 178، نفَس المهموم للقمّي: 73.

فإذا النداء من القبر: «وعليك السلام يا مظلوم الأُمّ، وياشهيد الأُمّ، ويا غريب الأُمّ»، فاستعبر باكياً.

ثمّ مضى إلى قبر أخيه الحسن ففعل مثل ذلك ((1)).

ثمّ التقى أخاه محمّد ابن الحنفيّة، ودار بينهما حوارٌ طويل ((2))، وكتب له الوصيّة المعروفة ((3))، وقد أتينا على تفصيل الكلام فيها وبحثها سنداً ودلالةً في كتاب (ظروف الخروج).

ص: 66


1- مهيّج الأحزان لحسن اليزدي: 49 -- بترجمة: السيّد علي أشرف -- عنه: معالي السبطين للمازندراني: 1 / 212.
2- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 317، تاريخ الطبري: 5 / 341، الإرشاد للمفيد: 2 / 32، بحار الأنوار: 44 / 326، العوالم للبحراني: 17 / 176، نفَس المهموم للقمّي: 71، تجارب الأُمم لمسكويه: 20 / 40، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 265، نهاية الإرب للنويري: 20 / 380.
3- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 29، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 187.

وداع أمّ سلَمة

اشارة

لمّا عزم الإمام الحسين (علیه السلام) على الخروج من المدينة، أتَتْه أُمّ سلَمة (رضی الله عنها) فقالت: يا بُنيّ، لا تحزنّي بخروجك إلى العراق، فإنّي سمعتُ جدّك يقول: «يُقتَل ولدي الحسين بأرض العراق، في أرضٍ يقال لها: كربلاء».

فقال لها: «يا أُمّاه، وأنا واللهِ أعلم ذلك، وإنّي مقتولٌ لا محالة، وليس لي من هذا بُدّ، وإنّي واللهِ لَأعرف اليوم الّذي أُقتَل فيه، وأعرف مَن يقتلني، وأعرف البقعة الّتي أُدفَن فيها، وإنّي أعرف من يُقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي، وإن أردتِ يا أُمّاه أُريكِ حفرتي ومضجعي».

ثمّ أشار (علیه السلام) إلى جهة كربلاء فانخفضَت الأرض، حتّى أراها مضجعه ومدفنه وموضع عسكره وموقفه ومشهده، فعند ذلك بكت أُمُّ سلَمة بكاءً شديداً، وسلّمت أمره إلى الله.

فقال لها: «يا أُمّاه، قد شاء الله (عزّ وجلّ) أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً، وقد شاء أن يرى حرميورهطي ونسائي مشرّدين،

ص: 67

وأطفالي مذبوحين مظلومين مأسورين مقيَّدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولا معيناً».

وفي روايةٍ أُخرى:

قالت أُمّ سلَمة: وعندي تربةٌ دفعها إليّ جدّك في قارورة.

فقال: «واللهِ إنّي مقتولٌ كذلك، وإن لم أخرج إلى العراق يقتلوني أيضاً».

ثمّ أخذ تربةً فجعلها في قارورةٍ وأعطاها إيّاها، وقال: «اجعليها مع قارورة جدّي، فإذا فاضتا دماً فاعلمي أنّي قد قُتلت» ((1)).

فقالت أُمّ سلَمة: فلمّا كان يوم عاشوراء نظرتُ إلى القارورتين بعد الظهر، فإذا هما قد فاضتا دماً، فصحت ((2)).

* * * * *

لم تعترض أُمّ سلَمة المؤمنة المسلّمة الموالية المؤدّبة العارفة، بيد أنّها تقدّمت لإمامها برجاءٍ وتفجّعٍ وتوجّسٍ وترقّبٍ لوقوع الفاجعة العظمى الّتي أخبرها بها رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وهي مسلِّمةٌ لربّها ولرسوله (صلی الله علیه و آله) ولإمامها (علیه السلام) ، ولهذا قالت: (لا تُحزنّي بخروجك)، ثمّ أخبرَته بخبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وماأودعه

ص: 68


1- أُنظر: بحار الأنوار: 44 / 331، العوالم للبحراني: 17 / 180، نفَس المهموم للقمّي: 76، لواعج الأشجان للأمين: 31، المنتخب للطريحي: 2 / 436.
2- أُنظر: الخرائج للراوندي: 1 / 254، بحار الأنوار: 45 / 89 ح 27.

عندها.. إنّها حرقة قلب الأُمّ الّتي تودّع ولدها إلى الشهادة.

فلا يُقاس موقف أُمّ سلَمة بمواقف المعترضين، من أمثال العبدَين: ابن عمر وابن عبّاس وغيرهما.

* * * * *

ولا يخفى على مَن تأمّل في الكثير من الإخبارات الغيبيّة، يجد فيها تلويحاً كامناً، فعلاوةً على الإخبار الغيبيّ، فإنّها تلوّح إلى عزم العدوّ على قتل الإمام (علیه السلام) ، تماماً كما فعلوا مع جدّه وأبيه وأخيه وأولاده المعصومين (علیهم السلام) ، وأنّه سوف (لا ولن) يترك الإمام (علیه السلام) ، سواءً بايع أو لم يبايع، وسواءً بقيَ في المدينة أو خرج منها، وقد أشرنا إلى ذلك في غير موضع، فلا نعيد.

الودائع عند أُمّ سلَمة

روى الشيخ الطوسي (رحمة الله) مسنداً عن الفُضَيل بن يسار قال: قال لي أبو جعفر (علیه السلام) : «لمّا توجّه الحسين (علیه السلام) إلى العراق، دفع إلى أُمّ سلمة زوج النبيّ (صلی الله علیه و آله) الوصيّة والكتب وغير ذلك، وقال لها: إذا أتاكِ أكبر وُلدي فادفعي إليه ما قد دفعتُ إليكِ. فلمّا قُتِل الحسين (علیه السلام) أتى عليّ بن الحسين (علیهما السلام) أُمَّ سلمة، فدفعَتْ إليه كلَّ شيءٍأعطاها الحسين (علیه السلام) » ((1)).

ص: 69


1- الغَيبة للطوسي: 195 ح 101، بحار الأنوار: 46 / 18 ح 3.

وفي حديثٍ آخَر أخرجه العامليّ في كتابه (الصراط المستقيم)، قال: وكتب الحسين (علیه السلام) وصيّةً وأودعها أُمَّ سلمة، وجعل طلبها منها علامةً على إمامة الطالب لها من الأنام، فطلبها زين العابدين (علیه السلام) ((1)).

هذه بعض الودائع، وثمّة ودائع أُخرى استودعها ابنته فاطمة الكبرى، وبعضها دفعها إلى الإمام زين العابدين (علیه السلام) مباشرة.

ولا يخفى ما في هذا الاستيداع عند أُمّ سلمة من إشادةٍ بأُمّ سلَمة وتنويهٍ بعظيم قدرها وجلالة شأنها وعلوّ منزلتها ومقامها، وثقة الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) بها وبأمانتها واعتمادها، وثباتها على الولاية والتسليم لآل محمّد (صلی الله علیه و آله) .

ص: 70


1- الصراط المستقيم للعاملي: 161، إثبات الهداة: 4 / 60.

وداع الهاشميّات

روى ابن قولويه (رحمة الله) مسنداً عن جابر، عن محمّد بن عليّ (علیهما السلام) قال:

«لمّا همّ الحسين (علیه السلام) بالشخوص عن المدينة، أقبلَت نساء بني عبد المطّلب فاجتمعن للنياحة، حتّى مشى فيهنّ الحسين (علیه السلام) ، فقال: أُنشدكنّ الله أن تُبدينَ هذا الأمر معصيةً لله ولرسوله.

فقالت له نساء بني عبد المطّلب: فلمَن نستبقي النياحة والبكاء؟ فهو عندنا كيوم مات فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعليٌّ وفاطمة ورقيّة وزينب وأُمّ كلثوم، فننشدك الله، جعلنا الله فداك من الموت يا حبيب الأبرار من أهل القبور.

وأقبلَت بعضُ عمّاته تبكي وتقول: أشهدُ يا حسين لقد سمعتُ الجنّ ناحت بنوحك، وهم يقولون:

فإنّ قتيل الطفّ مِن آل هاشمٍ

أذلّ رقاباً من قريش

فذلّتِ

حبيبُ رسول الله لم يكُ فاحشاً

أبانت مصيبتك الأُنوف

وجلّتِ

وقلن أيضاً:

أبكي حسيناً سيّداً

ولقتله شاب الشعَرْولقتله زُلزلتُمُ

ولقتله انكسف القمرْ

ص: 71

واحمرّت آفاق السما

ءِ من العشيّة

والسحَرْ

وتغبّرت شمس البلا

دِ بهم وأظلمَت

الكُوَرْ

ذاك ابن فاطمة المصا

بُ به الخلائق والبشرْ

أورثتنا ذلاً به

جدَع الأنوفَ مع

الغرر» ((1))

ثمّ إنّ نساء بني هاشم أقبلن إلى أُمّ هانئ عمّة الحسين (علیه السلام) وقلن لها: يا أُمّ هانئ، أنت جالسةٌ والحسين (علیه السلام) مع عياله عازمٌ على الخروج؟!

فأقبلَت أُمّ هانئ، فلمّا رآها الحسين (علیه السلام) قال: «أما هذه عمّتي أُمّ هانئ؟»، قيل: نعم.

فقال: «يا عمّة، ما الّذي جاء بكِ وأنتِ على هذه الحالة؟»، فقالت: وكيف لا آتي وقد بلغني أنّ كفيل الأرامل ذاهبٌ عنّي؟ ثمّ إنّها انتحبَت باكية، وتمثّلَت بأبيات أبيها أبي طالب (علیه السلام) :

وأبيض يُستسقي الغمامُ بوجهه

ثمال اليتامى عصمةً للأراملِ

تطوفُ به الهلّاك من آل هاشمٍ

فهم عنده في نعمةٍ وفواضلِ

ثمّ قالت: سيّدي، وأنا متطيّرةٌ عليك من هذا المسير، لهاتفٍ سمعتُ البارحة يقول:

وإنّ قتيل الطفّ من آل هاشمٍ

أذلّ رقاباً من قريش فذلّتِ

ص: 72


1- كامل الزيارات لابن قولويه: 96 الباب 29 ح 9، بحار الأنوار: 45 / 88 ح 26.

حبيب رسول الله لم يكُ فاحشاً

أبانت مصيبته الأُنوف وحلّتِ

فقال لها الحسين: «يا عمّة، لا تقولي: من قريش، ولكن قولي: أذلّ رقاب المسلمين فذلّت».

ثمّ قال: «يا عمّة، كلّ الّذي مقدَّرٌ فهو كائنٌ لا محالة».

وقال (علیه السلام) :

«وما هم بقومٍ يغلبون ابنَ غالبٍ

ولكن بعلم الغيب قد قُدّر

الأمرُ»

فخرجَت أُمّ هانئ من عنده باكية، وهي تقول:

وما أُمّ هاني وحدها ساء حالها

خروجُ حسينٍ عن مدينة جدِّهِ

ولكنّما القبر الشريف ومَن به

ومنبره يبكون من أجل فقدِهِ ((1))

ص: 73


1- معالي السبطين للمازندراني: 1 / 214.

ص: 74

تاريخ خروج الإمام (علیه السلام)

اشارة

إختلفت الأقوال في تاريخ خروج الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة، كما اختلفوا في وقت خروجه (علیه السلام) من اليوم والليلة، ويمكن تقسيمها حسب التاريخ أو الوقت إلى قسمين:

القسم الأوّل: التاريخ

اشارة

يمكن نظم ما ذكروه في أقوال:

القول الأوّل: ليلة الأحد، يومين بقيا من رجب

قرّر البلاذريّ والطبريّ وآخرين خروج الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة ليلة الأحد -- أي: يوم السبت ليلاً -- ليومين بقيا من رجب، وهما حسب الفرض الأحد والاثنين، أي: في اليوم الثامن والعشرين من رجب على فرض تماميّة الشهر الحرام، قالوا:

فخرج الحسين ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب سنة

ص: 75

ستّين ((1)).

القول الثاني: ليلتين بقيتا من رجب

وقال ابن الجوزيّ واليافعيّ أنّه خرج لليلتين بقيتا من رجب ((2)).

فإن كان اليومان تتخلّلهما ليلةٌ وفق القول الأوّل، فلا يبعد أن يكون القول الثاني قد احتسب الليلة الّتي تحرّك فيها الإمام (علیه السلام) فيما أغفلها أصحاب القول الأوّل، فيرجع القولان إلى قولٍ واحد.

القول الثالث: بقيّة من رجب

قال ابن العماد: في بقيّةٍ من رجب ((3)).

وهو ينسجم مع القولين الأوّلين، غاية ما في الأمر أنّ ابن العماد أجمل هنا من دون تحديدٍ دقيقٍ للتاريخ، فيُحمَل إجماله على ما بيّنَتْه الأقوال السابقة.

ص: 76


1- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف: 5 / 215، الإفادة للزيدي: 56، الاستيعاب لابن عبد البرّ: 1 / 381، تاريخ الطبري: 5 / 341، الإرشاد للمفيد: 2 / 32، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار: 44 / 326، العوالم للبحراني: 17 / 176، نفَس المهموم للقمّي: 71. بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2572، تاريخ الخميس للدياربكري: 2 / 331، نور الأبصار للشبلنجي: 256.
2- أُنظر: المنتظم لابن الجوزي: 5 / 324. مرآة الجنان لليافعي: 1 / 132.
3- شذرات الذهب لابن العماد: 67.

القول الرابع: ثلاث ليالٍ مضين من شعبان

قال ابن أعثم -- وتبعه كالعادة الخوارزمي -- : وذلك لثلاث ليالٍ مضين من شهر شعبان في سنة ستّين ((1)).

وقال ابن نما وابن طاووس: وكان توجّه الحسين إلى مكّة لثلاثٍ مضينمن شعبان سنة ستّين من الهجرة ((2)).

الظاهر أنّ إجمال الشيخ ابن نما والسيّد ابن طاووس وعدم تحديد الليلة أو اليوم قد لا يكون مخِلّاً كثيراً؛ إذ يُحمَل على تصريح ابن أعثم.

ومَن تابع السيّد في (اللهوف) يتّضح له أنّه يعتمد رواية (الفتوح) ويأخذ منه كثيراً، بالإضافة إلى تأخّره والشيخ ابن نما عن ابن أعثم، فيكون ابن أعثم هو الأقدم في هذا القول، وهو المصدر الأساس له.

القول الخامس: خمس خلَون من شعبان

قال تاج الدين العامليّ: ومضى إلى مكّة لخمسٍ خلَون من شعبان سنة ستّين ((3)).

ص: 77


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 34، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 189.
2- أُنظر: مثير الأحزان لابن نما: 10. اللهوف لابن طاووس: 30، عنه بحار الأنوار: 44 / 326.
3- التتمّة لتاج الدين العاملي: 77.

وهذا القول شاذٌّ جدّاً، ولم نجد قائلاً به سوى تاج الدين العامليّ في (التتمّة)، ويحتمل فيه التصحيف أو الاشتباه والسهو من النسّاخ أو المؤلّف عند النقل عن (الفتوح) لابن أعثم، والله العالم.

جمع الأقوال

يبدو أنّ القول الأوّل هو المرجّح؛ وذلك لأنّ رواته هم الأقدم والأكثر، وهو المشهور بين الشيعة -- زادهم الله عدداً وشرفاً وعِزّاً، وصانهممن كلّ مكروه --، إضافةً إلى تفرّد ابن أعثم، إذ لا يُعتدّ بمن جاء بعده وأشارت الشواهد إلى أنّه أخذ عنه.

القسم الثاني: الزمان

القول الأوّل: الليل

(فلمّا أمسوا وأظلم الليل، مضى الحسين (علیه السلام) نحو مكّة) ((1))، وقال آخر: (خرج من تحت ليلته) ((2))، و(في جوف

ص: 78


1- الأخبار الطِّوال للدينوري: 230.
2- أُنظر: تاريخ الطبري: 5 / 341، الإرشاد للمفيد: 2 / 32، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار: 44 / 326، العوالم للبحراني: 17 / 176، نفَس المهموم للقمّي: 71.

الليل) ((1))، و(خرج من الليل) ((2))، و(في الليلة الآتية) ((3))، و(من ليلته) ((4))، و(سار في الليل من المدينة) ((5)).

اتّفقت هذه المصادر -- على اختلاف عباراتها -- أنّ الإمام (علیه السلام) قد خرج من المدينة ليلاً.

القول الثاني: نهاراً

وتردّد البري، فقال: ارتحل من ليلته إلى مكّة، وقيل: ارتحل نهاراً ((6)).

وصرّح السيّد ابن طاووس أنّه خرج في الغداة، قال: فلمّا كان الغداة توجّه الحسين (علیه السلام) إلى مكّة ((7)).

جمع الأقوال

يبدو أنّ القول الثاني غير ناهضٍ لمعارضة القول الأوّل، إذ أنّ البري قد

ص: 79


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 34، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 189.
2- المنتظم لابن الجوزي: 5 / 324.
3- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 135.
4- نهاية الإرب للنويري: 20 / 380، تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 268.
5- أُنظر: سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 196، مرآة الجنان لليافعي: 1 / 132، تاريخ الخلفاء للسيوطي: 206، شذرات الذهب لابن العماد: 67.
6- الجوهرة للبري: 41.
7- اللهوف لابن طاووس: 30 -- عنه: بحار الأنوار: 44 / 326.

تردّد وذكر القول الأوّل، وربما يُحمل قول السيّد: (الغداة) على الصباح الباكر، بحيث لم يعدّ ذلك النهار هو المنطلَق، على فرض اتّفاقهما على القول بالحركة نهاراً، يبقى الترجيح كما يبدو للقول الأوّل، لأنّه المتّفَق عليه بين المؤرّخين، وانفراد البري والسيّد، وهما متأخّران كثيراً بالنسبة للمتّفقين.

ملاحظتان

الملاحظة الأُولى: الخروج وقت السحَر!

لم نعثر -- فيما فحصنا من الأقوال في المصادر الّتي مرّت بنا -- تصريحاً يفيد أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قد انطلق وقت السحَر، والّذي أفادته الأقوال أنّه خرج حينما أمسى وأظلم الليل، أو تحت ليلته، وأبعدها مَن قال: أنّه خرج في جوف الليل.

فمن قال: حينما أمسى وأظلم الليل، ربّما أفاد أنّ الخروج كان في أوّل الليل بعد المساء وهبوط الظلام.

ومن قال: أظلم الليل أو تحت ليلته، ربّما أفاد بعد أن مضى هزيعٌ من الليل، وعلى الأكثر فإنّ جوف الليل أحشاءه ووسطه.

ثمّ إنّ وقت السحَر مقطعٌ زمانيٌّ محدَّدٌ معروف، وهو قريبٌ من الفجروالصبح، فالمفروض أن ينصّ عليه المؤرّخ إن كان الإمام (علیه السلام) قد خرج فيه، فيرد ولو على لسان مؤرّخٍ واحدٍ ممّن جردناهم.

ص: 80

يُضاف إلى ذلك:

إنّ المتأمّل في ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) وتعجليه في المسير والخروج وابتعاده عن مظانّ الطلب، ربّما اقتنع بالقول الأوّل، أي: بعد أن أمسى وأظلم الليل، بعد أن هدأت العيون، وسكنت الأجراس، وخمدت الأصوات، ونام الناس، وكانوا ينامون من أوّل الليل غالباً، عندها خرج سيّد الشهداء (علیه السلام) ليوفّر للركب فترة مسيرٍ أطول يتوغّل فيها في الطريق، ويُمعِن في الابتعاد عن المدينة، ويفاجئ الأعداء بابتعاده عنهم.

الملاحظة الثانية: حركة الإمام (علیه السلام) في الزمن الحرام

كانت انطلاقة حركة الإمام (علیه السلام) من المدينة في البقيّة الباقية من الشهر الحرام (رجب)، كما كانت حركته من مكّة انطلاقاً واستمراراً إلى حين وصوله كربلاء كلّها في الأشهر الحرم (ذي الحجّة والمحرّم)، وبهذا قد وظّف الإمام (علیه السلام) جميع الوسائل الّتي تحمي المؤمن، وتمنع العدوّ من الطغيان والتجاوز والاعتداء.

فهو قد خرج من المدينة الّتي حرّمها النبيّ (صلی الله علیه و آله) إلى مكّة البلد الحرام، وفي أيّامٍ من رجب، كما انطلق (علیه السلام) من مكّة في الشهر الحرام، ومشى إلىالعراق طيلة الطريق في الشهر الحرام، بيد أنّ حرمة المكان وحرمة الزمان لم تكن عند القوم مانعاً ولا رادعاً، والحال أنّهما كانا معظَّمان في الجاهليّة والإسلام، وأنّى لهم رعاية حرمة الزمان والمكان، وقد هتكوا الحريم الأعظم

ص: 81

لله وسفكوا الدم الحرام الّذي أضحى ثار الله ووِتره الموتور، واستباحوا حرمات الله (عزوجل) وحرمات رسوله (صلی الله علیه و آله) ، وسبوا عقائل النبوّة ومخدّرات الوحي؟!!

ص: 82

فخرج منها خائفاً

فلمّا سار الحسين نحو مكّة، قرأ عند خروجه من المدينة قوله (تعالى): ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ ((1))، وجعل يسير ويقرأ هذه الآية ((2)).

لم يكن لأحدٍ من العالمين أن يصف الوضع والحال الّذي خرج به الإمام خامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) من المدينة كوصفه هو فداه العالمين.

وقد وصف الإمام (علیه السلام) تلك الظروف وصفاً دقيقاً رائعاً واضحاً جليّاً بيّناً، لا يشوبه أيّ تشويش أو تغبيش، وكأنّ العيون تراه والقلوب تعيه والأذهان تتمثّله، من خلال قراءة آيةٍ من كتاب الله، قرأ الجزء الأوّل منها

ص: 83


1- سورة القصص: 21.
2- أُنظر: تاريخ الطبري: 5 / 343، الفتوح لابن أعثم: 5 / 34، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 189، الإرشاد للمفيد: 2 / 33، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار: 44 / 332، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 265، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 135، نهاية الإرب للنويري: 20 / 380، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 183.

عند خروجه من المدينة، وكان يردّدها أثناء المسير كما تفيد بعض عبارات المؤرّخين، ثمّ قرأ باقي الآية الكريمة عند وصوله إلى مكّة المكرّمة ورؤيته جبالها، وقد أتينا على تفاصيل دلالات الآية وتلاوتها في كتاب(ظروف خروج الإمام (علیه السلام) من المدينة).

ووصفَت الحال السيّدة سكينة بنت الحسين فيما رُوي عنها أنّها قالت: لمّا خرجنا من المدينة ما كان أحدٌ أشدّ [منّا غمّاً ولا] ((1)) خوفاً منّا أهل البيت ((2)).

ولا حاجة للبحث عن مصادر قديمة لهذا الخبر، ولا التدقيق في الأسانيد، فهو تعبيرٌ آخر عن تلاوة الآية على لسان سيّد الشهداء (علیه السلام) .

وقد أشارت الدلائل والشواهد الكافية على هذا التوصيف في مواقف وتصريحات وبيانات الإمام (علیه السلام) قُبيل خروجه من المدينة وفي الطريق وفي مكّة وغيرها من المواطن.

وقد ذكرنا في كتاب (الظروف) أنّ هذا الخوف لا يعني الخوف المذموم، إذ أنّ ساحة الإمام (علیه السلام) ومَن معه من ذرّيّة أبي طالب (علیهم السلام) ومواليهم مبرّأةٌ

ص: 84


1- أسرار الشهادة للدربندي: 209، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 223.
2- المنتخب للطريحي: 2 / 421، مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنف (المشهور): 14، وفيه: لمّا خرجنا من المدينة ما كان من أهل بيتٍ أشدّ خوفاً عليه منّا أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

من هذا النوع من الخوف، كما أنّه لا يُعَدّ هروباً في ساحة القتال، وإنّما هي حركةٌ انتقاليّةٌ وعملٌ بالتكليف في حماية النفس والأهل والمال، وتجنّب هتك حرمة الحرم، وما شاكل من أغراض ومسوّغات، تماماً كما فعل الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) من قبل، وكما فعل النبيّ موسى (علیه السلام) حينخرج إلى مَديَن، وكما فعل رسول الله (صلی الله علیه و آله) في هجرته من مكّة إلى المدينة، وقد استوعبنا الحديث في كتاب (الظروف)، فلا نعيد هنا.

ص: 85

ص: 86

مَن خرج مع الإمام (علیه السلام)

جملة النصوص

اشارة

• وخرج الحسين إلى مكّة في بنيه وإخوته وبني أخيه وجُلّ أهل بيته، غير محمّد ابن الحنفيّة ((1)).

• ومعه أُختاه: أُمّ كلثوم وزينب، ووُلد أخيه، وإخوته: أبو بكر وجعفر والعبّاس، وعامّة مَن كان بالمدينة مِن أهل بيته، إلّا أخاه محمّد ابن الحنفيّة فإنّه أقام ((2)).

• وخرج في جوف الليل يريد مكّة بجميع أهله ((3)).

• فتوجّه إلى مكّة بأهله ووُلده ((4)).

• وحمل أخواته على المحامل، وابنته، وابن أخيه القاسم بن

ص: 87


1- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 317.
2- الأخبار الطوال للدينوري: 230.
3- الفتوح لابن أعثم: 5 / 34.
4- شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 143.

الحسن بن عليّ، ثمّ سار في أحد وعشرين رجلاً من أصحابهوأهل بيته، منهم: أبو بكر بن عليّ، ومحمّد بن عليّ، وعثمان ابن عليّ، والعبّاس بن عليّ، وعبد الله بن مسلم بن عقيل، وعليّ بن الحسين الأكبر، وعليّ بن الحسين الأصغر ((1)).

• ومعه بنوه وبنو أخيه وإخوته وجُلّ أهل بيته، إلّا محمّد ابن الحنفيّة (رحمة الله عليه) ((2)).

• فخرج من الليل ببنيه وإخوته وبني أخيه وأهل بيته ((3)).

• وخرج الحسين بأهله ((4)).

• وأخذ معه بنيه وإخوته وبني أخيه وجُلّ أهل بيته، إلّا محمّد ابن الحنفيّة ((5)).

• وخرج الحسين في الليلة الآتية بأهله وفتيانه ((6)).

ص: 88


1- الأمالي للصدوق: 152، بحار الأنوار: 44 / 312 بسند عن الإمام عليّ بن الحسين (علیهما السلام) .
2- الإرشاد للمفيد: 2 / 32، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار: 44 / 326، العوالم للبحراني: 17 / 176، نفَس المهموم للقمّي: 71.
3- المنتظم لابن الجوزي: 5 / 324.
4- الردّ على المتعصّب العنيد لابن الجوزي: 35.
5- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 265، نهاية الإرب للنويري: 20 / 380.
6- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 135.

• ثمّ خرج الحسين مِن عنده، وجمَعَ أصحابه وخرج من المدينة ((1)).

• وأمّا الحسين (علیه السلام) ، فإنّه أخذ معه بنيه وإخوته وبني إخوته وجميع أهله وحاشيته ((2)).

* * * * *

ذكرت المتون التاريخيّة مَن خرج مع الإمام (علیه السلام) بالنصّ على أسماءالبعض، وذكرت آخَرين بعناوين عامّة، من قبيل الإخوة والأخوات والأولاد وما شاكل، ويمكن استقصاء ما وقع بأيدينا من المصادر ونظمها تحت مجاميع:

المجموعة الأُولى: العناوين العامّة

وردت جملةٌ من العناوين الّتي يمكن أن تشمل مَن يصدق عليه العنوان، من قبيل:

(1) بنوه.

(2) إخوته.

(3) أخواته.

ص: 89


1- كتاب الفخري لابن الطقطقي: 104.
2- الفصول المهمّة لابن الصباغ: 183.

(4) ابنته.

(5) بنو إخوته.

(6) بنو أخيه.

(7) عامّة مَن كان بالمدينة من أهل بيته.. بجميع أهله.. بأهله ووُلده.

(8) فتيانه.

(9) حاشيته.

(10) جمع أصحابه وخرج من المدينة.

(11) أحد وعشرون رجلاً من أصحابه وأهل بيته.

المجموعة الثانية: المنصوص على أسمائهم

(1) أخوه العبّاس.

(2) أُخته زينب.

(3) أُخته أُمّ كلثوم.

(4) أخوه أبو بكر بن عليّ.

(5) أخوه جعفر.

(6) محمّد بن عليّ.

(7) عثمان بن عليّ.

(8) عليّ بن الحسين الأكبر.

(9) عليّ بن الحسين الأصغر.

ص: 90

(10) ابن أخيه القاسم بن الحسن بن عليّ.

(11) عبد الله بن مسلم بن عقيل.

* * * * *

هؤلاء مَن صرّحت المصادر بخروجهم مع الإمام (علیه السلام) ، ويمكن أن تُستقصى الأسماء من خلال متابعة النصوص الّتي ذكرت المستشهَدين من آل البيت وآل أبي طالب في الكتب التاريخيّة وكتب الزيارات وزيارة الناحية المقدّسة وما شاكل، واقتصرنا هنا على المصادر الّتي تحدّثت عن ليلة الخروج، ونترك الباقي إلى محلّه إن شاء الله (تعالى).

المجموعة الثالثة: المستثنى

اشارة

نذكر هنا نماذج أفاد المؤرّخ أنّهم تخلّفوا عن ركب سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ولا نريد معالجة المواقف والبحث عن المسوّغات الّتي سمحت لهم بالتخلّف، كما لا نريد الاستقصاء، ونرجو من الله التوفيق لذلك لنجمع مَن تخلّف عن الركب من بني هاشم عموماً، وغيرهم من كبار الشيعة ورجالهم وجماجمهم وشخصيّاتهم ووجوههم إن كانوا في المدينة أو في غيرها، ومحاولة استكشاف المسوّغات والأسباب والأعذار، إذ أنّ بعضهم لا يمكن أن نظنّ به إلّا خيراً، سيّما أنّه نال رضى الأئمّة من بعد سيّد الشهداء (علیهم السلام) ..

ص: 91

النموذج الأوّل: محمّد ابن الحنفيّة

تخلّف المولى محمّد ابن الحنفيّة عن سيّد الشهداء (علیه السلام) ولم يخرج معه ((1))، ولم يأذن لوُلده أن يخرجوا فتخلّفوا معه ((2)).

النموذج الثاني: عمر بن عليّ

إختلفوا في خروجه..

فقال جماعةٌ أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) دعاه للخروج معه إلى العراق فتخلّف عنه ((3)).

ص: 92


1- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 317، الأخبار الطِّوال للدينوري: 230، الإرشاد للمفيد: 2 / 32، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار: 44 / 326، العوالم للبحراني: 17 / 176، نفَس المهموم للقمّي: 71. الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 265، نهاية الإرب للنويري: 20 / 380.
2- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 61، ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من تاريخ دمشق: 204 ط المحمودي، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 143، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2612، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 421، تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 343، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 165.
3- أُنظر: سرّ السلسلة لأبي نصر: 96، الأصيلي لابن الطقطقي: 332، عُمدة الطالب لابن عنبة: 362، تنقيح المقال للمامقاني: 2-1 / 346، نفَس المهموم للقمّي: 328.

وقال آخَرون أنّه خرج معه واستشهد بين يديه. قال المامقانيّ: وقد نصّ أبو مِخنَف وابن شهرآشوب وفاضل البحار وغيرهم من أرباب المقاتل من العامّة والخاصّة بأنّه خرج مع أخيه الحسين (علیه السلام) من المدينة إلى العراق، وكانت معه أُمّه وأُخته رقيّة وولداها عبد الله ومحمّد ابنا مسلم بن عقيل ((1)).

النموذج الثالث: فاطمة بنت الحسين (علیهما السلام)

روى الخوارزميّ وابن عساكر وغيرهما مسنداً عن المفضّل بن عمر الجُعفيّ قال: سمعتُ جعفر بن محمّدٍ (علیهما السلام) يقول: «حدّثني أبي محمّد بن عليّ: حدّثني أبي عليّ بن الحسين (علیهما السلام) قال: لمّا قُتِل الحسين (علیه السلام) ، جاء غرابٌ فوقع في دمه، ثم تمرّغ ثمّ طار، فوقع بالمدينة على جدار دار فاطمة بنت الحسين (علیه السلام) ، وهي الصغرى، فرفعَت رأسها إليه فنظرته، فبكت وقالت:

نعب الغراب، فقلت مَن

تنعاه؟ ويلك من غراب!

قال: الإمام، فقلت:

مَن؟

قال: الموفّق للصواب

إنّ الحسين بكربلا

بين المواضي والحِراب

[فابكِ الحسينَ بعبرةٍ

تُرضي الإله مع

الثواب]قلت: الحسين؟ فقال لي:

مُلقىً على وجه

التراب

ص: 93


1- تنقيح المقال للمامقاني: 2-1 / 345.

ثمّ استقلّ به الجناح

ولم يُطِق ردّ الجواب

فبكيتُ منه بعَبرةٍ

تُرضي الإله مع

الثواب»

قال محمّد بن عليّ (علیه السلام) : «فنعَته لأهل المدينة، فقالوا: جاءت بسحر بني عبد المطّلب. فما كان بأسرع من أن جاءهم الخبر بقتل الحسين (علیه السلام) » ((1)).

لكِ الله يا سيّدتي الغريبة، لكِ الله يا سيّدتي المظلومة بنت المظلوم، لكِ الله يوم فارقكِ ركبُ أبيك وإخوتك وأخواتك وعمّاتك وأهل بيتك، وبقيتِ في المدينة، لا ندري كيف حصل الوداع، وكيف استقبلتِ الفراق! لكِ الله يوم جاءك الخبر، لك الله ساعة نظرتِ إلى دم أبيك على جناح الطائر!

وصلّى الله على أبيك رحمةِ الله الواسعة ومعدن الرأفة الّذي أبى إلّا أن يُخبرك بخبره ولو بدمه الّذي ضرّج الطائر جناحه به.

النموذج الرابع: عبد الله بن جعفر

لم یخرج عبد الله بن جعفر وحده مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأرسل معه

ص: 94


1- أُنظر: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 2 / 92، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 74 / 19، تراجم النساء: 286، مختصر ابن منظور: 20 / 358، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2646، فرائد السمطين للحمويني: 2 / 163، بحار الأنوار: 45 / 171، العوالم للبحراني: 17 / 490، نور الأبصار للشبلنجي: 384.

زوجته السيّدة الصدّيقة الصغرى زينب الكبرى (علیها السلام) وأولاده، فلازموا ركاب إمامهم حتّى استُشهدوا بين يديه بأمر أبيهم.

* * * * *

هؤلاء على العموم مَن لم يخرجوا مع سيّد الشهداء (علیه السلام) من آل أبي طالب، ولم نحصهم ونستقصي المصادر بحثاً عنهم، واكتفينا بهذا القدر.

النموذج الخامس: أُمّ البنين (علیها السلام)

يبدو أنّ وجود أُمّ البنين (علیها السلام) أيّام الطفّ على قيد الحياة ممّا لا يعتريه الشكّ، أمّا ما ذُكر في إحدى كتب المحقّق المرحوم السيّد المقرّم فلا يغيّر من الواقع التاريخيّ شيئاً؛ وذلك:

لأنّ السيّد المقرّم (رحمة الله) نفسه اختلف في موقفه من القضيّة في كتبه الأُخرى، ولم يكن يبتّ فيها بضرسٍ قاطع، وما ذكره من أدلّةٍ قابلةٌ للمناقشة، بل لا تصمد أمام النقد، وقد ناقشه بعض المحقّقين وأثبتوا خلاف قوله (رحمة الله) ، هذا كلّه إن كان ما جاء في بعض طبعات كتابه كان من تحرير قلمه الشريف نفسه!

قال محمّد علي السالكي في كتابه (أُمّ البنين (علیها السلام)):

إنّ السيّد المقرّم بعد ما نقل نياحة أُمّ البنين (علیها السلام) في المدينة على أولادها وعلى العبّاس (علیه السلام) بالأخصّ في كتابه (قمر بني هاشم)، الّذي طُبع مرّةً بهذا الاسم وتارةً باسم (العبّاس (علیه السلام))،

ص: 95

مع ذكر الأشعار المنسوبة إليها، وفي كتابه (مقتل الحسين (علیه السلام)) الذي طُبع سابقاً قبل الطبعة الأخيرة المنمّقة بمقدّمة ولده، فإنّه بعد هذا وذاك شكّك في الطبعة الأخيرة الخامسة الجديدة من (مقتل الحسين (علیه السلام)) المطبوع مع مقدّمة ولده.

وقال أيضاً في الهامش:

إنّما قيّدناه بالخامسة الجديدة، لأنّ الكتاب طُبع الطبعة الخامسة سابقاً وليست فيه هذه التشكيكات، ثمّ طُبع طبعةً خامسةً مع مقدّمةٍ كتبها ابنه السيّد محمّد حسين المقرّم، وفيه هذه التشكيكات المُشار إليها ((1)).

فهي إذن موجودةٌ حين خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة، ولم تخرج مع الركب الحسينيّ إلى كربلاء، ولكنّها سرّحت قلبها معهم، وبقيَت ترفرف بروحها على ساحة المعركة، وتتسقّط أخبارهم من القادمين.

ويا ليتها كانت حاضرة، فترى مفاخرهم وبطولاتهم بأُمّ عينها، فتكون لها سلوة.

وربّما بقيَت في المدينة لأنّها أصغت بإذن المؤمن المطيع لقوله (تعالى):

ص: 96


1- أُمّ البنين للسالكي: 116، ثمّ ناقش المؤلّف الشبهة مناقشةً مفصّلة، ويبدو من مقدّمته أنّ غرضه من تأليف الكتاب إنّما هو ردّ هذه التشكيكات.

﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ ((1))، وهي تعتقد أنّ الله أمرها من خلال هذه الآية -- باعتبارها زوجة سيّد الوصيّين (علیه السلام) -- بما أمر به نساء سيّد المرسلين (صلی الله علیه و آله) ، لأنّهنّ في حكمٍ واحد، وقد رُوي عن أمير المؤمنين عليّ (علیه السلام) أنّه قال: «لا يجوز لأزواج النبيّ (صلی الله علیه و آله) والوصيّ (علیه السلام) أن يتزوّجن بغيره بعده» ((2)). فقعدت عن الخروج كما قعدت أُمّ سلَمة عن الخروج مع أمير المؤمنين (علیه السلام) في حرب الجمل، والخروج مع سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) .

ولعلّها لم تخرج لكبر سنّها، وهو سفرٌ لا كباقي الأسفار.

أو أنّها كانت مأمورةً من قِبل إمام زمانها بأمرٍ خاصٍّ يقتضي أن لا تخرج معهم، فيما أمر غيرها بالخروج معه.

وكيف كان، فهي لا تتخلّف عن إمام زمانها الحسين (علیه السلام) لولا رضاه وأمره.

* * * * *

إنّ التاريخ لم يسجّل لنا -- حسب الفحص -- أيَّ مؤشّرٍ مهما كان سريعاً وخاطفاً ومقتضباً عن لحظة الوداع بين أُمّ البنين (علیها السلام) وأولادها الكرام البررة، أو بينها وبين إمامها وسيّدها الحسين (علیه السلام) ، أو بينها وبين السيّدة زينب (علیها السلام) ، أو بينها وبين غيرهم من الركب الّذي يقوده الكرب والبلاء إلى

ص: 97


1- سورة الأحزاب: 33.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 3 / 305.

كربلاء، إلّا أنّ معرفتنا بأُمّ العبّاس (علیه السلام) الأبيّة يكشف لنا عن عمق التسليم، وشدّة الوقار والاتزان، وقوّة اليقين والضبط الحازم للعواطف الّتي امتازت به هذه الحرّة المضحّية.

فالوداع والفراق بين الأُمّ وولدها ثقيلٌ عسير، تلتهب فيه العواطف، وتتكسّر فيه الجُمل والعبارات، وتموت فيه الكلمات، وتتفجّر فيه الدموع تحسّباً لهواجس البعاد، هذا لو كان الفراق والوداع لسفرٍ يُنتظَر بعده اللقاء القريب، فماذا لو كان الوداع لفراقٍ لا لقاء بعده إلّا في الآخرة؟

وماذا لو كان الفراق يغيّب وجه الحسين الحبيب (علیه السلام) ، ووجه أبي الفضل العبّاس (علیه السلام) ، وزينب بنت الزهراء (علیها السلام) ، وغيرها من الوجوه الّتي تشتاق لها سكّان السماوات قبل سكّان الأرض؟

وكأنّي بأُمّ البنين (علیها السلام) تشهد هذا الموقف الّذي تتألّم له صُمّ الصخور، وتشارك نساء بني عبد المطّلب في النياحة والبكاء، وتتنقّل من دارٍ إلى دار، وهي تودّع ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وحرمه وأبناءها البررة، وتوصي أولادها بأخواتهم وسيّدهم ومولاهم الحسين (علیه السلام) ، وتقول لهم: كونوا فداءً لسيّدكم، وكونوا له عيناً ودرعاً، واجعلوا قلوبكم دروعكم للدفاع عنه وعن حرمه، ولا تقصّروا في الذبّ عنه، وبيّضوا وجهي عند أُمّه فاطمة وأبيه وجدّه وأخيه وعنده (صلوات الله عليهم أجمعين) ((1)).

ص: 98


1- ما تحت العنوان كلّه اقتباسٌ من كتاب (زوجة سيّد الوصيّين أُمّ البنين والدة حامل لواء الحسين (علیه السلام)) للسيّد علي السيّد جمال أشرف.

رواية العلّامة الدربندي

اشارة

روى العلّامة الدربنديّ في كتابه (أسرار الشهادة) قائلاً:

حدّثني بعض الثقات من تلامذتي من العرب، قال: قد ظفرتُ بهذه الرواية في مجموعةٍ كانت تُنسَب إلى الفاضل الأديب المقري، فنقلتها عنه، وهي أن روى عبد الله بن سنان الكوفيّ، عن أبيه، عن جدّه أنّه قال:

خرجتُ بكتابٍ من أهل الكوفة إلى الحسين (علیه السلام) وهو يومئذٍ بالمدينة، فأتيتُه، فقرأه فعرف معناه، فقال: «أنظِرْني إلى ثلاثة أيّام»، فبقيتُ في المدينة.

ثمّ تبعتُه إلى أن صار عزمه بالتوجّه إلى العراق، فقلت في نفسي: امضي وأنظر إلى ملِك الحجاز كيف يركب، وكيف جلالته وشأنه؟ فأتيتُ إلى باب داره، فرأيتُ الخيل مسرجة، والرجال واقفين، والحسين (علیه السلام) جالسٌ على كرسيّ، وبنو هاشم حافّون به، وهو بينهم كأنّه البدر ليلة تمامه وكماله، ورأيتُ نحواً من أربعين محملاً، وقد زُيّنَت المحامل بملابس الحرير والديباج.

ص: 99

قال: فعند ذلك أمر الحسين (علیه السلام) بني هاشم بأن يُركِبوا محارمهنّ على المحامل.

فبينما أنا أنظر وإذا بشابٍّ قد خرج من دار الحسين (علیه السلام) وهو طويل القامة وعلى خدّه علامة، ووجهه كالقمر الطالع، وهو يقول: تنحّوا يا بني هاشم! وإذا بامرأتين قد خرجتا من الدار وهما تجرّان أذيالهما على الأرض حياءً من الناس، وقد حفّت بهما إماؤهما، فتقدّم ذلك الشابّ إلى محملٍ من المحامل، وجثى على ركبتيه وأخذ بعضديهما وأركبهما المحمل، فسألتُ بعض الناس عنهما، فقيل: أمّا إحداهما فزينب، والأُخرى أُمّ كلثوم، بنتا أمير المؤمنين. فقلت: ومَن هذا الشابّ؟ فقيل لي: هو قمر بني هاشم العبّاس بن أمير المؤمنين.

ثمّ رأيت بنتين صغيرتين، كأنّ الله (تعالى) لم يخلق مثلهما، فجعل واحدةً مع زينب والأُخرى مع أُمّ كلثوم، فسألتُ عنهما، فقيل لي: هما سكينة وفاطمة بنتا الحسين (علیه السلام) .

ثمّ خرج غلامٌ آخَر كأنّه البدر الطالع، ومعه امرأةٌ وقد حفّت بها إماؤها، فأركبها ذاك الغلام المحمل، فسألتُ عنها وعن الغلام، فقيل لي: أمّا الغلام فهو عليّ الأكبر ابن الحسين (علیه السلام) ، والامرأة أُمّه ليلى زوجة الحسين (علیه السلام) .

ص: 100

ثمّ خرج غلامٌ ووجهه كفلقة القمر، ومعه امرأة، فسألت عنهما، فقيل لي: أمّا الغلام فهو القاسم بن الحسن المجتبى، والامرأة أُمّه.

ثمّ خرج شابٌّ آخَر وهو يقول: تنحّوا عنّي يا بني هاشم، تنحّوا عن حرم أبي عبد الله. فتنحّى عنه بنو هاشم، وإذا قد خرجت امرأةٌ من الدار وعليها آثار الملوك، وهي تمشي على سكينة ووقار، وقد حفّت بها إماؤها، فسألت عنهما، فقيل لي: أمّا الشابّ فهو زين العابدين ابن الإمام، وأمّا الامرأة فهي أُمّه شاه زنان بنت الملِك كسرى زوجة الإمام. فأتى بها وأركبها على المحمل.

ثمّ أركبوا بقيّة الحرم والأطفال على المحامل، فلمّا تكاملوا نادى الإمام (علیه السلام) : «أين أخي؟ أين كبش كتيبتي؟ أين قمر بني هاشم؟»، فأجابه العبّاس: لبيك لبيك يا سيّدي! فقال له الإمام (علیه السلام) : «قدِّمْ لي يا أخي جوادي»، فأتى العبّاس بالجواد إليه، وقد حفّت به بنو هاشم، فأخذ العبّاس بركاب الفرس حتّى ركب الإمام، ثمّ ركب بنو هاشم، وركب العبّاس، وحمل الراية أمام الإمام.

قال: فصاح أهل المدينة صيحةً واحدة، وعلت أصوات بني

ص: 101

هاشم بالبكاء والنحيب، وقالوا: الوداع، الوداع، الفراق، الفراق! فقال العبّاس: هذا واللهِ يوم الفراق، والملتقى يوم القيامة. ثمّ ساروا قاصدين الكوفة ((1)).

وقفةٌ عجلى

اشارة

يمكن أن نقف عند هذا الخبر وقفة عجلى تتلخّص في عدّة مشاكل تعترضها:

المشكلة الأُولى: تفرّد العلّامة الدربندي

هذه الرواية يرويها العلّامة الدربنديّ وفق إخبار أحد تلاميذه، وجادةً (عن مجموعةٍ كانت تُنسَب إلى الفاضل الأديب المقري)، فلا يبدو أنّ فيها شيءٌ يمكن أن يظنّ به القارئ فضلاً عن الاطمئنان والجزم، وقد تفرّد بروايتها الدربنديّ، ولم نقف على شاهدٍ لها في كتب التاريخ الأُخرى ممّن سبقه أو عاصره.

المشكلة الثانية: اختلال التوقيت

أفاد الخبر أنّ الراوي كان يحمل كتاباً من أهل الكوفة إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) ..

ص: 102


1- أسرار الشهادة للدربندي: 367، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 220، وسيلة الدارين للزنجاني: 53.

فإن كان الكتاب قد أرسله أهل الكوفة بعد هلاك معاوية فالخبر لايكاد يستقيم؛ إذ أنّ معاوية هلك في الثاني عشر أو الخامس عشر من رجب -- على اختلاف الأقوال --، وكان خروج الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة -- وفق المشهور -- في الثامن والعشرين من رجب، فستكون المدّة بين هلاك معاوية وخروج سيّد الشهداء (علیه السلام) على أقصى التقادير ستّة عشر يوماً، وهي مدّة غير كافية لبلوغ الخبر إلى الكوفة ثمّ اجتماع أهل الكوفة واتّخاذهم القرار وإرسال الراوي ليبلغ من الكوفة إلى المدينة.

وإن كان الرسول قد أُرسِل قبل هلاك معاوية، فإنّ الحوادث التاريخيّة تشير بوضوحٍ إلى ضعف هذا الاحتمال إلى حدّ الخمود، إذ أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) قد أمر المكاتبين أيّام معاوية أن يكفّوا ويلبدوا حتّى يهلك معاوية.

المشكلة الثالثة: اتّفاق المصادر على وصول الكتب في مكّة

تكاد تكون المصادر التاريخيّة مُجمِعةً على أنّ كتب الكوفيّين ورسلهم وصلت إلى الإمام (علیه السلام) في مكّة، ولم تصله منهم دعوةٌ قبل وصوله إلى مكّة المكرمة.

المشكلة الرابعة: مضامين غريبة
اشارة

يلاحَظ أنّ صياغة الخبر صياغةٌ قصصيّة، وقد احتوى مضامين غريبة، لا نريد مناقشتها ووضع اليد عليها بالتفصيل، ونكتفي بذكر نماذج

ص: 103

منها:

النموذج الأوّل:

خروج الإمام زين العابدين (علیه السلام) مع أُمّه شاه زنان بنت كسرى، والحال أنّها كانت قد ماتت نفساء في ولادته (علیه السلام) ، كما نصّ على ذلك الإمام الرضا (علیه السلام) في حديث (عيون الأخبار) ((1)).

النموذج الثاني:

إنّ أهل المدينة صاحوا صيحةً واحدة، وارتفعت أصوات بني هاشم بالبكاء والنحيب، والحال أنّ المدينة كانت حين خروج الإمام (علیه السلام) تغطّ في نومٍ عميق، ولم يكن مِن بني هاشم قد حضر مشهد الخروج إلّا مَن خرج مع الإمام (علیه السلام) ، كما أفادت المصادر التاريخيّة.

والخبر يحكي مشهداً مزدحماً يضجّ ويعجّ، ومؤدّيات المتون التاريخيّة تفيد أنّه (علیه السلام) خرج في هدوء الليل خائفاً يترقّب، وقد فاجأ السلطة وغيرها بخروجه.

النموذج الثالث:

تصوير الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) جالساً على كرسيّ وبنو هاشم حافّين به، ونداء المنادي مخاطِباً بني هاشم: غضّوا أبصاركم.. والحال أنّ خروج

ص: 104


1- أُنظر: عيون أخبار الرضا (علیه السلام) : 2 / 135ح 6 -- عنه: بحار الأنوار: 46 / 8 ح 19.

الإمام (علیه السلام) كان في الليل، وبنو هاشم الحاضرون ساعتئذٍ كانوا من ذرّيّةأبي طالب غالباً، وهم أكثرهم محارم للسيّدة الصدّيقة الصغرى زينب وأُمّ كلثوم.

النموذج الرابع:

إنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) استمهله ثلاثة أيّام، ثمّ لم يردّ عليه جواباً. إلّا أن يقال: كان خروجه (علیه السلام) من المدينة جواباً عمليّاً على الكتب، وهو غريب!

المشكلة الخامسة: تصريحه بالتوجّه إلى الكوفة

بدأ كلامه بالتصريح بقصد الإمام (علیه السلام) إلى العراق، ثمّ ختمه بالتصريح بحركة الإمام (علیه السلام) قاصداً الكوفة، وقد تبيّن لنا بما لا يحتاج إلى مزيد استدلال في كتاب (الظروف) أنّ الإمام (علیه السلام) لم يُخبِر أحداً، ولم يصرّح لأحدٍ في المدينة المنوّرة بقصد العراق ولا الكوفة، وإنّما أعلن لأخيه محمّد ابن الحنفيّة وبعض خواصّه الّذين كانوا على نيّته وعزمه أنّه متوجّهٌ إلى مكّة المكرمة.

فائدة الخبر

يمكن أن يكون في الخبر تصحيفٌ أو سهوٌ أو خطأٌ فيما يخصّ بلد اللقاء، فلو كان قد حصل اللقاء في مكّة ربّما كان مجالٌ للبحث حينئذ، إذا استطعنا إيجاد حلولٍ للمشاكل الآنفة الذكر.

ص: 105

كيف كان، إذا تمّت المشاكل المذكورة يكون الخبر عاجزاً عنالنهوض، ولا يمكن الارتكان إليه والاعتماد عليه لإثبات مشهدٍ تاريخيّ أو حقيقةٍ ناهضةٍ تكشف عن الحدَث.

غير أنّ الخبر يمكن توظيفه في رسم صورةٍ في ذهن المتلقّي عن خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) وعائلته من المدينة، وكيفيّة خروج حرمات الله ومخدّرات العقائل معزّزاتٍ مكرّماتٍ بحضور وليّهنّ الإمام (علیه السلام) ، وتحت راية أبي الفضل العبّاس (علیه السلام) ، مع باقي حماتهنّ وولاتهنّ من أبطال العلويّين وليوث الهاشميّين وأُسود غالب وشجعان مضر وعدنان..

فالخبر إن كان غير ناهضٍ لإثبات الحقيقة التاريخيّة، لا يمنع أن يوظَّف بمقدار البكاء والإبكاء والنعي وذكر المصائب، إذ يكون الناعي والمتلقّي كلاهما متّفقَين على الاكتفاء بالبكاء للمصيبة من دون الاسترسال مع الخبر إلى مستوى التحقيق والاستدلال به ((1))، ولعلّ هذا هو المسوّغ الّذي دعا العلّامة الدربنديّ لنقله وروايته في كتابه.

تصوير المازندرانيّ لهيئة الركب ومكوّناته

اشارة

قال العلّامة المتتبّع الشيخ محمّد مهدي المازندرانيّ الحائريّ:

ص: 106


1- أتينا على تفصيل طرق الوصول إلى مصائب سيّد الشهداء (علیه السلام) في مقدّمة كتاب (أنوار الشهادة)، فمن أحبّ التفصيل فلْيراجع.

قد وجدتُ في بعض الكتب:إنّه لمّا أراد الحسين (علیه السلام) الشخوص من المدينة، اجتمع عنده أولاده وزوجاته وأخواته وإخوته وبنو عمومته وأولاد أخيه الحسن (علیه السلام) وبناته ومواليه والجواري والخدم وكثيرٌ من أقربائه من بني هاشم، ذكوراً وإناثاً ورجالاً ونساءً، وهم من حيث المجموع مع الطفل الرضيع عليّ الأصغر مئتان واثنان وعشرون ... وهم الّذين خرجوا مع الحسين بن عليّ (علیه السلام) من المدينة إلى مكّة، ثمّ إلى العراق.

الخيل أو النياق والتجهيزات

فلمّا تهيّأ للمسير من المدينة إلى مكّة ثمّ إلى العراق، أمر (علیه السلام) بإحضار مئتين وخمسين من الخيل للركوب، وفي خبر: مئتين وخمسين ناقة.

فلمّا أُحضرَت عنده أمر بحمل سبعين ناقة للخيم، وأربعين ناقة لحمل القدور والأواني وأدوات الأرزاق وما يتعلّق بها، وثلاثين ناقة لحمل الراوية للماء، واثني عشر لحمل الدراهم والدنانير والحُليّ والحُلل والبدرات والزعفران والعطريّات والورس والأثواب والبرود اليمانيّة والتركاء وما يتعلّق بهذه الأشياء، وأمر (علیه السلام) بخمسين شقّة من الهوادج على ظهور المطايا

ص: 107

للعيال والأطفال والذراري والخدم والجواري والعبيد، وبقيّة المطايا لحمل الأثقال والأدوات اللّازمة في الطريق.

فلمّا أُحضرَت هذه الأشياء عنده، ودّع قبر جدّه وأُمّه وأخيه وجدّته فاطمة بنت أسد وساير أقربائه ...

فرس رسول الله (صلی الله علیه و آله)

فلمّا تهيّأ (علیه السلام) للركوب من المدينة إلى مكّة، أمر بإحضار فرس رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، يُدعى: المرتجز، فركبه، وهو الفرس الّذي شهد به خُزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، وكان صاحبه رجلاً من بني مُرّة، اشتراه (صلی الله علیه و آله) بالمدينة بعشرة أواق، وأوّل غزوةٍ غزا به (صلی الله علیه و آله) غزوة أُحُد، وكان من جياد خيل رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، على ما رواه ابن قُتيبة في (المعارف)، ثمّ انتقل بعده إلى عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، وهو ركبه يوم صفّين، على ما رواه نصر بن مزاحم في (كتاب صفّين)، ثمّ انتقل بعده إلى ابنه الحسين (علیه السلام) ، فركبه يوم الطفّ، ووعظ القوم فلم يتّعظوا، ثمّ قتلوه عطشاناً ظمآناً، وقال السمعانيّ في (كتاب الفضائل): اشتراه (صلی الله علیه و آله) بأربعين ألف درهم.

سيف رسول الله (صلی الله علیه و آله)

ثمّ أمر (علیه السلام) بإحضار سيف رسول الله (صلی الله علیه و آله) فتقلّد به، وكان اسمه:

ص: 108

البتّار، وقيل: الرسوب، وقيل: العضب، وقيل: الحتف، وكان مكتوباً عليه هذا البيت:

في الجُبن عارٌ، وفي الإقدام مكرمةٌ

والمرءُ بالجبن لا ينجو من القدَرِ

وهو الّذي أعطاه رسول الله (صلی الله علیه و آله) عليّاً يوم أُحُد، على ما ذكره السمعانيّ في كتاب (الفضائل)، وكان بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) مع عليٍّ (علیه السلام) في حروبه الثلاثة، ثمّ انتقل بعده إلى ابنه الحسن (علیه السلام) ، ثمّ إلى الحسين (علیه السلام) ، وكان يحارب معه يوم الطفّ مع أعداء الدين إلى أن قُتل (علیه السلام) .

درع رسول الله (صلی الله علیه و آله)

ثمّ أمر (علیه السلام) بإحضار درع رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلبسه، وكان اسمه: السعديّة، وقيل: فضّة، وقيل: ذات الفضول، وقيل: ذات الوشاح، فأعطاه رسول الله (صلی الله علیه و آله) عليّاً، وكان يلبسه ويجاهد بين يدَي رسول الله (صلی الله علیه و آله) في غزواته، وبعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) لبسه عليٌّ (علیه السلام) في حروبه الثلاثة، ثمّ بعده انتقل إلى ابنه الحسن (علیه السلام) ، ثمّ إلى ابنه الحسين (علیه السلام) ، وكان لابسه يوم الطفّ لمّا وعظ القوم، وقال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون إنّ هذا درعرسول الله أنا لابسه؟»، قالوا: اللّهمّ نعم.

ص: 109

عمامة رسول الله (صلی الله علیه و آله)

ثمّ أمر بإحضار عمامة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وكان اسمها: السحاب، وكانت من الخزّ الدكناء الّذي تعمّم بها (صلی الله علیه و آله) يوم بدر وحُنين، ثمّ بعده تعمّم بها عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) يوم صفّين، على ما رواه نصر بن مزاحم في (كتاب صفّين)، ثمّ انتقلَت إلى ابنه الحسين (علیه السلام) ، وتعمّم بها وكانت على رأسه يوم الطفّ لمّا وعظ القوم.

حربة رسول الله (صلی الله علیه و آله)

ثمّ أمر (علیه السلام) بإحضار حربة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وكانت حربةً صغيرةً تشبه العكّاز، يقال لها: العَنَزَة -- بفتح العين المهملة والنون والزاي --، كانت تُحمَل بين يديه يوم العيد وتُركَز بين يديه، ويصلّي إليها في أسفاره، وفي كتاب (أُسد الغابة) لعزّ الدين الجزري: وكانت تُحمَل معه في العيد، تُجعَل بين يديه يصلّي إليها، ثمّ بعده انتقلت إلى عليّ (علیه السلام) ، وكانت معه يوم صفّين تحارب معه، كما ذكره نصر بن مزاحم في كتابه، ثمّ بعده انتقلت إلى ابنه الحسين (علیه السلام) ، وكانت معه يوم الطفّويحارب بها مع القوم، ثمّ يرجع إلى مركزه ويتّكئ عليها، وهو يقول: «لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم»، ولم يزل يقاتل حتّى

ص: 110

قُتل (علیه السلام) ((1)).

إحصائية المازندرانيّ لأفراد الركب

اشارة

قال العلّامة الخطيب محمّد مهدي المازندرانيّ الحائريّ في كتابه (معالي السبطين):

[أخواته]

اشارة

إعلم أنّه خرج مع الحسين (علیه السلام) من المدينة إلى كربلاء من أخواته اثنتا عشر منهن:

1. زينب الكبرى (علیها السلام)

زينب الكبرى بنت عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، بنت فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، الملقّبة بالعقيلة.

2. زينب الصغرى

ومنهنّ: زينب الصغرى بنت أمير المؤمنين (علیه السلام) وفاطمة (علیه السلام) ، المكنّاة بأُمّكلثوم (علیها السلام) .

3. خديجة

ومنهنّ: خديجة، أُمّها أُمّ ولد، فكانت عند عبد الرحمان بن عقيل بن

ص: 111


1- معالي السبطين للمازندراني: 1 / 218، وسيلة الدارين للزنجاني: 52.

أبي طالب، فولدت له سعداً وعقيلاً، كما ذكره الطبرسيّ في (إعلام الورى)، وقال الشيخ حسن سليمان بن محمّد بن الحسن الشويكي في (مقتله) نقلاً من الجزء العاشر من كتاب (المنن) لعبد الوهّاب الشعرانيّ، قال: وعبد الرحمان بن عقيل بن أبي طالب، قُتِل مع الحسين بن عليّ بالطفّ، وأبناؤه: سعد وعقيل، كانا معه، وماتا من شدّة العطش، ومن الدهشة والذعر بعد شهادة الحسين (علیه السلام) لمّا هجم القوم على المخيّم للسلب، وأُمّهما خديجة بنت عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، تُوفّيَت بالكوفة.

4. رقيّة الكبرى

ومنهنّ: رقيّة الكبرى، وكانت عند مسلم بن عقيل، فولدت منه عبد الله بن مسلم ومحمّد بن مسلم اللذَين قُتلا يوم الطفّ مع الحسين (علیه السلام) ، وعاتكة، ولها من العمر سبع سنين، الّتي سُحقَت يوم الطفّ بعد شهادة الحسين لمّا هجم القوم على المخيّم للسلب، على ما رواه الشيخ حسن بن سليمان الشويكي في (مقتله).

وأُمّها -- أي: رقيّة -- : الصهباء الثعلبيّة، تُكنّى أُمّ حبيب، من سبي عين التمر الّتي اشتراها أمير المؤمنين (علیه السلام) من خالد بن الوليد بأربعين ديناراً!!!فولدت منه رقيّة الكبرى، وعمر الأطرف توأمين.

5. أُمّ هانئ

ومنهنّ: أُمّ هانئ، أُمّها أُمّ ولد، وكانت عند عبد الله الأكبر بن عقيل بن

ص: 112

أبي طالب (علیه السلام) ، فولدت له محمّد الأوسط [بن عبد الله] بن عقيل.

6. زينب الصغرى

ومنهنّ: زينب الصغرى، أُمّها أُمّ ولد، وكانت عند محمّد بن عقيل بن أبي طالب، فولدت له عبد الله، وفيه العقب.

7. رملة الكبرى

ومنهنّ: رملة الكبرى، أُمّها أُمّ مسعود بنت عروة الثقفي، وكانت عند عبد الرحمان الأوسط بن عقيل بن أبي طالب، فولدت له أُمّ عقيل.

8. رقيّة الصغرى

ومنهنّ: رقيّة الصغرى، أُمّها أُمّ ولد، وكانت عند صلت بن عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب، ولا عقب له.

9. فاطمة

ومنهنّ: فاطمة، أُمّها أُمّ ولد، وكانت عند أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب الأحول، فولدت له حميدة ومحمّد بن أبي سعيد، له من العمر سبع سنين، فإنّه لمّا صُرع الحسين (علیه السلام) وتصارخت العيال والأطفال، خرجمذعوراً بباب الخيمة مُمسِكاً بعمودها، وأُمّه واقفةٌ تراه تنظر إليه، وجعل الطفل يلتفت يميناً وشمالاً وقرطاه يتذبذبان، قتله لقيط بن أياس الجُهنيّ، أو هانئ بن ثبيت الحضرميّ، رماه بسهمٍ على خاصرته.

ص: 113

10. خديجة الصغرى

ومنهنّ: خديجة الصغرى، أُمّها أُمّ ولد، وكانت عند عبد الله الأوسط ابن عقيل بن أبي طالب، ولا عقب له.

11 و12. أُمّ سلَمة وأُختها ميمونة

ومنهنّ: أُمّ سلَمة، وأُختها ميمونة، أُمّها أُمّ ولد.

13. جُمانة

وزاد بعض النسّابة وعلماء التراجم: جُمانة، المكنّاة بأُمّ جعفر، أُمّها أُمّ ولد.

فهؤلاء ثلاثة عشر من أخواته، خرجن معه من المدينة حتّى أتين كربلاء.

[زوجات أمير المؤمنين (علیه السلام) ]

اشارة

وخرج مع الحسين (علیه السلام) من زوجات عليّ (علیه السلام) ثمان:

1. الصهباء الثعلبيّة

الصهباء الثعلبيّة، خرجت مع بنتها رقيّة الكبرى، زوجة ابن عمّها مسلمبن عقيل بن أبي طالب، ومعها بنتها عاتكة، وابناها: عبد الله ومحمّد أولاد مسلم، اللذان قُتلا يوم الطفّ.

ص: 114

2. أُمّ مسعود بنت عُروة

ومنهنّ: أُمّ مسعود بنت عروة الثقفي، جاءت مع بنتها رملة.

3. ليلي بنت مسعود

ومنهنّ: ليلى بنت مسعود الدارميّة، خرجت مع ولديها: أبي بكر اسمه عبد الله، ومحمّد الأصغر.

4. أُمّ زينب الصغرى

ومنهنّ: أُمّ زينب الصغرى، جاءت مع بنتها زينب.

5. أُمّ خديجة

ومنهنّ: أُمّ خديجة، جاءت مع بنتها خديجة.

6. أُمّ رقيّة الصغرى

ومنهنّ: أُمّ رقيّة الصغرى، جاءت مع بنتها رقيّة.

7. أُمّ فاطمة

ومنهنّ: أُمّ فاطمة، خرجت مع بنتها فاطمة.

8. أمامة بنت أبي العاص

ومنهنّ: أمامة بنت أبي العاص العبشميّة.فهؤلاء ثمانٍ من زوجات عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، خرجن من المدينة مع بناتهن حتّى أتين كربلاء.

ص: 115

[نساء أُخريات]

1. أُمّ كلثوم الصغرى بنت زينب الكبرى

وخرجَت من المدينة: أُمّ كلثوم الصغرى بنت زينب الكبرى، زوجها القاسم بن محمّد بن جعفر بن أبي طالب، حتّى أتت كربلاء.

2. جُمانة عمّة الإمام (علیه السلام)

وخرجت من المدينة عمّته معه، اسمها: جُمانة -- بضمّ أوله وتخفيف الميم وبعد الألف نون -- بنت أبي طالب، وهي أُمّ عُبيد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب، تزوّجها أبو سفيان بن الحارث، فولدت له عبد الله، وهي أُخت أُمّ هانئ بنت أبي طالب، وعبد الله كان مع خاله عليّ بن أبي طالب بصفّين، وقاتل حتّى قُتِل بين يديه، كما ذكره نصر بن مزاحم المنقريّ الكوفيّ في كتابه، وأُمّه جاءت مع الحسين (علیه السلام) بكربلاء.

[الجواري]

اشارة

وخرجن من الجواري مع الحسين بن عليّ من المدينة تسع:

أربعٌ منهنّ لأُخته زينب بنت عليّ وفاطمة، وواحدة له، وأربعٌ منهنّ لزوجاته.

[جواري السيّدة زينب]
اشارة

فأمّا اللواتي كنّ مع أُخته زينب:

ص: 116

1. فضّة

منهنّ: فضّة النوبيّة، على ما رواه العسقلانيّ في (الإصابة) في باب النساء، قال: فضّة النوبيّة، جارية فاطمة الزهراء بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، أخرج أبو موسى في الذيل والثعلبيّ في تفسير سورة ﴿هَلْ أَتَى﴾ من طريق عبد الوهّاب الخوارزميّ، عن ابن عبّاس في قوله: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ -- الآية، قال: مرض الحسن والحسين (علیهما السلام) ، فعادهما النبيّ (صلی الله علیه و آله) جدُّهما، وعادهما عامّة العرب، فقالوا لأبيهما: لو نذرت، فقال عليّ: إن عُوفيا صام ثلاثة أيّامٍ شكراً، وقالت فاطمة كذلك، وقالت جاريةٌ لها يُقال لها: فضّة النوبيّة كذلك.. فذكر حديثاً طويلاً ...

ولمّا ماتت فاطمة، انضمّت إلى بنتها زينب، وكانت تخدمها في بيتها، وتارةً في بيت الحسن (علیه السلام) ، وتارةً في بيت الحسين (علیه السلام) .

فلمّا خرجَت عقيلة قريش مع أخيها الحسين (علیه السلام) من المدينة إلى العراق، خرجت فضّةُ معها حتّى أتت كربلاء.

2. قفيرة

ومنهنّ: قفيرة، ويقال لها: مليكة بنت علقمة بن عبد الله بن أبي قيس، على ما رواه أبو عليّ الغسّاني في ذيله على (الاستيعاب) أنّه قال: أُهديَتلجعفر بن أبي طالب في بلاد الحبش حين هاجر إليها مع المؤمنين جارية، قيمتها أربعة آلاف درهم، اسمها قفيرة، فلمّا قدم المدينة أهداها

ص: 117

لعليٍّ تخدمه، وكانت الجارية في بيت عليّ تخدم فاطمة وأولادها، إلى أن تُوفّيَت فاطمة، ثمّ بعدها انضمّت إلى بنتها زينب الكبرى، وكانت تخدمها في بيتها، إلى أن خرجت زينب مع أخيها الحسين (علیه السلام) من المدينة إلى العراق، فخرجت الجارية معها حتّى أتت كربلاء.

3. روضة

ومنهنّ: روضة، كانت مولاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، على ما ذكره الطبريّ في تفسير سورة (النور) عند قوله (تعالى): ﴿لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا﴾، فأخرج من طريق عمرو بن سعيد الثقفيّ أنّ رجلاً استأذن على النبيّ (صلی الله علیه و آله) فقال: أأَلِج؟ فقال النبيّ (صلی الله علیه و آله) لأَمةٍ يُقال لها: روضة: «قومي إلى هذا فعلّميه، فإنّه لا يُحسِن أن يستأذن، فقولي له: يقول: السلام عليكم، أدخل؟». فسمعها الرجل، فقالها، فقال: «ادخُل!».

وكانت الأَمة تخدم رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى أن تُوفّي (صلی الله علیه و آله) ، وبعده انضمّت إلى بنته فاطمة، وكانت تخدمها إلى أن تُوفّيَت فاطمة، ثمّ بعدها انضمّت إلى عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، وكانت في بيت عليّ تخدم أولاده إلى أن زوّج عليٌّ (علیه السلام) ابنته زينب من عبد الله بن جعفر، وكانت في بيت عبد اللهتخدم زينب وأولادها إلى أن خرج الحسين (علیه السلام) من المدينة إلى العراق، فخرجت أُخته معه، وخرجت الجارية معها، حتّى أتت كربلاء.

ص: 118

4. أُمّ رافع

ومنهنّ: أُمّ رافع، زوجة أبي رافع القبطي، واسمه هرمز مولى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، على ما ذكره الذهبيّ في كتاب (تجريد الأسماء والكنى)، وأُمّ رافع اسمها سلَمة، مشهورةٌ باسمها وكنيتها، ويقال: إنّها مولاة صفيّة بنت عبد المطّلب، على ما رواه العسقلانيّ في (الإصابة)، ويقال لها أيضاً: مولاة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وخادمة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، تخدم في بيتها إلى أن تُوفّي رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ثمّ انضمّت بعده إلى بنته فاطمة، وكانت في بيتها إلى أن تُوفّيَت، وكانت في بيت عليّ (علیه السلام) إلى أن قُتِل، ثمّ انضمّت إلى ابنه الحسن (علیه السلام) ، ثمّ بعده انضمّت إلى أُخته زينب، وكانت في بيتها إلى أن خرجت مع أخيها الحسين (علیه السلام) من المدينة، فخرجت الجارية معها حتّى أتت كربلاء.

[جواري الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ]
اشارة

وأمّا الّتي كانت له:

5. ميمونة

فهي ميمونة أُمّ عبد الله بن يقطر، وكانت حاضنةً للحسين (علیه السلام) في بيت أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى أن تُوفّيَت فاطمة، ثمّ بعدها انضمّت إلىالحسين (علیه السلام) ، وكانت تخدم في بيته إلى أن خرج الحسين (علیه السلام) من المدينة إلى العراق، فخرجت هي مع ابنها عبد الله بن يقطر، ثمّ بعثه الحسين (علیه السلام) إلى مسلم بن عقيل بعد خروجه من مكّة في جواب كتاب مسلم إلى

ص: 119

الحسين (علیه السلام) ، يسأله القدوم ويخبره باجتماع الناس، فقبض عليه الحُصَين ابن نمير التميميّ وأرسله إلى عبيد الله بن زياد، فسأله عن حاله فلم يُخبره، فأمر بقتله، وكانت أُمّه ميمونة مع الحسين (علیه السلام) حتّى أتت كربلاء.

[جواري أزواج الإمام (علیه السلام) ]
اشارة

وأمّا الأربع اللواتي لأزواجه من الجواري، منهنّ:

6. فاكهة

فاكهة كانت جاريةً للحسين (علیه السلام) ، وهي تخدم في بيت الرباب بنت امرئ القيس زوجة الحسين (علیه السلام) ، تزوّجها عبد الله بن اريقط الدئلي الليثي، فولدت منه قارباً، فهو مولى الحسين (علیه السلام) الّذي ذكره الحجّة (علیه السلام) في الناحية: «السلامُ على قارب مولى الحسين (علیه السلام) »، خرجَت هي مع ولدها حتّى أتت كربلاء.

7. حسنية

ومنهنّ: حسنية، على ما رواه صاحب (ضياء العالمين) عن كتاب (ربيع الأبرار) للزمخشريّ، قال: حسنية جاريةٌ للحسين، اشتراها من نوفل ابنالحارث بن عبد المطّلب، ثمّ تزوّجها سهم، فولدت منه منجحاً، فهو مولى الحسين (علیه السلام) ، له ذكرٌ أيضاً في الناحية: «السلام على منجح مولى الحسين (علیه السلام) ».

وهي كانت تخدم في بيت عليّ بن الحسين زين العابدين (علیه السلام) ، إلى أن

ص: 120

خرج الحسين من المدينة إلى العراق فخرجت الجارية معه، وابنها منجح معها، حتّى أتت كربلاء.

8. كبشة

ومنهنّ: كبشة، كانت جاريةً للحسين (علیه السلام) ، اشتراها بألف درهم، وكانت تخدم في بيت أُمّ اسحاق بنت طلحة بن عبيد الله التَّيميّة زوجة الحسين (علیه السلام) ، ثمّ تزوّجها أبو رزين، فولدت منه سليمان، فهو مولى الحسين (علیه السلام) ، له ذكرٌ أيضاً في الناحية: «السلام على سليمان مولى الحسين»، وسليمان هذا الّذي أرسله الحسين بكتبٍ إلى رؤساء الأخماس والأشراف بالبصرة حين كان بمكّة، كما ذكره أرباب المقاتل والسيَر، فجاء بالكتاب بنسخةٍ واحدةٍ إلى جميع أشرافها، فكلّ مَن قرأ ذلك الكتاب كتمه، إلّا منذر بن الجارود، فإنّه خشي -- بزعمه -- دسيساً من قِبل عبيد الله بن زياد (لعنه الله)، فأخذ الكتاب والرسول فقدّمهما إلى عبيد الله بن زياد، فلمّا قرأ الكتاب قدّم الرسول وأمر بضرب عنقه، وأُمّه كبشة جاءت مع الحسين (علیه السلام) حتّى أتت كربلاء.

9. مليكة

ومنهنّ: مليكة، زوجة عقبة بن سمعان، كانت تخدم في بيت الحسن ابن عليّ (علیهما السلام) ، ثمّ بعده انضمّت إلى الحسين (علیه السلام) وكانت في بيوته، وتارةً في بيت عبد الله بن جعفر هي مع زوجها عقبة، لأنّه كان عبداً مملوكاً للرباب

ص: 121

بنت امرئ القيس زوجة الحسين.

ولمّا خرج الحسين من المدينة إلى العراق، خرجت هي مع زوجها عقبة مع الحسين حتّى أتت كربلاء، فلمّا قُتل الحسين وأصحابه وأُسِر الباقون، أخذ عمر بن سعد (لعنه الله) عقبة بن سمعان، فقال له: مَن أنت؟ قال: أنا عبدٌ مملوك. فخلّى سبيله، ونجى ...

فهؤلاء تسعٌ من الجواري اللواتي خرجن مع الحسين (علیه السلام) حتّى أتين كربلاء.

المَوالي

اشارة

وخرج من الموالي والعبيد مع الحسين بن عليّ (علیهما السلام) من المدينة إلى مكّة ثمّ إلى العراق ثمانية عشر، منهم قُتلوا مع الحسين (علیه السلام) ، ونجى منهم اثنان، فأمّا الّذين قُتلوا، منهم:

1. سُليمان بن أبي رَزين

سليمان بن أبي رزين مولى الحسين (علیه السلام) قُتِل بالبصرة، وكان رسولالحسين (علیه السلام) إلى رؤساء الأخماس والأشراف، قتله عُبيد الله بن زياد كما مرّ.

2. قارب بن عبد الله الدؤلي

ومنهم: قارب بن عبد الله الدؤليّ الليثي مولى الحسين بن عليّ (علیه السلام) .

ص: 122

3. مُنجِح بن سهم

ومنهم: منجح بن سهم مولى الحسين بن عليّ.

4. سعد بن الحارث الخزاعي

ومنهم: سعد بن الحارث الخزاعي مولى عليّ بن أبي طالب، وكان من عُمّاله بأخذ الزكاة.

5. نصر بن أبي نيزر

ومنهم: نصر بن أبي نيزر مولى عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، الّذي كان مِن أولاد ملوك العجم، رغب في الإسلام صغيراً.

6. الحارث بن نبهان

ومنهم: الحارث بن نبهان مولى حمزة بن عبد المطّلب.

7. جون بن حَويّ

ومنهم: جون بن حَويّ النوبيّ مولى أبي ذرّ الغِفاريّ، كان جون عبداً أسود للفضل بن العبّاس بن عبد المطّلب، اشتراه أمير المؤمنين بمئةٍ وخمسين ديناراً، ووهبه لأبي ذرّ الغفاريّ ليخدمه، وكان العبد عند أبي ذرّإلى أن أمر عثمان بن عفّان بنفي أبي ذرّ من المدينة إلى الربذة، ولمّا خرج أبو ذرّ من المدينة خرج العبدُ معه، وكان هناك إلى أن تُوفّي أبو ذرّ (رضی الله عنه) في سنة اثنتين وثلاثين، وقيل -- والقائل ابن الأثير في (الكامل) -- : تُوفّي في سنة إحدى وثلاثين، ثمّ رجع العبد إلى المدينة وانضمّ إلى عليّ بن أبي طالب،

ص: 123

ثمّ بعده انضمّ إلى ابنه الحسن، ثمّ إلى الحسين، وكان في بيت عليّ ابن الحسين (علیهما السلام) زين العابدين إلى أن خرج الحسين من المدينة إلى العراق، فخرج العبد معه حتّى أتى كربلاء، وقُتِل معه كما ذكرنا، وعمره يوم قُتِل سبعٌ وتسعون سنة.

8. أسلم بن عمرو

ومنهم: أسلم بن عمرو، قال أبو عبد الله محمّد بن يوسف بن محمّد القرشيّ الكنجيّ الشافعيّ في كتاب (الطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب): ذكر غير واحدٍ من أهل السيَر والتواريخ، وذكره الحافظ أبو نعيم في (حلية الأولياء)، قال: كان أسلم من موالي الحسين بن عليّ بن أبي طالب، والمعروف: أنّ الحسين اشتراه بعد وفاة أخيه الحسن (علیه السلام) ، ووهبه لابنه عليّ ابن الحسين، وكان أبوه عمرو تركيّاً، وكان ولده أسلم كاتباً عند الحسين (علیه السلام) في بعض حوائجه، فلمّا خرج الحسين (علیه السلام) من المدينة إلى مكة كان أسلم مُلازِماً له، حتّى أتى معه كربلاء وقُتِل بين يديه.فهؤلاء قُتلوا كلّهم مع الحسين يوم الطفّ، إلّا سليمان بن أبي رزين قُتل بالبصرة..

وأمّا اللذان لم يُقتَلا مع الحسين فهما:

9. عقبة بن سمعان

عقبة بن سمعان مولى الرباب بنت امرؤ القيس، على ما رواه الطبريّ في

ص: 124

كتابه.

10. عليّ بن عثمان الحضرميّ

وعليّ بن عثمان بن الخطّاب الحضرميّ المغربيّ، من مَوالي أمير المؤمنين، على ما رواه الصدوق في (الإكمال).

قال: قال عليّ بن عثمان: كنتُ مع عليّ بن أبي طالب أخدمه، فحضرتُ معه الجمل وصفّين، فكنتُ في صفّين واقفاً على يمينه إذ سقط سوطه من يده، فأكببت آخذه وأدفعه إليه، وكان لجام دابّته حديداً مدملجاً، فرفع الفرسُ رأسه فشجّني هذه الشجّة الّتي في صدغي، فدعاني أمير المؤمنين فتفل فيها، وأخذ حفنةً من ترابٍ وتركه عليها، فوَاللهِ ما وجدتُ لها ألماً ولا وجعاً، ثمّ قمتُ معه (علیه السلام) حتّى قُتِل، ثمّ صحبت الحسن ابن عليّ حتّى ضُرب بساباط المدائن، ثمّ بقيتُ معه بالمدينة أخدمه، وأخدم الحسين (علیه السلام) حتّى مات الحسن مسموماً، سمّته جعدة بنت الأشعث ابن قيس الكِندي (لعنها الله) دسّاً من معاوية بن أبي سفيان، ثمّ خرجتُ مع الحسين بن عليّ منالمدينة إلى العراق حتّى حضرت معه كربلاء، وحارب حتّى قُتِل، ثمّ خرجتُ بعد قتله هارباً من بني أُميّة بدِيني، وأنا مقيمٌ أنتظر خروج المهديّ وعيسى ابن مريم (علیهما السلام) .

فهؤلاء العشرة من الموالي والعبيد الّذين خرجوا من المدينة مع الحسين ابن عليّ حتّى جاؤوا معه كربلاء.

ص: 125

إخوته

اشارة

وخرج مع الحسين (علیه السلام) تسعةٌ من إخوته حين خرج من المدينة إلى العراق:

1 _ 4. العبّاس (علیه السلام) وإخوته

العبّاس بن عليّ بن أبي طالب.

وأخوه عثمان بن عليّ بن أبي طالب.

وأخوه جعفر بن عليّ بن أبي طالب.

وأخوه عبد الله بن عليّ بن أبي طالب.

أُمّهم أُمّ البنين فاطمة بنت حزام بن خالد بن ربيعة بن عامر -- المعروف بالوحيد -- بن كلاب بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.

5 و6. محمّد الأصغر وأبو بكر

ومحمّد الأصغر بن عليّ بن أبي طالب.وأخوه أبو بكر بن عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) .

أُمّهما ليلى بنت مسعود الدارميّة، خرجت مع ولديها.

7. عمر بن عليّ

وعمر بن عليّ الملقَّب بالأطرف، أُمّه الصهباء الثعلبيّة، المكنّاة أُمّ حبيب، جاءت مع ولدها.

ص: 126

8. عون بن عليّ

وعون بن عليّ بن أبي طالب، أُمّه أسماء بنت عُمَيس الخثعميّة، تخلّفت بالمدينة عند مجيء الحسين إلى العراق.

9. محمّد الأوسط

ومحمّد الأوسط بن عليّ بن أبي طالب، أُمّه أمامة بنت أبي العاص العبشميّة، خرجت مع ولدها.

فهؤلاء تسعةٌ من إخوته الّذين قُتلوا معه يوم الطفّ بأجمعهم، ومعهم ثلاث من الأُمّهات.

أولاد جعفر بن أبي طالب

اشارة

وخرج مع الحسين (علیه السلام) من المدينة إلى العراق من أولاد عمّه جعفر بن أبي طالب خمسة:

1. عون الأكبر بن عبد الله بن جعفر

عون الأكبر بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، أُمّه زينب الكبرى بنت عليّ بن أبي طالب بنت فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، كانت معه.

2 و3. محمّد وعُبيد الله ابنا عبد الله بن جعفر

ومحمّد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (علیه السلام) ، اختلفت الأقوال فيه عند أهل النسب، قيل: إنّ أُمّه زينب العقيلة، وقيل: هو وأخوه عُبيد الله

ص: 127

ابن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب أُمّهما الخوصاء بنت حفصة بن بكر ابن وائل، خرجت مع ولديها إلى العراق، والله العالم.

4. عون بن جعفر

وعون بن جعفر بن أبي طالب، أُمّه أسماء بنت عُميس الّتي خلّفها الحسين بالمدينة عند بنته فاطمة الصغرى حين مجيئه إلى العراق.

5. القاسم بن محمّد بن جعفر

والقاسم بن محمّد بن جعفر بن أبي طالب، أُمّه أُمّ ولد، خرجت مع ولدها حتّى أتت كربلاء.

فهؤلاء خمسة من أولاد جعفر بن أبي طالب الّذين قُتلوا بأجمعهم يوم الطفّ مع الحسين بن عليّ، ومعهم ثلاثٌ من الأُمّهات.

أولاد عمّه عقيل

اشارة

وخرج من المدينة مع الحسين من أولاد عمّه عقيل بن أبي طالب اثنا عشر:

1. جعفر بن عقيل

جعفر بن عقيل بن أبي طالب، وأُمّه أُمّ الثغر، ويقال: أُمّ الخوصاء العامريّة، خرجت مع ولدها.

ص: 128

2. عبد الرحمان بن عقيل

وعبد الرحمان بن عقيل بن أبي طالب، وأُمّه أُمّ ولد، خرجت مع ولدها.

وعبد الله بن مسلم بن عقيل وأخوه محمّد بن مسلم بن عقيل أُمّهما رقيّة بنت عليّ بن أبي طالب، خرجت مع ولديها.

3. محمّد بن أبي سعيد

ومحمّد بن أبي سعيد بن عقيل الأحول، أُمّه أُمّ ولد، كانت معه.

4. عبد الله الأصغر

وعبد الله الأصغر بن عقيل بن أبي طالب، أُمّه أُمّ ولد.

5. موسى بن عقيل

وموسى بن عقيل بن أبي طالب، وأُمّه أُمّ البنين بنت أبي بكر بن كلاب العامريّة، جاءت مع ولدها.

6. عليّ بن عقيل

وعليّ بن عقيل بن أبي طالب، أُمّه أُمّ ولد.

7. أحمد بن عقيل

وأحمد بن عقيل بن أبي طالب، أُمّه أُمّ ولد، جاءت مع ولدها.

ص: 129

8. مسلم بن عقيل

ومسلم بن عقيل بن أبي طالب، أُمّه أُمّ ولد!

9 _ 12. صبيّان من آل عقيل

9 _ 12. صبيّان من آل عقيل ((1))

وصبيّان آخران: محمّد الأصغر بن مسلم بن عقيل، أو: محمّد بن عقيل، وأخوه إبراهيم بن مسلم بن عقيل، أو: إبراهيم بن محمّد بن عقيل، باختلاف الروايات فيهما.

فهؤلاء اثنا عشر من أولاد عقيل بن أبي طالب، تسعةٌ منهم قُتلوا يوم الطفّ مع الحسين (علیه السلام) ، ومعهم ستّةٌ من الأُمّهات، ومسلم بن عقيل (علیه السلام) قُتل بالكوفة.

وصبيّان آخران اللذان كانا معه أسراً يوم الطفّ بعد شهادة الحسين (علیه السلام) ، وقُتلا بظهر الكوفة.

زوجات الإمام الحسن (علیه السلام) وأولاده

اشارة

وخرج من المدينة مع الحسين (علیه السلام) من زوجات أخيه الحسن خمس، ومن أولاده ذكوراً وإناثاً ستّة عشر، فبين مَن قُتل منهم يوم الطفّ مع الحسين (علیه السلام) ، وبين مَن سُحق منهم ومات لمّا هجم القوم على المخيّم

ص: 130


1- ولمسلم بن عقيل (علیه السلام) ولدان استُشهدا في كربلاء: عبد الله ومحمّد، ذكرهما المؤرّخون كالطبري وأبي الفرج وغيرهما.

للسلب، وبين مَن أُسِر منهم مع الأسرى إلى الشام..

1. الحسن المثنّى

الحسن بن الحسن المثنّى، وأُمّه خَولة بنت منصور الفزاريّة، الّتي تخلّفَت بالمدينة عند مجيء الحسين إلى العراق.

2 _ 4. القاسم وعمرو وعبد الله

وعمرو بن الحسن.

وأخواه: القاسم.

وعبد الله، ابنا الحسن.

أُمّهم أُمّ ولد، وقيل: اسمها رملة ... جاءت معهم حتّى أتت كربلاء.

5 _ 7. أحمد وأُختاه أُمّ الحسن وأُمّ الحسين

وأحمد بن الحسن، له من العمر ستّة عشر سنة، على ما رواه المجلسيّ في (البحار).

وأُختاه: أُمّ الحسن، وأُمّ الحسين، سُحِقتا يوم الطفّ بعد شهادة الحسينلمّا هجم القوم على المخيّم للسلب. أُمّهما أُمّ بشر بنت مسعود الأنصاريّ، وقيل: الخزرجيّ، جاءت معهم حتّى أتت كربلاء.

8 و9. محمّد وجعفر

وذكر الذهبيّ في كتاب (التجريد):

محمّد بن الحسن بن عليّ.

ص: 131

وأخوه جعفر بن الحسن بن عليّ.

أُمّهما أُمّ كلثوم بنت العبّاس بن عبد المطّلب، ثمّ فارقها الحسن، وتُوفّيَت بالكوفة.

10. أبو بكر

وأبو بكر بن الحسن.

أُمّه أُمّ ولد لا يُعرف اسمها، ذكرها المدائنيّ، وجاءت مع ولدها حتّى أتت كربلاء.

11 _ 13. الحسين وطلحة وفاطمة

والحسين بن الحسن، الملقَّب بالأثرم.

وأخوه طلحة بن الحسن.

وأُختهما فاطمة بنت الحسن، وهي أُمّ أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر.

أُمّهم أُمّ إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله التميمي، جاءت معهم.

14 _ 16. زيد وعبد الرحمان وأُمّ الحسين

وزيد بن الحسن.

وأخوه عبد الرحمان بن الحسن.

وأُختهما أُمّ الحسين.

أُمّهم أُمّ ولد، جاءت معهم.

فهؤلاء ستّة عشر.

ص: 132

وأولاد الحسن بن عليّ (علیهما السلام) اثنا عشر، منهم ذكوراً وأربع إناث، ومعهم من الأُمّهات خمس..

* * * * *

فهؤلاء كلّهم من أولاد أبي طالب (علیهم السلام) ، ومن الموالي والعبيد عشرة، ثمانية منهم قُتلوا، ونجا منهم اثنان كما ذكرنا سابقاً، ومن الجواري تسع، فكلّ هؤلاء الّذين ذكرناهم من النساء والرجال والأطفال والذكور والإناث والعبيد والموالي والجواري من حيث المجموع مع الطفل الرضيع عليّ الأصغر مئةٌ واثنان وعشرون ((1))، الّذين خرجوا مع الحسين بن عليّ من المدينة إلى مكّة ثمّ إلى العراق.

أقول: فهؤلاء الّذين ذكرناهم غير أُولئك الّذين صحبوا الحسين (علیه السلام)

ص: 133


1- يُلاحَظ أنّه (رحمة الله) ذكر العدد في أوّل كتابه في المجلس الثالث من الفصل الرابع في وداع الإمام وخروجه من المدينة: 1 / 223: (250)، وجمعهم في آخر الكتاب في المجلس الثاني من الفصل الخامس عشر في ذكر مَن خرج مع الحسين إلى كربلاء: 2 / 223: (122)، ولو أحصينا ما ذكره فهو أقلّ من هذا العدد أيضاً. وممّا شكّ فيه أنّه لم يُحص بدقّة، إذ أنّ الكثير من الأطفال والنساء لم ترد أسماؤهم هنا، والحال أنّ من خرج من آل أبي طالبٍ من الرجال خرج بأهله وعياله وأطفاله، بل حتّى الشباب والفتيان، ومن جرد كتب المقاتل وتتبّع المستشهدين في كربلاء يجد من لم يذكر عند الخروج.

بمكّة من الرجال والنساء حين إقامته هناك، والله العالم ((1)).

* * * * *

لم ندقّق فيما أحصاه العلّامة المازندراني؛ اعتماداً على تتبّعه من جهة، ولأنّنا أردنا أن تتكوّن صورةٌ ولو إجماليّة عن عدد الركب وهيئته حين خروجه من المدينة، ونترك التحقيق والتدقيق للإضافة أو النقصان عمّا ذكره المازندرانيّ لذوي الاختصاص، ونرجو من الله التوفيق عند متابعة المقتل ومصائب يوم عاشوراء لجمع هذه الأسماء المقدّسة الّتي خرجَت مع الإمام (علیه السلام) من المدينة المنوّرة، فهم قد يذكرون معلومةً عند شهادة الشهيد الطالبيّ مثلاً، من قبيل قولهم: (وأُمّه واقفةٌ تنظر إليه)، وما شابهها ممّا يُستفاد منه حضور بعض الأشخاص، وإن لم ينصّ عليهم المؤرّخ عند استعراضه لحوادث الخروج من المدينة، ولا نشكّ أنّ أسماء مجموعةٍ كبيرةٍ من البنات والأطفال يمكن حصرها واكتشافها في المقاتل، من قبيل بنات سيّد الشهداء (علیه السلام) (رقيّة وفاطمة)، وأحفاد أبي طالب من ذريّة عقيل وجعفر وأمير المؤمنين، وأولاد وبنات وأطفال بعض الأنصار الّذين قدموا كربلاء مع عوائلهم.

ص: 134


1- معالي السبطين للمازندراني: 2 / 226- 237. تصرّفنا بإضافة العناوين وأرقامها.

خروج ليلى زوجة الإمام (علیه السلام)

سمعنا تعابير المؤرّخين حينما أخبروا عن عيال الإمام (علیه السلام) وأهل بيته، فإنّها جاءت بلفظ العموم والشمول، وليلى أُمّ المولى الأمير عليّ الأكبر (علیه السلام) واحدةٌ من زوجاته، ولا شكّ أنّ العموم يشملها، ولو كانت قد تخلّفَت هي أو أيُّ واحدةٍ من أزواج الإمام (علیه السلام) لأيّ سببٍ عن ركب الإمام (علیه السلام) لَذكرها المؤرّخ أو أشار إليها ولو بلفظٍ موجَز، ولو لم يصرّح باسمها.

ولم نسمع مَن يشكّك بوجود إحدى زوجات الإمام (علیه السلام) في كربلاء وحضورها فاجعة عاشوراء، إلّا في العصر الراهن، وقد صدرت من غير المتخصّصين في تاريخ سيّد الشهداء (علیه السلام) .

ومن الغريب أن يستسلم أحدٌ لهذا التشكيك الباهت البارد الّذي لا يدعمه أيّ شاهدٍ أو دليلٍ تاريخيّ أو متنٍ مقدَّس، فهي داخلةٌ في عمومات تعبير المؤرّخ، ولو كانت قد تخلّفت لَوردت الإشارة إليها كما وردت إلى فاطمة الصغرى، فعلى مَن أنكر وجودها أو شكّك في ذلك أن يُورد ما يستدلّ به لقوله، لأنّ الأصل وجودها إلّا ما خرج بالدليل، ولا دليل!

أدمى أُخت الإمام الحسين (علیه السلام)

كان للإمام الحسين (علیه السلام) -- كما ورد في بعض الكتب الفارسيّة -- أُختٌ يُقال لها: أدمى بنت الساعديّة، وكانت عمياء بكماء لا تسمع إلّا قليلاً،

ص: 135

فجعلوا يسلبونها، فنادت: وا أباه، وا أخاه، وا حسيناه، يا ربيع الأرامل والأيتام، يا أباه يا عليّ، ويا خليفة الماضين، ويا ثمال الباقين! فلم يغثها أحد، بل عمدوا إلى أذاها. فقالت: هل فيكم مَن في جسده شعرةٌ من الإسلام؟ فلم يسمع لها أحد. فقالت: يا قوم، هل فيكم رجلٌ قرشيّ؟ فجاءها زجر بن قيس وقال لها: أنا من قريش، فما حاجتكِ؟ قالت: لي إليك حاجةٌ وأُريد قضاءها. قال: قولي ما تريدين يا عمياء! قالت: أُريد من الله أن توصلني إلى جسد أخي الحسين (علیه السلام) ، لأنّي عمياء لا أهتدي إلى الطريق. فقال لها زجر: وما تريدين من جسد أخيكِ الحسين؟ قالت أدمى: أُريد أن أذهب إليه، فإنّه أخي، وكان يحبّني كثيراً، ويوصي بي، وكان يشمّني كلّ يوم، ويقبّل ما بين عينَيّ ثلاث مرّات، إنّي أُريد أن أتزوّد منه وأُقبّل منحره وأُودّعه قبل الرحيل وقبل الموت، وهو جثّةٌ بلا رأس ولا حركة ولا أنفاس.

فأخذها إلى المصرع، ووضع يدها على جسد أخيها، فجلست عنده ومدّت يدها على منحره الشريف، وصاحت: جُعلتُ فداك، ما لي أراك جثّةً بلا رأس؟ وا أخاه! أما تنظر إليّ وإلى أخواتي وعمّاتي وبنات أخي، وقد سلبهنّ الأعداء، وصرنَ من بعدك هائمات يتراكضن على الرمضاء؟ أخي، مَن الّذي سيغيث أُختك العمياء في هذه البيداء؟ ومَن الّذي سيدلّها على الطريق؟ وا محنتاه، وا قلّة حيلتاه! كيف سأركب الناقة وأنا

ص: 136

عمياء صمّاء؟ يا أخي، ما خِلتُ أنّك تُقتَل وأبقى بعدك، فديتك يا حسين، يا ابن محمّدٍ المصطفى، ويا قرّة عين عليّ المرتضى وفاطمة الزهراء، فأين عنك أبوك حيدر الكرّار؟ وأين ليوث الهاشميّة؟ وأين عنك مسلم وعقيل؟ وأين أبطال بني هاشم حتّى يروا ما حلّ بولدهم؟ يا أخي، إلى مَن وكلتنا؟ وإلى مَن أوصيت بنا من بعدك؟ ومن يكن كافلاً غيرك؟ يا أخاه، ليت الموت أعدمني الحياة.

ثمّ صرخَت صرخةً وأنشأت تقول:

أسأت بقوم أسّسوا كلّ رحمةِ

وأسررت قوماً أبدعوا كلّ بدعةِ

وأبكيت عمداً عين آل محمّدٍ

وأضحكت جهلاً سنّ آل أُميّةِ

بروحي الّذي أضحى بعرصة كربلا

صريعاً جريحاً باكتئابٍ وغصّةِ

وأنصاره صرعى لديه وآله

سبايا عرايا في ملاعين كفرةِ

يُساقون عنفاً بين صرخى وثاكلٍ

إلى ابن أبي سفيان شرّ البريّةِ

ثمّ صاحت صيحةً بعالي صوتها، وألقت روحها على جسد أخيها الحسين (علیه السلام) واحتضنته طويلاً، فغُشي عليها ساعة، فلمّا أفاقت نادت: وا عليّاه، وا محمّداه، وا أخاه، وا حسيناه، وا قلّة ناصراه! فلطمَت وجهها، وحثت التراب على رأسها، وبكت بكاءً عظيماً، فرأت نفسها مُبصرةً -- بإذن الله (تعالى) -- أحسن ما تكون من النساء، فرأت أخاها مطروحاً، ورأت زجر ابن قيس واقفاً على رأسها، فقالت أدمى: أما تخاف الله؟ أما تستحي من

ص: 137

رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ترفع على الرمح رأساً كانت وسادته صدر فاطمة الزهراء (علیها السلام) ، وطالما سجد خاضعاً لله (تعالى)؟

ثمّ رفعت صوتها بالبكاء والنحيب وهي تنادي: وا غربتاه، وا قلّة ناصراه، وا حيرتاه، وا وحدتاه!

ثمّ أنشأت تقول:

لا يشتفي القلب من لطمٍ ومن

شجَنٍ

ومن نحيبٍ ومن نوحٍ ومن حزَنِ

ولو رأيت الّذي فينا العدى صنعَت

رأيت ما يحرق الأشياء في البدنِ ((1))

* * * * *

لا نريد هنا الإثبات أو النفي، وربّما كانت الكتب التي ذكرتها غير ناهضة للإثبات التاريخي، بيد أنّنا أحببنا أن نذكرها، لورودها في بعض الكتب.

ص: 138


1- أُنظر: أنوار الشهادة للشيخ حسن اليزدي -- بترجمة السيّد علي أشرف، ناسخ التواريخ (حياة زينب الكبرى (علیها السلام)) لسپهر: 1 / 13، تذكرة الشهداء للكاشاني: 425 -- بترجمة: السيّد علي أشرف.

هل التحق بالإمام (علیه السلام) أحدٌ في طريق المدينة؟!

اشارة

(يروي لنا التاريخ من وقائع الطريق من المدينة إلى مكّة أيضاً أنّ جماعةً من الأعراب كانوا يلتحقون بالركب الحسينيّ عند مروره بمنازلهم، ومن تلك المنازل منازل جُهَينة (مياه جهينة)، وقد التحق بالإمام (علیه السلام) منها جماعة، منهم ثلاثة رجالٍ لم ينفضّوا عنه فيمن انفضّ من الأعراب عنه بعد ذلك، بل أقاموا معه ولازموه ولم يتخلّوا عنه، حتّى فازوا بأسمى مراتب الشرف في الدنيا والآخرة، حيث استشهدوا بين يديه في الطفّ يوم عاشوراء، وهم:

1. مجمع بن زياد بن عمرو الجُهنيّ.

2. عبّاد بن المهاجر بن أبي المهاجر الجُهنيّ.

3. عقبة بن الصلت الجهني) ((1)).

ص: 139


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 415.

* * * * *

ويمكن أن يناقَش هذا من خلال عدّة وقفات:

الوقفة الأُولى: مصدر الكلام

يبدو أنّ مصدر الكلام إنّما هو الشيخ السماويّ (رحمة الله) في كتابه (إبصار العين في أنصار الحسين (علیه السلام))، فهو يقول في ترجمة مجمع بن زياد:

كان مجمع بن زياد في منازل جُهَينة حول المدينة، فلمّا مرّ الحسين (علیه السلام) بهم تبعه فيمن تبعه من الأعراب، ولمّا انفضّوا مِن حوله أقام معه، وقُتل بين يديه في كربلاء، كما ذكره صاحب (الحدائق) وغيره ((1)).

وذكر قريباً من ذلك باختصار في الشهيدين الجُهنيَّين الآخَرَين.

وربّما اعتمد البعض عليه، فنسب ما قاله الشيخ السماويّ (رحمة الله) إلى (الحدائق الورديّة) مباشرة، والحال أنّ الشيخ (رحمة الله) لم يوثّق التحاقهم بالإمام (علیه السلام) من خلال (الحدائق)، وإنّما وثّق استشهادهم بين يدي سيّد الشهداء (علیه السلام) في كربلاء بالنصّ عليهم في كتاب (الحدائق الوردية)، لأنّه منمصادره الّتي يرجع إليها كثيراً في كتابه (الإبصار).

ص: 140


1- أُنظر: إبصار العين للسماوي: 115.

فتبقى معلومة الالتحاق خاصّة بالشيخ (رحمة الله) ، وقد راجعنا كتاب (الحدائق الورديّة) للمحلي بنسخته الحجريّة المتوفّرة لدينا والنسخ المطبوعة على اختلاف طبعاتها، فلم نقف على ما ذكره الشيخ (رحمة الله) ، ويبدو أنّ عبارة الشيخ (رحمة الله) واضحةٌ في توثيق الاستشهاد فقط.

الوقفة الثانية: على فرض الوقوف على نسخةٍ خاصّة

لو افترضنا أنّ الشيخ (رحمة الله) توفّر على نسخةٍ من (الحدائق) لم نقف عليها تحتوي هذه الزيادة، ثقةً منّا بالشيخ (رحمة الله) ، فإنّ (الحدائق الورديّة) هو مِن مصادر الزيديّة، وهو من أبناء القرن السابع الهجريّ، فهو متأخّر، بالإضافة إلى تفرّده في ذلك، علاوةً على ما سنسمع من إشكالاتٍ أُخرى على النصّ.

وعلى فرض أنّه قد اصطاد المعلومة من كتابٍ آخَر غير (الحدائق)، فإنّنا لم نقف على شيءٍ من ذلك مع كثرة المصادر المتوفّرة لدينا، فهو -- رحمه الله وحشره مع سيّد الشهداء (علیه السلام) -- أعلم وأعرف بما رأى وروى، ونحن نثق به ونعتمد عليه، بيد أنّنا مضطرّون للتريّث مع الإشكالات الّتي تواجه هذا القول، كما سنرى في الوقفات اللّاحقة.

الوقفة الثالثة: سعة ديار جُهينة

جهينة: قبيلةٌ حجازيّةٌ كبيرةٌ واسعة الانتشار في زمانها، ويكثر ذكرها في

ص: 141

المعالم وكأنّها اسم مكان، بحذف المضاف، فيقولون: (ذو العشيرة من جهينة)، ويريدون: بلاد جهينة.

ومن أشهر بلادهم: (ينبع)، ولكنّ المتقدّمين قد وسّعوا دائرتها، حتّى كانت تُطلَق بلاد جهينة على كلّ أرضٍ من ساحل البحر قرب ميناء رابغ إلى (حقل) بجوار العقبة شمالاً، ومن الساحل غرباً إلى المدينة شرقاً، ولا شكّ أنّ جهينة كانت تحلّ أكبر جزءٍ من هذه البلاد، ومع ذلك كانت تشاركها قبائل أُخرى في هذه المواطن، ومن جبالهم: الأشعر، الأجرد، وبواط، وآرة، وقدس ((1)).

والجُهَنيّ -- بضمّ الجيم وفتح الهاء وكسر النون في آخرها -- : هذه النسبة إلى جهينة، وهي قبيلةٌ من قُضاعة ((2)).

فلا يبعد أن تُنسَب مناطقهم إلى حوالي المدينة، وهي بعيدةٌ عن المدينة وأقرب إلى مكّة، بل قد تكون ممّا يقع على طريق العراق من مكّة، سيّما أنّ الشيخ (رحمة الله) لم يصرّح بالتحاقهم عند مرور سيّد الشهداء (علیه السلام) بهم في طريقه بين المدينة ومكّة.علاوةً على ما مرّ، فإنّ (جهينة) لم يكن اسماً لمواضع حول المدينة فحسب، وإنّما كان اسماً لقريةٍ في العراق أيضاً، كما قال ياقوت:

ص: 142


1- المعالم الأثيرة: 93.
2- الأنساب للسمعاني: 2 / 134.

جُهَينة: بلفظ التصغير، وهو علمٌ مرتجلٌ في اسم أبي قبيلة من قضاعة، وسُمّي به قريةٌ كبيرةٌ من نواحي الموصل على دجلة، وهي أوّل منزلٍ لمن يريد بغداد من الموصل، وعندها مرج، يقال له: مرج جهينة، له ذكر [...]، وجهينة أيضاً قلعة بطبرستان حصينة مكينة عالية في السحاب ((1)).

الوقفة الرابعة: التحاق الأعراب في طريق المدينة!

تفيد عبارة الشيخ السماويّ (رحمة الله) أنّهم التحقوا بسيّد الشهداء (علیه السلام) مع جملةٍ من الأعراب ممّن التحق به في الطريق، وهذا قد يصدق على الطريق من مكّة إلى العراق، إن صحّ ذلك، لوجود مؤشراتٍ في كتب التاريخ عليه، ومن البعيد جدّاً أن يكون هو بين المدينة ومكّة، ولو كان ثمّة أعرابٌ التحقوا بالإمام (علیه السلام) بين المدينة ومكّة وبقوا معه ولازموه أكثر من أربعة أشهر في مكّة حتّى خرج إلى العراق لَشاع خبرهم، ولكان لهم صوتٌ يُسمَع، ولَروى التاريخ لنا شيئاً من ذلك، وقديماً قيل: لو كان لَبان.

الوقفة الخامسة: تصريح المامقاني

لقد صرّح الشيخ المامقاني -- رحمه الله وحشره مع سيّد الشهداء (علیه السلام) --

ص: 143


1- معجم البلدان لياقوت: 2 / 168.

أنّ الالتحاق إنّما حصل لمّا خرج الإمام (علیه السلام) من مكّة إلى العراق، مع التنصيص على كونهم في منازل جُهينة حول المدينة. قال (رحمة الله) :

كان في منازل جهينة حول المدينة، فلمّا خرج الحسين (علیه السلام) من مكّة إلى العراق مرّ بهم، كان الرجل ممّن تبعه ولزمه ((1)).

الوقفة السادسة: الأعراب!

في تعبير الشيخ السماويّ (رحمة الله) رنّةٌ غير محبوبة، ولحنٌ مشوَّشٌ غير متناسق، لا يليق بوصف سيوف سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فهو (رحمة الله) يقول:

فلمّا مرّ الحسين (علیه السلام) بهم تبعه فيمن تبعه من الأعراب، ولمّا انفضّوا مِن حوله أقام معه وقُتل بين يديه في كربلاء..

وهو يفيد أنّهم كانوا من الأعراب تبعوا الإمام (علیه السلام) للطمع أوّلاً، ثمّ لازموه فيما بعد، ولم ينفضّوا عنه كما انفضّ غيرهم من الأعراب!

لذا حاول بعض المتأخّرين اقتطاع هذه الصفة؛ لأنّها لا تليق بسيوف الإمام الحسين (علیه السلام) من جهة، ولأنّ أصل التحاقهم بالإمام (علیه السلام) مع الأعرابهو أوّل الكلام ويحتاج إلى إثباتٍ تاريخيّ، وهو غير متوفّرٍ حسب الفحص.

ص: 144


1- تنقيح المقال للمامقاني: 2- 2 / 53.

الوقفة السابعة: لم يدعُهم الإمام (علیه السلام) !

لقد مشى سيّد الشهداء (علیه السلام) بين المدينة ومكّة مشياً سريعاً، وكان يطوي المراحل والمنازل سراعاً، حتّى قطع المسافة في نصف الفترة المعتادة، وليس عندنا ما يدلّ بوضوحٍ أنّ الإمام (علیه السلام) كان ينزل في المنازل المعهودة المرسومة، أو يلتقي الناس ويكلّمهم ويحرّضهم.

فعلى فرض أنّهم التحقوا بالإمام (علیه السلام) في طريقه من المدينة إلى مكّة، وهو فرضٌ يصعب المصير إليه لِما ذكرناه آنفاً، فإنّ الإمام (علیه السلام) لم يدعُهم إلى الالتحاق، وإنّما هم تبعوه، كما هو مفاد عبارة الشيخ السماوي (رحمة الله) ، فلا يمكن استفادة ممارسة العمل التبليغيّ والإعلاميّ والتعريفيّ بالقيام من التحاق هؤلاء الأبرار به!

ص: 145

ص: 146

ملاحقة الإمام عند الخروج من المدينة

تبيّن لنا من خلال بحث (ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة) أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) كان مطلوباً مهدَّداً في المدينة، الأمر الّذي جعله يستعجل الخروج منها إلى مكّة.

ولم يأمن الركب الحسينيّ في طريقه من المدينة إلى مكّة، وإنّما كان مطلوباً أيضاً وهو يسير إلى حرم الله الآمن، كما أفادت النصوص التاريخيّة عِبر ما روته من أحداث ترسم ظروف الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة وفي الطريق إلى مكّة، وهي تدلّ على أنّه كان مطلوباً للطواغيت والقردة وذئاب الغابة الأُمويّة وعُسلان الفلَوات الجائعة لتمزّقه وأهلَ بيته بأنيابها، فتملأ منه أكراشاً جوفاً وأجربةً سغباً، وتستخرج العلقة المقدّسة من جوفه المقدّس، وتلغ في دمائه الزاكية.

وقد غدا الناس على البيعة ليزيد، وطُلب الحسين فلم

ص: 147

يوجَد ((1))؛ لأنّه خرج في جوف الليل تحت جنح الظلام، ومعه عامّة مَن كان بالمدينة من أهل بيته، إلّا أخاه محمّد ابن الحنفيّة ((2)).

فلاحقوه وطلبوه بعد أن خرج فلم يقدر عليه ((3))، رغم أنّ الوالي يومها أمر أن يركبوا كلّ بعيرٍ بين السماء والأرض فيطلبوه، فطلبوه فلم يُدرَك ((4)).

فسار نحو مكّة وهو يقرأ هذه الآية: ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ

ص: 148


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات الكبرى لابن سعد: 56، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 207، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 415، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2608، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 175، التهذيب لابن بدران: 4 / 328، المختصر لابن منظور: 7 / 138.
2- أُنظر: الأخبار الطِّوال للدينوري: 230، تاريخ الطبري: 5 / 341، الفتوح لابن أعثم: 5 / 34، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 143، الإرشاد للمفيد: 2 / 32، بحار الأنوار: 44 / 326، روضة الواعظين للفتّال: 147، نفَس المهموم للقمّي: 71، إعلام الورى للطبرسي: 223، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 189، الردّ على المتعصّب العنيد لابن الجوزي: 35، الكامل لابن الأثير: 3 / 265، نهاية الإرب للنويري: 20 / 380.
3- أُنظر: تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 268.
4- أُنظر: الجوهرة للبري: 41.

قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ ((1)) ((2)) ((3)).

وكتب ابن عبّاسٍ ليزيد كتاباً، قال فيه:

... وما أنسَ من الأشياء، فلستُ بناسٍ اطّرادك الحسين بن عليٍّ من حرم رسول الله إلى حرم الله، ودسّك إليه الرجال تغتاله، فأشخصتَه من حرم الله إلى الكوفة، فخرج منها خائفاً يترقّب، وقد كان أعزّ أهل البطحاء بالبطحاء قديماً، وأعزّ أهلها بها حديثاً، وأطوع أهل الحرمين بالحرمين لو تبوّأ بها مقاماً واستحلّ بها قتالاً، ولكن كره أن يكون هو الّذي يستحلّ حرمةالبيت وحرمة رسول الله، فأكبر من ذلك ما لم تكبر، حيث دسستَ إليه الرجال فيها ليقاتل في الحرم ... ((4)).

ص: 149


1- سورة القصص: 21.
2- أُنظر: تاريخ الطبري: 5 / 343، الفتوح لابن أعثم: 5 / 34، الإرشاد للمفيد: 2 / 32، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار: 44 / 332، نفَس المهموم للقمّي: 79، إعلام الورى للطبرسي: 223، الكامل لابن الأثير: 3 / 265، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 135، نهاية الإرب للنويري: 20 / 380، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 183.
3- أتينا على تفصيل دلالات قراءة الآية الشريفة في بحث (ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة).
4- تاريخ اليعقوبي: 2 / 249.

روى الشيخ الطريحيّ:

عن سكينة بنت الحسين (علیهما السلام) قالت: لمّا خرجنا من المدينة، ما كان أحدٌ أشدَّ خوفاً منّا أهل البيت ((1)).

قال العلّامة المازندراني:

وخرج في جوف الليل في غاية الخوف، كخروج موسى خائفاً يترقّب، ولذا كان (علیه السلام) يتلو: ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾، ولكن شتّان بينه وبين موسى؛ لأنّ موسى وإن خرج خائفاً هارباً ماشياً وَجِلاً، ولكن لمّا ورد ماء مدين تبدّل خوفه أمناً وزال عنه همّه وغمّه وخوفه، وأمّا الحسين (علیه السلام) خرج من المدينة خائفاً ودخل مكّة خائفاً، ومكث في مكّة خائفاً حزيناً كئيباً إلى أن خرج من مكّة كذلك خائفاً، وفي طريقه كذلك، ونزل بكربلاء كذلك، إلى أن قُتل (علیه السلام) ، وموسى رجع إلى وطنه بعد عشر سنين مكرّماً منصوراً ورسولاً مؤيّداً، والحسين (علیه السلام) ما رجع إلى المدينة، بل قُتل هو ومَن معه، إلّا ولده السجّاد (علیه السلام) رجع مع عمّاته وعيالات أبيه ((2)).

ص: 150


1- المنتخب للطريحي: 2 / 421، أسرار الشهادة للدربندي: 209، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 223، مقتل أبي مخنف (المشهور): 14.
2- معالي السبطين للمازندراني: 1 / 213.

مطاردة الركب في طريق مكّة

اشارة

ورد في المصادر أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) لمّا عزم على الخروج، سلك الجادّة ولزم الطريق الأعظم، فالتمسه بعض مَن كان معه في الركب أن يتنكّب الجادّة العظمى كما فعل ابن الزبير؛ خوفاً من الطلب ((1)).

وقد صرّحت الأخبار أنّ العلّة في التماس ترك الجادّة العظمى وتنكُّب الطريق هو الخوف من أن يلحقهم الطلب، وإن وردت العبارات شتّى بَيد أنّها جميعاً تفيد معنىً واحداً.

(لا يلحقك الطلب) ((2))، (نخاف أن يلحقنا الطلب) ((3))، (كي لا يلحقك الطلب) ((4))، (لأجل الطلب) ((5)).

ص: 151


1- نقصد الاستفادة هنا من الأخبار بغضّ النظر عمّا إذا كان لنا تحفّظٌ عليها أو على بعضها.
2- تاريخ الطبري: 5 / 351.
3- الفتوح لابن أعثم: 5 / 34، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 189، المنتخب للطريحي: 2 / 421.
4- الإرشاد للمفيد: 2 / 33، بحار الأنوار: 44 / 332.
5- المنتظم لابن الجوزي: 5 / 327.

فأبى سيّد الشهداء (علیه السلام) أن يغيّر طريقه ويسلك غير السبيل العام الذي يسلكه كلُّ مَن أراد التوجّه من المدينة إلى مكّة.

وفي هذا التوجّس والتوقّي والحذر الشديد الّذي يشي به تعبير (خوفالطلب)، ما يفيد صراحةً أنّ الركب كان مُلاحَقاً ومطارَداً مطلوباً لأزلام السلطان، وهذه شهادةٌ ممّن كان سائراً في الركب لا يسهل تجاوزها والمرور عليها سراعاً، وهم جميعاً أرباب الشجاعة ومعادن البطولة.

جواب الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام)

اشارة

لقد ردّ سيّد الشهداء (علیه السلام) التماس مَن التمسه أن يتنكّب الطريق ردّاً رفيقاً، وجاء في المصادر في لفظين:

الجواب الأوّل: البقاء على الجادّة حتّى يقضي الله..

إنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) أجاب على الملتمس بقوله:

«لا والله، لا أُفارقه حتّى يقضي الله ما هو أحبّ إليه» ((1))، في لفظ الطبري.

وفي لفظ ابن أعثم:

«لا والله.. لا فارقتُ هذا الطريق أبداً، أو أنظر إلى أبيات مكّة أو

ص: 152


1- تاريخ الطبري: 5 / 351، ومثله عند ابن الجوزي في المنتظم: 5 / 327.

يقضي الله في ذلك ما يحبّ ويرضى» ((1))، ثمّ جعل الحسين (علیه السلام) يتمثّل بشعر يزيد بن المفرغ الحميريّ وهو يقول:لا سهرت السوام في فلق الصب-

-حِ مضيئاً ((2)) ولا دعيت يزيدا

يوم أُعطى من المخافة ضَيماً

والمنايا يرصدنني

أن أحيدا ((3))

وفي لفظ الشيخ المفيد:

«لا والله، لا أُفارقه حتّى يقضي الله ما هو قاض» ((4)).

الجواب الثاني: أكثر صراحة

اشارة

روى الطريحيّ في (المنتخَب) عبارة (الفتوح) الّتي سمعناها في الجواب الأوّل:

«لا والله.. لا فارقت هذا الطريق أبداً، أو أنظر إلى أبيات مكّة أو يقضي الله في ذلك ما يحبّ ويرضى» ((5)).

بيد أنّه ذكر شعراً رواه عن (المقتل) المشهور لأبي مخنف بألفاظٍ فيها

ص: 153


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 189.
2- كذا في نسخ الفتوح، وفي المصادر: (مغيراً).
3- الفتوح لابن أعثم: 5 / 34.
4- الإرشاد للمفيد: 2 / 33، بحار الأنوار: 44 / 332.
5- المنتخب للطريحي: 2 / 421.

أدنى تفاوت، كما سنسمع.

وفي (المقتل) المشهور لأبي مِخنف جوابٌ مميَّز لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، يمكن أن يكون شرحاً وموضّحاً لما مرّ في النصوص السابقة..

قال (علیه السلام) : «أتخافون الطلب؟»، قالوا: أجل. قال: «أخاف أن أحيد الطريق حذر الموت»، وأنشأ يقول:إذا المرء لا يحمي بنيه وعرضه

وعترته، كان اللئيم المسبّبا

ومن دون ما يبغي يزيد بنا

غداً

نخوض بحار الموت

شرقاً ومغربا

ونضرب ضرباً كالحريق مقدماً

إذا ما رآه ضيغم فرّ مهربا ((1))

* * * * *

نجد في هذه النصوص عدّة إفاداتٍ يمكن أن تشير إليها أو تصرّح بها:

الإفادة الأُولى: عدم الإنكار على الملتمس

إنّ النصوص الّتي سمعناها جميعاً لم تتضمّن تكذيباً لمن توقّع خوف الطلب، بل تفيد الأجوبة بجميع ألفاظها أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قد أقرّ ما تخوّفه الملتمس ولم يُنكر عليه، وقد أفادت الأجوبة ما يؤكّد تسويغ خوفهم من الطلب وعدم ردّه وتكذيبه كاحتمالٍ متوقّع ومنطقيّ ومعقول، تشهد له مجريات الأحداث وعزم العدوّ ومؤشّرات مواقفه ودلالات سلوكيّاته

ص: 154


1- مقتل الحسين (علیه السلام) أبي مخنف (المشهور): 15-- 16.

وأخلاقيّاته.

وإنّما أراد أن يبقى في الجادّة وإن أدّى ذلك إلى الشهادة، فالمطلوبالموت بعزّ، أو لأغراض أُخرى لسنا الآن بصدد التعرّض لها، وما فعله ابن الزبير إنّما كان فعل مَن يخاف المواجهة، ولا يرجو الشهادة، ولا يقوى على القتال، ويطلب الحياة مهما كان الثمن..

الإفادة الثانية: التمثّل بشعر ابن المفرغ

أفاد نصّ ابن أعثم أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) تمثّل بشعر ابن المفرغ في هذا الموضع، وربّما انفرد ابن أعثم بذلك، إذ أنّ المشهور في المصادر تمثّله (علیه السلام) بها قُبيل الخروج من المدينة، قالها وهو يدخل مسجد جدّه النبيّ (صلی الله علیه و آله) ((1))، وقد نقل الخوارزميّ عبارة ابن أعثم، إلّا أنّه غيّر موضع التمثّل بالبيتين إلى الموضع المشهور..

ص: 155


1- أُنظر: جمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 368، تاريخ الطبري: 5 / 342، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 144، الأمالي للشجري: 1 / 185، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 186، ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) لابن عساكر: 195 -- بتحقيق: المحمودي، التهذيب لابن بدران: 4 / 329، المختصر لابن منظور: 7 / 136، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 265، نهاية الإرب للنويري: 20 / 381، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 135، بغية الطلب لابن عديم: 6 / 2605.

وكيف كان، فإنّنا قد تناولنا البيتين في ذلك الموضع، وأشرنا إلى مغازيها ومداليلها، فلا نعيد.

ويبقى هنا أن نشير إلى أنّ ثمّة احتمالاً يمكن أن نتصورّه في المقام، وهو أنّ الإمام (علیه السلام) قد تمثّل بشعر ابن المفرغ في الموضعين، ولا مانع من ذلك، بل مجريات الأحداث ربّما أيّدته، ودلالة الشعر على أنّه مطلوبٌ واضحة.

الإفادة الثالثة: التصريح في شعر المقتل

يبدو أنّ الشيخ الطريحيّ ينقل الأبيات عن (المقتل) المشهور، وفي لفظ المقتل تصريح بعلّة إباء الإمام (علیه السلام) عن تنكّب الطريق: «أخافُ أن أحيد الطريق حذر الموت»، وفيه تأكيدٌ على صحّة ما توقّعه الملتمس.

وزاد في التصريح بالأبيات الّتي أنشأها سيّد الشهداء (علیه السلام) ، إذ صرّحت الأبيات أنّه (علیه السلام) مطلوبٌ وأهل بيته وعِرضه وعترته، وهو (علیه السلام) ومَن معه سيحمونها، لأنّهم كرامٌ أعزّةٌ أُباة، وترك الحماية لا يصدر إلّا من اللئيم المذموم، إنّهم سيخوضون بحار الموت في كلّ شارقٍ وفي كلّ غارب، ويضربون دون ذلك ضرباً كالحريق مُقبلين غير مدبرين، ويكرّون كرّاً يجبّن الشجاع ويفرّ منه الضيغم هارباً..

وما دام العدوّ هو الّذي يبدأ المواجهة والقتال فلا مانع، وإن كانت الأرض الموعودة بالانتظار، وهو (علیه السلام) يعلم أنّها حفرته الّتي ادّخرها الله له منذ أن خُلقَت.

ص: 156

سؤال!

اشارة

قالوا:

هنا قد يتساءل المتأمّل عن سبب إصرار الإمام (علیه السلام) عن سلوك الطريق الأعظم إصرار مَن يرضى بمواجهة كلّ خطرٍ محتسَبٍوغير محتسب، ولا يرضى بالتخلّي عن سلوك هذا الطريق الرئيس!

هل هي الشجاعة الحسينيّة من وراء كلّ هذا الإصرار؟

أم أنّ الإمام (علیه السلام) أراد من وراء ذلك أمراً إعلاميّاً وتبليغيّاً، للتعريف بقيامه ونهضته من خلال التقاء الركب الحسينيّ القاصد إلى مكّة بكلّ المارّة والقوافل على الطريق الأعظم؟ لأنّهم سيتساءلون عن سبب خروج الإمام (علیه السلام) من مدينة جدّه (صلی الله علیه و آله) مع جُلّ بني هاشم ومَن معهم من أنصاره، ويتعرّفون من الإمام (علیه السلام) مباشرةً على أهدافه الّتي نهض من أجلها، فينضمّ إليه مَن يوفّقه الله (تعالى) إلى نصرته، وينتشر أمر هذا القيام المقدّس بين الناس في مناطق عديدة، فيتحقّق بذلك عملٌ إعلاميٌّ وتبليغيٌّ ضروريّ لتوسيع رقعة هذا القيام المبارك وكسب الأنصار له!

لا شكّ أنّ تعليل إصراره (علیه السلام) على لزوم الطريق الأعظم

ص: 157

بالشجاعة الحسينيّة تعليلٌ صحيحٌ في نفسه، وكذلك تعليله بالهدف الإعلامي والتبليغيّ للتعريف بقيام الإمام (علیه السلام) ونهضته، ولا منافاة بين هذين التعليلين.

ولعلّ التعليل الأهمّ الّذي يمكن أن يضاف إليهما، هو أنّ الإمامالحسين (علیه السلام) في إصراره على لزوم الطريق الأعظم أراد أن يعلن للأُمّة أنّه ليس من العصاة البغاة الخارجين على حكومةٍ شرعيّةٍ كانوا قد اعترفوا بها ثمّ تمرّدوا عليها، أُولئك الّذين يلوذون بالطرق الفرعيّة خوفاً من رصد الحكّام وفراراً من قبضتهم.

أراد (علیه السلام) أن يُعلن للأُمّة أنّه هو ممثّل الشرعيّة، لا الحكم الأُمويّ، وأنّه هو صاحب الحقّ بالطريق الأعظم، وبالخلافة! وبكلّ شؤون الأُمّة! وأنّه هو الأصل الشرعيّ! وأنّ يزيد هو الشذوذ والخلاف والانحراف والمتمرّد على الشرعيّة!!!

وهذا بُعدٌ تبليغيٌّ وإعلاميٌّ ثابتٌ في حركة الإمام الحسين (علیه السلام) ، وهو مفسّرٌ عام لجميع تفاصيل حركة نهضته المقدّسة ((1)).

* * * * *

ص: 158


1- مع الركب الحسيني: 1 / 402.

لقد أتينا على مناقشة مثل هذه التعليلات المهمّة و(التعليل الأهمّ) في أكثر من موضع، بيد أنّ ضرورة البحث تقتضي التوقّف هنا والتريّث، ولو على عجَل، لِما لمثل هذه التصوّرات من آثار خطيرة، والحال أنّها تبدو كأنّها مجرّد تأمّلات وحماسةٍ تؤجّجها الشعارات وتبهرجها الكلمات،وسنقتصر على جملة تأمّلاتٍ في هذه العلل الثلاثة الّتي جاءت كجوابٍ على السؤال المقدَّر.

التأمّل الأوّل: السبب المنصوص

ما ورد في النصوص الّتي سمعناها هو أنّ الإمام (علیه السلام) أصرّ على ملازمة الطريق الأعظم، وقال أنّه لا يفارقه حتّى يقضي الله ما يحبّ في ذلك، وأنّه يخاف أن يحيد عن الطريق حذر الموت، فالتعليل الأوّل بالشجاعة الحسينيّة مستقيمٌ وناهض، لأنّه مؤدّى أجوبة الإمام (علیه السلام) على اختلاف ألفاظها.

التأمّل الثاني: التعليل الثاني

أمّا التعليل الثاني الّذي يفيد أنّ الإمام (علیه السلام) أصرّ على اختيار الطريق الأعظم من أجل التوظيف الإعلاميّ والتبليغيّ، فإنّه لم يرد في كلام الإمام (علیه السلام) ولا على نحو الإشارة والتلويح، وإذا حصلَت المطاردة والمواجهة في أيّ منزلٍ من المنازل، فإنّ الأمر سينتهي هناك ولا يتحقّق الغرض.

أمّا على فرض استمرار الركب وتسخير الطريق للتعريف بالقيام

ص: 159

والنهضة من خلال التقاء الركب الحسينيّ القاصد إلى مكّة، فإنّ هذا لم يحصل في الطريق بتاتاً، ولم يلتقِ الإمام (علیه السلام) بأحدٍ إلّا بابن مطيع على فرض حصول اللقاء بين المدينة ومكّة، ولم يحصل في اللقاء تبليغ، ولا إعلام، ولادعوة، ولا استنهاض، وكان اللقاء قد حصل بمبادرةٍ من ابن مطيع نفسه لغرضٍ شخصيّ.

التأمّل الثالث: سرعة الحركة

لقد مرّ وسيأتي أنّ الركب قد جدّ في المسير، حتّى قطع المسافة في فترةٍ تناهز نصف المدّة المقرّرة لقطع المسافة بين المدينة ومكّة، وهذه السرعة في الحركة تخالف ما يقصد من الترويج والإعلام والاستنهاض وما شاكلها من النشاطات والفعاليّات الإعلاميّة.

* * * * *

نرجو من القارئ الكريم أن يوسّع صدره ويضاعف حلمه إذا واجه تكرار بعض المطالب، من قبيل التأكيد على الإسراع في المسير، فإنّها قضيّةٌ في غاية الأهميّة، ولها دورٌ كبيرٌ ومؤثّرٌ في فهم الحركة وتفاصيلها.

التأمّل الرابع: اللقاء بكلّ المارّة والقوافل وتساؤلهم!

لابدّ للفرض أن يقوم على أساس، مهما كان ذلك الأساس مفترضاً أيضاً، أمّا إذا خالف الفرض الواقع فلا مجال للاسترسال معه!

لقد قرأنا التاريخ، وتبيّن بوضوحٍ أنّ الإمام (علیه السلام) لم يلتقِ أحداً، وكانت

ص: 160

حركته عاديّةً هادئة، كحركة أيّ ركبٍ آخَر يسير في طريقه إلى بيت الله الحرام للحجّ أو العُمرة أو المجاورة، ولم نسمع أيّ سؤالٍ من القوافلوالمارّة والقاطنين في المنازل والمدن الواقعة على الطريق الأعظم، وكان خروج شخصٍ عظيمٍ كالإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) بأهله وذويه وغلمانه وحشمه قد لا يثير فضولاً ولا يقتضي سؤالاً، سيّما إذا كانت الحركة في أشهر الحجّ والعمرة، فقد يخرج العظيم بركبٍ ضخمٍ كبيرٍ كما فعل ولده الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) وغيره، وقد لاحظنا الإمام (علیه السلام) يخرج بصورة ركبٍ عادي بالأهل والعيال والنساء والأطفال، لا بصورة جيشٍ عسكريٍّ مدجَّجٍ بالسلاح!

المهمّ! لا مجال لافتراض أنّ الناس سيسألون بعد أن رأيناهم معرضين قد اشتغل كلٌّ بشغله، وكأنّه لم يرَ أحدٌ منهم خامسَ أصحاب الكساء (علیهم السلام) وسبط النبيّ (صلی الله علیه و آله) وريحانته، حتّى لم نسمع أنّ أحداً سأله مسألةً شرعيّة، أو طلب منه البركة، أو استوقفه لسماع حديثٍ عن جدّه (صلی الله علیه و آله) ، سوى قصّة ابن مطيع.

إنّما يصحّ الافتراض إذا كنّا لا نعلم ما الّذي حصل، أمّا وقد علمنا، فالفرض هو محصّل العلم.

التأمّل الخامس: ثمرة الافتراض

إذا علّلنا إصرار الإمام (علیه السلام) على التزامه الطريق الأعظم بفرض توظيف العامل الإعلامي والتبليغيّ وغيرها، ينبغي أن نتابع الفرض لنرى هل أثمر ما

ص: 161

افترضناه أو بقي عقيماً؟ ولا يصلح أن نصوّر ثماراً لم تحصل أبداً فضلاً عن تصوير اقتطافها.

وكمثالٍ على ذلك:

فإنّ التاريخ لم يسجّل لنا تعرّف أحدٍ من الإمام (علیه السلام) مباشرةً على أهدافه الّتي نهض من أجلها، ولا انضمام أحدٍ إليه، ولا توفيق أحدٍ إلى نصرته، ولا اكتساب الأنصار، ولا انتشار أمر هذا القيام المقدّس بين الناس في مناطق عديدة.. وهذا يعني أنّ هذا الغرض المفترض قد أخفق، ولم ينفع، ولم يكن له تأثيرٌ ولا فاعليّة! وحاشا أن يُنسَب ذلك للإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) .

التأمّل السادس: اختيار الطريق الأعظم والشرعيّة!

إختيار الطريق في رحلةٍ -- سواءً كانت ذات أهميّةٍ وخطر، أو كانت رحلةً عاديّة -- إنّما يحدّده الظرف والمصلحة ومقتضيات السفر، فقد سلك النبيُّ الأعظم (صلی الله علیه و آله) -- وهو أشجع مَن خلق الله بلا استثناء -- طريقاً غير الطريق المعهود بين مكّة والمدينة في هجرته المباركة، فخرج ليلاً، واختفى في الغار، ولم يكن فعله يفيد أنّه أقرّ بالشرعيّة لطواغيت قريش.

وربّما كانت بعض الطرق الفرعيّة أطول، وربّما كانت تمرّ بمدن وحواضر أكثر، يمكن توظيفها في الغرض الإعلامي.

والسير في الطريق الأعظم هو حقّ الجميع، لا يُصَدّ عنه مارّ، فإذا

ص: 162

سلكه الإمام (علیه السلام) كسائر مَن سلك فيه، فإنّه يكون قد اختار هذا الطريق على سواه من الطرق للوصول إلى البلد الّذي يقصده، أمّا أن يستفاد من مجرّد اختيار طريقٍ أرضيّ سالك للجميع الأحقّيّة بالشرعيّة والخلافة وبكلّ شؤون الأُمّة، وأنّه الأصل الشرعيّ، فهذا من أعجب العجب!

إنّه فرضٌ يحمل في طيّاته شحنات السابقة الذهنيّة والبناء العقليّ الجاهز قبل الخوض في بحث المسألة، ويُحمّل المشهد ما لا يحتمل!

* * * * *

هل كان هذا الاصرار والاختيار قد أثّر أثره وفعل مفعوله، حتّى تحوّل إلى حجّةٍ يمكن الاستناد إليها والارتكان عليها لإثبات حقّ الإمام (علیه السلام) بالخلافة والشرعيّة وشؤون الأُمّة؟!

وهل فهم أحدٌ ذلك من فعل الإمام (علیه السلام) واستدلّ به؟ وهل يمكن لأحدٍ أن يُثبت هذه الأحقّيّة بمثل هذا الاختيار، بحيث يمكن أن يسلب الأحقّيّة من النبيّ (صلی الله علیه و آله) لأنّه اختار غير الطريق الأعظم في هجرته، ويثبت إمامة الأئمّة المعصومين (علیهم السلام) وأحقّيّتهم بالخلافة حين ساروا في أسفارهم على الطريق الأعظم؟!!

وهل كان في سلوك الطواغيت -- من أمثال معاوية ويزيد وغيرهما -- الطرق والجوادّ الرئيسيّة دليل أحقّيتهم بالملك والخلافة؟!

كيف صار هذا التعليل هو التعليل الأهمّ؟

ص: 163

ص: 164

إمكان المطاردة في الطريق

اشارة

لقد صدرت الأوامر بملاحقة الركب، وكان العدوّ يحاول منع سيّد الشهداء (علیه السلام) من الخروج من المدينة؛ بقصد تدبير خطّةٍ لاغتياله أو القبض عليه بعيداً عن الأضواء، ليجري فيه ما أجراه في جدّه وأبيه وأخيه (علیهم السلام) وأولاده المعصومين (علیهم السلام) من القتل الصامت المجهول الّذي لا يحمّل العدوّ مسؤوليّته مباشرةً ويفضحه فضيحةً علنيّة، ويشي بوقاحته وجرأته على الله وعلى الحرمات، أو لأغراضٍ أُخرى زيادةً على ما ذكرنا.

المهمّ، أنّ العدوّ كان يخطّط -- كما يُستفاد من مؤدّيات النصوص التاريخيّة -- للقضاء على الإمام (علیه السلام) من دون مواجهةٍ قتاليّةٍ وإشعال فتيل حرب، لذا قد يكون احتمال وقوع المواجهة المسلّحة علناً في الطريق بين المدينة ومكّة -- بل حتّى في المدينة ومكّة -- ضعيفاً، من دون أن ينتفي بالكليّة، وربّما كان ذلك للأسباب التالية، نقول: (ربما!):

السبب الأوّل: الاستعداد الإعلاميّ

لم يحسب العدوّ لخروج سيّد الشهداء (علیه السلام) بهذه السرعة من المدينة

ص: 165

المنوّرة، فلم يكن قد أعدّ لذلك أيّ مادّةٍ إعلاميّة، ولم يروّج لتشويه خروجه (علیه السلام) ، كما فعل فيما بعد من رميه بالظلم والفساد والأشر والبطر، وممارسة التضليل لعرض حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) -- كذباً وزوراً -- ك- (خروج)، ووصفه ب- (الخارجي)، فلو أنّهم هجموا ثمّة على الإمام (علیه السلام) ومَن معه من العيال والنساء والأطفال، سواءً في المدينة أو في مكّة أو في الطريق بينهما، فإنّهم سيُفضَحون، ولا يجدون مسوّغاً ولا مبرّراً لفعلتهم، مهما كانت باطلةً ومزيّفة، بعد أن هجموا على سبط النبيّ (صلی الله علیه و آله) وقاتلوه وقتلوه من دون سببٍ يُذكَر، أو يمكن أن يبرّر فعلتهم.

فهم بحاجةٍ إلى إعداد الناس والعساكر وصياغتهم نفسيّاً ودينيّاً، وإيجاد الدوافع والمشجّعات فيهم، وجعلهم في أجواء تجعلهم أكثر قناعةً بمحاربة سيّد الشهداء (علیه السلام) والإقدام على قتله (علیه السلام) ، أو على الأقلّ السكوت على ذلك، وتحييد مَن لا يصلح للزجّ به في هذه المعركة، وتحويل المشهد من صورة الهجوم على سيّد الشهداء (علیه السلام) وعياله إلى صورة الدفاع عن الملك والسلطان ودولة الخلافة، كما فعلوا ذلك -- بالفعل -- من خلال إعلامهم المضلّل الّذي بقي إلى يوم الناس هذا.

السبب الثاني: الاستعداد العسكريّ

اشارة

أُسلوب الطغاة والمستكبرين في الأرض -- كان ولا زال -- هو تكثيف القوّة وتحشيد العساكر واستخدام العنف المفرط والضربات الهائلة، مهماكان

ص: 166

العدوّ المقابل قليل القوّة والعدّة والعدد، فهو لم يكن على استعدادٍ ضمن خطّته وأُسلوب عمله، وذلك للضرورات التالية:

الضرورة الأُولى: معرفة الأعداء قوّة سيّد الشهداء (علیه السلام)

كان العدوّ يعرف قوّة سيّد الشهداء (علیه السلام) وسطوته وشجاعته، وكذا مَن معه، ويعلم علماً يقيناً أنّ الإمام (علیه السلام) لا يستسلم حتّى تفيض الأرض بدمائهم العفنة، فهم يعرفون شجاعة الهاشميّين عموماً، وشجاعة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وشجاعة أخيه أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وشجاعة الإمام الحسين (علیه السلام) المولود منهما، وقد رأوا ذلك ولمسوه، ولا زالت بيوتهم ترتفع فيها الرنّة، ولا تبارحها النوائح من حصائد سيف أمير المؤمنين (علیه السلام) .

نحن نعتقد في الإمام (علیه السلام) أنّه قدرة الله، وقوّة الله، ويد الله، وقد جعل الله فيه صفات الجلال والجمال والقوّة والقهر والغلبة والسطوة على حدّ الكمال الّذي لا كمال بعده، والأعداء آمنوا بذلك بحكم المشاهد والتجارب الّتي ذاقوا فيها ذعاف السيوف الهاشميّة، والسطوة الطالبيّة، والشجاعة العلويّة، وهم لا ينسون جيَفَهم وفطائسهم الّتي كانوا يتبجّحون بها، فإذا بها تتهاوى من حفيف الهواء الّذي تشقّه شفرة أسد الله وأسد رسوله، وتتزلزل عند مشاهدة وميض الصوارم الطالبيّة، وتختطف أبصارها وتلتهب من سرعةتقلّب ذو الفقار ليحصد الرؤوس شمالاً ويميناً في ضربةٍ واحدة، فيقتل ويقدّ ويقطّ ولا تسيح الدماء، لأنّه يفري ويحرق ويشوي اللحم

ص: 167

والجلد ويكوي العروق لشدّة سرعته الخاطفة.

فالعدوّ يعرف القوّة الّتي يبيّت لمواجهتها، ويعلم حسب الحسابات العسكرية الظاهرية أن لا قدرة له عليه، وأنّ الجيش ما لم يكن كثيفاً متظافر العدّة والعدد لا ينهض في مواجهة سيّد الشهداء (علیه السلام) ومَن معه، ولا يمكن أن يقابلوه بعدّةٍ ضعيفةٍ أو عددٍ قليل.

الضرورة الثانية: منطقة حواضر

كانت المدينة ومكّة حواضر ومدن مقدّسة وحرماً آمناً، يقدّسه المسلمون جميعاً، فكانت القوّات العسكريّة المتواجدة فيها بمقدار ما يكفي لحماية البلدين وحفظ الأمن فيهما، وربّما اقتصرت على الشرطة والحرس وقليلٍ من العسكر الّذي يتولّى حماية أفراد السلطة والوالي، ولم تكن معسكراتٍ وثكناتٍ عسكريّةً كالكوفة مثلاً، وهذا المقدار من القوّة لا يمكن أن يُحسَب في مقابل سطوة سيّد الشهداء (علیه السلام) وقوّته ومن معه على قلّة عددهم.

كما أنّ العامّة والغوغاء لا يرتكن إليهم في مثل هذه الظروف؛ لأنّهم ليسوا قوّةً عسكريّةً نظاميّةً مدرّبةً يمكنها خوض الحروب والقتال فيمواجهة أبطال البشريّة وشجعان الخلق، والعدوّ يعرف قوّة الإمام (علیه السلام) ومَن معه، كما ذكرنا.

وأقصى ما يمكن ضمانه من قِبل العدوّ هو تحييد الناس والغوغاء، وأن

ص: 168

يقبل منهم بالخذلان، وهذا ما تحقّق بالفعل، أو استخدامهم في الحرب النفسيّة أو المدد اللوجستي.

الضرورة الثالثة: إمكان تحريك القطعات

لمّا كانت المدينة ومكّة حواضر مدنيّة، وليست معسكرات وثكنات نظاميّة، كان ينبغي أن تتحرّك القطعات العسكريّة من ثكناتها -- كالكوفة والشام -- لتحصل المواجهة في الطريق بين الحرمين المقدّسين، ويلزم هذا وقتاً طويلاً وجهداً عظيماً لا تسعه فترة حركة الإمام (علیه السلام) بين الحرمين.

وربّما فسّر ذلك سرعة حركة الإمام (علیه السلام) واستعجاله بين البلدين.

الضرورة الرابعة: احتمال حصول الأنصار

بغضّ النظر عن صدق هذا الاحتمال وإمكان حصوله وتحقّقه، إذ أنّ المدينة ومكّة وما بينهما من المنازل قد خذلت ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) واستسلمت للقرد الأُمويّ، وبايعت منذ عهد القرد العجوز معاوية، وجدّدت البيعة فوراً بعد أن تسلّق القرد المخمور المجدور المسعور أعواد المنبر خلَفاً لدعيّه، فالمواقف محسومة، والغيرة والحميّة على آل رسول الله (صلی الله علیه و آله) معدومة..

بَيد أنّ المدينة ومكّة كانت ترتبط مع النبيّ (صلی الله علیه و آله) بعهود ومواثيق منذ قبل الإسلام وبعده، كحِلف الفضول، وما أخذه النبيّ (صلی الله علیه و آله) على الأنصار عند مبايعته من الدفاع عنه وعن أهل بيته، وكانت المنازل في الطريق تضمّ

ص: 169

رجالاً من القبائل دخلوا الإسلام وبايعوا النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فربّما كانت هذه بالإضافة إلى النوازع القبليّة أو التمسّك ببعض الذمم أو ما شاكل، قد تكون دافعاً ينشّط البعض للذبّ عن ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعياله والدفاع عن عِرض رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونسائه وأطفاله، سيّما أنّ العدوّ لم يعمل بعدُ على شراء الذمم مقابل شخص سيّد الشهداء (علیه السلام) ولم يشغّل إعلامه.

وإن لم ينصروا سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، فربّما وقفوا على الحياد وخذلوا الجانبين، حتّى يستجلوا الأمر وتتّضح لهم الصورة.

نقول: هذا كلّه على نحو الاحتمال كفرضٍ يمكن أن يُتصوَّر في المقام، ليس إلّا.

الضرورة الخامسة: الظروف

لا نريد الخوض في بيان الظروف الزمانيّة والمكانيّة وطبيعة التضاريس الّتي لا تساعد على الحرب والقتال تحت تلك الظروف والأجواء، ونترك الأمر إلى أهله، إذ يحتاج إلى خبرةٍ واختصاصٍ عسكريّ وجغرافيّ،ونكتفي بالإشارة السريعة، فربّما لا يستسيغ البعض أن يكون هذا مانعاً من الإقدام على حرب ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) إذا كان العسكر المباشر مدرَّباً مستعدّاً.

بَيد أنّ مثل هذه الظروف قد تكون معرقلة، سيّما إذا كانت الحرب سجالاً والمحارب هو سيّد الشهداء (علیه السلام) ومَن معه، حيث كانت الأيّام أيّام الحجّ والعمرة، ويلزم أن تكون هذه الجادّة تضيق بالحجّاج والمعتمرين،

ص: 170

وحركة المرور فيها مزدحمة، والمنازل مكتظّة، وأسواق الطريق قائمة، والطريق بين المدينة ومكّة صعب التضاريس كثير الجبال والوديان والمنحنيات، وسبل الوصول إليه وَعِرة ومتعرّجة، والعسكر يحتاج إلى تنقّلٍ وإمدادٍ وانتشار، وربّما إقامة!

السبب الثالث: تخطيط العدوّ للاغتيال

كانت خطّة العدوّ -- كما أفادت المصادر -- تقوم على أساس اغتيال الإمام (علیه السلام) أو الإمساك به على حين غِرّة، بعيداً عن المواجهة العسكريّة، وهذا هو المقصود من مطاردته وركوب كلّ صعبٍ وذَلولٍ في الأرض لطلبه، وسيأتي تفصيل ذلك في تتمّة البحث، حيث نسمع الإمام سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) يُخبِر أكثر من مرّةٍ أنّ القوم قد عزموا وخطّطوا وأقدموا على اغتياله أو القبض عليه.وبذلك يحقّق العدوّ غرضه من دون أيّ إثاراتٍ أو اضطرارٍ لحربٍ نفسيّةٍ وإعلاميّةٍ واسعةٍ بعيدة المدى لا تنقضي مع مرور الأيّام وكرّ العصور وتعاقب الدهور، وقد جرّب العدوّ ذلك مع مَن تقدّم الإمام (علیه السلام) من أسلافه الطاهرين (علیهم السلام) .

السبب الرابع: غموض الموقف

تبيّن لنا من خلال دراسة (ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من

ص: 171

المدينة) أنّ الإمام (علیه السلام) لم يصرّح بأيّ تصريحٍ في المدينة سوى ما أعلنه من رفض البيعة وإبائه عن المناولة، وأنّ مثله لا يبايع مثل يزيد! واستمهل القوم حتّى يصبح ويصبحون، وما إلى ذلك.

فهو لم يخطب في الناس، ولم يحرّض على أحد، ولا تناول السلطة، ولا دعا الناس إلى القيام، بل ولا الدفاع عنه، ولا أيّ نشاطٍ آخَر يفيد موقفاً معلناً للإمام (علیه السلام) .

ثم إنّه -- فداه العالمين -- تعجّل الخروج من المدينة، فخرج في غضون يومين أو ثلاثة بعد دعوته وتخييره بين القتل والمناولة..

فخرج ميمّماً نحو مكّة الأرض الحرام، وكشف وُجهته إلى أخيه محمّد ابن الحنفيّة وبعض خاصّته -- كما في بعض المتون --، ولم يعلن ذلك على الملأ، ولم يجمع الناس ليخبرهم، ولا أخبر السلطان بذلك..ولم يكن يومها ذكرٌ للكوفة ولا لأهلها، ولم تكن ثمّة دعواتٌ قد وصلت للإمام (علیه السلام) -- كما أفاد التاريخ --، سيّما أنّ الفترة الّتي استغرقتها دعوة الإمام (علیه السلام) إلى الوالي وإباءه وخروجه لم تكن سوى يومين أو ثلاثة، وهي مدّةٌ غير كافيةٍ لبلوغ الخبر إلى الكوفة في الحالات العاديّة، واجتماعِ أهلها وكتابتهم ودعوتهم وإرسال رسلهم إليه (علیه السلام) .

فلم تكن وجهة مكانيّة للإمام (علیه السلام) مقصودة معلَنة لبعض الخواصّ سوى مكّة..

ص: 172

أمّا بالنسبة للعدوّ، فإنّ الأمر كان مجهولاً غامضاً عنده تماماً، وقد فوجئ بخروج الإمام (علیه السلام) من دون أيّ سابق علمٍ أو إنذار، ومن دون أيّ معرفةٍ بدوافع الخروج وأسبابه وأهدافه، بل ولا معرفة بجهته ومنتهاه ومقصده الأخير.

فهو لا يدري ماذا يخبّئ له القدَر، وماذا خطّط له سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ولا يدري أيّ شيءٍ سوى أنّ الإمام (علیه السلام) خرج من المدينة، فقط! ويبدو أنّ هذا الغموض بقيَ مخيّماً على رؤية العدوّ، وبقيت تساوره منه الظنون والمخاوف إلى أن دخل سيّد الشهداء (علیه السلام) مكّة، فسأله الأشدق عن سبب قدومه، فأجابه الإمام (علیه السلام) أنّه جاء مستجيراً بالله وببيته، كما سيأتي عن قريب إن شاء الله (تعالى).

السبب الخامس: زمام المبادرة

لقد بدأ العدوّ الهجوم والعدوان على سيّد الشهداء (علیه السلام) واستحضره في غير وقت، ودعاه للبيعة الخاطئة الذليلة، فأبى أبيُّ الضيم وعالج الموقف بأسرع ممّا كان يظنّه العدوّ ويحسب له، فأخذ (علیه السلام) زمام المبادرة، وعجّل بالخروج من المدينة في موقفٍ جعل العدوّ في حيرةٍ من أمره، إذ أنّه وجد نفسه فجأةً أمام حالةٍ لم يكن قد خطّط لها وأعدّ لها، ممّا أربك عليه الوضع، وفوّت عليه الفرص، وسلبه القدرة على توظيف الزمان وتحديد المكان وتقدير ما يمكن أن يزنه ممّا سيكون في الحسبان، أو أنّه سيفاجَأ

ص: 173

بموقفٍ آخَر ينهار به عليه الحساب والبنيان، وجعله يدبّر أمره وفق القرار الّذي اتّخذه سيّد الشهداء (علیه السلام) وعمل به، وهو ما لم يكن قد أعدّ له من قبل.

فكان خروج الإمام (علیه السلام) من المدينة سريعاً فوريّاً دون أن يخبر به السلطان، ولم يكن للوالي فيه أمرٌ محدَّدٌ وتكليفٌ معيَّنٌ من قِبل القرد الراعي له، وكان عليه أن يتّخذ القرار ويتحمّل مسؤوليّته، وهو يعلم أنّه أعجز عن ذلك، وأنّ الموقف أخطر من أن يديره ويدبّره لوحده دون أوامر واضحة وصارمة تصدر إليه من المركز.

فكانت المفاجأة.. خرج الإمام (علیه السلام) من المدينة في غضون ساعات!

السبب السادس: حركة الإمام (علیه السلام) في المنطقة الآمنة

كانت حركة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) بين المدينة ومكّة في منطقة الحرم الآمن، فبعد أن خرج الإمام (علیه السلام) من المدينة المنوّرة الّتي حرّمها النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، أحرم من ذي الحليفة (مسجد الشجرة)، وهي ميقات أهل المدينة، وهو ميقاتٌ لا يبعد عن المدينة إلّا زهاء اثني عشر كيلومتراً، ومعنى الإحرام هو الدخول في منطقة الحرم المكّيّ، فتكون حينئذٍ حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) داخل الحرم الآمن، وفي الزمن الآمن الشهر الحرام (رجب).

ص: 174

السبب السابع: صعوبة مطاردة ركبَين في آنٍ واحد

بعث الوليد إلى عبد الله بن الزبير فدعاه، فأرسل إليه ابن الزبير: أيّها الأمير! لا تعجل؛ فإنّي لك على ما تحبّ، أنا صائرٌ إليك إن شاء الله. قال: فأبى الوليد بن عُتبة ذلك، وجعل يرسل إليه رسولاً بعد رسولٍ حتّى أكثر عليه من الرسل ((1)).

فقال: لا تعجلوني، فإنّي آتيكم، أمهِلُوني. فألحّوا عليهما [الحسين (علیه السلام) وابن الزبير] عشيّتهما تلك كلّها وأوّل ليلهما،وكانوا على حسينٍ أشدّ إبقاءً، وبعث الوليد إلى ابن الزبير موالي له فشتموه وصاحوا به: يا ابن الكاهليّة، واللهِ لَتأتينّ الأمير أو لَيقتلنّك.

فلبث بذلك نهاره كلّه وأوّل ليله، يقول: الآن أجيء، فإذا استحثّوه قال: واللهِ لقد استربتُ بكثرة الإرسال وتتابُع هذه الرجال، فلا تعجلوني حتّى أبعث إلى الأمير مَن يأتيني برأيه وأمره.

فبعث إليه أخاه جعفر بن الزبير، فقال: رحمك الله، كفّ عن عبد الله، فإنّك قد أفزعتَه وذعرته بكثرة رسلك، وهو آتيك غداً إن شاء الله، فمر رسلك فلْينصرفوا عنّا.

ص: 175


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 20.

فبعث إليهم فانصرفوا، وخرج ابن الزبير من تحت الليل، فأخذ طريق الفرع هو وأخوه جعفر، ليس معهما ثالث، وتجنّب الطريق الأعظم مخافة الطلب، وتوجّه نحو مكّة، فلمّا أصبح، بعث إليه الوليد فوجده قد خرج، فقال مروان: واللهِ إن أخطأ مكّة فسرّح في أثره الرجال.

فبعث راكباً من موالي بني أُميّة في ثمانين راكباً ((1))، فطلبوه فلم يقدروا عليه ((2))، فرجعوا، فتشاغلوا عن حسينٍ بطلب عبد الله((3)) يومهم ذلك حتّى أمسوا ((4)).

* * * * *

ص: 176


1- أُنظر: الإرشاد للمفيد: 2 / 31، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار: 44 / 326.
2- أُنظر: إعلام الورى للطبرسي: 222، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 185، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 324، الجوهرة للبري: 41، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 135، نهاية الأرب للنويري: 20 / 380، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 183.
3- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 314، الكامل لابن الأثير: 3 / 264، نفَس المهموم للقمّي: 70، نهاية الأرب للنويري: 20 / 379، الأخبار الطوال للدينوري: 230.
4- تاريخ الطبري: 5 / 340.

كان التهديد بالقتل واستعداد الجلاوزة لتنفيذه جاهزاً لكلّ من تقبّض عن البيعة، وكان الأمر أشدّ على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقد لاحقوا ابن الزبير، فكان من الطبيعيّ جدّاً ملاحقة سيّد الشهداء (علیه السلام) أيضاً، فإذا كانوا قد لاحقوا ابن الزبير وهم يعرفون جبنه وحرصه على الحياة بثمانين راكباً أو أقلّ، وهما رجلان: عبد الله وأخوه جعفر، فبأيّ عددٍ سيلاحقون به سيّد الشهداء (علیه السلام) وهو في ركبٍ يضمّ ليوث الطالبيّين وأبطال الهاشميّين وفرسان قريش وشجعان البشريّة، ومعهم حرمهم ومخدّراتهم وأطفالهم؟ فكان من العسير على الحكومة المحلّيّة إعداد جيشٍ يمكنه معالجة الموقف بمتابعة ابن الزبير والركب الحسينيّ في آنٍ واحد.

هذا مع الأخذ بنظر الاعتبار الخوف من ارتجاج الوضع في المدينة، لا تحسّباً من سَورة الناس، وإنّما مراقبةً لحالة التغيير الحاصل في السلطة، وتبديل الولاة والمَلك نفسه، فمهما كان الحكّام مطمئنّين إلى الناس وثباتهم على بيعتهم للقرد الأُمويّ، يبقى السلطان في خوفٍ وترقّبٍ وتوجّسٍ وتحسّبٍ لكلّ طارئ، لأنّه جبان ويحسب كلّ صيحةٍ عليه، وعدمتوفّر الأعداد الكافية من العسكر لمسح الطريق ونظمه بالخيل والرجال كما كان ممكناً ذلك في الكوفة مثلاً باعتبارها ثكنة عسكريّة.

السبب الثامن: سرعة حركة الركب الحسينيّ

اشارة

سيأتي بعد قليلٍ ذكر المراحل والمنازل الّتي يقطعها المسافر من المدينة

ص: 177

إلى مكّة على الجادّة، وهي عشرة مراحل، كلّ مرحلةٍ تمرّ بعدّة منازل، والمرحلة يطويها المسافر العادي في يومٍ راكباً كان أو ماشياً، فيلزم أن تُقطَع المسافة في عشرة أيّامٍ وفق المراحل المرسومة، وهو الوقت المعهود للمُجِدّ، بَيد أنّ الناس كانوا يقطعونها في مدّةٍ تزيد على ذلك، سيّما إذا كان معهم في الركب نساءٌ وأطفال.

روى عبد الله بن جعفر الحِميَريّ في (قرب الإسناد)، عن عبد الله بن الحسن، عن جدّه عليّ بن جعفر قال: خرجنا مع أخي موسى (علیه السلام) في أربع عُمَرٍ يمشي فيها إلى مكّة بعياله وأهله، واحدة منهنّ مشى فيها ستّةً وعشرين يوماً، وأُخرى خمسةً وعشرين يوماً، وأُخرى أربعةً وعشرين يوماً، وأُخرى أحد وعشرين يوماً ((1)).فهذا الإمام موسى بن جعفر (علیهما السلام) يقطع الطريق في الأربع مرّات مع عياله وأهله، في أكثر من عشرين يوماً لكلّ رحلة.

ولو أردنا أن نُغمِض النظر عن التباطؤ في المسير ونلتزم بالمدّة المعهودة، وهي عشرة أيّام، فإنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قطع المسافة في نصف المدّة أو

ص: 178


1- وسائل الشيعة للعاملي: 14 / 317 الباب 10 ح 1، قرب الإسناد للحِميَريّ: 299 ح 1175، بحار الأنوار: 48 / 100 ح 2.

أقلّ من ذلك بقليل، فقد خرج في جوف ليلة اليوم الثامن والعشرين من رجب، ودخل مكّة في الثالث من شعبان، فلو فرضنا شهر رجب تامّاً تلك السنة، تكون مدّة السفر قد استغرقت خمسة أيّامٍ أو ستّة، وهي نصف المدّة المقرّرة في المسير بين الحرمين.

وهذا يعني أنّ الإمام (علیه السلام) كان يطوي في اليوم مرحلتين على الأقلّ، ويمشي ليلاً ونهاراً، يحثّ المطي ويغذّ السير، ولا ندري كيف كان سيرهم، فإنّ التاريخ أغفل الحديث عن تفصيل ذلك، فهل كان يقطع مرحلتين في يومٍ وليلة، أو يُسرع المشي بين المراحل والمنازل، أو يكمن ليلاً ويمشي نهاراً، أو بالعكس يكمن نهاراً ويمشي ليلاً كما هو المستحبّ شرعاً، وهل يستريح الركب بين المرحلة والأُخرى، أو لا يستريح إلّا بعد مرحلتين أو أكثر؟ لا ندري!

والّذي نعلمه من خلال تحديد فترة خروج الإمام (علیه السلام) من المدينة ودخوله مكّة أنّه طوى المسافة على عجَل.ويمكن أن نرتكن إلى هذه المعلومة فنستفيد عدّة إلماعات:

الإلماعة الأُولى: التخفّي في الخروج

يبدو أنّ خروج الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) في جوف الليل، واغتنام فرصة خلوة السكك والأزقّة وهدأة الناس ونوم العيون، كان توظيفاً للوقت واستثماراً لغفلة السلطان والناس عنه، إذ كان خروجه مباغتةً غير محسوبةٍ

ص: 179

للعدوّ، وقد انفضّ الاجتماع على أن يُصبح ويصبحون وينظر وينظرون، فما كان العدوّ بعد قد تجهّز وأعدّ واستعدّ لمحاصرة الإمام (علیه السلام) وهو قد تشاغل بابن الزبير.

فكان خروجه تعميةً وابتعاداً عن عيون الظالم والسلطان وجواسيسه ومباغتته له، ويفيد مدى استعجال الإمام (علیه السلام) في الخروج من المدينة، وإن كان العدوّ قد سخّر العيون على دار الإمام (علیه السلام) فإنّ سرعة الحركة والمفاجأة سلبت من العدوّ زمام المبادرة.

الإلماعة الثانية: استعجال السير

كان الإمام (علیه السلام) مستعجلاً في مسيره وتوجّهه نحو مكّة، ومُسرعاً سرعةً مذهلةً وغير متوقّعةٍ ولا محسوبة، ولا نحسب أنّ من الممكن أن تطوى المسافة بأقلّ من تلك المدّة الّتي طواها الإمام (علیه السلام) ، سيّما إذا لاحظنا أنّ الركب يضمّ الكثير من النساء والأطفال.فلْيفكّر متفكِّر! ولْيتأمّل متأمِّل! الحالة الّتي فارق بها الركب مدينة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فسيّد الشهداء (علیه السلام) ومَن معه كانت لهم في المدينة منازل ودور وأملاك والتزامات اجتماعيّة وحياة شخصيّة ومستلزمات حياتيّة، كيف جمعوها وحزموا أمرهم في غضون يومٍ أو يومين، وفي أقصى التقادير ثلاثة أيّام؟ إذ لم يكن في الظاهر المنظور نيّة خروجٍ مبيَّتة، وإنّما كان قرار الخروج قد تلا استحضار الإمام (علیه السلام) وتخييره بين السلة والذلّة.

ص: 180

كيف تحمّل النساء والأطفال هذا السير العنيف؟! بيد أنّ ما يهوّن الخطب أنّهم كانوا مع حماتهم ورجالهم، وفي حماية راعي الكون والرحمة الواسعة.

لقد تركوا كلّ شيءٍ وخلّفوا الدنيا وراء ظهورهم.. لَكم الله يا أهل بيت النبوّة!

الإلماعة الثالثة: الوقت وإمكان اللقاء بالناس في المنازل

إنّ الإمام (علیه السلام) لم يوفّر وقتاً في الطريق للمكث في المنازل، وإنّما أسرع في الحركة واشتدّ الركب في المسير، رغم أنّ بعضها كان آهِلاً بالسكّان، فهو لم يخطّط للقاء الناس ولا المستطرقين، إن كانوا حجّاجاً ومعتمرين، أو سالكين بين المنازل، أو مسافرين عاديّين، أو تجّاراً، أو سكّان المنازل نفسها، ولو كان ثمّة تخطيطٌ لذلك لَبان، والله العالم والإمام (علیه السلام) .

الإلماعة الرابعة: عدم تسجيل أيّ نشاطٍ في الطريق

لم يذكر لنا التاريخ أيّ نشاطٍ للإمام (علیه السلام) ورفقائه في الطريق، ولم تُسمَع له خطبةٌ أو كلمةٌ أو لقاءٌ سوى ما ذُكر من لقاء عبد الله بن مطيع، وهو ماضٍ في طريقه لم ينزل عنده حتّى للاستراحة، وإنّما توقّف عنده بمقدار ما أظهر له من آيات الله، ودار بينهما حوارٌ قد لا يستغرق بضع دقائق.

فهو لم يستنهض أحداً، ولم يدعُ أحداً، ولم يحرّض على أحد، ولم يكن له -- على ما يبدو -- في الطريق غير همّة الإسراع وبلوغ مكّة في أقصر وقت،

ص: 181

ولا نحسب أنّ التاريخ قد أخفى علينا شيئاً قد حدث مغرضاً كان أو غير مغرض، إذ أنّ سرعة الحركة وقطع المسافة بنصف المدّة المعهودة للمجدّ يشهد لذلك.

الإلماعة الخامسة: أزلام السلطة في الطريق

كانت بعض منازل الطريق مدناً آهلةً أو قرىً كبيرةً وصغيرة، وكانت بعض المنازل قريبةً من المدن ومياه القبائل، ويلزم أن يكون للوالي والسلطان ثمّة شرطةٌ أو حرّاسٌ أو بعض الجند لحفظ الأمن وفرض السلطة، أو فلْنقل: بعض الأتباع والموالين من شيوخ القبائل أو الناس والأفراد، ومع ذلك لم نسمع بأيّ احتكاكٍ أو تعرّضٍ أو الدخول بأيّ مساجلةٍ ولوكلاميّة، بل لم نسمع أنّ أحداً سأل الإمام (علیه السلام) عن سبب خروجه، أو سبب استعجاله في المسير، أو حتّى مسألةً شرعيّةً أو حديثاً نبويّاً! سوى ما رُوي عن عبد الله بن مطيع.

ص: 182

لقاء أفواج الملائكة والجنّ مع سيّد الشهداء وجوابه (علیه السلام)

اشارة

في (اللهوف) و(تسلية المجالس) و(البحار) وغيرها -- واللفظ للأخير -- :

قال شيخنا المفيد بإسناده إلى أبي عبد الله (علیه السلام) قال:

«لمّا سار أبو عبد الله من المدينة، لقيَه أفواجٌ من الملائكة المسوّمة، في أيديهم الحِراب على نُجَبٍ من نُجَب الجنّة، فسلّموا عليه وقالوا: يا حجّة الله على خلقه بعد جدّه وأبيه وأخيه، إنّ الله (سبحانه) أمدّ جدّك بنا في مواطن كثيرة، وإنّ الله أمدّك بنا.

فقال لهم: الموعد حفرتي وبقعتي الّتي أُستشهَد فيها، وهي كربلاء، فإذا وردتُها فأْتُوني.

فقالوا: يا حجّة الله، مُرنا نسمع ونطع، فهل تخشى من عدوٍّ يلقاك فنكون معك؟

فقال: لا سبيل لهم علَيّ ولا يلقوني بكريهة، أو أصلإلى بقعتي.

وأتَتْه أفواجُ مسلمي الجنّ فقالوا: يا سيّدنا، نحن شيعتك وأنصارك، فمُرنا بأمرك وما تشاء، فلو أمرتنا بقتل كلّ عدوٍّ لك وأنت بمكانك

ص: 183

لَكفيناك ذلك.

فجزّاهم الحسين خيراً، وقال لهم: أوَ ما قرأتم كتاب الله المنزَل على جدّي رسول الله: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾ ((1))، وقال (سبحانه): ﴿لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ ((2))، وإذا أقمتُ بمكاني فبماذا يبتلى هذا الخلق المتعوس؟ وبماذا يختبرون؟ ومَن ذا يكون ساكن حفرتي بكربلاء وقد اختارها الله يوم دحا الأرض وجعلها معقلاً لشيعتنا، ويكون لهم أماناً في الدنيا والآخرة؟ ولكن تحضرون يوم السبت، وهو يوم عاشوراء الّذي في آخِره أُقتَل، ولا يبقى بعدي مطلوبٌ من أهلي ونسبي وإخوتي وأهل بيتي، ويُسار برأسي إلى يزيد (لعنه الله).

فقالت الجنّ: نحن -- واللهِ -- يا حبيب الله وابنحبيبه لولا أنّ أمرك طاعة وأنّه لا يجوز لنا مخالفتك، قتلنا جميع أعدائك قبل أن يصلوا إليك.

فقال (صلوات الله عليه) لهم: نحن -- والله -- أقدر عليهم منكم، ولكن ليهلك مَن هلك عن بيّنةٍ ويحيى مَن حيّ عن بينة» ((3)).

ص: 184


1- سورة النساء: 78.
2- سورة آل عمران: 154.
3- اللهوف للسيّد ابن طاووس: 66، بحار الأنوار: 44 / 330، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 231، العوالم للبحراني: 17 / 179، نفَس المهموم للقمّي: 75.

* * * * *

في هذا النصّ أبعادٌ وإخباراتٌ غيبيّةٌ لا نريد التفصيل فيها، لأنّنا بنينا البحث على النصّ والإفادات التاريخيّة فقط.

ويمكن إفادة عدّة إشاراتٍ منه:

الإشارة الأُولى: تخوّف الملائكة مِن عدوٍّ يلقاه

نسمع كلام الملائكة مع سيّد الشهداء (علیه السلام) يتركّز على إعلان الطاعة المطلقة للإمام (علیه السلام) ، فيقولون: «يا حُجّة الله، مُرنا نسمع ونطع»، ثمّ يسألون إن كان الإمام (علیه السلام) يخشى عدوّاً يلقاه ليكونوا معه: «فهل تخشى من عدوٍّ يلقاك فنكون معك؟»، فهم يخشون على الإمام (علیه السلام) من عدوٍّ يهدّده ويلقاه ويهاجمه، ولا يتحدّثون عن إقدام سيّد الشهداء (علیه السلام) على العدوّ ومهاجمته، ويشهد لذلك جواب سيّد الشهداء (علیه السلام) لهم: «فقال: لا سبيل لهم علَيّ ولايلقوني بكريهةٍ أو أصل إلى بقعتي»، حيث أكّد لهم أنّ العدوّ لا يلقاه بكريهةٍ ولا يصل إليه ولا سبيل له عليه في طريقه من المدينة إلى مكّة حتّى يصل إلى بقعته، ومفاد جواب الإمام (علیه السلام) أن إذا وصل إلى بقعته سيلقاه العدوّ بكريهة.

ص: 185

الإشارة الثانية: أفواج الجنّ تَعِدُ بقتل كلّ عدوّ

كذا كان موقف أفواج مسلمي الجنّ، حيث أعلنوا النصرة والطاعة المطلقة للإمام (علیه السلام) .. «فقالوا: يا سيّدنا، نحن شيعتك وأنصارك، فمرنا بأمرك وما تشاء»، ثم إنّهم علموا أنّ ثمّة عدوٌّ يهدّد حياة الإمام (علیه السلام) وهو في المدينة، فوعدوه أن يقتلوا كلّ عدوٍّ له وهو في مكانه من دون تجشّم عناء الخروج من المدينة والتجوال في الأرض : «فلو أمرتَنا بقتل كلّ عدوٍّ لك وأنت بمكانك لَكفيناك ذلك».

فهم يريدون دفع العدوّ والدفاع عن الإمام (علیه السلام) ، وهذه هي النصرة الّتي أعدّها مسلمو الجنّ لإمامهم.

الإشارة الثالثة: استشهاد المطلوبين

هذه الفقرة هي موضع الشاهد الأصليّ والمفاد الأساسيّ المؤثّر في تشكيل الفهم ورسم التصوّر السليم، حيث يؤكّد الإمام (علیه السلام) بكلمةٍ واضحةٍ وعبارةٍ صريحةٍ أنّه وأهله ونسبه وإخوته وأهل بيته مطلوبون..«وهو يوم عاشوراء الّذي في آخِره أُقتَل، ولا يبقى بعدي مطلوبٌ من أهلي ونسبي وإخوتي وأهل بيتي».

فهم وفق هذه العبارة الصريحة (مطلوبون) للعدوّ الغادر المتوحّش الكاسر.. «ولا يبقى بعدي مطلوب..».

ص: 186

الإشارة الرابعة: قتل العدوّ قبل أن يصل إلى الحسين (علیه السلام)

عاد مسلمو الجنّ للتأكيد على أنّ العدوّ يريد أن يصل إلى الإمام (علیه السلام) ويقتل الإمام (علیه السلام) ، وأنّهم على استعدادٍ تامٍّ للقضاء على العدوّ قبل أن يصل إلى الإمام (علیه السلام) فيقتله، لولا أنّهم مسلّمون مطيعون.

«فقالت الجنّ: نحن واللهِ يا حبيب الله وابن حبيبه لولا أنّ أمرك طاعةٌ وأنّه لا يجوز لنا مخالفتك، قتلنا جميع أعدائك قبل أن يصلوا إليك».

الإشارة الخامسة: إقامة الحُجّة

إختصر الإمام (علیه السلام) الكلام لأفواج الجنّ في عبارة، وهي أنّه إن أقام في مكانه وأتى الجنّ على عدوّه فبماذا يبتلى هذا الخلق المتعوس؟ وبماذا يختبرون؟ ففي خروجه من المدينة إلى مكّة، ومن مكّة إلى العراق، وما يتخلّلها من فترةٍ زمانيّةٍ طويلة (دامت شهوراً) وقتٌ كافٍ لإقامة الحجّة علىالعالمين، ولو كان الأمر ينحصر في إهلاك العدوّ، ففي سيف سبط النبيّ (صلی الله علیه و آله) ونجل الوصيّ (علیه السلام) كفاية، وهو أشجع الخلق بعد من استثناهم الله، فما قدرة الجنّ وقوّتهم مقابل قدرته وقوّته، وهو الإمام (علیه السلام) الّذي جعله الله مظهراً لقدرته وقوّته؟

«فقال (صلوات الله عليه) لهم: نحن واللهِ أقدر عليهم منكم، ولكن لِيهلك مَن هلك عن بيّنةٍ ويحيى مَن حيّ عن بيّنة»..

ص: 187

ص: 188

لقاء عبد الله بن مطيع

اشارة

النصوص التاريخيّة الّتي تروي لقاء عبد الله بن مطيع مع سيّد الشهداء (علیه السلام) فيها اضطرابٌ وتداخلٌ واضح، وفيها ما يفيد أنّ اللقاء حصل في منازل الطريق بين المدينة ومكّة، ومنها ما يفيد أنّه حصل بين مكّة والكوفة، ومنها ما يحتمل تكرّر اللقاء في الموضعَين.

وكيف كان، فإنّنا نأخذ من النصّ الجامع المشترك بالقدر الّذي نحتاجه، بغضّ النظر عن موضع حصول اللقاء أو تفاصيله الّتي لا تعني بحثنا، ونتناول الموضوع من خلال عدّة متابعات:

المتابعة الأُولى: مَن هو عبد الله بن مطيع؟

يبدو أنّ عبد الله بن مطيع العدَويّ هذا، من أبناء أعمام عمر بن الخطّاب في ظاهر الأنساب، وهو الّذي نُسِب إلى جدّته ابن العجماء، وذلك اسمها، وهي خزاعيّة، وكان هواه مع ابن الزبير وميله إليه ((1)).

ص: 189


1- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 316.

وكان الوليد قد حبسه أيّام وصول خبر هلاك معاوية إلى المدينة فيمن حُبس ممّن يهوى ابن الزبير، فأطلقَته عشيرتُه ((1))، وقد مرّت علينا قصّته.

وقد (انضمّ إلى ابن الزبير، وصار عاملاً له على الكوفة، فجعل يطلب الشيعة ويخيفهم ((2))، وقاتلهم في مواجهته لحركة المختار، واستعان عليهم بقتَلَة الإمام الحسين (علیه السلام) أنفسهم، أمثال شمر بن ذي الجوشن وشبث بن ربعيّ وغيرهم ((3)).

وفي أوّل خطبةٍ له في الكوفة أعلن عن عزمه على تنفيذ أمر ابن الزبير في السَّير بأهل الكوفة بسيرة عمر بن الخطّاب وسيرة عثمان بن عفّان) ((4)) ((5)).

المتابعة الثانية: قصد مكّة بالذات أوّلاً

اشارة

عرفنا فيما سبق أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يصرّح هو ولا أيُّ أحدٍ ممّن صحبه عن وجهتهم الأخيرة عند خروجهم من المدينة، سوى ما ذكره سيّد

ص: 190


1- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 316، الفتوح لابن أعثم: 5 / 21.
2- تاريخ اليعقوبي: 2 / 258.
3- أُنظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 216.
4- أُنظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 212.
5- أُنظر: مع الركب الحسيني: 1 / 421.

الشهداء (علیه السلام) من وجهته الأُولى، إذ أنّه صرّح بعزمه على التوجّه إلى مكّة المكرّمة فحسب، ولم يكن أيّ ذكرٍ للكوفة ولا غيرها في المدينة، ولمنسمع بأيّ تصريحٍ يفيد -- ولو إشارةً أو تلويحاً -- أنّه عازمٌ على (الخروج بالمعنى الاصطلاحي)، والقيام بقصد محاربة القرد المخمور المجدور، وإنزاله من فوق أعواد المنبر، وتعليقه على أعواد الشجرة الملعونة في النار..

وقد استمرّ هذا العزم على قصد مكّة أوّلاً وبالذات من دون الإشارة إلى تبييت أيّ نيّةٍ أو عقد العزم على القيام بوثبةٍ مباغتةٍ تنقضّ على الحكم والحاكم والنظام وأجهزته في أيّ مكان، ومكّة حرم الله الآمِن الّذي جعله الله سواءً للعاكف فيه والباد، وقد أبى سيّد الشهداء (علیه السلام) أن تُباح حرمة البيت الحرام بأيّ شكلٍ من الأشكال..

ويشهد لذلك ما دار بين سيّد الشهداء (علیه السلام) وعبد الله بن مطيع في اللقاء بين المدينة ومكّة، ويمكن أن نتأمّل ذلك من خلال عدّة تأمّلات:

التأمّل الأوّل: تصريح سيّد الشهداء (علیه السلام)

صرّح الإمام (علیه السلام) ثَمّة أنّه يريد مكّة ((1))، وفي بعض الألفاظ أنّه الآن يأتي مكة ((2))، أمّا بعدها فيستخير الله ((3))، ممّا يفيد أنّ مكّة هي الخيار

ص: 191


1- الطبقات لابن سعد: 5 / 107، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 139.
2- الأخبار الطِّوال للدينوري: 230.
3- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 368، تاريخ الطبري: 5 / 351، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 327، الفتوح لابن أعثم: 5 / 26، تجارب الأُمم لمسكويه: 20 / 40، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 189، الكامل لابن الأثير: 3 / 266، نهاية الإرب للنويري: 20 / 385، تاريخ ابن خلدون: 3 / 21، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 183.

الفعلي، ولا يمنع أن يكون ثمّة خيارٌ آخَر بعدها فيما لو نبت به ولم تحفظه وكانت أمناً لكلّ شيءٍ إلّا لعترة النبيّ (صلی الله علیه و آله) الأطهار.

التأمّل الثاني: خوف ابن مطيع على سيّد الشهداء (علیه السلام) من القتل

أفادت جملةٌ من المصادر أنّ ابن مطيع قد أشار -- بزعمه -- على سيّد الشهداء (علیه السلام) أن يلزم الحرم، وأن يجتنب التفكير في الكوفة، فإنّها بلد شؤمٍ وغدر، وقد قتلوا أباه وطعنوا أخاه بطعنةٍ كادت تأتي على نفسه ((1))، والإمام (علیه السلام) لم يصرّح له ولم يشر له أنّه عازم على المسير إلى الكوفة يومها، بيد أنّ ابن مطيع لمّا رأى الإمام (علیه السلام) خارجاً بأهل بيته وعياله وثقله حمايةً لهم من القتل، جعل الكوفة موضعاً محتمَلاً يمكن للإمام (علیه السلام) أن يقصده بناءً على معرفته بأهل الكوفة، واحتماله أنّهم سيَدْعُونه ليدفعوا عنه،

ص: 192


1- أُنظر: الأخبار الطِّوال للدينوري: 230، جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 368، تاريخ الطبري: 5 / 351، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 327، الفتوح لابن أعثم: 5 / 26، تجارب الأُمم لمسكويه: 20 / 40، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 189، الكامل لابن الأثير: 3 / 266، نهاية الإرب للنويري: 20 / 385، تاريخ ابن خلدون: 3 / 21، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 183.

فأخبر الإمامَ (علیه السلام) أنّه قد احتمل أن تكون الكوفة وجهةً له، لاحتمال أن يدعوه مَن بها ممّن يزعم النصرة والدفاع عنه وعن أهل بيته، وأخبره أنّهم قوم غدرٍ وبلدهم بلد شؤم، قد قُتل فيه أمير المؤمنين (علیه السلام) وخذلوا الإمام الحسن الأمين (علیه السلام) ، فستكون عاقبة أمره تماماً كأبيه وأخيه (علیهما السلام) ، وبالتالي فإنّه سوف لا يفلت من القتل، ولا يكون نصيبه منهم سوى الغدر، فإن كان قد خرج من المدينة لئلّا يُقتَل، فإنّ احتمال القتل في الكوفة أقوى بدرجات، وعليه شواهد وعلامات بيّنات واضحات، لذا أشار عليه أن يجتنب الكوفة.

وربّما كانت الإشارة بتجنّب الكوفة بعد الخروج من مكّة، على فرضحصول اللقاء في الطريق بين مكّة والكوفة.

وقد أكّد ابن مطيع على الإمام (علیه السلام) أن يلزم الحرم.

فقال له: فالزم الحرم، فأنت سيّد العرب في دهرك هذا، فوَاللهِ لئن هلكتَ لَيهلكنّ أهل بيتك بهلاكك..

ومن البديهيّ أنّ ما ذكره ابن مطيع ليس خافياً على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، إذ أنّه عاش محنة أبيه وأخيه (علیهما السلام) وغدر الكوفيّين بنفسه المقدّسة.

التأمّل الثالث: دعوات المكّيّين!

اشارة

روى ابن سعدٍ في (الطبقات) وابن عساكر وابن العديم:

ص: 193

إنّه لمّا خرج الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة يريد مكّة ومرّ بابن مطيع وهو يحفر بئره، فقال له: أين؟ فداك أبي وأُمّي! قال: «أردتُ مكّة»، وذكر له أنّه كتب إليه شيعته بها ... ((1)).

وهذا النصّ المرويّ مسنداً في هذه المصادر الثلاثة، يمكن أن نعالجه بإحدى المعالجات التالية:

المعالجة الأُولى: احتمال السقط

لقد ورد النصّ في (الطبقات)، وفيه بعد قوله: «أردتُ مكّة» نقاط، إشارةً إلى سقطٍ في النسخة كما أشار المحقّق إلى ذلك، بيد أنّ هذا السقطلم يكن في (تاريخ دمشق) ولا في (بغية الطلب)، ولم يكن ما يؤشّر إليه، وإنّما جاءت العبارة بنسق: (أردتُ مكّة. قال: وذكر أنّه كتب إليه شيعتُه بها)، وهذا يبعد احتمال وجود السقط في نسخة ابن سعد، ويرجّح أن يكون المحقّق قد رأى شيئاً من الاضطراب في المتن، وساعده على ذلك شيءٌ من الخدش أو ما شاكل ممّا دعاه ليحتمل هذا الاحتمال ويشير إليه بالنقاط، ونحن لم نتوفّر على النسخة الخطيّة للطبقات كي نتأكّد من ذلك مباشرة، بيد أنّ ورود النصّ في الكتابين المذكورين يبعد نسبيّاً احتمال السقط، والله العالم.

ص: 194


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: 5 / 145، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 182، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2592.
المعالجة الثانية: الاضطراب في المتن

يُحتمَل أن يكون ثَمّة اضطرابٌ في المتن أو خللٌ جرّ إلى جعل هذه العبارة في هذا الموضع، سواءً عن طريق المؤلّف أو بأيدي النسّاخ، كأن يكون قد اشتبه وظنّ أنّ ثمّة دعوات لسيّد الشهداء (علیه السلام) من أهل مكّة، والحقيقة أنّ الدعوات كانت من أهل الكوفة، أو تصوير أيّ صورةٍ تفترض الاضطراب سوى السقط مثلاً.

بَيد أنّ هذه المعالجة أيضاً لا تبدو ناهضة؛ باعتبار أنّ رسائل الكوفيّين ودعواتهم لم تكن قد وصلت بعدُ حسب مجريات الأحداث المسجَّلة تلك الأيام بالذات، ولاستبعاد أن يقع هذا الاضطراب عند المؤلّفين الثلاثة على نفس النسق، إلّا أن يقال: إنّ ابن عساكر وابن العديم يصرّحان بنقلهما عنابن سعد، وقد رويا ما رُوي لهما من دون تدخّلٍ ولا تصرّف، فيكون الاضطراب حاصلاً عند ابن سعد أو مَن روى عنه فقط.

المعالجة الثالثة: قبول الخبر

ربّما يكون من الغريب وغير المألوف أن يفترض الباحث مثل هذا الفرض، بيد أنّ هذه الجملة المعترضة الواردة عند ابن سعد الّتي رواها عنه ابن عساكر وابن العديم قد تجعل لهذا الافتراض مجالاً محتملاً، وإن بقي بمستوى الفرض، ويدعو الباحث والمحقّق لأخذه بنظر الاعتبار ومحاولة البحث له أو عليه من شواهد ومؤكّدات أو مبعّدات..

ص: 195

فبالرغم من عداوة أهل مكّة على العموم بما فيها من قبائل لأمير المؤمنين وذريّته (علیهم السلام) الناتجة عن عداوتهم لرسالة النبيّ (صلی الله علیه و آله) والمدافع الأوّل عنها، وللحسد وضغائن الثأر والانتقام الكامنة في أعماقهم والمعلَنة بعد أن «قد وتر صناديد العرب، وقتل أبطالهم، وناوش ذؤبانهم، فأودع قلوبهم أحقاداً بدريّةً وخيبريّةً وحُنينيّةً وغيرهن، فأضبّت على عداوته، وأكبّت على مبارزته، حتّى قتل الناكثين والقاسطين والمارقين»..

بيد أنّ هذا لا يمنع أن يكون لسيّد الشهداء (علیه السلام) بعض الشيعة والأنصار، سواءً كان بالمعنى العام، أي: الشيعة بالمعنى اللغوي، أو بالمعنى الخاصّ، أي: الشيعة بالمعنى الاعتقادي من الأتباع الّذين يعتقدون إمامته وفرض طاعته ويقرّون له ببيعة الغدير، تماماً كما هو الحال في الكوفة يوم ذاك، إذكانت الأغلبيّة الغالبة هم الشيعة بالمعنى العام، حيث كان أكثر مَن كاتبه من أتباع العجل والسامريّ والمنافقين والانتهازيّين، من قبيل شبث وحجّار وعزرة بن قيس وغيرهم، وكان الشيعة بالمعنى الخاصّ أقلّيةً قليلةً جدّاً نسبةً إلى المجتمع الكوفي، وإن كانوا أكثريّةً بالنسبة إلى تجمّعاتهم في البلدان الأُخرى.

فربّما بلغ خبر تهديد حياة سيّد الشهداء (علیه السلام) بالخطر مكّة، فتطاول بعض أهلها تحت أيّة طائلةٍ أو لأيّ دافعٍ كان من النخوة والحميّة وغيرها، فدعوه ليخرج إليهم، فيوفّرون له المكان ويقومون على خدمته في بلدهم

ص: 196

الآمن الّذي لا يحتاج فيه مَن دخله إلى مَن يدافع عنه، لأنّه في البلد الحرام.

والمسافة بين مكّة والمدينة لم تكن بعيدةً كالمسافة بين مكّة والكوفة، فكان من الممكن أن يبلغ خبر سيّد الشهداء (علیه السلام) وما جرى عليه في مكّة خلال تلك الفترة زهاء أُسبوعين أو أكثر بقليل (من 15 إلى 28 رجب).

بل لا يبعد أن يكون في مكّة بعض الشيعة بالمعنى الخاصّ، وقد بلغهم -- من قبل أو من بعد -- امتناع الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) وتعرّضه وأهل بيته للخطر في المدينة، فكتبوا إليه يعرضون عليه النصرة والدفاع عنه في البلد الآمن الحرام.

وكيف كان، فإنّ هذا الفرض يحتاج إلى تتبّعٍ تاريخيٍّ لتأكيد إمكانه،فإن حصلت الشواهد والقرائن فبها، وإلّا ففي المعالجات السابقة جواب، ولا ننسى أنّ مكّة بمن فيها مِن أهلٍ ومجاورين ومعتمرين وحجّاج خذلوا سيّد الشهداء (علیه السلام) حتّى اضطرّ للخروج منها.

التأمّل الرابع: الاستنهاض والاستنصار

تماماً كما ذكرنا في (ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة) تحت عنوان (النكتة الخاتمة)، فإنّنا لم نسمع في التاريخ تصريحاً ولا تلويحاً، ولم نقرأ فيه ما يفيد أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قد استنهض أحداً على القوم، أو خطب في الطريق -- سواءً في المنازل أو في امتداد المسير -- خطبة، أو أقام في

ص: 197

موضع، أو كلّم أحداً من السالكين في الطريق الأعظم والجادّة الرئيسيّة الّتي سلكها من المدينة إلى مكّة، وهو طريقٌ لا يخلو من المارّة، ولا تخلو منازله من النازلين أو المقيمين..

لم يكلّم عبد الله بن مطيع أكثر من الإعلان عن خروجه من المدينة وتوجّهه نحو مكّة المكرّمة، ولم يُقِم الحجّة عليه حتّى بالاستنصار للدفاع عنه كابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فضلاً عن الكشف له عن عزمه على (الخروج بالمعنى المصطلح) ونيّته لمقارعة الأُمويّين ومقاتلتهم كي يطردهم عن المنبر، ويسوقهم إلى غابة القرود، ويعلّقهم على أغصان الشجرةالملعونة.

التأمّل الخامس: دعوة الشيعة من كلّ أرض

إقترح ابن مطيع -- وفق بعض المتون -- على سيّد الشهداء (علیه السلام) أن يلزم الحرم، وزعم أنّ أهل الحجاز لا يعدلون به أحداً، ثمّ يدعو إليه شيعته من كلّ أرض، وافترض أنّهم سيأتونه جميعاً ((1)).

وفي لفظ ابن مسكويه: ويتداعى الناس إليك من كلّ جانب ((2)).

كما أكّد للإمام (علیه السلام) أنّه إن فارق الحرم فإنّه سيُقتَل، فقال: لا تفارق

ص: 198


1- أُنظر: الأخبار الطِّوال للدينوري: 230، تاريخ الطبري: 5 / 351.
2- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 40.

الحرم، فداك عمّي وخالي، فوَاللهِ لئن هلكت لنُسترقّنّ بعد ((1)).

وهذا الاقتراح بكلّ ألفاظه وتفاصيله لا يبعد عن اقتراح المولى محمّد ابن الحنفيّة، وقد أتينا على مناقشته مفصَّلاً عند دراسة (ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة)، فلا نعيد.

ونشير هنا للتأكيد إلى جواب الإمام (علیه السلام) ، إذ أنّه داراه واستمع منه، ثمّ لم يؤيّد كلامه ولم ينفه، وإنّما أجابه -- حسب نصّ الدينوري -- : «يقضي اللهُ ما أحبّ» ((2)).

ولا يفوتنا أنّ اقتراح ابن مطيع وغيره ليس بالضرورة أن يكون صائباً مبتنياً على دعوةٍ مدعومةٍ موثوقة، فإنّه بنى اقتراحه على أساس أنّ أهل الحجاز لايعدلون أحداً بالإمام (علیه السلام) ، وأنّ الناس سيأتونه من كلّ مكان، وكلا الدعوَيَين باطلة، إذ عدل أهل الحجاز أولاد النبيّين بأولاد البغايا فخذلوا الإمام (علیه السلام) ، وبقيَ الإمام (علیه السلام) أكثر من أربعة أشهر في مكّة ولم يأته أحد!

المتابعة الثالثة: موقف ابن مطيع

إكتفى ابن مطيع بتقديم النصح -- حسب زعمه -- لإمام الثقلين وسيّد الكونين في دهره، ثم تبّرك به وتوسّل إليه أن يدعو له بالبركة لماء بئره الّتي

ص: 199


1- تاريخ الطبري: 5 / 351.
2- الأخبار الطوال للدينوري: 230.

قد رشحت، فأجابه الإمام (علیه السلام) إلى ذلك.

فقال (علیه السلام) : «هات من مائها»، فأتى من مائها في الدلو، فشرب منه ثمّ مضمض، ثم ردّه في البئر، فأعذب وأمهى ((1)).

المتابعة الرابعة: مؤدّى اللقاء

يبدو واضحاً من كلام ابن مطيع أنّه قد أبرز مشاعر الخوف والقلق على حياة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأنّه أدرك أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) مُعرَّضٌ للقتل، فتقدّم بين يدَي الإمام (علیه السلام) بما يراه سليماً صحيحاً يمكن أن يدفع القتل أو ماسمّاه (الهلاك) عن الإمام (علیه السلام) ، وذلك بلزوم الحرم باعتباره موطناً جعله الله مثابةً للناس وأمناً، ومحلّاً مناسباً يمكن أن يطمئنّ فيه سيّد الشهداء (علیه السلام) وأهل بيته، وإذا دعته الضرورة فهو مكانٌ تجتمع فيه الناس من كلّ مكان، ويمكن خلال هذه الفترة الّتي سيأمن فيها بلزومه الحرم أن يدعو الناس لنصرته والدفاع عنه، فيوفّر العامل البشريّ الّذي يسمح له أن يتحرّك في أرض الله الوسيعة، أو أن يدفع عن نفسه إن هتك العدوّ حرمة البيت وهاجمه وهو في الحرم.

بَيد أنّه لم يُدرِك أنّ القوم قد عزموا على قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ولو كان تحت أستار الكعبة، وأنّهم سوف لن يمهلوه، وسيغدرون به ويغتالوه،

ص: 200


1- أُنظر: الطبقات لابن سعد: 5 / 107.

كما سيأتي الكلام عن ذلك إن شاء الله، لذا تركه الإمام (علیه السلام) وحاله وأفكاره واقتراحاته، وقال له: «يقضي الله ما أحبّ»!

* * * * *

هكذا هم أشباه الرجال أبداً ما كانوا، يرون في سيّد الشهداء (علیه السلام) ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالقدر الّذي ينفعهم لدنياهم، ويتبرّكون به، لا أكثر، أمّا إذا دار الأمر بينه وبين دنياهم الّتي تسيح من لعاب القرود، فهم يعبدون أوثانهم، والدِّين لغوٌ على ألسنتهم، وهم يختارون الدنيا الدنيّة الذليلة الزائلة النتنة.

ثمّ أنّهم لا يرون في الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) وجوداً مقدّساً مفروض الطاعة من الله، وإنّما يرونه شخصاً بين الأشخاص يمتاز عن غيره بالانتسابلرسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وهذه هي الطامّة الكبرى الّتي ابتُلي بها أُولئك المسوخ، وابتُلي بها بعض مَن جاء بعدهم، فحشر أمثال هؤلاء في زمرة المنتحلين لمحبّة أهل البيت (علیهم السلام) وأشياعهم أو المقدّسين لهم.

ص: 201

ص: 202

لقاء العبدَين ابن عبّاس وابن عمر بالإمام!

اشارة

قال الطبريّ بعد أن ذكر استدعاء ابن عمر من قِبل والي المدينة:

فزعم الواقديّ أنّ ابن عمر لم يكن بالمدينة حين ورد نعي معاوية وبيعة يزيد على الوليد، وأنّ ابن الزبير والحسين لمّا دُعيا إلى البيعة ليزيد أبيا وخرجا مِن ليلتهما إلى مكّة، فلقيهما ابن عبّاسٍ وابن عمر جائيَين من مكّة، فسألاهما: ما وراءكما؟ قالا: موت معاوية والبيعة ليزيد. فقال لهما ابن عمر: اتّقيا الله ولا تفرّقا جماعة المسلمين.

وأمّا ابن عمر فقدم، فأقام أيّاماً، فانتظر حتّى جاءت البيعة من البلدان، فتقدّم إلى الوليد بن عُتبة فبايعه، وبايعه ابن عبّاس ((1)).

ص: 203


1- تاريخ الطبري: 5 / 342.

وقال ابن الأثير والنويريّ أيضاً بعد ذكر استدعائه للبيعة:

وقيل: إنّ ابن عمر كان هو وابن عبّاسٍ بمكّة، فعادا إلى المدينة، فلقيهما الحسين وابن الزبير، فسألاهما: ما وراءكما؟ فقالا: موت معاوية وبيعة يزيد. فقال ابن عمر: لا تُفرّقا جماعة المسلمين. وقدم هو وابن عبّاسٍ المدينة، فلمّا بايع الناس بايعا ((1)).

* * * * *

يمكن أن يواجه الخبر عدّة مشاكل:

المشكلة الأُولى: ابن عمر في المدينة وابن عبّاس في مكّة

تكاد الأخبار تتّفق على أنّ ابن عمر كان في المدينة يوم خرج سيّد الشهداء (علیه السلام) منها، وقد روى ذلك حتّى الطبريّ وابن الأثير في تاريخيهما، كما هو مفاد نفس هذا الخبر في أوّله، إذ أنّهما يرويان دعوته للبيعة في المدينة، ثمّ يذكران أنّه كان في مكّة على نحو القيل والزعم، ممّا يفيد أنّهما يؤكّدان وجوده في المدينة.

كما تكاد تتّفق المصادر أنّ ابن عباس كان في مكّة تلك الأيام ((2)).

ص: 204


1- الكامل لابن الأثير: 3 / 265، نهاية الإرب للنويري: 20 / 382.
2- أُنظر: الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 1 / 173، الأخبار الطوال للدينوري: 228.

هذا بالإضافة إلى أنّ الطبري -- كما يبدو -- هو الراوي الأوّل لهذا الخبر، وقد ذكره بلفظ (فزعم الواقدي)، ومن جاء بعده إنّما أخذ عنه.

المشكلة الثانية: قول الشيخ ابن نما

وقال ابن نما:

وركبوا [عبد الله بن الزبير وعبد الله بن مطيع وعبد الله بن عمر وعبد الرحمان بن أبي بكر] ولحقوا بمكّة، وتخلّف الحسين ((1)).

بناءً على قول الشيخ ابن نما (رحمة الله) ، فإنّ ابن عمر خرج من المدينة قبل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وكان ابن عبّاسٍ في مكّة حسب الفرض، فكيف اجتمع العبدان ثمّ التقيا بسيّد الشهداء (علیه السلام) ؟

ثم إنّ قوله يؤكّد وجود ابن عمر في المدينة يومها، وأنّه خرج منها إلى مكّة.

المشكلة الثالثة: خروج ابن الزبير قبل الإمام (علیه السلام)

لقد مرّ علينا أنّ ابن الزبير خرج قبل الإمام (علیه السلام) من المدينة، وهذا ما اتّفق عليه جُلّ المؤرّخين إن لم نقل كلّهم، وقد تشاغلوا عن سيّدالشهداء (علیه السلام) ليلةً بابن الزبير كما مرّ معنا، وذكرنا هناك المصادر، فيكون

ص: 205


1- مثير الأحزان لابن نما: 10.

الفارق الزمنيّ بين خروج ابن الزبير وخروج سيّد الشهداء (علیه السلام) ليلةً أو ليلتين، وكان ابن الزبير -- كما قالوا -- قد خرج بنفسه وأخيه فقط، فيما خرج سيّد الشهداء (علیه السلام) بأهل بيته ومواليه وإخوته وبني إخوته وأخواته وعياله، فكيف تحقّق لهما أن يجتمعا ليلتقي بهما العبدان؟

المشكلة الرابعة: اختلاف الطريق

إتّفقت المصادر التاريخيّة على تحديد الطريق الّذي سلكه ابن الزبير، والطريقِ الّذي سلكه سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقد تنكّب ابن الزبير الطريق فمضى على غير الجادّة متخفّياً، وسلك الإمام (علیه السلام) الطريق الأعظم ومشى على الجادّة، فكان كلٌّ منهما يمشي على غير طريق الآخَر، فكيف اجتمعا ليلتقي بهما العبدان معاً؟!

ص: 206

لقاء ابن عمر وابن عيّاش!

اشارة

روى ابن سعدٍ قال:

ولقيَهما عبد الله بن عمر وعبد الله بن عيّاش بن أبي ربيعة بالأبواء منصرفَين من العُمرة.

فقال لهما ابن عمر: أُذكّركما اللهَ إلّا رجعتما فدخلتما في صالح ما يدخل فيه الناس، وتنظروا، فإن اجتمع الناس عليه لم تشذّا، وإن افترق عليه كان الّذي تريدان!

وقال ابن عمر لحسين: لا تخرج، فإنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) خيّره الله بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة، وأنت بضعةٌ منه، ولا تنالها -- يعني: الدنيا --. فاعتنقه وبكى وودّعه.

فكان ابن عمر يقول: غلبنا حسين بن عليّ بالخروج، ولَعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عِبرة، ورأى من الفتنة وخذلان الناس لهم ما كان ينبغي له أن لا يتحرّك ما عاش، وأن يدخل في صالح ما دخل فيه الناس! فإنّ الجماعة خير!!!

وقال له ابن عيّاش: أين تريد يا ابن فاطمة؟ قال: العراق

ص: 207

وشيعتي. فقال: إنّي لَكارهٌ لوجهك هذا، تخرج إلى قومٍ قتلوا أباك وطعنوا أخاك حتّى تركهم سخطةً وملة لهم؟ أُذكّرك الله أن تغرّر بنفسك ((1)).

* * * * *

يمكن أن ينكز هذا الخبر بعدّة نكزات:

النكزة الأُولى: المناقشات السابقة

تعترض هذا الخبر المناقشات السابقة الّتي سمعناها في لقاء العبدَين، إذ أنّ عبد الله بن عمر حاضرٌ هنا أيضاً.

النكزة الثانية: مؤدّيات كلام ابن عمر

تفيد مؤدّيات كلام ابن عمر مع سيّد الشهداء (علیه السلام) في هذا الخبر أنّه يحذّر الإمام (علیه السلام) ! من الخروج إلى قومٍ غدروا بأبيه وأخيه، وأنّه قد خرج

ص: 208


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 57، ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من تاريخ دمشق، تحقيق المحمودي: 200، تهذيب ابن بدران: 4 / 328، مختصر ابن منظور: 7 / 139، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2608، تهذيب الكمال للمزي: 6 / 416، تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 342، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 199، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 162.

للقتال، وكأنّه يشير إلى حركة الإمام (علیه السلام) نحو العراق، والحال أنّ الإمام (علیه السلام) لم يصرّح بأيّ شيءٍ في المدينة، ولا في الطريق بين المدينةومكّة، فإن كان ثمّة تصريحٌ للإمام (علیه السلام) بالخروج إلى العراق إنّما كان في مكّة وما بعدها.

النكزة الثالثة: إعلان وجهة الإمام (علیه السلام) !

قال له ابن عيّاش: أين تريد يا ابن فاطمة؟ قال: العراق وشيعتي ...

لا يخفى على مَن راجع المصادر التاريخيّة أنّ الإمام (علیه السلام) لم يصرّح بوجهته نحو العراق لأحدٍ من العالمين، في المدينة أو في الطريق منها إلى مكّة، إلّا بعض الاستثناءات الخاصّة جدّاً كأُمّ سلَمة، وإنّما صرّح بذلك في مكّة، بل ربّما قُبَيل خروجه منها.

* * * * *

من هنا فإن كان اللقاء والحوار قد تمّ، فيُرجَّح أن يكون عند خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة، لذا سنؤخّر مناقشته إلى هناك إن شاء الله (تعالى)، ولا ندخل هنا في تفصيل الكلام وكشف العوار في حديث ابن عمر وابن عيّاش.

ص: 209

ص: 210

دخول مكّة المكرّمة الدخول الهادئ

اشارة

دخل الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى مكّة دخولاً هادئاً عاديّاً كأيّ معتمرٍ أو قاصدٍ لبيت الله الحرام، ولم نسمع أحداثاً خاصّةً تفيد الاستعداد المسبَق من قبل أهل مكّة أو من قبل المعتمرين وأهل الآفاق المتواجدين يومها في مكّة، ولم نسمع -- فيما لدينا من المصادر -- أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) كان قد نسّق أو رتّب لدخوله مع أحد، أو أنّه أخبر أحداً من أهل مكّة أو غيرها من المجاورين أو الزائرين بقدومه من قبل، ولم يكن أيّ حشدٍ أو ترتيباتٍ مسبقةٍ من قِبل عامّة الناس ولا خاصّتهم لاستقباله.

ولم يبادر الإمام (علیه السلام) إلى إلقاء الخطَب وإثارة الحماس في الناس قُبيل وإبّان دخوله مكّة، وتحريضهم على الظالمين والغاصبين، ودعوتهم واستنهاضهم، وما شاكل ذلك ممّا يُتوقّع أن يفعله حسب التصوّر العام المرسوم لحركته المفترضة وخروجه بالمعنى المصطلح.

ص: 211

تلاوة قوله (تعالى): ﴿وَلمّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قال ...﴾

اشارة

فلمّا وافى (دخل) سيّد الشهداء (علیه السلام) مكّة ونظر إلى جبالها، جعل يتلو هذه الآية: ﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ﴾ ((1)) ((2))..

يمكن أن نتصوّر في تلاوة هذه الآية عدّة دلالات:

الدلالة الأُولى: المراد بالسبيل

يبدو واضحاً من سياق الآية أنّ المراد ب- ﴿السبيل﴾ هنا الّذي رجاه موسى (علیه السلام) ودعا به إنّما هو السبيل بمعنى (الطريق)، وليس الهداية إلى الحقّ، فهو ميزان الحقّ في زمانه، وهو الهادي الأمين، فالسياق يفيد أنّه استخار الله في الطريق الّذي يريد أن يسلكه لِينجو من القوم الظالمين،

ص: 212


1- سورة القصص: 22.
2- أُنظر: تاريخ الطبري: 5 / 343، الفتوح لابن أعثم: 5 / 37، الإرشاد للمفيد: 2 / 32، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار: 44 / 332، العوالم للبحراني: 17 / 181، نفَس المهموم للقمّي: 79، إعلام الورى للطبرسي: 223، مقتل الحسين (علیهما السلام) للخوارزمي: 1 / 189، الكامل لابن الأثير: 3 / 260، نهاية الإرب للنويري: 20 / 381، الفصول المهمّة لابن الصباغ: 183، المنتخب للطريحي: 2 / 422.

والمكان الآمن الّذي سيختاره له ربّ العالمين.

وقد وردت ﴿عسى﴾ بمعنى (قد) ((1))، وبمعنى (التحقّق)، وبمعنى(خليق) ((2))، وبمعنى (اليقين) ((3))، كما وردت بمعنى الترجّي، وعدم حملها على الترجّي هنا ربّما كان أوفق بالسياق وبعصمة القائل، إلّا أن تُفسَّر بالدعاء، وقد استجاب الله دعاءه.

الدلالة الثانية: قراءة الآية عند الخروج وتتمّتها عند الدخول

لمّا خرج الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة جعل يسير ويقرأ: ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ ((4))، وهي الآية 21 من سورة القصص، ثمّ سكت ولم يقرأ الآية الّتي تليها حتّى وصل إلى

ص: 213


1- تفسير القرطبي: 3 / 39.
2- تفسير القرطبي: 8 / 91.
3- تفسير القرطبي: 5 / 294.
4- أُنظر: تاريخ الطبري: 5 / 343، الفتوح لابن أعثم: 5 / 34، الإرشاد للمفيد: 2 / 32، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار: 44 / 332، العوالم للبحراني: 17 / 181، اعلام الورى للطبرسي: 223، مقتل الحسين (علیهما السلام) للخوارزمي: 1 / 189، الكامل لابن الأثير: 3 / 265، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 135، نهاية الأرب للنويري: 20 / 380، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 183، المنتخب للطريحي: 2 / 421.

مكّة، فنظر إلى جبالها فأتمّ قراءتها، فقرأ الآية 22 من نفس السورة: ﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ ...﴾..

وقد أتينا على تفصيل الحديث عن الآية الأُولى في بحث (ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة)، فلا نعيد.

قال الشيخ الطوسي في (التبيان):

وقوله: ﴿عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ﴾، حكاية ما قال موسى في توجّهه، فإنّه قال: عسى أن يدلّني ربّي على سواء السبيل، وهو وسط الطريق المؤدّي إلى النجاة، لأنّ الأخذ يميناًوشمالاً يباعد عن طريق الصواب، ويقرب منه لزوم الوسط على السنن، فهذا هو المسعى في الهداية، وقال الشاعر: (حتّى أُغيَّب في سواء الملحد)، أي: في وسطه ((1)).

وقال الطبرسيّ في (المجمع):

﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ﴾، التوجّهّ صرف الوجه إلى جهةٍ من الجهات ((2)).

وقال الفيض :

ص: 214


1- التبيان للطوسي: 8 / 141.
2- مجمع البيان للطبرسي: 7 / 427.

﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ﴾: قبالة مدين، قرية شعيب.. ولم يكن في سلطان فرعون، ﴿قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ﴾ في الإكمال.. فخرج من مصر بغير ظهرٍ ولا دابّةٍ ولا خادم، تخفضه الأرض مرّةً وترفعه أُخرى، حتّى انتهى إلى أرض مَديَن، فانتهى إلى أصل شجرةٍ فنزل فإذا تحتها بئر ((1)).

فكأنّ الإمام (علیه السلام) أبان بهذه التلاوة بداية الرحلة ونهايتها، وشرح عللها وأسبابها وظروفها من خلال الاستشهاد بقصّة موسى (علیه السلام) .

فإذا قلنا -- كما هو المشهور عند المفسّرين -- : إنّ موسى (علیه السلام) إنّما قالذلك بعد أن لزم الجادّة المؤدّية إلى مَديَن، فكأنّه أخبر عن بلوغه مأمنه، فإنّ الاستشهاد بالآية هنا يكون بمعنى أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قد جعل مكّة مأمنه المقصود له، وقد بلغه.

الدلالة الثالثة: استمرار الملاحقة

بعد أن جرى ما جرى.. سار الحسين (علیه السلام) من المدينة نحو مكّة، وجعل يسير ويقرأ: ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ ((2)).

ص: 215


1- تفسير الصافي للكاشاني: 4 / 85.
2- أُنظر: تاريخ الطبري: 5 / 343، الفتوح لابن أعثم: 5 / 34، الإرشاد للمفيد: 2 / 32، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار: 44 / 332، العوالم للبحراني: 17 / 181، اعلام الورى للطبرسي: 223، مقتل الحسين (علیهما السلام) للخوارزمي: 1 / 189، الكامل لابن الأثير: 3 / 265، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 135، نهاية الأرب للنويري: 20 / 380، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 183، المنتخب للطريحي: 2 / 421.

”تتحدّث الآية عن خروج النبيّ موسى (علیه السلام) إلى مَديَن بعد أن طلبه فرعون ليقتله بالرجل الّذي وكزه موسى (علیه السلام) فقضى عليه ((1)).. وقد قرأها سيّد الشهداء (علیه السلام) عند خروجه من المدينة لبيان الشبَه بين الخروجَين من حيث كونهما مطلوبَين للقتل، يبحثان عن مكانٍ آمنٍ ينجيهما الله به من القوم الظالمين.

وربّما لوّحت إلى أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) كان مطلوباً لفراعنة العصر بالدماء العفنة الّتي أراقها أبوه في رضا الله (تبارك وتعالى) دفاعاً عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعن دينه.

والفرق أنّ موسى بلغ مَديَن فأمن، ثمّ رجع.. وبلغ سيّد الشهداء (علیه السلام) كربلاء الأرض الموعودة، فقُتِل هناك ومَن معه وأناخ فيها رحله.. وسيرجع!“ ((2)).

ص: 216


1- أُنظر: تفسير القمّي: 2 / 137.
2- إقتباسٌ من بحث (ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة).

فلمّا وافى مكّة ودخلها تلا قوله (تعالى): ﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ﴾، في إشارةٍ إلى أنّ رحلة الملاحقة لا زالت، وهو لا زال في نفس الظرف الّذي خرج بسببه من المدينة، فهو يؤكّد أنّه لا زال مطلوباً هو وأهل بيته.

وهذا بناءً على أنّ مكّة ليست هي المقصودة، وإنّما المقصود موضعٌ آخَر يقوم مقام مدين، ومكّة إنّما هي الطريق المُفضي إليه، وقد توجّه من مكّة تلقاءه.

إنّ موسى (علیه السلام) قال ما قال حينما توجّه تلقاء مدين، لا حينما وافاها ودخلها، واستخار الله ودعاه أن يهديه سواء السبيل الّذي يريده ويحبّه ويرضاه له، فحينما تلاها سيّد الشهداء (علیه السلام) عندما وافى مكّة ودخلها، فكأنّه يريد أن يُشعِر بتلاوته لهذه الآية الشريفة أنّه قد بدأ بالرحلة، وما مكّة له بقرار، إذ أنّ التوجّه إلى مدين بدأ حين دخل مكة.. ومدين الّتي يريد الاستقرار بها تمرّ عبر مكّة، فهو في مكّة ضيفٌ في منازل الطريق حتّى يبلغ الأرض الموعودة الّتي سيستقرّ بها حتّى يأذن الله له بالانتقام.

الدلالة الرابعة: الاستخارة

في الآية رجاء أو دعاء، ﴿عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ﴾، فربّما أفاد هذا السياق أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) لمّا وصل إلى مكّة جعل يستخير الله بتلاوة هذه الآية.

ص: 217

وقيل: إنّه لمّا قدم مكّة قال: «اللّهمّ خِرْ لي، واهدني سواء السبيل» ((1)).

وقد ذكر لعدّة أفراد -- منهم ابن مطيع العدَويّ -- أنّه إذا بلغ مكّة استخار الله.

الدلالة الخامسة: طلب العافية والاستقرار في مكّة إلى حين

لمّا قال موسى (علیه السلام) هذا القول، استجاب الله دعاءه وقيّض له نبيّاً، ﴿قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمين﴾ ((2))، فأقام عنده إلى حين..

فتكون تلاوة سيّد الشهداء (علیه السلام) لهذه الآية بمثابة دعاءٍ للنجاة من القوم الظالمين، وهذا لا يمنع عن عزمه على الشهادة، إذ أنّه في الظاهر المنظور مطارَدٌ مطلوبٌ للقتل، وهو يريد أن يقيم عليهم الحجّة بالدفاع عن نفسه ودفع القتل عن أهل بيته، وهم المصرّون على ارتكاب الجناية العظمى في تاريخ البشريّة، فهو يريد أن يبلّغ العالَم أنّه قصد مكّة ليستقرّ بها ما استقرّ بهالمقام، ولا يقصد أكثر ممّا قصده موسى (علیه السلام) ، إذ كان يبحث عن مأمنٍ يكنّه عن القوم الظالمين، فخرج وهو يدعو الله أن ينجيه من القوم الظالمين، ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ ((3)

ص: 218


1- مع الركب الحسيني: 2 / 24.
2- سورة القصص: 25.
3- سورة القصص: 21.

وتوجّه تلقاء مدين وهو على هذا الرجاء، وقد هداه الله سواء السبيل، فبلغ مدين وقال له شعيب: ﴿لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمين﴾، وقد شاء الله أن يرى الحسين (علیه السلام) قتيلاً فكان هو السبيل!

وكيف كان، فإنّ تلاوة هذه الآية يفيد أنّ حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى تلك الساعة الّتي دخل فيها مكّة كانت حركةً لدفع القتل والاستئمان بالله، ولكفّ أيدي الظالمين والابتعاد عن طيشهم وإقدامهم على هتك الحرمات، تماماً كما فعل موسى (علیه السلام) ، وليس فيها طابعٌ يمكن استفادته من تلاوة هذه الآية يُشعِر بالتخطيط لهجومٍ أو الإشعار بإرادة الآخَر وتبييت القضاء عليه.

الدلالة السادسة: الإشعار بعدم تحديد المقصد الأخير

دأب المعصومون (علیهم السلام) على التعامل مع الناس وفق الموازين الظاهريّة، والعلم الظاهريّ، وهذا لا يتنافى مع ما منحهم الله من علمٍ لا يُحَدّ،وقد خرج موسى (علیه السلام) من المدينة خائفاً وتوجّه تلقاء مدين وقال: عسى أن يهديَني ربّي سواء السبيل، وكأنّ مدين لم تكن هي المقصودة بالذات، وإنّما كان المقصود بالذات هو الوصول إلى مكانٍ آمنٍ ينجو به من القوم الظالمين، فإن كانت مدين فقد حصل المطلوب، وإلّا ففي غيرها..

وهذا تماماً ما ذكره المولى ابن الحنفيّة في كلامه من قصد مكّة، فإن نبَتْ به فاليمن، فإن نبَتْ به فغيرها من البلدان والصحارى والجبال.. وقد أكّد سيّد الشهداء (علیه السلام) ذلك ووعد أن يستخير الله إن نبَتْ به مكّةُ ولم

ص: 219

يحفظ أهلها رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيه ولم يحفظوا حرمتها، فهو يريد أن يقول أنّه يبحث عن المكان الآمن من دون تحديدٍ له على وجه الخصوص.

ص: 220

لماذا قصد الإمام (علیه السلام) مكّة أوّلاً؟

اشارة

كان الخيار الأوّل الّذي تحرّك نحوه الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) هو حرم الله الآمن مكّة، فإذا بحثنا عن الأسباب والدواعي الّتي جعلَت مكّة البلد الأوّل الّذي نحا نحوه الإمام (علیه السلام) ، نجدها على قسمين:

القسم الأوّل: غير المنصوص

اشارة

نقصد بالدوافع والأسباب غير المنصوصة ما لم يرد فيها تصريحٌ عن الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) نفسه أو من غيره حسب ما نقله المؤرّخ، وإنّما هي تصوّراتٌ وتحليلاتٌ نتجت عن التأمّل وملاحظة الظروف ومجريات الأحداث، ويمكن بيانها من خلال العوامل التالية:

العامل الأوّل: حصانة مكّة

تتوفّر مكّة على عوامل كثيرة يمكن أن تشكّل دفاعاتٍ لسيّد الشهداء (علیه السلام) وحاجزاً للطغاة من التعدّي على حرم الله، نكتفي هنا بالإشارة العجلى دون التفصيل، وإن كانت كلّ واحدةٍ منها تحتاج إلى بحثٍ مستقلّ:

ص: 221

فهي من جهةٍ مكّة الحرم الإلهيّ الآمن.

وهي بيت الله الحرام، الّذي تهوي إليه أفئدة الناس وقلوبهم، وملاذ العباد ومحلّ استجارتهم وموضع جوارهم.

وهي موطن أهله وعشيرته، ومسكن قريش وأحلافها الّتي شارك فيها جدّه (صلی الله علیه و آله) .

وهي مختلف المسلمين ومجمع الحجّاج والمعتمرين، سيّما أنّه قد دخلها في أشهُر الحجّ..

فإن كان للحرم عند القوم حُرمةٌ لَامتنعوا عنه.

وإن كان للمسجد الحرام وبيت الله عندهم حُرمةٌ لَامتنعوا عنه، وهو قد سكن في دارٍ لا تبعد عن المسجد الحرام إلّا بعض الأمتار.

وإن كان لرجالات القوم حرمة، فقد نزل في دار عمّه العبّاس.

وإن كان للرحم والدوافع القبليّة والعشائريّة عندهم حرمة، فقد نزل بين ظهراني قريش وبطونها وأفخاذها.

وإن كانت لموازين العرب وقيَمها وأحلافها عندهم حرمة، فقد دخل البلد الّذي أُعلن فيه حلف الفضول وغيره، فقد دعا الزبير بن عبد المطّلب إلى حلف الفضول، وعقد الاجتماع في دار عبد الله بن جدعان، وغمسوا أيديهم في ماء زمزم، وتحالفوا وتعاقدوا على نصرة المظلوم، والتأسّي بالمعاش، والنهي عن المنكر، وكان أشرف حلف.

ص: 222

والمتحالفون على ذلك هم: بنو هاشم، وبنو المطّلب، وبنو أسد بن عبد العزّى، وزهرة، وتَيم.

وأنكر البعض أن يكون بنو أسد بن عبد العزّى في حلف الفضول، وقالوا: إنّ عبد الله بن الزبير قد ادّعى ذلك لهم في الإسلام.

وقد حضر هذا الحلف نبيّنا الأعظم (صلی الله علیه و آله) ، وأثنى عليه بعد نبوّته وأمضاه، فقد رُوي أنّه (صلی الله علیه و آله) قال: «ما أُحبّ أنّ لي بحلفٍ حضرتُه في دار ابن جدعان حمر النعم، ولو دُعيت به لَأجبت»، أو ما هو قريبٌ من هذا ((1)).

وإن كان لقيم الإسلام وأحكامه وتعاليمه عندهم حرمة، فقد نزل بين ظهراني المسلمين الّذين توافقوا على حرمة آل النبيّ (صلی الله علیه و آله) ووجوب تعظيمهم ومودّتهم ومحبّتهم والذبّ والدفاع عنهم، وقد تواترت أخبارهم وسمعوها عن النبي (صلی الله علیه و آله) مباشرةً أو بالوسائط: «حسين منّي وأنا من حسين»، «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة».

هذا إلى غيرها من الدوافع الّتي يمكنها أن تشكّل جدار حمايةٍ وعوامل صدٍّ ودفعٍ لعدوان المعتدين، وتقطع أيدي الطغاة والمجرمين.

فمكّة يمكن أن تكون مأمناً وحاجزاً للقوم عن ارتكاب الجريمة العظمى بكلّ الحسابات.

ص: 223


1- أُنظر: الصحيح من سيرة النبيّ الأعظم (صلی الله علیه و آله) للعاملي: 2 / 229.

العامل الثاني: قربها من المدينة

تُعدّ مكّة المكرمة أهمّ حاضرةٍ من حواضر الإسلام على الإطلاق يومها، فهي لها مركزها وموقعها المؤثّر قبل الإسلام، وصارت بعد الإسلام قِبلة المسلمين ومهوى أفئدتهم وموضع حجّهم ومقام إقامة شعائرهم، ومحلّ اجتماعهم، وهي أقرب حاضرةٍ بهذا المستوى إلى المدينة المنوّرة، فربّما كان القرب الجغرافيّ عاملاً قويّاً يؤهّلها لتكون الموضع الأوّل الّذي يمكن أن يتوجّه إليه سيّد الشهداء (علیه السلام) بعد أن نبَتْ به المدينة وخذلَته، وتنكّرت لبيعتها مع النبيّ (صلی الله علیه و آله) في الدفاع عنه وعن أهله.

العامل الثالث: توفّر الغطاء المسوّغ

لقد خرج الإمام (علیه السلام) في أشهر العمرة والحجّ، وبيتُ الله يُقصَد في كلّ حين، فكان خروجه نحو مكّة مسوَّغاً وفق الموازين الدينيّة والاجتماعيّة، ولا يُعدّ حركةً غير طبيعيّة، ولا يمكن لأحدٍ أن يحمّلها شحناتٍ ذات أبعاد ومقاصد.

فمن الطبيعيّ لأيّ مسلمٍ -- فضلاً عن سيّد المسلمين -- أن يقصد بيت الله معتمِراً أو مجاوراً أو حاجّاً، وقد كان مسيره في الجادّة العظمى على عين الملأ، ولم يتنكّب الطريق، وحينما سألوه عن سبب قدومه إلى مكّة أجاب أنّه جاء مستجيراً بالله لائذاً ببيته.وبهذا انتزع الإمام (علیه السلام) الحجج من أيدي أعدائه، وسدّ عليهم طريق

ص: 224

التوظيف الإعلاميّ المعادي، ومنعهم من التهويل، وقضى على ما يمكن أن يسخّروه في تجريمه وتحميله مسؤولية الابتداء بالهجوم والتجييش والتحريض.

العامل الرابع: توظيف فرصة تجمّع المسلمين

اشارة

أفاد جماعةٌ أنّ الإمام (علیه السلام) إنّما قصد مكّة أيّام الحجّ باعتبار أنّ مكّة ستضمّ أكبر عددٍ من المسلمين من جميع الأصقاع، ويكون فيها مؤتمرٌ عالميٌّ يوفّر للإمام (علیه السلام) الأجواء المناسبة لمخاطبتهم وتجييشهم وتحريضهم وتحريك الكامن في ضمائرهم ونفخ الروح في وجدانهم، وبهذا يتمكّن مِن كسب الأصوات واستمالة الآراء وتوظيف الأفكار وتعبئة الرجال، وما إلى ذلك..

ولا يبدو هذا الكلام على مستوىً من المتانة، بل كأنّه لا يرتقي إلى أكثر من تحليلٍ يقوم على أساس السوابق الذهنيّة المفترضة الّتي ترسم أسباب وعلل خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة ودخوله مكّة ضمن تصوّراتٍ خاصّة.

وذلك للأسباب التالية:

السبب الأوّل: التوقيت الاضطراري

لقد تبيّن لنا من خلال دراسة (ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة) أنّ الإمام (علیه السلام) كان يعيش حياته مترسّلاً، فاستحضره القوم وألزموه بالبيعة، وخيّروه بينها وبين القتل، فأبى أبيُّ الضيم أن يقبل بالدنيّة، وعزم

ص: 225

على الرحيل لئلّا تُهتَك بدمه المقدّس حرمة المدينة، وخرج وهو يتلو قوله (تعالى): ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ ...﴾، فكان خروجه (علیه السلام) تحت أحكام الضرورة القاهرة بحكم مواقف القوم، ولم يكن للتوقيت كثيرُ أثرٍ في خروجه من هناك.

أجل! قد يُقال: إنّ التوقيت ليس له أثر، ولكنّ البلد بما هو مكّة له الأثر في الاختيار مقابل البلدان الأُخرى.

السبب الثاني: مواقف الإمام (علیه السلام) في مكّة

التأمّل في النصوص التاريخيّة يفيد أنّ الإمام (علیه السلام) لم يمارس أيّ نوعٍ من أنواع التجييش والتحريض على السلطة، ولم يدْعُ العموم إلى البيعة والنصرة، ولم يعقد اجتماعاتٍ ذات طابعٍ مميّز يشير إلى ما ذكروه..

والناس في مكّة كانوا في شُغلٍ عن سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ولا يبدو أنّهم كانوا يشعرون بأيّة مسؤوليّةٍ تجاه وديعة الرسول (صلی الله علیه و آله) وريحانته؛ جهلاً منهم أو عمايةً وضلالاً أو حقداً وعناداً أو لأيّ سببٍ آخَر، وقد ذكرنا هذا المعنى في أكثر من موضع، فلا نعيد.

قد يُقال:

إنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) لا يمكن أن يقصد مكّة وأهلها، لأنّه كان يعلم عداوتهم له ولأبيه، وأنّهم يطلبونه بثارات فطائسهم!

غير أنّ هذا الكلام قد لا يكون وجيهاً أيضاً، إذ أنّ الإمام (علیه السلام) قصد

ص: 226

المكان وهو الحرم الآمِن لمَن دخله من جهة، ولأنّه أقام عليهم الحُجّة بحضوره بين ظهرانيهم وفق كلّ الموازين السائدة يومذاك، سواءً كانت موازين ما قبل الإسلام أو ما بعده، على ما ذكرناه قبل قليل.

وقد رأيناه -- فداه العالمين -- قد قصد الكوفة وهو يعلم غدرهم وما فعلوه بأبيه وأخيه (علیهما السلام) ، بَيد أنّه قصد الثلّة القليلة من الديّانين، وأقام الحجّة على البقيّة الّتي كان الدين لعقاً ولغواً على ألسنتها.. على تفصيلٍ سيأتي في محلّه إن شاء الله (تعالى) عند الحديث عن إقامته (علیه السلام) في مكّة وتوجّهه نحو الكوفة.

القسم الثاني: المنصوص

اشارة

نقصد بالأسباب والدوافع والعوامل المنصوصة ما صرّح به سيّد الشهداء (علیه السلام) نفسه، وما نصّ عليه التاريخ، ويمكن أن يُشار إليها من خلال التصريحات التالية:

التصريح الأوّل: تصريح سيّد الشهداء (علیه السلام) بعلّة قدومه إلى مكّة

اشارة

لقد صرّح سيّد الشهداء (علیه السلام) بعلّة قدومه إلى مكّة حينما سأله واليها يومذاك عمرو بن سعيد الأشدق عن سبب قدومه إليها، فأجابه أنّه جاء عائذاً بالله وبالبيت الحرام الّذي جعله اللهُ آمناً، كما روى سبط ابن الجوزيّ فقال:

ص: 227

فلمّا دخلها قال له عمرو بن سعيد الأشدق -- وكان والي مكّة -- : ما أقدمَك؟ فقال: «عائذاً بالله وبهذا البيت»! ((1))

وفي هذا التعليل تصريحٌ وتلويحاتٌ واضحة:

التلويح الأوّل: التصريح بسبب القدوم

التلويح الأوّل: التصريح بسبب القدوم

التلويح الأوّل ((2)): التصريح بسبب القدوم

كان جواب الإمام (علیه السلام) -- وفق نقل سبط ابن الجوزيّ -- واضحاً صريحاً جليّاً للتعبير عن سبب قصد مكّة بالذات، فهي الحرم الآمن وبيت الله الحرام الّذي يلوذ به الناس ويعوذون به، وقد جاء سيّد الشهداء (علیه السلام) لهذا الغرض أساساً.

التلويح الثاني: التلويح بالمطاردة

يفيد التعليل أنّ الإمام (علیه السلام) كان مطارَداً مهدَّداً، يمكن أن يتوفّر على الأمان في البيت الّذي جعله الله ملاذاً ومعاذاً للعالمين.ربّما يقال: إنّ هذا التصريح لفظٌ مستعمَلٌ تواضع على إطلاقه المجاورون لبيت الله الحرام، فلا يمكن أن يُستفاد منه أنّه كان مطارداً مهدَّداً.

فيقال: بالرغم من عدم مساعدة السياق على هذا القول، إلّا أنّه مع

ص: 228


1- أُنظر: تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 135.
2- التعبير بالتلويح هنا مسامَحٌ فيه لرعاية السياق!

هذا الفرض يفيد أنّ الغرض من دخول مكّة هو المجاورة وملازمة البيت الحرام ليس إلّا، إن استقرّ به المقام.

التلويح الثالث: خلوّ التصريح من التهديد وما بمعناه

يبدو واضحاً أنّ التصريح يخلو تماماً من أيّ لغة تهديدٍ بالتخطيط والإعداد والاستعداد لأمرٍ مبيَّتٍ وتحريض الناس وتجميع القوى وما شاكل، ممّا يمكن أن يُشعر الوالي أنّ الإمام (علیه السلام) إنّما قدم إلى مكّة بقصد الخروج على الحاكم بالمعنى الاصطلاحي، أو ما يشير إلى ذلك.

التلويح الرابع: مناسبة الجواب للسؤال

لمّا اقتصر الأشدق على السؤال عن سبب القدوم إلى مكّة، ردّ عليه سيّد الشهداء (علیه السلام) بما يكون جواباً مُقنِعاً له، وهو الصادق المصدَّق، ولو كان الأشدق حينها قد طلب البيعة من الإمام (علیه السلام) أو أشار إلى ذلك، فربّما كان الجواب يختلف عمّا سمعه.

وبعبارةٍ أُخرى: إنّ الأشدق لم يطلب في ذلك الموقف من الإمام (علیه السلام) البيعة ولا غيرها ممّا سبّب له الخروج من المدينة، فإنّ الإمام (علیه السلام) أجابه بهذاالجواب الّذي يُنبئ عن المراد المقصود للإمام (علیه السلام) من دخول الحرم الإلهي.

التصريح الثاني: الإمام (علیه السلام) يُخبِر ابنَ عبّاسٍ أنّه جاء مكّة مستجيراً

كتب يزيد كتاباً مفصّلاً لابن عبّاس يفتري فيه على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأنّه قد بلغه أنّ أهل العراق يكاتبونه ويكاتبهم ويمنّونه

ص: 229

الخلافة ((1)) ويمنّيهم الإمارة، في خبرٍ طويل، فأجابه ابن عبّاس، وكان ممّا أجابه:

وأمّا الحسين، فإنّه لمّا نزل مكّة وترك حرم جدّه ومنازل آبائه سألتُه عن مَقدَمه، فأخبرني أنّ عمّالك بالمدينة أساؤوا إليه وعجّلوا عليه ((2)) بالكلام الفاحش، فأقبل إلى حرم الله مستجيراً به ((3)).

فهذا هو التصريح الثاني الّذي يُنقل عن سيّد الشهداء (علیه السلام) يؤكّد فيه أنّه إنّما قَدِم مكّة مستجيراً من ظلم الظالمين وملاحقة الأعداء والمجرمين، بعد أن أساؤوا إليه وعجّلوا عليه بالكلام الفاحش.

وقد أكّد ابن عباسٍ ليزيد القرود أنّ ما جاء بسيّد الشهداء (علیه السلام) إلى مكّة إنّما هو ردّ عادية القرد المسعور، وليس لأمر مبيَّتٍ يقصد القرد المخمور، حيث كتب له -- كما ورد في لفظ ابن سعدٍ وغيره -- : (وإنّي أرجو أن لا

ص: 230


1- يُنظَر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 210، تهذيب ابن بدران: 4 / 330، مختصر ابن منظور: 7 / 141، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 419، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164.
2- يُنظَر: الأمالي للشجري: 1 / 182.
3- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136.

يكون خروج الحسين لأمرٍ تكرهه) ((1)).. يعني بذلك -- كما يفيد السياق -- خروجه إلى مكّة.

التصريح الثالث: تصريح الإمام (علیه السلام) أنّه جاء مستوطِناً

اشارة

في خبرٍ طويلٍ رواه ابن أعثم والخوارزميّ ستأتي الإشارة إليه، ذكر فيه حواراً بين سيّد الشهداء (علیه السلام) والعبدَين ابن عبّاسٍ وابن عمر، جاء فيه:

ثمّ أقبل على عبد الله بن عبّاس وقال له: «وأنت يا ابن عبّاس ابن عمّ أبي ...»، إلى أن قال:

«فإنّي مستوطنٌ هذا الحرم، ومقيمٌ فيه أبداً ما رأيتُ أهلَه يحبّونني وينصرونني، فإذا هم خذلوني استبدلت بهم غيرهم، واستعصمت بالكلمة الّتي قالها إبراهيم يوم أُلقي في النار: حسبيَ الله ونعم الوكيل. فكانت النار عليه برداً وسلاماً» ((2)).

ويمكن أن نلخّص الكلام في هذا التصريح بالنقاط التالية:

ص: 231


1- يُنظَر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 210، تهذيب ابن بدران: 4 / 330، مختصر ابن منظور: 7 / 141، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 419، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164.
2- الفتوح لابن أعثم: 5 / 38 وما بعدها، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 190 وما بعدها.
النقطة الأُولى: الاستيطان والإقامة أبداً

في هذا المقطع من الحوار بيانٌ واضحٌ وصريحٌ لا لبس فيه ولا تغبيش، ولا تعمية ولا تشويش، ينصّ فيه الإمام (علیه السلام) بكلّ وضوحٍ وجلاءٍ على سبب القدوم إلى مكّة، فهو يريد اتّخاذ مكّة وطناً يستقرّ فيه ويتوطّن، ويريد أن يقيم فيه أبداً.. أي: أنّه دخل مكّة كي لا يخرج منها، وإنّما يبقى فيها بقيّة العمر، وربّما كان هذا من أوضح معاني الاستيطان والإقامة الأبديّة.

فإذا لاحظنا تصريحه في نفس الحوار عن سبب خروجه من المدينة، وأنّه كان مطارداً مطلوب الدم، فخرج -- حسب النصّ -- مرعوباً خائفاً لئلّا تُهتَك به حرمة المدينة، بالإضافة إلى الدلائل والمؤشّرات الأُخرى الدالّة على نفس المضمون.

ولاحظنا أيضاً أنّه كان مطالَباً بمناولة القرد المخمور المسعور، وأنّه لن يقبل بالدنيّة ولن يؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، يتبيّن لنا أنّه إنّما قدم إلى مكّة ليستوطنها ويقيم بها أبداً باعتبارها الحرم الآمن الّذي لا يفزع فيه من دخله.

أجل، إذا كان الحرم لا يوفّر له هذا الأمان لِجرأة الطاغي على حرمات الله، فالإمام (علیه السلام) يأبى أن تهتَك به حرمة البيت الحرام، تماماً كما أبى أن تهتك به حرمة المدينة المنورة، وسيكون حينئذٍ موقفٌ آخَر سنسمعه فيما يلي.

ص: 232

إذن!

ما يفيده هذا النصّ الصريح أنّ الإمام (علیه السلام) إنّما قصد مكّة ليستوطن فيها ويقيم فيها أبداً، بعد أن أُزعج وأُخرج من مدينة جدّه (صلی الله علیه و آله) ومولده اضطراراً.. وليس في الكلام سابقاً ولاحقاً ما يفيد -- ولو إشارةً -- أنّ له غرضاً آخَر غير ما ذكرنا من دخول مكّة، والله العالم.

النقطة الثانية: شرط البقاء
اشارة

لقد اشترط الإمام (علیه السلام) للاستيطان في مكّة والإقامة بها أبداً شرطاً ذا شعبتين:

الشعبة الأُولى: الحبّ

الشعبة الأُولى الّتي ذكرها الإمام (علیه السلام) قال: «ما رأيتُ أهله يحبّونني»، فهو علّق البقاء على ما سيراه منهم، والمناط هنا ما يُظهرونه له من الحبّ والنصرة، لا فيما يضمرونه له في قلوبهم، ولا بما يعلمه هو بما منحه الله وخوّله من علم الإمامة وما أطلعه الله على قلوب العباد ومنويّاتهم ومستقبلهم.

المطلوب: أحبّوني! أحبّوه شخصيّاً! أحبّوه هو بالذات..

وممّا لا يشكّ فيه أحدٌ يزعم أنّه يؤمن بالله والنبيّ (صلی الله علیه و آله) واليوم الآخِر أنّ حبّ الحسين (علیه السلام) -- كما هو حبّ أهل البيت (علیهم السلام) جميعاً -- واجبٌ مفروضٌ من الله على العباد، وهو تكليفٌ إلهيٌّ وفرضٌ دِينيٌّ نصّ عليه القرآن الكريم

ص: 233

والنبيُّ الأمين (صلی الله علیه و آله) ، وأكّدَته الشريعة الربّانيّة بكلّ الوسائل.. ولسنا بصدد التدليل على ذلك وسرد النصوص المقدّسة المصرِّحة بذلك، فإنّ ذلك من بديهيّات الدين وضروريّات الإسلام، ولتفصيل الكلام فيها موضعٌ آخَر.

فبغضّ النظر عن هذا، فإنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) هو بذاته محبوبٌ يتوفّر على كلّ خصلةٍ ومحمدةٍ وخُلُقٍ عظيم، وهو (ربّ النوع) لكلّ ما جعله الإنسان طول التاريخ من مُثلٍ وقيَمٍ كرّسها في الآلهة الّتي اصطنعها لنفسه كلّما عجز عن الوصول إلى الغاية في خصلةٍ من خصال الخير..

فهو الجمال، وهو الكمال، وهو الحبّ، وهو المودّة، وهو الرحمة، وهو العطاء والسخاء، والغوث، وكلّ ما يمكن أن يحبّه الإنسان السويّ..

وهو القائد، وهو الإمام، وهو الزعيم، وهو السيّد، وهو كلّ أملٍ يرجوه الإنسان في دنياه وآخرته..

ولو أردنا استقصاء ما في الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) من خصالٍ تأسر القلوب، وتأخذ بالعقول، وتسخّر الألباب، وتستجيش العواطف، لَطال بنا المقام..

فهو محبوبٌ فرضاً من الله، ومحبوبٌ بحسب فطرة الإنسان السويّ وطبعه وقيَمه وأخلاقه ومُثُله وتطلّعاته.

مع ذلك لم يطلب منهم ولم يكلّفهم أكثر من أن يحبّوه، بل أن يرى منهم ذلك! «ما رأيتُ أهله يحبّونني»!

ص: 234

رُوي عن الصادق (علیه السلام) : «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : إنّ حبّ عليٍّ قُذِف في قلوب المؤمنين، فلا يحبّه إلّا مؤمنٌ ولا يبغضه إلّا منافق، وإنّ حبّ الحسن والحسين قُذِف في قلوب المؤمنين والمنافقين والكافرين، فلا ترى لهم ذامّاً» ((1)).

فمن أيّ أصناف المخلوقات كان أُولئك الّذين عاصروا الإمام (علیه السلام) أيّام تواجده في مكّة المكرّمة؟

إنّهم لم يُبدوا له الحبّ، عصياناً وعتوّاً على أمر الله وأمر رسوله (صلی الله علیه و آله) ، وتمرّداً على القرآن والسنّة المطهّرة، ومجانبةً للفطرة السليمة والذوق البشريّ والطبع الإنسانيّ، ومفارقةً لكلّ ما يمكن أن يجعلهم في صنف ذوي الإحساس والشعور والمعرفة وتتبّع الخير واستشعار الجمال وإدراك السموّ والأخلاق والرفعة ...

إنّهم أعرضوا عن وجه الله ولم يحبّوه، ولو أحبّوه لَما خرج عن مكّة، فلمّا خرج عن مكّة عرفنا أنّهم لم يعوا شرطه، ولم يلتفتوا إليه، ولم يُظهِروا له سوى وجوهاً ميتةً منطفأةً كالحةً عبوسةً مكفهّرة، وقلوباً منكوسةً معكوسةً متعوسةً منحوسة..

ص: 235


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 47 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف، بحار الأنوار: 43 / 281 الباب 12.
الشعبة الثانية: النصرة

النصرة، كما أشرنا إلى المقصود منها مراراً عديدةً كلّما دعَت مناسبة الحديث إلى بيانها، فإنّها هنا وفق مجريات الأحداث ومقتضيات الظروف وما تفرضه الأجواء الّتي خيّمَت على المدينة يوم نزح عنها ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وحبيب الله ورسوله، والأجواء التي ظلّلت مكّة يوم أقام فيها قبل الخروج منها حين كان الإمام (علیه السلام) مهدور الدم، مطلوب الرأس، محكوماً بالقتل، ومرصوداً متربَّصاً به للاغتيال أو الأسر، كما أفادت النصوص المُشار إليها في أكثر من موضع، كلّ ذلك شاهدٌ على أنّ المقصود بالنصرة إنّما هو الذبّ والدفاع عن ابن بنت النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، ودفع القتل عنه، ومنع عادية القرود المسعورة وكبحها وقصّ مخالبها وأظفارها، لئلّا تنشب بريحانة النبي (صلی الله علیه و آله) ، فتقضي ديونها منه ومن أبيه وجدّه (علیهم السلام) ، وتنتقم وتثأر لفطائسها في بدر وأُحُد وغيرها من مشاهد النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأخيه أمير المؤمنين (علیه السلام) .

هذا هو المطلوب في تلك الأيام.. دفع القتل عن ابن النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وحفظ النبيّ (صلی الله علیه و آله) في ولده.. والدلالات في المتون التاريخيّة صريحةٌ واضحةٌ بيّنةٌ في ذلك.

وعلى فرض عدم التسليم بها -- إن أمكن ذلك، وهو بعيدٌ لصراحة المتون --، فإنّه القدَر المتيقّن الّذي لا يشكّ فيه مَن يقرأ التاريخ متصفّحاً،فضلاً عمّا إذا كان متأمّلاً.

وبهذا القدر المتيقّن أيضاً خانت الأُمّة بعهودها، وتنكّرت لبيعتها مع

ص: 236

النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وأخلفت وعودها، وتركت ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ولم تدفع عنه، ولم تمنعه، بل لم تعِدْه النصرةَ ولو كذباً، ولم تبرز له أيّ بادرةٍ تجعله يبقى في مكّة البلد الآمن، وهي قد تجمّعت للحجّ تطوف على أحجار الكعبة وتتنقّل في المشاعر المقدّسة.

لقد صرّح التاريخ وأبان الإمامُ (علیه السلام) نفسه -- فداه العالمين -- أنّه إن بقيَ في مكّة سيغتاله الطغاة، وأنّه إن بقيَ فإنّه مقتولٌ لا محالة، ولهذا عجّل الخروج من مكّة ولم ينتظر الموسم حتّى ينقضي، ولو كان فيهم عِرقٌ ينبض أو صبابةٌ من بقايا غيرة تجيش في أعماق النفوس لَمنعوه!

لقد تعجّل الإمام (علیه السلام) الخروج، وخرج بالفعل، وهذا يعني أنّهم لم ينصروه أبداً، ولم يعِدُوه النصر والدفاع عنه، بل يبدو لمن تأمّل في النصوص التاريخيّة أنّهم مارسوا طقوسهم وكأنّ شيئاً لم يكن.. «ما رأيتُ أهله يحبّونني وينصرونني!!».

النقطة الثالثة: فرض عدم توفّر الشرط

بغضّ النظر عن علم الإمام والإمامة، فإنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) يعرف القوم، وقد عركهم وخبرهم كأبرز شخصيّة وأهمِّ رمزٍ عاصر محنة الإسلام والحقّ منذ عهد النبيّ (صلی الله علیه و آله) والسقيفة والشورى، وفتنةِ عثمان والتحكيم وما تلاهامن أحداث جرت على مرأى ومسمع منه، وقد رأى الناس في المدينة ومكّة والكوفة وغيرها من الحواضر والبلدان الّتي كانت تُسمّى يومها بلاد

ص: 237

المسلمين..

فالإمام (علیه السلام) يعرفهم من خلال سلوكهم وسوابقهم المعروفة -- وهو أعرف الخلق بالخلق --، لذا افترض فيهم أن يخذلوه، فقال: «فإذا هم خذلوني»..

مَن المقصود؟

أهل مكّة؟

المجاورون؟

الحجّاج والمعتمرون؟

وربّما كان المقصود جميع هؤلاء.. فإيّ واحدٍ كان قد دخل مكّة يومذاك يمكن أنّ يحبّ الإمام الحسين (علیه السلام) وينصره ولا يخذله.

وقد صدق (علیه السلام) ، وهو الصادق المصدّق، إذ أنّه جعل خذلانهم فرضاً مقابل فرض المحبّة والنصرة، فخذلوه بالفعل ولم ينصروه! سواءً كان قد استنهضهم واستنصرهم ودعاهم أو لم يفعل ذلك..

فإن كان قد استنهضهم واستنصرهم فخذلوه، فتلك الطامّة الكبرى..

وإن كان لم يفعل ذلك، فهذا يعني أنّه لم يعدّ العدّة لأمرٍ ما، وإنّما كان لا يبغي منهم أكثر من الدفاع عنه، وكان عليهم أن يدفعوا عنه كمسلمٍ منالمسلمين قد دخل بيت الله مستأمناً مستجيراً لائذاً عائذاً بالله، فضلاً عن كونه سيّد شباب أهل الجنّة وابن النبيّ (صلی الله علیه و آله) وريحانته ووديعته في أُمّته، إذ أنّهم كفروا بأمر الله وكذّبوا رسوله (صلی الله علیه و آله) ولم يقبلوه إماماً مفترض

ص: 238

الطاعة منصوباً من الله (عزّ سلطانه).

وبهذا نعرف مدى خذلان القوم لسيّد الشهداء (علیه السلام) وريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، إذ كان بمستوىً بحيث لو هجموا عليه وأرادوا قتله واغتياله لَما ردّهم أحدٌ أبداً من أُولئك الغوغاء وأشباه المسلمين الّذين ملؤوا مكّة والمطاف والمشاعر يومها ضجيجاً وعجيجاً!

النقطة الرابعة: البديل
اشارة

هنا قدّم الإمام (علیه السلام) البديل في حال خذله القوم ولم يحبّوه، وجاء البديل ضمن موقفين مترابطين يتمّم أحدهما الآخر:

الموقف الأوّل: الاستبدال

«استبدلت بهم غيرهم»..

جاء في حديث الأربعمئة المعروف من كلام أمير المؤمنين (علیه السلام) :

«عليكم بالمحجّة العظمى فاسلكوها، لا تستبدل بكم غيركم» ((1)).وورد في كثيرٍ من الأدعية الشريفة عن أهل البيت (علیهم السلام) توسّل العبد بالله أن يجعله ممّن ينتصر به لدينه ولا يستبدل به غيره..

وأن يستبدل الإمام (علیه السلام) قوماً بغيرهم يعني أنّ الله يستبدلهم.. يعني

ص: 239


1- الخصال للصدوق: 2 / 633.

أنّهم ليسوا ممّن ينتصر الله بهم لدينه.. يعني أنّهم خذلوا الله وخذلوا رسوله (صلی الله علیه و آله) فخذلهم وأوكلهم إلى أنفسهم..

وقد افترض الإمام خامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) فرضاً أن لو خذلوه ولم ينصروه فإنّه سوف يستبدل بهم غيرهم.. بمعنى أنّه سيغادر بلدهم ويتركهم ويرحل إلى قومٍ آخَرين، يخرج إلى حيث يجد مَن يدفع عنه وينصره ويمنع عنه عادية الطغاة، يهاجر إلى حيث أمره الله وأعدّ له نصره، ليجعل كلمة الّذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا، والله عزيزٌ حكيم.

كلمات الإمام (علیه السلام) تذكّرنا بقوّةٍ بما جرى في هجرة النبيّ (صلی الله علیه و آله) من مكّة، وترسم لنا مشهداً متطابقاً مع تلك المرحلة من حياة الإسلام.. قال (تعالى):

﴿إلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَليماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَديرٌ * إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُعَزيزٌ حَكيم﴾ ((1)).

فاستبدالهم بقومٍ آخَرين سيكون فيه العزّة والنصرة له، والخزي والعار والذلّ والصغار لأعدائه وخاذليه.

ص: 240


1- سورة التوبة: 39 و40.
الموقف الثاني: الاستعصام بكلمة إبراهيم (علیه السلام)

«واستعصمتُ بالكلمة الّتي قالها إبراهيم يوم أُلقيَ في النار: حسبي الله ونعم الوكيل. فكانت النار عليه برداً وسلاماً»..

ورد في الأحاديث الشريفة:

إنّ إبراهيم الخليل (علیه السلام) لمّا أُريد قذفه في النار، فرُميَ به في المنجنيق، فبعث الله جبرئيل فقال له: أدرِكْ عبدي. فجاء فلقيَه في الهواء، فقال له: كلِّفْني ما بدا لك، فقد بعثني اللهُ لنصرتك. فقال إبراهيم: حسبيَ اللهُ ونعم الوكيل، إنّي لا أسأل غيره ولا حاجة لي إلّا إليه ((1)).

وفي لفظٍ آخَر:

قال: لا أقترح على ربّي، بل حسبيَ اللهُ ونعم الوكيل ((2)). فكانت النار عليه برداً وسلاماً.وبهذا أعلن الإمام (علیه السلام) أنّه في غنىً عن العالمين، ولا يحتاج أحداً من أهل مكّة للدفاع عنه ولا لنصرته، فهو في حمى الله، وهو متوكّلٌ عليه، وهو نِعم الوكيل، وهو لا يحتاج سوى ربّه وبه قد استعصم.. فمن خذل! إنّما

ص: 241


1- أُنظر: الاحتجاج للطبرسي: 1 / 24، تفسير الصافي للكاشاني: 1 / 504، بحار الأنوار: 9 / 260.
2- الدعوات للراوندي: 168.

غرّته الدنيا وباع حظّه بالأرذل الأدنى، وشرى آخرته بالثمن الأوكس، وتغطرس وتردّى في هواه، وأسخط نبيّه، وأطاع من أهل الشقاق والنفاق وحملة الأوزار المستوجبين النار..

أمّا الإمام الحسين (علیه السلام) نفسه، فلا يضرّه كيدهم شيئاً، ولا يحتاج نصرتهم، والله وليّه وناصره وحاميه.

النقطة الخامسة: التشبيه بإبراهيم الخليل

إنّ استعصام الإمام (علیه السلام) بكلمة جدّه إبراهيم الخليل (علیه السلام) أشار إلى المشهد الذي تعرّض له جدُّه، والنتيجة الّتي تحقّقت بعد أن قال كلمته وثبت عليها..

والمشهد -- باختصارٍ -- هو اجتماع الملأ والطاغوت يومها للقضاء على إبراهيم (علیه السلام) وقتله، والقضاء عليه بقتله ورميه في النار.. وكان إبراهيم الخليل (علیه السلام) نفسه مقصوداً مطلوباً للقتل مبيّتاً له، قد أعدّوا النار واستعدّوا، وجمعوا الناس وحشدوا ليتفرّجوا وينظروا سطوة الطاغي وتنكيله بأعدائه.

وهو يفيد أنّ الإمام (علیه السلام) أيضاً كان مطلوباً، يقصد القومُ قتله وإراقة دمه، إن بالاغتيال أو الفتك به ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة، تماماً كجدّهإبراهيم (علیه السلام) .

فإذا استعصم الإمام (علیه السلام) بكلمة جدّه ستكون النتيجة تماماً كنتيجة جدّه، إذ جعل الله عليه النار برداً وسلاماً، وأنجاه الله من القتل والإحراق

ص: 242

وأخرجه سالماً..

وربّما أفاد هذا أنّ الإمام (علیه السلام) أشار بذلك إلى أنّه سيخرج من مكّة سالماً، وأنّهم رغم تجييشهم واستعدادهم وإقدامهم الوقح على إراقة دمه المقدّس في مكّة، فإنّ الله سيجعل له ذلك أمناً وأماناً، ولا يجسر أحدٌ على فعل شيء، واللهُ وكيله وحسبه.. فإنّ مكّة ستكون عليه برداً وسلاماً تماماً كما كانت النار على جدّه إبراهيم (علیه السلام) برداً وسلاماً.

ولو أردنا حصر المشهد في جملة، نقول:

إن خَذَل أهل مكّة ولم ينصروا الإمام (علیه السلام) وكانوا عليه إلباً مع الطاغوت كما كان القوم زمن أبيه إبراهيم الخليل (علیه السلام) ، فإنّ الإمام (علیه السلام) أخبر أنّه سيستبدل بهم غيرهم، فيحرمون من هذا الشرف العظيم والخاتمة الحسنة، ويستعصم بكلمة جدّه، فيعلن غناه عنهم، وأنّ الله الّذي جعل النار على جدّه برداً وسلاماً سيجعل له مكّة أمناً وأماناً رغم أُنوفهم حتّى يخرج منها سالماً.

ص: 243

ص: 244

المنازل بين مكّة والمدينة

المسافة بين المدينة ومكّة

المسافة من المدينة إلى مكّة مئتان وخمسة وعشرون ميلاً، ومن المدينة إلى مكّة عشر مراحل ((1)) في طريق الجادّة ((2))، وهي عامرةٌ آهِلة ((3)).

والمرحلة: هي ما بين المنزلين ((4)).

والمنزل: هو الموقع المأهول بالسكّان، وتوجد بها مياه، ويكون بين مراحل السفر ((5))، والحاجّ ينزلون هذه المنازل وغيرها من المناهل ((6)).

ومجموع المسافة بين الحرمين هي زهاء أربعمئة كليومتر بالحساب

ص: 245


1- نزهة المشتاق في اختراق الآفاق للإدريسي (ت القرن 6): 1 / 143، مسالك الممالك للاصطخري، ليدن (ت القرن 4): 27.
2- صورة الأرض لابن حوقل (ت 367): 1 / 40، معجم البلدان لياقوت: 4 / 493.
3- البلدان لليعقوبي (ت 284): 153.
4- أُنظر: لسان العرب: مادّة رحل.
5- أُنظر: طريق الأنبياء: 1.
6- البلدان لليعقوبي (ت 284): 153.

المعاصر، أو تربو قليلاً.

فتكون كلّ مرحلةٍ ما يقارب أربعين كليومتراً، وهو معدّل ما يستغرقه المسافر ليقطع هذه المسافة في يومٍ واحدٍ عادة، سواءً كان السفر مشياً أو على ظهر الدوابّ، وقد أكّدت ذلك النصوص الشرعيّة الواردة في بيانأحكام صلاة المسافر.

قال العلّامة المجلسي: ذهب علماؤنا أجمع إلى أنّ القصر يجب في مسير يومٍ تامّ، بريدان، أربعة وعشرون ميلاً ((1))، والبريد -- بالفتح على فَعيل -- : أربعة فراسخ، اثنا عشر ميلاً ((2)).

المراحل بين الحرمين

اشارة

المراحل على الطريق بين مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة عددها عشرة:

المرحلة الأُولى:

تبدأ المرحلة الأُولى بالخروج من المدينة غرباً، ثمّ ذي الحليفة، ويتّجه إلى البيداء (تسمى الآن: صمد صلصل)، ثمّ يصعد في ثنية الحفيرة (تسمى الآن: المفرحات)، ثمّ يهبط وادي ملل، ثمّ وادي مرى، ثمّ وادي الغميس، ثمّ يمرّ على صخيرات اليمام، ثمّ السيالة، وهي المحطّة الأُولى.

ص: 246


1- مرآة العقول للعلّامة المجلسي: 15 / 374.
2- أُنظر: مجمع البحرين للطريحي: مادّة برد.

المرحلة الثانية:

تبدأ المرحلة الثانية من السيالة، ثمّ شرف الروحاء، وبها مسجد للنبيّ (صلی الله علیه و آله) ، ثمّ يمرّ الطريق بعرق الظبية وفجّ الروحاء، وفيهما مسجدان نبويّان، أحدهما في عرق الظبية (معروف الآن)، والآخَر في وسط الروحاء،صلّى فيه النبيّ (صلی الله علیه و آله) عدّة مراتٍ في روحه وإيابه من غزوة بدر والفتح وغيرهما، وهذا المسجد بالذات ما زال موجوداً، وكانت تُقام فيه الصلاة منذ العهد النبويّ وإلى وقتٍ ليس ببعيد، وهو على الجادّة العظمى.

المرحلة الثالثة:

تبدأ المرحلة الثالثة من الروحاء باتّجاه الغرب إلى المنصرف (المسيجيد)، وبها مسجدٌ نبويٌّ مشهور، ثمّ الاتّجاه جنوباً إلى الرويثة (محطّة خلص)، ثمّ الجي (البنانية)، ثمّ شرف الأثاية (الشفية)، ثمّ العرج (النظيم).

المرحلة الرابعة:

من العرج (النظيم)، إلى يدعا (الوطية)، ثمّ الطلوب (الحفاة)، ثمّ القاحة (بئر قيضي)، ثمّ السقيا (أُمّ البرك).

المرحلة الخامسة:

من السقيا (أُمّ البرك)، ثمّ البستان (معروف).

ص: 247

المرحلة السادسة:

من البستان (معروف)، ثمّ إلى الأبواء، ثمّ ثنية هرشى (معروفة)، ثمّ الجُحفة.

المرحلة السابعة:

من الجحفة، ثمّ إلى كلية، ثمّ قديد.

المرحلة الثامنة:

من قديد، ثمّ إلى ثنية لفت (لفيت)، ثمّ أمج (خليص)، ثمّ عسفان.

المرحلة التاسعة:

من عسفان، ثمّ إلى مرّ الظهران (وادي فاطمة).

المرحلة العاشرة:

من مرّ الظهران (وادي فاطمة)، ثمّ إلى سرف (النوارية)، ثمّ التنعيم، وهو حدّ الحرم المكّي من الناحية الشماليّة ((1)).

ص: 248


1- أُنظر: طريق الأنبياء: 3.

منازل الطريق

(1) ذو الحليفة

أوّلها ذو الحليفة، ومنها يُحرِم الحاجّ إذا خرجوا من المدينة ((1))، وهو كان منزل رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) إذا خرج من المدينة لحجٍّ أو عمرة، فكان ينزلتحت شجرةٍ في موضع المسجد الّذي بذي الحليفة اليوم، وثبت أنّه (صلی الله علیه و آله) وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة ((2)). وهي من مياه بني جشم بن بكر بن هوازن ((3)).

(2) الحفير، أو الحفيرة (بئر)

الحفير(ة): بعد ذي الحليفة، كان ينزله رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) ((4))، وهي منازل بني فهر من قريش ((5))، بينه وبين ذي الحليفة ثمانية أميال، فيه متعشّى وبئر عذبة ((6)).

ص: 249


1- البلدان لليعقوبي: 152.
2- الروض المعطار: 196.
3- مراصد الاطلاع: 1 / 420 .
4- المعالم الأثيرة: 102.
5- البلدان لليعقوبي: 151.
6- معجم ما استُعجم: 2 / 465.

(3) ملل، أو فرش ملل (الفريش)

مَلَل -- بالتحريك ولامين -- بلفظ الملل، من الملال، موضعٌ في طريق مكّة بين الحرمين، بينه وبين المدينة ليلتان، وهو وادٍ ينحدر من ورقان جبل لمزينة حتّى يصبّ في الفرش، فرش سويقة، وهو مبتدأ مُلك بني الحسن بن عليّ بن أبي طالب وبني جعفر بن أبي طالب، ثمّ ينحدر من الفرش حتّى يصبّ في إضم، وإضم وادٍ يسيل حتّى يفرغ في البحر، فأعلى إضم القناة الّتي تمرّ دوين المدينة ((1)).

وبملل آبار كثيرة: بئر عثمان، وبئر مروان، وبئر المهدي، وبئر المخلوع،وبئر الواثق، وبئر السدرة ((2)).

وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله) ينزل ملل ((3))، وفيها آثار، وكان كثيّر عزّة يقول: إنّما سمّيَت ملل لتملّل الناس بها، وكان الناس لا يبلغونها حتّى يملّوا ((4)).

قال ابن الكلبي: لمّا صدر تبّع عن المدينة يريد مكّة بعد قتال أهلها، نزل ملل وقد أعيا وملّ، فسمّاها ملل.

وقيل لكثير: لمَ سُمّي ملل مللاً؟ فقال: ملّ المقام. وقيل: فالروحاء؟ قال:

ص: 250


1- معجم البلدان: 5 / 195.
2- مراصد الاطلاع: 3 / 1310.
3- أُنظر: معجم ما استعجم: 2 / 465.
4- الروض ا لمعطار: 547.

لانفراجها وروحها. قيل: فالسقيا؟ قال: لأنّهم سقوا بها عذباً. قيل: فالأبواء؟ قال: تبوّؤوا بها المنزل. قيل: فالجُحفة؟ قال: جحفهم بها السيل. قيل: فالعرج؟ قال: يعرج بها الطريق. قيل: فقديد؟ ففكّر ساعة، ثمّ قال: ذهب به سيله قدّاً، وعسفان: لتعسّف السيول هاهنا، ليس لها مسيل، ومرّ: لمرارة مياهها.

وملل يميل يسرةً عن الطريق إلى مكّة، وهو طريقٌ يخرج إلى السيالة، وهو أقرب من الطريق الأعظم، ومن ملل إلى السيالة سبعة أميال.

وعلى ثلاثة أميال من القرية عشرة أنقرة، عملت في رأس عين، شبيهةٌ بالحياض، تعرف بأبي هشام ((1)).

(4) السيالة

بفتح أوّله: قرية جامعة، بينها وبين المدينة تسعة وعشرون ميلاً، وهي الطريق منها إلى مكّة، وبين السيالة وملل سبعة أميال، وملل أدنى إلى المدينة، وقبل أن تصل إلى السيالة بميلين مسجدٌ لرسول اللّه (صلی الله علیه و آله) ، وهي ثلاثة مساجد لرسول اللّه (صلی الله علیه و آله) في طريق مكّة، أوّلها مسجد الحرّة، والثاني مسجد الشجرة، والثالث مسجد السيالة عند شجرة الطلح.

هذه المساجد الّتي بُنيَت على عهد رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) ، فأمّا مواضع

ص: 251


1- معجم ما استعجم: 4 / 1257.

صلواته من الطريق المذكورة فكثيرةٌ معلومة، قد اتّخذت بعده مساجد، بالأثاية، والعرج، وغيرهما.

والسيالة لولد الحسن بن علي (علیهما السلام) ، ومنها إلى الروحاء اثنا عشر ميلاً، وبالسيالة آبار أعظمها بئر الرشيد، فتحها تسع أذرع ((1)).

(5) الروحاء

بفتح أوّله، وبالحاء المهملة، ممدود: قريةٌ جامعةٌ لمزينة ((2))، وروى غير واحدٍ أنّ رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) قال -- وقد صلّى في المسجد الّذي ببطن الروحاء عند عرق الظبية -- : «هذا وادٍ من أودية الجنّة، قد صلّى في هذا المسجد قبلي سبعون نبيّاً، وقد مرّ به موسى بن عمران حاجّاً أو معتمراً في سبعين ألفاًمن بني إسرائيل على ناقةٍ له ورقاء، عليه عباءتان قطوانيتان، يلبّي، وصفاح الروحاء تجاوبه».

وقال مالك: كانت الروحاء متّصلة البيوت ...

قيل: وسُمّيت الروحاء لكثرة أرواحها، وفيها بناءٌ يزعمون أنّه قبر مضر ابن نزار، والروحاء هي السيالة، وفيها أهلٌ وسوق صغير، وماؤها من الآبار، وتُباع بها شواهين وصقور ((3)).

ص: 252


1- معجم ما استُعجم: 3 / 770.
2- معجم ما استُعجم: 2 / 682.
3- أُنظر: الروض المعطار: 278، معجم ما استعجم: 2 / 682.

وهو الموضع الّذي نزل به تبّع حين رجع من قتال أهل المدينة يريد مكّة، فأقام بها وأراح، فسمّاها الروحاء ((1)).

ونزلها رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) في طريقه إلى مكّة، ولها ذِكرٌ في السيرة والأحاديث ((2)).

والروح والراحة من الاستراحة، ويوم روح أي طيّب، وأظنّه قيل للبقعة: روحاء، أي طيّبةٌ ذات راحة، وقدر روحاء: في صدرها انبساط، وقصعة روحاء: قريبة القعر، ويعضد ما قلناه ما ذكره ابن الكلبيّ قال: لمّا رجع تبّع من قتال أهل المدينة يريد مكّة نزل بالروحاء، فأقام بها وأراح، فسمّاها الروحاء.

وسئل كثير: لم سُمّيَت الروحاء روحاء؟ فقال: لانفتاحها ورواحها، وهي من عمل الفرع ((3)).

(6) عرق الظبية، ظُبْيَةُ

بالضمّ ثمّ السكون، وياء مثناة من تحت خفيفة، هكذا ضبطه أهل الإتقان، وهو عرق الظبية.

ص: 253


1- مراصد الاطلاع: 2 / 638.
2- المعالم الأثيرة: 131.
3- معجم البلدان: 3 / 76.

قال الواقدي: هو من الروحاء على ثلاثة أميالٍ ممّا يلي المدينة، وبعرق الظبية مسجد للنبيّ (صلی الله علیه و آله) .

وقال ابن إسحاق في غزوة بدر: مرّ (عليه الصلاة والسلام) على السيّالة، ثم على فجّ الروحاء، ثمّ على شنوكة، وهي الطريق المعتدلة، حتّى إذا كان بعرق الظبية، قال السهيلي: الظبية شجرةٌ تشبه القتادة يُستظلّ بها، وجمعها: ظبيان على غير قياس.

وفي كتاب نصر: عرق الظبية بين مكّة والمدينة قرب الروحاء، وقيل: هي الروحاء بنفسها ((1)).

(7) المنصرف (المسيجيد)

بالضمّ، وفتح الراء: موضعٌ بين مكّة وبدر، بينهما أربعة برد.

قال ابن إسحاق: ثمّ ارتحل من سجسج بالروحاء، حتّى إذا كان بالمنصرف ترك طريق مكّة بيسار وسلك ذات اليمين على النازية، يعني النبيّ (صلی الله علیه و آله) ((2)).والمنصرف: يُعرف اليوم بالمسيجيد، نسبةً إلى مسجدٍ لرسول اللّه (صلی الله علیه و آله) ، ما زالت آثاره هناك، وهي اليوم بلدة عامرة على مسافة ثمانين كيلاً، من

ص: 254


1- معجم البلدان لياقوت: 4 / 58.
2- معجم البلدان: 5 / 211.

المدينة على طريق بدر ((1)).

(8) الرويثة

بضمّ أوله، وفتح ثانيه، وبالثاء المثلّثة، على لفظ التصغير: قريةٌ جامعةٌ أيضاً، وبين الرويثة والمدينة سبعة عشر فرسخاً، ومن الرويثة إلى السقيا عشرة فراسخ، وعقبة العرج على أحد عشر ميلاً من الرويثة، بينها وبين العرج ثلاثة أميال.

وكان ينزل تحت سرحة ضخمة عن يمين الطريق، ووجاه الطريق، في مكانٍ بطح سهل، حتّى يفضي من أكمة دون الرويثة بميلين، وقد انكسر أعلاها، فانثنى في جوفها وهي قائمة على ساق، وفي ساقها كثب كثيرة.

وكان رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) يسير من الرويثة فينزل الأثاية، وهي بئرٌ دون العرج بميلين، عليها مسجد للنبىّ (صلی الله علیه و آله) ، وبالأثاية أبيات وشجر أراك، وهناك ينتهي حدّ الحجاز ((2)).

(9) الصفراء

بالتأنيث، وادي الصفراء، من ناحية المدينة، في طريق الحاجّ، بينه وبين بدر مرحلة ((3)).

ص: 255


1- المعالم الأثيرة: 280.
2- معجم ما استعجم: 2 / 687.
3- مراصد الاطلاع: 2 / 844.

وهي قريةٌ فوق ينبع، على ستّ مراحل من المدينة، وهي كثيرة المزارع والنخل، وماؤها يجرى إلى ينبع ورضوى غربيّها، وبين ينبع والمدينة ستّ مراحل، ويسكن في الصفراء جُهينة والأنصار ونهد.

وبالصفراء مات عُبيدة بن الحارث بن المطّلب، وكانت قُطعَت رجله ببدر، فوصل إليها مرتثّاً، وقالت امرأته ترثيه:

لقد ضمّنوا الصفراء مجداً وسؤدداً

وحلماً أصيلاً وافر اللُّبّ والعقلِ

وفيها أو بقربٍ منها قتل رسولُ اللّه (صلی الله علیه و آله) النضر بن الحارث مرجعه من بدر بموضعٍ يُقال له: الأثيل ((1)).

وهي واد، وقرية، نزله رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) غير مرّة.

أمّا القرية: فتسمّى اليوم الواسطة، وأمّا وادي الصفراء: فهو وادٍ من أودية الحجاز الفحول، كثير القرى والخيوف -- جمع خيف --، وإذا خرجت من المدينة إلى بدر فتجاوزت (الفريش) فأنت في أوّل وادي الصفراء، ثمّ تسير فيه مارّاً بالمسيجيد، والخيف، والواسطة (الصفراء قديماً)، حتّى تتجاوز بدراً، فهو يلقاك على مسافة واحدٍ وخمسين كيلاً من المدينة، في طريقبدر ((2)).

ص: 256


1- الروض المعطار: 362.
2- المعالم الأثيرة: 160.

قال عرّام بن الأصبغ السلَمي: الصفراء قريةٌ كثيرة النخل والمزارع، وماؤها عيون كلّها، وهي فوق ينبع ممّا يلي المدينة، وماؤها يجري إلى ينبع، وهي لجهينة والأنصار ولبني فهر ونهد، ورضوى منها من ناحية المغرب على يوم، وحوالي الصفراء قنان وضعاضع صغار، واحدها ضعضاع، والقنان وضعاضع: جبال صغار، وواحدة القنان قنّة ((1)).

ومن عيونها عينٌ يقال لها: البحيرة، أغزر ما يكون من العيون، تجرى بين أحياء رمل، فلا تمكن الزارعين غلّتها إلّا في مواضع يسيرة، تتّخذ فيها البقول والبطّيخ ((2)).

(10) بدر

ماءٌ على ثمانية وعشرين فرسخاً من المدينة في طريق مكّة، وبين مدينة الجار إلى بدر نحو المشرق إذا أردت المدينة عشرون ميلاً، وهناك قريةٌ فيها حدائق نخل، وببدر عين فوّارة، وموضع القليب الّذي كانت بإزائه الوقيعة المباركة الإسلاميّة، هو اليوم نخيل، وموضع الشهداء خلفه، وببدر عينان جاريتان عليهما الموز والعنب والنخل.

قيل: سُمّيت بدراً لأنّه كان ماءٌ لرجل من جهينة اسمه بدر.

ص: 257


1- معجم البلدان: 3 / 412.
2- معجم ما استعجم: 3 / 836.

وبدر موسمٌ من مواسم العرب، ومجمعٌ من مجامعهم في الجاهليّة، وبها قلبٌ ومياهٌ وآبارٌ ورياضٌ يقال لها: الأثيل، منها ينبع والصفراء والجار والجحفة.

وببدر جبلٌ عظيمٌ من رملٍ شديد البياض، كان بياضه إذا طلعت عليه الشمس يعشي الأبصار ((1)).

قال ياقوت: بدر : بالفتح ثمّ السكون، قال الزجّاج: بدر أصله الامتلاء، يقال: غلام بدر، إذا كان ممتلئاً شابّاً لحماً، وعين بدرة، ويقال: قد بدر فلان إلى الشيء وبادر إليه، إذا سبق، وهو غير خارجٍ عن الأصل، لأنّ معناه استعمل غاية قوّته وقدرته على السرعة، أي استعمل ملء طاقته، وسمّي بيدر الطعام بيدراً، لأنّه أعظم الأمكنة الّتي يجتمع فيها الطعام، ويقال: بدرت من فلان بادرة، أي سبقت فعلة عند حدّة منه في غضب بلغت الغاية في الإسراع، وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ﴾ ((2))، أي مسابقةً لكبرهم، وسمّي القمر ليلة الأربعة عشر بدراً لتمامه وعظمه.

وبدر: ماءٌ مشهورٌ بين مكّة والمدينة أسفل وادي الصفراء، بينه وبين الجار -- وهو ساحل البحر -- ليلة، ويقال: إنّه يُنسَب إلى بدر بن يخلد بن

ص: 258


1- أُنظر: الروض المعطار للحميري: 84، معجم ما استعجم: 1 / 231.
2- سورة النساء: 6.

النضر بن كنانة، وقيل: بل هو رجلٌ من بني ضمرة سكن هذا الموضع فنُسب إليه، ثمّ غلب اسمه عليه.

وقال الزبير بن بكّار: قريش بن الحارث بن يخلد، ويقال: مخلّد بن النضر بن كنانة، به سمّيت قريش، فغلب عليها، لأنّه كان دليلها وصاحب ميرتها، فكانوا يقولون: جاءت عِير قريش وخرجت عِير قريش، قال: وابنه بدر بن قريش، به سُمّيت بدر الّتي كانت بها الوقعة المباركة، لأنّه كان احتفرها، وبهذا الماء كانت الوقعة المشهورة الّتي أظهر اللّه بها الإسلام وفرّق بين الحق والباطل ...

وبين بدر والمدينة سبعة برد: بريد بذات الجيش، وبريد عبّود، وبريد المرغة، وبريد المنصرف، وبريد ذات أجذال، وبريد المعلاة، وبريد الأثيل، ثمّ بدر، وبدر الموعد وبدر القتال وبدر الأُولى والثانية كلّه موضعٌ واحد ((1)).

(11) الأثاية

بفتح الهمزة، وبعد الألف ياءٌ مفتوحة: من أثيت به إذا وشيت، يقال: أثا به، يأثو، ويأثي أيضاً إثاوةً وإثاية، ولذلك رواه بعضهم بكسر الهمزة.

وآبار الأثاية: تسمّى اليوم بئار الشفيّة، وهي عدّة آبار، ما زال يُستقى من بعضها، وتبعد نحو 34 كيلاً عن المسيجيد (المنصرف) في طريق المدينة

ص: 259


1- معجم البلدان: 1 / 357.

المؤدّي إلى بدر، وتبعد عن الطريق المعبّد نحو أربعة أكيالٍ إلى اليمن، وقد ذكروا أنّ بها مسجداً لرسول اللّه (صلی الله علیه و آله) ((1)).

(12) العرج

بفتح أوّله، وسكون ثانيه، وجيم: قريةٌ جامعةٌ على طريق مكّة، بينها وبين المدينة تسعة وتسعون فرسخاً، وهو في الطريق الّذي سلكه رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) حين هاجر إلى المدينة، وسُمّي العرج بتعريج السيول به، وإليها يُنسَب العرجيّ الشاعر، ووادي العرج فيه عينٌ من يسار الطريق في شعبٍ بين جبلين، وعلى ثلاثة أميال منه مسجد النبيّ (صلی الله علیه و آله) يُدعى (مسجد العرج)، ومن العرج إلى السقيا سبعة عشر ميلاً.

ومن حديث محمّد بن المنكدر: أنّ عبد اللّه بن الزبير بينا هو يسير إلى الأثاية من العرج في جوف الليل، إذ خرج إليه رجلٌ من قبرٍ في عنقه سلسلة، وهو يشتعل ناراً ويقول: أيا عبد اللّه أفرغ علَيّ من الماء! ووراءه رجلٌ آخر يقول: يا عبد اللّه لا تفعل؛ فإنّه كافر! حتّى أخذ بسلسلته فأدخله قبره ((2)).

والعرج من بلاد أسلم ((3)).

ص: 260


1- المعالم الأثيرة: 15.
2- الروض المعطار للحميري: 409.
3- معجم ما استعجم: 3 / 931.

قال أبو زيد: العرج: الكبير من الإبل. وقال أبو حاتم: قال ياقوت: إذا جاوزَت الإبلُ المئتين وقاربت الألف، فهي عرج وعروج وأعراج. وقال ابن السكّيت: العرج من الإبل نحوٌ من الثمانين.

وقال ابن الكلبيّ: لمّا رجع تُبّع من قتال أهل المدينة يريد مكّة، رأى دوابّ تعرج، فسمّاها العرج، وقيل لكثيّر: لمَ سُمّيَت العرج عرجاً؟ قال: يعرج به عن الطريق ((1)).

(13) السقيا

بالضمّ، ثمّ السكون، ثمّ مثناة تحتانيّة، مقصور: قريةٌ جامعةٌ من عمل الفرع، بينهما ممّا يلي الجحفة تسعة عشر ميلاً، وقيل: تسعة وعشرون ((2))، بالحجاز، في طريق مكّة من المدينة، ومن العرج إلى السقيا ستّةٌ وثلاثون ميلاً، وهي منزلٌ عظيمٌ فيه أهلٌ كثيرٌ وبساتين كثيرة، وفيه شجرٌ ونخيل، ومن السقيا إلى الأبواء سبعةٌ وعشرون ميلاً ((3)).

قال ياقوت: بضمّ أوّله وسكون ثانيه، يقال: سقيت فلاناً وأسقيته، أي قلت له سَقياً -- بالفتح --، وسقاه اللّه الغيث وأسقاه، والاسم السُّقيا بالضمّ.

ص: 261


1- معجم البلدان: 4 / 99.
2- مراصد الاطلاع: 2 / 721.
3- الروض المعطار: 327.

وسُئل كثيّر: لمَ سُمّيت السقيا سقيا؟ فقال: لأنّهم سُقوا بها عذباً. قيل: إنّ رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) كان يستقي الماء العذب من بيوت السقيا، وفي خبرٍ آخَر:كان يستعذب الماء العذب من بيوت السقيا.

وقال ابن الكلبيّ: لمّا رجع تُبّع من قتال أهل المدينة يريد مكّة، فنزل السقيا وقد عطش، فأصابه بها مطر، فسمّاها السقيا.

وقال الخوارزميّ: هي قريةٌ عظيمة، قريبةٌ من البحر على مسيرة يومٍ وليلة ((1)).

وهي كثيرة الآبار والعيون والبرك، وكثيرٌ منها صدقاتٌ للحسن بن زيد.

وعلى ثلاثة أميال من السقيا عينٌ يقال لها: تعهن، وكانت تسكنها امرأةٌ يقال لها: أُمّ عقى، ويُروى أنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) دعا عليها؛ لأنّه استسقاها فلم تسقه، وهناك صخرةٌ يذكرون أنّها مسخ تلك المرأة، فهم يدعون تلك الصخرة أُمّ عقى، وصلّى النبيّ (صلی الله علیه و آله) هناك، وبنى به مسجداً ((2)).

اللّهمّ العن مَن استسقاهم حبيب النبيّ (صلی الله علیه و آله) وريحانته فلم يسقوه، وسقوه أنابيب القنى والسيوف والنبال حتّى قضى عطشاً هو وأهل بيته وأصحابه!

ص: 262


1- معجم البلدان: 3 / 228.
2- معجم ما استعجم: 3 / 743.

(14) الأبواء

بالفتح ثمّ السكون وواو وألف ممدودة، قال قوم: سُمّي بذلك لِما فيهمن الوباء، ولو كان كذلك لقيل: الأوباء، إلّا أن يكون مقلوباً.

وقال ثابت بن أبي ثابت اللغوي: سُمّيَت الأبواء لتبوّء السيول بها، وهذا أحسن.

وقال غيره: الأبواء، فعلاء، من الأبوّة، أو أفعال، كأنّه جمع بوّ، وهو الجلد الّذي يحشى ترأمه الناقة فتدرّ عليه إذا مات ولدها، أو جمع بوى، وهو السواء، إلّا أنّ تسمية الأشياء بالمفرد ليكون مساوياً لما سُمّي به أَولى، ألا ترى أنّا نحتال لعرفات وأذرعات، مع أنّ أكثر أسماء البلدان مؤنّثة؟ ففعلاء أشبه به مع أنّك لو جعلته جمعاً لاحتجت إلى تقدير واحده.

وسُئل كثيّر الشاعر: لمَ سُمّيت الأبواء أبواء؟ فقال: لأنهم تبوّؤوا بها منزلاً.

والأبواء قريةٌ من أعمال الفرع من المدينة، بينها وبين الجُحفة ممّا يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلاً.

وقيل: الأبواء: جبلٌ على يمين آرة، ويمين الطريق للمصعد إلى مكّة من المدينة، وهناك بلدٌ يُنسب إلى هذا الجبل، وقد جاء ذكره في حديث الصعب بن جثّامة وغيره.

قال السكّري: الأبواء جبلٌ شامخٌ مرتفع، ليس عليه شيءٌ من النبات غير الخزم والبشام، وهو لخزاعة وضمرة.

ص: 263

وبالأبواء قبر آمنة بنت وهب أُمّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) ((1))، وبها عبد اللّه بن جعفر الصادق (علیه السلام) ((2)).

وهي قريةٌ جامعةٌ بين مكّة والمدينة وسطاً من المسافة، وفي واديها من نبات الطرفاء ما لا يُعرف بوادٍ أكثر منه، وهي قريةٌ حصينةٌ كثيرة الأهل، وماؤها من الآبار، والبحر منها قريب، وبينها وبين السقيا سبعة وعشرون ميلاً ((3)).

(15) الجُحفة

بالحجاز قريةٌ جامعةٌ لها منبر، بينها وبين البحر ستّة أميال، وبينها وبين مكّة نحو ستّة وسبعين ميلاً، وهي منزلٌ عامرٌ آهِلٌ فيه خلق، ولا سور عليه، والجُحفة ميقات أهل الشام ومصر والمغرب، وبين الجُحفة وعسفان غدير خمّ، وبقرب غدير خمّ موضع خيمتَي أُمّ معبد الخزاعيّة، وبين خيمتي أُمّ معبد وقديد ميلان.

وسُمّيت الجحفة جحفةً لأنّ السيول أجحفتها.

وذكر ابن الكلبيّ أنّ العماليق أخرجوا بني عبيل -- وهم إخوة عاد -- من

ص: 264


1- أُنظر: معجم البلدان لياقوت: 1 / 80.
2- أُنظر: الإشارات إلى معرفة الزيارات: 77.
3- أُنظر: الروض المعطار: 6، مراصد الاطّلاع: 1 / 19.

يثرب فنزلوا الجحفة، وكان اسمها مهيعة، فجاءهم سيلٌ فأجحفهم، فسُمّيت الجحفة، وفي أوّل الجحفة مسجد النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وبين الجحفة والبحرنحو ستّة أميال.

وغدير خمّ على ثلاثة أميال من الجحفة يسرةً عن الطريق، وهذا الغدير تصبّ فيه عينٌ وحولها شجرٌ كثيرٌ ملتفّ، وهي الغيضة الّتي تسمّى خُمّ، وبين الغدير والعين مسجد النبيّ (صلی الله علیه و آله) ((1))، وهناك نخل ابن المعلّى وغيره، وبغدير خمّ قال النبيّ (صلی الله علیه و آله) : «مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللّهمّ والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه» ((2))، وذلك منصرفه من حجّة الوداع، ولذلك قال بعض الشيعة:

ويوماً بالغدير غدير خُمٍّ

أبان له الولاية لو أُطيعا ((3))

وكانت الجحفة قريةً كبيرة، ذات منبر ((4))، وفي أوّل الجحفة مسجد النبيّ (صلی الله علیه و آله) بموضعٍ يُقال له (عزور)، وفي آخرها عند العلمين مسجد الأئمّة، وبين الجحفة والبحر نحوٌ مِن ستّة أميال ((5)).

ص: 265


1- الروض المعطار: 156.
2- إشارة إلى حديث الغدير المتواتر. أُنظر للتفصيل: موسوعة الغدير للعلّامة الأميني.
3- معجم ما استعجم: 2 / 368.
4- مراصد الاطلاع: 1 / 315، معجم البلدان: 2 / 111.
5- معجم ما استعجم: 2 / 368.

(16) ودّان

قريةٌ من أُمّهات القرى بالحجاز، وهو فعلان، من الودّ.

وقال أبو الفتح: ودّان: فعلان، من الودّ، فلا ينصرف، لزيادة الألف والنون، أو فعّال، من ودن إذا لان، فلا ينصرف للتعريف والتأنيث ((1)).

وفي (سيَر) ابن إسحاق: غزوة الأبواء، وهي غزوة ودّان.وقال البكريّ: من ودّان إلى مدينة الجار، وهو بئرٌ تنزل عليه القوافل، بينهما خمسةٌ وثلاثون ميلاً ((2)).

وهي قريةٌ جامعةٌ في نواحي الفرع، بينها وبين هرشى ستّة أميال، وبينها وبين الأبواء نحوٌ مِن ثمانية أميال، قريب من الجحفة لضمرة وغفار وكنانة ((3)).

قال أبو زيد: ودّان من الجحفة على مرحلة، بينها وبين الأبواء على طريق الحاجّ في غربيّها ستّة أميال ((4)).

(17) عقبة هرشى

بفتح أوّله وإسكان ثانيه، مقصورٌ على وزن فعلى، جبلٌ من بلاد تهامة، وهو على ملتقى طريق الشام والمدينة في أرض مستويةٍ لا تُنبِت

ص: 266


1- معجم ما استعجم: 4 / 1374.
2- الروض المعطار: 608.
3- مراصد الاطلاع: 3 / 1429.
4- معجم البلدان: 5 / 365.

شيئاً، وهي قريبةٌ من الجحفة يُرى منها البحر.

وفي كتاب مسلم أنّه (صلی الله علیه و آله) أتى على ثنية هرشى فقال: «أيّ ثنيةٍ هذه؟»، قالوا: ثنية هرشى. قال (صلی الله علیه و آله) : «كأنّي أنظر إلى يونس بن متّى (علیه السلام) على ناقةٍ حمراء جعدة، عليه جبّةٌ من صوف، خطام ناقته خلبة وهو يلبّي» ((1)).

وقيل: هرشى: هضبة ململمة لا تُنبِت شيئاً، وهي على طريق الشام وطريق المدينة إلى مكّة، في أرضٍ مستوية، وأسفل منها ودّان، على ميلين ممّا يلي مغيب الشمس، يقطعها المصعدون من حجّاج المدينة، وينصبونمنها منصرفين إلى مكّة، ويتّصل بها ممّا يلي مغيب الشمس خبت رملة، في وسط هذا الخبت جبلٌ أسود شديد السواد صغير يقال له: طفيل ((2)).

وعلى الطريق من ثنية هرشى إلى الجحفة ثلاثة أودية: غزال، وذو دوران، وكليّة. تأتي من شمنصير وذروة، تنبت النخل والأراك والمرخ والدوم، وهو المقل، وكلّها لخزاعة، وبأعلى كليّة ثلاثة أجبل صغار منفردات من الجبال، يقال لها: سنابك، وغدير خمّ: واد هناك، يصبّ في البحر.

وعلم المنصف: بين المدينة ومكّة دون عقبة هرشى بميل.

وفي مسيل هرشى مسجد النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وهو عن يسار الطريق في المسيل دون هرشى، وذلك المسيل لاصقٌ بكراع هرشى، بينه وبين الطريق زهاء

ص: 267


1- الروض المعطار: 592.
2- مراصد الاطلاع: 3 / 1455.

غلوة، وهناك كان يصلّى النبيّ (صلی الله علیه و آله) ((1)).

(18) ذات الأصافر

جمع أصفر، محمولٌ على أحوص وأحاوص، وهي ثنايا سلكها النبيّ (صلی الله علیه و آله) في طريقه إلى بدر، وقيل: الأصافر جبال مجموعة تسمّى بهذا الاسم، ويجوز أن تكون سُمّيت بذلك لصفرها، أي خلوّها ((2)).

وهي جبالٌ قريبة من الجحفة، عن يمين الطريق من المدينة إلى مكّة،سمّيت بذلك لأنها هضبات صفر ((3)).

(19) بئر الطلوب بعد السقيا

بفتح أوّله وآخره باء موحّدة، يقال: بئرٌ طلوب، أي: بعيدة الماء.

قال البلادي: وتعرف اليوم باسم (الحفاة) من صدر القاحة على الطريق بين شرف الأثاية والسقيا، على مسافة ثمانية وثلاثين كيلاً شمالاً من السقيا ((4)).

و(الطلوب) كانت لعمرو بن عبد اللّه بن صفوان الجمحي في شعب

ص: 268


1- معجم ما استعجم: 4 / 1350.
2- معجم البلدان: 1 / 206.
3- معجم ما استعجم: 1 / 162.
4- المعالم الأثيرة: 176.

عمرو بالرمضة دون الميثب ((1))، وهي من مياه بني عوف بن عقيل ((2)).

(20) لحى جمل

بالتحريك بلفظ الجمل الّذي هو البعير، بئر جمل بالمدينة، ولحى جمل -- بفتح اللام وسكون الحاء -- موضعٌ بين المدينة ومكّة ((3))، وهو إلى المدينة أقرب ((4)).

(21) وادي العبابيد

بعد الألف باء أُخرى ودال، وقد رُوي بباءٍ في آخره بدل الدال، ورويغير ذلك، موضعٌ في حديث الهجرة ((5)).

وقيل: (العبابيب)، وهو بعد مدلجة تعهن في طريق الهجرة النبويّة، فمن رواه العبابيد جعله جمع (عبّاد) بتشديد الباء، ومن رواه (عبابيب) كأنّه جمع (عبّاب) بتشديد الباء، من عببت الماء عبّاً ((6)).

ص: 269


1- أخبار مكّة: 2 / 225.
2- معجم ما استعجم: 3 / 893.
3- مراصد الاطلاع: 1 / 346.
4- معجم البلدان: 2 / 163.
5- مراصد الاطلاع: 2 / 912.
6- المعالم الأثيرة: 186.

وروي فيه أيضاً العثيانة، بالعين المهملة والثاء المثلثة وياء آخر الحروف وبعد الألف نون، كلّ ذلك جاء مختلفاً فيه في حديث الهجرة ((1)).

(22) القاحة

بالحاء المهملة، قيل: مدينة على ثلاث مراحل من المدينة قبل السقيا بنحو ميل.

وقيل: موضع بين الجحفة وقديد.

وقيل: في جبل ثافل الأصغر دوّار في جوفه، وفيه بئران عذبتان.

وقد روى فيه الفاجة -- بالفاء والجيم -- في حديث الهجرة في السيرة ((2)).

وقاحة الدار وباحتها واحد، وهو وسطها ((3)).

(23) كليّة

بالضمّ ثمّ الفتح وتشديد الياء، وفي الأغاني: كليّة: قريةٌ بين مكّة والمدينة ((4))، وكليّة، تصغير كلية: واد يأتيك من شمنصير بقرب الجحفة.

وبكليّة على ظهر الطريق ماء آبار، يقال لتلك الآبار: كليّة، وبهنّ سمّي

ص: 270


1- معجم البلدان: 4 / 73.
2- مراصد الاطلاع: 3 / 1054.
3- معجم البلدان: 4 / 290.
4- أُنظر: معجم البلدان: 4 / 479.

الوادي ((1)).

(24) المشلّل

بالضمّ ثمّ الفتح وفتح اللام أيضاً، في طريق مكّة، جبلٌ يهبط منه إلى قديد من ناحية البحر ((2))، وهي ثنية مشرفة على قديد، وفيه دُفن مسلم ابن عقبة صاحب وقعة الحرّة ونُبش وصُلب ((3)).

قال يعقوب: عزور: واد قريب من المدينة، والمشلّل: جبلٌ وراءه على موطئ الطريق ((4)).

(25) قديد

تصغير القدّ، من قولهم: قددت الجلد، أو من القِدّ -- بالكسر --، وهو جلد السخلة، أو يكون تصغير القدد من قوله (تعالى): ﴿طَرائِقَ قِدَداً﴾، وهي الفرق.وسئل كثيّر فقيل له: لمَ سُمي قديد قديداً؟ ففكّر ساعةً ثمّ قال: ذهب سيله قدداً.

ص: 271


1- مراصد الاطلاع: 3 / 1178.
2- مراصد الاطلاع: 3 / 1277، معجم البلدان: 5 / 136.
3- الروض المعطار: 560.
4- معجم ما استعجم: 4 / 1234.

قال ابن الكلبي: لمّا رجع تُبّع من المدينة بعد حربه لأهلها نزل قديداً، فهبّت ريحٌ قدّت خيم أصحابه، فسُمّي قديداً ((1)).

وهي في الطريق بين مكّة والمدينة، بينها وبين الجحفة -- ميقات أهل الشام -- سبعةٌ وعشرون ميلاً، وهو حصنٌ صغيرٌ فيه أخلاط من العرب لها نخيلات يعيشون منها، وبين قديد والبحر خمسة أميال، وبينه وبين الجحفة ستّة وعشرون ميلاً.

وبها كانت للأوس والخزرج ومَن دان بدينهم من أهل يثرب (مناة)، فبعث إليها رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) أميرَ المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، فهدمها.

وبها مات مسلم بن عقبة المرّي صاحب وقعة الحرّة منصرفه عن أهل المدينة بعد وقعة الحرّة.

وقديد كثيرة الماء والبساتين، وسُمّيت قديداً لتقدّد السيول بها ((2)).

وهي قرية جامعة، وهي لخزاعة، والمشلّل: من قديد ((3)).

(26) خيمتا أُمّ معبد

ويقال: بئر أُمّ معبد، موضعٌ بين مكّة والمدينة، نزله رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) في

ص: 272


1- معجم البلدان: 4 / 314.
2- الروض المعطار في خبر الأقطار للحِميَري: 455.
3- معجم ما استعجم: 3 / 1054.

طريقه للهجرة ((1)).

وخيمة أُمّ معبد، ويقال لها: بئر أُمّ معبد أيضاً ((2)).

(27) خليص

حصنٌ وقرية، بين مكّة والمدينة، قريبةٌ من مكّة، بها نخلٌ وبركة كبيرة، يردها الحاجّ ((3)).

(28) أمج

بفتح أوّله وثانيه وبالجيم، قريةٌ جامعةٌ ما بين مكّة والمدينة على أميال من قديد، لها سور، وهي كثيرة المزارع، وأهلها خزاعة، وبها آثار كثيرة وبها نخل، وهي محلّة بني نمرة وجماعةٌ من الناس، وفيها حوانيت وسوق ((4))، وهي بلد من أعراض المدينة ((5)).

والأمج -- في اللغة -- : العطش.

وقال أبو المنذر هشام بن محمّد: أمج وغران: واديان يأخذان من حرّة

ص: 273


1- مراصد الاطلاع: 1 / 497.
2- معجم البلدان: 2 / 414.
3- أُنظر: مراصد الاطلاع: 1 / 480، معجم البلدان: 2 / 387.
4- أُنظر: الروض المعطار: 30، معجم ما استعجم: 1 / 190.
5- مراصد الاطلاع: 1 / 115.

بني سليم ويفرغان في البحر ((1)).

(29) الكديد

بفتح أوّله وكسر ثانيه، موضعٌ بين مكّة والمدينة بين منزلتَي أمج وعسفان، وهو ماء عينٍ جارية، عليها نخلٌ كثير ((2)).

قال ياقوت: فيه روايتان: رفع أوّله، وكسر ثانيه، وياء وآخره دالٌ أُخرى، وهو التراب الدقاق المركّل بالقوائم، وقيل: الكديد ما غلظ من الأرض، وقال أبو عبيدة: الكديد من الأرض خلق الأودية أو أوسع منها، ويقال فيه: الكديد، تصغيره تصغير الترخيم، وهو موضعٌ بالحجاز، ويوم الكديد من أيّام العرب، وهو موضعٌ على اثنين وأربعين ميلاً من مكّة ((3)).

(30) عسفان

بلدٌ بين مكّة والمدينة، بينها وبين مكّة تسعةٌ وأربعون ميلاً، وبينها وبين البحر عشرة أميال، وفيها آبار عذبة، وبين عسفان وقديد أربعة وعشرون ميلاً، وعسفان كثيرة الأهل خصيبة، ماؤها من الآبار.

وربّما كان في عسفان غدران بين أراك وأُمّ غيلان، وبين الجحفة

ص: 274


1- معجم البلدان: 1 / 250.
2- الروض المعطار: 490، مراصد الاطلاع: 3 / 1152.
3- معجم البلدان: 4 / 442، معجم ما استعجم: 4 / 1120.

وعسفان غدير خُمّ ((1)).

قال في العزيزي: وبين عسفان وبين الجحفة أحدٌ وخمسون ميلاً، ومن عسفان إلى بطن مرّ ثلاثة وثلاثون ميلاً، ثمّ إلى مكّة تسعة عشر ميلاً، فبينعسفان وبين مكّة اثنان وخمسون ميلاً ((2)).

قال ياقوت: بضمّ أوّله، وسكون ثانيه، ثمّ فاء، وآخره نون، فعلان، من عسفت المفازة وهو يعسفها، وهو قطعها بلا هدايةٍ ولا قصد، وكذلك كلّ أمرٍ يُركَب بغير رويّة.

قال: سمّيت عسفان لتعسّف السيل فيها، كما سمّيت الأبواء لتبوّء السيل بها.

قال أبو منصور: عسفان منهلةٌ من مناهل الطريق بين الجحفة ومكّة.

وقال غيره: عسفان بين المسجدين، وهي من مكّة على مرحلتين.

وقيل: عسفان قريةٌ جامعةٌ بها منبر، ونخيل ومزارع على ستّة وثلاثين ميلاً من مكّة، وهي حدّ تُهامة، ومن عسفان إلى ملل يقال له الساحل، وملل على ليلةٍ من المدينة، وهي لخزاعة خاصّة، ثمّ البحر، وتذهب عنه الجبال الغرف.

وقال السكّري: عسفان على مرحلتين من مكّة، على طريق المدينة

ص: 275


1- الروض المعطار: 421.
2- المسالك والممالك: 27.

والجحفة على ثلاث مراحل، غزا النبيّ (صلی الله علیه و آله) بني لحيان بعسفان وقد مضى لهجرته خمس سنين وشهران وأحد عشر يوماً ((1)).

وهي لبني المصطلق من خزاعة، وهي كثيرة الآبار والحياض ((2)).

(32) غزال -- ثنية غزال

بلفظ الغزال، ذكر الظباء: ثنيّة، يقال لها: قرن غزال، قال الأزهري: الغزال الشادن حين يتحرّك ويمشي قبل الاثناء.

قال عرّام: وعلى الطريق من ثنية هرشى بينها وبين الجحفة ثلاثة أودية مسمّيات منها (غزال)، وهو وادٍ يأتيك من ناحية شمنصير وذروة، وفيه آبار، وهو لخزاعة خاصّة، وهم سكّانه أهل عمود ((3)).

(33) كراع الغميم

بالضمّ، وآخره عين مهملة، موضعٌ بالحجاز بين مكّة والمدينة، أمام عسفان بثمانية أميال، وهذا الكراع جبل أسود في طرف الحرّة يمتدّ إليه ((4)).

ص: 276


1- أُنظر: معجم البلدان: 4 / 122، مراصد الاطلاع: 2 / 940.
2- معجم ما استعجم: 3 / 943.
3- أُنظر: معجم البلدان: 4 / 201، معجم ما استعجم: 3 / 996.
4- مراصد الاطلاع: 3 / 1153.

(34) بطن مرّ

بفتح الميم، وتشديد الراء، من نواحي مكّة، عنده يجتمع وادي النخلتين فيصيران وادياً واحداً ((1))، بالحجاز بالقرب من عسفان، وبينهما أربعةٌ وثلاثون ميلاً، وهي قريةٌ عظيمةٌ كثيرة الأهل، حسنة المنازل، كثيرة النخل والزرع، فيها بركة، يجري الماء فيها من الجبل، فإذا خرجتَ من بطن مرّ فعلى أربعة أميال قبر ميمونة بنت الحارث زوج النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وبعد ذلكعلى ستّة أميال مسجد، ثمّ إلى بكّة ستّة أميال، يُحرِم أهل مكّة ويخرجون إلى ذلك الموضع، وهو حدّ الحرم من ذلك الوجه، وحول الحرم أعلامٌ منصوبةٌ من جوانبه، ومن بطن مرّ إلى بكّة ستّة عشر ميلاً، وبطن مرّ متّسع، وفيه قرى كثيرة وعيون، ومنه تجلب الفواكه إلى مكّة (شرّفها اللّه تعالى) ((2)).

(35) سرف

بالفتح، ثمّ الكسر، وآخره فاء ((3))، موضعٌ قريبٌ من مكّة ((4)).

ص: 277


1- معجم البلدان: 1 / 449.
2- الروض المعطار: 93.
3- مراصد الاطلاع: 2 / 707.
4- الإشارات: 77.

قال البكري: هو بإسكان الثاني، ماءٌ على ستّة أميال من مكّة.

وبسرف مات عدوّ اللّه (تعالى) أُبيّ بن خلف بسبب طعنة النبي (صلی الله علیه و آله) له بالحربة مرجعه من بدر في الخبر المشهور، ذكره ابن إسحاق مبسوطاً ((1)).

قال أبو عبيد: السرف: الجاهل.

وفي موطّأ ابن وهب: الشرف، بالشين المعجمة وفتح الراء ((2)).

(36) مكّة

(36) مكّة ((3))

* * * * *

المنازل في لفظ اليعقوبي:

قال اليعقوبيّ في (البلدان):

فأوّلها ذو الحليفة، ومنها يُحرِم الحاجّ إذا خرجوا من المدينة، وهي على أربعة أميالٍ من المدينة.

ومنها إلى الحفيرة، وهي منازل بني فهر من قريش.

وإلى ملل، وهي هذا الوقت منازل قومٍ من وُلد جعفر بن أبي طالب.

ص: 278


1- الروض المعطار: 312.
2- معجم البلدان: 3 / 213.
3- المعالم الأثيرة في السنة والسيرة لمحمّد شراب: 171.

وإلى السيّالة، وبها قومٌ من وُلد الحسن بن عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، وكان بها قومٌ من قريش وغيرهم.

وإلى الروحاء، وهي منازل مزينة.

وإلى الرويئة، وبها قومٌ من وُلد عثمان بن عفّان وغيرهم من العرب.

وإلى العرج، وهي أيضاً منازل مزينة.

وإلى سقيا بني غِفار، وهي منازل بني كِنانة.

وإلى الأبواء، وهي منازل أسلم.

وإلى الجحفة، وبها قومٌ من بني سليم، وغدير خُمّ من الجحفة على ميلَين عادلٌ عن الطريق.

وإلى قديد، وبها منازل خُزاعة.وإلى عفّان.

وإلى مرّ الظهران، وهي منازل كِنانة.

وإلى مكّة.

... فيدخل الناس إلى مكّة من ذي طوى، وهي أسفل مكّة، ومن عقبة المدنيّين، وهي أعلى مكّة، ومنها دخول رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) ((1)).

ص: 279


1- البلدان لليعقوبي (ت 284): 153.

طريق الجادّ من المدينة الى مكّة

اشارة

من المدينة الى الشجرة، وهي ميقات أهل المدينة ستّة أميال، ثمّ الى ملل فيها آبارٌ اثنا عشر ميلاً، ثمّ الى السيّالة فيها آبارٌ تسعة عشر ميلاً، ثمّ إلى الرويثة فيها برك أربعة وثلاثون ميلاً، ثمّ الى السقيا فيها نهرٌ جارٍ وبستان ستّة وثلاثون ميلاً، ثمّ إلى الأبواء فيها آبار تسعة وعشرون ميلاً، ثمّ إلى الجحفة، وهي من تهامة، وفيها آبار، والبحر منها على ثمانية أميال، وهي ميقات أهل الشأم سبعةٌ وعشرون ميلاً، ثمّ إلى قديد فيها آبارٌ سبعة وعشرون ميلاً، ثم إلى عسفان فيها آبارٌ أربعةٌ وعشرون ميلاً، ثمّ إلى بطن مرّ فيها عينٌ وبركة ثلاثةٌ وثلاثون ميلاً، ثمّ إلى مكّة ستّة عشر ميلاً ((1)).

طريقٌ آخَر

وطريقٌ آخَر من مكّة إلى المدينة، وهو طريق الجبال، وفيه تحليق، وذلك أن يأخذ المارّ من مكّة في طريق الساحل إلى بطن مرّ، ثمّ إلى عسفان، ثمّ إلى قديد، إلى الخرار، إلى ثنية المرأة، إلى مدلجة مجاح، إلى بطن مرجح، إلى بطن ذات كشد، إلى الأجدد، إلى ذي شمر، إلى بطن أعداء، إلى مدلجة يعفر، ثمّ إلى العينا، إلى أذان القاحة، إلى طرف جبل

ص: 280


1- المسالك والممالك لابن خرداذبه: 131.

العرج، إلى ثنية الأعيار، إلى رئما، إلى حيّ عمرو بن عوف، إلى المدينة ((1)).

الطريق الّذي سلكه سيّد لشهداء (علیه السلام)

لقد اتّفقَت المصادر أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) سلك بركبه الجادّة العظمى والطريق العام، وأبى أن يحيد عنه، ولم يسلك الطريق الجبلي، ولا الطريق الّذي يسلكه الجادّ في السفر، فالإمام (علیه السلام) خرج من دون إعلانٍ مُسبَقٍ من مدينة جدّه (صلی الله علیه و آله) ، وجدّ في السير وأسرع حتّى قطع المسافة بنصف المدّة المعهودة للجادّ، بعد أن تظافرت الشواهد والأدلّة على عزم القوم على محاصرته فيها والإقدام على قتله إن هو أبى مناولة القرد، بَيد أنّهذا لا يعني أنّ الإمام (علیه السلام) كان يخاف من الموت أو القتال والقتل، إذ أنّ جدّه النبيّ (صلی الله علیه و آله) خرج من مكّة متخفّياً تحت جنح الليل إلى المدينة المنوّرة، وتخفّى طول الطريق، ولا يعني ذلك أنّه (صلی الله علیه و آله) كان يخاف من الموت أو القتل، وكذا فعل الأنبياء والأوصياء من قبل، وفي الأحاديث والتاريخ شواهد كثيرة لا تخفى على مَن راجع.

ص: 281


1- نزهة المشتاق في اختراق الآفاق للإدريسي (ت القرن 6): 1 / 143.

ص: 282

الخاتمة

تبيّن لنا من خلال هذه الوريقات أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) وخامس أصحاب الكساء خرج من المدينة بعد أن دلّت الدلائل وسلوكيّات الأعداء بالجزم أنّه مطلوبٌ للقتل، فخرج فجأة، ولم تبدر منه أيُّ بادرةٍ أو تصريح يفيد أنّه يبيّت الخروج بالمعنى الاصطلاحي، ولم يحرّض الناس ولم يحرّكهم ولم يدعُهم، وقد خذله أهل المدينة وضيّعوه وتركوه وحيداً فريداً ولم ينصروه.

وقد خرج من المدينة ليلاً، وهو خائفٌ يترقّب! ولا ضرورة لفرض أنّه كان خائفاً على (خروجه بالمعنى المصطلح) أن يُقبَر في مهده وأن تُحاصَر ثورته في المدينة، وإنّما كان خوفه بوضوحٍ على نفسه وأهله وعياله ومَن كان معه من مواليه وحشمه، وفق ما أشارت إليه تصريحاته ودلّت عليه مجريات الأحداث بجلاءٍ لا خفاء عليه، وليس في هذا الخروج فرارٌ من زحف، لأنّ المواجهة بعدُ لم تحصل، ولا فيه مساس بساحة القدس والشجاعة والقوّة الربّانيّة المتمثّلة بالإمام المعصوم (علیه السلام) ، وقد هاجر جدّه (صلی الله علیه و آله) وغيرُه من الأنبياء والأوصياء حفاظاً على حياتهم، وتخيّراً للموقع

ص: 283

الأفضل للدفاع عن أنفسهم وأتباعهم، ورعايةً لحرمات الله.

وسلك الطريق الأعظم، لأنّه لا يخشى القتل والقتال دفاعاً عن نفسه وحرم الله الّتي كانت في ركبه، بَيد أنّه تعجّل المسير حتّى قطع المسافة بنصف المدّة المقرّرة للمسافر العادي المُجدّ في المسير.

وبالرغم من وجود الكثير من الخلائق ومَن يسمّونهم المسلمين في طريقه، سواءً كانوا مسافرين أو حجّاج ومعتمرين أو سكّان المنازل والمدن الّتي يمرّ بها في الطريق، وكان من بينها مدن كبيرة ومنازل عامرة آهِلة، فإنّه لم يتريّث في الطريق، ولم يكن له معهم لقاءٌ يُذكر يشرح فيه لهم أسباب خروجه من المدينة أو يحرّضهم أو يدعوهم للقيام بوجه الظالمين والغاصبين ومحاربتهم، وغيرها من مستلزمات الرجل الّذي يبيّت (الخروج) على الحاكم، ولم نسمع أنّ أحداً دعاه الإمام (علیه السلام) في الطريق فاستجاب له أو تبعه أو أعلن تمرّده على الحكم القائم وأزلامه، بل لم يسجَّل أيُّ نشاطٍ للإمام (علیه السلام) وغيره سوى حثّ المطايا والإسراع بالسير.

فمن العسير جدّاً تفسير حركة الإمام (علیه السلام) على الطريق الأعظم، بالقول:

(إنّ الإمام (علیه السلام) أراد من وراء ذلك أمراً أعلاميّاً وتبليغيّاً للتعريف بقيامه ونهضته من خلال التقاء الركب الحسينيّ القاصد إلى مكّة بكلّ المارّة والقوافل على الطريق الأعظم، لأنّهم سيتساءلون عن سبب خروج الإمام (علیه السلام) من مدينة

ص: 284

جدّه (صلی الله علیه و آله) مع جُلّ بني هاشم ومَن معهم من أنصاره، ويتعرّفون من الإمام (علیه السلام) مباشرةً على أهدافه الّتي نهض من أجلها، فينضمّ إليه من يوفّقه الله (تعالى) إلى نصرته، وينتشر أمر هذا القيام المقدّس بين الناس في مناطق عديدة، فيتحقّق بذلك عملٌ إعلاميٌّ وتبليغيٌّ ضروريّ لتوسيع رقعة هذا القيام المبارك وكسب الأنصار له ...) ((1)).

ربّما كان هذا الكلام تكلُّفاً غير مستساغ، وتحميلاً للتحليلات الذهنيّة غير المعصومة على حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) بين الحرمين، إذ أنّه يبدو كأنّه محض تحليلٍ وتحميلٍ لا ينهض به دليلٌ من التاريخ ولا شاهدٌ من مواقف سيّد الشهداء (علیه السلام) في تلك البقاع الّتي مرّ بها من المراحل والمنازل، بل الشواهد والمشاهد كلُّها على خلافه! وقد ذكرنا في ثنايا البحث أنّ حركة الإمام (علیه السلام) كانت في أشهُر الحجّ والعُمرة، وأنّه كان مغذاً لا يلوي على شيءٍ حتّى قطع المسافة في نصف المدّة المعهودة، ولم يسجّل لنا التاريخ له ولا لمن معه نشاطاً يُذكر، ولا سأله أحدٌ عن سبب خروجه، ولا شرح الإمام لأحدٍ ذلك تبرّعاً.. أجل، سمعنا بلقائه بابن مطيع، بمبادرةٍ من الأخير، على فرض أنّه كان بين المدينة ومكّة، وقد كان الناس في شُغلٍ عن سيّد الشهداء (علیه السلام) وما يمرّ به من محنةٍ ومعاناةٍ وملاحقةٍ مِن قِبل الظالمين،

ص: 285


1- مع الركب الحسيني: 1 / 402.

وتهديدٍ منجَّز له ولعياله آل رسول الله وعترة النبيّ (صلی الله علیه و آله) .

* * * * *

وصل الإمام (علیه السلام) إلى مكّة، فدخلها دخولاً هادئاً كدخول أيّ مُعتمِرٍ أو حاجّ مع أهله وعياله، وأعلن للأشدق والعبدين ابن عبّاسٍ وابن عمر أنّه جاء مكّة مستوطناً مقيماً أبداً عائذاً بالله وببيته وحرمه ما أحبّه أهلها ودفعوا عنه..

وقد انقضت الأيام الخمسة الّتي تصرّمت في الطريق على سيّد الشهداء (علیه السلام) وركبه ومَن كان معه من نساء وأطفال، وليس لهم همٌّ سوى دخول مكّة، كما تشير إليه مجريات الأحداث، وسرعة الحركة وطوي المراحل وكبس المنازل..

وكان احتمال المطاردة والملاحقة حاضراً بقوّة في بداية الطريق، ثمّ لم ينتفِ هذا الاحتمال إلّا بعد دخول مكّة، حيث انتهت الرحلة ببيت الله الحرام، وبقي الركب في مكّة مدّةً من الزمان مهدَّداً، وهذا ما نرجو من الله أن يوفّقنا لمتابعته فيما يأتي من البحث في مستقبل الأيام، إن شاء الله (تعالى)، إنّه قويٌّ متين.

ص: 286

محتويات الكتاب

الديباجة....... 5

المقدّمة..... 15

(1)............ 15

الإشارة الأُولى: اعتماد ابن أعثم....... 17

الإشارة الثانية: تفرّد ابن أعثم........... 18

الإشارة الثالثة: معنى الزيادة............ 19

الإشارة الرابعة: استدلالٌ مبنيٌّ على الاجتهاد مقابل النصوص........ 21

الإشارة الخامسة: دلالات الوصيّة لا تنسجم مع الدعوى... 23

الإشارة السادسة: كفاية رفض البيعة... 23

الإشارة السابعة: دعوى لا تستقيم من رأس....... 23

الإشارة الثامنة: عرض الإمام (علیه السلام) أن يتركوه!.... 24

(2)............ 26

(3)............ 30

أوّلاً: خذلوا الإمام (علیه السلام) على علم....... 31

ثانياً: التزام الناس بالبيعة ليزيد......... 31

ثالثاً: موافقة الوالي على الإمهال....... 32

رابعاً: توفّر الفرص............ 32

ص: 287

خامساً: استثمار الطريق...... 33

سادساً: انطلاق الركب في الليل....... 34

سابعاً: دور السلطة!............ 34

(4)............ 36

(5)............ 37

(6)............ 38

مختصر ما حدث قُبَيل الخروج.......... 43

الحصيلة في نقاط............. 52

سبب امتناع الإمام (علیه السلام) عن البيعة........ 57

سبب امتناع الإمام (علیه السلام) ببيان الإمام (علیه السلام) وتصوير العدوّ.... 59

شكوى سيّد الشهداء (علیه السلام) قبل الخروج............ 63

وداع الإمام (علیه السلام) لقبر جدّه وأمّه وأخيه (علیهم السلام) ............... 65

وداع أمّ سلَمة......... 67

الودائع عند أُمّ سلَمة......... 69

وداع الهاشميّات..... 71

تاريخ خروج الإمام (علیه السلام) ....... 75

القسم الأوّل: التاريخ......... 75

القول الأوّل: ليلة الأحد، يومين بقيا من رجب...... 75

القول الثاني: ليلتين بقيتا من رجب........... 76

القول الثالث: بقيّة من رجب...... 76

القول الرابع: ثلاث ليالٍ مضين من شعبان.............. 77

ص: 288

القول الخامس: خمس خلَون من شعبان............... 77

جمع الأقوال... 78

القسم الثاني: الزمان.......... 78

القول الأوّل: الليل........ 78

القول الثاني: نهاراً......... 79

جمع الأقوال... 79

ملاحظتان.......... 80

الملاحظة الأُولى: الخروج وقت السحَر!............... 80

الملاحظة الثانية: حركة الإمام (علیه السلام) في الزمن الحرام........... 81

فخرج منها خائفاً..... 83

مَن خرج مع الإمام (علیه السلام) ........ 87

جملة النصوص... 87

المجموعة الأُولى: العناوين العامّة..... 89

المجموعة الثانية: المنصوص على أسمائهم...... 90

المجموعة الثالثة: المستثنى............. 91

النموذج الأوّل: محمّد ابن الحنفيّة........... 92

النموذج الثاني: عمر بن عليّ...... 92

النموذج الثالث: فاطمة بنت الحسين (علیهما السلام) ......... 93

النموذج الرابع: عبد الله بن جعفر............. 94

النموذج الخامس: أُمّ البنين (علیها السلام) ............ 95

رواية العلّامة الدربندي...... 99

وقفةٌ عجلى... 102

المشكلة الأُولى: تفرّد العلّامة الدربندي..... 102

المشكلة الثانية: اختلال التوقيت... 102

ص: 289

المشكلة الثالثة: اتّفاق المصادر على وصول الكتب في مكّة.............. 103

المشكلة الرابعة: مضامين غريبة... 103

النموذج الأوّل...... 104

النموذج الثاني...... 104

النموذج الثالث..... 104

النموذج الرابع...... 105

المشكلة الخامسة: تصريحه بالتوجّه إلى الكوفة...... 105

فائدة الخبر... 105

تصوير المازندارنيّ لهيئة الركب ومكوّناته..... 106

الخيل أو النياق والتجهيزات.... 107

فرس رسول الله (صلی الله علیه و آله) .............. 108

سيف رسول الله (صلی الله علیه و آله) ............. 108

درع رسول الله (صلی الله علیه و آله) ............... 109

عمامة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ............ 110

حربة رسول الله (صلی الله علیه و آله) .............. 110

إحصائية المازندرانيّ لأفراد الركب............. 111

[أخواته]....... 111

1. زينب الكبرى (علیها السلام) ............... 111

2. زينب الصغرى.......... 111

3. خديجة........ 111

4. رقيّة الكبرى.............. 112

5. أُمّ هانئ........ 112

6. زينب الصغرى.......... 113

7. رملة الكبرى.............. 113

8. رقيّة الصغرى............. 113

ص: 290

9. فاطمة........... 113

10. خديجة الصغرى..... 114

11 و12. أُمّ سلَمة وأُختها ميمونة.............. 114

13. جُمانة........ 114

[زوجات أمير المؤمنين (علیه السلام) ].... 114

1. الصهباء الثعلبيّة.......... 114

2. أُمّ مسعود بنت عُروة............... 115

3. ليلي بنت مسعود........ 115

4. أُمّ زينب الصغرى...... 115

5. أُمّ خديجة.... 115

6. أُمّ رقيّة الصغرى........ 115

7. أُمّ فاطمة...... 115

8. أمامة بنت أبي العاص............. 115

[نساء أُخريات].......... 116

1. أُمّ كلثوم الصغرى بنت زينب الكبرى... 116

2. جُمانة عمّة الإمام (علیه السلام) ............. 116

[الجواري].... 116

[جواري السيّدة زينب]... 116

1. فضّة... 117

2. قفيرة............... 117

3. روضة.............. 118

4. أُمّ رافع............ 119

[جواري الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ]............. 119

5. ميمونة............. 119

[جواري أزواج الإمام (علیه السلام) ]......... 120

ص: 291

6. فاكهة.............. 120

7. حسنية.............. 120

8. كبشة............... 121

9. مليكة.............. 121

المَوالي......... 122

1. سُليمان بن أبي رَزين.............. 122

2. قارب بن عبد الله الدؤلي......... 122

3. مُنجِح بن سهم.......... 123

4. سعد بن الحارث الخزاعي....... 123

5. نصر بن أبي نيزر........ 123

6. الحارث بن نبهان....... 123

7. جون بن حَويّ.......... 123

8. أسلم بن عمرو........... 124

9. عقبة بن سمعان......... 124

10. عليّ بن عثمان الحضرميّ..... 125

إخوته........... 126

1 _ 4. العبّاس (علیه السلام) وإخوته......... 126

5 و6. محمّد الأصغر وأبو بكر..... 126

7. عمر بن عليّ.............. 126

8. عون بن عليّ............. 127

9. محمّد الأوسط.......... 127

أولاد جعفر بن أبي طالب........ 127

1. عون الأكبر بن عبد الله بن جعفر.......... 127

2 و3. محمّد وعُبيد الله ابنا عبد الله بن جعفر........... 127

4. عون بن جعفر........... 128

ص: 292

5. القاسم بن محمّد بن جعفر...... 128

أولاد عمّه عقيل......... 128

1. جعفر بن عقيل.......... 128

2. عبد الرحمان بن عقيل............ 129

3. محمّد بن أبي سعيد... 129

4. عبد الله الأصغر.......... 129

5. موسى بن عقيل......... 129

6. عليّ بن عقيل............ 129

7. أحمد بن عقيل.......... 129

8. مسلم بن عقيل........... 130

9 _ 12. صبيّان من آل عقيل....... 130

زوجات الإمام الحسن (علیه السلام) وأولاده....... 130

1. الحسن المثنّى............ 131

2 _ 4. القاسم وعمرو وعبد الله... 131

5 _ 7. أحمد وأُختاه أُمّ الحسن وأُمّ الحسين.......... 131

8 و9. محمّد وجعفر...... 131

10. أبو بكر...... 132

11 _ 13. الحسين وطلحة وفاطمة............ 132

14 _ 16. زيد وعبد الرحمان وأُمّ الحسين............. 132

خروج ليلى زوجة الإمام (علیه السلام) ......... 135

أدمى أُخت الإمام الحسين (علیه السلام) ...... 135

هل التحق بالإمام (علیه السلام) أحدٌ في طريق المدينة؟!.......... 139

الوقفة الأُولى: مصدر الكلام........... 140

الوقفة الثانية: على فرض الوقوف على نسخةٍ خاصّة...... 141

ص: 293

الوقفة الثالثة: سعة ديار جُهينة........ 141

الوقفة الرابعة: التحاق الأعراب في طريق المدينة!....... 143

الوقفة الخامسة: تصريح المامقاني... 143

الوقفة السادسة: الأعراب!.............. 144

الوقفة السابعة: لم يدعُهم الإمام (علیه السلام) !............. 145

ملاحقة الإمام عند الخروج من المدينة......... 147

مطاردة الركب في طريق مكّة......... 151

جواب الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ....... 152

الجواب الأوّل: البقاء على الجادّة حتّى يقضي الله............ 152

الجواب الثاني: أكثر صراحة.... 153

الإفادة الأُولى: عدم الإنكار على الملتمس............. 154

الإفادة الثانية: التمثّل بشعر ابن المفرغ....... 155

الإفادة الثالثة: التصريح في شعر المقتل..... 156

سؤال!............. 157

التأمّل الأوّل: السبب المنصوص............ 159

التأمّل الثاني: التعليل الثاني....... 159

التأمّل الثالث: سرعة الحركة.... 160

التأمّل الرابع: اللقاء بكلّ المارّة والقوافل وتساؤلهم!......... 160

التأمّل الخامس: ثمرة الافتراض............ 161

التأمّل السادس: اختيار الطريق الأعظم والشرعيّة!............. 162

إمكان المطاردة في الطريق............. 165

السبب الأوّل: الاستعداد الإعلاميّ... 165

السبب الثاني: الاستعداد العسكريّ... 166

الضرورة الأُولى: معرفة الأعداء قوّة سيّد الشهداء (علیه السلام) ...... 167

ص: 294

الضرورة الثانية: منطقة حواضر.............. 168

الضرورة الثالثة: إمكان تحريك القطعات.......... 169

الضرورة الرابعة: احتمال حصول الأنصار........... 169

الضرورة الخامسة: الظروف..... 170

السبب الثالث: تخطيط العدوّ للاغتيال.......... 171

السبب الرابع: غموض الموقف...... 171

السبب الخامس: زمام المبادرة....... 173

السبب السادس: حركة الإمام (علیه السلام) في المنطقة الآمنة.... 174

السبب السابع: صعوبة مطاردة ركبَين في آنٍ واحد..... 175

السبب الثامن: سرعة حركة الركب الحسينيّ.............. 177

الإلماعة الأُولى: التخفّي في الخروج..... 179

الإلماعة الثانية: استعجال السير.............. 180

الإلماعة الثالثة: الوقت وإمكان اللقاء بالناس في المنازل... 181

الإلماعة الرابعة: عدم تسجيل أيّ نشاطٍ في الطريق.......... 181

الإلماعة الخامسة: أزلام السلطة في الطريق......... 182

لقاء أفواج الملائكة والجنّ مع سيّد الشهداء وجوابه (علیه السلام) ......... 183

الإشارة الأُولى: تخوّف الملائكة مِن عدوٍّ يلقاه............... 185

الإشارة الثانية: أفواج الجنّ تَعِدُ بقتل كلّ عدوّ.... 186

الإشارة الثالثة: استشهاد المطلوبين......... 186

الإشارة الرابعة: قتل العدوّ قبل أن يصل إلى الحسين (علیه السلام) ............... 187

الإشارة الخامسة: إقامة الحُجّة............... 187

لقاء عبد الله بن مطيع.......... 189

المتابعة الأُولى: مَن هو عبد الله بن مطيع؟.... 189

المتابعة الثانية: قصد مكّة بالذات أوّلاً............ 190

ص: 295

التأمّل الأوّل: تصريح سيّد الشهداء (علیه السلام) .............. 191

التأمّل الثاني: خوف ابن مطيع على سيّد الشهداء (علیه السلام) من القتل...... 192

التأمّل الثالث: دعوات المكّيّين!............ 193

المعالجة الأُولى: احتمال السقط............... 194

المعالجة الثانية: الاضطراب في المتن........ 195

المعالجة الثالثة: قبول الخبر.......... 195

التأمّل الرابع: الاستنهاض والاستنصار.... 197

التأمّل الخامس: دعوة الشيعة من كلّ أرض........ 198

المتابعة الثالثة: موقف ابن مطيع..... 199

المتابعة الرابعة: مؤدّى اللقاء.......... 200

لقاء العبدَين ابن عبّاس وابن عمر بالإمام!...... 203

المشكلة الأُولى: ابن عمر في المدينة وابن عبّاس في مكّة.......... 204

المشكلة الثانية: قول الشيخ ابن نما............... 205

المشكلة الثالثة: خروج ابن الزبير قبل الإمام (علیه السلام) .......... 205

المشكلة الرابعة: اختلاف الطريق..... 206

لقاء ابن عمر وابن عيّاش!... 207

النكزة الأُولى: المناقشات السابقة..... 208

النكزة الثانية: مؤدّيات كلام ابن عمر............ 208

النكزة الثالثة: إعلان وجهة الإمام (علیه السلام) !........... 209

دخول مكّة المكرّمة.. الدخول الهادئ.......... 211

تلاوة قوله (تعالى): ﴿وَلمّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قال ...﴾.... 212

الدلالة الأُولى: المراد بالسبيل............... 212

الدلالة الثانية: قراءة الآية عند الخروج وتتمّتها عند الدخول.......... 213

الدلالة الثالثة: استمرار الملاحقة............ 215

ص: 296

الدلالة الرابعة: الاستخارة......... 217

الدلالة الرابعة: طلب العافية والاستقرار في مكّة إلى حين.............. 218

الدلالة الخامسة: الإشعار بعدم تحديد المقصد الأخير...... 219

لماذا قصد الإمام (علیه السلام) مكّة أوّلاً؟...... 221

القسم الأوّل: غير المنصوص.......... 221

العامل الأوّل: حصانة مكّة........ 221

العامل الثاني: قربها من المدينة.............. 224

العامل الثالث: توفّر الغطاء المسوّغ........ 224

العامل الرابع: توظيف فرصة تجمّع المسلمين..... 225

السبب الأوّل: التوقيت الاضطراري........... 225

السبب الثاني: مواقف الإمام (علیه السلام) في مكّة............... 226

قد يُقال:........... 226

القسم الثاني: المنصوص... 227

التصريح الأوّل: تصريح سيّد الشهداء (علیه السلام) بعلّة قدومه إلى مكّة..... 227

التلويح الأوّل: التصريح بسبب القدوم....... 228

التلويح الثاني: التلويح بالمطاردة.............. 228

التلويح الثالث: خلوّ التصريح من التهديد وما بمعناه............ 229

التلويح الرابع: مناسبة الجواب للسؤال....... 229

التصريح الثاني: الإمام (علیه السلام) يُخبِر ابنَ عبّاسٍ أنّه جاء مكّة مستجيراً............... 229

التصريح الثالث: تصريح الإمام (علیه السلام) أنّه جاء مستوطِناً....... 231

النقطة الأُولى: الاستيطان والإقامة أبداً....... 232

النقطة الثانية: شرط البقاء............. 233

الشعبة الأُولى: الحبّ......... 233

الشعبة الثانية: النصرة.......... 236

النقطة الثالثة: فرض عدم توفّر الشرط........ 237

ص: 297

النقطة الرابعة: البديل...... 239

الموقف الأوّل: الاستبدال............... 239

الموقف الثاني: الاستعصام بكلمة إبراهيم (علیه السلام) ............ 241

النقطة الخامسة: التشبيه بإبراهيم الخليل..... 242

المنازل بين مكّة والمدينة............... 245

المسافة بين المدينة ومكّة............. 245

المراحل بين الحرمين.... 246

المرحلة الأُولى.......... 246

المرحلة الثانية............ 247

المرحلة الثالثة............ 247

المرحلة الرابعة........... 247

المرحلة الخامسة........ 247

المرحلة السادسة........ 248

المرحلة السابعة.......... 248

المرحلة الثامنة........... 248

المرحلة التاسعة.......... 248

المرحلة العاشرة......... 248

منازل الطريق............... 249

(1) ذو الحليفة........... 249

(2) الحفير، أو الحفيرة (بئر).... 249

(3) ملل، أو فرش ملل (الفريش).......... 250

(4) السيالة.... 251

(5) الروحاء............... 252

(6) عرق الظبية، ظُبْيَةُ.............. 253

ص: 298

(7) المنصرف (المسيجيد)...... 254

(8) الرويثة.... 255

(9) الصفراء............... 255

(10) بدر...... 257

(11) الأثاية............... 259

(12) العرج... 260

(13) السقيا... 261

(14) الأبواء............... 263

(15) الجُحفة............. 264

(16) ودّان.... 266

(17) عقبة هرشى....... 266

(18) ذات الأصافر..... 268

(19) بئر الطلوب بعد السقيا..... 268

(20) لحى جمل........ 269

(21) وادي العبابيد..... 269

(22) القاحة............... 270

(23) كليّة..... 270

(24) المشلّل.............. 271

(25) قديد.... 271

(26) خيمتا أُمّ معبد.... 272

(27) خليص.............. 273

(28) أمج..... 273

(29) الكديد.............. 274

(30) عسفان.............. 274

(32) غزال -- ثنية غزال........... 276

ص: 299

(33) كراع الغميم...... 276

(34) بطن مرّ.............. 277

(35) سرف... 277

(36) مكّة..... 278

المنازل في لفظ اليعقوبي......... 278

طريق الجادّ من المدينة الى مكّة... 280

طريقٌ آخَر.... 280

الطريق الّذي سلكه سيّد لشهداء (علیه السلام) ............ 281

الخاتمة... 283

ص: 300

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.