الیوم الموعود بین الفکر المادی و الدینی

اشارة

سرشناسه:صدر، محمد

عنوان و نام پديدآور:الیوم الموعود بین الفکر المادی و الدینی/ تالیف محمد الصدر

مشخصات نشر:بیروت-لبنان - دارالتعارف للمطبوعات 1423

مشخصات ظاهری:ص 668

فروست:(موسوعه الامام المهدی"ع"؛ کتاب 4)

وضعیت فهرست نویسی:فهرستنویسی قبلی

يادداشت:عربی

یادداشت:کتابنامه: ص. 668 - 665؛ همچنین به صورت زیرنویس

شماره کتابشناسی ملی:191416

ص :1

اشارة

ص :2

الیوم الموعود بین الفکر المادی و الدینی

تالیف محمد الصدر

ص :3

ص :4

المقدمة

- 1 -

كانت الكتب الثلاثة السابقة من موسوعة الإمام المهدي عليه السلام، متكفلة لتاريخ الامام المهدي من وجهة النظر الإمامية، مع محاولة إعطائها صيغة متكاملة و خالصة من الشوائب. ابتداء بميلاده و مرورا بغيبته، و انتهاء بظهوره و دولته، مع إعطاء السمات العامة للبشرية اللاحقة للظهور إلى قيام الساعة. و قد انتهت هذه الجنبة من التاريخ من خلال هذه الكتب الثلاثة.

و سيكون من المنطقي، طبقا لمنهجية البحث عن الفكرة المهدوية...

الشروع بالاستدلال على صحة هذه الفكرة، و محاولة دفع ما يحتمل أن يكون مانعا عن الالتزام بوجوده و وجود دولته.

و من المنطقي أن يبدأ الاستدلال من أعم المنطلقات، لنصل إلى أخصها بالتدريج، من خلال كتب هذه الموسوعة. إن أعم المنطلقات بالنسبة إلى هذه الفكرة هو محاولة إثبات صحة الفكرة القائلة بوجود المستقبل السعيد للبشرية من زاوية مادية صرفة، بغض النظر عن أي دين...

ليكون للحديث الديني مجال آخر جديد.

- 2 -

هل يوجد للبشرية مستقبل عادل، يسود فيه الرفاه و تخيم فيه السعادة على ربوع البشرية، و ترتفع فيه المظالم و الأنانيات عن الناس، و تترك العداوات و الاعتداءات و يعم السلام الحقيقي الكامل كل الأرض المعمورة.

أو أن هذا اليوم لن يوجد، بل من المحتوم على البشرية أن تبقى في خبط و شماس و تلون و اعتراض و قلاقل و مظالم، ما دام لها وجود على البسيطة.

لأن هذه الحركة الظالمة الدائبة، من خصائص النقص البشري لا يمكن

ص:5

فكاكها عن البشر.

هذا سؤال مهم و أساسي، قد يلقيه الفرد على نفسه، أو يسمعه من غيره فيهز رأسه يائسا من الجواب، لأن المستقبل مما لا يمكن الاطلاع عليه بحال من الأحوال، و المستقبل وحده هو الكفيل بإعطاء الجواب.

و لا نستطيع و نحن في الماضي - بالنسبة إلى تلك الحقبة من الدهر - أن نعطي الجواب الحاسم بحال.

و قد يهز فرد آخر رأسه من هذا السؤال مستغربا من مجرد إثارته، لأنه يرى من اليقين الذي لا شك فيه أن البشرية، سوف تبقى على هذا الحال تجتر مشاكلها و مظالمها ما دام لها وجود. فإن الأوضاع الحاضرة كلها تدل على ذلك المستقبل، بأي حال.

بل إن الطبيعة البشرية ذات الأنانية أو العامل الجنسي أو الاقتصادي أو غيرها هو السبب في هذه الحركات الظالمة، و هو مواكب للبشرية إلى نهايتها، إذن، فلا بد أن يبقى الظلم مواكبا مع البشرية إلى نهايتها، و لا يمكن أن يوجد لها أي مستقبل سعيد.

و كلتا هاتين الفكرتين لها درجة من الأهمية و الوجاهة. إلا أنه مما يؤسف له!!... أن عددا من المفكرين في العالم على مختلف المبادئ و المشارب استطاعوا استشفاف المستقبل، و التنبوء بوجود المستقبل السعيد، و أوضحوا القرائن و الدلائل على ذلك.

إنك لو سألت الماركسية عن ذلك لأجابت بكل ثقة و اطمئنان بنعم.

و لو سألت الأديان عامة و الأديان الثلاثة الكبرى منها و خاصة الاسلام، لأجابوا بصوت واحد: نعم، بكل تأكيد.

من هذه الزاوية المشتركة سيكون منطلق البحث.

- 3 -

تنبأت الماركسية بالمستقبل السعيد، من زاوية النظرية العامة التي وضعتها لتفسير التاريخ، المسماة بالمادية التاريخية، التي جعلت خاتمة مطافها ذلك المستقبل.

و تنبأت الأديان، بهذا المستقبل من زاوية البرهنة على وجود قائد معين منقذ للبشرية من المظالم و مخلص لها من المشاكل... و قد سماه الإسلام

ص:6

بالمهدي.

و النتيجة بينهما واحدة، و هو الجزم بوجود المستقبل السعيد. و هذه هي نقطة القوة الرئيسية.

و من هنا عرضنا للآراء الماركسية عرضا مفصلا، لنرى أنها بعد أن كانت مصيبة بنبوءتها هذه، فهل هي قد توصلت إليها بمقدمات برهانية صحيحة أو غير صحيحة.

و هنا لا بد من الالماع، إلى أن الحديث ليس عن نقد الماركسية ككل... ليستلزم ذلك عرض كل شاردة و واردة في الفكر الماركسي. فإن موضوع الكتاب ليس هو ذلك. و إنما المهم النظر إلى الماركسية من زاوية هذه النبوءة ليس إلا... مع التأكد من سلامة أو عدم سلامة المقدمات التفصيلية التي أنتجتها.

فكان هذا هو القسم الثاني من الكتاب.

و أما القسم الأول، فهو قسم مختصر، يراد به التأكيد على أن الاتجاه المادي عموما بصفته ماديا، لا يمكنه استنتاج وجود المستقبل السعيد بأي حال... سواء من زاوية «علمية» أو من زاوية «قانونية». و إنما انفردت الماركسية من بين المذاهب المادية الحديثة بهذه النبوءة باعتبار فهمها الخاص للمجتمع و التاريخ.

- 4 -

و بعد أن يتم نقد الماركسية، و يثبت عدم صمود ماديتها التاريخية تجاه النقد. ينقدح السؤال من جديد: هل فشلت النبوءة إذن؟!...

كلا... فإن هناك أدلة من نوع آخر يمكن إقامتها عليه؛ تلك هي أدلة الدين... الذي يثبت وجوده بنفس الطريق الذي تثبت به الماركسية فشلها. إن الدين يمكن أن يعطى البديل الصالح للمادية التاريخية الماركسية، و يملأ كل الفجوات التاريخية و الاجتماعية التي حاولت الماركسية ملأها، و التي لم تحاول.

بل إنه يزيد عليها بكثير... إنه يرى أنه وجود المستقبل السعيد نتيجة لتاريخ البشرية ككل، و وجود البشرية ككل نتيجة لظواهر و أهداف كونية عامة إذن فالمستقبل السعية يمت بصلة إلى الأهداف الكونية نفسها... و سينتج

ص:7

هذا المستقبل البشري نتائج كونية حاسمة. و لن ينتهي الحديث عند مجرد النبوءة بوجوده، كما انتهى حديث الماركسية.

إن البشرية ليست إلا رحلة طويلة من رحلات الكون الكبرى، و ظاهرة من ظواهره، و ليس مستقبلها السعيد بكل تفاصيله سوى محاولة لتركيز الأغراض الكونية.

أما أنه كيف يكون ذلك، و ما هي مقدماته، و ما هي صفاته و ما هي نتائجه، فهذا ما يشرحه لك «التخطيط الإلهي العام لتكامل البشرية» في القسم الثالث من هذا الكتاب، بكل تفصيل.

و نحن بعد أن أعطينا في الكتابين السابقين من هذه الموسوعة، زاوية من الاستدلال على الفهم الامامي لنظرية المهدي، أمكننا أن نستعين بهذا الفهم أحيانا لملأ بعض فقرات هذا التخطيط العام.

و أعطينا من خلال هذا التخطيط تفسيرا كاملا للبشرية بماضيها و حاضرها و مستقبلها إلى حين فنائها. و حاولنا من خلال الحديث المقارنة مع النتائج الماركسية التي عرفناها في القسم الثاني. و هنا أمكننا أن نتوصل إلى مناقشات أعمق و أوضح مما سبق. إنها مناقشات جديدة تماما لأنها منطلقة من نظرية متكاملة و جديدة تماما... هي نظرية التخطيط الالهي.

إن هذه النظرية، معروضة أيضا في الكتابين السابقين. إلا أنها عرضت في هذا الكتاب بشكل يختلف في المقدمات و التفاصيل و النتائج...

كما هو مشار إليه في داخل هذا الكتاب، و لا يخفى - أيضا - على قارىء هذه الموسوعة و من هنا حل لنا هذا المقدار من التكرار.

فهذا هو العطاء الذي يمكن أن يحصل عليه من خلال هذا الكتاب.

- 5 -

إن طريق التوصل إلى النتائج الكاملة، دائما، هو تلاقح الأفكار و السعي في سبيل النقد البناء. و الحقيقة بنت البحث.

و من هنا يود المؤلف، بكل انفتاح، تلقي النقد البناء المخلص من كل ناقد من ماديين و متدينين، عسى أن يتمكن من ملأ الفراغات التي تركتها جوانب النقص البشري في بحثه... لو كان. لعلنا نتوصل من ذلك إلى القناعة بالنتائج الرئيسية الكاملة.

ص:8

القسم الأول: المستقبل السعيد للبشرية في الفكر المادي بمعناه العام

اشارة

ص:9

ص:10

يحتوي هذا القسم على ثلاث أطروحات:

الأطروحة الأولى: تصور المستقبل السعيد للبشرية من زاوية العلم التكنيكي الحديث.

الأطروحة الثانية: تصور المستقبل السعيد للبشرية من زاوية القانون الوضعي.

الأطروحة الثالثة: تصور المستقبل السعيد من زاوية (المادية التاريخية) التي تنبأت بذلك بصراحة.

أما الأطروحة الثالثة فسوف نكرس لها القسم الثاني من هذا الكتاب.

و نقتصر في هذا القسم على الأطروحتين الأوليتين، بصفتهما تمثلان الاتجاه المادي العام الحديث.

ص:11

ص:12

الأطروحة الأولى المستقبل السعيد بالتطور العلمي نحو الأفضل

اشارة

تكون الفكرة الأساسية في هذه الأطروحة: ان العلم التكنيكي الصناعي الحديث هو الكفيل بإيصال المجتمع البشري إلى السعادة و الرفاه... و بخاصة في المستقبل حين يتطور العلم أكثر مما هو عليه الآن، فيصل بمزيد من التجارب إلى مراق عليا يستطيع أن يكفل بها إيجاد المستقبل السعيد للبشرية كلها.

كيف لا؟!... و نحن نعاصر النتائج الكبرى التي تمخض عنها العلم في هذا العصر، فلا نجد إلا ما يدعو إلى الاكبار و الاحترام... فإننا لو تجاوزنا قمم العلم العليا التي تتمثل في عدة أمور، كتفجير الذرة و الصعود إلى الكواكب و تأسيس العقل الالكتروني... إذا تجاوزناها، و حاولنا النزول إلى الفوائد الاجتماعية التي يمكن للعلم أن يحققها، فيضمن للبشرية مستوى عال من السعادة و الرفاه.

... إذن، لرأينا الشيء الكثير... فهناك الأجهزة التي اخترعت، و لا زالت تخترع لتذليل مصاعب الحياة المنزلية، و لعل أهمها إلى الآن ذلك الانسان الآلي الذي يقوم بالخدمات بكل رحابة صدر و بدون تعب! و يوفر للعائلة أكبر الجهود. و هو أيضا يرد على التلفون و يخبر صاحبه عن المكالمات التلفونية الحاصلة حال غيابه.

و هناك الآلات الزاخرة العظيمة المستعملة كوسائل للإعلام... من السينما إلى الراديو، إلى التلفزيون، إلى التسلتار الذي يوزع البث التلفزيوني على رقعة كبيرة من العالم.

أما التلفون الصوتي و التلفزيوني، فحدث عنه و لا حرج... في تقصير

ص:13

المسافات و التقريب بين المتباعدين و الغائبين، و اختصار الجهد إلى حد بعيد و هناك الآلات الزراعية، التي تقلل الجهد و تزيد في الانتاج و توسع رقعة الأرض المزروعة إلى أكبر مدى. مضافا إلى الأساليب العلمية لتحسين الانتاج إلى درجة كبيرة بل إنتاج أنواع من الأطعمة و الفواكه ليست معهودة و لا معروفة! و قل نفس الشيء في تحسين الإنتاج الحيواني، و تطويره و توسيعه...

و لا يخفى ما للعلم من جهود مشكورة في دفع الآفات و الأمراض الزراعية و الحيوانية و إعطاء أعمق الأساليب و أنجحها لاتخاذ أحسن شكل للانتاج.

و أما الطب فحدث عن انتصاراته على المرض و لا حرج... و قد تكللت الجهود الطبية بزرع الأعضاء الجديدة في جسم الانسان بدل الأعضاء التالفة فيه. و لعل عملية زرع القلب، هي أهم ما أنجز، في هذا المجال... بل قد تودع في الجسم الإنساني آلة صماء تقوم مقام العضو التالف لتؤدي نفس وظيفته.

و تربية الجيل الناشىء قد استندت إلى العلم أيضا... و العلم وحده!!.. فهناك النظريات التربوية التي تطبقها أحدث المعاهد في العالم، بمختلف مستوياتها... و لا زال العلم يتقدم بهذه النظريات نحو الأفضل.

و تعال بنا إلى الهندسة العمرانية، لنرى أنها إلى أي ارتفاع و دقة وصلت في ميادين هندسة البيوت و المدارس و المستشفيات و الأسواق و السجون و المنتزهات و غيرها... مما يوفر أحسن الرفاه و أكبر الجهود للناس.

و إذا تجاوزنا الجانب الاجتماعي للعلم، إلى الجانب الفكري أو الثقافي ككل، وجدنا بحرا لا ينزف و تفوقا لا يوصف في علوم الذرة و الفلك و الفيزياء و الكيمياء... و تدقيقا في حوادث التاريخ و قوانينه، و عمقا في المنطق و الفلسفة و علم النفس و علم الاجتماع. لم تكن البشرية قد بلغته في أي وقت مضى من حياتها الطويلة... كل ذلك يؤذن بالخير، و بالمستقبل الزاهر السعيد الذي يقوم على أكتاف العلم و العلماء.

و إذا كان العلم قد وصل إلى مثل هذه المراقي العظيمة إلى العصر الحاضر... فأحر به أن يصل إلى درجات أهم و أوسع في المستقبل، تكون كافية... و بكل جدارة لضمان الرفاه و سيادة السعادة و العدل في ربوع

ص:14

البشرية.

و لعل بين أيدينا من المستقبل العلمي أفكارا مهمة و واضحة،... و إن لم تكن منجزة. فعلا... إلا أن العلم كفيل بإنجازها في أقرب وقت ممكن.

فمن ذلك سرعة وسائط النقل للركاب أكثر مما هو عليه الآن، و أكثر سلامة... سواء في ذلك ما بين المدن أو في داخل المدينة..؛ و من ذلك تحويل الطعام و الشراب إلى أقراص أو سوائل قليلة، يوفر لما الفرد عدة ساعات يقضيها عادة في إنجاز الطعام و تناوله.

و من ذلك تطوير الانسان الآلي، بحيث يمكنه أن يقوم بالخدمات المنزلية و الخارجية بشكل أوسع مما عليه الآن، و توفيره سوقيا على نطاق واسع.

و من ذلك توسيع السكنى للبشرية إلى الكواكب و النجوم المجاورة!!! عن طريق تكثير رحلات الفضاء و تسهيلها و تخفيض نفقاتها و جعلها متوفرة للركاب.

و من ذلك التسبيب إلى طول عمر الانسان بالمستوى الصحي الذي يكفله العلم... حتى يصبح الستين و السبعين عاما، من أعوام الشباب!!... و أما الشيخوخة فلا تبدأ أول مراحلها إلا بعد المائة.

إلى غير ذلك من النتائج الكبرى المتوقعة للعلم... و لعمري إن المجتمع الذي يعيش تحت ظل مثل هذا التقدم العلمي الهائل، لهو مجتمع سعيد و مرفه.

إذن، فمن المستطاع القول: بأن العلم يكفل للبشرية المستقبل السعيد... و إذ يكون العلم دائما في تطور مستمر، إذن فالبشرية صائرة - لا محالة - إلى ذلك المستقبل المجيد.

المناقشة:

إلا أنه من المؤسف!!! أن هذا الكلام بالرغم من أهميته و جمال شكله!!! لا يمكن أن يكون صحيحا في نتيجته، بأي حال من الأحوال.

ص:15

فكل هذه التطورات العلمية صادقة... و لعل فيما أهملناه أهمية مماثلة أو أكبر مما ذكرناه... فإننا أعطينا نماذج من ذلك فقط... و لعمري أن للعلم مساعدة فعالة في جلب الراحة إلى الانسان و المجتمع.

لكن ذلك لا يعني بحال، أن العلم وحده من دون ملاحظة شيء آخر، يمكنه أن يضمن السعادة و العدل بين الناس. و لا ينبغي لنا أن نبالغ في أهمية العلم، مهما كان له في العالم من هيبة و هيمنة و أهمية.

فإن العلم إنما يضمن الجانب المدني و التكنيكي من حياة الانسان، و لا يتضمن العلم - بمجرده - أي جانب قانوني أو نظامي أو أخلاقي، كما هو واضح... فإن لهذه الأمور حقولا أخرى في المعرفة الانسانية لا تمت إلى العلم بصلة، على الإطلاق.

فإذا استطعنا أن نضم النتائج الرائعة للعلم إلى نظام عادل و قانون سليم... استطعنا أن نكفل الرفاه الحقيقي و السعادة الكبرى، إذ تكون النتائج العلمية موزعة يومئذ بين البشر بشكل متساو و متكافئ بدون إجحاف أو ظلم.

و أما إذا نظرنا إلى العلم وحده، و توقعنا منه أن يكون صانعا لسعادة المستقبل مع إسقاط النظام عن نظر الاعتبار... فهذا يعني الوصول إلى نتائج وخيمة مروعة في غاية السوء و الاجحاف.

منها: أنه يمكن للعلم أن يكرس طاقاته الهائلة في فناء البشرية و إضرارها إلى حد كبير... في وضع الأسلحة الفتاكة و السموم القاتلة، و وسائل التعذيب اللاإنساني للآخرين. و هذا ما هو حاصل في العصر الحاضر، و هو يتقدم و يتزايد بتقدم العلم و تزايده... و تبذل الدول في سبيله الملايين.

و منها: أن هذا الرفاه يكون خاصا بالمتمولين، الذين يستطيعون استغلال النتائج العلمية في مصلحتهم... أما الأعم الأغلب من الناس في العالم، و هم متوسطو الحال و ذوو الدخل المحدود و الفقراء، فلن يستطيعوا الحصول على شيء مهم من نتائج العلم.

فإن قال قائل: إنه يمكن توفير الرفاه العلمي لأكبر كمية من الناس و بأرخص ثمن ممكن... و بذلك تتسع رقعة المستفيدين من نتائج العلم

ص:16

الكبرى.

قلنا: إن هذا لا يكون إلا تحت نظام خاص و في ظل نظام معين يكفل ذلك... و لا يمكن للعلم وحده أن يكفل هذه الجهة.

و منها: ان العلم إذا لم ينضم إلى القانون الصالح، لا يمكن أن يضمن زوال الاعتداء بين البشر بأي شكل من الأشكال. و من الواضح أن التطور العلمي لا يعني تطور الجانب الانساني من الانسان، بل يمكن أن ينسجم أعلى أشكال الانتاج العلمي مع أقسى أشكال الأنانية و العدوان.

و مع كل ذلك... و مع غير ذلك... كيف يمكن للفرد أن يتفوه بهذا الكلام على أنه حقيقة نهائية، و هو أنه يمكن للعلم وحده أن يضمن المستقبل السعيد للعالم.

و معه،... تكون هذه الأطروحة المادية الأولى، قد فشلت في قيادة البشرية نحو المستقبل السعيد... فهل يمكن للأطروحة الثانية أن تضمن ذلك؟!..

ص:17

الأطروحة الثانية المستقبل السعيد بتطور الفكر القانوني

اشارة

بعد أن ثبت بوضوح فشل الأطروحة العلمية لقيادة العالم، و ان المهم في الأمر هو وجود النظام الصالح و القانون العادل الذي ينسق شئون المجتمع و البشرية و يسهل حصولها على آمالها و إزالة آلامها. إذن فالقائد الرئيسي للبشرية نحو الأفضل هو القانون نفسه... و هو الذي سيكفل للبشر مستقبلهم السعيد.

فإن البشرية كانت و لا زالت، تمر في تاريخها الطويل بتجارب و مشاكل، تكون هي الكفيل الأساسي لرقي الفكر القانوني. و ذلك بعد مرور الفكر القانوني بمرحلتين:

المرحلة الأولى: التعرف بوضوح على المشاكل العامة و الخاصة السائدة في المجتمع، و محاولة فهمها فهما عميقا كاملا و الاطلاع بها على أسبابها و نتائجها بكل دقة.

... و كلما اتسع الوعي الفكري للانسان على واقعه بما فيه من مشاكل و آلام، كلما ساعد ذلك على تربية الجانب القانوني فيه.

المرحلة الثانية: محاولة التعمق، في معرفة الحلول الممكنة لهذه المشاكل المعروضة، و الاطلاع على أساليب عامة و فعالة في إزالة المصاعب و تذليل العقبات، و من ثم إلى إيجاد الرفاه و العدالة في المجتمع.

فإذا استطاع المفكر القانوني، أن يمر بكلا المرحلتين، بشكل دقيق و شامل، استطاع - لا محالة - أن يصل إلى وضع القانون العادل الذي يكفل السعادة و الرفاه الدائم.

و قد كان و لا زال الفكر القانوني البشري، في طريق التربية و التكامل

ص:18

باستمرار، من كلتا الجهتين، نتيجة لما تعطيه التجارب الاجتماعية من دقة و ثراء.

و بذلك يثرى الفهم الفقهي القانوني... فتعطى التعاريف و التفاسير بشكل أدق و أشمل شيئا فشيئا، سواء في ذلك من ناحية القانون المدني أو العسكري أو الدولي، أو قوانين العقوبات أو الأحوال الشخصية... أو غيرها.

و قد وصل القانون في العصر الحاضر إلى مراق عليا... حتى أصبح من أدق العلوم الانسانية. و إذا كنا قد نجد فيه بعض النواقص و الاختلافات بين المفكرين في جملة من حقوله... فإن التكامل التدريجي للقانون، من خلال التجارب الطويلة، كفيل بأن يزيل هذه النواقص و يزيد في إدراك الفكر القانوني لذينك المرحلتين الأساسيتين، مما يفتح أمام القانون فرصة الوصول التدريجي إلى إدراك العدل الحقيقي، و التذليل الكامل للمشاكل البشرية.

و حيث لا يكون المقصود، تعيين فترة معينة لهذا التكامل... فإن من الممكن أن يصل القانون إلى تلك النتيجة الكبرى، في فترة مقبلة من الدهر، مهما طالت.

و إذا وصل القانون إلى درجة الفهم الكامل للعدل... و أمكن تطبيقه في المجتمع البشري، كان هذا هو المستقبل السعيد (الموعود) الذي يعم فيه الرفاه و السعادة ربوع المجتمع البشري كله.

و بهذا يتم البرهان على صحة الأطروحة الثانية...

المناقشة:

غير أنه يمكن المناقشة في هذه النتيجة بالرغم من أهميتها، بعدة مناقشات أساسية:

فإننا إذا تجاوزنا المناقشة الرئيسية التي تم البرهان عليها في بحوث العقائد الاسلامية، و هي عجز الفكر البشري القانوني عن إدراك مصالحه الحقيقية و إدراك العدل... و بالتالي انه يتعذر عليه تغطية المرحلتين المشار

ص:19

إليهما بالدقة المطلوبة و المتوقعة لا حراز العدل الكامل.

بل ينحصر تغطية ذلك عن طريق الحكمة الالهية و الوحي من وراء الطبيعة. و أما الفهم البشري المنفصل عن الوحي - كما هو مفروض هذه الأطروحة -، فيتعذر عليه ذلك بأي حال. و سيأتي في القسم الثالث من هذا الكتاب ما يلقي ضوءا كبيرا على ذلك.

فإذا تجاوزنا ذلك، بقيت عدة مناقشات نذكر منها ما يلي:

المناقشة الأولى: انه من الصعب أن نتصور أن في مستطاع الفكر القانوني البشري أن يثرى و يتكامل باستمرار، حتى يصل إلى إدراك العدل المطلق.

و ذلك لأن المفكر القانوني، فردا كان أو جماعة، فإنه يحيا في المجتمع كأي إنسان آخر، له مصالحه و ارتباطاته و علاقاته و موارده الاقتصادية، و غير ذلك. و هو يود في كل ذلك - طبقا لحب الخير لنفسه - أن ينجح في كل الحقول و أن يتوفق فيها أحسن توفيق، و يتقدم على غيره من الناس، مهما أمكن.

و إذا كان المفكر القانوني، ذو اتجاه عقائدي أو سياسي معين، كان - لا محالة - متحمسا لذلك الاتجاه، يود فوزه و سيطرته على الآخرين...

و يرى اندحاره و خيبته كابوسا مزعجا.

و على كل حال، يكون الفرد القانوني، التكوين النفسي و الاتجاه الاجتماعي المعين الذي يستحيل عليه أن يعزله عن فكره القانوني... و عن إدراكه للمصالح و المفاسد العامة. و مهما حاول الفرد اتخاذ المسلك الموضوعي و التجرد عن الأنانية و التعصب... و تصور مصالح الآخرين بمعزل عن مصالح نفسه... فإنه فاشل و خاطىء... فإن اللاشعور و الضغوط و الملابسات العامة و الخاصة و التاريخ الذي عاشه، يفرض نفسه عليه من حيث يدري و لا يدري.

و من المتعذر بل المستحيل أن نجد فردا أو جماعة، في الفكر القانوني البشري، ذا تجرد كامل و حقيقي... و لن يوجد مثل هذا الفرد على مر التاريخ. فإن لكل زمن ملابساته و لكل تاريخ تأثيره على الفرد و الجماعة.

... على حين لا يمكن للعدل الحقيقي إلا أن يوجد من زاوية الادراك

ص:20

الكامل المجرد لمصالح البشر و مفاسدهم و آلامهم و آمالهم... و هذا ما لا يحصل لأي فرد على مر التاريخ.

و معه فكيف نتوقع للقانون أن يثرى و يتكامل تدريجا، على مر التاريخ حتى يصل إلى إدراك العدل المطلق... إن ذلك لا يحصل إلا إذا حصل الفرد المتجرد المطلق... و هو مستحيل الحصول من الناحية المادية.

المناقشة الثانية: إن النظرية القانونية، مهما تصاعدت و تكاملت، ليست وحدها الكفيلة بسيادة السعادة و العدل ما بين الناس... و إنما، لا بد أن تأخذ طريقها إلى التطبيق في عالم الحياة، لتستطيع أن تؤتي ثمارها ناضجة شهية.

و بالطبع... فإن القانون العادل الشامل، يحتاج إلى أن يشعر كل الأفراد بالمسؤولية تجاه تطبيقه، و لا يكفي أن يأخذ الجهاز الحاكم بزمام المبادرة إلى ذلك، مع كون الأفراد نافرين عنه منكمشين منه... فإنه في مثل ذلك لن يكتب له النجاح، مهما كانت النظرية صائبة و صحيحة.

و لعمري... إنه من المتعذر جدا، أن يجد القانون البشري تجاوبا عاما من الشعب على هذا المستوى الواسع... فلئن تنزلنا - جدلا - عن المناقشة الأولى، و فرضنا واضع القانون البشري مجردا عن الهوى بدرجة كاملة، فإننا لا يمكن أن نفرض الأفراد كلهم مجردين و موضوعيين أيضا!! و إنما لا بد أن ننظرهم من زاوية الواقع، و هو وجود الأنانية و حب المصلحة الشخصية في كل فرد منهم. فلا يطيعون القانون إلا من هذه الزاوية و بالمقدار الذي تقتضيه. و أما حين لا توجد المراقبة القانونية، كان الفرد مخلى بينه و بين مصالحه، لا يعترف بقانون و لا نظام.

و لا يستطيع أي قانون بشري أن يتابع الفرد في خلواته و زواياه، ليضمن التطبيق الكامل لفقراته و بنوده في كل وقت. و يستحيل على الدولة بكل هيمنتها و هيبتها و مؤسساتها، أن تضمن ذلك.

و لئن ضمنته حينا، فلن تستطيع ذلك دائما... و لئن استطاعته دائما، في فرد أو جماعة معينة، فلن تستطيعه في كل الشعب. كما لن تستطيع تطبيق القانون من قناعة عامة به و عن تجاوب قلبي معه. و إنما سوف يطبق القانون بمقدار ما تقتضيه القوة من ناحية، و المصالح الشخصية للأفراد

ص:21

من ناحية أخرى... يدفعون به عن أنفسهم العقاب، أو ينالون به شيئا من الفوائد.

و إذا كان الناس هكذا... و هم دوما لهم نفس الموقف تجاه القانون البشري... إذن فلا يمكن أن نتوقع لهذا القانون في يوم من الأيام، أن يضمن لنفسه التطبيق الكامل المطلوب.

المناقشة الثالثة: إن التكامل في الفكر القانوني، كما شهدناه في عالم الأمس و اليوم أصبح ذا شعب و انشقاقات، فما هو عدل عند هؤلاء هو ظلم عند آخرين... و ما هو مصلحة عند قوم هو مفسدة لدى آخرين... و ما هو تجرد و موضوعية عند بعضهم، هو عين الأنانية و التعصب عند البعض الآخرين... و هكذا.

يكفينا انشقاق القانون المدني، إلى روماني و جرماني، و هما يختلفان في المفاهيم الأولية لتفسيرها و تعريفها، فضلا عن التفاصيل. و كذلك انشقاق الاتجاه الاقتصادي إلى رأسمالية و اشتراكية، و هما يختلفان في وجهة نظر هما إلى الانتاج و التوزيع اختلافا جوهريا. و كذلك اختلاف الدول - و إن اتفقت في المبادئ - في قوانين الأحوال الشخصية و قوانين العقوبات و غيرها.

فأي هذه الانشقاقات يرجى له الكمال؟! ان النظر العقلي المجرد لا يرى أحد الشقين أو أحد الخصمين أو التفسيرين أولى من الآخر. و أما الفرد المؤمن بأحدهما فيرى قانونه هو الكامل و يتعصب له. و يبقى التكتل و الانشقاق بين البشر موجودا... و مع تفشيه يستحيل الوصول إلى العدل العالمي المطلوب.

و من المتعذر حقا، أن نزعم أن الفكر القانوني بتكامله و مروره بالتجارب المتكثرة، سوف يتوحّد في العالم، و يرتفع الخلاف بين القانونيين... إن هذا الافتراض مخالف لطبيعة الأشياء و طبيعة الإنسان.

و لئن وجد ذلك في جيل معين - جدلا - بقيت الآراء الأخرى السابقة لها احترامها، بطبيعة الحال، فلا يكون الفكر القانوني موحدا حقيقة... كما أن وحدة الفكر لن تدوم طويلا، و يوجد حتما، الكثير من المناقشين و الطاعنين في صلاحية هذا القانون الواحد، لتكفل العدل و رفع الظلم.

و إذا لم توجد الوحدة في الفكر القانوني، و إذا كان من المتعذر

ص:22

وجودها، كان من المتعذر وجود المجتمع العالمي العادل تحت ظل القانون البشري، بأي حال من الأحوال.

إذن، فالأطروحة الثانية، القائمة على الأساس المادي المنفصل عن عطاء السماء، لا يمكنها القيام بالمسؤولية الكبرى المطلوبة.

ص:23

ص:24

القسم الثاني: المستقبل السعيد للبشرية في الفكر الماركسي

اشارة

ص:25

ص:26

أسس منهجة البحث

تتزعم الاتجاهات المادية عموما، الفكرة المسماة بالماركسية، و إن لم تكن منتسبة بكل تفاصيلها لماركس. و هي الاتجاه الوحيد من الفكر الحديث - حسب معرفتنا - الذي بشر بالمستقبل البشري السعيد.

و هي، بنظرة عامة، تتكفل ميادين ثلاثة بالبحث و التمحيص، و تحاول الربط بينها ربطا عضويا، و سوقها مساق نظرية موحدة شاملة.

الميدان الأول: إعطاء نظرية شاملة للكون المادي كله، و تفسير تسلسل الحوادث فيه، بشكل تحاول الماركسية عدم إبقاء ثغرة فيه.

... يتمثل ذلك بنظرية (الديالكتيك) القائلة بأن كل شيء يحتوي في داخله و مضمونه على صراع دائم بينه و بين نقيضه... حتى يزول المتصارعان و يتولد من الصراع شيء جديد، يكون بدوره محتويا على الصراع ذاته. و هكذا تتعدد الأشياء، و هكذا تتطور... و لا ينجو من هذا الصراع حتى القضايا الرياضية البحتة، كما أكد عليه انجلز، على ما سنسمع.

الميدان الثاني: إعطاء نظرية شاملة للتاريخ البشري و مفسرة له، و هي المسماة ب (المادية التاريخية) المبتنية بدورها على الديالكتيك العام. حيث نجدها تقول - طبقا لذلك المفهوم -: بانقسام المجتمع إلى طبقتين متصارعتين يتمخضان عن وضع اجتماعي جديد... و يتبدل بتبدل الوضع الاجتماعي كل أحواله الفكرية و الاقتصادية و الأخلاقية و غيرها.

و تحتوي هذه النظرية على إيجاد تسلسل تقليدي لعصور التاريخ معروف لكل مثقف... يبدأ بعصر الاشتراكية الأولى البدائية، و ينتهي بعصر الاشتراكية العلمية أو الطور الشيوعي الأعلى، الذي تنتفي فيه الدولة و يحكم المجتمع نفسه على أساس وضع اقتصادي معين.

الميدان الثالث: إعطاء فهم شامل للاقتصاد قائم على أساس تقييم

ص:27

معين للنظريات الاقتصادية المعروفة، و خاصة الاقتصاد الرأسمالي العدو التقليدي العنيد للماركسية، مع بناء نظرية جديدة في الاقتصاد تكون هي البديل - في نظرها - عن جميع النظريات الأخرى.

و أهم نقطة ركزت عليها الماركسية في هذا الصدد، هو نظرية (فائض القيمة) التي تنتج النظام الرأسمالي على أساس لا إنساني ظالم؛ قائم على أساس سرقة مالك رأس المال نسبة معينة من أرباح عماله... تلك السرقة التي تركز الصراع بين هاتين الطبقتين، و تتمخض في نهاية المطاف - بقانون الديالكتيك - عن المجتمع الاشتراكي.

و نحن إذ نكون بصدد دراسة الماركسية من زاوية تبشيرها بالمستقبل السعيد للبشرية، نكون مواجهين للميدان الثاني بشكل أساسي... لأن هذا المستقبل هو جزء عضوي رئيسي من المادية التاريخية نفسها.

و بهذا يكون التعرض إلى الميدانين الآخرين، ثانويا إلى حد ما. و لكنه لا بد منه على كل حال. أما الميدان الأول فاللازم التعرض له من أجل تفهم الأسس الفكرية الكونية التي تقوم عليها المادية التاريخية... و أما الميدان الثالث فنتعرض له ضمنا حين ندرس تقييمات الماركسية للمذاهب الاقتصادية الأخرى.

و من هنا سيكون تسلسل المنهج في هذا القسم من الكتاب كما يلي:

نبدأ بتمهيدات معينة تتكون من:

أولا: المضمون المشترك بين المادية التاريخية و التخطيط الالهي العام، حيث تمسّ الحاجة إليه حين يراد إعطاء البديل الأصلح للمادية التاريخية.

ثانيا: مناشئ الفكر الماركسي... و هو دراسة الأسباب الموضوعية التي أوجدت الفكر الماركسي بين البشر.

ثالثا: مصاعب النقاش مع الماركسيين... بصفتهم المبشرين بالمستقبل السعيد، و الحاملين للنظرية التي نتصدى لمناقشتها.

و حين تنتهي هذه التمهيدات، و نريد الحديث عن المادية التاريخية، لا بد لنا - كما أشرنا - أن نقدم لها قسمين من المقدمات:

القسم الأول: الأسس العامة الفلسفية للمادية التاريخية... من حيث كونها قائمة على أساس الديالكتيك.

ص:28

القسم الثاني: الأسس الاقتصادية و الاجتماعية للمادية التاريخية، و نعني بها ربط الحوادث التاريخية بقوى الانتاج و علاقاته.

و حين يتم هذان القسمان ندخل في: الهيكل الأساسي للمادية التاريخية و هو الفهم الخاص للمجتمع و التاريخ المتكون من فقراته و عهوده المعينة.

و سنلتزم - هناك - بالتزامين معينين، لأجل زيادة الاطمئنان و الايضاح:

الالتزام الأول: نقل أي نظرية أو فكرة من مصدر ماركسي بألفاظ ذلك الكتاب... و لا نحاول النقل بالمعنى مهما أمكن... لنكون مع القارئ على بينة من الأمر تجاه الفكرة الماركسية.

الالتزام الثاني: إننا سنعطي - هناك - لكل فقرة ماركسية، رقما معينا... لكي نستفيد من ذلك في ضبط التسلسل الفكري أولا، و سهولة الاستنتاج ثانيا... و يفيدنا أيضا عند النقاش، حيث سنناقش الفقرات في نهاية كل فصل من دون أن نضطر إلى نقل مضمونها من جديد... بشكل مستلزم للتكرار.

و هكذا سيبدأ الحديث عن المادية التاريخية، و ينتهي...

ص:29

التمهيد الأول: المضمون المشترك بين المادية التاريخية و التخطيط الالهي العام

من الملاحظ بجلاء، أن اتجاه المادية التاريخية، و اتجاه التخطيط العام الإلهي لتكامل البشرية، و هما معا يبشران بالمستقبل السعيد... من الملاحظ أنهما بالرغم من كونهما قطبين متعارضين... إلا أنهما بنظرهما الشامل إلى البشرية، استطاعا أن يبينا نقاطا معينة اشتركا فيها و تصادقا عليها.

و هذه النقاط بالرغم من كونها عناوين عامة، فارغة من التفاصيل، إلا أنها ليست بالقليلة إلى الحد المتصور، و إنما هي ذات طابع مهم إلى حد كبير. و إنما يبدأ الخلاف بين الاتجاهين - بعد تجاوز أسسها العامة -: عند الدخول في التفاصيل، و محاولة ملء هذه العناوين الفارغة بما ينبغي أن تملأ به.

و سنحاول الآن أن نلخص المضمون المشترك بين الاتجاهين...

بشكل يكون مرضيا - في الأغلب - لهما معا:

إن البشرية، بصفتها جزءا من الكون، تكون محكومة بطبيعة الحال، للقوانين الكونية، التي تقوم بتطويرها بشكل موضوعي مستقل عن إرادة البشر. و إنما يملك الأفراد حرية التصرف من خلال ما تعطيه تلك القوانين من فرص.

و التاريخ البشري، صاعد باستمرار نحو التكامل و التطوير نحو الأفضل، حتى يصل في يوم من الأيام إلى مستقبل سعيد يسود فيه الرفاه ربوع البشرية كلها.

فقد وجدت البشرية في أول أمرها ساذجة و بسيطة... و بقيت كذلك، ردحا من الزمن، حتى استطاعت بالتدريج البطيء أن تسير نحو الأفضل... و قد لاقت خلال سيرها هذا كثيرا من المشاكل و الويلات.

ص:30

و قد مرت البشرية خلال ذلك بعدة مراحل، كانت كل مرحلة منها أفضل من سابقتها، تدفع بعض ما فيها من نواقص، و تضفي عليها ما تستطيعه من تطورات.

و هي مراحل عديدة، سارت فيها طبقا للقوانين الكونية من ناحية، و لقوانين خاصة بها، من ناحية أخرى... و يمكن القول - إلى حد ما - ان البشرية تعيش خلال الزمن المعاصر، المرحلة ما قبل الأخيرة من تاريخها الطويل... و لم يبق أمامها إلا تلك المرحلة التي يتحقق فيها الأمل الوردي الذي يتساوى فيه الناس و يعيشون من رفاه و سعادة... و ستبدأ البشرية يومئذ تاريخا طويلا و مجيدا.

و هذا اليوم هو اليوم النهائي من تطور البشرية... الذي لا يخلفه يوم آخر سيئ. بعد أن يتطور فيه الانسان تطورا ضخما، و يكتسب وعيا جديدا، يستطيع به أن يخط تاريخه الطويل الجديد بحروف رشيدة و خطوات رصينة و ان التاريخ الأساسي للبشرية هو الذي يبدأ منذ ذلك الحين... و إنما نعيش الآن عصور ما قبل التاريخ!!!... تماما كما يعيش أجدادنا عصور ما قبل التاريخ بالنسبة إلينا!...

و نحن الآن إذ نعيش في العصر السابق على المستقبل الموعود... و إن كنا نستطيع أن نعطي اللمحات المهمة عن صفات ذلك العهد الأغر... إلا أن عدم معاصرتنا له، و عدم مشاهدتنا لمقدار عمقه و حقيقة وعيه... إلى جانب ارتباط أفكارنا بواقعنا و وعينا المعاصر... كل ذلك يوجب عجزنا عن أن نصف العمق الحقيقي الكامل لذلك المستقبل الموعود، و النظام التفصيلي الذي يسوده. و إنما المهم الآن أن نعرف باليقين أنه يوم آت لا محالة، و به تتحقق الراحة الكاملة للبشر أجمعين. و لعلنا نستطيع - إلى جانب ذلك - أن نلم بقليل من صفات ذلك المجتمع الموعود.

هذا هو المنطق المشترك الذي يتفق فيه هذان الاتجاهان المستقطبان.

و لكننا إذا تقدمنا نحو التفاصيل خطوة أو خطوات، نجد الاختلافات الأساسية بوضوح في عدة جهات:

أولا: في تشخيص ماهية القوانين الكونية الشاملة للبشرية.

ثانيا: في تشخيص القوانين التي نختص بالتاريخ البشري و تطويره.

ص:31

ثالثا: في تشخيص السبب الأساسي لنقص البشرية و الباعث على ما يسودها من مصاعب و ويلات.

رابعا: في تشخيص المراحل التي مرت بها البشرية خلال تاريخها الطويل. فإن للمادية التاريخية اتجاها معروفا في تفصيل هذه المراحل لا يوافقها عليه الاتجاه الآخر، الذي يقوم بدوره شكلا آخر من المراحل.

خامسا: في تشخيص ما يستطيع فهمه من تفاصيل و أنظمة للمستقبل الموعود، و ما هو سبب السعادة و الرفاه فيه.

سادسا: في انه هل هناك بعد تحقق ذلك المستقبل، و وجوده في عالم الحياة... هل هناك تسلسلا تطويريا آخر يصل بالبشرية إلى مستقبل جديد... أو لا؟ و هذا ما لم تستطع الماركسية أن تفصح عنه. على ما سنرى... و قد أفصح عنه التخطيط الإلهي العام الذي استطاع أن يواكب البشرية إلى يوم فنائها... على ما سنسمع.

و بهذه النقاط، و نقاط أخرى، اتسعت الهوة بين هذين الاتجاهين، و اكتسبا الاستقطاب و التنافي بينهما... إلى حد لا يكاد يشعر الفرد الباحث بما بينهما من نقاط الاتفاق، بعد أن يستحوذ على شعوره وجود الخلاف في التفاصيل.

و نقاط الالتقاء هذه هي التي حدتنا إلى أن نتحدث عن المادية التاريخية بصفتها إحدى الاتجاهات التي أصابت النظر في التبشير باليوم الموعود السعيد... و إن أخطأت في التمهيدات و التفاصيل كما سنرى.

ص:32

التمهيد الثاني: مناشئ الفكر الماركسي

يمكن للباحث أن يقدم عدة أطروحات في الجواب على السؤال الآتي:

كيف و لما ذا وجد الفكر الماركسي في تاريخ الفكر البشري العام. و لما ذا مال بعض المفكرين إلى اتخاذ هذه النظرية كتفسير لمختلف ميادين الحياة.

يمكن أن نقدم بهذا الصدد، ثلاث أطروحات مفهومة تقوم أولاها على قواعد الفكر الماركسي نفسه، و تقوم الأخيرة على أساس التخطيط الإلهي لليوم الموعود. و تحاول الوسطى بيان الخاصة المتعددة التي أنتجت هذه النتائج.

الأطروحة الأولى: القائمة على الفكر الماركسي نفسه:

إن تصريحات الماركسيين أنفسهم تقتضي أن كل شكل من أشكال الفكر، ناتج - بالضرورة - من الطبقة التي ينتمي إليها المفكر. و يستحيل على أي إنسان أن يفكر تفكيرا مطلقا حرا عن حدود طبقته التي ينتمي إليها.

و قد رتبوا على ذلك عدة نتائج: من أهمها: ضرورة اختلاف الفكر باختلاف الطبقة التي ينتمي إليها المفكر. و ضرورة وجود الصراع بين أفكار الطبقات... و إن أفكار أفرادها ان هي إلا انعكاس لواقع الصراع المحتدم بينهم.

و بهذا استطاعوا أن ينفوا صدق أو صحة أي تفكير آخر غير تفكيرهم، بصفته فكرا طبقيا، بما فيه الفكر الديني على ما سنرى و نسمع.

بل حتى الحقائق الرياضية الواضحة... بعد أن صرحوا أنها تنطبق على قانون الديالكتيك، تكون فكرا طبقيا أيضا، و قابلا للتغيير بتغير الوجود الطبقي أيضا.

و طبقا لذلك... لا يكون الفكر الماركسي نفسه، بدعا من الأفكار، بل يكون فكرا طبقيا أيضا، و إدراكا محدودا للكون، قابلا للتغير تبعا لتغير

ص:33

الطبقة، كأي فكر آخر. إذ لا يمكن القول باستثناء الفكر الماركسي من قواعد المادية التاريخية الضرورية الانتاج ماركسيا... بأن نزعم - مثلا -:

أن مفكري الماركسية كماركس و انجلز و لينين... ذوي أفكار مطلقة لا طبقية و لا حزبية. فإننا بذلك نكون قد نفينا الضرورة عن المادية التاريخية. فإنه إذا أمكن استثناء هؤلاء المفكرين منها أمكن استثناء آخرين أيضا. بل يعني ذلك نفي هذه الضرورة بالمرة، لا كما تريد الماركسية...

و من ثم يتضح من هذه الأطروحة الأولى التي نعرضها... إن وجود الفكر الماركسي مستند إلى الضرورة التاريخية الطبقية التي تؤمن بها الماركسية نفسها. و إذا كان كذلك، لم يمكن صدقها صدقا تاما و إنما تكون قابلة للتغير و التبديل، طبقا للضرورة التاريخية نفسها.

و قد التفت الكتاب المتأخرون من الماركسيين إلى ذلك... و من الطريف أنهم اعترفوا بهذه النتيجة، طبقا لقواعدهم الماركسية، فقد جردوا من الفكر الماركسي قواعد مطلقة جعلوا الفكر الماركسي نفسه تطبيقا من تطبيقاته، و سواء صح منهم ذلك أم لا. فإنهم اعتبروا الفكر الماركسي فكرا طبقيا حزبيا... اقتضت الضرورة التاريخية وجوده من أجل الانتقال من المرحلة الرأسمالية إلى ما بعدها، حتى الوصول إلى المجتمع الاشتراكي العلمي الأخير.

و قد واجهوا في هذا الصدد بعض المصاعب من أهمها: أن ماركس و انجلز نفسيهما من أبناء الطبقات المتقدمة تاريخيا كالإقطاع أو الرأسمالية...

فكيف أنتج ذهنهما فكرا اشتراكيا يتقدم بالبشرية إلى نهاية الشوط.

و قد أجابوا على ذلك: انه يمكن للفرد أن يخرج من طبقته و يندرج في طبقة أخرى، يختارها لنفسه، لأنهم أكدوا إلى جنب الضرورة التاريخية وجود عنصر الاختيار الفردي و حرية التصرف، كما سنسمع. و من هنا يمكن القول بأن هذين المفكرين خرجا من طبقتهما الاقطاعية أو الرأسمالية، و انتميا إلى الطبقة الجديدة التي تمثل الفكر الاشتراكي... و بذلك فسروا انقداح الفكر الاشتراكي في ذهن هذين المفكرين الماركسيين الرئيسيين.

إلاّ أن هذا الجواب ليس صحيحا، لوضوح أن ماركس و انجلز إنما صبحا من قادة العمال و موجهيهم بعد وضع نظرياتهم العامة في التاريخ، لا

ص:34

انهم أنتجوا هذه النظريات بعد انتمائهم إلى العمال.

و من هنا سوف نضطر إلى القول: بأن الفكر الاشتراكي الماركسي نتج لأول وهلة من الطبقات السابقة على الاشتراكية، التي كان ينتمي إليها ماركس و انجلز. و بذلك يصبح الفكر الماركسي نفسه تطبيقا مخالفا للقواعد التاريخية الماركسية.

و لو تنزلنا عن هذا الجواب، و فرضنا الفكر الماركسي ناتجا عن الطبقة الاشتراكية، فهو - على أي حال - لا يخرج عن كونه فكرا طبقيا حزبيا.

و معنى ذلك عدم إمكان كونه فكرا مطلقا، بل يكون فكرا محدودا، و قابلا للتغيير، بل ضروري التغيير بتغير الطبقة و علاقات الانتاج.

و لا يعني خروج المفكرين الماركسيين عن طبقتهم، ان أفكارهم أصبحت مطلقة... و إنما يعني أنها أصبحت نتيجة لطبقة أخرى غير الطبقة التي كان ينبغي أن تنتج عنها. فإنها سواء نتجت عن هذه الطبقة أو تلك، فإنها على أي حال، فكر طبقي محدود.

و من الطريف ان الكتاب الماركسيين، جعلوا الفكر الماركسي مواكبا لعدة عصور من المادية التاريخية. فإنه بدأ بوجود العصر الرأسمالي الأول (التراكم الأولي لرأس المال) و سيبقى إلى الطور الشيوعي الأعلى... فإذا علمنا ان مجموع هذا الزمن ينقسم إلى ستة عصور تاريخية، على ما سوف نسمع... إذن فقد كان للماركسية توفيق استثنائي بالبقاء خلال كل هذه العصور... فإنه بالرغم من ان تطور وسائل الانتاج و تبدل علاقاته، قد أوجبت تطور البشرية و تبدل النظام الحاكم و كل الايديولوجيات الاجتماعية عدة مرات... لم تستطع التأثير بتطور الفكر الماركسي، بل بقيت حقائقه هي الحقائق المطلقة القائدة للبشرية و الرائدة للمستقبل الأفضل.

و بهذا يصبح الفكر الماركسي، بدوره، خارجا عن قواعده و ضروراته التاريخية، مرة أخرى.

و قد يخطر في الذهن: ان التطويرات المتأخرة للمفكرين الماركسيين المتأخرين، تمثل هذا التطوير الذي تقتضيه الضرورة التاريخية.

إلاّ أن هذا السؤال منطلق من زاوية فكرية ضيقة ماركسيا:

أولا: باعتبار ما عرفناه من أن العهود التي مرت بها الماركسية و تمر

ص:35

بها، تصل إلى ستة عهود... و ليست التطويرات تصل بالضبط إلى هذا العدد، و لا هي مواكبة من انتقال العهود، عهدا عهدا.

ثانيا: إن أفكار المحدثين... هل هي أفكار ماركسية أم لا... فإن لم تكن ماركسية لم يكن لنا معها الآن حديث. و إن كانت ماركسية، فمعنى ذلك وجود الفكر الماركسي باستمرار من عصر ماركس إلى الآن، مع أن مقتضى قانون النفي و الاثبات و قانون التغير النوعي الماركسيّين اللذين سوف نسمعهما... هو أن يتبدل في كل عهد، الفكر إلى نقيضه، فيصبح الفكر الماركسي غير ماركسي... مع أنه لم يصبح كذلك في أي عهد من العهود.

إذن صح كون الفكر الماركسي خارجا عن ضروراته التاريخية التي أسسها بنفسه... أي انه متغير و زائل عن المجتمع طبقا لضروراته نفسها.

الأطروحة الثانية: ان نحسب حساب الوضع العام الذي ولدت فيه الماركسية، بغض النظر عن اتجاه فكري معين.

و بهذا الصدد يمكن أن نضع أيدينا على عدة نقاط رئيسية، تكوّن بمجموعها البيئة الرئيسية التي ولدت فيها الماركسية، و ساعدت على نموها...

النقطة الأولى: إن أوربا كانت منذ أول عهد نهضتها، في حالة صراع دائم و دائب بين مختلف عناصرها و اتجاهاتها من النواحي الفكرية و الاقتصادية و الاجتماعية، لا يقر لها قرار و لا يهدأ لها بال. فالصراع بين القديم و الحديث قائم على قدم و ساق... ذلك القديم الذي يمثله الاقطاع و الكنيسة و مجموعة التقاليد و العادات الأولى، و الحديث الذي يمثله قادة النهضة الفكرية عموما. و الصراع بين الاتجاهات الحديثة أيضا قائم. فقد عاشت أوروبا انشقاقات و تباينات عميقة و جذرية بين الفئات من الناحية السياسية إلى جنب النواحي العقائدية و العلمية و الفلسفية و غيرها.

و لسنا الآن بصدد إعطاء أرقام محددة عن هذه الصراعات المتمادية... إذ يكفينا هذا الوجدان البسيط الذي يحمله المثقف الاعتيادي عن حالة أوروبا خلال الثلاثة أو الأربعة قرون المتأخرة من تاريخها... و قد تكون الدقة في العرض عن الغريب العجيب، بهذا الصدد.

ص:36

و لم يكن حال أوروبا في عصرها القديم بأحسن حالا من عصرها الحديث... ابتداء من عصر الاغريق إلى عصر الرومان إلى عصر ما قبل النهضة... الذي كانت الأسر المالكة قد تقاسمت أروبا في فرنسا و ألمانيا و انكلترا و إيطاليا و غيرها. و ليست الحروب الواقعة بين هذه الدول كحرب السبع سنوات و حرب المائة عام... أو الحروب الواقعة بينها و بين الدول الأخرى كروسيا القيصرية و تركيا العثمانية... ليست ببعيدة عن الذاكرة.

كما لا يمكن أن تكون الخلافات و الحروب الداخلية بين الأحزاب أو الفئات الدينية أو غيرها... بعيدة عن الذاكرة أيضا.

كما ان عصر الأطماع الاستعمارية، و انفتاح أروبا على العالم الخارجي، و تفكيرها في استغلال موارده و ثرواته... ابتداء بالحروب الصليبية السابقة على النهضة و انتهاء بالاستعمار الصحيح اللاحق لها...

غير بعيد عن الذاكرة أيضا.

كان هذا العصر في أوجه و إبّان اندفاعه... حين وجد ماركس و انجلز.

و قد تكلّلت كل هذه القلاقل الأروبية، بأشدها رسوخا و أوضحها تأثيرا، أعني الثورة الفرنسية بما استتبعته من انشقاقات و خلافات و مجازر أتت على آلاف الفرنسيين.

و باختصار... إننا إذا نظرنا إلى الألف سنة الأخيرة، بل الألفين الأخيرة، وجدنا أروبا مليئة بالقلاقل و الدماء و الخلافات... و ليست العهود السابقة عليها بأحسن حالا من هذه الفترة، إن لم تكن أشد و أنكى، باعتبار ضعف المستوى الثقافي و العقلي للبشرية في تلك العصور... كل ما في الأمر، اننا نستطيع أن نباشر النظر إليها باعتبار بعدها التاريخي نسبيا.

و هذا يعطي الانطباع الواضح لدى الذهن البشري الذي يعيش في خضم هذه القلاقل و يكتوي بلهيبها... إن التاريخ البشري كله قائم على الخلاف و الصراع، و تنازع الطبقات و التحاقد بين الفئات.

فهذا الانطباع هو الذي حدا بالماركسية أن تقول في التاريخ نفس هذا المضمون، و تضيف: ان التحاقد و الصراع لا يمكن أن يزول ما دامت الطبقات ذات وجود في المجتمع.

ص:37

كما انعكس هذا الانطباع في ذهن داروين و آخرين، على شكل تعميم آخر، و ان عالم الحيوان كله قائم على الصراع، و ان البقاء يكون للأقوى أو الأصلح...

بل زاد الانطباع على ذلك في ذهن الماركسيين... فاعتبروا الكون كله قائما على الصراع أيضا، ليس بين الأشياء المتعددة فحسب، بل حتى بين الشيء و ذاته أيضا. فكل شيء يحتوي على عناصر هدمه و فنائه، و هو في صراع دائم معها. حتى يكون لتلك العناصر النجاح في إفناء الشيء...

لكي يوجد في نهاية المطاف شيء جديد... ليبدأ الصراع الجوهري في ذاته من جديد.

و اعتبرت الصراع بين النقائض قانونا كونيا عاما، لا يمكن أن يتخلف... و أنه هو السبب الرئيسي لوجود أي ظاهرة أو حركة في الكون أو على صعيد المجتمع الانساني.

فهذا التعميم الذي قالته الماركسية... ان هو إلا انطباع نفسي يمثل ما كان يعيشه المفكرون الماركسيون من صراع و خلافات اجتماعية، و ما كانت تحدثه هذه الصراعات من ردود فعل اقتصادية و سياسية و نفسية مؤثرة في وضعهم الشخصي و مصالحهم الخاصة. فحين اكتووا بنار الخلافات العامة و تضرروا من نتائجها... لم يستطيعوا أن يتحرروا من ضغط مفعولها الذهني... لكي يتصوروا الكون و المجتمع منسجما خاليا من الصراع و النزاع.

النقطة الثانية: إن أوروبا عاشت في عصر النهضة و ما قبلها: عصري الاقطاع و الرأسمالية، بشكل مركّز و واضح... كما هو الحال في إنكلترا و فرنسا على الخصوص، و ألمانيا و إيطاليا و بعض أوروبا الوسطى على العموم.

و حيث كانت أوروبا دون كل مناطق العالم الأخرى، تستقطب اهتمام الفرد الأوروبي عادة - بما فيهم ماركس و انجلز نفسيهما -، من النواحي الاقتصادية و الاجتماعية و النفسية... فقد أصبح هذا الوضع الأوروبي هو المثال الأفضل لأهم مراحل نظرية المادية التاريخية التي وضعها ماركس و انجلز... و الميدان الرئيسي للتركيز عليه كوضع ظالم و مجحف، و التبشير

ص:38

بإمكان - بل بضرورة - تحوله إلى وضع مريح و سعيد... و العمل الجاد في سبيل ذلك بتنظيم الأمميات و الأحزاب الاشتراكية، من أجل نقل المجتمع الأوروبي من وضعه المجحف إلى الوضع الأفضل الذي بشرت به المادية التاريخية.

... بل أصبح التعميم من الوضع الأوروبي، و صفات المجتمع الأوروبي إلى كل البشرية و التاريخ البشري، ممكنا في نظر الماركسيين...

لأن أوروبا هي المثال الأفضل الذي يتركز به الوجود البشري و التاريخ البشري كله!!!.

و من هنا أيضا لا نرى أي اهتمام حقيقي في كلام الماركسيين بسائر مناطق العالم، حتى روسيا القيصرية، قبل أن ينبثق فيها الأمل بتحولها إلى الاشتراكية. فضلا عن بلدان آسيا و افريقيا و أمريكا بوضعها الموجود خلال القرن التاسع عشر الميلادي.

و لو وزعت الماركسية نظراتها بانتظام، على مناطق العالم، في توزيع مراحل المادية التاريخية... لوجدت في ذلك صعوبات جمة، لمدى الاختلاف التاريخي الكبير الذي عاشته أوروبا عن سائر مناطق العالم... بما فيه روسيا القيصرية نفسها، كما اتضح بعد ذلك العصر بقليل.

فإنه بالرغم من أن أمل ماركس و انجلز، كان منعقدا على تحوّل فرنسا و انكلترا إلى الاشتراكية بعد أن مرت بالفترة الرأسمالية... و عدم تحول الاقطاع الروسي القيصري إلى الاشتراكية، لضرورة مروره بالفترة الرأسمالية طبقا لمفاهيم المادية التاريخية. بالرغم من ذلك وجدنا روسيا تنقلب إلى الاشتراكية بعد الاقطاع مباشرة، و ان الرأسمالية تبقى إلى أمد غير محدود في فرنسا و إنكلترا و اضرابهما... على خلاف نبوءة الماركسيين و قواعد المادية التاريخية!!!.

و من الطريف أن الجيش البلشفي (الماركسي) نفسه بقيادة (لينين) هو الذي استطاع خرق هذه الضرورة التاريخية، و الاستغناء عن الوضع الرأسمالي في روسيا و الطفرة بها من الاقطاع إلى الاشتراكية... و لعل قيامه بهذه المعجزة مستند إلى إيمانه العميق بهذه النظرية المقدسة!!!...

و سيأتي في داخل الكتاب بحث كل هذه الأمور مفصلا...

ص:39

النقطة الثالثة: ان ماركس استطاع أن يشخص في نفسه و غيره، حقيقتين مقترنتين:

الحقيقة الأولى: اتصافه بالذكاء الكافي و العبقرية التي تؤهله لوضع النظريات الدقيقة، و قيادة الناس على أساسها.

و هذه العبقرية واضحة الثبوت له، بعد أن استطاع أن يستعملها أوسع استعمال. فوضع من الناحية النظرية أطروحة فكرية متناسقة تفسر الكون و الحياة على حد سواء. و استطاع أن يشارك من الناحية العملية في تطبيق هذه النظرية و قيادة الناس على أساسها، بمقدار إمكانياته و ظروفه.

الحقيقة الثانية: فهم ماركس بعبقريته أن قيادة الناس و استقطاب عواطفهم و استغلالها، يكون يسيرا للغاية لو أوجدت لهم نظرية مشتملة على عنصرين أساسيين:

العنصر الأول: كونها مستوعبة استيعابا كافيا للكون و الحياة، و تعطي فهما متكاملا عن ذلك. فإن هذا العنصر مما يجلب الاهتمام و الاحترام لأي نظرية تحتوي عليه.

العنصر الثاني: كونها مبشرة بمستقبل سعيد تزول فيه الآلام و تتحقق فيه الآمال... يكون هو نتيجة الأعمال و الجهود البشرية... و خاصة الواعية و الهادفة منها.

فإذا استطاعت النظرية أن: تقول أن: هذا المستقبل ضروري الوجود و ليس محتملا فقط. و استطاعت أن تبرهن على ذلك من نفس تسلسلها الفكري المتناسق... استطاعت استقطاب أكبر قدر ممكن من العواطف و المؤيدين.

و قد استطاع ماركس أن يجمع بين هاتين الحقيقتين حين رأى من نفسه قابلية القيادة و لذتها، فوضع نظريته المنسجمة عن الكون و الحياة، و استطاع أن يمزجها بالتنبؤ بالمستقبل السعيد، لكي يستقطب أكبر مقدار من العواطف و يجعل لأتباعه و مؤيديه هدفا يسعون إليه و يعملون من أجله.

و لا زال العنصران الأساسيان في الحقيقة الثانية هما مثار الاحترام للنظرية الماركسية عند كثير من الناس، بل القناعة و الاندفاع عند عدد لا يستهان به منهم. و لا شك أنهما يدلان - على أي حال - على عبقرية واسعة، لو لا الفجوات التي يمكن أن نجدها في النظرية و في التطبيق معا،

ص:40

كما سوف نسمع مفصلا.

و هذا هو الفرق بين قيادة ماركس و اتباعه للناس، و بين قيادة غيرهم كنابليون - مثلا - حيث احتوى الآخرون على الذكاء القيادي دون الذكاء النظري، فأصبحوا قادة فكريين، لا يملكون أي فهم محدد للحياة فضلا عن الكون. و أما قيادة ماركس و أتباعه، فقد أصبحت قيادة عملية و نظرية معا... مما يسر له قيادة الناس إلى حد كبير.

النقطة الرابعة: ان ماركس شعر أن الخط المادي الالحادي خط مشروع في الرأي الأوروبي العام غير مستغرب... إذ لو لم يكن كذلك، لما استطاع ماركس أن يمارس القيادة على أساسه.

بل هو الاتجاه المفضل، لكل من يرى نفسه أفضل من الآخرين، و يرى لنفسه حرية العمل و الرأي، و أفضلية التمسك بكل جديد نتيجة الأجيال، و إن منعت عنه الأديان. هكذا كان اتجاه الفكر الأوروبي العام، يؤيده الاتجاه العلمي الذي يعتقد منافاته مع الاتجاهات الدينية المتمثلة بالكنيسة هناك.

إذن، فلم يذهب عن ماركس، نتيجة لذلك، ان القيادة الناجحة و المرغوبة اجتماعيا في أوروبا هي القيادة التي تنطلق من الالحاد و تقوم على نقد الواقع الديني نقدا مرا... و من ثم اتخذ هذا المسلك و مشى على هذا الطريق، كما سنسمع مفصلا.

النقطة الخامسة: التمهيد للنظرية الماركسية بنظريات فلسفية سابقة عليها تتبنى المادية الديالكتيكية... و قد تتوجت قبل ماركس بقليل بفلسفة هيجل، الذي اعترف المفكرون الماركسيون: أنه الرائد الأول لوضع الديالكتيك و الممهد للنظرية الماركسية(1).

النقطة السادسة: يتصف المجتمع الأوروبي الذي وجد فيه ماركس، بنقص أساسي، انطبع على ماركس و غيره... و كان له الأثر البليغ في تهيئة الأرضية العامة لنمو النظرية الماركسية.

فإن المجتمع الأوروبي ككل، بجانبيه المتدين و الملحد معا، كان يرى

ص:41


1- (1) انظر: أسس الفلسفة الماركسية، افاناسييف ص 20 و ما بعدها. و المادية الديالكتيكية لجماعة من الكتاب السوفييت ص 44.

الدين منحصرا بتعاليم الكنيسة بما فيها من تعصب و ظلم و مشاكل عقائدية و اجتماعية. فالمتدين كان يضطر إلى الرضوخ للكنيسة و الرضاء بواقعها مهما كان. و المتمرد كان يرى ببطلان الكنيسة بطلان الدين كله، و بظلمها و مشاكلها ابتناء الدين كله على المظالم و المشاكل... باعتبار كون الكنيسة هي الفرد الأمثل للدين، في نظره...

مع أنه لو كان للشعب الأوروبي درجة كافية من الموضوعية و التجربة في النظر و الفكر، و كان في البلاد الاسلامية الإمكانية الكافية على إبلاغ أفكار الاسلام و مفاهيمه إلى أوروبا كاملة غير منقوصة و صحيحة غير مشوبة...

لاستطاعت أوروبا منذ أول عهد نضتها أن تقرن تمددها على الكنيسة بالرجوع إلى حقائق الاسلام، و أن تعرف: أن الكنيسة لا تمثل كل الدين، بل و لا شيئا من الدين بالمرة... و إنما تمثل الجبروت و الظلم و الإثراء غير المشروع باسم الدين و باسم الدعوة الالهية المقدسة. و ليس شيء من ذلك في الاسلام موجودا، مما ييسر لأوروبا الحصول على البديل الصالح عن الكنيسة في الاسلام، لا أن ترتمي في أحضان الالحاد دون وعي.

إذن، فالنقص الأساسي الموجود في المجتمع الأوروبي، هو عدم محاولة استيعاب النظريات المعروفة في العالم بالبحث و التحليل، لعلها تجد في إحداها الحق المفقود و العدل الضائع... بل و عدم النظرة الموضوعية تجاه أي فكر سوى ما خلقته أوروبا لنفسها من نظريات في تفسير الكون و الحياة.

و حين انعدمت محاولة الاستيعاب، كان من الواضح و الطبيعي، أن لا تصل أوروبا إلى الاسلام، و أن لا تتعرف على مفاهيمه، و أن لا تطلع على مصادره و منابعه... فتضطر إلى أن تتمسك بأي بديل آخر للكنيسة لمجرد أنه يحتوي على درجة من السعة و الأهمية.

و من ثم لم يكن لماركس و لا لغير ماركس، في ذلك المجتمع أن يحاول استيعاب المصادر البشرية بالبحث و النظر... و ليس له إلا أن يعيش جو الأنانية الفكرية في تقديس المعطى الأوروبي و رفض غيره من ناحية عاطفية... من دون أن يكون مستعدا لسماع الدليل و البرهان.

إذن، فمن المحتمل - على أقل تقدير - لو كانت النظرة الموضوعية المستوعبة موجودة في المجتمع الأوروبي... أن لا توجد النظريات

ص:42

الماركسية، و لا غيرها، بعد أن يطلع ماركس على البديل الصالح. أو - لا أقل - من أن ماركس حين يضع نظريته، سوف لن يجد التجاوب الكافي في المجتمع، بعد أن كان الفرد الأوروبي الاعتيادي قد اطمئن إلى البديل الصالح الذي يستغني به عن الماركسية و عن نظرتها العامة للكون و الحياة.

و من هنا نعرف، مقدار التأثير العميق لهذا النقص لدى ماركس خاصة، و المجتمع الأوروبي عامة، من تأثير في وجود النظرية الماركسية و تهيئة البيئة الذهنية العامة لتلقيها و استقبالها استقبالا حسنا. بالرغم من أن هذا النقص قد يغفل عنه الكثيرون، و خاصة الفرد الأوروبي باعتبار اعتزازه بنفسه و مجتمعه، و نظره المتطرف إلى الاسلام و بلاد الاسلام.

بل ان أوروبا لم تستطع نشر نظرياتها في الشرق الاسلامي، ماركسية و غيرها، إلا بعد أن استطاعت تزريق نقصها بنفسه هناك ففصلت بين الشعب و دينه، و أفرغت ذهنه منه، و ملأت الفراغ باعتراضات على التكوين الديني و بالنظريات المبتدعة في المجتمع الأوروبي نفسه... و تقبل الناس في الشرق الاسلامي، هذا التخطيط الهدام، بكل صفاقة و إهمال.

الأطروحة الثالثة: لتفسير ولادة الفكر الماركسي:

و هي الأطروحة المبتنية على أساس التخطيط العام لليوم الموعود، الذي سبق أن عرضناه في الكتابين السابقين من هذه الموسوعة، و سيأتي في القسم الثالث من هذا الكتاب عرضه من زاوية أعمق و أوضح.

و من مهم تطبيقاته هو التعرض إلى تفسير وجود المادية عموما و الماركسية خصوصا في المجتمع البشري. و ستأتي تفاصيل ذلك... و إنما ينبغي في المقام أن نعطي صورة موجزة عنه، بالمقدار الذي ينسجم مع الترتيب المنهجي لهذا الفصل.

و ذلك: أنه ثبت بالدليل الدال على التخطيط الالهي العام، أن الهدف الذي استهدفه اللّه تعالى من إيجاد البشرية، و هو تطبيق العدل الكامل في ربوعها... يتوقف على مرور البشرية بظروف الاختبار و التمحيص، و هي الظروف التي يكون فيها الايمان صعبا و محتاجا إلى تضحية و قوة إرادة،

ص:43

و هي ظروف الظلم و الانحراف، حيث يكون الاتجاه العام للعالم هو ذلك، و يكون الايمان استثناء و شذوذا، فيحتاج الالتزام به و السير على طبقه في الحياة إلى المرور بمصاعب و تضحيات، قد تكبر و قد تصغر تبعا لظروف الفرد المؤمن و حاجاته العامة و الخاصة. بينما لا يحتاج الظلم و الانحراف، إلى أية كلفة، لأنه موافق للاتجاه العام و المصلحة الخاصة، في كثير من الأحيان.

و إذ يكون الأفراد العاديون من البشر، و هم كثرتهم الكاثرة، لا يملكون قوة في الارادة و استعدادا للتضحية في سبيل الايمان و العدل، فسوف يكون سلوكهم مطابقا للاتجاه الأسهل لهم، و هو اتجاه الظلم و الانحراف. و يوجد إلى جنب هذه الكثرة خلاصة بشرية قليلة في العدد كبيرة في الارادة و الاخلاص و الاستعداد للتضحية، تجاه الحق و العدل...

فهؤلاء هم الذين يكون التمحيص سببا في زيادة تمسكهم بالايمان و اندفاعهم في طريقه.

... و هؤلاء هم النخبة الصالحة التي يكون على عاتقها شرف القيادة لايجاد اليوم الموعود السعيد للبشرية. ذلك اليوم الذي وجدت البشرية وضحت الأجيال و كرست الجهود من أجله على طول الخط التاريخي الطويل.

و قد برهنا أن البشرية ما لم تمر بظروف من الظلم و التمحيص هذه، و ما لم تحصل نخبة ممحصة الايمان قوية الإرادة من البشر، لم يكن بالامكان أن يحصل لها اليوم الموعود مهما طال الزمن. و حيث أن هذا اليوم الموعود السعيد قطعي الحدوث، لكونه الهدف الأعلى من وجود البشرية، إذن تكون أسبابه و مقدماته قطعية الحدوث أيضا. و حيث أحرزنا بالبرهان أيضا أن ظروف الظلم و التمحيص من مقدماته أيضا، كانت هذه الظروف قطعية الحدوث أيضا.

حتى ما إذا تمخض التمحيص عن درجة عليا معينة من الايمان، و الاخلاص و قوة الارادة في نفوس عدد كاف من المؤمنين لفتح العالم بالعدل... استحقت البشرية يومئذ أن تحظى بشرف تطبيق العدل المطلق على وجه الأرض.

فهذا ملخص مما ينبغي أن نعرفه الآن... و سيأتي تفصيل ذلك في القسم الثالث من هذا الكتاب.

ص:44

فإذا تم لدينا كل ذلك، أمكننا أن نضع أيدينا على رءوس الخيوط الرئيسية لموقف الماركسية من التخطيط الالهي... و بتعبير أحسن: موقف التخطيط الالهي من الماركسية خاصة و المادية كلها عامة... كمن النقاط التالية:

النقطة الأولى: ان ظروف الظلم و التمحيص السابقة على وجود الماركسية.

... بما تضمنته من أكثرية بشرية جاهلة... و انحسار الحقائق العادلة عن الأذهان، و عدم وصولها إلى الكثير من المفكرين في العالم، كما سمعنا في الأطروحة الثانية.

... و بما تضمنته هذه الظروف من انسياق البشر عادة وراء شهواتهم و مصالحهم، بغض النظر عن الأخلاق و العدالة.

... و بما في ذلك حب القيادة و الزعامة التي حدث بكثير من ذوي القابليات، إلى استغلال هذه الظروف و الاستعلاء على الناس و إيجاد المظالم و المشاكل فيهم.

... و بما تضمنته هذه الظروف أيضا، من خواء عقائدي لدى الكثرة الكاثرة من البشر، و الشعور بالحاجة إلى تكوين نظري كامل يلم شعثهم و يحل مشاكلهم... مما يسّر لنظرية عامة كالماركسية أن تحظى بالاعجاب و الاحترام و أصبحت محط الآمال لفترة من الزمن.

... في هذه الظروف، ولدت الماركسية. لتقوم بالزعامة النظرية الاجتماعية للبشر الخاوين المتلهفين للمستقبل الأفضل.

النقطة الثانية: إن الماركسية، بصفتها تتضمن مادية مفلسفة و معمقة، تندرج في الفكرة التي قلناها من تصاعد التمحيص و تعمقه باستمرار... فتكون مشاركة في مستوى عال جدا من التمحيص الالهي... من دون أن تعلم.

و ذلك: اننا إذا سبرنا تاريخ البشرية خلال الألف سنة الأخيرة، نجد انطباق هذه الفكرة بكل وضوح... فانه منذ أن وجدت الأطروحة العادلة الكاملة، يحسب التخطيط العام، وجدت إلى جنبها المادية متدرجة في التعقيد، و موازية - إلى حد كبير - مع الزيادة التدريجية في الدقة و العمق

ص:45

لفهم الأطروحة العادلة الكاملة.

فإن هذه الأطروحة، المتمثلة بالاسلام، كما سبق أن برهنا في تاريخ الغيبة الكبرى(1)، لاقت منذ أول عهدها المادية متمثلة بعبادة الأصنام...

تلك المادية الضحلة التي لم تكن تستند إلى دليل إلاّ مجرد التقالية و العادات.

ثم ابتليت إبان العهدين الأموي و العباسي بالزنادقة و الشكاكين و اتجاهات متطرفة من الفلسفة اليونانية و الوسيطة. و هي اتجاهات مادية كانت تحاول أن تلبس لبوس الدليل و العاطفة. و لكنها على أي حال، كانت استثناءات من القاعدة الرئيسية التي كانت للمجتمع المسلم و هو التدين بالاسلام، و كانت مغطاة بالوضع العام، لا تبدو على السطح الواضح بصراحة.

و لم تكد تنتهي هذه العهود، إلاّ و كانت أوروبا قد بدأت نهضتها الفكرية، و هي مادية الاتجاه عموما تدعو إلى تجاهل وجود اللّه - على أقل تقدير - و فصل الدين عن اندولة و القانون.

و بالتدريج حاول الأوروبيون أن يدققوا ماديتهم هذه و يتعمقوا فيها، و استطاعوا بذلك أن يجعلوا الاتجاه العام نحو المادية بشكل يكون معه الالتزام بالعقيدة الالهية هي الاستثناء... بخلاف ما كان عليه العصر السابق، حتى في أروبا نفسها.

كما استطاعت أروبا أن تضفي على ماديتها نوعا من الأدلة العقلية و العاطفية لم يكن يستطيعها مادّيّو العصر السابق بحال... و بذلك تعمق التمحيص الالهي.

و لئن كانت المادية الأولى لعصر النهضة، تقتصر على التشكيك بوجود كل ما هو غير محسوس، و بالتالي غض النظر عن العقيدة الالهية و العدل الإلهي، ان تلك هي مادية الرأسمالية عموما... فإن المادية المتأخرة المتمثلة بالماركسية أصبحت أوسع من ذلك و أعمق، لأنها مادية مقترنة بفهم عام و مفلسف للكون و الحياة.

... و بذلك تعمق التمحيص الالهي، و أصبح الحصول على الايمان بالرغم من هذه المصاعب العقائدية، غاية في الصعوبة، بالنسبة إلى الفرد

ص:46


1- (1) انظر ص 261.

الاعتيادي. و لم يبق بإزاء ذلك، إلاّ ما سنذكره في النقطة التالية.

النقطة الثالثة: إن الماركسية أوجبت و توجب تعميق الفكر الاسلامي بالتدريج، من حيث لا تعلم؛ و ذلك بعد الالتفات إلى أمرين:

الأمر الأول: ان النقاش الفكري و الجدل العقائدي، موجب بطبيعة الحال، لعمق الفكرة و تدقيق المستوى الثقافي، باعتباره موجبا لا عادة النظر فيما كان يملكه الانسان من فكر و رأي و محاولة صياغته من جديد بشكل يتلاءم و حياته المتطورة، من ناحية، و يدفع عنه إيرادات الآخرين، من ناحية أخرى.

و هذا النقاش النظري، بطبعه، ممحص للأفكار و العقائد، فكثير ما يوجب موت الفكرة و فشلها بالمرة. فيما إذا كانت ضحلة و بسيطة و غير قابلة للصمود الفكري و الاجتماعي. و لا تبقى بعد المرحلة المعمقة من هذا التمحيص، إلاّ الأفكار الكبرى، التي تملك القوة الكافية للصمود الفكري و الاجتماعي، تجاه إيرادات الآخرين و التكثيف لمتطلبات الحياة.

و إذا بلغ النقاش أقصاه، و هذا التمحيص غايته، لم يكن في إمكان أي عقيدة أو فكرة للبقاء و الاستمرار، ما لم تكن مطابقة للواقع، و مقدمة للتفسير الحقيقي للكون و الحياة.

الأمر الثاني: إن الأطروحة العادلة الكاملة السائرة نحو التطبيق الكامل على وجه الأرض، بحسب التخطيط الالهي، محتاجة إلى التعميق الكبير في أذهان البشرية، لكي تكون البشرية على مستوى فكري و عاطفي، تكون معه قابلة لفهم و تطبيق القوانين و المفاهيم العميقة التفصيلية التي تعلن في الدولة العالمية يومئذ، كما سمعنا في (تاريخ ما بعد الظهور) و نسمع نموذجا آخر منه في القسم الثالث من هذا الكتاب.

فبضم هذين الأمرين، نستطيع أن نفهم مدى الأثر الضخم الذي تخلفه المادية عامة و الماركسية خاصة في تدقيق الفكر الاسلامي، و تعميق مستواه في أذهان المسلمين. و ذلك على عدة مستويات:

المستوى الأول: محاولة الجواب على الايرادات التي توردها المادية على الدين عموما و الاسلام خصوصا... و بذل جهد فكري في ذلك... قد يستبطن الالتفات إلى أفكار و نظريات لم تكن موجودة في أذهان المسلمين.

ص:47

سواء في ذلك الصعيد العقائدي أو الفقهي أو التاريخي أو الاجتماعي أو غير ذلك.

المستوى الثاني: محاولة نقد النظريات المادية و كشف ما فيها من نقاط ضعف.

المستوى الثالث: محاولة إيجاد البديل الأصلح عن التفسيرات المادية للكون و الحياة، و محاولة فهم ذلك من المصادر الأساسية في الاسلام. و هو مستوى عال يتضمن بطبيعته الالتفات إلى أفكار أساسية و جديدة.

المستوى الرابع: محاولة اتخاذ أساليب جديدة مناسبة للعصر، لنشر الفكر الاسلامي على الصعيد العالمي، بإزاء ما تقوم به المبادئ الأخرى مادية و غيرها من أساليب للنشر و الاعلان و كسب الأفكار و الأنصار.

النقطة الرابعة: إن من أهم فقرات التخطيط العام، ان النظم البشرية، و النظريات التي تدعي حل مشاكل البشرية، سوف تواجه التمحيص، كما يواجهه الأفراد، و ذلك من خلال تطبيقها في عالم الحياة.

و سوف يبدو بالتدريج البطيء زيفها واحدة واحدة. حتى تيأس البشرية من كل هذه النظم السائدة و تشعر بعمق بالضرورة إلى وجود نظام منقذ يخرجها من وهدتها و ينتشلها من ورطتها. و هذا هو الشعور الذي سيساعد على تقبل البشرية للفكرة الاسلامية بمجرد عرضها كبديل عالمي صالح، عن جميع التجارب السابقة عليه، لكي يقوم بالاصلاح الكامل في اليوم الموعود.

و من هنا نستطيع أن نلاحظ مقدار مشاركة الماركسية في هذا المضمار فكرة و نظاما، فانها لا زالت تعيش تجربتها التطبيقية في العالم، و تواجه التجربة و التمحيص باستمرار... و لا زال ينكشف للرأي العام العالمي بالتدريج نقاط ضعفها، سواء من الناحية النظرية أو التطبيقية... حتى ان الماركسيين أنفسهم أصبحوا اليوم يناقشون نظريات ماركس نفسه و يطعنون بواضحات أفكاره، على ما سنسمع... فضلا عن غير الماركسيين.

و وضوح فشل النظام الماركسي في حل مشكلات الانسان، يعني أمرين رئيسيين في التخطيط الالهي:

الأمر الأول: إن فشلها يعني فشل إحدى الأنظمة الرئيسية التي تدعي حل مشكلات العالم. و بذلك تسير البشرية خطوة مهمة نحو اليأس من

ص:48

الأنظمة المعلنة، و الاتجاه في الأمل نحو نظام عالمي عادل جديد.

الأمر الثاني: ان الماركسية بصفتها إحدى النظريات المادية الدقيقة التي وضعت فهما كاملا للكون و الحياة، يكون فشلها معبرا بطريق أولى عن فشل أي تجربة أخرى تكون دونها أو مثلها في المستوى الفكري و التطبيقي.

... فهذه هي النقاط الأربعة التي تمثل الجوانب المهمة من موقف التخطيط الالهي من المادية عموما و الماركسية خصوصا. و سيأتي من خلال القسم الثالث ما يسند و يوضح هذه الجوانب أيضا.

ص:49

التمهيد الثالث: مصاعب النقاش مع الماركسيين

لا بد لنا و نحن بصدد عرض الآراء الماركسية و مناقشتها، أن نعرض السؤال التالي و نحاول الجواب عليه. و هو انه هل يكون النقاش مع الماركسيين ممكنا و مجديا أم لا؟.

و في جواب هذا السؤال، لا بد لنا من أن نمر بعدة نقاط:

النقطة الأولى: ان النقاش ليس عارا على أية نظرية أو فكرة، بل ان الحقيقة دائما بنت البحث، و أحر بالفكرة الصائبة أن تثبت جدارتها و عمقها عن طريق النقاش.

إلاّ أن النظريات إنما تكون ممكنة المناقشة مع حصولها على عدة خصائص معينة، و بدونها تكون المناقشة معها على درجة من التعقيد.

الخصيصة الأولى: أن تكون الفكرة أو مجموعة الأفكار محددة مفهومة، بحيث يمكن أن تبيّن و تتعقّل بأسبابها و صيغتها و نتائجها، لكي يمكن أن تسدد إليها سهام النقد و المناقشة.

أما إذا كانت الفكرة، أو التكوين الفكري، مشوشا غير محدد و لا مفهوم، بحيث يحار المفكر في بيان حدوده و ترتيبه... فبالطبع يكون هذا التكوين غير قابل للمناقشة. و يسري الاختلاط الموجود في أصل الفكرة إلى الاختلاط في النقاش أيضا.

الخصيصة الثانية: ان تكون هناك نقاط مشتركة بين المتناقشين، يمكن أن يبدأ منها النقاش أو أن ترسو عندها النتائج، و هي الأصول المسلمة في الجدل عادة.

و أما إذا لم تكن هناك أسس مشتركة بالمرة، إما باعتبار بعد الشقة النظرية بينهما، بحيث لا توجد أية حقيقة مشتركة يؤمنان بها معا... أو باعتبار ان الطرف الآخر يسهل عليه إنكار الحقائق التي تكون ضد مصلحة

ص:50

تكوينه الفكري... ففي مثل ذلك يكاد يكون النقاش غير ممكن أو غير مجد.

الخصيصة الثالثة: أن تكون لدى أصحاب التكوين الفكري و المدافعين عنه، الروح الموضوعية العلمية الكافية، و أن يكون رائدهم النهائي هو الحقيقة، بحيث يكونون على استعداد بالتسليم بكل مناقشة يثبت صدقها، و إعادة النظر بكل فكرة يثبت زيفها، من دون لف و دوران.

و بدون ذلك يكون النقاش أيضا، غير ذي جدوى.

و سنرى في النقاط التالية: ان كل هذه الخصائص الثلاث غير واضحة التوفر في الفكر الماركسي... بل بعضها واضح الزيف في نظرهم، على ما سنرى.

النقطة الثانية: ما هو الفكر الماركسي، و كيف يصح نسبة الفكرة المعينة إلى الماركسية، و هل للماركسية كيان محدد يمكن أن يعرض و يشار إليه أم لا.

... إننا إن أجبنا بنعم، فمعناه توفر الخصيصة الأولى فيه، و إلاّ فانها غير متوفرة بطبيعة الحال.

إن أفكار كارل ماركس نفسه... هي أفكار ماركسية بطبيعة الحال، بمقتضى الاضافة اللفظية، كما هو واضح... إلا أن تاريخ الفكر الماركسي، سار في طريق أوسع من هذا بكثير.

فإن التكوين النظري الذي اعترف به ماركس و استند إليه نظريا، لم يكن له وحده، بل كان - في الواقع - نتيجة لمساندة انجلز له و معاونته إياه في الفكر و العمل. و لكن اعترف انجلز ان التكوين الرئيسي للفكرة هو من صنع ماركس نفسه، و بذلك يستحق نسبتها إليه، و ان كان انجلز قد شارك في صنع العديد من جوانبها(1) - و لكن يبدو انها بمجموعها مرضية تماما لكلا الشخصين. و قد غلب على ماركس الجانب الاقتصادي في كتابه (راس المال) و غلب على انجلز التركيز على المادية الديالكتيكية في كتابه (ديالكتيك الطبيعة) و المادية التاريخية في كتابه (أصل العائلة) و غيره.

إذن، فالتكوين النظري الأصلي للماركسية هو ما استند إلى هذين

ص:51


1- (1) انظر: لودفيج فورباخ لانجلز. هامش صفحة 46.

الشخصين بالذات، خلال وجودهما في العصر التاسع عشر.

ثم توالت التجارب... تترى... و كان بعضها خلال حياة هذين المفكرين، و لعل أهمها ثورة باريس المسماة بكومونة باريس، التي أظهرت نقاط الضعف لهذين الشخصين في نظريتهما حتى صرحا في البيان الشيوعي:

ان بعض نقاط هذا البرنامج قد شاخت(1) و انه لا بد من إجراء التعديل على بعض الفقرات(2).

و أباح ماركس و انجلز لأنفسهما أن يغيرا من النظرية بمقدار ما ظهر لهما زيفه... و كيف لا، و إن الأفكار أفكارهما فلهما أن يتصرفا فيها كيف شاءا... و إن كان هذا التغيير لو قام به غيرهما لاعتبراه خارجا على تعاليمهما.

و فارق هذان المفكران الحياة، و التجارب لا زالت تترى، و لا يمكن أن تتوقف. و التجارب لا تحترم أحدا و لا ترحم رأيا و لا تغتر بالظواهر.

... و استطاعت الماركسية، ردحا من الزمن، أن تكسب احترام عدد من الناس نتيجة للظلم المعاش في روسيا و أروبا عموما، إلى جانب الدعاية الشيوعية الواسعة النطاق في تلك البلدان، و التركيز على أنه لا يمكن الهرب من الاقطاع أو الرأسمالية إلا إلى الماركسية، لأنها هي الحل الوحيد للمشاكل الانسانية.

و اصطدمت التعاليم و المفاهيم الماركسية بالواقع، و تحير الناس في التوفيق بينها و بين الواقع، و حدثت مئات الأسئلة في الأذهان... فكان من الطبيعي أن يستعمل العديدون من مفكري هذه العقيدة، قابلياتهم الذهنية للتصدي لتذليل هذه العقبات سواء من الناحية الفلسفية أو الاجتماعية...

فوجدت، نتيجة لذلك، عدة أطروحات لفهم الماركسية في روسيا و أروبا مثل آراء بليخانوف و لينين و كاوتسكي و تروتسكي و هيلغر دينغ، و غيرهم.

و لم يكن الفكر الماركسي الأصلي - في الواقع - أقرب إلى أحدهم، من الآخر، لأن كل واحد منهم يقول: بأن ماركس أراد أن يقول هكذا، لا غيره. و من الصعب جدا من الناحية الموضوعية، أن نتصور أن أشخاصا

ص:52


1- (1) انظر: البيان الشيوعي ص 6.
2- (2) المصدر نفسه ص 19.

بأعيانهم أقرب إلى مجموع النظرية من الآخرين. بل لربما أن هذا فهم هذه الجهة من كلام ماركس بشكل أصوب، و ذاك فهم تلك الجهة بشكل أصوب، و هكذا، تبعا لاختلاف اختصاصات الأفراد و تجاربهم الحياتية و العلمية و غيرها، و بالتالي لا يتعين للأجيال المتأخرة، من هو الأقرب و من هو الأبعد بشكل مطلق.

إلا أن ظروف ثورة أكتوبر من ناحية، و ظروف الحرب العالمية الثانية من ناحية أخرى... جعلت من بعض هؤلاء المفكرين حكاما و قادة و مسيطرين. فأصبحت القوة إلى جانب تفسير معين للماركسية، هو التفسير الذي يتبناه هؤلاء القادة، و أصبح هو التفسير الرسمي الصحيح، و غيره هو الباطل الذي يمثل الانحراف و (المثالية) و قصر النظر. و أصبح ذووه مستحقين للقتل و التشريد.

و أصبحت السيطرة الحقيقية فكريا و اجتماعيا للقائد الأعظم (لينين) و أصبح تفسيره للماركسية هو الصائب. و كان من وافقه كبليخانوف على صواب و كان من خالفه كتروتسكي و غيره على خطإ.

و بقي الحال على ذلك، و بقي الحق إلى جانب القوة، متمثلا في ستالين، ثم خروشوف ثم الحكام السوفياتيين المعاصرين. و بقيت الدراسة الرسمية في جامعات البلدان الاشتراكية منطلقة من ذلك على الدوام.

و كانت هذه البلدان هي الطليعة الأولى في القرن العشرين لسحق المعارضة و كم الأفواه.

و كان لذلك استثناءان:

الاستثناء الأول: الايديولوجية الصينية (الماوية) لفهم الماركسية...

حيث استطاع ماوتسي تونغ أن يستقل عن الفهم السوفييتي الرسمي للماركسية، و يتخذ لنفسه فهما جديدا بقوة كاملة، تجعله بدوره رسميا و صحيحا!!!...

الاستثناء الثاني: ان ظروفا معينة أوجبت ايجاد أفكار ماركسية جديدة خلال الأعوام القليلة المتأخرة (العقد الثامن من القرن العشرين). و كان أهم هذه الظروف عاملان:

العامل الأول: ظروف الحرية النسبية التي تبنتها الحكومة السوفييتية

ص:53

كرد فعل للتقييد الذي عاشوه خلال عصر (ستالين)؛ تلك الحركة التي فسحت فرصة جديدة للماركسيين في أن يوضحوا و يفسروا الماركسية من جديد.

العامل الثاني: ظروف النقد اللاذع و الايرادات الفلسفية و التاريخية و الاجتماعية التي أوردت على الفكر الرسمي، الماركسي - اللينيني، من قبل المفكرين الاسلاميين و الأوروبيين الرأسماليين... بحيث اتضح للرأي العام بكل جلاء زيف هذا التكوين النظري، و ثبت للشيوعيين استحالة بقاء هذا التكوين على أهميته و هيبته في الأذهان من دون إصلاح ورتوش.

و من هنا تحركت عدد من الأقلام لعرض الماركسية من جديد، بشكل يدعم ورود تلك الانتقادات عليه.

و سمح هؤلاء المفكرون لأنفسهم الطعن بماركس و انجلز بصفتهما برجوازيين!!!... و بصفتهما ذوي تجارب قديمة!! و بصفتهما ذوي تنبؤات فاشلة (بحدوث الثورة الاشتراكية في فرنسا و انكلترا)!.. و بصفتهما قابلين للخطأ و النقاش على أي حال.

كما سمح هؤلاء المفكرون أن يناقشوا الأفكار الأساسية للماركسية، فضلا عن التفاصيل... ففي الديالكتيك: لا يتضمن الشيء لنقيضه، و إنما توجد له ذاتيا عوامل الفناء. و في المادية التاريخية أكدوا على انقسام المجتمع إلى أكثر من طبقتين... و انه لا ضرورة على مرور البلد بجميع مراحل هذه النظرية... و في جانب الضرورة التاريخية: أكدوا على وجود حرية التصرف للفرد إلى حد كبير، و ان الحرية لا تنافي الضرورة.

و في جانب الاقتصاد، قالوا: إن الرأسمالية التي عرفها ماركس، هي الرأسمالية البدائية... و هناك رأسماليات لم يلتفت لها ماركس!! يكون آخرها مرحلة (الامبريالية)... إلى غير ذلك مما قالوه... و سنسمع الكثير من ذلك خلال مناقشاتنا الآتية.

بعد هذه الجولة التاريخية السريعة في الفكر الماركسي، يتضح ما نريد أن نقوله في هذه النقطة الثانية... فإن هذه الخلافات بين المفكرين الماركسيين تعطي نتيجة واضحة، و هي وجود درجة من الغموض و التشويش في تحديد (الفكر الماركسي)... بحيث لو عرضت الماركسية على شكل

ص:54

كهذا لصح، و لو عرضتها على شكل آخر لصح أيضا، و لو عرضتها على شكل ثالث لصح أيضا... فأي الأفكار هي (الماركسية) هل هي ماركسية ماركس أم ماركسية تروتسكي أم ماركسية ماوتسي تونغ أم ماركسية لينين أم ماركسية المحدثين كبولتزر و كوفالسون و غيرهما.

فأي هذه الأشكال هو الماركسية؟!.. ليس هو مجموعها بالطبع...

لوجود التنافي بينها... و ليس واحد بعينه أولى بماركس من الآخر... و من هنا تحار الاشارة في التوجه، و تزول الحديّة في التحديد.

فإذا وصل النقاش بين الماركسيين إلى الأفكار الأساسية، أصبح من الممكن الاشارة إلى فهمين متناقضين... كلاهما نسميه بالماركسية. فمثلا بينما آمنت الماركسية الأولى بضرورة تغير كل أوضاع المجتمع نتيجة لتطور وسائل الانتاج، قال الماركسيون المتأخرون: إنه إنما يؤثر في تغيير بعض الأوضاع، و في حدود الحرية النسبية دون الضرورة المطلقة.

و هذا المقدار من التناقض مع الفكر الماركسي هو الذي سار عليه الماركسيون المحدثون، بعد مواجهة العاملين السابقين... و هو اتجاه منفتح في داخل الماركسية يتضمن نقطة قوة من هذه الناحية.

إلا أن هذا الاتجاه يمنى بإيرادين رئيسيين ما دام يعترف كونه ماركسيا:

الايراد الأول: ان الفكر الماركسي الموروث... ينبغي أن يكون خاطئا جملة و تفصيلا، و يجب إعادة النظر فيه عموما. فإذا علمنا أن هذا الفكر هو الذي قامت على أكتافه ثورة أكتوبر السوفييتية، حتى أن لينين نفسه سجل أهم تطويراته الفكرية بعد الثورة، فضلا عن ستالين... عرفنا أن الفكر الذي قامت عليه ثورة أكتوبر فكر خاطىء... و هذه نتيجة مؤسفة بالنسبة إلى كل الماركسيين!..

الايراد الثاني: الخصيصة الرئيسية للماركسية الموروثة عن ماركس و انجلز... إنما هي استيعاب الكون و المجتمع بفهم شامل و متجانس، كما سمعنا.

و معه... فإيرادات الماركسيين المتأخرين و آراؤهم، ان أوجبت الطعن بالماركسية الأولى دون أن تأتي بالبديل... إذن، فقد خسروا الفهم المستوعب للكون و الحياة. و إن جاءوا بالبديل، لم يكن هو ماركسية، بل هو

ص:55

منسوب إلى صاحبه كنسبة آراء ماركس إليه... فهي - مثلا - خروشوفية أو كوفالسونية!!!... و معه ينبغي الابتعاد عن ماركس كمفكر فعلي و إعطاء الأهمية له من زاوية متحفية فقط. و هذا أيضا مما يعزّ على الماركسيين الاعتراف به.

النقطة الثالثة: سوف نسير في مستقبل البحث على تذليل هذه الصعوبة التي عرضناها في النقطة السابقة، على الشكل التالي:

أولا: الاعتماد في فهم الفكر الماركسي على ماركس و انجلز بصفتهما الواضعين الرئيسيين للنظرية... و اعتبار ما ناقض آراءهما من وجهات النظر خارجا عن الماركسية، و إن كان صادرا عن مفكرين ماركسيين.

ثانيا: الاعتماد في فهم هذه النظرية و تفسيرها على المسلك الرسمي السوفييتي الأول المتمثل بلينين و ستالين و بليخانوف... بصفته الحامل الأول لهذه الفكرة إلى العالم.

و هو إذا قورن من ناحية موضوعية إلى مسالك الآخرين الذين قضت عليهم الثورة، لم يكن أولى منها، كما قلنا... لكن الآراء الأخرى مجهولة التفاصيل و قليلة المصادر... مضافا إلى أن المسلك الرسمي هو المسلك المعترف به من قبل الشيوعيين في عالم اليوم.

ثالثا: الاعتماد على المفكرين الماركسيين المحدثين الذين لم يسمحوا لأنفسهم المناقشة في الافكار الماركسية الرئيسية... و إنما قبلوها و حاولوا إيضاحها من جديد. و إذا سنحت لهم المناقشة، فإنما يكون من زوايا جزئية.

... فهؤلاء يعتبرون، على المستوى الرسمي السوفييتي، نقلة أمناء للماركسية أمثال كيللي و كوفالسون و أفاناسييف و بوليتز و غيرهم... دون الآخرين الذين طعنوا في الأفكار الماركسية الأساسية.

و هنا ينبغي الالماع إلى أن التفسير السوفييتي للماركسية، هو الأقرب إلى الاعتماد من التفسير الصيني المادي. لأن التفسير السوفييتي بخطه الطويل هو الوريث المباشر للماركسية - اللينينية بطبيعة الحال، مهما أراد ماوتسي تونغ - و هو في أقصى الدنيا - أن يقول!!...

النقطة الرابعة: الخصيصة الثانية التي ذكرناها في النقطة الأولى لإمكان

ص:56

النقاش، غير متوفرة أيضا في الفكر الماركسي... و هي وجود مسلمات مشتركة يمكن أن ينطلق منها الجدال أو أن يقف عندها النزاع.

و كيف يمكن أن تكون هذه الحقائق موجودة، بين الماركسية و الاسلام، في حين أنهما يبدوان أمام الرأي العام على طرفي نقيض و بشكلين مستقطبين لا يمكن أن يلتقيا أبدا...

و أي شيء تكون هذه الحقائق؟... بعد أن اعتبرت الماركسية الدين نتاجا بدائيا جدا لوسائل الانتاج، و نصيرا للاقطاع، و أفيونا للشعوب، و صورة مكثفة للمثالية المقيتة!!!... كما اعتبر الدين الماركسية إلحادا و زندقة و ضيقا في النظر إلى الكون و المجتمع، و سيرا بالبشرية إلى مهاوي الفساد.

و مع وجود هذا التنافي الشاسع بينهما، لا يمكن أن توجد أي حقيقة مشتركة بينهما، يمكن أن ينطلق منها الجدال أو أن يقف عندها النزاع.

و قد ينتج من ذلك: أن الفكر الديني لا يستطيع أن يجيب على آراء الماركسيين أو أن يناقشهم... أو على الأقل، لا يستطيع إقناع الماركسيين بآرائه، فكيف يصح لنا الكلام، و نحن ننطلق في النقاش من زاوية دينية؟!..

إلا أن هذه الصعوبة، يمكن تذليلها بكل سهولة... كما يلي:

أولا: إن هذه النتيجة المومى إليها، تأتي بالنسبة إلى الماركسية أيضا... إذ مع انعدام المسلمات المشتركة، ينجح أيضا عدم إمكان إقناع المتدينين ضد فكرتهم أيضا، تماما كما هو شأن الماركسيين.

و لكن هل هذه النتيجة صحيحة، بالنسبة إلى المتدينين... هذا ما سنعرفه فيما يلي.

ثانيا: إن الماركسية انطلقت في فهمها لنظريتها و في الاستدلال عليها، من أمثلة مقتبسة من واقع الطبيعة و المجتمع. فإذا استطعنا أن نعرف أن الواقع الموضوعي للوقائع، كالكاسة الفارغة، يمكن أن تملأه بأكثر من رأي و فلسفة و تفسير، و لا يتعين في فهمه الاتجاه الماركسي.

... و إذا استطعنا أن نفهم أن ما استشهدت به الماركسية من الوقائع إنما هو غيض من فيض لا يمكن الانطلاق منه إلى استنتاج النظرية العامة.

إذا استطعنا هذا و ذاك و غيرهما، استطعنا أن نمشي في النقاش خطوات

ص:57

كبيرة.

ثالثا: إننا سنسمع وجوها للمناقشة مستنتجة من القواعد الماركسية نفسها. و هي تكون ملزمة بالنسبة إلى من يؤمن بهذه القواعد مع التأكد من صحة الاستنتاج.

رابعا: إننا قد ننطلق إلى المناقشة من أسس عقلية قد لا يؤمن بها الماديون... و غايتنا من ذلك بيان: أننا لا يمكننا الايمان بنتائج أفكارهم و ان آمنوا بها و التزموا بصدقها، لأنها منافية لمبادئنا العقلية.

خامسا: إننا سوف ننطلق إلى مناقشة الماركسية من مستويين:

المستوى الأول: النظر في تفصيل النظرية و إعطاء المناقشة لكل فقرة منها على حدة. و هذا ما سنسير فيه على هدى الفقرات السابقة.

المستوى الثاني: النظر إلى مجموع النظرية الماركسية ككل و إعطاء البديل الأصلح عنها. فإننا سنعوض عن المادية التاريخية بنظرية التخطيط العام الالهي و سننطلق عن طريق المقارنة إلى مناقشات أساسية و جديدة.

و ستكون هذه المناقشات أكثر عمقا و ضبطا و ترابطا من المستوى الأول، بالرغم من صحة كلا المستويين. و هذا ما سنذكره خلال عرض نظرية التخطيط العام في القسم الثالث من الكتاب، و سنقتصر في هذا القسم على المستوى الأول من المناقشات.

النقطة الخامسة: إن الخصيصة الثالثة لامكان النقاش، مما عرفناه في النقطة الأولى، و هي تجرد الباحث و موضوعيته... الذي هو الشرط الأساسي للدخول في أي نقاش و لاحتمال قبول أي نتيجة... إذ بدونه يمكن رفض أي نتيجة، مهما كانت صادقة و مبرهنة.

هذه الخصيصة... استطاع الماركسيون في وضعهم الفكري و الاجتماعي، أن يقيموا القرائن على رفضها و الابتعاد عنها كأنها من الخصائص القاتلة للنظرية و التطبيق!!...

و يتلخص بيان موقف الماركسيين من هذه الموضوعية، في مرحلتين:

المرحلة الأولى: إنكارهم وجود الموضوعية و التجرد الذهني لأي فكر أصلا. و إنما يعتبر الفكر عموما نتاجا طبقيا و حزبيا معينا.

قال كوفالسون:

ص:58

«ينبغي التمييز بين الموضوعية و الموضوعانية.

التعبير الأول يستخدم لوصف المعرفة العلمية، و الثاني لوصف الموقف النظري (!) أي على وجه الضبط موقف (اللاتحيز) في معرفة الحياة الاجتماعية، موقف المراقب غير المتحيز الموضوعي المزعوم للعمليات الاجتماعية. و قد انتقد لينين الموضوعانية انتقادا حادا، و اعتبرها شكلا مستورا و مقنعا للتعبير عن الحزبية»(1).

و أضاف:

«فليس موقف المراقب الحيادي موقف اللامبالاة و عدم الاكتراث، بل الاشتراك الفعال في الحياة الاجتماعية»(2).

فكأن الموضوعية عنده، تعني عدم الاهتمام بالحياة الاجتماعية و الانصراف عنها... في حين أن الاهتمام بها يعني شيئا آخر غير الموضوعية أو الموضوعانية - كما سماها -. و هذا الاهتمام ضروري بطبيعة الحال، إلا أن وجود الموضوعية أيضا ضروري، لأنها تعني - بكل بساطة - استعداد الذهن لقبول الحقيقة، و عدمها يعني الجمود على الفكرة لمجرد الموافقة مع الهوى و المصلحة الخاصة ليس إلا. و الدعوة إلى «النضال من أجل وحدة الموضوعية العلمية و الحزبية»(3) يحتوي على تهافت في التفكير، لوجود التنافي الواضح بين الاتجاه الموضوعي و الاتجاه الحزبي.

المرحلة الثانية: إننا حين نستقرئ كلمات الماركسيين و مؤلفاتهم و طرق تفكيرهم، نجدهم قد طبقوا نظريتهم في انتفاء الموضوعية و التجرد بشكل واضح.

و ذلك في عدة حقول:

الحقل الأول: إنهم يستعملون الشتم عند الحاجة لكل معارض، مهما كانت الفكرة نظرية، أو كان المتناقشون مفكرين على مستوى عال.

اسمع معي لينين ينتقد اشتراكية ما قبل ماركس:

«و قد جاءت ثورة 1848 تسدد ضربة قاتلة لجميع الأشكال الصاخبة المبرقشة اللاغطة الاشتراكية ما قبل ماركس... و تكشف جميع المذاهب التي تقول باشتراكية لا طبقية و بسياسة لا طبقية عن ثرثرة باطلة»(4).

ص:59


1- (1) المادية التاريخية. كليلة و كوفالسون ص 28/27.
2- (2) المصدر ص 28.
3- (3) المصدر و الصفحة.
4- (4) مختارات لينين ج 1 ص 16.

و اسمعه يتحدث عن تقدم الفيزياء الحديثة و كيف يرى أنه:

«قد أثبت بشكل رائع صحة مادية كارل ماركس الديالكتيكية رغم أنف مذاهب الفلاسفة البرجوازيين و رغم إرادتهم «الجديدة» نحو المثالية القديمة المتهرئة»(1).

و على هذا الغرار...

حتى رفيقاه في النضال: بليخانوف و ستالين... لم ينجوا من لسانه: -... بليخانوف الذي قال عنه لينين:

«لا يمكن للانسان أن يصبح شيوعيا حقيقيا و اعيا ما لم يدرس كل ما كتبه بليخانوف في الفلسفة. لأنه خير ما يوجد في مجمل نتاج الفكر الماركسي في جميع البلدان»(2).

قال عنه أيضا:

«لم يتمسك ماركس بشجب دعي لحركة «جاءت في غير أوانها على غرار الماركسي الروسي المرتد بليخانوف الذي اشتهر شهرة لا يغبط عليها... أخذ يصرخ على نمط الليبراليين: ما كان ينبغي حمل السلاح»(3).

و أما ستالين فحذر منه قائلا:

«ان الرفيق ستالين الذي أصبح أمينا عاما، قد حصر في يديه سلطة لا حد لها.

و أنا لست على ثقة في أنه سيعرف على الدوام كيف يستعمل هذه السلطة بما يكفي من الاحتراس»(4).

و قال عنه أيضا:

«إن ستالين مفرط في الفظاظة... و لهذا اقترح على الرفاق أن يفكروا في أسلوب لنقل ستالين من هذا المنصب و تعيين شخص آخر لهذا المنصب، يمتاز من جميع النواحي الأخرى عن الرفيق ستالين بميزة واحدة فقط هي أن يكون أكثر تسامحا و أكثر ولاء و أوفر لطفا و أشدّ انتباها للرفاق، و أقل تقلبا في الأهواء»(5).

أما أعداؤه الكلاسيكيون، فهم الوحوش الضواري تماما. اسمعه يقول - فيما يقول -:

«إن ضواري الامبريالية الانجلو فرنسية و الامريكية، يتهموننا بالاتفاق مع الامبريالية الالمانية، فيا للمنافقين و يا للأوباش الذين يفترون على حكومة العمال و ترتعد

ص:60


1- (1) المصدر ص 23.
2- (2) فلسفة التاريخ: بليخانوف. ص 4.
3- (3) الدولة و الثورة من مختارات لينين ج 2 ص 217.
4- (4) رسالة إلى المؤتمر من نفس المصدر ج 4 ص 271.
5- (5) المصدر ص 273.

فرائصهم في الوقت نفسه أمام العطف الذي يبديه عمال بلدانهم بالذات علينا»(1).

فكيف تقوم الايديولوجية الكبرى على مثل هذه الشتائم؟!...

الحقل الثاني: إضفاء أكبر الصفات و أهم آيات المدح العاطفي و الفكري لأي شخص ينسجم معهم في الفكر و العمل.

و بالرغم من أن الجهة العقلية التامة تقتضي التنزه في عرض النظريات عن المدح، كالتنزه عن الذم تماما. لكن قد يشفع لهم انسياقهم العاطفي زيادة عن العطاء العقلي... غير أن المدح ينبغي أن يقتصر على المقدار الممكن نظريا إضفاؤه على الآخرين... و لكن نجد ما هو أكثر من ذلك...

فإننا بالرغم من أننا نسمع من الماركسية أن الآراء و الأفكار كلها طبقية و حزبية، و إن الحقائق كلها نسبية...

قال انجلز:

«كذلك تحطم هذه الفلسفة الديالكتيكية جميع التصورات عن الحقيقة المطلقة النهائية و عن أوضاع الانسانية المطلقة المناسبة لها. فليس هناك بالنسبة للفلسفة الديالكتيكية شيء نهائي، مطلق، مقدس، انها ترى الانهيار في كل شيء... و هي نفسها ليست سوى انعكاس بسيط لهذا المجرى في الدماغ المفكر»(2).

و بالرغم من أن الماركسية نفسها فلسفة حزبية، تمثل فلسفة حزبية، تمثل فلسفة حزب أو طبقة البروليتاريا، كما أكد عليه الشيوعيون تأكيدا شديدا:

«إن العلم الاجتماعي الماركسي يربط نفسه على المكشوف بمصالح الطبقة العاملة بالنضال من أجل تحرير الكادحين من الاستثمار... و في هذا تقوم حزبيته»(3).

... بالرغم من هذا الأفق الضيق الذي يستحيل معه الانطلاق. فإن الشيوعيين يؤكدون أن الماركسية تتحدث عن الواقع بكامله، سواء على المستوى الطبيعي أو الاجتماعي.

اسمع لينين يقول:

«إن مذهب ماركس لكلي الجبروت، لأنه صحيح، و هو متناسق و كامل، و يعطي مفهوما منسجما عن العالم، لا يتفق مع أي ضرب من الأوهام، و مع أية رجعية... و هو

ص:61


1- (1) رسالة إلى العمال الأمريكيين من مختارات لينين ج 32 ص 194.
2- (2) لودفيج فورباخ، انجلز ص 10.
3- (3) المادية التاريخية: كوفالسون ص 26.

الوريث الشرعي لخير ما أبدعته الانسانية في القرن التاسع عشر»(1).

و يقول:

«و أهم هذه المكتسبات - الماركسية الديالكتيك، أي نظرية التطور بالحمل مظاهرها و أشدها عمقا و أكثرها بعدا عن ضيق الأفق. نظرية نسبية المعارف الانسانية التي تعكس المادة في تطورها الدائم»(2).

و يقول:

«إن مادية ماركس التاريخية كانت أكبر انتصار أحرزه الفكر العملي»(3).

و يقول غيره:

«إن الفلسفة الماركسية - اللينينية، إذ تدرس قضية العلاقة بين الموضوع و الذات و أعم قوانين تطور العالم المادي و التفكير نفسه، تعطي العلوم الأخرى المفهوم الصحيح للعالم و نظرية و طريقة المعرفة العلمية»(4).

و يقول:

«إنها تدرس القوانين العامة لتطور المجتمع»(5).

إلى غير ذلك!...

و لا تعلم كيف يكون الفكر صحيحا و مطابقا للواقع الموضوعي، طبيعيا و اجتماعيا، مع كونه حصيلة فكر طبقي و حزبي معين؟!...

الحقل الثالث: إعطاء فهم خاص لبعض الآراء المضادة للماركسية، بحيث يسهل مناقشتها بسهولة أولا، و حمل فكرة سيئة عنها سلفا، ثانيا.

و لعل أوضح مثال على ذلك: تلك الأوصاف و الخصائص التي افترضها الماركسيون للميتافيزيقيين.

فإن الميتافيزيق لفظ يوناني، يؤدي معنى: ما وراء الطبيعة أو ما فوق الطبيعة. و محصله: أن هناك شيء آخر خارج عالم الطبيعة الفيزياوي غير محكوم لقوانين الفيزياء الاعتيادية... موجود، في عالم الواقع و مؤثر في عالم الطبيعة. و لا يمكن أن نفهم من هذا اللفظ الموجز أكثر من ذلك، كما هو واضح. و الميتافيزيقي هو الذي يؤمن بمضمون هذا اللفظ. ليس إلا...

ص:62


1- (1) مختارات لينين ج 1 ص 22.
2- (2) المصدر ص 22.
3- (3) المصدر و الصفحة.
4- (4) المادية التاريخية: كوفالسون ص 33.
5- (5) المصدر ص 30.

أما الماركسيون، فقد أضفوا على الميتافيزيقي صفات عديدة و غريبة، تكاد تجعله في عداد المجانين!!...

قال خالد بكداش:

«إن الميتافيزيقية: تعني طريقة في التفكير الفلسفي تنكر الروابط بين الأشياء و الحوادث، و تنظر إليها منفصلا بعضها عن بعض، و تعتبر الطبيعة في حالة جمود و استقرار...»(1).

و قال ستالين:

«تتميز الطريقة الديالكتيكية الماركسية بالخطوط الأساسية التالية:

أ - إن الديالكتيك - خلافا للميتافيزيقية - لا يعتبر الطبيعة تراكما عرضيا للأشياء، و حوادث بعضها منفصل عن بعض... بل يعتبر الطبيعة كلا واحدا متماسكا ترتبط فيه الأشياء و الحوادث بينها ارتباطا عضويا...

ب - إن الديالكتيك - خلافا للميتافيزيقية - لا يعتبر الطبيعة في حالة سكون و جمود، حالة ركود و استقرار بل يعتبرها حالة حركة و تغير دائمين...

ج - إن الديالكتيك - خلافا للميتافيزيقية - لا يعتبر حركة التطور حركة نمو بسيطة، لا تؤدي التغيرات الكمية فيها إلى تغيرات كيفية، بل يعتبرها تطورا ينتقل من تغيرات كمية ضئيلة و خفية إلى تغيرات ظاهرة و أساسية، أي إلى تغيرات كيفية...»(2).

و قال بوليتزر:

«و تفصل الميتافيزيقا المادة الخام عن المادة الحية و عن الفكر. لأن الميتافيزيقا تعتبر أن هذه مبادئ ثلاثة منعزلة كل منها عن الآخر»(3).

و قال أيضا:

«و تقوم الميتافيزيقا بعزل الظواهر الاجتماعية كلا منها عن الأخرى، فتعزل الواقع الاقتصادي عن الحياة الاجتماعية، و تعزل الحياة السياسية عنهما، كما انها تدخل الحواجز في كل هذه الميادين»(4).

و قال أيضا:

«و لا يفهم الميتافيزيقي تاريخ المجتمعات، بل هو خليط من العوارض (أي

ص:63


1- (1) المادية التاريخية: ستالين هامش ص 13.
2- (2) المصدر نفسه ص 13-15 ملخصا.
3- (3) أصول الفلسفة الماركسية ج 1 ص 58.
4- (4) المصدر ص 63.

الظواهر التي لا سبب لها) و من الصدف العابثة»(1).

إلى آخر ما ذكروه من خصائص و صفات...

و بغض النظر عن أن هذا النقل عن آراء الميتافيزيقيين، لم يسند إلى أي مصدر من مصادرهم، و لم يدل عليه أي كلام من كلماتهم. و إنما كل ما في الأمر أن الماركسيين رغبوا بنسبة هذه الآراء إليهم بدون دليل. و إذا أمكنت مثل هذه النسبة العشوائية لشخص ما، أمكنت لأي شخص آخر... و هذا يعني - بكل بساطة - سقوط الاعتبار لنقل الماركسيين لآراء خصومهم!..

و بغض النظر - أيضا - عن أن هذا النقل عن الميتافيزيقيين، صحيح أو خاطىء... فإن مستقبل هذا البحث كفيل بهذه الجهة.

المهم في المقام: أن أيا من هذه الآراء، غير متضمن في معنى الميتافيزيقية بأي حال. و إنما هو مفهوم بسيط لا يعني سوى وجود شيء ما وراء العالم الطبيعي المنظور... فمن أين جاءت هذه الاضافات؟!...

الحقل الرابع: إن كل فكرة معارضة للماركسيين... لا بد أن توسم بصفة غير محببة!!... حتى و إن كانت فكرة مادية و اشتراكية.

و إن أعظم صفة رديئة توسم بها الفكرة عندهم هي كونها «مثالية»!!... إلى جانب كونها روحية و ميتافيزيقية...

فبعد أن نتجاوز مادية ما قبل ماركس و الاشتراكيات الأخرى غير الماركسية، و ما وسمت به من هذه الأوصاف... ينبغي لنا أن نمثّل بأهم و أقرب الفلاسفة، في المستوى الذهني و الفلسفي إلى الماركسية... و هما هيجل و لودفيج فورباخ...

فهيجل... بالرغم من أنه الفيلسوف المادي الذي وصل بالفكر الديالكتيكي إلى أوج ارتفاعه، فيما قبل الماركسية. و هو أمر في غاية الأهمية بالنسبة إلى الماركسية. و قد مدحه انجلز قائلا:

«و لما لم يكن - هيجل - عبقرية خلاّقة و حسب، بل إنسانا ذا تبحّر موسوعي، فإن مؤلفاته في جميع الميادين ذات قيمة مرموقة»(2).

ص:64


1- (1) المصدر و الصفحة.
2- (2) مختارات انجلز ص 76.

بالرغم من ذلك لم ينج من تهمة المثالية. حيث نسمع لينين، حين يتحدث عن التحريفيين، يقول:

«إنهم كرزوا بالمثالية، بمثالية أحقر و أسخف ألف مرة من مثالية هيجل»(1).

و قال عنه جان كاتابا:

«بيد أن ديالكتيك هيجل تأثر تأثرا ثقيلا بعبء مثاليته»(2).

و فورباخ... و هو الفيلسوف المادي المهم الذي ألف فيه إنجلز كتابه المسمى باسمه... و سمه انجلز نفسه بسمة المثالية مكررا.

منها قوله:

«إن مثالية فورباخ الحقيقية تنكشف حالما تنتقل إلى فلسفته في الأخلاق و الدين...»(3).

ليس هذا فقط، بل هو ميتافيزيقي!! أيضا. قال انجلز ضمن كلامه:

«نجد عرضا عن سير تطور الميتافيزياء الفورباخية نفسها»(4).

و لا نعلم ما ذا يعني مفهوم المثالية و مفهوم الميتافيزيقية أو الميتافيزياء - حسب اصطلاحه -... حين ينطبق على أمثال هؤلاء الفلاسفة الماديين؟!...

نعرف من كل ذلك: أن الماركسيين مزجوا في كلماتهم بين الفكر و العاطفة... و قد يكون لهم بعض العذر حين تبنوا الحزبية، و رفضوا الموضوعية في التفكير. و أما من يرفض هذا الاتجاه، و يقيّم المفكر بمقدار ما يبذل من موضوعية و تجرد... كيف يمكن أن يركن إلى ما قالوه من كلام؟!...

و من هنا نفهم ما أردنا إيضاحه في هذه النقطة الخامسة، و هو أنه مع وجود هذا المنحى العاطفي الخالي من الموضوعية عند الماركسيين، كيف يمكن النقاش معهم و أخذ النتائج منهم؟!... فإنه يكفيهم أن يصفونه بالمثالية و الميتافيزيقية، ليعتبروا كلامه ساقطا من الاعتبار و غير قابل للاصغاء.

ص:65


1- (1) مختارات لينين ج 1 ص 32.
2- (2) مختارات انجلز ص 67.
3- (3) لودفيج فورباخ: انجلز ص 33-34.
4- (4) المصدر ص 24.

النقطة السادسة: حقا ان من يكون على هذا المستوى الذهني الذي عرفناه قبل لحظة يتعذر عليه الاصغاء لأي كلام و الالتفات لأي نقاش. و حقا ان الماركسية تجعل للمعتقدين بها (مناعة) عميقة عن التأثر بأي كلام آخر غير كلامها، أو انتهاج أي منهج سواها.

غير أن لنا في تذليل هذه الصعوبة المنهجية الثالثة فكرة معينة، هي أن هذه الصعوبة لا ينبغي أن تعيقنا عن التفكير أو أن تكف أيدينا عن طلب الحقيقة.

فإن أمامنا النظرية الماركسية بمصادرها و تفاصيلها، بنقاط قوتها و ضعفها. فحسبنا أن نعرضها كما هي معروضة بنطق أصحابها - كما وعدنا في منهجنا - فنقبل ما هو حق و نرفض ما هو باطل، و نناقش كما يوصلنا إليه البرهان الصحيح... مخاطبين في ذلك الرأي العام المفكر الذي يتصف بدرجة مقبولة من التجرد و العمق.

و لا يهمنا بعد ذلك أن يكون كلامنا مقبولا لدى من ينكر التجرد و الموضوعية، و يعتبرهما حزبية مبطنة و مساوقة مع الاهمال و عدم الاهتمام.

ص:66

الأسس العامة الفلسفية للمادية التاريخية

اشارة

- 1 - تبدأ الكتب الماركسية - عادة - بنقطة انطلاق معينة، و هي أن أهم مسألة في الفلسفة على الاطلاق، هي أن الفكر متقدم على المادة أو أن المادة متقدمة على الفكر... و ان اختلفت كلمات الماركسيين في طرح هذه المسألة.

قال انجلز:

«المسألة الأساسية الكبرى في كل فلسفة، و بخاصة الفلسفة الحديثة، هي مسألة العلاقة بين الفكر و الوجود... مسألة معرفة أي عنصر هو الأسبق: الروح أم الطبيعة.

إن هذه المسألة قد اتخذت حيال الكنيسة شكلا حادا، هل العالم من صنع اللّه أم هو موجود منذ الأزل.

و قد كان الفلاسفة ينقسمون حسب جوابهم على هذا السؤال، بهذا الشكل أو ذاك، إلى معسكرين كبيرين. فالذين كانوا يؤكدون صفة الأسبقية للروح على الطبيعة، و الذين كانوا بالتالي يسلمون، في نهاية المطاف، بخلق العالم من أي نوع كان... كان هؤلاء يؤلفون معسكر المثالية. أما الآخرون، الذين يعتبرون الطبيعة هو العنصر الأسبق، فكانوا ينتمون إلى مختلف المدارس المادية»(1).

- 2 - و قد أجابت الماركسية على هذا السؤال باختيار الجانب المادي للفكر، و قالت في نفس الوقت بأزلية العالم، تجنبا للفكرة القائلة بإمكان أن يطفر الكون من العدم إلى عالم الوجود، دفعة واحدة بمحض الصدفة المطلقة، لوضوح سخافتها إلى درجة لا يمكن حتى مجرد التفكير بها.

ص:67


1- (1) مختارات انجلز ص 61-62. و انظر: لودفيج فورباخ ص 20 و ما بعدها. و كذلك: المادية التاريخية لكوفالسون ص 13. و غيرها من المصادر.

يقول انجلز:

«إن الفهم المادي للعالم يعني - بكل بساطة - فهم الطبيعة كما هي، دون أية إضافة غريبة.

و لقد كتب لينين بصدد المفهوم المادي عند فيلسوف العهد القديم و هيراكليت الذي جاء فيه ان «العالم هو واحد، و قد كان و لا يزال و سيكون شعلة حية إلى الأبد، تشتعل و تنطفئ تبعا لقوانين معينة...» فقال: يا له من شرح رائع لمبادئ المادية الديالكتيكية»(1).

- 3 - أضاف انجلز قائلا:

«و لكن مسألة علاقة الفكر بالكائن ترتدي أيضا مظهرا آخر: ما هي العلاقة بين أفكارنا عن العالم المحيط بنا، و العالم نفسه، و هل يستطيع فكرنا أن يعرف العالم الواقعي... هذه المسألة تسمى في اللغة الفلسفية مسألة مطابقة الفكر و الكائن. إن أكثرية الفلاسفة الكبرى قد أجابوا عنها بالايجاب»(2).

و في جواب هذا السؤال اختارت الماركسية - مصادرة - جانب الواقعية خلافا لهيوم و باركلي و إضرابهما.

«ممن يشكون في إمكانية معرفة العالم - أو على الأقل معرفته الكاملة»(3).

- 4 - و اعتقدت الماركسية بإمكان اجتماع النفي و الاثبات في هذا الواقع الذي اعترفت به، حتى في الشيء الواحد ذاته. و اعتبرت الايمان بهوية واحدة ثابتة للأشياء ضربا ميتافيزيقيا من التفكير.

قال انجلز:

«تبدو وجهة النظر العتيقة الشكلية تجريديا عن الهوية، التي تريد تناول كائن عضوي كشيء مماثل لذاته ببساطة و كثابت، باطلة... بيد أن الهوية بوضعها هذا لا وجود لها في الواقع حتى في الطبيعة غير العضوية.

فكل جسم يتعرض باستمرار لأفعال ميكانيكية و فيزيائية و كيميائية تحدث فيه على الدوام تغيرات تبدل هويته»(4).

ص:68


1- (1) المادية التاريخية لستالين ص 24.
2- (2) لودفيج فورباخ: انجلز ص 21.
3- (3) المصدر نفسه ص 22.
4- (4) مختارات انجلز ص 104.

... «إن التغير المستمر أي إبطال الهوية المجردة مع الذات، يوجد أيضا في الطبيعة المسماة بغير العضوية. و الجيولوجيا هي تاريخ هذا التغير المستمر. على السطح تبدلات ميكانيكية (تأكل تجمد) كيماوية (تفتت).

في الداخل تبدلات ميكانيكية (ضغط) حرارة (بركانية) تغيرات كيماوية (ماء، حوامض، مثبتات) على نطاق واسع. ارتفاع التربة، هوات أرضية الخ...».

«إن (مبدأ الهوية) بمعنى الميتافيزياء هو المبدأ الأساسي للمفهوم القديم عن العالم: آ آ. كل شيء متماثل مع نفسه... و هذا المبدأ قد دحضه علم الطبيعة نقطة فنقطة، و في حال أثر أخرى»(1).

و قال انجلز أيضا:

«أكيد أننا لا نصطدم بأي تناقض في الأشياء ما دمنا نعتبرها ساكنة و بدون حياة.

كل لذاته. الواحد إلى جانب الآخر، و الواحد بعد الآخر... و في حدود ميدان الملاحظة هذا، نخرج من الأمر بنسق التفكير الدارج: النسق الميتافيزيائي.

و لكن الأمر يختلف عن ذلك تماما منذ أن ننظر إلى الأشياء في حركتها، في تغيرها، في حياتها، في فعلها المتبادل بعضها على بعض. هنا نقع فورا في تناقضات، فالحركة نفسها هي تناقض.

بل ان تغير المكان الميكانيكي نفسه لا يمكن أن يتم إلا لأن جسما ما في لحظة واحدة بذاتها يكون في مكان و في مكان آخر معا، يكون موجودا في مكان واحد بذاته و لا يكون موجودا فيه.

و الحركة إنما هي بالضبط، في الصورة التي ينطرح بها هذا التناقض باستمرار و ينحل في الوقت نفسه»(2).

«و إذا كان التغير الميكانيكي البسيط للمكان يتضمن في ذاته تناقضا، فمن باب أولى أن تكون كذلك الأشكال العليا لحركة المادة، و على الأخص الحياة العضوية و تطورها.

و قد رأينا فيما سبق أن الحياة تقوم بالدرجة الأولى و على وجه التحديد في أن كائنا ما هو في كل لحظة ذاته و آخر مع ذلك. فالحياة بالتالي هي أيضا تناقض... و مذ يتوقف التناقض تتوقف الحياة أيضا و يحل الموت»(3).

ص:69


1- (1) المصدر نفسه ص 105.
2- (2) المصدر ص 108.
3- (3) المصدر ص 109.

- 5 - حتى الرياضيات مشمولة لهذا التناقض.

قال انجلز:

«إن من الأسس الرئيسية للرياضيات العليا واقع أن المستقيم و المنحني يجب أن يكونا - في بعض الظروف - الشيء ذاته. و الرياضيات العليا تحقق أيضا هذا التناقض الآخر، و هو أن خطوطا تتقاطع أمام أنظارنا، ينبغي - مع ذلك - على بعد خمسة أو ستة سنتيمترات فقط من نقطة تقاطعها أن تعتبر متوازية، أي انها خطوط لا يمكن أن تتقاطع حتى و ان امتدت إلى اللانهاية.

إن جذرا ل (آ) ينبغي أن يكون قوة ل (آ) و مع ذلك فان (آ 15) -؟؟؟ آ. إنه لتناقض. إن كمية سلبية يجب أن تكون مربعا لشيء ما، ذلك لأن كل كمية سلبية مضروبة بنفسها تعطي مربعا إيجابيا. إن الجذر المربع ل (- 1) ليس فقط تناقضا، بل هو تناقض لا معقول، هو لا معنى فعلي. و مع ذلك ففي كثير من الحالات يكون؟؟؟ - 1 هو النتيجة الحتمية لعمليات رياضية صحيحة. و فوق ذلك أين ترى تكون الرياضيات، سواء الدنيا أم العليا، إذا كان محظورا عليها أن تتعامل مع؟؟؟ - 1؟»(1).

- 6 - و اعتقدت الماركسية ان هذا التناقض الداخلي هو السبب الكبير و الوحيد للتطور.

قال لينين:

«التطور هو نضال المضادات».

و قال ستالين:

«تعتبر الطريقة الديالكتيكية أن حركة التطور من الأدنى إلى الأعلى، لا تجري بتطور الحوادث تطورا تدريجيا متناسقا، بل بظهور التناقضات الملازمة للأشياء و الحوادث ب «نضال» الاتجاهات المتضادة التي تعمل على أساس هذه التناقضات»(2).

- 7 - و هنا نصل إلى قانون: نفي النفي، أو التركيب بين النفي و الاثبات، الذي هو روح التطور عند الماركسية.

قال انجلز:

«فما هو إذن نفي النفي، إنه قانون لتطور الطبيعة و التاريخ و الفكر، عام للغاية.

ص:70


1- (1) المصدر ص 111.
2- (2) المادية التاريخية: ستالين ص 19.

و لذا له أهمية و مدلول بالغين. إنه - كما رأينا - قانون على مملكة الحيوان و النبات و على الجيولوجيا و الرياضيات و التاريخ و الفلسفة»(1).

«فإذا كنت أقول عن جميع هذه العمليات أنها نفي النفي، فإني أفهمها في ضوء هذا القانون الوحيد للحركة، و بالتالي لا آخذ بالحسبان على وجه التحديد خصائص كل عملية خاصة على حدة. و لكن هذا إنما يعني بالضبط: ان الديالكتيك ليس سوى علم القوانين العامة للحركة و لتطور الطبيعة و المجتمع البشري و الفكر»(2).

دعنا نسمع انجلز بمثل لهذا القانون الماركسي:

«لنأخذ حبة شعير، مليارات من حب الشعير المتماثلة تطحن و تطبخ و تخفق، ثم تستهلك. و لكن إذا وجدت حبة شعير من هذا النوع الظروف العادية لها، إذا وقعت على أرض مؤاتية. فإن تحوّلا معينا يجري فيها تحت تأثير الحرارة و الرطوبة: إنها تنبت، تزول الحبة بوصفها هذا، يقع عليها النفي. تحل محلها النبتة التي تولدت فيها، نفي الحبة. و لكن ما هو الدور الطبيعي لهذه النبتة؟ إنها تنمو، تزدهر، تتلقح، و تنتج في نهاية الأمر حبات شعير جديدة. و ما أن تنضج هذه حتى يتلف الساق و يقع عليه النفي بدوره. و كنتيجة لنفي النفي هذا، تكون لدينا من جديد حبة الشعير التي كانت في البداية، لا مجرد حبة، بل أكثر منها بعشر أو عشرين أو ثلاثين مرة»(3).

«إن عملية التطور هذه تتم لدى معظم الحشرات مثلما تتم مع حبوب الشعير، كالفراشات مثلا. فهي تلد من البيضة بنفي البيضة، فتنجز التغيرات في هيئتها النضج الجنسي، فتتزاوج، فتنتفي بدورها أي تموت، منذ أن ينتهي التزاوج و تبيض الأنثى بيوضها العديدة»(4).

- 8 - و بهذا يتضح مفهوم «الثلاثية» الماركسية: الأطروحة و الطباق و التركيب... أو القضية و ضدها و المركب.

و المقصود - عادة - بالأطروحة أو القضية وجود الشيء ذاته، سواء في عالم المادة أو عالم الفكر. و المراد بالطبق أو ضد القضية: تحقق نقيض ذلك الوجود، أما في داخله - بحسب مفهوم التناقض الماركسي الذي عرفناه -، أو في خارجه، يعني ما يسبب إلى زوال ذلك الوجود. و المراد بالتركيب:

ص:71


1- (1) مختارات انجلز ص 117.
2- (2) المصدر ص 117-118.
3- (3) المصدر نفسه ص 113.
4- (4) المصدر و الصفحة.

نفي النفي الذي عرفناه، و هو أن الصراع بين وجود الشيء و عدمه، بين الأطروحة و الطباق، يصل بالوجود إلى وجود أفضل جديد... ثالث، هو غير الأطروحة و الطباق السابقين. و يكون هذا الوجود الجديد بدوره أطروحة لينتفي بالطباق مرة أخرى... و هكذا تستمر الحركة.

و هذه الفكرة التي عرضناها واضحة في المصادر الماركسية بصيغة:

النفي و نفي النفي، و فيما نقلناه سابقا كفاية للدلالة عليه. إلا أن التعبير بالثلاثية بإحدى صيغتيها، نادر الوجود فيما اطلعنا عليه من المصادر، بالرغم من أنه مشهور عنهم جدا.

فماركس نفسه حين أراد تطبيق القانون لم يعبر بذلك. حيث نسمعه في كتابه «رأس المال» يقول:

«إن الاستملاك الرأسمالي، المطابق لنمط الانتاج الرأسمالي، يشكل النفي الأول لهذه الملكية الخاصة التي ليست إلا تابعا للعمل المستقل و الفردي. و لكن الانتاج الرأسمالي ينسل هو ذاته نفيه، بالحتمية ذاتها التي تخضع لها تطورات الطبيعة. إنه نفي النفي. و هو يعيد ليس ملكية الشغيل الخاصة بل ملكيته الفردية المؤسسة على مقتنيات و مكاسب العصر الرأسمالي، و على التعاون و الملكية المشتركة لجميع وسائل الانتاج، بما فيها الأرض»(1).

و كذلك انجلز، فيما سمعنا من التطبيقات و غيرها. و كذلك ستالين و بوليتزر و إضرابهما من المفكرين الماركسيين.

غير أن كتابا ماركسيا حديثا تعرض إلى ذلك بأسلوب يكاد أن يكون ثانويا و استطراديا... حيث قال:

«لقد رأينا أن ما يبرز بصفة النفي، يتبدل بدوره مع الزمن و يتحول إلى نوعية جديدة، أي نفي نفسه. و هذه السلسلة من النفي لا نهائية. و انه من الخطأ الظن بأن هذا التطور يجري بشكل سلس و بدون تناقضات. الواقع أن التطور التصاعدي السائر إلى الإمام عن طريق النفي يتم بشكل تناقض.

و لتوضيح ذلك نتصور نزاعا بين طرفين حول قضية علمية ما. إن الطرف الأول يقدم فكرة معينة (نظرية) و الطرف الثاني يقدم نفي هذه الفكرة (ضد النظرية). إن كلا من الطرفين المتعارضين يمكن أن يصيب بعض الحقيقة، و لكنهما يعارض أحدهما الآخر من جانب واحد، و يقف أحدهما من الآخر بصفته نافيا له. و تنشب بين الطرفين معركة فكرية تنتهي بظهور فكرة جديدة تنفي الفكرتين السابقتين المتصارعتين فيما بينهما

ص:72


1- (1) رأس المال: كارل ماركس ج 3 ق 2 ص 1138.

و لكنها عند ما تنفيهما و تنهي الخلاف الناشب بينهما لا تنبذ تلك العناصر من الحقيقة التي كانت متمثلة في كل منهما من جانب واحد، بل تضمهما إلى بعض و تصبح بهذا «مركبا» يستفيد من الجوانب الايجابية في تطور الجدال الذي كان ناشبا... و يختفي في الوقت نفسه عنصر الخطأ المؤقت المعارض للحقيقة. إن هذه الدرجة الجديدة بالذات هي ما نسميه «نفي النفي». و بالتالي فإن نفي النفي هو النتيجة القانونية لحل صراع الأضداد»(1).

- 9 - و طبقا لهذا التسلسل الفكري، وضعت الماركسية: قانون تراكم التغيرات الكمية و تحولها، في مرحلة معينة، إلى تغيرات كيفية. و المراد من التغيرات الكمية، باصطلاحها، التغيرات الطفيفة التي تطرأ على الشيء، و من التغيرات الكيفية: ما كان تغيرا أساسيا و مهما في الشيء. و بهذا الفهم من هذا القانون: ان التغيرات الطفيفة و القليلة إذا تراكمت انتجت تغيرا كبيرا و مهما.

قال ستالين:

«إن الديالكتيك - خلافا للميتافيزيقية -، لا يعتبر حركة التطور حركة نمو بسيطة، لا تؤدي التغيرات الكمية فيها إلى تغيرات كيفية. بل يعتبرها تطورا ينتقل من تغيرات كمية و ضئيلة و خفية إلى تغيرات ظاهرة و أساسية، أي تغيرات كيفية. و هذه التغيرات الكيفية ليست تدريجية، بل هي سريعة فجائية، و تحدث بقفزات من حالة إلى أخرى.

و هذه التغيرات ليست جائزة الوقوع بل هي ضرورية نتيجة تراكم كمية محسوسة و تدريجية.

و لذلك تعتبر الطريقة الديالكتيكية أن من الواجب فهم حركة التطور، لا من حيث هي حركة دائرية أو تكرار بسيط للطريق ذاته، بل هي حركة تقدمية صاعدة انتقال من الحالة الكيفية القديمة إلى حالة كيفية جديدة و تطور ينتقل من البسيط إلى المراكب، من الأدنى إلى الأعلى»(2).

و قال انجلز:

«كل تغير هو مرور من الكمية إلى الكيفية. هو نتيجة التغير الكمي لكمية الحركة كيفما كان شكلها، سواء أ كانت ملازمة للجسم من داخله أم مضافة إليه ما خارج. فإن حرارة الماء مثلا ليس لها بادئ الأمر تأثير في حالته من حيث هو سائل، و لكن إذا زيدت

ص:73


1- (1) المادية الديالكتيكية ص 305.
2- (2) المادية الديالكتيكية لستالين 15-16.

أو نقصت حرارة الماء، جاءت لحظة تعدلت فيها حالة التماسك التي هو فيها، و تحول الماء إلى بخار في إحدى الحالات، و إلى جليد في الحالة الأخرى»(1).

و «يمكن القول بأن الكيمياء هي علم التغيرات الكيفية الناشئة في الأجسام عن تغيرات كمية»(2).

- 10 - و أما مقدار الارتباط بين هذين القانونين: قانون نفي النفي و قانون التغيرات، فهو غير واضح في المصادر الماركسية!...

إن الماركسية، لا بد لها أن تجيب عن السؤال عن هذه العلاقة بأحد شكلين:

الشكل الأول: ان التغيرات الكمية - مهما كانت ضئيلة - يعتبر كل واحد منها، أو كل مرحلة أو درجة، شكلا من أشكال التركيب (نفي النفي) النتائج من أطروحة و طباق سابقين عليه، طبقا للقانون الأول.

و التغير الكيفي، شكل آخر للتركيب أيضا، لكنه ضخم و مهم. فقد اكتسب هذا التغير أصل وجوده من القانون الأول، و اكتسب ضخامته و أهميته من القانون الثاني.

إلا أن هذا الشكل لا يكاد يكون صحيحا، لأنه مناف للطفرة التي قالت بها الماركسية قبل التغير الكيفي. فإنها تعني أن هذا التغير الذي هو «تركيب» جديد غير مسبوق بأطروحة و طباق، بل بطفرة تقطعه عن سوابقه. فإن من نتائج الطفرة و خصائصها أن لا يكون ما بعدها ملحقا بما قبلها أو معتبرا من نتائجه بشكل من الأشكال.

مضافا إلى أن وجود الأطروحة و الطباق للتغير الكيفي سوف يكون افتراضيا تجريديا، لأنه غير متمثل بالتغيرات الكمية السابقة عليه، و إلا صرنا إلى الشكل الثاني الذي سوف نتحدث عنه... إذن فأين توجد الأطروحة و الطباق؟!...

الشكل الثاني: انها تعتبر التغيرات الكمية صراعا بين الأضداد أو بين الأطروحة و الطباق، و يكون التغير الكيفي هو التركيب.

ص:74


1- (1) المصدر ص 18.
2- (2) المصدر و الصفحة.

إلا أن هذا الشكل أيضا غير قابل للتصديق، إذ مضافا إلى ورود الأشكال الأول السابق نفسه، فإن الطفرة (تقطع) التغير الكيفي عن التغيرات الكمية بل يعتبر حادثا جديدا غير ناتج مما سبق. بخلاف التركيب، فإنه يتولد من أحشاء الصراع بين الأطروحة و الطباق، و لا يمكن أن يكون إلا كذلك.

هذا، و نحن طبقا لهذا الشكل الثاني، لا بد أن نعتبر القانونين قانونا واحدا ليس إلا. فالتغيرات الكمية عبارة أخرى عن صراع الأضداد و التغير الكيفي عبارة أخرى عن التركيب أو نفي النفي. فهما تعبيران عن واقع واحد. و بذلك تخسر الماركسية أحد القانونين الرئيسيين، مع أنها قد أكدت على كل منهما مستقلا تأكيدا كبيرا.

فهل يعني ذلك أن الماركسية، حين تحدثت عن قانون التغيرات، لاحظته (سلسا) خاليا من الأضداد، كما هو مقتضى الفصل بين القانونين... و هل يمكن للماركسية أن تتحدث بهذا الشكل؟،...

- 11 - و ينقسم صراع الأضداد إلى تناقض رئيسي و تناقض ثانوي.

فإن «أية عملية ما ليست بسيطة قط، لأنها تدين بوجودها الخاص إلى عدد كبير من الشروط الموضوعية التي تصلها بالمجموع. ينتج عن ذلك أن كل عملية هي محل سلسلة من التناقضات و من بين هذه التناقضات، تناقض رئيسي يوجد منذ بداية العملية حتى نهايتها و يحدد وجوده و تطوره طبيعة سير العملية، أما الأخريات فهي تناقضات ثانوية تتعلق بالتناقض الرئيسي.

... و لا تتراكم هذه التناقضات كل منها فوق الآخر، بل هي تتداخل و تتفاعل حسب قانون الجدلية الأولي. فما هو تأثير هذا التفاعل؟ تزداد أهمية تناقض ثانوي في بعض الأحوال، فيصبح لفترة معينة تناقضا رئيسيا بينما يصبح التناقض الرئيسي الأول ثانويا (و لا يعني هذا زوال تأثيره). فليست التناقضات إذن متحجرة، بل هي تتغير.

و هكذا يصبح التناقض بين البرجوازية و البروليتاريا (الذي هو التناقض الرئيسي الأول) في البلاد المستعمرة ثانويا لفترة معينة، بالرغم من خطورته، إذ ينحل بانتصار الاشتراكية في هذه البلاد...»(1).

- 12 - فهذه الفقرات، كافية لعرض الديالكتيك الماركسي، أو قانون

ص:75


1- (1) أصول الفلسفة الماركسية: بوليتزر ص 179-181.

صراع الأضداد، بشكل موجز و مرتب، خال من التشويش و كثرة الأمثلة و المناقشات... التي تجدها في المصادر الماركسية.

مناقشة الديالكتيك

- 1 - بالنسبة إلى ما ذكره الماركسيون من وجود السؤال الرئيسي في الفلسفة، حول أسبقية الروح أو المادة...

تكتسب بعض المسائل نوعا من الأهمية، حين تكون نقطة للخلاف بين جماعتين فكريتين من الناس... لا تختلف في ذلك المسائل الفلسفية عن غيرها.

فالمسألة المهمة بين المسلمين و المسيحيين هو أنه هل صدق محمد بن عبد اللّه نبي الاسلام في نبوته أو لا. و المسألة الرئيسية بين غاليلة و الكنيسة هي أن الأرض كروية أو مسطحة. و المسألة الرئيسية بين فريقين من الفلاسفة هي أن الأصل في التكوين هل هو الماهية أو الوجود و هكذا.

إذن، فمن الطبيعي أن تكون المسألة الرئيسية بين الماديين و الالهيين هو القول بتقدم الروح أو المادة. و لا يعني ذلك أنها هي المسألة الأكبر على الاطلاق، لوضوح أنه قد توجد انقسامات أخرى فلسفية أو فكرية، تكون مسائل أخرى هي المحك فيها.

و ليست هذه المسألة هي أعم المسائل في الفكر الفلسفي. فإن هناك ما هو أسبق منها و أشمل، كالمسألة التي وقعت محلا للخلاف بين الواقعيين و المثاليين - بالمعنى الاصطلاحي - و هو أنه هل يوجد خارج الذات شيء واقعي أو لا يوجد... لوضوح أن الخلاف في تلك المسألة متفرع على الاعتراف بالواقع الموضوعي، و التسالم عليه بين الفريقين: المادي و الالهي.

و أما التعبير بالمثالية و الميتافيزيقية، في كلام الماركسيين، على خلاف المعاني الاصطلاحية و المعروفة لها، بحيث تشمل الفلاسفة الماديين أنفسهم، كهيجل و فورباخ، فيصبحون ماديين ميتافيزيقيين، و واقعيين مثاليين في نفس الوقت!!... فهذا تهافت ينبغي أن نعرض عنه، و خاصة بعد أن عرفنا من

ص:76

استعمال هذه الألفاظ كونها لمجرد الطعن و التجريح.

- 2 - و أما القول بأزلية الكون، فقد ثبت في العلم الحديث بطلانه. فإن مقتضى قانون الديناميك الحراري، هو أن الأجسام عموما تشع حرارتها حتى تصل إلى الصفر المطلق أو العدم. و معه... فإذا كان هذا الكون أزليا، إذن فلا بد أن يكون قد انعدم و انتهى منذ عهد بعيد طبقا لهذا القانون. في حين أننا نرى الكون موجودا، إذن فلا بد أن يكون قد وجد في لحظة «متأخرة» بحيث لا زالت حرارته الداخلية سارية المفعول. و هذا يعني حدوث الكون و نفي أزليته.

و إذا كان الكون حادثا... إذن، يدور الأمر بين الاعتراف بالفاعل الخارجي للكون، أو كونه قد طفر من العدم إلى الوجود فجأة...

و كلا الأمرين مما لا ترغب فيه الماركسية.

و إنكار قانون الديناميك الحرارية، كما حاولت بعض المصادر الماركسية أن تقوله(1)، يورط المفكر الماركسي بعدة محاذير باطلة(2)، أوضحها في

ص:77


1- (1) المادية الديالكتيكية و العلوم الطبيعية ص 119.
2- (2) لا يخفى أن القانون المشار إليه، صحيح و لا مناص للماركسيين من الاعتراف به في بعض الحدود التي سنذكرها (انظر المصدر السابق، نفس الصفحة). و لكنه يحتاج إلى تقييدات محتملة، نذكرها مع ما ينبغي أن يكون موقفنا و موقف الماركسية منها: التقييد الأول: إن هذا القانون إنما يصح في المادة المتناهية المحدودة، فقط، دون ما إذا قلنا بأنها لا متناهية. كما أشار إليه المصدر السابق (الصفحة نفسها). و هذا صحيح، لأن المادة اللامتناهية تكون قابلة لا شعاع الحرارة في أمد لا متناهي، فلا يوجب ذلك فناء الكون و إن كان أزليا. إلا أن الالتزام بلا تناهي الكون أمر غير صحيح... أما من وجهة نظر المؤلف فباعتبار وجود البرهان على ذلك في الفلسفة... و لا حاجة إلى ذكره. و اما من وجهة نظر الماركسية فلأن هذا الموقف يتضمن (مثالية) متطرفة و ميتافيزيقة مكثفة، لأنه يتضمن الاعتراف بوجود أشياء يستحيل الاطلاع عليها حسيا أو إقامة البرهان عليه علميا. مضافا إلى ما ذكرناه في المتن أعلاه فراجع. التقييد الثاني: عدم الاعتراف بقانون فناء المادة أعني القانون القائل بأن المادة يستحيل أن توجد أو أن تفنى... فإن القانون المشار إليه في المتن إنما يصح لو أنكرنا هذا القانون الأخير، و أما لو قلنا باستحالة فناء المادة، فهو يعني استحالة فناء الكون. و هذا ما أشار إليه المصدر السالف الذكر (ص 121). إلا أن هذا التقييد غير صحيح... أما من زاوية نظر المؤلف فلعدم قيام الدليل عليه، إذ يمكن وجود المادة و انعدامها من ناحية فلسفية. و أما من زاوية أعم من ذلك: فلأن الحديث في هذا القانون عن المادة

ص:78

الذهن الماركسي أنه يكون على خلاف قول لينين بأن الكون شعلة أبدا تثور و تنطفئ طبقا لقوانين معينة... كما سبق أن سمعنا.

فإن إنكار قانون الفناء الحراري، يعني أن الكون يشع حرارته باستمرار و بنسبة متشابهة منذ الأزل إلى الأبد، بدون أن (ينطفىء) أو يناله العدم. و هو على خلاف ما التزم به لينين.

و يبدو أن المقصود من انطفاء شعلة الكون، انعدامه بالمرة، مرة بعد مرة، إذن يلزم من اشتعاله بعد الانطفاء وجوده بعد العدم مرة بعد مرة، و هو يورط الماركسية بالقول بالصدفة للكون لعدة مرات، ربما لا تكون متناهية على حين أنها هربت منه لمرة واحدة.

و لا ينبغي لنا أن نتحدث عن «القوانين المعينة» التي تحكم الكون حين ينعدم و تنطفئ شعلته، كما لا ينبغي أن نتحدث عن القوانين «الموضوعية» الماركسية، في مثل ذلك، بما في ذلك قانون الديالكتيك الذي رأى لينين انطباقه في هذا المورد... إذ لا معنى لوجود القانون مع انعدام الموضوع.

- 3 - و أما ما ذكرناه في الفقرة الثالثة من اعتراف الماركسية بوجود الواقع و إمكان إدراكه، خلافا للمثاليين - بالمعنى المصطلح -، فهذا أمر صحيح، نعترف به إجمالا، و لا حاجة إلى الدخول في تفاصيله، إذ يكفينا في بحثنا الآتي هذا المقدار المختصر من الواقعية.

غير أنه مما يلفت النظر أنه لا يوجد في المصادر الماركسية - حسب ما نعلم - استدلال على صحة الواقعية، و إنما أخذت النظرية بمصادرة ساذجة،

ص:79

مع أن للمثالية أدلتها التي تحتاج إلى المناقشة سواء على المستوى القديم كباركلي، أو على مستوى الفيزياء الحديثة التي انطلق منها البعض إلى الالتزام بالمثالية.

كل ما في الموضوع، أن القوانين الماركسية حيث أنها لا تفيد في إثبات الواقعية باعتبار تفرعها على الاعتراف به، فقد رأت الماركسية أن الأصلح لها أن تلوذ بالصمت من هذه الجهة و توكل الأمر إلى الوجدان البسيط.

- 4 - نود في هذا الصدد الاشارة إلى حقيقة معينة، قلما يلتفت إليها المفكرون على اختلاف اتجاهاتهم...

و هي أن «القانون» الكوني، أيا كانت صيغته و مدلوله، و في أي ميدان كان عمله، إنما هو مفهوم ذهني منتزع من عدد من الوقائع الجزئية الخارجية. فقولنا: كل جسم كبير يجذب الجسم الصغير... ليس إلا صيغة ذهنية أو تعبيرية منتزعة أو مفهومة باعتبار ملاحظة عدد ضخم من الوقائع الخارجية التي حدثت فيها الجاذبية في عالم الكون. فهنا تنجذب تفاحة و هناك تنجذب حصاة و هنالك ينجذب كوكب... و هكذا...

فنلاحظ ذلك و نقول: كل جسم كبير يجذب الجسم الصغير، الذي هو «قانون الجاذبية».

و لا يمكن أن يكون للقانون بمعناه الواسع وجود واقعي، و إنما الموجود في الخارج ليس إلا الجزئيات، و الوقائع الخاصة.

و البرهان على ذلك من زاويتنا: الحقيقة الفلسفية القائلة: بأن الكلي - على سعته - لا يوجد في الخارج، فإن عالم الوجود الخارجي مساوق مع الجزئية و التعين. و المفهوم القانوني مفهوم كلي لا يمكن أن يوجد في الخارج.

و البرهان من زاوية الماديين: إن القانون الكوني، أيا كان، ليس (مادة) لأنه مسيطر على المادة و الماديات و حاكم فيها. و ليس محسوسا، لوضوح أن ما هو المحسوس هو مدار و انطباق القانون، لا القانون على سعته. فاننا نرى التفاحة تنجذب إلى الأرض لكننا لا نرى قانون الجاذبية...

فالماديون حين يقولون: بأن الوجود الواقعي منحصر بالمادة،

ص:80

و يقولون: بأن ما ليس بمحسوس ليس بموجود -. ينتج من ذلك: ان «القانون» غير موجود، باعتباره أمرا غير محسوس.

و إن تحدثوا عن «القوانين الموضوعية» - كما هو ديدن الماركسيين دائما... فهم يتحدثون - لا محالة - عن شيء لا مادي و لا محسوس، بل عن شيء ميتافيزيقي أو «مثالي» مقيت!!..

لا ينجو من ذلك حتى قانون الديالكتيك نفسه. فاننا لو لاحظناه بحياله لوجدناه مفهوما ميتافيزيقيا مثاليا لا مادي و لا محسوس. و إنما المحسوس - لو صح هذا القانون - هو وقائعه و تطبيقاته الجزئية. فنحن نرى هذه الشعيرة - كما مثل انجلز - تصبح نبتة، و هذه النبتة تصبح شجرة، و هذه الشجرة تصبح ثمرة... لا اننا نرى القانون على شموله و عمومه.

هذا و يختص قانون الديالكتيك بزيادة في اتجاه هذا البرهان نفسه...

فإن التناقض الداخلي، في الشيء ذاته بين الأطروحة و الطباق، أمر غير محسوس، و إنما المحسوس هو طرد العوامل المتلفة على الشيء من الخارج. فإذا زرعنا الشعيرة أتلفتها رطوبة الأرض، و إذا دققناها أتلفها الدق، و إذا قضمناها أتلفها القضم... و هكذا. و اما ان عوامل الفناء موجودة في داخل الشعيرة نفسها، فهو أمر غير محسوس، بل هو افتراض ميتافيزيقي ليس إلا.

إذن، فليس قانون الديالكتيك على سعته ميتافيزيقيا، فحسب، بل حتى في موارده الجزئية ميتافيزيقي أيضا. فما هو رأي الماركسيين في الالتزام بمثل هذه الأمور الميتافيزيقية!!...

إذن، فتعميم قانون صراع الأضداد الميتافيزيقي، إلى كل المجالات من العلوم الطبيعية و المجتمع،... حتى الرياضيات... تعميم ميتافيزيقي ليس إلا...

- 5 - و بغض النظر عما قلناه، و التسليم - جدلا - بإمكان وجود القوانين الموضوعية المادية... يمكن إيراد اشكالات أخرى تتمثل في عدة نقاط ضعف:

النقطة الأولى: إن ما حاولته الماركسية من الانطلاق من الأمثلة

ص:81

الحياتية و العلمية، و إن كان لطيفا... إلا أن فهم النظرية العامة من هذه الأمثلة، يمكن بأحد أسلوبين:

الأسلوب الأول: ان نفترض النظرية سلفا، ثم نحاول حمل الأمثلة عليها.

الأسلوب الثاني: أن نحاول فهم النظرية من حمل الأمثلة نفسها.

و المفروض أن الماركسية قامت بالأسلوب الثاني في فهم النظرية...

فهل أفلحت في ذلك. أو أنها قامت - في الواقع - بالأسلوب الأول من حيث لا تعلم.

إن الأمثلة المأخوذة من الكون و الحياة، مهما تزايدت، فإنها لا تدل على فهم فلسفي معين، بل هي كالكاسة الفارغة يمكن أن تملأها أي نظرية فلسفية عامة، وضعت لفهم الكون و الحياة. و لا يمكن لأي نظرية عامة أن تنجح ما لم تطبق فهمها على كثرة كاثرة من موارد الكون و الحياة.

فمثال انجلز عن حبة الشعير، كما يمكن فهمه على أساس الديالكتيك، كذلك يمكن فهمه على أساس مفهوم العلية القائل بالارتباط الضروري بين الفعل و الفاعل، كما يمكن - أيضا - فهمه على أساس العلية بالفهم العلمي الحديث القائم على مجرد الترتب بين الوقائع... و هكذا، أي نظرية عامة أخرى.

إذن، فالأمثلة المسبقة من الحياة، لا تدل على النظرية الماركسية، كما يريد انجلز أن يقول -... بل من الضروري للفلسفة أن تقيم البرهان على صحة نظرياتها خارجا عن هذا النطاق، حتى ما إذا تم البرهان عليها أمكن تطبيقها على سائر الوقائع. أي أن الأسلوب الأول هو الأسلوب الأمثل.

و أما إذا اعتمدت النظرية، على الوقائع اعتمادا كليا، كما فعلت الماركسية، و لم يكن لها دليل مسبق، إذن سوف تبقى النظرية للدليل الكافي، لأن الوقائع وحدها، قاصرة عن إثباتها، كما رأينا.

النقطة الثانية: إن صراع الأضداد، هل يؤدي - كما ترى الماركسية - إلى وجود تركيبي أكمل أو لا؟!...

إن هذا الصراع - على ما يبدو - يؤدي، حتما، إلى هلاك المتصارعين، لأنه عنيف و دائم، و لا أقل من هلاك أحدهما، و أما وجود

ص:82

شيء جديد نتيجة لهذا الصراع، فهذا مما لا يمكن أن يكون معقولا، لأنه خلاف طبيعة الصراع بالضرورة.

على أن الحركة، ليست دائما إلى الأكمل و الأعلى، بل قد تؤدي الحركة إلى ما هو الأردأ، كتحول الحديد إلى تراب نتيجة لتآكله بالرطوبة... و قد لا تؤدي هذه الحركة إلى نتيجة بالمرة، مثل بقاء بعض المجتمعات البدائية غير المتطورة إلى حد الآن، على شكلها البدائي، و لعلها تبقى كذلك حتى تفنى أو تتفرق.

... و قد تؤدي الحركة إلى زوال الذات بدون بدل... كالفوتونات الكهربائية عند استقرارها على الأجسام، فإنها تنعدم بالمرة، لأن لا كتلة لها عند السكون، و إنما تحدث لها الكتلة عند الحركة، كما ثبت في الفيزياء الحديثة.

فإذا كانت الحركة صراعا بين الأضداد، لم تكن منتجة للفرد الأكمل دائما...

النقطة الثالثة: اننا نستطيع مما سبق أن ننطلق إلى نتيجة مهمة من عدة زوايا:

الزاوية الأولى: اننا بعد أن أثبتنا أن القوانين الكونية، لا وجود لها على المستوى المادي، و إنما هي مفاهيم ذهنية نعبّر بها على المستوى اللغوي عن مجموعة من الوقائع الجزئية التطبيقية... إذن، فقد زال الأساس المهم الذي يقيم عليه الماديون ماديتهم في التعويض، بفرضية وجود هذه القوانين عن فرضية وجود اللّه... إذ يرون أنه لا حاجة إلى الافتراض الثاني مع صدق الافتراض الأول.

و هذا منحى عام للماديين، سواء في ذلك الماركسيون و غيرهم. و إنما يختلف الماركسيون عن غيرهم في فهم هذه القوانين التي تعوض عن افتراض الخالق في رأيهم. فغير الماركسيين يكتفون من هذه القوانين بالقوانين الفيزياوية و الكيمياوية و الفلكية للطبيعة. و الماركسيون يفهمون كل ذلك طبقا لقانون خاص بهم هو قانون الديالكتيك الذي عرفناه.

فإذا استطعنا التنزل عن افتراض وجود القوانين المادية، على ما برهنا عليه... لم يبق أمامنا إلا الافتراض الثاني، و هو وجود اللّه تعالى كمدبر

ص:83

للعالم بدل هذه القوانين.

هذا... و نستطيع أن نخطو خطوة أخرى، و هي أننا لو سلمنا - جدلا - بوجود هذه القوانين، فإن وجودها لا يغني عن وجود اللّه، بعد وضوح دلالتها على حسن التدبير في هذا الكون، كما سنشير إليه في الزاوية التالية... و خاصة مع الاعتراف «بحدوث» الكون، كما سنبرهن عليه من الزاوية التي بعدها.

الزاوية الثانية: أكدت الماركسية بإصرار على أن القوانين الطبيعية، عمياء عفوية الانتاج... و هذا واضح جدا على مستوى الفكر المادي، لا مناص لهم عن الالتزام به. و لكن هل هو صحيح أو لا؟ -.

إننا نصبح مفكرين و عباقرة و مشاهير، لمجرد الاطلاع على خصائص بعض هذه القوانين. فهل يمكن أن يكون وجود هذه القوانين - بعد الاعتراف بها - بدون فكر و بدون عبقرية؟!... و هل تكفي الأزلية أو الصدفة لتفسير ذلك؟ ان الجواب على ذلك موكول إن الرأي العام في تفكيره الاعتيادي الموضوعي.

لا يشذ عن ذلك حتى قانون الديالكتيك نفسه - على تقدير صحته - فإن سريانه في الكون، و إنتاجه للحركة نحو الأكمل، لا يمكن أن يكون لمجرد أزلية القانون أو لمجرد الصدفة. و إنما يدل بوضوح على عمق الصنع و التدبير.

الزاوية الثالثة: ان القول بأزلية الكون بمعنى عدم وجود بداية لوجوده... مما لا معنى له بالمرة.

فإن لفظ الكون يعبر عن مجموع ما في عالم الوجود من أجزاء... فما هو الشيء الذي نقول بأزليته؟ هل هو المجموع أم الأجزاء؟!...

أما المجموع، فلا يمكن أن يكون أزليا، لأنه مفهوم ذهني أو تعبيري غير موجود في الخارج، و إنما المتحقق هو الأجزاء الكثيرة فقط. أما تصور وحدتها المجموعية فهو خيال تصوري محظ. و ليس المراد الالتزام بأزلية هذا الخيال، و إنما المراد الالتزام بأزلية الكون الواقعي، فإذا لم يكن المجموع واقعيا لا معنى للالتزام بأزليته... فإن ما هو أزلي هو الموجود الواقعي دون غيره.

ص:84

و أما الالتزام بأزلية الأجزاء على كثرتها و تشتتها... فهذا أيضا غير محتمل، فلأن الأجزاء توجد و تفنى باستمرار، و لا يمكن لأي جزء يعينه أن يبقى محافظا على وجوده منذ الأزل. فإن معنى الحركة - حتى في الفكر الماركسي - هو زوال أشياء و حدوث أشياء أخرى، طبقا لقانون الديالكتيك أو غيره. و الكون متحرك باستمرار، و لا يمكن أن يكون ساكنا.

فإذا لم يكن الكون، لا بمجموعه و لا بأجزائه أزليا، فهو حادث - إذن - في لحظة معينة. فيدور أمره بين الالتزام بالصانع الحكيم أو القول بالصدفة المطلقة التي تبرأت الماركسية من مجرد التفكير بها.

و قد يخطر في الذهن: أن معنى أزلية الكون ليس هو ما قلناه، بل بمعنى أن الكون عبارة عن مجموعة من الحوادث المتتابعة من الأزل و إلى الأبد، فأي واقعة لاحظناها وجدناها مسبوقة بأخرى، و هكذا إلى ما لا يتناهى. و هذه السلسلة المتتابعة هي التي تحفظ للكون أزليته.

و جوابه: ان هذا الشكل من التتابع، ما لم يصل إلى الفاعل الخارجي أو الخالق الحكيم، الذي يوجد السلسلة بشكلها اللامتناهي أو يقع في أولها، فلا تكون لا متناهية في العدد... ما لم يكن هذا الشكل مستحيلا، كما سنذكر في النقطة التالية.

الزاوية الرابعة: إن أزلية الكون، بأي شكل، لو سلمناها، لا تبرر وجوده من دون فاعل خارجي. فإن عدم افتراض هذا الفاعل يؤدي إلى ما يسمى باصطلاح الفلسفة بالتسلسل و هو محال. إذن يتعين القول بوجود الفاعل الخارجي حتى مع الالتزام بأزلية الكون.

و انطباق فكرة التسلسل، واضحة على هذا التقدير... فإن ترتب الأحداث و الوقائع الكونية على بعضها البعض، مما لا ينكره أحد، سواء كان بنحو ديالكتيكي أو علمي أو على شكل ثالث... إذن فوجود هذه الحادثة مستند إلى حادثة قبلها، و تلك إلى ما قبلها، و هكذا إلى ما لا نهاية. و هذا هو معنى التسلسل.

و أما استحالة التسلسل، فنحن لا نحتاج في إثباتها إلى دليل عقلي معقد، لكي تنكره الماركسية بصفته ميتافيزيقيا أو مثاليا!!.. و إنما الوجدان حاكم باستحالته، إذ يكفي مجرد تصوره إلى استنكار حدوثه.

ص:85

و أوضح أمثلته: ما إذا أمرك شخص، لا مناص لك من طاعته، ان تخرج من عدة أبواب على أن لا تخرج من أي باب إلا إذا كنت خرجت من باب قبلها. فإن أمره هذا لا يكون قابلا للاطاعة، باعتبار استلزامه التسلسل. فإنك - لا محالة - تخرج لأول مرة من باب لم تخرج من باب قبله. و أما تقيدك بهذا الشرط باستمرار، فهو في عداد المحالات...

فالحظ ذلك بنفسك(1).

و مثله، ما لو أمرك بأن تأكل عدة تفاحات على أن تكون كل تفاحة تأكلها مسبوقة بأكلك تفاحة قبلها... أو أمرك أن تسمع عدة أبيات من الشعر على أن يكون كل بيت تسمعه مسبوقا بسماعك لبيت قبله...

و هكذا.

و من هنا تضطر أنت، لو أردت الامتثال، إلى قطع هذه السلسلة بالخروج من باب لم تخرج قبله من باب آخر، أو سماع بيت من الشعر لم تسمع قبله بيتا... و هكذا. و إلا كانت كل فقرات السلسلة متعذرة التطبيق تماما...

فكذلك الحال في الكون عموما، لو قلنا بأزليته من دون إسناده إلى صانع خارجي، فإن حوادثه مربوطة ببعضها البعض منذ الأزل، فإذا لم تستند إلى الصانع تكون كل حوادثه متعذرة الوجود، تماما كأبيات الشعر و التفاحات.

إذن فأزلية الكون مستحيلة التحقق على أساس الفكر المادي...

النقطة الرابعة: انه كما لا معنى لأزلية الكون، لا معنى لأزلية قوانينه أيضا بما فيها قانون الديالكتيك... بشكل أوضح من أزلية الكون.

إذ لعل شخصا يتحدث عن أزلية الكون، بعد التنزل - جدلا - عما عرفناه في النقطة السابقة، يتحدث عنه على أساس ملاحظة المجموع أو على تسلسل الحوادث و تتابعها اللانهائي... إلا أن هذا لا معنى له في القوانين الكونية. لأن الحديث عن مجموع القانون حديث مهمل، لوضوح أن القانون إنما يوجد في ضمن تطبيقاته، و ليس له وجود أوسع من ذلك.

ص:86


1- (1) إن أول من ذكر هذا الأسلوب في استحالة التسلسل، حسب اطلاعنا، هو: عبد اللطيف بري، في كتابه: نقد الفكر المادي و الديني، ص 25. نذكره حفظا للحقيقة.

و تطبيقات القانون متناثرة مشتتة ليس بينها ترابط من أي نوع، فلا يمكن أن نتصور فيها تتابعا لا نهائيا... لوضوح أن جذب التفاحة غير مربوط بجذب الحصاة... و هكذا.

و إذا كانت التطبيقات، متعددة و مشتتة، و ليس للقانون وجود زائد عليها، إذن فكيف يمكن الالتزام بأزليته.

و الأمر بالنسبة إلى قانون الديالكتيك، أوضح و أشد... لأننا لو سلمنا - جدلا - بإمكان أزلية غيره من القوانين، يتعذر القول بأزليته مع الأسف!!...

لوضوح، أن معنى أزليته بقاؤه على طول المدة، بقاؤه سلسا من دون تغيير... و هذا ينافي مضمون القانون نفسه. فإن مضمون القانون هو أن كل شيء يحدث فيه النفي و نفي النفي، على الشكل الثلاثي الذي عرفناه.

فإذا كان هذا المضمون شاملا حقيقة لكل شيء، إن فهو شامل للقانون نفسه، و معه يكون قانون الديالكتيك (أطروحة) يجري فيها النفي (الطباق) و يحدث بعده (التركيب)...

إذن، فإذا كان هذا القانون أزليا، ينبغي أن نتوقع - طبقا لمضمونه نفسه - أن يكون قد تغير و تبدل إلى شيء آخر منذ أمد طويل. و سيكون القانون الذي يخلفه سلسا و ثابتا، و لا حاجة إلى القول بتغيره مرة أخرى، بعد زوال قانون الديالكتيك من الكون... و لا بد أن يكون هذا القانون الجديد، هو الساري المفعول في العصر الحاضر.

- 6 - لم يبق لدينا من المناقشات، سوى النظر إلى القانون الماركسي الثاني، و هو تحول التغيرات الكمية إلى تغير كيفي، تحولا دفعيا على شكل قفزة أو طفرة.

إن هذا القانون مما لا أساس له، لعدة نقاط:

النقطة الأولى: ما ذكرناه فيما سبق، من أن الطفرة بطبيعتها دائما تقطع الواقع اللاحق عن الواقع السابق، بحيث لا يكون اللاحق ناتجا من السابق بأي حال عن السابق، بل هو حادث جديد منقطع عن سابقه.

و هذا هو سر الطفرة و فلسفتها.

ص:87

فما ذكرته الماركسية من أن التغير الكيفي ناتج من التغيرات الكمية، و انها بمنزلة الأسباب له... لا يكون صحيحا، لتخلل الطفرة بينهما...

فلا بد أن نفحص عن أسباب أخرى للتغير الكيفي... و إلا كان وجوده مستندا إلى الصدفة المطلقة!!..

النقطة الثانية: ان هذا القانون، لو صح أحيانا، فهو لا يصح دائما...

إذ أن التغيرات الكمية كثيرا ما لا تنتج تغيرا كيفيا بالمرة، كنقل شيء ما من مكان إلى مكان، و كحركة المروحة الكهربائية و سائر المحركات و الآلات، و كحركة النجوم في مداراتها. فإن كل هذا... و غير هذا...

لا ينتج شيئا جديدا بعد انتهاء التغير الكمي و انقطاع الحركة لو حصل.

و قد يكون التغير الكيفي ناتجا من دون تغيرات كمية. خذ إليك مثلا: انكسار الزجاج، فإنه لو كان ناتجا عن الاهتزاز، لكان ناتجا عن تغير كمي... و لكنه قد يكون ناتجا عن سقوط جسم ثقيل عليه، فيكون انكساره تغيرا كيفيا غير ناتج من تغير كمي فيه.

و كذلك إسراج المصباح الكهربائي، و كذلك إشعال النار، فإنها غير مسبوقة بتغيرات كمية فيها. بل هي اما حركة في غيره كحركة الفوتونات الكهربائية خلال السلك، الأمر الذي يوجب إسراج المصباح. و اما هي حركة ليست من نوعه كحركة يد الانسان الذي يشعل النار فانها ليست من نوع النار. و القانون الماركسي لا بد أنه يشترط أن يكون التغير ان في شيء واحد و من نوع واحد.

انظر إلى مثال الغليان الذي أكد عليه انجلز، فإنه حاصل على كلا الصفتين فهو ذو تغيرات كمية في شيء واحد (و هو الماء) و من نوع واحد، فإن الغليان شكل من أشكال ارتفاع الحرارة.

و قد لا يكون التغير الكيفي، نهائيا... بل تلحقه تغيرات كمية أخرى، لكن بدون أن تكون منتجة لتغير كيفي. فلئن كان رفع الحرارة قبل الغليان منتجا للغليان، فإن رفع الحرارة بعد الغليان غير منتج لشيء، بل يبقى الغليان هو الغليان و تحول السائل إلى غاز على حاله.

و ما الذي يحدث لو كانت كل مجموعة من التغيرات الكمية منتجة لتغير

ص:88

كيفي... إذن، ينبغي ان ننتظر تغيرا كيفيا بعد 90 درجة من تصاعد الحرارة و ربما أقل منها أيضا. مع أن شيئا من ذلك لا يحدث. إن السر في هذا «التأجيل» إلى درجة المائة يمكن في سبب آخر غير هذا القانون الذي يعجز عن تفسيره.

و لو أننا انتظرنا من التغير الكيفي أن يكون أهم و أفضل من التغيرات الكمية التدريجية، إذن سنصطدم بتغيرات كيفية أضعف و أسوأ من التغيرات الكمية. و لعل أوضح أمثلته الموت بعد الحياة، فإن استمرار الحياة منتج للموت الذي هو أقل أهمية منها. و من أمثلته (الاحتراق التام) في حالتي الخسوف و الكسوف الذي ينتج بعد الاحتراق الجزئي التدريجي... مع وضوح أن الاحتراق التام أسوأ من الاحتراق الناقص.

النقطة الثالثة: ان التغير الذي يعتبره انجلز كيفيا، هو - في واقعه - تغير كمي ليس إلا.

و يمكن أن ننطلق إلى إيضاح ذلك من مثاله الرئيسي: مثال الغليان.

فإنه يحتوي على تغيرات كمية على عدة أشكال:

الشكل الأول: تصاعد الحرارة، فإنه - بطبعه - تصاعد كمي و ان زاد على المائة. و يوضح ذلك: الالتفات إلى غير الماء من الأجسام التي تتدرج في الحرارة فإن تصاعدها هناك كمي محض.

الشكل الثاني: تحول الماء إلى بخار أو غاز... فإن هذا يحدث منذ الدرجات الضعيفة للحرارة، و يتزايد بتزايدها، لأنه يتناسب مع الحرارة تناسبا طرديا. إذن فالتبخر كان موجودا قبل الغليان و مستمرا في التزايد، و الحال نفسها بقيت بعد الغليان، و لم يحدث شيء جديد.

نعم، لو لم يكن التبخر موجودا، ثم وجد من أول الغليان، لكان ذلك تطبيقا للقانون بشكل أو بآخر. إلا أن الأمر ليس كذلك.

الشكل الثالث: النشيش، الذي هو عبارة عن صعود الأجزاء السفلى من الماء إلى أعلى، نتيجة لتمددها بالحرارة أكثر من الأجزاء العليا. فإن الحديث فيه كالحديث عن التبخر... من حيث أن النشيش موجود منذ الدرجات الضعيفة للحرارة، و يتزايد بتزايدها، لأنه يتناسب معها تناسبا طرديا، حتى تصبح تدريجا واضحة. و لو ارتفعت الحرارة أكثر من المائة،

ص:89

فسوف يكون الانقلاب أوضح.

و يصدق أيضا ما قلناه في جانب التبخر... فإن النشيش أو الصعود، لو كان منعدما قبل الغليان، ثم يحدث بحدوثه، لكان تطبيقا للقانون، و لكن الأمر ليس كذلك.

كل ما في الأمر، أن العرف اللغوي تبانى على تسمية كمية معينة من هذه السلسلة الصاعدة من الحركات بالغليان، كما سمى درجاتها الضعيفة بالنشيش. و كان يمكنه أن يسمي أية مركبة أخرى بهذا الاسم أو بأي اسم آخر. و قد أهمل «التصاعد» اللاحق للغليان من اسم جديد. و في الواقع كله تصاعد على غرار واحد، و بارتفاع في كمية الحرارة و كمية التبخر و كمية الانقلاب ليس إلا.

و من هنا نستطيع أن نفهم معنى الطفرة التي لمسها الماركسيون قبل التغير الكيفي فإن العرف اللغوي حين يتبانى على أن درجة معينة من الانقلاب هي المسماة بالغليان، دون ما هو أقل منها... فإن هذه الدرجة تحدث مع تصاعد الحرارة في لحظة معينة، بطبيعة الحال (درجة المائة تحدث بعد التسعة و التسعين) و لا يكون لها وجود قبل تلك اللحظة. و بمجرد حدوثها يسميها العرف اللغوي «فجأة» باسمها الجديد: الغليان. و هذه المفاجأة هي التي استوحى منها الماركسيون معنى الطفرة و هي مفاجأة لغوية، كما أن فكرة التغير الكيفي أساسا فكرة لغوية، و لا تحتوي من ناحية (علمية) إلا على التغير الكمي.

إذن، فلم نستطع أن نضع يدنا على تطبيق واحد، من أي نوع، يصلح أن يكون تطبيقا كافيا للقانون الماركسي، و حاملا لكل صفاته المطلوبة.

و من مجموع هذه المناقشات ينتج أن الأسس الفلسفية العامة للمادية التاريخية، لم يثبت صحة شيء منها، غير الاعتراف بالواقعية. إلا أن هذا لا ينافي وجود بعض اللمعات في التفكير الماركسي، هو الذي حدانا أن نستشهد بها في هذا الكتاب.

ص:90

الأسس العامة الاقتصادية و الاجتماعية للمادية التاريخية

- 1 - إن الحياة الاجتماعية جزء من الطبيعة، و تابعة لقوانينها القاهرة، بطبيعة الحال.

قال ستالين:

«و من السهل أن ندرك الأهمية العظمى لتطبيق مبادئ المادية الفلسفية على درس الحياة الاجتماعية، و على درس تاريخ المجتمع... فإذا صح أن الصلة بين حوادث الطبيعة و تكييف بعضها بعضا بصورة متبادلة هما قانونان ضروريان من قوانين تطور الطبيعة نتج عن ذلك أن الصلة بين حوادث الحياة الاجتماعية و تكييف بعضها بعضا بصورة متبادلة، ليسا مجرد احتمالات، بل هما أيضا قانونان ضروريان من قوانين التطور الاجتماعي.

و بالتالي تخرج الحياة الاجتماعية و تاريخ المجتمع عن كونهما تكدس «احتمالات» بل يصبح تاريخ المجتمع تطورا ضروريا، و تصبح دراسة التاريخ الاجتماعي علما»(1).

- 2 - و حيث أن القانون الأهم و الأعم للطبيعة، في نظر الماركسية، هو الديالكتيك مضافا إلى قانون التغير الكمي و الكيفي... إذن يكون المجتمع في حاضره و ماضيه ديالكتيكيا، محكوما لقانونه القاهر. و تكون المادية التاريخية من زاوية كونها تفسيرا للمجتمع، مادية ديالكتيكية بطبيعتها، و إن كانت خاصة بالمجتمع.

قال كوفالسون:

«إن الموقف الديالكتيكي (الجدلي) من معرفة جميع الظاهرات الاجتماعية من

ص:91


1- (1) المادية الديالكتيكية لستالين ص 30.

دراسة المجتمع، هو أهم مقدمة فلسفية للدراسة الاجتماعية. و هو يلزم بالنظر من خلال التناقضات إلى المجتمع بسبيل التطور»(1).

«و ليس من العسير أن نلاحظ أن مبدأ المادية و المبدأ الديالكتيكي للتاريخية في دراسة المجتمع يخدمان على السواء هدفا واحدا، هو معرفة الموضوع المدروس، كما هو عليه بحد ذاته، و في هذا تتجلى وحدتهما العضوية.

إن المجتمع إنما هو نظام موجود و متطور موضوعيا. و لتكن هذا التعريف للمجتمع، لا يميزه عن الطبيعة بوصفه موضوعا خاصا للمعرفة، لأنه تجري هنا و هناك، في المجتمع و في الطبيعة دراسة قوانين عمل و تغير الأنظمة المادية»(2).

و قال ستالين:

«أما المادية التاريخية فتوسّع نطاق المادية الديالكتيكية حتى تشمل دراسة الحياة الاجتماعية، و تطبق هذه المبادئ على حوادث الحياة الاجتماعية... أي على درس المجتمع على درس تاريخ المجتمع»(3).

و قال:

«من الواضح أن وجود علم تاريخي، و تطور هذا العلم شيئان مستحيلان بدون هذا الفهم التاريخي للحوادث الاجتماعية، فمثل هذا الفهم فقط يمنع علم التاريخ من أن يصبح فوضى احتمالات، و كونه أخطاء سخيفة.

و بعد، إذا صح أن العالم يتحرك و يتطور تماما و أبدا، و إذا صح أن اختفاء القديم و نشوء الجديد هما قانونان للتطور، أصبح من الواضح أنه ليست هناك أنظمة اجتماعية ثابتة «لا تتزعزع» و لا «مبادئ أبدية» للملكية الخاصة و الاستثمار. و ليست هناك «أفكار أبدية» عن خضوع الفلاحين لكبار ملاكي الأرض و العمال للرأسماليين»(4).

«... و بعد، إذا صح أن التطور يجري، بانبثاق التناقضات الداخلية و بالنزاع بين القوى المتضادة على أساس هذه التناقضات، و ان غاية هذا النزاع هي قهر هذه التناقضات و التغلب عليها. فمن الواضح أن نضال البروليتاريا الطبقي هو حادث طبيعي تماما و لا مناص منه»(5).

- 3 - يتميز المجتمع على الكون الطبيعي و قوانينه العامة، بميزتين رئيسيتين:

ص:92


1- (1) المادية التاريخية لكوفالسون ص 37.
2- (2) نفس المصدر ص 39.
3- (3) المادية الديالكتيكية لستالين ص 10.
4- (4) المصدر ص 21.
5- (5) المصدر ص 23.

الميزة الأولى: إن هناك قوانين تحكمه، خاصة به، و هي منبثقة بدورها من القوانين الكونية العامة و منسجمة معها... و سنسمع رأي الماركسية في تأثير قوى الانتاج و علاقات الانتاج في تطوير المجتمع.

الميزة الثانية: وجود جو من الحرية و الوعي في تصرف المجتمع، بخلاف الطبيعة، فإن تصرفاتها عمياء عفوية خالية من الوعي و الهدف، حسب ما ترى الماركسية.

و بطبيعة الحال، يكون مقتضى شمول القوانين الكونية الضرورية للمجتمع: أن تكون كل تصرفات الناس «جبرية» ضرورية لا أثر للوعي فيها. إلا أن الماركسية جمعت بين هذين المفهومين المتناقضين: الضرورة و الحرية، و اعترفت بهما معا.

قال انجلز:

«غير أن تاريخ تطور المجتمع يختلف جوهريا في نقطة واحدة عن تاريخ تطوّر الطبيعة. ففي الطبيعة (بقدر ما نحن نضع جانبا رد فعل الانسان فيها) لا يؤثر بعضها في بعض إلاّ قوى عمياء لا واعية، و في تأثيرها تظهر القوانين العامة. و ليس هنا أي هدف واع منشود. لا في الأعراض الظاهرية التي لا عدّ لها و المرئية على السطح، و لا في النتائج الختامية التي تؤكد وجود الانتظام في داخل هذه الأعراض.

أما في تاريخ المجتمع، فالأمر بالعكس. ففي تاريخ المجتمع يفعل الناس الذين لهم موهبة الوعي و يعملون بتفكير أو بتأثير عاطفة، و ينشدون أهدافا معينة. و لا يصنع هنا شيء دون نية واعية، و دون هدف منشود»(1).

قال بليخانوف:

«و لكننا في الحوادث التاريخية لا نواجه أشياء جامدة، و إنما نواجه بشرا يعملون، و البشر يتمتعون بالوعي و الارادة. فيحق لنا بالتالي أن نتساءل عما إذا كانت الضرورة - التي لا يوجد خارجها مفهوم علمي للظواهر في التاريخ، كما في علم الطبيعة - لا تنفي فكرة الحرية الانسانية.

و إذا صغنا المسألة بكلمات أخرى، فهي تطرح على النحو التاريخ: هل من سبيل للتوفيق بين الفعل الانساني الحر و الضرورة التاريخية.

يبدو لنا للنظرة الأولى أن ذلك غير ممكن و ان الضرورة تنفي الحرية، و بالعكس.

و لكن الأمور ليست على هذا الشكل إلاّ بالنسبة لمن يتوقف نظره عند سطح الأشياء، عند قشرة الظواهر. في الحقيقة ان هذا التناقض «الشهير» هذا التنافي المزعوم بين الحرية و الضرورة ليس له وجود. فإن الضرورة لا تنفي الحرية إنما هي شرطها الأساسي»(2).

و قال بليخانوف أيضا:

ص:93


1- (1) لودفيج نورباخ: انجلز ص 53.
2- (2) فلسفة التاريخ: بليخانوف ص 39.

«و على كل، فمن المؤكد أن مثل هذا التوافق ممكن الوقوع تماما، و ان الشعور بالضرورة يتسق تماما مع الفعالية العملية التي بلغت مداها. و مهما يكن من أمر فهذا ما صادفناه حتى الآن في التاريخ»(1).

«... انني لا أستطيع أن أقسم عرى هذا التماثل بين الحرية و الضرورة جاعلا إحداهما تعارض الأخرى، و لا يمكن أبدا أن أستشعر أن الضرورة تضايقني. إلاّ أن اختفاء الحرية هذا، ليس في الوقت نفسه إلاّ تعبيرا تاما عنها(2).

«... هذه الحرية المتولدة عن الضرورة. و بعبارة أدق: انها الحرية المتماثلة مع الضرورة، إنها الضرورة التي استحالت إلى حرية. ان هذه الحرية هي نفسها الحرية المواجهة بعامل قسري، و المعارضة بعائق خارجي(3)...».

- 4 - و يذكر بليخانوف أسلوبا رياضيا لحساب احتمالات هذه الحرية و الضرورة من أجل التأكيد على أنه من الممكن الجمع بينهما تماما.

اسمعه يقول:

«لنفرض ان الظاهرة (آ) يتحتم وقوعها إذا توفرت مجموعة شروط معينة نرمز إليها بحرف (س). و قد أوضحت لي ان بعضا من هذه الشروط قد تمّ توفرها، و ان البقية الباقية ستحصل في الوقت (ن).

لقد أقنعتني! فسأواجه الحادث (آ) و أكتب كلمة (تام) و أنام ملء جفوني حتى يحين اليوم السعيد حيث يتحقق فيه الحادث وفق تنبؤاتك.

و إليك النتائج؛ فمن مجموع القيمة (س) للشروط الواجب توافرها حتى تحدث الظاهرة (آ) أدخلت عملي أيضا الذي سأرمز له بحرف (د). و لما كنت مستسلما للرقاد لدى حلول الوقت (ن) فإن مجموع الشروط اللازمة لايجاد الظاهرة الملمع بها ليس (س) و إنما (س - د). و هذا ما يبدل الوضع. و يجوز أن يحل آخر مكاني و يكون مستسلما للعطالة، غير ان المثل الذي ضربه له استرخائي قد ترك لديه أثرا فعالا، إذ رأى أن العطالة أمر مشين. و في هذه الحال، تحل القوة (ب) مكان القوة (د).

فإذا كانت القوة (ب) مساوية للقوة (د) (د ب) فإن مجموع الأسباب الضرورية لانجاز الظاهرة (آ) تبقى مساوية ل (س). و الظاهرة تقع من تلقاء نفسها في الوقت المحدد (ن).

و إذا لم تكن قوتي معادلة للصفر، و إذا كنت كفؤا و ماهرا و لم يأخذ مكاني شخص

ص:94


1- (1) المصدر ص 15.
2- (2) المصدر ص 17.
3- (3) نفس المصدر.

سواي، فتكون عندئذ قيمة (س) ناقصة لم تكتمل، و ستتحقق الظاهرة (آ) في زمن متأخر عن الوقت الذي فرضناه آنفا أو تتم بصورة ناقصة أو لا تتم البتة.

هذا الأمر واضح كالنهار، فإذا لم أفقه هذه الحقيقة، أو تخيلت أن القيمة (س) ستبقى (س) حتى بعد إخفاقي، فما ذلك إلاّ لأني أجهل قواعد الحساب.

و هل أكون أنا الوحيد الذي يجهل قواعد الحساب؟ عند ما أنبأتني أن مجموع الشروط (س) سيتم الحصول عليها في الوقت (ن) لم تشر إلى أنني سأذهب و أنام حالما تنتهي محادثتنا. و كنت على يقين بأنني سأبقى حتى النهاية عاملا لاتمام الظاهرة (آ). لقد اعتمدت على قوة كان لزاما عليك أن لا تعول عليها كثيرا، بدلا من قوة أخرى كان من واجبك الاعتماد عليها، و بالتالي فقد أخطأت بالحساب أيضا.

و لنفترض أنك لم ترتكب أية هفوة و كنت مرتقبا حدوث كل شيء، فإليك ما ستؤول إليه حساباتك: قد ذكرت أن مجموع الأسباب (س) ستتحقق في الوقت (ن).

و من جملة هذه الشروط الضرورية يمثل إخفاقي قوة سلبية، كما يمثل الأثر المثير - و هو الذي يشيع الطمأنينة في قلوب الرجال الأشداء الموقنين بأن اتجاهاتهم و مثلهم العليا ليست إلا تعبيرا ذاتيا عن الضرورة الموضوعية - القوة الايجابية.

و في هذه الحالة يتحقق مجموع الأسباب (س) في الوقت المحدد من قبلك و تتم الظاهرة (آ). و هذا يبدو واضحا. و لكن لما ذا جعلتني الفكرة القائلة بضرورة وقوع الظاهرة (آ) في اضطراب، و لم تبدو لي و كأنها تحكم عليّ بالعطالة؟ و لم جعلتني نتيجة البراهين التي أوحت بها إليّ أنسى المبادئ الأولية للحساب؟ لا ريب أن ثقافتي كانت على شكل يجعلني أحمل بعنف في نفسي، ميلا إلى العطالة، و ان محادثتنا كانت القطرة التي صبت في كأس دهاق. و تكلم هي القضية بكاملها.

إن الشعور بالضرورة لم يكن من شأنه إلا إعطاء استرخائي و عجزي المعنوي المناسبة اللازمة حتى يتحققا. و لم تكن الضرورة سبب ذلك، و إنما السبب هو التربية التي أصبتها.

و هكذا نرى أن الرياضيات علم مفيد جليل القدر، لا يحسن أن تغرب قواعده عن البال، و خاصة عن بال السادة الفلاسفة»(1).

- 5 - و حين جمعت الماركسية بين الضرورة و الحرية، نفت في نفس الوقت «الجبرية» المطلقة و «الارادية» المطلقة. و رأت فيهما مذاهب غير صحيحة.

قال بليخانوف في نقد بعض وجهات النظر:

ص:95


1- (1) دور الفرد في التاريخ: بليخانوف. ص 25 و ما بعدها.

«بيد أن هذه الحقيقة تتسم بالجبرية الصارخة، لأنها تعود و تزعم أن تاريخ الانسانية محدد سلفا، حتى في جزئياته القليلة، بالخصائص العامة للطبيعة البشرية. إن الجبرية هنا تنشأ عن اختفاء الخاص في العام.

و يمكن القول، كما في العادة: ما دامت جميع الحوادث الاجتماعية محددة بالضرورة، فليس لعملنا أي اعتبار. و هذه فكرة صحيحة لم يحسن صياغتها، إذ كان من الواجب القول: إذا كان العام يقرر كل شيء، فينجم عن ذلك أن الفردي (بما فيه مجهودي) ليس له أية أهمية ان مثل هذه النتيجة صحيحة تماما، و إن كان استعمالها يجري بصورة خاطئة. و عند تطبيق هذه الفكرة مع المفهوم المادي الحديث عن التاريخ حيث يترك حيزا للعمل الفردي، لا يعود لها أي معنى»(1).

و قال كوفالسون:

«إن الجبرية (الاعتقاد بالقضاء و القدر) تؤدي على العموم إلى خرافات و سخافات، بتحويلها الصدفة إلى حتمية تاريخية.

أما الارادية التي تعتبر التاريخ مجرد إنتاج لابداع الناس الحر، لارادتهم الحرة و لاختيارهم الحر لأهدافهم، فإنها تتخبط في مأزق أمام كثير من المسائل. مثلا من وجهة النظر هذه كيف يفسر الدافع الأساسي التالي، و هو أن نتائج النشاط في التاريخ تكون أحيانا كثيرة جدا مناقضة للأهداف التي وضعها الناس نصب أعينهم. إن الناس يتمنون الخير، و لكنهم يصنعون الشر أحيانا»(2).

- 6 - و لعل أوضح بيان في أسلوب الجمع بين الضرورة و الحرية، من الناحية الاجتماعية، هو ما ذكره كوفالسون، حين قال:

«إن كان جيل جديد من البشر يجد عند دخوله حلبة الحياة، ظروفا اجتماعية جاهزة، مصنوعة قبل ظهوره، و يفعل و يتصرف على أساسها، و يصنعها من جديد أو يغيرها. و هذه الظروف تنشئ إمكانيات معينة لأجل هذا النشاط أو ذاك.

ثم إن مستوى التطور المبلوغ سابقا، يحمل معه طائفة معينة من القضايا الاجتماعية، فيدركها الناس و يستهدفون حلها. و لهذا لا يمكن فصل النشاط عن الظروف الموضوعية التي يتحقق في إطارها. إلا أن وجود هذه الظروف الموضوعية لا يقلل البتة من شأن و استقلال نشاط الانسان، بل يتيح - بالعكس - فهم هذا النشاط على نحو أفضل»(3).

ص:96


1- (1) دور الفرد في التاريخ: بليخانوف ص 97-98.
2- (2) المادية التاريخية: كوفالسون ص 43.
3- (3) المصدر نفسه ص 43.

«... إن المجتمع يتطور حسب القوانين الموضوعية، و الناس مقيدون في أفعالهم بظروف مادية معينة. و لكن الناس يستطيعون في إطار الظروف الموضوعية - و هذا الاطار واسع جدا - أن يتخذوا مختلف القرارات... حسب فهمهم للظروف الموضوعية، لظروف النشاط الملموسة».(1)

- 7 - بعد الانتهاء من هذه المرحلة، يأتي دور الحديث عن قوى الانتاج لنرى مقدار تأثيرها في قيادة المجتمع، و من ثم في الحرية أو الضرورة للانسان.

قوى الانتاج أو القوى المنتجة، هي الوسائل التي كان و لا زال الانسان يستخدمها في «نضاله ضد الطبيعة» على حد تعبير الماديين.

قال بليخانوف:

«إن اليد مع الذراع هي الأداة الأولى و الآلة الأولى التي يستخدمها الانسان.

و عضلات الذراع تؤدي مهمة النابض الذي يضرب أو يرمي. غير أن الآلة أخذت تظهر خارج الجسم شيئا فشيئا. لقد أفاد الحجر في بادئ الأمر بثقله، بكتلته. و فيما بعد ثبتت هذه الكتلة على مقبض. و هكذا البلطة و المطرقة.

إن اليد و هي الأداة الأولى عند الانسان، تخدمه لانتاج أدوات أخرى، و تكييف المادة للنضال ضد الطبيعة، أي ضد بقية المادة المستقلة.

و كلما ارتقت هذه المادة المستعبدة، نما استخدام الأدوات و الآلات و ازدادت أيضا قوة الانسان ضد الطبيعة»(2).

و قال ستالين:

«و فيما يلي لوحة تبين الخطوط الكبرى لتطور القوى المنتجة منذ أقدم الأزمان إلى يومنا هذا:

الانتقال من الأدوات الحجرية الغليظة إلى الفؤوس و السهام، و بالتالي، المرور من الصيد إلى استخدام الحيوانات و تربية المواشي بشكل بدائي. ثم الانتقال من الأدوات الحجرية إلى المعدنية (الفأس الحديدية، المحراث الابتدائي المجهز بسكة مصنوعة من الحديد... الخ) و بالتالي الانتقال إلى غرس النباتات، إلى الزراعة. و من ثم إجراء تحسين جديد من الأدوات المعدنية لأجل صنع مختلف المواد، و ظهور الكير ذي المنفاخ، و صناعة الأواني الفخارية، و بالتالي تطور الحرف، و انفصال الحرف عن الزراعة، و تطور

ص:97


1- (1) المصدر أيضا ص 45.
2- (2) فلسفة التاريخ ص 48.

الحرف المستقلة أولا. ثم المانيوفاكتورة (أي المصنع) فيما بعد، ثم الانتقال من أدوات الانتاج الحرفي إلى الآلة، و تحويل الانتاج الحرفي - المانيوفاكتوري، إلى صناعة قائمة على الآلة. و من ثم الانتقال إلى نظام الآلات و ظهور الصناعة الميكانيكية الحديثة الكبرى.

هذه هي بصورة إجمالية و غير كاملة اللوحة التي تبين تطور قوى المجتمع طوال تاريخ البشرية. و لا حاجة إلى القول أن تطور أدوات الانتاج و تحسينها لم يحدثا بصورة مستقلة عن الناس بل حققها الناس الذين لهم علاقة بالانتاج»(1).

- 8 - و لكن ما هي علاقات الانتاج؟...

يجيب ستالين على ذلك في كتابه قائلا:

«... فالناس في نضالهم مع الطبيعة يستثمرونها لانتاج الحاجات المادية، ليسوا منفردين منعزلا بعضهم عن بعض بل ينتجون في جمعيات فالانتاج، دائما، و مهما تكن الشروط، إنتاج اجتماعي. ففي أثناء انتاج الحاجات المادية يقيم الناس فيما بينهم هذه العلاقات أو تلك ضمن نطاق الانتاج، أي يقيمون بينهم هذه أو تلك من علاقات الانتاج.

و يمكن أن تكون هذه العلاقات علاقات تعاون و تساعد... كما يمكن أن تكون علاقات انتقال من شكل من أشكال علاقات الانتاج إلى آخر... و يمكن أن تكون علاقات سيطرة علاقات الانتاج. فهي دائما، و تحت كل الأنظمة، عنصر ضروري لا غنى عنه في الانتاج، مثلها في ذلك قوى المجتمع المنتجة، سواء بسواء»(2).

«يستخلص من ذلك أن الانتاج أو أسلوب الانتاج، يشمل قوى المجتمع المنتجة، كما يشمل علاقات الانتاج بين الناس سواء. ففيه يتجسد اتحاد الطرفين خلال عملية إنتاج الحاجات المادية»(3).

- 9 - تكون علاقات الانتاج دائما مربوطة بتغيرها و تطورها بتطور القوى المنتجة. و هو تغير و تطور خارج عن قدرة الناس و إرادتهم، بل هو مؤثر فيهم من حيث لا يعلمون.

قال ماركس:

«إن الناس أثناء الانتاج الصناعي لمعيشتهم يقيمون فيما بينهم علاقات إنتاج معينة ضرورية مستقلة عن آرائهم. و تطابق علاقات الانتاج هذه درجة معينة من تطور قواهم

ص:98


1- (1) المادية الديالكتيكية لستالين ص 48.
2- (2) المادية الديالكتيكية: ستالين ص 42.
3- (3) المصدر نفسه ص 43.

المنتجة»(1).

و قال ستالين:

«خاصية الانتاج الثانية: هي أن تطوره و تغيراته تبدأ دائما بتغير القوى المنتجة و تطورها، و بتغير و تطور أدوات الانتاج قبل غيرها. فالقوى المنتجة هي - إذن - أكثر عناصر الانتاج حركة و ثورة.

في بادئ الأمر، تتعدل القوى المنتجة و تتطور، و بعدئذ تبعا لهذه التعديلات و طبقا لها، تتعدل علاقات الانتاج بين الناس، في علاقاتهم الاقتصادية.

غير أن ذلك لا يعني أن علاقات الانتاج لا تؤثر في تطور القوى المنتجة أو أن هذه لا تتعلق بتلك. فإن علاقات الانتاج التي يتعلق تطورها بتطور القوى المنتجة، تؤثر بدورها في تطور القوى المنتجة فتعجله أو تبطؤه.

و من المهم أن نلاحظ - علاوة على ذلك - أن علاقات الانتاج لا يمكن أن تتأخر أمدا طويلا عن نمو القوى المنتجة، و أن تبقى في تناقض مع هذا النمو. لأن القوى المنتجة لا تستطيع أن تتطور تطورا تاما إلا عند ما تكون علاقات الانتاج مطابقة لطابع القوى المنتجة... و لذلك، فمهما تتأخر علاقات الانتاج عن تطور القوى المنتجة، فلا بد أن ينتهي الأمر - و هو فعلا ينتهي - بالمطابقة بينها و بين القوى المنتجة... و إلا تعرضت الوحدة إلى خطر التفكك و... إلى وقوع أزمة في الانتاج و إلى تحطيم القوى المنتجة»(2).

«... فإذن، ليست القوى المنتجة أكثر عناصر الانتاج حركة و ثورة فقط، بل هي إيضا العنصر الحاسم في تطور الانتاج، و كما تكون القوى المنتجة كذلك، يجب أن تكون علاقات الانتاج»(3).

- 9 - إن تطور علاقات الانتاج يكون سببا في التطور الاجتماعي ككل، سواء من الناحية السياسية أو الأدبية أو الدينية أو الفلسفية أو أي شكل آخر في المجتمع.

قال ماركس:

«و مجموع علاقات الانتاج هذه تشكل البناء الاقتصادي للمجتمع أي الأساس

ص:99


1- (1) المادية الديالكتيكية: ستالين ص 59 من مقدمة كتاب: مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي لماركس.
2- (2) المادية الديالكتيكية أيضا ص 45.
3- (3) المصدر ص 45.

الواقعي الذي يقوم عليه «بناء علوي» حقوقي و سياسي، و تطابقه كذلك أشكال معينة من الوعي الاجتماعي و السياسي و الفكري بصورة عامة. فليس وعي الناس هو الذي يحدد معيشتهم، بل على العكس من ذلك، معيشتهم الاجتماعية هي التي تحدد وعيهم»(1).

و قال انجلز:

«إننا نرى للظروف الاقتصادية القول الفصل في تحديد التطور التاريخي. و عليه فالأصل هو نفسه عامل اقتصادي»(2).

«إن التطور السياسي و الحقوقي و الفلسفي و الديني و الأدبي و الفني... الخ يستند إلى التطور الاقتصادي»(3).

- 10 - و إذا صح ذلك، أعني استناد تطور المجتمع إلى تطور علاقات الانتاج... و صح استناد تطور هذه العلاقات إلى تطور قوى الانتاج أو و سائله... صح - لا محالة -. استناد تطور المجتمع نفسه إلى تطور قوى الانتاج، و بالتالي إلى آلة الانتاج نفسها.

قال ستالين:

«فالناس... يتغيرون و يتطورون بتغير أدوات الانتاج و تطورها»(4).

و قال كوفالسون:

«إن وسائل العمل... ليست دليلا على النجاحات التي أحرزها الناس في النضال ضد الطبيعة و حسب، بل الأساس الحاسم لتطور الانتاج و المجتمع كله»(5).

- 11 - غير أن هنا استثناء تؤكد عليه الماركسية، لكي لا يورد عليها بأننا نرى كثيرا من الأشياء تتطور بغير العامل الاقتصادي. إن العامل الاقتصادي - في نظرها - هو السبب الأعمق و الأهم في تطور كل جوانب المجتمع، و لا يعني ذلك مباشرته العمل في كل شيء، بل توجد هناك عوامل أخرى تعمل متأخرة عنه، و إن كانت كلها تعود، في النتيجة، إليه.

ص:100


1- (1) فلسفة التاريخ: بليخانوف ص 45.
2- (2) نصوص مختارة: انجلز ص 179.
3- (3) المصدر و الصفحة.
4- (4) المادية الديالكتيكية ص 48.
5- (5) المادية التاريخية: كوفالسون ص 60.

قال انجلز:

«إن التطور السياسي و الحقوقي و الفلسفي و الديني و الأدبي و الفني... الخ، يستند إلى التطور الاقتصادي. و لكنها جميعا تتأثر أيضا بعضها ببعض، كما تؤثر في الأساس الاقتصادي. فليس صحيحا أن الوضع الاقتصادي هو السبب، و هو وحده الفاعل، و ان كل ما عداه ليس سوى مفعول. ان ثمة - بالعكس - تفاعلا على أساس الضرورة الاقتصادية التي لها الغلبة في المرجع الأخير. إن الناس هم الذين يصنعون تاريخهم بأنفسهم، و لكن في وسط مكيّف لهم على أساس علاقات فعلية موجودة من قبل، في عدادها الظروف الاقتصادية التي - مهما يكون مدى تأثرها بالظروف الأخرى السياسة و الايديولوجية - لن يقلل ذلك في المرجع الأخير، من كونها الظروف المحددة التي تؤلف من البداية إلى النهاية، الدليل المرشد الذي يجعلك وحده قادرا على الفهم.»(1).

و قال أيضا:

«إن العامل المحدد في التاريخ، حسب المفهوم المادي للتاريخ، هو المرجع الأخير، إنتاج و إعادة إنتاج الحياة الواقعية. و لم نؤكد أبدا - لا ماركس و لا أنا - أكثر من هذا.

فإذا كان من يعذّب هذه القضية ليرغمها على أن تقول أن العامل الاقتصادي هو المحدد الوحيد، فإنه ليحولها إلى عبارة فارغة مجردة سخيفة.

إن الوضع الاقتصادي هو الأساس؛ و لكن مختلف عناصر البنيان الفوقي - الأشكال السياسية للنضال الطبقي و نتائجه... الأشكال الحقوقية، و حتى انعكاسات جميع هذه النضالات الفعلية في دماغ المشتركين فيها، النظريات السياسية و الحقوقية و الفلسفية، و المفاهيم الدينية... تمارس كذلك فعلها في سير النضالات التاريخية، و في كثير من الأحيان تحدد شكلها على نحو راجح. فثمة فعل ورد فعل لجميع هذه العوامل التي في غمارها تنتهي الحركة الاقتصادية... و لو لا ذلك، لعمري، لكان تطبيق النظرية على أي عهد تاريخي أيسر من حل معادلة بسيطة من الدرجة الأولى.

إننا نصنع تاريخنا بأنفسنا، و لكن قبل كل شيء بمقدمات و ضمن ظروف جد المحددة. و لكن الظروف السياسية... الخ بل و حتى التقاليد التي تخالط أدمغة الناس تلعب كذلك دورا و إن يكن غير حاسم. إنها أسباب تاريخية، و في المرجع الأخير، أسباب اقتصادية»(2).

ص:101


1- (1) نصوص مختارة، لانجلز ص 180.
2- (2) المصدر ص 191-192.

إلى هنا نكون قد سرنا خطوة مهمة و موفقة، في فهم الأساس الاقتصادي للتطور الاجتماعي.

و لعل من الراجح الآن أن نبدأ بمناقشة هذه الآراء الماركسية، قبل الدخول في «الفهم الطبقي الماركسي»، لكي لا تتكدس علينا المناقشات و يتعذر جانب الوضوح فيها.

ص:102

مناقشة الفكر الماركسي في الحرية الفردية و علاقات الانتاج

- 1 - نحن نتفق مع الماركسية، في هذه النقطة، و هي: ان القوانين الطبيعية العامة شاملة للمجتمع، و ان المبادئ الفلسفية للكون تشمل حياة الناس و تاريخهم بالضرورة.

يستثنى من ذلك - في نظرنا - الافعال التي تصدر من الناس عن إرادة و وعي، على ما سيأتي، و سنرى بالتحليل ما هو موقف الماركسية منها.

و نتفق مع الماركسية أيضا في ضرورة الترابط بين الحوادث الاجتماعية، بشكل من الأشكال.

و إنما نختلف معها - بهذا الصدد - في أمرين:

الأمر الأول: في تشخيص القوانين الطبيعية التي تحكم المجتمع.

فالماركسية ترى في أنها قانون الديالكتيك و نحوه، مما سمعناه، في حين أننا نرى أنها أشياء أخرى سنلمح إليها فيما يلي من البحث.

الأمر الثاني: انه مع استثناء الأفعال الاختيارية للناس من الضرورة القانونية الكونية - كما قلنا -، لا يكون التطور الاجتماعي تطورا ضروريا قهريا، يمكن حسابه بأسلوب رياضي حدّي تماما. بل يبقى احتمال تصرف الناس في ضمن التاريخ موجودا أيضا.

و من الطريف أن الماركسية إلى جانب تأكيدها على ضرورة التطور، بكل تفاصيله، تؤكد أيضا على وعي الناس و إرادتهم، و انهم هم الذين يصنعون التاريخ. و هذا معناه عدم إمكان الجزم الحقيقي بردود الفعل الصادرة، من الناس تجاه الوقائع المختلفة، فكيف - و الحال هذه - يكون التطور ضروريا، و التنبوء بالحوادث يمكن حسابه حسابا رياضيا... كما تميل

ص:103

إليه الماركسية حين حولت علم التاريخ و المجتمع من «فوضى احتمالات» إلى «علم»!!...

إلا أن هذا لا ينافي الاعتراف مع الماركسية، بأن المجتمع يتطور تطورا موضوعيا، و ذا درجة كافية من الضبط، و يمكن السيطرة عليه من قبل فاعل داخلي أو خارجي. و سيتضح ذلك جليا عند شرح التخطيط العام في القسم الثالث من هذا الكتاب.

و بهذه الدرجة الكافية من الضبط، يمكن تأسيس علم التاريخ، كفرع عميق من فروع المعرفة الانسانية. و لا يكون «فوضى احتمالات و كومة أخطاء سخيفة».

- 2 - نرى أن الأسباب التي تؤثر في التطور الاجتماعي في العصور الثلاثة:

الماضي و الحاضر و المستقبل، ثلاثة رئيسية؛ اثنان منها موضوعيان، أعني خارجين عن إرادة الناس، و واحد منها ذاتي، يعود إلى إرادتهم.

السبب الأول: الاسباب الطبيعية العامة.

فإن اعترفنا بالقوانين، عبرنا عنها بالقوانين الكونية، كقوانين الفلك و الفيزياء و الكيمياء العامة. و إن أنكرنا القوانين - كما فعلنا - تكون الأسباب هي كل واقعة سابقة بالنسبة إلى اللاحقة، فإن هنا تتابعا بين الحوادث على أي حال، من حين حدوث الكون إلى نهايته. و قد سبق أن برهنا على حدوث الكون. و انطلقنا من ذلك على وجود الفاعل الخارجي الخالق للكون.

و من هذا النوع من الأسباب قهرية التأثير بالنسبة إلى كل ما يندرج تحتها من الوقائع و الأشياء، و موضوعي و مستقل تماما عن إرادة الانسان، و تجعل الانسان - عادة - عاجزا عن مخالفتها أو محاولة تجاهلها.

و هذه الأسباب شاملة بمدلولها المباشر للمجتمع، تماما كما هي شاملة للطبيعة. و بعبارة أخرى: إنها تفهم المجتمع كما تفهم الطبيعة... هنا نرى الانسان يسقط من شاهق كما تسقط الحصاة!!..

السبب الثاني: الأهداف المتوخاة من إيجاد الكون.

و البرهان على ذلك مختصر قبل الوصول إلى القسم الثالث من الكتاب اننا بعد أن أثبتنا أن للكون خالقا و مدبرا من خارجه، و ثبت في

ص:104

الفلسفة أن هذا الخالق قادر مطلق و حكيم مطلق و مختار في تصرفه. يكفينا من ذلك الآن أن الخلاف مع الماديين إنما هو في وجوده، مع التسالم على أنه لو كان موجودا لكان كاملا «مطلقا» و لم يدع أحد وجود الاله الناقص.

كما ثبت أن كل فعل اختياري، لا بد أن يكون ناشئا من هدف و غرض، معينين، و هذا ما اعترفت به الماركسية، كما سمعنا قبل قليل.

فكيف إذا كان الفاعل قادرا و حكيما مطلقا.

... إذن، فلا بد أن تكون أهداف الخالق الحكيم من وراء خلق هذا الكون العظيم.. في غاية العمق و الدقة و الأهمية. و حيث أنه القادر المطلق، فهو - إذن - قادر على تنفيذ أهدافه من خلقه، بأي شكل من الأشكال.

و الفاعل الحكيم يستحيل عليه نقض الغرض، أي أن يخالف أهدافه و يفعل ما لا يحققها أو ما يحقق أضدادها. فهو إذن - بالضرورة - يتسبب بقدرته إلى تحقيق تلك الأهداف و الأغراض. و لا تكون هذه الضرورة منافية لقدرته، باعتبار انسجامها مع إرادته و حكمته. مع وضوح أن استحالة نقض الغرض (حق ارفاقي) للفاعل، و لا يمكن أن يتضمن تحميلا قسريا بالنسبة إليه.

و نحن باعتبار كوننا موجودين في داخل الكون، و محكومين بقوانينه و أسبابه، لا تستطيع أن ندرك بالتفصيل، خصائص تلك الأهداف. غير أننا نعلم، على وجه الاجمال، تبعا للاعتقاد بالحكمة المطلقة لخالق الكون، و استغنائه المطلق عن خلقه: ان خلق الكون من أجل أن يصل الكون إلى كماله، أعني أحسن واقعية يمكن أن يصل إليها في طريق حركته نحو الأفضل. غير أننا لا نستطيع أن ندرك شكل هذا الكمال، إلا بعد حدوثه.

و هذا السبب، المسمى بالعلة الغائية في اصطلاح الفلسفة، شامل للبشرية أيضا في حياتهم الفردية و الاجتماعية، بصفتهم أيضا جزءا من الطبيعة. غير أنه يكتسب صيغة أخص و أوضح. و ذلك بأن نقول: أن الهدف من إيجاد البشرية هو إيصالها إلى كمالها، أعني - أيضا - أحسن حالة واقعية يمكن أن تصل إليها في طريق حركتها نحو الأفضل.

ص:105

و كما يستحيل تخلف الأهداف الكونية، و يتسبب الخالق المدبر إلى تحقيقها لا محالة... كذلك يستحيل تخلف الأهداف المتوخاة من إيجاد البشرية، و يتسبب الخالق أيضا إلى تحقيقها بالضرورة. و هذا هو الذي نصطلح عليه بالتخطيط الالهي العام، الذي سنعرض له في القسم الثالث مفصلا.

و انطباق هذا السبب على الحياة البشرية، لا يعني بحال، تحول أفعالهم الاختيارية إلى أفعال ضرورية قسرية. فإن هذا السبب الغائي، لا يزيد - في واقعه - عن السببين الآخرين من حيث التطبيق. بمعنى أن الخالق حين توخى أهدافا معينة من كونه و بشريته، جعل السبب الأول و الثالث الآتي هي الطرق إلى إنجاز تلك الأهداف، فتحوّل تلك الأسباب عن واقعها و تغير محتواها يعني بالضرورة تخلف تلك الأهداف، و هو مستحيل لأنه نقض لغرض الحكيم المطلق، إذن، فلا بد أن يبقى السبب الأول قسريا. و السبب الثالث اختياريا، على ما سنسمع، لكي ينجز الكون أهدافه.

و بكلمة أخرى: إن اختيارية أفعال البشر، دخيلة في إيصالهم إلى الكمال فالالتزام بقسرية أفعالهم، مناف مع هذا الهدف و هو محال.

السبب الثالث: لتكوين الحياة الاجتماعية، هو الأفعال الاختيارية للناس أنفسهم، و ردود أفعالهم تجاه مختلف الوقائع و الأحداث. و سنعرف مقدار اختيارية هذه الأفعال في الفقرة التالية.

و هذا السبب ذاتي - بطبعه - باعتبار أن صفة الاختيار صفة «داخلية» للانسان، كما أن الدوافع التي يصدر عنها في أفعاله دوافع داخلية أيضا.

- 3 - نعرف من هذا الذي سمعناه، ما هو الصحيح في مقدار اختيارية أفعال الانسان.

إن الانسان يملك الاختيار، بمعنى أن له أن يفعل و أن يترك تجاه أية واقعة أو حادثة، و لا يمكن أن تكون أفعاله قسرية. و هذا هو الذي له أكبر الأثر في تربيته و تكامله، و بالتالي في تربية البشرية ككل و تكاملها، و الافصاح عن النيات الحسنة و الشريرة. و بدون لا معنى لأي هدف أو أي دافع، مما

ص:106

نشعر به وجدانا، كما لا معنى للخير و الشر، كما لا معنى لاعطاء أية قيمة لفعل الانسان، فلا يستحق أحد شكرا و لا عقابا.

و لكن الانسان، بالرغم من كونه مختارا، لا يستطيع أن يتحكم في السببين الأولين النافذي المفعول عليه.

أما السبب الأول: فهو قسري التأثير بالنسبة إليه، لا اختيار له تجاهه، لوضوح أن كل من ألقى نفسه من شاهق، فهو يسقط، و كل من أدخل يده في النار، فإنها تحترق.

و بهذ السبب تتحدد الظروف التي يستطيع الانسان بذل النشاط من خلالها. لوضوح أن الانسان لو كان يستطيع أن يخالف قانون الجاذبية - مثلا - لكان نشاطه بشكل يختلف عن نشاطه حال عدم استطاعته لذلك.

إذن، فقانون الجاذبية - مهما فسرناه - يحدد ظرف سلوك الأفراد و يحدد من نشاطهم عموما. و كذلك الحديث عن غيره من القوانين.

إلا أن هذا السبب بالرغم من قسريته، لا يحول الأفعال الانسانية إلى قسر. فإن احتراق اليد بالنار قسري، لكن إدخالها فيها اختياري على أي حال. و ذلك: لأن الانسان إنما يكون مختارا فيما هو قادر عليه، و هو غير قادر على أن يخالف القوانين أو الأسباب العامة بالضرورة. فهو قادر - مثلا - على أن لا يدخل يده في النار، و لكنه غير قادر على عدم احتراقها لو دخلت.

و هذه الظروف التي توفرها الأسباب العامة، إطار واسع - حسب تعبير الماركسيين - يمكن أن يتصرف الناس خلالها.

و أما السبب الثاني: فليس له أي قسر مباشر بالنسبة إلى الأفراد.

و لكن حيث أنه يتضمن تحديد أهداف معينة من خلق الكون و البشرية، تحدث بالضرورة... ينتج من ذلك: أن الانسان يستطيع أن يحدد أهدافه القصيرة، لا انه يستطيع أن يحدد أهداف بشريته عموما، بل هو بالضرورة سائر ضمن هذه الأهداف.

و بكلمة أخرى: إن الانسان في كل أفعاله الاختيارية يسير بالضرورة نحو هدفين مزدوجين: أهدافه الشخصية القصيرة، و الأهداف العامة للبشرية.

ص:107

و لا نقصد بالأهداف القصيرة، ما ينجز خلال يوم أو شهر؛ بل ان الأهداف الفردية مهما طالت، فإنها قصيرة بالنسبة إلى عمر البشرية الطويل.

و من الطريف: أن الأفعال و الأهداف الشخصية، لا تنافي بحال الأهداف البشرية العامة. و من هنا، إن الفرد مهما عمل من أعمال و مهما استهدف من أهداف، فإنه يخدم بذلك الأهداف البشرية العامة من حيث لا يعلم.

ذلك لسبب بسيط، و هو ما أشرنا إليه من أن الخالق الحكيم أوجد السبب الثالث للحياة الاجتماعية، بمعنى أنه أوفر الاختيار للناس، من أجل إنجاز تلك الأهداف العامة. إذن فكل ما يصدر عن الأفراد نتيجة لهذا الاختيار، فهو بالضرورة، يقع في طريق تحقيق تلك الأهداف.

و بهذا نعرف إحدى الخصائص الرئيسة للتخطيط العام الذي سنشرحه في القسم الثالث: و هي، ان أفعال البشر مهما كانت، فإنها تقع مؤيدة للتخطيط و أهدافه، و لا معنى لأن تقع مضادة لها.

- 4 - فإن فهمنا الجمع بين الضرورة و الحرية، بالشكل الذي ذكرناه الآن، فهو، و إلا كان الجمع بينهما تناقضا و كاملا متهافتا ليس إلا... لوضوح أن الفرد إما أن يكون مختارا حرا في أفعاله، و إما أن يكون مجبورا فيها مقسورا عليها... و لا معنى لأن يكون الفرد حرا و مجبورا في نفس الوقت.

و معه لا نجد أي معنى للحرية المتولدة من الضرورية أو المتماثلة معها، كما سمعناه من بليخانوف و غيره من الماركسيين.

- 5 - و لعل ما ذكره كوفالسون، من أسلوب الجمع بين الحرية و الضرورة، أقرب إلى ما قلناه من أي شيء آخر. فإنه من الصحيح أن الجيل حين يرد الحياة يواجه ظروفا اجتماعية جاهزة، يتصرف على أساسها، فإن تلك الظروف تعتبر غير اختيارية بالنسبة إليه، لأنها من صنع غيره، و فعل كل فرد غير اختياري بالنسبة إلى الفرد الآخر. و من هنا تدخل هذه الظروف في الاطار العام الواسع الذي يحدد حرية التصرف الفردية. «إلا أن وجود هذه الظروف الموضوعية لا يقلل البتة من شأن و استقلال نشاط الانسان» كما قال

ص:108

كوفالسون، بعد أن برهنا على وجود الاختيار في ضمن ذلك الاطار.

كما أن الأسلوب الرياضي الذي اتخذه بليخانوف، يدل على ذلك أيضا، و لا يمكن فهمه إلا من هذه الزاوية.

إن الحادثة (آ) إن كان مجموع أسبابها (س) متكونة من أسباب كونية قسرية من الشكل الأول الذي ذكرناه، و كان لنا اطلاع كاف على تفاصيلها، إذن، يمكن التنبوء بحصول الحادثة في الوقت (ن) بشكل رياضي دقيق غير قابل للتخلف.

و أما إذا كان جزء من مجموع (س) فعل إرادي اختياري لفرد أو أفراد، (د) أو (ب)، فلا يمكن التنبوء بوقوع الحادثة بشكل قطعي بأي حال. بل غايته أن نحسب حساب احتمالات الدوافع التي نعرفها للفرد إلى إنجاز ذلك العمل. فإن عرفنا له دافعا شديدا، كان احتمال وقوع الحادثة (آ) كبيرا، في وقتها المحدد (ن). و إلا كان أضعف من ذلك.

و من يكون له دافع كبير، سوف نحرز - إلى حد بعيد - أنه لن يستسلم للنوم، كما افترض بليخانوف لنفسه، بل سوف يبقى عاملا جادا لايجادها، فتحدث في وقتها المحدد، بخلاف ما لو كان دافعه ضعيفا، فإنه يترك العمل - على الأكثر -، فتفقد الحادثة جانب الفعل الاختياري، و المفروض أن س - د صفر أي أن الحادثة لن تتحقق بتركه العمل لمجرد وجود الجزء التكويني من الأسباب.

نعم، لو تبدل د إلى ب بمعنى أنه قام بالفعل غيره و المفروض أن:

ب د... س + ب آ و هو وجود الحادثة في وقتها المعين.

و أما افتراض بليخانوف تأثر وقوع الحادثة عن وقتها (ن) أو حدوثها ناقصة عند انعدام (د) و عدم تعويضه ب (ب)... فهذا يعود إلى مقدار افتراض دخل (د) أو الفعل الاختياري في وقوع الحادثة. فإننا إذا افترضنا له دخلا كليا كان وقوع الحادثة بدونه متعذرا أي أن س - د صفر بالضرورة، و ان افترضناه شيئا يحوم حول الحادثة و يلقي عليها بعض الظلال و حسب، كان ما قاله بليخانوف، من هذه الناحية، صحيحا.

و إذا كان للفعل الاختياري (د) مشاركة في وقوع الحادثة (آ)...

أمكن التنبوء القطعي بوقوع الحادثة، بشكل مشروط بإنجاز العمل، تماما

ص:109

كما هو مشروط بوقوع (س) نفسها. كل ما في الأمر أن (س) يمكن التنبوء بتحققها بصفتها تكوينية، و اما (د) فاختيارية. و على أي حال فالتنبؤ المشروط صادق تماما. بأن نقول: لو حدث (س) و انضم إليه (د) لحدث (آ) في الوقت (ن). فلو عبرنا عن الاشتراط و التقدير برمز (..) و عنينا من (آ) وقوع الحادثة في وقتها المحدد كانت المعادلة كما يلي:

.. س +.. د آ. و كذلك تماما.. س +.. ب آ. لأن د ب بحسب الفرض.

و انطلاقا من هذا التسلسل الفكري، نجد أن الشعور بالاضطراب الذي تحدث عنه بليخانوف عن نفسه، و الايحاء الذي فهمه من ضرورة كونه مسترخيا عاطلا، شعور و همي لا أساس له. إذ يستطيع بليخانوف أن يسترخي و يستطيع أن يعمل، باعتباره فردا مختارا في الفعل و الترك. فإذا فعل حدثت الحادثة و إن استرخى لم تحدث... و ليس في ذلك أي شكل من أشكال الضرورة بالنسبة إليه.

فما حاوله بليخانوف، من جعل البرهان الرياضي، دليلا على الجمع بين الضرورة و الحرية، غير صحيح... و إنما ينبغي أن نفهمه بالأسلوب الذي فهمناه.

- 6 - إن الايمان بالمادية عموما مستلزم للقسر و الجبرية في أفعال الانسان.

لأن «القوانين» المادية ذات تأثير ضروري قسري دائما شامل لكل أجزاء الكون، بما فيه الانسان، بشكل لا يمكن فيه الاستثناء.

و إذا كانت قوى الانتاج و عوامل «المادية التاريخية» عموما تنتج إطارا اختياريا للانسان، فهذا معناه أن تأثيرها غير كامل، بل لها جزء الأثر، و يكون باقي الأثر موكولا إلى العوامل المادية الأخرى، و تشكل مجموع العوامل حينئذ عنصرا جبريا في حياة الانسان.

و معه، فإنكار الجبرية، من قبل الماديين، و التركيز على جانب الحرية، غريب تماما عن مسالكها الفكرية... و أغرب منه ما ادعاه كوفالسون من أن الجبرية تؤدي إلى الاعتقاد بالقضاء و القدر. كلا!. فإن هذا الاعتقاد - ببعض أشكاله - يعني: ان اللّه يجبر الناس على أعمالهم،

ص:110

و هو اتجاه جبري غير الاتجاه الذي يقول: ان العوامل المادية تجبرهم على ذلك. ما ينبغي أن يلتزم به الماديون هو هذا الثاني، لا القول بالقضاء و القدر بطبيعة الحال.

على أن فكرة الاختيار و صفة الحرية في أفعال الانسان، فكرة «ميتافيزيقية» لا تناسب مع المادية بالمرة. فالالتزام بالحرية من قبل الماديين اتجاه ميتافيزيقي مثالي مقيت!!!...

و قد بقيت بعض المناقشات الجانبية في كلمات الماركسيين عن حرية الانسان، لا حاجة إلى التطويل بها، بل نوكل إدراكها إلى القارئ النبيه.

- 7 - وصل بنا النقاش الآن إلى قوى الانتاج و علاقات الانتاج...

لسنا في خلاف مع الماركسية من حيث مفهوم قوى الانتاج، فإنها - بذاتها - أمر معاش في المجتمع؛ و لا من حيث تطورها عبر التاريخ البشري، و لا في أن قوى الانتاج تحتاج في الغالب، إلى علاقات إنتاج معينة على الصعيد الاجتماعي.

كما اننا لا نناقش في تأثير هذه الأشياء في حياة المجتمع، مباشرة أو بالواسطة، شأنها في ذلك شأن العامل الجغرافي أو الجنسي أو غير هما، مما ادعى الناس أنه العامل الوحية في التأثير... و ليس كذلك.

و إنما يبدأ النقاش من هذا الدور السحري الكبير الذي أعطته الماركسية لهذه الأشياء. فإن ذلك، مما لا يمكن الالتزام به لعدة نقاط:

النقطة الأولى: إن قوى الانتاج قد تتطور و لا يتطور المجتمع، و قد رأينا في مجتمعنا العالمي المعاصر، في عدة موارد:

المورد الأول: في أوربا الغربية، كألمانيا و فرنسا و انكلترا و إيطاليا...

و هي البلدان التي تنبأ ماركس و انجلز، طبقا لنظرياتهم المادية، بانتقالها إلى الاشتراكية أسبق من غيرها.

قال انجلز: فالثورة الشيوعية... إنما ستقع في آن واحد في جميع البلدان المتمدنة أي على الأقل في انكلترا و أميركا و فرنسا و إلمانيا(1).

و قد اخلفت هذه البلدان ظن هذا المفكر و صاحبه... و بقيت

ص:111


1- (1) نصوص مختارة: انجلز ص 49.

رأسمالية تماما لعدة قرون، بالرغم من تطور وسائل الانتاج من الآلة البخارية إلى الآلة التي تدار بالبنزين إلى الآلة الكهربائية إلى الآلة الذرية.

و لا زال النظام هو النظام، بالرغم من هذا التطور الشاسع العظيم لوسائل الانتاج.

فإن اعتذر عن ذلك شخص و قال: بأن نظرية المادية التاريخية قد تحصل بشكل سريع، و قد تحصل بشكل بطيء و تكون البلدان الرأسمالية قد حصلت النظرية فيها بشكل بطيء.

غير أن هذا الاعتذار، قد يكون مقبولا في التطور القليل لقوى الانتاج في مرحلتين مثلا، و أما إذا أصبح التطور بهذا الشكل و لم تنطبق نظرية المادية التاريخية، فهذا معناه عدم صحة النظرية و مجافاتها للواقع. إذ كيف أوجدت الفأس الحديدية نظام الرأسمالية، و لم توجد سلسلة التطورات المتأخرة الكثيرة، و خاصة بعد الوصول إلى الصناعات الذرية، نظام الاشتراكية الأول (دكتاتورية البروليتاريا) فضلا عما بعده.

إن هذا يعني - على الأقل - توقف مفعول الضرورة المادية التاريخية، في هذا العصر، بعد أن كان نشيطا فعالا!!...

المورد الثاني: في الاتحاد السوفييتي نفسه و البلدان الاشتراكية التابعة له. فإنها تمر الآن - طبقا للنظرية - بعصر دكتاتورية البروليتاريا. و هو عهد واحد قبل عهدين اشتراكيين لاحقين له، آخر هما الطور الشيوعي الأعلى، على ما سوف نسمع. و بالرغم من تطور قوى الانتاج و وسائله إلى حد الآلة الذرية، هناك... إلا أن دكتاتورية البروليتاريا بقيت هي هي لم تتطور.

المورد الثالث: في الصين الشعبية، فإنها - طبقا للنظرية - تعيش نفس الفترة. و بالرغم من دخولها في «العهد الذري» لم تستطع أن تدخل في «العهد الشيوعي».

المورد الرابع: البلدان الاشتراكية المجاورة للاتحاد السوفييتي، فإن اندراجها في العالم الشيوعي لم يكن بسبب تطور وسائل الانتاج فيها، بل بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية، التي أوجبت دخول الجيوش الروسية إلى البلدان المجاورة التي كانت محتلة لألمانيا الهتلرية...

فإن اعتذر عن ذلك شخص و قال: بأن تطور وسائل الانتاج في الاتحاد

ص:112

السوفييتي، أوجب تغيير النظام في البلدان المجاورة، فرجع التأثير إلى هذا التطور نفسه.

... إن هذا الاعتذار يحتوي على تأويل للنظرية، مجاف لروحها، و لما ذكره المفكرون الماركسيون الأوائل الذين أناطوا نظام كل بلد بتطور وسائل الانتاج فيه لا في غيره. و لا معنى للتفريق المكاني بين التطور و النظام، بأن يحصل التطور في مكان و يحصل النظام في مكان آخر، كما هو معلوم.

النقطة الثانية: إن علاقات الانتاج، قد تتطور و لا يتطور كثير من ظواهر المجتمع، كاللغة و الدين و القانون و بعض المؤسسات الاجتماعية...

أما اللغة، فعدم تطورها بتغير الأنظمة و تطور علاقات الانتاج، واضح كل الوضوح. و قد اعترف بذلك الماركسيون المتأخرون، و قد اعتبرها كوفالسون استثناء من الظواهر الاجتماعية، حيث نسمعه يقول عن اللغة:

«... و لكن بما أن وجودها و تطورها و خصائصها، لا يحددها البناء التحتي الاقتصادي، فلا يمكن تصنيفها في عداد عناصر البناء الفوقي»(1).

و مراده من البناء التحتي الاقتصادي، ما عرفناه من قواعد تطور المجتمع بتطور وسائل الانتاج... كأن هذه النظرية - لو كانت صحيحة - لكانت قابلة للاستثناء متى شاء المفكر. في حين أن القوانين العامة الضرورية غير قابلة للاستثناء، و وجود الاستثناء في كل «قانون» يدل على عدم صحته بنفسه.

و كذلك الدين، فإن أوروبا بقيت مسيحية في عصري القنانة و الاقطاع و بقيت «علمانية» في عصر الانتاج الحرفي و الرأسمالية الأولى و الرأسمالية الاحتكارية، بل و في عصر دكتاتورية البروليتاريا، في القسم الاشتراكي من أوروبا.

و الحديث عن القانون، يشبه هذا الحديث... فإن القانون الروماني وجد في عصر القنانة و بقي ساري المفعول إلى عصر الاقطاع العصر الحرفي و الرأسمالية الأولى، بل بقيت روحه العامة سارية المفعول إلى عصر

ص:113


1- (1) المادية التاريخية: كيلله كوفالسون ص 86.

الرأسمالية الاحتكارية.

و كذلك الحديث المؤسسات الاجتماعية، فالنظام الملكي في بريطانيا و الحبشة و إيران، مر في عهود مختلفة من زاوية النظرية المادية التاريخية من عهد القنانة إلى عهد الاقطاع إلى عهد الرأسمالية، على اختلاف بين هذه الدول لا حاجة إلى الدخول في تفاصيله.

بل و كذلك الأنظمة السياسية و الحقوقية و الدينية و الفلسفية على العموم، قد تتحجر و لا تتطور.

«و يضيف ماركس قائلا: كذلك هي الحال بالضبط فيما يتعلق بالأنظمة السياسية و الحقوقية و الدينية و الفلسفية على العموم»(1).

و الحال التي يشير إليها هي التحجر الذي كان يشير إليه قبل ذلك من عدم تطور نظام القرابة في بعض المجتمعات القديمة.

و كذلك بعض الأحزاب، كالماسونية، و كذلك بعض الصحف المهمة التي تبقى مستمرة الصدور عدة قرون و في مختلف العهود.

النقطة الثالثة: إن علاقات الانتاج، إن أوجبت التطور، فهي لا توجب شكلا معينا من التطور. إذ لو كان كذلك للزم أن يتطور العالم كله على شاكلة واحدة، و ليس كذلك. إذن، فهي توجب التطور في كل بلد على شكل يختلف عن تطور البلد الآخر.

إذن، فالتطور في البلد المعين، أو قل أن أوضاعه بمجموعها و تفاصيلها غير مستندة إلى تطور علاقات الانتاج... بل إلى عوامل أخرى، تفسر وجود الفرق بين الأنظمة و التواريخ في مختلف البلدان.

و بكلمة أخرى: إن هذه التفاصيل غير مستندة إلى تطور وسائل الانتاج وحدها، و إلا كانت عهود الاقطاع - مثلا - في العالم متشاكلة في ظواهرها، مع ان الاختلاف بينها ظاهر جدا. و لا يمكن لمجتمعين أن يكونا على شاكلة واحدة. و إنما تستند هذه التفاصيل إلى أسباب أخرى غير وسائل الانتاج... أو قل: إلى المركب بين وسائل الانتاج و غيرها، و هذا المركب لا يمكن أن نعبر عنه بوسائل الانتاج أو علاقات الانتاج بطبيعة الحال.

و معه لا تكون وسائل الانتاج هي السبب الكامل في أي بلد من

ص:114


1- (1) أصل العائلة: انجلز ص 35.

البلدان على الاطلاق... و إنما لها جزء التأثير. و قد تكون مشاركتها ضعيفة أحيانا و قوية أحيانا.

النقطة الرابعة: اننا سمعنا من المفكرين الماركسيين عدة أمور مترابطة:

الأمر الأول: ان تطور علاقات الانتاج مستند إلى تطور وسائل الانتاج.

الأمر الثاني: ان تطور المجتمع، بظواهره المختلفة، مستند إلى تطور علاقات الانتاج.

الأمر الثالث: ان تطور وسائل الانتاج نفسها غير منفصل عن الانسان بل الانسان هو الذي يطور هذه الوسائل و يحسنها.

و هذا ينتج عدة اعتراضات لا تكون في مصلحة الفكر الماركسي.

الايراد الأول: ان تطور المجتمع و الناس مستند إلى تطور علاقات الانتاج، المستندة في تطورها إلى تطور وسائل الإنتاج، المستند بدوره إلى فكر المجتمع و الناس أنفسهم. إذن فالناس هم الذين يطورون أنفسهم، في الحقيقة، و لا يستند التطور إلى وسائل الانتاج أو علاقاته إلا على سبيل المجاز.

الايراد الثاني: إن إسناد تطور وسائل الانتاج إلى وعي الناس، مناف لما ذكره ماركس من:

«ان الناس أثناء الانتاج الصناعي لمعيشتهم يقيمون فيما بينهم علاقات معينة ضرورية مستقلة عن آرائهم. و تطابق علاقات الانتاج هذه درجة معينة من تطور قواهم المنتجة»(1).

و قد سبق أن سمعنا هذه العبارة في الفقرة السادسة من هذا الفصل.

فإن الناس إن طوروا وسائل إنتاجهم عن وعي و عمد و تفكير، و كانوا يشعرون بأن علاقاتهم الانتاجية سوف تتغير، و هذا ما يكون مدركا أحيانا، إذن يستند تغيير هذه العلاقات إلى وعيهم و عمدهم و تفكيرهم، و ليس مستقلا عن آرائهم، كما قال ماركس.

الايراد الثالث: إذا توقف آ على ب و توقف ب على آ أيضا... ينتج

ص:115


1- (1) انظر المادية الديالكتيكية: ستالين ص 59.

أن لا يوجد آ و لا ب. فمثلا، لو كنت لا تحترم صديقك إلا إذا احترمك، و كان صديقك يتخذ منك نفس الموقف... بحيث لم يكن أحدكما مستعدا للبدء باحترام صاحبه إلا إذا بدأه الآخر بالاحترام... إذن، فسوف لن يحترم أي منكما صاحبه انه ينتظر المبادرة من قبل الآخر، و هي لا تحدث، إلا على تقدير شرط مفقود و هو المبادرة الأخرى، و هكذا. و قد التفت بليخانوف إلى استحالة هذه المناقصة(1).

و كذلك الحال، لو توقف آ على ب و توقف على ج - و توقف ج - من جديد على آ. فإن ذلك يؤدي إلى عدم وجود شيء من هذه الثلاثة.

فإذا طبقنا هذه الفكرة على ما سمعناه من الماركسية، في هذا الصدد، وجدنا أن تطور المجتمع يستند إلى تطور علاقات الانتاج، و تطور علاقات الانتاج يستند إلى تطور وسائل الانتاج و تطور هذه الوسائل يستند إلى تطور المجتمع. فقد توقف كل من هذه الثلاثة بعضها على البعض، و هو يؤدي - كما عرفنا - إلى عدم كل واحد منها.

فإذا أجاب الماركسيون: أن المجتمع الذي يطور وسائل الانتاج يمثل جيلا من الناس، و المجتمع الذي تطوره وسائل الانتاج يمثل جيلا آخر، فلا يكون هذا الايراد موجودا، بل تكون سلسلة التطويرات موجودة باستمرار.

إن هذا الجواب، يعني - بكل وضوح - أن الأجيال تربي بعضها بعضا عن وعي و تفكير... كل ما في الأمر أن واسطة التربية تكون اقتصادية على استمرار. فالمؤثر في تغيير الجيل اللاحق هو الجيل السابق، بشكل رئيسي. و هذا أمر صحيح، على إجماله، لا أن السبب الرئيسي للتغيير مستند إلى علاقات الانتاج أو وسائله، كما أكدت عليه الماركسية.

النقطة الخامسة: ان الماركسية بعد أن أكدت أن هذا العامل الاقتصادي هو العامل الأعمق لتطور المجتمع، و ليس هو العامل الوحيد في كل التفاصيل إذن فهذا العامل - كما عرفنا من عدة تصريحات ماركسية - هو عامل ناقص، ذو تأثير جزئي، و ليس عاملا قسريا ضروريا.

فإذا ضممنا إلى ذلك، تأكيد الماركسية على وعي الناس و استخدامهم

ص:116


1- (1) انظر فلسفة التاريخ: بليخانوف ص 44.

لتفكيرهم استخداما تاما و حقيقيا... كان معنى التركيب بين هاتين الحقيقتين الماركسيتين: ان وعي الناس و تفكيرهم يمكن أن يحول دون تأثير العامل الاقتصادي. لوضوح أن العامل الجزئي الناقص، يمكن الحيلولة دون تأثيره.

و لو كانت الماركسية قد جزمت بتفرع الوعي الانساني عن قوى الانتاج. كان لها أن ترفض هذه الفكرة. إلا أنها أظهرت خلاف ذلك في عدد من المناسبات(1). و معه يمكن للوعي الحيلولة دون تأثير العامل الاقتصادي، و لو في بعض الأحيان. و لا يكون العامل الاقتصادي نهائيا.

كما أرادت الماركسية أن تقول.

إذن، فلم يثبت - طبقا لهذه المناقشات - أن العامل الاقتصادي، هو العامل الحاسم في تطوير المجتمع؛ و إن كان ينبغي الاعتراف مع الماركسية، بأن له تأثيرا جزئيا مباشرا أو غير مباشر، على عدد من ميادين الحياة، شأنه في ذلك، شأن العوامل الأخرى. فان الالتزام بنظرية العامل الواحد، على أي حال. لا تخلو من إمكانية التعرض إلى النقد.

ص:117


1- (1) و خاصة في العصور الاشتراكية، ابتداء من «دكتاتورية البروليتاريا» فما بعدها، على ما سنسمع ذلك مفصلا.

المفهوم الطبقي لدى الماركسية

اشارة

- 1 - أسندت الماركسية أسلوب تطوير المجتمع بوسائل الانتاج أو قوى الانتاج طبقا لمفهومها الديالكتيكي العام، إلى الأسلوب الذي عبر عنه ماركس قائلا:

«و عند ما تبلغ قوى المجتمع المنتجة درجة معينة في تطورها، تدخل في تناقض مع علاقات الانتاج الموجودة أو مع علاقات الملكية - و ليست هذه سوى التعبير الحقوقي لتلك - تلك العلاقات التي كانت تتحرك ضمنها القوى المنتجة إلى ذلك الحين.

فبعد أن كانت هذه العلاقات أشكالا لتطور القوى المنتجة، تصبح قيودا لهذه القوى، و عندئذ ينفتح عهد الثورات الاجتماعية، فإن تغير الأساس الاقتصادي يزعزع كل البناء العلوي الهائل على صور مختلفة من السرعة أو البطء»(1).

إن قوى الانتاج أسرع تطورا من علاقات الانتاج. قال ستالين:

«فالقوى المنتجة هي إذن أكثر عناصر الانتاج حركة و ثورة. ففي بادئ الامر تتعدل القوى المنتجة و تتطور. و بعدئذ، تبعا لهذه التعديلات و طبقا لها، تتعدل علاقات الانتاج بين الناس، أي علاقاتهم الاقتصادية»(2).

ثم قال:

«فمهما تتأخر علاقات الانتاج عن تطور القوى المنتجة، فلا بد من أن ينتهي الأمر - و هو فعلا ينتهي - بالمطابقة بينها و بين مستوى تطور القوى المنتجة، و أن تتخذ طابعا يلائم طابع هذه القوى المنتجة، و إلا تعرضت الوحدة إلى خطر التفكك، فيودي إلى حدوث انقطاع في مجموع الانتاج إلى تجمع في نظام الانتاج، بين القوى المنتجة و علاقات الانتاج، إلى وقوع أزمة في الانتاج، إلى تحطيم القوى المنتجة»(3).

ثم قال:

ص:118


1- (1) فلسفة التاريخ: بليخانوف ص 47.
2- (2) المادية الديالكتيكية: ستالين ص 45.
3- (3) المصدر و الصفحة.

«ان الأزمات الاقتصادية، التي تؤدي إلى تحطيم القوى المنتجة، هي نتيجة لهذا الخلاف - يعني بين علاقات الانتاج و طابع القوى المنتجة -.

و علاوة على ذلك، فإن هذا الخلاف نفسه هو الأساس الاقتصادي للثورة الاجتماعية المدعوة إلى هدم علاقات الانتاج الحالية، و خلق علاقات جديدة مطابقة لطابع القوى المنتجة»(1).

- 2 - و هنا تقول الماركسية كلمة رئيسية في منطقها الديالكتيكي، و في فهمها للمادية التاريخية. بالرغم أننا لا نجد في المصادر الماركسية التصريح بها كقاعدة عامة، إلا نادرا، و إنما نجد إسهابا في تطبيقها على عهود المادية التاريخية، و خاصة في نقدها للوضع الرأسمالي. و سنسمع تطبيقاتها بعد ذلك.

و أما هنا، فينبغي أن نسمع القاعدة العامة، مستقاة من كلام ستالين حين يقول:

«فإن تطور القوي المنتجة و التغيرات في ميدان علاقات الانتاج تجري خلال مرحلة معينة، بصورة عفوية مستقلة عن إرادة الناس. و لكن ذلك لا يدوم إلا إلى حين، أي إلى أن تصبح القوى المنتجة التي برزت و أخذت تتطور في درجة معينة كافية من النضج.

فعند ما تبلغ القوى المنتجة الجديدة حد النضج، تتحول علاقات الانتاج الموجودة و الطبقات التي تمثلها، إلى حاجز كئودا لا يمكن إزاحته من الطريق إلا بالنشاط الواعي للطبقات الجديدة، و بعملها العنيف أي بالثورة.

و يظهر إذ ذاك بشكل رائع الدور العظيم الذي تلعبه الأفكار الاجتماعية و المؤسسات السياسية الجديدة المدعوة إلى إلغاء علاقات الانتاج القديمة و محوها بالقوة. فإن حاجات المجتمع الاقتصادية و علاقات الانتاج القديمة، كل ذلك، يولد أفكارا اجتماعية جديدة»(2).

و قد بدأ الفصل الأول من البيان الشيوعي بالقول:

«إن تاريخ كل مجتمع إلى يومنا هذا، لم يكن سوى تاريخ نضال بين الطبقات.

فالحر و العبد، و النبيل و العامي، و السيد الاقطاعي و القن، و المعلم و الصانع، أي بالاخنصار، المضطهدون و المضطهدون، كانوا في تعارض دائم، و كانت بينهم حرب مستمرة تارة ظاهرة و تارة مستترة. حرب كانت تنتهي - دائما - إما بانقلاب ثوري يشمل

ص:119


1- (1) المصدر ص 46.
2- (2) المصدر السابق ص 60

المجتمع بأسره، و اما بانهيار الطبقتين المتناضلتين معا»(1).

ثم يبدأ مؤلفا هذا البيان، بتطبيق مفهوم هذا الصراع على عهود التاريخ، كما تفهمها المادية التاريخية.

- 3 - و من هذه الزاوية يكون كلام انجلز صحيحا، حين يقول.

«ثبت - بالنسبة للتاريخ الحديث على الأقل - أن كل نضال سياسي هو نضال طبقي، و ان كل نضال تخوضه الطبقات من أجل تحررها، رغم شكله الذي هو بالضرورة سياسي - لأن كل نضال طبقي هو نضال سياسي - هو بالنتيجة نضال لأجل التحرر الاقتصادي».

- 4 - و من الطبيعي، طبقا لهذا التسلسل الفكري، أن يكون المجتمع منقسما إلى طبقتين فقط، إذ بعد تطور قوى الانتاج بشكل أسرع من علاقات الانتاج، توجد طبقة «رجعية» تمثل علاقات الانتاج التي أصبحت قديمة، و تصبح هي الطبقة الظالمة المضطهدة - بالكسر - و يكون إلى جنبها طبقة مرتبطة مصلحيا بالشكل الجديد لوسائل الانتاج، و ما تقتضيه هذه من علاقات إنتاج... و تصبح هذه الطبقة هي الكثرة المضطهدة - بالفتح - في المجتمع، و تبدأ بالصراع الطبقي من أجل السيطرة على الطبقة القديمة و إزالتها من الوجود عن طريق الثورة.

و هنا يوجد فهمان متعاكسان للماركسية في تحديد الوجود الطبقي في المجتمع:

الفهم الأول: ان الطبقة المضطهدة - بالفتح - بصفتها تقدمية و ثورية، و على الأخص: باعتبارها موافقة مع الشكل المتطور من وسائل الانتاج... سوف يكتب لها النجاح حتما، فتزيل الطبقة القديمة الرجعية و تحل محلها.

و تعيش هذه الطبقة فترة، حتى ما إذا وصلت وسائل الانتاج، في مجتمعها إلى حد النضج، أصبحت هذه الطبقة - بدورها - رجعية، لأنها تصبح ممثلة للعلاقات الانتاجية القديمة، و توجد ضدها طبقة جديدة

ص:120


1- (1) البيان الشيوعي لماركس و انجلز ص 36.

تقدمية، تمثل قوى الانتاج التي جاءت إلى الولادة من جديد.

و هذا الفهم هو الموافق مع التسلسل الفكري النظري للماركسية، و له شواهد من كلام الماركسيين.

و قد طبقته الماركسية في انتقال المجتمع من عهد الاقطاع إلى عهد الرأسمالية الأولى، فإن الطبقة الفقيرة في عهد الاقطاع، هي التي أصبحت رأسمالية بعد ذلك. على ما سوف نسمع بعد ذلك.

الفهم الثاني: إن الكثرة الكاثرة، من سكان المجتمع، هي دائما - في المجتمع الطبقي - الطبقة المضطهدة - بالفتح -، فهم في عهد الرق أرقاء و في عهد الاقطاع فلاحون أقنان، و في عهد الرأسمالية عمال بروليتاريون.

و الاعتراض الوارد على الفهم الأول من زاوية الفهم الثاني، هو: ان الطبقة المضطهدة - بالفتح - حينما تكون كثيرة، أو ممثلة للأكثرية الكاثرة، كيف تصبح مضطهدة - بالكسر، إن هذا مخالف لوضع المجتمعات تاريخيا... و لا يحتوي - لو حصل - على ظلم أو إجحاف كبير، لأن حكم الأقلية من قبل الأكثرية، كأنه واضح المشروعية، و قد أقرته الماركسية في أكثر من عصر من عصورها الاشتراكية، على ما سنسمع.

و هذا الاعتراض لا يرد على الفهم الثاني، لأن الأكثرية، هنا مضطهدة - بالفتح - باستمرار.

و الاعتراض الوارد على الفهم الثاني من زاوية الفهم الأول: أنه كيف يمكن لأكثرية الشعب، و هم أشخاص بأعيانهم، أن يكونوا ممثلين لأكثر من مرحلة واحدة من مراحل تطور وسائل الانتاج، و ما تقتضيه هذه من علاقات. إن الفرد لا يمكن أن يكون نصيرا إلا لمرحلة واحدة من هذا التطور، طبقا للنظرية فكيف أصبح الفرد - الممثل للأكثرية - نصيرا لوسائل الانتاج الجديدة باستمرار.

و بالرغم من ذلك، فإن الماركسية طبقت الفهم الثاني، على انتقال المجتمع من عهد الرق إلى عهد الاقطاع، فإن الاقنان أنفسهم أصبحوا فلاحين، و لم يصبحوا إقطاعيين، كما هو المتوقع في الفهم الأول، و هذا ما سنسمع تطبيقاته في الفصل الآتي أيضا.

ص:121

و مع تذبذب الفهم الماركسي بين هذين الوجهين المتعارضين، و ورود الاعتراض على كل منهما من زاوية النظرية الماركسية نفسها، لا يبقى لأصل هذه الفكرة التي يتفرع عنها الوجهان... قيمة واقعية.

- 5 - إن النظرية الماركسية، بالرغم من أنها أكدت على انقسام المجتمع إلى طبقتين لا أكثر، لم تستطع في نفس الوقت إنكار وجود طبقات أخرى، لكنها اعتبرتها طبقات ثانوية غير رئيسية.

قال انجلز: في صدد حديثه عن انكلترا و فرنسا:

«و منذ عام 1830 اعترف في هذين البلدين بالطبقة العاملة، البروليتاريا مناضلة ثالثة من أجل السيطرة. و قد بلغت درجة من البساطة بحيث أن الناس الذين أغمضوا عيونهم عمدا وحدهم الذين لم يستطيعوا أن يروا في نضال هذه الطبقات الثلاث الكبرى و في تصادم مصالحها تكمن القوة المحركة لكل التاريخ الحديث»(1).

و ظاهر هذا الكلام انقسام المجتمع إلى ثلاث طبقات رئيسية من أول الأمر:

و قال البيان - الشيوعي:

«و خلال العهود التاريخية السابقة نجد المجتمع في كل مكان تقريبا منظما تنظيما متسلسلا، و الأوضاع الاجتماعية على مراتب و درجات متفاوتة. ففي روما القديمة نجد النبلاء ثم الفرسان ثم العامة ثم الأرقاء. في القرون الوسطى نجد الاقطاعيين الأسياد ثم الاقطاعيين الأتباع، ثم المعلمين ثم الصناع ثم الاقنان. و نجد تقريبا داخل كل طبقة من هذه الطبقات مراتب و درجات خاصة»(2).

و هذا الكلام واضح كل الوضوح بانقسام المجتمع إلى طبقات عديدة، سواء في عهد الرق (في روما) أو في عهد الاقطاع (في القرون الوسطى).

ثم يقول:

«إلا أن الذي يميز عصرنا الحاضر، عصر البورجوازية، هو أنه جعل التناحر الطبقي أكثر بساطة: فان المجتمع آخذ في الانقسام أكثر فأكثر إلى معسكرين فسيحين متعارضين، إلى طبقتين كبيرتين، العداء بينهما مباشر هما البورجوازية و البروليتاريا»(3).

ص:122


1- (1) لودفيج فورباخ: انجلز ص 58 و انظر أيضا نصوص مختارة انجلز ص 159.
2- (2) ص 38.
3- (3) نفس الصفحة من المصدر.

و قال كوفالسون:

«إن البنية الطبقية لكل مجتمع هي عبارة عن لوحة معقدة جدا. و تحليلها يفترض في المقام الأول أن نفرز في المجتمع المعني: الطبقات الأساسية التي تفصح العلاقات بينها عن الخط الرئيسي لتطوره. و علاوة على ذلك ينبغي أن نأخذ بالحسبان أنه توجد كذلك، عادة، في المجتمع طبقات غير أساسية مرتبطة بوجود مختلف النماذج الاقتصادية»(1).

ثم قال:

«و الحرفيون و صغار التجار و الفلاحون، يمثلون النموذج الاقتصادي البضاعي الصغير. و الفلاحون في المجتمع الرأسمالي هم طبقة وسطية غير أساسية، و موجودة في جميع البلدان تقريبا. و هي تنحل بتأثير العلاقات الرأسمالية، فارزة البورجوازية الريفية و البروليتاريا الريفية. و في جملة من البلدان توجد طبقة كبار ملاكي الأراضي، الذين يلجئون إلى بقايا أشكال الاستثمار الاقطاعية، علاوة على أشكال الاستثمار الرأسمالية.

و فضلا عن الرأسماليين و العمال و البرجوازية الصغيرة، توجد كذلك في المجتمع الرأسمالي فئة كبيرة من المثقفين و المستخدمين. فإن هؤلاء لا يملكون وسائل الانتاج و لا يصنعون الخيرات المادية، و لهذا لا يشغلون مكانا مستقلا في نظام الانتاج»(2).

- 6 - و قد أسندت الماركسية كل الظواهر الاجتماعية إلى التناحر الطبقي، نشرح أهمها فيما يلي بالتفصيل:

فمن ذلك، وجود الدولة:

و تستقرئ الماركسية نشوء الدولة من أول أمرها، في تاريخ البشرية، حتى تصل بها إلى العصر الحديث. و سنواكب هذا الاستقراء في الفصل الآتي عند الحديث عن عهود المادية التاريخية، الذي يمثل الكيان الأساسي لهذه النظرية الماركسية.

و المهم في المقام أن نعرف وجهة نظر الماركسية عن الدولة من حيث نشأتها و دورها بعد وجودها.

قال انجلز:

«و بما أن الدولة قد نشأت من الحاجة إلى لجم تضاد الطبقات، و بما أنها قد نشأت ضمن الاصطدامات بين هذه الطبقات. فهي كقاعدة عامة دولة الطبقة الأقوى السائدة اقتصاديا، و التي تصبح عن طريق الدولة السائدة سياسيا أيضا. و تكتسب على هذه

ص:123


1- (1) المادية التاريخية: كوفالسون ص 195.
2- (2) المصدر و الصفحة.

الصورة وسائل جديدة لقمع الطبقة المظلومة و استثمارها.

فإن الدولة القديمة كانت، قبل كل شيء، دولة مالكي العبيد لقمع العبيد، الدولة الاقطاعية هيئة النبلاء لقمع الفلاحين التابعين و الأقنان. كذلك الدولة التمثيلية الحديثة هي أداة لاستثمار العمل المأجور من قبل رأس المال»(1).

و قال - أيضا - عن الدولة:

«إنها لا تؤلف ميدنا مستقلا و لا تتطور بصورة مستقلة، بل يتوقف وجودها و تطورها آخر الأمر، على الظروف الاقتصادية لحياة المجتمع»(2).

و هي أيضا ليست «سوى تعبير مكثف عن الحاجات الاقتصادية السائدة في الانتاج»(3).

و قال أيضا:

«إن الدولة تبدو لنا أول قوة فكرية فوق الانسان، فإن المجتمع ينشيء جهازا لحماية مصالحه المشتركة من الهجمات الداخلية و الخارجية. و هذا الجهاز هو سلطة الدولة. و ما أن يولد حتى يجعل نفسه مستقلا عن المجتمع، و ينجح في ذلك بقدر ما يصبح جهاز طبقة معينة واحدة، و بقدر ما يحقق سيطرة هذه الطبقة بصورة مباشرة.

و نضال الطبقة المضطهدة ضد الطبقة الحاكمة يصبح بالضرورة نضالا سياسيا نضالا موجها قبل كل شيء ضد السيطرة السياسية لهذه الطبقة. و إدراك الصلة بين هذا النضال السياسي و قاعدته الاقتصادية يقل، و في بعض الأحيان يختفي تماما. و لكنه إذا كان لا يختفي دائما عند المناضلين، فإنه ينعدم غالبا عند المؤرخين.

... غير أن الدولة، حينما غدت قوة مستقلة إزاء المجتمع، أحدثت حالا إيديولوجية جديدة، و المقصود هنا بالضبط أن العلاقة مع الوقائع الاقتصادية تختفي بصورة تامة عند محترفي السياسية و أصحاب نظريات قانون الدولة، و حقوقيي القانون المدني. و في كل حالة خاصة ينبغي للوقائع الاقتصادية أن تأخذ شكل أسباب حقوقية من أجل أن يصادق عليها القانون. و من البديهي أنه ينبغي عند ذلك حسبان الحساب الكامل نظام القانون القائم، و لذلك يبدو الشكل الحقوقي كأنه كل شيء، أما المحتوى الاقتصادي، فلا شيء»(4).

- 7 - و من ذلك: وجود الدين.

ص:124


1- (1) أصل العائلة: انجلز ص 227.
2- (2) لودفيج فورباخ: انجلز ص 60.
3- (3) المصدر نفسه ص 61.
4- (4) المصدر ص 61.

إن الماركسية، لم تستطع أن تؤكد بوضوح ارتباط الدين بالوجود الطبقي في المجتمع، و إن مالت إلى ذلك كل الميل. و ذلك لوجود عقبة كئودا دون ذلك، و هو وجود الدين في عصور بشرية متقدمة جدا. و في تلك العصور لم تكن الطبقية موجودة، في نظر الماركسية، لوجود المجتمع الشيوعي البدائي في ذلك الحين. إذن، فمن المتعذر القول: بأن الدين نشأ من الوجود الطبقي.

نعم، رأت الماركسية: ان الدين أصبح - بعد وجوده - أحد الأساليب الرئيسة التي تستعملها الطبقات في الصراع فيما بينها:

قال انجلز:

«إن الدين قد ولد في عصور بدائية من تخيلات الناس الجاهلة الغامضة البدائية عن طبيعتهم ذاتها، و عن الطبيعة الخارجية التي تحيط بهم(1).

و قال بوليتزر عن المراسيم الدينية:

«انها تعبر جميعا عن معطى معين حقيقي عن الفعل الانساني» ألا و هو عجزه النسبي الكبير في مطلع الانسانية و هو عجز أمام الطبيعة، ذلك العجز الذي يتعلق بنمو الانتاج الضعيف. و هو أيضا عجز أمام الظواهر الاجتماعية الذي يتعلق الاضطهاد الطبقي و فقدان الأمل و ضعف الوعي الاجتماعي.

يعرف كل واحد منا أن على المراسيم الدينية أن تضمن النجاح و الفوز «في الأعمال» و الانتصار على العدو، و أن تعود بالسعادة الأبدية... و هكذا تبدو الديانة كأنها وسيلة يستخدمها الانسان لبلوغ أهدافه، و هي مراسيم تتعلق بجهل أسباب شقائه، أو سعيه نحو السعادة»(2).

«إن الديانة لما كانت تتولد من الجهل فإنها تحل محل التفسيرات العلمية تفسيرات خيالية، فتعمل بذلك على ستر الواقع و إسدال الستار على التفسير الموضوعي للظواهر و لهذا كان الرجل المتدين مناوئا لمبادئ العلم التي هي من عمل الشيطان، لأنه حريص على أوهامه.

و تستخدم الطبقات المستغلة هذه الخاصية، لاهتمامها بإخفاء استغلالها عن أعين الطبقات الكادحة... فهي بحاجة إلى سلبية هذه الطبقات و جمودها، كي يستمر اضطهادها، كما انها بحاجة لخضوعها و إيمانها بالقضاء المحتوم، هذا من ناحية.

و من ناحية أخرى: يجب توجيه أمل الجماهير بالسعادة نحو العالم الآخر و هكذا

ص:125


1- (1) لودفيج فورباخ: انجلز ص 64.
2- (2) أصول الفلسفة الماركسية: جورج بوليتزر و آخرين ج 1 ص 241.

يعرض الأمل و العزاء بدخول الجنة، على أنها تعويض عما بذلته الطبقات الشعبية من تضحيات على الأرض. فيتحول الاعتقاد بخلود النفس، الذي كان ينظر إليه في القدم على أنه مصيبة مرهقة، إلى أمل بالخلاص في الآخرة.

استخدمت الديانة، إذن، منذ أقدم العصور كقوة فكرية «للمحافظة على النظام» و كأفيون للشعب، حسب قول ماركس، بالرغم من أن الطبقات الحاكمة المستنيرة لم تعد تعتقد بأية كلمة من النظريات التي كانت تعمل على استمرار تأثيرها في الطبقات الكادحة»(1).

هذا ما قالته الماركسية عن الدين من الزاوية التاريخية، و هناك مناقشات فلسفية أو عقائدية، لا مجال لسردها و نقاشها في هذا البحث.

و ستأتي بعض التفاصيل لدى التعرض إلى الهيكل الأساسي للمادية التاريخية.

- 8 - و من ذلك: وجود الفلسفة و العلوم عموما.

فهي مستندة في وجودها و تطورها إلى وسائل الانتاج.

و قد أكدت الماركسية بهذا الصدد، على عدة نقاط:

النقطة الأولى: ما سمعناه من انجلز: من أن التطور السياسي و الحقوقي و الفلسفي و الديني و الأدبي و الفني، يستند إلى التطور الاقتصادي(2).

النقطة الثانية: ما سمعناه عن لينين من انه انتقد الموضوعية و اللاتحيز انتقادا حادا، و اعتبرها شكلا مستورا و مقنعا للتعبير عن الحزبية(3).

النقطة الثالثة: إنكار الحقيقة المطلقة بالمرة، و ان الحقائق دائما نسبية.

قال انجلز:

«كذلك تحطم هذه الفلسفة الديالكتيكية جميع التصورات عن الحقيقة المطلقة النهائية، و عن أوضاع الانسانية المطلقة المناسبة لها. فليس هناك بالنسبة للفلسفة الديالكتيكية شيء نهائي مطلق مقدس. إنها ترى حتمية الانهيار في كل شيء...»(4).

النقطة الرابعة: ان المعارف و العلوم عموما ناشئة من المصلحة.

ص:126


1- (1) المصدر ج 1 ص 243.
2- (2) انظر: نصوص مختارة، لانجلز ص 179.
3- (3) المادية التاريخية: كيلله، كوفالسون ص 28.
4- (4) لودفيج فورباخ: انجلز ص 10.

«و يقوم بين المعرفة و المصلحة تطابق، و تتجلى المصلحة في السعي وراء المعرفة الحقيقية. و لكن إذا تناقضت المصلحة و المعرفة نشأت الخرافات و الأوهام. و التصورات المشوهة عوضا عن العلم. ان المصلحة إنما هي قوة جبارة. و لو أن البديهيات الهندسية أو النظريات الهندسية - مثلا - كانت تناقض مصالح معينة، لتواجد بكل تأكيد، أناس يعمدون إلى دحضها»(1).

النقطة الخامسة: إن النظرية الماركسية نفسها حزبية:

قال كوفالسون:

«إن العلم الاجتماعي الماركسي يربط نفسه على المكشوف بمصالح الطبقة العاملة، بالنضال من أجل تحرير الكادحين من الاستثمار، بتحرك المجتمع نحو الاشتراكية و الشيوعية. و في هذا تقوم حزبيته»(2).

النقطة السادسة: إن الماركسية أكدت على قانون الديالكتيك، الذي يتضمن ان كل شيء متضمن لنفيه و لنفي النفي أيضا، الذي هو معنى الأطروحة و الطباق و التركيب. و قد عرفنا ذلك مفصلا.

و إذا كان هذا القانون شاملا لكل الأشياء، إذن فهو شامل للفكر الماركسي، بكل تفاصيله أيضا، و إلا لم يكن قانون الديالكتيك عاما بطبيعة الحال.

و إذا شمل هذا القانون الفكر الماركسي، فسوف يؤول إلى الانتفاء و التغيير، لا محالة. لأننا إما أن نفرض هذا الفكر، أطروحة أو طباقا أو تركيبا. و لا شيء غير ذلك.

فإن فرضناه أطروحة، كان الطباق نافيا له، فضلا عن التركيب.

و إن فرضناه طباقا، باعتباره نفيا للفكر السابق عليه، كان التركيب فكرا غير الأطروحة و الطباق، أو غير الفكر القديم و الفكر الماركسي معا. و إن فرضناه تركيبا، كان التركيب بدوره أطروحة يحتوي على نفيه لا محالة، لوضوح ان الديالكتيك لا يكف عن العمل بعد إنجاز (التركيب) لا محالة. إذن، فالفكر الماركسي ينتفي حتما و يتبدل إلى غيره، طبقا للقانون الماركسي نفسه.

النقطة السابعة: إن الفلسفة و العلوم جميعا إذا كانت من نتاج التطور الاقتصادي - كما سمعنا من انجلز - فهذا لا يعني، فقط، ان العلوم تكون

ص:127


1- (1) المادية التاريخية: كيلله، كوفالسون ص 26.
2- (2) المادية التاريخية: كيلله، كوفالسون.

مسببة لهذا التطور، كما فهمناه من النقطة الأولى، بل يعني انها تتطور بتطورها أيضا. فإذا عرفنا، بالاضافة إلى ذلك، أن الفكر الماركسي وجد في عصر الرأسمالية، و كان الوضع الاقتصادي الرأسمالي في عصر الرأسمالية، و كان الوضع الاقتصادي الرأسمالي مسببا له... إذن، فسوف يتغير بتغير هذا الوضع، و لا يمكن أن يكون له بقاء و استمرار بعد زوال الرأسمالية طبقا لنفس القاعدة الماركسية. فإن كان لها بقاء، كان ذلك نقطة ضعف في القاعدة الماركسية للتطور نفسها.

فهذه سبعة نقاط ماركسية، تدل على سبعة نقاط ضعف في الفكر الماركسي على الخصوص، و في الفلسفة و العلوم كلها على وجه العموم.

و الماركسية اعترفت بهذه النقاط كلها، في الفلسفات و العلوم كلها، و أنكرتها في الفكر الماركسي نفسه!!... فالفكر الماركسي في نظر الماركسيين، يدل على الواقع الموضوعي نفسه، و هو مرآة صادقة عنه.

فإنه «يرسم بصورة موضوعية لوحة عن الواقع، و نسبة القوى، و التناقضات القائمة و اتجاهات التطور»(1).

- 9 - و من ذلك: وجود الأخلاق.

قال انجلز:

«و لهذا فإننا نرفض كل طمع بأن تفرض علينا أية عقائدية أخلاقية كقانون إضافي سرمدي نهائي، لا يتزعزع بعد اليوم بذريعة ان لعالم الأخلاق، هو أيضا مبادئه الدائمة التي هي فوق التاريخ و الفوارق القومية. فنحن نؤكد - بالعكس - ان كل نظرية في الأخلاق حتى اليوم إنما كانت في التحليل الأخير نتاج الوضع الاقتصادي للمجتمع في أيامها. و كما ان المجتمع قد تطور اليوم ضمن تعارضات طبقية، فقد كانت الأخلاق على الدوام أخلاقا طبقية: أما انها كانت تبدو سيطرة و مصالح الطبقة السائدة، و أما انها كانت منذ ان تصبح الطبقة المضطهدة على جانب من القوة، تمثل الثورة على هذه السيطرة و مصالح المستقبل للمضطهدين.

و أضاف:

«و ما من شك أن تقدما قد حدث مع هذا - إجمالا - بالنسبة للأخلاق، كما بالنسبة لجميع فروع المعرفة البشرية الأخرى. و لكننا لم نتجاوز بعد الأخلاق الطبقية.

و لن يصبح ممكنا وجود أخلاق إنسانية حقا موضوعة فوق التعارضات الطبقية و ذكراها،

ص:128


1- (1) المصدر نفسه ص 26.

إلاّ في مستوى للمجتمع لا يكون قد تم فيه فقط التغلب على التعارض الطبقي، بل يكون قد نسي فيه أيضا في ممارسة الحياة اليومية، ما ذا كان هذا التعارض»(1).

و يعتبر انجلز كثرة التطورات الأخلاقية و تعددها و تعارضها، دليلا على عدم كون الأخلاق سرمدية و نهائية.

اسمعه يقول:

«بأية أخلاق يعظوننا اليوم؟ إنها أولا الأخلاق الاقطاعية المسيحية الموروثة من إيمان القرون الماضية. و هي بدورها تنقسم أساسا إلى أخلاق كائوليكية و أخلاق بروتستانتية، الأمر الذي لا يمنع انقسامها ثانية إلى أقسام فرعية... و إلى جانب هذا تقوم الأخلاق البرجوازية الحديثة. ثم من جديد إلى جانب هذه أخلاق المستقبل، أخلاق البروليتاريا... فما هي الصحيحة إذن؟ و لا واحدة بمعنى مطلق و نهائي».

و أضاف:

«و لكن الأخلاق التي تحتوي على النصيب الأوفى من العناصر الواعدة بالبقاء هي بالتأكيد الأخلاق التي تمثل في الحاضر، انقلاب الحاضر، تمثل المستقبل، إنها إذن الأخلاق البروليتارية»(2).

و قال انجلز أيضا:

«فمنذ اللحظة التي تطورت فيها الملكية الخاصة للأشياء المنقولة، كان لا بد لجميع المجتمعات التي تسود فيها هذه الملكية الخاصة، أن يكون فيها هذه الوصية الأخلاقية المشتركة: لا تسرق. فهل يعني هذا أن تصبح هذه الوصية وصية أخلاقية سرمدية! كلا أبدا!!. ففي مجتمع أزيلت منه دوافع السرقة، حيث السرقات، بالتالي، لا يمكن ارتكابها، مع مرور الزمن، غير مجانين. كم سيضحك الناس من الواعظ الأخلاقي الذي يود أن يعلن على رءوس الأشهاد الحقيقة السرمدية: لا تسرق!»(3).

و إذا كانت الأخلاق طبقية، و متطورة بالتالي بتطور وسائل الانتاج و علاقات الانتاج، إذن يوجد لكل مرحلة من مراحل المجتمع البشري أخلاقه الخاصة، و لكل طبقة أخلاقها الخاصة... الخ...

- 10 - و من ذلك: وجود العدالة و القانون ككل.

فإنها - أيضا - من نتائج الوضع الاقتصادي، المتمثل بعلاقات الانتاج

ص:129


1- (1) نصوص مختارة: انجلز ص 160.
2- (2) المصدر ص 159.
3- (3) المصدر ص 160.

و وسائل الانتاج.

و لعل أوضح نص ماركسي يوضح ذلك، و يكشف عن تطور الفكرة القانونية في نظر الماركسية، من صورتها البدائية، إلى فكرة العدالة، بشكلها «الميتافيزيقي»!! الكامل... ما قال انجلز:

«في مرحلة جد بدائية من تطور المجتمع، يشعر بالحاجة إلى جمع العقود اليومية المتجددة للانتاج و التوزيع و مبادلة المنتجات في قاعدة مشتركة، و إلى السهر على أن يخضع كل فرد لشروط الانتاج و التبادل المشتركة. و هذه القاعدة التي تكون في البداية عرفا، تصبح بعد قليل قانونا.

و معه تنبثق بالضرورة هيئات مكلفة بمراعاته: السلطات العامة، الدولة.

و خلال التطور اللاحق للمجتمع يتطور القانون إلى تشريع أكثر أو أقل اتساعا.

و كلما ازداد تعقيدا ازدادت اصطلاحاته بعدا عن الاصطلاحات المعبرة عن ظروف المجتمع الاقتصادية الجارية. و إذ ذاك يبدو هذا التشريع كعنصر مستقل، يستمد مبرّر وجوده و أساس تطوره اللاحق لا من الظروف الاقتصادية، بل من دواعيه العميقة الخاصة، أو - إذا شئتم - من «فكرة الارادة». و ينسى الناس أن الظروف الاقتصادية لحياتهم هي منشأ الحقوق لديهم. مثلما نسوا انهم قد نسلوا من عالم الحيوان.

و مع تطور التشريع إلى مجموعة معقدة و موسعة تظهر ضرورة تقسيم جديد للعمل الاجتماعي و تتكون طائفة من رجال القانون المحترفين. و معهم يولد علم الحقوق. و هذا العلم لدى تطوره، يقارن بين النظم القانونية لمختلف الشعوب و لمختلف العصور، ناظرا إليها لا كصورة للعلاقات الاقتصادية في حينها، بل كنظم تجد في ذاتها مبرر وجودها.

و الحال ان المقارنة تفترض عنصرا مشتركا، و الحقوقيون يظهرونه ببناء حقوق طبيعية مما هو مشترك أكثر أو أقل بين جميع هذه النظم. و المقياس الذي يرجع إليه لمعرفة ما هو من الحقوق الطبيعية أم لا، إنما هو - بالضبط - التعبير الأكثر تجريدا عن الحقوق ذاتها، أي العدالة.

... و هذه العدالة ليست دائما غير التعبير على الصعيد الايديولوجي و الميتافيزيائي عن الظروف الاقتصادية القائمة، تارة حسب صورتها المحافظة و تارة حسب صورتها الثورية.

فلقد كانت عدالة اليونان و الرومان تجد الرق عادلا. و كانت عدالة البرجوازيين عام 1789 تطالب بإلغاء الاقطاعية، لأنها غير عادلة... و هكذا فكرة العدالة السرمدية تتغير ليس فقط مع تغير العصر و المكان بل و مع تغير الأشخاص أنفسهم»(1).

ص:130


1- (1) نصوص مختارة: انجلز ص 162 و ما بعدها.

فقد أكد انجلز على عدة نقاط:

النقطة الأولى: إن القانون في صورته البدائية، عبارة عن تقاليد أو عرف، و في صورته المعقدة قانون.

النقطة الثانية: إن القانون ناشئ من ظروف المجتمع الاقتصادية.

النقطة الثالثة: إن القانون كلما ازداد تعقيدا ازداد بعدا عن أصله الاقتصادي.

النقطة الرابعة: إن الناس تدريجا ينسون ارتباط القانون بالجانب الاقتصادي مثلما نسوا انهم قد نسلوا من عالم الحيوان!!..

النقطة الخامسة: إن الدولة تصبح مسئولة عن تطبيق هذا القانون «الاقتصادي» الطبقي.

النقطة السادسة: إن القانون تدريجا يكتسب تجريدا إضافيا فيصبح من الحقوق الطبيعية، ثم يصبح ممثلا لفكرة العدالة «الميتافيزيائية».

النقطة السابعة: إن اختلاف النظر إلى العدالة خلال اختلاف المجتمعات و العصور يعني ان العدالة نسبية و ليست مطلقة. و بتعبير آخر:

انها منظورة - فقط - من زاوية اقتصادية طبقية.

فهذه النقاط السبع، يغنينا بها انجلز عن أخذ كلمات غيره من الماركسيين.

ص:131

مناقشات الوجود الطبقي الماركسي

- 1 - لا ينبغي أن نختلف مع الماركسية في تأثير قوى الانتاج في إنتاج علاقات إنتاج معينة، لا بمعنى السلبية بأي معنى من معانيها. بل - من زاويتنا - ان كل مجموعة من الآلات، و المواد الخام الطبيعية، تحتاج في تدبيرها و حسن إنتاجها إلى علاقات إنتاج معينة، لو تغيرت هذه العلاقات لم يصبح الانتاج نفسه حسنا و وفيرا.

و هذا في واقعه، يعود إلى عدة عوامل أهمها اثنان:

العامل الأول: الفهم العلمي و الاجتماعي، لأحسن طريقة يمكن أن يستغل به هذه المجموعة، لانتاج أكبر مقدار من الناتج و من الربح.

و قد يكون هذا الفهم خاطئا، بمعنى ان الفرد أو مجموع من يهمه أمر الانتاج، يرى ان مجموع التصرفات المعينة هي أفضل من غيرها. و لو كان قد تعمق أكثر لأدرك لزوم الاستغناء عن بعض التصرفات و إبدالها بتصرفات أفضل.

العامل الثاني: حب الذات الذي يقتضي اتباع الأحسن دائما. و إلاّ فما الذي يحدو بالفرد أو المجموع إلى ذلك... و الفرد يستطيع بالضرورة أن يوقع نفسه بالضرر أو الهلاك.

و لكن السؤال الذي يتوجه إلى الماركسيين، في هذا المجال، هو أنهم هل يعتقدون بتكون علاقات الانتاج طبقا لتطور وسائل الانتاج بشكل ديالكتيكي أو بشكل «سلس» خال من التناقضات؟!..

إن جوابهم ينبغي أن يكون حاضرا، و هو اختيار الأسلوب الديالكتيكي، لكونه أمسّ بقانونهم العام. و لكن هلاّ قدموا لنا أسلوب

ص:132

تطبيق هذا القانون في هذا المجال؟!..

فإننا في هذا المجال، ككل مجال، لا بد أن نلاحظ: الشيء و نفيه و نفي نفيه... أو الأطروحه و الطباق و التركيب. فكيف تنطبق هذه المفاهيم في مجال بحثنا؟!..

إن الماركسيين قدموا لنا التناقض بين علاقات الانتاج القديمة و وسائل الانتاج الجديدة، كجواب على هذا السؤال. و هذا و إن لم يكن خاليا من المناقشة، غير أننا يمكن أن نطرح السؤال بشكل أوضح، بحيث لا يصلح أن يكون هذا جوابا له. كيف تترتب علاقات الانتاج مع وسائل الانتاج الموازية معها في الدرجة؟!.. هل ذلك بشكل تناقضي أو بشكل سلس.

و هذا سؤال يعم كل تطورات وسائل الانتاج، بما تنتجه من علاقات إنتاج مختلفة، على مدى عصور المادية التاريخية.

إن أفضل ما نفترضه في هذا الصدد هو أن تكون الدرجة المعينة من وسائل الانتاج - الطاحونة الهوائية مثلا -: هي أطروحة. فهل تصلح ان تكون علاقات الانتاج الموازية لها - العلاقات الاقطاعية مثلا -: طباقا لتلك الأطروحة، و نفيا لها. كلا! بعد افتراض الانسجام الكامل بينهما.

إن الطباق لوسائل الانتاج، لا بد أن يفترض - ماركسيا - طباقا داخليا في نفس الآلة، يؤدي إلى تكاملها و تطويرها. و اما ترتب علاقات الانتاج على الدرجة المعينة لهذه الوسائل، و وجودها بإزائها، فهو ترتب سلس بالضرورة.

و لو كانت علاقات الانتاج هي الطباق، فما هو التركيب؟... ليس هو الآلة الجديدة، لكونها ناتجة من الطباق «الداخلي» في الآلة القديمة.

و ليس هو علاقات الانتاج الجديدة، لكونها ناتجة عن الآلة الجديدة لا عن علاقات الانتاج القديمة، باعتراف الماركسية. و ليس هو تغير أوضاع المجتمع، فإنها تتغير طبقا للعلاقات الجديدة، لا للعلاقات القديمة. إذن فهذا الطباق ليس وراءه تركيب!!!...

و يمكن أن نلاحظ نفس هذه الملاحظة، بالنسبة إلى ترتب التغيير الاجتماعي على علاقات الانتاج الجديدة. إن الأوضاع الجديدة تترتب على العلاقات الجديدة، بشكل سلس غير تناقضي. لأنها - أولا - لا تصلح أن

ص:133

تكون طباقا لها باعتبار انسجامها تاما، في حين يفترض بالطباق أن يكون نافيا للأطروحة، لا منسجم معها. و لو كان طباقا - ثانيا -، فليس له تركيب لأن كل ظاهرة أخرى مما عددناها لها مبررات وجودها الماركسية غير هذا الصراع بين علاقات الانتاج و ظواهر المجتمع.

إذن، فقانون الديالكتيك، غير منطبق على علاقات الانتاج، و لا على ظواهرها الاجتماعية الجديدة.

- 2 - نحن نتفق مع الماركسية بوجود التطور المستمر في قوى الانتاج، بمعنى آلات الانتاج، لا المواد الخام بما فيها الأرض، فإنه لا معنى للتطور المستقل فيها إلا نادرا. نعم الانسان لو اعتبرناه من قوى الانتاج، فقد يتطور في الذكاء أو القوة البدنية، و قد لا يتطور.

و يعود تطوير وسائل الانتاج إلى ما يشبه ذينك العاملين، اللذين عرفناهما في الفقرة الأولى. و نعبر عنهما في المقام كما يلي:

أولا: حب الذات المقتضي لحب زيادة الانتاج.

ثانيا: الفهم المركب من أمرين:

أحدهما: الفهم العلمي بأسلوب تطوير الآلة.

ثانيهما: إدراك حقيقة ان الآلة المتطورة تخدم الانتاج أكثر من سابقاتها.

و هذا يعني بوضوح ان تطور وسائل الانتاج إنما كان بفعل الفكر الانساني و الارادة الانسانية، و ليس شيئا خارجا عن وعي الناس، كما حاول ماركس و ستالين أن يقولا. و من الطبيعي أن يكون أولئك الماركسيون الذين اعترفوا بإسناد التطور إلى وعي الانسان أقرب إلى الحق.

و لكن هؤلاء بدورهم يقعون في بعض المصاعب:

أولا: إن معنى ذلك: إن الانسان هو الذي يطور نفسه، لا ان قوى الانتاج هي التي تطوره بشكل مستقل. و بكلمة أخرى: ينحصر الأمر بالقول: بأن العقول المفكرة المخترعة و المطوّرة للآلات الجديدة، هي التي تطور المجتمع عن طريق هذه الآلات، و ليس للآلات أي تأثير حقيقي.

ثانيا: انه بعد أن أصبح التطور واعيا، فمن الصعب أن نتصور وقوع

ص:134

التنافي بين قوى الانتاج و علاقاته، لأننا من الصعب أن نتصور أن مثل هؤلاء المخترعين يوقعون الضرر بوضعهم الاجتماعي، كيف، و قد يكونون من المستفيدين منه فعلا. كما اننا من الصعب ان نتصور مجموع الناس المكون لعلاقات الانتاج، لا يفهم أفضلية الآلة المتطورة على القديمة.

- 3 - و ما حال هذه القضية التي اعتبرتها الماركسية صحيحة بشكل سلس و هي ان قوى الانتاج أسرع تطورا من علاقات الانتاج... و انها أكثر عناصر حركة و ثورة.

أولا: ان هذه الحقيقة - ككل حقيقة - لا بد في منطق الماركسية ان تكون مشمولة لقانون الديالكتيك... فتكون نسبية الصدق و ليست مطلقة و لا نهائية، إذن فهي إن صدقت في حين لا يتعين بالضرورة ان تكون صادقة دائما. بل يتعين تغيرها بتطور وسائل الانتاج نفسها.

ثانيا: إننا شاهدنا تطور وسائل الانتاج في البلدان الرأسمالية من الآلة البخارية إلى الكهربائية إلى الذرية، و لم يحصل أي تطور في علاقات الانتاج أو الوضع الاجتماعي، و بكلمة أخرى: إنه لم يحصل تناف بين العلاقات السابقة و الآلة الجديدة.

ثالثا: ان هناك علاقات إنتاج مستمرة بالضرورة، بالرغم من تطور الآلات و المجتمعات ككل، و موجودة في مختلف الأنظمة الاجتماعية...

كالزراعين، أعني الملاكين الصغار، و الفلاحين و الحرفيين أعني الصناع اليدويين، و لو بالآلة الصغيرة، و المعلمين و الأطباء و البنائين، و غيرهم...

فلما ذا لا تتطور هذه العلاقات بقانون الماركسيين.

- 4 - إنه من السهل أن نفترض بشكل «سلس» ان مجموع من يهمه الأمر في علاقات الانتاج يتطورون مع تطور الآلة، من دون أن يتخلف تطورهم عن تطورها. فمهما زاد مسمار أو مروحة، و اقتضى ذلك علاقات انتاج جديدة، أو تبدلت الآلة بالمرة، فإن مجموع من يهمهم الأمر يعقدون علاقاتهم طبقا للجديد باستمرار، طبقا لاختيارهم للأحسن نتيجة لحب ذاتهم، كما قلنا، و طبقا لاتصاف الناس بحب مصالحهم و لقمة عيشهم، كما

ص:135

ذكرت الماركسية.

هذا، و ان تخلف علاقات الانتاج أحيانا، عن التطور، مستند إلى أسباب بعينها، لا تعود إلى قوى الانتاج و لا إلى قانون الديالكتيك، بل إلى ارتباط فئة معينة ذات نفوذ، ارتباطا مصلحيا، لا بالآلة القديمة، بل بأشياء أخرى كالأرض في حالة الاقطاعيين... و المنجم مثلا... أو الصيد مثلا في حالة غيرهم. و الارتباط المصلحي مستند إلى حب الذات ليس إلاّ لوضوح أن الانسان قادر على أن يضر نفسه و يخالف مصلحته، لو لم يكن محبا لذاته.

إذن، فتخلف علاقات الانتاج، يعود إلى عوامل جغرافية و نفسية، أكثر من ارتباطها بالآلة.

- 5 - إن مفهوم الطبقة الماركسي، مغاير لمفهومها عند علماء الاجتماع الآخرين، فبينما يرى البعض ان الطبقة هي المجموعة التي يتحدد الانتساب إليها بالولادة، في مقابل الكتلة التي يتم الانتساب إليها نتيجة للانهماك بعمل معين. ترى الماركسية ان الطبقة يتحدد الانتساب إليها طبقا لعلاقات الانتاج، فالطبقة الماركسية هي كتلة في اصطلاح الآخرين لأنها تعني الانهماك بعمل اقتصادي معين.

و مهما يكن الرأي في هذا الاختلاف، فإن التعريف الماركسي، يختص بالانطباق على الملاكين و الفلاحين، أو العمال و أصحاب العمل، و نحوهم.

و لا يمكن أن ينطبق على كثير من مجموعات الناس.

فهناك مجموعة من الناس في العصر الاقطاعي و الرأسمالي و غير هما، لا تنتسب إلى عمل، و هم العاطلون بسبب الصغر أو الكبر أو المرض أو عدم توفر الفرص، أو غير ذلك.

هناك مجموعات من الناس، لا يمت عملهم إلى الانتاج بصلة، كالطلاب و المعلمين و الأطباء و الحلاقين و رجال الدين و رجال الدولة. و ادراج هؤلاء أو بعضهم في مفهوم العمال أو البروليتاريا، توسيع مجازي لهذا المفهوم.

و هناك مجموعات من الناس يرتبط عملهم بالتوزيع لا بالانتاج...

و هم التجار عموما على اختلاف بضائعهم و مراتبهم. بل ان الانتاج بدون

ص:136

توزيع لا معنى له، و غير مثمر للربح بالمرة، بل ان الرأسمالية عموما لم توجد، و لم تكدس الأموال الطائلة إلاّ بالتوزيع. و لم يكن الانتاج كافيا في ذلك، كما هو واضح.

و هناك عدد من الناس ينتجون، لكن لا بضاعة و لا زراعة، كالصحفيين و الرسامين و النقاشين و الحفارين... و نحوهم. و يقصد بالانتاج عادة غير هذا الانتاج.

و هذه «الطبقات» موجودة في مختلف عصور التاريخ، بعد تجاوز العصر البدائي للبشرية.

و إذا كان الحال هكذا، فينبغي أن نتساءل عن مصير هذه الطبقات في مجال الصراع الطبقي الماركسي. و هل يكونون مضطهدين أو مضطهدين، مع العلم انه قد لا يكون بعضهم مندرجا في كلا هذين المفهومين، كما قد يكون بعضهم مندرجا في كلا المفهومين لظروف معينة. فهل يكونون من مؤيدي الآلة القديمة أو الجديدة، في حين انهم غير مرتبطين بالآلة أصلا.

و ما هو شأن مثل هذه «الطبقات» في الديالكتيك الجاري في المجتمع، حينما تكون الطبقة المضطهدة القديمة أطروحة و الطبقة المضطهدة طباقا و الوضع الاجتماعي الجديد تركيبا. فلا تكون هذه الطبقات مندرجة في شيء من هذه المفاهيم... مع ان شيئا ما في العالم لا يمكن أن يخرج عنها في الديالكتيك الماركسي.

و الاعتذار عن ذلك - ماركسيا - بكونها طبقات غير أساسية، يعني الاعتراف بعدم شمول قواعد الديالكتيك و المادية التاريخية. لهذه الطبقات... فضلا عن الاعتذار عن ان الصراع بين هذه الطبقات قد يكون أهم أحيانا من الصراع بين الطبقات الأساسية... فإنه يتضمن الاعتراف بأن الصراع الماركسي الأساسي في المجتمع، يكون معطلا أحيانا أو يكاد، لسيطرة صراعات أخرى عليه، و إذا تعطل الخط الأساسي للصراع أو ضعف، كيف يكون ذلك سببا لتطور المجتمع. و كيف أوجب تطور وسائل الانتاج إيجاد الصراع الثانوي دون الصراع الأساسي خلافا للقواعد المادية التاريخية المفهومة؟!..

ص:137

- 6 - من هذا نعرف أنه ليس كل نضال سياسي هو نضال طبقي، كما ترى الماركسية.

إن الوجود الطبقي سبب للنضال السياسي، بلا شك. و إنما الشك في كونه السبب المنحصر لذلك، بحيث لا يوجد نضال سياسي إلاّ و هو نضال طبقي!!..

إن السنوات المتأخرة التي عشناها في النصف الثاني من هذا القرن أثبتت بكل وضوح، ان غالب النضالات السياسية ناشئة من اتجاهات عقائدية و فكرية و حزبية، ناشئة بدورها من أحد منشأين رئيسيين ليس أحدهما الوجود الطبقي في المجتمع.

المنشأ الأول: الشعور بالظلم العام في المجتمع المعني خاصة، و في البشرية عامة، مع ادعاء المجموعة بأنها تستطيع حل هذه المشكلات.

المنشأ الثاني: محاولة الترؤس في الناس و السيطرة على دفة الحكم في المجتمع، من أجل مصالح فردية خاصة، كحب السيطرة و حب الشهرة، و نحو ذلك.

- 7 - و أما فكرة نشوء الدولة عن الوجود الطبقي في المجتمع.

فنحن لا ينبغي أن نختلف مع الماركسية في وجود كثير من الدول الطبقية في التاريخ، و خاصة في أوروبا قبل عصر النهضة و بعدها، و هي محل تركيز الفكر الماركسي عادة، كما سمعنا.

فقد تداولت الحكم في أوروبا سلسلة من الحكومات بعضها إقطاعية و بعضها رأسمالية، و بعضها تمثل - في نظر الماركسيين - طبقة العمال البروليتاريين.

إلا أن هذا لا يعني، بأي حال، عدم إمكان نشوء الدولة من سبب آخر، غير الوجود الطبقي في المجتمع... نعم، لو عملنا من أوروبا - كما عملت الماركسية - نموذجا بشريا عاما، يمكن تعميم الحكم منها إلى كل مناطق الأرض، لكان كلام الماركسيين أقرب إلى الصحة. إلا أن هذا مما عرفنا زيفه بوضوح... و ان شيئا من مناطق الأرض لا يشبه أوروبا بحال،

ص:138

أو أن أوروبا لا تمثل إلا نفسها على طول الخط - إذن، فالرأي الماركسي لا بد أن يكون بعيدا عن الصحة. و يمكن أن تنشأ الدولة من سبب غير طبقي موجب لوجودها.

و للماركسية تصريحات مهمة، تثبت بكل وضوح، أن الدولة يمكن أن تكون غير ممثلة لطبقة معينة، بل هي وسط بين الطبقات، و كان الحال على ذلك خلال قرنين من الزمن في الحكم الفرنسي الملكي.

قال انجلز:

«و مع ذلك، فثمة - كحالات استثنائية - مراحل تبلغ فيها الطبقات المتناضلة درجة من توازن القوى تنال معها سلطة الدولة لفترة معينة نوعا من الاستقلال حيال الطبقتين، مظهر وسيط بينهما. هكذا كان الحكم الملكي المطلق في القرنين السابع عشر و الثامن عشر، إذ كان يحافظ على التوازن بين النبلاء و البرجوازية في النضال القائم بينهما. و هكذا كانت البونابرتية في الامبراطورية الأولى، و لا سيما في الامبراطورية الثانية في فرنسا. إذ كانت تحرض البروليتاريا على البرجوازية و البرجوازية على البروليتاريا»(1).

و إذا أمكن حدوث هذا الحياد في الدولة بين الطبقات مرة، أمكن حدوثه مرات.

و نحن بعد أن التفتنا إلى أن النضال السياسي قد ينشأ من دوافع غير طبقية، فهذا النضال، إذا تكلل بالنجاح لمجموعة معينة من الناس، فسيطروا على الحكم، فإن حكمهم لا محالة لا يكون طبقيا.

- 8 - و الصيغة المقترحة لفهم الدولة، كما ينبغي أن تكون، بغض النظر عن المظالم التي تتورط فيها الدول. هي كما يلي:

إن الدولة وجدت من أجل ازجاء تلك المصالح التي لا يمكن للأفراد القيام بها عادة.

فإن مصالح الأفراد على شكلين:

منها: ما يمكن لأي فرد عادة القيام بها كالحصول على الدخل الفردي و التعليم و ممارسة الطب، و نحو ذلك. فضلا عن النشاط الشخصي كالأكل و النوم.

ص:139


1- (1) أصل العائلة لانجلز ص 227.

و منها: ما لا يمكن لأي فرد القيام به عادة، و هي الأعم و الأهم من المصالح العامة، كتنظيم الدفاع و التعليم العام و الطب و البرق و البريد و تأسيس المرافق العامة و الاشراف على الاستيراد و التصدير، و غير ذلك.

و عجز الأفراد عن القيام بذلك، يعود إلى عدة أسباب لا حاجة إلى استقصائها. و إنما المهم أن مثل هذه المصالح، ينحصر ازجاؤها بالدولة لا محالة، و بدون ذلك يكون المجتمع في حالة تسيب كامل، لأن الأفراد كمجموع لا يمكنهم القيام بذلك، لأن تصدي البعض ليس أولى من تصدي الآخرين، و اتفاق المجموع غير ممكن.

فالدولة التي تزجي هذه الحاجات العامة طبقا لمصلحة الأشخاص الحاكمين، بأي دافع من الدوافع: طبقي أو شخصي أو حزبي أو استعماري، فهي دولة ظالمة، و الظلم لا يدوم طويلا، بل ينفتح حينئذ عصر الثورات و التمردات و المتاعب ضدها. لأن الشعب في النهاية، لا يمكن أن يصبر على الضيم طويلا.

و الدولة التي تزجي هذه الحاجات العامة طبقا لمصلحة مجموع الشعب المحكوم، لأنها تتصف بالغيرية و نقاء الضمير، فهي الدولة العادلة، و هي مما لا يمكن عادة وجود المتاعب ضدها. لأن الشعب يريد أن يرتاح تحت ظل حكومته، فإذا و فرت له الراحة، بعد لها، و أحس الناس بذلك، فلا معنى للثورة ضدها إلا من قبل جماعة من الطامعين أو المعتدين.

و بهذا نفهم عدة نتائج مخالفة للماركسية:

النتيجة الأولى: إنه يمكن للدولة أن لا تكون طبقية أو حزبية.

النتيجة الثانية: إن وجود الدولة لا يقترن بالثورات و التمردات دائما، كما تريد الماركسية أن تقول. بل ان الدولة التي تسير طبقا لراحة الشعب و رفاهه، لا مجال منطقي للثورة عليها... فإن العدل يضمن بقاء الملك.

النتيجة الثالثة: إن وجود الدولة ضروري باستمرار، لأن المجموع لا يمكن أن يزجي الحاجات العامة بأي حال، إلا في فروض نادرة، سوف نوضحها عند الحديث عن التخطيط الالهي العام.

ص:140

مناقشة الفكرة الماركسية عن الدين

- 1 - و هنا لا نريد أن ندخل أية كلمة من ناحية فلسفية أو عقائدية في البرهان على صحة الدين، أو على وجود الخالق المدبر للكون. و فيما ذكرناه فيما سبق عند مناقشة الديالكتيك كفاية لمن اكتفي.

و إنما نريد حصر النقاش في الجانب الاجتماعي و النظر إلى تفسير الماركسيين لوجود الدين و تطوره و مدى إمكان صحة ذلك.

- 2 - إن الماركسية لم تستطع - كما عرفنا - أن تؤكد استناد وجود الدين إلى وسائل الانتاج أو الوجود الطبقي، لتقدم وجوده يقينا على وجودها. ما عدا اليد إذا اعتبرناها من وسائل الانتاج. لكن هذه الوسيلة يتأخر الدين عنها تأخرا كبيرا بحيث يكون إسناده إليها مثيرا للسخرية... لوضوح أنها وجدت مع الانسان، و لكن الدين - بشكله المعروف - وجد بعد عصر الوعي الانساني.

و على أي حال، فالماركسية استطاعت بذلك أن تعطينا رقما واضحا في بعض الأشياء لا تنتج بهذا السبب، خلافا لقواعد المادية التاريخية التي تقول: ان كل الأشياء ناتجة عن وسائل الانتاج أو الوجود الطبقي. إذ لقائل أن يقول: انه إذا كانت بعض الأشياء تنتج عن سبب آخر، فلربما ينتج عن ذلك أكثر من شيء، أو العديد من الأشياء.

إن القول الماركسي: بأن وجود الدين ناشئ من أشكال بدائية جدا من وسائل الانتاج، ينافي ما قالته الماركسية من استناد وجوده إلى جهل الناس

ص:141

أو عجزهم. لوضوح أن الجهل و العجز يمثلان نقصا في التكوين البشري و لا يستند بأي حال إلى وسائل الانتاج. فاستناده إلى هذين العاملين، يعني عدم استناده إلى ذلك العامل.

و معاصرة الجهل و العجز لوسائل الانتاج البدائية، لا يعني كونها ناشئة منها، لوضوح إمكان كونها أمورا متعاصرة ليس بينها سببية.

و قد يخطر في الذهن: ان الجهل مستند إلى عدم وجود وسائل الانتاج المتطورة، التي أوجدت العلوم المختلفة بعد ذلك، و فتحت البشرية ذهنيا على كثير من الحقول الكونية. و من ثم يكون الجهل مستندا إلى وسائل الانتاج بشكل و آخر.

غير أن هذا لا يعدو أن يكون مغالطة في التعبير، لأنه أصبح مستندا إلى «عدم» وسائل الانتاج المتطورة، و هذا ليس استنادا فعليا إلى أية درجة ناجزة من وسائل الانتاج، كما تريد الماركسية أن تقوله في الأشياء جميعا.

و اما استناد وجود الجهل إلى الدرجة الناجزة القديمة من وسائل الانتاج، فهو مما لم تستطع الماركسية أن تقوله باعتبار وضوح بطلانه، فإن استناده إلى غير اليد واضح لليقين بتقدمه عليها. و أما استناده إلى اليد كوسيلة للانتاج، فهو مما يدعو إلى السخرية، لوضوح أنهما: أعني اليد و الجهل وجدا معا في الانسان، و ليس بينهما أي شكل من السببية. و القول باستناد الجهل إلى اليد ليس بأوضح من القول باستناد اليد إلى الجهل!!.. و خاصة و ان الجهل كان موجودا في عصر لم يكن الانسان ملتفتا إلى استعمال يده في الانتاج بالمرة(1). و من ثم لم تكن يده وسيلة للانتاج، و من ثم لم يكن هناك أي وسيلة للانتاج بالنسبة إلى الانسان.

و إذا لم يكن الجهل مستندا إلى وسيلة إنتاج، و إنما هو صفة طبيعية للبشر غير المتعلم أو القديم... فاستناد الدين إليه يعني عدم استناده إلى أية وسيلة إنتاج. و من هنا يكون القول الماركسي باستناد الدين إلى أشكال بدائية جدا من وسائل الانتاج، منافيا معه. فكيف سمحت الماركسية لنفسها أن تتكلم على شكلين متناقضين.

ص:142


1- (1) طبقا للمفاهيم الحديثة تقدم البشرية عشرات الملايين من السنين. و هو مما تعترف به الماركسية. و سنناقشه عند الحديث عن التخطيط الالهي.

- 4 - إن قدم الشعور الديني لدى الانسان، لا يتعين تفسيره بالشكل المادي أو الماركسي، بل كما يمكن ذلك، كذلك يمكن وجوده بسبب أصالة الشعور الديني و صدقه في النفس البشرية، إذن فالنظر الموضوعي لا يمكنه أن يجزم بمضمون ذلك التفسير.

- 5 - إن الجهل بأسباب حوادث الطبيعة، لا يفسر بمجرده وجود الدين أو الاعتقاد بخالق مدبر خارج الطبيعة. إذ لو اقتصرنا على فكرة الجهل، لكان في إمكان الجاهل أن يسند هذه الحوادث إلى محض الصدفة، و عدم وجود أي سبب لها... كما يمكنه أن يسنده إلى سبب بسيط من موجودات الكون، و إن لم يكن له أي ارتباط بالواقعة. فلو لم نضم إلى هذا الجهل!!! الاعتقاد بقانون السببية ارتكازا و الاعتقاد إلى أهمية و عمق السبب الفاعل للتدبير الكوني العام، لما أمكن أن ينتج الجهل بمجرده الاعتقاد بالخالق المدبر.

و لو كان هناك ترابط حقيقي بين الجهل و الاعتقاد الديني، لما أمكن أن نجد كثرة من الجهلاء الملحدين، أو كثرة من العلماء المؤمنين؛ مع العلم أن هذين الصنفين موجودان بكثرة في البشرية منذ أن عرفت البشرية الجهل و العلم.

و من طريف القول، ما ذكره بليخانوف من أن الجهل البشري ينتج الشعور الاحيائي عند الانسان، هذا الشعور المنتج بدوره للشعور الديني لديه.

اسمعه يقول:

«إن طفلا كان بحضوره يصف القمر بقوله (ملعون) لأنه لم يكن يود الظهور، فهذا الطفل كان يعتبر القمر كائنا حيا. و الانسان البدائي، يحيي - على غرار هذا الطفل - الطبيعة بمجموعها. ان التفكير الاحيائي هو المرحلة الأولى في تطور التفكير الديني. و الخطوة الأولى للعلم هي إبعاد التفسير الاحيائي لحوادث الطبيعة، و فهمها كظواهر خاضعة لقوانين»(1).

و من الواضح أن المتدين لا يؤمن بوجود الروح أو الحياة في الطبيعة

ص:143


1- (1) فلسفة التاريخ: بليخانوف ص 8.

نفسها، بل بوجودها خارجها. و كان الاعتقاد على ذلك منذ القديم، فإن الاعتراف بالخالق لا يعني غير ذلك. كما ان المتدين لا يرى تنافيا بين السبب الخارجي و القوانين، بل يمكنه أن يؤمن بكلا الأمرين، و أن السبب الخارجي هو الذي سنّ هذه القوانين في الكون. مضافا إلى ما عرفناه من أن القوانين وحدها لا تكفي تفسيرا لحوادث الكون، بل هي ليست إلا و هما من الأوهام. و التفسير الوحيد للحوادث هو الاسناد إلى فاعل خارجي، بعد التجاوز عن الصدفة المحضة التي لا يمكن أن يقول بها أي مفكر.

- 6 - كما أن الجهل غير كاف لنشوء العقيدة الدينية، كذلك العجز غير كاف لوجودها... لوضوح أن رد الفعل الأولي للعجز هو التردد و انهيار الارادة، و ليس هو الاعتقاد بأي شيء مهما كان.

و لو أنه كان سببا للاعتقاد، فلا يتعين الاعتقاد بسبب خارجي، بل يكفي الاعتقاد بالصدفة أو بسبب في داخل الكون - كالشمس مثلا - أو بالقوانين العامة أو بالجن... إلى غير ذلك من العقائد. إذن فتعين الاعتقاد بالاله المدبر دون غيره، يحتاج إلى بيان سببه... و لا يكفي العجز لتدبيره.

- 7 - وصلت بنا المناقشة إلى استفادة الوجود الطبقي من الدين، بعد أن لم يكن بأصل وجوده طبقيا.

لا ينبغي أن ننكر أن كثيرا من الجهات و الأفراد و الطبقات، استفادت من الدين - على اختلاف أشكاله - استفادات أنانية مصلحية، تحت مختلف الدوافع و الشعارات، سواء سميناها استفادات طبقية، كما أرادت الماركسية، أو سميناها بأي اسم آخر.

و ليس في ذلك من ضير على أصل الدين، فإن المتاجرة باسم الشيوعية أيضا ممكنة من دون أن يوجب طعنا على الشيوعية، فكذلك الحال في الدين حرفا بحرف. سواء كثر «التجار» أو قلوا، و سواء مثلوا قوة أو مثلوا ضعفا، و سواء مثلوا طبقة أو كانوا أفرادا.

غير أن من الطريف و المؤسف أن الماركسية تعبر بالدين، و تقصد نماذج معينة من البشر المحسوبين على الدين، تلك النماذج التي يكون الكلام

ص:144

الماركسي عنها قريبا من الصحة. و تهمل النماذج الصحيحة للدين، التي لا يصح فيها ذلك الكلام البتة.

و نحن نذكر بعض النماذج للتمثيل و إلفات النظر، لا على سبيل الحصر، و لا على سبيل التمانع، بل يمكن إدراج فرد أو أفراد تحت أكثر من نموذج واحد.

النموذج الأول: نموذج «بدائي» من الدين - لو صح التعبير - كالاعتقاد بتعدد الآلهة، أو وجود إله قومي، أو الطقوس الدينية في قبائل نصف متوحشة!! و نحو ذلك.

النموذج الثاني: نموذج الرأي الشخصي لمفكر ديني، و كل رأي شخصي يحتاج إلى تمحيص قبل نسبته إلى الصحة، فضلا عن نسبته إلى الدين... كرأي أوغسطين أو الفارابي أو غير هما.

النموذج الثالث: نموذج كنسي كان يحكم أوروبا ردحا من الزمن، و يتبنى عدة قضايا «جاهلة» ضد «العلم» لا ظل لها من الصحة... مما أوجب غضب الرأي العام الاوروبي و حدوث النهضة الاوروبية الحديثة، بما أحدثته من مادية و علمانية.

النموذج الرابع: استغلالات سياسية للدين، قد لا يرضاها الدين الأصلي الذي تبنته هذه السياسة. كتبني الدولة الرومانية للمسيحية، أو استغلال الأحزاب الاشتراكية الاوروبية لاسم الدين، حيث أسست أحزاب في عدد من بلدان أوروبا باسم الحزب الاشتراكي المسيحي، مع نسبته إلى البلد الذي وجد فيه.

النموذج الخامس: نموذج الاختلافات الدينية الواقعة بين المعتقدين بالدين. و هي اختلافات - و الحق يقال - كثيرة جدا على طول التاريخ.

سواء في داخل الدين الواحد، كالدين المسيحي و الاسلامي، أو بين أهل الأديان المختلفة... كالبوذيين و المسلمين في الهند، و اليهود و المسلمين في الشرق الأوسط.

النموذج السادس: نموذج صوفي منعزل عن العالم، أناني في نزعته الدينية، لا يرى إلا مصلحة كماله الشخصي من الناحية الدينية. و لا يهتم بكمال غيره و لا بفساد العالم.

ص:145

فإذا قدمنا للماركسية خاصة و للعالم عامة، نموذجا آخر من الدين يريد إصلاح العالم، و ينظم علاقات البشر تنظيما عادلا، و يتجاوب مع العلوم الطبيعية تجاوبا كاملا، و يشجب الاستغلالات المنحرفة له. و بالخلاصة، يتجاوب مع آمال البشرية و آلامها في كل عصر لا يختلف تجاهه قوي عن ضعيف أو غني عن فقير أو حاكم عن محكوم، كلهم تجب تربيتهم و معاقبتهم على الذنب و استغلال مواهبهم استغلالا صالحا... كما عليه الدين الاسلامي بواقعه العادل، و نصوص واضحة في ذلك، كما هو مبحوث في مصادره. فما ينبغي أن تقول الماركسية تجاهه، و كيف يمكن أن يكون ناشئا عن الوجود الاجتماعي الطبقي، و هو على مثل هذه الصفات.

- 8 - إن الفكر الديني يرى العلم الطبيعي بكل أشكاله الصورة الناطقة عن قدرة الخالق و حسن تدبيره و عظمة خلقته. و ليس هناك أي تناف بين العلم و الدين. و إن أبسط فكرة تدل على ذلك لدى المتدين: هو أنه يرى أن العلوم الطبيعية بما تدل عليه من قوانين و ظواهر، لا يمكن أن تكون صادقة بدون وجود اللّه تعالى. فضلا عن أن الدين الاسلامي حث على تعلم العلوم على مختلف أشكالها، كما هو غير خاف على من راجع مصادره.

إذن فما ادعاه بليخانوف، تبعا للفكر الماركسي عموما من أن:

«الخطوة الأولى للعلم هي إبعاد التفسير الاحيائي - يريد به الديني الالهي - لحوادث الطبيعة، و فهمها كظواهر خاضعة لقوانين»(1).

لا يمكن أن يكون صحيحا.

إذن، فالعلوم الطبيعية كلها علوم إلهية دينية، و ليس المتدينون بحاجة إلى ما قاله كوفالسون:

«و في زماننا صار الدين أكثر احتراسا و أخذ رجال الدين يصرحون على المكشوف:

انهم يطمحون إلى أمر واحد فقط، هو أن يترك العلم للّه شيئا ما «إلهيا» على الأقل»(2).

إن الرجال الفاهمين للدين يعلمون أن كل شيء هو للّه عز و جل، بما فيه كل ظواهر العلم و الطبيعة، و لا حاجة بهم إلى هذا الاستجداء الدنيء.

ص:146


1- (1) فلسفة التاريخ: بليخانوف ص 8.
2- (2) المادية التاريخية: كوفالسون، ص 10.

كما ان الصلة بين الفيزياء و الميافيزياء، صلة وثيقة جدا، أكثر مما يتصور الماديون، بل أكثر مما يتصور أكثر المتدينين أيضا. فإن العوامل الميتافيزيائية هي التي تحرك كل أجزاء الكون الفيزيائي. و تشكل البديل الصالح عن القوانين المزعومة التي عرفنا زيف تصورها فيما سبق... و ليس لنا الآن الدخول في تفاصيل ذلك.

إذن، فالنداء المادي القائل:

«أيتها الفيزياء حذار من الميتافيزياء»(1).

خال من المضمون و المعنى تماما... إذ لا وجود و لا حركة للفيزياء بدون الميتافيزياء.

- 9 - و أما الاعتقاد بالجزاء الاخروي، فلا نريد الدخول في تفاصيله، بعد كل الذي سبق، من إعادة النظر في الأفكار الماركسية تجاه الدين، إلا من زاوية واحدة، و هي أن هذه العقيدة، هل تصلح أفيونا للشعوب، كما قال ماركس، أو أنها - في واقعها - المحرك الأساسي للمعتقدين بها للعمل في خدمة الانسانية و العدالة.

إن الانسان بحسب طبعه مربوط بمصالحه الخاصة و نوازعه و أهدافه القصيرة، و قد يرفض، بكل سهولة و حزم، أي دافع يدرك منافاته و لو بقليل مع تلك الدوافع و النوازع، ما لم يدرك عودها عليه، تارة أخرى، بالمصلحة.

و هذا ينتج بطبيعة الحال، الميل نفسيا إلى عصيان كل تعليم قانوني أو نظامي يشعر فيه الفرد بهذه المنافاة... سواء في ذلك القانون الوضعي أو القانون الالهي، (التعاليم الدينية).

و الأطروحة الواضحة لتذليل هذه المشكلة هي جعل العقاب على العصيان و الجزاء على الاطاعة؛ و هذا ما عملته الحكومات فعلا في قوانينها الوضعية، فشرعت العقوبات، و أسست السجون، فضمنت إلى حد المستطاع إطاعة و تطبيق قوانينها، بما في ذلك الحكومات الشيوعية نفسها.

و الدين لا يختلف عن ذلك، فإن له في قانونه عقوبات و مثوبات دنيوية

ص:147


1- (1) نصوص مختارة: انجلز ص 177.

معجلة، على مستوى قوانين العقوبات الاعتيادية... كما ان له عقوبات و مثوبات أخروية مؤجلة. و كلا هذين النوعين من الجزاء، يؤثر بطبيعة الحال، في ضمان تطبيق التعاليم الدينية. و القسم المؤجل يختص بها الدين عن القوانين الوضعية، و يعطي لأعمال الخير قيمة معنوية عظيمة تتجاوز ساحة الحياة إلى ساحة الأبدية. و بذلك يزداد الدافع العاطفي نحو العمل الديني إلى حد كبير.

فإذا فهمنا الدين طريقة صوفية أو رهبانية أو كنيسة، كما حاولت الماركسية أن تفهم كان تطبيق تعاليمه يعني الانعزال عن الناس، و بالتالي التخدير عن العمل و عن نفع الآخرين، كما قال ماركس تماما.

و أما إذا شجب الفكر الديني الصالح هذه الاتجاهات، و أكد على بث الخير في الناس و تطبيق العدل فيهم، و التضحية من أجل الآخرين بالنفس و النفيس، كان معنى تطبيق هذه التعاليم و معنى الحث عليها يجعل الدافع الأخروي عليها: زيادة الدافع النفسي و العاطفي تجاه نفع الآخرين و بذل التضحيات لنفعهم و إسعادهم. و إعطاء ذلك قيمة أبدية غير موقتة و لا قصيرة (و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون)(1).

- 10 - أما لو سلمنا - مع الماركسية - أن الدين وليد مرحلة من مراحل تطور وسائل الانتاج... فلما ذا لم يتغير أو يتطور بتغيرها.

إن مرحلة معينة لوسائل الانتاج إن كانت أوجبت وجود الدين أساسا، إذن، فالمرحلة اللاحقة لها يجب أن تكون موجبة لطمسه و زواله بالمرة، مع أن المشاهد بالوجدان بقاؤه إلى العصر الحاضر، بالرغم من التغيرات العديدة من وسائل الانتاج.

و إن مرحلة معينة من وسائل الانتاج إن كانت سببا لشكل من أشكال الدين، إذن فاللازم أن يتغير في المرحلة اللاحقة لهذه الوسائل. في حين أننا نجد أن عددا من الأديان بقيت بذاتها و بكل تفاصيلها عبر أشكال عديدة من وسائل الانتاج، و عبر عهود كثيرة، للمادية التاريخية. و اعتنقها الناس

ص:148


1- (1) آل عمران: 169.

بمختلف طبقاتهم و اتجاهاتهم و مصالحهم، كالبوذية و اليهودية و المسيحية و الاسلام.

و لذا أشرنا فيما سبق، أن الدين من جملة الأشياء التي تعتبر ثابتة بالرغم من هذه التطورات التي تؤمن بها الماركسية.

مناقشة الفكر الماركسي في الأخلاق و العدالة

- 1 - ينبغي أن نتفق سلفا على أن هناك قضايا سلوكية أو «عملية» متفق عليها بين البشر، فمثلا لو سئل أي فرد عن قيمة السرقة أو عن قيمة العلاقة الجنسية بين الفرد و أمه، لا ستنكرها بطبعه و اعتبرها أمرا غير مشروع.

لا يختلف في هذا الاستنكار مجتمع عن مجتمع أو جيل عن جيل أو طبقة عن طبقة.

و نحن نعلم باليقين أن وجود هذا الشعور في البشرية قديم منذ أن التفت الناس إلى أهمية السلوك و قيمته... و ذلك منذ آلاف السنين. إذ بلا شك أن فردا من الانسان القديم لو أخذ فاكهة لطعامه مثلا، فخطفها منه شخص آخر، لاستنكر ذلك و استنكره غيره أيضا. و ليس ذلك إلا مفهوم (لا تسرق) الذي شجبه انجلز.

إن هذا المفهوم ليس من قبيل وعظ الوعّاظ، بل هو تسالم اجتماعي عام على تصحيح هذه القضايا و إعطاء هذه القيمة لهذا العمل. و يكون رد الفعل لعصيان هذه القضايا، أي للقيام فعلا بالسرقة مثلا، هو - على أقل تقدير - عقابا اجتماعيا عاما يتمثل في شجب كل أفراد المجتمع لهذا العمل و احتقار فاعله، و إدراك أنه قد عمل عملا دنيئا ينبغي تركه و الارتداع عنه.

ص:149

و هذا المفهوم بالذات: لا تسرق. ليس وليد الشعور الاجتماعي بالملكية، بل هو وليد الشعور بالاختصاص، إذ لا أقل من استنكار سرقة طعام الفرد و ثيابه و أموره الخاصة به، سواء كان مالكا لهذه الأشياء أو لا و من هنا لو قلنا بتأخر وجود الشعور بالملكية تاريخيا، فلا أقل من الشعور بالاختصاص منذ وجدت البشرية، بل هو موجود عند الحيوانات أيضا بنحو آخر. و هذا الشعور يلازم بطبعه مع الشعور بقبح السرقة و إعطائها قيمة رديئة، لأنها تنافي هذا الشعور، و تعني سلب الاختصاص.

و كذلك الحال في المجتمع الشيوعي الذي تهدف إليه الماركسية، فإن الملكية الخاصة غير موجودة فيه، و لكن الاختصاص موجود فيه لا محالة، فيما يمت إلى الأفراد بصلة. و من هنا يكون هذا المفهوم الاجتماعي صادقا تماما، و لا تنتفي مبرراته الواقعية، كما يريد انجلز أن يقول.

إن المجتمع الواعي و المرفه الذي يصبح من العمق الفكري بحيث يعد السارق في حكم المجانين... هذا المجتمع يحتاج إلى هذا المفهوم أيضا، بل هو مطبق له تطبيقا كاملا، و إلا لم يصبح السارق مجنونا و لكان قد أحسن صنعا في نظر الناس. و ليس معنى التطبيق الكامل لبعض القضايا أو الأحكام، أن تصبح تلك القضية خالية من المعنى. نعم، حاجة الناس إلى الوعظ و التنبيه تكون منتفية، لأنهم ملتفتون إلى ذلك دائما، إلا أن ذلك لا يعني كذب القضية أو سفاهتها، بشكل من الأشكال.

- 2 - و إذا تم لنا الشعور الانساني بقيمة معينة لقضية واحدة أو قضيتين، الذي هو معنى حكم العقل العملي باصطلاح المناطقة... أمكن القول بوجود عدة قضايا يشعر بها الانسان بنفس المستوى.

و لئن كان الشعور العملي عند الانسان البدائي قليلا، لبساطة الحياة... فإن هذا الشعور ينمو بنمو الحضارة و المدنية الانسانية، لوضوح أن الحياة كلما تعقدت، ازدادت التوقعات الصالحة من الفرد، و ازداد العتب عليه كلما خالف هذا الشعور الانساني العام.

و معه يصبح مجموع القضايا التي يمثلها الشعور العملي البشري كبيرا يمثل «علم الأخلاق» و يمثل العدالة بمفهومها «الميتافيزيائي»!! المطلق.

ص:150

فإننا نشعر الآن بوضوح برداءة السرقة سواء كانت الملكية موجودة أو لا و سواء كان الاختصاص موجودا أو لا، بل سواء كان الانسان موجودا أو لا معنى هذه القضية: لا تسرق: انه كلما اختص فرد بشيء كان سلبه منه عملا رديئا. و صدق هذه القضية لا يتوقف على وجود فرد معين أو اختصاص معين أو ملكية معينة. و هذا هو معنى الاطلاق في صدق القضية.

- 3 - و بهذا نستطيع أن نفرق بين العرف و التقاليد من ناحية و بين الشعور العملي عند الانسان، مع أن كليهما يمت إلى السلوك بصلة.

و ذلك: ان الشعور العملي يعم الاعتقاد بصحته كل البشر الأسوياء.

و أما العرف و التقاليد، فهي تختص بمجتمع معين دون مجتمع. و لا توجد هناك تقاليد متفق عليها بين البشر.

كما أن الشعور العملي عند الانسان يتصف بالاطلاق، بالمعنى الذي ذكرناه و أما التقاليد، فلا تتصف بهذا الاطلاق، و إنما هي ردود فعل معينة يتسالم عليها مجتمع معين طبقا لمصالحه و فهمه للحياة.

نعم، قد يكون سلوك الأفراد في المجتمع مركبا من الشعور العملي و التقاليد، بل هو في الأغلب، كذلك، لوضوح أن المجتمع كما يطبق تقاليده الخاصة به، يطبق الآراء العقلائية أيضا أعني الشعور العملي، كلاهما تطبيق تلقائي.

و من هنا نعرف أن التقاليد ليس لها قيمة حقيقية، بل ان المجتمع في طريق تربيته ينبغي أن يستغني عنها تدريجيا، بخلاف الشعور العملي فإنه ذو قيمة حقيقية، و لا بد أن تستهدف التربية العادلة رسوخها و تعميقها في أذهان الناس.

- 4 - و بذلك أيضا نستطيع أن نفرق بين الشعور العملي و القانون فإن الشعور العملي يتصف بالتسالم و العمومية بين الناس، بخلاف القانون، فإنه في أصل تشريعه شعور شخصي للمقنن بأن هذه المادة أو القضية أو السلوك على الطريقة المعينة، مطابق للمصلحة، حسب فهم المقنن للكون و الحياة... دون أن يكون متسالما عليه بين الناس، و قد لا يكون واضح

ص:151

المصلحة في أذهانهم أيضا.

- 5 - و بهذا نعرف أن الماركسية أصابت حظا من الصواب، حين قالت بتأخر وجود القانون في البشرية، و حين رأت تأخر الشعور العملي عن وجود البشرية.

و لكنها أخطأت في عدة نقاط أهمها نشوء الشعور العملي من مرحلة معينة من مراحل وسائل الانتاج. فقد عرفنا أصالته و عمقه في الادراك الانساني، و عدم استناده إلى ذلك. نعم هو مستند إلى درجة من درجات الوعي البشري في تقييم الأشياء، و هو أمر آخر غير وسائل الانتاج.

كما أخطأت في الاعتقاد في أن القانون ناشئ من العرف، فإن العرف هو بعض مصادر القانون و ليس مصدره الوحيد. فإن القضايا العرفية وحدها لا تكفي لأن تشكل قانونا، كما هو واضح، لقلة ما تسالم عليه العرف من «القضايا» و الحاجة إلى قضايا قانونية كثيرة لتدبير أمور الناس... من ناحية. و وجود عدد من القضايا الخاطئة عرفا لا يمكن صياغة القانون منها.

كما أخطأت في الاعتقاد بأن القانون ممثل للعدالة المطلقة باستمرار، كما حاولت الماركسية أن تفهمه من اتجاه خصومها. فإن هذا ليس بصحيح، و كيف يصح مع وجود التضارب و الاختلاف بين المقننين باستمرار. و إنما القانون إذا اتفقت قضاياه الأساسية و أصوله الموضوعية مع الشعور العملي العام، كان عادلا، و إلا لم يكن عادلا.

إذن، فعدالة القانون شيء جدي يمكن حسابه بشكل دقيق، و لا يمكن أن تكون مادتان قانونيتان متهافتتان في المضمون عادلتين في نفس الوقت، و ان اعتقد واضع هذه المادة و واضع الأخرى، بعدالة ما وضعه.

و من هنا نفهم - أيضا - خطأ الاعتقاد الماركسي، بأن اختلاف المقننين و اختلاف علماء الأخلاق في جملة من القضايا، يدل على عدم وجود العدالة المطلقة. فإننا بعد أن برهنا على وجود الشعور العملي في البشرية، نستطيع أن نفهم أن الاختلافات في واقعها تطبيقات خاطئة لذلك الشعور العملي. و إن واحدا معينا من الآراء في كل مسألة هو الصحيح، و الباقي خاطىء لا محالة.

ص:152

كما ان تطور الشعور العملي خلال تاريخ البشرية، لا يدل أيضا على عدم وجود العدالة المطلقة، كما تريد الماركسية أن تقول. فإن هذا التطور صحيح ضروري تبعا لتطور الفهم البشري العام للكون و الحياة و ازدياده تدريجا، و كلما ازداد الفهم ازدادت التوقعات العملية كما أشرنا. كل ما في الأمر أن الذهن الضيق الموجود في العصر القديم، لا يدرك من القضايا العملية إلا بعدد قليل و من زوايا معينة. في حين أن الذهن المتفتح و المعمق الادراك، يستطيع أن يلم بالقضايا العملية من مختلف زواياها و خصائصها.

إذن فتطور البشرية يوجب تطور الادراك العملي و ازدياد توقعات تطبيقها، كفرسي رهان.

هذا، و إن الاختلاف في الادراك العملي بين المقننين، لا يعني اختلاف الشعور العملي العام، فإن دافع القانون، يتأثر لا محالة بعدة عوامل ليس كلها عقلية أو عامة، بل فيها الشعور العاطفي الشخصي أو الحزبي أو المذهبي أو القومي أو غير ذلك، مما يكون مانعا عن اتباع العدالة المطلقة و الشعور العملي العام، مما يجعل المقنن - في واقعه - منحرفا عن العدالة المطلقة و عاصيا لها.

و من هنا نفهم مزية من أهم المزايا للتشريع الالهي عن التشريع الوضعي. فإن المقنن الوضعي يتأثر بتلك العوامل بالضرورة، و بمقدار تأثره يبتعد عن مصلحة المجتمع و العدالة المطلقة، بخلاف المشرع الالهي، لوجود الحكمة المطلقة لديه، و عدم صدق المصالح الضيقة في حقه، كما هو واضح. و سوف لن يكون هذا الرأي غريبا علينا بعد أن برهنا على وجود الخالق المدبر للكون فيما سبق.

- 6 - و هنا، بعد أن تكلمنا عن العدالة، لا بد أن نفرز الأخلاق بكلمة:

ان الشعور العملي العام هو الأساس للعدالة في القانون و الأخلاق معا. و من هنا يصطلح على قيمة السلوك القانوني و غير القانوني بالقيمة الأخلاقية.

و الأخلاق بهذا المعنى تحدد و تقيم السلوك عموما. في كل أشكال العلاقات الخاصة و العامة، فتعطي لعدد من الأفعال شكل الالزام و لبعضها شكل الرجحان و كذلك في جانب الترك و الارتداع. غير أن جانب

ص:153

(الاباحة) و التخيير في الأفعال موجود فيها أيضا على نطاق غير قليل. و من هنا لم تصلح القضايا الأخلاقية وحدها أن تكون رصيدا لقانون متكامل.

لكننا إذا فهمنا من الأخلاق ما يفهمه الناس عادة من كونها عبارة عن آداب المجاملة و حسن الصحبة في العلاقات... فالأخلاق بهذا المعنى لا تمثل - دائما - الشعور العملي العام. بل هي كالقانون، تنشأ من هذا الشعور تارة و من المصالح الشخصية أو المذهبية أو الحزبية أو القومية أحيانا، كما تنشأ من التقاليد و من الخرافات أحيانا أخرى. و هي لا تكون على صواب ما لم تنشأ من الأساس العام الذي تبتني عليه الأخلاق بالمعنى الأول.

و من هنا ينشأ التسيّب و الانحراف في المجتمعات، فيحترم من لا يستحق الاحترام و يحتقر من لا يستحق الاحتقار، و يؤخذ البريء بذنب المجرم، و يتباطأ الناس في قضاء حاجة المحتاجين، بل لا يبقى للانسان قيمة، و تكون المصلحة الضيقة أعلى من كل قيمة، إلى آخر قائمة الظلم و الانحراف.

و المعنى الأول للأخلاق (مطلق) الصحة غير قابل للتبدل، و ان أوضح دليل وجداني عليه، هو تسالم البشر على صدق القضايا الأخلاقية الأساسية، لا يختلف فيه جيل عن جيل و مجتمع عن مجتمع و طبقة عن طبقة. بخلاف القسم الثاني فإنه يختلف بالضرورة اختلافات شاسعة بين البشر.

و هذه هي الأخلاق التي ذكرها انجلز و جعل اختلافها دليلا على عدم صدق الأخلاق صدقا مطلقا، كما سمعنا. و هي لعمري ليست بمطلقة، بل و لا صادقة بالمرة، ما لم تعد إلى القضايا الأساسية التي لا يمكن أن ينالها كلام انجلز و غير انجلز بأي سوء.

- 7 - و أما رأي الماركسية في الفلسفة و العلوم عموما، الذي ذكرناه، في الفقرة الثامنة من المفهوم الطبقي الماركسي. فهو بشموله و عموميته يعتبر طعنا في العلوم كلها، و إدخالها في بوتقة ضيقة: طبقية و حزبية و مصلحية، توجب الشك في معطيات كل الفلسفات و العلوم و عدم الوثوق بمطابقة أي شيء منها للواقع، بما في ذلك الفلسفة الماركسية نفسها.

ص:154

و من هنا لم يكن هذا الرأي من الماركسية قابلا للنقاش... لوضوح أن طعنها في العلوم هو طعن حزبي و مصلحي من وجهة نظرها نفسها...

كما أن المناقشة في ذلك ستكون حزبية و مصلحية و طبقية بطبيعة الحال.

لا يبقى مع الماركسية إلا استفهام واحد، و هي أنه كيف يستطيع مفكروها الجزم بنتائج الأبحاث العلمية فيزياوية أو تاريخية أو اقتصادية أو غيرها، كما تطفح كتبهم بذلك. مع أنهم يأخذون نتائجها من أناس آخرين هم بدورهم طبقيون و مصلحيون و غير موضوعيين. كيف تتوقع الماركسية أن تقنع الآخرين مع أنها تقول لهم ضمنا: ان آرائي مصلحية و طبقية و حزبية و ليست موضوعية. كما أن نظر الآخرين إليها سوف يكون متصفا بنفس الصفة، فمن المنطقي أن يبتعد الناس عن القناعة المطلوبة للماركسية.

و الذي يهون الخطب، ان هذا التهوين من قيمة العلوم، سيصيب الماركسية أولا، باعتبار اعترافها لنفسها بهذه القيمة الضئيلة. و أما غيرها من العلوم و الفلسفات، فسوف لن يصيبها ضرر لأن تقييمها غير منحصر بآراء الماركسيين بطبيعة الحال. و ان الرأي العام في العالم يرى في العلوم و الفلسفات غير ما ترى الماركسية، فيمكنه أن يعطيها قيمتها الواقعية.

ص:155

الهيكل الأساسي للمادية التاريخية

التكوين العام

اشارة

- 1 - قسمت الماركسية عصور التاريخ البشري إلى أقسامها المشهورة عنها.

و هو ليس تقسيما عقليا جديا، بل هو التزام بما نقل التاريخ من ذلك.

قال ستالين:

«و لقد سجل التاريخ خمسة أنواع أساسية لعلاقات الانتاج: المشاعية البدائية، الرق، النظام الاقطاعي، النظام الرأسمالي، و النظام الاشتراكي»(1).

و قد كان وجود النظام الاشتراكي تاريخيا صحيحا، عند ما كتب ستالين هذه العبارة، إذ كانت روسيا قد بدأت فعلا بتطبيق النظام الاشتراكي، تحت حكم لينين ثم ستالين نفسه. و أما الجيل الأسبق، فيكون اطلاعه على وجود العهد الاشتراكي متعذرا.

و لو كان التاريخ قد سجل عهدا آخر، أو عهودا أخرى أو سجل العهود بشكل آخر في التقديم و التأخير، لكان للمادية التاريخية موقف آخر غير ما عهدناه.

- 2 - و قد بدأت الطبقية في المجتمع مع بدء عصر الرق، و لم يكن لها وجود في عصر المشاعية البدائية، و بقيت سارية المفعول إلى العصر الرأسمالي و ستزول في عصر الاشتراكية.

و كذلك الحال في الملكية الخاصة، و الدولة تماما، في اعتقاد

ص:156


1- (1) المادية الديالكتيكية: ستالين. ص 48.

الماركسية.

قال كوفالسون:

«و قد أدت جميع هذه العوامل إلى انحلال الجماعة البدائية و إلى تفسيخ العلاقات القائمة على المساواة البدائية. و دخلت القوى المنتجة الجديدة في تناقض مع علاقات الانتاج القديمة. و محلها حل المجتمع الطبقي مع الملكية الخاصة، و مع استثمار الانسان للانسان»(1).

و قال برنامج الحزب الشيوعي السوفييتي:

«الشيوعية هي نظام اجتماعي لا طبقي تقوم فيه الملكية الواحدة للشعب على وسائل الانتاج»(2).

و قال ستالين:

«و في النظام الاشتراكي... تؤلف الملكية الاجتماعية لوسائل الانتاج أساس علاقات الانتاج»(3).

و قال انجلز:

«فالدولة إذن غير موجودة منذ الأزل. لقد كانت ثمة مجتمعات تدبر أمرها بدونها، و لم تكن لديها أية فكرة عن الدولة و عن سلطة الدولة. و في مرحلة ما من التطور الاقتصادي كانت مرتبطة بحكم الضرورة بانقسام المجتمع إلى طبقات، جعل هذا الانقسام الدولة ضرورة. و اننا الآن لنقترب بخطوات سريعة من مرحلة تطور الانتاج لم يقتصر الأمر معها على كون وجود هذه الطبقات لم يعد ضرورة، بل ليغدو عقبة مباشرة في طريق الانتاج. و لسوف تسقط هذه الطبقات، بمثل الحتمية التي انبثقت بها في الماضي، و تسقط الدولة معها لا محالة»(4).

و لم ينتقل المجتمع من الاقطاع إلى الرأسمالية مباشرة، بل مر بمرحلة صناعية صغيرة و بدائية، تسمى بالحرفية أو العهد الحرفي. و قد يكون هذا العهد شاملا - بنحو و آخر -: العهد المانيوفاكتوري، و هو القائم على أساس تعاون الحرفيين تحت إشراف واحد، من أجل إنتاج مشترك. و اللفظة مأخوذة من النص الاوروبي الذي يعني «مصنع».

قال ستالين بصدد تعداده لتطور وسائل الانتاج:

ص:157


1- (1) المادية التاريخية: كوفالسون ص 125.
2- (2) المصدر ص 142.
3- (3) المادية الديالكتيكية: ستالين ص 53.
4- (4) أصل العائلة، لانجلز ص 229.

«و انفصال الحرف عن الزراعة، و تطور الحرف المستقلة أولا، ثم المانيوفاكتورة، فيما بعد. ثم الانتقال من أدوات الانتاج إلى الآلة، و تحويل الانتاج الحرفي المانيوفاكتوري إلى صناعة قائمة على الآلة»(1).

فإذا عرفنا أن الزراعة تعني في هذه اللغة: الاقطاع. و الآلة تعني النمو الرأسمالي... عرفنا أن العهد الحرفي و العهد المانيوفاكتوري، يقع بين الاقطاع و الرأسمالية.

و قال كوفالسون في صدد حديثه عن الفترة الأخيرة من الاقطاع:

«و لكن الانتاج الحرفي الذي كان قد بلغ في مرحلة ازدهار الاقطاعية درجات متفاوتة من الرقي و الكمال. لم يكن يلبي الطلب المتناهي بلا انقطاع، لأن الامكانيات التي كان يوفرها لأجل توسيع الانتاج كانت محدودة للغاية.

و قد استتبعت حاجات السوق ظهور قوة منتجة جديدة هي التعاون و المانيوفاكتورة.

... فعلى نقيض الحرفة، تقوم المانيفاكتورة بتقسيم مفصل للعمل عند إنتاج سلعة من السلع. صحيح، ان الأدوات الحرفية تبقى القاعدة التكنيكية للمانيفاكتورة، إلاّ أن تقسيم عملية الانتاج العامة إلى عمليات جزئية في غاية البساطة قد أدى إلى ازدياد انتاجية العمل ازديادا ملحوظا. و خلق بالاضافة إلى المقدمات لأجل الاستعاضة عن عمل الانسان بحركة العاملة. و بذلك هيأ تطوّر المانيفاكتورة الشروط و الظروف لأجل ظهور الانتاج الآلي»(2).

- 4 - و تنقسم الرأسمالية - في وجهة النظر الماركسية - إلى ثلاثة أقسام:

يمثل المرحلة الأولى منها التراكم الأولي لرأس المال، أو البرجوازية الصغيرة و المتوسطة. و تمثل المرحلة الثانية منها: الرأسمالية التنافسية، و هي القائمة على الاشتراك في الفرص من خلال السوق الحرة. و تمثل المرحلة الثالثة منها: الاحتكارية، و فيها تندر فرص الربح الرأسمالي لغير الاحتكاريين و يضطر المجتمع إلى الانصياع إلى تحكم الاحتكاريين اقتصاديا و سياسيا.

و يميل الكتّاب الماركسيون المحدثون إلى أن المرحلة المعاصرة من الرأسمالية، هي المرحلة الاحتكارية، و إن لم يعاصرها ماركس و انجلز و لم يتحدثا عنها.

ص:158


1- (1) المادية الديالكتيكية: ستالين ص 49.
2- (2) المادية التاريخية: كوفالسون ص 132.

و لا حاجة الآن إلى الاستشهاد بكلام الماركسيين، بعد أن كان العزم على بسطه تفصيلا في المستقبل.

- 5 - و تنقسم الاشتراكية أيضا إلى ثلاثة أقسام: تمثل المرحلة الأولى منها، مرحلة الاعداد للاشتراكية عن طريق دكتاتورية البروليتاريا. و أما المرحلة الثانية فهي الطور الأول من المجتمع الشيوعي، كما اصطلح ماركس، و هي الاشتراكية بالمعنى المشهور، المقابل للشيوعية العلمية.

و أما المرحلة الثالثة، فهي مرحلة الطور الأعلى أو المجتمع الشيوعي الذي تطبق فيه القاعدة القائلة: من كل حسب طاقته و لكل حسب حاجته.

و تنتفي فيه الدولة، و يزول الصراع الطبقي، إذ لا يكون في المجتمع إلا طبقة واحدة، و هي المرحلة الأخيرة من عهود المادية التاريخية، و من تاريخ الانسانية أيضا!!..

و سيأتي تفصيل كل ذلك في مستقبل البحث.

- 6 - ينتج من كل ذلك: أن الماركسية، و إن كانت تعتقد أن التاريخ البشري منقسم إلى خمسة أقسام، هي الأقسام المشهورة التي أسلفناها. إلا أنها في نفس الوقت تعتبر هذه المراحل رئيسية، و تعتقد بمراحل أخرى، أكثرها ضمني، غير رئيسي تصل بالسلسلة إلى احدى عشرة مرحلة... تبدأ بأول وجود المجتمعات البشرية و تنتهي بمرحلتها العليا.

فإذا أضفنا إلى ذلك تاريخ ما قبل وجود المجتمعات، حين كان يعيش الانسان القديم منفردا أو في جماعات صغيرة متفرقة... كانت الأقسام اثني عشر كما يلي:

أولا: مرحلة ما قبل تكون المجتمعات.

ثانيا: الشيوعية البدائية.

ثالثا: عهد الرق.

رابعا: عصر الاقطاع.

خامسا: الانتاج الحرفي.

سادسا: الانتاج المانيوفاكتوري.

ص:159

سابعا: التراكم الأولي لرأس المال.

ثامنا: الرأسمالية التنافسية.

تاسعا: الرأسمالية الاحتكارية.

عاشرا: دكتاتورية البروليتاريا.

حادي عشر: الطور الاشتراكي الأول.

ثاني عشر: الطور الشيوعي الأعلى.

و كل هذه التطورات موكولة إلى تطور وسائل الانتاج، و مقترنة بشكل معين لعلاقات الانتاج، و موجبة لا يجاد مستوى فكري و سياسي و طبقي معين يختلف عن سابقه و لا حقه.

و تعتقد الماركسية أن هذه التطورات ضرورية خارجة عن اختيار الانسان، و عن وعيه... لا يستثنى من ذلك إلا العهد الاشتراكي بأقسامه الثلاثة، فإن الحزب الماركسي - اللينيني هو الذي يقود البشرية عن وعي و عمد إلى الاشتراكية ثم إلى الشيوعية. و لا يمكن أن تحدث هذه المراحل الأخيرة تلقائيا، كما حدثت المراحل السابقة عليها. و سنسمع تصريحات الماركسيين عن ذلك عند الحديث المفصل عن هذه المراحل.

- 7 - و هذه النظرية، ذات أسلوب مطاط في التطبيق، لا تنطبق على شكل واحد في كل الأزمنة و الأمكنة.

«لأن هذه النظرية لا تعطي سوى موضوعات توجيهات عامة، تطبق مثلا في بريطانيا على غير ما تطبّق في فرنسا، و في فرنسا على غير ما تطبّق في ألمانيا، و في ألمانيا على غير ما تطبّق في روسيا»(1).

فإذا وجدنا أن بعض البلدان قد انتقل إلى الرأسمالية دون الباقي أو إلى الاشتراكية دون الآخرين. أو إذا وجدنا أن أحد العهود قد طال في بعض البلدان أو إذا كان تطبيق أحد العهود أعمق من البعض الآخر، فلا ينبغي أن نتعجب من ذلك، من أجل هذا السبب.

فإن هذه النظرية تهمل التفاصيل، و هي قابلة للانطباق على كل الأشكال الاجتماعية. كما انها تهمل عنصر الزمن و لا تحدد تاريخا معينا لأي عهد من العهود. و إنما التحديد التاريخي يعود إلى الوضع الخاص بكل مجتمع.

ص:160


1- (1) مختارات لينين: ج 1 ص 44.
نقد التكوين العام للمادية التاريخية

- 1 - لا ينبغي أن نختلف مع الماركسية بمرور البشرية ردحا طويلا من الزمن بعصر بدائي، يبدأ بما قبل تكوّن المجتمعات، و ان المجتمعات و الأفكار و الأساليب تكوّنت تدريجا، و لا زالت البشرية في مجال التطور و الرقي.

إلا أن النقاش ينطلق بعد ذلك، من عدة نقاط:

النقطة الأولى: ان الماركسية مسئولة عن الجواب على هذا السؤال، و هو أن هذه التطورات خلال العهود التاريخية الخمسة، هل هي ضرورية أم لا.

مقتضى التكوين النظري الماركسي، هو كونه ضروريا، مقترنا اقترانا قهريا بتطور وسائل الانتاج. و معنى ذلك: أننا لو فرضنا أن مجتمعا بدائيا خلق في الأرض من جديد، لأمكن أن نتنبأ بمروره بنفس هذه العهود الخمسة من دون أن يمكنه التخلف عن ذلك. كما لا يمكن لوعي ذويه أو أية سلطة داخلية أو خارجية أن تغيّر من ذلك.

و لكن مقتضى عبارة ستالين التي نقلناها في الفقرة الأولى من «التكوين العام» أن هذه العهود الخمسة يستند تحديدها إلى النقل التاريخي صرفا. فلو كان التاريخ قد سار في كل العهود أو بعضها على شكل آخر، لما كان للماركسية أي مانع في أن تقول: أن وسائل الانتاج تطور المجتمع على الشكل «ب» لا الشكل «آ» بخلافه على الوجه الأول، فان تغير سير التطور المادي للتاريخ يكون مستحيلا.

و طبقا للوجه الأول - أيضا - يستحيل أن يمر قسم من البلدان بشكل من التطور. و يمر قسم آخر بشكل آخر منه. بمعنى ضرورة مرور كل البشرية 11

ص:161

بهذه العهود الخمسة، و ان اختلفت في التفاصيل.

و حيث أن الوجه الأول، هو المطابق للنظرية الماركسية الأصلية، و للتأكيدات في كلمات الماركسيين على التطور الضروري للمجتمع، و الخارج عن وعي الناس و إدراكهم. فإذا وجدنا بعض البلدان تختلف عن البعض الآخر، أو تتخلف عن بعض العهود - كما سنسمع بعد ذلك - إذن نعرف أن الماركسية قد فشلت في تفسير التاريخ، كما تريده من العمومية و الشمول.

النقطة الثانية: ان نظر الماركسية مركّز باستمرار نحو أوروبا، أوروبا فقط، انطلاقا من اللاشعور الاوروبي القائل: بأن الانسان هو الانسان الأوروبي و غيره هباء في شبك. إذن فلا ينبغي أن يعتني بماضي الناس أو حاضرهم أو مستقبلهم إلا إذا كانوا أوروبيين، أو يعود عليهم بالفائدة.

و لا ينبغي أن ننسى كلمة لينين التي سمعناها قبل قليل: ان هذه النظرية لا تعطي سوى موضوعات توجيهية عامة، تطبّق مثلا في بريطانيا على غير ما تطبّق في فرنسا، و في فرنسا على غير ما تطبّق في ألمانيا، و في ألمانيا على غير ما تطبّق في روسيا. و هذه الدول كلها أوروبية.

و لا زلنا نذكر أحلام انجلز و ماركس التي حامت حول تطبيق الشيوعية في انكلترا و المانيا قبل روسيا، و قد فشل هذا الحلم، و كذّبه الواقع. و هذه كلها دول أوروبية أيضا. ان تفكير الرجل الاوروبي بما فيهم لينين و انجلز و ماركس، يدور في بوتقة أوروبية مغلقة، و لا يخطر في ذهنه إلا أسماء الدول الأوروبية، كأنها الوحيدة الوجود في العالم.

إذا التفتنا إلى ذلك، فقد يكون صحيحا أن ندّعي أن أوروبا مرت فعلا بهذه العهود الخمسة، على أن يكون هذا الحكم غالبا غير مستوعب، و مهملا من التفلسف و ذكر الأسباب، و يبقى مع ذلك، قابلا للمناقشة، على ما سيأتي.

إلا أننا لو نظرنا إلى خارج أوروبا، فقد نجد التاريخ يسير على خلاف ما سار في أوروبا، و بالتالي على خلاف ما تريده المادية التاريخية.

فالشرق الأوسط عموما لم يمر بعهد إقطاعي مشابه لأوروبا، و ان كانت هناك ملكيات للأرض غير قليلة... إلا أنها لا تبلغ إلا نسبة ضئيلة مما كان

ص:162

عليه الاقطاع الاوروبي. و لم يكن يتصف بنفس المعاملة الوحشية مع الفلاّحين، لوجود الفوارق النفسية و الدينية و الاجتماعية بين المنطقتين.

كما أن الشرق الأوسط لم يمر بعهد رأسمالي كالعهد الذي مرت به أوروبا و لم يكن فيه إنتاج آلي ضخم و لا توزيع على نطاق عالمي، كما هو معلوم.

نعم، مر الشرق الأوسط في عهود قديمة، بعهد الرق ردحا طويلا من الزمن. و لكنه تحوّل إلى عهد جديد لا يشبه شيئا مما ذكرته الماركسية من العهود، هو عهد «الاسلام» و بخاصة في صدر الاسلام و الخلافة الأولى.

و الصين الشعبية انتقلت من الاقطاع إلى الاشتراكية، و أهملت بالمرة عهد الرأسمالية الرئيسي، و كذلك عدد من البلدان الاشتراكية بما فيها الاتحاد السوفييتي نفسه، و قد اعترفت بذلك المصادر المتأخرة، كما سيأتي فيما بعد.

النقطة الثالثة: إن البشرية بدأت بمرحلة بما قبل المجتمعات... ثم بدأت المجتمعات تحدث تدريجا، فهل كان هذا الحدوث ناشئا من الوجود الطبقي إن الطبقية لا معنى لها بدون مجتمع بطبيعة الحال. و لكن إذا كان كل تطور مستندا إلى الوجود الطبقي، كما تريد الماركسية أن تقول، إذن فلا يمكن أن يحدث التطور في البشرية الأولى... مع انها قد تطورت فعلا.

و قد تقول الماركسية: ان حدوث المجتمعات مستند إلى تطور وسائل الانتاج، لا إلى الوجود الطبقي. و هذا التطور كان موجودا في ما قبل المجتمعات.

و جوابه ان هذا غير صحيح لوجهين:

الوجه الأول: إن الماركسية عوّدتنا أن تسند التطوّر العام إلى تطوّر وسائل الانتاج بشكل غير مباشر. و إنما تطورها يوجب تطوّر علاقات الانتاج، و هذا التطوّر يوجب بدوره تطور الشكل الطبقي للمجتمع، و هذا الأخير يوجب تطور سائر ظواهر المجتمع. فكيف انقطعت هذه السلسلة، و أصبح التطور مستندا إلى وسائل الانتاج مباشرة. إن هذا لا يمكن أن يكون مفهوما من زاوية قواعد المادية التاريخية. و إذا أمكن التطوير المباشر للانسان، فلما ذا لم تلتزم به الماركسية دائما... هل اختلفت قوة وسائل

ص:163

الانتاج بعد تطوّر المجتمعات؟! -. و إذا لم يمكن التطوير المباشر فكيف حدث ذلك في مورد حديثنا في الانسان قبل وجود المجتمعات.

الوجه الثاني: إنه بعد التنزل - جدلا - عن الوجه الأول، و افتراض أن الماركسية تختار التطوير المباشر لوسائل الانتاج. فهذا يعني أننا ينبغي أن نجزم بحدوث التطور في وسائل الانتاج قبل حدوث المجتمعات، لتكون المجتمعات قد حدثت عقيبه.

إن وجود اليد وحدها، غير كاف في ذلك، لأنها وجدت مع الانسان، و لم توجد المجتمعات إلا بعد أمد طويل، تتعذر النسبة إليها فيه.

فينبغي أن نفحص عن وسيلة الانتاج أخرى... و كل وسيلة لاحظناها - بما فيه استعمال الحجر - لا يوجد دليل تاريخي على تقدمها على تكون المجتمعات. ما لم تقل الماركسية أن مقتضى قواعد المادية التاريخية هو ذلك، فيصبح مستنتجا منها لا دليلا عليها كما هو المطلوب الآن.

هذا و يمكن القول أن استعمال الحجر و نحوه، ليس تطورا في وسيلة الانتاج، و إنما التطور كان نتيجة لعمل إنساني كتركيب الحجر على المقبض ليصبح فأسا مثلا. و إذا صح ذلك، لم يكن وجود التطور إلا في مجتمع بطبيعة الحال، لأن الاختراع و الاكتشاف لا يكون إلا في مجتمع. و معه يكون وجود التطور في العصر السابق على المجتمعات متعذرا... و معه يتعيّن أن يكون هذا التطور الانساني الذي هو وجود المجتمعات غير مستند إلى تطوّر وسائل الانتاج.

- 2 - إن تطور البشرية من المجتمع الشيوعي البدائي إلى عصر الرق، لم يكن مستندا إلى الوجود الطبقي، لفرض اعتراف الماركسيين بعدم وجود الطبقات في المجتمع البدائي. فإذا كان كل تطور مستندا إلى الوجود الطبقي، و غير مستند إلى وسائل الانتاج مباشرة، كما عرفناه مطابقا لقواعد المادية التاريخية و تصريحات الماركسيين. إذن فتطور المجتمع البدائي إلى الرق، لا يكون مطابقا لتلك القواعد.

- 3 - إن الماركسية ربطت بين وجود المجتمع البدائي، و بين عدم وجود

ص:164

الطبقية من ناحية و عدم وجود الملكية الخاصة من ناحية أخرى. مع أن كلا الأمرين يمكن وجودهما في ذلك المجتمع.

إن المجتمع البدائي - على الأقل - كان يشعر بأهمية الأب و الجد و سيطرتهما على ذريتهما، أو - على الأقل أيضا - إن ذلك قد حدث قبل وجود الرق بزمن طويل. و هذا يعني تحقق الوجود الطبقي في المجتمع. فإن طبقة الآباء أعلى و أكبر من طبقة الأبناء لا محالة.

كما أن المجتمع البدائي، مهما كان التوزيع الاقتصادي فيه بدائيا و مشاعا، كما تريد الماركسية أن تقول... إلا أن هناك أشياء - بلا شك - مستندة إلى الفرد و مختصة به، يشعر بالغبن عند سيطرة الآخرين عليها، و انخرام مصالحه الشخصية في ذلك، لا أقل من وجبة طعامه أو ثيابه أو سلاحه، مهما كانت هذه الأمور بدائية.

كما أن الاشاعة في الملكية، هي سيطرة جماعة محدودة على كمية من المتاع كالطعام أو السلاح مثلا. و هذه الجماعة ترفض بطبيعة الحال سيطرة جماعة أخرى على أموالها(1)، و هذا يعني وجود الملكية الخاصة في حدود الجماعة. فإن فكرة الملكية الخاصة لا تعني استنادها لفرد واحد، بل قد تكون مشتركة بين متعددين.

إذن، فالملكية الخاصة، كانت موجودة أيضا في المجتمع البدائي، و لم يكن هذا المجتمع شيوعيا، كما تريد الماركسية أن تقول. و سنبحث ذلك أيضا عند التعرض إلى ذلك المجتمع.

و من هنا نستطيع أن نعجب للتشكيك الذي ذكره انجلز في ملكية ابراهيم الخليل عليه السلام لقطعانه، حيث قال:

«و من العسير القول ما إذا كان موسى مؤلف ما يسمّى بالكتاب الأول، قد اعتبر البطريرك ابراهيم مالكا لقطعانه بموجب حقه الشخصي بوصفه رئيس مشاعة عائلية، أم بموجب مركزه كرئيس يرث بالفعل عشيرة»(2).

بالرغم من أن ابراهيم عليه السلام كان يعيش في منطق الماركسية، في

ص:165


1- (1) و هذا ما يحدث بين مجتمعين بدائيين لو أراد أحدهما السيطرة على الآخر. و قد يحدث في داخل المجتمع الواحد، و لو نادرا.
2- (2) أصل العائلة: انجلز ص 67.

عهد الرق، و لا شك في وجود الملكية الخاصة في ذلك العهد. مضافا إلى ما ذكرناه من وجود الملكية في المجتمع البدائي، لو كان مجتمعه بدائيا.

- 4 - و هل الملكية الخاصة مستلزمة لاستثمار الانسان للانسان، كما قالت الماركسية، أم لا؟!..

إن الملكية الخاصة شيء، و استثمار الانسان للانسان شيء آخر، قد يقترنان و قد يفترقان.

قد تكون الملكية الخاصة مقترنة مع هذا الاستثمار الشنيع، كما يحدث في عصور الرق و الاقطاع و الرأسمالية و عصر دكتاتورية البروليتاريا، بالنسبة إلى غيرهم من «الرجعيين» و «أعداء الشعب و التقدم».

و قد تكون الملكية الخاصة موجودة بدون استثمار الانسان للانسان، كما لو تعهد أفراد المجتمع أو القانون السائد أن لا تنتقل الملكية من شخص إلى آخر، إلا برضائه و طيب قلبه، بحيث يلتزم ببطلان كل أسلوب معاملي يفقد هذا العنصر الهام، مع سد الفرص تماما أمام أي استغلال أو تحكم، كما هو الحال في القانون الاسلامي، كما هو غير خفي لمن راجعه.

كما قد يكون استثمار الانسان للانسان موجودا و لا تكون الملكية الخاصة موجودة. و ذلك - بكل بساطة - في المجتمع الشيوعي (بصورته البدائية على الأقل). فإن المتاع حين يكون مشاعا و لا يكون هناك جهاز حاكم، فقد يخطر في ذهن الأقوياء الأذكياء أن يحوزوا لأنفسهم أكثر من الآخرين، و هذا هو الاتجاه الذي ولّد مجتمع الرق في نهاية المطاف، باعتراف الماركسية، و هو اتجاه وجد في العصر السابق عليه لا محالة.

و باختصار، فإن استثمار الانسان للانسان، لا يحدث إلا حين تتحكم الأثرة و الأنانية، و ينعدم التعاطف الانساني، و لا ربط لذلك بالملكية الخاصة بذاتها.

و لكن ما هو الدليل على أن استثمار الانسان للانسان شيء شنيع و قبيح.

إننا لو قلنا بالقيمة الاخلاقية المطلقة للأشياء، فالحكم بالشناعة و القبح على ذلك يكون يسيرا و واضحا، و أما لو قلنا باستناد القيم إلى وسائل الانتاج

ص:166

و الوجود الطبقي، فمن الواضح أننا يمكن أن نقول بكل وضوح: أن كل استثمار مناسب في عهد تاريخي معين هو حسن في تلك الفترة و ليس قبيحا.

فالاسترقاق في عهد الرق لم يكن قبيحا، حتى عند العبيد أنفسهم، و لا القنانة في عهد الاقطاع، و لا العمل في عهد الرأسمالية. و من ثم فاستثمار الانسان للانسان شيء جيد و حسن في مختلف عصور البشرية. و كذلك ليس من القبيح محاربة «أعداء الشعب» في عصر دكتاتورية البروليتاريا، و هي حرب عنيدة و طويلة، كما سيأتي عند الحديث عن هذا العصر.

نعم، يمكن أن تتبدل هذه القيمة إلى الشناعة و القبح في المجتمع الشيوعي النهائي، حين تنعدم الطبقات و يزول النضال الطبقي و الدولة.

فإذا علمنا أن البشرية لم تدخل بعد في الطور الأعلى النهائي، في أية منطقة في العالم، بل ان مناطق العالم الآن موزعة - في منطق الماركسية - بين الاقطاع و الرأسمالية و دكتاتورية البروليتاريا... إذن فلا بد أن نحكم بحسن استثمار الانسان للانسان، و نحن معاصرون لهذه العهود. و يستحيل على أي فرد أن يسبق التاريخ، بما فيهم المفكرون الماركسيون أنفسهم. فكيف حكموا بقبح الاستثمار خلافا لقواعد ماديتهم التاريخية. فإن هذا اما على خلاف اعتقادهم، أو ان هذا الاعتقاد وجد في أذهانهم على خلاف تلك القواعد.

- 5 - و أما الدولة التي اعتقدت الماركسية أنها لم تكن في العهد الشيوعي الأول و ستكون غير موجودة في العهد الشيوعي الأخير.

قال انجلز:

«و المجتمع الذي ينظم الانتاج تنظيما جديدا على أساس اتحاد المنتجين بحرية، و على قدم المساواة، سيرسل آلة الدولة بأكملها، حيث ينبغي أن تكون حينذاك: إلى متحف العاديات بجانب المغزل البدائي و الفأس البرونزية»(1).

و نحن بعد أن عرفنا وظيفة الدولة في المجتمع، و انها تنظم ما لا يستطيع الأفراد تنظيمه... نستطيع أن نعرف تبعا لذلك عدة حقائق.

الحقيقة الأولى: إن وجود الدولة تابع لوجود درجة من التعقيد، تكتسب فيه

ص:167


1- (1) أصل العائلة لانجلز ص 230.

المصالح العامة درجة صعبة لا يمكن للأفراد القيام بها.

الحقيقة الثانية: إن وجود الدولة يكون ضروريا ما دامت الحياة معقّدة، لا تختلف في ذلك عهود التاريخ. و لا يمكن لأي مجتمع مهما كان اشتراكيا أن يسوس نفسه بنفسه بدون دولة أو حكومة. إلا بعض الفروض النّادرة أو غير المشروعة، التي سنشير إليها بعد ذلك.

الحقيقة الثالثة: إن هناك فرقا بين الشيوعية الأولى و الشيوعية الأخيرة، لو سلّمنا بوجوديهما. فانه في الشيوعية الأولى، لم تكن الحياة معقّدة، بل كانت بدائية و بسيطة للغاية، فلم تكن البشرية بحاجة إلى الدولة. و اما في الشيوعية الأخيرة، فالحياة بطبيعة الحال معقّدة، بل هي أكثر تعقيدا من أي عهد مضى، لأنها أكثر حضارة و مدنية و إنتاجا من أي وقت مضى، على ما هو المفروض. و التعقيد تابع لوجود الحضارة و المدنية بطبيع الحال. فكيف يمكن عدم وجود الدولة، و كيف يمكن للأفراد أن يسوسوا المجتمع باستقلالهم.

و لو كان عدم الدولة، مقترنا من التوزيع الشيوعي للمال، و ناتجا منه... لكان القول بعدم الدولة في المجتمع الأول ملازما للقول بعدمها في المجتمع الأخير، كما أرادت الماركسية... لأن صفة التوزيع الشيوعي مشتركة بينهما. إلا أن الأمر - مع الأسف! - ليس كذلك بل هو تابع لدرجة معينة من التعقيد الاجتماعي. و هو متوفر في المجتمع الأخير و غير متوفر في المجتمع الأول، فمن الطبيعي أن يكون المجتمع الأول غير محتاج إلى الدولة، على حين يكون الأخير غير مستغن عنها.

- 6 - و بالنسبة إلى وجهة النظر المادية التاريخية للتطور، لو كان العامل الأساسي فيه هو الوجود الطبقي أو التوزيع غير المتساوي لوسائل الانتاج أو للأرباح... لكان عدم وجود الدولة مشتركا بين المجتمعين الأول و الأخير.

إلا أن الماركسية أ فهمتنا أنها ترى أن السبب الرئيسي هو تطور وسائل الانتاج بالذات، و ان كل مرتبة أو مرحلة معينة من التطور تنتج شيئا معينا أو ظاهرة اجتماعية معينة. و لا معنى للقول بأن مرحلتين مختلفتين من تطور وسائل الانتاج تكونان متصفتين بنفس الظاهرة الاجتماعية.

و هذا ينتج منه نتيجتان مهمتان ماركسيا:

النتيجة الأولى: انه مع اختلاف درجات التطور في وسائل الانتاج من عصر الرق إلى عصر الرأسمالية، كيف يمكن أن تبقى ظاهرة معينة محفوظة و غير متبدلة، هي ظاهرة الدولة. إذ لا معنى لا تصاف مرحلتين من التطور

ص:168

بنفس الظاهرة، كما عرفنا.

و قد يخطر في الذهن: اننا وجدنا عدة استثناءات لهذه القاعدة، أهمها اللغة و غيرها. فلتكن الدولة من هذه الاستثناءات.

و الجواب على ذلك: اننا عرفنا أيضا أن هذه الاستثناءات لا تعني شيئا آخر غير انخرام القاعدة المادية و بطلانها. فلتكن الدولة كذلك.

النتيجة الثانية: إن درجتين من وسائل الانتاج إحداهما في غاية البساطة و البدائية، و الأخرى في قمة التعقيد و التطور، و هما متباعدتان في التاريخ جدا، قد يزيد الفاصل الزمني بينهما على ألفي عام... احداهما في المجتمع البدائي و الأخرى في المجتمع الشيوعي الأعلى... قد اتصفت هاتان الدرجتان من التطور المتباين بنفس الظاهرة، و هي انعدام الدولة. مع أننا عرفنا قبل قليل أنه لا يمكن لمرحلتين من تطور وسائل الانتاج أن تتصفا بنفس الظاهرة. فكيف صح للماركسية الالتزام بذلك؟!!..

و لو انسجمنا مع القواعد الماركسية لقلنا بأن الوسائل البدائية للانتاج تنتج المجتمع الخالي من الدولة، و أما الوسائل المتطورة جدا فتقترن بوجود الدولة. و لا يمكن للتاريخ أن يعود القهقرى بأي حال.

- 7 - قلنا اننا إذا نظرنا إلى خارج أوروبا، لا نجد عهود المادية التاريخية مطبّقة بوضوح، فكذلك لو نظرنا إلى أوروبا نفسها...

فإن أوروبا بشكلها المعاصر منقسمة إلى قسمين: رأسمالي و اشتراكي. أما القسم الرأسمالي، فلم يمر بعهد الاشتراكية، و أما القسم الاشتراكي، فلم يسبق له أن مر بعهد الرأسمالية... و إنما طفر من الاقطاع إلى الاشتراكية، كما قلنا. إذن فعهود المادية التاريخية، غير مطبقة في أوروبا تماما، فضلا عن غيرها.

كما أن عددا من المجتمعات الاوروبية اجتمعت فيه الرأسمالية مع الاقطاع. فقد حدث ذلك في المجتمعين الفرنسي و الالماني، في عصر المانيوفاكتورة الأولى، فان ماركس - على ما سنسمع - يعتبر الانتاج المانيوفاكتوري إنتاجا رأسماليا، مع أنه قد حدث في عصر الاقطاع و بقيا معا ساريي المفعول ردحا من الزمن.

ص:169

و قد حدث أيضا في روسيا القيصرية، قبل الثورة، فانها كانت تحتوي على الاقطاع إلى جنب التجارة الرأسمالية الواسعة، و إن لم تكن على الشكل الآلي الحديث.

أما عن مناصرة عدد من الاشتراكيين مع الرأسماليين و مع المثاليين، فهو حديث الماركسيين الأساسي، ضد أعدائهم من الاشتراكيين، و سيأتي فيما بعد بعض الأمثلة لذلك.

إن كل ذلك، يحدث في أوروبا نفسها على خلاف قواعد المادية التاريخية.

- 8 - و أما الفهرس العام للمادية التاريخية، بعهودها الخمسة، و أقسامها الاثني عشر، فسيأتي التعرض إلى نقد كل منها عند التعرض إلى عرض أوصافها فيما يلي.

إلا أننا الآن نقول كلمة واحدة، و هي أن هذا التسلسل الطويل للمادية التاريخية، ينافي مع القواعد الأساسية الماركسية لتطور التاريخ.

إن الماركسية قالت: إن عهد الرق نقيض العهد الشيوعي البدائي، و عهد الاقطاع نقيض لعهد الرق، و عهد الرأسمالية نقيض لعهد الاقطاع... و تصل البشرية إلى كل عهد، باعتبار التناقض الديالكتيكي المتمثل بالتناحر الطبقي الموجود في العهد السابق عليه.

إن هذا لو سلمناه، فهو صادق بالنسبة إلى تطور المادية التاريخية خلال عهود خمسة لا خلال عهود اثني عشر؛ إن هذا التقسيم الجديد، يواجه - من هذه الجهة - عدة نقاط ضعف.

النقطة الأولى: إن نقيض الاقطاع ليس هو الرأسمالية، بل هو العهد الحرفي، و نقيض العهد الحرفي هو العمل المانيوفاكتوري، و نقيض هذا العمل هو التراكم الرأسمالي الأولي.

إن هذا على خلاف تصريحات الماركسيين - أولا -، حيث قسموا العهود إلى خمسة و حصروا التناقض فيها. كما انه خلاف المبررات المعطاة لتحوّل المجتمع من عهد إلى عهد، و المربوطة بتطور وسائل الانتاج و تغيّر الوجود الطبقي... كما سنعرف. ان الطبقة الجديدة في عهد الاقطاع هم

ص:170

الرأسماليون و ليس الحرفيين.

إذن، فهذه المبررات، غير صادقة في التقسيم الجديد، بل يحتاج المجتمع إلى مبررات جديدة للانتقال من خلال هذه العهود الجديدة.

النقطة الثانية: إن التناقض لو سلّمناه بعد التجاوز عن النقطة الأولى، فإنه إنما يصدق في عهدين ذوي فروق كبيرة كعهد الرأسمالية الاحتكارية مع العهد الذي يليه و هو دكتاتورية البروليتاريا. و لا نسلم وجود التناقض في عهدين متجاورين متجانسين، كالعهد الحرفي و العهد المانيوفاكتوري، و كالرأسمالية التنافسية مع الرأسمالية الاحتكارية، و كالطور الشيوعي الأول مع الطور الثاني. إن هذه العهود متجانسة و متحابة، و ليست متناقضة و لا متضادة، بل يعتبر المتأخر تركيزا و ترسيخا للعهد السابق عليه.

و اختلاف أوصافها لا يبرر إطلاق لفظ التناقض أو التضاد عليها...

و استعمال هذه الألفاظ فيها تمطيط غير صحيح لهذه الاصطلاحات المنطقية أو الفلسفية.

النقطة الثالثة: إن التناقض حين ينتفي بين عهدين متجانسين، لا يمكن الالتزام بأنه ناتج عنه بصورة ديالكتيكية... بل هو ناتج منه بطريقة «سلسة» لا محالة، لأنه ترسيخ و تأكيد له، و ليس نفيا له كما هو واضح.

فمثلا، لو كانت الرأسمالية الاحتكارية نفيا للرأسمالية التنافسية، لأوجب زوال الوضع الرأسمالي بالمرة، و لو كان الطور الشيوعي الثاني نفيا للطور الأول لكان موجبا لزوال الاشتراكية بالمرة، فإن معنى النفي هو ارتفاع النظام الاجتماعي بكل خصائصه، كما صرّحت الماركسية. و إنما لم يوجب نفيه لأنه مترتب عليه ترتبا سلسا، و يعتبر تأكيدا و ترسيخا له، و ليس نفيا له بأي حال.

- 9 - بقيت الفقرة السابعة من التكوين العام، و هي ان النظرية المادية التاريخية تعطي توجيهات عامة و تختلف في التطبيق... غير خالية من المناقشة بالرغم من كونها لطيفة إلى حد كبير. لكنها غير منطبقة على القواعد الماركسية الأخرى.

إن المادية التاريخية و القواعد الماركسية العامة لتطور المجتمع، لا يخلو

ص:171

حالها من أحد شكلين: اما أن تكون حديّة في الانطباق مائة بالمائة، و اما أن لا تكون حدّية.

فإن كانت حدّية تماما، كان تطور المجتمعات على شكل واحد بالضرورة، و يستحيل أن يكون مختلفا بطبيعة الحال. و هذا خلاف الوجدان، فإن الاقطاع هنا يختلف عنه هناك و الرأسمالية هنا تختلف عنها هناك، في عدد من الصفات و الظواهر العامة. و هذا واضح من التاريخ المعاصر و القديم.

و هذا الاعتراض هو الذي تخلص عنه لينين حين قال بأن النظرية ليست حدّية بل تعطي توجيهات عامة فقط.

و لكنه في الواقع، قد وقع في اعتراض أشد، فإن النظرية إن لم تكن حدّية... لم نستطع - أولا - أن نجزم بوجود الطور الشيوعي الأعلى، كما حاولت الماركسية أن تؤكده. بل لم نستطع الجزم بأي تغيير لأن النظرية ستصبح سببا ضعيفا مطّاطا يمكن أن تحول دونه الموانع... فإن أنكر لينين ذلك، كان معناه كون النظرية حدّية ضرورية، و ليست ذات توجيهات عامة فقط.

و ثانيا: ما أشرنا إليه فيما سبق من أن هذه التوجيهات العامة أو السبب الضعيف، لا تصلح وحدها لانتاج التفاصيل بل لا بد أن عاملا آخر مستقلا في كل مجتمع أنتج التفاصيل الخاصة به. و معه يكون مجموع الوضع الاجتماعي ناتجا من مجموع التوجيهات العامة و العامل الآخر المستقل. و هذا العامل لا نستطيع أن نسمّيه بتطور وسائل الانتاج، بعد أن كان هذا التطور لا يمثّل إلا التوجيهات العامة فقط، أعني جزء مجموع السبب الموجب لتطور المجتمع.

و على أي حال، فمقتضى الضرورة التاريخية، التي أكّدت عليها الماركسية في نظريتها، هو كونها حدّية و ليست «موضوعات توجيهية عامة» كما قال لينين. و معه لا نستطيع أن نفسر الفرق و الاختلاف بين المجتمعات.

و يعتبر هذا الكلام من لينين تنازلا عن تلك الضرورات الفلسفية، نتيجة لضغط الواقع المعاش الذي يخالف النظرية الماركسية بوضوح.

هذا، و بعد الحديث عن التكوين العام، سنبدأ بالحديث عن العهود

ص:172

الاثني عشر، فنعقد لكل منها فصلا مستقلا، و نلحق بكل فصل مناقشاته الخاصة به.

مرحلة ما قبل المجتمعات
اشارة

- 1 - تعتقد الماركسية بأن الانسان متحدّر عن قرد، كما هو القول المشهور لداروين... بغض النظر عما يستلزمه هذا التحوّل من طول في الزمن، أو عدم اعتراف الناس بسلفهم «الصالح» هذا!!...

قال انجلز:

«منذ مئات عدة من ألوف السنين، في عهد ما يزال من غير الممكن تحديده بيقين، من ذلك العصر في تاريخ الأرض الذي يسمّيه الجيولوجيون بالعصر الثالث على تخومه على الأرجح، كان يعيش في مكان ما من الدائرة الاستوائية - أغلب الظن في قارة غائرة اليوم في جوف المحيط الهادي - عرق من القردة الشبيهة بالبشر بلغت تطورا رفيعا بوجه خاص. و قد أعطانا داروين وصفا تقريبيا لهذه القردة التي قد تكون أسلافنا. كانت مكسوّة كليا بالشعر، و ذات لحى و آذان محددة، و تعيش جماعات على الأشجار.

و قد أخذت هذه القردة، بالدرجة الأولى - دون شك - بنمط معيشتها الذي يتطلب أن ينجز الأيدي من أجل التسلّق غير وظائف الأرجل، أخذت تفقد عادة الاستعانة بأيديها من أجل السير على الأرض، و اتخذت أكثر فأكثر مشية عمودية. و هكذا تم اجتياز الخطوة الحاسمة لانتقال القرد إلى الانسان»(1).

«... في البدء العمل، و بعده، ثم معه في الوقت نفسه، اللسان: ذانكما هما الدافعان الأساسيان اللذان تحت تأثير هما تحوّل دماغ قرد شيئا فشيئا إلى دماغ إنسان.

يتجاوزه بعيدا برغم كل تشابه، ارتفاعا و اتقانا. و لكن السير جنبا إلى جنب مع تطور الدماغ تطورت أدواته المباشرة، أعضاء الحواس»(2).

«... و قد مرت مئات ألوف السنين - و هي في تاريخ الأرض تعادل ثانية في حياة

ص:173


1- (1) نصوص مختارة: انجلز ص 123 و ما بعدها.
2- (2) المصدر ص 128 و ما بعدها.

الانسان - قبل أن يخرج مجتمع بشري من قطيع القردة المتسلق للأشجار. و لكنه ظهر آخر الأمر. فما الفرق الذي نجده بين قطيع القردة، و بين المجتمع البشري؟ العمل!».

و يستمر انجلز ببيان كيف أن العمل هو الذي غيّر القرد و جعله إنسانا. و قال في آخر كلامه:

«... فكما ان تاريخ تطور الجنين البشري في بطن أمه لا يمثل غير تكرار مختصر لتاريخ ملايين السنين من التطور الجسماني لأسلافنا الحيوانات بدءا من الدودة. فإن التطور العقلي للطفل، هو كذلك تكرار أكثر تكثيفا، فقط للتطور العقلي لدى هذه الأسلاف، الأخيرة منها على الأقل.

على أن مجمل العقل المنهجي لدى جميع الحيوانات، لم ينجح في أن يطبع الأرض بخاتم إرادتها. ان هذا يحتاج إلى الانسان. و بالاختصار، ان الحيوان يستخدم الطبيعة الخارجية فقط، و يحدث فيها تغييرات بمجرد وجوده. و أما الانسان، فإنه بالتغييرات التي يحدثها في الطبيعة يجعلها تخدم أغراضه، يسيطر عليها. و في هذا يقوم الفارق الأساسي الأخير بين الانسان و باقي الحيوانات. و الانسان مدين في هذا الفرق مرة أخرى، للعمل»(1).

و لا ينبغي أن ننسى في هذا الصدد عبارة انجلز حين يقول:

«و ينسى الناس أن الظروف الاقتصادية لحياتهم هي منشأ الحقوق عندهم، مثلما نسوا انهم قد نسلوا من عالم الحيوان»(2).

- 2 - و يذكر انجلز في كتابه «أصل العائلة»... الخطوات اللاحقة لتطور الانسان عن القرد، فيقسمها إلى عدة أطوار، نذكر منها الآن، ما يمت إلى ما قبل تكوّن المجتمعات بصلة:

1 - الوحشية:

1 - الطور الأدنى: طفولة النوع البشري. كان الناس و لا يزالون بعد في إقامتهم الأولية، في الغابات الاستوائية و شبه الاستوائية. كانوا يعيشون - على الأقل جزئيا - على الأشجار. و بهذا وحده يمكن تفسير بقائهم بين وحوش كاسرة كبيرة. و كانت الثمار و الجوز و الجذور غذاءهم.

و الانجاز الرئيسي في هذه المرحلة هو نشوء النطق. و من بين جميع الشعوب التي أصبحت معروفة في هذه المرحلة التاريخية، لم يبق أي منها في هذه الحالة البدائية. و رغم

ص:174


1- (1) المصدر ص 129 و ما بعدها.
2- (2) المصدر نفسه، ص 162.

ان هذه الحالة استمرت، أغلب الظن، الآلاف و الآلاف من السنين، إلا أننا لا نستطيع أن نثبت وجودها بأدلة مباشرة. و لكننا إذ نعترف بنشوء الانسان من مملكة الحيوان، لا بد لنا أن نفترض و نقبل هذه الحالة الانتقالية.

2 - الطور المتوسط: يبدأ باستعمال الغذاء السمكي... و باستعمال النار.

و هذا و ذاك مترابطان، لأن الغذاء السمكي لا يصبح صالحا تماما للاستهلاك إلا بفضل النار.

و لكن البشر أصبحوا بفضل هذا الغذاء الجديد، مستقلين عن المناخ و المكان، و بالسير مع تيار الأنهر و على سواحل البحار، كان في وسعهم أن ينتشروا - حتى في الحالة الوحشية - على القسم الأكبر من سطح الأرض.

... إن الاقامة في أماكن جديدة، و السعي النشيط الدائم إلى البحث و التفتيش، بالاضافة إلى امتلاك النار عن طريق الحك، كل هذا أوجد وسائل جديدة للتغذية، هي الجذريات و الدرنيات التي تحتوي على النشاء، و المشويّة في الرماد الحار، أو في الأفران المحفورة في الأرض.

و كذلك الطريدة التي أصبحت، بفضل اختراع الأسلحة الأولى، الهراوات و الرماح، غذاء إضافيا يمكن الحصول عليه حسب الصدف، بين الفينة و الفينة»(1).

ثم يقول انجلز بعد صفحة:

«حتى الآن استطعنا أن ننظر في سير التطور بوصفه سيرا ذو طابع شامل تماما، ساري المفعول في مرحلة معينة بالنسبة لجميع الشعوب، بصرف النظر عن مكان إقامتها.

و لكننا مع حلول عهد البربرية، وصلنا إلى درجة يكتسب فيها الفرق بين الأحوال الطبيعية في القارتين الكبيرتين شأنا و وزنا»(2).

و حيث أن الاختراع عموما، لا يصدر إلا عن مجتمع، كما أسلفنا، إذن فاختراع الهراوات و الرماح، دال بشكل و آخر على وجود المجتمع، إذن، فقد دخلت البشرية في عصر الاجتماع.

ص:175


1- (1) أصل العائلة و الملكية الخاصة و الدولة: انجلز ص 25 و ما بعدها.
2- (2) المصدر نفسه ص 27.
مناقشة ما قبل المجتمعات

- 1 - لا شك أن البشرية بدأت بسيطة و بدائية و ساذجة، و قد ولدت كل الظواهر الاجتماعية فيها تدريجا، بما فيها اللغة، بل و حق القدرة على التفكير الفعلي المنظم...

و لكن كيف تم ذلك، و تحت أي نوع من الأسباب حدث، فهذا ما نستطيع أن نحمل عنه فكرة بعد قليل أولا، و يأتي تفصيله عند الحديث عن التخطيط العام ثانيا.

و المهم الآن هو التعرف على مقدار صحة هذه التفاصيل التي ذكرها انجلز، و مقدار ارتباطها بالقواعد الماركسية.

- 2 - و أول خطوة يمكن أن نتقدم بها في طريق المناقشة، هو ما اعترف به الماركسيون أنفسهم بأن العهود القديمة، فضلا عما قبلها، لا يمكن إقامة أدلة حقيقية للتأكد من أوصافها، و إنما يقوم تفسيرها دائما على الظن و التخمين دائما.

و كلما كان العهد أقدم كانت النقول التاريخية عنها أندر، و من ثم فالاستنتاج منها أصعب. و بالطبع فإن الحدس و التخمين يملأ الفجوات الموجودة حتى يصل الأمر في القدم إلى حد لا يمكن التحدث عنه بإثبات تاريخي بالمرة، فيكون للتخمين الميدان الأفسح في ملء هذا الفراغ.

و قد سمعنا انجلز قبل قليل يقول:

«منذ مئات عدة من ألوف السنين في عهد ما يزال من غير الممكن تحديده بيقين... كان يعيش... في أغلب الظن...».

و قال انجلز أيضا:

«و لكن إذا كانت دراسة هذه الأسباب المحركة للتاريخ في جميع المراحل السابقة غير

ص:176

ممكنة تقريبا، لأن العلاقات بين هذه الأسباب و نتائجها كانت مشوشة و مستورة. فإن عصرنا قد بسط هذه العلاقات، حتى ان حل اللغز أصبح ممكنا في آخر الأمر».

و إذا كانت دراسة ما قبل العصر الحديث لغزا مستورا، فكيف بالعصور الأسبق عليه. و كيف بالعهود البشرية الأولى، فضلا عن عهد ما قبل المجتمعات، فضلا عن عهد تحول القرد إلى إنسان. و إنما قال انجلز بأن حل اللغز أصبح ممكنا باعتبار نظريته الماركسية، التي أخذ صحتها مسلمة في كلامه، و هو ما لا يمكننا الآن الاعتراف به، باعتبار أننا نبحث عن صحة هذه النظرية أساسا.

- 3 - إننا نستطيع أن نرفض بضرس قاطع نظرية تكوّن الانسان من قرد، لكننا لا نريد الآن أن ندخل في التفاصيل. نذكر فقط بعض نقاط الضعف التي نراها فيها:

النقطة الأولى: ما قلناه قبل لحظة من أن هذا التحول، لو كان قد تم، فهو في عهد سحيق من القدم لا يمكن إقامة الدليل عليه.

النقطة الثانية: إن هذه النظرية لو صحت لحدثت باستمرار، و لرأينا مختلف الدرجات ما بين القرد و الانسان باستمرار. فما الذي حدا بهذه العملية أن تتم في زمن معين دون غيره. إن هذا لغريب.

النقطة الثالثة: إن علماء الوارثة اتفقوا على استحالة انتقاع نوع إلى نوع، و ضرورة مماثلة الذرية للسلف بالنوع. و لا شك أن القرد نوع آخر غير الانسان، فيكون حصوله منه مستحيلا. و لا فرق في هذه الاستحالة بين الانتقال الدفعي و الانتقال التدريجي.

إن تغيّر الصفات بالتدريج ممكن ما دامت النوعية بذاتها قائمة.

و لا يمكن للناسلات (الجينات) أن تقرر أنماطا من الصفات خارجة عن النوع بأي حال.

النقطة الرابعة: إن علماء الوارثة اتفقوا على أن الصفات المكتسبة لا تورث. فما يكتسبه الحيوان أو الانسان من صفات نتيجة للعامل الجغرافي أو لتكيفه طبقا لحاجاته - كما هو مقتضى نظرية التطور الداروينية - يستحيل أن تورث. إن القطة إن قطعت ذيلها لم تنتج ذرية مقطوعة الذيول. أو أن

ص:177

عاملا قويت يده اليمنى من كثرة الممارسة، لا تكون ذريته متصفة بنفس الصفة. إذن، فلا يمكن إنتاج التطور من هذه الناحية.

و هذه النقاط واضحة جدا على الأساس المادي الذي تعترف به الماركسية و تنطلق منه.

و أما على الأساس الالهي، فهذه النقاط و خاصة الثلاث الأخيرة، غير واردة، لأن إيكال الأمر إلى قدرة اللّه تعالى و مشيئته يذلل كل هذه المصاعب، و انطلاقا من هذا الأساس يمكن إقامة أدلة من نوع آخر على بطلان نظرية داروين، ربما أشرنا إلى بعض أسسها، خلال الحديث عن التخطيط العام في القسم الثالث من الكتاب.

- 4 - من هذا يتضح، أن الفكر القائم على الأساس الالهي، غير ملزم بالاعتراف بهذه النظرية، و لكن المادية مضطرة، من أجل تفسير وجود الحياة و تطورها على وجه الأرض، إلى الالتزام بهذه النظرية، باعتبارها التفسير المتوفر المعقول لذلك، و لكنها إذ تواجه تلك النقاط التي ذكرها ستقع في موقف محرج، و ستضطر في النهاية إلى التنازل عن نظرية التطور، فتبقى الحياة بدون تفسير مادي.

- 5 - إن اختصار الجنين لتاريخ البشرية، و إن كانت فكرة مشهورة، يوافق عليها انجلز بدوره. إلا أنها أسطورة غريبة، و بخاصة من زاوية الماركسية، و ذلك لورود عدة نقاط عليها:

النقطة الأولى: ان هذه المماثلة المدّعاة تبدأ لا محالة، من أول التلقيح و تنتهي بالرشد الكامل للفرد، حينما يصبح الفرد مماثلا مع مجتمعه في المستوى العقلي و الفكري.

و هذا يستلزم عدة أمور غير صحيحة:

الأمر الأول: أن يتماثل نمو الأفراد الجسمي و العقلي إلى حد كبير، لأنهم جميعا يمثّلون نفس التاريخ البشري... و هذا واضح الانتفاء و البطلان.

الأمر الثاني: أن يمر الفرد أو الأفراد بمثل النكسات التي مرت بها

ص:178

البشرية خلال تاريخها الطويل - المهمة منها على الأقل -. و من الواضح عدم مرور أغلب الأفراد بذلك.

الأمر الثالث: أن يكون نمو الفرد سلسا كنمو البشرية، في حين أنه يحتوي على «عقبات» غير موجودة في تاريخ البشرية، يمر بها الأفراد بالضرورة كالتلقيح نفسه، و الولادة و التسنين و الشيخوخة.

النقطة الثانية: إن البشرية مرت في نظر الماركسية بالعهود الخمسة المعروفة. فما هو المماثل في حياة الفرد. و هل تصح المماثلة بدون إمكان هذا التطبيق. و هل يصبح كل فرد خيّرا صالحا بالضرورة في آخر عمره، كالبشرية التي تنبأت لها الماركسية بالمستقبل السعيد. إن أفضل فترات العمر هو الشباب، و هو يقع عادة في الوسط من حياة الفرد. على حين أن المادية التاريخية ترى أن أفضل فترات عمر البشرية هو نهايتها، خلال مستقبلها السعيد.

النقطة الثالثة: إننا لو تجاوزنا عما سبق، لرأينا الانسان لا يمثل البشرية فقط، بل يمثل الكون كله. و قد غفل انجلز عن ذلك، و لكن لم يغفل بعض الفلاسفة عن ذلك حين قالوا: ان الجنين منذ التلقيح يبدأ جمادا ثم يصبح نباتا ثم يصبح حيوانا ثم يصبح إنسانا. ثم أضافوا: إنه يصبح بعد ذلك ملاكا.

و إذا كان انجلز ينكر المرحلة الأولى، لأن الانسان يبدأ بالحويمن و هي ليس بجماد، و ينكر المرحلة الأخيرة، انطلاقا من ماديته، فلا أقل من انه يذكر المراحل الثلاثة الوسطى. فلما ذا أهملها؟!.

- 6 - هناك أمران مهمان في تطور البشرية يعترف انجلز أو ينبغي أن يعترف، أنهما غير ناتجين عن وسائل الانتاج:

أحدهما: اللغة.

قال انجلز - كما سبق أن سمعنا -: «و الانجاز الرئيسي في هذه المرحلة هو نشوء النطق».

و لم تكن وسائل الانتاج بمتطورة بالمرة، و لم يكن للانسان أية وسيلة إنتاج سوى يده، و لو كانت اليد سببا لوجود اللغة، لكانت اللغة موجودة بوجود الانسان، و هو غير صحيح بطبيعة الحال.

ص:179

ثانيهما: ظهور المجتمعات: حيث سبق أن قلنا أن تطوير وسائل الانتاج لا يمكن أن يستند إلا إلى مجتمع، مهما كان بسيطا. فيتعيّن أن يكون ظهورها قبل كل تطوير.

هذا مضافا إلى ما تعترف به الماركسية من تطور الانسان عن القرد، و تطور القرد عن حيوان أبسط منه و هكذا... و كل هذه التطورات غير مستندة إلى وسائل الانتاج، بطبيعة الحال.

و هناك بعض المناقشات الأخرى، لا حاجة إلى الدخول في تفاصيلها.

المجتمع الشيوعي البدائي
اشارة

- 1 - بعد أن بدأت المجتمعات بالظهور، بدأ عهد المجتمع الشيوعي البدائي، أو التشكيلة الشيوعية الأولى.

و الماركسية تشرح شكل العهود عادة بشكل «تجريدي»، كأنها أقرب إلى الأعمال الرياضية الحديّة من أي شكل آخر. و هي و ان حاولت تطبيقها على التاريخ الفعلي للبشرية، إلا انها تشعر حينئذ بصعوبة في انطباق ذاك الشكل التجريدي على الواقع الفعلي. و هذا ما سنحاول أن نحمل عنه فكرة فيما يلي، في حدود المجتمع البدائي.

- 2 - تبدأ الماركسية بشرح الشكل التجريدي لهذا المجتمع، فتقول، كما قال ستالين:

«في نظام المشاعية، تؤلف الملكية الجماعية لوسائل الانتاج أساس علاقات الانتاج، و ذلك يطابق من حيث الأساس طابع القوى المنتجة في هذا الدور. فالأدوات الحجرية و كذلك القوس و السهام التي ظهر فيما بعد، لم تكن تسمح للأفراد أن يناضلوا منفردين ضد قوى الطبيعة و الحيوانات المفترسة.

فلأجل قطف الأثمار في الغابات، و لأجل صيد الأسماك، و لأجل بناء مسكن ما، كان الناس مجبرين على العمل معا بصورة مشتركة، إذا ما أرادوا اجتناب الموت جوعا أو

ص:180

الوقوع فريسة للحيوانات الضارية أو للقبائل المجاورة.

و يؤدي العمل المشترك إلى الملكية المشتركة لوسائل الانتاج و للمنتجات أيضا.

فهنا، إذا استثنينا الملكية الفردية لبعض أدوات الانتاج التي تؤلف في الوقت نفسه أسلحة دفاع ضد الحيوانات المفترسة، لم نجد معنى لمفهوم الملكية الخاصة لوسائل الانتاج. هنا، لا استثمار و لا طبقات»(1).

- 3 - و تقول الماركسية عن مميزات المجتمع البدائي:

«لقد كان هذا النظام الشيوعي البدائي، ضروريا للمجتمع الانساني، في هذه المرحلة من التطور. فلقد كان من المستحيل على المجتمع لو عاش أفراده حياة منعزلة مبعثرة، أن يخترع الأسلحة و الأدوات الابتدائية، و أن يحسنها فيما بعد.

و لم يستطع الناس أن يحرزوا انتصاراتهم الأولى في ميدان الكفاح ضد الطبيعة إلا بفضل حياتهم التعاونية لقد كان اتحادهم في «بطن» شيوعي هو قوتهم الرئيسية.

لم يكن استثمار إنسان لانسان آخر موجودا في المجتمع الشيوعي البدائي، بل لم يكن هذا الاستثمار ممكنا فيه. لقد كان العمل مقسما بين الرجل و المرأة. و كان في القبيلة أفراد أقوى من غيرهم و أفراد أضعف. و لكن لم يكن هناك استثمار.

ليس الاستثمار ممكنا، إلا إذا استطاع الانسان أن ينتج من وسائل الحياة ما يكفي له، و للآخرين أيضا. فبهذا الشرط وحده، يمكن لفرد أن يعيش عالة على عمل الآخرين. و لم يكن من الممكن، و الحالة هذه، أن يوجد في المجتمع البدائي المجبر على تدارك رزقه يوما فيوما، أي استثمار»(2).

«و من خصائص الشيوعية الأولية، اعترافها بدور المرأة الكبير، و لم يكن عدم المساواة بين الرجل و المرأة إلا في تقسيم العمل بينهما، و لم يكن يعترف إلا بنسل المرأة وحدها. فكانت المرأة تشرف على التربية، كما كانت نصائح الجدة نافذة. ذلك كان عهد سيطرة الأم»(3).

- 4 - «إن الشعور بالملكية الفردية و التفكير بها لم يوجدا بعد، كما ان الحقد الطبقي غير موجود، لعدم وجود الطبقات و الاستغلال الطبقي.

إذن، إنه على عكس ما يقول المثاليون، فإن الشعور «بما يخصني» و «يخصك» و ان الحقد و الكبرياء ليست عواطف أبدية خالدة في الطبيعة الانسانية، بل هي منتوجات

ص:181


1- (1) المادية الديالكتيكية: ستالين ص 48 و ما بعدها.
2- (2) نظرات علمية في الاقتصاد السياسي: سيغال ص 12 و ما بعدها.
3- (3) أصول الفلسفة الماركسية: بوليتزر و آخرين ص 59 ج 2.

تاريخية تتولد من الملكية الخاصة»(1).

- 5 - «كانت الأخلاق و الدين و الفن، أشكال الوعي التي ولدت في المجتمع البدائي.

و لكن هذه الأشكال لم تكن آنذاك مفصولة بعضها عن بعض، بل كانت تندمج في كل واحد، مشكلة نظاما كأنما منحته الطبيعة، من تقاليد و عادات و تصورات العشيرة و القبيلة، نظاما كان عضو العشيرة بمفرده خاضعا كليا له بأفكاره و أفعاله.

كانت العشيرة و القبيلة، بالنسبة إلى الفرد نوعا من حدود لجميع علاقاته، حدود مكانية، لأنه لم يكن بوسعه أن ينتقل بحرية إلا في ضمن أراضيها. حدود اقتصادية، لأن وجوده كان رهنا بالجماعة. حدود روحية، لأنه كان يعي و يتحسس نفسه لا كفرد منفرد متميز، بل كعضو في العشيرة المعينة. إن وعي العشيرة كان في الوقت نفسه وعي كل فرد، و كل ما يتخطى إطار العشيرة، إطار القبيلة كان غريبا»(2).

- 6 - و تقول الماركسية في بيان سبب زوال المجتمع البدائي:

«و لقد تم تقدم قوى الانتاج داخل الكومون البدائية التي كانت تسهّل آنذاك إلى أقصى حد، النضال ضد الطبيعة. و كانت المراحل الأساسية هي: تأليف الحيوانات بفضل القوس و السهام و تقسيم العمل بين الرعاة و الصيادين البدائيين، ثم الانتقال إلى الزراعة بفضل الآلات المعدنية كفأس الحديد و سكة المحراث. يضاف إلى ذلك أن صناعة الخزف كانت تساعد على الاحتفاظ بالمؤن.

كان لهذا التقدم نتائج عظيمة. فلقد وفّرت تربية الحيوانات و الزراعة مصادر أكثر انتظاما و غزارة مما يوفره الصيد البري.

... و لم يعد العمل، بعد ظهور تربية الحيوانات و الزراعة للحاجة المباشرة، بل أصبح ينتج فائضا، فيصبح التبادل ضروريا و ممكنا، كما تتوفر إمكانية تجميع الثروات»(3).

و مع تزايد إنتاجية العمل الفردي، أخذ يتطور الانتاج الفردي في العائلة الواحدة، الأمر الذي قوّض أسس التوزيع المتساوي... فقد ظهر التبادل بين القبائل: أي شكل جديد من العلاقات الاقتصادية و ظهر المنتوج الزائد أي المنتوج الذي يبقى بعد تلبية الحاجات الضرورية. و ظهرت بالتالي إمكانية تكديس هذا المنتوج و إعادة توزيعه، و تركيز الثروات في أيدي قسم من المجتمع.

ص:182


1- (1) المصدر نفسه ص 58.
2- (2) المادية التاريخية: كوفالسون ص 123.
3- (3) أصول الفلسفة الماركسية: بوليتزر ج 2 ص 60 و ما بعدها.

و كان من الممكن أن يصبح الانسان نفسه ثورة، و لقد أصبحها، لأنه صار من الأفيد أكثر فأكثر اقتصاديا استثمار قوة العمل. و قد تطلّبت الزراعة نمط الحياة الحضري، و أتاح ظهور كمية كبيرة من المنتوجات للناس تشكيل وحدات أوسع من العشيرة و القبيلة.

و قد أدت جميع هذه العوامل إلى انحلال الجماعية البدائية و إلى تفسيخ العلاقات القائمة على المساواة البدائية. و دخلت القوى المنتجة الجديدة، في تناقض مع علاقات الانتاج القديم. و محلها حل المجتمع الطبقي مع الملكية الخاصة، و مع استثمار الانسان للانسان»(1).

و أما الدولة، فلم تظهر في نهاية المجتمع البدائي، أو بداية مجتمع الرق، بل بعد ذلك، في زمن متأخر نسبيا، على ما سيأتي.

- 7 - «حينما أخذ بعض أعضاء الكومون البدائية، بالانتقال تدريجا من الآلات الحجرية إلى الآلات الحديدية، كانوا، يجهلون النتائج الاجتماعية التي يفضي إليها هذا التجديد، و لم يكونوا يفكرون في ذلك.

و لم يعوا ذلك، و لم يكونوا يدركون أن استعمال الآلات المعدنية يعني ثروة في الانتاج، و انه سيؤدي بالنهاية إلى نظام الرق. لم يكونوا يريدون سوى جعل عملهم أسهل، و ان يحصلوا على فائدة مباشرة محسوسة، فكان نشاطهم الواعي ضمن نطاق هذه الفائدة اليومية الضيق.

تركت نهاية العصر البدائي، و مطلع عصر الرق آثارا عميقة في مخيلة الناس. و لما كانوا لا يدركون ضرورتها الموضوعية، رأوا فيها انتقاما إليها و فقدانا «للبراءة» الأولية، و ثمرة «للشر» و «الكبرياء» و الشيطان و هكذ صيغت «الفضائل» القديمة. في أفكار، تولد عنها العديد من الموضوعات الأخلاقية. فاستمرت ذكرى وجود المرأة القديم في أسطورة سبيل آلهة الخصب. كما نعى الانجيل «سقوط» الانسان، و تغنىّ الشعراء القدامى أمثال هزيود و أوفيد «بالجيل الذهبي» الذي تنبأ المأثور بعودته المحتومة»(2).

- 8 - هذا كله على مستوى «التجريد» الماركسي.

و أما تطبيق هذه السلسلة النظرية على التاريخ البشري الفعلي، فلم تجده الماركسية إلا في كلام «مورغان» حين أصدر كتابه «المجتمع القديم». و هو كاتب أمريكي معاصر لانجلز، وجد انجلز أن هناك تشابها

ص:183


1- (1) المادية التاريخية لكوفالسون ص 124 و ما بعدها.
2- (2) أصول الفلسفة الماركسية: بوليتزر ج 2 ص 63.

كبيرا بين كتابه و بين النظرية الماركسية... فكتب كتابه المشهور «أصل العائلة و الملكية الخاصة و الدولة» من أجل الالماع إلى ذلك و التركيز عليه.

و لا طريق للقارئ، عادة، إلى كتاب مورغان، إذ كان لا يحسن لغة الكتاب. و إنما طريقه طليه هو ما نقله عنه انجلز في كتابه المشار إليه.

و كتاب انجلز لا يقتصر - بطبيعة الحال - على ما يذكره مورغان، بل يضيف إلى ذلك أشياء كثيرة من آرائه، و يقتصر من مورغان على نقل نصوص من كتابه ليس إلا.

و قد يكون في مجموع آراء انجلز و مورغان التاريخية، بعض المشابهة مع النظرية الماركسية، على ما سنسمع لدى المناقشة؛ و أما كلمات مورغان نفسها و نصوصه فلا ربط لها بصحة النظرية بأي حال. و سنسمع ذلك أيضا. و من المعلوم أن أكثر من 90 بالمائة من كتاب «أصل العائلة» هو من آراء انجلز و انشائه لا من آراء مورغان، كما هو واضح لمن راجع الكتاب.

و معه يحسن أن نرجئ الاشارة إلى الجانب التطبيقي، إلى حين المناقشة.

ص:184

مناقشة المجتمع الشيوعي البدائي

- 1 - من الطريف أن الماركسية تتكلم عن أغلب بل عن جميع تشكيلاتها أو عهودها الخمسة، بشكل تجريدي، و تنظر إليها نظرا رياضيا، في حين أن المجتمع هو واقع تاريخي أكثر منه أي شيء آخر.

فمن المعروف أن هناك فرقا كبيرا بين الدائرة الهندسية التجريدية التي يتصورها الذهن، و بين أية دائرة فعلية يرسمها أي انسان، مهما كان فنانا فكذلك يلمس القارئ الفرق بين ما تقوله الماركسية بشكل تجريدي عن تطورات المجتمع، و ما يراه في الواقع من لحم و دم و أفعال و أقوال.

إن هذا التجريد الماركسي يتصف بعدة صفات رئيسية:

الصفة الأولى: التسليم المطلق بأن هذه الأشياء قد حدثت فعلا، من دون إعطاء أي مجال للتشكيك أو الاحتمال. و كلما كان الحادث أو الظاهرة أقرب في نظر الماركسيين إلى نظريتهم، كان حدوثه أكثر يقينا و تأكيدا.

الصفة الثانية: إن هذه الأشياء قد حدثت أو تحدث في العالم كله بدون استثناء، و بدون أي تمييز.

الصفة الثالثة: إن شيئا آخر غير هذا التجريد الرياضي لم يحدث و لن يحدث؛ و كلما خالف ذلك، فهو كذب، ان أمكن تكذيبه، و إلا فهو لا بد مندرج في هذا التجريد على كل حال.

في حين أن كلا من هذه الصفات، قابلة للمناقشة:

أما الصفة الأولى: فلأن ما هو المعلوم باليقين من التاريخ، هو الواقع المعاش، و بعض الأمور الواضحة من الماضي، و كل ما عداه، فهو محتمل الوجود و العدم. كالأعم الأغلب جدا من أمور الماضي و المستقبل. و قد سمعنا اعتراف انجلز بأن حوادث الماضي غامضة و مشوشة؛ و كلما كان

ص:185

الماضي أبعد كان أشد غموضا و التباسا، فكيف يمكن أن نأخذ مجموعة ضخمة من الحوادث كأنها يقينية الحدوث.

و أما الصفة الثانية: فهي - على الأقل - مخالفة لما ذكره لينين، من أن هذه النظرية تعطي توجيهات عامة، تطبّق هنا على غير الأسلوب التي تطبّق به هناك. و هذا الكلام لا يختلف فيه عهد عن عهد بطبيعة الحال. فكيف تستطيع الماركسية أن تجزم أن كل الصفات التي أعطتها للمجتمع البدائي و الحوادث التي سردتها فيه، قد حدثت في العالم كله.

و أما الصفة الثالثة: فلأن العالم حشد هائل من الحوادث و الظواهر، و إذا نظرنا إلى مجموع التاريخ البشري، كان هذا الحشد أشد ضخامة و أعظم خطرا و هولا، فكيف تستطيع الماركسية أن تتصيد من هذا لمجموع الحوادث «المختارة» لتصنع منها «لوحة تجريدية». و كيف تستطيع أن تقول: ان هذا هو التاريخ دون غيره. إلا أن يكون هذا جزافا من القول، أو يعود إلى فرض النظرية على الواقع على عكس ما أرادته الماركسية.

و مورغان و أبحاثه، ما هي قيمتها من الناحية التاريخية و المنطقية؟! إن مورغان باحث و مؤرخ، و هذا مما لا ينبغي المناقشة فيه. و لكن تبقى هنا عدة نقاط ينبغي فحصها:

النقطة الأولى: ان نظرية تأسيسية جديدة في تفسير التاريخ، لا يمكن أن تتبرهن إلا إذا قامت على مجموعة كافية و واضحة من حوادث التاريخ، بحيث أخذها المؤرخون أمورا مسلّمة و ثابتة. و خاصة و أن الماركسية - كما سبق - أرادت أن تفهم نظريتها من الحوادث، لا أن تطبق الحوادث على نظريتها.

و أما إذا اعتمدت هذه النظرية على أقوال مؤرخ واحد، و على حوادث محتملة و غير ثابتة. فهذا مما يخلّ بثبوت أصل النظرية. كما هو معلوم.

النقطة الثانية: ان مورغان كاتب متأخر، بطبيعة الحال، لم يعاصر العصر القديم للبشرية. كل ما في الموضوع أنه استقى من مصادر و كتب السابقين عليه جملة من معلوماته، و ملأ الفراغات باجتهاداته و آرائه في حدود ما يعتقد أنه مناسب الحدوث في ذلك الحين.

فلئن كان مجموع آرائه مناسبا مع النظرية الماركسية، لو سلّمناه، فإن

ص:186

آراءه الخاصة مما لم يستطع أن يقيم عليه دليلا كافيا، لا يمكن الاعتماد عليها. و أما ما استطاع إقامة الدليل عليه، و نقله عن مصادر موثوقة، فهو غير كاف و لا مناسب مع النظرية الماركسية، و إلا لاعتمد عليها انجلز قبل اعتماده على كتاب مورغان.

النقطة الثالثة: ان من الأدلة الرئيسية عند مورغان، لاستنتاج صفات المجتمع القديم، هو وجود ما يماثله من مجتمعات بدائية في العصر الحاضر.

و لكن هذا لا يتم، و لا يمكن أن يكون إثباتا كافيا، لوجود الاحتمال - على الأقل - بأن هناك فروقا كبيرة و أساسية بين المجتمع القديم و المجتمع البدائي المعاصر. و هذا الاحتمال لا يمكن نفيه إلا لمن كان مشاهدا لكلا المجتمعين، إذا وجد هما على شكل واحد. و لا يوجد مثل هذا الانسان على وجه الأرض.

و مما يدعم هذا الاحتمال: الاستفهام عن السبب الذي أوجب تطور باقي المجتمعات مع بقاء هذا المجتمع على بدائيته. ان هذا لا يمكن بدون أسباب رئيسية أوجبت ذلك، تمثّل بدورها فروقا مهمة بين شكلي المجتمع البدائي.

و على أي حال، فمع وجود هذا الاحتمال، لا يمكن الزعم بأننا نعرف صفات المجتمع القديم.

- 3 - و قد أوضح بليخانوف هذه الحقيقة حين قال:

«و لكنه لا يسعنا الاعتماد إلا على التخمينات فيما يتعلق ب «الانسان البدائي».

فالبشر الذين يسكنون الأرض حاليا، و الذين لاحظهم في الماضي باحثون جديرون بالثقة، هم بعيدون جدا عن الوقت الذي توقفت فيه الحياة الحيوانية بمعنى الكلمة الأصلي، بالنسبة إلى الانسان.

هكذا، فقبائل ايروكوا في أميركا الشمالية - و نظام الأمومة الذي تعيش فيه هذه القبائل، و درسه و وصفه مورغان، بلغت نسبيا مرحلة متقدمة جدا في التطور الاجتماعي. و الاستراليون الحاليون أنفسهم لا يملكون لغة و حسب (و اللغة هي الشرط و الأداة و السبب و النتيجة في كل حياة اجتماعية) و لا يعرفون استخدام النار و حسب، بل هم يعيشون أيضا في مجتمعات، في ظل نظام معين و لهم أعرافهم و مؤسساتهم.

ص:187

و القبيلة الأوسترالية لها أرضها و أساليبها في الصيد و وسائلها في الدفاع و الهجوم، و هي تستعمل أوعية لحفظ المؤن، بعض أعمال تزيين الجسد. و بكلمة مقتضبة: ان الاسترالي رغم تأخره، يعيش في بيئة اصطناعية»(1).

إذن، فالفرق بين المجتمع القديم و المجتمعات البدائية المعاصرة، ليس محتملا فحسب، بل هو مؤكد و يقين... و باعتراف شخص ماركسي كبليخانوف. و أين هذا من الصورة التجريدية التي تعطيها الماركسية للمجتمع القديم.

- 4 - إن صحة أبحاث مورغان، مستندة في نظر انجلز إلى مطابقتها، في رأيه، لتطور وسائل الانتاج.

قال انجلز:

«إن اللوحة التي رسمتها هنا، استنادا إلى مورغان، عن تطور البشرية عبر عهد الوحشية و عهد البربرية إلى منابع الحضارة، غنية كفاية بخطوط جديدة. ناهيك بأنه لا جدال فيها، لأنها مأخوذة مباشرة من الانتاج»(2).

و هذا يعني فرض النظرية على الواقع، فإن النظرية هي التي تقول باستناد التطور إلى وسائل الانتاج. و المفروض أنها تفهم من أبحاث مورغان، لا أن تفهم أبحاثه على ضوئها.

- 5 - إننا لو حاولنا تطبيق التجريد الماركسي للمجتمع القديم، على كلام انجلز في كتابه «أصل العائلة...»، لوجدنا المفارقات الكبيرة بين الحقلين بحيث لا يكاد يشترك الحقلان إلا في خصائص ضئيلة كالتأكيد على بدائية المجتمع و ضآلة وسائل الانتاج فيه. و نجد إلى جنب ذلك عشرات الأوصاف موجودة في أحد الحقلين مفقودة من الحقل الآخر.

فبينما يؤكد التجريد الماركسي على عدم الملكية الخاصة و على التساوي في التوزيع و وجود الدين و الفن و الاخلاق في المجتمع البدائي. لا نجد لكل هذه الأمور أي أثر في تطبيقات انجلز. إذن فهي استنتاجات افتراضية محضة لا تملك أي إثبات تاريخي.

ص:188


1- (1) فلسفة التاريخ لبيلخانوف ص 71.
2- (2) أصل العائلة لانجلز ص 31.

و أما تطبيقات انجلز في كتابه، فتبدأ بتقسيم المجتمع القديم إلى:

عصور الوحشية و البربرية و أطوار كل منها و تقسيمها إلى أقسام ثلاثة. ثم يبدأ الحديث عن شكل العائلة و الزواج مفصلا، و بانتهائه ينتهي الحديث عن المجتمع القديم ثم يبدأ الكلام عن صفات مجتمعات بعينها، كالمجتمع اليوناني و الروماني و غيرهما و يكون الغرض الأساسي من هذا الاطلاع على الأوضاع السياسية و الاجتماعية و من ثم أسلوب تطور الدولة في تلك المجتمعات.

فما يمت إلى مجتمعنا القديم بصلة هو ما يعود إلى عهود البشرية الأولى، و إلى الحديث عن العائلة.

أما عهود البشرية خلال الوحشية و البربرية، فهو بعيد عن التجريد الماركسي كل البعد. و انجلز و ان حاول ربط تطورها بتطور وسائل الانتاج، إلا أنها عهود حضارية أو مدنية، و ليست عهودا اقتصادية كالعهود الخمسة، الماركسية. فلا بد أن وسائل الانتاج قد أثّرت في التطوير الحضاري من دون الاحتياج إلى علاقات الانتاج أو التناحر الطبقي، خلافا للنظرية الماركسية.

و معه فحتى لو سلّمنا صدق كل هذه التطورات البشرية، فإنه لا يستلزم بأي حال، صدق النظرية و التجريد الماركسيين. و مرور بعض المجتمعات البشرية بهذا التطور فيما سبق، لا يغني مرور أي مجتمع بدائي آخر بنفس التطور، كما تريد الماركسية أن تقول.

و أما الحديث عن العائلة القديمة في كلام انجلز، فهو أيضا بعيد عن التجريد الماركسي، فإنه يتحدث عن الزواج الجماعي و الثنائي و الآحادي و عن تطور النظام العائلي في الأدوار الأولى للبشرية.

و هو حديث عن جانب واحد، من جوانب المجتمع القديم. و هو جانب غير اقتصادي بطبعه. و من هنا تركت الماركسية التأكيد عليه في «تجريدها الرياضي» إلا في بعض المصادر المتأخرة جدا من كتب الماركسيين مثل بوليتزر و كوفالسون، حين وجدوا ضرورة الربط بين التجريد و التطبيق، من أجل محاولة رفع التنافي بينهما. و قد نقلنا عنهما شيئا من ذلك.

ص:189

- 6 - و لو سلّمنا صحة الربط بين التجريد و التطبيق... فلنا أن نتساءل: ان وسائل الانتاج التي أوجبت تطور البشرية خلال عهود الوحشية و البربرية، و أوجبت تطور العائلة من الزواج الجماعي إلى الثنائي إلى الآحادي، كيف لم توجب زوال عهد الشيوعية البدائية... مع تأكيد الماركسية على ان لكل طور من وسائل الانتاج، شكلا مختلف من علاقات الانتاج، و لا يمكن ان تكون علاقات إنتاج واحدة لطورين أو تطورين من وسائل الانتاج. فهل أصبح المجتمع الشيوعي البدائي محتويا على عدد من علاقات الانتاج، أو أن هذه التطورات لا تغير علاقات الانتاج. إن كل ذلك غير ممكن في النظرية الماركسية.

و ما هو فضل و أهمية هذا التطور في وسائل الانتاج الذي أوجب زوال المجتمع الشيوعي، على التطورات السابقة عليه، التي لم تنتج زواله؟ و أين تأكيدات الماركسية على ان كل تطور في وسائل الانتاج ينتج تغير كل الوضع الاجتماعي بكل تفاصيله و خصائصه.

- 7 - ينتج من هذه المناقشات، اننا ينبغي ان نعترف بوجود المجتمع البدائي و تأخر وجود الدولة عنه، و تأخر وجود المجتمعات عن وجود البشرية... لأن هذا مطابق للطبيعة الأولية لتطور البشرية على ما سوف نرى.

و اما ان المجتمع الأول، قائم على أساس التساوي في التوزيع، و عدم وجود الاختصاص او الملكية، و كذلك مقارنة أية ظاهرة مع مرتبة معينة معروفة لتطور وسائل الانتاج... فهذا مما لا يمكن أن يكون له إثبات تاريخي.

و لعمري ان التطبيق الماركسي، لو لا كونه قائما - إلى حد كبير - على الحدس و التخمين، لكان أقرب إلى التصديق من التجريد الماركسي الذي يعامل التاريخ البشري معاملة الأشكال الهندسية.

- 8 - و هنا لا بد أن نقول كلمة عن الأخلاق و الدين، اللذين ادعت الماركسية وجود هما في المجتمع الشيوعي الأول.

و نحن نتفق معها في وجود هما منذ ذلك الحين، إلا أن ذلك في الواقع، دليل رسوخهما و عمق وجود هما في الذهن البشري، و يكفي أن تعترف الماركسية

ص:190

و هي بالضرورة لا تستطيع أن تنكر، أنهما وجدا قبل أي تطور لوسائل الانتاج و قبل أي وضع اقتصادي أو علاقات الانتاج، و قبل أي وجود طبقي.

بل لا يبعد وجودهما بشكلهما المبسّط قبل وجود المجتمعات، حين كان البشر جماعات متفرقة قليلة الأفراد.

لكننا لا ينبغي ان نخطو إلى الوراء أكثر، لأننا إذا قلنا ان البشرية بدأت من الصفر، حتى بالنسبة إلى التفكير و اللغة، فمن المعلوم ان الدين و الأخلاق لا يمكن أن يدركا من دون تفكير و لا لغة. فإن الدين يتوقف إدراكه على نمو الادراك النظري لدى الانسان. و الأخلاق يتوقف إدراكها على نمو الادراك العملي لديه.

إذن فوجودهما منوط بهذين الأمرين. و غير منوط بأصل وجود البشرية، بناء على هذه النظرية.

نعم لا يمكن أن ننزل بالبشرية، عن مستوى الحيوانات العليا، فإن قلنا - كما يميل إليه بعض الفلاسفة - بوجود درجة من الوعي عند هذه الحيوانات، فلا بد أن نقول بمثله أو بأفضل منه لدى الانسان الأول. و معه فقد يمكن أن نفترض انه يفهم من الدين و الأخلاق شيئا ضئيلا جدا مناسبا مع مرتبة إدراكه. و لعل في حياة العديد من الحيوانات، ما يصلح ان يكون شاهدا على هذا الادراك، و لسنا الآن بصدد تعداده.

هذا و قد سبق أن برهنّا على أصالة الدين و الأخلاق في الضمير الانساني و عدم ارتباطهما بموقف اقتصادي أو اجتماعي معين.

و بطبيعة الحال، كلما ازدادت تجارب الانسان، فردا أو جماعة، ازداد إدراكه النظري و العملي، و كلما ازداد ذلك ازداد للأخلاق و الدين فهما و تعمقا، و اطّلع على حقائق منهما أكثر، و سيأتي تفصيل ذلك عند الكلام عن التخطيط الالهي.

و لعل إدراك الناس للبراءة الأصلية و الفضيلة و الشر و الكبرياء، كأمور سيئة تارة و حسنة أخرى، يحتاج إلى تطور في الادراك العملي إلى مقدار كاف، و ليس من المولّدات الأخلاقية الأولى للذهن البشري... لكنها غير مربوطة في الحقيقة بانتقال البشرية إلى مجتمع الرق، كما أراد بوليتز أن يقول!!.

- 9 - تبقى كلمة واحدة، بالنسبة إلى تحديد زمن انتهاء عصر الشيوعية

ص:191

البدائية، مضافا إلى تعيين ابتدائها.

إن الماركسية تحسن صنعا حين لا تعطي لعهودها التاريخية بشكلها التجريدي وقتا معينا. فإنها قد تزيد و قد تنقص. إلا أنها ذكرت أن عهودا معيّنة قد بدأت و انتهت فعلا. إذن قد اكتسبت تاريخا معينا في عالم التطبيق الفعلي، و من هنا يقع السؤال: إن الواقع التاريخي لعصر الشيوعية البدائية، متى بدأ و متى انتهى؟!...

إن المصادر الماركسية لا تكاد تعطي فكرة محددة حول ذلك؛ و لكن يمكن أن نتصيّد ذلك من كلماتهم.

أما بالنسبة إلى ابتداء المجتمع الشيوعي، فهو يتحدد تجريديا ببدء المجتمعات؛ و لكننا حين نصل إلى عالم التطبيق نجد أن المجتمعات تكونت تدريجا، و لا يمكننا أن نشير إلى نقطة تاريخية محددة تحديدا رياضيا لنقول: انها زمان أو مكان تكون المجتمعات.

إن المجتمعات عند انعقادها الواسع، كانت شيوعية، كما تقول الماركسية، و أما قبل ذلك فما هو حالها... إن هذا أحد نقاط التنافي الكبير بين التجريد الماركسي و التطبيق.

إن الشيوعية البدائية، كما تصفها الماركسية تظهر في تعاون الأسر المختلفة من الناحية الاقتصادية، و بعض النواحي الأخرى. و هذا يصدق على المجتمعات الواسعة نسبيا، و من الصعب أنه صادق على المجتمع الصغير كأسرة واحدة أو نحوها.

إذن، يبقى السؤال واردا بوضوح على الماركسية: إن المجتمع البدائي الشيوعي، هل بدأ مع تكوّن المجتمعات على الاطلاق، أو من توسّع المجتمعات. فالشق الأول هو ما تعرب عنه الماركسية عادة - كمفهوم - و الشق الثاني هو الذي يقتضيه وصفها لذلك المجتمع.

و أما بالنسبة إلى زمن انتهاء المجتمع الشيوعي البدائي من الناحية التطبيقية... فقد يبدو من المصادر الماركسية أنه بقي طويلا في التاريخ.

إن انجلز يتصور النبي ابراهيم عليه السلام يعيش في مجتمع بدائي، و لذا لم يكن يحس بالملكية الفردية، كما نتصورها الآن!!...

قال انجلز:

ص:192

«و من العسير القول ما إذا كان موسى، مؤلف ما يسمى بالكتاب الأول، قد اعتبر البطريرك ابراهيم مالكا لقطعانه بموجب حقه الشخصي بوصفه رئيس مشاعة عائلية، أم بموجب مركزه كرئيس يرث بالفعل عشيرة. هناك أمر واحد لا ريب فيه، هو أنه ينبغي لنا أن لا نتصوره مالكا بمعنى الكلمة الحالي»(1).

بل ان الانجيل نفسه وضع في العصر البدائي نفسه...

قال انجلز:

«و القضية المتعلقة بكيفية نشوء القصص الانجيلية عن المعجزات أنشأت في قلب المشاعة عن طريق تشكّل الخرافات تشكلا غير واع يعتمد على التقليد، أم اختلقها أولئك الذين ألّفوا الأناجيل أنفسه»(2).

و اعتبر بوليتزر - كما سمعنا - بعض أفكار الانجيل كسقوط الانسان، نتيجة لنهاية العصر البدائي و مطلع عصر الرق.

و بغض النظر عن هذا التهافت، بين هذين المفكرين الماركسيين، في أن الانجيل هل وضع خلال عصر المشاعة(3) أو خلال عصر الرق. فإن آلافا من السنين مضت بين بدء المجتمعات و عصر وضع الانجيل. و تكون هذه الآلاف كلها ممثلة للعصر الشيوعي البدائي... على حين لم يبق للعصور المتأخرة عنه سوى ألفين من السنين!!..

و معنى ذلك: انه ليس النبي ابراهيم عليه السلام كان يعيش في العصر البدائي، فحسب، بل موسى واضع ما يسمى بالكتاب الأول - على حد تعبير انجلز - كان يعيش في نفس العصر أيضا... للوضوح التاريخي بأن «العهد القديم» وضع قبل «العهد الجديد» بزمن طويل. و تكون الأسر الفرعونية كلها و ما يقابلها من الآشوريين و البابليين في الشرق الأوسط كلها تعيش في العصر البدائي الشيوعي.

إلا أن هذا كله - مع الأسف - غير محتمل، لوجود عدة نقاط للضعف فيه، نذكر منها ما يلي:

ص:193


1- (1) أصل العائلة لانجلز ص 67.
2- (2) لوفيج فورباخ ص 16.
3- (3) لا يحتمل أن يكون بين وضع القصص و تسجيلها زمان طويل يزيد على الألف عام مثلا، لأن هذه المدة كفيلة بمحو القصص من الأذهان. و من هنا يكون وضع القصص في «قلب المشاعة» مستلزما لتسجيلها في الانجيل في نفس العصر، و معنى ذلك: ان تأليف الانجيل قد تم خلال نفس العصر أيضا.

النقطة الأولى: إن وجود الدولة معناه انتهاء عصر الشيوعية البدائية، لتصريح الماركسيين بأن الدولة إنما أسست بعهده،... و للتنافي الذي يعتقدونه بين التوزيع المتساوي و الطبقية المنتجة للدولة.

و من المعلوم أن العهود المشار إليها: الفرعونية و الآشورية و البابلية و غيرها، كلها محكومة لطبقات أو أسر مسيطرة. و هذا معناه أن البشرية كانت قد اجتازت عصر المشاعة البدائية.

و موسى عليه السلام وجد في عهد الفراعنة، كما أن يسوع المسيح عليه السلام وجد في عصر الدولة الرومانية، إذن فقد وجدا بعد العصر البدائي، و سيأتي أن الماركسية تعتبر المجتمع الروماني مثالا رئيسيا لعصر الرق. إذن، فكيف يكون الانجيل قد كتب في «قلب المشاعة» كما صرح انجلز، مع أنه كتب بعد المسيح يقينا.

النقطة الثانية: ان الكتاب الأول الذي استشهد به انجلز، و هو «سفر التكوين» من التوراة المتداولة، صريح كل الصراحة بوجود الدولة في عصر ابراهيم عليه السلام. و الدولة تعني الخروج من العصر البدائي، كما قلنا و قالوا.

أما في مصر، فقد كان الحكم للفراعنة، و قد ذهب ابراهيم إلى مصر، و كان له مع الفراعنة عدة حوادث نقل الكتاب الأول منها قسطا. منها: أن الفرعون حاول الاستيلاء على زوجته - كما يدّعي الكتاب الأول - إذ يقول:

«فحدث لما دخل ابرام - يعني ابراهيم - إلى مصر، أن المصريين رأوا المرأة أنها حسنة جدا، و رآها رؤساء فرعون و مدحوها لدى فرعون، فأخذت المرأة إلى بيت فرعون. فصنع إلى ابرام خيرا بسببها... الخ ما حدث»(1).

و أما في شرق البحر الأحمر، منطقة فلسطين و الأردن و لبنان الحالية، فقد كانت محكومة لعدة أمراء أو ملوك، كما هو واضح لمن راجع أول الاصحاح الرابع عشر من سفر التكوين، و لا حاجة إلى نقله.

النقطة الثالثة: إن الكتاب الأول نفسه صريح بوجود الملكية لإبراهيم عليه السلام، و غيره بالمعنى الذي نعرفه حاليا، خلافا لما قاله انجلز. كل ما في الموضوع أن انجلز كتب ما كتبه مستعجلا بدون الرجوع إلى المصدر الذي استشهد به.

ص:194


1- (1) سفر التكوين 14/12-16.

إن عددا من فقرات الكتاب الأول دال على ذلك. يكفي أن ننقل منه هذه الفقرة الدالّة على أنه كان لإبراهيم أملاك و أغنام: و كان للوط أيضا مثلها، فوقعت خصومة بين رعاة ابراهيم و رعاة لوط. و لا يمكن أن تقع الخصومة إلا نتيجة للشعور الأكيد و الوطيد بالملكية... فكان أن افترق الرجلان و تباعدا في الأرض، حتى لا تحدث الخصومة بينهما.

«و لوط السائر مع ابرام كان له أيضا غنم و بقر و خيام، و لم تحتملهما الأرض أن يسكنا معا إذا كانت أملاكهما كثيرة. فلم يقدرا أن يسكنا معا، فحدثت مخاصمة بين رعاة مواشي إبرام و رعاة مواشي لوط... فقال ابرام: لا تكن مخاصمة بيني و بينك و بين رعاتي و رعاتك، لأننا إخوان، أ ليست كل الأرض أمامك. اعتزل عني. إن ذهبت شمالا فأنا يمينا و إن يمينا فأنا شمالا»(1).

إذن، فقد كانت الملكية موجودة بوضوح، و وجودها متأخر عن عصر الشيوعية البدائية، كما تعتقد الماركسية، إذن فوجود ابراهيم متأخر عن ذلك العصر لا محالة.

إذن، فلا بد أن يكون العصر البدائي، قد انتهى قبل زمن ابراهيم عليه السلام. و يكون وجوده، كما قلنا فيما سبق، في عصر الرق، لو صح تقسيم الماركسية للتاريخ البشري.

- 10 - أما ما أعطته الماركسية كمبرّر تجريدي لانتهاء عهد المشاعة البدائي، و هو وجود الانتاج الزائد عن الحاجة، و إمكان استغلال قوة العمل الذي أنتج فكرة ملكية الانسان للانسان.

... فمن المنطقي أن ينتج ذلك، أعني الانتاج الزائد، تقويض التوزيع المتساوي، و تكدّس الانتاج الزائد لدى بعض الأفراد، و صيرورة هؤلاء ذوي شأن خاص في المجتمع و امتيازات يفقدها الآخرون. كما أصبح في إمكان هؤلاء فرض السيطرة على جماعة من الناس، و استغلال أعمالهم مجانا لزيادة الانتاج.

كل هذا ممكن...

إلا أن وجود مجتمع الرق من وراء ذلك، غير منطقي و لا ممكن. و ذلك:

أولا: إن استغلال الانسان للانسان، لا يعني تملّكه بالملكية الخاصة،

ص:195


1- (1) المصدر 5/13-10.

بحيث يكون للمالك أن يبيعه أو يهبه، كما هو المفهوم من الرقية. إذ من الواضح أن الاستغلال موجود في أساليب أخرى كالاقطاع و الرأسمالية، و هو غير متوقف على التملك الخاص.

و من الواضح: أن حاجة الرجل القوي المستغل تكون مقضيّة و منفّذة بمجرد حصوله على أعمال الآخرين. فإنه بذلك يحرز لنفسه أكبر مقدار ممكن من الانتاج الزائد الذي يطمع به. أما ملكيته للآخرين بأعيانهم، فهو أمر غير مربوط بالمرة بالانتاج. فهي خصيصة لا توجب زيادة العمل المستهلك، إن لم توجب، من الناحية النفسية نقصانه. فافتراض الملكية تجريديا، خال عن المبرر الصحيح.

ثانيا: إن هذا الاستغلال، قد ينتج سيطرة الأقوياء المستغلين على جماعات من الناس. و أما سيطرتهم على كل الناس أو على أغلبهم، بحيث يصح القول بانقسام المجتمع إلى مالكين و مملوكين فحسب، كما تريد الماركسية أن تقول - تجريديا -، فهو مما لا يصح لعدة أسباب:

أهمها: إن إمكانية الانتاج أساسا لم تكن في ذلك العصر على هذه السعة، التي تحتاج إلى استغلال كل الناس. كما أن المستوى الفكري الذي يجعل الفرد يلتفت إلى إمكان امتلاكه لكل أفراد المجتمع، لم يكن موجودا أيضا.

كما أن الفرد القوي المستغل، يحتاج في إنتاجه الفائض إلى تسويق يتوقف على وجود أناس «أحرار» يبيعون و لا يباعون... لأن الانتاج قد يكون من الغزارة بحيث لا يستطيع الفرد القوي أن يبيعه بنفسه، كما لا يمكنه أن يستغل عبيده لبيعه، لأن العبد ليس له شخصية قانونية و لا يستطيع أن يتولى أية معاملة، في عرفهم. إذن، فيحتاج التوزيع و التسويق إلى أناس أحرار يتكفلونه. إذن، فلا بد أن يكون جزءا كافيا من المجتمع بقي على حريته، ليقوم بهذه المهمة، و ليس من مصلحة المستغلّين استرقاقهم.

هذا هو الذي ينبغي أن يكون «تجريدا» صحيحا، بدل التجريد الماركسي. و سيأتي بعد لحظة كلام الماركسية مفصلا في وصف مجتمع الرق، مع مناقشته.

ص:196

مجتمع الرق

اشارة

- 1 - إن مجتمع الرق هو أول أشكال المجتمع الطبقي، بعد زوال المساواة البدائية، و قد سبّبت العوامل التي أدت إلى زوالها إلى دخول البشرية في عصر الطبقية، خلال عصور: الرق و الاقطاع و الرأسمالية.

حيث «دخلت القوى المنتجة الجديدة في تناقض مع علاقات الانتاج القديم، و محلها حل المجتمع الطبقي مع الملكية الخاصة و مع استثمار الانسان للانسان»(1).

- 2 - «إن المجتمع الطبقي لم يظهر في جميع الأنحاء في وقت واحد. فقد ظهر بادئ ذي بدء في الأودية الخصبة لأنهر: يانتسي و هوانة و النيل و اليانغ و دجلة و الفرات. فإن التربة الخصبة و السهلة على الحراثة في هذه الأودية كانت تعطي غلة جيدة نسبيا، رغم استعمال الأدوات الزراعية البدائية. و من هنا بالذات، قبل أي مكان آخر، أخذ يدبّ الانحلال في المشاعة البدائية و ظهرت العبودية (الرق) شكل الاستثمار البدائي الوحشي الأخشن، الذي كان يضمن لمالك العبيد منتوجا إضافيا، بتخفيض استهلاك المنتج المباشر إلى الحد الأدنى المطلق»(2).

إن هذا التحول الاجتماعي الكبير، منوط أيضا، بتطور القوى المنتجة، في نظر الماركسية، طبقا لقاعدتها العامة في كل تحوّل.

«فعوضا عن الأدوات الحجرية، أصبحت عند الناس الآن أدوات معدنية، و بدلا من اقتصاد يقتصر على صيد ابتدائي فقير، و يجهل تربية المواشي و الزراعة، تشهد ظهور تربية المواشي و الزراعة و حرف شتى. و تقسيم العمل بين هذه الفروع المختلفة للانتاج، كما شهد ظهور إمكان تبادل المنتجات بين الأفراد و الجماعات و إمكان تراكم الثروة في أيدي عدد ضئيل من الناس و تكديس وسائل الانتاج بصورة فعلية في أيدي الأقلية، و إمكان جعل الأكثرية خاضعة للأقلية، و تحويل أكثرية الناس إلى عبيد»(3).

ص:197


1- (1) المادية التاريخية: كوفالسون ص 125.
2- (2) المصدر و الصفحة.
3- (3) المادية الديالكتيكية: ستالين ص 49.

- 4 - و تعطي الماركسية للرق، مضافا إلى الأوصاف السابقة، ما يلي:

«إن العبد الرق بالنسبة إلى المالك يستطيع بيعه و شراءه و قتله كالماشية»(1).

«كان العبد ملكا مطلقا لسيده، الذي كان يستطيع أن يتصرف به تصرفه بالسوائم.

و كان العبيد محرومين من كل الحقوق المدنية حتى الأساسية منها. و كان أسيادهم يستطيعون قتلهم دون أن ينالهم عقاب.

و من الواضح أن شروطا كهذه كانت تجعل من الضروري اللجوء إلى العنف لارغام العبيد على العمل. فكان استثمار العبد الفظيع سبب تهدم قواهم السريع، فإذا عجزوا عن العمل قتلوا. و كان من الضروري لاستبدال الموتى بغيرهم، و لتوسيع الانتاج أن يكون هناك فيض لا ينقطع من العبيد، فكان الأسياد يتداركونهم عن طريق الحروب التي تشنها الدول النخاسة على الدوام تقريبا»(2).

«هنا يسود العمل الاجباري عمل عبيد يستثمرهم سادة عاطلون منعمون، و لهذا لم تبق أيضا ملكية مشتركة لوسائل الانتاج و لا المنتجات إذن، فقد حلّت محلها الملكية الخاصة هنا يصبح سيد العبيد هو المالك الأول و الرئيسي، المالك المطلق.

أغنياء و فقراء، مستثمرون و مستثمرون، أناس لهم كل الحقوق و أناس ليس لهم أي حق، نضال حقيقي طبقي حاد بين هؤلاء و أولئك تلك هي لوحة نظام الرق!...»(3).

- 5 - و لم تستطع الماركسية أن تعرض عن ضغط الفكرة القائلة بوجود طبقات اجتماعية عديدة، أهمها التجار «الأحرار» الذين أشرنا إلى ضرورة وجودهم في مجتمع الرق.

قال بوليتزر:

«و قد نشأ داخل مجتمع الرقيق طبقات أخرى. فقد ظهرت طبقة العمال اليدويين حينما انفصلت المهن عن الزراعة. ثم ولد ازدياد التبادل تبادل السلع.

و من هنا نشأت تناقضات جديدة و لما كانت طبقة التجار وسيطا لا غنى عنه بين منتجين، فقد جمعت بسرعة ثروات ضخمة، و أصبح لها تأثير اجتماعي يناسب هذه الثروات. و أخذت تنافس الملاّكين، لتوجيه السياسة حسب مصالحها الطبقية.

غير أن هذه التناقضات الثانوية لا يجب أن تخفي التناقض الأساسي ذلك: لأن الرق

ص:198


1- (1) المصدر و الصفحة.
2- (2) نظرات علمية في الاقتصاد السياسي: سيغال ص 21.
3- (3) المادية الديالكتيكية: ستالين ص 49-50.

يساعد على زيادة الثروات و الانتاج الذي تعيش منه التجارة. و تزيد زيادة الانتاج قيمة قوة العمل الانساني، فيصبح من الصعب الاستغناء عن الرق الذي يصبح عنصرا أساسيا في النظام الاجتماعي»(1).

- 6 - و من حيث التطبيق، وجدت الماركسية خير مثال لعصر الرق، ما كان عليه الحال في الدولة الرومانية، إلى جانب ما كان عليه الحال في أجزاء كثيرة من اليونان، في عصر سابق أو معاصر للدولة الرومانية.

«إن اليونان القديمة و روما القديمة هما ذلك «الموديل» لمجتمع العبودية(2).

ففي اليونان كان «الحق الأبوي مع توريث الملكية للأولاد ييسر تراكم الثروات في العائلة و يجعل من العائلة قوة في وجه العشيرة، و الفوارق في الملكية تؤثر بدورها في تنظيم الادارة بخلقها أولى أجنة الأريستوقراطية الوراثية و السلطة الملكية و العبودية التي كانت لا تشمل في البدء غير أسرى الحرب، تفتح السبيل أمام المستعبد لاستعباد أعضاء قبيلته بالذات و حتى أعضاء عشيرته.

و الحرب القديمة بين القبائل تتحول من ذاك إلى عملية نهب و سلب في البر و البحر لأجل الاستيلاء على الماشية و العبيد و الكنوز، و تتحول بالتالي إلى مصدر عادي للكسب إلى حرفة»(3).

«و نما عدد العبيد نموا ملحوظا، و من الأرجح أنه زاد كثيرا في ذلك الوقت على عدد الاثينيين الأحرار»(4).

و في روما كان الملاّكون الاريستوقراطيون «يحرثون بواسطة العبيد العقارات الشاسعة المتكوّنة على هذا النحو»(5).

و لا بد أن العدد الذي يتهيأ له من العبيد حراثة المساحات الشاسعة، عدد كبير فعلا.

- 7 - و يستمر التجريد الماركسي، ليصف زوال مجتمع الرق و تبدله إلى الخطوة التالية، في تسلسل المادية التاريخية، و هو المجتمع الاقطاعي.

و ينطلق أيضا إلى ذلك من القانون الكوني الديالكتيكي و قانون تطور

ص:199


1- (1) أصول الفلسفة الماركسية، بوليتزر و آخرين ج 2 ص 70.
2- (2) المادية التاريخية: كوفالسون ص 128.
3- (3) أصل العائلة و الملكية الخاصة و الدولة: انجلز ص 140-141.
4- (4) المصدر ص 148.
5- (5) المصدر ص 171.

وسائل الانتاج.

«لقد كان نظام الرق شكلا اجتماعيا ضروريا من أشكال تطور القوى المنتجة، في مرحلة معيّنة من مراحل التاريخ. و لكن هذا التطور بدوره كان سببا لانحطاط هذا النظام»(1).

«و تدريجا أخذ المجتمع العبودي يتحول بسبل و أشكال معقّدة و متناقضة إلى مجتمع إقطاعي»(2).

«و إذا كان نظام الرق في عهد نشأته و في أيامه الأولى عاملا في تطور القوى المنتجة، فلقد أصبح فيما بعد سببا لتهديم هذه القوى. و كان هذا الانحطاط في القوى المنتجة أن يؤدي بدوره إلى انحلال الرق و زواله. و على قدر ما كان يزداد الافقار الشامل و انحطاط التجارة و الحياكة و الزراعة كان عمل العبيد ينقطع عن أن يكون عملا مفيدا و ذا ريع»(3).

لم يعد الرق يعطي أية فائدة، و لذلك كان يموت شيئا فشيئا، و لكنه كان يترك وراءه ابرته السامة، و هي احتقار الرجال الأحرار للعمل المنتج... فنظام الرق لم يعد من الناحية الاقتصادية نظاما يمكنه البقاء و عمل الرجال الأحرار، كان أخلاقيا، موضع الاحتقار، فالرق لم يعد يمكن أن يكون أساس الانتاج الاجتماعي، و عمل الأحرار لم يكن يمكنه حتى ذلك الوقت أساسا له. و كان العلاج الوحيد لهذه الحالة، ثورة كاملة»(4).

- 8 - و لهذا التجريد تطبيقه أيضا على نفس النموذج المفضّل، و هو المجتمع الروماني، فالماركسية تروي لنا كيف زال الرق من المجتمع الروماني.

«عند ما كان اقتصاد نظام الرق قويا و ثابتا، انتهت تمرّدات العبيد التي كانت تحدث من آن لآخر إلى الفشل. (و أكبرها جميعا تمرد سبارتاكوس من سنة 73-71 ق م) و لكن الوضع تغير تماما مع انحطاط اقتصاد نظام الرق و انحطاط الامبراطورية بوجه عام، و قد تكلّمنا عنه آنفا.

و قد اتخذت تمرّدات العبيد منذ القرن الثاني للميلاد، شكلا أكثر حدة، و صادفت - على الأغلب - تأييدا من قبل الطبقات الفقيرة من السكان الأحرار - و هو أمر له أهمية خاصة.

و صادف في الوقت عينه أن بدأ البرابرة الجرمان يتوغّلون في أراضي الامبراطورية الرومانية، التي كانوا معها في حالة حرب منذ عدة قرون، فسهّل هجوم الجرمان تمردات

ص:200


1- (1) نظرات علمية: سيغال ص 22.
2- (2) المادية التاريخية: كوة فالسون ص 129.
3- (3) نظرات علمية ص 22.
4- (4) المصدر ص 25 نقلا عن أصل العائلة لانجلز.

العبيد، في هزيمة روما على يد الجرمانيين و أدّت هذه الهزيمة من جديد إلى الاسراع في سير ثورة العبيد و تصفية نظام الرق.

... لقد أخذ الفاتحون الجرمان ثلثي مجموع أراضي الرومان و وزّعوها على «البطون» و العائلات، و لكن قسما هاما من الأراضي المفتوحة وزّعها الملوك على القادة العسكريين الذين أعطوها بدورهم إلى محاربيهم، ليتصرفوا بها تصرفا دائما دون أن يكون لهم حق بيعها أو التخلي عنها للآخرين.

إن هذه الأراضي التي بقيت تحت سلطة الملك العليا، سميت إقطاعات و سمي أصحابها أسيادا إقطاعيين... و هكذا نشأت حوالي القرن التاسع الاقطاعية أو النظام الاقطاعي»(1).

مناقشة مجتمع الرق

لا ينبغي أن ننكر وجود بعض المجتمعات في التاريخ، اعترفت بالرق، و بملكية الانسان للانسان، و كثر فيها العبيد، و كان لهم أثرهم فيها.

و إنما ينبغي أن تنطلق المناقشة من زاوية وجهة نظر الماركسية من حيث كون المرور بمثل هذه المرحلة ضروريا من ناحية و لازما لكل البشرية بدون استثناء.

كيف، و يوجد ضد إمكان الالتزام بصحة هذا التعميم عدة نقاط للضعف:

النقطة الأولى: إن نظام الرق، و إن وجد في المجتمع اليوناني و الروماني، إلا أنه لم يشمل مناطق أخرى من العالم.

قال كوفالسون:

«إن اليونان القديمة و روما القديمة، هما ذلك «الموديل» لمجتمع العبودية الذي يحكمون بموجبه أحيانا كثيرة على كامل مرحلة الأزمنة الغابرة. و لكن هذا الموقف غير دقيق تاريخيا.

ففي مصر و الهند و الصين سار التطور في الأزمنة الغابرة بأشكال مختلفة بعض الشيء، فإن العبودية لم تتطور هناك بمثل ذلك الاتساع الذي تطورت به اليونان و روما.

إن نظام المشاعات الريفية المنغلقة نسبيا قد أنشأت طرازا من مجتمع سمّاه ماركس بالأسلوب الأسيوي للانتاج. و أسلوب الانتاج هذا، أ هو تشكيلة اجتماعية خاصة أم لا. إن

ص:201


1- (1) المصدر ص 25-27.

هذه المسألة لا تزال قيد المناقشة. و لكنه واضح على كل حال، انه طراز أصيل فريد من تنظيم اجتماعي ثابت جدا، و قلما طرأ عليه تغير و تطور. و إن هذا يميّزه بكل حدة عن عالم البحر الأبيض المتوسط الدينامي جدا، من حيث مقاييس ذلك الزمن»(1).

إذن، فمصر و الهند و الصين لم تمر بنظام الرق، و إنما مرّت بنظام آخر يختلف تماما عن عالم البحر الأبيض المتوسط عالم الرق الموجود في اليونان و الرومان. فكيف صح ذلك، و تحقق في عالم الوجود، إذا كانت الضرورة التاريخية لتطور وسائل الانتاج، تقتضي وجود نظام الرق على أي حال؟!.

النقطة الثانية: إن الماركسية لا تستطيع أن تبتّ بشيء جزمي في هذا الأمر الذي هي بصدده، لأنها تعترف بوجود الغبار الكثيف على التاريخ المانع من الرؤية التفصيلية و الذي يجعل أكثر التفاصيل تقوم على الحدس و الاستنتاج الشخصي دون النقل الموثوق.

ففي كتاب أصل العائلة كرر انجلز عدة مرات هذه الحقيقة، و خاصة بالنسبة إلى النموذجين المفضّلين: المجتمع اليوناني و الروماني. و إذا كان هذان المجتمعان خفيين في تاريخهما، و هما أوضح تاريخا و أشهر من أكثر مناطق العالم، فكيف بغيرهما من المجتمعات.

ففيما يخص التاريخ اليوناني، قال انجلز:

«إن تاريخ أثينا السياسي حتى سولون، ليس معروفا بصورة كافية»(2).

و قال في موضع آخر:

«نحن لا نعرف التفاصيل بدقة»(3).

و فيما يخص التاريخ الروماني قال:

«و بسبب الظلام الكثيف الذي يلفّ تاريخ روما الأسطوري البدائي - و هو ظلام شدّده كثيرا ما بذله علماء القانون المتأخرون الذين تشكّل مؤلفاتهم مصادرنا من محاولات لتفسير التاريخ بطريقة براغماتية عقلانية، و ما قدّموه من أوصاف و عروض بالطريقة ذاتها - يستحيل قول أي شيء دقيق»(4).

و إذا كان التاريخ مجهولا، و الظلام كثيفا، و القول الدقيق متعذرا،

ص:202


1- (1) المادية التاريخية: كوفالسون ص 128.
2- (2) أصل العائلة ص 144.
3- (3) المصدر ص 149.
4- (4) المصدر ص 169.

فكيف يصح أن نستنتج النظرية منه. و المفروض بالماركسية أن تستنتج النظرية من الواقع، دون العكس، كما ألمعنا إليه مكررا.

النقطة الثالثة: إن التجريد الماركسي، يفترض أن مجتمع الرق منقسم إلى طبقتين: قلة مالكة متنفّذة، و كثرة كاثرة مملوكة مجرّدة من كل الحقوق.

إلا أن التطبيق مناف لهذه الصورة من عدة جهات نشير إليها باختصار:

الجهة الأولى: إن نسبة الأحرار إلى العبيد كانت كبيرة، لا كما يتوقّعها التجريد الماركسي.

قال انجلز عن المجتمع الأثيني:

«كان مجمل عدد المواطنين الأحرار بمن فيهم النساء و الأطفال يبلغ زهاء 90000 (تسعين ألف) شخص. بينما كان عدد العبيد ذكورا و أناثا يبلغ 365000 (ثلاثمائة و خمسة و ستون ألف) شخص. و عدد الموالي من مهاجرين و غرباء و عبيد محررين 45000 (خمسة و أربعون ألف) شخص. و هكذا كان يوجد مقابل كل مواطن راشد من الذكور 18 عبدا على الأقل و أكثر من اثنين من الموالي»(1).

أقول: تكون نسبة العبيد إلى مجموع غيرهم من أحرار و موالي هكذا:

90 + 365/45 /ألف/ألف 73/27365/135 أي حوالي نسبة الثلث إلى الثلثين، و هي نسبة منافية مع التجريد الماركسي إلى حد كبير.

الجهة الثانية: إن المجتمع الروماني، كان منقسما إلى ست طبقات(2)، لا إلى طبقتين، كما ذكر انجلز، خلافا للتجريد.

الجهة الثالثة: إن كثيرا من الأحرار ليسوا فقط، غير مالكين، بل هم فقراء أيضا. نعرف ذلك من النص الماركسي الذي سمعناه يقول:

«و قد اتخذت تمرّدات العبيد منذ القرن الثاني للميلاد شكلا أكثر حدّة. و صادفت - على الأغلب - تأييدا من قبل الطبقات الفقيرة من السكان الأحرار - و هو أمر له أهمية خاصة»(3).

النقطة الرابعة: إن هناك أسباب معينة اقتضت تطور المجتمع واضحة للعيان، غير تطور وسائل الانتاج، و يبدو بوضوح أنه لو لا تلك الأسباب لما

ص:203


1- (1) المصدر ص 155. و يلاحظ ان انجلز يذكر هذه الأرقام بدون الاعتماد على أي مصدر.
2- (2) انظر أصل العائلة أيضا ص 169.
3- (3) نظرات علمية: سيغال ص 25.

حصل تطور المجتمع الروماني من الرق إلى الاقطاع.

فمثلا نعرف من حديث سيغال السابق عن الظروف التي أدّت إلى ذلك، انها متكونة من عدة عناصر. منها: ثورات العبيد التي كانت عديدة في ذلك المجتمع. و منها: - و ربما الجزء الأهم - توغل البرابرة الجرمان في الامبراطورية الرومانية.

إذن، فلولا هذا التوغل لبقي مجتمع الرق ساري المفعول، و الدولة الرومانية مستمرة. إذن، فليس السبب في هذا التطور، هو تطور وسائل الانتاج في المجتمع الروماني.

أضف إلى ذلك: أن سيغال أوضح: ان الجرمان تقاسموا الأراضي فيما بينهم، فصار مالك كل قسم إقطاعيا. فلولا هذا التنظيم الذي أحدثوه لما وجد الاقطاع في الدولة الرومانية. إذن فالاقطاع مستند إلى الغزو الخارجي، لا إلى تطور وسائل الانتاج في ذلك المجتمع، أو إلى شعور الملاّكين بأن الفلاّح أكثر إنتاجا من الرقيق، على ما سوف نسمع من الماركسية في شرحها التجريدي لأسباب وجود الاقطاع.

النقطة الخامسة: ان مجتمع الرق، من زاوية ماركسية، موجود قبل المجتمع اليوناني و الروماني بكثير. فالفراعنة في مصر، و ملوك الشرق الأدنى من البابليين و الآشوريين و غيرهم، لا بد للماركسية أن تقول أنهم عاشوا مجتمع الرق، دون المجتمع البدائي، بطبيعة الحال. فلما ذا لم تشر الماركسية إلى ذلك.

و قد سمعنا في النقطة الأولى من المناقشة، من كوفالسون أن مصر لم تمر بعصر الرق. و نظره - كما يبدو - متوجه إلى مصر في الحقبة المعاصرة للدولة الرومانية، و لم ينظر إلى ما قبل ذلك إلى زمن الفراعنة الأقدمين، الذين توافق صفات مجتمعهم، إلى حد ما، ما تعطيه الماركسية من صفات لمجتمع الرق تجريديا.

و على هذا تكون مصر قد خرجت على التجريد الماركسي، لأنها انتقلت من الرق (في عصر الفراعنة) إلى غير النظام الاقطاعي، إلى الأسلوب الأسيوي للانتاج - كما سمّاه ماركس -، الذي هو طراز أصيل و فريد من تنظيم اجتماعي ثابت جدا، و قلما طرأ عليه تغير و تطور، كما سمعنا من كوفالسون.

ص:204

مجتمع الاقطاع

اشارة

- 1 - تربط الماركسية حدوث مجتمع الاقطاع، بقاعدتها العامة، و هي تطور وسائل الانتاج أو قوى الانتاج. و تناقض الشكل الجديد لها مع نظام مجتمع الرق.

قالت على لسان بعض كتّابها المحدثين، و هو الطف ما وجدناه للتجريد الماركسي في تصوير هذه الفقرة:

«و في ظروف مجتمع الرق حدث تطور تال للقوى المنتجة رفعها إلى مرحلة جديدة. ففيه حدث تحسين في عملية صهر المعادن و صناعة الحديد، و انتشار المحراث الحديد و نول النسيج، و تطور زراعة الأرض و إنشاء البساتين و صناعة الخمور و الزيوت. و على هذا الأساس تتغير و تتحسن تجربة و مهارات العمال.

كانت قوى الانتاج المتطورة، تتطلب أن يكون لدى كل شغيلة نوع من المبادرات في الانتاج و المصلحة في العمل. و كان الرق الذي تساوى مع أداة العمل الجامدة يعرقل إدخال تكنيك جديد، لأنه كان ينظر إليه بعين العداء.

و لقد كان الرقيق يصب جام غضبه و يفرغ نقمته على أدوات العمل و غالبا يقوم بتحطيمها و لهذا كانت تصنع الأدوات، عن قصد، فجة و دون توفر المهارة.

و كان الرقيق الذي يعمل تحت العصا ذا إنتاجية عمل جد منخفضة. إن إدخال أدوات جديدة أكثر صلاحية، كان يتطلب تغيير علاقات الانتاج في مجتمع الرق. كانت الضرورة الاقتصادية تجبر على رفض استخدام الرقيق باعتباره خال من المصلحة و الاهتمام بالعمل.

و لقد تجلّت هذه الضرورة في التناقض الصارخ الذي كان مصدر تفسخ و انهيار نظام عهد الرق. و ينحصر هذا التناقض في أن العمل (الذي هو الشرط الأساسي لوجود كل مجتمع) يصبح هنا غير قمين بالانسان، يصبح لعنة على جماهير الأرقاء. و ليس في وسع الناس أن يعيشوا بدون عمل، لكن في وسعهم أن يعملوا كثيرا و يبقوا أرقاء.

كان المخرج في التناقض هو في تحطيم علاقات إنتاج عهد الرق و الطبقات المرتبطة بها، و في خلق علاقات إنتاجية جديدة تضمن للمنتجين المباشرين و لو جزءا يسيرا من الاهتمام

ص:205

بالعمل»(1).

و يتلخص هذا الكلام عن انهيار مجتمع الرق و قيام مجتمع الاقطاع على أنقاضه بالأسباب التالية، يمكن تلخيصها كما يلي انطلاقا من التصورات الماركسية العامة:

السبب الأول: تطور وسائل الانتاج، الذي يقتضي بشكل ديالكتيكي و خارج عن إرادة الانسان، تحوّل النظام الاجتماعي.

السبب الثاني: أن الرقيق كان ذا قوة إنتاجية منخفضة، لا تفي بإطماع المالكين و طموحاتهم إلى الربح الوفير، و من هنا استبدلوا بفكرة الرق فكرة الاقطاع(2).

السبب الثالث: ان الأرقاء أنفسهم باعتبار سوء ظروفهم المعاشية و الاجتماعية كانوا يقومون بتمردات و ثورات عديدة، حتى أنهم كانوا يحطمون أدوات الانتاج نفسها، و يعملون الجديد منها بدون مهارة و لا إخلاص. و هذا التمرد أدى في نهاية المطاف إلى انهيار الرق و قيام الاقطاع.

السبب الرابع: ان نظام الرق في بعض مراحله الأخيرة، اقتضى أن يبقى الرقيق بدون عمل، و هذا مناقض مع طبيعة الناس الاجتماعية و المعيشية فاقتضى ذلك تغيير علاقات الانتاج القديمة و إبدالها بغيرها، من أجل الحصول على العمل.

أما أنه هل يمكن اجتماع هذه الأسباب كلها، أو لا بد أن يصدق بعضها دون بعض، و هل هي متفقة على نتيجة واحدة أو لا فهذا ما سيأتي عند المناقشة.

هذا كله على مستوى التجريد الرياضي، الذي هو مصدر الالهام الرئيسي للماركسية.

و هو بالرغم من أهميته لم نجده إلا في مصدر متأخر جدا من مصادر الماركسية.

- 2 - أما أغلب المصادر الماركسية، فهي تنطلق إلى وجود المجتمع الاقطاعي، من التطبيق، من تحول المجتمع الروماني من الرق إلى الاقطاع. و قد سمعنا من

ص:206


1- (1) المادية التاريخية لعدد من الكتاب السوفييت ص 166 و ما بعدها.
2- (2) و هذا السبب هو الذي أكد عليه ستالين في كتابه المادية الديالكتيكية ص 50 و ما بعدها.

«سيغال» مختصرا عن ذلك فلا نعيد.

- 3 - و تشرح الماركسية مميزات المجتمع الاقطاعي، و وجهات تفوّقه عن مجتمع الرق، من زاوية كونه يعتبر خطوة تقدمية بالنسبة إليه، فتقول:

«يمثل النظام الاقطاعي تطورا في الملكية الخاصة، و أساسه الاقتصادي هو ملكية السيد الاقطاعي لوسائل الانتاج، و كذلك ملكيته المحدودة للعامل القين.

لم يعد بإمكان الاقطاعي أن يقتله، و إن كان يمكنه أن يبيعه أو يشتريه. و لا يملك القين، سواء كان فلاحا أو عاملا يدويا، شخصيا، إلاّ آلاته و ما اقتصده على أساس العمل الشخصي. و هكذا يمكنه أن يكوّن عائلة»(1).

«و خلافا للعبد، كانت تتوفر للفلاح في المجتمع الاقطاعي فرصة العمل في قطعته من الأرض، و كان يبقى له حد أدنى من المنتوج، ضروري لأجل تجديد إنتاج قوة العمل. و كان بإمكان الفلاحين في أغلب الأحوال أن تكون لهم عيالهم، حتى و إن كانوا في حالة تبعية قنّيّة.

و لهذا لم يكن تجديد إنتاج قوة العمل مرتبطا بالضرورة بالحروب، و لم يكن طابعه التبديدي بنفس الضراوة التي كان عليها في ظل نظام العبودية.

لقد كان العبد بمنزلة الأداة. أما الفلاح في النظام الاقطاعي. فقد كان يعتبر إنسانا، و إن كان من الفئة الدنيا من الناس»(2).

- 4 - و تستمر الماركسية، واصفة المجتمع الاقطاعي، فتقول:

إن بنية المجتمع الاقطاعي الطبقية معقدة نسبيا، فإن الفوارق الطبقية فيه مستورة الانقسام إلى فئات و مراتب. فالانسان ينتسب منذ ولادته إلى فئة أو مرتبة معينة. فهو إما نبيل أو فلاح، إما تاجر أو حرفي. و الانتقال من فئة إلى أخرى صعب للغاية. و تسود فئتان متميزتان هما فئة النبلاء و كبار رجال الدين.

... و تتميّز الدولة الاقطاعية بالملكية المراتبية أو المطلقة، و تتميّز ايديولوجيتها بسيادة الدين بلا منازع. و الدولة و الكنيسة اللتان هما مؤسستان كلّيتا الجبروت من مؤسسات هذا المجتمع تصونان و تحميان ملكية الطبقة السائدة و امتيازاتها»(3).

«و اتخذ الاستثمار الاقطاعي للفلاحين شكلين رئيسيين:

1 - إجبار الفلاح على أن يعمل مجانا أياما معينة من الأسبوع في حقول السيد (و هي السخرة).

ص:207


1- (1) أصول الفلسفة الماركسية، بوليتزر ص 72 ج 2.
2- (2) المادية التاريخية: كوفالسون ص 129.
3- (3) المصدر ص 130.

2 - إجباره على تسليم جزء من محصول أرضه الخاص (و هي الاتاوة).

و كان الفلاح يملك حق ترك سيده لينظم إلى سيد آخر، و لكنه لا يستطيع - مع ذلك - ان يتحرر من السيادة الاقطاعية»(1).

- 5 - «و كان المنتجون الحرفيون المستقلون الذين يقطنون في المدن و ينتجون بقصد البيع، يسدون قسما كبيرا من حاجاتهم بما ينتجونه بعملهم الخاص (فكانوا يملكون مواش و بستانا و حقلا في بعض الأحيان). و كان التبادل محليا على الأخص و يجري بين المدينة و القرى المجاورة لها.

و إلى جانب هذا كانت هناك تجارة المنتجات المستوردة من البلاد الأخرى، و خصوصا الأشياء الكمالية و الافاويه (البهارات) و غيرها. و لكن لم يكن هناك تقريبا تبادل بين المناطق المختلفة لكل قطر.

و لما كان طابع الانتاج طبيعيا، و كان تطور المبادلات ضعيفا، و كانت الطرق و المواصلات سيئة، كانت البلاد مجزّأة إلى مقاطعات و مناطق مستقلة.

... و مع تطور التبادل، أخذ استثمار الفلاحين يزداد خطوة فخطوة، فكلما اتسع التبادل و كلما استطاع السيد الاقطاعي شراء أشياء كمالية و أسلحة لمحاربيه، كلما وجب عليه - بالتالي - ان يستنزف من فلاحيه أكثر مما كان يستنزف أولا. فصارت حقول الأسياد تتسع على حساب أراضي الفلاحين. و السخرات تزيد و معها تزيد الاتاوات»(2).

- 6 - ثم تشرح الماركسية على طريقتها التجريدية أسباب زوال الاقطاع، و انحطاط المجتمع الاقطاعي، قائلة:

في البداية «تظل صور نضال القيون بدائية: كالهرب من منطقة السيد، و تنظيم العصابات في الغابات، و القيام بالثورات لمحاولة القضاء على السجلات التي سجل عليها السيد ما يتوجب عليه»(3).

ثم توجد «بداية منازعات جديدة: إذ تولد فئة القيون التي مارست الصناعة اليدوية و من ثم التجارة، طبقة جديدة. و يزداد تناقض المصالح بين هؤلاء «البرجوازيين» إذ يجب على هذه البرجوازية الفتية أن تنمي قوى الانتاج، و ان تكون قوة اقتصادية كبيرة. و تصبح علاقات الانتاج الاقطاعية، التي كانت في البدء مطابقة لطابع قوى الانتاج، عامل تأخر،

ص:208


1- (1) المادية الديالكتيكية، ستالين ص 50.
2- (2) نظرات علمية في الاقتصاد السياسي، سيغال ص 28.
3- (3) أصول الفلسفة الماركسية: بوليتزر و آخرين ج 2 ص 73.

فتتحوّل إلى عوائق لهذه القوى. و يبدو التناقض بين البرجوازية و الاقطاعية، بعد أن كان ثانويا، قد تولد عن نمو قوى الانتاج داخل نظام الرق، فيظهر على المسرح ليقوم في النهاية بالدور الرئيسي»(1).

- 7 - و أما مجتمع الاقطاع من حيث التطبيق، فلا يحتاج إلى أي تأكيد، فإنه أوضح من أن يوصف. أن أوروبا عاشت عدة قرون تحت هذا النظام، ابتداء بالغزو الجرماني للدولة الرومانية و انتهاء بالثورة الفرنسية التي كانت الحلقة الرئيسية الأولى في بناء البرجوازية الرأسمالية.

و من هنا كان للماركسية أن تمثّل لتمردات الفلاحين (الأقنان) على ذلك النظام بحركة الجاكيين في فرنسا في القرن الرابع عشر، و حرب الفلاحين في ألمانيا في القرن السادس عشر، و تمردات رازين بوغاتشيف في روسيا(2).

و ستأتي إيضاحات أخرى عن زوال الاقطاع، من حيث التجريد و التطبيق عند الكلام عن حدوث الحلقة التالية للمادية التاريخية الماركسية.

ص:209


1- (1) المصدر و الصفحة.
2- (2) نظرات علمية لسيغال ص 30.
مناقشة المجتمع الاقطاعي

لا ينبغي أن نختلف مع الماركسية في أن عددا من بلدان العالم، و خاصة في أوروبا، مرت بعهود ملكية الأراضي الواسعة، المسماة بالاقطاع.

و إنما النقاش ينبغي أن يبدأ في إمكان ضرب القاعدة العامة لضرورة مرور أي مجتمع بشري بهذا النظام، كما أرادت الماركسية أن تقول... مع التأكد من صحة أو عدم صحة الأوصاف المعطاة لهذا النظام، و انطباق التجريد مع التطبيق، و نحو ذلك من المناقشات.

- 1 - لا بد أولا أن ننظر في مدى صحة الأسباب التي رأى التجريد الماركسي وجود المجتمع الاقطاعي على أساسها. و هنا لا حاجة إلى تكرار الأسباب، و إنما نبدأ بالمناقشة رأسا.

أما السبب الأول، ففي عدة نقاط ضعف نذكر منها ما يلي:

النقطة الأولى: ان خروج هذا التطور عن إرادة الانسان، ينافي ما ذكر في السبب الثاني من أن المالكين هم الذين اختاروا هذا النظام، و جعلوه البديل الأفضل لنظام الرق. و هو السبب الذي أكد عليه ستالين، كما عرفنا.

كما ينافي أيضا السبب الثالث، و هو أن الأقنان بثوراتهم العديدة هم الذين أجهزوا على نظام الرق، و أقاموا مجتمع الاقطاع.

فإن أجابت الماركسية: أنهم أرادوا ذلك قهرا، طبقا لضرورة القانون لا بالوعي و الاختيار.

قلنا في جوابه: أن هذا منسجم مع القوانين العامة التي آمنت بها الماركسية إلا أنه ينافي أمرين:

الأمر الأول: ان الماركسية - كما عرفنا - جمعت بين الضرورة و الاختيار فأثبتت للانسان اختيارا و وعيا، و نفت الضرورة الجبرية المطلقة. إذن فالأقنان

ص:210

كانوا مختارين في ثوراتهم، غير مجبورين. و هو ينافي السبب الأول.

الأمر الثاني: ان الماركسية صرحت بكل وضوح، على ما سوف يأتي، أن مرحلة الاشتراكية، لا يمكن أن توجد إلا بالعمل الواعي من قبل الاشتراكيين و بالارادة الثورية منهم. فإذا كان للاشتراكيين إرادة بصفتهم بشرا - طبعا - فليكن لكل البشر إرادة و وعي، بما فيهم الأقنان و مالكيهم أيضا.

النقطة الثانية: ان من جملة فقرات قانون الديالكتيك الماركسي: أن التغير الكمي يصبح عن طريق الطفرة تغيرا كيفيا، و أن التغير لا يمكن أن يوجد بشكل سلس لا طفرة فيه. و قد عرفنا ذلك فيما سبق.

فأين الطفرة إلى الاقطاع؟!. إن الماركسية لم تذكر أي طفرة أو ثورة اقتضت هذا المعنى، و إنما تبدو الأسباب التاريخية سلسة في إيجاد هذا النظام الجديد.

إن ثورات العبيد كلها فاشلة، كما يخبرنا سيغال(1). و برر ذلك كوفالسون قائلا:

«لأنهم كانوا مشتّتين غير منظّمين، و لأنهم لم تكن لديهم أهداف سياسية واضحة»(2).

و أكبر التمردات جميعا هو تمرد سبارتاكوس من سنة 73-71 قبل الميلاد(3)و هو - بالرغم من أهميته - متقدم جدا على وجود الاقطاع، فلا يصلح أن يكون سببا له، مضافا إلى فشله. إذن، فثورات العبيد لا تصلح أن تكون ممثلة لهذه الطفرة المتوقعة. و لو لا الغزو الجرماني لبقي المجتمع الروماني تحت نير الرق إلى أجل غير مسمى.

و أما الغزو الجرماني نفسه، فهو لا يصلح أن يكون ممثلا لتلك الطفرة لعدة أسباب:

أولا: لوجوده في مجتمع واحد من مجتمعات الرق، و لم تحدّثنا الماركسية عن وجود مثيله في اليونان مثلا.

ثانيا: انه سبب خارجي. و الماركسية تتحدث عن التغير الكيفي الداخلي كغليان الماء الناتج عن تصاعد الحرارة.

ص:211


1- (1) نظرات علمية ص 25.
2- (2) المادية التاريخية ص 131.
3- (3) نظرات علمية لسيغال ص 25.

ثالثا: ان هذا الغزو بمجرده لم ينتج زوال نظام الرق، لو لا أن الغزاة الجرمان قرروا، بعد مدة، توزيع الأراضي و إيجاد نظام الاقطاع.

إذن، فالسبب الأول غير صحيح.

و أما السبب الثاني: فهو قد يكون صادقا على بعض المالكين، إذا أراد أن يحرر عبيده. إلا أنه - مع الأسف - مناف مع التطبيق التاريخي، فإن الذين طبقوا الاقطاع في المجتمع الروماني ليسوا المالكين بل هم الغزاة الجرمان أنفسهم و قد وزّعوها على أنفسهم لا على المالكين السابقين للرقيق. فالمالك لم يصبح إقطاعيا، كما هو المفروض لو صح هذا السبب، كما أن الاقطاعي الجديد لم يكن مالكا للرقيق.

و أما السبب الثالث: فقد عرفنا أن ثورات العبيد وحدها لم تكن بأي حال كافية لقلب النظام في المجتمع الروماني، لو لا الغزو الجرماني. فضلا عما دون الثورة من نشاط لتحطيم آلات الانتاج و عدم صناعتها بمهارة.

هذا، و لم ترو لنا الماركسية، وجود ما يماثل هذه الثورات في العدد و الأهمية في مجتمعات الرق الأخرى.

مضافا إلى أنها كلها متقدمة على زمن زوال الرق، فلا تصلح أن تكون سببا مباشرا لزواله.

و أما السبب الرابع: فهو بمجرده صيغة تافهة جدا، فإن بقاء الناس من دون عمل لا يعني أي شيء ما لم يستتبع تمردا أو ثورة. فإن انتقلنا إلى التفكير في وجود الثورات، استقبلنا التاريخ بما عرفناه من ثورات العبيد و الغزو الجرماني، و قد عرفنا مناقشاتها.

هذا و ينبغي أن نلتفت بدقة، إلى أن ثورات العبيد و بقاء الناس من دون عمل، لا يعني الانتقال إلى نظام الاقطاع بأي حال. كل ما تعنيه وجود الواقع الفاسد و ضرورة تغييره. و أما الحال الجديدة التي يجب أن تطبق في المجتمع، فهذا ما لا يفهمه الجمهور، و لا دليل بأي حال على أن العبيد قد قصدوا تطبيق الاقطاع حين قاموا ثائرين... بل يمكن التأكيد على عدم التفاتهم إلى ذلك.

إذن، فما الذي أدى إلى وجود الاقطاع دون غيره، لو انطلقنا من أحد السببين الأخيرين من الأسباب الأربعة.

إذن، فكل الأسباب التي سردتها الماركسية لا تصح و لا تصلح لإزالة الرق

ص:212

و إيجاد الاقطاع. فإذا كان الاقطاع قد وجد في بعض البلدان، كالمجتمع الروماني خاصة، و أوروبا عامة، فقد وجد لأسبابه الأخرى على الطريقة السلسلة غير الماركسية بعد أن فشلت الأسباب الماركسية في تفسير وجوده، و عدم إمكان وجوده بدون سبب بالمرة.

- 2 - إن المملوك في المجتمع السابق كان يسمى «رقا» و الفلاح في مجتمع الاقطاع يسمى «قينا». فما هو الفرق بين الاصطلاحين.

قال بوليتزر:

«إن كلمة «قين» نفسها مشتقة من لفظ لاتيني يعني «الرقيق»...»(1).

إذن، فالمفهوم لم يتبدل خلال النظامين، و إن تبدل اللفظ، إلا أن الأوصاف التي يعطيها التجريد الماركسي للفلاح في نظام الاقطاعي - كما سمعنا - لا يمكن أن تجعل منه قينا أو رقيقا، فهو إنسان صالح للتملك، و لأخذ حصة من الحاصل، و للانتقال من سيد إلى سيد، و غير ذلك مما لا يمكن أن يكون صفة للعبد.

نعم، يظهر من كلام سيغال: أن نظام القنانة جاء متأخرا على نظام الاقطاع.

قال:

«و لقد أدى استثمار الفلاحين المتعاظم شدة إلى دفع هؤلاء للهرب، و في سبيل الحيلولة دون هذا الهرب لجأ الاقطاعيون إلى ربطهم بالأرض، فأصبحوا اقنانا، و في ظل القنانة ازدادت تبعيتهم للاقطاعي و توثقت... الخ»(2).

إذن، فليس كل فلاح اقطاعي هو قن، و إنما أصبح كذلك في عصر متأخر، خلافا لسائر المصادر الماركسية التي تعتبر القنانة صفة عامة.

كما انه يمكن القول، طبقا لرأي سيغال: ان الحال ازدادت سوءا، بل رجعت إلى عصر الرق أو ما يشبهه، و هذا مخالف للمفهوم العام للمادية التاريخية الذي يؤكد على سير البشرية إلى الأفضل دائما.

على أنه ما ذا يعني تشريع الاقطاعيين للقنانة؟... هل يعني ملكيتهم

ص:213


1- (1) أصول الفلسفة الماركسية ص 72.
2- (2) نظرات علمية، لسيغال ص 29.

الشخصية على ما كان في عصر الرق تماما؟! ستجيب الماركسية بالنفي! فإذا لم يكن يعني ذلك فلما ذا سمي النظام بالقنانة، و هل القن إلا المملوك بالملكية الشخصية؟! و هل تشديد النكير على الفلاح من الناحية التشريعية يمنعه من الهرب؟ ان التشريع لا يؤثر شيئا ما لم يقترن بقوة السلاح، و مع وجود القوة لا حاجة إلى هذا التشريع، يكفي تشريع الاشراف العام على الفلاحين، بحيث يعاقبون على عصيانه أو الهرب منه. و بهذا تستوفي حاجة النظام الاقطاعي.

و مجرد كون الرقيق في النظام السابق يمكن قتله، بدون عقاب، بخلاف نظام الاقطاع، لا يكفي فرقا بين الانسانين، مع العلم أن العمل الرئيسي لكل من الرق و القين هو الزراعة، و كلاهما قد يستخدم في أعمال أخرى.

- 3 - قلنا فيما سبق: أن ماركس و الماركسيين، لا يرون في الدنيا بلادا إلا أوروبا. فالكرة الأرضية تبدأ بأوروبا و تنتهي بها.

إن حديثها عن المجتمع الاقطاعي، كله طافح بذلك... خذ إليك المجتمع الروماني و المجتمع اليوناني، و هما في أوروبا. و الغزو الجرماني على الرومان لم يحدث إلا في أوروبا و تطبيقات الاقطاع في المانيا و فرنسا و انكلترا و روسيا، كلها تطبيقات أوروبية. و ثورات الفلاحين، بما فيه تمرد سبارتاكوس كلها أوروبية.

إن نظام السخرة، و أخذ الأتاوة، كان منطلقه الأساسي مجتمع أوروبا.

كما أن وجود الدولة و الكنيسة اللذان يدعمان النظام الاقطاعي، إنما كانت في أوروبا. لوضوح أن الكنيسة منطلقة من الدين المسيحي، و هو دين شائع في أوروبا و قليل في غيرها. فإن الدين الشائع في الشرق الأدنى هو الاسلام، و الدين الشائع في الشرق الأقصى هو البوذية. و في افريقيا تشيع أديان و عقائد بسيطة و بدائية، و كذلك في أمريكا قبل اكتشافها، في العصر الذي نتحدث عنه.

و ينتج هذا التركيز على أوروبا، عدة أخطاء في المادية التاريخية، في حدود مجتمع الاقطاع.

أولا: إن الاقطاع الاوروبي، ليس ينبغي بالضرورة، أن يوجد في مناطق أخرى من العالم. فان لأوروبا ظروفها الخاصة التي اقتضت ذلك.

ص:214

بل هو لم يوجد في غير أوروبا، بكل تأكيد، و أبسط دليل على ذلك: انه لو كان قد وجد لذكرته الماركسية كدليل على نظريتها. و ها نحن نعيش في الشرق الأوسط، فلا نجد خلال الحقب الطويلة لتاريخه، ما يماثل الاقطاع الاوروبي، و لا تشكل ملكيات الأراضي التي حدثت فيه إلا جزءا ضئيلا بالنسبة إلى ذلك الاقطاع، و ما يتصف به من سعة و أهمية.

ثانيا: إن هذا الدين الذي يدعم الاقطاع، هو الايديولوجية الكنسية الموجودة في أوروبا. و ليس من الصحيح الزعم: ان اتجاهات دينية أخرى سوف تتورط بنفس الخطأ حين تجابه نفس الظروف كالاسلام و اليهودية و البوذية.

ثالثا: إن سبب تولد البرجوازية الأوروبية التي أجهزت على الاقطاع ليس بالضرورة ينبغي أن يتكرر في البلدان الأخرى... بعد الالتفات إلى النهضة العقلية و العلمية التي قادتها هذه البرجوازية، و قويت على أساسها في أوروبا، مما يبعد جدا توفره في أي بلد آخر، و لم يحدث - تاريخيا - في أي منطقة أخرى إلى حد الآن. و لو لا بوادر تلك النهضة، لكان في الامكان استمرار حكم الاقطاع و الكنيسة على أوروبا إلى الوقت الحاضر.

- 4 - إن التجريد الماركسي بشكله الكامل، يقتضي أن يكون المجتمع الاقطاعي منقسما إلى طبقتين: قلة متحكمة مالكة للأراضي، و كثرة ساحقة من الفلاحين أو الأقنان.

إلا أن هذه الصورة، كانت شاحبة في مجتمع الرق، أصبحت أكثر شحوبا في المجتمع الاقطاعي. إن طبقات كثيرة أخرى موجودة فعلا في أوروبا غير هاتين الطبقتين، و لا يمكن لأحد أن ينكر أثرها في المجتمع.

إن بعض الطبقات أرجعتها الماركسية إلى مصالح الاقطاع نفسه، و إن لم تكن من الاقطاعيين حقيقة كطبقة الحكام السياسيين للمجتمع، و كطبقة رجال الدين الكنسيين. و بعض الطبقات لم تستطع الماركسية بأي حال إرجاعها إلى ذلك بالرغم من أنها تشكل كثرة كاثرة في المجتمع، ككبار التجار و صغارهم و الحرفيين بأقسامهم. مضافا إلى مهن أخرى كالأدباء و الصحفيين و السينمائيين و غير ذلك، و هم يتبعون ذوق الجمهور و رغبته في الغالب، لا انهم يناصرون الاقطاعيين. و ستولي الماركسية طبقة الحرفيين أهمية خاصة في النظام

ص:215

المانيوفاكتوري الجديد، و هو دليل على توفرها بدرجة تستطيع كتابة الصفة الرئيسية للمجتمع.

النظام الحرفي و المانيوفاكتوري

اشارة

و هو النظام الذي وجد في أواخر الاقطاع و بواكير الرأسمالية، حتى أن نظام المانيوفاكتورة، تعتبره الماركسية عهدا برأسه في مقابل الاقطاع و الرأسمالية، و إنما قلّ عنه التركيز و الاهتمام، باعتبار قصر مدته تجاه العهود الأخرى.

و نستطيع أن نواكب الرأي الماركسي حول هذين النظامين: الحرفي و المانيوفاكتوري، ضمن الفقرات التالية:

- 1 - إن المهن الحرفية موجودة خلال عصر الاقطاع نفسه، إلا أنها تدريجا أصبحت تكتسب أهمية متزايدة. و قد لعبت بأهميتها تلك دورا رئيسيا في تاريخ الاقطاع، حتى استطاعت من خلال التطورات اللاحقة الاجهاز على النظام نفسه.

إن التجريد الماركسي يبرز هذه الأهمية، حين يقول:

«حدثت بالمدن تبدلات هامة، فالعلاقات بين المعلمين الحرفيين و صناعهم، أخذت تزداد خطورة، و مثلها العلاقات بين الحرفيين و التجار. و إليك السبب في ذلك:

لقد كان الفلاحون خلال المرحلة الأولى من النظام الاقطاعي، يهربون باستمرار نحو المدن التي كانت مستقلة استقلالا ذاتيا، و يتمتع سكانها بحريتهم الشخصية، فازداد بهذا الشكل - على الأخص - عدد سكان المدن، و كان هذا مفيدا لها أول الأمر، إذ أن قوتها العددية كانت تزيد باللاجئين إليها. و تنفعها هذه الزيادة في نضالها ضد الاقطاعيين.

و لكن هذا التزايد في سكان المدن أوجد خطرا هدّد الحرفيين، هو خطر المنافسة.

فأخذت «المنظمات الحرفية» تعمد إلى التحديد و التضييق في قبول أعضاء جدد في صفوفها، و أطالت مدد التعليم في المهن، و زادت في استثمار الصنّاع، حتى صار من المستحيل عليهم،

ص:216

أكثر فأكثر، أن يصبحوا معلمين حرفيين. و اتخذت المنظمات الحرفية فوق هذا، تدابير أخرى ترمي إلى منع كل الأساليب الجديدة من أن تدخل في الانتاج، و إلى محاربة المنتوجات المستوردة. فكان من جرّاء ذلك ان نشب النضال بين المنظمات الحرفية و بين التجار»(1).

- 2 - «و إليك الآن كيف ولدت المانيفاكتورة الرأسمالية. لقد كان النول الصغير محتكرا في المدن بيد المنظمات الحرفية. فلهذا أخذ الرأسمال التجاري، الذي كان من مصلحته تطوير الانتاج، يوسع دائرة نشاطه إلى ما وراء المدن. فعزز تطور الانتاج الحرفي في الريف و خصوصا إنتاج النسيج، فكان من جرّاء ذلك، أن وقع «الحرفي» البعيد عن السوق تحت تبعية المتعهد الرأسمالي. و قد اتخذت هذه التبعية بالترتيب الأشكال التالية:

فالحرفي في أول الأمر، يبيع منتجاته بأسعار رخيصة. ثم يتلقى من المتعهد نقودا و مواد أولية على سبيل القرض، فيصبح عاملا يشتغل بصنع المواد الأولية التي تخص المتعهد بعدئذ مقدما من عنده آليته الخاصة لا غير، و رابحا بعد جهد ما يكاد يقوم بأوده.

و يأخذ المتعهد بعد هذا، بتكتيل الحرفيين المبعثرين في بناء واحد، حيث يعملون منذئذ كعمال مأجورين محرومين من كل وسيلة إنتاج.

و عندئذ يصبح الرأسمال التجاري رأسمالا صناعيا، و يظهر إلى جانب الانتاج السلعي الصغير الانتاج الرأسمالي الكبير: أي المانيوفاكتورة»(2).

و إن أفضل وصف و تقييم ماركسي للتنظيم المانيوفاكتوري، نجده على لسان كارل ماركس نفسه في كتابه «رأس المال».

فقد حلّلها تحليلا اقتصاديا، فهي من هذه الناحية أولى مراحل «المادية التاريخية» التي تحاول الماركسية تقييمها من الناحية الاقتصادية. و لعل عذرها في ذلك: ان عصر الرق و الاقطاع، و إن كانت عصورا «اقتصادية» و لكنها من البساطة و البدائية بحيث تكون مدركة للنظارة بدون تحليل. و إنما ينبغي أن يبدأ التحليل من حيث يبدأ التعقيد. و أول و أبسط أشكال التعقيد الاقتصادي - لو صح التعبير - هو الانتاج المانيوفاكتوري. و من هنا استحق إعطاءه تحليله الاقتصادي الكافي.

و مهما تكن صحة هذا العذر، فقد اعتبرت الماركسية النظام المانيوفاكتوري نظاما رأسماليا، نتج من الوجود الحرفي في المجتمع و انتج - بدوره - التراكم الأولي لرأس المال.

ص:217


1- (1) نظرات علمية في الاقتصاد السياسي: سيغال ص 30.
2- (2) المصدر ص 32.

«إن التعاون المؤسس على تقسيم العمل، يعني المانيفاكتورة، هو في أوائل عهده ابتداع عفوي، غير واع. و ما أن يكتسب حدا كافيا من المتانة، و أساسا واسعا سعة كافية، حتى يصبح الشكل المعترف به، و الشكل المنظم للانتاج الرأسمالي»(1).

- 4 - نسمع كارل ماركس، يصف شكل المصنع التعاوني المانيوفاكتوري، حين يقول:

«إن معملا واحدا يجمع تحت إمرة رأس المال نفسه حرفيين من مهن مختلفة، ينبغي للمنتوج أن يمر بين أيديهم، لكي يبلغ نضجه الكامل. لقد كانت عربة من العربات هي النتاج الجماعي لأعمال عدد كبير من الحرفيين المستقلين بعضهم عن بعض، كالنجارين و السرّاجين و الخياطين و القفّالين و الأطّارين و الخرّاطين و الحبّالين و الزجّاجين و النقّاشين و الدهّانين و المذهّبين... الخ، لقد جمعتهم مانيفاكتورة العربات جميعا في موضع واحد حيث يعملون في الوقت نفسه و بصورة مباشرة فيما بينهم.

... و ما زلنا حتى الآن على صعيد التعاون البسيط الذي يجد مادته من الناس و الأشياء جاهزة. و لكن سرعان ما يطرأ عليه تغيير جوهري. ان الخيّاط و الاطّار و القفّال... الخ، الذين ليسوا مشتغلين إلا في صناعة العربات يفقدون شيئا فشيئا عادة ممارسة مهنتهم في كل اتساعها، و مع فقدهم هذه العادة يفقدون الطاقة على ذلك.

و من جهة أخرى، فإن مهارتهم المحدودة - الآن - في اختصاص تكتسب الشكل الأكثر ملائمة لهذه الدائرة الضيقة من العمل... على هذا النحو خرجت مانيفاكتورات الجوخ و عدد من المانيفاكتورات الأخرى من طائفة الحرف المختلفة، تحت إمرة رأس المال نفسه»(2).

- 5 - و يقسم ماركس المانيفاكتورة إلى شكلين أساسيين:

«و هذان الشكلان على رغم تشابكهما العرضي، يؤلفان نوعين مختلفين اختلافا جوهريا، يلعبان أدوارا مختلفة جدا عند التحول التالي للمانيفاكتورة إلى صناعة كبرى. و هذا الطابع المزدوج ينتج عن طبيعة النتاج الذي يدين بشكله النهائي، اما إلى ملائمة آلية بسيطة بين منتجات جزئية مستقلة، و اما إلى سلسلة من الطرائق و الممارسات المترابطة»(3).

فالقسم الأول من المانيفاكتورة، ما تضمن صناعة لآليات متفرقة مختلفة

ص:218


1- (1) راس المال: كارل ماركس ج 3 ص 513.
2- (2) المصدر ص 475 و ما بعدها.
3- (3) المصدر ص 483.

تماما يصنع كل منها بأسلوب مستقل، و حين تتحد و تتجاوز و تتفاعل تنتج آلة جديدة. و يمثّل ماركس لذلك بصناعة القاطرة بأجزائها المختلفة الكثيرة، و الساعات بأجزائها الكثيرة أيضا.

«فبعد أن كانت الساعة عملا فرديا لأحد الحرفيين في نورمبورغ، أصبحت النتاج الاجتماعي لعدد هائل من الشغيلة، كصانعي اللوالب و الموانئ و الرزّات اللولبية و ثقوب الياقوت و روافعه و الابر و العلب و البراغي و المذهبين... الخ. و التقسيمات الثانوية كثيرة جدا»(1).

«... و جميع هذه الأعضاء المتفاصلة تجتمع لأول مرة في اليد التي سوف تصنع منها في النهاية كلاّ آليا. و هذه العلاقة الخارجية البحتة للنتاج المنجز، مع مختلف عناصره، تجعل هنا - كما يحدث في كل عمل مماثل - اندماج العمال الجزئيين في المعمل نفسه عرضيا تماما. بل ان الأعمال الجزئية يمكن تنفيذها بمثابة حرف مستقلة بعضها عن البعض»(2).

و يصف ماركس القسم الثاني من المانيفاكتورة، قائلا:

«إن النوع الثاني من أنواع المانيفاكتورة، يعني شكلها الكامل، يقدم منتجات تجتاز مراحل نمو مترابطة. يعني سلسلة من العمليات التدريجية، كما يجري مثلا في مانيفاكتورة الدبابيس؛ حيث تتداول السلك النحاسي أيدي 72 عامل بل 92 عاملا ليس بينهم اثنان يقومان بالعملية ذاتها.

إن مانيفاكتورة من هذا النوع، من حيث هي، تدمج حرفا كانت أولا مستقلة، تنقص المسافة بين مختلف أطوار الانتاج. و هكذا يقصر الوقت المطلوب لانتقال النتاج من مرحلة إلى مرحلة أخرى، و كذلك عمل النقل»(3).

- 6 - و يعطي ماركس رأيه الكامل في المصنع التعاوني هذا، انه يراه أفضل من الصناعة الحرفية المتفرقة بكثير... و لكنه - مع الأسف! - إنتاج رأسمالي لا يمكن الركون إليه.

و تتلخص نقاط القوة التي يراها ماركس للمصنع التعاوني، بما يلي:

أولا: إنه يوفر وقتا في الانتاج، كبيرا جدا بالنسبة إلى الانتاج الحرفي. كما سمعنا منه قبل قليل.

ثانيا: إنه تقسيم تعاوني للعمل:

ص:219


1- (1) المصدر و الصفحة.
2- (2) المصدر ص 484.
3- (3) المصدر ص 485.

«فبعد أن كانت البضاعة نتاجا فرديا لعامل مستقل يقوم بطائفة من الأشياء تصبح النتاج الاجتماعي لجماعة من العمال»(1).

«ان التقسيم المانيفاكتوري للعمل هو تعاون من نوع خاص و لا تأتي فوائده في شطر كبير منها، من هذا الشكل الخاص، و إنما من الطبيعة العامة للتعاون»(2).

ثالثا:

«إن المانيفاكتورة تنتج تفوّق الشغيل التفصيلي بإعادة إنتاج تقسيم الحرف، و دفعه إلى أقصى حدوده. كما وجدته في مدن العصور الوسطى»(3).

رابعا:

«إن نزوعها إلى تحويل العمل الجزئي إلى مهنة لا يتعداها الانسان إلى سواها، طوال حياته، يستجيب إلى ميل المجتمعات القديمة لجعل الحرف وراثية»(4).

خامسا:

«إن عملا متواصلا و وحيد الشكل يؤدي أخيرا إلى إضعاف انطلاق الأرواح الحيوانية و إضعاف توترها حين تجد راحة و سحرا في تغيير نشاطها»(5).

سادسا: إن الانتاج التعاوني يوفر لأي عامل حرفي من الآلات و الأدوات الضرورية في الصناعة ما لا يمكن لأي عامل حرفي باستقلاله أن يملك إلا القليل منها.

«العهد المانيفاكتوري يختصر و يحسّن و يكثّر أدوات العمل، مع جعلها ملائمة للوظائف المنفصلة و المقصورة على عمال جزئيين»(6).

سابعا:

إنها «تنمي الاختصاص المنعزل حتى أنها تجعل منه براعة كبرى... و إلى جانب التدرج التراتبي ينشأ تقسيم بسيط للشغيله إلى بارعين و غير بارعين. و بالنسبة إلى هؤلاء الأخيرين تزول تكاليف المران. أما الأول فتنقص تكاليف مرانهم إذا قورنت بتكاليف الحرفة.

و في الحالتين تفقد قوة العمل من قيمتها»(7).

ص:220


1- (1) المصدر ص 477.
2- (2) المصدر ص 479.
3- (3) المصدر و الصفحة.
4- (4) المصدر ص 480.
5- (5) المصدر ص 481.
6- (6) المصدر ص 482.
7- (7) المصدر ص 495.

- 7 - و تتلخص نقاط الضعف في هذا الشكل التعاوني من الصناعة، في رأي ماركس، في النقاط التالية:

أولا:

إنها «تفكّك الحرفة الواحدة إلى عمليات مختلفة و تعزلها بعضها عن بعض، و تجعلها مستقلة إلى الدرجة التي تصبح كل منها وظيفة العامل الجزئي وحدة»(1).

ثانيا:

إنه «على الرغم من الفوائد التي تأتي بها المانيفاكتورة المدمجة، فهي تكتسب وحدة تكتيكية حقيقية، ما دامت ترتكز على قاعدتها الخاصة. و لا تحصل هذه الوحدة إلا بعد تحوّل الصناعة المانيفكتورية إلى صناعة آلية»(2).

ثالثا: إنها تنتج فقدان العادة على ممارسة المهنة على نطاق واسع. و قد سمعنا كارل ماركس يقول:

«الذين ليسوا مشتغلين إلا في صناعة العربات يفقدون شيئا فشيئا عادة ممارسة مهنتهم في كل اتساعها و مع فقدهم هذه العادة يفقدون الطاقة على ذلك»(3).

رابعا: إن الانتاج المانيوفاكتوري هو إنتاج رأسمالي في الواقع، يدار برأس مال موحد، و ينتج زيادة في القيمة الفائضة، و يكون باستمرار تحت إشراف رأس المال. و هذا ما سنسمعه في الفقرة التالية.

- 8 - إن الزبدة الرئيسية للقيمة التي يعطيها ماركس للمصنع التعاوني، هو كونه ذا صيغة رأسمالية، و قد سمعنا من ماركس أنه ارجع الشكل الواسع لهذه الصناعة إلى الشكل المنظم للانتاج الرأسمالي.

و قال فيما قال أيضا:

«إن التقسيم المانيفاكتوري للعمل يقتضي سلطة الرأسمالي المطلقة على ناس جرى تحويلهم إلى مجرد أعضاء من جهاز يملكه الرأسمالي.

إن التقسيم الاجتماعي للعمل يصنع المنتجين المستقلين، بعضهم إزاء البعض الآخر، أولئك الذين لا يعترفون في الواقع بسلطة غير سلطة المزاحمة، و لا بقوة غير قوة الضغط الذي

ص:221


1- (1) المصدر ص 478.
2- (2) المصدر ص 491.
3- (3) المصدر ص 476.

تفرضه عليهم مصالحهم.

... و هذا الوعي البرجوازي الذي يمجّد تمجيدا متحمسا التقسيم المانيفاكتوري للعمل و الحكم مدى الحياة على الشغيل بعملية تفصيلية و تبعيته السلبية للرأسمالي...»(1).

«إن الازدياد التدريجي لرأس المال الأدنى الضروري للرأسمالي... هو إذن قانون يفرضه الطابع التكنيكي للمانيوفاكتورة.

إن جسم العمل الذي يعمل في المانيفاكتورة تتألف أعضاؤه من عمال تفصيليين هو ملك الرأسمالي. انه ليس إلا شكلا من أشكال وجود رأس المال...

إن المانيفاكتورة، بالمعنى الدقيق للكلمة، لا تخضع فقط العامل لاوامر رأس المال و نظامه الصارم... إنها تشل العامل و تجعل منه شيئا مسيخا بإذكاء النمو الاصطناعي لبراعته التفصيلية... بل الفرد نفسه يجزّأ و يحوّل إلى لولب آلي لعملية واحدة لا يعدوها»(2).

«إن المعارف و الذكاء و الارادة التي يبذلها الفلاح المستقل و الحرفي المستقل، على نطاق ضيق... لا تطلب بعد الآن إلا لمجموع العمل إن القوى الذهنية للانتاج تنمو من جانب واحد، ذلك لأنها تزول من جميع الجوانب الأخرى. و ما يفقده العمال الجزئيون يتمركز إزاءهم في رأس المال»(3).

إن القيمة الزائدة التي يعتقد ماركس وجودها في الانتاج الرأسمالي عموما، موجودة في المصنع التعاوني. لأنه عمل مأجور، و هو مستحق - في رأيه - للعامل نفسه. فإذا استولى عليه صاحب العمل، فقد استولى على حق العامل بلا مبرر.

و من جملة الشواهد على ذلك في كلام ماركس، قوله:

«إن نقصان القيمة النسبية لقوة العمل، ذلك النقصان الناتج عن نقص تكاليف المران أو زوالها، يستتبع فورا، بالنسبة إلى رأس المال زيادة القيمة الزائدة، ذلك لأن كل ما ينقص الوقت الضروري لانتاج قوة العمل، يزيد - من هذه الطريق نفسها - نطاق العمل الزائد»(4).

- 9 - و ما دامت المانيوفاكتورة قد وجدت، فقد وجد النظام الرأسمالي، بشكله الساذج الأولي، منبثقا من أحشاء النظام الاقطاعي بما كان يحمله من تناقضات

ص:222


1- (1) المصدر ص 503.
2- (2) المصدر ص 508-509.
3- (3) المصدر ص 509.
4- (4) المصدر ص 495.

و ما يتضمنه من صراع، طبقا للقوانين الديالكتيكية الماركسية.

- 10 - و من هنا نعرف أنه لما ذا تجعل المادية التاريخية، النظام الحرفي و النظام المانيوفاكتوري، فقرة مستقلة من فقراتها، إلى جانب الاقطاع و الرأسمالية، و ذلك لأن وجودها الاجتماعي لم يكن يناسب ذلك.

فالحرف كانت موجودة و مواكبة لعصر الاقطاع، و إن كانت تمثّل في عين الوقت الطبقة التقدمية التي تقف إلى جانب الشكل الجديد لوسائل الانتاج، و من هنا كتب لها الانتصار، و كتب على الاقطاع الفناء، باعتباره مناصرا مصلحيا مع الشكل القديم لهذه الوسائل.

و لم ينتصر الحرفيون، بصفتهم هذه، و إنما انتصروا على الاقطاع، بعد تحوّلهم التدريجي إلى رأسماليين، عن طريق مرورهم بالنظام المانيوفاكتوري فما يليه من أشكال الرأسمالية التي اجهزت على الاقطاع.

و أما عدم اعتبار النظام المانيوفاكتوري نظاما مستقلا فهو - بكل بساطة - نظام رأسمالي، فيكون لفظ الرأسمالية شاملا له. فإذا قيل أن النظام الذي يأتي بعد الاقطاع هو الرأسمالية، كان شاملا للمانيوفاكتورة. إلا أن أقسام الرأسمالية تصبح أربعة، و ليست ثلاثة، كما تريد الماركسية أن تقول.

هذا كله انطلاقا من تسلسل التفكير الماركسي.

ص:223

المناقشة

ينبغي أن ننطلق إلى المناقشة من التسليم بوجود النظام المانيوفاكتوري في أوروبا.

«الذي استمر - تقريبا - منذ منتصف القرن السادس عشر حتى الثلث الأخير من القرن الثامن عشر»(1).

كما لا معنى للمناقشة في تفاصيل التنظيم الداخلي لهذا المصنع التعاوني.

كما لا حاجة إلى المناقشة في أفضلية هذا المصنع على الصناعة الحرفية المستقلة، فإن هذه الأفضلية، واضحة، مهما كانت مبرراتها.

كما لا نريد أن نناقش الأساس الرأسمالي الذي تقوم عليه الرأسمالية عموما، في رأي الماركسيين، و هو القيمة الفائضة، فإننا نتعرض لذلك في مرحلة مقبلة من البحث.

و إنما ينبغي أن تنطلق المناقشة، من زاوية انطباق النظام الحرفي و المانيوفاكتوري على القواعد المعطاة من قبل المادية التاريخية، تلك القواعد التي تستهدفها في هذا القسم من البحث استهدافا مباشرا.

النقطة الأولى: إن الصناعة الحرفية و المانيوفاكتورية معا، موجودتان قبل عصر الاقطاع.

أما وجود الحرفيين، فهو أوضح من أن يذكر... و يكفي أن نتذكر أنه الأسلوب الوحيد لمعيشة عدد كبير من الناس، و سد كثيرا من الحاجات على مر العصور... بما فيه عصر الرق و الاقطاع و الرأسمالية، و الاشتراكية أيضا.

و سوف يبقى موجودا ما لم تعزم الماركسية على إلغائه في الطور الشيوعي الأعلى.

و أما المانيوفاكتورة، فمن الطريف أن تعترف الماركسية بكل وضوح، بوجودها خلال عصر الرق.

قال انجلز:

«لقد قضى نظام الرق زمنه، و لم يعد يعطي بعد ذلك أية فائدة تستحق الذكر، لا في

ص:224


1- (1) المصدر السابق ص 475.

الريف، حيث الزراعة الكبرى و لا في «مانيفاكتورات» المدن، و اختفى سوق منتجاته»؟(1).

و إذا كان النظام الحرفي و المانيوفاكتوري، و خاصة الأخير، موجودا في زمن الرق... فهل يكون هذا نظاما رأسماليا قبل وجود الرأسمالية... بل قبلها بعصرين. و لما ذا لم تؤثر في إيجاد النظام الرأسمالي مباشرة بعد عصر الرق؟ و لما ذا لم تشارك مشاركة ما في تغيير النظام، على حين أثرت في عصر الاقطاع في تغييره.

كل هذه أسئلة تكون الماركسية مسئولة عن الجواب عليها.

النقطة الثانية: إن المصنع المانيوفاكتوري، إنما هو أسلوب من أساليب الانتاج ليس إلا. و يمكن وجوده حتى في العصر الاشتراكي. كل ما في الأمر، أن المشرف على هذا المصنع في العصر الرأسمالي هو فرد واحد متمول، و في الطور الاشتراكي الأول هو الحكومة العمالية، و في الطور الاشتراكي الأعلى هو المجالس النقابية، و نحوها، إذن. لا يتعين إن يكون هذا النظام التعاوني، رأسماليا، كما قال كارل ماركس.

و من الطريف: أن هذا النظام يستبطن نفس العيوب التي ذكرها ماركس - لو صحّت - و إن أسست من قبل النظام الاشتراكي، كما هو واضح فراجعها. كما انه يملك نفس المحاسن التي ذكرها، إلى حد قد لا يستغني عنه حتى في الصناعات الآلية الثقيلة... و خاصة الشكل الأول للمانيوفاكتورة مما ذكره ماركس.

النقطة الثالثة: إن الأسباب التي انتجت النظامين الحرفي و المانيوفاكتوري، معلومة معيّنة، و ليست هي تطور وسائل الانتاج. و قد نتج عنها بشكل سلس لا بشكل ديالكتيكي.

و لعل أهم ما يبرهن به على ذلك، هو ما عرفناه من كونها مناسبة مع كل العهود، و غير خاصة بالعصر الرأسمالي... إذ لو كان تطور معين أو مستوى خاص لوسائل الانتاج هو الذي أوجد أحد هذين النظامين، لكان لا بد أن لا يوجدا قبل هذا المستوى لا محالة... و إلا لأمكن وجود الرأسمالية قبل نظام الرق!!؟...

و لو كان مربوطا بهذا المستوى أو ذاك، للزم زواله عند وجود طور آخر

ص:225


1- (1) نظرات علمية: سيغال ص 24 عن انجلز في كتابه «أصل العائلة...».

أرقى لوسائل الانتاج؛ كيف و قد أوجب الطور الجديد تغيير سائر خصائص المجتمع - كما ترى الماركسية -، فلما ذا لم يوجب تغيير هذا النظام. مع العلم أن الماركسية اعترفت و الواقع التاريخي يشهد بوجود النظامين الحرفي و التعاوني في عصر الرق و الاقطاع و الرأسمالية... بل و الاشتراكية أيضا... و لم يوجب تغير النظام الاجتماعي تغييرهما... إذن فهما غير ناتجين من تطور وسائل الانتاج.

و إنما هما ناتجان من أسباب أخرى سلسة، فالحرفة ناتجة من أمرين:

أحدهما: الخبرة الخاصة بعمل معين. و الآخر: الشعور بالحاجة إلى استغلال هذه الخبرة في سبيل العيش. و المصنع التعاوني، ناتج من الشعور بضرورة تحسين النتاج من ناحية، و حصول كل حرفي على ما لدى الآخرين من خبرات و آلات من ناحية ثانية... و حصول المنتوج النهائي من مجموع الأعمال و الاختصاصات، في نهاية المطاف.

و من هنا يمكن أن لا يكون المصنع التعاوني ناتجا من إرادة رأسمال معين، بل من تعاون الحرفيين أنفسهم بإسهام كل منهم بماله و خبرته و عمله في المشروع، و أخذ كل منهم حصته من الربح. و بذلك ينال محاسن هذا الوضع الجديد...

من دون أن يكون باذلا لمجهود زائد.

و من هنا، لا يمكن أن يصح كلام ماركس من أن هذا المصنع وجد في ابتدائه، عفويا و بدون وعي. و إنما وجد لأجل شعور الحرفيين بالأهداف المشار إليها. نعم إنهم لم يكونوا يفهمون: ان هذا الوضع الجديد سيستغل استغلالا رأسماليا، و يساء فيه التصرف و التحكم. لأن نتائج المستقبل مما يصعب على الفرد العادي استشفافها عادة. إلا أن هذا غير العفوية و اللاوعي.

و هناك بعض المناقشات فيما ذكره ماركس من محاسن المانيوفاكتورة و عيوبها، ينبغي أن نعرض عنها صفحا في هذا البحث، لأنه - بالنسبة إلى مهمتنا هنا - تطويل بلا طائل.

و ينبغي أن نلتفت في هذا الصدد، أن التجريد الماركسي كلما يقترب من العهود التاريخية القديمة إلى العصر الحاضر، كلما يبدو تطبيقيا أكثر فأكثر. فبينما نشعر بوضوح أن كلام «سيغال» حول النظامين الحرفي و المانيوفاكتوري تجريدي الاتجاه. إلا أن كلام ماركس أقرب إلى التطبيقية بكثير. فانه يتحدث عن هذا المصنع التعاوني حديث مشاهد، باعتبار ما عاصره فعلا من هذا النظام في

ص:226

أوروبا، التي قلنا مكررا أنها هي محط أنظار المفكرين الماركسيين دائما.

و إذا انحصر الكلام في حيز التطبيق صعب أن يقتنص منه قاعدة عامة.

فإن مرور أوروبا بعصر شاعت فيه المصانع التعاونية، لا يعني مرور كل البلدان بذلك، خلال تاريخها الطويل.

بل حتى لو سلّمنا بمنطق المادية التاريخية، و ان الاقطاع بالضرورة يتحول إلى رأسمالية... لم يكن الأسلوب الوحيد لتحوله إليها، هو وجود المصانع التعاونية، بل قد تكون هناك أساليب كثيرة تختلف باختلاف البلدان. و قد سبق أن سمعنا من لينين المفهوم القائل: بأن هذه النظرية تعطي توجيهات عامة تنطبق في هذا البلد بشكل مغاير عن انطباقه في ذاك البلد.

إذن، فكل ما يمكن أن تقوله الماركسية، هو: أن الأسلوب الأوروبي في الانتقال من الاقطاع إلى الرأسمالية، كان هو المرور بعهد المصنع التعاوني.

و بتعبير أكثر تحديدا: ان العهد المانيوفاكتوري هو العهد الذي مرت به بعض البلدان الاوروبية خلال انتقالها من الاقطاع إلى الرأسمالية. ان القيمة التاريخية لهذه الصناعة، ليست أكثر من ذلك، على أي حال.

و أما البلدان التي انتقلت من الاقطاع إلى الاشتراكية، مباشرة، بما فيها الاتحاد السوفياتي و الصين... فلا نعلم رأي الضرورة الماركسية في حذف العهد المانيوفاكتوري من الوسط و إسقاطه!؟ و إذا كان موجودا فلما ذا لم يكن سببا للوجود الرأسمالي؟!...

ص:227

الرأسمالية

اشارة

و الحديث عن الرأسمالية، ماركسيا، حديث ذو شجون، من حيث كونها العدو الرسمي اللدود لها.

و من هنا أسهب الماركسيون في نقد الرأسمالية أكثر من أي شيء آخر...

سواء في ذلك مفكروهم الأولون أو المعاصرون. بل قدموا إلى جانب الجهد الفكري و النظري ضد الرأسمالية، الجهد الاجتماعي الحي ضدها، و بذلوا مختلف التضحيات في سبيل الاجهاز عليها و القضاء على سلطانها، و لم يفلحوا إلى الآن بشكل كامل.

و السر في ذلك ناشئ من عدة أمور:

الأمر الأول: ان الماركسية نظريا تؤمن نظريا، بأن الرأسمالية هي المرحلة الأخيرة التي تسبق الوضع الاشتراكي الذي تميل الماركسية إلى تطبيقه و إنجازه و من الطبيعي أنه لا يمكن الوصول إلى العهد المفضل، إلا بعد الاجهاز على العهد السابق عليه.

الأمر الثاني: إن الرأسمالية هي أكبر قوة عالمية واجهتها الماركسية منذ ولادتها... فكان من المنطقي أن تستهدف القوة الكبرى بشكل رئيسي، و تدع النزاعات الأخرى إلى الحقول الجانبية.

الأمر الثالث: إن مفكري الرأسمالية و قادتهم، عموما، قاموا بنشاطات تكفكف من غلواء الهجوم الماركسي. منها النقد العلمي للنظريات الماركسية، و منها الحملات الدعائية الواسعة النطاق. و منها: التخفيف من الظلم الرأسمالي على العمال و أمثالهم، إلى حد لم تعد تشعر هذه الطبقة بالحاجة إلى الثورة الاشتراكية.

و كل هذه النشاطات، مما يثير الماركسيين، فيزدادون شرحا لأقوالهم و صقلا لنظرياتهم... و يستمرون بحملات دعائية معاكسة. و هذا مما يزيد الكتب الماركسية عددا، و نشاط الأحزاب الشيوعية في العالم حماسا و اندفاعا.

ص:228

و قد مر الفكر الماركسي تجاه الرأسمالية بتطور ملحوظ، نظرا لاختلاف مستوى الفكر العالمي عموما، و أشكال تطبيقات الرأسمالية خصوصا. و نحن أشرنا في مقدمة البحث إلى هذا التطور، و قلنا أننا نعتبر الكتّاب الماركسيين التقليديين هم الممثلون الحقيقيون للماركسية.

و إذا أردنا أن نتحدث عن وجهة النظر الماركسية التقليدية إلى الرأسمالية، مع التركيز و الاختصار، و إلغاء كل ما لا يمت إلى مهنتنا الأصلية بصلة...

إذن، لا بد لنا أن نسير في ثلاث مراحل، كما يلي:

المرحلة الأولى: كيفية نشوء الرأسمالية تجريديا و تطبيقيا من عهد الاقطاع، مع إعطاء الأوصاف الأساسية لهذه الرأسمالية الناشئة، و ما قد يقوم به الرأسماليون من نشاط و تصرفات.

المرحلة الثانية: إعطاء القيمة الأساسية الاجمالية للرأسمالية عموما، في نظر الماركسية، بغض النظر عن تقسيمها الآتي.

المرحلة الثالثة: الالماع إلى تقسيمها إلى أقسامها الثلاثة الرئيسية التي ذكرناها سابقا، مع النظر إلى أن القيمة الأساسية التي ذكرها ماركس و الماركسيون، هل تنطبق على الأقسام الثلاثة جميعا، أو تخص بعضها دون بعض.

و سيكون البحث في المرحلة الأولى، موازيا في الشكل للبحث في العهود السابقة للمادية التاريخية، من حيث أسلوبه العام، كما سنرى. على حين سيكون الحديث في المرحلتين الآتيتين حديثا اقتصاديا؛ و هو و إن كان جانبيا بالنسبة إلى غرضنا الأهم، إلا أننا قد نستفيد منه حيث نبحث الجانب الاقتصادي لليوم الموعود، في القسم الثالث من هذا الكتاب.

هذا، و ستكون المناقشات ملحقة بكل مرحلة على حدة.

ص:229

المرحلة الأولى نشوء الرأسمالية و صفاتها الأساسية
اشارة

- 1 - تقول المادية التاريخية، بما تعطي من قواعد عامة، في تفسير زوال أي مرحلة تاريخية و وجود المرحلة الجديدة على أنقاضها:

إن وسائل الانتاج التي كانت تقتضي علاقات الانتاج الاقطاعية، استمرت بالنمو و التصاعد، حتى وجدت وسائل جديدة تنسجم مصالحها مع هذه الوسائل الجديدة. و بقي الاقطاعيون طبقة تناصر الوسائل القديمة للانتاج و تنسجم مصالحها معها. و من هنا يقع النضال بين هاتين الطبقتين، و يكتسب تدريجا صيغة النضال السياسي.

و حيث أن الماركسية تفترض أن النصر دائما يكون في جانب الوسائل الجديدة للانتاج... فمن الطبيعي أن يصل ذلك اليوم الذي يقع فيه التضاد بين الوسائل الجديدة و العلاقات القديمة القائمة في المجتمع الاقطاعي، إلى حد تعجز الوسائل القديمة عن مواكبة حاجات المجتمع... فتفرض الطبقة الجديدة إرادتها في تعميم علاقات الانتاج الجديدة على المجتمع و إلغاء العلاقات القديمة، و تكون العلاقات الجديدة عبارة عن الرأسمالية، و يزول الاقطاع، و بتطور وسائل الإنتاج، و وجود علاقات الإنتاج الرأسمالية، يتبدل بشكل عفوي خارج عن إرادة الناس، كل خصائص المجتمع: الاقتصادية و الأخلاقية و العلمية و الدينية و القانونية... الخ.

و قد سميت الطبقة المعادية للاقطاع بالبرجوازية، و قد كانت في بادئ الأمر ذات ملكيات صغيرة نسبيا(1)، حتى ما إذا اتسعت وسائل الانتاج، اتسعت أطماعهم باتساعها، فأصبح الانتاج ضخما، و أصبح التسويق عالميا،

ص:230


1- (1) قد تجد في بعض المصادر، تفسير البرجوازية بأصحاب الملكية المتوسطة. و هذا صادق بالنسبة إلى الزمن الأول لوجودهم. و أما من الزاوية الماركسية فالبرجوازية و الرأسمالية بمعنى واحد، و الرأسماليون هم برجوازيون، و إن وصلوا إلى نهاية الشوط. و ذلك: لاتحاد الاتجاه الاجتماعي من جهة وحدة (القيمة الفائضة) غير المشروعة ماركسيا، بين كل عصور الرأسمالية، من جهة أخرى.

و أصبح الرأسماليون في حاجة الى مواد خام تستورد من خارج بلادهم، إلى أسواق للتصدير، في خارج بلادهم أيضا... فطبقوا ذلك بشكل عسكري على البلدان الضعيفة، فوجد الاستعمار.

- 2 - و لتسمية هذه الطبقة بالبرجوازية قصة: روينا ملخصا منها في كتابنا «نظرات إسلامية في إعلان حقوق الانسان». و زبدتها:

إن المدينة قد تقظ على طريق بري أو نهري أو بحري، أو غير ذلك من أشكال الأهمية، فتنفتح فرصة ثمينة لأهلها المكوّنين - عادة - من حرفيين و صغار التجار و الفلاحين الهاربين من حكم الاقطاعيين... إلى التوسع و زيادة الأرباح، و من ثم يكتسبون قوة اجتماعية و أهمية و أموالا، فيستطيعون أن يشتروا مدينتهم من الاقطاعي الحاكم، لقاء أموال يدفعونها إليه، و يأخذون منه وثيقة تسمى «Charter» هي وثيقة تحرر المدينة، و تسمى المدينة المتحررة، بيرك «Burq» ، و تسمى الطبقة المتمولة التي تشتري المدينة بالبرجوازيين. و لفظها مشتق من لفظ المدينة نفسه... و هي الطبقة التي كتب لها أن تكون رأسمالية تدريجا. و لا زالت جملة من المدن الاوربية ينتهي اسمها بلفظ «بيرك» في مختلف الدول الاوربية، مثل هامبورك و لوكسمبورك و ادنبرة أي ادنبورك في الأصل... و غيرها فهي مدن مشتراة في تاريخها من الاقطاعيين.

و هذه القصة، و إن لم نجدها في المصادر الماركسية مروية بوضوح، إلا أنها تصلح أن تكون فكرة ماركسية، لو أخذت من زاوية «تجريدية» تقول بلزوم مرور كل المجتمعات المنتقلة إلى الرأسمالية من الاقطاع بمثل هذا الدور، فتدخل هذه القصة كحلقة في المادية التاريخية العامة.

و لكن الفكر غير الماركسي يمكنه قبولها من زاوية «تطبيقية» أي كواقع تاريخي مرت به أوروبا في فترة من عمرها... دون أن يكون لها قيمة القانون العام.

- 3 - هذا، و قد رأينا ما لوجود المصنع التعاوني «المانيوفاكتورة» من أثر في إيجاد الرأسمالية في نظر الماركسية... فلا موجب للتكرار.

- 4 - و تستمر الماركسية شارحة ظروف حدوث الرأسمالية، بشكل يختلط فيه

ص:231

التجريد بالتطبيق، فتقول:

«و لهذه القوة الانتاجية الجديدة - يعني المانيوفاكتورة - علاقات إنتاجية جديدة تتناسب معها. فلم يكن الرأسمال من قبل موجودا إلا بشكل رأسمال ربائي تجاري. و كان التاجر و المرابي يستثمران صغار المنتجين الذين يبيعون منتجاتهم الخاصة.

أما منذ ظهور المانيوفاكتورة، فلم يعد العامل يبيع منتجاته، بل صار يبيع قوة عمله.

الرأسمال هو الذي يملك وسائل الانتاج، و يملك البضائع التي يصنعها العامل، و لا يتلقى العامل أجرة تعادل ما ينفقه من قوة عمله بينما هو ينتج القيمة الزائدة للرأسمالي إن العامل مستثمر من قبل الرأسمالي و أسلوب الانتاج صار بهذا الشكل أسلوبا رأسماليا؛ و أخذت علاقات إنتاج جديدة، علاقات رأسمالية، تظهر و تتطور مع نمو القوى المنتجة.

و لكن النظام الاقطاعي، كان يعوق التطور التالي لهذه القوى المنتجة الجديدة، و لعلاقات الانتاج المقابلة لها. و كان الذي يعوق هذا التطور هو النظام الحرفي في المدن، الجزء المتمم للنظام الاقطاعي. غير أن العلاقات الاقطاعية في القرية لم تكن أقل إعاقة لتطور الانتاج الرأسمالي، فان ارتباط الأقنان بالأرض، كان يحرم الرأسماليين من يد عاملة رخيصة.

و هكذا نرى الاقطاعية التي كانت متناسبة عند نشأتها مع مستوى القوى المنتجة في المجتمع، صارت متناقضة مع القوى المنتجة المتزايدة، و صار إلغاؤها ضرورة تاريخية.

فلما ازدادت حدة اضطهاد الدولة الاقطاعية للفلاحين و الجماهير البرجوازية الصغيرة و العاملة في المدن انفجرت الثورات البرجوازية الرامية إلى هدم النظام الاقطاعي و فسح المجال أمام تطور الرأسمالية. و قد حدثت هذه الثورات في انكلترا في القرن السابع عشر، و في فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر»(1).

- 5 - و تعطي الماركسية أوصاف المجتمع الرأسمالي، من زاوية نقاط قوته على المجتمع الاقطاعي من ناحية، و من زاوية نقاط ضعفه التي تستوجب الاجهاز عليه من ناحية أخرى... تعطي هذه الأوصاف، كما يلي:

«في النظام الرأسمالي، تؤلف الملكية الرأسمالية لوسائل الانتاج أساس علاقات الإنتاج، أما امتلاك المنتجين أي العمال المأجورين، فليس له وجود، و لا يستطيع الرأسمالي قتلهم و لا بيعهم، لأنهم محررون من كل تبعية شخصية، غير أنهم محرومون من وسائل الانتاج. و هم مضطرون - لكي لا يموتوا جوعا - أن يبيعوا قوة عملهم للرأسمالي و أن يعانوا نير الاستعمار.

و هنالك، إلى جانب الملكية الرأسمالية لوسائل الإنتاج، ملكية الفلاح و الحرفي الخاصة

ص:232


1- (1) نظرات علمية في الاقتصاد السياسي: سيغال ص 33 و ما بعدها.

لوسائل الانتاج بعد أن حرروا من القنانة. فقد كانت هذه الملكية المؤسسة على العمل الشخصي منتشرة انتشارا واسعا في بادئ الأمر و حلّت الفبارك و المعامل العظيمة المجهزة بالآلات محل ورشات الحرفيين و المانيفاكتورات. كما ان الاستثمارات الرأسمالية الكبيرة التي تدار على أساس العلم الزراعي و المجهزة بالآلات الزراعية، حلت محل أملاك النبلاء التي كانت تزرع بواسطة أدوات الفلاحين الابتدائية.

و هذه القوى المنتجة الجديدة، تتطلب من الشغيلين أن يكونوا أكثر ثقافة و ذكاء من الأقنان الجاهلين البلداء و أن تكون لديهم الكفاءة اللازمة لفهم الآلة، و أن يجيدوا استعمالها كما ينبغي، و لهذا يفضّل الرأسماليون أن يتعاملوا مع عمال مأجورين محررين من قيود الرق، و حائزين على ثقافة كافية تساعدهم على استعمال الآلات استعمالا لائقا»(1).

«إن حلول علاقات الإنتاج الرأسمالية محل علاقات الإنتاج الإقطاعية يستتبع تحويل البناء الفوقي بحيث يتطابق مع البناء التحتي الجديد كما يستتبع تغيير سيماء المجتمع كله.

و في معمعان الثورات البرجوازية تنهار الحواجز الطبقية المراتبية الإقطاعية و محل الملكية تحل الملكية الدستورية أو الجمهورية البرلمانية.

إن الديمقراطية البرجوازية، تنادي بمبدإ الفردية، مصورة إياه بصورة حرية الفرد الحقيقية و تنادي بمساواة الجميع أمام القانون و لكن هذه المساواة تتسم بطابع شكلي صرف، لأن اللامساواة بين الناس حيال وسائل الانتاج، اللامساواة الاقتصادية تظل أساس المجتمع. و ان الايديولوجية البرجوازية تبذر بذور الأوهام فيما يتعلق بكنه العلاقات الرأسمالية الفعلي»(2).

«كذلك تطور الرأسمالية التوسع الخارجي. فإن البلدان الرئيسية أخذت تستولي على الجديد و الجديد من الأراضي و تنشئ الامبراطوريات الاستعمارية جاذبة العالم كله إلى سبيل التطور الرأسمالي.

... و للمرة الأولى في التاريخ تنشئ الرأسمالية نظاما عالميا موحدا للاقتصاد، سوقا عالمية واحدة. و في ظل الرأسمالية يصبح التاريخ عالميا بكل معنى الكلمة، لأن العزلة السابقة بين مختلف المناطق و مختلف الشعوب تزول.

و في ظل الرأسمالية تتعاظم كثيرا وسائل التطور الاقتصادي و الاجتماعي. ففي حقبة تاريخية قصيرة نسبيا تجوز التشكيلة الرأسمالية في تطورها ثلاث مراحل. من مرحلة التراكم الرأسمالي إلى مرحلة نظام المشروع الحر، و منها إلى مرحلة الرأسمالية الاحتكارية.

... إن التقسيم الواسع للعمل لا داخل المصانع و المعامل فحسب، بل أيضا بين مختلف فروع الانتاج يربط الاقتصاد الوطني بخيوط الانتاج في نظام واحد موحد. و يفرض تبعية عضوية متبادلة بين مختلف فروع الانتاج و أصنافه.

ص:233


1- (1) المادية الديالكتيكية: ستالين ص 51، و ما بعدها.
2- (2) المادية التاريخية: كوفالسون، كيلله. ص 133 و ما بعدها.

و حالة القوى المنتجة هذه لا تطابقها الملكية الخاصة لوسائل، بل الملكية العامة الاجتماعية. فإن الملكية الخاصة تتحول من شكل لتطور القوى إلى قيود لها. إذ الحفاظ على الملكية الرأسمالية الخاصة يكبح تطور القوى المنتجة و المجتمع كله. و يؤزم نضال البروليتاريا الطبقي ضد البرجوازية، بوصفه تعبيرا عن تناقض الرأسمالية الأساسي.

إن تناقضات الرأسمالية تستفحل إلى الحد الأقصى، في المرحلة العليا في تطورها، أي في مرحلة الامبريالية التي دخلتها الرأسمالية، على تخوم القرنين التاسع عشر و العشرين»(1).

«إن الامبريالية إنما هي آخر مراحل الرأسمالية، المرحلة التي تختتم وجود التشكيلة الاجتماعية الرأسمالية»(2).

- 6 - و هنا لا بد من كلمة أخيرة عن البروليتاريا، التي تعتبرها الماركسية الطبقة الرئيسية المعارضة للبرجوازية الرأسمالية، و التي تعقد عليها الآمال في انجاز المجتمع الاشتراكي.

و لعل أفضل مصدر يوضح ذلك، هو البيان الشيوعي، حيث نجده يقول:

«تبعا لتطور البرجوازية، أي لتطور الرأسمال، طبقة العمال العصريين الذين لا يعيشون إلا إذا وجدوا عملا، و لا يجدونه إلا إذا كان عملهم هذا ينمي الرأسمال. و هؤلاء العمال المجبرون على بيع أنفسهم بالمفرق هم بضاعة، هم مادة تجارية كغيرها، يعانون كل تقلّبات المزاحمة و كل تموّجات السوق.

و نتيجة لاتساع استعمال الآلات و لتقسيم العمل، فقد... أصبح العامل عبارة عن ملحق بسيط للآلة لا يطلب منه إلا القيام بعملية رتيبة سهلة التلقين...

إذن، كلما أصبح العمل باعثا على الاشمئزاز هبطت الأجور... و كلما قل تطلب العمل اليدوي للمهارة و القوة، أي كلما ترقت الصناعة الحديثة، استعيض عن عمل الرجل بعمل النساء و الأولاد و لا تبقى للفروق في الجنس أو السن أهمية اجتماعية بالنسبة للطبقة العاملة فليس ثمة سوى أدوات للعمل تتغير كلفتها حسب العمر و الجنس.

و متى انتهى العامل من مقاساة استثمار صاحب المعمل و حسبت له أجرته، أصبح فريسة لعناصر أخرى من البرجوازية: مالك البيت و البائع بالمفرّق و المرابي...

أما صغار الصناعيين و التجار و أصحاب الايرادات و الحرفيون و الفلاحون، أي الدرجات السفلى من الطبقة المتوسطة، فيتدهورون إلى صفوف البروليتاريا. و ذلك لأن

ص:234


1- (1) المصدر نفسه ص 134-135.
2- (2) المصدر ص 136.

رساميلهم الضعيفة لا تسمح لهم باستعمال أساليب الصناعة الكبرى. فيندحرون و يهلكون في مزاحمتهم لكبار الرأسماليين. و لأن مهارتهم الفنية تفقد قيمتها و أهميتها تجاه أساليب الانتاج الجديدة، و على هذه الصورة تتجند البروليتاريا من كل طبقات السكان»(1).

ثم يبدأ البيان الشيوعي بتصوير نضال هذه الطبقة المحرومة ضد الرأسمالية، و ضروب التفرق التي تمنى به خلال عملها، و موقف الآخرين منها، و كيف يكون لها النصر في نهاية المطاف، و انها هي الأمل الرئيسي في الاجهاز على الرأسمالية.

و لأجل هذا الاعتقاد صاح البيان الشيوعي صيحته المعهودة: يا عمال العالم اتحدوا. و أكّد المفكرون الماركسيون بكل وضوح أن الماركسية فكرة طبقية و حزبية، مناصرة للبروليتاريا نفسها. و قد سمعنا ذلك و يأتي تفصيله بعد هذا.

المناقشة

- 1 - ينبغي التسليم بالواقع التاريخي للرأسمالية، كما ينبغي التسليم بكونها نظاما غير صالح، ترتبت عليه الويلات الكثيرة و المشاكل الضخمة و الجروح العميقة، للبشرية كلها. و انها قائمة على امتصاص خيرات الآخرين و الاستفادة مما تحله بهم من خراب و دمار.

فهذا ما نتفق فيه مع الماركسية و لعلها من أقدم من التفت إلى مساوئ الرأسمالية الاوروبية.

إلا أن بيت القصيد إنما هو في إمكان اقتناص القانون العام، من هذا الواقع التاريخي، كما أرادته الماركسية... فإنها جعلت الرأسمالية حلقة ضرورية الوجود في ماديتها التاريخية.

إذن، فلا بد من محاولة تطبيق هذا الواقع التاريخي، بخصائصه الثابتة تاريخيا، على التجريد المادي الماركسي... لنرى أنه هل هو منطبق عليه، و انه منتج له بالضرورة، أولا. و من هنا ينفتح مجال المناقشة.

ص:235


1- (1) البيان الشيوعي ص 45-47.

- 2 - تقول المادية التاريخية بوضوح، ان الاقطاع و الرأسمالية و الاشتراكية عهود متفاصلة و متتابعة و متعادية فيما بينها، لا يمكن أن ينسجم اثنان منها في المصالح و العواطف بأي حال. و أي انسجام يحدث من هذا القبيل، يعني أن وسائل الانتاج لم تؤثّر أثرها القهري الضروري في إنتاج النتائج المطلوبة للمادية التاريخية.

مع أننا نجد الفكر الماركسي يؤكد على تعاصر الاقطاع و الرأسمالية ردحا طويلا من الزمن. يكفينا ما سمعناه من أن الانتاج المانيفاكتوري إنما هو إنتاج رأسمالي في نظر الماركسية، و لكنه بقي معاصرا مع الاقطاع عددا طويلا من السنين.

فقد سمعنا من ماركس تحديد وجود المانيوفاكتورة، من منتصف القرن السادس عشر حتى الثلث الأخير من القرن الثامن عشر. فإذا علمنا أن الثورة الفرنسية التي هي أول الوجود الرأسمالي، حصلت في الثلث الأخير من القرن الثامن عشر نفسه (1789)... نعلم أن الوجود المانيوفاكتوري كله حاصل في زمن الاقطاع و معاصر له، مدة تزيد على القرنين من الزمن. بل من الطريف أنه انتهى بانتهاء عهد الاقطاع.

- 3 - قال سيغال:

«و في البلاد التي تطورت فيها الرأسمالية فيما بعد (أي بعد الثورة الفرنسية)، و جرت الثورة البرجوازية فيها بعد أن تكونت طبقة البروليتاريا الصناعية، كما كانت الحال في المانيا سنة 1848 و خصوصا في روسيا سنة 1950 تفاهمت البرجوازية مع الدولة الاقطاعية و تواطأت معها»(1).

و هذا الكلام يدلنا على أمرين:

الأمر الأول: إن الاقطاع و البرجوازية و الاشتراكية، قد اجتمعت في زمان واحد في روسيا عام 1950. أما وجود البرجوازية و الاقطاعية، فهو المصرح به في هذا الكلام نفسه. و أما وجود الاشتراكية، فلأننا نعلم أن الثورة الاشتراكية الحمراء حدثت عام 1929، فهي كانت عام 1950 قد مضى عليها

ص:236


1- (1) نظرات علمية: سيغال. هامش ص 34.

إحدى و عشرون سنة. و هو زمان كاف لافتراض أول النجاح للتجربة الاشتراكية، أي كون المجتمع اشتراكيا. إذن فتكون العهود الثلاث قد اجتمعت في مكان و زمان واحد، و هو على خلاف قوانين المادية التاريخية، و خاصة في اجتماع الاقطاع مع الاشتراكية التي يفصلها عهد الرأسمالية بالضرورة.

الأمر الثاني: ان البرجوازية عدوّة الاقطاع اللدود في منطق المادية التاريخية أصبح من الممكن - باعتراف سيغال - أن تكون صديقتها الحميمة. فأين ذهب تأثير تطور وسائل الإنتاج الذي يحتم المنافرة و النضال المرير بين هاتين الطبقتين؟ و هل في الامكان وجود تطور جديد يعيد الصداقة إليهما؟ و إذا أمكن ذلك فهل في الإمكان افتراض تطورات أخرى في وسائل الإنتاج تنتج أمورا أخرى ليست في حسبان المادية التاريخية؟!...

- 4 - من الملفت للنظر أن المصادر الماركسية، بالرغم من أن المفروض بها أنها تؤمن بالمادية التاريخية التي تقول بضرورة مرور كل مجتمع بالعهود الخمسة المعروفة. غير أننا نجد ظاهرتين تنافيان هذا الاتجاه.

الظاهرة الأولى: إن المصادر الماركسية تمثّل لعهد الرق ببعض المجتمعات (كالدولة الرومانية و اليونانية) و تمثّل لعهد الرأسمالية بمجتمعات أخرى (كفرنسا و انكلترا و المانيا) و تمثّل لعهد الاشتراكية بمجتمعات غيرها (كروسيا و الصين).

فما تفسير ذلك؟!...

و لو كانت كل هذه المجتمعات قد مرت بكل هذه العهود، لصح التمثيل بكل واحد منها على غير تعيين... و لكن حين تجد الماركسية أن مواصفات عهد معين، كالرق مثلا غير متوفر، كما ينبغي في مجتمع معين، كالرق في فرنسا أو الرأسمالية في روسيا أو الاشتراكية في إيطاليا - مثلا -... فإنها تهمل التمثيل بها إهمالا... و هلم جرا!!...

و لم يتفق للماركسية أن مثّلت لعهدين متتابعين في مجتمع معين غير عهدي الاقطاع و الرأسمالية اللذان مرّا على التتابع في أوروبا الغربية، كفرنسا و المانيا و انكلترا.

الظاهرة الثانية: إن المصادر الماركسية، و بخاصة المتأخرة منها، تعترف

ص:237

بوضوح بعدم مرور بعض المجتمعات ببعض العهود الخمسة بالمرة.

قال كوفالسون:

«إن اليونان و روما القديمة هما ذلك «الموديل» لمجتمع العبودية الذين يحكمون بموجبه أحيانا على كامل مرحلة الأزمنة الغابرة. و لكن هذا الموقف غير دقيق تاريخيا. ففي مصر و الهند و الصين، سار التطور في الأزمنة الغابرة بأشكال مختلفة بعض الشيء، فإن العبودية لم تتطور هناك بمثل ذلك الاتساع الذي تطورت به في اليونان و روما»(1).

إذن فمصر و الهند و الصين، لم تمر بعصر الرق، بالشكل الذي مرت به روما و اليونان. و لا يصح جعل هذين نموذجا عاما، كما فعل الماركسيون الأقدمون بما فيهم انجلز نفسه.

و قال مصدر آخر:

«أما في البلدان الاشتراكية الأخرى (غير الاتحاد السوفياتي) فقد جرى التصنيع في ظروف أكثر ملائمة. و لم يتطلب التصنيع هناك توترا و شدة في العمل، كما كان الأمر في الاتحاد السوفيتي، و لم يكن التطويق الرأسمالي موجودا. و ذلك لأنه كانت قد تشكلت المنظومة الاشتراكية العالمية للاقتصاد و كان الصراع الطبقي قد جرى بأشكال أقل حدّة»(2).

و قال لينين:

«لقد طرحت المسألة بالشكل التالي: هل يمكننا أن نعتبر أن التأكيد القائل بأن المرحلة الرأسمالية في تطور الاقتصاد الوطني محتومة بالنسبة للشعوب المتأخرة التي تتحرر الآن، و التي نلاحظ في أوساطها بعد الحرب حركة في اتجاه التقدم، هو تأكيد صحيح. و قد كان جوابنا على هذا السؤال سلبيا. فإذا ما قامت البروليتاريا الثورية الظافرة بدعاية منتظمة، بين هذه الشعوب، و إذا ما ساعدتها الحكومات السوفييتية بجميع الوسائل الموجودة تحت تصرّفها، عندئذ يصبح من غير الصحيح التأكيد بأن مرحلة التطور الرأسمالي هي مرحلة محتومة بالنسبة للأقوام المتأخرة»(3).

و علّق المصدر السابق المشار إليه، على كلام لينين هذا، قائلا:

«و أثبت التطبيق التاريخي صحة تعاليم لينين بشأن إمكانية انتقال البلدان المتخلفة إلى الاشتراكية دون المرور بمرحلة الرأسمالية المتطورة. ففي الاتحاد السوفييتي - مثلا - انتقلت شعوب جمهوريات آسيا الوسطى و أقصى الشمال إلى الاشتراكية بالاعتماد على مساعدة الطبقة

ص:238


1- (1) المادية التاريخية: كوفالسون، كيلله ص 628.
2- (2) الاقتصاد السياسي للاشتراكية ص 31.
3- (3) مختارات: لينين ج 4 ص 158.

العاملة الروسية و بدون المرور بالرأسمالية. و قطعت منغوليا هذا الطريق نفسه»(1).

و ذكر - أيضا - بعض الأمثلة الأخرى.

و لم يشعر الماركسيون أن هذا التطبيق التاريخي في الواقع، قد أثبت كذب المادية التاريخية و قوانينها العامة، و تجريداتها التفصيلية، التي تؤكد بكل وضوح على ضرورة مرور كل مجتمع بالعهود الخمسة كاملة... و تعطي لذلك مبرراتها الكاملة التي عرفناها.

و لئن أمكن تخلّف بعض العهود عن بعض المجتمعات، و تخلّف تطور وسائل الانتاج عن التأثير، أمكن أيضا، تخلّف العهد الاشتراكي عن الوجود أيضا. فلا يكون وجوده ضروريا، كما أكّدت عليه المادية التاريخية.

و هل يمكن للماركسية أن تقول: ان نقيض الاقطاع في فرنسا هو الرأسمالية و في منغوليا هو الاشتراكية؟!...

إن عددا من البلدان مرت بظروف خارجية، لا تمتّ إلى تطور وسائل الانتاج الداخلية فيها بصلة... فغيرت من أنظمتها العامة، كتطور المجتمع الروماني من الرق إلى الاقطاع نتيجة للفتح الجرماني، كما سمعنا، و كمنغوليا و كوريا الشمالية و فيتنام الشمالية في تحوّلها بدون المرور بعهد الرأسمالية، نتيجة للتدخل السوفييتي الخارجي.

إن هذا التدخل سبب «سلس» غير ديالكتيكي، يقلب المجتمع من أي عهد إلى أي عهد، كما شاء له الهوى، أو كما شاء الغزاة و المتداخلون. فكما يمكن أن يتغير المجتمع نتيجة له، من الاقطاع إلى الاشتراكية، كذلك يمكن تغييره من الرق إلى الاشتراكية، كما قد يكون هو الحال في كوريا و فيتنام... فتنخرم تشكيلتان أو عهدان للمادية التاريخية.

و يمكن لمنطق القوة أن يعكس الأمر، رغما على تطور وسائل الانتاج فيعود المجتمع من الاشتراكية إلى الرأسمالية، كما حدث في عدد من «الثورات المضادة» في اصطلاح الاشتراكيين.

- 5 - و إذا نظرنا إلى الرأسمالية الاوروبية نجد عدة ظواهر مخالفة لما قالته الفكرة

ص:239


1- (1) الاقتصاد السياسي للاشتراكية.

التجريدية الماركسية، يحسن أن نستعرض المهم منها فيما يلى:

الظاهرة الأولى: إن وجود الرأسمالية لأول مرة، لم يكن مستندا بشكل كامل إلى المانيوفاكتورات، كما يقول التجريد الماركسي، بل هناك أمور أخرى و طبقات غيرها ساعدت على ذلك أيضا.

قال ستالين:

«و هناك إلى جانب الملكية الخاصة لأدوات الانتاج، ملكية الفلاح و الحرفي الخاصة لأدوات الانتاج بعد أن حرّروا من القنانة. فقد كانت هذه الملكية المؤسسة على العمل الشخصي منتشرة انتشارا واسعا في بادئ الأمر. و حلّت الفبارك و المعامل العظيمة المجهزة بالآلات محل ورشات الحرفيين و المانيوفاكتورات»(1).

و كل هذه الأمور التي عدّدها ستالين، كان لها قسط من المشاركة في زوال الاقطاع.

الظاهرة الثانية: ان التجريد الماركسي يميل إلى القول: بأن الرأسمالية الصغيرة التي وجدت على اطلال الاقطاع، كالمانيو فاكتورات، قد تحوّلت إلى رأسماليات واسعة نتيجة لتطور وسائل الانتاج.

و بذلك يكون التجريد الماركسي قد أهمل عنصرا مهما، هو ظرف التقدم العلمي و الفكري الذي مرت به أوروبا، و هو الذي أوجد المعامل العظيمة و المصانع الكبرى، و اكتشف الكهرباء و الذرة و القوة الالكترونية... و لو لا هذا الفكر العملي لبقيت المانيوفاكتورات الحرفية على حالها إلى العصر الحاضر.

و هذا التطور الفكري لا يتعين مرور كل المجتمعات به، بل من المظنون جدا، ان أغلب المجتمعات لا تتمكن من المرور به؛ إذن، فشكل حدوث الرأسمالية و تطورها في أوروبا سوف يختلف اختلافا جوهريا ضخما عن سائر المجتمعات، خلافا للتجريد الماركسي التقليدي.

الظاهرة الثالثة: ان التجريد الماركسي يميل إلى اقتران الاستعمار بالرأسمالية على طول الخط، فهل هذا صحيح؟...

إن الاستعمار وجد في أوروبا قبل حصول الرأسمالية بعدة قرون، متمثلا بالحروب الصليبية، التي وجدت إبان عصر الاقطاع، و التي غزت بها أوروبا الشرق الاسلامي بكل ثقلها.

ص:240


1- (1) المادية الديالكتيكية لستالين ص 51.

كما أن بلدانا رأسمالية عديدة لم تفكر بالاستعمار، كالهند و إيران و تركيا (بعد العثمانيين). فانها لم تفكر بغزو العالم للتسويق و لا لأي غرض آخر؛ و إنما تسوّق منتجاتها عن طريق العلاقات الحرة بين الدول.

إن الاستعمار نتيجة لظروف معينة فكرية و عسكرية و اقتصادية للبلد الفاعل للاستعمار، و هذه الظروف قد لا تتوفر في البلد الرأسمالي بصفته رأسماليا، فلا يفكر في الاستعمار.

كما ان الاستعمار غير خاص بالعهد الرأسمالي، بل هو شامل للعهد الاشتراكي أيضا. و قد سمعنا من لينين قبل قليل قوله:

«فإذا ما قامت البروليتاريا الثورية الظافرة بدعاية منتظمة بين هذه الشعوب و إذا ما ساعدتها الحكومات السوفييتية بجميع الوسائل الموجودة تحت تصرفها... الخ».

إن هذه المساعدة الضخمة نوع من أنواع الاستعمار أيضا، و له نفس المبررات الرأسمالية! و هو التسويق العالمي، مضافا إلى التأثير العقائدي و العاطفي أيضا، أي الاستعمار الفكري إلى جانب الاستعمار الاقتصادي، و هو جانب تفقده الرأسمالية، و قد استطاعت الدول الاشتراكية أن تضيفه إلى ذلك.

و لا زلنا نرى في العالم دولا اشتراكية تميل للاتحاد السوفييتي، و دولا اشتراكية تميل للصين، فما السر في ذلك غير المساعدة الاستعمارية المستترة.

الظاهرة الرابعة: ان التجريد الماركسي يميل إلى الاعتقاد إلى أن استمرار الرأسمالية يكون كابحا و مانعا عن تطور وسائل الانتاج، و ان الأطوار الجديدة لهذه الوسائل لا تكون في مصلحة الرأسماليين بل في مصلحة الاشتراكيين المتمثلين بالبروليتاريا أول الأمر. و من ثم يكون زوال الرأسمالية محتوما طبقا لقواعد المادية التاريخية.

و قد سمعنا كوفالسون يقول:

«إن الحفاظ على الملكية الرأسمالية الخاصة يكبح تطور القوى المنتجة و المجتمع كله، و يؤزّم نضال البروليتاريا الطبقي ضد البرجوازية، بوصفه تعبيرا عن تناقض الرأسمالية الأساسي»(1).

إلا أن الواقع التاريخي المعاصر، مخالف لهذا الكلام. فإن وسائل الانتاج

ص:241


1- (1) المادية التاريخية: كوفالسون و كيلله ص 135.

انتقلت في عهد الرأسمالية الاوروبية التي صار لها ثلاثة قرون من الآلة البخارية إلى الكهربائية إلى الذرية و الالكترونية، و استعملت في سبيل الانتاج طرق علمية فيزيائية و كيميائية و غيرها مما لا يحصى. و مع ذلك حافظت الرأسمالية على وجودها و ازدهارها.

ان الرأسماليين هم الذين يواصلون اختراع هذه الآلات و تطويرها. و لم يكن في وضعهم الاجتماعي أو الاقتصادي كابح أو مانع عن ذلك. كما أن الآلة الجديدة لم تصبح في مصلحة البروليتاريا أكثر من غيرها، و لا يتعين عليها أن تعيش في مجتمع اشتراكي. انها تحتاج إلى من يديرها، سواء كان رأسماليا أو اشتراكيا أو أي شيء آخر. ان الخبرة العلمية هي المناط في ذلك دون الفكر العقائدي. و من هنا ترى أن الدول الرأسمالية و الاشتراكية معا تطور وسائل إنتاجها، و لها في هذا التطور مستوى متشابه تقريبا(1).

و كلاهما بالرغم من تطور هما لم يتحولا عما هما عليه، فلا الدول الرأسمالية أصبحت اشتراكية، و لا الدول الاشتراكية أصبحت شيوعية (أعني الطور الأعلى) و بقي الحال، خلافا لقواعد المادية التاريخية.

و أما حديث تأزم النضال مع البروليتاريا، فهو واضح المجافات للواقع، إذ بغضّ النظر عن الدعاية الشيوعية في البلدان الرأسمالية، و الأموال و الجهود التي تبذل عليها... فإن البلدان الرأسمالية قد كفلت حياة الضعفاء إلى درجة معقولة، و إن لم تكن كاملة... متمثلا بالنقابات و الضمان الاجتماعي و حق الاضراب و حق المطالبة برفع الأجور و تحسين ظروف العمل، تمثيل العمال بالمجالس النيابية، و غير ذلك. و لا يمكن للرأي العام أن يؤكد أن ضمان العمال في الدول الاشتراكية أكبر منه في الدول الرأسمالية.

و من الواضح، أن هذه الضمانات الموجودة للعمال في الدول الرأسمالية تكون موجبة لتخفيف التأزم في النضال لا لشدته، بالرغم من تطور وسائل الانتاج.

ص:242


1- (1) و قد اقتضى هذا المستوى المتشابه الاشتراكية هنا و الرأسمالية هناك، على خلاف قواعد المادية التاريخية أيضا.
المرحلة الثانية القيمة الأساسية للرأسمالية ماركسيا
اشارة

- 1 - لما ذا يعتبر ماركس و الماركسيون الرأسمالية نظاما غير صحيح، يجب تغييره و الاجهاز عليه.

قد يقول القائل: ان الماركسية، طبقا لقواعد ماديتها التاريخية، تعتبر الرأسمالية «عهدا» أو تشكيلة موقوفة على تطور وسائل الانتاج، و الطبقة المرتبطة اقتصاديا بالوسائل المتطورة، و سوف يأتي الوقت الذي تبلغ به وسائل الانتاج مستوى معينا يوجب تغيير المجتمع الرأسمالي إلى الاشتراكية... بواسطة النضال الطبقي المرير!!...

إن الماركسية يمكنها أن تكتفي بهذه الفكرة، كما اكتفت بها - بشكل عام - في العهود السابقة، إلا أن ماركس نفسه لا يريد الاكتفاء بذلك، فإن وضع الرأسمالية أوسع و أعمق من ذلك، و العواطف التي يراد توجيهها ضدها لا بد أن تكون كبيرة جدا تستغرق القلب و العقل معا. و الاشتراكية التي يراد بناؤها عالميا على أنقاض الرأسمالية، لا بد أن تكون عميقة و مدعمة بالأدلة الدامغة الواضحة على صحتها و أصالتها.

و من ثم حاول ماركس في كتابه «رأس المال» أن يبرهن رياضيا على وجود عيب أساسي في الرأسمالية، يجعلها غير صالحة للبقاء، و يؤزّم النضال بينها و بين طبقة العمال البروليتاريين. و لا يكون هذا العيب موجودا في الاشتراكية... و من هنا ينبغي أن يكون لها وراثة المجتمع.

- 2 - و هذا العيب الأساسي هو أن الرأسمالية مبتنية على وجود فائض القيمة أو القيمة الزائدة، من حيث كونها معبّرة عن الربح الذي يسرقه صاحب العمل من

ص:243

العامل و به تتكوّن الرأسمالية و بدونه لا توجد رأسمالية.

و هو يعرضها في كتابه مرارا و بأساليب مختلفة، و يعرض كثيرا من خصائصها برأيه... إلى حد يمكن القول أن هذا الكتاب على ضخامته، مكرّس لإيضاح هذه النظرية بالذات.

إن ماركس بعد أن يؤسس رأيه في أن العامل يبيع لصاحب المال قوة عمله، المتمثلة بكيانه الجسمي القادر على إيجاد العمل المطلوب. و يصرف في العمل مقدارا من الطاقة ما يوازي مقدار الأجر (الذي يوازي في العادة مقدار حاجته إلى استرجاع الطاقة التي بذلها في العمل) بحيث يعود في اليوم الآتي و قد استرجع كل قوته المصروفة، ليستأنف العمل من جديد.

... يقول ماركس فيما يقول:

«إن القيمة اليومية لقوة العمل تساوي 3 شلنات. ذلك لأنه يلزم نصف نهار من العمل لانتاج هذه القوة يوميا. يعني أن وسائل المعيشة الضرورية لحفظ العامل يوميا نصف نهار من العمل... إن تكاليف القوة تعيّن قيمتها التبادلية، أما إنفاق القوة، فيؤلّف قيمتها الاستعمالية. فإذا كان نصف نهار من العمل يكفي لاعالة العامل خلال أربع و عشرين ساعة، فلا يترتب على هذا انه لا يستطيع أن يعمل نهارا كاملا.

إن القيمة التي تملكها قوة العمل و القوة التي تستطيع أن توجدها، تختلفان - إذن - من حيث القياس. و هذا الاختلاف في القيمة هو الذي كان الرأسمالي يضعه نصب عينيه حين اشترى قوة العمل.

... إن الرجل صاحب الدنانير قد دفع ثمن القيمة اليومية لقوة العمل، فهو يملك - إذن - استخدامها خلال نهار، يعني عمل نهار كامل. أما كون الحفظ اليومي لهذه القوة لا يكلف إلا نصف نهار من العمل، على الرغم من انها تستطيع أن تعمل خلال النهار بكامله. يعني أن القيمة التي يوجدها استخدامها خلال نهار واحد هو ضعف قيمتها الخاصة.

فهذا حظ سعيد، بصورة خاصة، بالنسبة إلى المشتري (الرأسمالي)، و لكنه لا يمس في شيء حق البائع (العامل).

لقد أدرك صاحبنا الرأسمالي هذا الأمر قبل وقوعه، و هذا ما يضحكه. و العامل يجد - إذن - في المعمل وسائل الانتاج الضرورية لنهار عمل مؤلف من ست ساعات، و إنما من اثنتي عشرة ساعة.

و بما أن 10 ليبرات من القطن قد امتصت 6 ساعات من العمل و تحولت إلى 10 ليبرات من خيوط الغزل؛ فإن 20 ليبرة من القطن سوف تمتص اثنتي عشرة ساعة من العمل و تتحول إلى 20 ليبرة من خيوط الغزل. فلنفحص الآن منتوج العمل الممتد: ان ال 20 ليبرة من

ص:244

خيوط الغزل تتضمن خمسة نهارات من العمل، منها أربعة نهارات تجسدت في القطن و في المغازل المستهلكة و واحد امتصه القطن أثناء عملية الغزل و من المعلوم ان التعبير النقدي عن خمسة نهارات من العمل هو 30 شلنا. هذا هو - إذن - ثمن ال 20 ليبرة من خيوط الغزل.

ان ليبرة خيوط الغزل تكلّف أولا و أخيرا شلنا واحدا و ستة دراهم. و لكن مجموع قيمة البضائع المستخدمة في العملية لم تكن تتجاوز 27 شلنا، و قيمة خيوط الغزل تبلغ 30 شلنا. ان قيمة المنتوج قد ازدادت 91 من القيمة المدفوعة لانتاجه. لقد ولدت قيمة زائدة مقدارها 3 شلنات. لقد تمّت الدورة، لقد تحول المال إلى رأس مال»(1).

«إن وقت الاستثمار (العمل) يقسم إلى فقرتين: و في خلال إحداهما لا ينتج شغل قوة العمل إلاّ معا، و لا لثمنها. و في خلال الأخرى يكون شغل العامل مجانيا، و يدر على الرأسمالي، بالتالي، قيمة لم يقدم لقاءها أي معادل قيمة لا تكلّفه شيئا. و بهذا المعنى يمكن أن يسمى العمل الزائد الذي يستمد منه القيمة الزائدة عملا لم يدفع ثمنه.

... إن كل قيمة زائدة، مهما كان شكلها الخاص: - الربح، الفائدة، الدخل، الخ - هي، بصورة جوهرية، تحويل عمل غير مدفوع ثمنه إلى مادة.

إن سر قوة رأس المال السياسية كله قائم في هذا الواقع البسيط، و هو أن رأس المال يتصرف بكمية معينة من عمل الآخرين لم يدفع ثمنه»(2).

«لقد اشتغل العامل - إذن - نصف النهار لنفسه، و النصف الآخر للرأسمالي»(3).

هذا أوضح ما يقوله ماركس عن نظريته.

ثم يحاول ماركس أن يبيّن أن القيمة الزائدة قد تتضاعف تحت ظروف معينة كثير منها اعتيادي، كزيادة عدد العمال، و زيادة الانتاج، و زيادة ساعات العمل، و غير ذلك. و لا حاجة إلى الدخول في تفاصيلها.

ص:245


1- (1) راس المال، لماركس ج 2 ص 262 و ما بعدها.
2- (2) المصدر ج 4 ص 756 و ما بعدها.
3- (3) المصدر ج 2 ص 295.
مناقشة القيمة الزائدة

- 1 - تتضمن هذه النظرية عدة أسس موضوعية، لا بد من الفراغ من صحتها من أجل تصحيح النظرية. و قد فرغ ماركس فعلا مما التفت إليه من الأسس و لكننا لا بد أن نعرضها جميعا و نفحصها مليا لنتأكد من صحتها قبل التسليم بصحة النظرية... و يكفي في تزييف النظرية البرهنة على عدم صحة أساس واحد منها، فضلا عن أكثر من واحد. بل يكفي مجرد الشك في صحة أي منها و عدم ثبوته بالدليل، للشك في صحة أصل النظرية.

- 2 - الأساس الأول: إن العمل هو أساس القيمة التبادلية للأشياء عموما، و بدونه لا يكتسب الشيء أية قيمة، كالأراضي البوار و المعادن غير المستخرجة و الغابات الطبيعية و نحو ذلك.

و هذه نظرية تبناها ماركس، و حاول البرهنة عليها في الفصل الأول من كتابه «رأس المال» و منه صارت إلى الماركسيين عموما و بها تصبح نتيجة العمل للعامل، فيكون استيلاء صاحب المال عليه بدون استحقاق.

إلا أن هذه النظرية تواجه عدة مصاعب تمنع من الأخذ بها، لأنها تعجز عن تفسير عدة أمور:

أولا: تفسير ارتفاع قيمة المخطوطات النادرة، مع كون العمل على كتابتها لا يمثل إلا جزءا ضئيلا جدا من قيمتها.

ثانيا: تفسير ارتفاع التحف القديمة و المجوهرات و أمثالها، مما يكون قيمتها التبادلية أضعاف العمل المبذول فيها. فإن العمل في الأحجار الكريمة موكول إلى الطبيعة نفسها، و ليس للانسان تجاهها إلا العمل الضئيل، الذي لا يمكن أن يمثل قيمتها التبادلية بحال...

ثالثا: تفسير اختلاف القيمة الاستعمالية باختلاف الحاجة إلى الشيء،

ص:246

تتناسب معها تناسبا طرديا. فالماء الواحد المبذول عليه عمل واحد، يكتسب إلى جانب عين الماء قيمة غير القيمة التي يكتسبها و هو في الصحراء. إن هذا الفرق الكبير لا يعود إلى العمل، كما هو معلوم.

رابعا: تفسير الفرق بين العمل الفني الجيد و العمل الرديء، إذا كان مساويا له في الزمن و في الطاقة أو قوة العمل المبذولة. فإن لهما بحسب منطوق النظرية قيمة واحدة، فإذا استهلك العمل الرديء قوة أكثر كان أعلى قيمة من العمل الجيد... و هذا مما لا يمكن أن يكون صحيحا بأي حال.

إلى غير ذلك، مما يطول بنا المقام في تفصيله، فليرجع القارئ إلى المصادر المفصّلة لذلك.

إن البديل عن العمل في الموردين الأولين هو الندرة النسبية (بالمعنى المطلق). و في المورد الثالث هو الندرة الشخصية... و في المورد الرابع هو الأهمية، و هي ترجع بمعنى آخر إلى الندرة.

و ليست الندرة بمجردها كافية في زيادة القيمة، و إنما تعطي الندرة جوا نفسيا خاصا للمشترين، بحيث يكونون على استعداد لدفع القيمة الأعلى، و مع استعداد المشتري للدفع، يكون البائع مستعدا نفسيا للقبض بل راغبا به و طالبا له لا محالة... فهذا الجو النفسي هو السبب الحقيقي المشترك بين هذه الموارد.

و هو يتوفر في مورد ندرة البضاعة، و مورد تضخم النقد، و مورد زيادة الحاجة، الشخصية و العامة (كالحاجة إلى الدواء أيام الوباء)، و هو أمر لا يختلف فيه (العروض) عن (النقد) عن (العمل) عن (قوة العمل).

فإنها جميعا تكون أغلى مع وجود الجو النفسي المشار إليه و تكون أرخص (في إحدى القيمتين التبادلية أو الاستعمالية) مع ضئالته... على تفصيل لا يسعه المقام.

- 3 - الأساس الثاني: إن الشيء الذي يملكه العامل، هو قوة العمل لا العمل نفسه.

و هو ما رآه كارل ماركس و أكّده في كتابه، و حاول شرحه في أحد فصول الجزء الثاني منه(1).

قال:

ص:247


1- (1) ص 228 منه.

«و يجب أن نفهم من هذا الاسم مجموع الخصائص الجسمانية و الذهنية الموجودة في جسم إنسان من الناس في شخصيته الحية، و التي عليه أن يحركها لينتج أشياء نافعة... ان مالك النقد و مالك قوة العمل يلتقيان في السوق و يدخلان في علاقة مع بعض، مبادلين لهما الصفة نفسها. و هما لا يختلفان إلا في هذا: أن أحدهما يشتري و الآخر يبيع، و كلاهما - لهذا السبب نفسه - شخصان متساويان حقوقيا»(1).

و من الطريف أننا نجد أن ماركس يأخذ هذا الأمر افتراضا مسلّما من دون أن يحاول البرهنة عليه... و كأنه يحيل البرهان عليه أو القناعة به إلى ذمة القارئ. و هو أسلوب لا يكفي للاثبات، كما هو معلوم. إن كل شيء لا دليل عليه فهو مرفوض في أي علم.

و نجد - أيضا - من الماركسية التأكيد على العمل بوصفه شيئا ذا قيمة و قابلا بغض النظر عن قوة العمل.

انظر مثلا قول انجلز:

«إن العمل سلعة مثل غيرها، و سعرها - بالتالي - إنما يتحدد بالضبط وفق القوانين ذاتها التي يتحدد بها سعر كل سلعة أخرى»(2).

و قد رتّب انجلز على رأيه هذا نفس النتائج التي يريدها ماركس، إذ أضاف:

«و سعر سلعة في ظل سيادة الصناعة الكبيرة أو المنافسة الحرة... مساو وسيطا على الدوام لكلفة إنتاج هذه السلعة، و إذن، فإن سعر العمل مساو هو أيضا لكلفة إنتاج العمل.

و لكن كلفة إنتاج العمل تتألف بالضبط من كمية وسائل الرزق الضرورية لجعل العامل في حالة تمكنه من متابعة العمل و تحاشي موت الطبقة العاملة»(3).

فقد جعل وسائل الرزق الضرورية رصيدا للعمل نفسه مباشرة، بلا حاجة إلى توسيط القوة. و هذا هو الأقرب إلى الفهم الطبيعي على أي حال. و من هذا الرصيد يمكن الانطلاق إلى فهم القيمة الزائدة، لو سرنا حسب تسلسل تفكير ماركس.

على أن هذه النظرية لا تصمد للنقد، و لا تخلو من المصاعب، نذكر طرفا منها فيما يلي:

ص:248


1- (1) راس المال ج 2 ص 228.
2- (2) نصوص مختارة: انجلز ص 36.
3- (3) المصدر و الصفحة.

الصعوبة الأولى: إن على هذه النظرية بيان الفرق بين العمل الفني و غيره، إذا كان زمنهما واحدا، فإن القوة المبذولة فيهما واحدة، و قيمتهما مختلفة.

الصعوبة الثانية: إن القوة المبذولة في العمل المتشابه مضمونا و وقتا، قد لا تكون متساوية، بل تختلف - بالضرورة - بين إنسان و إنسان، من حيث الصحة و المرض و من حيث العمر (كالشباب و الشيخوخة) و من حيث اتصاف الفرد بالتعب أو انشغال الذهن و نحو ذلك، فإذا كانت القيمة عائدة إلى القوة لا إلى العمل، كان اللازم الاختلاف هنا في القيمة مع أنه خلاف الوجدان.

الصعوبة الثالثة: إن القوة البدنية تنقص بالعمل و تحتاج إلى تعويض بمقدار عشرة شلنات في اليوم ليعود العامل نشيطا في اليوم التالي، على ما قال ماركس و أما الخبرة العلمية أو القوة الذهنية، فلا معنى لنقصانها، فهل تكون مجانية مع أنها الجزء الأساسي للعمل، و تختلف قيمته بزيادة الخبرة بطبيعة الحال.

الصعوبة الرابعة: إن قوة العمل المتمثلة بشخص العامل لا معنى لبيعها، و ينبغي أن يعترف ماركس أنه لا يصبح صاحب المال مالكا لجزء من الشخصية الحيّة للعامل. كل ما في الأمر أنه نتيجة للمعاقدة يصبح صاحب المال مستحقا لعمل يوم واحد مثلا، و تعود قوة العمل كرصيد له مرة أخرى.

- 4 - الأساس الثالث: إن ماركس يفترض أن قيمة قوة العمل هو المقدار من الطعام الذي يكفل للعامل إرجاع القوة بعد صرفها... و هو عشرة شلنات في اليوم في مثال ماركس. و هو يتمثل بالأجر الذي يأخذه العامل يوميا من الرأسمالي. و يترتب على ذلك: أن العامل يصرف من القوة في اليوم ضعف ما يأخذ من الأجر، فيكون قد عمل نصف النهار بالأجر و نصف النهار مجانا.

و معنى ذلك أن الرأسمالي لا يدفع إلى العامل إلا ما يقوته يوميا، و إلا فإنه لو ضاعف له الأجر لكان على ماركس أن يعترف أنه أدى له ما يقابل عمله اليومي تماما.

و هذه الحقيقة، و هي أن صاحب المال لا يدفع إلا مقدار ما يقوته يوميا... قد تكون منطبقة على الرأسمالية الأولى بوجودها التاريخي السابق، حين كان يستخدم العامل أكبر مقدار ممكن من الوقت في أقل مقدار ممكن من

ص:249

الأجر، و لكنها غير منطبقة على الوضع الحالي لها حين أسّست نقابات العمال و أعطوا حق المطالبة برفع الأجور و ممارسة الاضراب و الضغط على الشركات و السلطات بمختلف الأساليب.

و لو لا سوء التصرف و الجشع المسيطر على السوق، لما بقي - بعد هذه الضمانات - إلا كسر قليل من الربح تنازل عنه العامل بمحض حريته لصاحب العمل. فإن صحت نظرية ماركس في كون العامل مالكا، فإنها لا تستطيع أن تمنعه عن التنازل عن بعض ما يملك بإرادته.

و من الطريف الذي لا يمكن للماركسية أن تلتفت إليه إلا بصوت خاص، هو أن هذه الحقيقة الرأسمالية، و هي الاقتصار على دفع القوت اليومي للعامل، منطبقة على القاعدة التي قالت الماركسية بتطبيقها في الطور الشيوعي الأعلى:

و هي: من كل حسب طاقته و لكل حسب حاجته. فإن معنى ذلك بكل وضوح هو استخدام العامل أكبر مقدار ممكن، بمقدار كل طاقته، و إعطاؤه ما يقوته و يلم بحاجته فقط، إذا فهمنا من الحاجة ما كان من الضروريات دون الكماليات، على ما سيأتي عند الحديث عن الطور الأعلى.

و معه تكون نظرية القيمة الفائضة منطبقة على الطور الشيوعي الأعلى، كانطباقها على الرأسمالية. و كل الفرق ما بينهما، هو اختلاف صاحب المال ليس إلا... و أما من حيث كون العامل يعطي أكثر مما يأخذ، فسواء بينهما.

- 5 - الأساس الرابع: التسليم بالمفهوم المطلق للظلم.

فإن ماركس حين يعترض على الرأسمالي أخذ القيمة الفائضة و يعتبرها شيئا غير صحيح و غير مشروع... و ان النظام الرأسمالي القائم على هذا الأساس نظام فاسد؛ فمن حقنا أن نسأله: إن هذا الفساد و عدم المشروعية، من أين جاء و بأي منطق تسجّل؟!...

فإنه لو كان عندنا مفهوم مطلق للظلم و العدل و الصحة و الفساد و المشروعية و عدم المشروعية. لقلنا عن الرأسمالية انها ظالمة و فاسدة و غير مشروعة، كما هي تستحق له فعلا. و لكن الماركسية لا تعترف بذلك، انها - كما عرفنا - تعتبر القيم الأخلاقية قيما مرحلية مرتبطة بما يرتبط به المجتمع على وجه العموم من تطور وسائل الانتاج و علاقاته. و ان هذه المفاهيم مهما بدت بعيدة الارتباط بالجانب

ص:250

الاقتصادي، فانها لا بد صائرة إليه و راجعة عليه، لأنه المحرك الأساسي للتاريخ البشري.

ينتج من ذلك: أن كل مرحلة تاريخية تشيع فيها تقييمات و مفاهيم معينة، تتغير بالضرورة عند ارتفاع تلك المرحلة و تبدلها بالقانون الماركسي العام. فما يكون فاسدا و غير مشروع في مرحلة، قد يصبح صالحا و مشروعا و عادلا في مرحلة أخرى، و بالعكس.

إذن، يمكن القول من هذه الزاوية، بكل وضوح، أن أخذ القيمة الزائدة، هي في عصر الرأسمالية شيء صالح و مشروع و في عهد الاشتراكية شيء غير مشروع، و الرأسمالي حين يأخذ هذه القيمة من العامل، فإنه يعمل شيئا مشروعا و صحيحا في حدود مرحلته و نظامه العام، و لا يهتم الرأسمالي، بل لا يمكنه أن يهتم - من وجهة نظر ماركسية - بالتقييم الاشتراكي لعمله.

و إذا كان هذا أمرا صحيحا و مشروعا في عصر الرأسمالية، فما على الفرد إن كان عليه متّبعا له. فإن المسئولية الكبرى على الفرد هي أن يتبع كل ما هو مشروع و صحيح، و المفروض أن أخذ القيمة الزائدة أمر مشروع و صحيح، فلما ذا يستحق الرأسمالي الانتقام؟.

و قد عرفنا من الماركسية أنها نفت وجود التفكير الموضوعي المجرد، و أثبتت أن كل الأفكار و الآراء طبقية و حزبية و تابعة لتطور وسائل الانتاج... و هذا شامل للتفكير الرأسمالي و الاشتراكي معا. فكما أن الفرد الرأسمالي يكون متحيزا عند أخذه القيمة الزائدة و إدراكه صحة ما يعمل. فكذلك الاشتراكي يكون متحيزا حين يطعن بهذه القيمة و يدرك عدم مشروعيتها، بما فيهم كارل ماركس نفسه، و من الواضح أن فرض الفكر المتحيز على الآخرين و أخذهم به أمر غير مشروع و غير صحيح.

- 6 - إن كارل ماركس يفترض أن 20 ليبرة من القطن الخام تساوي اثنتي عشرة ساعة من العمل. و لا بد أن ذلك باعتبار جنيه و تصفيته و نحو ذلك من الأعمال المسبقة. فإذا غزل هذا القطن استهلك خمسة أيام من العمل هي: اليوم المشار إليه في القطن الخام، مع يوم كامل للغزل و ثلاثة باعتبار استهلاك الآلات و غير ذلك من الأعمال الثانوية. فإذا كانت الأجرة المستحقة في اليوم هي 6 شلنات

ص:251

كانت قيمة ليبرة القطن المغزول 30 شلنا.

و لكن الرأسمالي يدفع للعامل 3 شلنات في اليوم هي قيمة نصف نهار و هذه الشلنات الثلاث هي قيمة قوة عمله المصروفة في اليوم، لأن ما يعين له قوّته على العمل في اليوم الآتي، هو ما يساوي 3 شلنات من الطعام.

إن ماركس يفترض عدد ساعات معينة من العمل تقابل كل «مادة» من مواد الانتاج: القطن، الغزل، المغازل المستهلكة، قوة العمل، طعام العامل،... و هذا أمر قد يصح افتراضه رياضيا، و لكنه من الناحية الواقعية بعيد عن الصحة.

لنأخذ القطن الخام أولا، الذي يفترض ماركس أن 20 ليبرة منه تساوي اثنتي عشرة ساعة من العمل. فهل هذا صحيح. و أما ما سبق ذلك من العمليات قطفه و زرعه و سقيه ثم قبل ذلك حرث الأرض و تسميدها و البذر، ثم قبل ذلك حفظ البذر من التلف إلى حين الموسم. إن هذا يساوي عدة أشهر من مختلف الأعمال، و كلها أعمال ذات قيمة، فلو حفظ لك شخص بذور قطنك لكان مستحقا عليك أجرا، فضلا عما إذا حرث لك أرضك أو زرعها. و أما الكبس و التحميل و نحوه مما هو متأخر عن التصفية، فكأننا ينبغي أن نسقطه عن نظر الاعتبار و إلاّ زادت ساعات العمل.

بل يمكننا أن نسير خطوة أكبر لنرى أن بذرة القطن التي استفدنا من قطنها و غزلناه، كانت في شجرة سابقة عاشت عدة أشهر و بذلت عليها أعمال كثيرة. و هي أيضا نتيجة بذرة سابقة، و هكذا.

إذن، فالقطن يمثّل تاريخا طويلا من الأعمال ممتدا بامتداد تاريخ البشرية.

فكيف ندّعي أنه يمثّل اثنتي عشرة ساعة من العمل. و كيف يمكن أن نقبل هذا الافتراض الرياضي من ماركس.

و يمكننا أن نلاحظ نفس الشيء في طعام العامل الذي يعيد له القوة و النشاط فإنه يمثل في زراعته و جنيه أكثر من ست ساعات بكثير. فضلا عن تاريخ بذوره الممتدة بامتداد البشرية.

و قوة العمل نفسها، مستندة في وجودها إلى مثل هذا التاريخ... مضافا إلى تاريخ آخر و هو أن قوة العمل موجودة في جسم العامل، و جسمه له تاريخ بشري ممتد في آبائه و أجداده طويل جدا.

ص:252

و قل نفس الشيء بالنسبة إلى المغازل المستهلكة. و هكذا غيرها. فكيف يمكن لماركس أن يفترض أنها تمثل ساعات محددة من العمل.

و لو كانت ساعات العمل هي المقياس للقيمة التبادلية للشيء، إذن، ينبغي أن تكون قيمة هذه الأمور مرتفعة جدا، بمقدار ساعات لعدة أشهر أو عدة سنين، إن أسقطنا مجموع التاريخ البشري عن نظر الاعتبار. و هو ما لا يمكن أن يلتزم به أحد.

- 7 - يوضح ماركس أن قيمة القطن المغزول منوط تعيينها بمقدار الساعات التي بذلت في صنعه، و قيمة هذه الساعات تتحدد بقيمة قوة العمل التي بذلت خلالها. و قيمة العمل تتحدد بقيمة قوة العمل أيضا، و كل الخصائص تعود عادة إلى قوة العمل. و قيمة قوة العمل تتحدد بمقدار ما يرجعها صاحبها إلى جسمه من الطعام.

و قيمة قوة العمل هذه، أو - بتعبير آخر -: ما ينبغي أن يتقاضاه العامل بإزاء كل ساعة من قوة العمل أو كل يوم... لا يمكن الرجوع في تحديدها إلى نتيجتها، و هو القطن المغزول، لأننا نكون قد بدأنا من حيث انتهينا. لأننا نكون قد حدّدنا قيمة القطن بقيمة القوة و قيمة القوة بقيمة القطن، فلم نصل إلى شيء.

إن ماركس يجيب على ذلك: ان قيمة القوة لا تتحدد بقيمة القطن، بل بقيمة الطعام الذي يحتاجه الفرد لرجوع قوة عمله بعد نفادها. و من الطريف هنا أن يعتقد ماركس أن هذا الطعام يمثل نفس مقدار الساعات التي استهلكت بالعمل المقبوض أجرته. فلو كان العامل قد قبض أجرة ست ساعات، كان الطعام ممثّلا لعمل ست ساعات.

و هذا الافتراض لطيف من الناحية الرياضية، إذ تكون قوة العمل و الطعام و الست ساعات و القطن، كلها متوازية و متساوية في قيمتها. إلا أنه من الناحية الواقعية غير ممكن أو بعيد الوقوع، إذ قد يشتري العامل طعاما ممثلا لعدد أقل من ساعات أو أكثر، و الأطعمة تختلف في الساعات التي تحتاج لانتاجها مع العلم أنه قد يكون ما يرجع قوة العمل في هذا اليوم ممثّلا لأربع ساعات، و ما يرجعها في اليوم التالي ممثّلا لعشر ساعات.

ص:253

- 8 - نعرف من تسلسل الفكرة في الفقرة السابقة: ان قيمة الناتج محددة بقيمة قوة العمل، و قيمة قوة العمل، محددة بقيمة ما يكون سببا لرجوعها من الأغذية، فمن حقنا أن نسأل، ما إذا كانت هذه الأغذية ممثلة لقوة عمل بدورها أولا؟ إن ماركس سوف يجيب بالايجاب. فما الذي يحدد قوة العمل تلك؟ يجيب ماركس: إنها هي الأغذية التي تعيدها إلى حالها الأولى أيضا.

و هذا الأغذية ممثلة لقوة عمل أخرى، و هي بدورها ترجع عن طريق أغذية أخرى و هكذا، و لا نستطيع أن نصل إلى قعر هذه السلسلة.

إن كل هذه السلسلة من منتوج و قوة عمل، تمثل ساعات محددة متماثلة كست ساعات مثلا - بغض النظر عن الاعتراضات السابقة -. و لكن ما هي القيمة التبادلية لهذه الساعات؟... إنها تتحدد - مرة أخرى - بقيمة الطعام الذي يرجع القوة إلى صاحبها، و قيمة الطعام تتحدد مرة أخرى بقوة العمل.

و هكذا نعود إلى نفس السلسلة.

و إذا عدنا إلى السلسلة لم نستطع أن نحدد قيمة شيء بالمرة، لا الساعات و لا قوة العمل و لا الطعام، في أي فقرة من فقرات هذه السلسلة.

إن ماركس يفترض أن للطعام في السوق قيمة ناجزة، هي التي تحدد قيمة العمل التي تحدد بدورها قيمة المنتوج. و هذا التحديد إنما يصح من زاوية غير ماركسية، حين تتحدد قيمة الطعام بشيء خارج هذه السلسلة، كالندرة النسبية أو الحاجة الاجتماعية أو الجو النفسي الذي ذكرناه.

و تبدو هذه المشكلة بشكل أصرح، فيما إذا افترضنا أن أناسا كوّنوا مجتمعا جديدا، و بذلوا قواهم لانتاج قماش مثلا، ثم أكلوا طعاما مما حصلوا عليه طبيعيا، حتى استعادوا قواهم المبذولة في إنتاج القماش.

إننا نستطيع أن نجزم - طبقا لقانون ماركس - أن القماش و قوة إنتاجه و الطعام الذي أكلوه، ذو قيمة واحدة، هي بدورها قيمه الساعات التي بذلت في الانتاج. و لكن كم هي هذه القيمة؟ هنا يستحيل إعطاء أي تحديد للقيمة، ما لم نرجع إلى مقياس آخر غير ماركسي.

ص:254

المرحلة الثالثة أقسام الرأسمالية
اشارة

تنقسم الرأسمالية، في رأي الماركسيين إلى أقسام ثلاثة متسلسلة يمهد أحدها للآخر، هي:

مرحلة التراكم الأولى لرأس المال.

و مرحلة الرأسمالية التنافسية.

و مرحلة الرأسمالية الاحتكارية، و هي الامبريالية.

... لا بد من ذكرها على التوالي مع التأكيد على قيمتها الماركسية، و مناقشتها.

ص:255

القسم الأول مرحلة التراكم الأولى لرأس المال
اشارة

- 1 - يريد كارل ماركس بالتراكم الأولي لرأس المال، تجمع الأموال لدى الرأسماليين منذ أول عهد تولدهم، فصاعدا، ما داموا لم يدخلوا في مرحلة ذات خصائص جديدة، و هذا واضح.

و إنما المهم... أن ماركس يحاول أن يعطي لذلك قانونه العام، و يفحص نتائجه بما يملك من دقة. اسمعه يقول:

«و الواقع ان جزءا من القيمة الزائدة، هذه الثمرة السنوية، يأتي سنويا لينظم إلى الرأسمال المكتسب، ثم تكبر هذه الزيادة السنوية هي نفسها كلما ازداد تضخما الرأسمال العامل. و أخيرا فان الشهوة العنيفة إلى الربح، إذا جاءت ظروف ملائمة بصورة استثنائية - كفتح أسواق جديدة في الخارج و ميادين جديدة لتوظيف الرساميل في الداخل، الخ - فحرضت هذه الشهوة، فانها سوف تلقى فجأة أعظم أجزاء المنتوج الصافي في رأسمال تجديد الانتاج، و ذلك لكي توسع نطاقه أيضا.

ينتج عن هذا كله، أن كل سنة سوف تقدم لعدد من العمال الأجراء، يكون أكبر من العدد الذي نال شغلا في العام السابق... ان تجديد إنتاج الرأسمال ينطوي على تجديد إنتاج أداته الكبرى التي تكمن من استثماره، و هي قوة العمل. فتراكم الرأسمال هو - إذن - في الوقت نفسه، ازدياد الطبقة العاملة»(1).

و يعيد كارل ماركس إلى الذهن عصر تولّد الرأسمالية بعد الاقطاع، الذي هو عصر هذا التراكم، فيقول:

ص:256


1- (1) راس المال: كارل ماركس ج 3 ق 1 ص 885.

«لقد خرج النظام الاقتصادي الرأسمالي من أحشاء النظام الاقتصادي الاقطاعي.

و انحلال أحدهما أدى إلى انبثاق العناصر التكوينية للثاني.

... إن الحركة التاريخية التي تحوّل المنتجين إلى مأجورين، تظهر - أذن - بوصفها تحريرا لهم من القنانة، و من التسلسل الصناعي التدريجي. و من الجهة الأخرى، فهؤلاء المحررون لا يصبحون بائعين لأشخاصهم إلا بعد أن يصير تجريدهم من جميع وسائل الانتاج التي كانت بين أيديهم، و من جميع ضمانات الحياة التي كان يقدمها لهم النظام القديم.

... و في تاريخ التراكم البدائي، تؤلف جميع الثورات التي تخدم بمثابة رافعة التقدم للطبقة الرأسمالية الآخذة في التكون، تؤلف جميع هذه الثورات أحداثا بارزة كبرى، و خصوصا تلك التي بتجريدها جماهير واسعة من وسائلها الانتاجية و الوسائل التقليدية لمعيشتها، تلقيها بغتة في سوق العمل. و لكن أساس هذا التحول كله، هو نزع ملكية الزارعين»(1).

كما يعيد ماركس إلى الذهن، ارتباط التراكم الأولي، بالنظام المانيوفاكتوري التعاوني، الذي كان هو الشكل الرئيسي للانتاج الرأسمالي في أول عهده... حيث يقول:

«إن التعاون و التقسيم المانيوفاكتوري، و النظام الآلي، الخ... و بكلمة موجزة الطرائق الكفيلة بإطلاق قوى العمل الجماعي، لا تستطيع الدخول إلا من حيث بدأ تنفيذ الانتاج على نطاق واسع عظيم إلى حد ما. و كلما اتسع هذا تطورت تلك و نمت. و على أساس العمل بالأجرة تكون سلم العمليات في الدرجة الأولى، رهنا بقياس الرساميل المتراكمة بين أيدي أصحاب المشروعات الخاصة»(2).

و يعطي ماركس رأيه النهائي في قيمة هذا التراكم، باعتباره رأسماليا يتصف بكل ما تتصف به الرأسمالية من آلام و شرور.

«إن تراكم الثروة عند قطب، هو كذلك الفقر و الآلام و الجهل و التبلد و الانحطاط المعنوي و العبودية، عند القطب المقابل، من ناحية الطبقة التي تنتج الرأسمال نفسه»(3).

«و هكذا - إذن - فالذي يكمن في أعماق التراكم الأولي للرأسمال، في أعماق عملية نشوئه التاريخية، إنما هو نزع ملكية المنتج المباشر، و انحلال الملكية المؤسسة على العمل الشخصي لمالكها.

... إن نزع ملكية المنتجين المباشرين يتم عن طريق بربرية لا ترحم تشحذها أحقر

ص:257


1- (1) المصدر ج 3 ق 2 ص 1055.
2- (2) المصدر ج 3 ق 1 ص 901.
3- (3) المصدر ص 397.

الدوافع و أسفلها، و أقذر الأهواء و أجدرها بالمقت في دناءتها»(1).

- 2 - و يحاول ماركس أن يربط وجود الرأسمالية المتمثلة بالتراكم الأولي بقانون الديالكتيك الذي أسسه هو نفسه للكون كله.

و هنا - بالضبط نسمعه يقول عبارته المشهورة:

«إن الاستملاك الرأسمالي المطابق لنمط الانتاج الرأسمالي، يشكّل النفي الأول لهذه الملكية الخاصة التي ليست إلا تابعا للعمل المستقل و الفردي. و لكن الانتاج الرأسمالي ينسل هو ذاته نفيه بالحتمية ذاتها التي تخضع لها تطورات الطبيعة، انه نفي المنفي، و هو يعيد ليس ملكية الشغيل الخاصة، بل ملكيته الفردية المؤسسة على مقتنيات و مكاسب العصر الرأسمالي، و على التعاون و الملكية المشتركة لجميع وسائل الانتاج بما فيها الأرض»(2).

و قد اكتسبت هذه العبارة أهمية بصفتها التعرض الوحيد للديالكتيك، الذي كتبه ماركس في رأس المال، بالرغم من أهميته في نظره.

- 3 - بعد هذا الايضاح المختصر، للمرحلة الأولى من الرأسمالية، نصل إلى نهاياتها، حيث لا بد لها تدريجيا أن تتحول إلى المرحلة الثانية.

و هنا نجد كلام كارل ماركس مختصرا و مجملا إلى حد كبير؛ إن ماركس قد عاصر التراكم الأولي للرأسمالية، و لم يكتب له البقاء بعده، و من هنا اعتبر الوضع الرأسمالي الذي عاصره هو الرأسمالية بقول مطلق. و لم يتصور تطوره إلى مراحل أعلى إلا لماما.

و من هنا نرى ماركس قد حمّل المرحلة الأولى للرأسمالية، كل المسئوليات التي صبّها على الرأسمالية المطلقة، و قد سمعنا طرفا من ذلك. و كان تعرضه إلى المراحل المتأخرة مختصرا و من دون تدقيق، في أن هذه المراحل هل تنطوي على كل المسئوليات أيضا أولا؟ بل اننا نستطيع أن نلمس عدم التحديد في إعطاء الصيغة الكاملة للمرحلة التي تلي مرحلة التراكم الأولي. فتارة يوضح ماركس بغموض ان هذه المرحلة هي مرحلة التزاحم الحر أو المزاحمة.

ص:258


1- (1) المصدر ج 3 ق 2 ص 1137.
2- (2) المصدر نفسه ص 1138.

«و كلما ازدهر التراكم الرأسمالي و الانتاج الرأسمالي فان المزاحمة و القرض و هما أقوى عاملين من عوامل التمركز ينطلقان... كما ان نمو أسلوب الانتاج الرأسمالي يخلق أيضا، مع الحاجة الاجتماعية، التسهيلات التكنيكية لهذه المشروعات الهائلة الضخمة، التي يقتضي تشغيلها مركزية مسبقة للرأسمال»(1).

نرى إلى جانب ذلك أيضا، أن ماركس يرى أن المرحلة اللاحقة للتراكم هي الاحتكار الذي عده المفكرون الآخرون مرحلة متأخرة من الرأسمالية تأتي بعد المزاحمة الحرة.

فبينما نسمع ماركس يتحدث عن نزع الملكية الذي يحدث في العصر الرأسمالي الأولي، نراه ينتقل مباشرة إلى الاحتكار.

قال:

«و نزع الملكية هذا إنما يتم حركة القوانين الملازمة للانتاج الرأسمالي التي تؤدي إلى تمركز رءوس الأموال. و بصورة مرتبطة ارتباطا متبادلا مع هذا التمركز، و نزع ملكية العدد الأكبر من الرأسماليين من قبل الأقلية.

... و كلما تدنى عدد سلاطين الرأسمال الذين يغتصبون جميع فوائد مرحلة التحول الاجتماعي هذه و يحتكرونها يتزايد ناميا متعاظما البؤس و الاضطهاد و الاستعباد و الاسترقاق و الانحطاط و الاستثمار، و لكن تتزايد أيضا مقاومة الطبقة العاملة، هذه المقاومة المتعاظمة دوما،... و يصبح احتكار رأس المال عقبة و عائقا بالنسبة إلى نمط الانتاج الذي نما و ازدهر معه و تحت رعايته»(2).

و يفهم من هذه العبارة التراكم الرأسمالي الأولي، يعقبه عملية تجريد يقوم به الرأسماليون الكبار ضد الصغار منهم، و بذلك تتحول الرأسمالية إلى احتكار بيد هؤلاء الطغمة القليلة. و حيث يتزايد البؤس في المجتمع يكون ذلك إيذانا بزوال الرأسماليين، و من ثم الرأسمالية نفسها طبقا لمفاهيم المادية التاريخية التي أسسها ماركس نفسه. إذن فالمرحلة الاحتكارية - طبقا للعبارة الأخيرة - كما هي المرحلة الثانية للرأسمالية، هي المرحلة الأخيرة لها، و لا تكون قابلة للبقاء بعدها. إذن فالرأسمالية لا تنقسم إلى أكثر من هاتين المرحلتين.

و ستأتي الصورة الأخرى التي يعطيها المفكرون الماركسيون الآخرون عن الرأسمالية، لدى الحديث عن المرحلتين الأخيرتين منها.

ص:259


1- (1) المصدر ج 3 ق 1 ص 905.
2- (2) المصدر ج 3 ق 2 ص 1138.
مناقشة مرحلة التراكم الأولي

يمكن أن ننطلق إلى المناقشة حول هذه المرحلة من عدة نقاط:

النقطة الأولى: إننا بينما نرى ماركس يرى التراكم الأولي تراكما رأسماليا بل هو الرأسمالية نفسها، نراه في عين الوقت يرى التراكم الأولي سابقا على التراكم الرأسمالي.

اسمعه يقول:

«و لكن التراكم الرأسمالي يفترض مسبقا وجود القيمة الزائدة، و هذه تفترض مسبقا أن يكون ثمة إنتاج رأسمالي. و هو لا يدخل الساحة بدوره، إلا في اللحظة التي تكون قد تراكمت فيها كتلات من الرساميل و القوى العمالية تبلغ حدا معينا من الضخامة، بين أيدي المنتجين البضاعيين»(1).

فالتراكم الرأسمالي يسبقه إنتاج رأسمالي، و بدون هذا الانتاج لا معنى لهذا التراكم. كما أن الانتاج الرأسمالي لا معنى له، ما لم تسبقه تراكمات سابقة ذات حد معين من الضخامة... هي عبارة أخرى عن التراكمات الأولية التي نتحدث عنها. و هذا يعين أن التراكم الرأسمالي متأخر بالضرورة عن التراكم الأولي بمرحلتين أو أكثر: إذن فالتراكم الأولي ليس تراكما رأسماليا، و إنما هو أحد أسبابه ليس إلا. إذ لا معنى لأن يكون التراكم الرأسمالي مقدمة و سببا للتراكم الرأسمالي نفسه.

و إذا اعتبرنا التراكم الأولي تراكما رأسماليا متحققا في المجتمع، إذن فهو سابق على الانتاج الرأسمالي، فلا حاجة إلى جعل هذا الانتاج من أسباب وجود هذا الانتاج، كما دلت عليه عبارة ماركس. بل لا بد حينئذ من التسليم بأن الانتاج البضاعي كاف في إيجاد التراكم.

النقطة الثانية: بينما نرى ماركس يعطي صيغة القانون (التجريدي) العام للتراكم الأولي لرأس المال... و هذا يعني أن كل مجتمع خرج من عهد

ص:260


1- (1) راس المال: كارل ماركس ج 3 ق 2 ص 1050.

الاقطاع لا بد له أن يمر به بصفته المرحلة الأولى من الرأسمالية.

إلا أننا حين نرد مع ماركس إلى مرحلة (التطبيق) نجده لا يجد مثالا لذلك إلا المجتمع الانكليزي في قطعة معينة من تاريخه، هما القرنين السابع و الثامن عشر.

فبينما يملأ كتابه بالشواهد من ذلك المجتمع، نجده يقول بصراحة:

«و هذا لم يتحقق بعد تحققا تاما جذريا إلا في انكلترة... و لكن جميع بلدان أوروبة الغربية الأخرى تجتاز الحركة نفسها، و لكن اللون المحلي لهذه الحركة يتغير تبعا لكل بيئة، أو أن هذه الحركة تنضغط في دائرة أضيق أو تعرض أقل بروزا و وضوحا أو تتبع ترتيبا مختلفا»(1).

ينتج من كلامه هذا، أن ما مر به المجتمع الانكليزي من التحولات، ليس بالضرورة أن يمر به أي مجتمع آخر، بل يمكن أن يتبع ترتيبا مختلفا بقليل أو بكثير، إذن، فما حسبه كارل ماركس قانونا عاما، ليس - باعترافه - قانونا عاما. و إنما هو تعميم كبير، من مجتمع واحد ليس إلا.

و هذا ما التفت إليه المؤلفون الماركسيون المتأخرون، إذ نسمع كوفالسون يقول:

«إن كتاب «رأس المال» المؤلف الأساسي بين مؤلفات ماركس جميعها، يتناول تحليل القوانين الاقتصادية و الاجتماعية لعمل و تطور تشكيلة اجتماعية واحدة هي التشكيلة الرأسمالية.

و بما أن بريطانيا في القرن التاسع عشر، أي في وقت وضع هذا البحث، بلد الرأسمالية الكلاسيكي، فقد دعم ماركس موضوعات كتابه النظرية بمواد من حياة هذا البلد - و لكن اتجاهات التطور التي كشفها في الرأسمالية بوصفها نظاما اجتماعيا اقتصاديا، لا تصح بالنسبة لبريطانيا و حسب بل أيضا بالنسبة لأي بلد كان»(2).

و لكن هذا الاعتذار عن ماركس، بتصحيح تعميمه، لا يقره ماركس نفسه، حيث يرى ان كل بلد يمر في شكل مختلف، و يتبع ترتيبا مختلفا عن الآخر. و لعل من جملة أشكال الاختلاف انه لا يمر في الطور الأول للرأسمالية، أو لا يمر بعهد الرأسمالية عموما، كما سبق أن سمعنا.

النقطة الثالثة: لا بد لنا أن نلاحظ مقدار انطباق قانون الديالكتيك

ص:261


1- (1) المصدر ص 1055.
2- (2) المادية التاريخية: كيلله، كوفالسون ص 49.

الماركسي على المرحلة الأولى للرأسمالية، ذلك الانطباق الذي رآه ماركس في عبارته السابقة المشهورة(1) كليا و تاما... على حين قد نجد أن وجود هذه المرحلة من سابقتها وجود «سلس» غير ديالكتيكي.

إن أحسن فهم أو تفسير يمكن أن نعطيه لتلك العبارة، هو: إن ملكية العمال لوسائل الانتاج في العصر الحرفي، هي «الأطروحة» في نظام الديالكتيك. الاستملاك الرأسمالي لهذه الوسائل و تجريد العمال منها هو النفي الأول لها... «الطباق»... و الانتاج الرأسمالي هو «التركيب». و هذا الانتاج لا يعيد الأطروحة نفسها أو ملكية العامل لوسائل الانتاج بطبيعة الحال، بل ينتج - لا محالة - الملكية المعترف بها رأسماليا و المؤسسة على معطيات المجتمع الرأسمالي.

و طبقا لذلك، يكون ماركس قد أهمل المراحل السابقة على هذا العهد، و المراحل اللاحقة له، و لاحظه كأنه وحده الموجود في الكون... لتكون ملكية العمال أطروحة، و ما بعدها طباقا و تركيبا. و إلا لو لا حظنا ما سبق ذلك من العهود أمكن أن نبدأ بالأطروحة من حيث نشاء!!! و نعتبر ما بعده طباقا و تركيبا. فمثلا: نعتبر عهد الاقطاع أطروحة، و الملكية الحرفية طباقا و التجريد الرأسمالي تركيبا. أو بأي شكل آخر. و كذلك لو لا حظنا العهود اللاحقة.

و يكون ماركس أيضا قد تغافل عن التراكم الأولي الذي اعتبره فيما سبق من مقدمات التراكم الرأسمالي. إذ لو أدخلناه في الحساب لكانت الفقرات أربعة؛ فاذا كانت الملكية الحرفية أطروحة كان التجريد عن وسائل الانتاج طباقا و كان التراكم الأولي تركيبا. و هذا التركيب بدوره يكون أطروحة، و يكون الانتاج الرأسمالي طباقه و التراكم الرأسمالي تركيبه.

... فقد اختلفت الصورة إذن، و إذا لا حظنا العهود السابقة على هذه الفترة، أو اللاحقة لها، أمكن أن تختلف الصورة على أشكال متعددة.

و هذا التشويش في الافتراض، و إمكان توزيع العهود التاريخية على «الثالوث» الديالكتيكي، بأشكال مختلفة في عين الوقت، إن دل على شيء فانما يدل على ضعف أساسي في هذا الثالوث، أو انه لم يعط المفاهيم تحديدها الكامل.

إن هناك أسباب أخرى للحوادث لا يستطيع الديالكتيك أن يستوعبها.

ص:262


1- (1) يحسن بالقارئ أن يعيد قراءة العبارة و يتأملها في الفقرة الثانية من الحديث عن التراكم الأولي.

و لئن كان بين ملكية الحرفيين لوسائل الانتاج و بين تجريدهم منها، شكل من أشكال المضادة أو المنافاة... فانه ليس بين هذا التجريد و الانتاج الرأسمالي و التراكم بكلا قسميه، أي تناف. بل هي أمور متعاضدة متعاونة «سلسة» الاتجاه في بناء المجتمع الرأسمالي. و لا يمكن أن يكون بعضها نفيا لبعض، كما يريد القانون الماركسي أن يقول.

النقطة الرابعة: إن البيان الشيوعي الذي شارك ماركس نفسه بتأليفه، على إسقاط مرحلة التراكم الأولي بالمرة، حيث نجده تعرض للاقطاع و اتبعه مباشرة بعهد المزاحمة الحرة و هي المرحلة الثانية الآتية، مسقطا للتراكم الأولي عن نظر الاعتبار.

اسمعه يقول:

«و هكذا تبين لنا أن وسائل الانتاج و التبادل التي قامت البرجوازية على أساسها، نشأت داخل المجتمع الاقطاعي. ثم لما بلغت هذه الوسائل حدا معينا من التقدم و الرقي، لم تعد الظروف التي كان المجتمع الاقطاعي ينتج و يبادل ضمنها... يتفق مع القوى المنتجة في ملك تقدمها، بل أصبح يعرقل الانتاج عوضا عن تطويره. ثم تحول إلى قيود تكبله، و أصبح من الواجب تحطيم هذه القيود، فتحطمت.

و حلت محلها المزاحمة الحرة، يرافقها نظام اجتماعي و سياسي يناسبها»(1).

إذن، ينبغي أن نبقى جاهلين ما إذا كانت الماركسية ترى حقا وجود عهد التراكم الأولي، أو لا ترى وجوده بل، تعتبر المزاحمة الحرة هي العهد الأول للرأسمالية.

ص:263


1- (1) البيان الشيوعي ص 44.
القسم الثاني عهد التنافس الحر

أو المزاحمة الحرة، أو التزاحم في السوق الحرة، أو نظامه المشروع الحر، على اختلاف التعابير؛ و قد سمعنا في عبارة ماركس إشارة إليها، بصفتها أحد الاحتمالين، للمراحلة اللاحقة للتراكم الأولي(1). كما سمعنا الإشارة إليها قبل قليل من «البيان الشيوعي» على أساس كونها المرحلة الأولى للرأسمالية.

- 1 - و تعني هذه المرحلة، تكافؤ الفرص للجميع في التجارة و البيع و الشراء، بدون تدخّل خارجي... و في سوق حرة ديموقراطية، من وجهة نظر الرأسماليين. و يعتقد هؤلاء أن أساس السوق الرأسمالية و الأرباح الرأسمالية قائم على ذلك، و هذا هو مجدهم الرئيسي!!...

- 2 - و نرى بالتتبع في المصادر الماركسية المتوفرة، قديمها و حديثها، للاشارة المقتضبة جدا إلى هذه المرحلة.

فبالرغم من أنها مرحلة معترف بها ماركسيا، كما سمعناه من البيان الشيوعي، و وجدناه في حديث كوفالسون حيث يقول:

«و في ظل الرأسمالية، تتعاظم كثيرا و تائر التطور الاقتصادي و الاجتماعي. ففي حقبة تاريخية قصيرة نسبيا تجوز التشكيلة الرأسمالية في تطورها ثلاث مراحل: من مرحلة التراكم الرأسمالي البدائي إلى مرحلة نظام المشروع الحر، و منها إلى مرحلة الرأسمالية الاحتكارية»(2).

ص:264


1- (1) راجع الفقرة (3) من الحديث عن التراكم الأولي.
2- (2) المادية التاريخية: كيلله، كوفالسون ص 135.

و يريد بالمشروع الحر، ما سمّاه ماركس بالمزاحمة الحرة، و هي المرحلة الثانية.

و أشار لينين إلى هذه المرحلة مختصرا أيضا حيث قال:

«كان تصدير البضائع الحالة النموذجية في الرأسمالية القديمة، حيث كانت السيادة التامة للمزاحمة الحرة»(1).

إلا أن هذه اللمحات لا تكفي لعرض الخصائص التامة، و لا تعدل ما ذكرته الماركسية عن المرحلة الأولى و الأخيرة الآتية.

- 3 - و يمكن أن يفسر هذا الاعراض الماركسي عن هذه المرحلة بعدة تفاسير:

التفسير الأول: إن هذه المرحلة ملغاة، لا تعترف بها الماركسية، و إنما ترى انقسام الرأسمالية إلى مرحلتين فقط، هي التراكم الأولي و الاحتكار.

و هذا التفسير باطل، باعتبار ما سمعناه من تصريحات الماركسيين بوجود هذه المرحلة.

التفسير الثاني: إن الماركسية تعتبر السوق الحرة، صفة عامة للرأسمالية، كما يرى الرأسماليون أنفسهم، و ليست صفة مرحلة للرأسمالية.

و هذا التفسير، مضافا إلى أنه خلاف التصريحات السابقة للماركسيين.

فانه - أيضا - مناف لتصريحهم و تأكيدهم على زوال هذه الحرية في عصر الاحتكار الرأسمالي، على ما سنسمع بعد قليل. كما انه مناف لنقد ماركس لهذه الحرية، ذلك النقد الذي يفهمنا بوضوح: انها غير موجودة بالمرة، إلا في خيال الرأسماليين، لأنها من زاوية واقعية لا يمكن أن يكون لها أي تطبيق... على ما سنسمع أيضا.

التفسير الثالث: إن الماركسية في كل بحوثها تقرن المفهوم النظري بالزخم العاطفي و قد ترتبت على هذا الاتجاه العام نتائج تربو على حد الاحصاء.

و إذا طبقناها على ما نحن بصدده، نجد نتيجتين هامتين:

النتيجة الأولى: اختصار الكلام في مرحلة السوق الحرة، إلى درجة كبيرة، لأن الكلام عن الحرية الرأسمالية، قد يصبح من الناحية العاطفية، في مصلحة الرأسماليين الذين تريد الماركسية الاجهاز عليهم.

ص:265


1- (1) مختارات. لينين ج 2 ص 82.

النتيجة الثانية: التركيز الشديد على المرحلة الثالثة، الاحتكار الرأسمالي، باعتبار أن هذا التركيز يكون من الناحية العاطفية هدما للرأسمالية، و بعثا للقوى الاشتراكية ضدها.

- 4 - نقد ماركس هذه الحرية التي تتمجد بها الرأسمالية، نقدا لاذعا في كتابه «رأس المال». و قرن بينها و بين القيمة الزائدة... و لم يعتبر هذا المجد شافعا ضد الربح الرأسمالي الحرام!!...

و نجد لذلك النقد عدة نماذج، نقتصر منه على بعضه فيما يلي:

فمن ذلك قوله:

«إن تحويل النقد إلى رأس مال، يقتضي - إذن - أن يجد مالك النقد في السوق (و هو الرأسمالي) الشغيل الحر. و الحر من وجهة نظر مزدوجة:

أولا: يجب على الشغيل أن يكون شخصا حرا يتصرف وفق مشيئته بقوة عمله، بوصفها بضاعته الخاصة به.

ثانيا: يجب أن يكون و لا بضاعة أخرى لديه لكي يبيعها. ان يكون - إذا صح التعبير - حرا من كل شيء محروما تماما من الأشياء الضرورية لتحقيق قوة عمله»(1).

و قد اعتبرت الماركسية هذه الحرية الرأسمالية، حرية شكلية ثابتة تطبيقيا للرأسماليين فقط، و غير شاملة لعمالهم بأي حال.

قال كوفالسون:

«إن الإيديولوجيين البرجوازيين يصورون النظام الرأسمالي بصورة مثالية. و يزعمون أنها أقامت التناسق و التناغم بين الفرد المجتمع، و انها وجدت العلاقة و النسبة الصحيحتين بين حرية الفرد، و مصالح المجتمع.

و بالفعل، من الخطأ، كما سبق و قلنا، أن نطرح جانبا مكاسب الديمقراطية البرجوازية. و لكنه واضح تماما أن الحرية الشكلية غير المرفقة بتأمين الظروف المادية لتطور جميع أفراد المجتمع، لا تقضي على التفاوت الاجتماعي، و لا على التناحر بين الفرد و المجتمع.

إن حرية الفرد في المجتمع البرجوازي إنما هي حرية الفرد البرجوازي. أما البروليتاريا (العمال) و الجماهير المظلومة فقلّ ما يمكنها الاستفادة من هذه الحرية»(2).

إن هذه الفقرة الأخيرة من كلام كوفالسون، صحيحة نتفق فيها مع

ص:266


1- (1) رأس المال: كارل ماركس ج 1 ق 2 ص 231.
2- (2) المادية التاريخية: كيلله كوفالسون ص 358.

الماركسية، و هي من أهم نقاط الضعف في النظام الرأسمالي، إلى جانب نقاط أخرى لا تقل عنها أهمية. و لكن هل للديموقراطية البرجوازية مكاسب لا يمكن أن نتغاضى عنها، كما ذهب إليه كوفالسون؟... إن هذا أمر مبالغ فيه جدا، و لا مجال لنا الآن لاستعراض تفاصيله. و إنما يكفينا أن نعرف أن التقدم العلمي و الصناعي الذي أحرزته أوروبا، ناتج من جو و مستوى عقلي و نفسي و ثقافي خاص، و مرتفع، و لا ربط له بالرأسمالية ذاتها. إن أية إيديولوجية أخرى إذا توفر لها ما يشبه ذلك الجو، فانها تستطيع أن تنتج نفس النتائج.

و إنما ينبغي أن ننظر إلى الرأسمالية من حيث نتائجها الخاصة بها، من دون أن نخلط بين الأمور. و سوف لن نجد حينئذ أي نتيجة صالحة أو إنسانية، سوى المظالم الاجتماعية، و التهديد بالحرب العالمية.

- 6 - بعد التسليم - مع الماركسية - بوجود الحرية الشكلية في المجتمع الرأسمالي، و التسليم بنقدها الذي ذكرناه.

لا يبقى لنا في مقام المناقشة مع الماركسية، إلا التساؤل عن أن هذا المجال الحر، هل هو صفة عامة للرأسمالية، أو لفترة معينة منها.

إن أكثر المصادر الماركسية تتفق على مرحلية هذه الحرية، كما انها تكاد تسلّم بارتفاع هذه الحرية في عصر الاحتكار الذي هو المرحلة الثالثة للرأسمالية.

و لكن هل يصح هذا تماما، بمعنى أن مرحلة التراكم الرأسمالي خالية من الحرية الشكلية، كما ان عصر الاحتكار خال منها أيضا. عندئذ ستكون الحرية مرحلة معينة. و اما إذا كانت هذه الحرية موجودة في أحد العهدين الآخرين أو كليهما، فمعنى ذلك أن هذه الحرية معنى عام و ليس مرحلة معينة.

إن هذه الحرية من الناحية النظرية هي وجود الفرص المتكافئة للحصول على الربح بالنسبة إلى الجميع. و من ناحية التطبيق يختص بملوك المال، و يحرم منه المتمولون الصغار و كل العمال و الحرفيون و غيرهم.

إن هذا المعنى المزدوج للحرية، هو الذي يفرق الرأسمالية عن الاقطاع و الاشتراكية، من حيث أن العامل و الحرفي في العهد الاقطاعي محروم من الحرية النظرية، على حين أن الفرد في المجتمع الاشتراكي، يفترض فيه انه حاصل على المستوى النظري و التطبيقي معا. و ستأتي مناقشة ذلك. فالنظام الذي يحافظ على

ص:267

المستوى النظري، و يرفع اليد عن التطبيق هو الرأسمالية.

إذن، فالرأسماليون، حين يعتبرون هذه الحرية صفة عامة للرأسمالية على حق.

و هذه الصفة موجودة، في عصر التراكم الأولي أيضا، كما هي موجودة في عصر الاحتكار، و إنما الفرق الأساسي بين العصور الأولى للرأسمالية و العصور المتأخرة لها، هي مقدار حصول الرأسماليين على مقادير الأموال الضخمة، فهي قليلة في أول عهدها نسبيا و كبيرة جدا في آخرها. كما ان تمركز الاحتكار من الصفات المتأخرة للرأسمالية، و من المعلوم أن تضخم المال و احتكار المشاريع يجعل تطبيق هذه الحرية أشد غموضا. إلى حد يبقى المستوى النظري نظريا تماما. و من هنا قد يبدو عدم وجود الحرية بالمرة.

- 7 - و من هذه الزاوية تماما نستطيع أن نفهم الاضطراب الموجود في كلام الماركسيين في تحديد أقسام الرأسمالية.

فاننا نستطيع أن نجد أربعة آراء ماركسية، بهذا الصدد:

الرأي الأول: انقسام الرأسمالية إلى أقسامها الثلاثة. و هو الرأي الذي يصرح به كوفالسون، كما سمعناه في عبارته السابقة.

الرأي الثاني: انقسام الرأسمالية إلى التراكم الأولي و المزاحمة الحرة، مع إقساط الاحتكار. و هو الذي مال إليه ماركس في رأس المال، حسب ما فهمناه فيما سبق.

الرأي الثالث: اقتصار الرأسمالية على المزاحمة فقط، مع إسقاط التراكم الأولي و الاحتكار.

و هو الرأي الذي سمعناه من «البيان الشيوعي»، حين ذكر عصر الاقطاع أولا، ثم أعقبه بالقول:

«و حلّت محلها المزاحمة الحرة، يرافقها نظام اجتماعي و سياسي يناسبها»(1).

فهو - إذن - يسقط التراكم الأولي و الاحتكار عن نظر الاعتبار، بحيث لا يبدو للرأسمالية إلا شكل واحد.

ص:268


1- (1) انظر ص. 44 منه.

الرأي الرابع: انقسام الرأسمالية إلى المزاحمة الحرة و الاحتكار... مع إسقاط التراكم الأولي.

و هذا هو الرأي الذي يعرضه لينين، في رسالة «الامبريالية أعلى درجات الرأسمالية». و لعل أوضح عبارة له تبين ذلك قوله.

«إن النتائج الأساسية لتاريخ الاحتكارات، هي إذن الآتية:

1 - سنوات العقدين السابع و الثامن من القرن الماضي، هي قمة ذروة تطور المزاحمة الحرة. لم تكن الاحتكارات إلا حالات جنينية بالكاد تلاحظ.

2 - بعد أزمة سنة 1873 أتت مرحلة تطورت فيها الكارتيلات بصورة واسعة، و لكنها ظلت. مع ذلك حالات نادرة...

3 - نهضت أواخر القرن التاسع عشر، و أزمة سنوات 1900-1903 تصبح الكارتيلات أساسا من أسس الحياة الاقتصادية بأكملها، صارت الرأسمالية إلى امبريالية»(1).

إذن، فلينين يبدأ من أول الرأسمالية بالمزاحمة الحرة، مع إسقاط التراكم الأولي، ثم يعقب ذلك بالاحتكار.

فهذه الآراء الأربعة، نستطيع أن نستوعبها فهما، طبقا لما سبق أن قلناه.

أما الرأي الذي يعرب عنه «البيان الشيوعي» فهو يعني أن المزاحمة الحرة، هي الصفة الرئيسية للرأسمالية، ترافقها متى وجدت. و بهذا يتفق مع الرأسماليين أنفسهم.

و أما رأي ماركس الذي يسقط الاحتكار، فهو باعتبار عدم معاصرته للعصر الاحتكاري.

و أما رأي لينين، فلأن المزاحمة الحرة. كما عرفنا، وجدت بوجود الرأسمالية نفسها، و من هنا اعتبرها لينين أول مراحلها. و هو معنى لا ينافي صفة التراكم الأولي الذي يراد به قلة الأرباح بالنسبة إلى العصور المتأخرة للرأسمالية، ان قد يكون الربح قليلا نسبيا و الحرية موجودة نظريا.

و هذه الحرية تنتهي - في رأي لينين - بدء بعصر الاحتكار، باعتبار ما قلناه من أنها تنعدم عندئذ على صعيد التطبيق، و يبقى لها وجود نظري (طوبائي) ليس له أي أثر.

ص:269


1- (1) مختارات: لينين ج 2 ص 25-26.

و أما رأي كوفالسون الرأسمالية إلى الأقسام الثلاثة، فهو باعتبار ملاحظة كلا جهتي الحرية و كمية الأرباح. فحين كانت الأرباح قليلة نسبيا سمي العصر بعصر التراكم الأولي، و إن كانت الحرية الشكلية سارية المفعول فيه. ثم حين زادت الأرباح زيادة ضخمة جدا، و لم يكن للاحتكار وضوح كان عصر التراكم الأولي قد انتهى و عصر الاحتكار غير موجود، و الحرية الشكلية ذات وجود تطبيقي إلى حد ما، فسمي بعصر المزاحمة الحرة. و حين بدأ الاحتكار الرأسمالي كان هو الصفة الرئيسية المسيطرة على صفة الحرية، فسمي بعصر الاحتكار.

إذن، فقد صحّحنا تشويش كلمات الماركسيين... و لكن هل يقر الماركسيون تصحيحنا هذا؟!..

ص:270

القسم الثالث عهد الاحتكار
اشارة

- 1 - لعل لينين هو أفضل ماركسي كتب عن هذه المرحلة مفصلا، كما نجده في رسالته عن الامبريالية.

قال في تعريف المزاحمة و الاحتكار:

«فالمزاحمة الحرة هي أخص خصائص الرأسمالية و الانتاج البضاعي بشكل عام.

و الاحتكار هو نقيض المزاحمة الحرة المباشر. و لكن هذه الأخيرة أخذت تتحول أمام أعيننا إلى احتكار، منشأة الانتاج الضخم و مزيحة الانتاج الصغير، محلة الأضخم محل الضخم، دافعة تركز الانتاج، و الرأسمال إلى درجة نشأت و تنشأ عنها الاحتكارات: الكارتيلات و السيندكات و التروستات، دامجة فيها رأسمال نحو عشرة من البنوك تتصرف بالمليارات.

و في الوقت نفسه لا تزيل الاحتكارات المزاحمة الحرة التي نشأت عنها، بل تعيش فوقها و إلى جانبها، مولدة على هذا الشكل جملة من التناقضات و الاحتكاكات و النزاعات في منتهى الشدة و القوة. فالاحتكار هو انتقال من الرأسمالية إلى نظام أعلى»(1).

و أود قبل الدخول في فقرة جديدة أن أعلق على هذا الكلام بعدة تعليقات:

أولا: إن الاحتكار إذا كان نقيضا للمزاحمة الحرة، فمعنى ذلك أنه بديلها و مزيلها و الحال محلها. و معه لا معنى لبقائها في عصر الاحتكار، كما تصرّح به الفقرة الأخيرة من هذا الكلام.

ثانيا: إن المزاحمة الحرة، كيف تعيش مع الاحتكار، مع انها عنصر نظري ليس له أي تطبيق. و سنسمع تصريحات الماركسيين أن هذه الحرية هي

ص:271


1- (1) مختارات: لينين ج 2 ص 120 و انظر ص 167 منه.

حرية رجال المال دون غيرهم في المجتمع الرأسمالي.

ثالثا: إن قوله: فالاحتكار هو انتقال من الرأسمالية إلى نظام أعلى، يعطينا أن الاحتكار عصر جديد غير عصر الرأسمالية. و هو أمر غريب ماركسيا.

فإن الحرية إن كانت هي العنصر الأساسي للرأسمالية، و كانت متوفرة في عصر الاحتكار، كما سمعنا من لينين، إذن فالعنصر الأساسي للرأسمالية موجود فيه، فلما ذا لا يكون عصرا رأسماليا.

مضافا إلى ما سنسمعه من لينين نفسه مكررا من أن الامبريالية الاحتكارية هي أعلى مراحل الرأسمالية، فإن معناه أن عصر الاحتكار رأسمالي بطبعه، فكيف يفترض هنا أنه عصر متأخر عن الرأسمالية.

على أن لينين يعتقد بطبيعة الحال، بوجود النقص الأساسي الماركسي - نسبة إلى شخص ماركس - للرأسمالية، في عصر الاحتكار، و هو الحصول على القيمة الزائدة. بل هو في عصر الاحتكار أجلى و أوضح، إذن فيكون هذا العصر رأسماليا.

- 2 - و يعطينا لينين أفكارا واسعة مدعمة بالأمثلة عن خصائص الاحتكار و صفاته الأساسية و غير الأساسية. و نحن ننقل هنا المضمون النظري، مع حذف الأمثلة، توخيا للاختصار.

قال:

«إن الرأسمال المالي المتركز في أيد قليلة و الذي يمارس الاحتكار فعلا، أرباحا طائلة تتزايد باستمرار من تأسيس الشركات و إصدار الأوراق المالية، و منح القروض للدولة، الخ، موطدا بذلك سيطرة الطغمة المالية و فارضا على المجتمع بأكمله جزية لمصلحة المحتكرين»(1).

«إن الخاصة الأساسية في الرأسمالية الحديثة هي سيطرة الاتحادات الاحتكارية التي يؤسسها كبار أصحاب الأعمال. و هذه الاحتكارات هي أوطد ما تكون حين تنفرد بوضع يدها على جميع مصادر الخامات...

و حيازة المستعمرات هي وحدها، ما يعطي الاحتكارات الضمانة التامة للنجاح ضد كل طوارئ الصراع مع المنافس حتى في حالة ما إذا رغب المنافس في الدفاع عن نفسه باستصدار قانون عن إقامة احتكار للدولة.

ص:272


1- (1) مختارات لينين ج 2 ص 71.

فكلما تقدمت الرأسمالية في تطورها، و كلما بدا بصورة أوضح نقص الخامات، و كلما استعرت المزاحمة، و اشتد الركض وراء مصادر الخامات في العالم كله، احتدم الصراع من أجل حيازة المستعمرات»(1).

«إن اتحادات الرأسماليين الاحتكارية، الكارتيلات، السيفديكات التروستات، تقتسم فيما بينها، بادئ ذي بدء، السوق الداخلية، مؤمنة لنفسها السيطرة على الانتاج في بلاد معينة بصورة مطلقة ما أمكن. و لكن لا مناص للسوق الداخلية في عهد الرأسمالية من أن ترتبط بالسوق الخارجية. و قد أنشأت الرأسمالية السوق العالمية من أمد بعيد.

و كلما كان يزداد تصدير الرأسمال و تتسع شتى أنواع العلاقات بالخارج و بالمستعمرات، و تتسع «مناطق نفوذ» الاتحادات الاحتكارية الضخمة كانت الأمور تسير «بصورة طبيعية» في الاتجاه العالمي بين هذه الاتحادات، في اتجاه تشكل الكارتيلات العالمية.

و هذه درجة جديدة في تمركز الرأسمال و الانتاج في النطاق العالمي و درجة أعلى من السابقة إلى ما لا قياس له»(2).

- 3 - و يعطي لينين أربع خصائص للرأسمالية الاحتكارية، هي أقرب للجانب التطبيقي من الجانب النظري أو «التجريدي»، يحسن بنا أن نحمل عنها فكرة، بصددنا هذا:

قال:

«و ينبغي أن نشير بوجه خاص إلى أنواع الاحتكار الرئيسية الأربعة، أو إلى أربعة مظاهر رئيسية للرأسمالية الاحتكارية تميز العهد الذي نحن بصدده.

أولا: نشأ الاحتكار عن تمركز الانتاج البالغ درجة عالية في تطوره. و هو اتحادات الرأسماليين الاحتكارية: الكرتيلات، السنديكات و التروستات و قد رأينا الدور الجسيم الذي تلعبه في الحياة الاقتصادية الراهنة...

ثانيا: ساقت الاحتكارات إلى تسريع الاستيلاء على أهم مصادر الخامات و لا سيما خامات الصناعات الرئيسية في المجتمع الرأسمالي، و التي بلغ فيها تنظيم الكارتيلات حده الأقصى، كصناعات الفحم الحجري و تكييف الحديد.

و احتكار حيازة أهم مصادر المواد الخام قد زادت سلطة الرأسمال الضخم لدرجة هائلة، و أزمّ التناقضات بين الصناعة المنظمة في الكارتيلات و غير المنظمة في الكارتيلات.

ثالثا: نشأ الاحتكار عن البنوك و قد تحولت البنوك من مؤسسات وسيطة متواضعة إلى

ص:273


1- (1) المصدر ص 113.
2- (2) المصدر ص 91.

محتكر للرأسمال المالي. فثمة ثلاثة أو خمسة بنوك ضخمة لأية أمة من الأمم الرأسمالية الراقية، قد حققت «الاتحاد الشخصي» بين الرأسمالي الصناعي و الرأسمالي البنكي، و ركزت في أيديها التصرف بالمليارات العديدة التي تؤلف القسم الأكبر من الرساميل و المداخيل النقدية في بلاد بأكملها...

رابعا: نشأ الاحتكار عن سياسة حيازة المستعمرات. فالرأسمال المالي قد أضاف إلى بواعث السياسة الامبريالية، إلى البواعث «القديمة العديدة - الصراع من أجل الخامات من أجل تصدير الرساميل، من أجل «مناطق نفوذ»... و أخيرا من أجل الأقاليم الاقتصادية بوجه عام... و لكن عند ما تم الاستيلاء على تسعة أعشار افريقيا (حوالي سنة 1900)، عند ما تم اقتسام العالم برمته، حل بالضرورة عهد احتكار حيازة المستعمرات، و بالتالي عهد احتدام أشد الصراع من أجل اقتسام العالم و إعادة اقتسامه»(1).

- 4 - و نصل أخيرا إلى الامبريالية التي هي أهم خصائص المجتمع الرأسمالي في عصره الثالث.

يعرّف لينين الامبريالية بعدة تعاريف:

فمرة نسمعه يقول:

«و لئن كانت هناك ضرورة لتعريف الامبريالية تعريفا في غاية الايجاز، ينبغي أن يقال:

الامبريالية هي الرأسمالية في مرحلة الاحتكار و مثل هذا التعريف يضم الأمر الرئيسي»(2).

و أخرى نسمعه يعرّفها:

«ان الامبريالية هي تراكم هائل للرأسمال النقدي في عدد قليل من البلدان، يبلغ كما سبق و رأينا 100-150 مليار فرنك من الأوراق المالية»(3).

و ثالثة يقول:

«الامبريالية مرحلة خاصة من الرأسمالية»(4).

و يستمر بالقول:

«لقد نشأت الامبريالية باعتبارها تطورا و استمرارا مباشرا لما فطرت عليه الرأسمالية بوجه عام من خصائص أساسية و لكن الرأسمالية لم تصبح إمبريالية رأسمالية، إلا عند ما بلغت في تطورها درجة معينة عالية جدا عند ما أخذ يتحول إلى نقيضه بعض من أخص خصائص

ص:274


1- (1) المصدر ص 167-168.
2- (2) المصدر ص 120.
3- (3) المصدر ص 136.
4- (4) المصدر ص 119.

الرأسمالية (يقصد بها المزاحمة الحرة)!»(1).

و هذه التعاريف، مهما اختلفت فإنها تتشابه في المضمون المهم. فإن المراد من المرحلة الخاصة في التعريف الثالث هي مرحلة الاحتكار في التعريف الأول، و هذه المرحلة مقترنة بتراكم هائل - ليس أوّليا - للرأسمال النقدي، في التعريف الثاني. و إن كان هذا التعريف الثاني يعطي للامبريالية رقما اقتصاديا معينا...

فكأنّ هذا هو الامبريالية، أو أنها هو... و هو مطلب غريب.

و قال لينين عن بعض خصائص الامبريالية:

«تنزع الامبري الية إلى أن تبرز بين العمال فئات مميزة، و إلى فصلها عن الجماهير البروليتارية الغفيرة»(2).

و أضاف:

«و ينبغي أن نشير إلى أن نزوع الامبريالية إلى تقسيم العمال و إلى تقوية الانتهازية بينهم و إلى إفساد حركة العمال موقتا، قد ظهر في انكلترا قبل أواخر القرن التاسع عشر و بدء القرن العشرين، بزمن طويل. ذلك لأن سمتين أساسيتين من السمات المميزة للامبريالية قد بدتا في انكلترا منذ منتصف القرن التاسع عشر: المستعمرات الشاسعة و الوضع الاحتكاري في السوق العالمية»(3).

و قال:

«و الامبريالية، عصر الرأسمال البنكي، عصر الاحتكارات الرأسمالية العملاقة، عصر صيرورة الرأسمالية الاحتكارية إلى رأسمالية الدولة الاحتكارية - تظهر بوضوح كبير تعزز «آلة الدولة» لحد خارق، و اتساع جهازها الدواويني و العسكري اتساعا منقطع النظير من جراء تشديد القمع الموجه ضد البروليتاريا»(4).

و أضاف:

«ان التاريخ العالمي يدفع الآن، دون شك، في نطاق أوسع بما لا يقاس من سنة 1852 إلى تركيز جميع قوى الثورة البروليتارية لكي «تهدم» آلة الدولة»(5).

و قال بخصوص الدولة الرأسمالية:

«في ظل الرأسمالية، نرى الدولة، بمعنى الكلمة الخاص، بمعنى آلة خاصة تقمع بها

ص:275


1- (1) المصدر ص 120.
2- (2) المصدر ص 145.
3- (3) المصدر و الصفحة.
4- (4) المصدر نفسه: (الدولة و الثورة) ص 213.
5- (5) المصدر و الصفحة.

طبقة أخرى، تقمع بها الأقلية الأكثرية. و بديهي أن هذا الأمر... يتطلب لنجاحه منتهى الفظاعة و منتهى الوحشية في القمع، يتطلب بحارا من الدماء تجتازها البشرية في قرون العبودية و القنانة و العمل المأجور»(1).

- 5 - و بخصوص الحرية الرأسمالية، قال كوفالسون:

«إن الحرية الشكلية غير المرفقة بتأمين الظروف المادية لتطور جميع أفراد المجتمع، لا تقضي لا على التفاوت الاجتماعي و لا على التناحر بين الفرد و المجتمع.

إن حرية الفرد في المجتمع البرجوازي، إنما هي حرية الفرد البرجوازي. أما البروليتاريا و الجماهير المظلومة، فقلّ ما يمكنها الاستفادة من هذه الحرية»(2).

و قال لينين بهذا الخصوص:

«إن الاحتكارات و الطغمة المالية و النزوع إلى السيطرة بدلا من النزوع إلى الحرية، و استثمار عدد متزايد من الأمم الصغيرة أو الضعيفة من قبل قبضة صغيرة من الأمم الغنية أو القوية، كل ذلك قد خلق السمات المميزة للامبريالية و التي تحمل على وصفها بأنها الرأسمالية الطفيلية أو المتقيحة»(3).

ص:276


1- (1) المصدر ص 286.
2- (2) المادية التاريخية: كيلله، كوفالسون ص 358.
3- (3) مختارات: لينين ج 2 ص 169.
المناقشة

ينبغي أن نسلم مع الماركسية، بعيوب الرأسمالية عموما، بصفتها «تطبيقا» أو واقعا تاريخيا ناجزا، و تجربة عالمية فشلت فيها الرأسمالية و سقطت عن كونها النظام الأفضل في أعين الناس.

و إنما تنحصر المناقشات في الجوانب النظرية أو بطريقة فهم الماركسية الواقع. و سندخل في المناقشات مع حفظ ما قلناه خلال العرض السابق من المناقشات. و تتلخص في عدة نقاط.

النقطة الأولى: ان ترتب مراحل الرأسمالية بعضها على بعض، ليس تناقضا ديالكتيكيا، و إنما هو سلس متناسب متعاضد. و أوضح شاهد على ذلك هو أن الرأسمالية في واقعها في تزايد مستمر و في ترسخ مستمر. و ليست المرحلة اللاحقة نافية للمرحلة الأولى، بل مناسبة معها و مؤكدة لها.

و ليس الفرق بينها كالفرق بين الاقطاع و الرأسمالية أو بين الرأسمالية و الاشتراكية، و لا تحتاج وجود كل مرحلة إلى ثورة أو طفرة.

كما لا ينبغي ان تعتبر المرحلة تغيرا كيفيا بالنسبة إلى سابقتها لوضوح أنها تزايد كمي صرف في رأس المال و المؤسسات، و غير ذلك. و معه كيف يمكن تطبيق القانون الديالكتيكي العام - في رأي الماركسية - على هذه المراحل.

النقطة الثانية: إن من أهم فقرات قوانين المادية التاريخية، هو لزوم تغير كل صفات المجتمع بتغير المرحلة. كما سبق أن عرضناه مفصلا... فهل ينطبق ذلك في هذا المجال.

إن المجتمع الاوروبي بخصائصه العامة، بقي على وضعه، بكل وضوح تاريخي، خلال عصر الرأسمالية كله... و لم يتغير منه شيء إلا التدقيق العلمي، و بعض الايديولوجيات الجانبية. و لا تستطيع الماركسية أن تذكر أمورا أساسية اقترن وجودها بأي واحدة من هذه المراحل. فضلا عن أن تكون كل مرحلة قد غيرت كل المجتمع أو الصبغة العامة له.

ص:277

و لعل من أهم الأمور التي لم تتغير، باعتراف الماركسية، هي صفة «الحرية الشكلية» التي قالت بها الماركسية كصفة شاملة حتى لعصر الاحتكار.

و صفة «القيمة الزائدة» التي هي في تزايد مستمر، لا في تغير و تبدل.

و قد تقول الماركسية: ان المراحل الخمسة الرئيسية للمادية التاريخية، هي التي تغير المجتمع، و أما المراحل أو العهود «الداخلية» لكل مرحلة، فلا تكون مغيرة للمجتمع، بل يبقى المجتمع على نفس الصفات خلال كل العهود الداخلية للمرحلة الواحدة.

و جواب ذلك: إن تغير العهود في منطق المادية التاريخية و قانون الديالكتيك لا يختلف فيه الشأن، من زاوية أسبابها و مسبباتها. فكما ان الاقطاع وجد بطريقة «ماركسية» معينة و أوجد أمورا محددة، فكذلك مرحلة التراكم الأولي وجدت بطريقة «ماركسية» معينة و أوجدت أمورا محددة، و هكذا مرحلة المزاحمة الحرة، و ما بعدها من المراحل. ان كل مرحلة هي فقرة مستقلة بطبعها من المادية التاريخية خاصة و من الديالكتيك عامة... فينبغي أن تنطبق عليها قوانينها، مع اننا نراها غير منطبقة، كما رأينا.

النقطة الثالثة: هل ان مرحلة الامبريالية، محتوية على الخصيصة الرئيسة للرأسمالية، و هي الحرية الشكلية أولا؟!..

نسمع من لينين عبارة تجيب على هذا السؤال بالايجاب و عبارة تجيب بالنفي!!. أما العبارة التي تجيب بالايجاب فهي قوله:

«لقد نشأت الامبريالية باعتبارها تطورا و استمرارا لما فطرت عليه الرأسمالية بوجه عام من خصائص أساسية»(1).

يقصد بها الحرية الشكلية أو المزاحمة الحرة.

و أما العبارة التي تجيب بالنفي، فهي قوله:

«و لكن الرأسمالية لم تصبح امبريالية رأسمالية، إلا عند ما بلغت في تطورها درجة معينة عالية جدا، عند ما أخذ يتحول إلى نقيضه بعض من أخص خصائص الرأسمالية»(2).

يقصد بها المزاحمة الحرة. و تحوله إلى نقيضه بمعنى تحول الحرية إلى السيطرة و الكبت: فيكون المراد من هذه العبارة عدم توفر الحرية خلال عصر

ص:278


1- (1) المصدر السابق ص 120.
2- (2) المصدر و الصفحة.

الامبريالية. مع أن مقتضى العبارة الأولى توفرها فيها. و هذا من التهافت الصريح في الكلام.

و قد سمعنا فيما سبق كلتا العبارتين، و علمنا أيضا أنهما متتابعتان في سياق واحد و صفحة واحدة. فيكون تهافتا في الفكرة بشكل أغرب و أعجب.

النقطة الرابعة: اننا نتساءل: ما الذي حدا بالرأسماليين الاستزادة من الأرباح؟!..

و هذا السؤال تغفله الماركسية خلال حديثها الطويل عن الرأسمالية، مع سؤال جوهري في غاية الأهمية، باعتباره مرتبطا بالتكوين الأساسي للرأسمالية.

غير أن الماركسية - على أي حال - تستطيع أن تجيب من وجهة نظرها، بأن الرغبة في الربح المتزائد، ناشئ من الوجود الطبقي أو الصراع الطبقي في المجتمع.

إلا أن هذا الجواب لا يمكن أن يكون صحيحا، مع الأسف. لأن معناه:

أن الطبقة الرأسمالية تحتاج في صراعها مع البروليتاريا إلى هذه الزيادة الضخمة في الأرباح. و لكن هذا غير محتمل لوضوح ممارسة الكبت على العمال من قبل أي جهاز حاكم، أو أي مؤسسة كبيرة، و إن لم يكن الأفراد من ملوك المال. فالمقدار الزائد من المال ليس له تأثير في كبت العمال و السيطرة عليهم.

مضافا إلى ما قالته الماركسية من تزايد أهمية البروليتاريا و قوتها بتقدم عصر الرأسمالية. و هذا يعني ضعف وجودها السابق، بشكل لا يحتاج معه إلى التوسع الرأسمالي المتزائد من أجل كبته و الضغط عليه. على أن الرأسماليين، قد حصلوا على ضد ما أرادوه، فلم توجب زيادة الربح منفعة لهم.

و لعل الماركسية تقول: ان وعي العمال، مما لا يلتفت إليه الرأسماليون.

إلا أن هذا غير صحيح لعدة اعتبارات:

أولها: ان الرأسماليين ان لم يلتفتوا إلى ذلك، في أول أمرهم، فإنهم لا محالة، يلتفتون إليه من خلال التجارب و مرور الزمن. و إذا كان وعي العمال مقترنا بالتوسع المالي الكبير، فقد يكون من مصالح الرأسماليين - طبقيا - التقليل من أرباحهم لتجنب هذا الوعي!!...

ثانيها: ان وعي العمال غير ناشئ من تضخم المال بمجرده، بل ناشئ من المستوى الثقافي العام للمجتمع الذي يبنيه الرأسماليون أنفسهم و يدافعون

ص:279

عنه، إذن فهم قد شاركوا ضمنا في إيجاد هذا الوعي. إذن فقد عملوا شيئا على خلاف مصالحهم الطبقية...

و إذا لم يصح الجواب الماركسي عن سبب رغبة الربح، يبقى هذا السؤال مفتوحا إلى حين عرض الرأي الصحيح، من خلال التخطيط الالهي العام.

النقطة الخامسة: إن ما قالته الماركسية من أن تضخم الرأسمالية أو الامبريالية يوجب قوة البروليتاريا و أهميتها... غير صحيح، بعد الالتفات إلى عدة أمور:

الأمر الأول: إن الدولة على أي حال، أقوى من العمال العزّل مهما كان حالهم، و تستطيع أن تتصرف في أحوالهم و مصائرهم كيفما تريد.

الأمر الثاني: إن الدولة تستطيع أن تربي الفرد على الثقافة التي تهواها، بما فيها النزوع إلى تمجيد النظام الرأسمالي، و إذا تربّى الفرد على هذه المفاهيم فمن الصعب أن يتخلى عنها بعد ذلك.

الأمر الثالث: إن قيام الدولة بإعطاء الحرية لهم في التعبير عن آرائهم و مشاعرهم من ناحية، و ضمان مستوى معاشي أحسن لهم، يرفع - لا محالة - ما في صدورهم من غل إلى حد كبير، تجاه الدولة و النظام الرأسمالي، و يهدىء من تصرفاتهم و تمرّداتهم.

و هذا كله صحيح، لو لا نقطة واحدة، هي الزخم العقائدي و المد على مختلف المستويات، الذي تبذله الدول الاشتراكية، لأجل تحويل العمال إلى مذهبها، و الشعور بالتمرد و السخط على المجتمع الذي يعيشون فيه... إذن فما تدّعيه الماركسية، من أن هذا يحدث تلقائيا و طبقا للقوانين الموضوعية، لا يمكن أن يصح و سنسمع عند «نقد التلقائية» ماركسيا - بعد قليل - ما يلقي ضوءا في هذا المجال.

ص:280

نهاية الرأسمالية
اشارة

- 1 - طبقا لمفاهيم الديالكتيك الكوني و المادية التاريخية، لا بد للرأسمالية من نهاية، ليحل محلها النظام الأفضل في نظر الماركسية: الاشتراكية. و هو المرحلة الأخيرة من سلسلتها التاريخية.

و مجمل تطبيق هذه المفاهيم على الرأسمالية:

إنه من زاوية الديالكتيك تعتبر الطبقة البرجوازية أو الرأسمالية «أطروحة» و الطبقة البروليتارية «طباقا» أو نفيا أول للمجتمع الرأسمالي، و المجتمع الاشتراكي «تركيبا» أو نفي النفي، و التركيب دائما يكون أكمل من كل من الأطروحة و الطباق... و كذلك المجتمع الاشتراكي يكون أكمل من سوابقه.

و أما من زاوية المادية التاريخية، فإن الطبقة البرجوازية الرأسمالية، بعد أن كانت طبقة تقدمية بالنسبة إلى الاقطاع و مرتبطة مصلحيا بالشكل الجديد من وسائل الانتاج، و ما تستلزمه من علاقات إنتاج... تصبح هذه الطبقة تدريجا «قديمة»؛ لأن وسائل الانتاج تستمر في النمو، فيحدث الجديد منها تلو الجديد، فتبقى هذه الطبقة مرتبطة مصلحيا بالنوع الذي كانت مرتبطة به أولا، و لا يمكنها تغيير علاقات إنتاجها... و تحدث في نفس الوقت، طبقة جديدة مرتبطة مصلحيا بالوسائل الجديدة للانتاج، تفضل العلاقات الانتاجية التي تقررها و تفرضها هذه الوسائل. و هذه الطبقة الجديدة هي البروليتاريا.

و حيث أن قانون المادية التاريخية يقتضي انتصار الوسائل الجديدة و الجماعة المرتبطة بها بالضرورة، إذن، فلا بد للبروليتاريا - بالضرورة - أن تنتصر و تجهز على علاقات الانتاج الرأسمالية، و تبدلها بالعلاقات التي تفضلها هي - أي البروليتاريا - و هي العلاقات التي تقررها الآلة الجديدة، و هي علاقات الانتاج الاشتراكية.

ص:281

إذن، فبالضرورة سوف يتحقق المجتمع الاشتراكي مولودا من أحشاء المجتمع الرأسمالي، كما ولد المجتمع الرأسمالي بالضرورة من أحشاء المجتمع الاقطاعي.

هذا هو «التجريد» الماركسي، طبقا للقوانين الماركسية العامة.

- 2 - و بالرغم من أن هذا البيان أو التسلسل الفكري صحيح ماركسيا، و مطابق مع قواعد الماركسية... إلا أنها لم تؤكد عليه في هذه المرحلة، كما أكّدت على تطبيقه في المراحل السابقة. بل لم تذكره المصادر الماركسية إلا لماما، كما هو واضح لمن راجعها.

بل ذكرت ما يخالف ذلك إلى حد كبير، من زاوية أن قانون المادية التاريخية، قانون تلقائي صارم و ضروري الانتاج في نظر الماركسية. و هذا معناه إلغاء الوعي البشري في تبديل عهد إلى عهد، بما فيه تبديل عهد الرأسمالية إلى الاشتراكية. و هذا ما تبنّته و صرحت به الماركسية في المراحل السابقة، أنها لم ترغب به في هذه المرحلة. لأن فيه إلغاء للجهود «الواعية» التي تبذلها الأحزاب الشيوعية في العالم لمناهضة الرأسمالية.

و من هنا أكدت الماركسية، بكل وضوح، على ما سنسمع بعد قليل على عنصر الوعي البشري و العمل الاختياري في تبديل هذه المرحلة، و شجبت التلقائية بالرغم من أنها هي الناتج الضروري من قانونها الديالكتيكي و المادية التاريخية.

- 3 - و قد ربطت الماركسية بين نمو الانتاج و وسائله في عصر الرأسمالية، و بين نمو البروليتاريا من ناحية، التناقض بين الرأسمالية و وسائل الانتاج من ناحية أخرى.

و هذه النقطة من كلام الماركسيين، أقرب الأساليب لقانون المادية التاريخية، من حيث انطباقه على هذا الحقل.

قال ماركس:

«و لكن الرأسمالية، بسبب تنميتها القوى المنتجة بنسبة هائلة، وقعت في تناقضات لا تستطيع حلها. فهي بإنتاجها كميات كبيرة من البضائع و بإنقاصها أسعار هذه البضائع،

ص:282

تزيد المزاحمة تفاقما و اشتدادا، و ترمي جماهير الملاكين الفرديين الصغار و المتوسطين في الخرا، و الدمار، و تجعلهم في حالة البروليتاريين، و تخفض مقدرتهم الشرائية، و تكون النتيجة أن تصريف البضائع المصنوعة يضحى مستحيلا.

إن الرأسمالية بتوسيعها الانتاج، و بجمعها ملايين العمال في فبارك و معامل عظيمة، تطبع عملية الانتاج بطابع اجتماعي، و بذلك تنخر قاعدتها بنفسها، لأن الطابع الاجتماعي لعملية الانتاج يتطلب ملكية اجتماعية لوسائل الانتاج و لكن ملكية وسائل الانتاج تبقى ملكية خاصة رأسمالية، غير متلائمة مع الطابع الاجتماعي لعملية الانتاج.

... و معنى هذا، ان علاقات الانتاج الرأسمالية، لم تعد مطابقة لحالة القوى المنتجة، بل دخلت معها في تناقض لا يحل.

معنى هذا، ان الرأسمالية تحل في صلبها ثورة مدعوة إلى إحلال الملكية الاشتراكية في مكان الملكية الرأسمالية الحالية لوسائل الانتاج»(1).

«و هكذا ينتزع تقدم الصناعة الكبرى من تحت أقدام البرجوازية نفس الأسس التي شادت عليها نظام إنتاجها و تملّكها. ان البرجوازية تنتج قبل كل شيء حفّاري قبورها، فسقوطها و انتصار البروليتاريا، كلاهما أمر محتوم لا مناص منه»(2).

- 4 - و من هنا تنبثق في نظر الماركسية أهمية عمل البروليتاريا، في تقويض الرأسمالية، و توجيه الحزب الشيوعي نحو وعيها و ثورتها.

و لعل أوضح من عرض ذلك هو بوليتزر، حيث نسمعه يقول - فيما قال -:

«نستطيع الآن إدراك مهمة نضال البروليتاريا الطبقي التاريخية. و سنرى بأن هذه المهمة هي حل التناقض الذي ظهر بين علاقات الانتاج الرأسمالية و بين قوى الانتاج.

كانت البرجوازية تنمي البروليتاريا في نفس الوقت الذي كانت تنمي فيه قوى جديدة للانتاج، حسبما تقتضيه طبيعة علاقات الانتاج الرأسمالية... و كلما تجمعت وسائل الانتاج بين يدي البرجوازية، كلما ازداد عدد البروليتاريا و قوتها.

... غير أنه لا يمكن للعمال البروليتاريين أن يؤمّنوا معيشتهم، كما نعلم، إلا بالنضال المستمر ضد الطبقة التي تستغلهم. و هكذا ولّدت البرجوازية بتوليدها نقيضها «البروليتاريا المستغلة» جيشا من الأعداء يقومون بنضال طبقي ضد المستغلين»(3).

و أضاف:

ص:283


1- (1) المادية الديالكتيكية و المادية التاريخية: ستالين ص 52-53.
2- (2) البيان الشيوعي، ماركس، انجلز ص 54.
3- (3) أصول الفلسفة الماركسية: بولتزر ص 111 ج 2.

«حتى ما إذا تسرب علم المجتمعات الذي أسسه ماركس و انجلز(1) بين صفوف البروليتاريا، ارتفع مستوى النضال الطبقي بفضل الحزب الثوري(2). لأن مهمة هذا الحزب الذي يضم تحت لوائه عناصر البروليتاريا الناهضة، أن يدخل الوعي الاشتراكي في الطبقة العاملة و أن يقودها هي و جميع الطبقات الكادحة المتضامنة معها، إلى دك صرح الرأسمالية.

فهو يناضل من أجل مطالب العمال العاجلة. غير أنه لا يكتفي بذلك، بل يشرح لهم، بصورة علمية، مصدر الاستغلال»(3).

«و لا يستطيع نضال البروليتاريا في هذه المرحلة إزالة الاستغلال الرأسمالي بل يحد من تأثيره. حتى إذا لم تعد علاقات الانتاج الرأسمالية مناسبة لقوى الانتاج، بسبب ازدهار هذه القوى، أي حين تدخل الرأسمالية في نزاع مع قانون الترابط الضروري بين الانتاج و علاقات الانتاج، تتوفر حينئذ الشروط الموضوعية الجديدة لنضال البروليتاريا... و هكذا يسير نضال البروليتاريا الثوري في اتجاه التاريخ، و لهذا كان واثقا من المستقبل، لأن النضال يسير حسب قانون المجتمعات الأساسي(4)».

يعني قانون المادية التاريخية. و قال:

«و يعود الفضل إلى ماركس و انجلز بأنهما اكتشفا الوسيلة الوحيدة التي تستطيع حل التناقض بين طابع قوى الانتاج الاجتماعي و بين الملكية الخاصة، هو نضال الطبقة العاملة الثوري»(5).

«و هكذا يحل نشاط الناس الواعي محل سير التطور العفوي، و يحل الانقلاب العنيف محل التطور السلمي، و تحل الثورة محل التطور التدريجي.

يقول ماركس: البروليتاريا، في نضالها ضد البرجوازية، تتكوّن حتما في طبقة، و تنصب نفسها بالثورة طبقة سائدة، و بصفتها طبقة سائدة، تحطم بالعنف نظام الانتاج القديم»(6).

«إن حزب البروليتاريا السياسي، هو صاحب الدور القائد و الموجّه في نضالها الطبقي.

و يدون الحزب المسلح بالنظرية العلمية و المرتبطة ارتباطا وثيقا بالجماهير، لا يمكن للبروليتاريا أن تحقق النجاح في نضالها ضد أعدائها الطبقيين»(7).

ص:284


1- (1) يقصد: المادية التاريخية.
2- (2) الحزب الثوري أي الحزب الشيوعي في هامش الكتاب ص 114.
3- (3) المصدر نفسه ص 114.
4- (4) المصدر ص 117.
5- (5) المصدر و الصفحة.
6- (6) المادية الديالكتيكية و المادية التاريخية: ستالين ص 60.
7- (7) المادية التاريخية: تعريب أحمد داود ص 249.

و قال لينين متهكما:

«دع (اليساريين) يمتحنون أنفسهم في العمل في النطاق الوطني و الدولي. دعهم يحاولون التمهيد لديكتاتورية البروليتاريا (ثم تحقيقها) بدون حزب ذي مركزية قوية و طاعة حديدية»(1).

- 5 - و من هذه الزاوية، بالضبط، زاوية التركيز النظري على أهمية الحزب مضافا إلى التركيز العملي... و من زاوية الشعور بالواقع - على ما سنرى - أكدت الماركسية على نقد التلقائية.

قال بوليتزر:

«و ضرورة مثل هذا الحزب، معطى أساسي من معطيات الاشتراكية العلمية، و هو يتفق مع تعاليم النزعة المادية الجدلية و التاريخية. فلما ذا؟ لأنه إذا صح ان البروليتاريا التي تستغلها البرجوازية مضطرة ماديا للنضال ضدها، فلا يعني ذلك قط ان وعيها الاشتراكي تلقائي. لأن نظرية التلقائية معارضة للماركسية، و النظرية الثورية علم و ليس هناك من علم تلقائي.

و لقد قام لينين في كتابه «ما العمل؟» بنقد كلاسيكي للتلقائية...

و يلاحظ لينين ان حركة البروليتاريا التلقائية، لا يمكن أن تؤدي بالبروليتاري إلى أبعد من مرحلة تأليف النقابات التي تضم العمال من مختلف المعتقدات السياسية و تهدف للنضال من أجل رفع مستوى الحياة و الأجور. و لكن ليس هناك من نقابة - بصفتها هذه - أن تحمل للعمال ما يحمله الحزب السياسي الماركسي، الا و هو أمل الثورة و العلم الثوري.

... مصلحة البروليتاريا الثورية تأمرها بالدفاع عن الحزب الشيوعي ضد أي هجوم و تقويته، لأن وجوده ضروري لانتصارها. أما نظرية التلقائية فهي تضع البروليتاريا تحت حماية البرجوازية.

لأن نظرية التلقائية هي الأساس المنطقي لكل نزعة انتهازية!(2)».

إن التلقائية تجعل العامل محطا للتركيز الفكري البرجوازي الذي يبعده من الاقتناع بضرورة الثورة الاشتراكية التي تستهدفها الماركسية، و الأحزاب الشيوعية.

«لأن النظرية الفكرية التي تعرض تلقائيا للبروليتاريا في النظام الرأسمالي، هي النظرية الفكرية البرجوازية، كالدين - مثلا - و الأخلاق اللذين يلقنان في المدرسة، و يدعوان

ص:285


1- (1) مختارات: لينين (مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية) ج 4 ص 119.
2- (2) أصول الفلسفة الماركسية: بوليتزر ج 1 ص 409-412.

البروليتاريا إلى «التذرع بالصبر» لأنه لا بد من «ثواب الفضيلة».

و لا تعتمد النظرية الفكرية البرجوازية على قوة التقاليد فقط، بل تعتمد على الوسائل المادية الضخمة التي تمتلكها البرجوازية الحاكمة»(1).

- 6 - و بانتهاء العصر الرأسمالي، ينتهي عصر أهم و أطول، هو عصر الوجود الطبقي الذي عانته البشرية منذ نهاية المشاعية الأولى و دخولها في عصر القنانة، إلى نهاية الرأسمالية الامبريالية.

قال كوفالسون:

«تختتم الرأسمالية عهدا هائلا من تاريخ البشرية هو عهد المجتمع التناحري»(2).

يعني التناحر الطبقي. و يدخل المجتمع في عصر الوئام الاجتماعي الذي لا تتعدد فيه الطبقات، بفضل الاشتراكية التي تسود المجتمع الجديد.

و سوف يكون للبروليتاريا شرف القيام بهذه المهمة العظيمة.

قال بوليتزر:

«ذلك لأن نهاية النضال الطبقي، و انقسام الانسانية على نفسها، يستطيع إعادة الانسجام إلى الانسان و حلول عهد الوعي السعيد. غير أن إزالة النضال الطبقي لا يمكن أن تتم إلاّ بالاستمرار في النضال الطبقي حتى النهاية. ذلك: لأن الثورة البروليتارية، و لا شيء غيرها، هي التي تعيد إلى الانسانية وحدتها التي تتمثل في البروليتاريا و الجماهير الشعبية. إذ يستعيد البروليتاريون و حلفاؤهم، في نضالهم الظافر ضد ظلم الطبقات المستغلة و انحطاطها، الانسانية من أجلهم، و يحققون بذلك غاية الانسان»(3).

ص:286


1- (1) المصدر ص 410. قارن هذا و ما قبله بما قلناه في النقطة الخامسة من مناقشة العصر الثالث للرأسمالية.
2- (2) المادية التاريخية: كوفالسون، كيلله ص 137.
3- (3) أصول الفلسفة الماركسية: بوليتزر ج 2 ص 67.
المناقشة

ينبغي أن نتفق مع الماركسية، في أن الرأسمالية، ليست قدرا أبديا على البشرية، بل هي - لا محالة - صائرة إلى زاول، مع ما تحمل من بلايا و دمار.

كما ينبغي أن نتفق معها، بأن المجتمع المتلائم العناصر، و الأخوي في داخله هو الهدف الأساسي للبشرية. و هو الذي يختتم أتعاب البشرية التي عانتها خلال عمرها الطويل. و هذا هو أحد العناصر الرئيسية التي تتفق فيها الماركسية مع «التخطيط الالهي العام» كما ذكرنا في أول الكتاب.

كما ينبغي أن نتفق معها أيضا على «نقد التلقائية» و ان ذلك اليوم السعيد لا يسود البشرية عفويا، بل يحتاج إلى عمل واسع عظيم من أجل إيجاده. و لكننا سنسمع الآن أن نقد التلقائية غير منسجم مع القواعد الماركسية، بالرغم من تأكيدها عليه.

و من هنا ينبغي أن تنطلق المناقشات من زاوية انطباق المفهوم الماركسي التاريخي، على ما أرادت أن تقوله في هذا الحقل بالذات. و ذلك ضمن نقاط:

النقطة الأولى: ان قوانين المادية التاريخية، التي تعتقد الماركسية بضرورة إنتاجها، تقتضي «التلقائية» بالضرورة... سواء على مستوى قانون «نفي النفي» أو قانون «تطور وسائل الانتاج». و من الواضح أنه لا يمكن للحزب الشيوعي «الثوري» و لا لأي فرد أو جماعة أن يغير القوانين الكونية القهرية أو يقف في وجهها.

و هنا قد تقول الماركسية: انها أكدت على جانب الوعي إلى جانب الضرورة كما سبق أن سمعنا. و معنى ذلك، انفتاح الفرصة المؤاتية التي يمكن أن تستغل الثورة خلال تلك القوانين الضرورية.

إلا أن هذا الكلام لا يمكن أن يكون صادقا، لعدة أجوبة:

الجواب الأول: إن هذا التركيب بين الضرورة و الحرية، قد سبق أن ذكرنا بطلانه و عدم إمكان التسليم بصحته.

ص:287

الجواب الثاني: اننا نسأل عن أن القوانين الضرورية و حدها، هل هي منتجة لانتقال المجتمع من الرأسمالية إلى الاشتراكية أولا!؟...

فإن لم تكن وحدها مؤثرة، فقد فشلت تلك القوانين بعد أن كانت قد نجحت في المراحل السابقة، مستقلة عن الوعي، و إن كانت تعمل عملها مستقلة عن الوعي، كما عملت في المراحل السابقة. إذن، فإنتاجها تلقائي بالضرورة، و لا حاجة إلى أعمال الأحزاب الشيوعية بالمرة.

الجواب الثالث: ان الوعي ليس ضروري الانتاج، كما هو الحال في القوانين الكونية العامة. لأنه يعني الحرية و هي تنافي الضرورة، حتى بالفهم الماركسي.

فإن كان المجتمع لا ينتقل إلى الاشتراكية إلا بواسطة إعمال الوعي، و ليس بالقوانين الضرورية فقط (كما صرحت الماركسية في هذه المرحلة من تفكيرها)... إذن تصبح مرحلة الاشتراكية غير ضرورية الوجود، باعتبار أن أحد أسبابها، و هو الوعي، ليس ضروري الوجود لانتاجها.

إلى أجوبة أخرى غير هذه...

و معه يتعين القول بالتلقائية، طبقا للقوانين المادية الماركسية. و لا معنى لنفيها أو نقدها ماركسيا. و هذا إلى جانب كونه «تقديسا» لهذه القوانين فانه يحتوي إلغاء مهمة الأحزاب الشيوعية. و هذا هو التهافت الذي وقعت فيه الماركسية بين عمل قوانينها و عمل أحزابها. و منه يتضح بجلاء منافاة وجود الأحزاب الشيوعية مع القوانين الماركسية، و إن أكدت الماركسية على مطابقتها معها.

النقطة الثانية: إن ما سمعناه من الماركسية، قبل قليل، من أن زوال المجتمع الرأسمالي ينتج زوال الطبقية و وجود المجتمع الأفضل الذي هو الهدف الانساني الأعلى... هذا لا يمكن أن يكون صحيحا من زاوية ماركسية.

لأن ما يحدث بعد زوال الماركسية ليس هو (الطور الأعلى) للمجتمع الاشتراكي بل هو مرحلة (دكتاتورية البروليتاريا). و سنسمع عند الحديث عنه بعد قليل، ان الماركسية تصرح بوجود الطبقية و النضال الطبقي فيه... غير أن الأكثرية هي التي تكون الطبقة السائدة يومئذ. إذن فالطبقية لن تزول بزوال المجتمع الرأسمالي بل تبقى بعده خلافا لما أرادت الماركسية أن تقول.

ص:288

النقطة الثالثة: ان الحزب الشيوعي لو انعقد في البلد الرأسمالي انعقادا «تلقائيا» ليقود جماهير البروليتاريا إلى المستقبل الاشتراكي... لكان هذا أمرا معقولا، لو استطعنا التنزل عن الاعتراضات السابقة. و المفهوم أن هذه هي الفكرة التي حاولت الماركسية «تجريديا» إعطاءها.

إلا أن هذا التجريد، لا يصح من الناحية التطبيقية لعدة أسباب:

أولا: ان الأحزاب الشيوعية في العالم لم تنعقد بعد الثورة الحمراء في روسيا من تلقاء نفسها، بل بتدخل و تخطيط من قبل الاتحاد السوفييتي، أولا، و الصين الشعبية الماوية ثانيا. و لم يصادف في أي بلد ان وجد الحزب الشيوعي تلقائيا و بدون هذا التدخل بعد الثورة الروسية.

ثانيا: ان هناك عددا من البلدان لا تتصف بالرأسمالية بالمرة، و مع ذلك وجد الحزب الشيوعي فيها. و الواقع المعاش أوضح دليل على ذلك في أكثر الدول النامية في العالم. فإذا كانت وظيفة هذا الحزب قيادة البروليتاريا و إذا كانت البروليتاريا لا توجد إلا في مجتمع رأسمالي. فما هي وظيفة الحزب في البلدان غير الرأسمالية؟!..

لعل وظيفته هو نقل البلد إلى الشيوعية قبل المرور بالعصر الرأسمالي، كما سمعنا تصريح لينين بذلك، و ان ذلك أمر ممكن بتدخل من الاتحاد السوفييتي، و القوى الشيوعية العالمية. إذن، فوظيفة الحزب الشيوعي سوف تكون هي عصيان قوانين المادية التاريخية الضرورية، و ليس تطبيقها، كما تريد الماركسية أن تقول.

و لكن هذا التدخل مخالف لما اتفق عليه الرأي العام العالمي و القانون الدولي، من «حق تقرير المصير» للشعوب، الذي وافق الماركسيون على صحته.

قال لينين:

«إن حق الأمم في تقرير مصيرها يعني بوجه الحصر، حق الأمم في الاستقلال بالمعنى السياسي»(1).

و محاولة الماركسية لتفسير هذا الحق، بأنه انطلاق من نير الاضطهاد الرأسمالي بالخصوص، كما يقول لينين عنه:

ص:289


1- (1) مختارات: لينين ج 1 ص 252.

إن الحق «في حرية الانفصال السياسي عن الأمة المتسلطة المضطهدة»(1).

و هي الأمة الرأسمالية بالخصوص في رأيه.

... هذه المحاولة لا يمكن أن تكون ناجحة، فإن الرأي العام العالمي إنما رغب بهذا الحق، و القانون الدولي، إنما اعترف به، باعتباره معبرا عن اختيار الشعب لنظامه و حكامه بمحض رغبته و اختياره، حسب مستواه الفكري و العقائدي و المدني الخاص. سواء كان مستواه واطئا أم عاليا.

و هذا المعنى، كما ينافي التدخل العسكري لغرض فرض وضع معين على شعب ما، كذلك ينافي التدخل الفكري و العقائدي الذي تحاوله الأحزاب الشيوعية في العالم اليوم... فضلا عن ما تفكر به هذه الأحزاب من الثورة حين تعتقد بضرورتها في مجتمع معين. فإن كل ذلك مما ينافي حق تقرير المصير، بالمعنى الثابت قانونيا و المرغوب به عالميا.

و على أي حال، فمع وجود نقاط الاعتراض هذه، يصبح تفسير الماركسية لزوال الرأسمالية غير صحيح. و لو بعد التجاوز عن اعتراضاتنا السابقة على قانون الديالكتيك و قانون تطور وسائل الانتاج.

بل ستزول الرأسمالية، لا محالة، بأسباب أخرى، سنعرف أهم تفاصيلها عند الحديث عن التخطيط الالهي لليوم الموعود.

ص:290


1- (1) المصدر و الصفحة.
الاشتراكية
اشارة

تنقسم الاشتراكية، كما تنقسم الرأسمالية إلى ثلاث مراحل: تتضمن أولاها: دكتاتورية البروليتاريا. و تتضمن الثانية: عهد الاشتراكية الأول الممهّد للطور الأعلى. و أما الثالثة: فهي المجتمع الشيوعي الكامل أو الطور الأعلى للاشتراكية، الذي به تتحقق آمال البشرية (الماركسية) في إيجاد المجتمع الأمثل الذي تتحقق به السعادة التامة الكاملة للبشر أجمعين.

يشير إلى ذلك كوفالسون قائلا:

«إن العملية الطبيعية التاريخية لقيام و تطور التشكيلة الشيوعية تشكل ثلاث درجات معروفة تتعاقب بصورة محتمة طبيعية، هي المرحلة الانتقالية التي ترسي الثورة الاشتراكية بدايتها، و مرحلة الاشتراكية، أي الطور الأدنى من التشكيلة الشيوعية، و مرحلة الشيوعية»(1).

و سوف تكون القاعدة الاقتصادية الرئيسية فيما قبل المجتمع الأخير، أو بالأخص في المرحلة الثانية، هو المبدأ التالي: «على كل فرد أن يؤدي حسب طاقانه و أن ينال حسب عمله». على حين تكون القاعدة الرئيسية في المجتمع الأخير هو المبدأ التالي: «على كل فرد أن يؤدي حسب طاقاته، و أن ينال حسب حاجاته» على ما سنسمع(2).

و كما أن الماركسية قد أكثرت الكلام في نقد الرأسمالية، كذلك أكثرت الكلام في وصف الاشتراكية، و ذلك لعدة أسباب، كلها مفهومة من زاويتها:

1 - إتمام نظريتها: المادية التاريخية، و بنائها الفكري بشكل متكامل واضح.

2 - الدعوة العالمية إلى مبدئها و الترغيب بأهدافها.

3 - تمييز اشتراكيتها عن الاشتراكيات الأخرى، و هي عديدة في

ص:291


1- (1) المادية التاريخية: كيلله، كوفالسون ص 138.
2- (2) انظر بهذا الصدد أصول الفلسفة الماركسية: بوليتزر ج 2 ص 185.

العالم. و من هنا اصطلحت الماركسية على اشتراكيتها بالاشتراكية العلمية. نظرا إلى أنها ناتجة عن مبدأ عام لفهم التاريخ، هو المادية التاريخية. و أما الاشتراكيات الأخرى فليست كذلك.

4 - إعطاء المبررات النظرية الكافية لتصرفات الحكومات الاشتراكية باعتبار اقتران هذه الأفعال مع التطورات الحتمية للاشتراكية، باعتقاد الماركسية.

و علي أي حال، فالماركسية هي أولى بمبرراتها. و إنما المهم في هذا الصدد اننا ينبغي أن نبذل جهدا في تلخيص الفكرة الماركسية عن الأطوار الاشتراكية، سواء من جهة «تاريخية» أو من جهة «اقتصادية»، متوخّين في ذلك الاختصار مع الايضاح.

و يحسن بنا فيما يلي أن نمشي مع هذه المراحل الثلاث، طبقا للتسلسل الفكري الماركسي.

ص:292

المرحلة الاشتراكية الأولى دكتاتورية البروليتاريا
اشارة

- 1 - أكدت الماركسية بوضوح على ضرورة مرور المجتمع بهذه المرحلة، لأجل الانتقال من العهد الرأسمالي إلى العهد الاشتراكي و الشيوعي.

قال ماركس:

«بين المجتمع الرأسمالي و المجتمع الشيوعي تقع مرحلة تحول المجتمع الرأسمالي تحولا ثوريا إلى المجتمع الشيوعي. و تناسبها مرحلة انتقالية سياسية لا يمكن أن تكون الدولة فيها سوى الدكتاتورية الثورية للبروليتاريا»(1).

و قال لينين:

«إن الانتقال من المجتمع الرأسمالي بسبيل التطور نحو الشيوعية، إلى المجتمع الشيوعي، يستحيل بدون «مرحلة انتقال سياسية» و لا يمكن لدولة هذه المرحلة أن تكون غير الدكتاتورية الثورية للبروليتاريا»(2).

- 2 - و تتصف هذه المرحلة بوجود الطبقات، كما كانت عليه في العهود السابقة عليها. و لكن بينما كانت الطبقة القليلة المتنفذة هي المسيطرة و المضطهدة للأكثرية، يكون الآن الأمر بالعكس، فإن الأكثرية البروليتارية، هي التي تضطهد الأقلية الرأسمالية و مؤيديها، بل انها تقمعهم قمعا، و تبيدهم عن الوجود في خلال صراع مرير.

قال لينين:

«في مرحلة الانتقال من الرأسمالية إلى الشيوعية يظل القمع أمرا ضروريا، و لكنه يغدو قمعا للأقلية المستثمرة من جانب الأكثرية المستثمرة»(3).

ص:293


1- (1) مختارات: لينين ج 2 ص 281.
2- (2) المصدر: نفس الصفحة و ما بعدها.
3- (3) المصدر ص 286.

و قال ماركس:

«و لكن قبل أن يكون بالامكان تحقيق هذا التغيير، فلا بد من دكتاتورية البروليتاريا، و شرطها الأول هو جيش للبروليتاريا. ان الطبقة الكادحة يجب أن تحصل على الحق في تحررها في ساحة القتال»(1).

و قال لينين أيضا:

«إن دكتاتورية البروليتاريا هي الحرب الأكثر بطولة و الأشد قسوة، التي تخوضها الطبقة الجديدة ضد عدو أقوى، ضد البرجوازية التي تتضاعف مقاومتها من جرّاء سقوطها بالضبط... فإن دكتاتورية البروليتاريا لا غنى عنها. و انه لمن المستحيل التغلب على البرجوازية دون حرب طويلة عنيدة مستميتة...»(2).

- 3 - و من أجل أمرين مقترنين، لا بد من وجود الدولة خلال هذه المرحلة:

أولا: من أجل وجود الطبقات. و قد أ فهمتنا الماركسية أن الدولة أداة طبقية للقمع. و ما دامت الطبقات موجودة، فلا بد أن تكون الدولة موجودة.

ثانيا: من أجل الحاجة الملحة إلى هذا القمع، خلال هذه المرحلة:

قال انجلز:

«إن البروليتاريا بحاجة إلى الدولة لا من أجل الحرية، بل من أجل قمع خصومها»(3).

و قال لينين:

«و يبقى الجهاز الخاص، الآلة الخاصة للقمع «الدولة» أمرا ضروريا»(4).

- 4 - و سيكون الحزب الشيوعي هو القائد للطبقة البروليتارية و دولتها.

قال كوفالسون:

«و بدون الحزب، بوصفه القوة القائدة، يستحيل تطبيق ديكتاتورية البروليتاريا»(5).

ص:294


1- (1) الشيوعية العلمية ص 261 عن المؤلفات الكاملة لماركس ج 7 ص 433.
2- (2) المصدر نفسه ص 268 عن المؤلفات الكاملة للينين ج 31 ص 17-18.
3- (3) مختارات: لينين ج 2 ص 285 (الدولة و الثورة).
4- (4) المصدر ص 286.
5- (5) المادية التاريخية: كيلله، كوفالسون ص 261.

- 5 - و ستكون الدولة في هذه المرحلة انتقالية، تبعا لانتقالية المرحلة ذاتها.

و ستكون من نوع جديد يختلف عن شكل الدولة الرأسمالية السابقة عليها، لأنها ستكون في طريق الفناء.

قال لينين:

«و لكنها تغدو دولة انتقالية، تكف عن أن تكون الدولة بمعنى الكلمة الخاص»(1).

«أولا: إنه لا يلزم البروليتاريا، في رأي ماركس، سوى دولة في سبيل الفناء، يعني مشكّلة بحيث تأخذ في الاضمحلال على الفور، و لا يمكن إلا أن تضمحل.

ثانيا: إن الشغيلة يحتاجون إلى «دولة» هي البروليتاريا المنظمة في طبقة سائدة»(2).

- 6 - و سيكون للديمقراطية وجود خلال المرحلة البروليتارية، و لكن لن يكون معناها هو المفهوم الرأسمالي البرجوازي... بل معناها جلب أكثرية الشعب إلى جانب البروليتاريا، و صهرهم في بوتقة ثورتهم ضد البرجوازية.

قال لينين:

«و على ذلك، نرى ان الديمقراطية في المجتمع الرأسمالي هي ديمقراطية بتراء حقيرة زائفة، هي ديمقراطية للأغنياء وحدهم، للأقلية. أما ديكتاتورية البروليتاريا، مرحلة الانتقال إلى الشيوعية فهي تعطي لأول مرة الديمقراطية للشعب، للأكثرية، بمحاذاة القمع الضروري للأقلية للمستثمرين»(3).

و قال أيضا:

«الديمقراطية من أجل الغالبية العظمى من الشعب، و القمع بالقوة يعني حرمان المستثمرين و مضطهدي الشعب من الديمقراطية. ذلك هو التبدل الذي تمر به الديمقراطية عند الانتقال من الرأسمالية إلى الشيوعية»(4).

و قال كوفالسون:

«إن دكتاتورية البروليتاريا لا تقتصر على جهاز سلطة الدولة، جهاز الحكم. فهي معدة لأجل إشراك الجماهير في البناء الاشتراكي، لأجل اجتذاب الكادحين إلى إدارة البلد.

ص:295


1- (1) مختارات: لينين ج 2 ص 286.
2- (2) الشيوعية العلمية ص 278 عن الدولة و الثورة: لينين ط 2 ص 21.
3- (3) مختارات لينين ج 2 ص 286 (الدولة و الثورة).
4- (4) الشيوعية العلمية ص 275 عن الدولة و الثورة ص 110-111.

و هي عبارة عن نظام كامل من منظمات جماهيرية (السوفيات، النقابات، التعاون، اتحاد الشباب، و الخ) يقودها الحزب الشيوعي»(1).

- 7 - و بالرغم من الاجراءات القمعية ضد البرجوازية الرأسمالية، فإن آثارها سوف تبقى خلال هذه المرحلة كلها، فإن الناس لا يمكن أن يتغيروا فجأة بالاتجاه الذي تريده لهم الماركسية، و تقتضيه قوانين المادية التاريخية.

قال كوفالسون:

«إن عدد أولئك الذين بوسعهم أن يحطموا و يفسدوا و يبددوا الأموال العامة، لمجرد أنها ليست لهم بل حكومية، يقل أكثر فأكثر في البلدان الاشتراكية. و لكن هذا لا يعني أن جميع أفراد المجتمع قد تعوّدوا هنا على العمل بوعي و إدراك من أجل الخير العام. فحتى في عشية ثورة أكتوبر أشار لينين قائلا: «إن المرء إذا لم ينسق مع الخيال لا يمكنه أن يفكر بأن الناس بعد إسقاط الرأسمالية، يتعلمون على الفور العمل للمجتمع بدون أية أحكام حقوقية. ناهيك عن أن إلغاء الرأسمالية لا يعطي فورا ممهدات اقتصادية لمثل هذا التغير»(2).

و قال لينين:

«إن تحويل الزارع الصغير، تحويل كل ذهنيته و عاداته، هو عمل أجيال كاملة. و ان القاعدة المادية و التقنية و الاستخدام الكثيف للحارثات و الآلات في الزراعة، و الكهربة على نطاق واسع، تستطيع وحدها أن تحل هذه القضية ان تصلح ذهنيته نوعا ما، هذا ما يمكن أن يحول رأسا على عقب بسرعة هائلة الزارع الصغير.

و حين أقول: انه لا بد لذاك من أجيال، فهذا لا يعني قرونا. و انكم لتفهمون جيدا انه في سبيل الحصول على حارثات و آلات، و في سبيل كهربة بلد شاسع الأبعاد، لا بد على الأقل، مهما تكن الحال، من عشرات السنين، ذلك هو الوضع الموضوعي»(3).

و قال أيضا:

«و على ذلك فإن المرحلة الأولى من الشيوعية لا يمكنها أن تعطي العدالة و المساواة. تبقى فروق في الثورة، و هي فروق مجحفة و لكن استثمار الانسان للانسان يصبح مستحيلا. لأنه يصبح من غير الممكن للمرء أن يستولي كملكية خاصة على وسائل الانتاج، على المعامل و الماكينات و الأرض و غير ذلك»(4).

ص:296


1- (1) المادية التاريخية: كيلله، كوفالسون ص 261.
2- (2) المصدر ص 266 و ما بعدها.
3- (3) الشيوعية العلمية ص 278 عن المؤلفات الكاملة: لينين ج 32 ص 227.
4- (4) مختارات لينين ج 2 ص 290 (الدولة و الثورة).

و استطرد قائلا:

«و على هذه الصورة، فان «الحق البرجوازي» في الطور الأول من المجتمع (الشيوعي) الذي يسمى عادة بالاشتراكية يلغي لا بصورة تامة، بل بصورة جزئية، فقط بالمقدار الذي بلغه الانقلاب الاقتصادي، أي فقط حيال وسائل الانتاج»(1).

إن لينين يقصد بالطور الأول من المجتمع الشيوعي ما نعتبره في تقسيمنا السابق بالمرحلة الثانية للاشتراكية، على ما سيأتي. و إذا كان هذا صحيحا في المرحلة الثانية، فاخلق بصحته في المرحلة الأولى.

- 8 - و ستبدأ الدولة البروليتارية بزمام المبادرة إلى إيجاد تشريعات و تطبيقات اشتراكية. و من هنا اندرجت هذه المرحلة في العهد الاشتراكي، بالرغم من أن الماركسية اعتبرتها مجرد مرحلة انتقالية.

و نسمع من انجلز قائمة من التعاليم التي يجدر بهذه الدولة تطبيقها، حيث يقول:

«انها «يعني ثورة البروليتاريا) ستقيم بادئ ذي بدء دستورا ديمقراطيا و عن هذا الطريق، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، السيطرة السياسية للبروليتاريا.

و لن تكون الديمقراطية ذات نفع للبروليتاريا، إذا لم تستخدمها من فورها لاتخاذ تدابير تتضمن طعنة مباشرة للملكية الخاصة، و تضمن وجود البروليتاريا، و إن أهم هذه التدابير، كما هي مبيّنة منذ الآن على أنها مترتبة بالضرورة على الوضع هي التالية:

1 - انقاص الملكية الخاصة بواسطة الضرائب التصاعدية و الضرائب المرتفعة على الارث. و إلغاء حق الميراث في خط جانبي (الأخوة، أبناء الأخوة،... الخ) و القروض الاجبارية... الخ.

2 - الاغتصاب التدريجي للملاكين العقاريين و الصناعيين و أصحاب السكك الحديدية، و أحواض السفن. اما بواسطة منافسة صناعة الدولة، و اما مباشرة، لقاء التعويض بسندات.

3 - مصادرة جميع أملاك المغتربين و المتمردين على غالبية الشعب.

4 - تنظيم العمل و استخدام العمال في الميادين و المصانع و الورشات الوطنية، مع إلغاء منافسة العمال فيما بينهم، و إجبار الصناعيين الموجودين بعد، على دفع نفس الأجر المرتفع الذي تدفعه الدولة.

5 - إلزام العمل بالنسبة إلى جميع أفراد المجتمع، حتى القضاء التام على الملكية

ص:297


1- (1) المصدر ذاته ص 292.

الفردية. تشكيل جيوش صناعية، و بصورة خاصة من أجل الزراعة.

6 - مركزة نظام الائتمان و تجارة المال في أيدي الدولة، و ذلك بواسطة تشكيل مصرف وطني برأسمال دولي، و إلغاء جميع المصارف الخاصة.

7 - مضاعفة المصانع الوطنية، و الورشات، و الخطوط الحديدية و السفن و استصلاح جميع الأراضي المزروعة من قبل، بصورة مطردة مع زيادة الرساميل و القوى العاملة التي تملكها البلاد.

8 - تربية جميع الأولاد، منذ اللحظة التي يمكن فيها إبعادهم عن الأحضان الأمومية، في مؤسسات وطنية، و على نفقة الأمة، (تربية و إنتاج مصنّع).

9 - بناء قصور كبيرة على الأراضي الوطنية التي تكون مسكنا لجماعات من المواطنين المشتغلين في الصناعة و الزراعة. و تكون جامعة لمحسنات الحياة المدينية و الريفية دون أن يكون لها مساوئها.

10 - تدمير جميع المساكن و الأحياء غير الصحية و السيئة البناء.

11 - حق الميراث المتساوي للأبناء الشرعيين و غير الشرعيين.

12 - مركزة جميع وسائط النقل بين أيدي الدولة...»(1).

- 9 - و أخيرا فإن البروليتاريا تمارس عملها كدولة، ضمن المجالس السوفييتية.

و هنا يتحول الكلام الماركسي إلى «التطبيق» بعد أن كان تجريديا.

ان تطبيق المجالس السوفييتية، واقع معاش في الدولة الاتحادية الشيوعية المسماة باسمها... حيث تدعى بالاتحاد السوفييتي أو (اتحاد جمهوريات روسيا السوفييتية). و فيه دلالة ضمنية على أن الواقع التطبيقي هناك يمثل العصر الذي نتحدث عنه، و هو مرحلة دكتاتورية البروليتاريا، و لم تصل بعد إلى المرحلة الاشتراكية الثانية أو الطور الشيوعي الأول. و سننظر في ذلك فيما بعد.

المهم الآن، أن نفهم أن هذه المجالس هي النظام الجديد الذي تفتقت عنه أذهان الماركسيين، و أكدوا عليه في مصادرهم تأكيدا كبيرا.

قال لينين:

«ان الدكتاتورية تمارس من قبل البروليتاريا المنظمة في المجالس السوفييتية و الموجهة من قبل الحزب الشيوعي البلشفي»(2).

ص:298


1- (1) انظر الشيوعية العلمية ص 271-272 عن مبادئ الشيوعية لانجلز ص 23-25. و انظر نصوص مختارة: انجلز ص 47 مع اختلاف بسيط في الألفاظ يعود إلى الترجمة.
2- (2) الشيوعية العلمية ص 336 عن (مرض الشيوعية الطفولي) للينين، المؤلفات الكاملة ص 42-44 ج 31.

«ان المجالس السوفييتية هي التنظيم المباشر للجماهير الكادحة و المستثمرة الذي يسهّل لها إمكانية أن تنظم هي نفسها الدولة و أن تحكمها بجميع الوسائل... ان التنظيم السوفييتي يسهّل بصورة آلية اتحاد جميع الشغيلة المستثمرين حول طليعتهم، التي هي البروليتاريا»(1).

إلى أن يقول:

«ان الديمقراطية البروليتارية، هي مليون مرة أكثر ديمقراطية من أي ديمقراطية برجوازية. و ان سلطة المجالس السوفييتة هي مليون مرة أكثر ديمقراطية من أكثر الجمهوريات البرجوازية ديمقراطية»(2).

«ان المجالس السوفييتية العمّالية و الفلاّحية، تشكل نمطا جديدا للدولة نمطا جديدا و أعلى للديمقراطية. انها الشكل الذي ترتديه دكتاتورية البروليتاريا وسيلة لادارة الدولة بدون البرجوازية و ضد البرجوازية. للمرة الأولى تقوم الديمقراطية هنا في خدمة الشغيلة، لقد كفّت عن كونها ديمقراطية من أجل الأغنياء»(3).

«إن سلطة المجالس السوفيتية من أجل الشغيلة ضد المضاربين و الملاكين و الرأسماليين و أصحاب الأراضي الكبار.

هنا تستقيم قوة المجالس السوفييتية و صمودها و جبروتها في العالم أجمع»(4).

و من هنا نفهم، أن الشكل الجديد للدولة و الديمقراطية، الذي بشّرت به الماركسية (تجريديا)، في هذه المرحلة... يتمثل (تطبيقيا) فقط في المجالس السوفييتية بشكل رئيسي. و بها تتمثل دكتاتورية البروليتاريا المتوقعة ماركسيا.

و بالرغم من أنها مطبقة فعلا في بعض الدول الاشتراكية، غير أن الماركسيين يتوقعون وجودها و انتشارها في العالم أجمع.

و لا يخفى كون فكرة المجالس السوفييتية، متأخرة عن ماركس و انجلز، و من هنا لن نتوقع أن نجد لها في كلامهما أي أثر. لأنها إنما وجدت على أثر الثورة الروسية الحمراء بقيادة لينين و جماعته.

و بالرغم من أن الماركسيين أكثروا الكلام عن هذه المرحلة بشكل موسع جدا، باعتبارها مرحلتهم المعاشة ضد الرأسمالية؛ فإن ما ذكرناه خلاصة كافية عن ذلك.

ص:299


1- (1) المصدر ص 333 عن المؤلفات الكاملة للينين ج 28 ص 225-227.
2- (2) المصدر و الصفحة عن المصدر و الصفحة.
3- (3) المصدر ص 329 عن مصدره ج 28 ص 69.
4- (4) المصدر و الصفحة عن مصدره ج 3 ص 126.
مناقشة دكتاتورية البروليتاريا

يمكن أن ننطلق إلى المناقشة في هذه المرحلة من عدة نقاط:

النقطة الأولى: إننا نتساءل عن مدى انطباق قانون الديالكتيك الماركسي الكوني على هذه المرحلة، و مدى مشاركته في إيجادها، بعد التسليم - جدلا - بصحته.

أننا إذ نواجه هذا السؤال، نواجه إجمالا و غموضا في إمكان هذا التطبيق.

إذ توجد عدة أطروحات أو احتمالات للجواب على هذا السؤال!:

الأطروحة الأولى: ان يكون الشيء في ذاته أو (الأطروحة) هو الوضع الرأسمالي، و يكون (الطباق) هو البروليتاريا المتنافسية ضمن هذا الوضع و يكون (التركيب) هو الوضع الجديد لدكتاتورية البروليتاريا.

و هذه الأطروحة الأولى، هي المناسبة - على ما يبدو - مع الفهم الماركسي العام... إلا أنها تواجه عدة أسئلة تكون الماركسية مسئولة عن الجواب عليها، من خلال ذلك:

السؤال الأول: إن طبقة البروليتاريا كانت تنمو خلال عهد الرأسمالية كلها، كما تذكر الماركسية؛ فإذا كانت عهود الرأسمالية عهودا متفاصلة و دوائر متخارجة، كما فهمنا من الماركسية سابقا، فكيف يمكن لطباق واحد أن ينمو في عدة أطروحات؟! و من الطريف أنه لا يؤثر إلا في إفناء الأخيرة(1)!!..

السؤال الثاني: إن هذا الطباق غريب الأطوار، لأنه بقي بعد زوال الأطروحة أعني الرأسمالية، له وجود واضح. فكيف كان ذلك؟ مع العلم أن الأطروحة و الطباق يزول وجودهما المتميز بعد حدوث التركيب، طبقا للقانون الماركسي.

ص:300


1- (1) يعني المرحلة الرأسمالية الثالثة.

السؤال الثالث: إن التركيب - كما تقول الماركسية - يتكون من عناصر الأطروحة و الطباق، ليكوّن شيئا ثالثا. فهل ان عهد الاشتراكية الأول من الرأسمالية و البروليتاريا معا. مع العلم أن الرأسمالية زالت بحدوث هذا العهد.

الأطروحة الثانية: ان تكون الأطروحة هي العهد الرأسمالي و الطباق هو العهد الذي نتحدث عنه، و التركيب هو عهد الاشتراكية أو الطور الشيوعي الأول.

و أهم ما يواجه هذه الأطروحة - بعد غض النظر عن التفاصيل -: ان هذا الثالوث الديالكتيكي سوف يستوفي حاجته بعهد الاشتراكية... و سيكون العهد الشيوعي الأعلى بدوره أطروحة تحتاج إلى طباق و تركيب، فما هو طباقها و تركيبها؛ و هل يعني ذلك زوال ذلك العهد، مع العلم أن الماركسية أكدت على بقائه و اعتبرته التاريخ النهائي للبشرية.

الأطروحة الثالثة: أن تكون الأطروحة هي العهد الاشتراكي الأول، و الطباق هو عهدها الثاني، و التركيب هو عهدها الأعلى.

و هذه الأطروحة لطيفة الشكل، من زاوية ماركسية، لأن الثالوث الماركسي يكون قد انتهى بعهد الشيوعية الأعلى. إلا أنها على أي حال تواجه سؤالين مهمين:

السؤال الأول: إن هذا الثالوث، و إن كان قد استوفى غرضه، إلا أن قانون نفي النفي يبقى ساري المفعول في الكون... فإذا صح ذلك، احتاج الأمر إلى ثالوث جديد بعد عصر الشيوعية، فمن أين يبدأ و إلى أين ينتهي؟!...

السؤال الثاني: إن عهود الاشتراكية الثلاثة متوافقة و متصادقة، و ليست متنافرة و متنافية... يعتبر أحدها تأكيدا و ترسيخا لسابقه و ليس نافيا له... كما وجدنا ذلك - أيضا - في عصور الرأسمالية الثلاث. و معه فلا يمكن أن يكون الأول أطروحة و الآخر طباقا ليكون الثالث تركيبا.

و هناك أطروحات أخرى محتملة لتطبيق قانون الديالكتيك على هذه المرحلة، لا حاجة إلى استقصائها. و قد سبق أن قلنا في مناقشة عصر الرأسمالية، أن تعدد الأطروحات على هذا الشكل، بحيث أن الانسان يستطيع

ص:301

- كما يشتهي! - أن يجعل أي شيء أطروحة و شيئا آخر طباقا و شيئا ثالثا تركيبا... إن هذا التعدد إن دل على شيء، فإنما يدل على ضحالة الفكرة من أساسها، و عدم قيامها على أساس منطلق مفهوم.

النقطة الثانية: إن ما سمعناه من الماركسية من أن طبقة البرجوازية تكون موجودة خلال عصر دكتاتورية البروليتاريا... غير صحيح ماركسيا:

أولا: إن تطور وسائل الانتاج يبدو هنا ضعيف التأثير، فبينما كان هذا التطور في عهد الرق يقضي على الارقاء و المالكين، و في عهد الاقطاع يقضي على الاقنان و الاقطاعيين... لم يستطع الآن هذا التطور أن يقضي على البرجوازيين. مع أنه - طبقا لسوابقه - يجب أن يقضي على البروليتاريين و البرجوازيين!!... انه الآن ضعيف التأثير، فقد استطاعت قوة البروليتاريا أن تغير من سير القانون الماركسي العام!!...

ثانيا: إن وجود هذه الطبقة خلال عهد البروليتاريا، يعني أمرين لا مناص من أحدهما: فان الماركسية هل تقول أن وجود البرجوازية مع البروليتاريين وجود منسجم، أو تقول بأنه متنافر و متنافي؟!...

فإن قالت أن وجودها منسجم! إذن، فقد اجتمع الرأسماليون و البروليتاريون في عصر واحد؛ و هذا بعينه ما كان حاصلا في عصر الرأسمالية.

فلم يحصل أي تغيير طبقي، بالرغم من تطور وسائل الانتاج و تغير نظام المجتمع!!...

و إن قالت الماركسية - كما هو الأوفق بتفكيرها - أن وجود البرجوازية في العصر البروليتاري، وجود متنافر. إذن، فسيكون هذا العهد «أطروحة»، و يكون وجود الرأسماليين يومئذ طباقا. و قد أ فهمتنا الماركسية ضمنا بأن (التركيب) يكون أنسب بالطباق منه بالأطروحة، كما هو الحال - مثلا - في الوضع الرأسمالي بالنسبة إلى برجوازيي عصر الاقطاع، حيث استطاعوا و هم (الطباق) أن يجعلوا (التركيب)، و هو العصر الرأسمالي إلى جانبهم...

و القانون لا يمكن أن يتغير. إذن فالرأسماليون في عصر البروليتاريا طباق، و سيكون التركيب مناسبا معهم... و معناه أن العصر اللاحق لذلك هو الرأسمالية بشكل أو آخر، و ليس هو الاشتراكية على أي حال.

النقطة الثالثة: نتساءل من هم البروليتاريا التي أناطت بهم الماركسية مهمة

ص:302

القضاء على الرأسماليين، و إقامة دولة على أنقاضهم؟!..

تجيب الماركسية، بأنهم العمال العصريون، كما عرّفهم البيان الشيوعي(1).

و قال لينين:

«إن طبقة معينة، ألا و هي عمال المدن، و على العموم عمال المصانع، العمال الصناعيون، تستطيع وحدها أن تقود كتلة الشغيلة و المستثمرين في الصراع من أجل الاطاحة بنير الرأسمال»(2).

و إذا صح ذلك ترتبت عليه عدة نتائج:

النتيجة الأولى: إن هؤلاء البروليتاريا، بصفتهم هذه، مهما كانوا مظلومين و مستثمرين، بل مهما كانت قيادتهم موجهة من قبل الأحزاب الشيوعية و الدول الاشتراكية، لا يستطيعون بأي حال أن يحصلوا على فهم كاف لطرق القيادة السياسية، ما لم يكرس الفرد نفسه لهذا العمل، فلا يكون من البروليتاريا يومئذ. و إنما تكون الأفكار السياسية في أذهان القادة المشار إليهم فقط... و قد سمعنا من لينين التصريح بأنه لو لا وجود الحزب القيادي لا يمكن لوعي البروليتاريا أن يصل إلى أكثر من تكوين النقابات، لا غير.

النتيجة الثانية: إن الأحزاب الشيوعية التي تتكفل قيادة الركب ضد الرأسمالية، ليست من البروليتاريا أساسا... ابتداء من انجلز و ماركس و مرورا بستالين و لينين و انتهاء بمن جاء بعدهما إلى مركز القيادة. ليس واحد منهم ممن يصح وصفه بهذا الوصف.

إن الأحزاب الشيوعية تقبل في صفوفها، كل مخلص لفلسفتها و سياستها بغض النظر عن طبقته بالمرة، كما هو معلوم. بل ان أحزابا شيوعية كثيرة تأسست في بلدان كثيرة ليس فيها بروليتاريا - بالمعنى المصطلح ماركسيا - على الاطلاق. اما لكون البلد اقطاعيا، و لا معنى - في رأي الماركسية - لوجود البروليتاريا في غير العصر الرأسمالي، أو قبله - بتعبير خاص -. و اما لكون البلد، مهما كان نظامه الاجتماعي، خاليا من المعامل و المصانع الكبرى تماما، كما هو الحال في الدول النامية عموما. و مع عدم المعامل لا معنى للبروليتاريا.

ص:303


1- (1) انظر ص 45.
2- (2) الشيوعية العلمية 280، عن المؤلفات الكاملة للينين ج 29 ص 424.

و مع ذلك فإن الأحزاب الشيوعية في هذه البلدان موجودة و لها درجة مهمة من النفوذ.

النتيجة الثالثة: إن هؤلاء البروليتاريين، ليسوا أكثرية حيثما وجدوا على أي حال، بل هم أقلية لا يبلغون نصف السكان في أرقى المدن صناعة. نعم، قد يكون العمال بالمعنى العام يشكّلون أكثرية مطلقة في مثل هذه المدن. إلا أن العمال البروليتاريين ليسوا كل العمال و لا أكثريتهم. و من هنا لا يمكن أن يكونوا الأكثرية بأي حال من الأحوال.

و إذا لم يكونوا الأكثرية، كانت ثورتهم ضد الرأسماليين، ثورة فئة أقلية ضد فئة أخرى. فكيف يتسنى للماركسية أن تدّعي أن دكتاتورية البروليتاريا هي ديكتاتورية الأكثرية ضد الأقلية.

و اما التحاق سائر العمال و المستثمرين و انصاف البروليتاريين و صغار البرجوازيين و غيرهم، و جلبهم إلى صفوفهم، كما تتوقع الماركسية؛ فهذا:

أولا: غير مضمون النجاح، و خاصة في ظروف معينة، كارتباطهم مصلحيا ضد الحزب الشيوعي. أو أنهم وجدوا مبدأ و عقيدة أهل و أعلى لديهم من الشيوعية، أو لمجرة أن الفرد منهم لا يريد أن يحمل مبدأ معينا أو أن يعمل عملا سياسيا. كما هو الحال في الكثيرين.

ثانيا: انه لا ينتج شيئا في مصلحتهم، من زاوية النظرية الماركسية، من حيث أنّهم ليسوا بروليتاريين، و قد أناطت الماركسية المهمة كلها بالبروليتاريا وحدهم.

النقطة الرابعة: عرفنا ان الماركسية اعترفت بإمكان تطبيق الاشتراكية بعد الاقطاع مباشرة من دون مرور بعصر الرأسمالية بالمرة، أو مع وجود برجوازية صغيرة فقط. و قد أكد لينين على إمكان ذلك.

فإذا صح ذلك، و عرفنا إلى جانبه: ان البروليتاريا لا يمكن أن توجد في عصر الاقطاع، بل لا توجد و لا يمكن أن توجد إلا في عصر الرأسمالية، و كان لتطور وسائل الانتاج إلى الحد الرأسمالي، أثر كبير في وجودها.

قال انجلز:

«أ فلم يكن في جميع الأزمنة بروليتاريا؟ كلاّ! لقد كانت توجد على الدوام طبقات فقيرة و كادحة... و لكن لم يكن يوجد دائما فقراء و عمال يعيشون على الظروف التي سبق إليها، أي

ص:304

بروليتاريون... لقد ظهرت البروليتاريا عقيب الثورة الصناعية التي حدثت في إنكلترا أثناء النصف الثاني من القرن الماضي (يعني القرن الثامن عشر) و تكررت بعد ذلك في جميع أنحاء العالم المتمدنة. و هذه الثورة الصناعية قد استدعاها اختراع الآلة البخارية و مختلف آلات الغزل، و نول النسيج الآلي، و جملة كاملة من الأجهزة الآلية الأخرى... الخ»(1).

فإذا ضممنا هاتين القضيتين إلى بعضهما، و هما: إمكان وجود الاشتراكية عقيب الاقطاع، و عدم إمكان وجود البروليتاريا في عصر الاقطاع، و انحصار وجودها في عصر الرأسمالية. نتج من ذلك بكل وضوح أن العصر الاشتراكي الذي يوجد عقيب الاقطاع سوف لن يكون بقيادة البروليتاريا بأي حال. و معه يكون على الفكر الماركسي أن يتنازل عن أحد أمرين: اما أن يتنازل عن إمكان حدوث الاشتراكية عقب الاقطاع، باعتبار أن عصر الاشتراكية منحصر بفعل البروليتاريين، و حيث لا يكون لهم وجود يكون عصر الاشتراكية متعذرا. و اما ان يتنازل عن انحصار حدوث عصر الاشتراكية بفعل البروليتاريا و من ثم عن عصر ديكتاتورية البروليتاريا جملة و تفصيلا. إذ لا معنى لدكتاتورية البروليتاريا بدون البروليتاريا. انها مخيّرة في التنازل عن أحد هذين الأمرين!!.

النقطة الخامسة: حول مفهوم الديمقراطية التي أكدت الماركسية على وجوده، خلال عصر دكتاتورية البروليتاريا.

إن الديمقراطية حسب الفهم القانوني العام هي أن يكون لكل فرد من الأمة أو الشعب حق الاختيار في شكل الحكم و أشخاص الحاكمين و الاشراف على أعمالهم عن كثب بحرية تامة... ليكون بالتالي مفهوم (حكم الشعب لنفسه) متحققا بدرجة كافية، و ان لم يكن بشكله المطلق ممكنا.

و هذا المفهوم، و إن كان لنا بعض المناقشات حوله، ليس هنا محل سردها؛ و لكن الماركسية - على أي حال - اعتبرته مفهوما صحيحا، طبقا للرأي العام الذي يستهويه هذا المفهوم استهواء كاملا، و حاولت إدخاله في عهودها المعترف بها من ماديتها التاريخية.

إن الماركسية لم تناقش إلا في تطبيق هذا المفهوم في العصر الرأسمالي، من زاوية انه تطبيق زائف، لا يتضمن إلا ديمقراطية و حرية الأغنياء و الرأسماليين، دون غيرهم. و هذا صحيح، لا نختلف فيه مع الماركسية.

ص:305


1- (1) نصوص مختارة: انجلز ص 34.

و لكن هل يكون تطبيق الديمقراطية في عصر ديكتاتورية البروليتاريا، تطبيقا حقيقيا غير زائف؟!..

إن الماركسية التي ترى ذلك، مسئولة عن الجواب بالايجاب عن الأسئلة التالية:

1 - هل سوف تفسح مجالا للبرجوازيين في اختيار ممثليهم بأنفسهم؟ 2 - هل ستكون سيطرة الحكام على الحكم، نتيجة للانتخاب الشعبي الحر؟.

3 - هل يكون تأييد الشعب غير البروليتاري للدولة البروليتارية عن اقتناع و طيب خاطر... أو نتيجة للخوف تارة، و للطمع أخرى، و للمصلحة الشخصية ثالثة؟!...

4 - هل يكون للأفراد حرية النقد السياسي و الاجتماعي خلال هذه الفترة؟...

إن الحرب العنيدة و المستميتة التي سمعنا لينين يبشر بها خلال دكتاتورية البروليتاريا، و التي طبقت فعلا في الاتحاد السوفييتي بعد ثورة أكتوبر الحمراء، تجيب عن هذه الأسئلة بالنفي، و معه لا يبقى للديمقراطية بالمعنى القانوني وجود، كما سنوضح الآن.

أما السؤال الأول عن حرية البرجوازيين، فهو واضح النفي، لأن الحرب العنيدة ضدهم مباشرة، فلا معنى للحديث عن حريتهم.

و أما السؤال الثاني: فهو أيضا واضح النفي، فان البروليتاريا، أو قادتها بالأخص، إنما يستولون على السلطة لا من خلال أي انتخاب، بل من خلال هذه الحرب العنيدة نفسها. و هذا هو الأنسب بالفكر الماركسي من ناحيتين:

أولا: من أجل النفرة من الرأسماليين، و إلغاء حقهم بالوجود.

ثانيا: من أجل أن هذه الثورة تعبر عن التغير الكيفي الذي يلي التغيرات الكمية طبقا للقانون الماركسي، الذي قالت بضرورة (الطفرة) فيه، كما سبق أن سمعنا، و فسّرت هذه الطفرة اجتماعيا بالثورة. و حصول الانتخاب الحر لا يمثل (طفرة) على أي حال.

و أما الجواب عن السؤالين الثالث و الرابع، فسيكون بالنفي أيضا، فان الشعب حين يرى تلك الحرب العنيدة المستميتة الطويلة الأمد، لا يكون له

ص:306

مناص من الناحية النفسية إلا إبداء الموافقة على آراء الحكام الماركسيين و فلسفتهم و السكوت عن معارضتهم. فان الفرد أو الأكثر، إن أبدى شيئا من المعارضة، فانه سيتهم بالبرجوازية و الرجعية و إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، و سيلحق بالبرجوازيين، مهما كان مصيرهم.

و هذا هو الأسلوب الذي طبّقه ستالين لمدة ربع قرن من الزمن، و لا زال مطبقا بشكل مخفف أيضا، حيث لا يسمح في البلدان الاشتراكية بأي رأي مخالف فضلا عن المعارض، و لا بأي إضراب أو مظاهرة استنكار.

و لعمري ان هذا الأسلوب هو الأنسب بمعنى الدكتاتورية التي تتبناها البروليتاريا الماركسية، لكن يبقى الفكر الماركسي مسئولا عن كيفية الجمع بين الدكتاتورية و الديمقراطية في مجتمع واحد، بالرغم من تنافيهما الواضح في المصطلح القانوني العام.

النقطة السادسة: ان المجالس البروليتارية المسماة بالسوفييت، هل ترى الماركسية ضرورة وجودها خلال هذا العهد الذي نتحدث عنه... بمعنى ان كل مجتمع يمر بهذا العهد، فلا مناص له من أن يعقد هذه المجالس. و معنى ذلك اندراجها في الأسلوب (التجريدي) العام للمادية التاريخية، ذلك الأسلوب الذي تفترض الماركسية شموله لكل مجتمع على الإطلاق.

و فهم هذه المجالس بهذا الشكل، هو المفهوم عن عبارة لينين السابقة، حيث يقول:

«ان الدكتاتورية تمارس من قبل البروليتاريا المنظمة في المجالس السوفيتية»(1).

بحيث يكون حديثه عنها، كالحديث عن سائر فقرات المادية التاريخية الضرورية الحدوث، و خاصة و هو يرى لزوم انتشار هذه المجالس في العالم أجمع عند حدوث عصرها.

... أم ترى الماركسية، ان وجود هذه المجالس ليس ضروريا، و إنما هي الأسلوب الأفضل لممارسة البروليتاريا الحكم خلال عصر دكتاتوريتها.

و هذا الفهم هو الذي يعرب عنه لينين أيضا حين يقول في عبارة سابقة - أيضا -:

ص:307


1- (1) انظر الفقرة السابعة من حديثنا عن دكتاتورية البروليتاريا.

«ان المجالس السوفيتية هي التنظيم المباشر للجماهير الكادحة و المستثمرة الذي يسهل لها إمكانية أن تنظم هي نفسها الدولة... ان التنظيم السوفييتي يسهّل بصورة آلية اتحاد جميع الشغيلة... الخ»(1).

إذن، فالمسألة لا تعدو السهولة في الحصول على النتائج المتوخاة...

اننا نجهل بعد ان تهافت كلام لينين، ما الذي يمكن أن يختاره الماركسيون من هذين الرأيين، أو يختارون رأيا ثالثا و هو اختيار شكل آخر من التنظيم غير الذي اختاره لينين قائدهم و مفكرهم.

و على أي حال، فهناك ما ينافي رأي هذا المفكر، على كلا احتماليه، من زاويتين:

الزاوية الأولى: إن نظام مجالس السوفييت غير عام في جميع الدول الاشتراكية، بل يختص ببعضها.

قال كوفالسون:

«و في روسيا صارت السوفييتات شكل ديكتاتورية البروليتاريا. و بعد الحرب العالمية الثانية انبثق شكل الديمقراطية الشعبية للانتقال إلى الاشتراكية»(2).

و معه فلا دليل على أن هذا النظام مطبق في غير الاتحاد السوفييتي نفسه.

و من الواضح من زاوية ماركسية، انه لا يمكن القول بأن النظام الاشتراكي الموجود في الدول غير المطبقة لهذا النظام، هي غير ناجحة في اشتراكيتها، أو أنها خارقة للضرورة التاريخية.

الزاوية الثانية: قال كوفالسون:

«لقد أشار لينين إلى أن مسألة اشكال الدولة تحل حسب الظروف الملموسة. فان الماركسية لم تضع يوما نصب عينيها مهمة «كشف» اشكال المستقبل السياسية. و انه لمن الخطأ و الخرافة التقيد بتحديد صارم لهذه الأشكال. ففي وسع النظرية أن تتنبأ بجوهر التطور، و لكن يستحيل التنبؤ باشكاله. و لا يمكن اكتشافها إلا في مجرى الحياة بالذات. و بما ان نضال الطبقة العاملة في سبيل الاشتراكية يجري في أوضاع تاريخية متنوعة، فان النظرية تتنبأ بأن هذه الأشكال متنوعة جدا»(3).

و إذا كان هذا صحيحا، كان القول بالضرورة التاريخية لمجالس السوفييت

ص:308


1- (1) انظر الفقرة ذاتها.
2- (2) المادية التاريخية: كيلله، كوفالسون ص 262.
3- (3) المصدر السابق ص 261-262.

واضح الانتفاء؛ كما ان الالتزام بكونها أفضل أشكال الحكم و أسهلها حصولا على النتائج، أيضا مما لا معنى له، فان الأفضل هو الذي يعيّنه مجرى الحياة بالذات، و ليس للنظرية أن تقول أية كلمة بهذا الصدد.

النقطة السابعة: لقد سمعنا التركيز الشديد من ماركس و لينين، على ضرورة الحرب العنيدة المستمرة في استئصال الوجود الرأسمالي من المجتمع.

و مع ذلك نسمع كوفالسون يقول:

«ان مسألة اشكال الانتقال إلى الاشتراكية مرتبط بالظروف الملموسة لتطور الثورة الاشتراكية، و بحدة النضال الطبقي، و بالقدر الذي يمكن به في الظروف المعينة، الانتقال إلى الاشتراكية مع اللجوء أو عدم اللجوء إلى العنف المسلح.

ان الماركسية، كما سبق و قلنا، لا تنفي البتة، من حيث المبدأ، إمكانية الانتقال السلمي إلى الاشتراكية، إذا توفرت الظروف الملائمة، ففي «مبادئ الشيوعية» (عام 1847) أجاب انجلز عن السؤال التالي: «هل يمكن القضاء على الملكية الخاصة بالسبيل السلمي». فقال: «من الممكن أن نتمنى لو تسير الأمور على هذا النحو، و ان الشيوعيين سيكونون - بالطبع - آخر من يعترض على هذا»(1).

إن كلام انجلز عير واضح بالموافقة، فإن إمكان التمني بعيد عن التمني نفسه، و التمني بعيد عن الواقع نفسه... ذلك الواقع الذي تتحدث عنه الماركسية دائما. ان كلام انجلز عن ذلك كلام يائس، و كلام لينين و ماركس واضح بضرورة اللجوء إلى العنف المسلح... و هو الأنسب بالتغير الكيفي أو الطفرة التي تؤمن بها الماركسية. و مع ذلك أباح كوفالسون لنفسه أن يؤكد على عدم اللجوء إلى العنف المسلح.

النقطة الثامنة: بالنسبة إلى التعاليم الاشتراكية التي أعطاها انجلز لهذه الفترة من عصور الماركسية.

إن هذه التعاليم أمور تشريعية لا تمت إلى تفسير التاريخ بصلة، و لا حاجة إلى الإيمان بدخلها الضروري في المادية التاريخية. كل ما في الأمر أن انجلز يرى أن هذه التشريعات هي أصلح للمجتمع خلال هذه المرحلة من تشريعات الرأسماليين البرجوازيين.

فهل يصح هذا الرأي منه تماما، أو أن بعض هذه التعاليم على غير صواب... هذا ينبغي أن نؤجله إلى حين الحديث عن المذهب الاقتصادي في

ص:309


1- (1) نفس المصدر ص 262.

مجتمع (اليوم الموعود) من زاوية التخطيط الإلهي، في القسم الثالث من هذا الكتاب.

إن بعض هذه التعاليم ستكون صحيحة، كمضاعفة المصانع الوطنية و استصلاح الأراضي و بناء بيوت للعمال. كما سيكون بعضها خاطئا تماما كإلغاء الملكية الخاصة و التصرف في قانون الارث. و أما تفاصيل ذلك فستأتي هناك.

المرحلة الاشتراكية الثانية الطور الشيوعي الأول المسمى بالاشتراكية
اشارة

- 1 - تدل بعض كلمات الماركسيين، على أن طور الاشتراكية هذا هو المرحلة الأولى التي توجد بعد الرأسمالية مباشرة.

قال ماركس:

«ان ما نواجه هنا، إنما هو مجتمع شيوعي لا كما تطور على أسسه الخاصة بل بالعكس، كما يخرج لتوّه من المجتمع الرأسمالي»(1).

و أضاف لينين على ذلك موضحا:

«إن هذا المجتمع الشيوعي المنبثق لتوّه من أحشاء الرأسمالية، و الذي يحمل من جميع النواحي طابع المجتمع القديم، يسميه ماركس بالطور الأول أو الأسفل من المجتمع الشيوعي»(2).

و هذا ينافي بكل وضوح التأكيدات السابقة التي سمعناها بأن المرحلة الأولى اللاحقة للرأسمالية، و التي لها القسط الأوفى في الاجهاز عليها، إنما هي دكتاتورية البروليتاريا... بعد العلم بأن طور الاشتراكية الذي نتحدث عنه،

ص:310


1- (1) مختارات: لينين ج 2 ص 288 (الدولة و الثورة).
2- (2) المصدر نفسه ص 289.

ليس هو طور دكتاتورية البروليتاريا، بل ان بينهما بعض الفروق، كما سنسمع بعد قليل من المصادر الماركسية.

إن ذلك يمكن أن يفسّر بأحد شكلين:

الشكل الأول: إن مرحلة دكتاتورية البروليتاريا، مرحلة إعدادية أو انتقالية، لا ينبغي الالتفات إليها أو التركيز عليها عند الحديث عن الاشتراكية.

بل ينبغي الدخول في ما هو المهم رأسا، و هو الطور الأول ثم الثاني للاشتراكية.

إن أجابت الماركسية بهذا الشكل، قلنا ان غير صحيح، لأن دكتاتورية البروليتاريا قد تطول زمانا كبيرا، بحيث لا يمكن غض النظر عنها بأي حال.

على أن الاشتراكية نفسها مدينة لهذه الدكتاتورية بالوجود، فمن الغبن إهدار دورها في ذلك. على أن الماركسية لم تغض النظر عن ذلك بل ركّزت عليه و أكدت، و لم تهمله إلا في هذه المرحلة من تفكيرها.

الشكل الثاني: إنه ليس هناك حدود حقيقية ملموسة بين المرحلة الأولى و الثانية، فلا يمكن أن يقول القائل: كنا بالأمس (يوم الجمعة) في المرحلة الأولى و نحن اليوم (يوم السبت) في المرحلة الثانية. إذن، فيمكن بمجرد دخول عصر دكتاتورية البروليتاريا و منذ أول الثورة العمالية، يمكن أن نقول: إنه دخل عصر الاشتراكية.

أقول: إن انعدام الحدود الحقيقة بين المرحلتين، قد يكون أمرا صحيحا إلا أن ذلك لا يعني الخلط بين المرحلتين... فإن التشريعات الاشتراكية تكون دائما مسبوقة بالاجهاز على الدولة الرأسمالية و سيطرة رأس المال و عزل الرأسماليين اجتماعيا، إن بقوا على قيد الحياة. و هذه المرحلة من دكتاتورية البروليتاريا، تكون خالية عن التشريعات الاشتراكية و عن إمكان تطبيقها.

إذن، فمهما بولغ في دمج المرحلتين و توحيدهما، فان لدكتاتورية البروليتاريا في أولها، فترة «غير اشتراكية» ريثما يتم الاجهاز على العصر السابق عليها، و هذه الفترة لا يمكن أن تكون من أطوار الاشتراكية، بعد افتراض انها ليست اشتراكية، و هي الفترة الرئيسية التي تنفّذ فيها البروليتاريا مهمتها.

و معه لا يمكن للدمج بين المرحلتين أن يكون صحيحا... كما لا يمكن أن يكون القول: بأن عصر دكتاتورية البروليتاريا كله اشتراكي... صحيحا.

و مما يدعم ذلك، ما سنسمعه من توقف وجود الاشتراكية على شرائط

ص:311

منها: زيادة الانتاج الصناعي زيادة هائلة. و من الواضح أن مثل هذه الشرائط لا يمكن أن توجد في أول عصر دكتاتورية البروليتاريا. و إنما تعمل البروليتاريا على إيجادها تدريجا.

و من الطريف أن ماركس و لينين، و خاصة الأخير، قد أكدا على دكتاتورية البروليتاريا تأكيدا كبيرا. و مع ذلك أسقطاها من مراحل التاريخ!!...

- 2 - تتفق المرحلة الثانية مع المرحلة الأولى أربع صفات، منها نقطتا ضعف و نقطتا قوة، من وجهة نظر ماركسية.

النقطة الأولى: و هي نقطة قوة، و هي استمرار سيطرة البروليتاريا على المجتمع. بعد أن تم قيامها بمهام المرحلة السابقة... و هي تصفية الوجود الرئيسي للمجتمع الرأسمالي، و تنفيذ بعض التشريعات الاشتراكية، التي من أهمها ما اقترحه انجلز فيما سبق، و جلب أكبر عدد ممكن من الطبقات التي كانت مستثمرة (بالفتح) إلى جانبها.

النقطة الثانية: و هي نقطة قوة أيضا، و هي ارتفاع الاستغلال الرأسمالي بشكل آكد و أشد مما كان عليه في مرحلة دكتاتورية البروليتاريا. و هذا هو المفروض كلما تم تقليص آثار الرأسمالية و ترسيخ الاشتراكية تدريجا.

النقطة الثالثة: هي نقطة ضعف، و هي أن آثار الرأسمالية مهما تقلصت و لا زالت تتقلص باستمرار، إلا أنها موجودة على أي حال، و بهذا نطقت المصادر الماركسية.

قال بوليتزر:

«و لهذا تظل طريقة الانتاج الرأسمالية لفترة معينة، جانبا من الاقتصاد»(1).

و قال:

«و لا يزال في المجتمع الاشتراكي شيء من التفاوت في الممتلكات، غير أنه لا يوجد في المجتمع الاشتراكي قط بطالة و لا استغلال و لا اضطهاد للقوميات»(2).

و قال ماركس:

«ان المرء إذا لم ينسق مع الخيال، لا يمكنه أن يفكر بأن الناس، بعد إسقاط الرأسمالية

ص:312


1- (1) أصول الفلسفة الماركسية: بوليتزر ج 2 ص 161.
2- (2) المصدر ص 191.

يتعلمون على الفور العمل للمجتمع بدون أية أحكام حقوقية. ناهيك عن إلغاء الرأسمالية لا يعطي فورا ممهدات اقتصادية لمثل هذا التغيير»(1).

و قد سمعنا خلال الحديث عن المرحلة السابقة، ما قاله لينين عن هذه المرحلة التي بأيدينا، و كان من ذلك قوله:

«فإن المرحلة الأولى من الشيوعية لا يمكنها أن تعطي العدالة و المساواة. تبقى الفروق مجحفة. و لكن استثمار الانسان للانسان يصبح مستحيلا»(2).

و عرفنا أن المراد بالمرحلة الأولى من الشيوعية: المرحلة الثانية التي نتحدث عنها من الاشتراكية.

النقطة الرابعة: و هي نقطة ضعف من وجهة نظر ماركسية، و هي بقاء الدولة، و إن كانت في طريقها إلى الاضمحلال، فانها لا تضمحل إلا عند وجود المرحلة الثالثة العليا للمجتمع الشيوعي.

قال لينين:

و لكن الدولة لا تضمحل بعد بصورة تامة، لأنه تبقى صيانة «للحق البرجوازي» الذي يكرس اللامساواة الفعلية. و لاضمحلال الدولة، يقتضي الأمر الشيوعية الكاملة»(3).

- 3 - و لوجود الطور الأول للشيوعية عدة شرائط تتلخص في أمور:

الأمر الأول: الانتاج الضخم الواسع النطاق، بشكل لم تكن تحلم به الرأسمالية بكل قواها.

قال بوليتزر:

«لا اشتراكية - إذن - بدون زيادة الانتاج بصورة هائلة، لا يمكن تخيّلها في النظام الرأسمالي و هذه ضرورة موضوعية»(4).

الأمر الثاني: انه لأجل وجود مثل هذا الانتاج الضخم، لا بد من وجود صناعة تكنيكية عالية، و وسائل إنتاج ضخمة.

قال بوليتزر، بعد كلامه الأخير:

«بيد أنه كي نستطيع إنتاج سلع للاستهلاك بكميات كبيرة و زيادة حجمها باستمرار،

ص:313


1- (1) المادية التاريخية: كوفالسون، كيلله ص 266.
2- (2) مختارات: لينين ج 2 ص 290 (الدولة و الثورة).
3- (3) المصدر ص: 293.
4- (4) أصول الفلسفة الماركسية: بوليتزر ج 2 ص 162.

لا بد من البدء بانتاج وسائل الانتاج بكميات كافية، و العمل على تبديلها و ازدهارها. و لهذا وجب أن يبدأ ارتفاع الانتاج بازدياد إنتاج وسائل الانتاج. و هذا يعني أن أحد شروط الاشتراكية الموضوعية هو إيجاد صناعة ثقيلة»(1).

الأمر الثالث: انه لأجل وجود هذا النمو الصناعي الضخم، لا بد من إيجاد أيدي عمالية صانعة له و مدبرة لشؤونه.

قال بوليتزر:

«و يتطلب هذا النمو التقني، أن يبلغ تخصص العمال و ثقافتهم درجة أسمى من الدرجة التي بلغوها في الرأسمالية، التي تحرم الجماهير من الثقافة و العلم»(2).

فيكون الأمر الثالث من شروط وجود الاشتراكية وجود العامل الكفؤ فكريا و ثقافيا و علميا بكمية كافية و وافرة في العالم.

هذا مضافا إلى الشرط المهم الآخر، و هو:

الأمر الرابع: و هو وجود دكتاتورية البروليتاريا، التي لا يمكن بدونها تحقيق أي اشتراكية... كما سمعنا من لينين يقول:

«لكن الاشتراكية لا يمكن أن تتحقق بطريق آخر إلاّ من خلال دكتاتورية البروليتاريا، التي تشارك العنف ضد البرجوازية... الخ»(3).

- 4 - ينتهي بالقضاء على الثقل المهم للبرجوازية، وظيفة دكتاتورية البروليتاريا و معه تبقى دكتاتوريتهم و نضالهم ضد الطبقات الأخرى بلا معنى. و هنا تكف البروليتاريا عن النضال.

قال كوفالسون:

«أما في مرحلة الاشتراكية، فان الطبقة العاملة لا تبقى بحاجة إلى النضال من أجل الفلاحين. لأن التحولات الاشتراكية في الزراعة قد غيرت من طبيعة الفلاحين الاجتماعية، و لأن البرجوازية قد صفّيت. و لهذا لا تبقى الطبقة العاملة في مرحلة الاشتراكية، بحاجة إلى ديكتاتورية البروليتاريا»(4).

و إذا ارتفعت دولة دكتاتورية البروليتاريا، بقيت الدولة موجودة بقيادة

ص:314


1- (1) المصدر و الصفحة.
2- (2) المصدر ص 187.
3- (3) الشيوعية العلمية ص 269.
4- (4) المادية التاريخية: كيلله كوفالسون ص 267.

الحزب الشيوعي.

قال كوفالسون:

«ان دور الطبقة العاملة في المجتمع الاشتراكي يتجلى عبر قيادة الحزب الشيوعي أو العمالي»(1).

فبعد أن كانت هناك اثنينية بين الدولة و الحزب، و لو من الناحية الشكلية، خلال عصر دكتاتورية البروليتاريا. لا يبقى لهذه الاثنينية وجود خلال عصر الاشتراكية و إنما تتمحض الدولة في دولة الحزب الشيوعي و قيادته. و سنتحدث بعد قليل عن سر الاثنينية الشكلية الموجودة يومئذ و ارتفاعها بعد ذلك.

و ستكون هذه الدولة شعبية تشارك كل الجماهير فيها! قال كوفالسون:

«ان تطور الدولة الاشتراكية يعني اشتراك الجماهير على نطاق أوسع فأوسع في إدارة الدولة، و تطوير الديمقراطية الاشتراكية على نطاق أوسع»(2).

- 5 - و قد تلخصت مما سبق الفروق الآتية بين عهدي للاشتراكية: الأول و الثاني.

أولا: زوال الثقل المهم للبرجوازية في العهد الاشتراكي الثاني، بعد أن قضت عليه البروليتاريا. بينما كان موجودا في عهد دكتاتوريتهم.

ثانيا: زوال دكتاتورية البروليتاريا التي أصبحت بعد زوال البرجوازية غير ذات معنى كما عرفنا.

ثالثا: اتصاف الدولة في العهد الثاني بصفة تختلف بها عما سبقها من الدول فهي دولة في طريقها إلى الفناء، و لا يمكن إلا أن تكون كذلك، كما سمعنا من الماركسيين. بينما كانت في العهود السابقة بما فيه عصر دكتاتورية البروليتاريا تبدو و كأنها ذات استمرار و بقاء.

رابعا: تركيز التعاليم الاشتراكية أكثر من العصر السابق، و تطبيقها في مختلف الميادين، و خاصة بعد أن نجحت البروليتاريا في مهمتها و أزالت البرجوازية.

- 6 - و لا بد لنا - في هذا الصدد - أن نحيط علما بالفهم الماركسي للاشتراكية

ص:315


1- (1) المصدر 268.
2- (2) المصدر و الصفحة.

و أهم تطبيقاتها خلال هذه الفترة.

و نحن - أولا - ينبغي أن نطلع على التعريف الماركسي للاشتراكية، و خاصة تعاريف اشتراكية الطور الأول الذي نتحدث عنه.

قال انجلز:

«الشيوعية هي تعليم شروط تحرر البروليتاريا»(1).

و قال كوفالسون:

«الشيوعية هي نظام اجتماعي لا طبقي تقوم فيه الملكية الواحدة للشعب بأسره على وسائل الانتاج»(2).

و قال لينين:

«ان الاشتراكية هي إلغاء الطبقات»(3).

و قال:

«ان الاشتراكية تتميز بالملكية الاجتماعية العامة لوسائل الانتاج و بعلاقات التعاون الرفاقي بين أناس أحرار من الاستثمار سواء في الانتاج أم في سائر ميادين النشاط الاجتماعي»(4).

و قال بوليتزر:

«الاشتراكية - كما تحددها الماركسية علميا - هي القضاء على استغلال الانسان لأخيه الانسان، و القضاء في نفس الوقت على طبقات المجتمع المتناحرة»(5).

و قال أيضا:

«الاشتراكية هي - حقا - حكم الجماهير الشعبية و ملايين الناس الذين كانوا ضحايا الاضطهاد، و حرموا - بواسطة الاستغلال - من كل نمو إنساني»(6).

و قال أفاناسييف:

«الشيوعية هي المستقبل المشرق للانسانية جمعاء. ان الشيوعية هي حلم الانسانية طيلة قرون»(7).

ص:316


1- (1) نصوص مختارة: انجلز ص 34.
2- (2) المادية التاريخية: كيلله كوفالسون ص 142. و انظر أيضا ص 399 منه.
3- (3) الشيوعية العلمية ص 382.
4- (4) المصدر ص 139.
5- (5) أصول الفلسفة الماركسية ج 2 ص 153.
6- (6) المصدر ص 183.
7- (7) أسس الفلسفة الماركسية ص 195.

و قال لينين بصدد التفريق بين الاشتراكية و الشيوعية:

«بيد أن الفرق العلمي بين الاشتراكية و الشيوعية واضح. فما يدعونه بالمعتاد بالاشتراكية، قد سمّاه ماركس بالطور الأول أو الأسفل من المجتمع الشيوعي. فبمقدار ما تصبح وسائل الانتاج ملكا عاما يمكن تطبيق كلمة الشيوعية على هذا الطور أيضا، شريطة ألا ينسى المرء أن هذه الكلمة ليست بالشيوعية الكاملة.

ثم قال:

«فالشيوعية في طورها الأول، في درجتها الأولى لا يمكن أن تكون ناضجة تماما من الناحية الاقتصادية، لا يمكن أن تكون خالية تماما من تقاليد أو آثار الرأسمالية»(1).

و سنعرض لتمحيص هذه التعاريف، و ملاحظة الفروق بينها، بعد ذلك.

أما كارل ماركس، فلا نجد له تعريفا واضحا للاشتراكية أو الشيوعية.

و لعل له العذر من ذلك فيما ذكره لينين عن الفرق بين طوري الشيوعية حيث قال:

«أغلب الظن أن الفرق السياسي بين الطور الأول أو الأسفل و الطور الأعلى من الشيوعية سيصبح مع الزمن كبيرا. و لكن من المضحك الاهتمام به في الوقت الحاضر، في الرأسمالية، و لا يمكن لأحد أن يضعه في المقام الأول، اللهم إلا بعض الفوضويين»(2).

و حيث يكون ماركس خلال العصر الرأسمالي، و ليس من الفوضويين أيضا. إذن، فلا ينبغي أن يتورط فيما هو المضحك من الاهتمام بتعريف الاشتراكية أو الشيوعية، أو إيجاد الفرق بينهما... لو كان منفذا لنصيحة لينين...

- 7 - و أهم خطوة يتخذها الماركسيون في سبيل توطيد الاشتراكية هو التصرف في الملكيات الخاصة عموما و ملكية وسائل الانتاج خصوصا. و يكون إلغاء ملكية وسائل الانتاج لأجل رفع التناحر الطبقي في المجتمع، الذي كان ناتجا من تلك الملكية، حسب رأي الماركسية. و أما رفع الملكية الخاصة عموما، فباعتبار التوصل إلى إلغائها الكلي في الطور الأخير.

قال لينين:

ص:317


1- (1) مختارات لينين ج 2 ص 297 (الدولة و الثورة).
2- (2) المصدر ص 297.

«فان وسائل الانتاج لا تبقى ملكا خاصا لأفراد. ان وسائل الانتاج تخص المجتمع كله.

و كل عضو من أعضاء المجتمع يقوم بقسط معين من العمل الضروري اجتماعيا، و ينال من المجتمع بمقدار كمية العمل الذي قام به»(1).

و أعطى كوفالسون من جملة خصائص المجتمع الاشتراكي في طوره الأول:

«تصفية الملكية الرأسمالية و إقامة الملكية الاجتماعية العامة لوسائل الانتاج الأساسية، تحويل الزراعة تدريجا على أسس اشتراكية»(2).

و قد سمعنا من جملة فقرات تعاليم انجلز خلال عصر دكتاتورية البروليتاريا: لزوم إنقاص الملكية الخاصة، و الاغتصاب التدريجي للملاكين العقاريين و الصناعيين و أصحاب السكك الحديدية و أصحاب السفن و مصادرة جميع أملاك المغتربين و المتمردين على غالبية الشعب: و مركزة نظام الائتمان و وسائط النقل بيد الدولة(3). و المفروض خلال العهد اللاحق لدكتاتورية البروليتاريا، إن هذا كله أصبح ناجزا تماما، نتيجة جهود البروليتاريا الماركسية في توطيد أسس الاشتراكية.

و قال آخرون:

«ان سيطرة الملكية الاشتراكية الجماعية لوسائل الانتاج بلا منازع هي الخاصة الأساسية و السمة الرئيسية المميزة الاشتراكية»(4).

- 8 - إن الملكية العامة أو الاجتماعية خلال عصر الاشتراكية تنقسم إلى قسمين هما: ملكية الدولة و الملكية التعاونية.

قال أفاناسييف:

«و الملكية الاجتماعية توجد على شكلين: ملكية الدولة أي ملكية الشعب كله في شخص الدولة الاشتراكية و الملكية الكولخوزية التعاونية أي ملكية كولخوزات معينة أو اتحادات تعاونية. و شكلا الملكية هذان شكلان اشتراكيان للملكية يضمنان حل مهمات بناء الشيوعية. ان الشكل الأساسي و الغالب للملكية في المجتمع الاشتراكي هو ملكية

ص:318


1- (1) المصدر ص 289.
2- (2) المادية التاريخية ص 139.
3- (3) انظر الفقرة السابعة من حديثنا عن دكتاتورية البروليتاريا.
4- (4) الاقتصاد السياسي للاشتراكية ص 62.

الدولة»(1).

و أضاف آخرون:

«و لم يظهر هذان الشكلان من الملكية الاشتراكية بالصدفة، فان وجودهما ضروري موضوعيا.

و بهذا ربطت الماركسية بين أشكال الملكية و الضرورة المادية التاريخية التي تؤمن بها، كما ربطت بين وجود المجتمع الاشتراكي و تطور وسائل الانتاج.

«تشمل ملكية الدولة جميع الأراضي (في الاتحاد السوفييتي و جمهورية منغوليا الشعبية) و باطن الأرض و المياه و الغابات و المصانع و المناجم و استثمارات الدولة و السوفخوزات في الزراعة و النقليات الحديدية و غيرها من النقليات و وسائل المواصلات و المؤسسات التجارية و التخزينية الحكومية و القسم الأساسي من المباني السكنية في المدن و المراكز الصناعية و شبكة المؤسسات العلمية و الثقافية»(2).

«و تشمل الملكية التعاونية الكولخوزية قسما من الأراضي في البلدان الاشتراكية (ما عدا الاتحاد السوفييتي و جمهورية منغوليا الشعبية) و الآلات الزراعية و الأبنية و الماشية التعاونية، و المؤسسات المساعدة لتحويل المواد الأولية الزراعية و المحاصيل المنتجة في التعاونيات. و فضلا عن ذلك تشمل الملكية التعاونية شبكة المؤسسات التجارية التابعة لتعاونيات الاستهلاك، مع احتياطياتها البضاعية، و كذلك التعاونيات الحرفية مع ما لها من المنتوج و التجهيزات»(3).

«و يعتبر كلا شكلي الملكية الاشتراكية... وحيدي الطراز من حيث طبيعتهما الاجتماعية الاقتصادية، إذ أنهما يعبران عن الطابع الاجتماعي لتملك نتائج العمل و يرفضان استثمار الانسان للانسان و يشترطان علاقات التعاون و التعاضد و يتطلبان المبدأ الاشتراكي للتوزيع، و يتطوران تطورا منهاجيا.

و مع ذلك توجد فروق معينة بين ملكية الدولة و الملكية التعاونية الكولخوزية. و الفرق الأساسي هو في درجة تشريك وسائل الانتاج. فملكية الدولة هي ملكية الشعب بأسره...

و الملكية التعاونية الكولخوزية هي ملك جماعات منفردة من الكادحين، و هي لذلك ملكية جماعية.

... ثم ان قسما من وسائل الانتاج يبقى في حوزة الملكية الشخصية لأعضاء التعاونيات في الاستثمارات الشخصية للكولخوزيين.

و ينجم عن هذا أن ملكية الدولة... بالمقارنة مع الملكية التعاونية الكولخوزية، الشكل

ص:319


1- (1) الاقتصاد السياسي للاشتراكية ص 68.
2- (2) المصدر ص 69.
3- (3) المصدر ص 70.

الأكثر كمالا للملكية الاشتراكية، و هي تجسّد مستوى أعلى لتشريك الانتاج»(1).

- 9 - يكون الأسلوب الاقتصادي الأساسي خلال هذه الفترة للعمل المأجور قائما على القاعدة القائلة: من كل حسب طاقته و لكل حسب عمله. و هو من الفوارق الكبيرة عن الطور الأعلى حيث يكون لكل عامل حسب حاجته لا حسب عمله.

و لعل أفضل من شرح هذه القاعدة من زاوية ماركسية و ذكر مميزاتها، و اعتبرها مميزات مرحلية تمثل مرحلة ما بعد الرأسمالية و ما قبل الشيوعية. هو بوليتزر حيث نجده يقول:

«لا شك أن العثرة الرئيسية التي تحول دون أن ينال كل فرد حسب حاجاته في العالم الحديث، هي الاستغلال الرأسمالي الذي يبذر ثروات العمل الانساني. و النتيجة الأولى لازالة استغلال الانسان لأخيه الانسان هي أن العامل يستطيع أن ينال حسب عمله الذي يؤديه دون أن يسلب جزءا من الثروة التي أنتجها»(2).

و بذلك تلافت الماركسية ما تورطت به الرأسمالية في نظرها من سرقة أرباح العامل و غمط أجرة عمله، متمثلة في (القيمة الزائدة) التي يأخذها الرأسمالي من العامل قهرا. و هو العنصر الذي تكونت منه الرأسمالية أساسا في رأي كارل ماركس، كما سبق أن عرفنا مفصلا.

فإن العامل في هذه المرحلة الاشتراكية سيعطى بمقدار عمله، و سوف لن يغمط من أجرة عمله شيئا، كما كان عليه الحال في المرحلة الرأسمالية.

و في نفس الوقت، حيث يختلف العمل يختلف الأجر، و بذلك يتفاوت العمال في مقادير دخلهم. و إلى ذلك أشار بوليتزر قائلا:

«و لهذا كانت المساواة في المجتمع، هي في أن تعطي كل فرد حسب عمله أي بصورة غير متساوية بين الأفراد، بعد أن يؤمن كل فرد أسباب معيشته (بفضل إزالة الاستغلال) و لهذا لا يجب مساواة الاشتراكية بنزعة خيالية للمساواة بين الناس.

كتب موريس توريمز يقول: أما فيما يتعلق بنزعة المساواة التي تقوم على قياس الناس بنفس المقياس، فهي استحالة اجتماعية، لأن هناك تفاوتا طبيعيا بين الناس، سببه كفاءاتهم البيولوجية و النفسية. أما التفاوت الذي يسعى الشيوعيون لازالته فهو التفاوت الذي ينشأ عن

ص:320


1- (1) المصدر 70-71.
2- (2) أصول الفلسفة الماركسية ج 2 ص 185.

وجود الطبقات»(1).

- 10 - و تلحق بهذه القاعدة، قاعدة أخرى هي: «ان من لا يعمل لا يأكل» ذلك أن الماركسية تستهدف في المجتمع الاشتراكي أن تحوّل المجتمع كله إلى شغيلة، أو عمال يعيشون بأجور عملهم، بالرغم من أن ذلك مهمة صعبة و طويلة الأمد.

قال لينين:

«و في سبيل القضاء على الطبقات يجب ثانيا: القضاء على الفارق بين العامل و الفلاح، و تحويل المجتمع كله إلى شغيلة. و لا يمكن القيام بذلك دفعة واحدة. تلك مهمة أصعب بما لا يقاس، و بالتأكيد مهمة طويلة الأمد»(2).

و إذا تم ذلك، يكون من الطبيعي أن «من لا يعمل لا يأكل»، لأنه غريب على المجتمع، إن هذه القاعدة أساسية في بناء الاشتراكية الماركسية. و قد أكد عليها لينين أكثر من مرة.

قال مرة:

«ان ذلك الذي لا يعمل يجب أن لا يأكل»(3).

و قال مرة أخرى:

«من لا يعمل لا ينبغي أن يأكل»(4).

و بذلك تلافت الماركسية تارة أخرى، بعض نقائص الرأسمالية، من زاوية أن الرأسماليين لم يكونوا يعملون، و مع ذلك فهم «يأكلون» بل يعيشون أرغد عيش، أما الآن، فليس هناك رأسماليون، بل كلهم عمال، و ليس هناك من يأكل بدون عمل، بل كلهم يعيشون على ما يؤدونه من أعمال.

- 11 - و لا بد، خلال الحديث عن هذه المرحلة، من أن نحمل فكرة كافية عن ربطها الماركسي بتطور وسائل الانتاج... بصفتها حلقة من حلقاته الضرورية، من زاوية المادية التاريخية.

ص:321


1- (1) المصدر ص 189-190.
2- (2) الشيوعية العلمية ص 382 عن المؤلفات الكاملة: لينين ج 30 ص 108-109.
3- (3) المصدر ص 284.
4- (4) مختارات لينين ج 2 ص 292 (الدولة و الثورة).

قال كوفالسون:

«و كما في جميع التشكيلات السابقة، تنبثق التناقضات في ظل الاشتراكية أيضا، بين القوى المنتجة و علاقات الانتاج، من جراء تطور القوى المنتجة. و لكن طابع هذه التناقضات و أشكال تطورها و أساليب حلها، تختلف في ظل الاشتراكية اختلافا مبدئيا عنها في ظل التشكيلات السابقة»(1).

و قد وجدت الماركسية نفسها مسئولة عن الجمع بين فكرتين لتطور وسائل الانتاج.

الفكرة الأولى: التطور الضروري الذي آمنت به من خلال المادية التاريخية. ذلك التطور الذي أوجد كل ظواهر التاريخ، فهو موجد بالضرورة هذه المرحلة منه أيضا.

الفكرة الثانية: التطوير الواعي لوسائل الانتاج الذي تقوم به البروليتاريا خلال عصر دكتاتوريتها تطويرا هائلا يكون ممهدا لزيادة الانتاج الممهدة لتطبيق المجتمع الشيوعي.

يمثل الفكرة الأولى قول بوليتزر:

«تستحيل الاشتراكية بدون شروط موضوعية مرتبطة بمرحلة تاريخية معينة. ففي بلد، لم تنم فيه الصناعة نموا كبيرا، كالصين مثلا، لا تستطيع البروليتاريا، و قد أصبحت في الحكم، أن تفكر في إقامة الاشتراكية قبل إيجاد الأسس التي تقوم عليها، أي إيجاد صناعة قومية كبرى»(2).

و كذلك يمثل الفكرة الأولى كلام ستالين، حين يتحدث عن الاتحاد السوفييتي فيقول:

«استخدمت الطبقة العاملة قانون الترابط الضروري بين الانتاج و بين طابع قوى الانتاج، و لم تستطع القيام بهذا بفضل مواهبها الخاصة. بل لأن ذلك كان مهما بالنسبة إليها»(3).

و يمثل الفكرة الثانية، قول كوفالسون:

«إن مفعول قانون التطابق في ظل الاشتراكية، يتميز بخاصة رئيسية قوامها انه تتوفر للمجتمع في ظل الاشتراكية إمكانية اتخاذ الاجراءات في الوقت المناسب لجعل علاقات الانتاج

ص:322


1- (1) المادية التاريخية: كيلله كوفالسون ص 120.
2- (2) أصول الفلسفة الماركسية: بوليتزر ج 2 ص 161.
3- (3) المصدر ص 162.

تتطابق مع القوى المنتجة النامية، أي إمكانية حل التناقضات الناشئة بينهما حلا واعيا.

إن علاقات الانتاج الاشتراكية تخلق الامكانيات لانماء القوى المنتجة و تطويرها و حافزا للتقدم التكنيكي، و تربية الموقف الشيوعي من العمل و إنما إنتاجية العمل بسرعة.

و لكن هذه الامكانيات لا تتحول من تلقاء ذاتها إلى واقع و لا تتحقق أتوماتيكيا. و لهذا كان تطوير نشاط الشعب في ميدان العمل - أي نشاط العمال و الفلاحين التعاونيين و المثقفين - أهم شرط في ظل الاشتراكية لتطوير الانتاج و للحد الأقصى من تعجيل التقدم العلمي و التكنيكي»(1).

و هذا، و أما إمكان الجمع بين هاتين الفكرتين، أو عدم إمكانه، فهو ما سنتعرّض له خلال المناقشة.

- 12 - و تسرد المصادر الماركسية عدة خصائص متوخاة، لا بد من تحقيقها خلال عصر الاشتراكية. و أهم هذه الصفات، إيجاد مستوى ثقافي عال جدا، و خاصة الثقافة الصناعية التي تيسر زيادة الانتاج بشكل خاص.

قال بوليتزر:

«تهتم الدولة نفسها بالثورة الثقافية و إذاعة الأفكار و العلم التقدمي بين الشعب، و انتصار الأفكار الاشتراكية على الأفكار البرجوازية و ذلك حسب تعاليم المادية الجدلية حول مهمة الأفكار في الحياة الاجتماعية... و مهمة الدولة هي التوفيق، بقدر الامكان، بين وعي الجماهير و بين الظروف الجديدة الموضوعية، الاشتراكية، و أن تسرع في العملية التي تساعد على ظهور صور جديدة من الوعي تتفق و المحتوى الجديد.

و كذلك يجب دفع الوعي الاشتراكي إلى الإمام، في نفس الوقت، و ذلك بفضل معرفة قوانين المجتمع، حتى تستطيع معرفة سير النمو و التعجيل في النمو الاقتصادي و ذلك بتأثيرها بدورها في الشروط الموضوعية.

و هكذا نرى أن الشروط الموضوعية و الشروط الذاتية، في المجتمع الاشتراكي لا تتناقض بل تؤثر تأثيرا متبادلا تدعم كل منهما الأخرى»(2).

«و من ثم تعمل الاشتراكية، نتيجة لهذه القوانين الموضوعية، على تنمية العلم لا محالة، من علم الآلة (mecanique) الميكانيك، حتى علم الحمضيات (aGronomic) بمقادير لم تعرفها البلاد الرأسمالية. و كذلك تتطلب الاشتراكية ارتفاع صفة العامل بحيث يتسرب الفكر شيئا فشيئا إلى العمل اليدوي في اتصاله بتقنية عليا»(3).

ص:323


1- (1) المادية التاريخية: كيلله، كوفالسون ص 120.
2- (2) أصول الفلسفة الماركسية: بوليتزر و آخرين ج 2 ص 178.
3- (3) المصدر ص 164.

«و هكذا، ليست الاشتراكية (مدنية تقنية) تتلهف للقيام بأعمال مادية رائعة، دون أن تعبأ بالانسان، كما يدعي المفكرون البرجوازيون. ذلك لأن الانسان في تمام تفتحه هو مركز الاشتراكية، و ليس لجميع الأعمال المادية من هدف سوى سد حاجاته على أفضل وجه»(1).

مناقشة الطور الاشتراكي الأول

ينبغي لنا قبل الدخول في تفاصيل المناقشات، أن نلتفت إلى عدة أفكار، نحدد بها موقفنا العام من هذه المرحلة.

الفكرة الأولى: إن بعض ما ذكرته الماركسية من التطبيقات خلال هذه المرحلة، لو لوحظ مستقلا عن غيره... فهو صحيح و منتج اجتماعيا، لا ينبغي أن نختلف مع الماركسية في ذلك، كأخذ الدولة بزمام بعض التصرفات الاقتصادية، و الاعتراف بملكيتها، و الاهتمام بالمستوى الثقافي للشعب عموما، بحيث تنبثق كل تصرفات الناس و اهتماماتهم من زاوية علمية.

الفكرة الثانية: إن مناقشاتنا السابقة للأصول الموضوعية لوجود هذه المرحلة، أعني الديالكتيك و المادية التاريخية، تقتضي بكل وضوح عدم صحة هذه الاستنتاجات الماركسية جميعا، لوضوح أنه لا مجال للنتيجة مع بطلان المقدمات.

غير أننا في مناقشاتنا الآتية لهذه المرحلة، سنغض النظر موقتا عن الطعن بالأصول الموضوعية، لنرى بعين مستقلة صحة الموقف الاجتماعي الماركسي في هذه المرحلة و عدمه.

الفكرة الثالثة: إن ما ذكرته الماركسية من جميل الصنع في هذه المرحلة، مهما كان لطيفا و معجبا، إنما يكون ملفتا للنظر، مع انحصار الأمر بهذا النظام بعد الاستغناء عن الرأسمالية و التخلص منها. و اما مع وجود البديل الأصلح عن هذا النظام برمّته، و اليقين بما فيه من مميزات تفوق التعاليم الماركسية بكثير،

ص:324


1- (1) المصدر ص 166.

فلا يبقى لكل هذا الصنع الجميل أي موضوع. و سنعطي فكرة كافية عن البديل عند التعرض لتفاصيل التخطيط الالهي لليوم الموعود.

و في هذه المناقشات، سوف ننقد هذه المرحلة بغض النظر عن البديل، لنرى انها في نفسها و باستقلالها هي صالحة أم لا. و هل تترتب على الأفكار الماركسية المسبقة ترتبا ضروريا، كما تريد الماركسية أن تقول، أم لا.

فإذا تمت هذه الأفكار الثلاثة، بدأنا المناقشة في عدة نقاط:

النقطة الأولى: ان ندرس مدى انطباق قوانين المادية التاريخية و الديالكتيك الكوني على هذه المرحلة. و ذلك ضمن عدة مستويات:

المستوى الأول: ان ترتب المرحلة الاشتراكية الثانية على المرحلة الأولى ليس ترتبا ديالكتيكيا تناقضيا، و إنما هو ترتب «سلس». لأنهما منسجمان يؤكد أحدهما الآخر، و يعاضده، و ليس بينهما أي تناف أو تناقض.

و بكلمة أوضح: إن المرحلة الثانية هي ترسيخ و تأكيد للاشتراكية المتوخاة في المرحلة الأولى، و ليست نافية لها، لكي يمكن تطبيق قانون الديالكتيك عليها.

المستوى الثاني: مستوى علاقة هذه المرحلة بتطور وسائل الانتاج.

و تواجهنا بهذا الصدد الشرائط الماركسية التي ذكرناها في الفقرة الثالثة، مما سبق.

و هذا ما سنعقد له نقطة مستقلة.

المستوى الثالث: إن إنتاج الاشتراكية من تطور وسائل الانتاج، لو سلمناه، ليس إنتاجا ضروريا بل هو أمر اختياري يعود إلى آراء المشرفين على دولة البروليتاريا، من أن هذا التشريع أو ذاك هو الأصلح للمجتمع دون غيره، و ان هذا الأسلوب في الحكم هو الأكثر فاعلية دون سواه، و إن هذا المشروع أكثر إنتاجا من غيره، و هكذا. و هذه الآراء لم تنشأ عن تطور وسائل الانتاج، كما هو معلوم.

نعم، للماركسية أن تقول: إن المستوى المعين الذي بلغته وسائل الانتاج، أوحى للقائمين بالحكم آراءهم؛ ليكون هذا الحكم منسجما مع قواعدها في المادية التاريخية.

إلا أنه قول غير صحيح؛ لأن هذا الايحاء إن كان اختياريا، فهو ينافي عنصر الضرورة التي سارت عليه الماركسية في المادية التاريخية. و إن كان

ص:325

اضطراريا، فهو ينافي عنصر الاختيار و الوعي الذي أكدت عليه الماركسية في عهود الاشتراكية.

و بهذا يتضح عدم إمكان الجمع بين الفكرتين اللتين جمعت بينهما الماركسية و قد ذكرناهما في الفقرة الحادية عشرة من الحديث عن هذه المرحلة، فليرجع القارئ إلى هناك.

المستوى الرابع: إن الماركسية ذكرت في القواعد العامة لماديتها التاريخية، ان تطور وسائل الانتاج ينتج تغييرا، في كل ظواهر المجتمع و تياراته و مؤسساته.

فهل تتوقع حصول هذا الانقلاب الشامل باستمرار:

أولا: بعد التحول من عهد الرأسمالية إلى عهد دكتاتورية البروليتاريا.

و ثانيا: بعد التحول إلى عهد الاشتراكية.

و ثالثا: بعد التحول إلى عهد الشيوعية.

و هل ظواهر المجتمع بهذه البساطة التي يمكن أن تتبع التغيير المستمر.

إن تغيير الأسلوب الزراعي إلى الاشتراكية أمر صعب(1)، كما أن تحويل المجتمع كله إلى شغيلة أمر صعب أيضا(2)، كما اعترف بكلا الأمرين لينين... و لم يكن يتحدث إلا عن بعض ظواهر التغيّر الأول من هذه الثلاثة.

فكيف بكل الظواهر، و كيف بكل التغّيرات في العهود الثلاثة و كيف بظواهر المجتمع الأكثر رسوخا و ثباتا، كاللغة و الدين و بعض واضحات الأخلاق.

إن الماركسية سلّمت سلفا على أن هذا الوضع الاشتراكي ملازم مع ترك الدين و مواكب مع العلمانية و الالحاد. و هذا الأمر منسجم مع فهمها للكون و الحياة. و لعله يكون صحيحا لو وجد هذا الوضع تحت قيادة الحزب الماركسي - اللينيني. و لكنه - بكل تأكيد - سوف لن يكون صحيحا لو لاحظنا أي مرحلة من مراحل تطور وسائل الانتاج. إن أي مرحلة منه، عالية كانت أو منخفضة، ليس لها أي مساس بتطوير الدين أو تغيير المعتقد، بغض النظر عن التوجيه الماركسي الالحادي.

المستوى الخامس: إن هذه المرحلة لم تأت عن طريق الطفرة التي آمنت بها الماركسية، أو التغير الكيفي الفجائي بعد التغيرات الكمية الكثيرة. لأن هذه

ص:326


1- (1) الشيوعية العلمية ص 377.
2- (2) المصدر ص 382.

الطفرة تمثلها على صعيد المجتمع الثورة. على حين ان هذه المرحلة لا تحصل عن طريق الثورة بالمرة. بل قد لا يتحدد أول زمن وجودها بزمن معين، و إنما هي تحصل حصولا تدريجيا، و لا نجد ثورة و لا تغيرا كيفيا بعد عصر دكتاتورية البروليتاريا.

النقطة الثانية: أن ننظر إلى الشروط التي ذكرتها الماركسية لوجود الاشتراكية، في مرحلتها الثانية... مما ذكرناه في الفقرة الثالثة من الحديث عنها. بعد التسليم أن معنى الشرط هو الملازمة و التوقف، بحيث لا يمكن أن يوجد الشيء بدونه شرطه. فكما أن عصر الاقطاع - مثلا كان متوقفا على وجود الطاحونة الهوائية، و لا يمكن أن يكون له بدونها حظ من الوجود. فكذلك تحقق هذه المرحلة متوقف على هذه الشروط، و لا يمكن أن تتحقق بدونها. فهل هذا الأمر صادق بالنسبة إلى الاشتراكية أم لا؟!..

إننا نجد بعد استيعاب الشروط السابقة فهما، أنه ترد عليها الايرادات التالية:

الايراد الأول: إن الماركسية أ فهمتنا في مجال آخر، إن هذا المستوى المطلوب في هذه الشروط، هو ما تقوم به الدولة الاشتراكية نفسها. فهي تقوم بتوسيع الانتاج و التثقيف العام على علم الآلة و علم الحمضيات و غيرها. و هذا يعني ان الدولة الاشتراكية موجودة سلفا لتقوم بهذه الفعاليات.

في حين ان معنى الشرائط. ان الدولة الاشتراكية لا يمكن أن توجد بدون وجود ذلك المستوى. فلا بد أن يوجد هذا المستوى سلفا لتوجد تلك الدولة.

فكيف نستطيع الجمع بين هاتين الفكرتين المتهافتتين.

فنحن سمعنا بوليتزر يقول:

«لا اشتراكية، إذن، بدون زيادة في الانتاج هائلة، لا يمكن تخيلها في النظام الرأسمالي، و هذه ضرورة موضوعية»(1)و يقول:

«و يتطلب هذا النمو التقني أن يبلغ تخصص العمال و ثقافتهم درجة أسمى من الدرجة التي بلغوها في الرأسمالية»(2).

ص:327


1- (1) أصول الفلسفة الماركسية: بوليتزر و آخرين ج 2 ص 163.
2- (2) المصدر: ص 187.

هذا معناه أن كل ذلك مما يجب أن يحدث قبل أن تحدث الاشتراكية.

و مع ذلك يقول هو نفسه:

«و كذلك يجب دفع الوعي الاشتراكي، إلى الإمام في نفس الوقت، و ذلك بفضل معرفة قوانين المجتمع، حتى تستطيع معرفة سير النمو و التعجيل في النمو الاقتصادي و ذلك بتأثيرها بدورها في الشروط الموضوعية»(1).

و هذا معناه، أن المجتمع الاشتراكي قد وجد فعلا و انه هو الذي يقوم بتحقيق المستوى المنشود. إن هاتين الفكرتين متناقضتان، فكيف جمع بوليتزر بينهما؟!..

الايراد الثاني: إن هذه الشرائط لو كانت صحيحة لما وجدت الاشتراكية إلا في الدول ذات المستوى العالي جدا من وسائل الانتاج. في حين اننا نشاهد فعلا أن كثيرا من الدول النامية الفقيرة المتخلفة اقتصاديا و حضاريا قد أعلنت فيها الاشتراكية و أخذت بالنمو. بل ان الاتحاد السوفييتي نفسه و الصين أيضا، أعلنت فيهما الاشتراكية و نمت قبل بلوغهما إلى هذا المستوى العالي الذي تشرحه الماركسية.

الايراد الثالث: إن هذا المستوى العالي لتطور وسائل الانتاج، متوفر فعلا في عدد من الدول الرأسمالية، و مع ذلك فإن احتمال وجود الاشتراكية فيها ضعيف جدا و يكفي أن نلتفت إلى أن المستوى العلمي و الانتاجي لدول المعسكر الاشتراكي و دول المعسكر الرأسمالي، متشابه إلى حد بعيد... و مع ذلك لم تحصل الاشتراكية، في الدول الرأسمالية، متمثلة في عصرها الأول فضلا عن عصرها الثاني.

النقطة الثالثة: ان ننظر إلى القاعدتين الاقتصاديتين الاشتراكيتين: (من كل حسب طاقته و لكل حسب عمله)، و (من لا يعمل لا يأكل).

... فإنهما بالرغم من نفعهما ضد الرأسمالية، كما علمنا، غير أنهما لا يصحان تماما، بل ترد عليهما الايرادات التالية.

الايراد الأول: إنه لا معنى للالزام بالعمل. كما هو مؤدى كلا القاعدتين و مآلهما إذ لعل للفرد مالا موروثا أو مذخورا، أو انه يعيش على إيراده الشخصي غير المربوط بالدولة، كتوالد الأغنام أو صيد السمك أو بعض الحرف الأخرى.

و إنما الملزم بالعمل دائما هو حب الذات الذي يحث على ضمان إيراد معين

ص:328


1- (1) المصدر نفسه ص 178.

يكفل إشباع الحاجات الضرورية على الأقل. و لا حاجة للقانون أو الدولة أن تجعل دافعا نفسيا أكثر من ذلك. و هذا الدافع الذي ذكرناه، إنما يؤثر في الحث على العمل عند عدم وجود دخل آخر لدى الفرد كما هو واضح إذ مع ضمان المعيشة لا حاجة أو لا ضرورة - على الأقل - للعمل في ضمن برنامج الدولة.

و هناك من الدخول ما تعترف به الماركسية، قبل زوال الملكية الخاصة، كالذي ذكرناه قبل لحظات.

الايراد الثاني: إن قاعدة (من لا يعمل لا يأكل)، ناتجة من المبدأ الاقتصادي الذي أسسه ماركس نفسه في كتابه (رأس المال) و هو توقف القيمة التبادلية على العمل. إذ من الطبيعي حينئذ أن من لا عمل له لا يكون له أي إيراد مالي. و لكننا سبق أن ناقشنا هذا المبدأ. و معه فلا مجال لتلك القاعدة المستنتجة منه.

الايراد الثالث: ان قاعدة (من كل حسب طاقته) ينافي ما وافق عليه كارل ماركس من كون العمل ثمان ساعات في كل يوم. و قد أصبح مطبقا، في عالمنا اليوم حتى في الدول الاشتراكية... ينافيه من جهتين:

الجهة الأولى: إن طاقة الفرد قد تكون أقل من ثمان ساعات، بل قد لا يكون له طاقة للعمل على الاطلاق، أولا تكفي لسد حاجاته الضرورية.

فما ذا تقول الماركسية لهذا الفرد. إن جوابها المطابق لمبادئها: انه سوف يموت جوعا. و لم تشر المصادر الماركسية المتوفرة إلى قانون الضمان الاجتماعي بالمرة.

الجهة الثانية: ان طاقة الفرد قد تكون أكثر من ثمان ساعات، فيكون مقتضى هذه القاعدة الاقتصادية، استنزاف كل طاقة الفرد، و إن زادت على ذلك بكثير. و هذا أوفق بزيادة الانتاج و رفع مستوى الشعب الاقتصادي!! على حين لا يرضى ماركس عن ذلك من خلال اقتراحه، و هو أسلوب رأسمالي تحتج عليه الماركسية بطبيعة الحال.

على أن الفرد إذا كان له من الطاقة أكثر من ثمان ساعات، و أراد بذلها اختيارا من أجل غرض مفهوم كخدمة مجتمعه، أو حاجته إلى المال باعتبار زيادة أفراد أسرته، أو مروره بظروف اقتصادية استثنائية. فما ذا تقول له الماركسية لو أراد ذلك؟!...

ص:329

الايراد الرابع: انه ما دام الاختلاف بين طاقات الأفراد كبيرا جدا، باعتبار قواهم العقلية و الجسمية و الفكرية و الثقافية، و غير ذلك، و ما دام الأجر يتحدد بقدر العمل، إذن سيكون الاختلاف في الأجور ثابتا و كبيرا جدا.

و قد قال لينين بهذا الصدد:

«ان الاقتصاديين السطحيين، و منهم الأساتيذ البرجوازيين،... يلومون الاشتراكيين على الدوام زاعمين أنهم ينسون أن الناس غير متساوين و يحلمون بإزالة هذه اللامساواة. و هذا اللوم ان برهن على شيء فإنما يبرهن كما نرى على أن السادة المفكرين البرجوازيين جهال جهلا مطبقا.

إن ماركس، عدا انه يحسب الحساب بدقة لحتمية عدم المساواة بين الناس، يأخذ بعين الاعتبار كذلك أن مجرد انتقال وسائل الانتاج إلى ملكية عامة للمجتمع كله (الاشتراكية بمعنى الكلمة المعتاد) لا يزيل نواقص التوزيع و عدم المساواة في الحق البرجوازي الذي يظل سائدا ما دامت المنتوجات توزع حسب العمل»(1).

و يؤسفنا أن نكون من هؤلاء الجهال جهلا مطابقا!!، فإن جواب لينين في واقعه اعتراف بالاشكال و ببقاء التفاوت بين الناس... ليس هذا فحسب، بل هو اعتراف بأن الاشتراكيين و ماركس بالخصوص، لم يطلبوا المساواة بين الناس في هذه المرحلة من الاشتراكية، بل سلّموا بالواقع على واقعه.

فإن الفروق بين الناس، سوف لن تكون مجحفة فقط، كما عبّر لينين في عبارته التي سمعناها، بل سيكون الفرق قريبا جدا من الفرق بين طبقات المجتمع الرأسمالي. و سيبقى الصراع طبقا لذلك حادا و شديدا... و لن تكون العلاقات علاقات صفاء و محبة، كما تتوقع الماركسية(2). و سنذكر في النقطة التالية ما يزيد هذا وضوحا.

النقطة الرابعة: إن سيطرة الدولة على وسائل الانتاج، و إن كان يعني نظريا ان هذه الوسائل أصبحت ملكا للشعب كله، إلا أنه من الناحية العملية ليس كذلك. بل تكون - عمليا - ملكا خاصا للحكام المسيطرين على الدولة.

و الفرد العادي مهما كان نزيها في حياته العادية، سوف لن يكون كذلك حين يرى ملايين الدنانير تصب في حجره، و يتصرف بها برأيه. و هل الحكام - في

ص:330


1- (1) مختارات: لينين ج 2 ص 291 (الدولة و الثورة).
2- (2) أسس الفلسفة الماركسية: أفاناسييف ص 191.

واقعهم - إلا أفراد عاديون؟! ان مظنة السيطرة على قسط مهم من هذه الأموال موجودة، ان لم يكن الأمر قطعيا و واضحا.

و قد تعرضت بعض المصادر الماركسية لهذا الاشكال، منسوبا إلى البرجوازيين. و أجابت عنه: بأن ملكية الدولة لوسائل الانتاج أمر ضروري تقتضيه الدرجة المعينة من تطور هذه الوسائل نفسها.

و لكن الحقيقة ان هذا وحده ليس جوابا كافيا. لأن معنى ذلك أن هذه الدرجة من التطور أوجبت أن يصبح رجال الدولة مسيطرين على الملايين، تماما كما أوجب ذلك التطور الآلي الذي أوجد عصر الرأسمالية، في رأي الماركسية،... مع اختلاف بسيط في صفة المالكين، و كيفية التوزيع.

فنقطة التخلص من هذا الاشكال هو ان يدعي المفكر الماركسي، ان حكام الدولة الاشتراكية، ليسوا أناسا عاديين، بل لهم درجة كافية من الصيانة و «العصمة» عن التلاعب بأموال الدولة!! و ان هذه «العصمة» مما تقتضيه الدرجة المعينة من تطور وسائل الانتاج. إلا أن الماركسية لم تفه بذلك، و لا يمكنها أن تفوه به بحال، بعد التجربة التي خاضتها بعد الثورة الحمراء في روسيا من ثبوت الخيانة و الانحراف على كثيرين ممن شارك في الثورة و آزرها مؤازرة فعلية، بشكل لا حاجة إلى الدخول في تفاصيله حفظا للمستوى العاطفي لهذا البحث.

و من هنا نفهم كيف تصبح الدولة الاشتراكية رأسمالية من الدرجة الأولى. ففي أعلى الهرم يستقر رجال الدولة المالكين - عمليا - لزمام التصرف في الملايين من الأموال و الملايين من الناس. و في أسفل الهرم يستقر هؤلاء البروليتاريون الذين تبنتهم الاشتراكية الماركسية، يؤخذ منهم العمل بمقدار طاقاتهم، و يعطون من الأجر بمقدار أعمالهم، التي لا تستطيع أن تسد حاجاتهم في عدد من الأحيان. و هل الرأسمالية و الطبقية إلا ذلك!!...

النقطة الخامسة: في استيضاح حقيقة شكلي الملكية العامة، اللذين ذكرناهما في الفقرة الثامنة مما سبق.

إن ملكية الدولة أمر مفهوم، بل و ضروري أحيانا، و لسنا الآن بصدد الخوض في تفاصيله أكثر مما سبق. و إنما المهم هو التساؤل عما إذا كانت الملكية التعاونية الكولخوزية شكلا مختلفا عن ملكية الدولة، كما تقول الماركسية، أو انه

ص:331

في واقعه شكل من أشكاله.

لا شك أن هناك فرقا قانونيا في الآثار التي تترتب على شكلي الملكية. فانه بينهما يحق للحاكمين أن يستعملوا ممتلكات الدولة المصلحة كل الشعب، كما ترى الماركسية... لا يحق لهم أن يستعملوا الملكية التعاونية إلا في مصلحة الكولخوزات أو كولخوز معين.

و لكننا إذا دققنا النظر، وجدنا أن هذا الفارق فارق شكلي صرف لا يعود إلى تعدد شكلي الملكية، فإن الملكية التعاونية إن عادت إلى الأشخاص المشتركين في كولخوز معين - مثلا - بصفتهم الشخصية، كان ذلك فارقا بين الملكيتين.

و لكن الماركسية لا ترى ذلك. بل ترى أن معنى الملكية التعاونية كون هذه الأموال محفوظة و مرصودة لمصلحة هذا الكولخوز. فلو تبدل شخص أو عدة أشخاص منه، كان الأشخاص الجدد هم المستحقين للاستفادة من هذه الأموال، دون الأشخاص القدماء.

و معنى هذا أن هذه الأموال راجعة إلى الأمة نفسها، كما هي صفة الأموال المملوكة للدولة تماما، لا فرق بينهما من ناحية الملكية أو المالك. كل ما في الموضوع، هو أن الدولة تشترط شرطا قانونيا ثانويا، هو لزوم استخدام هذه الأموال في مصلحة الكولخوزات، و استخدام أموال أخرى في مصلحة الأمة ككل. و هذا لا يعني اختلافا في حقيقة الملكية بين الشكلين.

و هذا هو سر الاختلاف في التشريك بين الملكيتين، الأمر الذي رأته بعض المصادر الماركسية، كما سمعنا. و إلا فان الشركاء في الملكية التعاونية، ليسوا هم أعضاء الكولخوز، بل كل أفراد الشعب، لكن بشرط قانوني ثانوي هو: أن يصبحوا كولخوزيين ليستفيدوا من هذه الملكية.

هذا، و ينبغي أن نتجاوز هنا عن بعض النقاط الثانوية التي عرفناها في تلك الفقرة السابقة، و التي منها: اختلاف الدول الاشتراكية، في ملكية الأرض. فبعضها تجعلها ملكا للدولة، و بعضها تجعلها ملكا للتعاونيات. و هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن النظرية الماركسية خالية من (تعليم) معين في هذا الحقل المهم من حقول الاقتصاد و الاجتماع.

و منها: ما ذكره ذلك المصدر من بقاء بعض وسائل الانتاج ملكا شخصيا لأعضاء الكولخوزات، فإن ذلك مخالف لتأكيد الماركسية على لزوم تأميم كل

ص:332

وسائل الانتاج. و قد سمعنا قول لينين:

«فإن وسائل الانتاج لا تبقى ملكا خاصا للأفراد، ان وسائل الانتاج تخص المجتمع كله»(1).

و منها: انها اعتبرت الآلات الزراعية ملكا تعاونيا، في حين انها من وسائل الانتاج التي هي ملك للدولة في منطق الماركسية. و إن دل هذا الاتجاه على شيء، فإنما يدل على عدم وجود فارق حقيقي بين الملكيتين، بحيث صح للماركسية أن تقول: بأن الآلات الزراعية ملك تعاوني، و لكنها في عين الوقت ملك للدولة، بصفتها من وسائل الانتاج.

النقطة السادسة: في التعرض إلى نقد التعاريف التي ذكرتها المصادر الماركسية للاشتراكية.

إننا لو لا حظنا هذه التعاريف لوجدناها متعارضة و مختلفة و مرتبكة إلى حد بعيد. فإن التعريف إنما يكون صحيحا فيما إذا حمل صفات مفهومية محددة غير قابلة للزيادة و النقص. و أما التطبيق و الوقائع التي كانت أو يمكن أن تكون، فهذا ليس من وظيفة التعريف سرده. و من الخطأ التعرض له خلاله.

فمثلا: تعريف الشيوعية بأنها نظام اجتماعي لا طبقي تقوم فيه الملكية الواحدة للشعب بأسره على وسائل الانتاج. حامل لصفات مفهومية... على حين أن تعريف الشيوعية بأنها: المستقبل المشرق للانسانية، أو انها حلم الانسانية، بعيد عن هذا المجال، و من هنا يمكن اعتباره تعريفا خاطئا.

كما ان التعرض لزاوية واحدة من صفات الشيء الذي يراد تعريفه أو بعض زوايا محددة لا تستوعبه، يعتبر نقصا في التعريف، يخرجه عن كونه تعريفا صحيحا.

و هذا موجود في أكثر التعاريف السابقة: كتعريف انجلز الشيوعية بأنها:

تعليم شروط تحرر البروليتاريا، و تعريف لينين الاشتراكية، بأنها: إلغاء الطبقات. أو تعريفها: بأنها حكم ملايين الناس من المضطهدين. أو تعريف الشيوعية، بأنها: الانسان و قد تحرر من أوصاب الملكية الخاصة، و من عبودية الماضي الروحية(2). فانها كلها تعاريف تعرضت إلى زوايا محدودة و أهملت

ص:333


1- (1) مختارات لينين، ج 3 ص 289.
2- (2) أصول الفلسفة الماركسية: بوليتزر و آخرين ص 214.

الزوايا المهمة الأخرى، كما هو غير خفي على من دقق فيها.

هذا، و من المعلوم أن التفريق بين الاشتراكية و الشيوعية، أو ذكر مميزات الاشتراكية، و انها تتصف بالتعاون الرفاقي، أو انها غير ناضجة، و نحو ذلك، لا يمكن اعتبارها من التعريف البتة.

إذن، فلم يصف لنا من تعاريف الاشتراكية تعريف صحيح فنيا، و إنما هي عبارات تعرضت لخصائص مختلفة لهذا العهد، و كذلك تعاريف الشيوعية، غير أننا سندقق في تعاريف الشيوعية عند الحديث عن مرحلتها فيما يلي من البحث. و إنما ذكرناها مع تعاريف الاشتراكية، لنعطي فكرة كافية عن الأسلوب الماركسي في صياغة التعاريف.

و بمناسبة هذه التعاريف، يحسن بنا أن نتساءل عن المعاني الأصلية للاشتراكية و الشيوعية في لغة العالم اليوم، بغض النظر عما تلقيه هذه التعاريف من ظلال.

أما الاشتراكية، فتحتمل عدة معان:

أولا: اشتراك جماعة في أمر معين كعمل واحد أو سكنى واحدة، أو (ملكية خاصة) واحدة لشيء ما.

ثانيا: تساوي أفراد المجتمع في الحقوق و الواجبات و فرص الحياة، سواء من الناحية الاقتصادية أو غيرها.

ثالثا: تساوي أفراد المجتمع من زاوية اقتصادية، و تندرج في هذا المعنى كل المذاهب الاشتراكية بما فيها الماركسية.

رابعا: مذهب الاشتراكية العلمية الماركسي. و هذا يشمل العهود الثلاثة التي عرفناها.

خامسا: التطبيق الاشتراكي فيما بعد عهد البروليتاريا. و يشتمل على مرحلتي الاشتراكية و الشيوعية.

سادسا: العهد الثاني من مراحل الاشتراكية، و هو الذي نتحدث عن مناقشته الآن. و هذا المعنى غير شامل للطور الأعلى.

و المعنيان الأوليان ليسا اقتصاديين بطبيعتهما.. فلو قصدنا من الاشتراكية معنى اقتصاديا، كان الأمر منحصرا بالمعاني الأربعة الأخيرة، و هي تتدرج من الأعم إلى الأخص. و كلها معان مشهورة و مستعملة في لغة اليوم. و لا يمكن

ص:334

ترجيح أحدها على الآخر. و لا يخفى ما في إجمال معنى اللفظ و عدم تحديده من إمكان الدعاية له تارة و الدعاية ضده أخرى، عن طريق صياغات لفظية معينة، و بالتالي يفقد الاصطلاح صفته العلمية.

و أما الشيوعية، فهي أيضا تحتمل عدة معان:

أولا: الاشاعة و التساوي الاباحي في الميادين البارزة في الحياة كالجنس و المال، و هذا معنى يشتمل على الماركسية و المزدكية و غيرها من المذاهب الشيوعية.

ثانيا: التساوي الاباحي في الميدان الاقتصادي فقط، نتيجة لانكار الملكية الخاصة، و هو يشمل كل الآراء التي اعتبرت الملكية الخاصة مصدر الشر في العالم، و ان إزالتها هي أول خطوة نحو الصواب، بما فيها الماركسية نفسها.

ثالثا: مرحلة الاشتراكية الماركسية بعهودها الثلاثة.

رابعا: مرحلتي الاشتراكية الثانية و الثالثة، أو الطور الأول و الطور الأعلى للمجتمع الشيوعي.

خامسا: الطور الأعلى للمجتمع الشيوعي فقط.

سادسا: الجناح السياسي من الماركسية أو الماركسيين. أما الماركسي الذي لا يعمل عملا سياسيا أو حزبيا فليس شيوعيا، كما يرى بعض الماركسيين أنفسهم.

و كل هذه المعاني مستعملة و موجودة في لغة العالم اليوم. و نقطة الضعف من عدم تحديد المعنى موجودة فيها أيضا، كما كان في لفظ الاشتراكية.

و المعنى الثالث للشيوعية يساوي تماما المعنى الرابع للاشتراكية، كما ان المعنى الرابع لها يساوي المعنى الخامس للاشتراكية... فتكون اللفظتان بكلا هذين المعنيين مترادفتين... على حين أنهما بالمعنى الأخير للاشتراكية و بالمقايسة إلى المعنيين الأخيرين للشيوعية، متباينان.

و إذا طبقنا هذه المعاني على التعاريف السابقة، وجدنا الأمر العجيب!!.. فقد استخدم عدم تحديد اللفظين إلى أبعد مداه. فبنحو النموذج يكون تعريف الشيوعية بأنها نظام اجتماعي لا طبقي و تعريف الاشتراكية بأنها إلغاء الطبقات، يشير ان إلى المعنى الخامس للشيوعية أعني الطور الأعلى فقط.

و إن كان إطلاق لفظ الاشتراكية عليه ينبغي أن يكون مجازيا من زاوية ماركسية.

ص:335

و تعريف الاشتراكية بأنها القضاء على الاستغلال أو الاضطهاد، يشير في الأغلب إلى المعنى الثاني للاشتراكية، و ربما يشمل المعنى الثالث لها أيضا، كما قد يشمل الثاني، أو هو و الثالث من معاني الشيوعية، على غير تحديد.

و تعريف الشيوعية بأنها المستقبل المشرق و أنها حلم الانسانية، مردد بين المعاني الثلاثة الأخيرة للاشتراكية، و المعاني: الثالث إلى الخامس للشيوعية.

على غير تحديد. فان مراحل الاشتراكية الماركسية بأي شكل لاحظناها، كانت هي مستقبل البشرية و حلمها الذهبي الجميل، في رأي الماركسية.

النقطة السابعة: في محاولة فهم مكوّنات الدولة الاشتراكية، باعتبار ما ذكرناه في الفقرة الرابعة من الحديث عن هذه المرحلة.

إن قيادة الحزب الشيوعي، موجودة خلال العهود الاشتراكية الثلاثة...

لأنه هو الذي يستطيع أن يقود هذه العهود قيادة (واعية) نشطة. فهو الذي يوجد ثورة البروليتاريا أو دكتاتوريتها، و سحق الرأسماليين، و هو الذي يقوم باختيار التشريعات و التطبيقات الاشتراكية في العهدين اللاحقين له.

كل ما في الموضوع أنه خلال عصر دكتاتورية البروليتاريا، يكون للدولة وجود بارز، كأنه مستقل عن الحزب، كما سبق أن أشرنا. و حين يبدأ وجود الدولة بالتضاؤل - في رأي الماركسية - تبرز قيادة الحزب أكثر فأكثر، إذ لا بد للنشاط الاشتراكي من قائد، و حيث لا تصلح الدولة لقيادته في العهدين، اما لضعفها أو لانعدامها في النهاية، لا يبقى من قائد سوى الحزب نفسه.

و واضح لمن استقرأ المصادر الماركسية، يجد أن التركيز على قيادة الحزب شديد في مرحلة الاشتراكية الوسطى، و لكنه في المرحلة الأولى مقرون بالتركيز على الدولة البروليتاريه إلى جانبه. و اضعف من هذا التركيز ما ذكرته المصادر من قيادة الحزب في الطور الشيوعي الأعلى... إلى حد لا تكاد تجد له ذكرا إلا قليلا. و لكل من هذه (الأوضاع) في المصادر الماركسية، تفسيران: نظري و عملي.

فالسر النظري من زاوية ماركسية على التركيز على قيادة الدولة في عهد دكتاتورية البروليتاريا، و ضعف التركيز على الحزب، هو: وضوح وجود الدولة و قيامها ككيان طبقي يقمع بدكتاتورية البرجوازية الرأسمالية.

و لا يكفي الوجود الحزبي وحده للقيام بهذه المهمة.

ص:336

و السر (العملي) أو السياسي لذلك، هو أن الحزب يريد أن يبدو أكثر إنسانية في تعامله مع المجتمع من دولة البروليتاريا الدكتاتورية ذات الحرب العنيدة المستميتة ضد البرجوازيين. فهو يعلن إعلانا ضمنيا: إذ ما يقع خلال هذا العهد من أعمال قمع صارمة تتحمل الدولة مسئوليته دون الحزب. و بذلك يحفظ لنفسه درجة من الصفاء الاجتماعي تمكنه من البقاء بعد زوال الدولة البروليتارية.

و أما استقلال الحزب بالقيادة خلال عصر الاشتراكية، دون الدولة...

فالسر (النظري) الماركسي فيه: ان الدولة و إن كانت موجودة، إلا أنها في طريق الاضمحلال و الفناء، فتكون قيادتها ضعيفة لا محالة، و يكون الوجود القيادي الأقوى و الأهم للحزب بطبيعة الحال، الذي هو صاحب النظرية الماركسية الأساسية و المتكفل تطبيقها على طول الخط.

و السر (العملي) لاستقلال الحزب بالقيادة: هو أن الجزء المهم من التشريعات الاشتراكية، سوف تسن و يبدأ تطبيقها خلال هذا العهد، و هذا ما يريد الحزب (التشرف) بتحمل مسئوليته الاجتماعية، التي هي مسئوليته الكبرى و هدفه الأعلى من الأول. فمن غير المناسب أن يعمل هو و يعطي النظريات و التشريعات، على حين تنسب الأعمال إلى غيره.

و أما في عصر الشيوعية الأعلى، فالمبرر (النظري) لقلة التأكيد على الحزب هو: انعدام معنى الحزبية بالشكل المعهود المعاصر، مع انعدام الطبقات. فان الأحزاب إنما توجد، في رأي الماركسية، في خضم النضال الطبقي، فإذا زالت الطبقات كان حرّيا بالأحزاب أن تزول أيضا. إلا أن هذا من الناحية العملية مطبق ماركسيا على كل الأحزاب إلا الحزب الشيوعي نفسه.

قال كوفالسون:

«ان سير المجتمع الاشتراكي نحو الشيوعية يتوقف بصورة حاسمة على صانعيه بالذات، على لحمتهم و وحدتهم و موهبتهم و نشاطهم و مبادراتهم و رجولتهم و شجاعتهم و تفانيهم و انضباطهم و مسئوليتهم، و معارفهم و خبرتهم و نضوجهم الأخلاقي و ثقافتهم.

إن الحزب الشيوعي هو القوة القائدة و الموجهة لكل العملية المتنوعة الجوانب لبناء المجتمع الجديد»(1).

ص:337


1- (1) المادية التاريخية: كيلله، كوفالسون ص 144.

إن الحزب سوف يبقى لا على أساس طبقي، بل على أساس بذل النشاط المنظم و المتواصل لتطبيق النظرية الماركسية التي وجد من أجلها. و بالجملة، فالحزب الشيوعي لم يستوف أغراضه حين يوجد الطور الأعلى، بل عليه أن يبقى ما دام هذا الطور موجودا.

و مع ذلك فالكلام عن قيادة الحزب في المصادر الماركسية خلال الطور الأعلى قليلة كما قلنا. و المبرر (العملي) لذلك هو الجهل بالوضع الحقيقي في ذلك أو الجهل بما سيحدث في المستقبل.

قال لينين:

«و لذا لا يحق لنا أن نتكلم إلا عن حتمية اضمحلال الدولة، مشيرين إلى أن هذا السير يستغرق وقتا طويلا، و إلى توقفه على مدى سرعة تطور الطور الأعلى من الشيوعية تاركين مسألة وقت هذا الاضمحلال أو أشكاله الملموسة معلقة، لأنه لا توجد معلومات تسمح بحل هذه المسألة»(1).

و هذا الجهل قرين دائما مع عدم وضوح الرؤية في مقدار إمكانيات الحزب في ذلك الحين، الأمر الذي يزرع الشك في مدى صلاحيته للقيادة يومئذ.

هذا... و ينبغي لنا أن نختم المناقشة مع الطور الأدنى للاشتراكية، بعد أن اتضحت الخطوط العامة، محيلين المناقشات الأخرى إلى مجال آخر. و ستتضح بعض المناقشات أيضا لدى خوض غمار المناقشات مع الطور الأعلى الذي سنشرحه فيما يلي.

ص:338


1- (1) مختارات لينين ج 2 ص 294.
المرحلة الاشتراكية الثالثة الطور الشيوعي الأعلى
اشارة

- 1 - اطلعنا فيما سبق على بعض ما أعطته الماركسية من تعاريف للشيوعية أو الطور الشيوعي الأعلى.

قال انجلز:

«الشيوعية هي تعليم شروط تحرر البروليتاريا»(1).

و قال أفاناسييف:

«الشيوعية هي المستقبل المشرق للانسانية جمعاء. ان الشيوعية هي حلم الانسانية طيلة قرون»(2).

و قال أيضا:

«ان الشيوعية هي الهدف العظيم للحزب الشيوعي و الشعب السوفييتي»(3).

و قال بوليتزر:

«الشيوعية هي الانسان و قد تحرر من أوصاب الملكية الخاصة و من عبودية الماضي الروحية»(4).

و هناك تعريف رسمي مفصل للشيوعية في برنامج الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، يقول:

«الشيوعية هي نظام اجتماعي لا طبقي، تقوم فيه الملكية الواحدة للشعب بأسره على وسائل الانتاج، و المساواة الاجتماعية التامة بين جميع أعضاء المجتمع، حيث، إلى جانب تطور الناس من جميع النواحي، ستنمو أيضا القوى المنتجة على أساس العلم التكنيك

ص:339


1- (1) نصوص مختارة: انجلز ص 34.
2- (2) أسس الفلسفة الماركسية: أفاناسييف ص 195.
3- (3) المصدر ص 194.
4- (4) أصول الفلسفة الماركسية: بوليتزر و آخرين ج 2 ص 214.

المتطورين على الدوام؛ و تتدفق مصادر الثروة الاجتماعية سيلا كاملا، و يتحقق المبدأ العظيم «من كل حسب كفاءاته و لكل حسب حاجاته».

إن الشيوعية إنما هي مجتمع عالي التنظيم لكادحين أحرار و واعين سترسخ فيه الارادة الذاتية الاجتماعية، و يغدو فيه العمل لخير المجتمع الحاجة الحيوية الأولى في نظر الجميع، و أمرا يدركون ضرورته، و تطبق فيه كفاءات كل فرد بأفيد وجه في صالح الشعب»(1).

و قال كوفالسون:

«إن الشيوعية إنما هي تنظيم اجتماعي عاقل يعتمد على قاعدة تكنيكية عالية التطور، و يوحد الناس في إطار وحدة تضامنية من أجل إخضاع قوى الطبيعة باطراد، و يوطد سيادة الانسان على علاقاته الاجتماعية بالذات، و يوجه النظام الاجتماعي كله، و الثقافة المادية و الروحية كلها نحو تطوير الانسان، نحو تطوير الفرد تطويرا متناسقا متناغما.

إن الشيوعية إنما هي فض سر التاريخ، و درجة عالية من التقدم الاجتماعي و ظاهرة تاريخية عالمية. إن الشيوعية وحدها تدل البشرية على مخرج من تلك النزاعات الفاجعة التي تتخبط فيها. و لهذا لا بد أن تصل جميع الشعوب إلى الشيوعية عاجلا أم آجلا.

و لا مراء في أن التشكيلة الشيوعية ستكون عامة شاملة، و أن جميع الشعوب ستبلغ في آخر المطاف مستوى واحدا، فيبدأ آنذاك تاريخ واحد لبشرية واحدة»(2).

و قال لينين:

«ان الشيوعية هي السلطة السوفييتية زائدة كهربة البلاد بأسرها»(3).

و لماركس تعريف للشيوعية أقرب إلى الأسلوب الفلسفي منه إلى الأسلوب الاجتماعي، يقول فيه:

«إن الشيوعية التي هي الالغاء الايجابي للملكية الخاصة (و هي نفسها ضياع انساني للذات) و بالتالي تملك فعلي للماهية الانسانية من قبل الانسان و من أجل الانسان... إنها الحل الحقيقي للتضاد بين الانسان و الطبيعة، بين الانسان و الانسان، الحل الحقيقي للصراع بين الوجود و الماهية بين الموضعة و تأكيد الذات، بين الحرية و الضرورة، بين الفرد و الجنس.

انها اللغز المحلول للتاريخ، و هي تعرف ذاتها على أنها هذا الحل»(4).

و هي من الكلمات القليلة لماركس، التي يبدو منها أنها شرح للطور الأعلى

ص:340


1- (1) المادية التاريخية: كيلله، كوفالسون ص 142 و انظر أسس الفلسفة الماركسية: أفاناسييف ص 196. كلاهما عن برنامج الحزب الشيوعي.
2- (2) المادية التاريخية ص 399.
3- (3) الشيوعية العلمية ص 506 عن المؤلفات الكاملة: لينين ج 31 ص 537.
4- (4) المصدر ص 504 عن مخطوطات عام 1844 لماركس ص 87.

نفسه.

- 2 - و ستزول الدولة في هذه المرحلة تماما، باعتبارها أداة طبقية للصراع الطبقي و بعد زوال الطبقات لا يبقى للدولة موضوع. و تتحدث الماركسية عن هذه الظاهرة بوضوح و تفصيل.

قال انجلز:

«و هكذا، فالدولة لم توجد منذ الأزل. فقد وجدت مجتمعات كانت في غنى عن الدولة، و لم يكن لديها أية فكرة عن الدولة و سلطة الدولة. و عند ما بلغ التطور الاقتصادي درجة معينة اقترنت - بالضرورة - بانقسام المجتمع إلى طبقات، غدت الدولة بحكم هذا الانقسام أمرا ضروريا.

و نحن نقترب الآن بخطوات سريعة من درجة في تطور الانتاج لا يكف عندها وجود هذه الطبقات عن أن يكون ضرورة و حسب، بل و يصبح عائقا مباشرا للانتاج. و ستزول الطبقات بالضرورة كما نشأت في الماضي بالضرورة و مع زوال الطبقات ستزول الدولة بالضرورة، و المجتمع الذي ينظم الانتاج تنظيما جديدا على أساس اتحاد المنتجين بحرية و على قدم المساواة.

سيرسل آلة الدولة بأكملها حيث ينبغي أن تكون حينذاك إلى متحف العاديات بجانب المغزل البدائي و الفأس البرونزية»(1).

و قال لينين في خلال حديثه الطويل عن الدولة:

«و أخيرا، الشيوعية هي وحدها التي تجعل الدولة أمرا لا لزوم له البتة، لأنه لا يبقى عندئذ أحد ينبغي قمعه، أحد بمعنى الطبقة، بمعنى النضال المنتظم ضد قسم معين من السكان.

و أضاف:

«نحن لسنا بخياليين، و نحن لا ننكر أبدا إمكانية و حتمية وقوع مخالفات من أفراد، كما لا ننكر ضرورة قمع هذه المخالفات. و لكن هذا الأمر لا يحتاج، أولا، إلى آلة خاصة للقمع، إلى جهاز خاص للقمع، فالشعب المسلح نفسه يقوم به ببساطة و يسر. كما تقوم كل جماعة من الناس المتمدنين حتى في المجتمع الراهن بتفريق متشاجرين، أو بالحيلولة دون الاعتداء على امرأة.

و ثانيا: نحن نعلم أن السبب الاجتماعي الجذري للمخالفات التي تتجلى في الاخلال بقواعد الحياة في المجتمع هو استثمار الجماهير و عوزها و بؤسها. و عند ما يزول هذا السبب الرئيسي تأخذ المخالفات لا محالة بالاضمحلال.

ص:341


1- (1) أصل العائلة: انجلز ص 229-230.

نحن لا نعلم، بأية سرعة و بأي تدرج؟ و لكننا نعلم أنها ستضمحل. و مع اضمحلالها تضمحل الدولة أيضا»(1).

و قال:

«ان تعبير -: الدولة تضمحل... هو تعبير اختير بتوفيق كبير، لأنه يشير بوقت معا إلى تدرج هذا السير و إلى عفويته»(2).

و قال:

«ان الأساس الاقتصادي لا لاضمحلال الدولة اضمحلالا تاما هو تطور الشيوعية تطورا كبيرا يزول معه التضاد بين العمل الفكري و العمل الجسدي، و يزول بالتالي ينبوع من أهم ينابيع اللامساواة الاجتماعية الراهنة. مع العلم أنه ينبوع تستحيل إزالته استحالة تامة بمجرد تحويل وسائل الانتاج ملكا اجتماعيا، بمجرد مصادرة أملاك الرأسماليين.

و أضاف:

«و لذا لا يحق لنا أن نتكلم إلا عن حتمية اضمحلال الدولة، مشيرين إلى أن هذا السير يستغرق وقتا طويلا، و إلى توقفه على مدى سرعة تطور الطور الأعلى من الشيوعية، تاركين مسألة وقت هذا الاضمحلال أو أشكاله الملموسة معلقة، لأنه لا توجد معلومات تسمح لحل هذه المسألة»(3).

و قال كوفالسون:

«ان اضمحلال الدولة إنما هو تصفية الجهاز الخاص للعنف و جميع الهيئات المرتبطة باداء وظائفها السياسية أما هيئات الدولة المرتبطة باداء وظائفها الاقتصادية التنظيمية و الثقافية التربوية فلا يمكن أن تزول.

ففي ظل الشيوعية لن تكون ثمة دولة و لكن هذا لا يعني أن المجتمع الشيوعي لن يحتاج إلى تخطيط الانتاج و الاستهلاك، و حساب الحاجات، و تنظيم الأشكال الجماعية للحياة و النشاط و إلى أشياء كثيرة أخرى. و كل هذا يتطلب التنظيم الدقيق. و لكن هذا التنظيم سيقوم به أفراد المجتمع على مبدأ المبادرة. و من هنا ينجم أنه ستكون هناك في المجتمع الشيوعي هيئات للادارة الذاتية. و هذا يعني أن عملية اضمحلال الدولة تتلخص في تحول دولة الشعب بأسره إلى إدارة ذاتية اجتماعية شيوعية»(4).

و أخيرا، فان الماركسية لا توافق على فكرة إلغاء الدولة، بل انما هي

ص:342


1- (1) مختارات: لينين. ج 2 ص 287 (الدولة و الثورة).
2- (2) المصدر ص 285.
3- (3) المصدر ص 294.
4- (4) المادية التاريخية: كيلله، كوفالسون ص 269.

تضمحل من تلقاء نفسها، و لذا سمعنا من لينين أن التعبير بالاضمحلال موفق جدا، و قال انجلز:

«فالدولة لم تلغ بل تضمحل»(1).

- 3 - يرتفع القانون بارتفاع الدولة، و تكون الأخلاق الشيوعية العوض عنه.

قال كوفالسون:

«إن نمو دور الأخلاق مرتبط أيضا، بكون الانتقال إلى الشيوعية يفترض تلاشي القانون تدريجا، كمنظم للعلاقات بين الناس في المجتمع الشيوعي ليتعاظم دور الأخلاق و تحل محله.

يقول لينين: ففي المجتمع الشيوعي فقط، سوف يعتاد الناس تدريجا، على مراعاة قواعد الحياة الجوهرية، التي تكررت و عرفها الناس على مر القرون، على مداعاتها طوعا، و دون إلزام و إرغام و اضطرار، و بدون الجهاز الخاص الذي يلزم الناس بها، و الذي يسمونه الدولة»(2).

- 4 - و لكن ما ذا يكون عوض الدولة الزائلة؟ إن هذا مما يمكن استفادته من بعض كلمات الماركسيين!...

فقد أكد لينين على القيادة الجماعية، بحيث يظهر منه أن الجميع هم الذين يمارسون قيادة المجتمع قال:

«و مذ يتعلم جميع أعضاء المجتمع أو - على الأقل - أكثريتهم الكبرى إدارة الدولة بأنفسهم، مذ يأخذون هذا الأمر بأيديهم و يرتبون الرقابة على أقلية الرأسماليين الضئيلة، على السادة الراغبين في الاحتفاظ بالعادات الرأسمالية، على العمال الذين أفسدتهم الرأسمالية حتى أعماقهم، تأخذ بالزوال إلى كل إدارة بوجه عام. و بمقدار ما تتكامل الديمقراطية يقترب وقت زوال الحاجة إليها...

ذلك لأنه عند ما يتعلم الجميع الادارة و يديرون في الواقع بصورة مستقلة الانتاج الاجتماعي. و يحققون بصورة مستقلة الحساب و رقابة الطفيليين و الأفندية و المحتالين و من على شاكلتهم من حفظة تقاليد الرأسمالية - عندئذ يصبح التهرب من حساب الشعب و رقابته على التأكيد أمرا عسير المنال و أمرا نادرا جدا، يصحبه في أكبر الظن عقاب سريع و صارم، لأن العمال المسلحين أناس عمليون، و ليسوا من نوع المثقفين العاطفيين، و لا نحسب أنهم

ص:343


1- (1) المادية التاريخية. ترجمة أحمد داود. ص 190.
2- (2) المصدر نفسه ص 480.

يطيقون المزاح من أحد. بحيث أن ضرورة مراعاة القواعد الأساسية البسيطة للحياة في كل مجتمع بشري ستتحول بسرعة كبيرة إلى عادة.

و عندئذ ينفتح على مصراعيه باب الانتقال من الطور الأول للمجتمع الشيوعي إلى طوره الأعلى، و في الوقت نفسه إلى اضمحلال الدولة اضمحلالا تاما»(1).

و أشار كوفالسون إلى أن الذي يتسلم الزمام هو المنظمات الاجتماعية حين قال:

«و هذه العملية، مرتبطة بنهضة لا يعرف لها مثيل في نشاط الجماهير و مبادراتهم الخلاقة، و بالتحقيق الكامل للديمقراطية الاشتراكية و بتقوية دور المنظمات الاجتماعية التي سوف تتسلم كثيرا من مهام الدولة»(2).

و قد سمعنا من كوفالسون قبل قليل قوله:

«و من هنا ينجم أنه ستكون هناك في المجتمع الشيوعي هيئات للادارة الذاتية. و هذا يعني أن عملية اضمحلال الدولة تتلخص في تحوّل دولة الشعب بأسره إلى إدارة ذاتية اجتماعية شيوعية»(3).

و سنسمع قول ستالين في أوصاف الطور الأعلى، حين يقول:

«لن يكون هناك طبقات و لا سلطة دولة، بل سيكون هناك عمال في الصناعة و الزراعة، يديرون أنفسهم، بأنفسهم، اقتصاديا، كجمعية حرة للعمال»(4).

هذا مضافا إلى قيادة الحزب الشيوعي، كما سمعنا في الحديث عن الطور السابق و سنوضحه أيضا في بعض الفقرات التالية، و التي هي البديل الحقيقي عن الدولة.

و الذي يبدو - ماركسيا - من كيفية اضمحلال الدولة، هو: أن دولة الطور الشيوعي الأول حين تؤسس المنظمات الاجتماعية العمالية، و تشعر بنضجها و صلاحيتها للقيادة تحت إشراف الحزب الشيوعي، تبدأ بالتنازل عن صلاحياتها لهذه المنظمات، تدريجا، حتى تتخلى تماما عن القيادة، و بذلك تضمحل الدولة اضمحلالا تاما. و بذلك يبدأ الطور الأعلى نفسه.

ص:344


1- (1) مختارات: لينين ج 2 ص 302 (الدولة و الثورة).
2- (2) المادية التاريخية: ترجمة أحمد داود ص 187.
3- (3) المادية التاريخية: كيلله، كوفالسون ص 269.
4- (4) أصول الفلسفة الماركسية: بوليتزر و آخرين ج 2 ص 198.

- 5 - و ستزول في هذا المجتمع الطبقات، و بذلك يزول الصراع الطبقي و تسود الحرية و الديمقراطية الحقيقية.

قال لينين:

«في المجتمع الشيوعي فقط، عند ما تحطم مقاومة الرأسماليين بصورة نهائية عند ما يتلاشى الرأسماليون عند ما تنعدم الطبقات (أي عند ما ينعدم التباين بين أعضاء المجتمع من حيث علاقاتهم بوسائل الانتاج الاجتماعية) عندئذ فقط تزول الدولة، و يصبح بالامكان الحديث عن الحرية. عندئذ فقط تصبح في الامكان تحقق الديمقراطية الكاملة حقا، الديمقراطية الخالية حقا من كل قيد»(1).

و قال أيضا:

«و على ذلك نرى أن الديمقراطية في المجتمع الرأسمالي هي ديمقراطية بتراء حقيرة زائفة، هي ديمقراطية للأغنياء وحدهم، للأقلية. أما ديكتاتورية البروليتاريا، مرحلة الانتقال إلى الشيوعية، فهي تعطي لأول مرة الديمقراطية للشعب، للأكثرية بمحاذاة القمع الضروري للأقلية للمستثمرين و الشيوعية وحدها هي التي تستطيع أن تعطي الديمقراطية كاملة حقا، و بمقدار ما تتكامل بمقدار ما تزول الحاجة إليها، فتضمحل من نفسها»(2).

و قال:

«فما بقيت الدولة، لا وجود للحرية، و عند ما توجد الحرية تنعدم الدولة»(3).

و أضاف:

«إن الأساس الاقتصادي لاضمحلال الدولة اضمحلالا تاما، هو تطور الشيوعية تطورا كبيرا يزول معه التضاد بين العمل الفكري و العمل الجسدي و يزول - بالتالي - ينبوع من أهم ينابيع اللامساواة الاجتماعية الراهنة»(4).

و قال كوفالسون:

«إن الانتقال إلى الشيوعية يفترض تصفية الفوارق الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية بين المدينة و القرية، و إزالة الفوارق الجوهرية بين العمل الجسدي، و كذلك محو الحدود بين الطبقات و الفئات الاجتماعية في المجتمع، إن تحقيق هذه المهام الاجتماعية الفائقة الشأن يعني بناء المجتمع الشيوعي اللاطبقي، و إقامة المساواة الفعلية بين الناس، و يشكل مكسبا من

ص:345


1- (1) مختارات: لينين ج 2 ص 285 (الدولة و الثورة).
2- (2) المصدر ص 286.
3- (3) المصدر ص 293.
4- (4) المصدر ص 294.

أعظم مكاسب الشيوعية.

إن الانتقال إلى الشيوعية مرتبط باضمحلال الدولة، و بنمو ثروات المجتمع الروحية باطراد، و بازدهار العلم و الثقافة، و بارتفاع مستوى الجماهير الثقافي التكنيكي ارتفاعا كبيرا جدا و تطور نشاطها و مبادراتها، و بتوطيد المبادئ و القواعد الجماعية و الانسانية و المفاهيم الأخلاقية الشيوعية في العلاقات بين الناس»(1).

و قال لينين:

«عند ما لن تكون طبقات في المجتمع الشيوعي، فلن يبقى إذن سوى منتجين عاملين، و لن يكون هناك عمال و فلاحون»(2).

- 6 - و ستكون القاعدة الاقتصادية الأساسية في الطور الأعلى، هي: «من كل حسب طاقته، و لكل حسب حاجته».

قال ماركس - كما ينقل عنه لينين - و هو يتحدث عن هذا الطور الأعلى:

«حينذاك فقط يصبح بالامكان تجاوز الأفق الضيق للحق البرجوازي تجاوزا تاما، و يصبح بإمكان المجتمع أن يسجل على رايته: من كل حسب كفاءاته، و لكل حسب حاجاته»(3).

و قال لينين:

«ان الاشتراكية يجب أن تتحول بصورة حتمية شيئا فشيئا إلى الشيوعية التي كتب على رايتها: «من كل حسب قدراته و لكل حسب حاجاته»(4).

و سمعنا من التعريف الرسمي للشيوعية أنه قال:

و يتحقق المبدأ العظيم: من كل حسب كفاءاته، و لكل حسب حاجاته».

و من الطريف أنه يظهر من بوليتزر أن لكل شخص حسب إرادته، لا حسب حاجاته فقط حيث قال بصدد حديثه عن الطور الأول:

«و النتيجة الأولى لإزالة استغلال الانسان لأخيه الانسان هي أن العامل يستطيع أن ينال حسب عمله الذي يؤديه دون أن يسلب جزءا من الثورة التي أنتجها. اما أن ينال كل فرد حسب إرادته و حاجاته، فيجب أن يصل المجتمع إلى إنتاج كمية كافية من وسائل الانتاج،

ص:346


1- (1) المادية التاريخية: كيلله، كوفالسون ص 144.
2- (2) الشيوعية العلمية ص 521.
3- (3) مختارات: لينين ج 2 ص 293 (الدولة و الثورة).
4- (4) الشيوعية العلمية ص 510. عن المؤلفات الكاملة للينين ج 4 ص 77-78.

تحقيق هدف الشيوعية»(1).

- 7 - و سيكون العمل أهم حاجات الحياة للناس، و يكون مجانيا بدون أجره.

قال ماركس - بنقل لينين عنه -:

«في الطور الأعلى من المجتمع الشيوعي، بعد أن يزول خضوع الأفراد المذل لتقسيم العمل... و حين يصبح العمل لا وسيلة للعيش و حسب، بل الحاجة الأولى للحياة أيضا»(2).

و قال لينين:

«إن الشيوعية هي المرحلة العليا للاشتراكية، حيث يعمل البشر لأنهم واعون لضرورة العمل من أجل الخير العام»(3).

و قال أيضا:

«إن ما ندعوه بالشيوعية، هو النظام حيث يعتاد البشر على إنجاز واجباتهم الاجتماعية دون أجهزة خاصة للالزام، و حيث العمل لا أجرة له، في سبيل الخير العام يصبح ظاهرة عامة»(4).

و قال أيضا:

«إن العمل الشيوعي بمعنى الكلمة الأضيق و الأدق، هو عمل بلا أجرة في صالح المجتمع، و هو لا ينفذ لا بوصفه إعانة معينة و لا من أجل الحصول على الحق في بعض المنتجات، و لا وفقا لقواعد محددة مسبقا. انه عمل مقبول بملء الحرية، بصورة خارجة عن أية قاعدة، و مقدم دون توقع لأي مكافأة، و بلا أجرة متفق عليها»(5).

إذن، فالفرد يؤدي ما يستطيع من أعمال حسب كفاءاته و قدراته، مجانا بدون مقابل، سوى شعوره بالصالح العام، و يأخذ بإزاء ذلك، من الأموال ما يكفي حاجاته كلها، و لعله يأخذ بمقدار ما يريد من الأموال.

- 8 - و إنما يصبح العمل حرا إلى هذه الدرجة، و حاجة من حاجات الحياة، فيما إذا توفرت شروط معينة.

ص:347


1- (1) أصول الفلسفة الماركسية: بولتزر و آخرين ج 2 ص 185.
2- (2) مختارات: لينين ج 2 ص 293 (الدولة و الثورة).
3- (3) الشيوعية العلمية ص 507، عن المؤلفات الكاملة: لينين ج 3 ص 205.
4- (4) المصدر ص 508 عن مصدره ص 295.
5- (5) المصدر ص 509 عن مصدره ص 530.

قال بوليتزر:

«يتضح أنه، إذا لم يصبح الانسان عاملا نشيطا واعيا للنمو الاجتماعي، و إذا لم يكن حرا في اختيار عمله - فان الملكية - الاجتماعية لن تصبح قط عادة و لن يصبح العمل حاجة.

ما ذا يجب كي نصل إلى هذه النتيجة؟ يجب تغييرات جدية في حالة العمل:

أ) تخفيض ساعات العمل اليومي إلى 6 ساعات على الأقل ثم إلى 5 ساعات. مما يسمح لكل فرد أن يكون له متسع من الوقت لتلقي ثقافة شاملة. غير أنه يجب من أجل ذلك:

ب) جعل الثقافة البوليتكنيكية جبرية، كما تنبأ بها فورتييه و ماركس...

ج) تحسين ظروف السكن بصورة جذرية. و أخيرا:

د) مضاعفة أجر العمال الحقيقي، و ربما زيادته فوق ذلك، و ذلك برفع الأجر مباشرة و تخفيض سعر السلع الكثيرة الاستهلاك»(1).

- 9 - و سينال الفرد بمقدار حاجاته «الحكيمة»:

فإن «الفوارق بين الأدمغة و القدرات الذهنية على العموم - كما قال ماركس - لا تتطلب البتة فوارق بين المعد و الحاجات الحكيمة.

و يترتب على ذلك أن الحكمة المغلوطة، المرتكزة على قواعد المجتمع الحالي «لكل حسب قدراته» يجب أن تصبح بقدر ما تتعلق بالاستهلاك بمعنى هذه العبارة الضيق، هذه الحكمة الأخرى «لكل حسب حاجاته».

أو بكلام آخر: ان فارقا في النشاط أو العمل لا يستتبع أي تفاوت أو أي امتياز على صعيد الملكية و الاستهلاك»(2).

- 10 - و الملكية الخاصة ستزول تماما، فإنها كانت - في رأي الماركسية - سبب الويلات في العالم، و ستزول هذه الويلات بزوالها، و يسعد العالم كله.

قال كوفالسون:

«كذلك جان جاك روسو، الفيلسوف و الكاتب الفرنسي من القرن الثامن عشر. قال بمرارة: إن الانسان يولد حرا و لكنه مقيد بالسلاسل. و هذه السلاسل إنما علاقات الملكية الخاصة هي التي تقيد بها الناس»(3).

و قال البيان الشيوعي:

ص:348


1- (1) أصول الفلسفة الماركسية: بوليتزر و آخرين ج 2 ص 211 و ما بعدها.
2- (2) المصدر ص 509. عن ماركس و انجلز: المؤلفات الكاملة ص 542.
3- (3) المادية التاريخية: كيلله، كوفالسون ص 66.

«غير أن الملكية الخاصة في الوقت الحاضر، أي الملكية البرجوازية، هي آخر و أكمل تعبير عن أسلوب الانتاج و التملك المبني على تناقضات الطبقات و استثمار بعض الناس لبعضهم الآخر.

و على هذا فباستطاعة الشيوعيين أن يلخصوا نظريتهم بهذا الصدد في هذه الصيغة الوحيدة، و هي: القضاء على الملكية الخاصة»(1).

ثم يبدأ البيان الشيوعي بالدفاع عن هذه الفكرة ضد الايرادات التي ذكرت عليه.

و هذا هو الرأي الكلاسيكي الرسمي لدى الماركسية و الماركسيين. و ان كانت الماركسية قد ترى رأيا آخر أكثر هدوءا و انسجاما مع نظريتها العامة، و هي إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الانتاج، فقط... و من الطريف أن البيان الشيوعي يقول في نفس الصفحة:

«فليس الذي يميز الشيوعية ليس هو محو الملكية بصورة عامة، بل هو محو الملكية البرجوازية»(2).

و أكد كوفالسون طبقا للنظرية العامة للمادية التاريخية، ان ملكية وسائل الانتاج هي التي أدت إلى وجود العهود، و هي التي سببت الويلات التي أحدثتها هذه العهود. و بإلغاء ملكية وسائل الانتاج ترتفع تلك الويلات. و قد تكلم عن ذلك طويلا، نقتبس من ذلك قوله:

«إن التاريخ يعرف نماذج أساسية من الملكية الخاصة - الملكية العبودية (الملكية القائمة على الرق) و الملكية الاقطاعية و الملكية الرأسمالية، و ثلاثة أشكال أساسية مناسبة لها لاستثمار الانسان من قبل الانسان»(3).

و قد تميزت هذه العهود الثلاثة، بعد المشاعية البدائية، بتطور ملكية وسائل الانتاج. و سترتفع بالتحول إلى المجتمع الشيوعي.

هذا، و لكن يبقى التساؤل عن الفرق بين مرحلة الاشتراكية و مرحلة الشيوعية من هذه الناحية. فان الاشتراكية - كما عرفنا - تتميز بإلغاء ملكية وسائل الانتاج. فان كان الطور الأعلى له نفس هذه الصفة، لم يبق فرق بينهما، في هذه الجهة الأساسية ماركسيا، فينبغي أن يكون الوضع فيه هو الالغاء المطلق

ص:349


1- (1) البيان الشيوعي: ماركس، انجلز، ص 56.
2- (2) المصدر و الصفحة.
3- (3) المادية التاريخية: كيلله، كوفالسون ص 64.

للملكية الخاصة، كما هو المفهوم (رسميا) من الماركسية.

- 11 - و هناك تفاصيل مهمة في المصادر الماركسية، للمجتمع الشيوعي، يحسن الاطلاع عليها الآن:

قال بوليتزر:

«و لقد عدد ستالين، مستخلصا من تعاليم كتب ماركس و انجلز و لينين، ميزات المجتمع الشيوعي، كما يلي:

أ) لن يكون هناك ملكية خاصة لآلات الانتاج و وسائله، بل ستكون ملكية اجتماعية جماعية.

ب) لن تكون هناك طبقات و لا سلطة دولة، بل سيكون هناك عمال في الصناعة و الزراعة يديرون أنفسهم بأنفسهم اقتصاديا، كجمعية حرة للعمال.

ج) سيعتمد الاقتصاد القومي، المنظم حسب مخطط موضوع، على تقنية عليا سواء في ميدان الصناعة أو ميدان الزراعة.

د) لن يوجد فرق بين المدينة و القرية، بين الصناعة و الزراعة.

ه) ستوزع المنتوجات حسب مبدأ الشيوعيين الفرنسيين القدماء، و على كل فرد أن يؤدى حسب طاقاته و أن ينال حسب حاجاته.

و) سيستفيد العلم و الفنون من ظروف مواتية، كفاية لبلوغ تفتحها الكامل.

ز) سيصبح الفرد حرا حقا بعد أن تخلص من هم خبزه اليومي، و لن يحاول إرضاء «جباري هذا العالم»(1).

و قال أفاناسييف:

إن «في الشيوعية، بدلا من شكلي الملكية الموجودين في الاشتراكية، ملكية الشعب بأسره، ملكية الدولة و الملكية التعاونية الكولخوزية؛ ستوجد الملكية الشيوعية، ستقترب الملكية التعاونية الكولخوزية أكثر فأكثر، من ملكية الدولة، و من ثم ستندمجان في الملكية الشيوعية الواحدة».

و أضاف:

«و سيصبح تبادل النشاط الانتاجي بين المدينة و القرية أوثق و أكثر تنوعا، و ستتطور أكثر تعاون الانتاج بين المناطق الاقتصادية في البلاد، و الروابط الاقتصادية بين المؤسسات في إطار المناطق نفسها، و المساعدة المتبادلة بين شغيلة المؤسسات المنفردة و بالتالي ستظهر أسرة شغيلة

ص:350


1- (1) أصول الفلسفة الماركسية: بوليتزر و آخرين ج 2 ص 198.

العمل الشيوعية الموحدة و العالية التنظيم»(1).

و قال أيضا:

«و سيكون لجميع أعضاء المجتمع الشيوعي علاقة واحدة بوسائل الانتاج، و لهذا سيكون لهم وضع متساو و شروط متساوية في العمل و التوزيع، و سيشتركون بنشاط في تصريف الشؤون الاجتماعية، و سيتوطد انسجام العلاقات بين الفرد و المجتمع على أساس الوحدة المتينة للمصالح العامة و الفردية.

و ستحقق الثقافة في الشيوعية نهوضا لم يسبق له مثيل. ان الثقافة الشيوعية التي ترث و تطور كل ما هو تقدمي، و أفضل ما خلقته الثقافة العالمية، ستكون مرحلة جديدة عليا في تطور الانسان الثقافي...

و أضاف:

«إن الشيوعية تفترض إنسانا جديدا يتناسق فيه الغنى الروحي و النقاء الأخلاقي و الكمال الجسماني. ان الوعي الشيوعي و حب العمل و الانضباط و الاخلاص لمصالح المجتمع، تلك هي الصفات المتكاملة لهذا الانسان و ان التنظيم و الدقة التي يتطلبها الانتاج الشيوعي سوف تتأمنان لا عن طريق الاكراه بل على أساس إدراك الواجب الاجتماعي إدراكا عميقا. و سيكون إنسان الشيوعية متناسقا و متطورا من جميع النواحي، حيث ستتطور قابلياته و مواهبه، و تزدهر كليا، و تتجلى بوضوح أفضل خصاله الروحية و الجسمانية»(2).

فهذه هي مميزات المجتمع الأمثل، و الهدف الأعلى في رأي الماركسيين.

- 12 - إنه من ان تطور وسائل الانتاج، هو الذي يوصل الماركسية إلى هدفها الأعلى، طبقا لماديتها التاريخية، فانها في عين الوقت على عنصر الوعي و الاختيار في الوصول إليه. و سيكون سيد الموقف هو الحزب الشيوعي نفسه.

قال كوفالسون:

«إن سير المجتمع الاشتراكي نحو الشيوعية، يتوقف بصورة حاسمة على صانعيه بالذات، على لحمتهم و وحدتهم و عقلهم و موهبتهم و نشاطهم و مبادراتهم و رجولتهم و شجاعتهم و تفانيهم و انضباطهم و مسئوليتهم، و معارفهم و خبرتهم و نضوجهم الأخلاقي و ثقافتهم.

إن الحزب الشيوعي هو القوة القائدة و الموجهة لكل العملية المتنوعة الجوانب لبناء

ص:351


1- (1) أسس الفلسفة الماركسية: أفاناسييف، 191-192. الفقرة و ما قبلها.
2- (2) المصدر 197-198. الفقرة و ما قبلها.

المجتمع الجديد»(1).

- 13 - و هناك إشكال رئيسي و مهم على وجود الطور الشيوعي الأعلى. و هو باختصار. إنه مجتمع طوبائي لا يمكن تحقيقه، و يستحيل إنجازه. و هو إشكال أخذته المصادر الماركسية عن أعدائها و حاولت الجواب عليه. و قد تعرّض لهذا الاشكال لينين نفسه، في كتابه «الدولة و الثورة»، حيث قال:

«من السهل، من وجهة النظر البرجوازية، إعلان مثل هذا النظام الاجتماعي «طوبوية محضا» و السخرية من الاشتراكيين لأنهم يعدون كل مواطن سيحق له أن يأخذ من المجتمع بدون مراقبة لعمله أي مقدار من السكاكر أو السيارات أو أجهزة البيانو و غير ذلك»(2).

فنرى لينين قد ساق الاشكال من زاوية القانون الشيوعي «لكل حسب حاجاته» فإنه لو كان الأمر كذلك لأخذ الناس الأموال بلا حساب و بخاصة أن الدولة غير موجودة لتراقب و تحاسب.

و يجيب لينين على ذلك:

بأن ذلك نتيجة «الجهل، لأنه لم يخطر لأي اشتراكي ببال أن يعد بحلول الطور الأعلى من تطور الشيوعية. أما فيما يخصّ نبوءة الاشتراكيين بحولها، فهي تفترض إنتاجية عمل غير إنتاجية العمل الحالية، و إنسانا غير الانسان الحالي التافه...»(3).

و أما بوليتزر، فقد ساق الاشكال من زاوية أخرى، هي أن التوزيع حسب الحاجات يجعل المداخل متقاربة، للعامل عملا قليلا و العامل عملا كبيرا. و معه لا يبقى أي دافع لاداء العمل الكبير. و بذلك يخسر المجتمع أهم ما يمكن أن يحصل عليه من الأعمال الفنية و الاختصاصية، و الصعبة عموما.

و قال بوليتزر:

«حجة البرجوازيين الرئيسية، فيما يتعلق بما تدعيه من استحالة تحقيق الشيوعية:

المجتمع لن يستطيع أن يقدم لكل فرد «حسب حاجاته» أي مجانا، دون أن يحاول كل فرد، عندئذ، أن يعمل أقل ما يمكن، و هكذا يأتي الفقر بسرعة»(4).

ص:352


1- (1) المادية التاريخية: كيلله، كوفالسون ص 144.
2- (2) مختارات: لينين ج 2 ص 295 (الدولة و الثورة).
3- (3) المصدر و الصفحة.
4- (4) أصول الفلسفة الماركسية: بوليتزر و آخرين ج 2 ص 192.

و أجاب عنه بقوله:

«تعتقد البرجوازية أن الانسان و هو فريسة «الخطيئة الأصلية» كسول بطبيعته لا يعمل إلا إذا أجبر على العمل و حمل عليه، فيحاول الاستفادة إلى أقصى حد من عمل غيره...

ذلك لأن شروط استغلال الانسان لأخيه الانسان أوجدت منذ آلاف السنين كراهية العمل الشديد المرهق... إلى أن يقول: غير أن هذا الوضع ليس أبديا. فهو وليد ظروف مادية معينة، و لهذا يزول بواسطة ظروف مادية أخرى... و يعطينا النشاط العلمي و الفني في المجتمع المنقسم إلى طبقات، صورة عما يمكن أن يكون عليه عمل كل انسان في المجتمع الشيوعي، فهو ليس شاقا بل متعة و تفتحا... تمزج التقنية التقدمية، في المجتمع الشيوعي، العمل اليدوي بالعمل الفكري، كما انها تسمح بتخفيض ساعات العمل، فتتيح للعامل الفراغ لتحسين تخصصه، إذ تمكنه من أن لا يكون طيلة حياته أسير نفس المهمة»(1).

و أما كوفالسون، فيذكر الاشكال، من زاوية استبعاد وجود اليوم الذي تسعد به البشرية و ترتفع فيه آلامها، لمجرد كونه مثاليا أو (طوبائيا) و قد يصل هذا الاستبعاد في النفس إلى حد اليقين باستحالة ذلك و قد تكلم كوفالسون عن ذلك طويلا، و نحن نقتبس منه أهم كلامه:

«يبذل الايديولوجيون البرجوازيون جهودهم لبذر الشك في إمكانية تحقيق المثل الأعلى الشيوعي، و ينعتونه بالطوبوية، و بالحلم الذي يستحيل تحقيقه الخ. و لكن هل هكذا هو الحال في الواقع؟ ان فكرة مجتمع عاقل أو عادل قد انبثقت من قديم الزمان، و ظلت بالفعل خلال آلاف السنين حلما طوبوية... و لقد كشفت الماركسية هذه الامكانيات و قدمت البرهان على إمكانية بناء الشيوعية حقا و فعلا».

ثم تساءل كوفالسون:

«البشرية المعاصرة التي خلقت قوى منتجة عصرية... هل هي عاجزة عن إنشاء تنظيم اجتماعي معقول عن التخلص من الجوع و الفقر و الحروب و التناحرات الاجتماعية، عن تأمين المساواة و الرفاهية و إمكانيات التطور الروحي للمجتمع، و ما إلى ذلك؟ و أي طوبوية هنا، و بم يمكن الاعتراض على هذا المثال الأعلى الذي لا ريب في إنسانيته».

إلى أن قال:

«و لكن الانسان لا يولد صالحا أو شريرا، بل يصبح كذلك في المجتمع. يقينا أن الانسان ليس ملاكا و انه لن يصير يوما ملاكا. ان حاجاته المادية ستتطلب دائما تلبيتها. و لكن لما ذا يقال عنها انها مصدر الشر.

ص:353


1- (1) المصدر 193-194.

إلى أن قال:

«و المفتاح لحل هذه المعضلة، كما برهنت الماركسية، إنما ينبغي البحث عنه لا في طبيعة الناس بل في نشاطهم ذاته، لأن الانسان نفسه يتغير بتغير الواقع المحيط به. و لهذا، ليس ما يسمى بطبيعة الانسان عقبة يستحيل تذليلها لأجل بناء المجتمع الجديد».

و أضاف:

«و ما ذا أيضا؟ خطر القضاء على الحضارة في حرب حرارية نووية عالمية؟ هذا الخطر موجود فعلا، و لكن مصدره ليس الاشتراكية... و لهذا يتطابق اليوم النضال ضد الامبريالية ضد الاستثمار و الاستعمار الجديد، من أجل السلام و الاشتراكية...»(1).

و هكذا توصلت الماركسية، إلى أن مثالها الأعلى ممكن، و غير مستحيل.

- 14 - و أخيرا، فإن هناك إشكالا آخر على الماركسية يتضمن التساؤل عما سيحدث بعد الشيوعية، فان الماركسية وصلت بماديتها التاريخية إلى هذا الحد و وقفت. فبما ذا يمكنها أن تجيب عن هذا الاشكال.

وجدنا أحد الماركسيين قد تعرض لهذا السؤال، و قال في جوابه - فيما قال: - «إن نشوء الملكية الشيوعية لوسائل الانتاج تحل قضية الملكية عمليا أمام الانسانية، ثم لا تعود العملية التاريخية الطبيعية لتطور الانسانية تحمل طابع تغيير تشكيلة اجتماعية اقتصادية إلى أخرى تختلف عنها في شكل الملكية، و هذا يعني أن تقدم المجتمع سوف يتحقق على أساس الملكية الانسانية العامة. و بهذا المعنى سيكون تقدم المجتمع تطورا لا محدودا للتشكيلة الشيوعية... بيد أنه لا ينبغي أن نستنتج من هذا أن مجتمع المستقبل لن يمر في مراحل نوعية خاصة من تطوره. كل ما في الأمر هو أن هذه المراحل سوف لن تتميز عن بعضها بشكل الملكية و إنما بمقاييس موضوعية أخرى»(2).

ص:354


1- (1) المادية التاريخية: كيلله، كوفالسون ص 145-146. كل الفقرات المنقولة عنه.
2- (2) المادية التاريخية، ترجمة أحمد داود ص 190.
مناقشة الطور الشيوعي الأعلى

- 1 - لا ينبغي أن نختلف مع الماركسية في وجود المستقبل السعيد للبشرية بأي اسم سميناه، فانه من القضايا القطعية التي لا يتطرق إليها شك، كما سوف نبرهن عليه. و قد سبق أن أعطينا عنه جملة من التفاصيل في الجزءين السابقين من هذه الموسوعة.

و اتفاقنا مع الماركسية في ذلك، هو الذي حدا بنا إلى الدخول في تفاصيل نظريتها، لنرى ما إذا كانت الماركسية قد وفقت فعلا في استنتاجاتها و المقدمات التي أوصلتها إلى التركيز على هذه النتيجة.

و على أي حال، فقد قلنا في مقدمة هذا البحث، أن ذهابها إلى ذلك يعتبر إحدى نقاط القوة في الفكر الماركسي و أشدها إغراء لجلب العقول إلى جانبها، مضافا إلى محاولة الماركسية استيعاب الكون و الحياة بفلسفة واحدة متعاضدة.

و سنثبت، غير بعيد، أن نظرية التخطيط الالهي العام تشتمل على كلا هاتين النقطتين من القوة، مع وجود نقاط قوة أخرى كثيرة. و عدم ورود أي إيراد من الايرادات التي ذكرناها ضد الماركسية على نظرية التخطيط الالهي.

و من هنا تكون هذه النظرية قد توصلت إلى نفس النتيجة بمقدمات أصح و أمتن.

و قد عرفنا بأوضح شكل المناقشات التي تمنى بها الماركسية، و ان المقدمات العامة و الخاصة و التفاصيل للفهم الاجتماعي الماركسي، كلها لا يمكن أن تكون صحيحة.

و هنا لا بد من الاشارة إلى الأفكار الثلاثة التي ذكرناها في أول مناقشة الطور الأدنى، فإنها واردة هنا، فليرجع القارئ إليها.

ص:355

- 2 - و قد ذكرت الماركسية، تفاصيل كثيرة من أوصاف الطور الأعلى (يوم سعادة البشرية) كأنها عاشتها فعلا، و شاهدتها مطبقة في عالم الحياة... مع العلم أنها تعترف أن أيا من دول ما يسمى بالمعسكر الاشتراكي، لم يصل إلى هذا الدور إلى حد الآن. و لا زالت هذه الدول تعطي العامل حسب عمله لا حسب حاجته، و تعترف بالملكية الخاصة في كثير من الميادين؛ و الجهاز الحاكم (الدولة) لا زال موجودا فيها لم يضمحل.

المهم، أن هذه الأوصاف للطور الأعلى، أخذتها الماركسية من مصادر ثلاثة:

المصدر الأول: الوضوح العقلائي العام بأن صفات معينة تكون هي السبب في سعادة البشرية، أو انها تشارك فيها مشاركة فعالة... كالمساواة الاقتصادية و ارتفاع الخلافات و التناحرات بين الناس، و تعميم الثقافة في المجتمع... و نحو ذلك، فان من أراد أن يفكر - بدون جهد - في الأوصاف الموجبة لسعادة الناس، فانه لن يعدو مثل هذه الصفات.

المصدر الثاني: المادية التاريخية، بمالها من الخصائص و القواعد، حيث أصبحت تصل بثقلها إلى هذا الطور الأعلى، فتطبعه بطابعها في نظر الماركسية، و أهم الصفات التي و سمته بها: زوال الطبقات و زوال الدولة، و زوال الملكية الخاصة.

المصدر الثالث: آراء خاصة للماركسيين و اجتهادات شخصية ملئوا بها الصحف و الكتب في صفات الطور الأعلى. و رأوا أن المجتمع الذي تسعد به البشرية ينبغي أن يكون كذلك، و ادعوا أنهم استنتجوا ذلك عن طريق المادية التاريخية، و سنرى عن قريب أن هذه القواعد غير مربوطة بالمرة بهذه الصفات.

من أهم ما ذهب إليه الماركسيون نتيجة لهذا المصدر القاعدة الشيوعية (من كل حسب عمله و لكل حسب حاجته)، و كذلك الأسلوب البديل عن الدولة بعد زوالها.

أما المصدر الأول، فهو صحيح إلى حد بعيد، و ان كان قد يقع الشك في أن قضية معينة مستنتجة منه فعلا أم لا.

و أما المصدر الثاني، فقد عرفنا من خلال هذا البحث بكل تفصيل عدم

ص:356

صحته، و معه فتكون النتائج المتفرعة عليه غير صحيحة، بطبيعة الحال.

و أما المصدر الثالث، فهم الذين يتحملون مسئوليته وحدهم، لأن رأي أي فرد نافذ عليه، فقط، و لا يمكن أن يكون نافذا على غيره، إلا عن طريق الاقناع.

و ستكون لنا فرصة واسعة، نتيجة لقدسية الحرية في الاستنتاجات العلمية و الفكرية أن نقتنع بما نشاء، أو أن نرفض ما نشاء حسب المقدمات التي يوصلنا إليها التخطيط الالهي لليوم الموعود.

- 3 - و نحن و ان لم نصل بعد إلى أوصاف اليوم الموعود، الذي رصدنا له القسم الثالث من الكتاب، إلا أنه يمكننا هنا أن نعطي بعض الفقرات المناسبة مع هذه المناقشات، محيلين البرهنة عليها على ما يأتي من البحث.

ان الماركسية أعطت ليومها الموعود و طورها الأعلى عددا من الأوصاف في التعاريف و غيرها، يمكن أن تنطبق على يومنا الموعود أعني الناتج عن التخطيط الالهي. و ذلك: أما باعتبار كونها مستنتجة من المصدر الأول الذي ذكرناه، فتكون مشتركة و واضحة في ذهن كل من يخطط لسعادة البشرية. أو باعتبار أنها مستقاة من المصدر الثالث، و قد حصل التطابق - صدفة - بين بعض آراء الماركسيين و اجتهاداتهم، و بين أوصاف اليوم الموعود.

أنظر معي إلى العبارات التالية، و كلها مما سبق أن سمعناه:

«الشيوعية هي المستقبل المشرق للانسانية جمعاء».

بل اليوم الموعود هو المستقبل المشرق للانسانية جمعاء، و هو حلم الانسانية طيلة قرون.

إن اليوم الموعود ينطبق عليه تعريف كوفالسون تماما، و ان لم يكن تعريفا إلا لبعض جوانبه.

فهو «تنظيم اجتماعي عاقل يعتمد على قاعدة تكنيكية عالية التطور، و يوحد الناس في إطار وحدة تضامنية من أجل إخضاع قوى الطبيعة باطراد، و يوطد سيادة الانسان على علاقاته الاجتماعية بالذات، و يوحد النظام الاجتماعي كله و الثقافة المادية و الروحية كلها نحو تطوير الانسان، نحو تطوير الفرد تطويرا متناسقا متناغما».

هذا بشرط أن لا تنطبق الأساليب التي تقترحها الماركسية بالمصدر الثالث، للوصول إلى هذه النتائج الصحيحة، بل لليوم الموعود أساليبه الخاصة به

ص:357

و مفاهيمه مضافا إلى كل ما ذكر.

و اليوم الموعود هو - أيضا -:

«فض سر التاريخ و درجة عالية من التقدم الاجتماعي و ظاهرة تاريخية عالمية و هو وحده الذي يدل البشرية على مخرج من تلك النزاعات الفاجعة التي تتخبط فيها. و لهذا لا بد أن تصل الشعوب إليه، عاجلا أم آجلا؛ و لا مراء أن تشكيلة (اليوم الموعود) ستكون عامة، و ان جميع الشعوب ستبلغ في آخر المطاف مستوى واحدا، فيبدأ آنذاك تاريخ واحد لبشرية واحدة».

كذلك قال كوفالسون، و كذلك نقول.

أضف إلى ذلك صفات أخرى مما ذكره الماركسيون:

ففي اليوم الموعود «ستحقق الثقافة فيه نهوضا لم يسبق له مثيل. ان الثقافة «الموعودة» ترث و تطور كل ما هو تقدمي، و أفضل ما خلقته الثقافة العالمية ستكون مرحلة جديدة عليا من تطور الانسانية الثقافي.

إن اليوم الموعود يفترض «بل يصنع» إنسانا جديدا يتناسق فيه الغنى الروحي و النقاء الأخلاقي و الكمال الجسماني. ان الوعي «الموعود» و حب العمل و الانضباط و الاخلاص لمصالح المجتمع، تلك هي الصفات المتكاملة لهذا الانسان. و سيكون إنسان ذلك العهد متناسقا و متطورا من جميع النواحي حيث ستتطور قابلياته و مواهبه، و تزدهر كليا و تتجلى بوضوح أفضل خصاله الروحية و الجسمانية».

و إذا كان الماركسيون قد انتهوا من أوصاف مجتمعهم السعيد، فان التخطيط الالهي يعتبر هذه الأوصاف بسيطة و قليلة بالنسبة إلى الوعي و التنظيم الفردي و الاجتماعي الموجود في يومه الموعود. و سنوضح ذلك بكل تفصيل عند الحديث عن هذا التخطيط، و سنعرف أن هذه النظرية هي التي من حقها أن تتحدث عن هذه الأوصاف دون الماركسية.

- 4 - و ما ذا بعد عن التعاريف، و هل تنطبق تماما على الطور الأعلى، طبقا لقواعد الماركسية العامة.

إن عددا من الخصائص التي وردت في تعريف (كارل ماركس) للشيوعية لا يمكن أن يكون صحيحا، فضلا عن أن يكون تعريفا كاملا من الناحية المنطقية. حيث قال عن الشيوعية - كما سمعنا -: «انها تملك فعلي للماهية الانسانية من قبل الانسان».

ص:358

إن استعمال لفظ التملك و هو المفهوم الذي تنفر منه الماركسية - متطرف هنا بالمجازية. ان ماركس يريد من ذلك سيطرة الانسان على شئون نفسه.

و هي ليست خصيصة للطور الأعلى بل تشمل كل نظام مادي منفصل عن تشريع السماء. و لكن تعبيره قاصر عن اداء ما يريده، فان الماهية الانسانية غير قابلة للتملك بالمعنى المفهوم من الماهية و التملك. و ان أراد ملكية الانسان ملكية شخصية، عدنا - إذن - إلى عصر الرق. - إن أراد سيطرة بعض الانسان على بعض عدنا إلى عصر الدول التي تكون قد زالت يومئذ. و ان أراد سيطرة جميع المجتمع على جميعه، كما هي الصورة المثالية المتطرفة للديمقراطية فهذا مما لا يمكن تطبيقه بالضرورة، كما سنقول بعد قليل عند مناقشة ارتفاع الدولة.

و قال ماركس عن الشيوعية أيضا: «انها الحل الحقيقي للتضاد بين الانسان و الطبيعة». و هذا لا معنى له، لأن التضاد لو كان موجودا فهو يعود إلى الوجود التكويني للانسان و الطبيعة، و لا ربط له بالنظام الفكري و التشريعي للمجتمع. و من الواضح أن الانسان كلما ذلل قسما من الطبيعة طمع في تذليل أقسام أخرى منها، و هي أعمق و أوسع من أن تنتهي.

و قال عنها: «انها الحل الحقيقي للتضاد بين الانسان و الانسان» و سوف نبرهن خلال القسم الثالث، ان هذا إنما يكون ممكنا لو اتصف أفراد المجتمع «بالعصمة» كما هو هدف التخطيط الالهي العام. اما من دون ذلك، مع الالتفات إلى التركيز الاقتصادي للماركسية في تربية الأفراد، و إيلائه الأهمية الأولى في الحياة، فهذا التضاد لا يمكن أن يزول من الحياة.

و قال عنها «انها الحل الحقيقي للتضاد بين الوجود و الماهية بين الموضعة و تأكيد الذات».

أما قصة الوجود و الماهية، فالمعنى المفهوم منهما خال عن التضاد، بل هما متعاضدان في إيجاد أجزاء الكون و من ثم الكون كله. و على افتراض وجود التضاد فهو تكويني الوجود لا ربط له بالنظام الاجتماعي، و لا معنى لارتفاعه به.

و الحديث عن الموضعة و تأكيد الذات، و المراد به حب الذات بما لها من نوازع و طموحات، و العالم الخارجي الموضوعي. ان الانسجام الكامل بينهما لا يكون إلا عند تطبيق العدل الكامل، و لا يكفي توفر الانتاج في ذلك، و إن

ص:359

كان يشارك فيه مشاركة كبيرة، و هذا ما سنحمل عنه فكرة في القسم الثالث من الكتاب.

و قال عنها: «انها الحل الحقيقي للتضاد بين الحرية و الضرورة». و هذا واضح المجازية. لأن المراد من هذين الاصطلاحين: الحرية و الضرورة، وجودهما التكويني في خلقة الانسان و وجوده. و هذا أمر غير مربوط بالنظام الاجتماعي بالمرة. و قد سمعنا مفصلا كيف أن الماركسية فشلت في الجمع بين الضرورة و الحرية. و كيف انها ركزت على الضرورة في العهود الأولى من ماديتها التاريخية، بينما ركزت على جانب الوعي و الحرية في العهود الاشتراكية الأخيرة.

و قد عرفنا فشل هذا المعنى أيضا، لأن الانسان إن كان مضطرا إلى أفعاله، طبقا للقوى المادية التي تؤمن بها الماركسية، أو كان غير مضطر بالرغم من هذه القوى، فهي على أي حال صفة ثابتة للانسان لا تقوى العهود التاريخية على تغييره، شأنها في ذلك شأن الكثير من الصفات التي عجزت عن تغييره، كشكل الانسان و لغته و غيره مما سبق أن ذكرناه مفصلا.

ثم قال ماركس عن الشيوعية: «و هي تعرف ذاتها على أنها هذا الحل».

و هذا واضح المجازية... انه يتحدث عن الشيوعية كأنها فرد من أفراد الانسان... لعله لأجل كونها صديقته المفضلة!...

- 5 - و لنتحدث الآن عن زوال الدولة.

إن الرئاسة المركزية التي تمثل الدولة القسم المتطور منها، وجدت في التاريخ البشري منذ وجدت المجتمعات متمثلة في الطوطمية و الابوة العليا و المشيخات و غيرها. حتى في المجتمعات البدائية، و قد عرفنا و برهنا أنه لم يثبت انها كانت مجتمعات شيوعية في الانتاج و التوزيع، كما قالت الماركسية.

ثم تطورت هذه الرئاسة و اتسعت، و ازدادت أهميتها و مسئولياتها تدريجا إلى أن وصلت إلى الشكل الحكومي الحديث.

و المهمة الرئيسية للدولة في الواقع، ليس هو القمع الطبقي، و إن كانت كثير من الدول قد قامت بذلك فعلا... بل هو الحفاظ على مصالح المجموع، من حيث أن المجموع لا يمكنهم أن يجدوا مصالحهم أو أن يحافظوا عليها، باعتبار اختلافهم في المصالح و الآراء و الثقافات و غيرها، و تعذر اجتماعهم و اتفاقهم على

ص:360

عمل أو رأي واحد. فلزم وجود حاكم أعلى أو مجموعة صغيرة نسبيا من الناس تحفظ لهم تلك المصالح العامة.

و الدول تختلف، باعتبار اختلاف أشخاصها و ظروفها، في إدراكها للمصالح العامة، و في مقدار تدخلها في حياة الناس و في مقدار إخلاصها للمجتمع و في أساليب تطبيقها للمصالحة. و حيث أن الحكام - كأي انسان - تسيطر عليهم الرغبات الشخصية و المصالح الخاصة أكثر بكثير من إخلاصهم للمجتمع و مصالحهم. فبهذا الاعتبار سوف يمارسون قمع المعارضين بالطرق (السلمية) تارة و الدموية أخرى. و من هنا فهمت الماركسية أن الدولة أداة طبقية للقمع.

و في إمكاننا، إذن، أن نتصور درجة عليا من الاخلاص في الحكام المسيطرين على الدولة، بحيث يمارسون نكران الذات و يحفظون مصالح المجتمع بدرجة عليا، تماما كما افترضته الماركسية في كل أفراد الطور الأعلى أو أكثرهم على أقل تقدير. و معه لا تكون الدولة طبقية، و لا تمارس أي قمع.

و قد اعترفت الماركسية أن الدولة أحيانا لا تكون ممثلة لطبقة معينة.

قال انجلز:

«فثمة، كحالات استثنائية، مراحل تبلغ فيها الطبقات المتناضلة درجة من توازن القوى، تنال فيها سلطة الدولة لفترة معينة نوعا من الاستقلال حال الطبقتين، مظهر وسيط بينهما»(1).

و إذا أمكن هذا أحيانا، بالرغم من القوانين المادية للتاريخ، أمكن أيضا في كثير من الأحيان.

ان المجتمع البدائي، إنما كان فاقدا للدولة، لأنه لم يكن يحتاجها لعدم وجود مصالح عامة بالمعنى الحقيقي تجب كفالتها و حفظها. و إنما كان الأفراد يمكنهم أن يحفظوا مصالحهم بأنفسهم. و هذا بخلاف المجتمع المعقد الواسع و العالي التنظيم، على الشكل الذي تتصوره الماركسية في الطور الأعلى، فانه يحتاج إلى تلك الهيئة المركزية التي تحفظ له مصالحه العامة، و يستحيل أن يعيش يوما واحدا بدونها.

و لو كانت الشيوعية في الانتاج و التوزيع، هي التي أغنت المجتمع البدائي

ص:361


1- (1) أصول العائلة: انجلز ص 227.

عن الدولة، لكان من المنطقي أن المجتمع حين يعود إلى هذه الشيوعية تارة أخرى، أن يستغني أيضا عن الدولة؛ إلا أن الواقع ليس هو ذلك، بل ان المجتمع البدائي إنما استغنى عن الدولة البدائية و بساطته، و ليس المجتمع الأخير بدائيا بطبيعة الحال. إذن، فوجود الدولة ضروري فيه.

إن الهيئات الاجتماعية و المنظمات العمالية التي تمارس التنظيم العام بدل الدولة، بدون أن يكون لها مجلس مشترك أو ممثلين عامين (و إلا رجعنا إلى فكرة الدولة)، هل تستطيع هذه الهيئات أن تجيب على مثل هذه الأسئلة؟؟:

ما ذا تعمل لو حصل اعتداء خارجي على المجتمع، من قبل دولة رأسمالية مثلا. و ما ذا تعمل لو حصلت تمردات أو مشاغبات داخلية، و قد اعترف لينين بكونها ضرورية. و ما ذا تعمل لو اختلف فردان أو منظمتان في الآراء و التطبيقات، و من هو الذي يؤسس المنظمة و يعين العضوية و يعزل العضو، و يتحكم في تصرفاته. و من هو الذي يضمن اتجاه أعمال المنظمات كلها إلى هدف واحد.

إن الجيش و الشرطة و القضاء بكل أشكاله، و قوانين العقوبات و السجون، بل كل القوانين و كل المجالس المتكفلة بتشريعها و تنفيذها، ستزول بزوال الدولة، لأنها بدورها أداة طبقية، ان المجتمع عندئذ سيصبح لقمة سائغة لأول ضربة داخلية أو خارجية.

و الحق أن الماركسية حين ألغت الدولة، أبدلتها بقوة مركزية أخرى، لكنها تعمل خلف الكواليس، لا تحت النور، و هو الحزب الشيوعي نفسه. و هو الذي يقوم بكل هذه المهام و يحفظ للمجتمع الشيوعي عقيدته الماركسية اللينينية، و يدرأ عنها كيد المناقشات و الاعتراضات في النظرية و التطبيق.

و بدون ذلك، مهما حاولت الماركسية أن تصف من خصائص المجتمع و أفراده، في الوعي و الثقافة و حب العمل، فإن ذلك ما تستطيع البروليتاريا المنظمة، أن تخلقه لو استطاعت، في جيل واحد أو أكثر؛ و أما ضمان بقاء هذا المستوى العالي طوال الأجيال الكثيرة، بدون توقع هبوط أو انحراف أو تمردات، أو اقتراحات في تغيير النظام، أو وجود فلسفات جديدة من نوابغ جدد، حين تكون الحرية محفوظة... إن ضمان ذلك بدون توجيه مركزي مستمر لفي عداد المستحيلات.

ص:362

و قد يخطر في الذهن: ما سبق أن قلناه، من أن فكرة الحزبية، لدى الماركسية، فكرة طبقية، و لا معنى لوجود أي حزب بعد ارتفاع الصراع الطبقي في الطور الأعلى.

و جوابه: ما سبق أيضا، ان الحزب الشيوعي يبقى كمنظمة ذات كيان لا من أجل المشاركة في الصراع الطبقي، بل من أجل بناء المجتمع الجديد بناء ماركسيا متينا؛ و كيف يمكنه التنازل عن مهمته بعد أن أوصل المجتمع إلى نهايته السعيدة، و لا بد أن ينال هو و الآخرون نتائج هذه السعادة.

و لو خطونا إلى الوراء خطوة، في مقام الجدل، و اعتبرنا الحزب الشيوعي، منحلا تماما في الطور الأعلى، فلا أقل من أن الماركسية تفترض وجود عدد مهم من الأفراد في المجتمع يحرصون على الماركسية فكريا و عمليا؛ ان هؤلاء هم الذين يكون لهم التوجيه و التنسيق باستمرار. و سيضطرون إلى عقد الاجتماعات لتنسيق الآراء و توحيدها، و تطبيقها على المفاهيم الماركسية، و هذه العملية تجعل من هؤلاء القوة العليا في المجتمع، فيكون الحزب الشيوعي موجودا عوضا عن الدولة، بل هو الدولة بالذات.

- 6 - و أما حديث ارتفاع القانون في المجتمع الشيوعي و تعويضه بالاخلاق...

فإن ارادت الماركسية منه ارتفاع القانون بالمرة، فهذا يؤدي إلى تسيب المجتمع تسيبا كاملا و هو ما لا تريده الماركسية بطبيعة الحال. على أنه يوجب ارتفاع القوانين التي تسنها الماركسية لذلك المجتمع، كقانون (من كل حسب طاقته و لكل حسب حاجته) و قانون قيادة المجتمع بواسطة المنظمات دون الدولة، و كذلك الأنظمة الداخلية لهذه المنظمات، و الماركسية لا تريد ارتفاع هذه القوانين.

و إن أرادت الماركسية ارتفاع جنبة الالزام عن القوانين، و ان الفرد يطيعها تلقائيا؛ فهذا خيال طوبائي... فلئن كان أكثر الأفراد كذلك، فلن يكون الجميع هكذا. و ان القانون لا يمكن أن يحفظ تطبيقه بدون إلزام و عقاب على المخالفة. و إذا أمكن للبعض أن يخالفوا، و لم يكن للآخرين أن يعاقبوهم، أمكن ذلك في الكثير بل الجميع. و معه لا يكون للقوانين الماركسية أي تأثير في ذلك المجتمع.

ص:363

و أما الأخلاق التي تريد الماركسية أن تعوض بها عن القانون، فلا ينبغي أن ننسى كلام انجلز عنها، الذي سمعناه عند عرض المفهوم الطبقي لدى الماركسية... إذ قال فيما قال:

«و لهذا فاننا نرفض كل طمع في أن تفرض علينا أية عقائد أخلاقية كقانون إضافي سرمدي نهائي، إلى أن قال: و لن يصبح ممكنا وجود أخلاق إنسانية حقا موضوعة فوق التعارضات الطبقية و ذكراها، إلا في مستوى للمجتمع لا يكون قد تم فيه فقط التغلب على التعارض الطبقي، بل قد نسي فيه أيضا، في ممارسة الحياة اليومية، ما ذا كان هذا التعارض»(1).

و لئن ارتفعت الطبقات و زال التعارض الطبقي في الطور الأعلى، فإن هذا التعارض لن تنسى حقيقته و دوافعه بأي حال، و خاصة في الجيل الأول الذي يكون طليعة الطور الأعلى و رائده، و هو الذي تريد الماركسية قيادته عن طريق الأخلاق. إن أخلاقه سوف تكون أخلاقا طبقية، كما قال انجلز و هي لا تصلح للتعويض عن القانون، في نظر الماركسية، بطبيعة الحال.

و قال كوفالسون، بعد أن أعطى تعريفا للأخلاق:

«و لكن هذا لا يعني أن الادراك الأخلاقي أو الشعور الأخلاقي غريزيان فطريان؛ فإن الأحكام الأخلاقية تصبح حافزا داخليا للانسان بنتيجة التربية و استيعاب التقاليد و الأخلاق و العادات و الاعراف القائمة في المجتمع»(2).

فإذا كانت الأخلاق ناشئة من الأعراف و التقاليد، إذن فالقانون السائد في الطور الأعلى، هو العرف و التقاليد ليس إلا.

و لكن هل تريد الماركسية من ذلك: مجرد العرف الساذج، إذن فستتورط - أولا -: بعدم استمراره أكثر من جيل أو جيلين، فإن الاعراف متغيرة باستمرار. كما انه سيكون - ثانيا - مختلطا بعقائد دينية تنفر منها الماركسية في الطور الأعلى تماما. على ان العرف و التقاليد - ثالثا: غير قابلة أساسا أن تكون قانونا كاملا للمجتمع بأي حال. فإن فيها عادة نقائص عن قضايا مهمة لا يدركها ابن الشارع الذي يبني العرف و التقاليد، كما ان فيها زوائد ينبغي تهذيبها. و لئن افترضنا أن الماركسية استطاعت حذف الزوائد، فهي لا يمكنها ان تضمن إضافة النواقص في الذهن العرفي الساذج الذي لا يدرك القضايا

ص:364


1- (1) نصوص مختارة: انجلز ص 160-161.
2- (2) المادية التاريخية: كيلله، كوفالسون ص 304.

العميقة.

إذن، فالماركسية لا يمكنها أن تبقي العرف ساذجا، بل تعتمد اعتمادا كليا على قيادة الحزب الذي يعوض عن الدولة في الطور الأعلى، فهو الذي يتكفل إيجاد (العرف) المطلوب، إزالة العقائد (الرجعية) بالشكل المرغوب. فما رأي القارئ في ذلك. كل ما في الموضوع أن الماركسية تضمر ذلك، و لكنها تعرض في مصادرها شيئا آخر غيره.

- 7 - أما بالنسبة إلى زوال الطبقات، فمن المسلم به أن البشرية لا يمكن أن تسعد في أي مجتمع إلا بزوال الضغط و أهمية الطبقات عموما، بحيث لا يكون لأي طبقة على طبقة أخرى أي حكم و نفوذ، و يكون الفرق المالي بين الأفراد قليلا جدا على أن يكون الدخل الفردي للجميع عاليا و مرفها. و هذا من صفات المجتمع العادل في اليوم الموعود على ما سنرى.

و أما الماركسية، فهل تستطيع إزالة الطبقات بشكل (تطبيقي) و حقيقي، وراء ما أعطته من نظريات تجريدية، ناتجة من الاعتقاد بتأثير تطور وسائل الانتاج على المجتمع، الأمر الذي سبق أن ناقشناه مفصلا.

و قد فهمنا الأطروحة الماركسية لذلك: ان البروليتاريا بدكتاتوريتها، سوف تزيل عن الوجود كل المتمولين في المجتمع، أما بقتلهم أو بتجريدهم عن أملاكهم، و يتكفل الطور الشيوعي الأول تربية هذه البروليتاريا و مؤيديها إلى الحد الذي تستطيع به حمل مسئولية القيادة في الطور الأعلى، و تقرن ذلك بالقوانين التي تراها صالحة لسعادة المجتمع تدريجا، أو - في الحقيقة - تلك القوانين التي ترسخ في المجتمع الفكر الماركسي و قوة حزبها القائد.

فهل استطاعت و تستطيع الماركسية أن تنجح في ذلك. ان الايرادات التي يمكن أن تورد بهذا الصدد، عديدة:

الايراد الأول: عدم انطباق قانون الديالكتيك عليه، من ناحيتين:

الناحية الأولى: ان الطور الأعلى منسجم مع الطور الأدنى، كل الانسجام لأنه يعتبر تأكيدا و تركيزا لصفته الاشتراكية، و ليس نافيا له، كما هو المفترض في الديالكتيك. و ليس الطور الأعلى موجودا بعد الرأسمالية لنقول:

انه ناف لها.

ص:365

الناحية الثانية: ان الطور الأعلى مهما افترضناه، سواء كان: أطروحة أو طباقا أو تركيبا، فإنه يحتاج لقانون الديالكتيك إلى الفقرة اللاحقة. مع أن الماركسية إلى عهد قريب جدا، كانت تفترض تأييد هذا المجتمع الاشتراكي، ما دامت البشرية موجودة.

نعم، وجدنا في بعض المصادر الماركسية المتأخرة، التساؤل عما سوف يعقب المجتمع الشيوعي. و هو ما نقلناه في الفقرة الأخيرة من الحديث عن الطور الأعلى. و قد أجاب عنه المؤلف من زاوية المادية التاريخية أعني عامل تطور وسائل الانتاج، لا من زاوية الديالكتيك، كما هو واضح لمن راجعه.

إذن، فمن زاوية الديالكتيك تكون الماركسية مخيرة بين التنازل عن قانون الديالكتيك أو عن تأييد المجتمع الشيوعي. و هي لا شك فاعلة للثاني أعني التنازل عن تأييد المجتمع الشيوعي، لأن قانون الديالكتيك لديها قانون كوني أعم و أشمل من المجتمع و من كل قضاياه السياسية و الاقتصادية.

إذن، فلتقل الماركسية من أول الأمر: أن البشرية سوف تمر لعدة سنوات - تطول أو تقصر - بفترة تعيش فيها العدالة أو الاشتراكية أو السعادة، ثم تعود مرة أخرى إلى المشاكل. و معه يكون الأمر أهون من كل هذه التفاصيل، لا يستحق التقديم له بقوانين المادية التاريخية و معرفة فلسفة التاريخ. مع العلم أن الماركسية إنما أكدت على كل ذلك، من أجل نتيجته الكبرى، الطور الأعلى.

و النتيجة العملية لذلك، هو أن كل هذه الارهاصات، ليس إلا لأجل أن يسيطر الشيوعيون على العالم بفكرهم فلسفيا و اجتماعيا و اقتصاديا - أولا - و يباشروا الحكم فيه - ثانيا - بدل الدول التي تتفتت أمام ضرباتهم المتلاحقة.

ثم يحاولون أن تطول هذه المدة إلى أكبر قدر ممكن من عدد السنوات، مهما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

و إلا فمن الصعب أن نتصور أن البشرية عاشت آلافا طويلة من أعوام الظلم و المشاكل و الحروب. لكي تكون النتيجة هي السعادة لمدة عدة سنوات أو عدة عشرات من السنين فقط. بل ان ذلك لن يكون محسوسا خلال التاريخ البشري الطويل السابق عليه و اللاحق له. و لا يعني ذلك تحقق شيء مهم سوى سيطرة الشيوعيين على الحكم لفترة من الزمن.

الايراد الثاني: عدم انطباق قانون التغير على الطور الأعلى. فان من

ص:366

واضحات هذا القانون الماركسي حدوث الطفرة بين التغيرات الكمية المتجمعة و التغير النوعي، كما سبق أن عرفنا. في حين لم يحدث مثل ذلك عند أول إنجاز الطور الأعلى، فان الطفرة تتمثل على الصعيد الاجتماعي بالثورة أو نحوها من الأساليب الاجتماعية. و لكن المفروض ذوبان الدولة و اضمحلالها تلقائيا، و بطريقة لا تكاد تكون محسوسة فضلا عن أن تكون ثورية، و كذلك الحال في زوال الطبقات و الملكية الخاصة.

الايراد الثالث: إن من جملة الأساليب المهمة التي تتخذها الماركسية في طريق زوال الطبقات و توحيد الدخل الفردي في المجتمع، هو القوانين الاقتصادية التي تسنها، كقانون: «من كل حسب طاقته و لكل حسب حاجته» و نحوه مما سنناقشه بعد قليل، و سيثبت عدم صحتها، و عدم إمكانها الوصول إلى هذه النتيجة المتوخاة؛» فهي عاجزة عن توحيد الطبقات أو إزالتها، كما تريد الماركسية.

الايراد الرابع: اننا لو غضضنا النظر عن الايرادات السابقة، و فرضنا أن المجتمع الشيوعي أصبح مطبقا، فما ذا تقدم لنا الماركسية من ضمانات لاستمراره.

و غض النظر عما سبق، يقتضي غض النظر أيضا عن قيادة الحزب خلال هذا الطور الأمر الذي تحاول الماركسية باستمرار إخفاءه وراء الستار و إبراز القضية كأنها طبيعية تماما.

ان القضية لو كانت طبيعية حقا، لم يكن أي ضمان لاستمرار الطور الأعلى عدة أعوام فضلا عن عدة أجيال... لأسباب عديدة أكثر من أن تحصى يضمنها جو الحرية و الديمقراطية الحقيقية المفروض توفره في ذلك العصر. ان اختلاف الآراء لا محالة يبرز بوضوح في الفلسفة و الاقتصاد، أعني الاختلاف مع الماركسية جملة و تفصيلا أو الاختلاف في تفسيرها أو الاختلاف في صحة الدين أو في معنى الأخلاق أو الاختلاف في المصالح الاقتصادية أو غير ذلك. و المفروض عدم وجود قيادة مركزية عليا تمسك بزمام الأمور، و تصحح ما قد تعتبره من الأخطاء.

إن هذه الاختلافات سوف تنتج التناحر بسرعة و سهولة، و هي أشبه شيء بالتناحر الطبقي، و سوف تقضي بنفس السرعة و السهولة على هذا الطور

ص:367

الأعلى، و لا يمكن أن يشفع لها زيادة الانتاج أو التقدم التكنيكي الهائل، أو توفر الأفراد على العمل و حبهم له.

و قيادة الحزب المركزية، لا يمكن أن تكون مجدية، لو التزمت حقا بما تقوله الماركسية من ارتفاع القانون و انتفاء الجيش و البوليس و العقوبات، ان هذه القيادة يومئذ سوف تتعب كثيرا لانجاز أقل مهماتها فضلا عن أهمها، فضلا عن المحافظة على هذا المجتمع لمدة طويلة.

الايراد الخامس: ان الماركسية تعطي لهذا المجتمع صفتين متهافتتين:

احداهما: خلوه من الطبقات. و الأخرى: وجود القيادات فيه على مراتب مختلفة.

فهناك النقابات و الهيئات التي تحكم العمال و هناك رؤساء هذه المنظمات، الذين يحكمونها و ينظمون شئونها، و هناك الحزب الشيوعي الذي يحكم كل ذلك اقتصاديا و سياسيا. و هل الطبقية غير ذلك؟!.. كل ما فعلته الماركسية أنها أبدلت بعض أشكال الطبقية بأشكال أخرى، و ادعت انها رفعت الطبقية.

ان المجتمع الماركسي الذي تمحي فيه الطبقات، ملئ بالطبقات!!..

- 8 - فلنناقش الآن القانون الاقتصادي القائل: من كل حسب طاقته، و لكل حسب حاجته. بادئين بالفقرة الأولى منه.

و هنا لا بد أن نقف قليلا؛ ان الفقرة الأولى تنقل بعبارات مختلفة: «من كل حسب طاقته» و «من كل حسب قدراته» و «من كل حسب كفاءاته» مع انها عبارات مختلفة في عطائها اللغوي لا محالة. فأي منها تريد الماركسية؟ و هل يمكن أن تريدها جميعا، مع أنه ينافي الحدية و الوضوح في صياغة القانون هذا ما لم توضحه الماركسية.

ان الطاقة و القدرة، مهما اختلفنا لغويا، فان موادهما في هذا السياق واحد و هو ان على الفرد أن يؤدي كل ما يستطيعه من أعمال في زيادة الانتاج. يشمل ذلك: الخبرات و ساعات العمل و المستوى النفسي و الثقافي للفرد. ان عليه أن يجند أكبر ما يمكن من ذلك في سبيل هذا الهدف.

ان الماركسية، لو قصدت هذا المعنى فقد واجهت الايرادات التالية:

الوجه الأول: ان الالزام بعد أن رفعته الماركسية في ذلك المجتمع لا معنى

ص:368

لصياغة القانون بهذا الشكل. بل ينبغي - على ذلك - أن تقول: من كل حسب رغبته.

الوجه الثاني: انه بعد ارتفاع القوة المركزية المسيطرة (الدولة) كيف تضمن الماركسية أن الأفراد قد أعطوا كل ما يستطيعون من طاقات. و مجرد حب العمل و ارتفاع صفة الكسل، لا يعني استنزاف كل طاقة الفرد اليومية، كما هو واضح، و كما هو ظاهر عبارة الفقرة الأولى من هذا القانون.

الوجه الثالث: انه لو أدى كل شخص كل طاقاته اليومية، لبدا التفاوت في الأهمية واضحا بين الناس، لاختلاف قدراتهم و كفاءاتهم. ان القيمة الأساسية في تفضيل الفرد ستكون هي زيادة مشاركته في زيادة الانتاج. و بهذا يستطيع الشخص الأكفأ أن يبرز اجتماعيا أكثر من غيره، تماما كما برز مثيله في المجتمع الشيوعي البدائي، و أدى ذلك إلى وجود عصر الرق. ان ذلك سيكون - على الأقل - منافيا مع المساواة المطلوبة يومئذ.

الوجه الرابع: ان هذا المعطى للقانون، ينافي ما وافق عليه ماركس - كما سمعنا - من كون العمل ثمان ساعات، و ما اقترحه بوليتزر - كما عرفنا - من كون العمل ست ساعات، ثم يخفض إلى خمس ساعات، يقضي الفرد باقي يومه حرا. إذن، فلم تأخذ من كل فرد كل طاقاته، و هو خلاف نص هذا القانون، و خلاف المصلحة العامة، و هي العمل في زيادة الانتاج. لأنه ان استطاع أن يعمل في سبيل هذا الهدف ساعات أطول، و لا زالت قدرته موجودة، فلما ذا يتقاعس عن ذلك؟ و أما لو كانت الفقرة الأولى من القانون تقول: من كل حسب كفاءاته فهذا قد يعني القدرة و الطاقة أيضا، لاندراجهما في مقدار الكفاءة، كما هو واضح، و معه تكون الايرادات السابقة سارية المفعول.

إلا أن الظاهر من الكفاءة أمر مختلف، و هو الاختصاص بالدرجة الأولى، مع لحاظ المستوى الثقافي و النفسي و العقلي، و غض النظر عن مقدار القدرة الجسمية.

فان كان المراد من الفقرة الأولى من القانون، ذلك... كانت الايرادات. التالية موجهة إليه:

الوجه الأول: هو الوجه الأول من الأربعة السابقة، فان الالزام بعد أن

ص:369

يكون قد ارتفع في ذلك المجتمع، لا معنى لقسر الفرد على تطبيق اختصاصه في عمله، لو أراد - لحاجة في نفسه - أن يعمل عملا آخر.

الوجه الثاني: ان التركيز على الاختصاص و غض النظر عن القوة الجسمية، يعني عزل القانون عن الكثرة الكاثرة من غير الاختصاصيين، الذين ليس لديهم من الكفاءة غير القدرة الجسمية. و لا معنى لأن يكون كل الناس اختصاصيين. كما هو واضح، بل و لا حاجة لذلك أصلا.

فإن قالت الماركسية: ان الكفاءة في نص القانون، متضمنة للقدرة الجسمية أيضا، إذا لا ينبغي غض النظر عنها. قلنا في جوابها: ان هذا المعنى يرجع معنى الكفاءة إلى معنى الطاقة و القدرة الذي سبق أن ناقشناه.

الوجه الثالث: ان القانون، طبقا لهذا المعنى، و هو غض النظر عن القدرة الجسمية، يصبح مهملا للجانب الأهم المشارك في زيادة الانتاج، و هو ساعات العمل. و هل ان على الفرد أن يبذل من قدراته ساعات أكثر في اليوم أو أقل؟. و هو نقص كبير على مستوى الاقتصاد الماركسي. و خاصة مع عدم وجود قوة مركزية تقوم بتحديد ذلك، كما تفترض الماركسية.

فهذا ما يعود إلى الفقرة الأولى من القانون.

و أما الفقرة الثانية منه: «لكل فرد حسب حاجاته»، فيمكن أيضا مناقشته بعدة وجوه:

الوجه الأول: إن الحاجات غير محددة بين الناس، فانها تختلف من بلد إلى بلد و من قطر إلى قطر و من قارة إلى قارة، و ان أذواق الناس و اتجاهاتهم في فهم الحياة تختلف اختلافا كبيرا جدا، و تؤثر في اختلافهم في تشخيص الحاجات، و في فهم الضرورية منها من الثانوية.

و حتى لو قيدنا الحاجات، بالحاجات الحكيمة - كما فعل ماركس - فاننا لم نفعل شيئا مهما، فان تمييز الحكمة في الحاجة مما يختلف فيه الناس اختلافا كبيرا أيضا.

اللهم إلا أن يقال: ان الحاجة الحكيمة هي التي يميزها ماركس أو الحزب الماركسي. إذن فقد عدنا إلى القيادة الحزبية التي أخفتها المصادر الماركسية.

و ان كان تعيين ذلك موكولا إلى رؤساء النقابات و الهيئات الاجتماعية، كان ذلك شكلا من أشكال السلطة و الطبقية، التي تنفيهما الماركسية عن الطور

ص:370

الأعلى. و لم يكن - مضافا إلى ذلك - أي ضمان لحسن تقديرهم، أولا، و لحيازة القسط الأوفى من النفع لأنفسهم، ثانيا.

الوجه الثاني: ما ذا تقول الماركسية فيما لو زادت طاقة الفرد على حاجته، و قد أحب أن يعطي طاقته كلها، طبقا لحبه للعمل، أو طبقا لهذا القانون، لو كان نص الفقرة الأولى: من كل حسب طاقته. و هو بالطبع لا يأخذ إلا بمقدار حاجته انه سوف يحصل على أقل مما أعطى و ضحى، و سوف يبقى قسم من عمله بلا مقابل... تماما كما كانت تفعل الرأسمالية في أخذ القيمة الزائدة، التي و صمتها بها الماركسية. كل الفرق أن العمل في الرأسمالية للرأسمالي، و هنا للمجتمع، أو بتعبير آخر: لقادته الماركسيين.

إن الماركسية في مثل ذلك، لا تستطيع أن تعطيه أكثر من حاجته، لأنها تبدأ بإيجاد التفاضل بين الناس. كما انها لا تستطيع أن تأخذ منه أقل من طاقته، لأنه خلاف منطوق القانون، و خلاف مصلحة زيادة الانتاج. و من هنا تقع في القيمة الزائدة.

الوجه الثالث: ما ذا تقول الماركسية لو نقصت طاقة الفرد عن حاجته، أما باعتبار نقصان طاقة الفرد عن المقدار الطبيعي بشكل دائم أو بشكل عارض، أو باعتبار زيادة حاجة الفرد لعارض ما كالمرض أو السفر، و المريض دائما تنقص طاقته عن حاجته، فإنه بينما لا يستطيع العمل بمقدار الفرد الطبيعي من الساعات اليومية فإن حاجته تزيد عليه باعتبار تداويه و منهجه الغذائي و غيرهما.

إن نسبة مدخوله إلى عمله ستكون أعلى بكثير من الفرد الاعتيادي. فلعل من حسن حظ الفرد أن يكون مريضا دائميا يعمل قليلا و يأخذ كثيرا. إن هذه النسبة سوف توجد التفاضل بين الناس، و ستغري عددا من الأفراد بعدم تجنب الأمراض التي لا تمنع عن مقدار من العمل، في سبيل كثرة الراحة و زيادة الدخل.

الوجه الرابع: ما سمعناه من لينين نفسه انه لو أخذ كل فرد بقدر حاجته بغير مراقبة، لأخذ الناس الأموال بلا حساب.

و قد أجاب عنه لينين بما حاصله: إننا نفترض في الطور الأعلى إنتاجية عمل غير إنتاجية العمل الحالي يعني تكفي لسد كل الأطماع، و نفترض إنسانا غير الانسان الحالي التافه، يعني إنسانا خاليا من الأطماع.

ص:371

و لكن هذا الجواب غير صحيح على ما سنذكره في الوجه الرابع. و معه يكون هذا وجها صحيحا في الايراد على هذا القانون الاشتراكي.

و أما لو قلنا بما قاله بوليتزر من أن لكل حسب إرادته، لما كان في أخذ الأموال بلا حساب، أي محذور، حتى لو تكدس المال صدفة عند البعض دون البعض، كالوضع الرأسمالي لم يكن ذلك مضرا... لأن كل واحد قد أخذ حسب إرادته.

الوجه الخامس: ما ذكره بوليتزر: من أن المجتمع لن يستطيع أن يقدم لكل فرد «حسب حاجته» أي مجانا، دون أن يحاول كل فرد عندئذ، أن يعمل أقل ما يمكن، و هكذا يأتي الفقر بسرعة.

و أجاب عليه بما حاصله: أن طبيعة الكسل في الانسان ناتجة عن ظروف طارئة و ليست أصيلة في النفس، فيمكن للفرد في المجتمع الذي يصبح به العمل متعة و تفتحا، أن يعمل بالمقدار المرغوب، لا أقل ما يمكن.

و هذا الجواب كسابقه الذي ذكره لينين، يتوقف على افتراض الانسان الخالي من الأطماع و المنكر لذاته في سبيل المجموع، فهل تستطيع الماركسية أن تقوم بذلك؟ هذا ما سنبحثه بعد الوجه السادس الآتي مباشرة.

الوجه السادس: انه لو أخذ الناس العاملون بمقدار الحاجات، لتساوى دخل الشخص الكفؤ و غير الكفؤ، و الذكي و غير الذكي، و القوي و غير القوي و الاختصاصي و البسيط. بل لأمكن أن يقل دخل الرجل الأحسن و الأكمل لقلة حاجاته بالنسبة إلى الآخر.

و هذا ينتج أن العامل الأحسن، سوف لن يكون له أي داع لكي يعمل بشكل أفضل من العامل الآخر. إن القوي سوف يعمل كالضعيف و الاختصاصي كالبسيط لأنه - على أي حال - سوف يأخذ نفس المقدار من المال.

نعم، لو استطعنا أن نحصّل أناسا أقوياء أو اختصاصيين منكرين لذاتهم و متبرعين بأعمالهم، لكان لهذا الكلام نصيب من الصحة. فهل تستطيع الماركسية إيجاد هذا الانسان.

إنها لو كانت تستطيع إيجاد هذا النموذج، لما كان الوجه الثالث إلى السادس من الايرادات واردا على هذا القانون الماركسي. و لكن حيث لا تستطيع

ص:372

إيجاد ذلك تكون كل هذه الوجوه واردة كإشكالات على الماركسية.

إن الماركسية التي وزنت كل شيء بالميزان الاقتصادي و فلسفت التاريخ كله على أساس الاقتصاد، و ان كلماتهم واضحة في ذلك...

قال ماركس:

«إن الناس أثناء الانتاج الاجتماعي لمعيشتهم، يقيمون فيما بينهم علاقات ضرورية مستقلة عن إرادتهم... و مجموع علاقات الانتاج هذه يؤلف البناء الاقتصادي للمجتمع، أي الأساس الواقعي الذي يقوم عليه بناء فوقي حقوقي و سياسي، و تطابقه كذلك أشكال معينة من الوعي الاجتماعي. إن أسلوب إنتاج الحياة المادية يكيف تفاعل الحياة الاجتماعي و السياسي و الفكري»(1).

و قال انجلز:

«إننا نرى للظروف الاقتصادية القول الفصل في تحديد التطور التاريخي. و عليه، فالأصل هو نفسه عامل اقتصادي»(2).

و قد سمعنا هذه الكلمات في أول البحث، و إنما نقلناها هنا تأكيدا...

إن هذه الماركسية لا يمكنها أن تصنع من الانسان شخصا منكرا لذاته، و لأهمية العامل الاقتصادي، بحيث يعمل مجانا أحيانا و يستغني عن بعض دخله أحيانا أخرى، و يغض النظر عما يمكن أن يحصل عليه من أموال أحيانا أيضا. كما هو المستنتج من الوجوه السابقة المشار إليها(3).

كيف، و إن فلسفة المادية التاريخية كلها قائمة على أهمية العامل الاقتصادي إلى أقصى درجة. و هذه الفلسفة هي التي تريد الماركسية ترسيخها في ذهن المجتمع.

فما زلنا نسمع منها التركيز على وسائل الانتاج و علاقات الانتاج، كسبب

ص:373


1- (1) المادية الديالكتيكية لستالين ص 60.
2- (2) نصوص مختارات لانجلز ص 179.
3- (3) فطبقا للوجه الثالث يجب ان يوجد الفرد الذي لا يود زيادة مدخوله على عمله، و من ثم لا يتجنب التعرض للأمراض. و في الوجه الرابع يجب أن يوجد الفرد الذي يستغني عن المال الزائد عن حاجته حتى مع عدم الرقيب. و في الخامس: ذلك الفرد الذي يؤدي بمقدار طاقته من العمل غير مهتم بمقدار الأجر، و في الوجه السادس، يجب ان يوجد ذلك الفرد الذي يؤدي من العمل بمقدار كفاءته و اختصاصه بالرغم من تساويه في الأجر مع غير الكفؤ و غير الاختصاصي. و كل هذا يعود إلى نكران الذات من الناحية الاقتصادية و إلى قلة الاهتمام بالجانب الاقتصادي في الحياة. و هو ما يستحيل على الماركسية إيجاد نموذج له.

أساسي لنقل البشرية من عصر إلى عصر، و للتحكم في ظروف التاريخ؛ كما أن القيمة الأساسية لنقد المراحل السابقة على الاشتراكية، كالرق و الاقطاع و الرأسمالية، قائمة على قيمة اقتصادية محضة. و لا ينبغي أن ننسى أن «فائض القيمة» هو العيب الرئيسي في الرأسمالية لدى ماركس و الماركسيين.

بطبيعته، و مهمة اقتصادية، و هو القضاء على أصحاب الأموال، و الانتصار للعمال من زاوية معيشتهم الاقتصادية.

و ما هو معنى الاشتراكية عموما، و الشيوعية خصوصا، سوى مفهوم المساواة الاقتصادية بين الناس؟!...

و ما هو سر سعادة الناس و رفاههم، باعتقاد الماركسية في الطور الأعلى سوى تنظيم اقتصادي معين يكفل ذلك؟!...

إن تربية الانسان على مثل هذا التركيز و الترسيخ، يصنع منه انموذجا يعتقد بأنه خلق من أجل الاقتصاد و يعيش من أجله و يضحي من أجله و يموت من أجله، و ليس للانسانية إلا المعنى الاقتصادي!!! و مثل هذا الأنموذج يستحيل أن يتعقل نكران الذات من الناحية الاقتصادية. و ان استحالة ذلك لأكبر و أوضح من أن يصبح الرأسمالي اشتراكيا أو البرجوازي بروليتاريا، على الرأي الماركسي.

و لكننا سوف نعرف بكل وضوح و تفصيل، أن هذا الأنموذج من الانسان الكامل سوف يوجد في «اليوم الموعود» نتيجة للتخطيط الالهي لإيجاده.

و على أي حال، فالماركسية حيث لا تستطيع أن توجد مثل هذا النموذج الرفيع في الانسان، إذن، فكل الوجوه الأربعة الأخيرة من الايراد على تلك القاعدة الماركسية صحيحة و واردة؛ و كل ما سمعناه من دفاع الماركسيين عنها منطلق من توقع تغيير الماركسية للانسان نحو إيجاد هذا النموذج، و قد برهنا على بطلانه.

- 9 - و ينبغي لنا أيضا أن نعرض هذا القانون الماركسي: «من كل حسب طاقته و لكل حسب حاجته»... على القانون الماركسي الآخر و هو أن العمل أساس القيمة، و ما يستنتجه ماركس من هذا القانون الأخير. فهل ينطبق الأول على

ص:374

الثاني الذي هو أعم منه و أشمل أو لا ينطبق، و ما ذا يكون العمل إذا لم يكن منطبقا؟..

إن ماركس يقول: ان العمل أساس القيمة، و ان العامل يستحق ناتج عمله كله، أو يعطى الأجرة عوضه كاملة، و إنما كان الرأسمالي ظالما لأنه لم يخطر له تنفيذ هذا القانون الماركسي. و يرى ماركس أن العامل إذا بذل طاقته الكاملة في يوم واحد، استحق بدلها ما يعيد له قوته على العمل من المواد الغذائية. و كأنه يرى - ضمنا - أن ناتج عمله سوف لن تزيد قيمته على مقدار ما يعيد له قوة العمل. و قد سبق أن بحثنا ذلك مفصلا. فهل ينطبق ذاك القانون الشيوعي على هذه القواعد الماركسية.

إن الانسان إما أن يعمل بمقدار طاقته، أو يعمل بمقدار أقل كخمس ساعات مثلا، كما اقترحه بوليتزر. كما انه تارة يعطى قدر حاجاته الضرورية و أخرى: قدر مجموع حاجاته، و ثالثة: قدر إرادته، كما اقترحه بوليتزر. فهذه ست صور حاصلة من ضرب اثنين في ثلاثة.

الصورة الأولى: أن يعمل بمقدار طاقته، و يعطى قدر حاجاته الضرورية.

و الغالب في الحاجات الضرورية أن تقل عن مقدار الطاقة من ناحيتين:

الناحية الأولى: ان ناتج العمل كثيرا ما يكون أثمن و أغزر مما يحتاجه الفرد في يوم واحد، أو من قوة عمل يوم واحد، خلافا لما تصوره ماركس من التساوي الدائم بينهما.

الناحية الثانية: ان ما يحتاجه الفرد قد لا يستبطن من وقت العمل بمقدار ما يبذله الفرد حين يعمل بمقدار كل طاقته.

و على كلا التقديرين، فقد أعطى عملا أكثر مما أخذ من المال. و هذا هو بعينه فائض القيمة التي عابها ماركس على الرأسمالية، كما سبق أن أشرنا.

الصورة الثانية: أن يعمل بمقدار خمس ساعات في اليوم، و يعطي بإزاء كل حاجاته. و كذلك:

الصورة الثالثة: أن يعمل بمقدار خمس ساعات، و يعطى بمقدار ما يريد من الأموال، مهما كثرت.

و هاتان الصورتان، بعكس الصورة الأولى، تنتجان زيادة المال المقبوض

ص:375

للعامل على مقدار ما أداه من العمل. و هذا أمر في مصلحة العامل بلا إشكال.

و هو أوضح صورة تتوخاها الماركسية لأجل إسعاد المجتمع و بث الرفاه فيه، و كذلك يتوخاها التخطيط الالهي في اليوم الموعود، كما سوف يأتي توضيحه.

و لكن هل هذا من الماركسية صحيح أولا. بل هل هو ممكن التحقق أساسا أو لا؟ أولا: إن هذا غير صحيح من الماركسية أو غير عادل.

لأن خيرات البلاد مهما كثرت و الانتاج مهما ازداد، فسوف لن يكون بوفرة الضوء و الهواء و تنتفي الندرة النسبية تماما، بل يبقى النقص موجودا لا محالة.

و البلدان تختلف في الدخل القومي و فيما تحتويه من الثروات الطبيعية. ففي الامكان القول بأن النقص يكون واضحا في أكثر بلدان العالم، و إن كان في بعضها الآخر غير واضح، و لكنه موجود.

فإذا كان ذلك صحيحا، فمن الواضح أن استيفاء كل الحاجات لكل انسان أو إعطائه بمقدار ما يريد، غير ممكن لعدم سعة مجموع ثروات البلاد لذلك، حتى في الوضع العالمي، لو قسمت ثروات العالم على أهله. و معنى ذلك أن إعطاء جملة من الأفراد بمقدار حاجاتهم جميعا، سوف يحرم الأفراد الآخرين من أن ينالوا نفس الشيء. إذن، فسيكون هذا الاعطاء الذي تتوخاه الماركسية غير صحيح أو غير عادل، لأنه مجحف بحق الآخرين.

ثانيا: إن هذا غير ممكن، و ليس فقط غير صحيح.

و ذلك: لأن ماركس و الماركسيين يرون أن القيمة لا تكتسب إلا بالعمل، و أن المال لا يكون مالا إلا به. إذن، و بكل بساطة يكون ما يأخذه كل فرد إنما هو من الأموال التي تجسدت فيها أعمال سابقة، و به يسد حاجاته الضرورية و الثانوية و غيرها، لا انه يعطي شيئا غير مالي، و ساقطا عن المنفعة، أو لم يجسد به أي عمل.

فإذا كان كذلك، إذن فمجموع الأموال في البلاد تساوي مجموع الأعمال المبذولة فيها... و كذلك، بالنسبة إلى مجموع العالم البشري. فلو فرضنا - للسهولة - أن البلد متكون من مائة شخص و عمل كل منهم خمس ساعات، فسوف يكون العمل خمسمائة ساعة يوميا، و يكون الانتاج بمقدار هذا العمل لا محالة. و لئن كانت الحاجات الضرورية لهؤلاء المائة يمكن أن تسد بهذا المقدار،

ص:376

بأن يأخذ كل فرد نتاج عمله فقط، طبقا لقواعد ماركس في «رأس المال». فإن الحاجات الثانوية لا يمكن أن تسد بهذا المقدار، كما هو واضح؛ فمن أين يأتي النتاج الأزيد من هذا المقدار الذي نستطيع به أن نسد الحاجات الثانوية لهؤلاء المائة.

إن الانتاج دائما يوازي مقدار العمل، فلو أخذ كل فرد أكثر من عمله، كان ذلك اما إجحافا بالآخرين، حيث يضطرون إلى أن يأخذوا أقل مما بذلوه من أعمال. أو نقع في استحالة لا يمكن للماركسية الخروج منها. و كذلك المفروض عدم إمكان حصول الفرد على «مال» لم يتجسد به أي عمل بشري.

إذن، فإعطاء كل عامل في العالم، أو في المجتمع، أكثر من عمله مستحيل. إذن، فالصورتان الثانية و الثالثة، و هما أفضل الصور في نظر الماركسية مستحيلتان.

الصورة الرابعة: ان يعمل الفرد بمقدار كل طاقته، و يعطى بمقدار كل حاجته، أعني حاجاته الأولية و الثانوية معا.

الصورة الخامسة: أن يعمل الفرد بمقدار كل طاقته و يعطى بمقدار ما يريد.

إن التوازي بين ما يعطيه الفرد من أعمال في هاتين الصورتين، و ما يأخذه من أموال، ممكن و محتمل. إلا أنه بعيد و نادر. فإن طاقة الفرد الاعتيادية لا توازي مقدار ما يريد من الحاجات و الأموال، لأن مطامع الفرد لا حد لها، و خاصة ذلك الفرد المكرس تكريسا اقتصاديا كاملا، كما تفعل التربية الماركسية، كما سمعنا، إذن، فالصورة الخامسة متعذرة.

و تشبهها في ذلك الصورة الرابعة، إذا علمنا أن الحاجات الثانوية غير محددة المفهوم مما يجعلها تنطبق على عدد ضخم من المقتنيات و الآلات الحديثة، و هي لا زالت في تزايد مستمر سريع. كما تنطبق على أساليب من الصعب على الماركسية الايمان بها كالاخدام و ملكية الدور الفارهة و البساتين الغنّاء.

و لو تجاوزنا عن ذلك، و قصرنا الحاجات الثانوية على ما كان حاجة فعلية على مستوى أقل من الضروري، كان هذا المفهوم متفاوتا بين الناس باعتبار الصحة و المرض و الحضر و السفر، و البيئة الجغرافية، و ظروف الأوبئة و الفيضانات و غير ذلك. و هو مفهوم أشد تفاوتا بين الناس من الحاجات

ص:377

الضرورية كما هو واضح. و من هنا يكون توزيع الأموال طبقا للحاجات الثانوية موجبا للتمييز المجحف بينهم... و هو على خلاف ما تريده الماركسية في طورها الأعلى.

الصورة السادسة: أن يعمل الفرد بمقدار خمس ساعات و يأخذ بمقدار حاجاته الضرورية.

و التوازي هنا بين مقدار العمل، و هذه الحاجات ممكن في التصور، إلا أنه بعيد للغاية، و خاصة بعد الالتفات إلى الحقائق التالية:

الأولى: ان تخفيض ساعات العمل إلى الخمس في الطور الأعلى، نموذج صالح و راجح في نظر الماركسية.

الثانية: لا يمكن أن يوجد «مال» من دون عمل، في نظرها.

الثالثة: إن الحاجات الضرورية مختلفة و متفاوتة بين الناس تفاوتا كبيرا.

إذن، فالشكل الصالح و الراجح لساعات العمل سوف يحدث التفاوت بين الناس. على أنه ليس من المفروض التسليم بالاقتصار على إعطاء الحاجات الضرورية فقط في الطور الأعلى. كما انه قد لا يستطيع الفرد تغطية حاجاته الضرورية بعمل خمس ساعات، أو نحوها، لبعض الظروف الصحية و النفسية، و ستكون حاجاته الضرورية - في نفس الوقت - أكثر من المستوى الاعتيادي... فيلزم وجود التفريق المجحف بين الناس. كما سمعنا في بعض المناقشات السابقة.

إذن، فكل الصور المحتملة لهذا القانون الماركسي غير صحيحة، إذن فلا يبقى للقانون معنى.

هذا، و لكن هذه الاستحالة غير موجودة بالنسبة إلى «اليوم الموعود»، حيث سوف يأخذ كل الأفراد أكثر من أعمالهم بكثير من دون استحالة. و تذليل هذه الصعوبة ينطلق من أصول أسس و أصول موضوعية لا تؤمن بها الماركسية.

و إنما توجد الصعوبة من زاوية الأسس الماركسية التي تبرهن تنافرها مع القانون الشيوعي، مع أن الماركسية تؤمن بهما معا.!!!...

- 10 - و الآن، ينبغي أن نناقش الماركسية في إيمانها بزوال الملكية الخاصة في الطور الأعلى.

ص:378

و قد عرفنا أن كلمات الماركسيين، مختلفة في ضرورة نفي الملكية الخاصة عن وسائل الانتاج فقط، أو ضرورة نفي الملكية الخاصة نفيا مطلقا؛ و نحن لا بد أن نتكلم على كلا التقديرين.

أما انتفاء الملكية الخاصة عن وسائل الانتاج، فهو - في بعض الحدود - قد يكون له قسط من الصحة، كما سوف يأتي عند الحديث عن «اليوم الموعود».

و لكننا الآن نريد أن نتكلم في إطار ماركسي، لنرى ان الماركسية في حدود مفاهيمها عن الكون و الحياة، هل هي مصيبة في كلامها هذا، أم لا.

إنه يمكن إيراد عدة مناقشات على ذلك:

المناقشة الأولى: ما سبق أن ذكرناه في مناقشة الطور الأول، من أن ذلك يعود إلى سيطرة كبراء المجتمع على وسائل الانتاج. كل الفرق: ان الدولة في الطور الأول كانت موجودة و كانت مطلقة اليد في وسائل الانتاج فتكون شبيهة بالملكية الرأسمالية، كما سبق. و أما في الطور الأعلى، فيوجد زعماء المجتمع من رؤساء الهيئات و النقابات و أعضاء الحزب القائد... فإن بأيديهم يكون زمام التصرف في هذه المعامل، فيكون الحال شبيها أيضا بالملكية الرأسمالية. و قد عرفنا في تلك المناقشة أنه يكون لهم فرصة تكديس الأموال إلى أكبر الحدود...

و ان لم يكن لهم شعور حقيقي بملكية نفس العامل.

المناقشة الثانية: ما هو سبب انتقال ملكية وسائل الانتاج إلى الملكية العامة؟ إن الماركسية تتذبذب في الجواب عن ذلك بين الضرورة و الاختيار.

فبينما نرى أن قواعد المادية التاريخية، في إناطة كل مجرى التاريخ بتطور وسائل الانتاج بالضرورة، تقتضي أن هذا الانتقال ضروري الحصول أيضا.

فوسائل الانتاج إذا وصلت إلى حد معين في التطور، اقتضت أن تملك هي بالملكية العامة، و ان تنفك عنها الملكية الخاصة... نرى إلى جانب ذلك أن الماركسية تؤكد على جانب الوعي و الاختيار بتركيز شديد ابتداء من عهد دكتاتورية البروليتاريا فصاعدا، و كلما تقدم العهد، ازداد التركيز على الاختيار.

و قد سبق أن سمعنا كوفالسون يقول:

«إن سير المجتمع الاشتراكي نحو الشيوعية يتوقف على صانعيه بالذات، على لحمتهم و وحدتهم و عقلهم و موهبتهم و نشاطهم و مبادراتهم و رجولتهم... الخ»(1).

ص:379


1- (1) المادية التاريخية: كيلله، كوفالسون ص 144.

إذن، فتأميم وسائل الانتاج جانب اختياري أيضا من جوانب المجتمع التي يصنعها هؤلاء الصانعون باختيارهم.

إن القول بضرورة انتقال وسائل الانتاج إلى الملكية العامة، نتيجة لتطورها نفسها، يواجه عدة مشكلات، مضافا إلى المناقشة في الأساس العام و هو أن هذا التطور غير مرتبط بتطور التاريخ أصلا، كما سبق أن عرفنا في مقدمات المادية التاريخية.

و تتلخص هذه المشكلات في عدة أمور:

الأمر الأول: إن الماركسية قالت بتأثير وسائل الانتاج في كل ظواهر المجتمع، ابتداء من علاقات الانتاج و انتهاء بالأخلاق و الفلسفة و الدين.

و لكن قد يكون من نتاج الصدفة؛! أن تكون كل هذه الأمور هي غير وسائل الانتاج نفسها، إذن فوسائل الانتاج تؤثر في كل شيء غيرها، في رأي الماركسية.

و أما تأثير وسائل الانتاج في نفسها، و صفاتها، فهذا ما لم يعهد به القول من الماركسية. و لا بد أن يكون ذلك من زاوية أن الشيء لا يمكن أن يؤثر في نفسه. فمثلا: لم تقل الماركسية بأن المرحلة السابقة لوسائل الانتاج هي التي تؤثر في وجود المرحلة اللاحقة، فالطاحونة الهوائية لم تنتج الطاحونة البخارية مثلا.

كما لم تقل الماركسية أن المرحلة المعينة من وسائل الانتاج تنتج شكل الملكية لنفسها. فالطاحونة الهوائية انتجت الاقطاع، و لم تتحكم أو لم يهمها (!!) أن تؤثر في ملكية نفسها.

فكذلك الحال لو وصلنا إلى المجتمع الشيوعي، فإن الماركسية لو قالت:

ان وسائل الانتاج نفسها اقتضت - بالضرورة - أن تملك ملكية عامة، كما هو المفروض الذي نناقشه الآن، فإن معنى ذلك أن وسائل الانتاج أثّرت في ملكية نفسها... و هو ما لم يعهد عن الماركسية الالتزام به في الحالات المشابهة.

الأمر الثاني: اننا عرفنا في مناقشة الطور الأول: انه بالرغم من تماثل مستوى الإنتاج اليوم بين الدول الرأسمالية و الشيوعية، فإن هذا المستوى لم يؤثر في نقل الدول الرأسمالية إلى الاشتراكية.

فإذا كان هذا المقدار من التطور، قد أوصل الدول الاشتراكية إلى الطور الأول، و سوف يوصلها - في رأي الماركسية - إلى الطور الثاني، فهل يقف

ص:380

التطور في الدول الرأسمالية؟ انه لا شك يستمر في نفس الشكل المتطور الذي تدخل فيه الدول الاشتراكية، أو المجتمعات الاشتراكية (إذا زالت حكوماتها!!) و عندئذ ما ذا سوف يحدث في الدول الرأسمالية؟ انها سوف لن تطفر فجأة إلى الطور الأعلى تاركة مرحلتي الاشتراكية السابقة عليه. فإن الماركسيين صرحوا بكل وضوح أن الاطوار الاشتراكية متوقفة تماما على الاجهاز على الرأسماليين عن طريق دكتاتورية البروليتاريا.

انها إما أن تبقى على وضعها الرأسمالي، كما هو المظنون جدا، أو إذا أطاعت ماركس، فانها تدخل مرحلة دكتاتورية البروليتاريا، و معه يكون مستوى واحدا لوسائل الإنتاج قد اقتضى الطور الأعلى في بعض المجتمعات، و في بعض آخر الوضع الرأسمالي أو دكتاتورية البروليتاريا - على الأكثر - فهل يكون هذا معقولا في نظر الماركسية في نظر الماركسية في قواعدها العامة.

الأمر الثالث: إن الماركسية ترى تأثير وسائل الإنتاج في كل ظواهر المجتمع، كما سمعنا، لا يختلف في ذلك مجتمع عن مجتمع، حتى الطور الأعلى بطبيعة الحال، فالمرحلة العليا لتطور وسائل الإنتاج التي أوجدت الطور الأعلى، توجد هي كل ظواهره و صفاته لا محالة... مع أخذ الوعي الذي اهتمت به الماركسية بنظر الاعتبار.

و الأطروحة التي تعطيها الماركسية عادة لاسلوب تأثير هذا التطور في هذا التغيير، هي: ان كل مرحلة من وسائل الإنتاج تربط الطبقة الموازية لها بعلاقات إنتاج معينة، لا يمكنها أن تتجاوزها، باعتبار ارتباطها المصلحي الحياتي بها...

بحيث لا يمكن للفرد أن ينفك عن هذا الربط إلا إذا رضي أن يموت جوعا. و من هنا يكون ضغط هذه الوسائل على الأفراد شديدا جدا، و عن طريقهم، بما لهم من علاقات إنتاج، يكون التأثير الضروري على المجتمع بكل ظواهره.

فهل في إمكان وسائل الإنتاج في الطور الأعلى، اتخاذ هذا الأسلوب. ان علاقات الإنتاج سوف تحدث في هذا الطور لا محالة. و لكنها ليست علاقات ضرورية تمليها مصلحة الفرد، كما كان عليه الحال في العهود السابقة، و إنما هي علاقات قانونية تمليها الماركسية. ان القوانين أو القواعد الاقتصادية الماركسية (الواعية) هي التي تتحكم في صياغة علاقات الانتاج، لا وسائل الإنتاج.

و ليست هي علاقات مصلحية بأي حال... لأن الفرد ينال بمقدار حاجته على

ص:381

كل حال، لا انه ينال معيشته من عمله المباشر من نتائج هذه الوسائل. إذن، لا يكون الفرد مربوطا بالآلة بنفس الارتباط الذي فرضته الماركسية سابقا، و معه لا يمكن أن نتصور تأثير هذه الوسائل في حياة الفرد. و إنما يكون مربوطا بالماركسية و قوانينها ليس إلا، و هي قوانين اختيارية «واعية» غير اضطرارية، كما ترى الماركسية نفسها ذلك.

فإذا لم تكن العلاقات المباشرة مع الآلة، علاقات ضرورية، أو أنها علاقات غير مثيرة للاهتمام الاقتصادي في حياة الفرد؛ إذن تكون الحلقة الرابطة بين الآلة و المجتمع و هي (علاقات الإنتاج الضرورية) مفقودة. و معه، تعجز الآلة عن بث تأثيرها في المجتمع، كما عجزت عن صنع علاقات إنتاج ضرورية.

فقد تبرهن أن المرحلة العليا من وسائل الإنتاج، تلك التي توجد الطور الأعلى، لا تستطيع تغيير أي شيء من ظواهره.

إذن، فمن أجل هذه الأمور أو المناقشات الثلاث، يتبرهن أن تأثير وسائل الإنتاج في هذا الطور ليس ضروريا، لا في إيجاد الملكية العامة و لا في إيجاد كل ظواهر المجتمع، بالرغم من أن قواعد المادية التاريخية تقتضي ذلك.

و معه نكون قد اقتربنا من الرأي الماركسي الآخر، و هو أن كل ما يحدث في الطور الأعلى، هو شيء واع و اختياري للأفراد، و ليس اضطراريا.

و هذا مخالف لقواعد المادية التاريخية. و من الواضح أن هذه القواعد لا تصلح للاستثناء، لأن الضرورة الكونية دائمة التأثير لا تعرف الاستثناء، كالسقوط من أعلى أو الاحتراق بالنار، و لا يكون الوعي و الاختيار مؤثرا في تغيير تأثيرها، ما دام المجال القانوني لها متوفرا.

و إذا رجعت الملكية العامة لوسائل الإنتاج إلى الوعي و الاختيار، فمعنى ذلك: أن مفكرا معينا أو مجموعة معينة من المفكرين يرون أن هذا هو الأصلح للمجتمع عند وجود ظواهر معينة فيه، أو عند وصول وسائل الإنتاج إلى مرحلة معينة من التطور العالي. و إذا عرضت الفكرة على هذا الشكل، كانت كأي فكرة منفردة قابلة للمناقشة من قبل المفكرين الآخرين في المجتمع، و فقدت هيبتها العلمية التي أرادتها لها الماركسية، حين ربطتها بفلسفة مجموع التاريخ البشري ربطا ضروريا.

ص:382

فان قالت الماركسية: ان هذه الفكرة وجدت في ذهن المفكر الماركسي في لطور الأعلى، نتيجة للدرجة المعينة من تطور وسائل الإنتاج. فعاد الأمر إلى تأثير هذا التطور، و لو بشكل غير مباشر.

قلنا في جوابه: يرد على ذلك عدة مناقشات:

أولا: ما أشرنا إليه من عجز وسائل الإنتاج عن التأثير الضروري، بعد فقدانها للحلقة الوسيطة و هي علاقات الإنتاج الضرورية. و معه لا معنى لإيجادها لهذه الفكرة المشار إليها.

ثانيا: ان ايجاد الفكرة في الذهن ان كان ضروريا كان ذلك منافيا لتأكيد الماركسية على الوعي في هذا الطور، و ان كان اختياريا كاملا، كان منافيا لتأكيدها على تأثير تطور وسائل الإنتاج، و إن كان مركبا بين الضرورة و الاختيار، فقد سبق أن عرفنا فشل الماركسية في الجمع بينهما.

ثالثا: ان وجود هذه الفكرة، أو أي فكرة في الذهن، نتيجة لوسائل الإنتاج بالضرورة، يقتضي كون تطبيقها ضروريا، أو أنها غير قابلة للمناقشة بالضرورة. فإذا كانت قابلة للمناقشة و لا يوجد ضمان حقيقي لتطبيقها، بعد تعويض الضرورة بالاختيار في هذا الطور، و عدم وجود دولة مسيطرة؛ إذن، فلا يمكن للماركسية أن تجزم بتحقق هذه الفكرة و هي: الملكية العامة لوسائل الإنتاج.

إذن، يتحصل من مناقشتنا الثانية، أن كلا من الرأيين الماركسيين:

الاضطرار و الاختيار، في سببية انتقال وسائل الإنتاج إلى الملكية العامة، لا تخلو من مناقشة. و معه، لا يبقي لهذا الانتقال سبب معقول.

المناقشة الثالثة: لانتفاء الملكية الخاصة عن وسائل الانتاج صرحت الماركسية بأن أسباب البلاء الواقع على البشرية في مختلف عصورها و عهودها، هو الملكية الخاصة، و قد سبق أن سمعنا قول كوفالسون:

«و هذه السلاسل إنما هي علاقات الملكية الخاصة التي تقيد بها الناس».

و أضاف:

«فالناس يمسون عبيدا أو عمالا أجراء عند ما يدخلون في علاقات إنتاج معينة. ناهيك عن أنهم ليسوا أحرارا مخيرين في الدخول أو في عدم الدخول في هذه العلاقات و ليسوا

ص:383

احرارا في اختيارهم، بل هم مكرهون على الدخول في علاقات الانتاج القائمة، في المجتمع»(1).

و إذا اقتصرنا على تأميم وسائل الإنتاج و سلخ الملكية الخاصة عنها، بقيت ثلاث ظواهر مما ذكره كوفلسون من موجبات السوء و الاستعباد موجودة:

الظاهرة الأولى: الملكية الخاصة بوجودها الواسع، التي على رأس القائمة من أسباب الشر في رأي الماركسية. و المفروض، الآن، أنها تبقى سارية المفعول في الطور الأعلى.

الظاهرة الثانية: علاقات الإنتاج. فان الناس لا محالة يكوّنون علاقات إنتاج معينة مع وسائل الإنتاج المؤممة، كما قلنا، و ان كانت ذات طابع جديد.

و لكن المفروض هنا أن علاقات الإنتاج بكل أشكالها، موجبة للاستبعاد.

الظاهرة الثالثة: الإلزام بالعمل، فان الناس - كما كانوا سابقا - لا زالوا غير مخيرين في الدخول أو عدم الدخول في هذه العلاقات و ليسوا أحرارا في اختيارهم. بل هم مكرهون على الدخول في علاقات الإنتاج القائمة في المجتمع - على حد تعبير كوفالسون - لأنهم مكرهون على العمل في وسائل الإنتاج المؤممة، لأن قانون (من لا يعمل لا يأكل) لا زال ساري المفعول.

فالفرد لا يعطى بمقدار حاجته أو بمقدار إرادته، ما لم يعمل قدر طاقته أو أن يعمل عملا ما - على الأقل -. كما كان لا يعطى في الطور الأول بقدر عمله، ما لم يؤد ذلك المقدار من العمل.

فبدلا من أن يكون الإكراه صادرا من الإقطاعي أو الرأسمالي، يكون صادرا من الزعماء الماركسيين للطور الأعلى؛ و ليس الإكراه منحصرا بإنزال العقاب على الترك، بل هو متحقق في الحرمان من لقمة العيش بشكل أحق و الزم(2).

و إذا كانت كل هذه الظواهر من أسباب الشر و الاستعباد موجودة، فأحرى بأن تكون هذه النتائج لها موجودة أيضا.

فهذه هي المناقشات حول ما إذا قالت الماركسية: ان سلب الملكية الخاصة

ص:384


1- (1) المادية التاريخية: كيلله، كوفالسون ص 66.
2- (2) و لا شك ان من أهم أسباب السعادة الكاملة في المجتمع، السعادة التي تريد الماركسية توفيرها في طورها الأعلى، هذا الشعور النفسي و هو: ان الفرد يعمل إذا أراد بمقدار ما أراد، لا أن يكون العمل غلا في عنقه، يكون مهددا بالموت مع تركه.

في الطور الأعلى، خاص بوسائل الإنتاج، و غير عام لكل الأشياء.

و أما إذا قالت الماركسية ان الملكية الخاصة، بكل أشكالها تزول من الطور الأعلى.

... فهذا ترد عليه المناقشات التالية:

المناقشة الأولى: ان الفقرة الثانية من قانون التوزيع الشيوعي!!! «لكل حسب حاجته» يدل على ملكية ما يقبضه الفرد من الأموال. فاننا نقصد بالملكية عنصرا ذو صفتين مقترنتين:

الصفة الأولى: إن الفرد الحاصل على المال يستطيع أن يتصرف فيه تصرفا مطلقا و متلفا... كما لو أكله مثلا...

الصفة الثانية: إن الآخرين ممنوعون قانونا أو عرفا من التصرف في هذا المال و إتلافه، و إذا عملوا ذلك كانوا معاتبين... لا أقل من حصول رد فعل سيئ لدى الفرد الحاصل على المال.

إن ما يأخذه الفرد من الأموال التي تفي بحاجته حائز على كلا الصفتين:

أما الأولى فواضحة لأن الفرد يستطيع أن يتصرف فيه و يستهلكه كما يشاء. و أما الثانية فهي واضحة أيضا، إذ يعتبر أخذ ما قبضه الفرد اعتداء على حقه المشروع، و لا شك في وجود رد الفعل السيئ في صاحب المال.

و لا يشفع لذلك و فرة الانتاج بشكل كبير: أولا: لعدم توفره كالماء و الهواء كما أشرنا. و ثانيا: انه حتى لو توفر بما يقارب ذلك، فان الجانب النفسي في الانزعاج من التطاول على (المواد الأولية) لمعيشة الانسان كطعامه و لباسه لا يحتمل زواله. و ثالثا: ان توفير الانتاج لو فرض إزالته للجانب النفسي، فانه لا يزيل فكرة الملكية، فان الاعتداء على أموال الفرد إنما يكون سيئا مع عدم رضاء صاحبه، و أما مع رضاه و عدم انزعاجه، فمعنى ذلك الاذن للفرد الآخر بالتصرف. و هذا يؤكد فكرة الملكية، لا انه يزيلها.

هذا، و إذا كان المطبّق في الطور الأعلى هو أخذ الفرد بمقدار إرادته، فتكون فكرة الملكية أوضح، لأن وجود الرد النفسي السيئ عند استلاب ما يأخذه الفرد بإرادته، ضروري إلى حد كبير.

إذن، فالملكية الخاصة موجودة في الطور الأعلى، طبقا للقواعد الماركسية

ص:385

نفسها. فكيف يمكن للماركسية أن تقول - من زاوية أخرى - بانتفائها.

المناقشة الثانية: إن قواعد المادية التاريخية، لا تقتضي انتفاء الملكية الخاصة انتفاء مطلقا.

فإن ما تقتضيه هذه القواعد التي تنيط التاريخ بتطور وسائل الانتاج، - لو أغمضنا عما سبق - هو سلب الملكية الخاصة عنها و إيجاد علاقات إنتاج شيوعية جديدة، و إيجاد إنتاج واسع النطاق جدا. و أما إزالة الملكية إزالة كاملة عن المجتمع، فهذا مما لا دليل عليه، فيبقى دعوى مجردة. و كل ما لا دليل عليه، فهو باطل.

فإن قالت الماركسية: ان الملكية الخاصة ليست بدعا من الأشياء، و قد سبق أن أثّرت وسائل الانتاج في كل ميادين المجتمع مهما كانت بعيدة عن المفهوم الاقتصادي فمن الحري بها أن تؤثر في الملكية الخاصة أيضا.

قلنا في الجواب: إننا لو انطلقنا من زاوية ماركسية، نقول: ان الظواهر التي تم تغييرها من قبل وسائل الانتاج، قد عرفناها و عرفنا تأثيرها فيها...

فأصبح تغيرها الفعلي دليلا على هذا التأثير في رأي الماركسية. و أما ان تغييرا معينا لم يكن معهودا فيما سبق، هل سوف يحدث أو لا؟. فهذا مما لا يمكن ادعاؤه، فانه منوط بالمستقبل إذ يكشف لنا الحس عن تغييره و عدمه. و لا يمكن لأحد أن يعين سلفا و يجزم بالتغيير، إذ لا دليل حسي عليه.

و خاصة لو التفتنا إلى ما سمعناه عن لينين من أن هذه النظرية تعطي توجيهات عامة، تختلف تطبيقاتها من بلد إلى بلد. إذ معه يكون من المتعذر التنبوء بحدوث ظاهرة معينة ما لم تحصل بالفعل في المجتمع، أو تقوم عليها الدلائل غير مجرد تطور وسائل الانتاج.

فكان من الأفضل للماركسية من ناحية موضوعية، لو كانت تؤمن بها و تطبقها! أن تقول: قد يكون التطور الأعلى لوسائل الانتاج موجبا لارتفاع الملكية الخاصة، ارتفاعا كاملا اننا لا نعلم ذلك جزما، و لكنه محتمل على أي حال؟!..

المناقشة الثالثة: هل من الصالح إلغاء الملكية إلغاء مطلقا، أو لا؟.

و إذا كانت الملكية الخاصة هي أصل الشرور في العالم، كما تميل الماركسية إليه، فمن المناسب أن يكون زوالها سببا لاستتباب السعادة و الرفاه.

ص:386

إلا أن هذه الفكرة غير صحيحة، و يمكن أن ننطلق من زاوية غير ماركسية إلى القول: بأن انحرافات سلوكية و فكرية و عقائدية عند الناس، و بخاصة الحاكمين و المتنفذين اجتماعيا أو عسكريا، هو الذي يؤدي إلى هذه الشرور و يورط البشرية في البلايا. و لا يمكن أن يبدأ الاصلاح إلا من زاوية إزالة هذه الانحرافات.

إلا أن المهم الآن، هو البرهان من الزاوية الماركسية على صحة أو عدم صحة الرأي الماركسي. انها نسبت كل الشرور إلى الصراع الطبقي، و من الواضح ماركسيا أن الطبقات من نتاج وسائل الانتاج، أو من ملكية وسائل الانتاج بشكلها السابق و شكلها اللاحق في كل (عهد) تاريخي. و لم تقل الماركسية بارتباط الطبقات بالملكية الخاصة بمفهومها الواسع. إذن، فالملكية الخاصة لغير وسائل الانتاج ليست سببا لوجود الشرور لا بالمباشرة و لا بتوسيط الوجود الطبقي و الصراع الطبقي في المجتمع.

و إذا لم تكن الملكية الخاصة سببا للشرور، فلا معنى للقول بأن زوالها سبب لزوالها، كما هو واضح. إذن، فإزالة الملكية الخاصة، لا يمت إلى المصلحة العامة بصلة.

هذا، مضافا إلى وجود المفسدة في إزالتها اجتماعيا و فرديا. و ذلك ان شعور الفرد بالملكية الخاصة لما يمت له بصلة، يعطيه اطمئنانا نفسيا و استغناء عن معطيات الآخرين، و اندفاعا نحو العمل، بخلاف سلبها عنه، فانه يعطيه الشعور بالذلة و الاتكالية و التخاذل.

فإذا أضيف إلى ذلك ما أشرنا إليه من التركيز الماركسي على أهمية الجانب الاقتصادي في حياة الانسان، خرج الأمر حينئذ عن كونه مجرد عادة إلى حديث (علمي) يركز في نفس الفرد أهمية الاقتصاد، و من ثم أهمية الملكية الخاصة، باعتبارها من أجلى أشكاله و تطبيقاته. و إذا كان الفرد كذلك، كان المجتمع كذلك، فانه متكون من هؤلاء الأفراد أنفسهم.

و زيادة الانتاج بشكل واسع جدا، لا يدفع هذا الشعور الذي أشرنا إليه، فإن هذا الشعور إن كان مضمونه عدم الارتياح لأجل احتمال عدم حصول الفرد ما يسد حاجاته الأولية أو الثانوية، فإن هذا المضمون يزول بزيادة الانتاج، لا محالة إلا أن الشعور الذي أشرنا إليه ليس هو ذلك... إن المالك يشعر بدرجة

ص:387

من الاطمئنان و الركون و (التعاطف) مع ما يملك، باعتبار أنه مشارك في سدّ حاجاته أولا، و في تكوين شخصيته الاجتماعية ثانيا، و الاستغناء عن توقع خيرات الآخرين ثالثا. و هو بالتالي مشارك في تقليص الشعور (بالاغتراب) و الانفراد في هذا العالم.

خذ إليك مثلا، وجود الأصدقاء، أو الأبوين بالنسبة إلى الصغير، أو الزوجة أو الزوج، فانهم جميعا يشاركون بشكل و آخر في تقليص الشعور بالاغتراب لا محالة. و يقابل ذلك حالة الفرد الفاقد لهؤلاء أو لبعضهم، فإن شعوره بالاغتراب يكون متزايدا. فكذلك صفة المال بشكل و آخر، حين يشعر الفرد أنه مالك له و مسيطر عليه، و يقابله حالة الفرد الفاقد للملكية بالمرة، فإن شعوره بالاغتراب يكون متزايدا، و الشعور بكونه عيالا في قضاء أخص حاجاته، على أولئك الآخرين الذين يقسمون الأموال العامة المتوفرة... يكون في نفسه واضحا. و مع وجود هذا الشعور توجد العقد النفسية و ردود الفعل السلوكية السيئة، و تصعب التربية الصالحة للفرد إلى حد كبير. إذن، فيجب تجنب إلغاء الملكية، لأجل تجنب هذه النتيجة.

- 11 - هذا، و قد انفتح لنا من المناقشة الثانية لزوال الملكية الخاصة، في الفقرة السابقة، دليل واسع في مناقشة كثير من الظواهر التي يفترض وجودها في الطور الأعلى مما سردته المصادر الماركسية، كأنها قد أحسته و عاشته، كما تعيش أي شيء في الحياة. و هو إنما يستنتج من المصدر الثالث الذي ذكرناه في الفقرة الثانية من هذه المناقشات، و هو اجتهاد الرأي و الاستنتاج الشخصي ليس إلا.

إننا إذا قسنا المجتمع إلى تطور وسائل الانتاج من زاوية ماركسية، وجدناها على قسمين:

القسم الأول: ما شاهدنا و عرفنا حسيا تغيره في العهود التي مرت علينا من التاريخ البشري بتطور وسائل الانتاج، كالظواهر السياسية و العقائد الاجتماعية و المستويات الثقافية، و غيرها، مما تعتقد الماركسية بتغيرها بتطور وسائل الانتاج.

إن مثل هذه الظواهر، يمكن التنبوء بتغيرها بتطور جديد من تطورات وسائل الانتاج في المستقبل، قياسا له على الماضي.

ص:388

القسم الثاني: ظواهر لم تمر علينا في التاريخ البشري السابق، و إنما يتوقع وجودها في المستقبل في الطور الأعلى فقط... و هو لم يحدث إلى الآن و لم يصبح حسيا و لا تجريبيا.

فمثل هذه الظواهر، لا يمكن أن نتنبأ بتغيرها أو بشكل تغيرها في ذلك الحين نتيجة لتطور وسائل الانتاج. فإننا لا نملك دليلا حسيا على ذلك، و ما لم يكن محسوسا لم يكن موجودا، لو لم يكن الاستدلال على وجوده و الجزم بتحققه، كما يرى الماديون عامة، و الماركسيون خاصة.

و أوضح مثال على ذلك ما عرفناه من زوال الملكية الخاصة، زوالا كاملا.

و من ذلك أيضا: زوال الفرق بين المدينة و القرية و بين الصناعة و الزراعة، و توثق النشاط الانتاجي بينهما. و انه ستتطور أشكال تعاون الانتاج بين المناطق الاقتصادية في البلاد، و الروابط الاقتصادية بين المؤسسات في إطار المناطق نفسها، و المساعدة المتبادلة بين شغيلة المؤسسات المنفردة، و بالتالي ستظهر شغيلة العمل الشيوعية الموحدة و العالية التنظيم - كما سمعنا كل ذلك من أفاناسييف(1).

و قال أيضا:

«فعلى أساس من التطور المتواصل للقوى المنتجة للكولخوزات سيرتفع تدريجا مستوى اتساع الانتاج الكولخوزي بالطابع الاجتماعي... و سيتخذ مقاييس أوسع فأوسع بناء المراكز الكهربائية و مؤسسات تصنيع المنتجات الزراعية... و مع تطور كهربة القرية و إشاعة المكننة و الأتمتة في إنتاج المنتجات الزراعية ستتحد وسائل الانتاج الكولخوزية أكثر فأكثر، مع وسائل الشعب بأسره، و مع تطور الاقتصاد الاجتماعي»(2).

إلى آخر ما يسرده أفاناسييف من صفات المجتمع في الطور الأعلى، كأنه رآه رأي العين. و قد عرفنا الآن أن كل ذلك مما لا يمكن التنبوء به بالنسبة إلى الماركسية، فانها أشكال من التغير غير معهودة في التاريخ البشري المعروف.

- 12 - و لا بد لنا هنا أن نقول كلمة عن الاشكال المعروف في وجود الطور الشيوعي الأعلى، الذي ذكرنا له عدة وجوه في الفقرة الثالثة عشرة من الحديث عن الطور الأعلى.

ص:389


1- (1) انظر: أسس الفلسفة الماركسية: أفاناسييف ص 191-192.
2- (2) المصدر: ص 191.

و قد سبق في الفقرة السابعة من هذه المناقشات، أن ذكرنا صحة عدد من تلك الوجوه و ناقشنا أجوبتها التي ذكرها الماركسيون، و عرفنا أنها صحيحة الايراد على الفكر الماركسي.

و من هنا ينتج أن الماركسية لا تستطيع أن تتنبأ من زاويتها بوجود المستقبل السعيد للبشرية. و معه تكون قد توصلت إلى نتيجة صحيحة من مقدمات خاطئة و قاصرة عن الوصول إلى المطلوب.

و من هنا احتاج وجود المستقبل السعيد إلى برهان آخر، غير البراهين الماركسية. و سوف يفهم ذلك المستقبل عن هذا الطريق فهما جديدا غير الفهم الماركسي، بطبيعة الحال، كما سوف ندخل في تفاصيله عند الحديث عن اليوم الموعود.

بقي لدينا الوجه الذي ذكره كوفالسون لهذا الاشكال المعروف، و هو استبعاد مرور البشرية بالسعادة و الرفاه، بعد أن كان الانسان معتادا على الظلم و التجاوز على الآخرين. و قد أجاب عليه كوفالسون - كما سبق أن سمعنا -: بأن الانسان لم يخلق شريرا و انه قابل للتغيير، و ليس في الطبيعة ما يكون عقبة ضد بناء الانسان من جديد.

و هذا المقدار من الجواب صحيح، بغض النظر عن بعض تفاصيل كلام كوفالسون القابلة للمناقشة... فان البشرية تتربى باستمرار متجهة نحو ذلك المستقبل السعيد، و سيصاغ الانسان صياغة جديدة، و ليس ذلك على التخطيط الالهي بعسير، كما أشرنا إليه في الحلقتين السابقتين من هذه الموسوعة، و سنبرهن عليه مفصلا، بعد قليل، في القسم الثالث من هذا الكتاب.

و أما المشكلة التي أثارها كوفالسون، حول القضاء على الحضارة عن طريق حرب حرارية نووية عالمية... فقد اعترف أن هذا الخطر موجود فعلا، و هذا صحيح، و لكنه أسنده إلى الامبريالية الرأسمالية و نفاه عن الاشتراكية، و ادعى ان الاشتراكية تناضل من أجل السلام، لدحر الاستثمار و الاستعمار.

و قد عرفنا، بكل وضوح، أن هذا النضال من أجل السلام، لا ينطبق مع القواعد الماركسية، فإن كثيرا من التصرفات المشروعة بل الضرورية ماركسيا، قد تنتج حربا عالمية، كدكتاتورية البروليتاريا، أو القضاء على مجتمع رأسمالي أو الطبقة الرأسمالية، أو الدفاع عن الاشتراكية و الحفاظ على

ص:390

مكاسبها؛ و لا ترى الماركسية في هذه الحرب أمرا مستنكرا، ما دام هدفها مشروعا. و إنما تقر الماركسية الأمن و السلام و الحرية عند تطبيق «الطور الأعلى» في العالم أجمع، و حصول التغيير الجذري للانسان و المفاهيم الانسانية ككل، عندئذ يحصل السلام الكامل الدائم.

إذن، فحصول الحرب العالمية قبل حصول ذلك الهدف، يمكن أن يحصل بمبادرة من الماركسيين، كما يمكن أن يحصل بمبادرة من الامبرياليين الرأسماليين تماما. و مع حصوله من أي من الجانبين، يصبح التسلسل الاعتيادي للعهود المادية التاريخية منقطعا أو مشوشا، كما يصبح الوصول إلى الطور الأعلى متعذرا.

و أما نحن، فسنعرف أن الحرب العالمية الآتية، على تقدير حصولها، تكون في مصلحة إيجاد اليوم الموعود، و التخطيط الالهي لانجازه. و قد أشرنا إلى بعض زوايا هذه الجهة في (تاريخ الغيبة الكبرى) و سنذكره بكامل فكرته في ما يأتي من البحث.

ص:391

ص:392

القسم الثالث المستقبل السعيد للبشرية في التخطيط الالهي العام لتكامل البشرية

اشارة

ص:393

ص:394

منهجة البحث في هذا القسم:

يتم الكلام في هذا القسم خلال ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: في الأسس العامة التي يقوم عليها هذا التخطيط، و ينبثق منها.

المرحلة الثانية: في تفاصيله.

المرحلة الثالثة: في بعض تطبيقاته و مناقشات حوله.

و لا يخفى على القارئ ما كنا ذكرناه في الكتابين الثاني و الثالث من هذه الموسوعة عن هذا التخطيط، الذي حاولنا عرضه و توسيع فكرته تدريجا، تبعا للحقائق التي يحاط بها القارئ تدريجا...

إلا أن عرضنا الآن سيكون ذا مقدمات فكرية جديدة، و أشد تركيزا و أوسع تفاصيلا، مع توخي الاختصار فيما وسّعنا القول فيه هناك، محيلين القارئ على الجزءين السابقين نفسيهما، تحاشيا للتكرار.

ص:395

المرحلة الأولى الأسس العامة للتخطيط الالهي

- 1 - تبتني هذه الفكرة على الايمان بوجود خالق الكون الحكيم القادر، و لا يمكنها أن تنطلق من زاوية مادية على ما سنعرف.

و قد أصبح هذا الايمان علينا سهلا، بعد أن ناقشنا الفكر المادي في القسم الثاني من هذا الكتاب، و استطعنا بكل وضوح، إثبات فشله في تفسير الكون من ناحية و بطلان الفكرة التي يحملها عن مناشئ الدين، و عن التعويض عن الخالق بالقوانين العامة، و غير ذلك. و نحن نحيل القارئ في الاطلاع الكامل على تفاصيل العقائد الدينية على بحوث غير هذا الكتاب.

- 2 - و قد سبق أن أشرنا خلال عرضنا لمناقشات الماركسية حول تأثير قوى الانتاج في تطوير المجتمع، إلى أن محركات الكون و أسباب حوادثه و تطوراته عموما و المجتمع البشري خصوصا، تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: الأسباب الطبيعية العامة، التي تسمى عادة بالقوانين الكونية، و هي قهرية التأثير و خارجة عن اختيار الانسان، و شاملة لسائر الكون بما فيه المجتمع البشري نفسه.

القسم الثاني: العلة الغائية من وجود الكون، كما سبق أن أوضحناها، و سيأتي الشيء الكثير من تفاصيلها.

القسم الثالث: الأفعال الارادية و الاختيارية أو الواعية للبشر أنفسهم، أو لأي فاعل مختار عموما.

و قد عرفنا أن القسمين الأول و الثالث، خاضعان خضوعا كليا و قهريا للقسم الثاني، باعتبار أن الأهداف التي توخاها الخالق الحكيم القدير من خلقه

ص:396

للكون، لا بد أن تحدث، و إلا كان ذلك مخالفا لفكرة استهدافه لهذه الأهداف، و من ثم مخالفا لحكمته و ناقضا لغرضه، و هو مستحيل بالنسبة إلى الحكيم المطلق.

و قد أسس الخالق القدير القسمين الأول و الثالث من الأسباب من أجل أن تكون طريقا سهلا، أو هي أفضل الطرق، لا يجاد تلك الأهداف البعيدة و من هنا لا يمكن لهذه الأسباب - مع الحاجة إليها - أن تتخلف، كما لا يمكن لها - مع عدم الحاجة إليها - أن تكون عائقا عن تلك الأهداف، بل ان السبب الأصلح لايجاد تلك الأهداف هو الذي يأخذ طريقه إلى الوجود، لا محالة.

و قد أشرنا في رسالتنا عن «المعجزة في المفهوم الاسلامي» إلى أن الأغلب هو وقوع السببين المشار إليهما في طريق تحقق تلك الأهداف، و من هنا جعلهما الخالق الحكيم ساريي المفعول في كونه، إلا أنه قد يحدث أحيانا أن تتوقف تلك الأهداف على انخرام بعض تلك الأسباب، كالتخلف الجزئي لقانون الجاذبية مثلا، فان انخرامها يكون ضروريا، و بقاءها في عالم الوجود في ذلك المورد يكون مستحيلا، بل تتبدل لا محالة إلى ما هو الأصلح لايجاد الأهداف العليا من الكون. و هذا هو الأساس الأعمق لوجود المعجزات و فلسفتها.

و كذلك السبب الثالث، و هو وعي الناس و حرية إرادتهم، فانه مصمم خصيصا لأجل الوصول إلى تلك الأهداف. و قد أعطي الناس حدودا معينة للنشاط تنسجم مع تلك الأهداف، بمقدار ما هو موافق للحكمة الواقعية للأشياء. و من ثم قلنا، خلال مناقشتنا لقوى الانتاج الماركسية: ان اختيار الانسان لا يعقل أن يحول دون الوصول إلى تلك الأهداف، بل ان أي فعل أو أي قول من أي إنسان، صالحا كان أو باطلا، ضحلا كان أو عميقا، مؤثرا كان أو عاطلا، واقع لا محالة ضمن الطريق الموصلة إلى تلك الأهداف.

و هذا - كما أشرنا أيضا - لا يقتضي الالتزام بالجبر، أو قسر الناس على أفعالهم من قبل الخالق، لأن الأهداف - كما سنعرف - متوقف إنجازها على الاختيار، فإذا ارتفع الاختيار و حصل القسر زال الطريق الأفضل إلى تلك الأهداف، و هو خلاف الحكمة و نقض للغرض، و هو يستحيل من الحكيم، و سنلمع إلى فكرة عن توقف تلك الأهداف على الاختيار.

ص:397

- 3 - يستحيل أن تكون العلة للكون، هي حصول الكمال في ذات الخالق، أو حصول نفع له بأي شكل من الأشكال: بعد أن برهن في بحوث العقائد الاسلامية، أنه هو الكامل المطلق المستغني عن كل شيء، و ليس في ذاته حالة متوقعة يمكن حصولها بمثل هذه المقدمات.

و إنما تعود العلة الغائية، و يتعلق (الهدف) بالكون نفسه، و هو - كما سبق أن عبرنا -: وصوله إلى كماله الممكن له، يعني أحسن حالة واقعية يمكن أن يصل إليها الكون في طريق حركته نحو الأفضل.

و هذه الحالة الواقعية ليس لها تحديد حدي، لأن مراتب الكمال المعقولة أو الممكنة، كثيرة جدا أو غير متناهية؛ إذن، فكل ما في الأمر: أن الكون يتكامل و يتكامل بالتدريج المستمر، نتيجة لعوامل معينة، و مهما وصل إلى مرتبة من الكمال، طرق باب المرتبة اللاحقة، و هكذا، و لكنه يستحيل أن يصل إلى اللانهاية، كما قام البرهان عليه.

و حسبنا من ذلك الآن، أن نعرف: أن هناك مراتب عليا من الكمال الكوني، يقصدها الكون بحركته نحو الأفضل، طبقا لتدبير الخالق و تخطيطه.

و قد ألمعنا فيما سبق إلى أننا لا نستطيع أن ندرك كنه تلك الحالة الواقعية و تفاصيلها، ما دمنا موجودين في ضمن المرحلة المعاصرة و الحالة الحاضرة، و محددين من كل جهاتنا بحدود زمانية و مكانية و فكرية لا فكاك لنا منها(1).

- 4 - و إذا طبقنا هذه العلة الغائية على البشرية، أمكن ذلك أيضا، بل هو

ص:398


1- (1) و قد يخطر في الذهن: انه لما ذا لم يوجد الخالق الكون كاملا من أول مرة، فيكون في غنى عن مقدمات سيره نحو الكمال، التي قد تكون بعضها في غاية الصعوبة. و جواب ذلك ممكن في عدة وجوه نذكر منها اثنين: أولا: ان إيجاد الكون كاملا ابتداء، ان كان معناه وجوده لا نهائيا و مطلقا من جميع الصفات، فهذا مستحيل كما تم البرهان عليه في محله. و إن كان معناه وجوده دون اللانهاية، فمعنى ذلك بقاء خطوات لا نهائية و سلسلة غير محدودة من خطوات التكامل أمامه، لم يطرقها بعد، و يكون له أن يسير فيها دون أن يبلغ آخرها. فقد عدنا إلى التكامل و مقدماته التي هرب منها السائل. ثانيا: اننا نحتمل - على أقل تقدير - ان إيجاد الكمال بعد المقدمات الطويلة و الصعبة، أصلح و أحسن إنتاجا من إيجاد الكمال من أول الأمر، و من هنا وقع الاختيار عليه.

ضروري الانطباق، باعتبار أن البشرية جزء خاص من الكون العام.

فالبشرية أيضا سائرة نحو كمالها الممكن لها و الحالة العليا الواقعية المستهدفة لها. و هي تسير أيضا طبقا للسببين الأول و الثالث اللذين ذكرناهما و حللنا تأثيرهما.

و لكننا نستطيع أن نضع عدة فروق بين تكامل الكون و تكامل المجتمع، نذكرها كأطروحة محتملة، لا كشيء تام النجاز.

أولا: إن الكون في حركته اضطراري و قسري. بمعنى أن السبب الأول، و هو ما يسمى بالقوانين الكونية، هو الذي يحركه نحو الكمال. و بتعبير آخر أصح: إن بعض أجزائه تفسر بعضا على الحركة، و ليس له حرية الاختيار.

في حين أن حركة البشرية نحو الكمال، متوقفة على الاختيار و حرية الارادة، حيث يصبح الفرد أفضل إذا اختار الفعل الأحسن، كما يصبح هو الأدون إذا اختار الفعل الأسوأ، و لا تكامل من دون حرية.

ثانيا: إن الكون في حركته طويل الأمد جدا، قد لا يمكن قياسه حتى بملايين السنين، على حين أن حركة البشر نحو الكمال، ليس بذلك الامتداد، و لم يفكر أحد أو يزعم أن عمر البشرية مثل عمر الكون بأي حال.

ثالثا: إن الأهداف المتوخاة للبشرية يمكن تصورها و تحديدها إلى حد كبير، بخلاف الأهداف الكونية، فانها غير محددة في أذهاننا. و لعل ذلك يعود إلى بعد الأهداف الكونية، و قرب الأهداف البشرية نسبيا، و الغاية كلما كانت - أقرب، كانت أوضح و أصرح.

رابعا: اننا لا نستطيع أن ندرك فقط أهداف البشرية، بل الأساليب و الطرق الفضلى التي دبرها الخالق للوصول إلى تلك الأهداف. و سيأتي الالماع إلى تلك الأهداف و إلى طرقها، فانها هي التي تشكل الأساس الحقيقي لفكرة التخطيط الالهي العام لتكامل البشرية.

فهذه أهم الفروق بين الكون و البشرية. و سنفرض صحتها ردحا من الزمن. لا بمعنى انها باطلة في الواقع، و لكن بمعنى أنها قد تكون مبالغا فيها، و ان الفجوة بين البشرية و الكون أقل بكثير مما تعطيه هذه الفروق. و لعل تسلسل البحث كفيل بإبراز هذا المعنى تدريجا.

و لا ينبغي أن يكون التقليل من حدودها، منتجا لبطلان نتائجها الآتية،

ص:399

و إنما تتحدد نتائجها في حدود صدقها، بطبيعة الحال. هذا معنى ما قلناه من اننا سنفرض صحتها ردحا من الزمن.

- 5 - من الواضح، بعد الذي قلناه، من تسخير السببين الأول و الثالث لمصلحة السبب الثاني، و هو الأهداف المتوخاة من وراء وجود الكون... من الواضح انه لا يمكن أن يوجد شيء من تطبيقات ذينك السببين ناقصا عن حاجة تلك الأهداف، كما لا يمكن أن تكون التطبيقات زائدة أيضا. إذ أن وجودها بهذا الشكل أو ذاك يعني عدم التوصل إلى تلك الأهداف بالشكل المطلوب، و هو مخالف للحكمة و للغرض فيكون مستحيلا.

و عدم إمكان النقصان، يعني أمرين:

الأمر الأول: إن ساحة الكون العامة، أو مجموع تسلسل الحوادث في الكون، لا يحتوي على أي نقصان، بل كل الحوادث الواقعة يحتاجها الكون لا محالة لوصوله إلى غاياته.

الأمر الثاني: أي شيء بعينه مما قد يحتاجه الكون في هذا الصدد، في الواقع، فهو موجود بالضرورة، و لا يمكن أن لا يكون كذلك. لا يختلف في ذلك الماضي و الحاضر و المستقبل.

كما ان عدم إمكان الزيادة يعني أمرين موازيين لذينك الأمرين السابقين:

الأمر الأول: إن ساحة الكون العامة، لا تحتوي على أي زيادة، بل كل الحوادث الواقعة فيه، إنما هي محتاج إليها فعلا في الوصول إلى الأهداف و ليست زائدة بأي حال.

الأمر الثاني: إن أي شيء بعينه مما لا يحتاجه الكون في الوصول إلى أهدافه، يعتبر زيادة، و من ثم لا يمكن أن يكون موجودا.

و مهما يكن السبب الأول قهريا اضطراريا، و مهما يكن السبب الثالث و هو اختيار الناس و أفعالهم، فعالا و قويا، فانه لا يمكن أن يخرج عما هو مكرس له و هو إيصاله إلى تلك الأهداف، و من ثم لا يمكن أن يخرج عن هذه الأمور الأربعة. و بتعبير آخر: لا يمكن لشيء في الكون أن يحدث النقيصة أو الزيادة فيه بالنسبة إلى إيصاله إلى أهدافه.

ص:400

- 6 - و من أهم تطبيقات هذه الفكرة، وجود البشرية نفسها، و تكاملها أيضا، و التخطيط من أجل هذا التكامل.

إذ يتبرهن مما سبق أن وجود البشرية بصفته أحد أجزاء الكون، لا يمكن أن يكون زائدا و لا ناقصا عن استهداف تلك الأهداف، بل هي مرتبطة ارتباطا وثيقا بالتقديم و التهيئة لتلك الأهداف لا محالة. حالها في ذلك حال كل أجزاء الكون الأخرى.

و بالطبع، فإن البشرية المتكاملة الصق بتلك الأهداف العليا، و أكثر إنجازا لها من البشرية الناقصة... إذن، فينبغي أن تتكامل البشرية - بعد أن وجدت ناقصة - لكي تقع في طريق تلك الأهداف. و من هنا يثبت أن التمهيد أو التخطيط لتكامل البشرية داخل ضمن التخطيط العام لتكامل الكون و الوصول إلى أهدافه العليا.

- 7 - و من هنا نعرف أن البشرية تعيش تخطيطين مقترنين متعاونين لأجل تكاملها نحو الأفضل.

التخطيط الأول: التخطيط الكوني العام للوصول إلى أهدافه البعيدة، تعيشه البشرية بصفتها جزءا من الكون العام. و من الواضح أنه لا يخصها بالتعيين أو ينتج فيها شيئا بصفتها الخاصة، و إنما ينتج فيها الكمال، أو يشارك فيه بصفتها جزءا من الكون ليس إلا.

نعم، يصلح هذا التخطيط أن يكون الأساس الذي يبتني عليه التخطيط الثاني الذي سنذكره، بمعنى انه افترض في بناء التخطيط الثاني الفراغ من صحة التخطيط الأول؛ تماما كما تفترض صحة قانون الجاذبية مثلا عند بناء سيارة أو ناطحة سحاب.

و هذا التخطيط قسري التأثير في البشرية اضطراري النتائج، لأنه يعبر، فيما يعبر عنه، عما يسمى بالقوانين الكونية العامة، التي عرفنا انها جعلت لأجل مصلحة الايصال إلى الأهداف البعيدة.

التخطيط الثاني: تخطيط خاص بالبشرية، قائم على استعمال الاختيار في تكاملها، بمعنى أنها تتكامل نتيجة لأعمالها و تصرفاتها و ردود أفعالها تجاه الوقائع

ص:401

المختلفة. و هذا هو الذي نسميه بالتخطيط الالهي العام لتكامل البشرية.

و هو بدوره يشارك في التخطيط الأول. فإن هذا التكامل إنما يراد من أجل التهيئة إلى الأهداف الكونية البعيدة، فيكون التخطيط الثاني مقدمة لهذه التهيئة، فهو مجعول ليكون واسطة غير مباشرة لتلك الأهداف العليا أيضا.

- 8 - إن السبب الثاني من الأسباب الثلاثة لتطور الكون، التي ذكرناها في الفقرة الثانية من هذه الأسس العامة، ان هذا السبب بصفته سببا غائيا، يعني مجرد استهداف النتائج العليا المتوخاة من إيجاد الكون. فقد يبدو لأول و هلة أن هذا السبب لا يعين الأسلوب الذي يتخذه السبب الأول الذي ذكرناه إلى جنبه، و هو ما يسمى بالقوانين الكونية، بل ان السبب الثاني يتحدد بحدود السبب الأول، أي ان استهداف تلك النتائج العليا يكون بالأسلوب الذي تتخذه تلك القوانين.

و هذه القوانين قد تكون هي القوانين الكيماوية - الفيزياوية بوجودها الساذج أو بتصورها البسيط. و قد تكون هي النظرية النسبية و قد تكون هي الديالكتيك الماركسي، و قد تكون هي نظرية المجال الموحد، و قد تكون أمرا آخر. ان مجرد الاستهداف لا يعين واحدا منها، بل يعمل في حدود ما هو الموجود.

هذا، و لكن الصحيح اننا تارة ننظر إلى الاستهداف بصفته واقعا و كونيا مخططا من قبل الخالق الحكيم. و أخرى ننظر إلى مقدار معرفتنا بذلك.

فإن نظرنا إلى الواقع، لزمنا أن نكرر ما قلناه من أن معنى الاستهداف هو اختيار الطريق الأفضل للوصول إلى ذلك الهدف، و أي أسلوب كان هو المعين وجوده في الكون، دون غيره، سواء كان هو الديالكتيك أو النظرية النسبية، أو غيرها، و يرجح تعيين الأفضل إلى الخالق الحكيم نفسه. إذن، فالاستهداف يعين القانون في الواقع، لا انه يجري في ضمن حدود القانون.

و اما طبقا لما قلناه من إنكار وجود القوانين الكونية، فالأمر أوضح، كما هو واضح لمن يفكر.

و إن نحن نظرنا إلى معرفتنا بالاستهداف، فإن كنا جاهلين بالأسلوب الأفضل له، و كانت كل هذه القوانين التي عددناها على حد سواء في احتمال

ص:402

انطباقها على الكون،... إذن، نكون عاجزين عن تعيين واحد منها بالنسبة إلى الاستهداف. و هنا يصح هذا التعبير: ان الاستهداف لا يعين قانونا كونيا معينا، يعني في حدود معرفتنا.

و إن كنا عالمين بالأسلوب الأفضل من هذه الأساليب أو غيرها، فنستطيع أن نجزم أنه هو المتعين، في الاستهداف الكوني العام. و أيضا، لو كنا عالمين بعدم صلاحية بعض الأساليب أو القوانين للاستهداف، نستطيع أن نجزم بعدم وجوده و عدم سريانه في الكون، كما استطعنا البرهنة عليه بالنسبة إلى قانون الديالكتيك في القسم الثاني من هذا الكتاب.

- 9 - و هذا الذي قلناه في التخطيط الكوني، منطبق تماما على جزئه، و هو التخطيط العام لتكامل البشرية، و هو التخطيط الثاني الذي ذكرناه في الفقرة السابعة.

فإن الاستهداف الواقعي لهذا التكامل يعين أفضل الأساليب و المناهج للوصول إليه؛ كل ما في الأمر، اننا إذا كنا مطلعين على ذلك فهو المطلوب، كما اننا لو كنا مطلعين على بطلان بعض الأساليب أو عدم صلاحيته للاستهداف أيضا، استطعنا نفيه أيضا. و إن كنا جاهلين بالأصلح منها و الباطل، كان الاستهداف في نظرنا محتملا لها جميعا.

و لكن الفرق بين التخطيط الكوني و التخطيط البشري، من حيث أساليبهما، اننا نجهل في الأغلب الأسلوب الأفضل للكون، فلئن أقمنا البرهان على بطلان الديالكتيك، بقي الباقي محتملا على أي حال. و من هنا يضطر الباحث إلى أن يعين كون الأسلوب أو القانون صالحا للاستهداف بإقامة البرهان «العلمي» على كون الأسلوب المعين هو الصحيح الساري في الكون. فلو ثبت مثلا، أن نظرية المجال الموحد هي السارية في الكون ثبت تبعا لذلك أنها هي الأسلوب الأفضل للاستهداف، إذ لو لم تكن كذلك للزم تبديلها إلى الأفضل، و من ثم لم تكن هي السارية المفعول في الكون.

و لكن بالنسبة إلى التخطيط «البشري» يستطيع الباحث بما أوتي من فكرة و عمق، أن يدرك أن هذا هو الأسلوب الأفضل أو ذاك، أو أن هذا ليس هو الأسلوب الأفضل. إذ من الواضح أن الخصائص البشرية فردية و اجتماعية،

ص:403

معاشة للناس و قريبة المنال إليهم، بخلاف الخصائص الكونية، فانها بعيدة عنهم و أوسع من إدراكاتهم.

فالأساليب المحتملة لتكامل البشرية: كالعلم و الدين و القانون و نظريات العامل الواحد: الجنسية أو الاقتصادية، يمكن أن نبرهن على صحة بعضها و نفي بعضها الآخر. و كل أسلوب برهنا على صحته يتعين أن يكون هو الأسلوب الأفضل و التخطيط المتبع لتكامل البشرية.

و كل أسلوب برهنا على زيفه و بطلانه في نفسه، كما أسلفنا بالنسبة إلى المادية التاريخية، يتعين عدم كونها هي السارية المفعول و عدم كونها صالحة للاستهداف.

- 10 - و إذا أردنا أن نعقد مقارنة بين هذه الأفكار التي قلناها و بين الفهم الماركسي للكون و الحياة، وجدنا أن التخطيط الالهي لتكامل الكون يوازي قانون الديالكتيك الماركسي، بصفتهما يمثلان الأسلوب العام لقيادة الكون و تدبيره.

و أما التخطيط العام لتكامل البشرية، فهو يوازي المادية التاريخية بصفتهما يمثلان الأسلوب العام لقيادة البشرية و تدبيرها.

و هنا أود أن أشير إلى أن العناصر الثلاثة التي كانت هي المغريات و نقاط القوة في الفكر الماركسي، و هي:

أولا: تقديم نظرية عامة لفهم الكون كله.

ثانيا: تقديم نظرية عامة لفهم التاريخ البشري.

ثالثا: التنبوء بيوم السعادة البشرية في المستقبل.

و هذه الأمور كلها استطعنا التعويض عنها من الزاوية الالهية، و تبديلها بما هو أفضل، كما سيتضح من المقارنة و بما يليها من البحوث.

و لدى المقارنة ينبغي بنا ان نقسم الحديث إلى مقارنة التخطيط الكوني بالقوانين الكونية الماركسية، كالديالكتيك و قانون التغير النوعي... و إلى مقارنة التخطيط «البشري» بالمادية التاريخية. و ستكون المقارنة موجزة و منطلقة من أسس عامة، و أما مقارنة التفاصيل أو المقارنة التفصيلية، فينبغي أن تفهم من مجموع البحوث الآتية.

و عند مقارنة الديالكتيك و رفاقه بما يوازيه من التخطيط نجد عدة حقائق:

ص:404

الحقيقة الأولى: ان بين التخطيط الكوني و القوانين الماركسية فرقا جوهريا، هو: ان التخطيط يندرج في السبب الثاني من الأسباب الثلاثة التي ذكرناها في الفقرة الثانية من هذا العرض، أعني أنه سبب غائي أو استهدافي كما عبرنا. على حين يندرج الديالكتيك و رفاقه في القسم الأول من تلك الأسباب أعني الأسباب الكونية الاضطرارية أو ما يسمى بالقوانين عادة.

و هذا الفرق يجعلنا وجها لوجه أمام ما قلناه قبل قليل: من أن الديالكتيك لو كان صحيحا في نفسه، لقلنا بأنه صالح للاستهداف(1)، و جمعنا بينه و بين التخطيط الكوني، باعتبار أن السببين الأول و الثاني مجتمعان دائما و غير متنافيين، كما عرفنا. و لقلنا أيضا أن قانون الديالكتيك و رفاقه مما جعله الخالق الحكيم في كونه لأجل الوصول إلى الأهداف البعيدة. فإن هذا القانون بحد ذاته، ليس إلحاديا، و انما قرنه الماركسيون بالإلحاد اجتهادا. نعم، هو قانون مادي، بمعنى أنه متعلق بالمادة و يعتبر من قوانينها، على تقدير صحته.

إلا انه قانون غير صحيح، كما سبق ان عرفنا مفصلا؛ و معه ينتج أنه غير صالح للاستهداف، و غير ساري المفعول في الكون.

الحقيقة الثانية: ان التخطيط الكوني، خال من الاشكالات التي كانت واردة على الديالكتيك و رفاقه، و التي فصلناها فيما سبق(2). فانها جميعا كانت منطلقة من مفاهيم خاصة بالقوانين الماركسية، يخلو منها التخطيط الكوني تماما.

الحقيقة الثالثة: ان التخطيط الكوني، يحتوي على عدة نقاط قوة تفقدها القوانين الماركسية:

النقطة الأولى: ان الديالكتيك يفسر حوادث الكون و تطورها. و اما بالنسبة إلى أصل وجود الكون فالماركسيون يرون أزليته و انه لا يحتوي على حكمة و هدف بالمرة، كما سمعنا مفصلا.

و اما التخطيط الكوني فهو يفسر حوادث الكون و تطورها، بدلا عن الديالكتيك و رفاقه... و يفسر أيضا أصل وجود الكون و يعتبره ناشئا عن حكمة و هدف لا محالة، و هو واضح بعد الاعتراف بوجود الخالق، فإن الماركسيين لا يمكنهم أن ينكروا ان الخالق لو كان مطلق الحكمة و القدرة، إذ لم يزعم أحد وجود

ص:405


1- (1) أعني وضعه وسيلة في طريق الهدف. و سيتكرر هذا الاستعمال فلاحظ.
2- (2) انظر الفصل الخاص بمناقشة الديالكتيك في القسم الثاني من هذا الكتاب.

خالق ضعيف و جاهل... مضافا إلى البراهين الصحيحة القائمة على ذلك.

لا يختلف الحال في وجود الاستهداف بين أزلية الكون و حدوثه، بعد الاعتراف بوجود الخالق الحكيم، إذ لو لا هذا الاستهداف لما أوجده الخالق منذ الأزل... و ان كان الصحيح هو بطلان القول بالأزلية، كما أسلفنا عند مناقشة الماركسية.

و قد يخطر في الذهن: انه لا معنى للاستهداف مع الأزلية، إذ معها تكون قد تحققت الأهداف المطلوبة منذ زمن طويل.

إلا أن هذا الكلام غير صحيح: لأن درجات الكمال غير متناهية، كما قلنا، فمهما صعد الكون في درجات الكمال، بقيت أمامه درجات غير متناهية أيضا، و لا يعني وجوده منذ الأزل أنه قد أتم هذه الدرجات إلى الآن، كما هو واضح.

النقطة الثانية: ان التخطيط الكوني أقوى فعالية و تأثيرا في الكون من الديالكتيك، بل من كل (قانون) كوني بعينه. باعتبار كون التخطيط سببا خارجيا عن الكون، مفروضا عليه من قبل حكمة الخالق القدير، بخلاف الديالكتيك و غيره فانه سبب داخلي. و لا شك ان السبب الخارجي، و هو الخالق الحكيم، أقوى تأثيرا في قيادة الكون من قانون الديالكتيك الذي هو - لو صح - صفة من صفات المادة ليس إلا.

و قد سبق أن عرفنا أن السبب الأول أعني القوانين الكونية تابعة في وجودها و نفوذها الكوني للسبب الثاني أعني التخطيط، دون العكس.

النقطة الثالثة: ان التخطيط الكوني يشارك بدوره في تربية البشرية و تكاملها إلى جانب تخطيطها الخاص، كما سبق أن عرفنا. على حين لا يشارك الديالكتيك بأي شكل من الأشكال في تكامل البشرية إلى جنب المادية التاريخية، لو كانت بدورها تقوم بهذا التكامل. بل يبدو الديالكتيك و المادية التاريخية قانونين متفاصلين في التأثير تماما.

نعم، الديالكتيك شامل للبشرية كشمول التخطيط الكوني، إلاّ أن التخطيط الكوني يؤثر فيها مربيا لها و موجبا لتصاعدها في درجات الكمال باتجاه أهدافها العليا أولا، و الأهداف الكونية البعيدة ثانيا. على حين ان قانون الديالكتيك يبدو كحركة ديناميكية في المادة جافة لا تأثير له بالمرة في نفع البشرية

ص:406

و كمالها.

و أما مقارنة التخطيط العام للبشرية بالمادية التاريخية، فتعطينا عدة حقائق يوازي أكثرها الحقائق التي عرفناها من المقارنة مع الديالكتيك.

الحقيقة الأولى: إن التخطيط العام للبشرية سبب غائي استهدافي، يندرج في القسم الثاني من الأسباب الثلاثة السابقة. بينما ان المادية التاريخية، حين يقصد بها تأثير قوى الانتاج في تطوير المجتمع و تغييره، تكون مندرجة في القسم الأول من الأسباب الثلاثة السابقة.

و قد عرفنا ان السببين الأول و الثاني يمكن اجتماعهما، بل هما متعاونان و مشتركان في التأثير، إذا كان كلاهما صحيحا و ساري المفعول. فإذا صحت المادية التاريخية أمكننا أن نعتبرها الأسلوب الأفضل في التخطيط لتكامل البشرية. فإنها - كما قلنا في الديالكتيك - غير مبتنية بحد ذاتها على الالحاد، و ان قرنها الماركسيون بذلك اجتهادا. بل ان عدم ارتباطها بالالحاد أوضح من الديالكتيك، لأنها لا تتضمن مثله تفسيرا عاما للكون، و من ثم لا ترد فيها الفكرة المادية القائلة، بإمكان التعويض بها عن افتراض وجود الخالق.

هذا، و لكننا قد عرفنا بطلان المادية التاريخية، و ان تأثير قوى الانتاج في تغيير المجتمع و تطويره مما لا يمكن التفوه به.

و هذه الحقيقة الأولى توازي الحقيقة الأولى، في مقارنة الديالكتيك.

الحقيقة الثانية: إن التخطيط العام للبشرية يخلو من الاشكالات الواردة على المادية التاريخية، و هي كثيرة سبق أن ذكرناها مفصلا(1) تماما كأخيه التخطيط الكوني بالنسبة إلى الديالكتيك.

فإن تلك الاشكالات كانت ترد باعتبار ربط تطور المجتمع بقوى الانتاج و علاقات الانتاج، و هذا غير مربوط بالمرة بالتخطيط العام للبشرية، و سنعرف في المستقبل موقف هذا التخطيط من هذه المفاهيم.

و هذه الحقيقة تقابل الحقيقة الثانية من مقارنة الديالكتيك.

الحقيقة الثالثة: إن التخطيط «البشري» أكثر ارتباطا بالتخطيط الكوني، من ارتباط المادية التاريخية بالديالكتيك؛ فبينما لا نجد ان قانون

ص:407


1- (1) انظر الفصل الخاص بذلك.

الديالكتيك لا يكاد يعني شيئا مهما في تنظيم أسس المادية التاريخية و عهودها، فاننا نجد ان التخطيط البشري جزء من التخطيط الكوني و تطبيق من تطبيقاته، بل هو منجز من أجله و من أجل أهدافه، كما سبق أن عرفنا.

و بتعبير أوضح: إن كلا من التخطيط البشري العام و المادية التاريخية، معتمدان على رفيقهما الكوني، فلا معنى للتخطيط البشري بدون وجود تخطيط كوني، كما لا صحة للمادية التاريخية - ماركسيا - بدون الديالكتيك. لكننا من زاوية القانون الكوني، لم نجد للديالكتيك أي اعتماد على المادية التاريخية، و لا يهمه (!) وجودها و عدمه، بل لا يهمه وجود البشرية عموما. و أما التخطيط الكوني فهو معتمد على التخطيط البشري، فإنه جزء منه، و يهمه (!) وجود البشرية و تخطيط تكاملها، لأن تكاملها مشارك في تكامل الكون، كما سبق أن برهنا.

و من هنا أصبح الربط و الشد بين البشرية و الكون، أشد بكثير مما هو عليه في الفكر الماركسي.

الحقيقة الرابعة: إن التخطيط العام للبشرية منجز خصيصا من أجل تكامل البشرية و تربيتها، لكي تمر في تكامل بعهد الخير و السعادة و المستقبل الفاضل.

بينما نجد المادية التاريخية، لا تعني شيئا من هذا القبيل، فإن الأمور - طبقا لتصورها - تتطور بشكل عفوي خارج عن وعي الناس و إرادتهم، و إنما تتطور البشرية نحو الأفضل طبقا لقانون قهري، لا من أجل فهم و وعي خاص. فلا قوى الانتاج قد قصدت هذا التطور، و لا قصدته علاقات الانتاج و لا قصده أفراد المجتمع؛ و مع ذلك يوجد هذا التطور غير المقصود!!..

الحقيقة الخامسة: إن التخطيط العام للبشرية سبب غير اقتصادي تماما، و لا يربط تطور المجتمع بالعلاقات الاقتصادية، كما تحاول المادية التاريخية أن تفعل، حتى تكاد تصبح من نظريات ذات العامل الواحد.

و سنعرف موقف هذا التخطيط الاقتصادي و تطوراته، في مستقبل هذا البحث.

و ينبغي أن نلتفت الآن إلى أن هذا التخطيط لا يمكن أن يعتبر من نظريات

ص:408

العامل الواحد، باعتباره غائيا استهدافيا، لا سببا فاعليا، أي أنه من القسم الثاني من الأسباب الثلاثة لا من القسم الأول. و تقسيم النظريات إلى العامل الواحد و المتعدد، إنما يكون باعتبار القسم الأول لا الثاني. و هو ينسجم - كما عرفنا - مع أي عامل من القسم الأول أو عدة عوامل مما يثبت صحته و سريان مفعوله في البشرية.

الحقيقة السادسة: إن الماركسيين يؤكدون - كما سمعنا - وعي الناس و حريتهم في التصرف، و قد سمعنا أسلوب جمعهم بين الحرية و الضرورة و ناقشناه. إذن يمكن القول - بشكل أو آخر - ان المادية التاريخية متضمنة للوعي و الاختيار.

و كذلك التخطيط العام للبشرية، متضمن للاختيار، بل هو مبتن عليه و منطلق منه، كما عرفنا. مع الاحتفاظ - بطبيعة الحال - بما للكون من ضرورة و قسر في أسبابه و (قوانينه)، و الاختيار إنما يكون من خلال الفرص المعطاة للانسان خلال تلك الأسباب و القوانين.

و هنا نلاحظ ان الضرورة واردة من الكون، بمعنى البشرية نعيشها بصفتها جزءا من الكون، على حين تعيش الاختيار بصفتها الخاصة. و هذه الحقيقة تعبر عنها الماركسية بأن الضرورة واردة من قانون الديالكتيك و رفاقه و آخرية ناتجة من خلال وعي الأفراد. و أما نحن فنعبر عنه بأن الضرورة واردة من التخطيط الالهي الكوني، الذي عرفنا ان كل الأسباب و القوانين الكونية مسخرة في صالحه. و اما الحرية، فهي صفة قد فطر عليها الانسان من أجل إنجاح تكامله و تربيته بكلا التخطيطين الكوني و البشري.

و بهذا نعرف ان الضرورة الواردة من الكون، ضرورة عمياء في منطق الماركسية، و هي تعترف بذلك و لكنها ضرورة مبصرة و واعية و مربية في منطقنا، لأنها تتبع التخطيط الكوني للتكامل. كما ان الحرية حرية «عمياء» أي موجودة في الانسان بلا هدف، في منطق الماركسيين، على حين موجودة بهدف سام أصيل في منطقنا.

فهذه هي الجهات الأساسية العامة، في المقارنة بين التخطيط العام للبشرية و المادية التاريخية.

ص:409

- 11 - و هذا الأسلوب الذي اتخذناه في إثبات التخطيطين الكوني و البشري، لا يتوقف على الاعتراف بحقيقة دينية سوى الاعتراف بوجود الخالق الحكيم القادر. و هو ما استطعنا إثباته من خلال مناقشات الماركسيين.

و بهذا يكتسب هذا الأسلوب نقطة من نقاط القوة عن الأسلوب الذي أثبتنا به التخطيط «البشري» في الكتاب الثاني من هذه الموسوعة، و كان هناك بعنوان التخطيط الالهي لليوم الموعود(1)، و سنعرف أنه تطبيق مهم من تطبيقات التخطيط العام الذي نحن بصدده. حيث كان الاعتماد الرئيسي في إثباته على النصوص الدينية الاسلامية المقتنصة من القرآن الكريم، كقوله عز و جل:

و ما خلقت الجن و الانس إلاّ ليعبدون(2).

حيث كان لهذه الآية المجال الأكبر في إثباته، و لا حاجة بنا الآن إلى التكرار.

و ذاك الاستدلال صحيح لا غبار عليه، لمن يعترف بالاسلام و بصدق القرآن؛ و أما من لا يعترف به، فسوف لا يكون دليله صحيحا لديه. بخلاف ما ذكرناه في بحثنا الحاضر، فإنه شامل لكل مفكر منصف بمجرد اعترافه بالله تعالى.

هذا، و لكننا سنضطر في فهم تفاصيل التخطيط العام للبشرية إلى الاعتماد على النصوص الدينية، فإنه مما لا يثبت بمجرد تشغيل الذهن و التعمق بالتفكير.

- 12 - سوف نقتصر في مستقبل البحث على الحديث عن التخطيط العام لتكامل البشرية، و ندع التخطيط الكوني إلا من زاوية بعض الحاجة إليه، فإنه يحتاج إلى بحث مستقل. و قد عرفنا في أول هذا الكتاب: اننا نستهدف التعويض عن المادية التاريخية بفهم جديد للبشرية، و قد عرفنا ان ما يوازيها هو التخطيط الخاص للبشرية لا التخطيط الكوني. إذن، فمن المنطقي أن نقصر حديثنا عن هذا التخطيط المطلوب.

ص:410


1- (1) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص 233، و ما بعدها إلى عدة صفحات.
2- (2) الذاريات: 56/51.

هذا و من اللازم أن نشير في ختام هذه الأسس العامة للتخطيط، ان هناك أمورا ذكرناها لدى مناقشتنا لعلاقات الانتاج الماركسية، تعتبر جوهرية في هذا التخطيط، لا حاجة إلى تكرارها هنا... من أهمها البرهان على ضرورة استهداف الخالق الحكيم للأهداف العليا في الكون. و منها: عدم منافاة التخطيط العام مع اختيارية الانسان و ان الإنسان مهما أدى من عمل فإنه يخدم الهدف البشري الأعلى، و انه بأعماله يخدم نفسه و يخدم تلك الأهداف من حيث يدري أو لا يدري... إلى غير ذلك مما قلناه.

المرحلة الثانية تفاصيل التخطيط الالهي و مراحله

الأسس الخاصة:

- 1 - سبق أن ذكرنا في الكتابين الثاني و الثالث من هذه الموسوعة شيئا كثيرا من تفاصيل هذا التخطيط، فمن الضروري إذن أن نحول القارئ على ما سبق، من دون حاجة إلى التكرار. و إنما نقتصر في كل تحويل على إعطاء خلاصة موجزة فقط، حفظا لترابط الأفكار.

- 2 - و أول سؤال يواجهنا في هذا الصدد: انه ما هو الهدف الأعلى للبشرية الذي يستهدفه هذا التخطيط العام؟ و كيف يمكن لنا التعرف على حقيقته؟ أسلفنا قبل فترة أنه هو أحسن حالة يمكن أن تصل إليها البشرية في تكاملها نحو الأفضل أو في مسيرها نحو الكمال. و هذه عبارة على أنها لا تخلو من الوضوح هي عبارة غامضة لا تعطي أي صفة معينة لتلك الحالة الفضلى. فهل يمكن ان نستنتج شيئا من صفاتها أو أهم صفاتها، بطريق استدلالي معين؟ لهذا الاستنتاج طريقان، أحدهما وجداني و الآخر قرآني:

ص:411

الطريق الأول: ان الفكر الانساني يحمل فكرة ما عن المجتمع الذي تتحقق فيه السعادة و الرفاه. و هذه الفكرة مهما كانت غائمة و صغيرة، إلاّ أنها تستطيع أن تمدنا ببعض التفاصيل القليلة؛ و من هنا صلح الفكر الانساني مصدرا لمعرفة صفة الكمال البشري على أي حال.

و انطلاقا من ذلك، يفترض أن هذا الكمال الذي يدركه الفكر الانساني بوجدانه، هو الذي يستهدفه التخطيط الالهي في مسيره. و قد تكون هناك إضافات و تفاصيل غير مدركة له تكون مطبقة في ذلك اليوم الموعود.

يدرك الفكر الانساني ان الخلافات الاجتماعية و الحروب مصدار للشرور، و ان الاعتداء على الآخرين - أيا كان منشؤه - مصدر لها أيضا، و ان الاختلاف في الآراء و عدم اجتماع الكلمة سبب لها أيضا، فإذا تبدلت هذه الصفات بأضدادها فساد الوئام و اتفقت الكلمة و تحسن الوضع الاجتماعي و الاقتصادي، كان ذلك من الأسس الكبرى للسعادة الاجتماعية.

و لا مناقشة لأحد في هذه الصفات. و إنما نقطة الضعف الرئيسية في هذا الطريق هو قلة الحقائق المدركة للفكر الانساني و المتفق عليها بين البشر. إذ كثير ما يختلف الناس في أن هذه الصفة أو تلك هل هي من أسباب السعادة أو لا.

و لا يبقى مما هو متفق عليه إلا حقائق قليلة ذات عموم غير تطبيقي. و معه يحتمل أن تكون الحقائق الأخرى غير المدركة أهم تأثيرا من هذه الحقائق المدركة، كما يحتمل أن يكون تطبيق الحقائق المدركة تطبيقات خاطئة أو غير متفق على صحتها على أقل تقدير. و ما هو؟ أو من هو الميزان في تشخيص صحتها من فسادها؟!..

الطريق الثاني: الاستلهام من قوله تعالى:

وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ (1).

حيث دلّت الآية على أن الهدف الأساسي من خلق البشرية هو عبادتهم للّه الخالق القدير تعالى.

و يتم ذلك بالالتفات إلى أمرين:

الأمر الأول: إن اللام في قوله تعالى: لِيَعْبُدُونِ للغاية لا للعاقبة.

ص:412


1- (1) انظر - مثلا -: تاريخ الغيبة الكبرى ص 234.

و ذلك: انه يحتمل في بادئ الأمر منها أمران، بحسب المعنى اللغوي لمثل هذه اللام:

المعنى الأول: أن تكون اللام للغاية، و المراد به الاستهداف العمدي و الملتفت إليه من قبل الفاعل، كقولنا: أدب و لدك صغيرا لتسر به كبيرا.

المعنى الثاني: ان تكون اللام للعاقبة، و المراد حصول النتيجة من دون توقع، أو من دون تسبب من قبل الفاعل. كقوله: لدوا للموت و ابنوا للخراب. أو بتعبير أفضل: يولد الانسان ليموت و يبني البيت ليخرب.

و من الواضح عدم إمكان انطباق معنى لام العاقبة على الخالق الحكيم القدير. فيتعين أن يكون اللام للغاية. فيكون المراد من الآية حينئذ: ان هناك استهدافا عمديا في خلق البشرية في أن توجد فيها العبادة.

الأمر الثاني: إعطاء المفهوم الصحيح للعبادة، و قد سبق أن ذكرناه في الكتابين السابقين من هذه الموسوعة في أكثر من مناسبة.

إذن، فقد خلقت البشرية - أو الانس - خصيصا من أجل أن يعبدوا اللّه عز و جل بمجموعهم تلك العبادة الكاملة... ليس هم فقط... بل الجن أيضا؛ و هذا يدل على شمول التخطيط، أو وجود تخطيط خاص بالجن، و لكننا بصفتنا بشرا لا نعرف عنهم شيئا ذا بال.

و قد أشرنا في الكتاب الثالث من الموسوعة(1): ان هذا المفهوم يعني بالتحديد إيجاد المجتمع المعصوم برأيه العام بل المعصوم بكل أفراده، فإن عمق العبادة و عمومها يقتضي هذا المعنى بالضرورة.

إذن، يمكن القول، بأن تكامل البشرية المستهدف بالتخطيط البشري العام هو: إيجاد المجتمع المعصوم.

و بهذا أصبحت الفكرة أكثر تحديدا و عمقا مما أنتجه لنا الطريق الأول المعتمد على استلهام الفكر البشري المجرد. فإن المجتمع المعصوم هو الذي يخلو من الشحناء و الحروب و تضارب الآراء و يسوده الرفاه الاجتماعي و الاقتصادي، على ما سنرى عند استعراضنا لصفات اليوم الموعود. و لا يمكن أن تتصف تطبيقا لهذه المفاهيم و أمثالها بالخطإ أو الانحراف، بل هو يطبقها بشكلها الصحيح، باعتبار عصمته.

ص:413


1- (1) تاريخ ما بعد الظهور: الفصل الأول من الباب الأول.

و معه لا تكون الايرادات التي ذكرناها على الطريق الأول واردة على الطريق الثاني.

- 3 - و من المعلوم وجدانا ان هذا الهدف لم يحصل بعد، إذ لا زالت البشرية تعيش التعسف و التحكم و الحروب و الاستغلال و الظلم، تحت كل الآراء و النظريات.

و حيث لا بد للهدف الأعلى للبشرية أن يتحقق ليرفع الاستغلال و الظلم إلى الأبد... و لا يمكن وجوده بشكل فوري أو بزمن قصير، لأن هذا غير ممكن بحسب الأوضاع أو (القوانين) الطبيعية للكون، كما هو واضح؛ و استعمال الخالق القدير قدرته في إيجاده بالمعجزة خلاف المفروض، كما برهنا عليه في (تاريخ الغيبة الكبرى)(1)... إذن، يتعين أن يوجد الهدف الأعلى بشكل بطيء و طويل، يستوعب التقديم و التمهيد له قسما كبيرا من تاريخ البشرية.

و حيث لا يكفي التخطيط الكوني لتربية البشرية بمجرده، و إن كان يشارك فيها كما أسلفنا، لأن البشر يتصفون بصفتين أساسيتين لا يمكن للضرورات الكونية أن تؤثر أثرا مهما في تكاملهما، و هما: العقل و الاختيار أو قل انهما:

التفكير و حرية التصرف.

إذن، تحتاج البشرية في إيصالها إلى هدفها الأعلى إلى تخطيط خاص بها، يكون دعما للتخطيط الكوني، في تربية البشرية، و جزءا منه في الوصول إلى الأهداف الكونية البعيدة أيضا، كما قلنا.

و من هنا كانت الضرورة مقتضية لوجود التخطيط لا يصال البشرية إلى أهدافها، و ان يكون موجها توجيها خاصا لانتاجها، شأنه شأن التخطيط الكوني، حين تجعل كل حالات الكون و صفاته موجهة لانتاج أهدافه.

و يكون شأن هذا التخطيط كصاحبه أيضا، في تسخير السببين الأول و الثالث من الأسباب الثلاثة التي أسلفناها لصالحه. أما السبب الأول و هو التأثير الكوني الاضطراري، فباعتبار كون التخطيط البشري جزءا من التخطيط الكوني. و حيث تكون التأثيرات الكونية مسخرة في ما هو الأعم، يكون نفس

ص:414


1- (1) انظر ص 242.

الشيء صادقا بالنسبة إلى الأخص أو إلى ما هو من ذلك الأعم.

و أما تسخير السبب الثالث، و هو اختيار الأفراد و حرية إرادتهم، في سبيل التخطيط العام للبشرية، فهو تسخير خاص بهذا التخطيط، كما أشرنا، و إنما يرتبط بالتخطيط الكوني، باعتباره جزءا منه.

و قد أشرنا إلى أن «التخطيط البشري» مبتن على الاختيار و منطلق منه، باعتبار أن معنى تربية البشرية و تكاملها الذي هو المعنى الأساسي الذي يوصلها إلى أهدافها. ان معنى التربية فسح المجال للفرد أو المجتمع ان يتحرك و ان يستنتج و ان يتعلم، لكي يتكامل عن هذا الطريق، و يكون سائرا قدما إلى تلك الأهداف. و من المعلوم أن الجبر أو القسر في أفعال الانسان لا يوجب له تكاملا و لا نموا، لأن أفعاله في نفع الاخيرين، مثلا، غير منسوبة إليه إلا مجازا، و إنما هي بنت الضرورات الكونية ليس إلا؛ على حين لا يتكامل الفرد إلا إذا كان الفعل قد أصدره عن قناعة و طيب خاطر في سبيل نفع الآخرين.

- 4 - يمكن تقسيم السلوك الارادي إلى قسمين رئيسيين:

القسم الأول: ما يكون منسجما مع الأهداف الكونية العامة، فإن السلوك الاختياري بصفته جزءا من الكون و مشاركا في التخطيط الكوني العام، و بالأخير مع الأهداف الكونية البعيدة، يتصف قسم من هذا السلوك، بأنه منسجم مع تلك الأهداف و متجاوب مع التخطيط السائر إليها و مشارك في تيسير الوصول إليها، مشاركة و لو ضعيفة. هذا النوع من السلوك هو الذي يوصف بكونه عادلا أو كاملا أو صالحا. باعتبار انسجامه مع تلك الأهداف، التي هي كاملة و عادلة و صالحة، بالضرورة، و لا يمكن إلا أن تكون كذلك باعتبار أن فكرة الاستهداف و افتراض تلك الأهداف، صادر من حكمة و قدرة عادلة و كاملة بالضرورة، كما هو المفروض.

القسم الثاني: ما يكون منافرا مع الأهداف الكونية، و معيقا - بطبيعته - لحدوثها، و لو بدرجة ضعيفة. و هو السلوك الذي يوصف بكونه ظالما أو منحرفا أو طالحا.

و من هنا لزم أن يكون جميع الأفراد، و هم مختارون في سلوكهم، متصفين بالسلوك المنسجم مع الأهداف الكونية، و هو معنى المجتمع المعصوم الذي أشرنا

ص:415

إليه. و من هنا اكتسب التخطيط العام للبشرية أهميته بالنسبة إلى الأهداف الكونية و تخطيطاتها، و من هنا كان لزاما على التخطيط «البشري» أن يستهدف ذلك المجتمع.

و أما القسم الثاني من السلوك، فقد يبدو أن وجوده في الكون عامة و في البشرية بصفتها جزءا من الكون، مستحيل... لما قلنا من أن كل ما يكون منافرا مع الأهداف الكونية، بل بمجرد أن لا يكون واقعا في طريقها، فإن الكون بالضرورة خال منه.

و هذا أمر صحيح، لو لا ما سوف نعرفه من مشاركة السلوك الظالم في إيجاد المجتمع المعصوم، و من ثم يكون مشاركا في إيجاد الأهداف الكونية العامة بشكل و آخر؛ إلا أنها مشاركة مرحلية و موقته، على ما سنعرف.

و قد يخطر في الذهن، ان المجتمع المعصوم إذا كان دخيلا في الأهداف الكونية، لزم وجوده من أول عمر البشرية حتى تكون مشاركته أطول و أعمق.

و الجواب على ذلك: ان البشرية وجدت ناقصة لعدة أسباب أهمها سببان:

الأول: ان الكون الذي أنتج البشرية لا يزال ناقصا، و الناقص لا ينتج الكامل.

و الثاني: ان التربية الاختيارية بعد النقصان تكون أفضل في نتائجها من التربية القسرية، كما لو وجدت البشرية رأسا معصومة بدون اختيارها. و قد برهنا على ذلك في تاريخ الغيبة الكبرى(1). و من ثم يكون هذا الأسلوب هو الأفضل في الأهداف الكونية.

و سيكون لمشاركة المجتمع المعصوم في الأهداف الكونية زمان طويل بعد وجوده.

- 5 - و من هذه الزاوية تماما نفهم أهمية التربية البشرية في كلا التخطيطين الكوني و البشري، فانها هي التي توصل بالتدرج إلى السلوك الكامل، و من ثم إلى المجتمع المعصوم.

ص:416


1- (1) انظر ص 243 و ما بعدها.

و من الواضح، كما قلنا في الأجزاء السابقة لهذا الكتاب(1) ان تربية المجتمعات و من ثم البشرية بمجموعها، لا يمكن أن تكون بين عشية و ضحاها، و لا في حفنة من السنين، بل تحتاج إلى أمد متطاول، و تجارب قاسية و جهد متواصل.

فالفرد لا يكون رشيدا و كاملا، إلا بعد مجموعة من السنين و تعلم طويل و تجارب مريرة. فإن أريد منه أن يكون فردا نموذجيا، احتاج إلى زمن أطول و تجارب أقسى. فكيف بالهدف البشري الذي يعد فيه الأفراد بالملايين على مختلف المستويات و العقليات و الثقافات، و يراد - مع ذلك - إيجاد مستوى أعلى من المستوى الفردي و الاجتماعي الموجود في أي منها. فأي مقدار من السنين، و أي تجارب قاسية و أي جهود مضنية يجب أن تمر بها البشرية لتصل إلى ذلك الهدف، و أي مقدار من التضحيات يجب إن تقدم في سبيل ذلك؟.

و التربية تتكون من عنصرين أساسيين:

العنصر الأول: معرفة الفرد بالأسلوب الصحيح للسلوك. كل بحسب وجهة نظره، و ينبغي لنا أن نقصد بالأسلوب الصحيح ما كان منسجما مع التخطيطين العامين و أهدافهما.

العنصر الثاني: تطبيق تلك المعرفة في عالم الحياة. فإن المعرفة وحدها غير كافية في الانسجام مع الهدف الأعلى، بل لا بد أن يوجد للفرد درجة كافية من الاخلاص و قوة الارادة، بحيث يهتم بتطبيق تلك المعرفة على سلوكه، و تقديمها على سائر الدوافع و المقتضيات.

و نحن إذا نظرنا من ناحية بشرية عامة، وجدنا أن الخالق القدير الذي استهدف فيها تلك الأهداف، و فر لها كلا هذين العنصرين. اما توفير المعرفة فيتمثل بالعقل أولا، و بالنبوات ثانيا، و أما توفير قوة الارادة و الاخلاص، فيتمثل في جو التجارب القاسي الذي تمر به البشرية، ليجعلها في نهاية المطاف، مهتمة اهتماما واقعيا و عميقا بالتطبيق الصحيح الكامل. و سندخل في تطبيق ذلك بعد قليل.

و من هنا عرفنا إجمالا: أهمية التشريع و أهمية النبوات، و أهمية التجارب في

ص:417


1- (1) انظر: تاريخ ما بعد الظهور: الفصل الأول من الباب الأول من القسم الأول. 27

تربية البشرية و التخطيط البشري العام، و من ثم في التخطيط الكوني و أهدافه.

و قد ذكرنا أن كل ما يمت إلى تلك الأهداف بصلة فهو موجود بالضرورة، و لا يمكن أن لا يكون موجودا، و تعمل الأسباب و القوانين الكونية، بل و المعجزات - أحيانا - لايجاده.

- 6 - و يمكننا أن نقارن هذه الأسس الخاصة للتخطيط البشري بالمادية التاريخية، فنحصل بهذا الصدد على عدة حقائق.

الحقيقة الأولى: إن التخطيط العام أكثر استيعابا لفهم التاريخ و حوادثه و تطوراته من المادية التاريخية.

فاننا سبق أن عرفنا أن عددا من حوادث التاريخ غير منطبقة على النظرية المادية في حين نجد أن التخطيط شامل بالضرورة لكل حوادثه. فان سلوك الأفراد الذي هو المكون الأساسي للتاريخ (باعتبار ان التاريخ مفهوم أو فكرة متحصلة من مجموع تصرفات الأفراد)، ينقسم سلوكهم إلى أربعة أقسام، منها: القسمين اللذين عرفناهما في الفقرة الرابعة من هذه الأسس الخاصة. فإذا لخصناهما مختصرا، نقول:

القسم الأول: السلوك القهري الذي ينتج من مؤثرات كونية اضطرارية، كالسقوط من شاهق. و هذا السلوك خارج بطبيعته عن التخطيط البشري المبتني على الاختيار، و إنما هو تابع بصفته القسرية للتخطيط العام.

القسم الثاني: السلوك الاختياري المنسجم مع الأهداف المقصودة للبشرية، و هو القسم الأول من القسمين السابقين. و يشمل كل الأعمال و الأقوال الخيرة و الصالحة في التاريخ كمعونة المحتاجين و التضحية في سبيل الغير.

القسم الثالث: السلوك الاختياري المنافر مع الأهداف البشرية، و هو القسم الثاني من ذينك القسمين. و يشمل كل الأعمال الظالمة و الاعتداءات على الأفراد و المجتمعات، و قد حملنا فكرة مجملة عن شكل دخله في التخطيط العام للبشرية.

القسم الرابع: السلوك الاختياري الذي لا يتصف عادة بكونه صالحا و لا طالحا، و يشمل جملة من أشكال اللهو و نحوه مما لا يترتب عليه نفع و لا ضرر.

ص:418

و يكون دخيلا في التخطيط البشري العام باعتباره ناتجا عن الاختيار، أو بصفته سلوكا إراديا حرا، ذلك الاختيار الذي عرفنا كونه الركن الأساسي في التخطيط العام، و من المعلوم أن السلوك يصبح تربويا متى كان اختياريا، لتعرف نتائج سلوك الفرد و هل هو سوف يختار بحرية إرادته السلوك الصالح أو الصالح أو اللهو الذي لا نفع فيه.

و هذه الأقسام مستوعبة لكل تصرفات الأفراد و أقوالهم و ردود أفعالهم، تجاه الحوادث الكونية منها و البشرية، و من ثم فهي مستوعبة للتاريخ، باعتبار أن التاريخ ليس إلا مجموع هذه التصرفات.

و لئن اضطرت الماركسية إلى التصريح بأن كثيرا من التصرفات لا تنتج عن تطور وسائل الانتاج بشكل مباشر. و إنما تترتب عليها و لو بوسائط كثيرة؛ كما قد سمعنا، فإن التخطيط العام ليس كذلك، بل مما تترتب عليه أفعال الناس و أقوالهم بشكل مباشر باعتبارها ناتجة عن الاختيار، الذي هو الركن الأساسي للتخطيط.

و ترتبها على الاختيار، لا ينافي - كما عرفنا - شيئا من الأسباب و الدوافع التي تحمل الفاعل على الاختيار، بشرط أن تكون دوافع حقيقية غير مسطورة كذبا.

الحقيقة الثانية: ان كلا من المادية التاريخية و التخطيط العام يشتركان في أن التشريعات النافذة بين البشر ناتجة من الفلسفة العامة للتاريخ، بمعنى أنه توجدها و تتحكم فيها الأسباب الأساسية العاملة في سير التاريخ. و بالطبع، فإن كل نظرية تنسبها إلى فلسفتها الخاصة.

لكن تبقى هناك بعض الفروق بينهما في تفسير التشريع:

الفرق الأول: ان التشريع من زاوية التخطيط، نتيجة استهدافية، أو بتعبير آخر: معلول للعلة الغائية، و اما واضعه فليس موردا للتركيز من هذه الناحية.

بخلاف المادية التاريخية، فانها تنيط التشريع بتطور وسائل الانتاج إناطة (فاعلية) كإناطته بواضعه تماما. و كل ما في الأمر: ان إناطته بفاعله مباشرة و إناطته بوسائل الانتاج بالوسائط.

الفرق الثاني: ان التشريع في نظر المادية التاريخية ناتج بالضرورة عن

ص:419

الانسان، و من أوضاعه الطبقية و عواطفه الضيقة بالخصوص... و بالتالي فهو خاضع للانسان و وليد عنه، و ان خضع له الانسان فترة طويلة من الزمن.

و أما التخطيط الالهي فيعتبر الانسان خاضعا للقانون، بل انه بشكله الصالح، و العادل وليده و صنيعته، و ليس القانون بالضرورة صادرا عن الانسان، و ان احتكر الانسان حق وضعه ردحا طويلا من الزمن.

بل للقانون مصادر أخرى، هي: إدراكات العقل الفكري من ناحية، و التشريعات الدينية التي تبلغها الأنبياء عن رب العالمين الخالق القدير من ناحية أخرى. و مصادر أخرى.

الفرق الثالث: ان القانون الصالح في التخطيط العام يربي البشرية و يسير بها نحو التكامل، و بالتالي تنحو بها نحو نتائج التخطيطين الكوني و البشري و أهدافهما. هذا. و قد وجدت خلال التاريخ كثيرا من القوانين الظالمة المجحفة، و التي سنسمع تفسيرها الصحيح بعد ذلك.

بخلاف المادية التاريخية، فان القانون لا يمكن أن يكون مربيا و لا معنى لأن يكون صالحا، و إنما هو طبقي الصبغة و ناتج عن أساليب تربيتها لا أكثر. فهو ابن التربية و ليس أباها، لا كما يفهمه التخطيط العام.

الحقيقة الثالثة: أهمية التربية عموما في التخطيط العام، دون المادية التاريخية.

فإن التربية، من وجهة النظر المادية طبقية، سواء من زاوية أهميتها الاجتماعية أو مضمونها، و ان ردود فعل الأفراد تجاه الحوادث يكون دائما طبقيا و مصلحيا، لا يتضمن أي فائدة عادلة و موضوعية، بل يستحيل ذلك خارج تطور وسائل الانتاج و علاقات الانتاج، من وجهة النظر تلك.

بخلاف التربية في التخطيط العام، فانها توجه الفرد نحو الكمال، و تجعله منسجما مع أهداف هذا التخطيط و التخطيط الكوني. و يكون للتجارب الدور الأساسي بهذا الصدد، حيث يكون لردود الفعل الصالحة الأثر الكبير في تكامل الانسان.

ص:420

فكرة إجمالية عن التفاصيل

- 1 - بعد أن عرفنا أن وجود البشرية كان لمصلحة التخطيط الكوني و أهدافه، و ان تكاملها و التخطيط له، من تطبيقات ذلك التخطيط أيضا.

إذن، فمن الواضح أن البشرية لا يمكن أن تبقى مهملة عن التخطيط لحظة من الزمان و لا شبرا من المكان؛ بل ان التخطيط الذي أعده خالقها القدير لايجاد كمالها بين ربوعها، يبدأ معها منذ ولادتها و يبقى معها إلى حين زوالها، أعني انقراض النوع البشري عن الأرض.

و معه، فيحسن بنا أن نحمل فكرة كافية و مختصرة عن تطورات البشرية من بدايتها إلى نهايتها و دور التخطيط العام في ذلك إجمالا، لكي نبدأ بعد ذلك بإعطاء الفكرة الواسعة عن تفاصيل هذا التخطيط و مراحله.

- 2 - أما بداية البشرية، فهي غير مشهودة لنا بطبيعة الحال، و من هنا كان في عرضها أطروحتان رئيسيتان:

الأطروحة الأولى: و هي التي تتصف - في الأغلب - بكونها دينية، باعتبار كونها موروثة عن الأديان و مركوزة في أذهان المتدينين، و نجدها مسطورة في التوراة(1) و يدل عليها ظاهر القرآن الكريم أيضا.

و هي: ان البشرية وجدت ناجزة من أول أمرها واجدة للصفات المهمة التي لم تتغير إلى عصرها الحاضر، و ربما لا تتغير إلى يوم فنائها. فهي نفسها في شكل الجسم و حاجاته و المستوى العقلي و إدراكاته.

كل ما في الأمر ان البشرية وجدت أول أمرها، متمثلة بفرد واحد فقط، ثم بدأت بالتكاثر التدريجي حتى أصبحت بالملايين.

ص:421


1- (1) انظر: سفر التكوين 8/2 و ما بعده.

و قد هديت البشرية منذ فجرها إلى ما هو ضروري لها من أسلوب العيش من ناحية، و من مستوى معين من التشريع(1) أيضا، تكفل الفرد البشري الأول بتبليغه إلى زوجته و أولاده و ذريته، و من هنا اعتبر نبيا مرسلا من رب العالمين، و هو النبي (آدم) عليه السلام.

و على ذلك، فبداية البشرية بداية عالية المستوى في الوعي و التفاصيل.

و قد أصبحت هذه البداية العالية هي اللبنة الأولى التي تسلسل منها التاريخ البشري، و بدأت البشرية خط تكاملها البطيء الطويل.

الأطروحة الثانية: و هي الأطروحة التي يميل إليها الفكر المادي في الأغلب، و قد اختارتها الماركسية فيما اختارت من الأفكار و النظريات.

و هي: ان الانسان تسلسل من مملكة الحيوان. فإن الحيوان منذ فجر وجوده بدأ بالتكامل و التعقيد في الصفات، حتى بلغ درجة عالية متمثلة بالقرد و خاصة بعض أنواعه العليا، ثم تحول تدريجا إلى الانسان، ضمن تطورات عضوية و نفسية بالغة التعقيد و الطول.

و اكتسب الانسان بالتدريج قدرته على التفكير، و وجدت فيه اللغة، فاختلف عن مملكة الحيوان اختلافا جذريا.

و طبقا لهذه الأطروحة، تكون بداية الانسان بداية واطئة و اعتيادية للغاية. و هاتان أطروحتان مستقطبتان يمكن إيجاد أطروحات أخرى تلم من كل منهما بطرف، على ما سنذكر.

و تحتوي الأطروحة الثانية على بعض نقاط القوة، نشير إلى اثنتين مهمتين منها:

النقطة الأولى: انسجامها مع القوانين الكونية العامة. فاننا نجد في الأطروحة الأولى: إن الخالق الحكيم أوجد الانسان بإرادة خاصة؛ نجد في الأطروحة الثانية: ان وجود الانسان كان مطابقا مع سير القوانين أو الأسباب الكونية ليس إلاّ. و من هنا كانت أقرب إلى الفكر المادي الذي يؤكد على القوانين الكونية التي رأى فيها (البديل) عن افتراض وجود الخالق القدير، كما سبق ان عرضناه و ناقشناه.

ص:422


1- (1) نريد هنا بالتشريع ما يشمل التكليف بالعقائد و المفاهيم أيضا.

النقطة الثانية: انها أكثر انسجاما مع مشابهة كثير من صفات الانسان مع الحيوان، حيث يبدو الانسان ناتجا عنه، إذ لو كان خلقا مستقلا لما حصلت المشابهة بهذا المقدار!!..

و ينبغي أن نلتفت بهذا الصدد: ان كلا الاطروحتين يشتركان في أمرين مهمين:

الأمر الأول: إن وجود البشرية كان مطابقا مع الأهداف الكونية العامة و واقعا في ضمن تخطيطها. فوجود الانسان بالارادة الخاصة أو طبقا للقوانين العامة إنما كان بهذا الاعتبار. و قد عرفنا ان المؤثرات الكونية التي تسمى عادة بالقوانين، مسخرة لا محالة للتخطيط لتلك الأهداف.

الأمر الثاني: إنهما معا ينسجمان مع الاعتراف بالخالق. أما الأطروحة الأولى فهي لا تصح بدون افتراضه، كما هو واضح. و أما الأطروحة الثانية فيمكنها أن تقول: ان الخالق أراد وجود الانسان طبقا للقوانين العامة. و خاصة بعد افتراض ان القوانين لا يغني عن افتراض الخالق؛ إذن، فيتعين وجود الانسان بتأثير الخالق. و معه نعرف ان لصوق الماديين بهذه الأطروحة، ليس في مصلحتهم.

كما ان هذه الأطروحة الثانية، تحتوي على بعض نقاط الضعف - من وجهة نظر مادية - إلى جنب نقاط قوتها:

النقطة الأولى: إن هذه الأطروحة بالخصوص و المادية على العموم، تكون مسئولة عن الجواب على هذا السؤال المشهور: هل الدجاجة أسبق من البيضة، أو البيضة أسبق من الدجاجة؟!.. لأن كلاّ منهما ناتج من الآخر، فكيف يوجد أي واحد منهما بدون الآخر. و هكذا يسري السؤال في كل أنواع الحيوان و النبات؛ فمثلا نسأل: هل وجدت الشجرة قبل البذرة أو البذرة قبل الشجرة... و هكذا. و لن تستطيع المادية أن تجيب على ذلك بوضوح و وثوق.

و إذا بطل أصل وجود النبات و الحيوان، فكيف وجد الانسان بعد ذلك؟! أما مع افتراض وجود الخالق، فالجواب سهل تماما: إن الدجاجة وجدت أولا، بطريق الابداع و الخلق المباشر. ثم باضت هذه الدجاجة و تناسلت.

و كذلك كان أول أفراد الانسان الذي تقول به الأطروحة الأولى و تناسلت ذريته.

و كذلك كل أنواع الحيوان و النبات.

ص:423

النقطة الثانية: إن تسلسل الانسان عن الحيوان، ينافي - كما قلنا خلال مناقشة الماركسية - القانون الوارثي الذي أصبح قطعيا واضحا في الذهن المادي أو (العلمي) و هو استحالة وجود نوع من مكونات أو (جينات) نوع آخر.

أما مع وجود الخالق، فيمكن أن نفترض الخلق الابداعي لكل نوع مستقلا، من دون تسلسل بين الأنواع، و يكون الخالق القدير هو الذي رأى مصلحة في المشاكلة و التشابه بين أنواع الحيوان و الانسان، لأمر يمتّ إلى الحياة أولا، و إلى الأهداف الكونية العليا بصلة، ثانيا.

... كما يمكن أن ننفي اضطرارية ذلك القانون الوراثي و قسريته بل قد يكون أحيانا متخلفا فيما إذا أراد خالقه ذلك. فنقول بتسلسل الأنواع بالرغم من وجود هذا القانون. فيكون إنتاج القرد للانسان طبقا للفهم الالهي أسهل منه على الفهم المادي.

النقطة الثالثة: إن المادية مسئولة عن تفسير وجود الحياة أو الكائن العضوي أو الروح من ناحية(1). و مسئولة عن التفكير الاستنتاجي الذي يملكه الانسان و يتميز به عن الحيوان، كيف وجد في القرد بعد تطوره؟ و أي قانون كوني أوجد ذلك في القرد، و لم يغلط بإيجاده في حيوان آخر، كما لم يغلط في إيجاده في كل القرود، مع الأسف!! كما لم يغلط في تطوير حيوان آخر تطويرا بدنيا مهما، يجعل له فرص التصرف كفرض الانسان.

و أما مع افتراض وجود الخالق، فالجواب على هذا السؤال واضح.

و قد أشرنا إلى إمكان وجود أطروحات أخرى غير الأطروحتين الرئيسيتين... فإنهما يفترقان في أمرين: هما وجود الانسان و ثقافته. فبينما ترى الأطروحة الأولى ان وجود الانسان و ثقافته معا ابداعيتان، ترى الأطروحة الثانية

ص:424


1- (1) و لا يشفع لذلك وجودها في المستنقعات، كما يجزم به علماء الآثار (قصة الانسان للدكتور جورج حنا ص 8) أو نشوءها من مواد بروتينية، كما جزم به «اوبارين» العالم السوفييتي (المصدر ص 10) و انجلز (نصوص مختارة ص 100 و ما بعدها) أو نزولها من كوكب آخر، كما ذهب إليه آخرون؛ لا يشفع لذلك، لأن السؤال عن إمكان الوجود الأول للحياة في الكون المادي و كيفيته يبقى موجودا. كما ان عدم تكرر ذلك يكون غريبا... و الاعتذار عنه بأنه لا حاجة إليه بعد وجود طريقة التوالد... إن دل على شيء، فإنما يدل على وجود التدبير و الوعي في قيادة الكون أكثر من أي شيء آخر. كما ذهب إليه «اوبارين» (قصة الانسان ص 10).

انهما معا تدريجيتان ذواتا خط طويل.

و من هنا أمكن أن نحمل صفة من كل أطروحة، فتصبح عندنا أطروحتان ثانويتان أخريتان:

الأطروحة الأولى: إن وجود الانسان إبداعي و ثقافته تدريجية عبر التاريخ البشري الطويل.

الأطروحة الثانية: إن وجود الانسان تدريجي، و ناتج عن مملكة الحيوان، إلاّ أن ثقافته إبداعية، بمعنى أنه حين وصل إلى درجة معينة من التعقل ألهمه اللّه تعالى عددا من الحقائق الحياتية و الكونية... و أول من ألهم ذلك، هو أبونا آدم عليه السلام.

كل من هاتين الأطروحتين تحتاج إلى التنزل عن بعض الأصول الموضوعية للأطروحتين السابقتين. فكلتا هاتين الأخيرتين تخالفان بعض ظواهر القرآن الكريم، و بذلك قد يكون مثارا للشك من الناحية الدينية الاسلامية، كما انهما معا يعترفان بالابداع الالهي، و بذلك يخالفان الفكر المادي، و الاتكال المطلق على القوانين الكونية.

و لسنا الآن بصدد الترجيح بين هذه الأطروحات. غير أنه سيأتي في الفقرة الآتية من آيات القرآن الكريم نفسه، ما قد يضطرنا إلى التنزل عن صراحة الأطروحة الأولى الرئيسية، و عن بعض ظواهر القرآن التي تدل عليها؛ و بذلك تتعين إحدى الأطروحتين الأخيرتين أو ما يشابههما في المحتوى.

- 3 - تدل بعض آيات القرآن الكريم على أن الناس كانوا أمة واحدة، و إنما حصل الاختلاف و التناحر بينهم في عصر متأخر، و قد اقترن هذا الاختلاف بإرسال الأنبياء و بعث الرسل.

منها: قوله تعالى:

كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً، فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ... الآية»(1).

و منها: قوله تعالى:

ص:425


1- (1) البقرة: 213/2.

وَ ما كانَ النّاسُ إِلاّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ... الآية(1).

و قد فهم منها سيدنا الأستاذ السيد الصدر:

«بأن المجتمع البشري مر بمرحلة فطرة و غريزة، قبل أن يصل إلى المرحلة التي يسود فيها العقل و التأمل»(2).

و هذا الفهم يعني اننا نستفيد من هاتين الآيتين الكريمتين هذا المفهوم: و هو ان المجتمع البشري كان في أول وجوده لا يزيد في مميزاته و صفاته عن مجتمع الحيوان، ثم بدأ - طبقا لتخطيط التكامل - يتفتح على الفهم و التفكير.

و كان خلال عصره الفطري فاقدا للاختلاف في المصالح و الاختلاف في العقيدة. أما عدم الاختلاف في العقيدة و التشريع فلعدم وجود المستوى الذهني الكافي لفهم ذلك، أو إذا كان عندهم عقيدة بسيطة، فليس لهم المستوى الكافي لفلسفتها و مناقشتها، فهم جميعا يتسالمون على صحتها.

و أما عدم الاختلاف في المصالح، ذاك الاختلاف المؤدي إلى النزاعات و الحروب؛ فلعدم وجود المستوى الذهني الكافي للتركيز على هذه الجهات. و هذا لا ينافي وجود نزاعات بسيطة بين الأفراد، كما توجد بين الحيوان.

و بمجرد ان وجد المستوى الكافي للتفكير، وجد النزاع بينهم بطبيعة الحال. و هذا هو المستفاد من قوله عز و جل: فاختلفوا... أي ان الاختلاف وجد بعد انتهاء عصر القصور الذهني.

و حين وجد النزاع و الاختلاف في البشر، كان مقتضى التخطيط العام لتكاملهم، ان يعرفوا التشريع الكافي لحل هذه المنازعات و العقيدة الكافية لزرع الاخوة فيما بينهم. و بذلك بعثت الأنبياء و أرسلت الرسل.

و هذا الفهم هو أقرب المعاني المحتملة إلى هاتين الآيتين، بلا شك، و أقربها إلى التصورات الاعتيادية عن الحياة و المجتمع البشري. و من الواضح ان بعض القرآن يكون قرينة على فهم البعض الآخر؛ و أمر يؤمن به كل مؤمن بالقرآن الكريم.

و هذا الفهم لا يتضمن ان أصل الانسان من الحيوان، أو انه وجد ناجزا بطريقة إبداعية، و من هنا لا ينافي ظواهر القرآن الأخرى، من هذه الجهة.

ص:426


1- (1) يونس: 19/10.
2- (2) اقتصادنا: محمد باقر الصدر ج 2 ص 359.

إلا أن أهم معارضة لذلك، هو التساؤل عن «آدم» عليه السلام الذي هو أبو البشر، هل كان في أول عصر القصور الذهني، كما سميناه، أي في أول وجود الانسان، باعتباره أبا للبشر جميعا، أو كان في أول عصر التفكير و الاختلاف، باعتباره نبيا مبلغا عن اللّه تعالى بعض التعاليم التي لا تنسجم إلاّ مع مستوى التفكير. و لعل القول: بأنه أبو البشر على الاطلاق، و ان نبوته تناسب مع القصور الذهني الذي كان عليه الناس، هو الأقرب إلى الذهن فعلا.

إلاّ أن هذا التصور قد يبدو منافاته لفهم آخر، و هو: ان المشكلة التي مر بها آدم عليه السلام التي نسمعها في التوراة و القرآن، هل أثّرت فيه شخصيا فقط أو فيه و في أولاده جميعا. هذا الأثر الذي يمكن أن نفهمه من قوله تعالى:

«فبدت لهما سوءاتهما فطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة»(1).

و هو وجود الوعي و القدرة على التفكير عندهما بعد ان لم يكن(2).

فإن كانت قد أثرت فيه شخصيا، أو هو و زوجته فقط، أمكن أن يصبح نبيا واعيا لمجتمع قاصر، و ان أثرت فيه و في ذريته، فمعنى ذلك انتهاء عصر القصور الذهني و بدأ عصر الوعي و التفكير.

و حينئذ فلنا أن نختار القول بأن آدم عليه السلام كان في أول عصر الوعي، و كان هو أول الواعين، لكن علينا أن نتنازل عن كونه أبا للبشر أجمعين، إلاّ إذا كان الانسان اسما للواعين منهم، و أما العصر السابق فهو أقرب إلى الحيوان.

و لنا أيضا أن نختار القول بأن آدم عليه السلام، كان في أول عصر القصور الذهني، مع بساطة نبوته كما قلنا، غير أننا نصطدم بالظهور القرآني الدال على وجود اللغة لدى آدم شخصيا كقوله تعالى:

وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها (3) و غيرها.

و هذه الظاهرة تنافي القصور الذهني، و لا يمكن أن توجد إلاّ في عصر

ص:427


1- (1) طه 121/20 و انظر: الأعراف 22/7.
2- (2) حيث نفهم من هذه الآية الكريمة انهما التفتا إلى قواعد السلوك - في الجملة - بما فيها لزوم التستر عن الناظرين و انه لا ينبغي البقاء على حالة العري الكامل. و عرفا كيفية سد هذه الحاجة، و هو وضع أوراق الشجر على الجسم. و هذا أول الوعي البشري. و تدل التوراة على ذلك بوضوح و انهما التفتا إلى الخير و الشر (تكوين 22/3).
3- (3) البقرة: 31/2 و تدل التوراة على ذلك أيضا، تكوين: 20/2-21.

الوعي.

و على أي حال، فقد اضطررنا إلى التنازل عن صرامة الأطروحة الرئيسية الأولى، من عدة زوايا، بالرغم من اننا لم نتجاوز عرض المشكلة، و لم نبتّ فيها برأي و ليس هذا مجاله. و أهم ما تنزلنا عنه من مكونات تلك الأطروحة ان المجتمع لم يخلق ناجزا في وعيه، بل كان ذلك بشكل تدريجي. و مما يمكن التنزّل عنه الآن أيضا: ان آدم قد يكون أبا للقاصرين، لا للواعين، كما ان النبوات لا تنحصر أن تكون في عصر الوعي، بل تكون مناسبة لعصرها بطبيعة الحال.

و المهم الذي نحتاجه في بحثنا هذا، هو ان البشرية في عصر قصورها الذهني، تحتاج إلى تخطيط معين لإيصالها إلى مرحلة الوعي و التفكير، لكي يقع ضمنا في طريق تكاملها العام. و هذا هو الجزء الأول من التخطيط العام لتكامل البشرية، و نستطيع أن نسميه بالتخطيط الأول كما سيأتي.

- 4 - و حين دخل المجتمع البشري مرحلة الوعي و التفكير، كانت الخطوة المهمة من التخطيط العام قد أنجزت، إذ من الواضح انه بدون الوعي لا يمكن أن تتحقق نتائج ذلك التخطيط العام و أهدافه.

و في هذه المرحلة تحولت الأصوات المشوشة إلى لغة، و الفكرة الطارئة إلى تركيز و المصادفة إلى تجربة و أصبحت البشرية قابلة للتعليم بالمستوى البسيط من المفاهيم و التشريع. و من هنا وجدت محاولات بشرية على مستوى عشائري، و إلهية على مستوى نبوي لحل الاختلافات الناتجة عن هذا الوعي الجديد.

و من هنا يكون الخالق الحكيم قد بادر لحل الاختلافات البشرية، عن طريق أنبيائه و رسله، بمفاهيم و تشريعات بسيطة في أول الأمر، ثم تعمقت و توسعت بالتدريج. و تدل بعض المرجحات في النصوص الدينية(1) على ان النبي نوح عليه السلام، هو أول من حمل شريعة بحجم واسع نسبيا إلى البشر.

ص:428


1- (1) منها قوله عز و جل: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً (الشورى 13/42). إذا فهمنا من هذه الوصية إنزال درجة من درجات التشريع، و خاصة و هو يعد بعد (نوح ع) أولئك الأنبياء الذين اقترنت نبواتهم بالشرائع. و لم يذكر نبيا قبله في هذه الوصية. و منها: كون نوح عليه السلام من أولي العزم، و المفهوم دينيا أن الأنبياء من أولي العزم لهم شرائع. و منها: أمره أعني نوحا قومه بإطاعته، كقوله تعالى على لسانه: أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ (نوح 3/71) و الطاعة شاملة للعقيدة و التشريع معا.

و لكن كانت أول شريعة واسعة على مستوى التطبيق العالمي المدعم بكتاب سماوي كامل، هو ما جاء به موسى بن عمران عليه السلام.

- 5 - و إذا دققنا النظر وجدنا ان إرسال الرسل ملء أو إشباع لحاجتين بشريتين عامتين:

الحاجة الأولى: انه تطبيق للطف الالهي الذي قال الفلاسفة المسلمون بوجوبه و إذا لم يكن واجبا فقد تفضل اللّه تعالى به على أي حال، تحاشيا من أن تصبح الحياة، نتيجة للصراعات و النزاعات جحيما لا يطاق، كما عبر به (توماس هوبز) حيث اعتبر الحياة بدون قانون جحيما لا يطاق، باعتبار تصادم مصالح الأفراد بعضها مع بعض بشكل غاية في الفضاعة و الوحشية(1).

الحاجة الثانية: انه تطبيق لفكرة مهمة و رئيسية من فقرات التخطيط الالهي العام لتكامل البشرية باعتبار تأهيلها لفهم العدل الكامل المطبق في المجتمع المعصوم، على ما سوف نشرحه غير بعيد.

- 6 - يتوقف الهدف البشري الأعلى، و هو وجود المجتمع المعصوم، على وجود دولة عالمية تحكم البشرية بالحق و العدل لكي تقوم بالتمهيد المباشر لذلك المجتمع.

فإن البشرية، بعد أن وجدت قاصرة - أولا -، و أصبحت بعد الوعي متناحرة ظالمة معتدية بعضها على بعض - ثانيا -، لمدى ضحالتها في التفكير و استهدافها للمصالح الفردية... إن البشرية بعد أن كانت كذلك، لا يمكنها أن تصل إلى المستوى المطلوب بدون توجيه مركزي مركّز يمهّد و يخطّط، بشكل واع و قوي لإيجاد المستوى الثقافي و العقلي و الاجتماعي و رفعه تدريجا إلى أن يصل إلى هدفه المنشود. و هذا التوجيه لا يمكن أن ينطلق إلا من دولة الحق و العدل المنسجمة مع أهداف التخطيطين البشري و الكوني.

إذ لو لم تكن هذه الدولة موجودة، لكان هناك افتراضان لا ثالث لهما:

الافتراض الأول: عدم وجود دولة أو سلطة على الاطلاق على طول الخط

ص:429


1- (1) انظر: المذاهب الاجتماعية الحديثة، محمد عبد اللّه عنان ص 14.

التاريخي الطويل، و هذا يعني جعل المجتمع جحيما لا يطاق، و لا يمكن أن ينتج أي تربية أو كمال، بل يؤدي إلى انقراض البشرية سريعا، بعد أن يقتل بعضهم بعضا.

الافتراض الثاني: وجود دول أو سلطات تحكم بغير العدل، و غير منسجمة مع أهداف ذينك التخطيطين. و تبقى البشرية بهذا الشكل باستمرار.

إن من الواضح ان ذلك يؤدي إلى ابتعاد الناس عن الهدف و نسيانهم لمسؤولياتهم الحقيقة. إذ من المعلوم ان الدول ذات الأهداف المنافرة مع تلك الأهداف، تخطط و تربي - من حيث تعلم أو لا تعلم - بشكل يضر بتلك الأهداف و يخل بها، و لو جزئيا، و هو أمر محال، كما عرفنا.

إذن يتعين، بطريق الحصر، أن يكون الرائد الأول و الأساسي لوجود المجتمع المعصوم هو الدولة المنسجمة مع هذا الهدف، بحيث تفهمه و تخطط له.

و سيتضح تدريجيا أن وجود هذه الدولة هو أول خطوة فعلية و فعّالة نحو هذا الهدف؛ و ما الارهاصات السابقة عليها، إلا لأجل وجودها، فهي من باب مقدمات المقدمات، لو صح التعبير.

و من الغني عن الاشارة ان الدولة العالمية، ما دامت تقع في طريق الهدف البشري الأعلى، فهي واقعة ضمنا، في طريق الهدف الكوني، لما عرفنا من ارتباطهما العضوي، و كون التخطيط البشري و هدفه جزءا من التخطيط الكوني و هدفه.

كما انه من واضح القول ان نشير ان دولة الحق ما دامت تقع في طريق الهدف البشري الأعلى، فهي واقعة كحلقة من التخطيط العام لذلك، و يكون إيجادها في ربوع البشرية هدفا يخطط له في الوجود البشري السابق عليها، باعتبار ان التخطيط لها تخطيط للهدف البشري الأعلى نفسه.

- 7 - يتوقف وجود هذه الدولة، كما برهنا عليه في كل من الكتابين السابقين من هذه الموسوعة، على شرائط ثلاثة رئيسية:

الشرط الأول: وجود المبدأ الكامل العادل الذي يكون ساري المفعول في تلك الدولة. و نريد المبدأ الوجود القانوني أو التشريعي من ناحية و الوجود

ص:430

المفهومي الذي يحدد موقف الفرد من الكون و الحياة من ناحية أخرى.

الشرط الثاني: وجود القائد الرائد الذي يباشر بتأسيس تلك الدولة، و يكون أول حاكم فيها، و قد سبق أن برهنا على تعيين هذا الاحتمال، و عدم صحة الاحتمالات الأخرى كالدولة الديمقراطية، في تاريخ الغيبة الكبرى(1) و سوف يأتي أيضا ما يوضح ذلك أيضا.

الشرط الثالث: وجود مجموعة كافية من البشر المخلصين الذين يكون لهم شرف المشاركة في إيجاد تلك الدولة بين يدي ذلك القائد؛ و قد برهنا(2) على فساد الاحتمالات الأخرى، كوجود الدولة بشكل اعجازي، لا يحتاج معه إلى جيش.

و قد تحدثنا عن هذه الشرائط مفصلا، فانها تعتبر العمود الفقري للتخطيط العام، بعد وجود الوعي و التفكير. و لكن ينبغي لنا أن نشير الآن إلى موجز من نتائج ذلك الحديث، حفاظا على تسلسل الفكرة:

إن مستوى المفاهيم و القانون الذي يكون معلنا و مطبقا في دولة الحق سوف يكون دقيقا و عميقا إلى درجة لا يمكن ان تفهمها البشرية الساذجة الخارجة لتوها إلى مرحلة الوعي و التفكير. بل لا بد من التخطيط لتعميق تفكيرها تدريجا لتكون متقبلة لذلك و فاهمة له حين وجوده.

و قد سمينا هذا التخطيط الذي هو جزء من التخطيط العام؛ بالتخطيط لإيجاد الأطروحة العادلة الكاملة، و نعني بها المفاهيم و القانون. و هذا هو القسم الثاني من التخطيط العام، أو - بتعبير آخر - التخطيط الثاني لتكامل البشرية.

و قد شارك عباقرة البشر و على رأسهم الأنبياء و المرسلون في تربية البشر في هذا الاتجاه - من حيث يعلمون أو لا يعلمون - لإيصالها إلى المستوى الفكري اللائق.

و قد انتهى هذا التخطيط، فيما نعتقده كمسلمين، بعصر الاسلام، الذي هو الأطروحة العادلة الكاملة، حيث أصبحت البشرية في بعض عصورها قابلة لفهم هذه الأطروحة، فبادر الخالق الذي هو المخطط الأعلى، لإنزال هذه الأطروحة الكاملة، متمثلة بالاسلام، بما يحمل من مفاهيم و قانون.

ص:431


1- (1) انظر ص 477 و ما بعده إلى عدة صفحات.
2- (2) المصدر نفسه ص 482 و ما بعدها.

و كانت الحاجة تقتضي إلى أن تتربى البشرية على فهم هذه الأطروحة الجديدة و التضحية في سبيلها ردحا من الزمن، قبل نزولها إلى حيز التطبيق، في دولة الحق، ليتحقق الشرط الثالث على ما سنشير. و من هنا انفصل نزول الأطروحة عن تطبيقها العالمي، و بتعبير آخر: انه من أجل ذلك أنزلت الأطروحة قبل موعد تطبيقها بزمن طويل.

و قد كان العصر المتأخر عن نزول هذه الأطروحة، متضمنا للتخطيط لايجاد الشرطين الآخرين. و قد احتوى على تخطيطين رئيسيين مقترنين:

التخطيط الأول: لايجاد الشرط الثاني و هو التخطيط لايجاد القائد الذي يمكنه أن يحكم العالم كله بالعدل بدون أن يكون مظنة الظلم أو الانحراف. انه لا يمكن أن يكون فردا عاديا، مهما أوتي من عبقرية و قابليات.

و قد برهنا في «تاريخ الغيبة الكبرى»(1) على لزوم أن يكون معصوما، و على ضرورة أن يكون طويل العمر معاصرا لأجيال كثيرة من البشر، لكي يعيش تجارب واسعة جدا، ليتكامل جانبه القيادي ذلك التكامل الذي سميناه بتكامل ما بعد العصمة. فان الكمال، كما قلنا غير متناهي الدرجات، و مهما كان الانسان عظيما فان أمامه درجات لا متناهية أخرى من الكمال.

و من هنا يتعين الفهم الإمامي لهذه القيادة الكاملة المتمثلة بالمهدي عليه السلام، الذي ولد عام 255 من الهجرة(2)؛ بخلاف الفهم الآخر الذي يتبناه جمهور المسلمين و هو ان المهدي رجل يولد في عصره، فانه - على ذلك - يكون فردا عاديا غير قابل للقيادة العالمية العادلة بأي حال.

و طبقا للفهم الامامي، فقد بدأ هذا التخطيط بولادة المهدي عليه السلام عام 255، و سينتهي بيوم ظهوره و قيامه بتطبيق دولة الحق.

التخطيط الثاني: لإيجاد الشرط الثالث، و هو إيجاد الجماعة المؤمنة المخلصة المشاركة في توطيد دولة العدل.

و قد برهنا أيضا(3) على أهمية التمحيص في هذا الحقل بالذات، فان له يدا طولى في تربية البشرية بكل أفرادها عموما، و في إيجاد هذه الجماعة المخلصة

ص:432


1- (1) انظر ص 501 و ما بعدها.
2- (2) تاريخ الغيبة الصغرى، للمؤلف ص 261.
3- (3) تاريخ الغيبة الكبرى، للمؤلف ص 246 و ما بعدها.

خصوصا.

و معنى التمحيص هو مرور البشرية بظروف صعبة من الظلم و المشاكل و الاضطهاد عصورا طويلة، لكي تبرز بوضوح مواقف الناس فردا فردا تجاهها.

فمن كان ضعيف الارادة أو قليل الاخلاص أو محبا للمصلحة الخاصة، أصبح ظالما مع الظالمين أو جاملهم أو مالأهم؛ و من كان قوي الارادة مفضلا للسلوك المطابق للأطروحة العادلة، كان منسجما مع الهدف الحقيقي و ناجحا في التمحيص.

و من هنا تتميز مواقف الأفراد تدريجا، و بشكل بطيء و طويل، و بذلك يتميز الباطل عن الحق؛ و قد أكد القرآن الكريم على هذا الجانب في عدد كبير من آياته، منها قوله تعالى:

ما كانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ (1).

و قوله عز و جل:

لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ (2) و غيرهما.

و يبقى التمحيص ساري المفعول زمانا طويلا، حتى يأتي جيل أو أكثر تتميز به عقيدة المؤمنين و مواقفهم عن مواقف المنحرفين و الكافرين و عقائدهم، أعني المنسجمين مع الهدف الأعلى عن غيرهم... تتميز بشكل عميق و حدّي غير قابل للتشويش. و بذلك تكون فترة ما قبل التمحيص التي يشير إليها القرن بقوله: «على ما أنتم عليه»... و هي فترة التشويش و الضحالة في السلوك و الفجاجة و الضياع في التقييم... قد انتهت.

و يكون الناس الذين التزموا جانب الايمان و العدالة هم المخلصون الذين يكون لهم شرف القيادة و الريادة في دولة الحق؛ كل ما في الأمر؛ انه ينبغي أن يأتي جيل يتحقق فيه عدد من المؤمنين كاف لهذه المهمة الكبرى. و بذلك يكون التمحيص قد حقق غرضه، و يكون التخطيط لإيجاد الشرط الثالث قد أنتج نتيجته.

و قد ذكرنا في تاريخ الغيبة الكبرى(3) أن أكثر الناس خلال هذه الفترة، سوف يوجب ضعف إرادتهم الرسوب و الفشل في التمحيص، على حين يكون الأقلية هم المخلصون الناجحون فيه. و هذا معنى أن المهدي عليه السلام سوف يملأ الأرض

ص:433


1- (1) آل عمران: 179/3.
2- (2) الأنفال: 42/8.
3- (3) انظر: ص 247 و غيرها.

عدلا و قسطا كما ملئت ظلما و جورا، كما وردنا في الأحاديث المتواترة عن النبي (ص) و خلفائه.

و بذلك يكون البرهان قائما على أمرين:

الأمر الأول: ما سبق أن أشرنا إليه من أن الظلم، بالرغم من أنه منافر مع الهدفين البشري و الكوني و مع التخطيطين لهما، إلا أنه دخيل باعتبار كونه مشاركا في إيجاد الشرط الثالث لدولة الحق و العدل المشاركة في الهدف البشري الأعلى. و بذلك يكون ضروري الوجود، لما برهنا عليه من أن كل ما له دخل في التخطيط فهو ضروري الوجود، لا يمكن أن تخلو منه ساحة الكون.

الأمر الثاني: ان وجود الظلم وجود مؤقت لا محالة، لأنه سوف يستنفد غرضه - كما أشرنا - بإنتاج نتيجته و هي إيجاد الشرط الثالث، و معه يكون استمراره بلا موجب، بل مستحيلا بالضرورة، باعتباره منافرا مع الهدف و التخطيط، و ليس له دخل فيه بعد استنفاد غرضه... و كل ما يكون منافرا مع الهدف فهو منتف بالضرورة.

و قد عرفنا الآن أن التخطيطين لإيجاد الشرطين الثاني و الثالث، يشتركان في الزمان و ينتهيان معا في لحظة الظهور، لأن هذه اللحظة كما انها لا تتحقق إلا بعد وجودهما، لا تتأخر عن زمان تحققهما بطبيعة الحال. كل ما في الأمر أنهما يختلفان في المبدأ فإن التخطيط لإيجاد القائد بدأ بمولده عام 255 هجرية، على حين بدأ التخطيط لإيجاد المخلصين، و نقصد بهم المخلصين طبقا للأطروحة العادلة الكاملة، بدأ بنزول هذه الأطروحة في صدر الإسلام.

و يشكل هذان التخطيطان - باعتبارهما متعاصرين - مجموعا واحدا، يمكن أن نسميه بالتخطيط لإيجاد دولة الحق. و هو القسم الثالث من التخطيط البشري العام.

كما يشكل القسمان الثاني و الثالث من التخطيط العام مجموعا واحدا، سميناه في تاريخ الغيبة الكبرى بالتخطيط الإلهي لليوم الموعود، لأنه يبدأ بأول عصر الوعي.

البشري و يواكبها بالتربية، و ينتهي بإنجاز غرضه و هو وجود اليوم الموعود، و يراد به اليوم الذي تتحقق به دولة العدل العالمية على وجه الأرض، و قد عرفنا مشاركتها في الهدف، و ليست هي الهدف الأساسي.

ص:434

- 8 - و حين تتوفر الشرائط الثلاث، في ربوع البشرية، يحين انجاز الوعد الذي كان قد ركز عليه من خلال التخطيط السابق تركيزا كبيرا، فيظهر القائد الأعظم المهدي (ع) على مسرح الحياة مع جيشه المجاهد و قواده الأكفاء، و يكون لهم - بإشرافه و رأيه - تخطيط خاص لغز و العالم و السيطرة عليه، و يكون انتصارهم حتميا، باعتبار الضمانات التي تهيأت لهم خلال التخطيط السابق، و قد ذكرناها في الكتاب الثالث من هذه الموسوعة(1).

و بعد أن تتم السيطرة على العالم، يبدأ القائد المهدي (ع) و عماله، و هم الأمراء الذين يوزعهم على مناطق العالم، بتطبيق الأطروحة العادلة الكاملة تطبيقا عميقا و دقيقا، بعد إعطائها شكلها الكامل، و يكون التطبيق حديا لا يعذر فيه المقصرون.

و تستهدف هذه الدولة، في المدى البعيد، إيجاد المجتمع المعصوم، الذي هو الهدف الأعلى للبشرية، و تخطط لوجوده بوعي و قوة و اخلاص... و هو القسم الرابع من التخطيط البشري العام أو التخطيط الرابع.

و يمكن القول بأن هذه الدولة العالمية، تمر بعدة مراحل، كما بيناه في «تاريخ ما بعد الظهور» لكل مرحلة وظيفتها الأساسية في هذا التخطيط.

المرحلة الأولى: فترة حكم القائد المهدي (ع) بشخصه. و هو الذي يؤسّس القواعد الرئيسية الكبرى للمفاهيم و للتشريع و للأسلوب الأفضل في ممارسة الحكم، و الأسلوب الأفضل للتربية الفردية الاجتماعية، بالشكل الذي ينسجم مع المستوى العقلي و الثقافي لذلك العصر من ناحية، و الهدف الأعلى الذي يتوخاه، من ناحية ثانية.

و قد قلنا في الكتاب المشار إليه(2)، بأننا في عصورنا الحاضرة، يتعذّر علينا أن ندرك البعد الحقيقي و العمق الكامل للمفاهيم و التشريع و الأساليب التي يتخذها الإمام المهدي (ع) في دولته... و إن كنا نستطيع أن ندرك بعض التفاصيل، مما في أيدينا من الأدلة و المستندات، على ما سيأتي.

و القائد المهدي (ع) بعد كل ذلك، هو يعطي للبشرية الجذور العاطفية

ص:435


1- (1) انظر تاريخ ما بعد الظهور: الفصل الثالث من الباب الثالث من القسم الثاني.
2- (2) انظره في الجهة الثالثة من المقدمة.

العليا، أو الدفعة الأولى للتكامل و الاتجاه نحو الهدف الأعلى من الناحية التطبيقية، كما فعل النبي (ص) من الناحية التشريعية؛ و تستطيع البشرية بعد ذلك، أن تواصل سيرها بأفضل أسلوب و أسهله نحو الهدف.

المرحلة الثانية: فترة الوصاية. و هي فترة حكم خلفاء المهدي (ع). و يتم تنصيبهم بالتعيين من قبل الإمام المهدي (ع)... أو ان كل واحد يوصي للذي بعده.

و هي فترة طويلة نسبيا قد تمتد عدة مئات من السنين، كما يستفاد من بعض الأخبار، يتم خلالها تربية الأجيال و تركيزها تدريجا إلى جانب العدل الموازي مع الهدف الأعلى، تستعمل الدولة كل أساليبها و صلاحياتها في سبيل ذلك؛ و ينتج عن هذه الجهود اقتراب المجتمع العالمي من العدل، و تحسن العلاقات بين الأفراد و المجتمعات إلى حد كبير، لم تحلم به أجيال ما قبل الظهور، و لم تستطع أن تدركه.

و حين يبلغ كمال المجتمع البشري درجة معينة، يكون الرأي العام فيها معصوما عن الخطأ، أي ان كل ما اتفق عليه المجتمع و أجمعوا على صدقه، فهو حق و لا يمكن أن يكون خطأ... عندئذ تنتهي فترة الوصاية لأن المجتمع البشري يكون قد بلغ رشده.

المرحلة الثالثة: فترة المجتمع الرشيد، و هو ما ذكرناه قبل لحظة، المجتمع الذي يكون الرأي العام فيه معصوما، و إن لم يكن الأفراد فيه معصومون.

و أهم خاصية لذلك المجتمع هو أن عهد الوصاية يكون قد انتهى، و من هنا يكون الحكام منتخبين بالتصويت العام، لا بالتعيين. و ذلك انطلاقا من نقطتين:

النقطة الأولى: ان الأفراد في ذلك المجتمع ككل، و إن لم يكونوا معصومين، إلا أنه تتوفر فيه نسبة غير قليلة من المعصومين، الذين تلقوا بعبقرية نتائج التربية في المراحل السابقة، و حيث عرفنا فيما سبق أن قائد البشرية لا بد أن يكون معصوما، صالحا لأن يتولى الرئاسة البشرية العامة، و يتم التصويت العام على انتخاب واحد من هؤلاء بطبيعة الحال.

النقطة الثانية: إن كل فرد أجمع المجتمع على انتخابه، فهو صالح بالضرورة لقيادة البشرية، لأننا عرفنا أن كل ما أجمع عليه المجتمع فهو حق و لا يمكن أن يكون باطلا.

و العصر الوحيد الذي تصح فيه الديمقراطية التي دعت إليها أوروبا هو هذه

ص:436

المرحلة بالتعيين، و لا يمكن أن تكون صالحة في عصر المظالم و الانحراف، لأن الرأي المجمع عليه من قبل الأفراد المنحرفين باطل بالضرورة و لا يمكن أن يكون حقا، فضلا عن رأي الأكثرية، الذي تدعو الديمقراطية إلى اتباعه.

و الانتخاب في هذه المرحلة، يختص بالحكام، طبقا لنظام معين، و لا يشمل التشريع، و إن دعت أوروبا إلى حق التصويت فيه. فإن التشريع فيها هو الأطروحة العادلة الكاملة، و هي ثابتة مع الزمن غير قابلة للتغيير.

و سيكون التصويت عالميا من ناحية، و لا يكون منتجا أو مقبولا إذا كان إجماعيا أو ما يقارب الإجماع من ناحية ثانية(1). و هذا مستوى - بالرغم من صعوبته - لم تبلغ الديمقراطية الأوروبية بأي حال؛ و هو لن يكون صعبا في ذلك المجتمع الأعلى، على كل حال.

و سوف تنتهي هذه المرحلة بوجود المرحلة التالية.

المرحلة الرابعة: فترة المجتمع المعصوم بكل أفراده، أو أكثريتهم الكاثرة.

و هو الهدف الأعلى لوجود البشرية، الذي به يتحقق الغرض الأساسي من وجودهم، ذلك الغرض الذي برهنا على وجوده فكريا، كما سبق؛ و عرفناه من القرآن الكريم الذي يقول: «و ما خلقت الجن و الأنس إلا ليعبدون». حيث تتحقق به العبادة الكاملة في كل فرد من الأفراد.

و معه لا حاجة إلى الدخول في تفاصيل شكل الحكم و العلاقات في ذلك المجتمع، غير اننا نعرف أنها أشكال عليا على درجة العصمة و العبادة الكاملة.

و سنحاول، مع ذلك - عند الدخول في التفاصيل - أن نستشف بعض خصائص هذا المجتمع جهد الإمكان.

و بوجود هذا المجتمع يكون الغرض الأعلى من وجود البشرية قد وجد.

و يكون التخطيط العام لإيجاد هذا الهدف قد أنتج نتيجته و استنفد أغراضه.

و قد برهنا في «تاريخ ما بعد الظهور» على كون هذه الفترة طويلة جدا تعدل تاريخ البشرية من أول وجودها إلى حين تحققه عدة مرات، بل قد يزيد عليه بعشرات الأضعاف. و لعلنا نشير إليه مع التفاصيل.

و يكون التخطيط لاستمرارها و إعطائها سماتها العامة و تفاصيلها هو التخطيط الخامس أو القسم الخامس من التخطيط العام لتكامل البشرية.

ص:437


1- (1) لأن الرأي لا يتخذ صفة العصمة إلا إذا كان كذلك.

- 9 - و لكن ما ذا بعد هذه المرحلة؟!. إن البعد السحيق لها يمنعنا من استشفافها بوضوح، و من هنا كان فيها أطروحتان، ذكرناهما معا في تاريخ ما بعد الظهور. نشير إليهما الآن مختصرا:

الأطروحة الأولى: إن البشرية تستمر في التكامل، من «تكامل ما بعد العصمة»... فإن العصمة - في مراحلها الأولى -: هي آخر مراحل الكمال الأدنى و أول مراحل الكمال الأعلى... و الكمال لا متناهي الدرجات، كما سمعنا، إذن، فهناك فرصة واسعة أمام البشرية للتكامل بعد ذلك، ما شاء لها ربها و إخلاصها لها الكمال.

و تبقى البشرية على هذا الحال، حتى يستنفد وجودها على الأرض غرضه، من زاوية التخطيط الكوني، و عندئذ يحكم على البشرية بالزوال.

أو بتعبير آخر: إن هذه الحياة لن توفر الفرصة الكافية للتكامل بعد بلوغ هذه المراحل العليا، و من هنا لزم نقل البشرية إلى عالم آخر، تتوفر فيه فرصة الكمال الأعلى، لتستمر البشرية في تكاملها هناك. و من هنا تزول البشرية عن وجه الأرض، لتذهب إلى عالمها الجديد، و يتم انتقالها إليه في «يوم القيامة» كما سماه القرآن الكريم. و هو احدى الحلقات الرئيسية في التخطيط الكوني العام. و من ثم نرى أن الحوادث المزيلة للبشرية عن وجه الأرض حوادث كونية قسرية، نسمعها مشروحة في عدد كبير من آيات القرآن الكريم، شأنها في ذلك شأن الحلقات الكونية الأخرى.

و بذلك ينتهي التخطيط البشري العام تماما، و يبقى التخطيط الكوني ساري المفعول، ما دام للكون وجود(1).

الأطروحة الثانية: ان البشرية بعد ان تحقق غرضها الأعلى، تبدأ بالتسافل مرة أخرى، و يبدأ الظلم و الفساد يشيع فيها بالتدريج... حتى يأتي عصر من العصور يوجد فيه جيل أشبه بالحيوان منهم بالانسان، عقائديا و تشريعيا و مفاهيميا،

ص:438


1- (1) و لا موجب للالتزام بأن الكون ينتهي مع البشرية إذ ليس عليه دليل ديني و لا علمي. و تبعثر المجموعة الشمسية في يوم القيامة، كما يستفاد من ظاهر القرآن الكريم، غير ملازم مع انتهاء مجموع الكون، كما هو معلوم. بل ان العلم أصبح يقيم القرائن على قلة أهمية الانسان في الكون، كما لا يخفى على المطلعين.

و هو الجيل الذي تقوم عليه «القيامة» و ينتهي به البشرية.

و لا نريد الآن المفاضلة بين هاتين الأطروحتين، و لعل فيما يأتي من التفاصيل ما يدل على ذلك.

و المهم الآن ان نلتفت إلى أن كلا هاتين الأطروحتين يحتاجان إلى تخطيط معين... يكون هو التخطيط الأخير في عمر البشرية، و هو القسم السادس من التخطيطات البشرية. و لكنه - طبقا للأطروحة الثانية - سوف لن يستهدف تكامل البشرية، بل سوف يستهدف تسافلها و فسادها. و لكنه سوف يحافظ على صفته السابقة طبقا للأطروحة الأولى.

- 10 - فهذا هو الاجمالي العام لتاريخ البشرية، كما يعطيه المخطط العام لتكاملها.

و قد عرفنا لها عددا من التخطيطات، ستة منها مترتبة و بعضها متعاصرة، نذكرها الآن جميعا، كما يلي:

أولا: التخطيط العام لتكامل البشرية. و هو العنوان العام لعدة أقسام من التخطيطات، يبدأ بوجود البشرية و ينتهي بانتهائها طبقا للأطروحة الأولى التي ذكرناها قبل أسطر، أو ينتهي بانتهاء عصر المجتمع المعصوم، طبقا للأطروحة الثانية.

ثانيا: التخطيط الساري المفعول في عصر التخلف الذهني لاخراج البشرية إلى مستوى التفكير و الوعي، و هو يبدأ بأول البشرية و ينتهي بانتهاء عصر التفكير.

ثالثا: التخطيط العام لايجاد اليوم الموعود، و هو العنوان الذي يشمل عدة أقسام من التخطيط تستهدف وجود دولة العدل العالمية، يبدأ بأول عصر التفكير و ينتهي بوجود تلك الدولة.

رابعا: التخطيط لايجاد الشرط الأول لتلك الدولة، و هو المستوى الذهني الكافي لفهم الأطروحة العادلة الكاملة. يبدأ بأول عصر التفكير و ينتهي بوجود تلك الأطروحة، أعني أول عصر الاسلام.

خامسا: التخطيط لايجاد دولة الحق. و هو العنوان الشامل للتخطيط لايجاد الشرطين الثاني و الثالث اللذين عرفناهما لدولة الحق. يبدأ بأول عصر الاسلام، و ينتهي بوجود دولة الحق و العدل.

سادسا: التخطيط لايجاد الشرط الثاني، أعني القيادة العالمية المعصومة. يبدأ

ص:439

بميلاد هذا القائد - طبقا للفهم الامامي - و ينتهي بوجود دولة العدل.

سابعا: التخطيط لايجاد الشرط الثالث، و هو إيجاد العدد الكافي في الجيش المؤازر لذلك القائد، و هو يبدأ بأول عصر الاسلام و ينتهي بوجود تلك الدولة.

ثامنا: التخطيط لترسيخ فكرة الغيبة في أذهان الناس - طبقا للفهم الامامي -. و هو ما تم خلال الغيبة الصغرى، على ما عرفنا في تاريخها.

تاسعا: التخطيط للسيطرة على العالم، خلال فترة غزو العالم عسكريا و عقائديا، من قبع المهدي عليه السلام و جيشه، و يستفاد من بعض الأحاديث أن مدته ثمانية أشهر، كما سبق في «تاريخ ما بعد الظهور»(1). يبدأ بيوم الظهور و ينتهي مع السيطرة التامة على العالم.

عاشرا: التخطيط لايجاد المجتمع المعصوم. و هو الذي تقوم به الدولة العالمية، كما عرفنا، يبدأ بأول تأسيسها، و ينتهي بوجود ذلك المجتمع.

حادي عشر: التخطيط للمحافظة على المجتمع المعصوم لكي يؤدي غرضه، طبقا للهدف البشري و الهدف الكوني، على ما سنشير إليه خلال التفاصيل الآتية.

ثاني عشر: التخطيط الساري المفعول بعد انتهاء عصر العصمة، و هو يستهدف تكامل البشرية طبقا للأطروحة الأولى، أو تسافلها طبقا للأطروحة الثانية، ذينك الأطروحتين اللتين ذكرناهما قبل قليل.

و التخطيطات الستة المترتبة التي لا يبدأ أحدها إلا بانتهاء الآخر، و التي تتكفل استيعاب تاريخ البشرية هي الثاني و الرابع و الخامس و العاشر و الحادي عشر و الثاني عشر. و أما الأول و الثالث، فهما عناوين عامة لعدة تخطيطات. كما ان السادس و السابع هما تفاصيل للخامس. و أما الثامن و التاسع فهما تخطيطات لفترة صغيرة من الزمن، بحيث يمكن إهمالها عند النظر العام. على انهما معا يمكن إدراجهما في التخطيط الخامس، فلا تبقى هذه الفترات الصغيرة خالية عن التخطيط الواسع أيضا.

يندرج تحت الأول كل التخطيطات المتأخرة عنه، لو صحت الأطروحة الأولى و السابقة، أو ما دون الأخير لو صحت الثانية. و يندرج تحت الثالث التخطيطات الخمسة أو الستة المتأخرة عنه، أعني من الرابع إلى الثامن أو التاسع... و من هنا اكتسب أهمية كبرى بصفته اعدادا لدولة العدل العالمية، و لا زلنا نعيش من خلاله في

ص:440


1- (1) انظر الفصل الرابع من الباب الثاني من القسم الثاني.

عصورنا الحاضرة، و قد أكدنا عليه في «تاريخ الغيبة الكبرى» كما أكدنا على التخطيطات الأخيرة في تاريخ ما بعد الظهور.

و من هنا لا حاجة إلى ان ندخل في نفس التفاصيل التي كنا ذكرناها هناك، بل يكفي اطلاع القارئ على الكتابين السابقين، و إنما نذكر ذلك بعض المختصرات في حدود ارتباط الفكرة و عدم تنافرها أو تناثرها، و ندخل في التفاصيل من زوايا جديدة، كما لا يخفى على من تجشم عناء المقارنة.

سنقتصر في العناوين الآتية على عنونة التخطيطات الستة المترتبة، فانه الأحجى في ضبط تسلسل التاريخ البشري و استيعابه، و تعرف ضمنا تفاصيل التخطيطات الستة الأخرى. و سيكون الترقيم الآتي للتخطيطات مختلفا عن القائمة التي أعطيناها أخيرا؛ إذ أهمية في الترقيم، و إنما الأهمية في واقع التخطيط بصفته اعدادا للهدف الأسمى للبشرية.

ص:441

التخطيط الأول المنتج للوعي و التفكير

- 1 - بعد أن برهنا على مرور البشرية في أول عهدها من الوجود، بعصر ما قبل الوعي أو عصر القصور الذهني، كما سميناه... و انه لا بد لها - و هي في طريقها إلى التكامل - ان تجتاز هذه المرحلة إلى التي بعدها، بفعل أسباب معينة و تخطيط خاص، تنتج فيها - من حيث لا تعلم - تلك النتيجة المهمة.

- 2 - لا ينبغي أن ننزل بالانسان - في أحط درجاته - عن الحيوانات الذكية التي نشاهدها في عالم اليوم، بل هو - بكل تأكيد - أذكى الحيوانات على الاطلاق، بدليل انه استطاع ان يجتاز قصوره الذهني إلى مرحلة التفكير، بمعنى انه كان يتصف بقابلية تكون التفكير فيه دون سائر الحيوانات، حيث لم تستطع تجاوز قصورها الذهني بأي حال.

و من هذا المنطلق، يسهل تحديد خصائصه الأولية...

فإن الحيوانات تأكل و تشرب، و تعرف عادة أماكن طعامها و شرابها و البيئة التي ترتاح فيها، و تقوم بالفعاليات الجنسية و الولادة و الارضاع، و يدافع الذكر منها عن الأنثى. و بعض الحيوانات التي يعيش في جماعات، كالنّمل و القردة و الفيلة و بعض الطيور. و يختص بعض الأنواع الذكية، بقضاء حاجة بعض أفراد أنواعها، و قد تشاطر الانسان عاطفة الحب، و تستطيع ان تتعرف على بعض أفراده. و قد تقوم ببعض التجارب البسيطة، كاختبار صلاحية الأرض أو المناخ للبيض أو التفريخ.

كما أن لأكثر الحيوانات بيوتا تأوي إليها على مختلف أشكالها... بما فيها الطيور و بعض الوحوش و بعض الحشرات و بعض الحيوانات المائية. كما ان بعضها يكوّن الأسرة و خاصة الثدييات من الحيوان، و بعض الطيور.

ص:442

و إن ارتباط الأم بصغارها بالدرجة الأولى، و ارتباط الزوج بزوجته بالدرجة الثانية، و هي زوجة لفترة معينة غالبا، هذا الارتباط واضح في الأسر الحيوانية. و هو يدافع عن متعلقيه في صراعات فردية متفرقة، كما يدافع أيضا عن غذائه، و يهتم بعض الحيوانات به اهتماما خاصا، كالنمل و غيره.

و مهما يكن تفسير هذه التصرفات، فهي واقع لا مناص منه في حياة الحيوان؛ و قد اختلفوا في انه ناتج عن مجرد الغريزة أو عن درجة من درجات الادراك، أو هي مجرد رد فعل منعكس شرطي للمنبهات الطبيعية، و الدخول في تفاصيل ذلك يخرجنا عما نحن بصدده.

و لكننا نقول باقتضاب: ان الصحيح هو الاحتمال الثاني، و هو مجرد الادراك الضعيف لدى الحيوان، لفشل النظريتين الأخريتين، و عدم إمكان تفسير كل تصرفات الحيوان إلا بالادراك.

أما نظرية الفعل المنعكس، فلا تصح باعتبار أن عددا من تصرفات الحيوان معقدة إلى درجة لا يمكن انطباق هذا المجال الضيق عليها. كما ان احتمالات رد الفعل تجاه حادثة معينة قد تكون متعددة، فلو ضربت كلبا أو قطة أو طيرا بحجر، لم تستطع أن تتنبأ بالمكان الذي سوف يلجأ إليه. و هذا يدل على وجود درجة من الادراك و (الحرية) لديه، بدرجة ما.

كما ان الغريزة وحدها غير كافية للتفسير، فانها عبارة عن الحاجة، و هي ليس لها أي إدراك لو بقيت و ذاتها. و قد قيل: ان الغريزة لا عقل لها. ففراغ المعدة لا يدل صاحبها على ما يأكله، و لا على أسلوب الأكل، بل و لا يدله على أن هذا الألم يزول بملء المعدة. و جفاف الفم لا يدل صاحبه على ما يشربه و لا على مكان الشرب و لا حتى على زواله برطوبة الفم. إن كل هذه التفاصيل التي تقضي الحيوانات حاجاتها بها، ناشئة من الادراك، و لا معنى لنشئها من الغريزة، باعتبارها حاجة جسدية صرفة.

فلو بقيت بعض الحاجات خالية عن الادراك، لقتلت صاحبها، كالجوع و العطش.

إذن، فيتعين أن يكون قضاء الحيوانات لحاجاتها الضرورية ناشئا من إدراك ضعيف، يكفيه لحفظ نفسه، و ربما لعلاقاته بأسرته و ببيئته و بالآخرين من نوعه و غير نوعه. كل ما في الأمر أنه إدراك ضعيف، و هو مختلف في الوضوح لدى الحيوان.

و من هنا يمكن القول: بأن أصوات الحيوان، هي (لغته) التي يقضي بها حاجاته البسيطة و يحدد بها علاقاته مع الآخرين و يعبر بها عن عواطفه المختلفة. كل ما

ص:443

في الأمر أنها لغة ضعيفة و غير قابلة للتطوير.

و لعل هذا هو المراد من قوله عز من قائل: «و ما من دابة في الأرض و لا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم» إذا كان المقوم الرئيسي أو أحد المقومات الرئيسية هو الجانب اللغوي، و على أي حال، فالنوع الحيواني لا يكون أمة أو بدرجة من الادراك أو مقدار معين من اللغة أو بهما معا.

... إننا لا ينبغي أن ننزل بالانسان - في أحط درجاته - عن هذا المستوى كما قلنا. إذن، فكل هذه الخصائص و الظواهر، كانت متوفرة فيه، و ربما بشكل أقوى و أوضح.

- 3 - و لكنه على أي حال، يختلف عن الحيوانات الأخرى، اختلافات أساسية تجعله أهم، بكل تأكيد، و ذلك في عدة خصائص:

الأولى: ان خصائصه المشتركة مع الحيوان قابلة للتطوير، بدليل حصول التطوير فيها، كما أشرنا، و ليس كذلك في سائر الحيوانات.

الثانية: تمتعه بدرجة واضحة من قوة الذاكرة غير موجودة عند سائر الحيوانات، فان الذاكرة لا تكاد تكون متوفرة في الحيوان إلا على أضيق الحدود؛ حتى يمكن القول بأنها أضعف صفاته، بخلافها في الانسان فانها من صفاته القوية الواضحة.

الثالثة: ان أصواته التي يستطيع التلفظ بها غير محددة بعدد معين، كالحيوان... بل يستطيع أن ينطق بطائفة كبيرة من الأصوات، و يعبر بها عن حاجاته الضرورية، تبعا للأسلوب الحيواني العام الذي أشرنا إليه.

الرابعة: ان حياته خالية مما نستطيع أن نسميه ب (التحديد الغرائزي)، كالسبات في بعض الفصول، أو الاستطاعة الجنسية مرتين في العام، و نحو ذلك.

إنه حر في تصرفاته.

الخامسة: انه يتميز بقوة في العاطفة و اهتمام بها، أكثر من الحيوان، و يستعمل ذاكرته في تذكر عواطف سابقة.

السادسة: إنه قادر على حركات جسمية أكثر من الحيوان، في مفاصله و عضلاته، من أوضحها الضحك و البكاء و حركات اليد و الوجه.

السابعة: قابليته للافادة من التجارب البسيطة بالتدريج البسيط أيضا،

ص:444

و محاولة تذكر ما عاشه من حياة و حوادث سابقة.

فكل هذه المميزات، و غيرها، هي التي ساعدته بشكل أكيد، على النمو و التكامل باتجاه الوعي و التفكير.

و قد وجدت هذه الصفات في الانسان - من زاوية فهمنا التخطيطي - نتيجة للتخطيط الكوني، فهي واقعة في طريق أهدافه، بطبيعة الحال. كما ان نتائجها و هو التطور إلى الوعي فما بعده، واقع في هذا الطريق أيضا.

و قد أصبحت هذه الصفات، النقاط الأساسية الأولى للتخطيط العام للبشر ابتداء من تخطيطها الأول الذي نتحدث عنه الآن، فما بعده، فانها هي التي جعلت فيه قابلية التطور دون سائر الحيوان. و هذا أحد نقاط الارتباط بين التخطيطين الكوني و البشري اللذين عرفناهما.

- 4 - لا حاجة لنا إلى التعرض إلى أسلوب الحياة للانسان الأول، و طريقة معيشته، في تلك الفترة... و هل انه كان يعيش على الأشجار - كما سمعنا من انجلز - أو في الكهوف أو في أماكن أخرى، أو أن أساليبه كانت تختلف باختلاف مستواه من ناحية و بيئته من ناحية أخرى.

إنما المهم ان الانسان استطاع بخصائصه تلك أن يفيد من تجاربه تدريجا، فيحاول أن يحمي نفسه من الحيوانات المعتدية، و من الطوارئ الطبيعية، و أن يقتل الحيوان، و أن يلتفت إلى نمو الأشجار، و أن تزداد أصواته و تعابيره تعقيدا حتى تكوّنت له بلغة بدائية، فاستطاع بها ان ينقل أفكاره و تجاربه إلى الآخرين. و بذلك استطاع أن يدخل عصر التفكير، و يكون المجتمعات الواعية.

و ليس لنا ان نعطي تاريخا معينا حديا لوجود الوعي، لأنه وجد بالتدريج البطيء و لعل تكون الوجود اللغوي لأول مرة، هو أول دليل مباشر على وجود التفكير.

كما اننا لا حاجة لنا إلى افتراض ان هذا التدرج البطيء احتاج إلى ملايين السنين، كما يميل إليه أنصار الفكر الحديث عموما. بل يمكن القول بأن خصائص الانسانية التي عرفناها يمكن ان تمشي بهذا التدرج قدما بحيث لا يستغرق غير آلاف قليلة من السنين، إذا أردنا التحفظ و الاحتياط من جانب الكثرة. فإن أردنا الاغراق قلنا انه يكفينا المليون من السنين. و لا حاجة إلى افتراض الملايين كثمانين أو مائة مليون

ص:445

سنة، كما تصرح به المصادر الحديثة.

و على أي حال، فهذا راجع إلى وجدان القارئ لا حاجة إلى البرهنة عليه، فان التخطيطات عموما غير محددة بزمن معين، كما هو معلوم، كما سارت عليه الماركسية في نظريتها، و إنما المهم هو نتائجها الأساسية، و هو حصول الوعي في المجتمع البشري نتيجة للتخطيط الأول الذي نتحدث عنه.

- 5 - و مما قلناه يتضح أن الأساليب المتخذة في التخطيط الأول، ليست إلا إيكال الانسان إلى تجاربه الحياتية، بعد وجود تلك الخصائص الأساسية فيه. فان هذا الأسلوب كاف في إخراجه إلى صفة الوعي و رفع القصور عنه.

و من هنا، لا حاجة إلى افتراض عناصر أخرى في هذا التخطيط، كوجود نبوّات إلهية على المستوى البسيط المناسب مع ذلك العصر، كما يميل إليه بعض الباحثين الاسلاميين، فان ذلك و إن كان محتملا فعلا، إلا أنه لا دليل عليه من ناحية قاعدة اللطف العقلية، التي يستدل بها عادة لوجوب إرسال الأنبياء، لعدم وقوع الاختلافات العامة في ذلك المجتمع، تلك الاختلافات التي توجب إرسال الأنبياء طبقا لتلك القاعدة.

كما انه لا دليل على هذه النبوات من زاوية التخطيط، فان تأثيرها إنما يكون في الاسراع بإنتاج التخطيط لهدفه، و هو حصول الوعي، و هذه السرعة لا دليل على كونها مطلوبة في الأهداف العامة التي سنها الخالق في كونه و بشريته، فإنه طويل الأناة لا يختلف بالنسبة إليه طول الزمان و قصره.

- 6 - لا يفرق في النمو البشري طبقا لهذا التخطيط، بين جماعات البشر أو أفرادهم، و ان تفرقت الجماعات في أماكن متباعدة فان البشرية وجدت وجودا واحدا، فهي تنمو نموا واحدا، إذن، فهي سوف تواجه النتائج في زمن تقريبي واحد. و سنعرف أن هذا صادق على التخطيطات الأخرى جميعا.

و من هنا سوف لن نواجه الاشكال الذي واجهته الماركسية، بأن حلقات التطور تختلف في مجتمع عن مجتمع آخر، و قد لا توجد على الاطلاق، حتى أن أناسا بدائيين لا زالوا موجودين إلى العصر الحاضر، فلما ذا لم تشملهم قوانين الماركسيين الضرورية الانتاج و القسرية التأثير؟!..

ص:446

إن هذا التخطيط سرى في البشرية كلها، و أخرجها جميعا من القصور إلى الوعي، و لا يوجد الآن و لم يكن يوجد في عصورنا الماضية هذه (الحلقة المفقودة) و هي الانسان القاصر، إلا إذا كان قاصرا بصفته الفردية.

نعم، اختلاف الجماعات و تباعد أمكنتها، يؤثر في أسلوب هذا الوعي الجديد، فاللغة قد تختلف و أسلوب السكنى و المأكل و العلاقات قد تتعدد، إلا ان النتيجة المتوخاة، و هي الوعي أو القدرة على التفكير أصبحت صفة للجميع.

- 7 - من هنا نعرف أن قدرات الانسان و صفاته الذاتية استطاعت أن تنمو بتفاعلها مع الطبيعة، بدون أن يكون لوسائل الانتاج أثر مهم في ذلك، غير كونها كأحد العناصر الأخرى التي تؤثر في التجربة البشرية عموما.

و بطبيعة الحال، لم يكن هناك بين الأفراد علاقات إنتاج معينة، و إنما كانت أساليب الانتاج فردية و بدائية، و العلاقات الاجتماعية و اللغوية غير موجودة، فمن غير المستطاع للماركسية أن تدعي أن علاقات الانتاج هي التي طورت المجتمع أو الناس. و هي - في عين الوقت - لا يمكنها ان تدعي أن وسائل الانتاج تؤثر مباشرة في التطور. فانها إنما تؤثر - في رأي الماركسية - عن طريق علاقات الانتاج. فإذا كانت علاقات الانتاج منعدمة كانت وسائل الانتاج منعدمة التأثير.

و قد عرفنا الأسلوب الماركسي التجريدي في عرض التاريخ البشري... و قد سبق أن ناقشناه. و أما ما ذكرناه خلال هذا التخطيط فواضح مبرهن، لأن الصفات التي يتميز بها الانسان عن الحيوان نحس بها وجدانا، و أما إنتاجها للوعي نتيجة للتفاعل مع الطبيعة فواضح أيضا، لم ندع في هذا التخطيط أمرا خارجا عن الوجدان. و إنما لم ندخل في تفاصيل حياة هذا الانسان القديم تجنبا لأسلوب التجريد.

و قد سمعنا من انجلز عند الحديث عن مرحلة (ما قبل المجتمعات) انه ينسب تطور البشر في ذلك الحين إلى (العمل). و نحن نستطيع أن نوافقه بعض الشيء فان العمل يمثل طائفة كبيرة من التجارب التي سببت نمو الانسان، لا ان للعمل تأثيرا مجهولا و (ميتافيزيقيا) في هذا النمو.

و إذا كان سبب النمو هو التجربة، لم ينحصر بالعمل، بل تعمل كثير من الظواهر الطبيعية و عدد كبير من الصدف و كذلك مشاهدة تجارب الآخرين و أعمالهم، في صقل هذه التجارب و تعميقها بالتدريج البطيء.

ص:447

التخطيط الثاني المنتج للمستوى الفكري العالي

اشارة

- 1 - حينما بدأ الوعي يدب في الجماعة البشرية، أصبحوا قادرين على التفكير و من ثم على تطوير حياتهم بشكل مهم و كبير... فوجدت اللغة و المجتمع و بدأت التقاليد و العادات تأخذ طريقها إلى الناس.

و بدأ الناس يشعرون بأهمية مصالحهم الخاصة و ما يحوزونه من أموال على وجه الخصوص، و بأهمية الأسرة بشكل أكيد، و اعتبروا الاعتداء على هذه الأمور شيئا غير صحيح يستحق القتال دونه، و من هنا حصلت الاختلافات الدموية و الحروب الجماعية الصغيرة.

و بدأ الانسان يلتفت بالتدريج إلى التجارب الزراعية و الصناعية البدائية.

فأشعل النار و مارس الزراعة و الصيد و صنع السلاح.

- 2 - و ليس في هذه الصفات ما يهمنا، و ان أهمّت الانسان القديم، فيما عدا أمرين:

الأمر الأول: ان هذه الخصائص الاجتماعية التي استطاع أن يكسبها الانسان ناشئة من الفكر، و ليس العكس صحيحا. إذ لو كان الفكر ناشئا عنها لأمكن وجودها في مرحلة أسبق من عصر وجودها الحالي. في أي فترة من عصر القصور الذهني...

فلما ذا لم توجد؟ و لو كان وجودها منوطا بمجرد الصدف أو الأفعال المنعكسة، لكان لملايين السنين التي مر بها الانسان - حسب التصور الحديث - الأثر الكبير في وجودها قبل زمن وجودها الفعلي بزمن غير قصير، فلما ذا لم توجد؟!...

إن الأمر - بكل بساطة - يحتاج إلى أن (يستوعب) الانسان مضمون تجاربه بدقة كافية، بحيث يستطيع أن يفيد منها نفسه و الآخرين، و هذا الاستيعاب ليس إلا

ص:448

الفكر بدرجته البدائية.

الأمر الثاني: ان هذه الخصائص الجديدة، و بخاصة المستوى الفكري اللائق، مع ما انتجته من الاضطرابات و الحروب، قد جعلت الحياة جحيما لا يطاق، أو كادت فأصبحت - كما نطقت به الآية الكريمة - مثارا لضرورة إرسال الأنبياء لهداية الناس و رفع اختلافاتهم و زرع روح الأخوة بينهم. فكان لهذا العنصر المهم الأثر الكبير في إنجاح هذا التخطيط الثاني، و لا يكفي الآن - كما كان في التخطيط الأول - إيكال المجتمع إلى تجاربه الحياتية الخاصة لينتج التخطيط الثاني نتيجته(1).

- 3 - و حيث ان التربية يجب ان تبدأ بالواقع، و تحاول الارتفاع به إلى المستوى المطلوب و لا يمكنها أن تبدأ من نقطة أعلى من الواقع، و إلا كانت فاشلة تماما، كما لو ان طفلا صغيرا بدلا من ان تعلمه اللغة بدأت تعلمه الكتابة، أو أن طفلا أكبر منه، بدلا من أن تعلمه الكتابة بدأت تعلمه الجبر أو الفيزياء، انك ستبوء بالفشل الذريع لا محالة.

و من هنا كانت النبوات تبدأ من الواقع و تحاول رفعه، و لهذا لا تحاول - بادئ ذي بدء - أن تعطي مضمونا أكبر منه. و من هنا انقسمت النبوات إلى أربع مراحل:

أولا: مرحلة النبوات العقائدية أو المفهومية.

ثانيا: مرحلة النبوات التشريعية.

ثالثا: مرحلة النبوات القبلية.

رابعا: مرحلة النبوات العالمية.

و سنتحدث عن كل مرحلة على حدة، فنعرف - ضمنا - مستوى البشرية فيها، و المستوى الذي استطاعت الوصول إليه، و المستوى الذي أصبحت فيه نتيجة لمجموع النبوات.

ص:449


1- (1) لأن نتيجته ليست إلا إيجاد المستوى الفكري اللائق لفهم الأطروحة العادلة الكاملة، و الفكر البشري المجرد عن التوجيه لا يمكنه أن يصل إلى ذلك المستوى. أولا: لأن إدراكه للحقائق على المستويين القانوني و التاريخي مشوب بسيطرة العاطفة و المصلحة الخاصة. على طول الخط. ثانيا: لأن هذا الادراك قد يمنى بنكسات مهمة نتيجة لحروب عامة أو الأوبئة التي قد تستأصل مجتمعا أو مجتمعات.

- 4 - المرحلة الأولى: مرحلة النبوات العقائدية:

إن المستوى الفكري الأول الذي وصلت إليه البشرية، باعتباره بسيطا و ساذجا، لم يكن مناسبا - بأي حال - مع فهم القانون؛ بمعنى إطاعة الفرد للتشريع أو الأمر و النهي المتوجه إليه، فضلا عن أن يستطيع القانون أن يضبط الجوانب المهمة من حياة الفرد أو حياته كلها.

و من هنا كان من المتعذر على النبوات، و هي الأسلوب الأساسي لتربية البشرية أن تبدأ بإعلان التشريعات، و إنما بدأت - بطبيعة الحال - بالتزريق التدريجي لأمرين مهمين:

الأمر الأول: بث الروح العقائدية بمعنى إعطاء صورة محددة، بالرغم من اختصارها و سذاجتها عن وجود خالق الكون و أفعاله المهمة في الكون و إمكان مخاطبته للبشر عن طريق الأنبياء و المرسلين.

و لا شك ان هذا المستوى، كان يتعمق بالتدريج، فكلما فهم الناس من الأنبياء الأوائل معطياتهم جاء الأنبياء المتأخرون، بمستوى أعمق بقليل... حتى انتهت هذه الفترة.

الأمر الثاني: بث الروح الأخلاقية، بالدرجة البسيطة المناسبة... حيث كان يحاول رفع الاختلافات ببث مفاهيم الأخوة و المجاملة مع الآخرين من ناحية، و تعويد الناس على إطاعة كبرائهم و موجهيهم من ناحية أخرى. و بذلك وجدت النواة الأولى لفهم التشريع، الذي ساعد على الدخول في مرحلة النبوات الثانية.

و قد ساعد بث هذين الأمرين على السير قدما في إنجاح التخطيط و رفع مستوى البشرية عموما، بما فيهم المؤمنين بهذه النبوات و المنكرين لها. فإن مجرد الالتفات إلى هذه المعاني و الجدل حولها يكفي في رفع الوعي، و أما الايمان بها، فهو يعني الانسجام العاطفي مع الأهداف الايمانية العليا، مضافا إلى ارتفاع مستوى الوعي.

و هذا معنى ما أكدنا عليه في (تاريخ الغيبة الكبرى) من أن الفرد يسير في التخطيط - من حيث لا يعلم - سواء كان منسجما معه عاطفيا أو متنافرا معه. و قد برهنا على ذلك في مقدمات هذا البحث.

- 5 - و لنا أن نتساءل عما إذا كان بين حصول صفة الوعي و التفكير و بين إرسال

ص:450

النبوات فترة مهمة أو لا. و قد تسمى بفترة (ما قبل النبوات).

و قد تعطى لذلك عدة مبررات، انطلاقا من فكرة كون النبوات التي نتحدث عنها نبوات واعية يحتاج استيعابها إلى درجة معقولة و كافية من التفكير. و ليست كالنبوات التي يحتمل وجودها في عصر القصور الذهني. و من هنا تعطى المبررات التالية لوجود الفترة المشار إليها:

المبرر الأول: ان اللغة الكافية لا توجد بين عشية و ضحاها، بل يحتاج وجودها إلى مرور حقبة من الزمن - بعد حصول التفكير - لكي تستقيم جملها و تتماسك مفاهيمها. و من المعلوم أن هذه النبوات الواعية تحتاج في تبليغها إلى لغة كافية، و لا تصح بدون ذلك، و معه فمن الضروري افتراض تأخرها إلى حين نضج اللغة.

المبرر الثاني: ان النبوات أرسلت لأجل فض النزاع و رفع الاختلافات و لا بد أن تكون هذه الاختلافات المهمة أوسع من الخلافات و الصراعات الفردية، و إلا فهي موجودة قبل عصر الوعي، و بين الحيوان أيضا. و من المعلوم أن وجود الاختلافات الجماعية يحتاج إلى مرحلة من التفكير و لا يكفي فيه مجرد وجوده الضئيل. إذن، فقد تأخرت النبوات إلى ان حصلت تلك المرتبة من التفكير و أوجدت الخلافات الجماعية.

المبرر الثالث: ان البشرية تحتاج قبل النبوات، إلى الالتفات إلى اهمية المسألة الدينية و قضية وجود الخالق القدير عموما و قد لا يكون المجتمع القاصر ملتفتا إلى هذه المسألة أصلا، و لا شاعرا بأهميتها، بأن التفكير الضئيل أيضا قد لا يوصل إلى الشعور الحقيقي بذلك. و انما يحتاج حصوله إلى صعود التفكير إلى حد ما.

و من هنا لا بد من القول بتأخر النبوات إلى حين حصول تلك المرتبة من التفكير.

إلا ان هذه المبررات جميعا لا تخلو من الخدشة، و لا حاجة بنا إلى نقدها تفصيلا، و حسبنا ان نعرف ان كل نبوة لا ترسل إلا بالشكل المناسب مع مجتمعها، و يمكننا ان نتصور لكل مستوى فكري درجة من درجات النبوة مناسبة له. و معه لا تكون هذه المبررات دليلا على وجود فترة (ما قبل النبوات)؛ إذن، فهذه الفترة لا دليل على وجودها.

- 6 - و لنا مع الماركسية بهذا الصدد كلمتان:

ص:451

الكلمة الأولى: ان الماركسية اعترفت بوجود الدين و الأخلاق خلال المجتمعات البشرية الأولى، كما سمعنا؛ و هي مصيبة في ذلك. و قد عرفنا الآن السبب الحقيقي لوجوده. و ليس هو وسائل الانتاج و لا علاقاته، كما أردت الماركسية أن تقول.

الكلمة الثانية: اننا نستطيع الآن ان ندرك بوضوح و ان نبرهن على عدم وجود المجتمع الشيوعي البدائي على الاطلاق.

إذ ان الماركسية أما ان تقول بوجوده قبل مرحلة التفكير، و اما ان تقول بوجوده بعدها. فإن قالت بوجوده بعد عصر التفكير - كما هو واضح من كلماتهم بوجود اللغة و المجتمع في ذلك العصر -، فقد عرفنا ان وجود التفكير كان مقترنا مع وجود الاختلافات و النزاعات، و كلما ازداد التفكير و تعمق ازداد الخلاف و تعمق، و لا يمكن أن يكون المجتمع الواعي القديم متعاطفا، كما تصورته الماركسية.

نعم، قد يكون للهداية المستفادة من خط الأنبياء أعظم الأثر في التعاون و التكافل، إلا ان ذلك لا يعني كونه عادة شائعة، لوضوح وجود نسبة غير قليلة في كل مجتمع كافرة بالنبوات، كما ان الماركسية لا يمكنها ان توافق على هذا المنشأ، مما يضطرها إلى الاعتراف بوجود الخلاف غير القابل للحل، في ذلك العصر.

و ان قالت الماركسية بوجود عصر الشيوعية البدائية، قبل مرحلة الوعي...

و قد ترى ان عصر الرق بدأ بمرحلة التفكير باعتباره عصر التشاحن و السيطرة.

إلاّ ان هذا لا يصح أيضا، لما عرفناه من ان المجتمع القاصر، خال من اللغة الكافية و من التجمعات الكبيرة المسماة بالمجتمع، و قليل الاهتمام بمصالح عامة أو بمصالح الآخرين، فهو لا يدركها أو لا يدرك أهميتها، و معه كيف يفترض ان هناك مجتمعا قائما على التعاون في الحياة الاقتصادية، بشكل كبير و مستمر.

فإن قالت الماركسية: ان المؤرخين - بما فيهم مورغان - قد وجدوا مجتمعات موجودة إلى العصر الحاضر تعيش عصر الشيوعية البدائية، و هو دليل على وجوده القديم.

أقول: انه بغض النظر عن قيمة أقوال مورغان، من الناحية التاريخية، فان هذا مما سبق ان انتهينا منه... من المحتمل ان يكون التعاون الاقتصادي البدائي قد وجد في هذه المجتمعات بشكل متأخر، و ليست صفة تمتد إلى أول عهدها بالوجود.

مضافا إلى ان وجود مجتمع بهذا الشكل، لا يعني ان البشرية كلها كانت كذلك. و إلا

ص:452

فلما ذا تطورت البشرية من دون هذا المجتمع المسكين.

هذا و قد كان تعدد المجتمعات البشرية عائقا مهما دون تطبيق النظرية الماركسية، إذ قد تكون مرحلة معينة بدأت في هذا المجتمع بمستوى معين من وسائل الانتاج، و بدأت نفس المرحلة في مجتمع آخر منها. تماما كالمجتمع الاشتراكي الذي بدأ في الاتحاد السوفييتي مع عصر المانيوفكتورة و لم يبدأ في فرنسا أو بريطانيا مع عصر الذرة.

كما ان بعض المجتمعات قد يطول مدى بقائها في مرحلة معينة، في حين يقصر ذلك في مجتمعات أخرى. كما قد لا تمر بعض المجتمعات بفترات تاريخية معينة، كما سمعنا فيما سبق.

و كل هذه الايرادات غير واردة على الفهم التخطيطي للبشرية، فان التخطيط متجه إلى توازيها في النمو و التكامل مهما تعددت مجتمعاتها، فهي جميعا تمر بنفس المراحل و في نفس الوقت.

و السبب في ذلك - بكل بساطة، في حدود المجتمع الذي نتحدث عنه -، هو وجود نبوات متعددة ذات مضمون واحد و هدف مشترك في عدد من المجتمعات البشرية في ذلك العصر، أو في أهمها على أقل تقدير، بحيث تكون النتائج متشابهة إلى حد كبير، و هذا التشابه قد لا يدركه إلاّ الخالق المخطط نفسه، و أما البشرية فلا تعيش إلاّ تطبيقاته، و هي لا تدرك حتى معنى هذا التطبيق.

- 7 - المرحلة الثانية: مرحلة النبوات التشريعية:

أنتج خط الأنبياء السابق عدة نتائج مهمة:

النتيجة الأولى: الاعتياد على فكرة النبوة و مواجهة الأنبياء. فقد أصبح هذا الخط مشروعا و مفهوما للمؤمنين به و المتمردين عليه على السواء.

النتيجة الثانية: الاعتياد على الأفكار المعطاة من قبل هؤلاء الأنبياء، مما ييّسر لهم فهم الأفكار الجديدة التي يجيء بها الأنبياء في هذه المرحلة الثانية.

النتيجة الثالثة: الاعتياد على تلقي الأوامر و النواهي، من الأنبياء خاصة و من زعماء القبائل و كبراء الأسرة و نحوهم... مما ييسر لهم فكرة تلقي الأوامر و النواهي من قبل الله عن طريق الأنبياء.

و بالرغم من هذه النتائج، فان خط الظلم و الانحراف كان قويا جدا، نتيجة

ص:453

لعدة عوامل أهمها المصالح الشخصية و الضغط القبلي، مما أوجد نسبة عليا من المعارضين لخط الأنبياء في المجتمع. إلاّ ان المستوى المطلوب في التخطيط كان شاملا لهم جميعا.

- 8 - كان أول من باشر تبليغ الأوامر و النواهي الحدّية - على ما نعلم -، لكن بشكل محدود، و أعطى فكرة عن الثواب و العقاب على الأعمال، هو النبي نوح عليه السلام، كما سمعنا، و ان كان أغلب ما وعد به من الثواب هو ثواب دنيوي، كما هو غير خفي لمن راجع كلامه المنقول في القرآن الكريم.

و من هنا يكون من المستطاع القول ان المرحلة الأولى للنبوات انتهت قبل الطوفان، و قد افتتح النبي نوح عليه السلام، المرحلة الثانية قبل الطوفان أيضا.

حتى ما إذا و وجه بالتكذيب و المعارضة، كان العقاب الدنيوي العاجل متمثلا بالطوفان.

و من الواضح ان الاقتصار على بيان الثواب الدنيوي و التهديد بالعقاب الدنيوي، و عدم التعرض إلى الآخرة إلاّ بشيء قليل، يرجع إلى عدم قابلية الفكر البشري في ذلك العصر على استيعاب فكرة الآخرة و المعاد.

و كان الطوفان هو الضربة القوية التي يبقى صداها خلال عدد كبير من الأجيال، يرن في آذان من تسول له نفسه الكفر و الظلم، و بالتالي التمرد على التكامل و أهدافه. و من هنا نعرف أثره الضخم في التخطيط و التربية البشرية.

ان عالمية النبوة لم تكن معلنة بطبيعة الحال، و لكنها كانت مطبقة. فنوح عليه السلام نبي عالمي من الناحية العملية، بالرغم من توسع البشرية و تباعد مجتمعاتها، استطاع نوح ان يبلغ بصوته و دعوته إلى أكبر عدد ممكن من البشر، إما بواسطة و كلاء مؤمنين كانوا له، و إما مباشرة، خلال عمره الطويل.

و المظنون ان شريعة نوح بقيت هي الأساس الرئيسي التي ينطلق منها الأنبياء في دعواتهم خلال الأجيال اللاحقة، إلى بدء دعوة النبي موسى بن عمران عليه السلام، و كان أشهر من وقع خلال هذه الفترة هو النبي ابراهيم الخليل عليه السلام. و لم تعرف عنه شريعة رئيسية جديدة(1)، و إنما كانت دعوته مركزة حول

ص:454


1- (1) بالرغم من أن الأدلة التي ذكرناها على وجود شريعة للنبي نوح (ع) شاملة لإبراهيم (ع)، إلا أنه توجد استبعادات إضافية على ذلك، أهمها عدم نقل القرآن شيئا من شريعته بالرغم من اهتمامه بنقل التفاصيل عنه، و كذلك التوراة بشكلها المتداول. و هذا لا ينافي وجود التعاليم الشخصية أو البسيطة التي لا تشكل شريعة كاملة، و لا تسم اتجاهه العام بميسمها.

أمور عقائدية و تطبيقية، حيث ناسب مستوى الفكر البشري في عصره ان يقوم بتعميق عقيدة التوحيد و العدل الالهية، و استطاع ان يقدم أمثلة واضحة و مشهورة من نكران الذات و التضحية من ناحية، و ان يقوم بأول خطوة رئيسية يجمع الناس من أجل الاستجابة لصوت الدين، و ذلك خلال موسم الحج الذي دعى إليه، و هو فكرة كبيرة وجدت لأول مرة في تاريخ دعوات الأنبياء.

كما استطاع ابراهيم عليه السلام، أن يؤكد على العقيدة الأخروية أعني الثواب و العقاب في الآخرة أكثر من ذي قبل، إلى حد ما، و ان بقي الجانب الأكبر هو الثواب و العقاب الدنيويين.

و على أي حال، فقد استطاع ابراهيم عليه السلام، أن يغرس في البشرية جذور العقيدة الصالحة و العمل المثمر، و من ثم قام بدوره في التخطيط الالهي خير قيام.

- 9 - ان مراحل الدعوة الالهية للأنبياء عهدئذ، تعطي حقلا فارغا لشكل الحكم و للمستوى العقلي و الحضاري الذي يمارسه كل مجتمع من الناحية (الدنيوية). و من هنا لا تكون لنا حاجة ماسة للتعرض إلى هذا الجانب من التاريخ البشري، لو لا الا لماع إلى مناقشة الماركسية بهذا الصدد.

ان أقدم مصدر للتعرف على ذلك التاريخ هو العهد القديم أو التوراة بشكلها المتداول حاليا... و هي تدل على وجود حاكميات على نطاق واسع أو ضيق، في الشرق الأوسط و في مصر. و هذا يدل - حسب المنطق الماركسي - على اجتياز عهد الشيوعية البدائية، و من هنا أشرنا فيما سبق، ان ما ذكره انجلز من كون ابراهيم موجودا في العهد البدائي، أمر غير صحيح.

كما تدل على وجود ملكية كاملة للأموال، و اهتمام الناس بها تماما كعصرنا الحاضر، و هذا دليل آخر، كما سبق على الخروج من العهد البدائي.

كما تدل التوراة على وجود ملكية الانسان للانسان، و استخدامه له، و لكن هذا لا يعني ان البشرية كانت تتصف في ذلك الحين بما تسميه الماركسية بمجتمع الرق. إذ لا دليل على وجود الرق بنسبة عالية الاتصاف بتلك الصفة. على ان

ص:455

الاستخدام لا يكون دائما على أساس الملكية، كما هو معلوم، بل قد يكون قائما على أساس آخر، كالفلاحة و النجارة و الاستئجار، و غيرها.

و المظنون، ان الحالة الحضارية أو المدنية - كما عليه الاصطلاح - مهما بدت لنا على البعد متشابهة، إلاّ انها كانت تختلف من بلد إلى بلد و من حاكمية إلى حاكمية بحيث لا يمكننا أن نعطي صفات عامة محددة للبشرية من هذه الناحية، كما حاولت الماركسية أن تعمل.

- 10 - بقي هناك سؤال لا يخلو من شيء من الأهمية، و هو ان البشرية في ذلك الحين لم تكن منحصرة بالشرق الأوسط و مصر، بل كان هناك في أوروبا و افريقيا بشر كثيرون، فهل شملتهم هذه النبوات أولا، و إذا لم تشملهم فلما ذا؟!..

و الواقع ان التاريخ لا يستطيع أن يقدم لنا الدليل الكافي، على وجود بشر على نطاق واسع في وسط اوروبا و وسط افريقيا و استراليا و أمثالها فان كان هناك بشر فهم قليلون و متخلفون إلى درجة يمكن اسقاطهم عن نظر الاعتبار حين نقول: ان (البشرية) قد وصلت إلى هذه المرحلة فكريا أو حضاريا، أو حين نقول: ان هذا نبي (عالمي).

كما ان التاريخ لا يستطيع ان يقدم لنا الدليل على عدم وجود الأنبياء فيهم، على المستوى المناسب مع مستواهم العقلي و الحضاري.

و بغض النظر عن ذلك، اي مع افتراض ان أوروبا و افريقيا و غيرها مليئة بالبشرية و خالية من الأنبياء - و هو افتراض جدلي لا دليل عليه -... نقول:

اننا - كمفكرين مسلمين - اما ان ننطلق في اثبات ضرورة النبوات من قاعدة اللطف، التي هي الدليل التقليدي على ذلك، أو ننطلق إلى ذلك من التخطيط العام لتكامل البشرية.

فان انطلقنا من قاعدة اللطف، كان هذا الافتراض المشار إليه غير ممكن، اذ ان مقتضى اللطف الالهي وصول الدعوة الالهية إلى كل البشر بدون استثناء، بحيث لا يكون اثنان إلاّ كان أحدهما الحجة على صاحبه. و من هنا يتعين الالتزام بوجود الأنبياء بين أولئك البشر. أو ان يسمح لنا المفكرون التقليديون بأن نعتبر بعد المسافة بين منطقة النبوات و بين أوروبا و افريقيا عذرا كافيا عن تطبيق قاعدة اللطف. أو بتعبير آخر: ان نوح و ابراهيم عليهما السلام، بالرغم من عالمية دعوتهما في الواقع، كانا معذورين في عدم ايصال صوتيهما إلى تلك الأعماق لبعد المسافة و اختلاف اللغة

ص:456

و التباين في المستوى الحضاري، حيث يتعذر نقل الدعوة بالأساليب القديمة السارية المفعول يومئذ، تعذرا تاما.

و ان انطلقنا إلى ضرورة النبوات من التخطيط الالهي العام لتكامل البشرية.

فهذا معناه: ان المقصود الرئيسي هو وجود المجتمع المعصوم في ربوع البشرية في المستقبل، و ما تربية البشرية عن طريق الأنبياء إلا لأجل الاعداد لذلك، و قد عرفنا في مقدمات هذا القسم من الكتاب، ان كل سبب نافع في التخطيط لهذا الهدف فهو واقع لا محالة، و كل سبب غير منتج من هذه الناحية فهو زائل لا محالة، لاستحالة أن يحتوي التاريخ على ما هو لغو و مهمل من الناحية التخطيطية و الواقعية.

إذا عرفنا ذلك هانت هذه المشكلة إلى حد كبير، بل لم يبق لها وجود على الاطلاق، إذ يكون افتراض وجود بشرية خالية عن الأنبياء أمرا باطلا، بعد التجاوز عن احتمال وجود الأنبياء فيها.

أولا: إن الغرض الأساسي من التخطيط هو إيجاد أكثرية نامية في البشرية كافية لأن تتكفل مهمة (اليوم الموعود) على عاتقها، و لا يهم - بعد ذلك - وجود جماعة من البشر - و إن كانت كبيرة - خالية من التربية، أو انها ضعيفة و متخلفة من هذه الناحية. و من الواضح ان (منطقة النبوات) تحتوي على مثل هذه البشرية الكافية لتكفل تلك المهمة الكبرى.

و خاصة إذا علمنا ان التخطيط العام قد أخذ تلك المناطق النائية بنظر الاعتبار، لكن لا في ذلك العصر بالذات، بل في المستقبل غير البعيد. إذ شملت دعوة النبوات تلك المناطق قبل عصر المسيح عليه السلام، و بقيت إلى العصر الحاضر. و المهم هو بلوغ الدعوة سواء كثر المؤمنون أو قلّوا، كما سبق أن برهنا عليه.

ثانيا: ان هناك احتمالا كافيا لدفع ذلك الاشكال. و هو ان وجود أروبا و اضرابها بدون أنبياء، أمر ذو مصلحة في التخطيط العام فعلا، فيكون - على هذا التقدير - أمرا ضروريا، و ان أوروبا لا بد أن تكون خالية من الأنبياء.

و السبب في ذلك، ما ذكرناه من ضرورة وجود ظروف الظلم و التعسف خلال فترة طويلة من الزمن، لانجاز التمحيص المنتج للشرط الثالث من شروط اليوم الموعود. و قد يكون من المقدر لأوروبا منذ ذلك العهد القديم أن تكون قائدة الظلم و التعسف في العالم، كما كان الشرق قائد الهداية النبوية في العالم. و يكون الصراع بينهما - كما هو المشاهد في عصورنا الحاضرة - منتجا لانجاح التخطيط الالهي.

ص:457

و إذا كان ذلك في مصلحة التخطيط كان ضروريا. غير أن إثبات هذا الاحتمال، منوط بالعلم الالهي وحده.

- 11 - المرحلة الثالثة: النبوات القبلية:

ينبغي - في هذا الصدد - الالتفات إلى فكرتين:

الفكرة الأولى: انه يمكن اعتبار القبيلة و العالمية فكرتان مستقطبتان، بينهما درجة من التنافي، و يكون الشعور بإحداهما تارة خالصا و أخرى وسطا أما بمعنى الشعور بأهمية العمل أوسع من القبيلة و أضيق من العالم (كالوطن مثلا)، و أما بمعنى الشعور بعدم التنافي بين مصلحة القبيلة و مصلحة العالم، أو بأي معنى آخر.

و قد مرت هاتان الفكرتان في التاريخ البشري على مراحل، بدأت بالقبيلة الخالصة و انتهت بالعالمية الخالصة. ففي العصر الذي نؤرخه كان الشعور قبليا خالصا، على حين لم يلتفت الرأي العام العالمي التفاتا (قانونيا) و لم يعره أهمية تنظيمية قبل القرن الحالي. و سنعرف متى أصبحت النبوات عالمية، قبل الرأي العالم العالمي بمئات السنين.

و قد كانت النبوات إلى زمن ابراهيم عليه السلام، تتجنب الخوض في هذا الجدال، فهي لا تعلن أيا من الفكرتين. أما فكرة العالمية فلعدم تقبلها يومئذ، و أما فكرة القبلية، فباعتبار قيامها على اعتبارات ظالمة غير صحيحة فلم تكن هناك مصلحة لابراز أي من الفكرتين.

و لكن تدريجا أصبح يتكون من بعض أحفاد ابراهيم عليه السلام (قبيلة مؤمنة) عاملة بتعاليم هذا النبي العظيم، غير قائمة على المظالم التي قامت عليها القبائل الأخرى. و من هنا أمكن للنبوة أن تعلن القبيلة.

و قد تدرجت النبوات منذ ذلك الحين، ببطء شديد إلى (التجريد) و التوسع نحو الفكرة العالمية، بمعنى ان المعطى النبوي كان يتسع تدريجا، على ما سوف نرى، حتى وصل إلى إعلان العالمية الكاملة في عصر الاسلام.

الفكرة الثانية: اننا قلنا أن النبوات التربوية ينبغي لها ان تبدأ من الواقع و تحاول الارتفاع به، لا انها تبدأ من نطاق أوسع منه، فتكتب لنفسها الفشل المحتم.

و قد كان الواقع يومئذ قائما على إدراك أن القبليّة هي أحسن تنظيم اجتماعي يمكن القيام به لمصلحة المجموع، و من ثم لم يكن في إمكان النبوات تغيير هذا الواقع

ص:458

بين عشية و ضحاها. بل كانت بحاجة إلى مواكبة هذا الواقع ردحا من الزمن.

على أن إعلان النبي - أي نبي - لفكرة القبليّة، ليس بمعنى جعل القبيلة شعارا ضد القبائل الأخرى. و إنما بمعنى أنه ليس مكلفا بغير هداية قبيلته، و مهمته مقتصرة على ذلك - و أما القبائل الأخرى فقد يوجد فيها أنبياء آخرون، بدون أن يكون هناك - من ناحية النبوة القبلية - أي داع عاطفي للنزاع بين القبائل... بل هناك داع إيماني للأخوة و لاجتماع القبائل كلها على الايمان.

و المظنون ان النبوة القبلية، استمرت بعد عهد ابراهيم عليه السلام إلى بعث النبي موسى عليه السلام، حيث استطاع التقدم خطوة نحو العالمية.

و لعل أهم نبي قائم على الأساس القبلي في ذلك العصر، هو يعقوب عليه السلام، حفيد ابراهيم عليه السلام، وجد بني إسرائيل، الأسرة التي استطاع يعقوب تربيتها ردحا من الزمن على روح الايمان، و قد كان لها في عصورها الأولى مشاركة في النبوات، كما ان لها في عصورها المتأخرة أكبر اليد في الظلم و الطغيان البشري.

- 12 - المرحلة الرابعة: النبوات العالمية:

تبدأ أول التفاتة عالمية - حسب ما نعرف - بالنبي موسى بن عمران عليه السلام.

فانه في واقع قصده و دعوته، نبي عالمي، و لكنه لم يشأ إعلان هذا المفهوم كشعار واضح، و إنما استطاع أن يخرج بنطاق دعوته من قبيلته و بلاده حيث أصبحت الفكرة العالمية، و لا أقل التوسع عن النطاق القبلي، أمرا مفهوما و مشروعا اجتماعيا.

فإنه بالرغم من الزخم العاطفي القبلي الذي أكد عليه (عليه السلام). في دعوته عند ابتدائها. و هو البدء ببني إسرائيل، و قد كانوا في ذلك الحين الشعب المضطهد تحت الحكم الفرعوني الغاشم، و قد طالب فرعون بإطلاق سراحهم من نير العبودية و جعل بيوتهم قبلة... و لكن بالرغم من كل ذلك فان دعوته كانت أوسع من ذلك. فانه دعى فرعون نفسه و بطانته للايمان، و هو عدو بني إسرائيل، و لو كان فرعون قد آمن لتغير تاريخ الدعوة الموسوية، و لكن أطماعه و سوء سريرته منعته من ذلك.

ص:459

كما ان من أوائل المؤمنين: السحرة الذين كان له معهم صراع سحري عجيب، خرج موسى عليه السلام بنتيجته فائزا، و أصبح السحرة مؤمنين، بالرغم من السيف الفرعوني القاطع. و هي حادثة تشترك التوراة مع القرآن في نقلها. و لم يكن السحرة من بني إسرائيل.

و قد كان موسى عليه السلام، يقبل - بكل تأكيد - كل مؤمن به من أي قبيلة كانت.

و بعد عبوره بالمؤمنين من مصر إلى أرض فلسطين، قام بدعوة واسعة بين القبائل و الحاكميات التي كانت موجودة في الشرق الأوسط، و قاتل العديدين ممن أعلنوا الكفر و العصيان، و قد بقي على ذلك خلفه الأمين النبي يشوع أو يوشع بن نون عليه السلام. و قد نطقت التوراة هذه الأمور مفصلا.

على أن بني إسرائيل أنفسهم كان حظهم سيئا من ناحية الطاعة، فلاقوا النقمة و نالوا العقاب، كأي شعب آخر. و أوضح و أقوى عقاب نالوه في زمن موسى هو التيه أربعين سنة في الصحراء.

و هذا كله دليل الدعوة العالمية، و إن لم تكن مسماة في لسان موسى عليه السلام بصراحة، و إن المهم هو الايمان و الطاعة للّه عز و جل، و بالنتيجة الانسجام مع الأهداف الكبرى مع غض النظر عن الرأس و الجنس.

و قد كان للتركيز القبلي في دعوة موسى عليه السلام مصلحتان مهمتان:

الأولى: الانطلاق من الواقع الذي لم يكن يستسيغ فكرة العالمية. و إنما بدأ عليه السلام بالواقع و حاول رفعه - بمقدار الامكان - إلى المستوى الواسع.

الثانية: إن شعب إسرائيل كان في أول الدعوة الموسوية و قبلها مضطهدا مقهورا من قبل الحاكم الظالم فرعون. و من هنا كان التأكيد على النقطة الرئيسية لظلم و تعسف الحكم الفرعوني، يقتضي التركيز على بني اسرائيل بصفتهم أشد الناس ظلامة في ذلك العصر. و قد كان إعطاء الفكرة الصريحة عن الظلم الفرعوني ضروريا للدعوة الموسوية، لأجل ترسيخها في النفوس و كسب المؤمنين بها إلى أوسع نطاق ممكن خارج القبيلة أيضا.

و أما في الأعوام المتأخرة عن ذلك، فقد بقي فضل بني إسرائيل مقترنا بالطاعة، و منعدما عند الانحراف و العصيان و هذه التوراة طافحة بتهديدات موسى عليه السلام و من بعده من الأنبياء بالويل و الثبور لبني إسرائيل إذا اتخذت طريق التمرد

ص:460

و العصيان(1). و هذا هو موقف كل النبوات من المؤمنين و العصاة عادة.

و هذه التوراة نفسها تفسر ما وقع على اليهود خلال ما يسمى بالسبي البابلي، انه نتيجة لما جنته أيديهم من الموبقات و الذنوب(2).

- 13 - و كانت إنجازات النبي موسى بن عمران عليه السلام في رفع المستوى الفكري و الايماني للبشرية، متمثلا في عدة أمور، بعد الاعتماد على مجموع ما تنطق به التوراة و القرآن من أخبار:

الأمر الأول: انه استطاع أن يقرب فكرة وجود الخالق القدير إلى الأذهان، بشكل واضح جدا، باعتبار المعجزات التي كان يقوم بها و الكلام الذي كان ينقله.

و لا حاجة الآن إلى الدخول في أمثلته.

الأمر الثاني: إيجاد شريعة كاملة مناسبة مع عصره، أوسع من شريعة النبي نوح عليه السلام و أعمق، يعتبر الفرق بينهما ممثلا للفرق في الذهنية البشرية بين العصرين، بعد أن كانت قد تكاملت على يد خط النبوات خلال هذه الفترة الطويلة.

و قد تكفلت شريعته جوانب اقتصادية و جزائية و أخلاقية و عبادية مهمة.

الأمر الثالث: قضاؤه على السلطان الكافر، فرعون، الذي كان في عصره واضح القوة و الجبروت. و قد أعطى موسى (ع) بذلك درسا لكل سلطان جائر بأنه سوف يركع أمام الحق، و بالتالي أمام الهدف الايماني في يوم من الأيام.

الأمر الرابع: مباشرته للفتح الديني و توسيع الدعوة الالهية عن طريق الحرب. و قد باشرت البشرية هذه المهمة تحت قيادته بعزم و إخلاص، و بقيت كذلك مع خلفه يوشع بن نون (ع).

و قد وجدت هذه الصفة لأول مرة - حسب ما نعرف - في الدعوة الالهية، حيث تجاوزت النبوات مرحلة الاقناع و الجدل إلى مرحلة السيطرة و القتال، و تجاوزت مهمة المؤمنين من مجرد الوعظ و الارشاد إلى حمل هموم العالم الواسع الذي يجب أن يدخل كله في دائرة الايمان.

الأمر الخامس: تأسيسه عليه السلام لشيء يشبه الدولة في قومه و المؤمنين به.

ص:461


1- (1) انظر: اللاويين/الاصحاح السادس و العشرون عموما. و انظر التثنية 15/2 فما بعده. و كلاهما بلسان موسى عليه السلام.
2- (2) انظر: أخبار الأيام الثاني: 14/36-18.

فبينما كان الأنبياء السابقون محكومين، من الناحية العملية، لملوك و أمراء آخرين، قد يكونون من أشد الناس كفرا و ظلما... و لم يحاول نبي سابق أن يسيطر على الحكم، و ان حاول إبراهيم عليه السلام ان يدخل الحاكم في عصره في دائرة الايمان، و هذا معنى آخر غير السيطرة على الحكم.

أما موسى عليه السلام فقد قام أولا، بمثل مهمة إبراهيم عليه السلام، حيث طلب من حاكم عصره (فرعون) الدخول في دائرة الايمان. و لكنه في عصر لا حق، و بعد أن استتب له الأمر بعد عبور البحر، أصبح هو الرئيس المطلق و الحاكم الأول في قومه. و لم يكن معنى الدولة في ذلك الحين أكثر من ذلك.

و قد قام موسى عليه السلام بتطبيق شريعته على المجتمع من النواحي الاقتصادية و الجزائية و العبادية و غيرها. فقد اقترن فيه جانبا التشريع و التطبيق معا.

بخلاف من بعده من الأنبياء فقد ساروا طبقا لروحه الايمانية و التشريعية، و التزموا جانب التطبيق فحسب، بما فيه الغزو في سبيل الدعوة الالهية.

و لكن من الملحوظ(1) أن التركيز على الثواب و العقاب الأخرويين، لا زال قليلا، و إنما قام الأنبياء المتأخرون الذين حاولوا تعميق الفهم الموسوي، قاموا بابراز هذا الجانب.

و أهم هؤلاء داود و سليمان عليهما السلام.

فاننا في الوقت الذي نرى ان يوشع بن نون بقي محافظا على نفس المستوى في أعماله، حاول ذانك النبيان بتعميق الأمور الخمسة المشار إليها، و تطبيقها تطبيقا كاملا. فقد أسسا دولة متكاملة، و مارسا الفتح و مقارعة المنحرفين و تطبيق الشريعة الموسوية بكل جهاتها بكل دقة. و بنى سليمان عليه السلام بيتا مهما ضخما للعبادة يسمى ب (هيكل سليمان) دعما للعقيدة الالهية، و هو - فيما نعرف - ثاني معبد مهم في البشرية بعد بيت اللّه الحرام الذي باشر ابراهيم عليه السلام بناءه... غير انه لم يقدر له الدوام بكامل هيبته، بعد أن هدمه نبوخذنصر خلال استئصاله لليهود و سبيه لهم.

و نرى أن المفهوم الالهي و التركيز على الطاعة أصبح في لسان سليمان في خطابه الذي ألقاه يوم افتتاح هذا المعبد، كما نقلته التوراة(2)، أصبح أوضح و أكثر تفصيلا عما كان عليه في العصر الموسوي.

ص:462


1- (1) كما دلت عليه التوراة المتداولة، و لم يدل القرآن الكريم على خلافه.
2- (2) انظر الملوك الأول 13/8-54.

هذا، و لا يمكن اعتبار داود و سليمان عليهما السلام، نبيين عالمين، بالمعنى المقصود لنا الآن، فاننا نريد بالنبوة العالمية: الشريعة التأسيسية الجديدة التي تشمل كل البشر. و هذا ما عمله موسى عليه السلام. و أما هذان النبيان فليس لهما شريعة جديدة، و إن كانا عالميين في دعوتهما، بل كانا تابعين للشريعة الموسوية.

- 14 - كان الرق في العصور الفرعونية، و لعدة قرون معروفا و شائعا، يكفينا من ذلك: ان بني اسرائيل أنفسهم كانوا أرقاء لفرعون، يستخدمهم أشنع استخدام.

فهل هذا الرق هو الذي تقول به الماركسية؟ انها لو أجابت بالايجاب لوردت عليها الاعتراضات التالية:

الاعتراض الأول: انه لا دليل على وجود نسبة عالية من الأرقام في ذلك المجتمع، بحيث تشكل الأكثرية سببا كافيا لتسمية ذلك المجتمع بمجتمع الرق.

الاعتراض الثاني: انه لا دليل على إهمالهم للزراعة، بحيث لا يكون الوضع الاجتماعي، أو الجزء المهم منه، زراعيا يشكل شيئا يشبه الاقطاع. بل ان الجانب الزراعي موجود في كل المجتمعات لا محالة، و معه لا يتعين أن يكون المستخدمون في الزراعة هم الأرقاء أو انهم الاقنان - باصطلاح الماركسية - يعني الفلاحين.

و لا يتعين في مجتمع يحتوي على صفتين هما: الرق و الاقطاع، ان يسمى بأحد الاسمين.

الاعتراض الثالث: انه بعد التجاوز عن الاعتراضين السابقين، يتعين الاعتراف بأن المجتمع الفرعوني هو مجتمع قائم على الرق. و مع ذلك، فإن الماركسية لم تذكره، بل تعتبر المجتمع الروماني - المتأخر جدا عن العصر الذي نؤرخ له - تعتبره المثال الأفضل لمجتمع الرق.

و الماركسية - كما سمعنا خلال مناقشاتها - تعتبر العصر الفرعوني عصر المشاعية البدائية، فإن هناك من النصوص الماركسية ما يؤكد أن التوراة كتبت في ذلك العصر(1)، - كما سمعنا -. و هي - كما نعلم - كتبت في العصر الفرعوني أو بعده.

و معه يكون العصر الفرعوني مشاعيا بدائيا، إذ لا يحتمل تقدم مجتمع الرق على المشاعية، ماركسيا.

ص:463


1- (1) انظر: أصل العائلة لانجلز ص 67 و أصول الفلسفة الماركسية لبوليتزر ج 2 ص 64.

و هذا من الغرائب المقطوع بكذبها تاريخيا، لأن الوضع الفرعوني واضح المخالفة لما تعطيه الماركسية من صفات للمجتمع الشيوعي البدائي.

- 15 - نرى من خلال هذا التخطيط الثاني، أن نبوءات الأنبياء حول نتائجه و نتائج التخطيط الذي بعده، موجودة على ألسنة الأنبياء. سواء في ذلك النتيجة المباشرة لهذا التخطيط و هو وجود الأطروحة العادلة الكاملة، أو نتيجة التخطيط الذي يليه، و هو قيام دولة الحق و العدل العالمية، متمثلة بوجود قائدها الأعظم المهدي عليه السلام.

كل ما في الأمر ان التبليغات تبدأ مختصرة و غامضة، ثم تبدأ بالتدريج البطيء بالايضاح... تبعا لرقي الفكر البشري، و اعتياده على تلقي النبوءات الغيبية من ناحية، و مقدار تقبله لمضمون النبوءة.

و من هنا قد تقتصر النبوءة على بيان المستقبل المشرق للبشرية أو على انتصار جانب الحق في العالم. و قد توضح النبوءة وجود نبي في المستقبل، الذي معناه عدم انقطاع خط الأنبياء إلى حين وصول التخطيط الثاني إلى نتيجته بوجود ذلك النبي. و قد تبين النبوءة ضرورة وجود القائد العالمي الذي يقوم بتطبيق العدل الكامل في ربوع البشرية.

و هذه النبوءات متدرجة في العمق، كما هو مفهوم لمن لا حظها. و قد أبرزت بالتدريج بطبيعة الحال.

و لعل أوضح النبوءات بالمستقبل المشرق، جاءت على لسان داود عليه السلام، كما تعرب عنه التوراة المتداولة، و وقع مثلها في كلام سليمان عليه السلام.

و سوف نستعرض هذا و غيره في كتاب قادم من أجزاء هذه الموسوعة.

و في العصر المتأخر عن السبي البابلي، تنبأ أشعيا و دانيال و غيرهما بوجود دولة الحق و أعطيا مقدارا من أوصافها. و في العصر اللاحق جاء يوحنا اللاهوتي ليتنبأ بمولد القائم الأعظم عليه السلام، من خلال رؤياه المشهورة المسطورة في التوراة.

و مهما يكن الحديث عن صحة استناد هذه الكتب إلى أصحابها، فإن المتيقن هو أن التوراة كلها كتبت قبل الاسلام، و هذا كاف لاحترام النبوءة التي ثبت بالدليل القطعي صحتها.

و حين يصل الزمن إلى عصر الانجيل، تجده يعطي على لسان مؤلفيه تفاصيل أكثر من خصائص التخطيط الالهي و نتائجه، فهو يصف التمحيص، و كثرة الكفر

ص:464

و الانحراف، و ينصح بضرورة حفظ الايمان خلال ذلك، و يتنبأ بوجود دولة الحق و قائدها، و بعودة المسيح في تلك الدولة، على ما سوف نوضحه في الكتاب المشار إليه. و كل ذلك مما ثبتت صحته من خلال فهمنا للتخطيط الالهي العام.

و أما قبل ذلك، فلم ينقل التنبوء من قبل الأنبياء بشك واضح، بما فيهم موسى بن عمران عليه السلام(1). و لعل ذلك لعدم نضج الفكر البشري إلى ذلك الحين... أو ان مثل هذا التنبوء وجد و لكنه لم يصل إلينا.

نعم، يوجد في كلام نوح و موسى عليهما السلام، تأكيد باقتران الطاعة و الايمان بالسعادة و الرفاه الاجتماعيين، كما هو موجود في التوراة و القرآن معا. و هذا أمر صحيح، و هما و إن كانا قد طبّقاه على مجتمعهما بشكل مباشر، و انطلقا منه إلى بيان الثواب الدنيوي على الطاعة، إلا أنهما في الواقع يعطيان القاعدة العامة التي تنطبق في كل عصر؛ و يدعم ذلك أن مجتمعهما لم يوفر الطاعة فلم يحصل على الرفاه المطلوب، على حين سوف يتوفر ذلك المستوى المطلوب من الايمان في مجتمع دولة الحق، فتحصل على ذلك الرفاه، و معه، فمن المستطاع اعتبار هذه النصائح لهذين النبيين نحوا من التنبوء الغامض بدولة الحق أيضا.

و لكن في بعض هذه التنبوءات في التوراة، ما يستحق الالتفات، و هي أنها قرنت في الأغلب - و خاصة في كلام أشعيا و دانيال و طبقتهما - بالتنبؤ بانتصار اليهودية و بني إسرائيل و عاصمتهم أورشليم. فما معنى ذلك؟ بعد قيام البرهان لدينا - كمسلمين - بأن انتصار الحق يكون عن غير هذا الطريق.

و هذا له عدة أشكال من التأويل، سنذكرها في الكتاب المخصص لذلك من هذه الموسوعة. و نذكر الآن منها وجهين:

الوجه الأول: أن يكون التنبوء صادرا من أشعيا و غيره عاما صحيحا، غير مربوط ببني إسرائيل مباشرة، و لكن النساخ المتأخرين للتوراة، و بخاصة أولئك الذين سجلوها بعد تلفها و ضياعها ردحا طويلا من الزمن... أضافوا هذه العناصر الغريبة كذبا و زورا، رعاية لدينهم و قومهم، و تطبيقا للتنبؤ على ذلك.

إلا ان هذا الكذب لا يعني إسقاط كل النبوءة أو أساسها أو مفهومها العام.

فاننا قلنا في مقدمة «تاريخ الغيبة الصغرى» انه في الامكان الأخذ ببعض مدلول

ص:465


1- (1) إلا بالمقدار الذي يدل عليه قوله تعالى: قال موسى لقومه: اِسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَ اصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. الأعراف: 127/7.

الكلام مع إسقاط ما قام الدليل على كذبه، و لا يكون هذا مضرا بصدق البعض الآخر.

الوجه الثاني: ان التنبوء صدر فعلا من أشعيا و غيره على هذا الشكل الموجود في التوراة، أي التنبوء بانتصار الحق على يد بني إسرائيل. إلا ان هذا إنما كان باعتبار أن الممثل الأفضل للحق في ذلك الحين كانوا هم و من كان كان على دينهم، ما دامت الشريعة الموسوية سارية المفعول. و قد كانت في زمان أشعيا و أرمياء سارية المفعول حتى نسخت بنبوة المسيح عليه السلام.

إذن، نفهم من ذلك: ان انتصار الحق يكون على أيدي أمنائه دائما، و لئن كان أمناؤه في ذلك العصر هم بنو إسرائيل، فإن أمناءه في المستقبل سوف يكونون غيرهم، بعد أن سقط هؤلاء في حضيض المعاصي و الانحراف.

بقي لدينا احتمال: أن يكون أشعيا و دانيال و طبقتهما من الأنبياء المتأخرين عن الفتح البابلي، قد اتجهوا إلى هذه التنبوءات نتيجة للظروف الصعبة و الهزيمة التي مرت باليهود خلال سبيهم و ما بعده. و هذا ما احتمله بعض الكتّاب المحدثين(1).

فهذا قابل للمناقشة من وجهين:

الوجه الأول: وجود هذه التنبوءات قبل السبي البابلي بمدة، على لسان داود و سليمان بشكل واضح، و على ألسنة من سبقهما بشكل غامض، و معه لا معنى لربط هذه النبوءة بالسبي البابلي.

الوجه الثاني: اننا نسأل هذا الكاتب عن اعتقاده بأن هذه التنبوءات حقا أو باطلا، بمعنى أنها هل هي مطابقة للواقع و لو بأساسها - بعد إسقاط التفاصيل - أو انها مجرد أضاليل!!...

فان قال: انها حق. و إنما اقتضت المصلحة إظهار هذه النبوءة لرفع معنويات اليهود بعد انهزامهم و سبيهم، و خاصة بعد الالتفات إلى أن المستوى الذهني البشري إنما وصل إلى تفهم هذه النبوءة بوضوح في ذلك العصر، ان قال ذلك، فهذا حق، و هو أقرب التفسيرات للتركيز على هذه النبوءة خلال ذلك العصر بالخصوص.

و ان قال: ان هذه النبوءة باطلة و مجرد تضليل، فهذا في واقعه: أولا: طعن بهؤلاء الأنبياء الذين اعترف الاسلام بكونهم كانوا صادقين و مواكبين للحق: و هو

ص:466


1- (1) انظر: قصة الديانات لسليمان مظهر ص 359.

- كمسلم - ملزم بالاعتراف بذلك. ثانيا: ان كلامه هذا مخالف للدليل القطعي القائم على صدق أساس هذه التنبوءات، كما لا يخفى على قارىء هذه الموسوعة.

و إن شكك في نسبة هذه الكتب إلى هؤلاء الأنبياء، قلنا: ان تفسيره لوجود النبوءة قائم على التسليم بوجودها، و صدق نسبتها إلى أصحابها، كما هو واضح، فلا معنى للرجوع عن هذا التسليم بعد ذلك.

- 16 - و بهذا ينبغي أن نختم الحديث عن أقسام النبوات الكبرى الرئيسية... إذ لم يبق إلى نهاية هذا التخطيط الثاني الذي نتحدث عنه، غير نبوة واحدة مهمة هي نبوة المسيح عليه السلام. و هي نبوة - بالرغم من أهميتها - كانت ضيقة النطاق لمدى الضغط الكافر الذي كان في ذلك العصر.

و في الواقع، أنه بدأ في العصور المتأخرة عن الدعوة الموسوية، من حوالي الفتح البابلي عصر طويل من الظلم و الانحراف و الفساد، حتى بين اليهود أنفسهم، و بقي ساري المفعول خلال بعثة المسيح عليه السلام، و لم ينته أيضا بنهاية التخطيط الثاني، بل استطاع أن يمتد بفروعه إلى العصر الحاضر.

و لذ ينبغي أن نعقد فصلا عن جانب الفكر و العمل الدنيويين، خلال العصر المتأخر عن الدعوة الموسوية... لنرى مقدار تأثيره في هذا التخطيط، إلى جانب تأثير النبوات.

ص:467

الجانب الدنيوي بعد العصر الموسوي

- 1 - كانت جذور الانحراف موجودة في المجتمع الموسوي في زمن موسى عليه السلام فما بعده، و قد سمعنا أن التوراة مليئة بتهديد العصاة بكل ويل و ثبور على لسان موسى و من بعده كيوشع و داود و سليمان و غيرهم.

و قد كان هناك - على ما تنطق به التوراة أيضا - حملات إيمانية عديدة قام بها هؤلاء الأنبياء، لرفع معنويات الأمة المؤمنة من الناحية الايمانية و من ناحية تركيزهم على تطبيق الشريعة و إطاعة الأنبياء. بدأها موسى عليه السلام نفسه، بعد عبور البحر، و قرنها اجتماعيا بالخروج فعلا للفتح الديني ضد الكافرين عبّاد الأصنام.

و كان آخرها - فيما يخص العصر السابق على الفتح البابلي - حملة سليمان الايمانية خلال بنائه للهيكل و افتتاحه له.

و كانت هذه الحملات تنجح موقتا، ثم يبدأ المجتمع من جديد بارتكاب الموبقات و الفساد. حتى ما إذا حصلت الحملة الأخرى تحسن الوضع ثم عاد إلى السوء من جديد.

حتى ما إذا حصل الفتح البابلي المشرك، استطاع أن يقضي على المهم من معالم التدين الموجودة آنئذ، و بقي اليهود يجترون الأفكار و التقاليد التي يحملونها عن عقيدتهم و تاريخهم، اجترارا. و أصبحت المواعظ التي يقولها الأنبياء فيهم، كأشعيا و أرمياء و دانيال، غير ذات أثر حقيقي.

- 2 - لا ينبغي ان يخفى علينا دخول الانحراف و الكفر في التخطيط، كعنصر هام من ناحيتين:

ص:468

الناحية الأولى: ان الانحراف يعتبر نتيجة من نتائج التمحيص الذي تمثله دعوات الأنبياء، فان هذه الدعوات تجعل الفرد على المحك باستمرار، حيث ينظر إلى مواقف الأفراد و ردود أفعالهم تجاهها، فان انسجم الفرد معها كان ناجحا في التمحيص و من ثم منسجما مع التخطيط الشامل لتلك الفترة. و من أنكرها كان راسبا في التمحيص، و من ثم منافرا مع التخطيط و أهدافه. و على كلا الحالين يكون التمحيص قد وصل إلى نتيجته.

الناحية الثانية: ان الانحراف و الكفر، سواء على مستوى المجتمع أو مستوى الحكومات، يكون بدوره سببا لتمحيص جديد، قد حملنا عنه فكرة فيما سبق، حيث ينظر إلى مواقف الأفراد ردود أفعالهم تجاهه، فمن انسجم معه كان منافرا مع التخطيط، و من خالفه كان منسجما معه. و قد عرفنا ان التخطيط دائما قائم على الاختيار و حرية الارادة، و هو - عادة - منتج للمواقف المختلفة.

و من هذه الزاوية سننطلق إلى فهم الانحراف و الكفر خلال هذه الفترة، و سنفهم أنه وجد لنفع التخطيط و انجاحه، و هو تعميق إيمان المؤمنين و تمحيص المجتمع عموما، و ربما لتعميق الفكر الانساني، كما سنذكر... لا انها وجدت مضادة للتخطيط، فان هذا من المستحيلات، كما عرفنا في الأسس الخاصة للتخطيط العام.

- 3 - ينقسم (الجانب الدنيوي) خلال هذه الفترة إلى عدة جوانب:

الجانب الأول: الجانب المدني المتمثل بنمو الحضارة الانسانية خلال تلك الفترة الخاصة، مع الاشارة إلى تأثير هذا الجانب في التخطيط العام عموما.

الجانب الثاني: الجانب الفكري المتمثل بالفلسفة و المنطق و الرياضيات و نحوها، مما انبثق من الفكر البشري، الكائن - في الأغلب - في اليونان خلال تلك الفترة.

الجانب الثالث: الجانب الحكومي المتمثل بالحكومات المنحرفة و الكافرة التي كانت مسيطرة خلال تلك الفترة.

الجانب الرابع: جانب التحريف في الديانة الموسوية، من قبل اليهود أنفسهم، بعد اجتياز عصورها الأولى.

الجانب الخامس: جانب الجهل و التخلف الذي كان صفة للمجتمع في شبه

ص:469

الجزيرة العربية. و هو المجتمع الذي أصبح محلا لاستقبال الرسالة التي حملت (الأطروحة العادلة الكاملة) إلى البشر، و بها انتهى عهد النبوات و انتهى التخطيط الثاني.

- 4 - الجانب الأول: في تأثير التطور المدني للمجتمع في التخطيط.

يتكفل خط الأنبياء عادة، تنمية و تربية الجوانب الفكرية و الأخلاقية و التشريعية في البشرية. باعتبارها الجوانب الأهم التي بها يقترب الهدف و ينجح التخطيط.

و أما جوانب التطور المدني، فالمعروف أنه موكول إلى الفكر البشري نفسه.

ابتداء بالبسيط و انتهاء بالمعقد. فعلى البشرية أن تعاني الجوع حتى تجد الطعام و المرض حتى تجد الدواء، و البرد حتى تجد الدفء... و هكذا... من دون أن يكون للأنبياء أو للالهام الالهي، أي أثر في ذلك. و هذا يعني أن التخطيط الالهي اقتضى هذا المعنى بطبيعة الحال.

و هذا شيء مفهوم، إلى حد كبير، لوضوح أن التربية المدنية، سوف لن تكون - مهما طالت - أبطأ من التربية الاخلاقية أو التشريعية، بل ان الثانية أبطأ بكثير و أعقد، لوجود الموانع الشهوانية في النفس البشرية عن اتباع السلوك الأفضل دائما، بخلاف التربية المدنية فانها خالية عن تلك الموانع، بل هي - في الأغلب - موافقة للهوى و المصلحة الشخصية. و لئن تكفل الأنبياء تربية الجانب الأصعب، فان الجانب الآخر أو كل للفكر البشري نفسه.

إلا أن بعض الاعتراضات قد تحول دون الالتزام بذلك، أو انها على الأقل، تمنع من المبالغة فيها. و معنى ذلك: ان الأنبياء لهم قسط من المشاركة في التطور المدني.

الاعتراض الأول: ان إيجاد البشرية للطعام أو للدواء، إذا كان موكولا لمجرد الصدفة أو للالتفات بعد الجهل المطلق، و ترك البشرية خلال العصور السابقة تعاني من المشكلة التي لم يكتشف لها حل... فهذا ان لم نفرض أنه موجب لانقراض النوع البشري، فلا أقل من أن بقاء البشرية خلال المشكلات، ردحا طويلا من الزمن، مع إمكان تلافيها من قبل الخالق الحكيم عن طريق الأنبياء، و عدم دخل زيادتها في نتائج التخطيط... يكون ظلما للبشرية البائسة، فيكون مستحيلا على

ص:470

الخالق الحكيم.

الاعتراض الثاني: لا شك ان التطور المدني يعمق الفكر البشري، و يفتح أمامه جوانب جديدة لم يكن ملتفتا إليها قبل ذلك، و هذا العمق بدوره يشارك في قابليته لفهم المستوى التشريعي و الأخلاقي الجديد الذي يبشر به خط الأنبياء.

و هذا معناه: ان كل مستوى (نبوي) يحتاج إلى مستوى مدني سابق عليه، كما يحتاج تماما إلى مستوى نبوي سابق قد تم إنجازه و إنجاحه.

و من هنا ننطلق إلى هذا الاعتراض، إذ قد يكون إيكال البشرية إلى فكرها الخاص في التطور المدني، قد يجعل المستوى المدني منفصلا عن المستوى (النبوي) المطلوب. بمعنى ان البشرية قد تكون ناضجة نبويا و تستحق بهذا الاعتبار خطوة نبوية جديدة، و لكنها قد تكون فاقدة للمستوى المدني الذي عرفنا انه يكون ضروريا لفهم الخطوة الجديدة، فتكون الخطوة النبوية الجديدة متعذرة، و من ثم يكون التخطيط معاقا.

و إذا تم هذا الاعتراض، كان معناه: ان من الضروري لكل نبوة، أن تخطط - إلى جانب مهمتها الخاصة - لتطوير الجانب المدني، بحيث تساعد الفكر البشري للوصول إلى المستوى المطلوب عند إنجاز هذه النبوة مهمتها الخاصة، و الحاجة إلى بناء جديد.

الاعتراض الثالث: ان الأطروحة الكلاسيكية الدينية لابتداء البشرية، تفترض - كما عرفنا - ابتداءها من زاوية قوة و وعي، و ان أول بشري وجودا هو نبي ناجز علميا و أخلاقيا و إخلاصا، و قد حاولنا فيما سبق مناقشة فحواها العام.

و لكنها لو صحت تماما، لكان معنى ذلك ان البشري الأول: آدم عليه السلام، هو الذي قام بتعليم أولاده و زوجته الجانب المدني الضروري للحياة، إلى جانب التربية التشريعية و الأخلاقية.

الاعتراض الرابع: ان القرآن الكريم ينسب إلى بعض الأنبياء المشاركة في الجانب المدني، فمن ذلك: صنع نوح (ع) للسفينة، و صنع داود (ع) اللّباس و الدروع، و صنع الجن لسليمان (ع) القدور الضخمة و الجفان الكبيرة، و يمكن نسبة الصنع إلى سليمان نفسه بشكل و آخر. و لا حاجة إلى الاستشهاد بالآيات بعد وضوحها و توفرها للقارئ بسهولة. و لا نعدم من السنة و التاريخ دليلا على هذا و غيره، مما هو غير خفي على المتتبع، مما يطول بنا المقام في سرده.

ص:471

و على أي حال، فهذه المشاركة مما لا يمكن نفيها، بعد الاعتراف بالنبوات.

و يستطاع القول بأن هذه الاعتراضات استطاعت أن تكفكف من غلواء تلك الفكرة الواضحة في انفصال خط الأنبياء عن الخط المدني، على طول التاريخ.

و إذا رجعنا إلى العصر الذي نؤرخ له، وجدنا أن داود و سليمان عليهما السلام يقعان خلاله، بمشاركتهما الفعلية في عدد من جوانب التربية المدنية.

- 5 - الجانب الثاني: في تأثير الجانب الفكري للانسان، كالفلسفة و المنطق في التخطيط العام.

ذلك الجانب الذي كان لليونان في تلك العصور، و التي بعدها، أكبر المشاركة فيه بحثا و تدقيقا و توسيعا، ابتداء بالفلسفة اليونانية القديمة السابقة على أفلاطون و سقراط، و انتهاء بالفلسفة الوسيطة اللاحقة لعصر المسيح عليه السلام.

إن وجود مثل هذه التعميقات الفكرية، إلى جانب أنه يؤهل البشرية المتمثلة بمفكريها، استيعاب دعوات الأنبياء و أقوالهم إلى أكبر حد، و ما تنتجه الأسئلة المثارة و الجدل القائم من انفتاح تدريجي... يؤهلها أيضا لدعم كثير من أقوال الأنبياء بالدليل القائم على الوجدان الحسي أو العقلي. و من هنا تنبثق أهميته بالنسبة إلى مواكبة التخطيط و إنجاحه.

و بالرغم من إمكان تفسير هذا العمق بالعبقرية البشرية نفسها، فانه بالامكان أيضا إسنادها إلى خط الأنبياء أما مباشرة أو بالواسطة. باعتبار احتمال أن يكون بعض فلاسفة اليونان كأرسطو - مثلا - من الأنبياء أو الملهمين بدرجة ما. أو انهم أخذوا رءوس أقلامهم أو مهم أفكارهم من الأنبياء، أو انهم قد رويت لهم عن الأنبياء بعض الحقائق التي استطاعوا بعبقريتهم أن يستنتجوا منها هذه الدقة الفكرية.

و لكن هذا الاحتمال - مهما كان شكله - بالرغم من لطافته و وجاهته، مما لا يمكن أن نقيم عليه الدليل الكافي، بعد انطماس الكثير من معالم التاريخ.

- 6 - الجانب الثالث: الجانب الحكومي المتمثل بالحكومات المنحرفة و الكافرة التي كانت مسيطرة في تلك الفترة.

كان أول ملك سيطر على اليهود بعد انتهاء (الدولة النبوية) التي بدأت بموسى عليه السلام و انتهت بصموئيل، و ان تخللتها فجوات كبيرة... هو شاءول كما

ص:472

تسميه التوراة أو طالوت كما يسميه القرآن. و قد جاء إلى الحكم بطلب من بني إسرائيل أنفسهم، حيث طلبوا من صموئيل أن يعين لهم ملكا، فعين لهم اللّه تعالى عن طريق نبيه هذا الرجل. و هذا ما يرويه التوراة و القرآن معا.

و بالرغم من جهته الايمانية و أهميته، لم يكن يخلو - كما تدل عليه التوراة - من بعض الانحرافات، و أهمها منافرته لداود عليه السلام، و مطاردته لأجل القبض عليه و قتله. و كان يومئذ شابا مؤمنا متنافيا في الايمان.

و قد تولى هو الملك بعد شاءول، فكانت دولته نبوية مرة أخرى، و خلفه ولده النبي سليمان عليه السلام. و بوفاته انفصل الحكم عن النبوة مرة أخرى. و ملك اليهود جماعة من الملوك على مستوى يكاد يكون دنيويا محضا، على حين بقيت النبوة في الشعب في جماعات من المؤمنين الملهمين الواعظين على نطاق ضيق في الأغلب، يكادون يمثلون النبوة القبلية مرة أخرى في التاريخ.

و لعل العنصر الأهم في ضيق نطاق هذه النبوات، هو بعد الشعب عنهم و انغماسه في اللذائذ و المصالح الخاصة، و عصيان الملوك لهم، إلى حد لم يبق للأنبياء تأثير واضح على المجتمع الذي كان مؤمنا في تاريخه القديم.

و استمر الحال على ذلك إلى الفتح البابلي، الذي اعتبرته التوراة عقابا لليهود على مظالمهم و فسادهم. حيث استطاع أن يقضي على اليهود، بكلا دولتيهم:

إسرائيل و يهوذا، و يستأصل قسما كبيرا منهم و يسبي القسم الآخر إلى العراق.

و بعد سقوط نبوخذنصر، و سيطرة كورش ملك الفرس سمح لهم بالعودة و بناء هيكل جديد. فعاد الحال إلى ما كان عليه من انفصال الحكم عن النبوة، و وجد فيهم عدة أنبياء مشهورين كاشعياء و أرمياء و دانيال و غيرهم، ممن نسبت إليهم التوراة كلمات كثيرة و تاريخا مفصلا. و لكنهم لم يكونوا ليؤثروا في إرجاع الشعب و الحكومات إلى جادة الحق و الصواب.

و كان هناك خط ثالث غير الملوك و الأنبياء، و هم الكهان المشرفون على الهياكل. و بالرغم من أن هذه الفكرة كانت حقا في أساسها باعتبار احتياج الهيكل إلى السادن أو المشرف على مصالحه و القيام بوظائفه الدينية. و قد عين موسى عليه السلام - كما تقول التوراة - أخاه هارون كاهنا في المعبد الذي أسسه، و لم يكن يومئذ ذا بناء كبير، و إنما كان عبارة عن خيمة كبيرة تسمى (خيمة الاجتماع)، و بقيت سلسلة الكهانة في أولاد هارون.

ص:473

غير أن هؤلاء الكهنة، لم يكونوا ملهمين كالأنبياء، فأصبحوا يمثلون الشعب الذي وجدوا فيه، يحملون نقائصه و نقاط ضعفه في ضمائرهم، و أصبحوا يمثلون - أيضا - طبقة خاصة ذوي مصالح و مطامع و جشع، و قد كان لهم اليد الكبرى في ترك الشريعة و عصيان الأنبياء، و قتل بعضهم بما فيهم المسيح عيسى بن مريم نفسه، و مع ذلك، كان يعتبر هم الشعب اليهودي على مستوى عال من الايمان و الطهارة، و يخضع لهم أكثر بكثير مما يخضع للأنبياء.

و استمرت النبوة و الكهانة... إلا ان الحكم زال عن يد الدول الصغيرة، حيث استطاعت الدولة الرومانية تدريجا أن تسيطر على المنطقة و تدخل عددا من شعوبها تحت حكمها، بما فيهم اليهود. و لم تكن تلك الدولة بيهودية و لا مؤمنة، و إنما كانت و ثنية المعتقد و (علمانية) أو ملحدة في حياتها التشريعية و الاجتماعية.

و من هنا تقلص الخط الديني، و بخاصة الخط المخلص المتمثل بالأنبياء، و قتل العدد الكبير منهم. و أما الكهان فكانت لهم صيانتهم الخاصة باعتبار ما تتوقعه الدولة الرومانية من ردود الفعل الشعبية على تقدير الاجهاز عليهم، و من ثم استمر وجود الكهان و استطاعوا أن يسايروا الدولة الجديدة، و لو في نطاق ضيق.

و خلال العصر المتخلل بين السبي البابلي و نبوة المسيح، و خاصة بعد سيطرة الدولة الرومانية و يأس اليهود من الرجوع إلى الحكم، استطاع الكهان أن يحرفوا العقيدة اليهودية، بعد أن طمسوا آثار شريعتهم و شارك في طمسها ملوك اليهود أنفسهم و السبي البابلي و غيره. كما استطاعوا أن يحرفوا التوراة تحريفات كبيرة، على ما سنذكر في الفقرة التالية. كما استطاعوا أن يحددوا لوجودهم صيغا خاصة لم تكن معروفة قبل ذلك، على ما سنعرف، عسى أن يكون لهم القوة و الأهمية في المجتمع.

و قد تقبل الشعب كل ذلك بجهل و سذاجة بالغين، و اصبحت هذه التحريفات، سارية المفعول الى العصر الحاضر. و قد سبب لذلك أيضا بعد الاجيال المعاصرة لهذه الفترة عن عصور الأنبياء السابقين، و انتقال الانحرافات الخطيرة إليهم من اجيالهم السابقة.

و لا حاجة بنا إلى التكرار، بان كل هذه الانحرافات إنما هي في مصلحة التخطيط، سواء على المستوى الحكومي أو الشعبي أو الكهني، فانها تحتوي جميعا على كلا الناحيتين اللتين ذكرناهما في الفقرة الثانية من هذا الفصل.

و لا يخفى ما شارك فيه (القانون الروماني) الذي أصبح له فقهه الخاص

ص:474

و صياغته، لأول مرة - تقريبا - في تاريخ الفكر الدنيوي المنقطع عن السماء...

لا يخفى ما شارك فيه من تعميق الفكر البشري و إعطائه نماذج قانونية و فهما قانونيا مرتبا لم يكن قد واجه مثله فيما سبق.

و أما الشريعة الموسوية، فهي بالرغم من عالميتها، فهي كانت تقدم التشريع، و لم تكن تقدم الفهم القانوني أو الأسس و المصالح التي انطلق منها ذلك التشريع، لعدم مساعدة الفكر البشري في عصرها على استيعاب ذلك، كما لم يساعد الفكر البشري على فهم ذلك فترة من الزمن، إلى أن أعطيت لها التفسيرات الخاطئة المنحرفة في عصر الانحراف الذي نؤرخه الآن.

و لعل في مرور الفكر البشري بتفسير الشريعة الموسوية، ما ساعده على وضع القانون الروماني و تفسيره، بشكل أعمق و أوسع. و هذا يعني أن للجهة الدينية - و ان كانت منحرفة - تأثيرا في صياغة القانون الروماني، و ان كان ملحدا.

- 7 - الجانب الرابع: جانب التحريف في الديانة الموسوية بعد اجتياز عصرها الأول.

استطاع كهان اليهود، بدعم من الحكومات المنحرفة و الاتجاه الشعبي الفاسق، أن يقوموا بعدة تحريفات للشريعة الموسوية الأصلية، نستطيع أن نستعرضها ضمن الحقول التالية:

الحقل الأول: طمس الشريعة الموسوية من جوانبها الاجتماعية و الاقتصادية، و الاقتصار على الجانب الكهني مع تقاليد و أساليب زائدة، تناسب مع حصول هذه الطبقة على المزيد من الأموال.

الحقل الثاني: ان التوراة المنزلة من الخالق عز و جل، ضمر وجودها تدريجا في المجتمع، و بقيت مخزونة في خزائن الملوك، و عنابر الكهان، بشكل لا يلتفت إليه أحد أو يتذكره أحد.

حتى ما إذا حصل السبي البابلي فقدت التوراة بالمرة، و عاد اليهود مرة أخرى إلى بلادهم - بعد فترة - فاقدين لكتابهم و منقطعين عن شريعتهم تماما.

الحقل الثالث: ان (عزرا) أو عزير - قرآنيا - الذي كان من نسل هارون و وريث الكهانة في عصره، حاول كتابة التوراة من جديد. و لكنها - مع الأسف - أصبحت حاملة للفكر المتأخر المنحرف الذي وجد بعد العصر الموسوي. و أهم ما ركز

ص:475

عليه فيها نتيجة لهذا الفكر أمران:

الأمر الأول: جانب الكهانة و وصف وظيفة الكهان، لكي يتم تركيز الحقلين الأول و الرابع الآتي:

الأمر الثاني: جانب التنبؤ بمستقبل بني إسرائيل، و انهم سوف يحصلون على دولة عالمية خالدة (تفيض لبنا و عسلا) على ما سنذكره في الجانب السادس. و سنذكر معنى التحريف في هذا المفهوم.

الحقل الرابع: تنظيم الكهانة، فانها بعد أن كانت في أصل وضعها الموسوي مجرد إشراف على المعبد و إزجاء حاجاته، أصبحت الآن متعددة الجوانب و العناوين، فهناك: الكاهن و القسيس و الحبر و الحكيم و الحاخام. كل ذلك من أجل اكتساب القوة و الرسوخ الاجتماعي.

الجانب الخامس: تحريف الشريعة الموسوية تحريفا ضخما، و تفسيرها تفسيرا شنيعا، و ذلك حين وضع اليهود (التلمود) كتابهم الثاني بعد التوراة، و يحوي كل تعاليمهم.

و فيه ركزت أهمية اليهود و ارتفاعهم عن البشرية و ضرورة سيطرتهم على العالم، و كون المستقبل لهم، و تفضيل الاسرائيلي على غيره و إن كان يهوديا. و قد تضمن أحكاما كثيرة لضبط هذا الجانب و تربيته في نفوسهم مما لا يحتمل ورودها عن موسى عليه السلام و لا عن أحد من الأنبياء بعده، و إنما هي من وضع طبقة الكهان و الحاخامات، أبناء المجتمع المنحرف الفاسق.

الجانب السادس: انهم حاولوا مسخ الفكرة الصحيحة في سيطرة الحق على العالم في مستقبل الانسانية، تلك الفكرة التي بشر بها أنبياؤهم بكثرة، على ما سمعنا... فجعلوا ذلك مستقبلا لهم خاصة، بما فيهم من نقاط ضعف و انحرافات.

و من هنا نعرف أن فكرة (شعب اللّه المختار) و فكرة (الوعد) و (دولة اليهود العالمية التي تفيض عسلا و لبنا)، كلها انحرافات عن منا شيء صحيحة. فالشعب المختار هم المؤمنون دائما. و الوعد الالهي موجود بالانتصار لهم دائما، و الدولة العالمية ستكون دولتهم، و ستكون دولة رفاه و سعادة (تفيض لبنا و عسلا) و غيرهما من الخيرات.

و أما بنو إسرائيل، فقد كانوا يمثلون تطبيقا ضيقا لهذه المفاهيم، حين كانوا

ص:476

مؤمنين؛ و أما حين انسلخوا عن الايمان، فقد لحقتهم لعنة الرب، على ما صرحت به التوراة المتداولة نفسها(1) و انسلخوا من كل هذه المفاهيم. و بقيت هي محافظة على نقائها و طهارتها لمن ورث الايمان الحقيقي في أي جيل من الأجيال، و بقي منسجما مع التخطيط العام و أهدافه.

- 8 - الجانب الخامس: جانب الجهل و التخلف الذي كان هو صفة للمجتمع في شبه الجزيرة العربية.

يبدو لأول و هلة ان هذه المنطقة كانت محجوبة عن دعوات الأنبياء، و انها أخذت منذ عهد بعيد مسارا خاليا من النبوات، من الناحيتين الفكرية و التشريعية.

فانه لم يعهد ان وجد فيها نبي قبل نبي الاسلام، بعد ان مر فيها ابراهيم عليه السلام، و أقام بناء بيت اللّه الحرام بمكة، و لا يعلم انه هل كان له تأثير واسع أو لم يكن... و إنما كل ما وجدناه هو ان المجتمع أصبح و ثنيا، تعيش أجياله على الوثنية من أمد بعيد.

و إلى ذلك يشير قوله تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ (2). و ان الفترة المتخللة بين ورود ابراهيم عليه السلام لهذه البلاد، و بعثة نبي الاسلام، و التي تزيد على ألفي عام، كافية لصدق هذه الآية بكل وضوح.

إلا ان الشيء الذي ينبغي أن يكون ثابتا، هو أن تأثير النبوات كان موجودا و قويا، لكن بشكل لا يسيطر على الجو العام، الذي كان يمثل الجهل و الوثنية.

و المظنون أن الأثر الأهم لذلك، إنما هو لإبراهيم عليه السلام، حيث استطاع أن يبقي في تلك البلاد خطا حنيفيا على نطاق محدود، متوارثا جيلا بعد جيل حتى كان أشهر من تمثلت فيه هذه الحنيفية قبيل الاسلام هو (عبد المطلب بن هاشم) جد النبي (ص).

فلئن كان ابراهيم (ع) قد أثر في هداية بني إسرائيل عن طريق ابنه اسحاق (ع)، فإنه قد أثر في هداية العرب عن طريق ولده اسماعيل (ع). و كلا و لديه نبي صالح و واعظ موجّه، و كان لهذه الهداية الأثر الكافي للبقاء خلال أكثر من ألفي عام، إلى أن توّجت هذه الحنيفية بالاسلام. و لم يمنع عن هذا الاستمرار وجود الشعور القبلي و التقالية القبلية المنحرفة.

ص:477


1- (1) انظر: خروج: 33/32 و تثنية: 26/27.
2- (2) القصص 69/39 و الم السجدة 3/32.

إلا ان الزمان كلما امتد بدون توجيه سماوي، ضعفت هذه الحنيفية، و قلّ عدد المؤمنين بها، و تحول المجتمع تدريجيا إلى الأسلوب الكلاسيكي للكفر يومئذ و هو عبادة الأصنام، خلال القرون الأخيرة.

و أما نبوات بني إسرائيل، فهي - بالرغم من عالميتها - لم تستطع أن تصل إلى تلك المنطقة، حال صفائها و نقائها(1). و إنما تسرّب اليهود بالتدريج إلى أرض العرب بعد السبي البابلي و ربما بعد المسيحية. و المهم انهم لم يصلوا هناك إلاّ بعد خروج مجتمعهم عن طاعة شريعتهم الأولى و انحرافهم الذي عرفنا معامله. و من ثم لم يكونوا يستطيعون ان يعلنوا كلمة الحق هناك، كما لم يستطيعوا ان يقولوا أي كلام مقنع للذهن العربي، بعد افتضاح حالهم في ذلك المجتمع.

و قد شاء الخالق الحكيم أن يخطط لاتصاف هذا المجتمع بالسذاجة و الجهل من الناحيتين الفكرية و التشريعية، لكي يكون أرضا صالحة لوجود الشريعة العالمية الجديدة؛ فهي:

أولا: تنتظر المصلح و المعلم الجديد، باعتبار ما عانته من جهل و إرهاق.

ثانيا: لا تحتوي على فكر معاكس يمكن أن يكون عائقا، و لو موقتا، للفكر الاسلامي الجديد.

و هذه بعض الدوافع التي حدت بالتخطيط ايجاد الاسلام في الجزيرة العربية دون غيرها، و ستأتي الدوافع الأخرى مما يمكن التعرف عليه، في عرضنا للتخطيط الثالث إن شاء اللّه تعالى.

و بالرغم من تعدد الاتجاهات العقائدية في ذلك المجتمع، فانه اختير إنزال (الأطروحة العادلة الكاملة) من خلال الخط الحنيفي الذي كان يمثله النبي (ص) و بعض أسرته و قليل آخرون... و ذلك: إقرارا لهذا الخط و مباركة له، بصفته الخط الذي أسسه ابراهيم الخليل عليه السلام:

إِنَّ أَوْلَى النّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا (2).

هذا، و قد كانت البشارات بوجود النبي الجديد (ص) موجودة و معروفة في

ص:478


1- (1) أما في العهد الأول، أعني بعد الخروج من مصر، فلبعد الطريق و صعوبة الوصول. و أما بعد ذلك فلاشتغال دولتي اليهود بالخلافات و البعد عن التعاليم الأصلية و الدعوة الدينية. مضافا إلى شعورهم آنئذ بالأهمية القبلية، و حصر دينهم في هذا النطاق.
2- (2) آل عمران 68/3.

ذلك المجتمع، كما هو واضح من النقل التاريخي فيما قاله ورقة بن نوفل(1) و بحيرا الراهب(2) عنه صلى اللّه عليه و آله، و قد سبق أن حملنا عن زمن صدورها و فلسفته فكرة كافية.

الجانب الديني بعد العصر الموسوي
اشارة

و نقصد به التعرض، على الخصوص، إلى جوانب ثلاثة:

الجهة الأولى: بعثة المسيح عليه السلام، و دعوته خلال المجتمع الروماني المشرك الصاخب المتعنت.

الجهة الثانية: إعطاء فكرة عن المجتمع الفارسي و ما فيه من ديانات، و مقدار ارتباطها بالتخطيط الثاني.

الجهة الثالثة: إعطاء فكرة عن المجتمع الهندي، و ما فيه من ديانات، و مقدار ارتباطها بهذا التخطيط.

و سنحصل من الجهة الأولى على إيصال التخطيط الثاني إلى نهايته، على حين نحصل من الجهتين الأخريين على فهم متكامل لاستيعاب التخطيط لمناطق العالم و عدم اقتصاره على منطقة معينة منه.

ص:479


1- (1) انظر السيرة النبوية لابن هشام ج 1 ص 203 ط 3 عام 1391-1971.
2- (2) المصدر ج 1 ص 194.
الجهة الأولى في بعثة المسيح عليه السلام و ملخص ظروفها و آثارها و مقدار ارتباطها بالتخطيط الالهي

- 1 - عرفنا فكرة كافية عن الظروف التي أرسل خلالها المسيح عيسى بن مريم، فقد كان الجو الحكومي دكتاتوريا قويا، و الجو الاجتماعي للدولة مشركا متعنتا، و الجو الديني لبني إسرائيل قائما على الانحراف و التعصب، و قد قام كهنتهم الذين يمثلون طبقة متميزة في المجتمع بتحريف الشريعة و بث روح البعد عنها و إهمالها. و هم و إن كانوا ينتظرون مصلحا جديدا أو مسيحا منتظرا، إلا أنهم ليتوقعون - لا أقل من زاوية رغباتهم الخاصة -، ان يكون منهم يمثل ما فيهم من نقاط قوة و ضعف، ضامنا لكل ما يطمحون إليه من مطامع.

و قد ولد المسيح بدون أب، و نطق بالكلام فور ولادته - كما رواه القرآن -، توخيا لعدة نتائج:

النتيجة الأولى: إشعار المجتمع بكون هذا الوليد شخصا مهما من الناحية الالهية، و ليس شخصا مسفا كسائر الناس.

النتيجة الثانية: ان يشهد هو شخصيا - بمعجزته في الكلام - على طهارة أمه و نقائها.

النتيجة الثالثة: ان تكون له هذه المعجزات دليلا على نبوته التي ادعاها منذ ذلك الحين أيضا.

و لم تكن أمه عليها السلام مثارا للشك، إذ كانت متدينة و محافظة و من أسرة محافظة. و قد عصمها اللّه تعالى من حدوث الشك بشهادة ولدها بالطريقة الاعجازية.

ص:480

و قد كانت نبوته التي دعمت بهذه المعجزات و غيرها، واقعة في طريق التربية العامة للفكر البشري، أي في التخطيط الثاني الذي نتحدث عنه. و لكنه - في ذلك الجو المعاكس - الذي وجد - لم يستطع بث دعوته إلا على أضيق نطاق، و لم يستطع أن يقوم بتربية كافية لأحد إلا بعض الحواريين.

و لو لا الأدلة التي يمكن إقامتها من الناحية الاسلامية على عالمية دعوته، بحسب حقيقة قصده، فان وضعه الاجتماعي و ما نقل عنه في الانجيل من كلمات لا يفيان بهذا المقصود على الاطلاق. كيف و هو لم يصرح بعالمية دعوته، و لم تعرف عنه شريعة اجتماعية و اقتصادية متكاملة. و من هنا لا يمكن للمسيحيين أن ينظروا إليه أكثر من كونه نبيا من أنبياء بني إسرائيل، جاء استمرارا لشريعة موسى عليه السلام، على غرار أشعيا و أرميا و دانيال. كل ما في الأمر انه أفضل نفسا و أوسع نصيحة.

- 2 - و على أي حال، فالذي يبدو من الأناجيل الأربعة عموما: ان المسيح ركّز على عدة أفكار رئيسية، جعل المسيحيون بعضها عقيدة لهم مع إضافات أخرى أضافوها.

الفكرة الأولى: التجرد للّه بشكل لا تكون أي مصلحة من مصالح الدنيا أهم في نظر الفرد من الاتجاه نحو عظمة اللّه عز و جل.

الفكرة الثانية: أخلاقية التعايش بين الناس و زرع المحبة و الأخوة في نفوس المجتمع.

الفكرة الثالثة: إيجاد بعض التعليقات و الرتوش على الشريعة الموسوية، بقصد تركيزها الأخلاقي، في الأغلب.

الفكرة الرابعة: الانطلاق من زاوية قبلية، و لكن بشكل أقل مما كان عليه العهد السابق.

الفكرة الخامسة: الخضوع للحاكم الدنيوي و التسليم لأمره من أي نوع كان.

الفكرة السادسة: جعل الثواب و العقاب أخرويا، و ليس فقط دنيويا. و إن لم يكن كوضوحه في القرآن الكريم، كما لا يخفى على من راجع المصدرين.

الفكرة السابعة: التبشير بملكوت اللّه، بقيادة (ابن الانسان) الذي يأتي في المستقبل بمجد عظيم و تسخير سماوي و أرضي جبار.

ص:481

الفكرة الثامنة: التنبؤ بازدياد الظلم و الفساد في الأرض، و وجود الكذبة على اللّه تعالى بكثرة.

الفكرة التاسعة: ان المسيح جاء لتكفير خطايا البشر و تطهيرهم من الرجس.

الفكرة العاشرة: مما تنص عليه الأناجيل: الثالوث المقدس: الأب و الابن و روح القدس.

و الأناجيل بهذا الصدد، كالعقيدة التي يلتزمها المسيحيون في هذا الحقل، مشوشة للغاية في إعطاء صيغة محددة في بيان حقيقة هذا الثالوث. و قد انقسم المسيحيون إلى آراء متعددة حول ذلك، و التزموا: ان العقيدة فوق العقل، و اننا نؤمن به بالرغم من اننا لا ندركه عقليا، بل حتى لو آمنا باستحالته بحكم العقل.

و الآن دعنا نفهم هذه الأفكار من جديد:

أما الفكرة الأولى: فهي صحيحة و ضرورية لكل مؤمن يريد تطبيق الشريعة الالهية، و يريد السير في طريق الكمال و الانسجام مع التخطيط الإلهي و أهدافه.

و كذلك الفكرة الثانية، في حدود التعايش مع المؤمنين. و ان اهم فقرات الهدف البشري الأعلى هو زرع الأخوة بين البشر.

و أما الفكرة الثالثة: فهي الجانب الوحيد الذي يمثل تجديد المسيح لشريعة موسى عليهما السلام. و هو أمر طبيعي، و كان ينبغي أن نسمع منه الشيء الكثير، لو لا الظروف الصعبة التي مر بها المسيح (ع). إذ بعد أن تطور الفكر البشري و استطاع الاستيعاب الأوسع بعد ما مر به من ظروف و عوامل ابتداء من زمن موسى (ع) فما بعده، فهو محتاج لا محالة إلى تعليم و تنظيم جديد.

و أما الفكرة الرابعة: فهي محاولة لتقليص الجانب القبلي في الذهن البشري، و الانطلاق به إلى نطاق أوسع. فان ذلك أصبح الآن ممكنا بعد أن كان متعذرا.

و كذلك الفكرة السادسة، فانها إيضاح للواقع الأخروي، بعد أن أصبح مستوى الفكر البشري يناسب هذا الايضاح، بعد أن لم يكن عند نزول التوراة مناسبا.

و أما الأفكار الخامسة و السابعة و الثامنة و التاسعة، فقد أسيء فهمها من قبل المسيحيين، إلى حد يمكن أن يعتبر مسخا لها عن واقعها. إذ من غير الممكن أن يكون شيئا من التعاليم الإلهية في أي عصر. يأمر بإطاعة الحكام و الخضوع لهم و إن كانوا كفرة أو مشركين. كما لا يوجد معنى محدد مفهوم لقيام المسيح بتطهير خطايا شعبه

ص:482

عن طريق تحمله شخصيا مسئولية العقاب عليها عن طريق صلبه، فان قتل شخص لا يكون كفارة عن ذنوب شخص آخر، و خاصة فيما إذا بقي الآخر - كما عليه أكثر الشعب المسيحي - سادرا في ظلمه و فساده لاهيا عن خالقه و إيمانه. كما أن العكس أيضا غير صحيح، و هو تحمل الفرد حسنات الآخرين و مدحه بما يفعلون من خير.

و إنما المقصود من مجموع هذه الأفكار المشار إليها، إيضاح فكرة التخطيط الثالث الآتي، الذي كان و شيك الوقوع يومئذ، و الذي قد عرفنا عنه في (تاريخ الغيبة الكبرى) الشيء الكثير. كل ما في الأمر أنه عرض بشكل مناسب مع مستوى الفهم البشري يومئذ - أولا - و مع الأخذ بنظر الاعتبار صدور هذا الإيضاح قبل ابتداء ذلك التخطيط، ثانيا.

و هناك في المصادر المسيحية أفكار ثلاثة أخرى مندرجة في صددنا هذا، نذكرها اعتبارا بالترقيم السابق:

الفكرة الحادية عشرة: فكرة التمحيص و التجربة التي تمر بها البشرية خلال تاريخها الطويل. و هي فكرة جاءت بشكل جانبي في الأناجيل.

الفكرة الثانية عشرة: نزول المسيح في مستقبل الدهر أو في نهايته، و هي أيضا وردت بشكل (غير مهم) في الأناجيل الأربعة، و لكنه ركز عليه بوضوح في انجيل «برنابا» الذي رفضه المسيحيون.

الفكرة الثالثة عشرة: التصريح ببعثه رسول الإسلام و تسميته، و إعطائه أهمية و احتراما عظيمين. و هو مما اختص به إنجيل برنابا... و من أجله رفضه المسيحيون!!!.

و كلها أفكار صحيحة في حدود فهمنا للتخطيط الثالث الذي يبدأ بنزول الأطروحة العادلة الكاملة و ينتهي بإقامة دولة الحق العالمية. و معه فقد حصل عندنا سبع أفكار من المصادر المسيحية تشير إلى هذا التخطيط... و هو مستوى من الإيضاح لم يكن له وجود في العهد السابق.

و لا بدلنا الآن أن نفترض كون القارئ عارفا بالمهم من تفاصيل هذا التخطيط المشار إليه، مأخوذا من كلامنا السابق عنه أو الآتي. و نحن نذكر الأفكار بحسب ترتيب وجودها خلال التخطيط:

فالفكرة الثالثة عشرة تعبر عن وجود (الأطروحة العادلة الكاملة) المتمثلة بالإسلام، بعد أن يكون التخطيط الثاني قد انتهى و أحرز النجاح في إعداد الذهن

ص:483

البشري لفهمها.

و الفكرة الثامنة، و هي ازدياد الظلم و الفساد، قد عرفنا أهميتها في إيجاد الشرط الثالث من شروط دولة العدل العالمية، و هو وجود العدد الكافي من المخلصين و إعدادهم لإنجاز تلك الدولة.

و كذلك الفكرة الحادية عشرة، فكرة التمحيص، فانها تشارك في ذلك ضمن مشاركتها في تربية كل أفراد البشرية، ضمن حرية التصرف و الاختيار الممنوحة لهم، كما عرفنا.

و أما الفكرة الخامسة، فهي بمفهومها الصحيح، توازي ما يسمى ب (التقية). و قد شرحناها و أعطيناها الفهم الواعي الكامل في (تاريخ الغيبة الكبرى)(1)و عرفنا ارتباطها بالتخطيط ارتباطا جوهريا، بحيث لو لا ها لزال المؤمنون عن وجه الأرض، و لم يمكن تنفيذ دولة الحق بالمرة.

و قد دفعنا عنها هناك هذا المعنى الضيق، و هو الخنوع للظلم و الصبر الأعمى على كل ظالم، و تحمل كل نوع من أنواع الحكام، مهما كانت صفتهم.

و أما الفكرة السابعة، فتمثل إنجاز اليوم الموعود أعني إقامة (دولة العدل العالمية)، فإن المراد بملكوت اللّه هو ذلك بصفته محققا للهدف الأعلى لخلق البشرية.

و يكون بقيادة القائد الاكبر المهدي عليه السلام، الذي يسميه الانجيل ب (ابن الإنسان)، و يصف مجيئه بأوصاف إلهية كبيرة، سنذكرها مع غيرها في الكتاب المخصص للحديث عن التوراة و الانجيل من هذه الموسوعة. و سنعطيها هناك تفسيرها الكامل.

و أما الفكرة الثانية عشرة، و هي نزول المسيح في مستقبل الدهر، فهو ما ثبت

ص:484


1- (1) انظر ص 416-426 منه. و اعلم ان هذه الفكرة الخامسة ذات مفهومين: المفهوم الأول: الخضوع للحاكم و لكل ظالم و عدم مقارعة الظلم بالظلم (من ضربك على خدك الأيمن فقدم له خدك الأيسر). فهذه صورة و مكثفة و منحرفة عن مفهوم صحيح و هو (التقية) التي أشرنا إليها في المتن. المفهوم الثاني: الخضوع لتعاليم الحكام الدنيويين و قوانينهم، من دون أن يكون للدين شريعة خاصة به (دع ما لقيصر لقيصر و ما للّه للّه). و هذا ناتج من الشعور بقلة التعاليم الدينية و ضرورة عدم التسيب في المجتمع، فيكون من الأحجى إيكال تنظيمهم إلى الدولة الدنيوية. و هذا من القرائن على عدم وجود تعاليم كافية أساسا في الشريعة المسيحية، و ربما كان ذلك باعتبار الظروف الصعبة التي مر بها المسيح عليه السلام فلم يكن من الصالح إنزال شريعة متكاملة عليه. و لا مجال الآن للاطالة بالحديث عن ذلك.

في التخطيط الإلهي صحته، كما برهنا عليه في (تاريخ ما بعد الظهور). و ان المسيح عليه السلام ينزل فيصلي وراء المهدي (ع)، و يكون له في قيادة الدولة و هداية البشر - و خاصة المسيحيين منهم - تحت ظل المهدي (ع) يد طولى.

و لعل هذا بعينه هو المراد من الفكرة التاسعة، و هي مجيء المسيح لتكفير خطايا البشر. فانه يكفر خطاياهم - لا بموته بدلا عنهم - بل بهدايته لهم و توجيههم نحو الإيمان و الاستغفار. سواء في حياته الأولى التي كان فيها أو في حياته الثانية التي ينزل فيها. و هدايته للناس يومئذ يوازي بالضبط ما فهمناه من مصلحة نزول المسيح في مستقبل الدهر.

بقيت لدينا الفكرة العاشرة، و هي الثالوث المقدس... فهي فكرة باطلة زعم مؤلفو الأناجيل أن المسيح أوصى بالتبشير بها عند قيامه بعد مقتله بثلاثة أيام، ثم صعد إلى السماء. و قد قام البرهان القطعي على وحدانية اللّه الخالق الحكيم وحدانية مطلقة، كما هو مبحوث في كتب العقائد الإسلامية.

و أما قبل ذلك، أعني خلال الحياة الاعتيادية للمسيح، فلا يوجد في الأناجيل اهتمام حقيقي بالثالوث. نعم يوجد تطبيقات له خلالها كالتعبير عن اللّه عز و جل بالاب أو أبي أو أبوكم السماوي أو أبونا الذي في السماء، و كالتعبير عن المسيح بابن اللّه و نحو ذلك.

و قد فهم المسيحيون من ذلك كونه تطبيقا للثالوث المقدس. و لكننا يمكن أن نتبرع فنحمل أناجيلهم على الصحة، فنحمل الابوة و البنوة على المعنى المجازي الناشئ من أحد مستويات ثلاثة:

المستوى الأول: مستوى الخلق و التكوين. فكما ان الاب يكون سببا لوجود ولده، فكذلك يكون الخالق العظيم سببا لوجود العالم، سواء المسيح أو غيره، و البشر و غيرهم.

المستوى الثاني: مستوى فهم المصلحة. فان الخالق الحكيم أبصر بمصالح الفرد و المجتمع أكثر من البشر أنفسهم، كالاب بالنسبة إلى الطفل. و كما أن الاب حريص على مصالح ولده، فكذلك الخالق بالنسبة إلى البشر.

المستوى الثالث: مستوى الطاعة. فان الفرد المطيع و المجتمع المطيع للّه عز و جل، يكون - لا محالة - محبوبا له، أكثر مما يحب الوالد ولده بكثير. و كما ينبغي للابن أن يطيع والده، فكذلك الفرد و المجتمع بالنسبة إلى الخالق، و بدرجة أعلى

ص:485

و أوضح بكثير.

و هذا المستوى الثالث مشابه لما فهمناه من معنى (شعب اللّه المختار) القائم على أساس الطاعة؛ و لهذا تنتفي صفة المختارية و البنوة مع الخروج عن الطاعة بطبيعة الحال.

و هذه المعاني كلها خالية من نسبة المحاباة و التحيز إلى اللّه تعالى، كما يفهم اليهود؛ أو الابوة الحقيقية على غرار البشر، كما يفهم النصارى.

و لكن كل هذه المعاني لا حاجة إليها، بعد إسقاط هذا المعنى عن كونه شعارا دينيا في (الأطروحة العادلة الكاملة) - الإسلام، و سنشير إلى سبب هذا الإسقاط.

كما ان أيا من هذه المعاني لا تستلزم صحة الثالوث المقدس و لو مجازا، لبقاء (روح القدس) و كذلك ارتباطه بالاقنومين الآخرين، بلا تفسير.

كما أن هذه المعاني، تجعل خلافات المسيحيين في حقيقة العلاقة بين الاب و الابن بلا موضوع، كما هو واضح لمن يفكر.

و قد يكون للتعبير عن اللّه عز و جل بالاب، في ذلك المجتمع، تقريبا نفسيا نحو الإيمان، في عصر لم يكن الناس ليفهموا غير المعاني المتعارفة عندهم، و لم تكن أذهانهم تتحمل التدقيق. و من هنا نفهم دخله المرحلي في التخطيط التربوي للبشرية على تقدير وجوده.

و هذا السبب غير شامل للعصر الذي تكامل فيه الذهن البشري، و أصبح متقبلا لفهم (الأطروحة العادلة الكاملة) و تدقيقاتها. إذ أصبح في غنى عن استعمال هذا المعنى المجازي، و استطاع أن يعتاض عنه بمعانيه الحقيقية، و هي نسبة البشر إلى اللّه تعالى هي نسبة المخلوق إلى الخالق و المطيع إلى الآمر و المحتاج إلى المنعم. و هذا هو سبب حذف هذا المفهوم في الإسلام، كما أشرنا.

- 3 - بقي علينا التعرض إلى حادثة القبض على المسيح و محاولة قتله.

قد علمنا أن المسيح عليه السلام و وجه بشكل عنيف من قبل الشعب اليهودي المنحرف و من الكهنة المتعنتين المسيطرين و من الحكومة الرومانية المشركة. و نزداد الآن علما أنه عليه السلام واجه الخيانة من أحد حوارييه، و هو يهوذا الاسخريوطي الذي دل السلطات على مكانه بعد أن حكم المجلس اليهودي بإهدار دمه.

و لا حاجة إلى الدخول في تفاصيل الحوادث، فليراجعها القارئ في

ص:486

مصادرها، و انما المهم أن في مقتل المسيح (ع) أطروحتين رئيسيتين:

الأطروحة الأولى: انه مات مصلوبا، كما يموت الناس المصلوبون، بعد أن نجحت المؤامرة التي دبرت ضده.

و المفهوم أن اليهود و النصارى متفقون على هذا المقدار من الأطروحة إلا أن النصارى يضيفون طبقا لأناجيلهم: ان المسيح رجع إلى الدنيا مرة ثانية ثم صعد إلى السماء أمام طلابه.

الأطروحة الثانية: ان المسيح لم يمت كسائر الناس، و إنما تدخّل الخالق القدير عز و جل بطريق إعجازي في نجاته من هذه المؤامرة المدبرة، و رفعه إليه. إذن فقد صعد إلى السماء من دون أن يموت.

و هذا هو المطابق مع الفهم الكلاسيكي لدى المسلمين عموما، و يدل عليه ظاهر بعض آيات القرآن الكريم. و قد صرح به انجيل برنابا بوضوح(1)، و أعطى القصة تفصيلا.

و لا نريد الآن أن نرجح إحدى الأطروحتين على الأخرى. و إنما المقصود الآن أن نشير إلى موقع كل أطروحة - لو كانت صحيحة - من التخطيط الإلهي.

أما الأطروحة الأولى، فارتباطها به واضح و بسيط، فان المجتمع المنحرف الفاشل في التمحيص و البعيد عن خط النبوات، قد تسبّب إلى قتله. و اما قيامه بعد ثلاثة أيام، فهو ممكن عقلا، إلا أنه لا دليل على صحته، فان المظنون أن تكون رؤيته خيالا لطلابه، حيث تعجز النفس أحيانا عن تحمل الخبر بموت الزعيم أو القائد، فيخيل لها وجوده في الدنيا. و سوف نعرف أن هؤلاء الطلاب الناقلين لهذه الرؤية هم الأشخاص الرئيسيون الذين قاموا بتحريف المسيحية بعد المسيح. إذن فهم غير موثوقين في الإخبار عن هذه الرؤية. مضافا إلى أن هذه الفكرة واجهت نقودا قوية من قبل المسيحيين المحدثين(2).

و أما الأطروحة الثانية: فلا بد أن ننظر فيها إلى مستويين:

المستوى الأول: ان الصعود حادث (كوني) مفروض من خارج النطاق

ص:487


1- (1) انظر انجيل برنابا، ترجمة الدكتور خليل سعادة ص 320.
2- (2) انظر على سبيل المثال: شارل جنيبير في كتابه: المسيحية نشأتها و تطورها. ترجمة الدكتور عبد الحليم محمود، ص 49 و ما بعدها. و اميل لودفيغ في كتابه ابن الانسان ترجمة عادل زعيتر ص 205 ط 1947 مصر.

البشري. إذن، فهو واقع كجزء من التخطيط الكوني العام، لا التخطيط البشري على وجه التعيين. و معه لا نكون مسئولين عن بيان فلسفة دخله، لما قلناه من أن كثيرا من نقاط التخطيط الكوني، لا زالت خفية على العقل البشري.

المستوى الثاني: انه بالرغم من كون الصعود حادثا كونيا، غير أنه لا يخلو من الارتباط بالبشرية، باعتبار توقع رجوع المسيح إلى الدنيا في المستقبل، لكي يشارك في التخطيط الرابع من التخطيطات البشرية الستة التي تشكل بمجموعها التخطيط العام.

و من هنا يمكن القول: بأن لصعوده إلى السماء و بقائه فها ردحا من الزمن، أثرا في تكامله نفسه، في خط (تكامل ما بعد العصمة) الذي برهنا في (تاريخ الغيبة الكبرى)(1) على إمكانه لكل معصوم. و بهذه الروح حاولنا هناك طول عمر المهدي عليه السلام خلال غيبته الكبرى، طبقا للفهم الامامي. و يمكن تفسير المعراج النبوي على ضوئه أيضا... إلى غير ذلك من الحوادث.

و سيكون لهذا التكامل الذي يناله المسيح هناك أثره الكبير في عظمة قيادته في (دولة العدل العالمية)، إلى جنب المهدي (ع) القائد الأعظم الذي نال مثل هذا التكامل خلال العمر الطويل على الأرض، لا في السماء.

و أود في هذا الصدد الالماع إلى نقطتين:

الأولى: تشترك الأطروحة الثانية مع الأناجيل في فكرة صعود المسيح بروحه و بدنه إلى السماء. و تفترق معها بأن الأناجيل تخبر عن موته أولا ثم قيامه من قبره ثم صعوده إلى السماء. بينما ترى الأطروحة الثانية صعوده إلى السماء من عالم الحياة رأسا.

الثانية: اننا لو لم نأخذ بالأطروحة الثانية، فليس معنى ذلك اننا نكون ملزمين برفض فكرة عودته إلى الدنيا من جديد. و إنما يبقى ذلك ممكنا!! كل ما في الأمر أنه مات كسائر الناس، ثم يحيا إلى الدنيا من جديد. فإذا دل الدليل على رجوع المسيح، و كان ضروريا لا نجاح دولة الحق، مع افتراض صدق الأطروحة الأولى؛ كان الالتزام بحياته بعد الموت ضروريا بطبيعة الحال، و دخيلا في التخطيط الثالث، كما سيأتي.

هذا، و في الأناجيل تناقضات و تفاصيل علينا ان نتجاوزها الآن، محيلين إياها إلى الجزء الخاص بذلك من هذه الموسوعة.

ص:488


1- (1) انظر ص 504 و ما بعدها.

- 4 - مما مضى نعرف بكل وضوح، انه لو لا النص القرآني، فقد مات عيسى عليه السلام مقتولا و لم يخلف انجيلا و لا كنيسة و لا شريعة. نعم، خلف الذكر الجميل في قلوب الكثير من الناس، و بعض النصوص التي حفظها طلابه من كلامه، حين كان يعظ الناس و يعلمهم. و هي التي حاول خمسة من طلابه - بما فيهم برنابا - تسجيلها على الورق، فكانت الأناجيل و قد سمي كل انجيل باسم مؤلفه.

و زعم عدد من طلابه أنهم رأوا المسيح مرة أخرى بعد ثلاثة أيام من موته، و قد أوصاهم بعدة وصايا، منها: نشر المسيحية في العالم، و منها: التبشير بالثالوث المقدس!!! و أخبرهم: ان الروح القدس قد تلبست بهم فأصبحت لهم قابلية غفران الذنوب!!! كما أخبرهم انه لن يموت موتة أخرى، و انه سيعود.

و طبقا لهذه الوصايا انطلق الطلاب إلى خارج فلسطين لينشروا دين المسيح كما يرونه، فكتبوا الأناجيل و أسسوا أول كنيسة.

و حورب هؤلاء الطلاب و قتلوا، و عانت المسيحية دهرا من الاضطهاد، و خاصة في عهد نيرون عام 64 للميلاد، و أصبحوا يقتلون بالجملة. و بقي الحال على ذلك ثلاثمائة عام حتى دخل قسطنطين امبراطور روما في دين المسيحية، و جعلها دينا رسميا للدولة عام 312 ميلادية.

و منذ ذلك الحين بدأت تنظيمات الكنائس تبرز إلى الوجود، و أصبح (رجال الدين) طبقات يرأسهم البابا. كما ان الكنائس على طبقات متدرجة في الأهمية أيضا، و البابا هو الوريث الشرعي لطلاب المسيح تحل فيه روح القدس التي حلت فيهم. و هو (رسول الله) اي رسول المسيح. و هو معصوم باعتبار تلك الروح، و له حق التشريع.

و بدأت الخلافات الدينية تظهر بين المسيحيين و بدأت الطوائف الدينية تنقسم، حتى حكم بعضهم على بعض بالكفر و وجوب القتل. و ان الدماء التي سالت بين طوائف المسيحيين خلال التاريخ ليست بالقليلة.

و لا نريد الآن أن نروي هذا التاريخ، فليرجع فيه القارئ إلى مصادره. و إنما المهم ان كل هذه التجديدات في المسيحية متفرعة على صدق أولئك الطلاب الأوائل للمسيح عليه السلام و إخلاصهم له. فهل كانوا كذلك حقا!!؟.. و خاصة مؤلفو

ص:489

الاناجيل الأربعة و بولس(1).

إن ادعاءهم للاخلاص، بمجرده، لا يكفي بطبيعة الحال. كما أن نقل مدح أنفسهم عن المسيح في الانجيل، لا يكفي، لأن صدق هذا النقل متفرع على إخلاص الناقل قبل نقله. كما لا يكفي نشاطهم في نشر دعوة المسيح، لاحتمال أن يكون ذلك لأجل حب الظهور و الرئاسة الاجتماعية، بعد أن فتح لهم القدر فرصة ذلك، فدخلوا كفقرة في التمحيص الالهي من حيث لا يعلمون.

بينما نستطيع أن نقدم عنهم عدة نقاط ضعف:

النقطة الأولى: سوء تفسيرهم للدين العيسوي. فاننا لو نظرنا إلى الأفكار العشرة التي عرضناها فيما سبق، وجدنا لعدد منها فهما خاصا للمسيحيين قام البرهان على خطئه. فتكفير المسيح للذنوب يكون عن طريق الفداء لا عن طريق الهداية.

و الخضوع للسلطان يكون خضوع استكانة لا خضوع تقية. و عودة المسيح إلى الأرض هي لأجل نشر الدين المسيحي بمعناه الانجيلي أو الكنسي، لا لنشر الحق كيفما كان و أينما وجد.

النقطة الثانية: اعتبارهم يسوع المسيح ربا معبودا و انه تجسيد للوجود الالهي على الأرض. و هو ما قام البرهان القطعي على استحالته.

النقطة الثالثة: اعلانهم الثالوث المقدس، على أساس الفهم الخاطئ الذي يعني تعدد الأرباب المعبودين بشكل و آخر، أو التقسيم في الذات الالهية، و كله مما قام البرهان على استحالته.

النقطة الرابعة: تناقضهم في الأناجيل في نقل الحوادث، إلى حد لا يكاد يمكن للقارئ أخذ فكرة مسلمة بينهم. و لعل أوضح هذه الموارد اختلافهم في كيفية رجوع المسيح بعد موته و مواجهته لطلابه(2).

ص:490


1- (1) و هذا لا يعني المناقشة فيهم أجمعين. فقد يوجد بين طلاب المسيح من يكون صالحا تقوم الدلائل على إيمانه و إخلاصه.
2- (2) لعلنا نتوفر لذكر عدد من هذه التناقضات في الجزء الخاص من الموسوعة بهذا الموضوع. و نذكر هنا على سبيل المثال: أ - انفرد يوحنا في انجيله بأنه ظهر يسوع لتلاميذه ثلاث مرات (15/21). بينما الأناجيل الأخرى واضحة في المرة الواحدة. ب - انفرد متى بوصية المسيح بتعميد المسيحيين باسم الأب و الابن و الروح القدس (20/28). و لم يذكر الآخرون ذلك مع انهم كانوا بصدد استيعاب كلام المسيح و وصاياه. ج - انفرد لوقا بتصريح المسيح بأنه قتل من أجل تكفير خطايا الأمم (47/21-48). و لم يذكره الآخرون مع أنهم كانوا بصدد الاستيعاب. إلى غير ذلك من نقاط التهافت.

النقطة الخامسة: تضمينهم هذه الأخطاء في الأناجيل نفسها، بحيث أصبحت مبتنية على ذلك و منطلقة منه. فليتهم حين اعتقدوا بذلك سجلوه في كتاباتهم الخاصة كالرسائل المتأخرة عن الأناجيل الأربعة، و ينزهوا هذه الأناجيل منها.

و لكنهم ضمنوها هذه العقائد، و ان كانت فيما نقلوه من كلام المسيح ضعيفة غير واضحة. مما يدل على أنهم لم يجرءوا أن يدسوا ذلك، بنفس الوضوح، في كلام المسيح نفسه.

النقطة السادسة: إيجادهم فكرة التبرك بالصليب و اعتباره شيئا مقدسا، مع كونه الأداة المشؤومة التي سببت إزهاق الحياة عن نبيهم العظيم. و هذا غريب جدا، في أن يعتبر محل قتل النبي شيئا مقدسا!!...

و تترتب على هذه النقاط، عدة نقاط أخرى:

النقطة الأولى: ان هؤلاء الحاملين لنقاط الضعف السابقة، لا يمكن أن يكونوا موثوقين في النقل عن أستاذهم المسيح أو مخلصين في نشر دينه، كما يفهمه هو و يريده.

النقطة الثانية: ان هؤلاء المتصفين بذلك، لا يمكنهم أن يوجدوا المعجزات و قد نسبت إليهم في (أعمال الرسل) بصراحة(1). فلئن كان المسيح عليه السلام نبيا قادرا على إيجاد المعجزات من أجل إقامة الحق و هداية الخلق. فان هؤلاء الطلاب، لا يمكن فيهم ذلك، لأن دعوتهم مشوبة بالباطل، و لا يمكن للباطل أن يحقق أية معجزة.

النقطة الثالثة: و هي الأهم لمقصودنا، ان العقيدة العيسوية لم تعرف و لم تفهم دينيا و لا تاريخيا و لا اجتماعيا، إلا من كلام أصحابه، حتى الأناجيل، من حيث كونها من تأليفهم. و يستحيل على الأجيال غير المعاصرة لشخص المسيح التعرف على حقيقة كلامه و تصرفاته. فإذا كان طلابه قد حملوا عقيدته إلى العالم بشكل مزور، يختلط فيه الحق بالباطل، إذن، فقد انقطع الطريق تماما إلى معرفة المسيح بحقيقته و اندرست تعاليمه بالمرة. و لم يخلف المسيح من أثر في النفوس غير مجرد الاحترام لشخصه.

و من الطريف ان المسيحيين أصبحوا يحسون بذلك تدرجا... و بين يديّ

ص:491


1- (1) انظر مثلا: 13/5 و 11/12 و 27/16 و 12/19-13 و غيرها كثير.

الآن كتابان كلاهما يحمل هذه الفكرة و يؤكدان على أن العقيدة المسيحية المعاصرة بكل أشكالها، لا تمثل يسوع المسيح على الاطلاق. و هذان الكتابان هما: «المسيح ليس مسيحيا» لبرنارد شو(1)، و «المسيحية نشأتها و تطورها» لشارل جنيبير(2).

و لعل في ذمة التاريخ كتبا و أفكارا أخرى حول ذلك.

هذا، و ان وصول هذه التشكيكات إلى المسيحيين أنفسهم، يعني أمرا مهما في التخطيط الالهي، لعد أسباب:

أولا: ان المسيحية - كما أعلنها الطلاب و فسرها رجال الدين - عاشت تاريخا تمحيصيا طويلا، لأن العقائد تعيش التمحيص و التجربة كالأفراد، كما أسلفنا. و ها قد بدأ هذا التمحيص ينتج نتيجته.

ثانيا: ان الكنيسة قد مرت بالتجربة نفسها أيضا، و قد أنتج تمحيصها نتيجته، بعد أن عاشت الأجيال مقدار ما أنزلته الكنيسة بالمجتمع من ويلات و ما تبنته من أفكار خاطئة عن الكون و الحياة. كما عاشت الأجيال: كيف كفرت النهضة الأوروبية الحديثة بالكنيسة، و كيف أوجبت تصرفات الكنيسة رجوع الناس عن دينهم إلى المادية المتطرفة، بدلا عن هدايتهم. و ها نحن نرى أفكارا مسيحية متدينة تكفر بالفكر المسيحي التقليدي، حتى و ان أعربت عنه الأناجيل ابتداء بمارتن لوثر و انتهاء ببرنارد شو.

ثالثا: ان هذه التشكيكات تعطي أرضية واضحة و صالحة للفحص عن حل جديد لمشكلات العالم، و إنقاذه من ورطته الكبرى... مما ييسر لأن تشق (الأطروحة العادلة الكاملة) في اليوم الموعود أيسر طريق.

ص:492


1- (1) ترجمة جورج فتاح. دار الطليعة للطباعة و النشر، بيروت.
2- (2) ترجمة الدكتور عبد الحليم محمود ط: المكتبة العصرية، صيدا - بيروت.
الجهة الثانية في الديانات الفارسية و الهندية

نود في ما يلي أن ندمجهما في جهة واحدة، بالرغم من أننا جعلناهما في عنوان هذا الفصل جهتين، و ذلك: لأن الحديث عنهما متشابه عموما، كما سنرى.

- 1 - كان هناك مناطق بشرية آهلة بالسكان غير قليلة العدد، و من هنا لا يمكن إهمالها في التخطيط، و لا يمكن أن لا تشملها هداية النبوات. على حين تعتبر بعيدة عن المنطقة التي وجد فيها الخط الرئيسي للنبوات... تلك هي البلاد الشرقية لهذه المنطقة، ابتداء بفارس و انتهاء بالهند و الصين.

و لم يكن في إمكان الخط الرئيسي للنبوات، بالرغم من عالميته، إيصال دعوته إلى تلك البلاد، بالوسائل المتوفرة في تلك العهود... و بهذا يتبرهن أن هناك أنبياء مرسلين في تلك المناطق في الجملة.

و المظنون أن النبوات بدأت هناك بعد عصر ابراهيم الخليل عليه السلام، لأن البشرية في ذلك العهد كانت في تلك المناطق منعدمة أو قليلة لا يهم وجود الأنبياء فيها - أو على الأقل - لا نستطيع أن نعرف عنها في ذلك العهد خبرا واضحا.

نعم، طبقا لما عرفناه من القواعد، لو كانت هناك بشرية كافية و بدائية إلى حد ما، لزم افتراض وجود أنبياء على مستواهم فيها، و ان لم يكونوا معروفين.

و المهم الآن هو التعرض إلى العصر المتأخر عن ذلك نسبيا.

و لعل ابراهيم الخليل نفسه استطاع، بشكل و آخر، أن يوصل دعوته إلى تلك البلاد، في ضمن تجولاته الطويلة في الأرض. فبذر هناك بذور التدين المبتني على مستوى الوعي و التفكير. و لعله كان أول نبي يصنع ذلك هناك، في حين كان الأنبياء الواعون قد بدءوا في الشرق الأوسط، قبل ذلك بعهد غير قصير.

ص:493

و من هذه الدعوة، بدأ خط التدين العام هناك، الذي ساعد على رقي الفكر البشري لتلقي النبوات المتأخرة. و قد بقي هناك جماعة اقتصروا على تلك الدعوة و لم يؤمنوا بالأنبياء المتأخرين، فخرجوا بذلك عن مواكبة التخطيط الالهي. و سموا بالبراهمة أو البرهمية، و سموا الاله: براهما... الذي يعني - طبقا لهذا التسلسل الفكري -: إله ابراهيم.

- 2 - و بعد أن نجح هذا الاتجاه في تربية البشرية، بدأ خط معمق من النبوات ذات المفاهيم العقائدية - أولا - و مستوى لائق من التشريع، ثانيا.

و أهم من وجد في فارس «زرادشت»، و في الهند «بوذا» و في الصين «كنفوشيوس».

و تعاليمهم من حيث العقائد و الأخلاق، تكاد تكون متشابهة تدعو إلى الأخوة و التراحم و الزهد و عبادة الاله الواحد القادر الحكيم. و تؤمن بحرية الارادة للبشر، كما تؤمن بوجود المسئولية تجاه الاله و انه يحاسب و يثيب و يعاقب في حياة أخرى.

و هي قليلة التشريعات - على ما يبدو من المصادر - فلا تكون مستوعبة لكل جوانب الحياة. و قد أخذت منطقة كل واحد منهم بنظر الاعتبار في صياغة شريعته.

و لم تكن دعوات قبلية، و لكنها لم يعرف عنها انها ادعت عالمية الدعوة.

فلو كان الأمر قد اقتصر على ذلك، لوصلت البشرية هناك بمثل هذه الدعوات، إلى مستوى يكاد يكون مشابها للمستوى الذي وصلته من خلال النبوة الموسوية في الشرق، أعني قبل وجود المسيح بقليل.

و تتابع المصلحون الدينيون بعد ذلك ردحا من الزمن، مما لا حاجة إلى الدخول في تفاصيله.

- 3 - صحيح انه لا دليل من الناحية الاسلامية على نبوة هؤلاء المشار إليهم. لأن نبوات الشرق الأدنى لم تتعرض إلى نبوات الشرق الأقصى بقليل و لا كثير، لكي تعترف بها أو تنكرها. و ذلك لوضوح ان مجتمع الشرق الأوسط لم يكن يحمل همّ الشرق الأقصى على الاطلاق، و لم يخطر بباله ان يفكر فيه. و لا بد للنبوات ان تواكب المستوى العام للمجتمع و لا تكلفه من الحقائق أكثر مما يطيق. و كان ذكر هذه النبوات القصوى، مما لا يطيقها فكر الشرق الأوسط على كل حال، فقد كان ذلك أوسع من

ص:494

أفق تفكيره.

إلا اننا نستطيع ان نذكر نبوة هؤلاء كأطروحة محتملة، نحاول ان نجمع عليها القرائن. و الحق ان كل القرائن إلى جانبها، و ليس هناك من القرائن ما يخالفها، على ما سنذكره.

فاننا ان انطلقنا من قاعدة اللطف، كان لزاما على الله تعالى ارسال الأنبياء إلى أولئك البشر المحرومين من الخط الرسمي للأنبياء. و إذا انطلقنا من زاوية التخطيط الالهي، كان سكان تلك المناطق الضخمة في العالم في حاجة إلى تربية كسائر الناس.

و ان التخطيط العام لا يمكن ان يقتصر على بعض البشر بطبيعة الحال. و بدون الأنبياء تكون التربية الايمانية متعذرة. اذن، فالانبياء موجودون هناك لا محالة.

فاذا ضممنا إلى ذلك، ما يروى في التاريخ من نزاهة هؤلاء الأشخاص في حياتهم الشخصية، و وضوح دعواتهم و صحتها بحسب ما نعرفه من براهين و لم تكن دعواتهم موجودة قبل زمانهم على المستوى الذي أعلنوه، اذن فهي خطوة إلى التكامل في التخطيط الالهي. اذن، فالانبياء الذين لا بد من وجودهم هناك، هم هؤلاء الأنبياء، إذ لو كان هناك انبياء آخرون لكان بقاء ذكرهم أولى و أوضح من هؤلاء، على حين قد تحقق العكس.

- 4 - يبقى هنا سؤال واحد مهم، ينبغي الاجابة عليه. و هو ان اتباع هؤلاء الآن على درجة كبيرة من الانحراف، بحسب ما نعرف من الحقائق، حيث تسود أفكار و طقوس كعبادة النار و الابقار و الأصنام، و الاعتقاد بوجود الهين أو عدة آلهة في العالم، و غير ذلك. فلا بد أن تكون هذه التعاليم موروثة عن أولئك الزعماء و معه، لا يمكن أن يكونوا أنبياء إذ لا يمكن أن يكون للأنبياء دعوة إلى الباطل.

مضافا إلى انه لمن يعرف عنهم ادعاء النبوة، و انما اعتبروا أنفسهم مجرد مصلحين للمجتمع. فكيف نحمل عليهم ما لا يريدون.؟ و ينطلق الجواب على ذلك من عدة نقاط:

أولا: ان ما ينقل في تراجم هؤلاء، في سلوكهم الشخصي و دعواتهم التي ذكروها مباشرة، صالح إلى حد كبير و خال من كل هذه الانحرافات المذكورة في السؤال. فاذا علمنا ان هذه العقائد المنحرفة لا تنسجم مع ما هو منقول عنهم من الأفكار الصالحة، استطعنا الاطمئنان بأن هذه العقائد المنحرفة غير صادرة عنهم بل منسوبة إليهم زورا في الزمان المتأخر.

ص:495

ثانيا: ان المستوى الفكري العام، لم يكن يساعد - بطبيعة الحال - على إيضاح كل الحقائق المجردة جملة و تفصيلا. و انما كانت الحقائق تذكر تدريجا و بالمقدار المناسب.

و معنى ذلك ان هناك عددا من الحقائق، تبقى غير مبينة للناس، باعتبار صعوبتها على المستوى العام. و هذا هو ديدن النبوات قبل نزول (الأطروحة الكاملة).

و يستلزم خفاء تلك الحقائق، ان الناس قد يلتفتون إلى هذه المشكلات، تدريجا، و لا يجدون في شرائعهم أو تعاليمهم حلالها، فيضعون لها حلا من افهامهم الخاصة، و يعتبر ذلك بالتدريج حلا دينيا، فيصبح الدين الذي يؤمنون به خليطا من الحق و الباطل.

ثالثا: ان هذه الدعوات، لم تمارس نشر افكارها بالسيف عن طريق الجهاد.

و معنى ذلك: انها اهملت حمل هموم هداية العالم في انفس المؤمنين بها. و لا بد أن يكون ذلك لعدم مساعدة الظروف الموضوعية لذلك.

و يستلزم ذلك - في الذهن الساذج - التقوقع في الايمان، و الشعور بمحدودية الدعوة في منطقة معينة، و ان كل ما في هذه المنطقة من أفكار و تقاليد هو معترف به من قبل تلك النبوة، ما لم تنص على الغائه أو النهي عنه. فيكون هذا بابا واسعا لأن ينسب إلى الدين ما ليس منه.

و نتيجة لهذه النقاط و نحوها، يمكن ان نفهم الجواب عن السؤال الرئيسي و هي ان مضاعفات الانحراف غير موروثة عن الأنبياء أنفسهم، و انما ناتجة عن المجتمع الحاوي على عدد من نقاط الضعف.

و بمثل ذلك يمكن ان يفسّر خفاء ادعائهم للنبوة؛ كما يمكن ان يكونوا قد اهملوا ذلك بأنفسهم، لمصلحة معينة أو لعدم استيعاب المجتمع لفكرة النبوة. و قد سمعنا عن زرادشت انه ادعى النبوة، و لعل الآخرين قد ادعوها و لم تف المصادر بذلك.

و لا يخفى ان التشويه إذا بلغ إلى هذه الدرجة، كتحول بوذا من نبي مربّي إلى صنم معبود، و غير ذلك، فانه يعيق ما توخّته النبوة نفسها من التربية المطلوبة، إلى حد غير قليل.

صحيح، اننا قلنا ان النبوات تربي المستوى العام للمجتمع سواء المؤمنين بها أو الكافرين، إذ يكفي مجرد الالتفات إلى المعاني المعينة التي يقولها نبي معين، إلى انفتاح

ص:496

الذهن. و اما الايمان فهو يعني الانسجام مع الأهداف العليا بالاضافة إلى التربية.

و لكن كل ذلك، فيما إذا كانت تعاليم النبي معلنة و مفهومة اجتماعيا على واقعها أو قريبا من الواقع؛ و اما لو انسلخت تماما عن واقعها، و عادت مرة أخرى إلى الشكل البدائي، و لم يبق من التعاليم الأصلية إلاّ ما يوازي التقاليد الشكلية، فان النبوة تفقد حينئذ فاعليتها التربوية الاجتماعية لا محالة. و كل ما يمكن قوله - اذا اردنا الاحتراس في القول -: ان التربية لا تنحطّ مرة أخرى عن المستوى الذي استطاعت تلك النبوة ايصالها إليه، و انما تمنع هذه الانحرافات عن التطور الزائد الذي كانت تعاليم تلك النبوة قابلة لإيصاله إلى البشرية لو لا هذه الانحرافات.

- 5 - و بقي الحال في المنطقة التي نتحدث عنها على ذلك، اعني انها تستقبل الأنبياء المرشدين، و لو بقدر محدود، حتى وصلت الحضارة البشرية إلى درجة يمكن من خلالها لنبوات الشرق الأوسط ان توصل صوتها إلى تلك المنطقة، فانقطعت النبوات هناك، و تحولت هداية تلك المنطقة إلى نبوات الشرق الأوسط نفسها.

و لعل الشرق الأوسط كانت له الحضارة الكافية التي يبحر بها إلى الهند و الصين، قبيل ميلاد المسيح أو خلال فترته الأولى. أما ايران و باكستان و افغانستان و تركستان، فكان الوصول إليها ميسورا و متوفرا. و أما بعد دخول الدولة الرومانية في دين المسيحية بدخول الامبراطور أوغسطين فيه عام 312 ميلادية(1)... فقد اصبحت سيطرة الدولة المسيحية على العالم واضحة.

و هذا هو الذي يفسر لنا انقطاع النبوات عن تلك البلاد من ذلك التاريخ. فان المهم في التخطيط الالهي هو وصول الدعوة النبوية إلى البلاد، سواء كان النبي من أهل البلاد أو لم يكن. على ان توجيه العالم تدريجيا نحو مركز نبوي واحد، ضروري بالنسبة إلى إنجاح التخطيط العام. و من الضروري ان يكون ذلك قبل نزول (الأطروحة العادلة الكاملة) لتكون هذه الأطروحة عالمية الاعلان فور نزولها. و قد تم ذلك فعلا. و استطاع الاسلام أيضا ايصال دعوته إلى أقاصي تلك البلاد بعد اعلانه بزمن غير طويل. سواء في ذلك المراسلات التي عملها نبي الاسلام مع الحكام الرئيسيين في العالم يومئذ، أو الفتح العسكري الذي باشره (ص) شخصيا و استمر

ص:497


1- (1) قصة الديانات. سليمان مظهر، ص 441.

بعده عدة قرون. و لكن بعض الأمور التي عرفناها في الفقرة السابقة منعت من سرعة سير الاسلام في الهند و الصين، مضافا إلى بعد المنطقة عن مركز الدعوة. و من هنا بقي كثير منهم على اديانهم الأولى، و رفضوا التربية النبوية الجديدة، فخرجوا عن الانسجام مع التخطيط العام.

خاتمة في نتائج التخطيط الثاني

و إذا اردنا أن نحصي نتائج التخطيط الثاني الذي نكاد ان ننتهي من بحثه، و نفحص مستوى الفكر البشري في نهايته، وجدنا الحقائق التالية كحقائق مفروغ منها، تصلح كمنطلق جديد لتربية أوسع و أعمق.

أولا: الله تعالى هو الخالق القادر الحكيم.

ثانيا: انه يخاطب البشرية عن طريق أنبيائه و كتبه.

ثالثا: اتساع النبوات عن المستوى القبلي.

رابعا: ان التدين مبتن على طاعة الله من ناحية، و حسن العلاقة بالآخرين من ناحية أخرى.

خامسا: ان النبوات تقترن بالتشريع، و من حقها إيجاد التشريع.

سادسا: وجود الحياة بعد الموت للثواب و العقاب، بشكل مجمل غير مفصل.

سابعا: ان النبي من حقه ان يمارس تطبيق أحكامه على المجتمع بنفسه، أي أن يمارس الحكم فيه، و يستخلف عليه من يشاء.

ثامنا: ان دعوة الحق عموما من حقها أن تنتشر بالسيف، و تمارس الحكم الفعلي على البلاد المفتوحة. و قد مارس موسى (ع) و خلفاؤه ذلك.

تاسعا: انه مع وجود نبوة متأخرة، و ثبوت صدقها بالبرهان، لا معنى لا طاعة تعاليم النبوة السابقة، بل تكون الثانية هي السارية المفعول لا محالة.

عاشرا: من حق التشريع الشمول لمختلف مناحي الحياة و حقولها، في

ص:498

الجملة.

حادي عشر: ان البشرية لها مستقبل سعيد ترتفع فيه المظالم و تنحل فيه المشاكل، و يكون القائد و التشريع السائد فيه منطلقين من منطلق الحق و العدل.

و قد أصبح المجتمع معتادا بالتدريج على هذه الحقائق. و هو معنى نموه الفكري، و قابليته لفهم الدعوة الجديدة. و هي و ان لم تكن كلها واضحة في ذهن كل الأفراد... إلا اننا لو سألنا «الاتجاه الاجتماعي العام» عن أي حقيقة من ذلك لآمن بمشروعيتها على الأقل إن لم يؤمن بصدقها.

إذن، فقد حقق التخطيط الثاني غرضه، و استعد الفكر البشري لتلقّي (الأطروحة العادلة الكاملة) متمثلة بالاسلام، على ما سنذكر... و به بدأ التخطيط التالي...

التخطيط الثالث المنتج لليوم الموعود أو قيام دولة العدل العالمية

اشارة

- 1 - يتبرهن على ان الاسلام هو الأطروحة العادلة الكاملة التي تمثل الأساس العقائدي و الأخلاقي و التشريعي لدولة العدل العالمية... يتبرهن ذلك(1)بالالتفات إلى عدة خطوات:

الخطوة الأولى: البرهان على صحة الاسلام كدين من الأديان، و انه نازل من السماء غير نابع من الأرض. و هذا البرهان مذكور في كتب العقائد الاسلامية، لا حاجة إلى الدخول في تفاصيله.

الخطوة الثانية: البرهان على عالمية الدعوة الاسلامية.

و حاصل هذه الخطوة، اننا بعد ان ننتهي من الخطوة الأولى، فيثبت صدق الدين و القرآن الكريم، نستشهد به لا ثبات ان دعوته عالمية، كما نطق بها نفسه في عدد

ص:499


1- (1) انظر فكرة مختصرة عن ذلك في تاريخ الغيبة الكبرى للمؤلف ص 261.

من آياته، كقوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً (1).

و غيرها.

الخطوة الثالثة: البرهان على ان الرسالة الاسلامية هي آخر رسالة أو نبوة في البشر، بمعنى ان شريعة أخرى لن ينزل بها نبي جديد. و هذا من الضروريات في الدين الاسلامي. لقوله عز و جل:

ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ، وَ لكِنْ رَسُولَ اللّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ (2).

و قوله (ص) - في الخبر المستفيض -: لا نبي بعدي.

و ينتج من هذه الخطوات الثلاث عدة نتائج:

النتيجة الأولى: إن كل من ادعى النبوة أو جاء بشريعة مستقلة عن الاسلام منسوبة إلى الخالق عز و جل، فهو كاذب و كل من تابعه فهو كافر.

النتيجة الثانية: إن البشرية سوف تبقى مع هذه الشريعة حتى نهايتها.

فاننا بعد أن نبرهن على استحالة بقاء بعض البشر من دون تشريع سماوي (و قد سبق أن أعطينا عن ذلك فكرة كافية)، و نعلم أنه ليس هناك شريعة أخرى آتية، إذن يتعين بقاء الاسلام إلى آخر وجود البشر.

النتيجة الثالثة: إن البشرية سوف تستغني بالعدل الناتج عن تطبيق الاسلام عن أي شريعة جديدة. و إلا لو كانت ناقصة و غير مغنية، أو كانت مرحلية تربويا، لكان اللازم - طبقا لقاعدة اللطف و للتخطيط العام معا - إرسال شرائع أخرى حتى تصل البشرية إلى العدل الكامل الذي تستغني به البشرية، و لكان ختم النبوات بالاسلام خطوة غير صحيحة.

و حيث ان انتهاء النبوات بالاسلام ثابت بالضرورة، إذن، يمكن للبشرية أن تستغني بتطبيقه عن كل تشريع.

النتيجة الرابعة: إن بشرية ما بعد الاسلام سوف تمر باليوم الموعود، يوم تطبق دولة العدل العالمية على وجه الأرض، و حيث لا يوجد يومئذ شريعة سماوية ناجزة غير الاسلام، لأن النبوات السابقة ارتفع تأثيرها بوجود الاسلام... و ليس هناك نبوات متأخرة... كما لا يمكن أن يكون القانون في تلك الدولة وضعيا، على ما سوف نذكر؛ إذن، يتعين أن يكون قانون الاسلام هو الذي سيطبق في تلك الدولة

ص:500


1- (1) الأعراف 158/7.
2- (2) الأحزاب: / 40.

الموعودة، الواقعة في خط التخطيط الالهي العام.

إذن ينتج ان البشرية تستغني عن أي تشريع آخر، حتى خلال الدولة العالمية، بل يستمر حتى وجود المجتمع المعصوم... إذن، فالاسلام هو الذي يربي البشرية كل هذه التربية الدقيقة الطويلة.

و حيث لا يمكن للأطروحة التشريعية بهذه المهمة الكبيرة، ابتداء من الدولة العالمية و انتهاء بالمجتمع المعصوم، لا يمكن أن تكون ناقصة أو ضيقة أو مجملة، أو تتضمن ظلما أو إجحافا، فإن كل ذلك مما ينافي هذه المهمة الكبرى و يخل بها، فيكون مخلا في النهاية بالتخطيط العام و بأهدافه، إذن، يتعين أن يكون الاسلام هو (الأطروحة التشريعية العادلة الكاملة) و هو المطلوب.

- 2 - و قد اقتضت المصلحة في التخطيط العام وجود الاسلام في أول أمره في شبه الجزيرة العربية، لعدة مصالح يمكننا أن ندركها:

المصلحة الأولى: جانب السذاجة العقائدية التي كان يتصف بها المجتمع العربي، الأمر الذي يغني الاسلام عن جهود إضافية في الجدل العقائدي. و هذا ما لم يكن متوفرا في المناطق الأخرى التي كانت تسودها أديان قبيلة أو اقليمية و عقائد منحرفة.

المصلحة الثانية: انهم مهما كانوا عليه من السذاجة، فان التخطيط الثاني، كان قد أنتج نتيجته فيها على أحسن وجه، و أصبح المجتمع قابلا لفهم الأطروحة الجديدة على أفضل وجه. فإن السذاجة كانت ناشئة من عدم وجود الفكر العالي، لا من عدم القابلية له.

المصلحة الثالثة: إن شبه الجزيرة كانت بعيدة عن القوى الكبيرة في العالم التي يمكن أن تقضي على الاسلام في مهده. و لم يكن في هذه المنطقة أية قوة مهمة. و إنما كانت هناك قبائل متناحرة بدون حكم مركزي.

المصلحة الرابعة: استراتيجية هذه المنطقة بالنسبة إلى مناطق العالم الأخرى المنظورة يومئذ و الممكن الوصول إليها في ذلك العهد. و هي القارات الرئيسية الثلاث. و ذلك باعتبار توسطها بينها، مما ييسر نشر الدعوة سواء على مستوى الاعلان، أو على مستوى التطبيق.

المصلحة الخامسة: وجود خط الحنيفية الخالصة في تلك المنطقة، ذلك الخط

ص:501

الموروث عن ابراهيم الخليل (ع). و الذي استطاعت لمة من الناس المحافظة عليه بدون انحراف. و قد وجد الاسلام في ضمن هذا الخط و اعترف به و قدسه.

و المحافظة على هذا الخط، هو الذي يميز هذه المنطقة عن اليهود، فانهم و إن كانوا وارثين لهذا الخط أيضا، إلا أنهم خلطوه بكثير من الأخطاء و الانحرافات، بحيث لم يبق لها وجود واضح في مجموع المعتقدات اليهودية.

المصلحة السادسة: و هي قد ترد في بعض الأذهان.

إن من جملة هذه المصالح ما يتصف به العرب من العصبية، بحيث لا يؤمنون بنبي ليس منهم. فلو كان النبي غير عربي لما آمن به العرب، بخلاف ما لو كان عربيا، فإن غير العرب يؤمنون به لعدم وجود هذا المقدار من العصبية لديهم. و حيث يراد نشر هذا الدين بين جميع الفئات و القوميات في العالم، كان لا بد من وجوده بين العرب.

إلا ان الصحيح ان هذه المصلحة وحدها غير كافية؛ إذ لو كانت العصبية وحدها هي الدافع لوجود النبي بين العرب، للزم وجود هذا الدين بين اليهود، لاتصافهم بمقدار أكبر من العصبية، لأن لهم بها جانبا دينيا و جانبا قبليا، على حين لم يكن للعرب إلا الجانب القبلي.

على أنه لا دليل على وجود العصبية العربية بين العرب، بمعنى انهم يشعرون بعروبتهم. فإن تناحرهم القبلي دال على خلاف ذلك. و إنما كانت لهم عصبيات قبلية ضيقة، و لم يكن ذهنهم قد اتسع إلى مستوى القومية فضلا عما هو أوسع منه.

نعم، قد تكون هذه المصلحة ممثلة لجانب من مجموع المصالح، لا ان تقوم بالمصلحة وحدها. و هي - على أي حال - غير مهمة إلى جانب المصالح الأخرى التي ذكرناها. على أن تعداد هذه المصالح ليس على نحو الحصر، فربما كانت هناك مصالح أخرى.

- 3 - و قد سار الاسلام بالحقائق التي نجزت و تمت في التخطيط الثاني، سار بها خطوات جديدة فوسّع فيها و عمّقها.

و لا يمكن هنا استقصاء حقائق الاسلام، و إنما نعطي أفكارا عن أهم تلك الحقائق:

أولا: انه بلغ في توحيد الخالق و تنزيهه و لا تناهيه في القدرة و الحكمة و الوجود، أقصى الحدود، بشكل لم يكن قد أعطي بوضوح في أي شريعة

ص:502

سابقة.

ثانيا: إن شريعته أصبحت مستوعبة لكل جوانب الحياة، مالئة لكل ثغرة و مجيبة على كل سؤال و حالّة لكل المشاكل. و ذلك على المستوى التشريعي الذي لا يكون منتجا إلا بالتطبيق. و لا مجال الآن للبرهنة على هذا الاستيعاب.

ثالثا: انه أعلن الدعوة العالمية بصراحة، في القرآن الكريم، و حديث رسول الاسلام (ص)، كما هو غير خفي على من راجعهما.

رابعا: انه مزج بين الدعوة السلمية و الحربية معا. و حث على الجهاد في نشر الاسلام في ربوع المعمورة.

خامسا: انه أسس دولة كاملة حسب المفهوم يومئذ، و دعا إلى تأسيسها في كل مجتمع يؤمن بالاسلام. و أوضح أنه بدونها يكون التطبيق الديني الاسلامي ناقصا. و قد مارس النبي (ص) لأول مرة هذه الدولة بنفسه.

سادسا: انه حث على التكامل العلمي و الذهني عن طريق التفكير و الجدل البنّاء الحرّ. و قد أمر به القرآن الكريم و طبقه في نقاشه مع عدد من الآراء الخاطئة.

سابعا: انه بينما كانت معجزات الأنبياء السابقين التي تكون دليل صدقهم، معجزات وقتيّة زائلة بزوال زمانها، جاء الاسلام بمعجزة طويلة الأمد باقية بقاء الدهر، معاصرة لكل الأجيال. و هي القرآن الكريم، كما هو مبرهن عليه في كتب العقائد الاسلامية.

ثامنا: انه أوضح بجلاء أن «اليوم الموعود» سيكون منطلقا من شريعته، و ان القائد الأعظم في ذلك اليوم سيكون قائدا إسلاميا، و ان الناس جميعا سيكونون مسلمين نتيجة للجهود المبذولة يومئذ. و كان ذلك مطابقا للتخطيط العام الذي عرفناه و برهنا عليه.

و هذا ما لم تكن النبوات السابقة قد أوضحته، و ان دسته التحريفات الاسرائيلية في التوراة بالنسبة إليهم، و انهم - دون غيرهم - قادة اليوم الموعود.

تاسعا: انه أعطى بوضوح الهدف من وجود البشرية بصراحة:

وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ (1).

ص:503


1- (1) الذاريات 56/51.

و أشار إلى الأهداف الكونية إجمالا:

رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً (1).

وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ، ما خَلَقْناهُما إِلاّ بِالْحَقِّ (2).

عاشرا: انه أعطى تفاصيل كثيرة للحياة الأخرى، و اخرجها من الغموض الذي كانت عليه إلى مستوى كاف و مفصل من الوضوح.

إلى غير ذلك من الحقائق الكبرى التي لم يكن لها وجود، أو لم يكن لها وضوح في الديانات السابقة، أو في نتائج التخطيط السابق. و هي حقائق واضحة في الاسلام، و متسالم على صحتها بين كل المذاهب الاسلامية.

- 4 - و قد سار التخطيط الثالث، بعد نزول الأطروحة العادلة الكاملة، في عدة خطوط متوازية:

الخط الأول: تعميق الفهم العام لهذه الأطروحة، في خط تربوي فكري طويل. سواء في تدقيق أو تفسير الأفكار الاسلامية من جميع النواحي العقائدية و الفقهية و الأخلاقية و غيرها. و قد أوضحنا ذلك في تاريخ الغيبة الكبرى(3).

مفصلا.

و قد فهمنا هناك أن هذا من فوائد تأخر التطبيق العالمي عن نزول الأطروحة الكاملة. إذ لو لا هذا التعميق لما أمكن لهذه الأطروحة أن تقوم بالتطبيق الكامل في اليوم الموعود، كما برهنا عليه هناك.

الخط الثاني: تحقيق الشرط الثاني من شرائط اليوم الموعود، و هو إيجاد القائد المؤهل للقيادة العالمية العادلة. و هذا هو التخطيط السادس من التخطيطات الاثني عشر السابقة. و قد عرفنا أنه أحد فرعي هذا التخطيط الثالث الذي نتحدث عنه.

و قد ذكرنا في تاريخ الغيبة الكبرى(4) الفكرة الكافية لهذا التخطيط، فلا حاجة إلى التكرار.

ص:504


1- (1) آل عمران 191/3. و اسم الاشارة راجع إلى خلق السماوات و الأرض في الآية.
2- (2) الدخان 38/44-39 و انظر الأنبياء: 16/21-17.
3- (3) انظر ص 278 و ما بعدها.
4- (4) انظر ص 497 و ما بعدها.

الخط الثالث: تحقيق الشرط الثالث من شرائط اليوم الموعود، و هو إيجاد العدد الكافي لغزو العالم في ذلك اليوم، و إقامة دولة العدل العالمية. و هو التخطيط السابع من التخطيطات السابقة.

و قد حملنا فكرة مفصلة عن ذلك، في تاريخ الغيبة الكبرى(1)، و تاريخ ما بعد الظهور، فلا حاجة إلى التكرار.

و هذه الخطوط الثلاثة هي التي تشكل هذا التخطيط الثالث. و بوجود نتائجها يكون هذا التخطيط قد بلغ غايته و حقق غرضه، و تكون دولة الحق العالمية على و شك الوجود فورا.

و المهم الآن هو التعرض إلى بعض تطبيقاته الرئيسية التي عاشها التاريخ الاسلامي إلى العصر الحاضر. فان هذا التخطيط هو الذي تعيشه البشرية فعلا، بصفتها تعيش الفترة المتخللة بين وجود الأطروحة العادلة و التطبيق الكامل.

و يحسن التعرض إلى التطبيقات الآتية:

أولا: انحراف القيادة الاسلامية فترة طويلة من الزمن، ثم زوالها أخيرا.

ثانيا: انقسام المسلمين إلى عدة مذاهب.

ثالثا: وجود المادية المتطرفة المعمقة، كالماركسية و غيرها، و وجود التحلل الخلقي عموما في العالم.

رابعا: غيبة الامام المهدي عليه السلام، و طول عمره طبقا للفهم الامامي.

و قد ذكرنا تفاصيل التطبيقين الآخرين في «تاريخ الغيبة الكبرى»(2).

و نذكر هنا فكرة ملخصة لمدى أهميته و ارتباطه بصلب الموضوع.

و أما التطبيقين الأولين، فسنذكرهما على مستوى (الاسلام العام) الخالي من العواطف المذهبية جهد الامكان... و ان كان يمكن أن يتخذ صيغة أكثر تحديدا طبقا للفهم المذهبي.

ص:505


1- (1) انظر ص 246 و ما بعدها.
2- (2) انظر التطبيق الثالث ص 268 و انظر التطبيق الرابع ص 511 و ما بعدها أيضا ص 514 و ما بعدها.

- 5 - التطبيق الأول: انحراف القيادة الاسلامية، أولا. و زوالها - بعد ذلك - ثانيا.

و هذا الانحراف على إجماله، مما تساملت عليه المذاهب الاسلامية الرئيسية. و هذا المقدار يكفينا لهذا التطبيق، لأن ما سنذكره من المبررات ينطبق على هذا الانحراف بغض النظر عن تاريخ ابتدائه و أشخاص المنحرفين.

إن انحراف القيادة الاسلامية، يرتبط بالتخطيط الالهي المخصّص لايجاد الشرط الثالث لليوم الموعود. حيث قلنا ان البشرية إنما يمكن أن يتكامل اخلاصها فيما إذا مرت بظروف من الظلم و التعسف طويلة الأمد، و بتجارب قاسية، يكون الأفراد - من خلالها - على محك التمحيص في أن ردود أفعالهم هل سوف تكون إلى جانب الحق أو إلى جانب الظلم الاجتماعي.

و قد عرفنا أيضا أن الايمان، مهما يكن ضخما، لا يعتبر شيئا ذا بال ما لم يكن ممحصا. و اما الايمان الساذج الفج، فلا قيمة له في التخطيط الالهي، لأنه يكون غرضا لأول رمية، فاشلا في أول تجربة.

إذن، فمن الضروري أن تمر البشرية في ظروف التجارب القاسية! و أما كيف يتم ذلك بعد أن عاشت الأمة الاسلامية القيادة العادلة في أول عهدها، في صدر الاسلام؟ إن ذلك يتم بالسماح لعوامل الانحراف بأن تعمل عملها في المجتمع، لا بمعنى ان اللّه عز و جل قد رضي بها و بارك وجودها. بل بمعنى أنه تعالى فسح لها فرصة الوجود، و لم يجعل الموانع الفكرية(1) و الاجتماعية ضدها. و ان من أهم ظروف الانحراف الممكن وجودها في المجتمع، هو انحراف القيادة، لما للقيادة من أثر بليغ في صياغة المجتمع و بلورته.

و من هنا يتضح أن انحراف القيادة يمت إلى هذا التمحيص العام بصلة وثيقة من زاويتين:

الزاوية الأولى: كونه سببا لتمحيص المجتمع، و اختبار أفراده عموما، لتعرف آراؤهم و أعمالهم تجاه القيادة المنحرفة، ليتميز - بالتدريج - جانب الفشل

ص:506


1- (1) أعني بها المستوى المهضوم و المعمول عليه اجتماعيا، لا المستوى المفهومي الموجود في الأطروحة الكاملة، فإنه يكفي فكريا للمنع عن الانحراف.

من جانب النجاح في الأفراد.

و ذلك بخلاف ما لو بقيت القيادة عادلة و صالحة، فإن الايمان سوف يكسر و يترسخ، و لكنه سوف يبقى ساذجا و فجا، و بالتالي غير صالح للقيادة العالمية.

و بالتالي سوف لن يتحقق العدد الكافي من المخلصين الممحصين لغزو العالم و تأسيس الدولة الموعودة.

و معنى ذلك ان قيام دولة الحق و العدل في أول الاسلام مانعة عن وجود دولة الحق و العدل في المستقبل. و حيث أن الأخيرة واقعة في طريق الهدف البشري الأعلى؛ إذن فهي أهم وجودا و ألزم تحققا، إذن، فلا بد أن تخطط لها و لو بحذف الأول؛ و خاصة إذا لا حظنا أن دولة العدل الأولى ضيقة النطاق و الدولة الموعودة عالمية.

و أما وجود دولة عالمية محكومة بالعدل منذ أول الاسلام، فقد اتضح عدم إمكانه لعدم تمحيص الايمان في نفوس الأفراد، الأمر الذي يجعلهم غير مؤهلين للقيام بهذه المهمة الكبرى.

و هذه الزاوية الأولى هي الأهم في تسلسل الفكرة عن التخطيط الالهي.

الزاوية الثانية: ان انحراف القيادة مسبب عن ذلك التمحيص. حين أصبح الحاكم أو القائد في الدولة الاسلامية ممثلا لمستوى الفرد العادي من ناحية الايمان و من ناحية الحرص على المصالح العامة.

و معنى ذلك: ان التمحيص في التخطيط الثالث، بعد أن أوجب انحراف غالبية المجتمع، و كان أفراد الخلفاء من هذه الغالبية المنحرفة؛ كان استخلافهم يعني انحراف القيادة في المجتمع الاسلامي. إذن، فهذا الانحراف مسبب عن التمحيص و هو المطلوب.

و لا تنافي بين هاتين الزاويتين، إذ يمكن أن يكون انحراف القيادة سببا للتمحيص و مسببا عنه. فان أفراد الخلفاء متعددين، كما ان المجتمعات التي يجري عليها التمحيص كثيرة. و من هنا يكون انحراف كل قائد أو حاكم أو خليفة مسببا عن التمحيص الذي قبله و سببا لوجود التمحيص الذي بعده.

و كلا هاتين الزاويتين، كما يصدقان على الحكم المنحرف المتصف باسم الاسلام، كذلك يصدقان على زوال الحكم الاسلامي بالمرة. غير ان الزاوية الثانية ستكتسب هنا أهمية أكبر: حيث ان الانحراف السائد يكون قد تأصل

ص:507

بالتدريج - طبقا للتخطيط - إلى حد أصبح الحكام الذين لا يزالون يمثلون الفرد الاعتيادي في المجتمع، أصبحوا منعزلين عن الدين بالمرة، و مؤمنين بمبادئ أخرى غير دينية. لأن الفرد الاعتيادي قد أصبح بدوره كذلك. و بذلك خرجت القيادة عن كونها إسلامية تماما. و هذا معنى انطباق الزاوية الثانية.

و أما انطباق الزاوية الأولى، فمن الواضح أن الانحراف في داخل إطار الاسلام، إذا كان محكا للتمحيص، فكيف بالخروج الكامل عن تعاليم الاسلام، الذي يمثل - في واقعه - الدولة العلمانية تماما. فان التمحيص فيه أوضح و أصعب في نفس الوقت، كما هو غير خاف على من عاش مثل هذه الظروف.

- 6 - التطبيق الثاني: انقسام المسلمين إلى عدة مذاهب.

يندرج هذا التطبيق في كل من الخطين الأول و الثالث من الخطوط الثلاثة التي ذكرناها قبل فقرتين.

أما اندراجه في الخط الأول، و هو تعميق الفهم الاسلامي في أذهان المسلمين... فباعتبار مشاركة هذا الانقسام فيه، من حيث ان الحقيقة بنت البحث و المناظرة، و الحق لا يثبت إلا بالبرهان. فمن الطبيعي أن يكون الجدل الواقع بين المذاهب الاسلامية باستمرار، و حول مختلف الموضوعات، مشاركا في تعميق الفكرة الاسلامية في أذهان المسلمين عموما.

و هذا التعميق مضافا إلى كونه للفكر الاسلامي تدريجا، فانه أيضا مؤثر في نهاية الشوط في زيادة التعمق الفكري الذي يساعد على بناء مستوى الوعي الجديد في اليوم الموعود، و على استيعاب ما سوف يعلن فيه من مفاهيم و تشريعات.

و أما اندراجه في الخط الثالث، فلوضوح أن المسلمين اتفقوا على أن المذهب الحق من مجموع المذاهب واحد لا يتعدد. إذن، فكل المذاهب الأخرى تمثل درجة من درجات الانحراف؛ على حين نجد ان أفراد المسلمين قد انتشروا على جميع المذاهب. إذن ينتج أن بعض المسلمين - أيا كانوا - على صواب، و الآخرين على خطأ. أي أن بعضهم منسجمون مع التخطيط و ناجحون فيه، و بعضهم فاشلون.

و حين ننسب أولئك إلى النجاح، فإنما نقصد نجاحهم من زاوية اتخاذهم

ص:508

للمذهب الذي يفترض كونه حقا. و إلا فانه يوجد في كل المذاهب الاسلامية، على الاطلاق، جمهور كبير من الخارجين على تعاليم دينهم و مذهبهم أساسا.

و بطبيعة الحال سيكون هؤلاء الناجحين هم الأكفاء لحمل مسئولية الدولة العالمية تحت قيادة المهدي (ع).

و بطبيعة الحال، لا ينبغي أن ينسى القارئ، اننا حين نتكلم عن التخطيط إنما نتكلم عن (العلة الغائية) أو السبب الاستهدافي، لا عن السبب المنتج أو الفاعل. و قد قلنا ان السبب الاستهدافي لا ينافي السبب الفاعل.

إذن، فأسباب الانقسام - مهما كانت - لا تنافي اندراجه ضمن التخطيط العام باعتبار النقاط التي ذكرناها.

و لعل هذا هو المراد من قوله (ص) - لو صح الخبر -: اختلاف أمتي رحمة، على أحد تفسيريه، و هو أن يكون المراد بالاختلاف: الانقسام في الرأي، لا المبادرة إلى أولي الأمر و السؤال منهم.

- 7 - التطبيق الثالث: وجود المادية المعمقة و التحلل الخلقي في العالم.

و قد تحدثنا عن ذلك مفصلا، خلال الأطروحة الثالثة لتفسير ولادة الفكر الماركسي، التي ذكرناها في أول هذا الكتاب، فلا حاجة إلى التكرار. كل ما في الأمر ان القارئ الآن يعرف الأسس الكاملة التي تقوم عليها تلك الأطروحة، بشكل أوضح مما يدركه خلال قراءته لأول الكتاب. فلو شاء القارئ أن يعيد إليها النظر إعادة تطبيق و تمحيص، كان ذلك هو الأفضل.

و بذلك تكون الماركسية خاصة و المادية عامة، مندرجة في كلا الخطين اللذين أشرنا إليهما في التطبيق السابق، و هما تعميق الفكر الاسلامي، و التسبب لايجاد الشرط الثالث لليوم الموعود، كما هو غير خفي على من راجع البحث المشار إليه.

التطبيق الرابع: غيبة الامام المهدي عليه السلام و طول عمره، طبقا للفهم الامامي.

و كلتا الفكرتان تابعتان للخط الثاني من الخطوط الثلاثة، و هو إيجاد القائد الكامل، و منطلقتان من (تكامل ما بعد العصمة).

أما طول عمره، فباعتبار عدة نقاط ذكرنا جملة منها في تاريخ الغيبة الكبرى

ص:509

نلخص منها ما يلي:

النقطة الأولى: انه تحت شروط معينة ذكرناها هناك(1) يعمل الامام المهدي (ع) في مصلحة المجتمع لأجل دفع ما يمكن أن يقع عليه من بلايا و ويلات من قبل الظالمين و أعداء الدين. و يؤدي بهذا الصدد تضحيات و جهودا كبيرة؛ فهذا مضافا إلى كونه عملا في مصلحة المجتمع، يؤدي أيضا إلى (تكامل ما بعد العصمة) بالنسبة إليه باعتبار ما سبق أن برهنا عليه هناك(2)، من أن اداء التضحيات الاختيارية في سبيل الهدف الأعلى يؤدي إلى تعميق الاخلاص و قوة الارادة في النفس.

كل ما في الأمر، أن هذا التعميق يبدأ من المستوى الذي عليه الفرد سلفا؛ فالفرد الاعتيادي يزداد درجة أو درجتين مثلا. و أما الامام المعصوم فحيث انه ينطلق من زاوية قوة، و من صفات أولية عليا، فسيكون تكامله بجهاده و تضحياته، أعمق و أكبر من الفرد الاعتيادي بكثير.

النقطة الثانية: اننا طرحنا في تاريخ الغيبة الكبرى، أطروحة محتملة - على الأقل -... و هو أن يكون لطول العمر و معاصرة الأجيال الطويلة، تأثيرا في اطلاع الفرد على قوانين التاريخ و تسلسل الحوادث فيه، من ناحية... و على أساليب التأثير في هذه الحوادث، بشكل معمق لا يمكن لأي فرد اعتيادي أن يصل إليه، من ناحية ثانية. و قد عرضناها هناك مفصلا فلتراجع.

و هناك نقاط أخرى، بالنسبة إلى طول عمر المهدي (ع) يمكن اقتباسها من ذلك الكتاب، لا حاجة الآن إلى التطويل بتعدادها.

و أما غيبته عليه السلام، فهي - طبقا للفهم الامامي - تقترن دائما بطول عمره، و قد عرفنا مزاياه. فإذا أردنا أن نعرف مزايا الغيبة مستقلة، فلا بد أن نلاحظ أنه ما الذي يحدث مع ارتفاعها و اطلاع الناس على حقيقة المهدي (ع)، مع حفظ الصفة السابقة، و هي طول العمر. فهل يمكن ان يكون المهدي طويل العمر مكشوفا للناس؟ و لعل أوضح ما يخطر في الذهن، كدليل على عدم امكان ذلك - بعد التسليم بالقدرة الالهية عليه -: هو الاستغراب من وجود شخص معين يعمر بهذا

ص:510


1- (1) انظر ص 49 و ما بعدها إلى عدة صفحات.
2- (2) انظر ص 514.

المقدار الكبير، الف سنة فصاعدا، فانه مما لا يمكن ان يكون مهضوما اجتماعيا بأي حال. فقد قدر الله تعالى غيبته لكي لا يثير الاستغراب.

إلا ان هذا بمجرده ليس محذورا، و لا دليلا على عدم الامكان... اذ لو تجرد الأمر عن المحذور الآتي لكان عمره من الأدلة الرئيسية على مهدويته للناس اجمعين، و لكان طريقا سهلا له إلى الهداية الحقيقية، و اعطاء الثقافة الواسعة في كل جيل... بعد ان يفترض بالناس انهم يعرفونه و يواجهونه بصفته الحقيقية.

و إنما لم يحدث ذلك، لأن فيه محذورا أو نقطة ضعف كبيرة، تنتج عدم تحقق دولة العدل العالمية في المستقبل، و من ثم زوال الغرض الاسمى من خلق البشرية. و حيث ان هذا محال - كما عرفنا - اذن، فلا بد أن لا ينكشف المهدي (ع) و أن يبقى غائبا طيلة عمره المديد.

و المحذور الكبير من انكشافه هذه المدة، هو معروفيته بالمهدوية خلال هذه المدة، كما هو المفروض مع ارتفاع الغيبة. و من المعلوم في الأذهان، ان المهدي (يملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا) أي أنه زعيم الثورة العالمية العادلة. و معه تشحذ القوى العالمية أسنتها ضده، و هي على الدوام تمثل جانب الظلم و الجور. و المفروض أن المهدي (ع) في غيبته أعزل ليس له سلاح و لا أنصار، و لم يتمخض المجتمع عن الشرط الثالث، و هو ايجاد العدد الكافي لنصرته. اذن فسوف يكون غرضا لأول رمية، و سيزول عن مسرح التاريخ.

و معه تفقد الدولة العالمية وجودها، و يفقد الغرض الأسمى وجوده بدوره...

و هو مستحيل.

و قد يخطر في الذهن: أنه على هذا التقدير، يمكن التعويض بشخص آخر يكون مهديا قائدا للدولة العالمية... و هو أمر سهل في القدرة الالهية.

و جواب ذلك: ان هذا الثاني المفترض، ان فرضنا له طول العمر بالمقدار الاعتيادي فقط، فقد خسرنا نقطتي القوة السابقتين اللتين برهنا بهما على ضرورة طول العمر للقائد العالمي العادل. و ان فرضناه طويل العمر و مكشوفا ابتلينا بنفس هذا المحذور الأخير، فانه أيضا يكون معرضا للقتل، فلا بد من التعويض عنه بثالث، و هكذا. و هذا غير صحيح بالضرورة، فانه مضافا إلى كونه (مسخرة) يجل عنها التدبير الالهي، ينتج أيضا أن يكون المهدي في آخر الأمر - أي عند انجاز الشرط الثالث - شخصا ذو عمر اعتيادي بعد ان قتل كل

ص:511

المعمرين السابقين عليه، فنخسر أيضا النقطتين السابقتين.

و ان فرضنا أن هذا المهدي الثاني المفترض، طويل العمر و غائبا، اذن، فلا حاجة إلى افتراض هذا الثاني، إذ في قدرة الله تعالى أن يبقي مهديا واحدا مرصودا لدولة الحق، لأنه يكون أطول عمرا، فتكون نتائج كلتا النقطتين فيه أوضح، لأن كلتيهما مما يزيد طول العمر في نتائجهما، كما هو معلوم لمن يفكر.

هذا مضافا إلى نقاط ضعف أخرى لهذا الافتراض، انطلاقا من الفهم الامامي، الذي يقوم عليه الافتراض نفسه... لا حاجة إلى الدخول في تفاصيلها الآن.

اذن، فقد صح اندراج غيبة المهدي (ع) و طول عمره معا في التخطيط الثالث، و من ثم في التخطيط العام لتكامل البشرية و أهدافه.

و هذا صحيح بالنسبة إلى (الغيبة الكبرى) للمهدي (ع)، لأنها هي التي تستمر أجيالا طويلة. و أما (الغيبة الصغرى) السابقة عليها، فقد عرفنا في تاريخها(1) ان الغرض الأساسي منها تمهيدها للغيبة الكبرى، باعتبار رفع الاستغراب عنها أولا، و إقامة الحجة على وجود المهدي (ع) ثانيا. فتكون (الغيبة الصغرى) مندرجة في التخطيط الثالث من هذه الزاوية.

ص:512


1- (1) انظر: تاريخ الغيبة الصغرى ص 630.
الجانب الدنيوي في التخطيط الثالث

- 1 - يحسن بنا التعرض إلى الجوانب (الدنيوية) في هذا التخطيط الثالث. إلى جنب الجوانب الدينية (النبوية) التي ذكرناها. كما فعلنا ذلك في التخطيط الثاني، لنرى مقدار ارتباط هذه الجوانب بهذا التخطيط.

و أهم هذه الجوانب ما يلي:

الجانب الأول: المبادئ المتعددة التي تمثل افهاما مختلفة للكون و الحياة و أطروحات عديدة لحل مشكلة الانسانية.

الجانب الثاني: القوانين الوضعية على اختلافها و أشكال تفسيرها.

الجانب الثالث: العلوم الانسانية كالفلسفة و المنطق و الرياضيات و نحوها. بما بلغته من عمق خلال عصرها المتأخر.

الجانب الرابع: العلوم التكنيكية، كالفيزياء و الكيمياء و الفلك و الطب و نحوها، بما أوصلته إلى البشرية من نتائج ضخمة على المستوى العلمي في مختلف الحقول.

- 2 - الجانب الأول: المبادئ المتعددة التي تمثل أفهاما مختلفة للكون و الحياة و أطروحات عديدة لحل مشكلات الانسانية.

و قد احتوى هذا الجانب على أشكال مختلفة خلال التاريخ الطويل، فوجدت عدة مبادئ تحتوي على ادعاء هذا الحل، و لكنها قائمة على أسس متباينة:

و كان بعضها قائما على أسس دينية منحرفة، بمعنى أنها تقدم المصلحة الشخصية على المصلحة الدينية، يندرج في ذلك الخلافة الأموية و الخلافة 33

ص:513

العباسية و حكم الكنيسة و اتباعها في أوروبا... و غيرها.

و كان بعضها قائما على أسس دكتاتورية كالدولة الرومانية التي كانت لا زالت مستمرة إلى ما بعد الاسلام، و القيصرية الروسية و الفاشية، و غيرها.

و كان بعضها قائما على أسس رأسمالية، و أهمها الحكومات الأوروبية و الأمريكية الرأسمالية، و أولها اندفاعا في هذا الاتجاه و أقدمها بريطانيا، باعتبار فرنسا و المانيا و غيرها تقدم التغيير فيها، و هو المسمى (بالثورة المجيدة!!).

و كان بعضها قائما على أساس الفهم المادي المصلحي للمجتمع، و ان لم يمارس حكما بالفعل، كالوجودية...

و كان بعضها قائما على أساس الفهم المادي الفلسفي، و هي الماركسية المطبقة الآن في عدد من دول العالم و أهمها الاتحاد السوفييتي و الصين.

و أما (الأطروحة العادلة الكاملة) فلم تنزل إلى حيز التطبيق إلا في نطاق ضيق في المكان و الزمان، لكنه يكفي لاثبات وجودها كأطروحة حاكمة من ناحية، و موفرة للعدل الاجتماعي من ناحية ثانية... و بالتالي لتوفر البرهان الراسخ في الأذهان الذي يفيد فائدته الجمة خلال هذا التخطيط.

و أهم مثال لهذا التطبيق، ما مارسه الرائد الأول لهذه الأطروحة نبي الاسلام (ص) خلال حياته، أعني من بعد الهجرة إلى حين وفاته. فانه كان يأخذ بزمام المبادرة إلى انزال الحكم إلى حيز التطبيق فور وصوله يوما فيوم و ساعة فساعة.

و بهذا وجدت لدينا أربع أفكار نافعة لنا في هذا الجانب من البحث، يرتبط اثنتان منها بالأطروحة الكاملة، و اثنتان منها بالمبادئ الأخرى.

أما الفكرتان المرتبطتان بالأطروحة الكاملة فهما:

الفكرة الأولى: نجاح التطبيق الذي وجد في صدر الاسلام، نجاحا كافيا مقنعا لاثبات عدله و جدارته لقيادة العالم، في أي وقت أمكن له ذلك.

الفكرة الثانية: النظر إلى تفاصيل المفاهيم و التشريعات التي تحتويها هذه الأطروحة، أو هذا الفهم للكون و الحياة... مع مقارنته بالأطروحات الأخرى، ليجد الفرد أنه أفضل الأشكال و أكثرها عدلا، كما هو مبحوث في مجال آخر.

الفكرة الثالثة: و هي الفكرة الأولى التي تعود إلى المبادئ الأخرى... و ما

ص:514

فصلناه في (تاريخ الغيبة الكبرى) و أشرنا إليه هنا مختصرا، و هو ان المبادئ عموما تمر خلال تطبيقها بالتمحيص و التجربة، شأنها شأن الأفراد. و لكنها أعمق تمحيصا و أطول عمرا، فقد يمتد عمر تمحيصها إلى عشرات أو مئات السنين.

و بذلك تتهاوى المبادئ على سكين التمحيص تدريجا، و يثبت فشلها واحدا بعد الآخر، و لا تبقى هناك نقطة ضعف، مهما كانت صغيرة، و في أي مبدأ من المبادئ إلا كشفها التمحيص و التجربة الحياتية الطويلة.

و أوضح تسلسل تطبيقي لذلك، هو ان المبدأ حين يوجد يحاول ان يغطي نقاط الضعف فيه و نقاط الفشل في المبادئ الأخرى، بمقدار ما يفهم واضعه و يدركه من آلام الحياة و آمالها. و لكن لمدى محدودية الفكر الواضع لهذا المبدأ أو ذاك، سوف يصعب بالتدريج على المبدأ مواجهة الحاجات الحياتية المتجددة و المشاكل الاجتماعية المتكثرة. و كلما ازدادت الحاجات و توفرت المشاكل التي لا يستطيع حلها كلما ازداد فشلا، و اتضح فشله في التمحيص أكثر فأكثر. حتى يصل إلى نقطة يبدأ المطلعون على الفشل يزدادون حتى يكون الرأي الاجتماعي العام على سعته فاهما لذلك. و تلك هي نقطة النهاية لكل مبدأ باطل. و لكن قد يطول الزمن بهذه النتيجة أو يقصر، تبعا لما يتصف به المبدأ من ضحالة أو عمق، و ما يتصف به ذووه من قوة أو ضعف.

الفكرة الرابعة: ان كل المبادئ التي طبقت إلى حد الآن، قد مرت بتجربة حياتية طويلة، و قد أثبتت هذه التجربة حسيا فشلها في التمحيص واحدا بعد الآخر. و كان من أهم المبادئ التي ثبت زيفها و فشلها: الرأسمالية بما أنزلته على البشرية من ويلات و دمار. و كذلك الحكم الكنسي بما مثّله من تعنت فكري و تطرف مصلحي و انحراف ديني كبير.

و لا زالت الماركسية في حيز التمحيص، و قد أشرنا عند الحديث عن مناشئ وجودها، إلى انها بدأت بالتدريج تكشف عن زيفها الفكري و التطبيقي من خلال التجربة الحياتية. حتى بدأ الرأي العام العالمي يدرك ذلك بالتدريج، و ان كان لا زال من يكابر هذه الفكرة في العالم عدد كبير.

ينتج من هذه الأفكار الأربعة، أمر مهم بالنسبة إلى اليوم الموعود، و هو ان الفرد الفاهم لهذه الأفكار كلها، و خاصة الأولى و الأخيرة، سوف ييأس من الأطروحات المعروضة لحل مشاكل البشرية، و سوف ينتظر العدل الكامل المتمثل

ص:515

بالاسلام في اليوم الموعود، خلال دولة العدل العالمية.

و أما الفرد الفاهم للفكرة الأخيرة فقط، و هو الفرد العادي المشارك للرأي العام الذي اتضح له فشل المبادئ المطبقة جميعا، من دون ان تكون له أية فكرة عن عدل جديد. كما هو عليه الحال، في الرأي العام العالمي اليوم.

... ان هذا الفرد أو هؤلاء الناس، بعد أن يعيشوا المآسي الضخام التي أنتجها فشل المبادئ و يرون في أنفسهم الخطأ في توقعهم في أن يمثل شيء منها الحل العادل الكامل لمشاكل البشرية... بعد ان يعيشوا ذلك، يبقون على مستوى التلهف الكبير في وجود ذلك الحل العادل، و حائرين في معرفة و تشخيص المبدأ الذي يمثله.

و هذا التلهف سوف يجعل منهم قاعدة سهلة لتقبل أول مبدأ يعلن لنفسه صلاحيته لذلك الحل، و الانصياع لقيادته في أسرع وقت، و سيكون انطباقه على الحل (العادل الكامل) واضحا.

بل قد يبلغ بهم الجزع انهم سوف يدركون، أو تدرك الجماعة المثقفة منهم على الأقل: ان التضحيات التي يستلزمها وجود الحل الكامل أقل بكثير من المصاعب التي قاسوها من المبادئ الأخرى، فهم يتلهفون لأي حل يكفل لهم تلك النتيجة و ان كلفهم تطبيقه غاليا.

و هذه خطوة أخرى في مصلحة التطبيق العالمي في اليوم الموعود.

و إذا أعلن الاسلام أمام الرأي العام العالمي، خلال عصر التخطيط الثالث الذي نتحدث عنه، على أنه هو الأطروحة العادلة الكاملة، كما قد أعلن فعلا من قبل المفكرين الاسلاميين. و اقترن هذا الاعلان بالتحدي للمبادئ الأخرى و ان هذا التحدي منوط بالتجربة فقط، و انه لا يمكن التأكد من عدم صلاحيته للتطبيق - كما يدعي البعض - إلا بعد التجربة المعاصرة، و الاسلام لم يعش التجربة المعاصرة. فلا أقل من أنه يوجد احتمال منطقي كبير، في أن يكون هو العدل العالمي المنشود.

فإذا وصل الأمر، إلى ان يصبح هذا الاحتمال واضحا على مستوى الرأي العام العالمي... و هو الآن سائر في هذا الطريق... سوف يكون دعما كبيرا لتطبيق الأطروحة الكاملة في دولة الحق و العدل الموعودة، حين يحين زمانها و هي خطوة جديدة في مصلحة ذلك التطبيق.

ص:516

- 3 - الجانب الثاني: القوانين الوضعية على اختلاف أشكالها و تفاسيرها.

لعل أول قانون وضعي معروف في البشرية، هو شريعة حمورابي التي كتبها على مسلته المعروفة. و المظنون أنه أخذها أو الجانب المهم منها من التوراة أو من بعض أقسامها، كالوصايا العشر و غيرها. و ذلك لوجود نقاط تشابه كثيرة بينهما، كما هو معلوم لمن يراجع المصدرين.

و هذا هو أحد الأشكال أو أقدمها لابتناء القانون الوضعي على الأساس الديني، و قد عرفنا ذلك في القانون الروماني أيضا، و لا أقل من احتماله. و كل ذلك مربوط بفترة التخطيط الثاني السابق.

و أما في فترة التخطيط الثالث، فقد بقيت أوروبا - زعيمة القانون الوضعي - تعيش على القانون الروماني و الحكم الكنسي إلى عصر النهضة الحديثة. و يكاد يكون أول قانون أصدرته أوروبا في فجر عصرها الجديد، هو (لائحة حقوق الانسان و المواطن) الفرنسية، و لا أقل من كونه أهم القوانين الصادرة في تلك الفترة. تبع ذلك قوانين نابليون التي نظم بها فرنسا من جديد.

و بالتدريج تحددت القوانين و تمايزت اتجاهاتها و اختصاصاتها. و أصبح لكل دولة مجموعة من القوانين التي تعالج مختلف ميادين الحياة، و أصبح لها رسوخ و أهمية أكبر من الأشخاص الحاكمين، بخلاف عصر ما قبل النهضة، حين كانت أوروبا محكومة بالحكم الفردي و الديكتاتوري، و كان اشخاص الحاكمين أعلى و أهم من القوانين.

و نستطيع ان نتميز تأثير هذه القوانين في تعميق الفكر البشري، لو قارنا بين الفكر المعاصر، و الفكر الموجود في أول عصر التخطيط الثالث.

إن الاسلام، و ان نزل - نظريا - بقانون شامل لكل جوانب الحياة، إلا ان استيعاب الفكر البشري له لم يكن كما ندركه نحن اليوم. حتى ان معاوية بن أبي سفيان اضطر ان يقتبس تنظيم عدة جوانب من دولته من التنظيمات السائدة في بلاد فارس و الروم(1). و لم يستطع ذهنه يومئذ ان يفهم ذلك من أطروحته العادلة الكاملة، التي يفترض نفسه في قمة مطبقيها و رعاتها.

ص:517


1- (1) انظر فجر الاسلام لأحمد أمين ص 185 نقلا عن المسعودي.

... على حين أوجبت تطبيقات و تجارب القوانين الوضعية، تفتّح الذهن البشري من هذه الناحية على كثير من التفاصيل، كما أوجبت تطورات الحياة الاجتماعية، زيادة هذا التفتح.

و لعل أهم النقاط هي كما يلي:

أولا: التوصل إلى فهم أضمن و أسهل طريق لتنفيذ الحكم في الدولة، تحت رئاسة الحاكم الأعلى: الملك أو الرئيس... و ذلك عن طريق توزيع الاختصاصات في التنظيم و التنفيذ، ابتداء بالوزراء و انتهاء بالفراشين!!..

ثانيا: التوصل إلى فهم التحديد الكامل لاختصاصات القوانين، فهناك الجانب العسكري و الجانب المدني و الجانب الدولي و غيرها، و يوضع لكل منها قانونها الخاص.

ثالثا: التوصل إلى إمكان مطالبة المقننين بالأسباب الباعثة على جعلها و جعل كل مادة منها، و هل هي مطابقة للعدل و المصلحة العامة أولا.

رابعا: فهم امكان ابتناء قوانين معينة على مبادئ معينة، و انطلاقها من فهم معين للكون و الحياة... بل لعل ذلك ضروري في كل قانون.

خامسا: عاشت البشرية عصورا متطاولة من تطبيقات هذه القوانين، و ما تكفلته من عقوبات للعصاة، و ما انتجته من فوائد أو مضار على المجتمع عموما.

و كل ذلك يزيد الجانب القانوني للأطروحة العادلة الكاملة وضوحا في ذهن البشرية بطبيعة الحال مما يساعد كل المساعدة على اتخاذ الخطوة القادمة في دولة العدل العالمية.

سادسا: اتضاح فشل القوانين، و احتياجها إلى الاصلاح و التغيير حتى تصير إلى الزوال، نتيجة للتمحيص في التجربة الحياتية. بل اقتضى الفهم القانوني اتضاح فشل اتجاهات قانونية كبرى، و بناء أسس جديدة سيكون لها عمرها التي تنتهي بعده أيضا، نتيجة للتجربة و للتدقيق في الفهم القانوني.

و هذه النقطة خطوة موفقة، لاستنتاج عجز الفهم الانساني عن التقنين و من ثم اليأس من ايكال حلول المشاكل البشرية إليه، و انتظار اتجاه قانوني جديد، يكون هو الحاسم في هذا المجال.

- 4 - الجانب الثالث: جانب العلوم الانسانية كالفلسفة و المنطق و الرياضيات

ص:518

و نحوها، بما بلغته من عمق خلال عصر التخطيط الثالث.

و قد عاصر أول هذا العصر مع الفلسفة الوسيطة، كالأفلوطينية الحديثة و الرواقية و الفلسفة المسيحية - لو صح هذا التعبير - المتمثلة بأوغسطين و توما الأكويني و اضرابهما. كما جاء القرآن الكريم بفهم معين للكون و الحياة.

و أعقب ذلك وجود الفلاسفة المسلمين، كابن رشد و الغزالي و ابن سينا و الفارابي. و كان هؤلاء - عادة - مستوعبين لعدد من العلوم الانسانية التي كانت تعتبر متشابهة أو متجاورة بشكل و آخر. و هي الفلسفة و المنطق و الرياضيات و الطب و الفلك. و ربما قرنوا ذلك باتجاه كيميائي و فيزيائي ضيق، أو بفهم اجتماعي قليل.

و قد ورثت أوروبا في نهضتها كل ذلك، و حددت أساليبه، و أخذت بتعميقه و توسيعه إلى أكبر حد ممكن. فلم ينفصل علم عن علم فقط، بل أصبح لكل علم فروعه المختلفة، و أصبح للعلوم نقاط التقاء و نقاط اختلاف كالمنطق الرياضي، و علم النفس الاجتماعي. مثلا... و لا زالت أوروبا سائرة في هذا الطريق. و لا نعلم ما ذا يأتي به المستقبل في هذا السبيل.

و هذا العمق، يساعد - بطبيعة الحال - على عمق المستوى الفكري للبشرية عموما، و يجعلها قابلة لفهم العميق من الأفكار أكثر فأكثر. و يكون لهذا العمق أثره في عدة حقول من التخطيطين الثالث و الرابع. نستطيع ان نفهم منها ما يلي:

الحقل الأول: تعميق الفكرة إلى أبعد حد ممكن عن تفاصيل و براهين الأطروحة العادلة الكاملة، سواء من الناحية العقائدية أو التشريعية.

الحقل الثاني: جعل البشرية بالمستوى الفكري اللائق لفهم المستوى العقائدي و التشريعي الذي يعلن في الدولة العالمية خلال التخطيط الرابع.

الحقل الثالث: جعل نتائج هذه الأفكار المعمقة للمنطق و الرياضيات و غيرها، منطلقا - في الدولة الموعودة - لانتاج أو انجاز حقول مهمة في خدمة البشرية اجتماعيا و اقتصاديا و ثقافيا يومئذ.

- 5 - الجانب الرابع: الجانب (المدني) المتمثل بالتطور التكنيكي الصناعي الهائل الذي وصلت إليه أوروبا و غيرها منذ عصر النهضة إلى العصر

ص:519

الحاضر. و هي قابلة للتطور من هذه الناحية باستمرار. و يشمل هذا الجانب العلوم التي انتجت هذا التطور الضخم كالفيزياء، و الكيمياء و الطب و الفلك و الجيولوجيا و غيرها.

و لعل من مستأنف القول: الالماع إلى جسامة هذه النتائج، بعد ان كانت لا تكاد تخفى على أحد في هذا العصر، و قد أعطينا عنها صورة كافية خلال الحديث عن انتاج (العلم) الحديث ليوم الرفاه الموعود.

ان البشرية حين تتطور في هذا الطريق، فانها تخدم - من حيث لا تعلم - هذا التخطيط الثالث و التخطيط الرابع، من عدة جهات:

الجهة الأولى: تعميق البرهان على قدرة الله و حكمته في تدبير الكون بما تحمله هذه العلوم، و في مقدمتها الفيزياء و الفلك، من نتائج مذهلة و معارف معمقة في تكوين البناء الكوني و أسلوب سيره، فانها في الحقيقة تكشف لنا أكثر فأكثر عن قدرة الخالق الحكيم المدبر لكل ذلك.

و من الواضح انه كلما ازدادت معرفتنا بالوقائع الكونية الدالة على القصد و الحكمة، و التي يتعذر تفسيرها من الناحية المادية في كثير من الأحيان، كلما كان الاعتراف بالخالق الحكيم أسهل و أعمق.

الجهة الثانية: تسرب هذه العلوم تدريجا، إلى أولئك النفر الطيبين الناجحين في التمحيص الالهي، خلال هذا التخطيط الثالث، الذين سيكون لهم شرف المشاركة في بناء دولة العدل العالمية... فيحصل هناك اختصاصيون و مهرة على هذا المستوى الرفيع.

و هؤلاء يواكبون التخطيط الثالث باعتبار ما يؤدونه إلى الطيبين من أمثالهم خاصة و إلى البشرية عامة من منافع إيمانية و انسانية مهمة.

الجهة الثالثة: و سيكون هؤلاء هم العماد الرئيسي في النمو الصناعي القائم على هذه العلوم الكونية في دولة العدل العالمية، بعد ان يتم القضاء على جملة من الاختصاصيين باعتبار انحرافهم عن أسس التخطيط العام كما سنعرف، و سنلتفت إلى تفاصيل ذلك عند الحديث عن التخطيط الرابع.

ص:520

تطور الفكرة المهدوية في التخطيط العام

- 1 - تعتبر الفكرة المهدوية بالنسبة للتخطيط البشري العام، بكل اقسامه فكرة رئيسية باعتبارها فكرة القيادة العامة للدولة العالمية تأخذ زمام المبادرة لانجاز الهدف البشري الأعلى في حيز التطبيق، و هو المجتمع المعصوم، كما عرفنا.

و قد مرت الفكرة المهدوية خلال التخطيطات البشرية التي عرفناها بتطور نحو الوضوح بتدريج بطيء، بمقدار بطء تطور الفكر و الوعي البشري نفسه.

و قد اعطينا عن ذلك فكرة كافية في تاريخ الغيبة الكبرى(1) و نحاول هنا ان نعطي عنه خلاصة واضحة، لأجل ربط الحوادث ببعضها، مع ملء ما تبقى فيها من الفراغ.

و تعتبر التخطيطات الثلاث الأولى، هي الزمن الذي يتم فيه هذا التطور، إذ من الواضح انه بافتتاح عهد التخطيط الرابع تصبح المهدوية واقعا حياتيا اجتماعيا، باعتبار تكفل المهدي نفسه لقيادة دولة العدل العالمية، و تخرج عن كونها مجرد فكرة تربوية.

- 2 - هذا. و لكن لا يخلو التحديد بالتخطيطات الثلاثة، كزمن لهذا التطور... لا يخلو من تسامح، لوضوح أن هذه الفكرة لا يمكن أن يكون لها أي وجود في الذهن البشري خلال التخطيط الأول، في ما قبل اكتساب البشرية مستوى الوعي و التفكير.

فهذه الفكرة خلال ذلك التخطيط، بالرغم من انها مستهدفة من خلق البشرية و تكاملها من قبل الخالق الحكيم، إلا أن هذه البشرية لم تكن قابلة

ص:521


1- (1) انظر ص 251 و ما بعدها إلى عدة صفحات.

لتفهمها خلال ذلك العصر على طوله، و من ثم لم يكن بالامكان إيصال هذه الفكرة إليها حتى عن طريق الأنبياء، لو كان لهم وجود بسيط في ذلك الزمن، كما سبق أن احتملناه.

إذن، ينتج بوضوح: ان زمن التخطيطين الثاني و الثالث، هو الظرف الملائم لوجود و تطور هذه الفكرة.

- 3 - و من الممكن القول بأن تطور الفكرة مساوق لتطور الوعي البشري نفسه...

فكانت هذه الفكرة تبلغ بمقدار أقصى ما يفهم منها البشر في كل عصر.

فمن الطبيعي - إذن - أن نتوقع اختصارا و غموضا في أول عهدها، بل و اختلاطها بشوائب كثيرة غير صحيحة، طبقا للمستوى الذهني الواطئ.

هذا مضافا إلى ما ذكرناه في (تاريخ الغيبة الكبرى) من أن المعهود في الاخبارات الواصلة بالطرق الدينية، أنها تتوخى قرب الوقائع المخبر بها و بعدها.

فان كانت قريبة كان الاخبار عنها أكثر تفصيلا و تحديدا، و ان كانت بعيدة - سواء كانت من جهة الماضي أو المستقبل - كانت مصابة بالاختصار و عدم التحديد.

و من جملة تطبيقات ذلك: الفكرة المهدوية نفسها، ففي بدء التخطيط الثاني، بل خلال عصره على العموم، كانت دولة العدل العالمية المهدوية، لا تزال بعيدة إلى درجة كافية، في الزمان، و من ثم كانت الاخبارات عنها مختصرة و غامضة نوعا ما، بخلاف ما إذا وصلنا إلى عصر التخطيط الثالث، فان هذه الدولة العالمية، ستكون أقرب إلى حد ما و من ثم كان الاخبار عنها مفصلا و واضحا.

- 4 - نمت الفكرة المهدوية، و بتعبير أصح: اخبار البشرية عن التخطيطات المتخذة فيها، من قبل من وجد خلالها من الأنبياء... نمت نموا كافيا بمقدار مستوى الذهن البشري من ناحية، و بمقدار ما توجد لهذا الخبر من مصلحة في تبليغه، و هي كونها عنصرا يدفع الانسان إلى طاعة اللّه و الاهتمام بتشريعاته أكثر فأكثر، باعتبارها حاملة لهدف بشري عام.

و إذا نظرنا إلى القسم الأول من هذا التخطيط، و نريد به القسم السابق على نبوة موسى عليه السلام. نرى المقدار المنجز من هذه الفكرة في الذهن البشري يتمثل في الجوانب الآتية:

ص:522

الجانب الأول: ضرورة البدء باصلاح النفس، و هي خطوة في طريق إصلاح المجتمع، و من ثم إلى تكوين دولة العدل العالمية في المدى البعيد.

و أهم من أكد على ذلك النبي نوح عليه السلام. كما نطق به كل من التوراة و القرآن. فمن ذلك قوله تعالى:

يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى (1).

الجانب الثاني: التركيز على ضرورة الاصلاح الاجتماعي من قبل بعض الأنبياء المتأخرين عن عصر الطوفان.

فمن ذلك قوله تعالى:

وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً، قالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، وَ لا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ ... وَ يا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ، وَ لا تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْياءَهُمْ، وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. إلى أن يقول: وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ، إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ، وَ ما تَوْفِيقِي إِلاّ بِاللّهِ... (2).

الجانب الثالث: الالماع إلى التساوق بين العدل التشريعي و السعادة الاجتماعية بل حتى الظواهر الكونية ستكون مؤيدة له.

و أول من ركز على ذلك - حسب معرفتنا - نوح عليه السلام، حيث نسمعه يقول:

فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (3).

و جاء ذلك على لسان هود عليه السلام أيضا حين قال:

وَ يا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ (4).

و قد عرفنا في (تاريخ ما بعد الظهور) ما لهذا الجانب من تأثير في تأييد دولة العدل العالمية.

الجانب الرابع: الاشارة بغموض إلى دولة العدل العالمية و قائدها المهدي

ص:523


1- (1) نوح 2/71-4.
2- (2) هود 84/11-88.
3- (3) نوح 11/71-12.
4- (4) هو 52/11.

(ع). و ذلك حين قال النبي شعيب (ع) لقومه.

بَقِيَّتُ اللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1).

و المراد ببقية اللّه: المهدي عليه السلام، على ما نطقت به بعض الروايات.

و ذكرت أنه إذا ظهر حيّاه المؤمنون بقولهم: السلام عليك يا بقية اللّه في أرضه(2).

و على ذلك يكون المراد الحقيقي الكامل الشعيب: أن دولة العدل العالمية بقيادة المهدي عليه السلام، هي خير للانسانية (لكم) من كل وضع اجتماعي و عقائدي سابق عليها. باعتبار كونها متمثلة بالتطبيق العالمي للأطروحة العادلة الكاملة.

و لكن هذا المعنى بصراحته، لم تكن تطيقه البشرية بذهنها القاصر يومئذ، فكان الأحجى الاكتفاء بهذا المقدار الغامض. و لعل هناك بيانات أخرى غامضة لم تنقل إلينا.

و مما ينبغي الالتفات إليه، انه خلال هذا العصر، ما دامت دولة العدل العالمية و قيادتها، غير موضحة في الذهن البشري... إذن فالفكرة المهدوية بالمعنى الخاص الذي يفهمه الناس الآن، و هي ان شخصا معينا سيأتي لاصلاح العالم... لم يكن لها وجود.

و من ثم تعرف أن جميع ما قالته الأديان عن وجود قيادات إصلاحية عالمية، متأخر عن هذا العصر، يعني أنه متأخر عن العصر الموسوي بعض الشيء أيضا.

سواء في ذلك نبوات الشرق الأوسط أو نبوءات الشرق الأقصى لأن مستوى البشرية من الناحية الفكرية متشابه تقريبا في الأزمنة المتعاصرة، كما سبق أن عرفنا. كما ان جميع ما أعقب ذلك من انحرافات و تشويهات لمفهوم المهدوية، متأخر عن ذلك العصر أيضا.

- 5 - و أما خلال العصر الموسوي فما بعده، إلى نهاية التخطيط الثاني، فقد سبق أن حملنا فكرة كافية خلال الفقرة (15) من الحديث عن هذا التخطيط فلا حاجة إلى التكرار.

ص:524


1- (1) هود 86/11.
2- (2) انظر الخرائج و الجرائح للقطب الراوندي ص 199. و وسائل الشيعة للحر العاملي، كتاب المزار ج 1 ص 468. و المراد بالبقية: كونه عليه السلام المتبقي في الأرض من خط الأنبياء و الأولياء السابقين عليه. و هذا يعطي بوضوح كون عمله نتيجة كبيرة و حقيقية لمجموع أعمالهم، كما برهنا عليه في هذه الموسوعة.

- 6 - و حين يتحقق الشرط الأول من شرائط الدولة الموعودة، بوجود الاسلام يكون قد اقترب وجودها - بطبيعة الحال - أكثر؛ و سيكون هذا النظام التشريعي مع تكوينه العقائدي هو المطبق في تلك الدولة، و ما بعدها من المجتمعات. و سيكون من الضروري من أجل إيجاد الشرط الثاني، مرور البشرية بظروف تمحيص صعبة على هذه الأطروحة الجديدة العادلة.

... إذن، ينبغي ان يكون المجتمع مطلعا على عدد من خصائص هذه الدولة و مقدماتها، ليكون على بصيرة من أمره تجاهها، من حيث الايمان بها من ناحية و تطبيق مستلزماتها العاطفية و العملية من ناحية أخرى.

و قد أوضح الاسلام جهات كثيرة جدا من جوانب التخطيط الالهي و الفكرة المهدوية و الدولة العالمية، و قد تشارك القرآن الكريم و السنة الشريفة في ذلك، كما شارك التأريخ الاسلامي العام في ذلك أيضا.

و لا يمكن أن تخفى هذه الجوانب على قارىء هذه الموسوعة، و لكننا ربطا للفكرة يمكننا ان نلخص أهم الجهات فيما يلي:

الجهة الأولى: أن الفكرة التي كانت موجودة في الاستهداف العام لخلق البشرية، و هي تكوين المجتمع الصالح على أيدي أناس منسجمين مع فكرة هذا الاستهداف و هذا التخطيط. هذه الفكرة أصبحت وعدا قرآنيا، فاتخذت درجة ملزمة من ناحية جديدة، و هي ان اللّه تعالى لا يخلف الميعاد و هي جهة برهانية صحيحة سرنا على طبقها في (تاريخ الغيبة الكبرى)(1).

فقد أصبح الاستهداف وعدا، في أكثر من آية من آيات القرآن الكريم. منها قوله تعالى:

وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ، كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ، وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً. وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ، فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (2).

لا حظ معي ان نفس الفكرة موجودة في الزبور(3) كما هي موجودة في القرآن إلا

ص:525


1- (1) انظر مثلا ص 237 منه.
2- (2) النور: 55/24.
3- (3) انظر المزامير: 19/37 و 23 و 30.

أنها في الزبور مجرد إخبار عن واقعة ستتحقق في المستقبل و هي وراثة الناس الصالحين للأرض... و لكنها في هذه الآية (وعد)، و الوعد أكثر فاعلية و حركية من مجرد الاخبار، لأنه يتخذ درجة الالزام للواعد، و خاصة على مستوى الحكيم المطلق.

الجهة الثانية: انه في الفترة المتخللة ما بين تحقق الشرط الأول و تحقق الشرط الثاني للدولة العالمية الموعودة، سوف تمتلئ الأرض جورا و ظلما. و هذا ما تم البرهان على اقتضاء التخطيط له في (تاريخ الغيبة الكبرى)(1)، و قد أعطينا عنه فكرة مختصرة خلال حديثنا هذا أيضا.

الجهة الثالثة: انه يقترن بوجود هذا التيار العالمي الظالم، وجود نخبة من المؤمنين المنسجمين مع التخطيط العام، و هم الذين سيكون لهم شرف المشاركة في بناء الدولة الجديدة.

الجهة الرابعة: في اعتقاد المذهب الامامي: ان الاسلام يرى ان المهدي القائد هو محمد بن الحسن بن علي عليه السلام، الثاني عشر من الأئمة المعصومين و انه غائب إلى حين قيامه بالدولة الموعودة.

و قد سبق في الكتابين السابقين، البرهنة على رجحان هذه الفكرة الامامية على الفكرة المقابلة لها عند المسلمين الآخرين(2).

الجهة الخامسة: ان قيام المهدي بالدولة العالمية، لمدى أهميته البالغة في التخطيط الالهي العام، فسيكون له ارهاصات و مقدمات سابقة عليه بزمن بعيد أو زمن قليل. كما سبق أن عرضناه مفصلا، و أعطينا له الفهم النظري الكامل في الكتابين السابقين(3).

الجهة السادسة: ان السعادة التي تعم البشرية تحت نظام تلك الدولة العالمية لا تشبهها و لا تقاس عليها أي سعادة سابقة لأي مجتمع بشري، من الزوايا:

الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية، على حد سواء.

هذا مضافا إلى إقرار الاسلام لفكرة نزول المسيح و مشاركته في تطبيق العدل في العالم، كما نطق به الانجيل أيضا.

مضافا إلى جهات جانبية كثيرة، لا حاجة إلى الدخول في تفاصيلها بعد اطلاع

ص:526


1- (1) انظر - مثلا ص 247 فما بعدها.
2- (2) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص 501 و تاريخ ما بعد الظهور ص 78 و ما بعدها.
3- (3) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص 521 و غيرها. و تاريخ ما بعد الظهور ص 151 و ما بعدها.

القارئ عليها من خلال مجموع كتب هذه الموسوعة.

- 7 - و قد اتخذ التزوير و الانحراف في الفكرة المهدوية، طريقه إلى الأذهان البشرية خلال عصري التخطيطين الثاني و الثالث... متمثلا في خطين رئيسيين:

الخط الأول: و هو الخط الذي يغلب على عصر التخطيط الثاني، و الذي لا زالت آثاره موجودة إلى الآن، و هو ان العقائد الدينية التي تؤمن بوجود المستقبل الصالح للبشرية، يسمي كل منها شخصا معينا لقيادة ذلك المستقبل غير من يسميه الدين الآخر.

الخط الثاني: و هو الخط الذي يغلب على عصر التخطيط الثالث، أعني ما بعد الاسلام، و هو ادعاء عدد من الناس خلال التاريخ: المهدوية، و أخذهم بزمام المبادرة للاصلاح العام بحسب ما يفهمونه من وظيفة المهدي الموعودة و هي عدة حركات في التاريخ الاسلامي، ثم القضاء عليها في زمنها، و لم يبق وجود مهم في العصر الحاضر.

و لا نريد في هذا الصدد أن نسمي مصاديق و تطبيقات هذين الخطين، إذ لعلنا نتوفر لذلك مفصلا في جزء مستقل من هذه الموسوعة... و إنما غاية ما نريده في صددنا هذا، هو ارتباط هذا الانحراف بالتخطيط الالهي منشأ و تأثيرا.

و ينفتح عن ذلك تارة عن الخط الأول و أخرى عن الخط الثاني، في ضمن جهتين:

الجهة الأولى: في ارتباط الخط الأول من الانحراف بالتخطيط العام.

و هو مرتبط بعهد ما بعد الشريعة الموسوية، حين أصبح الأنبياء ينبئون عن المستقبل الصالح للبشرية، و يطلعون البشر عليه، كما عرفنا.

إن الذهنية البشرية المتخلفة نسبيا، التي تبني و تتبنى التقاليد و الأساطير، و التي كانت هي المسيطرة يومئذ، سوف يكون لها استنتاجها كما يلي: ان بوذا - مثلا - قد بشر بالمستقبل الصالح العادل، و هو أولى الناس بقيادته، لما يعرفون منه من الصلاح و الجدارة. كما ان شريعته التي يعتبرونها حقا كاملا، مع عدم الالتفات إلى مرحلتيها بطبيعة الحال، هي أليق الشرائع للتطبيق في ذلك اليوم الموعود. إذن فبوذا قد أخبرهم ضمنا عن عوده في المستقبل و تأسيسه ذلك المجتمع الصالح الموعود. و هكذا نبي آخر و آخر.

ص:527

و لعل مستوى ذهني آخر يلغي النبي المبشر بهذه البشارة، عن كونه قائدا، و يوكل الأمر إلى شخص آخر حسب مستواه الاجتماعي و القبلي، أو يوكله إلى شخص مجهول. إلا أنه - على أي حال - لا يستطيع أن يتنازل عن كون دينه هو الحق المطلق، مع عدم الالتفات إلى مرحلتيه أيضا. إذن فدينه هو المنتصر في ذلك المستقبل الموعود.

و الفكرة الصحيحة الوحيدة من هذا التسلسل الفكري هو وجود المستقبل الصالح. و أما قابلية ذلك الدين للتطبيق في ذلك المستقبل فهو خلاف ما قام عليه البرهان من مرحلتيه و نسخه بدين الاسلام، الذي هو الأطروحة العادلة الكاملة المعدّة للتطبيق في ذلك المستقبل.

و أما قابلية النبي المبشر كموسى أو بوذا أو غيرهما، فهو قابل للمناقشة من ناحيتين:

الناحية الأولى: لا أقل من احتمال أن أنبياء البشرية الأولى الواطئة ليس من الضروري أن يكونوا بارتفاع و عمق أنبياء البشرية العليا، لأن وجودهم ذاك كان لهداية البشرية في ذلك العصر، فلا يبقى برهان على اتصافهم بأكثر من هذه الدرجة من الكمال. و هذا يعني أنه لا دليل على قابلية أولئك الأنبياء لقيادة اليوم الموعود، تلك القيادة القائمة و بالضرورة على الرشد العالي و العمق العظيم.

الناحية الثانية: ان النبي الذي تفترض قيادته لليوم الموعود، ان طبّق شريعته الخاصة، كان ذلك خلاف ما أسلفناه من عدم قابلية دينه للقيادة، باعتبار مرحلتيه.

و إن فرضنا تطبيقه للأطروحة العادلة الكاملة، أو مشاركته فيه، فأوضح ما يرد عليه من مناقشة: انه يحتاج إلى دليل جديد غير مجرد تنبئه بالمستقبل الصالح، كما هو واضح. و لا دليل على ذلك في غير المسيح عيسى بن مريم عليه السلام. و أما اعتقاد قومه بقيادته، فهو ناشئ من مجرد ذلك التنبؤ، على أفضل تقدير، و هو لا يكفي دليلا على الاثبات.

الجهة الثانية: في ارتباط الخط الثاني من الانحراف بالتخطيط العام.

إنه بعد تحقق الشرط الأول لليوم الموعود، تم - كما عرفنا - إيضاح الفكرة المهدوية بشكل مهم، و تم التركيز بشكل واسع النطاق على وجود المهدي و دولته العالمية في المستقبل، بشكل قطعي لم يسبق له نظير.

و قد تكونت الذهنية المسلمة منتظرة للمهدي من ناحية، و ناظرة له بعين الهيبة و الاحترام من ناحية أخرى. و هذا الشعور نفسه يفتح في الأذهان المنحرفة

ص:528

المصلحية، الشعور باستغلال هذا الجو الصالح بطريقة باطلة. و لا يحتاج ذلك إلى تعب كثير من قبل الفرد المنحرف، سوى ادعاء انطباق مفهوم المهدي عليه، و انه هو المهدي الموعود لاصلاح العالم و القيام بدولة الحق، ليكتسب بذلك الأهمية و الاحترام و الشهرة المقترنة بالمهدي، في الذهنية المسلمة.

و لم توفق أي حركة (مهدوية) إلى اتساع كبير في التاريخ بل لم يوفق، أي مدع منهم إلى مباشرة الحكم و تأسيس دولة كاملة، حسب ما نعرف. و إنما كانت تبوء هذه الادعاءات بالفشل بعد زمن غير بعيد من ابتدائها. و هذا أدل دليل على كذب المدعي إذ لا نعني بالمهدي إلا من يحكم العالم بالعدل، و قد ثبت عدم اتصاف مدعي المهدوية كلهم بذلك.

هذا مضافا إلى ما برهنا عليه في (تاريخ الغيبة الكبرى)(1) من ضرورة طول العمر السابق على إقامة الدولة بالنسبة إلى قائدها، لكي تتسنى له القيادة الكاملة، و ليس المفروض بأحد من مدعي المهدوية اتصافه بذلك، حتى ان أصحابه أنفسهم لا يدّعون له ذلك.

كما ان إقامته الحجة على مهدويته و قيامه بتكوين عقائدي و مفاهيمي و تشريعي كامل، ضروري لاثبات مهدوية الشخص، و ليس في مدعي المهدوية من اتصف بذلك.

إلا ان هذا الاتجاه يذوب بعد موت صاحبه تدريجا، و لا يبقى منه غير النقل التاريخي. و من الممكن التأكيد على أنه ليس لهذا الخط أي أهمية فعلية، و ان انقراض القول به في المذاهب الاسلامية من أهم الأدلة على بطلانه، بعد قيام الدليل القطعي على انحفاظ الحق على الأرض في الجملة.

و هناك اتجاه أصغر بين بعض المسلمين يميل إلى القول بوجود المهدي و غيبته و طول عمره، مع تطبيقه على شخص معين كمحمد بن الحنفية عليه الرحمة أو غيره.

و أهم إيراد على هذا الاتجاه هو كونه:

أولا: خلاف إجماع المذاهب الكبرى في الاسلام، إذ تنفيه عقيدة أهل السنة و الجماعة و عقيدة الامامية معا، في المهدي، بالرغم من اختلافهما الداخلي فيه. و كل ما اتفقت المذاهب الكبرى على نفيه فهو باطل.

ص:529


1- (1) انظر ص 514 و غيرها.

ثانيا: خلال الأخبار المتواترة القطعية على كون المهدي هو محمد بن الحسن بن علي ثاني عشر الأئمة المعصومين عليهم السلام. و قد اعترف بذلك جملة من علماء العامة أيضا. كما سيأتي مفصلا في بعض الأجزاء المقبلة من هذه الموسوعة.

ثالثا: الدليل التاريخي القطعي على موت كل من ادعيت مهدويته بهذا المعنى.

بخلاف محمد بن الحسن عليه السلام، فانه لم ينقل الأخبار عن موته من قبل أي شخص معتد به، ما عدا بعض المتأخرين جدا ممن يجازف بالقول بدون تدبر، كما فصلناه في تاريخ الغيبة الكبرى(1).

التخطيط الرابع المنتج للمجتمع المعصوم

اشارة

- 1 - ينبغي أن تكون عدة أفكار غير محتاجة إلى تكرار، بعد أن ذكرناها في (تاريخ ما بعد الظهور)، و ملخصها ما يلي:

الفكرة الأولى: عدم إمكان الباحث، مهما أوتي من عمق و عبقرية ان يحيط بالعمق الحقيقي للوعي المفاهيمي و التشريعي الذي سيكون معلنا و ساري المفعول في دولة العدل الموعودة(2). و انه لا يمكن لأي فرد استيعاب ذلك أو تحديده ما لم يعشه مطبقا في الحياة. كل ما في الأمر انه يمكننا الاطلاع على جملة من الزوايا و الخصائص عن طريق ما تعرف ما الأدلة... و هي معرفة خالية من التحديد التام، و ان كانت مبرهنة الصدق في كثير من الأحيان.

الفكرة الثانية: ما ذكرناه هناك(3) من تفاصيل الحوادث ابتداء من أول ظهور المهدي عليه السلام إلى حين سيطرته على العالم، و الأسلوب الذي يتخذه في ذلك.

و إعطاء المبررات النظرية لذلك، مما يتصل بالتخطيط الثالث اتصالا وثيقا.

ص:530


1- (1) انظر ص 296 و ما بعدها.
2- (2) انظر تاريخ ما بعد الظهور: الجهة الثالثة من المقدمة.
3- (3) انظر نفس المصدر: القسم الثاني من الكتاب.

الفكرة الثالثة: شكل دولة المهدي (ع) من الناحية الادارية، و كيفية تقسيمه مناطق العالم و توزيعه الحكام الأكفاء عليها، مع إعطاء الايديولوجية العامة أو المبدأ الأساسي الذي تتصف به الدولة. حيث أعطينا هناك تفاصيله(1).

كما حاولنا(2) إعطاء أكثر من أطروحة لشكل الدولة بعد المهدي عليه السلام ذلك الشكل الذي سوف يتكفل مسئولية الاستمرار الذي رسمه القائد المهدي (ع) في توجيه البشرية نحو هدفها الأعلى.

الفكرة الرابعة: مقدار الرفاه الاجتماعي و الاقتصادي الذي يعم المجتمع في ذلك الحين. و قد أعطينا(3) تفاصيل محددة إلى حد كبير عن المستوى الزراعي و الصناعي و الثقافي السائد يومئذ.

الفكرة الخامسة: الخطوات الاجتماعية التي تتخذها الدولة لتكامل المجتمع و السير به نحو العصمة، في حدود ما أمكن الحصول عليه من الأدلة(4).

و إذا تم اطلاعنا على هذه الأفكار، لم يبق لدينا إلا محاولة طريفة، للاطلاع على بعض الخصائص العامة للمذهب الذي سينتج ذلك الرفاه العظيم... مع محاولة مقارنته بالمذهبين الماركسي و الرأسمالي، و النظر إلى نتائج هذه المذاهب.

- 2 - إن المذهب الاقتصادي للدولة المهدوية العالمية، لا يماثل بالضرورة المذهب الاقتصادي الذي تقوم عليه الأحكام الاسلامية الاقتصادية لعصر الغيبة، أعني لأيامنا هذه، فمهما كان المذهب المستكشف من مجموع هذه الأحكام الآن، فمن الجائز بل من الواضح أنه سوف لن يبقى على كل تفاصيله بعد الظهور، و إن شابهه بالروح العامة و هي ارتباطه بالاسلام، بالكتاب و السنة الصحيحة، و استهدافه العدل و الكمال.

و السر في ذلك ما عرفناه في (تاريخ ما بعد الظهور) من أن المهدي عليه السلام يقوم بعد ظهوره بأمرين مقترنين:

الأمر الأول: كشف الاحكام المطموسة التي أوجبت طول المدة بما تحتويه من

ص:531


1- (1) المصدر: الفصل الرابع من الباب الأول من القسم الأول.
2- (2) المصدر: الباب الأول من القسم الثالث.
3- (3) المصدر: الفصل السابع من الباب الثالث من القسم الثاني.
4- (4) المصدر: الفصل السادس من الباب الثالث من القسم الثاني.

حروب و مشاكل طمسها و جهالتها و ذهابها عن الذهن البشري(1).

الأمر الثاني: إعلان أحكام جديدة(2) لم تكن سارية المفعول منذ صدر الاسلام إلى عصر الظهور، بما للمهدي عليه السلام من قوة تشريعية على مستوى (السنة) الصحيحة في المفهوم الاسلامي.

و من الطبيعي أن يحتوي هذان القسمان من الأحكام على عدد غير قليل من الأحكام المتفرعة عن أحكام مذهبية اقتصادية، لا يمكن التعرف عليها في العصر الحاضر.

أضف إلى ذلك اختلاف مصالح المجتمع بين العصرين: العصر السابق على الدولة العالمية و اللاحق له... بحيث يمكن أن يعتبر المذهب الاقتصادي للعصر السابق مذهبا مرحليا لتربية البشرية باتجاه العصر اللاحق له. فمن الطبيعي ان يكون المذهب يومئذ أسلوبا معينا يساوق الوعي الجديد المعلن يومئذ، و سائرا به نحو الكمال باتجاه المجتمع المعصوم.

- 3 - و سيكون أسلوبنا في هذه المحاولة مبتنيا على مرحلتين:

المرحلة الأولى: محاولة التعرف على الأحكام الاقتصادية الرئيسية التي تكون معلنة في تلك الدولة. و ذلك عن طريقين:

الطريق الأول: ما وردنا من الأحكام التي تكون سارية المفعول يومئذ، عن طريق السنة الشريفة، و بعض القواعد الاقتصادية التي نطق بها القرآن الكريم.

الطريق الثاني: جملة من الأحكام التي يبعد جدا اختلافها بين العصرين، بحيث نطمئن أنها تبقى سارية المفعول يومئذ، نتيجة لوضوحها في الشريعة أو قيام القرائن على ذلك.

المرحلة الثانية: محاولة التعرف على القضايا المذهبية الاقتصادية التي يمكن اكتشافها من وراء تلك الأحكام التي ثبت في المرحلة الأولى كونها سارية المفعول، يومئذ.

- 4 - الطريق الأول: ما وردنا من بعض الأحكام التي تكون سارية المفعول يومئذ،

ص:532


1- (1) انظر تاريخ ما بعد الظهور: الفصل الأول من الباب الثالث من القسم الثاني.
2- (2) انظر المصدر نفسه و الفصل نفسه.

عن طريق السنة الشريفة.

نذكر فيما يلي بعض الأخبار الدالة على ذلك، سواء المروي منها عن طريق الرواية العامة أو الرواية الامامية.

1 - رواية معاذ بن كثير عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام، قال: موسع على شيعتنا أن ينفقوا مما في أيديهم بالمعروف، فإذا قام قائمنا حرّم على كل ذي كنز كنزه حتى يأتوه به و يستعين به(1).

و تستطيع أن تفهم من الكنز الأموال العامة التي تكون في يد الفرد أو في أمواله.

فانه لا يجوز أن يصرف منها الفرد أي كمية، بل يجب عليه تسليمها إلى الامام المهدي (ع) ليصرفها في المصالح العامة التي يراها.

2 - رواية مسمع بن عبد الملك عن الامام الصادق عليه السلام... يقول فيها: و كل ما كان في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محللون و محلل لهم ذلك إلى أن يقوم قائمنا فيجيبهم طسق ما كان في أيدي سواهم. فان كسبهم من الأرض حرام عليهم حتى يقوم قائمنا فيأخذ الأرض من أيديهم و يخرجهم منها صغرة(2).

و بسند آخر يقول: فيجيبهم طسق ما كان في أيديهم. و أما ما كان في أيدي غيرهم فإن كسبهم من الأرض حرام حتى يقوم قائمنا، فيأخذ الأرض من أيديهم(3).

3 - رواية عمر بن يزيد قال: سمعت رجلا من أهل الجبل يسأل أبا عبد اللّه عليه السلام، عن رجل أخذ أرضا مواتا تركها أهلها فعمرها و كرى أنهارها و بنى فيها بيوتا و غرس فيها نخلا و شجرا. قال: فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: من أحيا أرضا من المؤمنين فهي له و عليه طسقها يؤديه إلى الامام في حال الهدنة. فإذا ظهر القائم فليوطن نفسه على أن تؤخذ منه.

تدل هذه الروايات على أن العاملين في الأرض خلال عصر الغيبة أو الهدنة(4)- حسب تعبير الرواية - ممن يدعي أنه مالك للأرض و لجميع منتجاتها، سوف لن يبقى

ص:533


1- (1) وسائل الشيعة للحر العاملي: كتاب الخمس، أبواب الأنفال باب 4.
2- (2) نفس المصدر و نفس الباب.
3- (3) المصدر و الباب.
4- (4) يراد بعهد الهدنة ما هو أوسع من عهد الغيبة. فإن عهد الغيبة يبدأ بأول الغيبة الصغرى و ينتهي بعد الظهور. و أما عهد الهدنة فيشمل مضافا إلى ذلك ما قبله منذ وفاة النبي (ص).

حاله كذلك، بل ان الدولة العالمية ستأخذ الأرض من بعضهم أساسا، و ستقر الأرض في أيدي البعض الآخر، مع فرض ضريبة عليهم تسمى (الطسق)، أي القسط المفروض على الأرض... و لن يعمل أحد في الأرض مجانا.

4 - رواية علي بن سالم عن أبيه في حديث: قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الخبر الذي روي: ان ربح المؤمن على المؤمن ربا... ما هو؟ فقال:

ذلك إذا ظهر الحق، و قام قائمنا أهل البيت. فاما اليوم فلا بأس بأن تبيع من الأخ المؤمن و تربح عليه(1).

و تشير هذه الرواية إلى الآية الكريمة:

... ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا، وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا (2).

و البيع مع ممارسة الربح، في ذلك العصر، إنما هو ربا حرام. فلا فرق يومئذ في حرمة الفائدة بين أن تكون ربوية أو غير ربوية، بالمصطلح الفقهي المعاصر. نعم، يبقى البيع بين الكميتين المتساويتين في القيمة المالية بيعا مشروعا، سواء كان مقايضة أو عينا بنقد.

5 - رواية جابر عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، في حديث، قال: إذا قام قائمنا أهل البيت قسم بالسوية، و عدل في الرعية... و يجمع إليه أموال الدنيا من بطن الأرض و ظهرها. فيقول للناس: تعالوا إلى ما قطعتم فيه الأرحام و سفكتم فيه الدم الحرام و ركبتم فيه ما حرم اللّه عز و جل. فيعطي شيئا لم يعطه أحد كان قبله(3)... الحديث.

6 - أخرج مسلم في صحيحه بعدة أسناد و ألفاظ متقاربة منها: ما عن أبي سعيد قال: قال رسول اللّه (ص): من خلفائكم خليفة يحثو المال حثيا و لا يعده عدا.

و عن أبي سعيد و جابر بن عبد اللّه قالا: قال رسول اللّه (ص): يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال و لا يعده(4).

7 - و في الصواعق عن أبي نعيم: ليبعثن اللّه رجلا من عترتي... يملأ

ص:534


1- (1) وسائل الشيعة ج 2 ص 616 (كتاب التجارة).
2- (2) البقرة: 275/2.
3- (3) انظر غيبة النعماني ص 124.
4- (4) صحيح مسلم ج 8 ص 185، الحديث و الذي قبله.

الأرض عدلا، يفيض المال فيضا.

8 - و في حديث آخر: فيجيء الرجل فيقول: يا مهدي أعطني أعطني، فيحثي له في ثوبه ما استطاع أن يحمله(1).

9 - و أخرج البخاري عن رسول اللّه (ص) أنه قال: تصدّقوا، فسيأتي على الناس زمان يمشي الرجل بصدقته فلا يقبلها(2).

كما أخرج مسلم(3): لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال فيفيض حتى يهم رب المال من يقبل منه صدقة، و يدعى إليه الرجل، فيقول: لا أرب لي فيه.

و الأخبار بهذا المضمون مستفيضة بين الفريقين... ففي الارشاد للشيخ المفيد عليه الرحمة(4) عن المفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: إن قائمنا إذا قام أشرقت الأرض بنور ربها... و تظهر الأرض كنوزها حتى يراها الناس على وجهها، و يطلب الرجل منكم من يصله بماله و يأخذ منه زكاته، فلا يجد أحدا يقبل منه ذلك، و استغنى الناس بما رزقهم اللّه من فضله.

و بهذا الخبر و نحوه، يمكن ان تقيد الأخبار السابقة التي لم تنص على أن كثرة المال خاصة بعصر الدولة العالمية... فيمكن أن نفهم منها خصوص ذلك باعتبار هذا الحديث.

و قد طرحنا في فهم هذه الأخبار في (تاريخ ما بعد الظهور)(5) أطروحتين رئيسيتين:

الأطروحة الأولى: ان المال يتوفر لدى الدولة عن طريق ما تقوم به الزراعة و الصناعة و التعدين و غيرها من استثمارات زائدة عن حاجات الأفراد بكثير.

الأطروحة الثانية: ان توفر المال عن طريق السيطرة على البنوك الكبرى في العالم، حيث يعتبر أكثر المال الذي خزن فيها مغصوبا و حراما لمن سجلت باسمه من الناحية الاسلامية.

كما يمكن أن يكون حصول الدولة على المال، باعتبار كلا هاتين الأطروحتين.

ص:535


1- (1) الصواعق ص 98. هذا الحديث و الذي قبله.
2- (2) صحيح البخاري ج 9 ص 73-74.
3- (3) انظر الصحيح ج 3 ص 84.
4- (4) الارشاد ص 342.
5- (5) انظر: الفصل السابع من الباب الثالث من القسم الثاني.

كما أن سبب توزيع المال الفائض مجانا، طرحنا له في الكتاب المشار إليه(1)أطروحتين:

الأطروحة الأولى: ان كمية ضخمة من المال تبقى من دون أن يتوقع لها مورد معين. و من هنا يكون السبيل الوحيد لها هو تمكين الناس منها و إباحتها لهم مجانا.

إلا أن هذه الأطروحة بعيدة عن الظن، لعدة قرائن سنشير إليها، منها ملاحظة الأطروحة التالية:

الأطروحة الثانية: ان دولة المهدي (ع) بعد أن تتخذ أساليبها و برامجها في إغناء الناس و ترفيههم، حتى لا يبقى مشتاق إلى المال أصلا، و لا فقير على الاطلاق، حتى أن الغني يدور بزكاته باحثا عن الفقير - الذي يجب دفع الزكاة إليه - عندئذ، تتعلق المصلحة بإبراز ذلك و إيضاحه، أمام البشر أجمعين و التاريخ كله، و ذلك بالقيام بتخطيط معين موقت، و هي أن تهيئ الأموال الفائضة، و يعلن للناس إعلانا عاما: أن بإمكانهم الحصول عليه مجانا... و لكن حين لا يقبل الناس على أخذ المال إلا بإعداد قليلة جدا، كواحد أو أكثر بقليل، كما هو ظاهر الأخبار... يثبت بالضرورة أن جميع الأفراد قد أصبحوا أغنياء إلى حد قد انقطعت كل أطماعهم و تحققت كل آمالهم.

إن نفس هذه الأخبار دليل تأخر هذا المخطط عن شمول الغنى للناس، و هو بنفسه قرينة على بطلان الأطروحة الأولى.

و على أي حال، فإن هذه الأخبار تدل على أن من حق الدولة أن تقوم بالتوزيع المجاني للمال حين ترى المصلحة في ذلك.

10 - أخرج النعماني في الغيبة(2) عن حمران بن عين عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، انه قال: كأنني بدينكم هذا لا يزال موليا يفحص بدمه ثم لا يرده عليكم إلا رجل منا أهل البيت، فيعطيكم في السنة عطائين و يرزقكم في الشهر رزقين.

و هو واضح في توزيع الراتب في الشهر مرتين مع إضافة جائزتين سنويتين.

و هذا أسلوب فريد لم يكن يفهمه أو يلتفت إليه أحد في عصر صدور النص، ما عدا

ص:536


1- (1) تاريخ ما بعد الظهور: نفس الفصل.
2- (2) ص 125 منه.

المعصومين الذين صرحوا به. و بقيت الفكرة غامضة في أذهان الأجيال إلى السنوات المتأخرة من هذا القرن، حيث مالت بعض الأنظمة الحديثة إليه.

فهذه أهم الأخبار التي يمكن إيرادها ضمن الطريق الأول. على أننا ينبغي أن نلتفت إلى أن الأحكام التي سوف تكون معلنة يومئذ، عموما، مؤجلة إلى ذلك اليوم، و ليس المفروض الاطلاع عليها قبل ذلك إلا لماما.

- 5 - و أما القواعد الاقتصادية التي نطق بها القرآن الكريم، فقد أخرناها في الذكر لكونها أكثر تعميما من تلك الأخبار التي تعتبر نصا بما بعد الظهور و تأسيس الدولة العالمية.

و من الواضح انه بعد ان ثبت أن المهدي عليه السلام مطبق أمين لقواعد القرآن الكريم، كما سبق برهانه في (تاريخ ما بعد الظهور)؛ إذن، فكل ما في القرآن الكريم من قواعد و أحكام ستنزل إلى حيز التطبيق في دولته العالمية، و من غير المحتمل أن يصيبه التحريف و التزوير. نعم، يحتمل أن يعرض المهدي (ع) تفسيرات و إيضاحات جديدة للقرآن لم تكن موجودة... إلا ان هذا إنما يكون في الآيات التي لا تكون نصا في مدلولها، و أما النص الصريح فيكون تفسيره مسخا لمعناه... و من ثم فيكون من الطبيعي أن تنزل الآيات الصريحة إلى حيز التطبيق بنفس المدلول الذي نفهمه الآن من صراحتها. و نحاول فيما يلي أن ندرج عدة آيات كريمة، و نحاول أن نقتصر في الاستفادة منها على مقدار صراحتها:

الآية الأولى: قوله تعالى:

أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ 1... .

فالبيع بصفته معاملة رئيسية يقوم عليها السوق، سوف يبقى ساري المفعول، أو بتعبير أدق، سوف تبقى معاملة البيع نافذة و صحيحة في الدولة العالمية، و إن كان المجتمع تحت ظروف الرفاه العميق قد لا يحتاج إليها كثيرا.

الآية الثانية: قوله تعالى:

وَ حَرَّمَ الرِّبا (1).

و غيرها من الآيات الصريحة في تحريم المعاملات الربوية. فسيبقى تحريمها

ص:537


1- (2) نفس السورة و الآية.

ساري المفعول، سواء على مستوى السوق أو البنوك، أو المؤسسات العامة أو غيرها... تحريما مطلقا.

الآية الثالثة: قوله تعالى:

وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللّهِ، وَ اللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (1).

و هي دالة على حرمة السرقة، باعتبار وضع العقوبة عليها، لأن ما لا يكون محرما لا معنى لجعل العقاب عليه. و إنما تحرم السرقة بصفتها اعتداء على أموال الآخرين، و من ثم يمكن تعميم مدلول الآية إلى كل نهب و سلب لأموال الآخرين، سواء سمي سرقة أو لا.

الآية الرابعة: قوله تعالى:

أَوْفُوا بِالْعُقُودِ... (2).

و هي دالة على نفود العقود المعاملية عموما. كل ما في الأمر، انه قد تتغير أشكال المعاملات بين عصر و عصر، و من المحتمل أن توجد أشكال جديدة من المعاملات في الدولة العالمية. فتكون نافذة بتشريع المهدي (ع) لها و شمول الآية.

الآية الخامسة: قوله تعالى:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ، إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ... (3).

و هي دالة على أمرين مقترنين:

أحدهما: حرمة الحصول على الأموال بطريق باطل، بمعنى عدم جواز الاعتداء على أموال الآخرين و حيازتها بطرق غير مشروعة.

ثانيهما: إن الطريق الرئيسي المشروع للحصول على الأموال هو التجارة الناتجة عن الأطراف المعنيين و عدم الاكراه. فإذا تذكرنا هنا عدم جواز الربح التجاري يومئذ، تبقى الآية دالة - مضافا إلى الأمر الأول - على عدم جواز الاكراه في المعاملة، و إن لم تكن سببا للربح.

سادسا: قوله تعالى:

يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ... الخ الآية.

ص:538


1- (1) المائدة/ 38.
2- (2) المائدة/ 1.
3- (3) النساء/ 29.

و غيرها من قواعد الارث التي ينطق بها القرآن الكريم. فانها جميعا مما لا يمكن تغيره عن واقعه يومئذ. نعم، ستقل أهميته في الرفاه العميق الذي يعيشه المجتمع، على ما سنذكر.

... إلى غير ذلك من الآيات، مما لا حاجة إلى استقصائه.

- 6 - الطريق الثاني: لمعرفة الأحكام الاقتصادية المعلنة يومئذ، هو إقامة القرائن و الدلائل على استمرار بعض الأحكام - مما لم ينص عليه القرآن بوضوح - من عصر ما قبل الدولة العالمية إلى ما بعده.

و هنا نحتاج إلى مرحلتين من الاثبات:

المرحلة الأولى: إن الأحكام الآتية ثابتة في الشريعة الاسلامية الآن، قبل عصر الدولة العالمية. و هذا ما لا نحتاج إلى إثباته الآن، بل نأخذه مسلما موكولا إثباته إلى الفقه الاسلامي. و هي - في الأغلب - أحكام مشهورة فقهيا.

المرحلة الثانية: إن هذه الأحكام نفسها ستكون ثابتة في الدولة العالمية.

و يمكن إقامة بعض القرائن و المثبتات العامة لذلك:

القرينة الأولى: وضوح الحكم في الشريعة بحيث يعتبر خلافه ظلما للفرد أو المجتمع بشكل من الأشكال.

القرينة الثانية: مناسبة الحكم أو الأحكام مع روح ما عرفناه من الأحكام بالطريق الأول، و مع اتجاهها العام الذي تمثله، كما سنشير إليه.

القرينة الثالثة: إنتاج الحكم أو الأكثر لبعض النتائج السابقة في الرفاه الاجتماعي إنتاجا واضحا. أو أن يكون عدم الحكم و ارتفاعه، سببا لعكس هذه النتيجة.

القرينة الرابعة: مناسبة الحكم مع التنظيم الاجتماعي المضبوط على مستوى الدولة العقائدية العالمية، إذ لا شك ان الوضع المشتت، كما عليه الحال قبل قيام تلك الدولة، يقتضي شكلا من الأحكام أخف إلى حد ما من الوضع المنظم الذي تقوم به الدولة النظامية العالمية. فاذا كان الحكم ثابتا قبل قيام الدولة، و هو موجب للضبط و التنظيم بحسب افهامنا، فبالأولى أن يكون ثابتا بعد قيام الدولة.

هذا و ينبغي أن نلاحظ على هذه القرائن أمرين:

الأمر الأول: إن كل قرينة من هذه القرائن لا تنتج اليقين باستمرار الحكم إلى

ص:539

عصر الدولة العالمية، و إنما تنتج الظن الراجح به. و إن توفرت أكثر من قرينة واحدة فيه كان الظن أكبر، كما هو واضح حتى يصبح وثوقا و اطمئنانا.

الأمر الثاني: ان هذه القرائن مهما كثرت، لا يمكن ان تنتج لدينا اكتشاف حكم جديد لم يكن موجودا قبل قيام الدولة العالمية، بحيث يكون مشرعا و ساري المفعول يومئذ.

و السر في ذلك: ان انتساب الحكم في عصرنا الحاضر إلى الاسلام، قرينة مهمة لثبوته يومئذ، و هو المسمى في أصول الفقه باستصحاب عدم النسخ، بشكل استقبالي. فان أثبتنا سريان الحكم بأحد هذه القرائن الخمسة فقد دعمنا ذلك بهذه القرينة المهمة؛ على حين ان الحكم الذي لم يكن موجودا في عصرنا الحاضر، يكون خاليا - بطبيعة الحال - من هذه القرينة، فتكون تلك القرائن الأربعة وحدها، عاجزة عن إثبات الحكم الجديد.

- 7 - لعل أوضح الأحكام التي تبقى سارية المفعول إلى ذلك العصر، هو الحكم بمشروعية الملكية الخاصة. إذ يمكن إثباتها على شكلين:

الشكل الأول: تطبيق القرائن العامة السابقة عليها. فان من الملاحظ ان أكثرها ترد في هذا الصدد، لا أقل من القرينتين الأوليتين، فان مشروعية الملكية الخاصة يحتوي على وضوح في الشريعة بحيث يعتبر إلغاء مشروعيتها قانونا ظالما بشكل من الأشكال. و هذا ما يشعر به أهل الاسلام عموما. و به تتم القرينة الأولى.

و كذلك تصح القرينة الثانية: فان الاتجاه العام في الأحكام التي عرفناها يميل إلى الاعتراف بالملكية بما ستتبعه من معاملات و مواريث... و نحوها.

الشكل الثاني: الاستدلال على وجود الملكية في ذلك العصر، بما عرفنا من خبرات و ما سمعنا عنه من أحكام.

فمن ذلك: توزيع المهدي عليه السلام للمال مجانا، فان الفرد يأخذه على وجه الملكية بطبيعة الحال.

و منه: الروايات المصرحة بحصول الغنى الشامل للأفراد، و هو أيضا يحصل بطريق التملك.

و منه ملكية الزارع لناتج أرضه، بعد دفع القسط المفروض عليه من قبل الدولة.

ص:540

هذا غير ما عرفناه من نفوذ المعاملات و الارث الذي يتقوم بالملكية الخاصة.

و قد يخطر في الذهن: ان انفاذ البيع و المعاملات، لا يتوقف على الاعتراف بالملكية الخاصة، بل يمكن أن تكون بالأموال العامة التي تكون للدولة الاشراف عليها إلا أن هذا لا يصح لعدة وجوه:

أولا: إننا فهمنا نفوذ المعاملات يومئذ من شمول بعض آيات القرآن الكريم له، كقوله تعالى (أحل اللّه البيع). فاذا علمنا ان الفرد الأوضح لهذه الآيات هي المعاملات الشخصية، و إن شملت معاملات الدولة ضمنا. و من الواضح انه لا يمكن استثناء الفرد الواضح و إبقاء الفرد الخفي في الدلالة، فإنه قبيح عرفا. إذن، فشمول الآيات للمعاملات الشخصية المبتنية على الملكية الخاصة واضح. و به يثبت وجود الملكية الخاصة في ذلك العصر.

ثانيا: اننا إذا خصصنا المعاملات بالأموال العامة، التي تقوم الدولة بالاشراف عليها... فمع من سوف تكون الدولة طرفا للمعاملة؟ انها لا شك سوف تعامل دولة مثلها، لأن الأفراد سقطوا عن الصلاحية بعد إسقاط الملكية و لكن ما ذا تعمل الدولة إذا كانت عالمية تقف وحدها في الميدان؟ إذن، فمعاملات الدولة، بمعنى منعزل عن الأفراد لا معنى له يومئذ. فاذا كان للمعاملات وجود... إذن، فيجب أن يكون طرفها الملكية الخاصة.

ثالثا: اننا إذا تنزلنا و قبلنا ذلك - جدلا - في المعاملات، بقيت الأدلة الأخرى.

كافية لإثبات وجود الملكية الخاصة، كالإرث و توزيع المال مجانا و غيرها، مما لا طريق إلى فهمه إلا الملكية الخاصة.

و قد يخطر في الذهن احتمال ذوبان الحاجة إلى الملكية الخاصة بالمرة نتيجة لزيادة الانتاج و توفره أكثر من الحاجة الشخصية بكثير، بحيث لا تبقى قيمة حقيقية للمال في نظر الأفراد. و خاصة بعد الذي عرفناه من ان القائد المهدي (ع) يعلن عن توزيع المال مجانا فلا يأخذه منه أحد.

و من الواضح ان أموال العالم إذا صرفت كلها في الانتاج و لم يكن للحروب أثر، أصبح الانتاج فائضا بأضعاف مضاعفة، مضافا إلى ما سمعناه من تأييد الوضع الطبيعي للوضع الاجتماعي العادل، فسيبلغ الرفاه و كثرة الانتاج مستوى لم تحلم به الماركسية في طورها الأعلى.

و معه لا يبقى للملكية الخاصة و للسرقة و الغصب و للبيع و كثير من المعاملات

ص:541

أي معنى، باعتبار أن الفرد مهما أراد أن يحصل على إشباع حاجته و جده متوفرا. و قد يكون هذا هو المراد من توزيع المال مجانا.

و هذا كلام وجيه و لطيف، و خاصة في المجتمع القائم على النظام و الأخوة إلا أنه - مع ذلك - لا تثبت النتيجة التي تريدها الماركسية و هي إلغاء الملكية إلغاء تاما.

و ذلك: لوضوح امتناع أن تتوفر جميع الأشياء على مثل هذا المقدار الكبير. إذ ان عددا من الأشياء قليل الوجود في الطبيعة أساسا، بحيث لا يمكن توفيره إلا بمعجزة. فإذا كانت الملكية الخاصة مسلوقة مع الندرة النسبية و تابعة لها، فستبقى الملكية موجودة في كل ما هو نادر نسبيا، مما هو نادر في الطبيعة أساسا، و مما هو نادر من أعمال البشر كالمخطوطات و التحف و نحوها، مما لا يكون مثيلها الحديث نفس أهمية القديم.

و الندرة قد تحدث صدفة لدى الشخص أو الجماعة المحدودة، إذا حصلت الحاجة لبعض المواد مما هو موجود أقل من الحاجة، و لا يمكن مضاعفته لبعض العوارض الطبيعية أو المرض أو نحوه.

هذا، و لكن الواقع على أن للملكية الخاصة معنى لا يمكن أن يتبدل مع زيادة الإنتاج أو قلته، فإن الملكية الخاصة إنما تكتسب أهميتها من زاوية الإرفاق بالمالك و مصلحته، ما دامت تشبع له حاجته و تؤدي دورها في حياته، فإذا لم يشعر المالك بهذه الأهمية و انصرف ذهنيا عنها، لم يبق لملكيته أية أهمية. و من هنا اعتبروا إعراض المالك عن ماله مسقطا له عن ملكيته. و من هنا - أيضا - وجد معنى الأموال العامة أو المباحات العامة، التي لا يشعر أي فرد أو جماعة بأهميتها بالنسبة إليه، فلا معنى لملكيتها الخاصة.

إذن، فأهمية الملكية قانونا، منوط بشعور المالك تجاهها بالأهمية و الارتباط.

و أما لو انعدم ذلك فان الملكية تنعدم من الناحية الواقعية، و لا تبقى سوى لقلقة لسان.

و هذا يعني أن المادة المعينة كالخبز - مثلا - إذا أصبحت متوفرة كالهواء. فإن شعور المالكين بأهميتها يسقط بالمرة، بحيث لا يفرق في حال الفرد حقيقة بين أن يبقى هذا الرغيف عنده أو أن يسرقه سارق، لأنه يعلم أنه سيحصل على مثله في الحال.

و معه ينعدم معنى الملكية و السرقة و الغصب و الضمان و كثير من المعاملات.

إلا أن هذا الانعدام يبقى منوطا بهذه الوفرة، فبمجرد أن توجد الندرة النسبية تعود كل هذه المفاهيم الاقتصادية إلى المجتمع. و حيث ان المجتمع لا يخلو من أمور

ص:542

نادرة نسبيا باستمرار، إذن، فهذه المفاهيم لا يمكن أن يتم القضاء عليها قضاء تامّا.

و حيث لا تستطيع أية دولة، إسلامية أو ماركسية أو غيرها، أن توفر كل شيء على الإطلاق، توفيرا مائة بالمائة، إذن، فلا يمكن أن يدعي أحد إمكان زوال الملكية الخاصة.

- 8 - و هناك أحكام أخرى - مضافا إلى الملكية - يمكن إثبات وجودها في الدولة العالمية الموعودة، بنفس الأسلوب، و إن لم تكن في الوضوح كالملكية الخاصة.

الحكم الأول: قاعدة (من حاز ملك) الثابتة في المورد الذي يكون للملكية الخاصة معنى، و هي الموارد التي لها ندرة نسبية، فتكون الحيازة فيها سببا للملكية.

و تشمل حيازة المعادن و الصيد و الاحتطاب و الاحتشاش و غيرها.

و هذا من الأحكام الثابتة في الفقه الإسلامي في العصر الحاضر، و تقوم على ثبوته في الدولة العالمية عدة قرائن من القرائن السابقة، لا أقل من القرينتين الأوليتين. فإن له الوضوح الكافي في الشريعة، بحيث يعتبر خلافه ظلما بشكل و آخر، كما أنه منسجم مع الاتجاه العام للأحكام التي عرفناها.

نعم، قد يقتضي إشراف الدولة العالمية على سائر مرافق الحياة، تنظيم هذه الجهة بشكل من الأشكال، كتوقف الحيازة على إجازتها، أو إعطاء الإجازة بمقدار معين أو اشتراطها بأداء قسط منها للدولة أو للمحتاجين أو للمؤسسات العامة و نحو ذلك.

و أما فكرة الحيازة أساسا، فستبقى لأنه لا معنى للحصول على المواد الخام من الطبيعة بدونها.

و من المحتمل مد الدولة العالمية يد المساعدة في هذا الصدد للأفراد مجانا كتوفير الآلات اللازمة للاستخراج، على أن يكون النتاج للأفراد أنفسهم لا للدولة.

الحكم الثاني: تحريم الاحتكار: فإنه ثابت فقهيا في عصرنا هذا في بعض المواد الغذائية، كبعض الحبوب و الملح فانه يحرم احتكارها و عدم عرضها في السوق، و يحرم الاحتكار في جميع المواد عند الجماعة، في حدود ما يرفع الحاجة و يحل المشكلة.

و يحرم الاحتكار أيضا عند منع الدولة الإسلامية العادلة عنه، في أي مادة كان.

و كل ذلك منطقي الثبوت في الدولة العالمية العادلة، فإنه مما تدل عليه أكثر القرائن السابقة بل جميعها، و تطبيقه عليها واضح إسلاميا، فنوكله إلى القارئ

ص:543

اللبيب، و لا حاجة إلى التطويل فيه.

الحكم الثالث: إباحة الفائض من المورد الطبيعي - الذي يوجد تحت حيازة شخص - للآخرين. كالماء و الكلاء و النار، و نحوها. فلو وجد في أرض شخص نهر أو عين ماء فله أن يقضي منه جميع حاجاته الشخصية... فإذا زاد الماء عن حاجاته، كما هو المفروض، لم يجز له منع الآخرين عنه.

و هذا أيضا تتوفر فيه أكثر القرائن السابقة ما عدا الأولى، فإنه ليس من واضحات الشريعة بالمعنى السابق، إلا أنه مما يقتضيه الصالح العام و التنظيم الاجتماعي، و يتفق مع الاتجاه العام للأحكام السابقة.

الحكم الرابع: وجوب إباحة الفائض من المعادن عن العمل الشخصي للآخرين.

فمنجم الفحم أو الذهب أو النفط، سواء وجد في أرض مملوكة أو أرض عامة، فإنه يكون للأفراد حيازة ما شاءوا منه بالعمل، و لو باعتبار تزويد الدولة العالمية لهم بالآلات، كما عرفنا. و أما الزائد عن الحاجة فيمكن الحديث عنه على مستويين:

المستوى الأول: إن كان المنجم في أرض شخصية، جاز لصاحب الأرض الاستفادة منه ما استطاع العمل و الحيازة. و أما الزائد، فلا يجوز له منع الآخرين عن العمل لحيازته.

المستوى الثاني: ان الزائد عن عمل مجموع العاملين، سيكون على أي حال للدولة حق التصرف فيه فيما ترى من المصالح العامة.

و هذا التسلسل في الحكم الإسلامي ثابت في عصرنا، و من المنطقي أن يثبت في الدولة العالمية، فانه مما تقوم عليه عدة قرائن ما سبق... و خاصة إذا نظمته الدولة بقانون.

فهذه جملة من الأحكام التي يمكن إثباتها بالطريق الثاني، الذي خططناه لمعرفة الأحكام في الدولة العالمية. و قد حصلنا بالطريقين على مجموعة مهمة من الأحكام التي يمكن أن تكون منطلقا إلى استكشاف الأفكار المذهبية الأساسية التي شرعت من أجلها. و هذا ما سنذكره بعد قليل في المرحلة الثانية من الحديث عن المذهب الاقتصادي في الدولة العالمية.

ص:544

- 10 - و أول خطوة نتخذها في هذا الصدد، إعطاء فكرة عن معنى الأحكام الاقتصادية المذهبية عموما، و فرقها عن الأحكام الاقتصادية الاعتيادية و عن علم الاقتصاد السياسي.

و نحن لزاما علينا أن نضغط الكلام هنا ضغطا، لأن البحث ليس بطبيعته اقتصاديا، فإذا مشينا في هذا الصدد طويلا، كان ذلك على خلاف الغرض الأساسي للكتاب.

إن المذهب الاقتصادي يمثل «مجموعة من القضايا الاقتصادية المفهومية» التي تمت إلى ما ينبغي أولا ينبغي إنجازه في السوق أو غيره من المحاور الاقتصادية، و ستأتي له أمثلة متعددة.

و بصفته المفهومية يفرق عن الأحكام الاقتصادية الاعتيادية في الفقه أو القانون، فبينما هما يشتركان في أنهما معا يحملان معنى التشريع و الارتباط بالعدالة.

نرى أن الحكم المذهبي يستبطن معنى مفهوميا (مبدئيا) يمت إلى الفهم العام للحياة بصلة وثيقة. كمفهوم «الملكية في نطاق محدود» الآتي. على حين نرى أن الحكم الاقتصادي الاعتيادي بعيد عن الجهة المفهومية، و إنما ينسجم مع غيره ليمثل مجموعة تكوّن بنتيجتها معنى مفهوميا اقتصاديا و قد سبقت أمثلته، كتحريم احتكار الملح أو أخذ الزوجة ربع تركة زوجها أو اشتراط صحة البيع باللفظ.

و أما علم الاقتصاد فلا يمت إلى التشريع و العدالة بصلة، و بهذا يختلف عن كلا الحقلين الاقتصاديين السابقين... و إنما هو مجرد سرد أو وصف لقضايا و ظواهر اقتصادية في سوق معينة مستنتجة من تجارب و وقائع خاصة، كقانون العرض و الطلب، و القانون الحديدي لأجور العمال اللذان يصحان في السوق الرأسمالية الحرة، و هكذا!.

و من الممكن حين يكون المذهب الاقتصادي مجهولا، اكتشافه عن طريق الأحكام المتفرعة عنه، و التي تمثل بمجموعها قضية من قضاياه، فيستكشف من تلك المجموعة هذه القضية المذهبية، و من المجموعة الأخرى القضية الأخرى، حتى يستكشف جميع ما في المذهب الاقتصادي من قضايا و أحكام مفهومية اقتصادية.

و قد سبق إلى الآن، أن عرضنا عددا من الأحكام الاقتصادية العملية الاعتيادية، و نريد الآن أن ننطلق إلى الأحكام المذهبية المفهومية التي ترتكز تلك عليها

ص:545

و تنطلق منها. لكي نحصل من مجموع المفاهيم الاقتصادية المذهب الاقتصادي للدولة العالمية، أو عددا من خصائصه، بمقدار الإمكان.

- 11 - ان أهم القضايا المذهبية التي يمكن فهمها من الأحكام السابقة، يمكن أن نعددها فيما يلي:

المفهوم المذهبي الأول: حق الدولة في السيطرة على الحقول الاقتصادية عموما.

و هذا يعني في حدود ما عرضناه: أن من العدالة أن تتدخل الدولة في جميع الشؤون الاقتصادية في المجتمع، بشكل يمت إلى المبدأ الحياتي بصلة، و هو: أن تصل بالمجتمع البشري إلى هدفه المنشود في التخطيط الإلهي العام.

تتجلى هذه القضية المذهبية من عدة أحكام مما سبق، كحق الدولة في سحب الأرض من يد العامل عليها، و إخراجه منها، و حقها في جعل الضريبة على من تسمح له بالعمل فيها. و كذلك سيطرتها على الأموال العامة عموما، و هي المملوكة للدولة أو لجهة عامة. و من أوضح مصاديقه الخراج و غنائم الحرب و الضرائب الإسلامية العامة: الخمس و الزكاة.

و كذلك سيطرتها على البنوك، و جرد محتوياتها و اخراج المال الحرام منها، و تطبيق النظام الإسلامي الخالي من الربح الربوي عليها، بل حتى من الربح التجاري.

و كذلك سيطرتها على الفائض عن الحاجات الشخصية للأفراد، من النبات و الأرض و المعادن. فان كل هذه الأحكام الاقتصادية تمثل تطبيقات مختلفة لسيطرة الدولة على الاقتصاد في المجتمع. و له شواهد أخرى لا حاجة إلى تفصيلها.

المفهوم المذهبي الثاني: ينبغي للدولة أن تمديد المساعدة الاقتصادية للفرد و المجتمع.

و لعل أوضح تطبيق سمعناه لذلك هو توزيع الأموال مجانا، لو فهمناه كمساعدة للمحتاجين، و كذلك منح الأرض للشخص من دون أن تأخذ عليها ضريبة، فان من حقها أن ترفض أخذ الضريبة التي تستحقها. و كذلك توزيع الآلات و المكائن الخاصة بالزراعة و التعدين و غيرها.

و طبقا لهذين المفهومين تضع الدولة العالمية نظام الضمان الاجتماعي و تؤسس

ص:546

المؤسسات الخيرية و الصناعية و الزراعية، و تسن القوانين الاقتصادية التي تشارك في بناء المجتمع الذي هو على طريق العصمة. و ان لم تكن تفاصيل هذه الأمور معروفة الآن.

المفهوم المذهبي الثالث: الملكية في نطاق محدود.

فإن الملكية قد تتخذ صفة التشريع الاعتيادي، فيما إذا حكم المشرع بحصولها نتيجة للهبة أو البيع، حيث لا تتصف بأي مسحة مفهومية حينئذ.

و قد تتخذ الملكية صفة مفهومية حين يكون المقصود الجواب على مثل هذا السؤال: هل من الراجح جعل الملكية أساسا أولا. أو هل من الراجح تحديدها بعد جعلها و تشريعها، أو لا بد من إطلاقها بدون قيد و لا شرط.

و قد أجابت الماركسية على ذلك بضرورة إلغاء الملكية، كما أجابت الرأسمالية بضرورة إبقائها و إطلاق سراحها!!! و قد أجابت الأطروحة العادلة الكاملة بضرورة إبقائها مع جعل القيود عليها، بحيث لا تضر بالآخرين على أقل تقدير.

أما وجود الملكية في تلك الأطروحة، فقد تم الاستدلال عليه في الفقرة السابعة من هذا الفصل. و أما قيودها فتتجلى في العديد من الأحكام التي سمعناها. كمنع الاحتكار و منع الربا و منع الربح التجاري و منع الحصول على المال من طرق غير مشروعة، و منع حصر الارث في شخص معين مع وجود الورثة المشاركين، و ضرورة توزيع المال على جميع الورثة. و كحق الدولة في تحديد ما يمكن للفرد ان يحوزه من المباحات العامة، و من المعادن، و في تحديد ما يمكنه أن يزرعه من الأرض. كل ذلك بقانون حسب ما تراه الدولة العالمية من المصلحة.

و كذلك منع حيازة الفائض من المصادر الطبيعية و المعادن، و فرق هذا عن تحديد الدولة، ان هذا حكم وقتي من قبل الدولة، على حين ان ذلك حكم في أصل التشريع. و كل هذه الأحكام تتضمن بالضرورة تحديدا للملكية.

المفهوم المذهبي الرابع: أخلاقية الاقتصاد العادل.

فإن المسألة الاقتصادية ليست مسألة مصلحية شخصية على الاطلاق، بل هي بالضرورة واقعة ضمن منهج معين عام للوصول إلى الأعلى، إلى الهدف البشري السامي، إلى المجتمع المعصوم. و إذا كان الاقتصاد واقعا في هذا الطريق فأحرى به أن يكون أخلاقيا يحتوي على التسامح و نكران الذات و التضحية في سبيل الآخرين. بل قد تكتسب هذه التضحية صيغة الالزام القانوني حين يصبح المجتمع على مستوى هذه

ص:547

المسئولية.

و لعل أوضح صيغ الالزام هذه، هي حرمة الربح التجاري و اعتباره كالربا.

و السبب في ذلك هو الأخوة في الايمان. فان (ربح المؤمن على المؤمن ربا) و لا ينبغي أن يكون بين الأخوة المؤمنين أدنى درجة استغلال، و إن كان مشروعا في المجتمعات الاعتيادية السابقة.

و لكن حيث يكون جميع أو أغلب أفراد هذه الدولة العالمية أخوة في الايمان، نستطيع أن نعرف كيف يصبح هذا الحكم عاما، و دالا - مضافا إلى ما سبق - على المستوى اللائق من الناحيتين النفسية و العقلية لتطبيق هذا الالزام.

و يندرج في هذا المفهوم أيضا: لزوم إباحة الفائض من المورد الطبيعي إلى الآخرين، و كذلك الفائض من المعادن. فان في حبسه عن الآخرين و الاستقلال بحيازته، نوعا من الاستغلال للآخرين من الاخوة المؤمنين، و هو مناف مع المستوى الأخلاقي المطلوب.

كما يندرج في ذلك تحريم الفائدة الربوية، و منع الطرق غير المشروعة للحصول على المال... و لا ينافي ذلك اننا فهمنا من بعض هذه الأحكام مفاهيم مذهبية أخرى، إذ قد يكون الحكم ناتجا عن أكثر من مفهوم مذهبي واحد.

- 12 - هذا، و ينبغي أن لا يشط بنا المزار، بل ينبغي لنا ان نكفكف من غلواء الطمع في الاستنتاج، باعتبار ما قلناه من قصور الباحث عن إدراك العمق الحقيقي للوعي في الدولة العالمية، على أن عددا من الجوانب المعلنة يومئذ و المشاركة في استنتاج المذهب الاقتصادي لا زالت في ضمير الغيب، منوط بوجود الدولة الموعودة.

و لا ندعي الآن، و لا ينبغي لنا أن ندعي، أننا أحطنا بكل المذهب الاقتصادي و إنما غاية الأمل ان نقوم باستنتاج جوانب مهمة منه تساعدنا على معرفة ملامح تلك الدولة الموعودة يومئذ، و المقارنة بين ما عرفناه و بين المذاهب الاقتصادية المعروفة اليوم: الماركسية و الرأسمالية. و هذا ما سنقوم به بعد لحظة. و لعلنا خلال ذلك سنعرف بعض الصفات الأخرى لدولة العدل العالمية.

ص:548

وقفة مع الماركسية

- 1 - سوف لن يحتاج القارئ إلى تكرار، بعد الذي سبق أن عرضناه من آراء الماركسيين و مناقشاتهم.

و إنما المهم الآن هو الالماع إلى الأسلوب الذي سنتخذه في المقارنة و المناقشة.

إننا عرفنا من المناقشات السابقة ان كل ما توصلت إليه الماركسية من النتائج، لا يمكن أن يصح بالنسبة إليها، و لا يمكن أن يستنتج من المقدمات التي آمنت بها و قدستها. و لكننا الآن سنأخذ النتائج كشيء آخر لنرى مقدار إمكان انطباقها على الدولة العالمية الموعودة و عدم إمكانه، و بالتالي نجرب صدقها و عدالتها أساسا، و عدم ذلك.

ان ما هو قابل للمناقشة و المقارنة مع الدولة الموعودة، هو ما أقرّته الماركسية من أنظمة، و هي أدوار الاشتراكية الثلاث ابتداء من دكتاتورية البروليتاريا و انتهاء بالطور الأعلى. لأن هذه الأدوار هي النتائج الرئيسية للتاريخ البشري في رأي الماركسية، و كذلك الدولة الموعودة و ما يليها من مجتمعات، من وجهة التخطيط الالهي. و من المنطقي أن نقارن بين النتيجتين الرئيسيتين لهذين المبدأين. و أما ما قبل ذلك، فلا يكون مهما في هذه المرحلة من البحث.

فهذا هو ما نتصدى للخوض فيه خلال هذا الفصل.

- 2 - إن أول ما يواجهنا في هذا الصدد، هو انقسام العهد الاشتراكي الماركسي إلى مراحل ثلاثة، هي: دكتاتورية البروليتاريا، و الطور الأول المسمى بالاشتراكية و الطور الأعلى المسمى بالشيوعية. فهل يوجد ما يقابل هذه الأقسام في دولة العدل العالمية أو لا؟.

إننا - تارة - نتساءل عما إذا كانت العهود الماركسية بخصائصها تنطبق على

ص:549

الدولة العالمية أولا. و هنا نستطيع أن نجزم بالجواب النافي، و ذلك لما نعرفه بعد قليل من عدم انطباق الكثير من الخصائص الرئيسية لكل من المراحل الثلاثة مع الدولة الموعودة. إذن، فلا نستطيع أن نسميها بأي واحدة من تلك المراحل، و لا بأكثر من واحدة.

إن العهد الماركسي المعين لا يمكن أن ينطبق إلا بانطباق كل خصائصه أو أكثرها - على الأقل -. و أما انطباق بعضها أحيانا، مع الاختلاف في خصائص كثيرة، فلا يعني شيئا في هذا الصدد، إذ ان المبادئ قد تشترك كما قد تختلف من حيث التفاصيل بدون أن يكون أحدها مرتبطا بالآخر أو متصفا بصفته.

و قد نعرض السؤال كما يلي: هل للدولة العالمية مراحل متميزة من حين تأسيسها إلى حين تحقق هدفها الأعلى و هو المجتمع المعصوم أو ليس لها أية مراحل.

و سيأتي تفصيل الأمر فيما يأتي من البحث، و حسبنا الآن ان نلتفت إلى ناحيتين:

الناحية الأولى: ان المراحل التي تمر بها الدولة العالمية ليست حدية و لا ذات فواصل واضحة، يتخللها ثورة أو (طفرة) كما تتوقع الماركسية لعهودها، و إنما هي تدريجية بالتدرج البطيء المناسب مع التربية البشرية عموما، كما سوف يأتي أيضا.

كما لا ينبغي أن نتوقع من الدولة العالمية أن تكون مراحلها ثلاثة كمراحل الاشتراكية، أو أن تتصف بنفس صفاتها الرئيسية. فان الفكرة التي تنطلق منها و الايديولوجية التي تطبقها حين تكون مجانبة بالمرة للفكرة الماركسية، لا معنى لأن نتوقع منها نفس الأسلوب و النتائج.

الناحية الثانية: يتضح من مجموع ما مضى في هذا الكتاب و الكتاب السابق عليه من الموسوعة، و ما سوف يأتي هنا، ان المراحل منذ أول وجود القيادة العالمية (الظهور) إلى حين وجود الهدف الأعلى: المجتمع المعصوم تكون - باختصار - كما يلي:

المرحلة الأولى: مرحلة سيطرة القائد المهدي عليه السلام على العالم. و هي مرحلة حددت بثمانية أشهر. و سميناها فيما مضى بالتخطيط.

المرحلة الثانية: مرحلة وجود الدولة الاسلامية العالمية بقيادة شخص المهدي (ع) و ميزتها الكبرى هو كونها الزارعة للأسس العامة للتربية البشرية للمجتمع، باتجاه هدفها الأعلى.

ص:550

المرحلة الثالثة: مرحلة وجود الدولة العالمية المحكومة لخلفاء المهدي عليه و عليهم السلام. و هم يمارسون الحكم عن طريق التعيين، على ما سوف يأتي.

المرحلة الرابعة: مرحلة المجتمع المعصوم برأيه العام، دون أفراده و يكون القسم الأول منه محكوما لأولئك الخلفاء الصالحين.

المرحلة الخامسة: مرحلة وجود المجتمع المعصوم بأغلبية أفراده في بعض مناطق العالم.

المرحلة السادسة: وجود المجتمع المعصوم في كل العالم. و هي الهدف الأعلى من وجود البشرية. و إن كان يمكن التعبير، بنحو من التعميم، ان المرحلة الخامسة هي الهدف، أو هي أول أشكال وجوده.

و بهذه المراحل ينتهي التخطيط الرابع، و يبدأ الخامس، و سيكون في سرد التفاصيل فيما يلي إيضاحات أكبر.

- 3 - يحسن بنا الآن أن نبدأ بمقارنة كل عهد من عهود الاشتراكية على حدة، مع ما عرفناه من خصائص الدولة العالمية الموعودة.

المرحلة الأولى: عهد دكتاتورية البروليتاريا.

و أهم خصائص تلك المرحلة، مما عرفناه من كلام الماركسيين أنفسهم هي - باختصار - ما يلي:

أولا: وجود الطبقات في ذلك المجتمع.

ثانيا: ان طبقة البروليتاريا تكون هي المسيطرة، و هي تمارس حربا عنيدة مستميتة ضد خصومها الرأسماليين.

ثالثا: تكون الدولة باقية، و لكنها في طريق الفناء.

رابعا: يكون الحزب الشيوعي هو القائد، و بدون قيادته يستحيل تطبيق دكتاتورية البروليتاريا.

خامسا: ستبدأ الدولة بتطبيق عدد من الانجازات الاشتراكية، سنعرضها كما سمعناها عن انجلز و نقوم بمقارنتها.

و نتكلم عن كل فقرة من هذه الفقرات في ناحية:

الناحية الأولى: وجود الطبقات، في المجتمع الموعود.

لا دليل على انعدامها بالمرة، لأول مرة: و لكننا قلنا ان سعادة المجتمع غير

ص:551

منوطة بانعدام الطبقات، و إنما هي منوطة بانعدام الشعور الطبقي و زوال أهميته.

و باليقين ان هذا حاصل فعلا في الدولة العالمية، نتيجة لعدة عوامل منها ممارسة الدولة لحكم مركزي واسع النطاق. و منها انشغال العواطف بالأهداف و المفاهيم التي تعلنها الدولة يومئذ. و منها الشعور بالأخوة التعاطف بين الأفراد. و منها سد باب الاستغلال بالمرة، كما سمعنا من عدد من الأحكام الاقتصادية، فان أية طبقة لا تستطيع السيطرة و الاستغلال مع قوة الدولة و تحريم الربح التجاري فضلا عن الفائدة الربوية.

الناحية الثانية: لا توجد أي طبقة حاكمة و مسيطرة على المجتمع. فان الذين يمارسون الحكم في الدولة العالمية، ليسوا من طبقة معينة. بل هم - كما عرفنا في تاريخ ما بعد الظهور(1) - مجموعة أشخاص لا يربطهم شيء محدد، بل حتى المعرفة الشخصية لبعضهم البعض، في الأعم الأغلب... لا يربطهم غير الاخلاص للتخطيط الالهي و النجاح في التمحيص نجاحا عاليا موفقا. و هذا النجاح غير مربوط بالطبقة، بل يمكن أن يحصّله الفرد مهما كانت طبقته.

كما أن هؤلاء لا يمارسون أي قمع، و إنما يحكمون الناس بالعدل الكامل و التساوي الحقيقي في الحقوق و الواجبات، طبقا للأطروحة العادلة الكاملة. نعم، الحروب التي تتخلل السيطرة على العالم سوف تحتوي على القتل الكثير، إلا أن هذا القتل إنما هو ضد الفاشلين في التمحيص لا ضد طبقة معينة، فان هذا الفشل يمكن أن يتصف به الفرد من أي طبقة كانت. على أن هذا القتل سابق على تأسيس الدولة العالمية. و أما بعد تحققها و استتبابها، فلا دليل على وجود أي قتل زائد، ما عدا ما قد يحدث في الفترة الأولى من تمردات في بعض المناطق المتفرقة من العالم، كما سمعنا ذلك كله في تاريخ ما بعد الظهور.

هذا بخلاف عهد دكتاتورية البروليتاريا، فان هذه الطبقة، سوف لن تكتفي بالقتل الذي يوصلها إلى الحكم، بل ستبقى الحرب العنيدة المستميتة مستمرة فترة طويلة من الزمن.

الناحية الثالثة: ان الدولة ستكون باقية، لأن وظيفتها ليست هي القمع - كما أرادت الماركسية - و إنما هي الأخذ بزمام المبادرة للأعمال العامة التي لا يمكن إنجازها

ص:552


1- (1) انظره في الفصل الرابع من الباب الأول من القسم الثاني.

بدونها، كما سبق.

و لن تكون هذه الدولة، في طريق الفناء ما دام هناك مجتمع محتاج إلى صيانة و إشراف. و سنعرف أن الدولة ستبقى إلى عصر المجتمع المعصوم الذي هو الهدف الأعلى. كل ما في الأمر أن الدولة لن تكون ممثلة لطبقة معينة، بل متصفة بالموضوعية و التجرد إلى حد بعيد، و تمارس تطبيق العدل المطلق على كل العالم.

الناحية الرابعة: ليس هناك حزب قائد في الدولة العالمية، و لم تولد هذه الدولة نتيجة لنضال حزبي معين مهما كانت صفته، بل ولدت نتيجة لتخطيط إلهي طويل الأمد، عاشته البشرية منذ أول وجودها، حيث لم تكن هناك أحزاب و لا يمكن لأي حزب أن يعيش طوال هذه المدة. بل هي أكبر من أي نضال حزبي سابق عليها.

و إنما يمارس الحكم فيها جهات ثلاثة:

الجهة الأولى: الايديولوجية العامة التي تقوم عليها عقائديا و مفاهيميا و تشريعيا.

الجهة الثانية: الرئيس الأعلى المعصوم، الذي عرفنا صفاته في الكتابين السابقين من هذه الموسوعة، و الظروف التي ساعدته على القيادة. و هو يمثل قوة الدولة و صلاحياتها، بشكل عام.

الجهة الثالثة: الجماعة الناجحة نجاحا معمقا في التمحيص السابق على تأسيس هذه الدولة، كما عرفنا في تاريخ ما بعد الظهور(1) و عرفنا صفاتهم و مقدار اخلاصهم لقائدهم المهدي (ع)، و لمحات من كيفية ممارستهم الحكم في العالم.

و قد يخطر في الذهن: انه نتيجة لوجود هذه الجماعة الممحّصة، يمكن القول بحكم الحزب الواحد في الدولة العالمية، فان هذه الجماعة متفقة على تلك الايديولوجية التي عرفناها، و تعمل تحت قيادة معينة هي قيادة ذلك الشخص الذي سيمارس الحكم في الدولة العالمية. و هم تحت قيادته حتى في العهد السابق على تأسيس هذه الدولة، طبقا للفهم الامامي لفكرة المهدي، كما حملنا فكرة عنه في تاريخ ما بعد الظهور(2).

إذن، فهناك حزب معين قد استلم زمام السلطة و مارس الحكم في هذه الدولة.

ص:553


1- (1) انظر الفصل الثالث من الباب الثاني من القسم الثاني.
2- (2) انظر الفصل الرابع من الباب الثالث من القسم الثاني.

إلا ان هذا القول أقرب إلى المجاز منه إلى الحقيقة، فان هناك عدة فوارق بين هذه (الجماعة المهدوية) و بين الأحزاب بالمعنى الاصطلاحي، من عدة نواح، بحسب ما نفهم:

أولا: ان القيادة فيه مركزية متمثلة في فرد، لا في جماعة و لا في (مجلس قيادة) و ليس لأحد حق المناقشة فيما يقوله القائد و يجزم به، طبقا لقوله عز من قائل:

وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَ مَنْ يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ، فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (1).

و هذا القائد المهدي (ع) واقع في خط اللّه و رسوله، فيتصف بصفاته.

ثانيا: ان الانتماء إلى هذه الجماعة، لا يكون بقرار من الحزب أو بطلب خاص، و إنما هو نتيجة لنجاح الفرد في التمحيص الالهي خلال حياته الاعتيادية.

فان بلوغه إلى درجة عليا معينة من النجاح كفيل باندراجه في تلك الجماعة بدون سابق انذار!!...

ثالثا: ان هذه الجماعة قد لا يعرف أي واحد منهم الآخر، و لا تجمعهم أرض و لا مجتمع و لا لغة و لا مصلحة خاصة، و ليس لأي منهم تجاه الآخر أية مسئولية حزبية، و إنما هم معروفون مباشرة للقائد المهدي عليه السلام. و إن حصل التعارف بين بعضهم فإنما هم باذن خاص من القائد الأعلى فحسب.

رابعا: ان هذه الجماعة ليس لها أي بروز بل ليس لها أي وجود اجتماعي و ليست معروفة لأي انسان سوى القائد نفسه، و من يحب هو شخصيا اطلاعه على ذلك. و ذلك: لسبب بسيط ذكرناه في (تاريخ الغيبة الكبرى)، و هو أن فردا مهما أوتي من عبقرية، لا يستطيع أن يخمّن في نفسه فضلا عن الآخرين انه واصل إلى تلك الدرجة العالية المطلوبة من الاخلاص و النجاح في التمحيص.

إلى غير ذلك من الفروق، و هذا معنى أن تسميتها بالحزب، يحتوي على ضرب من المجاز دون الحقيقة. و إنما كل ما لهذه الجماعة من وجود، هو التزام أفرادها بالأطروحة العادلة الكاملة، و تطبيقها على حياتهم تطبيقا دقيقا و الانصياع لأوامر المهدي (ع) إذا أراد توجيه بعضهم لأي عمل أو مصلحة عامة خلال غيبته، بالمعنى الذي شرحناه في تاريخ الغيبة الكبرى.

ص:554


1- (1) الأحزاب: / 36.

و هذه الجماعة هي التي سوف تمارس الحكم في الدولة العالمية منذ وجودها أعني الدولة. فإذا لم تكن هذه الجماعة حزبا. فمن الطبيعي أن لا يصح القول بأن الحزب الواحد هو الذي يسيطر على الدولة العالمية.

و أما إجازة هذه الدولة لوجود الأحزاب في مجتمعها، فهذا أمر يعود إليها و إلى رأي قائدها، سيكشف عنه المستقبل. و إنما كل ما لدينا من المعرفة تنحصر في أمرين:

الأمر الأول: ان هذه الدولة العقائدية العادلة، سوف لن توافق على نفوذ العقائد الكافرة و الأحزاب المنحرفة في مجتمعها، مما هو مضاد للتخطيط العام لتكامل البشرية. بل سوف لن تدع فرصة لتكوّنها على الاطلاق، بعد القتل الكثير الذي يمارسه القائد المهدي (ع) للمنحرفين الراسبين في التمحيص، قبل تأسيس دولته العالمية و قيامه باجتثاث انحراف الباقين بما يكسبه من الايمان و بعقيدته في العالم.

الأمر الثاني: انه - بالتدريج - سوف يعم الشعور بالاستغناء عن فكرة الحزبية على الاطلاق. فان الهدف الحزبي عادة هو تحويل الواقع الفاسد إلى الشكل الصالح الذي يراه الحزب. و سوف يثبت - و بسرعة - على الصعيد العالمي أن الواقع الذي نعيشه و تمارسه الدولة واقع صالح عادل موجب للراحة و الرفاه. فيكون الشعور بالاستغناء عن التكتلات و التعصبات واضحا.

الناحية الخامسة: في التعاليم التي أعطاها انجلز، و التي سبق سردها في الحديث عن عصر دكتاتورية البروليتاريا. فهل تصدق و تصلح للدولة العالمية أولا.

و نحن نذكر الآن كل فقرة منها و نعلق عليها:

الفقرة الأولى: انقاص الملكية الخاصة بواسطة الضرائب التصاعدية و الضرائب المرتفعة على الارث. و إلغاء حق الميراث في خط جانبي الأخوة، أبناء الاخوة، و القروض الاجبارية... الخ.

أما إلغاء قانون الارث في الدولة العالمية، فقد عرفنا انه غير محتمل، بعد نص القرآن عليه. نعم سوف تقل أهميته إلى درجة بعيدة، بعد توفر الرفاه الكامل الذي عرفناه. و أخذ الدولة بزمام المبادرة للاستثمار و سيطرتها على الجوانب المهمة الاقتصادية و المالية في المجتمع.

و كذلك سوف تقل أهمية الملكية الخاصة، تلقائيا، و ان لم تنعدم، كما عرفنا، و هذا ما سوف يحدث خلال عصر الرئيس الأول لها و هو الامام المهدي نفسه، و مع

ص:555

وجود ذلك لا حاجة إلى جعل الضرائب الاعتيادية فضلا عن التصاعدية. و الضرائب الاعتيادية الاسلامية تبقى سارية المفعول، إلا أنها من حيث النسبة أقل بكثير مما يقترحه انجلز. فانها في أعلى صورها لا تزيد على 10 بالمائة و قد تصل إلى 0,025(1)و هي على أي حال ليست ضرائب مرتفعة.

نعم، الخبر الأول من الأخبار السابقة، يدل على كون الاتجاه الاقتصادي في الدولة العالمية غير منافر مع ضرب الضرائب الاضافية، حيث يقول: فإذا قام قائمنا حرم على كل ذي كنز كنزه، حتى يأتوه به و يستعين به. إذا فهمنا من الكنز الأموال المملوكة للأفراد بالملكية الخاصة، و كان هذا المضمون قانونا دائميا. إلا ان هذا مما لا دليل عليه، لما أسلفنا من احتمال كون المراد من الكنز الأموال العامة لا الخاصة، فانها هي التي تستحقها الدولة على التعيين في الاسلام. و لو افترضناها أموالا شخصية فهناك احتمال ان المطالبة بها شيء موقت لمصلحة اجتماعية وقتية، و ليست قانونا عاما. و معه لا يبقى دليل على كون الضرائب مرتفعة في الدولة العالمية.

الفقرة الثانية: الاغتصاب التدريجي للملاكين العقاريين و الصناعيين و أصحاب السكك الحديدية و أحواض السفن. اما بواسطة منافسة صناعة الدولة، و أما مباشرة لقاء التعويض بسندات.

أما منافسة الدولة العالمية للقطاع الخاص، فهو أمر صحيح تقوم عليه أكثر من قرينة من القرائن السابقة، و هي الثالثة و الرابعة، باعتبار أن ذلك مما يؤثر في الرفاه الاجتماعي حتما و يقتضيه التنظيم الاجتماعي جزما. و من هنا فالقول بقيام الدولة بذلك أمر لا مناص منه.

و أما مصير القطاع الخاص، ففي الامكان القول: ان مشاركة الدولة هذه، مع ما تنتجه سائر الجوانب الاقتصادية من الرفاه العام، يجعل المشاريع الشخصية قليلة الأهمية إلى درجة كبيرة، حتى تضمر تلقائيا. و معه لا حاجة إلى الاغتصاب التدريجي و لا الفوري لها.

هذا، و العجيب ان انجلز ينيط الاغتصاب بالتعويض، و هذا يتضمن

ص:556


1- (1) هذه هي نسب الزكاة، كما هو معروف لمن راجع الفقه الاسلامي. و أما الخمس فهو يمثل 20 بالمائة من المال، إلا أنه يؤخذ من الربح لا من أصل المال - في الغالب - فإذا كان الربح ربع المجموع كانت الضريبة خمس الربع، أي 5 بالمائة فقط. إذن فلا تكاد تزيد أعلى الضرائب الاسلامية عن 10 بالمائة في الأعم الأغلب.

إرجاعا للمال إلى صاحبه، بشكل و آخر. و هو ينافي الاتجاه الاشتراكي الذي يتوقعه هو من الدولة.

الفقرة الثالثة: مصادرة جميع أملاك المغتربين و المتمردين على غالبية الشعب.

أما المغتربون فلا معنى لوجودهم في الدولة العالمية، كما هو واضح. لأن الاغتراب في هذا الصدد يعني وجود رعايا إحدى الدول في ربوع دولة أخرى. و هذا منتف تماما مع وحدة الدولة في العالم.

و من الطريف أن الشيوعية التي يدعو لها انجلز، تتوقع تطبيق الحكم العالمي الواحد، مهما كان هذا غامضا في المصادر الماركسية، فما معنى المغتربين في مفهومها؟!..

و أما المتمردون، فتقف منهم الدولة مواقف معينة متخذة من مصالح المكان و الزمان و الايديولوجية التي يتخذها المتمردون. و من هنا تكون معاملة كل جماعة من المتمردين مختلفة عن معاملة الجماعة الأخرى. فلعل مصادرة الأموال تندرج في هذه التدابير أحيانا، و لعلها لا تندرج أحيانا أخرى؟!..

الفقرة الرابعة: تنظيم العمل و استخدام العمال في الميادين و المصانع و الورشات الوطنية، مع إلغاء منافسة العمال فيما بينهم، و إجبار الصناعيين الموجودين بعد على دفع نفس الأجر المرتفع الذي تدفعه الدولة.

هذا كله ممكن الانطباق على الدولة العالمية، و تقوم عليه القرينتان الثالثة و الرابعة. و إجبار الصناعيين على الأجر المرتفع و ان كان مخالفا للقواعد الاسلامية السارية المفعول الآن، إلا انه يصح بلا اشكال بأمر الدولة الاسلامية. فلو بقيت المصانع الخاصة ذات أهمية يومئذ أو ذات وجود، فلا بد ان تنظّمها الدولة بقانون.

الفقرة الخامسة: إلزام العمل بالنسبة إلى جميع أفراد المجتمع، حتى القضاء التام على الملكية الفردية. تشكيل جيوش صناعية، و بصورة خاصة من أجل الزراعة.

أما الملكية الخاصة، فسوف تبقى سارية المفعول أساسا، كما سبق أن برهنا.

و أما العمل الاجباري لجميع أفراد المجتمع، فلا دليل على وجوده في الدولة العالمية... بل لعل الدليل على خلافه، لأنه مناف للحرية الفردية و للشعور بالسعادة في الرفاه العام، و مناف للأسلوب التربوي الذي تتخذه الدولة

ص:557

تجاه الأفراد جميعا، بحسب ما ندركه الآن. نعم، للدولة أن تجبر أي واحد أو أي جماعة معينة أو غير معينة على العمل... كما ان لها ان تأمر (بالنفير العام) للعمل عند الحاجة، فيكون العمل إلزاميا لكل الأفراد... و لا دليل على أن الحاجة تقتضي ذلك دائما.

أما المسألة الزراعية، فستتخذ درجة كبيرة من الأهمية في الدولة العالمية، و يشملها ما قلناه عن العمل أيضا... و سوف تنظم جوانبها بقانون. و لكن أسلوب هذا التنظيم لا ينبغي أن يكون مفهوما لنا في العصر الحاضر. و ليس من الواضح أن يكون ما اقترحه انجلز من إجبار الآلاف على العمل في الأرض، هو أحسن ما يمكن اتخاذه من تدابير، في هذا الصدد(1).

الفقرة السادسة: مركزة نظام الائتمان و تجارة المال في أيدي الدولة، و ذلك بواسطة تشكيل مصرف وطني برأسمال دولي، و إلغاء جميع المصارف الخاصة.

من المؤكد ان النظام المصرفي الرئيسي، سوف يكون بيد الدولة، بما في ذلك قبول الأموال و تسليفها و التجارة بها. أما إلغاء المصارف الخاصة بالمرة فهذا ما لا دليل عليه. و ان كانت لا تبقى لها من الأهمية شيء سوى معيشة أصحابها؛ و سوف تكون كل المصارف، حكومية و شخصية خالية من الفائدة الربوية بالضرورة.

و أما إذا ضممنا إلى ذلك تحريم الربح التجاري أيضا، فسوف لن يبقى للمصارف من فائدة سوى حفظ الأموال و ارجاعها أو بعضها عند الطلب. و من هنا فالمظنون تقلص النظام المصرفي في الدولة العالمية، و الاستغناء عنه تدريجا.

و سوف تنحصر تنمية رأس المال، بعد تحريم الربح التجاري، بالعمل على حيازة (المباحات العامة) في المعادن و الأراضي و النباتات الطبيعية و غيرها. مع وجوب جعل الزائد عن العمل بل الزائد عن الحاجة أيضا مباحا للآخرين أيضا.

و هذا مستوى من التفكير الاجتماعي الاقتصادي لم تستطع الماركسية التوصل إليه إلا بإلغاء الملكية الخاصة... و أما دولة العدل العالمية، فتتوصل إليه مع الحفاظ عليها.

الفقرة السابعة: مضاعفة المصانع الوطنية و الورشات و الخطوط الحديدية

ص:558


1- (1) بل أصبح الآن من الواضح فشل هذه النظرية، بعد أن عاشت التطبيق حقبة من الزمن في البلدان الاشتراكية، حتى أجاز الاتحاد السوفييتي الملكية الخاصة في الزراعة، لأنه رأى بوضوح ان الانتاج سوف يكون أوفر بشكل كبير. و هو - أيضا - بصدد ذلك في الصناعة أيضا. و بذلك تفشل النتائج الرئيسية التي توختها الماركسية لتطور وسائل الانتاج.

و السفن، و استصلاح جميع الأراضي المزروعة من قبل، بصورة مطردة مع زيادة الرساميل و القوى العاملة التي تملكها البلاد.

أما الاهتمام بالصناعة و الزراعة من قبل الدولة العالمية، فقد عرفناه بوضوح.

و يؤيده عدد من القرائن السابقة ان لم يكن كلها، و يندرج في المفاهيم المذهبية و خاصة الأول و الثاني منها، و هما اللذان يعطيان للدولة حق التصرف العام في الاقتصاد و المال على العموم، الأمر الذي يؤدي إلى تقليص الجانب الشخصي و القطاع الخاص على العموم.

و هذا التقلص يعني عدم الزيادة المطردة في الرساميل الشخصية، إذ ان نتائجها في العدل و الرفاه المطلوب، و من ثم في التربية المتوخاة للدولة تأثير ضئيل لا يعدل ما تقوم به الدولة نفسها من أعمال اقتصادية.

الفقرة الثامنة: تربية جميع الأولاد، منذ اللحظة التي يمكن فيها إبعادهم عن الأحضان الامومية، في مؤسسات وطنية، و على نفقة الأمة (تربية و إنتاج مصنّع).

إن المقصود الرئيسي لا نجلز من ذلك هو تربية الأجيال الصاعدة على المفاهيم الماركسية بشكل مغلق غير قابل للمناقشة، حتى يضمن بذلك تصاعد المفهوم الشيوعي في المجتمع من ناحية و يضع الأساس لعدم (الانحراف عنها) بعد تحقق الطور الأعلى بالتجاوب التام و الدائم مع مستلزمات ذلك الطور على العموم.

و هذه النتيجة - بشكل و آخر - متوخاة لكل ايديولوجية حاكمة، بما فيها (الأطروحة العادلة الكاملة) التي تتبناها الدولة العالمية. إلا أن انجلز يبدو انه قد أخطأ في طريقه إلى هذه النتيجة.

إن طريقة الدولة العالمية - حسب فهمنا المعاصر - لتربية الجيل الصاعد، بعد الاعتراف بالأسرة التي أنكرتها الماركسية، و الاعتراف بحاجة الطفل و اليافع إلى دفء الوالدين و توجيهاتهما.

إن المنهج التربوي يتكون عموما، من الحقول التالية:

الحقل الأول: إعطاء النموذج الأعلى للعدل الذي يبرز بوضوح لأي فرد كونه أفضل من أي نظام آخر... مما يجعل الفرد مشدودا عقائديا إلى هذا النظام، بمجرد تفتحه على الحياة.

الحقل الثاني: تكوين الأسرة الصالحة، ذات التوجيهات العادلة و الأسلوب الصحيح في تربية الذرية، مما يوفر للفرد التربية الصحيحة مع الاحتفاظ بالدفء

ص:559

الأبوي. و الاستغناء عن مشاكل و آلام المحاظن الحكومية العامة.

إن النصيحة التي توجه عادة إلى الانسان في انه ينبغي ان يختار أبويه، سوف نقوم بها الدولة العالمية على نطاق واسع، مما يوفر لكل الجيل الجديد اختيار الوالدين الفاضلين الخيّرين دائما.

الحقل الثالث: الايضاح الواسع النطاق للأسلوب التربوي الصحيح من النواحي الطبيّة و النفسية و العقائدية و الاجتماعية، ليجعل اتباعها بالنسبة للأسر عموما سهلا و تحت متناول الجميع.

الحقل الرابع: توفير العلم - بكل فروعه - للجميع. فبمجرد أن يصبح الفرد يافعا قابلا لتلقي العلم، سوف تحتضنه المدارس النظامية العادلة، لتصل به - بالتدريج - إلى قمة الفضل العلمي و الايماني معا... ضمن منهج دراسي توجيهي، لا يمكن الالمام الآن بخصائصه.

الحقل الخامس: و بعد أن يصبح الفرد في الدرجة التي تؤهله لأداء الخدمة الاجتماعية الكافية، منسجمة مع التخطيط العام و ايديولوجية الدولة... سوف تفتح له الدولة ذراعيها لكي يؤدي عمله في أفضل الميادين التي يستطيع ان يبرز فيها و يؤدي فيها أفضل الأعمال. و يكون له في مقابل ذلك ان يشارك في الرفاه العام أعمق و أوسع مشاركة.

و بذلك تكون الدولة العالمية قد توصلت إلى نفس النتائج التي تحتاجها الايديولوجية الحاكمة، بالشكل الذي تحافظ فيها على قدسية الأسرة و الدولة معا.

الفقرة التاسعة - من كلام انجلز -: بناء قصور كبيرة من الأراضي الوطنية التي تكون مسكنا لجماعات من المواطنين المشتغلين في الصناعة أو الزراعة، و تكون جامعة لمحسّنات الحياة المدنية و الريفية، دون ان يكون لها مساوئها.

تنفتح الحاجة إلى هذه القصور السكنية من خلال النظام الذي يفترحه انجلز في جيوش عمالة في الصناعة و الزراعة. فان هذه الجيوش لا بد ان تجتمع في الحقول الزراعية و الصناعية، من مختلف البلدان، فتحتاج إلى سكن و طعام بطبيعة الحال، و من هنا تحتاج الحكومة بناء شقق (مستعجلة) لأجل تكديسهم فيها ريثما ينفتح لأحدهم فرصة بناء بيت مستقل، أو يبقى ساكنا تلك القصور إلى الأبد.

أما حيث تنتفي الحاجة إلى تكوين هذه الجيوش، بانتفاء النظام الذي يستلزمها، أولا. و تنفتح الفرصة، طبقا للمستوى المعيشي العالي جدا، إلى بيوت

ص:560

مستقلة و مرفهة لكل فلاح و عامل... فيكون ما تصوره انجلز بلا موضوع.

الفقرة العاشرة: تدمير جميع المساكن و الأحياء غير الصحية و السيئة البناء.

ان هذا التدمير بلا موجب، سوى اجبار العمال إلى الانتقال إلى تلك القصور. فان هذا الانتقال سوف لن يكون سهلا عليهم، و لكنهم سيكونون ملزمين بعد تهديم بيوتهم، و عدم وجود العوض المناسب غير تلك القصور. و أما مع توفير البيوت المرفهة لهم، و التي قد تكون مجانية، فان الدافع النفسي للانتقال إليها و هجر البيوت الأولى القديمة و غير الصحية يكون قويا و واضحا، بلا حاجة إلى تدميرها. ان تدميرها سوف يتم بشكل معنوي و تلقائي. انها سوف تبقى بشكل (متحفي) لتدل الأجيال على المستوى المنحط الذي كانت تعيشه الأجيال السابقة. و هذه فائدة مهمة أهملها انجلز حين اقترح هدم و تدمير هذه البيوت.

و قد يخطر في الذهن: ان مراد انجلز من تدمير البيوت، كونه مقدمة لبنائها ثانية بشكل أفضل. إلا ان هذا بعيد عن فهم العبارة، فان التدمير يتضمن معنى الابادة و الازالة. و لو أراد إعادة البناء لعبّر بالتجديد.

الفقرة الحادية عشرة: حق الميراث المتساوي للابناء الشرعيين و غير الشرعيين.

و هذا منطقي جدا بالنسبة إلى الشيوعية التي ألغت الأسرة. إلا ان هنا اعتراضا قد يرد على هذا الاقتراح من حيث ان هذه الفقرة هل تطبق في الطور الشيوعي الأعلى أو تطبق قبله. فان طبقت في ذلك الطور، كان الميراث و الملكية الخاصة كلها منتفية فلا مجال لهذه الفقرة بالمرة. و ان طبقت قبله، كانت الأسرة لا زالت مقدسة و لها وجود واضح، و لا زال الاحساس الاجتماعي تجاه الأبناء الشرعيين و غير الشرعيين مختلفا. و من الواضح عدم إمكان تطبيق هذه المادة في جو اجتماعي من هذا القبيل.

إلا بشكل مثير للعواطف و الحزازات.

و أما في الدولة العالمية، فهو غير منطقي تماما، لأجل عدة خطوات:

الخطوة الأولى: انه لا يكاد يوجد هناك ابناء غير شرعيين، لأنه لا يوجد من يفكر بذلك فضلا عن ان يفعله، بعد التربية السريعة و العميقة التي تقوم بها الدولة، و غربلة المنحرفين و التخلص منهم في أول تأسيسها، كما عرفنا في (تاريخ ما بعد الظهور).

الخطوة الثانية: انه لو حصل ذلك، فقد وضعت عليه أشد العقوبات على الاتصال غير المشروع بين الجنسين، مما يجتث جذور هذه الجريمة تماما.

الخطوة الثالثة: لو تنزلنا - جدلا - عن كل ذلك، و فرضنا وجود الأبناء غير 36

ص:561

الشرعيين في ذلك المجتمع، فسوف لن يكون الارث لهم مشروعا باعتبار ما عرفنا من سريان قانون الارث الذي ينص عليه السلام إلى ذلك الزمان. و من واضحات قانون الارث عدم وصوله إلى الولد غير الشرعي.

و لكن هذا الولد لا يحمل جريرة والديه بطبيعة الحال، و من هنا لا بد أن يكون مكفولا للدولة، تيسر له سبل الحياة الكريمة المرفهة تدريجا... لو كان للولد غير الشرعي وجود.

الفقرة الثانية عشرة: مركزة جميع وسائل النقل بأيدي الدولة.

هذا صحيح في الدولة العالمية، لا بمعنى الاعلان عن منع الملكية الخاصة لوسائط النقل، كما يرمي إليه انجلز، و انما بمعنى أخذ الدولة بزمام المبادرة إليها، إلى حد تسقط أهمية المشاريع الشخصية تدريجا و تلقائيا.

فهذه جميع الفقرات التي اقترحها انجلز، مع التعليق عليها، بحسب ما استطعنا اقامة القرائن عليه من أحكام و خصائص الدولة العالمية العادلة.

- 4 - و أما الطور الأول الشيوعي المسمى بالاشتراكية، فأهم خصائصه التي يختلف بها عما سواه - كما عرفنا - كما يلي:

أولا: استمرار وجود الدولة التي هي في طريق الفناء.

ثانيا: ارتفاع الاستغلال الرأسمالي إلى حد بعيد.

ثالثا: رفع الملكية الخاصة لكل وسائل الانتاج المهمة.

رابعا: تكون القاعدة الاقتصادية الأساسية هي القائلة: من كل حسب طاقته و لكل حسب عمله.

خامسا: من لا يعمل لا يأكل.

سادسا: تتخذ الملكية العامة شكلين سبق تعريفهما: ملكية الدولة و الملكية التعاونية.

سابعا: تكون التربية العلمية عالية و مركزة، و خاصة علم الآلة (الميكانيك) و علم الحمضيات... بمقادير لم تعرفها البلاد الرأسمالية.

فهذه أهم الخصائص التي عرفناها و ناقشناها، فهل هي صادقة على الدولة العالمية أولا؟. سنفحص كل خصيصة في ناحية مستقلة:

الناحية الأولى: بالنسبة إلى بقاء الدولة، سبق ان برهنا على ضرورة وجودها، و سيأتي مزيد من الحديث عن ذلك عند التعرض إلى (الطور الأعلى)، حيث ترى

ص:562

الماركسية انعدامها.

الناحية الثانية: ان الاستغلال بكل اشكاله، و بأبسط أنواعه سوف يكون مرتفعا تحت راية العدل الكامل. حسبنا من ذلك تحريم الربح التجاري و إعطاء الفرصة للأفراد للنيل من المصادر الطبيعية من معادن و غيرها مجانا، و حتى ان الدولة تقوم بتوزيع الأموال مجانا أحيانا. و من الواضح الضروري انه لا يمكن أن يكون للرأسمال بالمعنى الرأسمالي وجود حينئذ، فضلا عن تحرك الاطماع الرأسمالية لأي شيء أو أية مزية زائدة، إلا إذا أمكن أن يكون بعض أسنان المشط أعلى من الآخر.

الناحية الثالثة: ان ملكية الدولة لوسائل الانتاج سوف تحدث و سوف ينحصر بها أيضا بالتدريج... كل ما في الأمر ان ذلك سوف لن يكون بنحو القهر و الاغتصاب الذي ينفّر الأفراد ضد السلطات، و يحملهم على الانحراف و يكون خطوة سيئة ضد مستواهم التربوي المطلوب.

ان القطاع الخاص من وسائل الانتاج سيذوب تدريجا تحت سيطرة الحكومة سيطرة كلية على موارد الانتاج و التصدير من الناحيتين الصناعية و الزراعية. سيذوب تدريجا في ظرف توفير الرفاه للناس إلى حد سوف يستغني أصحاب القطاع الخاص عما تحت أيديهم، و هم شاكرون لدولتهم العادلة.

الناحية الرابعة: ان الزام الأفراد جميعا للعمل بكل طاقاتهم، و عدم تموينهم بشيء بدون ذلك، كما هو منطوق قاعدة (من كل حسب طاقته) و قاعدة (من لا يعمل لا يأكل)... إن هذا الالزام ليس منطقيا بالمرة في الدولة العالمية، إلا إذا أمرت به الدولة لمصالح وقتية. أما بناء القاعدة الاقتصادية على ذلك بصورة مستمرة، فهو مما لا معنى له... لعدة وجوه:

أولا: ان الرفاه الذي يحدث في العالم يومئذ لا يحتاج إلى كل هذا الزخم بل يكفي فيه جهد أقل من ذلك. و خاصة بعد ان لا حظنا كثرة المال من مصادره التي منها الاستيلاء على البنوك و تيسير الزراعة و التعدين، و منها انعدام الحروب و صرف ميزانيتها فيما ينفع الناس. هذا إلى ما عرفناه في (تاريخ ما بعد الظهور)(1) من تعاون الكون و الطبيعة مع النظام العادل في زيادة الانتاج، فيحدث من العمل القليل نتاج كثير. و قد سبق ان حملنا عن هذا فكرة كافية هناك.

ص:563


1- (1) انظر: الفصل السابع من الباب الثالث من القسم الثاني.

ثانيا: ان شعور الفرد بالمسؤولية تجاه دولته و تجاه التخطيط العام، يحدوه إلى العمل بمقدار ما يشعر بالحاجة من أجل الصالح العام. و مع وجود الرغبة، لا معنى للالزام.

ثالثا: ان الرفاه سوف يصل - تلقائيا!!.. - إلى الجميع، من عمل و من لم يعمل، و كلهم سيعيش عيشة عالية، كل ما في الأمر ان العاملين سوف تكون لهم مزيتهم المعنوية و احترامهم الخاص. طبقا لقوله تعالى:

وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ (1).

و قوله تعالى:

وَ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (2).

و العمل في سبيل الصالح العام في المجتمع العادل، له مرتبة الجهاد. و من الواضح ان القيمة الأخلاقية ستكون ذات نفع كبير في ذلك المجتمع، طبقا للدافع الايماني الخالص.

رابعا: اننا لا نريد بالرفاه و السعادة كثرة المال و الحاجات الاستهلاكية فقط، كما قدرته الماركسية من جانبها المادي، بل الجانب النفسي جانب مهم أيضا، فينبغي أن يكون الفرد غير معان لحزن شديد أو ضيق كبير أو لأزمات نفسية، ليكون سعيدا.

و من الواضح ان الالزام بالعمل قد يسبب في كثير من الأحيان للفرد ضيقا و إزعاجا، مما ينافي مستوى السعادة المتوقعة يومئذ.

فلو فرضنا ان الديدن العام كان على الزام كل الأفراد على العمل، كان الغالب هو وجود الضيق المنافي للسعادة. و اذا كان أغلب الناس في ضيق، فلمن تكون السعادة.

هذا، مضافا إلى ما ناقشنا به هذه القاعدة خلال مناقشة الطور الأول فيما سبق.

إذن، فبغض النظر عن المصالح الثانوية التي تقتضي أحيانا إلزام الدولة للأفراد بالعمل... سوف لن يكون هذا الالزام ساري المفعول. بل (من كل حسب إرادته) من العمل بحسب الوقت و النوع معا. و هو لا محالة يختار - ان كان سويا رشيدا -: ان يعمل بمقدار ما يطيق أولا، و بالنوع الذي يعرفه أو يختص به ثانيا،

ص:564


1- (1) التوبة: / 105.
2- (2) النساء: / 95.

و بالمقدار الذي ييسر له العيش المرفه ثالثا. و الأغلب في ذلك المجتمع، ان ما ييسر له هذا المستوى، لا يحتاج إلى بذل الكبير من الطاقة. ثم هو يوفر الباقي من طاقته و وقته لنيل السعادة و التربية التي توفرها الدولة و تخطط لها.

و سوف يكون (لكل فرد معيشة مرفهة) و (للعاملين تقديرا أخلاقيا خاصا)، خلافا لما تتسالم عليه أكثر المجتمعات في العصر السالف من استقباح العمل و استحقاره.

الناحية الخامسة: قد فهمنا الرأي في القاعدة القائلة: من لا يعمل لا يأكل... في الناحية السابقة، و عرفنا انها غير صحيحة و ان (الأكل) يصل إلى العامل و غير العامل على حد سواء. و ان كان العامل أعظم شأنا، قد يكون أكثر رفاها نتيجة لعمله.

الناحية السادسة: بالنسبة إلى اشكال الملكية، سوف لن تكون مقتصرة على الشكلين اللذين تراهما الماركسية. بل نستطيع أن نسلل المطلب، كما يلي:

الملكية قد تكون خاصة و قد تكون عامة. فالملكية الخاصة تكون فيما له ندرة نسبية في المجتمع، و كان محازا للفرد و غير مملوك للدولة. و الملكية العامة، قد لا تكون مشروطة بالندرة النسبية، لامكان تصرف الدولة حتى في ما هو متوفر توفرا مطلقا. و هي تنقسم إلى عدة أقسام:

القسم الأول: ملكية الدولة، بشكل خاص أو مغلق... تكون من قسم من الأراضي و ما تأخذه من ضرائب و ما تستربحه من أموال.

القسم الثاني: ملكية الدولة مع الاذن للناس بالاستفادة منها اذنا عاما.

كالأراضي البوار و النبات الطبيعي و المعادن قبل استخراجها (بالعمل الشخصي) و بعد الاستخراج مما أخرجته الدولة أو كان فائضا عن الحاجة الفردية...

و المياه... الخ.

القسم الثالث: ملكية الأمة عموما. و هو الحكم الثالث في أيامنا هذه على الأراضي (المفتوحة عنوة) أي بالجهاد الاسلامي المسلح... و ان عددا من القرائن السابقة دال على استمرار الحكم و عدم الغائه في الدولة العالمية... كما هو واضح لمن يفكر.

و أما الملكية الكولخوزية التي عرضتها الماركسية... فان فهمناها بالخصائص الماركسية كلها، كان هذا متفرعا على أخذ الدولة العالمية بنظام الكولخوزات في

ص:565

الزراعة، و هو مما لا دليل عليه، بل لا حاجة إليه... و لا نريد أن ندخل في تفاصيل ذلك الآن.

و ان فهمنا من الملكية الكولخوزية معنى عاما، يعبر عن أمر الدولة أو إذنها بحجز قسم من أموالها لجهة خاصة ذات عمل نافع اجتماعيا تأييدا لها و تسهيلا لأعمالها...

فهذا أمر منطقي جدا و صحيح، و لكنه غير ماركسي على أي حال.

الناحية السابعة: بالنسبة إلى التربية العلمية بالمعنى التكنيكي... لا شك في وجوده في الدولة العالمية على أعلى مستوى. و ربما تتوصل البشرية يومئذ إلى نتائج مهمة و غير متوقعة في العصر الحاضر... و لا اختصاص للميكانيك و علم الحمضيات، كما توقعت الماركسية، بل يشمل سائر الحقول التي تمّت إلى الخدمات الصناعية بصلة.

كما يشمل الاهتمام سائر العلوم التي تنتج النفع الاجتماعي، كالطب و علم الاجتماع و علم النفس، و غيرها، و قد تعطى لها صيغ جديدة صحيحة لم تكن معروفة من قبل.

و لكن المهم في ذلك هو وقوع كل هذه العلوم، بل كل مناحي الحياة، في طريق التربية، المتجهة نحو الهدف الأعلى. إذا ما دامت الصناعة و الزراعة و الرفاه الاقتصادي و الاجتماعي، كلها مكرسة في هذه السبيل، فمن المنطقي ان تكون العلوم المنتجة لذلك مكرسة في نفس السبيل. و هذا ما لا تستطيع الماركسية أن تضع بازائه شيئا، بعد ان اعتبرت الرفاه الاقتصادي غاية لا وسيلة.

و معنى تكريس العلوم لذلك الهدف، انطلاقها من زاويتين - على الأقل -:

الزاوية الأولى: كون العلوم عموما، و العلوم الكونية منها على الخصوص، ليست غير بيانات لتدبير الخالق لخلقه و المكوّن لكونه، و ليس لها أي جدوى أو معنى بدون ذلك.

الزاوية الثانية: كون هذه العلوم غير ذات معنى و لا جدوى بدون الشعور بالمسؤولية الانسانية و الأخلاقية عموما، و تجاه التخطيط العام على وجه الخصوص. و إذا كان هذا الشعور موجودا، كان التكريس للهدف واعيا و واضحا في الذهن، و مطبقا في الحياة العملية.

الناحية الثامنة: أكّدت الماركسية - فيما عرفنا عنها - على ان الشكل المفضل إداريا للدولة هو الحكم بطريقة (المجالس السوفييتية). و قد وجدنا لدى المناقشة ان هذا الرأي لم يؤخذ به في بعض الدول الشيوعية فضلا عن غيرها. فقد وجد الناس

ص:566

لأنفسهم أساليب أفضل من ذلك، و أنسب بمجتمعاتهم منه. فمن الطبيعي - اذن - ان نعطي (الحرية) للدولة العالمية العادلة في ان تختار شكلها الاداري المفضل، حسب ما ترى من المصلحة، و لا حاجة الآن إلى محاولة فهمه.

- 5 - ها قد وصلنا إلى الطور الشيوعي الأعلى للشيوعية الذي هو «الهدف العظيم للحزب الشيوعي و الشعب السوفيتي» و هو أيضا «حلم الانسانية طيلة قرون» و هو أيضا «الانسان و قد تحرر من أوصاب الملكية الخاصة و من عبودية الماضي الروحية»... كما سمعنا ذلك من التعاريف الماركسية لذلك اليوم.

و إذا وصلنا إلى هذه المرحلة اكتسب البحث أهمية خاصة، من حيث أننا نقارن بين هدفين انسانيين لإيديولوجيتين مختلفتين، و كلاهما موجود في ضمير المستقبل و لما يتحقق لحد الآن.

على اننا ذكرنا ان حدوث الدولة العالمية ليس هو الهدف الأعلى من التخطيط العام، بل الهدف هو المجتمع المعصوم. فاستطعنا إثبات أفضلية نظام الدولة العادلة على الطور الأعلى، كانت أفضلية المجتمع المعصوم عنه أولى بطبيعة الحال، فنستغني عن البحث فيه من جديد.

و قد سمعنا تعاريف الشيوعية، و قارناها و ناقشناها، و عرفنا انطباق جملة منها على نتيجة التخطيط العام أيضا. و يحسن بنا الآن ان نسير خطوة جديدة:

فليس فقط «ستترسخ فيه الارادة الذاتية الاجتماعية و يغدو فيه العمل لخير المجتمع الحاجة الحيوية الأولى في نظر المجتمع» كما تريد الماركسية، و ان كان هو أمرا صحيحا و متحققا في الدولة العالمية. و لكن سيكون التركيز على التكامل الفردي موجودا و رئيسيا أيضا، و لا معنى للتكامل و التربية الاجتماعية إلاّ بالتكامل الفردي، فلا وجود لما تريده الماركسية من تمحيض الفرد للجماعة و اندكاكه في المجتمع و الصالح العام، بل سيكون للجانبين الفردي و الاجتماعي أهميتهما.

و لا نعني بالجانب الفردي التركيز على الأنانية و الغرور، بل نعني التكامل الفردي بالمعنى الحقيقي، المنافي تماما مع الأنانية و الغرور، و كل جوانب الاسفاف المصلحية. و هذا المعنى من التكامل، هو الذي يكرس الجانب الاجتماعي لتربيته... إذ لا معنى للعناية بالمجتمع إلا من أجل تكامل أفراده.

كما ان الدولة العالمية ليس فقط «تنظيم اجتماعي عاقل يعتمد على قاعدة

ص:567

تكتيكية عالية التطور» بل يعطي إلى جانب ذلك الجوانب الأخرى المهمة في التربية و التكامل التي عرفناها.

كما ان نظام تلك الدولة، ليس فقط «ظاهرة تاريخية عالمية» كما تريد الماركسية لطورها الأعلى. بل هي نظام عالمي كامل و عادل. و إنما يصح التعبير بالظاهرة لدى وجود دولة فضلى بين عدة دول مغايرة لها و موقتة الوجود نسبيا... و هذا غاية ما تطمع به الماركسية على ما يبدو. و أما حين تحكم الدولة الفضلى كل العالم، فلا يمكن التعبير عنها بكونها «ظاهرة». و خاصة إذا لم تتوقع لها الزوال على طول الزمن... بل لها الرسوخ و النمو و الانتاج الواقعي للهدف الأعلى. إذن، لا بدلنا ان نختار لفظا آخر يدلنا على الطريق.

و قالت الماركسية: «انه لا مراء في ان التشكيلة الشيوعية ستكون عامة شاملة، و ان جميع الشعوب ستبلغ في آخر المطاف مستوى واحدا، فيبدأ آنذاك تاريخ واحد لبشرية واحدة...».

إن الماركسية تتوقع وصول المجتمعات إلى الطور الأعلى تدريجا واحدا بعد الآخر. و هذا ما تتوقعه في مدى بعيد قد يبلغ مئات السنين، الأمر الذي يجعل المجتمعات التي تصل إلى الطور الأعلى مهددة بالانتكاس أو الغزو الخارجي، و خاصة مع انعدام الحكومة المركزية (الدولة) فيها، و عدم الجيش و عدم القانون، كما سمعنا فيما سبق.

و أما في التخطيط العام، فالعالم يدخل في الدولة العالمية، سوية، بحيث لا يكون هناك زمان مهم بين جزء و آخر، إلا المدة التي يتم للقائد المهدي السيطرة على العالم... و قد حددت هذه المدة بثمانية أشهر، كما سمعنا في تاريخ ما بعد الظهور.

و معه فاحتمال الانتكاس غير موجود، باعتبار التوجيه المركزي للدولة نفسها. كما ان احتمال الغزو الخارجي غير موجود، لعدم وجود دولة أخرى مقابلة في العالم على الاطلاق.

ان التطور الفكري للبشرية - عموما - سيكون مشتركا في التخطيط الثالث، بحيث يجعلها كلها مؤهلة للحكم العالمي، و هو خصيصة كل تخطيط كما سبق، و ليس - كما تتصور الماركسية - ان هناك تفاضلا ضخما من ناحية الاتجاه نحو الهدف.

... هذا و لا مانع بعد تأهيل البشرية عموما للحكم العادل، ان تبقى استثناءات - قد تكون عديدة - ذات مستويات منحفضة عقليا أو ثقافيا أو عقائديا أو

ص:568

حضاريا. ان الحكم العادل سيشملهم جميعا، و يتكفل تربيتهم جميعا كل بحسب ما يحتاجه من أساليب الرعاية و التوجيه.

فهذه نظرة نحو التعاريف الماركسية لطورها الأعلى، مضافا إلى ما ذكرناه في الفقرة الثالثة من مناقشات ذلك الطور.

- 6 - و يتسم الطور الأعلى بعدة صفات عرفناها و ناقشناها. و في يد الآن أن نتساءل عن انطباقها على الدولة العالمية:

الصفة الأولى: زوال الدولة تماما. باعتبارها أداة طبقية للصراع و القمع الطبقيين؛ و بعد زوال الطبقات لا يبقى من ينبغي قمعه، فلا يبقى للدولة موضوع.

و للماركسية كلمة أخرى حول زوال الدولة. قال لينين:

«ان الأساس الاقتصادي لا لاضمحلال الدولة اضمحلالا تاما هو تطور الشيوعية تطورا كبيرا يزول معه التضاد بين العمل الفكري و العمل الجسدي، و يزول بالتالي ينبوع من أهم ينابيع اللامساوات الاجتماعية الراهنة»(1).

الصفة الثانية: انعدام الطبقات، بعد انعدام الرأسمال و الرأسماليين، فلا يبقى إلا الأفراد العاملون في الصناعة و الزراعة... فقط!!...

الصفة الثالثة: ستتحقق في ذلك الطور الديمقراطية بمعناها الصحيح ماركسيا، كما سبق أن سمعنا.

الصفة الرابعة: ستكون القاعدة السائدة اقتصاديا هي القائلة: «من كل حسب طاقته و لكل حسب حاجاته، أو حسب إرادته»... و قد رأينا التذبذب الماركسي حول ذلك.

الصفة الخامسة: سيصبح العمل الحاجة الأولى للحياة، حيث يعتاد البشر على إنجاز واجباتهم الاجتماعية دون أجهزة خاصة للالزام، و حيث العمل لا أجرة له في سبيل الخير العام...

الصفة السادسة: انه بوجود هذا الطور ستزول الويلات في العالم.

الصفة السابعة: إلغاء الملكية الخاصة إلغاء تاما. و قد سمعنا التذبذب الماركسي بين إلغائها تماما، و إلغائها عن وسائل الانتاج خاصة.

ص:569


1- (1) مختارات لينين ج 2 ص 294 و ما بعدها.

الصفة الثامنة: سيعتمد الاقتصاد القومي على مخطط معتمد على تقنية عليا في الميدانين الصناعي و الزراعي، مدعما بالعلوم و الفنون المنتجة لها... بشكل لم يكن له نظير فيما سبق.

الصفة التاسعة: ستتحقق الحرية بمعناها الكامل و الصحيح ماركسيا.

الصفة العاشرة: سيزول القانون، و يتبدل إلى الأخلاق، حيث هي التي ستكون القائدة الايديولوجية للمجتمع.

هكذا و صفت الماركسية طورها الأعلى، كما سمعنا ذلك و ناقشناه. و ينبغي لنا فيما يلي مقارنته بنظام الدولة العالمية السابقة على المجتمع المعصوم، كما أسلفنا.

و لا بد لنا أن نتكلم عن كل صفة من هذه الصفات في ناحية مستقلة.

- 7 - الناحية الأولى: بالنسبة إلى بقاء الدولة و زوالها.

ستكون الدولة العالمية العادلة، محتاجة إلى فكرة الحكومة و الدولة... لعدة أسباب أساسية:

السبب الأول: ان تأسيس الدولة العالمية أساسا منطلق من هذه الزاوية، و هي: ان القائد المهدي عليه السلام فتح العالم كله، و إذا تم له ذلك كان مستحقا ان يمارس الحكم فيه، طبقا للاتجاه العالمي المعاصر الذي يرى من حق الثورات الناجحة ان تسيطر و ان تحكم في المناطق التي هي فيها.

مضافا: إلى أن فتحه للعالم لم يكن بقصد التوصل إلى السلطة و لا بشهوة الحكم، بل لأجل تطبيق العدل، و معه فتخليه عن الحكم بعد إتمامه لفتح العالم يعني التنازل عن مسئوليته و بالتالي عن التخطيط العام بلا مبرر.

السبب الثاني: الجانب العام الذي تحتاج إليه المجتمعات عموما إلى الدولة، و هو ما أشرنا إليه في غضون مناقشة الطور الأعلى من ان الدولة تحفظ المصالح العامة التي لا يمكن للأفراد الحفاظ عليها. فان هذا الجانب متوفر في الدولة العالمية بشكل أوضح، لجسامة هذه المصالح و تشعبها و وضوح استحالة قيام الأفراد بها مهما كثروا، ما لم يكن هناك لهم قيادة مركزية.

السبب الثالث: ان المجتمع الذي تبدأ به الدولة العالمية، مجتمع غير ناجز التربية بالشكل المطلوب في التخطيط الرابع الذي نتحدث عنه، و إنما لا زال في أول الطريق. و ستنال البشرية تربيتها المطلوبة منه عند نهايته، و هي ابتداء المجتمع

ص:570

المعصوم.

و سنعرف أن الدولة أو الحكومة، سوف تبقى حتى لو تحقق المجتمع المعصوم، و ان اختلف شكل تكوينها. فكيف و المجتمع لم يصل بعد إلى العصمة. كل ما في الأمر، ان سبب وجودها يقتصر على السبب الثاني خاصة دون الأول و الثالث، على ما سنعرف.

الناحية الثانية: في الحديث عن وجود الطبقات و عدمها في الدولة العالمية:

لا شك أنه بمجرد أن يتم إنجاز القوانين المهدوية و المستوى الجديد العالي للوعي و التفكير الذي يريده المهدي (ع)، و بالتالي يريده التخطيط العام...

تنعدم تماما أهمية الطبقات و ما قد يحدث بينها من نزاع.

إن ما قالته الماركسية من استعار الصراع بين الطبقات باستمرار، مما لا دليل عليه، بعد ان عرفنا بطلان أدلة الماركسية على ذلك. إلا أن هذا الصراع قد يحدث أحيانا في المجتمعات الاعتيادية، كما قد يحدث الصراع بين الأفراد و بين المجتمعات و بين الحكومات، و هكذا. ان كل هذه الصراعات سوف تتلاشى تماما تحت مجهر الوعي العالي و العدل الكامل و التلاحم الأخوي نحو الهدف الأعلى الذي يزرعه المهدي في نفوس البشر أجمعين.

إن أهمية الطبقات ستزول... و لن يكون هناك أيضا وجود للرأسمالية و الرأسماليين بأي حال، بعد كل الذي عرفناه من مبررات اضمحلال القطاع الخاص إلى حد بعيد. كما لا وجود للاستغلال على المستوى الشخصي فضلا عن الطبقي أو غيره، كما هو جلي من عدد من الأحكام السابقة.

و لكن ما ذا يبقى؟.. يبقى الناس سواسية كاسنان المشط، ينال كل منهم أفضل شكل من المستوى الاقتصادي من ناحية و من التربية و التكامل من ناحية أخرى. و لكن لا كما تعتقده الماركسية من تحول الشعب إلى صنّاع و زرّاعين فقط. ان الهدف الأعلى لا يمكن ان يتحقق بمجرد ذلك. فهناك الاختصاصيون في العلم و المعرفة من كل نوع. و الاختصاصي يفضل غيره بطبيعة الحال «هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون». كما ان هناك من هو أكثر أداء للسلوك المخلص، و من ثم أقوى إرادة و أكثر انسجاما مع التخطيط من الآخرين. و هؤلاء يتزايدون بالتدريج نتيجة للتخطيط التربوي السابق على العصمة. و ليس كل الناس سواسية في ذلك حتى ذلك العهد «و فضّل اللّه المجاهدين على القاعدين درجة، و كلا وعد اللّه

ص:571

الحسنى». و قد عرفنا ان قواعد القرآن الكريم لا يمكن أن تتغير يومئذ.

و من زاوية هذا التفضيل، سيتخذ الأكثر إخلاصا طريقه إلى المشاركة في الحكم و الادارة العامة. أما في أول الدولة فيكون الحكام هم الأكثر نجاحا في التخطيط الثالث السابق و أما بعد ذلك، فسوف يختار الأكثر نجاحا من الناس، مضافا إلى كفاءاته العلمية، ليأخذ طريقه في هذا الاتجاه.

إذن، فما تذكره الماركسية من كون الدولة ممثلة لطبقة معينة، غير صحيح بالمرة في الدولة العالمية، كما هو - أيضا - غير صحيح كقاعدة عامة على ما عرفنا. فهذه الدولة لا يمثل حكامها العمال و لا الفلاحين و لا الرأسماليين و لا الاقطاعيين، و لا غيرهم ممن يخطر في ذهن الماركسيين... و إنما يمثلون الصالحين في العالم مهما كان عملهم. و الدولة تشعر بمصلحتهم جميعا، و بعاطفة الأبوة و الأخوة نحوهم أجمعين.

الناحية الثالثة: في تحقق الديمقراطية في الدولة العالمية.

إن قصدنا من الديمقراطية، ما هو المصطلح لها، و هو اختيار الشعب لحكم نفسه في الأسلوب و أشخاص الحكام؛ فهذا شيء غير موجود في الدولة العالمية، تماما. بل لا معنى له فيها، بعد الالتفات إلى أسلوب تكونها و التخطيط له، و التخطيط التربوي الذي تتخذه، الأمر الذي يتعذر على الجماعة إنجازه وحدها، كما يتعذر عليها معرفة الأشخاص الذين ينجزونه، لو كان لهم وجود بغض النظر عن القيادة المهدوية.

و إن قصدنا منها الاخلاص في الانتخاب و صحته، بدون تزوير حين تعنّ الحاجة إلى ذلك، لو احتاج المجتمع إلى مجالس موقته أو دائمية تقوم على أساس الانتخاب... فهذا أمر صحيح. و لكن صحة الانتخاب هذه لا تقوم على تقديس مفهوم (الديمقراطية)، بل لأجل الجهة الأخلاقية القائلة بشناعة الاستغلال و الخيانة. و لا شك ان اللعب في الانتخاب يحتوي على استغلال للمرشحين الآخرين و خيانة للهدف المطلوب، و بالتالي لكل المجتمع الذي يستفيد من هذا الهدف.

نعم، سيكون للديمقراطية بمعناها المصطلح وجود في المجتمع المعصوم كما سبق ان أشرنا، و سيأتي في الكلام عن التخطيط الخامس.

الناحية الرابعة: في القاعدة الماركسية القائلة: من كل حسب طاقته و لكل حسب حاجته.

و قد عرفنا اننا لو أردنا بديلا عن هذه العبارة - و نحن على أي حال في غنى عنها -

ص:572

في الدولة العالمية، لقلنا: من كل حسب إرادته و لكل أكثر من حاجته. و هو مستوى لم تفكر به الماركسية، بل لا تستطيع التفوه به لأنه يستلزم ان يترك عمالها أعمالهم، بخلاف الدولة العالمية، التي عرفنا أساليبها في حث الأفراد على العمل للصالح العام.

الناحية الخامسة: هل سيصبح العمل الحاجة الأولى للحياة.

إن الماركسية تريد من ذلك تكريس الجهود كلها، و بدون إلزام حكومي أو قانوني، لزيادة الانتاج الذي هو هدفها الأساسي في البشرية. و قد رأينا انها غير ناجحة في ذلك، باعتبار: ان الانسان المكرس تكريسا اقتصاديا عميقا طبقا لمفاهيم المادية التاريخية، يستحيل أن لا يكون أنانيا من الناحية الاقتصادية، و إذا كان أنانيا كان تفكيره في العمل في سبيل المجموع أو الصالح العام متعذرا. و لا يمكن الجمع بين الاندكاك في الجماعة، و بين الانانية الاقتصادية، كما توقعت الماركسية.

و أما العمل في الدولة العالمية، فينبغي أن نفهم منه العمل في سبيل التربية و الهدف الأعلى، إذ أن العمل الصناعي و الزراعي، مكرس - في واقعه - في سبيل ذلك، فضلا عن غيرها من الأعمال الأخرى التي تكون أوضح اندراجا في هذا السبيل و أجلى تسبيبا له.

و إذا فهمنا ذلك، كان العمل - حقا - الحاجة الأولى للحياة. باعتبار ان الحياة و كل أعمالها مكرسة في سبيل الهدف الأعلى الذي وجدت من أجله. كما برهنا، لا باعتبار الاهتمام بزيادة الانتاج خاصة، كما تريد الماركسية... و ان كانت هذه الزيادة موجودة بأوسع و أعمق أشكالها. فكأن الفرد الماركسي: يعيش ليأكل و الفرد العادل يأكل ليعيش.

الناحية السادسة: انه بوجود الدولة العالمية العادلة ستزول الويلات عن العالم. لا باعتبار إلغاء الدولة و الملكية الخاصة و صراع الطبقات، بل باعتبار الايديولوجية المعمقة المطبقة يومئذ، المكونة من مفاهيم و قانون واعيين بدرجة عالية جدا. و من أهم فقراتها منع الخيانة و الاستغلال و زرع الشعور بالأخوة المستلزمة للعمل المتكاثف في سبيل الهدف الأعلى. و قد عرفنا كثيرا من التفاصيل المندرجة في هذا الصدد، فلا حاجة إلى التكرار.

الناحية السابعة: في إلغاء الملكية تماما أو عن وسائل الانتاج خاصة.

أما إلغاؤها عن وسائل الانتاج، في الدولة العالمية، فهو صحيح، على ما

ص:573

سمعنا. لا بمعنى التأميم أو إصدار (مرسوم) بهذا الخصوص يعيد ملكية وسائل الانتاج إلى الأمة، مع التعويض أو بدونه. بل بمعنى تكفل الدولة الثقل الأهم في هذا الصدد، و توزيع خيرات ذلك على الناس - طبقا لأساليب نظامية معينة - إلى حد تضعف معه أهمية القطاع الخاص، حتى عند أصحابه... بعد أن كان الخير و الرفاه الواصل إليهم من الدولة اضعاف عملهم. و يسير تدريجا في طريق الفناء. بمعنى أنه يأتي يوم لا يهتم فيه أي شخص بأن يكون له مصنع أو معمل. و بذلك تتمحض الصناعة للدولة.

و أما إلغاء الملكية تماما، فقد رأينا عدم إمكانه... إذ لا معنى لاصدار (مرسوم) بهذا الخصوص كما هو واضح. و اما تلاشيها - كما تتوقع الماركسية - فهذا غير ممكن بالنسبة إلى كل ما له ندرة نسبية، و هو عدد لا يستهان به من الأشياء، كما عرفنا.

على أن إلغاءها بالمرة، حتى في مأكل الانسان و ملبسه، يحتوي على رد فعل نفسي مؤسف، كما سبق أن قلنا، و هو ينافي التربية العادلة التي تتوخاها الدولة، و مناف للسعادة و الرفاه الموجود فيها. بخلاف ذوبان الملكية في الأمور المتوفرة جدا التي تنعدم فيها الندرة النسبية، فانها تخلو من هذا المردود.

و قد يقول القائل: ان كل السلع الاستهلاكية، ستصبح متوفرة بهذا المقدار، فليس لهذا المردود النفسي وجود بالنسبة إليها. و أما الأمور النادرة، فإلغاء الملكية بالنسبة إليها لا يحدث أي مردود نفسي، لقلة أهمية عن تلك المواد.

و جواب ذلك من زاويتين:

الزاوية الأولى: إن إلغاء الملكية بالنسبة إلى الأمور النادرة نسبيا، لا يكون إلا (بمرسوم)، و لا يعقل ذوبانها التلقائي ما دامت نادرة، كما هو واضح. و الماركسية لا تدعي صدور مرسوم من هذا القبيل، و ليس في الطور الأعلى دولة لتصدره.

إذن، فالبرهنة على بقاء الملكية في الأمور النادرة نسبيا يستجل إشكال على الماركسية.

الزاوية الثانية: لو فرض صدور مرسوم بإلغاء الملكية عن الأمور النادرة نسبيا، فهو يحتوي في كثير من الحالات على نفس المردود النفسي، أو على بعض درجاته على الأقل، الأمر الذي ينافي التربية و الرفاه معا، كما أشرنا. و يمكننا بهذا الصدد، الالتفات إلى أمرين:

الأمر الأول: ان الندرة قد تحدث في المواد الاستهلاكية أحيانا، فيكون

ص:574

اسقاطها عن الملكية أو إسقاط الملكية عنها، حاملا لنفس المردود النفسي. فلو ان إنسانا احتاج إلى الماء في برية جافة، و كان لديه منه ما يروي عطشه. فجاء شخص آخر عطشان و أخذ الماء منه بحجة انه ليس ملك الأول، لأنه الغيت الملكية بمرسوم!!.. كان ظالما له في الضمير العقلائي العام.

الأمر الثاني: ان عدد من الأمور النادرة نسبيا، مما لا يمكن فيها ارتفاع هذه الصفة... قد لا تقل أهميتها - أحيانا - عن المواد الاستهلاكية، و من ثم يكون إلغاء ملكيتها حاويا على نفس المردود. فلو ان ابن أحد المشاهير، كأنشتاين مثلا، كانت لديه من أبيه مخطوطات، لا يرى لها العالم في بديلا، فسلبت منه سلبا حكوميا أو فرديا، بحجة إسقاطها عن الملكية... كان الفاعل ظالما لا محالة و منتجا لنفس المردود في نفس هذا الانسان.

الناحية الثامنة: بالنسبة إلى المستوى الصناعي و التكنيكي للدولة العالمية، سبق ان عرفناه و ناقشناه فلا حاجة إلى التكرار.

الناحية التاسعة: بالنسبة إلى وجود الحرية في الدولة العالمية، كما هو موجود في الطور الأعلى، في رأي الماركسيين.

و يمكن أن نفهم من الحرية عدة معان، يهمنا منها ما يلي:

المعنى الأول: الحرية بمعناها المطلق الشامل لكل الميادين، في الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية.

و هذا المعنى غير صحيح، و لا تريده الماركسية لأن فيه اعتداء على حقوق الآخرين، و إباحة لأعمال الخيانة و الاستغلال، و إباحة للاعتقاد بغير الفلسفة الماركسية المطلوبة!!...

المعنى الثاني: الحرية من الاستعمار، بمعنى أن لا يكون على المجتمع رأي مفروض من مجتمع آخر أقوى منه، عقائديا أو اقتصاديا أو غيره.

المعنى الثالث: الحرية في التصرف و الرأي، ضمن الايديولوجية المعترف بها في ذلك المجتمع، و يساوق ذلك منع كل تصرف ينافي تلك الايديولوجية.

و كلا هذين المعنيين الأخيرين تفترض الماركسية وجودهما في الطور الأعلى، بل فيما قبله من عهود الاشتراكية أيضا. و هما أيضا متوفران تماما في الدولة العالمية.

أما وجود المعنى الثاني للحرية في الدولة العالمية، فهو واضح جلي، إذ

ص:575

ليس هناك مجتمع اعلى من هذه الدولة ليفرض رأيه عليها، بعد أن أصبح مجتمعها هو العالم كله.

و أما سيطرتها هي على العالم، فلا يعتبر من نوع الاستعمار، فان الاستعمار هو السيطرة المساوقة مع الاستغلال و التحكم و اللعب بخيرات و مقدرات الشعوب. و أما إذا كانت السيطرة بقصد أبوي لأجل خير البلاد المفتوحة نفسها، و إذا كانت الدولة المسيطرة تستطيع أن تخدم الشعب المفتوح أكثر مما يستطيع هو أن يخدم نفسه، و إذا كان واضحا في ذهن الشعب المفتوح بحيث فرح بهذا الفتح الجديد، و بالخلاص من (أوصاب الماضي) كما تعبر الماركسية... إذن لا يكون للاستعمار وجود، شأنه في ذلك شأن الفتح الاسلامي الذي أخرج الشعوب المفتوحة من ذل العبودية و الظلم و أدخلها في الدين الفاتح نفسه بل و لغته أيضا أحيانا.

و أما المعنى الثالث للحرية فهو ضروري الوجود في الدولة العالمية، لكونه من المؤثرات الرئيسية في التربية المتوخاة لها... لما عرفناه فيما سبق من أن الاختيار و حرية التصرف من الأركان الرئيسية في التخطيط المستهدف لكمال البشرية... لا يختلف في ذلك الاختيار بقسميه الكوني و التشريعي.

فالناس في حدود الايديولوجية العامة للدولة، و الوعي المهدوي الجديد، أحرار تماما... في كل تصرفاتهم الاجتماعية و الاقتصادية و العبادية و الأخلاقية و غيرها.

إلا ان هذا يساوق المنع عن كثير من التصرفات و الآراء غير المنسجمة مع تلك الايديولوجية، إلا ان هذا المنع سوف لن يكون له أثر واضح، بعد أن يكون الأمر قد استتب للدولة من زاوية السيطرة القوية من ناحية و زاوية الدعوة إلى الحياة الفكرية الجديدة التي تكون مقنعة للناس بشكل واضح و تلقائي في الغالب. و خاصة بعد أن يتم لهم المقارنة بين نتائج هذه الدولة و النظم السابقة عليها. و هي مقارنة تتم تلقائيا في الذهن أيضا بالنسبة إلى أي إنسان ملتفت معاصر لتأسيس هذه الدولة منذ أول تكوينها.

و أما بعد ذلك، فالأمر أسهل، إذ يكون الناس قد تم اقتناعهم الكامل بالمستوى الفكري الجديد، و لا يوجد من لا يقتنع بذلك. فقد أصبح البشر أجمعين هادفين و متآخين في سبيل الهدف الأعلى، و بالتالي منسجمين مع التخطيط

ص:576

العام. و إذا أصبح الفرد هادفا أصبحت كل تصرفاته منطلقة من هدفه. فهو يطبق حريته تلقائيا على هذا النوع من التصرفات، و يستنكر غيرها. و هذا معنى كونه حرا في حدود الايديولوجية المعترف بها في ذلك المجتمع، من دون أن يشعر بأية حزازة فيما تستتبعه هذه الحرية من منع و حجر. بل انه يرى مثل هذا المنع و الحجر لكل مخالف حقا و صحيحا، بعد اقتناعه بتلك الايديولوجية و استهدافه لهدفها.

الناحية العاشرة: في سيادة الأخلاق بدل القانون، كما حاولت الماركسية.

إن الأخلاق بمعناها الواسع المعمق، ستكون سائدة لا محالة في الدولة العالمية، لكنها ستكون موجودة إلى جنب القانون، لأنها لا تغني عنه. و لا يمكنه أيضا أن يغني عنها.

أما أن الأخلاق وحدها لا تفي بالقيادة و لا تغني عن القانون، فلأن القضايا الأخلاقية الواضحة قليلة و غير كافية لدقائق القيادة الاجتماعية العامة.

يكفينا من ذلك أن ندرك بوضوح أن الأخلاق وحدها لا تستطيع أن تحدد موقفا كاملا بإزاء القانون المدني أو الجزائي أو بإزاء خطة أو أسلوب اقتصادي معين.

و تحويلنا على التقاليد، كما سمعنا من الماركسية، لا يسد هذا النقص، لأن في التقاليد أمورا ضحلة و فاسدة و مشوشة، تمنع ما جعلها محكا للقيادة.

و هي في الدولة العالمية أشد بعدا عن ذلك، لأن التقاليد السابقة على وجود هذه الدولة فاسدة جملة و تفصيلا و لا بد من اجتثاثها و تغييرها. و التقاليد اللاحقة لوجود هذه الدولة، إنما توجد طبقا لتوجيهات هذه الدولة، لا انها توجد تلقائيا لتأخذ الدولة منها نظامها.

و كذلك القانون لا يمكن أن يقوم بمهمته بدون أخلاق، و خاصة المهمة التربوية المطلوبة في الدولة العالمية. صحيح ان القانون سيكون موجها توجيها تربويا... إلا ان هذا لا يعني شيئا بالنسبة إلى التربية إذا كانت طاعته لمجرد القوة و على غير اقتناع أخلاقي. و إنما تنطلق التربية من حيث الانقياد الاختياري للقانون العادل. و هذا الانطلاق الاختياري المغني عن العقاب، يعتبر من أهم مهمات الأخلاق.

و لا نعني بذلك عدم وجود العقوبات، كيف و القرآن الكريم ينص على 37

ص:577

عدد منها. و قد عرفنا أنه يكون مطبقا تطبيقا كاملا في ذلك العصر. و إنما المراد أنه بانتشار الوعي الجديد و الاقتناع بايديولوجية الدولة، يبدأ الناس بالطاعة الاختيارية الواعية تدريجا. و كلما ازدادت نتائج التربية ازداد ذلك، فيكون المجتمع في غنى تدريجا عن قوانين العقوبات، و إن بقيت سارية المفعول أساسا، لتطبق في الأموال الضرورية، و إن كانت نادرة.

إذن، فالقانون موجود ليتكفل التنظيم العام في الدولة، و الأخلاق موجودة لكي تدعم تطبيق القانون بدل القوة... و بذلك يتساند القانون و الأخلاق في الاتجاه نحو الهدف الأعلى نحو المجتمع المعصوم.

- 7 - و أخيرا... تحسن الوقفة مع الماركسية في عدة من الاعتراضات التي و جهت ضد تحقق الطور الأعلى الماركسي. و قد ذكرها الماركسيون أنفسهم - كما سمعنا - و ناقشوها. و قد رأينا صحتها و عدم إمكان التخلص منها ماركسيا. فهل هي واردة يصح الاعتراض بها ضد الدولة العالمية الموعودة، أو لا؟!..

و كانت بعض الاعتراضات تنطلق من القانون السائد في الطور الأعلى القائل: من كل حسب طاقته و لكل حسب حاجته. و بعد أن عرفنا ان هذا التعبير لا موضوع له في الدولة العالمية، إذن فكل اعتراض يرد من زاويته سيكون غير ذي موضوع، غير اننا نعرضها مع إيضاح جوانبها ليكون أبسط للقارئ.

الاعتراض الأول: ما سمعناه عن لينين، و مؤداه: انه لو أخذ الناس «لكل حسب حاجته» لأخذ الناس الأموال بلا حساب، و بخاصة و ان الدولة غير موجودة لتراقب و تحاسب.

و قد سمعنا مناقشات ذلك، و توصلنا إلى صحته باعتبار ان الانسان المتربّي على مفاهيم المادية التاريخية الاقتصادية، يستحيل أن لا يكون أنانيا من زاوية اقتصادية. و إذا كان أنانيا اقتصاديا كان مندفعا بطبعه إلى أن يأخذ من الأموال بلا حساب.

و أما في الدولة العالمية، فبالرغم من أنه يعطي للفرد أكثر من حاجته، لا بقدرها فقط... إلا انه يتم ذلك تحت عاملين مهمين يمنعان التسيّب:

أحدهما: الاشراف المركزي القوي للدولة. و الثاني: الدافع الأخلاقي في التنازل عن الأنانية في سبيل الغير و في سبيل الهدف الأعلى و التربية التكاملية.

ص:578

و ليس في الدولة العالمية تربية على ترسيخ المفاهيم الاقتصادية و قيادتها للحياة، حتى تكون عاملا معاكسا لذلك.

الاعتراض الثاني: ما سمعناه عن بوليتزر: انه لو كان التوزيع حسب الحاجات، لكانت مداخل الأفراد متقاربة، و معناه تساوي العاملين: من عمل عملا قليلا، و من عمل عملا كثيرا... و معه لا يبقى أي دافع نفسي لأداء المقدار الزائد من العمل. و بذلك يخسر المجتمع أهم ما يمكن أن يحصل عليه من الأعمال الفنية و الاختصاصية.

و قد عرفنا صحة هذا الاشكال بالنسبة إلى الانسان الأناني اقتصاديا، الذي لا يمكنه بأي حال أن يكون له دافع إلى العمل خارج هذه الدائرة المغلقة.

و أما في الدولة العالمية، فقد أشرنا فيما سبق أن دخل الناس أجمعين سيكون عاليا. و لكن العمل سيكون موجودا كما ينبغي، لوجود التفضيل الاجتماعي و الأخلاقي لمن يؤدي العمل الزائد على من يؤدي العمل الأقل أو من لا يعمل بدون عذر. و قد عرفنا ما للأخلاق من دافع قوي في ذلك اليوم. مضافا إلى أنه ينبغي القول: بأن دخل العامل أكثر نسبيا من غيره نتيجة لعمله، كما أشرنا.

الاعتراض الثالث: انه مع تساوي الدخل سيتساوى دخل العامل البسيط مع دخل الاختصاصي، و الكفؤ و غير الكفؤ و القوي و غير القوي بل لأمكن أن يكون دخل الرجل الأحسن و الأكمل أقل ممن هو دونه إذا كانت حاجاته أقل. و بذلك يفقد الاختصاصي مزيته، و بالتالي يفقد دوافعه للعمل أيضا.

إن هذا الاعتراض يشير إلى النقص من حيث الاختصاص و ما قبله يشير إلى النقص في ساعات العمل. و هو أيضا وارد و صحيح بالنسبة إلى الانسان الأناني اقتصاديا. و لكنه أيضا غير ذي موضوع بالنسبة إلى الدولة العالمية لوجود التفضيل الأخلاقي الكبير بالنسبة إلى الاختصاصي علما و عملا.

قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (1).

فَضَّلَ اللّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً، وَ كُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنى (2).

الاعتراض الرابع: و هو اعتراض غير منطلق من تلك القاعدة

ص:579


1- (1) الزمر: 9.
2- (2) النساء 95.

الاقتصادية.

و هو ما ذكره كوفالسون من استبعاد وجود اليوم الذي تسعد به البشرية و ترتفع به آلامها. ان هذا ليس إلا حلما طوبويا غير قابل للتحقيق. و قد حاول هو الجواب عليه، كما سبق.

و أما منطلقنا إلى الجواب، فملخص بيانه: ان الانسان ما دام يعيش في العصر الذي يرى فيه رسوخ الحضارة الاوروبية و اشباهها، و مفاهيم الدول الكبرى في العالم، و يتمثل جذور المشاكل السابقة و المعاصرة التي عاشتها البشرية على مدى التاريخ... إن هذا الانسان هو الذي ينبثق تفكيره عن هذا الاشكال.

و أما بعد أن برهنا مفصلا، على تأصل الخير في العالم، و وجود الهدف الصالح للكون عموما و للبشرية خصوصا، و برهانا على مرحلية الظلم و كونه موقوتا زائلا، مهما بدا مهما و متعاظما. إذن فسوف تصير البشرية إلى المستقبل الخيّر الصالح بالضرورة. و لا نحتاج في تصور ذلك إلا إلى انطلاق يسير من الحدود الفكرية التي يفرضها المكان و الزمان على الذهن البشري.

الاعتراض الخامس: ما ذكره كوفالسون أيضا: من ان هناك تهديدا بفناء الحضارة و القضاء عليها في حرب حرارية نووية عالمية، فأين يمكن أن يوجد المستقبل السعيد مع وجود هذه الحرب.

و قد رأينا هذا الاعتراض واردا على الطور الأعلى الماركسي. و لكنه لحسن الحظ غير وارد على الدولة العالمية. و يمكن النظر إلى ذلك على مستويين:

المستوى الأول: ان التخطيط الثالث المنتج للدولة العالمية، يعمل عمله سواء وجدت الحرب العالمية أم لا، و لا تعتبر هذه الحرب معيقة له بأي حال.

و ذلك: ان الشروط الأساسية لليوم الموعود أو الدولة العالمية كما سبق، ثلاثة، لا تضرّ بها الحرب، و ستكون متوفرة جميعا في ذلك اليوم:

الأول: وجود الأطروحة العادلة الكاملة التي تكون قابلة للتطبيق في تلك الدولة.

ان هذه الحرب سوف لن يتسنى لها القضاء على كل المفكرين الحاملين لهذه الاطروحة، بل و لا الكثير منهم. اذ انهم يعيشون في بلدان صغيرة و منزوية عن تيار الدول الكبرى، و ليست لهم أية مشاركة في الحرب مهما كانت بعيدة. و انما

ص:580

الخسارات الكبرى في الأنفس و الأموال و الحضارة ستكون للدول و الجيوش المشاركة، و خاصة الكبرى منها.

الثاني: وجود القائد المؤهل للقيادة العالمية يومئذ، و هو متوفر في شخص الامام المهدي (ع). و هو ممن لا تناله الحرب العالمية بسوء طبقا لكل المذاهب الاسلامية المؤمنة به.

أما إذا ذهبنا إلى الرأي العامّي القائل بميلاده في حينه، فيكون خلال الحرب العالمية غير موجود، أو موجودا و لا يقتل، لوضوح ان من يقتل في هذه الحرب لا يصلح للمهدوية بعدها... و انما يوجد المهدي فيمن لا يقتل، بطبيعة الحال.

و أما اذا ذهبنا إلى الرأي الامامي القائل بطول عمر المهدي (ع) و غيبته... فقد برهنا في تاريخ الغيبة الكبرى(1) على ضرورة طول العمر و الغيبة له، حتى يتسنى له عمق القيادة العالمية بعد ظهوره. و برهنا، في هذا الكتاب، على ان كل ما له تسبيب إلى مصلحة تلك القيادة، فهو ضروري الوجود في التخطيط الالهي. و معه يكتسب الامام المهدي (ع) حصانه خاصة ضد هذه الحرب، من أجل دوام بقائه لأجل قيامه بوظيفته الأساسية في المستقبل المشرق.

و ليس معنى كونه محصنا ضد هذه الحرب كونه لا يموت حتى مع استعمال السلاح ضده. و انما - في الأغلب - بمعنى: انه يستطيع شخصيا التخطيط الخاص لأجل نجاته من ضرر الحرب، و هذا التخطيط واجب عليه لأجل حفظ حياته للمستقبل الموعود.

الثالث: وجود العدد الكافي من المخلصين الذين يمكنهم السيطرة على العالم في اليوم الموعود، تحت القيادة المهدوية. و قد حملنا فكرة متكاملة عن ظروف التمحيص التي تستلزم وجودهم.

و الحرب العالمية تكون مؤكدة لظروف التمحيص هذه، لأنها - في حقيقتها - الدليل الكبير على فشل القوى المادية المزيفة بكل اشكالها و معسكراتها، الأمر الذي يوجب دعم ايمان المؤمنين و إيضاح الفكرة للرأي العام العالمي، و بالتالي يوجب تزايد العدد المطلوب، و ترسيخ اخلاص الموجود

ص:581


1- (1) ص 511 و ما بعدها إلى عدة صفحات.

منهم.

و أما حول القضاء عليهم في هذه الحرب و لو صدفة، فالحديث عنه ليس بأعقد من الحديث عن الموت الاعتيادي الذي سيواجهونه كما يواجه غيرهم.

و الجواب على كل حال واحد، و هو ان ظروف التمحيص ستكون باقية و عميقة و مستمرة حتى توجب أن يوجد في جيل واحد مشترك كل العدد الكافي من هؤلاء الممحّصين. فان قضى الموت على بعضهم بسبب الحرب أو غيرها، أمكن الانتظار فترة أخرى حتى يوجد البديل الكافي و يتكامل العدد؛ إذ ليس للتخطيطات بطبيعتها أمد خاص أو تاريخ محدد تقف عنده.

المستوى الثاني: اننا لا نكتفي بالقول بان الحرب العالمية المتوقعة ليست مضرة باليوم الموعود فقط، بل يحتمل أن تكون نافعة له أيضا و في مصلحته، على تقدير حدوثها.

و ذلك: ان هناك سؤالا يتردد في كثير من الأذهان، عرضناه مع أجوبته في «تاريخ ما بعد الظهور»(1) و هو ان المهدي عليه السلام حين يظهر بشكل أعزل مواجها القوى العالمية الضخمة، كيف يستطيع السيطرة عليها و اخضاعها، لأجل أن يؤسس دولته العالمية الموعودة.

و لهذا السؤال أكثر من جواب، كما سبق هناك، إلا ان من أجوبته الرئيسية هو حدوث الحرب العالمية قبل انجاز اليوم الموعود، حيث تتحطم القوى الكبيرة في هذه الحرب الطاحنة، و يظهر القائد المهدي (ع) على البشرية الباقية، فيستطيع السيطرة على العالم بسهولة نسبية.

إذن، فوجود الحرب العالمية ستكون في صالح اليوم الموعود، و لن تكون ضده، على كل حال.

الاعتراض السادس: و هو موجّه إلى الفكر الماركسي فيما يخص الحالة المتوقعة بعد الطور الأعلى، نتيجة للتغير الضروري الناتج عن الديالكتيك أو تطور قوى الانتاج. و قد عرفنا عجز الماركسية عن الجواب عنه.

و هذا الاعتراض لا معنى له بالنسبة إلى الدولة العالمية، بعد التوصل إلى نفي النظريات الماركسية العامة، و امكان عدم التغيير الذي تتوقعه الماركسية.

ص:582


1- (1) انظر: الفصل الثالث من الباب الثاني من القسم الثاني.

فان هذه الدولة ستبقى في الوجود إلى ان يتحقق هدفها الأعلى في التخطيط الرابع و هو المجتمع المعصوم. فاذا وجد ذلك المجتمع بقيت الدولة أيضا، لكن مع بعض الاختلاف في نظامها بالشكل الذي يمكنه أن يواكب المستوى الجديد العميق و يزيده كمالا و رفعة.

و بهذا نختم الحديث عن الماركسية، و مقارنتها بالدولة العالمية و مذهبها الاقتصادي.

- 8 - و أما الحديث مع الرأسمالية و مقارنتها بالمذهب الاقتصادي (الموعود).

فينبغي أن يكون حديثا منتهيا بعد الذي عرفناه من الاختلافات الشاسعة بين المذهبين الاقتصاديين - من خلال الحديث عن الماركسية.

و إيضاحا للقارئ نذكر الفروق التالية مستنتجة مما سبق:

الفرق الأول: عدم وجود المفهوم المذهبي الأول للدولة العالمية، في الرأسمالية... و هو حق الدولة في السيطرة على الحقول الاقتصادية بشكل عام. فإن هذا الحق مناف مع الحرية الاقتصادية التي تؤمن بها الرأسمالية بعمق، و تلغي حق الدولة في التدخل في حياة الفرد، إلا في حدود الضرورة.

الفرق الثاني: عدم وجود المفهوم المذهبي الثالث للدولة العالمية، في الرأسمالية... و هو الملكية في نطاق محدود، فان ذلك ينافي بصراحة حق الملكية المطلق الذي تقدسه الرأسمالية.

الفرق الثالث: حرمة الربح، بشكليه الربوي و التجاري في الدولة العالمية... مما هو مجاز و مدعم بالقانون في الدول الرأسمالية. فان البنوك الربوية. بل ايمان الرأسماليين بعمق إمكان قيامها بدونها، يعتبر من واضحات عالم اليوم.

الفرق الرابع: عدم وجود المفهوم المذهبي الرابع للدولة العالمية في الرأسمالية... و هو اخلاقية الاقتصاد و قيام نظامه على التسامح و نكران الذات. و هذا واضح لمن استعرض العلاقات الاجتماعية في الدول الرأسمالية، فان الصداقة و العداوة و الحب و البغض و الزواج و الطلاق و الحرب و السلم...

و غيرها، كلها قائمة على أساس اقتصادي أناني صرف، ليس للمفاهيم الأخرى خلاله أي مجال.

الفرق الخامس: ان النظام الاقتصادي في الدولة العالمية هادف

ص:583

- بالضرورة - للتربية العامة و الخاصة نحو الهدف الأعلى، مع العلم ان الرأسمالية خالية من أي هدف سوى الحفاظ على نظامها و توسيع وجودها في الانتاج و التوزيع.

و قد عرفنا ان وجود الرأسمالية و غيرها من أنظمة عالم اليوم، إنما هو وجود موقت بالضرورة، يقع ضمن تخطيط عام لتمحيص الأفراد و الأنظمة معا، و إثبات الصالح و الطالح منها امام الرأي العام العالمي، مقدمة لليوم الموعود، يوم الدولة العالمية العادلة.

التخطيط الخامس المنتج للحفاظ على المجتمع المعصوم و تكامله

- 1 - ان الفكرة التي ينبغي ان نحملها عن العصمة الآن بسيطة إلى حد كبير... فاننا اذا عرفنا العصمة بأنها «الالتزام بالعدل بدون ان يكون هناك احتمال معقول للانحراف» أو اذا عرفناها بانها تحصيل «حين يصبح تطبيق العدل لذة حقيقية» بدل الالتذاذ بالانحراف و الشهوات. أو إذا عرفناها بانها «التعود التام على تطبيق العدل بحيث يكون التخلي عنه موجبا للألم» تماما كاعتياد التدخين من هذه الناحية. إذا عرفناها بكل ذلك لا نكون قد جانبنا الصواب.

و مقصودنا من العدل: ذلك النظام العقائدي و التشريعي المنسجم مع التخطيط العام، و بالتالي مع الأهداف البشرية الكونية العامة.

و بذلك نكون قد تجنبنا الجدل (الكلامي) الذي يقع بين المذاهب الاسلامية، في اقتران العصمة بامتناع الخطأ و السهو و النسيان أو اقترانها بالالهام و عدمه.

ان تجنّبنا عن ذلك ضروري فعلا، لاننا لا نعني من العصمة في المجتمع المعصوم أكثر من ذلك. و لا دليل على عصمة أفراد المجتمع يومئذ عن الخطأ و النسيان أيضا، مضافا إلى العصمة عن التورط عمدا في الذنوب و الانحراف.

ص:584

و ان كان ذلك محتملا في المراحل البعيدة من التكامل.

و بذلك اختلاف مفهوم العصمة الذي نريده عن العصمة التي يلتزم بها الاماميون لأئمتهم الاثني عشر عليهم السلام و للانبياء عموما. و قد يفرق بينهما اصطلاحا بالتعبير ب «العصمة الواجبة» بالنسبة إلى الأئمة و الأنبياء، و ب «العصمة غير الواجبة» بالنسبة إلى ما قصدناه... و ان كان هذا الاصطلاح لا يخلو من ايحاءات غير صحيحة.

و لعل العصمة بالمعنى الذي أردناه، ثابتة لجماعة من الصحابة و الشهداء و الصالحين على مر عصور التاريخ الاسلامي. فلا بعد في ان يصبح العالم كله معصوما بهذا الشكل.

و لا يخفى ما للمجتمع الصالح عموما من دعم للسلوك المعصوم بهذا المعنى، إذ الفرد الصالح في المجتمع المنحرف يكون مهددا بالانحراف تحت الضغوط العالية المعاكسة لسلوكه، بخلاف حاله في المجتمع الصالح الذي يكون ملائما مع سلوكه كل الملائمة. و من هنا يكون تكوّن الافراد المعصومين في المجتمع الصالح منطقيا و معقولا.

و العصمة بهذا المعنى يمكن تصور وجودها في كل فهم مبدئي متكامل نسبيا عن الكون و الحياة. فالماركسية حين تعطي المفاهيم و التشريعات، و يكون الفرد منسجما معها تماما و معتادا على تطبيق كل تعاليمها، يمكن ان نسميه معصوما من الناحية الماركسية؛ و سيكون وجود هذا الفرد في مجتمع ماركسي دعما لعصمته هذه... و هكذا. و ما نتوخاه الآن هو العصمة على مستوى التخطيط العام و الأطروحة العادلة الكاملة.

و العصمة قابلة للتكامل و التربية و النمو، فكلما ازداد الفرد اخلاصا و ملاحظة لأقواله و أفعاله تجاه العدل، و كلما تعمق في الغيرية من ناحية و في الشعور بأهمية طاعة الله عز و جل من ناحية ثانية... إلى صفات أخرى قد يكتسبها... كلما ازداد الفرد عصمة و صعد في درجاتها العليا. و هذا هو الذي سميّناه «بتكامل ما بعد العصمة»، و برهنا في «تاريخ الغيبة الكبرى» على إمكانه.

- 2 - و كما يمكن أن يكون الفرد معصوما، يمكن أن يكون الرأي معصوما.

ص:585

فعصمة الفرد تحمل معنى ان يكون احتمال مخالفته ضعيفا جدا، و غير معقول كما أشرنا في التعريف، و عصمة الرأي تحمل معنى أن يكون احتمال مخالفته للواقع ضعيفا جدا، و غير معقول. و عصمة الفرد تتعلق بأفعاله الاختيارية من قول أو فعل، و تنشأ من علمه بمتطلبات العدل و قوة إرادته في تطبيقها. و عصمة الرأي تتعلق بمداليل الأقوال بصفتها معان أو أفكارا أو عقائد. و تنشأ من اطلاع صاحب الرأي على الواقع الموضوعي للوقائع أو للمصالح.

و الرأي قد يكون «خبرا «و قد يكون «إنشاء» أو تشريعا. فالخبر المعصوم ناشئ من الاطلاع على الوقائع الموضوعية، و التشريع المعصوم ناشئ من الاطلاع على المصالح الحقيقية للمجتمع، و هو تشريع عادل بالضرورة.

و ليس هناك ترابط كامل بين عصمة الفرد و عصمة الرأي. فقد يكون الفرد معصوما في أفعاله غير معصوم في رأيه. فان عصمة الفرد «غير الواجبة» لا تقتضي أكثر من أن يكون تعمده للكذب غير معقول، و لكن قد يكون رأيه غير مطابق للواقع على غير عمد منه. و قد يكون الفرد معصوما في أفعاله و رأيه، و ذلك لا يكون إلا في العصمة «الواجبة» أو ما يساوقها من المراتب العليا.

كما قد يكون الفرد معصوما في رأيه غير معصوم في أفعاله. نذكر لذلك مثالين:

المثال الأول: ان فردا اعتياديا، التقط «خبرا معصوما» من فرد واجب العصمة. فيكون اعتقاد هذا الفرد بصحة هذا الخبر «رأيا معصوما» من دون أن يكون صاحبه معصوما.

المثال الثاني: ما سنذكره في الفقرة التالية من وجود الرأي العام المعصوم.

حيث لا يفترض العصمة بأي فرد في المجتمع، و لكن ما حصل عليه اتفاقهم و إجماعهم من الآراء خبرا أو تشريعا، كان معصوما. و هو ينشأ من كون الوقائع أو المصالح التي اتفق المجتمع المعين على وجودها فهي موجودة بالفعل. يكون احتمال اتفاقه على الخطأ من هذه الناحية موهونا و غير معقول.

- 3 - سبق أن أوضحنا في «تاريخ ما بعد الظهور»(1) ان المجتمع الذي يعيش

ص:586


1- (1) انظر: الفصل الخامس من الباب الأول من القسم الأول تحت عنوان (الأسس العامة لتخطيط ما بعد الظهور).

على منهج التربية المركز الذي تقوم به الدولة العالمية، سوف يمر بمرحلتين من العصمة، يكون الثاني تركيزا و ترسيخا للأول... نعرضهما الآن على ضوء الأسس التي عرفناها في هذا الكتاب:

المرحلة الأولى: ان يكون الرأي العام معصوما دون الأفراد... و لكنهم صالحين بالمقدار الكافي.

و لهذا المستوى أمثلته في عالمنا اليوم على المستوى الاسلامي و غيره:

أما على المستوى الاسلامي ف «الاجماع» الذي تحتج به المذاهب الاسلامية، على اختلافها، باعتباره ضروري المطابقة للواقع. فان علماء الاسلام حين يكونون صالحين إلى درجة كافية، يكون الرأي المتفق عليه بينهم معصوما و احتمال مخالفته للواقع موهون و غير معقول. و من هنا كان الاجماع دليلا كافيا بل أكيدا على الحكم الشرعي الاسلامي.

و أما على المستوى غير الاسلامي، فالمجالس النيابية و المؤتمرات و نحوها، إذا اتفقت على أي شيء يكون المفروض فيه عند أهله كونه صوابا و نافذا على الناس. انه سيكون نافذا لمجرد حصول أكثرية الأصوات فيها فضلا عن (الاجماع) إذا حصل. فان حصل كان هذا الرأي (مقدسا) و ضروريا و ليس معصوما فقط.

و حين تترسخ هذه المرحلة تحت الاشراف التربوي المركّز للدولة، و تحت قيادة الحاكم المعصوم و التشريع المعصوم... يعتاد الأفراد بالتدريج في هذا المجتمع الصالح على تطبيق العدل و يجدون فيه لذتهم المفضلة، و يجدون في تخلفه أسفا و ألما نفسيا غير مريح، حتى يصبح احتمال مخالفتهم للعدل موهونا و غير معقول.

و من هنا (يولد) في هذا المجتمع الأفراد المعصومون بالتدريج، و يبدءون بالتكاثر، و من ثم تبدأ المرحلة الثانية بالوجود.

المرحلة الثانية: المجتمع الذي يكون أغلب أفراده أو كل أفراده معصومين ب «العصمة» غير الواجبة. و المهم في نسبة تواجد المعصومين هو ان تكون «الصبغة العامة» للمجتمع هي العصمة، بحيث لو قبضت على فرد غير معين في الشارع، كان احتمال كونه معصوما كبيرا جدا. و لا ينافي ذلك وجود أفراد قلائل نسبيا غير معصومين. مثاله: انك إذا قبضت على يد فرد في الشارع في بلد

ص:587

إسلامي، فان احتمال ان يكون مسلما كبيرا جدا، لأن الصبغة العامة للمجتمع هي الاسلام، و لا ينافي ذلك وجود أفراد غير مسلمين، بنسبة غير كبيرة.

و ينبغي أن نلتفت بهذا الصدد، إلى أن العصمة هي قمة عليا من قمم التربية، و لا يصل إليها الفرد إلا بعد تركيز تربوي كبير. و هو أمر متوفر في المجتمع الصالح الذي تحكمه الدولة الصالحة، غير ان احتياج تطبيق هذا المنهج إلى فترة زمنية من عمر الانسان، يجعل الأفراد الذين هم في طريق التربية غير معصومين بطبيعة الحال. و كل مجتمع يحتوي - بالضرورة - على أناس في طريق التربية، و هي الفترة التي تقع بين سن التكليف أو تحمّل المسئولية و ما بين العصمة. و هي فترة تزيد و تنقص بالنسبة إلى الأفراد بطبيعة الحال.

إن المجتمع الذي يحتوي بالضرورة على هؤلاء، لا يمكن أن يكون كل أفراده معصومين... إلا أن هذا لا يشكّل نقطة ضعف في عصمته، بعد ملاحظة أمرين، الأمر الأول: ان وجود هؤلاء غير المعصومين لا ينافي وجود «الصبغة العامة» للعصمة، في المجتمع. الأمر الثاني: ان هؤلاء ليسوا متمردين بل منسجمين مع العصمة و متهيئين للوصول إليها. فوجودهم مشابه لوجود المعصومين إلى حد كبير، و ليس مغايرا له أو منافيا معه.

فهذا هو المجتمع المعصوم... إن العالم... إن البشرية كلها سوف تصبح على هذا الشكل بالتدريج، طبقا للتخطيط الالهي العام، و سيكون هذا التخطيط قد وصل إلى هدفه الأعلى. و لكن حيث ان سلّم التكامل لا نهائي الدرجات، سيكون تجاه المجتمع العالمي المعصوم، فرصة واسعة جدا للتربية و النمو.

- 4 - إننا بعد أن عرفنا و برهنا على أنه يتعذر على الباحث في هذا العصر التعرف على العمق الحقيقي و الكامل للوعي و التشريع في دولة العدل العالمية...

سيكون هذا التعذر أولى و أوضح في المجتمع المعصوم لأنه أشد تركيزا و أبعد زمانا من الدولة العالمية.

و ينتج من ذلك، أننا و ان استطعنا التعرف على بعض معالم المذهب الاقتصادي في الدولة العالمية، قبل وجود المجتمع المعصوم، و لكن ذلك و كثير غيره سوف يكون متعذرا تماما في المجتمع المعصوم.

ص:588

و من هنا ينبغي أن نكفكف من غلواء الطمع، و نقتصر على بيان بعض الصفات للمجتمع المعصوم، مما يمكن أن يقودنا إليه أو يدلنا عليه الدليل.

- 5 - إن ما يمكن أن نتعرف عليه من خصائص المجتمع المعصوم، عدة أمور:

الخصيصة الأولى: انه بينما عرفنا ان الدولة العالمية، تحدث في العالم كله، دفعة واحدة نسبيا... لا انها توجد بالتدرج البطيء، كما توقعت الماركسية لطورها الأعلى... نرى المجتمع المعصوم يحدث بالتدريج، تبعا لما يناله كل مجتمع محدود من التربية و ما يتقبله و يتجاوب معه منها. ان المجتمعات تختلف في ذلك اختلافا غير قليل تبعا لمستوياتها الثقافية و العقلية و الحضارية و العقائدية.

فالمراد بالمجتمع، اذن هو المجتمع المحدود المكون من بلدة أو منطقة أو قطر أو اقليم. ان كل مجتمع سوف يمر تحت العناية و التركيز التربوي القويين، سوف يمر بالمرحلة الأولى للعصمة ثم يتجه إلى الثانية حتى تتحقق فيه...

و كذلك المجتمع الآخر. و هكذا. و سيكون هدف الدولة يومئذ تكوين المجتمع العالمي المعصوم بمختلف أشكاله و مستوياته، الذي هو الهدف الأساسي لوجود البشرية.

إن المجتمع المعصوم يتفق في صفة التدريجية - إلى حد ما - مع الطور الأعلى الماركسي(1). و لكننا قلنا ان مجتمعا ما إذا وصل إلى الطور الأعلى سيكون مهددا بالغزو الخارجي و الانهيار تحت ضرباته من قبل الدول المعادية له في العالم، و خاصة مع خلوه عن الدولة و القانون. إلا أن هذا الاعتراض غير وارد على المجتمع المعصوم، كما هو واضح... لوجود الدولة القوية فيه من ناحية، و عدم وجود دول أخرى معادية بالمرة، لأنها دولة عالمية لا ثاني لها.

و بهذا التسلسل الفكري استطعنا السيطرة على الاعتراض الذي قد يرد إلى الذهن، و هو أن العالم يحتوي على مجتمعات متخلفة جدا و بدائية. كما يحتوي على مجتمعات متطرفة جدا في عقائدها ضد التخطيط العام. فكيف يتسنى للدولة

ص:589


1- (1) يحول دون التدريج البطيء في المجتمع المعصوم، ما قلناه فيما سبق من أن نتائج التخطيط - أيا كان - تكون متشابهة إلى حد كبير في البشرية كلها. فالتدرج و إن كان ثابتا إلا أنه ليس بطيئا بالمعنى الحقيقي. و بهذا يختلف عن التدرج في الطور الأعلى الماركسي.

العالمية صياغة العالم كله بصفة العصمة؟!..

فإن جواب ذلك هو أن الحديث عن أمثال هذه المجتمعات ينبغي أن يكون منتهيا قبل وجود أي مجتمع معصوم في العالم. ان الفترة المتخللة بين تأسيس الدولة العالمية و وجود المجتمع المعصوم، فترة التخطيط الرابع، كافية لتأهيل المجتمعات عموما لاتخاذ صفة العصمة، سواء من ناحيتها الحضارية بمحاولة الارتفاع بمستواها إلى مصاف المجتمعات العالية، أو من ناحيتها العقائدية، بالسيطرة الايمانية الكاملة على البشرية كلها في أوائل تأسيس الدولة العالمية.

إذن، فالتأهيل لاتخاذ صفة العصمة سيكون موجودا بانتهاء التخطيط الرابع لكل البشرية. غير ان التفاوت في وجود هذه الصفة موجود باعتبار اختلاف المجتمعات في خصائص أخرى.

و الهدف الأعلى للتخطيط العام، لن يتحقق إلا بعد حصول كل المجتمعات في العالم على صفة العصمة. لكننا ينبغي أن لا ننسى الحديث عن (الصبغة العامة) ان تحقق هذا الهدف يكفي فيه ان تكون الصبغة العامة للعالم هي صفة العصمة... و لا يضر في ذلك وجود عدد من المجتمعات غير المعصومة، و لكنها غير متمردة بل هي في طريق العصمة.

تماما، كالحضارة في عالم اليوم... ان الصبغة العامة للعالم كونه متحضرا و لا ينافي ذلك وجود عدد من المجتمعات غير المتحضرة، و إنما هي في طريق الحضارة.

نعم، لا شك ان حصول كل المجتمعات في العالم على صفة العصمة، بارتفاع كل المستويات المنخفضة إلى القمة العليا يعتبر تركيزا قويا للهدف البشري الأعلى، و هو مما يستهدفه التخطيط الخامس نفسه.

الخصيصة الثانية: تحول الحكم إلى الشورى أو الانتخاب، بعد أن كان على الشكل التعيين.

و السر في ما أشرنا إليه في تاريخ الغيبة الكبرى(1) من أن مفهوم الشورى أو الانتخاب أو الديموقراطية بالمعنى الاصطلاحي، لا يصح تماما في الآراء الفجة و الناقصة و المنحرفة... فان مجموع الآراء الناقصة تمثل رأيا ناقصا لا محالة.

ص:590


1- (1) ص 480.

و اتفاق الناقصين على شيء لا يعني أي شيء.

و أما بعد وصول البشرية إلى سن الرشد و النضج، إلى العصمة، فيكون الرأي العام معصوما غير قابل للخطأ و يكون الفرد أقرب جدا إلى إدراك مصالحه الحقيقية، و معرفة ممثليه الصالحين من غيرهم... بما لا يقاس من عصر ما قبل العصمة.

و من هنا ينفتح له المجال في المشاركة الفعلية في سن الأنظمة و اتخاذ القرارات الجماعية، و انتخاب الممثلين على مختلف المستويات بما فيها منصب الرئاسة العليا. و يكون المنتخبون أنفسهم معصومين بطبيعة الحال. بل من أكمل أفراد المجتمع المعصوم.

و سيكون الشيء الوحيد الذي لا يكون قابلا للتغيير هو الأحكام القطعية المتبناة للاسلام... للأطروحة العادلة الكاملة المطبقة يومئذ. و إن كنا لا نعرف بالتحديد ما الذي سوف يكون قطعيا أو لا يكون من الأحكام. و لكن بعض ما هو موجود الآن نعلم بعدم قابليته للتغيير أيضا.

و ينبغي أن نلتفت إلى أن الرئاسة لا يمكن أن تكون انتخابية، إلا بعد أن يصبح المجتمع منتجا لأشخاص معصومين كاملين، يمكنهم أن يقوموا بنفس المهمة التربوية التي كان يقوم بها الرؤساء السابقون الذين تولوا الحكم بالتعيين، انطلاقا من الأسس العامة التي اقتضتها الأطروحة العادلة من ناحية. و توجيهات القائد الأول المهدي عليه السلام، من ناحية أخرى.

و لكن متى يصبح المجتمع منتجا لأفراد معصومين، لتكون الرئاسة انتخابية. إن هذا سوف لن يحدث عادة حين دخول المجتمع بالدور الأول من العصمة. فان مجرد اتصاف الرأي العام بالعصمة لا يعني اتصاف الأفراد بها، كما سبق، و إذا لم يكن الفرد معصوما كان من الصعب تكفّله للمنهج التربوي للعصمة و المحافظ عليها.

إذن، سيدخل المجتمع في عهد الانتخاب بعد هذا العهد، حين يستطيع إنتاج الأفراد المعصومين، و لو بشكل قليل. و هذا قد يحدث في الدور الأول للعصمة قبل أن يتكاثر المعصومون ليشكّلوا الدور الثاني.

هذا، و لا ينبغي أن نتوقع الاطلاع على أكثر من ذلك، من تفاصيل و أساليب الانتخاب و عدد المنتخبين و مناصبهم، و غير ذلك... فان كل ذلك

ص:591

ينبغي أن يبقى في ضمير الغيب. على أننا ذكرنا عددا من التفاصيل في تاريخ ما بعد الظهور، لا حاجة إلى تكرارها.

الخصيصة الثالثة: ان المجتمع سيستغني بالتدريج عن عدد من القوانين التي كان محتاجا إليها من أول وجوده إلى الآن. كقوانين القضاء و الجرائم و العقوبات، و كل ما يمت إلى محاولة رفع القصور و التقصير من الناس الاعتياديين السابقين على مجتمع العصمة... بعد أن ارتفع ذلك فعلا في حدود المعطى القانوني. و لكن هذا لا يعني إلغاءها تلافيا للمضاعفات، إلا إذا أصبح كل العالم معصوما.

و سيكون البناء القانوني للمجتمع، في حدود ما نستطيع فهمه الآن، متكونا من عناصر ثلاثة:

العنصر الأول: الأحكام الضرورية للقرآن الكريم... بالفهم الموجود في ذلك العصر.

العنصر الثاني: الأنظمة التي تحدد العلاقات بين الناس، و يكون مصدرها المجتمع نفسه عن طريق الشورى أو الديموقراطية، حيث يسنها المجتمع و يوافق عليها عن طريق التصويت المباشر، أو تكون نافذة عليه من قبل الرؤساء المعصومين الذين يحكمونه بالانتخاب.

العنصر الثالث: الأخلاق، و هي قضايا عملية واقعية تحدد العلاقات بين الناس. و هي دائما داعمة للقانون العادل و الدولة الصالحة. و تكون أحيانا أعلى من القانون تأثيرا و تحديدا و أهمية... و خاصة في مستوى الوعي العالي الذي يكون عليه المجتمع المعصوم... فان التوقعات الأخلاقية تتعمق و تتوسع بتعمق الوعي و الثقافة و الشعور بالمسؤولية. فإذا بلغت هذه الأمور ذروتها بلغت المسئولية الأخلاقية ذروتها أيضا.

و هي - بهذا المعنى - أعقد من القوانين، إذ أن عددا من الآراء و التصرفات يصعب على القوانين تحريمها و المنع عنها، على حين تعتبر في المفهوم الأخلاقي العميق محضورا تاما على فاعله و معاقبا عليه، بفعله أو بتركه. و بذلك تكون الأخلاق: قانون ما بعد القوانين.

و هذا هو المستوى الذي يتوفر للمجتمع المعصوم من الأخلاق، لا المستوى الذي تصورته الماركسية لمجتمعها الذي ليس له أية نسبة في الوعي و المسئولية

ص:592

بازاء هذا المجتمع المعصوم. و مع ذلك فان الأخلاق لا تستطيع أن تقف وحدها، كما توقعت الماركسية، و إنما صحت لها السيادة مع العنصرين الأولين بطبيعة الحال.

الخصيصة الرابعة: مشاركة المجتمع المعصوم في البناء الكوني.

حيث سبق أن برهنا في الأسس العامة للتخطيط العام، ان كل ما هو موجود في الكون - بما فيه البشرية - له مشاركة بالضرورة في الأهداف الكونية العليا، و ان الجزء الكوني كلما كان أفضل و أكمل، كانت مشاركته بشكل أحسن. و من هنا وجد التخطيط العام لتكامل البشرية مستهدفا تربيتها إلى أقصى ما يمكن لها من التربية. و تكون في ذلك الحين قد وصلت إلى ذلك، أو إلى بعض مراحله العليا. و من هنا يكون لها بالضرورة مشاركة كونية فعالة بطبيعة الحال.

و برهنا في الأسس الخاصة للتخطيط أن هذا الكمال الذي تناله البشرية إنما هو العبادة المحضة للّه عز و جل الخالق الحكيم و تكريس كل العقيدة و السلوك له، إلى درجة العصمة عن الانحراف عنه، و انتشار ذلك في أفراد البشرية أجمعين.

فهذا هو المجتمع الذي يكون منسجما مع التخطيط الكوني العام و مشاركا في بناء أهدافه. و إنما تعتبر المشاركة للمجتمعات السابقة عليه، باعتبارها منتجة له.

و أما شكل هذه المشاركة، فينبغي أن تبقى رهن المستقبل، إذ يستحيل على الباحث إعطاء معالمه.

كل ما في الأمر أننا ينبغي أن نتعقل هذه المشاركة و لا نستنكرها... فان لها في التوراة و الإنجيل و القرآن الكريم و السنة الشريفة أمثلة عديدة.. نقتصر فيما يلي على الجانب الاسلامي من الشواهد، و نحيل الباقي على الجزء الخاص به من هذه الموسوعة.

إن القرآن الكريم يحتوي على كثير من حوادث مشاركة الكون أو الطبيعة مشاركة إيجابية مع جانب التكامل البشري و الطاعة للّه عز و جل، و مشاركة سلبية مع جانب العصيان على العدل.

الجانب الأول: المشاركة الايجابية مع الطاعة. و مثاله، جعل النار بردا و سلاما على إبراهيم عليه السلام(1)... و خروج النبي يونس عليه السلام من

ص:593


1- (1) انظر الأنبياء: 29/21.

بطن الحوت لكونه من المسبّحين(1) و قد نبتت له بعد خروجه شجرة من يقطين(2)و انفلاق البحر للنبي موسى عليه السلام لدى عبوره بالمؤمنين من مصر إلى فلسطين خلال البحر الأحمر(3).

و يدل على إمكان هذه المشاركة أيضا قوله تعالى:

فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، وَ أَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ، وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَ لكِنْ لا تُبْصِرُونَ، فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4).

فانها تدل - فيما تدل عليه - على ان الفرد إن كان صادقا و غير مدين بذنب يمكنه أن يرجع الروح عند وداعها البدن. و إنما يعجز الناس عن ذلك باعتبارهم مدينين بالذنوب و غير صادقين في أعمالهم و أقوالهم. و هذا من أعظم المشاركات الكونية على سطح الأرض بالنسبة للصالحين. فأحر بالمجتمع المعصوم أن يكون كذلك.

و يدل على ذلك أيضا، الآيات التي تدل على تعاون الكون مع التطبيق التشريعي العادل، كقوله تعالى:

وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (5).

و قوله تعالى نقلا عن نوح عليه السلام:

فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفّاراً، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً، وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ، وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (6).

إلى غير ذلك من الآيات.

الجانب الثاني: المشاركة السلبية مع التمرد على العدل و عصيان تطبيقاته.

و الآيات بذلك كثيرة، تنطق عن عدد من العقوبات التي نزلت بالعصاة، من أوضحها الطوفان(7) الذي استأصل العصاة و المتمردين على نوح عليه السلام، و سيل العرم(8) الذي أخذ العصاة من (سبأ). و الحجارة من سجّيل التي

ص:594


1- (1) انظر الصافات: 143/37-144.
2- (2) السورة: آية 146.
3- (3) الشعراء: 63/26.
4- (4) الواقعة: / 83-87.
5- (5) الجن: / 16.
6- (6) نوح: / 11.
7- (7) انظر سورة هود: / 37-48.
8- (8) انظر سورة سبأ: / 15-16.

أمطرت على قوم لوط أولا(1) و على جيش أبرهة الأشرم عند غزوه للكعبة(2)ثانيا.

و أما السنة الشريفة، فعلى أشكال و مستويات عديدة، نذكر منها اثنين، سبق أن سمعنا هما في تاريخ ما بعد الظهور:

المستوى الأول: ما روي عن طريق العامة و الخاصة من أنه مع وجود النظام العادل يتحقق الأمن على نطاق كوني حتى ترعى الشاة مع الذئب، و يلعب الصبيان بالأفاعي لا يضروهم شيئا، و يمشي العجوز بين كربلاء و النجف، لا يهيجها لص و لا يرعبها سبع. و قد سردنا الروايات الناطقة بذلك هناك(3).

المستوى الثاني: ما سمعناه هناك أيضا(4) من الأخبار التي اتفق عليها الفريقان أيضا، من تحقق هذه الظاهرة عند تطبيق النظام العادل، و هي أن الأرض تلقي بأفلاذ كبدها كأمثال الأسطوانات من الذهب و الفضة و سائر المعادن، يراها الناس على وجه الأرض، و لا حاجة لهم إلى التنقيب الشديد عنها في داخل الأرض.

إن كل هذه أساليب مختلفة من نتائج الطاعة، و التجاوب الكوني مع العدل، أو قل: تجاوب العدل مع الكون. فان البشرية بعد تكاملها أصبحت عاملا مباشرا لصيقا بالتخطيط الكوني و أهدافه العليا، فأحرى بها أن يكون لها درجة كافية في التصرف بالكون، و أحر بالكون أن يكون له درجة كافية من الانسجام و التعاون معها... بعد أن كان تخطيطه واعيا و اختياريا، منطلقا من الحكمة الأزلية و إن بدت قوانينه اضطرارية قسرية. إلا أننا عرفنا ان الغاية هي التي تحدد الواسطة: ان القسر في (قوانين) الكون إنما وجد من أجل تلك الغاية العليا، فإذا اقتضت تلك الغاية الاستغناء عن هذه القسرية أحيانا أو في كثير من الأحيان، كان ذلك ضروريا، و قد عرفنا أن كل ما في الكون، منسجم مع تلك الغايات، غير زائد عليها و غير ناقص عنها. و لا يبقى مانع عن تعقل ذلك إلا مجرد عدم الالفة و الاعتياد.

ص:595


1- (1) انظر سورة هود: / 82-83 و سورة الحجر: / 73-74.
2- (2) انظر سورة الفيل: / 1-5.
3- (3) في الفصل السابع من الباب الثالث من القسم الثاني.
4- (4) في الفصل نفسه.

الخصيصة الخامسة: طول المدة لبقاء المجتمع المعصوم. حيث سبق في (تاريخ ما بعد الظهور) ان برهنا على أن المدة المتخللة من تأسيس الدولة العالمية إلى فناء البشرية مدة طويلة جدا تفوق المدة السابقة عليها بكثير.

و كان السبب الرئيسي للالتزام بذلك، هو أن البشرية عاشت الآلام و الويلات آلافا من السنين مقدمة لوجود مستقبلها الموعود، المتمثل بالدولة العالمية و ما بعدها. فليس من المعقول أن يوجد ذلك المستقبل لفترة قصيرة من الزمن، بحيث تكون آلام البشرية أكثر من سعادتها، أو أن أجيالا ضخمة من الناس يضحّى بها في سبيل عدد قليل من الأجيال، ان هذا غير حسن في الحكمة الالهية بكل تأكيد. بل و لا يحسن أن تكون السعادة بمقدار الآلام. ان هذه التضحية لا تصح إلا إذا كانت السعادة أضخم بكثير من الآلام، بحيث تصدق عليها فكرة: التضحية بالمصلحة الخاصة من أجل المصلحة العامة. و تكون الأجيال السابقة على الدولة العالمية بالرغم من كثرتها، قليلة بمنزلة المصلحة الخاصة و الأجيال اللاحقة لها كثيرة بمنزلة المصلحة العامة، لكي تكون التضحية بالأجيال البشرية معقولة و منطقية.

فإذا عرفنا أن الحكمة الأزلية المخططة للبشرية كمالها، لا تختار إلا الأفضل دائما، و لا يمكن أن تختار ظلما أو قبيحا... يتبرهن أن تكون البشرية اللاحقة للدولة العالمية، مارّة بالمجتمع المعصوم، أطول عمرا مما قبلها بأضعاف كثيرة، لا أقل من عشرة(1).

فإذا أضفنا إلى ذلك مشاركة المجتمع المعصوم في البناء الكوني العام و تخطيطه و أهدافه، و البناء الكوني عادة بطيء الانتاج طويل الأناة... إذن

ص:596


1- (1) كما يمكن ملاحظة البشرية السابقة من أولها إلى ابتداء الدولة العالمية... كذلك يمكن ملاحظتها من أول وعيها إلى تلك الدولة، إسقاطا لفترة ما قبل الوعي عن الاعتبار لقلة أهميتها. و من المسلم علميا إلى جنب التسالم الديني ان فترة الوعي إلى الآن لا تزيد على حوالي الخمسة آلاف سنة، و قد لا تحتاج إلى ابتداء الدولة العالمية إلى إضافة ألف آخر. و من هنا يمكن أن يكتفي في تحديد فترة التخطيطين الرابع و الخامس. بخمسين ألف سنة. و أما إذا أخذنا بالفهم العلمي الحديث من ان فترة ما قبل الوعي تستمر عدة ملايين من السنين قد تصل إلى عشرات الملايين، و أخذنا هذه الفترة بنظر الاعتبار في أخذ النسبة. إذن، يلزم القول ببقاء المجتمع المعصوم عدة مئات من ملايين السنين. و ليس هذا التحديد مهما بعد الالتفات إلى حقيقتين، الأولى: ان التخطيطات بطبيعتها لا تتحد بالزمان. و الثانية: ان فترة الدولة العالمية و المجتمع المعصوم سيواكب البشرية إلى حدود فنائها سواء طال عمرها أم قصر.

نعرف، على نحو الاجمال، المقدار الزمني الطويل الذي ينبغي للمجتمع المعصوم أن يعيشه على سطح هذه الأرض.

و بذلك يكون هذا المجتمع أعظم و أطول حضارة علمية و عقائدية منذ مولد البشرية إلى فنائها. فلئن تم البرهان و صح الدليل على أن الحضارات مؤقتة مهما طالت، و ان يوم فنائها لا محالة وارد إلى عالم الوجود، إلا هذه الحضارة الجبارة فان الدليل قد قام على تساوقها مع البشرية إلى نهايتها. و خاصة إذا أخذنا بالأطروحة الأولى الآتية في التخطيط الخامس.

فإذا عطفنا على ذلك ما عرفناه مفصلا، بأن الحقبة السابقة لوجود البشرية على طولها و اختلاف عصورها، إن هي إلا مقدمات لوجود هذه الحضارة العظيمة. استطعنا القول حينئذ أن هذه الحضارة بمقدماتها و وجودها تستوعب البشرية أجمعين، لكي يتم على التحقيق الوجود الكامل لقوله تعالى:

وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ (1).

بالفهم الذي سبق أن ذكرناه و كرّرناه.

ص:597


1- (1) الذاريات: / 56.

التخطيط السادس المنتج لفناء البشرية

- 1 - سبق أن ذكرنا في «تاريخ ما بعد الظهور»(1) ان لفناء البشرية أطروحتين محتملتين، نذكر مؤداهما فيما يلي:

الأطروحة الأولى: اننا لو سرنا حسب التسلسل الفكري السابق لخصائص المجتمع المعصوم، بدون أن نلحظ شيئا آخر، لأنتج النتيجة التالية:

إن المجتمع المعصوم يستمر في التكامل، في تكامل ما بعد العصمة، الذي تصورناه و برهنا عليه. طبقا لخطين مقترنين:

الخط الأول: التربية المركزة الذي تمارسه الدولة باستمرار حسب حاجة كل عصر، مما ينتج ان كل جيل أفضل من الجيل الذي سبقه، و هكذا... و ان كانت مشتركة في صفة العصمة.

الخط الثاني: المشاركة الكونية المستمرة التي توجد بوضوح بمجرد وجود المجتمع المعصوم و تبدأ بالترسخ و التكثر تدريجا، عاما بعد عام و جيلا بعد جيل.

فإذا بلغت المشاركة الكونية نسبة عليا، و أصبحت مائة بالمائة، اندمجت البشرية بالكون العام و استنفدت أغراضها عن وجه هذه الأرض... و قد يكون التعبير الاسلامي بالملائكة صادقا إلى حد كبير. ان الجيل الأخير يصبح كله كالملائكة تماما، لا حاجة لهم بالبقاء على سطح الأرض، و إنما لهم الشوق الكامل إلى المشاركة في بناء الكون و إنجاز أهدافه من زوايا أعظم و أهم. و بذلك يحصل الانفصال النسبي(2) بين الأرض و البشر.

ص:598


1- (1) انظر: الباب الثاني من القسم الثالث.
2- (2) قد يكون العمل الكوني المسند إلى بعض البشر ممارسا في الأرض نفسها فلا يكون الانفصال تاما، و إنما يكون الانفصال نسبيا ثابتا للبشرية على وجه العموم.

الأطروحة الثانية: اننا لو عطفنا على التسلسل الفكري السابق ما وجدناه مرويا في أخبار الفريقين(1) بأن «الساعة لا تقوم الاّ على شرار الخلق»... أي ان فناء البشرية لا يكون إلاّ على جيل شرير... إذن، لا بد لنا من رفع اليد عن الأطروحة الأولى، باعتبارها لا تتضمن هذه الفكرة بالضرورة.

قد يكون ذلك لأجل الشفقة على الأجيال المعصومة أن تواجه أهوال القيامة... و قد يكون لأسباب أخرى. و على أي حال، فالأخبار الواردة بهذا المضمون غير مؤكدة الصحة و ان كان بعضها ذا أسناد جيدة، و هي مروية بطرق الفريقين، إلا انها خبر واحد، و هو لا يكفي للبت في مثل هذه الأمور العميقة.

و معه، فالمرجّح هو صحة الأطروحة الأولى، و إن كنا سنعطي فكرة عن هذه الأطروحة الثانية أيضا.

- 2 - إن عصر التخطيط الخامس، بكلا أطروحتيه، حيث كان في بعد سحيق عن العصر الحاضر، نجهل مقداره بالتحديد، فمن هنا لا يمكن ان نعطي أية صفات تفصيلية عن ذلك، و من هنا ينبغي لنا أن ندور في فلك الصفات العامة، مقتصرين على البعض الممكن منها فقط.

إن الأطروحة الأولى أولى بأن تكون مجهولة، فإننا إذ لم نستطع أن نعرف من صفات المجتمع المعصوم إلا القليل، فكيف بنا في مجتمع (ما بعد العصمة). غير ان الأطروحة الثانية أهون فهما بطبيعة الحال، لكونها تفترض حدوث المجتمع المنحرف المشابه لعصرنا الحاضر، و لا يحول دون فهمها إلاّ بعد الزمن.

- 3 - إذا أخذنا بالأطروحة الأولى، فقد يمكن الاكتفاء بتخطيطات خمسة لعمر البشرية المديد، و لا يبقى للتخطيط السادس مجال، لان التخطيط الخامس، سيتكفل المحافظة على المجتمع المعصوم و تكامله، و دخول البشرية في (مجتمع ما بعد العصمة) ليس إلاّ من تكامل المجتمع المعصوم نفسه.

و هذا الكلام له درجة من الوجاهة، غير انه يمكن للفترة البشرية التي يبدأ

ص:599


1- (1) انظر تاريخ ما بعد الظهور: الباب الثاني من القسم الثالث.

فيها المجتمع المعصوم بالمشاركات الكونية الفعالة، ان نعزل تخطيطها بعنوان و رقم مستقلين، هو تخطيط ما بعد العصمة يكون هو القسم السادس من التخطيط العام.

و أما بالنسبة إلى صفات هذا المجتمع، فكل ما يمكن التعرف عليه هو وجود الخصيصتين الثالثة و الرابعة من خصائص المجتمع المعصوم فيه بشكل أكثر أصالة و عمقا.

أما الخصيصة الثالثة فكان المهم منها سيادة تعاليم القرآن مقترنا بالأخلاق. و أما الرابعة، فهي المشاركة الكونية الفعالة التي عرفناها تزداد و تتعمق بالتدريج.

- 4 - و قد يخطر في الذهن انه كيف ينسجم وجود هذا المستوى العالي في البشرية، مع وجود أهوال يوم القيامة، التي نطق بها القرآن من تسجير البحار و انتثار النجوم و طي السماء و غيرها. و هل ذلك إلاّ عقوبة للبشرية على ذنوبها.

مع العلم أن الجيل الذي تقوم عليه القيامة طبقا للأطروحة الأولى، خال من الذنوب، بل خير البشر السابقين عليه على الاطلاق... و بذلك قد تترجح الأطروحة الثانية على الأولى.

إلا انه يمكن الاستغناء عن هذا السؤال بعدة أوجه:

الوجه الأول: ان القرآن الكريم حين وصف أهوال القيامة السابقة على الحساب و العقاب، أعني بها تسجير البحار و انتثار النجوم و نحوها... لم ينص على أن البشرية سوف تكون موجودة في ذلك الحين. و معه فلا ارتباط لهذه الظواهر بالبشرية... و إنما هي تمثل فناء الأرض أو المجموعة الشمسية حين يحين حينها.

و أما وجود البشرية إلى ذلك الحين، فهو مما لا دليل عليه، و إن كان هو الأوفق باتجاه الفكر الحديث.

الوجه الثاني: اننا لو تنزلنا - جدلا - عن الوجه الأول، و فرضنا وجود البشرية مع تلك الحوادث، فلا ارتباط لها بالذنوب و العقوبات بالمرة، و إنما هي حوادث كونية لا بد من حدوثها مع استنفاد المجموعة الشمسية لأغراض وجودها، حسب التخطيط العام الكوني، و ليست عقابا على شيء و لا احتقارا لأحد. و معه لا مانع من وجودها على المجتمع المعصوم.

ص:600

الوجه الثالث: اننا بعد أن فرضنا ان الأجيال الأخيرة من مجتمع (ما بعد العصمة) يكون لها المشاركة الفعالة في بناء الكون و تسلسل حوادثه، يمكن أن تكون مشاركة في إيجاد هذه الظواهر المشار إليها، بشكل و آخر لا نستطيع تحديده الآن بطبيعة الحال. و من الواضح ان من يتضرر بهذه الحوادث إنما هو من وجدت ضده، لا من شارك في إيجادها مشاركة فاعلية. فإن ذلك يكون من كماله و نفعه لا من ضرره بطبيعة الحال.

بل قد يمكن أن نتصور أنها ليست غريبة في نظرهم، بل تبدو اعتيادية و متوقعة و مفهومة بالنسبة إليهم، بعد أن تعوّدوا المشاركة في البناء الكوني، و تشرّبوا أساليبه.

إذن، فالأطروحة الأولى، هي الطبيعية الانسجام مع التسلسل الفكري للتخطيط (البشري) العام. إذ تكون البشرية قد سارت خلاله سيرا تكامليا واضحا من الصفر إلى المائة لو صح هذا التعبير. و إنّما تحتاج الأطروحة الثانية إلى تصور مبرراتها و أساليبها، لكونها بمنزلة الاستثناء من هذا التسلسل الفكري.

- 5 - و أما بالنسبة إلى الأطروحة الثانية، فيكفي في إمكان دحضها عدم تصور المبرر المعقول لوجودها، بعد الذي قلناه في الأطروحة الأولى من عدم تنافي حوادث يوم القيامة مع المجتمع المعصوم، و عدم وجود الدليل الكافي على صحتها، لأن ما دل عليها خبر واحد لا يكفي للاثبات و لم ينص القرآن الكريم أو السنة القطعية على ذلك.

هذا مضافا إلى عدم انسجامها مع مجتمع (ما بعد العصمة) إذ يستحيل - عادة - أن تعود البشرية إلى الفسق و الانحراف بعد أن ذاقت طعم الحق و العدل و مارسته بأوضح صوره و شاركت في البناء الكوني مشاركة حقيقية. فإذا عرفنا أن مجتمع ما بعد العصمة سيوجد لا محالة، لأن المجتمع المعصوم سيبقى المدة الطويلة التي تكفي - مع التربية المركّزة المستمرة - لتحوّله إلى مجتمع ما بعد العصمة. إذن يتبرهن عدم صحة الأطروحة الثانية.

إلا أن نقطة الضعف في هذا البرهان الأخير، هو احتمال عدم استمرار التركيز في التربية بعد حدوث مجتمع العصمة و بقائه المدة الكافية. لأن الأطروحة الثانية لو اكتسبت مبرراتها الكافية، كان لا بد في وجودها من سحب هذا التركيز

ص:601

لا محالة، ليبدأ التنازل التدريجي في المستوى الثقافي و المعنوي للبشر بالتدريج حتى تخرج أولا عن العصمة التي اكتسبتها ردحا من الزمن، و تبدأ بالهبوط إلى الانحراف، و معه لا يكون لمجتمع ما بعد العصمة وجود، ليكون تحوّل البشرية منه إلى الانحراف مستحيلا.

إلا أن الأطروحة الثانية تبقى غير مؤكدة، باعتبار ما برهنا عليه من استمرار المجتمع المعصوم ردحا طويلا جدا من الزمن يفوق عمر البشرية السابق عليه أضعافا مضاعفة. و هي مدة كفيلة بأن تربي البشرية و تدخلها في عصر ما بعد العصمة. و مع وجوده لا مجال للأطروحة الثانية، كما قلنا.

و على أي حال، فلو صحت الأطروحة الثانية - جدلا - فسوف يخطط لها، و هو التخطيط السادس لفناء البشرية، بإيجاد تنزّل عمدي للتربية البشرية، من النواحي العقائدية و القانونية و الأخلاقية، و سينقطع التركيز التربوي العالي و ستولد أجيال قليلة التربية فتميل إلى العصيان. و تبدأ البشرية بالتنازل التربوي بالتدريج حتى تفقد التربية تماما... تمهيدا ليوم القيامة الذي لا يمكن أن يقوم - طبقا للأطروحة الثانية - إلا على شرار الخلق.

حتى يصبح البشر كالبهائم تماما من حيث معرفتهم للحق، و ان كانت قد تكون لهم حضارة مهمة... و حتى لا يقال: اللّه اللّه(1)، يعني تنتفي طاعة اللّه و التعبد له عن وجه الأرض تماما.

و لا نعرف، و لا يهمنا أن نعرف خصائص ذلك المجتمع، غير أنهم سيبقى هناك لهم مرشد أو امام يمثل طرف الحق لمن يريد أن يهتدي أو يسأل... إلا أن نشاطه سوف يتضاءل تدريجا إلى أن ينعدم. و بذلك لا يبقى لوجوده حاجة، فيموت طبقا لتخطيط الأطروحة الثانية، و ذلك قبل يوم القيامة بأربعين يوما، كما حددته الروايات(2). فيبقى البشر بهائم بدون راعي، كلهم فسق و انحراف، و هم شرار الخلق الذين تقوم عليهم القيامة، و قد ورد انها (لا تقوم إلا على شرار الخلق)(3).

و بذلك تتم للبشرية خاتمة سيئة للغاية طبقا للأطروحة الثانية، بخلافها

ص:602


1- (1) الاشاعة لأشراط الساعة ص 178.
2- (2) انظر غيبة الشيخ الطوسي ص 218.
3- (3) المصدر و الصفحة بمعناه.

طبقا للأطروحة الأولى التي تكفل للبشرية أفضل خاتمة.

و المظنون، أن الفترة الزمنية التي يستغرقها التخطيط السادس طبقا للأطروحة الثانية، لن تكون كبيرة جدا، كما كانت عليه فترة التخطيط الخامس. لأن الانزلاق نحو الفسق و الانحراف أسهل على النفس البشرية من التكامل العادل. و أما طبقا للأطروحة الأولى، فقد يبقى (مجتمع ما بعد العصمة) فترة كبيرة من الزمن.

هذا هو ختام الحديث عن التخطيط السادس، و به ينتهي الحديث عن التخطيطات الخمسة التي تمثل التخطيط العام لتكامل البشرية.

و به تنتهي المرحلة الثانية من القسم الثالث من هذا الكتاب.

ص:603

المرحلة الثالثة في تطبيقات و مناقشات حول التخطيط العام

تمهيد:

خصصنا هذه المرحلة للكلام عن أمرين لا يخلوان عن أهمية، و يلقيان ضوءا كافيا على فهم التخطيط العام:

الأمر الأول: في ذكر بعض التطبيقات للتخطيط العام، من حوادث حصلت للبشرية خلال تاريخها الطويل. و يأتي ذلك بعد أن تم البرهان في أسس هذا التخطيط على ان كل حادثة تستمد مبررات وجودها الاستهدافية من التخطيط بالضرورة.

إذن، يكون من المستحسن، إيضاحا للفكرة، أن نذكر بعض الحوادث المهمة في التاريخ، أو بعض المجموعات من الحوادث المترابطة. من أجل التعرض إلى تفسيرها تفسيرا تخطيطيا. و ان لم يكن لها ارتباط مباشر باليوم الموعود أو قضية المهدي (ع). لكي تزداد هذه الفكرة رسوخا في الذهن، و هي ان التخطيط العام هو البديل الأفضل للمادية التاريخية، فبينما عجزت المادية التاريخية عن تفسير التاريخ، لا يقصر اتجاه التخطيط العام عن تفسيره بكل جدارة و عمق.

و سنقتصر على ذكر بعض الحوادث الرئيسية في التاريخ لعدم إمكان استيعاب التاريخ بطبيعة الحال. و هو عدد كاف يفتح المجال أمام القارئ لتفسير الحوادث الأخرى، يعرّفه على الاسلوب الصحيح للتفلسف و الاستنتاج.

الأمر الثاني: في التعرض إلى بعض الاعتراضات التي قد ترد على التخطيط العام ككل، بمختلف الأساليب و المستويات، مع محاولة مناقشتها و التعرف على الحقيقة من خلالها.

ص:604

تطبيقات التخطيط العام

اشارة

- 1 - يختلف شكل انتساب الحوادث إلى التخطيط العام؛ فهناك ما يكون انتسابه مباشرا لا يحتاج إلى واسطة، و هي تلك الأمور التي تعتبر بمنزلة الجزء من التخطيط، و لها فيه مشاركة هامة. كالتمحيص في التخطيط الثالث و السيطرة المهدوية على العالم في التخطيط الرابع و حذف التركيز التربوي في التخطيط السادس طبقا للاطروحة الثانية.

و هناك من الأشياء ما ينتسب إلى التخطيط بالواسطة، بمعنى انه يكتسب أهميته التخطيطية باعتباره سببا لما هو السبب. خذ إليك مثلا: ان تعمق العلوم الطبيعية كالفيزياء و الكيمياء و الطب - كما سيأتي - سبب لإنتاج الصناعات الثقيلة و الفعاليات العلمية المختلفة، و هذه الفعاليات و الصناعات سبب، بدورها، يشارك في صياغة المستوى الصناعي العالي للدولة العالمية الموعودة.

و هناك من الأشياء ما ينتسب إلى التخطيط لمجرد كونه اختياريا للفرد البشري. و قد عرفنا ان عنصر الاختيار له القسط المهم في بناء التخطيط العام.

كقراءتك لهذا الكتاب او ممارستك لعملك الاعتيادي في الحياة كالتجارة أو شيء من الحرف أو التعليم.

كما ان هناك من الحوادث ما ينتسب إلى تخطيط واحد، من التخطيطات الستة، كالسبي البابلي الذي ينتسب إلى التخطيط الثاني، و منها ما ينتسب إلى أكثر من تخطيط واحد، فهو يوجد في عصر احد التخطيطات، و يمتد له أثر مهم إلى تخطيط أو أكثر بعده. كوجود الإسلام الذي يعتبر - كما عرفنا - نتيجة للتخطيط الثاني، و جزءا من التخطيط الثالث، و من التخطيط الرابع و الخامس أيضا. و كوجود الدولة العالمية التي تعتبر نتيجة للتخطيطات الثلاث السابقة عليها، و هي - أيضا - العنصر الأساسي للتخطيطين الرابع و الخامس، و التخطيط السادس طبقا للاطروحة الأولى السابقة.

ص:605

- 2 - ذكرنا في الأسس العامة للتخطيط ان التخطيط يتكفل السبب الاستهدافي أو العلة الغائية، و ان هذا السبب لا ينافي السبب الموجد أو العلة الفاعلية، بل ينسجم معه، بل هو مكرس من أجله.

و من هنا، يوجد للوقائع الآتية، مبررات (فاعلية)، اذ تستمد كل واقعة وجودها من زاوية تاريخية أو جغرافية أو اقتصادية أو غيرها، مضافا إلى استنادها إلى الخالق الحكيم جل و علا. و مع ذلك، فهي منتسبة إلى التخطيط العام، بمعنى أنها تشارك في بناء الهدف الأعلى منه، و لو مشاركة ضعيفة و تكون السببية الاستهدافية منطلقة من هذه الزاوية.

و الاغراض الاستهدافية، قد توجد على نطاق ضيق أو (قريب) للحادثة، تحددها المصالح التي يشعر بها الأفراد في حدود الزمان و المكان الذي يعيشوه، و ينتهون من تلك الاغراض إلى آراء و تصرفات معينة، قد يكون بعضها ما نحاول تفسيره. و هي لا تنافي الأغراض (الاستهدافية) التي يتوخاها التخطيط العام، كما سبق أن برهنا و قلنا ان الفرد يخدم - في الوقت نفسه - اغراض نفسه و اغراض التخطيط من حيث يشعر أو لا يشعر.

و قد تكون هذه الاغراض (القريبة) ذات مصالح عامة صحيحة و فعالة، إلا أنها لا تخرج عن انها وقتية محددة بالزمان و المكان. و تعتبر صغيرة و قريبة بالنسبة إلى اندراجها في التخطيط العام.

و قد يكون الشخص الفاعل ملتفتا - أيضا - إلى اندراج الواقعة في التخطيط العام، و لكنه ليس مضطرا إلى الإعراب عن أهدافها التخطيطية، و انما تعني المصلحة في الغالب في بيان الأغراض القريبة، باعتبار مناسبتها مع المستوى الاجتماعي و اسرع هضما من الأغراض البعيدة. و سيأتي في تصرفات و أقوال نبي الإسلام (ص) و غيره ما يدل على ذلك.

و من هنا يحسن بنا، إذا دخلنا في التفاصيل، أن نشير إلى عدد من الأهداف القريبة، إذا كانت ذات أهمية خاصة، و نتبعها ببيان الغاية الاستهدافية القصوى. لنرى بكل وضوح عدم التنافي بين الاستهدافين، سواء كانت الأهداف (القريبة) منسجمة مع التخطيط العام أو منافرة معه.

ص:606

- 3 - و سنعرض فيما يلي خمسين سؤالا، في ضمن عشرة موضوعات أو عناوين، نتحدث فيها عن مختلف جوانب الحياة التي تهم القارئ عادة. هي:

العقيدة و المفاهيم و الفكر الإسلامي و التاريخ الإسلامي و التاريخ الوسيط و التاريخ الحديث و العلوم الطبيعية. ثم تاريخ ما قبل الإسلام و صور من الدولة العالمية الموعودة، و شيء عن الفكرة المهدوية.

ان ما نعرفه فيما سبق من الأمور سنشير إليه مختصرا، أو نكتفي بالتحويل على محلها، ان كان ما سبق كافيا في الإيضاح. و ما يعتبر جديدا بالنسبة إلينا يكون لنا فرصة التحدث عنه بشيء من التفصيل. و سنعطي لكل عنوان رقما مستقلا.

1 - العقيدة:

نطرح هنا الأسئلة التالية:

السؤال الأول: لما ذا تعددت أشكال العقيدة الإلهية بين الأمم، فكان كل جماعة يعطون اسما و وصفا مختلفا للخالق عن الجماعات الأخرى؟!...

و جوابه: انه لا أهمية للاسم من هذه الناحية، إذ انه أمر لغوي يختلف باختلاف اللغات و اختلاف الأمم و الأجيال، و ان اتحدت العقيدة. و تعتبر كل الأسماء مشيرة إلى ذات واحدة، هو خالق الكون اللامتناهي في الحكمة و القدرة.

و أما الصفات، فلاختلافها منشاءان، كلاهما منتسب إلى التخطيط:

المنشأ الأول: ما عرفناه من تطور الفكر البشري من خلال تربية النبوات. فكل نبوة تذكر من الصفات ما يناسب تربية العقلية العامة للمجتمع، و فهمها لهذه الصفات. و تهمل كل ما يكون فهمه متعذرا عليها... الأمر الذي توكله كل نبوة إلى التي بعدها. و قد ذكرنا في «تاريخ الغيبة الكبرى»(1) أمثلة لذلك.

المنشأ الثاني: الانحراف الناشئ من الاختيار الذي هو أحد أركان التخطيط... حيث أصبحت بعض الأمم تؤمن بتعدد الآلهة و توالدها،

ص:607


1- (1) انظر ص 255 و ما بعدها إلى عدة صفحات.

و بعضها تؤمن بالاثنينية، و بعضها يؤمن بانطباقها على موجودات طبيعية... و هكذا.

و ربما كان المنشأ الأول، أعني سكوت الأنبياء عن الإيضاح الكامل، تبعا للمستوى الذهني، من مسببات المنشأ الثاني في ظرف الذهنية البشرية الضئيلة.

و قد سمعنا لذلك بعض الأمثلة في «تاريخ الغيبة الكبرى».

السؤال الثاني: لما ذا تعددت النبوات؟!...

إن هذا يمت بصلة إلى التربية البشرية ضمن التخطيط الثاني. لأن مستواها لم يكن مساعدا على فهم المستويات المعمقة منذ أول نشأتها، كما هو واضح، فكان اللازم التدرج بالتعليم و التربية إلى حين بلوغها سن الرشد.

و كانت كل نبوة تتكفل تربية البشرية ردحا من الزمن، حتى ما إذا أدت مفعولها أصبح من اللازم إبدالها بنبوة جديدة، و هكذا. و من هنا تأتي النبوة اللاحقة (ناسخة) لتعليم النبوة السابقة، و ان اتحدت معها في الخط العقيدي العام، لتعطي مفاهيم زائدة و تعاليم معمقة أكثر نسبيا... و هكذا.

السؤال الثالث: لما ذا وجد الإسلام في آخر الأديان؟!...

باعتبار ما عرفنا من بلوغ البشرية درجة كافية من الرشد العقلي الذي يؤهلها لفهم العدل الكامل. و من هنا كان الإسلام هو الأطروحة العادلة الكاملة التي تطبق في دولة العدل العالمية المهدوية، راجع ما قلناه في فصل (التخطيط الثالث) من هذا الكتاب.

السؤال الرابع: لما ذا نزل القرآن الكريم؟!...

ليبقى هو الكتاب الرئيسي للهداية أبد الدهر ما دامت البشرية موجودة، يمدها بالعطاء باستمرار و على مختلف المستويات:

فان من أهم مميزات هذا الكتاب العظيم:

أولا: كونه معجزا لغويا و بلاغيا و أدبيا، باستمرار، و مهما ترقّى الذوق البشري من هذه الناحية. و أدل برهان على ذلك كون التحدي الموجود فيه بالاتيان بمثله، شاملا لكل الدهور. فالبشرية ستبقى عاجزة عن معارضته طول عمرها الطويل، و شاعرة بإعجازه و سيطرته على مستواها الذهني باستمرار.

ثانيا: تكفّله لبيان قانون تشريعي عادل كامل قابل للتطبيق على مختلف الدهور و العصور. لا يختلف في ذلك عصر الانحراف عن عصر الدولة العالمية

ص:608

عن عصر المجتمع المعصوم عن عصر مجتمع ما بعد العصمة. حيث يتكفل بقواعده العامة تربية كل هذه الأجيال الطويلة. و هي خصيصة إعجازية أيضا لم تتوفر في أي تشريع آخر سماوي أو أرضي.

ثالثا: ان الإنسان كلما ترقّى و تكامل في المستويين الثقافي و الإيماني ينكشف له معان جديدة للقرآن، لا يمكن الالتفات إليها في المستويات الواطئة.

و هذا معناه - على المستوى العام - ان البشرية ستفهم بالتدريج معان جديدة من القرآن تكون مربية لها. فإذا بلغت غاية مرحلتها، و دخلت مرحلة أخرى فهمت معان جديدة تربّيها، و هكذا.

خذ إليك مثلا تقريبيا، كتاب (كليلة و دمنة) الذي «جعل الكلام على ألسن البهائم و السباع و الوحش و الطير، ليكون ظاهره لهوا للعامة و باطنه سياسة للخاصة، متضمنا ما يحتاج الإنسان إليه من أمر دينه و دنياه و آخرته على حسن طاعة الملوك و مجانبا ما تكون مجانبته خيرا له»(1). بل قالوا ان هذا الكتاب ليس ذا مستويين فقط، بل أربعة مستويات، يختص كل مستوى منها بمجموعة من البشر(2). فإذا أمكن ذلك العدد، أمكن الزيادة عليه بطبيعة الحال حين يصل إلى مستوى الإعجاز.

السؤال الخامس: لما ذا احتاج الدين الإسلامي إلى وجود الهداة بعد النبي (ص). و هم الخلفاء أو الأئمة، على اختلاف المذاهب الإسلامية.

ينبع هذا الاحتياج من عدة أمور: من أهمها: ضرورة تربية الأمة على الدين الجديد أو الأطروحة الجديدة، و تمحيصها عليها و تربية الاخلاص طبقا لها، تحت إشراف مركّز و مركزي فترة كافية من الزمن. و لا يتم ذلك بشكله الكافي بدون ذلك.

و يقوم هؤلاء الهداة مضافا إلى ذلك، بحفظ الأطروحة الجديدة لتبقى سارية المفعول بين البشر ليمكن تطبيقها في الدولة العالمية و ما بعدها من العصور. إذ مع اندثارها لا معنى لتطبيقها، كما هو واضح، إلا بنبوة جديدة، ليس المفروض وجودها بعد الإسلام، و لا حاجة إليها، بعد إمكان حفظه بهؤلاء الهداة.

ص:609


1- (1) كليلة و دمنة، تحقيق الياس خليل زخريا ط دار الأندلس - بيروت ص 83.
2- (2) المصدر ص 95. لا حظ قوله: أقسام الكتابة و أغراضه (المعاني الباطنة).

- 5 -

2 - المفاهيم:

و نعرض هنا الأسئلة التالية:

السؤال الأول: ما هو مفهوم التقوى؟!...

ينطلق هذا المفهوم من زاوية لغوية من الاتقاء أي تجنب شر معين متوقع الحصول. و حيث قد هددت الشريعة بالعقاب على العصيان، كان اللازم اتقاء هذا الشر عن طريق الالتزام بترك مسبباته من فعل المحرم و ترك الواجب.

و من هنا يمكن الانطلاق إلى تعريف التقوى بكونها التطبيق الكامل للاطروحة العادلة الكاملة، أو تعريفها بانها الانسجام التام مع التخطيط العام، لوضوح ان مخالفة التعاليم يحتوي على المنافرة مع التخطيط.

السؤال الثاني: كيف يتربى الاخلاص في النفس؟!...

ينطلق مفهوم الاخلاص لغويا من الخلوص و هو النظافة و التجرد عن الادران، و من هنا يكون تطبيقه الخاص على أنه هو النزاهة و التجرد عن كل ما ينافي العدل و ينافي التخطيط العام.

و قلنا في «تاريخ الغيبة الكبرى»(1) بان الاخلاص و القدرة على التضحية لا تنمو إلا في جو ظالم معاكس للعدل ليتدرب المؤمنون أكثر فأكثر على المصاعب و المحن؛ لتكون لهم أهلية القيام بالواجبات الحقيقية الكبيرة في دولة العدل العالمية.

السؤال الثالث: ما هو مفهوم الاستخلاف في القرآن؟!...

ينطلق المفهوم اللغوي للاستخلاف من معنى جعل الخليفة أو النائب او الوكيل أو الوارث - أحيانا -. و من هنا كان أهم موردين استعمل فيهما القرآن هذا المفهوم، هما:

أولا: اعتبار كون وجود البشرية مستخلفة عن اللّه عز و جل في الاستفادة من خيرات الأرض و تدبير شئون الحياة. فبدلا عن ان تكون القيادة للّه مباشرة، جعلها للبشرية بالمعنى الذي سنشير إليه.

قال اللّه تعالى:

ص:610


1- (1) انظر ص: 245 و ما بعدها.

وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ (1).

و غير ذلك من الآيات.

ثانيا: كون الدولة العالمية مستخلفة على الأرض. و ذلك: إما بمعنى كونها خليفة عن اللّه تعالى في القيادة نحو تطبيق العدل و تحقيق الهدف الأعلى، أو بمعنى كونها وارثة للنظم السابقة عليها و البديل الأفضل لها جميعا. قال اللّه تعالى:

وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ، لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ، كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... الخ الآية(2).

و كلا المعنيين يمتّان إلى التخطيط العام بصلة وثيقة:

أما المعنى الأول: فباعتبار ان استخلاف البشرية في القيادة، لا يعني بأي حال إيكال الأمر إليها على نحو مطلق. فانه خلاف صريح آيات قرآنية عديدة، منها قوله تعالى:

وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَ مَنْ يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (3).

و إنما المراد إيكال التربية و التكامل البشري إلى اختيار البشرية نفسها، بدلا عن ان يكون المربي هو اللّه عز و جل. بما في ذلك التكامل الفردي و القيادة الاجتماعية العادلة.

و من هنا كان الفرد الأهم لتطبيق هذا الاستخلاف هو المربي البشري الكبير، المتمثل في جهتين:

الجهة الأولى: موكب الأنبياء و الأولياء و الصالحين، السابقين على الدولة العالمية. فانهم متكفلون للقسط الأكبر من هذه التربية و القيادة المطلوبة.

الجهة الثانية: الدولة العالمية التي هي نتيجة لجهود ذلك الموكب كله، و لجهود الانسانية كلها في العصور السابقة عليها. و هي تتولى التربية أيضا لكن بشكل أعمق و أوسع.

و أما مع تحقق الهدف الأعلى، و هو المجتمع المعصوم و الذي يليه، فهو الذي يكون خليفة و قائدا بمجموعة بطبيعة الحال... لأن كل فرد منه ممثل

ص:611


1- (1) الانعام: / 165.
2- (2) النور: / 55.
3- (3) الأحزاب: / 36.

للشكل الأفضل من التربية المطلوبة.

و بهذا نكون قد عرفنا كيف يمت المعنى الثاني للاستخلاف إلى التخطيط.

و أما كون الدولة العالمية وارثة للنظم السابقة عليها، فقد قلنا ان مقتضى التخطيط الثالث هو تمحيص تلك النظم و كشف جوانب النقص و الظلم فيها تدريجا، و إيضاح فشلها، ليكون ذلك أكبر ممهد لتلقّي النظام الجديد في الدولة العالمية.

السؤال الرابع: ما هو المفهوم الذي تعبر عنه الآية الكريمة:

إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ (1).

إن هذا - بحسب فهمي - مفهوم تربوي يراد به - أيضا - إيكال تربية البشرية إلى نفسها و اختيارها. لكن المنظور هنا جانب النتائج. فكل عامل، فردا كان أو مجتمعا، هو الذي يتحمل مسئولية عمله، سواء كان خيرا أو شرا. فاللّه عز و جل يحافظ على النتائج الخيّرة ما دام العمل خيرا، و لا يغيرها إلى السوء - و هو القادر المطلق - إلا مع تعمد التغيير السيئ من قبل العاملين أنفسهم... و العكس أيضا صحيح، إذ لا معنى لوجود النتائج الحسنة مع العمل السيئ.

و هذا القانون، كما يشمل كل مجتمع بشكل منفصل، يشمل البشرية على وجه المجموع فمثلا: إذا توصلت البشرية بأعمالها الاختيارية إلى إنتاج التخطيط الثالث، و أصبحت على مستوى تأسيس الدولة العالمية، فقد غيّرت ما بنفسها، فيمنّ اللّه تعالى عليها بالتغيير الجذري بإعطاء الفرصة الكافية للقائد المهدي (ع) للسيطرة على العالم و احقاق الحق و العدل فيه، و رفع كل ما كانت تشكوه البشرية من المشاكل و الآلام.

السؤال الخامس: ما هو مفهوم العبادة الموجود في الآية الكريمة:

وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ (2).

و قد شرحنا ذلك مفصلا في تاريخ الغيبة الكبرى(3)، و أعطينا عنه فكرة في هذا الكتاب في فصل (الأسس الخاصة). و اعتبرنا الآية دليلا على ماهية السبب الاستهدافي الذي وجدت من أجله البشرية، و هو تحقيق العبادة الخالصة الشاملة لكل مناحي الحياة، و بأعمق أشكالها متمثلة بوجود الدولة العالمية أولا، و بالمجتمع

ص:612


1- (1) الرعد: / 11.
2- (2) الذاريات: / 56.
3- (3) انظر ص: 234 منه.

المعصوم ثانيا.

- 6 -

3 - الفكر الاسلامي:

و نجيب فيه على الأسئلة التالية:

السؤال الأول: ما هي وظيفة الفقه الاسلامي عموما، و في التخطيط الثالث على الخصوص:

الفقه الاسلامي، هو الاحكام المستخرجة من القرآن الكريم و السنة الشريفة، على اختلاف الفقهاء في كيفية الاستخراج و نتائجه. و من هنا كان هو المرآة الكاشفة عن أحكام الاسلام: الأطروحة العادلة الكاملة. و هو الأسلوب الرئيسي الوحيد في الاطلاع عليها.

و من هنا كانت وظيفته هي وظيفة أحكام الاسلام نفسها، خلال التخطيط المشار إليه... و هو تدبير الأمة و تربيتها باتجاه الهدف الأعلى خلال هذه الفترة بمقدار قابليتها لذلك.

و أما بعد حدوث الدولة العالمية فسيختلف الفقه بمقدار ما كما سبق أن عرفنا، حيث يجدد المهدي (ع) ما اندرس منه و يضيف إليه عددا جديدا من الأحكام، و يحذف منه كثيرا من الأمور التي أصبحت عيالا عليه خلال العصر السابق الطويل.

و مهما كان الأمر، فهو الآن الأسلوب الرئيسي للتعرف على أحكام الاسلام.

و تعتبر التضحية في سبيله و الاخلاص له إخلاصا للاسلام. كيف و المقصود هو بذل التضحية و الاخلاص في طريق الهدف، و هو يحصل بالبذل في سبيل الفقه بصفته ممثلا للاسلام: الأطروحة العادلة الكاملة.

السؤال الثاني: ما هو أثر تقدم الفكر العالمي في تقدم الفكر الاسلامي عامة، و الفقه الاسلامي خاصة؟!..

لا شك أن لتقدم الفكر العالمي أثرا مهما في هذا الصدد، من عدة نواح:

الناحية الأولى: وجود مجالات جديدة لم تكن مبحوثة في الفقه فيما سبق، أصبح في الامكان البحث عنها من جديد، بعد ان فتح التقدم الصناعي فكر البشرية على ذلك، كالبحث عن جواز التلقيح الصناعي و عن الصلاة على القمر... إلى كثير من المسائل.

الناحية الثانية: قابلية الفقيه المطلع على تطور الفكر العالمي، من فهم

ص:613

و استخراج الأحكام من الكتاب و السنة بشكل أعمق و أركز من غيره ممن لم يواكب هذا التطور.

الناحية الثالثة: قابلية الفكر العالمي لفهم الفقه الاسلامي، و للاطلاع - على وجه الخصوص - على استيعابه لكل مناحي الحياة، و عدم اختصاصه بالعبادة الشخصية.

الناحية الرابعة: إمكان عرص الفقه الاسلامي بلغة حديثة، و خاصة، بلغة القانون الحديث، مع التوفر على المقارنة بين الأسلوبين و المضمونين، و التوصل إلى الأفضل و الأجدر بالبقاء منهما.

السؤال الثالث: ما هو أثر الجانب الحضاري الاوروبي (أعني الايديولوجية العامة غير العلمية) على الفكر الاسلامي.

إن هذه الحضارة بصفتها مادية و منكرة للأديان و الأخلاق، سوف تجعل الفكر الاسلامي متصاعدا في عدة حقول:

الحقل الأول: إنتاج البحوث لمحاولة مناقشة هذه الحضارة في أفكارها و عرض البديل الأفضل لها على مختلف المستويات.

الحقل الثاني: عرض الفقه على أساس أنه الأطروحة التشريعية الكاملة التي يمكنها إزالة المشاكل العالمية، بدل الأطروحات المعروضة في عالم اليوم، كما سبق أن برهنا.

الحقل الثالث: الالتفات إلى ضرورة التكاتف و التآلف و الشعور بالاخوة بين المسلمين، كما هو المطلوب منهم في شريعتهم، و نسيان الأضغان من أجل الاتحاد بوجه العدو المشترك، و هو الحضارة المادية اللاأخلاقية التي غزتهم في عقر دارهم.

السؤال الرابع: ما هو أثر حقول الفكر الاسلامي المختلفة في إيجاد الشرط الثالث من شرائط «اليوم الموعود».

لا شك ان الفكر الاسلامي طرق و يطرق حقولا مختلفة من المعرفة كالعقيدة و الاقتصاد و الاجتماع و الفقه و التاريخ و غيرها، و لا زال المفكرون الاسلاميون يمارسون جهودهم باستمرار بحثا و تدقيقا و تحقيقا.

و لكل من هذه الحقول أثره المهم في إيجاد الشرط الثالث الذي هو الاخلاص الايماني الكبير لتعاليم الاسلام، كما سبق أن فصّلناه. خذ إليك مثلا: إن حقل (العقيدة) هو الجزء الأهم الذي ينبغي الاخلاص له. و (الفقه) هو التشريع

ص:614

الكامل الذي ينبغي أن يتربى الاخلاص من خلاله. و (التاريخ) يعرض لنا صور التضحيات الايمانية الكبيرة و الاخلاص الكبير التي ينبغي احتذاؤها. و بذلك يترسخ الاخلاص و يكون الشرط الثالث في طريقه إلى النجاز.

السؤال الخامس: كيف يثرى الفكر الاسلامي و يتكامل، عند المسلمين؟!...

يتكامل الفكر الاسلامي الموجود خلال التخطيط الثالث لدى المسلمين، نتيجة لعدة عوامل:

العامل الأول: الكتاب و السنة أعني القرآن الكريم و الأخبار الواردة عن قادة الاسلام الأوائل عليهم السلام... بما يحمل هذان المصدران من مبدأ متكامل و تشريع عادل و عبر بليغة.

العامل الثاني: جهود المفكرين الاسلاميين، بما يبذلونه من تضحيات في سبيل تنمية ما ورثوه من أفكار و محاولة تطبيقها على حاجات العصر.

العامل الثالث: ما يفتحه الجانب (العلمي) الحديث أمام الذهن البشري من آفاق سواء من ذلك ما يكشفه من جوانب التدبير و الحكمة في قيادة الكون و خلقته، أو ما يثيره إلى جنب ذلك من مشكلات فلسفية و منطقية تجد طريقها في الفكر الاسلامي إلى الحل أولا بأول.

العامل الرابع: جانب التخلف الأخلاقي و الاسفاف الاجتماعي الذي يعيشه أغلب أفراد العالم اليوم، في العالم الاسلامي و غير الاسلامي، كنتيجة للتمحيص على ما سبق أن أوضحنا. الأمر الذي يحدو بالفكر الاسلامي أن يقف باستمرار تجاه هذا التيار، لأجل الكفكفة من غلوائه، و التقليل من توسعه و عمق أثره.

و لعل هناك بعض العوامل الأخرى التي لا حاجة إلى الدخول في تفاصيلها.

- 7 -

4 - التاريخ الاسلامي:

نختار في هذا الحقل الأسئلة التالية، و سيكون بعضها منطلقا من الفهم (الامامي) للتاريخ الاسلامي، إلى جانب البعض الآخر المنطلق من الزاوية المشتركة لفهم الاسلام.

السؤال الأول: لما ذا حدثت واقعة بدر الكبرى؟!...

ص:615

المبرر الذي أعلنه النبي (ص) بين أصحابه حين اقترح عليهم التعرض لا بل قريش، ذلك التعرض الذي أنتج واقعة بدر الكبرى... ليس أكثر من قوله (ص): هذه عير قريش فيها أموالهم، فأخرجوا إليها لعل اللّه ينفلكموها(1).

و لكن كانت من وراء هذه (الثورة) الاسلامية الأولى عدة أغراض (قريبة) و بعيدة، نذكر منها اثنين أحدهما (قريب) و الآخر (تخطيطي).

الهدف الأول: إثبات وجود الجماعة الاسلامية الجديدة و قوتها، و تحطيم أطماع قريش بتحطيمها... الأمر الذي جعل لها الهيبة و الأهمية الاجتماعية التي استطاعت بها أن تقوم بنشاطها على نطاق واسع و كامل لأول مرة.

الهدف الثاني: البدء بتركيز الاسلام و ترسيخه ليبقى مدى الدهر ليؤدي الدور الضخم الذي عرفناه للأطروحة العادلة الكاملة... في عصري التخطيط الثالث و الرابع، بل و ما بعده إلى فناء البشرية. ان الخطوة المهمة في هذا التركيز كانت متمثلة بغزوة بدر الكبرى.

و قل ذلك في كل الغزوات على الاطلاق بصفتها تتضمن تقوية الاسلام أحيانا و الدفاع عنه أحيانا و توسيع نطاقه أحيانا... و كلها مقدمات لاداء الدور الضخم الذي عرفناه.

السؤال الثاني: لما ذا انحرفت الخلافة الاسلامية بعد عصر النبوة، حتى أصبحت (ملكا عضوضا) و خرجت عن حقيقة مهمتها الاسلامية المخلصة متمثلة في الخلافة الأموية أولا و العباسية ثانيا، و العثمانية ثالثا. فان الحديث عنها من هذه الناحية حديث مشترك. فانها جميعا تتصف بالتفسخ الديني و الانصراف إلى الملذات من ناحية، أو المشاحنات الداخلية من ناحية أخرى... مما أوجب الهبوط بالمستوى الاسلامي هبوطا مروعا حتى أنتج زوال الخلافة عن مسرح المجتمع زوالا كاملا. فأي مصلحة تخطيطية اقتضت ذلك؟!..

ينبغي أن يكون الجواب على ذلك مفهوما، بعد كل الذي قلناه... حيث يمكن انطلاقه من زاويتين:

الزاوية الأولى: عنصر الاختيار الممنوح للبشرية عموما بما فيهم أشخاص

ص:616


1- (1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 258. هذا و ينبغي أن نضع المبرر الذي ذكره النبي (ص) في موضعه الاجتماعي و التاريخي الخاص، من حيث ان الناس لم يكونوا ليستوعبوا هدفا أبعد من الحصول على المال، و لعل الذكي منهم يلتفت إلى حصول القوة للجماعة من هذا المال.

الخلفاء و قوادهم... ذلك الاختيار الذي عرفنا له الأصالة و الأهمية في التخطيط.

فإذا اقترن الاختيار بضعف في الثقافة الاسلامية، و قلة في الاخلاص و الشعور بالمسؤولية، و النظر إلى الخلافة الاسلامية، كمنصب منفعي تجاري لا كمهمة تربوية للأمة... إذا حصل كل ذلك فالنتائج التي حصلت متوقعة بطبيعة الحال، بما في ذلك زوال الخلافة و سيطرة المادية الملحدة بدلها على العالم الاسلامي.

الزاوية الثانية: إننا سمعنا أنه لا بد للبشرية من أجل تحقيق الشرط الثالث لليوم الموعود خلال التخطيط الثالث، و هو توفير الاخلاص و المخلصين، لا بد أن تمر البشرية عموما و العالم الاسلامي خاصة بصفته الحامل للأطروحة العادلة الكاملة، ان تمر بظروف الظلم و الانحراف. و ان أول خطوة لذلك هو التخطيط لايجاد خلافة منحرفة. لا بمعنى حمل الخلفاء على الانحراف، بل بحسب الصراحة في (النص الجلي) أولا، و تقليص التركيز في التربية ثانيا، ليتيسر مع هذين العنصرين للمنحرفين أن يحكموا المجتمع الاسلامي و للشجرة الملعونة في القرآن ان تأخذ دورها الكامل لتمثل بنفسها و بنتائجها الوخيمة ظروف الظلم و الانحراف المسببة لانجاز الشرط الثالث.

السؤال الثالث: لما ذا حصلت ثورة الحسين عليه السلام، التي استشهد فيها مع ثلة من أصحابه و أهل بيته.

إن لهذه الثورة المهمة المقدسة عدة أغراض (قريبة) بالمعنى الذي اصطلحنا عليه. و هو المستوى الذي أمكن إعلانه في ذلك المجتمع. و قد أعرب عنها الامام الحسين عليه السلام نفسه في عدة مواطن، و كلها ممكنة و مطابقة للقواعد الاسلامية العامة.

و يمكن أن ترقى هذه الأغراض إلى عدة أشكال:

الشكل الأول: قوله عليه السلام: «اني لم أخرج أشرا و لا بطرا و لا مفسدا و لا ظالما، و إنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي صلى اللّه عليه و آله، أريد أن آمر بالمعروف، و أنهى عن المنكر و أسير بسيرة جدي و أبي علي بن أبي طالب»(1).

الشكل الثاني: إيكال ذلك إلى القضاء الالهي الذي لا يرد، بقوله: «و قد شاء عز و جل أن يرى حرمي و رهطي مشردين و أطفالي مذبوحين مأسورين مقيدين و هم

ص:617


1- (1) مقتل الحسين (ع) أو حديث كربلاء. عبد الرزاق المقرم ط 2، النجف ص 139.

يستغيثون فلا يجدون ناصرا»(1).

الشكل الثالث: إن بني أمية عازمون على قتله على كل حال... «إنهم لن يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي. فإذا فعلوا ذلك سلّط اللّه عليهم من يذلهم»(2) و إذا كانوا على ذلك، كان الأولى مناجزتهم القتال.

الشكل الرابع: إنه عليه السلام رأى جده نبي الاسلام (ص) في المنام، فأمره بالمضي في وجهته و عدم العدول عنها، و قال: حبيبي يا حسين كأني أراك عن قريب مرملا بدمائك مذبوحا بأرض كربلا، بين عصابة من أمتي، و أنت مع ذلك عطشان لا تسقى و ظمآن لا تروى»(3).

الشكل الخامس: و هو الشكل الرسمي أو القانوني للثورة الحسينية، و هو كونها استجابة لطلب أهل الكوفة القدوم عليهم و وعده بنصرتهم ضد الأمويين حيث نسمعه يقول - فيما قال - مخاطبا لأهل الكوفة: «انها معذرة اللّه عز و جل و إليكم و اني لم آتكم حتى أتتني كتبكم، و قدمت بها علي رسلكم أن أقدم علينا فانه ليس لنا امام.

و لعل الله يجمعنا بك على الهدى»(4) و كلما توفر للقائد الاسلامي المقدار الكافي من الناصرين و المؤازرين، وجب عليه اسلاميا اجتثاث حكم الظالمين. و أما حصول مقتله فباعتبار غدرهم به و خيانتهم له، بدلا عن ان ينصروه.

و لا نريد الآن الدخول في تفاصيل ذلك، فمن أراده فليرجع إلى مصادره.

و انما المهم الاطلاع على المبرر (التخطيطي) لهذه الثورة المقدسة.

و حاصل فكرته: اننا قلنا فيما سبق أن ظروف الظلم و الانحراف لا يمكن أن تكفي في وجود المخلصين ما لم تقترن بالأسس الاسلامية الموفرة للاخلاص. و إلا فان هذه الظروف تكون موجبة لضلال البشرية و انطماس العدل، و فشل التخطيط العام في النتيجة.

و ان من أهم الأسس لتوفير الاخلاص و تقوية الارادة في أذهان الأمة، هو إيجاد القدوة و المثال الأعلى للتضحية أمام الفرد في مجابهة تلك الظروف الظالمة. و قد كانت ثورة الحسين (ع) أعظم مثال لذلك، حيث أ فهمت الأمة بأجيالها المتطاولة و البشرية

ص:618


1- (1) المصدر ص 135.
2- (2) المصدر ص 193.
3- (3) المصدر ص 131.
4- (4) المصدر ص 195.

بمجتمعاتها المختلفة، مقدار ما ينبغي أن يكون عليه الفرد من درجة الاخلاص و الصمود و قوة الارادة و نكران الذات تجاه العدل، و من أجل محاربة الظلم و الانحراف... و التضحية بالنفس و النفيس و الصحب و الأهل و الولد.

و قد كان لهذه الثورة، خلال عشر التخطيط الثالث الذي نعيشه، الأثر الأهم في ايجاد التحسس العام من أي ظلم، ذلك التحسس المنتهي بالثورة، صغيرة كانت أو كبيرة. و كشفت هذه الثورة أمام المخلصين، لزوم عدم اعتدادهم بأنفسهم، و الاكتفاء بما هم عليه، و ضرورة الصعود في خط التكامل التدريجي و التربية الحقيقية في هذا الطريق. انهم مهما أدوا من تضحيات سيكون الحسين (ع) و أصحاب الحسين (ع) أمامهم مثالا يحتذى لن يصلوه إلا بعد لأي.

و سيكون الفرد - نتيجة لذلك - شاعرا بكل وضوح بأهمية أطروحته العادلة، و مثمّنا ضرورة الاخلاص لها، و متجها بكل رحابة صدر إلى تقديم المصلحة العامة على كل مصالحه الخاصة، لكي يكون مؤهلا بالتدريج للقيادة بين يدي القائد المهدي (ع)، و مشاركا بالتالي في انجاز الشرط الثالث.

و سيكون لهذه الثورة صداها المؤثر الكبير، خلال عصر التخطيط الرابع، حتى ورد أن الامام المهدي (ع) يعلن خلاله حربه للسيطرة على العالم شعار الأخذ بثأر جده الحسين (ع)(1). و سيكون المؤدّى الحقيقي لهذا الصدى الكبير شعور الأفراد في ذلك الحين بضرورة اطاعة الحق المتمثل بالقائد المهدي (ع) و دولته العالمية، كما سبق للحسين عليه السلام، أن ضحى في سبيل هذا الحق نفسه، باعتبار ان الأطروحة العادلة الكاملة، هي نفسها التي كانت لدى الحسين (ع) ستكون لدى المهدي (ع).

السؤال الرابع: لما ذا صالح الامام الحسن عليه السلام معاوية بن أبي سفيان، مع انه يعتقد بكونه ظالما و غير صالح للخلافة، و هلاّ اتخذ خطوة كخطوة أخيه الحسين عليه السلام في محاولة الاجهاز على الجهاز الحاكم و فضحه و تقوية إرادة الأمة عن هذا الطريق؟!..

و ينبغي لنا و نحن في صدد الجواب، ان نفترض القارئ مطلعا على التاريخ الاسلامي لهذه الحقبة، لئلا يطول بنا الحديث. بما في ذلك محاولة الامام الحسين (ع) - أولا - منازلة معاوية عسكريا، ثم محاولة معاوية كسب قواد جيش الامام

ص:619


1- (1) انظر: تاريخ ما بعد الظهور: في الفصل الثالث من الباب الثاني من القسم الثاني

الحسن إلى جانبه، و نجاحه في ذلك على مختلف المستويات، بما كانت الأمة قد بلغته من ضعف في الارادة و طمع في اللذاذة. و بما في ذلك شروط الصلح التي اتفق عليها الطرفان بعد ذلك. ثم خيانة معاوية لهذه الشروط، و إعلانه بصراحة عدم العمل بها.

ان الصلح حين يأتي في مثل هذه الظروف يكتسب غرضين، أحدهما (قريب) و الآخر (تخطيطي):

الغرض الأول: و هو القريب: القيام بمسئوليته تجاه الجماعة المؤمنة التي يتولى قيادتها من الناحيتين الدينية و الدنيوية. حيث استطاع الامام الحسن (ع) بعد انعدام الفرصة الكافية للمنازلة العسكرية، أن يحرز - طبقا لشروط الصلح - سلامة اصحابه و كرامتهم و مستواهم الاقتصادي، و التحفظ عليهم في الدين و الدنيا.

و استطاع في نهاية المطاف ان يكشف نوايا معاوية العدوانية بخيانته لهذه الشروط و اعتدائه عليها و بالتالي على الجماعة المؤمنة، و امامها أيضا.

الغرض الثاني: و هو الأهم و الأبعد: ان الامام الحسن عليه السلام حين يرى ان الحق متمثل فيه و في جماعته، و انهم هم الحاملون الحقيقيون للأطروحة العادلة الكاملة. و يرى - إلى جنب ذلك - ان المنازلة العسكرية، بعد الخيانات التي حصلت في جيشه و الاشاعات الهدامة التي انبتت فيه، يرى ان المنازلة مستبطنة للقضاء عليه و على كل المؤمنين به و استئصالهم، و هذا يعني انعدام جانب الحق في العالم، و بقاء معاوية على مسرح الاسلام ليدعي أنه هو الحامل الحقيقي للاسلام. و بذلك تنطمس تماما الأطروحة العادلة الكاملة، و مع انطماسها لا معنى لتربية المخلصين تجاهها، كما هو معلوم. و بذلك يتخلف شرطان من شرائط اليوم الموعود أو الدولة العالمية، و هما:

الشرط الأول: وجود الأطروحة العادلة الكاملة التي تطبّق في اليوم الموعود، وجودها معلنة بين البشر.

الشرط الثاني: وجود العدد الكافي من المخلصين تجاه هذه الاطروحة الذين يشاركون في انجاز اليوم الموعود.

و مع تخلف الشرطين يكون التخطيط العام كله قد فشل. و لذا كان من الواجب تلافي الأمر أساسا لكي لا يحدث الفشل. و ذلك بايجاد هذا الصلح مع معاوية، لأجل احراز بقاء حاملي الأطروحة العادلة، و بالتالي استمرارها ضمن الاجيال

ص:620

لتكسب المخلصين المحصين بالتدريج.

بل انه طبقا للفهم الامامي للفكرة المهدوية، فان الشرط الآخر لليوم الموعود يكون منخرما أيضا بدون هذا الصلح، و هو وجود القائد المؤهل لانجاز الدولة العالمية. فانه بعد تعيينه - أعني المهدي - في شخص الامام محمد بن الحسن بن علي عليهم السلام و هو من ذرية الحسين عليه السلام، نستطيع ان نتصور أن منازلة الامام الحسن لمعاوية كانت تعني الاجهاز عليه و على جميع تابعيه بما فيهم أخيه الحسين (ع).

و إذا قتل الحسين و ذريته كان وجود نسله بلا موضوع. فينتفي الشرط الثالث أيضا.

و من هنا نستطيع ان نتصور الأهمية التخطيطية لهذا الصلح التاريخي العظيم.

ان المحافظة على الامام الحسين (ع) نفسه كان مستهدفا في صلح أخيه عليه السلام، كما ان المحافظة على ولده علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام، خلال حرب كربلاء، كان مستهدفا أيضا، من التخطيط أيضا، لكي ينتج - فيما ينتجه - ايجاد القائد المهدي عليه السلام، إنجاز هذا الشرط من شرائط اليوم الموعود.

كما ان الفكرة القائلة بان صلح الامام الحسن عليه السلام كانت مقدمة لثورة الحسين، بمعنى أنها و فرت لها الظروف الموضوعية، فكرة صحيحة من ناحية تخطيطية، فان الحفاظ على الجماعة المؤمنة من قبل الامام الحسن (ع) مكنها بعد بضع عشرات من السنين أن تقوم بالمهمة الثورية بين يدي الحسين (ع). فتحضى آنئذ بنتائجها العظيمة من دون أن تتعرض للاستئصال لاتساع هذه الجماعة في ذلك الحين، و بقاء الامام علي بن الحسين عليه السلام بينهم.

السؤال الخامس: لما ذا اتخذ الأئمة المعصومون عليهم السلام، و خاصة في عصرهم المتأخر، ابتداء بالامام الجواد عليه السلام و من بعده، موقف (السلبية) و الملاينة الظاهرية مع الجهاز الحاكم الذي عاصروه، مع انهم يعتقدون انهم أحق منه بممارسة الحكم، و كانت أخطاء الحكام و سوء تصرفهم يومئذ واضحا للعيان؟!..

إن القسم الأول من (تاريخ الغيبة الصغرى) عموما للجواب عن هذا السؤال. و قد بينا هناك حقيقة الغرض (القريب) لذلك. و هو ان اعلان المعارضة كان يستدعي يومئذ استئصال الامام و كل المؤمنين به و قواعده الشعبية للظروف التي شرحناها هناك مفصلا. و معه كانت وظيفة الامام عليه السلام لأجل إحراز أقصى ما يمكن من المصلحة للحق الذي يعتقده في نفسه و أصحابه، اتخاذ مسلك (السلبية) تجاه الدولة، بحيث لا يمكن لها أن تمسك ضده أي دليل... لأجل ضمان بقاء ذلك

ص:621

الحق مع بذل الجهد المضاعف لاحراز مقدار معقول من المصالح الاجتماعية و الاقتصادية في مجتمع كان يعزلهم اجتماعيا و اقتصاديا.

و أما الهدف (التخطيطي) فهو نفسه الذي ذكرناه لصلح الامام الحسن عليه السلام. و هو الحفاظ على الحق من أجل حفظ الاطروحة العادلة الكاملة سارية المفعول في البشرية، و عدم انحصار ادّعاء الاسلام بالجهات الحاكمة المنحرفة. كما يراد به حفظ الامام نفسه لأجل انجاب الامام المهدي نفسه، طبقا للفهم الامامي.

كل ما هناك... ان الفرق بين عصر الامام الحسن عليه السلام، و عصر الأئمة المتأخرين عليهم السلام: ان الامام الحسن عليه السلام، كانت له الفرصة ليفرض شروطه على معاوية بن أبي سفيان، باعتبار ان معاوية لم يكن ناجز الخلافة يومئذ، و انما أصبح خليفة بالتمام!! بعد هذا الصلح، بخلاف الأئمة المتأخرين، فانهم كانوا فاقدين لهذه الفرصة و أمثالها باعتبار وجود الدولة القوية الناجزة المعترف بصحتها في قواعد شعبية كبيرة من المسلمين.

- 8 -

5 - التاريخ الوسيط:

و نقصد به التاريخ الاسلامي المتخلل ما بين ضعف الدولة العباسية المتأخرة عن عصر المتوكل العباسي، إلى عصر الاستعمار الاوروبي للبلاد الاسلامية، في العصر الحديث.

و هي فترة تستمر حوالي ثمانية قرون، تتخللها الكثير من الحوادث المهمة، نقتصر منها على التساؤل عن خمسة منها ذات جانب من الأهمية:

السؤال الأول: لما ذا حدثت الحروب الصليبية؟!..

السؤال الثاني: لما ذا حدث الغزو المغولي لبلاد المسلمين؟!...

هذان سؤالان متشابها الاتجاه، باعتبار هما يحتويان على هجوم الكافرين ضد المسلمين. و من هنا يكون الاتجاه في الجواب أيضا متشابها.

ان الهدف (القريب) حين نتحدث عنه هنا، انما نتحدث عنه في حدود ما كان يتصوره الغزاة أنفسهم، و أما البلاد الاسلامية فلم يكن لها إلا الدفاع حينا و الاستسلام حينا.

ان الهدف القريب لكلا الغزوين معلن و واضح، فقد كان هدف الصليبيين - في حدود فهمهم - تخليص (أرض الميعاد) و (كنيسة القيامة) و (بيت لحم) موضع

ص:622

ميلاد المسيح، من احتلال المسلمين؟!...

و كان هدف المغول التوسع في السيطرة و الملك و الحصول على المغانم. و لم يثبت أنهم كانوا يفكرون أو يعملون من زاوية دينية.

و لم يكن الهدف (القريب) للبلاد الاسلامية إلاّ دفع الغزاة. و أهم قيادة ناجحة حصلت لتحقيق هذا الهدف هي قيادة (صلاح الدين الأيوبي) ضد الغزو الصليبي، بعد فشل (عماد الدين زنكي) في تحقيق هذا الهدف.

و أما الاستهداف (التخطيطي) من وراء هذه الغزوات، أو بمعنى آخر مقدار ارتباطها بالتخطيط الثالث، و هو معنى يشمل بشكل و آخر - الاستعمار الأوروبي الحديث، فيتلخص في الوجوه التالية:

الوجه الأول: ان هذه الغزوات تنطلق من الاختيار، الذي عرفنا له الأهمية في التخطيط. فان الاختيار الذي يملكه الغزاة اقترن بقناعات منحرفة و أفكار متطرفة، انتج اتجاه هؤلاء الناس إلى الغزو و القتل و التخريب.

الوجه الثاني: ان هذه الاعمال تمتثل نتيجة لظروف التمحيص السابقة عليها، و تعتبر فشلا فيه من الزاوية الايمانية الموازية مع خط التخطيط العام.

الوجه الثالث: المشاركة في ايجاد ظروف تمحيص جديدة للبلاد التي وقع الغزو ضدها. باعتبار انها تكون محكا للمسلمين و المؤمنين و المخلصين في الوقوف ضدها و الحد منها ان أراد المسلم النجاح في التمحيص، أو الممالأة معها و الانصياع لها إن أراد الفشل.

و قد واجهت هذه الحملات بالفعل مواجهات عنيفة و مخلصة من قبل المسلمين، كان من أهمها قيادة صلاح الدين نفسه، من زاوية كونه مطهرا للأرض الاسلامية المقدسة من الوجود الصليبي. و قد سمعنا في تاريخ الغيبة الكبرى(1)بشارة النبي (ص) بذلك...

و قد و وجه الاستعمار الحديث أيضا مواجهات دموية، ابتداء بغزو نابليون لمصر، و انتهاء بغزو الانكليز للعراق خلال الحرب العالمية الأولى. و قد كان الاتجاه العام لهذه المواجهات هو التضحية في سبيل الاسلام المنتج للنجاح في التمحيص...

إلى ان حاولت المادية المعاصرة السيطرة على الإيديولوجية العامة للثورات في عالم

ص:623


1- (1) انظر ص 550 إلى ص 560.

اليوم.

السؤال الثالث: لما ذا وجدت الدولة البويهية؟!..

السؤال الرابع: لما ذا وجدت الدولة السلجوقية؟!..

السؤال الخامس: لما ذا وجدت الدولة الصفوية؟!..

و هي اسئلة تندرج في نطاق متشابه، من حيث سيطرة دولة (مذهبية) مسلمة على أقاليم من البلاد الاسلامية.

و إذا تجردنا عن الصفة المذهبية تماما، أمكننا عرض الاستهداف التخطيطي كما سنذكره بعد الاعتراف بأن الغرض (القريب) لكل منها، حب النفوذ و السيطرة أولا، و خدمة المذهب الاسلامي الذي يعتنقه حكام هذه الدول. و انزال الحيف أحيانا، بأفراد المذاهب الأخرى من المسلمين.

ان ارتباط هذه الدول بالتخطيط يشبه الأمور الثلاثة التي ذكرناها للاستعمار منظورا إليه من زاويتهم. و قد تصعد الأمور إلى أربعة:

الأمر الأول: الاختيار الذي كان يملكه حكام هذه الدول، في سيطرتهم الأولى و طريقة حكمهم، أسلوب معاملتهم لشعوبهم، مع وجود قناعات خاصة لدى كل منهم بأن يسلكوا على هذا الشكل دون سواه.

الأمر الثاني: كونها نتيجة للتمحيصات السابقة، حيث كان الحكّام مع ما يحملون من قناعات و ايديولوجيات أبناء مجتمعاتهم التي انتجتهم بما تحمل من نقاط قوة و ضعف، و بما تملك من ردود فعل تجاه ظروف التمحيص العامة.

الأمر الثالث: كون هذه الدول سببا لتمحيص الشعب المحكوم بها، حيث يجعل أفراده على المحك في الرضاء بالقرارات الصالحة التي تتخذها الدولة، و المنافرة مع القرارات الظالمة التي قد تتبناها.

الأمر الرابع: جعل الحكام أنفسهم على المحك، و تعميق تمحيصهم لوضوح أنه مع اتساع المسئولية للفرد يتسع التمحيص و يتعمق، بمعنى التوقعات في ردود الفعل تجاه المواقف و المشاكل المختلفة سوف تزداد، و تتركز أكثر بكثير من الفرد العادي، كما ان أثر الأفعال التي يقوم بها مثل هذا الفرد سوف يكون أعمق أثرا في المجتمع من الفعل الذي يصدر عن الفرد الاعتيادي.

فبمقدار ما يؤدي الحاكم المنفعة للناس، و بمقدار ما يتجاوب - روحا - مع التخطيط العام، يعتبر ناجحا في التمحيص، و بمقدار ما يخالف ذلك من السلوك

ص:624

يعتبر فاشلا فيه.

و كل هذه الامور من زاوية ارتباطها بالتمحيص، تكون مندرجة في الأسباب الموجدة للشرط الثالث من شرائط اليوم الموعود، و هو ايجاد الاخلاص و المخلصين.

لأننا عرفنا ان ارتباط التمحيص بكل مستوياته بالتخطيط الثالث ليس إلا من هذه الزاوية.

- 9 -

6 - التاريخ الحديث:

و نقصد به تاريخ أوروبا منذ نهضتها الصناعية إلى العصر الحاضر. نقتصر منه على بعض النماذج السياسية و الفكرية من خلال الأسئلة التالية:

السؤال الأول: لما ذا وجدت النهضة الأوروبية الحديثة؟!..

لهذه النهضة عدة جوانب، بعضها نقاط ضعف و أخرى نقاط قوة:

النقطة الأولى: جانب التقدم العلمي الذي كان و لا يزال يتقدم، و هذا ما سبق أن بحثنا جهته التخطيطية في الجانب الرابع من الفصل الخاص بالجانب الدنيوي في التخطيط الثالث.

النقطة الثانية: جانب التقدم الفلسفي و الرياضي و الفكري عموما. و هذا ما بحثناه في الجانب الثالث من ذلك الفصل.

النقطة الثالثة: جانب ما تحتويه أوروبا من مبادئ و حلول للمشاكل الاجتماعية، و أهمها الرأسمالية و الشيوعية. و هذا ما بحثناه في الجانب الأول من ذلك الفصل.

النقطة الرابعة: الجانب القانوني المتمثل بالقانون الروماني و الجرماني و غير هما. و قد بحثناه في الجانب الثاني منه.

و انما المهم الآن النظر إلى نقطتين جديدتين:

النقطة الأولى: الجانب التاريخي، بمعنى التساؤل عن المصلحة التخطيطية التي أوجبت هذا التسلسل التاريخي لأوروبا، هذا الذي نسبته الماركسية إلى المادية التاريخية.

النقطة الثانية: الجانب الأخلاقي، من حيث عدم التزام المجتمع بواضحات الأخلاق من النواحي الجنسية و المالية و الاجتماعية. فما هي المصلحة التخطيطية لهذا الانحراف، و ما هو مقدار تسبيبها للوصول إلى الهدف الأعلى.

ص:625

و سنبحث عن كل من هاتين النقطتين في جهة مستقلة.

الجهة الأولى: في المصلحة التخطيطية للجانب التاريخي لاوروبا، و مقدار و كيفية مشاركتها في الهدف الأعلى.

يتمثل ذلك في عدة أمور:

الأمر الأول: الاختيار الذي هو أحد أركان التخطيط، بالانضمام إلى الاهداف (القريبة) التي كان الناس في مختلف الأجيال يتوخونها من وراء تصرفاتهم الاختيارية. و هي في الغالب أهداف مصلحية متخذة من مجموع الفهم الذي يحمله الفرد عن بيئته و مجتمعه المتصف بحالة حضارية و ثقافية معينة:

إن الاقطاعي كان يتوخى في هدفه القريب مصلحته و يفهمها من زاوية توسيع ممتلكاته و الضغط على فلاحيه لزيادة الانتاج الذي يعود عليه بالربح. و مثل ذلك يفكر مالك الأرقاء. و أما الحرفي فهو يرى من مصلحته تحسين انتاجه و توسيع بيعه.

و كذلك يفكر مالك المصنع التعاوني (المانيفكتورة). و الرأسمالي يرى مصلحته في زيادة أعماله و أمواله، و عن طريق السيطرة على الآخرين و قهر الشعوب الضعيفة.

إن هذه الأفكار توجد في اذهان أصحابها نتيجة لمجموع الحالة الاجتماعية المدنية و الحضارية معا، و لا تختص بوسائل الانتاج. و بعد ان يحمل الفرد فكرته الخاصة عن هدفه (القريب) يطبق ما يملكه من (اختيار) على أعماله و نشاطه متوخيا تحقيق هدفه.

و ليس لوسائل الانتاج من أثر في غير حقل الانتاج نفسه.

الأمر الثاني: ان هذا التسلسل التاريخي للظروف التمحيصية السابقة عليه.

او بالأصح، ان كل حادث انما هو نتيجة للظروف السابقة التي تمثل سير التاريخ من ناحية و التمحيص العام من ناحية أخرى... تلك الظروف التي كانت و ما زالت تمثل لفشل في التمحيص.

الأمر الثالث: ان هذا التسلسل التاريخي سبب لتمحيص جديد، بالنسبة إلى كل واقعة، و ذلك من ناحيتين على الأقل:

الناحية الأولى: تمحيص الأفراد الأوروبيين أنفسهم، من حيث النظر إلى ردود أفعالهم تجاه الوقائع، و هل هي ردود فعل صالحة أو فاسدة.

ان فشل النظام الاقطاعي و فشل النظام الرأسمالي بعده، على مستوى الرأي العام العالمي، و اتجاه الاشتراكية إلى نفس النتيجة أيضا... يدل كل هذا بوضوح

ص:626

على أن ردود الفعل كانت مجافية للانسانية و للأسلوب الصالح الذي كان ينبغي أن تسير عليه.

الناحية الثانية: تمحيص الأفراد الآخرين في العالم من غير أوروبا، أولئك الذين ذاقوا نير الاستعمار و الاستغلال أزمنة طويلة. من حيث مجابهتهم للاستعمار و شجبهم لكل أشكاله، أو مواكبتهم له و اندماجهم في تياره المادي الجارف.

الجهة الثانية: في المصلحة التخطيطية للانحراف الأخلاقي في أوروبا، و مقدار و كيفية مشاركتها في الهدف الأعلى.

إن نفس الأمور السابقة تصدق تماما في هذا الصدد أيضا، من زاوية النظر إلى هذه الجهة بطبيعة الحال.

فالاختيار الذي يتصف به البشر، منظّما إلى الاستنتاجات و المفاهيم التي يقتبسها الأفراد من حالة مجتمعهم الثقافية و الحضارية و الاقتصادية، و غيرها. حيث يرى الفرد ان (الحرية) الجنسية و الاقتصادية حتى لو استلزم الاعتداء على الآخرين، و الحرية العقائدية، في أن يلتزم الفرد بالعقيدة التي يرغب بها مصلحيا لا العقيدة التي يقوم عليها الدليل الصحيح... يرى الفرد كل ذلك حريات مقدسة لا يمكن الحد منها.

و أما ان هذه الاتجاهات نتيجة لظروف تمحيصية سابقة، و منتجة لظروف تمحيصية جديدة، للأوروبيين أولا، و لغيرهم ثانيا، إن هذا أوضح من أن يذكر.

و هذا يعني بوضوح، مجافاة الوضع الاوروبي بكل صراحة، مع التخطيطين الثاني و الثالث على الخصوص و التخطيط العام على العموم. و قد عرفنا وقوع التمحيص في طريق تحقيق الشرط الثالث من شرائط اليوم الموعود. على أن نأخذ بنظر الاعتبار نقاط القوة للمدنية الاوروبية التي تفيد التخطيط العام كما سمعنا، من حيث لا تعلم أوروبا و لا تتوقع.

و بمعرفة هذه الكيفية (التخطيطية) للحضارة الاوروبية، يمكننا أن نجيب على عدد من الأسئلة حول حدوث كثير من الوقائع الرئيسية في أوروبا، كما سنرى في الأسئلة التالية:

السؤال الثاني: لما ذا حدثت الثورة الفرنسية عام 1789 م؟ تعتبر الثورة الفرنسية، ابتداء من الهجوم على الباستيل و انتهاء بجمهورية نابليون بونابرت و ما استطاع هو أن يحققه لفرنسا من إصلاحات... تعتبر جزءا من

ص:627

أهم أجزاء النهضة الاوروبية فكريا و اجتماعيا و اقتصاديا و صناعيا... فهي تحمل نفس نقاط القوة و الضعف لتلك النهضة، كما تحمل نفس المبررات التخطيطية التي تحملها تلك النهضة، و التي سبق أن ذكرناها مفصلا.

و لكنها - على أي حال - تحتوي على مزيتين تشاركان مشاركة إيجابية في التخطيط العام:

المزية الأولى: انها تحتوي لأول مرة في البشرية المعروفة(1) على الشعور الاجتماعي العام الواعي المنظم بالظلم و الحيف... و انه لا يزول إلا بالثورة الدموية، التي تجتث الظالمين من جذورهم، لكي يتسنى البدء بالبناء الاجتماعي من جديد.

و هذه الفكرة، بهذه الصياغة، أمر صحيح تماما. و قد طبقته الأنظمة المختلفة، كل من وجهة نظره، في المانيا النازية و إيطاليا الفاشية و روسيا الشيوعية، و غيرها من البلدان في خارج أوروبا كالجزائر و كوبا.

و ستكون هذه الفكرة، بعد فهمها من زاوية تخطيطية، مطبقة في أول تأسيس الدولة العالمية، تحت قيادة القائد المهدي عليه السلام.

المزية الثانية: ان الثورة الفرنسية حاولت لأول مرة - في أوروبا - ان تنظر إلى البشرية نظرة شاملة، فتقرن الثورة بإعلان حقوق الانسان و المواطن. فتعترف فيه للمظلومين ببعض الحقوق الرئيسية في نظرها، فيبدو بوضوح أن الثورة لا يمكن أن تكون ذات مضمون بدون نظام واع جديد، و بدون أن يكون هذا النظام ذا صيغة بشرية شاملة.

و لا أقصد بذلك الاعتراف بصحة ما ورد فيه، أو أن واضعيه قد نجحوا في إعطائه الصيغة العادلة... كيف و قد ناقشنا ذلك و أبرزنا زيفه بوضوح في كتابنا «نظرات إسلامية في إعلان حقوق الانسان».

و إنما المقصود فهم الفكرة العامة من عملهم، و ان الرأي العام العالمي سوف يرى ضرورة اقتران الثورة الناجحة بقانون واع جديد، لكي تكون ناجحة فكريا، كما تكون ناجحة عسكريا... الأمر الذي سيكون بنفسه مطبقا في الدولة العالمية.

ص:628


1- (1) كانت هذه الفكرة في صدر الاسلام مطبقة عمليا، و لكنها غير مفهومة للعموم لعدم استيعاب الذهنية العامة لها. و أما الثورة الانكليزية فقد كانت بيضاء غير دموية فهي لا تنطبق على هذه الفكرة تماما. و أما الثورة الأمريكية فقد كانت أقل تنظيما و أضعف في الايديولوجية الفكرية من الثورة الفرنسية.

السؤال الثالث: لما ذا حدثت الثورة الروسية الحمراء؟!..

تشابه هذه الثورة سابقتها الفرنسية من عدة جهات، على ما سنذكر، و هي في هذه الجهات لها نفس المبررات التخطيطية التي ذكرناها، و لكن نقاط القوة المشتركة تحفظ للثورة الفرنسية مزية السبق. و تختلف الثورة الروسية عنها في جهات أخرى على ما سنرى.

انها تحتوي على النقطة الأولى التي ذكرناها في السؤال الأول، و هي التقدم التكنيكي بلا شك... كما تحتوي على النقطة الثالثة و هي المبدأ الذي يحاول حل مشاكل العالم، متمثلا بالماركسية أو الشيوعية. و لكنها تفقد النقطة الثانية و هي التقدم الفلسفي و الرياضي، لأنها لا تعترف بفلسفة لا تندرج في نظريتها العامة. فالحديث عن فلسفتها حديث عن مبدئها نفسه. و أما الرياضيات فليس لها تقدم أكثر من دول أوروبا و أمريكا الرأسمالية.

كما انها تفقد النقطة الرابعة، و هي الجانب القانوني، لأن قوانينها جميعا تندرج في نظريتها العامة، و ليس لها استقلال - كقوانين أوروبا الرأسمالية - لتتخذ نقطة مستقلة. و بتعبير أوضح: ان قوانينها تعبر عن الاشتراكية العلمية نفسها التي تحاول بها حل مشاكل العالم. و ليست شيئا آخر.

و النقطة الخامسة، و هو تسلسل الحوادث التاريخية، فمبرره التخطيطي هو ما ذكرناه في النهضة الاوروبية نفسها، و ليس فيها زيادة مهمة. و كذلك النقطة السادسة و هي التخلف الاخلاقي، مع زيادة هي نكران مفهوم الأخلاق أساسا إلا من زاوية طبقية و اقتصادية، كما عرفنا.

و أما المزيتان اللتان تتصف بهما الثورة الفرنسية، فهما مطبقتان فعلا في الثورة الروسية من وجهة نظرها، إلا أنها تعتبر لها مزية، لأن المزية هناك كانت هي إيجاد تلك المفاهيم و الأفكار لأول مرة على الصعيد الاوروبي... بينما كانت هذه الأفكار موجودة قبل الثورة الروسية.

السؤال الرابع: لما ذا وجد الفكر الماركسي... من زاوية تخطيطية؟!...

هذا ما أجبنا عليه أكثر من مرة، حيث أشرنا إليه مختصرا في تاريخ الغيبة الكبرى. و فصّلناه في أول هذا الكتاب عند البحث عن (مناشئ الفكر الماركسي) في المنشأ أو الأطروحة الثالثة منها. و أعطينا عنه فكرة عند البحث عن الجانب الدنيوي في التخطيط الثالث. فلا حاجة إلى التكرار.

ص:629

السؤال الخامس: إلى متى تبقى الحضارة المادية في العالم؟!..

برهنا خلال الحديث عن التخطيط الثالث ان هذه الحضارة بما جرت من ويلات على العالم، بما فيها الحربين العالميتين، و التهديد بحرب ثالثة أدهى و أمّر... ليست صفة أبدية أو صفة سرمدية. و إنما وجدت، و كان وجودها ضروريا في التخطيط العام لأجل أن تؤدي دورها التمحيصي و غيره الذي عرفناه فيه. و سيكون زوالها ضروريا أيضا حين تستنفد أغراضها التخطيطية. و يتمخض التمحيص عن وجود الشرط الثالث لليوم الموعود. فيكون موعد قيام الدولة العالمية ناجزا، و بقيامها تزول هذه الحضارة بالضرورة.

و قد تزول قبل ذلك نتيجة لحرب حرارية طاحنة، تكون - في الواقع - إحدى الأطروحات لتذليل مصاعب اليوم الموعود و إنجاح التخطيطين الثالث و الرابع معا، كما سمعنا مفصلا.

- 10 -

7 - العلوم الطبيعية:

و هي المنتجة للتطور الصناعي الهائل في أوروبا، بعد عصر النهضة و إلى العصر الحاضر... كالفيزياء و الكيمياء و الفلك و الطب و غيرها. و قد عرفنا في (الجانب الدنيوي للتخطيط الثالث) جملة من الأفكار عن ارتباطها بالتخطيط، مما يسهل علينا الجواب على الأسئلة التالية كثيرا:

السؤال الأول: ما هو منطلق هذه العلوم من زاوية التخطيط العام؟!...

إن منطلقها - بكل بساطة - هو منطلق التخطيط نفسه. ان التخطيط (البشري) العام ينطلق من زاوية (دعمه للتخطيط (الكوني) العام و مشاركته في البناء الكوني، و لولاه لم يبق له وجود واضح، كما سبق أن عرفنا. فكذلك تنطلق هذه العلوم من حيث كونها معبرة عن أساليب التدبير و الضبط الذي سار عليه التخطيط في اتجاه أهدافه.

و هي - بالطبع - تكشف عن تلك الأساليب بمقدار ما توصل إليه الفكر البشري من ذلك، و هي دائما في طريق التطور... و تبقى تلك الأساليب أعمق من كل تلك العلوم بمقدار الفرق بين الحكمة الموجودة في الكون... في تخطيطه و أهدافه...

و بين الفكر البشري القاصر، الذي يحبو - بالتدريج البطيء - نحو الكمال.

السؤال الثاني: ما هي وظيفة هذه العلوم الطبيعية، من زاوية تخطيطية؟!.

ص:630

تتكفل هذه العلوم عدة أغراض في المجتمع الانساني:

الغرض الأول: المشاركة في تسهيل الحياة الفردية و الاجتماعية، و بناء مستوى عال من الرفاه. كالاسراع بشفاء المرض و اختصار وقت السفر، و التقليل من العمل العائلي، و تسهيل و توسيع الانتاج الصناعي و الزراعي.

الغرض الثاني: المشاركة في الكشف عن أسرع الطرق و أوسعها في القتل الفردي و الجماعي، حين تعن الحاجة إلى الحروب.

و هذان الغرضان (القريبان) هما اللذان توختهما أوروبا حين فكرت بتعميق هذه العلوم. و كان للغرض الثاني أعمق الأثر في بذل الدولة الأموال الطائلة في هذا الطريق.

و كلا هذين الغرضين سوف يصبحان (تخطيطين) حين نعرف امكان الاستفادة منهما على نطاق تخطيطي في الدولة العالمية، ابتداء من الحرب لأجل تأسيسها و انتهاء بالرفاه العظيم الذي يسودها.

الغرض الثالث: المشاركة في بناء (الشرط الثالث) لليوم الموعود، من زاوية بناء جماعة من المخلصين الكاملين المشاركين في قيادة تلك الدولة، على مستوى الاختصاص في مختلف ميادين العلوم.

الغرض الرابع: الكشف عن منطلقها الأساسي الذي تحدثنا عنه في جواب السؤال الأول... من حيث كونها تعرض للبشرية صورة واضحة - مهما كانت صغيرة - عن التدبير الكوني. و هكذا ينبغي ان تعرض في مصادرها الخاصة، لا بالشكل المادي أو (العلماني) الذي التزمته أوروبا على طول الخط. و هذا الكشف عن المنطلق الأساسي هو الأسلوب الذي سوف يكون مطبقا في الدولة العالمية، عند بناء الأفراد الاختصاصيين المتجاوبين مع التخطيط.

السؤال الثالث: ما الغرض من تعمق هذه العلوم؟!..

يمثّل تعمق هذه العلوم مراتب عليا من الفهم البشري العميق للقوانين التي تعبر عنها هذه العلوم. فكل الأغراض التي عرفناها لوجودها موجودة بشكل أعمق عند تعمق هذه العلوم.

و من هنا يصدق القول: بأن الغرض من تعمقها هو الوصول إلى تعمق تلك الأغراض لأجل البناء التخطيطي نفسه. لا أقل من ان نتصور ان الغرض الأول و هو تسهيل الحياة، لا يكفي فيه المستوى الموجود فعلا من التعمق في هذه العلوم، بل

ص:631

يحتاج المجتمع العالمي إلى مستوى علمي عميق و واسع إلى أقصى حد، لينال الرفاه المعمق إلى أقصى حد. تماما كما قالته الماركسية في طورها الأعلى، و قد وجد الآن بشكل مركز في التخطيط العام.

السؤال الرابع: هل ينقطع تطور هذه العلوم؟!..

إن الاتجاه المادي الذي تسير به هذه العلوم فعلا، في البلدان الشيوعية و الرأسمالية، على السواء يسير بها نحو الفناء لا محالة. من زاوية ان الغرض الثاني الذي قلناه سوف يسبب إلى فناء الحضارة و المدنية الحديثة في حرب حرارية مستعرة الأوار. في لحظة من أشد اللحظات شؤما على هذه الحضارة.

إلا ان التخطيط العام لا يمكن أن يكون متجها نحو ذلك، لعدة أسباب:

أولا: لأن الحرب العالمية ليست مؤكدة الوقوع تماما. و من الواضح انها لو لم تقع، تبقى هذه المدنية على حالها إلى عصر تأسيس الدولة العالمية.

ثانيا: لأن هذه الحرب لو وجدت فانها لا تقضي على كل معالم الحضارة العالمية، بحيث يعود الناس إلى الشكل البدائي للحياة، و تكون الحرب الرابعة بالعصى و الحجارة، كما يتصور البعض... كلا، لأنها لن تدوم طويلا، و إنما تقضي و بسرعة، على المراكز العسكرية المهمة في العالم و على مصانع الأسلحة بشكل عام و على عواصم الدول الكبرى و بعض مدنها المهمة بما فيها العواصم. و بذلك تسبب فشل الأطراف المتحاربة كلها، و انهيارها عسكريا و اقتصاديا. و لا حاجة إلى افتراض نتائج أوسع من ذلك.

... نعم، توجد قنابل لا فناء البشرية في لحظة، إلا انها لن تستعمل بطبيعة الحال، لأن الدولة (الضاربة) - أيا كانت - لا تريد القضاء على نفسها بطبيعة الحال، و إنما تضرب من الأسلحة النووية، بمقدار ما تقضي به على خصمها فقط.

و هذا المقدار من تضارب القنابل لا يستلزم أكثر من النتائج التي أشرنا إليها.

و معه ففي الامكان بقاء المدنية (العلمية) في البشر، الأمر الذي يجعل الدولة العالمية وارثة له.

ثالثا: اننا بعد أن عرفنا ان التخطيط متجه بالضرورة إلى الدولة العالمية، و نعرف وجدانا توقف الرفاه الكامل المطلوب فيها، على مستوى محترم و متكامل من التقدم التكنيكي، إذن فلا بد ان نفترض ضرورة انخفاض هذا المستوى المطلوب في البشرية السابقة على تلك الدولة، لتكون تلك الدولة هي الوارث الشرعي له. و هي

ص:632

في عين الوقت سوف تسير به قدما إلى الأمام.

و يتم حفظ هذا المستوى بشكلين: إما بافتراض عدم قضاء الحرب عليه، و اما - ان قضت الحرب عليه - رجوعه إلى البشرية قبل تأسيس الدولة العالمية. و حيث برهنا على ضرورة وجود هذا المستوى عند تأسيسها، إذن فلا بد ان يكون مخططا له ضمن التخطيط الثالث، و موجودا بالضرورة...

السؤال الخامس: ما هي كيفية الانتفاع بهذه العلوم في الدولة العالمية و ما بعدها.

يكفينا في الجواب على ذلك، ما عرفناه من معالم هذه الدولة إلى الآن، و ما ذكرناه من مستوى الرفاه الاقتصادي في «تاريخ ما بعد الظهور». ذلك المستوى الذي تشارك فيه هذه العلوم و أجهزتها و معاملها العلمية أكبر مشاركة. و أما ما يزيد على ذلك من التفاصيل فلا حاجة إليه، و ينبغي ان يبقى موكولا إلى عصره.

- 11 -

8 - تاريخ ما قبل الاسلام:

و هذا ما سبق ان عرفناه مفصلا من خلال حديثنا السابق، و خاصة التخطيط الثاني، فنقتصر هنا على مجرد الاشارة إلى الجواب:

السؤال الأول: لما ذا وجدت البشرية؟!...

وجدت البشرية لأجل المشاركة في البناء الكوني ضمن تخطيطه العام. تلك المشاركة التي هي العبادة الحقيقية الكاملة التي أشارت إليها الآية الكريمة: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ .

السؤال الثاني: لما ذا وجد خط الأنبياء و المرسلين؟!..

لأجل إيجاد الشرط الأول لليوم الموعود، و هو تربية الفكر البشري بحيث يكون قابلا لاستيعاب الأطروحة العادلة الكاملة التي ستكون مطبّقة في الدولة العالمية.

السؤال الثالث: لما ذا وجدت الشريعة الموسوية بعينها، أو الشريعة العيسوية؟!..

وجد كل منها لأجل المشاركة في إيجاد هذا المستوى المشار إليه، كمرحلة من مراحله.

السؤال الرابع: لما ذا حصلت عبادة الأصنام و الكواكب و غيرها من العقائد المنافرة مع التخطيط العام؟!..

ص:633

حصل ذلك نتيجة للتمحيص كرد فعل للتربية البشرية التدريجية المساوقة مع التخطيط، حيث كانت ردود الفعل لأغلب البشرية غير صالحة، مما أنتج الانحراف العقائدي و السلوكي لدى أغلب البشر، و على أشكال و اتجاهات مختلفة، كل بحسب ما يبدو له نتيجة لفهمه لمصلحته و مجتمعه و الأساطير و العادات الشائعة فيه مسبقا.

السؤال الخامس: لما ذا تطور التاريخ في تلك العصور، ذلك التطور المعروف، بما في ذلك وجود الدولة الفرعونية في مصر و الآشورية في العراق و الرومانية في أوروبا و غيرها... الأمر الذي نسبته الماركسية إلى تطور وسائل الانتاج، إلى عصري الرق و الاقطاع.

ينطلق الجواب على ذلك من نفس الأسباب الاستهدافية التي ذكرناها في النقطة السادسة من (التاريخ الحديث)، بعد إعطائها الصيغ المناسبة مع عصر سؤالنا هذا. و نلخصها فيما يلي:

الأمر الأول: الاختيار الذي هو أحد أركان التخطيط، بالانضمام إلى الأهداف (القريبة) التي يسعى إليها الأفراد و المصالح التي يدركونها.

الأمر الثاني: ان كل تطور تاريخي هو نتيجة لظروف تمحيصية سابقة عليه.

الأمر الثالث: ان كل تطور هو محك لتمحيص عام للأفراد من حيث ردود فعلهم و هل هي مساوقة مع التخطيط أو منافرة معه.

الأمر الرابع: تمحيص الحكام و من إليهم، من حيث ان زيادة مسئولياتهم تستلزم عمق التمحيص لهم و زيادة و سرعة الفشل ان نافروا التخطيط العام و أهدافه.

- 12 -

9 - الدولة العالمية:

نختار عنها الأسئلة التالية، كنموذج... بعد أن عرفنا أجوبتها جميعا.

السؤال الأول: كيف تتأسس هذه الدولة؟!..

تتأسس الدولة العالمية بجهود القائد المهدي عليه السلام، و أصحابه المخلصين الممحصين، و قد عرفنا في تاريخ الغيبة الكبرى و ما بعده مدى عمق التخطيط الثالث في إيجاد القيادة العالمية و الجيش الكافي المدرع بالاخلاص العظيم، الذي يكون له شرف المشاركة في إيجاد العدل المطلق في ربوع البشرية.

ص:634

السؤال الثاني: لما تتأسس هذه الدولة؟!..

تتأسس باعتبارها نتيجة للتخطيطات السابقة عليها، و بصفتها من المقدمات الأساسية لوجود الهدف البشري الأعلى و هو المجتمع المعصوم، كما سبق ان برهنا.

السؤال الثالث: ما هو نظام تلك الدولة العالمية؟!...

يتكون نظامها من الأطروحة العادلة الكاملة، معروضة بالشكل المساوق مع الوعي الموجود بعد تأسيسها، و الأحكام التي يضيفها القائد المهدي إليها، بالشكل الذي تكون مربية للبشرية باتجاه هدفها المنشود.

السؤال الرابع: ما الذي تستهدفه هذه الدولة؟!..

تستهدف تطبيق الأطروحة العادلة الكاملة، عاجلا، و الوصول إلى الهدف البشري الأعلى، و هو وجود المجتمع المعصوم، آجلا.

السؤال الخامس: متى تنتهي البشرية؟!..

تنتهي البشرية عند استنفاد أغراضها، أو تحقق أهدافها - بتعبير أصح - و ذلك ببلوغ المستوى البشري إلى الحد الذي يكون له مشاركات فعلية كبيرة في التخطيط الكوني.

- 13 -

10 - الفكرة المهدوية:

نختار فيها الأسئلة التالية كنموذج، و نجيب عليها مختصرا بعد أن عرفنا أجوبتها المفصلة.

السؤال الأول: كيف وجدت الفكرة المهدوية في الذهن البشري؟!..

سبق أن برهنا بكل وضوح نشوءها عن طريق تبليغات الأنبياء و خاصة نبي الاسلام (ص) الذي أعطى هذه الفكرة أصالتها و عمقها الكامل. و برهنا على عدم إمكان نشوئها من الشعور بالظلم بمجرده.

السؤال الثاني: لما ذا اختلف الناس في تعيين المهدي المنقذ؟!..

أعطينا لذلك التبرير الكامل، من زاوية أن كل دين سماوي - بعد العصور الأولى - يحتوي على التبشير بالفكرة المهدوية، بالمقدار المناسب مع المستوى الذهني البشري في عصره، فيتخيل الناس أن ذلك النبي هو الذي سيكون (المنقذ) و أن شريعته هي التي ستسود العالم. مضافا إلى الانحرافات التي منيت بها هذه الفكرة خلال العصور، كأي فكرة أخرى تعيش الحياة العقلية غير المعمقة، دينية كانت أو

ص:635

غير دينية.

السؤال الثالث: من هو المهدي المنقذ باعتقاد المسلمين؟!..

هو من عترة النبي (ص) و ذريته و من ولد فاطمة ابنته عليها السلام، من ولده الحسين عليه السلام. هو سمّي رسول اللّه (ص)، يملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا. و هذا كله متفق عليه بين المسلمين، و متواتر عن نبيهم صلى اللّه عليه و آله.

و يرى المذهب الامامي الاثنا عشري، أن المهدي هو ثاني عشر الأئمة المعصومين عليهم السلام، و هو من ضروريات مذهبهم و عليه تواتر الروايات أيضا، كما سنذكره مفصلا في الجزء المخصص له من الموسوعة.

كان منذ ولادته مختفيا، و كان له سفراء أربعة بعد وفاة أبيه (ع) إلى نهاية غيبته الصغرى. و بانتهائها بدأت الغيبة الكبرى، حيث لا ظهور إلا بإذن اللّه عز و جل.

ثم يظهر فيملأ الأرض قسطا و عدلا بتطبيق الأطروحة العادلة الكاملة في دولته العالمية.

السؤال الرابع: لما ذا وجدت الغيبة الصغرى؟!..

عرفنا في (تاريخها) و أشرنا في هذا الكتاب إلى أنها وجدت للتمهيد الذهني لوجود الغيبة الكبرى، لأن الغيبة الكبرى لو وجدت رأسا، لا ندرس اسم المهدي (ع) بالمرة، و بذلك تنقطع حجة اللّه على عباده، و لا يكون التمحيص الساري المفعول في التخطيط الثالث منتجا للشرط الثالث من شرائط اليوم الموعود.

السؤال الخامس: لما ذا وجدت الغيبة الكبرى؟!..

برهنا في تاريخ الغيبة الكبرى بتفصيل على أثر هذه الغيبة في عدة أمور مقترنة، تكون ضرورية لليوم الموعود، أي لتأسيس الدولة العالمية.

أولا: تعميق القيادة المهدوية العالمية من التكامل الذي سميناه بتكامل ما بعد العصمة.

ثانيا: تعميق الفكر الاسلامي بشكل يساعد على استيعاب العمق الضروري في الوعي و القانون و الأخلاق، لأجل سيادة العدل الكامل في ربوع البشرية كلها.

ثالثا: إيجاد العدد الكافي من المخلصين الممحصين لغزو العالم بالعدل.

رابعا: اليأس العالمي من الأطروحات التي تدعي حل مشاكل البشرية و تذليل مصاعبها. و ذلك خلال التجارب و التمحيص الذي تمر به هذه الأطروحات

ص:636

و المبادئ من خلال تطبيقها الطويل.

و بهذا انتهت العناوين العشرة و الأسئلة الخمسين، التي استطعنا تغطيتها بالجواب انطلاقا من التخطيط العام، كنماذج من أي سؤال يخطر في الذهن البشري.

و هذا يعني استيعاب هذا البديل الصالح للمادية التاريخية لكل الشؤون البشرية بشكل لم تستطع المادية التاريخية تغطيتها إلا بعد مجموعة من المبررات و الاعتذارات و الاستثناءات. حتى لم يبق لها و لا تطبيق واحد منطبق على كل شرائطها التي أرادتها.

هذه نهاية الكلام في تطبيقات التخطيط العام من المرحلة الثالثة من القسم الثالث من هذا الكتاب.

مناقشات حول التخطيط العام

اشارة

هناك بعض المناقشات التي قد تورد على التخطيط (البشري) العام ككل؛ منها ما هو منطلق من زاوية قرآنية، و منها ما هو منطلق من زوايا أخرى.

نود أن نوردها مع محاولة الجواب عليها، لتكون نظرية التخطيط العام متكاملة تماما قبل الانتهاء من هذا الكتاب. و ستكون هذه المناقشات هي مسك الختام.

و لهذه المناقشات عدة أسس. فبعضها ذو أساس قرآني، و بعضها ذو أساس من السنة الشريفة، و بعضها ذو أساس من الاتجاهات الحديثة للتفكير. و نحن نبدأ بهذه الأسس تباعا:

ص:637

الأساس الأول الأساس القرآني

و يحتوي هذا الأساس على مناقشتين واردتين ضد فكرة التخطيط العام:

المناقشة الأولى: ما دل من القرآن على الانحراف إلى يوم القيامة. و معنى ذلك أن الهدف الذي ذكرناه للتخطيط العام - و هو وجود المجتمع المعصوم - غير صحيح.

و لا يمكن تحققه مع بقاء الانحراف في العالم.

... هناك آيتان في سورة المائدة تدلاّن على بقاء اليهود و النصارى إلى يوم القيامة.

الأولى: قوله تعالى:

وَ مِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، وَ سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (1).

الثانية: قوله تعالى:

وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ، وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً. وَ أَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ. كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ. وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً، وَ اللّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (2).

و يمكن بيان بقاء الانحراف إلى يوم القيامة، من أحد منطلقات ثلاثة:

المنطلق الأول: المنطلق الاسلامي الذي يقول: بأن اليهود و النصارى معا على غير الحق، فهم كفار و منحرفون. فيكون بقاؤهم إلى يوم القيامة دالا على بقاء المنحرفين إلى ذلك الحين.

ص:638


1- (1) المائدة: / 14.
2- (2) المائدة: / 64.

المنطلق الثاني: - بعد الغض عن المنطلق الأول - أن الدين الحق واحد على وجه الأرض واحد على أي حال؛ و معه لا يمكن أن يكون مجموع اليهود و النصارى على حق. بل أما أحدهما على باطل أو كلاهما. فبقاؤهما معا إلى يوم القيامة - كما هو مقتضى الجمع بين دلالتي الآيتين - يقتضي الالتزام ببقاء دين غير محق إلى يوم القيامة.

المنطلق الثالث: بعد الغض عن المنطلقين الأولين، بمعنى احتمال أن يكون كلا هذين الدينين على حق - جدلا -. لكن القرآن يتحدث عن أناس أشرار مع أتباع هذين الدينين، و إن لم يمثلوا مجموع المتدينين منهم... و يقول - بظاهره -: ان هؤلاء الأشرار باقون إلى يوم القيامة.

و على كل تقدير، لا يمكن أن يتحقق المجتمع المعصوم، مع بقاء الانحراف.

فإذا كان هذا المجتمع غير قابل للتحقيق، بقي التخطيط العام بلا هدف، فيكون لاغيا و الالتزام به باطلا.

و يتركز هذا الاشكال مع الالتفات إلى العداوة و البغضاء التي تكون مستعرة بينهم، فانها تكون منافية للمجتمع المعصوم الذي تسوده الأخوة و الاطمئنان.

إلا ان هذه المناقشة لا تصح لعدة وجوه:

الوجه الأول: إن النتيجة المشار إليها في الآية، و هي وجود البغضاء و العداوة إلى يوم القيامة، منوط في القرآن بقضايا معينة... و لا يمكن أن تدوم هذه النتيجة بعد زاول هذه القضايا.

فبالنسبة إلى النصارى أنيطت النتيجة لهم بكونهم قد نسوا حظا مما ذكّروا به.

و بالنسبة إلى اليهود أنيطت النتيجة بكونهم معتقدين بأن يد اللّه سبحان مغلولة، غلّت أيديهم و لعنوا بما قالوا.

فلو حدثت الظروف الملائمة التي رفعت هذه القضايا، فجعلت النصارى يتذكرون ما ذكّروا به و على استعداد لتطبيقه في عالم الحياة... و جعلت اليهود يرفعون أبديهم عن الاعتقاد بالقضايا الباطلة و العقائد المنحرفة. إذن ترتفع تلك النتيجة بالضرورة. و معه لا يبقي دلالة في الآيتين على بقائهم إلى يوم القيامة.

فإن قال قائل: ان ظاهر الآيتين، كون تلك النتيجة عقوبة لليهود و النصارى و معه ففي الامكان بقاؤهما إلى ما بعد زوال الذنوب.

أقول: هذا صحيح بالنسبة إلى جيل واحد، من حيث ان أفراده المذنبين يعاقبون إلى آخر حياتهم. و أما بقاء العقوبة إلى الأجيال الأخرى غير المذنبة... فهذا

ص:639

خلاف العدل الالهي. و قد قال اللّه تعالى في القرآن: و لا زر وازرة و زر أخرى أي لا تتحمل نفس جريرة نفس أخري، فكيف بجيل كامل أو عدة أجيال تكون متأخرة عن الأجيال المذنبة، تكون خالية عن الذنب، فكيف تتحمل العقوبة؟...

إذن - فبالضرورة - تكون هذه العقوبة، منوطة بالأجيال المذنبة نفسها و لا يمكن أن تتعداها، فإذا وجدت أجيال خالية عن الذنوب، كانت هذه النتيجة مرتفعة عنها حتما.

فإذا استطاع التخطيط العام - و هو فاعل ذلك جزما - أن يوجد الظروف الملائمة لارتفاع تلك القضايا المنحرفة، كان ذلك سببا لارتفاع تلك النتيجة لا محالة.

فإن قال القائل: فإن الآية ظاهرة ببقاء الأجيال المذنبة إلى يوم القيامة، فتكون النتيجة مساوقة معها باستمرار.

قلنا: هذه مكابرة في الاستدلال، فإن الآية دالة على بقاء النتيجة لا على بقاء الذنب، كما هو واضح لمن قرأها، نعم، هي دالة - بمقدار ما - على أن الذنب الموقت كاف لبقاء العقوبة إلى يوم القيامة. إلا ان هذا الظهور بالخصوص لا بد من رفع اليد عنه. للعلم بكونه على خلاف العدل الالهي، و منافاته لنص تلك الآية التي ذكرناها، و القرآن يكون بعضه مفسرا لبعض و دليلا على تحديد المراد منه.

الوجه الثاني: - لجواب المناقشة -: إن كل وصف منوط - لا محالة - بوجود الموصوف، و لا معنى لبقاء الوصف بعد ارتفاع الموصوف، فمثلا لا معنى لبقاء دماثة خلق هذا الفرد أو شراهته للطعام أو شبابه أو غير ذلك، إلى ما بعد موته. كما لا معنى لبقاء رائحة الورد بعد موته، أو نتن الجيفة بعد جفافها... و هكذا...

فكذلك الحال بالنسبة إلى اليهود و النصارى، فإن العدوة و البغضاء، بصفتها وصفا لهم من الزاوية الاجتماعية، منوطة ببقائهم لا محالة. فإذا تحوّل الجميع عن أديانهم و اتبعوا (الأطروحة العادلة الكاملة) و اندكوا في تعاليم الدولة العالمية... لم يبق اليهود يهودا و لا النصارى نصارى، بل سوف توجد أجيال جديدة متبعة للحق وحده. و معه لا معنى لبقاء صفتهم... فإن الآيات واضحة في كونها صفات لهم بما هم يهود و نصارى، لا لأجيالهم كيف كان حالهم.

الوجه الثالث: اننا لو تنزلنا عن الوجهين السابقين، و فرضنا - جدلا - بقاء اليهود و النصارى مع عداواتهم إلى يوم القيامة... إلا أن هذا لا ينافي وجود المجتمع

ص:640

المعصوم الذي برهنا على وجوده. و ذلك انطلاقا من أحد مستويين.

المستوى الأول: لنتذكر ما قلناه من (الصبغة العامة) للمجتمع. فلئن فرضنا - جدلا - أن التربية المركزة و المستمرة في الدولة العالمية عاجزة عن صهر كل الأفراد في العالم في بوتقة الحق و العدل. فلا أقل من إنجازها ذلك بالنسبة إلى غالب الناس بحيث يبقى أفراد أو مجتمعات قليلة غير ملفتة للنظر، تحتوي على الفكر و الانحراف و العداوات.

و مع افتراض دلالة هاتين الآيتين على بقاء اليهود و النصارى إلى يوم القيامة، بعد التنزل عن الوجهين السابقين... لا بد من الالتزام ببقائهم على نطاق ضيق جدا، لا ينافي وجود الصبغة العامة في البشر إلى جانب الحق و العدل... و بالتالي إلى جانب الاتصاف بالعصمة.

المستوى الثاني: انه يمكن أن نطرح (أطروحة) محتملة موافقة لبعض ظواهر الكتاب و السنة، و إن كانت مخالفة لظواهر أخرى على ما سنرى.

و مضمونها: عدم المنافاة بين وجود اليهود و النصارى بالخصوص(1) و بين وجود المجتمع المعصوم، بمعنى أنهم يكونون معصومين مع التزامهم بأديانهم أنفسها كما أن المسلمين سيصبحون معصومين بصفتهم مسلمين.

و يدل على ذلك من القرآن الكريم قوله تعالى:

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْ ءٍ حَتّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ، وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ... (2).

و قوله تعالى:

إِنّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ الرَّبّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ ... وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ... وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فِيهِ. وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (3).

و قوله تعالى:

وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ، لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ، وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (4).

ص:641


1- (1) أعني أن هذه الأطروحة تخصهم، و لا تشمل سواهم.
2- (2) المائدة: / 68.
3- (3) المائدة: / 44 و 47.
4- (4) المائدة: / 66.

إذن، فأحكام التوراة و الانجيل المنزلة من قبل اللّه تعالى، تتصف بما تتصف به الأطروحة العادلة الكاملة، من صفة العدل، و صفة عدم جواز التخلف عن تطبيقها إلى الآن، و اعتبار ذلك كفرا و فسقا... و صفة أنها منتجة للرفاه الاجتماعي العام لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ (1).

و قد نشأ ضلال اليهود و النصارى، لا باعتبار اتصافهم بهذين الاسمين أو من اتّباعهم للنبيين موسى و عيسى عليهما السلام. و إنما نشأ ضلالهم من أمرين مقترنين:

الأمر الأول: عدم إيمانهم بصدق نبي الاسلام (ص) الأمر الذي أقام عليه القرآن كل حجة واضحة...

وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً (2).

الأمر الثاني: عدم تطبيقهم لأحكام أديانهم الواقعية، و إنما حرّفوها و عصوها.

يا أَهْلَ الْكِتابِ، لَسْتُمْ عَلى شَيْ ءٍ حَتّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ (3).

فهم - بحسب منطوق الأطروحة - مكلفون بالايمان بصدق رسول الاسلام (ص) عقائديا إلى جنب صدق أنبيائهم. و أما من الناحية السلوكية أو القانونية، فهم يمكنهم أن يطبقوا أحكام أنبيائهم، و المراد بها الأحكام الواقعية المنزلة عليهم من ربهم، لا الأحكام المحرفة المعترف بها لديهم عادة و من طبق هذين الأمرين فهو على حق، قال اللّه تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصّابِئُونَ وَ النَّصارى، مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً، فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (4).

و بدون ذلك، فانهم من أشد الناس فسادا...

سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ (5).... كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ. تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَ فِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (6).

و عندئذ يكون حراما على المسلمين مصادقتهم و موالاتهم:

ص:642


1- (1) نفس السورة و الآية.
2- (2) المائدة: / 68.
3- (3) نفس السورة و الآية.
4- (4) المائدة: / 96.
5- (5) المائدة: / 41.
6- (6) المائدة: / 80.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ. وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ. إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ (1).

و لكن مما يؤسف له ان كل اليهود و النصارى في عالم اليوم، هم من القسم المنحرف، لما عرفناه تفصيلا من عوامل التحريف في دينهم و كتبهم، إلى حد لم يبق منها شيء يذكر.

و السر في هذه (الأطروحة) المستفادة من هذه الآيات، هو وحدة الدعوة الدينية الالهية في خط الأنبياء. فاتباع كل من هؤلاء الأنبياء الصالحين و تطبيق تعاليمهم يكون مجزيا منتجا للعدل و موجبا لرضاء الله و نيل الثواب.

إلا ان هذا حكم خاص باليهود و النصارى و الصابئة باعتبار أهمية أديانهم في خط الأنبياء... حيث يكون لهم تطبيق احكامهم أو أحكام الاسلام. كما ان الحاكم الاسلامي النبي (ص) أو غيره، مخير في ان يطبّق عليهم أحكامهم أو أحكام الاسلام، كما يفتي به الفقهاء عادة، مستفادا من قوله تعالى:

فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ (2).

و أما غير هؤلاء، فيتعين عليهم اتباع أحكام الاسلام، بما فيهم المشركين و الملحدين و الثنوية و غيرهم.

و الفهم الكلاسيكي للآيات السابقة التي تأمر باقامة التوراة و الانجيل:

تطبيقها من زاوية تبشيرها بنبوة نبي الاسلام (ص)، فيكون ذلك مستبطنا أمرهم بالدخول في الاسلام، من دون ان يكون لهم أي خيار.

و في هذا - بلا شك - تضييق للمفهوم الذي يستفاد من القرآن، فان معنى إقامة التوراة و الانجيل إقامتها بكل تفاصيلها. و خاصة مع قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ مطبقا على حكم التوراة. و قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ مطبقا على حكم الانجيل.

إلا اننا قد نضطر إلى هذا التضييق الكلاسيكي إذا لم تتم الاطروحة التي عرضناها و كانت الأدلة ضدها صحيحة و ناجزة. إذ ينحصر معنى إقامة التوراة و الانجيل حينئذ، بالأخذ بتبشيرها بالاسلام بالخصوص.

و قد انعكست هذه الاطروحة المستفادة من القرآن الكريم على السنة الشريفة

ص:643


1- (1) المائدة/ 51.
2- (2) المائدة: / 42.

كقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - فيما روي عنه -:

«لو ثنيت إلي الوسادة، لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم و بين أهل الانجيل بانجيلهم و بين أهل الزبور بزبورهم و بين أهل الفرقان بفرقانهم»(1).

و الحكم بهذه الاحكام يعني تطبيق هذه الاطروحة بكل وضوح.

و كذلك ما دل على ان المهدي (ع) سوف يطبّق في دولته هذه الاطروحة نفسها، كالحديث الذي أخرجه النعماني في «الغيبة»(2) عن الامام الباقر عليه السلام، يقوله فيه عن المهدي (ع): «و يستخرج التوراة و سائر كتب الله عز و جل من غار انطاكية، و يحكم بين أهل التوراة بالتوراة و بين أهل الانجيل بالانجيل و بين أهل الزبور بالزبور، و بين أهل القرآن بالقرآن...» الحديث.

و لا ينافي ذلك ما أخرجه البخاري(3) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (ص): و الذي نفسي بيده، ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، فيكسر الصليب و يقتل الخنزير».

فان استعمال الصليب و أكل لحم الخنزير، ليست من المسيحية الأصلية، و إنما هي من الأمور المنحرفة المحدثة في الأزمنة اللاحقة لها... و سوف تزول بارجاعهم إلى واقع دينهم كما نزل به نبيهم. و لعل الفائدة الرئيسية لنزول عيسى بن مريم عليه السلام في تلك الدولة العالمية هو أرجاعهم إلى احكامهم الواقعية، مع التركيز على صدق نبي الاسلام أيضا، فيجتمع كلا الأمرين اللذين ذكرناهما للمسيحيين في الدولة العالمية. و لا بد انهما يجتمعان - بشكل و آخر - لليهود و الصابئة أيضا. لكي يعيش هؤلاء على طبقهما، و تستمر تربيتهم على أساسها.

أ فإن قال قائل: إن قوله تعالى:

وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ. فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ (4).

دال على حذف حكم الشريعتين الموسوية و العيسوية تماما، و كل شريعة أخرى، و اختصاص الحكم بالاسلام.

ص:644


1- (1) انظر: ارشاد القلوب للديلمي ص 6 ج 2 ط بيروت.
2- (2) انظر ص 124.
3- (3) انظر ج 4 ص 205.
4- (4) المائدة: / 48.

قلنا: تدل هذه الآية على هيمنة الاسلام على تينك الشريعتين. و هذا صحيح. و يكفي فيه ان تكون الكثرة الكاثرة في المجتمع مسلمة، و يكون الحكم إسلاميا بكل تفاصيله. و هذا لا ينافي أن يكون تطبيق هؤلاء لأحكام دينهم بشكل شخصي مجزيا و كافيا لهم في تطبيق العدل و انجاز التخطيط. و خاصة مع الالتفات إلى تتمة هذه الآية:

«لكل جعلنا شرعة و منهاجا. و لو شاء الله لجعلهم أمة واحدة، و لكن ليبلوكم فيما آتاكم...»(1).

و الابتلاء هو الاختيار و التمحيص.

فان قال قائل: إن قوله تعالى:

وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ (2).

يدل على انحصار الشريعة بالاسلام بشكل لا يعوّض عنه شيء.

قلنا: هذا الاستدلال يحتوي على جهل بمعنى الأطروحة التي ذكرناها و الأمرين اللذين اشرنا إليهما. فان اليهود و النصارى، إن طبقوا كلا الأمرين كانوا بحكم المسلمين فعلا... أما من الناحية العقائدية، فلايمانهم بصدق نبي الاسلام. و أما من الناحية السلوكية، فلأن دين الاسلام أجازهم باتباع دينهم، على م هو المفروض في هذه الاطروحة المستفادة من القرآن الكريم.

و خاصة إذا التفتنا إلى الآية السابقة على هذه الآية الأخيرة التي ذكرها السائل، و هي قوله تعالى: قُولُوا آمَنّا بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. . حيث دلت على وحدة خط الأنبياء و صدقهم جميعا، الأمر الذي انطلقت منه هذه الاطروحة.

فإذا صدقت هذه الاطرحة، لا يكون وجود اليهود و النصارى منافيا مع وجود المجتمع المعصوم، بل انهم سوف ينالون العصمة بصفتهم يهودا و نصارى، كما سينالها المسلمون بصفتهم مسلمين. و بذلك يتم المستوى الثاني من الجواب الثالث على المناقشة الأولى للتخطيط العام.

إلا ان هناك من الأدلة ما يصلح لنفي هذه الاطروحة، مما يضطرنا إلى ان نفهم

ص:645


1- (1) نفس السورة و الآية.
2- (2) آل عمران: / 85.

من إقامة التوراة و الانجيل خصوص التبشير بوجود الاسلام، طبقا للفهم الكلاسيكي الذي أشرنا إليه، و تكون كل الخصائص الأخرى التي استعرضناها، مختصة بذلك أيضا. و تطبيق المهدي (ع) للتوراة و الانجيل لا يعني أكثر من ذلك أيضا.

و نذكر من هذه الأدلة ما يلي:

الدليل الأول: ان الديانتين اليهودية و المسيحية في مفهوم الاسلام و القرآن، و طبقا للتخطيط العام الذي عرفناه، تعتبر ديانات مرحلية تتكفل تربية البشرية لحقبة معينة من الزمن، و قد انقضت تلك الحقبة. و لا يمكن للمناهج المرحلية ان تربّي الفرد أو المجتمع على العدل الكامل... و لا ان توصله إلى درجة العصمة المطلوبة المستهدفة للبشرية.

و أما وحدة خط الأنبياء، فهو أمر صحيح تماما، و يمثّل وحدة التخطيط العام الذي ساروا عليه و الدعوة الالهية التي دعوا إليها. إلا انها وحدة عقائدية و ليست وحدة في الأحكام، كما تفترض هذه (الأطروحة). و معه فتنحصر الأحكام بأحكام الاسلام، ما لم توجد مصلحة استثنائية لاقرار بعض الأجيال من اليهود و النصارى على احكام دينهم موقتا، ريثما يندمجون في العدل الكامل... كما ربما يكون هو المقصود من اقامة الانجيل و التوراة من قبل المهدي (ع).

الدليل الثاني: الآيات الدالة على وجوب تطبيق احكام الاسلام و الشاملة لليهود و النصارى، كقوله تعالى:

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قُلْ أَطِيعُوا اللّهَ وَ الرَّسُولَ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (1).

إلى غيرها من الآيات.

و قد اناطت حب الله تعالى بالاتّباع، و نصت على ان عصيانه موجب للكفر... و ليس مضمون الاتباع و الاطاعة إلا تطبيق الاحكام. و ليس مؤداها عقائديا محضا كما هو واضح.

مضافا إلى ان هذه الاطروحة لا تنفع في ما هو المقصود، و هو الجواب على المناقشة الأولى: و ذلك انطلاقا من أمرين:

ص:646


1- (1) آل عمران: / 31-32.

الأمر الأول: ان الآيتين نفسيهما التي استدللنا بهما على المناقشة لا تنسجمان مع هذه الأطروحة. حيث دلتا - بعد التنزل عن الاجوبة الاخرى - على بقاء العداوة و البغضاء بين اليهود و النصارى إلى يوم القيامة. و معنى ذلك عدم وصولهم إلى العصمة، للمنافاة الواضحة بين العداوة و البغضاء و بينها. فما اقترحته الأطروحة من وصولهم إلى العصمة حال كونهم يهودا و نصارى... كأنه غير محتمل.

الأمر الثاني: الوضوح الاسلامي المؤيد بالنسبة المستفيضة التي ذكرناها في «تاريخ ما بعد الظهور» بأن المهدي (ع) سوف يطبق الاسلام و تزول كل الملل و الاديان، و لا يبقى على وجه الأرض إلا الاسلام.

و هذا هو المطابق للتخطيط العام بالضرورة، و المطابق مع طبائع الاشياء التي عرفناها للدولة العالمية. فمن غير المحتمل ان التربية المركزة و الطويلة فيها، تكون فاشلة في تحويل البشرية إلى الاسلام. كيف و هي تستهدف عصمة البشر، فكيف بمجرد اعتناق الاسلام الذي توجد العصمة على أساسه.

و ببطلان هذه الاطروحة يبطل المستوى الثاني للجواب الثالث عن المناقشة الأولى التي نحن بصددها على التخطيط العام. و يبقى الجواب عن هذه المناقشة متوفرا في الاجوبة الأخرى و المستوى الأول من الجواب الثالث.

و قد عرفنا - ضمنا - ان اقامة التوراة و الانجيل، و ما تستتبعها من الخصائص، تحتمل أحد معان:

المعنى الأول: وجوب الدخول في الاسلام نفسه، بصفته الدين الذي بشر به هذان الكتابان المقدسان في واقعهما غير المحرّف.

المعنى الثاني: امضاء التعاليم الواقعية لليهود و النصارى، على أحد مستويين:

المستوى الأول: ما كان عليه بعض أهل الكتاب في عصر صدر الاسلام، من حيث ان المستفاد من بعض الآيات وجود احكامهم و كتبهم الواقعية لديهم يومئذ. كقوله تعالى: وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللّهِ فهم يقرّون عليها موقتا ريثما تدخل أجيالهم في الاسلام، تدريجا.

المستوى الثاني: ما سيكون عليه حال أهل الكتاب في أول تأسيس الدولة الاسلامية، من حيث انه ستتضح لهم أحكامهم الواقعية، كما تدل عليه الروايات، فيسمح لمن اراد ان يعمل عليها، ان يعمل مع التزامه بصدق نبي الاسلام

ص:647

عقائديا... ريثما تدخل أجيالهم في الاسلام و انسجامهم مع العدل الكامل تدريجا. و معه يكون الأمران اللذان أشرنا إليهما فيما سبق مجتمعين، لكن بشكل مرحلي موقت غير مؤبد. و هو - و لا شك - منته قبل وجود صفة العصمة بزمن غير قليل تحت التربية المركزة المستمرة للدولة العالمية.

المعنى الثالث: ما عليه الفقهاء المسلمون خلال عصورنا: عصر التخطيط الثالث، من اقرار أهل الكتاب على احكامهم بالشكل يؤمنون بها و طقوسهم التي يقيمونها، إلى جنب تطبيق أحكام الاسلام، لو وفق بعض المسلمين إلى ذلك خلال هذا العصر.

و كل هذه المعاني صحيحة، من زاوية اختلاف العصور، و تعدد جهات النظر.

الوجه الرابع: للجواب عن المناقشة الأولى: اننا لو غضضنا النظر عن الأجوبة الثلاثة السابقة. و فرضنا - جدلا - ان اليهود و النصارى مع ما يقع بينهم من عداوات، باقون إلى يوم القيامة، بشكل ينافي مع وجود المجتمع البشري المعصوم.

فكل ما تستلزم هذه الفكرة: الالتزام بعدم وجود المجتمع المعصوم، و من ثم فهو ليس هدفا للتخطيط العام. لكن لا يستلزم ذلك بطلان التخطيط العام و كونه لاغيا، كما تخيل صاحب المناقشة. بل يبقى للتخطيط العام هدفه المهم الكبير و هو تأسيس الدولة العالمية. و هو هدف يعلو بخصائصه على الهدف الأعلى الماركسي على ما عرفنا. كل ما في الأمر أنه يفترض وقوف البشرية عند هذا لحد، و وجود الموانع عن وجود الخطوة التي بعدها المتمثلة بوجود المجتمع المعصوم.

هذا، و لكن الالتزام بهذا الجواب الرابع جدلي، و ليس واقعيا، بعد إقامة الدليل الكامل، على وجود المجتمع المعصوم فما بعده.

المناقشة الثانية: المنطلقة من الأساس القرآني.

يدل ظاهر القرآن الكريم على قلة المؤمنين عموما، في الدنيا و الآخرة. و هو يدل على عدم وجود المجتمع المعصوم... إذ لو كان هذا المجتمع موجودا، و خاصة بالشكل المتطاول الذي فهمناه، لكان المؤمنون كثيرين.

و ما يدل على ذلك من القرآن الكريم، على قسمين:

القسم الأول: الآيات الدالة على قلة المؤمنين في الدنيا. و هي قوله تعالى:

ص:648

وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (1).

و قوله تعالى:

إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ وَ قَلِيلٌ ما هُمْ (2).

القسم الثاني: ما دل على قلة المؤمنين في الآخرة. و هي قوله تعالى:

وَ السّابِقُونَ السّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ، ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَ قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (3).

و كذلك قوله تعالى - بعد ذلك بقليل -:

وَ أَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ، فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَ طَلْحٍ مَنْضُودٍ .

- إلى ان يقول:

إِنّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً، فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً لِأَصْحابِ الْيَمِينِ. ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (4).

و نتكلم عن كل قسم في ناحية:

الناحية الأولى: في الآيات الدالة على قلة المؤمنين في الدنيا. و قد سمعناها.

و هي ان كانت دالة على قلتهم في كل أجيال البشرية، كانت المناقشة صحيحة.

إلا ان الأمر ليس كذلك. فان هذه الآيات التي ذكرناها واردة في سياق معين يجعلها محددة بحدوده لا محالة. و لا معنى للاستدلال بالفقرة من دون السياق العام، لوضوح أنه يلقي الضوء الكافي على المراد من الآيات.

و كلا الفقرتين واردتين - على ما سنرى - حول المجتمع اليهودي في الفترة ما بين خروجهم من مصر و السبي البابلي، أي أبّان حكمهم في فلسطين.

فالفقرة الأولى: وردت ضمن الحديث عن النبي سليمان عليه السلام ابّان حكمه... حيث تعطي الصفات الرئيسية له، و تقول:

وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ... .

إلى ان قال عز و جل:

يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ وَ قُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً، وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (5).

و الفقرة الثانية وردت ضمن الحديث عن الخصمين اللذين تسورا المحراب

ص:649


1- (1) سبأ: / 13.
2- (2) ص: / 24.
3- (3) الواقعة: / 10-14.
4- (4) الواقعة: / 27-40.
5- (5) سبأ: / 12-13.

على داود عليه السلام. فانه قال بعد ان سمع كلام المعتدى عليه: لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ!. وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ، وَ قَلِيلٌ ما هُمْ.. (1).

و نحن لو نظرنا إلى المستوى الايماني لشعب هذين النبيين عليهما السلام، فضلا عن مجموع البشرية في ذلك العصر، و قد سبق أن حملنا عنه فكرة تفصيلية من خلال الحديث عن التخطيط الثاني، لو نظرنا إلى ذلك، لوجدنا الآيتين صادقتين تماما في ذلك العصر، فان من يؤدي الشكر الكامل للّه عز و جل، و من يعمل العمل الصالح المطلوب، كان في غاية الندرة، و لا زال كذلك إلى العصر الحاضر.

إذن، فالآيتان خاصتان بذلك العصر، أو قل بعصر الانحراف، و غير شاملتين لمجموع البشرية، لتكونا نافيتين للمجتمع المعصوم و دالتين على عدمه.

الناحية الثانية: في الآيات الدالة على قلة المؤمنين في الآخرة، و قد سمعناها.

و لا بد قبل الاستدلال بها، ان نتأكد من معناها. فان المراد بالسابقين قد يكون هو السبق إلى الايمان بالنبي (ص) قبل الآخرين، كما فهمه الشيخ الطوسي(2)، فجرى مجرى قوله تعالى:

وَ السّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ (3).

و قد يكون المراد به: المتقدمون إلى ثواب اللّه و جنته بالأعمال الصالحة، كما فهمه الأصفهاني في مفرداته(4). و الثلّة: الجماعة(5).

و أما (الأولين) و (الآخرين) بالكسر... فهما مفهومان نسبيان، لا يكون لهما مفهوم محدد، لو لاحظناهما باستقلالهما، لمدى توامي الأجيال البشرية و طولها.

غير الظاهر جعل عصر نزول القرآن الكريم - بصفته هو المتحدث - محكا في ذلك.

فالسابقون عليه هم (الأولين)، و المعاصرون له و من بعدهم هم (الآخرين).

و لا يوجد احتمال معقول في إرادة أي معنى آخر.

فإذا التفتنا إلى هذه المعاني... أمكننا أن نلتفت إلى الآية الأولى تارة، و إلى

ص:650


1- (1) ص: / 24.
2- (2) التبيان في تفسير القرآن. ط النجف ج 9 ص 490.
3- (3) التوبة/ 100.
4- (4) المفردات ط ص 222.
5- (5) المصدر ص 81 و انظر التبيان ج 9 ص 490.

الآية الثانية، تارة أخرى...

الآية الأولى: و هي قوله تعالى:

وَ السّابِقُونَ السّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ، فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ. ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَ قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (1).

و قد سمعنا لها قبل قليل فهمين:

الفهم الأول: ما فهمه الشيخ الطوسي من المراد بالسابقين: السابقون إلى الايمان بالاسلام، إذ نسمعه يقول: إنما قال ذلك، لأن الذين سبقوا إلى إجابة النبي (ص) قليل من كثير ممن سبق إلى النبيين(2).

و هذا الفهم يجعل الآية غير مربوطة بالاستدلال، من حيث انها تتعرض إلى من آمن بالأنبياء من معاصريهم، و ليس لها أي شمول للمؤمنين في البشرية بشكل عام.

فلا تكون دالة على قلة المؤمنين في مجموع البشرية، ليكون للمناقشة مجال.

الفهم الثاني: ما فهمه الراغب الاصفهاني، من ان المراد بالسابقين:

المتقدمون على غيرهم بالايمان و الأعمال الصالحة. و معه فلعلّ الآية دالة على قلة هؤلاء السابقين بالنسبة إلى غيرهم، فيكون للمناقشة مجال.

و حينئذ، فلا بد ان ننظر إلى مفهومي (الأولين) و (الآخرين) في الآية، هل يشملان مجموع البشرية من أولها إلى آخرها، بشكل يشمل المجتمع المعصوم أولا.

لا شك أنه لا ينبغي أن يشمل العهد البشري الأول، أعني عصر ما قبل الوعي و التفكير. و ذلك لسببين:

أولا: لكون ذلك العهد دون المستوى الذي يمكن التحدث عنه، باعتبار عدم قابلية الشعور بالمسؤولية لديه، مما يجعل ظهور الآية منصرفا عنه.

ثانيا: لكونه مغرقا في القدم، بحيث يكون التعرض له غير مناسب مع مستوى التفكير العام في العصر الذي نزل فيه القرآن الكريم. فيكون مخالفا مع قانون (كلّم الناس على قدر عقولهم) الضروري دائما في النصوص الاسلامية.

إذن، فأقصى ما يمكن الوصول إليه من ناحية الماضي، في مدلول الآية، هو أول عهد التفكير إلى مبدأ عصر الاسلام.

و أما من ناحية المستقبل، فالذي يبدو اننا لا نستطيع أن نتوسع كثيرا أيضا.

ص:651


1- (1) الواقعة: / 10-14.
2- (2) التبيان ج 9 ص 490.

لأن ذلك على خلاف القانون المشار إليه أيضا. فلا أقل من استثناء المجتمع المعصوم الذي يعتبر بالنسبة إلى معاصري الرسول (ص) و مستوى الفكر السائد لديهم، مغرقا في البعد، بحيث لا يمكن أن يدركوه بوضوح، فيكون ظهور الآية منصرفا عنه أيضا.

و إذا لم تكن دلالة الآية شاملة للمجتمع المعصوم، كانت المناقشة بدون موضوع أيضا. لأن مفهوم الأولين و الآخرين يبدأ منذ عصر التفكير و ينتهي قبل تأسيس المجتمع المعصوم، و يتوسطها عصر نزول الاسلام. و هذا المفهوم منعزل عن المجتمع المعصوم، فلا يكون نافيا لوجوده.

فإن قال قائل: ان عصر الدولة العالمية السابق على المجتمع المعصوم يكون مشمولا للآية، في قوله تعالى: و قليل من الآخرين. فيكون معناه ان السابقين إلى الأعمال الصالحة قليل في ذلك المجتمع.

و جواب ذلك: اننا بعد ان فهمنا من مفهوم (الآخرين): منذ أول عصر الاسلام إلى آخر عصر الدولة العالمية، و هما عصرا التخطيط الثالث و الرابع، فقد تكون النسبة في المجموع هي قلة السابقين إلى الايمان. و ذلك بعد الالتفات إلى أمرين:

الأمر الأول: ان عصر الدولة الاسلامية بالنسبة إلى عصر المجتمع المعصوم، صغير جدا، فان التربية المركزة للدولة العالمية، قابلة للوصول بالبشرية إلى مجتمع العصمة بسرعة نسبية، و قد سبق في «تاريخ ما بعد الظهور»(1) ان حددناه بسبعة قرون.

الأمر الثاني: ان التربية المركزة في الدولة العالمية، لا تنتج ثمارها الكاملة من أول يوم، بل يحتاج إلى فترة من الزمن، لكي تصل البشرية، إلى وجود الأكثرية الصالحة بين ربوعها.

فإذا تم هذان الأمران، كان من يوجد من (السابقين) في مجموع عصر (الفتن و الانحراف) السابق على تأسيس الدولة العالمية، و أول عصر تأسيسها... قليلا بطبيعة الحال. و يكون ذلك كافيا في صدق الآية الكريمة.

مضافا إلى: ان مفهوم (السابقين) مفهوم نسبي يتضمن التعبير عن أفضل

ص:652


1- (1) انظره في الباب الأول من القسم الثالث.

الأفراد في كل عصر؛ و الأفضل في كل عصر قليل نسبيا لا محالة. صحيح، ان أي فرد في شعب الدولة العالمية يعادل الصالحين في العصر السابق عليه، إلا أن أفضلهم بالنسبة إلى عامتهم قليل أيضا، بطبيعة الحال.

فإن قال قائل: بأن نسبة الأفاضل في الأولين أيضا قليل بالنسبة إلى عامتهم، مع ان ظاهر الآية كون النسبة في (الأولين) أعلى منها في (الآخرين) حيث قال عز و علا: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَ قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ .

قلنا: ينبغي ان نتذكر ان ظاهر الآية جعل عصر وجود الاسلام و نزول القرآن، هو الحد الفاصل بين مفهوم الأولين و مفهوم الآخرين. و من المعلوم دينيا ان العصر السابق عليه يحتوي على أنبياء كثيرين و تربية مهمة... الأمر الذي يجعل نسبة السابقين إلى الأعمال الصالحة نسبة عالية بمقدار ما.

و أما عصر ما بعد الاسلام، فهو شامل لعصر (الفتن و الانحراف) إلى جنب شموله لعصر الدولة العالمية، كما سبق أن أشرنا في الأمرين السابقين. و بشموله لعصر الفتن يكون السابقون بالنسبة إلى مجموع البشر في عصري التخطيط الثالث و الرابع، أقل من نسبتهم في العصر السابق على الاسلام، عصر التخطيط الثاني.

فيصدق قوله تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَ قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ .

مضافا إلى أن هذه الاستفادة، و هي ان (الثلة) أكثر نسبيا من الفقرة التي تليها... غير صحيحة. بل ان احتمال العكس احتمال قائم، و هو ان تكون نسبة الثلة أقل من الفقرة التي تليها. و معه فلا يبقى مجال لهذا الحديث.

إذن، فالآية الأولى، لا يمكن الاستدلال بها للمناقشة في وجود المجتمع المعصوم.

و أما الآية الثانية، و هي قوله تعالى: وَ أَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ ... إلى قوله: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ ، فالجواب فيها هو نفسه الجواب في الآية الأولى، بشكل أوضح و أولى، على ما سنرى.

فان مفهوم الأولين و الآخرين المستعمل فيها محدد أيضا بما بعد وجود مجتمع الوعي و التفكير، و ما قبل المجتمع المعصوم، لنفس الدليل الذي ذكرناه، فلا تكون الآية دليلا على عدم وجوده.

مضافا إلى إمكان الجواب من ناحية أخرى تكون بها أوضح من الآية الأولى، و هي: ان الآية الأولى قالت: «و قليل من الآخرين» على حين قالت الآية الثانية:

ص:653

وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ و الثلة الجماعة كما عرفنا، و الجماعة لا تتحدد بمقدار معين.

فحتى لو كانت جماعة المتأخرين أضعاف جماعة الأولين، يصدق أيضا قوله: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ .

فإن قال قائل: الآية واضحة في أن جماعة من المتأخرين، مهما كبرت، هي الصالحة التي تدخل الجنة، لا جميع المتأخرين.

قلنا: نعم، و هو واضح بعد الذي أوضحناه من شمول الآية لعصر التخطيطين الثالث و الرابع. و لا شك أن عددا مهما من الأفراد في عصر التخطيط الثالث، بل أكثرهم لا يدخل الجنة.

فإن قال قائل: ان مجموع الآيتين دال على نسبة الداخلين إلى الجنة في مجموع البشر نسبة ضئيلة إلى حد ما كالجماعة بالنسبة إلى المجتمع. و هذا مخالف لما قلناه من أن العصر اللاحق لتأسيس الدولة العالمية إلى نهاية البشرية يعدل أضعاف العصر السابق عليه. لأنه عندئذ يكون الداخلون إلى الجنان أكثر بكثير من نصف البشرية. و هو مما ينفيه ظاهر الآية.

و جوابنا على ذلك من وجوه:

الوجه الأول: إن مجموع مفهومي (الأولين) و (الآخرين) في الآية، يشمل عصور التخطيط الثاني و الثالث و الرابع فقط. و معه فقد تكون نسبة الصالحين إلى غيرهم في هذا المجموع ليست بالكبيرة. و إنما تكون كبيرة جدا بضم المجتمع المعصوم الذي لا يشمله هذان المفهومان.

الوجه الثاني: اننا لو لا حظنا مجموع الصالحين الذين ذكرتهم الآيات، لا نجد نسبتهم أقل من النصف بأي حال؛ فان المقربين هم ثلة من الأولين و قليل من الآخرين، و أصحاب اليمين هم ثلة من الأولين و ثلة من الآخرين. فإذا فهمنا من الثلة: الجماعة بمعناها الواسع، كان مجموع الصالحين الذين تذكرهم الآية كبيرا جدا.

الوجه الثالث: إنه لا دليل على أن الآيات تعرضت إلى مجموع من يدخل الجنة. بحيث لا يوجد مؤمن آخر. كل ما في الموضوع انها تعرضت إلى ثواب (المقربين) و ثواب (أصحاب اليمين)... و لا دليل على انحصار المؤمنين بهؤلاء.

بل يمكن إضافة قسمين آخرين - على الأقل - إلى هذين القسمين. و بضمهما

ص:654

تكون نسبة المؤمنين كبيرة، كما هو المتوقع و الملائم مع التخطيط العام.

و هذان القسمان الاضافيان، هما كما يلي:

القسم الأول: المؤمنون الذين يكونون أكبر إيمانا من المقربين، و يكون جزاؤهم أعلى من جزاء المقربين. حتى ان الجنة لا تكفي لجزائهم. بل سيكون جزاؤهم روحيا معنويا عاليا جدا، مقترنا بمشاركات كونية ضخمة.

و لعل هذا هو الشأن في عدد من الرسل و الصالحين، و في (مجتمع ما بعد العصمة) و عدد من أفراد المجتمع المعصوم أيضا. و هذا المجموع ليس بالقليل أبدا.

القسم الثاني: من يكون أقل إيمانا من (أصحاب اليمين). و صفتهم المهمة أنهم غير مستحقين للثواب و إن كانوا غير مستحقين للعقاب. و إنما يدخلون الجنة برحمة من اللّه عز و جل محضا، أو لا يدخلون الجنة أصلا، و إنما يجعلهم اللّه في مكان ثالث أقل من الجنة و أفضل من النار على أي حال.

فإذا فهمنا من المؤمنين، من لا يكون مستحقا للعقاب أو لا يعد من المذنبين، كان هذا القسم شاملا لجماعات كثيرة منهم: من أوجبت سيئاتهم إحباط حسناتهم.

و قد غفر اللّه لهم السيئات، فلم تبق لهم حسنات و لا سيئات. و منهم: من مات بعد الايمان مباشرة من دون عمل سيئ و لا حسن. و منهم: من مات طفلا أو مجنونا، و نحوه، ممن لا يكون على مستوى الشعور بالمسؤولية أساسا.

و مما لا شك فيه ان هذه الأقسام الأربعة شاملة للنسبة الأكبر للبشرية. و إن كان الباقي أيضا كثيرا جدا يصدق فيه قول اللّه جل و علا: فَالْحَقُّ وَ الْحَقَّ أَقُولُ: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (1).

فهذه هي المناقشات القائمة على الأساس القرآني. و قد وجدنا كلها غير صالحة للتأثير على نظرية التخطيط العام أو هدفه الأعلى.

ص:655


1- (1) ص: / 84-85.
الأساس الثاني السنة الشريفة

و هو أيضا يحتوي على مناقشتين:

المناقشة الأولى: ما دل من الأخبار على أنه لا خير في العيش بعد المهدي عليه السلام. كالخبر الذي أخرجه الكنجي في (البيان)(1) بسنده عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول اللّه (ص): أبشركم بالمهدي، يبعث في أمتي على اختلاف من الناس و زلازل، فيملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا. إلى أن قال: ثم لا خير في العيش بعده، أو قال: لا خير في الحياة بعده.

و تنطلق المناقشة من زاوية ان نظام الدولة المهدوية، لو كان يتطور إلى الأفضل، حتى يصل إلى المجتمع المعصوم، فلا يمكن أن يصدق قوله: ثم لا خير في العيش بعده. و حيث ان هذه الرواية صرحت بذلك، إذن فنظامها لن يتطور إلى الأفضل، و من ثم فهو لا يصل إلى المجتمع المعصوم.

إلا ان هذه المناقشة غير صحيحة لوجهين رئيسيين:

الوجه الأول: انه خبر واحد، لا يصلح للاثبات التاريخي باستقلاله. فإنّنا لو فهمنا منه ما تريده المناقشة يكون معارضا بالأدلة التي أقمناها على التخطيط العام من القرآن الكريم - أولا - و الدليل (الاستهدافي) - ثانيا -... فيكون ساقطا عن الاثبات بطريق أولى.

الوجه الثاني: انه يمكن أن يصدق قوله: لا خير في العيش بعده، بالرغم من التطور الذي أثبتناه و برهنا عليه.

فإن التطور مهما كان مستمرا، فإن فرقا كبيرا بين شخصية الامام المهدي (ع) و قيادته، و بين شخصية و قيادة من يخلفه بعده، لما يتصف به الامام المهدي (ع) من

ص:656


1- (1) انظر ط النجف ص 84-85.

مميزات ضخمة جدا لا توجد عند أحد من معاصريه، و لا في الأعم الأغلب من الأجيال البشرية، إلى مجتمع (ما بعد العصمة) على الأقل.

فسيجد المجتمع فرقا واضحا في القيادة، و أسفا شديدا لموت القائد العظيم، يصدق معه هذا التعبير الوارد في الحديث بكل وضوح. و هذا لا ينافي بقاء التطور و التربية الصالحة طبقا للمناهج التي يضعها القائد المهدي (ع) حتى يصل المجتمع إلى العصمة.

و هذا واضح طبقا لما رجحناه في «تاريخ ما بعد الظهور»(1) من أن خلفاء المهدي (ع) هم أولياء صالحون يربيهم المهدي خصيصا، و يوكل إليهم الخلافة بنص خاص... ريثما يصل المجتمع إلى عصر الشورى و الانتخاب و هذا هو الذي سرنا عليه في هذا الكتاب أيضا.

و أما إذا رجحنا في خلافة المهدي (ع) احتمالات أخرى، سبق أن سمعناها في الكتاب المشار إليه، فقد نضطر في الجواب على المناقشة إلى الاقتصار على الوجه الأول. إلا انها احتمالات غير صحيحة على أي حال.

المناقشة الثانية: - المستفادة من السنة الشريفة -: ما دل من الأخبار على قصر عمر البشرية و قلة بقائها بعد المهدي (ع).

فقد ذكر الطبرسي(2): ان أكثر الروايات انه لن يمضي - أي المهدي (ع) - من الدنيا إلا قبل القيامة بأربعين يوما. أقول: و لكن هذه الكثرة لم نجد ما يدل عليها خبرا واحدا أصلا. و إنما يمكن استنتاجها من أحد أمرين مستفادين من الأخبار:

الأمر الأول: ما ورد عن النبي (ص) مستفيضا: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطوّل اللّه ذلك اليوم حتى يبعث رجلا من أهل بيتي يملؤها عدلا كما ملئت جورا» و هو بألفاظ عديدة و مضامين متقاربة.

فقد يستفاد منه ان البشرية لا تعيش بعد المهدي (ع) أكثر من يوم واحد.

الأمر الثاني: ما دل من الأخبار على ارتفاع الحجة قبل يوم القيامة بأربعين يوما. و قد أخرجناها في «تاريخ ما بعد الظهور». و فيها ما هو صحيح السند.

فقد يستفاد منها ان البشرية لا تعيش بعد المهدي أكثر من أربعين يوما. إذا كان المراد بالحجة - في الحديث - شخص المهدي عليه السلام.

ص:657


1- (1) الباب الأول من القسم الثالث.
2- (2) أعلام الورى بأعلام الهدى ط طهران ص 435.

إلا ان كلا الأمرين واضح الفساد:

أما الأمر الأول: فلوضوح أن الخبر المشار إليه يراد منه التأكيد على أهمية ظهور المهدي (ع) و ضرورة حدوثه... و ليس المراد بقاء يوم واحد من الدنيا بعد ظهوره على وجه الحقيقة. و إلا كان ظهوره غير منتج لشيء في مصلحة للبشرية. و يكفينا من الناحية اللغوية أنه استعمل (لو) الامتناعية التي تعني عدم إمكان تحقق مدخولها، و هو بقاء البشرية يوما واحدا.

و أما الأمر الثاني: فقد ناقشناه مفصلا في «تاريخ ما بعد الظهور»(1) و أهم ما فيه أنه لا يتعين أن يكون الحجة المشار إليه في الرواية هو الامام المهدي (ع). بل هو الحاكم الأعلى للدولة الاسلامية يومئذ. و قد شرحنا الظروف التي تقتضي ذلك خلال الحديث عن التخطيط السادس من هذا الكتاب.

ص:658


1- (1) في الباب الثاني من القسم الثالث.
الأساس الثالث الأساس الفكري الحديث

عرضنا خلال الحديث عن التخطيط الرابع عدة اعتراضات، كانت واردة على الطور الماركسي الأعلى، و منطلقة من هذا الأساس الثالث. و برهنا على عدم ورودها على مجتمع الدولة العالمية، فضلا عن المجتمع المعصوم.

و بقي هناك اعتراض واحد قد يورد على نظرية التخطيط العام، كما هو وارد على النظرية الماركسية أيضا. و إن لم تلتفت إليه الماركسية في مصادرها.

يقول هذا الاعتراض: أنه أثبت العلم الحديث، أن عمر البشرية طويل جدا بقي و يبقى ملايين السنين، و ربما عشرات أو مئات الملايين و التاريخ المعروف للبشرية إلى الآن ثمانون مليون سنة، و قد يزيد على ذلك بكثير. و لا بد أن البشرية تبقى إلى حين فناء المجموعة الشمسية و نفاد طاقاتها الحرارية، و هو أمر لا يحدث إلا بعد لأي.

فإذا كان عمر البشرية بهذا المقدار الأسطوري الضخم، فلا مجال فيه لأي تخطيط أو نظرية اجتماعية، سواء كانت إسلامية أو ماركسية أو أي مبدأ آخر. فإن هذه النظريات، مهما طالت، فإنها سوف تستغرق قسما قليلا من عمر البشرية، و يبقى الباقي فارغا يحتاج إلى تفسير. فكل نظرية اجتماعية تدعي تفسير تاريخ البشرية على طوله، لا تصلح، لأنها تدعي لنفسها حكما أكبر من طاقتها و قابليتها.

و الجواب على ذلك من زاوية التخطيط العام لعدة وجوه:

الوجه الأول: إنه لم يقم دليل صحيح على طول عمر البشرية بهذا المقدار.

فإنه بغض النظر عن أن نص التوراة و ظاهر القرآن على خلاف ذلك... فإن علماء الآثار و الجيولوجيا إنما عرفوا ذلك في جانب الماضي، مع أنهم غير مشاهدين له، باعتبار ملاحظة الجماجم و العظام التي يجدونها للإنسان القديم فيدرسونها من حيث التكوين الخلقي أولا، و من ناحية التفاعل و الاستهلاك ثانيا. فيستنتجون تاريخ وجود أصحابها على الأرض عن هذا الطريق. و تكون النتيجة اعتقادهم بقدم

ص:659

الإنسان ملايين السنين.

إلا أن هذا الاستنتاج ناشئ من نظرة مبدئية أو فلسفية لقوانين الكون ثبت عدم صحتها. و لا نريد أن ندخل الآن في تفاصيل (البديل الصالح) لها. يكفينا ما قلناه في هذا الكتاب من نفي وجود القوانين الكونية القائمة على الأساس المادي. و ان المحرك الأساسي للكون هو العوامل العليا الميتافيزيقية. و إذا توصلنا إلى هذه، لم تبق لتلك النتيجة الجيولوجية أية أهمية كما هو غير خفي على من يفكر.

مضافا إلى التشكيك في الأساليب التي يمكن بها معرفة: أن هذه الحالة للعظم - مثلا - لا تحصل إلا بعد عشر ملايين سنة - مثلا. إن هذا ليس مشاهدا للعلماء بطبيعة الحال. و إنما هو استنتاج من تفاعلات مختبرية معينة... و من الواضح أن احتمال الفرق بين التفاعلات المختبرية و التفاعلات الأرضية الطبيعية على العظم أو غيره، احتمال قائم وجيه، لصعوبة ضبط العوامل المؤثرة جميعا في المختبر. و معه فالنتيجة المأخوذة مختبريا قد لا تصدق في عالم الطبيعة.

الوجه الثاني: ان ما هو المضر بالاستدلال ضد التخطيط العام. ليس هو الماضي، بل هو المستقبل.

فان الفكر الحديث حين يعتقد طول عمر البشرية بملايين السنين، يعتقد انها جميعا مضت في حال عدم دخول البشرية في عصر الوعي و التفكير، و إنما دخلت البشرية في هذا العصر في العشر الأخير من المليون الأخير...

إذن، فمن المستطاع القول: ان التخطيط الأول المنتج لمستوى الوعي و التفكير، استمر عشرات الملايين من السنين. و اما التخطيطات اللاحقة له، فهي أقصر عمرا منه بكثير. و هذا ممكن بالنسبة إلى التخطيط على أي حال، لما عرفناه من ان فكرة التخطيط خالية عن التحديد بالزمان.

و إنما يتوجه الاشكال - شكليا - بالنسبة إلى المستقبل، كما سمعنا في الاعتراض. و هنا نستطيع القول انه لا يمكن إقامة الدليل (العلمي) على طول عمر البشرية في المستقبل. فان العلم قد يتوصل إلى طول عمر الأرض أو المجموعة الشمسية و تعيين زمان فنائها. إلا أن هذا لا يشمل الإنسان، و لا دليل على ارتباط فناء الإنسان بفناء الأرض. فان المهلكات الطبيعية و التخريبية عديدة. و ان كثيرا من أنواع الحيوان انقرض و بعضها يكاد ان ينقرض، قبل فناء الأرض و المجموعة الشمسية بكثير. فقد يأتي فيه الزمان الذي ينقرض فيه الإنسان. و من غير الممكن ان

ص:660

نبرهن على بعد هذا الزمان عنا بملايين السنين.

و قد يخطر في الذهن: ان ظاهر القرآن ارتباط فناء الإنسان بيوم القيامة و يوم القيامة يعبر عن يوم فناء المجموعة الشمسية، فيكون فناء الإنسان، مرتبطا بفناء المجموعة الشمسية، فيلزم القول ببقاء البشرية إلى ذلك الحين.

إلا أن هذا غير صحيح، لما أشرنا إليه فيما سبق من ان القرآن خال تماما من الدلالة على وجود الإنسان عند أهوال يوم القيامة. فربما زال قبل ذلك بكثير.

مضافا إلى أنه لا دليل على بعد يوم القيامة نفسه بهذا المقدار من ملايين السنين... فاننا لو قبلنا من الفكر الحديث احتياج زوال المجموعة الشمسية و فنائها إلى هذا المقدار من السنين، و هو أيضا محل المناقشة لنفس ما قلناه في طول عمر العظم و نحوه من أجزاء الإنسان، فليرجع القارئ إليه و يفكر. لكن لو قبلناه، فان غاية ما للفكر الحديث أن يقوله: هو ان عمر المجموعة الشمسية منوط بمرور هذا الأمر الطويل طبقا للتسلسل الطبيعي للكون، أو ما يسمى بالقوانين الطبيعية. و اما بعد ان انكرنا وجود القوانين بالمعنى المادي كما سبق أن برهنا عليه، و علمنا ما للعوامل الميتافيزيقية من تأثير في حركة الكون، اذن يبقى هذا الكلام بلا موضوع، و لا أقل من احتمال ان تزول المجموعة الشمسية عن الوجود، قبل اقتضاء (القوانين) الطبيعية لذلك، باعتبار مصلحة في التخطيط الكوني العام.

فحتى لو كان الإنسان باقيا على وجه الأرض إلى يوم القيامة، تنزلا عمّا قلناه أولا... فان يوم القيامة لن يبطئ بالبشرية، ذلك البطء الذي يتوقعه الفكر الحديث. و لا أقل من أنه لا دليل على ذلك، فلا يصلح دليلا ضد التخطيط العام.

هذا، و قد توجد وجوه أخرى في الجواب على هذا السؤال الأخير لا حاجة إلى الدخول في تفاصيلها.

الوجه الثالث: في الجواب على الاعتراض الأساسي في هذا الفصل.

ان نظرية التخطيط العام باقسامها الخمسة ليست محددة بزمان. بل تتبع عمر البشرية أيا كان. فان كان قصيرا كان بدوره قصيرا، و ان كان طويلا، كان بدوره.

طويلا... و لا ضرر في ذلك.

لا يبقى إلا الاستبعاد في بقاء نظام واحد لعدة ملايين أو لمئات الملايين من السنين، لو قبلنا طول عمر البشرية في المستقبل، خلافا لما قلناه في الوجه السابق.

إلا أنه يمكنه التنازل عن هذا الاستبعاد:

ص:661

أولا: ان التعبير بالنظام الواحد، لا يخلو من مسامحة؛ فان الاتجاه العام منذ تأسيس الدولة العالمية إلى نهاية البشرية اتجاه واحد - لا محالة - نحو الهدف الأعلى. إلا أن النظام بالمعنى الكامل و المحدد لهذه الكلمة ليس واحدا، بعد الذي عرفناه من انقسام هذه الفترة إلى عدة أقسام لا يمكن أن يتحدد النظام بشكل واحد. ضرورة ان النظام الذي يصلح لفترة معينة من تلك الفترات قد لا يصلح لفترة أخرى.

فإذا كانت الأنظمة مختلفة كان الاعتراض مرتفعا، و امكن لنا ان نتصور الاستمرار الطويل.

ثانيا: ان طبيعة العدل الكامل الذي سوف يكون مطبقا منذ أول عهد الدولة الإسلامية فما بعدها، منسجم تماما مع طول الزمن.

فان ما هو المعتاد و المعهود من عدم بقاء الأنظمة طويلا، في عالم الحياة و المجتمع، إنما هو نتيجة أحد أمرين:

الأمر الأول: ان تكون الأنظمة نفسها أنظمة ظالمة، يتضح فشلها نتيجة للتجربة الحياتية التي تعيشها.

ثانيا: ان عملا تخريبيا يجهز عليها بسرعة أو تدريجا، كما حصل للدولة النبوية الإسلامية.

و أما إذا لم يحصل كلا الأمرين، فكان النظام كاملا ليس فيه أية نقطة ضعف، و لم يكن له معارض في العالم، و كان أقوى من كل المعارضات و التقصيرات، إذن، فسوف يكون نظاما قابلا للبقاء مدى الدهر، مهما طالت ملايين السنين.

و هناك بعض الوجوه الأخرى في مناقشة هذا الاعتراض، لا حاجة إلى الدخول في تفاصيلها.

هذا... و ان هذا الاعتراض أولى في الورود على النظرية الماركسية، لأنها بحسب اتجاهها العام ترفض الأجوبة التي قلناها. فما ذا سوف يكون موقف الماركسيين حينئذ... ان هذا مما لا حاجة إلى الدخول في تفاصيله أيضا.

و بذلك يتم الكلام في الاعتراضات المحتملة الورود على نظرية التخطيط العام. و قد رأينا أن شيئا منها غير وارد على هذه النظرية. فبذلك يترسخ برهان هذه النظرية كبديل صالح للمادية التاريخية، لا يمكن ان تقاس به من حيث الأهمية و العمق.

و بذلك يتم الكلام في المرحلة الثالثة، في تطبيقات و مناقشات حول التخطيط

ص:662

العام... و به ينتهي القسم الثالث في التخطيط الالهي العام. و هو نهاية مقصودنا من هذا الكتاب. و آخر دعوانا ان الحمد للّه رب العالمين.

تم على يد المحتاج إلى رحمة ربه الكريم محمد بن محمد صادق بن محمد مهدي بن اسماعيل الصدر.

محمد الصدر الاربعاء: 1396/1/12 ه الموافق: 1976/1/14 م

ص:663

ص:664

مصادر الكتاب

أهم ما روجع لهذا الكتاب من الماركسية:

1 - أسس الفلسفة الماركسية. تأليف ق. إفاناسييف. ترجمة: عبد الرازق الصافي. الطبعة الثانية. دارا الفارابي - بيروت. دار النهضة - بغداد.

2 - أصل العائلة و الملكية الخاصة و الدولة. انجلس. ترجمة: الياس شاهين - دار التقدم، موسكو، الاتحاد السوفييتي. مهمل من تاريخ الطبع.

3 - أصول الفلسفة الماركسية. تأليف: جورج بوليتزر و جي بيس و موريس كاقين. تعريب: شعبان بركات. جزءان في مجلد واحد. المكتبة العصرية.

صيدا، بيروت. مهمل من تاريخ الطبع.

4 - الاقتصاد السياسي للاشتراكية، تأليف جماعة من الأساتذة السوفييت. ترجمة خيري الضامن. دار التقدم، موسكو. قبل عام 1972.

5 - انتي دوهرنك، ثورة الهرأوجين دوهرنك في العلوم. تأليف: فردريك انجلس. ترجمة الدكتور فؤاد أيوب. الطبعة الأولى 1965. دار دمشق للطباعة و النشر، و مطبعة طربين.

6 - بؤس الفسفة. كارل ماركس. ترجمة اندريه ناجي. دار اليقظة العربية و دار مكتبة الحياة. سورية - لبنان، 1967.

7 - البيان الشيوعي. كارل ماركس و فردريك انجلز. الشركة اللبنانية للكتاب، بيروت - لبنان. مهمل من تاريخ الطبع.

8 - دليل القارئ لدراسة الفلسفة الماركسية. مهدي الحافظ. دار الفارابي.

دمشق.

9 - دور الفرد في التاريخ: تعريب إحسان سركيس. دار ابن الوليد. المقدمة مؤرخة في عام 1956.

10 - رأس المال، نقد الاقتصاد السياسي. كارل ماركس. ترجمة: محمد عيتاني،

ص:665

منشورات مكتبة المعارف، في بيروت، عشرة أجزاء في خمسة مجلدات.

مهمل من تاريخ الطبع.

- الشيوعية العلمية، ماركس، انجلز، لينين. ترجمة فؤاد أيوب. دار دمش للطباعة و النشر. الطبعة الأولى، 1972.

12 - فلسفة التاريخ، المفهوم المادي للتاريخ. بليخانوف. دار دمشق للطباعة و النشر. مهمل من تاريخ الطبع.

13 - لودفيغ فورباخ و نهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، فردريك النجلز، مع ملحق كارل ماركس موضوعات عن فورباخ دار التقدم موسكو 1967.

14 - المادية التاريخية، دراسة في نظرية المجتمع الماركسية. فلاديسلاف كيلله و ماتفي كوفالسون. دار التقدم، موسكو. الاتحاد السوفياتي. مهمل من تاريخ الطبع.

15 - المادية التاريخية. تأليف: ف. كيللى. م. كوفالسون. عرّبه عن الروسية: أحمد داود. أعاد النظر فيه و دققه: الدكتور بدر الدين السباعي. اصدار دار الجماهير، دمشق، 1971.

16 - المادية الديالكتيكية و العلوم الطبيعية. تأليف: البروفسور فاتالييف.

تعريب و شرح: هنري دكر. دار الفارابي - بيروت - دار الجماهير - دمشق.

17 - المادية الديالكتيكية و المادية التاريخية، النظرية الفلسفية العامة لتطور الكون و المجتمع. ستالين. ترجمة: خالد بكداش. منشورات دار البديع.

الطبعة الثانية: 1959.

18 - مختارات لينين المقدمة بتوقيع: معهد الماركسية اللينينية لدى الجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي. خمسة مجلدات. مهمل من تاريخ الطبع. دار التقدم - موسكو الاتحاد السوفييتي.

19 - نصوص حول اشكال الانتاج ما قبل الرأسمالية. كارل ماركس. ترجمته لجنة بإشراف الدكتور صادق جلال العظم و مراجعته. دار ابن خلدون لطباعة و النشر، بيروت - لبنان. الطبعة الأولى 1974.

20 - نصوص مختارة. فردريك انجلز. اختيار و تعليق: جان كانابا ترجمة:

وصفي البني. منشورات وزارة الثقافة. مطبعة وزارة الثقافة - دمشق - 1972.

ص:666

21 - نظرات علمية في الاقتصاد السياسي. سيغال. الطبعة الأولى.

أهم المصادر غير الماركسية:

1 - القرآن الكريم.

2 - الارشاد للشيخ محمد بن النعمان الملقب بالمفيد. ط طهران، عام 1377 ه.

3 - الاشاعة لاشراط الساعة. للسيد محمد بن رسول الحسيني البرزنجي.

الطبعة الأولى، 1370، القاهرة - مصر.

4 - إعلام الورى بأعلام الهدى. تأليف أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي ط. طهران. مط الحيدري، عام 1338 هجري شمسي.

5 - انجيل برنابا. ترجمه من الانكلي زية: الدكتور خليل سعادة. مكتبة و مطبعة محمد علي صبيح و أولاده بميدان الأزهر بمصر. المقدمة مؤرخة في عام 1908 م.

6 - تاريخ الغيبة الصغرى، للمؤلف، ط بيروت عام 1972 م.

7 - تاريخ الغيبة الكبرى، للمؤلف، ط بيروت عام 1395-1975 م.

8 - تاريخ ما بعد الظهور. مخطوط حين النقل منه. و لذا أحلنا على أبوابه و فصوله لا على صفحاته.

9 - التبيان في تفسير القرآن. تأليف الشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي.

المطبعة العلمية في النجف الأشرف، 1376 ه - 1957 م.

10 - الخرائج و الجرائح، للشيخ قطب الدين أبي الحسين سعيد بن هبة اللّه اين الحسين الراوندي. ط الهند، على الحجر عام 1301 ه.

11 - السيرة النبوية لابن هشام. تحقيق كل من: مصطفى السقاء و ابراهيم الابياري و عبد الحفيظ شلبي. ط الثالثة 1391 ه - 1971 م دار احياء التراث العربي، بيروت - لبنان.

12 - صحيح البخاري، لأبي عبد اللّه محمد بن اسماعيل البخاري الجعفي.

مطابع الشعب، مصر، 1378 ه.

13 - صحيح مسلم: لأبي الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري. مطبعة محمد علي صبيح و أولاده. مصر.

14 - الصواعق المحرقة، في الرد على أهل البدع و الزندقة. للمحدث شهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي المكي. ط مصر. عام 1312 ه.

ص:667

15 - العهد القديم و العهد الجديد. نشر جمعية التوراة البريطانية و الأجنبية. ط بريطانيا، كمبردج.

16 - الغيبة للشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي ط النجف ط الثانية عام 1385 ه.

17 - فجر الاسلام. تأليف: أحمد أمين. ط الثانية. المقدمة بتاريخ 1933 م.

مطبعة الاعتماد. مصر.

18 - قصة الانسان، الدكتور جورج حنا. الطبعة الخامسة، 1973. دار العلم لملايين - بيروت.

19 - قصة الديانات، سليمان مظهر. دار الوطن العربي للطباعة و النشر مهمل من التاريخ.

20 - كليلة و دمنة. عبد اللّه بن المقفع. علّق عليها الشيخ الياس خليل زخريا.

دار الاندلس للطباعة و النشر. بيروت. ط الأولى 1382 ه - 1963 م.

21 - المسيحية نشأتها و تطورها. شارل جنيبير. ترجمة الدكتور عبد الحليم محمود. المكتبة العصرية، صيدا - بيروت. مهمل من التاريخ.

22 - مقتل الحسين أو حديث كربلاء، عبد الرزاق الموسوي المقرّم. مطبعة النجف في النجف 1376-1956.

23 - وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، للشيخ الحسن بن الحر العاملي ط الحجر - طهران. عام 1314 ه.

ص:668

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.