مسأله المهدی المنتظر برویه حضاریه

اشارة

سرشناسه:آذر شب، محمد علی، گردآورنده و مترجم

عنوان قراردادی:قیام و انقلاب مهدی در پرتو فلسفه تاریخ . برگزیده.عربی

امدادهای غیبی در زندگی بشر. برگزیده.عربی

عنوان و نام پديدآور:مسأله "المهدی المنتظر" برویة حضاریه/ترجمه و تقدیم محمد علی آذرشب

مشخصات نشر:تهران: المجمع العالی للتقریب بین المذاهب الاسلامیه، المعاونیة الثقافیه، 1427ق = 2006م = 1385.

مشخصات ظاهری:104 ص

فروست:مفاهیم اسلامیه برویه حضاریه؛ 1

شابک:964-8889-62-7

وضعیت فهرست نویسی:فاپا

يادداشت:فصل دوم و سوم این کتاب ترجمه و برگزیده کتب "قیام و انقلاب مهدی در پرتو فلسفه تاریخ" و " امدادهای غیبی در زندگی بشر" اثر استاد مرتضی مطهری می باشد.

یادداشت:كتابنامه به صورت زيرنويس

موضوع:محمد بن حسن (عج)، امام دوازدهم، 255ق. -

موضوع:مهدویت

شناسه افزوده:مطهری، مرتضی، 1298 - 1358. قیام و انقلاب مهدی در پرتو فلسفه تاریخ. برگزیده.عربی

شناسه افزوده:مطهری، مرتضی، 1298 - 1358.امدادهای غیبی در زندگی بشر.برگزیده.عربی

شناسه افزوده:مجمع جهانی تقریب مذاهب اسلامی.معاونت فرهنگی

رده بندی کنگره:BP224/4/آ4م5

رده بندی دیویی:297/462

شماره کتابشناسی ملی:م85-21680

ص :1

اشارة

ص :2

مسأله "المهدی المنتظر" برویة حضاریه

ترجمه و تقدیم محمد علی آذرشب

ص :3

ص :4

ص :5

ص :6

مقدمة

التطلّع إلى استئناف الحركة الحضارية الإسلامية يتطلّب أن ندرس تفاصيل المشروع الإسلامي برؤية حضارية.

ابتعادنا عن هذه الرؤية أوقعنا في نزاعات فقهية وكلامية وطائفية هي بعيدة كلّ البعد عن مقاصد الشريعة الإسلاميّة.

قضية المهدي المنتظر من القضايا التي صارت محلّ خلاف ونزاع ومراشقات لفظية بين هذا المذهب وذلك المذهب، بل وبين هذه الجماعة وتلك الجماعة من أبناء المذهب الواحد.. السبب في كل ذلك برأينا هو غياب الروح الحضارية في الدراسة.

المسألة ترتبط بأكثر الأمور إلحاحاً في الفكر البشري.. بمستقبل مسيرة الإنسانية.. هل البشرية تتجه نحو التكامل أم نحو السقوط والانتكاس؟ والجواب على هذا السؤال ينعكس على واقعنا العملي والنفسي، وعلى طريقة تفكيرنا ونظرتنا إلى الأمور.

قضية الغد الأفضل المنتظر هي أشدّ الأمور حساسيّة في الظروف العالميّة الراهنة، حيث تشهد الساحة انتكاسة فظيعة في القيم الانسانية،

ص:7

وتراجعاً شديداً في صيانة كرامة الإنسان. وبدون إيمان غيبي بالغد الأفضل تبدو كل مكتسبات البشرية في نضالها الدامي الطويل من أجل حياة أفضل في مهبّ الريح ومهددة بالفناء، كما يصبح الحديث عن استئناف مسيرة الحضارة الإسلامية غير ذي جدوى إطلاقاً.

نحن إذن في قضية المهدي أمام مسألة مصيرية ترتبط بواقعنا ومستقبلنا.. بواقع القيم الحضارية الإنسانية ومستقبلها.

كثيرون هم الذين بحثوا عن قضية المهدي في النصوص والروايات، وكثيرون هم الذين دخلوا في مسائل كلامية نظريّة عن هذه القضيّة. غير أن الدراسات الحضارية لهذه المسألة قليلة، ولا نبالغ إن قلنا إن الأستاذ العلامة مرتضى مطهّري يأتي على رأس من تناول المسألة من منظار حضاري.

من هنا ارتأى المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية أن يقدّم محاضرتين للأستاذ الشهيد مطهري في هذاالمجال بمناسبة الخامس عشر من شعبان الذي اقترن باسم الموعود المنتظر، آملين أن يكون بداية سلسلة نقدّم فيها المفاهيم الإسلامية برؤية حضارية تتعالى على النظرات المذهبية والطائفية الضيقة.

المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية

1 شعبان 1427

ص:8

الفصل الأول: مناهج دراسة مسألة «المهدي»

اشارة

ص:9

ص:10

مناهج دراسة مسألة «المهدي»

الإنسان موجود ينشد الكمال فطرياً، وهكذا المجتمع الإنساني، وهذه حقيقة تؤكد عليها الشرائع السماوية والمدارس الفكرية والفلسفية، أللهم إلا أصحاب الاتجاهات التشاؤمية، وقليل ماهم.

انطلاقاً من هذه الفطرة تطلعت البشرية دوماً إلى يوم موعود... يوم تحقق الآمال، وسيادة العدل، وزوال ألوان الظلم.

التطلع لمثل هذا اليوم شكّل ركناً من أركان الشرائع السماوية باعتبارها دين فطرة الله.

كما انعكس التطلع لهذا اليوم الغيبي على أشدّ المدارس الأرضية رفضاً للغيب مثل المادية الجدلية التي آمنت بيوم موعود تزول فيه كل ألوان الصراع القائم على ظهر الأرض، ويسود فيه الوئام والسلام.

مسألة «المهدي» في الإسلام تجسيد لهذا التطلع الفطري.

وهي إضافة إلى كونها عقيدة تلبي حاجة إيمانية فطرية في الإنسان

- ذات آثار عملية على مسيرة المجموعة المسلمة.

- في مرحلة النضال من أجل استلام زمام أمور خلافتها في الأرض.

ص:11

- وفي مرحلة تسلّم أعباء الأمانة الكبرى وممارسة أمور الاستخلاف. ((1))

في هذه المقدمة نستعرض الطرق التي سلكها الباحثون في دراسة مسألة «المهدي» في الإسلام لنتبين طريقة الأستاذ الشهيد مطهري لدراسة المسألة في هذا الكتاب.

سلك الباحثون في مسألة المهدي ثلاث طرق:

1 - دراستها على مستوى النصوص (المأثور من السنة إلى جانب بعض آيات القرآن الكريم).

2 - دراستها من وجهة النظر العقلية والعلمية.

3 - دراستها على ضوء فلسفة التاريخ ومستقبل المسيرة البشرية.

1 - دراسة المسألة على مستوى السنة

فكرة المهدي بوصفه القائد المنتظر الذي تتحقق على يديه تطلعات البشرية، وتطبيق الرسالة الإلهية بشكلها الشامل الكامل وردت في أحاديث الرسول وفي أحاديث أئمة آل البيت، وبلغت كثرة الروايات في هذا الشأن حداً لا يمكن أن يرقى اليها الشك.

أحصى العلماء أربعمائة (400) حديث عن النبي (ص) في المهدي من طرق أهل السنة ((2)). كما أُحصيت أكثر من ستة آلاف (6000) رواية في المهدي من طرق الشيعة والسنة ((3)).

ص:12


1- (1) - انظر دور الإيمان بالمهدي المنتظر في الفصل الثالث تحت عنوان «الإمداد الغيبي في حياة البشرية».
2- (2) - المهدي، سيد صدر الدين الصدر.
3- (3) - منتخب الأثر. لطف الله الصافي.

ولا نستطيع أن نجد مسألة إسلامية أخرى وردت فيها هذه الكثرة من الأحاديث، حتى المسائل الإسلامية البديهية التي لايشك فيها مسلم عادة.

ثمة فتوى صدرت عن إدارة المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة بشأن «المهدي» هي خير معبر عن الموقف العام لعلماء أهل السنة بشأن النصوص الواردة في هذه المسألة.

حرّر الفتوى الشيخ محمد المنتصر الكتاني وأقرته اللجنة المكونة من الشيخ صالح بن عثيمين والشيخ أحمد محمد جمال والشيخ أحمد علي والشيخ عبدالله خياط.

وجاء في هذه الفتوى الصادرة عام 1976 م في تعريف المهدي:

«هو: محمد بن عبدالله الحسني العلوي الفاطمي المهدي الموعود المنتظر، موعد خروجه في آخر الزمان وهو من علامات الساعة الكبرى، يخرج من المغرب ويبايع له في الحجاز في مكة المكرمة بين الركن والمقام بين باب الكعبة المشرفة والحجر الأسود عند الملتزم -.

ويظهر عند فساد الزمان وانتشار الكفر وظلم الناس ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً، يحكم العالم كله وتخضع له الرقاب بالإقناع تارة وبالحرب أخرى.

وسيملك الأرض سبع سنين، وينزل عيسى عليه السلام من بعده فيقتل الدجال أو ينزل معه فيساعده على قتله بباب لدّ بأرض فلسطين.

وهو آخر الخلفاء الراشدين الاثني عشر الذين أخبر عنهم النبي صلوات الله وسلامه عليه في الصحاح. وأحاديث المهدي واردة عن الكثير

ص:13

من الصحابة يرفعونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنهم: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبدالله، وعبدالرحمن بن عوف، وعبدالله بن عباس، وعمار بن ياسر، وعبدالله بن مسعود، وأبو سعيد الخدري. وثوبان، وقرة بن اياس المزني، وعبدالله بن الحارث بن جزء، وأبو هريرة، وحذيفة بن اليمان، وجابربن عبدالله، وأبو أمامة، وجابر بن ماجد الصدفي، وعبدالله بن عمر، وأنس ابن مالك، وعمران بن حصين، وأم سلمة.

هؤلاء عشرون منهم ممن وقفت عليهم وغيرهم كثير وهناك آثار عن الصحابة مصرحة بالمهدي من أقوالهم كثيرة جداً لها حكم الرفع إذ لا مجال للاجتهاد فيها.

أحاديث هؤلاء الصحابة التي رفعوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والتي قالوها من أقوالهم اعتماداً على ماقاله رسول الله صلوات الله وسلامه عليه رواها الكثير من دواوين الاسلام وأمهات الحديث النبوي من السنن والمعاجم والمسانيد.

منها: سنن أبي داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن عمرو الداني ومسانيد أحمد، وابن يعلي والبزار، وصحيح الحاكم، ومعاجم الطبراني، الكبير والوسيط، والروياني، والدار قطني في الافراد، وأبو نعيم في أخبار المهدي، والخطيب في تاريخ بغداد، وابن عساكر في تاريخ دمشق وغيرها.

وقد خص المهدي بالتأليف: أبو نعيم في أخبار المهدي وابن حجر الهيثمي في القول المختصر في علامات المهدي المنتظر، والشوكاني في

ص:14

التوضيح في تواتر ماجاء في المنتظر والدجال والمسيح، وادريس العراقي المغربي في تأليفه المهدي، وأبو العباس بن المؤمن المغربي في كتابه: الزعم المكنون في الرد على ابن خلدون.

وآخر من قرأت له عن المهدي بحثاً مستفيضاً مدير الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة في مجلة الجامعة في أكثر من عدد.

وقد نص على أن أحاديث المهدي أنها متواترة جمع من الأعلام قديماً وحديثاً.

منهم: السخاوي في فتح المغيث، ومحمدبن أحمد السفاويني في شرح العقيدة، وأبو الحسن الآبري في مناقب الشافعي، وابن تيمية في فتاواه، والسيوطي في الحاوي، وادريس العراقي المغربي في تأليف له عن المهدي، والشوكاني في التوضيح في تواتر ماجاء في المنتظر والدجال والمسيح، ومحمد بن جعفر الكتاني في نظم المتناثر في الحديث المتواتر، وأبو العباس ابن المؤمن المغربي في الوهم المكنون من كلام ابن خلدون رحمهم الله وحاول ابن خلدون في مقدمته أن يطعن في أحاديث المهدي محتجاً بحديث موضوع لا أصل له عند ابن ماجه: لا مهدي إلا عيسى.

ولكن ردّ عليه الأئمة والعلماء وأنه ليس من علماء الشريعة وأنه قال باطلا من القول وزوراً.

وخصه بالرد شيخنا ابن المؤمن بكتاب مطبوع متداول في الشرق والمغرب منذ أكثر من ثلاثين سنة.

ونص الحفاظ والمحدثون على أن أحاديث المهدي فيها الصحيح

ص:15

والحسن ومجموعها متواتر مقطوع بتواتره وصحته.

وأن الاعتقاد بخروج المهدي واجب وأنه من عقائد أهل السنة والجماعة ولا ينكره إلا جاهل بالسنة ومبتدع في العقيدة...».

أما النصوص الواردة بطرق مدرسة آل البيت فتنظر إلى المسألة ضمن دائرة أوسع وتذهب إلى:

أن (المهدي) هو الإمام الثاني عشر من أئمة آل البيت، وهو ابن الإمام الحسن العسكري، وهو غائب، وسيظهر في آخر الزمان ليملأ الارض قسطاً وعدلا كما مُلئت ظلماً وجوراً.

وجدير بالذكر أن فكرة الأئمة أو الخلفاء الأمراء الاثني عشر، لم تقتصر على مدرسة آل البيت، بل وردت فيها نصوص بعبارات مختلفة بطرق مختلفة.

2 - دراسة مسألة (المهدي) من وجهة النظر العقلية:

ذكرنا أن فكرة المهدي أقدم من الإسلام وأوسع من إطار الشرائع السماوية، لكن تفاصيل هذه الفكرة في الإسلام وخاصة في مدرسة أهل البيت «جاءت أكثر إشباعاً لكل الطموحات التي انشدّت إلى هذه الفكرة منذ فجر التاريخ الديني، وأغنى عطاء وأقوى إثارة لأحاسيس المظلومين والمعذبين على مر التاريخ، وذلك لأن الاسلام حوّل الفكرة من غيب إلى واقع، ومن مستقبل إلى حاضر، ومن التطلع إلى منقذ تتمخض عنه الدنيا في المستقبل البعيد، المجهول إلى الإيمان بوجود المنقذ فعلا، وبتطلعه مع المتطلعين إلى اليوم الموعود، واكتمال كل الظروف التي تسمح له بممارسة دوره العظيم» ((1)).

ص:16


1- (1) - الإمام الشهيد الصدر، بحث حول المهدي، ص 9.

وهذه القضية تطرح أسئلة متعددة عن العمر الطويل للمهدي، وعن سبب الغيبة، وسبب الانتظار، وعن الدليل العقلي (غير الروائي) لوجود المهدي، وعن كيفية التحول الذي يسفر عنه اليوم الموعود.

هذه المسائل عالجها العلماء بأدلة عقلية وعلمية وبرهنوا عليها سالكين طرق الاستدلال المنطقي والعلمي. وقد يطرح سؤال في هذا الصدد حول سبب طرح المسائل العقلية والعلمية بشأن مسألة ثبتت صحتها في الشريعة بالتواتر.

والجواب هو إن الاطمئنان العقلي (القلبي) يعمّق الإيمان، كما أن طريقة معالجة المسائل الدينية الغيبية على صعيد عقلي تصلح أن تخاطب المؤمنين بالغيب بكافة درجاتهم وهكذا غير المؤمنين بالغيب، وهي طريقة يحتاجها الدعاة إلى الله في كافة العصور، وخاصة في العصر الذي تطغى فيه الروح المادية، ويسود فيه الجدب الايماني.

حول مسألة (إمكان) طول العمر (التي تقرّها مدرسة آل البيت) وهي أهم مسألة مطروحة على الصعيد العقلي بشأن المهدي الغائب المنتظر يقسم بعض العلماء «الامكان» إلى معانيه الثلاثة: ((1)).

1 - الإمكان العملي: أن يكون الشيء ممكناً على نحو يحتاج لفرد أو لأفراد أن يحقّقوه فعلا، كالصعود إلى القمر مثلا.

2 - الإمكان العلمي: وهو أن يكون تحقق الشيء غير مرفوض علمياً،

ص:17


1- (1) - الامام الشهيد الصدر، بحث حول المهدي، وقد اعتمدنا في استعراض المنهج العقلي في دراسة مسألة المهدي على هذا الكتاب، فهو جامع على إيجازه وصغر حجمه، وعلى الرغم من كونه (مقدمة فقط) على موسوعة تلميذه السيد محمد الصدر، في الإمام المهدي.

ولكنه قد لا يكون ميسوراً حاليا، كالصعود إلى كوكب الزهرة مثلا، فهذا الصعود لا يرفضه العلم غير أن سبله غير ميسورة حالياً، على العكس من الصعود إلى الشمس فإنه غير ممكن عمليا.

3 - الإمكان المنطقي والفلسفي: هو أن لا يوجد لدى العقل وفق ما يدركه من قوانين قبلية أي سابقة على التجربة ما يبرر رفض الشيء والحكم باستحالته.

فانقسام العدد (3) إلى عددين متساويين صحيحين مرفوض منطقياً، لأن هذا الانقسام من خصائص العدد (الزوج) والعدد 3 عدد (فردي) ولا يمكن أن يكون العدد زوجياً وفردياً في آن واحد لأن ذلك تناقض والتناقض مستحيل منطقياً.

بينما صعود الإنسان إلى الشمس ممكن منطقياً لأنه لا يستلزم حدوث تناقض، اذ لا تناقض في افتراض أن الحرارة لا تتسرب من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم الأقل حرارة، وإنما هو مخالف للتجربة. من هذا يتبين أن الإمكان المنطقي أوسع دائرة من الإمكان العملي، وهذا أوسع دائرة من الإمكان العلمي.

لاشك أن امتداد عمر الإنسان آلاف السنين يمكن منطقياً، لأنه لا يستوجب حدوث أي تناقض، وليس مستحيلا من وجهة نظر عقلية تجريدية.

والاتجاهات العلمية بأجمعها لا ترفض إمكانية إطالة عمر الإنسان سواء فسّرنا الشيخوخة بوصفها نتاج صراع واحتكاك مع مؤثرات

ص:18

خارجية أو نتاج قانون طبيعي للخلية الحية نفسها يسير بها نحو الفناء، لأنه من الممكن علمياً تأجيل قانون الشيخوخة بخلق ظروف وعوامل معينة.

من هنا نفهم أن طول عمر الإنسان وبقاءه قروناً متعددة أمر ممكن منطقياً وممكن علمياً ولكنه لايزال غير ممكن عملياً، إلا أن اتجاه العلم سائر في طريق تحقيق هذا الإمكان عبر طريق طويل.

وعلى هذا الضوء يمكن فهم مسألة عمر المهدي عليه الصلاة والسلام وما أحيط بها من استفهام واستغراب.

وبشأن فوائد هذه الغيبة الطويلة ومبرراتها العقلية ذكر انها:

1 - إعداد القائد المنتظر إعداداً نفسياً مشحوناً بالشعور بالتفوق والإحساس بضآلة الكيانات الشامخة التي أعدّ (المهدي) للقضاء عليها ولتحويلها حضاريا إلى عالم جديد.

2 - تعميق الخبرة القيادية في القائد المدّخر لليوم الموعود، عن طريق مواكبة الحضارات المتعاقبة والمواجهة المباشرة لحركتها وتطوراتها.

3 - ضرورة قرب القائد المنتظر من مصادر الإسلام الأولى وبناء شخصيته بناء كاملا بصورة مستقلة ومنفصلة عن مؤثرات الطروحات البشرية المنحرفة.

وثمة سؤال أخر يطرح حول سبب امتداد الغيبة وسبب عدم الظهور طيلة هذه المدة.

والجواب: أن نجاح كل عملية تغيير اجتماعي ترتبط بتوفر شروط وظروف موضوعية.

ص:19

وقد جرت سنة الله تعالى في عمليات التغيير الرباني على التقيد من الناحية التنفيذية بالظروف الموضوعية التي تحقق المناخ المناسب والجو العام لإنجاح عملية التغيير، ومن هنا لم يأت الإسلام إلا بعد فترة من الرسل وفراغ مرير استمر قروناً من الزمن.

وعملية التغيير الكبرى هذه لا يكفي في ممارستها مجرد وصول الرسالة والقائد الصالح، والا لتمّت شروطها في عصر النبوة بالذات، وانما تتطلب مناخاً عالمياً مناسباً وجواً عاماً مساعداً يحقق الظروف الموضوعية المطلوبة لعملية التغيير العالمية.

والشروط الموضوعية لظهور المهدي عليه السلام تتوفر على الصعيد البشري بشعور عام بسلبيات البناء الحضاري القائم وبحاجته إلى العون ملتفتاً بفطرته إلى الغيب أو إلى المجهول.

وتتوفر على الصعيد المادي بتطور الوسائل المادية الحديثة إلى درجة توفير الأدوات والوسائل التي يحتاجها جهاز مركزي لممارسة توعية شعوب العالم وتثقيفها على أساس الرسالة الجديدة.

هذه هي أهم المسائل المطروحة على المنهج العقلي في دراسة مسألة المهدي، استعرضتها كما ذكرت من المقدمة التي كتبها الإمام الشهيد محمد باقر الصدر قدس سره على موسوعة تلميذه الشهيد السيد محمد الصدر، وهذه الموسوعة تكفلت بمعالجة المسألة على كافة الاصعدة بشكل واف وعميق ((1)).

ص:20


1- (1) - راجع تاريخ الغيبة الصغرى، تاريخ الغيبة الكبرى، تاريخ مابعد الظهور، اليوم الموعود.

3 - دراسة مسألة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ

والدراسة المنشورة في هذا الكتاب تحت عنوان: «نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ» نموذج لمثل هذه الدراسة.

وقبل أن أستعرض منهج الدراسة، لابد أن أشير إلى مسألة دأب على ذكرها علماء الاجتماع الغربيون وتلامذتهم من المسلمين مع الاسف عند حديثهم عن مسيرة التاريخ.

حين يستعرض هؤلاء التفاسير المختلفة لمسيرة التاريخ أو مسيرة المجتمع البشري يتحدثون عن «التفسير الديني لمسيرة المجتمع» باعتباره واحداً من الاتجاهات التشاؤمية لتفسير المسيرة البشرية ((1)).

وحجتهم في ذلك قصة آدم، المذكورة في الكتب السماوية. وهذه القصة تذهب على حدّ قول الغربيين والمتغربين إلى أن آدم (وهو رمز لبني الإنسان) كان يعيش في الجنّة رغداً آمنا منعماً لكنه ارتكب خطيئة أدّت به إلى أن يطرد من الجنة، ويلاقي هو وأولاده النصب والعناء في هذه الدنيا، ومن هنا فالحياة البشرية، في النظرة الدينية، محكوم عليها بالإرهاق والتعب والنصب، ولاراحة لبني البشر ألا بالعودة إلى الجنة التي أخرج أبوهم منها.

هذا اللون من الفهم لقصة آدم قد ينسجم مع تفاسير الكنيسة المسيحية وعرض الاناجيل الموجودة، لهذه القصة، لكنه بعيد كل البعد عن الفهم الإسلامي القرآني لها.

ص:21


1- (1) - راجع «مسيرة المجتمع» عبدالجليل الطاهر.

لا يمكن في هذه المقدمة استعراض تفاصيل قصة آدم من وجهة النظر القرآنية، ومعطياتها والدروس العظيمة المستخلصة منها، فنكتفي بذكر بعض آيات هذه القصة وجانب من دروسها بقدر ما يتعلق الأمر بمستقبل المسيرة البشرية.

قال تعالى: وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً، وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ أَبى، فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى، إِنَّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى، وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى، فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لا يَبْلى، فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى، ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى، قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى، وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى

(طه/ 115-123).

الآيات تتحدث أولا عن مكانة آدم في الوجود، وهي مكانة استحق فيها أن تسجد له الملائكة، لأنه خليفة الله كما تذكر آيات أخرى.

وقصته في الجنة هي قصة مرور الممثل الأول للإنسانية التي استخلفها الله تعالى على الارض بفترة حضانة استثنائية على حد تعبير الشهيد محمد باقر الصدر - ((1)). لتنمو فيه مؤهلات ممارسة الخلافة على الأرض

ص:22


1- (1) - خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء، فصل مسار الخلافة الربانية على الارض.

من ناحية فهم الحياة ومشاكلها المادية، ومن ناحية مسؤولياتها الخلقية والروحية.

«وقد استطاعت المعصية التي ارتكبها آدم بتناوله من الشجرة المحرمة أن تحدث هزة روحية كبيرة في نفسه وتفجر في أعماقه الإحساس بالمسؤولية من خلال مشاعر الندم... وبهذا تكامل وعيه في الوقت الذي كانت قد نضجت لديه خبرات الحياة المتنوعة.

وتعلّمَ الاسماءَ كلها فحان الوقت لخروجه من الجنّة إلى الارض التي استخلف عليها ليمارس مسيرته نحو الله من خلال دوره في الخلافة».

لقد خرج وهو محمّل بتجربة عظيمة أوضحت له ضرورة الالتزام بهدى الله وعدم الانحراف عن الطريق الذي رسمه ربّ العالمين لبني الإنسان. ومادامت البشرية سائرة على هذا الطريق فإنها لا تضلّ ولا تشقى، لكنها إن انحرفت، تُمنى بمعيشة ضنكى.

ليست الإنسانية محكومة بالضلال والشقاء إذن، بل إن الله هدى البشرية فطريا وزوّدها بتجربة ذاتية نحو السعادة الحقيقية.

ومتى ما انحرفت المسيرة هيأ الله من يوجّه البشرية نحو سعادتها الحقيقية ويكون (شاهداً) عليها.

وبشأن مستقبل المسيرة البشرية يطرح علماء الاجتماع الغربيون والمتغرّبون الماركسية باعتبارها مدرسة تفاؤلية فسّرت المسيرة ومستقبلها تفسيراً يبعث على الامل في المستقبل ويبشّر بمجتمع تزول فيه كل ألوان الظلم والاستغلال.

مطهّري يطلق على التفسير المذكور للتاريخ إسم «التفسير الآلي» لأنه يتّخذ من تطور وسائل الانتاج أساسا لتفسير كل ظواهر التاريخ والمجتمع.

ثم يطرح مقابل ذلك «التفسير الإنساني» لمسيرة التاريخ، ويبيّن

ص:23

خصائص كل واحد من هذين التفسيرين، ونقاط التقائهما وافتراقهما.

ثم يوضح أنّ التفسير الإسلامي لمسيرة التاريخ هو «تفسير إنساني» وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ مطهري لا يعالج في هذه الدراسة مسألة فلسفة التاريخ إلاّ بقدر ما يتعلق بمسألة انتظار (المهدي) عليه السلام مؤكداً أن هذا الانتظار للمستقبل المشرق، الذي وعد الله تعالى به البشرية إذ قال: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (القصص: 5)..

وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ (الانبياء: 105).

رافضاً بذلك النظرة التقاعسية الاتكالية للانتظار، التي تقف موقف المتفرج من استفحال الانحراف والفساد والطاغوت على ظهر الارض، انتظاراً لحدوث معجزة التغيير ((1)).

ويؤكد الأستاذ الشهيد مرتضى مطهري أن ظهور المهدي أو ظهور الدولة الإسلامية العالمية يسبقه سلسلة من الانتفاضات والنهضات التي تمهّد لظهور ذلك المجتمع الإنساني العالمي، وتدعم جبهة أنصار الحق في صراعها مع جبهة الباطل.

ويخلص الأستاذ الشهيد من بحثه إلى أن «المهدي المنتظر تجسيد لأهداف الأنبياء والصالحين والمجاهدين على طريق الحق».

المترجم

ص:24


1- (1) - قدم الشهيد مطهري دراسة عن مسائل التاريخ والمجتمع في كتابه «المجتمع والتاريخ» منشور في مؤسسة البعثة، طهران.

الفصل الثاني: نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ

اشارة

ص:25

ص:26

نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ

الفِِرق والمذاهب الإسلامية تُجمع - مع اختلاف طفيف بينها - على حتمية انتصار قوى الحق والعدالة والسلام في صراعها مع قوى الباطل والظلم والعدوان في نهاية المطاف، وتؤمن بغد يشع فيه نور الاسلام على جميع ربوع المعمورة، وتسود فيه القيم الانسانية سيادة تامة، ويتحقق ظهور المدينة الفاضلة والمجتمع الأمثل.

المسلمون يجمعون أيضا أن هذه الآمال الانسانية الكبيرة ستتحقق على يدشخصية مقدسة أطلقت عليها الروايات الإسلامية اسم «المهدي».

هذه الفكرة تنطلق أساسا من المفاهيم القرآنية التي تؤكد على حتمية انتصار رسالة السماء ((1)). وحتمية انتصار الصالحين ((2)). والمتقين، وحتمية انهزام قوى الظلم والطغيان ((3)). وحتمية بزوغ فجر غد

ص:27


1- (1) - هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (التوبة: 33) (الصف/ 9).
2- (2) - وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ (الانبياء: 105)
3- (3) - وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (القصص: 5)

مشرق سعيد على البشرية ((1)). هذه الفكرة تنطوي قبل كل شيء على نظرة تفاؤلية تجاه المسيرة العامة للنظام الطبيعي وتجاه مسيرة التاريخ، وتبعث الأمل في المستقبل، وتزيل كل النظرات التشاؤمية بالنسبة لما تنتظره البشرية في آخر تطلعاتها.

انتظار الفرج

الأمل في تحقق هذا الهدف الانساني العالمي، ورد في الروايات الإسلامية بعبارة «انتظار الفرج» واعتبر الإسلام هذا الانتظار عبادة بل من أفضل العبادات.

مبدأ انتظار الفرج يمكن استنباطه من مفهوم قرآني آخر هو «حرمة اليأس من روح الله».

المجموعة المؤمنة بالنصر الالهي لا تفقد الأمل مهما قست الظروف ولا تسلم نفسها لليأس والعبث بأي حال من الأحوال.

مفهوم انتظار الفرج وعدم اليأس من رَوح الله من المفاهيم الإسلامية الشاملة التي لا تختص بفرد معين أو جماعة محددة، فهو يحمل البشائر للبشرية بأجمعها، ويحمل معه أيضا صفات محددة لهذه البشائر.

نوعان من الانتظار

انتظار الفرج، والتطلع إلى مستقبل أفضل على نوعين:

الأول: انتظار مثمر بناء يبعث على الالتزام ويمنح القوة والتحرك،

ص:28


1- (1) - قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَ اصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (لأعراف: 128)

ومثل هذا الانتظار يمكنه أن يكون نوعاً من العبادة وطريقاً لطلب الحق.

الثاني: انتظار محرّم هدّام يؤدّي إلى الوقوع في الأغلال وإلى شلّ الطاقات، ويمكن اعتباره نوعاً من «الإباحية» كما سنوضح ذلك في آخر هذا البحث.

هذان النوعان من الانتظار ينطلقان من انطباعين مختلفين عن ظهور المهدي الموعود. وهذان الانطباعان بدورهما ناشئان عن رؤيتين متباينتين للتطورات والتغيرات التاريخية. من هنا يلزمنا أن نلقي بعض الضوء على طبيعة مجرى الأحداث التاريخية.

شخصية المجتمع وطبيعته

هل التطورات التاريخية سلسلة من الأمور الطبيعية أم مجموعة من الأحداث التي تتحكم فيها الصدفة والاتفاق؟

الطبيعة خالية طبعاً من الصدفة الواقعية، أي خالية من بروز أو حدوث ظاهرة ليست لها علة. لكن الصدفة موجودة بشكل نسبي قطعاً.

لو خرجتَ صباح أحد الايام من بيتك، وشاهدتَ صديقاً لك لم تره منذ سنين وهو يمر من أمام بيتك، فإنك ستقول: إن هذا اللقاء حدث بطريق المصادفة والاتفاق.

لماذا؟.. لأن طبيعة الخروج من البيت - بشكل عام - لا تستلزم مثل هذا اللقاء. ولو استلزم ذلك لا لتقيت بهذا الصديق كل يوم.

نحن إذن نطلق اسم «الصدفة» على كل ظاهرة لا تنسجم علتها مع الطبيعة العامة لعلة تلك الظاهرة.

ص:29

ما يحدث بالصدفة لا يخضع لضوابط عامة، ولا لقوانين علمية، إذ إن القوانين العلمية تعبر عن الاحداث العامة للطبيعة.

نعود الى السؤال الذي طرحناه آنفا..

رب قائل: إن أحداث التاريخ هي سلسلة من الصدف والاتفاقات، أي إنها لا تنضبط تحت قاعدة عامة.. هذه المقولة تعني: أن المجتمع عبارة عن مجموعة من أفراد ذوي طبائع فردية شخصية، وما يقوم به هؤلاء الأفراد من نشاطات نابعة من دوافعهم الفردية الشخصية، يؤدي إلى سلسلة من المصادفات والاتفاقات.. وهذه بدورها تؤدي إلى التغييرات التاريخية.

هذه نظرة

والنظرة الاخرى ترى أن للمجتمع وجوده وشخصيته المستقلة عن الأفراد، وله مسيرته التي تقتضيها طبيعته وشخصيته. فشخصية المجتمع هي غير شخصية الأفراد، والشخصية الواقعية والحقيقية للمجتمع تركيب مكون من التفاعل الثقافي للأفراد كسائر التراكيب المشهودة في الطبيعة الحية والجامدة.

المجتمع - بناءاً على هذا - له طبيعته وقواعده وضوابطه الخاصة التي تؤطّر مسيرته، وهذه المسيرة بكل ما فيها من أفعال وردود أفعال إنما تقوم على أساس قوانين كلية عامة.

لا يمكن أن تكون للتاريخ فلسفة ولا قواعد ولا ضوابط عامة، ولا بمقدوره أن يكون موضوعاً للفكر وأساساً للدراسة والتذكر والاعتبار ما لم

ص:30

يكن للمجتمع شخصية مستقلة وطبيعة خاصة. وإن افتقد المجتمع هذه الشخصية المستقلة تحول التاريخ إلى تعبير عن حياة مجموعة من الأفراد، وفقد عطاءه التربوي. وان كانت في مثل هذا التاريخ عظة وعبرة، اقتصرت العظة والعبرة على الحياة الفردية ولا تتعداها إلى حياة الشعوب والجماعات.

فهمنا لأحداث التاريخ يقوم إذن على أساس فهمنا لشخصية المجتمع وطبيعته.

القرآن والتاريخ

مسألة «انتظار الفرج» التي نريد معالجتها في هذا البحث دينية إسلامية، ذات جذور قرآنية، إضافة لما لها من طابع فلسفي واجتماعي. ينبغي على هذا أن نوضح رأي القرآن في المجتمع وأحداثه وتطوراته قبل البحث في مسألة الانتظار.

ليس ثم شك في أن القرآن الكريم يذكر التاريخ على أنه مصدر للتذكّر والتفكّر ولتلقّي العبرة والدروس. لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الصدد يدور حول طبيعة النظرة القرآنية للتاريخ، أهي نظرة فردية أم اجتماعية؟ هل ينطلق القرآن في طرح العبر والدروس من حياة الأفراد أم من حياة الجماعات؟

وإذا كان القرآن يتجه في سرده للتاريخ إلى حياة الجماعات لا الأفراد.. فهل هذا يعني أن القرآن يعتبر المجتمع شخصية مستقلة مدركة، ذات قوة وشعور، ومستقلة عن حياة الأفراد؟

ص:31

وإذا كان جواب السؤال الاخير إيجابيا، فهل نستطيع أن نستنبط من القرآن الكريم السنن والقوانين التي تحكم المجتمعات؟

هذه المواضيع تحتاج إلى دراسات وافية وتتطلب تدوين رسائل مستقلة ((1)).

نستطيع هنا أن نشير بشكل موجز جداً إلى أن القرآن ينطلق في قسم من دروسه وعبره - على الأقل - من حياة الأمم والجماعات.

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ (البقرة: 141).

القرآن يطرح مراراً مسألة حياة الامم وآجالها فيقول مثلا:

وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ (الأعراف: 34)

القرآن الكريم يرفض بشدة النظرة العبثية الى التاريخ ويشدد على وجود قواعد ثابتة دائمة لمسيرة الامم والجماعات فيقول: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّهِ تَحْوِيلاً (فاطر: 43).

القرآن يشير إلى مسألة تربوية هامة في حقل القوانين التي تحكم التاريخ حين يؤكد أن البشرية هي التي ترسم بيدها مصيرها عن طريق ما تقوم به من أعمال صالحة أم طالحة.

وهذا يعني أن النظرية القرآنية تذهب إلى أن قوانين المسيرة البشرية

ص:32


1- (1) - راجع تفسير «الميزان»، الجزء 4، ص 103، الجزء 7، ص 333، الجزء 8، ص 85، الجزء 10، ص 71-73، الجزء 18، ص 191

ماهي إلا سلسلة من ردود الفعل لما تفعله الأقوام والجماعات.

من هنا نفهم أن النظرية القرآنية تؤكد على وجود قوانين ونواميس كونية ثابتة لمسيرة التاريخ، كما تؤكد في الوقت ذاته على دور الإنسان وحريته واختياره.

في القرآن الكريم آيات كثيرة بهذا الصدد، نذكر منها على سبيل المثال الآية 11 من سورة الرعد: إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ.

تفسير تكامل التاريخ

المدرسة الفكرية التي تنظر إلى المجتمع باعتباره موجوداً ذا شخصية مستقلة وطبيعة خاصة، لها نظرتها المعينة أيضا إلى تكامل المجتمع، ولها تفسيرها الخاص لطبيعة المسيرة البشرية ولمسألة التكامل.

مرَّ بنا أن القرآن الكريم يؤكد على شخصية المجتمع وواقعيته، كما يؤكد أيضا على الاتجاه الارتقائي التكاملي للمجتمع.

ومن جهة اخرى نعلم أن ثمة مدارس فكرية أخرى تذهب أيضا إلى أن مسيرة البشرية تسير سيراً ارتقائيا تفرضه حتمية التاريخ.

من هنا كان لزاما علينا أن نلقي الضوء على الفرق بين النظرة القرآنية في هذا المجال ونظرة بعض المدارس الفكرية الأخرى، وأن نفهم من خلال ذلك دور الإنسان ومسؤوليته لنستجلي من ذلك كله طبيعة «الانتظار الكبير» وكيفيته.

طريقتان مختلفتان

تكامل التاريخ يمكن تفسيره بطريقتين مختلفتين: إحدى هاتين

ص:33

الطريقتين نطلق عليها اسم التفسير «الآلي» أو الديالكتيكي.

والطريقة الاخرى: التفسير «الانساني» أو «الفطري». ومن هاتين الطريقتين المتباينتين لتفسير تكامل التاريخ ينبثق اتجاهان فكريان مختلفان شكلاً وماهية.

نستعرض فيما يلي هاتين الطريقتين بقدر ما يتعلق الموضوع بمسألة «الانتظار» و «الأمل» بالمستقبل لا أكثر.

الطريقة الديالكتيكية أو الآليّة

هذه الطريقة تفسر تكامل التاريخ على أساس الصراع بين النقائض. وأولئك الذين يتّخذون من هذه الطريقة وسيلة لتفسير تكامل المسيرة البشرية لا يقتصرون على التاريخ بل يفسرون كل أجزاء الطبيعة على هذا الأساس.

نشير فيما يلي بشكل موجز الى التفسير الديالكتيكي للطبيعة باعتباره أساساً للتفسير الآلي للتاريخ.

يقوم التفسير الديالكتيكي للطبيعة على الأسس التالية:

أولا: الطبيعة في حركة مستمرة ودائمة، وليس فيها ما هو ساكن وثابت، فالنظرة الصحيحة للطبيعة إذن هي أن نرى الأشياء في حالة حركة وتغير دائمين، والفكر هو أيضا متغير باعتباره جزءاً من الطبيعة.

ثانيا: كل جزء من أجزاء الطبيعة يتأثر بأجزاء الطبيعة الأخرى ويؤثر فيها. فهناك ارتباط عام بين جميع الأجزاء، وعلى هذا فالنظرة إلى الطبيعة

ص:34

لا تكون صحيحة مالم تدرس جميع الأشياء وهي مرتبطة مع بعضها، لا مفككة ومجزأة.

ثالثا: الحركة ناشئة عن صراع النقائض. فكما قال «هرقليطس» اليوناني قبل خمس وعشرين قرناً: الصراع أساس كل تطور.

وصراع النقائض يأتي عن طريق اتجاه كل ظاهرة نحو ضدّها ونقيضها، وهذه الظاهرة تحمل نقيضها معها. فكل ظاهرة موجودة ومعدومة في آن واحد. لأنها تحمل عوامل عدمها وفنائها معها.

ومع نمو النقيض يحتدم الصراع بين الظاهرة الأصلية التي نريد الحفاظ على وضعها ووجودها، وبين نقيضها الذي يريد أن يبدلها إلى ضدها.

رابعا: الصراع بين النقائض داخل الظواهر يزداد شدة باستمرار حتى يبلغ ذروته، أي إن التغيير الكمي يزداد ليبلغ أقصى حد ممكن، وحينئذ تحدث طفرة ثورية في التغييرات الكمية لتتحوّل إلى تغييرات كيفية، وينتهي الصراع لصالح القوى الجديدة، وتندحر القوى القديمة ويتبدل الشيء بأجمعه إلى نقيضه.

فهذه الطريقة لفهم الوجود تتلخص إذن في افتراض قضية أولى وجعلها أصلاً وهي ما يطلق عليها اسم «الاطروحة» ثم ينقلب هذا الاصل إلى نقيضه وهو «الطباق» بحكم الصراع في المحتوى الداخلي بين المتناقضات، ثم يأتلف النقيضان في وحدة وهي «التركيب» وتصبح هذه الوحدة بدورها أصلا ونقطة انطلاق جديدة، وهكذا يتكرر هذا التطور الثلاثي وبهذا الشكل تطوي الطبيعة مراحل تكاملها.

ص:35

فالطبيعة ليست هادفة ولا تنشد كمالها، بل تتجه نحو انهدامها، لكن هذا الانهدام يحمل بدوره عنصر انهدامه، وكل نقيض يتجه بدوره نحو نقيضه.. والنفي نوع من التركيب الذي يؤدي إلى دفع التاريخ نحو التكامل بشكل حتمي وجبري.

والتاريخ جزء من الطبيعة، وهو لذلك يطوي نفس مسيرة الطبيعة على الرغم من أن عناصر المسألة التاريخية هم أفراد البشر.

أي إن التاريخ هو تحرك مستمر وارتباط متبادل بين الإنسان والطبيعة، والانسان والمجتمع.. وهو مواجهة وجدل دائمان بين المجموعات الإنسانية الفتية، والمجموعات التي تتجه نحو الزوال.. وهذه المواجهة تؤدي في نهاية الامر إلى حركة حادة ثورية لصالح القوى الفتية النامية.

بعبارة أخرى: التاريخ مسرح لصراع الاضداد.. حيث تتجه كل ظاهرة نحو ضدها ثم يتم التكامل على أثر تركيب الأضداد.

هذه النظرية تذهب بعد ذلك إلى أن العمل الانتاجي هو أساس حياة البشرية والعامل المحرك للتاريخ.

فالعمل الاجتماعي في أية مرحلة من مراحل التاريخ يخلق نوعاً خاصاً من العلاقات الاقتصادية بين الأفراد. وهذه العلاقات الاقتصادية تؤدي الى انبثاق مجموعات من العلاقات الأخرى كالعلاقات الخلقية والسياسية والقضائية والعائلية ونظائرها.

والعمل الإنتاجي لا يتوقف على شكل معين، إذ إن الإنسان مزود بقدرة على تطوير وسائل الانتاج. وتكامل وسائل الانتاج يؤدي إلى

ص:36

زيادة الانتاج وإلى خلق جيل جديد يحمل أفكاراً جديدة متكاملة. أي إن هناك تأثيراً متبادلاً بين الإنسان والآلة، الإنسان يخلق الآلة، والآلة تخلق الإنسان الجديد. ومن جهة أخرى، زيادة الإنتاج تؤدي إلى إيجاد علاقات اقتصادية جديدة، ومن هذه العلاقات الاقتصادية الجديدة تنبعث مجموعة أخرى من العلاقات الاجتماعية. وهذا هو المقصود من مقولة: الاقتصاد يشكل البناء التحتي للمجتمع، وكل ما عداه فهو بناء فوقي. أي إن جميع الأوضاع الاجتماعية معلولة للوضع الاقتصادي.

وعندما يتغير البناء التحتي على أثر تطور وسائل الإنتاج تتغير كل الأبنية الفوقية. وفي هذه الحالة تحاول القوى التي ترتبط مصالحها بالوضع الاقتصادي القديم أن تحافظ على هذا الوضع بشكله الموجود، لكن الطبقة الفتية المرتبطة بوسائل الإنتاج الجديدة ترى أن مصالحها تقتضي تغير الأوضاع وإحلال نظام اقتصادي جديد، ومن هنا تسعى إلى تغيير المجتمع وتطويره وإلى إيجاد نوع من التناسق بين المسائل الاجتماعية من جهة ووسائل الانتاج المتكاملة ومستوى الإنتاج الجديد من جهة أخرى.

ويستمر الصراع بين الفريقين: فريق رجعي ومرتبط بالماضي، والآخر تقدمي يرتبط بالمستقبل. أحدهما: يرى ضرورة بقاء الأوضاع الموجودة من أجل استبقاء وجوده. والآخر: يسعى نحو أجواء جديدة وأوضاع جديدة: أحدهما: يتجه نحو الزوال، والآخر: نحو النمو.

ويشتد هذا الصراع ويحتدم ليبلغ ذروته حيث يحدث الانفجار، ويتبدل المجتمع في خطوة ثورية تبدلا يتمثل بتغير النظام القديم

ص:37

وإحلال النظام الجديد وانتصار القوى الجديدة وفشل القوى القديمة.

وهنا تبدأ مرحلة جديدة من مراحل التاريخ، وهذه المرحلة الجديدة تتطور أيضا إلى مرحلة جديدة أخرى بنفس الطريقة السابقة.

فالتاريخ في مفهوم هذه النظرية يطوي مسيرته عبر الأضداد. وكل مرحلة من مراحل التاريخ تحمل في أحشائها المرحلة التالية. وبعد صراع مستمر تترك المرحلة السابقة مكانها للمرحلة التالية.

هذا الاتجاه الفكري لتفسير الطبيعة والتاريخ يسمى الاتجاه الديالكتيكي.

ولما كان هذا الاتجاه يعتبر كل القيم والأوضاع الاجتماعية في جميع مراحل التاريخ مرتبطةً بوسائل الإنتاج وتابعة لها، فقد أطلقنا عليه اسم «التفسير الآلي» ومتى ما ذكرنا مصطلح «التفسير الآلي للتاريخ» فإننا نقصد به هذا اللون من التفكير.

العنصر الأساسي

ما هو العنصر الأساسي الذي يمتاز به التفكير الديالكتيكي في حقل التاريخ والطبيعة؟

ما هو الفرق الرئيسي بين هذا الاتجاه وهذا المنطق، والاتجاهات الفكرية والمنطقية الأخرى.

ما الذي يميز هذا التفسير للظواهر الطبيعية عن التفسير الذي يطلق عليه أرباب المنطق الديالكتيكي اسم «التفسير الميتافيزيقي»؟

دعاة المنطق الديالكتيكي يتّبعون مع الأسف طريقة «الغاية تبرر

ص:38

الوسيلة» في عرض المفاهيم، وهم لذلك يلقون التهم تلو التهم على ما يسمونه بالمنطق الميتافيزيقي، عند إجابتهم على الأسئلة المذكورة.

ويقولون: إن التفكير الديالكتيكي ينظر إلى جميع الاشياء باعتبارها متحركة، بينما يعتبر الاتجاه الميتافيزيقي جميع أجزاء الطبيعة ساكنة جامدة.

لكن الحقيقة غير ذلك، فأرباب الاتجاه الميتافيزيقي لا ينظرون الى الأشياء باعتبارها جامدة غير متحركة، بل بالعكس فالبحوث المتعلقة بالطبيعة في الفلسفة الالهية ترى أن السكون في الطبيعة مفهوم نسبي والثبات من خصائص ماوراء الطبيعة ((1)).

ويقولون أيضا: ان التفكير الديالكتيكي يعتبر الاشياء مرتبطة مع بعضها وذات تأثير متبادل على بعضها. بينما اصحاب مايسمى بالمنطق الميتافيزيقي ينظرون إلى الاشياء مفككة غير مترابطة مع بعضها.

وهذا مخالف للواقع، فما يسمونه بالمنطق الميتافيزيقي لا ينظر إلى الاشياء باعتبارها منفصلة مفككة عن بعضها ((2)). الفلاسفة الإلهيون أول من نظر إلى أجزاء العالم باعتبارها مرتبطة مع بعضها ارتباطاً عضوياً، والى العالم على أنه إنسان كبير، وإلى الإنسان على أنه عالم صغير، مع فارق في التعبير وطريقة الاستنتاج بين الماديين والإلهيين في هذا الصدد.

ويقولون كذلك: إن المسألة الاساسية التي تميز التفكير الديالكتيكي

ص:39


1- (1) - للتوسع في هذا الصدد راجع «فلسفتنا» محمدباقر الصدر، فصل «حركة التطور» (المترجم).
2- (2) - راجع نفس المصدر، فصل «الارتباط العام» (المترجم).

عن التفكير الميتافيزيقي هي مسألة التضاد. ويستند هؤلاء الى المبدأ المعروف في المنطق والفلسفة القائل بعدم إمكان اجتماع النقيضين وارتفاعهما ليستنتجوا: أن التفكير الميتافيزيقي يرفض أي نوع من التناقض وأنه يرى جميع أجزاء الطبيعة منسجمة مع بعضها حتى الماء والنار! وأن أرباب التفكير الميتافيزيقي يدعون القوى الاجتماعية الكادحة المسحوقة - انطلاقا من رؤيتهم هذه - إلى المصالحة والمسالمة (كذا!).

والحقيقة أن المبدأ المذكور لا علاقة له إطلاقاً بمسألة التناقض، وهذا اللون من الاستنتاج تحريف للحقائق.. فأصحاب التفكير الإلهي يرون أن التضاد في عناصر الطبيعة شرط لازم لدوام الفيض من الباري تعالى ((1)).

ويدعون أيضا: أن العنصر الأساسي الذي يمتاز به التفكير الديالكتيكي في حقل التاريخ والطبيعة هو مبدأ قفزات التطور والحركات الثورية في التاريخ.

لكن هذا الادعاء مرفوض أيضا لأن مسألة قفزات التطور ليست لها أصالة في التفكير الديالكتيكي.

هيغل - أبو الديالكتيك - لم يذكر هذا المبدأ ضمن مبادئ الديالكتيك، وهكذا كارل ماركس.

مبدأ قفزات التطور ظهر في القرن التاسع عشر في علم الأحياء وأضافه أنجلس - تلميذ ماركس - إلى مبادئ الديالكتيك، واليوم يعتبر

ص:40


1- (1) - كتب المؤلف الشهيد مقالاً قيماً في هذا الحقل تحت عنوان «أصل التضاد في الفلسفة الإسلامية».

هذا المبدأ من قوانين علم الأحياء، وليس له ارتباط بأية مدرسة فكرية.

فما هو العنصر الأساسي أذن؟

العنصر الأساسي الذي يمتاز به هذا الاتجاه الفكري عن غيره من الاتجاهات يتلخص بمايلي:

1 - قوله بديالكتيكية الفكر: أي إن الفكر الإنساني جزء من الطبيعة، وهو بالتالي خاضع لقوانين الديالكتيك الأربعة: «حركة التطور - وتناقضات التطور - وقفزات التطور - والارتباط العام». والاتجاه الديالكتيكي ينفرد في هذا، ولا يشاركه فيه اتجاه آخر.

2 - تحديده للتناقض بالانتقال من الأطروحة إلى الطباق ومنه إلى التركيب، أي إن الديالكتيك يفهم التناقض بأنه ضرورة احتواء كل ظاهرة على ضدها، ثم انتقال تلك الظاهرة إلى حالة الضد، وهذه الحالة الجديدة تستمر في التطور على نفس الطريقة. وبذلك فالطبيعة والتاريخ يطويان مسيرتهما عبر الأضداد. والتكامل في رأي الديالكتيك هو اجتماع الضدين في تركيب جديد.

مبدأ التناقض قديم، وهو يعني أن أجزاء الطبيعة في حالة صراع بل وأحيانا في حالة تركيب مع بعضها. وما أضافه الفكر الديالكتيكي إلى هذا المبدأ هو أن الصراع بين المتناقضات لا يقتصر على أجزاء الطبيعة، بل إن كل ظاهرة تربّي في أحشائها نقيضها، وتبرز ظاهرة التناقض بالصراع بين العوامل الجديدة.

ص:41

هاتان الخاصيتان تشكلان العنصر الأساسي للفارق بين التفكير الديالكتيكي والتفكير غير الديالكتيكي.

ومن الخطأ - بناءاً على ماتقدم - إضفاء صفة الديالكتيك على كل مدرسة تؤمن بمبدأي الحركة والتناقض بين أجزاء الطبيعة.

لقد حاول البعض وصف الفكر الإسلامي بأنه فكر ديالكتيكي بعد أن شاهدوا مبدأ الحركة والتغير والصيرورة وكذلك مبدأ التناقض في التراث الإسلامي.

والحقيقة غير ذلك، فالفكر الإسلامي يؤمن بوجود حقائق ثابتة خالدة غير قابلة للتغير، وهذا مالا يؤمن به الفكر الديالكتيكي الذي يعتبر كل مافي الذهن من حقائق عن العالم إنما هي مؤقتة ونسبية.

إضافة إلى ذلك؛ فالتناقض في التراث الإسلامي يتعارض مع مفهوم التناقض الديالكتيكي الذي يحصر حركة التاريخ والطبيعة بالسير عبر مثلث «الاطروحة والطباق والتركيب».

هذا الخطأ ناشئ بالدرجة الأولى من التهريج الذي يعمد إليه كثير من أتباع المادية الديالكتيكية حين يطلقون في أحاديثهم اسم الاتجاه الميتافيزيقي على كل اتجاه فكري غيرديالكتيكي، ثم يرشقون هذا الاتجاه الميتافيزيقي بوابل من التهم كعدم الإيمان بالحركة وبالارتباط العام وبالتناقض.

هذه التهم تطرح ضمن ثرثرة لغوية مسهبة وبعبارات قاطعة حاسمة تدفع بقارئها السطحي إلى الإيمان بأن الحركة والارتباط

ص:42

العام والتناقض مبادئ يختص بها الفكر الديالكتيكي وحده لا غير.

ومثل هذا القارئ يتخذ تجاه الفكر الإسلامي أحد موقفين خاطئين: إما أن يضع الإسلام باعتباره ديناً سماوياً إلى صف الأفكار الميتافيزيقية (غير الديالكتيكية)، ويخرج بنتيجة سريعة هي: أن الفكر الإسلامي كسائر الأفكار الميتافيزيقية يقوم على أساس الثابت والسكون وعدم وجود ارتباط عام بين أجزاء الطبيعة وعدم وجود تناقض بين هذه الأجزاء.

وإما أن يكون هذا القارئ مطلعاً على الفكر الإسلامي وعالما بخلوّ هذا الفكر مما يتّهم به الفكر الميتافيزيقي، بل بوجود مبادئ الحركة والارتباط العام والتناقض في الفكر الإسلامي، فيستنتج من ذلك أن التفكير الإسلامي ليس بميتافيزيقي.

ولما كان دعاة المادية الديالكتيكية قد أوحوا له أن الاتجاهات الفكرية لتفسير الطبيعة لا تزيد على اثنين: الديالكتيكي والميتافيزيقي، فإن مثل هذا القارئ يضفي صفة الديالكتيكية على الفكر الإسلامي.

هذه الأخطاء التي يقع فيها القارئ السطحي ناتجة - كما قلنا - عن تساهل دعاة المادية الديالكتيكية في عرض أفكار الآخرين، وعن انتهاجهم أسلوب التهريج وإلقاء التهم بالنسبة للاتجاهات الفكرية غير الديالكتيكية، وحقيقة المسألة - كما ذكرنا - هي غير ذلك.

نتائج الاتجاه الآلي لتفسير التاريخ

1 - مفهوم القديم والجديد:

تعبير القديم والجديد في المنطق الديالكتيكي لا ينطلق من تعاقب

ص:43

جيلي، أي لا يعني المجابهة بين الجيل الجديد والجيل القديم. لا يعني أن الجيل الجديد يقف بالضرورة في صفوف الجبهة الثورية، ولا يعني أيضا أن الجيل القديم يقف بالضرورة في الجبهة المحافظة.

كما أن هذا المفهوم لا ينطلق من إطار ثقافي، أي إنه لا يعني المجابهة بين المثقفين والأميين. بل إنه مفهوم اجتماعي واقتصادي بحت.

فالطبقة القديمة هي التي ترتبط مصالحها بالوضع الموجود، والطبقة الجديدة هي الناقمة على الوضع الموجود، وهي التي فرضت عليها وسائل الانتاج الجديدة أن ترى الأوضاع الموجودة معارضة لمصالحها وأن تسعى إلى تغيير البناء الفوقي للمجتمع.

فالتقدمي في رأي هذا الاتجاه هو نصير تغيير الأوضاع الموجودة وتكامل المجتمع.. والرجعي هوالذي يطالب بالثبات وببقاء الأوضاع الاجتماعية على ماهي عليه.

الطبقة المرفهة والمنتفعة من الأوضاع الموجودة هي رجعية جامدة الفكر بالضرورة، لأن محتوى التفكير الاجتماعي للافراد يتكون من خلال مكانتهم الطبقية وظروفهم الاقتصادية، وبنفس السبب فالطبقة المسحوقة المستثمرة تقدمية ذات فكر متطور متحرك. وهذه مسألة لا علاقة لها بالمعلومات وبالثقافة. فالحركة الاجتماعية تبدأ غالباً من الفئات والطبقات ذات المستوى العلمي الهابط، لكن هذه الفئات مثقفة لمكانتها الطبقية.

2 - التسلسل المنطقي للتاريخ:

المراحل التاريخية - في المنطق الديالكتيكي - مرتبطة مع بعضها ارتباطاً

ص:44

طبيعياً ومنقطيا. وكل حلقة من حلقات التاريخ لها مكانها المعين الخاص، وليس بالامكان أن تتقدم أوتتأخر.

فالرأسمالية مرحلة تاريخية تتوسط مرحلة الإقطاع والمرحلة الاشتراكية. ومن المستحيل أن ينتقل المجتمع من الإقطاع إلى الاشتراكية دون أن يمر بالمرحلة الرأسمالية، فلا طفرة في مراحل التاريخ كما كان يعتقد الفلاسفة الاقدمون.

فالطفرة في التاريخ تشبه انتقال نطفة الإنسان الى مرحلة الطفولة دون أن تمر في المرحلة الجنينية، وتشبه انتقال الوليد إلى مرحلة الشباب دون أن يمر بمرحلة الطفولة.

من هنا فأصحاب هذا المنطق يطلقون اسم الاشتراكيين المثاليين على الاشتراكيين الذين أرادوا ان ينطلقوا من إيمانهم بالفكر الاشتراكي إلى تطبيق هذه الاشتراكية دون ان يراعوا جبر التاريخ والتسلسل المنطقي للمراحل التاريخية. كما سموا اشتراكيتهم بالاشتراكية الطوباوية أو الخيالية، خلافاً للاشتراكيين الماركسيين الذين يقيمون فكرهم على أساس التسلسل المنطقي لحلقات التاريخ.

3 - ذروة كل مرحلة:

ليس من الضروري أن يمر التاريخ في مراحله المتوالية المرسومة دون طفرة فحسب، بل من الضروري أيضا أن تبلغ كل مرحلة من المراحل إلى ذروة كمالها لتتبدل الى مرحلة جديدة أخرى، ولتستمر المسيرة التكاملية.

لابد لمرحلة الاقطاع - مثلا - أن تطوي مسيرتها بالتدريج لتبلغ

ص:45

مرحلة تاريخية معينة يحدث فيها التغيير. وانتظار أية مرحلة مقبلة من مراحل التاريخ دون ان تبلغ المرحلة الراهنة ذروتها كانتظار الولادة قبل أن تطوي النطفة مراحلها الجنينية. وولادة مثل هذه - إن تمّت - فهي إجهاض وليست ولادة سليمة.

4 - قدسية النضال:

لما كان الصراع بين القديم والجديد شرطاً أساسياً لانتقال التاريخ من مرحلة إلى مرحلة اخرى، وركنا ضرورياً من أركان تكامل المجتمع البشري، فالصراع بين القديم والجديد هونضال مقدس مهما كان لونه.

فالقديم يستحق الفناء لا لكونه معتدياً.. بل لأنه قديم.. ولأن زواله يدفع بالمجتمع نحو التكامل. من هنا فقدسية النضال لا تنطلق من كونها دفاعاً عن حق أو رداً لهجوم.

5 - إثارة الفوضى:

نضال الجديد للقديم ليس وحده هو المشروع والمقدس بل كل تحرك يمهد للثورة ويدفع بعجلة التكامل مشروع ومقدس أيضا، كإثارة الاضطرابات من أجل خلق الاستياء وتعميق الفجوات وتصعيد النضال.

فالتكامل - كما ذكرنا - هو أن ينقلب الضد إلى ضده في حركة ثورية سريعة. وطريق هذا التغيير هوالصراع الداخلي للتناقضات.

ولا يمكن لهذا التغيير أن يتم دون أن يصل عمق الفجوات وشدة الصراع إلى أعلى مرحلة من مراحل تكامله.

وكل ما من شأنه أن يوسع الثغور يعمل على الإسراع في تغيير المجتمع

ص:46

من مرحلة إلى مرحلة أسمى. ولما كانت عملية إثارة الفوضى والاضطرابات تستطيع أن تنهض بهذا الدور، فهي مشروعة ومقدسة طبقاً لهذا المنطق.

6 - الإصلاحات:

من جهة أخرى، الإصلاحات الجانبية والخطوات الرامية إلى تسكين آلام المجتمع هي خيانة وتخدير ووقوف بوجه التكامل وانخراط في جبهة أعداء التطوير، إذ إن مثل هذه الإصلاحات والخطوات تقلّل من الفجوات ولو بشكل موقت. وتخفض حدة التناقضات. وهذا ما يؤدي إلى تأخير موعد انفجار الثورة.. وتأخير هذا الموعد يعادل زيادة مدة بقاء المجتمع في مرحلة معينة وتأخير موعد التغيير والتكامل.

هذه هي أهم نتائج الاتجاه الديالكتيكي أو الآلي لتفسير التاريخ.

الطريقة الانسانية أو الفطرية

الطريقة الانسانية أو الفطرية لتفسير التاريخ تقف في النقطة المقابلة للتفسير الآلي.

هذه الطريقة تمنح الإنسان والقيم الإنسانية أصالة سواء على مستوى الفرد أم على مستوى المجتمع.

هذه الطريقة تنظر إلى الكائن الانساني - في إطار علم النفس - بأنه مكوّن من مجموعة غرائز مادية يشترك فيها سائر الحيوانات، ومجموعة من الغرائز السامية التي تميزه عن غيره من الحيوانات كالغريزة الدينية

ص:47

والغريزة الأخلاقية وغريزة البحث عن الحقيقة (حب التطلع) والغريزة الجمالية.

وفي الإطار الفلسفي، تنظر هذه الطريقة إلى المجتمع (من حيث ارتباط أجزائه وأفراده) بأنه تركيب حقيقي، كما تنظر إلى المجتمع (من حيث خصاله) بأنه مجموعة من الخصال الدانية والسامية للأفراد إضافة إلى مجموعة خصال باقية مستمرة في المجتمع.

هذه الخصال الباقية المستمرة تتحكم في المجتمعات دون أن تتأثر بفناء الأفراد.

مسيرة التاريخ - انطلاقا من هذه النظرة - متحولة متكاملة كالطبيعة ذاتها، والحركة باتجاه الكمال ضرورة لا تنفصل عن ذات أجزاء الطبيعة بما فيها التاريخ.

تحول التاريخ وتكامله لا يقتصر على الجانب الفني والآلي.. أي لا يقتصر على الجانب المدني، بل إنه يعم ويشمل جميع الشؤون المعنوية والثقافية للانسان، ويتجه نحو تحرير الإنسان من القيود البيئية والاجتماعية.

والإنسان بفعل تكامله الشامل يتحرر تدريجياً من ارتباطه ببيئته الطبيعية والاجتماعية ويتجه نحو توثيق ارتباطه بالعقيدة والإيمان والايديولوجية، وسيصل في المستقبل إلى الحرية المعنوية التامة المتمثلة في الارتباط التام بالعقيدة والايمان والمدرسة الفكرية.

الإنسان في الماضي كان أسيراً وعبداً لقوى الطبيعة على الرغم من قلّة

ص:48

تمتعه بمواهبها، والإنسان في المستقبل سيتحرر من قيود الطبيعة وستزداد سيطرته عليها في نفس الوقت الذي سيزداد استثماره للطبيعة إلى أقصى حد ممكن.

لا ينبغي تفسير التكامل بآلات الانتاج، ولا ينبغي اتخاذ المعلول مكان العلة. تكامل وسائل الإنتاج هو بدوره معلول اندفاع الإنسان الفطري نحو الكمال والتنويع والاستزادة، وناتج عن قوة الابتكار لدى الافراد.

هذه القوة وذاك الاندفاع يتّسعان باستمرار جنباً إلى جنب في جميع جوانب الحياة الإنسانية.

وهذه الطريقة ترى أن من خصائص الإنسان انطواؤه على صراع داخلي بين الجانب الارضي أو الترابي، والجانب السماوي المتعالي.. أي بين الغرائز الهابطة ذات الهدف الفردي المحدود الموقت، والغرائز السامية التي تتجاوز حدود الفردية وتتسع لجميع البشرية وتستهدف تحقيق القيم الخلقية والدينية والعلمية والعقلية.. هذا الصراع أطلق عليه القدماء اسم النزاع بين العقل والنفس.

هذا الصراع الداخلي في نفس الإنسان سينجر إلى صراع بين المجموعات البشرية، ويتخذ صورة حرب بين الإنسان المتكامل المتحرر روحياً، والانسان المنحط المغلول بقيود حيوانية.

هذا الاتجاه الفكري يقبل مبدأ الصراع الاجتماعي ويؤمن بدور هذا الصراع في تغيير التاريخ وتكامله. لكنه يرفض أن يكون هذا الصراع طبقياً دائراً بين الفئة المرتبطة بوسائل الإنتاج والنظم

ص:49

الاجتماعية القديمة، وبين الفئة المرتبطة بوسائل الانتاج الجديدة.

فالصراع الذي يؤمن به هذا الاتجاه الفكري ويؤمن بدوره في تطوير التاريخ هو الصراع بين الافراد الملتزمين المؤمنين الهادفين المتحررين من قيودالطبيعة والغرائز الحيوانية، والأفراد المنحطين المتسافلين الراسفين في أغلال الشهوات الهابطة.

وقائع التاريخ تشهد أن كثيراً من الثورات التي قامت من أجل تأمين الاحتياجات المادية للمجتمع تصدّر قيادتها، أو دعَمَهَا على الأقل، رجال متحررون من قيود الشهوات الهابطة.

وبين الطريقتين (الآلية والإنسانية) اختلاف في تفسير طبيعة الثورات والنهضات.

الطريقة الآلية: ترى أن تكامل وسائل الانتاج يخلق طبقة محرومة تنهض بالثورات من أجل تأمين احتياجاتها المادية، فتعمد هذه الطبقة إلى تغيير الانظمة والقوانين الموجودة وتستبدلها بأنظمة وقوانين جديدة.. وتدّعي أيضا: أن المحتوى الداخلي لأي إنسان يعكس مكانته الطبقية، والطبقة الحاكمة تسعى دوماً إلى حفظ النظام القائم وصيانته.

أما الطريقة الانسانية: فتقدم أمثلة تاريخية للثورات التي لم تقتصر على الطبقة المحرومة، بل نهض فيها افراد نشأوا في الطبقات المرفهة، ووقفوا بوجه النظام الحاكم بقوة وبسألة كنهضات ابراهيم وموسى ومحمد والحسين بن علي. ولم تكن أهداف الثوار مادية دوماً، وخير دليل على ذلك ما شهده التاريخ الإسلامي من نهضات في سبيل الله، وخاصة

ص:50

في عصر صدر الإسلام، فيصف علي بن أبي طالب - عليه السلام - الرعيل الأول من المسلمين المجاهدين فيقول:

«حملوا بصائرهم على أسيافهم» (نهج البلاغة، الخطبة 148).

والثورات والنهضات لم تكن دوماً مرافقة لتطور وسائل الانتاج، كالنهضات التي شهدها الشرق والغرب خلال القرون الأخيرة من أجل مقارعة الاستبداد والطغيان.. فأي تطوير لوسائل الانتاج حدث في إيران - مثلا - إبان النهضة الدستورية؟!

ولم تكن الفوضى الاجتماعية دوماً وليدة نقص القوانين الموجودة.. بل كانت أحيانا وليدة عدم تنفيذ القوانين النظرية المقبولة، فانطلقت الحركات الاجتماعية من أجل تطبيق هذه القوانين وتنفيذها عملياً، كحركات الشعوبية وثورات العلويين في التاريخ الإسلامي.

وأخيراً.. فالإنسان ليس بالموجود الذي لا يملك أية قدرة في التحكم بنفسه، وليس بالكائن المدفوع دوماً بدوافع غرائزه المادية ومصالحه الذاتية الآنية.

نتائج الاتجاه الانساني أو الفطري لتفسير التاريخ

1 - المعارك الرابحة:

معارك التاريخ اتخذت أشكالا وماهيات مختلفة وانطلقت من علل وأسباب متباينة، لكن المعارك التقدمية التي دفعت بعجلة التاريخ والانسانية على سلّم الارتقاء هي المعارك التي دارت رحاها بين الإنسان العقائدي الملتزم المؤمن المتسامي والانسان العابث المنحط المغلول

ص:51

بقيود شهواته الحيوانية والبعيد عن خط الالتزام والهدف والتعقل.

المعارك التقدمية التكاملية ليست بذات صفة طبقية وليست بالمجابهة بين القديم والجديد بالمفهوم الذي ينص عليه الاتجاه الآلي.

المعارك البشرية تتجه على مرّ التاريخ بالتدريج نحو اتخاذ صفة ايديولوجية، ويتجه الإنسان بالتدريج نحو التكامل في قيمه الانسانية، أي يقترب من الإنسان المثالي ومن المجتمع المثالي.

ستكون نهاية المسيرة الانسانية إقامة حكومة العدل وحكومة سيادة القيم الانسانية، أو بالتعبير الإسلامي: «حكومة المهدي».

كما ستزول حكومة قوى الباطل والطغيان والضلال المنساقة بدوافعها الحيوانية والانانية.

2 - حلقات التاريخ:

التسلسل المنطقي لحلقات التاريخ ليس له أساس من الصحة كما يصوره أصحاب التفسير الآلي. وقائع التاريخ عامة وما شهده القرن الماضي خاصة تؤكد زيف هذه النظرية.

في القرن الماضي اتجهت بلدان إلى الاشتراكية دون أن تطوي المرحلة الرأسمالية نظيرالاتحاد السوفيتي والصين وبلدان أوربا الشرقية. ومن جهة أخرى ثمة بلدان بلغت فيها الرأسمالية ذروتها كالولايات المتحدة وبريطانيا، لكنها بقيت في هذه المرحلة دون تغيير أو انتقال، وثبت خطأ كل التوقعات التي أعرب عنها زعماء الاتجاه الآلي حين أكدوا على قرب اندلاع الثورة العمالية في البلدان الصناعية كبريطانيا وفرنسا.

ص:52

أحداث التاريخ أوضحت زيف ادعاءات الجبر وأثبتت إمكان وصول طبقة البروليتاريا إلى درجة معينة من الرفاه بحيث لم تعد تخامرها فكرة الثورة. كما أثبتت إمكان انتقال مجتمع من الحالة البدوية إلى أسمى مراحل الحضارة الانسانية على أثر انبثاق ايديولوجية معينة وانتشار إيمان ديني بين أفراد المجتمع كما حدث في صدر الاسلام.

3 - قدسية النضال

مشروعية النضال وقداسته لا تنحصر في إطار الوقوف بوجه الاعتداء على الحقوق الفردية والوطنية، بل إن إطار هذه المشروعية والقداسة يتسع لكل نضال يستهدف الدفاع عن إحدى المقدسات البشرية المهددة بالخطر.

فالنضال مشروع متى ما تعرض حق لخطر، خاصة إذا كان ذلك الحق يتعلق بالمجتمع الانساني، كالنضال من اجل التحرير، ومن أجل انقاذ المستضعفين - على حد التعبير القرآني - كما أن النضال على طريق التوحيد مشروع متى ما تعرض التوحيد للخطر - أياً كان هذا الخطر - إذ إنه أهم مقومات سعادة البشرية.

4 - الإصلاحات:

الإصلاحات الجانبية والتدريجية لا يمكن إدانتها بأي شكل من الأشكال. فالتاريخ لا يطوي مسيرته عبر الأضداد ومن هنا فالإصلاحات الجانبية والتدريجية لا تمنع مسيرته التكاملية ولا تقف بوجه انفجار أحداثه.

ص:53

الإصلاحات الجانبية التدريجية تساهم بدروها في دعم الحق خلال صراعه مع الباطل، كما تساعد في دفع مسيرة التاريخ لصالح دعاة الحق.

ومقابل ذلك، فأعمال الفسق والفجور تساعد قوى العدوان، وتعيق حركة التاريخ لما فيه ضرر أصحاب الحق.

تطور الاحداث - بناء على هذا التصور - هو كنضج الفاكهة على غصن الشجرة، لاكانفجار القدر الكاتم كما في التصور الآلي.

فالشجرة تعطي فاكهة أفضل وأسلم، وربما أسرع، لو اهتممنا برعايتها وسقيها وكافحنا آفاتها.

5 - إثارة الفوضى

الدليل على شرعية الإصلاحات الجزئية التدريجية هو ذاته الدليل على عدم شرعية أعمال التخريب وإثارة الفوضى والاضطرابات من أجل خلق الازمات والضائقات، بخلاف النظرية الآلية التي تضفي صفة الشرعية على مثل هذه الاعمال.

6 - تأرجح منحنى التاريخ:

المسيرة التاريخية في خطها الكلي العام تتجه نحو التكامل، إلا أن هذا الخط المتصاعد لا يسير سيراً تكاملياً جبرياً في جميع نقاطه، فليس من الضروري حتما أن يكون المجتمع في مرحلة معينة من تاريخه أكثر تكاملا من مرحلته التاريخية السابقة، لان العامل الاساسي في حركة التاريخ هو الإنسان، والانسان موجود مختار وذو إرادة حرة.

منحني المسيرة البشرية يتأرجح بين الهبوط والارتفاع، وبين السرعة

ص:54

والبطء والسكون أحيانا. وتاريخ الحضارات البشرية ليس سوى سلسلة من حالات الازدهار والهبوط والسقوط والانقراض وكما يقول «تويمبي» انحطاط الحضارات أمر لا يمكن رفضه لكن تاريخ البشرية يطوي بمجموعه مسيرة تكاملية.

7 - التحرر من أغلال الطبيعة:

المسيرة التكاملية للبشرية تتجه نحو التحرر من أغلال الطبيعة المادية والظروف الاقتصادية والمصالح الفردية والجماعية لتتخذ طابع الالتزام والايمان الفكري.

إرادة الإنسان الابتدائي كانت محدودة غالباً بتأثيرات بيئته الطبيعية والاجتماعية وغرائزه الحيوانية، لكن إرادة الإنسان المتطور تحررت بالتدريج من أسر البيئة والغرائز الحيوانية، بل وأضحت تتحكم في عوامل البيئة والغرائز تبعا لتكامل ثقافة الإنسان واتساع آفاقه وازدياد التزامه بالايديولوجيات التقدمية.

8 - ماهية الجهاد:

حركة الجهاد والامر بالمعروف لها ماهية إنسانية لا طبقية.

9 - أصالة القوى الفكرية والاخلاقية:

قوة الإقناع الفكري، أي قوة الاستدلال والبرهان، لها أصالتها في الموجود الإنساني، وبعبارة أخرى: الضمير البشري - سواء من الناحية الفكرية، أو من حيث النزوع نحو السمو الانساني - قوة أصيلة تتحكم أحياناً في المتطلبات المادية.

ص:55

10 - المثلث الهيغلي:

مثلث الديالكتيك (الأطروحة والطباق والتركيب) بشكله الهيغلي الماركسي لا ينطبق على التاريخ ولا على الطبيعة.

حلقات التاريخ ليست سلسلة من الأضداد المنبثقة بعضها من بعض. كما أن الطبيعة لا تسير عبر هذا المثلث.

هذا المثلث يقوم على أساس تبدلين وتركيب واحد، أي تبدل الشيء إلى ضده، وهذا الضد إلى ضده، ثم يحدث التركيب في المرحلة الثالثة.

وما يحدث في الطبيعة إما أن يكون تركيباً للأضداد دونما تبدل، أو تبدلا للأضداد دونما تركيب، أو أن يكون تكاملا خالياً من تركيب الأضداد وتبدلها.

فتفاعل الاوكسجين والهيدروجين تركيب ليس فيه تبدل، أي لم يتبدل احد العنصرين إلى العنصر الآخر..

ويحدث أحيانا أن تتدخل الطبيعة في إيجاد حالة تعادل بين ظاهرتين متناقضتين. وفي مثل هذه الحالة يحدث تبدل ليس معه تركيب وتكامل.

جدير بنا إن نقول للمغرمين بألفاظ المثلث الهيغلي وبلفظة الديالكتيك: إننا نستطيع أن نطلق على أحد الموجودين المتفاعلين اسم «الأطروحة» وعلى الآخر اسم «الطباق»، وكذلك على حالة التعادل بين الظاهرتين المتناقضتين اسم «التركيب».

كما نستطيع أيضا أن نطلق على كل فكرة تقوم على أساس الحركة والتناقض اسم «الفكر الديالكتيكي» ولو أن هذا الفكر يفتقد العنصر الأساسي الذي امتازت به الماركسية.

ص:56

لكنه ينبغي الالتفات إلى أن اطلاق هذه الألفاظ هو اصطلاحي محض قد تدفعنا اليه رغبة شخصية لا أكثر.

نظريتان لتفسير الإنسان

الطريقتان السابقتان لتفسير الحركة التكاملية للتاريخ ناتجتان عن نظريتين مختلفتين لتفسير الإنسان وهويته الواقعية وملكاته الكامنة.

احدى النظريتين ترى الإنسان موجوداً مغلولاً بمصالحه المادية ومصالحه الاقتصادية ومسيّراً في اتجاه جبري يفرضه عليه تطور وسائل الانتاج.

وكل ما ينطوي عليه الإنسان من مشاعر ورغبات وأحكام وأفكار وقدرة على الانتخاب إنما هو انعكاس لظروف بيئته الطبيعية والاجتماعية.

الإنسان بموجب هذه النظرة مرآة لا تستطيع أن تعكس سوى ما يحيطها، وليس بمقدوره أن يقوم بأدنى حركة خلافاً لما تسمح به ظروف البيئة الطبيعية والاجتماعية.

والنظرة الاخرى ترى الإنسان موجوداً متمتعاً بخصال إلهية ومزوداً بفطرة تدفعه لأن يطلب الحق وينشده، وقادراً على التحكم بنفسه وعلى التحرر من جبر الطبيعة والبيئة والغرائز والمصير المحتوم.

والقيم الانسانية بموجب هذه النظرة لها أصالتها في الإنسان، أي ان ثمة نزعات قد أودعت في طبيعة الإنسان، والموجود البشري بموجب طبيعته الانسانية ينشد القيم الإنسانية السامية، وبعبارة أخرى ينشد الحق

ص:57

والحقيقة والعدالة ومكارم الاخلاق، ويستطيع بموجب قواه التعقلية أن يخطط لبناء مجتمعه وأن لا يستسلم استسلاما أعمى لظروف البيئة، وان ينفذ مشاريعه الفكرية انطلاقا من إرادته وقدرته على الانتخاب.

دور الوحي هو الموجه والمساعد للانسان، باعتبار أن الوحي هادي البشرية وحامي القيم الانسانية.

الإنسان يتأثر دون شك بظروف بيئته، لكن هذا التفاعل لا يسير باتجاه واحد، بل إن الإنسان يؤثر أيضا على بيئته.

والمسألة الاساسية في هذا التفاعل هي أن تأثير الإنسان على البيئة لا يظهر على شكل ردود فعل جبرية قهرية. فالانسان باعتباره موجوداً واعياً حراً مريداً قادراً على الانتخاب ومجهزا بخصائص فطرية سامية، يبدي أحيانا ردود فعل تختلف عما يبديه حيوان مسيّر فاقدٌ للوعي من ردود فعل.

الخصلة الرئيسية التي تميز الإنسان عن سائر الموجودات هي قوة سيطرة الإنسان على نفسه والثورة على انحرافاته، وكل النقاط المضيئة في تاريخ البشرية نابعة من هذه الخصلة. وهذا الجانب المتسامي من الإنسان منسيّ تماماً في الاتجاه الآلي لتفسير التاريخ.

التفسير القرآني

التفسير القرآني للتاريخ ينطلق دون شك من النظرة الثانية.

القرآن يسرد وقائع التاريخ البشري منذ بداية الخليقة على أنها صراع مستمر بين قوى الحق وقوى الباطل، بين مجموعة من أمثال ابراهيم

ص:58

وموسى وعيسى ومحمد - عليهم الصلاة والسلام - وأتباعهم المؤمنين، ومجموعة أخرى من أمثال نمرود وفرعون وجبابرة اليهود وأبي سفيان وأمثالهم.

فلكلّ فرعون موسى...

وفي خضم هذا الصراع المستمر ينتصر الحق حيناً والباطل حيناً آخر.

وانتصار أحد الفريقين أو فشله يرتبط طبعاً بمجموعة من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية.

تأكيد القرآن على تأثير العوامل الاخلاقية في مسيرة التاريخ صيّر من التاريخ مصدر تعليم مثمر معطاء، ولو نظرنا إلى التاريخ على أنه مجموعة صدف واتفاقات ليس لها علّة ولا موازين أو ضوابط، لتبدلت أحداث التاريخ إلى أساطير لا تصلح إلا للتسلية والسمر وتربية الخيال، دون أن يكون فيها أي عطاء تعليمي.

ولو آمنا بوجود قواعد وموازين للتاريخ دون أن يكون للانسان دور فيه، لأضحى العطاء التعليمي للتاريخ نظرياً فقط لا عملياً.

وسوف نتعلم - في هذه الحالة - من التاريخ نظير ما نتعلمه من حركات الكواكب والمجرات.

وكما أن معلوماتنا عن الكواكب والنجوم لا تساعدنا في تغيير مسيرها، كذلك معلوماتنا عن التاريخ لا تمنحنا أي دور في تعيين مسير حركة التاريخ.

أما حينما نؤمن بضوابط التاريخ وموازينه وقواعده، وبدور ارادة

ص:59

الإنسان في تعيين مسير حركة التاريخ وبالدور الاصيل والحاسم للقيم الأخلاقية والانسانية، يصبح التاريخ حينئذ ذا عطاء تعليمي مفيد، والقرآن ينظر إلى التاريخ من هذه النافذة.

القرآن الكريم يتحدث مراراً عن الدور الرجعي الذي يلعبه «الملأ» و «المترفون» و «المستكبرون» على مسرح التاريخ، كما يتحدث عن دور «المستضعفين».

ويؤكد القرآن في الوقت ذاته على أن الصراع المستمر بين الفريقين منذ فجر التاريخ ذو هوية معنوية إنسانية لامادية طبقية.

المجتمع المثالي

مسألة نهضة «المهدي» - عليه السلام - قضية اجتماعية فلسفية كبرى.

هذه المسألة لها أركانها وعناصرها المختلفة، بعض هذه الاركان والعناصر فلسفي عالمي يشكل جزءاً من التصور الإسلامي، وبعضها ثقافي تربوي، وبعضها سياسي وبعضها اقتصادي، وبعضها اجتماعي وبعضها إنساني أو إنساني - طبيعي ((1)).

لا يسعنا هنا أن ندرس هذه المسألة على ضوء القرآن والسنة، لذلك نكتفي بذكر خلاصة لخصائص هذه البشرى الكبرى للكشف عن ماهية «الانتظار الكبير».

ص:60


1- (1) - القيت ثماني محاضرات في هذا الموضوع عام 1974، أرجو أن اوفق لنشرها بعد اعادة النظر فيها.

أ - التفاؤل بمستقبل البشرية: فحول مستقبل المسيرة البشرية اختلفت الآراء والنظرات. اعتقد بعض المفكرين أن الشر والفساد والتعاسة صفات لا تفارق الحياة البشرية، وذهبوا إلى أن الحياة لا قيمة لها على الاطلاق، وافضل ما يستطيع أن يقوم به الإنسان هو أن يضع نهاية لهذه الحياة.

وبعض آخر ذهب إلى أن الحياة البشرية بتراء، وقال: إن البشرية تحفر قبرها بيدها بفعل تطورها التكنولوجي وتقدمها في صنع وسائل التخريب والدمار، وهي على شفا السقوط والانهيار.

يقول «رسل» في «الآمال الجديدة»: «.. ثمة أفراد - منهم أنشتاين - يزعمون أنه من المحتمل جداً أن يكون الإنسان قد طوى دورة حياته، وسيستطيع خلال السنوات القليلة القادمة أن يبيد نفسه بما يتمتع به من مهارة علمية فائقة».

واستناداً إلى هذه النظرية، تواجه البشرية الفناء الآن وهي في ربيع عمرها، وعلى أبواب نضجها الثقافي. وإذا اكتفينا بالشواهد الظاهرية، فإننا لا نستطيع طبعاً أن ننفي هذا الاحتمال.

أما النظرية الثالثة فترفض المقولتين السابقتين، فلا الشر والفساد والتعاسة صفات تلازم البشرية، ولا التطور المدني المادي بقادر على إبادة البشرية، بل إن البشرية تتجه نحو مستقبل مشرق سعيد تنقلع فيه جذور الظلم والفساد.

هذه النظرية يبشر بها الدين، ونهضة المهدي ترتبط بهذه البشرى.

ص:61

ب - انتصار الحق والتقوى والسلام والعدل والحرية على الظلم والدجل والاستكبار والاستعباد.

ج - قيام حكومة عالمية واحدة.

د - عمران الارض بحيث لا تبقى بقعة خربة غير عامرة.

ه -- بلوغ البشرية حد النضج والتكامل يلتزم فيه الإنسان طريق العقل والعقيدة، ويتحرر من أغلال الظروف الطبيعية والاجتماعية والغرائز الحيوانية.

و - استثمار ذخائر الارض إلى أقصى حد ممكن.

ز - إحلال المساواة التامة بين البشر في حقل الثروة.

ح - اقتلاع جذور الفساد كالزنا والربا والخيانة والسرقة والقتل وشرب الخمر، وخلو النفوس من العقد والأحقاد.

ط - زوال شبح الحروب وسيادة السلام والحب والتعاون والصفاء.

ي - المواءمة بين الإنسان والطبيعة.

هذه الأهداف تلقي الضوء على ماهية مسألة المهدي، وكل واحدة منها تحتاج إلى استدلال وتحليل ودراسة لا يسعها بحثنا هذا، فنتركها إلى فرصة أخرى.

الانتظار الكبير

المستقبل الذي ينبغي أن تعقد عليه الآمال، والذي شاءت الإرادة الالهية أن يسير نظام العالم تجاهه، هو هذا الذي ذكرناه.

والآن ينبغي أن نعود إلى موضوع انتظار الفرج الذي قسمناه في بداية

ص:62

هذا الحديث إلى قسمين: انتظار بناء حركي ملتزم عبادي، بل من أفضل العبادات، وانتظار مخرب معوّق يبعث على الخمود والخمول والكسل والتقاعس، ويعتبر نوعا من «الاباحية».

ذكرنا أن هذين اللونين من الانتظار ينطلقان من نوعين من التصور حول الحدث التاريخي العظيم المتمثل بظهور المهدي الموعود.

وهذان التصوران ينتجان بدورهما من نوعين من التصور بشأن تطور التاريخ.

نشرح فيما يلي هذين النوعين من الانتظار ونبدأ بالانتظار المخرب:

الانتظار المخرّب

بعض المؤمنين بظهور المهدي يتصورون أن نهضة هذاالمنجي ذات طابع انفجاري محض، وناتجة فقط عن انتشار الظلم والجور والفساد والطغيان، أي إن مسألة الظهور نوع من الاصلاح الناتج عن تصاعد الفساد.

هؤلاء يتصورون أن مسيرة البشرية تتجه إلى انعدام العدل والقسط، والى زوال أنصار الحق والحقيقة، والى استفحال الباطل.

وحينما يصل هذا الانحدار إلى نقطة الصفر يحدث الانفجار المرتقب، وتمتد يد الغيب لانقاذ الحقيقة - لا أنصار الحقيقة - إذ لن يبقى للحقيقة أنصار آنذاك.

هذا التصور يدين كل إصلاح، لأن الاصلاح يشكل نقطة مضيئة على ساحة المجتمع العالمي، ويؤخر الامداد الغيبي كما يعتبر هذا التصور كل

ص:63

ذنب وتمييز وإجحاف مباحاً لأن مثل هذه الظواهر تمهد للإصلاح العام وتقرّب موعد الانفجار.

هذا التصور يميل إلى مذهب الذرائع الذي يذهب إلى أن الغاية تبرر الوسيلة فإشاعة الفساد - بناءاً على هذا التصور - أفضل عامل على تسريع ظهور المهدي وأحسن شكل لانتظار فرج ظهوره.

أصحاب هذا التصور ينظرون إلى الذنوب نظرة تفاؤل واستبشار ويعتبرونها عاملاً مساعداً على انطلاق الثورة المقدسة الشاملة.

هؤلاء ينظرون إلى المصلحين والمجاهدين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بعين الحقد والعداء.. لأنهم يعملون على تأخير ظهور المهدي.

أصحاب هذا التصوبر - إن لم يكونواهم من زمرة العاصين - ينظرون إلى اصحاب المعاصي بعين الارتياح والرضى لانهم يمهدون لظهور القائم المنتظر!!

تصور شبه ديالكتيكي

الاتجاه المخرب في فهم قضية ظهور المهدي يشترك مع الاتجاه الديالكتيكي في معارضته للإصلاحات وفي تأييده لأنواع الظلم والفساد باعتبارها مقدمة لانفجار مقدس، مع فارق بين الاتجاهين هو أن الاتجاه الديالكتيكي يعارض الاصلاحات ويؤكد على ضرورة تشديد الفوضى والاضطرابات انطلاقا من هدف مشخص يتمثل في تعميق الفجوات والتناقضات لتصعيد النضال.

لكن هذا التفكير المبتذل في مسألة ظهور المهدي يفتقد هذه النظرة،

ص:64

ويرتأي زيادة الظلم والفساد من أجل الوصول إلى النتيجة المطلوبة تلقائياً.

هذا اللون من الفهم لمسألة ظهور المهدي وهذا النوع من الانتظار للفرج لا يرتبط على الاطلاق بالموازين الإسلامية والقرآنية إذ إنه يؤدي إلى التعمد في تعطيل الحدود والاحكام الإسلامية بل إلى نوع من الاباحية.

الانتظار البنّاء

الآيات الكريمة التي تشكل أرضية التفكير حول ظهور المهدي المنتظر تتجه إلى جهة معاكسة للنظرة السابقة.

هذه الآيات تشير إلى أن ظهور المهدي حلقة من حلقات النضال بين أهل الحق وأهل الباطل، وأن هذا النضال سيسفر عن انتصار قوى الحق. وتتوقف مساهمة الفرد في تحقيق هذا الانتصار على انتمائه العملي إلى فريق أهل الحق.

هذه الآيات التي تستند إليها الروايات في مسألة ظهور المهدي تشير إلى أن المهدي تجسيد لآمال المؤمنين العاملين، ومظهر لحتمية انتصار فريق المؤمنين: وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (النور: 55).

ص:65

ظهور المهدي الموعود تحقيق لمنة الله على المستضعفين ووسيلة لاستخلافهم في الارض ووراثتهم لها:

وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (القصص: 5).

ظهور المهدي الموعود تحقيق لما وعدالله به المؤمنين والصالحين والمتقين في الكتب السماوية المقدسة:

وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ (الانبياء: 105).

ثمة حديث معروف في هذا المجال يذكر أن المهدي

«يملأ الله به الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً».

هذا الحديث شاهد على ماذهبنا اليه في مسألة الظهور لا على ادعاء ارباب الانتظار المخرب.

هذا الحديث يركز على مسألة الظلم ويشير إلى وجود فئة ظالمة وفئة مظلومة والى أن المهدي يظهر لنصرة الفئة المظلومة التي تستحق الحماية.

ولو كان الحديث يقول إن المهدي يملأ الله به الارض إيمانا وتوحيداً وصلاحاً بعدما ملئت كفراً وشركاً وفساداً لكان معنى ذلك أن نهضة المهدي الموعود تستهدف إنقاذ الحق المسحوق لا إنقاذ انصار الحق، وإن كان هؤلاء الانصار أقلية.

يروي الشيخ الصدوق عن الإمام الصادق عليه السلام.

«إن ظهور المهدي لا يتحقق حتى يشقى من شقي ويسعد من سعد».

ص:66

الحديث عن الظهور يدور حول بلوغ كل شقي وكل سعيد مداه في العمل، ولا يدور حول بلوغ الاشقياء فقط منتهى درجتهم في الشقاوة.

وتتحدث الروايات الإسلامية عن نخبة من المؤمنين يلتحقون بالامام فور ظهوره.

ومن الطبيعي أن هذه النخبة لا تظهر معلقة في الهواء بل لابد من وجود أرضية صالحة تربي هذه النخبة على الرغم من انتشار الظلم والفساد. وهذا يعني أن الظهور لا يقترن بزوال الحق والحقيقة، بل أهل الحق - حتى ولو قلّوا فرضاً - يتمتعون بكيفية عالية تجعلهم في مصافي المؤمنين الاخيار، وفي مرتبة أنصار الحسين بن علي - عليه السلام.

الروايات الإسلامية تتحدث أيضا عن سلسلة من النهضات يقوم بها أنصار الحق قبل ظهور المهدي، منها نهضة اليماني. مثل هذه النهضات لا يمكن أن تبتدئ بساكن، ولا تظهر دون أرضية مسبقة -.

بعض الروايات تتحدث عن قيام دولة أهل الحق التي تستمر حتى ظهور المهدي.. حتى أن بعض العلماء أحسنوا الظن بدولة بعض السلالات الحاكمة، فظنوها أنها الدولة التي ستحكم حتى ظهور المهدي.

هذا الظن - وان كان ينطلق من سذاجة في فهم الوقائع السياسية والاجتماعية - يدل على استنباط هؤلاء العلماء من الروايات والاخبار المتعلقة بظهور المهدي ما يشير إلى أن الظهور لايقترن بفناء الجناح المناصر للحق والعدل والايمان، بل يقترن بانتصار جناح العدل والتقوى والصلاح على جناح الظلم والتحلل والفساد.

ص:67

الآيات والروايات المرتبطة بظهور المهدي المنتظر تدل على أن ظهوره يشكل آخر حلقة من حلقات الصراع الطويل بين انصار الحق وانصار الباطل منذ بدء الخليقة.

المهدي المنتظر تجسيد لأهداف الانبياء والصالحين والمجاهدين على طريق الحق.

ص:68

الفصل الثالث: الامداد الغيبي في حياة البشرية

اشارة

ص:69

ص:70

الامداد الغيبي في حياة البشرية *

(1)

عنوان بحثنا - كما علمتموه من خلال بطاقات الدعوة - هو «الإمداد الغيبي في حياة البشرية».

لقد كنت على علم بأن هذا العنوان الذي اتخذته لبحثي هذا اليوم سيثير استغراباً وتشكيكاً عندما يظن بعض السذج أني سأطرح موضوعاً عن تسخير الجن أو حل الطلاسم أو غيرها من الموضوعات الخرافية.

ومن المؤكد أن نفرا عند سماعه عنوان «الامداد الغيبي» سوف يرفع عقيرته قائلا: نحن في عصر العلم والتجربة والفضاء، وكل شيء قد خضع اليوم لسيطرة حواس الإنسان!! فما هو دور الإمداد الغيبي في هذا العصر؟! عصر النور، حيث أضحى البحث عن الغيب وماوراء الطبيعة دون معنى ولا طائل تحته!!

نعم، كنت أعي كل هذه الملاحظات، عندما عمدت إلى انتخاب هذا العنوان الذي طالما أثار تساؤلا واستنكاراً، وإنما اخترته لأنه سيثير انتباها أكثر إلى ما سيطرح في هذا البحث.

ص:71


1- (1) *- ترجمة محاضرة ألقاها الاستاذ يوم 15 شعبان سنة 1398 ه -.

ينبغي أن أذكر أولا، أن المسألة عكس ما يثار حولها عادة من ظنون وشكوك.

إن هذا الإنكار والإعراض، والادعاء بأن الحديث عن الغيب لا يجد مكاناً في عصر العلم، هو مخالف للعلم وللروح العلمية تماماً.

إنه جهل بل مرحلة دون مرحلة الجهل!!

وهل هناك مرحلة تتسافل عن مرحلة الجهل؟!

نعم، إنها الجمود..

على الصعيد المالي والاقتصادي هناك ماهو دون الفقر، إنه الغرور، والاتكال على مافي اليد، أي حينما يفكر الفرد بأن ما عنده يغنيه عن السعي والفكر، فإن هذا أشد مأساة من الفقر وأكثر خطراً منه.

الجهل قبيح لأنه عدم وفقدان علم. ولكن، كم من جاهل سعي لينهل من العلم ما يوصله إلى مستوى العلماء!!.. وكم من عالم ركبه الغرور، وخال أنه استوعب العلم بكل أطرافه، فراح يعلن عن كبريائه وخيلائه ليملأ الدنيا جهلا وظلاما!!

إن علم البشر لاثقل له في ميزان حقيقة هذا الكون وهو ضئيل بالنسبة إلى كل ما ينطوي عليه الوجود من علوم وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً.

إن العالم حقاً هو الذي لا يقبل شيئاً دونما دليل ولا ينكر شيئاً أيضا من غير دليل.

ليس الجامد والمغرور بالعالم، وهكذا الذي يقبل وينكر دونما دليل. إنه

ص:72

أقرب إلى خزانة من المعلومات والصيغ، قد اختزن كل ما أعطي، دون أن يكون له وعي ومقياس في الرد والقبول. وبعبارة أخرى، فهو فاقد للروح العلمية.

إذا التقيتم بشخص يحمل شهادات دراسية في ألوان الفنون والعلوم، ولكنه يقبل ويرد دونما دليل وبرهان، فاعلموا أنه ليس بعالم حقيقي.

ليس من خصائص العلم أن يبعث في نفس حامله الغرور، بل العلم يبعث البشرية على أن تخضع للحقائق، وتسلم بها، ويجعلها تتخذ موقف الدقة والحذر في الرد والقبول.

الجمود الأدنى والأحط من الجهل، هو الروح المخالفة للدقة والتحقيق. وهو الذي يسلب من البشر الاندفاع المقدس نحو البحث والتعمق.

وطالما كان الجمود أقبح من الجهل، فإن روح البحث والتحقيق أسمى من العلم نفسه. العلم يبعث على التقديس والاحترام حينما تؤازره روح البحث العلمي. وهذه الروح تبدأ من نقطة يحس معها الإنسان بنقص معلوماته ومعارفه.

ومن طريف ما قيل، ان العلم له ثلاث مراحل، فما إن يلج الإنسان مرحلته الأولى حتى يركبه الغرور وتعتريه الكبرياء، ويخال أنه يعلم كل شيء. وحينما يصل إلى المرحلة الثانية تظهر عليه سيماء التواضع لأنه يرى ضآلة ما يعلمه بالنسبة لما يجهله. لكنه حينما يصل المرحلة الثالثة يدرك أنه لا يعلم شيئاً، ويصبح من الواضح عنده أنه لم يتضح له شيء بعد.

ص:73

أنشتاين - وهو أجل علماء الرياضيات والطبيعيات في عصرنا بلا منازع - يقول في مقدمة الخلاصة الفلسفية لنظريته النسبية:

إن الإنسان بعد توغله في الفيزياء الحديثة يستطيع أن يدعي بأنه اطلع على الحروف الابجدية لكتاب الطبيعة لا أكثر.

أي إن الإنسان في تعرفه على حقائق الكون كطفل قد طوى لتوّه مرحلة تعلم حروف الكتابة فحسب، وما أطول المدة التي يحتاجها هذا الطفل كي يستطيع أن يقرأ الكتب العلمية المدونة بتلك الحروف!!

أنا لا أريد اليوم أن أفرض عليكم مقولتي، بل الذي أريده هو أن أتخذ موقف المتحدث الديني في هذا المقر العلمي، لأقوم بالدور الذي نهض به الدين إزاء العلم، عندما كان الدين هادياً للعلم نحو الدقة والتحقيق.

يقول وليم جيمس: إن الدين يحدثنا عن أمور يستحيل على العقل والعلم ادراكها ابتداءاً. لكن هذه الرموز - التي حدثنا عنها - دفعت العقل إلى أن يبحث ويحقق ومن ثمّ توصل إلى نتائج باهرة.

العلماء يجمعون على أن الدين كان المحرك الأول لكثير من المسائل العلمية التي توصلت إليها البشرية اليوم.

ماهو الغيب؟

الغيب يعني الخفاء، ماوراء الستار، أي هو الشيء الذي غاب عن حواسنا، وخرج عن دائرة الإدارك الحسي.

وردت كلمة الغيب مراراً في القرآن الكريم، فتارة ذُكرت وحدها، كما

ص:74

في قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاّ هُوَ....

الفلاسفة المسلمون استفادوا من هذا التعبير القرآني فسموا الطبيعة المادية «الشهادة» واصطلحوا على عالم الملكوت بعالم «الغيب».

الادب العرفاني الفارسي تحدث عن عالم الغيب، بتعبيرات دقيقة رائعة نجدها منتشرة في أشعار حافظ والخيام والمولوي وسعدي.

الإيمان بعالم الشهادة لا يتطلب أكثر من الحواس. وتسمية هذا العالم بعالم الشهادة تنطلق من كون هذا العالم محسوساً ملموساً. من هنا لا نحتاج إلى مرشد يوجهنا للإيمان بهذا العالم، بل نحتاج إلى مُعلم يهدينا سبل البحث والتحقيق لنتعرف أكثر فأكثر على حقائق عالم الشهادة.

غير أن هذه الحواس قاصرة عن الإيمان بعالم الغيب. وهنا تبدأ وظيفة العقل - وهو المرحلة الغيبية من وجودنا - في إدراك هذا العالم المجهول، بل لعل الاطلاع على هذا العالم يتطلب قوة ادراك أكثر خفاء من العقل.

الأنبياء هداة وأدلاء على عالم الغيب، بعثوا لكي يدعوا الناس للإيمان بهذا العالم وبما وراء الحس الظاهر، وليكونوا حلقة اتصال، وليوصلوا الناس إلى المدد الغيبي في الاحوال والظروف الخاصة.

لم يكتف الأنبياء بدعوة الناس إلى الإيمان بوجود الغيب، بل عملوا على إيجاد رباط بينهم وبين ذلك العالم.. وهنا تبدأ العلاقة العملية بين الحياة البشرية وبين الغيب.

ص:75

ستار الغيب

ذكرنا أن الغيب يعني الخفاء.. ماوراء الستار.

فما هو هذا الستار الذي حال بيننا وبين الرؤية؟

هل هو في الواقع ستار ينبغي أن يزاح كي نستطيع أن نرى وندرك؟

أم هو كناية عن حقائق أخرى؟

لقد ورد ما يرادف كلمة الستار في القرآن الكريم عند حديثه عن أهل القيامة: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (ق: 22).

وفي حديث لامير المؤمنين علي (عليه السلام) قال:

«لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا».

إن هذا الغطاء ليس جسما مادياً طبعاً، إنه التعبير عن الإطار الذي تتحدد به حواسنا في إدراكها.

محدود وغير محدود

إن الموجودات تنقسم - بحسب التقسيم العقلي - إلى محدودة وغير محدودة. وحينما تُعرف المحدودات فإن غيرها سيتضح تلقائياً.

إنكم تجلسون الآن في مكان معين، وتشغلون حيزاً محدوداً من الفراغ. وإن أردتم الجلوس في مكان آخر يلزمكم ترك المكان الأول لتتحركوا إلى المكان الثاني.

أي إنكم لا تستطيعون إشغال المكانين في آن واحد، فأنتم من ناحية المكان محدودون - إذن - بمكان معين.

ص:76

وهكذا من ناحية الزمان، فنحن موجودون في الزمن الحاضر، وغير موجودين في زمن مضى، ولا في زمن لم يأت بعد.

أما لو تسنى لموجود أن يكون غير محدود في زمان أو مكان، أي أن لا يخلو منه زمان ولا مكان، بل هو في كل زمان ومكان، ومهيمن على الزمان والمكان، عند ذاك تعجز حواسنا عن إدراك هذا الموجود.

نحن نستطيع أن نرى الموجود حينما يكون محدوداً ومستقراً في جهة معينة، وله شكل معين، ويمكن أن يشار اليه. أما إذا لم يكن محدودا، وليس له شكل أو جهة، فتستحيل علينا رؤيته.

نحن نستطيع أن نسمع صوتاً حينما يكون موجوداً حيناً، وغير موجود حيناً آخر. أما إذا امتد الصوت في دويّ واحد، واستمر دونما انقطاع في وصوله إلى أذننا، فلا نستطيع سماعه إطلاقاً.

يقول الغزالي: نحن نستطيع أن نعرف النور لأنه موجود تارة، وغائب تارة أخرى، ولأنه مرئي في مكان ومفقود في مكان آخر. ولو قُدر للعالم أن يكون مضيئاً باستمرار وبشكل واحد، وليس ثم ظل ولا ظلام، ولا غروب ولا أفول، لجهلنا - عند ذاك - معنى النور الذي هو أظهر الأشياء، بل المُظهِر لكل الأشياء الأخرى.

إننا نعرف النور - إذن - بنقيضه، وهو الظلمة. وعن طرق هذا النقيض نسلّم بوجوده.

يقول المتصوفة والعرفاء: إن الله قد اختفى لشدة ظهوره، فهو قد خفي لأنه لا يغيب، ولا يخلو منه زمان ومكان.

ص:77

يا من هو اختفى لفرط نوره الظاهر الباطن في ظهوره

الشاعر الفارسي يمثل لهذه المسألة بأسلوب جميل فيقول:

كانت هناك سمكة تسبح في البحر

وكانت مثلي ذات ادراك ضيق الأفق

لم تعان يوماً أذى من صياد

ولا عدمَ ارتياح من شباك الصيد

لم تحس يوماً بعطش.. ولا بحرارة شمس

لقد وعت يوما على صوت أناس..

ينادون: واعطشاه! أين الماء؟

رجعت السمكة إلى نفسها تفكر في هذا الماء

ما هذا الاكسير الذي يحيي كل شيء؟!

إذا كان هو أساس الحياة..

فَلِمَ يا ربِّ قد حجبته عنّي؟!

***

لم يكن يتجلّى أمام ناظريها صباح مساء سوى الماء..

إنها كانت تعيش بكنفه باطمئنان، ولكنها كانت تجهله..

كانت غافلة عن النعمة التي تعيش في أحضانها،

إلى أن ألقاها الموج إلى ساحل البحر..

وحينذاك غمرت جسمها أشعة الشمس المحرقة

وأضرم بُعد الماءِ في أحشائها ناراً

ص:78

لقد جفّ فمها من شدة العطش

وتذكّرت الماء وهي مستلقية في التراب

وسمعت من بعيد خرير الماء

بدأت تضرب بنفسها الأرض وهي تقول:

لقد عثرت الآن على هذا الإكسير الكيميائي،

الذي لا أستطيع أن أعيش بدونه

أسفا! لقد عرفته بعدما قصرت يدي عن نواله

نعم، إن السمكة التي تعيش العمر كله في أحضان الماء، ولا تجد في مسيرها وفي كل ما يحيطها سواه لا تستطيع أن تفهمه، والشيء الذي تشك فيه ولا تقدره حق قدره هو الماء نفسه.

إلا أنها عرفته وتمنته حالما انفصلت عنه لحظة ودخلت إلى عالم اليابسة.

هذا التمثيل يستهدف توضيح المسألة التي سبق أن ذكرناها، وهي إن السبب في خفاء الغيب يرتبط بقدرة حواسنا على الإدراك، لا بوجود مانع وحاجز بينه وبين جهازنا الحسي والإدراكي.

نحن نعلم أن فلاسفة أوروبا المحدثين يدّعون لأنفسهم قصب السبق في البحث حول الإدراك البشري، ويعتبرون بحوثهم في هذا الميدان ابتكاراً.

ولعل الأساس الذي اتخذه بعض كبار فلاسفة أوروبا لبحوثهم هو نقد وسائل الفكر الإنساني. ومن أعظم ما كتبه «كانت» - الفيلسوف الألماني - كتابان حول نقد العقل النظري، ونقد العقل العملي.

ص:79

لا يهمنا في هذا البحث التعرف على مقدار الابتكار في اتجاه هؤلاء الفلاسفة. ولا نريد شرح أسبقية العلماء المسلمين في تناول هذا الاتجاه النقدي، بل نكتفي بالإشارة إلى أن الفلسفة الإسلامية عمدت إلى هذا اللون من النقد قبل غيرها. ولكن لا باسم النقد بل تحت عناوين أخرى.

لهذا الاتجاه النقدي - في الفلسفة الإسلامية - عطاء ثرّ قيّم يفوق ما تمخّضت عنه العقول الأوروبية، ولي أمل العودة إلى هذا الموضوع في لقاء آخر كي نبحثه بتفصيل وبرهان.

الشاعر الفارسي - مولوي - يمثل في شعره - قبل مئات السنين - لمحدودية الحس البشري، فيقول:

جاء الهنود بفيل إلى أرض لم تعهد رؤية الفيل من قبل.. ووضعوه في دار مظلمة لا نور فيها.

ودخل الناس واحداً بعد آخر ليلمسوه! وما إن خرجوا حتى بدأ كل منهم يصفه من خلال ما أحسه بلامسته.

فهذا الذي وقعت يده على الخرطوم قال: إن الفيل يشبه الأنبوب!

وذاك الذي لمس الأذن قال: إنه يشبه مروحة يدوية!

أما الذي استطاع لمس ظهره فوصفه بأنه يشبه السرير!

وما كان من الذي لمس قوائمه إلا أن قال: إنه يشبه الأسطوانة!

***

إن الباصرة قادرة على أن ترى الفيل بضخامته، وبكل أعضائه وأبعاده. أما اللامسة - وخاصة حينما تكون بكف اليد فقط - فلا تستطيع

ص:80

أن تدرك ذلك. والصدفة هي التي تلعب دورها في مكان وضع كف اليد من الفيل.

اللامسة اذن محدودة بالنسبة إلى الباصرة التي هي غير محدودة نسبياً. وهذه النسبة تصدق في مقارنة الحواس مع القوى العقلية.

عالم الغيب

ما هو الطريق الذي يسلكه العقل ليطلع على العالم الآخر؟

ماهي الآثار المرئية التي بمقدورها الدلالة على ذلك العالم؟

هذه المسائل لا يمكن لهذا البحث الموجز أن يستوفيها. ولا بأس بالاشارة إلى أن البحوث العلمية والفلسفية في آخر مراحلها، قد توصلت إلى أن الأصل في كل الأشياء المادية هو الحركة. وسلكت العلوم لإثبات ذلك طريقاً يختلف عن طريق الفلسفة.

إن رأي الفلسفة يرتكز على التغير الدائم للذرات وجواهر الأشياء. الكون كله - في نظر الفلسفة - ركب متنقل، ولكنه ليس بذاك الركب المتنقل من مكان إلى آخر فحسب، بل إنه في حالة انتقال من وجود إلى وجود آخر باستمرار وبدون انقطاع.

أثبت صدر المتألهين الشيرازي أن جواهر الأجسام في حالة تغير وتبدل. أي إنه أثبت إمكان ما كان يؤمن أرسطو وابن سينا باستحالته. وهو لم يثبت إمكان الحركة الجوهرية فقط، بل اعتبرها ضرورة حتمية.

العالم في نظر هذا الفيلسوف وحدة متحركة باستمرار، وفي حالة حدوث وفناء دائمين.

ص:81

بناء على هذا فإن العالم غير قائم بذاته، بل قائم بغيره، وهذه مسألة واضحة لا تحتاج إلى شرح وتفصيل.

من هنا نفهم أن المسألة الأساسية ليست مسألة البحث عن العلة التي أوجدت العالم من العدم في لحظة واحدة معينة، بل إن البحث يتجه إلى أن العالم يولد في كل لحظة من العدم ومن خلفه يد توجده وتفنيه باستمرار، ومن غير انقطاع..

الإمداد الغيبي

لقد أوضحنا فيما مضى: أن كل الموجودات تستمد وجودها من الغيب. وبعبارة أخرى فإن الإمداد الغيبي يعم الطبيعة جميعاً ولكننا نريد أن نضيف هنا بأن ثمة مجموعة من الإمدادات الخاصة لها وجود أيضا.

وهل هناك إمداد خاص؟.. نعم.

لكي أستطيع توضيح هذا الموضوع، ينبغي أن أشير أولا إلى مصطلح قرآني وارد في آية البسملة حيث تصف الباري تعالى بالرحمن، والرحيم.

وكلتا الكلمتين مشتقتان من الرحمة مع تفاوت بينهما.

الرحمة «الرحمانية» تشمل كل الموجودات، إذ إن وجود كل الأشياء، وديمومتها وبقاءها مدين لهذه الرحمة.

أما الرحمة «الرحيمية» فهي اللطف والعناية الخاصة التي ينالها الموجود المكلف على أثر أداء الوظيفة المنوطة إليه، وهي عناية خاصة لها قانونها الخاص، غير قانون الطبيعة. لقد جاء الأنبياء ليرشدونا إلى هذا النوع من الإمداد الغيبي. وإذا استقرت أنفسنا على الإيمان بهذا الامداد، فسندخل في

ص:82

علاقة مباشرة مع رب العالمين. نحس بأننا أمام جزاء عادل لكل أعمالنا خيراً كانت أم شراً.

وعلى أية حال ينال الإنسان أحياناً في حياته الفردية والاجتماعية نوعاً من الرحمة تنجيه من الكبوة والسقوط.

والله سبحانه يخاطب رسوله الله الكريم قائلا:

أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى، وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى، وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) (الضحى: 6-8).

ونحن في صلواتنا الخمس نقرأ: إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ.

وهو نوع من الاستمداد الغيبي.

انواع الإمداد

يد الغيب تتجلّى أحيانا بصورة تهيئة الظروف المناسبة للتوفيق، وأحيانا بصورة هداية وتفتح ويقظة.

لكن الذي ينبغي تأكيده هو أن المساعدات الغيبية لا تأتي عبثاً دونما مقابل.

لا ينبغي أن يجلس الإنسان في بيته مكتوف الأيدي منتظراً يد الغيب لتنقذه، فهذا الانتظار مخالف لناموس الطبيعة والخلقة.

نذكر آيتين كريمتين إحداهما حول الإمداد الغيبي الذي يتجلّى في تهيئة الظروف المناسبة للتوفيق، والأخرى حول إمداد الهداية المعنوية. لننظر إلى الشروط التي يضعها القرآن الكريم للإمداد الغيبي:

إِنْ تَنْصُرُوا اللّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (محمد: 7).

ص:83

فالنصر الالهي - الذي هو إمداد غيبي - مشروط بنصرنا لله. أي أن نبذل ما وسعنا في سبيل الصالح العام لله وفي الله.

فالسعي والجهد ينبغي أن يلازمه الاخلاص وحسن النية أيضا.

وفي الإمداد الثاني يقول جلّ وعلا: وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (العنكبوت: 69).

هذه الآية أيضا تشترط الجهد «فينا»، وبعبارة أخرى تشترط صرف طاقة جسمية إلى جانب الطاقة الروحية ليستطيع الإنسان في النتيجة أن ينال الهداية والتفتح والانفتاح.

ليس هناك اذن حديث عن إمداد يُنال دونما مقابل.

يتحدث الإمام علي - عليه السلام - عن شروط الإمداد والإسناد الغيبي فيقول:

«ولقد كنا مع رسول الله (ص) نقتل آباءنا وأبناءنا واخواننا وأعمامنا، ما يزيدنا ذلك إلا إيمانا وتسليماً ومضياً على اللقم وصبراً على مضض الألم وجداً في جهاد العدو.

ولقد كان الرجل منّا والآخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين، يتخالسان أنفسهما أيهما يسقي صاحبه كأس المنون، فمرة لنا من عدونا، ومرة لعدونا منا.

فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبتَ وأنزل علينا النصر».

«ولعمري لو كنا نأتي ما أتيتم لما قام للدين عمود ولا اخضرّ للايمان عود». وهذه الآية تطالعنا في سورة الكهف من قوله تعالى:

ص:84

إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً، وَ رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا (الكهف: 13-14).

وهي تحدثنا عن الهداية، وعن ربط القلب وتقوية الإرادة، وكلاهما مشروطان بعاملين:

الأول: القيام.

والثاني: أن يكون هذا القيام لله وفي سبيل الله.

الذي يبحث عن الحق والحقيقة، ويجهد نفسه في طريق الوصول اليها سوف تمتد اليه يد الغيب لتشمله بعنايتها، وهذه لعمري مسألة تجربية إضافة إلى أنها مسألة إيمانية. لكنها تجربة شخصية، يلزم على الفرد أن يمارسها في حياته ليلمس آثار اللطف والعناية الربانية وهي تحتضنه.

وما أجملها من لذة..!!

ليس الامر بالصعب. مراحله الأولية بسيطة يستطيع الإنسان أن يطويها من خلال خدمة المجموع ومساعدة الضعيف، والإحسان إلى الوالدين، على أن يصحب هذه جميعاً الإخلاص وصفاء النية.

عند ذاك سوف تتجلى له اليد الرؤوفة آخذة بناصره، ولعلي أستطيع أن أدعي بأني مارستُ تلكم الشروط، وأحسستُ معها باللذة تحت ظلال رحمة رب العالمين، ولمست تلك العناية بوضوح.

يخطر في ذهني - بهذا الصدد - موقف من مواقف المرحوم آية الله البروجردي - أعلى الله مقامه -.

ص:85

لقد غادر - رحمه الله - مدينة «بروجرد» إلى «طهران» على أثر مرض شديد تطلب عملية جراحية.

ثم شد الرحال منها إلى مدينة «قم» حيث اختارها مقاماً على أثر طلب الحوزة العلمية منه ذلك.

وعند حلول العطلة الصيفية للحوزة في تلك السنة قرر أن يسافر إلى مشهد الرضا - عليه السلام - اذ عُلِمَ بعدها أنه كان قد نذر على نفسه هذا السفَرَ لله أثناء مرضه رجاء للشفاء.

أعلن سماحته تصميمه هذا في مجلس خاص من العلماء، وطلب إليهم أن يعينوا من يرافقه في سفره هذا. وكان جواب الأصحاب أن طلبوا منه فرصة ليفكروا في الأمر.

ذكر لي أحد العلماء ممن حضر ذلك المجلس قائلا: إننا اجتمعنا على انفراد وتشاورنا في الأمر، فلم نجد الظرف مناسبا لسفر مثل هذا، في ذلك الوقت. إذ إنه - أعلى الله مقامه - قريب العهد في القدوم إلى مدينة «قم»، ولم يتعرف عليه الشعب إلايراني بعد، وعلى هذا فإن المواطنين سوف لا يقومون بما يناسب منزلته من الحفاوة والتكريم.

كان هذا هو العامل الأول الذي دعانا إلى تثبيط عزيمة السيد على السفر، ولكنا لم نجرأ على أن نصارحه بالسبب الحقيقي، بل جعلنا العملية الجراحية التي أجريت له حجة لرفضنا هذه السفرة. وكان أن قلنا جميعاً: إن السفر الطويل بالسيارة (إذ لم يكن خط جوي أو حديدي يربط المدينتين آنذاك) سوف لا تكون نتائجه حسنة على صحة السيد.

ص:86

وفي جلسة أخرى حيث كرر السيد حديث السفر، سعينا بكل ما وسعنا من جهد لأن نغير وجهة نظره، لكن أحد الحاضرين لم يخف الأمر، بل صرح له بقصدنا من وراء هذه المخالفة.

تغيرت ملامح السيد فجأة، وتحدث بلهجة صارمة روحية قائلا: «منحني الله سبعين سنة من العمر كانت مملوءة بمنح وعطايا لم تكن إحداها من تدبيري وتقديري.. سعيت طوال هذه المدة لأن أتعرف على وظيفتي في الحياة. والآن وبعد أن تصرمت تلك السنون السبعون، لا ينبغي أن أفكر بأموري الخاصة بنفسي! كلا.. لابد أن أسافر..».

نعم، إن الإنسان، لو قرن السعي بالإخلاص في ممارسته لأعماله الحياتية، سوف يأتيه التسديد من حيث لا يحتسب.

الفرق بين الفكر الإلهي والفكر المادي

إذا نصرتم الحقيقة، فلابد أن تكون الحقيقة سنداً لكم وظهيراً.

وهنا يبدو بوضوح الفرق بين الإنسان الإلهي والإنسان المادي.

ليس ثم تفاوت - في نظر الإنسان المادي - بين طريق الحق والباطل، وبين العدل والظلم. وليس للحق والباطل، ولا للصالح والطالح في ميزان النظام الكلي للعالم حساب ووزن. فالعالم لا يعبأ بهذه الموازين والقيم.

ليس للعالم - في الرؤية المادية - عين ولا أذن ولا عقل ولا إدراك يعي بواسطتها القيم المختلفة ليسند ويؤيد السائرين على طريق الحقّ، ويخذل المنحرفين عن الطريق السوي المستقيم.

ص:87

إلاّ أن الإنسان الإلهي يفرق بين الطريقين. فهناك حقيقة تسند دعاة الحق وتأخذ بأيديهم.

ذكرتُ في كتاب «الإنسان والمصير» تحت عنوان «أثر العوامل المعنوية على المصير»: «إن الرؤية المادية للعالم تذهب إلى أن العوامل المؤثرة على أجل الإنسان ورزقه وسلامته وسعادته مادية صرفة، فالعوامل المادية وحدها هي التي تتحكم في تقريب أجل الإنسان، وفي ضيق رزقه وسعته، وفي سلامة جسمه، وكذا في ضمان سعادته.

إلا أن الرؤية الإلهية للعالم تذهب إلى أن العوامل الروحية والمعنوية تؤثر - إلى جانب العوامل المادية - في كل ما يعتري الإنسان شراً أم خيراً.

النظرة الالهية تعتبر العالم يقف محايداً تجاه السنن التشريعية والاتجاهات العملية البشرية. أي ترى أن السنن الكونية في العالم لا تتحيز لأنصار الحق أو لأنصار الباطل، لأن مفاهيم الحق والباطل، والصحيح والخطأ، والعدل والجور، لها في المنظار الكوني حساب واحد.

لكن المدرسة الإلهية لا تنظر إلى العالم نظرة المحايد في موقفه تجاه أصحاب الحق والباطل.

العالم - في رأي هذه المدرسة - مناصر للسائرين على طريق الحق والعدالة والاستقامة، ولذوي الأهداف المقدسة.

الإنسان المادي - مهما أوتي حظاً من الإيمان والاعتقاد بمذهبه وطريقه،

ص:88

ومهما كانت أهدافه وآماله ذات مصلحة عامة ومقدسة وبعيدة عن الذاتية والنفعية - لا يؤمن بأكثر من أنه سوف يتلقى نتائج أعماله بمقدار ما بذله من سعي وجهد لا أكثر.

بينما الفرد المسلم يؤمن ويعتقد أن الموجودات الكونية سوف تهب لحمايته ونصرته، إن ضحّى في سبيل عقيدته وإيمانه، ويؤمن أن الكون ينطوي على قوى تفوق آلاف المرات تلكم القوى التي يبذلها في الطريق.

الرؤية المادية تؤكد أن دعاة الحق يتلقون من نتائج أعمالهم بنفس القدر الذي يتاح للظالمين أن يكسبوه نتيجة ظلمهم، اذ ليس ثمة فرق في الفهم المادي بين الفريقين، إلا أن الفرق هائل في حساب المدرسة الإلهية».

الإلهام والإشراق

الإلهام أو الإشراق نوع من المدد الغيبي ينفذ إلى كيان العلماء فيفتح لهم أبواباً من العلم تؤدي إلى اكتشافات هائلة.

إن الطرق التي نفهمها للوصول إلى العلم اثنتان، إحداهما: التجربة والمشاهدة العينية، والاخرى: القياس والاستدلال.

البشرية تعرفت على رموز الطبيعة وأسرارها عن طريق الاستقراء والمشاهدة العينية. وتوصلت إلى نتائج مختلفة عن طريق القياس والاستدلال.

هذه المكتسبات طبيعية لأنها النتيجة القطعية اللازمة لمقدمات طواها

ص:89

الإنسان بشكل عملي. غير أن هذه المكتسبات - في المنظار الفلسفي الدقيق ليست منفصلة عن منشأ إلهامي. والى هذا يشير السبزواري في منظومته:

والملهم المبتدع العليم حيّ قديم منّه عظيم

وهذا خارج عن بحثنا. والسؤال الذي ينبغي أن نطرحه هو: هل إن البشرية قد طوت مسيرتها العلمية من خلال هذين الطريقين فحسب، أم إن ثمة طريقاً ثالثاً قد أمدّها توصلت إليه وجَنَته؟

يعتقد العلماء أن هناك طريقاً ثالثاً. ولعل أغلب الاختراعات والاكتشافات الكبرى تمت عن هذا الطريق الثالث، وهو نوع من تيار كهربائي قد ينقدح فجأة في نفس العالم وعقله، فيضيء ما حوله، ثم ما يلبث أن ينطفيء.

يعتقد ابن سينا أن هذه القوة موجودة في الافراد بدرجات متفاوتة ومختلفة، ويذهب إلى تفسير الآية الكريمة: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ. بهذه القوة التي لها وجود شديد مؤثر عند بعض الأفراد.

يذهب الغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال» إلى أن اكثر معلومات البشر المرتبطة بالاحتياجات المعاشية انبثقت أولا بشكل إلهامي. وفي بحثه عن الوحي والنبوة يقول: إن مجموعة المعلومات التي يمتلكها البشر عن الأدوية والعلاج وعن النجوم لا يمكن أن تكون مكتسبة عن طريق التجربة، فلا بد أن تكون صادرة عن اللطف الإلهي، بطريق الإلهام، لهداية البشر.

ص:90

الخواجه نصير الدين الطوسي هو الآخر في بحثه عن الوحي والنبوة يذهب إلى أن معظم ما توصل إليه البشر تمّ عن طريق الإلهام.

لعل الكثيرين يتصورون أن الإلهام مسألة قديمة ليس لها اليوم أنصار، ويخالون أن الحواس الظاهرة هي مصدر كل معلوماتنا في عالمنا اليوم عن طريق المشاهدة والتجربة، ولا شيء غير هذه الحواس!!

وليست المسألة كما يتصورون ويخالون.

جمع كبير من العلماء المعاصرين يذهب إلى أن كثيراً من النظريات أوحيت إلى العلماء عن طريق شبيه بالإلهام.

يدافع «الكسيس كارل» في كتابه «الإنسان ذلك المجهول» عن نظرية الإشراق والإلهام ويقول:

«من المؤكد أن الاكتشافات العلمية ليست فقط حصيلة الفكر الإنساني. النوابغ يمتلكون خصائص معينة كالإشراق والخلاقية، إضافة لما لهم من مطالعات وتفكير في المسائل المختلفة. فعن طريق الإشراق يدركون ما خفي عن الآخرين، ويبصرون الروابط المجهولة بين القضايا التي يُظن أن لا ارتباط بينها، ويتوصلون إلى فهم المسائل الهامة دونما دليل وبرهان».

ويقول أيضا:

«يمكن تقسيم العلماء إلى فريقين: منطقيين وإشراقيين، والعلوم مدينة لهذين الفريقين. وللإشراق نصيبه في العلوم الرياضية أيضا، مع أنها تستند إلى أساس منطقي كامل. ويحتل الإشراق في الحياة الاعتيادية - كما في

ص:91

القضايا العلمية - محلاً خطيراً باعتباره عاملاً للفهم والإدراك، ويصعب التمييز أحيانا بينه وبين التوهم...

الرجال العظام والطاهرون يستطيعون، عن طريق الإشراق، التوصل إلى قمة الحياة المعنوية. وهذه الموهبة عجيبة حقاً، وإدراك الواقع دونما دليل وتفكير، غير قابل للتفسير».

يعرض لنا «الكسيس كاريل» ثلة من علماء الرياضيات يدعي أنهم منطقيون اكتسبوا معلوماتهم عن طريق السعي والاستنتاج المنطقي فحسب، ويعرض إلى جانب هؤلاء اسماء عدة من علماء الرياضيات الذين تلقوا علمهم عن طريق الإشراق والإلهام.

هذه النظرية أيدها علماء آخرون. وأخيراً اطلعت على مقال للعالم الرياضي الفرنسي «جاك هادا مارا» تحت عنوان: «دور العقل الباطن في الادراك العلمي» جاء في ترجمته:

«حينما نفكر بالعوامل التي أدت إلى ظهور الاكتشافات والاختراعات فإننا لا نستطيع إطلاقا أن نتجاهل دور الادراك الفجائي الداخلي.

كل عالم محقق يدرك - إلى حد ما - هذه المسألة، ويعلم أن بعض ما توصل اليه من المسائل العلمية كان نتيجة سلسلة من النشاطات الشعورية، بينما توصل إلى البعض الآخر عن طريق الإلهام الباطني».

العالم الكبير «أنشتاين» كان له نفس هذا الإيمان حول الفرضيات الكبرى، وكان يقول أن مبدأ هذه الفرضيات نوع من الإلهام والإشراق.

ص:92

نتيجة

نفهم من مجموع ما ذُكر أن أنواعاً من الامدادات الغيبية لها وجود في حياة الأفراد، تمنح الفرد أحيانا عزماً وإرادة وربطا على القلب، وقد تُعِدُّ له الوسائل المادية، أو تبرز هذه الإمدادات بشكل قوة تهدي وتنير.. وتلهم الافكار العلمية.

من هنا نعلم أن الإنسان لم يترك سدى، فاللطف الإلهي والعناية الربانية تشمله في شروط معينة، وتنتشله من الضلالة والضياع والحيرة، وتنجيه في لحظات العجز والخور والضعف. إن هذا شأن الافراد فما شأن المجتمعات؟

الإمداد الغيبي الاجتماعي

هل من الممكن أن تمتد يد العناية إلى مجتمع كي تنتشله من هوته وتساعده في قيامه؟

الأنبياء العظام كإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليه وعليهم، والمصلحون المعروفون، ظهروا في وقت تحتاج إليهم البشرية أيمّا احتياج.

إنهم كانوا كاليد الغيبية التي امتدت لتنجي البشرية، كان شأنهم كالديمة السمحاء التي تهطل في صحراء قاحلة مجدبة، كانوا مصداق قول الله تعالى: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (القصص: 5).

ص:93

الإمام علي - عليه السلام - يصف الظروف التي رافقت البعثة النبوية المباركة فيقول:

«أرسله على حين فترة من الرسل، وطول هجعة من الأمم، وانتقاض من المبرم، وانتشار من الأمور، وتلظ من الحروب، والدنيا كاسفة النور، ظاهرة الغرور، على حين اصفرار من ورقها وإياس من ثمرها..».

إن ظهور الأنبياء أعقب سقوط البشرية، أو انحدار مجتمع من المجتمعات في هوة سحيقة، فكان أولئك الأنبياء سبباً للانقاذ والنجاة.

القرآن الكريم يخاطب معاصري الدعوة قائلا: وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (آل عمران: 103).

يقول المثل الفارسي: «الضياء والصباح نهاية الليل الاسود» وتقول أمثال بعض الشعوب: «الفرج نهاية الشدة» وهذه المقولات تتحدث عن نوع من التجارب البشرية، وتدل على أن سير الكون ليس عبثياً كما يتصوره الماديون.

مسألة المهدي

مسألة المهدي في الإسلام، لهي مسألة فلسفية كبرى.

الإنقاذ المرتقب لا ينحصر في أمة معينة أو منطقة مشخصة أو جنس بالذات، بل إن الانقاذ يمتد ليشمل البشرية جمعاء، وليسير بها نحو مدارج الرقي والصلاح والسعادة.

ص:94

ربما قال قائل: إننا في عصر العلم وتسخير الفضاء، وليس ثم خطر يواجه البشرية كي تكون هناك حاجة إلى إمداد غيبي!! البشرية ترتقي على سلم الاستقلال والكمال، ويقل احتياجها تدريجيا إلى المعونة والإمداد، فالعقل والعلم يملآن فراغ الحاجة والاستمداد!! كان الخطر يواجه البشرية حينما كانت تغطّ في غياهب الجهل والانحطاط، وليس ثم خطر يواجه مجتمعاً تنور بالعلم والمعرفة!!

إن هذا الجنوح في الخيال - مع الأسفِ - لا أساس له.

إن الخطر الذي يحدق بالبشرية اليوم ليس بأقل مما كان يحيط بمجتمعات العصور السالفة، بل إنه أكثر وأعظم.

من الخطأ أن نعتقد أن الجهل كان وراء انحراف البشرية دائماً. وهذه مسألة شغلت الباحثين في علم التربية والأخلاق.

إن سبب الانحراف هو الغرائز والأهواء المرسلة العنان. هو الشهوة والغضب والحرص على طلب الشهرة والجاه، والنهم في الاستكثار من اللذة، وحب الذات وعبادتها.

والآن لنلق نظرة على الغرائز المادية، والأهواء البشرية في عصرنا الراهن، وكذا على دوافع السيطرة واستثمار الآخرين وعبادة الذات والمنفعة الشخصية، وعلى دوافع الظلم الإنساني.

هل إنها جميعاً هادئة مستقرة في ظل العلم؟

هل إنها مهذبة بروح العدل والتقوى والرضا والعفاف والاستقامة؟!

أم إن المسألة معكوسة تماماً؟!

ص:95

لم يعد خافياً أن الغرائز البشرية المادية قد جنت اليوم أكثر من أي وقت مضى. وأضحت العلوم والفنون أدوات وآلات لدن تلكم الغرائز.

أضحى ملاك العلم في خدمة شيطان الشهوة، وأصبح العلماء وكل المشتغلين في الحقل العلمي أدوات طيّعة تخدم الساسة والفراعنة وطلاب السيطرة والنفوذ.

ليس هناك من شك في أن التقدم العلمي لم يترك أي أثر إيجابي على الغرائز البشرية. بل بالعكس فإن هذاالتقدم زاد من غرور الإنسان وطغيانه وهيّج غرائزة الحيوانية، وسعّر لظاها، حتى أضحت العلوم والفنون اليوم أكبر عدو للبشرية، أي إن هذا الصديق الحميم للبشر أصبح عدوا لدوداً له..

لماذا؟!

لأن العلم مصباح، وسيلة إنارة.. الاستفادة منه ترتبط بكيفية استعمال هذا المصباح، والهدف من وراء هذا الاستعمال.

يستطيع الفرد أن يستفيد من المصباح لقراءة كتاب، أو - على حد قول الشاعر الفارسي سنائي - لانتقاء المتاع الأفضل عند السرقة.

العلم سلّم تستطيع البشرية عن طريقه أن تصل إلى أهدافها، وتحقق غاياتها. وليس العلم بقادر على تغيير أهداف الإنسان. ولا يستطيع أن يقدم له قِيَماً ومقاييس إنسانية.

هذه وظيفة الدين.. الدين الذي يستطيع أن يتحكم في الغرائز والأهواء الحيوانية، ويحرك في الإنسان الدوافع النبيلة السامية.

ص:96

العلم يستطيع أن يُخضع لسيطرته كل شيء، إلا الإنسان وغرائزه. الإنسان هو الذي يسخّر العلم في الاتجاه الذي يطمح إليه. والدين هو الذي يسخّر الإنسان ويوجهه الوجهة الخاصة.

يقول «ويل ديورانت» في مقدمة كتابه «لذائذ الفلسفة» عن إنسان عصر الآلة: «نحن أصبحنا أغنياء في التكتيك والآلة، إلا أننا فقراء في الهدف.

لم يتغير الإنسان في عصر العلم عن ذاك الإنسان الذي كان يعيش في عصور قد خلت من قبل في كونه أسيراً لقوتي الغضب والشهوة وعبداً لهما.

لم يستطع العلم أن يحرر الإنسان من أهوائه النفسية.. لم يستطيع أن يغيّر روح التجبّر والتفرعن والسفك والغصب في الإنسان...

مع فارق، هو أن روح النفاق والتظاهر قد سادت في عالمنا اليوم، وهيمنت عليه.

وأن يد الأعتداء قد طالت فتجاوزت حدود السيف لتصل إلى مرتبة الصواريخ عابرة القارات، والى قاذفات القنابل».

مستقبل العالم

إننا مسلمون مؤمنون بوجود إله مهيمن على هذا الكون، وهذا الإيمان هوالذي يقلّل من خطر الكارثة في أعيننا.

كل الأخطار التي تحيط بالإنسانية اليوم لا توحي لنا بالفناء الكامل

ص:97

لهذا الكون، لأننا مطمئنون في أعماقنا بأن للبشرية مستقبلاً يمتد إلى ملايين السنين. إن هذا الاطمئنان تبعثه في النفس تعاليم الرسل والأنبياء، إنه في الواقع إمداد غيبي نستند إليه.

لو أخبرنا بنجم ضخم يسير بسرعة في الفضاء، ويقترب تدريجياً من مدار الأرض، وبأنه سيرتطم بالأرض بعد ستة شهور ليحولها إلى كومة رماد.. لو قيل لنا هذا لما تسرب إلينا الخوف، لأن في أعماقنا نوعاً من الاطمئنان والإيمان بأن الوقت لم يحن لفناء البشرية التي لم يمض طويلاً على تفتح براعمها.

وكما أننا لا نؤمن بأن أرضنا ستفنى بفعل سقوط نجم أو كوكب، كذلك لا نصدق مقولة فناء الأرض بيد القوى البشرية المخربة.

والآخرون..؟ هل إنهم لا يصدقون أيضا؟

هل هم متفائلون أيضا بمستقبل الأرض والإنسان والحياة والمدنية والسعادة والعدالة والحرية؟!

كلا...

إننا نلاحظ باستمرار علامات الخوف والتشاؤم في خطب وأحاديث ساسة العالم بالنسبة إلى مستقبل البشرية والحضارة.

ولو أهملنا تعاليم الدين وإيماننا بالإمداد الغيبي، ولاحظنا المسألة على أساس العلل والأسباب الظاهرية، لوافقناهم في التشاؤم، وجعلنا الحق في جانبهم.

لماذا لا يتشاءمون؟!

ص:98

أيّ تفاؤل في دنيا يقرر مصيرها ضغط زرّ يؤدي إلى انطلاق وسائل الدمار والتخريب؟!

أي تفاؤل في عالم يرقد على كتل عظيمة من البارود تنتظر الشرارة كي تتحول إلى حريق عالمي؟!

يقول «رسل» في كتابه «الآمال الجديدة»:

«إن الإحساس بالحيرة والضعف وعدم القدرة يسود في عصرنا الحاضر.

نرى أنفسنا نقتربُ من حرب لا نريدها جميعاً، حرب سوف تفني معظم البشر. ومع هذا فإننا كأرنب قد لاقى حية فمكث في مكانه، ننظر من طرف خفي إلى الخطر المحدق بنا دون أن ندري ما نعمل!!

أحاديث القنبلة الذرية والهدروجينية المخوفة المخربة تنتشر في كل مكان، ونتناقل فيما بيننا أخبار الجيش الروسي ((1)) وأخبار القحط والتكالب والوحشية.

في الوقت الذي نقف فيه نحن أمام هذه المظاهر مذهولين مذعورين، فاننا لم نعد قادرين على اتخاذ موقف حازم من هذه المأساة».

وهل البشر قادرون على اتخاذ مثل هذا الموقف؟!

ص:99


1- (1) - علّق الأستاذ الشهيد على هذه العبارة بقوله: إن كتاب «الآمال الجديدة» قد كُتب يوم كان الغرب مرعوباً من الروس. أما الآن فقد برزت الصين لترعب المعسكرين كليهما.. انتهى تعليق الاستاذ مطهري. ونقول إن العالم يواجه اليوم أكبر خطر في تاريخ البشرية يتمثل بانفراد أمريكا بالهيمنة العالمية، إذ تندفع ببطش تخريبي هائل على خلفية أهداف صهيونية وأوهام توراتية وحروب صليبية (المترجم).

هو يقول أيضا: «إن مدة ظهور الإنسان طويلة بالنسبة إلى عصر التاريخ، لكنها قصيرة بالنسبة إلى العصور الجيولوجية.

يقال إن الإنسان قد ظهر إلى الوجود قبل مليون سنة، ويذهب البعض ومنهم انشتاين إلى أن الإنسان قد اجتاز فترته الحياتية، وسيستطيع خلال سنين معدودة، بمعونة تقدمه العلمي الهائل، أن يفني نفسه».

لو حكمنا على الأمور من خلال الأسباب والظواهر المادية لما حكمنا عليها حقاً بغير هذا النوع من التشاؤم. وهذه النظرة السلبية لا يمكن أن تتبدل إلى نظرة ايجابية متفائلة إلا عن طريق ايمان روحي، إيمان بأن الإنسانية تنتظر في مستقبل أيامها حياة الرفاه والسعادة والأمن والعدل.

لو أننا قبلنا صورة التشاؤم القاتمة، فإن حياة الإنسانية ستكون مضحكة حقاً.. إنها تشبه حياة ذلك الطفل الذي ما إن استطاع حمل السكين حتى أسرع الى الانتحار بغرس السكين في بطنه.

يقال: إن عمر الأرض أربعون مليار سنة، وإن عمر الإنسان على هذا الكوكب يقرب من مليون سنة.

ويقال أيضا: لو افترضنا أن عمر الأرض سنة واحدة، فإن ثمانية أشهر مضت من هذه السنة دون أن يوجد على ظهر الأرض أي أثر للحياة. وفي حدود الشهر التاسع بدأ ظهور الحياة بشكل فايروسات ذات خلية واحدة. في الأسبوع الثاني من الشهر الأخير ظهرت الحيوانات اللبنية، وفي الربع الاخير من الساعة الأخيرة لهذه السنة ظهر الإنسان.

ص:100

والفترة التي خرج فيها الإنسان من حياته المتوحشة وحياة الغابات والكهوف هي آخر ستين ثانية من هذه السنة، وفي هذه الثواني الستين ظهر استعداد الإنسان في الاستفادة من عقله في تسخير مظاهر الطبيعة، وفي بناء حضارته ومدنيته. وفي هذه الثواني الستين أثبت الإنسان جدارته بتحمل أعباء خلافة الله في الأرض.

ولو قيل الآن إن الإنسان بمهارته العلمية الفائقة سيفني نفسه عاجلاً، ولم يتبق من زواله سوى بضع أقدام من مسيرته. لو قيل هذا، فإنه لا يعني سوى أن مسألة خلق الإنسان ليست إلا عبثاً لا معنى لها.

نعم، إن نفراً من الماديين يستطيع أن يزعم هذا، لكن الفرد الذي تربى في المدرسة الإلهية لا يمكن له أن يفكر هذا التفكير.. إنه يقول: لا يمكن للعالم أن يفنى بيد نفر من المجانين. إنه يؤمن بالخطر المحدق بالعالم، ولكنه يؤمن أيضا بأن تجربة الإنقاذ التي تفضّل بها الله على البشرية سوف تتكرر، وسوف تمتد يد الغيب لتبعث المنجي والمصلح كما فعلت من قبل.

الإنسان الإلهي يرى: أن العالم لم يُخلق عبثاً، ويسخر من مقولة الماديين حول فناء الإنسان التي يصدق عليها المثل العربي: «ما أدري أسلّم أم ودّع».

فناء البشرية في عصرنا الراهن مخالف لحكمة الله:

إذ مقتضى الحكمة والعناية إيصال كل ممكن لغاية

كلا.. إن عمر الأرض لم ينته بعد، إنه في أول مراحله.

ص:101

البشرية تنتظر دولة عالمية قائمة على أساس العدل والخير والسعادة والأمن والرفاه.

سوف يصل اليوم الموعود وتشرق الأرض بنور ربها وسيكون ذلك:

«إذا قام القائم، وحكم بالعدل، وارتفع في أيامه الجور، وأمنت به السبل، وأخرجت الأرض بركاتها، ولا يجد الرجل منكم يومئذ موضعاً لصدقته ولا برّه، وهو قوله تعالى: والعاقبة للمتقين».

بدل أن نكون سلبيين متشائمين، بدل أن نجلس لنعد الأيام المتبقية من عمر البشرية، بدل كل هذا، علينا أن نتطلع إلى إطلالة فجر النور من وراء كل الخطوب، فالشرارة لا تنير إلا في الظلمة.

يشير الإمام علي إلى ظهور المهدي فيقول: «حتى تقوم الحرب بكم على ساق بادياً نواجذها ((1))، مملوءة أخلافها ((2))، حلواً رضاعها ((3))، علقماً عاقبتها ((4)).

ألا وفي غد وسيأتي غد بمالا تعرفون يأخذ الوالي من غيرها عمالها على مساويء أعمالها ((5))، وتخرج الأرض، أفاليذ كبدها ((6))، وتلقي

ص:102


1- (1) - النواجذ: أقصى الأضراس أو الانياب، كناية عن شدة احتدام الحرب.
2- (2) - الأخلاف، جمع خلف: الضرع، كناية عن غزارة مافيها من الشر.
3- (3) - حلواً رضاعها: للمظلومين والمستضعفين.
4- (4) - علقماً عاقبتها: للظالمين.
5- (5) - اذا انتهت الحرب حاسب الوالي القائم، كلّ عامل من عمال السوء على مساوئ أعمالمهم، وإنما كان القائم من غيرها لأنه بريء من جرمها.
6- (6) - أفاليذ جمع أفلاذ جمع فلذة: وهي القطعة من الذهب والفضة.

اليه سلماً مقاليدها، فيريكم كيف عدل السيرة ويحيي ميت الكتاب والسنة».

الإمام علي يتطلع إلى غد عبوس مكفهر، ولكنه يبشر بطلوع فجر النصر من وراء كل تلكم الظلمات.

والقرآن الكريم يقول: وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ (الانبياء: 105).

نعم.. هذه هي الفلسفة العظمى في مسألة ظهور المهدي.

إنها، وإن كانت تنذر بأزمات عظام.. لكنها تبشر بالسعادة وانتصار الحق والعدالة بعد هذه الأزمات.

وهذا هو أمل الإنسانية الكبيرة..

أللهم إنا نرغَبُ إليك في دولة كريمة تُعزّ بها الإسلام وأهله.. وتذلُّ بها النفاق وأهله.. وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك.. وتزرقنا بها كرامة الدنيا والآخرة».

ص:103

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.