مسكن الفواد في فقد الاحبه و الاولاد

اشارة

مسكن الفواد في فقد الاحبه والاولاد

تأليف: زين الدين بن علي بن أحمد العاملي الجبعي

تحقيق: سيد على جمال أشرف

موضوع: احاديث اخلاقي

موضوع: Hadiths - Ethics

موضوع: اخلاق اسلامي

موضوع: Islamic ethics

ص: 1

اشارة

مسكن الفواد في فقد الاحبه والاولاد

تأليف: زين الدين بن علي بن أحمد العاملي الجبعي

تحقيق: سيد على جمال أشرف

ص: 2

مقدمة المحقّق

الحمد للّه ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين الصابرين ، واللّعن الدائم على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين ، وبعد :

الصابرون حقّا هم أهل بيت النبوة عليهم السلام ، وما عند غيرهم من الصبر إلاّ ما رشح عنهم عليهم السلام الى الخلق ، قال أمير المؤمنين عليه السلام : نحن الصابرون(1) .

والمسكن الأعظم للفؤاد ، إنّما هو من سجد بين يديه البلاء ، وعجبت من صبره ملائكة السماء(2) ، سيد الشهداء الحسين بن علي سيد

الأوصياء عليهماالسلام ، فهو سلوة وعزاء ، لكلّ مصاب بأيّ نوع من أنواع البلاء . . سلوة للمحروب ، وفرج للمكروب ، وعزاء لمن فقد العزيز والمحبوب . .

ص: 3


1- نهج الإيمان لابن جبر : 532 ، الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف للسيد ابن طاووس : 414 ، حلية الأبرار للسيد هاشم البحراني : 2/338 .
2- بحار الأنوار : 98/239 باب 18 .

أصيب بجدّه خير الأجداد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، الذي انقطع برحيله الوحي من السماء ، لأنّه أشرف الكائنات وخاتم الرسل والأنبياء ، وقد رحل من هذه الدنيا غريبا ، يسمعه الحسين عليه السلام ينادي في آخر لحظات عمره المبارك : آتوني بدواة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا . . فيجيبه الجلف الجافي المنكر بغلظة الكفار ، بل أشدّ غلظة ، فيقول لمن لا « يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى » : إنّ الرجل ليهجر ! ! هكذا : إنّ الرجل ! ! الرجل ! ! يهجر ! ! . .

فصبر . .

ونزل جبرئيل عليه السلام يخبر النبي صلى الله عليه و آله عن اللّه مرّة بعد مرّة بشهادته

وما سيلقى من هذه الأمّة المنكوسة ، فكان النبي صلى الله عليه و آله يخبر جهرة وسرّا بما يخبره اللّه عن الحسين عليه السلام ، والحسين يسمع ، وهو في مقتبل العمر . .

فصبر . .

وغصبت الخلافة من أبيه وجرى عليهم ما جرى من القساوة والجفاء ، والخيانة والتنكّر . .

فصبر . .

وهتكت حرمة جدّه وأبيه وأمّه سيدة النساء ، وهجموا على دارهم وأسقطوا أخاه المحسن الشهيد عليه السلام ، وروّعوا أمّه بالسياط - وهي أم خير الأسباط - ، ولطموا حرّ وجهها - الذي كان يقبّله النبي الأعظم صلى الله عليه و آلهأمام عينيه - حتى أدموه . .

ص: 4

فصبر . .

فارقت أمّه الحياة - وهي ليست كباقي الأمهات لأنّها الحوراء الأنسية وحبيبة اللّه ورسوله خير البرية - ورأها تذوب وتذوي وتنطفى ء وهي الريحانة المحمدية ، والمشكاة العلوية ، وبعد لم تمرّ عليها في هذه الدنيا الدنية سوى ثمانية عشر ربيعا ، قضتها بفعل الفجرة اللئام تكابد المحن والآلام من هذه الأمة التي لم تحفظ النبي صلى الله عليه و آله في عترته الطاهرة النقية . . رحلت أمّه شهيدة مظلومة ، غريبة مقهورة ، مكسورة الضلع ، ناحلة الجسم حتى صارت كالخيال . .

فصبر . .

وعاش المحنة مع أبيه وأخيه واخواته . . هجرهم الناس ، وهو وصية اللّه ووصية رسوله صلى الله عليه و آله ، معزولاً في البيت ، محاصرا ، ممنوعا حتى من البكاء على مصيبته . .

فصبر . .

نظر بأمّ عينيه كيف تنزو القردة على منبر جدّه ، ويحرّف كلام اللّه عن مواضعه ، يشربون الخمر في بيت ربّه ، ويلعبون القمار ، ويعزفون بالمزامير باسم دينه ، ويضطرون حجة اللّه أن يقرن بالسافل الرذل من عبيد الشيطان . .

فصبر . .

ونظر الى أبيه سيد الأوصياء ، وخير البشر بعد سيد الأنبياء ، وقد امتلأ قلبه قيحا ، ثم تشحّط بدمه ، فخضّبت لحيته من هامته ، فحمله هوواخوته الى البيت ووضعوه بين أزواجه وبناته في شهر الصيام . .

ص: 5

فصبر . .

ونظر الى أخيه يطعن في فخذه ، ويسلب ماله ورحله وثقله ، ودخل عليه ، وهو يقلّب كبده الذي قذفه على اثر السمّ الذي سقاه الطواغيت ، ويمنع من أن يدفن في حجرة جدّه ، والشيطان ينعق : لا تدخلوا بيتي من لا أحبّ ، ثم ترمى جنازته بالنبال . .

فصبر . .

ثم يجتمع كلّ بلاء يمكن أن يتصوّره عقل أو خيال في غضون شهور ، وتهجم عليه عساكر الغصص والمحن والبلايا في غضون ساعات ، فيلاحق في بلده ، ويشرّد من وطنه ، فيخرج الى شيعته ويحولون بينه وبينهم ، فيقدّم كلّ عزيز ، فيقتل بين يديه اخوته وأولاده وأولاد أخوته وعمومته وأصحابه وأحبّته ، حتى تبقى ديارهم خالية مقفرة يتجاوب فيها الهواء بالنياحة والعويل ، فلا يمرّ عليها المار حتى يختنق بعبرته ، ويهجم القوم على عياله وحرمه ، وينهبون رحله وثقله ، وهو ينادي فيهم : امنعوا عتاتكم عن التعرّض لحرمي ما دمت حيّا .

قال عبد اللّه بن عمار بن يغوث : فواللّه ، ما رأيت مكثورا قطّ ، قد قتل ولده ، وأهل بيته وصحبه ، أربط جأشا منه ، ولا أمضى جنانا ، ولا أجرأ مقدما ، واللّه ما رأيت قبله ولا بعده مثله ، ولقد كانت الرجال تنكشف بين يديه إذا شدّ فيها ، ولم يثبت له أحد(1) .

ص: 6


1- تاريخ الطبري : 6/259 ، مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي : 2/38 .

فقصدوه بنفسه - بعد أن ذبحوا حتى الرضّع في عسكره - فذبحوا ابن أخيه على صدره ، وهو يقول : اصبر يا بني واحتسب في ذلك الأجر . . ثم عادوا الى حرمه ورحله ، فسلبوا ونهبوا وهتكوا حرم اللّه حتى كانت المرأة من بنات الرسالة لتنازع على ملحفتها ! وقسموا كلّ أمواله - حتى الأبل التي حمل عليها ثقله - بين أعدائه ، ثم ساقوا أهله وعياله أخواته على المطايا بلا غطاء ولا وطاء ، فشهّروا بهن في البلدان ، وأدخلوهن مجالس ما بارحت المعاصي وتعدّي حدود اللّه ، وأشمتوا بهن الأعداء . .

فصبر . .

قال الشيخ التستري رحمه الله : وأمّا صبره عليه السلام كما ورد : ولقد عجبت من صبره ملائكة السماوات ، فتدبر في أحواله وتصورها حين كان ملقى على الثرى في الرمضاء ، مجرح الأعضاء ، بسهام لا تعدّ ولا تحصى ، مفطور الهامة ، مكسور الجبهة ، مرضوض الصدر ، من السهام مثقوب الصدر بذي الثلاث شعب ، سهم في نحره ، وسهم في حنكه ، وسهم في حلقه ، اللسان مجروح من اللوك ، والكبد محترق ، والشفاه يابسة من الظمأ ، القلب محروق من ملاحظة الشهداء في أطرافه ، ومكسور من ملاحظة العيال في الطرف الآخر ، الكفّ مقطوع من ضربة زرعة بن شريك ، والرمح في الخاصرة ، مخضّب اللحية ، والرأس يسمع صوت الاستغاثات من عياله ، والشماتات من أعدائه ، بل الشتم والاستخفاف من الأطراف ،ويرى بعينه إذا فتحها القتلى الموضوعة بعضها على بعض . .

ص: 7

ومع ذلك كلّه لم يتأوّه في ذلك الوقت ، ولم تقطر من عينه قطرة دمع ، بل صبر وسلّم أمره الى محبوبه ، وتوجه يناجي ربّه(1) :

اللّهم متعالي المكان ، عظيم الجبروت ، شديد المحال ، غنّي عن الخلائق ، عريض الكبرياء ، قادر على ما تشاء ، قريب الرحمة ، صادق الوعد ، سابق النعمة ، حسن البلاء ، قريب إذا دعيت ، محيط بما خلقت ، قابل التوبة لمن تاب إليك ، قادر على ما أردت ، ومدرك ما طلبت ، شكور إذا شكرت ، ذكور إذا ذكرت . . أدعوك محتاجا ، وأرغب إليك فقيرا ، وأفزع إليك خائفا ، وأبكي إليك مكروبا ، وأستعين بك ضعيفا ، وأتوكل عليك كافيا .

اللّهم احكم بيننا وبين قومنا ، فإنّهم غرّونا وخذلونا ، وغدروا بنا وقتلونا ، ونحن عترة نبيك ، وولد حبيبك محمد - صلّى اللّه عليه وآله - الذي اصطفيته بالرسالة ، وائتمنته على الوحي ، فاجعل لنا من أمرنا فرجا ومخرجا ، يا أرحم الراحمين .

صبرا على قضائك يا ربّ ، لا إله سواك يا غياث المستغيثين ، ما لي ربّ سواك ، ولا معبود غيرك ، صبرا على حكمك ، يا غياث من لا غياث له ، يا دائما لا نفاد له ، يا محيي الموتى ، يا قائما على كلّ نفس بما كسبت ،احكم بيني وبينهم ، وأنت خير الحاكمين(2) .

ص: 8


1- الخصائص الحسينية : 39 .
2- مثير الأحزان لابن نما : 39 ، مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي : 1/147 .

فمن فقد جدّا أو أبا أو أمّا أو أخا أو حبيبا أو صاحبا أو عزيزا ، فعزاؤه وسلوته الحسين عليه السلام .

ومن أعتدي على عزيزه ، وأبرزت كريمته ، أو سبي أهله ، فعزاؤه وسلوته الحسين عليه السلام .

ومن نهب ماله وثقله ورحله ، فعزاؤه وسلوته الحسين عليه السلام .

ومن حرم حقّه وسلب سلطانه ، فعزاؤه وسلوته الحسين عليه السلام .

ومن شرّد وأخرج من ماله وأهله وبلده ، وأبعد عن وطنه ومسقط رأسه ، فعزاؤه وسلوته الحسين عليه السلام .

ومن عاش الغربة في وطنه وبين معارفه ، وكابد الغربة بين أعدائه ومن جهل حقّه وقدره ، فعزاؤه الحسين عليه السلام .

فهو فرج كلّ مكروب ، وسلوة كلّ محروب ، وعزاء كلّ فاقد ومنكوب ، وهو أعزّ من كلّ محبوب ، فإن كان الإنسان باكيا ، فليبك على الحسين بن علي عليهماالسلام . .

قال دعبل رحمه الله :

تعزّ بمن قد مضى سلوة

وإنّ العزاء يسلّي الحزن

بموت النبي وقتل الوصي

وذبح الحسين وسمّ الحسن(1)

وقال منبه الصوفي :

محن الزمان سحائب متراكمه

عين الحوادث بالفواجع ساجمه

فإذا الهموم تراكمتك فسلّها

بمصاب أولاد البتولة فاطمه* * *

ص: 9


1- المناقب : 4/46 .

روي مسندا عن عبد اللّه بن الفضل الهاشمي قال : قلت لأبي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليهماالسلام : يا ابن رسول اللّه ، كيف صار يوم عاشوراء يوم مصيبة وغمّ وجزع وبكاء دون اليوم الذي قبض فيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، واليوم الذي ماتت فيه فاطمة عليهاالسلام ، واليوم الذي قتل فيه أمير المؤنين عليه السلام ، واليوم الذي قتل فيه الحسن عليه السلام بالسمّ ؟

فقال : إنّ يوم الحسين عليه السلام أعظم مصيبة من جميع سائر الأيام ، وذلك أنّ أصحاب الكساء الذي كانوا أكرم الخلق على اللّه - تعالى - كانوا خمسة ، فلمّا مضى عنهم النبي صلى الله عليه و آله بقي أمير المؤنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ، فكان فيهم للناس عزاء وسلوة .

فلمّا مضت فاطمة عليهاالسلام كان في أمير المؤنين والحسن والحسين عليهم السلام للناس عزاء وسلوة .

فلمّا مضى منهم أمير المؤنين عليه السلام كان للناس في الحسن والحسين عليهماالسلام

عزاء وسلوة .

فلمّا مضى الحسن عليه السلام كان للناس في الحسين عليه السلام عزاء وسلوة .

فلمّا قتل الحسين عليه السلام لم يكن بقي من أهل الكساء أحد للناس فيه بعده عزاء وسلوة ، فكان ذهابه كذهاب جميعهم ، كما كان بقاؤ كبقاء جميعهم ، فلذلك صار يومه أعظم مصيبة .

قال عبد اللّه بن الفضل الهاشمي : فقلت له : يا ابن رسول اللّه ، فلم لم يكن للناس في علي بن الحسين عليهماالسلام عزاء وسلوة مثل ما كان لهم في آبائه عليهم السلام ؟

ص: 10

فقال : بلى ، إنّ علي بن الحسين كان سيد العابدين ، وإماما وحجة على الخلق بعد آبائه الماضين عليهم السلام ، ولكنّه لم يلق رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ولم يسمع منه ، وكان علمه وراثة عن أبيه عن جدّه عن النبي صلى الله عليه و آله ، وكان أمير المؤنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام قد شاهدهم الناس مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله في أحوال في آن يتوالى ، فكانوا متى نظروا إلى أحد منهم تذكروا حاله مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وقول رسول اللّه له وفيه .

فلمّا مضوا فقد الناس مشاهدة الأكرمين على اللّه - عزّ وجلّ - ولم يكن في أحد منهم فقد جميعهم إلاّ في فقد الحسين عليهم السلام ، لأنّه مضى آخرهم ، فلذلك صار يومه أعظم الأيام مصيبة(1) . . .

فمصيبة الحسين عليه السلام أعظم المصائب ، والمشهد المتمم لمصيبة النبي صلى الله عليه و آله

التي قال فيها صلى الله عليه و آله : من أصيب بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنّها أعظم المصائب ، لأنّ مصيبة فاطمة عليهاالسلام المظلومة ، ومصيبة علي أمير المؤمنين عليه السلام ، ومصيبة الحسن والحسين عليهماالسلام ، مصيبته ، لأنّهم لحمه ودمه ونفسه وروحه ، وهم منه وهو منهم .

وبالرغم من ذلك لم نجد لذكر مصاب الحسين عليه السلام وصبره وصبر شريكته زينب عليهاالسلام في هذا الكتاب - الذين بين يديك - ذكرا ، ولهذا رأينا - لزاما - أن نخصص المقدّمة للإشارة - مهما كانت سريعة وقاصرة -إلى « المسكن الأعظم للفؤاد » ، وذكرنا في ثنايا الكتاب بعض المواقف أيضا .

ص: 11


1- علل الشرائع : 1/225 باب 162 ح1 ، بحار الأنوار : 44/269 باب 32 .

ص: 12

المؤلف رحمه الله

اشارة

الشيخ الأجل زين الدين بن علي بن أحمد بن محمد بن جمال الدين بن تقي الدين بن صالح - تلميذ العلامة - العاملي الجبعي ، الشهيد الثاني .

ولد رحمه الله ثالث عشر شوال سنة إحدى عشرة وتسعمائة ، وختم القرآن وعمره تسع سنين ، وقرأ على والده العلوم العربية وبعض الفقه ، وكان قد جعل له راتبا من الدراهم بإزاء ما كان يحفظه من العلم للتشويق والرغبة ، حتى توفي سنة خمس وعشرين وتسعمائة ، وعمره إذ ذاك أربعة عشر سنة .

أمره في الثقة والعلم والفضل والزهد والعبادة والورع والتحقيق والتبحّر ، وجلالة القدر ، أشهر من أن يذكر ، ومصنفاته كثيرة مشهورة .

روى عن جماعة كثيرين جدّا من الخاصة والعامة في الشام ومصر وبغداد وقسطنطينية وغيرها .

وكان محدّثا نحويا قارئا متكلّما حكميا ، وهو أول من صنف من الإمامية في دراية الحديث ، لكنّه نقل الاصطلاحات من كتب العامة ، كما ذكره ولده وغيره .

ص: 13

بعض مؤلفاته :

له مؤفات منها شرح الإرشاد في الفقه للعلامة ، واسمه « روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان » خرج منه الطهارة والصلاة ولم يتمّ ، وهو أول ما ألّفه .

وكتاب شرح الألفية ، مختصر ، وشرح متوسط ، وشرح مطول ، وشرح النفلية .

وشرح اللمعة مجلدان ، واسمه « الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية » .

وشرح الشرائع سبع مجلدات واسمه مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام .

وحاشية فتوى خلافيات الشرائع ، وحاشية القواعد ، وحاشية تمهيد القواعد ، وحاشية الإرشاد ، وحاشية المختصر النافع .

ومنية المريد ، في آداب المفيد والمستفيد .

ورسالة أسرار الصلاة ، ورسالة في نجاسة البئر بالملاقاة وعدمها ، ورسالة في تيقن الطهارة والحدث والشك في السابق ، ورسالة فيمن أحدث في أثناء غسل الجنابة ، ورسالة في تحريم طلاق الحائض الحامل الحاضر زوجها المدخول بها ، ورسالة في طلاق الغائب ، ورسالة في صلاة الجمعة ، ورسالة في الحثّ على صلاة الجمعة ، ورسالة في آداب الجمعة ، ورسالة في حكم المقيمين في الأسفار ، ومنسك الحجّالكبير ، ومنسك الحج الصغير ، ورسالة في نيات الحج والعمرة ، ورسالة

ص: 14

في أحكام الحبوة ، ورسالة في ميراث الزوجة ، ورسالة في جواب ثلاث مسائل ، ورسالة في عشرة مباحث مشكلة في عشرة علوم .

وكتاب مسكن الفؤد عند فقد الأحبّة والأولاد .

وكتاب كشف الريبة عن أحكام الغيبة .

والبداية في الدراية ، وشرح الدراية ، وكتاب غنية القاصدين في اصطلاحات المحدّثين .

وكتاب منار القاصدين في أسرار معالم الدين .

ورسالة في شرح حديث « الدنيا مزرعة الآخرة » .

وكتاب الرجال والنسب .

وكتاب تحقيق الإسلام والإيمان .

ورسالة في تحقيق النية ، ورسالة في أنّ الصلاة لا تقبل إلاّ بالولاية ، ورسالة في تحقيق الإجماع .

وكتاب الإجازات .

وحاشية على عقود الإرشاد ، ومنظومة في النحو وشرحها .

ورسالة في شرح البسملة .

وسؤلات الشيخ زين الدين وأجوبتها ، وسؤلات الشيخ أحمد وأجوبتها .

ومختصر منية المريد ، ومختصر مسكن الفؤد ، ومختصر الخلاصة وفتاوى المختصر .

ورسالة في تفسير قوله تعالى : « وَالسّابِقُونَ الأَْوَّلُونَ » ، ورسالة فيتحقيق العدالة .

ص: 15

وجواب المسائل الخراسانية ، وجواب المباحث النجفية ، وجواب المسائل الهندية ، وجواب المسائل الشامية .

ورسالة المسائل الاسطنبولية في الواجبات العينية .

والبداية في سبيل الهداية .

وفوائد خلاصة الرجال .

ورسالة في دعوى الإجماع في مسائل من الشيخ ومخالفة نفسه .

ورسالة في ذكر أحواله .

وغير ذلك من الرسائل والإجازات والحواشي .

وقد ذكره ولد ولده في كتاب « الدر المنثور » ومدحه بما هو أهله ، وذكر أكثر ما مضى ويأتي مع زيادات لم ننقلها خوف الإطالة .

وقد صنف تلميذه الشيخ محمد بن علي بن الحسن بن العودي العاملي الجزيني في أحواله تاريخا ، ذكر فيه تفصيل أوقات التدريس والمطالعة والتصنيف والمراجعة ، والاجتهاد في العبادة ، والنظر في أحوال المعيشة ، وقضاء حوائج المحتاجين ، وتلقّي الأضياف بوجه مسفر وكرم وبشاشة .

ثم ذكر تضلّعه في الأدب والفقه والحديث والتفسير والمعقول والهيئة والهندسة والحساب ، وغير ذلك ، وأنّه مع ذلك كان ينقل الحطب بالليل على حمار لعياله .

ونقل عنه من رسالته التي ألّفها في ذكر أحواله أنّ مولده ثالث عشر شوال سنة 911(1) .

ص: 16


1- أمل الآمل للحرّ العاملي : 1/85 - 91 رقم 81 .

أسفاره :

ارتحل إلى « ميس » ، ولازم الفاضل الميسي علي بن عبد العالي ، وقرأ عليه كتاب الشرائع والإرشاد وأكثر القواعد .

ثم ارتحل إلى « كرك - نوح » ، ولازم السيد الأجل الحسن بن جعفر الكركي، وقرأ عليه قواعد الشيخ ميثم والتهذيب والعمدة، وهما في أصول الفقه لأستاذه السيد المذكور ، وقرأ عليه الكافية في النحو ، وغير ذلك .

ثم ارتحل إلى « جبع » سنة أربع وثلاثين وتسعمائة ، وأخذ في مطالعة العلوم والتدريس إلى سنة سبع وثلاثين وتسعمائة .

فرحل إلى دمشق ، وقرأ بعض كتب الطب والهيئة على محمد بن مكي ، وبعض حكمة الاشراق ، وقرأ الشاطبية على أحمد بن جابر ، حتى إذا كانت سنة ثمان وثلاثين رجع إلى « جبع » ، ومنها رحل إلى مصر ، وجاء إلى الصالحية ، وقرأ جملة من كتابي البخاري ومسلم على ابن طولون . . .

وتوجه إلى مصر منتصف ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وتسعمائة ، ودخل مصر بعد شهرين من خروجه ، وقرأ على ستة عشر شيخا من شيوخ مصر فنون كثيرة وأجازوه .

ثم ارتحل إلى الحجاز في شوال سنة ثلاث وأربعين وتسعمائة ، ولمّا تمّ الحجّ جاء إلى المدينة لزيارة قبر النبي والأئمة عليهم السلام ، ونظم قصيدة خاطب بها النبي صلى الله عليه و آله .ورجع إلى « جبع » سنة أربع وأربعين وتسعمائة .

ثم سافر إلى العراق في ربيع الآخر من السنة المذكورة ، وزارالأئمة

عليهم السلام ، ورجع في خامس شعبان من السنة المذكورة .

ص: 17

وأقام في « جبع » إلى سنة ثمان وأربعين وتسعمائة ، ثم سافر إلى بيت المقدس في ذي الحجة ، واجتمع ببعض علمائها ، وقرأ عليهم بعض كتاب البخاري وبعض كتاب مسلم ، وأجازوه روايتهما ، بل ورواية عامة .

ثم رجع إلى وطنه ، وأخذ بمطالعة العلوم ومذاكرتها ، واستفرغ وسعه في الفقه إلى أواخر سنة إحدى وخمسين وتسعمائة .

ويظهر من إجازات الشيخ حسن وإجازات والده أنّه قرأ على جماعة كثيرين من علماء العامة ، وقرأ عندهم كثيرا من كتبهم في الفقه والحديث والأصولين ، وغير ذلك ، وروى جميع كتبهم ، وكذلك فعل الشهيد الأول والعلامة . . وقد ترتّب على ذلك ما يظهر لمن تأمل وتتبع كتب الأصول وكتب الاستدلال وكتب الحديث ، ويظهر من الشيخ حسن عدم الرضا بما فعلوا(1) .

وفي ذي الحجة من هذه السنة عزم على التوجه إلى اسلامبول ، فرحل إلى دمشق ، ومنها الى حلب ، دخلها سادس عشر محرم ، وخرج منها في صفر سنة 952 ، ودخل القسطنطينية في 12 ربيع الأول ، فكتب رسالة في عشرة مباحث من عشرة علوم ، وأوصلها إلى قاضي عسكر محمد بن محمد بن قاضي زاده ، والسلطان - حينئذٍ - سليمان خان ، فوقعت الرسالة منه موقعا حسنا .فأرسل القاضي الدفتر المشتمل على الوظائف والمدارس ، وبذل لهما اختاره من تدريس المدرسة النورية ببعلبك التي وقفها السلطان

ص: 18


1- أمل الآمل للحرّ العاملي : 1/85 - 91 رقم 81 .

نور الدين ، وعرضها على السلطان ، وكتب بما يراه ، وجعل له في كلّ شهر ما شرطه وأنفقها ، واجتمع بصاحب معاهد التنصيص هناك .

ورجع في رجب لأحد عشر يوم خلت منه ، وتوجه إلى العراق ، وزار الأئمة عليهم السلام ، ورجع في صفر سنة 953 ، وأقام ببعلبك يدرس بالمذاهب الخمسة ، واشتهر أمره .

وبعد خمس سنين رجع إلى « جبع » بنية المفارقة ، وصار يدرس ويصنف .

فصنف أولاً الروض ، وآخر ما صنف الروضة ، صنفها في ستة أشهر وستة أيام ، وكان غالب الأيام يكتب كراسة ، وكان يكتب بغمرة واحدة في الدواة عشرين أو ثلاثين سطرا ، وخلّف ألفي كتاب فيها مائتان كتاب كانت بخطّه الشريف من مؤفاته وغيرها .

مقتله رحمه الله :

ثم لمّا كانت سنة خمس وستين وتسعمائة - وهو في سنّ أربعة

وخمسين - ترافع إليه رجلان ، فحكم لأحدهما على الآخر ، فذهب المحكوم عليه إلى القاضي بصيدا ، واسمه معروف ، وكان الشيخ مشغولاً بتأليف شرح اللمعة ، فأرسل القاضي إلى « جبع » من يطلبه - وكان مقيما في كرم له منفردا عن البلد متفرغا للتأليف - فقال بعض أهل البلد : قدسافر عنّا منذ مدّة .

قال : فخطر في بال الشيخ أن يسافر إلى الحجّ ، وكان قد حجّ مرارا ، لكنّه قصد الاختفاء ، فسافر في محمل مغطى ، وكتب القاضي إلى السلطانأنّه قد وجد ببلاد الشام رجل مبدع خارج عن المذاهب الأربعة .

ص: 19

فأرسل السلطان سليمان رستم باشا في طلب الشيخ ، وقال له : ائتني به حيّا حتى أجمع بينه وبين علماء بلادي ، فيبحثون معه ، ويطلعون على مذهبه ويخبروني ، فأحكم عليه بما يقتضيه مذهبي .

فجاء الرجل ، فأخبر أنّ الشيخ توجه إلى مكة المشرفة ، فذهب في طلبه ، فاجتمع به في طريق مكة ، فقال له : تكون معي حتى نحجّ بيت اللّه ، فرضي بذلك .

فلمّا فرغ من الحجّ سافر معه ، فلمّا وصل رآه رجل فسأله عن الشيخ ، فقال : هذا رجل من علماء الشيعة أريد أن أوصله إلى السلطان ، فقال له : أو ما تخاف أن يخبر السلطان بأنّك قد قصّرت في خدمته وآذيته ، وله هناك أصحاب يساعدونه ، فيكون سببا لهلاكك ، بل الرأي أن تقتله ، وتأخذ برأسه إلى السلطان ، فقتله في مكان من ساحل البحر ، وأخذ الرجل رأسه إلى السلطان ، فأنكر عليه وقال : أمرتك أن تأتيني به حيّا ، فقتلته !

وسعى السيد عبد الرحيم العباسي صاحب « معاهد التنصيص » في قتل ذلك الرجل ، فقتله السلطان .

وفي رواية : إنّ القبض عليه كان في المسجد الحرام بعد فراغه من صلاة العصر ، فأخرجوه إلى بعض دور مكة ، وبقي هناك محبوسا شهرا وعشرة أيام ، ثم سافروا به على طريق البحر إلى قسطنطنية ، وقتلوه بها في تلكالسنة ، وبقي مطروحا ثلاثة أيام ، ثم طرحوا جسده الشريف في البحر(1) .

ص: 20


1- تكملة أمل الآمل للسيد حسن الصدر : 212 - 218 .

الكتاب :

قال الآقا بزرگ الطهراني رحمه الله : « مسكن الفؤد عند فقد الأحبّة والأولاد » ، للشيخ السعيد زين الدين بن علي بن أحمد العاملي الشهيد ، كتبه بعد فوت ولده محمد في رجب سنة أربع وخمسين وتسعمائة ، مرتّبا على مقدّمة وأبواب وخاتمة ، أول الأبواب في الأعواض عن فوت الولد ، وثانيها في الصبر ، وثالثها في الرضا ، ورابعها في البكاء .

أوله : الحمد للّه الذي قضى بالفناء والزوال على جميع عباده(1) .

وقد طبع الكتاب طبعات كثيرة ، وترجم الى عدّة لغات ، كما ورد في الذريعة .

أمّا هذه الطبعة التي بين يديك ، فقد قمنا بمقابلتها على النسخ التي توفرت لدينا ، وخرجنا النصوص التي وردت فيه ما إستطعنا الى ذلك سبيلاً ، وأضفنا عليه عناوين ، وجعلنا كلّ ما أضفناه بين معقوفتين .

اللّهم عجّل لوليك الفرج ، وسكّن أفئدتنا بظهوره ورؤيته ، وامتثال أمره وطاعته والتسليم له ، وارحمنا - وآباءنا وأمهاتنا وأزواجنا وذريّاتنا - به ، وتقبّل منّا إنّك أنت السميع العليم .

سيد علي جمال أشرف

14 / 6 / 1428 ه

ص: 21


1- الذريعة : 20 رقم 3747 .

ص: 22

المقدمة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه الذي حكم(1) بالفناء والزوال على جميع عباده ، وأنفذ حكمه وأمره(2) فيهم على وفق حكمته ومراده ، ووعد الصابرين على قضائه وقدره(3) جميل ثوابه وإسعاده ، وأوعد الساخطين جزيل نكاله وشديد وباله في معاده ، ولذّذ قلوب العارفين بتدبيره ، فبهجت نفوسهم في تسليمها لقياده ، هذا مع عجز كلّ منهم عن دفاع ما أمضاه ، وإن تمادى الجاهل في عناده ، فإياه سبحانه أحمد على كلّ حال ، وأسأله الإمداد بتوفيقه وإرشاده .

وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له شهادة أستدفع بها الأهوال في ضيق المحشر ووهاده ، وأشهد أنّ محمدا صلى الله عليه و آلهعبده ورسوله أفضل

ص: 23


1- في نسخة : « قضى » .
2- في نسخة : « وأنفذ أمره فيهم » .
3- في نسخة : « على قضائه جميل » .

من بشّر وحذّر ، وأعلم(1) من رضي بالقضاء وصبر ، وخدم به سلطان معاده ، صلّى اللّه عليه وعلى آله الأخيار أعظم الخلائق بلاءا ، وأشدّهم عناءا ، وأسدّهم تسليما ورضاءا ، صلاة دائمة واصلة إلى كلّ واحد بانفراده .

وبعد :

فلمّا كان الموت هو الحادث العظيم ، والأمر الذي هو على تفريق الأحبة مقيم ، وكان فراق المحبوب يعدّ من أعظم المصائب حتى كاد يزيغ له قلب ذي العقل(2) ، والموسوم بالحدس الصائب خصوصا ، ومن أعظم الأحباب الولد الذي هو مهجة الألباب ، ولهذا رتّب على فراقه جزيل الثواب ، ووعد أبواه شفاعته فيهما يوم المآب .

فلذلك جمعت في هذه الرسالة جملة من الآثار النبوية ، وأحوال أهل الكمالات(3) العلية ، ونبذة من التنبيهات الجلية ، ما ينجلي به إن شاء اللّه الصدأ عن قلوب المحزونين ، وتنكشف به الغمّة عن المكروبين ، بل تبتهج به نفوس العارفين ، ويستيقظ من اعتبره من سنة الغافلين ، وسمّيتها :

« مسكن الفؤد عند فقد الأحبّة والأولاد »ورتّبتها على مقدّمة وأبواب وخاتمة :

ص: 24


1- في نسخة : « وأعظم » .
2- في نسخة : « الغفلة » .
3- في نسخة : « الكلمات » .

أمّا :

المقدمة

اشارة

فاعلم أنّه ثبت أنّ العقل هو الآلة التي بها عرف اللّه (1) سبحانه ، وحصل به تصديق الرسل ، والتزام الشرائع ، وأنّه المحرض(2) على طلب الفضائل ، والمخوّف من الاتصاف بالرذائل ، فهو مدبر أمور الدارين ، وسبب لحصول الرئاستين ، ومثله كالنور في الظلمة ، فقد يقلّ عند قوم فيكون كعين الأعشى(3) ، ويزيد عند آخرين فيكون كالنهار في وقت الضحى .

فينبغي لمن رزق العقل أن لا يخالفه فيما يراه ، ولا يخلد إلى متابعة غفلته وهواه ، بل يجعله حاكما له وعليه ، ويراجعه فيما يرشده إليه ، فيكشف(4) له حينئذٍ ما يوجب الرضا بقضاء اللّه - سبحانه وتعالى - سيما فيما نزل به من هذا الفراق من وجوه كثيرة نذكر بعضها :

ص: 25


1- في نسخة : « الإله » .
2- في نسخة : « المحرص » .
3- في نسخة : « الأعمى الأعشى » .
4- في نسخة : « فينكشف » .

الأول : الموت مصلحة للعباد

إنّك إذا نظرت إلى عدل اللّه وحكمته ، وتمام فضله ورحمته ، وكمال عنايته ببريته ، إذ أخرجهم من العدم إلى الوجود(1) ، وأسبغ عليهم جلائل النعم ، وأيّدهم بالألطاف ، وأمدّهم بجزيل المعونة والإسعاف ، كلّ ذلك ليأخذوا حظّهم من السعادة الأبدية ، والكرامة السرمدية ، لا لحاجة منه إليهم ، ولا لاعتماد في شيء من أمره عليهم ، لأنّه الغني المطلق والجواد المحقّق .

وكلّفهم - تبارك وتعالى - بالتكاليف الشاقة ، والأعمال الثقيلة ، ليأخذوا منه حظّا وأملاً ، وليبلوهم أيّهم أحسن عملاً ، وما فعل ذلك إلاّ لغاية منفعتهم ، وتمام مصلحتهم ، وأرسل عليهم الرسل مبشرين ومنذرين ، وأنزل عليهم الكتب وأودعها ما فيه بلاغ للعالمين .

وتحقيق هذا المرام مستوفى في باب العدل من علم الكلام .

وإذا كانت أفعاله - تعالى وتقدّس - كلّها لمصلحتهم ، وما فيه تمام شرفهم ، والموت من جملة ذلك ، كما نطق به الوحي الإلهي في عدّة آيات كقوله - تعالى - :

« وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ كِتاباً مُؤجَّلاً » .

و « قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ » .و « أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ » .

و « اللّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها » إلى غير ذلك من الآيات .

ص: 26


1- في نسخة : « الى الوجود من العدم » .

فلولا أنّ في ذلك غاية المصلحة ، ونهاية الفائدة للعبد الضعيف الغافل عن مصلحته ، التائه في حيرة جهله(1) وغفلته ، لما فعله اللّه - تعالى - به ، لما قد عرفت من أنّه أرحم الراحمين ، وأجود الأجودين ، فإن حدّثتك نفسك بخلاف ذلك فاعلم أنّه الشرك الخفي ، وإن أيقنته ولم تطمئن نفسك وتسكن روعتك ، فهو الحمق الجلي .

وإنّما نشأ ذلك من الغفلة عن حكمة اللّه - تعالى - في بريّته ، وحسن قضائه في خليقته ، حتى أنّ العبد ليبتهل ويدعو اللّه - تعالى - أن يرحمه ويجيب دعاءه في أمثال ذلك ، فيقول اللّه - تعالى - لملائكته : كيف أرحمه من شيء به أرحمه(2) .

فتدبّر - رحمك اللّه تعالى - في هذه الكلمات الإلهية تكفيك في هذا الباب إن شاء اللّه تعالى .

الثاني : فقد الولد ذخيرة للآخرة

أنّه إذا نظرت إلى أحوال الرسل عليهم السلام وصدّقتهم فيما أخبروا به من الأمور الدنيوية والأخروية ، ووعدوا به من السعادة الدائمة

ص: 27


1- في نسخة : « التائه في حيرته وغفلته » .
2- ربيع الأبرار : 2/211 ، المجتبى من دعاء المجتبى : 81 وفيه : وذكر عند السلام بن أبي مطيع الرجل تصيبه البلوى فيدعو ، فتبطئ عنه الإجابة ، فقال : بلغني أنّ اللّه - تعالى - يقول : كيف أرحمه من شيء به أرحمه . وفي كنز الفوائد لأبي الفتح الكراجكي : 178 : وروى أنّ نبيا من الأنبياء مرّ برجل قد جهده البلاء ، فقال : يا ربّ أما ترحم هذا ممّا به ! فأوحى اللّه إليه : كيف أرحمه ممّا به أرحمه .

الأبدية(1) ، وعلمت أنّهم إنّما أتوا بما أتوا به عن اللّه - جلّ جلاله - ،واعتقدت أنّ قولهم معصوم عن الخطأ محفوظ من الغلط والهوى ، وسمعت ما وعدوا به من الثواب على أيّ نوع من أنواع المصائب(2) كما ستراه وتسمعه سهّل عليك موقعه ، وعلمت أنّ لك في ذلك غاية الفائدة ، وتمام السعادة الدائمة ، وأنّك قد أعددت لنفسك كنزا من الكنوز مذخورا ، بل حرزا ومعقلاً وجنة من العذاب الأليم ، والعقاب العظيم ، الذي لا يطيقه بشر ، ولا يقوى به أحد ، مع أنّ ولدك مشاركك(3) في هذه السعادة ، فقد فزت أنت وهو فلا ينبغي أن تجزع .

ومثّل لنفسك : أنّه لو دهمك أمر عظيم ، أو وثب عليك سبع أو حية ، أو هجمت عليك نار مضرمة ، وكان عندك أعزّ أولادك وأحبّهم إلى نفسك ، وبحضرتك نبي من الأنبياء لا ترتاب في صدقه ، وأخبرك أنّك إذا(4) افتديت بولدك سلمت أنت وولدك ، وإن لم تفعل عطبت ، والحال أنّك لا تعلم هل يعطب ولدك أو يسلم ؟

أيشكّ العاقل(5) أنّ الافتداء بالولد الذي يتحقّق معه سلامة الولد ، ويرجى معه أيضا سلامة الوالد هو عين المصلحة ، وأنّ عدم ذلك والتعرّض لعطب الأب والولد هو عين المفسدة .

ص: 28


1- في نسخة : « من السعادة الأبدية » .
2- في نسخة : « المصاب » .
3- في نسخة : « وليّك شاركك » .
4- في نسخة : « إن » .
5- في نسخة : « عاقل » .

بل ربما قدّم كثير من الناس نفسه على ولده ، وافتدى به ، وإن تيقن عطب الولد كما اتفق ذلك في المفاوز والمخمصة .

هذا كلّه في(1) نار وعطب ينقضي ألمه في ساعة واحدة ، وربما ينتقل بعده إلى الراحة والجنة .

فما ظنّك بألم يبقى أبد الآباد ويمكث سنين « وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ »منها

« كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ » .

ولو رآها أحدنا ، وأشرف عليها لودّ أن يفتدي «بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤوِيهِ وَمَنْ فِي الأَْرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ كَلاّ إِنَّها لَظى نَزّاعَةً لِلشَّوى تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلّى وَجَمَعَ فَأَوْعى »(2) .

ومن هنا جاء ما ورد عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال لعثمان بن مظعون - رضي

اللّه عنه - وقد مات ولده ، فاشتدّ حزنه وجزعه(3) عليه : يا ابن مظعون ، إنّ للجنة ثمانية أبواب ، وللنار سبعة أبواب ، أفما يسرّك أن لا تأتي بابا منها إلاّ وجدت ابنك إلى جنبه(4) آخذا بحجزتك ، ليستشفع لك إلى ربّك(5) حتى يشفعه اللّه تعالى .

وسيأتي له نظائر كثيرة .

ص: 29


1- في نسخة : « وإن كان في نار » .
2- المعارج : 11 - 18 .
3- لا يوجد في بعض النسخ : « وجزعه » .
4- في نسخة : « جنبك » .
5- أمالي الصدوق : 63 مج 16 ح1 .

الثالث : ولد واحد يقدّمه الرجل أفضل من سبعين ولد يبقون

إنّك إنّما تحبّ بقاء ولدك لينفعك في دنياك أو في آخرتك ، ولا تريد في الأغلب بقاءه لنفسه ، فإنّ هذا هو المجبول على طبع الخلق على أن منفعته(1)لك على تقدير بقائه غير معلومة ، بل كثيرا ما يكون المظنون عدمها ، فإنّ الزمان قد صار في آخره ، والشقوة والغفلة قد شملت أكثر الخلائق ، وقد عزّ السعيد وقلّ الصالح الحميد ، فنفعه لك بل لنفسه على تقدير بقائه غير معلوم ، وانتفاعه الآن وسلامته من الخطر ونفعه لك قد صار معلوما ، فلا ينبغي أن تترك الأمر المعلوم لأجل الأمر المظنون ، بل الموهوم .

وتأمّل أكثر الخلف لأكثر السلف ، هل تجد منهم نافعا لأبويه إلاّ أقلّهم ، أو مستيقظا إلاّ أوحديهم(2) ، حتى إذا رأيت واحدا كذلك فعدّ ألوفا بخلافه .

وإلحاقك ولدك الواحد بالفرد النادر الفذّ دون الأغلب الكثير عين الغفلة والغباوة ، فإنّ الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم(3) ، كما ذكره سيد الوصيين وترجمان ربّ العالمين صلى الله عليه و آله .

ص: 30


1- في نسخة : « الخلق ومنفعته » .
2- في نسخة : « إلاّ واحدهم » .
3- خصائص الأئمة للشريف الرضي : 115 ، عيون الحكم والمواعظ لعلي بن محمد الليثي الواسطي : 66 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 19/209 ، المناقب للخوارزمي : 375 ، نهج الإيمان لابن جبر : 371 ، الفصول المهمة في معرفة الأئمة لابن الصباغ : 1/537 ، جواهر المطالب في مناقب الإمام علي عليه السلام لابن الدمشقي : 2/150 : قال عليه السلام : الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم .

مع أنّ ذلك الفرد الذي تريده مثله إنّما هو صالح نافع بحسب الظاهر ، وما الذي يدريك بباطنه وفساد نيّته وظلمه لنفسه ؟ فلعلك لو كشفت عن باطنه ظهر لك أنّه منطو على معاصي وفضائح لا ترضاها لنفسك ولا لولدك ، وتتمنّى أنّ ولدك لو كان على مثل حالته يموت فإنّه خير له .هذا كلّه إذا كنت تريد أن تجعل ولدك واحدا في العالمين ، ووليّا منالصالحين ، فكيف وأنت لا تريده إلاّ ليرث بيتك أو بستانك أو دوابك ، وأمثال ذلك من الأمور الخسيسة الزائلة عمّا قريب .

وتتركه يرث الفردوس الأعلى في جوار أولاد النبيين والمرسلين ، مبعوثا مع الآمنين الفرحين ، مربّا إن كان صغيرا في حجر سارة أم النبيين ، كما وردت به الأخبار عن سيد المرسلين(1) ، ما هذا إلاّ معدود من السفه لو عقلت .

ولو كان مرادك أن تجعله من العلماء الراسخين ، والصلحاء المتّقين ، وتورثه علمك وكتبك ، وغيرها من أسباب الخير ، فاذكر أيضا أنّ ذلك كلّه لو تمّ معك ، فما وعد اللّه - تعالى - من العوض على فقده أعظم من مقصدك ، كما ستسمعه إن شاء اللّه تعالى .

ص: 31


1- في الفقيه : 3/490 باب حال من يموت من أطفال المؤنين ح4732 ، وعوالي اللآلي : 3/287 باب النكاح ح33 : وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رِئَابٍ عَنِ الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ : إِنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - كَفَّلَ إِبْرَاهِيمَ وَسَارَةَ أَطْفَالَ الْمُؤمِنِينَ يَغْذُوَانِهِمْ بِشَجَرَةٍ فِي الْجَنَّةِ لَهَا أَخْلاَفٌ كَأَخْلاَفِ الْبَقَرِ فِي قَصْرٍ مِنْ دُرَّةٍ ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُلْبِسُوا وَطُيِّبُوا وَأُهْدُوا إِلَى آبَائِهِمْ ، فَهُمْ مُلُوكٌ فِي الْجَنَّةِ مَعَ آبَائِهِمْ ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - « وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ » .

مثل ما رواه الصدوق عن الصادق عليه السلام : ولد واحد يقدّمه الرجل أفضل من سبعين ولد يبقون بعده يدركون القائم عليه السلام(1) .

واعتبر أنّه لو قيل : إنّ رجلاً فقيرا معه ولد عليه خلقان الثياب ، قد أسكنه في خربة مقفرة ذات آفات كثيرة ، وفيها بيوت حيات وعقاربوسباع ضارية ، وهو معه على خطر عظيم ، فاطلع عليه رجل حكيم جليل ، ذو ثروة وحشم(2) وخدم ، وقصور عالية ، ورتب سامية ، فرقّ لهذا الرجل ولولده ، فأرسل إليه بعض غلمانه أن سيدي يقول لك : إنّي قد رحمتك ممّا بك في هذه الخربة ، وهو خائف عليك وعلى ولدك من العاهات ، وقد تفضلّت عليك بهذا القصر ينزل به ولدك ، ويوكل به جارية عظيمة من كرائم جواريه تقوم بخدمته إلى أن تقضي أنت أغراضك التي في نفسك ، ثم إذا قدمت وأردت الإقامة أنزلتك معه في القصر ، بل في قصر أحسن من قصره .

فقال الرجل الفقير : أنا لا أرضى بذلك ، ولا يفارقني ولدي في هذه الخربة ، لا لعدم وثوقي بالرجل الباذل ، ولا زهدا منّي في داره وقصره ، ولا لأماني على ولدي في هذه الخربة ، بل طبعي اقتضى ذلك ، وما أريد أن أخالف طبعي .

أفما كنت - أيّها السامع - لوصف هذا الرجل تعدّه من أدنياء السفهاء ، وأخساء الأغبياء .

ص: 32


1- ثواب الأعمال : 233 ح1 .
2- في نسخة : « حشمة » .

فلا تقع(1) في خلق لا ترضاه لغيرك ، فإنّ نفسك أعزّ(2) عليك من غيرك .

واعلم أنّ لسع الأفاعي ، وأكل السباع ، وغيرهما من آفات الدنيا لانسبة لها إلى أقلّ محنة من محن الآخرة المكتسبة في الدنيا ، بل لا نسبة لها إلى إعراض الخالق(3) - سبحانه - وتوبيخه ساعة واحدة في عرصةالقيامة ، أو عرضة واحدة على النار مع الخروج منها بسرعة .

فما ظنّك بتوبيخ يكون ألف عام أو أضعافه ، وبنفحة(4) من عذاب جهنم يبقى ألمها ألف عام ، ولسعة من حيّاتها وعقاربها يبقى ألمها أربعين خريفا ؟

وأيّ نسبة لأعلى قصر في دار الدنيا إلى أدنى مسكن في الجنة ؟

وأيّ مناسبة بين خلقان الثياب في الدنيا إلى فاخرها إلى أعلى ما في الدنيا بالإضافة إلى سندس الجنة وإستبرقها .

وهلّم جرّا ما فيها من النعيم المقيم .

بل لو تأمّلت بعين بصيرتك في هذا المثل ، وأجلت فيه رؤتك ، علمت أنّ ذلك الكريم الكبير ، بل جميع العقلاء ، لا يرضون من ذلك الفقير بمجرّد تسليم ولده ورضاه بأخذه ، بل لابدّ - في الحكمة - من حمده عليه وشكره ، وإظهار الثناء عليه بما هو أهله ، لأنّ ذلك هو مقتضى حقّ النعمة .

ص: 33


1- في نسخة : « فإياك أن تقع » .
2- في نسخة : « أغرّ » .
3- في نسخة : « الحقّ » .
4- في نسخة : « وبنفخه » .

الرابع : في الجزع خسران عظيم

إنّ في الجزع بذلك والسخط انحطاطا عظيما عن مرتبة الرضا بقضاء اللّه تعالى ، وفي فوات ذلك خطر وخيم ، وفوات نيل عظيم ، فقد ذمّ اللّه - تعالى - من سخط بقضائه ، وقال : من لم يرض بقضائي ، ولم يصبر على بلائي ، فليعبد ربّا سواي(1) .وفي كلامه - تعالى - لموسى عليه السلام حين قال له : دلّني على أمر فيه رضاك ،قال : إنّ رضاي في رضاك بقضائي(2) .

وفي القرآن الكريم : « رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ »(3) .

وأوحى اللّه - تعالى - إلى داود عليه السلام : يا داود تريد وأريد ، وإنّما يكون ما أريد ، فإن سلّمت لما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلّم ما أريد أتعبتك فيما تريد ، ثم لا يكون إلاّ ما أريد(4) .

وقال - تعالى - : « لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ »(5) .

ص: 34


1- جامع الأخبار : 133 ، الدعوات للراوندي : 169 ح471 .
2- في الدعوات للراوندي : 164 ح453 : وروي أنّ موسى عليه السلام قال : يا ربّ ، دلّني على عمل إذا أنا عملته نلت به رضاك ، فأوحى اللّه إليه : يا ابن عمران ، إنّ رضاي في كرهك ، ولن تطيق ذلك . قال : فخر موسى عليه السلام ساجدا باكيا ، فقال : يا ربّ ، خصصتني بالكلام ، ولم تكلّم بشرا قبلي ، ولم تدلّني على عمل أنال به رضاك ، فأوحى اللّه إليه : إنّ رضاي في رضاك بقضائي .
3- المائدة : 119 .
4- التوحيد : 337 ح4 .
5- الحديد : 23 .

واعلم أنّ الرضا بقضاء اللّه - تعالى - ثمرة المحبّة للّه ، إذ من أحبّ شيئا رضي بفعله ، ورضا العبد عن اللّه دليل على رضا اللّه - تعالى - عن العبد « رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ »(1) .

وصاحب هذه المرتبة مع رضا اللّه - تعالى - عنه - الذي هو أكمل السعادات وأجلّ الكمالات - لا يزال مستريحا ، لأنّه لم يوجد منه « أريدولا أريد » كلاهما عنده واحد ، ورضوان اللّه أكبر ، « إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُْمُورِ » .

وسيأتي لذلك بحث آخر إن شاء اللّه - تعالى - في باب الرضا .* * *

واعلم أنّ البكاء لا ينافي الرضا ، ولا يوجب السخط ، وإنّما مرجع ذلك إلى القلب ، كما ستعرفه إن شاء اللّه - تعالى - .

ومن ثم بكاء الأنبياء والأئمة عليهم السلام على أبنائهم وأحبائهم ، فإنّ ذلك أمر طبيعي للإنسان لا حرج فيه إذا لم يقترن بالسخط ، وسيأتي .

الخامس : الدنيا دار بلاء

إنّ ينظر صاحب المصيبة إلى أنّه في دار قد طبعت على الكدر والعناء ، وجبلت على المصائب والبلاء ، فما يقع فيها من ذلك هو مقتضى جبلتها ، وموجب طبيعتها ، وإن وقع خلاف ذلك ، فهو على خلاف العادة لأمر آخر ، خصوصا على الأكابر والنبلاء من الأنبياء والأوصياء والأولياء ،

ص: 35


1- المائدة : 119 .

فقد نزل بهم من الشدائد والأهوال ما يعجز عن حمله الجبال ، كما هو معلوم في المصنفات التي لو ذكر بعضها لبلغ مجلدات .

وقد قال النبي صلى الله عليه و آله : أشدّ الناس بلاءا الأنبياء ، ثم الأولياء ، ثم الأمثل فالأمثل(1) .

وقال النبي صلى الله عليه و آله : الدنيا سجن المؤن وجنة الكافر(2) .وقد قيل : إنّ الدنيا ليس فيها لذّة على الحقيقة ، إنّما لذّاتها راحة منمؤم .

هذا ، وأحسن لذّاتها ، وأبهى بهجاتها مباشرة النساء ، المترتب عليه حصول الأبناء ، كم يعقبه من قذى ، أقلّه ضعف القوى ، وتعب الكسب والعناء .

ومتى حصل محبوب كانت آلامه تربو على لذّاته ، والسرور به لا يبلغ معشار حسراته ، وأقلّ آفاته في الحقيقة الفراق الذي ينكث الفؤد ، ويذيب(3) الأجساد .

فكلّما تظنّ في الدنيا أنّه شراب سراب ، وعمارتها وإن حسنت إلى خراب ، ومالها وإن اغترّ بها الجاهل إلى ذهاب ، ومن خاض الماء الغمر

ص: 36


1- الكافي : 2/169 ح2 ، جامع الأخبار : 113 .
2- الفقيه للصدوق : 4/262 ، أمالي الطوسي : 346 المجلس 12 ح715 ، اعلام الدين : 192 ، تحف العقول : 53 ، تفسير الإمام العسكري عليه السلام : 22 ح7 ، التمحيص : 48 باب 5 ح76 ، جامع الأخبار : 85 ، الجعفريات : 240 ، دعائم الإسلام : 1/47 ، معاني أخبار الرضا عليه السلام : 288 ، مكارم الأخلاق : 438 .
3- في نسخة : « يذهب » .

لا يجزع من بلل ، كما أنّ من دخل بين الصفين لا يخلو من وجل ، ومن العجب من أدخل يده في فم الأفاعي كيف ينكر اللسع ، وأعجب منه من يطلب من المطبوع على الضرّ النفع .

وما أحسن قول بعض الفضلاء(1) في مرثية ابنه :طبعت على كدر وأنت تريدها

صفوا من الأقذاء والأكدارومكلّف الأيام ضدّ طباعها

متطلّب في الماء جذوة نار

وإذا رجوت المستحيل فإنّما

تبني البناء على شفير هار

وقال بعض العارفين : ينبغي لمن نزلت به مصيبة أن يسهّلها على نفسه ، ولا يغفل عن تذكر ما يعقبه من وجوب الفناء ، وتقضي المسار .

وإنّ الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، يجمعها من لا عقل له ، ويسعى لها من لا ثقة له ، وفيها يعادي من لا علم له ، وعليها يحسد من لا فقه له(2) .

ص: 37


1- في وفيات الأعيان لابن خلكان : 334/3 رقم 471 : هو علي بن محمد بن نهد التهامي ، أبو الحسن ، شاعر مشهور من أهل تهامة ، زار الشام والعراق ، ثم رحل الى مصر متخفيا ، ومعه كتب كثيرة من حسان بن مفرج بن دغفل البدوي ، فاعتقل في خزانة البنود ، وهو سجن بالقاهرة ، ثم قتل سرّا في سجنه في تاسع جمادي الأولى من السنة ست عشرة وأربعمائة . وله مرثية في ولده ، وكان قد مات صغيرا ، وهي في غاية الحسن ، يقال : أنّه رآه بعض بعض أصحابه في النوم بعد موته ، فقال له : ما فعل اللّه بك ؟ فقال : غفر لي ، فقال : بأيّ الأعمال ؟ فقال : بقولي في مرثية ولدي الصغير : جاورت أعدائي وجاور ربّه شتان بين جواره وجواري
2- في روضه الواعظين : 2/448 مجلس في ذكر الدنيا ، ومشكاة الأنوار : 268 الفصل 7 في ذم الدنيا : وقال صلى الله عليه و آله : الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له ، وشهواتها يطلب من لا فهم له ، وعليها يعادي من لا علم له ، وعليها يحسد من لا فقه له ، ولها يسعى من لا يقين له . وفي الكافي : 2/129 باب ذم الدنيا والزهد فيها ح8 : عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ يَحْيَى عَنْ جَدِّهِ الْحَسَنِ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ : خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله وَهُوَ مَحْزُونٌ ، فَأَتَاهُ مَلَكٌ وَمَعَهُ مَفَاتِيحُ خَزَائِنِ الأْرْضِ ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ هَذِهِ مَفَاتِيحُ خَزَائِنِ الأْرْضِ يَقُولُ لَكَ رَبُّكَ : افْتَحْ وَخُذْ مِنْهَا مَا شِئْتَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُنْقَصَ شَيْئاً عِنْدِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله : الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لاَ دَارَ لَهُ ، وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لاَ عَقْلَ لَهُ ، فَقَالَ الْمَلِكُ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيّاً لَقَدْ سَمِعْتُ هَذَا الْكَلاَمَ مِنْ مَلَكٍ يَقُولُهُ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ حِينَ أُعْطِيتُ الْمَفَاتِيحَ .

من صحّ فيها سقم ، ومن سقم فيها برم ، ومن افتقر فيها حزن ، ومن استغنى فيها فتن(1) .

الدنيا مزرعة الآخرة

واعلم أنّك قد خلقت في هذه الدار لغرض خاص، لأنّ اللّه - تعالى - منزّهعن العبث ، وقد قال اللّه تعالى : « وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاْءِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ »(2) .

وقد جعلها مكتسبا لدار القرار ، وجعل - تعالى - بضاعتها الأعمال الصالحة ، ووقتها العمر ، وهو قصير جدّا بالنظر إلى ما يطلب من السعادة الأبدية التي لا انقضاء لها .

ص: 38


1- في تحف العقول : 201 وغيره : قال أمير المؤمنين عليه السلام في ذم الدنيا : أوّلها عناء ، وآخرها فناء في حلالها حساب ، وفي حرامها عقاب ، من صحّ فيها أمن ، ومن مرض فيها ندم ، من استغنى فيها فتن ، ومن افتقر فيها حزن ، من ساعاها فاتته ، ومن قعد عنها أتته ، ومن نظر إليها أعمته ، ومن نظر بها بصرته .
2- الذاريات : 56 .

فإن اشتغلت بها ، واستيقظت استيقاظ الرجال ، واهتممت بشأنك

اهتمام الأبدال ، رجوت أن تنال نصيبك منها ، فلا تضيّع عمرك في الاهتمام بغير ما خلقت له ، يضيع وقتك ، ويذهب عمرك بلا فائدة ، فإنّ الغائب لا يعود ، والميت لا يرجع ، وتفوتك السعادة التي خلقت لها .

فيا لها حسرة لا تفنى ، وغبن لا يزول ، إذا عاينت درجات السابقين ، وأبصرت منازل المقرّبين ، وأنت مقصر من الأعمال الصالحة ، خلّي من المتاجر الرابحة(1) ، فقس ذلك الألم على هذه الآلام ، وادفع أصعبهما عليك ، وأضرّهما لك ، مع أنّك تقدر على دفع سبب هذا ، ولا تقدر على دفع سبب ذاك .

كما قال علي عليه السلام : إن صبرت جرى عليك القضاء وأنت مأجور ، وإنلم تصبر(2) جرى عليك القضاء وأنت مأزور(3) .

ص: 39


1- في نسخة : « رائحة » .
2- في نسخة : « وإن جزعت » .
3- في جامع الأخبار : 116 الفصل 71 : وقال عليه السلام : إنّك إن صبرت جرت عليك المقادير وأنت مأجور ، وإن جزعت جرت عليك المقادير وأنت مأزور . وفي روضة الواعظين : 2/423 مجلس في ذكر فضل الصبر ، ومشكاة الأنوار : 281 الفصل 3 : وقيل : عزّى أمير المؤنين عليه السلام الأشعث بن قيس على ابنه ، فقال : إن تحزن فقد استحقت ذلك منه الرحم ، وإن تصبر ففي اللّه خلفك من ابنك ، وإن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور ، وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت مأثوم . وفي غررالحكم : 281 فضيلة الصبر وحقيقته ح6237 : إن صبرت جرى عليك القلم وأنت مأجور ، وإن جزعت جرى عليك القلم وأنت مأزور . وفي نهج البلاغة : 527 ح291 : وَقَالَ عليه السلام وَقَدْ عَزَّى الأْشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ عَنِ ابْنٍ لَهُ: يَا أَشْعَثُ إِنْ تَحْزَنْ عَلَى ابْنِكَ فَقَدِ اسْتَحَقَّتْ مِنْكَ ذَلِكَ الرَّحِمُ وَإِنْ تَصْبِرْ فَفِي اللَّهِ مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ خَلَفٌ ، يَا أَشْعَثُ إِنْ صَبَرْتَ جَرَى عَلَيْكَ الْقَدَرُ وَأَنْتَ مَأْجُورٌ ، وَإِنْ جَزِعْتَ جَرَى عَلَيْكَ الْقَدَرُ وَأَنْتَ مَأْزُورٌ ، يَا أَشْعَثُ ابْنُكَ سَرَّكَ وَهُوَ بَلاَءٌ وَفِتْنَةٌ وَحَزَنَكَ وَهُوَ ثَوَابٌ وَرَحْمَةٌ .

فاغتنم شبابك قبل هرمك ، وصحّتك قبل سقمك(1) ، واجعل الموت نصب عينيك(2) ، واستعد له بصالح العمل(3) ، ودع الاشتغال بغيرك ، فإنّ الموت يأتي إليك دونه .

وتأمّل قوله - تعالى - « وَأَنْ لَيْسَ لِلاْءِنْسانِ إِلاّ ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى » ، فقصّر أملك ، وأصلح(4) عملك ، فإنّ السبب الأكثري الموجب للاهتمام بالأموال والأولاد طول الأمل .

وقد قال النبي صلى الله عليه و آله لبعض أصحابه : إذا أصبحت فلا تحدّث نفسك بالمساء ، وإذا أمسيت فلا تحدّث نفسك بالصباح ، وخذ من حياتك لموتك ، ومن صحّتك لسقمك ، فإنّك لا تدري ما اسمك غدا(5) .

ص: 40


1- أمالي الطوسي : 525 مجلس 19 ، اعلام الدين : 189 ، مشكاة الأنوار : 171 فصل 18 وفيها وفي غيرها : قال النبي صلى الله عليه و آله في وصيته لأبي ذر : اغتنم خمسا قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك .
2- في إرشاد الديلمي : 1/72 ، مكارم الأخلاق : 465 في حديث طويل : قال صلى الله عليه و آله : فأقصر من الأمل واجعل الموت نصب عينيك واستح من اللّه حقّ الحياء .
3- في غرر الحكم : 154 العمل الصالح وثمراته ح2879 : قال عليه السلام : عليك بصالح العمل فإنّه الزاد إلى الجنة .
4- في نسخة : « وأحسن » .
5- الإرشاد للديلمي : 18 ، مجموعة ورام : 1/271 ، اعلام الدين : 339 ، أمالي الطوسي : 252 مج 19 ح1 ، عدّة الداعي : 84 .

وقال علي عليه السلام : إنّ أشدّ ما أخاف عليكم خصلتان : اتباع الهوى ،وطول الأمل ، فأمّا اتباع الهوى ، فإنّه يعدل عن الحقّ ، وأمّا طول الأمل ، فإنّه يورث الحبّ للدنيا .

ثم قال : ألا إنّ اللّه يعطي الدنيا لمن يحبّ ويبغض ، وإذا أحبّ عبدا أعطاه الإيمان .

ألا إنّ للدين أبناء ، وللدنيا أبناء ، فكونوا من أبناء الدين ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا .

ألا إنّ الدنيا قد ارتحلت مولية .

ألا إنّ الآخرة قد ارتحلت مقبلة .

ألا وإنّكم في يوم عمل ليس فيه حساب .

ألا وإنّكم توشكون في يوم حساب ليس فيه عمل(1) .

المحبوب الحقيقي هو اللّه سبحانه

واعلم أنّ محبوبا يفارقك ويبقى على نفسك حسرته وألمه ، وفي حال إيصاله كدك وكدحك وجدّك واجتهادك ، ومع ذلك لا يخلو زمانك معه من تنغيص به أو عليه ، لأجل أن تتسلّى عنه ، وتطلب لنفسك محبوبا غيره ، وتجتهد في أن يكون موصوفا بحسن الصحبة(2) ، ودوام الملازمة ، وزيادة الأنس ، وتمام المنفعة .

ص: 41


1- مجموعة ورام : 1/271 .
2- في نسخة : « الصحة » .

فإن ظفرت به فذلك هو الذي ينبغي أن يكون بغيتك التي تحفظها وتهتمبها ، وتنفق وقتك عليها ، وهو غاية كلّ محبّة ، ومنتهى كلّ مقصد ، وما ذاك إلاّ الاشتغال باللّه ، وصرف الهمة إليه ، وتفويض ما خرج من ذلك إليه ، فإنّ ذلك دليل على حبّ اللّه - تعالى - « يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ »(1) « وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ »(2) .

وقد جعل النبي صلى الله عليه و آله الحبّ للّه من شرط الإيمان ، فقال : لا يؤن

أحدكم حتى يكون اللّه ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما(3) .

ولا يتحقّق الحبّ في قلب أحدكم لأحد(4) مع كراهته لفعله وسخطه به ، بل مع عدم رضاه به على وجه الحقيقة ، لا على وجه التكلّف والتعنت(5) .

وفي أخبار داود عليه السلام : يا داود أبلغ أهل أرضي أنّي حبيب من أحبّني ، وجليس من جالسني ، ومؤس لمن آنس بذكري ، وصاحب لمن صاحبني ، ومختار لمن اختارني ، ومطيع لمن أطاعني .

ما أحبّني أحد(6) - أعلم ذلك يقينا من قلبه - إلاّ قبلته لنفسي ، وأحييتهحياة(7) لا يتقدّمه أحد من خلقي ، من طلبني بالحقّ وجدني ، ومن طلب غيري لم يجدني .

ص: 42


1- المائدة : 54 .
2- البقرة : 165 .
3- مسند أحمد : 3/272 ، سنن النسائي : 8/95 ، سنن ابن ماجة : 2/1338 .
4- في نسخة : « أحد » .
5- في نسخة : « مع كراهته لفعله وسخطه به ، بل مع رضاه به على كلّ وجه ، بل على وجه الحقيقة لا على وجه التكلّف والتعنت . . » .
6- في نسخة : « عبد » .
7- في نسخة : « أحببته حبّا » .

فارفضوا - يا أهل الأرض - ما أنتم عليه من غرورها ، وهلمّوا إلىكرامتي ومصاحبتي ومجالستي ومؤنستي ، وآنسوا بي أوانسكم ، وأسارع إلى محبّتكم .

وأوحى اللّه - تعالى - إلى بعض الصدّيقين : إنّ لي عبادا من عبادي يحبّوني وأحبّهم ، ويشتاقون إليّ وأشتاق إليهم ، ويذكروني وأذكرهم ، فإن أخذت طريقتهم أحببتك ، وإن عدلت عنهم مقتك .

فقال : يا ربّ وما علامتهم ؟

قال : يراعون الظلال بالنهار ، كما يراعي الشفيق(1) غنمه ، ويحنّون إلى غروب الشمس ، كما تحنّ الطير إلى أوكارها عند الغروب ، فإذا جنّهم الليل واختلط الظلام ، وفرشت المفارش(2) ، ونصبت الأسرّة ، وخلى كلّ حبيب بحبيبه نصبوا إليّ أقدامهم ، وافترشوا إليّ وجوههم ، وناجوني بكلامي ، وتملّقوني بانعامي ، ما بين صارخ وباك ، وما بين متأوه وشاك ، وبين قائم وقاعد ، وبين راكع وساجد ، بعيني ما يتحمّلون من أجلي ، وبسمعي ما يشكون من حبّي ، أقلّ ما أعطيهم ثلاثا :

الأول : أقذف من نوري في قلوبهم ، فيخبرون عنّي كما أخبر عنهم .

والثاني : لو كانت السماوات والأرضون وما فيهما في موازينهم لاستقللتها لهم .

ص: 43


1- في نسخة : « الراعي » .
2- في نسخة : « الفرش » .

والثالث : أقبل بوجهي عليهم ، أفترى من أقبلت بوجهي عليه ، أيعلمما أريد أن أعطيه(1) ؟

وهاهنا نقطع الكلام في المقدّمة ، ونشرع في الأبواب :

ص: 44


1- في نسخة : « يعلم أحد ما أريد أن أعطيه » .

الباب الأول: في بيان الأعواض الحاصلة من موت الأولاد وما يقرب من هذا المراد

اشارة

اعلم أنّ اللّه - سبحانه - عدل كريم ، وأنّه غني مطلق ، لا يليق بكمال ذاته ، وجميل صفاته أن ينزل بعبده المؤن في دار الدنيا شيئا من البلاء ، وإن قلّ ، ثم لا يعوّضه عنه ما يزيد عليه إذ لو لم يعطه شيئا بالكلية كان له ظالما ، ولو عوّضه بقدره كان عابثا ، تعالى اللّه عنهما علوّا كبيرا .

وقد تظافرت بذلك الأخبار النبوية :

ومنها : أنّ المؤن لو يعلم ما أعدّ اللّه له على البلاء لتمنّى أنّه في دار الدنيا قرض بالمقاريض(1) .

ص: 45


1- في الكافي : 2/255 ح15 باب شدّة ابتلاء المؤن ، مجموعة ورام : 2/204 : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَعْفُورٍ قَالَ : شَكَوْتُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام مَا أَلْقَى مِنَ الأَوْجَاعِ ، وَكَانَ مِسْقَاماً ، فَقَالَ لِي : يَا عَبْدَ اللَّهِ ، لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤمِنُ مَا لَهُ مِنَ الأَجْرِ فِي الْمَصَائِبِ لَتَمَنَّى أَنَّهُ قُرِّضَ بِالْمَقَارِيضِ . وفي التمحيص : 32 باب 1 ، وعدّة الداعي : 127 ، أعلام الدين : 432 باب ما يبتلى به المؤن ، والمؤن : 15 باب 1 ح3 : عن الصادق عليه السلام قال : لو يعلم المؤن ما له في المصائب من الأجر لتمنّى أن يقرض بالمقاريض .

ونقتصر منها على ما يختصّ بما نحن فيه ، فقد رواه عن النبي صلى الله عليه و آلهأزيد من ثلاثين صحابيا .

الفرط حجاب من النار وثوابه الجنة

وروى الصدوق - رحمه اللّه - بإسناده إلى عمر بن عبسة(1) السلمي قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : أيّما رجل قدّم ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث ، أو امرأة قدّمت ثلاثة أولاد ، فهم حجاب يسترونه عن النار(2) .

وعن أبي ذر - رضي اللّه عنه - قال : ما من مسلمين يقدّما عليهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث إلاّ أدخلهما اللّه الجنة بفضل رحمته(3) .

الحنث بكسر الحاء المهملة وآخره ثاء مثلثة : الإثم والذنب ، والمعنى : أنّهم لم يبلغوا السنّ الذي يكتب عليهم فيه الذنوب والآثام .

قال الخليل : بلغ الغلام الحنث أي جرى عليه القلم(4) .

ص: 46


1- في نسخة : « عتبة » .
2- ثواب الأعمال : 233 ح2 .
3- ثواب الأعمال : 233 ح3 .
4- العين : 3/206 .

وبإسناده إلى جابر عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام قال : من قدّم أولادا يحتسبهم عند اللّه - تعالى - حجبوه من النار بإذن اللّه (1)- عزّ وجلّ - .

وبإسناده إلى علي بن ميسر عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : ولد واحد يقدّمه الرجل أفضل من سبعين يخلفهم(2) من بعده ، كلّهم قد ركبوا الخيل ، وقاتلوا في سبيل اللّه (3) .

وعنه عليه السلام : ثواب المؤن من ولده الجنة صبر أو لم يصبر(4) .

وعنه عليه السلام : من أصيب بمصيبة ، جزع عليها أو لم يجزع ، صبر عليها أو لم يصبر ، كان ثوابه من اللّه الجنة(5) .

وعنه عليه السلام : ولد واحد يقدّمه الرجل أفضل من سبعين ولدا يبقون بعده يدركون القائم عليه السلام(6) .

وروى الترمذي بإسناده إلى النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال : ما نزل(7) البلاء

بالمؤن والمؤنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى اللّه - عزّ وجلّ -وما عليه خطيئة(8) .

ص: 47


1- الفقيه : 1/574 ح119 ، ثواب الأعمال : 233 ح1 ، أمالي الصدوق : 434 ح6 ، الكافي : 3/220 ح10 .
2- في نسخة : « يخلفونه » .
3- الفقيه : 1/122 ح519 ، الكافي : 3/218 ح1 ، مشكاة الأنوار : 23 .
4- الفقيه : 1/112 ح518 ، الكافي : 3/219 ح8 .
5- الفقيه : 1/111 ح517 .
6- ثواب الأعمال : 233 ح4 .
7- في المصدر : « ما يزال » .
8- سنن الترمذي : 4/28 رقم 2510 .

وعن محمد بن خالد السلمي عن أبيه عن جدّه ، وكانت له صحبة ، قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : إنّ العبد إذا سبقت له عند(1) اللّه- تعالى - منزلة ، ولم يبلغها بعمل ، ابتلاه اللّه في جسده ، أو في ماله ، أو في ولده ، ثم صبّره على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت إليه من اللّه (2) - عزّ وجلّ - .

وعن ثوبان مولى رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : بخ بخ ، خمس ما أثقلهن في الميزان : لا إله إلاّ اللّه ، وسبحان اللّه ، والحمد للّه ، واللّه أكبر ، والولد الصالح يتوفّى للرجل فيحتسبه(3) .

بخ بخ : كلمة تقال عند المدح والرضا بالشيء ، وتكرر للمبالغة ، وربما شدّدت ، ومعناها : تفخيم الأمر وتعظيمه .

ومعنى يحتسبه : أي يجعله حسبة وكفاية عند اللّه - عزّ وجلّ - ، أي يحتسب تصبره على مصيبته بموته ورضاه بالقضاء .

الفرط يثقل الميزان

وعن عبد الرحمن بن سمرة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال : إنّي رأيت البارحة عجبا ، فذكر حديثا طويلاً ، وفيه : رأيت رجلاً من أمّتي

ص: 48


1- في نسخة : « من » .
2- سنن أبي داود : 3/183 رقم 3090 ، مسند أحمد : 5/272 .
3- الخصال : 267 ح1 ، مسند أحمد : 3/443 ، المستدرك للحاكم : 1/511 .

قد خفّ ميزانه ، فجاء أفراطه ، فثقّلوا ميزانه(1) .

الفرط ، بفتح الفاء والراء : هو الذي لم يدرك من الأولادالذكور والإناث ، ويتقدّم وفاته على أبويه أو أحدهما ، يقال : فرط القوم إذا تقدّمهم ، وأصله الذي يتقدّم الركب إلى الماء ، ويهييء لهم أسبابه .

النبي صلى الله عليه و آله يكاثر السقط من أمّته يوم القيامة

وعن سهل بن حنيف - رضي اللّه عنه - قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : تزوّجوا فإنّي مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ، حتى إنّ السقط ليظلّ محبنطئا على باب الجنة ، فيقال له : ادخل ، يقول : حتى يدخل أبواي(2) .

السقط ، مثلث السين ، والكسر أكثر : وهو الذي يسقط من بطن أمّه قبل إتمامه .

ومحبنطئا ، بالهمز وتركه : هو المغضب المستبطيء للشيء .

وعن معاوية بن حيدة(3) القشيري عن النبي صلى الله عليه و آله قال : سوداء ولود خير من حسناء لا تلد ، إنّي مكاثر بكم الأمم ، حتى إنّ السقط ليظلّ

ص: 49


1- كنز العمال : 15/927 ، تاريخ دمشق : 34/407 ، إمتاع الأسماع : 8/96 ، الجامع الصغير للسيوطي : 1/406 رقم 2652 .
2- الكافي : 5/334 ح1 ، التوحيد للصدوق : 395 ح10 ، معاني الأخبار : 206 ، من لا يحضره الفقيه : 3/383 ح4344 ، التهذيب للطوسي : 7/401 ح1598 ، مكارم الأخلاق : 196 .
3- في نسخة : « جيدة » ، وفي أخرى : « صيدة » .

محبنطئا على باب الجنة ، فيقال له : ادخل الجنة ، فيقول : أنا وأبواي ؟فيقال : أنت وأبواك(1) .

وعن عبد الملك بن عمرو عمّن حدّثه : أنّ رجلاً أتى النبي صلى الله عليه و آله فقال :يا رسول اللّه ، أتزوج فلانة ؟ فنهاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله عنها .

ثم أتاه ثانية ، فقال : يا رسول اللّه ، أتزوج فلانة ؟ فنهاه عنها .

ثم أتاه ثالثة ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : سوداء ولود أحبّ إليّ من عاقر حسناء .

ثم قال صلى الله عليه و آله : أما علمت أنّي مكاثر بكم الأمم ، حتى إنّ السقط ليبقى محبنطئا على باب الجنة ، فيقال له : ادخل ، فيقول : لا حتى يدخل أبواي ، فيشفع فيهما ، فيدخلان الجنة(2) .

السقط المحتسب في الإسلام أحبّ من الدنيا

وعن سهل بن الحنظلية ، وكان لا يولد له ، وهو ممّن بايع تحت الشجرة ، قال : لئن يولد لي في الإسلام ولد ، ويموت سقطا فأحتسبه ، أحبّ إليّ من أن يكون لي الدنيا جميعا وما فيها(3) .

ص: 50


1- مجمع الزوائد : 4/258 ، المعجم الكبير للطبراني : 19/416 ، ميزان الإعتدال : 3/126 رقم 5840 .
2- المصنف للصنعاني : 1/161 رقم 10344 ، أسد الغابة : 5/362 .
3- الأدب المفرد للبخاري : 43 رقم 152 ، تهذيب الكمال للمزي : 2/183 ، الإصابة : 6/504 .

السقط يجرّ أمّه بسرره

وعن عبادة بن الصامت : أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال : النفساء يجرّهاولدها يوم القيامة بسرره(1) إلى الجنة(2) .النفساء ، بضم النون وفتح الفاء : المرأة إذا ولدت .

والسرر ، بكسر السين المهملة وفتحها : ما تقطعه القابلة من سرّة المولود التي هي موضع القطع ، وما بقي بعد القطع فهو سرّة ، وكأنّه يريد الولد الذي لم تقطع سرّته .

تقديم ولد صغير أفضل من مائة يبقون

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : من قدّم من صلبه ولدا(3) لم يبلغ الحنث كان أفضل من أن يخلف من بعده مائة ، كلّهم يجاهدون في سبيل اللّه ، لا تسكن روعتهم إلى يوم القيامة .

وعن الحسن قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : لئن أقدّم سقطا أحبّ إليّ من أن أخلف مائة فارس ، كلّهم يقاتل في سبيل اللّه (4) .

ص: 51


1- في نسخة : « بسررها » .
2- مسند أبي داود الطيالسي : 79 ، كنز العمال : 3/287 رقم 6586 ، مسند أحمد : 3/489 .
3- في نسخة : « ذكرا » .
4- تفسير ابن زمين : 1/225 ، مجموعة ورام : 1/287 .

وعن أيوب بن موسى : إنّ النبي صلى الله عليه و آله قال للزبير : يا زبير ، إنّك إن تقدّم سقطا خير من أن تدع بعدك من ولدك مائة ، كلّ منهم على فرس يجاهد في سبيل اللّه .

الولدان لا يدخلون الجنة إلاّ مع الأبوين

وعن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال : يقال للولدان يوم القيامة : ادخلوا الجنة .فيقولون : يا ربّ حتى يدخل آباؤا وأمهاتنا . قال : فيأبون .

فيقول اللّه - عزّ وجلّ - : ما لي أراهم محبنطئين ، ادخلوا الجنة .

فيقولون : يا ربّ آباؤا !

فيقول - تعالى - : ادخلوا الجنة أنتم وآباؤم .

وعن عبيد بن عمير الليثي قال : إذا كان يوم القيامة خرج ولدان المسلمين من الجنة بأيديهم الشراب ، قال : فيقول الناس لهم : اسقونا اسقونا ، فيقولون : أبوينا أبوينا .

قال : حتى أنّ السقط محبنطئا بباب الجنة ، فيقول : لا أدخل حتى يدخل أبواي .

وعن أنس بن مالك قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : إذا كان يوم القيامة نودي في أطفال المؤنين(1) : أن اخرجوا من قبوركم ، فيخرجون من قبورهم .

ثم ينادى فيهم : أن امضوا إلى الجنة زمرا ، فيقولون : ربّنا ، ووالدينا معنا ؟

ص: 52


1- في نسخة : « المسلمين » .

ثم ينادى فيهم ثانية : أن امضوا إلى الجنة زمرا ، فيقولون : ربّنا ، ووالدينا ؟

ثم ينادى فيهم ثالثة : أن امضوا إلى الجنة زمرا ، فيقولون : ربّنا ، ووالدينا ؟

فيقول في الرابعة : ووالديكم معكم .

فيثب كلّ طفل إلى أبويه ، فيأخذون بأيديهم ، فيدخلون بهم الجنة ،فهم أعرف بآبائهم وأمهاتهم - يومئذٍ - من أولادكم الذين في بيوتكم .

الزمر : الأفواج المتفرقة بعضها في أثر بعض .

وقيل : الزمر الذين التقوا(1) من الطبقات المختلفة ، أي الشهداء والزهاد والعلماء والفقراء والقراء والمحدّثون وغيرهم .

وعن أنس بن مالك : أنّ رجلاً كان يجيء بصبي معه إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وأنّه مات ، فاحتبس والده عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فسأل عنه .

فقالوا : مات صبيّه الذي رأيته معه .

فقال صلى الله عليه و آله : هلا آذنتموني ، فقوموا إلى أخينا نعزّيه .

فلمّا دخل عليه إذا الرجل حزين وبه كآبة ، فعزّاه ، فقال : يا رسول اللّه كنت أرجوه لكبر سنّي وضعفي .

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : أما يسرّك أن يكون يوم القيامة بإزائك ، فيقال له : ادخل الجنة ، فيقول : يا ربّ ، وأبواي ، فلا يزال يشفع حتى يشفّعه اللّه - عزّ وجلّ - فيكم ويدخلكم الجنة جميعا .

ص: 53


1- في نسخة : « اتقوا » .

احتبس : أي تخلّف عن المجيء إلى النبي صلى الله عليه و آله .

وآذنتموني ، بالمدّ : أي أخبرتموني .

والكآبة ، بالمدّ : تغيّر النفس بالانكسار من شدّة الهمّ والحزن .والضعف ، بضم المعجمة وفتحها .

وبإزائك : أي بحذائك .وعن أنس أيضا قال : توفي لعثمان بن مظعون - رضي اللّه عنه - ولد ، فاشتدّ حزنه عليه حتى اتخذ في داره مسجدا يتعبّد فيه .

فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و آله فقال : يا عثمان ، إنّ اللّه لم يكتب علينا الرهبانية ، إنّما رهبانية أمّتي الجهاد في سبيل اللّه ، يا عثمان بن مظعون ، إنّ للجنة ثمانية

أبواب ، وللنار سبعة أبواب ، أفلا يسرّك ألاّ تأتي بابا منها إلاّ وجدت ابنك بجنبه آخذا بحجزتك ليشفع لك إلى ربّه - عزّ وجلّ - .

قال : فقيل : يا رسول اللّه ، ولنا في افراطنا ما لعثمان ؟

قال : نعم ، لمن صبر منكم واحتسب(1) .

والحجزة ، بضم الحاء المهملة والزاء : موضع شدّ الإزار ، ثم قيل للإزار : حجزة .

وعن قرّة بن إياس : أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان يختلف إليه رجل من الأنصار مع ابن له ، فقال له النبي صلى الله عليه و آله ذات يوم : يا فلان تحبّه ؟

قال : نعم ، يا رسول اللّه ، أحبّه كحبّك .

ص: 54


1- أمالي الصدوق : 123 ح1 ، روضة الواعظين : 422 .

ففقده النبي صلى الله عليه و آله ، فسأل عنه ، فقالوا : يا رسول اللّه ، مات ابنه .

فلمّا رآه قال عليه السلام : أما ترضى أن لا تأتي يوم القيامة بابا من أبواب الجنة إلاّ جاء يسعى حتى يفتحه لك ؟

فقال رجل : يا رسول اللّه ، أله وحده أم لكلّنا ؟ قال : بل لكلّكم(1) .وروى البيهقي : إنّ النبي صلى الله عليه و آله كان إذا جلس يحلق إليه نفر من أصحابه ،وكان فيهم رجل له بني صغير يأتيه من خلف ظهره ، فيقعده بين يديه ، إلى أن هلك ذلك الصبي ، فامتنع الرجل من الحلقة أن يحضرها ، تذكرا له وحزنا .

قال : ففقده النبي صلى الله عليه و آله قال : ما لي لا أرى فلانا ؟

فقيل : ابنه(2) الذي رأيته هلك ، فمنعه الحزن أسفا عليه ، وتذكرا له أن يحضر الحلقة .

فلقيه النبي صلى الله عليه و آله ، فسأله عن ابنه ، فأخبره بهلاكه ، فعزّاه وقال : يا فلان أيّما كان أحبّ إليك أن تمتع به عمرك ؟ أو لا تأتي غدا بابا من أبواب الجنة إلاّ وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك ؟

قال : يا نبي اللّه ، لا بل يسبقني إلى باب الجنة أحبّ إليّ .

قال : فذاك لك .

فقام رجل من الأنصار فقال : يا نبي اللّه ، أهذا لهذا خاصة ، أم من هلك له طفل من المسلمين كان له ذلك ؟

ص: 55


1- مسند أحمد : 3/436 ، سنن النسائي : 4/23 ، المستدرك للحاكم : 1/384 ، الدر المنثور : 1/158 .
2- في نسخة : « قالوا : يا رسول اللّه ، بنيه » .

قال : بل من هلك له طفل من المسلمين كان له ذلك(1) .

الحلقة ، بإسكان اللام بعد فتح الحاء : كلّ شيء مستدير خالي الوسط ، والجمع حلق بفتحتين ، وحكي فتحه في الموجز ، وهو نادر .وعن زرارة بن أوفى أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله عزّى رجلاً على ابنه ، فقال : آجرك اللّه وأعظم لك الأجر .فقال الرجل : يا رسول اللّه ، أنا شيخ كبير ، وكان ابني قد أجزأ عنّي .

فقال له النبي صلى الله عليه و آله : أيسرك أن يشير لك ، أو يتلقّاك من أبواب الجنة بالكأس ؟

قال : من لي بذلك ؟

فقال : اللّه لك به ، ولكلّ مسلم مات ولده في الإسلام .

أجزأ بمعنى : كفى .

والكأس بالهمز ، وقد يترك تخفيفا : هو الإناء فيه شراب ، ولا يسمى بذلك إلاّ بانضمامه إليه ، وقيل : هو اسم لهما على الاجتماع والانفراد ، والجمع أكؤ ، ثم كؤوس .

« بيت الحمد » لمن مات ولده فحمد واسترجع

وعن عبد اللّه بن قيس عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله : إذا مات ولد العبد قال اللّه

- تعالى - لملائكته : أقبضتم ولد عبدي ؟

ص: 56


1- السنن الكبرى للبيهقي : 4/59 .

فيقولون : نعم .

فيقول : قبضتم ثمرة فؤده ؟

فيقولون : نعم .

فيقول : ما ذا قال عبدي ؟

فيقولون : حمدك واسترجع .فيقول اللّه - تعالى - : ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسمّوه « بيت الحمد »(1) .

الفرط جنة حصينة

وروي أنّ امرأة أتت النبي صلى الله عليه و آله ومعها ابن لها مريض ، فقالت : يا رسول اللّه ، ادع اللّه - تعالى - أن يشفي لي ابني هذا .

فقال لها رسول اللّه صلى الله عليه و آله : هل لك فرط ؟

قالت : نعم ، يا رسول اللّه .

قال : في الجاهلية ، أم في الإسلام ؟

قالت : بل في الإسلام .

فقال رسول اللّه : جنّة حصينة ، جنة حصينة(2) .

الجنة بالضم : الوقاية ، أي وقاية لك من النار ، أو من جميع الأهوال .

وحصينة فعيل بمعنى الفاعل : أي محصنة لصاحبها ، وساترة له من أن يصل إليه شرّ .

ص: 57


1- الكافي : 3/218 ح4 ، فقيه من لا يحضره الفقيه : 1/112 ح523 ، مسند أحمد : 4/415 ، الجامع الصغير : 1/131 رقم 854 .
2- مجمع الزوائد : 3/10 ، مسند أبي يعلى : 10/455 .

من قدّم واحدا وجبت له الجنّة وكان حصنا من النار

وعن جابر بن سمرة قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : من دفن ثلاثة أولاد ، وصبر عليهم واحتسب وجبت له الجنة .

فقالت أم أيمن : واثنين ؟

فقال : من دفن اثنين وصبر عليهما واحتسبهما وجبت له الجنة .فقالت أم أيمن : وواحد ؟فسكت وأمسك ، فقال : يا أم أيمن ، من دفن واحدا وصبر عليه واحتسب وجبت له الجنة(1) .

وعن عبد اللّه بن مسعود - رضي اللّه عنه - قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : من قدّم ثلاثة لم يبلغ الحنث كان له حصنا حصينا .

فقال أبو ذر : قدّمت اثنين .

فقال صلى الله عليه و آله : واثنين .

ثم قال أبي بن كعب : قدّمت واحدا .

فقال صلى الله عليه و آله : وواحدا ، ولكن إنّما كان ذلك(2) عند الصدمة الأولى(3) .

وعن أبي سعيد الخدري : إنّ النساء قلن للنبي صلى الله عليه و آله : اجعل لنا يوما تعظنا فيه ، فوعظهن وقال : أيّما امرأة مات لها ثلاثة من الولد كانوا لها حجابا من النار .

ص: 58


1- المعجم الأوسط : 3/63 ، الدر المنثور : 1/159 .
2- في نسخة : « إنّما ذاك عند » .
3- مسند أحمد : 1/429 ، سنن الترمذي : 2/262 رقم 1067 ، سنن ابن ماجة : 1/512 رقم 1066 ، الدر المنثور : 1/158 .

قالت امرأة : واثنان ؟ قال : واثنان(1) .

وعن بريدة قال : كان رسول اللّه يتعاهد الأنصار ، ويعودهم ، ويسأل عنهم ، فبلغه أنّ امرأة مات ابن لها فجزعت عليه ، فأتاها فأمرها بتقوىاللّه - عزّ وجلّ - والصبر .

فقالت : يا رسول اللّه ، إنّي امرأة رقوب لا ألد ، ولم يكن لي ولد غيره .

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : الرقوب التي لا يبقى لها ولدها ، ثم قال : ما منامرئ مسلم أو امرأة مسلمة يموت لهما ثلاثة من الولد إلاّ أدخلهما اللّه الجنة .

فقيل له : وإثنان ؟

فقال : وإثنان(2) .

وفي حديث آخر أنّه صلى الله عليه و آله قال لها : أما تحبّين أن ترينه على باب الجنة وهو يدعوك إلينا ؟

قالت : بلى ، قال : فإنّه كذلك(3) .

الرقوب بفتح الراء : هي التي لا يولد لها ، أو لا يعيش ولدها ، هذا بحسب اللغة ، وقد خصّه النبي صلى الله عليه و آله بما ذكر .

وعن النضر(4) السلمي : إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال : لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فيحتسبهم إلاّ كانوا له حصنا من النار .

ص: 59


1- مسند أحمد : 3/43 ، البخاري : 1/36 ، مسلم : 4/2028 رقم 2632 .
2- المستدرك للحاكم : 1/384 ، الدر المنثور : 1/158 .
3- منتخب كنز العمال : 1/212 .
4- في نسخة : « أبي النضر » .

فقالت امرأة : واثنان ؟ فقال : واثنان(1) .

وعنه صلى الله عليه و آله : من قدّم من ولده ثلاثا صابرا محتسبا كان محجوبا من النار بإذن اللّه - عزّ وجلّ - .

وفي لفظ آخر : من قدّم شيئا من ولده صابرا محتسبا حجزه بإذن اللّه من النار(2) .

وعن أم مبشر(3) الأنصارية عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه دخل عليها وهيتطبخ حبّا ، فقال : من مات له ثلاثة لم يبلغوا الحنث كانوا له حجابا من النار .

فقالت : يا رسول اللّه ، واثنان ؟ فقال لها : واثنان يا أم مبشر .

وفي لفظ آخر : فقالت : أو فرطان ؟ قال : أو فرطان(4) .

وعن قبيضة بن برمة(5) قال : كنت عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله جالسا إذ أتته امرأة فقالت : يا رسول اللّه ، ادع اللّه لي ، فإنّه ليس يعيش لي ولد .

قال : وكم مات لك ؟

قالت : ثلاثة .

ص: 60


1- مجموعة ورام : 1/287 ، الموطأ : 1/235 ، الدر المنثور : 1/158 .
2- المصنف لابن أبي شيبة الكوفي : 3/233 رقم 8 ، المعجم الأوسط : 1/211 .
3- في نسخة : « ميسر » .
4- المعجم الكبير : 25/104 ، كنز العمال : 3/294 رقم 6625 ، عمدة القاري : 8/29 .
5- في نسخة : « برهة » .

قال : لقد أحتظرت من النار بحظار شديد(1) .

الحظار بكسر الحاء المهملة والظاء المشالة : الحظيرة تعمل للإبل من شجر ليقيها البرد والريح ، ومنه المحظور للمحرم : أي الممنوع من الدخول فيه ، كأنّ عليه حظيرة تمنع من دخوله .

وعن أبي بن كعب : إنّ النبي صلى الله عليه و آله قال لامرأة : هل لك فرط ؟

قالت : ثلاثة .قال صلى الله عليه و آله : جنة حصينة .وعنه صلى الله عليه و آله : ما من مسلمين يقدّمان ثلاثة لا يبلغوا الحنث إلاّ أدخلهما اللّه الجنة بفضل رحمته .

قالوا : يا رسول اللّه ، وذو الاثنين ؟

قال : وذو الاثنين ، إنّ من أمّتي من يدخل الجنة بشفاعته أكثر من مضر ، وإنّ من أمّتي من يستطعم النار حتى يكون أحد زواياها(2) .

رواه جماعة من أهل الحديث وصححوه(3) .

وعنه صلى الله عليه و آله قال : قال اللّه - تعالى - : حقّت(4) محبّتي للذين يتصادقون من أجلي ، وحقّقت محبّتي للذين يتناصرون من أجلي .

ص: 61


1- أسد الغابة : 4/191 ، مسند أحمد : 2/419 ، مسلم : 2/2030 .
2- في نسخة : « أحذر وإياها » .
3- المستدرك للحاكم : 1/71 ، مسند أحمد : 4/212 .
4- في نسخة : « حققت » .

ثم قال عليه السلام : ما من مؤن ولا مؤنة يقدّم اللّه - تعالى - له ثلاثة أولاد

من صلبه لم يبلغوا الحنث إلاّ أدخله اللّه الجنة بفضل رحمته إياهم(1) .

وعنه صلى الله عليه و آله : من دفن ثلاثة من ولده حرّم اللّه عليه النار(2) .

من مات له ثلاثة لم يبلغوا الحنث غفر اللّه له

وعن صعصعة بن معاوية قال : لقيت أبا ذر الغفاري - رضي اللّه عنه - بالربذة ، وهو يسوق بعيرا له عليه مزادتان ، وفي عنق البعير قربة .

فقلت : يا أبا ذر ، ما لك ؟قال : عملي .

قلت : حدّثني رحمك اللّه .

قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : ما من مسلمين يموت بينهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث إلاّ غفر اللّه لهما بفضل رحمته إياهم .

قال : قلت : فحدّثني .

قال : نعم ، سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : ما من عبد مسلم ينفق من كلّ ماله زوجين في سبيل اللّه إلاّ استقبلته حجبة الجنة كلّهم يدعوه إلى ما عنده .

فقلت : كيف ذلك ؟

ص: 62


1- مجمع الزوائد : 3/6 ، مسند ابن المبارك : 17 رقم 9 ، المعجم الأوسط : 9/40 ، المعجم الصغير : 2/11 ، سنن النسائي : 4/34 .
2- مجمع الزوائد : 3/7 ، الجامع الصغير : 2/600 رقم 8669 .

قال : إن كان رجالاً(1) فرجلين ، وإن كان بعيرا فبعيرين ، وإن كان بقرا فبقرتين ، حتى أعدّ أصناف المال(2) . ذكره جماعة .

الرقوب من لا فرط له

وعن أنس بن مالك قال : وقف رسول اللّه صلى الله عليه و آله على مجلس من بني سلمة فقال : يا بني سلمة ، ما الرقوب فيكم ؟

قالوا : الذي لا يولد له .

قال : بل هو الذي لا فرط له .قال : ما المعدم فيكم ؟قالوا : الذي لا مال له .

قال : بل هو الذي يقدم وليس له عند اللّه خير(3) .

وعن ابن مسعود قال : دخل رسول اللّه صلى الله عليه و آله على امرأة يعزّيها بابنها ، فقال : بلغني أنّك جزعت جزعا شديدا !

قالت : وما يمنعني يا رسول اللّه ، وقد تركني عجوزا رقوبا .

فقال لها رسول اللّه صلى الله عليه و آله : لست برقوب إنّما الرقوب التي تتوفى وليس لها فرط ، ولا يستطيع الناس أن يعودوا عليها من إفراطهم ، فتلك الرقوب .

ص: 63


1- في نسخة : « رجلاً » .
2- مسند أحمد : 5/159 ، سنن النسائي : 6/49 ، المستدرك للحاكم : 2/86 .
3- مجمع الزوائد : 3/11 ، مسند أبي يعلى : 6/133 ، تحف العقول : 46 ، مشكاة الأنوار : 254 .

وهذه الأحاديث كلّها مستخرجة من أصول مسندة تركنا إسنادها وأصولها اختصارا ، ولأنّ اللّه - سبحانه - بفضله ورحمته قد وعد الثواب لمن عمل بما بلغه ، وإن لم يكن الأمر كما بلغه ، ورد ذلك أيضا في عدّة أحاديث من طرقنا وطرق العامة(1) .

ص: 64


1- الكافي : 2/87 ، إقبال الأعمال : 3/171 .

فصل 1 : فيما يتعلق بهذا الباب

أعطى اللّه لداود عليه السلام مل ء الأرض ثوابا بولده

عن زيد بن أسلم قال : مات لداود عليه السلام ولد ، فحزن عليه حزنا كثيرا ، فأوحى اللّه إليه : يا داود ، وما كان يعدل هذا الولد عندك ؟

قال : يا ربّ كان يعدل هذا عندي مل ء الأرض ذهبا .

قال : فلك - أيضا - عندي يوم القيامة مل ء الأرض ثوابا(1) .

الفرط يرجح الميزان ولا ثواب لمن تمنّى موت ولده

وعن داود بن هند قال : رأيت في المنام كأنّ القيامة قد قامت ، وكأنّ الناس يدعون إلى الحساب ، قال : فقرّبت إلى الميزان ، ووضعت حسناتي في كفّة ، وسيئاتي في كفّة ، فرجحت السيئات على الحسنات .

فبينما أنا كذلك مغموم ، إذ أتيت بمنديل أبيض ، أو خرقة بيضاء ، فوضعت مع حسناتي ، فرجحت .فقيل لي : أتدري ما هذا ؟

ص: 65


1- الدر المنثور : 5/306 ، مجموعة ورام : 1/287 .

قلت : لا .

قيل : هذا سقط كان لك .

قلت : فإنّه كانت لي ابنة !

فقيل : بنتك ليست كذلك ، لأنّك كنت تتمنّى موتها(1) .

دعا على ولده بالموت لرؤيا رأها !

وعن أبي شوذب : إنّ رجلاً كان له ابن لم يبلغ الحلم ، فأرسل إلى قومه ، فقال : لي إليكم حاجة .

قالوا : ما هي ؟

قال : إنّي أريد أن أدعو على ابني هذا أن يقبضه اللّه - تعالى - وتؤّنون على دعائي .

قال : فسألوه عن سبب ذلك ، فأخبرهم أنّه رأى في نومه كأنّ الناس قد جمعوا ليوم القيامة ، وأصابهم عطش شديد ، فإذا الولدان قد خرجوا من الجنة معهم الأباريق ، ومنهم ابن أخ له ، فالتمس أن يسقيه ، فأبى ، فقال : يا عم إنّا لا نسقي إلاّ الآباء ، فأحببت أن يجعل اللّه ولدي هذافرطا لي .

ص: 66


1- في وسائل الشيعة : 21/6367 ح27318 : عَنْ عُمَرَ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ لأِبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام : إِنَّ لِي بَنَاتٍ ، فَقَالَ : لَعَلَّكَ تَتَمَنَّى مَوْتَهُنَّ ، أَمَا إِنَّكَ إِنْ تَمَنَّيْتَ مَوْتَهُنَّ وَمِتْنَ لَمْ تُؤجَرْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَلَقِيتَ رَبَّكَ - حِينَ تَلْقَاهُ - وَأَنْتَ عَاصٍ . وفي بحار الأنوار : 101/99 باب 2 ح78 : قال عليه السلام : من تمنّى موت البنات حرم أجرهن ولقي اللّه - تعالى - عاصيا .

فدعا ، فأمّنوا ، فلم يلبث الصبي حتى مات(1)(2) .أخرجه البيهقي في الشعب .

ص: 67


1- الحكاية عامية ، ولا تنتهي الى معصوم ، فلا قيمة لها ، ولا يعتمد عليها ، وكذا ماسينقله على هذا المنوال . وفي الكافي : 3/225 ح11 عن قتيبة الأعشى قال : أتيت أبا عبد اللّه عليه السلام أعود ابنا له ، فوجدته على الباب ، فإذا هو مهتم حزين ، فقلت : جعلت فداك ، كيف الصبي ؟ فقال : واللّه إنّه لما به ، ثم دخل فمكث ساعة ، ثم خرج إلينا وقد أسفر وجهه ، وذهب التغيّر والحزن . قال : فطمعت أن يكون قد صلح الصبي ، فقلت : كيف الصبي جعلت فداك ؟ فقال : وقد مضى لسبيله ، فقلت : جعلت فداك ، لقد كنت وهو حي مهتما حزينا ، وقد رأيت حالك الساعة وقد مات غير تلك الحال ، فكيف هذا ؟ فقال : إنّا أهل البيت إنّما نجزع قبل المصيبة ، فإذا وقع أمر اللّه رضينا بقضائه ، وسلّمنا لأمره . وفي الكافي أيضا : 3/226 ح13 : عن علاء بن كامل قال : كنت جالسا عند أبي عبد اللّه عليه السلام ، فصرخت صارخة من الدار ، فقام أبو عبد اللّه عليه السلام ، ثم جلس فاسترجع وعاد في حديثه حتى فرغ منه ، ثم قال : إنّا لنحبّ أن نعافى في أنفسنا وأولادنا وأموالنا ، فإذا وقع القضاء فليس لنا أن نحبّ ما لم يحبّ اللّه لنا . وفيه أيضا : عن يونس ابن يعقوب عن بعض أصحابنا قال : كان قوم أتوا أبا جعفر عليه السلامفوافقوا صبيا له مريضا ، فرأوا منه اهتماما وغمّا ، وجعل لا يقرّ ، قال : فقالوا : واللّه لئن أصابه شيء إنّا لنتخوف أن نرى منه ما نكره . قال : فما لبثوا أن سمعوا الصياح عليه ، فإذا هو قد خرج عليهم منبسط الوجه في غير الحال التي كان عليها ، فقالوا له : جعلنا اللّه فداك ، لقد كنّا نخاف ممّا نرى منك أن لو وقع أن نرى منك ما يغمّنا ، فقال لهم : إنّا لنحبّ أن نعافى فيمن نحبّ ، فإذا جاء أمر اللّه سلّمنا فيما أحبّ .
2- شعب الإيمان للبيهقي : 7/140 رقم 9766 ، تسلية أهل المصائب : 1/32 .

اشتهى موت ولده لرؤيا رأها !

وعن محمد بن أبي خلف قال : كان لإبراهيم الحربي ابن له إحدى عشرة سنة قد حفظ القرآن ، ولقّنه أبوه من الفقه والحديث شيئا كثيرا ، فمات فأتيته لأعزّيه .

فقال : كنت أشتهي موته .

فقلت له : يا أبا إسحاق ، أنت عالم الدنيا تقول مثل هذا في صبي قدأنجب ، وقد حفظ القرآن ، ولقّنته الحديث والفقه ؟

قال : نعم ، رأيت في النوم كأنّ القيامة قد قامت ، وكأنّ صبيانا بأيديهم القلال ، وفيها ماء يستقبلون الناس يسقونهم ، وكان اليوم يوما شديد الحر ، فقلت لأحدهم : اسقني من هذا الماء .

قال : فنظر إليّ ، وقال : لست أنت أبي .

قلت : فأيّ شيء أنتم ؟

قالوا : نحن الصبيان الذين متنا في دار الدنيا ، وخلّفنا آباءنا ، فنستقبلهم ونسقيهم ، فلهذا تمنيت موته(1) .

تزوّج رجاء أن يرزق ولدا فيموت !

وروى الغزالي في الإحياء : إنّ بعض الصالحين كان يعرض عليه التزويج برهة من دهره ، فيأبى .

قال : فانتبه من نومه ذات يوم وقال : زوّجوني ، فزوّجوه ، فسئل

ص: 68


1- تاريخ بغداد : 6/35 .

عن ذلك ، فقال : لعلّ اللّه أن يرزقني ولدا فيقبضه ، فيكون لي مقدمة في الآخرة .

ثم قال : رأيت في المنام كأنّ القيامة قد قامت ، وكأنّي في جملة الخلائق في الموقف ، وبي من العطش ما كاد أن يقطع قلبي ، وكذا الخلائق من شدّة العطش والكرب .فبينما نحن كذلك ، وإذا الولدان يتخلّلون الجمع ، عليهم قناديل من نور ، وبأيديهم أباريق من فضة ، وأكواب من ذهب ، يسقون الواحد بعدالواحد ، يتخلّلون الجمع ، ويجاوزون أكثر الناس .

فمددت يدي إلى أحدهم ، فقلت : اسقني فقد أجهدني العطش .

فقال : ما لك فينا ولد ، إنّما نسقي آباءنا .

فقلت : ومن أنتم ؟

قالوا : نحن من مات من أطفال المسلمين(1)(2) .

دعا اللّه فرزقه ولدا ثم دعاه ليموت !

وحكى الشيخ أبو عبد اللّه بن النعمان في كتاب « مصباح الظلام » عن بعض الثقات : إنّ رجلاً أوصى بعض أصحابه ممّن أراد أن يحجّ أن يقرأ سلامه رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ويدفن رقعة مختومة أعطاها له عند رأسه الشريف ، ففعل ذلك .

ص: 69


1- ومن العجيب أنّ هذا الصالح ! لم يمتثل بكلام سيد المرسلين ولم يلتفت الى أمره صلى الله عليه و آله بالنكاح والتزويج ، وحثّه على ذلك ، ليشرب من حوض الكوثر ، ومن ثم يسارع الى الزواج لإحتمال أن يرزق ولدا ، فيموت صغيرا ، فيسقيه يوم القيامة ، كلّ هذا لو صدقت رؤياه .
2- إحياء علوم الدين للغزالي : 2/27 .

فلمّا رجع من حجّه أكرمه الرجل ، وقال له : جزاك اللّه خيرا ، لقد بلغت الرسالة .

فتعجّب المبلّغ من ذلك وقال : من أين علمت تبليغها قبل أن أحدّثك ؟فأنشأ يحدّثه ، قال : كان لي أخ مات وترك ابنا صغيرا ، فربّيته وأحسنت تربيته ، ثم مات قبل أن يبلغ الحلم .

فلمّا كان ذات ليلة رأيت في المنام كأنّ القيامة قد قامت ، والحشر قد وقع ، والناس قد اشتدّ بهم العطش من شدّة الجهد ، وبيد ابن أخي ماء ،فالتمست أن يسقيني ، فأبى ، وقال : أبي أحقّ به منك ، فعظم عليّ ذلك ، فانتبهت فزعا .

فلمّا أصبحت تصدّقت بجملة دنانير ، وسألت اللّه أن يرزقني ولدا ذكرا ، فرزقنيه ، واتفق سفرك ، فكتبت لك تلك الرقعة ، ومضمونها التوسل بالنبي صلى الله عليه و آله إلى اللّه - عزّ وجلّ - في قبوله منّي رجاء أن أجده يوم الفزع الأكبر ، فلم يلبث أن حمّ ومات ، وكان ذلك يوم وصولك ، فعلمت أنّك بلّغت الرسالة!!! .

افراط يستقبلون أمّهم في القبر

وفي كتاب النوم والرؤا لأبي الصقر الموصلي : حدّثني علي بن الحسين بن جعفر ، حدّثني أبي ، حدّثني بعض أصحابنا ممّن أثق بدينه وفهمه قال :

أتيت المدينة ليلاً ، فنمت في « بقيع الغرقد » بين أربعة قبور عندها قبر محفور ، فرأيت في منامي أربعة أطفال قد خرجوا من تلك القبور وهم يقولون :

ص: 70

أنعم اللّه بالحبيبة عينا

وبمسراك يا أميم إلينا

عجبا ما عجبت من ضغطة القبر

ومع ذاك يا أميم إلينا(1)

فقلت : إنّ لهذه الأبيات لشأنا ، وأقمت حتى طلعت الشمس ، وإذا جنازة قد أقبلت ، فقلت : من هذه ؟ فقالوا : امرأة من أهل المدينة .فقلت : اسمها أميمة ؟ قالوا : نعم .قلت : قدمت فرطا ؟ قالوا : أربعة أولاد .

فأخبرتهم بالخبر ، فأخذوا يتعجّبون من هذا .

وما أحسن ما أنشد بعض الأفاضل يقول شعرا :

عطيّته إذا أعطى سرورا

وإن سلب الذي أعطى أثابا

فأيّ النعمتين أعدّ فضلاً

وأحمد عند عقباها إيابا

أنعمته التي كانت سرورا

أم الأخرى التي جلبت ثوابا(2)

ص: 71


1- أخبار القضاة : 2/180 .
2- في تاريخ بغداد للخطيب البغدادي : 13/88 : . . أبو بكر الطالقاني عن أبيه قال : كنت جالسا عند محمود الوراق ، والناس يعزّونه عن جاريته « نشو » ، وكان قد أعطي بها آلافا من الدنانير ، وإذا بعض المعزّين يكرر ذكر فضلها عنده ليحزنه ، ففطن له ، فأنشأ يقول :ومنتصح يكرر ذكر نشو ليحدث لي بذكراها اكتئاباأقول وعد ما كانت تساوي سيخلفه الذي خلق الحساباعطيته إذا أعطى سرورا وإن أخذ الذي أعطى أثابافأيّ النعمتين أعمّ فضلاً وأكرم في عواقبها إياباأنعمته التي أهدت سرورا أم الأخرى التي أهدت ثوابابل الأخرى وإن نزلت بكره أحقّ بصبر من صبر احتسابا

ص: 72

الباب الثاني في الصبر وما يلحق به

اشارة

« الصبر » في اللّغة : حبس النفس من الفزع من المكروه ، والجزع عنه ، وإنّما يكون ذلك بمنع باطنه من الاضطراب ، وأعضائه من الحركات الغير المعتادة .

أنواع الصبر

وهو ثلاثة أنواع :

الأول : صبر العوام

وهو حبس النفس على وجه التجلّد ، وإظهار الثبات في النائبات ، ليكون حاله عند العقلاء وعامة الناس مرضية ، « يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الآْخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ »(1) .

الثاني : صبر الزهاد والعباد وأهل التقوى وأرباب الحكملتوقّع ثواب الآخرة « إِنَّما يُوَفَّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ »(2) .

ص: 73


1- الروم : 30 .
2- الزمر : 39 .

الثالث : صبر العارفين

فإنّ لبعضهم التذاذا بالمكروه ، لتصوّرهم أنّ معبودهم خصّهم به من دون الناس ، وصاروا ملحوظين بشرف نظرته « وَبَشِّرِ الصّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ ورَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ »(1) .

وهذا النوع يختصّ باسم الرضا ، وسيأتي في باب خاصّ ، والأول لا ثواب عليه ، لأنّه لم يفعله للّه ، وإنّما فعله لأجل الناس ، بل هو في الحقيقة رياء محض .

فكلّما ورد في الرياء آت فيه ، ولكن الجزع شرّ منه ، لأنّ النفوس البشرية تميل إلى التخلّق بأخلاق النظراء ، والمعاشرين والخلطاء ، فيفشو الجزع فيهم ، وإذا رأوا أحوال الصابرين مالت نفوسهم إلى التخلّق بأخلاقهم ، فربما صار ذلك سببا لكمالهم ، فيحصل منه فائدة في نظام النوع ، وإن لم يعدّ على هذا الصابر ، والصبر عند الإطلاق يحمل على القسم الثاني .

أوصاف الصابرين

واعلم أنّ اللّه - سبحانه - قد وصف الصابرين بأوصاف ، وذكرالصابرين في نيف وسبعين موضعا ، وأضاف أكثر الخيرات والدرجاتإلى الصبر ، وجعلها ثمرة له .

ص: 74


1- البقرة : 155 - 157 .

فقال عزّ من قائل : « وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمّا صَبَرُوا »(1) .

وقال : « وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا »(2) .

وقال - تعالى - : « وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ »(3) .

وقال : « أُولئِكَ يُؤتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا »(4) .

وقال : « إِنَّما يُوَفَّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ »(5) .

فما من قربة إلاّ وأجرها بتقدير وحساب إلاّ الصبر .

ولأجل كون الصوم من الصبر ، وإنّه نصف الصبر(6) ، كان لا يتوّلى

أجره إلاّ اللّه - تبارك وتعالى - كما ورد في الأثر ، قال اللّه - تعالى - : الصوملي وأنا الذي أجزي به(7) . فأضافه إلى نفسه من بين سائر العبادات .

ص: 75


1- السجدة : 24 .
2- الأعراف : 137 .
3- النحل : 69 .
4- القصص : 54 .
5- الزمر : 10 .
6- مسند أحمد : 4/260 ، سنن الدارمي : 1/167 ، سنن ابن ماجة : 1/555 رقم 1745 ، سنن الترمذي : 5/197 رقم 3585 ، المصنف للصنعاني : 11/296 رقم 20582 ، الآحاد والمثاني : 3/109 ، كتاب الدعاء للطبراني : 493 رقم 1734 ، مسند الشهاب : 1/162 ، الجامع الصغير للسيوطي : 2/122 رقم 5200 .
7- مسند زيد : 204 ، الكافي : 4/63 ح6 ، دعائم الإسلام : 1/270 ، فقيه من لا يحضره الفقيه : 2/75 ح1773 ، تهذيب الأحكام : 4/152 ح420 ، مصباح الشريعة : 136 ، مكارم الأخلاق للطبرسي : 138 ، عدّة الداعي : 226 ، مسند أحمد : 1/232 ، البخاري : 8/197 ، مسلم : 3/158 ، سنن النسائي : 4/159 ، السنن الكبرى للبيهقي : 4/273 ، المصنف لابن أبي شيبة الكوفي : 2/423 رقم 3 ، منتخب مسند عبد بن حميد : 288 رقم 921 ، مسند أبي يعلى : 2/286 رقم 1005 ، ابن خزيمة : 3/198 ، المعجم الأوسط : 8/232 ، المعجم الكبير للطبراني : 10/98 رقم 10078 ، مسند الشاميين للطبراني : 4/309 رقم 3391 ، التمهيد لابن عبد البر : 19/59 ، شرح النهج لابن أبي الحديد : 19/87 ، تفسير مجمع البيان : 3/247 ، تفسير القرطبي : 15/241 .

ووعد الصابرين بأنّه معهم فقال : « اصْبِرُوا إِنَّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ »(1) .

وعلّق النصرة على الصبر ، فقال : « بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ »(2) .

وجمع للصابرين بين أمور لم يجمعها لغيرهم فقال : « أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ »(3) ، فالهدى والصلاة والرحمة

مجموعة للصابرين .

واستقصاء جميع الآيات في مقام الصبر يطول .

وأمّا الأخبار :

فقد قال النبي صلى الله عليه و آله : الصبر نصف الإيمان(4) .

ص: 76


1- الأنفال : 46 .
2- آل عمران : 125 .
3- البقرة : 157 .
4- المبسوط للسرخسي : 30/255 ، المستدرك على الصحيحين للحاكم : 2/446 ، مجمع الزوائد : 1/57 ، المعجم الكبير للطبراني : 9/104 ، مسند الشهاب لابن سلامة : 1/126 ، الفائق للزمخشري : 2/382 ، شرح النهج لابن أبي الحديد : 1/319 ، تفسير التبيان للطوسي : 8/288 ، تفسير مجمع البيان : 8/94 ، جامع البيان للطبري : 21/101 رقم 21450 ، تفسير السمعاني : 3/104 .

وقال صلى الله عليه و آله : من أقلّ(1) ما أوتيتم اليقين ، وعزيمة الصبر ، ومن أعطيحظّه منهما لم يبال ما فاته من قيام الليل وصيام النهار(2) ، ولئن تصبروا على مثل ما أنتم عليه أحبّ إليّ من أن يوافيني كلّ امرئ منكم بمثل عمل جميعكم، ولكنّي أخاف أن تفتح عليكم الدنيا بعدي، فينكر بعضكم بعضا، وينكركم أهل السماء عند ذلك ، فمن صبر واحتسب ظفر بكمال ثوابه ، ثم قرأ « ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا »(3)(4) الآية .

وروى جابر أنّه صلى الله عليه و آله سئل عن الإيمان ، فقال : الصبر كنز من كنوز الجنة(5) ، وسئل مرّة : ما الإيمان ؟ فقال : الصبر(6) ، وهذا نظير قوله عليه السلام :

الحج عرفة(7) .

وقال صلى الله عليه و آله : أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس(8) .

ص: 77


1- في بعض المصادر : « أفضل » .
2- تفسير الرازي : 4/172 .
3- النحل : 96 .
4- إحياء علوم الدين للغزالي : 4/61 .
5- إحياء علوم الدين للغزالي : 4/61 .
6- مسند أحمد : 4/385 ، مجمع الزوائد : 1/54 ، منتخب مسند عبد بن حميد : 124 ، مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا : 31 ، الدر المنثور : 1/66 ، التاريخ الكبير للبخاري : 5/25 ، تهذيب الكمال للمزي : 6/121 .
7- مسند أحمد : 4/309 ، سنن ابن ماجة : 2/1003 رقم 3015 ، سنن الترمذي : 2/188 رقم 890 ، سنن النسائي : 5/256 ، المستدرك على الصحيحين للحاكم : 2/278 ، السنن الكبرى للبيهقي : 5/173 ، المصنف لابن أبي شيبة الكوفي : 4/308 .
8- عيون الحكم والمواعظ : 120 ، مجموعة ورام : 1/63 .

وقيل : أوحى اللّه - تعالى - إلى داود عليه السلام تخلّق بأخلاقي ، وإنّ منأخلاقي الصبر(1) .وعن ابن عباس - رضي اللّه عنه - : لمّا دخل رسول اللّه صلى الله عليه و آله على الأنصار فقال : أمؤنون أنتم ؟ فسكتوا .

فقال رجل : نعم ، يا رسول اللّه .

فقال : وما علامة إيمانكم ؟

قالوا : نشكر على الرخاء ، ونصبر على البلاء ، ونرضى بالقضاء .

فقال : مؤنون ، وربّ الكعبة(2) .

وقال صلى الله عليه و آله : في الصبر على ما يكره خير كثير(3) .

وقال المسيح عليه السلام : إنّكم لا تدركون ما تحبّون إلاّ بصبركم على ما تكرهون .

وقال صلى الله عليه و آله : لو كان الصبر رجلاً لكان كريما(4) .

وقال علي عليه السلام : بني الإسلام على أربع دعائم : اليقين ، والصبر ، والجهاد ، والعدل(5) .

ص: 78


1- تفسير السلمي : 2/344 ، إحياء علوم الدين للغزالي : 4/61 ، إرشاد القلوب للديلمي : 137 .
2- مجمع الزوائد : 1/54 ، المعجم الأوسط : 9/163 ، التمحيص : 61 ح137 .
3- مشكاة الأنوار : 20 ، تفسير الثعلبي : 10/235 ، جامع الرسائل : 1/250 .
4- مجموعة ورام : 1/40 ، الجامع الصغير : 2/434 ح7461 ، منتخب كنز العمال : 1/208 .
5- نهج البلاغة: 3/157 ح30 ، الكافي: 2/50 ح1 ، الخصال: 231 ، روضة الواعظين: 43 ، كنز العمال : 1/285 ، الدر المنثور : 1/66 ، تاريخ دمشق : 42/515 ، ميزان الإعتدال : 2/199 ، المناقب للخوارزمي : 372 .

وقال أيضا : الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، ولا جسد لمنلا رأس له ، ولا إيمان لمن لا صبر له(1) .وقال علي عليه السلام : عليكم بالصبر ، فإنّه به يأخذ الحازم ، واليه يعود الجازع(2) .

وقال علي عليه السلام : إن صبرت جرت عليك المقادير وأنت مأجور ، وإن جزعت جرت عليك المقادير وأنت مأزور(3) .

وعن الحسن بن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه و آله قال : إنّ في الجنة شجرة يقال لها « شجرة البلوى » ، يؤى لأهل البلاء يوم القيامة ، فلا يرفع لهم ديوان ، ولا ينصب لهم ميزان ، يصبّ عليهم الأجر صبّا ، وقرأ عليه السلام « إِنَّما يُوَفَّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ »(4)(5) .

ص: 79


1- نهج البلاغة : 3/168 ح82 ، الكافي : 2/72 ح4 و5 ، جامع الأخبار : 135 ، التمحيص : 64 ح148 ، مشكاة الأنوار : 21 .
2- خصائص الأئمة للشريف الرضي : 111 ، عيون الحكم والموعظ : 333 ، اعلام الدين للديلمي : 296 .
3- نهج البلاغة : 3/224 ح291 ، جامع الأخبار : 136 ، شرح النهج لابن أبي الحديد : 19/192 .
4- الزمر : 10 .
5- مجمع الزوائد : 2/305 ، المعجم الكبير للطبراني : 3/93 ، كتاب الدعاء للطبراني : 347 رقم 1138 ، تفسير الثعلبي : 8/226 ، تفسير القرطبي : 15/241 ، الدر المنثور: 5/323 .

وعنه عليه السلام عن النبي صلى الله عليه و آله : ما من جرعة أحبّ إلى اللّه - تعالى - من جرعة غيظ كظمها رجل ، أو جرعة صبر على مصيبة ، وما من قطرة أحبّ إلى اللّه - تعالى - من قطرة دمع من خشية اللّه ، أو قطرة دم أهرقتفي سبيل اللّه (1) .

وعنه عليه السلام : المصائب مفاتيح الأجر(2) .وعن زين العابدين عليه السلام : إذا جمع اللّه الأولين والآخرين ينادي مناد : أين الصابرون ؟ ليدخلوا الجنة بغير حساب .

قال : فيقوم عنق من الناس ، فتتلقّاهم الملائكة ، فيقولون : إلى أين يا بني آدم ؟

فيقولون : إلى الجنة .

فيقولون : وقبل الحساب ؟

فقالوا : نعم .

قالوا : ومن أنتم ؟

قالوا : الصابرون .

قالوا : وما كان صبركم ؟

ص: 80


1- الدر المنثور : 2/74 ، مسند الشهاب لابن سلامة : 2/256 رقم 1308 ، كنز العمال : 15/872 .
2- نزهة الناظر وتنبيه الخاطر للحلواني : 72 رقم 11 ، العدد القوية : 37 ح42 ، اعلامالدين للديلمي : 297 .

قالوا : صبرنا على طاعة اللّه ، وصبرنا عن معصية اللّه ، حتى توفّانا اللّه - عزّ وجلّ - .

قالوا : أنتم كما قلتم ، ادخلوا الجنة « فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ »(1) .

وعن أنس قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : قال اللّه - عزّ وجلّ - : إذا وجهت إلى عبد من عبيدي في بدنه ، أو ماله ، أو ولده ، ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزانا ، أو أنشرله ديوانا(2) .

وعن ابن مسعود - رضي اللّه عنه - عن النبي صلى الله عليه و آله قال : ثلاث من رزقهن فإنّه رزق خير الدارين : الرضا بالقضاء ، والصبر على البلاء ، والدعاء في الرخاء(3) .

وعن ابن عباس - رضي اللّه عنه - قال : كنت عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال : يا غلام ، أو يا غليم ، ألا أعلّمك كلمات ينفعك اللّه بهن ؟

فقلت : بلى .

ص: 81


1- كشف الغمة : 2/103 ، أمالي الطوسي : 100 ح1 ، فقه الرضا عليه السلام : 368 ، مجموعة ورام : 2/180 ، تفسير ابن أبي حاتم : 1/262 ، تفسير ابن كثير : 1/202 .
2- الدعوات للراوندي : 172 ح484 ، سبل الهدى والرشاد : 12/116 ، جامع الأخبار : 136 ، الجامع الصغير : 2/242 رقم 6043 ، كنز العمال : 3/282 رقم 6561 .
3- عيون الحكم والمواعظ : 212 ، الدعوات للراوندي : 121 ح289 ، المستطرف : 2/70 .

فقال : احفظ اللّه يحفظك ، احفظ اللّه تجده أمامك ، تعرف إلى اللّه (1) في الرخاء يعرفك في الشدّة ، إذا سألت فاسأل اللّه ، وإذا استعنت فاستعن باللّه .

واعلم أنّ في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا ، وأنّ النصر مع الصبر ، وأنّ الفرج مع الكرب ، و« إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً »(2) .وعنه صلى الله عليه و آله : يؤى الرجل في قبره بالعذاب ، فإذا أوتي من قبل رأسهدفعه تلاوة القرآن ، وإذا أوتي من بين يديه دفعته الصدقة ، وإذا أوتي من قبل رجليه دفعه مشيه إلى المسجد ، والصبر حجزة ، يقول : أما لو رأيت خللاً لكنت صاحبه(3) .

وفي لفظ آخر : إذا دخل الرجل القبر قامت الصلاة عن يمينه ، والزكاة عن شماله ، والبرّ يظلّ عليه ، والصبر بناحية يقول : دونكم صاحبي ، فإنّي من ورائه ، يعني إن استطعتم أن تدفعوا عنه العذاب ، وإلاّ فأنا أكفيكم ذلك ، وأدفع عنه العذاب(4) .

ص: 82


1- في نسخة : « اليه » .
2- فقيه من لا يحضره الفقيه : 4/413 ح5900 ، الفرج بعد الشدّة للتنوخي : 1/27 ، أمالي الطوسي : 675 ح1424 ، ذخائر العقبى : 235 ، المستدرك على الصحيحين للحاكم : 3/542 ، مجمع الزوائد : 7/189 ، كتاب السنة لابن أبي عاصم : 138 رقم 314 ، المعجم الكبير للطبراني : 11/101 ، مسند أحمد : 1/307 ، الدر المنثور : 1/66 .
3- المعجم الأوسط : 9/167 .
4- الكافي : 2/90 ح8 ، ثواب الأعمال : 170 ح1 ، مشكاة الأنوار : 26 .

وعنه صلى الله عليه و آله : عجبا لأمر المؤن ، إنّ أمره كلّه له خير ، وليس ذلك لأحد إلاّ للمؤن ، إن أصابته سراء شكر ، فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر ، فكان خيرا له(1) .

وعنه صلى الله عليه و آله : ألا أعجبكم أنّ المؤن إذا أصاب خيرا حمد اللّه وشكر ، وإذا أصابته مصيبة حمد اللّه وصبر ، فالمؤن يؤر في كلّ شيء ، حتى اللقمة يرفعها إلى فيه(2) .وفي حديث آخر : حتى اللقمة يرفعها إلى فم امرأته(3) .

وعنه صلى الله عليه و آله : الصبر خير مركب ، ما رزق اللّه عبدا خيرا له ولا أوسعمن الصبر(4) .

وسئل صلى الله عليه و آله : هل من رجل يدخل الجنة بغير حساب ؟

قال : نعم كلّ رحيم صبور .

وعن أبي بصير قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : إنّ الحرّ حرّ على جميع أحواله ، إن نابته نائبة صبر لها ، وإن تراكمت عليه المصائب لم تكسره ، وإن أسر وقهر ، واستبدل باليسر عسرا .

ص: 83


1- مسند أحمد : 4/332 ، مسلم : 4/2295 رقم 2999 ، الترغيب والترهيب : 4/278 رقم 7 .
2- مجمع الزوائد : 10/95 ، الدر المنثور : 1/154 ، مسند بن عبد الحميد : 78 .
3- مجمع الزوائد : 10/95 ، الأدب المفرد للبخاري : 163 رقم 773 ، مسند أحمد : 1/182 ، الجامع الصغير : 2/148 .
4- ابن حبان : 8/192 ، مسند أحمد : 3/47 ، سنن الترمذي : 3/252 رقم 2093 ، المستدرك على الصحيحين للحاكم : 2/414 ، الجامع الصغير : 2/496 رقم 7911 .

كما كان يوسف الصديق الأمين عليه السلام لم يضرر حريته أن استعبد وأسر وقهر ، ولم تضرره ظلمة الجبّ ووحشته ، وما ناله أن منّ اللّه عليه ، فجعل الجبار العاتي له عبدا بعد أن كان ملكا ، فأرسله ورحم به أمّته .

وكذلك الصبر يعقب خيرا ، فاصبروا ووطنوا أنفسكم على الصبر تؤروا(1) .

وعن الباقر عليه السلام : الجنة محفوفة بالمكاره والصبر ، فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنة ، وجهنم محفوفة باللذات والشهوات ، فمن أعطى نفسه لذّتها وشهوتها دخل النار(2) .

وعن علي عليه السلام قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : الصبر ثلاثة : صبر عندالمصيبة ، وصبر على الطاعة ، وصبر عن المعصية .

فمن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب اللّه له ثلاثمائةدرجة ، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض .

ومن صبر على الطاعة كتب اللّه له ستمائة درجة ، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش .

ومن صبر على المعصية كتب اللّه له تسعمائة درجة ، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش(3) .

ص: 84


1- الكافي : 2/89 ح6 ، مشكاة الأنوار : 21 .
2- الكافي : 2/89 ح7 .
3- الكافي : 2/75 ح15 ، مجموعة ورام : 1/40 ، جامع الأخبار : 135 ، الجامع الصغير : 2/114 رقم 5137 ، منتخب كنز العمال : 1/208 .

وعن أبي حمزة الثمالي قال قال أبو عبد اللّه عليه السلام من ابتلي من المؤنين

ببلاء فصبر عليه كان له مثل أجر ألف شهيد(1) .

وعن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : قال اللّه - عزّ وجلّ - : إنّي جعلت الدنيا بين عبادي قرضا ، فمن أقرضني منها قرضا أعطيته بكلّ واحدة عشرا إلى سبعمائة ضعف ، وما شئت من ذلك ، ومن لم يقرضني منها قرضا ، فأخذت منه شيئا قسرا أعطيته ثلاث خصال ، لو أعطيت واحدة منهن ملائكتي لرضوا بها منّي .

ثم تلا أبو عبد اللّه عليه السلام قول اللّه - عزّ وجلّ - « الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ » ، فهذه(2) واحدةمن ثلاث خصال ، « وَرَحْمَةٌ » اثنان ، « وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ »(3) ثلاث .ثم قال أبو عبد اللّه عليه السلام : هذا لمن صبر أخذ منه شيئا قسرا(4)(5) .

ص: 85


1- الكافي : 2/75 ح17 ، مشكاة الأنوار : 26 ، كتاب المؤمن : 16 ح8 ، التمحيص : 59 ح125 .
2- في نسخة : « ثم قال أبو عبد اللّه عليه السلام . . » .
3- البقرة : 156 - 157 .
4- الكافي : 2/76 ح21 ، الخصال : 130 ح135 ، مشكاة الأنوار : 279 .
5- في الكافي : 2/87 باب الصبر : عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : الصبر رأس الايمان . عن العلاء بن فضيل عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد ، كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الايمان . عن حفص بن غياث قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : يا حفص إنّ من صبر صبر قليلاً ، وإنّ من جزع جزع قليلاً . ثم قال : عليك بالصبر في جميع أمورك ، فإنّ اللّه - عزّ وجلّ - بعث محمدا صلى الله عليه و آله فأمره بالصبر والرفق ، فقال : « وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ » . وقال تبارك وتعالى : « ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقّاها إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ » . فصبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله حتى نالوه بالعظائم ورموه بها ، فضاق صدره فأنزل اللّه - عزّ وجلّ - « وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ » . ثم كذبوه ورموه ، فحزن لذلك ، فأنزل اللّه - عزّ وجلّ - « قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَ لكِنَّ الظّالِمِينَ بِ آياتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتّى أَتاهُمْ نَصْرُنا » . فألزم النبي صلى الله عليه و آله نفسه الصبر ، فتعدّوا فذكروا اللّه - تبارك وتعالى - وكذبوه ، فقال : قد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي ، ولا صبر لي على ذكر إلهي ، فأنزل اللّه - عزّ وجلّ - « وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالأَْرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ » . فصبر النبي صلى الله عليه و آله في جميع أحواله ، ثم بشّر في عترته بالأئمة ووصفوا بالصبر ، فقال جلّ ثناؤ : « وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ » . فعند ذلك قال صلى الله عليه و آله : الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد ، فشكر اللّه - عزّ وجلّ - ذلك له ، فأنزل اللّه - عزّ وجلّ - « وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ » . فقال صلى الله عليه و آله : إنّه بشرى وانتقام ، فأباح اللّه - عزّ وجلّ - له قتال المشركين فأنزل اللّه « فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ »، « وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ » ، فقتلهم اللّه على يدي رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأحبائه ، وجعل له ثواب صبره مع ما ادخر له في الآخرة . فمن صبر واحتسب لم يخرج من الدنيا حتى يقرّ اللّه له عينه في أعدائه ، مع ما يدخر له في الآخرة . عن علي بن الحسين عليهماالسلام قال : الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، ولا إيمان لمن لا صبر له . عن سماعة بن مهران عن أبي الحسن عليه السلام قال : قال لي : ما حبسك عن الحج ؟ قال : قلت : جعلت فداك ، وقع عليّ دين كثير ، وذهب مالي ، وديني الذي قد لزمني هو أعظم من ذهاب مالي ، فلولا أنّ رجلاً من أصحابنا أخرجني ما قدرت أن أخرج ، فقال لي : إن تصبر تغتبط ، وإلاّ تصبر ينفذ اللّه مقاديره ، راضيا كنت أم كارها . عن الأصبغ قال : قال أمير المؤنين - صلوات اللّه عليه - : الصبر صبران : صبر عند المصيبة حسن جميل ، وأحسن من ذلك الصبر عندما حرم اللّه - عزّ وجلّ - عليك . والذكر ذكران : ذكر اللّه - عزّ وجلّ - عند المصيبة ، وأفضل من ذلك ذكر اللّه عندما حرم عليك ، فيكون حاجزا . عن العرزمي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : سيأتي على الناس زمان لا ينال الملك فيه إلاّ بالقتل والتجبّر ، ولا الغنى إلاّ بالغصب والبخل ، ولا المحبّة إلاّ باستخراج الدين واتباع الهوى ، فمن أدرك ذلك الزمان فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى ، وصبر على البغضة وهو يقدر على المحبّة ، وصبر على الذلّ وهو يقدر على العزّ ، آتاه اللّه ثواب خمسين صدّيقا ممّن صدق بي . عن أبي حمزة قال : قال أبو جعفر عليه السلام : لمّا حضرت أبي علي بن الحسين عليهماالسلام الوفاة ضمّني إلى صدره وقال : يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة ، وبما ذكر أنّ أباه أوصاه به : يا بني اصبر على الحقّ وإن كان مرّا . عن أبي جعفر عليه السلام قال : الصبر صبران : صبر على البلاء ، حسن جميل ، وأفضل الصبرين الورع عن المحارم . عن أبي حمزة الثمالي قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : من ابتلي من المؤنين ببلاء فصبر عليه كان له مثل أجر ألف شهيد . عن سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : إنّ اللّه - عزّ وجلّ - أنعم على قوم ، فلم يشكروا ، فصارت عليهم وبالاً ، وابتلى قوما بالمصائب فصبروا ، فصارت عليهم نعمة . عن أبان بن أبي مسافر عن أبي عبد اللّه عليه السلام في قول اللّه - عزّ وجلّ - : « يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا » قال : اصبروا على المصائب . وفي رواية ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : صابروا على المصائب . عن أبي جميلة عن بعض أصحابه قال : لولا أنّ الصبر خلق قبل البلاء لتفطّر المؤن كما تتفطّر البيضة على الصفا . عن جابر بن يزيد عن أبي جعفر عليه السلام قال : مروة الصبر في حال الحاجة والفاقة والتعفف والغنا أكثر من مروة الإعطاء . عن جابر قال : قلت لأبي جعفر عليه السلام : يرحمك اللّه ، ما الصبر الجميل ؟ قال : ذلك صبر ليس فيه شكوى إلى الناس . عن أبي النعمان عن أبي عبد اللّه أو أبي جعفر عليهماالسلام قال : من لا يعدّ الصبر لنوائب الدهر يعجز . عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : إنّا صبّر ، وشيعتنا أصبر منّا ، قلت : جعلت فداك ، كيف صار شيعتكم أصبر منكم ؟ قال : لأنّا نصبر على ما نعلم ، وشيعتنا يصبرون على ما لا يعلمون .

ص: 86

ص: 87

ص: 88

فصل 1 : ما يثبت الأجر على المصيبة وما يحبطه

اشارة

وعنه عليه السلام : الضرب على الفخذ عند المصيبة يحبط الأجر(1) ، والصبر عند الصدمة الأولى(2) أعظم ، وعظم الأجر على قدر المصيبة(3) ،

ص: 89


1- في الكافي : 3/224 ح4 : عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : ضرب المسلم يده على فخذه عند المصيبة إحباط لأجره . وفي خصائص الأئمة للشريف الرضي : 104 ومن لا يحضره الفقيه : 4/416 ونهج البلاغة : 4/34 ح144 : وقال عليه السلام : ينزل الصبر على قدر المصيبة ، ومن ضرب يده على فخذه عند مصيبته حبط عمله . وفي تحف العقول لابن شعبة الحراني : 221 : ومن ضرب بيده على فخذه عند المصيبة حبط أجره .
2- المجازات النبوية : 358 ، البخاري : 2/79 ، مسلم : 3/40 ، سنن ابن ماجة : 1/509 رقم 1596 ، سنن أبي داود : 2/64 رقم 3124 ، سنن الترمذي : 2/229 رقم 993 ، سنن النسائي : 4/22 ، السنن الكبرى للبيهقي : 4/65 ، المصنف للصنعاني : 3/551 ، مسند ابن الجعد : 208 ، المصنف لابن أبي شيبة الكوفي : 3/262 ، مسند أبي يعلى : 10/454 ، المعجم الأوسط : 6/222 . . .
3- مسند زيد : 181 ، نهج البلاغة : 4/34 ح144 ، فقيه من لا يحضره الفقيه : 4/416 ح5904 ، تحف العقول : 221 ، مسند الشهاب لابن سلامة : 2/112 ، الجامع الصغير : 1/324 .

ومن استرجع بعد المصيبة جدد اللّه له أجرها كيوم أصيب بها(1) .وسأل رجل النبي صلى الله عليه و آله : ما يحبط الأجر في المصيبة ؟

فقال : تصفيق الرجل بيمينه على شماله(2) ، والصبر عند الصدمة الأولى ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فعليه السخط(3) .

وعن أم سلمة زوجة النبي صلى الله عليه و آله قالت : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : إنّا للّه وإنا إليه راجعون ، اللّهم أجرني في مصيبتي ، واخلف لي منها إلاّ آجره اللّه - تعالى - في مصيبته ، واخلف له خيرا منها .

قالت : فلمّا توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فاخلف لي خيرا منه رسول اللّه (4) صلى الله عليه و آله .

وفي لفظ آخر : إنّها سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : ما من مسلم تصيبه مصيبة ، فيقول ما أمره اللّه - عزّ وجلّ - : إنّا للّه وإنا إليه راجعون ، اللّهم

أجرني في مصيبتي ، واخلف لي خيرا منه .

ص: 90


1- طبقات المحدّثين في اصبهان لابن حبان : 3/231 ، مسند أحمد : 1/201 ، المعجم الأوسط : 5/161 ، المعجم الكبير للطبراني : 3/131 رقم 2895 ، كنز العمال : 3/300 رقم 6647 ، مسند الشاميين للطبراني : 3/298 رقم 2315 ، تفسير ابن كثير : 1/204 ، الدر المنثور : 1/156 ، تاريخ دمشق : 28/264 ، ذيل تاريخ بغداد : 4/16 .
2- فيض القدير للمناوي : 6/90 .
3- اعلام الدين للديلمي : 277 .
4- مسند أحمد : 6/309 ، مسلم : 3/38 ، المعجم الكبير للطبراني : 23/306 ، الدر المنثور : 1/157 .

قالت : فلمّا مات أبو سلمة - رضي اللّه عنه - قلت : أيّ رجل خير منأبي سلمة ؟ أول بيت هاجر الى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ثم إنّي قلتها ، فأخلف اللّه لي رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

قالت : أرسل رسول اللّه صلى الله عليه و آله

بحاطب ابن أبي بلتعة يخطبني ، فقلت له : إنّ لي بنتا ، وأنا غيور .فقال : أمّا بنتها ، فأدعو اللّه أن يغنيها عنها ، وأدعو اللّه أن يذهب بالغيرة(1) .

وفي حديث آخر : قالت : أتاني أبو سلمة يوما من عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فقال : سمعت من رسول اللّه صلى الله عليه و آله قولاً سررت به ، قال :

لا يصيب أحدا من المسلمين مصيبة ، فيسترجع عند مصيبته ، ثم يقول : اللّهم أجرني في مصيبتي ، واخلف لي خيرا منها ، إلاّ فعل ذلك به .

قالت أم سلمة : فحفظت ذلك منه ، فلمّا توفي أبو سلمة استرجعت وقلت : اللّهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منه ، ثم رجعت إلى نفسي ، فقلت : من أين لي خير من أبي سلمة ؟

فلمّا انقضت عدّتي استأذن عليّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأنا أدبغ إهابا(2) ، فغسلت يدي من القرظ(3) ، وأذنت له ، فوضعت له وسادة أديم حشوها ليف ، فقعد عليها ، فخطبني إلى نفسه صلى الله عليه و آله .

ص: 91


1- مسلم : 3/37 ، السنن الكبرى للبيهقي : 4/65 ، مسند ابن راهويه : 4/13 .
2- الإهاب : الجلد من البقر والغنم والوحش ما لم يدبغ . لسان العرب .
3- شجر يدبغ به ، وقيل : هو ورق السلم يدبغ به الأدم .

فلمّا فرغ من مقالته قلت : يا رسول اللّه ، ما بي ألاّ يكون بك الرغبة ، ولكني امرأة فيّ غيرة شديدة ، فأخاف أن ترى منّي شيئا يعذّبني اللّه به ، وأنا امرأة قد دخلت في السن ، وأنا ذات عيال .

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : أمّا ما ذكرت من السن ، فقد أصابني مثل الذيأصابك ، وأمّا ما ذكرت من العيال ، فإنّما عيالك عيالي .قالت : فقد سلّمت نفسي لرسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فتزوجها رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

فقالت أم سلمة : فقد أبدلني اللّه - عزّ وجلّ - بأبي سلمة خيرا منه النبي(1) صلى الله عليه و آله .

وعن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : إنّ للموت فزعا ، فإذا أتى أحدكم وفاة أخيه ، فليقل [عنده] : إنّا للّه وإنا إليه راجعون ، وإنّا إلى ربّنا لمنقلبون ، اللّهم اكتبه عندك من المحسنين ، واجعل كتابه في عليين ، واخلف على عقبه في الآخرين ، اللّهم لا تحرمنا أجره ، ولا تفتنّا بعده(2) .

وعن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام : إنّ النبي صلى الله عليه و آله قال : من أصابته مصيبة ، فقال إذا ذكرها : إنّا للّه وإنّا إليه راجعون ، جدّد اللّه - عزّ وجلّ - له أجرها مثل ما كان له يوم إصابته(3) .

ص: 92


1- تفسير ابن كثير : 1/204 ، البداية والنهاية : 4/105 ، الدر النظيم : 187 ، مسند أحمد : 4/27 .
2- مجمع الزوائد : 2/331 ، المعجم الكبير للطبراني : 12/47 ، كتاب الدعاء للطبراني : 351 رقم 1159 ، كنز العمال : 15/571 ، الدر المنثور : 1/157 .
3- المعجم الأوسط : 5/161 ، المعجم الكبير للطبراني : 3/131 ، كنز العمال : 3/300 ، الجامع الكبير : 1/747 .

فصل 2 : ما يفعله صاحب المصيبة

ما كان يفعله النبي صلى الله عليه و آله إذا نزل بأهله شدّة

وعن يوسف بن عبد اللّه بن سلام : إنّ النبي صلى الله عليه و آله كان إذا نزل بأهله شدّة أمرهم بالصلاة ، ثم قرأ « وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها »(1)(2) .

ما فعله ابن عباس عندما نعي اليه قثم

وعن ابن عباس أنّه نعي إليه أخوه قثم ، وهو في سفره ، فاسترجع ، ثم تنحّى عن الطريق ، فأناخ ، ثم صلّى ركعتين أطال فيهما الجلوس ، ثم قام إلى راحلته وهو يقول : « وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخاشِعِينَ »(3)(4) .

ص: 93


1- طه : 132 .
2- الدر المنثور : 4/313 ، مجمع الزوائد : 7/67 ، المعجم الأوسط للطبراني: 1/272 ، تفسير السمعاني : 3/365 ، تفسير الثعالبي : 4/75 .
3- البقرة : 45 .
4- الدر المنثور : 1/68 ، فتح الباري : 3/138 ، عمدة القاري : 8/100 ، الآحاد والمثاني : 1/294 ، الاستذكار لابن عبد البر : 3/81 ، تخريج الأحاديث والآثار للزيعلي : 1/60 ، الكشاف للزمخشري : 1/277 ، جامع البيان للطبري : 1/371 ، تفسير ابن كثير : 1/91 .

وعنه أنّه صلى الله عليه و آله كان إذا أصيب بمصيبة قام وتوضأ وصلّى ركعتين ، وقال : اللّهم قد فعلت ما أمرتنا ، فانجز لنا ما وعدتنا .

ما فعله عبادة عندما حضرته الوفاة

وعن عبادة بن محمد بن عبادة بن الصامت قال : لمّا حضرت عبادة - رضي اللّه عنه - الوفاة ، قال : أخرجوا فراشي إلى الصحن - يعني الدار - ،ففعلوا .

ثم قال : اجمعوا إليّ موالي وخدمي وجيراني ، ومن كان يدخل عليّ ، فجمعوا .

فقال : إنّ يومي هذا لا أراه إلاّ آخر يوم يأتي عليّ من الدنيا ، وأول ليلة من ليالي الآخرة ، وإنّي لا أدري لعلّه قد فرط منّي إليكم بيدي أو بلساني شيء ، وهو - والذي نفس عبادة بيده - القصاص يوم القيامة ، فأحرّج(1) على أحد منكم في نفسه منّي شيء من ذلك(2) إلاّ اقتص(3) منّي قبل أن تخرج نفسي .

قال : فقالوا : بل(4) كنت لنا والدا ، وكنت مؤبا ، وما قال لخادم سوء قطّ .

ص: 94


1- أي أقسم .
2- في نسخة : « فليخرج إليّ أحد » .
3- في نسخة : « ليقتص » .
4- في نسخة : « إنّك » .

قال : أغفرتم لي ما كان من ذلك ؟

قالوا : نعم .

قال : اللّهم اشهد .

ثم قال : أما فاحفظوا وصيتي ، أحرّج على إنسان منكم يبكي(1) ، فإذاخرجت نفسي فتوضئوا ، وأحسنوا الوضوء ، ثم ليدخل إنسان منكم مسجدا فيصلّي ، ثم يستغفر ل-« عبادة » ولنفسه ، فإنّ اللّه - عزّ وجلّ - قال : « وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ »(2) ، ثم أسرعوا بي إلى حفرتي ، ولاتتبعوني بنار ، ولا تضعوا تحتي أُرجوانا(3)(4) .

ص: 95


1- في نسخة : « لا يخرج عليّ إنسان منكم » .
2- البقرة : 45 .
3- تاريخ دمشق : 26/204 ، تهذيب الكمال للمزي : 14/188 .
4- لقد تظافرت الروايات في مصادر المسلمين جميعا عن إخبار اللّه - تبارك وتعالى - ورسوله والأئمة النجباء عليهم السلام بشهادة سيد الشهداء الحسين عليه السلام ، ولو جمعت في كتاب لصارت سفرا كبيرا ، وكم أخبر الحسين عليه السلام نفسه أصحابه وأهل بيته ومن اعترض عليه في مسيره الى العراق من الأعداء والأصدقاء أنّه مقتول لا محالة ، كما قال لأم سلمة حينما قالت له : لا تحزنّي بخروجك الى العراق ، فإنّي سمعت جدّك يقول : يقتل ولدي الحسين بأرض العراق ، في أرض يقال لها « كربلاء » ، فقال لها : يا أماه ، وأنا واللّه أعلم ذلك ، وإنّي مقتول لا محالة ، وليس لي من هذا بدّ ، وإنّي واللّه لأعرف اليوم الذي أقتل فيه ، وأعرف من يقتلني ، وأعرف البقعة التي أدفن فيها ، وإنّي أعرف من يقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي ، وإن أردت - يا أماه - أريك حفرتي ومضجعي . ثم أشار عليه السلام الى جهة كربلاء ، فانخفضت الأرض حتى أراها مضجعه ومدفنه وموضع عسكره ، وموقفه ومشهده ، فعند ذلك بكت أم سلمة بكاءا شديدا ، وسلّمت أمره الى اللّه ، فقال لها : يا أمّاه قد شاء اللّه - عزّ وجلّ - أن يراني مقتولاً مذبوحا ، ظلما وعدوانا ، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشردين وأطفالي مذبوحين مظلومين مأسورين مقيدين ، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصرا ولا معينا . . ومع هذا كلّه يقول لاُخته : يا أختاه اتقي اللّه ، وتعزّى بعزاء اللّه ، واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون ، وأهل السماء لا يبقون ، وأنّ كلّ شيء هالك إلاّ وجه اللّه الذي خلق الخلق بقدرته ، ويبعث الخلق ويعودون ، وهو فرد وحده ، أبي خير منّي ، وأمي خير منّي ، وأخي خير منّي ، ولي ولكلّ مسلم برسول اللّه صلى الله عليه و آله أسوة ، فعزّاها بهذا ونحوه ، وقال لها : يا أخية ، إنّي أقسمت فأبرّي قسمي ، لا تشقّي عليّ جيبا ، ولا تخمشي عليّ وجها ، ولا تدعي عليّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت . الإرشاد للمفيد : 2/93 .

من المحبطات

وعن جابر عن الباقر عليه السلام قال : أشدّ الجزع الصراخ بالويل والعويل ،ولطم الوجه والصدر ، وجزّ الشعر ، ومن أقام النواح(1) فقد ترك الصبر ، ومن صبر واسترجع ، وحمد اللّه - تعالى - فقد رضي بما صنع اللّه ، ووقع أجره على اللّه - عزّ وجلّ - ، ومن لم يفعل ذلك جرى عليه القضاء ، وهوذميم ، وأحبط اللّه - عزّ وجلّ - أجره(2) .

وعن ربعي بن عبد اللّه عن الصادق عليه السلام قال : إنّ الصبر والبلاء يستبقان إلى المؤن ، يأتيه البلاء وهو صبور ، وإن الجزع والبلاء يستبقان إلى الكافر ، يأتيه البلاء وهو جزوع(3) .

وعنه عليه السلام قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : ضرب المسلم يده على فخذه عند المصيبة إحباط لأجره(4) .

ص: 96


1- في نسخة : « النواحة » .
2- الكافي : 3/222 ح1 .
3- الكافي : 3/223 ح3 .
4- الكافي : 3/224 ح4 .

وعن موسى بن بكر عن الكاظم عليه السلام قال : ضرب الرجل على فخذه عند المصيبة إحباط أجره(1) .

وعن إسحاق بن عمار عن الصادق عليه السلام : يا إسحاق ، لا تعدن مصيبة أعطيت عليها الصبر ، واستوجبت عليها من اللّه - عزّ وجلّ - الثواب ، إنّما المصيبة التي يحرم صاحبها أجرها وثوابها إذا لم يصبر عند نزولها(2) .

وعن أبي ميسرة قال : كنّا عند أبي عبد اللّه

عليه السلام ، فجاءه رجل ، وشكا إليه مصيبته ، فقال : أما إنّك إن تصبر تؤر ، وإن لم تصبر يمضى عليك قدر اللّه - عزّ وجلّ - الذي قدر عليك وأنت مذموم(3) .

ص: 97


1- الكافي : 3/225 ح9 .
2- الكافي : 3/224 ح7 .
3- الكافي : 3/225 ح10 .

فصل 3 : البلاء زين المؤمن

قال الصادق عليه السلام : البلاء زين المؤن ، وكرامة لمن عقل ، لأنّ في مباشرته والصبر عليه ، والثبات عنده ، تصحيح نسبة(1) الإيمان .

قال النبي صلى الله عليه و آله : نحن معاشر الأنبياء أشدّ بلاء ، والمؤن الأمثل فالأمثل ، ومن ذاق طعم البلاء تحت ستر حفظ اللّه له تلذذ به أكثر من تلذذه بالنعمة ، ويشتاق إليه إذا فقده ، لأنّه تحت نيران(2) البلاء والمحنة أنوار النعمة ، وتحت أنوار النعمة نيران البلاء والمحنة ، وقد ينجو منه كثير ويهلك في النعمة كثير .

وما أثنى اللّه - تعالى - على عبد من عباده من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه و آله إلاّ بعد ابتلائه ، ووفاء حقّ العبودية فيه ، فكرامات اللّه - تعالى - في الحقيقة نهايات بداياتها البلاء ، وبدايات نهاياتها البلاء .

ومن خرج من شبكة البلوى جعل سراج المؤنين ، ومؤس المقرّبين ، ودليل القاصدين .

ص: 98


1- في نسخة : « بسنة » .
2- في نسخة : « يد نيران » .

ولا خير في عبد شكا من محنة تقدّمها آلاف نعمة ، وتتبعها آلاف راحة .

ومن لا يقضي حقّ الصبر على البلاء حرم جزاء قضاء الشكر في النعماء ، كذلك من لا يؤي حقّ الشكر في النعماء يحرم عن جزاء قضاء الصبر في البلاء ، ومن حرمها فهو من المطرودين .

وقال أيوب عليه السلام في دعائه : اللّهم قد(1) أتى عليّ سبعون في الرخاء ، فأمهلني حتى يأتي عليّ سبعون في البلاء .

وقال وهب : البلاء للمؤن ، كالشكال للدابة ، والعقل للإبل .

وقال أمير المؤمنين عليه السلام : الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد ، ورأس الصبر البلاء ، وما يعقلها إلاّ العالمون(2) .

وهذا الفصل كلّه من كلام الصادق عليه السلام .

ص: 99


1- في نسخة : « إنّه قد » .
2- مصباح الشريعة : 183 .

فصل 4 : الصبر والجزع

وقال الصادق عليه السلام : الصبر يظهر ما في بواطن العباد من النور والصفا .

والجزع يظهر ما في بواطنهم من الظلمة والوحشة .

والصبر يدّعيه كلّ أحد ولا يبين(1) عنده إلاّ المخبتون .

والجزع ينكره كلّ أحد ، وهو أبين على المنافقين ، لأنّ نزول المحنة والمصيبة يخبر عن الصادق والكاذب .

وتفسير الصبر ما يستمر مذاقه، وما كان عن اضطراب لايسمى صبرا.

وتفسير الجزع اضطراب القلب ، وتحزّن الشخص ، وتغيّر اللون ، وتغيّر الحال .

وكلّ نازلة خلت أوائلها عن الإخبات والإنابة ، والتضرّع إلى اللّه - تعالى - ، فصاحبها جزوع غير صابر .

والصبر ما أوله مرّ ، وآخره حلو لقوم ، ولقوم مرّ أوله وآخره ، فمن دخله(2) من أواخره فقد دخل ، ومن دخله من أوائله فقد خرج .

ص: 100


1- في نسخة : « يثبت » .
2- في نسخة : « فمن دخله وآخره حلو من » .

ومن عرف قدر الصبر لا يصبر عمّا منه الصبر .

وقال اللّه - عزّ وجلّ - في قصة موسى وخضر عليهماالسلام « وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً »(1) .

فمن صبر كرها ، ولم يشكُ إلى الخلق ، ولم يجزع بهتك سرّه(2) ، فهو من العام ، ونصيبه ما قال اللّه - عزّ وجلّ - : « وَبَشِّرِ الصّابِرِينَ »(3) أي بالجنة والمغفرة .

ومن استقبل البلاء بالرحب ، فصبر على سكينة ووقار ، فهو من الخاص ، ونصيبه ما قال اللّه - عزّ وجلّ - : « إِنَّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ »(4)(5) .

ص: 101


1- الكهف : 68 .
2- في نسخة : « ستره » .
3- البقرة : 155 .
4- البقرة : 153 .
5- مصباح الشريعة : 185 .

فصل 5 : في نبذ من أحوال السلف عند موت أبنائهم وأحبائهم

اشارة

فصل 5 : في نبذ من أحوال السلف عند موت أبنائهم وأحبائهم(1)

الصبر ممدوح في الجاهلية والإسلام

كانت العرب في الجاهلية ، وهم لا يرجون ثوابا ، ولا يخشون عقابا ، يحافظون(2) على الصبر ، ويعرفون فضله ، ويعيّرون بالجزع أهله ، إيثارا للحزم ، وتزيّنا بالحلم ، وطلبا للمرؤة ، وفرارا من الاستهانة(3) إلى حسن العزاء ، حتى كان الرجل منهم ليفقد(4) حميمه ، فلا يعرف ذلك فيه .

فلمّا جاء الإسلام وانتشر ، وعلم ثواب الصبر واشتهر ، زادت(5) في ذلك لهم الرغبة ، وارتفعت للمبتلين الرتبة .

ابن مسعود وأولاده الثلاث

قال أبو الأحوص : دخلنا على ابن مسعود ، وعنده بنون له ثلاث غلمان ، كأنّهم الدنانير حسنا ، فجعلنا نتعجّب من حسنهم .

ص: 102


1- في نسخة : « وأحبابهم » .
2- في نسخة : « يتحاظون » .
3- في نسخة : « الإستكانة » .
4- في نسخة : « ليفتقد » .
5- في نسخة : « تزايدت » .

فقال : كأنّكم تغبطوني بهم ؟

قلنا : إي واللّه ، بمثل هؤاء يغبط المرء المسلم .

فرفع رأسه إلى سقف بيت قصير قد عشّش فيه الخطاف وباض ، فقال : والذي نفسي بيده ، لأن أكون نفضت يدي من تراب قبورهم أحبّ إليّ من أن يسقط عشّ هذا الخطاف ، وينكسر بيضه(1) ، يعني حرصا على الثواب .

يأتي زمان يغبط الرجل بخفّة الحال

وكان عبد اللّه بن مسعود - رضي اللّه عنه - يقرئ الناس القرآن في المسجد جاثيا على ركبتيه(2) ، إذ جاءت أم ولد له(3) بابن له يقال له « محمد » ، فقامت على باب المسجد ، ثم أشارت له إلى أبيه ، فأقبل ، فأفرج له القوم حتى جلس في حجره .

ثم جعل يقول : مرحبا بسمّي من هو خير منه ، ويقبّله حتى كاد يزدرد ريقه ، ثم قال : واللّه لموتك وموت إخوتك أهون عليّ من عدتكم من هذا الذباب(4) .فقيل : لم تتمنى هذا ؟

ص: 103


1- تاريخ دمشق : 33/171 .
2- التبيان في آداب حملة القرآن للنووي : 44 .
3- في نسخة : « أم ولده » .
4- في نسخة : « الذبان » .

فقال : اللّهم عفوا(1) ، إنّكم تسألوني ، ولا أستطيع إلاّ أن أخبركم ، أريدبذلك الخير ، أمّا أنا فأحرز أجورهم ، وأتخوف عليهم ، سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول :

يأتي عليكم زمان يغبط الرجل بخفّة الحال ، كما يغبط بكثرة المال والولد(2) .

الحمد للّه الذي يأخذ أولادي ويدخرهم لي في دار البقاء

وكان أبو ذر - رضي اللّه عنه - لا يعيش له ولد ، فقيل : إنّك أمرى ء لا يبقى لك ولد !

فقال : الحمد للّه الذي يأخذهم من دار الفناء ، ويدخرهم في دار البقاء(3) .

مات له سبع بنين في يوم واحد

ومات لعبد اللّه (4) بن عامر المازني - رضي اللّه عنه - في الطاعونالجارف سبع بنين في يوم واحد ، فقال : إنّي مسلّم مسلّم(5) .

ص: 104


1- في نسخة : « غفرا » .
2- الملاحم والفتن : 255 ، الفائق للزمخشري : 1/17 المقطع الأخير من الخبر فقط .
3- مجمع الزوائد : 9/331 ، المعجم الكبير للطبراني : 2/150 ، كنز العمال : 3/673 رقم 8682 ، تاريخ دمشق : 6/205 .
4- في بعض المصادر : « لصدقة » .
5- تاريخ الإسلام للذهبي : 5/66 ، إمتاع الأسماع للمقريزي : 12/261 .

موت ابنه أحبّ اليه من كلّ غزواته مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله !!!

وعن عبد الرحمن بن عثمان(1) قال : دخلنا على معاذ ، وهو قاعد عندرأس ابن له ، وهو يجود بنفسه ، فما ملكنا أنفسنا أن ذرفت أعيننا ، فانتحب بعضنا ، فزجره معاذ وقال : مه ، فو اللّه ليعلم اللّه برضاي ، لهذا أحبّ إليّ من كلّ غزوة غزوتها مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله !!! فإنّي سمعته يقول :

من كان له ابن ، وكان عليه عزيزا ، وبه ضنينا ، ومات ، فصبر على مصيبته واحتسبه ، أبدل اللّه الميت دارا خيرا من داره ، وقرارا خيرا من قراره ، وأبدل المصاب الصلاة والرحمة والمغفرة والرضوان .

فما برحنا حتى قضى - واللّه - الغلام حين أخذ المنادي لصلاة الظهر ، فرحنا نريد الصلاة ، فما جئنا إلاّ وقد غسله وحنّطه وكفّنه ، وجاء رجل بسريره غير منتظر لشهود الإخوان ، ولا لجمع الجيران .

فلمّا بلغنا ذلك تلاحقنا وقلنا : يرحمك اللّه ، يغفر اللّه لك ، يا أبا عبد الرحمن هلاّ انتظرتنا حتى نفرغ من صلاتنا ، ونشهد ابن أخينا ، فقال : أمرنا أن لا ننتظر موتانا ساعة ماتوا بليل أو نهار .

قال : فنزل في القبر ، ونزل معه آخر ، فلمّا أراد الخروج ناولته يدي لأنتهضه من القبر ، فأبى وقال : ما أدع ذلك لفضل قوتي ، ولكن أكره أن يرى الجاهل أن ذلك منّي جزع ، أو استرخاء عند المصيبة ، ثم أتى مجلسه ، فدعا بدهن فادهن ، وبكحل فاكتحل ، وببردة فلبسها ، وأكثر

ص: 105


1- في نسخة : « تميم » .

في يومه ذلك من التبسّم ، ينوي به ما ينوي ، ثم قال : إنّا للّه وإنا إليه راجعون ، في اللّه خلف عن كلّ هالك هلك ، وعزاء من كلّ مصيبة ، ودركا لكلّ ما فات(1) .

الإمام السجاد عليه السلام يعفو عمّن قتل ولده

وروي أنّ قوما كانوا عند علي بن الحسين عليهماالسلام ، فاستعجل خادما بشواء في التنور ، فأقبل به مسرعا ، فسقط السفود من يده على ولد علي بن الحسين عليهماالسلام ، فأصاب رأسه فقتله ، فوثب علي بن الحسين عليهماالسلام ، فلمّا رأى ابنه ميتا ، قال للغلام : أنت حرّ لوجه اللّه - تعالى - أما إنّك لم تتعمده ، ثم أخذ في جهاز ابنه(2) .

تعلّم الصبر والحلم من قيس بن عاصم !!!

وعن الأحنف بن قيس قال : تعلّموا العلم والحلم والصبر ، فإنّي تعلّمته .

فقيل له : ممّن ؟

قال : من قيس بن عاصم .

قيل : وما بلغ من حلمه ؟

ص: 106


1- فتوح الشام للواقدي : 2/181 .
2- صفة الصفوة : 2/100 ، مطالب السؤول : 421 ، كشف الغمة : 2/293 ، العدد القوية : 319 ح21 .

قال : كنّا قعودا عنده ، إذ أتي بابنه مقتولاً ، وبقاتله مكبولاً ، فما حلّ حبوته ، ولا قطع حديثه حتى فرغ .

ثم التفت إلى قاتل ابنه ، فقال : يا ابن أخي ما حملك على ما فعلت ؟قال : غضبت .قال : أو كلّما غضبت أهنت نفسك ، وعصيت ربّك ، وأقللت عددك ، اذهب فقد أعتقتك .

ثم التفت إلى بنيه ، فقال : يا بني اعمدوا إلى أخيكم فغسلوه وكفّنوه ، فإذا فرغتم منه ، فاتوني به لأصلّي عليه .

فلمّا دفنوه قال لهم : إنّ أمّه ليست منكم ، وهي من قوم آخرين ، فلا أراها ترضى بما صنعتم ، فاعطوها ديّته من مالي(1) .

موقف أبي ذر عند موت ابنه

وروى الصدوق في الفقيه أنّه لمّا مات ذر بن أبي ذر - رحمه اللّه - وقف على قبره أبوه ، ومسح القبر بيده .

ثم قال : رحمك اللّه يا ذر ، واللّه إنّك كنت بي لبرّا ، ولقد قبضت وإنّي عنك لراض ، واللّه ما بي فقدك ، وما عليّ(2) من غضاضة ، وما لي إلى أحد سوى اللّه من حاجة ، ولولا هول المطلع لسرّني أن أكون مكانك ،

ص: 107


1- الإستيعاب : 3/1295 ، أسد الغابة : 4/219 ، تهذيب الكمال : 24/63 ، الإصابة : 5/367 ، الوافي بالوفيات : 24/214 ، البداية والنهاية : 8/36 .
2- في نسخة : « بي » .

ولقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك ، واللّه ما بكيت لك ، ولكن بكيت عليك(1) ، فليت شعري ما قلت ؟ وما قيل لك ؟ اللّهم إنّي قد وهبته ماافترضت عليه من حقّي ، فهب له ما افترضت عليه من حقّك ، فأنت أحقّ بالجود والكرم منّي(2) .* * *

وأسند الدينوري : إنّ(3) ذر بن عمر بن ذر لمّا مات ، وقف أبوه على قبره وقال : رحمك اللّه يا ذر ، ما علينا من بعدك من خصاصة ، وما بنا إلى أحد مع اللّه من حاجة ، وما يسرّني أن أكون(4) المقدّم قبلك ، ولولا هول المطلع لتمنّيت أن أكون مكانك ، وقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك ، فليت شعري ما ذا قلت ؟ وما ذا قيل لك ؟

ثم رفع رأسه إلى السماء فقال : اللّهم إنّي قد وهبت له حقّي ، فيما بيني وبينه ، فاغفر له من الذنوب ما بينك وبينه ، فأنت أجود الأجودين ، وأكرم الأكرمين .

ثم انصرف وقال : فارقناك ، ولو أقمنا ما نفعناك(5) .

* * *

ص: 108


1- في نسخة : « واللّه ما بكيت عليك ، بل بكيت لك » .
2- فقيه من لا يحضره الفقيه : 1/117 ح558 ، الكافي : 3/250 ح4 .
3- في نسخة : « إلى » .
4- في نسخة : « إنّي كنت » .
5- عيون الأخبار : 2/313 ، تاريخ دمشق : 45/30 ، حلية الأولياء : 5/108 ، سير أعلام النبلاء : 6/388 .

وروى المبرد قال : لمّا هلك ذر بن عمر وقف عليه أبوه ، وهو مسجّى ، وقال : يا بني ، ما علينا من موتك غضاضة ، وما بنا إلى ما سوى اللّه من حاجة .

فلمّا دفن قام على قبره وقال : يا ذر ، غفر اللّه لك لقد شغلنا الحزن لكعن الحزن عليك ، لأنّا لا ندري ما قلت ، ولا ما قيل لك ، اللّهم إنّي قد وهبت له ما قصّر فيه ممّا افترضت عليه من حقّي ، فهب له ما قصّرفيه من حقّك ، واجعل ثوابي عليه له ، وزدني من فضلك ، إنّي إليك من الراغبين .

فسئل عنه ، فقيل : كيف كان معك ؟

فقال : ما مشيت معه بليل قطّ إلاّ كان أمامي ، ولا بنهار قطّ إلاّ كان خلفي ، وما علا سطحا قطّ ، وأنا تحته(1) .

رجل ذهب ماله وولده وبصره

وقدم على بعض الخلفاء قوم من بني عبس ، فيهم رجل ضرير(2) ، فسأله عن عينيه ، فقال : بتّ ليلة في بطن واد ، ولم أعلم عبسيا يزيد ماله على مالي ، فطرقنا سيل ، فذهب بما كان لي من أهل ومال وولد ، غير بعير وصبي مولود ، وكان بعيرا صعبا ، فنفر ، فوضعت الصبي واتبعت البعير ، فلم أجاوز قليلاً حتى سمعت صيحة ابني ، فرجعت إليه ، ورأس الذئب

ص: 109


1- وفيات الأعيان لابن خلكان : 3/442 ، الوافي بالوفيات : 22/296 .
2- في نسخة : « ضرير أعمى » .

في بطنه وهو يأكله ، ولحقت البعير لأحبسه ، فبعجني برجله على وجهي ، فحطمه وذهب بعيني ، فأصبحت لا مال لي ولا أهل ولا ولد ولا بصر(1) .

بالأمس زينة الدنيا واليوم من الباقيات الصالحات

روي أنّ عياض بن عقبة الفهري مات له ابن ، فلمّا نزل في قبره ، قال رجل : إن كان لسيد الجيش فاحتسبه ، فقال : وما يمنعني ، وقد كانبالأمس زينة الحياة الدنيا ، وهو اليوم من الباقيات الصالحات(2) .

إنّ اللّه أحبّ أمرا فأحببت ما أحبّ اللّه

وقال أبو علي الرازي : صحبت الفضيل بن عياض ثلاثين سنة ما رأيته ضاحكا ، ولا متبسّما قطّ(3) !! إلاّ يوم مات ابنه علي ، فقلت له في ذلك .

ص: 110


1- أمالي الطوسي : 125 المجلس 6 ح2 ، الإعتبار لابن أبي الدنيا : 56 رقم 29 ، تاريخ دمشق : 68/172 ، وفيات الأعيان لابن خلكان : 3/256 .
2- الدر المنثور : 4/224 .
3- كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله متبسما دائما إلاّ إذا نزل عليه القرآن ، أو وعظ ، كذا في المناقب لابن شهرآشوب وغيره ، وفي فقه الرضا عليه السلام : 397 باب 115 : واجتهد أن لا تلقى أخا من إخوانك إلاّ تبسّمت في وجهه وضحكت معه في مرضاة اللّه ، فإنّه نروي عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال : من ضحك في وجه أخيه المؤن تواضعا للّه - جلّ وعزّ - أدخله الجنة . وفي مشكاة الأنوار : 191 الفصل الثاني في آداب المعاشرة عن المحاسن : عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ : تَبَسَّمُ الْمُؤمِنِ فِي وَجْهِ الْمُؤمِنِ حَسَنَةٌ . وفي فضائل الأشهر الثلاثة : 97 : قال الرضا عليه السلام الحسنات في شهر رمضان مقبولة ، والسيئات فيه مغفورة ، من قرأ في شهر رمضان آية من كتاب اللّه - عزّ وجلّ - كان كمن ختم القرآن في غيره من الشهور ، ومن ضحك فيه في وجه أخيه المؤن لم يلقه يوم القيامة إلاّ ضحك في وجهه وبشّره بالجنة .

فقال : إنّ اللّه - سبحانه وتعالى - أحبّ أمرا ، فأحببت ما أحبّ اللّه (1) - عزّ وجلّ - .

الحمد للّه الذي توفى مني شهيدا آخر

وأصيب عمر بن كعب الهندي بتستر ، فكتموا أباه الخبر ، ثم بلغه ، فلم يجزع وقال : الحمد للّه الذي جعل من صلبي من أصيب شهيدا .

ثم استشهد له ابن آخر بجرجان ، فلمّا بلغه الخبر ، فقال : الحمد للّه الذي توفى منّي شهيدا آخر(2)(3) .

ص: 111


1- كتاب الرضا عن اللّه بقضائه لابن أبي الدنيا : 118 .
2- تاريخ جرجان لحمزة بن يوسف السهمي : 49 .
3- قال السيد ابن طاووس في اللهوف : 115 : ولمّا رأى الحسين عليه السلام مصارع فتيانهوأحبّته عزم على لقاء القوم بمهجته ، ونادى : هل من ذابّ يذبّ عن حرم رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؟ هل من موحّد يخاف اللّه فينا ؟ هل من مغيث يرجو اللّه بإغاثتنا ؟ هل من معين يرجو ما عند اللّه في إعانتنا ؟ فارتفعت أصوات النساء بالعويل . فتقدّم إلى الخيمة وقال لزينب عليهاالسلام : ناوليني ولدي الصغير حتى أودّعه ، فأخذه وأومأ إليه ليقبّله ، فرماه حرملة بن الكاهل الأسدي - لعنه اللّه تعالى - بسهم ، فوقع في نحره ، فذبحه ، فقال لزينب عليهاالسلام : خذيه . ثم تلقّى الدم بكفيه ، فلمّا امتلأتا رمى بالدم نحو السماء ، ثم قال : هون عليّ ما نزل بي أنّه بعين اللّه . في بحار الأنوار : 45/52 : وقال المفيد والسيد : . . فلبثوا هنيئة ، ثم عادوا إليه - يعني الى الحسين عليه السلام - وأحاطوا به ، فخرج عبد اللّه بن الحسن بن علي عليهم السلام ، وهو غلام لم يراهق ، من عند النساء يشتدّ ، حتى وقف إلى جنب الحسين عليه السلام ، فلحقته زينب بنت علي عليهماالسلام لتحبسه ، فقال الحسين عليه السلام : احبسيه يا أختي ، فأبى وامتنع امتناعا شديدا ، وقال : لا واللّه ، لا أفارق عمّي . وأهوى أبجر بن كعب ، وقيل : حرملة بن كاهل إلى الحسين عليه السلام بالسيف ، فقال له الغلام : ويلك يا ابن الخبيثة ، أتقتل عمّي ؟! فضربه بالسيف ، فاتقّاه الغلام بيده ، فأطنها إلى الجلد ، فإذا هي معلّقة ، فنادى الغلام : يا أمّاه . فأخذه الحسين عليه السلام ، فضمّه إليه ، وقال : يا ابن أخي اصبر على ما نزل بك ، واحتسب في ذلك الخير ، فإنّ اللّه يلحقك بآبائك الصالحين . قال السيد في اللهوف : 121 : فرماه حرملة بن كاهل بسهم ، فذبحه وهو في حجر عمّه الحسين عليه السلام .

أفأستكين للمصيبة وقد وعدني ربّي عليها ثلاث خصال

وروى البيهقي : أنّ عبد اللّه بن مطرف مات ، فخرج أبوه مطرف على قومه في ثياب حسنة ، وقد ادهن .

فغضبوا وقالوا : يموت عبد اللّه ، وتخرج في ثياب حسنة مدهنا ؟ !

قال : أفأستكين لها ، وقد وعدني ربّي - تبارك وتعالى - عليها ثلاث خصال ، هي أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها ، قال اللّه - تعالى - : « الَّذِينَ إِذا

أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْوَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ »(1)(2)

ص: 112


1- الطبقات الكبرى : 7/244 ، المنتظم : 6/281 ، صفة الصفوة : 3/223 ، كتاب الزهد لابن حنبل : 1/245 ، الثبات عند الممات : 1/39 ، تسلية أهل المصائب : 1/32 .
2- البقرة : 156 - 157 .

صبر على موت ابنه وأحسن الضيافة

ودعا رجل من قريش إخوانا له ، فجمعهم على طعام ، فضربت ابنا له دابة لبعضهم فمات .

فأخفى ذلك عن القوم ، وقال لأهله : لا أعلمن صاحت منكم صائحة ، أو بكت منكم باكية ، وأقبل على إخوانه حتى فرغوا من طعامه .

ثم أخذ في جهاز الصبي ، فلم يفجأهم إلاّ بسريره ، فارتاعوا ، فسألوه عن أمره ، فأخبرهم ، فتعجّبوا من صبره وكرمه .

لا جدوى للجزع

وذكر أنّ رجلاً من اليمامة دفن ثلاثة رجال من ولده ، ثم احتبى في نادي قومه يتحدّث كأن لم يفقد أحدا ، فقيل له في ذلك !

فقال : ليسوا في الموت ببديع ، ولا أنا في المصيبة بأوحد ، ولا جدوى للجزع ، فعلى م تلوموني(1) .

أعمى زمن افترس السبع ولده وهو يحمد اللّه

وأسند أبو العباس عن مسروق عن الأوزاعي قال : حدّثنا بعضالحكماء ، قال :

خرجت وأنا أريد الرباط ، حتى إذا كنت بعريش بمصر ، إذ أنا بمظلّة ، وفيها رجل قد ذهبت عيناه ، واسترسلت يداه ورجلاه ، وهو يقول :

ص: 113


1- جمهرة الأمثال : 2/145 ، ديوان المعاني : 2/172 .

لك الحمد سيدي ومولاي ، اللّهم إنّي أحمدك حمدا يوافي محامد خلقك ، كفضلك على سائر خلقك ، إذ فضّلتني على كثير ممّن خلقت تفضيلاً .

فقلت : واللّه لأسأله أعلمه أو ألهمه إلهاما ، فدنوت منه ، وسلّمت عليه ، فردّ عليّ السلام .

فقلت له : رحمك اللّه ، إنّي أسألك عن شيء أتخبرني به أم لا ؟

فقال : إن كان عندي منه علم أخبرتك به .

فقلت : رحمك اللّه ، على أيّ فضيلة من فضائله تشكره ؟

فقال : أو ليس تدري ما قد صنع بي ؟!

فقلت : بلى .

فقال : واللّه ، لو أنّ اللّه - تبارك وتعالى - صبّ عليّ نارا تحرقني ، وأمر الجبال فدمّرتني ، وأمر البحار فغرّقتني ، وأمر الأرض فخسفت بي ، ما ازددت فيه - سبحانه - إلاّ حبّا ، ولا ازددت له إلاّ شكرا ، وإنّ لي إليك حاجة أفتقضيها لي ؟

قلت : نعم ، قل ما تشاء .

فقال : بني لي كان يتعاهدني أوقات صلاتي ، ويطعمني عند إفطاري ، وقد فقدته منذ أمس ، فانظر هل تجده لي !

قال : فقلت في نفسي : إنّ في قضاء حاجته لقربة إلى اللّه - عزّ وجلّ - .فقمت وخرجت في طلبه ، حتى إذا صرت بين كثبان الرمال ، إذ أنابسبع قد افترس الغلام فأكله ، فقلت : إنّا للّه وإنا إليه راجعون ، كيف آتي هذا العبد الصالح بخبر ابنه !

قال : فأتيته ، وسلّمت عليه ، فردّ عليّ السلام .

ص: 114

فقلت : رحمك اللّه ، إن سألتك عن شيء تخبرني ؟

فقال : إن كان عندي منه علم أخبرتك به .

قال : فقلت : أنت أكرم على اللّه - عزّ وجلّ - وأقرب منزلة ، أو نبي اللّه أيوب عليه السلام ؟

فقال : بل نبي اللّه أكرم على(1) اللّه - تعالى - منّي ، وأعظم عند اللّه - تعالى - منزلة منّي .

قال : فقلت له : إنّه ابتلاه اللّه - تعالى - فصبر ، حتى استوحش منه من كان يأنس به ، وكان عرضا لمرّار الطريق ، واعلم أنّ ابنك الذي أخبرتني به ، وسألتني أن أطلبه لك افترسه السبع ، فأعظم اللّه أجرك فيه .

فقال : الحمد للّه الذي لم يجعل في قلبي حسرة من الدنيا ، ثم شهق شهقة ، وسقط على وجهه .

فجلست ساعة ، ثم حرّكته فإذا هو ميت ، فقلت : إنّا للّه وإنا إليه راجعون ، فكيف أعمل في أمره ، ومن يعينني على تغسيله وكفنه وحفر قبره ودفنه ؟فبينما أنا كذلك إذ أنا بركب(2) يريدون الرباط ، فأشرت إليهم ، فأقبلوانحوي حتى وقفوا عليّ ، وقالوا : من أنت ؟ ومن هذا ؟

فأخبرتهم بقصّتي ، فعقلوا رواحلهم ، وأعانوني على اغتساله بماء البحر ، وكفنّاه بأثواب كانت معهم ، وتقدّمت فصلّيت عليه مع الجماعة ،

ص: 115


1- في نسخة : « عند » .
2- في نسخة : « بقفل » .

ودفناه في مظلّته ، وجلست عند قبره آنسا به أقرأ القرآن ، إلى أن مضى من الليل ساعة ، فغفوت غفوة ، فرأيت صاحبي في أحسن صورة ، وأجمل زي ، في روضة خضراء ، عليه ثياب خضر ، قائما يتلو القرآن .

فقلت له : ألست بصاحبي ؟

قال : بلى .

قلت : فما الذي صيّرك إلى ما أرى ؟

فقال : اعلم أنّي وردت مع الصابرين على اللّه - عزّ وجلّ - في درجة لم ينالوها إلاّ بالصبر على البلاء ، والشكر عند الرخاء ، فانتبهت(1) .

مقالة رجل عند دفن ابنه

وحكى الشعبي قال : رأيت رجلاً وقد دفن ابنه ، فلمّا حثى عليه التراب وقف على قبره وقال : يا بني ، كنت هبة ماجد ، وعطية واحد ، ووديعة مقتدر ، وعارية منتصر ، فاسترجعك واهبك ، وقبضك مالكك ، وأخذك معطيك ، فاخلفني اللّه عليك الصبر ، ولا حرمني اللّه بك الأجر ، ثم قال :أنت في حلّ من قبلي ، واللّه أولى عليك بالتفضّل منّي(2) .

ص: 116


1- تاريخ دمشق: 51/114، المنتظم: 9/6، صفة الصفوة: 4/326 ، التبصرة: 1/198.
2- الأمالي للصدوق : 237 المجلس 42 ح4 وبحار الأنوار : 79/73 باب 16 ح5 : عن عنبسة العابد قال : لمّا مات إسماعيل بن جعفر بن محمد وفرغنا من جنازته جلس الصادق جعفر بن محمد عليهماالسلام ، وجلسنا حوله ، وهو مطرق ، ثم رفع رأسه وقال : أيّها الناس ، إنّ هذه الدنيا دار فراق ودار التواء لا دار استواء ، على أنّ لفراق المألوف حرقة لا تدفع ، ولوعة لا تردّ ، وإنّما يتفاضل الناس بحسن العزاء ، وصحّة الفكرة، فمن لم يثكل أخاه ثكله أخوه ، ومن لم يقدّم ولدّا كان هو المقدّم دون الولد ، ثم تمثل عليه السلام بقول أبي خراش الهذلي يرثي أخاه :ولا تحسبي أنّي تناسيت عهده ولكنّ صبري يا أمام جميل بحار الأنوار : 79/73 باب 16 ح6 عن الحسن بن علي بن الناصر عن أبيه عن محمد بن علي عن أبيه الرضا عن موسى بن جعفر عليهم السلام قال : رأى الصادق عليه السلام رجلاً قد اشتدّ جزعه على ولده ، فقال : يا هذا ، جزعت للمصيبة الصغرى وغفلت عن المصيبة الكبرى ، لو كنت لما صار إليه ولدك مستعدا لما اشتد عليه جزعك ، فمصابك بتركك الاستعداد له أعظم من مصابك بولدك .

ما أحبّ أنّ شيئا من ذلك لم يكن

ولمّا مات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز ، وأخوه سهل بن عبد العزيز ، ومولاه مزاحم في أيام متتابعة ، ودخل عليه بعض أصحابه يعزّيه ، وقال في جملة كلامه : واللّه ما رأيت مثل ابنك ابنا ، ولا مثل أخيك أخا ، ولا مثل مولاك مولى .

فطأطأ رأسه ثم قال : أعد عليّ ما قلت . فأعاده عليه .

فقال : لا - والذي قضى عليهم - ما أحبّ أنّ شيئا من ذلك لم يكن(1) .

خير أحواله أن يموت فاحتسبه

وقيل : بينما عمر بن عبد العزيز ذات يوم جالس ، إذ أتاه عبد الملك ، فقال : اللّه اللّه في مظلمة بني أبيك فلان وفلان ، فو اللّه لوددت أنّ القدور

ص: 117


1- كتاب الرضا عن اللّه بقضائه لابن أبي الدنيا : 113 رقم 83 ، تاريخ دمشق : 18/72 .

قد غلت بي وبك فيما يرضى اللّه ، وانطلق ، فاتبعه أبو نصرة(1) وقال : إنّي لأعرف خير أحواله ، قالوا : وما خير أحواله ، قال : إن يموت فاحتسبه .

أخذني الموت فاحتسبني

ولمّا دخل عليه أبوه في مرضه ، فقال له : كيف تجدك ؟

قال : أجدني في(2) الموت ، فاحتسبني يا أبة ، فإنّ ثواب اللّه - عزّ وجلّ - خير لك منّي .

فقال : واللّه - يا بني - لأن تكون في ميزاني(3) أحبّ إليّ من أن أكون في ميزانك(4) .

فقال ابنه : لأن يكون ما تحبّ أحبّ إليّ من أن يكون ما أحبّ(5) .

فلمّا مات وقف على قبره وقال : رحمك اللّه يا بني ، لقد كنت سارّامولودا ، وبارا ناشئا ، وما أحبّ أنّي دعوتك فأجبتني(6) .

مات ابن لعمر بن عبد العزيز فوعظه ابنه عبد الملك!!!

ومات له ابن آخر قبل عبد الملك ، فجاء فقعد عند رأسه ، وكشف الثوب عن وجهه ، وجعل ينظر إليه ويستدمع .

ص: 118


1- في نسخة : « أبوه بصره » .
2- في نسخة : « أخذني » .
3- في نسخة : « ميراثي » .
4- في نسخة : « ميراثك » .
5- الأذكار النووية : 152 ، تاريخ دمشق : 37/50 ، الكامل في التاريخ : 5/65 ، تاريخ الإسلام للذهبي : 6/420 .
6- الأذكار النووية : 152 .

فجاء ابنه عبد الملك فقال : يا أبة ليشغلك ما أقبل من الموت عمّن هو في شغل عاجل(1) لديك ، فكأن قد لحقت بيمينك ، وساويته تحت التراب بوجهك .

فبكى عمر ثم قال : رحمك اللّه يا بني ، فو اللّه إنّك لعظيم البركة ما علمتك على أنّك نافع الموعظة لمن وعظت(2) .

ص: 119


1- في نسخة : « عمّا حلّ » .
2- تاريخ دمشق : 37/51 باختلاف في الألفاظ .

فصل 6 : في ذكر جماعة من النساء نقل العلماء صبرهن

اشارة

فصل 6 : في ذكر جماعة من النساء نقل العلماء صبرهن(1)

قصة أم سليم وأبي طلحة

روي عن أنس بن مالك قال : كان ابن لأبي طلحة - رضي اللّه عنه - يشتكي ، فخرج أبو طلحة ، فقبض الصبي .

ص: 120


1- من أعجب العجب أن يذكر المؤلف رحمه الله كلّ هؤلاء النساء ، ولا يذكر سيدة الصبر ، ومن رأت كلّ ما جرى عليها من فقد الأخوة والأولاد والأصحاب والسلب والنهب والجوع والعطش والسبي والغربة وشماتة العدو جميلاً ، فقالت ردّا على عدوها حينما سألها : كيف رأيت صنع اللّه فيكم ؟ قالت : ما رأيت إلاّ جميلاً ، وهكذا أمّها الصديقة الطاهرة عليهاالسلام ، ومن كان معها في طف كربلاء !!! وللّه درّ القائل : سجد البلاء لزينب مستسلما***ولصبرها ألقى القياد وأسلما لمّا أتى أهل الكساء برحله***وبدارها صلّى التمام ويمّما وهناك سبّح ربّها مستعبرا***إذ بان صبر اللّه فيها أعظما ولقد رأى من نورها ما قد رأى***قبسا فسائل ربّه مستفهما هل مثلها ربّاه يسقى علقما***وشرابها صفو الطهور من السما فأجابه الربّ الجليل معاتبا***صبرا جميلاً إن أردت تعلّما الصبر منّي يستنير بنوره***من رام أن يُهدى الصراط الأقوما والصبر نور من خزائن رحمتي***وعليه من شهد المحبّة أنعما ذا سرّ زينب ما واعاه غير من***شهد الجمال بلا حجاب من عما فارجع الى أمتي العليمة خاشعا***تنبئك علما من لدنّي ألهما رجع البلاء الى العقيلة حائرا***خجلاً يذوب ولا يطيق تكلّما حيّته في ودّ وقالت مرحبا***الدار دار الحمد ودّا أفعما الصبر بالتحميد طاب مذاقه***والشكر فيه على المصية قدّما أهلاً حللت مبارك من قادم***أنعم فحملك مغنم لا مغرما فأزاح عنه قولها استيحاشه***قال وأهوى ساجدا ومعظما يا كنز صبر اللّه أنت شمسه***وبك يصير الصابرون الأنجما فالصابرون يروني ضرّا مسّهم***نصبا عذابا حلّ فيهم خيّما قالت وربّي بل رأيتك نعمة***لطفا خفيّا بالمصاب مسنّما فسجدت شكرا أحمد الربّ الذي***ما زال مذ كنت الرؤوف المنعما صنع الجميل وقد رأيت جماله***وعرفته بي راحما بل أرحما صنع الجميل فلا نرى فيه سوى***روحا وريحانا وطيبا قدّما فبحبّه اخترت المصاب لوجهه***طوعا وكان اللّه قدما أكرما وبفضله طاب المصاب وشربه***عسلاً يصير وكان قبلاً علقما * * * مسح الحسين على الفؤاد بكفّه***فغدى يرى في كلّ خطب مغنما لمّا نظرت الى الحبيب مجدّلاً***والشمر يسعى لاهثا كي يثلما في حوزة التوحيد أعظم ثلمة***إذ يقطع الرأس المخضّب بالدما وبخنجر الأحقاد يفري منحرا***كان النبي مقبّلاً له لاثما وأخي يجود بنفسه متشهّدا***أزف الوداع يقولها مسترحما والرأس يقطع وهو ينظر في أسىً***نحو الخيام موصيّا ومسلّما نادى أخيّه وأنت بنت عليّنا***فتصبّري باللّه صبرا أكرما كادت تفارق روحي البدن الذي***كان المقدّر أن يصير هو الحمى لعيال آل اللّه بعد كفيلها***يرث الأمانة والذبيح الأعظما فشبكت عشرا فوق رأسي خشية***من أن تفيض الروح أو أن تفصما بينا على التلّ أصبّر مهجتي***نزلت عليّ بنصرها رسل السما قالت لك من ربّك ما اخترته***جئنا لنسمع أمرك كي نختما إن شئت نصرا باختيار لقائه***تلقين ربّا راضيا بل مكرما وبذا النجاة من الفراق ووجده***فمع الحسين تعانقين الأنجما وبه خلاص من مجاورة العدى***من أسر رذل كان قدما ألأما أو شئت سوما للأعادي كلّهم***فنبيد عجلهم الأعقّ الأظلما وأنا على تلّ المصاب أجبتهم***قلت وجفن العين يحبس ديّما قد شاء ربّي أن يراني سبية***إذ شاء شئت وكان ربّي أعلما قلت وداعا يا حسين الى اللقا***أنعم بلقياك الحبيب منعما واللّه لم أتمنّ موتا قبل ذا ال-***خطب وإن كان الأجل الأجسما ونظرت شوقا للصريع بعبرة***فرفعت طرفي في رضىً صوب السما ناجيت ربّاه تقبّل منعما***قرباننا المذبوح والمتظلّما ثم التفت الى المدينة في شجىً***فرأيت جدّي باكيا متألّما فاخترت أسرا كي تحرّر شيعتي***من كلّ أسر ظاهرا أو مكتما فعلا نداء القدس يوحي من عُلا***حكم الاله وكان قولاً محكما هي زينب صنع الجميل لخلقه***صلّى عليها اللّه حبّا سلّما هي آية التطهير إذ تبكونها***دمعا طهورا للنفوس وعاصما تبكون زينب أمّ كلّ مصيبة***جزعا يصير لكلّ جرح بلسما تبكون زينب وهي تسعى في لظىً***بين الخيام وصدر والٍ هشّما تبكون زينب إذ تقاد أسيرة***والدمّ خضّب رأسها والمعصما فالرأس شجّته بمحمل أسرها***لمّا رأت رأس الحبيب مهشّما تبكون زينب إذ تلظّى متنها***بسياطهم فالاُفق حزنا أظلما أبكيك مولاتي بدمع قد جرى***من مهجتي فالعين فاضت بالدما

ص: 121

ص: 122

فلمّا رجع أبو طلحة قال : ما فعل ابني ؟

فقالت أم سليم ، وهي أم الصبي - رضي اللّه عنها - : هو أسكن ما كان .

فقرّبت له العشاء ، فتعشّى ، ثم أصاب منها ، فلمّا فرغ قالت : فارقالصبي .

فلمّا أصبح أبو طلحة أتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله فأخبره فقال : أعرّستم الليلة ؟

فقال : نعم .

فقال : اللّهم بارك لهما ، فولدت غلاما .

قالت : فقلت لأبي طلحة : احمله حتى تأتي رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وبعثت معه بتمرات .

فقال : أمعه شيء ؟

قال : تمرات .فأخذها النبي صلى الله عليه و آله فمضغها ، ثم أخذها صلى الله عليه و آله من فيه الكريم ، فجعلها في في الصبي ، ثم حنّكه ، وسمّاه عبد اللّه (1) .

ص: 123


1- البخاري : 6/216 ، مسلم : 6/167 ، رياض الصالحين للنووي : 83 .

قال رجل من الأنصار : فرأيت تسعة كلّهم قد قرؤوا القرآن ، يعني من أولاد عبد اللّه المولود(1) .

* * *

وفي رواية أخرى مات ابن لأبي طلحة من أم سليم ، فقالت لأهلها : لا تحدّثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدّثه .

قال : فجاء ، فقرّبت إليه عشاء ، فأكل وشرب ، ثم تصنعت له أكثر ما كانت تتصنع له من قبل ذلك .

فلمّا رأت أنّه قد شبع ، وأصاب منها قالت : يا أبا طلحة أرأيت قوما أعاروا عارية أهل بيت فطلبوا عاريتهم(2) ألهم أن يمنعوهم ؟

قال : لا .

قالت : فاحتسب ابنك .

قال : فغضب ، ثم قال : تركتني حتى إذا تلطخت أخبرتني بابني(3) .* * *

وفي حديث آخر : لمّا كان آخر الليل قالت : يا أبا طلحة ، إنّ آل فلاناستعاروا عارية تمتعوا بها ، فلمّا طلبت منهم شقّ عليهم ذلك .

قال : ما أنصفوا .

ص: 124


1- البخاري : 2/84 ، تفسير القرطبي : 4/73 ، رياض الصالحين للنووي : 83 .
2- في نسخة : « فطلبوها منهم » .
3- مسلم : 7/145 ، المعجم الكبير للطبراني : 25/117 ، إمتاع الأسماع : 12/24 ، رياض الصالحين للنووي : 83 .

قالت : فإنّ فلانا - ابنها - كان(1) عارية من اللّه - عزّ وجلّ - وقبضه اللّه ، فاسترجع .

ثم غدا الى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فأخبره بما كان ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : بارك اللّه لكما في ليلتكما(2) .

قال : فحملت .

وذكر الحديث ، وفيه : فولدت غلاما ، فمسح رسول اللّه صلى الله عليه و آله وجهه ، وسمّاه عبد اللّه (3) .

مات الغلامان وأحياهما اللّه ثوبا لصبر الأم

والحديث في عيون المجالس بزيادة غريبة في آخره ، ولفظه :

عن معاوية بن قرّة قال : كان أبو طلحة يحبّ ابنه حبّا شديدا ، فمرض ، فخافت أم سليم على أبي طلحة الجزع حين قرب موت الولد ، فبعثته إلىالنبي

صلى الله عليه و آله .

فلمّا خرج أبو طلحة من داره توفي الولد ، فسجّته أم سليم بثوب ، وعزلته في ناحية من البيت ، ثم تقدّمت إلى أهل بيتها وقالت لهم : لاتخبروا أبا طلحة بشيء .

ص: 125


1- في نسخة : « مات فلان ، لأنّه كان » .
2- مسند أحمد : 3/105 ، البخاري : 2/84 ، المصنف للصنعاني : 11/139 ، مسند أبي يعلى : 6/473 ، ابن حبان : 16/156 ، الطبقات الكبرى : 5/75 ، تاريخ دمشق : 19/404 ، رياض الصالحين للنووي : 84 .
3- رياض الصالحين : 84 .

ثم إنّها صنعت طعاما ، ثم مست شيئا من الطيب ، فجاء أبو طلحة من عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال : ما فعل ابني ؟

فقالت له : هدأت نفسه .

ثم قال : هل لنا ما نأكل ؟

فقامت ، فقرّبت إليه الطعام ، ثم تعرضت له ، فوقع عليها .

فلمّا اطمأن قالت له : يا أبا طلحة أتغضب من وديعة كانت عندنا ، فرددناه إلى أهلها ؟

فقال : سبحان اللّه ، لا أغضب .

فقالت : ابنك كان عندنا وديعة ، فقبضه اللّه .

فقال أبو طلحة : فأنا أحقّ بالصبر منك .

ثم قام من مكانه ، فاغتسل وصلّى ركعتين ، ثم انطلق إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله فأخبره بصنيعهما .

فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله : فبارك اللّه لكما في وقعتكما .

ثم قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : الحمد للّه الذي جعل من أمّتي مثل صابرة بني إسرائيل !

فقيل : يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ما كان من صبرها(1) ؟

قال : كانت في بني إسرائيل امرأة ، وكان لها زوج ، ولها منه غلامان ،فأمرها بطعام ليدعو عليه الناس ، ففعلت ، واجتمع الناس في داره .

ص: 126


1- في نسخة : « خبرها » .

فانطلق الغلامان يلعبان ، فوقعا في بئر كان في الدار ، فكرهت أن تنغّص على زوجها الضيافة ، فأدخلتهما البيت ، وسجّتهما بثوب .

فلمّا فرغوا دخل زوجها فقال : أين ابناي ؟

قالت : هما في البيت .

وإنّها كانت قد تمسحت بشيء من الطيب ، وتعرضت للرجل حتى وقع عليها .

ثم قال : أين ابناي ؟

قالت : هما في البيت .

فناداهما أبوهما ، فخرجا يسعيان .

فقالت المرأة : سبحان اللّه ، واللّه لقد كانا ميتين ، ولكن اللّه - تعالى - أحياهما ثوابا لصبري(1) .

دعت الأم فأحيى اللّه ولدها

وقريب من هذا ما رويناه في دلائل النبوة عن أنس بن مالك قال : دخلنا على رجل من الأنصار ، وهو مريض ، فلم نبرح حتى قضى ، فبسطنا عليه ثوبا ، وأم له عجوز كبيرة عند رأسه .

فقلنا لها : يا هذه احتسبي مصيبتك على اللّه - عزّ وجلّ - .فقالت : مات ابني ؟قلنا : نعم .

ص: 127


1- السيرة الحلبية : 3/74 .

قالت : حقّا تقولون ؟

قلنا : نعم .

قال : فمدّت يدها وقالت : اللّهم إنّك تعلم أنّي أسلمت لك ، وهاجرت إلى رسولك(1) صلى الله عليه و آله رجاء أن تعينني عند كلّ شدّة ورخاء ، فلا تحمل عليّ هذه المصيبة اليوم .

فكشف الثوب عن وجهه بيده ، ثم ما برحنا حتى طعمنا معه(2) .

وهذا الدعاء من المرأة إدلال على اللّه ، واستئناس به ، يقع منه للمحبّين(3) ، فيقبل دعاءهم ، وإن كان في التذكير بنحو ذلك ما يقع(4) منه قلّة الأدب لو وقع من غيرهم ، ولذلك بحث طويل ، وشواهد من الكتاب والسنة يخرج ذكره عن مناسبة المقام .

مناجاة برخ الأسود

ومن لطيف ما اتفق فيه مناجاة برخ الأسود الذي أمر اللّه - تعالى - كليمه موسى عليه السلام أن يسأله ليستسقي لبني إسرائيل بعد أن قحطوا سبع سنين ، وخرج موسى عليه السلام ليستسقي لهم في سبعين ألفا .

ص: 128


1- في نسخة : « رسول اللّه صلى الله عليه و آله » .
2- دلائل النبوة : 6/50 ، صفة الصفوة : 2/73 ، الدعاء للطبراني : 1/316 ، التوسل والوسيلة : 1/144 .
3- في نسخة : « يقع على المحبّين » .
4- في نسخة : « يظهر » .

فأوحى اللّه إليه : كيف أستجيب لهم وقد أظلّت عليهم ذنوبهم ، وسرائرهم خبيثة ، يدعونني على غير يقين ، ويأمنوا مكري ، ارجع إلى عبد من عبادي يقال له « برخ » يخرج حتى أستجيب له ، فسأل عنه موسى عليه السلام ، فلم يعرف .

فبينما موسى عليه السلام ذات يوم يمشي في طريق ، فإذا هو بعبد أسود بين عينيه تراب من أثر السجود ، في شملة قد عقدها على عنقه ، فعرفه موسى بنور اللّه - تعالى - .

فسلّم عليه فقال : ما اسمك ؟

قال : اسمي برخ .

فقال : أنت طلبتنا منذ حين ، اخرج استسق لنا .

فخرج ، فقال في كلامه : اللّهم ما هذا من فعالك ، وما هذا من حلمك ، وما الذي بدا لك ، أنقصت عليك عيونك ؟ أم عاندت الرياح عن طاعتك ؟ أم نفد ما عندك ؟ أم اشتدّ غضبك على المذنبين ؟ ألست كنت غفارا قبل خلق الخاطئين ، خلقت الرحمة ، وأمرت بالعطف ، أم ترينا أنّك ممتنع ؟ أم تخشى الفوت فتعجل بالعقوبة ؟

فما برح برخ حتى أفاضت ، وخاضت بنو إسرائيل بالقطر .

قال : فلمّا رجع برخ استقبل موسى عليه السلام فقال : كيف رأيت حين 1خاصمت ربّي كيف أنصفني(1) .

ص: 129


1- إحياء علوم الدين للغزالي : 4/340 .

رجعنا إلى أخبار الصابرات

كظمت أسماء الغيظ حتى تشخب ثديها دما

وروي أنّ أسماء بنت عميس - رضي اللّه عنها - لمّا جاءها خبر ولدها محمد بن أبي بكر أنّه قتل ، وأحرق بالنار في جيفة حمار ، قامت إلى مسجدها ، فجلست فيه ، وكظمت الغيظ حتى تشخّب ثدياها دما(1) .

خبر حمنة بنت جحش

وروي عن حمنة(2) بنت جحش - رضي اللّه عنها - أنّها قيل لها : قتل أخوك .

قالت : رحمه اللّه ، وإنّا للّه وإنّا إليه راجعون .

قالوا : وقتل زوجك .

قالت : وا حزناه .

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : إنّ للزوج من المرأة لشعبة ما هي لشيء(3) .

خبر صفية بنت عبد المطلب

وروي أنّ صفية بنت عبد المطلب أقبلت لتنظر إلى أخيها لأبويها حمزة بن عبد المطلب بأحد ، وقد مثّل به ، فقال النبي صلى الله عليه و آله لابنها الزبير : ألقها فارجعها لا ترى ما بأخيها .

ص: 130


1- الغارات للثقفي : 2/757 ، تهذيب التهذيب : 12/350 .
2- في نسخة : « جهينة » .
3- سنن ابن ماجة : 1/507 ، المستدرك على الصحيحين : 4/62 .

فقال لها : يا أماه إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله يأمرك أن ترجعي .

قالت : ولم ؟ وقد بلغني ، قد مثّل بأخي ، وذلك في اللّه - عزّ وجلّ - فما أرضانا(1) بما كان من ذلك ، فلأحتسبنّ ولأصبرن إن شاء اللّه .

فلمّا جاء الزبير إلى النبي صلى الله عليه و آله وأخبر بقولها ، فقال : خلّ سبيلها .

فأتته ، ونظرت إليه ، وصلّت عليه ، واسترجعت ، واستغفرت له(2) .

خبر صفية برواية ابن عباس

وعن ابن عباس - رضي اللّه عنه - قال : لمّا قتل حمزة - رضي اللّه عنه - يوم أحد أقبلت صفية تطلبه لا تدري ما صنع به .

قال : فلقيت عليا والزبير ، فقال علي عليه السلام للزبير : اذكر لأمك .

فقال الزبير : لا ، بل اذكر أنت لعمّتك .

فقالت : ما فعل حمزة ؟ فأرياها أنّهما لا يدريان .

قال : فجاءت النبي صلى الله عليه و آله ، فقال : إنّي أخاف على عقلها .

قال : فوضع يده على صدرها ، ودعا لها ، فاسترجعت وبكت .

قال : ثم جاء صلى الله عليه و آله ، فقام عليه ، وقد مثّل به ، فقال صلى الله عليه و آله : لولا جزعالنساء لتركته حتى يحشر من حواصل الطيور ، وبطون السباع(3) .

ص: 131


1- في نسخة : « رضى فما أرضى أنا » .
2- السيرة النبوية لابن هشام : 3/103 ، تعزية المسلم لابن هبة اللّه : 25 ، أسد الغابة : 5/492 ، تاريخ الطبري : 2/208 ، تاريخ الإسلام للذهبي : 2/208 ، البداية والنهاية : 4/47 .
3- المستدرك على الصحيحين : 3/197 ، السنن الكبرى للبيهقي : 4/12 ، المصنف لابن أبي شيبة الكوفي : 8/493 ، المعجم الكبير للطبراني : 3/142 ، كنز العمال : 13/333 ، الطبقات الكبرى : 3/14 .

خبر أم خلاد

واستشهد شاب من الأنصار يقال له « خلاد » يوم بني قريظة ، فجاءت أمّه متنقبة ، فقيل : لما تتنقبين(1) يا أم خلاد ، وقد رزيت بخلاد !

فقالت : لئن كنت رزيت خلادا ، فلم أرزأ حيائي(2) .

فدعا له النبي صلى الله عليه و آله ، وقال : له أجران ، لأنّ أهل الكتاب قتلوه(3) .

يا رسول اللّه لا أبالي إذا سلمت من عطب

وعن أنس بن مالك قال : لمّا كان يوم أحد حاص أهل المدينة حيصة ، فقالوا : قتل محمد صلى الله عليه و آله ، حتى كثرت الصوارخ في نواحي المدينة ، فخرجت امرأة من الأنصار متحزّنة ، فاستقبلت بابنها وأبيها وزوجها وأخيها ، لا أدري(4) أيّهم استقبلت أولاً .

فلمّا مرّت على آخرهم قالت : من هذا ؟

قالوا : أخوك ، وأبوك ، وزوجك ، وابنك .قالت : ما فعل النبي صلى الله عليه و آله ؟

قالوا : أمامك .

ص: 132


1- في نسخة : « تتقين » .
2- في نسخة : « حبابة » .
3- مسند أبي يعلى : 3/165 رقم 1591 ، كنز العمال : 3/761 ، الطبقات الكبرى : 3/531 ، تهذيب الكمال : 16/469 .
4- في نسخة : « تدري » .

فمشت حتى جاءت إليه ، فأخذت بناحية ثوبه ، وجعلت تقول : بأبي أنت وأمّي يا رسول اللّه ، لا أبالي إذا سلمت من عطب(1) .

خبر المرأة التي أصيب زوجها وأبوها وأخوها

وروى البيهقي قال : مرّ رسول اللّه بامرأة من بني دينار(2) ، وقد أصيب زوجها وأبوها وأخوها معه صلى الله عليه و آله بأحد .

فلمّا نعوا إليها ، قالت : ما فعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؟

قالوا : خيرا ، يا أم فلان ، وهو بحمد(3) اللّه كما تحبّين .

قالت : أرونيه حتى أنظر إليه .

فأشير لها إليه ، حتى إذا رأته قالت : كلّ مصيبة بعدك جلل(4) .

خبر السمراء بنت قيس

وخرجت السمراء بنت قيس أخت أبي حزام(5) ، وقد أصيب ابناها ، فعزّاها النبي صلى الله عليه و آله بهما ، فقالت : كلّ مصيبة بعدك جلل ، واللّه لهذا النقعالذي أرى على(6) وجهك أشدّ من مصابهما .

ص: 133


1- سبل الهدى والرشاد: 2/228 ، مجمع الزوائد: 6/115، المعجم الأوسط: 7/280.
2- في نسخة : « دينارة » ، وفي أخرى : « صبارة » .
3- في نسخة : « يحمد » .
4- دلائل النبوة للبيهقي : 3/302 ، تاريخ الطبري : 2/210 ، الكامل في التاريخ : 2/163 ، تاريخ الإسلام للذهبي : 2/217 ، البداية والنهاية : 4/54 ، الشفاء للقاضي عياض : 2/22 ، السيرة النبوية لابن هشام : 3/105 .
5- في نسخة : « خزام » .
6- في نسخة : « الذي في وجهك » .

خبر صلت بن أشيم وزوجته معاذة

وروي أنّ صلت بن أشيم كان في مغزى له ، ومعه ابن له ، فقال لابنه :تقدّم - أي بني - فقاتل حتى أحتسبك ، فحمل ، فقاتل فقتل . ثم تقدّم أبوه ، فقاتل فقتل .

قال : فاجتمع النساء عند أمّه « معاذة العدوية » زوجة صلت ، فقالت لهن : مرحبا بكن إن كنتن جئتن لتهنئتي ، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن(1) .

خبر عجوز بني بكر بن كلاب

وروي أنّ عجوزا من بني بكر بن كلاب كان يتحدّث قومها عن عقلها وسدادها ، فأخبر بعض من حضرها ، وقد مات ابن لها ، وكان واحدها ، وقد طالت علّته ، وأحسنت تمريضه .

فلمّا مات قعدت بفنائها ، وحضرها قومها ، فأقبلت على شيخ منهم ، فقالت : يا فلان ، ما حقّ من أسبغت عليه النعمة ، وألبس العافية ، واعتدلت به النظرة ، أن لا يعجز عن التوفيق لنفسه قبل حلّ عقدته ، والحلول بعقوته(2) ينزل الموت بداره ، فيحول بينه وبين نفسه ، ثم أنشأت

تقول شعرا :

هو ابني وأنسي أجره لي وعزّني

على نفسه ربّ إليه ولاؤافإن أحتسب أوجر وإن أبكه أكن

كباكية لم يغن شيئا بكاؤا

ص: 134


1- الطبقات الكبرى : 7/137 ، سير أعلام النبلاء : 4/509 ، تاريخ الإسلام للذهبي : 5/128 .
2- في نسخة : « بعقوبته » ، والعقوة : الساحة وما حول الدار .

فقال لها الشيخ : إنّنا لم نزل نسمع أنّ الجزع إنّما هو للنساء ، فلا يجزعنأحد بعدك ، ولقد كرم صبرك ، وما أشبهت النساء .

فقالت له : إنّه ما ميز امرأ بين جزع وصبر إلاّ وجد بينهما منهجين بعيدي التفاوت في حاليتهما :

أمّا الصبر : فحسن العلانية محمود العاقبة .

وأمّا الجزع : فغير معرض شيئا مع إثمه .

ولو كانا في صورة رجلين لكان الصبر أولاهما بالغلبة ، وبحسن الصورة ، وكرم الطبيعة في عاجل الدين وآجله في الثواب ، وكفى بما وعد اللّه - عزّ وجلّ - لمن ألهمه إياه .

خبر أم لثلاثة قتلوا في تستر

وعن جويرية بنت أسماء أنّ ثلاثة إخوة شهدوا تستر ، واستشهدوا ، وبلغ ذلك أمّهم ، فقالت : مقبلين أم مدبرين ؟

فقيل لها : بل مقبلين .

فقالت : الحمد للّه ، نالوا - واللّه - الفوز ، وأحاطوا الذمار ، بنفسي هم وأبي وأمّي ، وما تأوهت ، ولا دمعت لها عين .

خبر المرأة التي أعطت شعرها لأبي قدامة

وعن أبي قدامة الشامي قال : كنت أميرا على جيش في بعض الغزوات ، فدخلت بعض البلدان ، ودعوت الناس للغزاة ، ورغّبتهم فيالجهاد ، وذكرت فضل الشهادة وما لأهلها ، ثم تفرّق الناس ، وركبت

ص: 135

فرسي وسرت إلى منزلي ، فإذا أنا بامرأة من أحسن الناس وجها ،تنادي : يا أبا قدامة ، فمضيت ولم أجب ، فقالت : ما هكذا كان الصالحون .

فوقفت ، فجاءت ودفعت إليّ رقعة ، وخرقة مشدودة ، وانصرفت باكية ، فنظرت في الرقعة ، وإذا فيها مكتوب : أنت دعوتنا إلى الجهاد ، ورغّبتنا في الثواب ، ولا قدرة لي على ذلك ، فقطعت أحسن ما فيّ ، وهما ضفيرتاي ، وأرسلتهما(1) إليك لتجعلهما قيد فرسك لعل اللّه يرى شعري قيد فرسك في سبيله ، فيغفر لي .

فلمّا كان صبيحة القتال ، فإذا بغلام بين يدي الصفوف يقاتل حاسرا ، فتقدّمت إليه وقلت : يا غلام ، أنت فتى غرّ راجل ، ولا آمن أن تجول الخيل فتطؤ بأرجلها ، فارجع عن موضعك هذا .

فقال : أتأمرني بالرجوع ، وقد قال اللّه - تعالى - : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الأْدْبارَ »(2) وقرأ الآية إلى آخرها .

قال : فحملته على هجين كان معي ، فقال : يا أبا قدامة ، أقرضني ثلاثة أسهم ، فقلت : أهذا وقت قرض ؟!

فما زال يلحّ عليّ حتى قلت : بشرط إن منّ اللّه عليك بالشهادة أكون في شفاعتك ، قال : نعم .

فأعطيته ثلاثة أسهم ، فوضع سهما في قوسه ، فرمى به ، فقتل روميا ، ثم رمى بالآخر ، فقتل روميا ، ثم رمى بالآخر وقال : السلام عليك ياأبا قدامة سلام مودّع .

ص: 136


1- في نسخة : « انفذتهما » .
2- الأنفال : 15 .

فجاءه سهم ، فوقع بين عينيه ، فوضع رأسه على قربوس سرجه ،فتقدّمت إليه وقلت : لا تنسها .

فقال : نعم ، ولكن لي إليك حاجة ، إذا دخلت المدينة ، فآت والدتي وسلّم خرجي إليها ، وأخبرها ، فهي التي أعطتك شعرها لتقيّد به فرسك ، فسلّم عليها ، فهي العام الأول أصيبت بوالدي ، وفي هذا العام بي ، ثم مات ، فحفرت له ودفنته .

فلمّا هممت بالانصراف عن قبره قذفته الأرض ، فألقته على ظهرها ، فقال أصحابه : غلام غرّ ، ولعلّه خرج بغير إذن أمّه ، فقلت : إنّ الأرض لتقبل من هو شرّ من هذا .

فقمت وصلّيت ركعتين ، ودعوت اللّه ، وسمعت صوتا يقول : يا أبا قدامة ، اترك ولي اللّه ، فما برحت حتى نزلت عليه طيور فأكلته!!! .

فلمّا أتيت المدينة ذهبت إلى دار والدته ، فلمّا قرعت الباب خرجت أخته إليّ ، فلمّا رأتني عادت إلى أمّها وقالت : يا أماه ، هذا أبو قدامة ، وليس معه أخي ، وقد أصبنا في العام الأول بأبي ، وفي هذا العام بأخي .

فخرجت أمّه فقالت : أمعزيا أم مهنئا ؟

فقلت : ما معنى هذا ؟

فقالت : إن كان ابني مات فعزّني ، وإن كان استشهد فهنئني .

فقلت : لا ، بل قد مات شهيدا .

فقالت : له العلامة ، فهل رأيتها ؟

فقلت : نعم ، لم تقبله الأرض ، ونزلت الطيور فأكلت لحمه ، وتركت عظامه فدفنتها .

ص: 137

فقالت : الحمد للّه .

فسلّمت إليها الخرج ، ففتحته وأخرجت منه مسحا وغلاً من حديد ، قالت : إنّه كان إذا جنّه الليل لبس هذا المسح ، وغلّ نفسه بالغلّ ، وناجى مولاه ، وقال في مناجاته : إلهي احشرني من حواصل الطيور ، فاستجاب اللّه - سبحانه - دعاءه(1) .

مصيبتي به أعظم من أن أفسدها بالجزع

وروى البيهقي عن أبي العباس السراج قال : مات لبعضهم ابن ، فدخلت على أمّه ، فقلت لها : اتقي اللّه واصبري .

فقالت : مصيبتي به أعظم من أن أفسدها بالجزع(2) .

أم تأبّن ولدها

وقال أبان بن تغلب رحمه اللّه : دخلت على امرأة ، وقد نزل بابنها الموت ، فقامت إليه وغمضته وسجّته ، وقالت : يا بني ما الجزع فيما لا يزول ، وإنّما البكاء في ما ينزل بك غدا .

يا بني تذوق ما ذاق أبوك ، وستذوقه من بعدك أمّك ، وإنّ أعظم الراحة لهذا الجسد النوم ، والنوم أخ الموت ، فما عليك إن كنت نائماعلى فراشك أو على غيره ، فإنّ غدا السؤل والجنة والنار ، فإن كنت

ص: 138


1- صفة الصفوة : 4/201 .
2- عدّة الصابرين : 1/234 ، تسلية أهل المصائب : 1/165 .

من أهل الجنة ، فما ضرّك الموت ، وإن كنت من أهل النار ، فما تنفعكالحياة ، ولو كنت أطول الناس عمرا .

واللّه يا بني لولا أنّ الموت أشرف الأشياء لبني آدم لما أمات اللّه نبيه صلى الله عليه و آله ، وأبقى عدوّه إبليس لعنه اللّه .

خلفي منه ثواب اللّه

وعن المبرد قال : أتيت امرأة أعزّيها عن ابنها ، فجعلت تثني عليه ، فقالت : كان - واللّه - ماله لغير بطنه ، وأمره لغير عرسه ، وكان :

رحيب الذراع بالتي لا تشينه

فإن كانت الفحشاء ضاق بها ذرعا

فقلت لها : وهل لك منه خلف ؟ وأنا أعني الولد .

فقالت : نعم ، بحمد اللّه كثير طيب ، ثواب اللّه - عزّ وجلّ - ، ونعم العوض في الدنيا والآخرة(1) .

أضحك شكرا للّه على ما أعطاني من الصبر

وعنه أنّه خرج إلى اليمن ، فنزل على امرأة لها مال كثير ، ورقيق وولد ، وحال حسنة ، فأقام عندها مدّة ، فلمّا أراد الرحيل قال : ألك حاجة ؟ قالت : نعم ، كلّما نزلت هذه البلاد ، فأنزل عليّ .وأنّه غاب أعواما ، ثم نزل بها ، فوجدها قد ذهب مالها ورقيقها ، ومات ولدها ، وباعت منزلها ، وهي مسرورة ضاحكة مستبشرة .

ص: 139


1- الأمالي في اللغة : 2/282 ، ذيل جمهرة خطب العرب : 3/276 ، المجالس وجواهر العلم : 1/413 .

فقال : أتضحكين ممّا قد نزل بك ؟

فقالت : يا أبا عبد اللّه ، كنت في حال النعمة في أحزان كثيرة ، فعلمت أنّها من قلّة الشكر ، فأنا اليوم في هذه الحالة أضحك شكرا للّه على ما أعطاني من الصبر(1) .

محزونة في الرخاء مسرورة في الشدّة

وعن مسلم بن يسار قال : قدمت البحرين ، فأضافتني امرأة لها بنون ورقيق ومال ويسار ، وكنت أراها محزونة .

فغبت عنها مدّة طويلة ، ثم أتيتها ، فلم أر ببابها إنسا ، فاستأذنت عليها ، فإذا هي ضاحكة مسرورة ، فقلت لها : ما شأنك ؟

قالت : إنّك لمّا غبت عنّا لم نرسل شيئا في البحر إلاّ غرق ، ولا شيئا في البر إلاّ عطب ، وذهب الرقيق ، ومات البنون .

فقلت لها : يرحمك اللّه ، رأيتك محزونة في ذلك اليوم ، ومسرورة في هذا اليوم ؟

فقالت : نعم ، إنّي لمّا كنت فيما كنت فيه من سعة الدنيا خشيت أن يكون اللّه - تعالى - قد عجّل لي حسناتي في الدنيا ، فلمّا ذهب مالي وولدي ورقيقي رجوت أن يكون اللّه - تعالى - قد ذخر لي عنده شيئا .

إمرأة في البادية مات ابنها فصبرت ولم تجزع

وعن بعضهم قال : خرجت أنا وصديق لي إلى البادية ، فضللنا

ص: 140


1- محاضرات الأدباء : 2/531 .

عن الطريق ، فإذا نحن بخيمة عن يمين الطريق ، فقصدنا نحوها ، فسلّمنافإذا بامرأة تردّ علينا السلام وقالت : من أنتم ؟

قلنا : ضالون ، فأتيناكم فاستأنسنا بكم .

فقالت : يا هؤاء ، ولّوا وجوهكم عنّي حتى أقضي من حقّكم ما أنتم له أهل ، ففعلنا ، فألقت لنا مسحا ، وقالت : اجلسوا عليه إلى أن يأتي ابني .

ثم جعلت ترفع طرف الخيمة وتردّها ، إلى أن رفعته مرّة ، فقالت : أسأل اللّه بركة المقبل ، أمّا البعير بعير ابني ، وأمّا الراكب فليس هو .

قال : فوقف الراكب عليها وقال : يا أم عقيل ، عظّم اللّه أجرك في عقيل ولدك .

فقالت : ويحك مات !

قال : نعم .

قالت : وما سبب موته ؟

قال : ازدحمت عليه الإبل ، فرمت به في البئر .

فقالت : انزل واقض ذمام القوم .

فدفعت إليه كبشا ، فذبحه وأصلحه ، وقرّب إلينا الطعام ، فجعلنا نأكل ونتعجّب من صبرها .

فلمّا فرغنا خرجت إلينا وقالت : يا قوم ، هل فيكم من يحسن من كتاب اللّه (1) شيئا ؟

قلت : نعم .قالت : فاقرأ عليّ آيات أتعزّى بها عن ولدي .

ص: 141


1- في نسخة : « من كلام » .

فقلت : يقول اللّه - عزّ وجلّ - : « وَبَشِّرِ الصّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌقالُوا إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ »(1) .

قالت : باللّه إنّها لفي كتاب اللّه هكذا ؟

قلت : واللّه إنّها لفي كتاب اللّه هكذا .

فقالت : السلام عليكم .

ثم صفّت قدميها ، وصلّت ركعات ، ثم قالت : اللّهم إنّي قد فعلت ما أمرتني به ، فانجز لي ما وعدتني به(2) ، ولو بقي أحد لأحد - قال : فقلت في نفسي تقول : لبقي ابني لحاجتي إليه - فقالت : لبقي محمد صلى الله عليه و آله لأمّته .

فخرجت وأنا أقول ما رأيت أكمل منها ولا أجزل ، ذكرت ربّها بأكمل خصاله ، وأجمل خلاله(3) ، ثم إنّها لمّا علمت أنّ الموت لا مدفع له ، ولا محيص عنه ، وأنّ الجزع لا يجدي نفعا ، والبكاء لا يردّ هالكا رجعت إلى الصبر الجميل ، واحتسبت ابنها عند اللّه - تعالى - ذخيرة نافعة ليوم الفقر والفاقة .

أيّها العائد قد رأيت واعظا

ونحوه ما أخرجه ابن أبي الدنيا قال : كان رجل يجلس إليّ ، فبلغني أنّهشاك ، فأتيته أعوده ، فإذا هو قد نزل به الموت ، وإذا أم له عجوز كبيرة

ص: 142


1- البقرة : 155 - 157 .
2- تسلية أهل المصائب : 1/142 ، مرآة الجنان : 2/67 .
3- في نسخة : « جلاله » .

عنده ، فجعلت تنظر حتى غمض وعصب وسجّي ، ثم قالت : رحمك اللّه ،أي بني ، فقد كنت بنا بارا ، وعلينا شفيقا ، فرزقني اللّه عليك الصبر ، فقد كنت تطيل القيام ، وتكثر الصيام ، لا أحرمك اللّه - تعالى - ما أمّلت فيه من رحمته ، وأحسن فيك العزاء ، ثم نظرت إليّ وقالت : أيّها العائد قد رأيت واعظا ، ونحن معك .

مصيبة نالتني لم تصب أحدا قطّ

وروى البيهقي عن ذي النون المصري قال : كنت في الطواف ، وإذا أنا بجاريتين قد أقبلتا ، وأنشأت إحداهما تقول :

صبرت وكان الصبر خير مطية

وهل جزع منّي يجدي فأجزع

صبرت على ما لو تحمّل بعضه

جبال برضوى أصبحت تتصدّع

ملكت دموع العين ثم رددتها

إلى ناظري فالعين في القلب تدمع

فقلت : ممّا ذا يا جارية ؟

فقالت : من مصيبة نالتني لم تصب أحدا قطّ .

قلت : وما هي ؟

قالت : كان لي شبلان يلعبان أمامي ، وكان أبوهما ضحّى بكبشين ، فقال أحدهما لأخيه : يا أخي أريك كيف ضحّى أبونا بكبشه ، فقام وأخذ الآخر شفرة(1) فنحره ، وهرب القاتل ، فدخل أبوهما ، فقلت : إنّ ابنك قتل أخاه وهرب .

ص: 143


1- في نسخة : « وأخذ شعره » .

فخرج في طلبه ، فوجده قد افترسه السبع ، فرجع الأب ، فمات فيالطريق ظمأ وجوعا(1) .

روى بعضهم هذه الرواية وزاد فيها : قال : رأيت امرأة حسناء ليس بها شيء من الحزن وقالت : واللّه ما أعلم أحدا أصيب بما أصبت به ، وأوردت القصة . .

فقلت لها : كيف أنت والجزع ؟

فقالت : لو رأيت فيه دركا ما اخترت عليه شيئا ، ولو دام لي لدمت له(2) .

صبرت فآثرت طاعة اللّه على طاعة الشيطان

وحكى بعضهم قال : أصيبت امرأة بابن لها ، فصبرت ، فقيل لها في ذلك ، فقالت : آثرت طاعة اللّه - تعالى - على طاعة الشيطان .

ص: 144


1- الكبائر للذهبي : 1/193 .
2- شعب الإيمان للبيهقي : 7/250 رقم 10201 ، تاريخ دمشق : 17/438 .

الباب الثالث في الرضا

اشارة

قال اللّه - تعالى - : « لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ »(1) « رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ رَضُوا عَنْهُ »(2) .

اعلم أنّ الرضا ثمرة المحبّة للّه ، من أحبّ شيئا أحبّ فعله ، فالمحبّة ثمرة المعرفة ، فإنّ من أحبّ شخصا إنسانيا لاشتماله على بعض صفات الكمال أو نعوت الجمال يزداد حبّه له كلّما زاد به معرفة ، وله(3) تصوّرا .

فمن نظر بعين بصيرته إلى جلال اللّه - تعالى - وكماله - الذي يطول شرح تفصيل بعضه ويخرج عن مقصود الرسالة - أحبّه « وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ » ، ومتى أحبّه استحسن كلّ أثر صادر عنه ، وهو يقتضي الرضا .

ص: 145


1- الحديد : 23 .
2- المائدة : 119 .
3- في نسخة : « ولو » .

فالرضا ثمرة من ثمرات المحبّة ، بل كلّ كمال فهو ثمرتها ، فإنّها لمّا كانت فرع المعرفة استلزم تصوّر رحمته رجاءه ، وتصوّر هيبته الخشية له ، ومع عدم الوصول إلى المطلوب الشوق ، ومع الوصول الأنس ، ومع إفراط الأنس الانبساط ، ومع مطالعة عنايته التوكّل ، ومع استحسان ما يصدر عنه الرضا ، ومع تصوّر قصور نفسه في جنب كماله وكمال إحاطة محبوبة به وقدرته عليه التسليم إليه .

ويتشعّب من التسليم مقامات عظيمة يعرفها من عرفها ، وينتهي الأمر به إلى غاية كلّ كمال .

فضل الرضا ومقامه

واعلم أنّ الرضا فضيلة عظيمة للإنسان ، بل جماع أمر الفضائل يرجع إليها .

وقد نبّه اللّه - تعالى - على فضله ، وجعله مقرونا برضا اللّه - تعالى - وعلامة له ، فقال « رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ »(1) « وَرِضْوانٌ مِنَ اللّهِ أَكْبَرُ »(2) ، وهو نهاية الإحسان ، وغاية الامتنان .

وجعله النبي صلى الله عليه و آله دليلاً على الإيمان حين سأل طائفة من أصحابه ، قال : ما أنتم ؟قالوا : مؤنون .

ص: 146


1- المائدة : 119 .
2- التوبة : 72 .

فقال : ما علامة إيمانكم ؟

قالوا : نصبر على البلاء ، ونشكر عند الرخاء ، ونرضى بمواقع القضاء .

فقال : مومنون وربّ الكعبة(1) .

وقال النبي صلى الله عليه و آله : إذا أحبّ اللّه عبدا ابتلاه ، فإن صبر اجتباه ، فإن رضي اصطفاه(2) .

وقال صلى الله عليه و آله : إذا كان يوم القيامة أنبت اللّه - تعالى - لطائفة من أمّتي أجنحة ، فيطيرون من قبورهم إلى الجنان يسرحون فيها ، ويتنعّمون كيف يشاؤون(3) .

فتقول لهم الملائكة : هل رأيتم الحساب ؟

فيقولون : ما رأينا حسابا .

فيقولون : هل جزتم الصراط ؟

فيقولون : ما رأينا صراطا .

فيقولون : هل رأيتم جهنم ؟

فيقولون : ما رأينا شيئا .

فيقول الملائكة : من أمّة من أنتم ؟

فيقولون : من أمّة محمد صلى الله عليه و آله .فيقولون : نشدناكم اللّه ، حدّثونا ما كانت أعمالكم في الدنيا ؟

ص: 147


1- إحياء علوم الدين للغزالي : 4/344 .
2- الفردوس بمأثور الخطاب : 1/251 رقم 971 ، إحياء علوم الدين : 4/288 .
3- في نسخة : « شاءوا » .

فيقولون : خصلتان كانتا فينا ، فبلّغنا اللّه - تعالى - هذه المنزلة بفضل رحمته .

فيقولون : وما هما ؟

فيقولون : كنّا إذا خلونا نستحيي أن نعصيه ، ونرضى باليسير ممّا قسم لنا .

فيقول الملائكة : حقّ لكم هذا .

وقال صلى الله عليه و آله : اعطوا اللّه الرضا من قلوبكم تظفروا بثواب اللّه - تعالى - يوم فقركم والإفلاس(1) .

وفي أخبار موسى عليه السلام أنّهم قالوا : اسأل لنا ربّك أمرا إذا نحن فعلناه يرضى به عنّا ، فأوحى اللّه - تعالى - إليه قل لهم : يرضون عنّي حتى أرضى عنهم(2) .

ونظيره ما روي عن نبينا صلى الله عليه و آله أنّه قال : من أحبّ أن يعلم ما له عند اللّه - عزّ وجلّ - فلينظر ما للّه - عزّ وجلّ - عنده ، فإنّ اللّه - تعالى - ينزل العبد

منه حيث أنزله العبد من نفسه(3) .

وفي أخبار داود عليه السلام : ما لأوليائي والهمّ بالدنيا ! إنّ الهمّ يذهب حلاوةمناجاتي من قلوبهم ، يا داود إنّ محبّتي من أوليائي أن يكونوا روحانيين لا يغتمّون(4) .

ص: 148


1- إحياء علوم الدين : 4/345 .
2- إحياء علوم الدين : 4/345 .
3- إحياء علوم الدين : 4/345 ، المحاسن : 252 ح273 ، مشكاة الأنوار : 11 ، عدّة الداعي : 167 ، المستدرك على الصحيحين : 1/495 .
4- إحياء علوم الدين : 4/345 .

وروي أنّ موسى عليه السلام قال : يا ربّ دلّني على أمر فيه رضاك عنّي أعمله .

فأوحى اللّه - تعالى - إليه إنّ رضاي في كرهك ، وأنت ما تصبر على ما تكره .

قال : يا ربّ دلّني عليه ؟

قال : فإنّ رضاي في رضاك بقضائي(1) .

وفي مناجاة موسى

عليه السلام : أي ربّ ، أيّ خلقك أحبّ إليك ؟

قال : من إذا أخذت حبيبه سالمني .

قال : فأيّ خلق أنت عليه ساخط ؟

قال : من يستخيرني في الأمر ، فإذا قضيت له سخط قضائي(2) .

وروي ما هو أشدّ منه ، وذاك أنّ اللّه - تعالى - قال : أنا اللّه لا إله إلاّ أنا ، من لم يصبر على بلائي ، ولم يرض بقضائي ، فليتخذ ربّا سوائي(3) .

ويروى أنّ اللّه - تعالى - أوحى إلى داود عليه السلام : يا داود ، تريد وأريد ، وأنّما يكون ما أريد ، فإن سلّمت لما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلّم لماأريد أتعبتك فيما تريد ، ولا يكون إلاّ ما أريد(4) .

ص: 149


1- إحياء علوم الدين : 4/345 ، الدعوات للراوندي : 71 .
2- إحياء علوم الدين : 4/345 .
3- إحياء علوم الدين : 4/345 ، الدعوات للراوندي : 74 ، الجامع الصغير : 2/235 رقم 6010 .
4- إحياء علوم الدين : 4/346 ، التوحيد : 337 ح4 .

وعن ابن عباس : أول من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون اللّه- تعالى - على كلّ حال(1) .

وعن ابن مسعود : لئن ألحس جمرة - أحرقت ما أحرقت ، وأبقت ما أبقت - أحبّ إليّ من أن أقول لشيء كان ليته لم يكن ، أو لشيء لم يكن ليته كان(2) .

وعن أبي الدرداء : ذروة الإيمان الصبر للحكم ، والرضا بالقدر(3) .

وقال صلى الله عليه و آله : إنّ اللّه - تعالى - بحكمته وجلاله جعل الروح والفرج في الرضا واليقين ، وجعل الغمّ والحزن في الشكّ والسخط(4) .

وقال علي بن الحسين عليه السلام : الزهد عشرة أجزاء ، أعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع ، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين ، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا(5) .

صفة الراضي والرضا

وقال الصادق عليه السلام : صفة الرضا أن ترضى(6) المحبوب والمكروه ، والرضا شعاع نور المعرفة ، والراضي فان عن جميع اختياره .والراضي حقيقة : هو المرضي عنه .

ص: 150


1- إحياء علوم الدين : 4/346 .
2- إحياء علوم الدين : 4/346 .
3- إحياء علوم الدين : 4/346 .
4- إحياء علوم الدين : 4/347 .
5- الكافي : 2/51 ح10 ، روضة الواعظين : 432 ، مشكاة الأنوار : 113 .
6- في نسخة : « يترضّى » .

والرضا : اسم يجمع(1) فيه معاني العبودية ، وتفسير الرضا سرور القلب .

سمعت أبي محمد الباقر عليه السلام يقول : تعلّق القلب بالموجود شرك ، وبالمفقود كفر ، وهما خارجان عن سنة الرضا .

والعجب(2) ممّن يدّعي العبودية للّه كيف ينازعه في مقدوراته ، حاشا الراضين العارفين عن ذلك(3) .

وروي أنّ جابر بن عبد اللّه الأنصاري - رضي اللّه عنه - ابتلي في آخره بضعف الهرم والعجز ، فزاره محمد بن علي الباقر عليه السلام ، فسأله عن حاله .

فقال : أنا في حالة أحبّ فيها الشيخوخة على الشباب ، والمرض على الصحة ، والموت على الحياة .

فقال عليه السلام : أمّا أنا - يا جابر - فإن جعلني اللّه شيخا أحبّ الشيخوخة ، وإن جعلني شابا أحبّ الشيبوبة ، وإن أمرضني أحبّ المرض ، وإن شفاني أحبّ الشفاء والصحة ، وإن أماتني أحبّ الموت ، وإن أبقاني أحبّ البقاء .

فلمّا سمع جابر هذا الكلام منه قبّل وجهه ، وقال : صدق رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فإنّه قال : ستدرك لي ولدا اسمه اسمي ، يبقر العلم بقرا ، كمايبقر الثور الأرض ، فلذلك سمي « باقر علم الأولين والآخرين »أي شاقّه .

ص: 151


1- في نسخة : « يجتمع » .
2- في نسخة : « وأعجب » .
3- مصباح الشريعة : 182 .

وروى الكليني بإسناده إلى أبي عبد اللّه عليه السلام قال : رأس طاعة اللّه الصبر ، والرضا عن اللّه ، فيما أحبّ العبد أو كره ، ولا يرضى عبد عن اللّه فيما أحبّ وكره إلاّ كان خيرا له فيما أحبّ أو كره(1) .

وبإسناده عنه عليه السلام قال : أعلم الناس باللّه - تعالى - أرضاهم بقضاء اللّه (2) - عزّ وجلّ - .

وبإسناده عنه عليه السلام قال : قال اللّه - تعالى - : عبدي المؤن لا أصرفه في شيء إلاّ جعلته خيرا له ، فليرض بقضائي ، وليصبر على بلائي ، ويشكر نعمائي ، أكتبه - يا محمد - من الصدّيقين عندي(3) .

وعنه عليه السلام قال : في ما أوحى اللّه - عزّ وجلّ - إلى موسى عليه السلام : يا موسى بن عمران ، ما خلقت خلقا أحبّ إليّ من عبدي المؤن ، وإنّي إنّما أبتليه لما هو خير له ، وأعافيه لما هو خير له ، وأزوي عنه لما هو خير له ، وأنا أعلم بما يصلح عليه عبدي ، فليصبر على بلائي ، ويشكر نعمائي ، وليرض بقضائي ، أكتبه في(4) الصدّيقين عندي ، إذا عمل برضائي ، وأطاعأمري(5) .

ص: 152


1- الكافي : 2/60 ح1 ، مشكاة الأنوار : 73 .
2- الكافي : 2/60 ح2 ، فقه الرضا عليه السلام : 359 ، كتاب التمحيص : 60 ح130 ، مشكاة الأنوار : 73 .
3- الكافي : 2/60 ح6 ، فقه الرضا عليه السلام : 359 ، كتاب المؤمن : 27 ح48 ، أعلام الدين للديلمي : 436 .
4- في نسخة : « من » .
5- الكافي : 2/51 ح7 ، الأمالي للمفيد : 93 ح2 ، الأمالي للطوسي : 1/243 ، كتاب المؤمن : 17 ح9 ، التمحيص : 55 ح108 ، مشكاة الأنوار : 299 .

وقيل للصادق عليه السلام : بأيّ شيء يعلم(1) المؤن أنّه مؤن ؟

قال : بالتسليم للّه ، والرضا فيما ورد عليه من سرور أو سخط(2) .

وروي في الإسرائيليات : أنّ عابدا عبد اللّه - تعالى - دهرا طويلاً ، فرأى في المنام : فلانة رفيقتك في الجنة .

فسأل عنها ، واستضافها ثلاثا ، لينظر إلى عملها ، فكان يبيت قائما ، وتبيت نائمة ، ويظلّ صائما وتظلّ مفطرة .

فقال لها : أما لك عمل غير ما رأيت ؟

فقالت : ما هو - واللّه - غير ما رأيت ، ولا أعرف غيره .

فلم يزل يقول : تذكري ، حتى قالت : خصيلة واحدة ، هي إن كنت في شدّة لم أتمنّ أن أكون في رخاء ، وإن كنت في مرض لم أتمنّ أن أكون في صحة ، وإن كنت في الشمس لم أتمنّ أن أكون في الظلّ .

فوضع العابد يديه على رأسه وقال : هذه خصيلة ! هذه - واللّه - خصلة عظيمة يعجز عنها العباد(3) .

ص: 153


1- في نسخة : « يعرف » .
2- الكافي : 2/63 ح12 .
3- إحياء علوم الدين : 4/346 .

فصل 1 : الرضا أعلى مرتبة من الصبر

مرتبة الرضا عالية جدّا على مرتبة الصبر ، بل نسبة الصبر إلى الرضا عند أهل الحقيقة نسبة المعصية إلى الطاعة ، فإنّ المحبّة تقتضي اللّذة بالبلاء ، لأنّه يجد في البلاء نفسه على ذكر من محبوبه ، فيزيد قربه وأنسه ، والصبر يقتضي كراهة البلاء واستصعابه حتى يوجب الصبر عليه ، والكراهة تنافي الأنس .

فتبيّن بذلك أنّ الصبر والمحبّة متنافيان ، وأيضا فإنّ الصبر إظهار التجلّد ، وهو في مذهب المحبّة من أشدّ المنكرات نكرا ، وأظهر علامات العداوة طرّا ، كما قيل :

ويحسن إظهار التجلّد للعدى

ويقبح إلاّ العجز عند الأحبّة

ومن هنا قال أهل الحقيقة : الصبر من أصعب المنازل على العامة ، وأوحشها في طريق المحبّة ، وأنكرها في طريق التوحيد .

وإنّما كان أصعب عند العامة ، لأنّ العامي لم يتدرّب بالرياضة ، ولم يتحنّك بالصبر على البلاء ، ولم يتعوّد بقمع النفس ، فلم يحتمل البلاء ، فلم يكن من أهل المحبّة حتى يتلذّذ بالبلاء ، فإذا امتحنه الحقّ - سبحانه -

ص: 154

بالبلاء ، وهو في مقام النفس لم يحتمل البلاء ، وغلبه الجزع ، وصعب عليه حبس النفس عن إظهاره لعدم طمأنينتها .

وإنّما كان أوحش المنازل في طريق المحبّة لأنّ المحبّة تقتضي الأنس بالمحبوب ، والالتذاذ بالبلاء ، لشهود المبتلى فيه ، وإيثار مراد المحبوب والصبر يقتضي كراهة البلاء - كما مرّ - فيتنافيان .

وإنّما كان أنكر في مقام التوحيد ، لأنّ الصابر يدّعي قوة الثبات ، ودعوى الثبات ، والتجلّد من مرغوبات(1) النفس ، والتوحيد يقتضي فناء النفس ، فيكون أنكر ، لأنّ إثبات النفس في طريق التوحيد من أقبح المنكرات ، بل الرضا مع عظم قدره وعلو أمره عند أهل التحقيق في التوحيد من أوائل مسالكه ، لأنّ سلوكهم في الفناء(2) في التوحيد بذواتهم ، والرضا هو فناء الإرادة في إرادة الحقّ - تعالى - والوقوف الصادق مع مراد اللّه - تعالى - ، وفناء الصفة قبل فناء الذات .

وقد تبيّن لك بذلك ما بين الصبر والرضا من المراتب البعيدة ، والمسالك الشديدة .

ص: 155


1- في نسخة : « رعونات » .
2- في نسخة : « القضاء » .

فصل 2 : درجات الرضا

اشارة

للرضا ثلاث درجات مترتبة في القوة ترتبها في اللفظ :

الدرجة الأولى : رضا المتقين

أن ينظر إلى موقع البلاء والعقل الذي يقتضي الرضا ، ويدرك موقعه ، ويحسّ بألمه ، ولكن يكون راضيا به ، بل راغبا فيه مريدا له بعقله ، وإن كان كارها له بطبعه طلبا لثواب اللّه - تعالى - عليه ، ومزيدا لزلفى لديه ، والفوز بالجنة التي عرضها السماوات والأرض ، وقد أعدّت للمتّقين .

وهذا القسم من الرضا هو رضا المتقين .

ومثاله مثال من يلتمس الفصد والحجامة من الطبيب العالم بتفاصيل أمراضه ، وما فيه صلاحه ، فإنّه يدرك ألم ذلك الفعل ، إلاّ أنّه راض به ، وراغب فيه ، ومتقلّد من الفصّاد منه عظيمة بفعله .

ومثله من يسافر في طلب الربح ، فإنّه يدرك مشقّة السفر ، ولكن حبّه لثمرة سفره طيّب عنده مشقّة السفر ، وجعله راضيا به ، ومهما أصابته بليّة من اللّه - تعالى - ، وكان له يقين بأنّ ثوابه الذي ادخر له فوق ما فاته رضي به ، ورغب فيه ، وأحبّه وشكر اللّه - تعالى - عليه .

ص: 156

الدرجة الثانية : رضا المقرّبين

أن يدرك الألم كذلك ، ولكنّه أحبّه لكونه مراد محبوبه ورضاه ، فإنّ من غلب عليه الحبّ كان جميع مراده وهواه ما فيه رضا محبوبه ، وذلك موجود في الشاهد بالنسبة إلى حبّ الخلق بعضهم بعضا ، قد تواصفها المتواصفون في نظمهم ونثرهم ، ولا معنى له إلاّ ملاحظة حال الصورة الظاهرة بالبصر .

وما هذا الجمال إلاّ جلد على لحم ، ودم مشحون بالأقذار والأخباث ، بدايته من نطفة مذرة ، ونهايته جيفة قذرة ، وهو فيما بين ذلك يحمل العذرة(1) .

والناظر لهذا الجمال الخسيس هو العين الخسيسة التي تغلط في ما ترى كثيرا ، فترى الصغير كبيرا ، والكبير صغيرا ، والبعيد قريبا ، والقبيح جميلاً .

فإذا تصوّر الإنسان استيلاء هذا الحبّ ، فمن أين يستحيل ذلك في حبّ الجمال الأزلي الأبدي الذي لا ينتهي كماله عند المدرك بعين البصيرة التي لا يعتريها الغلط ، ولا يزيلها الموت ، بل يبقى بعد الموت حيّا عند اللّه ، فرحا مسرورا برزق اللّه ، مستفيدا بالموت مزيد تنبه واستكشاف ، وهذا أمر واضح من حيث الاعتبار ، وتشهد له من الآثار ، وردت من أحوالالمحبّين وأقوالهم ، يأتي بعضها إن شاء اللّه - تعالى - وهذه مرتبة المقرّبين .

ص: 157


1- في غرر الحكم : 308 ح7087 قال عليه السلام : ما لابن آدم والعجب ، وأوله نطفة مذرة ، وآخره جيفة قذرة ، وهو بين ذلك يحمل العذرة .

الدرجة الثالثة : رضا المحبّين

أن يبطل إحساسه بالألم حتى يجري عليه المؤم ولا يحسّ ، ويصيبه جراحة ولا يدرك ألمه .

ومثاله الرجل المحارب ، فإنّه في حال غضبه أو حال خوفه قد يصيبه جراحة ، وهو لا يحسّ بها ، حتى إذا رأى الدم استدلّ به على الجراحة ، بل الذي يعدو في شغل مريب(1) قد تصيبه شوكة في قدمه ، ولا يحسّ بألمه ، لشغل قلبه ، بل الذي يحجم أو يحلق رأسه بحديدة كآلة يتألم بها ، فإن كان قلبه مشغولاً بمهم من مهماته يفرغ الحجام أو الحالق ، وهو لا يشعر به .

وكلّ ذلك لأنّ القلب إذا صار مستغرقا بأمر من الأمور لم يدرك ما عداه .

ونظائر ذلك في هموم أهل الدنيا واشتغالهم بها ، وإكبابهم عليها ، حتى لا يتألّمون ، ولا يحسّون بالجوع والعطش والتعب ، لذلك كثير مشاهد عيانا .

فكذلك العاشق المستغرق الهم بمشاهدة محبوبه قد يصيبه ما كان يتألم به أو يغتمّ لولا عشقه ، ثم لا يدرك غمّه وألمه ، لفرط استيلاء الحبّ على قلبه ، هذا إذا أصابه من غير حبيبه ، فكيف إذا أصابه من حبيبه !

وشغل القلب بالحبّ والعشق من أعظم الشواغل ، وإذا تصوّر هذا فيألم يسير بسبب حبّ خفيف تصوّر في الألم العظيم بالحبّ العظيم ، فإنّ الحبّ أيضا يتصوّر تضاعفه في القوة ، كما يتصوّر تضاعف الألم .

ص: 158


1- في نسخة : « قريب » .

وكما يقوى حبّ الصور الجميلة المدركة بحاسة البصر ، فكذا يقوى حبّ الصور الجميلة الباطنة المدركة بنور البصيرة الربوبية ، وجلالها لا يقاس بها جلال ، فمن انكشف له شيء منه فقد يبهره بحيث يدهش ويغشى عليه ، فلا يحسّ بما يجري عليه(1) .

كما روي عن امرأة أنّها عثرت فانقطع ظفرها ، فضحكت ، فقيل لها : أما تجدين الوجع ؟

فقالت : إنّ لذّة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه(2)(3) .

وكان بعضهم يعالج غيره من علّة ، فنزلت به ، فلم يعالج نفسه ، فقيل له في ذلك ، فقال : ضرب الحبيب لا يوجع(4) .

ص: 159


1- انظر إحياء علوم الدين : 4/374 .
2- إحياء علوم الدين : 4/347 ، فيض القدير : 5/498 .
3- في الخرائج والجرائح : 2/848 وبحار الأنوار : 45/80 : عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال : قال الحسين بن علي عليهماالسلام لأصحابه قبل أن يقتل : إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آلهقال : يا بني ، إنّك ستساق إلى العراق ، وهي أرض قد التقى بها النبيون وأوصياء النبيين ، وهي أرض تدعى « عمورا » ، وإنّك تستشهد بها ، ويستشهد معك جماعة من أصحابك ، لا يجدون ألم مس الحديد ، وتلا « قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ » تكون الحرب عليك وعليهم بردا وسلاما ، فأبشروا ، فو اللّه لئن قتلونا فإنّا نرد على نبينا . .
4- إحياء علوم الدين : 4/347 .

فصل 3 : في ذكر جماعة من السلف نقل العلماء رضاهم بالقضاء مضافا إلى ما تقدّم

اشارة

اعلم أنّ أكثر ما أوردناه في باب الصبر عن جماعة الأكابر تضمّن الرضا بالقضاء بخصوص موت الولد ونحوه ، ولنذكر هنا أمورا عامة .

رضا أيوب عليه السلام

لمّا اشتد البلاء على أيوب عليه السلام قالت امرأته : ألا تدعو ربّك فيكشف ما بك ؟

فقال لها : يا امرأة إنّي عشت في الملك والرخاء سبعين سنة ، فأنا أريد أن أعيش مثلها في البلاء ، لعلّي كنت أدّيت شكر ما أنعم اللّه عليّ ، وأولى بي الصبر على ما أبلى(1) .

الراضي أعبد أهل الأرض !

وروي أنّ يونس قال لجبرئيل عليه السلام: دلّني على أعبد أهل الأرض، فدلّهعلى رجل قد قطع الجذام يديه ورجليه، وذهب ببصره وسمعه، وهو يقول:

ص: 160


1- تفسير ابن كثير : 3/197 ، مجموعة ورام : 1/40 ، إرشاد القلوب للديلمي : 127 .

إلهي متعتني بهما ما شئت ، وسلبتني ما شئت ، وأبقيت لي فيك الأمل يا برّ يا الوصول(1) .

رضا رجل أعمى أبرص مقعد مضروب بالفالج

وروي أنّ عيسى عليه السلام مرّ برجل أعمى أبرص مقعد مضروب الجنبين بالفالج ، وقد تناثر لحمه من الجذام ، وهو يقول : الحمد للّه الذي عافاني ممّا ابتلي به كثيرا من خلقه .

فقال له عيسى عليه السلام : يا هذا وأيّ شيء من البلاء أراه مصروفا عنك .

فقال : يا روح اللّه أنا خير ممّن لم يجعل اللّه في قلبه ما جعل في قلبي من معرفته .

فقال له : صدقت ، هات يدك .

فناوله يده ، فإذا هو أحسن الناس وجها ، وأفضلهم هيئة ، قد أذهب اللّه عنه ما كان به ، فصحب عيسى عليه السلام ، وتعبّد معه(2) .

لو قطعني إربا ما ازددت له إلاّ حبّا

وقال بعضهم : قصدت عبادان في بدايتي ، فإذا أنا برجل أعمى مجذوممجنون ، قد صرع ، والنمل يأكل لحمه ، فرفعت رأسه ووضعته في حجري ، وأنا أردد الكلام .

ص: 161


1- الرضا لابن أبي الدنيا : 61 ، إحياء علوم الدين : 4/349 .
2- إحياء علوم الدين : 4/349 .

فلمّا أفاق قال : من هذا الفضولي الذي يدخل بيني وبين ربّي ؟ فوحقّه لو قطعني إربا إربا ما ازددت له إلاّ حبّا(1) .

وعزّتك لئن كنت أخذت لقد أبقيت

وقطعت رجل بعضهم من ركبته من آكلة خرجت بها ، فقال : الحمد للّه الذي أخذ منّي واحدة وترك ثلاثا ، وعزّتك لئن كنت أخذت لقد أبقيت ، ولئن كنت ابتليت لقد عافيت ، ثم لم يدع ورده تلك الليلة(2) .

لو أدخلني النار كنت راضيا

وقال بعضهم : نلت من كلّ مقام حالاً إلاّ الرضا بالقضاء ، فما لي منه إلاّ مشام الريح ، وعلى ذلك لو أدخل الخلائق كلّهم الجنة ، وأدخلني النار كنت بذلك راضيا(3) .

ص: 162


1- إحياء علوم الدين : 4/348 .
2- إحياء علوم الدين : 4/349 .
3- في الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين عليه السلام : 232 : ولئن أدخلتني النار لأخبرن أهل النار بحبي لك . وفي إقبال الأعمال للسيد ابن طاووس : 3/297 : لئن أدخلتني النار أعلمت أهلها أنّي أحبّك . وفي مصباح المتهجد للشيخ الطوسي : 847 « دعاء كميل » : فلئن صيرتني للعقوبات مع أعدائك وجمعت بيني وبين أهل بلائك وفرقت بيني وبين أحبائك وأوليائك فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي وربّي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك وهبني صبرت على حرّ نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك أم كيف أسكن في النار ورجائي عفوك فبعزّتك يا سيدي ومولاي أقسم صادقا لئن تركتني ناطقا لأضجن إليك بين أهلها ضجيج الآملين ولأصرخن إليك صراخ المستصرخين ولأبكين عليك بكاء الفاقدين ولأنادينك أين كنت يا ولي المؤنين يا غاية آمال العارفين يا غياث المستغيثين يا حبيب قلوب الصادقين ويا إله العالمين .

لو جعلني جسرا الى جهنم ثم أدخلني فيها كنت راضيا

وقيل لبعض العارفين : نلت غاية الرضا عنه ؟ فقال : أمّا الغاية فلا ، ولكن مقام من الرضا قد نلته ، لو جعلني اللّه جسرا على جهنم تعبر الخلائق عليّ إلى الجنة ، ثم ملأ بي جهنم ، لأحببت ذلك من حكمه ، ورضيت به من قسمته(1) .

وهذا كلام من علم أنّ الحبّ به استغرق همّه حتى منعه الإحساس بألم النار ، واستيلاء هذه الحالة غير محال في نفسه ، لكنّه بعيد من الأحوال(2) الضعيفة في هذا الزمان ، ولا ينبغي أن يستنكر الضعيف المحروم حال الأقوياء ، ويظنّ أنّ ما هو عاجز عنه يعجز عنه غيره من الأولياء(3) .

خبر عمران بن حصين

وكان عمران بن حصين - رضي اللّه عنه - استسقى بطنه ، فبقي ملقى علىظهره ثلاثين سنة ، لا يقوم ولا يقعد ، وقد ثقب له في سريره موضع لقضاء الحاجة ، فدخل عليه أخوه العلا ، فجعل يبكي لما يرى من حاله .

ص: 163


1- إحياء علوم الدين للغزالي : 4/394 .
2- في نسخة : « عن الأخطار » .
3- إحياء علوم الدين للغزالي : 4/394 .

فقال : لم تبكي ؟

قال : لأنّي أراك على هذه الحالة العظيمة .

قال : لا تبك ، فإنّ ما(1) أحبّه لي اللّه - تعالى - أحبّه .ثم قال : أحدّثك ، ولعلّ اللّه ينفعك به ، واكتم عليّ حتى أموت : إنّ الملائكة لتزورني ، فآنس بها ، وتسلّم عليّ ، فأسمع تسليمها ، فأعلم بذلك أنّ هذا البلاء ليس بعقوبة ، إذ هو سبب لهذه النعمة الجسيمة ، فمن شاهد هذا في بلائه كيف لا يكون راضيا به(2) ؟!

خبر سويد بن شعبة

وقال بعضهم : دخلنا على سويد بن شعبة ، فرأينا ثوبا ملقى ، فما ظنّنا أنّ تحته شيئا حتى كشف ، فقالت امرأته : أهلك فداؤ ، أما نطعمك ؟ أما نسقيك ؟

فقال : طالت الضجعة ، ودبرت الحراقيف(3) ، وأصبحت نضوا(4) ، لا أطعم طعاما ، ولا أشرب شرابا منذ كذا - فذكر أياما - وما يسرّني إنّي نقصت من هذا قلامة ظفر(5) .

ص: 164


1- لا يوجد في بعض النسخ : « ما » .
2- إحياء علوم الدين : 4/349 .
3- عظام الحجبة ، وهي رأس الورك .
4- النضو : المهزول .
5- إحياء علوم الدين : 4/349 .

أنا العبد وللسيد والإرادة في عبده

وروي عن بعضهم ، وكان قاسى المرض ستين سنة ، فلمّا اشتدّ عليه حاله دخل عليه بنوه .

فقالوا : أتريد أن تموت حتى تستريح ممّا أنت فيه ؟قال : لا .

قالوا : فما تريد ؟

قال : ما لي إرادة ، إنّما أنا عبد ، وللسيد الإرادة في عبده ، والحكم في أمره .

خبر فتح الموصلي

وقيل : اشتدّ المرض بفتح الموصلي ، وأصابه مع مرضه الفقر والجهد ، فقال : إلهي وسيدي ابتليتني بالمرض والفقر ، فهذا فعالك بالأنبياء والمرسلين ، فكيف لي أن أؤي شكر ما أنعمت به عليّ(1) .

ص: 165


1- إحياء علوم الدين : 3/83 فضيلة الجوع .

فصل 4 : الدعاء

اشارة

اعلم أنّ الدعاء يدفع البلاء(1) ، وزوال المرض(2) وحفظ الولد لا ينافي الرضا بالقضاء ، فقد تعبّدنا اللّه - سبحانه - بالدعاء ، وندبنا إليه ، وحثّنا عليه ، وجعل تركه استكبارا(3) ، وفعله عباده ، ووعد بالإجابة ، ودعا الأنبياء والأئمة عليهم السلام ، وأمروا به ، وما نقل عنهم خارج عن حدّ الحصر .

وقد أثنى اللّه - تعالى - على الداعين من عباده ، فقال : « يَدْعُونَنا رَغَباًرَهَباً »(4) .

ومن وظائف الداعي :

أن يكون في دعائه ممتثلاً لأمر ربّه - تبارك وتعالى - بالدعاء في طلب

ص: 166


1- في الكافي : 2/469 ح5 : عن أبي الحسن عليه السلام قال : كان علي بن الحسين عليهماالسلاميقول : الدعاء يدفع البلاء النازل .
2- في الكافي : 2/470 ح1 : عن علاء بن كامل قال : قال لي أبو عبد اللّه عليه السلام : عليك بالدعاء ، فإنّه شفاء من كلّ داء .
3- قال تعالى : « وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ » .
4- الأنبياء : 90 .

ما أمره بطلبه(1) ، وأنّه لولا أمره به ، وأذنه له فيه(2) لما اجترأ على التعرّضلمخالفة قضائه ، وفي الحقيقة هذا نوع من الرضا لمن فهم مواضع(3) الرضا ، وأدّب نفسه ، وقام بوظائف الدعاء .

ومن علاماته :

أنّه إذا لم يجب إلى مطلوبه لا يتألم من ذلك من حيث عدم إجابته ، لجواز أن يكون المدعو به مشتملاً على مفسدة لا يعلمها إلاّ اللّه - تعالى - .

كما ورد : أنّ العبد ليدعو اللّه - تعالى - بالشيء حتى ترحمه الملائكة ، وتقول : إلهي ارحم عبدك المؤن ، وأجب دعوته .

فيقول اللّه - تعالى - : كيف أرحمه من شيء به أرحمه(4) .

ص: 167


1- في تهذيب الأحكام للطوسي : 3/108 وإقبال الأعمال : 1/138 ومصباح الكفعمي : 578 ضمن دعاء الإفتتاح الشريف : « اللّهم أذنت لي في دعائك ومسألتك » .
2- في تهذيب الأحكام للطوسي : 3/108 ، وإقبال الأعمال : 1/138 ، والمصباح للكفعمي : 578 ضمن دعاء الإفتتاح الشريف : . . اللّهم أذنت لي في دعائك ومسألتك . .
3- في نسخة : « مواقع » .
4- ربيع الأبرار : 2/211 ، المجتبى من دعاء المجتبى : 81 وفيه : وذكر عند السلام بن أبي مطيع الرجل تصيبه البلوى فيدعو ، فتبطئ عنه الإجابة ، فقال : بلغني أنّ اللّه - تعالى - يقول : كيف أرحمه من شيء به أرحمه . وفي كنز الفوائد لأبي الفتح الكراجكي : 178 : وروى أنّ نبيا من الأنبياء مرّ برجل قد جهده البلاء ، فقال : يا ربّ أما ترحم هذا ممّا به ! فأوحى اللّه إليه : كيف أرحمه ممّا به أرحمه .

نعم ، لو استوحش من حيث احتمال أن يكون السبب الذي أوجب ردّ دعائه بعده عن اللّه - تعالى - ، واستحقاقه الخيبة والإجباه(1) والطرد والإبعاد ، فلا حرج ، فإنّ كمال المؤن أن يكون ماقتا لنفسه ، مزرياعليها ، حتى لو أجيبت دعوته(2) ، فلا يظننّ أنّ ذلك من كرامته على اللّه - تعالى - ، وقربه منه ، بل يجوز أن يكون ذلك من بغض اللّه - تعالى - ، وكراهته لصوته ، وتأذّي الملائكة برائحته ، فتسأل اللّه - تعالى - أن يعجّل بإجابته لتستريح منه .

وكذلك قد يكون سبب تأخير الإجابة من محبّة اللّه - تعالى - وملائكته لصوته ، وتلذّذهم بمناجاته ، فتسأل اللّه - تعالى - تأخير إجابته(3) ، كما ورد في الأخبار .

فالمؤن أبدا بين رجاء وخوف ، فإنّ بهما قوام الأعمال ، والانزجار عن المعاصي ، والرغبة في الطاعات(4) .

ص: 168


1- أي الإستقبال بالمكروه .
2- في غرر الحكم : 90 ح1551 ، ونهج البلاغة : قال عليه السلام : إنّ المؤن لا يمسي ولا يصبح إلاّ ونفسه ظنون عنده ، فلا يزال زاريا عليها ومستزيدا لها . وفي عدّه الداعي : 239 وغيره : وقال عليه السلام : واعلموا عباد اللّه إنّ المؤن لا يصبح ولا يمسي إلاّ ونفسه ظنون عنده ، فلا يزال زاريا عليها ، ومستزيدا لها ، فكونوا كالسابقين قبلكم ، والماضين إمامكم ، قوضوا من الدنيا تقويض الراحل ، واطووها على طي المنازل . .
3- في نسخة : « حاجته » .
4- في الكافي : 2 : 488 وما بعدها : وعن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال : قلت لأبي الحسن عليه السلام : جعلت فداك ، إنّي قد سألت اللّه حاجة منذ كذا وكذا سنة ، وقد دخل قلبي من إبطائها شئ ، فقال : يا أحمد ، إياك والشيطان أن يكون له عليك سبيل حتى يقنطك ، إنّ أبا جعفر - صلوات اللّه عليه - كان يقول : إنّ المؤن يسأل اللّه - عزّ وجلّ - حاجة فيؤر عنه تعجيل إجابته حبّا لصوته واستماع نحيبه . ثم قال : واللّه ما أخّر اللّه - عزّ وجلّ - عن المؤنين ما يطلبون من هذه الدنيا خير لهم ممّا عجّل لهم فيها ، وأيّ شئ الدنيا ؟! إنّ أبا جعفر عليه السلام كان يقول : ينبغي للمؤن أن يكون دعاؤ في الرخاء نحوا من دعائه في الشدّة ، ليس إذا أعطي فتر ، فلا تملّ الدعاء فإنّه من اللّه - عزّ وجلّ - بمكان ، وعليك بالصبر وطلب الحلال وصلة الرحم ، وإياك ومكاشفة الناس ، فإنّا أهل البيت نصل من قطعنا ، ونحسن إلى من أساء إلينا ، فنرى - واللّه - في ذلك العاقبة الحسنة ، إنّ صاحب النعمة في الدنيا إذا سأل فاعطي طلب غير الذي سأل ، وصغرت النعمة في عينه ، فلا يشبع من شئ ، وإذا كثرت النعم كان المسلم من ذلك على خطر للحقوق التي تجب عليه ، وما يخاف من الفتنة فيها . أخبرني عنك لو أنّي قلت لك قولاً أكنت تثق به مني ؟ فقلت له : جعلت فداك ، إذا لم أثق بقولك فبمن أثق ! وأنت حجة اللّه على خلقه ؟ قال : فكن باللّه أوثق ، فإنّك على موعد من اللّه ، أليس اللّه - عزّ وجلّ - يقول : « وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ » ، وقال : « لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ » ، وقال : « وَاللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً » ، فكن باللّه - عزّ وجلّ - أوثق منك بغيره ، ولا تجعلوا في أنفسكم إلاّ خيرا ، فإنّه مغفور لكم . وعن منصور الصيقل قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : ربما دعا الرجل بالدعاء فاستجيب له، ثم أخر ذلك إلى حين؟ قال: فقال: نعم، قلت: ولم ذاك، ليزداد من الدعاء؟ قال: نعم. وعن حديد عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : إنّ العبد ليدعو فيقول اللّه - عزّ وجلّ - للملكين : قد استجبت له ، ولكن احبسوه بحاجته ، فإنّي أحبّ أن أسمع صوته ، وإنّ العبد ليدعو ، فيقول اللّه - تبارك وتعالى - : عجّلوا له حاجته ، فانّي أبغض صوته . وعن إسحاق بن عمار قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : يستجاب للرجل الدعاء ، ثم يؤر قال : نعم عشرين سنة . وعن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : كان بين قول اللّه - عزّ وجلّ - : « قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما » ، وبين أخذ فرعون أربعين عاما . وعن أبي بصير قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : إنّ المؤن ليدعو فيؤر إجابته إلى يوم الجمعة . وعن أبي عبد اللّه عليه السلام : إنّ العبد الولي للّه يدعو اللّه - عزّ وجلّ - في الأمر ينوبه ، فيقول للملك الموكل به : اقض لعبدي حاجته ولا تعجّلها ، فإنّي أشتهي أن أسمع نداءه وصوته ، وإنّ العبد العدو للّه ليدعو اللّه - عزّ وجلّ - في الأمر ينوبه فيقال للملك الموكل به : اقض لعبدي حاجته وعجّلها ، فإنّي أكره أن أسمع نداءه وصوته . قال : فيقول الناس : ما أعطي هذا إلاّ لكرامته ، ولا منع هذا إلاّ لهوانه . وعن أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : لا يزال المؤن بخير ورجاء ، رحمة من اللّه - عزّ وجلّ - ما لم يستعجل ، فيقنط ويترك الدعاء . قلت له : كيف يستعجل ؟ قال : يقول : قد دعوت منذ كذا وكذا وما أرى الإجابة . وعن إسحاق ابن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : إنّ المؤن ليدعو اللّه - عزّ وجلّ - في حاجته ، فيقول اللّه - عزّ وجلّ - أخّروا إجابته شوقا إلى صوته ودعائه ، فإذا كان يوم القيامة ، قال اللّه - عزّ وجلّ - : عبدي ، دعوتني فأخّرت إجابتك وثوابك كذا وكذا ، ودعوتني في كذا وكذا ، فأخّرت إجابتك وثوابك كذا وكذا ، قال : فيتمنّى المؤن أنّه لم يستجب له دعوة في الدنيا ممّا يرى من حسن الثواب . وفي الكافي أيضا : 2/471 ح1 عن هشام بن سالم قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : هل تعرفون طول البلاء من قصره ؟ قلنا : لا ، قال : إذا الهم أحدكم الدعاء عند البلاء ، فاعلموا أنّ البلاء قصير . وعن أبي ولاد قال : قال أبو الحسن موسى عليه السلام : ما من بلاء ينزل على عبد مؤمن فيلهمه اللّه - عزّ وجلّ - الدعاء إلاّ كان كشف ذلك البلاء وشيكا ، وما من بلاء ينزل على عبد مؤن ، فيمسك عن الدعاء إلاّ كان ذلك البلاء طويلاً ، فإذا نزل البلاء فعليكم بالدعاء والتضرع إلى اللّه عزّ وجلّ .

ص: 169

ص: 170

الباب الرابع في البكاء

اشارة

اعلم أنّ البكاء بمجرّده غير مناف للصبر ، ولا للرضا بالقضاء ، وإنّما هو طبيعة بشرية ، وجبلة إنسانية ، ورحمة رحمية أو حبيبية(1) ، فلا حرج في إبرازها ، ولا ضرر في إخراجها ، ما لم تشتمل على أحوال تؤن

بالسخط ، وتنبئ عن الجزع ، وتذهب بالأجر ، من شقّ الثياب ، ولطم الوجه ، وضرب الفخذ ، وغيرها .

وقد ورد البكاء في المصائب عن النبي صلى الله عليه و آله ، ومن قبله عليه السلام من لدن آدم عليه السلام ، وبعده من آله وأصحابه مع رضاهم وصبرهم وثباتهم(2) .

ص: 171


1- في نسخة : « أوجبية » .
2- ولنعم ما قيل : ( نقلاً عن كتاب الأخلاق الحسينية لجعفر البياتي : 239 ) انظر إلى بكاء حضرة الصفي آدم بعد مخدع وقد خفيبكاؤ أيضا على هابيلا في أربعين ليلة قتيلاأما سمعت من بكاء يوسف في السجن بعد قوله المتصف وانظر إلى البكاء من يعقوبه ذهاب عينه على محبوبهانظر إلى الحقّ إلى خليله بكاءه بكاء إسماعيلهانظر إلى الخضر إلى بكائه لأجل آل اللّه عن بلائهوانظر إلى بكاء حضرة النبي السيد المكرم المنتجبدموع عينيه على رقيّه معروفة مشهورة مرويّهانظر إلى بكائه وغمّه لابن أبي طالب ابن عمّهلجعفر الشهيد عند موته ولابنه الصغير بعد فوتهلأمّه الفاطم بنت الأسد كأمّه زوجة عمّ أمجداسمع بكاءه على النجاشي سلطان حبشان بلا تحاشيانظر إلى دموعه في الحادثه لموت إبراهيم وابن الحارثهانظر إلى دموعه المطهره لذكر أم المؤنين الطاهره

بكاء آدم عليه السلام

فأول من بكى آدم عليه السلام على ولده هابيل ، ورثاه بأبيات مشهورة ، وحزن عليه حزنا كثيرا(1) .

ص: 172


1- جامع البيان للطبري : 6/258 ، الدر المنثور : 2/276 ، لسان الميزان لابن حجر : 1/299 ، كنز العمال : 2/400 رقم 4356 وفيها : عن علي عليه السلام قال : لمّا قتل ابن آدم آخاه بكى آدم ، فقال : تغيرت البلاد ومن عليها فلون الأرض منعبر قبيحتغير كلّ ذي لون وطعم وقلّ بشاشة الوجه المليح فأجيب آدم عليه السلام : أبا هابيل قد قتلا جميعا وصار الحي بالميت الذبيحوجاء بشرة قد كان منه على خوف فجاء بها يصيح

بكاء يعقوب عليه السلام

وإن خفي شيء ، فلا يخفى حال يعقوب عليه السلام حيث بكى حتى ابيضت عيناه من الحزن على يوسف عليه السلام(1) .

بكاء الإمام زين العابدين عليه السلام

ومن مشاهير الأخبار ما روي عن الصادق عليه السلام أنّه قال : إنّ زين العابدين عليه السلام بكى على أبيه أربعين سنة ، صائما نهاره ، وقائما ليله ، فإذا حضره الإفطار جاءه غلامه بطعامه وشرابه ، فيضعه بين يديه ، ويقول : كل يا مولاي .

فيقول : قتل ابن رسول اللّه جائعا ، قتل ابن رسول اللّه عطشانا .

فلا يزال يكرر ذلك ، ويبكي حتى يبلّ طعامه من دموعه ، فلم يزل كذلك حتى لحق باللّه (2) - عزّ وجلّ - .

ص: 173


1- الكشاف : 2/450 ، تفسير الطبري : 13/32 ، تفسير الرازي : 5/238 ، تفسير السمرقندي : 2/184 ، تفسير السمعاني : السمعاني : 3/58 . في المجالس الفاخرة في مصائب العترة الطاهرة للسيد شرف الدين رحمه الله : 28 : وقد بكى يعقوب ، إذ غيب اللّه ولده « وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ » حتى قيل - كما في تفسير هذه الآية من « الكشاف »- : ما جفّت عيناه من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاما ، وما على وجه الأرض أكرم على اللّه منه . وعن رسول اللّه صلى الله عليه و آله - كما في تفسير هذه الآية من « الكشاف » أيضا - : أنّه سئل جبرئيل عليه السلام : ما بلغ من وجد يعقوب على يوسف ؟ قال : وجد سبعين ثكلى .
2- اللهوف في قتلى الطفوف لابن طاووس : 121 .

وروي عن بعض مواليه أنّه قال : برز يوما إلى الصحراء ، فتبعته ، فوجدته قد سجد على حجارة خشنة ، فوقفت وأنا أسمع شهيقه وبكائه ، فأحصيت عليه ألف مرّة ، وهو يقول : « لا إله إلاّ اللّه حقّا حقّا ، لا إله إلاّ اللّه تعبّدا ورقّا ، لا إله إلاّ اللّه إيمانا وصدقا » .

ثم رفع رأسه من سجوده ، وإنّ لحيته ووجهه قد غمرا بالماء من دموع عينيه ، فقلت : يا سيدي ، ما آن لحزنك أن ينقضي ، ولبكائك أن يقلّ ؟

فقال لي : ويحك ، إنّ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام كان نبيا ابن

نبي ابن نبي ، له اثنا عشر ابنا ، فغيّب اللّه واحدا منهم ، فشاب رأسه منالحزن ، واحدودب ظهره من الغمّ ، وذهب بصره من البكاء ، وابنه حيّ في دار الدنيا ، وأنا رأيت أبي وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي صرعى مقتولين ، فكيف ينقضي حزني ، ويقلّ بكائي(1) ؟! .

بكاء النبي صلى الله عليه و آله في مصيبة ولده إبراهيم

وعن أنس بن مالك قال : دخلت مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله على أبي سيف القين(2) ، وكان ظئرا(3) لإبراهيم عليه السلام ، فأخذ رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقبّله ويضمّه إلى صدره(4) ، ثم دخل عليه بعد ذلك وإبراهيم عليه السلام يجود بنفسه ، فجعلت عينا رسول اللّه صلى الله عليه و آله تذرفان .

ص: 174


1- اللهوف في قتلى الطفوف : 122 .
2- في نسخة : « على سيف الفتن » .
3- الظئر : زوج المرضعة .
4- في نسخة : « يشمّه » بدل « يضمّه الى صدره » .

فقال له عبد الرحمن بن عوف : وأنت يا رسول اللّه تبكي ؟!

فقال : يا ابن عوف ، إنّها رحمة ، ثم أتبعها بأخرى ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلاّ ما يرضى ربّنا ، وإنّا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون(1) .* * *

وعن أسماء ابنة زيد قالت : لمّا توفي ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله إبراهيم عليه السلام بكى رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

فقال له المعزّي : أنت أحقّ من عظم اللّه - عزّ وجلّ - حقّه !فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول ما يسخط الربّ ، لولا أنّه وعد حقّ ، وموعود جامع ، وأنّ الآخر تابع للأول ، لوجدنا عليك يا إبراهيم ، أفضل ممّا وجدناه ، إنّا بك لمحزونون(2) .

* * *

وعن جابر بن عبد اللّه الأنصاري - رضي اللّه عنه - قال : أخذ رسول اللّه صلى الله عليه و آله بيد عبد الرحمن بن عوف ، فأتى إبراهيم ، وهو يجود بنفسه ، فوضعه في حجره ، فقال : يا بني إنّي لا أملك لك من اللّه - تعالى - شيئا ، وذرفت عيناه .

فقال له عبد الرحمن : يا رسول اللّه تبكي ؟ أو لم تنه عن البكاء ؟!

فقال صلى الله عليه و آله : إنّما نهيت عن النوح عن صوتين أحمقين فاجرين ، صوت عند نغم لهو ولعب ، ومزامير شيطان ، وصوت عند مصيبة ،

ص: 175


1- البخاري : 2/105 ، المحلى لابن حزم : 5/146 .
2- سنن ابن ماجة : 1/506 رقم 1589 ، عمدة القاري : 8/75 .

وخمش وجوه ، وشقّ جيوب ، ورنّة شيطان ، إنّما هذه رحمة ، ومن لا يرحم لا يُرحم ، لولا أمر حقّ ، ووعد صدق ، وسبيل نأتيه(1) ، وأنّ آخرنا

سيلحق أوّلنا ، لحزنّا عليك حزنا شديدا ، وإنّا بك محزونون ، تبكي العين ،ويحزن(2) القلب ، ولا نقول ما يسخط الربّ(3) - عزّ وجلّ - .

* * *

وعن أبي أمامة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و آله حين توفي ابنه ، وعيناهتدمعان ، فقال : يا نبي اللّه ، تبكي على هذا السخل(4) ؟ والذي بعثك بالحقّ نبيا ، لقد دفنت اثني عشر ولدا في الجاهلية ، كلّهم أشبّ منه ، أدسّه في التراب دسّا .

فقال النبي صلى الله عليه و آله : فماذا إن كانت الرحمة ذهبت منك ، يحزن القلب ، وتدمع العين ، ولا نقول ما يسخط الربّ ، وإنّا على إبراهيم لمحزونون(5) .

* * *

وعن محمود بن لبيد قال : انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم بن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فقال الناس : انكسفت الشمس لموت إبراهيم .

ص: 176


1- في نسخة : « باللّه » .
2- في نسخة : « يدمع » .
3- المصنف لابن أبي شيبة الكوفي : 3/266 رقم 2 ، السيرة النبوية لابن إسحاق : 5/251 ، سنن الترمذي : 2/237 رقم 1011 ، الطبقات الكبرى : 1/138 . . .
4- في نسخة : « الشخص » .
5- المعجم الكبير للطبراني : 8/230 ، مجمع الزوائد : 3/17 .

فخرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله حين سمع ذلك ، فحمد اللّه ، وأثنى عليه ، ثم قال : أمّا بعد ، أيّها الناس ، إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات اللّه - عزّ وجلّ - ، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى المساجد ، ودمعت عيناه .

فقالوا : يا رسول اللّه ، تبكي وأنت رسول اللّه ؟

فقال : إنّما أنا بشر ، تدمع العين ، ويفجع القلب ، ولا نقول ما يسخط الربّ ، واللّه يا إبراهيم إنّا بك لمحزونون(1) .

* * *وعن خالد بن معدان قال : لمّا مات إبراهيم بن النبي صلى الله عليه و آله بكى .

فقيل : أتبكي يا رسول اللّه ؟فقال : ريحانة وهبها اللّه ، وكنت أشمّها .

وقال صلى الله عليه و آله يوم مات إبراهيم : ما كان من حزن في القلب ، أو في العين ، فإنّما هو رحمة ، وما كان من حزن باللسان وباليد ، فهو من الشيطان(2) .

* * *

وروى الزبير بن بكار : إنّ النبي صلى الله عليه و آله لمّا خرج بإبراهيم ، خرج يمشي ، ثم جلس على قبره ، ثم دُلّي(3) ، فلمّا رآه رسول اللّه قد وضع في القبر دمعت

عيناه .

فلمّا رأى الصحابة ذلك بكوا ، ارتفعت أصواتهم ، فأقبل عليه أبو بكر ، فقال : يا رسول اللّه ، تبكي وأنت تنهى عن البكاء ؟!

ص: 177


1- البخاري : 2/42 و48 ، مسلم : 2/628 ، الطبقات الكبرى : 1/142 .
2- الجامع الكبير : 1/709 .
3- في نسخة : « أدنى » .

فقال النبي صلى الله عليه و آله : تدمع العين ، ويوجع القلب ، ولا نقول ما يسخط الربّ(1) - عزّ وجلّ - .

بكاء النبي صلى الله عليه و آله في مصيبة ابنه الطاهر

وعن السائب بن يزيد(2) : إنّ النبي صلى الله عليه و آله لمّا مات ابنه الطاهر ذرفتعيناه .

فقيل : يا رسول اللّه ، بكيت ؟

فقال صلى الله عليه و آله : إنّ العين تذرف ، وإنّ الدمع يغلب ، وإنّ القلب يحزن ، ولانعصي اللّه (3) - عزّ وجلّ - .

بكاء النبي صلى الله عليه و آله على قبر أمّه عليهاالسلام

وروي في صحيحة : إنّ النبي صلى الله عليه و آله زار قبر أمّه فبكى ، وأبكى من حوله(4) .

بكاء النبي صلى الله عليه و آله في مصيبة عثمان بن مظعون

وروي أنّ النبي صلى الله عليه و آله لمّا مات عثمان بن مظعون كشف الثوب عن وجهه ، ثم قبّل ما بين عينيه ، ثم بكى طويلاً .

ص: 178


1- المنتخب من كتاب أزواج النبي صلى الله عليه و آله للزبير بن بكار : 1/55 ، إمتاع الأسماع للمقريزي : 5/339 ، الإستيعاب : 1/59 .
2- في نسخة : « النائب بن بريد » .
3- المعجم الكبير للطبراني : 7/153 ، مجمع الزوائد : 3/18 .
4- مسلم : 2/671 ، سنن النسائي : 4/90 ، سنن أبي داود : 3/218 رقم 3234 .

فلمّا رفع السرير ، قال : طوباك يا عثمان ، لم تلبسك الدنيا ، ولم تلبسها(1) .

بكاء النبي صلى الله عليه و آله على سعد بن عبادة

واشتكى سعد بن عبادة شكوى ، فأتاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله يعوده ، فلمّادخل عليه وجده في غشية .

فقال : أو قد مات ؟

فقالوا : نعم(2) يا رسول اللّه .

فبكى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فلمّا رأوا القوم بكاءه بكوا .فقال : ألا تسمعون ؟ إنّ اللّه لا يعذب بدمع العين ، ولا بحزن القلب ، ولكن يعذّب بهذا - وأشار بلسانه - أو يرحم(3) .

بكاء النبي صلى الله عليه و آله على ابنة ابنته

وروي أنّ ابنة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله بعثت إليه : إنّ ابنتي مغلوبة(4) .

ص: 179


1- التمهيد لابن عبد البر : 21/224 ، الفردوس للديلمي : 2/451 ، عمدة القاري : 8/15 ، كنز العمال : 13/225 .
2- في نسخة : « لا » .
3- البخاري : 2/85 ، مسلم : 3/40 ، السنن الكبرى للبيهقي : 4/69 ، شرح معاني الآثار : 4/292 ، ابن حبان : 7/431 ، معرفة السنن والآثار للبيهقي : 3/197 ، الأذكار النووية : 147 ، رياض الصالحين للنووي : 422 ، كنز العمال : 15/611 ، أحكام القرآن لابن العربي : 3/74 ، تفسير الثعالبي : 3/346 ، المعتبر للمحقق الحلي : 1/344 ، المغني لابن قدامة : 2/411 ، الشرح الكبير لابن قدامة : 2/429 ، المحلى لابن حزم : 5/148 .
4- في نسخة : « معلولة » .

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : إنّ للّه ما أخذ ، وللّه ما أعطى .

وجاءها في أناس من أصحابه ، فأخرجت إليه الصبية ، ونفسها يتقعقع في صدرها ، فرقّ عليه السلام عليها ، وذرفت عيناه .

فنظر إليه أصحابه ، فقال : ما لكم تنظرون إليّ رحمة يضعها اللّه حيث يشاء ؟ إنّما يرحم اللّه من عباده الرحماء(1) .

* * *وعن أسامة بن زيد قال : أتي النبي صلى الله عليه و آله بأمامة بنت زينب ، ونفسها يتقعقع في صدرها .

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : للّه ما أخذ ، وللّه ما أعطى ، وكلّ إلى أجلمسمّى ، وبكى .

فقال له سعد بن عبادة : تبكي ، وقد نهيت عن البكاء ؟

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : إنّما هي رحمة يجعلها اللّه في قلوب عباده ، وإنّما يرحم اللّه من عباده الرحماء(2) .

ص: 180


1- البخاري : 2/100 ، مسلم : 2/635 رقم 923 ، التعازي : 10 ، سنن ابن ماجة : 1/506 رقم 1588 ، سنن أبي داود : 3/193 رقم 3125 ، سنن النسائي : 4/22 ، مسند البزار : 3/224 ، مجمع الزوائد : 3/18 ، المعجم الكبير للطبراني : 1/135 ، كنز العمال : 15/623 .
2- مسند أحمد : 5/204 ، كنز العمال : 15/623 ، عمدة القاري : 8/73 ، البخاري : 2/80 ، مسلم : 3/39 ، سنن ابن ماجة : 1/506 ، سنن النسائي : 4/22 ، السنن الكبرى للبيهقي : 4/65 ، مجمع الزوائد : 4/18 ، المصنف للصنعاني : 3/552 ، الأدب المفرد للبخاري : 113 ، ابن حبان : 2/208 .

بكاء النبي صلى الله عليه و آله في مصيبة جعفر بن أبي طالب عليهماالسلام

ولمّا أصيب جعفر بن أبي طالب - رضي اللّه عنهما - أتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله أسماء - رضي اللّه عنها - ، فقال لها : أخرجي إليّ ولد جعفر .

فخرجوا إليه ، فضمّهم إليه ، وشمّهم ، ودمعت عيناه .

فقالت : يا رسول اللّه ، أصيب جعفر ؟ قال : نعم ، أصيب اليوم(1) .

قال عبداللّه بن جعفر: أحفظ حين دخل رسول اللّه على أمّي، فنعي إليها أبي ، ونظرت إليه ، وهو يمسح على رأسي ورأس أخي ، وعيناه تهرقان الدموع حتى تقطر لحيته ، ثم قال : اللّهم إنّ جعفرا قد قدم إلى أحسن الثواب ، فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحدا من عبادك في ذريّته .

ثم إنّه عليه السلام قال : يا أسماء ، ألا أبشّرك ؟

قالت : بلى ، بأبي أنت وأمي .فقال : إنّ اللّه - تعالى - جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة(2) .* * *

وعن أبي عبد اللّه عليه السلام عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال : لمّا جاء الخبر بوفاة جعفر بن أبي طالب - رضي اللّه عنهما- وزيد بن حارثة كان إذا دخل بيته بكى عليهما جدّا ، وقال : كانا يحدّثاني ويؤساني ، فجاء الموت ، فذهب بهما(3) .

ص: 181


1- أسد الغابة : 1/289 ، تاريخ اليعقوبي : 2/65 ، الكامل في التاريخ : 2/235 .
2- تاريخ الإسلام للذهبي : 2/489 ، اعلام الورى : 1/213 .
3- نهاية الأحكام للحلي : 2/289 ، فقيه من لا يحضره الفقيه: 1/177 ح527، منتهى المطلب : 1/466 .

بكاء النبي صلى الله عليه و آله على زيد بن حارثة

وعن خالد بن سلمة قال لمّا جاء نعي زيد بن حارثة إلى النبي صلى الله عليه و آلهأتى النبي صلى الله عليه و آله منزل زيد ، فخرجت إليه بنية لزيد ، فلمّا رأت رسول اللّه صلى الله عليه و آله

خمشت في وجهها ، فبكى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وقال : هاه هاه(1) ، فقيل : يا رسول اللّه ، ما هذا ؟ قال : شوق الحبيب إلى حبيبه(2) .

بكاء النبي صلى الله عليه و آله في موت سعد بن معاذ

ولمّا مات سعد بن معاذ - رضي اللّه عنه - بكى عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آلهكثيرا ، وقال صلى الله عليه و آله لأم سعد بن معاذ يوما : ألا يرقى دمعك ويذهب حزنك ، فإنّ ابنك اهتز له العرش(3) .قيل : وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله تذرف عيناه ، ويمسح وجهه ، ولا يسمع صوته(4) .

ص: 182


1- يحكي الراوي صوت بكاء النبي صلى الله عليه و آله .
2- الإخوان لابن أبي الدنيا : 152 رقم 88 ، الطبقات الكبرى : 3/47 ، تاريخ دمشق : 19/371 ، تاريخ الإسلام للذهبي : 2/496 .
3- مسند أحمد : 6/456 ، المستدرك على الصحيحين للحاكم : 3/206 ، مجمع الزوائد : 9/309 ، المصنف لابن أبي شيبة الكوفي : 7/534 ، كتاب السنة لابن أبي عاصم : 246 ، كتاب العرش لابن أبي شيبة الكوفي : 74 ، المعجم الكبير للطبراني : 6/12 ، كنز العمال : 11/687 ، الطبقات الكبرى : 4/434 ، سير أعلام النبلاء : 1/293 ، تاريخ الإسلام للذهبي : 2/327 ، سبل الهدى والرشاد : 12/66 .
4- سبل الهدى والرشاد : 8/356 .

بكاء النبي صلى الله عليه و آله عند قبر محفور

وعن البراء بن عازب قال : بينما نحن مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، إذ أبصر بجماعة ، فقال : على ما اجتمعوا هؤاء ؟

فقيل : على قبر يحفرونه .

قال : فبدر رسول اللّه صلى الله عليه و آله - وبين يديه أصحابه - مسرعا ، حتى انتهى(1) القبر ، فجثى عليه .

قال : فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع ، فبكى حتى بلّ الثرى(2) من دموعه ، ثم أقبل علينا ، فقال : إخواني لمثل هذا فأعدوا(3) .

وعنه صلى الله عليه و آله العبرة لا يملكها أحد ، صبابة المرء على أخيه(4) .

بكاء النبي صلى الله عليه و آله على عمّه حمزة عليه السلام

ولمّا انصرف النبي صلى الله عليه و آله من أحد إلى المدينة لقيته حمنة(5) بنت جحش ،فنعى لها الناس أخاها عبد اللّه بن جحش ، فاسترجعت واستغفرت له .

ثم نعي لها خالها حمزة(6) ، فاسترجعت واستغفرت له .

ص: 183


1- في نسخة : « أتى » .
2- في نسخة : « التراب » .
3- مسند أحمد : 4/294 ، سنن ابن ماجة : 2/1403 رقم 4195 ، المعجم الأوسط للطبراني : 3/92 ، تاريخ بغداد : 1/358 ، سبل الهدى والرشاد : 8/381 .
4- الجامع الكبير : 2/113 رقم 5135 ، الدر المنثور : 1/158 .
5- في نسخة : « جهينة » .
6- لا يوجد في بعض النسخ : « حمزة » .

ثم نعي لها زوجها مصعب بن عمير ، فصاحت وولولت(1) .

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : إنّ لزوج المرأة منها لبمكان(2) ، لمّا رأى صبرها عن أخيها وخالها ، وصياحها على زوجها .

ثم مرّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله على دار من دور الأنصار من بني عبد الأشهل ، فسمع البكاء والنوائح على قتلاهم ، فذرفت عيناه وبكى ، ثم قال : لكن حمزة لا بواكي له .

فلمّا رجع سعد بن معاذ وأسيد بن حضير(3) إلى دار بني عبد الأشهل أمر نساءهم يذهبن فيبكين على عمّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

فلمّا سمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله بكاءهن على حمزة خرج إليهن ، وهن على باب مسجده يبكين ، فقال لهن رسول اللّه صلى الله عليه و آله : ارجعن يرحمكن اللّه ، قد واسيتن بأنفسكن(4) .

إبراهيم عليه السلام يسأل ربّه ابنة تبكي عليه بعد الموت

وروى الشيخ في التهذيب بإسناده إلى الصادق عليه السلام : إنّ إبراهيم خليل الرحمن سأل ربّه أن يرزقه ابنة تبكيه(5) بعد موته(6) .

ص: 184


1- في نسخة : « وتأوهت » .
2- في نسخة : « لمكان » .
3- في نسخة : « حصين » .
4- تاريخ الطبري : 2/210 ، الكامل في التاريخ : 2/163 ، البداية والنهاية : 4/53 ، السيرة النبوية لابن هشام : 3/613 ، السيرة النبوية لابن كثير : 3/93 .
5- في نسخة : « تبكي عليه بعد الموت » .
6- تهذيب الأحكام للطوسي : 1/465 ح1524 .

فصل 1 : النهي عن الجزع عند المصيبة

عن ابن مسعود قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : ليس منّا من ضرب الخدود ، وشقّ الجيوب(1) .

وعن أبي أمامة : إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال : لعن اللّه الخامشة وجهها ، والشاقّة جيبها ، والداعية بالويل والثبور(2) .

وعنه صلى الله عليه و آله أنّه نهى أن تتبع جنازة معها رانّة(3)(4) .

وعن عمر بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال : كبر مقتا عند اللّه ، الأكل من غير جوع ، والنوم من غير سهر ، والضحك من غير عجب ، والرنّة عند المصيبة ، والمزمار عند النعمة(5) .

ص: 185


1- المحلى لابن حزم : 5/147 ، تلخيص التحبير لابن حجر : 5/261 ، ابن حبان : 7/419 ، مسند أحمد : 1/386 ، البخاري : 2/104 ، مسلم : 1/99 رقم 165 ، سنن ابن ماجة : 1/504 رقم 1584 ، سنن النسائي : 4/20 .
2- سنن ابن ماجة : 1/505 قم 1585 ، الجامع الصغير : 2/405 رقم 7252 .
3- سنن ابن ماجة : 1/504 رقم 1583 .
4- في نسخة : « رنّة » .
5- الجامع الصغير : 2/268 رقم 6216 .

وعن يحيى بن خالد : إنّ رجلاً أتى النبي صلى الله عليه و آله ، فقال : ما يحبط الأجر في المصيبة ؟

فقال : تصفيق الرجل بيمينه على شماله ، والصبر عند الصدمة الأولى ، من رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط(1) .

وعن أم سلمة - رضي اللّه عنها - قالت : لمّا مات أبو سلمة - رضي اللّه عنه - قلت : غريب وفي أرض غريبة ، لأبكين عليه(2) بكاءا يتحدّث عنه .

فكنت قد تهيأت للبكاء ، إذ أقبلت امرأة تريد أن تسعدني ، فاستقبلها رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال : أتريدين أن تدخلي الشيطان بيتا قد أخرجه اللّه منه ، فكففت عن البكاء(3)(4) .

ص: 186


1- مرّ تخريجه في الباب الثاني .
2- في نسخة : « لأبكينه » .
3- مسلم : 2/635 رقم 922 .
4- لقد بكت الرباب عليهاالسلام زوجة سيد الشهداء الحسين عليه السلام على الحسين عليه السلام حولاً كاملاً ، وكانت بمرأى ومسمع من إمام زمانها المعصوم زين العابدين عليه السلام ، ولم يمنعها عن ذلك ، بل زاد عليها أن بكى على مصاب الحسين والمستشهدين معه - صلوات اللّه عليهم - أربعين سنة ، كما قرأت في هذا الكتاب عن اللهوف للسيد ابن طاووس رحمه الله . قال ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق : 69/119 : وهي التي يقول فيها الحسين عليه السلام : لعمرك إنّني لأحبّ دارا تحلّ بها سكينة والربابأحبّهما وأبذل بعد مالي وليس للائمي فيها عتابولست لهم وإن عتبوا مطيعا حياتي أو يغيبني التراب وهي التي أقامت على قبر الحسين عليه السلام حولاً ، ثم قالت : إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر وفي أعيان الشيعة : 1/622 : ورثته زوجته الرباب بنت امرئ القيس بن عدي فقالت : إنّ الذي كان نورا يستضاء به بكربلاء قتيل غير مدفونقد كنت لي جبلاً صلدا ألوذ به وكنت تصحبنا بالرحم والدينفمن يجيب نداء المستغيث ومن يغني ويؤي إليه كلّ مسكينتاللّه لا ابتغي صهرا بصهركم حتى أوسّد بين اللحد والطين وقالت الرباب أيضا ، وهي بالشام بعد ما أخذت الرأس الشريف وقبّلته ووضعته في حجرها : وا حسينا فلا نسيت حسينا أقصدته أسنة الأعداءغادروه بكربلاء صريعا لا سقى اللّه جانبي كربلاء

وعن الباقر عليه السلام أشدّ الجزع الصراخ بالويل والعويل ، ولطم الوجه والصدر ، وجزّ الشعر ، ومن أقام النواح(1) فقد ترك الصبر ، ومن صبر واسترجع وحمد اللّه - جلّ ذكره - فقد رضي بما صنع اللّه ، ووقع أجره على اللّه - عزّ وجلّ - ، ومن لم يفعل ذلك جرى عليه القضاء وهو ذميم وأحبط اللّه - عزّ وجلّ - أجره(2) .

وعن الصادق عليه السلام قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : ضرب الرجل يده على فخذه إحباط لأجره(3) .

ص: 187


1- في نسخة : « النواحة » .
2- الكافي : 3/222 ح1 .
3- الكافي : 3/224 ح4 .

فصل 2 : استحباب الاسترجاع عند المصيبة

ويستحب الاسترجاع عند المصيبة ، قال اللّه - تعالى - : « الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ »(1) .

وقال النبي صلى الله عليه و آله : أربع من كنّ فيه كان في(2) نور اللّه الأعظم :

من كان عصمة أمره شهادة أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّي رسول اللّه .

ومن إذا أصابته مصيبة قال : إنّا للّه وإنّا إليه راجعون .

ومن إذا أصاب خيرا قال : الحمد للّه (3) .

ومن إذا أصاب خطيئة قال : أستغفر اللّه ربّي وأتوب إليه(4) .

وقال الباقر عليه السلام : ما من مؤن يصاب بمصيبة في الدنيا ، فيسترجع عندالمصيبة(5) ويصبر حين(6) تفجأه المصيبة ، إلاّ غفر اللّه له ما مضى منذنوبه ، إلاّ الكبائر التي أوجب اللّه - تعالى - عليها النار .

ص: 188


1- البقرة : 156 - 157 .
2- في نسخة : « فيه » .
3- في نسخة : « الحمد للّه ربّ العالمين » .
4- فقيه من لا يحضره الفقيه : 1/111 ح514 ، الخصال : 222 ح49 .
5- في الفقيه : « مصيبته » .
6- في نسخة : « حتى » .

وكلّما ذكر مصيبة فيما يستقبل من عمره ، فاسترجع عندها ، وحمد اللّه - عزّ وجلّ - إلاّ غفر اللّه له كلّ ذنب اكتسبه فيما بين الاسترجاع الأول إلى الاسترجاع الأخير ، إلاّ الكبائر من الذنوب(1) .

رواهما الصدوق وأسند الكليني(2) الثاني إلى معروف بن خربوذ عن الباقر عليه السلام ، ولم يستثن منه الكبائر .

وروى الكليني بإسناده إلى داود بن زربي - بكسر الزاء المعجمة ، ثم الراء الساكنة - عن الصادق عليه السلام : من ذكر مصيبة(3) ، ولو بعد حين ، فقال : إنّا للّه وإنّا إليه راجعون ، الحمد للّه ربّ العالمين ، اللّهم أجرني على مصيبتي ، واخلف عليّ أفضل منها ، كان له من الأجر مثل ما كان عند أول الصدمة(4) .

وروى مسلم عن أم سلمة - رضي اللّه عنها - قالت : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : ما من مسلم تصيبه مصيبة ، فيقول ما أمره اللّه به : إنّا للّه وإنّا إليه راجعون ، اللّهم أجرني في مصيبتي ، واخلف لي خيرا منها ، إلاّ خلف اللّه له خيرا منها .فلمّا مات أبو سلمة قلت : أيّ المسلمين خير من أبي سلمة ؟ أول بيت هاجر إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ثم إنّي قلتها ، فأخلف اللّه لي رسول اللّه (5) صلى الله عليه و آله .

ص: 189


1- فقيه من لا يحضره الفقيه : 1/111 ح515 .
2- الكافي : 3/224 ح5 .
3- في نسخة : « مصيبته » .
4- الكافي : 3/224 ح6 .
5- مسلم : 2/631 رقم 918 .

وروى الترمذي بإسناده إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال : إذا مات ولد العبد قال اللّه - تعالى - لملائكته : أقبضتم(1) ولد عبدي ؟

فيقولون : نعم .

فيقول : قبضتم ثمرة فؤده ؟

فيقولون : نعم .

فيقول : ماذا قال عبدي ؟

فيقولون : حمد اللّه (2) واسترجع .

فيقول اللّه - تعالى - : ابنوا لعبدي بيتا في الجنة ، وسمّوه « بيت الحمد »(3) .

ونحوه رواه الكليني عن الصادق عليه السلام عن النبي(4) صلى الله عليه و آله .

ص: 190


1- في نسخة : « قبضتم » .
2- في نسخة : « حمدك » .
3- سنن الترمذي : 2/243 رقم 1026 .
4- الكافي : 3/218 ح4 .

فصل 3 : جواز النوح بالكلام الحسن وإعتماد الصدق

اشارة

يجوز النوح بالكلام الحسن ، وتعداد الفضائل مع اعتماد الصدق ، لأنّ فاطمة الزهراء عليهاالسلام فعلته في قولها : يا أبتاه ، من ربّه ما أدناه ، يا أبتاه ، إلى جبرئيل أنعاه ، يا أبتاه ، أجاب ربّا دعاه(1) .

وروي أنّها أخذت قبضة من تراب قبره صلى الله عليه و آله ، فوضعتها على عينيها ، وأنشدت تقول :

ماذا على من شمّ تربة أحمد

أن لا يشمّ مدى الزمان غواليا

صبّت عليّ مصائب لو أنّها

صبّت على الأيام صرن لياليا(2)

ولما سبق من أمره صلى الله عليه و آله بالنوح على حمزة(3) .

ص: 191


1- ذكرى الشيعة : 72 ، اعلام الورى : 1/143 ، منتهى المطلب : 1/466 ، البخاري : 6/18 ، المستدرك على الصحيحين للحاكم : 1/382 ، سنن النسائي : 4/13 ، سنن ابن ماجة : 1/522 رقم 30 ، السنن الكبرى للبيهقى : 4/71 .
2- ذكرى الشيعة : 72 ، المعتبر : 1/344 ، منتهى المطلب : 1/466 ، مغني المحتاج : 1/356 ، الشرح الكبير لابن قدامة : 2/430 ، روضة الواعظين : 75 ، نظم درر السمطين : 181 ، الفصول المهمة لابن الصباغ : 672 ، سبل الهدى والرشاد : 12/337 .
3- مرّ قوله صلى الله عليه و آله : « لكن عمّي حمزة لا بواكي له » .

وعن أبي حمزة عن الباقر عليه السلام: مات المغيرة، فسألت أم سلمة النبي صلى الله عليه و آلهأن يأذن لها بالمضي(1) إلى مناحته، فأذن لها، وكان ابن عمّها، فقالت شعرا:

أنعى الوليد بن الوليد

أبا الوليد فتى العشيره

حامي الحقيقة ماجدا

يسموا إلى طلب الوتيره

قد كان غيثا للسنين

وجعفرا(2) غدقا وميره

وفي تمام الحديث : فما عاب رسول اللّه (3) صلى الله عليه و آله ذلك ، ولا قال شيئا(4) .

وروى ابن بابويه : إنّ الباقر عليه السلام أوصى أن يندب في الموسم(5) عشر سنين(6) .

وروى يونس بن يعقوب عن الصادق عليه السلام قال : قال لي أبو جعفر عليه السلام: قف من مالي كذا وكذا للنوادب يندبني عشر سنين بمنى ، أيام منى(7) .

قال الأصحاب : والمراد بذلك تنبيه الناس على فضائله وإظهارها ليقتدى بها ، ويعلم ما كان عليه أهل هذا البيت عليهم السلام ، ليقتفى آثارهملزوال التقية بعد الموت(8) .

ص: 192


1- في نسخة : « في المضي » . 2 الجعفر : النهر .
2-
3- في نسخة : « عاب عليها النبي صلى الله عليه و آله » .
4- الكافي : 5/117 ح2 ، تهذيب الأحكام للطوسي : 6/358 رقم 1027 .
5- في الفقيه : « المواسم » .
6- فقيه من لا يحضره الفقيه : 1/116 رقم 547 .
7- الكافي : 5/117 ح1 ، تهذيب الأحكام للطوسي : 6/358 ح1025 .
8- التعليل المذكور ليس منصوصا ، بل هو فهم الشهيد رحمه الله ، وليس بالضرورة أن يكون الاقتداء والاقتفاء هو العلّة التامة في أمر الإمام عليه السلام ، وظاهر الحديث ، بل صريحه أنّ الندبة بما هي ندبة مطلوبة ، ومأمور بها ، فربما كانت العلّة التي ذكرها الشهيد رحمه اللهمقصودة في الحديث ، وقد تكون هناك علّة أخرى ، واللّه العالم .

حرمة النوح بالباطل

ويحرم النوح بالباطل ، وهو تعداد ما ليس فيه من الخصال ، وإسماع(1) الأجانب من الرجال ، ولطم الخدود ، والخدش ، وجزّ الشعر ، ونحوه .

وعليه يحمل ما ورد من النهي عن النياحة .

وقال النبي صلى الله عليه و آله : أنا بريء ممّن حلق وصلق ، أي حلق الشعر ، ورفع صوته(2) .

وقال صلى الله عليه و آله لفاطمة عليهاالسلام حين قتل جعفر بن أبي طالب : لا تدعين بويل ، ولا ثكل ، ولا حرب ، وما قلت فيه فقد صدقت(3) .

وعن أبي مالك الأشعري عن النبي صلى الله عليه و آله : النائحة إذا لم تتب تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران(4) .

وعن أبي سعيد الخدري : لعن رسول اللّه صلى الله عليه و آله النائحة والمستمعة(5) .وعنه صلى الله عليه و آله : ليس منّا من ضرب الخدود وشقّ الجيوب(6) .

وهذا النهي محمول على الباطل ، كما يظهر منها ، وبه يجمع بينها وبين الأخبار السابقة .

ص: 193


1- في نسخة : « واستماع » .
2- مسلم : 1/100 ، سنن النسائي : 4/20 ، سنن ابن ماجة : 1/505 ، الجامع الصغير : 1/415 رقم 2709 .
3- فقيه من لا يحضره الفقيه : 1/112 ح521 .
4- الخصال : 226 ، مسند أحمد : 5/342 ، مسلم : 2/644 رقم 934 ، سنن ابن ماجة : 1/504 رقم 1582 ، المستدرك على الصحيحين للحاكم : 1/383 .
5- مسند أحمد : 3/65 ، سنن أبي داود : 3/194 رقم 3128 ، الجامع الصغير : 2/408 رقم 7271 .
6- سنن ابن ماجة : 1/504 رقم 1584 .

ص: 194

وأمّا :

الخاتمة

اشارة

فتشتمل على فوائد مهمة :

استحباب تعزية أهل الميت

يستحب تعزية أهل الميت استحبابا مؤدا ، وهي « تفعله » من العزاء ، بالمدّ والقصر ، وهو السلو ، وحسن الصبر على المصائب ، يقال : عزّيته فتعزّى ، أي صبّرته فتصبّر .

والمراد بها طلب التسلّي عن المصائب ، والتصبّر عن الحزن والاكتئاب بإسناد الأمر إلى اللّه - عزّ وجلّ - ، ونسبته إلى عدله وحكمته ، وذكر ما وعد اللّه - تعالى - على الصبر ، مع الدعاء للميت والمصاب بتسليته عن مصيبته .

وقد ورد في استحبابها والحثّ عليها أحاديث كثيرة .

وروى عمر بن شعيب عن أبيه عن جدّه : أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال : أتدرون ما حقّ الجار ؟

ص: 195

قالوا : لا(1) .

قال : إن استغاثك أغثته ، وإن استقرضك أقرضته ، وإن افتقر عدت عليه ، وإن أصابته مصيبة عزّيته ، وإن أصابه خير هنأته ، وإن مرض عدته ، وإن مات تبعت جنازته ، ولا تستطيل عليه بالبناء ، فتحجب الريح عنه إلاّ بإذنه ، وإذا اشتريت فاكهة فأهد له ، فإن لم تفعل فادخلها سرّا ، ولا تخرج بها ولدك تغيظ بها ولده ، ولا تؤه بريح قدرك ، إلاّ أن تغرف له منها(2) .

وعن بهز بن حكيم بن معاوية بن جيدة القشيري عن أبيه عن جدّه قال : قلت : يا رسول اللّه ، ما حقّ جاري عليّ ؟

قال : إن مرض عدته . . وذكر نحو الأول(3) .

ثواب التعزية

وأمّا الثواب فيها ، فعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و آله قال : من عزّىمصابا فله مثل أجره(4) .

ص: 196


1- لا يوجد في بعض النسخ : « قالوا : لا » .
2- الكامل لابن عدي : 5/171 ، تفسير الثعلبي : 3/305 ، كنز العمال : 9/185 ، مسند الشاميين للطبراني : 3/339 ، فتح الباري : 10/373 .
3- الترغيب والترهيب : 3/357 .
4- سنن ابن ماجة : 1/511 رقم 1602 ، سنن الترمذي : 2/268 رقم 1079 ، السنن الكبرى للبيهقي : 4/59 ، مسند الشهاب لابن سلامة : 1/239 ، الأذكار النووية : 148 ، الجامع الصغير : 2/623 .

وعن جابر بن عبد اللّه - رضي اللّه عنه - قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : من عزّى مصابا كان له مثل أجره(1) ، من غير أن ينقصه اللّه من أجره

شيئا(2) ، ومن كفّن مسلما كساه اللّه من سندس وإستبرق وحرير(3) ، ومن حفر قبرا لمسلم بني له بيتا في الجنة(4) ، ومن أنظر معسرا أظلّه اللّه في ظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه(5) .

وعن جابر أيضا رفعه : من عزّى حزينا ألبسه اللّه - عزّ وجلّ - من لباس التقوى ، وصلّى على روحه في الأرواح(6) .

وسئل النبي صلى الله عليه و آله عن التصافح في التعزية ، فقال : هو سكن للمؤن ، ومن عزّى مصابا فله مثل أجره(7) .

ص: 197


1- الكامل لابن عدي : 6/99 .
2- الكافي : 3/227 ح4 « عن الصادق عليه السلام » .
3- روضة الواعظين : 2/372 .
4- في ثواب الأعمال للصدوق : 292 في حديث طويل : ومن احتفر لمسلم قبرا محتسبا حرّمه اللّه - تعالى - على النار ، وبوأه بيتا في الجنة ، وأورده حوضا فيه من الأباريق عدد النجوم ، عرضه ما بين أيلة وصنعاء ، ومن غسل ميتا فأدى فيه الأمانة كان له بكلّ شعرة عتق رقبة . .
5- الكافي : 8/9 « في حديث » .
6- كنز العمال : 15/66 ، الجامع الكبير : 1/801 ، وفي الدر المنثور : 5/307 نحوه . وفي الكافي : 3/205 ح1 ، من لا يحضره الفقيه : 1/173 ، ثواب الأعمال : 198 ، جامع الأخبار : 164 ، مشكاة الأنوار : 279 : عَنِ السَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه عليه السلامعَنْ آبَائِهِ عليهم السلام قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله : مَنْ عَزَّى حَزِيناً كُسِيَ فِي الْمَوْقِفِ حُلَّةً يُحَبَّرُ بِهَا .
7- تاريخ جرجان للسهمي : 277 رقم 466 .

وعن عبد اللّه بن أبي بكر بن محمد بن عمر بن حزم عن أبيه عن جدّه : أنّه سمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله وهو يقول : من عاد مريضا ، فلا يزال في الرحمة ، حتى إذا قعد عنده استنقع فيها ، ثم إذا قام من عنده ، فلا يزال يخوض فيها حتى يرجع من حيث خرج ، ومن عزّى أخاه المؤن من مصيبته كساهاللّه - عزّ وجلّ - من حلل الكرامة يوم القيامة(1) .

وعن أبي برزة(2) قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : من عزّى ثكلى كسي بردا في الجنة(3) .

وعن أنس قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : من عزّى أخاه المؤن من مصيبة كساه اللّه - تعالى - حلّة خضراء يحبر بها يوم القيامة .

فقيل : يا رسول اللّه ، ما يحبر بها يوم القيامة ؟

قال : يغبط بها(4) .

وروي أنّ داود عليه السلام قال : إلهي ما جزاء من يعزّي الحزين والمصاب ابتغاء مرضاتك ؟

ص: 198


1- السنن الكبرى للبيهقي : 4/59 ، المعجم الأوسط للطبراني : 5/273 ، كنز العمال : 9/101 رقم 25180 ، تاريخ دمشق : 55/5 ، تهذيب الكمال للمزي : 24/90 .
2- في نسخة : « بردة » .
3- المعتبر للحلي : 1/343 ، تذكرة الفقهاء للحلي : 2/126 ، منتهى المطلب : 1/465 ، المجموع للنووي : 5/305 ، المغني لابن قدامة : 2/409 ، تلخيص الحبير : 5/252 ، الأذكار النووية : 148 ، الجامع الصغير : 2/623 ، كنز العمال : 15/658 رقم 42609 ، تفسير الثعالبي : 1/342 ، سنن الترمذي : 2/269 رقم 1082 .
4- كنز العمال : 15/662 رقم 42624 ، تاريخ بغداد : 7/408 رقم 3935 ، تاريخ دمشق : 52/218 ، الجامع الكبير : 1/801 .

قال : جزاؤ أن أكسوه رداء من أردية الإيمان ، أستره به من النار ، وأدخله به الجنة .قال : يا إلهي ، فما جزاء من شيّع الجنائز ابتغاء مرضاتك ؟

قال : جزاؤ أن تشيّعه الملائكة يوم يموت إلى قبره ، وأن أصلّي على روحه في الأرواح(1) .وروي أنّ موسى عليه السلام سأل : ما لعائد المريض من الأجر ؟

قال : أبعث له عند موته الملائكة(2) يشيّعونه إلى قبره ، ويؤسونه إلى المحشر .

قال : يا ربّ ، فما لمعزّي الثكلى من الأجر ؟

قال : أظلّه تحت ظلّي ، أي ظلّ العرش يوم لا ظلّ إلاّ ظلّي(3) .

وروي أنّ إبراهيم عليه السلام سأل ربّه قال : يا ربّ(4) ، ما جزاء من يبلّ الدمع(5) وجهه من خشيتك ؟

قال : صلواتي ورضواني .

قال : فما جزاء من يصبّر الحزين ابتغاء وجهك ؟

قال : أكسوه ثوبا من الإيمان يتبوأ بها في الجنة ، ويتّقى بها من(6) النار .

ص: 199


1- الدر المنثور : 5/308 ، منتخب كنز العمال : 6/355 .
2- في نسخة : « ملائكة » .
3- ثواب الأعمال للصدوق : 194 ، اعلام الدين للديلمي : 398 .
4- في نسخة : « أي يا ربّ » .
5- في نسخة : « سال الدمع عن » .
6- في نسخة : « بها النار » .

قال : فما جزاء من سدّد الأرملة ابتغاء وجهك ؟

قال : أقيمه في ظلّي ، وأدخله جنتي .

قال : فما جزاء من يتبع الجنازة ابتغاء وجهك ؟قال : تصلّي ملائكتي على جسده ، وتشيّع روحه(1) .

ص: 200


1- كتاب الدعاء للطبراني : 370 رقم 1227 ، المصنف للصنعاني : 3/395 .

فصل 1 : كيفية التعزية وما يقال فيها

اشارة

وأمّا كيفيتها ، فقد تقدّم خبر المصافحة فيها .

وأمّا ما يقال فيها ، فما يتفّق من الكلمات ، ويروى من الأخبار المؤية إلى السلوة ، ولا شيء مثل إيراد بعض ما تضمنه هذه الرسالة ، فإنّ فيها شفاء لما في الصدور ، وبلاغا وافيا في تحقيق هذه الأمور .

قول النبي صلى الله عليه و آله إذا عزّى

وعن علي عليه السلام قال : كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله إذا عزّى قال : آجركم اللّه ورحمكم ، وإذا هنّأ قال : بارك اللّه لكم وبارك عليكم(1)(2) .

ص: 201


1- ذكر أخبار إصبهان : 1/87 .
2- عزّى اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله سيد الشهداء الحسين عليه السلام في طف كربلاء وسلاّه في عدّة مواطن منها ما في تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي : 227 : . . فالتفت الحسين عليه السلام ، فإذا بطفل له يبكي عطشا ، فأخذه على يده وقال : يا قوم ، إن لم ترحموني فارحموا هذا الطفل ، فرماه رجل منهم بسهم ، فذبحه ، فجعل الحسين عليه السلامويقول : اللّهم احكم بيننا وبين قوم دعونا لينصرونا فقتلونا ، فنودي من الهواء : دعه يا حسين فإنّ له مرضعا في الجنة ، ورماه حصين بن تميم بسهم فوقع شفتيه ، فجعل الدم يسيل من شفتيه ، وهو يبكي ويقول : اللّهم إنّي أشكو اليك ما يفعل بي وبإخوتي وولدي وأهلي ، ثم اشتدّ به العطش . . . فخفق الحسين عليه السلام برأسه خفقة ، ثم انتبه وهو يقول : رأيت الساعة جدّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله وهو يقول : يا بني اصبر الساعة تأتي الينا . . . وفي المناقب : 2/349 : لمّا دُفن أمير المؤمنين عليه السلام سمع ناطق يقول : أحسن اللّه لكم العزاء في سيدكم وحجة اللّه على خلقه .

كتاب النبي صلى الله عليه و آله الى معاذ يعزّيه بولد له

وروي أنّه توفي لمعاذ ولد ، فاشتدّ وجده عليه ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و آله ، فكتب إليه : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، من محمد رسول اللّه إلى معاذ ، سلام عليك ، فإنّي أحمد اللّه الذي لا إله إلاّ هو ، أما بعد :

أعظم اللّه لك الأجر ، وألهمك الصبر ، ورزقنا وإياك الشكر ، فإنّ أنفسنا وأهلينا وموالينا(1) وأولادنا من مواهب اللّه - عزّ وجلّ - الهنيئة ، وعواريه المستودعة ، نمتّع بها إلى أجل معلوم ، وتقبض(2) لوقت معدود ، ثم افترض علينا الشكر إذا أعطانا ، والصبر إذا ما(3) ابتلانا .

وكان ابنك من مواهب اللّه الهنيئة ، وعواريه المستودعة ، متّعك اللّه به في غبطة وسرور ، وقبضه منك بأجر كثير ،...الصلاة والرحمة والهدى إن صبرت واحتسبت ، فلا تجمعنّ عليك مصيبتين فيحبط لك أجرك ، وتندم على ما فاتك .

فلو قدمت على ثواب مصيبتك علمت أنّ المصيبة قصرت في جنب اللّه

ص: 202


1- في نسخة : « وأهالينا وأموالنا » .
2- في نسخة : « ونفيض » .
3- لا يوجد في بعض النسخ : « ما » .

عن الثواب ، فتنجز من اللّه موعوده ، وليذهب أسفك على ما هو نازل بك ، فكأن قد(1) ، والسلام(2) .

ما قاله جبرئيل عليه السلام معزّيا أهل البيت عليهم السلام بالنبي صلى الله عليه و آله

وعن أبي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عن أبيه عن جدّه عليهم السلام قال : لمّا توفي رسول اللّه صلى الله عليه و آله جاء جبرئيل عليه السلام ، والنبي صلى الله عليه و آله مسجّى ، وفي البيت علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ، فقال : السلام عليكم يا أهل بيت النبوة(3) « كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ »(4)

الآية ، ألا إنّ في اللّه - عزّ وجلّ - عزاء من كلّ مصيبة ، وخلفا من كلّ هالك ، ودركا لما فات ، فباللّه - عزّ وجلّ - فثقوا ، وإياه فارجوا ، فإنّ المصاب من حرم الثواب ، هذا آخر وطئي في الدنيا(5) .

ما عزّت به الملائكة أهل البيت عليهم السلام في مصاب النبي صلى الله عليه و آله

وعن جابر بن عبد اللّه - رضي اللّه عنه - قال : لمّا توفي رسول اللّه صلى الله عليه و آله عزّتهم الملائكة ، يسمعون الحسّ ، ولا يرون الشخص ، فقالوا :

السلام عليكم أهل البيت ورحمة اللّه وبركاته ، إنّ في اللّه - عزّ وجلّ -

ص: 203


1- في نسخة : « فكان قدر قد نزل عليك » .
2- تحف العقول : 59 ، المستدرك على الصحيحين للحاكم : 3/273 ، مجمع الزوائد :3/3 ، المعجم الأوسط للطبراني : 1/33 ، المعجم الكبير : 20/156 ، كتاب الدعاء للطبراني : 365 ، كنز العمال : 15/661 ، تاريخ بغداد : 2/87 ، تاريخ دمشق : 58/448 .
3- في نسخة : « الرحمة » .
4- آل عمران : 185 .
5- تفسير العياشي : 1/210 ح167 ، الكافي : 3/221 ح5 .

عزاء من كلّ مصيبة ، وخلفا من كلّ هالك(1) ، فباللّه فثقوا ، وإياه فأرجوا ،فإنّما المحروم من حرم الثواب ، والسلام عليكم ورحمة اللّه بركاته(2) .

ما قاله الخضر عليه السلام في مصيبة النبي صلى الله عليه و آله

وروى البيهقي في الدلائل قال : لمّا قبض رسول اللّه صلى الله عليه و آله أحدق به أصحابه ، فبكوا حوله ، فاجتمعوا ، فدخل رجل أشهب اللحية ، جسيم صبيح الوجه ، فتخطّى رقابهم ، فبكى ، ثم التفت إلى أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال :

إنّ في اللّه عزاء من كلّ مصيبة ، وعوضا من كلّ فائت ، وخلفا من كلّ هالك ، فإلى اللّه فأنيبوا ، وإلى اللّه فارغبوا ، ونظره إليكم في البلاء فانظروا ، فإنّ المصاب من لم يؤر ، وانصرف .

فقال بعضهم لبعض : أتعرفون(3) الرجل ؟

فقال علي عليه السلام : نعم ، هذا أخو رسول اللّه

صلى الله عليه و آله الخضر عليه السلام(4)(5)(6) .

ص: 204


1- في نسخة : « فائت » .
2- الكافي : 2/222 ح6 ، المستدرك على الصحيحين للحاكم : 3/57 ، الهواتف لابنأبي الدنيا : 22 ، تفسير العياشي : 1/210 ، الإصابة : 2/266 .
3- في نسخة : « تعرفون » .
4- دلائل النبوة للبيهقي : 7/269 ، المستدرك على الصحيحين للحاكم : 3/58 .
5- وفي الكافي : 2/92 ح16 : عن يونس بن يعقوب قال : أمرني أبو عبد اللّه عليه السلام أن آتي المفضل وأعزّيه بإسماعيل ، وقال : اقرأ المفضل السلام وقل له : إنّا قد أصبنا بإسماعيل فصبرنا ، فاصبر كما صبرنا ، إنّا أردنا أمرا وأراد اللّه - عزّ وجلّ - أمرا ، فسلّمنا لأمر اللّه - عزّ وجلّ - .
6- في الأمالي للمفيد : 281 المجلس 33 : فلمّا حضرت الوفاة سيدة النساء وصّت أمير المؤنين عليه السلام أن يتولّى أمرها ويدفنها ليلاً ، ويعفي قبرها ، فتولّى ذلك أمير المؤنين عليه السلام ، ودفنها وعفى موضع قبرها ، فلمّا نفض يده من تراب القبر هاج به الحزن ، فأرسل دموعه على خديه ، وحوّل وجهه إلى قبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فقال : السلام عليك يا رسول اللّه منّي والسلام عليك من ابنتك وحبيبتك وقرّة عينك وزائرتك والبائتة في الثرى ببقعتك ، والمختار لها اللّه سرعة اللحاق بك ، قلّ - يا رسول اللّه - عن صفيتك صبري وضعف عن سيدة النساء تجلّدي ، إلاّ أنّ في التأسي لي بسنتك ، والحزن الذي حلّ بي بفراقك موضع التعزّي ، فلقد وسّدتك في ملحود قبرك بعد أن فاضت نفسك على صدري ، وغمضتك بيدي ، وتولّيت أمرك بنفسي ، نعم ، وفي كتاب اللّه أنعم القبول « إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ » لقد استرجعت الوديعة ، وأخذت الرهينة ، واختلست الزهراء ، فما أقبح الخضراء والغبراء يا رسول اللّه ، أمّا حزني فسرمد ، وأمّا ليلي فمسهد ، لا يبرح الحزن من قلبي أو يختار اللّه لي دارك التي أنت فيها مقيم ، كمد مقيح ، وهمّ مهيج ، سرعان ما فرّق بيننا ، وإلى اللّه أشكو ، وستنبئك ابنتك بتضافر أمّتك عليّ وعلى هضمها حقّها ، فاستخبرها الحال ، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثّه سبيلاً ، وستقول ويحكم اللّه ، وهو خير الحاكمين . سلام عليك يا رسول اللّه سلام مودّع لا سئم ولا قال ، فإن انصرف فلا عن ملالة ، وإن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد اللّه الصابرين ، والصبر أيمن وأجمل ، ولولا غلبة المستولين علينا لجعلت المقام عند قبرك لزاما ، وللبثت عنده معكوفا ، ولأعولت إعوال الثكلى على جليل الرزية ، فبعين اللّه تدفن ابنتك سرّا ، وتهتضم حقّها قهرا ، وتمنع إرثها جهرا ، ولم يطل العهد ، ولم يخل منك الذكر ، فإلى اللّه - يا رسول اللّه - المشتكى وفيك أجمل العزاء ، وصلوات اللّه عليك وعليها ورحمة اللّه وبركاته .

ص: 205

فصل 2 : تذكّر المصائب الأعظم يهون المصيبة

اشارة

وعن ابن عباس - رضي اللّه عنه - قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصيبته بي ، فإنّها أعظم(1) المصائب(2) .

وعنه صلى الله عليه و آله : من عظمت مصيبته، فليذكر مصيبته بي ، فإنّها ستهون عليه .

وعنه صلى الله عليه و آله أنّه قال في مرض موته : أيّها الناس ، أيّما عبد من أمّتي أصيب بمصيبة بعدي ، فليتعزّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري ، فإنّ أحدا من أمّتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشدّ عليه من مصيبتي(3) .

ص: 206


1- في نسخة : « من أعظم » .
2- الكامل لابن عدي : 5/174 ، الوافي بالوفيات : 15/44 ، سنن الدارمي : 1/40 ، مجمع الزوائد : 3/2 ، الجامع الصغير : 1/72 رقم 452 ، إمتاع الأسماع : 14/556 ، سبل الهدى والرشاد : 12/86 .
3- سنن ابن ماجة : 1/510 رقم 1599 ، كنز العمال : 15/658 رقم 12/426 ، البداية والنهاية : 5/297 ، السيرة النبوية لابن كثير : 4/549 ، سبل الهدى والرشاد : 12/273 .

وعن عبد اللّه بن الوليد بإسناده : لمّا أصيب علي عليه السلام بعثني الحسن إلىالحسين

عليهماالسلام ، وهو بالمدائن ، فلمّا قرأ الكتاب قال :

يا لها من مصيبة ما أعظمها ، مع أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال : من أصيب منكم بمصيبة فليذكر مصابي ، فإنّه لن يصاب بمصيبة أعظم منها(1) .

وروى إسحاق بن عمار عن الصادق عليه السلام أنّه قال : يا إسحاق ، لا تعدنّ

مصيبة أعطيت عليها الصبر ، واستوجبت عليها من اللّه - عزّ وجلّ - الثواب ، إنّما المصيبة التي يحرم صاحبها أجرها وثوابها إذا لم يصبر عند نزولها(2) .

وعن أبي ميسرة(3) قال : كنّا عند أبي عبد اللّه عليه السلام ، فجاء رجل واشتكى إليه مصيبته .

فقال له : أما إنّك إن تصبر تؤر ، وإلاّ تصبر يمضى عليك قدر اللّه - عزّ وجلّ - الذي قدر عليك وأنت مذموم(4) .

وعن جابر - رضي اللّه عنه - قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : قال لي جبرئيل عليه السلام : يا محمد صلى الله عليه و آله ، عش ما شئت فإنّك ميّت ، وأحبب من شئتفإنّك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنّك ملاقيه(5) .

ص: 207


1- مشكاة الأنوار : 279 ، الكافي : 3/220 ح3 .
2- الكافي : 3/224 ح7 ، كتاب التمحيص : 60 ح126 ، تحف العقول : 375 .
3- في الكافي : « الفضيل بن ميسر » .
4- الكافي : 3/225 ح10 ، مشكاة الأنوار : 485 .
5- الخصال للصدوق : 7 ح19 ، فقيه من لا يحضره الفقيه : 1/472 ح1360 ، روضة الواعظين : 321 ، كتاب الزهد : 79 ح214 ، مجمع الزوائد : 10/219 .

إمرأة تعظ فقيه عابدا عالما مجتهدا من بني إسرائيل

وروي أنّه كان في بني إسرائيل رجل فقيه عابد عالم مجتهد ، وكان لهامرأة ، وكان بها معجبا ، فماتت ، فوجد عليها وجدا شديدا حتى خلا في بيت ، وأغلق على نفسه ، واحتجب عن الناس ، فلم يكن يدخل عليه أحد .

ثم إنّ امرأة من بني إسرائيل سمعت به ، فجاءته فقالت : لي إليه حاجة أستفتيه فيها ، ليس يجزيني إلاّ أن أشافهه بها .

فذهب الناس ، ولزمت الباب ، فأخبر فأذن لها ، فقالت : أستفتيك في أمر .

فقال : ما هو ؟

فقالت : إنّي استعرت من جارة لي حليّا ، فكنت ألبسه زمانا ، ثم إنّهم أرسلوا إليّ فيه ، أفأردّه إليهم ؟

قال : نعم .

قالت : واللّه إنّه قد مكث عندي زمانا طويلاً .

قال : ذلك أحقّ لردّك إياه .

فقالت له : رحمك اللّه ، أفتأسف على ما أعارك اللّه - عزّ وجلّ - ثم أخذه منك ، وهو أحقّ به منك ، فأبصر ما كان فيه ، ونفعه اللّه به(1) .

ملكان يسليان سليمان في مصابه بولده

وعن أبي الدرداء قال : كان لسليمان بن داود عليهماالسلام ابن يحبّه حبّا

ص: 208


1- الموطأ : 1/237 ، الاستذكار لابن عبد البر : 3/82 .

شديدا ، فمات ، فحزن عليه حزنا شديدا ، فبعث اللّه - تعالى - إليه ملكين في هيئة البشر .فقال : ما أنتما ؟

قالا : خصمان .

قال : اجلسا بمنزلة الخصوم .

فقال أحدهما : إنّي زرعت زرعا ، فأتى هذا فأفسده .

فقال سليمان عليه السلام : ما تقول يا(1) هذا ؟

قال : أصلحك اللّه ، إنّه زرع في الطريق ، وإنّي مررت فنظرت يمينا وشمالاً ، فإذا الزرع ، فركبت قارعة الطريق ، وكان في ذلك فساد زرعه .

فقال سليمان عليه السلام : ما حملك على أن تزرع في الطريق ؟ أما علمت أنّ الطريق سبيل الناس ، ولابد للناس أن(2) يسلكوا سبيلهم ؟

فقال له أحد الملكين : أو ما علمت - أن يا سليمان - أنّ الموت سبيل الناس ، ولابد للناس أن(3) يسلكوا سبيلهم ؟

قال : فكأنّما كشف عن سليمان عليه السلام الغطاء ، ولم يجزع على ولده بعد

ذلك .

رواه ابن أبي الدنيا .

ص: 209


1- في نسخة : « ما يقول هذا » .
2- في نسخة : « من أن » .
3- في نسخة : « من أن » .

ملكان يعظان قاضيا من بني إسرائيل

وروي أيضا : أنّ قاضيا كان في بني إسرائيل مات له ابن ، فجزع عليهوصاح ، فلقيه رجلان ، فقالا له : اقض بيننا .

فقال : من هذا فررت .

فقال أحدهما : إنّ هذا مرّ بغنمه على زرعي فأفسده .

فقال الآخر : إنّ هذا زرع بين الجبل والنهر ، ولم يكن له طريق غيره .

فقال له القاضي : أنت حين زرعت بين الجبل والنهر ، ألم تعلم أنّه طريق الناس ؟

فقال له الرجل : فأنت حين ولد لك ، ألم تعلم أنّه يموت ؟ فارجع إلى قضائك ، ثم عرجا ، وكانا ملكين .

لو ترك أحد لأحد لترك الولد لأبويه المقعدين

وروي أنّه كان بمكة مقعدان ، كان لهما ابن شاب ، فكان إذا أصبح نقلهما ، فأتى بهما المسجد ، فكان يكتسب عليهما يومه ، فإذا كان المساء احتملهما ، وأقبل بهما منزله ، فافتقدهما النبي صلى الله عليه و آله ، فسأل عنه(1) ، فقيل : مات ابنهما ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : لو ترك أحد لأحد لترك ابن المقعدين(2) . رواه الطبراني .

ص: 210


1- في نسخة : « عنهما » .
2- مجمع الزوائد : 2/320 ، المعجم الأوسط للطبراني : 6/115 ، السنن الكبرى البيهقي : 4/66 .

وروى ابن أبي الدنيا : لو ترك شيء لحاجة أو فاقة لترك الهذيللأبويه(1) .

كلّ مصيبة تهون بتذكّر النار

وروي عن بعض العابدات أنّها قالت : ما أصابتني مصيبة ، فاذكر معها النار إلاّ صارت في عيني أصغر من التراب .

ص: 211


1- الإعتبار لابن أبي الدنيا : 63 .

فصل 3 : المصائب والبلايا تخصّ من يقبل اللّه عليه

اشارة

ليذكر من أصيب بمصيبة أنّ المصائب والبلايا إنّما تخصّ في الأغلب من اللّه - تعالى - من به مزيد عنايته ، وله عليه إقبال ، وإليه توجه .

وليتحقّق ذلك قبل النظر في الكتاب والسنة ، فيمن يبتلى في دار الدنيا ، فإنّه يجد أشدّ الناس بلاءا أهل الخير والصلاح بعد الأنبياء والرسل .

والآيات الكريمة منبئة على ذلك :

قال اللّه - تعالى - : « وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ »(1) الآية .

وقال اللّه - تعالى - : « وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأِنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ »(2) .

وقال اللّه - تعالى - : « وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا » « قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا »(3) .

ص: 212


1- الزخرف : 33 .
2- آل عمران : 178 .
3- مريم : 73 و75 .

وروى عبد الرحمن بن الحجاج قال : ذكر عند أبي عبد اللّه عليه السلامالبلاء ، وما يختصّ اللّه - عزّ وجلّ - به المؤنين .

فقال : سئل رسول اللّه صلى الله عليه و آله : من أشدّ الناس بلاء في الدنيا ؟

فقال : النبيون ، ثم الأمثل فالأمثل ، ويبتلى المؤن بعد ذلك على قدر إيمانه وحسن أعماله ، فمن صحّ إيمانه وحسن عمله اشتدّ بلاؤ ، ومن سخف إيمانه وضعف عمله قلّ بلاؤ(1) .

وروى زيد الشحام عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : إنّ عظيم الأجر مع عظيم البلاء ، وما أحبّ اللّه - عزّ وجلّ - قوما إلاّ ابتلاهم(2) .

وعن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : إنّ للّه - عزّ وجلّ - عبادا في الأرض من خالص عباده ، ما تنزل من السماء تحفة إلى الأرض إلاّ صرفها عنهم إلى غيرهم ، ولا بلية إلاّ صرفها إليهم(3) .

وعن الحسين(4) بن علوان عنه عليه السلام أنّه قال : إنّ اللّه - تعالى - إذا أحبّعبدا غتّه(5) بالبلاء غتا ، وسجّه بالبلاء سجّا(6) ، وإنّا وإياكم لنصبح به ونمسي(7) .

ص: 213


1- الكافي : 2/196 ح2 ، كتاب التمحيص : 39 ح39 ، تحف العقول : 39 .
2- الكافي : 2/196 ح3 ، كتاب التمحيص : 31 ح6 .
3- الكافي : 2/253 ح5 ، مجموعة ورام : 2/204 ، التمحيص : 35 ح26 ، مشكاة الأنوار : 513 .
4- في نسخة : « الحسن » .
5- الغتّ : الغمس المتتابع بالماء .
6- لا يوجد في بعض النسخ : « وسجّه بالبلاء سجّا » .
7- الكافي : 2/197 ح6 .

وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : إنّ اللّه - تعالى - إذا أحبّ عبدا غتّه بالبلاء غتّا ، وسجّه بالبلاء سجّا ، فإذا دعاه قال : لبيك عبدي ، لئنعجّلت لك ما سألت إنّي على ذلك لقادر ، ولكن ادخرت لك خيرا لك(1) .

وعن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : إنّ عظيم البلاء يكافأ به عظيم الجزاء ، فإذا أحبّ اللّه عبدا ابتلاه بعظيم البلاء ، فمن رضي فله عند اللّه - تعالى - الرضا ، ومن سخط البلاء فله عند اللّه السخط(2) .

وعن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال : إنّما يبتلى المؤن في الدنيا على قدر دينه ، أو قال : على حسب دينه(3) .

وعن ناجية قال : قلت لأبي جعفر عليه السلام : إنّ المغيرة يقول : إنّ اللّه لا يبتلي المؤن بالجذام ولا بالبرص ولا بكذا ولا بكذا ! فقال : إن كان لغافلاً عن مؤن آل يس ، إنّه كان(4) مكنعا(5) ، ثم ردّ أصابعه ، فقال : كأنّي أنظر إلى تكنيعه ، أتاهم فأنذرهم ، ثم عاد إليهم من الغد ، فقتلوه .

ثم قال : إنّ المؤن يبتلى بكلّ بلية ، ويموت بكلّ ميتة ، إلاّ أنّه لا يقتل نفسه(6) .وعن عبد اللّه بن أبي يعفور قال : شكوت إلى أبي عبد اللّه عليه السلام ما ألقى من الأوجاع ، وكان مسقاما .

ص: 214


1- الكافي : 2/197 ح7 ، كتاب التمحيص : 34 ح25 .
2- الكافي : 2/197 ح8 ، كتاب التمحيص : 33 ح20 .
3- الكافي : 2/197 ح9 ، مشكاة الأنوار : 298 .
4- في نسخة : « وكان » .
5- المكنع : مقفع اليد أو الأصابع ، يابسها ، مقتضبها .
6- الكافي : 2/197 ح12 ، مجموعة ورام : 2/204 .

فقال لي : يا عبد اللّه ، لو يعلم المؤن ما له من الأجر في المصائب(1) لتمنّى أن يقرض بالمقاريض طول عمره(2) .وعن أبي عبد اللّه عليه السلام : إنّ أهل الحقّ(3) لم يزالوا في شدّة ، أما إنّ ذلك

إلى مدّة قليلة ، وعافية طويلة(4) .

وعن حمدان عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال : إنّ اللّه - عزّ

وجلّ - ليتعاهد المؤن بالبلاء ، كما يتعاهد الرجل أهله بالهدية(5) ، ويحميه الدنيا ، كما

يحمي الطبيب المريض(6) .

وعن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : دعي النبي صلى الله عليه و آله إلى طعام ، فلمّا دخل إلى منزل الرجل نظر إلى دجاجة فوق حائط قد باضت ، فتقع البيضة على وتد في حائط ، فتثبت عليه ، ولم تنكسر .

فتعجب النبي صلى الله عليه و آله منها ، فقال له الرجل : أعجبت من هذه البيضة ، فو الذي بعثك بالحقّ ، ما رزيت شيئا قطّ .

فنهض النبي صلى الله عليه و آله ولم يأكل من طعامه شيئا ، وقال : من لم يرزأ ، فما للّه فيه من حاجة(7) .

وأشباه هذه الأخبار كثيرة فلنقتصر على هذا القدر .

ص: 215


1- في نسخة : « ما له ن المصائب » .
2- الكافي : 2/198 ح15 ، مجموعة ورام : 2/204 ، كتاب المؤمن : 15 ح3 ، كتاب التمحيص : 32 ح13 .
3- في نسخة : « اللّه » .
4- الكافي : 2/198 ح16 .
5- في نسخة : « بالهدية من الغيبة » .
6- الكافي : 2/198 ح17 ، مجموعة ورام : 2/204 ، كتاب التمحيص : 50 ح91 .
7- الكافي : 2/198 ح20 .

رسالة مولانا الصادق عليه السلام لجماعة من بني عمّه يعزّيهم بها

ونختم الرسالة بكتاب شريف كتبه سيدنا ومولانا أبو عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليهماالسلام لجماعة من بني عمّه حين أصابتهم شدّة من بعضالأعداء على وجه التعزية .

رويناها بإسنادنا إلى الشيخ أبي جعفر الطوسي - قدس اللّه روحه - عن الشيخ المفيد محمد بن النعمان والحسين بن عبد اللّه الغضائري عن الصدوق أبي جعفر محمد بن علي بن بابويه عن محمد بن الحسن بن الوليد عن محمد بن الحسن الصفار عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن الثّقة الجليل محمد بن أبي عمير عن إسحاق بن عمار قال :

إنّ أبا عبد اللّه جعفر بن محمد عليهماالسلام كتب إلى عبد اللّه بن الحسن - حين حمل هو وأهل بيته - يعزّيه عمّا صار إليه :

بسم اللّه الرحمن الرحيم

إلى الخلف الصالح ، والذرية الطيبة من ولد أخيه وابن عمّه ، أمّا بعد :

فإن كنت قد تفرّدت أنت وأهل بيتك ممّن حمل معك بما أصابكم ، فما انفردت بالحزن والغيظ والكئابة وأليم وجع القلب دوني ، ولقد نالني من ذلك من الجزع والقلق ، وحرّ المصيبة مثل ما نالك .

ولكن رجعت إلى ما أمر اللّه - عزّ وجلّ - ، وعزّى به المتّقين من الصبر وحسن العزاء ، حين يقول لنبيه صلى الله عليه و آله : « وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا »(1) .

ص: 216


1- الطور : 48 .

وحين يقول : « فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ »(1) .

وحين يقول لنبيه صلى الله عليه و آلهحين مثل بحمزة : « وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ماعُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ »(2) ، فصبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله ولميعاقب .

وحين يقول : « وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ الْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى »(3) .

وحين يقول : « الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ »(4) .

وحين يقول : « إِنَّما يُوَفَّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ »(5) .

وحين يقول عن لقمان لابنه : « وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الأْمُورِ »(6) .

وحين يقول عن موسى عليه السلام : « قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأْرْضَ لِلّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ »(7) .

ص: 217


1- القلم : 48 .
2- النحل : 126 .
3- طه : 132 .
4- البقرة : 156 - 157 .
5- الزمر : 10 .
6- لقمان : 71 .
7- الأعراف : 128 .

وحين يقول : « الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ »(1) .وحين يقول : « وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأْمْوالِ وَالأْنْفُسِ الَّثمَراتِ وَبَشِّرِ الصّابِرِينَ »(2) .وحين يقول : « وَالصّابِرِينَ وَالصّابِراتِ »(3) .

وحين يقول : « وَاصْبِرْ حَتّى يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ »(4) .

وأمثال ذلك من القرآن كثير .

واعلم - أي عم وابن عم - أنّ اللّه - عزّ وجلّ - لم يبال بضرّ الدنيا لوليه ساعة قطّ ، ولا شيء أحبّ إليه من الضرّ(5) والجهد واللأواء مع الصبر .

وأنّه - تبارك وتعالى - لم يبال بنعيم الدنيا لعدوّه ساعة .

ولولا ذلك ما كان أعداؤ يقتلون أولياءه ، ويخيفونهم ويمنعونهم ، وأعداؤ آمنون مطمئنون عالون(6) ظاهرون .

ولولا ذلك لما قتل زكريا ويحيى بن زكريا ظلما وعدوانا في بغيّ من البغايا .

ص: 218


1- العصر : 3 .
2- البقرة : 155 .
3- الأحزاب : 35 .
4- يونس : 109 .
5- في نسخة : « الصبر » .
6- في نسخة : « غالون » .

ولولا ذلك لما قتل جدّك علي بن أبي أطالب عليه السلام لمّا قام بأمر اللّه - جلّ وعزّ - ظلما ، وعمّك الحسين بن فاطمة - صلّى اللّه عليهما - اضطهادا وعدوانا .

ولولا ذلك لما قال اللّه - عزّ وجلّ - في كتابه : « وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النّاسُ أُمَّةًواحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ »(1)ولولا ذلك لما قال في كتابه : « أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ »(2) .

ولولا ذلك لما جاء في الحديث : لولا أن يحزن المؤن لجعلت للكافر عصابة من حديد ، فلا يصدع(3) رأسه أبدا .

ولولا ذلك لما جاء في الحديث : إنّ الدنيا لا تساوي عند اللّه - عزّ وجلّ - جناح بعوضة .

ولولا ذلك ما سقى كافرا منها شربة ماء .

ولولا ذلك لما جاء في الحديث : لو أنّ مؤمن على قلّة جبل لابتعث اللّه له كافرا أو منافقا يؤذيه .

ولولا ذلك لما جاء في الحديث : أنّه إذا أحبّ اللّه قوما ، أو أحبّ عبدا ، صبّ عليه البلاء صبّا ، فلا يخرج من غمّ إلاّ وقع في غمّ .

ص: 219


1- الزخرف : 33 .
2- المؤمنون : 55 - 56 .
3- في نسخة : « يتصدّع » .

ولولا ذلك لما جاء في الحديث : ما من جرعتين أحبّ إلى اللّه - تعالى - أن يجرعهما عبده المؤن في الدنيا من جرعة غيظ كظم عليها ، وجرعة حزن عند مصيبة صبر عليها ، بحسن عزاء واحتساب .

ولولا ذلك لما كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله يدعون على من ظلمهم بطول العمر ، وصحة البدن ، وكثرة المال والولد .

ولولا ذلك ما بلغنا أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان إذا خصّ رجلاً بالترحّمعليه والاستغفار استشهد .

فعليكم - يا عمّ وابن عمّ وبني عمومتي وإخواني - بالصبر والرضا والتسليم والتفويض إلى اللّه - عزّ وجلّ - ، والرضا والصبر على قضائه ، والتمسك بطاعته ، والنزول عند أمره .

أفرغ اللّه علينا وعليكم الصبر ، وختم لنا ولكم بالسعادة ، وأنقذنا وإياكم من كلّ هلكة ، بحوله وقوته ، إنّه سميع قريب ، وصلّى اللّه على صفوته من خلقه محمد النبي ، وأهل بيته ، صلوات اللّه وسلامه وبركاته ورحماته عليهم أجمعين(1) .

* * *

هذا آخر التعزية بلفظها نقلتها من كتاب التتمات والمهمات ، وعليها نختم الرسالة ، حامدين للّه - تعالى - على نواله ، مصلّين على صاحب الرسالة وعلى آله ، أهل العصمة والعدالة .

ص: 220


1- إقبال الأعمال : 578 .

ولقد فرغ منها مؤلفها العبد الفقير الى اللّه - تعالى - زين الدين ، وسط نهار الجمعة ، غرّة شهر رجب الحرام ، عام أربعة وخمسين وتسعمائة ، هجرية نبوية ، على مشرفها أفضل السلام والتحية .

فصلّى اللّه على محمد وآله الطاهرينصلاة تقصم ظهور الملحدين والجاحدين(1)

ص: 221


1- في نسخة : « ولقد فرغ منها مؤلفها العبد الفقير الى اللّه - تعالى - زين الدين بن عليبن أحمد الشامي العاملي ، عامله اللّه بفضله وعفا عنهم بمنّه ، وسط نهار الجمعة ، غرّة شهر رجب المرجّب الفرد الحرام ، عام أربعة وخمسين وتسعمائة ، حامدا مصلّيا مسلّما مستغفرا ، والحمد للّه وحده ، صلاته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم » .

ص: 222

الفهرست

مقدمة المحقّق··· 3

المؤلف رحمه الله··· 13

بعض مؤلفاته··· 14

أسفاره··· 17

مقتله رحمه الله··· 19

الكتاب··· 21

المقدمة··· 23

المقدمة

( 25 - 44 )

الأول : الموت مصلحة للعباد··· 26

الثاني : فقد الولد ذخيرة للآخرة··· 27

الثالث : ولد واحد يقدّمه الرجل أفضل من سبعين ولد يبقون··· 30

الرابع : في الجزع خسران عظيم··· 34

ص: 223

الخامس : الدنيا دار بلاء··· 35

الدنيا مزرعة الآخرة··· 38

المحبوب الحقيقي هو اللّه سبحانه··· 41

الباب الأول

في بيان الأعواض الحاصلة من موت الأولاد

وما يقرب من هذا المراد

( 45 - 72 )

الفرط حجاب من النار وثوابه الجنة··· 46

الفرط يثقل الميزان··· 48

النبي صلى الله عليه و آله يكاثر السقط من أمّته يوم القيامة··· 49

السقط المحتسب في الإسلام أحبّ من الدنيا··· 50

السقط يجرّ أمّه بسرره··· 51

تقديم ولد صغير أفضل من مائة يبقون··· 51

الولدان لا يدخلون الجنة إلاّ مع الأبوين··· 52

« بيت الحمد » لمن مات ولده فحمد واسترجع··· 56

الفرط جنة حصينة··· 57

من قدّم واحدا وجبت له الجنّة وكان حصنا من النار··· 58

من مات له ثلاثة لم يبلغوا الحنث غفر اللّه له··· 62

الرقوب من لا فرط له··· 63

ص: 224

فصل 1 : فيما يتعلق بهذا الباب··· 65

أعطى اللّه لداود عليه السلام مل ء الأرض ثوابا بولده··· 65

الفرط يرجح الميزان ولا ثواب لمن تمنّى موت ولده··· 65

دعا على ولده بالموت لرؤيا رأها !··· 66

اشتهى موت ولده لرؤيا رأها !··· 68

تزوّج رجاء أن يرزق ولدا فيموت !··· 68

دعا اللّه فرزقه ولدا ثم دعاه ليموت !··· 69

افراط يستقبلون أمّهم في القبر··· 70

الباب الثاني

في الصبر وما يلحق به

( 73 - 144 )

أنواع الصبر··· 73

أوصاف الصابرين··· 74

وأمّا الأخبار··· 76

فصل 1 : ما يثبت الأجر على المصيبة وما يحبطه··· 89

فصل 2 : ما يفعله صاحب المصيبة··· 93

ما كان يفعله النبي صلى الله عليه و آله إذا نزل بأهله شدّة··· 93

ما فعله ابن عباس عندما نعي اليه قثم··· 93

ما فعله عبادة عندما حضرته الوفاة··· 94

من المحبطات··· 96

ص: 225

فصل 3 : البلاء زين المؤمن··· 98

فصل 4 : الصبر والجزع··· 100

فصل 5 : في نبذ من أحوال السلف عند موت أبنائهم وأحبائهم··· 102

الصبر ممدوح في الجاهلية والإسلام··· 102

ابن مسعود وأولاده الثلاث··· 102

يأتي زمان يغبط الرجل بخفّة الحال··· 103

الحمد للّه الذي يأخذ أولادي ويدخرهم لي في دار البقاء··· 104

مات له سبع بنين في يوم واحد··· 104

موت ابنه أحبّ اليه من كلّ غزواته مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله !··· 105

الإمام السجاد عليه السلام يعفو عمّن قتل ولده··· 106

تعلّم الصبر والحلم من قيس بن عاصم !··· 106

موقف أبي ذر عند موت ابنه··· 107

رجل ذهب ماله وولده وبصره··· 109

بالأمس زينة الدنيا واليوم من الباقيات الصالحات··· 110

إنّ اللّه أحبّ أمرا فأحببت ما أحبّ اللّه ··· 110

الحمد للّه الذي توفى مني شهيدا آخر··· 111

أفأستكين للمصيبة وقد وعدني ربّي عليها ثلاث خصال··· 112

صبر على موت ابنه وأحسن الضيافة··· 113

لا جدوى للجزع··· 113

أعمى زمن افترس السبع ولده وهو يحمد اللّه ··· 113

مقالة رجل عند دفن ابنه··· 116

ما أحبّ أنّ شيئا من ذلك لم يكن··· 117

ص: 226

خير أحواله أن يموت فاحتسبه··· 117

أخذني الموت فاحتسبني··· 118

مات ابن لعمر بن عبد العزيز فوعظه ابنه عبد الملك!··· 118

فصل 6 : في ذكر جماعة من النساء نقل العلماء صبرهن··· 120

قصة أم سليم وأبي طلحة··· 120

مات الغلامان وأحياهما اللّه ثوبا لصبر الأم··· 125

دعت الأم فأحيى اللّه ولدها··· 127

مناجاة برخ الأسود··· 128

رجعنا إلى أخبار الصابرات : كظمت أسماء الغيظ حتى تشخب ثديها دما··· 130

خبر حمنة بنت جحش··· 130

خبر صفية بنت عبد المطلب··· 130

خبر صفية برواية ابن عباس··· 131

خبر أم خلاد··· 132

يا رسول اللّه لا أبالي إذا سلمت من عطب··· 132

خبر المرأة التي أصيب زوجها وأبوها وأخوها··· 133

خبر السمراء بنت قيس··· 133

خبر صلت بن أشيم وزوجته معاذة··· 134

خبر عجوز بني بكر بن كلاب··· 134

خبر أم لثلاثة قتلوا في تستر··· 135

خبر المرأة التي أعطت شعرها لأبي قدامة··· 135

مصيبتي به أعظم من أن أفسدها بالجزع··· 138

أم تأبّن ولدها··· 138

ص: 227

خلفي منه ثواب اللّه ··· 139

أضحك شكرا للّه على ما أعطاني من الصبر··· 139

محزونة في الرخاء مسرورة في الشدّة··· 140

إمرأة في البادية مات ابنها فصبرت ولم تجزع··· 140

أيّها العائد قد رأيت واعظا··· 142

مصيبة نالتني لم تصب أحدا قطّ··· 143

صبرت فآثرت طاعة اللّه على طاعة الشيطان··· 144

الباب الثالث

في الرضا

( 145 - 170 )

فضل الرضا ومقامه··· 146

صفة الراضي والرضا··· 150

فصل 1 : الرضا أعلى مرتبة من الصبر··· 154

فصل 2 : درجات الرضا··· 156

الدرجة الأولى : رضا المتقين··· 156

الدرجة الثانية : رضا المقرّبين··· 157

الدرجة الثالثة : رضا المحبّين··· 158

فصل 3 : جماعة من السلف نقل العلماء رضاهم بالقضاء مضافا إلى ما تقدّم··· 160

رضا أيوب عليه السلام··· 160

الراضي أعبد أهل الأرض !··· 160

ص: 228

رضا رجل أعمى أبرص مقعد مضروب بالفالج··· 161

لو قطعني إربا ما ازددت له إلاّ حبّا··· 161

وعزّتك لئن كنت أخذت لقد أبقيت··· 162

لو أدخلني النار كنت راضيا··· 162

لو جعلني جسرا الى جهنم ثم أدخلني فيها كنت راضيا··· 163

خبر عمران بن حصين··· 163

خبر سويد بن شعبة··· 164

أنا العبد وللسيد والإرادة في عبده··· 165

خبر فتح الموصلي··· 165

فصل 4 : الدعاء··· 166

ومن وظائف الداعي··· 166

ومن علاماته··· 167

الباب الرابع

في البكاء

( 171 - 194 )

بكاء آدم عليه السلام··· 172

بكاء يعقوب عليه السلام··· 173

بكاء الإمام زين العابدين عليه السلام··· 173

بكاء النبي صلى الله عليه و آله في مصيبة ولده إبراهيم··· 174

بكاء النبي صلى الله عليه و آله في مصيبة ابنه الطاهر··· 178

بكاء النبي صلى الله عليه و آله على قبر أمّه عليهاالسلام··· 178

ص: 229

بكاء النبي صلى الله عليه و آله في مصيبة عثمان بن مظعون··· 178

بكاء النبي صلى الله عليه و آله على سعد بن عبادة··· 179

بكاء النبي صلى الله عليه و آله على ابنة ابنته··· 179

بكاء النبي صلى الله عليه و آله في مصيبة جعفر بن أبي طالب عليهماالسلام··· 181

بكاء النبي صلى الله عليه و آله على زيد بن حارثة··· 182

بكاء النبي صلى الله عليه و آله في موت سعد بن معاذ··· 182

بكاء النبي صلى الله عليه و آله عند قبر محفور··· 183

بكاء النبي صلى الله عليه و آله على عمّه حمزة عليه السلام··· 183

إبراهيم عليه السلام يسأل ربّه ابنة تبكي عليه بعد الموت··· 184

فصل 1 : النهي عن الجزع عند المصيبة··· 185

فصل 2 : استحباب الاسترجاع عند المصيبة··· 188

فصل 3 : جواز النوح بالكلام الحسن وإعتماد الصدق··· 191

حرمة النوح بالباطل··· 193

الخاتمة

( 195 - 221 )

استحباب تعزية أهل الميت··· 195

ثواب التعزية··· 196

فصل 1 : كيفية التعزية وما يقال فيها··· 201

قول النبي صلى الله عليه و آله إذا عزّى··· 201

كتاب النبي صلى الله عليه و آله الى معاذ يعزّيه بولد له··· 202

ص: 230

ما قاله جبرئيل عليه السلام معزّيا أهل البيت عليهم السلام بالنبي صلى الله عليه و آله··· 203

ما عزّت به الملائكة أهل البيت عليهم السلام في مصاب النبي صلى الله عليه و آله··· 203

ما قاله الخضر عليه السلام في مصيبة النبي صلى الله عليه و آله··· 204

فصل 2 : تذكّر المصائب الأعظم يهون المصيبة··· 206

إمرأة تعظ فقيه عابدا عالما مجتهدا من بني إسرائيل··· 208

ملكان يسليان سليمان في مصابه بولده··· 208

ملكان يعظان قاضيا من بني إسرائيل··· 210

لو ترك أحد لأحد لترك الولد لأبويه المقعدين··· 210

كلّ مصيبة تهون بتذكّر النار··· 211

فصل 3 : المصائب والبلايا تخصّ من يقبل اللّه عليه··· 212

رسالة مولانا الصادق عليه السلام لجماعة من بني عمّه يعزّيهم بها··· 216

ص: 231

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.