منهج الرشاد فی معرفه المعاد

اشارة

سرشناسه : نعیما طالقانی، محمدنعیم بن محمدتقی، قرن ق 12

عنوان و نام پديدآور : منهج الرشاد فی معرفه المعاد/ محمدنعیم بن محمدتقی المدعو بالملا نعیما العرفی الطالقانی؛ تحقیق رضا استادی

مشخصات نشر : مشهد: مجمع البحوث الاسلامیه، 1419ق. = - 1377.

مشخصات: 3ج

شابک : 964-444-108-79000ریال:(ج.1)

يادداشت : عربی

يادداشت : فهرستنویسی براساس اطلاعات فیپا.

یادداشت : کتابنامه

موضوع : معاد

موضوع : خداشناسی

شناسه افزوده : استادی، رضا، 1316 - ، مصحح

شناسه افزوده : بنیاد پژوهشهای اسلامی

رده بندی کنگره : BP222/ن 7م 8 1377

رده بندی دیویی : 297/44

شماره کتابشناسی ملی : م 78-578

ص :1

المجلد 1

اشارة

ص :2

منهج الرشاد فی معرفه المعاد

محمدنعیم بن محمدتقی المدعو بالملا نعیما العرفی الطالقانی

تحقیق رضا استادی

ص :3

ص :4

فهرست الموضوعات

مقدّمة الاستاذ السّيّد جلال الدين الآشتياني 11

مقدّمة المصحّح 37

مقدّمة المؤلّف 55

في الاشارة إلى أنّ الانسان عبارة عن مجموع النفس و البدن 61

في الاشارة إلى معنى المعاد 63

في الاشارة إلى كون الاعتقاد بالمعاد ضروريّا في هذا الدين القويم و كذا في الأديان السابقة 67

في كيفيّة دلالة الآيات القرآنيّة على المعاد 69

في كيفيّة دلالة الآيات الواردة في إنكار المنكرين للمعاد 71

في الاشارة إلى معنى المعاد الروحاني و الجسماني 74

في الاشارة إلى مبنى إنكار المنكرين للمعاد 76

في الإشارة إلى مبنى القول بالمعاد 79

في الإشارة إلى معاد البدن 79

في الاشارة إلى مبنى معاد النفس 89

إيراد إشكال على القول بالمعاد الروحاني فقط 92

كلام مع صدر الأفاضل 95

المقام الأوّل في جواز عدم العالم و امتناعه 102

تفصيل و تحقيق 106

ص:5

في أبديّة الصادر من أجزاء العالم 109

في أبديّة فرد ما من أجزاء العالم 119

في أبديّة النشأة الاخرويّة 122

[الكلام في النشأة الدنيوية]126

في بيان الدليل السمعي على بقاء النفس الإنسانيّة بعد خراب البدن 128

في بيان الدليل العقلي على بقاء النفس الإنسانيّة بعد خراب البدن 133

من جملة الدلائل عليه 133

في الحجج التي اعتمد أفلاطون فيه عليها 134

في ذكر برهان أقامه الشيخ في الشفاء على هذا المطلب 135

دليل آخر منه 137

فيما ذكره في الإشارات في ذلك 140

فيما ذكره المحقّق الطوسي رحمه اللّه في شرحه له 141

في ذكر ما ذكره صاحب المحاكمات 146

في ذكر ما ذكره صدر الأفاضل في هذا المطلب 148

شك و تحقيق 151

في توجيه حجج أفلاطون 153

إيراد سؤال على كلام الشيخ في الشفاء مع جوابه 156

نقل كلام عن المحقّق الطوسي لبيان الجواب 158

في امور ينبغي التنبيه عليها هنا[الأمر الأوّل]163

دفع إيراد عن المحقّق الطوسى رحمه اللّه 166

الأمر الثاني 167

دفع إيراد آخر على المحقّق الطوسي رحمه اللّه 170

في بيان الجواب عن السؤال الذي أوردناه على كلام الشيخ في الشفاء 172

في ترميم بعض ما ذكره الشيخ في الكتابين من الدليل على بقاء النفس 177

كلام مع صاحب المحاكمات 179

كلام مع المحقّق الطوسي رحمه اللّه 185

في توجيه كلامه في الإشارات 190

في ذكر شبهة مشهورة موردة على أدلّة بقاء النفس بعد فساد البدن 198

في تحرير الجواب عن الشبهة 203

ص:6

شروع في تحرير الجواب 205

زيادة إيضاح للمقام 211

في تحرير جواب المحقّق عن اعتراض الإمام 219

في التكلّم فيما قاله صدر الأفاضل من الجواب عن الاعتراض 225

في بقاء النفوس 231

في بيان حال المادّيات من الموجودات 233

في بيان معنى ما دلّ من السمعيّات على هلاك كلّ ما سواه أو على الفناء بالمرّة 238

ختام 247

المقام الثاني في جواز إعادة المعدوم و عدمه 249

في تحرير ما ذكره الشيخ في الشفاء أوّلا في هذا المطلب 258

في الإشارة إلى الجواب عن شبهة المعدوم المطلق 262

حاصل الدليل الذي ذكره الشيخ في الشفاء أوّلا و ذكره في التعليقات أيضا على بطلان إعادة المعدوم 267

في الإشارة إلى دفع ما أورده الشارح القوشجي على المحقّق الطوسي 269

في الإشارة إلى قول المحقّق الطوسي 272

في الإشارة إلى دفع إيراد عن الشيخ و عن المحقّق الطوسي 273

كلام مع المحقّق الدواني 275

في الإشارة إلى دفع توهّم هنا 280

في تحرير ما ذكره الشيخ بعد دليله الثاني 281

في تحرير ما ذكره الشيخ في الشفاء أخيرا 284

نقل كلام من المحقّق الدواني في هذا المقام و الإشارة إلى ما فيه 289

في الإشارة إلى توجيه الدليل الأوّل الذي ذكره المحقّق الطوسي على هذا المطلب 292

في ذكر حجج المجوّزين لإعادة المعدوم و ذكر ما فيها و نقدها و تزييفها 313

في تحرير كلام المحقّق الطوسي 323

في الإشارة إلى دفع مناقشة المحشّي الشيرازي عن المحقّق الدواني 326

كلام مع الشارح القوشجي و المحشّين 328

في الإشارة إلى توجيه كلام القائل الأوّل بحيث يندفع عنه ايراد الشارح القوشجي 328

في تحرير ما ذكره صاحب المواقف 332

ص:7

في تحرير ما ذكره الشارح القوشجي في مقام الجواب عمّا أورده صاحب المواقف 335

في تحرير الجواب 338

في الكلام فيما ذكره الشارح القوشجي نفسه في الجواب عمّا ذكره صاحب المواقف 342

في الإشارة إلى اندفاع ما أورده المحقّق الدواني عن الشارح القوشجي 346

كلام مع المحشّي الشيرازي 349

كلام مع المحقّق الدواني 353

مناقشة مع المحقّق 360

في الإشارة إلى دفع مناقشة المحشي الشيرازي عن المحقّق الدواني 361

مناقشة أخرى مع المحقّق 361

كلام معه أيضا 364

في الكلام فيما أورده الشارح القوشجي على المحقّق الطوسي 364

في بيان ما يرد على الشارح من الأنظار 368

[بيان ضعف احتجاج القائلين بجواز إعادة المعدوم على الجواز بالآيات و الروايات]374

في تضعيف الوجه الإقناعي الذي ذكره الشارح القوشجي على جواز الإعادة و كذا في تضعيف الوجه الذي ذكره المحقّق الدواني على امتناع الإعادة 377

ص:8

مقدّمة الناشر

قضيّة الإيمان بالعودة إلى اللّه عزّ و جلّ-عبر سفر الموت-إحدى الركائز الأساسيّة التي يقوم عليها المعتقد التوحيديّ في الأديان الإلهيّة.و تشكّل هذه القضيّة ثاني قوسين تكتمل بتلاقيهما دائرة الحياة الإنسانيّة في الوجود،بعد أن كان أوّلهما الإيمان بصدور الإنسان من الغيب الإلهيّ،ليجتاز-في رحلة الحياة الدنيا-مراحل الكدح و النموّ و التكامل،ثمّ ليعود إلى لقاء اللّه من جديد..كما تعود القطرة مرّة اخرى إلى المحيط.و هذا الصدور من القدرة الإلهيّة ثمّ العودة إليها بعد الموت هو ما عرف في الثقافة الإسلاميّة باسم«المبدأ و المعاد»؛استلهاما من تعابير القرآن الكريم: «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ- الأعراف 29»و «كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ -الأنبياء 104»و «إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ -يونس 4».

و لا ريب أنّ حياة الإنسان القادمة في أسفار الآخرة مرتبطة ارتباطا صميميّا بأعمال الإنسان و بمساعيه في الحياة الدنيا،و بما يحمل من معتقدات و أفكار،و بما يعتمل في داخله من دوافع و نيّات.هنالك تتجسّد الأعمال و الدوافع الداخليّة في عالم الانكشاف و الظهور «وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً،وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً -الكهف 49»، «ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ -البقرة 281»، «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ -الزلزال 7-8».

و قد حفلت النصوص الإسلاميّة-قرآنيّة و حديثيّة-بذكر حقيقة المعاد و ما يرتبط به،بما لا تجد نظيرا له في أيّ من الأديان الاخرى.و شهدت الحياة العلميّة و الدينيّة للمسلمين،على تعاقب القرون،مباحث شتّى حول عقيدة المعاد..خلال كتب خاصّة ألّفت في الموضوع،و خلال فصول تضمّنتها المؤلّفات الاعتقاديّة و الأخلاقيّة و الوعظيّة، ليتجلّى للمسلم هذا الأصل الدينيّ الأساس،و ليتأهّب للسفر الأخرويّ،حيث يصل الى الغاية التي هي لقاء اللّه.

ص:9

إنّ العامل الرئيس في خراب حياة الإنسان على الأرض،و في ضلاله عن طريق التكامل-الذي حمل رسالته الأنبياء و بلّغ به الأوصياء عليهم السلام-إنّما ينبعث من نسيان العودة إلى اللّه و الغفلة عنها،ناهيك عن التورّط في إنكار هذه العودة و التكذيب بها،كما يتوهّم أصحاب الطريقة المادّيّة في التفكير.

و قد كانت معالجة الكتّاب و المفكّرين المسلمين لقضيّة المعاد على أنماط متفاوتة؛ فمنها ما اعتمد النصّ أساسا في البحث،و منها ما نهج نهجا استدلاليّا عقليّا خالصا،و منها ما جمع بين الاستدلال العقليّ و الاستناد إلى النصوص القرآنيّة و الحديثيّة باعتبار الحقائق التي تجلّيها هذه النصوص محورا للاستدلال،و موضوعا للبحث العقليّ و الفلسفيّ.

و كتاب«منهج الرشاد في معرفة المعاد»هو ممّا ألّفه الآخوند الملاّ نعيما الطالقانيّ -من كبار علماء الإماميّة في القرن الحادي عشر-وفق هذا النهج الأخير القائم على البرهان العقليّ المنوّر بالنّص،و حدّد المؤلّف رحمه اللّه هدفه من الكتاب،فقال:«أن نقيم الدليل على أنّ المعاد ينبغي أن يكون واقعا على هذا الوجه الذي دلّ عليه الشرع،لا على وجه آخر»(1:382).و قد عني فيه ببحث مختلف القضايا المتّصلة بعقيدة المعاد، مناقشا-في ضمن ذلك-طائفة من أفكار الفلاسفة و المتكلّمين المسلمين و غير المسلمين،و كاشفا عن و هن ما ألقي في هذا السبيل من شكوك و شبهات.

و كان هذا الأثر موضع عناية الأستاذ السيّد جلال الدين الآشتيانيّ،فإنّه كتب له مقدّمة ضافية تحدّث فيها عن المؤلّف و عن بيئته العلميّة،و زيّن الكتاب بتعليقات(هي المميّزة بعلامة النجمة)،ثمّ أشار على مجمع البحوث الإسلاميّة في الآستانة الرضويّة المقدّسة بتحقيق الكتاب.و عملا من المجمع على نشر المعارف و العقائد الأصيلة تلقّى هذا الاقتراح بالتّرحيب،و طلب من آية اللّه رضا أستادي تولّي هذا العمل،فتحمّل أعباءه، و كتب مقدّمة عن مصادر حياة المؤلّف و ما يتّصل بمؤلّفاته..فله و للأستاذ الآشتيانيّ وافر الشكر و الامتنان،و نسأل اللّه تعالى لهما المزيد من الخير و التوفيق.

و إذ يقدّم مجمع البحوث الإسلاميّة الجزء الأوّل من هذا الكتاب،يسأل اللّه سبحانه التوفيق لإصدار الجزءين الآخرين،و اللّه المستعان في البدء و في الختام.

مجمع البحوث الإسلاميّة 1418 ه-1376 ش

ص:10

مقدّمة الأستاذ السّيّد جلال الدّين الآشتيانيّ

اشارة

نقلها الى العربية:علي هاشم الأسدي

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الآخوند الملاّ نعيما الطّالقانيّ أحد علماء الإماميّة المشهورين،و يعرف بالملاّ محمّد نعيم أيضا.

كان يواصل دراسته بأصفهان في أواخر العهد الصّفويّ و نقتني كتابين من كتبه:

أحدهما أصل الأصول و قد طبعته في سلسلة منتخبات فلسفي،و الآخر هو كتابه المفصّل منهج الرّشاد في معرفة المعاد الّذي ألّفه بعد عودته إلى أصفهان إذ كان قد نزح منها إثر فتنة الأفغان،فعاد إليها بعد أن أجلاهم عنها القائد الشّهير نادر شاه أفشار.و لم يتحدّث المؤلّف عن سيرته في الكتابين المذكورين،بيد أنّه عرّف نفسه بإيجاز في الكرّاس الملحق بأوّل كتاب أصل الأصول.و يستبين منه أنّ المترجم له كان ذا قريحة شعريّة،لأنّه كتب في آخر الصّفحات الثّلاث الملحقة بكتاب أصل الأصول-الّذي يشكّل أحد أجزاء كتابنا منتخبات فلسفي-و المطبوعة على حدة:

«لكاتبه و مالكه و مؤلّفه و واقفه ملاّ نعيما المعروف بالعرفيّ (1)الطّالقانيّ».

نزلت بصاحب التّرجمة مصائب محيّرة بعد غزو الأوباش أصفهان،فقد قضى الغزاة على جلّ أقربائه،فاضطرّ إلى الخروج من أصفهان ليلا بمساعدة بعض الأصدقاء و النّاصحين،و وصل إلى قمّ بعد أن تجشّم عناء كبيرا في سفره.

عرفه بعض العلماء الّذين كانوا قد ذهبوا إلى أصفهان سابقا لطلب العلم و غادروها

ص:11


1- -العرفي:اسم خاصّ اختاره الشاعر لنفسه و يذكره في آخر بيت من كلّ قصيدة،على عادة شعراء الفارسيّة.

لأسباب معيّنة فطلبوا منه أن يدرّس و يفيدوا من وجوده،فألّف رسالة أصل الأصول في قمّ (دار الإيمان).

*** توفّر المستشرق المعروف المرحوم البروفسور كربن على دراسة شيخ الإشراق و أفكاره و آثاره مدّة مديدة،عند ما كان مشغولا في مطالعة آثار محقّقي الشّرق و أفكارهم عدد سنين إبّان اقامته في تركيا.و كان يعمل في القسم المتعلّق بالمعهد الفرنسيّ التّركيّ مبعوثا من قبل حكومته ثمّ انتقل إلى ايران و واصل فيها عمله.و قد تعرّف عليّ سنة 1959 و 1960 م،و كان يرغب كثيرا أن أقوم بإعداد مختارات فلسفيّة منذ عصر الميرداماد حتّى عصرنا هذا.و كان يرى أنّ الموضوعات الّتي اختارها من كتب الفلاسفة في القرنين الأخيرين ينبغي أن تنقل دون إبداء وجهة نظر فيها،و هو يتولّى تدوين القسم الفرنسيّ.و كنت أدرك جيّدا أنّ نقل المباحث العلميّة العويصة بدون إبداء رأي فيها عمل ناقص.فلا بدّ من بيان التّفاوت بين المشارب و المذاهب.

كنت أنجز العمل الّذي اقترحه عليّ المستشرق المذكور مع انشغالي بإعداد الكتب العرفانيّة و الفلسفيّة للطّبع.و تهيّأ قرابة ستّة أجزاء كمختارات من آثار أكابر العلماء، مشفوعة ببيان ما أشكل و شرح ما أعضل.و استطعنا أن نتعرّف على كثير من العلماء عن هذا الطّريق،و قد كان بعض منهم-مثل الملاّ نعيما الطّالقانيّ-غير معروفين عند الكثيرين.

طبع من المختارات الفلسفيّة أربعة أجزاء،و انتقل زميلي الباحث المغفور له البروفسور كربن إلى رحمة اللّه تعالى.

و قد بلغ البروفسور كربن من الذكاء الحادّ،و القابليّة العمليّة و الذّوق العلميّ الوافر مبلغا أصبح فيه عالما ملمّا بالأسس الفلسفيّة،متمكّنا من المسائل العويصة أكثر من كونه مستشرقا بالمعنى المتداول.

***

كان الملاّ نعيما المشهور بالملاّ محمّد نعيم أيضا من العلماء الأجلاّء أولي المنزلة الرّفيعة لكنّه لم يتمتّع بشهرة كافية عند الجميع.مثله بذلك مثل كثير من العلماء الّذين كانوا

ص:12

رجالا كبارا إلاّ أنّهم مغمورون.و انّها لمأساة حقّا أن لا تولي الحوزات العلميّة الشّيعيّة اهتماما كافيا بالعرفان النّظريّ و العمليّ و الحكمة الإلهيّة،و لا تعتني بالعلوم القرآنيّة و تفسير القرآن الكريم،و لا توسّع نطاقها العلميّ؛إذ أصبحت حوزات أحاديّة العلم اقتصرت على الفقه و الأصول،و ركّزت على العلوم النّقليّة،و تركت تفسير القرآن و العلوم الّتي تنبثق منه و تحفظ أصالة الإسلام.و نلحظ في الجامعات أيضا أنّ العلوم الأصيلة،و العلوم القرآنيّة،و علم التّوحيد و العرفان الّذي تألّق من بطن القرآن،و العلم الإلهيّ،و الحكمة المتعالية الّتي تعدّ كلاما شيعيّا في مقابل كلام علماء العامّة،كلّ ذلك آخذ بالزّوال.و كان بعض الجهلة المغرورين يخالون أنّ معرفة الصّرف و النّحو و المعاني و البيان،و التّوغّل في اللغة العربيّة و آدابها يكفيان لفهم القرآن،و بعضهم كان يرى أنّ ترجمة القرآن الكريم إلى اللّغة الفارسيّة مفتاح المعارف القرآنيّة.

و لا بدّ أن نعرف أيضا أنّ علم الكلام وحده لا يكفي لفهم القرآن،بل قد يكون مضرّا و مضلاّ.

إنّ علم الكلام على المذهب الأشعريّ مشحون بالأخطاء و الهفوات،و على أصول المعتزلة حامل لأخطاء فادحة،و كلاهما وقع في فخّ التّنزيه الصّرف الّذي يلزم نفي التّوحيد الألوهيّ و التّشبيه الصّرف الملازم لاستناد آثار المادّيّات الخاصّة إلى الحيّ المنزّه عن عوارض الجسمانيّات.و المذهب الحقّ هو الجمع بين التنزيه و التّشبيه.

في ضوء ما ذكرنا كان الكلام الأشعريّ و المعتزليّ دعامة للمعارف القرآنيّة و زاعما فهم ظواهر القرآن و الأحاديث المأثورة عن خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله،و حلّ المسائل العويصة،بيد أنّ الأصول و القواعد العلميّة لهاتين الفرقتين قد خرجت من نطاق العلم تماما خلال فترة قليلة نوعا ما.و نلحظ في كتب التّفسير أثرا للفرقتين المذكورتين لكنّه مضلّ.

إنّ ما ينبغي أن نذعن له هو أنّ علم التّفسير يستتبع عددا من العلوم،و أنّ التّفسير يجب أن يكون مناسبا لبيئة خاصّة.و إذا همّ امرؤ أن يفسّر القرآن و هو في الأربعين أو الخمسين من عمره و كان أذكى النّاس،فلا يفلح في عمله.إذ مع وجود الظّروف المساعدة على التّفسير،لا بدّ أن يتعلّم الإنسان التّفسير في شبابه عند أستاذ مفسّر،و يعمل ليل نهار،

ص:13

و يتوفّر على دراسة آثار الماضين.و يحتاج طالب علم التّفسير إلى بيئة تفسيريّة مناسبة، و كما أنّ الفقيه البارز يجب أن ينشأ في بيئة فقهيّة،فكذلك المفسّر المحقّق يجب أن يكون وليد بيئة تفسيريّة،و بعد تهيئة الظّروف لا بدّ من خمسين سنة في الأقلّ حتّى تعدّ البيئة التّفسيريّة المناسبة.

إنّ الإلمام بالأسس العرفانيّة،و التّمكّن من الحكمة المتعالية،و الاطّلاع على علم الكلام،و العثور على طريق الأنس بالقرآن،و تطهير النّفس من الرّذائل،و تحصيل الإقبال للأنس بالقرآن،كلّ ذلك وسيلة للعبور من ظواهر القرآن و الحديث،و العروج إلى البطون القرآنيّة و إدراك كلام الحقّ.قال الإمام جعفر الصّادق عليه و على آبائه السّلام:«لقد تجلّى اللّه لخلقه في كلامه،و لكنّهم لا يبصرون.» (1)و ما قاله خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله:«إنّ للقرآن ظهرا و بطنا و لبطنه بطن إلى سبعة أبطن.» (2)أراد به أنّ كلّ بطن يختصّ بأشخاص معيّنين،و أنّ بطنه الثّالث هو مشاهدة الحقيقة كأنّك تراه.و أشار مولى الموالي أمير المؤمنين عليه السّلام إلى أعلى درجاته فقال:«ما كنت أعبد ربّا لم أره.» (3)و شهود البطن السّابع للمحمّديّين خاصّة.و في عصرنا هذا ينبغي ألاّ نتطلع إلى بطون القرآن الكريم و نعرج من ظاهره إلى باطنه و ننظر من عالم التّفسير إلى عالم التّأويل.و القصد هو أنّ إدراك السّور القرآنيّة و فهم الظّواهر بنحو لا يجرّد من فهم كلام الحقّ تماما يجب أن يعدّ بالغ الأهميّة.

*** الملاّ نعيما هو نجل الشّيخ محمّد تقي الملائكة،و الشّيخ محمّد تقي ابن الشّيخ محمّد جعفر،و الشّيخ محمّد جعفر ابن الشّيخ محمّد كاظم الطّالقانيّ.و سلالة هؤلاء العلماء هي أكبر ممّا ذكر.

الملاّ محمّد الملائكة المشهور بالملاّ محمّد فرشته أخو الآخوند الملاّ نعيما.و كانت أسرة الملاّ نعيما من أعاظم رجال العلم و الأدب،و كما قيل في المشهور«كان رجال أسرته من علماء الدّين».و بين أحفاده المشهورين بلقب(نعيمائي)هذا اليوم كثير من

ص:14


1- -بحار الانوار 92:107. [1]
2- -تفسير الصافي 1:38. [2]
3- -اصول الكافي 1:98. [3]

العلماء،و معظمهم من أولي الذّوق.و من أسرته الأخ نعيمائي الّذي يسكن في طهران حاليّا و له خطّ جميل،كما أنّه ملمّ بعدد من الخطوط.و قد زرته في بيته مع عدد من الأصدقاء.علما أنّ خطّ الملاّ نعيما في غاية الجمال.

أثران من الآثار العلميّة للملاّ محمّد نعيم(الملاّ نعيما)

لم يكن الملاّ نعيما شخصيّة مغمورة قطّ،فقد كان من مشاهير العلماء و ضريحه بين نور و طالقان مطاف أولي الإقبال.

إنّ أحد آثاره العلميّة الّتي امتزج فيها الذّوق العلميّ بالذّوق العرفانيّ رسالة جامعة بعنوان أصل الأصول ألّفها الملاّ نعيما في قمّ(دار الإيمان)و هي أثر نفيس،و قد طبعته في الجزء الثّالث من المختارات الفلسفيّة.

مرّ بنا فيما سبق أنّ العالم المذكور فقد كثيرا من أقاربه في غارة الأفغان على مدينة اصفهان الكبرى(و سقوط اصفهان و موت مائة ألف من أهاليها جوعا و قتلا)فقام بعض الأخيار بإخراجه منها بمشقّة فتوجّه تلقاء قمّ مضطرّا و في قمّ طلب منه بعض العلماء أن يدرّس،فاستجاب لهم.و ما كتابه أصل الأصول إلاّ مجموعة دروس كتبها في مهجره.

هذا الكتاب في المعاد الجسمانيّ و الرّوحانيّ و عنوانه منهج الرّشاد في معرفة المعاد.

ألّفه الملاّ نعيما بعد مواجهة جيش الملك(نادر شاه افشار)صلفاء الأفغان و طغامهم.و أخيرا استطاع الجيش المذكور أن ينزل هزيمة ما حقة بجيش(أشرف قلجه اي)حتّى آثر الفرار على البقاء،و ترك اصفهان لمحة البرق.و تكبّد في الطّريق أيضا خسائر كثيرة تحدّثت عنها كتب التّاريخ.و كان بين الأفغان عالم دينيّ يعرف بالملاّ زعفر،و هو مرشدهم،اشتهر أنّه أقسى النّاس.و عند ما وصل إلى ضواحي كرمان ألقى نفسه في النّهر و غرق.

و كلّ من دخل اصفهان بعد فرار الأفغان،و كان قد رآها قبل حكومة محمود و أشرف فانّه وجدها يبابا و تنهّد تأوّها عليها.و قام الحاكم غير الكفوء و بعض المتظاهرين بالعلم من الوصوليّين،-في آخر لحظة كان ممكنا فيها أن يعيد القائد الإيرانيّ اللائق النّظم إلى البلاد-بإجبار الملك الجاهل على إعماء رجل كفوء و قتله.

ص:15

أخذت إيران بالضّعف بعد الشّاه طهماسب.و قام أحد أحفاد السّيّد الشّريف-و كان سنّيّا متعصّبا-بإغواء الشّاه اسماعيل الثّاني و جعله سنّيّا،لكنّ الشّاه أنكر تسنّنه خوفا من رؤساء قبيلة(استاجلو)و ألقى الشّريف في السّجن،و أثبت نذالته من خلال قتل أقاربه.

و عمد إلى أولي الذّوق و الفضل المحترمين من أولاد الشّاه اسماعيل الأوّل مؤسّس الامبراطوريّة الصّفويّة فقتلهم شرّ قتلة،و أنزل بذلك ضربة فادحة بالبلاد و الشّعب خلال عمره القصير.

كانت جميع مدن إيران و قصباتها بما فيها تبريز خاضعة للسّلطة العثمانيّة قبل حكومة عبّاس الأوّل الّذي كان لقب(الشّاه عبّاس الكبير)حقّه المطلق.و ذاق النّاس فيها مرارة التّسلّط الأجنبيّ عشرين سنة.و صارت مدينة تبريز خربة،و انجلى عنها كثير من أهلها.و تزوّج العثمانيّون عددا كبيرا من النّساء التّبريزيّات بالعنف و الإكراه.و كانت قلعة تبريز مكانا مأمونا لولاة الدّولة العثمانيّة سنين طويلة.و عند ما كان الجيش الملكيّ على عشرة فراسخ من تبريز،وضع التّبريزيّون قبّعاتهم الّتي كانت مألوفة عندهم في الماضي على رءوسهم و طفقوا يقتلون الأولاد المفروضين عليهم.و حينما دخل الجيش الإيرانيّ تبريز،بدأ الجيش العثمانيّ يتقهقر بعد مقاومة قليلة،و هذا ما تحدّثت عنه كتب التّاريخ.

و ضعف مركز الحكومة الصّفويّة بسبب تشتّت الآراء حتّى كاد يزول،و كانت الدّولة العثمانيّة تترصّد الفرصة لتزيد اعتداءاتها.و وقعت هرات في خراسان بأيدي الأوزبك سنة 997 ه بعد تسعة أشهر من الدّفاع المستميت.و أخفق أهالي آذربايجان في طرد عثمان لو من منطقتهم.و أصبحت الطّرق غير آمنة و ارتفعت أسعار البضائع الّتي يحتاجها النّاس بنحو لافت للنّظر حتّى أصبحت أغلى من الأمصار المجاورة.

و منيت الدّولة بضعف أطمع فيها الأعداء حتّى إنّهم كانوا يتأهّبون لمهاجمتها.

و كانت الظّروف تتطلّب يومئذ حاكما مقتدرا نابها كيّسا ذا دهاء،و من حسن حظّ بلادنا و الحكومة الصّفويّة أنّ ذلك الحاكم المطلوب كان موجودا،و هو عبّاس الأوّل الّذي أنقذ البلاد و لم يأل جهدا في إرساء دعائم التّشيّع و نشر مباديه.

و لم يدّخر الملك المذكور وسعا في تشييد المساجد و إنشاء الجسور القويّة و كلّ ما جعل اصفهان نجمة متألّقة،و كلّ ما أدّى إلى راحة التّجّار و الكسبة و رخائهم في مجال

ص:16

حمل البضائع التّجاريّة.و ما كان له دور في ازدهار التّجارة من بناء الجسور و الرّبط في مناطق ايران جميعها بخاصّة الوعرة منها.و لو قسنا الإمكانيّات الّتي كانت موجودة في أيّام حكومته بالإمكانيّات المتوفّرة في عصر اختراع الآلات و الوسائل المحيّرة،لسلّمنا أنه لم يشقّ له غبار.

كتب روجر سيوري مؤلّف كتاب ايران عصر صفوى[إيران العصر الصّفويّ](ص 82 من التّرجمة الفارسيّة الّتي أنجزها أحمد صبا):

«على الرّغم من الانتصارات العسكريّة و السّياسيّة للملك عبّاس الأوّل،بيد أنّها كانت تمثّل جانبا واحدا من حكمه المتلوّن.و كانت حكومته معلما على ذروة ازدهار الفنّ الّذي ظهر في العصر الصّفويّ.و تطوّر نسج السّجّاد في عهده فبلغ مستوى الفنون الدقيقة الجميلة بفضل دعمه و تشجيعه بعد أن كان صناعة ريفيّة.و لم تشهد المنسوجات الّتي كانت تعدّ في معامل الحياكة و النّسيج الكبرى مثيلا لها في سطوع لونها و في تصميمها.

و نافست الأواني الفخاريّة المصنوعة في العصر الصّفويّ منتوجات الصّين في الأسواق الأوربيّة.

و لا عهد للعالم الإسلاميّ بمثل هذا النّموذج الجامع لبناء المدن في العصر الصّفويّ منذ أن بنى المنصور العبّاسيّ بغداد في القرن الثّاني.و دلّت تركيبة المدينة وسعتها على منزلتها كعاصمة للإمبراطوريّة الفارسيّة.

تبلغ مساحة ساحة(نقش جهان)العظيمة الّتي أنشأها الشّاه عبّاس في مركز المدينة سبعة أضعاف ساحة(سان ماركو). (1)

كان بعض الأمراء الصّفويّين يتمتّعون بذوق مفعم و لعلّ معظمهم كانوا من أولاد الشّاه اسماعيل الأوّل أو من أحفاده.

ص:17


1- -ساحة في مدينة البندقيّة.كان عصر اثنين أو ثلاثة من سلاطين الصّفويّة عصر نضج المواهب.و كان الشّاه إسماعيل نفسه قائدا حربيّا و هو ابن اثنتي عشرة أو ثلاث عشرة.هزم مرّة واحدة فحبس في جالديران.كتب جاهل مغرور أنّه نهض من أجل بثّ التّشيّع.و من المستبعد أن يحمل شعورا بحبّ الوطن.و كان الشّاه اسماعيل نفسه هو الّذي جدّ في إحياء الشّاهنامه بخطّ جميل جدّا.و اشتملت على منمنمات بريشة رسّامين كبار يترأسّهم رسّام عصره بهزاد رحمه اللّه. أصيبت ايران بعد الفتح الإسلاميّ لها بحالة تشبه حالة ملوك الطّوائف خلال تسعمائة سنة و كانت تتقاذفها الأيدي.و تعدّ اقامة امبراطوريّة عظيمة بسرعة خاطفة أمرا يسيرا لرجل مريض مني بداء فقدان الضّمير.

و كان الأمير الحرّ أبو الفتح ابراهيم ميرزا بن بهرام بن الشّاه اسماعيل الصّفويّ(المتوفّى سنة 930 المقتول سنة 984 ه)يتمتّع بقابليّة قليلة المثيل و يحظى بعناية الشّاه طهماسب،و قد زوّجه الشّاه بنته(گوهر سلطان خانم).و كان أديبا جليلا،و في العلوم الرّياضيّة أستاذا بارعا.و كان من تلاميذ المير صدر الدّين دشتكي في الحكمة و الفلسفة.

و درس على علماء قزوين علوما متعدّدة و أصبح من الأساتذة الّذين توجّهت إليهم أنظار العلماء.و لمّا كان كفوءا،فقد ولاّه الشّاه طهماسب على خراسان،و ضمّ إليها سبزوار لرغبة أهلها في ذلك.و ما كان يتّصف به من علم و فضيلة و دراية و كفاءة دفع اسماعيل الثّاني-بعد تقلّده الأمر-أن يستدعيه إلى قزوين و يقتله.و أوصى هذا الأمير زوجته أن يدفن في جوار الإمام الثّامن عليّ بن موسى الرّضا عليه السّلام.

ألّف أبو الفتح ميرزا عددا من الرّسائل في علم الموسيقى و كان يتمتّع بكفاءة و دراية.

إنّ من خصائص الحكومة الاستبداديّة أن يتولّى الأمر فيها مجنون جاهل كإسماعيل الثّاني،فيقيل عالما كفوءا كأبي الفتح إبراهيم ميرزا و يقتله.و جاء في گلستان هنر، (1)و خلاصة التّواريخ، (2)و خلاصة الأشعار أنّ السّلطان ابراهيم حفيد الشّاه اسماعيل الصّفويّ كان من عباقرة الدّهر و نوادره،و قد جمع وحده ما كان عند أولي الذّوق و المعرفة من العلوم و الفنون.و كان يكتب بخطّ نستعليق في غاية الجودة.كما كان رسّاما ظريفا.

و تتلمذ على مولانا قاسم قانوني في تصنيف القول و العمل.و برع في النّجارة،و صناعة الآلات الموسيقيّة،و صناعة الاختام.و كان أستاذا في التّجليد،و التّذهيب،و رشّ الألوان و التّصوير،و الرّماية،و الصّياغة،و تربّى عليه عدد من الشّعراء و العلماء،و كان ذا قريحة شعريّة،و اتّخذ لنفسه لقب(جاهي).قتله الشّاه اسماعيل الثّاني سنة 984 ه.و تحتفظ مكتبة ملك الأهليّة بنسخة من ديوانه.

*** و من الأمراء الصّفويّين الآخرين:الشّريف جمال الدّين إبراهيم بن نور الدّين عبيد اللّه الصّفويّ.كان من كبار أولي المعرفة،و من فحول الفلاسفة و المتكلّمين في القرن العاشر الهجريّ.و كان من التّلامذة المهمّين للملاّ جلال الدّوانيّ في العلوم العقليّة.من آثاره:

ص:18


1- -ص 106،119.
2- -ص 633.

كتاب في المنطق و الحكمة الإلهيّة،و مقدّمة العلوم بخطّ المؤلّف،و هذا الكتاب موجود في مكتبة الملاّ محمّد صالح البرغاني بكربلاء.

أخو الشّريف جمال الدّين هو الشّريف عفيف الدّين،و كان من تلامذة الملاّ جلال الدّوانيّ أيضا.عاصر السّيّد السّند من سادات(دشتكي شيرازي)دافع عن أستاذه الدّوانيّ في مقابل صدر الدّين.

*** من الضّروريّ أن نذكر عددا من الموضوعات في هذا المجال:

1-كانت هناك مشاجرات علميّة بين الملاّ جلال و مير صدر دشتكي سنين طويلة، بيد أنّها لم تفض إلى إبداع دراسات و بحوث جديدة.

كما كان هناك خلاف علميّ متواصل بين نجل مير صدر الدّين،و غياث الدّين كأبيه حول أفكار الملاّ جلال الدّوانيّ و أنصار الفلسفة.و كان يدور حول الموضوعات الكلاميّة غالبا.إنّ التّعبير عن المتكلّمين بالفلاسفة عمل غير سديد.و كان الأساتذة و المدرّسون في عصر عضد الدّين الايجي و السّيّد الشّريف و تلامذته من المتكلّمين المحقّقين.و على هذا النّهج كانت آثار التّفتازانيّ شارح المقاصد،و الشّيخ النّسفيّ في خراسان.إنّ الرّجوع إلى آثار هؤلاء الأعاظم كالتّنقيب في بيدر للتّبن إذ قد يعثر فيه على قمح أحيانا.

و صفوة القول:إنّ أكثر موضوعاتهم-أطراف النّزاع-لا تقوم على قاعدة قويّة،بل هي بالمطالب الواهية أشبه؛لذا لم تدرّ هذه المنازعات نفعا على أحد.

كلّ من تلقّى المعرفة من أساتذة مدرسة شيراز،فانّه تلاعب بالألفاظ.

لم يولد فيلسوف عظيم بعد الخواجه نصير الدّين الطّوسيّ،و قطب الدّين الشّيرازيّ.

و لعلّنا نظفر بحكيمين أو ثلاثة من ذوي المستوى المتوسّط.و كان الأشاعرة فرسان الميدان يومئذ.أمّا العرفاء،و المتصوّفة،و أولو المعرفة،فقد كانوا موجودين في كلّ مكان.

و قد قدّم هؤلاء خدمات جليّ من أجل بثّ الإسلام دون أن يستخدموا العنف،و القتل، و النّهب،و الإرهاب،و قوّة السّيف.

و اعتمدت الحكومة الصّفويّة على أنصار آبائهم و أجدادهم.و قد ضحّى هؤلاء في نهضة اسماعيل الأوّل الّذي كان ابن اثنتي عشرة سنة حين ظهور الصّفويّين،و ابن أربع

ص:19

عشرة أو خمس عشرة سنة عند النّهضة.

و لحق الأنصار التركمان الّذين ينتمون إلى قبائل متعدّدة بمرشدهم و هم طافحون بالشّوق،كما لحق به الرّاقصون و الطّبّالون في مواكب ضمّت الخمسمائة،و الألف، و الألفين،و معظمهم كانوا رجال حرب.و استطاع هؤلاء أن يوحّدوا ايران خلال فترة يسيرة فأنقذوها من حالة ملوك الطّوائف الّتي دامت تسعمائة سنة،و عادت ايران إلى نصابها في مدّة قليلة نوعاما.

قال أحد الشّعراء:«بر آر سر كه طبيب آمد و دوا آورد».و تعريبه:

«ارفع رأسك فقد جاء الطبيب و أتى بالدّواء».

كانت بين الطّالقان(طالقانات)الشّاملة منطقة فسيحة من القرى و القصبات،و بين مدينة قزوين علاقات عميقة ممتدّة.و اشتهر بعض العلماء في قزوين أيّام الشّاه طهماسب الصّفويّ،و كان بين المدرّسين أو أصحاب المناصب الحكوميّة من كان من أهل الطّالقان.

كان سماحة الأستاذ سيّد الأساطين و قرّة عيون الموحّدين المغفور له السّيد أبو الحسن القزوينيّ الرّفيعيّ تغمّده اللّه برحمته الواسعة القزوينيّ الأمّ من أهالي الطّالقان، و جدّه الميرزا رفيعا القزوينيّ من أعاظم تلاميذ الشّيخ الأنصاريّ،و في الحكمة المتعالية من تلاميذ الآخوند الملاّ اسماعيل بن محمّد سميع الأصفهانيّ المشهورين.والدته هي بنت الفقيه و الأصوليّ المشهور آقا سيّد عليّ القزوينيّ صاحب التّعليقات النّفيسة على كتاب قوانين الأصول للميرزا القمّيّ.و توجّه والده الميرزا رفيعا،و أخوه الميرزا شفيعا من الطّالقان إلى قزوين (1)من أجل الدّراسة.

ص:20


1- -ذهبت في أحد أيّام إقامتي المؤقّتة في قزوين مع صديقي العزيز المغفور له الشّيخ محمّد حسين الأويسي لزيارة الأموات في مقبرة المدينة العامّة،و من ثمّ زيارة قبر السّيّد حسين(أحد أبناء الائمّة).و تعرّفنا في هذين المكانين المقدّسين على رجال عظام استزدنا من أرواحهم همّة.تغمّد اللّه جميع الأموات برحمته الواسعة. و كان قبر أستاذ العلوم الكثيرة الملاّ الكاتبيّ القزوينيّ سقى اللّه تربته-و هو أحد أعوان الخواجه الطّوسيّ رضي اللّه عنه في مرصد مراغه-في خربة تقع في شارع رشت قريبا من مسجد سلطاني.و هذا الرّجل ألّف كتبا نفيسة في علوم عديدة.و كان ابن ماجة مؤلّف«السّنن»المتوفّى سنة 272 ه قزوينيّا.درس في قزوين،و سافر إلى بغداد،و مصر،و الحجاز.أفاد من علماء الحديث و أتمّ كتابه. توفّي صديقي العزيز سماحة آية اللّه الأستاذ الجامع للعلوم العقليّة و النّقليّة الشّيخ محمّد حسين الاويسي يوم 11 ما يس سنة 1991 م.أتمّ هذا الأستاذ المحقّق المرحلة الاولى من الفقه و الأصول و الحكمة المتعالية: شرح المنظومة و شيئا من الأسفار،ثمّ سافر إلى قمّ لمواصلة دراسته فحضر درس أستاذ الأساتذة آية اللّه العظمى البروجرديّ أعلا اللّه مقامه في الفقه،و درس الأستاذ العلاّمة الطّباطبائيّ قدّس سرّه في الأسفار.-

كان الطلاّب الطّالقانيّون يتوجّهون إلى الحوزة العلميّة في قزوين حين كانت عاصمة لإيران و قبل انتقال مركز الحكومة الصّفويّة إليها،و بعد انتقال المركز إلى مدينة اصفهان المباركة الّتي كانت تعدّ حقّا جنّة ثانية مدّة مديدة.و كانوا يواصلون دراستهم فيها ما كان ذلك يسيرا.و كان بعضهم يذهب إلى أصفهان للإفادة من أساتذتها المعروفين.و كان بين أهل الطّالقان عدد كبير من العلماء،و أولي القريحة،و الخطّاطين المشهورين.و عرف النّاس فيها بالجدّ و المثابرة و العزم الوطيد و القناعة و الرّأفة.

و كان صديقي العزيز الأستاذ القدير الفريد في عصرنا غلام حسين أميرخاني أستاذ خطّ النّستعليق،و الأستاذ البارع المغفور له درويش عبد المجيد الطّالقانيّ سقى اللّه تربته مخترع الخطّ الجميل الجذّاب من أهل الطّالقان،و يترجم ذلك ذوقهم و قريحتهم.

و كان السّيّد شرف الدّين محمود الطّالقانيّ نجل السّيّد علاء الدّين بن السّيّد جلال الدّين الطّالقانيّ من مدرّسي الفلسفة الكبار في قزوين.و كان قد تعلّم الحكمة و العرفان من ابن أبي جمهور الأحسائيّ.و كانت طهران يومئذ قليلة السّكّان و نسبة الّذين يعرفون القراءة و الكتابة فيها 10%،أمّا نسبتهم في مدينتنا(آشتيان)فهي 70%،و أمّا نسبتهم في الطّالقان فهي 60%.

و كان عدد من العرفاء و أولي القريحة الأدبيّة في فراهان الشّاملة مدنا متعدّدة الواقعة بين أراك( سلطان آباد)و همدان. (1)و بزّ أبناء آشتيان،و تفرش،و جرجان أيضا معاصريهم زمنا،ثمّ أفل نجمهم بعد قرنين.

***

ص:21


1- -كان المغفور له الميرزا بزرگ قائم مقام العديم المثيل في درايته و ذكائه و طيب نفسه و خبرته،و الفريد في سلامة روحه من أعاظم تلك المدينة.و كان نجله أبو القاسم أيضا من كبار عصره و عرف بذكائه و درايته التّامة،و لا نظير له في الإنشاء.و لم يبلغ ما بلغ أبوه في إدارة شئون الدّولة،و كان له في القسوة باع.و كان إعماء خسرو ميرزا و أخيه عملا في غاية القبح،و ما فعله إلاّ لكي لا يحلّ خسرو ميرزا محلّ محمّد شاه عاشق ميرزا آقاسي الّذي جعل أمور الدّولة إلى رجل غير كفوء و هو الآخوند الإيروانيّ عدد سنين،و أصيب هو بنقرس شديد،و كان يعتقد أنّ الحاج لا يرى مصلحة أن يشفيه،و إذا رأى مصلحة في ذلك فهو يشفيه.

كان الشّيخ محمّد تقي فرشته (1)ابن الشّيخ محمّد جعفر ابن الشّيخ محمّد كاظم الطّالقانيّ المتوفّى سنة 1186 ه.و هو تلميذ أبيه و الميرزا حسن اللاهيجيّ مؤلّف زواهر الحكم المشتمل على دورة من أصول عقائد الشّيعة،و قد طبع مع(منتخبات فلسفي)الّذي أعددته.

توفّي الشّيخ محمّد جعفر سنة 1161 ه.و كان من تلاميذ والده في الفلسفة و الكلام، و قرأ علم الحديث على الملاّ محمّد باقر.

كان الشّيخ محمّد كاظم القزوينيّ الطّالقانيّ المتوفّى سنة 1094 ه.من تلاميذ الشّيخ البهائيّ في الفقه،و من تلاميذ ميرداماد و فندرسكي.

درس الآخوند الملاّ نعيما الطّالقانيّ بن الشّيخ محمّد تقيّ عند أبيه و غيره من الأساتذة بقزوين.ثمّ غادرها إلى أصفهان دار العلم لإكمال دراسته و الحصول على الاجتهاد.

و درس الفقه و الأصول عند أفضل المجتهدين في عصره و هو محمّد بهاء الدّين المعروف بالفاضل الهنديّ نجل تاج الدّين حسن الأصفهانيّ.و تعلّم الحكمة المتعالية عند شيخنا الأقدم الملاّ محمّد صادق الأردستانيّ،ثمّ أصبح في عداد المدرّسين العلماء تدريجا.

و لمّا كان الفاضل الهنديّ مدرّسا لكتاب الشّفاء،ثمّ لخصه بعد ثماني عشرة سنة تقريبا،فربما درس الملاّ نعيما إلهيّات الكتاب المذكور عند ذلك الأستاذ الفذّ.

يعدّ كتاب كشف اللثام في الفقه من الكتب النّادرة المثال في عصر الفقه الاستدلاليّ.

و قد أثنى عليه فحول الفقهاء.و كان صاحب كتاب جواهر الكلام-عظّم اللّه قدره-يوليه اهتماما خاصّا عند تصنيف كتابه المذكور،كما كان يرجع إليه.و عند ما بلغ مبحث الزّكاة توقّف عن العمل،و لمّا سئل عن سبب ذلك،قال:كشف اللثام من مصادر كتاب جواهر الكلام لذا أوصيت أن يؤتى ببقيّة أجزائه من أصفهان.

توفّي الفاضل الهنديّ يوم سقوط أصفهان و دفن في مقبرة«تخت بولاد ».وزرت قبره في سفرتي السّابقة إلى أصفهان و استمددت منه ما يزيد همّتي.و كان الفقيد أصفهانيّا، عرف بالفاضل الهنديّ بسبب مرافقته لأبيه في سفرته القصيرة إلى الهند.

و همّ الفاضل الهنديّ في أيّام شبابه بإعداد تفسير جامع للقرآن الكريم.و نقل بعض

ص:22


1- -انظر:مجلّة الحوزة العلميّة بقمّ،العدد 58،ص 174.

الأعلام أنّه بلغ قرابة 35 أو 36 جزءا.

مرّ بنا أنّ عددا من المفسّرين أفلحوا في إعداد تفاسيرهم إذ نشئوا في بيئة تفسيريّة و كان لهم باع في التّفسير،و في حقل العبادة و الطّاعة عبروا من مقام الظّاهر إلى الباطن في الأقلّ،و ألسنتهم تنطق بهذه العبارة الملكوتيّة للآيات:«كأنّي أنظر إلى عرش الرّحمن بارزا» (1)من هذا المنطلق،المفسّر غافل بالنسبة إلى أهل التّأويل.

و نقل الخاصّة و العامّة عن خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال:

«انّ القرآن انزل على سبعة أحرف،لكلّ آية منها ظهر و بطن،و لكلّ حرف حدّ و مطلع.» (2)

و ذكر الشّيخ الكبير صدر الدّين القونويّ و جمع كثير من محقّقي العامّة ما نصّه:

قال عليّ عليه السّلام:«لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا في تفسير فاتحة الكتاب.» (3)

المراد من التّفسير هنا الحقيقة الجامعة بين التّفسير و التّأويل.و التّأويل رجوع الشيء إلى أصله،و اتّصال المرتبة النّازلة من القرآن الكريم بالمرتبة العالية منه.لذا فانّ حظّ من كان في مرتبة البطون القرآنيّ شهود الكلام الغيبيّ،و الآيات القرآنيّة عنده من محكمات الكتاب الحقّ.

القرآن نازل من المقام الرّبوبيّ،و يستظهره الحفّاظ أو يكتبونه على الورق،و هو رفيع الدّرجات،و إن كان نزوله من مقام الغيب مختلف.و إنّ حظّ خاتم الأنبياء منه هو الحقيقة الواردة على مقامه: «فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى» . (4)و لا حاجز بينه و بين الحقّ تعالى، فلا جرم أنّه كما قال:«نزلت نزلة يسيرة».و نزل القرآن الكريم على قلبه المبارك صلّى اللّه عليه و آله مع الاتّصاف بمقام الجمع الثّاني لكافّة الحقائق القرآنيّة،و لكلّ مرتبة أحكام.

*** قلنا:كانت بين الطّالقان و قزوين علاقة عريقة ممتدّة.و بعد أن أصبحت أصفهان مركزا للإمبراطوريّة الشّيعيّة بهمّة الشّاه عبّاس الأوّل،كان كثير من طلاّب العلم يذهبون إليها لمواصلة دراساتهم العليا بعد إكمال المرحلة التّمهيديّة في مناطقهم،و لم تضارع النّجف

ص:23


1- -يستشفّ هذا المضمون من حديث حارثة.انظر:الكافى 2:54. [1]
2- -تفسير الصافي 1:52. [2]
3- -بحار الانوار 92:93. [3]
4- -النجم:9. [4]

الأشرف يومئذ اصفهان بسبب حرارة جوّها،و افتقارها إلى الماء العذب الصّافي،و عدم جامعيّتها في العلوم المتداولة.و عند ما سيطر الأوباش على أصفهان،اختفى كثير من طلاّب العلم،و توجّه بعضهم إلى العتبات المقدّسة.و على الرّغم من أنّ اصفهان لم تستعد مجدها الغابر،لكن نبغ فيها رجال كبار كانت لهم صفة الأستاذيّة.و كان طلاّب العلم يرونها مكانا مناسبا لكسب أنواع العلوم.و كان طلاّب الطّالقان يدرسون في حوزتها،كما كان فيها مدرّسون مشهورون من أهل الطّالقان.

كان مير سيّد حسن الطّالقاني أستاذ الحزين اللاّهيجيّ فقيها أصوليّا حكيما عارفا شاعرا مشهورا و من أحفاد الشّيخ الأجلّ العارف المشهور الشّيخ زاهد الجيلانيّ.و كان المذكور يدرس العلوم النّقليّة في العتبات المقدّسة،و درس العرفان النّظريّ عند العارف المحققيّ و بلغ فيه درجة رفيعة.كما بلغ الشّيخ محمد علي المعروف بالحزين اللاهيجيّ مكانة سامية عنده.و كان هذا الشّيخ يرى أنّ مير سيّد حسن الطّالقانيّ لا مثيل له في العرفان النّظريّ.

و قام الشّاه سلطان حسين باخراج جميع أحفاد الشّيخ زاهد الجيلانيّ الّذين كانوا يحظون باحترام الصّفويّين من اصفهان بارشاد مربّيه الملاّباشي،و بحجّة واهية تتلخّص في أنّ العرفان شجرة الزّقّوم،أخرجهم بنحو مهين و خرب المكان الّذي كان يقيم فيه الملاّ محسن الفيض العزاء.و ممّن نفي عن مدينته العالم الكبير في زمانه الملاّ محمّد صادق الأردستانيّ الّذي عانى من البرد الشّديد و الثّلج الكثير في الطّريق بين نجف آباد و اصفهان،و فقد ابنه الصّغير بسبب ذلك.

و نفي أيضا المغفور له الحزين اللاّهيجيّ.و كان هذا الرّجل أفضل أحفاد الشّيخ زاهد في عصره.و ترك اصفهان خائفا مترقّبا و لسان حاله يقول: «رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ» .

و كان يتنقّل من مكان إلى آخر حائرا،و كان الوضع في اصفهان سيّئا بسبب أخبارها المرعبة و كانت شمس الصّفويّين آخذة بالأفول تدريجا،و يعود قرب هذا الأفول إلى عصر الشّاه سليمان.و فقد هذا الملك قدرته على اتّخاذ القرار منذ أواسط حكومته بسبب عجزه الشّديد.مع هذا،ما دام وزيره الأعظم المغفور له الشّيخ علي خان زنگنه المعبّر عنه باعتماد الدّولة على أريكة السّلطة و كان حيّا،فانّه كان ينجز الأعمال بنحو من الأنحاء.و

ص:24

كان يقلّل حوالات الشّاه المدمّرة لإيران إلى أدنى حدّ،و يبدي خوفه و ذعره من خلوّ خزينة الدّولة.

و يعدّ الشّيخ علي خان زنگنه(أمير كبير)الحكومة الصّفويّة في عصره.و كان المغفور له الميرزا محمّد خان زنگنه رجلا كفوءا ذا دراية،خدم بلاده في الحكومة القاجاريّة بتبريز آمرا عسكريّا.و كان كيّسا عارفا بالآداب.و كان الميرزا تقي خان أمير كبير-قدّس سرّه- يعمل تحت إشرافه برهة من الزّمن،و تعلّم منه طريق السّلوك و علم الأدب إلى حدّ ما.

و كان الميرزا محمّد خان من أحفاد الشّيخ علي خان.

كان الميرزا بزرگ قائمقام أحد السّياسيّين الكبار في العصر القاجاريّ.و كان من دهاة عصره و عظماء زمانه.بعد موته،عرف الأجانب الّذين كانوا يتعاملون مع الحكومة الإيرانيّة و عبّاس ميرزا نائب السّلطنة أنّهم صنعوا من عبّاس ميرزا غولا كبيرا في نظرهم بسبب فهم الميرزا بزرگ و نبوغه و علمه،فبانت لهم نقاط ضعفه.

و كان نجل الميرزا بزرگ شخصيّة عظيمة،و أديبا و شاعرا كبيرا،بيد أنّه كان قاسيا، مصابا بغرور متأصّل في نفسه،و لم يكن كأبيه في أداء الأعمال و إنجازها،لكنّه إذا قيس بمن جاء بعده فإنّه يبزّهم.و كان نائب السّلطنة عبّاس ميرزا متفوّقا أيضا على أقاربه تفوّقا بيّنا.و إنّ أحد الأعمال القبيحة الّتي قام بها القائمقام إعماء خسرو ميرزا و أخيه ظانّا أنّه يقدّم خدمة لمحمّد شاه.

*** اتّخذ عدد من طلاّب العلم و المعرفة القادمين من الطّالقان قزوين سكنا لهم بعد ما قدموا إليها من أجل الدّراسة،فتلقّبوا بها على كرور الأيّام و السّنين.

كان سماحة الأستاذ سيّد أماجد الحكماء و الفقهاء المغفور له السّيّد أبو الحسن القزوينيّ أعلى اللّه مقامه يقول:جاء جدّنا الأعلى من الطّالقان إلى قزوين للدّراسة و توطّنها.و نحن ذكرنا أنّ والدة الميرزا أبي الحسن القزوينيّ هي بنت العالم الجليل السّيّد علي القزوينيّ صاحب التّعليقات و الحواشي على قوانين الأصول للميرزا القمّيّ.و كتب السّيّد عليّ شرحا مفصّلا على معالم الأصول،و هو في كمال الإتقان،و قد تعرّض فيه إلى حواشي الشّيخ الأجلّ محمّد تقي على المعالم،و عنوانه:هداية المسترشدين.و كان السّيّد

ص:25

عليّ من أعاظم تلاميذ الشّيخ الأنصاريّ،و السّيّد حسين كوه كمري.

و كان المغفور له الميرزا رفيعا القزوينيّ من أجلّة تلاميذ الشّيخ الأنصاريّ،و في العلوم العقليّة من تلاميذ الملاّ اسماعيل بن محمّد سميع الأصفهانيّ.و كان معاصرا للأستاذ الشّهير الحكيم المتألّه السّبزواريّ رضوان اللّه عليه.و ذهب والده و أخوه الملاّ شفيعا من الطّالقان إلى قزوين لطلب العلم،و توطّناها.كما أنّ جدّ السّادة(شهيدي قزويني)و(الملاّ صالح)و أخاه الآخر،كانوا من أهل برغان قريبا من كرج أو بين قزوين و كرج،و درسوا في قزوين،و تقدّم أولاده في العلم.

*** الطّالقان منطقة من المناطق التّابعة لطهران،و تقع في الشّمال الغربيّ منها.و هي منطقة جبليّة،و قسم مهمّ منها في وادي شاهرود و أغلب قراها محاذية للرّوافد المتفرّعة من نهر المدينة المذكورة.و يبلغ عدد قراها ثماني و سبعين قرية.و عدد سكّانها،على ما جاء في الجزء الخامس من معجم معين(قسم الأعلام)الّذي أعدّه الأستاذ الجليل فضيلة الدكتور معين رحمه اللّه،أربعة و عشرون ألفا و ثلاثمائة نسمة.

و لعلّ عددهم قد زاد في هذه البرهة الّتي أكتب فيها مقدّمتي(1417 ه).و ربما تبعت الطّالقان غيرها من المدن الصّغيرة و القرى في هجرة أهاليها إلى المدن الكبيرة.

القرى و القصبات بمنزلة الرّئة للبلاد.و ما دام النّفط،و الغاز،و المعادن موجودة و تباع، فالمصيبة أقلّ،و لكن إذا نفدت هذه الثّروات فانّ البلدان النّفطيّة تتحوّل إلى بلدان مستجدية،فلا بدّلها من التّفكير بمصيرها.

الطّالقان التّابعة لقزوين هي غير الطّالقان التّابعة لخراسان،الّتي كان منها العالم المحدّث أبو محمّد بن محمود بن خدّاش(المتوفّى 244 ه)الّذي كان يسكن بغداد.

و استمع الحديث من جماعة،و هو نفسه كان ناقلا للحديث،و مات في التّسعين من عمره.

و كان أبو عبد اللّه السيّديّ من أهل الطّالقان التّابعة لقزوين،و من أئمّة علم الحديث، و أكابر الصّوفيّة في عصره.توفّي سنة 320 ه.

و كان منها أيضا العالم المحدّث أبو الحسن عبّاد بن عبّاس بن عبّاد(المتوفّى سنة 334

ص:26

أو 336 ه)و قد سمع الحديث من جماعة و هو والد العالم المعروف الصّاحب بن عبّاد.

و اخترع الأستاذ الكبير و فنّان الأعصار و الدّهور الميرزا عبد المجيد الطّالقانيّ المعروف بدرويش عبد المجيد خطّ النّستعليق،و كان ذا ذوق رفيع و قدرة خلاّقة،و لم يبلغ أحد من أولي الفنّ ما بلغه هذا الشّخص.و ربّى تلاميذ فنّانين كان لهم صيتهم الذّائع.

و حظي باحترام الجميع،و دعاه حكّام السّلالة الزّنديّة إلى شيراز ليلحق بهم،فأصابته الحمّى في اصفهان و لم يستطع أن يستجيب لطلبهم.و كتب في آخر رسالة بعثها إليهم يخبرهم أنّ الحمّى الشّديدة قد أنهكت بنيته،و أنّ الأطبّاء أبدوا عجزهم عن معالجته.

*** بعد أن انتقلت العاصمة إلى أصفهان في العصر الصّفويّ،وجدها(سلطاني بزرگ) أفضل مكان يجدر أن يكون عاصمة لأسباب متنوّعة،فظفر بأحسن موضع لحكومته بهمّته العالية.و تتمتّع المدينة بمناخ يندر مثله،و بيئة تبعث على النّشاط،و كانت فيها مدارس متعدّدة.و الأهمّ من ذلك كلّه أنّ لها سوابق خاصّة من حيث عراقتها،و لذا كانت محطّا لأنظار الشّعراء،و قاعدة لإقبالهم على تلك الجنّة الثّانية الّتي كان نهر(زنده رود)أو (زاينده رود)رصيد حياتها:

كأنّ حنين الزنرود خلالها حنين أسود للمجاعة تزأر

ترى ماءها مثل اللّجين و أرضها كجنّة عدن روضها يتعطّر

و عند ما انتقلت العاصمة إلى طهران،ظلّت اصفهان محافظة على مركزها العلميّ مدّة مديدة،و كانت لقزوين حوزة علميّة مهمّة نوعا ما،بيد أنّ الطلاّب كانوا يقصدون اصفهان لنيل الدّرجات العالية من العلم.و لكن تبدّلت طهران إلى حوزة علميّة مهمّة،و رغب فيها أساتذة كبار،و تقاطر عليها طلاّب العلم من الطالقان،و قزوين و زنجان،و أمصار أخرى منها آذربايجان،و مدن القفقاز الشّيعيّة المهمّة-مع أنّ حوزتها كانت حديثة-لدراسة الحكمة و العرفان و الفقه و العلوم الرّياضيّة،و زادتها دار الفنون[جامعة طهران]أهمّيّة.

و كانت حوزة طهران أقرب حوزة إلى طلاّب الطّالقان.و كان طلاّب العلوم النّقليّة و العقليّة في الماضي يذهبون إلى قزوين الّتي كانت مركزا مهمّا ردحا من الزّمن.أمّا في الفترة الّتي كان فيها السّيّد الدّاماد المعروف بالميرمحمّد باقر-أكبر فيلسوف إسلاميّ بعد

ص:27

عصر الخواجه نصير الدّين الطّوسيّ،و كان معلما بارزا في علوم الفقه و الأصول و الرّجال و الحكمة الإلهيّة-فإنّ وجوده في أصفهان اقتاد إليها طلاّب العلم.و توجّه إليها طلاّب من الهند و القطيف و الأحساء،و غيرها من المناطق الشّيعيّة لحضور درس العالم المذكور.و كان الملاّ صدرا(صدر الدّين الشّيرازيّ)و ميرفندرسكي،و جماعة من الأكابر من طلاّبه.

علما أنّ ميرفندرسكي كان معاصرا للملاّ صدرا،و لم يدرس صدر المتألّهين الحكمة و الفلسفة إلاّ عند المير محمّد باقر الدّاماد.و كان ميرفندرسكي فيلسوفا مشّاء تابعا لابن سينا.و أفاد من درس العلاّمة چلبي بيك في قزوين،و من حوزة درس الملاّ ميرزا جان الشّيرازيّ المشهور بفاضل باغنوي في فارس. (1).

البحث في معنى المعاد

إنّ أحد المباحث المعضلة في القرآن الكريم و الأحاديث و الرّوايات المأثورة عن أهل بيت الوحي و الرّسالة عليهم السّلام هو بحث المعاد.و ينبغي ألاّ يرجع الّذين لا حظّ لهم من العلم الإلهيّ (2)إلى القرآن الكريم في هذه المسألة.

يعتقد جمهور المتكلّمين بالمعاد الجسمانيّ.و ينبغي الاهتمام التّامّ بهذا البحث الخطير و هو أنّ الحنابلة لا يقولون ببقاء الرّوح،و يرون أنّ النّفس الإنسانيّة النّاطقة مادّيّة صرفة، و يذهبون إلى أنّ القيامة هي هذا العالم المادّيّ المتصرّم المتقضّي،و ينكرون بصراحة

ص:28


1- -نسبة إلى(باغ نو)القريبة من شيراز.و هو العالم المعروف بالملاّ ميرزا جان.كان من أساتذة العلوم العقليّة في شيراز.درس عنده العلاّمة چلبي بيك في شيراز.ذكر أصحاب السّير و التراجم أنّ ميرفندرسكي درس في البداية عند العلاّمة چلبي بيك تبريزيّ،ثمّ نال درجة عالية عند(إشراق)و هو الميرداماد نفسه.
2- -طلب سيّد العارفين بسرّ الأنبياء و إمام العالم أمير المؤمنين عليه السّلام من أصحابه أن يحاجوا الخوارج بالأحاديث الصّحيحة لا بالقرآن الكريم،لأنّ القرآن«حمّال ذو وجوه». ابتعد البعض عن المباحث العميقة للمعاد المذكور في القرآن.و من المباحث المحيّرة و العويصة مبحث هبوط الإنسان.قال تعالى: «وَ قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» .(البقرة36/) [1]الخطاب هنا للجميع،و في بعض الحالات لآدم و حوّاء. وردت في كتاب العقل و الجهل من كتاب أصول الكافي روايات مأثورة عن حملة الوحي لا يتيسّر إدراكها لشدّة غموضها.جاء في كتاب العقل:أوّل ما خلق اللّه العقل فقال له:أقبل فأقبل،و قال له:أدبر فأدبر... الصّعود و النّزول في العقل(الصّادر الأوّل)و في الإنسان،لأنّ طبيعة الانسان بعد الهبوط لها صعود أيضا بالوجود التّبعيّ «إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» .(البقرة156/). [2]

عودة الأرواح إلى الأجسام و ما ماثل ذلك من مباحث،و لا يهتمّون بالآيات القرآنيّة و الأحاديث النّبويّة.و لم يفهموا أنّ الهويّة الإنسانيّة و الحقيقة البشريّة لا تنعدم،و أنّ الإنسان يلتحق بملكوت الوجود بعد الموت.

إنّ أجهل النّاس و أضلّهم عن صراط الحقّ هم الّذين لا يعتقدون بجهة التّجرّد و البقاء في الإنسان،و لا بتحقّق وجود البرزخ بعد الموت،و لا بعالم المثال و عالم العقل.

هذا الضّرب من الأقوال ينسب إلى كافّة علماء العامّة و بعض الخاصّة من المحدّثين الّذين لا يمتلكون اطّلاعا كافيا حول الكلام التّحقيقيّ و العلم الإلهيّ.

تنبيه

تنقسم المسائل المرتبطة بالمعاد إلى قسمين:

في قسم من هذه المسائل،يستطيع العقل المنوّر بنور الإيمان-في المباحث المتعلّقة بمعرفة النّفس و كيفية ظهور الإنسان في هذه النّشأة من الوجود،و في الإلهيّات المتكفّلة بكثير من الحقائق-أن يبلغ نقطة معيّنة عن طريق الحضور في مجلس الأساتذة الكبار، و عبر تجريد الذّهن،و الدّراسات الدّقيقة في مرحلة الدّراسة.

إنّ فترة الشّباب و ربيع الحياة فترة تكون فيها القوى الدّماغيّة للإنسان،و بالنتيجة نفسه،على استعداد تامّ لاستيعاب المسائل العلميّة،و تستطيع أن تدرك كثيرا من المباحث العالية،و أخيرا فإنّ طريق الفهم مفتوح،و المحجّة واضحة.

القسم الآخر من المسائل و المباحث المرتبطة بمعرفة النّفس في مستوى يعجز العقل البشريّ عن إدراكها و إن كانت له قوّة إدراك قليلة المثيل،و هو أعجميّ في هذا المجال.

و أخيرا فانّه في هذه المسائل العويصة،يتعثّر في الأوّليّات المرتبطة بالآخرة.بعامّة،إنّ إدراك مباحث ما وراء الطّبيعة صعب المنال،بيد أنّه سهل المنال في المباحث المتعلّقة بالآخرة.

لم يتجاوز ما كتبه الرّئيس ابن سينا (1)عظّم اللّه قدره في المعاد عدّة صفحات،فكيف بالآخرين؟أمّا في الشّئون العامّة و سائر المباحث فقد وفّى الكلام حقّه.و لا يدرك ما بعد

ص:29


1- -ما زال الرّئيس ابن سينا حيّا بعد ألف سنة و مطالبه الحيّة الخاصّة ليست قليلة في آثاره.

الدّنيا من عوامل و نشئات إلاّ من زكّى نفسه فيها،و من بلغ المقامات الرّفيعة بعكوفه على العبادة وفقا لتعاليم أهل البيت عليهم السّلام،و من فتحت لهم أبواب الغيب تدريجا.

ما لم يصل السّالك إلى العلم الحاصل من الأعمال فانّ انغماره أو رجوعه إلى الكثرة محتمل.و في مجال الآية الكريمة المباركة «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ» وردت إشارات لطيفة من أصحاب الولاية الكليّة إلى العلم الحاصل من العمل،و هي موجودة أيضا في الآيات القرآنيّة مثل قوله تعالى: «وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللّهُ» .و نقلت في هذا الموضوع أحاديث كثيرة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السّلام و سائر الائمّة ورثة علومهما و مقاماتهما و أحوالهما لا يتيسّر إدراك مضامينها عن طريق العقل النّظريّ.

قال بعض العارفين:

«إنّ شجرة طوبى أصل لجميع شجرات الجنّات كآدم ظهر من البنين؛فإنّ اللّه لمّا غرسها بيده و نفخ فيها من روحه،زيّنها بثمرة الحليّ و الحلل الّذين فيها زينة للابسها؛فنحن أرضها كما جعل ما على الأرض زينة لها...»

نقل العامّة و الخاصّة ما نصّه:

«إنّ طوبى شجرة أصلها في دار عليّ بن أبي طالب عليه السّلام،و ليس مؤمن إلاّ و في داره غصن منها؛و ذلك قول اللّه تعالى: «طُوبى لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ.» (1)

كان مولى الموالي أمير المؤمنين عليه و على أولاده السّلام ذا ولاية كلّيّة،و حقيقة هذه الولاية سارية في جميع الأشياء بظهورات مختلفة باعتبار الاستعدادات.و لظهورها في مجال متعدّد خاصّيّة المجلى: «وَ لا يَزِيدُ الظّالِمِينَ إِلاّ خَساراً.» (2)و في الحديث الصّحيح:

«ويل لمن كان شفعاؤه خصماءه.»و لا بدّ من الإذعان«انّ لرسول اللّه شفاعة مقبولة»و هذا حديث تلقّته جميع الفرق صاحبة الرّأي بالقبول،و أوّله بعضهم.

حقيقة طوبى و أس أساسها عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.لذا عبّر عنه بعض العارفين بقولهم:«أقرب النّاس إلى رسول اللّه عليهما السّلام و سرّ الأنبياء و إمام العالم».و المراد من المأثور«طوبى شجرة في الجنّة»الجنّة نفسها.من هنا نقل في الحديث المتّفق عليه بين

ص:30


1- -الرعد:29. [1]
2- -الإسراء:82. [2]

الفريقين أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال:عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ،يدور معه حيثما دار.و لهذا الحديث معان متعدّدة،و معناه الحقيقيّ و حقيقته يدلاّن على أنّ حظّ أمير المؤمنين عليه السّلام من المقامات مقام«أو أدنى»،و تلك الحقيقة(عليّ عليه السّلام) صاحبة جنّة الأسماء و الذّات.و جنّة الأفعال وحدها قاصرة عن قبول الإحاطة العلويّة و صاحب جنّة الصّفات و الذّات في نهاية القرب من ربّ الأرباب:«يدور مع الحقّ حيثما دار و يدور الحقّ معه حيثما دار».

إنّ قرب أولي السّلوك من طلاّب التّوحيد-الّذين ذاقوا طعم العلم الحاصل من العمل- إلى الحقّ هو إمّا من قبيل قرب النّوافل،و صاحب هذا المقام يعلم أنّ النّافلة غير ملزمة، بيد أنّ نيل مقام القرب التّامّ لا يحصل بلا عبور من قرب النوافل.و من خواصّ قرب النّوافل هي أنّ الحقّ تعالى قال:العبد يتقرّب إليّ بالنّوافل حتّى كنت سمعه و بصره...و إمّا كبعض أرباب السّلوك أصحاب قرب الفضائل.و في هذا القرب تكون إرادة العبد مندكّة في إرادة الحقّ.و قد فرض الحقّ تعالى عليهم الأعمال و العبادات الّتي يلتزم العبد بأدائها، على خلاف القرب الحاصل من النّوافل الّتي يسوق الحقّ الملتزمين بها إلى مقام القرب، بيد أنّ الأثر المترتّب على الفرائض لا يترتّب عليها.

وهم و دفع

القائلون بالتّناسخ ينكرون المعاد،و يعتقدون أنّ النّفس في انتقال دائم من جسم إلى آخر،من هنا فهم ينكرون الحشر و النّشر أي:المعاد.

نقل عن الأئمّة عليهم السّلام أنّهم قالوا:من قال بالتّناسخ فهو كافر.

من مفاسد التّناسخ إنكار المعاد.و من الأمور المسلّم بها أنّ عودة الرّوح إلى البدن في القيامة معاد،و أنّ عودتها و تعلّقها بالبدن في الدّنيا تناسخ.و هذا البحث لا يرتبط بإحياء الأموات،بل هو أمر آخر.

إنّ مسألة الرّجعة ليست من سنخ إحياء الأموات في النّشأة الدّنيويّة،و ظهور أصحاب الولاية الكلّيّة من المحمّديّين في عالم الدّنيا من غوامض المسائل و المباحث في هذا الباب.و لا يتيسّر إدراك معنى الرّجعة و كيفيّة تحقّقها لكلّ أحد.

ص:31

إنّ من الآيات العظيمة المحيّرة المربّية للعارف و العاميّ هي الموت في نشأة عالم المادّة بأمر الحقّ،و الإحياء فيه أيضا.و هذا الضّرب من الموت و الحياة هو غير الموت في هذا العالم و الحياة في عالم الآخرة: «وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ.» (1)و لو مات أحد في هذه الدّنيا وحيي بأمر اللّه تعالى،فانّ موتا آخر سيدركه أيضا.

الضّرب الآخر من الموت المقارن للحياة يرتبط بمن تقوم قيامتهم في هذا العالم و لا تأثير لنفخة إسرافيل في مقام السّفر إلى الآخرة مطلقا.و الموت الّذي سيدرك سكّان الملك و الملكوت في آخر المطاف يعني أنّهم سيجاورون الحقّ لمحة البرق بسبب العبادات و تعلّق مشيئة الحقّ بهم-إذ بلغوا مقام البقاء بعد الفناء و الفناء عن الفناءين و الصّحو الآخر-و إذا كتفت نفوسهم بذاتها و استغنت عن معلّم بشريّ،فمعلّمها شديد القوى،؛و حظيت«بجذبة من جذبات الحقّ يوازي عمل الثّقلين».و الّذين لا يتحقّقون بقرب الفرائض،فإنّ سيرهم محبّي.

جاء في آية كريمة مباركة أنّ الّذين لم تقم قيامتهم في هذه الدّنيا فإنّ أثر صعقة الفناء و حكم الفناء باق إلى أن ينبّههم الحقّ بقدرته الباهرة تبعا لاستعداداتهم كي يجزوا بأعمالهم.و إنّ الّذين تجري عليهم أحكام الصّعق ينقسمون إلى أقسام:بعضهم لا يقع عليه العذاب بسبب أعمالهم الصّالحة،و إن كانت الأكثريّة الساحقة غير مشمولة بحكم قرب النّوافل و الفرائض،بيد أنّ أولي السّعادة يفوزون.و على الرّغم من أنّ منشأ تلك الأعمال المتجسّدة في صور المعاصي يشملهم في بداية ظهور غضب الحقّ،و لكنّ النّاجين أكثر من الهالكين في النّار،و الموحّدون لا يخلدون في نار غضب الحقّ،إلاّ أنّ المكث و التّفنّن في العذاب النّاتج من حالات و ملكات معيّنة في حدّ أنّ اللّه تعالى نفسه عالم بحقيقته و مدّته و بالعذاب النّاتج من غضبه-وقودها النّاس،أي:العاصون،و الحجارة،أي:القلوب الّتي هي أقسى من الحجر.

و ينقطع العذاب عن البعض لأسباب مجهولة غامضة على الجميع،ثمّ يعود بعد مدّة لمسوّغات اقتضت،و ينقطع مرّة أخرى بعد مضيّ فترة.و يمنى العصاة بعد قطع العذاب

ص:32


1- -الزّمر:68. [1]

بعذاب أشدّ،و هو الخوف من رجوع عذاب أبلغ إيلاما لا يمكن وصفه.

«وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ». علاقة الحقّ تعالى بنظام الوجود لا يخصّ«جهة دون جهة.»

لمّا كان الحقّ تعالى لا يتناهى،و كان وجودا صرفا و بسيط الحقيقة،فهو مرتبط بالخلق من جهات مختلفة.و جاء التّعبير عن معيّة الحقّ للموجودات بالمعيّة القيّوميّة، و كما قال أعلم الخلائق و أقرب الموجودات إلى رسول اللّه و سرّ الأنبياء و الأولياء:فهو تعالى دان في علوّه و عال في دنوّه،و قيل-و نعم ما قيل-:نسبة خلق الأوّل إليه كنسبة خلق الآخر.

لذا تصرّف الحقّ في الأشياء هو من جهات عديدة«و لكلّ وجهة هو مولّيها».

و الموجودات متفاوتة من حيث الطّلب،و لكن قد يتصوّر أنّ جميع الأشياء و الممكنات تطلب الحقّ من وجه واحد.

تنقل أمور عجيبة و غريبة و محيّرة حول الأنبياء و الأولياء صلوات اللّه عليهم.و التّفنّن في شرائعهم أظهر و أبرز عند العارفين أولي الوجد و الإقبال.

كلّما تجلّى من الأسماء الكلّيّة و فروعها الخاصّة على المظهر الإنسانيّ أكثر،كانت عجائب الخلقة فيه أظهر.قال تعالى: «أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنّى يُحْيِي هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَ انْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.» (1)

لا يستساغ كثيرا أن نتطرّق إلى التّأويل الصّرف القائل:«انّ أبرهة النّفس الحبشيّة لمّا قصد تخريب كعبة القلب الّذي هو بيت اللّه حقيقة و الاستيلاء عليها...».

عند ما مرّ عزير على قرية خاوية،أملى عليه ذوقه و شوقه إلى سرّ القدر و طلبه شهود الإحياء،فقال مستبعدا: «أَنّى يُحْيِي هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها؟»

استبعاد الأنبياء قدرة اللّه المطلقة ليس له صورة حقيقيّة:فالحقّ تعالى أماته مائة عام

ص:33


1- -البقرة:259. [1]

ثمّ بعثه،و وقع ما وقع من ناحية القدرة الإلهيّة المطلقة إظهارا عينيّا و استجابة لطلب عزير مشاهدة إحياء الأموات عينا.

إنّ ما ذكر حول عزير يماثل-من جهة-طلب إبراهيم عليه السّلام إذ خاطب الحقّ قائلا: «رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى.»

إنّ القصد من هذين المثالين إحياء الموتى لا الرّجوع إلى الحقّ في الآخرة.

صرّح بعض الباحثين أنّ سؤال إبراهيم عليه السّلام المبدأ الفيّاض و طلب عزير عليه السّلام ليسا على سبيل الاستبعاد،و إن توهّم أهل الظّاهر ذلك«فالمتحقّق بمقام النّبوّة و الولاية لا يستبعد من اللّه القادر الموجد المحيي المميت أن يعيد الأموات و يوجدها مرّة أخرى،بل المؤمن بالأنبياء و الكامل في إيمانه لا يستبعد ذلك،فإنّه يقدح في إيمانه.»

لا وجه لتوجيه الإماتة و الإحياء عند عزير و إبراهيم صلوات اللّه عليهما على التّمثّل البرزخيّ و الإنشاء في عالم المثال الكلاميّ.و قام بعض أرباب التّأويل بإدخال آيات الإعجاز الصّريحة في باب التّأويل بنحو يدفع الإنسان الجاهل بالمبادئ العامّة للتّفسير و التّأويل إلى الإنكار تماما.و قصّة أصحاب الفيل مشهورة و قد وقعت في زمن قريب جدّا من زمن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

من اللافت للنّظر أنّ إحياء الأموات و إماتة الأحياء لا ينحصران في طريق واحد،و لو كانت السّنّة الإلهيّة جارية-بنحو عامّ-على أنّ الموجودات الّتي يشملها الحشر و النّشر مختلفة:فحشر الإنسان استقلاليّ،و الحيوانات تحشر تبعا للإنسان.

كان القدماء يظنّون أنّ الأرض في وسط عالم الأجسام،و عروض الفناء محال عليها.

لا شكّ أنّ للأرض و سائر الكرات عمرا خاصّا و سيحين الوقت الّذي تخلو فيه الأرض من أهلها،و تفنى.و الآيات المباركة النّازلة في أمر القيامة كقوله تعالى: «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» ،و قوله سبحانه: «وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ» ،و قوله جلّ شأنه: «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ» ، صريحة في المعاد مع فناء النّشأة الدّنيويّة.

قال بعض المحقّقين:«الدّنيا باقية ما دام فيها هذا الكامل».المراد من الكامل خاتم الأولياء الّذي هو من أشراط السّاعة،و به يرتبط قيام القيامة.و المراد من خاتم الأولياء

ص:34

المهديّ الموعود،و محمّد من أسمائه،إذ قال خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

اسمه اسمي و كنيته كنيتي و له المقام المحمود.

القصد من المقام المحمود مقام قرب قوسين أو أدنى.و من بلغ هذا المقام فهو أقرب النّاس إلى اللّه و سرّ الأنبياء و الأولياء.

چو او با خواجه دارد نسبت تام از او با ظاهر آمد رحمت عام

(1)النّسبة التّامّة هي النّسبة المعنويّة و الظّاهريّة.

و المهديّ عليه السّلام منسوب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نسبة البنوّة كما نقل العامّة و الخاصّة. (2)

ظهور كلّ او باشد به خاتم بدو يابد تمامى هر دو عالم

(3)المراد من الخاتم خاتم الأولياء.و الدّليل على صحّة هذا الكلام عجز البيت المتقدّم:

به يبلغ العالمان(الدّنيا و الآخرة)كمالهما.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:يرضى عنه ساكن السّماء و ساكن الأرض.لا يدع السّماء من قطرها شيئا إلاّ صبّته مدرارا.

و تظهر الأرض بركاتها به حتّى«يتمنّى الأحياء إحياء الأموات.»

شود او مقتداى هر دو عالم خليفه گردد از اولاد آدم (4)

حول ظهور خاتم الولاية المحمّديّة المطلقة،انظر:شرح گلشن راز،ص 309 فما بعدها.

فقد جاء فيه كثير من الإشكالات و الموضوعات السّامقة في أطوار ولاية الإمام المهديّ عليه السّلام و أصل الولاية،بدأ بها الكتاب و انتهى بمطالب تخصّ أنصار الولاية.

ص:35


1- -لمّا كانت له مع اللّه نسبة تامّة،فقد ظهرت منه الرّحمة العامّة.
2- -المراد هو الباحثون منهم،لا المتفقّهون من بعض المذاهب،إذ منهم من يقول:لم يولد بعد،و منهم من يقول: هو تابع لعيسى عليه السّلام.و بعض الجهلة المغرورين ينكرونه و يزعمون أنّه من صنع اليهود.و من الثّابت أنّ القائلين بهذا قليلون.و يستبين لنا في أدنى مراجعة أنّ العرفاء الباحثين الكبار ذهبوا إلى أنّ المهديّ عليه السّلام هو آخر وليّ ذي مقام رفيع،و هو صاحب الولاية المطلقة و وارث الأنبياء و الأولياء جميعهم،و إنّ ظهوره عليه السّلام من الخفاء هو بأمر الحقّ.و المتصرّف في الباطن و الظّاهر من أشراط السّاعة و مقدّمة لظهور الدّولة الحقّة على الإطلاق.و قد ناقشت ما يخصّ الإمام المهديّ الموعود بالتّفصيل في مقدّمتي على فصوص الحكم، و في التّعليقات على الفصّ الشّيثيّ.
3- -تجلّى ظهوره تعالى في خاتم أوليائه،و به يبلغ العالمان(الدّنيا و الآخرة)كمالهما.
4- -سيصبح(الإمام عليه السّلام)مقتدى العالمين و خليفة النّاس.

*** يطيب لي أنّ أعبّر عن سروري لطبع كتاب منهج الرّشاد في معرفة المعاد(الكتاب النّفيس الّذي ألّفه الآخوند الملاّ نعيما الطّالقاني أحد تلاميذ الحوزة المباركة للمغفور له الفقيه الباحث النّادر المثال في مراحل الفقه السّيّد محمّد الأصفهانيّ المشهور بالفاضل الهنديّ،و من تلاميذ الملاّ محمّد صادق الاردستانيّ في الإلهيّات)بجهود صديقي العزيز فضيلة حجّة الإسلام و المسلمين علي أكبر إلهي الخراسانيّ رئيس مجمع البحوث الإسلاميّة في مشهد المقدّسة،و معاونه صديقي الفاضل الكريم محمّد رضا مرواريد.

إنّ طبع كتاب منهج الرّشاد بأجزائه الثّلاثة يستلزم مصاريف باهظة،مع أنّه كتاب مفيد، و قليل المثيل في مستواه.و لا يتولّى طبع هذا النّوع من الكتب إلاّ من كان من طلاّب العلم و المعرفة،و أدرك أهمّيّة الكتاب-بخاصّة مثل هذا الكتاب الّذي يدور حول المعاد بقسميه:الجسمانيّ،و الرّوحانيّ-و عرف نفاسته و علم أنّ المؤلّف قد أدّى ما عليه بعد المعاناة و الاضطلاع بتصنيف كتاب عميق و دقيق،و أثر ثمين في أهمّ مباحث الكتاب و السّنّة.

إنّ الأشخاص الّذين يبادرون إلى طبع كتاب متقن و دقيق هم ممّن يعيرون اهتماما بمحتوى الكتاب و يعلمون أنّ الباحثين يرغبون في هذا النّوع من الكتب.

از محقّق تا مقلّد فرقهاست آن يكى كوهست و آن ديگر صدا

(1)يحسن بي في ختام هذه المقدّمة أن أشكر جميع الإخوة الّذين ساهموا في طبع هذا الكتاب و نشره بنحو من الأنحاء،و أرجو لكافّة الباحثين الأفاضل في مجمع البحوث الإسلاميّة مزيدا من الخير و التوفيق.

السّيّد جلال الدين الآشتيانيّ مشهد المقدّسة جمادى الآخرة 1417 ه

ص:36


1- -شتّان بين المحقّق و المقلّد،فذلك جبل و هذا صداه.

مقدّمة المصحّح

نقلها الى العربية:علي هاشم الأسدي بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و به نستعين أرى من المناسب أن أكتب تمهيدا لهذا الكتاب بغية التّعرّف على مؤلّفه أكثر فأكثر،مع أنّ الحكيم المتألّه سماحة الأستاذ السّيّد جلال الدّين الآشتياني دامت إفاداته قد صدّره بمقالة مفصّلة كمقدّمة له.و يشمل تمهيدي عددا من الموضوعات الآتية:

الموضوع الأوّل:أنا مع الأستاذ الآشتيانيّ دامت إفاداته في حديثه عن المرحوم الملاّ نعيما و أسرته إذ قال:«كان رجال أسرته من علماء الدّين».و ينبغي مراجعة المصادر الآتية للاطّلاع على ترجمة هذه الأسرة:

*مقدّمته الأستاذ الآشتيانيّ دامت إفاداته.

*مقدّمة أيضا على أصل الأصول للملاّ نعيما في تسع عشرة صفحة،طبعة سنة 1979 م.

*مقدّمة على أصل الأصول المطبوع في الجزء الثّالث من«مختارات من آثار الحكماء الإلهيّين في ايران»في أربع صفحات.

*مقدّمة الإخوة محمّد رضا عطائي قوچاني،و محمّد رضا هادي نيكى،و محمّد حسن نصيري(نصير الإسلام)على منهج الرّشاد في عشرين صفحة.

*أعلام الشّيعة للعلاّمة الطّهرانيّ،أعلام القرن الحادي عشر و الثّاني عشر،ذيل عنوان الطّالقاني،و البرغاني،و أحيانا القزوينيّ.

*أعيان الشّيعة للسّيّد محسن الأمين،ج 47،ص 101،طبعة قديمة و ج 10،ص 81 طبعة جديدة.

*أمل الآمل للشّيخ الحرّ العامليّ،ج 2،ذيل عنوان الطّالقانيّ.

ص:37

*رياض العلماء للأفندي الأصفهانيّ،ج 5،ذيل عنوان الطّالقانيّ.

*الذّريعة للعلاّمة الطّهرانيّ،ج 6،11،15،16،17،26(كتب الملاّ نعيما).

*مينو در يا باب الجنّة قزوين للسّيّد محمد علي گلريز،الطّبعة الثّانية(فصل الأسر).

*دائرة المعارف تشيّع،الجزء الأوّل،ذيل«آل طالقاني»،«آل حكيمي»،«آل برغاني».

*فهرس مخطوطات مكتبة مجلس الشّورى الإسلامي،ج 5،ج 19.(أصل الأصول و منهج الرّشاد).

*فهرس مخطوطات مكتبة آية اللّه المرعشيّ(قم)،ج 6،ج 17.(حدوث العالم و العروة الوثقى).

*فهرس مخطوطات مكتبة مدرسة مروي،طهران(منهج الرّشاد،حدوث العالم،تنقيح المرام).

*مجلّة الحوزة،العدد 58،مقاله«مدرسه فلسفى قزوين».

*مجله آيينه پژوهش(مرآة التّحقيق)العدد 15،مقالة بعنوان«ملاّ نعيما و منهج الرّشاد».

*مجله پيام حوزه(رسالة الحوزة)العدد 14،مقالة بعنوان«ملاّ نعيماى طالقانى و خاندان او».

*مقدّمه كتاب موسوعة البرغاني في فقه الشّيعة،للأخ عبد الحسين الصّالحيّ.

*المآثر و الآثار،اعتماد السّلطنة.

*تلاميذ العلاّمة المجلسيّ،للسّيّد الحسينيّ الأشكوريّ،ذيل الطّالقانيّ.

* زندگى نامه علاّمه مجلسى(سيرة العلاّمة المجلسيّ)المرحوم مهدوي،ذيل«شاگردان علاّمه مجلسى»(تلاميذ العلاّمة المجلسيّ).

الموضوع الثّاني:الجدّ الثّاني للملاّ نعيما هو المرحوم الملاّ محمّد كاظم الطّالقانيّ.

ذكره الشّيخ الحرّ العامليّ رحمه اللّه في أمل الآمل 2:295 بقوله:

«مولانا محمّد كاظم الطّالقانيّ أصلا القزوينيّ مسكنا من الأفاضل المعاصرين.كان مدرّسا في مدرسة النّوّاب في قزوين.مات في المحرّم سنة 1094».

و نقل هذا الكلام نفسه في رياض العلماء 5:153،و أعلام الشّيعة في القرن الحادي عشر:463.

و جاء في مقدّمة كتاب موسوعة البرغانيّ نقلا عن العلاّمة الطّهرانيّ أنّ الشّيخ الحرّ العامليّ لا يطلق كلمة(مولانا)إلاّ على أشخاص مثل الملاّ محمّد تقيّ المجلسيّ،و الملاّ

ص:38

محمّد صالح المازندرانيّ،و هما أكبر منه سنّا و أعظم شأنا و شهرة.يضاف إلى ذلك أنّه لم يصفه بعبارة«من الفضلاء»بل قال:«من الأفاضل».

الجدّ الأوّل للملاّ نعيما هو المرحوم الملاّ محمّد جعفر الطّالقانيّ الملقّب ب«فرشته».

وصفه العلاّمة المجلسيّ رضوان اللّه تعالى عليه في إجازته له فقال:«المولى الأولى، الفاضل الكامل،الصّالح الفالح،المتّقي الذكيّ الألمعيّ مولانا محمّد جعفر الطّالقانيّ خلف المولى المبرور المغفور مولانا محمّد كاظم الطّالقانيّ».تاريخ هذه الإجازة 1095 ه،و تاريخ وفاته 1133 ه.له مقبرة في طالقان يزورها الوافدون. (1)

قال فضيلة عبد الحسين الصّالحيّ:كتاب اشتراط الحسّ في الشّهادة من آثاره الفذّة في كيفيّة شهادة الصّمّ البكم و هو يدلّ على تعمّقه في المسائل العقلانيّة.و قد جمع فيه بين الفقه و المسائل الفلسفيّة.و من آثاره الأخرى«حواشى بر كتب فلسفى و رسائل حكمى». (2)

كانت في قزوين مدرسة باسم مدرسة الملاّ محمّد جعفر الطّالقانيّ عرفت فيما بعد بمدرسة حسن خان.

والد المترجم له هو الملاّ محمّد تقي الطّالقانيّ رحمه اللّه أحد تلاميذ الميرزا حسن بن الملاّ عبد الرّزّاق اللاهيجيّ. (3)جاء في مقدّمة موسوعة البرغانيّ:«هو من أكابر علماء الإماميّة و مراجع التّقليد.و من مؤلّفاته غاية المرام في شرح شرائع الإسلام.»ورد في أعلام الشّيعة في القرن الثّاني عشر:117 أنّه توفّي سنة 1161.

أخو الملاّ نعيما هو الملاّ محمّد المشهور بالملائكة المتوفّى سنة 1200 ه.و هو والد الملاّ محمّد تقي البرغانيّ المعروف بالشّهيد الثّالث،و الملاّ علي البرغانيّ،و الملاّ محمّد صالح البرغانيّ مؤلّف الكتاب العظيم غنيمة المعاد في شرح الإرشاد المطبوع قسم منه في أجزاء تحت عنوان موسوعة البرغانيّ.

و من مؤلّفاته تحفة الأبرار في تفسير القرآن.و هو أوّل من عرف من هذه الأسرة

ص:39


1- -أعلام الشّيعة في القرن الحادي عشر:463؛و القرن الثّاني عشر:137؛موسوعة البرغاني:14؛تلاميذ المجلسيّ:89؛ [1] زندگى نامه علاّمه مجلسى 2:24.
2- -مجلّة حوزه،العدد 58،ص 184.
3- -نفسه.

بالبرغانيّ،و مدفنه في برغان أيضا. (1)

الأخ الآخر للملاّ نعيما هو الملاّ محمّد جعفر الطّالقانيّ والد الملاّ آغا القزوينيّ المشهور بالحكميّ.و هو والد الشّيخ أحمد الحكميّ.و كان الشّيخ أحمد المتوفّى سنة 1340 تقريبا من زعماء علماء قزوين و قادة الحركة الدّستوريّة(المشروطة)،ينتسب إليه الملاّ آغا المتوفّى سنة 1285 و قسم من أسرة الحكميّ في قزوين. (2)

قال فيه اعتماد السّلطنة:

الآخوند الملاّ آغا الحكميّ القزوينيّ من فحول فلاسفة الإسلام،و كان«صدر الدّين» عصره.و كان طلاّب العلوم العقلانيّة يفدون على عتبته من أقصى نقاط ايران و يقبّلونها.و تربّى على يديه المرحوم آغا رضا قلي القزوينيّ الّذي طار صيته في البلاد. (3)

نجل الملاّ نعيما هو الملاّ محمّد تقي الطّالقانيّ رحمه اللّه سمىّ جدّه.جاء في موسوعة البرغانيّ:

«هو حكيم،فيلسوف،زعيم و رئيس،من أكابر علماء عصره،و له رسالة في صلاة المسافر و رسالة في الرّضاع و غيرها».

الملاّ يوسف حفيد الملاّ نعيما،المتوفّى زهاء سنة 1261،ابن الملاّ محمّد تقيّ،من حكماء القرن الثّالث عشر،و كان مدرّسا للحكمة في المدرسة الصّالحيّة بقزوين،و هو أوّل من عرف من هذه الأسرة بالحكميّ،و أصبح لقبه عنوانا لأسرته.من آثاره حواش على أسفار الملاّ صدرا. (4)

قال فيه اعتماد السّلطنة:كان أوّل أستاذ لكتب الحكمة المتعالية في دار السّلطنة (قزوين)،و ربّى فيها أفاضل طلبة العلوم العقلانيّة،و كان فذّا في زهده و عبادته. (5)

حفيد الملاّ نعيما،نجل الملاّ يوسف هو الشّيخ أحمد الحكميّ،و كان من علماء قزوين أيضا. (6)

ذكر الأستاذ الآشتيانيّ أنّ بين أحفاد الملاّ نعيما المعروفين بلقب(نعيمائى)كثيرا من

ص:40


1- -أعلام الشّيعة في القرن الثّاني عشر:705؛موسوعة البرغانيّ:14.
2- -دائرة المعارف تشيع 1:163.
3- -المآثر و الآثار:182.
4- -دائرة المعارف تشيّع 1:163.
5- -المآثر و الآثار:163.
6- -دائرة المعارف تشيّع 1:163.

العلماء،و معظمهم من الأدباء و الشّعراء.

هذه نبذة موجزة عن حياة آباء المرحوم الملاّ نعيما و إخوته و أولاده و أحفاده،و جميعهم كانوا من العلماء و الحكماء،و يعرفون بألقاب الطّالقانيّ،و البرغانيّ،و الحكميّ، و النّعيمائيّ.

الموضوع الثّالث:أمّا سيرة الملاّ نعيما نفسه فنأسف أنّنا لا نمتلك معلومات وثائقيّة دقيقة حول تاريخ ولادته و وفاته،و أساتذته و تلاميذه،و مدفنه.

و يمكن أن نخمّن أنّه ولد قبل سنة 1000 ه.اعتمادا على نسخة من(حاشية دواني على شرح المطالع)و(حاشية مير سيّد شريف)عليه بخطّ الملاّ نعيما،و كانت في مكتبة مجد الدّين نصيري بطهران، (1)و تاريخ كتابها 1115.

فرغ الملاّ نعيما من تأليف كتاب العروة الوثقى سنة 1158 ه. (2)إذن،كان على قيد الحياة حتّى هذا التّاريخ.أمّا تاريخ وفاته،فلعلّه كان في سنة 1180 ه تقريبا كما جاء في مقدّمة موسوعة البرغاني،و مقالة الأخ صالحي في مجلّة الحوزة.و هذا التّاريخ يتناسب مع تاريخ وفاة أبيه سنة 1161 ه مع أنّ البعض ذكر أنّ أباه مات سنة 1186 ه،و ذكر آخرون أنّه مات سنة 1189 ه، (3)فيكون قد عمّر قرابة مائة و عشرين سنة في الأقلّ.

أمّا أساتذة الملاّ نعيما،فقد ذكر سماحة الأستاذ الآشتيانيّ و سماحة الأخ صالحي أنّه حضر درس أبيه بقزوين،ثمّ أفاد في اصفهان من الملاّ محمّد صادق الأردستانيّ المتوفّى سنة 1134 ه،و الفاضل الهنديّ المتوفّى سنة 1137 ه عدد سنين.

هاجر إلى قم بعد هجوم الأفغان على أصفهان،و فيها ألّف كتابه أصل الأصول سنة 1135 ه،ثمّ رحل إلى قزوين و الطّالقان،و كتب فيهما رسالة حدوث العالم.

ذكره صاحب كتاب أعيان الشّيعة(اعتمادا على نسخة كان قد رآها و سنذكرها لاحقا) بقوله:محمّد نعيم بن محمّد تقيّ المشهور بالعرفيّ الطّالقانيّ.و قال الملاّ نعيما نفسه في بداية كتاب أصل الأصول:

ص:41


1- -الذّريعة 6:133. [1]
2- -فهرست مخطوطات مكتبة آية اللّه المرعشيّ،17:330.
3- -مجلّة حوزة،العدد 58،ص 188؛دائرة المعارف تشيّع:194.

لكاتبه و مالكه و مؤلّفه و واقفه الملاّ نعيما المعروف بالعرفيّ الطّالقانيّ. (1)

و لعلّ المستنبط من هاتين العبارتين أنّه كان ذا قريحة شعريّة،و(العرفيّ)لقب اختاره لنفسه،بيد أنّا لم نجد له شعرا حتّى الآن.

و نقرأ للأستاذ الآشتيانيّ حول مدفنه:لم يكن الملاّ نعيما شخصيّة مغمورة قطّ،فقد كان من مشاهير العلماء،و ضريحه بين نور و طالقان مطاف أولي الإقبال.

الموضوع الرّابع:إنّ ما اطّلعنا عليه و تتبّعناه من مؤلّفات المرحوم الملاّ نعيما في الفهارس و غيرها-مضافا إلى منهج الرّشاد-هو كما يأتي:

1-رسالة أصل الأصول.تاريخ التّأليف 1135 ه.ثلاث نسخ منها في الجزء الخامس من فهرس مخطوطات مجلس الشّورى الإسلاميّ،و نسخة في فهرس مخطوطات مدرسة مروي بطهران.و جاء في الجزء السّادس و العشرين من الذّريعة نسختان منها.و رأى العلاّمة الطّهرانيّ عند المرحوم الشّيخ أسد اللّه دهاقاني(المعروف باسماعيليان مؤلّف فهارس شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد،طبعة قم)نسخة أخرى منها كانت قد كتبت من النّسخة الأصليّة سنة 1136 ه.

صدرت رسالة أصل الأصول قبل سنين بتصحيح الأستاذ الآشتيانيّ و مقدّمته و تعليقاته،و ذلك في صورتين.و جاء في فهرس مخطوطات مجلس الشّورى الإسلاميّ، ج 19،ص 360 و أعلام الشّيعة في القرن الثّاني عشر،ص 790 رسالة ناقصة بعنوان(رسالة في الوجود)للملاّ نعيما.و إذا طابقنا بدايتها مع بداية رسالة أصل الأصول تبيّن لنا أنّ هذه الرّسالة النّاقصة نسخة أخرى من أصل الأصول.من هنا عرفت ثماني نسخ من هذه الرّسالة لحدّ الآن.

2-فصل الخطاب في تحقيق الصّواب.رسالة في القضاء و القدر.تحتفظ مكتبة مجلس الشّورى الإسلاميّ بنسخة منها.انظر:الذّريعة 16:230.

3-حدوث العالم.تمّ تأليف هذه الرسالة في قزوين و الطّالقان سنة 1136 ه.و هي تحتوي على مقدّمة و ثلاثة فصول و خاتمة. (2)نسخة من هذه الرّسالة في مكتبة آية اللّه

ص:42


1- -مقدّمة الأستاذ الآشتيانيّ دامت إفاداته.
2- -أعلام الشّيعة في القرن الثّاني عشر:790.

المرعشيّ في 300 صفحة، (1)و نسخة أخرى منها في مكتبة مدرسة مروي بطهران. (2)

4-تنقيح المرام في شرح تهذيب الأحكام.يشمل جزء منه باب الحيض إلى التّيمّم في 300 صفحة من القطع الرّحليّ بخطّ المؤلّف.و هذا الجزء موجود في مكتبة مدرسة مروي بطهران.تاريخ التّأليف:1147 ه. (3)

5-العروة الوثقى في إمامة أئمّة الهدى.تحتفظ مكتبة آية اللّه المرعشيّ بنسخة من هذا الكتاب. (4)يتألّف هذا الكتاب من مقدّمة و خمسة أبواب في 500 صفحة.تاريخ التّأليف:

1158 ه.

6-رسالة في جريان التّشكيك في العرضيّات و الذّاتيات.ذكرت هذه الرّسالة في آخر مقدّمة رسالة أصل الأصول. (5)

7-الحواشي على شرح الإشارات.ذكر هذا الكتاب أيضا في أواخر مقدّمة رسالة أصل الأصول. (6)

8-الحاشية على الحاشية للدّواني على حاشية المير السّيّد الشّريف على شرح المطالع.

رأى صاحب أعيان الشّيعة نسخة من هذا الكتاب في كرمانشاه،تاريخ التّأليف:

1123 ه (7)

9-رسالة في العلم.كانت هذه الرّسالة ملحقة بنسخة من أصل الأصول في مكتبة مدرسة آية اللّه البروجرديّ في النّجف الأشرف.و احتمل صاحب الذّريعة أنّها من تأليف الملاّ نعيما أيضا. (8)

10-كان الملاّ نعيما قد وعد في رسالة أصل الأصول أن يؤلّف رسالة حول مسألة صدور الكثير عن الواحد. (9)

الموضوع الخامس:يعدّ كتاب منهج الرّشاد في معرفة المعاد من أهمّ الكتب المؤلّفة في المعاد و إثبات الجسمانيّ منه.قال الأستاذ السّيّد جلال الدّين الآشتيانيّ دامت إفاداته فيه:

ص:43


1- -فهرس مكتبة آية اللّه المرعشي 6:27.
2- -فهرس مخطوطات مكتبة مروي:330.
3- -فهرس مروي:94.
4- -فهرس مكتبة آية اللّه المرعشي 17:330.
5- -منتخباتى از آثار حكماى ايران 3:389.[مختارات من آثار حكماء ايران].
6- -نفسه 3:385.
7- -أعيان الشّيعة 10:81،طبعة جديدة. [1]
8- -الذّريعة 15:316. [2]
9- -نفسه 17:9؛ [3]فهرس مخطوطات مجلس الشّورى الإسلاميّ 5:46؛أصل الأصول:90،طبعة 1357.

«هذا الكتاب فريد في بابه.و كنت أبحث عن كتاب في المعاد عدد سنين على أن يكون مؤلّفه مفسّرا،فقيها،حكيما،عارفا حتّى عثرت على نسخة منه في مكتبة مجلس الشّورى الإسلاميّ.و كلّفت ثلاثة من طلاّب مرحلة الماجستير أن يجعلوها رسالتهم لنيل الماجستير،و الحقّ أنّهم لم يدّخروا وسعا في سبيل ذلك. (1)[تصحيح الكتاب و طبعه].

و سيمثّل هذا العمل خدمة كبيرة.و ثوابه الأخرويّ يفوق ثواب كتاب في الفقه و الأصول أضعافا مضاعفة.[و أثبت]المؤلّف فيه المعاد الجسمانيّ كما سئل عن كيفيّته في الآية الكريمة المباركة:ربّ أرني كيف تحيي الموتى،و عالج ما يرتبط به من مشكلات،و دحض ما أثير عليه من شبهات من خلال الإحاطة بكلمات أعلام الفنّ،بخاصّة صدر المتألّهين، و الإلمام بالرّوايات و التّفسير و شيء أعلى من التّفسير الظّاهريّ،مع حفظ القواعد العقليّة و أفكار المحقّقين.»

توجد من هذا الكتاب نسختان:الأصل بخطّ المؤلّف في مكتبة مجلس الشّورى الإسلاميّ،و الثّانية استنسخت على النّسخة الأصليّة و هي في مكتبة مدرسة مروي بطهران.

الأصليّة ذات 244 ورقة.و يشمل الكتاب مقدّمة و خمسة أبواب و خاتمة،و سيطبع في ثلاثة أجزاء إن شاء اللّه تعالى.

يشمل الجزء الأوّل مقدّمة الكتاب،و الورقة(1-84).و هو الآن بين أيديكم.

و يمكنكم أن تتعرّفوا على محتواه من خلال نظرة مجملة على دليل موضوعاته.و من الضّروريّ أن نذكّر بأنّ موضوعات الجزء الثّاني و الثّالث من الكتاب تفصيل لموضوعات الجزء الأوّل منه و تبيين لها.

الأبواب الخمسة و خاتمة الكتاب،الّتي تشغل الجزء الثّاني و الثّالث هي كالآتي:

«الباب الأوّل في إثبات النّفس و إنّيّتها و تحديدها من حيث هي نفس،و أنّها ليست بجسم و لا عرض و أنّها غير البدن و أجزائه و اعضائه و آلاته و قواه و أعراضه.»

هذا الباب الشّامل الورقة(85-110)من النّسخة الأصل يضمّ لفظ كتاب الشّفاء

ص:44


1- -في الوقت الّذي كان سماحة الأستاذ راضيا عن عمل هؤلاء الثّلاثة الأفاضل(عطائي،هادي نيكى، نصيري)،اختارني لتصحيح الكتاب و إعداده للطّبع بنحو أدقّ.

لابن سينا و شرحه و تفصيله.و جاء في آخره:

«إنّك بعد ما أحطت خبرا بتفاصيل ما نقلنا عن الشّيخ في الشّفاء في هذا الفصل،و ما ذكرناه في تحريره،يظهر لك ما عقدنا الباب لأجله،و هو إثبات النّفس و إنّيّتها و تحديدها من حيث هي نفس،و انّها ليست بجسم و لا مزاج و لا عرض،و أنّها غير البدن و أعضائه و أجزائه و حواسّه و قواه و أعراضه.»

«الباب الثّاني في بيان حقيقتها و ماهيّتها من حيث إنّها جوهر مجرّد عن المادّة في ذاتها،و في أنّها واحدة بالذّات المختلفة بالاعتبار،و من حيث الأفعال و لها قوى متعدّدة تختلف أفاعيلها لاختلاف قواها.»

يشمل هذا الباب الورقة(111-153)من النّسخة الأصل،و هو يدور حول تجرّد النّفس.

شرحت في بداية هذا الباب أربعة أحاديث حول الرّوح في خمس أوراق نقلا عن كتاب الكافي للكلينيّ و الاحتجاج للطّبرسيّ.

و دار الكلام في أواخر الباب أيضا حول حديث من كتاب الكافي و دعاء من الصّحيفة السّجّاديّة،و ظنّ البعض أنّه يدلّ على عدم تجرّد النّفس،و يقع هذا الكلام في أربع صفحات.

الباب الثّالث في تعديد قوى النّفس الإنسانيّة على ما هو المشهور بين الجمهور، و الإشارة إلى نبذ من الحكمة فيه فيما لعلّه يحتاج إلى بيان الحكمة فيه.

يشغل هذا الباب(الورقة 154 إلى الورقة 169)من النّسخة الأصل.

الباب الرّابع(الورقة 170 إلى الورقة 213)و فيه مطالب:

المطلب الأوّل في حدوث النّفس بحدوث البدن.

المطلب الثّاني في إبطال التّناسخ و نحوه.

المطلب الثّالث في بيان أحوال النّفس الإنسانيّة بعد خراب بدنها.

نلحظ في هذا المطلب بحثا مفصّلا حول اللذّة و الألم،و السّعادة و الشّقاء، و البدن المثاليّ و رأي ابن سينا في هذه الموضوعات،و كذلك حول البرزخ و تجسّم الأعمال و غيرهما استهداء بالآيات القرآنيّة الكريمة و الأحاديث المأثورة عن

ص:45

المعصومين عليهم السّلام.

الباب الخامس في إثبات المعاد الجسمانيّ.الورقة(214-224)و يشمل الموضوعات الآتية:

إنّ للإنسان معادا في دار الآخرة الّتي هي دار الجزاء.

يجب أن يعود الرّوح في القيامة إلى بدن عنصري لها به تعلّق تدبير و تصرّف.

يمكن أن يكون ذلك البدن هو البدن الأوّل بعينه.

يجب أن يكون البعث على هذه الكيفيّة،أي:تعلّق الرّوح بالبدن الأوّل.

هذه المطالب كما نطق بها الشّرع كذلك هي ممّا يحكم به العقل و يقوم الدّليل العقليّ عليها.

الخاتمة:تشمل الورقة(225 إلى 244)من النّسخة الأصل،و تضمّ ثلاثة مطالب هي:

المطلب الأوّل في دفع شبهة المنكرين للمعاد الجسمانيّ(سبع شبهات).

المطلب الثّاني في بيان جملة من الأحوال و الأمور الّتي نطق الشّرع بوقوعها يوم القيامة و هي:

النّفخ في الصّور،و الصّراط،و الأعراف و السّور،و الكتاب و الحساب و الميزان، و العقبات،و الحوض،و الشّفاعة،و الجنّة و النّار بما فيهما.

المطلب الثّالث في بيان أصناف النّاس و أحوالهم في الجملة في القيامة و في كيفيّة خلود أهل الجنّة في الجنّة و أهل النّار في النّار.

و فيه بحث إمكان الخلود،و السّبب الموجب له،و المصلحة فيه.

يستند معظم البحوث في المطلب الثّاني و الثّالث من الخاتمة إلى الآيات و الرّوايات لأنّ مصدر هذه المسائل ليس عقليّا فحسب.

في الختام أتقدّم بالشّكر الجزيل للحكيم الرّبّانيّ سماحة السّيّد جلال الدّين الآشتيانيّ و طلاّبه الثّلاثة الأفاضل(عطائي،و نصيري،و هادي نيكى)الّذين امتثلوا أمره فاستنسخوا من النّسخة الأصل،ثمّ طبعوا نسختهم بالآلة الطّابعة و أعدّوها للطّبع.كما أتقدّم بالشّكر الوافر لسماحة حجة الاسلام و المسلمين إلهي الخراسانيّ مدير مجمع البحوث الإسلاميّة في مدينة مشهد المقدّسة و مساعدة الأخ الفاضل محمّد رضا مرواريد

ص:46

على تهيئتهما مقدّمات نشر الكتاب.كما أشكر الأخ الكريم محمّد رضا نجفيّ على جهوده المحمودة في المقابلة النّهائيّة للنّسخ.و أرجو من القرّاء الأفاضل أن يغضّوا الطّرف عمّا يغضّ الطّرف عنه،و ينبّهونا على الإشكالات الّتي لا يمكن التّغاضي عنها لعلّنا نتداركها في الجزء الثّاني و الثّالث إن شاء اللّه،و اللّه وليّ التّوفيق.

قم-رضا أستادي 22 ذي القعدة 1417 ه

ص:47

ص:48

خطبة الكتاب

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و به نستعين الحمد للّه الذي خلق فسوّى،و قدّر فهدى،و أمات و أحيى،و عليه النشأة الأخرى،و إليه المنتهى،ليجزي الذين أساءوا بما عملوا،و يجزي الذين أحسنوا بالحسنى،عدلا منه تبارك و تعالى،و الصلاة على خير الورى،أشرف من بعث بالبعث و الجزاء،و أكرم من أتى بالنشور و الرجعى،محمّد المصطفى و آله الذين بهداهم يهتدى،و بطريقتهم يقتدى،صلاة كثيرة دائمة بدوام الأرض و السماء.

أمّا بعد،فيقول العبد الضعيف النحيف المذنب الجاني،محمّد نعيم بن محمّد تقيّ المدعوّ بعرفي الطالقاني،عفي عنه و عن والديه،و ختم اللّه لهم بالحسنى،و جعل آخرتهم خيرا من الأولى:

ذاكرني بعض إخوان الصفا و خلاّن الوفاء،أنّ التصديق بالمعاد مطلقا لا يخفى أنّه ضروريّ في هذه الملّة البيضاء و الملل السابقة التي أتى بها الأنبياء عليهم التحيّة و الثناء، و أصل من أصول الدين القويم و المذهب المستقيم،لم ينكره أحد من أصحاب العقول و أرباب الألباب و النهى،إلاّ شرذمة قليلة من ملاحدة الحكماء،و أنّ الجسمانيّ منه هو جزء من الإيمان،و ضروريّ في الأديان،و دلّ عليه الكتاب الكريم و السنّة السمحاء،إذ عليه أدلّة واضحة لا يعتريها شوب شبهة و لا ريبة و لا خفاء،و قد أطبق عليه الملّيّون من الحكماء و المتشرّعون من العلماء،و قد أقاموا الدليل العقليّ على الروحانيّ منه،إلاّ أنّهم عن آخرهم اعتقدوا الجسمانيّ منه على الوجه الذي أتى به الأنبياء،مثل اعتقادهم للأحكام الفرعيّة،معترفين بأنّه لا يمكن إقامة الدليل العقليّ عليه،قائلين بأنّه ليس للعقل استقلال و لا مدخل في إثباته بوجه ما،و كفاك شاهدا على هذا قول شيخ الرئيس ابن سينا

ص:49

في الشفاء:

«يجب أن يعلم أنّ المعاد منه ما هو مقبول من الشرع،و لا طريق إلى إثباته إلاّ من طريق الشريعة و تصديق خبر النبوّة،و هو الذي للبدن عند البعث،و خيرات البدن و شروره معلومة،لا تحتاج إلى أن تعلّم،و قد بسطت الشريعة الحقّة التي أتانا بها سيّدنا و مولانا محمّد صلّى اللّه عليه و آله حال السعادة و الشقاوة التي بحسب البدن،و منه ما هو مدرك بالعقل و القياس البرهاني،و قد صدّقته النبوّة،و هو السعادة و الشقاوة الثابتتان بالقياس اللتان للأنفس،و إن كانت الأوهام منّا تقصر عن تصوّرهما الآن،لما نوضح من العلل.و الحكماء الإلهيّون رغبتهم في إصابة هذه السعادة أعظم من رغبتهم في إصابة السعادة البدنيّة،بل كأنّهم لا يلتفتون إلى تلك،و إن اعطوها،و لا يستعظمونها في جنبة هذه السعادة التي هي مقاربة الحقّ الأوّل،و هي على ما سنصفه عن قريب.-انتهى كلامه.» (1)

و يقرب منه كلمات المتقدّمين و المتأخّرين من الحكماء و المتشرّعين من العلماء، كما يعلم بالاستقصاء.

و امّا بعض المتأخّرين منهم كصدر الأفاضل مولانا صدر الدين الشيرازي فهو و إن تصدّى في بعض مصنّفاته الذي سمّاه الشواهد الربوبيّة لإقامة الدليل العقليّ عليه،و بذل مجهوده فيه،لكنّه لم يأت بشيء مبين،يفي بتمام المدّعى كما لا يخفى على من راجع كلامه و تأمّل فيه و استقصى. (2)

و سألني (3)أنّه لا يخفى أنّهم عدّوه من أصول الدين لا من فروع الدين،فحينئذ نقول:

لو كان الفرق بين اصول الدين و فروعه كما ذكره كثير من العلماء أنّ الأوّل ما يستقلّ في إثباته العقل،و إن نطق به الشرع أيضا،مثل توحيد اللّه تعالى و إثبات صفاته العليا و عدله، و أصل النبوّة و الإمامة،و المعاد الروحانيّ و غيرها،و إن كان إثبات نبوّة نبيّ خاصّ،و إمامة إمام مخصوص موقوفا على النص أو العصمة،أو إظهار المعجزة و نحوها،و أنّ الثاني ممّا لا يستقلّ بإثباته العقل،كالصلاة و الصيام و الزكاة و الحجّ و الجهاد و أمثالها،فعلى هذا ينبغي أن يكون يمكن إقامة الدليل العقليّ على إثبات أصل الجسمانيّ منه أيضا،و إن كان

ص:50


1- -كتاب الشفا،الالهيات،فصل في المعاد:545،طبع مكتبة [1]بيدار؛ص 423،طبع القاهرة.
2- -الشواهد الربوبيّة:266،طبع مشهد.
3- -عطف على:ذاكرني.

إثبات خصوصيّاته موقوفا على الشرع،و هم قد اعترفوا بالعجز عن إقامة الدليل على إثباته مطلقا،و إلاّ فالفرق ما ذا؟و حينئذ فيلزم عليهم ارتكاب أحد الأمرين:إمّا القول بإدراجه في فروع الدّين،و هو خلاف ما قرّره العلماء،أو القول بأنّه يكفي في إدراج مطلق المعاد في اصول الدين استقلال العقل في أحد فرديه-أي الروحانيّ منه-و إن لم يستقلّ العقل في إثبات فرده الاخرى،-أي الجسمانيّ منه-و فيه ما ترى،فإنّ الظاهر أنّ إدراجه في اصول الدين،إدراج لكلا فرديه فيها دون أحدهما.

و بالجملة فسواء عدّ من اصول الدين،كما هو الأحرى و الأولى،أو لم يعدّ منها،فهل يمكن إقامة الدليل عليه بحيث لا يعتريه شبهة و لا مراء أم لا؟

فرأيت التصدّي للجواب عن هذا السؤال،و الاستكشاف عن جليّة الحال،و النظر في أنّه هل يمكن إقامة الدليل عليه أحرى،مع كوني ناقص الذهن،قاصر الفهم،قليل القسط من الفطانة و الذكاء،و يبعد عن مثلي إدراك ما اعترف بالعجز عنه فحول الفضلاء،و قد اشتهر بينهم أنّ الجهالة أدنى إلى الخلاص من فطانة بتراء،لكنيّ قد امتثلت بقول القائل:

«كم ترك الأوّل للآخر»،فراجعت نفسي،و فكّرت فيه،و بذلت جهدي،و استعنت بربيّ جلّ و علا،و استمسكت بذيل هداية أئمة الهدى،الذين هم العروة الوثقى،في مراقبات تترى،فآنست نارا من شاطئ الهدى،فخلعت نعل علائقى و أتيت بقدم الشوق،وادي الجدّ و الطلب،لعلّي آتي منها بقبس،أو أجد على النّار هدى.و قلت:ربّ اشرح لي صدري و يسّر لي أمري و احلل عقدة من لساني و اجعل لى وزيرا من عقلي يفقهوا قولي إنّك كنت بنا بصيرا،فنوديت من شاطئ الواد الأيمن أن:يا طالب الحقّ أقبل و لا تخف،إنّك قد اوتيت سؤلك ببركة الاعتصام بحبل سادة الورى،و كنت من الآمنين لا تخاف دركا و لا تخشى،إنّي أنا ربّك الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى،فاعبدني و استمع لما يوحى، إنّ السّاعة آتية أكاد اخفيها لتجزى كلّ نفس بما تسعى،منها خلقناكم و فيها نعيدكم و منها نخرجكم تارة اخرى،فاقتبست بتوفيق ربّي جلّ و علا،قبسة من تلك النار،بها أضاء لي وجه المقصود،فلاح لي كالبيضاء نورا و ضياء،فجاء بحمد اللّه دليلا واضحا لائحا كما يروق النواظر و يضيئ ألباب أرباب الفهم و الذكاء،إلاّ أنّه يعوّقني من تحريره و تهذيبه عوائق شتّى،و موانع لا تحصى،أعظمها أنّي قد وقعت في زمن،قد سنحت فيه بعض

ص:51

أمارات قيام الساعة و الطامّة الكبرى،إذ قد ظهرت فيه الداهية الدهياء،و فشت فيه المحن التي هي عامّة البلوى،تعمّ عامّة البرايا،يشيب فيها الصغير،و يهرم فيها الكبير،و يكدح فيها كلّ مؤمن حتّى يلقى ربّه و يفنى،قد جرّد الدهر على أهاليه سيف العدوان،و أباد من كان،و تطرّق الفساد إلى أوضاع العالم،و انسدّ طرق معاش بني آدم،قد اغبرّ عيشهم الأخضر،و اسودّ يومهم الأبيض،و ابيضّ فودهم الأسود،يتمنّون الموت الأحمر،و أشرف شمس العلم على الغروب،و خمل أهل الكمال في زوايا الغروب،يتّقي أهل الديانة من إظهار دينهم،و يدين بالتقيّة كلّ الورى،عجّل اللّه تعالى ظهور دولة صاحبنا و مولانا،حتّى ينكشف به تلك البليّة العظمى.

و مع هذا فكيف في مثل هذا الزمان لمثلي من القاصرين الخاملين،مع توزّع البال و تشتّت الحال صرف الوقت في إظهار الحقّ في هذه المطلب الأسنى،و تحرير الدليل على هذا المقصد الأقصى،و العمدة الوثقى،فقعدت عنه برهة و في العين قذى و في الحلق شجى،لكن لمّا كرّر ذلك البعض من الأصدقاء السؤال و ألحّ و أعاد الابتهال،و رأيت أنّ الإقدام على جواب سؤاله و الصبر عليه أحجى،إذ ربّما تصير الفتنة أشدّ و أقوى،لا أتمكن من إظهاره أصلا،و الحال أنّ الأيّام تمضي و لا تعود،و العمر يذهب و لا يئوب،و تكون الحسرة أدوم،و النّدامة أبقى،و قد قال تعالى:

«وَ أَمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ» . (1)

«لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ» . (2)

«وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى، اَلَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكّى» . (3)

«فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى، سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى» . (4)

شرعت مع قلّة البضاعة و فوات الفرصة و كثرة المشاغل و توزّع البال و تشتّت الحال في تحريره و تهذيبه و تنقيحه بما تيسّر و أمكن،امتثالا لقول القائل:«ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» (5)،و ابتغاء لوجه ربّي الأعلى،و خطابي فيه لمن استمسك في العلم بأوثق الأسباب،و جانب الاعتساف و نظر فيه بعين الإنصاف،فإن رأى فيه خطأ أو عثرة و زللا،

ص:52


1- -الضحى:11. [1]
2- -آل عمران:92. [2]
3- -الليل:17-18. [3]
4- -الأعلى:9-10. [4]
5- -من الأمثال المشهورة.

عذرني و استغفر اللّه لي،فإنّه مقيل العثرات و غافر الخطيئات،و إن وجده مقبولا لدى الطباع الذكيّة،أنصفني و أعانني بصالح الدعاء في محو السيّئات و تضعيف الحسنات، و السلام على من اتّبع الهدى،و سمّيته بمنهج الرّشاد في معرفة المعاد،و رتّبته على مقدّمة و خاتمة و خمسة أبواب.ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنّك أنت الوهّاب.

ص:53

ص:54

المقدّمة

اشارة

أمّا المقدّمة ففي ذكر نبذ ممّا يتوقّف عليه بيان المراد،كشرح معنى المعاد،و تقسيمه إلى الروحاني و الجسماني،و نقل اختلاف الناس في ذلك،و سبب اختلافهم فيه،و تحرير ما دلّ الشرع على ثبوته و ينبغي إثباته بالدليل العقلي،و في بعض مطالب اخر يناسب تحقيقها قبل الخوض في المقصود.

فنقول:ذكر الفاضل الكامل العارف محمّد بن عليّ بن أبي جمهور الأحساوي في كتابه المسمّى بالمجلي مرآة المنجي كلاما بهذه العبارة:

«المحقّقون من الأوّلين و الآخرين على القول بإثبات المعاد،و إنّما يختلفون في معناه، و قد نقل عن جماعة من الحكماء الطبيعيّين إنكاره،و كذا جالينوس أنكره لاعتقاده أنّ النفس هي المزاج،و أنّه يفنى،و الفاني لا يعاد،خصوصا أنّه عرض،و الأعراض بعد العدم لا يتصوّر عودها،فإذا بطل المزاج بفناء البدن،لا يعود.

نعم،القائلون بالمعاد اختلفوا في معناه،فقال بعضهم:إنّه الجسماني فقط،و هو مذهب جماعة من المتكلّمين بناء على أنّ النّفس جسم،و آخرون قالوا:إنّه روحاني فقط و هو مذهب جماعة من الحكماء الإلهيّين،و طائفة قالوا:إنّه جسماني و روحاني و هذا على وجهين:أحدهما أن يكون الروح مجرّدا عن المادّة،فيعاد الجسم،و يتعلّق به الروح، أو يتعلّق بجسم آخر غير الأوّل،و هو مذهب قليل من أهل الإسلام،ذهب إليه الغزالي، و الفارابي،و كلّ من قال بتجرّد النفس من أهل التصوّف،و الثاني أن يكون الروح جسمانيا أو روحانيا،و يعاد الجسم الأوّل،و يردّ فيه الروح و هو مذهب كثير من أهل الإسلام و النصارى.

ص:55

فعلم من هذا الاختلاف أنّ تحقّق الإعادة مبنيّ على تحقّق النفس،و أنّها أيّ شيء هي، فإنّ هذه الاختلافات إنّما نشأت من الاختلافات فيها كما عرفت،فإنّ الطبيعيّين لمّا اعتقدوا أنّ النفس جسم،و أحالوا إعادة المعدوم،أحالوا المعاد مطلقا.و جالينوس لمّا قال إنّها المزاج نفاه بالكلّيّة.و المتكلّمون لمّا قالوا إنّها جوهر جسماني،قالوا إنّه إنّما يكون بإعادة النفس على حالتها بناء على أنّها إمّا الهيكل المحسوس المشاهد،أو أنّها أجزاء أصليّة،كما في مذاهبهم.و أمّا الغزالي و أتباعه فلمّا قالوا بتجرّد النفس قالوا إنّها تبقى بعد فراق البدن،فعودها ردّها إلى البدن مرّة اخرى.إمّا الأوّل بعينه،أو إلى آخر يماثله.و باقي المسلمين،لمّا كان مذهبهم في النفس على أنحاء متعدّدة،فالّذي قال منهم إنّها جوهر جسماني،أو إنّها جوهر روحاني،قائل بأنّه لا بدّ من إعادة الجسم الأوّل و يردّ فيه الروح جمعا بين الشريعة و الحكمة،و يدّعون أنّ هذا منطوق الآيات القرآنية.و الإلهيّون لمّا اعتقدوا تجرّد النّفس و بقاءها بعد فناء البدن،ذهبوا إلى المعاد الروحاني،و مرادهم به قطع علاقة النّفس مع البدن.

فبالجملة وقع الاتّفاق على وقوع المعاد،و أنّه حقّ و إن اختلفوا في كيفيّة وقوعه و الدليل المطلق على ثبوت المعاد الجسماني إنّه ممكن في نفسه،و الصّادق أخبر عنه، فوجب القول به،أمّا الأوّل،فلأنّ الإمكان إنّما هو بالنظر إلى القابل و الفاعل،و هما حاصلان،أمّا بالنّظر إلى الفاعل فلما مرّ من الأصلين السابقين:

أحدهما كونه قادرا على كلّ مقدور،و الثاني كونه عالما بأعيان أجزاء الأشخاص لتعلّق علمه بالجزئيات.

و أمّا الثاني،فلاتّفاق قول الأنبياء عليهم السّلام غير موسى عليه السّلام،فإنّه لم يذكر،و ما نزل في التوراة فيه شيء،و قد وجد في كتب من جاء بعده كحزقيل و شعياء.و أمّا الإنجيل،فالذي ذكر فيه أنّ الأخيار يصيرون كالملائكة،فيكون لهم الحياة الأبديّة و السعادة السرمديّة، و يمكن حمله على الروحانيّة،أو الجسمانيّة أو عليهما،و دلالته على الأوّل أظهر،لتحقّق الروحانيّة للملائكة دون الجسمانيّة.

و أمّا القرآن المجيد فقد جاءت ذكره فيه في كثير من المواضع،مثل قوله تعالى:

ص:56

«مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ» . (1)

«أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ، بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ» . (2)

«أَ إِذا كُنّا عِظاماً نَخِرَةً» . (3)

«وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا» . (4)

«كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها» . (5)

«يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً» . (6)

«إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ» . (7)

إلى غير ذلك ممّا جاء في هذا المعنى و هو الكثير.و القول بأنّ المراد بها المجازات الدالّة على الحقائق و هو الروحاني،ضعيف،لأنّها صريحة في الجسماني فحملها على المجازات،تكذيب للأنبياء عليهم السّلام.

فإذا عرفت ذلك،فقد ظهر لك ممّا أوردناه من مذاهب القوم،توقّف المعاد على مقدّمتين:

إحداهما:معرفة النفس و أنّها ما هي،حتّى يتحقّق كيفيّة الإعادة.و الثانية:أنّ المعدوم هل يعاد أم لا؟

فأمّا المقدّمة الاولى فقد وقع فيها التشاجر العظيم و الاختلاف الكثير،و خبط أهل الكلام فيها،و تعدّدت آراؤهم تعدّدا كثيرا حتّى قيل إنّها بلغت إلى قريب من أربعين مذهبا، و ليس على واحد منها دليل قطعي،و أشهر مذاهبهم القول بأنّها أجزاء أصليّة في البدن من أوّل العمر إلى آخره،و جمهور الفلاسفة و جماعة متصوّفة الإسلام و جماعة من أهل الكلام قالوا بتجرّدها و انّها جوهر غير جسماني متعلّق بهذا البدن تعلّق التدبير،لا تعلّق الحلول، و لهم على ذلك دلائل هي بالصواب أنسب،و بالحق أشبه-انتهى كلامه رحمه اللّه.» (8)

ثمّ قال بعد إثبات تجرّد النفس و تحقّق حقيقتها بهذه العبارة:

«فبالجملة المعاد الجسماني و غيره يتحقّق على مذاهبهم و يصحّ إثباته،إلاّ أنّه يختلف

ص:57


1- -يس:78. [1]
2- -القيامة:3-4. [2]
3- -النازعات:11. [3]
4- -فصّلت:21. [4]
5- -النساء:56. [5]
6- -ق:44.
7- -العاديات:9. [6]
8- -المجلي:491-492،الطبع الحجري.

كيفيّاته باختلاف مذاهبهم في النفس.

و القائلون بالتجرّد،هم في الإعادة فريقان:فريق قصروه عليها و جعلوا عودها إلى العالم العلوى بعد قطع العلاقة البدنيّة و فراغها عن الاشتغال بتدبير البدن عبارة عن المعاد، و هو مذهب جماعة كثيرة من أهل الحكمة سيأتي الكلام معهم.و فريق قالوا:لا بدّ عند القيامة الكبرى من عود الأبدان الجسمانيّة كما كانت،فتردّ العلاقة النفسانيّة على حالها على حسب ما كانت عليه في الحالة الاولى قبل قطع العلاقة،جميعا بين الحكمة و الظواهر النقليّة،و هو مذهب جماعة الإسلاميّين من الحكماء و أهل التصوّف و الكلام.-انتهى كلامه رحمه اللّه.» (1)

و قال صدر الأفاضل مولانا صدر الدين الشيرازي رحمه اللّه في الشواهد الربوبيّة:

«الإشراق الرابع في الإشارة إلى مذاهب الناس في المعاد.إنّ من الأوهام العامية اعتقاد جماعة من الملاحدة و الدهرية،و طائفة من الطبيعيّين و الأطباء ممّن لا اعتداد بهم في الفلسفة،و لا اعتماد عليهم في العقليّات،و لا نصيب لهم في الشريعة،ذهبوا إلى نفي المعاد و استحالة حشر النفوس و الأجساد،زعما منهم أنّ الإنسان إذا مات فات و ليس له معاد كسائر الحيوان و النبات،و هؤلاء أرذل الناس رأيا و أدونهم منزلة.

و المنقول من جالينوس هو التوقّف في أمر المعاد لتردّده في أمر النّفس هل هو صورة المزاج فتفنى أم صورة مجرّدة فتبقى؟

ثمّ من المتشبّثين منهم بأذيال العلماء،من ضمّ إلى إنكاره له أنّ المعدوم لا يعاد،فيمتنع حشر الموتى.

و المتكلّمون منعوا هذا،تارة بتجويز إعادة المعدوم،و اخرى بمنع فناء الإنسان بالحقيقة،لأنّ حقيقة إنسانيّته بأجزائه الأصليّة،و هي باقية إمّا متجزّية أو غير متجزّية،ثمّ حملوا الآيات و النصوص الواردة في إثبات الحشر على أنّ المراد جمع المتفرّقات من أجزاء الإنسان التي هي حقيقته.فهؤلاء التزموا أحد أمرين مستبعدين من العقل و النقل، و السكوت خير من الكلام ممّن لا يعلم.

و اتّفق المحقّقون من الفلاسفة و المحقّون من أهل الشريعة على ثبوت المعاد،و وقع

ص:58


1- -المجلي:495.

الاختلاف في كيفيّته،فذهب جمهور المتكلّمين و عامّة الفقهاء إلى أنّه جسماني فقط، بناء على أنّ الروح جرم لطيف سار في البدن،و جمهور الفلاسفة على أنّه روحاني فقط، و ذهب كثير من الحكماء المتألّهين و مشايخ العرفاء في هذه الملّة إلى القول بالمعادين جميعا.أمّا بيانه بالدليل العقلي فلم أر في كلام أحد إلى الآن،و قد مرّ البرهان العرشي على أنّ المعاد بعينه هو هذا الشخص الإنساني روحا و جسدا بحيث لو يراه أحد عند المحشر يقول:هذا فلان الذي كان في الدنيا،فمن أنكر هذا فقد أنكر ركنا عظيما من الإيمان، فيكون كافرا عقلا و شرعا،و لزمه إنكار كثير من النصوص.-انتهى كلامه.» (1)

و قال أيضا:

«الإشراق التاسع في سبب اختلاف الناس في كيفيّة المعاد:اعلم أنّ اختلاف أصحاب الملل و الديانات في هذا الأمر و كيفيّته،إنّما هو لأجل غموض هذه المسألة العويصة و دقّتها،و كثير من الحكماء كالشيخ الرئيس و من في طبقته،أحكموا علم المبادئ، و تبلّدت أذهانهم في كيفيّة المعاد،حتّى رضيت انفسهم بالتقليد في هذه المسألة المهمّة، لغموضها حتّى أنّ الكتب السماويّة المحكمة متشابهة آياتها في بيان هذا المعنى،مختلفة بحسب الجليل من النظر،متوافقة بحسب النظر الدقيق.

ففي التوراة:إنّ أهل الجنّة يمكثون في النعيم عشرة آلاف سنة،ثمّ يصيرون ملائكة، و إنّ أهل النار يمكثون في الجحيم كذا أو أزيد،ثم يصيرون شياطين. (2)

و في الإنجيل:إنّ الناس يحشرون ملائكة،لا يطعمون و لا يشربون و لا ينامون و لا يتوالدون. (3)

و في بعض آيات القرآن:إنّ النّاس يحشرون على صفة التجرّد و الفردانيّة كقوله تعالى:

«كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً» . (4)

و كقوله تعالى: «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» . (5)

و في بعضها على صفة التجسّم كقوله تعالى: «يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ» . (6)

ص:59


1- -الشواهد الربوبيّة:279-280. [1]
2- -الشواهد الربوبيّة:279 [2] نقلا عن التوراة.
3- -الشواهد الربوبيّة:279 [3] نقلا عن الإنجيل.
4- -مريم:95. [4]
5- -الأعراف:29. [5]
6- -القمر:48. [6]

و كذلك سؤال إبراهيم الخليل عن اللّه تعالى: «رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى» . (1)

و استشكال عزير: «أَنّى يُحْيِي هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها» . (2)

و حكاية أصحاب الكهف تبيينا لهذا الأمر كما قال تعالى: «وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ» . (3)

فبعض هذه النصوص يدلّ على أنّ المعاد للأبدان،و بعضها يدلّ على أنّه للأرواح، و التحقيق أنّ الأبدان الأخرويّة مسلوب عنها كثير من لوازم هذه الأبدان،فإنّ بدن الآخرة كظلّ لازم للروح،أو كعكس يرى في مرآة،كما أنّ الروح في هذا البدن كضوء واقع على جدار،أو كصورة منقوشة في قرطاس.و قد كان شبه هذه الأخبار المنقولة عن الكتب السماويّة واردة في الأحاديث النبويّة-على الصادع بها و آله الصلاة و التحية-كما هو المشهور عن أهل الحديث و الرواية.-انتهى.» (4)

ثمّ نقل كلام بعض أساطين الحكمة في ذلك.

ص:60


1- -البقرة:260. [1]
2- -البقرة:259. [2]
3- -الكهف:21. [3]
4- -الشواهد الربوبيّة:279-280. [4]

في الإشارة إلى أنّ الإنسان

عبارة عن مجموع النفس و البدن

و أقول و باللّه التوفيق:لا يخفى عليك أنّ الإنسان لمّا كان مزاجه على أقرب تعديل، و خلقه في أحسن تقويم،و اجتمع فيه ما يصدر عن شركائه في أجناسه القريبة و البعيدة كالحيوان و النبات و المعدن،من حفظ التركيب مدّة معيّنة معتدّا بها،و الخواصّ الطبيعيّة و الأفعال النباتيّة و الخصائص الحيوانيّة،و امتاز من بينها أجمع،بحمله من شرائف الأفعال و نفائس الآثار و كرائم الأعمال و لطائف الإدراكات التي تخصّه كالعقل و الفهم و الفطنة و الفكر و التدبير و التقدير و غير ذلك من الامور المحكمة.و لذا اختصّ من بين شركائه بالتكليف و ما يلزمه و يتبعه،فله بالضرورة مبدأ لذلك هو أشرف المبادئ و أفضلها،به يتقوّم قوام إنسانيّته و به يتحقّق كونه حيوانا ناطقا و يصدق ذلك عليه،و لذلك يسمّى نفسا كأنّه تمام حقيقة الإنسانيّة،فإنّ اسم النفس يطلق غالبا على تمام حقيقة الشيء و ذاته، كما هو المنقول عن أهل اللغة و الشائع في إطلاقات أهل العرف و قد يسمّى روحا أيضا.

و بالجملة من المعلوم أنّه كما أنّ للإنسان بدنا و هيكلا محسوسا مخصوصا مشاهدا بالحسّ و العيان،مركّبا تركيبا تامّا معدنيّا و نباتيّا و حيوانيّا،يدلّ عليه البرهان.كما سنشير إليه فيما بعد إن شاء اللّه تعالى،كذلك فيه،أو معه هذا الأمر المختصّ الذي هو ما به التمايز بينه و بين شركائه و هذا أيضا معلوم بالوجدان،و يدلّ عليه العقل و النقل أيضا.

و التميّز بين الأشياء و إن كان عند التحقيق بالوجودات الخاصّة،لكن تلك الموجودات إمّا عارضة لماهيّات كما هو رأي فريق من الحكماء،أو معروضة لها كما هو رأي آخرين منهم،فلتلك الماهيّات أيضا مدخل في التشخّص و التميّز كما لتلك الوجودات،فذلك الأمر

ص:61

الخاصّ بالإنسان الذي هو معروض ذلك الوجود الخاصّ أو عارضه،هو أيضا منشأ التمايز بينه و بين غيره لا يمكن إنكار وجوده فيه أو معه.

و الإنسان عبارة عن مجموع ذلك البدن المخصوص و هذا الأمر المميّز الخاصّ، و إليهما اشير في مواضع عديدة من الكتاب الكريم،كقوله تعالى:

«وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ،فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» . (1)

و قوله تعالى: «الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ سَوّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ،وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ» . (2)

و قوله تعالى: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» . (3)

و الحاصل:أنّ ذلك الأمر الخاصّ،جليّ الإنيّة عند ذوي الفطرة السليمة،و إن كان خفيّ الماهيّة،و لذا اختلف فيه على أقوال شتّى كما نقله الشيخ الرئيس في الشفاء عن القدماء، فذهب بعضهم إلى أنّه جوهر مجرّد،و بعضهم إلى أنّه مادّي،جسم أو جسماني،و سيأتي فيما بعد نقل ذلك تحقيق الحقّ فيه إن شاء اللّه تعالى.

ص:62


1- -المؤمنون:12-14. [1]
2- -السجدة:7-9. [2]
3- -التين:4. [3]

في الإشارة إلى معنى المعاد

و لا يخفى عليك أيضا،أنّ لفظ«المعاد»قد جاء مصدرا ميميّا بمعنى العود،و إن كان جاء اسم زمان و مكان أيضا،و أنّ العود و الإعادة و أشباههما من الألفاظ قد وردت في الكتاب الكريم و الشّرع القويم،مثل قوله تعالى:

«كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» . (1)

«اللّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ» . (2)

«إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ» . (3)

«فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» . (4)

«مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى» . (5)

«أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ». (6)

«وَ اللّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَ يُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً» . (7)

«وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» . (8)

«كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنّا كُنّا فاعِلِينَ» . (9)

إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.

و إنّ معانى هذه الألفاظ و إن كانت ممّا يفهمها كلّ فاهم من ذوي فطرة سليمة

ص:63


1- -الأعراف:29. [1]
2- -يونس:34. [2]
3- -يونس:4. [3]
4- -الإسراء:51. [4]
5- -طه:55. [5]
6- -العنكبوت:19. [6]
7- -نوح:17-18. [7]
8- -الروم:27. [8]
9- -الأنبياء:104. [9]

و لا يحتاج إلى شرحها،لكنّا نقول للتنبيه على ذلك:

إنّ المتبادر من مفهومات هذه الألفاظ و معانيها عند الإطلاق،هو أن يكون قد وجد أوّلا ما فرض أنّه متعلّق الإعادة على وجود مخصوص و حال و صفة مخصوصتين،ثمّ زال عنه ذلك الوجود و تلك الحالة[و الصفة]ثانيا في وقت من الأوقات،سواء كان بزوال نفسه أو زوال أمر متعلّق به،ثمّ وجد في وقت آخر بعده على ذلك الوجود و على تلك الحالة و الصفة،فإنّه حينئذ يصدق على ذلك الأثر الحاصل ثالثا أنّه العود،و على تأثير الفاعل ذلك فيه أنّه الإعادة،و بهذا المعنى اطلقت تلك الألفاظ في تلك الآيات الكريمة،إذ هو معناها المتبادر،و لا سيّما أنّها اطلقت في تلك الآيات في مقابلة البدء و الإبداء،و هو قرينة عليه،إذ البدء و الإبداء معناهما الإيجاد أوّلا،سواء كان إبداعا من غير تقدّم مدّة و مادّة،أو إحداثا و تكوينا مع تقدّمهما،فحيث كان معناهما ذلك و كان متعلّق الإبداء و الإعادة واحدا،كان معنى العود و الإعادة في مقابلتهما إيجاد ذلك الموجود أوّلا في وقت آخر، بعد أن تخلّل زمان زوال و فناء بينهما،فتدبّر.

فيكون معنى تلك الآيات-و اللّه أعلم-أنّ اللّه تعالى أوجد الخلق كالإنسان مثلا على وجود خاصّ و حال مخصوصة،ثمّ يميتهم و يزيل عنهم ذلك ثانيا،ثمّ يوجدهم ثالثا على ذلك الوجود و تلك الحال.

و قد يطلق العود و الإعادة على وجود شيء أو إيجاده في وقت متأخّر بعد أن كان ينبغي وجوده أو إيجاده في وقت متقدّم عليه و لم يقع ذلك،إمّا بانتفائه رأسا،أو بانتفاء جزء من أجزائه،أو شرط من شروطه،كما يطلق على فعل الصلاة غير المؤدّاة في وقتها كما أمر بها الشارع،في وقت ثان،أنّه إعادتها،و لا شكّ أنّ هذا المعنى سواء كان حقيقيّا أو مجازيّا غير مراد في الآيات الكريمة.

كما أنّ إرادة إنشاء خلق آخر في النشأة الاخرويّة،مغاير للخلق الأوّل بحسب الذات و إن كان مماثلا له في بعض الصّفات أو كلّها،خلاف الظاهر من لفظ الإعادة،و كذا من تلك الآيات،فتدبّر تعرف.

و حيث عرفت المعنى المراد من العود و الإعادة و المعاد الّتي وردت في الكتاب الكريم،ظهر لك أنّه ينبغي أن يحمل عليه ما ورد فيه بألفاظ اخر،مثل الرجوع و الرجع

ص:64

و البعث و النسل و الإحياء و الإحضار و الحشر و النشر و الخروج و الإخراج و الردّ و البروز و العرض و الإتيان و المصير و الجمع و القيام و أمثال ذلك.

قال تعالى: «وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» . (1)

«وَ الْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» . (2)

«ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ» . (3)

«مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا» . (4)

«كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى» . (5)

«وَ سَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ» . (6)

«وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً» . (7)

«وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً، وَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا» . (8)

«ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ» . (9)

«وَ رُدُّوا إِلَى اللّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ» . (10)

«ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاسُ» . (11)

«اللّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ» . (12)

«وَ هُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ» . (13)

«وَ بَرَزُوا لِلّهِ الْواحِدِ الْقَهّارِ» . (14)

«وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» . (15)

«وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» . (16)

«كَذلِكَ النُّشُورُ» . (17)

ص:65


1- -البقرة:28. [1]
2- -الأنعام:36. [2]
3- -ق:3.
4- -يس:52. [3]
5- -الأعراف:57. [4]
6- -التوبة:105. [5]
7- -الأنعام:22. [6]
8- -الكهف:47-48. [7]
9- -يونس:23. [8]
10- -يونس:30. [9]
11- -هود:103. [10]
12- -الشورى:15. [11]
13- -الشورى:29. [12]
14- -ابراهيم:48. [13]
15- -الإسراء:97. [14]
16- -المؤمنون:79. [15]
17- -فاطر:9. [16]

«فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ» . (1)

«يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ» . (2)

«يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ» . (3)

«إِنّا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ إِلَيْنَا الْمَصِيرُ» . (4)

«يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّهُ جَمِيعاً» . (5)

«يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» . (6)

«وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً» . (7)

«مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى» . (8)

«مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» . (9)

«ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ» . (10)

«فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ» . (11)

«وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ». (12)

«يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ» . (13)

إلى غير ذلك من الآيات.

و إن كان لكلّ واحد من تلك الألفاظ معنى يخصّه يعرفه من له دربة في معاني الألفاظ.

ص:66


1- -يس:51. [1]
2- -ق:42.
3- -القمر:7 و [2]المعارج:43. [3]
4- -ق:43.
5- -المجادلة:6 و 18. [4]
6- -المطفّفين:6. [5]
7- -مريم:95. [6]
8- -طه:55. [7]
9- -المؤمنون:100. [8]
10- -القصص:61. [9]
11- -يس:53. [10]
12- -فصّلت:21. [11]
13- -الحاقّة:18. [12]

في الإشارة إلى كون الاعتقاد بالمعاد ضروريّا

في هذا الدين القويم و كذا في الأديان السابقة

و لا يخفى أيضا عليك،أنّ الاعتقاد بالمعاد ركن من أركان الإسلام،و ضروريّ في هذا الدين القويم،و كذا في الأديان السابقة و الملل الماضية،كما ادّعاه العلماء من أهل الإسلام،و قد نطق الشرع القويم و الكتاب الكريم بكونه ضروريّا في هذا الدين،بل كونه جزءا من أديان اولي العزم من الرسل و غيرهم.

أمّا كونه ضروريّا في الدين المحمّدي صلّى اللّه عليه و آله،فالقرآن مملوّ منه كالآيات المذكورة و غيرها ممّا لا تحصى.و أمّا في الأديان السابقة،فلقوله تعالى في سورة نوح حكاية عنه(على نبيّنا و عليه السّلام)،انّه قال لقومه:

«وَ اللّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَ يُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً» . (1)

و في سورة العنكبوت حكاية عن إبراهيم(على نبيّنا و عليه السّلام)،إنّه قال لقومه:

«وَ اعْبُدُوهُ وَ اشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ». (2)

و في سورة الشعراء حكاية عنه أيضا:

«وَ الَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ، وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ» . (3)

و في سورة طه خطابا لموسى(على نبيّنا و عليه السّلام):

«إِنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى» . (4)

و في سورة القصص حكاية عن قوم قارون،إنّهم قالوا له:

ص:67


1- -نوح:17-18. [1]
2- -العنكبوت:17. [2]
3- -الشعراء:81-82. [3]
4- -طه:15. [4]

«وَ ابْتَغِ فِيما آتاكَ اللّهُ الدّارَ الْآخِرَةَ وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا» . (1)

و في سورة المؤمن حكاية عن مؤمن آل فرعون،إنّه قال لقوم فرعون:

«يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَ إِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ» . (2)

و في سورة مريم حكاية عن عيسى(على نبيّنا و عليه السّلام):

«وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا» . (3)

و في سورة يس حكاية عن رسول عيسى إلى قومه:

«وَ ما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» ، «قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ» . (4)

و في سورة الأنفال: «إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ - الآية-.» (5)

و ممّا ذكرنا يظهر أنّ ما ذكره العارف الأحساوي بقوله:و أمّا الثاني فلاتّفاق قول الأنبياء عليهم السّلام غير موسى عليه السّلام فانّه لم يذكر،و ما نزل في التّوراة فيه شيء،فيه شيء مع أنّ ما ذكره معارض بما نقله صدر الأفاضل عن التوراة بقوله:ففي التوراة:إنّ أهل الجنّة يمكثون في النعيم عشر آلاف سنة ثمّ يصيرون ملائكة. (6)

ص:68


1- -القصص:77. [1]
2- -المؤمن:39. [2]
3- -مريم:33. [3]
4- -يس:22 و 26-27. [4]
5- -التوبة:111. [5]
6- -الشواهد الربوبيّة:279. [6]

في كيفيّة دلالة الآيات القرآنيّة على المعاد

و لا يخفى أيضا عليك أنّ الآيات القرآنيّة الواردة في هذا المطلب،

بعضها ظاهرة في وقوع الموت و الفناء و الإماتة و الإبداء و الإعادة و الإحياء و نحو ذلك،و طروؤه على الإنسان الذي عرفت أنّه عبارة عن مجموع البدن المحسوس و ذلك الأمر المخصوص أعني النفس و الروح،و هي كثيرة كقوله تعالى:

«وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ أَ إِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا، أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً» . (1)

و كالآيات المتقدّمة و غيرها حيث إنّها تضمّنت الخطاب بذلك للمكلّفين و حكاية أحوالهم،و لا يخفى أنّ المكلّف هو الإنسان بنفسه و بدنه،و إن احتمل كونه بنفسه وحدها أيضا.

و بعضها ظاهرة في وقوع ذلك على بدنه،كقوله تعالى:

«مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ» .

«الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ». (2)

«حَتّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» . (3)

إلى غير ذلك من الآيات.

ص:69


1- -مريم:66-67. [1]
2- -يس:65،78-79. [2]
3- -فصّلت:20-21. [3]

و بعضها ظاهرة في وقوع ذلك على نفسه،و هي أيضا كقوله تعالى:

«فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، وَ أَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ -إلى قوله-: تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» . (1)

«يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبادِي، وَ ادْخُلِي جَنَّتِي» . (2)

«عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ» . (3)

«وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ» . (4)

«كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» . (5)

«لِيَجْزِيَ اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ» . (6)

«لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى» . (7)

«وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ» . (8)

«اللّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» . (9)

إلى غير ذلك من الآيات التي ظاهرها النفس بمعنى ذلك الأمر المخصوص،و إن احتمل في بعضها إرادة النفس بمعنى الشخص الإنساني-أي مجموع البدن و النفس-.

فيظهر ممّا ذكرنا أنّ الآيات دالّة على طروء كلّ من الإماتة و الإحياء على كلّ من النفس و الجسد،و سيأتي بيان كيفيّة وقوع الأمرين و تواردهما عليهما فيما بعد إن شاء اللّه.

ص:70


1- -الواقعة:83-87. [1]
2- -الفجر:27-30. [2]
3- -الانفطار:5. [3]
4- -الزمر:70. [4]
5- -آل عمران:185. [5]
6- -إبراهيم:51. [6]
7- -طه:15. [7]
8- -التوبة:55. [8]
9- -الزمر:42. [9]

في كيفيّة دلالة الآيات الواردة في إنكار المنكرين للمعاد

و لا يخفى عليك أيضا أنّ الآيات القرآنيّة التي تضمّنت لحكاية أحوال المنكرين للمعاد و بعضها ظاهرة في إنكارهم معاد المكلّفين و معاد الإنسان،أي معاد النفس و البدن جميعا كقوله تعالى:

«وَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ» . (1)

«وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ أَ إِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا، أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً» . (2)

«وَ لَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ» . (3)

«فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» . (4)

«وَ ما يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ، بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ» . (5)

«وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السّاعَةُ قُلْ بَلى وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ -الآية». (6)

«أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ» . (7)

«وَ قالُوا ما هِيَ إِلاّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ

ص:71


1- -النحل:38. [1]
2- -مريم:66. [2]
3- -هود:7. [3]
4- -الإسراء:51. [4]
5- -النمل:65-66. [5]
6- -سبأ:3. [6]
7- -فصّلت:54. [7]

مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ» . (1)

«إِنْ هِيَ إِلاّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» . (2)

«يَسْئَلُونَ أَيّانَ يَوْمُ الدِّينِ، يَوْمَ هُمْ عَلَى النّارِ يُفْتَنُونَ» . (3)

«قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ» . (4)

«وَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللّهُ أَحَداً» . (5)

إلى غير ذلك من الآيات.

و بعضها ظاهرة في إنكارهم معاد البدن خاصّة،كقوله تعالى:

«وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ» . (6)

«أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ، بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ» . (7)

و بعضها ظاهرة في إنكارهم معاد الإنسان،لكن لأجل إنكارهم معاد البدن،كقوله تعالى:

«وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَ إِذا كُنّا تُراباً أَ إِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» . (8)

«وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» . (9)

«وَ قالُوا أَ إِذا كُنّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً» . (10)

«أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ، هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ» . (11)

«وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَ إِذا كُنّا تُراباً وَ آباؤُنا أَ إِنّا لَمُخْرَجُونَ» . (12)

«وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» . (13)

«أَ إِذا مِتْنا وَ كُنّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ» . (14)

ص:72


1- -الجاثية:24. [1]
2- -المؤمنون:37. [2]
3- -الذاريات:12-13. [3]
4- -الممتحنة:13. [4]
5- -الجنّ:7. [5]
6- -يس:78. [6]
7- -القيامة:3-4. [7]
8- -الرعد:5. [8]
9- -السجدة:10. [9]
10- -الإسراء:49. [10]
11- -المؤمنون:35-36. [11]
12- -النمل:67. [12]
13- -سبأ:7. [13]
14- -ق:3.

«وَ كانُوا يَقُولُونَ أَ إِذا مِتْنا وَ كُنّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ» . (1)

إلى غير ذلك من الآيات.

و أمّا ما يدلّ صريحا على إنكارهم معاد خصوص النفس فلم نظفر به في الكتاب الكريم،و لعلّ وجهه-و اللّه أعلم-مع الإشارة إلى أنّ إنكارهم معاد الإنسان كما دلّت عليه آيات كثيرة يدلّ على إنكارهم معاد النفس أيضا،فإنّ الإنسان كما عرفت عبارة عن مجموع البدن و النفس،و لا إنكار لأحد في وجود النفس مع البدن أو فيه،فإنكار معاد الإنسان متضمّن لإنكار معاد البدن و النفس جميعا،و إنّ إنكار معاد البدن وحده كاف في الإنكار للمعاد الضروري في الدين القويم.

الإشارة (2)إلى أنّهم اعتقدوا أنّ النفس جسم في البدن أو معه،كما هو مذهب بعض الحكماء،من أنّها جرم لطيف سار في البدن أو جسمانيّ عرض فيه كالمزاج على ما هو المنقول من مذهب بعض المنكرين له من الحكماء الطبيعيّين،و قد عرفت بيان ذلك ممّا نقلنا من كلام الفاضل الأحساوي و صدر الأفاضل.و بالجملة فالنفس أيضا تنعدم بانعدام البدن،فلا يمكن إعادة شيء منهما،فلذا قالوا تارة بامتناع إعادة البدن بعد خرابه و صيرورته عظاما و رفاتا،و تارة بامتناع إعادة الإنسان لأجل امتناع إعادة البدن بعد خرابه في زعمهم،و تارة بامتناع إعادة الإنسان مطلقا كما نطقت بذلك الآيات المتقدّمة، فإنّ منشأ هذه العقائد واحد.فتنبّه لهذه الدقيقة.

ص:73


1- -الواقعة:47. [1]
2- -خبر لعلّ.

في الإشارة إلى معنى معاد الروحاني و الجسماني

و حيث عرفت ذلك فاعلم:أنّ الشرع كما نطق بثبوت المعادين جميعا و حكم بكفر منكريهما جميعا،كذلك يدلّ على كفر منكر واحد منهما فقط أيضا،لأنّ في ذلك أيضا إنكارا لما نطق به الشرع.

و اعلم أيضا أنّا حيث نطلق لفظ المعاد الروحاني،نريد به عود الروح إلى البدن الأوّل مرّة اخرى بعد مفارقتها عنه،سواء قيل بأنّ الروح جوهر مجرّد أو مادّي،جسم أو عرض، (1)و حيث نطلق المعاد الجسماني نريد به عود البدن الأوّل مرّة اخرى بعد ما كان بطل و فني.و كذلك نقول يجب أن يصدّق بهذين المعادين جميعا،و أنّ من أنكرهما أو أنكر واحدا منهما فهو منكر للمعاد الضروريّ في الدين.

فعلى هذا فمن قال بأنّ المعاد جسماني فقط،و صدّق بالمعادين جميعا،و أراد أنّ المعاد الذي تسمّونه روحانيّا حقّ،إلاّ أنّه جسماني أيضا كمعاد البدن،بناء على أنّ الروح جسم في اعتقاده،فهو ليس بمنكر للمعاد،إلاّ أنه اصطلح فسمّى المعاد الروحاني بالجسماني أيضا.و كذلك من قال بأنّه روحاني،و أراد به عود الروح إلى البدن الأوّل (2)بعد عوده أيضا فهو ليس بمنكر له أيضا.نعم إن أراد به عود الروح فقط،سواء قال إنّ الروح جوهر مجرّد أو مادّي،من غير أن يقول بعود البدن فهو منكر له كما أنّ من قال بعود البدن فقط من غير أن يقول بعود الروح منكر له.

ص:74


1- -قوله:«سواء قيل بأن الروح»و فيه ما لا يخفى،لأنّ الروح إذا كان ماديا ينعدم من رأس.و أيضا:الروح إذا كان عرضا لا يطلق عليه الروح،لأنّ جهة الباقي من الإنسان مجرّد عن المادة و المادة القابلة للكون و الفساد لن يلج الملكوت و هي فاقدة للوجود الأخرى(ج 5).
2- -عود الروح إلى البدن الأول تناسخ صريح و ليس له في الآخرة من نصيب.

و بالجملة فكلامنا في المعاد الروحاني و الجسماني بهذين المعنيين اللذين ذكرناهما، و قد عرفت أنّ الشرع ناطق بهما جميعا.و حيث تحقّقت ما بيّناه،و تبيّنت أنّ الآيات القرآنيّة،كما أنّها ناطقة بإعادة الإنسان و بإعادة خصوص البدن و خصوص النفس،كذلك هي ناطقة بأنّ المنكرين للمعاد،منكرون لذلك أجمع،فحريّ بنا أن نكشف أوّلا جليّة الحال عن أنّ مبنى زعم المنكرين له على ما ذا؟ثمّ نتبعه بشرح مبنى القول بالمعاد.

ص:75

في الإشارة إلى مبنى إنكار المنكرين للمعاد

فنقول:لا يخفى على من تأمّل في الآيات الواردة في حكاية حالهم،كالآيات المتقدّمة و غيرها،أنّهم إنّما أنكروه لشبهة واهية داحضة،خيّلها إليهم الشيطان و أملى لهم.

هي أنّهم لمّا رأوا أنّ الأبدان تفنى و تهلك و تصير عظاما و ترابا و رفاتا و ممزّقا كلّ ممزّق،كما هو معلوم بالمشاهدة و العيان.

و رأوا أيضا أنّ النفس إمّا جسم أو جسماني في البدن كما هو مذهبهم،و تصير هي أيضا مثل البدن في الاضمحلال و الفناء.

و رأوا أنّ الجسم جوهر متّصل في حدّ ذاته،و الاتّصال لازم لماهيّته و حقيقته،و أنّه إذا طرأ عليه الانفصال،و لا سيّما مثل هذا الانفصال و التمزّق،و تبدّلت صورته الجسميّة،بل النوعيّة و الشخصيّة أيضا،إلى صورة اخرى كالترابيّة و الرفاتيّة فلا سترة في أنّه ينعدم ذلك الاتّصال.و تلك الصورة،فينعدم لازم ذلك الجوهر المتّصل،و انعدام اللازم مستلزم لانعدام ملزومه،-أي ذلك الجوهر المتّصل-إمّا بالمرّة،كما هو الظاهر عندهم،أو بصورته المقوّمة له مطلقا إن لم يسلّم انعدامه بالمرّة،لأجل بقاء مادّته-أي الهيولى أو الأجزاء الأصليّة-إن كانت تبقى.

و كذلك رأوا أنّ النفس تنعدم مثل البدن بانعدامه،أمّا إذا كانت جسما-أي جرما لطيفا ساريا في البدن-فبتقريب السابق،لأنّها تابعة للبدن في الوجود و العدم،و أمّا إذا كانت جسمانيّة و عرضا حالاّ فيه،فبالطريق الأولى،لأنّه حينئذ يكون البدن بصورته الخاصّة موضوعا لها،و بانعدام الموضوع ينعدم العرض بالمرّة.

و رأوا أيضا أنّ المعدوم يمتنع أن يعاد،أمّا المعدوم بالمرّة فبالبرهان الذي سيجيء بيانه،

ص:76

و أمّا المعدوم بصورته الخاصّة فبذلك البرهان أيضا،و لأنّه لو فرضنا إمكان إعادته و اعيد، لم يكن المعاد ذلك الشخص بعينه بجميع مشخّصاته،بل يكون خلقا جديدا-أي مخلوقا جديدا-و إن كان مماثلا للأوّل في بعض الصفات،كما حكى اللّه تعالى عنهم في الآيات المتقدّمة لو أرادوا به هذا المعنى أو ما يتناوله،و الخلق الجديد بمعنى الإعادة،و سيجيء أيضا بيان هذا.

فمن هذه الشبهة ذهبت أوهامهم إلى امتناع البعث و إنكار المعاد،و إن كانوا قائلين بوجود الفاعل القادر المختار أيضا،لأنّ متعلّق القدرة ينبغي أن يكون شيئا ممكنا مقدورا بالذات،و الممتنع بالذات لا يصدق عليه اسم الشيء،فلا يكون متعلّق القدرة،و هذا لا يستلزم نقصا في قدرة القادر المختار،و لا في فاعليّة الفاعل،بل النقص إنّما هو في جانب القابل،و هذا ممّا لا ضير فيه.

و قوله تعالى حكاية عنهم: «مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ» . (1)يمكن أن يراد به هذا المعنى،و إن كان يمكن أن يراد به نفي الفاعل المختار القادر على ذلك،و إسناد الموت و الحياة في النشأة الدنيويّة إلى الدهر أو إلى البخت و الاتّفاق من غير أن يكون نشأة اخرويّة أو معاد فيها،كما هو مذهب الدهريّة و الملاحدة منهم،و يدلّ عليه قوله تعالى حكاية عنهم:

«إِنْ هِيَ إِلاّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» . (2)

و كذلك قوله تعالى: «أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ، بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ» . (3)محتمل للوجهين المذكورين،و على الأوّل فيكون المراد بقوله: «بَلى قادِرِينَ» إثبات أنّ جمع العظام ممّا هو متعلّق القدرة،و ليس فيه إعادة المعدوم بالمرّة، و لا هو بممتنع بالذات على ما سيأتي بيانه،و على الثاني فيكون المراد به مضافا إلى ما ذكر إثبات أصل القدرة،و إثبات الفاعل المختار القادر عليه،فتدبّر.

و بالجملة فهذه الشبهة بالوجهين المحكيّة عن المنكرين للمعاد في الآيات المتقدّمة أعظم شبههم في ذلك،و لهم شبه اخرى عليه،سيأتي بيانها مع إبطالها في مواضعها.

ص:77


1- -يس:78. [1]
2- -المؤمنون:37. [2]
3- -القيامة:3-4. [3]

و شبهتهم هذه و غيرها باطلة،مخالفة للعقل و النقل،كما سيجيء بيان ذلك،كلّها نشأت عنهم من غير علم،فلذا نفى اللّه تعالى عنهم في ذلك العلم،و أسند إليهم فيه الظنّ و الزعم و الشك و عدم العلم و عدم الشعور و الحسبان و نحو ذلك،ممّا يدلّ على عدم علمهم فيه، و تعجّب من قولهم هذا.

و أمّا ما اسند إليهم في قوله تعالى:

«وَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللّهُ مَنْ يَمُوتُ» . (1)

فلعلّه لكمال عنادهم و عتوّهم،أو أنّهم حسبوه يقينا فاقسموا باللّه عليه،كما أنّ تسمية ذلك حجّة في قوله تعالى:

«ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» . (2)

لأجل أنّهم حسبوه حجّة،و إن لم يكن حجّة في الواقع،أو لأجل التهكّم بهم.و كيفما كان فحجّتهم داحضة عند ربّهم و عليهم غضب،و قولهم هذا كفر باللّه و رسوله و اليوم الآخر.

ص:78


1- -النحل:38. [1]
2- -الجاثية:25. [2]

في الإشارة إلى مبنى القول بالمعاد

و إذا عرفت ذلك فاعلم:أنّ القائلين بالمعاد حيث كان السبب العمدة في قولهم به تصديق الشرع القويم،يجب عليهم تصديقهم به كما أتى به الشارع العليم الحكيم، و حيث ورد الشرع بمعاد البدن و النفس جميعا،كما ورد بموتهما جميعا على ما دلّت عليه الآيات المتقدّمة فيجب عليهم تصديق ذلك جميعا و إن كانت مذاهبهم مختلفة في كيفيّته، فلنفصّل ذلك في كلّ من معاد البدن و النفس و كذا في موتهما.

أمّا موت البدن فلا شبهة لأحد فيه على ما يشاهد بالحسّ و العيان و سيظهر أيضا بيان كيفيّته.

في الإشارة إلى مبنى معاد البدن

و أمّا معاده،فالذين قالوا بنفي الجزء الصوري في الأجسام و حصر أجزائه في الجواهر الفردة أي أنّ مبادئ الأجسام جواهر فردة،و أجزاؤه لا تتجزّى،و الجسم عبارة عن تلك الأجزاء المتلاصقة المؤتلفة،من غير أن يكون للاتّصال مدخل في حقيقته و تقوّمه،كما هو مذهب المتكلّمين منهم،فمعاد البدن عندهم عبارة عن اجتماع تلك الأجزاء المتفرّقة بالموت بتأليف مجدّد و إلصاق ثان،كما أنّ موته عبارة عن ذلك التفرّق و انعدام التأليف الأوّل،فلا يلزم عليهم انعدام البدن و لا أجزائه بالموت،و لا أن يكون إعادته إعادة المعدوم.نعم يلزم عليهم القول بانعدام ذلك التأليف الخاصّ الأوّل،ثمّ حصول مثل ذلك التأليف في الحشر.

فعلى هذا فالبدن المعاد عين البدن المبتدأ باعتبار أجزائه،و مثله باعتبار التأليف،فهو

ص:79

عين الأوّل باعتبار،و غيره-أي مثله-باعتبار آخر.

و لعلّ هؤلاء الجماعة قالوا بهذا المذهب مع بطلانه،لأجل تصحيح المعاد الجسماني، و هربا عن لزوم الإشكال الوارد في زعمهم على تقدير كون الاتّصال جزءا صوريّا للأجسام،و هذا الذي ذكرنا ظاهر على المتدبّر.

و قد قال الشارح القوشجي في شرح التجريد في قول مصنّفه:«و المعدوم لا يعاد بعينه»:

«اختلفوا في جواز إعادة المعدوم بعينه-أي بجميع عوارضه المشخّصة-فذهب أكثر المتكلّمين إلى جوازها،و ذهب الحكماء و بعض الكرّامية و أبو الحسين البصري و محمود الخوارزمي من المعتزلة إلى امتناعها،و اختاره المصنّف.و هؤلاء و إن كانوا مسلمين معترفين بالمعاد الجسماني ينكرون إعادة المعدوم،لأنّهم لا يقولون بانعدام الأجساد،بل بتفرّق أجزائها و خروجها عن الانتفاع،و يأوّلون بذلك الظواهر الواردة في هذا المعنى، و يؤيّده قصّه إبراهيم عليه السّلام.-انتهى.» (1)

و قال المحقّق الدواني في الحاشية على قوله:«لا يقولون بانعدام الأجساد»:

«و هذا بناء على نفي الجزء الصوري للأجسام و حصر أجزائه في الجواهر الفردة،كما هو مذهب المتكلّمين ظاهر،و كذا على مذهب المصنّف حيث قال بأنّ حقيقة الجسم هو الصورة الاتّصاليّة و أنها تبقى بعينها حال الانفصال.و لو أثبت الجزء الصوري في الأجسام، قيل يكفي في المعاد الجسماني كون الأجزاء الماديّة هي بعينها،و لا يقدح فيه تبدّل الجزء الصوري بعد أن كان أقرب الصور إلى الصور الزائلة.

فإن قيل:فيكون تناسخا،قيل:الممتنع عندنا هو انتقال النفس إلى بدن مغاير له بحسب المادّة،لا إلى بدن متألّف من عين مادّة هذا البدن و صورة هي أقرب الصور إلى الصورة الزائلة،فإن سمّي ذلك تناسخا فلا بدّ من البرهان على امتناعه،فإنّ النزاع إنّما هو في المعنى لا في الألفاظ.-انتهى.» (2)

و قال المحشّي الشيرازي في الحاشية على قوله:«هذا بناء على نفي الجزء الصوري

ص:80


1- -شرح التجريد للقوشجي:71،الطبع الحجري،تبريز،1307 ق.
2- -راجع هامش ص 71 من شرح القوشجي.

في الأجسام»:

«أقول:فيه نظر ظاهر،اذ لا يقول عاقل إنّه إذا احرق زيد و صار رمادا،و القي في أرض الملح فصار ملحا،فحينئذ يبقى شخص زيد بعينه،ضرورة أنّ ما به زيد زيد لم يبق حينئذ، بل عسى أن يدّعى عدم بقاء النوع.فعلى هذا يلزم على من قال بامتناع إعادة المعدوم، و كان قائلا بالمعاد الجسماني أن يقول مثل ما يقول مثبتوا الجزء الصوري من أنّ الأجزاء المادّية باقية بعينها،و يتبدّل ما يكون الشخص به شخصا إلى ما يماثله،و به يؤوّل الآيات و الأحاديث الواردة في المعاد،كما هو طريقتهم في تأويل الظواهر،إذا دلّ القاطع على خلافه.

فإن قيل:فيلزم إيصال الثواب و العقاب إلى من يماثل من يستحقّهما.

قلت:المستحقّ للثواب و العقاب هو النفس المجرّدة،و هي باقية بعد خراب البدن عند المحقّقين،و منهم المصنّف،و المدرك للذّة و الألم و إن كان جسمانيّا إنّما هو النفس،و البدن آلة لها في الأفعال التي يستحقّ بها النفس الثواب و العقاب.و كذا لبعض اللذّات و الآلام، و لا محذور في أن كان استحقاق النفس لهما عند تعلّقها بآلة و إيصال أحدهما عند تعلّقها بآلة اخرى.-انتهى.» (1)

و أقول:لا يخفى عليك أنّ ما ذكره المحقّق الدواني لا غبار عليه،و سنذكر فيما بعد إن شاء اللّه تعالى تحقيق معنى التناسخ المحال،و أنّ عود النفس إلى بدن متألّف من مادّة البدن الأوّل و من صورة هي أقرب الصور إلى الصورة الزائلة،ليس من التناسخ المحال، فانتظر.

و أمّا ما ذكره المحشّي الشيرازي،فلا يخفى أنّه مجرّد استبعاد،نظير استبعاد المنكرين للمعاد،و مع ذلك فهذا الاستبعاد إنّما هو على تقدير القول بالجزء الصوري خاصّة.

و يندفع أيضا بما ذكره المحقّق الدواني بقوله:قيل يكفي في المعاد الجسماني-إلى آخر ما قال-و سنحقّق ذلك فيما بعد إن شاء اللّه العزيز.

و أمّا ذكره بقوله:«ضرورة أن ما به زيد زيد لم يبق حينئذ بل عسى أن يدّعى عدم بقاء النوع»ففيه:أنّ زيدا لو كان عبارة عن بدنه فقط،لربما كان لما ادّعاه وجه،و ليس كذلك،

ص:81


1- -الحاشية على حاشية الدواني على شرح القوشجي،مخطوط.

بل هو عبارة عن مجموع البدن الخاصّ و النفس المخصوصة،كما أشرنا إليه فيما تقدّم، و سنزيده بيانا فيما بعد.

و لم يظهر ممّا ذكره عدم بقاء نفسه أيضا،كيف و هو نفسه قد اعترف بأنّ المستحقّ للثواب و العقاب النفس،و هي باقية بعد خراب البدن،بل قد ادّعى جمع من الحكماء أن هويّة زيد و هذيّته إنما هي بنفسه،فإنّ أعضاءه و بدنه أبدا في التحوّل و الذوبان و التبدّل و السيلان بحرارته الغريزية المستولية عليها من نار الطبيعة،و زيد هو هو نفسا و بدنا من أوّل العمر إلى منتهاه، لانحفاظ هويّة بدنه بنفسه الّتي هي صورته التمامية،فهذيّة البدن من حيث هو بدن لهذه النفس بهذه النفس،و إن تبدّل تركيبه.

على أنّ الحقّ كما سيأتي تحقيقه فيما بعد إن شاء اللّه تعالى أنّ هويّة زيد بنفسه،و كذا بهوية الأجزاء الأصلية الباقية من بدنه.

و أمّا ما ارتكبه أخيرا من«كون المخاطب بالتكاليف و المستحقّ للثواب و العقاب هو النفس وحدها،و كون البدن آلة لها في ذلك و أن لا محذور في أن كان استحقاق النفس لها عند تعلّقها بآلة،و إيصال أحدهما عند تعلّقها بآلة اخرى،و إن كانت مغايرة للاولى».

ففيه،أنّ هذا مخالف لما دلّ عليه الشرع و نطقت به الآيات المتقدّمة،فإنّك قد عرفت أنّها تدلّ على معاد النفس و البدن،الذي كان في النشأة الدنيويّة جميعا.أي على معاد الإنسان الذي هو عبارة عن مجموعهما،و كذلك الظاهر من التكاليف الواردة أنّ المخاطب بها هو الإنسان لا نفسه فقط،و إن كان للنفس مدخل عظيم في ذلك.و الحال قد بيّنا لك أنّ التصديق بالمعاد يجب أن يكون على النهج الذي دلّ عليه الشرع،فتبصّر.

و إذا عرفت ما ذكرنا و علمت كيفيّة معاد البدن على تقدير القول بالجواهر الفردة،و نفي الجزء الصوري للجسم،فاعلم أنّ القائلين بالمعاد لو كان مذهبهم في الجسم ما ذهب إليه ذيمقراطيس من القدماء،من أنّ مبادئ الأجسام أجسام صغار صلبة متجزّية و هما غير متجزّية في الخارج،و أنّ اتّصال الجسم عبارة عن اجتماع تلك الأجسام الصلبة، و انفصاله عن افتراقها،من غير أن يكون هناك جزء صوري للجسم،فحالهم أيضا في القول بموت البدن و معاده كحال لفرقة الاولى سواء.

و هذا المذهب أيضا و إن كان باطلا كالأوّل،لكنّه على تقدير القول به أيضا لا يلزم

ص:82

إعادة المعدوم بالمرّة بعينه،فإنّه على هذا المذهب أيضا لا يلزم انعدام البدن و لا أجزائه، إنّما المعدوم هو التأليف الخاصّ،و الموت عبارة عن تفرّق تلك الأجسام التي هي أجزاء للجسم،و العود عبارة عن اجتماعها بتأليف ثان مجدّد،مثل الأوّل.و على هذا أيضا فالبدن المعاد عين المبتدأ باعتبار و غيره باعتبار آخر أي في التأليف.

و أمّا الذين قالوا بأنّ حقيقة الجسم هو الصورة الاتّصاليّة،و أنّها تبقى بعينها حال الانفصال كما هو مذهب الإشراقيّين و من تبعهم فيه،كالمحقّق الطوسي رحمه اللّه و غيره، و حاصل مذهبهم أنّ الجسم جوهر متّصل في حدّ ذاته،ليس بذي مفاصل و أجزاء بالفعل، كما هو عند الحسّ يقبل الانقسام الوهمي و الانفكاكي إلى ما لا يتناهى،و أنّ ذلك الجوهر المتّصل قائم بذاته غير حالّ في شيء آخر،و هو الجسم المطلق،فهو عندهم جوهر بسيط لا تركيب فيه بحسب الخارج أصلا،قابل لطريان الاتّصال و الانفصال عليه مع بقائه في الحالين في ذاته،فهو من حيث جوهره و ذاته يسمّى جسما،و من حيث قبوله للصور النوعيّة التي لأنواع الجسم يسمّى هيولى،فكذلك لا يلزم عليهم إعادة المعدوم بالمرّة كما دلّ عليه كلام المحقّق الدواني الذي نقلناه،و هذا أيضا ظاهر يظهر بالتأمّل في مذهبهم، لأنّ ملخّصه كما ذكره بعض الفضلاء أنّهم يقولون إنّ الاتّصال و إن كان لازما لجوهر الجسم،لكنّه لازم له في جميع الجهات في حاقّ ذاته و صرف وجوده،و هو وحده تمام حقيقة الجسم،و لا يلزم من طريان الانفصال عليه انعدامه رأسا،و ذلك لأنّ الاتّصال اللازم من انتفاء الجزء و مثله إنّما هو بمعنى توسّع الذات و الانبساط في الجهات،و هو مشتمل بمحض مفهومه على حدود مشتركة بين أجزائه كالنصف و الثلث و غير ذلك،و الانفصال في كلّ حدّ إنّما يقابل الاتّصال في ذلك الحدّ بعينه دون سائر الحدود،فإذا انفصل في حدّ النصف مثلا فإنّما يبطل اتّصاله فيه فقط،و هو باعتبار سائر الحدود باق متّصلا كما كان.

نعم لو كان الاتّصال معنى وحدانيّا غير ذي حدود،أو كان الانفصال يعرضه في جميع حدوده الممكنة فيه لأدّى إلى انعدامه بالكلّية،و إذ ليس فليس.

و المحصّل أنّ الاتّصال الذي هو تمام حقيقة الجسم،هو الاتّصال في الجملة،فما دام يبقى ذلك الاتّصال في الجملة لم ينعدم الجسم بالكلّية.

فعلى هذا المذهب أيضا يكون البدن المعاد عين البدن الأوّل المبتدأ باعتبار،-أي

ص:83

باعتبار حقيقة الاتّصال في الجملة و بعض مراتب الاتّصال الباقي-و غيره،أي مثله باعتبار آخر،-أي باعتبار بعض مراتب الاتّصال الفاني الذي أعيد مثله حين الإعادة- فتدبّر،و اللّه تعالى أعلم.

و أمّا الذين قالوا بوجود الجزء الصوري في الجسم،كالمشّائين و أتباعهم،و حاصل مذهبهم:أنّ الجوهر جوهر متّصل الذات في الذات،لكنّه من حيث هو جسم مطلقا مركّب من جوهرين:أحدهما هذا الجوهر المتّصل بالذات،و الثاني جوهر آخر محلّ للأوّل،و هو حالّ فيه،و ليس في حدّ ذاته متّصلا و لا منفصلا و لا واحدا و لا كثيرا،بل هو في هذه كلّها تابع للأوّل،و يسمّون الأوّل الصورة الجسميّة،و الثاني الهيولى،و له من حيث هو نوع ماء أو هواء أو نار أو غيرها جزء يسمّونه الصورة النوعيّة.

فعلى مذهب هؤلاء و إن كان يلزم أن يكون بطريان الانفصال ينعدم الاتّصال،و ينعدم الجسم أيضا لانعدام جزئه الصوري الذي هو الاتّصال الخاصّ المنعدم بطريان الانفصال عليه في أيّة مرتبة منه،لكنّه لا يلزم أيضا انعدام الجسم بالكلّية لبقاء جزئه الآخر المحلّ للجزء الصوري،-أي الهيولى-و إن طرأ عليه صورة اخرى غير الأولى،فإنّهم لأجل ذلك أثبتوا الهيولى،حيث إنّ مذهبهم أنّ الانفصال مقابل الاتّصال.و الاتّصال لازم لماهيّة الجسم،و إلاّ لزم الجزء أو مثله،فإذا طرأ عليه الانفصال بطل الاتّصال،فانعدم ملزومه الذي هو هذا الجوهر المتّصل،فلو كان هو تمام حقيقة الجسم لزم انعدامه بالكلّية و أن يكون تفريق الجسم إلى جسمين إعداما له بالمرّة و إحداث جسمين آخرين من كتم العدم،و هو باطل بالضرورة،فيجب أن يكون للجسم جزء آخر يكون الاتّصال و الانفصال مفارقين عنه غير لازمين له في ذاته،حتّى يكون باقيا في الحالين،و هو المسمّى بالهيولى.

فعلى هذا المذهب أيضا يكون البدن المعاد عين البدن الأوّل المبتدأ باعتبار أحد جزأيه-أي الهيولى-و غيره أي مثله باعتبار جزئه الآخر-أي الصورة الجسميّة و النوعيّة بل الشخصيّة-فإنّ لهم أن يقولوا إنّه حين الإعادة تفاض على تلك الهيولى البدنيّة أقرب الصور الجسميّة و النوعيّة بل الشخصيّة إلى الصورة الاولى.

و كأنّ المحقّق الدواني فيما نقلنا عنه آنفا حيث قال:بناء على هذا المذهب،قيل:

يكفي في المعاد الجسماني كون الأجزاء المادّية هي بعينها-إلى آخره-أراد ببقاء الأجزاء

ص:84

المادّية بقاء هيولى البدن،كما هو مذهب هؤلاء في مطلق الجسم،و إن كان طرأ على هيولاه صورة اخرى غير صورة البدن الأوّل حين الفناء،و أقرب الصور إلى الصورة البدنيّة الاولى حين الإعادة،و يحتمل أن يكون أراد به مع ما ذكر بقاء الأجزاء الأصليّة من البدن التي يظهر من بعض أحاديث الأئمّة الأطهار(عليهم سلام اللّه الملك الجبّار)أنّ منها تكوّن البدن،و هي مبدأ نشئه،و هي ممّا تبقى بعد خرابه،كما روى الشيخ الصدوق ابن بابويه رحمه اللّه في الفقيه عن عمّار الساباطي.

أنّه قال:سئل أبو عبد اللّه(صلوات اللّه عليه)عن الميّت هل يبلى جسده؟قال:نعم حتّى لا يبقى لحم و لا عظم،إلاّ طينته التي خلق منها فإنّها لا تبلى في القبر،تبقى مستديرة حتّى يخلق منها كما خلق أوّل مرّة. (1)

و المراد من هذه الطينة الباقية-و اللّه و أولو العلم أعلم-إمّا نفس النطفة المنويّة التي منها بدن الإنسان كما يشهد به ما رواه هو رحمه اللّه فيه أيضا.

أنّه سئل الصادق(صلوات اللّه عليه)لأيّ علّة يغسّل الميّت؟قال:تخرج منه النطفة التي خلق منها تخرج من عينيه أو من فيه... (2)

و إمّا تلك النطفة المنويّة المخلوطة بالتراب التي هي مبدأ نشأ بدن الإنسان أوّلا،و كذا هي مبدأ تكوّنه ثانيا في الحشر،كما هو الأظهر،و قد ورد في الأحاديث المرويّة عن أهل العصمة(سلام اللّه عليهم أجمعين) (3)،أنّ كلّ طينة خلق منها الإنسان يدفن فيها،و أنّ النطفة إذا استقرّت في الرحم بعث اللّه تعالى ملكا ليأخذ من تراب المكان الذي يدفن ذلك الإنسان فيه،فيأخذه و يخلطه بتلك النطفة،فيخلق الإنسان من تلك النطفة المخلوطة بذلك التراب،و إذا اقترب أجله يذهب إلى أن يجيء إلى ذلك المكان،فيموت و يدفن فيه.

و هذه النطفة مستديرة في القبر،و تبقى إلى أن يخلق الإنسان في الحشر مرّة اخرى منها كما خلق أوّل مرّة،و يشهد به قوله تعالى: «مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى.» (4)فتبصّر.

ص:85


1- -من لا يحضره الفقيه 1:191،طبع مكتبة الصدوق بطهران.
2- -من لا يحضره الفقيه 1:138.
3- -راجع الكافي 3:202،باب التربة التي يدفن فيها الميّت،و [1]راجع أيضا شروح الكافي.
4- -طه:55. [2]

و المراد باستدارة تلك الطينة-و اللّه أعلم-إمّا الاستدارة الحسّية أي تكون مستديرة في الحجم و الشكل و الهيئة و لو كانت جزءا صغيرا،سواء كانت جزءا واحدا أو أجزاء متعدّدة متفرّقة،لكن بحيث تكون صلبة في الغاية لا تزول عنها تلك الصورة الجسميّة و النوعيّة،و لا تفنى و لا تستحيل و لا تصير ترابا و لا رفاتا و لا جزء بدن حيوان أصلا.و إمّا الاستدارة المعنويّة أي الدائر وجودها مع وجود البدن و خرابه،و مع كلّ حالة تطرأ على البدن،حتّى أن لو فرضنا صيرورة بدن الإنسان ترابا،و فرضنا أن صنع منه إناء تبقى تلك الطينة،إمّا خارجة عن ذلك التراب المصنوع إناء،و إمّا داخلة فيه غير طارئة عليها الصورة الإنائيّة،سواء كانت متجزّية أو غير متجزّية،و إن كان يخفى ذلك على الحسّ.

و الحاصل أنّه بعد خراب البدن تبقى في القبر النطفة المنويّة المخلوطة بالتراب المعبّر عنها بالطينة،التي هي أصل أجزاء بدن الإنسان،و مبدأ تكوّنه و نشئه بمادّتها بل بصورتها أيضا،كما أخبر به الصادقون،بل ربما يدلّ بعض الأخبار على أنّه يبقى أيضا روحه الحيواني الذي يقولون إنّه جسم لطيف رقيق،و كذا التراب الذي خلق منه الإنسان،كما سيأتي بيانه فيما بعد في فصل تعديد المذاهب في النفس.

فعلى هذا فلا يلزم أن يكون بدن الإنسان معدوما بالمرّة،بل المعدوم منه على تقدير التسليم إنّما هو الأجزاء الفضلية غير الأصلية بصورتها لا بمادّتها و كذا الاتّصال الواقع بينها،و أمّا ما هو الأصل في تكوّنه،سواء كان جزءا واحدا أو أجزاء متعدّدة متفرّقة فهو باق بمادّته بل بصورته أيضا. (1)

و على هذا فالبدن المعاد عين البدن المبتدأ في الأجزاء الأصليّة،و كذا بحسب الروح الحيواني مطلقا أي مادّة و صورة،و كذا عينه باعتبار الأجزاء الفضلية،بحسب المادّة، و مثله بحسب الصورة.

و حيث عرفت ما ذكرنا حصل لك الجواب عن شبهة المنكرين للمعاد الجسماني الذاهبين إلى انعدام بدن الإنسان بالكليّة،و ظهر لك اندفاع تلك الشبهة على كلّ مذهب من المذاهب المقولة في الجسم،سواء كان مذهب الحكماء المشّائين منهم،أو الإشراقيّين،أو مذهب المتكلّمين.و تلخّص لك توجيه المعاد الجسماني أي معاد البدن

ص:86


1- -ما ذكره المؤلّف عبارة عن تسليمه بالإرادة الجزافية كما عليها أرباب الكلام.

على تقدير تلك الأقوال المشهورة في الجسم،و إن كان القولان الأوّلان المتقدّمان باطلين،و الصحيح من هذه الأقوال و المذاهب أحد المذهبين الأخيرين،أي مذهب الإشراقيّين و المشّائين،و كان مذهب الإشراقيّين أقرب إلى الصواب،و تحقيق الحقّ في ذلك لا يناسب الباب.

ثمّ إنّه قد بقي هنا مذهب آخر،هو أيضا مبنيّ على إثبات الجزء الصوري و الجزء المادّي للجسم ينبغي توجيه معاد البدن على تقديره أيضا،و هو القول بأنّ الجسم موجود بتجدّد الأمثال،ففي كلّ آن يفنى و يحدث مثله،لكن يشتبه على الحسّ فيظن أنّه موجود بوجود واحد مستمرّ.

و هذا المذهب و إن كان باطلا لابتنائه على جواز الحركة في الجوهر و التبدّل في ذات الشيء الموجود،و هو باطل كما حقّق في محلّه،لكنّه على تقديره أيضا لا يلزم انعدام البدن بالمرّة،لأنّه عليه و إن كان تنعدم صورة الجسم و تتجدّد آنا فآنا،لكنّه لا ينعدم جزؤه الآخر،أي هيولاه،بل هي باقية،و انعدام صورته ليس بقادح أصلا على هذا المذهب،إذ الجسم حين الوجود الأوّل المبتدأ أيضا كذلك ينعدم صورته آنا فآنا،و تبقى مادّته، فلا ضير في أن يكون حين الإعادة كذلك.

و على هذا المذهب أيضا يكون البدن المعاد عين البدن المبتدأ بحسب المادّة أي الهيولى و غيره أي مثله باعتبار الصور المتجدّدة كما هو حين الوجود المبتدأ المستمرّ كذلك.

ثمّ إنّ هذه العينيّة باعتبار،و الغيريّة-أي المماثلة-باعتبار آخر اللتين ذكرنا أنّهما لازمتان على تقدير القول بكلّ مذهب من المذاهب المقولة في الجسم،كما أنّهما لا يأبى عنهما العقل،بل يدلّ عليهما كما عرفت،كذلك هما ممّا لا يخالف النقل،حيث إنّ ما ورد من الأخبار و الآيات-كالآيات المتقدّمة الدالّة على أنّ البدن الخاصّ الموجود في النشأة الدنيويّة يعاد بعينه في النشأة الاخرويّة-لعلّه إشارة إلى العينيّة باعتبار آي التي قد فصّلناها على كلّ مذهب من تلك المذاهب،و أنّ ما يدلّ منها على المماثلة كقوله تعالى:

«أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ» . (1)

ص:87


1- -يس:81. [1]

و قوله تعالى: «نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَ نُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ» . (1)

لعلّه إشارة إلى المماثلة باعتبار كما فصّلناها أيضا.

و لعلّ ما ورد من أنّ ما في النشأة الاخرويّة خلق جديد،هو إشارة إلى تلك المماثلة أيضا،و سنذكر فيما بعد إن شاء اللّه العزيز تحقيق القول في أنّ المماثلة باعتبار مع العينيّة باعتبار آخر هو الأصل و العمدة فيما نحن بصدد بيانه،من إثبات المعاد على النهج الذي دلّ عليه الشرع و اقتضاه العقل،و هو أنّ المعاد يوم القيامة هو ذلك الشخص المكلّف الموجود في الدنيا نفسا و بدنا،حيث إنّ النفس عين النفس الاولى ذاتا و صفتا،و كذا الروح الحيواني،و كذا مادّة البدن و الأجزاء الأصليّة منه،و إن كانت الأجزاء الفضليّة منه و بعض صفاته و حالاته مغايرة و لا ضير فيه.

و ممّا ذكرنا يظهر أنّ ما أسنده الفاضل الأحساوي (2)إلى طائفة من القائلين بالمعاد،من أنّ الروح يتعلّق بجسم آخر غير الأوّل محلّ إشكال،إن أرادوا به المغايرة بحسب الذات.

و كذا ما أسنده إلى بعضهم من أنّه يعاد إلى بدن آخر يماثل الأوّل محلّ اشكال،إن كان المراد المماثلة في الصفات و المغايرة بحسب الذات.كما أنّ ما أسنده إلى بعضهم من أنّه يعود إلى البدن الأوّل بعينه،مشكل أيضا إن كان المراد العينيّة من كلّ الوجوه،فتدبّر.

و قد تمّ بما ذكرنا الكلام في معاد البدن و مبنى القول به،على كلّ مذهب من تلك المذاهب المعروفة التي قيلت في الجسم،و بقي الكلام في معاد النفس و مبنى القول به على كلّ مذهب قيل فيها فنقول:

ص:88


1- -الواقعة:60. [1]
2- -المجلي:492-500.

في الإشارة إلى مبنى معاد النفس

أمّا الذين قالوا بالمعاد،و مع ذلك قالوا بأنّ النفس جسم عنصري بسيط نار أو هواء أو أرض أو ماء،كما أسند الشيخ في الشفاء القول بذلك إلى بعض القدماء من الحكماء،أو حرارة غريزية أو برودة غريزية كما أسند فيه القول بهما إلى بعضهم إن عنوا بهما الجسم الحارّ أو الجسم البارد،لا المعنى الذي هو عرض،أو جسم عنصري مركّب من العناصر الأربعة،و من الغلبة و المحبّة،كما أسند القول به إلى انباذقلس (1)منهم،أو دم لطيف كما أسند القول به إلى بعضهم (2)،أو جسم بخاري هو بخار الدم،أو جوهر روحاني سار في البدن كما أسند صدر الأفاضل (3)القول به إلى جمهور المتكلّمين و عامّة الفقهاء،و أسنده الفاضل الأحساوي (4)إلى بعض المسلمين، (5)فالذي يلزم على هؤلاء الطوائف مع اختلاف مذاهبهم في النفس،و يرد عليهم في القول بمعاد النفس لو قالوا بفنائها و اضمحلالها، ما يلزم على القائلين بمعاد البدن على تقدير كلّ مذهب من المذاهب المقولة في الجسم سواء،فإنّ المفروض أنّ النفس جسم أيضا كالبدن،فكلّ ما يلزم هناك يلزم هنا.

و الحاصل أنّه يلزم عليهم أن يقولوا بإعادة النفس التي هي جسم إلى البدن الذي هو جسم أيضا و كلّ من النفس و البدن عين المبتدأ باعتبار و مثله باعتبار آخر،و المعاد على كلّ تقدير جسماني مطلقا و لو اصطلح أحد فسمّى معاد النفس روحانيّا حينئذ فلا

ص:89


1- -في الشفاء [1]المطبوع بالقاهرة:انباذقلس .
2- -راجع الشفاء،الطبيعيّات،الفنّ السادس:14،طبع القاهرة.
3- -راجع الأسفار.
4- -راجع المجلي.
5- -الحاصل أنّ القائل بعدم تجرّد النّفس و فنائها بعد الموت،ينكر المعاد الّذي هو مذهب أهل البيت و لكن لا يمكن تكفيره و إن كان متوغلا في الجهل التام.

مشاحّة،و كذلك الشخص المعاد نفسا و بدنا هو عين المبتدأ باعتبار و مثله باعتبار كما عرفت بيان ذلك كلّه فيما تقدّم.

فإن قلت:قولك لو قالوا بفناء النفس و اضمحلالها،يشعر بأنّ لهم أن لا يسلّموا ذلك،مع أنّ الشرع قد دلّ على موت النفس بموت البدن،كما ذكرت من الآيات الدالّة عليه،فكيف ذلك؟

قلت:هو كذلك،فإنّ موت البدن و تلاشي أجزائه،لمّا كان أمرا محسوسا،لا يمكن إنكاره.و أمّا اضمحلال جوهر النفس و ذاتها بموت البدن فلا دليل عليه،و ما ورد في الشرع من موت النفس،فهو غير منحصر في اضمحلال ذاتها،بل هو كما يمكن أن يكون كذلك، يمكن أن يكون بقطع علاقتها الخاصّة التي كانت لها بالنسبة إلى البدن،كما هو على مذهب المحقّقين القائلين بأنّها جوهر مجرّد روحاني باق بعد خراب البدن،ينقطع علاقتها عنه حين الموت،ثمّ يعاد علاقتها به مرّة اخرى حين البعث،كما سيأتي بيان ذلك فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

و أمّا الذين قالوا بأنّ النفس هي الأجزاء الأصليّة من البدن الباقية من أوّل العمر إلى منتهاه،و كذا بعد خراب البدن كما عدّه الفاضل الأحساوي أشهر مذاهب المتكلّمين في النفس،فالذي يلزم عليهم في معاد البدن ما يلزم في إعادة الجسم،و أمّا في إعادة النفس فلا يلزم عليهم ذلك أصلا،فإنّ المفروض على هذا المذهب عدم فنائها مطلقا،بل إنّ تلك الأجزاء الأصليّة باقية بمادّتها و صورتها،و معنى المعاد عندهم أن يتكوّن من تلك الأجزاء الأصليّة الباقية،البدن بأجزائه الفضليّة مرّة اخرى،كما خلق منها أوّل مرّة.

و أمّا الذين قالوا بأنّ النفس هي الهيكل المحسوس المشاهد،كما أسند القول به الفاضل الأحساوي إلى المتكلّمين أيضا،فهؤلاء الطائفة حيث إنّه لا يظهر منهم القول بوجود نفس سوى البدن،فإنّ الهيكل المحسوس هو نفس البدن،يلزم عليهم في القول بمعادها،ما يلزم على تقدير القول بمعاد البدن سواء.

و أمّا الذين قالوا بأنّ النفس عرض جسماني كالمزاج الواقع بين أجزاء البدن،على ما أسندوا القول به إلى جالينوس،أو التأليف و النسبة بين العناصر كما أسند الشيخ في الشفاء القول به إلى بعض القدماء،أو الحرارة الغريزية أو البرودة الطبيعية كما أسند القول بهما إلى

ص:90

بعضهم أيضا،لو عنوا بهما معنى هو عرض،فاللازم عليهم في القول بمعاد النفس إن قالوا به إعادة المعدوم بالمرّة بعينه،لأنّ العرض كما هو المحقّق عند أهل المعقول ينعدم بالكلّية بانعدام موضوعه،فلو قالوا بإعادته،فإمّا أن يقولوا بتجويز إعادة المعدوم بالمرّة،و هو باطل كما سيجيء بيانه.و إمّا أن يقولوا بامتناعها،و يصحّحوا أمر معادها بأنّ بقاء أجزاء البدن بمادّتها،أو بقاء أجزائه الأصلية بمادّتها و صورتها لو قالوا بها و بأنّها غير النفس بل هي أجزاء البدن،كاف في كون المعاد في النشأة الاخرويّة عين المبتدأ،و إن كانت النفس المعادة غير النفس الاولى المبتدأة بالذات،و مماثلة لها من وجه،حيث إنّه يجوز أن يفاض على ذلك البدن المعاد مثل ذلك المزاج الأوّل مثلا،و هذا أيضا باطل،لكونه خلاف ما يدلّ عليه العقل؛فإنّ الشخص المعاد ينبغي أن يكون هو الشخص المبتدأ نفسا و بدنا جميعا، لكونه عبارة عنها أجمع،لا بدنا وحده،و كذا هو خلاف ما يدلّ عليه الشرع كالآيات،لأنّها تدلّ على إعادة النفس الاولى أيضا كما تدلّ على إعادة البدن الأوّل المبتدأ،فتبصّر.

إلاّ أنّا لم نظفر فيما نقل من القول بالمعاد،القول بكون النفس عرضا من أحد،و إنّما ذلك القول لبعض من قدماء الحكماء الطبيعيّين المنكرين للمعاد،كما عرفت ممّا نقلناه سابقا.

و بالجملة فالمعاد على كلّ تقدير من التقديرات المذكورة،جسماني فقط.

و أمّا الذين قالوا بأنّ النفس جوهر مجرّد باق بعد خراب البدن-كما هو الحقّ و سيأتي تحقيق القول[فيه]-فهؤلاء لو قالوا بمعاد البدن أيضا كما نطق به الشرع الشريف،فالذي يلزم عليهم أن يقولوا إنّ موت النفس عبارة عن قطع تعلّقها عن البدن،و إنّ معادها عبارة عن عودها و تعلّقها مرّة اخرى بذلك البدن الأوّل المعاد الذي عرفت أنّه عين الأوّل باعتبار،و مثله باعتبار آخر،و يكون المعاد على هذا التقدير روحانيّا و جسمانيّا جميعا.

أمّا الروحاني فباعتبار عود النفس إلى البدن مرّة اخرى و هو جسم.و سيجيء بيان أنّ الشخص المعاد على هذا التقدير هو بعينه الشخص المبتدأ و أنّ لا إشكال فيه أصلا،فانتظر.

و لو قالوا بمعاد النفس فقط و لم يقولوا بمعاد البدن كما نسب ذلك إلى الحكماء الإلهيّين فالذي يلزم عليهم أن يقولوا بالمعاد الروحاني خاصّة دون الجسماني،و يرد عليهم إشكالان.

ص:91

إيراد إشكال على القول بالمعاد الروحاني فقط

الأوّل لزوم إنكار المعاد الجسماني،حيث لم يقولوا به،و هو خلاف ما نطق به الشرع، بل هو أيضا كفر،و كإنكار المعاد مطلقا.

و الثاني أنّه لا معنى حينئذ لإطلاق لفظ المعاد على عود النفس خاصّة،لأنّ معنى المعاد على ما بيّناه سابقا هو أن يكون ما فرض متعلّق الإعادة على وجود مخصوص و حال و صفة مخصوصتين،ثمّ يزول عنه ذلك الوجود و تلك الحالة و الصفة ثانيا ثمّ يعود إليه ثالثا،و هذا المعنى لا يتحقّق هاهنا،لأنّ المفروض أنّ النفس كانت موجودة حين تعلّقها بالبدن على حال و صفة مخصوصتين،ثمّ زال تعلّقها عنه،لكنّها كانت بعد خراب البدن و زوال تعلّقها عنه على ذلك النحو من الوجود و الحال و الصفة الذي كان حين التعلّق بالبدن و أنّها في الحشر أيضا تكون على ذلك النهج الذي كان قبل،فتدرك اللذّات و الآلام على حسب ما تقتضيه ذاتها،و هذا ليس من معنى المعاد في شيء،لأنّه لم يفت عنها شيء كان حاصلا لها أوّلا و يعود ذلك الشيء في الحشر.نعم أنّهم لو قالوا بمعاد البدن أيضا سواء كان عين البدن الأوّل أو غيره مطلقا،لربّما أمكن تصحيح إطلاق اللفظ،بأن يقال:إنّها كانت أوّلا متعلّقة ببدن،ثمّ زال عنها ذلك التعلّق بعد خراب البدن،ثمّ اعيد حين البعث،له تعلّق آخر بذلك البدن أو ببدن آخر،و الحال أنّهم لم يقولوا بذلك أصلا.هذا مع أنّ في صورة فرض تعلّقها ببدن آخر يكون إطلاق اللفظ بنوع من التجوّز،بخلاف صورة فرض تعلّقها بذلك البدن الأوّل،لأنّه حينئذ يكون إطلاق اللفظ على الحقيقة،و هذا من أحد الشواهد على أنّ المراد بالمعاد في الشرع هو عود النفس إلى البدن الأوّل بعينه،و سيجيء إقامة الدليل عليه.

ص:92

و بالجملة فالنظر في معنى لفظ المعاد الذي ورد به الشرع و اعتقدوا به ينفي هذا المذهب،مع قطع النظر عن أنّ فيه إنكار المعاد الجسماني الذي عرفت أنّه ضروري في الأديان.

فإن قلت:لعلّ وجه تفسير المعاد على مذهبهم كما نقله الفاضل الأحساوي عن جماعة كثيرة من أهل الحكمة،هو أنّهم جعلوا عودها إلى العالم العلوى بعد قطع العلاقة البدنيّة و فراغها عن الاشتغال بتدبير البدن،عبارة عن المعاد.

قلت:على هذا و إن سلّمنا أنّه يصحّ إطلاق لفظ المعاد،لكنّه مبنيّ على قدم النفس أو حدوثها و وجودها قبل البدن،و سنحقّق القول بأنّها حادثة بحدوث البدن،فانتظر.

على أنّا لا نسلّم صحّة إطلاق اللفظ حينئذ،لأنّ الظاهر من معنى هذا اللفظ الوارد في الشرع،أنّه عود أمر بعد ما زال بالموت،و ما فرض معادا على هذا التقدير هو لم يزل بالموت،بل بالاشتغال بتدبير البدن،و هو حياة ليس بموت.اللّهم إلاّ أن يدّعوا أنّه موت و هو كما ترى.

فإن قلت:لعلّ تفسير المعاد على هذا المذهب كما ذكره بعضهم أنّ المراد به عود الإنسان بنفسه بعد موته إلى الحياة لإيصال جزاء ما كسبت يداه.

قلت:العود إلى الحياة أيضا إنّما يصحّ إطلاقه إذا كانت الحياة زائلة عنها ثمّ عادت، و المقدّر خلافه،لأنّها كانت حيّة باقية حين ما تعلّق بالبدن و بعده إلى الحشر كما هو المفروض.

فإن قلت:لعلّ هؤلاء القائلين بالمعاد الروحاني خاصّة،كما يشعر به كلام الشيخ في الشفاء على ما نقلناه سابقا،إنّما قالوا به خاصّة و لم يتعرّضوا لإثبات الجسماني منه،لأجل داع إليه لا ينافي القول بالجسماني منه أيضا،و هو أنّ المعاد و إن كان على قسمين:

روحاني،و جسماني كما نطق به الشرع،لكن لمّا كان الجسماني منه مقبولا من الشرع و لا سبيل إلى اثباته إلاّ من طريق الشريعة و تصديق خبر النبوّة،و قد بسطت الشريعة الحقّة حال السعادة و الشقاوة اللتين بحسب البدن و كان الجسماني مفروغا عنه في الشرع القويم،فلذا لم يتعرّضوا لإثباته.و أمّا الروحاني فلمّا كان مدركا بالعقل و بالقياس البرهاني و قد صدّقته الشريعة المقدّسة أيضا و كانت السعادة و الشقاوة اللتان بحسب الأنفس ممّا

ص:93

يمكن إثباتهما بالعقل وحده،و أعظم من السعادة و الشقاوة بحسب البدن كما سيأتي بيانه، و كان الحكماء الإلهيّون رغبتهم في إصابة هذه السعادة أعظم من رغبتهم في إصابة السعادة البدنية،بل كأنّهم لا يلتفتون إلى تلك،و إن اعطوها،و لا يستعظمونها في جنب هذه السعادة التي هي مقارنة الحق الأوّل،فلذا قصّروا النظر على المعاد الروحاني و تركوا إثبات الجسماني،و هذا لا يدلّ على إنكارهم له.

قلت:ما ذكرته لا يصحّ أن يكون منشأ لترك إثبات الجسماني منه،فإنّهم لو صدّقوا بالشرع لكان ينبغي لهم أن يقولوا به و لو كان على سبيل الإجمال و إن كان على طريق الحوالة على الشرع،كما قال به الشيخ و هم لم يفعلوا هذا،كما يدلّ عليه ظواهر كلماتهم المنقولة عنهم.و هذا أيضا مخالف للشرع من جهة أنّهم لم يقولوا بما نطق به الشرع،مع كونه ضروريا في الدين،و مع أنّ أكثر السعادة و الشقاوة الواردتين في الشرع جسمانيّة، كالفوز بالجنّات و الحور و القصور و نظائرها و مقابلاتها و أنّ الروحانيّة منها نادرة.

على أنّا فيما بعد إن شاء اللّه تعالى سنقيم الدليل العقلي على إثبات أصل الجسماني منه، و أنّه ممّا يستقلّ به العقل على ما هو المقصود الأصلي من وضع الرسالة،و هذا الذي ذكرناه و فصّلناه يشبه أن يكون وجه اختلافات الناس في المعاد،حيث إنّ بعضهم أنكره و بعضهم أثبته مع اختلافهم فيه في كونه جسمانيّا فقط،أو روحانيّا فقط،أو روحانيّا و جسمانيّا جميعا،على ما فصّلناه على كلّ مذهب من المذاهب المذكورة.

و بالجملة فوجه اختلافهم في ذلك اختلاف مذاهبهم في حقيقة النفس و البدن كما يشعر به كلام الفاضل الأحساوي أيضا.

ص:94

كلام مع صدر الأفاضل

و أمّا ما يشعر به كلام صدر الأفاضل،من أن ظاهر بعض النصوص أيضا صار منشأ لذلك الاختلاف،حيث إنّ بعضها كقوله تعالى:

«وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً» . (1)

أو قوله تعالى: «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» (2)،

يدلّ على أنّ المعاد للأرواح،و أنّ الحشر على صفة التجرّد.و بعضها كقوله تعالى:

«يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ» . (3)

و كذلك سؤال إبراهيم عليه السّلام و استشكال عزير و حكاية أصحاب الكهف (4)يدلّ على أنّه للأبدان،و أنّ الحشر على صفة التجسّم،ففيه ما لا يخفى.

أمّا أوّلا فلأنّك قد عرفت ممّا فصّلناه أنّ الآيات القرآنية تدلّ على أنّ المعاد للأبدان و الأرواح جميعا،فتذكّر.

و أمّا ثانيا فلأنّ ما ادّعى أنّه يدلّ على صفة التجرّد،دلالته على ذلك غير واضحة،لأنّ معنى الإتيان فردا كما فسّره المفسّرون،الإتيان منفردا من غير مال و ولد،لا على صفة التجرّد،و كذلك قوله تعالى: «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» (5)،كما فسّروه أيضا التشبيه في أصل البدء و الإعادة.أو أنّ المراد أنّ المعاد عين المبتدأ إلى غير ذلك من المعاني التي لا مناسبة لها بالتجرّد و بكون المعاد للروح خاصّة.

و أمّا ثالثا فلأنّ قوله: «يَوْمَ يُسْحَبُونَ» -الآية-و إن كان يدلّ على إعادة الأجسام،لكن

ص:95


1- -مريم:95. [1]
2- -الأعراف:29. [2]
3- -القمر:48. [3]
4- -راجع سورتي البقرة و الكهف.
5- -الأعراف:29. [4]

لمّا كان المقصود فيه ذكر حال المكلّفين دلّ على إعادة الأرواح أيضا،و سيأتي بيان أنّ الحكايات الثلاثة أيضا تدلّ على أنّ المعاد للأرواح و الأجسام جميعا،فانتظر.

و حيث تحقّقت ما فصّلناه بطوله،فاعلم أنّ ما نقلناه سابقا عن الشارح القوشجي حيث أسند إلى أكثر المتكلّمين القول بجواز إعادة المعدوم بعينه،و إلى بعضهم و جميع الحكماء القول بامتناعها،ثمّ أسند إلى القائلين بامتناعها أنّهم لا يقولون بانعدام الأجساد،بل بتفرّق أجزائها و خروجها عن الانتفاع،و يأوّلون بذلك الظواهر الواردة في هذا المعنى.و يؤيّده قصّة إبراهيم عليه السّلام يمكن أن يكون الوجه فيما أسنده إليهم من عدم القول بانعدام الأجساد -أي بالكلّية-مبنيّا على ما فصّلناه على كلّ مذهب من المذاهب المقولة في الجسم كما عرفت وجهه.و أمّا القول بتفرّق أجزائها و خروجها عن الانتفاع،فوجهه على مذهب المتكلّمين حيث قالوا بأنّ مبادئ الجسم أجزاء لا تتجزّى ظاهر.و كذلك على مذهب الحكماء،أمّا على مذهب الإشراقيّين منهم،فيمكن أن يراد به تفرّق قطعات البدن التي تبقى فيها الاتّصالات،سواء كانت تلك القطعات أجزاء أصليّة من البدن،أو أصليّة و فرعيّة منه،و أمّا على مذهب المشّائين منهم فيمكن أن يراد به تفرّق الأجزاء المادّية،مع أنّه يمكن أن يراد به على هذا المذهب،بل على المذاهب الاخر أيضا تفرّق الأجزاء الأصليّة التي هي باقية بمادّتها و صورتها كما عرفت.

و على كلّ تقدير فإعادة البدن عبارة عن جمع تلك الأجزاء المتفرّقة مرّة اخرى كما كانت أوّلا.و لا يخفى أنّه ممّا لا يأباه العقل عند من يقول بالقادر المختار،و لا يأباه الشرع أيضا،بل يدلّ عليه،لقوله تعالى: «أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ، بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ» . (1)

و أمّا ما أسند إلى أكثر المتكلّمين،من تجويز إعادة المعدوم،فلعلّ القائلين به ذهبوا إلى أنّ الشخص المعاد يوم القيامة يجب أن يكون هو بعينه الشخص المبتدأ في الدنيا،مع جميع عوارضه و مشخّصاته،و ذهبوا أيضا إلى أنّه ينعدم بالمرّة أو في الجملة،فلذا جوّزوا إعادة المعدوم بالكليّة،أو بالجملة بعينه،و لا يخفى عليك أنّ ذلك كلّه باطل،أمّا إعادة المعدوم فسيأتي إبطالها،و أمّا القول بانعدام الجسد بالمرّة،فقد تبيّن بطلانه على كلّ

ص:96


1- -القيامة:3-4. [1]

مذهب قيل في الجسم،كما تبيّن بطلان القول بانعدام النفس بالمرّة،خصوصا على القول بأنّها جوهر مجرّد باق كما هو الحقّ.

و أمّا لزوم كون الشخص المعاد هو بعينه الشخص المبتدأ بجميع عوارضه،فلأنّه مع كونه ممتنعا،لما عرفت أنّه ينعدم عنه بعض خصوصيّاته و حالاته البدنيّة البتّة،و الحال أنّ إعادة المعدوم بعينه ممتنعة على ما سيأتي دليله،لا دليل عليه،بل الدليل يدلّ على خلافه، و على أنّ بقاء نفسه بعينها التي هي الأصل في تشخّص الشخص مع بقاء الأجزاء الأصليّة من بدنه،كاف فيما هو منطوق الشرع من المعاد،حيث إنّ بقاء هذين الأمرين،هو مناط كون الشخص المعاد،هو الشخص المبتدأ بعينه،و أنّه لا يقدح في ذلك المغايرة في بعض الصفات و من بعض الجهات،مع المماثلة فيهما على ما سيجيء تحقيق ذلك إن شاء اللّه تعالى.

و أمّا ما أسنده إلى القائلين بتفرّق الأجزاء و خروجها عن الانتفاع أنّهم يأوّلون بذلك الظواهر الواردة في هذا المعنى.و يؤيّده قصّة إبراهيم عليه السّلام،فالظاهر أنّ مرادهم من التأويل المذكور أن موت البدن فيما إذا كان متفرّق الأجزاء،عبارة عن تفرّق الأجزاء،و إعادته عبارة عن جمعها مرّة اخرى كما كانت أوّلا في الابتداء،على ما ذكرنا،و أنّ موت الشخص المكلّف عبارة عن ذلك التفرّق الحاصل في بدنه،مع قطع تعلّق نفسه عن بدنه، و أنّ إعادته عبارة عن ذلك الجمع،مع إعادة تعلّقها به مرّة اخرى،و هذا التأويل كما يمكن في المكلّف بما ذكرنا،كذلك يمكن في غير المكلّف أيضا لو قلنا بإعادته كما سيأتي تحقيق القول فيه.فلا اختصاص له بالمكلّف كما يدلّ عليه كلام آخر من الشارح المذكور و عسى أن ننقله فيما بعد.

و بالجملة فهذا التأويل و لا سيّما في المكلّف،ممّا لا مانع فيه من جهة العقل و النقل بل ربما يدّعى أنه حيث كان ظاهرا من الكتاب الكريم،كقوله تعالى: «أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ» -الآية- (1)فليس بتأويل،بل هو المصير إلى ظاهر الشرع،إذ التأويل إنّما يطلق في الأكثر على ما هو خلاف الظاهر،و لو من وجه،و هذا ليس كذلك،و كذلك التأييد الذي ادّعاه ظاهر.و يؤيّده أيضا قصّة الذي مرّ على قرية و هي خاوية على عروشها

ص:97


1- -القيامة:3. [1]

-الآية. (1)

فإن قلت:سلّمنا أنّ في القصّتين تأييدا لما ذكر من أنّ موت البدن عبارة عن تفرّق أجزائه،و إعادته عبارة عن جمعها مرّة اخرى،حيث إنّ أربعة من الطير أي الطاوس، و الديك،و الغراب،و الحمامة التي أخذها ابراهيم عليه السّلام و جزّأهنّ و فرّق أجزاءهنّ الأصليّة و الفضليّة على كلّ جبل،ثمّ دعاهنّ بإذن اللّه تعالى،فاجتمعت أجزاؤهنّ كما كانت أوّلا و عدن أحياء.فأتينه سعيا.و حيث إنّ حمار عزير(على نبيّنا و عليه السّلام)قد تفرّقت أجزاؤه و نخرت عظامه،ثمّ اجتمعت تلك الأجزاء و افيضت عليه الصورة اللحمية بإذن اللّه فعاد حيّا،كما قال تعالى:

«وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً» (2).

إلاّ أنّه ليس في القصّتين تأييد لتمام ما هو المقصود هنا،و هو أنّ المعاد أي معاد الشخص إنّما يكون بجمع أجزائه البدنيّة المتفرّقة و إعادة نفس ذلك الروح المتعلّق به أوّلا إليه ثانيا،فإنّ نفوس الحيوانات كما هو المشهور بينهم،ليست مجرّدة باقية حتّى تعاد تلك النفس مرّة اخرى إلى البدن.

و إن قيل بإيجاد نفس اخرى مثل الاولى للبدن مرّة اخرى،

قلنا فليس فيه تأييد للمقصود.

و كذلك لو قيل بأنّ في قصّة عزير عليه السّلام تأييدا للمقصود من حيث إنّ الآية تدلّ على إماتته أيضا و إحيائه مرّة اخرى،و الحال أنّ النفس الإنسانيّة و لا سيّما نفس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مجرّدة باقية.

قلنا:هذا و إن كان فيه تأييد للمقصود من هذه الجهة،لكن ليس فيه تأييد له من الجهة الاخرى،أي تفرّق اجزاء بدنه ثمّ جمعها ثانيا،حيث إنّ الظاهر في الآية الكريمة و كذا المنقول من القصّة إن كان بدنه عليه السّلام باقيا بمادّته و صورته،لم يتفرّق أجزاؤه أصلا و اعيد إليه روحه الشريفة مرّة اخرى بعد مائة عام كما في قصّة أصحاب كهف حيث إنّ اللّه تعالى أماتهم ثلاثمائة سنين و ازدادوا تسعا و لبثوا في كهفهم تلك المدّة بحيث لم يتغيّر أبدانهم،

ص:98


1- -البقرة:259. [1]
2- -البقرة:259. [2]

و لم يتفرّق أجزاؤهم و تحسبهم أيقاظا و هم رقود، (1)فأحياهم اللّه تعالى بعد المدّة بإعادة أرواحهم الشريفة إلى أبدانهم الباقية.

قلت:لا شكّ أنّ في قصّة إبراهيم،و في قصّة عزير عليهما السّلام تأييدا لما ذكر من أنّ موت البدن يمكن أن يكون بتفرّق أجزائه،و أنّ إعادته بجمعها مرّة اخرى.و أمّا التأييد لتمام المقصود فيمكن أن يكون لأجل أنّ نفوس تلك الطيور و نفس ذلك الحمار لعلّها كانت باقية بعد تفرّق أجزاء أبدانهنّ،إذ لا دليل على فناء ذوات نفوس الحيوانات بالمرّة أو بوجه بفناء أبدانهنّ و بتفرّق أجزائها،سواء قيل بأنّها أجسام عنصريّة أو روحانيّة،أو قيل بتجرّدها في الجملة،و إن كان أدون من تجرّد النفس الناطقة الإنسانيّة كما سيأتي تحقيق القول في ذلك فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

و على تقدير تسليم أنّ نفوسهنّ تنعدم بانعدام أجسادهنّ كما احتملناه سابقا من جانب المنكرين للمعاد،حيث إنّ ظاهرهم أنّ النفوس مطلقا تنعدم بانعدام الأجساد، سواء قيل بكونها أجساما أو أعراضا حالّة في الأجسام.نقول:لعلّ تأييد القصّتين لما ذكرنا إنّما هو من جهة إماتة البدن و إحيائه خاصّة،حيث إنّ المنكرين للمعاد كما نطقت بعقائدهم الفاسدة الأخبار و الآيات،إنّما استبعدوا المعاد و ظنّوا خلافه لاستبعادهم معاد البدن بعد أن صار عظاما و رفاتا و ترابا.و أمّا معاد الروح و النفس فلا يظهر ممّا حكي عنهم في الآيات و الأخبار استبعادهم له بتلك المرتبة من الاستبعاد،بل ادّعى جمهور الحكماء أنّ العقل مستقلّ في إثباته،فلذا رفع اللّه في تينك القصّتين استبعادهم له و أشار إلى أنّه كما أنّ الإماتة و الإحياء في شأن تلك الطيور و ذلك الحمار،كان بتفريق أجزاء الأبدان ثمّ جمعها مرّة اخرى،كذلك يكون في شأن غيرهنّ كما في أبدان الإنسان،و إن صارت عظاما و رفاتا و ترابا،بل احرقت فصارت رمادا و ذريت في الرياح العاصفة شمالا و جنوبا و قبولا و دبورا،فإنّ ذلك الجمع و التفريق ممكن فيها أيضا،حيث إنّ تلك الأجزاء المتفرّقة من الجسد سواء كانت بحيث تبقى فيها صورها مطلقا كما في شأن تلك الطيور حيث كانت الصورة العظميّة و اللحميّة و الريشيّة باقية فيها،أو تبقى في الجملة كما في شأن

ص:99


1- -و هم رقود:و اعلم تعلّق النفس بالبدن باقية في حال الرقود و لا معنى للإعادة و الإعادة إنّما هي بعد الموت و زوال التعلّق كما لا يخفى.و البرهان يدلّ على تجرّد النفوس الحيوانيّة تجرّدا برزخيا.

ذلك الحمار حيث كانت الصورة العظميّة باقية فيها،أو لا تبقى فيها تلك الصور،بل كانت رميما و رفاتا و ترابا و مزّقت كلّ ممزّق،كما في أكثر الموتى الذين أخبر اللّه عن بعثهم، فنسبة قدرة القادر المختار العليم الحكيم على السواء إلى جمع الجميع و إفاضة الصور الأصليّة و الفرعيّة عليها بحيث تصير عين الأوّل باعتبار الأصل،و ان كانت مثلها من جهة بعض الاعتبارات غير المنافية للعينيّة ذاتا،و كذا إعادة النفس الاولى الباقية إليها كما في شأن الإنسان الذي كلامنا فيه،و يدلّ العقل و النقل على أنّ روحه جوهر مجرّد باق، و بحيث يكون الشخص المعاد عين المبتدأ بعينه،فإنّ الكلّ ممكن بالذات غير مستحيل عقلا و لا شرعا،و هو مقدور للقادر المختار الذي لا يعجز عن شيء،و لا يعزب عنه شيء كما إذا كان البدن غير متفرّق الأجزاء باقيا بمادّته و صورته،كما في قصّة عزير عليه السّلام و قصّة أصحاب كهف.فلذلك حكى سبحانه عن عزير عليه السّلام:انّه لما أماته اللّه تعالى مائة عام ثمّ بعثه و أحياه فأمره بالنظر إلى طعامه و شرابه لم يتسنّه،و كانا باقيين على حالهما و صورتهما الأصليّة بمادّتيهما،بحيث لم يتغيّرا أصلا بمضيّ السنين،و كذا أمره بالنظر إلى حماره و بقاء عظامه و إفاضة اللّه تعالى الصورة اللحميّة عليها و جعله حيّا مثل الأوّل.

و تبيّن له ذلك «قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (1)و انّه كما يقدر على إعادة الروح إلى الجسد الباقي،كذلك يقدر على جمع الأجزاء المتفرّقة و جعلها حيّة.و كذلك قال في شأن أصحاب الكهف حيث بعثهم بعد ثلاثمائة سنين و ازدادوا تسعا بإعادة أرواحهم إلى أجسادهم الباقية. «وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَ أَنَّ السّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها» (2)و أنّه كما يقدر على إعادة الأرواح إلى الأجساد الباقية غير المتغيّرة،كذلك يقدر على جمع الأجزاء المتفرّقة من البدن و إعادة الروح إليها مرّة اخرى،و أنّ المعاد جسمانيّ و روحانيّ لا أحدهما وحده.و لعلّ اختلاف مراتب المعاد الذي أخبر عنه جلّ و علا في الكتاب الكريم كهذه القصص،و قصّة الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت فقال لهم اللّه موتوا ثمّ أحياهم، (3)و الآيات التي دلّت على وقوع المعاد و إن صارت الأجساد عظاما و ترابا و رفاتا و مزقت كلّ ممزّق إشارة إلى إمكان الجميع،و كون الكلّ مقدورا للّه تعالى،

ص:100


1- -البقرة:259. [1]
2- -الكهف:21. [2]
3- -إشارة إلى آية 243 من سورة البقرة. [3]

و أنّه في الجميع روحانيّ و جسمانيّ معا،و اللّه تعالى يعلم.

و حيث عرفت ما بيّناه عرفت أنّ ما نقله صدر الأفاضل من المتكلّمين،أنّهم حملوا الآيات و النصوص الواردة في إثبات الحشر على أنّ المراد جمع المتفرّقات من أجزاء الإنسان التي هي حقيقته و منعوا فناء الإنسان بالحقيقة،لأنّ حقيقة الإنسانية بأجزائه الأصليّة،و هي باقية،إمّا متجزّية أو غير متجزّية،ثمّ أورد عليهم بأنّه مستبعد من العقل و النقل،ليس ذلك الاستبعاد واردا عليهم،لو أرادوا بتلك الأجزاء الأجزاء الأصليّة من بدنه،كما عرفت أنّ الأحاديث المرويّة عن الصادقين عليهم السّلام تدلّ عليه،و أرادوا بجمع المتفرّقات جمع تلك الأجزاء و إعادة النفس الباقية إليها مرّة اخرى،فإنّه لا يبعد من العقل و النقل بوجه أصلا.

نعم لو أرادوا بتلك الأجزاء الأصلية الباقية أنّها عبارة عن النفس الباقية،كما نقل عن كثير منهم،سواء قالوا بانعدام البدن بالكلّية أو لم يقولوا به،لورد عليهم ذلك الاستبعاد عقلا و نقلا،إذ العقل كما يأتي بيانه يدلّ على أنّ النفس الإنسانيّة جوهر مجرّد لا أجزاء أصلية،و كذلك النقل و إن دلّ على بقاء الأجزاء الأصليّة من الموتى كما عرفت،لكن دلالته على أنّها هي النفس الإنسانيّة الناطقة غير ظاهرة بل مستبعدة.فإنّ الظاهر من النقل أيضا كما سيظهر وجهه أنّ النفس الإنسانيّة الناطقة جوهر مجرّد باق غير الأجزاء الأصليّة،كما أنّ ما نقله عنهم من أنّهم تارة جوّزوا إعادة المعدوم،يرد عليهم ذلك الاستبعاد كما بيّنا وجهه سابقا و سيأتي زيادة بيان له،فانتظر.

و حيث انتهى الكلام إلى هذا المقام فحريّ بنا أن نتكلّم في أن شيئا من النفس و الجسد، بل شيئا من أجزاء العالم،هل يجوز أن ينعدم بالكلّية أم لا؟و على تقدير جواز الانعدام، فهل يجوز أن يعاد المعدوم بعينه أم لا؟إذ هو أيضا ممّا يبتني عليه الخلاف في المعاد، و تحقيق القول فيه ممّا يتوقّف عليه إثبات ما نحن بصدده،من إثبات المعاد على النهج الذي دلّ عليه الشرع فلنبيّن ذلك في مقامين:

المقام الأوّل في الأمر الأوّل،أي جواز الانعدام و عدمه،و الثاني في الثاني،أي جواز إعادة المعدوم و عدمها.

ص:101

المقام الأوّل في جواز عدم العالم و امتناعه

اشارة

أمّا المقام الأوّل.

فنقول:قال الفاضل الأحساوي:المقدّمة الثانية،فالكلام فيها على نوعين:الأوّل في جواز عدم العالم أو امتناعه،و مذهب الإسلاميّين جوازه،و منعه طائفة من الفلاسفة، لا باعتبار ذاته،لأنّه عندهم ليس بواجب الوجود لذاته،نعم منعوه من حيث وجوب وجوده بغيره بناء على تلازم المعلول مع علّته التامّة،و أنّ عدم المعلول إنّما يكون لعدم علّته،و علّته واجب الوجود،و هو لا يصحّ عدمه.

و طائفة منعوه بناء على وجوب وجوده لذاته،و هذا مذهب مخالف لمقتضى العقول، و مناف لجميع الشرائع،فإنّ العقل الصريح حاكم بإمكانه،و أنّه ليس بقديم لذاته،و لذلك جميع الملل و الشرائع مخبرة بذلك فلا يلتفت إلى ما قالوه.

و نسبوا إلى الكرّامية القول بأبديّة العالم بعد القول بحدوثه،فإن أرادوا بأبديّته،أبديّته بفاعل مختار يوجب له البقاء،و يفيض عليه الوجود لا إلى نهاية،فذلك لا يحيله العقل، و لا ينافي أحكام الشريعة،فإنّه قد ورد فيها أنّ أهل القيامة أبديّون كما صرّحت به الآيات القرآنيّة.

و إن أرادوا أبديّته بذاته فذلك محال عقلا و سمعا،لأنّ الأبديّة الذاتية لا يتحقّق مع الحدوث الذاتي،لما بين التأبيد الذاتي و الإمكان الذاتي المستلزم للحدوث الذاتي من المنافاة الذاتيّة.نعم يصحّ أبديّته استنادا إلى علّته الممدّة له باعتبار ارتباطها به على ما مرّ.

و الذي عليه عامّة أهل الإسلام جواز عدمه بالنظر إلى ذاته،لكن يختلفون في أنّ هذا

ص:102

الجائز هل يقع أم لا؟

و مبنى خلافهم على أنّ المعدوم هل يعاد أم لا،و هي المسألة الثانية في أنّ المعدوم هل يصحّ عوده أم لا؟فمن قال منهم بجواز إعادته،قال إنّ العالم يعدم قبل القيامة ثمّ يعاد مرّة ثانية كما كان أوّلا،و من منع من إعادته،منع عدمه و قال إنّ الإعادة معناها جمع الأجزاء بعد تفرّقها و تلاشيها و تأليفها على مثل الحالة الاولى،فالمعدوم هو التأليف و هو لا يعاد بعينه،و إنّما يعاد تأليف آخر مثله،فهو في الحقيقة تأليف مبتدأ،لكن لما كان مماثلا للأوّل قيل بإعادة الأجسام باعتبار حصوله على الهيئة الاولى.

هذا رأي القائلين بأنّ المعدوم ليس شيئا.و أمّا الذين قالوا إنّ المعدوم شيء في العدم، قالوا إذا عدم الوجود بقيت الشيئيّة (1)المخصوصة،فعند العود يفيض عليها الوجود مرّة ثانية كما أفاضها عليه أوّلا.

أقول:و إلى هذا أشار بعض أهل الحكمة،بقوله:«إنّ الموجود المطلق لا يعدم أصلا،و إنّ المعدوم المطلق لا يوجد أصلا،و الإعدام و الإيجاد بالنسبة إلى الممكنات عبارة عن تفريق أجزاء صورة إلى صورة اخرى،و تبديل أوضاعه إلى أوضاع اخر.و من هذا قيل:إنّ الممكنات غير متناهية،و إنّ مظاهرها لا نهاية لها.-انتهى كلامه رحمه اللّه.» (2)

و قال المحقّق الطوسي رحمه اللّه في التجريد:«و الإمكان يعطي جواز العدم.و السّمع دلّ عليه.و نتأوّل في المكلّف بالتفرّق كما في قصّة إبراهيم عليه السّلام.» (3)

و قال القوشجي في شرحه:«اختلفوا في أنّ العالم هل يصحّ أن يعدم و يفنى أم لا؟ فذهبت الفلاسفة إلى امتناعه ذهابا إلى أنّه قديم و ما ثبت قدمه امتنع عدمه.و الكرّامية و الجاحظ إلى أنّ العالم محدث و مع ذلك ممتنع الفناء.و ذهبت الأشاعرة و أبو على إلى أنّ جواز فناء العالم يعلم بالعقل.و ذهب أبو هاشم إلى أنّه إنّما يعرف بالسمع.و المصنّف اختار أنّ جواز عدمه يعلم بالعقل،و وقوع عدمه بالسمع.

أمّا الأوّل،فلأنّه ممكن،و الممكن يجوز له العدم كما يجوز له الوجود،اذ لو امتنع عليه العدم لزم الانقلاب من الإمكان[الذاتي]إلى الوجوب[الذاتي]،و إلى هذا المعنى أشار

ص:103


1- -النسبة(خ ل).
2- -المجلي:496-497.
3- -شرح التجريد للقوشجي:493 و فيه متن التجريد أيضا.

بقوله:و الإمكان يعطي جواز العدم.

أقول:فيه نظر،لأنّ الممكن يجوز أن يمتنع فناؤه أعني العدم (1)الطارئ بعد وجوده، و لا يلزم من ذلك انقلابه من الإمكان الذاتي إلى الوجوب الذاتي،و إنّما كان يلزم،لو امتنع عليه العدم مطلقا طارئا كان أو مبتدأ،و قد مرّ بيان ذلك مستقصى في مبحث أنّ المعدوم لا يعاد.

و أمّا الثاني،فلأنّ الدلالة السمعيّة تدلّ على وقوع العدم،مثل قوله تعالى: «كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ، وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ» . (2)

و مثل قوله تعالى: «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ» . (3)

و قوله تعالى: «هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ» . (4)و الآخريّة (5)في حقّه إنّما يتحقّق أن لو بقي بعد فناء ما سواه.

و قوله تعالى: «يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ» . (6)

إلى غير ذلك من النصوص القطعيّة.

و إلى هذا أشار بقوله:و السمع دلّ عليه أي على العدم.

فقوله:و نتأوّل في المكلّف بالتفرّق كما في قصّة إبراهيم عليه السّلام إشارة إلى جواب دخل مقدّر تقديره:أنّ القول بوقوع العدم ينافي القول بالمعاد،لأنّ إعادة المعدوم ممتنعة،فإذا وقع العدم امتنع الإعادة،فلم يتحقّق المعاد.

و تقرير الجواب:أن يقال:لا إشكال في غير المكلّفين،فإنّه يجوز أن ينعدم بالكلّية و لا يعاد،و أمّا بالنسبة إلى المكلّفين،فإنّه يتأوّل[العدم]بتفرّق الأجزاء و يتأوّل المعاد بجمع الأجزاء و تأليفها بعد التفرّق.و الذي يصحّح هذا التأويل قصّة إبراهيم عليه السّلام فإنّه لمّا طلب إراءة إحياء الموتى حيث قال: «رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى» .قال اللّه تعالى في جوابه: «فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً» . (7)فإنّه يظهر منه أنّه أراد بإحياء الموتى تأليف الأجزاء المتفرّقة

ص:104


1- -عدمه(ظ).
2- -الرحمن:26-27. [1]
3- -القصص:88. [2]
4- -الحديد:3. [3]
5- -في المصدر:الآخر.
6- -الأنبياء:104. [4]
7- -البقرة:260. [5]

بالموت.»-انتهى كلامه-. (1)

و أقول:إنّ تحقيق المقام يستدعي تمهيد مقدّمة هي:أنّه قد تقرّر في موضعه أنّ الإمكان نسبة بين الماهيّة من حيث هي هي و بين الوجود و العدم،و أنّ عروضه إنّما هو عند عدم اعتبار الوجود و العدم بالنظر إلى الماهيّة و علّتها،و أنّه عند اعتبارهما أي الوجود و العدم بالنظر إلى الماهيّة و علّتها يثبت ما بالغير أي الوجوب و الامتناع بالغير.

و الحاصل أنّ الإمكان إنّما يعرض للماهيّة من حيث هي لا مأخوذة مع وجودها و لا مأخوذة مع عدمها،و كذا غير مأخوذة مع وجود علّتها و عدمها،فإنّ الإمكان نسبة بين الماهيّة من حيث هي هي و بين الوجود و العدم،أمّا إذا اخذت الماهيّة مع الوجود،فإنّ نسبتها حينئذ تكون إلى الوجود بالوجوب لا بالإمكان،و يسمّى ذلك وجوبا لاحقا،و إذا اخذت مع العدم يكون نسبتها إلى الوجود بالامتناع،لا بالامكان،و يسمّى ذلك امتناعا لاحقا، و كلاها يسمّيان ضرورة بشرط المحمول،و إذا اخذت الماهيّة مع وجود علّتها كانت واجبة ما دامت العلّة موجودة،و يسمّى ذلك وجوبا سابقا،و إذا اخذت مع عدم علّتها كانت ممتنعة،ما دامت العلّة معدومة،و يسمّى ذلك امتناعا سابقا،فكلّ موجود محفوف بوجوبين سابق و لاحق ،و كلاهما وجوب بالغير و كلّ معدوم محفوف بامتناعين سابق و لاحق و كلاهما امتناع بالغير،و لا منافاة بين الإمكان الذاتي و الوجوب و الامتناع بالغير.

إذا تمهّد هذا فنقول:إنّ العالم لمّا كان بجميع أجزائه ممكنا،و الممكن ما كان وجوده و عدمه بالنظر إلى ذاته متساويين من غير أن يكون ذاته بذاته مقتضيا لأحدهما لا على سبيل التساوي من غير مرجّح أصلا و هو ظاهر،و لا على سبيل الأولويّة الذاتيّة،على ما تقرّر في موضعه بطلانها،و إنّما المقتضي لأحدهما له هو السبب الخارج عند العلّة له، المرجّح لأحدهما،فذاته بذاته مع قطع النظر عن كلّ ما سواه-حيث كان كلّ من الموجود و العدم بالنظر إليه من حيث هو متساويين-،كما لا يأبى عن فيضان الوجود عليه بعلّته الموجدة له-سواء كان وجوده وجودا مستمرّا أبديّا أو غير أبديّ-كذلك لا يأبى عن طريان العدم عليه بزوال علّته أو جزء علّته أو شرط وجوده أو نحو ذلك،فإنّه بعد وجوده بعلّته لو امتنع عدمه لذاته و اقتضى ذاته بذاته أبديّته،لصار واجب الوجود بالذات مع

ص:105


1- -شرح القوشجي:493-494.

فرضه ممكنا بالذات و هو خلاف الفرض.و أيضا يلزم انقلاب ذاته من الإمكان الذاتي إلى الوجوب،أي وجوب الوجود أو إلى الامتناع،أي امتناع العدم،و كلاهما باطلان.

و بالجملة الأبديّة الذاتيّة تنافي الإمكان الذاتي،و ما اشتهر بينهم من أنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه،راجع إلى الامتناع الغيري،لا الذاتي،كما سنبيّنه.

و كذلك ما ادّعاه الشارح القوشجي:من أنّ الممكن يجوز أن يمتنع فناؤه-إلى آخره.

و مقصوده أنّ عدمه المطلق لعلّه كان ممكنا،و أمّا عدمه بعد وجوده فلعلّه كان ممتنعا، و امتناع هذا العدم الخاصّ،لا يستلزم امتناع العدم العامّ،أي عدم المطلق.

و لا يلزم الانقلاب من الإمكان إلى الامتناع أيضا لكون ذلك المعنى العامّ باقيا بعد، ثابتا له بحسب الذات،فذلك أيضا راجع إلى الامتناع الغيري لا الذاتي،لأنّه يرجع إلى أنّ خصوصيّة ذلك العدم الخاصّ ممتنعة،و المانع من إمكانه هو نفس ذلك الخاصّ الذي هو غير ذات الممكن،لا العدم العامّ و لا ذات الممكن.و عسى أن نأتي على تحقيق هذا المقام في موضع يليق به إن شاء اللّه تعالى.

و ممّا ذكرنا يظهر وجه صحّة ما أسنده الفاضل الأحساوي إلى عامّة المسلمين من القول بجواز عدم العالم بالنظر إلى ذاته،سواء كان مرادهم بالعدم السابق على وجوده، أو عدمه الطارئ عليه.

و كذا يظهر وجه فساد ما أسنده إلى طائفة من الفلاسفة من القول بمنع جواز عدم العالم بناء على وجوب وجوده لذاته،و إن كان هذا المذهب من الفساد بمرتبة لا يحتاج إلى بيان فساده،لكونه مخالفا لمقتضى العقول و منافيا لجميع الشرائع كما ذكره رحمه اللّه.

و كذا يظهر أنّ ما أسنده إلى طائفة من الفلاسفة من القول بمنع جواز عدم العالم لا باعتبار ذاته،لأنّه عندهم ليس بواجب الوجود لذاته،نعم منعوه من حيث وجوب وجوده بغيره،له وجه صحّة في الجملة،إلاّ أنّ في هذا المقام تفصيلا و تحقيقا.

تفصيل و تحقيق

لأنّ الكلام فيه إمّا في جميع أجزاء العالم،و في كلّ جزء جزء منه،بحيث لا يشذّ جزء، أو في بعض أجزائه على الإجمال،أو في بعض أجزائه على الخصوص،و على التقادير

ص:106

الثلاثة،إمّا المقصود بيان إمكان هذا الوجوب بالغير و إن لم يكن متحقّقا بالفعل،أو بيان وقوعه بالفعل،و على التقدير الأخير،إمّا المقصود أنّ هذا الواقع هل يمكن أن يرتفع، أو يمتنع زواله،و الحاصل أنّ العالم بجميع أجزائه أي كلّ جزء من أجزائه بحيث لا يشذّ عنها جزء لمّا كان ممكنا متساويا وجوده و عدمه بالنظر إلى ذاته،و يترجّح وجوده أو عدمه بعلّته الخارجة عن ذاته،و كان يمكن أن يفرض تحقّق علّته التامّة المستجمعة لجميع شرائط وجوده مع ارتفاع جميع موانعه،بحيث تكون مستلزمة لوجوده، و لا يتخلّف هو عنها،فكما يمكن أن يتحقّق أصل ذلك الوجوب بالغير بالنسبة إلى كلّ واحد من أجزاء العالم،و كذا بالنسبة إلى المجموع من حيث هو مجموع،كذلك يمكن أن يتحقّق أبديّة ذلك الوجوب الغيري بالنسبة إليهما إذا فرضت العلّة التامّة المستلزمة لذلك المعلول،-أي المجموع أو كلّ جزء-أبديّة دائمة،إذ لا مانع من ذلك لا من جهة ذات الممكن،و لا من جهة فرض تحقّق العلّة التامّة له كذلك.

فعلى هذا فكلّ جزء من أجزاء العالم سواء في إمكان حصول الوجوب الغيري له و أبديّته،و كذا المجموع إذ ليس هو سوى جميع الأجزاء،و الهيئة التركيبيّة اعتباريّة هنا، ليس أمرا موجودا خارجيا آخر،و على تقدير تسليم كونها كذلك فهي أيضا من أجزاء العالم كما هو المفروض،و هذا الذي ذكرنا إنّما هو بحسب الجليل من النظر و الفحص الأوّلي.

و أمّا ما يقتضيه الدقيق من النظر و الفحص الثانوي،فهو أنّه لو كان شيء من أجزاء العالم بحيث قام دليل عقليّ أو سمعيّ على أبديّته،سواء دلّ مع ذلك على امتناع زواله مطلقا، أو لم يدلّ عليه،بل على وقوع أبديّته بالفعل من غير الدلالة على امتناع الفناء و استحالته، لكان ينبغي أن يحكم عليه مع إمكان الأبديّة بوقوع الأبديّة بالفعل،مع استحالة الفناء و الزوال،أو بدونها،كما أنّه لو كان شيء من أجزاء العالم بحيث قام دليل عقليّ أو سمعيّ قطعيّ على عدم إمكان أبديّته،و على وجوب زواله و فنائه،ينبغي أن يحكم عليه به،و هذا مثل أنّا لو قلنا بأنّ الحركة و الزمان من أجزاء العالم،و حقيقتهما التقضّي و الانصرام،بحيث كلّما تجدّد جزء انقضى جزء و انعدم،لكان ينبغي لنا أن نحكم بعدم إمكان أبديّة تلك الأجزاء المعيّنة و القطعات المتصرّمة المخصوصة،و إن كنّا نحكم بأبديّة نوعهما لو قلنا بها.

ص:107

و مثل أنّا لو جوّزنا وجود قديم زماني أو دهري من جملة أجزاء العالم،سواء كان جوهرا مجرّدا أو جسما،كما ذهب إليه الفلاسفة،لكان ينبغي لنا أن نحكم بوقوع أبديّته وقوعا يمتنع زواله،حيث إنّ زواله يستلزم محالا،و هو انعدام الواجب لذاته،كما اشتهر بينهم من أنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه.

و بيانه:أنّ الممكن القديم،لو جاز وجوده لكان علّته ذات الواجب لذاته بذاته،من غير أمر آخر له دخل في العليّة،إذ لو كان هناك أمر آخر له مدخل في العليّة سواء كان شرطا أو جزءا فإمّا أنّ يكون ذلك الأمر الآخر حادثا و هو محال،إذ الحادث لا يكون له دخل في علّية وجود القديم،أو يكون قديما،فننقل الكلام إلى ذلك الأمر القديم و علّته،فينتهي إلى أن يكون علّته التامّة ذات الواجب تعالى بذاته.و حيث إنّ زوال المعلول إنّما يكون بزوال علّته التامّة أو جزء علّته أو شرطها،فلو فرض زوال ذلك الموجود القديم كان مستلزما لزوال الواجب لذاته،الذي هو علّته التامّة بذاته،و هو محال.تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

ص:108

في أبديّة الصادر الأوّل من أجزاء العالم

و مثل أنّا إذا قلنا بوجود صادر أوّل،كما قال به الفلاسفة،و كذا الإسلاميّون،سواء قيل بكونه جوهرا مجرّدا أو مادّيا،و سواء قيل بكونه قديما أو حادثا،لكان ينبغي لنا أن نحكم عليه بما حكمنا على القديم.أمّا إذا قيل بقدمه،فظاهر كما مرّ وجهه.و أمّا إذا قيل بحدوثه الزماني كما هو رأي المتكلّمين،أو بحدوثه الدهري كما هو رأي بعض أعاظم العلماء (1)و ذهبنا نحن إليه و حقّقناه في رسالتنا الموضوعة لبيان حدوث العالم (2)،و قلنا مع ذلك بتجرّده عن المادّة في ذاته،فللدليل الذي سيأتي ذكره فيما بعد على امتناع طريان الفساد على المجرّدات.و أيضا سواء قلنا بتجرّده أم لم نقل به،نقول إنّ الصادر الأوّل حيث فرض كونه صادرا أوّلا يكون مستندا إلى ذات الواجب تعالى بلا واسطه شيء آخر،فعلّته ذاته تعالى بذاته،فلو جاز انعدامه-و الحال أنّ انعدام المعلول إنّما يكون بانعدام علّته التّامة- كان مستلزما لزواله تعالى،و هو محال.

فإن قلت:إذا فرض الصادر الأوّل حادثا زمانيّا أو دهريّا،لكان ينبغي أن يقال كما حقّقته أنت في تلك الرسالة أيضا،بأنّ علّة تخصيص وجود ذلك الصادر الأوّل بذلك الجزء من الزمان الموهوم أو الدهر،-و الحال أنّ كلّ أجزائهما في الأزل متساوية في إمكان وجوده فيه،و الفاعل الموجد له تامّ الفاعليّة و القدرة و الاختيار،و الوجود خير محض، لا مانع منه-لعلّها اقتضاء العناية الأزلية و العلم بالأصلح وجود ذلك الصادر الأوّل في ذلك الجزء الذي وجد فيه.فعلى هذا فجاز أن يكون العلم بالأصلح اقتضى وجوده فيما

ص:109


1- -كالسيّد الداماد رحمه اللّه.
2- -توجد نسخة من هذه الرسالة في مكتبة مدرسة المروي بطهران.

وجد فيه،و كذا بقاء وجوده في قطعة من الزمان أو الدهر،و أنّه حيث انقضت تلك القطعة و تصرّمت،اقتضى انعدامه،لكون وجوده بعد ذلك منافيا للأصلح.و هذا ممّا ليس فيه توهّم انعدام الواجب لذاته،فإنّ العلم بالأصلح جاز أن يكون مقتضياته مختلفة باختلاف الأزمنة و منافيا بعضها لبعض،و بعبارة اخرى أنّ العلّة التامّة لوجود الممكن لمّا كانت مركّبة من الوجود و العدم،-أي من وجود علّته الفاعلة له،و وجود جميع شرائط وجوده، و من عدم الموانع منه-فجاز أن يكون ذلك المانع من وجوده الذي فرض ارتفاعه أوّلا قد حدث بعد انقضاء قدر من زمان وجوده بحدوث علّته،و يكون مانعا من وجوده،فحينئذ يمكن أن يكون انعدام الصادر الأوّل بانعدام علّته التامّة-أي بحدوث المانع الذي وجوده مستلزم لارتفاع عدمه-و هذا الإيراد على هذا التقرير يمكن أن يورد في القديم أيضا، و لا يلزم منه في الصورتين انعدام الواجب تعالى بوجه،فما الجواب؟

قلت:من المستبين عند العقل السليم،أنّ العلم بالأصلح لا يمكن أن يكون جزافيّا،بل ينبغي أن يكون متعلّقا بما هو أصلح في الواقع و في نفس الأمر.فعلى هذا نقول:إذا اقتضى العلم بالأصلح وجود الصادر الأوّل في وقته الذي وجد فيه،ينبغي أن يكون وجوده فيه أصلح في الواقع من عدمه،و كذا من وجود ما سواه مطلقا فيه،و كذا من وجوده في غير ذلك الوقت مطلقا،و حيث فرض كونه صادرا أوّلا يلزمه أن يكون ذلك لخصوصيّة فيه، و ما هي إلاّ لكون وجوده أشرف و أكمل من وجود غيره من الممكنات التي يمكن أن توجد بعده مطلقا،فإنّ علّة الشرف و الكمال هي الدنوّ من الحقّ المتعال،و أنّ كلّ ما كان متقدّما في الوجود فهو أوفر اختصاصا به تعالى،و لا سيّما إذا قلنا بترتيب وجود الممكنات،و قلنا بتقدّم صادر الأوّل على غيره بالعلّيّة أو بالطبع أو نحو ذلك،و بكونه واسطة في إفاضة الفيض كما حقّق في موضعه.

و بالجملة ينبغي أن يكون وجوده اكمل من وجود غيره مطلقا،و يكون وجود غيره أنقص منه مطلقا،حتّى وجود ضدّه الذي هو مانع عن وجوده،و رفعه من جملة رفع الموانع عنه،و لسنا نعني بذلك أكمليّة وجود هذا في ذلك الوقت الذي فرض وجوده فيه من وجود ما سواه مطلقا فيه،بل نعني به أنّ وجوده في كلّ جزء فرض من أجزاء الأزل و الأبد،أكمل من وجود ما سواه من الممكنات فيه مطلقا،فإنّ كونه صادرا أوّلا يقتضي

ص:110

كونه كذلك.

ثمّ إنّه لو اقتضى العلم بالأصلح انعدام ذلك الصادر الأوّل في وقت بعد وقت وجوده و بقائه،-و الحال أنّ تعلّق الجعل بالعدم بما هو عدم مما لا معنى له-لم يكن ذلك إلاّ لاقتضائه حينئذ وجود ما وجوده أصلح في الواقع و أشرف و أكمل من وجود الصادر الأوّل مطلقا بعد ما كان وجود ذلك الموجود الحادث أنقص منه مطلقا،و ما يكون وجوده منافيا لوجوده،مستتبعا لرفعه بالعرض حتّى يرتفع بوجوده وجوده،فلم يكن وجود الصادر الأوّل أصلح و أشرف و أكمل من وجود غيره مطلقا؛هذا خلف.

لا يقال:إنّ ما ادّعيت من أنّ الصادر الأوّل أشرف و أكمل من كلّ ما سواه من الممكنات، ينافي ما ورد من النصوص الدالّة على أنّ نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله أشرف الممكنات و أكملها،مع أنّه ليس بالصادر الأوّل،بل هو خاتم الأنبياء عليهم السّلام.و إن اوّلت ذلك بأنّ المراد أنّ روحه الشريفة و نفسه المقدّسة أشرف من الكلّ و أكمل،و هي الصادرة عن البارئ تعالى على ما دلّ عليه قوله صلّى اللّه عليه و آله:«أوّل ما خلق اللّه نوري»، (1)و إن كان بدنه الشريف صادرا عنه تعالى أخيرا،و ادّعيت أنّه يدلّ عليه أيضا حديث:«خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام». (2)

و كذا حديث:«كنت نبيّا و آدم بين الماء و الطين»، (3)فهذا ينافي ما سيجيء بيانه من أنّ النفس الإنسانيّة حادثة بحدوث البدن.

لأنّا نقول:لا منافاة،لأنّه يمكن التأويل بأنّ روح القدس الذي ورد في الأحاديث أنّه أيّده صلّى اللّه عليه و آله... (4)لأنّه أشرف من الكلّ و أشرفيّته أيضا يرجع إلى أشرفيّته صلّى اللّه عليه و آله لكونه مؤيّدا خادما له،و هذا أيضا في مرتبة البدوي و أمّا في مرتبة العودي،فهو صلّى اللّه عليه و آله أشرف من روح القدس أيضا لاكتسابه معارف و كمالات،ليست هي لروح القدس،سواء سمّي روح القدس بالروح أو بالعقل أو بالنور المحمّدي صلّى اللّه عليه و آله... (5).

و أيضا لو لم يكن ذلك الأمر الحادث الآخر ضدّا للصادر الأوّل،لم يكن وجوده منافيا لوجوده،فينبغي أن يكون ضدّا له،حتّى يكون وجوده مستلزما لانعدامه،و هذا لا يتصوّر هنا،لكون المفروض أنّ الصادر الأوّل موجود أصيل عيني،لا موجود بالعرض،

ص:111


1- -البحار 15:24،الطبع الحديث. [1]
2- -البحار 58:131-150. [2]
3- -البحار 16:402،الطبع الحديث. [3]
4- -هنا كلمات لا تقرأ.
5- -هنا قد امّحى من النسخة سطران أو أقلّ.

و لا اعتباري،سواء قيل بكونه جوهرا مجرّدا أو مادّيا،و بالجملة المفروض كونه جوهرا عينيّا.و من المقرّر عندهم أن لا ضدّ للجواهر مطلقا إذ من المستبين أنّ الشيئين المتنافيين اللذين يكون وجود أحدهما سببا لارتفاع الآخر،ما لم يكن بينهما تضادّ يكون منشأ لذلك-سواء كان ذلك هو غاية الخلاف بينهما كما في الضدّين الحقيقيّين،أم لا كما في الضدّين المشهوريّين-لم يكن وجود أحدهما منشأ لرفع الآخر،و هذا لا يتصوّر إلاّ فيما إذا كان هناك موضوع أو محلّ يمكن توارد ذينك الأمرين الضدّين و تعاقبهما على ذلك الموضوع أو المحلّ،و لا يمكن اجتماعهما فيه،و يكون وجود أحدهما فيه مزاحما لوجود الآخر فيه و منافيا له،فإنّ ما لا موضوع له أو محلّ،لا يتصوّر فيه ذلك،كما أنّ ما له موضوع أو محلّ و كان موضوعاهما و محلاّهما متغايرين لا يتصوّر فيه ذلك،و لذلك قالوا بأنّه لا تضادّ بين الجواهر،و لا بينهما و بين غيرها،بل انّه إنّما يتحقّق بين الأعراض التي يمكن أن يكون لهما موضوع واحد،كما هو المتّفق عليه بينهم،و جوّز بعضهم تحقّقه أيضا بين الصور الحالّة في محلّ واحد.

و حيث تحقّقت أن لا ضدّ للجواهر،ظهر لك أنّه على تقدير تسليم إمكان تعلّق الجعل و الإيجاد بالعدم-أي فناء الجواهر و كونه أمرا ثبوتيّا أيضا مع أنّه غير معقول-لا يمكن أن يكون الفناء ضدّا للصادر الأوّل أو القديم،بل للجواهر مطلقا،لأنّ الفناء على ذلك التقدير لا يخلو عن أن يكون قائما بالذات أو قائما بالغير،و على الأوّل يكون الفناء جوهرا لا موضوع له و لا محلّ،و المفروض أنّ الجوهر الآخر الذي فرض كون الفناء فناء له هو أيضا كذلك فلا تضادّ بينهما.و على التقدير الثاني و إن كان الفناء ذا موضوع أو محلّ،لكنّ الجوهر الآخر ليس كذلك،فلا تضادّ أيضا،إذا المتضادّان ينبغي أن يكون كلّ منهما ذا موضوع أو محلّ يمكن أن يتواردا عليه و لا يجتمعا فيه،مع أنّه يلزم على تقدير إثبات الفناء محذور آخر،و هو أنّه على تقدير عدم الفناء ثمّ وجوده ثانيا إمّا أن يكون عدم لذاته، فيلزم انقلاب ماهيّته من الامتناع الذاتي إلى الإمكان أو الوجوب الذاتيّين،و هذا محال.

و أمّا أن يكون لغيره أي بوجود ضدّه،فيلزم التسلسل و هذا أيضا محال.

و حيث أحطت خبرا بما حقّقناه ظهر لك الجواب عن السؤال على التقرير الأوّل و هو ظاهر،و منه يظهر الجواب عن السؤال على التقرير الثاني أيضا،فإنّ ذلك المانع المفروض

ص:112

كونه مانعا من وجود الصادر الأوّل لا يكون إلاّ ضدّا له و منافيا لوجوده،و قد عرفت أنّه لا يتصوّر هنا.و كذا يظهر منه الجواب عن السؤال إذا اورد في القديم،إذ القديم مع قدمه يكون صادرا أوّلا أيضا،و المفروض كونه أيضا موجودا أصيلا عينيّا جوهرا مجرّدا أو ماديّا لا ضدّ له،فتدبّر.

فإن قلت:إنّ ما ذكرت من أنّ المانع منحصر في الضدّ غير مسلّم،فإنّ المتقابلين اللّذين كلّ منهما مستلزم لرفع الآخر قد يكونان ضدّين و قد يكونان سلبا و ايجابا و قد يكونان عدما و ملكة،فجاز أن يكون فيما نحن فيه أحد من المتقابلين الأخيرين،و فيه المطلوب أيضا.

قلت:إنّ الصادر الأوّل و القديم لمّا فرض كونهما موجودين عينيّين فهما لا يكونان عدما البتّة،فبقي أن يكون ما فرض كونه مانعا عن وجودهما عدما،و قد مرّت الإشارة إلى أنّ العدم بما هو عدم لا يمكن أن يكون متعلّقا للجعل و الإيجاد أوّلا و بالذات حتّى عدم الملكة الذي يقال إنّه وجوديّ باعتبار،فإنّ العمى مثلا إنّما يكون أوّلا و بالذات بحدوث صورة و هيئة و شكل في العين يتبع ذلك عدم البصر،و حينئذ فلا يمكن أن يقتضي العلم بالأصلح إيجاد ما هو عدم لهما بالذات مطلقا سواء ذلك العدم عدم الملكة أو سلبا بحتا صرفا،بل ينبغي أن يكون بإيجاد أمر وجودي يكون هو مستتبعا لعدمهما و مستلزما له، و ما هو إلاّ ضدّهما،و قد عرفت أن لا ضدّ للجواهر.و على تقدير تسليم إمكان تعلّق الجعل أوّلا و بالذات بالعدم،فهذا العدم إن فرض كونه عدم ملكة،فينبغي أن يفرض الصادر الأوّل أو القديم ملكة،و من المقرّر عندهم أنّ عدم الملكة و إن كان عدما باعتبار،لكنّه وجودي باعتبار،و معناه عدم شيء من شأن نوعه أو جنسه تلك الملكة،فينبغي أن يكون هناك موضوع أو محلّ قام به استعداد تلك الملكة و وجودها بحيث يمكن أن يتوارد عليه استعداد عدمها،و كذا نفس ذلك العدم،فينبغي أن يكون هناك موضوع أو محلّ يتواردان عليه،و لا يمكن اجتماعهما فيه،و الحال أنّ الصادر الأوّل أو القديم حيث فرضا جوهرا مجرّدا أو جسما ليس لهما موضوع و لا محلّ،فتبصّر.

و إن فرض كون ذلك العدم سلبا محضا و نفيا صرفا فهو من حيث هو سلب و نفي و إن لم يقتض موضوعا،و لا وجوده،حيث إنّ السلب يصدق بانتفاء الموضوع أيضا،لكنّه هنا

ص:113

حيث كان سلبا لشيء و هو وجوده الصادر الأوّل أو القديم،و اقتضى مسلوبا و مسلوبا عنه اقتضى أن يكون متعلّقا به،فنقول إنّه حينئذ إمّا أن يكون قائما بالذات أو قائما بالغير،و ذلك الغير إمّا أن يكون ذلك الشيء المسلوب و المسلوب عنه أو أن يكون غيرهما.

و على التقدير الأوّل يلزم أن يكون السلب أمرا عينيّا و موجودا في الخارج أصيلا إذ القائم بالذات لا يكون إلاّ كذلك و هو محال،إذ السلب على تقدير تسليم إمكان كونه مجعولا بالذات و فرض وجوده لا يمكن أن يكون موجودا خارجيّا عينيّا أصيلا،لمنافاة هذا الفرض لفرض كونه سلبا.

و أيضا فهو على هذا التقدير لا يكون سلبا لما فرض سلبه،إذ سلب شيء ينبغي أن يكون متعلّقا به و قائما به،نحوا من التعلّق و القيام،و المفروض خلافه.

و لو فرض مع قيامه بالذات قيامه أيضا في وجوده بذلك الشيء،حتّى يكون مع قيامه بالذات قائما بالغير أيضا لزم اجتماع المتنافيين،لأنّ القيام بالغير في الوجود و القيام بالذات فيه متنافيان تنافيا بالذات.

و على التقدير الثاني-أي أن يكون السلب قائما بالغير و ذلك الغير هو ذلك المسلوب أو المسلوب عنه-يلزم أن يكون ذلك الغير من جهة كونه موضوعا أو محلاّ للسلب موجودا حتّى يصحّ قيامه به،إذ وجود القائم بالشيء تابع لوجود ذلك الشيء،و من جهة كونه سلبا له أو عنه معدوما،و هذا أيضا اجتماع المتنافيين،إذ يلزم أن يكون شيء واحد موجودا و معدوما معا و هو محال.اختلاف الجهة هنا،لا يمكن أن يكون منشأ لاجتماع الوجود و العدم،إذ هما متباينان بالذات لا يجتمعان في شيء أصلا.

و على التقدير الثالث-أعني أن يكون السلب قائما بغير ما فرض تعلّق السلب به-فمع أنّه يلزم اجتماع الوجود و العدم في ذلك الغير الذي فرض كون السلب قائما به بتقريب ما ذكر و هو محال،يلزم أنّه حيث لا تعلّق له و لا قيام بما فرض سلبه و رفعه بوجه بل بأمر آخر كما هو المفروض،لا يكون منشأ لرفع ما فرض رفعه إذ لا تعلّق له به أصلا؛هذا خلف.

و بما ذكرنا ظهر أنّ الفناء سواء فرض أمرا ثبوتيّا،أو عدم ملكة،أو سلبا محضا،لا يمكن أن يكون ضدّا للجواهر،و كذا لا يمكن أن ينتفي به جوهر ما من الجواهر،فضلا عن ما نحن بصدده،أي الصادر الأوّل أو القديم،فيظهر منه بطلان ما ذهب إليه جماعة من المتكلّمين،

ص:114

من أنّ اللّه تعالى يخلق الفناء،فيفني به الأجسام لكونه ضدّا و منافيا لها،سواء قيل بأنّه يخلق لكلّ جوهر فناء على حدة كما ذهب إليه أبو علي منهم،أو أنّ فناء واحدا يكفي لإفناء الكلّ كما ذهب إليه أبو هاشم منهم،و سواء كانوا اعتبروا الفناء ضدّا اصطلاحيّا للجواهر،كما هو ظاهر المنقول عنهم،أو أمرا منافيا للجواهر مطلقا بحيث يشمل عدم الملكة أو السلب أيضا،فتبصّر.

فإن قلت:إنّا لا ندّعي بقولنا:«إنّه يمكن أن يكون العلم بالأصلح،اقتضى انعدام شيء بعد وجوده،كالصادر الأوّل أو القديم»أنّه يمكن أن يوجد عدم ذلك و فناؤه بعده كما هو مبنى ما ذكرت،و أقمت الدليل على عدم إمكانه،بل ندّعي أنّه يمكن أن يقتضي العناية الأزليّة و العلم بالأصلح قطع الفيض و الوجود عن ذلك الشيء.

و الحاصل أنّ الممكن لمّا كان في وجوده و بقائه محتاجا إلى المؤثّر كما هو المحقّق في موضعه،سواء كان البقاء عبارة عن أمر آخر سوى أصل الوجود الأوّل،أي عن استمراره، أو عبارة عن الوجود الأوّل بحيث يبقى زمانين أو أكثر،و كان وجوده و بقاؤه جميعا مفاضين بإفاضة الجاعل له الموجد إيّاه،فجاز أن يقتضي العلم بالأصلح إبقاءه في حين، ثمّ يقتضي قطع الإفاضة و الجعل عنه و ينعدم،و هذا و إن كان فيه انعدام ذلك الشيء،لكن ليس بجعل عدمه و فنائه،بل بعدم جعل وجوده و عدم إفاضة بقائه،و في هذا ليس شيء من المفاسد التي ذكرتها في الجواب عنه.

قلت:قد ذكرنا أنّ العلم بالأصلح لا يكون جزافيّا،بل ينبغي أن يكون متعلّقا بما هو أصلح في الواقع و في نفس الأمر،و أن يكون قطع الإفاضة أصلح في نفس الأمر حين فرض القطع،كما كانت إفاضة الوجود و البقاء أصلح في الواقع حين فرضهما.فهذا القطع و هذا الذي فرض كونه أصلح في ثاني الحال كلاهما حادثان لم يكونا قبل.و من المقرّر أنّ الحادث إنّما يكون بسبب حادث بسببه حدث قطع الإفاضة و حصول الأصلح الثاني،و ما هو الاّ أحد أسباب زوال المعلول،و من المقرّر أنّ زوال المعلول إمّا بزوال علّته التامّة أو بزوال جزئها أو شرطها.و بعبارة اخرى إمّا بزوال علّته الفاعليّة،أو بزوال صورته، أو مادّته إن كان له صورة و مادة،أو بزوال شرط وجوده إن كان له شرط،أو بزوال غايته إن كانت له غاية و كان صادرا عن الفاعل المختار،كما يقولون إنّ ذات البارئ تعالى و إن كان

ص:115

فاعلا تامّ الفاعليّة فيّاضا على الإطلاق لا يفعل ما يفعله لعوض و لا لغرض دعاه إلى الفاعليّة،لكنّه لمّا كان فاعلا مختارا عليما حكيما،يترتّب على فعله مصالح و منافع،لها ارتباط بنظام الكلّ،هي غايات لفعله و إن لم تكن علّة غائيّة له و غرضا،أو بزوال الجميع، و من المستبين عدم إمكان تحقّق شيء من هذه الامور فيما نحن فيه،أي الصادر الأوّل أو القديم،لأنّ الفاعل هو اللّه تعالى و هو واجب الوجود لذاته،و المفروض أن ليس لهما شرط وجود سوى ذات الواجب لذاته العليم الحكيم كما يقولونه في الحوادث اليوميّة من الدورات الفلكيّة و الأوضاع الكوكبية و نحو ذلك و كذلك الصادر الأوّل أو القديم لو فرض كونهما مجرّدين عن المادّة،ليس لهما مادّة و هو ظاهر و لا صورة إذ صورة المجرّد ذاته بذاته،فبقي أن يكون زوالهما لزوال غايتهما،سواء فرضا مجرّدين أو ماديّين أو لزوال صورتهما أو مادّتهما لو فرضا جسمين ماديّين،و هذان أيضا ممتنعان،أمّا زوال الغاية فلأنّ غاية وجودها كما حقّق في موضعه هي التشبّه بمبدإ الكلّ جلّ شأنه أو معرفته تعالى، أو كون الوجود خيرا محضا أو نحو ذلك.و شيء من هذه لا يمكن أن ينعدم،أمّا كون الوجود خيرا محضا فظاهر،لأنّ خيريّته بالذات،و لا يمكن أن يختلف(كذا)ذاته و لا أن ينقلب إلى غيره مع كون الفاعل له خيرا بالذّات فيّاضا على الإطلاق،و كذا التشبّه بالمبدإ و معرفته لا يمكن أن ينفكّا عن ذات ما هو ذو شعور و معرفة قابل لتحصيل التشبّه و المعرفة بالغا ما بلغ كالصادر الأوّل الذي قد عرفت أنّه ينبغي أن يكون أشرف الموجودات و أكملها، أو القديم الذي هو على تقدير فرض وجوده ينبغي أن يكون كذلك.

و بالجملة ينبغي أن يكون حصول المعرفة و التشبّه فيهما أتمّ و أكمل منهما في كلّ ما سواهما من الممكنات،و الحال أنّ مراتب التشبّه و المعرفة غير متناهية،فإنّ كلّ مرتبة منهما إذا حصلت يمكن أن يحصل بعدها مرتبة اخرى أعلى منها،حيث لا يقفان إلى حدّ و مرتبة،و المفروض أن لا مانع من ذلك لا من جهة المتشبّه و لا من جهة المتشبّه به و لا من جهة العارف و لا من جهة المعروف،بل انّه كلّما ازداد التشبّه و المعرفة يكون الداعي إلى تحصيلهما أقوى،حيث إنّه يكون العارف و المتشبّه أكمل،و بهجته و سعادته أتمّ و أوفر، فما دام ذات العارف و المتشبّه موجودا لا يمكن أن ينفكّ عنه التشبّه و المعرفة،فكيف يمكن زوالهما حتّى ينعدما بزوالهما،و ينقطع إفاضة الوجود عنهما،مع أنّ إفاضة التشبّه

ص:116

و المعرفة خير بالذات كإفاضة الوجود،و مع أنّ الفاعل جلّ شأنه و تعالى خير بالذات فيّاض على الإطلاق.نعم زوال المعلول بزوال غايته إنّما يتصوّر فيما أمكن زوال تلك الغاية،كما في الحوادث الزمانيّة أو الدهريّة غير الصادر الأوّل و لا سيّما المادّية منها،مثل أنّا لو قلنا-كما هو رأي بعض الحكماء الإلهيّين-بأنّ غاية وجود بدن الإنسان الذي كلامنا في المعاد فيه،و غاية تعلّق النفس به،هي أن تستكمل به النفس،فيما يحصل به سعادتها أو شقاوتها،ثمّ تنال سعادتها أو شقاوتها،و انّها إذا استكملت به و لم تحتج إلى البدن في استكمالها تزول تلك الغاية و تنتفي،و بزوالها يعرض للبدن الفناء و الموت،إمّا بأن ينقطع عنه فيض الفاعل الفيّاض أو بأن ينقطع عنه علاقة النفس التي هي منشأ حياته بل حياته.

و بالجملة فموته و انعدامه لزوال غاية وجوده،أي لترتّب الغاية المقصودة منه عليه و حصولها بالفعل،و انّه لو بقي بعد ذلك لا يكون لوجوده تلك الغاية المقصودة المترتّبة عليه.و هذا في الموت الطبيعي،و أمّا في غير الطبيعي منه كالقتل،فالقاسر يجعل البدن بحيث لا يمكن أن يصير آلة لاستكمال النفس به،فينقطع عنه تلك الغاية قسرا،و ينقطع عنه فيض الفاعل الفيّاض،و كذا علاقة النفس به لانقطاع غايته.و أمّا زوال الصورة، أو المادّة على تقدير تجويز كون الصادر الأوّل أو القديم مركّبا منهما،فامتناعه يعلم من البيان الذي ذكرنا سابقا،حيث إنّ زوالهما فيما نحن فيه لا يمكن إلاّ بحدوث ضدّهما الذي هو أصلح في الواقع منهما.و كما أنّه لا ضدّ كذلك و لا مطلقا لذات الصادر الأوّل أو القديم إذا فرضا جوهرين مجردين،كذلك لا ضدّ مطلقا لمادّتهما مطلقا،و إن فرضناها لهما حيث إنّ المادّة لا محلّ لها و لا موضوع،و كذلك لا ضدّ لصورتهما و إن جوّزنا إمكان الضدّ للصورة لكونها ذات محلّ،إذ الضدّ لصورتهما ينبغي أن يكون أصلح في الواقع من صورتهما، و الحال أنّهما ينبغي أن يكونا بمادّتهما و صورتهما إن كانتا لهما أكمل الموجودات الممكنة حتّى من الضدّ الذي يمكن فرضه لصورتهما؛هذا خلف.

نعم زوال الشيء لحدوث ضدّه يمكن فرضه في الأجسام العنصرية الكائنة الفاسدة كما في بدن الإنسان أيضا لو قلنا-كما هو رأي الطبيعيّين منهم-أنّ سبب الموت هو استيلاء الحرارة على رطوبات البدن فتفنيها،لكونها ضدّا لها ثمّ تفنى هي بفنائها،و لهذا قالوا إنّ ما هو سبب الحياة هو سبب الموت أو قلنا بأنّ سببه أنّ البدن بورود واردات غريبة

ص:117

عليه ينحرف مزاجه عن الاعتدال الذي كان حاصلا له،فيتفرّق اتّصاله لتداعي أجزائه إلى التفرّق بالذات لو لا الجامع المانع عنه فينعدم اتّصاله بطروء ضدّه أي التفرّق و يعرض له الموت،و هذان أيضا في الموت الطبيعي ظاهر،و كذلك في غير الطبيعي منه،لأنّهما يمكن أن يحصلا بفعل القاسر أيضا و اللّه أعلم.

ص:118

في أبديّة فرد ما من أجزاء العالم

و حيث تحقّقت ما فصّلناه،تبيّنت أنّ الصادر الأوّل من أجزاء العالم أو القديم إن جوّزنا وجوده و إن كانا من حيث ذاتهما و من جهة كونهما ممكنين بالذات يجوز طريان الفناء و العدم عليهما،لكنّهما باقيان أبديّان،يمتنع عليهما الفناء من حيث وجوب وجودهما بغيرهما.فيظهر منه أنّ العالم بجملته أيضا و إن كان يمكن طريان الفناء عليه من جهة ذاته، لكنّه يمتنع ذلك عليه بالنظر إلى وجوب وجوده بغيره،لأنّه لو جاز عليه ذلك،أي على مجموع أجزائه من حيث المجموع،بالنظر إلى غيره،لجاز طريان الفناء و العدم على الصادر الأوّل و القديم أيضا،لأنّهما من جملة أجزاء العالم أيضا،فيظهر منه أنّ فردا ما من أجزاء العالم أبديّ الوجود يمتنع عليه العدم امتناعا غيريّا و هو المطلوب.و أيضا نقول لا يخفى أنّ العالم بجملته معلول للواجب تعالى شأنه،سواء قلنا بأنّ كلّه معلول له بلا واسطة و إن كان لبعضه شرط،أو بأنّ بعضه معلول له بواسطة أو شرط،و بعضه بلا واسطة و لا شرط،فحينئذ لو جاز طريان الفناء على مجموع العالم بجملته لجاز طريانه على ذلك البعض من المعلول الذي بلا واسطة و لا شرط من جملة اجزائه،و قد عرفت أنّه ممتنع بالنظر إلى العلم بالأصلح،و كون ذلك الصادر الأوّل بلا واسطة أصلح من غيره مطلقا،و أنّه لا يمكن له ضدّ.و على تقدير تسليم أنّه يجوز أن يقتضي العلم بالأصلح طريانه عليه لجهة لا نعرفها و تسليم أنّه يمكن له ضدّ،فهذا الضدّ الحادث أيضا من أجزاء العام البتّة،فيلزم أن يكون هو أبديّ الوجود مثل الصادر الأوّل و فيه المطلوب أيضا.و لو سلّمنا طريان الفناء على ذلك الضدّ أيضا فلا يمكن أن يكون ذلك إلاّ لحدوث ضدّه و هكذا فيلزم التسلسل المحال،و مع ذلك ففيه المطلوب.إذ على هذا التقدير يكون تلك الأضداد المتسلسلة

ص:119

غير المتناهية أبديّة الوجود بنوعها،فتدبّر.

لا يقال:يمكن أن يكون العلم بالأصلح اقتضى فناء الصادر الأوّل،بل فناء العالم بجملته في وقت من الأوقات كوقت قيام الساعة بقطع فيض الوجود عنها،و أن يكون الحكمة في ذلك إظهاره جلّ شأنه عظمته و جبروته و تفرّده بالعزّ و البقاء و قهر خلقه بالموت و الفناء كما دلّ عليه الآيات و الأخبار،كقوله تعالى:

«لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلّهِ الْواحِدِ الْقَهّارِ» . (1)

لأنّا نقول:إن هذا الإظهار أيضا يقتضي أن يكون هناك من يظهر عليه ذلك،و هو أيضا من أجزاء العالم كما أنّ قوله: «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ» يقتضي أن يكون هناك مملوك و يوم، و هما أيضا من أجزاء العالم فهذا أيضا يدلّ على أنّه لا ينعدم العالم بجملته،بل يبقى منه شيء في ذلك الوقت أيضا كما دلّ عليه قوله تعالى:

«وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ» (2)

حيث استثنى من شاء اللّه من ذلك و قد ذكر المفسّرون أنّ المراد بمن شاء اللّه في الآية الملائكة الأربعة أو الشهداء،و حينئذ نقول إن كان الصادر الأوّل داخلا في من شاء اللّه ففيه المطلوب،و كذا إن لم يكن داخلا فيهم لأنّ دلالة الآية على بقاء بعض من الخلق و أبديّته ظاهرة و هو المطلوب أيضا،و إن لم يكن ذلك البعض هو الصادر الأوّل.

و بالجملة فهذا الإظهار لا يتوقّف على طروء الفناء على الخلق أجمعين،و يمكن أن يكون بطروئه على غير المستثنى و لعلّ الصادر الأوّل من المستثنى،كيف و قد عرفت أنّه أشرف الممكنات،كما لا يتوقّف على طروء الفناء و العدم بالمرّة على غير المستثنى أيضا، بل يمكن أن يكون ذلك بالنسبة إلى ذوي الأنفس بطروء الموت أي بتلاشي أجزاء أبدانهم، و قطع علاقة نفوسهم عن أبدانهم،و بالنسبة إلى الأجسام غير ذوات الأنفس بتبدّل الصور و تغيّر الهيئات و الصفات و الحالات و نحو ذلك،كما قال اللّه تعالى:

«يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ» . (3)

«يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ» . (4)

ص:120


1- -غافر:16. [1]
2- -الزمر:68. [2]
3- -الأنبياء:104. [3]
4- -إبراهيم:48. [4]

«وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ» . (1)

إلى غير ذلك من الآيات و سيأتي فيما بعد إن شاء اللّه تعالى تأويل ما دلّ على فناء الكلّ،كقوله تعالى:

«كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ» . (2)

و نحوه،فانتظر،و اللّه تعالى يعلم.

ص:121


1- -الكهف:47. [1]
2- -القصص:88. [2]

في أبديّة النشأة الاخرويّة

و هذا الذي ذكرنا كلّه إنّما هو الكلام في العالم بجملة أجزائه و في بعض أجزائه في الجملة.و أمّا الكلام في بعض أجزائه على الخصوص،ففيه تفصيل أيضا،لأنّ ذلك البعض، إمّا من النشأة الاخروية أو من النشأة الدنيويّة،أمّا النشأة الاخرويّة فبقاؤها و خلودها بما فيها إمّا بأعيانها و أشخاصها كأكثرها،و إمّا بأنواعها كبعضها،مثل مأكولها و مشروبها و نحوهما ممّا دلّ عليه الدليل السمعيّ القطعيّ،و يعضده الدليل العقليّ،و بالجملة لا يظهر خلاف فيه بين المسلمين،بل ادّعى كثير من العلماء وقوع الإجماع عليه.

أمّا الأوّل،فلدلالة آيات كثيرة و أخبار متظافرة ناصّة عليه غير قابلة للتأويل،أمّا الآيات،فكقوله تعالى:

«أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» . (1)

«الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ» . (2)

«أُكُلُها دائِمٌ وَ ظِلُّها» . (3)

«سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ» . (4)

«خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ» . (5)

«أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» . (6)

«خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ» . (7)

ص:122


1- -البقرة:82. [1]
2- -المؤمنون:11. [2]
3- -الرعد:35. [3]
4- -الزمر:73. [4]
5- -المجادلة:22. [5]
6- -البقرة:39،81،217،257،275. [6]
7- -البقرة:162. [7]

«وَ كُلٌّ فِيها خالِدُونَ» . (1)

«قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها» . (2)

«فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» . (3)

«كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ» . (4)

«كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً» . (5)

إلى غير ذلك من الآيات.

و أمّا الأخبار الواردة في ذلك فكثيرة أيضا،كما يعلم بالتتبّع،و منها ما روي بطريق الرمز،إنّ الموت يقام بين الجنّة و النار في صورة كبش أملح و يذبح بشفرة يحيى عليه السّلام بأمر جبرئيل عليه السّلام. (6)

و في معناه ما روي إنّ اللّه تعالى يظهر الموت يوم القيامة في صورة كبش أملح و يأتي بيحيى عليه السّلام و بيده الشفرة فيضجعه و يذبحه و ينادي مناد يا أهل الجنّة خلود بلا موت و يا أهل النار خلود بلا موت. (7)

و لعلّ تأويله كما يستفاد من كلام بعض العرفاء،أنّ الموت أي هلاك الخلق بواحد من طرفي التضادّ يقام بين الجنّة و النار لكي يظهر بتنزّله عن مرتبته إلى مرتبة ما بين طرفي التضادّ و لينكشف حاله على أهل الجنّة و النار فيصوّر على صورة كبش أملح معدّ للذبح و القتل و يمثّل بتلك الصورة فيذبح بشفرة يحيى عليه السّلام الذي ذبح هو أيضا بالشفرة،و هو صورة الحياة و يقتل بأمر جبرئيل الذي هو مبدأ الحياة و الأرواح و محيي الأشباح بإذن اللّه تعالى،ليظهر حقيقة البقاء و الأبديّة بموت الموت و حياة الحياة.

و الحاصل-و اللّه أعلم-أنّ النشأة الاخرويّة بما فيها أبديّة و يفعل ذلك ليظهر على الخلق أنّهم خالدون فيها،و أنّ النشأة الاخرويّة بما فيها بأجمعها أبديّة باقيّة أبدا لا انقطاع لها و لا فناء و لذلك سمّيت دار القرار.

و أمّا الثاني أي معاضدة الدليل العقلي لذلك فمن وجهين:

ص:123


1- -الأنبياء:99. [1]
2- -الزمر:72. [2]
3- -الجاثية:35. [3]
4- -النساء:56. [4]
5- -الإسراء:97. [5]
6- -راجع تفسير القمّي:411،الطبع الحجري. [6]
7- -راجع الأسفار 9:312. [7]

الأوّل من جهة الغاية،و بيانه أنّ الغاية المقصودة من النشأة الاخرويّة بما فيها،كما دلّ عليه العقل و النقل أي ثواب أهل النعيم و عقاب أهل الجحيم،سوى ما دلّ دليل خارج على انقطاعه،كعقاب صاحب الكبيرة من المؤمنين أبديّة دائمة بحكم العقل،لأنّ دوام الثواب على الطاعة،و كذا دوام العقاب على المعصية،يبعث المكلّف على فعل الطاعة و يزجره عن المعصية،فيكون لطفا و اللطف واجب على اللّه تعالى كما تقرّر في موضعه،و لأنّ المدح و الذمّ دائمان،إذ لا وقت إلاّ و يحسن فيه مدح المطيع و ذمّ العاصي،و هما معلولا الطاعة و المعصية،فيجب دوام الثواب و العقاب،لأنّ دوام أحد المعلولين يستلزم دوام المعلول الآخر،إلى غير ذلك من الوجوه التي ذكرها العلماء في كتبهم.و حيث كانت الغاية المقصودة من النشأة الأخرويّة بما فيها المترتّبة عليها دائمة أبديّة يحكم العقل بوجوب أبديّة ذات الغاية أيضا إمّا بشخصها أو نوعها،إذ لا انفكاك بين الغاية و ذات الغاية،مع أنّ الفاعل تامّ الفاعليّة،فيّاض على الإطلاق و لم يعلم أيضا أنّ هناك شرطا لوجودها،يطرأ عليه الفناء حتّى يكون بانعدامه ينعدم المشروط،بل المعلوم هنا خلافه.و اللّه تعالى أعلم.

الوجه الثاني:من جهة ذوات الموجودات الاخرويّة و صورها و موادّها.و بيانه أنّه لا يخفى أنّ النشأة الاخرويّة بما فيها مخالفة بالحقيقة للنشأة الدنيويّة بما فيها،مخالفة تامّة بسببها صارت عالما آخر غيرها،و أنّ النشأة الدنيويّة بما فيها ما سوى ما دلّ الدليل على بقائه،كالصادر الأوّل أو القديم لو جوّزنا وجوده فانية كلّها،هالكة جميعها،يطرأ عليها الفناء و الزوال و لو من وجه كما سيأتي بيانه،فينبغي أن يكون النشأة الاخرويّة التي هي مخالفة لها بالحقيقة و الذات،غير قابلة للفناء و الهلاك باقية أبدا فيتحدّس من ذلك كما شهدت به الأخبار المرويّة أيضا،أنّ الموجودات الاخرويّة بسائطها و مركّباتها بصورها و موادّها-إن كانت لها-ليست من جنس الموجودات الدنيويّة التي يتطرّق إليها الكون و الفساد،و الاستحالة و الانقلاب و التغيّرات،و يطرأ عليه الزوال و الفناء أي أنّ موادّها أصفى و ألطف جوهرا من موادّ هذه النشأة،و أبعد من الكثافة التي هي منشأ التغيّر و قبول الصور المتواردة المتخالفة،كما في موادّ الأجسام العنصريّة،بل هي صافية جدّا بحيث لا يشوبها كدرة و لا كثافة مطلقا،بل لا نسبة لها إلى موادّ هذه النشأة،و كذلك صورها أتمّ وجودا و أوفر قسطا من الفيض الأعلى و أحفظ من صور هذه النشأة بل لا نسبة لها إليها،

ص:124

فلذلك لا يتطرّق إليها الفساد مع أنّ الحقّ المفيض لها فيّاض على الإطلاق لا ينقطع فيضه عمّا هو مستعدّ له.ألا ترى أنّ موادّ أجسام هذه النشأة كلّما كانت أقرب إلى الكثافة كانت أقرب إلى قبول التغيّر و الفساد،و أشدّ استعدادا لقبول الصور المتبدّلة المتبدّدة الكائنة الفاسدة،كما في العنصريّات.و كلّما كانت أقرب إلى الصفاء و اللطافة كانت أبعد من الفساد و أكثر استعدادا للصور الكاملة التامّة[الآبية] (1)عن التغيّر و الزوال،كما في الفلكيّات و موجودات عالم البرزخ و المثال،و كذلك صورها كلّما كانت أتمّ و أوفر حظّا من الوجود و أكمل آثارا،كانت أحفظ و أبعد من الفساد و من طروء (2)الضدّ عليها،كما في هذه أيضا، و كلّما كانت أقلّ قسطا من الوجود و أنقص آثارا كانت أقرب إليه،كما في الحوادث الكائنة الفاسدة أيضا،و هذا هو القول في الجسمانيات من موجودات النشأة الاخرويّة،على أنّ كثيرا منها ممّا ليست لها مادّة بل هي روحانيات مجرّدة عن الموادّ كالسعادات الروحانيّة العقليّة،و كذا الشقاوة الروحانيّة،فإنّها إدراكات روحانيّة،مدركاتها مجرّدات عن الموادّ، كذا المدرك لها.و المجرّدات لا يطرأ عليها الفساد،حيث إنّ الفساد تابع لوجود مادّة تقبله كما هو المقرّر عندهم و المفروض هنا عدم المادّة و أنّ صورها ذواتها و لا ضدّ لها.ألا ترى أنّ المعاني الكلّية حيث كانت مجرّدة عنها،كانت دائمة أبدا غير هالكة مطلقا،و كذا الأعيان المجرّدة كالعقول لو قلنا بها كذلك أيضا،إذ لا مادّة لها و صورها ذواتها و لا ضدّ لها و سيأتي تمام تحقيق ذلك فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

و كذلك كثير منها مخلوقة بلا مادّة و حادثة من غير مدّة،بل بمحض التصوّر و مجرّد التخيّل،كما شهدت به الآيات و الأخبار،قال تعالى:

«لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَ لَهُمْ ما يَدَّعُونَ» . (3)

«لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ» . (4)

و هذا-و اللّه أعلم-إمّا مبنيّ على ما ذكره بعض الحكماء من أنّ اللّه تعالى خلق النفس الإنسانيّة مجرّدة عن المادّة و جعل لها اقتدارا على إبداع الصور الغائبة عن الحواسّ بلا مشاركة الموادّ،و أن ليس ذلك بممتنع كما في إنشاء الإبداعيات عندهم،فعلى هذا

ص:125


1- -هنا كلمة لا تقرأ.
2- -يس:57.
3- -الظاهر من طروّ.
4- -الزمر:34. [1]

لا يكون لهذا القسم من الموجودات مادّة أصلا حتّى تكون قابلة للتغيّر و الفساد.و إمّا مبنيّ على أنّ اللّه تعالى لكرامته على المؤمنين يخلق ما يشتهونه فيحضره لديهم،فعلى هذا و إن سلّمنا كون مادّة له،لكنّا نقول إنّ تلك المادّة لكونها من جنس الموجودات الاخرويّة لعلّها لطيفة في الغاية روحانيّة جدّا،بعيدة عن الكثافة التي هي منشأ لسنوح التغيّر و الزوال،و أنّ الموجود الذي تلك المادّة مادّته يمكن أن يكون باقيا بشخصه أيضا كما في الحور و القصور و نظائرهما.و على تقدير تسليم كونها قابلة لطروء الزوال في الجملة فذلك الموجود باق بنوعه كما في الاكل و نحوه.

و بالجملة فموجودات النشأة الاخرى مباينة بالحقيقة لموجودات النشأة الدنيا،و كذا زمانها و مكانها بل لا نسبة لها إليها فلذا لا يمتنع فيهما وجود غير المتناهي مطلقا،لعدم التزاحم و التضايف و المباينة و المسامّة و التداخل و أمثالها فيها.و سيأتي زيادة توضيح لهذا إن شاء اللّه تعالى.

و هذا هو الكلام في جملة النشأة الاخرويّة بما فيها.

الكلام في النشأة الدنيوية

و أمّا الكلام في النشأة الدنيوية بأبعاضها و أجزائها المخصوصة.فحريّ بنا أن نتكلّم أوّلا فيما نحن بصدد بيان حاله من البدن و النفس و فنائها أو بقائها،ثمّ نتكلّم في باقي أجزاء هذه النشأة على الخصوص.

فنقول:أمّا البدن،فلا سترة في أنّ المشاهدة و العيان و العقل و النقل،دلّت على موته و هلاكه،و قد أشرنا فيما سبق إلى سبب طروء الموت على البدن على رأي الطبيعيّين، و الإلهيّين من الحكماء،و إلى كيفيّة وقوعه عليه على كلّ مذهب من المذاهب التي قيلت في الجسم،و إلى أنّه على جميع المذاهب،لا يستلزم انعدامه بالكلّية و هلاكه بالمرّة، و مع ذلك فلا بأس بإعادة البيان.

فنقول:إنّه قد عرفت أنّه على مذهب القائلين بالجواهر الفردة،أو بالأجسام الصغار الصلبة،إنّما ينعدم بالموت التأليف الخاص الحاصل بين تلك الأجزاء أو بين تلك الأجسام فقط،و لا يستلزم ذلك انعدام أصل تلك الأجزاء و الأجسام المتفرّقة،إذ لا ضدّ لها

ص:126

و لا مادّة خصوصا على القول بقدمها،كما ينسب ذلك إلى ذيمقراطيس و شيعته القائلين بالأجسام الصلبة،و كذلك على مذهب المشّائين القائلين بتركّب الجسم من الهيولى و الصورة،و إن كان ينعدم بالموت الاتّصال الذي هو أحد جزئي الجسم لكنّه يبقى الجزء الآخر أعني الهيولى إذ لا مادّة لها و لا ضدّ و خصوصا على القول بقدمها كما هو مذهبهم.

و كذلك على مذهب الإشراقيّين القائلين بأنّ حقيقة الجسم هو الاتّصال،و ذلك الأمر المتّصل من دون إثبات مادّة سواه و إن كان ينعدم بالموت الاتّصال الذي هو حقيقة الجسم لكنّه لا ينعدم بالمرّة،فانّ انعدامه كذلك إنّما يمكن أن يكون إذا طرأ الانفصال على كل حدّ من حدود الاتّصال الذي في الجسم و هو ممتنع إذ طروؤه كذلك يستلزم خروج جميع الانقسامات الممكنة في الجسم إلى الفعل و هو محال.على أنّه يمكن القول ببقاء الأجزاء الأصليّة التي كانت للبدن كما نطق به الشرع على كلّ مذهب من تلك المذاهب،و لا شكّ أنّ بقاءها ممّا هو منشأ للحكم بعدم انعدام البدن بالمرّة و هذا ظاهر.

و أمّا النفس،فلا يخفى أنّ الشرع ناطق بأنّها ذائقة الموت،فينبغي أن يشار إلى أنّه كيف هو.فنقول:إنّه على مذهب من يقول إنّها من الأعراض الحالّة في البدن،ينبغي القول بانعدامها بالكلّية فإنّ العرض ينعدم بالمرّة بانعدام موضوعه و لو في الجملة.و على مذهب من يقول بأنّها جسم،ينبغي القول بانعدامها مثل انعدام الجسم أي البدن،كما مرّ.

و أمّا على مذهب من يقول إنّها جوهر مجرّد باق كما هو الحقّ-و سيأتي تحقيقه إن شاء اللّه تعالى-فينبغي القول بأنّ موتها عبارة عن قطع تعلّقها عن البدن من غير أن يستلزم انعدام ذاتها و حقيقتها،و حيث عرفت ذلك فاعلم:أنّ بقاءها بعد خراب البدن،ممّا دلّ عليه الشرع،و يؤيّده العقل بل الإجماع أيضا.قال الشارح القوشجي في شرح التجريد في قول مصنّفه:«و لا تفنى بفنائه»:اتّفق القائلون بمغايرة النفس للبدن على أنّها لا تفنى بفنائه،و دليل المتكلّمين على ذلك النصوص من الكتاب و السنّة و إجماع الامّة،و هي من الكثرة و الظهور بحيث لا تفتقر إلى الذكر،و أمّا الفلاسفة فقالوا:يمتنع فناء النفس-إلى آخر ما نقله عنهم من الدليل العقلي عليه-. (1)

ص:127


1- -شرح القوشجي:270.

في بيان الدليل السمعي على بقاء النفس الإنسانيّة بعد خراب البدن

فلنشر إلى نبذ من الدليل الشرعي و العقلي على ذلك:

فنقول:أمّا دلالة الكتاب عليه فلقوله تعالى:

«وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ» . (1)

إذ لا سترة في أنّ تلك الحياة و المرزوقيّة و الفرح و الاستبشار،إنّما هي بحسب نفوسهم الباقية،لا بحسب أبدانهم الداثرة الهالكة،و حيث لم يقيّد ذلك بوقت دون وقت فيعلم منه أنّه حاصل لهم في جميع الأوقات بعد القتل في سبيل اللّه،فيلزم منه بقاء نفوسهم بعد خراب أبدانهم أبدا و هو المطلوب.

و قوله تعالى في حال مؤمن آل يس: «قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ» . (2)

على ما قال المفسّرون،إنّ قومه قتلوه فأدخله اللّه الجنّة و هو حيّ فيها يرزق.

و أمّا دلالة السنّة،فلما رواه الشيخ الصدوق ابن بابويه(عليه الرحمة)في الفقيه عن الصادق عليه السّلام،انّه قال:إذا قبضت الروح فهي مظلّة فوق الجسد روح المؤمن و غيره ينظر إلى كلّ شيء يصنع به فإذا كفّن و وضع على السرير و حمل على أعناق الرجال عادت الروح إليه،و دخلت فيه فيمدّ له في بصره فينظر إلى موضعه من الجنّة،أو من النار فينادي بأعلى صوته إن كان من أهل الجنّة:عجّلوني،عجّلوني،و إن كان من أهل النار:ردّوني،

ص:128


1- -آل عمران:169. [1]
2- -يس:26-27. [2]

ردّوني،و هو يعلم كل شيء يصنع به،و يسمع الكلام. (1)

و لما رواه عنه عليه السّلام إنّه قال:إنّ الأرواح في صفة الأجساد،و في شجرة من الجنّة تتساءل و تتعارف فإذا قدمت الروح على الأرواح تقول دعوها فقد افلتت من هول عظيم، ثم يسألونها ما فعل فلان و ما فعل فلان؟فإن قالت لهم:تركته حيّا ارتجوه،و إن قالت لهم:

قد هلك،قالوا هوى هوى. (2)

و عن محمّد بن مسلم قال:قلت لأبي عبد اللّه(صلوات اللّه عليه):الموتى نزورهم؟ فقال:نعم.قلت:فيعلمون بنا إذا آتيناهم؟فقال:اي و اللّه،إنّهم ليعلمون بكم،و يفرحون بكم،و يستأنسون إليكم.قال:قلت:فأيّ شيء نقول إذا آتيناهم؟فقال:قل:اللّهم جاف الأرض عن جنوبهم-الحديث-. (3)

و عن إسحاق بن عمّار أنّه سأل أبا الحسن الأوّل(صلوات اللّه عليه)عن المؤمن يزور أهله؟فقال:نعم.قال:في كم؟فقال:على قدر فضائلهم،منهم من يزور كلّ يوم،و منهم من يزور في كلّ يومين،و منهم من يزور في كلّ ثلاثة أيّام-الحديث-. (4)

و لما رواه الشيخ الطوسي(عليه الرحمة)في التهذيب،عن مروان بن مسلم عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام قال:قلت له:إنّ أخي ببغداد و أخاف أن يموت فيها.قال:ما تبالي حيث ما مات،إنّه لا يبقى مؤمن في شرق الأرض و غربها إلاّ حشر اللّه روحه إلى وادي السلام،قال:قلت:جعلت فداك و أين وادي السلام؟قال:ظهر الكوفة،أما إنّي كأنّي بهم حلق حلق قعود يتحدّثون. (5)

و عن يونس بن ظبيان قال:كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام جالسا.فقال:ما يقول الناس في أرواح المؤمنين؟قلت:يقولون تكون في حواصل طيور خضر في قناديل تحت العرش.

فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:سبحان اللّه،المؤمن أكرم على اللّه من ذلك أن يجعل روحه في حوصلة طائر أخضر،يا يونس إذا قبضه اللّه تعالى صيّر روحه في قالب (6)كقالبه في الدنيا،

ص:129


1- -من لا يحضره الفقيه:1:193.
2- -من لا يحضره الفقيه:1:193،و في بعض النسخ:«اقبلت»مكان«أفلتت».
3- -من لا يحضره الفقيه 1:181.
4- -من لا يحضره الفقيه 1:181.
5- -تهذيب الأحكام 1:466،طبع نجف.
6- -«في قالب»و المراد من القالب في المقام،البدن المثالي الذي تحت تصرّف الروح المجرّد العقلاني و من بلغ روحه في عالم الجبروت يقع شعاع الروح على قالبه المثالي.

فيأكلون و يشربون فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا. (1)

و عن أبي بصير قال:سألت أبا عبد اللّه عن أرواح المؤمنين،فقال:في الجنّة على صور أبدانهم،لو رأيتهم لقلت فلان. (2)

و قد قال شارح الفقيه في شرحه له:«و در حديث حسن كالصحيح از حضرت صادق عليه السّلام منقول است كه پرسيدند از آن حضرت از ارواح مؤمنان،پس حضرت فرمودند كه در حجره هاى بهشتند و از طعام و شراب بهشت مى خورند،و مى گويند كه پروردگارا روز قيامت را بزودى واقع ساز،و وعده اى كه به ما فرموده اى آور،و آخر ما را ملحق ساز به أوّل ما».

و قال أيضا:«و در حديث كالصحيح منقول است از حبه عرني كه در خدمت حضرت امير المؤمنين عليه السّلام به ظهر كوفه رفتم كه صحراى نجف است و مسمّى به وادى السلام است.حضرت در آنجا ايستادند،و گويا با جمعى صحبت مى داشتند.من آن قدر ايستادم كه تنگ آمدم،نشستم.مدّتى ديگر برخاستم،ديگر آن مقدار ايستادم كه مانده شدم.ديگر مدّتى نشستم تا به تنگ آمدم،برخاستم و رداى خود را بر خود گرفتم و عرض كردم كه يا امير المؤمنين!بسيار تعب كشيديد از ايستادن،ساعتى بنشينيد و استراحت فرماييد.بعد از آن،رداى خود را انداختم كه شايد بر آن نشيند.پس حضرت فرمودند كه با مؤمنان صحبت مى داشتم و ايشان را انس مى دادم.گفتم:يا امير المؤمنين! چنين است كه صحبت با مؤمنان مى داشتيد؟حضرت فرمودند:كه اگر حجاب برخاسته شود از نظر تو،ايشان را خواهى ديد كه حلقه حلقه زده اند با يكديگر صحبت مى دارند.

گفتم:اجسامند يا ارواح؟حضرت فرمود كه ارواحند،و هر مؤمنى كه در هرجا بميرد خطاب به روح او مى رسد كه برو به وادى السلام و آن بقعه اى است از جنّت عدن».

و قال أيضا:«و در حديث صحيح از ضريس كناسى منقول است كه سؤال كردم از حضرت امام محمّد باقر(صلوات اللّه عليه)كه مردم مى گويند كه آب فرات از بهشت بيرون مى آيد چگونه چنين باشد و حال اين كه از جانب مغرب مى آيد و آبها از چشمه ها و رودخانه ها داخل او مى شود؟پس حضرت فرمودند كه حقّ سبحانه و تعالى بستانى

ص:130


1- -تهذيب الأحكام 1:466.
2- -تهذيب الأحكام 1:466.

آفريده است در مغرب،و اين آب از آنجا مى آيد و ارواح مؤمنان به آنجا مى روند هر شام و از ميوه هاى آن مى خورند و تنعّم مى كنند،و با يكديگر ملاقات مى كنند و يكديگر را آشنايى مى دهند تا صبح.و چون صبح مى شود در ميان آسمان و زمين طيّارند و سيّارند و با يكديگر ملاقات مى كنند و يكديگر را مى شناسند.و حقّ تعالى در مشرق آتشى آفريده است كه مسكن ارواح كفّار است.و خوردن ايشان از زقوم است كه خوراك اهل جهنّم است و آشاميدن ايشان از آب جوشان آنجاست در شبها و چون صبح طالع مى شود مى روند به برهوت كه وادى است در يمن كه از آتشهاى دنيا گرمتر است و در آنجا با هم ملاقات مى نمايند و آشنايى مى دهند و چون شب مى شود باز به آتش مى روند و حال ايشان چنين است تا روز قيامت.پس گفتم كه حال آن جماعتى كه اقرار رسول خدا دارند و امام زمان خود را نمى شناسند و عداوت با اهل بيت ندارند از مستضعفين،حال ايشان چون است؟حضرت فرمودند كه ايشان در قبرهاى خود خواهند بود و عقاب نخواهند داشت و اما مستضعفانى كه كارهاى خوب كرده اند نسيمى از بهشت دنيا به ايشان مى رسد تا روز قيامت و بعد از آن كار ايشان با خداست،اگر مى خواهد به استحقاق ايشان را به جهنم مى فرستد و اگر مى خواهد به تفضّل،ايشان را به بهشت مى برد.

و همچنين است حال جمعى كه عقل صحيحى نداشته باشند و حال اولاد آنها كه امام زمان خود را نشناخته باشند و به حدّ بلوغ نرسيده باشند،امّا آنها كه امام زمان خود را نشناخته باشند و مستضعف نباشند،از قبرهاى ايشان راهى به جهنم است كه از زبانۀ آتش آن و دود و جوشش حميم آن به ايشان رسد تا قيامت و بعد از آن ايشان را به جهنم برند و در آتش سوزند،و ايشان را گويند كه چرا متابعت امام زمان خود نكرديد كه حق سبحانه و تعالى از جهت شما مقرّر كرده بود؟و اطفال مؤمنين،پس ايشان ملحق به پدران خود خواهند شد به حسب ظاهر آيات و أحاديث متواتره و خواهد آمد در كتاب نكاح.-انتهى موضع الحاجة من كلامه.» (1)

و بالجملة أنّ الأخبار الدالّة على بقاء النفس الإنسانيّة،بعد خراب البدن متظافرة

ص:131


1- -لوامع صاحبقراني [1]للمجلسي الأوّل(ره)1:360-361.

متواترة،ناصّة عليه،غير قابلة للتأويل،و الاستقصاء يوجب الإطناب،و فيما نقلناه كفاية للطلاب و غنية لاولي الألباب و دلالة على بقاء نفوس المؤمنين و الكفّار و الفسّاق و المستضعفين و الأطفال جميعا.و يدخل في المستضعفين البله و المجانين،و سنذكر فيما بعد إن شاء اللّه تعالى شرح هذه الأخبار التي نقلناها و غيرها،و كذا بيان ما لعلّه يحتاج إلى البيان في هذا المقام،فانتظر.

ص:132

في بيان الدليل العقلي على بقاء النفس الإنسانيّة بعد خراب البدن

اشارة

و أمّا الدليل العقلي على بقاء النفس الإنسانيّة بعد خراب البدن فقد ذكره الحكماء في كتبهم من وجوه عديدة كلّها مبنيّة على كون النفس الإنسانيّة جوهرا مغايرا للبدن، و أجزائه بسيطا مجرّدا عن المادّة في ذاته،كما هو المقرّر عندهم،و هو الحقّ كما سيأتي تحقيقه فيما بعد إن شاء اللّه العزيز.

و بعضها مع ابتنائه على ذلك،مبنيّ أيضا على مقدّمة مقرّرة عند الحكماء أيضا و إن كانت غير تامّة عند التحقيق،هي أنّ كلّ حادث مسبوق بمادّة إلاّ أنّا لا نبالي بذكر نبذ من تلك الدلائل و توضيحها و تلخيصها،و دفع ما عسى أن يورد عليها و إن كان موجبا للإسهاب و الإطناب.

من جملة الدلائل عليه

فنقول:ربّما يمكن الاحتجاج على هذا المطلب،بأنّ فساد كلّ فاسد إمّا بورود ضدّه عليه،و هذا غير متصوّر هنا،لأنّك قد عرفت فيما سبق أن لا ضدّ للجوهر المجرّد عن المادّة،و إمّا بزوال أحد من أسبابه الأربعة الفاعل و الغاية و المادّة و الصورة،و هذا أيضا غير متصوّر هنا،إذ فاعل النفس هو الأوّل تعالى شأنه و غايتها هو التشبّه به تعالى أو معرفته و ذلك لا يتصوّر فيه الزوال و الفناء كما عرفته أيضا،و ليس لها مادّة و لا صورة كما هو المفروض.أمّا نفي المادّة فظاهر،و أمّا نفي الصورة فلأنّ صورة المجرّد ذاته بذاته، و ليس أيضا فيها شرط لوجودها تنتفي هي بانتفائه.و حيث كان كذلك فهي باقية أبدا لا يطرأ عليها الفساد و الفناء أصلا و هو المطلوب.

ص:133

في الحجج التي اعتمد أفلاطون فيه عليها

و قد نقل بعضهم عن أفلاطون،أنّه اعتمد في بقاء النفس الإنسانيّة على ثلاث حجج:

أحدها:أنّ النفس تعطى كلّ ما توجد فيه حياة.

و الثانيّة:أنّ كلّ فاسد فإنّما يفسد من قبل رداءة فيه.

و الثالثة:أنّ النفس متحرّكة من ذاتها.

و شارحوا كلامه،قد تبيّنوا الحجّة الاولى،بأنّ النفس تعطى الحياة أبدا كلّ ما توجد فيه، و كلّ ما كان كذلك فالحياة جوهرية له أي ذاتيّة له،فلا يمكن أن يقبل ضدّ الحياة أي الموت،فالنفس لا تقبل الموت.

و الحجّة الثانية بأنّ الرداءة مقترنة بالفساد و الفساد مقترن بالعدم،و العدم مقترن بالهيولى،فالرداءة مقترنة بالهيولى،و حيث لا هيولى فلا عدم فلا فساد،و حيث لا فساد فلا رداءة،فالهيولى معدن الرداءة و ينبوع الشرّ و أصله الذي منه يتفرّع،و مقابل هذه الرداءة الجودة،فإنّها مقترنة بالبقاء،و البقاء مقترن بالوجود و الوجود هو أوّل صورة أبدعها البارئ عزّ و جلّ.و حيث كانت النفس غير هيولانية فلا فساد يطرأ عليها.

و الحجّة الثالثة:بأنّ النفس متحرّكة من ذاتها دائما حركة جولان و رويّة هي حياتها، تارة نحو العقل فتستنير به و تستفيد منه،و تارة نحو الهيولى فتنيرها و تفيدها حركة خارجة عن الحركات الستّ الجسمانيّة،غير داخلة تحت الزمان،بل فوق الزمان و فوق الحركات الطبيعية و فوق الطبيعية.و كلّ ما كانت حركته من ذاته حركة كذلك فهو باق،لأنّ حركته مع كونه خارجة عن الزمان و التكوّن و أشبه بالدهر و السرمد غير زائلة و ما كان غير زائل،فهو ثابت.

هذا ما ذكروه في شرح تلك الحجج الثلاث،و سنذكر زيادة شرح لها إن شاء اللّه تعالى.

ص:134

في ذكر برهان أقامه الشيخ في الشفاء على هذا المطلب

اشارة

ثمّ إنّ الشيخ في الشفاء بعد ما برهن على أنّ النفس الإنسانيّة غير مادّية،و بيّن حدوثها و كيفيّة انتفاعها بالحواسّ،برهن على أنّها لا تفسد و لا تموت (1)بموت البدن،بأنّ كلّ شيء يفسد بفساد شيء آخر،فهو متعلّق به نوعا من التعلّق،إذ بفساد المباين من كلّ وجه للشيء لا يفسد الشيء،و هذا التعلّق لا يخلو عن أن يكون تعلّق المكافئ في الوجود، أو تعلّق المتأخّر في الوجود،أو تعلّق المتقدّم في الوجود،و الأقسام ثلاثة،لا رابع لها.

و على الأوّل أي أن يكون تعلّق النفس بالبدن تعلّق المكافئ في الوجود أعني أن لا يكون بينها علّيّة و لا معلوليّة،بل كانا معلولي علّة ثالثة متكافئين في الوجود و متضايفين،فحينئذ إن كان ذلك التكافؤ و التضايف ذاتيّا لهما لا عارضا كما في المتضائفين الحقيقيّين،كان كلّ واحد منهما مضاف الذات إلى صاحبه،و حقيقتهما نفس تلك الإضافة،فلا يكون النفس و لا البدن جوهرين،لكنّهما جوهران؛هذا خلف.و إن كان ذلك أمرا عرضيّا لا ذاتيّا كما في المتضائفين المشهوريين،كان فساد أحدهما موجبا لبطلان العارض الآخر من الإضافة،لا لبطلان ذات الآخر من حيث هذا التعلّق،فلا يلزم من فساد البدن بطلان ذات النفس بل بطلان عارضها من الإضافة.

و على الثاني أي أن يكون تعلّق النفس بالبدن،تعلّق المتأخّر عنه في الوجود أي أن يكون البدن علّة النفس في الوجود و الحال أن العلل أربع،و لا يحتمل كونه علّة غائية لها، فإمّا أن يكون البدن علّة فاعليّة للنفس،معطية للوجود لها،و هذا محال.إذ يستحيل أن تفيد الأعراض و الصور القائمة بالموادّ وجود ذات قائمة مجرّدة عن المادّة في ذاتها،و إمّا

ص:135


1- -الشفاء، [1]الطبيعيات،الفصل الرابع في أنّ الأنفس الإنسانيّة لا تفسد:202،طبع القاهرة.

أن يكون البدن علّة قابلية لها على سبيل التركيب كالعناصر للأبدان أو بسبيل البساطة كالنحاس للصنم،و هذا أيضا محال لأنّا قد بيّنا و برهنّا أنّ النفس ليست منطبعة في البدن بوجه من الوجوه،فلا يكون البدن إذن متصوّرا بصورة النفس لا بحسب البساطة و لا بحسب التركيب،بأن يكون أجزاء من أجزاء البدن،تتركّب و تتمزّج تركّبا و مزاجا، فينطبع فيها النفس.و إمّا أن يكون البدن علّة صورية أو كماليّة للنفس.و هذا أيضا محال،بل الاولى أن يكون الأمر بالعكس إن كان هناك تفرض العلّة الصوريّة أو الكماليّة،فإذن ليس تعلّق النفس بالبدن،تعلّق معلول بعلّة ذاتية.و إن كان المزاج و البدن علّة بالعرض للنفس فإنّه إذا حدث مادّة بدن تصلح أن تكون آلة للنفس و مملكة له،أحدثت العلل المفارقة النفس الجزئية،فإنّ إحداثها بلا سبب يخصّص إحداث واحد دون واحد محال،و مع ذلك فإنّه يمنع عن وقوع الكثرة فيها بالعدد لما قد بيّناه،و لأنّه لا بدّ لكلّ كائن بعد ما لم يكن من أن يتقدّمه مادّة يكون فيها تهيّؤ قبوله و تهيّؤ نسبته إليه كما تبيّن في العلوم الاخرى و لأنّه لو كان يجوز أيضا أن يكون نفس جزئية تحدث،و لم يحدث لها آلة بها تستكمل و تعقل، لكانت معطّلة في الطبيعة و إذا كان ذلك ممتنعا،فلا قدرة عليه،و لكن إذا حدث التهيّؤ للنسبة و الاستعداد للآلة،يلزم حينئذ أن يحدث من العلل المفارقة شيء،هو النفس.و ليس ذلك للنفس فقط،بل كلّ ما يحدث بعد ما لم يكن من الصورة،فإنّما يرجّح وجوده عن لا وجوده استعداد المادّة له و صيرورتها خاصّة به،و حيث ظهر أنّ حدوث النفس إنّما هو بحدوث البدن،من غير أن يكون البدن علّة ذاتية لها فنقول:ليس إذا وجب حدوث شيء عند حدوث شيء،وجب أن يبطل مع بطلانه،بل إنّما يكون ذلك إذا كان ذات الشيء قائما بذلك الشيء،و فيه،و قد يحدث امور عن امور و تبطل تلك الامور و تبقى تلك الامور إذا كانت ذاتها غير قائمة فيها،و خصوصا إذا كان مفيد الوجود لها شيء آخر غير الذي إنّما يتهيّأ إفادة وجوده مع وجوده،و مفيد وجود النفس هو غير جسم و لا هو قوّة جسم،بل هو لا محالة ذات قائمة مبرّاة عن الموادّ و عن المقادير.و إذا كان وجود النفس من ذلك الشيء البريء عن المادّة القائمة بذاتها و كان يحصل من البدن وقت استحقاقها للوجود فقط، فليس للنفس تعلّق بالبدن في الوجود و لا البدن علّة لها إلاّ بالعرض،و لا التعلّق بينهما على نحو يوجب أن يكون البدن متقدّما بالعلّية عليها حتى تفسد النفس بفساد علّته أي البدن.

ص:136

و على الثالث:أي أن يكون تعلّق النفس بالبدن تعلّق المتقدّم في الوجود،أعني أن يكون النفس علّة للبدن،فإمّا أن يكون التقدّم مع ذلك زمانيّا فيستحيل أن يتعلّق وجود البدن بها و قد تقدّمته في الزمان،و إمّا أن يكون التقدّم بالذات لا بالزمان،و هذا النحو من التقدّم هو أن يكون الذات المتقدّمة في الوجود كما توجد،يلزم أن يستفاد عنها ذات المتأخّر في الوجود،و حينئذ إذا فرض عدم المتأخّر لا يوجد أيضا هذا المتقدّم في الوجود،لكن لا لأجل أنّ عدم المتأخّر أوجب عدم المتقدّم،فإنّ عدم المعلول لا دخل له في عدم العلّة،بل لأجل أنّ عدم المتأخّر أمارة أنّه قد عرض للمتقدّم عدم في نفسه، فعرض العدم للمتأخّر بسبب عروضه على المتقدّم حيث إنّ عدم المعلول إنّما يكون بسبب عدم علّته لكن في نفسها لا باعتبار عدم معلولها،فعدم العلّة بسبب فساد في نفسها و عدم المعلول بتبعية عدم علّتها،و إذا كان كذلك فيجب أن يكون السبب المعدم يعرض أوّلا في جوهر النفس فيفسد معه البدن،و أن لا يكون البدن البتّة يفسد بسبب يخصّه،لكن فساد البدن يكون بسبب يخصّه من تغيّر المزاج و التركيب،فمحال أن يكون النفس تتعلّق بالبدن تعلّق المتقدّم بالذات،ثمّ يفسد البدن البتّة بسبب في نفسه،فليس إذن بينهما هذا التعلّق.و إذا كان الأمر على هذا فقد بطل أنحاء التعلّق كلّها و بقي أن لا تعلّق للنفس في الوجود بالبدن،بل تعلّقها في الوجود بالمبادئ الاخر التي لا تستحيل و لا تبطل.

دليل آخر منه

و أيضا نقول:لا يجوز أن يكون سبب من الأسباب يعدم النفس،و ذلك لأنّ كلّ شيء موجود من شأنه أن يفسد بسبب ما يجب أن يكون فيه قوّة أن يفسد،و قبل الفساد فيه فعل أن يبقى،و تهيّؤه للفساد ليس لفعل أن يبقى،فان معنى القوّة لمعنى الفعل،و إضافة هذه القوّة مغايرة لإضافة هذا الفعل لأن اضافة ذلك إلى الفساد و إضافة هذا إلى البقاء،فإذن لأمرين مختلفين ما يوجد في الشيء هذان المعنيان.فنقول:إنّ الأشياء المركّبة و الأشياء البسيطة التي هي قائمة في المركّبة،يجوز أن يجتمع فيها فعل أن تبقى و قوّة أن تفسد،و في الأشياء البسيطة المفارقة الذات لا يجوز أن يجتمع في شيء أحديّ الذات هذان المعنيان،

ص:137

و ذلك لأنّ كلّ شيء يبقى و له قوّة أن يفسد،فله أيضا قوّة أن يبقى لأنّ بقاءه ليس بواجب ضروري،و إذا لم يكن واجبا كان ممكنا،و الإمكان الذي يتناول الطرفين هو طبيعة القوّة فإذن يكون له في جوهره قوّة أن يبقى،و قد بان أن فعل أن يبقى منه لا محالة،ليس هو قوّة أن يبقى منه و هذا بيّن،فيكون فعل أن يبقى منه أمرا يعرض للشيء الذي له قوّة أن يبقى، فتلك القوّة لا تكون لذات ما بالفعل بل للشيء الذي يعرض لذاته أن يبقى بالفعل لا أنّه حقيقة ذاته فيلزم من هذا أن يكون ذاته مركّبة من شيء إذا كان كان به ذاته موجودا بالفعل و هو الصورة في كلّ شيء و عن شيء حصل له هذا الفعل و في طباعه قوّته و مادّته،فحينئذ نقول:لو كانت النفس بسيطة مطلقة لم تنقسم إلى مادّة و صورة،فلا يكون فيها هذان المعنيان،فلا يكون فيها قوّة الفساد فلا تقبل الفساد،و إن كانت مركّبة فلنترك المركّب و لننظر في الجوهر الذي هو مادّته،و لنصرف القول إلى مادّته و لنتكلّم فيها،و نقول:إنّ المادّة إمّا أن تنقسم هكذا دائما و ثبت الكلام دائما و هذا محال.و إمّا أن لا يبطل ذلك الشيء الذي هو في ذلك الجوهر البسيط،الذي هو في السنخ و الأصل و كلامنا في ذلك الشيء الذي هو السنخ و الأصل و هو الذي نسمّيه النفس،و ليس كلامنا في شيء مجتمع منه و من شيء آخر فتبيّن أن كلّ شيء هو بسيط غير مركّب،أو هو أصل مركّب و سنخه فهو غير مجتمع فيه فعل أن يبقى و قوّة أن يعدم بالقياس إلى ذاته،فإن كانت فيه قوّة أن يعدم،فمحال أن يكون فيه فعل أن يبقى،و إذا كان فيه فعل أن يبقى و أن يوجد فليس فيه قوّة أن يعدم،فبيّن إذن أنّ جوهر النفس ليس فيها قوّة أن تفسد،و أمّا الكائنات التي تفسد فإنّ الفاسد منها هو المركّب المجتمع،و قوّة أن تفسد أو تبقى ليس في المعنى الذي به المركّب واحد،بل في المادّة التي هي بالقوّة قابلة لكلا الضدّين فليس إذن في هذا الفاسد المركّب لا قوّة أن يبقى و لا قوّة أن يفسد فلم تجتمعا فيه،و أمّا المادّة فإمّا أن تكون باقية لا بقوّة تستعدّ بها للبقاء كما يظنّ و إمّا أن تكون بقوّة بها تبقى و ليس لها قوّة أن تفسد شيء آخر يحدث فيها.

و أمّا البسائط التي في المادّة فإنّ قوّة فسادها في جوهر المادّة لا في جوهرها، و البرهان الذي يوجب أنّ كلّ كائن فاسد من جهة تناهي قوّة البقاء و البطلان،إنّما يوجب فيما هو كائن من مادّة و صورة و يكون في مادته قوّة أن يبقى فيه تلك الصور و قوّة أن

ص:138

تفسد هي منه معا كما علمت،فقد بان إذن أنّ النفس الإنسانيّة لا تفسد البتّة.

انتهى ما رمنا نقله من كلامه في الشفاء،و مثله كلامه في الإشارات.

ص:139

فيما ذكره في الإشارات في ذلك

حيث أبطل فساد النفس بفساد البدن و كذا فسادها في نفسها بناء على مغايرتها للبدن و أجزائه و على تجرّدها عن المادّة و بساطتها،قال:«و لمّا كانت النفس الناطقة التي هي موضوع ما للصور العقلية غير منطبعة في جسم تقوم به،بل انّما هي ذات آلة بالجسم، فاستحالة الجسم عن أن يكون آلة لها،و حافظا للعلاقة معها بالموت لا يضرّ جوهرها،بل يكون باقيا بما هو مستفيد الوجود من الجواهر الباقية».ثم بيّن أنّ النفس الناطقة تعقل بذاتها من غير آلة.ثم قال:«تكملة لهذه الإشارات،فاعلم من هذا أنّ الجوهر العاقل مناله أن يعقل بذاته و لأنّه أصل فلن يكون مركّبا من قوّة قابلة للفساد مقارنة لقوة الثبات،فإن أخذت لا على أنّها أصل،بل كالمركّب من شيء كالهيولى و شيء كالصورة،عمدنا بالكلام نحو الأصل من جزأيه و الأعراض وجوداتها في موضوعاتها فقوّة فسادها و حدوثها هي في موضوعاتها فلم يجتمع فيها تركيب،و إذا كان كذلك لم يكن أمثال هذه في أنفسها قابلة للفساد بعد وجوبها بعللها و ثباتها بها.-انتهى.» (1)

ص:140


1- -شرح الإشارات 3:265-285. [1]

فيما ذكره المحقّق الطوسي رحمه اللّه في شرحه له

و قال المحقّق الطوسي رحمه اللّه في شرح كلامه الأوّل بهذه العبارة:لمّا كانت النفس الناطقة واقعة في آخر مراتب العود،اشتغل بالبحث عن حالها بعد تجرّدها عن البدن،فاستدلّ بتجرّدها في ذاتها و كمالاتها الذاتية عن المادّة و ما يتبعها،و بأنّها غير متعلّقة الوجود بشيء غير مباديها الدائمة الوجود على ما تبيّن في النمط الثالث و غيره،على بقائها بعد الموت كذلك.

و أشار بلفظ«لمّا»إلى ما ثبت في النمط الثالث من عدم انطباع النفس في الجسم، و بقوله«التي هي موضوع ما للصور العقلية» (1)إلى كمالاتها الذاتية الباقية معها ببقائها التي استدلّ على امتناع انطباعها في الجسم،و بقوله«بل انّما هي ذات آلة بالجسم»إلى كيفيّة ارتباطها بالجسم على وجه لا يلزم منه احتياجها في وجودها و كمالاتها المذكورة إليه،ثمّ جعل قوله«فاستحالة الجسم عن كونه آلة لها لا تضرّ جوهرها»تاليا لما وضعه بعد لفظة لمّا،و أتمّ مقصوده بقوله«بل يكون باقيا هو مستفيد الوجود من الجواهر الباقية»و ذلك لوجوب بقاء المعلول مع علّته التامّة.

فهذا برهان لمّي هو عمدة براهين هذا الباب على ما ذكره الشيخ أبو البركات البغدادي.

و اعلم أنّ إسناده حفظ العلاقة مع الجسم هاهنا إلى الجسم ليس بمناقض لإسناده حفظ المزاج الذي هو سبب العلاقة في النمط الثالث إلى النفس،لأنّ النفس كما كانت حافظة لهما بالذات فالجسم حافظ أيضا و لكن بالعرض،و ذلك لأنّ فساد المزاج المقتضي لقطع العلاقة،إنّما يتطرّق من جهة الجسم و عوارضه،و لذلك أسند استحالة البدن عن كونه

ص:141


1- -المعقولة(خ ل).

آلة للنفس إلى الجسم،و عدم تطرّق الفساد إلى الشيء ممّا من شأنه أن يتطرّق منه الفساد حفظ ما لذلك الشيء لكنّه بالعرض.-انتهى. (1)

و قال أيضا في شرح كلامه الثاني في قوله:«فاعلم من هذا»-إلى آخره-بهذه العبارة:

«لمّا فرغ من إقامة الحجّة على كون النفس عاقلة بذاتها،عاد إلى إكمال الكلام في بقائها على كمالاتها الذاتية بعد مفارقة البدن،و لذلك و سم الفصل بالتكملة للفصول المتقدّمة و جعل قوله:«فاعلم من هذا أنّ الجوهر العاقل منّا له أن يعقل بذاته»نتيجة للحجج المذكورة.

و في قوله:«و لأنّه أصل فلن يكون مركبا-إلى آخره-»بهذه العبارة:

هذا ابتداء احتجاجه على بقاء النفس،و يريد بالأصل كلّ بسيط غير حالّ في شيء من شأنه أن يوجد فيه أعراض و صور،و أن تزول عنه تلك الأعراض و الصور،و هو باق في الحالتين،فهو أصل بالقياس إليها.

و اذا تقرّر هذا،فنقول:كلّ موجود يبقى زمانا و يكون من شأنه أن يفسد كان قبل الفساد باقيا بالفعل،و فاسدا بالقوّة و فعل البقاء غير قوّة الفساد و إلاّ لكان كلّ باق ممكن الفساد، و كلّ ممكن الفساد باقيا فإذن هما لأمرين مختلفين و الأصل لا يكون مشتملا على مختلفين إذ هو بسيط،فالنفس إن كان أصلا فلن يكون مركّبا من قوّة قابلة للفساد مقارنة لقوّة (2)الثبات و إن لم يكن أصلا أي لم يكن بسيطا غير حالّ،كان إمّا مركّبا و إمّا حالاّ و الثاني باطل لما مرّ،و المركّب يكون مركّبا من بسائط غير حالّة إمّا بعضها كالمادّة من الجسم،و إمّا كلّها،و على التقديرين فالبسيط الغير الحالّ أعني الأصل موجود في المركّب و هو غير مركّب من قوّة الفساد و وجود الثبات.

و في قوله:«و الأعراض وجوداتها في موضوعاتها هي»بهذه العبارة:

هذا جواب عن سؤال.و هو أن يقال كثير من الأعراض و الصور،تكون باقية ممكنة الفساد مع بساطتها،فهلاّ كانت النفس كذلك.

فأجاب بأنّ قوّة فساد أمثالها إنّما تكون في موضوعاتها الحاملة لوجوداتها،و ذلك لا ينافي بساطتها في ذواتها،أمّا ما لا يكون له حامل وجود،فاجتماع الأمرين فيه ينافي

ص:142


1- -شرح الإشارات 3:265-266.
2- -لوجود(خ ل).

بساطته.

و في قوله:«و إذا كان كذلك لم يكن أمثال هذه قابلة للفساد-إلى آخره-»بهذه العبارة:

أي إذا ثبت أنّ النفس،إمّا أصل و إمّا ذات أصل،لم تكن هي و ما يجري مجراها ممّا لا تركيب فيه و لا هو بحالّ في غيره ممّا يقبل الفساد،فانّ البقاء و قوّة الفساد لا يجتمعان في البسيط و الأوّل حاصل،فالثاني ليس بحاصل،فإذن النفس لا يمكن أن تفسد.

و إنّما قال:بعد وجوبها بعللها و ثباتها بها،لأنّ أصل الوجود و بقاءه يكونان في ممكنات الوجود مستفادين من عللها.

و اعترض الفاضل الشارح فقال:لو كان للنفس هيولى و صورة مخالفتان لهيولى الأجسام و صورها،و كان الباقي منها هيولاها وحدها،لما كان الباقي من النفس هو النفس بل جزءا منها.و حينئذ يجوز أن لا يكون كمالاتها الذاتية باقية لأنّها تابعة لصورتها.

و الجواب:أنّ هيولى النفس تكون إمّا ذات وضع أو غير ذات وضع،و الأوّل محال،لأنّ ذات الوضع لا تكون جزءا لما لا وضع له.

و الثاني لا يخلو،إمّا أن يكون مع كونها غير ذات وضع،ذات قوام بانفرادها أولم تكن، فإن كانت عاقلة بذاتها على ما مرّ،لكانت هي النفس و قد فرضناها جزءا منها،هذا خلف.

و إن لم تكن ذات قوام بانفرادها،فإمّا أن يكون للبدن تأثير في إقامتها أولم يكن.فإن كان، كانت النفس غير مستغنية في وجودها عن البدن،فلم تكن ذات فعل بانفرادها على ما مرّ، و قد فرغنا عن إبطال هذا القسم.

و إن لم يكن للبدن تأثير في إقامتها،كانت باقية بما يقيمها،و إن لم يكن البدن موجودا، و هو المطلوب.

ثمّ إنّ الصورة المقيمة إيّاها و الكمالات التابعة لتلك الصورة،لا يجوز أن تفسد و تتغيّر بعد انقطاع علاقتها عن البدن،لأنّ التغيّر لا يوجد إلاّ مستندا إلى جسم متحرّك،كما تقرّر في الاصول الحكميّة.

ثم قال:و النفس تحت مقولة الجوهر،فهي مركّبة من جنس و فصل،و الجنس و الفصل إذا اخذا بشرط التجرّد كانا مادّة و صورة،فالنفس عندهم مركّبة من مادّة و صورة،و ذلك يؤكّد ما ذكرنا.

ص:143

و الجواب:إنّ هذه مغالطة باشتراك الاسم،فانّ المادة و الصورة تقعان على ما ذكره و على جزأي الجسم بالتشابه،و إلاّ فجميع أنواع الأعراض أيضا مركّبة من مادّة و صورة.

ثم قال:الفساد و الحدوث متساويان في احتياجهما إلى إمكان يسبقهما،و إلى محلّ لذلك الإمكان أوفي استغنائهما عن ذلك،فإن استغنى إمكان الحدوث عن المحلّ مع وقوع الحدوث،فليستغن إمكان الفساد أيضا عنه مع وقوع الفساد،و إن افتقر الإمكان إلى محلّ هو البدن،فليكن البدن أيضا محلاّ لإمكان الفساد،و بالجملة يجوز أن يكون البدن شرطا لوجود النفس،و يلزم انعدام المشروط عند فقدان الشرط.

و الجواب:أنّ كون الشيء محلاّ لإمكان وجود ما هو مباين القوام له أو لإمكان فساده غير معقول.فإنّ معنى كون الجسم محلاّ لإمكان وجود السواد هو تهيّؤه لوجود السواد فيه، حتى يكون حال وجود السواد مقترنا به،و كذلك في إمكان الفساد،و لذلك امتنع كون الشيء محلاّ لإمكان فساد ذاته،فالبدن ليس بمحلّ لإمكان حدوث النفس من حيث هو مباين لها،و لا لإمكان فسادها أيضا بل انّما كان مع هيئة مخصوصة موجودة قبل حدوث النفس محلاّ لإمكان و تهيّؤ لحدوث صورة إنسانيّة تقارنه و تقوّمه نوعا محصّلا.

و لم يكن وجود تلك الصورة ممكنا إلاّ مع ما هو مبدؤها القريب بالذات،أعني النفس فحدث بحسب استعداده و تهيّؤه ذلك مبدأ الصور المقارنة المقوّمة إيّاه على وجه كان ذلك المبدأ مرتبطا به هذا النوع من الارتباط و زال بذلك الحدوث ذلك الإمكان و التهيّؤ عن البدن،إذ زال عنه ما كان البدن معه محلاّ لإمكان حدوث النفس أعني الهيئة المخصوصة فبقي البدن محلاّ لإمكان فساد الصورة المقارنة به و زوال ذلك الارتباط عنه فقط،و امتنع أن يكون محلاّ لفساد ذلك المبدأ من حيث هو ذات مباين عنه،فإذن البدن مع هيئة مخصوصة شرط في حدوث النفس من حيث هي صورة أو مبدأ صورة لا من حيث هي موجودة مجرّدة و ليس بشرط في وجودها.

و الشيء إذا حدث فلا يفسد بفساد ما هو شرط في حدوثه،كالبيت فانّه يبقى بعد موت البنّاء الذي كان شرطا في حدوثه.

فان قيل:لم أوجب استيجاب البدن لحدوث صورة ما حدوث مبدأ لتلك الصورة، و لم يوجب استيجابه لفساد تلك الصورة فساد مبدأ ذلك،و ما الفرق بين الأمرين؟

ص:144

قلنا:لأنّ ما يقتضي حدوث معلول ما،فإنّما يقتضي وجود جميع علل ذلك المعلول بشرائطها،و ما يقتضي فساد معلول لا يقتضي فساد العلل،بل يكفي فساد شرط ما و لو كان عدميا. (1)-انتهى كلامه رحمه اللّه. (2)

ص:145


1- -و اعلم أنّ النفس الناطقة إذا كانت مجرّدة عن المادة كما عليه أتباع المشّاء ليست لها حالة منتظرة،لأنّ الفرض إنّ النفس مجرّدة عن المادة بحسب جوهر ذاتها و المجرّد بهذا المعنى مستكفية بذاتها و علّتها، و لهذا قال صدر أكابر الحكماء إنّ النفس في ابتداء ظهورها فيها استعداد التجرّد.و ما قيل إنّ النفس بحسب جوهر الذات غير حادثة و إضافتها إلى البدن حادثة.و فيه ما لا يخفى؛فالمصير إلى ما حقّقه صدر المحققين رضي اللّه عنه.
2- -شرح الإشارات 3:285-292.

في ذكر ما ذكره صاحب المحاكمات

و هذا الاعتراض الذي أورده الفاضل الشارح أخيرا على كلام الشيخ،قد ذكره صاحب المحاكمات في ذيل أوّل كلام الشيخ بهذه العبارة:

«يريد أن يستدلّ على بقاء النفس بعد الموت،و تقريره أنّه قد ثبت أنّ النفس الناطقة التي هي محلّ الصور العقليّة غير حالّة في الجسم و لا تعلّق لها بالبدن في ذاتها و جوهرها، بل تعلّقها به ليكون هو آلة لها في اكتساب الكمالات،فإذا فسد البدن فقد فسد ما لا حاجة للنفس إليه في وجودها،مع أنّ العلّة المؤثّرة في وجود النفس باقية،فيجب بقاؤها بعد فساد البدن.

و فيه نظر،لأنّ الجوهر العقلي الموجد للنفس إن كان علّة تامّة لها،لزم قدمها لقدمه، و إن كان علّة فاعليّة و توقّف وجودها على حدوث البدن،فلم لم يتوقّف بقاؤها على بقائه،فالنفس و إن كانت مجرّدة إلاّ أنّها متعلّقة بالبدن،فجاز أن يكون تعلّقها شرطا لبقائها، فاذا انتفى انعدمت.

و الحاصل أنّ البدن ما كان موجودا و كذا النفس ما كانت موجودة،ثمّ وجد البدن و النفس،ثمّ ينعدم البدن.

فلا يخلو إمّا أن يكون للبدن دخل في وجود النفس،أو لا،فإن لم يكن له دخل في وجود النفس أصلا،فلم لم يوجد النفس قبل وجود البدن،و إن كان له دخل في وجودها، فلم لا يجوز أن يكون له دخل في بقائها حتّى إذا انعدم انعدمت.

و اعلم:أنّ ما ذكرناه في تقرير الاستدلال هنا هو ما ذكره الإمام.و زاد الشارح في الاستدلال تجرّد النفس عن المادّة في كمالاتها الذاتيّة أي الكمالات العارضة لذاتها

ص:146

كالصور المعقولة،و ذلك مع كونه غير منطبق على المتن مستدرك في الاستدلال فإنّ المطلوب ليس إلاّ بقاؤها بعد الموت،و تجرّدها في ذاتها كاف في ذلك.

و كذلك قوله:أشار بقوله«التي هي موضوع ما للصور العقليّة-إلى كمالاتها الذاتيّة الباقية معها»فإنّ الحكم المذكور ليس إلاّ عدم انطباعها في الجسم،فذكر ذلك الوصف ليس إلاّ إيماء إلى سبب الحكم.

و كذا قوله:«على وجه لا يلزم احتياجها في وجودها و كمالاتها الذاتيّة المذكورة إلى الجسم»،فإنّ عدم الاحتياج في الكمالات غير مفهوم من كونها ذات آلة في الجسم (1)و هو ظاهر.-انتهى كلامه. (2)

و أنت تعلم أنّه يستفاد من كلام الإمام و كلام صاحب المحاكمات:أنّ هذا الاعتراض يمكن أن يورد على كلّ من الدليلين اللذين ذكرهما الشيخ في الكتابين على عدم فناء النفس،سواء كان المقصود عدم فنائها بفناء البدن كما ذكره أوّلا،أو عدم فنائها مطلقا كما ذكره أخيرا.

ص:147


1- -بالجسم(خ ل).
2- -المحاكمات؛راجع هامش شرح الإشارات 3:264.

في ذكر ما ذكره صدر الأفاضل في هذا المطلب

اشارة

و حيث عرفت ذلك فاعلم:أنّه قد ذكر صدر الأفاضل في بعض رسائله: (1)انّ المحقّق الطوسي(نوّر اللّه تعالى عقله الشريف)،كتب إلى بعض معاصريه من الأفاضل و هو العلاّمة النحرير شمس الدين الخسروشاهي شاهي،رسالة و سأله فيها عن ثلاث مسائل،طلب منه الكشف عن وجوه إعضالها،فلم يأت ذلك البعض العلاّمة بجواب.

و من جملة تلك المسائل الثلاث،هذه المسألة بهذه العبارة:ما بال القائلين بأنّ ما لا حامل لإمكان وجوده و عدمه،فإنّه لا يمكن أن يوجد بعد العدم أو يعدم بعد الوجود، حكموا بوجود النفس الإنسانيّة و امتنعوا عن تجويز فنائها،فإن جعلوا حامل إمكان وجودها البدن فهلاّ جعلوه حامل إمكان عدمها أيضا،و إن جعلوها لأجل تجرّدها عمّا تحلّ فيه عادم حامل لإمكان العدم كيلا يجوز عدمها بعد الوجود،فهلا جعلوها لأجل ذلك بعينه عادم حامل لإمكان الوجود،فيمتنع وجودها بعد العدم في الأصل،و كيف ساغ لهم أن جعلوا جسما مادّيا حاملا لإمكان جوهر مفارق مباين الذات إيّاه،فإن جعلوها من حيث كونها مبدأ لصورة نوعية لذلك الجسم ذات حامل لإمكان الوجود،فهلاّ جعلوها من تلك الحيثية ذات حامل لإمكان العدم،و بالجملة ما الفرق بين الأمرين مع تساوي النسبتين؟-انتهى.

ثم أجاب صدر الأفاضل نفسه عن هذا السؤال بهذه العبارة:أمّا الجواب عن المسألة الثالثة فنقول:

إنّ البدن الإنساني استدعى باستعداده الخاصّ من واهب الصور على القوابل،صورة

ص:148


1- -طبعت هذه الرسالة في هامش المبدأ و المعاد:372-391؛فراجع.

مدبّرة متصرّفة فيه تصرّفا يحفظ بها شخصه و نوعه،فوجب صدورها عن الواجب الفيّاض،لكن وجود صورة تكون مصدرا للتدابير البشرية و الأفاعيل الإنسية الحافظ لهذا النوع لا يمكن إلاّ بقوّة روحانيّة ذات إدراك و عقل و تمييز،فلا محالة يفيض من المبدأ الفيّاض صورة متصرّفة ذات حقيقة مفارقة أو ذات مبدأ مفارق،و كما أنّ الشيء الواحد يجوز أن يكون جوهرا من جهة،عرضا من جهة اخرى،كماهيّة الجوهر الموجودة في الذهن،لما تحقق أنّ صورتها العقلية جوهر بحسب الماهيّة،عرض بحسب الوجود العلمي بل كيف،و كذا يجوز أن يكون شيء واحد مجعولا من جهة،غير مجعول من جهة اخرى كالوجود و الماهيّة،فكذلك يجوز أن يكون شيء واحد كالنفس الإنسانيّة مجرّدا من حيث كونه ذاتا عقليّة،و مادّيا من حيث كونه متصرّفا في البدن.فإذن كانت النفس مجرّدة من حيث الذات،مادّية من حيث الفعل،مسبوقة باستعداد البدن،حادثة بحدوثه،زائلة بزواله.و أمّا من حيث حقيقتها و مبدأ حقيقتها فغير مسبوقة باستعداد البدن إلاّ بالعرض، و لا فاسدة بفساده،و لا يلحقها شيء من مثالب المادّيات إلاّ بالعرض،فتدبّر.

هذا ما سنح لنا في سالف الزمان على طريقة أهل النظر،و أمّا الذي نراه الآن في تحقيق الحال و دفع الإعضال،فهو أنّ للنفس الإنسانيّة مقامات و نشئات ذاتيّة بعضها من عالم الأمر و التدبير: «قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» ، (1)و بعضها من عالم الخلق و التصوير: «وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا» ، (2)فالحدوث و التجدّد،انّما يطرءان لبعض شأنها،فنقول لما كانت للنفس ترقّيات و تحوّلات من نشأة اولى إلى ثانية و إلى ما بعدها،فإذا ترقّت و تحوّلت من عالم الخلق إلى عالم الأمر،يصير وجوده وجودا عقليّا إلهيّا لا يحتاج حينئذ إلى البدن و أحواله و استعداده،فزوال استعداد البدن إيّاها لا يضرّها دواما و بقاء إذ ليس حال النفس في أوّل حدوثها كحالها عند الاستكمال و مصيرها إلى العقل الفعّال،فهي بالحقيقة جسمانيّة الحدوث روحانيّة البقاء،و مثالها كمثال الطفل و حاجته إلى الرحم أوّلا و الاستغناء عنه أخيرا،و كمثال الصيد و الحاجة في اصطياده إلى الشبكة أوّلا و الاستغناء في بقائه عنها أخيرا،ففساد الرحم و الشبكة لا ينافي بقاء المولود و الصيد و لا يضرّه.

ص:149


1- -الإسراء:85. [1]
2- -الأعراف:11. [2]

ثمّ اعلم أنّ العلّة المعدّة عند التحقيق علّة بالعرض،و ليست علّيتها كعلّية العلل الموجبة حتّى يقتضي زوالها زوال المعلول.و ما ذكروه من قولهم كلّ ما لا حامل لإمكان وجوده و عدمه،فإنّه لا يمكن أن يوجد بعد العدم،و لا أن يعدم بعد الوجود،لا يستلزم القول بأنّ ما لا حامل لإمكان وجوده و عدمه،فإنّه لا يمكن أن يوجد بعد الوجود،إذ ربما يكون وجوده السابق كافيا في رجحان وجوده اللاحق على عدمه،فلا يحتاج في وجوده البقائي إلى حامل و قابل لإمكانه.

و من نظر و أمعن في مراتب الأكوان الخلقيّة الإنسانيّة قبل حدوث النفس،وجد أنّ مادة النطفة أي حامل إمكان الصورة الجمادية النطفية،بعد أن تصوّرت بصورتها و استكملت بها،زال عنها ذلك الإمكان و لم يزل عنها تلك الصورة،بل صارت أقوى و أكمل ممّا كانت أوّلا،حيث صارت صورة نباتية بحسب إمكانها الاستعدادي النباتي.

و صورة النبات،لا تقصر عن فعل الجماد أيضا،و كذا الحال في صيرورتها صورة حيوانيّة، لما حقّق في موضعه أن هذه الاستكمالات المترادفة و الانقلابات ليس إلاّ ضربا من الاشتداد الجوهري،لا بأن تفسد صورة و تحدث صورة اخرى مباينة للاولى،كيف و الحكماء أثبتوا للطبائع حركة حبيّة إلى غايات ذاتية البتّة،و لكلّ ناقص شوقا غريزيّا إلى كماله.

و كلّ ناقص إذا وصل إلى كماله اتحد به و صار وجوده وجودا آخر،و هذه الحركة الحبيّة في هذا النوع الإنساني إلى جانب القدس معاين مشهود لصاحب البصيرة،فإذا بلغت النفس الإنسانيّة في استكمالاتها و توجّهاتها إلى مقام العقل و اتحدت بالعقل الفعّال بعد أن كانت عقلا منفعلا،اطلقت عن المادة و الحدثان و تجرّدت عن القوّة و الإمكان، و صارت باقية ببقاء اللّه سبحانه من غير تغيير و فقدان.

و بالجملة تحقيق هذا المبحث و تنقيحه،إنّما يتيسّر لمن علم كيفيّة اتحاد النفس بالعقل الفعّال و مصيرها إلى العقل الفعّال،و كل ميسّر لما خلق له.-انتهى كلامه رحمه اللّه. (1)

و قال أيضا في الشواهد الربوبية:الإشراق السادس في حدوث النفس الإنسانيّة،اعلم أنّ نفس الإنسان جسمانيّة الحدوث،روحانيّة البقاء،إذا استكملت خرجت من القوّة إلى

ص:150


1- -راجع هامش المبدأ و المعاد:378-382. [1]

الفعل.

و البرهان عليه أنّ كلّ مجرّد عن المادّة لا يلحقه عارض غريب،لما مرّ من أنّ جهة القوّة و الاستعداد راجعة إلى أمر هو في ذاته قوّة صرفة تتحصّل بالصور المقوّمة له،و ما هو إلاّ الهيولى الجرمانية فيلزم من فرض تجرّد النفس عن المادّة اقترانها بها؛هذا خلف،و ستعلم بطلان التناسخ،فإذن يكون حادثة.

و هذا البرهان غير مبنيّ على أنّ النفوس الإنسانيّة متّحدة بالنوع،فيكون أولى ممّا قيل:

إنّها لو كانت موجودة قبل الأبدان،لم تكن متكثّرة و لا واحدة.

أمّا الأوّل:فلأنّ الامتياز فيما له حدّ نوعي إمّا بالموادّ أو لعوارضها أو بالفاعل أو بالغاية، و العلل منحصرة في هذه،و النفوس صورتها ذاتها لاتّحادها في النوع،و فاعلها أمر واحد، و غايتها الاتّصال به و التشبّه له،فيكون تكثّرها إمّا بالمادة أو بما في حكمها كالأبدان و قد فرضت مفارقة؛هذا خلف.

و أمّا الثاني:فلأنّ قبول الكثرة بعد الوحدة من خواصّ المقادير و عوارضها،و النفس ليست كذلك.

شك و تحقيق

و لك أن تقول:هذا ممّا يلزمك في النفوس،بعد مفارقتها عن الأبدان،فما الفارق؟

فنقول:المميّز فيها عند القوم هي الهيئات المكتسبة في الأبدان،و عندنا بأنحاء الوجودات،لأنّ تشخّص كلّ وجود بنفس ذاته المتقوّم بجاعله،و قد علمت أنّ النفوس و الصور التي هي مبادئ الفصول للأجسام ليست إلاّ أنحاء من وجود الموادّ و ما هي كالموادّ،و لها امور سابقة،هي مخصّصات المادّة و معدّات وجود عقيبها (1)،و لها امور لا حقة هي عوارضها اللازمة لذواتها المتعيّنة بأنفسها.فقد علم أنّ المادّة المشتركة أو الماهيّة النوعية،تفتقر في تخصّصها و تميّزها بوجود دون وجود إلى لواحق و مميّزات سابقة، فكذا في تخصّصها بتلك السابقة إلى سابقة اخرى.و أمّا إذا وجد فرد من ماهيّته فانعدام المعدّ المخصّص،لا يقدح في بقائه إذا لم يكن له ضدّ.

ص:151


1- -في المصدر:و معدّات وجود ما يلحقها.

فالجواهر النطقيّة بعد وجودها و تجرّدها عن الموادّ هي كسائر المفارقات الصوريّة، لا ضدّ لها،إذ لا قابل لها،فتبقى ببقاء مبدئها و معيدها (1)،و لو لم يكن فيها من المميّزات إلاّ شعور كلّ منها بهويّتها،لكفى فضلا عن الصفات و الملكات و الأنوار الفائضة عليها من المبادئ.-انتهى ما قصدنا نقله من كلامه رحمه اللّه. (2)

و أقول:و باللّه التوفيق،إنّ الدليل الأوّل الذي ذكرناه على هذا المطلب دليل واضح،إلاّ أنّ إتمامه يتوقّف على دفع ما أورده الإمام فيها من الشبهة و ذكرها صاحب المحاكمات أيضا،فإنّ الظاهر أنّ تلك الشبهة ترد عليه أيضا ظاهرا و تندفع بما سيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى.

ص:152


1- -في المصدر:و معادها.و الظاهر:مبدعها و معيدها.
2- -الشواهد الربوبية:221-223. [1]

في توجيه حجج أفلاطون

اشارة

و أمّا الحجج الثلاث التي ذكرنا أنّ أفلاطون اعتمد عليها في هذا المطلب،فهي حجج واضحة بعد التأمّل عند من كان له قلب أو القى السمع و هو شهيد،سواء بني الاحتجاج بها على مذهب أفلاطون و شيعته من قدم النفس، (1)أو على مذهب من قال بحدوثها قبل البدن كما هو رأي بعض الملّيّين.

حيث إنّ المنقول عن أفلاطون و شيعته قدم النفس،إمّا بناء على الدليل الذي دلّ عندهم على قدم العالم،و كان ذلك جاريا بزعمهم في النفس أيضا كما هو الاحتمال.

و إمّا بناء على الدليل الذي قام عندهم على قدم خصوص النفس كما نقله صاحب المحاكمات عنهم حيث قال:

و اعلم أنّ أفلاطون و أتباعه،إنّما ذهبوا إلى قدم النفس لأجل أنّهم ما فرّقوا بين إمكان الحدوث و إمكان العدم في استدعاء المادة.و علموا أنّ النفس غير مادّية فقطعوا بأنّها قديمة،لأنّها لو كانت محدثة،كانت لها مادّة فامتنع حدوثها كما لم يمكن عدمها لذلك، و لأنّ النفس لمّا كانت عاقلة لذاتها،لا يجوز أن يكون إمكان وجودها في مادّة و إلاّ لتوقّف وجود النفس على المادّة،فلا تعقل بذاتها،و إذا لم يمكن إمكان وجودها في مادّة لم يمكن أن يكون فسادها في مادّة،و إلاّ لكان وجودها يتوقّف على عدم الاستعدادات العدميّة.-انتهى.

و كذا إذا بني الاحتجاج بها على مذهب من قال بحدوثها بحدوث البدن كما هو رأي الأكثرين منهم،و سيجيء تحقيقه،إلاّ أنّه على هذا التقدير،يرد على تلك الحجج تلك

ص:153


1- -قوله:«من قدم النفس...»و اعلم أنّ القول بقدم النفس و حدوث إضافته إلى البدن مما اختاره أرباب العرفان و لذا قالوا إنّ ما هو أبديّ أزليّ أيضا.و يرد على هذا المشرب إشكالات لا يمكن دفعها.

الشبهة أيضا،و تندفع بما سيأتي بيانه.

أمّا بيان تلك الحجج الثلاث على القول بقدم النفس فظاهر،حيث إنّهم قالوا بأنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه كما بيّنا الوجه فيه فيما سبق،و على هذا و إن كان لا احتياج في إثبات بقاء النفس إلى تلك الحجج،إلاّ أنّ أفلاطون كأنّه اعتمد فيه عليها،إشارة إلى برهان آخر أو تأكيدا للبرهان المبنيّ على قدمها،و لعلّه رام أنّ النفس الناطقة شيء لا يمكن أن يطرأ عليه الفساد،لا من جهه علّته المفيضة التامّة و لا من جهة ذاته بذاته.

أمّا من الجهة الاولى فلأنّها قديمة،و القديم لا يمكن أن يطرأ عليه الفساد،لأنّ طروءه عليه يستلزم طروءه على الواجب بالذات تعالى شأنه كما مرّ تقريره،و هو محال.

أمّا من الجهة الثانية فلوجوه:

أحدها-و هو الحجّة الثانية المنقولة عنه-:أنّ النفس لا رداءة فيها،أي لا قوّة فساد فيها، إذ تلك القوّة تابعة للمادّة كما تقرّر في موضعه،و إذ ليس فيها قوّة فساد،بل هي فعلية محضة،و صورة مطلقة،فلا يمكن أن يطرأ عليها الفساد بوجه،إذ الشيء لا يمكن أن يكون محلاّ لفساد نفسه.

و على هذا فيؤول هذا البرهان إلى البرهان الأخير،الذي ذكره الشيخ في الشفاء، و لخّصه في الإشارات على عدم إمكان فساد ذات النفس مطلقا،و سيأتي زيادة توضيح له.

أو أنّه لا رداءة في النفس أي لا يتطرّق إليها العدم و الفناء،إذ لا ضدّ لها فإنّ الضدّ إنّما يتصوّر فيما كان له موضوع أو مادّة و المفروض أن ليس لها في ذاتها ذلك و ما لا ضدّ له لا يمكن أن يطرأ عليه الفساد مع كون علّته التامة باقية بذاتها.

و ثانيها-و هو الحجّة الاولى له-:أنّ النفس تعطى حياة ما هي متعلّقة به كالبدن،و مفيد الحياة لا يمكن أن يكون فاقدا لها،بل ينبغي أن يكون واجدا لها من ذاته،فينبغي أن تكون الحياة ذاتية للنفس حتّى كأنّها حياة.

و لذلك أطلق بعض الحكماء أنّ النفس حياة للبدن،و الذاتي للشيء لا يمكن أن يزول عنه،فلا يمكن أن يطرأ على النفس التي هي منشأ الحياة بل الحياة نفسها،ما هو ضدّها أعني الموت.

نعم لو كان شيء ما من الأشياء بحيث يكون الحياة عارضة له كالجسم،أمكن أن تزول

ص:154

عنه الحياة بطروء ضدّها،و حينئذ فما ورد في الشرع،و كذا في كلام الحكماء من موت النفس،إشارة الى قطع تعلّقها عن البدن.و زوال الحياة عن البدن بزوال ما هو منشأ الحياة عنه،و على هذا فإطلاق الموت على موت البدن بمعنى و على موت النفس بمعنى آخر.

و هذا كالوجود عند أفلاطون و شيعته،حيث ذهبوا إلى أنّه متأصّل في الوجود،و الماهيّة عارضة له،و ربط الوجود بالماهيّة إنّما هو عبارة عن عروض الماهيّة له،لا أنّ الوجود أمر انتزاعي عارض للماهيّة كما هو رأي آخرين.

فإنّه على مذهب أفلاطون و أتباعه لا معنى لانعدام الوجود في نفسه،لأنّه غير معقول، بل المعدوم هو الماهيّة بزوال الوجود فيها و اتّصاله بأصله،و كذا يطلق العدم على عدم الماهيّة بمعنى،و على عدم الوجود بمعنى آخر.

و ثالثها-و هو الحجّة الثالثة له-:أنّ النفس دائما متحرّكة من ذاتها حركة رويّة و جولان، إمّا إلى المبادئ العالية فتستكمل و تستفيد و تستنير،و إمّا إلى البدن فتفيد و تكمل و تنير.

فشأنها في ذاتها إمّا إفادة الكمال أو استفادته حتّى كأنّها حركة نحو الكمال،و لذلك أطلق عليها أفلاطون في بعض كلماته أنّها حركة،و على هذا فيكون تلك الحركة الكمالية ذاتية له،و إذا كان كذلك فذاتها لا تقبل النقص،فلا تقبل الفساد،إذ هو فوق النقص.

و إذا عرفت ما ذكرنا،عرفت أنّ الحجّة الاولى و الثالثة و كذا الثانية على التقرير الأخير ترجع كلّها إلى معنى واحد،و هو أنّ النفس الناطقة لا ضدّ لها فلا تقبل الفساد،لكن التقرير مختلف،فإنّ الحجّة الاولى مبنيّة على أنّها حياة،و الثانية على أنّها ليس لها رداءة،و الثالثة على أنّها كمال.

و أيضا الاولى مبنيّة على النظر في النفس من جهة كونها متعلّقة بالبدن و منشأ حياة له، و الثالثة على النظر فيها في نفسها من غير نسبتها إلى البدن بخصوصه.

و هذا الذي ذكرنا،هو تقرير تلك الحجج الثلاث على رأي أفلاطون و شيعته القائلين بقدم النفس،و إن كان القول به غير صحيح في نفسه،حيث إنّ الشبهة التي دعت الفلاسفة إلى القول بقدم العالم،شبهة داحضة،قد قرّرنا بطلانها بما لا مزيد عليه في الرسالة التي ألّفناها في بيان حدوث العالم.

و كذلك ما أسنده صاحب المحاكمات،إلى القائل بقدم النفس من عدم الفرق بين إمكان الحدوث و إمكان العدم في استدعاء المادّة إلى آخر ما نقله،سيجيء إبطاله في بيان

ص:155

دفع شبهة الإمام،مع أنّه يرد على هؤلاء القائلين،و كذا على القائلين بحدوث النفس قبل البدن مفاسد،سنشير إليها في مبحث إثبات حدوث النفس بحدوث البدن إن شاء اللّه تعالى.

و ممّا ذكرنا يظهر تقرير تلك الحجج الثلاث على مذهب من قال بحدوث النفس قبل البدن،و عدم ورود شيء عليها،و إن كان هذا المذهب أيضا غير صحيح كما سيأتي بيانه.

و كذا يظهر تقريرها على مذهب من قال بحدوث النفس بحدوث البدن،لكنّه ممّا يرد عليه اعتراض الإمام ظاهرا حتّى نأتي على بيان اندفاعه إن شاء اللّه تعالى.

ثمّ إنّ ما ذكره الشيخ في الشفاء أوّلا من الدليل على عدم فساد النفس بحدوث البدن، حيث بنى الكلام على ثلاثة احتمالات و أبطل كلّها،ظاهر متّضح،إلاّ أنّه يرد على ما ذكره في الاحتمال الثالث من أنّ فساد البدن،لو كان بفساد النفس،لكان يجب أن تفسد النفس أوّلا ثم يتبعه فساد البدن،و هذا باطل،لأنّ فساد البدن إنّما يكون بسبب يخصّه من تغيّر المزاج و التركيب.

إيراد سؤال على كلام الشيخ في الشفاء مع جوابه

سؤال ينبغي التعرّض له و لجوابه.بيان السؤال:أنّه لو كانت النفس علّة ذاتيّة للبدن كما هو المفروض في ذلك الاحتمال،فلم لا يجوز أن يكون فساد البدن بسبب فساد النفس؟ حيث إنّ زوال المعلول يكون بزوال علّته،لا بدّ لنفي ذلك من دليل.

فإن قيل:الدليل عليه كما يشعر به كلام الشيخ،أنّا نعلم قطعا أنّ فساد البدن إنّما يكون بسبب يخصّه كتغيّر المزاج و التركيب،لا بسبب آخر أيضا كفساد النفس.و الحاصل أنّ زوال المعلول و إن أمكن أن يكون بزوال علّته لكنّه لا ينحصر فيه بل يمكن أن يكون بوجه آخر أيضا و الحال فيما نحن فيه كذلك،لأنّا نعلم قطعا أنّ فساد البدن إنّما يكون بتغيّر المزاج و التركيب،لا بسبب فساد النفس.

قلنا:هذا الحصر غير مسلّم،و على تقدير تسليمه فتغيّر المزاج و التركيب لعلّه كان سببا قريبا لفساد البدن،و كان السبب لهذا التغيّر هو فساد النفس،و كان هو سببا بعيدا لفساد البدن،فإنّ الحافظ للمزاج و التركيب هو النفس،و التغيّر فيهما هو زوال ذلك الحفظ، و هو إنّما يكون بزوال علّته الحافظة أي النفس.

ص:156

يدلّ على ما ذكرنا كلام الشيخ في الكتابين،حيث قال في الشفاء في فصل جوهرية النفس بهذه العبارة:

«فالنفس التي لكلّ حيوان،هي جامعة اسطقسات بدنه و مؤلّفها و مركّبها على نحو يصلح معه أن يكون بدنا لها و هي حافظة لهذا البدن على النظام الذي ينبغي،فلا يستولي عليه المغيّرات الخارجة ما دامت النفس موجودة فيها.» (1)

و قال في النمط الثالث من الإشارات في بيان أنّ نفس الإنسان غير الجسمية و المزاج بهذه العبارة:

«و لأنّ المزاج واقع فيه بين أضداد متنازعة إلى الانفكاك،إنّما يجبرها على الالتيام و الامتزاج قوّة غير ما يتبع التيامها من المزاج،و كيف و علّة الالتيام و حافظه قبل الالتيام فكيف لا يكون قبل ما بعده أي المزاج.و هذا الالتيام كما يلحق الجامع الحافظ وهن أو عدم يتداعى إلى الانفكاك،فأصل القوى المدركة و المحرّكة و الحافظة للمزاج شيء آخر لك أن تسمّيه النفس و هذا هو الجوهر الذي يتصرّف في أجزاء بدنك ثمّ في بدنك-انتهى.» (2)و ما نقلناه عنه في الكتابين نصّ فيما ذكرنا.

فإن قيل:لا يمكن أن يكون تغيّر المزاج و التركيب مسبّبا عن فساد النفس،لأنّه لا سترة في أنّ تغيّرهما لكونه استحالة و حركة في الكيف زمانيّ تدريجىّ،و حينئذ نقول:لو كان ذلك التغيّر مسبّبا عن فساد النفس،لكان يجب أن يكون فساد النفس أيضا تدريجيّا، لوجوب المناسبة بين العلّة و معلولها،و التدريج يستدعي حركة في زمان واقعة على مادّة تقبل الحركة التدريجيّة كما حقّق في موضعه و المفروض كون النفس مجرّدة غير ذات مادّة في ذاتها،و إن فرض تلك المادّة،هي مادّة البدن كما في الحركات النفسانية،حيث إن النفس و إن كانت مجرّدة عنها في ذاتها،لكنّها محتاجة إليها في فعلها،كان هذا الفرض منافيا لما هو المفروض منها حيث إنّ المفروض في ذلك الاحتمال الثالث،هو فساد البدن بفساد النفس لا العكس،حتّى يمكن أن يكون فساد النفس تدريجيّا تابعا لفساد البدن أي لفساد مزاجه و تركيبه الذي هو تدريجيّ.

قلنا:سلّمنا ذلك لكنّا نقول:فما وجه الجمع بين كلامي الشيخ أي الكلام الذي ذكره في

ص:157


1- -الشفاء، [1]الطبيعيات،الفصل الثالث في أنّ النفس داخلة في مقولة الجوهر:25،طبع القاهرة.
2- -شرح الإشارات 2:301-302. [2]

الاحتمال الثالث و ما نقلناه عنه في الكتابين؟

و أيضا فما معنى قوله فيما نقلناه عنه في الكتابين،إنّ حافظ المزاج و التركيب هو النفس؟

و ما ذكره في الاحتمال الثاني من تلك الاحتمالات الثلاثة أنّ المزاج و البدن علّة بالعرض للنفس كما حقّقه،و هذا بيان السؤال.

نقل كلام عن المحقّق الطوسي للتمهيد لبيان الجواب

و أمّا بيان الجواب فيستدعي تمهيد مقدّمة:هي أنّه قال المحقّق الطوسي رحمه اللّه في ذيل ما نقلنا عن الشيخ في الإشارات آنفا:و قد يرد على هذا الموضع سؤال مشهور،و هو أن يقال:إنّكم قلتم:إنّ المركّبات إنّما تستعدّ لقبول صورها من مبدئها بحسب أمزجتها المختلفة،و يجب من ذلك تقدّم الأمزجة على تلك الصور،و الآن تقولون:إنّ النفس التي هي صورة الحيوان جامعة لاسطقساته،و الجامع للاسطقسات يجب أن يكون متقدّما على المزاج و هذا تناقض. (1)

و أجاب الفاضل الشارح عن ذلك أنّ الجامع لأجزاء النطفة نفس الوالدين،ثمّ إنّه يبقى ذلك المزاج في تدبير نفس الامّ إلى أن يستعدّ لقبول نفس،ثمّ إنّها تصير بعد حدوثها حافظة له و جامعة لسائر الأجزاء بطريق إيراد الغذاء. (2)

و قال (3)في رسالته المشتملة على أجوبة مسائل المسعودي:

و اعلم أنّ الجامع لتلك العناصر غير الحافظ لذلك الاجتماع،و لمّا كتب بهمنيار إلى الشيخ و طالبه بالحجّة على أنّ الجامع للعناصر في بدن الإنسان هو الحافظ لها فقال الشيخ:

كيف ابرهن على ما ليس،فإنّ الجامع لأجزاء بدن الجنين هو نفس الوالدين و الحافظ لذلك الاجتماع أوّلا القوّة المصوّرة لذلك البدن،ثمّ نفسه الناطقة.ثمّ قال:و تلك القوّة ليست قوّة واحدة باقية في جميع الأحوال،بل هي قوى متعاقبة بحسب الاستعدادات المختلفة لمادّة الجنين.

و بالجملة فإذن تلك المادّة تبقى في تصرّف المصوّرة،إلى أن يحصل تمام الاستعداد

ص:158


1- -شرح الإشارات 2:303. [1]
2- -شرح الإشارات 2:303. [2]
3- -أي قال الشيخ الاعظم رض.

لقبول النفس الناطقة،فحينئذ يوجد النفس.-فهذا ما قال هذا الفاضل فيه.

أقول:و قال الشيخ في الفصل الثالث من المقالة من علم النفس في الشفاء:فالنفس التي لكلّ حيوان هي جامعة اسطقسات بدنه و مؤلّفها و مركّبها على نحو يحصل معه أن يكون بدنا لها،و هي حافظة لهذا البدن على النظام الذي ينبغي. (1)

فقول الشيخ في الشفاء و الإشارات،يخالف ما ذهب إليه الفاضل الشارح هاهنا و ما نقله عن الشيخ في رسالته.

و أيضا إن كانت نفس الامّ مدبّرة للمزاج فكيف فوّضت التدبير بعد مدّة إلى الناطقة، و إنّما يجري أمثال هذا بين فاعلين غير طبيعيّين يفعلان بإرادات متجدّدة،و إن كانت القوّة المصوّرة مدبّرة،و المصوّرة من القوى الخادمة للنفس التي تكون بمنزلة آلات لها،فكيف حدثت المصوّرة قبل حدوث النفس التي هي مخدومتها،و كيف فعلت بذاتها،فإنّ الآلة ليس من شأنها أن تفعل من غير مستعمل إيّاها،و ما يقتضيه القواعد الحكميّة التي أفادها الشيخ و غيره،هو أنّ النفس الأبوين تجمع بالقوّة الجاذبة أجزاء غذائيّة،ثمّ تجعلها أخلاطا،و تفرز منها بالقوّة المولدة مادة المنيّ،و تجعلها مستعدّة لقبول قوّة من شأنها إعداد المادة لصيرورتها إنسانا،فتصير بتلك القوّة منيّا،و تلك القوة تكون صورة حافظة لمزاج المنيّ،كالصور المعدنيّة،ثمّ إنّ المنيّ يتزايد كمالا في الرحم بحسب استعدادات يكتسبها هناك إلى أن يصير مستعدّا لقبول نفس أكمل يصدر عنها مع حفظ المادّة الأفعال النباتية،فتجذب الغذاء و تضيفها إلى تلك المادّة فتنميها و يتكامل المادّة بتربيتها إيّاها فتصير تلك الصورة مصدرا مع ما كان يصدر عنها لهذه الأفاعيل،و هكذا إلى أن تصير مستعدّة لقبول نفس أكمل يصدر عنها مع جميع ما تقدّم الأفعال الحيوانية أيضا فيصدر عنها تلك الأفعال أيضا،فيتمّ البدن و يتكامل إلى أن يصير مستعدّا لقبول نفس ناطقة يصدر عنها مع جميع ما تقدّم النطق،و تبقى مدبّرة في البدن إلى أن يحلّ الأجل.

و قد شبّهوا تلك القوى في أحوالها من مبدأ حدوثها إلى استكمالها نفسا مجرّدة بحرارة تحدث في فحم من نار مشتعلة تجاوره ثمّ تشتدّ،فإنّ الفحم بتلك الحرارة يستعدّ لأن يتجمّر،و بالتجمّر يستعدّ لأن يشتعل نارا شبيهة بالنار المجاورة،فمبدأ الحرارة الحادثة في الفحم،كتلك الصورة الحافظة،و اشتدادها كمبدإ الأفعال النباتية،و تجمّرها كمبدإ

ص:159


1- -الشفاء، [1]الطبيعيات،الفصل الثالث في أنّ النفس داخلة في مقولة الجوهر:25،طبع القاهرة.

الأفعال الحيوانية،و اشتعالها نارا كالناطقة،و ظاهر أنّ كل ما يتأخّر يصدر عنه مثل ما يصدر عن المقدّم و زيادة،فجميع هذه القوى كشيء واحد متوجّه من حدّ ما من النقصان إلى حدّ ما من الكمال،و اسم النفس واقع منها على الثلاث الأخيرة،فهي على اختلاف مراتبها نفس لبدن المولود.

و تبيّن من ذلك أنّ الجامع للأجزاء الغذائية الواقعة في الجنين،هو نفس الأبوين و هو غير حافظها.و الجامع للأجزاء المضافة إليها إلى أن يتمّ البدن و إلى آخر العمر،و الحافظ للمزاج هو نفس المولود،و قول الشيخ:«إنّهما واحد»بهذا الاعتبار،و قوله«إنّ الجامع غير الحافظ»بالاعتبار الأوّل.

و بالجملة فالغرض هاهنا على التقديرين أعني أن يكون الجامع و الحافظ شيئين أو شيئا واحدا حاصل لأنّ المزاج محتاج إلى شيء آخر هو النفس،سواء كانت نفس ذلك البدن أو نفسا اخرى.-انتهى كلامه رحمه اللّه.

و قال صدر الأفاضل في الشواهد الربوبيّة:اعلم أنّ الحكماء جعلوا المولّدة و المصوّرة و غيرهما قوى للنفس الإنسانيّة،و النفس حادثة بعد حدوث المزاج و تمام صور الاعضاء، و استشكل هذا بعض الناس بأنّ القول باستناد صور الأعضاء إلى المصوّرة قول بحدوث الآلة قبل ذي الآلة و فعلها بنفسها من غير مستعمل إيّاها و هو ممتنع. (1)

فأجيب عنه تارة بعدم تسليم حدوث النفس-لجواز قدمها،كما ذهب إليه بعض الفلاسفة-و تارة بحدوثها قبل البدن،كما هو رأي بعض الملّيّين،و تارة بعدم جعل المصوّرة من قوى النفس المولود الحيواني،بل من قوى النفس النباتية المغايرة لها بالذات كما هو رأي البعض،و تارة بتصييرها من قوى نفس الامّ.

و شيء من هذه الوجوه لا يسمن و لا يغني،و هكذا اضطرب كلامهم في أنّ الجامع لأجزاء البدن هل هو الحافظ لها أم لا؟و في أنّه نفس المولود أم لا؟فذهب الإمام الرازي إلى أنّ الجامع نفس الأبوين ثمّ يبقى ذلك المزاج في تدبير نفس الأمّ إلى أن يستعدّ لقبول نفس،ثمّ إنّها تصير بعد حدوثها حافظة له و جامعة لسائر الأجزاء بطريق إيراد الغذاء.

و نقل عن الشيخ الرئيس لمّا طالبه بهمنيار بالحجّة على أنّ الجامع للعناصر في بدن الإنسان هو الحافظ لها؟أنّه قال:«كيف ابرهن على ما ليس».

ص:160


1- -الشواهد الربوبية:184 و [1]فيه:اعلم أنّ الحكماء حيث جعلوا....

و بناء هذه الأقوال كلّها على عدم العثور و الاطّلاع على كيفيّة الحركات الجوهريّة، و كيفيّة تجدّد الصورة على المادّة و تلازمهما.و قد مرّت الإشارة إلى أنّ المادّة باستعدادها علّة مصحّحة لتشخّص الصورة،و الصورة بجوهرها العقليّ علّة موجبة لمادّة غير الاولى، بل لبقائها.و هكذا تسلسلت الموادّ بالصور و الصور بالموادّ،فالجامع في كلّ حين غير الحافظ،لأنّ الأوّل معدّ و محرّك بحسب تحرّكه،و الثاني موجب ممسك حسب ثباته و بقائه،و هكذا في كلّ صورة طبيعية أو نفسانيّة،إذ لها جهتان جهة حدوث و تجدّد بواسطة تعلّقه بالمادّة التي شأنها الانصرام،و جهة بقاء و دوام لأجل تعلّقه بالواجب القيّوم، فالمقوّم من الصورة للمادّة غير المتجدّد فيها بوجه،و عينه بوجه،كما نبّهناك عليه مرارا.

ثمّ إنّ العلامة الطوسي بعد أن زيّف قول الشارح القديم للإشارات بأنّ تصرّف نفس المولود في المادّة التي تصرّفت فيها نفس الوالدين،و تفويض التدبير من قوّة أو نفس بعد مدّة إلى اخرى مستحيل.لأنّ تفويض أحد الفاعلين مادّة صنعه إلى فاعل آخر ينوب عنه في تتميم فعله،إنّما جاز في الأفاعيل غير الطبيعية بين فاعلين يفعلان بإرادة دون الطبيعية.

أجاب عن أصل الإشكال بأنّ ما يقتضيه القوانين الحكميّة أنّ نفس الأبوين تفرز من موادّ الغذاء بقوّتها المولّدة مادّة مستعدّة لقبول قوّة من شأنها إعداد المادّة و تصييرها انسانا بالقوّة،و هي صورة حافظة لمزاج المنيّ كالصورة المعدنيّة،ثمّ المنيّ يتزايد كمالا في الرحم بحسب استعدادات يكتسبها إلى أن يصير مستعدّا لقبول نفس أكمل يصدر عنها مع حفظ المادّة الأفعال النباتية،و هكذا إلى أن يصير مستعدّا لقبول نفس أكمل يصدر عنها مع جميع ما تقدّم الأفعال الحيوانيّة،فيتمّ البدن و يتكامل إلى أن يستعدّ لقبول نفس ناطقة يصدر عنها مع ما تقدّم النطق و تبقى مدبّرة إلى أن يحلّ الأجل. (1)

و قال:فبيّن أنّ الجامع للأجزاء الغذائية الواقعة في الجنين هو نفس الأبوين،و هو غير حافظها،و الجامع للأجزاء المنضافة إلى أن يتمّ البدن و إلى آخر العمر و الحافظ للمزاج هو نفس المولود.

فقول الشيخ:«إنّهما واحد»بهذا الاعتبار،و قوله:«انّ الجامع غير الحافظ»بالاعتبار الأوّل.

ص:161


1- -شرح الإشارات 2:304-305.

هذا تلخيص ما ذكره و فيه امور صحيحة،إلاّ أنّه لم يتبيّن منه ما تحيّروا فيه من أنّ هذه الأفاعيل المترتّبة،من الحفظ و التغذية و التصوير و الإنماء و الإحساس و النطق،أ هي كلّها صادرة من كلمة فاعلة،لها قوى متعدّدة متجدّدة الحدوث،أو هي كلمات فعّالة متعدّدة متفاضلة في الكمال،فإن كان الأوّل فيلزم حدوث الناطقة مع حدوث النطفة فتكون معطّلة عن فعلها الخاصّ مدّة،و هذا يخالف قواعدهم،و إن كان الثاني يلزم عليه،ما يلزم به الشارح القديم،من تفويض أحد الفاعلين الطبيعيّين تدبير موضوعه إلى الآخر،و إن كان هناك فساد صورة سابقة و تكوّن صورة لا حقة،فكيف انجرّ تكامل الاستعداد إلى الفساد،و الفطرة حاكمة بأنّ التوجّه إلى الكمال ينافي الفساد و الاضمحلال،فقوّة واحدة لمادّة واحدة لا تفعل فعلين متناقضين فيها.

و أمّا ما ذكره الأطباء من أنّ الحرارة الغريزية توجب الحياة و الموت جميعا فوجه ذلك أنّ فعل تلك الحرارة ليس بالذات إلاّ تقليل الرطوبات.و هذا التقليل نافع في حفظ الحياة ما دامت الرطوبات زائدة في بدن الحيّ،ضارّ ما دامت ناقصة،ففعلها شيء واحد دائما و كلّ واحد من النفع و الضرّ،فعلها بالعرض،و أمّا فعل المصوّرة في مادّتها فليس إلاّ التكميل و الحفظ.و كلّ من له قدم راسخ في الحكمة يعرف أنّ الأفاعيل الطبيعيّة نحو شيء مناف لها مضادّة،بل الأشياء كلّها طالبة للخير الأقصى،كما يشهد به الكشف الأتمّ، فالتحقيق في هذا المقام يتوقّف على ما لوّحنا إليه سابقا من حال اشتداد الطبيعيّة و سلوكها الجوهريّ الاتّصاليّ،حسب ما يقتضيه البراهين المشرقية.-انتهى كلامه رحمه اللّه.

و أقول لا يخفى عليك أنّ التحقيق الذي ذكره المحقّق الطوسي رحمه اللّه،تحقيق أنيق، ينبغي أن يكون عليه المعوّل في جواب ذلك السؤال المشهور الذي أورده،إلاّ أنّ هاهنا امورا ينبغي التنبيه عليها.

ص:162

في امور ينبغي التنبيه عليها هنا:

الأمر الأوّل
اشارة

منها أنّه قال:في قول الشيخ«و لأنّ المزاج واقع فيه بين أضداد متنازعة إلى آخره» بهذه العبارة:

و هذا استدلال بوجود المزاج نفسه و بقائه على وجود النفس،و هو أنّ المزاج كما مرّ إنّما يحدث بين اسطقسات متضادّة متنازعة إلى الانفكاك لاختلاف ميولها و إلى امكنتها، فهو محتاج أوّلا إلى شيء يجمعها بالقسر حتّى تمتزج و تلتئم بعد الاجتماع،ثمّ تتفاعل، فيحدث بعد ذلك المزاج،و إلى شيء يحفظ الاسطقسات بالقسر مجتمعة ليبقى المزاج موجودا،و إلاّ تفرّقت بحسب طبائعها فانعدم المزاج،فالمزاج المستمرّ الوجود محتاج إلى جامع و حافظ،أحدهما سبب وجوده و الثاني سبب بقائه،و هما متقدّمان على الالتيام المتقدّم على المزاج،و هذا هو المراد من قوله:«و كيف و علّة الالتيام و حافظه قبل الالتيام فكيف لا يكون قبل ما بعده»أي و كيف و علّة الالتيام و حافظه تكون ما قبل الالتيام المستمرّ الوجود،فكيف لا يكونان قبل المزاج الباقي الذي هو بعد الالتيام،و هذا الالتيام يتداعى إلى الانفكاك عند لحوق الجامع أو الحافظ وهن بالأمراض المنهكة أو عدم بالموت لارتفاع المعلول عند ارتفاع العلّة.و هذا استدلال مؤكّد للذي قبله باعتبار المشاهدة،فإذن هناك شيء هو الجامع و الحافظ للمزاج و هو الشيء الذي صار المركّب به إنسانا.-انتهى. (1)

فيستفاد ممّا ذكره أنّ ذلك الجامع كما أنّه جامع بالقسر لذوات تلك الاسطقسات، كذلك هو جامع كذلك للمزاج الذي هو يحدث بعد اجتماعها و تفاعلها،و كذلك ذلك

ص:163


1- -شرح الإشارات 2:301-302.

الحافظ كما أنّه حافظ لتلك الاسطقسات مجتمعة أي لاجتماعها كذلك هو حافظ للمزاج.

فيظهر من ذلك توجيه اختلاف إطلاقات كلام الشيخ في الشفاء و الإشارات حيث إنّه في الإشارات.

قال:أوّلا إنّ تلك القوّة إنّما تجبر الأضداد المتنازعة على الالتيام و الامتزاج فأشار به إلى أنّها جامعة لتلك الاسطقسات على الالتيام.

ثمّ قال:«و كيف و علّة الالتيام و حافظه قبل الالتيام»فأشار به إلى أنّها علّة الالتيام أي علّة جمع الأجزاء على الالتيام،و كذا هي حافظة للالتيام،أي حافظة لتلك الأضداد مجتمعة.

ثمّ قال:«فكيف لا يكون قبل ما بعده»،إشارة إلى أنّها جامعة و حافظة للمزاج أيضا حيث إنّه يحدث بعد الالتيام و المفروض أنّها علّة للالتيام و حافظة له.

ثم قال:«و هذا الالتيام كما يلحق الجامع الحافظ وهن أو عدم-إلى آخره-»،إشارة إلى أنّها جامعة و حافظة للالتيام،أي جامعة للأجزاء على الالتيام و حافظة لذلك أي حافظة للالتيام.

ثمّ قال:فأصل القوى المدركة و المحرّكة و الحافظة للمزاج شيء آخر تصريحا بأنّ تلك القوّة حافظة للمزاج أيضا.

و حيث إنّ الشيخ في الشفاء في الكلام الذي نقلنا عنه قال:«فالنفس التي لكلّ حيوان هي جامعة اسطقسات بدنه مؤلّفها و مركّبها على نحو يصلح معه أن تكون بدنا لها»،إشارة إلى أنّها جامعة للاسطقسات و جابرة لها على الالتيام و الاجتماع،بل إشارة إلى أنّها جامعة للمزاج أيضا فإنّ جمع الاسطقسات و تأليفها و تركيبها على نحو يصلح معه أن تكون بدنا لها،لا يتصوّر إلاّ بجمع المزاج أيضا أي بجمع الأجزاء التي وقع بينها المزاج،فإنّ ذلك النحو الصالح هو المزاج اللائق.

ثمّ قال:«و هي حافظة لهذا البدن على النظام الذي ينبغي»،إشارة إلى أنّها حافظة للالتيام و للأجزاء مجتمعة،و كذا هي حافظة للمزاج،فإنّ حفظ البدن على النظام الذي ينبغي يشمل هذين جميعا،فتدبّر.

و إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه يستفاد من كلام المحقّق الطوسي هذا حيث قال:«إنّ

ص:164

المزاج محتاج أوّلا إلى شيء يجمع الاسطقسات بالقسر حتّى تجتمع و تلتئم بعد الاجتماع ثمّ تتفاعل فيحدث بعد ذلك المزاج،و إلى شيء يحفظ الاسطقسات بالقسر مجتمعة ليبقى المزاج موجودا»انّ فعل النفس أوّلا،إنّما هو جمع الاسطقسات و الالتيام بينها،و أنّه يتبع ذلك حدوث المزاج.و كذا فعلها بالذات حفظ الالتيام بين الاسطقسات و حفظها على الاجتماع،و يتبعه حفظ المزاج و بقاؤه،فجمع الاسطقسات و حفظها مجتمعة فعل النفس فعلا أوّليّا و حدوث المزاج و حفظه فعلها أيضا فعلا ثانويّا.و بذلك يصحّ إطلاق أنّها جامعة للمزاج،إذ هي جامعة لما يقع فيه المزاج و كذلك يستفاد ممّا تقدّم،و من قوله:«فالمزاج المستمرّ محتاج إلى جامع و حافظ أحدهما سبب وجوده و الثاني سبب بقائه،و هما متقدّمان على الالتيام المتقدّم على المزاج»أنّ ذلك الشيء الجامع من حيث جمع الأجزاء و قسرها على الالتيام،و حفظها على الاجتماع مدّة يحصل فيها الامتزاج و الالتيام و التفاعل بينها سبب لحدوث أصل المزاج و وجوده،و من حيث حفظها على الالتيام بعد ذلك سبب لبقاء المزاج و حفظه،و أن ليس ذلك السبب هو المزاج لتقدّمه على الالتيام المتقدّم على المزاج،و المتقدّم على المتقدّم على الشيء متقدّم على ذلك الشيء و علّة له،فلا يكون نفسه،فيستفاد منه أنّ ذلك الجامع من جهة أصل الجمع،و الجمع مدّة يحصل فيها المزاج سبب لوجوده و أنّ الحافظ من جهة حفظ الالتيام بعد ذلك،سبب لبقائه لا أنّ الأوّل علّة معدّة للثاني علّة معدّة لا تجتمع مع معلولها في الوجود و يجب تغايرهما كما زعمه صدر الأفاضل،و حيث كان الأوّل سببا للوجود و الثاني سببا للبقاء،فجاز اجتماعهما في الوجود بل اتّحادهما كما في مراتب كون ذلك السبب نفسا نباتيّة أو حيوانيّة أو ناطقة و إن جاز اختلافهما و تغايرهما كما في مرتبة كونه صورة منويّة كالصورة المعدنيّة في حفظ المزاج،فإنّ حافظ المزاج و سبب بقائه حينئذ هو تلك الصورة و جامعه و سبب وجوده هو نفس الأبوين كما حقّقه رحمه اللّه.و حيث يستفاد منه أنّ حدوث المزاج و بقاءه أمران متغايران فيمكن أن يدفع بذلك ما يمكن أن يورد على المحقّق الطوسي رحمه اللّه.

ص:165

دفع إيراد عن المحقّق الطوسي رحمه اللّه

من أنّ ما أورده هو نفسه على الإمام من الإلزام بتفويض أحد الفاعلين الطبيعيّين تدبيره إلى آخر،وارد عليه أيضا في تفويض نفس الأبوين حفظ المزاج إلى الصورة المنويّة التي هي من قوى النفس المولود.

و بيان الدفع أنّ فعل نفس الأبوين إنّما هو أصل الجمع و حفظ الأجزاء إلى أن يحصل المزاج،و فعل الصورة المنويّة إبقاء المزاج و حفظه بعد ذلك،و الفعلان متغايران،فلم يفوّض نفس الأبوين فعلها الخاصّ بها إلى الصورة المنويّة،بل انقطع فعلها و حدث فعل آخر من فاعل آخر حدث.و هذا بخلاف ما قاله الإمام حيث إنّه قال:إنّ تدبير المزاج من حيث الوجود و البقاء جميعا كان في عهدة نفس الامّ،ثمّ فوّضته إلى الناطقة،ففوّضت فعلها الخاصّ بها إليها،فتبصّر.

الأمر الثاني
اشارة

و من تلك الامور التي ينبغي التنبيه عليها،أنّ أوّل كلام المحقّق الطوسي رحمه اللّه في تحقيقه،و إن كان يوهم أنّ النفس النباتيّة و الحيوانيّة و الناطقة نفوس متغايرة و ذوات مختلفة بالماهيّة متفاضلة في الكمال،كما هو رأي بعضهم،لكنّ التمثيل الذي ذكره لتلك القوى و النفوس في أحوالها من مبدأ حدوثها إلى استكمالها،و كذا قوله أخيرا:«فجميع هذه القوى كشيء واحد متوجّه من حدّ ما من النقص إلى حدّ ما من الكمال،و اسم النفس واقع منها على الثلاث الأخيرة،فهي على اختلاف مراتبها نفس لبدن المولود»يدلّ على أنّ هذه النفوس،بل الصورة الحافظة لمزاج المنيّ أيضا التي هي كالصورة المعدنيّة كلّها بحسب الذات،و الحقيقة شيء واحد يتزايد كمالاته بحسب استعدادات يكتسبها في مراتبه.و هو في تلك المراتب باق بحسب الذات من غير فساد أمر من ذاته و لا تكوّن أمر في ذاته و له قوى متعدّدة مختلفة بسببها يصير أفعال تلك الذات الواحدة متغايرة مختلفة، كما هو رأي جمهور الحكماء،و هو الحقّ-كما سيأتي تحقيقه-و كأنّه لأجل ملاحظة وحدتها بالذات و تعدّدها بحسب الأفعال و الآثار قال:إنّها كشيء واحد و لم يقل إنّها شيء واحد.

ص:166

و يؤيّده أنّ القول بوحدتها بالذات و تغايرها بحسب القوى و الأفعال،هو الموافق لكلام الشيخ في الكتابين،حيث إنّه في الإشارات (1)في هذا المقام الذي ذكر المحقّق الطوسي فيه هذا التحقيق قال:«فأصل القوى المدركة و المحرّكة و الحافظة للمزاج شيء آخر،لك أن تسمّيه النفس،و هذا هو الجوهر الذي يتصرّف في أجزاء بدنك ثمّ في بدنك.»ثمّ قال:«فهذا الجوهر فيك واحد،بل هو أنت على التحقيق،و له فروع من قوى منبثّة في أعضائك».

و كذلك قد حقّق في الشفاء في فصل عدّ المذاهب في النفس و أفعالها و أنّها واحدة أم كثيرة،القول في وحدتها بحسب الذات و اختلافها بحسب القوى و الآلات و الأفعال بما لا مزيد عليه. (2)و سنذكر تلخيصه فيما بعد إن شاء اللّه تعالى في موضع يليق به.

و بالجملة فهذا القول هو الحقّ الحقيق بالتصديق و لا ينافيه ما ورد في أخبار الصادقين عليهم السّلام من أنّ اللّه تعالى جعل في الأنبياء و الأوصياء عليهم السّلام خمسة أرواح، روح القدس،و روح الإيمان،و روح الحياة،و روح القوّة،و روح الشهوة،و في المؤمنين الأربعة الأخيرة،و في الكافرين الثلاثة الأخيرة، (3)لأنّه يمكن أن يكون ذلك إشارة إلى تعدّد مراتب كمالات الأرواح،و تعدّد قواها،لا تعدّدها بحسب الذات.

و كذا لا ينافيه ما ورد:من أنّ ولوج روح الحياة،و كذا روح العقل،إنّما يكون إذا مضى على الجنين في الرحم مدّة بعد فيضان الروح النباتي عليه، (4)إذ ذلك أيضا يمكن أن يكون محمولا على أنّ النفس بعد تلك المدّة تزيد كمالاتها،و تكون بحيث يصدر عنها مع ما تقدّم من الأفعال النباتيّة الفعل الحيواني،و بعد ذلك بحيث يصدر عنها مع جميع ما تقدّم الفعل الإنساني.

و على هذا أيضا يمكن أن يحمل قوله تعالى: «وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ سَوّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ،وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ» . (5)

و قوله تعالى: «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ

ص:167


1- -شرح الإشارات 2:302-306. [1]
2- -الشفاء،الطبيعيات،الفصل السابع في عدّ المذاهب...:221،طبع القاهرة.
3- -راجع الوافي 3:627،باب ما خصّوا عليهم السّلام به من الأرواح. [2]
4- -راجع تفسير نور الثقلين 3:532،ذيل آية 12 من سورة«المؤمنون».
5- -السجدة:7 و 9. [3]

مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ» ، (1)لو كان قوله تعالى «ثُمَّ أَنْشَأْناهُ» إشارة إلى إفاضة النفس الإنسانيّة عليه،فتدبّر.

و إذا عرفت ذلك تبيّن لك أنّ ما أورده صدر الأفاضل بقوله:«إلاّ أنّه لم يتبيّن منه ما تحيّروا فيه من أنّ هذه الأفاعيل المترتّبة،من الحفظ و التغذية و التصوير و الإنماء و الإحساس و النطق،أ هي كلّها صادرة من كلمة فاعلة لها قوى متعدّدة متجدّدة الحدوث؟ أو هي كلمات فعّالة متعدّدة متفاضلة في الكمال؟»غير وارد،حيث إنّ كلام المحقّق الطوسي؛دلّ على الأوّل كما هو ظاهر كلامه،و لكونه الحقّ،و لكونه موافقا لكلام الشيخ و هو بصدد شرح كلامه.

و أمّا ما أورده بقوله:«فإن كان الأوّل فيلزم حدوث الناطقة مع حدوث النطفة،فتكون معطّلة عن فعلها الخاصّ مدّة و هذا يخالف قواعدهم»،فغير وارد أيضا.

أمّا أوّلا فلأنّه يمكن أن يكون مراد المحقّق الطوسي كما يشعر به بعض كلماته وحدة ما يقع عليه اسم النفس،أي النباتيّة و الحيوانيّة و الناطقة بالذات،لا الصورة الحافظة لمزاج المنيّ أيضا.فعلى هذا فلا يرد حدوث الناطقة مع حدوث النطفة حتّى يلزم التعطيل المذكور.

و أمّا ثانيا فلأنّه على تقدير أن يكون مراده وحدة تلك الصورة الحافظة أيضا مع تلك النفوس بالذات،كما هو الأظهر،يمكن أن يقال إنّ ذلك التعطيل إنّما يلزم لو لم يكن هناك مانع من توجّه الناطقة إلى فعلها الخاصّ بها،و هذا ممنوع،إذ ربما كان توجّهها إلى تكميل مادّة بدنها بحيث تصلح أن تكون آلة لاستكمالها،أو انغمارها في الرطوبة على ما قيل، أو نحو ذلك مانعا عن فعلها الخاصّ بها،و هذا ليس فيه التعطيل المحال،كما أنّها في مرتبة النباتيّة و الحيوانيّة أيضا كذلك،بل إنّها في بعض مراتب كونها ناطقة كمرتبة العقل الهيولاني أيضا كذلك،و لا تعطيل،إذ المانع من فعلها الخاصّ هناك موجود من نحو ما ذكرنا،و لم يقل أحد بأنّ الناطقة في مراتب قواها النظريّة مثلا،كالهيولانية و بالملكة و بالمستفاد و بالفعل نفوس متعدّدة بالذات أو أنّها في مرتبة الهيولانيّة،نفس مغايرة بالذات

ص:168


1- -المؤمنون:12-14. [1]

للنفس التي فيما بعد تلك المرتبة،بل الاتّفاق واقع على أنّها في تلك المراتب أجمع،ذات واحدة تختلف كمالاتها.

ثمّ إنّه لو كان هذا الإيراد الذي أورده صدر الأفاضل على تقدير وحدة النفس بالذات واردا لكان يرد على نفسه أيضا،إذ هو أيضا ذهب إليها حيث قال في تلك الرسالة بهذه العبارة:

«الإشراق الثامن في أنّ لكلّ إنسان نفسا واحدة.

من الناس من زعم أنّ فينا نفسا إنسانيّة،و اخرى حيوانيّة،و اخرى نباتيّة،و الجمهور على أنّ النفس فينا واحدة،هي الناطقة فقط و لها مشاعر و قوى،فانّ لك أن تقول أحسست فغضبت و أدركت فحرّكت،فمبدأ الكلّ أنت،و أنت نفس شاعرة فكلّ القوى من لوازم هذه.» (1)

ثمّ ذكر وجوها اخرى على هذه الوحدة كما يظهر على من راجع كلامه.

و أمّا قوله:«و إن كان الثاني يلزم عليه ما يلزم به الشارح المتقدّم من تفويض أحد الفاعلين الطبيعيّين تدبير موضوعه إلى آخر»،فهو وارد على هذا التقدير أي على تقدير تعدّد النفوس بالذات،حيث إنّه يلزم حينئذ تفويض الصورة المنويّة التي هي فاعل طبيعي تدبيرها إلى النفس النباتية،التي هي فاعل طبيعي،و كذا تفويض النفس النباتية تدبيرها إلى النفس الحيوانية،و تفويض الفاعل الطبيعي تدبيره إلى آخر،سواء كان فاعلا طبيعيّا أيضا كما في الأوّل،أو فاعلا غير طبيعي كما في الثاني،ممتنع،على اصولهم،لأنّ الطبيعة لا تكون طالبة لأمر و تاركة له،و كأنّه رحمه اللّه أشعر في كلامه ذلك،بأنّ هذا التفويض إنّما يلزم على تقدير تعدّد النفوس بالذات لا على تقدير وحدتها بالذات،و تعدّدها باعتبار القوى و الكمالات،إذ هي على هذا التقدير فاعل واحد،هو النفس الناطقة المجرّدة التي هي فاعل إراديّ،و ليس هناك تفويض،بل زيادة كمالها بزيادة استعداداتها،و بأنّ المحقّق الطوسي حيث أورد هذا الإلزام على الإمام الرازي ينبغي أن يكون نظره إلى تعدّدها بالذات،فإنّه لو كان نظره إلى وحدتها بالذات لم يرد إلزامه على الإمام حيث إنّ تفويض نفس الامّ التي هي واحدة بالذات-و هي نفسها الناطقة التي هي فاعلة بالإرادة-تدبيرها

ص:169


1- -الشواهد الربوبية:227. [1]

إلى النفس الناطقة للمولود التي هي أيضا واحدة بالذات و فاعلة بالإرادة،ليس من تفويض أحد الفاعلين الطبيعيّين تدبيره إلى الآخر،فهذا الإلزام قرينة على أنّ نظر المحقّق الطوسي إلى تعدّد النفوس بالذات.

و ما ذكره من قوله:«فجميع هذه القوى كشيء واحد»قرينة على أنّ نظره إلى وحدتها بالذات،و بذلك يحصل الإبهام و الإجمال في كلامه:«و لم يتبيّن منه أنّ هذه الأفاعيل أ هي صادرة من كلمة واحدة فاعلة؟أو من كلمات متعدّدة فعّالة؟»

و بالجملة لو كان نظره إلى وحدتها بالذات،لم يرد إلزامه على الإمام الرازي و لم يعلم بعد أنّ مذهب الإمام هو التعدّد بالذات،حتّى يكون الإلزام عليه إلزاميا،و إن كان نظره إلى تعدّدها بالذات ورد عليه أيضا ما ألزمه على الإمام.

و هذا غاية توجيه كلام صدر الأفاضل في إيراده على المحقّق الطوسي.

دفع إيراد آخر على المحقّق الطوسي رحمه اللّه

و يمكن الجواب عن ذلك بأنّ الظاهر كما ذكرنا أنّ نظر المحقّق الطوسى رحمه اللّه إلى الوحدة بالذات،و أنّه على تقدير هذه الوحدة أيضا يرد إلزامه على الإمام،فإنّ ذات نفس الامّ و كذا ذات نفس المولود و إن كانتا فاعلين بالإرادة في بعض أفاعيلهما-أي الأفاعيل الحيوانيّة و الإنسانيّة-لكن فعلاهما هذان،أي جمع أجزاء النطفة و حفظها أوّلا الذي أسنده الإمام إلى نفس الامّ،و حفظها ثانيا الذي أسنده إلى نفس المولود الحادثة فعلان طبيعيّان غير إراديّين كما لا يخفى.و الفاعل من حيث فعله الطبيعي سواء كان ذاته بذاته طبيعيّا أيضا،أو إراديّا،لا يمكن أن يفوّض تدبيره الطبيعي إلى فاعل آخر طبيعي أو غير طبيعي و خصوصا إذا كان فعله أيضا غير طبيعى كما هنا،حيث إنّ الدليل الذي ادّعوه على هذا الامتناع جار هنا أيضا.و الحاصل أنّ الفعل الطبيعي من حيث هو فعل طبيعي لا يمكن أن يفوّض تدبيره من فاعل إلى آخر.و لا مانع من أن يكون فاعل واحد من جهة ذاته بذاته أو من بعض الاعتبارات فاعلا بالإرادة،و من جهة بعض الاعتبارات الاخر فاعلا طبيعيّا، فإنّه لا مانع من أن يكون النفس المجرّدة الإنسانيّة من جهة تعلّقها بمجموع البدن كالصورة المعدنيّة،و فاعلة بالطبع،و من جهة تعلّقها ببعض أجزاء بدنها كالكبد نوعا من التعلّق

ص:170

كالنفس النباتيّة،و فاعلة بالطبع أيضا،و من جهة تعلّقها ببعض آخر منها كالقلب نوعا من التعلّق كالنفس الحيوانيّة،و فاعلة بالإرادة،و من جهة ذاتها بذاتها نفسا مجرّدة فاعلة بالإرادة أيضا،كما أنّها من جهة تعلّقها ببعض أجزاء بدنها كالدماغ نوعا من التعلّق مدركة للجزئيات،و من جهة ذاتها بذاتها مدركة للكلّيات،فإنّ أمر النفس عجب عجاب و اللّه أعلم بالصواب.

و من هذا تبيّن أنّ نظر المحقّق الطوسي رحمه اللّه إلى الوحدة بالذات و أنّ إلزامه على الإمام الرازي وارد.

و أمّا قول صدر الأفاضل:«و إن كان هناك فساد صورة سابقة و تكوّن صورة لا حقة، فكيف انجرّ تكامل الاستعداد إلى الفساد.و الفطرة حاكمة بأنّ التوجّه إلى الكمال ينافي الفساد و الاضمحلال».

فهو إن كان ناظرا إلى تقدير وحدة تلك النفوس بالذات و اختلافها في الآثار كما هو المستفاد من كلام المحقّق الطوسي و الشيخ و غيرهما،فلا يخفى أنّه غير وارد،فإنّ هؤلاء لا يقولون بذلك،بل إنّهم يقولون بتكامل استعداد تلك النفس الواحدة و تزايد كمالاتها بحسب مراتبها من غير فساد نفس و تكوّن نفس اخرى.و عليه ينبغي أن يحمل قول المحقّق الطوسي:«و ظاهر أنّ كلّ ما يتأخّر يصدر عنه مثل ما يصدر عن المتقدّم و زيادة.»

و كذلك لو كان ذلك ناظرا إلى تقدير تعدّدها بالذات،فإنّهم و إن قالوا بتكوّن نفس لا حقة لكنّهم لم يقولوا بفساد النفس السابقة،بل إنّ ظاهر كلامهم أنّهم قالوا باجتماع تلك النفس اللاحقة مع السابقة في الوجود و ترتّب الآثار حيث قالوا بأنّ فينا نفوسا متعدّدة، كما نقل صدر الأفاضل نفسه عنهم في كلامه المنقول عنه آنفا.

و أمّا قوله:«فقوّة واحدة لمادّة واحدة لا تفعل فعلين متناقضين».

فهو إن كان من تتمّة السابق،و كان مراده أنّ القوّة الواحدة لا تفعل فعلين متناقضين، أي التوجّه إلى الكمال و الفساد،فجوابه قد ظهر ممّا ذكرنا،و إن كان إيرادا آخر على تقدير وحدة النفس بالذات،و كان مراده أنّ النفس الواحدة لا تفعل الفعل النباتي و الحيواني و النطقي،فهو أيضا غير وارد،إذ هذه الأفعال غير متناقضة،بل يجتمع بعضها مع بعض في الوجود،و تعدّدها لا ينافي وحدة فاعلها بالذات،إذ فاعلها مع وحدتها بالذات مختلفة

ص:171

متعدّدة من جهة الاعتبارات و بحسب الآثار و الكمال.

فظهر من ذلك أنّ الإيرادات التي ذكرها صدر الأفاضل في هذا المقام لا وجه لها،كما أنّ ما اختاره في جواب ذلك السؤال المشهور،و قال إنّه هو التحقيق،ممّا لا وجه له،إذ هو مبنيّ على تجويز الحركة في الجوهر،و قد تبيّن بطلانها في موضعه،حيث إنّ المتحرّك في كلّ مقولة يجب أن يبقى ذاته بشخصه حين الحركة،و إذا فرضت الحركة في الجوهر كانت الحركة في الصور الجوهرية بحيث لا تبقى واحدة منها في أزيد من آن،فيكون المتحرّك نفس الهيولى و الهيولى لا وجود شخصيا لها إلاّ بالصورة.و بما ذكرنا ظهر لك تزييف ما ذكره صدر الأفاضل هنا.

و قد ظهر أيضا بما ذكره المحقّق الطوسي تزييف ما ذكره الإمام الرازي،فظهر أنّ ما حقّقه المحقّق الطوسي رحمه اللّه ممّا ينبغي أن يكون المعوّل عليه في جواب ذلك السؤال المشهور.

في بيان الجواب عن السؤال الذي أوردناه على كلام الشيخ في الشفاء

و حيث عرفت ما أوردنا من الكلام في البين للتمهيد عن جواب السؤال الذي أوردناه على كلام الشيخ في الشفاء فلنرجع إلى بيان الجواب عنه،فنقول:إنّك إذا أحطت بما تلوناه عليك،تبيّنت معنى ما ذكر الشيخ من كون النفس حافظة للمزاج و التركيب و علّة لهما،فإنّ معناه كما تلخّص لك ممّا تقدم أنّ المزاج البدني لمّا كان واقعا بين أضداد متنازعة إلى الانفكاك،و هى اسطقسات البدن التي تطلب كلّ منها احيازها الطبيعيّة لو خلّيت و طباعها، فلا بدّ من أن يكون هناك قاسر يقسرها على الاجتماع و الالتيام و ليس ذلك القاسر هو المزاج،لأنّ المزاج إنّما يحدث بعد الاجتماع،فلا يمكن أن يكون قبله،فلا يكون علّة له،بل العلّة القاسرة لتلك الأضداد على الاجتماع إنّما هي أمر آخر،إن شئت سمّيته قوّة، و إن شئت سمّيته صورة،و إن شئت سمّيته نفسا،و هذا القاسر كما أنّه علّة لجمع تلك الأجزاء و التيامها،كذلك هو علّة لما يحدث بعد الالتيام،و يتبعه أي المزاج،فهو علّة أوّلا للالتيام،و ثانيا لحدوث المزاج من المبدأ الفيّاض و لبقائه و انحفاظه،فهو كما أنّه جامع للأجزاء كذلك هو علّة حافظة للمزاج.

ص:172

و بالجملة،فهذا القاسر الجامع الحافظ،هو نفس المولود التي هي واحدة بالذات، مختلفة باعتبار القوى و الآثار و الأفعال و الكمالات.و يصدر عنها في كلّ حالة من حالاتها الجمع و الحفظ معا،ما سوى مرتبة كون تلك القوّة بحيث لا تسمّى نفسا،بل صورة منويّة،فإنّ فعلها في تلك المرتبة،إنّما هو حفظ مزاج المنيّ كالصورة المعدنيّة لا الجمع، حيث إنّ الجامع للأجزاء الغذائية التي يتبع جمعها المزاج المنويّ،إنّما هو نفس الأبوين لا نفس المولود.و ليس في ذلك تفويض أحد الفاعلين الطبيعيّين من حيث فعلهما الطبيعي تدبيره إلى الآخر،كما أشرنا إليه،أي من جهة أنّ الجمع و الحفظ و إن كان كلاهما فعلين طبيعيّين،و المفروض أنّ نفس الأبوين فوّضت الحفظ إلى نفس المولود.إلاّ أنّه ليس فيه تفويض نفس الأبوين فعلها الخاصّ بها إلى نفس المولود،حيث إنّ فعل نفس الأبوين إنّما هو الجمع،و هي لم تفوّضه إلى نفس المولود بل الصادر من نفس المولود في تلك المرتبة إنّما هو الحفظ خاصّة دون الجمع،فتبصّر.

ثمّ إنّه عند حدوث المزاج المنويّ تستعدّ تلك الأجزاء التي هي مادّة إنسان لحدوث نفس من المبدأ الفيّاض متعلّقة بها،لا قائمة بها،و بعبارة اخرى إنّه عند ذلك يستعدّ البدن لكون القوّة المتعلّقة به يتزايد كمالها بحيث تسمّى نفسا و هذه القوّة و هذه النفس و هي التي قلنا إنّها واحدة بالذات،مختلفة باعتبار القوى و الكمالات يصدر عنها الجمع و الحفظ معا، و بذلك يظهر معنى قول الشيخ:«إنّ المزاج و البدن علّة بالعرض للنفس،»و عسى أن نأتي على زيادة إيضاح لهذا فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

و أمّا وجه الجمع بين ما ذكره في الشفاء في ذلك الاحتمال الثالث،من أنّ فساد البدن إنّما يكون بسبب يخصّه من تغيّر المزاج و التركيب.

و ما نقلناه عنه في الكتابين،من أنّ النفس جامعة لاسطقسات البدن و حافظة للبدن على النظام الذي ينبغي فلا يستولي عليه المغيّرات الخارجة ما دامت النفس موجودة فيه، و أنّ الالتيام الواقع في أجزاء البدن إذا لحق جامعه و حافظه-أي علّته التي هي النفس- وهن او عدم يتداعى إلى الانفكاك.

فبيانه أنّ هذا الجمع و الحفظ سواء كان متعلّقهما الأجزاء البدنيّة أو المزاج البدني حيث كانا فعلين حاصلين في مادّة يستدعيان فاعلا و قابلا و فاعلهما النفس،كما دلّ عليه كلام

ص:173

الشيخ،و قابلهما البدن بأجزائه و كيفيته،و بعبارة اخرى علّتهما بالذات هي النفس و علّتهما بالعرض هي البدن،كما يدلّ عليه كلام المحقّق الطوسي في ذيل قول الشيخ في الإشارات:«و استحالة الجسم عن أن يكون آلة لها و حافظا للعلاقة معها بالموت لما تضرّ جوهرها»حيث قال:«و اعلم أنّ إسناده حفظ العلاقة مع الجسم هنا إلى الجسم ليس بمناقض لإسناده حفظ المزاج الذي هو سبب العلاقة في النمط الثالث إلى النفس،لأنّ النفس كما كانت حافظة لها بالذات فالجسم حافظ أيضا و لكن بالعرض،و ذلك لأن فساد المزاج المقتضي لقطع العلاقة إنّما يتطرّق من جهة الجسم و عوارضه،و لذلك أسند استحالة البدن عن كونه آلة للنفس إلى الجسم،و عدم تطرّق الفساد إلى الشيء ممّا من شأنه أن يتطرّق فيه الفساد حفظ ما لذلك الشيء،لكنّه حفظ بالعرض.-انتهى.»

ثمّ إنّه حيث كان هذا الجمع و هذا الحفظ أمرين حادثين بعد ما لم يكونا،و كان وجود معلول ما يقتضي وجود جميع علله بشرائطها،و كان زواله لا يقتضي زوال جميع ذلك،بل يكفي زوال أمر ما من أجزاء عللها و شروطها أو طروء ضدّه عليه،كان وجود هذا الجمع و الحفظ لوجود فاعلهما و قابلهما معا مع جميع الشرائط التي هي شروط فيها بخلاف زوالهما،فإنّه يكفي فيه زوال قابلها و علّتها بالعرض كالبدن من غير أن يقتضي ذلك زوال ذات علّتهما الفاعلة و علّتهما بالذات كالنفس.

لست أعني بقولي هذا زوال البدن بالذات و فساده عن أصله،حتّى ينافي ما ذكره الشيخ في ذلك الاحتمال الثالث أنّ فساد البدن إنّما يكون بسبب يخصّه من تغيّر المزاج و التركيب،أي بسبب زوال الجمع و الحفظ حيث إنّ فساد البدن إنّما يكون بفساد المزاج لا بالعكس.

بل أعني به زوال البدن،من حيث كونه قابلا للجمع و الحفظ و صالحا لوقوع الالتيام و المزاج بين أجزائه،بأن يتطرّق أوّلا إلى البدن وهن و ضعف بسبب استيلاء المغيّرات الخارجيّة و الداخليّة،فيخرج بذلك عن الصلاحية لوقوع المزاج الخاصّ بين أجزائه،ثمّ يتطرّق بذلك وهن و فساد إلى ذلك المزاج الحاصل بينها،فيفسد ذلك المزاج و يتداعى أجزاء البدن إلى الانفكاك،على مقتضى طباعها،فيلحق ذلك فساد البدن و يتبعه زوال علاقة النفس عنه،و نحن نعلم بالضرورة أنّ زوال الجمع و الحفظ أي تغيّر المزاج و التركيب

ص:174

إنّما يكون بهذا السبب،و أنّ ذلك يتبعه فساد البدن،كما نعلم بالضرورة أنّ فساد البدن إنّما يكون بتغيّر مزاجه و تركيبه.

و يؤيّد ما ذكرناه قول الشيخ في الشفاء في فصل جوهرية النفس:«و إذا فارقت النفس وجب ضرورة أن يكون فراقها لغالب صيّر الموضوع بحالة اخرى و أحدث فيه صورة جماديّة،كالمقابلة للصورة المزاجيّة الموافقة للنفس،و لتلك الصورة و المادّة التي للنفس لا تبقى بعد النفس على نوعها البتّة،بل إمّا أن يبطل نوعها و جوهرها الذي به كان موضوعا للنفس،أو يخلف النفس عنها صورة تستبقي المادّة بالفعل على طبيعتها فلا يكون ذلك الجسم الطبيعي كما كان،بل يكون صورة و أعراض اخرى و يكون قد تبدّل أيضا بعض أجزائها و فارق مع تغيّر الكلّ في الجوهر فلا يكون هناك مادّة محفوظة الذات بعد مفارقة النفس هي كانت موضوعة للنفس و الآن هي موضوعة لغيره.» (1)

و كذا قوله في الإشارات:«و استحالة الجسم عن أن يكون آلة لها و حافظا لعلاقة معها بالموت،لا تضرّ جوهرها» (2)حيث أسند تلك الاستحالة إلى الجسم أوّلا.

و كذا قول المحقّق الطوسي:«و ذلك لأنّ فساد المزاج المقتضي لقطع العلاقة،إنّما يتطرّق من جهة الجسم و عوارضه» (3).و المحصّل أنّ زوال المزاج و التركيب إنّما يكون بطروء عوارض على البدن الحاصل على المزاج الخاصّ و التركيب الخاصّ لا غير، فيخرج البدن عن القابليّة لذلك المزاج الخاصّ،فيفسد المزاج بزوال علّته القابلة له من حيث إنّها قابلة له،أي فيفسد المزاج و يتبعه زوال البدن و فساده من حيث المزاج و التركيب،و كذا من جهة الصورة الشخصيّة و النوعيّة بل الجسميّة أيضا بطروء الضدّ عليها،و لا يستلزم ذلك زوال ذات العلّة الفاعليّة للمزاج و التركيب أو علّتهما بالذات،أعني النفس الجامعة و الحافظة للمزاج،حيث إنّ انعدام المعلول لا يستلزم انعدام جميع علله،مع أنّك قد عرفت فيما تقدّم أنّ تغيّر المزاج و التركيب لكونه تدريجيّا مستلزما لحركة في زمان على مادّة تقبل التدريج،لا يمكن أن يكون مستتبعا لانعدام ذات النفس لكونها مجرّدة عن المادّة في ذاتها.نعم هو يمكن أن يكون مستتبعا لزوال النفس من حيث كونها

ص:175


1- -الشفاء، [1]الطبيعيّات،الفصل الثالث في أنّ النفس داخلة في مقولة الجوهر:22،طبع القاهرة.
2- -شرح الإشارات 3:265. [2]
3- -شرح الإشارات 3:266.

جامعة و حافظة بالذات أي لزوال صفة جمعها و حفظها،و كذا لقطع علاقتها عن البدن، حيث إنّه إذا لم تكن هناك مادة قابلة للجمع و الحفظ لا يتصوّر الجمع و الحفظ،و إن كان ذات الجامع و الحافظ بذاته موجودا،لا نقص في ذاته و لا في علّيته بذاته و إذا زال ذلك المزاج الخاصّ الموافق للنفس الذي هو منشأ علاقتها بالبدن زالت علاقتها عنه من غير أن يكون ذلك مستلزما لانعدام ذات النفس-و سيجيء زيادة بيان له إن شاء اللّه تعالى.

و على هذا فيمكن أن يحمل كلام الشيخ في الشفاء:«و هي حافظة لهذا البدن على النظام الذي ينبغي فلا يستولي عليه المغيّرات الخارجة ما دامت النفس موجودة فيها» (1)على أنّها حافظة له على ذلك النظام،ما دام يمكن الحفظ و يمكن أن يكون ذلك المزاج قابلا له صالحا له و لم يطرأ عليه الضدّ و لم يستول عليه المغيّرات،و ما دامت النفس موجودة مع البدن متعلّقة به جامعة حافظة،و أمّا إذا لم يكن كذلك،خرج البدن عن الصلاحيّة لقبول حفظ المزاج،و فسد المزاج،و فسد البدن أيضا،و زال الحفظ و انقطعت علاقتها عنه.

و كذا كلامه في الإشارات:«و هذا الالتيام كما يلحق الجامع الحافظ وهن أو عدم يتداعى إلى الانفكاك» (2)،على أنّه إذا لحق الجامع الحافظ وهن من حيث الجمع و الحفظ بسبب الأمراض المنهكة البدنيّة أو عدم من هذه الحيثيّة أيضا بسبب الموت البدني،تداعى الالتيام إلى الانفكاك فزال جمعه و حفظه فزال تعلّقها عن البدن ففارقته من غير أن يكون مستلزما لانعدام الجامع الحافظ بذاته،و على هذا فيحصل الجمع بين كلامي الشيخ اللذين نحن بصدد الجمع بينهما من غير إشكال.

و هذا الذي ذكرنا إنّما هو على مساق ظاهر ما نقلنا عن الشيخ آنفا في فراق النفس عن البدن و مذاق الحكماء الطبيعيّين في الموت،و أمّا على مذاق بعض الحكماء الإلهيّين فيه فيمكن أن يقال:إنّ البدن بذلك المزاج الخاصّ و التركيب الخاصّ اللذين هما منشأ تعلّق النفس به لمّا كان آلة لاستكمالها حيث كانت تحتاج إليه في استكمالها،كانت جامعة حافظة للبدن على مزاجه،و كانت العلاقة شديدة باقية،و حيث خرج كمالها المقدّر لها به

ص:176


1- -الشفاء، [1]الطبيعيات،الفصل الثالث في أنّ النفس داخلة في مقولة الجوهر:25،طبع القاهرة.
2- -شرح الإشارات 2:301. [2]

من القوّة إلى الفعل مرتبة فمرتبة و كان الاحتياج أقلّ فأقلّ،و لا سيّما إذا استولت المغيّرات على البدن ضعف الجمع و الحفظ مرتبة فمرتبة،إلى أن انتهى الأمر إلى مرتبة يزول فيها الاحتياج بالمرّة،و ينعدم العلاقة و يزول الحفظ،فيتداعى الالتيام المحفوظ،و كذا الاجزاء الملتئمة إلى الانفكاك فينعدم المزاج و يفسد البدن بفساده،و على هذا أيضا فيحصل الجمع بين كلاميه أيضا و كأنّه ألصق بكلامه الذي نقلنا عنه في حفظ النفس للمزاج و اللّه تعالى أعلم.

في ترميم بعض ما ذكره الشيخ في الكتابين من الدليل على بقاء النفس

ثمّ اعلم أنّ ما ذكره الشيخ في الشفاء في الدليل على أنّه لا يجوز أن يكون سبب من الأسباب يعدم النفس،حيث ذكر أن كلّ شيء موجود من شأنه أن يفسد بسبب يجب أن يكون فيه قوّة أن يفسد،و قبل الفساد فيه فعل أن يبقى،و قوّة الفساد و فعليّة البقاء متغايرتان،فإذن هما لأمرين مختلفين.ثمّ ذكر أنّ كلّ شيء يبقى و له قوّة الفساد،فله أيضا قوّة أن يبقى،لأنّ بقاءه ليس بواجب ضروري،و اذا لم يكن واجبا كان ممكنا،و الإمكان الذي يتناول الطرفين،هو طبيعة القوّة،فإذن يكون في جوهره قوّة أن يبقى،و أنّ فعليّة البقاء و قوّة البقاء أيضا متغايرتان،و هما لأمرين مختلفين.فيلزم أن يكون ذاته مركّبة من أمرين بأحدهما فعليّة بقائها و هو الصورة،و بالآخر قوّة بقائها واضح كما ذكره،و إنّما لم يكتف بالمقدّمة الاولى في بيان الدليل و لم يقل إنّ قوّة الفساد و فعليّة البقاء متغايرتان فإذن هما لأمرين مختلفين،فيلزم التركيب،و بعبارة اخرى أنّ موضوع قوّة الفساد غير موضوع فعليّة البقاء و أنّه لا يمكن عروضهما لشيء واحد لأنّ محلّ قوّة الفساد،هو بعينه موصوف بالفساد و لا شيء من محل البقاء بالفعل هو بعينه موصوفا بالفساد.لأنّ الباقي لو قبل الفساد و القابل يجتمع مع المقبول للزم اجتماع الباقي مع الفساد و هو محال.

و الحاصل أنّ الباقي لا يبقى مع الفساد و الموصوف بالفساد يبقى مع الفساد،فلا يكون الباقي موصوفا بالفساد،فلا يثبت له قوّة الفساد،لأنّه إذا قرّر الدليل هكذا،ورد عليه النظر كما أورده صاحب المحاكمات بأنّا لا نسلّم أنّ الباقي لو قبل الفساد، لاجتمع معه،فإنّ معنى قبول الشيء العدم أو الفساد ليس أنّ ذلك الشيء يتحقّق و يحلّ فيه الفساد،بل معناه

ص:177

أنّه ينعدم في الخارج،و إذا حصل في العقل و تصوّر العقل العدم الخارجي،كان العدم الخارجي قائما به في العقل،و أمّا في الخارج فليس هناك شيء و قبول عدم.و إن كان يمكن دفع هذا النظر بأنّ الشيء لا يمكن أن يقبل فساد نفسه لأنّ القابل للشيء يجب أن يكون قابلا لما هو متعلّق القوام به،و فساد نفسه مباين له،فلا يمكن أن يقبله.نعم يمكن أن يكون شيء قابلا لفساد غيره عنه.و سيأتي تحقيق ذلك كلّه إن شاء اللّه تعالى.

و إذا تمسّك في الدليل بتينك المقدّمتين جميعا،أي أنّ قوّة الفساد و فعليّة البقاء لأمرين مختلفين و أنّ قوّة الفساد و فعليّة البقاء تستلزمان قوّة البقاء أيضا،و أنّ قوّة البقاء و فعليّته لأمرين مختلفين،فيلزم التركيب،و أن لا يكون موضوعاهما أمرا واحدا كما تمسّك الشيخ بهما،

تمّ البيان من غير ورود هذا الإيراد عليه،حتّى يحتاج إلى الجواب عنه بما ذكرنا، و بالجملة فكلامه في الشفاء في ذلك لا غبار عليه.

و أمّا كلامه في الإشارات في ذلك حيث قال:«و لأنّه أصل فلن يكون مركّبا من قوّة قابلة للفساد،و مقارنة لقوّة الثبات» (1)،فكأنّه مجمل في ذلك،حيث لم يتعرّض لذكر فعليّة الثبات و مغايرة قوّة الثبات لها،و قد عرفت أنّ إتمام الدليل يتوقّف عليه،إلاّ أنّه يمكن حمله على ما في الشفاء بأن يقال:معناه:فلن يكون مركّبا من ذلك،لأنّ قوّة الفساد مع فعليّة الثبات تستلزمان قوّة الثبات،و أنّ قوّة الثبات و فعليّته متغايرتان،و تستلزمان محلّين متغايرين مختلفين و التركيب.

و أمّا المحقّق الطوسي رحمه اللّه في شرحه للإشارات فكأنّه نظر إلى ظاهر كلام الشيخ فقرّر دليله،و تمسّك فيه بالمقدّمة الاولى فقط،أي أنّ قوّة الفساد غير فعليّة البقاء،حيث قال:

«كلّ موجود يبقى زمانا و يكون من شأنه أن يفسد،كان قبل الفساد باقيا بالفعل و فاسدا بالقوّة،و فعل البقاء غير قوّة الفساد،و إلاّ لكان كلّ باق ممكن الفساد،و كلّ ممكن الفساد باقيا،فإذن هما لأمرين مختلفين،و الأصل لا يمكن أن يكون مشتملا على مختلفين-إلى آخره-». (2)

ص:178


1- -شرح الإشارات 3:285. [1]
2- -شرح الإشارات 3:285-286.

و قال أيضا أخيرا:«و هو أي الأصل غير مركّب من قوّة الفساد و وجود الثبات». (1)

و لم يتعرّض للمقدّمة الثانية التي لها مدخل في إتمام الدليل،أي أنّ ذلك مستلزم لقوّة الثبات،و هي متغايرة مع فعليّة الثبات و تستلزمان محلّين مختلفين.

و يرد عليه أوّلا أنّه شرح غير مطابق لكلام الشيخ،فإنّ الشيخ لم يذكر فعليّة الثبات،بل ذكر قوّة الثبات،حيث قال:«فلن يكون مركّبا من قوّة قابلة للفساد مقارنة لقوّة الثبات» (2)

و أيضا فإنّ المحقّق الطوسي و إن تعرّض لذكر قوّة الثبات في قوله:«فالنفس إن كان أصلا فلن يكون مركّبا من قوّة قابلة للفساد مقارنة لقوّة الثبات،-حيث إنّ الموجود في بعض النسخ لقوّة الثبات و إن كان الموجود في البعض الآخر لوجود الثبات كما في أوّل كلامه و آخره-إلاّ أنّه أيضا لا يكون إشارة إلى المقدّمة الثانية،حيث إنّ المقدّمة الثانية هي المغايرة بين قوّة الثبات و فعليّته،لا بين قوّة الفساد و قوّة الثبات،و إن كان مطابقا لظاهر كلام الشيخ.

و أمّا ثانيا فلأنّه على هذا التقرير الذي ذكره لشرح كلام الشيخ يرد عليه النظر المذكور آنفا،و يحتاج إلى الجواب عنه بما ذكرنا أو نحوه،و قد أورده صاحب المحاكمات عليه.

قال في قول المحقّق الطوسي:«فإذن هما لأمرين مختلفين»بهذه العبارة:«و هاهنا شيئان:الأوّل،أنّ قوّة الفساد مغايرة للبقاء بالفعل،لأنّها لو كانت عين البقاء بالفعل،لكان كلّ باق فاسدا بالقوّة و بالعكس و ليس كذلك.الثاني،أنّ قوّة الفساد و فعليّة البقاء لأمرين مختلفين أي موضوع قوّة الفساد غير موضوع البقاء حتّى لا يمكن عروضهما لشيء واحد». (3)و لم يذكر عليه دليلا.

كلام مع صاحب المحاكمات

و ربما يستدلّ عليه بأنّ محل قوّة الفساد هو بعينه موصوف بالفساد.-إلى آخر ما نقلنا في قولنا:و بعبارة اخرى-ثمّ قال:و فيه نظر،لأنّا لا نسلّم أنّ الباقي لو قبل الفساد-إلى آخر ما نقلنا من النظر.

ص:179


1- -شرح الإشارات 3:287. [1]
2- -شرح الإشارات 3:285. [2]
3- -المحاكمات؛راجع هامش شرح الإشارات 3:286.

و بالجملة فما ذكره هذان العلمان في ذيل كلام الشيخ في الإشارات كأنّه مبنيّ على غفلة عن كلامه في الشفاء،و أنّ توجيه كلامه في الإشارات ينبغي أن يكون مطابقا لما ذكره في الشفاء،لا بما ذكره المحقّق الطوسي و أورد عليه صاحب المحاكمات النظر كما نقلناه و هما(رحمهما اللّه)أعلم.

ثمّ إنّ المحقّق الطوسي رحمه اللّه كما نقلنا كلامه،قرّر دليل الشيخ في الإشارات على هذا المطلب هكذا:هذا ابتداء احتجاجه على بقاء النفس و يريد بالأصل كلّ بسيط غير حالّ في شيء من شأنه أن يوجد فيه الأعراض و الصور،و أن يزول عنه تلك الأعراض و الصور و هو باق في الحالتين فهو أصل بالقياس إليها.

ثمّ بيّن مغايرة فعل البقاء لقوّة الفساد كما نقلنا عنه.

ثمّ ادّعى أنّهما لأمرين مختلفين.

ثمّ قال فالنفس إن كان أصلا فلن يكون مركّبا من قوّة قابلة للفساد مقارنة لقوّة الثبات. (1)و إن لم يكن أصلا-أي لم يكن بسيطا غير حالّ-كان إمّا مركّبا و إما حالاّ، و الثاني باطل لما مرّ و المركّب يكون مركّبا من بسائط غير حالّة،إمّا بعضها كالمادّة من الجسم و إمّا كلّها،و على التقديرين فالبسيط الغير الحالّ موجود في المركّب،و هو غير مركّب من قوّة الفساد و وجود الثبات.

ثمّ قال في قول الشيخ:«و إذا كان كذلك لم يكن أمثال هذه في أنفسها قابلة للفساد بعد وجوبها بعللها و ثباتها بها»هكذا:أي إذا ثبت أنّ لنفس إمّا أصل و إمّا ذات أصل،لم تكن هي و ما يجري مجراها ممّا لا تركيب فيه،و لا هو بحالّ في غيره ممّا يقبل الفساد،فإنّ البقاء و قوّة الفساد لا يجتمعان في البسيط و الأوّل حاصل،فالثاني ليس بحاصل،فإذن النفس لا يمكن أن تفسد و إنّما قال بعد وجوبها بعللها و ثباتها بها لأنّ أصل الوجود و بقاءه يكونان في ممكنات الوجود مستفادين من عللها-انتهى. (2)

ثمّ أورد صاحب المحاكمات على هذا الدليل بناء على هذا التقرير،و قال في قول المحقّق الطوسي:«و النفس إن كان أصلا-إلى آخره-:لا يخلو إمّا أن يكون النفس بسيطا غير حالّ فلا يمكن قبوله الفساد لاستدعاء قبول الفساد التركيب،و إمّا أن تكون حالاّ

ص:180


1- -لوجود الثبات(خ ل).
2- -شرح الإشارات 3:285-289.

أو مركّبا،لا سبيل إلى الأوّل لما ثبت أنّ النفس غير منطبعة في شيء.

لا يقال:الثابت بالدلائل السابقة أنّها ليست قوّة حالّة في الجسم،و هذا لا يستلزم أنّها لا تكون حالّة في شيء أصلا،لم لا يجوز أن تكون حالّة في مفارق؟

لأنّا نقول:قيام النفس بالذات من الضروريات لا يمكن منعه،و لو كان مركّبا فإمّا من بسائط كلّها غير حالّة،أو يكون شيء فيها حالاّ كالصورة و الآخر محلاّ كالهيولى.و أيّا ما كان يوجد بسيط غير حالّ،و البسيط الغير الحالّ ليس بقابل للفساد،فلا تكون النفس قابلة للفساد.و الاعتراض أنّا لا نسلّم أنّه إذا وجد بسيط يلزم أن لا تكون النفس قابلة للفساد،و إنّما يلزم كذلك لو كان البسيط الغير الحالّ هو النفس و ليس كذلك،بل المفروض أنّه جزء النفس.و غاية ما في الباب أنّ جزء النفس لا يقبل الفساد،و لا يلزم منه أن لا تقبل الفساد لجواز انعدام الجزء الآخر.

لا يقال:نحن نقول من الابتداء النفس لا بدّ أن تكون بسيطا غير حالّ،و إلاّ لكان حالاّ أو مركّبا و هما باطلان،أمّا الأوّل فظاهر،و أمّا الثاني فلأنّه يلزم وجود بسيط غير حالّ من أجزائه،فيكون قائما بذاته مجرّدا عن جسم و جسمانيّ،عاقلا لذاته و لغيره،متعلّقا بالبدن،فهو النفس و قد كان جزء النفس؛هذا خلف.

لأنّا نقول:لا نسلّم أنّه يلزم من كونه بسيطا غير حالّ،أن يكون قائما بذاته،لم لا يجوز أنّ يكون كالهيولى لا يقوم إلاّ بما يحلّ فيه،و حينئذ لا يلزم أن يكون نفسا.-انتهى كلامه رحمه اللّه. (1)

و قد سبقه الإمام الرازي بناء على ما فهمه من كلام الشيخ في الإيراد على هذا الدليل، و اعترض عليه اعتراضات،كما نقله المحقّق الطوسي رحمه اللّه.

الأوّل:أنّه لو كان للنفس هيولى و صورة مخالفتان لهيولى الأجسام و صورها،و كان الباقي منها هيولاها وحدها،لما كان الباقي من النفس هو النفس،بل جزءا منها،و حينئذ يجوز أن لا يكون كمالاتها الذاتية باقية لأنّها تابعة لصورتها.

الثاني:أنّ النفس تحت مقولة الجوهر،فهي مركبّة من جنس و فصل،و الجنس و الفصل إذا اخذا بشرط التجرّد،كانا مادّة و صورة،فالنفس عندهم مركبّة من مادّة و صورة.و ذلك

ص:181


1- -المحاكمات؛راجع هامش شرح الاشارات 3:286.

يؤكّد ما ذكرناه.

و قال صاحب المحاكمات في تقرير اعتراضه الأوّل هكذا:إنّ عدم قبول النفس الفساد على تقدير أنّها أصل ظاهر،و أمّا على تقدير أنّها ذات أصل أي مركّبة من بسائط، لا يكون كلّها حالاّ حتّى يتحقّق منها بسيط غير حالّ غير ظاهر،بل اللازم عدم قبول جزء النفس الفساد،و مدار اعتراض الإمام على هذا الاحتمال،أعني أن يكون النفس مركّبة و احتمال تركيبها من حالّ و محلّ،فإنّها على تقدير تركيبها من جواهر غير حالّة،يكون كلّ منها قائما بذاته عاقلا لذاته،فيكون كلّ منها نفسا فيلزم أن يكون النفس الواحدة نفوسا متعدّدة،و أنّه محال،فلهذا فرض الإمام تركيبها من حالّ و محلّ و أنّهما مخالفان لهيولى الأجسام و صورته،لأنّهما جزءا النفس مجرّدان،و أنّ الباقي المحلّ لا الحالّ، فحينئذ لا يلزم من بقاء المحلّ بقاء النفس كما لا يلزم من بقاء الهيولى بقاء الجسم.

و أمّا قوله:«و حينئذ يجوز أن لا تكون كمالاتها الذاتيّة باقية»،فقد تمّ الاعتراض دونه، و لا دخل له في الاعتراض،إلاّ أنّه زيادة زادها لتأكيد بطلان كلام القوم في هذا الباب، فإنّهم لمّا أثبتوا بقاء النفس،قالوا إنّها تبقى بعد موت البدن عاقلة لمعقولاتها،موصوفة بالأخلاق التي اكتسبتها حال تعلّقها بالبدن،و مع قيام ذلك الاحتمال لا يمكن القطع بشيء من هذه،لجواز أن يكون اتّصاف النفس بهذه الكمالات مشروطا بوجود الجزء الحالّ،فإن انتفى انتفت.-انتهى كلامه. (1)

و أقول:إنّ هذه الإيرادات،لو كانت واردة على دليل الشيخ في الإشارات،ربّما يتراءى ورودها على دليله على هذا المطلب في الشفاء أيضا،إذ مآلهما واحد،و الاختلاف إنّما هو في العبارة،و أنّ ما ذكره في الشفاء بقوله:«و كلامنا في هذا الشيء الذي هو السنخ و الأصل و هو الذي نسمّيه النفس،و ليس كلامنا في شيء مجتمع منه و من شيء آخر» لا يجدي نفعا في دفع تلك الإيرادات كلّها أو بعضها،إذ مجرّد التسمية و ادّعاء أنّ كلامنا في هذا دون ذاك،مع فرض التركيب من جزءين،ليس بنافع في ذلك.و ظنّي هذه الإيرادات كلّها إنّما نشأت عن الغفلة عن كلام الشيخ في الكتابين مثل ما تقدّم،حيث إنّه عند إمعان النظر فيما ذكره في الكتابين من الدليل على هذا المطلب،و ما بني عليه الدليل،يمكن

ص:182


1- -المحاكمات؛راجع هامش شرح الإشارات 3:288. [1]

توجيه بحيث لا يرد عليه تلك الأنظار و الإيرادات.

أمّا كلامه في الشفاء،فلأنّه ذكر في فصل«أنّ النفس الإنسانيّة لا تفسد»بعد ما بيّن في فصل سابق عليه،أنّ الأنفس غير مادّية،ثمّ بيّن في فصل بعده كيفيّة انتفاع النفس بالحواسّ في إدراكاتها الجزئية،و أنّها عاقلة لمعقولاتها بالذات كما يظهر ذلك على من راجع كلامه (1)و نظر فيه،و أنّه حيث أثبت في الفصل المتقدّم،أنّ النفس الإنسانيّة غير مادّية،أثبت أنّها غير مركّبة من مادّة و صورة كالجسم أي تركيبا من جزءين،أحدهما حالّ في الآخر يسمّى صورة،و الآخر محلّ له يسمّى مادّة أو هيولى،بحيث يكون تشخّص الحالّ بالمحلّ و تقوّم المحلّ بالحالّ كما ذكروه.فنفى بذلك كون النفس جسما ذا مقدار مركّبا من هذين الجزءين،أي جزءين كان كلّ منهما ذا وضع،بل مركّبا مطلقا من حالّ و محلّ و إن كان المحلّ و الحالّ كلاهما مفارقين عن المادّة غير ذي وضع و كذا المركّب منهما حيث إنّ التركيب من جزءين إذا لم يكن أحدهما حالاّ في الآخر،و لا الآخر محلاّ له، و لم يكن احتياج لأحدهما إلى الآخر في الوجود و التشخّص،لا يكون تركيبا حقيقيّا، و لا منشأ لكون الجزءين مع التركيب مركّبا و إن كان،كان التركيب من مادّة و صورة كالجسم،فلزم أن يكون النفس جسما و مادّية،و المفروض خلافه.

و بالجملة أنّه أثبت بذلك كون النفس غير مركّبة من مادّة و صورة،أو من شيء كالمادّة و شيء كالصورة،فما ذكره الإمام فيما نقلنا عنه:«انّ النفس تحت مقولة الجوهر،فهي مركبة من جنس و فصل،و الجنس و الفصل إذا اخذا بشرط التجرّد،كانا مادّة و صورة، فالنفس عندهم مركّبة من مادّة و صورة»شبهة في هذا المقام،و جوابها ما ذكره المحقّق الطوسي:أنّ ما ذكره مغالطة باشتراك الاسم،فإنّ المادّة و الصورة تقعان على ما ذكره، و على جزئي الجسم بالتشابه،و إلاّ فجميع أنواع الأعراض أيضا مركّبة من مادّة و صورة.

و الحاصل أنّ ما ادّعوه من انتزاع الجنس و الفصل من المادّة و الصورة الخارجيّتين على تقدير تسليمه إنّما هو في الأجسام،و أمّا في غيرها فلا يسلّم،كيف و أنّ الأعراض أيضا ربما يكون لها جنس و فصل،و لا يكونان منتزعين من المادّة و الصورة الخارجيّتين إذ ليست هي أجساما،فكيف الجواهر المجرّدة عن المادّة،و كذلك أثبت حيث أثبت إنّ

ص:183


1- -الشفاء،الطبيعيات،الفصل الرابع في أنّ الأنفس الإنسانيّة لا تفسد:202،طبع القاهرة.

النفس غير مادّية أنّها ليست عرضا أو صورة حالّين في مادّة أو جسم ذي مادّة،فلزم ممّا ذكره،أن ليست النفس مركّبة في ذاتها،و لا بسيطة قائمة في مادّة،و كذلك أنّه حيث أثبت في الفصل التالي أنّها عاقلة لمعقولاتها بالذات من دون توسط آلة في ذلك،أنّ قيامها إنّما هو بالذات كتعقّلها لمعقولاتها،إذ العاقل بالذات لا يكون إلاّ قائما بالذات من غير دخل أمر آخر في قيامها و وجودها،إذ لو كان لأمر ما مدخل فيه،لما كان كذلك،و المفروض خلافه، و حيث أثبت ذلك،لزم منه أنّ النفس غير مركّبة من جزءين حالّ و محلّ،إذ المركّب تركيبا كذلك يكون تقوّمه بجزئيه،فلا يكون قائما بالذات،و كذلك لزم منه أنّها غير حالّة في شيء أيّا كان ذلك الشيء جسما أو غيره،مجرّدا أم مادّيا إذ الحالّ كذلك لا يكون عاقلا بالذات، و لا قائما بذاته،فلزم منه أيضا أنّها ليست عرضا و لا صورة لشيء ما جسم أو جسمانيّ أو مجرّد،و كذلك لزم منه أنّها ليست بمحلّ لشيء يكون قيامها بذلك الشيء،إذا لمحلّ القائم بما حلّ فيه لا يكون قائما بذاته كما هو المفروض،فلزم منه أنّها ليست هيولى و لا مادّة لصورة ما،يكون تقوّمها بتلك الصورة،كالصورة الجسميّة أو النوعيّة بالنسبة إلى الهيولى.

و أنّ الصورة العقلية الحالّة في النفس ليست ممّا به تقوّمها أو عقلها لذاتها،إذ لو كان الأمر كذلك،لما كان للنفس قيام بالذات و لا عقل بالذات مع قطع النظر عن حلول تلك الصورة العقليّة فيها،و المفروض خلافه،حيث إنّها في مبدأ الفطرة أيضا لها قيام بالذات و تعقّل بالذات و أنّها قد تزول تلك الصورة العقليّة عنها،و هي باقية على حالها من القيام بالذات و التعقّل بالذات.

و بالجملة فقيام النفس بالذات من الضروريات،كما اعترف به صاحب المحاكمات أيضا،و يلزم منه عدم قيامها في وجودها و في تعقّلها بالمحلّ،و لا بالحالّ،و العجب منه أنّه اعترف بذلك،و ادّعى أنّه يمكن أن يكون النفس كالهيولى لا تقوم إلاّ بما يحلّ فيها،و هل هذا إلاّ تناقض؟

فلزم ممّا ذكره الشيخ أنّ النفس مع بساطتها في ذاتها أصل في الوجود و القيام و التعقّل، من غير دخل أمر آخر في ذلك،و الحاصل أنّه لزم ممّا بيّنه في الفصلين المتقدّمين،كون النفس شيئا بسيطا لا تركيب فيه من حالّ و محلّ أصلا،و لا هي ممّا هو قائم بالمركّب، و تعلّق له بالمادّة،و لا قيام لها في وجودها و تعقّلها إلاّ بذاتها لا بأمر آخر،هو جزؤها

ص:184

مطلقا،أو محلّ لها أو حالّ فيها،و أنّه لا يقدح في ذلك كونها محلاّ للصور العقليّة،سواء عددناها من جملة الصور أو من جملة الأعراض،لأنّها ليست ممّا بها قيام النفس بالذات أو تعقّلها بذاتها،لأنّها قد تزول،و مع ذلك يبقى محلّها و هو النفس موجودة بذاتها،عاقلة لذاتها،فلزم من ذلك بساطتها بساطة حقيقيّة،تنافي كونها مركّبة بوجه،و كذا كونها قائمة في المركّب،و كذا لزم منه أصالتها في الوجود و التعقّل أصالة مطلقة و إن كانت البساطة أعمّ مطلقا من الأصالة في الوجود و التعقّل،لأنّ كلّ أصل يلزمه أن يكون بسيطا من غير عكس كلّي،إذ قد يكون الشيء بسيطا و لا يكون أصلا في ذلك،كبعض الأعراض البسيطة و كالهيولى،فلذلك أثبت الشيخ بساطة النفس أوّلا ثمّ أثبت أصالتها فيهما ثانيا حتّى يخرج من ذلك البسائط التي ليست أصلا.

ثمّ إنّه حيث أثبت ما ذكرنا أطلق على النفس،أنّها بسيطة و أنها أصل و سنخ بمعنى أنّها أصل و سنخ في الوجود و القيام بالذات و التعقّل لذاتها لا مدخل لشيء غيرها سوى الفاعل المفيض إيّاها في ذلك،سواء كان ذلك الشيء جزؤها مطلقا،أو حالاّ فيها أو محلاّ لها، و أنّها كما أنّ لها أصالة في ذلك،بالنظر إلى ذاتها كذلك لها أصالة حين فرض التركيب مع غيرها،إذا أخذت على أنّها مركّبة مع شيء آخر، لوحظ ذلك الشيء معها في ذلك التركيب،فإنّ أخذ ذلك الشيء معها حين التركيب،لا يقدح في بساطتها و أصالتها بالمعنى المذكور،بل لا يكون ذلك التركيب،إلاّ مجرّد اجتماع،فإنّ ذات ما هو بسيط حقيقي بحسب ذاته لا ينقلب،إذا اخذ مركّبا و مجتمعا مع غيره إلى كونه مركّبا حقيقيّا،و كذلك ذات ما هو أصل في الوجود و القيام و التعقّل لذاته،إذا اخذ مركّبا كذلك لا ينقلب إلى كونه جزءا للمركّب حالاّ أو محلاّ،و بالجملة إلى كونه غير أصل في ذلك،بحيث يحتاج كلّ من جزئيه إلى الآخر،فلا يكون ذلك التركيب المأخوذ إلاّ اعتباريّا و مجرّد اجتماع،و لا يقدح ذلك في بساطتها الحقيقيّة الذاتيّة،و لا في أصالتها المطلقة.

كلام مع المحقّق الطوسي رحمه اللّه

و حينئذ فما ذكره المحقّق الطوسي من«أنّ الشيخ يريد بالأصل كلّ بسيط غير حالّ في شيء من شأنه أن يوجد فيه أعراض و صور،و أن يزول عنه تلك الأعراض و الصور و هو

ص:185

باق في الحالتين،فهو أصل بالقياس إليها»راجع إلى ما ذكرنا من معنى الأصل من بعض الجهات،إلاّ أنّه ربما يوهم أنّ ذلك مجرّد اصطلاح،اصطلح عليه الشيخ و ليس كذلك،بل إنّ ذلك معنى الأصل لغة و عرفا،أي ما هو الأصل في الوجود و القيام و التعقّل،و إلاّ أنّه لو كان قوله:«من شأنه أن يوجد فيه أعراض و صور-إلى آخره-»نعتا لقوله:«كلّ بسيط» كما يشعر به قوله:«فهو أصل بالقياس إليها»يلزم منه أنّ الأصل ما هو البسيط الغير الحالّ في شيء،و من شأن ذلك البسيط أن يوجد فيه أعراض و صور،و أن يزول عنه تلك الأعراض و الصور و هو باق في الحالتين،فيلزم منه أن يكون المحلّ المتقوّم بالحالّ أيضا أصلا في الوجود و القيام و التعقّل،و قد عرفت أنّه ليس كذلك.و لو كان قوله:«من شأنه- إلى آخره-»نعتا للشيء يلزم منه أنّ البسيط لو كان حالاّ في شيء كذلك كان أصلا أيضا، فيلزم منه أن يكون الأعراض و الصور البسيطة الحالّة في الهيولى الباقية في الحالتين أصلا في الوجود و التعقّل،و هذا أظهر فسادا من الأوّل،و إلاّ أنّه عدّه أصلا بالنسبة إلى الأعراض و الصور،و أنّه يوهم عدّ الهيولى الاولى أيضا أصلا،و الظاهر من كلام الشيخ أنّه عدّه أصلا لأصالته في الوجود و القيام و التعقّل،و أنّ المحلّ مطلقا خارج عن كونه أصلا بهذا المعنى، لكنّه رحمه اللّه أعلم.

و إذا عرفت ما ذكرنا فنقول:إنّ الشيخ بعد ما ذكر أنّ قوّة الفساد يستلزم التركيب من مادّة و صورة،إمّا في ذات ذلك الأمر المفروض فاسدا أو فيما يقوم هو به،سرد الدليل على عدم فساد النفس هكذا:إن كانت النفس بسيطة مطلقة بحيث لا تركيب في ذاتها أصلا و لا قيام لها في المركّب كما هو الثابت بما تقدّم لم تنقسم هي و لا ما تقوم هي به إلى مادّة و صورة،فلم تكن قابلة للفساد و إن اخذت مركّبة فذلك التركيب،إمّا بأخذها مركّبة في ذاتها فذلك غير ممكن،لمنافاته لبساطتها الذاتيّة و أصالتها المطلقة،و إمّا بأخذها مجتمعة مع غيرها و ذلك إمّا بأخذها كالصورة في ذلك المجتمع،و هذا أيضا غير ممكن،لمنافاته لأصالتها المطلقة،و لعدم قيامها بالمادّة،فبقي أخذها كالمادّة لذلك المجتمع،مع أنّ لها مناسبة للمادّة من وجه،حيث إنّ المادّة أيضا شيء بسيط غير قابلة للفساد،و كذا هي أصل في المركّبات،و إن لم تكن أصلا بالمعنى المذكور المقصود هنا.و حينئذ فلنترك ذلك المركّب المجتمع،لعدم كونه نفسا،لأنّ كلامنا في النفس،و هي جزء من هذا المجتمع،

ص:186

لا عينه،و لنترك أيضا الجزء الآخر من هذا المجتمع الذي هو بمنزلة الصورة،لعدم كونها نفسا أيضا،و لننظر في الجزء الذي هو بمنزلة المادّة أي النفس التي هي الأصل و السنخ في هذا المركّب المجتمع،و لنتكلّم فيها و نقول:

إنّ تلك المادّة التي هي الأصل و السنخ إمّا أن تؤخذ مركّبة هكذا إلى غير النهاية،فننقل الكلام فيها إلى غير النهاية و هذا محال.و إمّا أن ينقطع الأخذ على سبيل التركيب،فينتهي الكلام إلى ما هو الأصل و السنخ منه،و ان لا يبطل ذلك الأصل،حيث إنّه ليس فيه تركيب و لا قيام بالمركّب و لا قوّة فساد،فأخذ النفس مع غيرها على سبيل التركيب لا يقدح في مطلوبنا،إذ كلامنا في النفس لا في غيرها،و هي الأصل و السنخ من جملة أجزاء هذا المركّب و لا في هذا المركّب المجتمع من النفس و غيرها،إذ هو ليس نفس النفس حتّى يلزم كون ذلك الأصل جزءا من النفس لا عينها.

فتبيّن من ذلك أنّ كلّ شيء بسيط غير مركّب و لا قائم بالمركّب كما في الفرض الأوّل، أو كلّ شيء هو أصل مركّب و سنخه كما في الفرض الثاني،فهو غير مجتمع فيه فعل أن يبقى و قوّة أن يعدم بالقياس إلى ذاته،إذ ذلك الاجتماع إنّما هو سبب التركيب الحقيقي في ذاته،أو فيما يقوم ذاته به و المفروض خلافه هنا،و لا يلزم منه كون النفس مادّة،إذ المادّة و إن كانت بسيطة غير قابلة للفساد،و كانت أصلا في المركّب من بعض الوجوه لكنّها ليست أصلا بالمعنى المذكور إذ قيامها إنّما هو بما يحلّ فيها.

ثمّ إنّه ربما أشعر كلامه في التركيب حيث قال:«و لنترك المركّب و لننظر في الجوهر الذي هو مادّته-إلى آخره-إنّ هذا التركيب إنّما هو بأخذ النفس التي اعتبرها مادّة،و هي الأصل مع غيرها الذي يكون غير أصل،و يكون كالصورة،و لم يتعرّض لأخذها مع أصل آخر،و كأنّ وجهه أنّ أخذها كذلك غير ممكن إذا لجزء الآخر الذي هو الأصل أيضا لا يمكن أن يكون صورة لما عرفت.

و أيضا يستلزم أن يكون نفس واحدة أكثر من واحدة،و مع ذلك فيستلزم ما هو المقصود و هو عدم فساد ما هو الأصل فيه،غايته أن يكون ذلك الأصل أكثر من واحد، و غير النفس التي نحن بصدد التكلّم فيها أيضا،و هذا الذي ذكرنا و إن كان حمل كلام الشيخ عليه لا يخلو عن تكلّف،إلاّ أنّه غاية توجيهه بناء على اصوله،و به يندفع جميع الأنظار

ص:187

التي نقلناها عن الإمام الرازي و صاحب المحاكمات كما يعرف بالتدبّر،فتدبّر تعرف.

ثمّ إنّ الشيخ في قوله:«و أمّا الكائنات التي تفسد فإنّ الفاسد منها هو المركّب»-إلى آخر ما نقلنا عنه-تصدّى لبيان أنّ الأجسام و صورها و موادّها و الأعراض الحالّة فيها،أيّ منها يمكن أن يفسد و أيّ منها لا يمكن أن يفسد،و أنّ السبب في إمكانه و عدم إمكانه ما ذا؟و أنّ أمر النفس ليس كأمر شيء منها.

فقال:و أما الكائنات التي تفسد،كالاجسام العنصريّة،فإنّ الفاسد منها هو المركّب المجتمع،و قوّة أن تفسد أو تبقى ليس في المعنى الذي به المركّب واحد حتّى يلزم قبوله للفساد من هذه الجهة،و الحال أنّ جهة الوحدة مشابهة للبساطة التي تنافي ذلك،بل في المادّة التي هي بالقوّة قابلة لكلا الضدّين أي بقاء صورها فيها و فسادها عنها،و بسبب تلك المادّة التي يلزمها أن يكون محلاّ لحالّ آخر يلزم أن يكون هناك كثرة ملتئمة من محلّ و مادّة،هي قابلة لكلا الضدّين،و من صورة حالّة بسببها تكون فعليّة ذلك المركّب و إن كان العمدة في قبول الفساد هو المادّة،إذ هي قابلة لفساد الصورة عنها في المركّب و بسبب فساد الصورة يلزم فساد المركّب أيضا.فليس في الفاسد المركّب من جهة وحدته لا قوّة أن يبقى و لا قوّة أن يفسد،بل كان منشأ قبول الفساد فيه جهة تلك الكثرة،و ذلك التركيب من صورة و مادّة في تلك المادّة قوّة فساد الصورة التي من شأنها أن تفسد عنها و إن كانت المادّة هي الأصل في قبول الفساد،أي فساد الصورة و يتبعه فساد المركّب، فأشعر بما ذكره أنّ النفس حيث لم تكن مركّبة من مادّة فيها قوّة الفساد و لا قائمة بالمركّب، كذلك لا تكون قابلة للفساد أصلا.

ثم قال:«و أمّا المادّة أي مادّة الجسم مطلقا سواء كانت مادّة لجسم كائن فاسد، أو لجسم ثابت على الدوام،ففيها احتمالان:أحدهما-و هو المرجوح-أنّها تبقى بنفس ذاتها لا بقوّة تستعدّ بها للبقاء،و الآخر-و هو الراجح-إنّما تبقى بقوّة بها تبقى،لكن ليس لها قوّة أن تفسد شيئا آخر غير قوّة البقاء،لأنّ المراد بقولنا:أنّ في المادّة قوّة الفساد،أنّ فيها قوّة فساد غيرها كالصورة،كما أنّ فيها قوّة حدوث الصورة لا قوّة فساد نفسها،فإنّ الشيء لا يمكن أن يكون محلاّ لفساد نفسه،ففيها قوّة بقاء نفسها خاصّة،و على التقديرين يلزم أن تكون المادّة باقية لبساطتها و عدم تركّبها من مادّة و صورة،و إنّ ذلك و إن كان

ص:188

يؤكّد ما ذكرنا من أنّ البساطة منشأ لعدم الفساد،لكن ليس أمر النفس كأمر المادّة،إذا النفس مع بساطتها أصل و سنخ،و هي ليست كذلك،إذ وجودها و قيامها إنّما هو بما يحلّ فيها لا بذاتها كما في النفس.

ثمّ قال:و البسائط التي في المادّة فإنّ قوّة فسادها في جوهر المادّة لا في جوهرها، يعني أنّ الأعراض و الصور البسيطة الحالّة في المادّة و إن كان يتوهّم فيها أن لا تكون فيها قبول فساد من جهة بساطتها و عدم تركّبها بحسب الذات من مادّة و صورة،إلاّ أنّ تلك البساطة المستلزمة لعدم قبول الفساد،هي ما تكون منافية للتركيب في الذات،و للقيام بالمركّب جميعا و تلك الأعراض و الصور البسيطة ليست كذلك،إذ هي محتاجة إلى الموضوع أو المادّة في الوجود أو التشخّص قائمة بالمادّة أو بالمركّب من المادّة و حينئذ فقوّة فسادها في جوهر مادّتها لا في جواهر أنفسها،و لذلك تقبل الفساد،و كذا قوّة فسادها ليست من جهة بساطتها في ذواتها،بل من جهة قيامها بالمادّة أو بالمركّب من المادّة.

و بالجملة فليس أمر النفس كأمر تلك الأعراض و الصور،إذ النفس مع بساطتها في ذاتها غير قائمة بالمادّة و لا بالمركّب من المادّة و هي أصل في القيام و الوجود،و تلك الأعراض و الصور ليست كذلك.

ثمّ قال:و البرهان الذي يوجب أنّ كلّ كائن فاسد من جهة تناهي قوّة البقاء و البطلان، إنّما يوجب فيما هو كائن من مادّة و صورة،و يكون في مادّته أن يبقى فيه تلك الصور، و قوّة أن تفسد هي منه معا تكملة لما ذكره فيما تقدّم،و بيانا كلّيا لوجه إمكان فساد ما يمكن أن يفسد و ما لا يمكن أن يفسد،فبيّن أنّ كلّ ما هو مركّب من مادّة و صورة أو قائم بالمركّب منهما،و بالجملة له مادّة في ذاته أو في قيامه و في مادّته قوّة أن تبقى فيها صورته و قوّة أن تفسد،أمكن أن تفسد صورته فيفسد المركّب أيضا،و ما ليس كذلك فليس كذلك،فأشعر بأنّ غير الكائنات الفاسدات من الأجسام كالفلكيّات منها عندهم،إنّما لا تفسد لأجل أن ليس في مادّتها قوّة الفساد،و كذلك صورها ليست من شأنها أن تزول عنها،و لا ينافي ذلك كونها مركّبة و غير أصل،لأنّا قلنا إنّ البساطة و الأصالة تكونان منشأين لعدم قبول الفساد،و لا يلزم منه أن يكون كلّ ما هو منشأ لذلك هذين السببين،بل يمكن أن يكون ذلك بسبب آخر غيرهما كما في الأفلاك.و هذا غاية توجيه كلام الشيخ

ص:189

في الشفاء،و به تمّ دليله على أنّ الأنفس الإنسانيّة لا تفسد،و اندفع عنه الأنظار الموردة عليه،كما أشرنا إليه و اللّه أعلم بالصواب.

في توجيه كلامه في الإشارات

و أمّا توجيه كلامه في الإشارات،فلأنّه ذكر أوّلا في بيان الدليل على أن الأنفس الإنسانيّة لا تفسد بفساد البدن،قوله:«و لمّا كانت النفس الناطقة التي هي موضوع ما للصور العقليّة،غير منطبعة في الجسم،بل إنّما هي ذات آلة بالجسم-إلى آخره-». (1)

و أشار بلفظة«لمّا»إلى ما أثبته في النمط الثالث و غيره،فأشار بقوله:«هي موضوع ما للصور العقليّة»إلى أنّها مجرّدة في ذاتها و كمالاتها الذاتيّة عن المادّة،لأنّ موضوع الصور العقليّة التي هي مجرّدة عن المادّة لا يكون إلا مجرّدا عنها أيضا كما هو المستبين عندهم،و سيأتى بيانه،فحيث أشار إلى تجرّدها في ذاتها و كمالاتها الذاتيّة عن المادّة، أشار إلى أنّها غير مركّبة من المادّة و الصورة كالجسم،و غير قائمة بالمادّة و الجسم كالصور و الأعراض،كما أنّه أشار بقوله:«غير منطبعة في الجسم»إلى الأخير،و أشار أيضا بقوله:

«بل إنّما هي ذات آلة بالجسم»إلى كيفيّة ارتباطها بالجسم على وجه لا يلزم منه احتياجها في وجودها و كمالاتها العقليّة الذاتيّة إليه،بل إنّ احتياجها إليه إنّما هو في أفعالها و إدراكاتها الجزئيّة،و أمّا في أفعالها و إدراكاتها الكلّية فلا،بل هي عاقلة بذاتها لمعقولاتها من غير توسّط آلة في ذلك.فأشار بما ذكره إلى بساطتها الذاتيّة الحقيقيّة و إلى أصالتها المطلقة في الوجود و القيام و التعقّل كما عرفت وجه ذلك.

ثمّ إنّه بعد بيان أنّ النفس لا تفسد بفساد البدن،قال:«إذا كانت النفس الناطقة قد استفادت ملكة الاتّصال بالعقل الفعّال لم يضرّها فقدان الآلات،لأنّها تعقل بذاتها كما علمت،لا بآلتها،و لو عقلت بآلتها لكان لا يعرض للآلة كلال إلاّ و يعرض للقوّة كلال». (2)

إلى آخر ما ذكره من الأدلّة على ذلك،فبيّن أنّها تعقل بذاتها من غير آلة.

ثمّ قال:«لو كانت القوى العقليّة منطبعة في جسم من قلب أو دماغ،لكانت دائمة التعقّل

ص:190


1- -شرح الإشارات 3:264. [1]
2- -شرح الإشارات 3:276. [2]

له أو كانت لا تعقله البتّة» (1)إلى آخر ما ذكره من الدليل عليه،فبيّن أيضا أنّها عاقلة لذاتها و كذا هي غير منطبعة في الجسم.

ثم قال تكملة لهذه الإشارات:«فاعلم من هذا أنّ الجوهر العاقل منّا له أن يعقل بذاته.»

«فأشار بما ذكره إلى كونها عاقلة»بذاتها،و إلى أصالتها في الوجود و القيام و التعقّل،و إلى بساطتها الحقيقة الذاتيّة اللازمة لأصالتها أيضا،فأشار بذلك إلى نفي كونها مركّبة من هيولى و صورة،بل إلى نفي كونها مركّبة من جزءين حالّ و محلّ مطلقا و إن كانا مفارقين، بل إلى نفي كونها مركّبة من جزءين مطلقا و إن لم يكونا حالاّ و محلاّ،و كذلك أشار إلى نفي كونها صورتا أو عرضا،بل نفي كونها قائمة بالمحلّ مطلقا و إن كان المحلّ جوهرا مفارقا غير ذي وضع،و كذا أشار إلى نفي كونها مادّة أو كالمادّة من شيء لكون جميع ذلك غير أصل في الوجود و القيام و التعقّل بخلاف النفس.و أيضا ما سوى المادّة من هذه إمّا مركّب أو قائم بالمركّب بخلاف النفس.

ثمّ قال:في بيان الدليل على عدم إمكان فساد النفس بسبب من الأسباب،و لأنّه أصل و ذكره على سبيل الاستبانة ممّا تقدم،و على أنّ هذه القضية مقدّمة ظاهرة لا ينبغي لعاقل إنكارها يعني أنّها أصل في الوجود و القيام و التعقّل،و إنّما اكتفى في الدليل بأصالتها في ذلك و لم يتعرّض لبساطتها،لأنّ أصالتها كذلك تستلزم بساطتها الذاتيّة الحقيقيّة المطلقة التي هي العمدة في عدم إمكان قبول الفساد من غير عكس،كما أشرنا إليه،مع أنّه لا يرد على تقدير أصالتها كونها مادّة في المركّب كما عرفته أيضا.

ثمّ فرّع على أصالتها المستلزمة لبساطتها في ذاتها أنّها لا تقبل الفساد.و قال:فلن يكون مركّبا من قوّة قابلة للفساد مقارنة لقوّة الثبات (2)كما بيّنا وجه ذلك مطابقا لما في الشفاء،ثمّ قال:فإن اخذت لا على أنّها أصل بل كالمركّب من شيء كالهيولى و شيء كالصورة عمدنا بالكلام نحو الأصل من جزئيه.و أشار بقوله:«فإن اخذت لا على أنّها أصل»أي اخذت لا على أنّها أصل بهذا المعنى المتقدّم و لا على أنّها بسيطة بالمعنى المذكور،إلى أنّ أخذها كذلك،لا يقدح في أصالتها الذاتيّة و لا في بساطتها المطلقة،بل إنّما هو بمحض اعتبار اجتماعها مع غيرها في ذلك التركيب كما عرفت،و أشار بقوله:«بل

ص:191


1- -شرح الإشارات 3:276. [1]
2- -شرح الإشارات 3:285-286. [2]

كالمركّب من شيء كالهيولى و شيء كالصورة»إلى أنّ النفس على هذا الأخذ لا تكون مركّبة بحسب ذاتها،إذ ذاك غير محتمل،بل تكون كالمركّب أي المأخوذ مجتمعا مع غيرها،بحيث لا يكون ذلك المجتمع مركّبا حقيقيّا،بل بمحض الاعتبار و ملاحظة الاجتماع،و إلى أنّ هذين الجزءين من هذا المجتمع،لا يحتمل كونهما هيولى و صورة،بل كالهيولى و كالصورة،حيث إنّ أحد الجزءين الذي هو النفس يمكن أن تعتبر في هذا الاجتماع الذي هو كالتركيب كالهيولى لمناسبتها للنفس في البساطة و عدم قبول الفساد و في الأصالة في المركّب من بعض الوجوه،و إن لم تكن أصلا بالمعنى المتقدّم المقصود هنا،و إن لم يمكن اعتبارها صورة أو كالصورة،إذ لا مناسبة لها بالنفس من وجه،بل المأخوذ كالصورة ينبغي أن يكون هو الجزء الآخر من المأخوذ كالمركّب أي المجتمع كما عرفت بيانه فيما تقدّم.

و أشار بقوله:«عمدنا بالكلام نحو الأصل من جزأيه»،أي من جزئي هذا المجتمع من النفس و من غيرها إلى أنّه إذا اخذت النفس كذلك تركنا المجتمع لعدم كونه نفسا،إذ هو مجتمع من النفس و من غيرها،و كلامنا في النفس،و تركنا أيضا الجزء الآخر منه الذي هو بمنزلة الصورة،و ليس بأصل مطلقا و عمدنا بالكلام نحو الأصل من جزئيه،أي نحو النفس التي هي الأصل و اعتبرناها كالهيولى و المادّة من هذا المجتمع.

فنقول:إنّ الجوهر الذي هو بمنزلة المادّة و هو الأصل و السنخ،إمّا أن يؤخذ مركّبا هكذا إلى غير النهاية،فننقل الكلام فيه هكذا إلى غير النهاية و هو محال،و إمّا أن لا يبطل الجوهر الذي هو الأصل و السنخ أي النفس،و لا يكون فيه قوّة فساد لبساطته في الذات،و لأصالته في القيام و الذات و هو المطلوب،و حينئذ لا يلزم أن يكون النفس مادّة أو كالمادّة بحسب ذاتها،لأنّ المادّة و مثلها إنّما قيامها بما يحلّ فيهما،و النفس ليست كذلك،بل إنّ قيامها إنّما هو بذاتها.

ثمّ قال:«و الأعراض وجوداتها في موضوعاتها،فقوّة فسادها و حدوثها هي في موضوعاتها،فلم يجتمع فيها تركيب» (1)بيانا لوجه إمكان فساد الأعراض و دفعا للنقض بالأعراض البسيطة،كما ذكره،بل بالصور البسيطة أيضا كما ألحقها بها المحقّق

ص:192


1- -شرح الإشارات 3:287. [1]

الطوسي رحمه اللّه في شرحه لبيان النقض،و ذكر أن كثيرا من الأعراض و الصور البسيطة تكون باقية ممكنة الفساد مع بساطتها،فهلاّ كانت النفس كذلك.

و بيان الدفع أنّ البساطة الموجبة لعدم إمكان الفساد إنّما هي البساطة المطلقة،بحيث لا يكون هناك تركيب من مادّة قابلة للفساد أصلا،لا في ذات ذلك البسيط و لا فيما يقوم هو به كما في النفس،و أمّا تلك الأعراض و الصور فليست كذلك،لأنّها قائمة بالمركّب من مادّة أو بالمادّة،و تلك المادّة قابلة للفساد أي لفساد تلك الأعراض و الصور عنها،فلا بساطة مطلقة هناك،فلهذا كانت ممكنة الفساد،و لا يلزم من ذلك أن يكون هناك تركيب في ذوات تلك الأعراض و الصور البسيطة،حتّى ينافي بساطتها الذاتية.

ثمّ قال:«و إذا كان كذلك لم تكن أمثال هذه قابلة للفساد بعد وجوبها بعللها و ثباتها بها»، (1)أي إذا كان الجوهر العاقل منّا كذلك أو إذا كان الأمر كذلك أي أنّ النفس أصل و سنخ في الوجود و القيام بالذات و التعقّل بالذات و بسيطة في ذاتها غير قائمة بالمركّب من المادّة و لا بالمادّة التي هي قابلة للفساد و أنّها إذا اخذت مركّبة مع غيرها لم يؤثّر ذلك في صيرورتها مركّبة في ذاتها و لا في كونها قائمة بالمركّب من المادّة و لا بالمادّة،بل كانت أصالتها و بساطتها المطلقتان باقيّتين لم تزولا،لم تكن أمثال هذه في أنفسها قابلة للفساد بعد وجوبها بعللها و ثباتها بها و لم يلزم أيضا كونها مادّة،لأنّ المادّة أيضا و إن كانت بسيطة غير ممكنة الفساد و أصلا في المركّب من بعض الوجوه لكنّها ليست أصلا بالمعنى المذكور بخلاف النفس كما مرّ بيان ذلك كلّه.و إنّما قال:«بعد وجوبها بعللها و ثباتها بها»،إشارة إلى أنّ النفس كما أنّها ليس لها سبب لفسادها كذلك لها سبب لبقائها و هو وجوبها و ثباتها بعللها الباقية التي لا يطرأ عليها الفساد البتّة،فيلزم أن تكون هي أيضا باقية البتّة غير فاسدة أصلا،لأنّ سبب بقائها موجود و المانع عنه-أي سبب فسادها-منتف،فبأىّ طريق يطرأ عليها الفساد.و هذا نظير قول الشيخ فيما تقدّم من الدليل على عدم إمكان فساد النفس بفساد البدن،حيث قال:فاستحالة الجسم عن أن يكون آلة لها و حافظا للعلاقة معها بالموت لا تضرّ جوهرها،بل يكون باقيا بما هو مستفيد (2)الوجود من الجواهر الباقية.

ثمّ إنّك بعد ما أحطت خبرا بتفاصيل ما ذكرناه و بينّاه،ظهر لك توجيه كلام الشيخ بناء

ص:193


1- -شرح الإشارات 3:288. [1]
2- -مبدأ(خ ل).

على اصوله على وجه يتمّ به مطلوبه و يندفع عنه الإيراد،و كذا انتفاء الاحتمالات التي هي صارت منشأ لإيراد صاحب المحاكمات،و الإمام الرازي عليه ما أوردا عليه كما لا يخفى.نعم ما ذكره الإمام الرازي من الاعتراض الثالث لم يتّضح بعد بيان اندفاعه، و سنتكلّم عليه إن شاء اللّه تعالى.

ثمّ إنّه ربما يتراءى من الإمام في اعتراضه الثاني أنّه حمل قول الشيخ في الدليل:«و إن اخذت لا على أنّها أصل،بل كالمركّب من شيء كالهيولى و شيء كالصورة عمدنا بالكلام نحو الأصل من جزئيه»على أنّه إن اخذت لا على أنّها أصل اخذت مركّبة في ذاتها من جزءين كالهيولى و الصورة،مثل الجسم.إلاّ أنّ هذين الجزءين حيث كانا جزئي شيء مفارق عن المادّة،أي النفس يكونان مخالفين لهيولى الأجسام و صورها،و عمدنا بالكلام نحو هيولاها،فإنّها حيث كانت أصلا،-أي بسيطة في ذاتها غير قائمة بمادّة-ليس فيها قوّة فساد نفسها،فهي باقية غير قابلة لطريان الفساد عليها،و هذا أعني عدم فساد هيولاها كاف فيما نحن بصدده من بيان أنّ النفس غير فاسدة،حيث إنّ جزءها الأصل أعني شيئا كالمادّة لها غير فاسد.

و حيث هو حمل كلام الشيخ على ذلك أورد عليه الاعتراض،و قال:إنّه على هذا لما كان الباقي من النفس هو النفس،بل جزءا منها،و هو خلاف المقصود،و حينئذ يجوز أن لا تكون كمالاتها الذاتيّة الباقية ببقائها باقية،لأنّها تابعة لجزئها الآخر الذي هو صورتها، و المفروض فسادها،لأنّها متعلّقة بمادّتها،و يمكن أن يكون قوّة فسادها في مادّتها كما في سائر الكائنات الفاسدات و إن لم يكن في تلك المادّة قوّة فساد نفسها،و على هذا فلا تكون النفس باقية و لا كمالاتها الذاتيّة.

و لا يخفى عليك أنّه بما قرّرنا كلام الشيخ في الاستدلال كان هذا الاحتمال الذي فهمه منه منتفيا،بل كان بعيدا عنه بمراحل،كيف و لو حمل كلام الشيخ على ذلك لكان استدلالا واهيا لا يرتكبه من له أدنى مسكة فكيف مثل الشيخ؟!و هل هذا إلاّ مثل أن يقال:إنّ الجسم العنصري الكائن الفاسد غير فاسد،لأنّه مركّب من هيولى و صورة،و صورته المتعلّقة بمادّته و إن كانت قابلة للفساد حيث إنّ في هيولاها قوّة فسادها لكن هيولاه غير قابلة للفساد من جهة أنّها بسيطة غير قائمة بالمادّة و ليس فيها قوّة فساد نفسها،و هذا ممّا

ص:194

لا يرتكبه عاقل.

فعلم من ذلك أنّ هذا الاعتراض من الإمام مثل اعتراضه الثاني،بل مثل إيرادات صاحب المحاكمات إنّما نشأ من الغفلة عن التدبّر في كلام الشيخ و عن سوء الفهم منه.

ثمّ إنّ الجواب الذي أجاب به المحقّق الطوسي عن هذا الاعتراض،جواب صواب، و كأنّه أيضا مبنيّ على بساطة النفس بساطة ذاتيّة مطلقة،و على أصالتها في القيام أصالة مطلقة،كما بنينا توجيه كلام الشيخ على ذلك.

و ما ذكره أوّلا من بيان أنّ النفس لا يمكن أن يكون لها هيولى مطلقا و إن كانت مخالفة لهيولى الأجسام،حيث احتمل في ذلك احتمالات و أبطل كلّها،فأثبت بذلك عدم ثبوت هيولى أو كالهيولى لها،غنيّ عن البيان.

و أمّا ما ذكره أخيرا بقوله:«ثمّ إنّ الصورة المقيمة إيّاها و الكمالات التابعة لتلك الصورة لا يجوز أن تفسد و تتغيّر بعد انقطاع علاقتها عن البدن،لأنّ التغيّر لا يوجد إلاّ مستندا إلى جسم متحرّك كما تقرّر في الاصول الحكميّة،فهو كأنّه يحتاج إلى بيان،به يندفع الإيراد عنه،و هو أنّه ادّعى أنّه قد تقرّر في الاصول الحكمية مثل ما نقلنا عن الشيخ في الشفاء في وجه تغيّر الكائنات الفاسدات من الأجسام،أنّه إذا كان هناك صورة قائمة بمادّة هي بالقوّة قابلة لكلا الضدّين،أي لقبول صورة حادثة فيها و كذا لقبول فساد تلك الصورة عنها فحينئذ يمكن أن تفسد تلك الصورة عنها،و به يتحقّق فساد ذات تلك الصورة القائمة فسادها بمادّتها حيث فسدت ذاتها في ذاتها و فسدت عن مادّتها،و كذا يتحقّق به فساد ذلك المركّب من تلك الصورة و تلك المادّة،حيث فسد جزؤه،و فساد الجزء مستلزم لفساد الكلّ،أو أنّه إن كان هناك جسم مركّب من مادّة و صورة و كان ذلك الجسم موضوعا لعرض ما قابلا لذلك العرض و لضدّه أمكن أن يفسد ذلك العرض عنه بطروء ضدّه عليه، و إن لم يستلزم ذلك فساد ذلك الموضوع نفسه،لعدم كون ذلك العرض جزءا منه و لا مقوّما له.و كان ما ذكرنا هو معنى قوله:لأنّ التغيّر لا يوجد إلاّ مستندا إلى جسم متحرّك،أي إنّ التغيّر أي فساد الصورة أو فساد العرض لا يوجد إلاّ مستندا إلى جسم مركّب من مادّة و صورة متحرّك،أي متغيّر في صورته عن مادّته مستلزم تغيّره تغيّرا في ذات تلك الصورة نفسها،و كذا في ذلك الجسم المركّب في جزئه،أو متغيّر في ذلك العرض بحيث استلزم

ص:195

تغيّره تغيّرا في ذلك العرض دون موضوعه أي ذلك الجسم.

ثمّ ادّعى أنّا قد أقمنا الدليل على أنّه لا يمكن أن يكون للنفس هيولى و لا ما هو كالهيولى،فحيث انتفت عنه الهيولى و كالهيولى،انتفى احتمال أن يكون لها صورة أو كالصورة أيضا،إذ ذلك لا يكون إلاّ بملاحظة كون هيولى أو كالهيولى لها.و قد عرفت أنّ ذلك منتف عنها،فإذا لم يكن لها مادّة مطلقا و لا صورة مطلقا فكيف يتطرّق إليها و إلى كمالاتها الذاتيّة فساد،و بعبارة اخرى:إذا لم يكن لصورتها مادّة حاملة لها قابلة لفسادها عنها فكيف يتطرّق إلى صورتها فساد يلحقه فساد كمالاتها الذاتية التابعة لصورتها، و هو المطلوب.

و إذا عرفت ذلك،عرفت أنّ تسليم المحقّق الطوسي كون صورة للنفس،مماشاة مع الإمام في كون شيء هنا يطلق عليه الصورة أو كالصورة،لا أنّه مبنيّ على الواقع أو بحسب اعتقاده،حتّى يرد عليه أنّه مخالف لما بيّنه أوّلا من عدم كون هيولى أو كالهيولى لها،فإنّ الصورة إنّما تكون إذا كان هناك مادّة و تركّب منها و من صورة،و المفروض خلافه،و عليه ما ذكره صاحب المحاكمات بقوله:«و لقائل أن يقول:لم لا يجوز أن يقوم قوّة فساد الصورة المقيمة بمحلّها،و لا نسلّم احتياج قوّة الفساد بمادّة جسميّة بل هو أوّل المسألة؟»

ثمّ قال:«لا يقال:المفارق يمتنع أن يفارق المفارق.لأنّا نقول:إذا جاز أن يحدث في المفارق فلم لا يجوز أن ينعدم».هذا كلامه و بيان عدم الورود ظاهر،و كان هذا الإيراد أيضا مبنيّ على الغفلة عن كلام المحقّق الطوسي رحمه اللّه.

و حيث عرفت ما ذكرنا... (1)أيضا و أنّه مبنيّ على بساطة النفس و أصالتها في القيام،كما ذكرنا،أمّا بساطتها،فلأنّه نفى عنها التركيب مطلقا،و أمّا أصالتها،فحيث ادّعى كونها عاقلة بذاتها و مستغنية في وجودها عن البدن،و كلّ ذلك ظاهر على من تدبّر في كلامه،إلاّ أنّه كان ينبغي له أن يوجّه كلام الشيخ أوّلا بحيث لا يتطرّق إليه الاحتمالات التي هي منشأ للإيراد عليه كما فعلنا و هو رحمه اللّه لم يفعله،لكنّه رحمه اللّه أعلم.

و إنّما تعرّضنا نحن لتصحيح ما ذكره الشيخ في الكتابين من الدليلين،مع كون بعض ما ذكره فيهما مبنيّا على مقدّمة مقرّرة عند الحكماء غير تامّة عندنا،و هي أنّ كلّ حادث

ص:196


1- -هنا في الأصل كلمة لا تقرأ.

مسبوق بمادّة،لأجل أنّه ربما كان مؤيّدا للدلائل الاخر على بقاء النفس بعد خراب البدن، التي ليست مبنيّة على هذا الأصل كما عرفتها.و كذا لأجل تحقيق ما ذكره الشيخ و تصحيحه بناء على ذلك الأصل بقدر الإمكان،حيث كان مزلقة للأقدام.

ص:197

في ذكر شبهة مشهورة موردة على أدلّة بقاء النفس بعد فساد البدن

اشارة

و حيث انتهى الكلام إلى هذا المقام،و اندفع الإيرادات الموردة على كلام الشيخ في الكتابين في الدليلين،-أي الدليل على عدم فساد النفس بفساد البدن و الدليل على عدم فسادها مطلقا-و بقي اعتراض الثالث الذي ذكره الإمام هنا-أي على الدليل الثاني الذي ذكره الشيخ على عدم فساد النفس مطلقا-فلنتكلّم في تحرير ذلك الاعتراض،و في بيان دفعه،حيث إنّ ذلك الاعتراض اعتراض قويّ أوردوه على كلا الدليلين اللذين ذكرهما الشيخ في الكتابين و قد أشرنا فيما سبق أنّه يرد ظاهرا على بعض من الدلائل الاخر غيرهما أيضا و قد عرفت أنّ صاحب المحاكمات-كما نقلنا كلامه-أورده على الدليل الأوّل الذي ذكره الشيخ في الإشارات،أي الدليل على بقاء النفس و عدم إمكان فسادها بفساد البدن،و أنّ الإمام الرازي-كما نقلنا كلامه-أورده على دليله الثاني،ذكره فيه،أي الدليل على بقائها و عدم إمكان فسادها مطلقا،و تعلم أيضا أنّه لو كان واردا على دليلي الشيخ في الإشارات،لكان واردا على دليليه في الشفاء أيضا،إذ مآل ما في الكتابين واحد و الاختلاف إنّما هو في العبارة،و قد عرفت أيضا ممّا نقله صدر الأفاضل من كلام المحقّق الطوسي رحمه اللّه في رسالته إلى بعض معاصريه،أنّه أورد هذا الاعتراض في هذا المقام مطلقا،بحيث يمكن أن يورد على كلّ من الدليلين في الكتابين،و سأل الجواب عنه،إلاّ أنّ الإمام الرازي في اعتراضه حيث قال:إنّ الحدوث و الفساد متساويان في احتياجهما إلى إمكان يسبقهما و إلى محلّ لذلك الإمكان،أو في استغنائهما عن ذلك،و أنّه إن استغنى إمكان الحدوث عن المحلّ مع وقوع الحدوث،فليستغن إمكان الفساد أيضا عنه مع وقوع الفساد،و إن افتقر إمكان الحدوث إلى محلّ،هو البدن،فليكن البدن أيضا

ص:198

محلاّ لإمكان الفساد،و بالجملة يجوز أن يكون البدن،شرطا لوجود النفس،و يلزم انعدام المشروط عند فقدان الشرط،إن أراد بالشرط الأمر الذي له مدخل في الجملة في حدوث النفس،و إن كان على سبيل العلّية القابليّة،فيكون هو قد رام إيراد الاعتراض على كلام الشيخ من وجه واحد،و هو احتمال أن يكون البدن علّة قابليّة و محلاّ لإمكان حدوث النفس و فسادها،و حينئذ يكون قوله:و بالجملة-إلى آخره-من تتمة السابق،أمّا لو أراد بالشرط معناه الاصطلاحي الذي هو أمر وجودي خارج عن حقيقة المشروط،و يتوقّف وجود مشروطه عليه و ينتفي بانتفائه،فكأنّه رام إيراد الاعتراض على كلام الشيخ من وجهين:

الوجه الأوّل من جهة تجويز كون البدن محلاّ لإمكان فساد النفس أي علّة قابليّة له و كأنّه إيراد على قول الشيخ في الدليل الثاني:«و الأعراض وجوداتها في موضوعاتها فقوّة فسادها و حدوثها في موضوعاتها فلم يجتمع هناك تركيب».

و تحريره:أنّه كما جاز أن يكون قوّة حدوث الأعراض البسيطة و قوّة فسادها في موضوعاتها فتحدث هي فيها و تفسد هي عنها من غير لزوم تركيب في ذواتها،فلم لا يجوز أن يكون قوّة حدوث النفس التي هي بسيطة في ذاتها،و كذا قوّة فسادها في البدن الذي هي متعلّقة به،فإنّ البدن و إن لم يكن موضوعا لها لكونها مجرّدة عن المادّة في ذاتها،لكنّه ممّا يمكن أن يكون محلاّ لإمكان حدوثها و فسادها أي علّة قابليّة لذلك، كالموضوع بالنسبة إلى الأعراض.

و بيان ذلك أنّه لا يخفى أنّ المذهب الحقّ كما تقرّر في موضعه،و كذا مذهب الشيخ كما يظهر لمن نظر في كلامه في الكتابين،هو القول بحدوث النفس بحدوث البدن،و لا سترة في أنّ فسادها لو فرض يكون حادثا أيضا،فحدوثها و فسادها كلاهما حادثان بعد ما لم يكونا،فحينئذ نقول:إمّا أن يكون كلّ حادث مطلق سواء كان مجرّدا أو مادّيا،محتاجا إلى إمكان يسبقه و إلى محلّ لذلك الإمكان،كما هو المقرّر عند الحكماء،و إمّا أن لا يكون كذلك.

و على الأوّل فحدوث النفس و فسادها متساويان في احتياجهما إلى ذلك الإمكان، و إلى ذلك المحلّ الحامل له،فكما جاز أن يكون محلّ إمكان حدوثها هو البدن،حيث إنّها

ص:199

حدثت بحدوثه و لذلك جعل الشيخ و غيره البدن علّة بالعرض للنفس،فكذلك يجوز أن يكون محلّ إمكان فسادها أيضا،هو البدن،فتفسد هي بفساده.و القول بأنّه محلّ لإمكان حدوثها دون فسادها ممّا لا وجه له،لأنّه إن كان مبنيّا على أنّها لا تفسد البتّة و إن كان هناك حامل لإمكان الفساد فهو أوّل المسألة،و إن كان مبنيّا على أنّ إمكان الفساد مطلقا لا يستدعي محلاّ له،فهو مخالف لما هو المقرّر عندهم،من أنّ كلّ حادث يستدعي ذلك، مع أنّه يستلزم المطلوب،و هو ثبوت الفساد لها من غير أن يكون هناك حامل لإمكانه،و إن كان مبنيّا على أنّ النفس لكونها مجرّدة عن المادّة لا يستدعي إمكان فسادها محلاّ لذلك، فهو جار في إمكان حدوثها أيضا،و قد ثبت عندهم أنّه يستدعي محلاّ،و هو البدن،مع أنّه يستلزم المطلوب و هو ثبوت الفساد لها.و إن كان مبنيّا على أنّ محلّ إمكان فسادها هو شيء غير البدن،فهو مع كونه مخالفا لما تقرّر عندهم من أنّ محلّ إمكان الفساد يجب أن يكون هو بعينه محلّ إمكان الحدوث،يستلزم المطلوب،و هو ثبوت محلّ لإمكان فسادها،و إن كان غير البدن.

و بالجملة كلّ ما يمكن أن يقال في ذلك فهو باطل.

و على الثاني أي أن لا يحتاج الحادث مطلقا أو حدوث النفس و فسادها إلى محلّ كذلك فهما متساويان في ذلك،فكما يجوز أن تحدث النفس من غير احتياج إلى محلّ، كذلك يجوز أن تفسد أيضا مع الاستغناء عن محلّ كذلك،و هو المطلوب.

و بهذا الطريق الذي سلك الإمام في اعتراضه أوّلا كما حرّرناه سلك المحقّق الطوسي في رسالته إلى بعض معاصريه في بيان الاعتراض على هذا المقام كما نقلنا كلامه،و في احتمال كون البدن محلاّ لإمكان فساد النفس،إلاّ أنّه فصّل تفصيلا أتمّ،به يكون الاعتراض أقوى،حيث قال:«ما بال القائلين بأنّ ما لا حامل لإمكان وجوده و عدمه فإنّه لا يمكن أن يوجد بعد العدم أو يعدم بعد الوجود،و حكموا بوجود النفس الإنسانيّة و امتنعوا عن تجويز فنائها،فإن جعلوا حامل إمكان وجودها البدن،فهلاّ جعلوه حامل إمكان عدمها أيضا،و إن جعلوها لأجل تجرّدها عمّا تحلّ فيه عادم حامل لإمكان العدم، كيلا يجوز عدمها بعد الوجود،فهلاّ جعلوها لأجل ذلك بعينه عادم حامل لإمكان الوجود، فيمتنع وجودها بعد العدم في الأصل.و كيف ساغ لهم أن يجعلوا جسما مادّيا حاملا

ص:200

لإمكان جوهر مفارق مباين الذات إيّاه،فإن جعلوها من حيث كونها مبدءا لصورة نوعية لذلك الجسم،ذات حامل لإمكان الوجود،فهلاّ جعلوها من تلك الحيثيّة بعينها ذات حامل لإمكان العدم.و بالجملة ما الفرق بين الأمرين مع تساوي النسبتين.-انتهى كلامه.

الوجه الثاني-و هو يظهر من الإمام في آخر كلامه في ذلك الاعتراض لو أراد بالشرط معناه الاصطلاحي،حيث قال:و بالجملة يجوز أن يكون البدن شرطا لوجود النفس، و يلزم انعدام المشروط عند فقدان الشرط-،انّه يجوز أن يكون البدن شرطا لوجود النفس.و كأنّه على هذا إيراد على قول الشيخ،و إذا كان كذلك،لم يكن أمثال هذه في أنفسها قابلة للفساد بعد وجوبها بعللها و ثباتها بها.

و تحريره أنّ تلك العلل التي بها وجود النفس و ثباتها لا تخلو عن أن تكون علّة تامّة لها أو غير تامّة،و على الأوّل فإمّا ان تكون قديمة كما هو مذهبهم،فيلزم حينئذ قدم النفس أيضا و هو باطل،لكونها حادثة بحدوث البدن،كما هو مذهب الشيخ أيضا،و إمّا أن تكون حادثة قبل البدن،فهو مع أنّه ليس مذهبا لهم،يلزم على تقديره حدوث النفس قبل البدن، و هو أيضا خلاف المفروض و إمّا أن تكون حادثة حين حدوث البدن،فهو أيضا مع كونه خلاف مذهبهم،يستلزم أن تكون تلك العلل كافية في وجود النفس فلم يكن للبدن مدخل أصلا في وجودها،و لو بالعرض،و هو أيضا خلاف ما ذهبوا إليه،و على الثاني أي أن تكون تلك العلل علّة غير تامّة،فتماميّتها تحتاج إلى شرط أو إلى جزء أخير لتلك العلّة فسواء فرض قدمها أو حدوثها قبل البدن أو معه،جاز أن يكون البدن شرطا في تماميّة تلك العلّة و في حدوث النفس،بل أنّ الظاهر أنّ حدوث البدن شرط لحدوثها أي لحدوث النفس،و إلاّ لما كانت حادثة بحدوثه،و إذا كان البدن شرطا لحدوثها يلزم فساد النفس بفساده،لأنّ المشروط ينعدم بانعدام شرطه و هو المطلوب،و هذا الوجه من الاعتراض كأنّه مبنيّ على التنزّل و تسليم أنّ النفس لكونها مجرّدة عن المادّة،لا يكون لها محلّ لإمكان حدوثها و فسادها،و حاصله أنّا سلّمنا أنّها لأجل تجرّدها في ذاتها عن المادّة و كونها غير متعلّقة القوام بها لا يمكن أن يكون البدن و لا شيء آخر من مادّة أو موضوع محلاّ لإمكان حدوثها أو فسادها،لكن لا مانع من أن يكون البدن شرطا لحدوثها[و] وجودها حيث إنّ المفروض أنّها حادثة بحدوثه،و إذا جاز أن يكون شرطا لها و الحال أنّ

ص:201

المشروط ينعدم بانعدام الشرط،جاز أن تفسد النفس بفساد البدن.

و بهذه الطريق سلك صاحب المحاكمات في إيراده على الدليل الأوّل الذي ذكره الشيخ،و هو إيراد على قول الشيخ هناك:«فاستحالة الجسم عن أن يكون آلة لها و حافظا للعلاقة معها بالموت لا يضرّ جوهرها،بل يكون باقيا بما هو مستفيد (1)الوجود من الجواهر الباقية.»إلاّ أنّه فصّل تفصيلا آخر في الاعتراض،يحتاج إلى توضيح.

قال:و فيه نظر،لأنّ الجوهر العقليّ الموجد للنفس إن كان علّة تامّة لها،لزم قدمها لقدمه أي لقدمه عندهم،و إن كان علّة فاعليّة و توقّف وجودها على حدوث البدن،أي كما هو المذهب الحقّ و مذهب الشيخ من أنّ النفس حادثة بحدوث البدن،و الحال أنّ ليس ذلك إلاّ لتوقّف وجودها على حدوث البدن،فلم لم يتوقّف بقاؤها على بقائه،أي و الحال أنّ البقاء ليس إلاّ الوجود الأوّل المستمرّ.و على تقدير أن يكون البقاء معنا آخر غير الوجود الأوّل فلا يخفى أنّه أيضا نحو من الوجود،و إذا جاز توقّف وجودها على حدوثه،فلم لا يجوز توقّف بقائها على بقائه،بحيث ينتفي الأوّل بانتفاء الثاني،فالنفس إن كانت مجرّدة إلاّ أنّها متعلّقة بالبدن،فجاز أن يكون تعلّقها شرطا لبقائها فإذا انتفى انعدمت، أي فالنفس و إن كانت مجرّدة عن المادّة في ذاتها لا تستدعي محلاّ لإمكان حدوثها إلاّ أنّها متعلّقة بالبدن و حادثة بحدوثه،فجاز أن يكون حدوث البدن،ثمّ تعلق النفس به شرطا لبقائها كما كان ذلك شرطا لحدوثها،فإذا انتفى ذلك الشرط الذي هو شرط لحدوثها و لبقائها انعدمت النفس،و فسدت،حيث إنّ المشروط ينعدم بانعدام شرطه.

و الحاصل أنّ البدن ما كان موجودا و كذا النفس ما كانت موجودة ثمّ وجد البدن و النفس أي كما هو المذهب الحقّ من أنّ النفس حادثة بحدوثه،ثمّ ينعدم البدن فلا يخلو إمّا أن يكون للبدن دخل في وجود النفس،أي بطريق الشرطيّة أو نحوها أولا،فإن لم يكن له دخل في وجود النفس أصلا فلم لم يوجد النفس قبل وجود البدن،أي لم يوجد قبله وجودا قديما كما هو مقتضى قدم علّتها الموجدة عندهم أو وجودا حادثا قبله،لو فرضنا علّتها حادثة قبله،و إن كان له دخل في وجودها فلم لا يجوز أن يكون له دخل في بقائها، أي و الحال أنّ مدخليّة شيء فى وجود شيء،يستلزم مدخليّته في بقائه أيضا حتّى إذا

ص:202


1- -مبدأ(خ ل).

انعدم،-أي البدن-انعدمت-أي النفس-و فيه المطلوب.

و هذا الذي ذكرنا إنّما هو تحرير وجوه تلك الشبهة الموردة على كلام الشيخ في الإشارات،و يعلم منه كيفيّة تحريرها و إيرادها على كلامه في الشفاء.و تلخيص الكلّ،أنّ القول ببقاء النفس بعد خراب البدن،ينافي القول بحدوثها بحدوثه كما ذكرنا.

في تحرير الجواب عن الشبهة

و أمّا بيان الجواب عن تلك الشبهة فيستدعي تمهيد مقدّمة،هي أن قد استبان لك ممّا حقّقه الشيخ في الشفاء على ما نقلنا كلامه سابقا أنّ تغيّر الكائنات الفاسدات،إنّما يتحقّق إذا كان هناك تركّب من مادّة و صورة يكون بتلك الصورة كون ذلك المركّب بالفعل،و بتلك المادّة كونه بالقوّة،و كونه قابلا للضدّين المتواردين عليه،و بالجملة أن يكون هناك محلّ قابل لكلا الضدّين اللذين هما متعلّق القوام به،كالمادّة بالنسبة إلى صورة و ضدّها و كالموضوع بالنسبة إلى عرض و ضدّه و أن يكون في ذلك المحلّ قوة قبول صورة أو عرض فيحدث ذلك المقبول في ذلك المحلّ القابل،و أن يكون فيه قوّة قبول فساده عنه، فيفسد هو عنه إلاّ أنّ ذلك الكائن الفاسد إن كان صورة هي جزء من المركّب منها و من المادّة،و بها قوام مادّتها كما في الجسم،كان كون تلك الصورة سببا لكون المركّب و كذا فسادها سببا لفساده،لفساد المركّب بفساد جزئه،و إن لم يكن صورة كذلك،بل عرضا بالنسبة إلى موضوعه،لم يكن كونه سببا لكونه،و لا فساده سببا لفساده،فيظهر لك أنّه يشترط في الكون و الفساد أن يكون هناك امور:

منها أن يكون هناك محلّ قابل لكون الكائن فيه و لفساده عنه،مادّة كان ذلك المحلّ او موضوعا،إذ لو لم يكن هناك محلّ كذلك فلا قبول فلا كون و لا فساد.

و منها أن يكون ذلك المحلّ واحدا بالذات و كذا بالاعتبار باقيا في الحالين أي أن يكون ذلك المحلّ بعينه من جهة كونه قابلا لكون أمر فيه محلاّ لفساده عنه،و كان باقيا بعينه في الحالين،إذ لو لم يكن واحدا بالذات و كذا بتلك الجهة،لكان يجوز أن يكون محلّ قابل لكون أمر فيه و محلّ آخر مغاير للأوّل بالذات أو بالاعتبار،أي لا من جهة كونه محلاّ لكون ذلك الكائن فيه محلاّ لفساد ذلك الكائن عنه،و هذا ممتنع،إذ المفروض أنّ هناك

ص:203

كون شيء و فساد ذلك الشيء بعينه،و هذا إنّما يكون إذا كان المحلّ واحدا بعينه من جهة واحدة،بتلك الجهة يكون المحلّ قابلا لكلا الضدّين حتى يكون الحالّ الكائن الفاسد واحدا،حيث إنّ تشخّص ذلك الشيء الكائن الفاسد إنّما يكون بمحلّه من مادّته أو موضوعه،و إذا تغاير المحلاّن ذاتا أو من بعض الجهات التي بها يختلف كون المحلّ قابلا للضدّين،فلا يكون الفاسد هو بعينه ذلك الكائن،بل أمر آخر حالّ في محلّ آخر غير محلّ الأوّل ذاتا أو من تلك الجهة؛هذا خلف و كذلك لو لم يكن ذلك المحلّ باقيا بعينه في الحالين،لجاز أن يكون محلاّ قابلا لكون أمر فيه و كان باقيا في تلك الحال و قابلا أيضا لفساد ذلك الأمر بعينه عنه،و لم يكن في تلك الحال باقيا بل فاسدا،و هذا أيضا ممتنع،لأنّ المفروض أنّ ذلك المحلّ قابل لفساده عنه،و فساد شيء عن شيء فرع بقاء الشيء الثاني بعينه،حتّى يتصوّر فساد الشيء الأوّل عنه.

نعم يمكن أن يكون محلّ واحد مع صورة أو هيئة مخصوصة مستعدّا لكون شيء فيه بإعداد تلك الصورة أو الهيئة،بأن تكون تلك الصورة أو الهيئة علّة معدة له،و لجعله مستعدّا لذلك الشيء فيكون ذلك المحلّ بذلك الاستعداد محلاّ قابلا لكون ذلك الشيء،فيحدث هو فيه،و ينعدم تلك الصورة أو الهيئة التي هي العلّة المعدّة،فيحدث فيه صورة اخرى غير الاولى،و يكون ذلك المحلّ باقيا بعينه فيستعدّ بإعداد صورة اخرى فيه أو هيئة غير الاولى،لفساد ذلك الشيء عنه،فيفسد ذلك الشيء عنه و يفسد عنه تلك العلّة المعدّة أيضا و يكون ذلك المحلّ باقيا بعينه حينئذ أيضا.إذ لا دخل لتلك العلّة المعدّة لاختلاف المحلّ،لا ذاتا و لا من الجهة التي بها يكون المحلّ قابلا للضدّين،أمّا عدم الاختلاف ذاتا فظاهر،و أمّا عدم الاختلاف بتلك الجهة،فلأنّ العلّة المعدّة و إن كان لها دخل في استعداد المحلّ أي لزيادة استعداده و تماميّة قابليّته لكن ليس لها دخل في أصل الاستعداد و أصل القبول،بل ذلك مستند إلى ذات المحلّ بذاته،فتدبّر.

و منها أن يكون الأمر الكائن الفاسد مع كونه غير ذلك المحلّ متعلّق القوام بذلك المحلّ،إذ لو كان مباين القوام عنه لم يجز أن يكون كونه فيه،كيف و لو جاز ذلك،لجاز أن يحصل كون شيء من الأشياء المباينة للحجر مثلا كالنفس مثلا في الحجر،و لجاز أن يكون كون من هو في المشرق مثلا في من هو في المغرب،و إذا لم يجز كون شيء مباين في

ص:204

شيء مباين له لم يجز فساده عنه،إذ جواز فساده عنه فرع جواز كونه فيه،و حيث امتنع الأوّل امتنع الثاني.

و من هذه الجهة أيضا لم يجز أن يكون شيء من الأشياء محلاّ لكون نفسه فيه و لا محلاّ لفساده عنه.أمّا الأوّل فلكون الكائن على هذا التقدير عين ذلك المحلّ،و الحال أنّه يجب أن يكون غيره،و أمّا الثاني،فلكون فساد نفسه مبائنا له و الشيء لا يجوز أن يكون محلاّ لما هو مباين القوام عنه،و جميع ما ذكرناه ظاهر عند التأمّل الصادق.و إذا تمهّدت هذه المقدّمة فنقول:

شروع في تحرير الجواب

لا يخفى عليك أنّ النفس الإنسانية بالنسبة إلى بدنها ذات جهتين،أي أنّها من حيث ذاتها و حقيقتها جوهر مفارق مجرّد عن المادّة مباين القوام بالذات للبدن،و من جهة تصرّفها في البدن و حفظها لمزاجه و كونها مبدءا قريبا لصورة نوعية للبدن و نحو ذلك،لها علاقة بالبدن و مقارنة له و نوع مناسبة و ارتباط معه.

و لا يخفى أيضا أنّ البدن و لا شيئا من أجزائه و مراتبه،لا يمكن أن يكون حاملا لإمكان حدوث النفس و فسادها من الجهة الاولى،و لا ممّا له مدخل في وجودها بوجه من وجوه العلّيّة،لأنّها من تلك الجهة مباينة الذات و القوام للبدن و أجزائه و مراتبه،و الحال أنّ الكائن الفاسد يجب أن يكون متعلّق القوام بمحلّه،و كذا يجب أن يكون المعلول ممّا لا يبائن علّته.فبقي أن يكون البدن حاملا لإمكان حدوثها و فسادها من الجهة الثانية أي محلاّ لإمكان تعلّق النفس به و فساد ذلك التعلّق عنه.و هذا أيضا ممّا لا يجوز،لأنّ كلّ مرتبة تفرض من مراتب البدن مع مزاج خاصّ بها أو صورة نوعية خاصّة بها أو شخصيّة،إذا اعتبرت تلك المرتبة بمادّتها و صورتها و مزاجها جميعا كمرتبة النطفة أو العلقة أو المضغة أو العظام و اللحم،مع موادّها و صورها و أمزجتها،لا يمكن أن تكون حاملة لإمكان حدوث النفس،و لا لإمكان فسادها و بيان ذلك أنّ محل إمكان الحدوث و الفساد كما مرّ بيانه يجب أن يكون باقيا بعينه في الحالين،أي في حال الحدوث و الفساد،و كذا في حالات بقاء ذلك الحادث.و هذه المراتب البدنيّة إذا اعتبرت بموادّها و صورها محلاّ

ص:205

لإمكان فسادها ليست كذلك،فإنها كما هو المعلوم بالبديهة متغيّرة غير باقية بعينها، و بذلك المزاج الخاص و التركيب الخاص و الصورة المخصوصة التي هي بتلك الجهات جميعا لا بمادّتها وحدها،يمكن أن تعتبر بدنا للنفس.

و ليس الأمر كما ظنّه صدر الأفاضل فيما نقلنا عنه في جواب هذا السؤال:«إنّ كلّ مرتبة سابقة من تلك المراتب باقية مع المرتّبة اللاحقة،و إنّ هذه المراتب،استكمالات مترادفة و ليست إلاّ ضربا من الاشتداد،لا بأن تحدث صورة فتفسد،ثمّ تحدث صورة اخرى مباينة للاولى»،لكون ما ادّعاه من عدم الكون و الفساد مخالفا للبديهة.

و أيضا فإنّ عدم المباينة و إن كان مسلّما،لكن عدم المغايرة و عدم الاختلاف غير مسلّم،بل الاختلاف و المغايرة ممّا لا يمكن إنكاره،و فيه المطلوب.

و يدلّ عليه قوله تعالى: «يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ» (1).

و على هذا فيكون ما هو المفروض محلاّ لذلك في كلّ مرتبة لا حقة،غير ما هو في المرتبة السابقة،إمّا بالذات أو بتلك الجهة السابقة،و قد ثبت عندهم أنّ النفس في اولى تلك المراتب أي المرتبة المنويّة،تكون فائضة عن المبدأ الفيّاض،متعلّقة بتلك المرتبة البدنية،باقية بعدها بعينها إلى آخر تلك المراتب،و إلى ما بعدها إلى أوان حلول الأجل و انقطاع علاقتها عن البدن،و أنّها في جميع تلك المراتب متعلّقة بالبدن باقية بعينها، واحدة بالذات،مختلفة بحسب الأفعال و باعتبار مراتب الكمالات،لا أنّها تفسد و تحدث اخرى،و لا أنّها تبقى و تحدث اخرى مجتمعة معها،كما مرّت الإشارة إليه و سيأتي تحقيقه.و حينئذ فالنفس و كذا تعلّقها بالبدن باقيان في تلك المراتب،و تلك المراتب متغيّرة غير باقية بعينها،فكيف يمكن أن تكون تلك المراتب مع تغيّرها حاملة لإمكان تعلّق النفس بها،مع أنّه يجب أن يكون حامل إمكان كائن باقيا في الحالين.و لو سلّم بقاء تلك المراتب بموادّها و صورها حتّى يمكن أن يفرض كونها حاملة لإمكان تعلّقها و بقاء التعلّق،فكيف يمكن أن يكون مرتبة من المراتب البدنيّة مع موادّها و صورها حاملة لإمكان فساد النفس عنها،مع أنّه يجب أن يكون حامل إمكان الفساد هو بعينه حاملا لإمكان الحدوث،و باقيا في حالة الفساد،كما مرّ وجهه،و الحال أنّا نجزم أنّ تلك المرتبة

ص:206


1- -الزمر:6. [1]

المفروض كونها حاملة لإمكان فسادها،تفسد بصورتها و هيئتها و مزاجها البتّة،ثمّ يتبعه زوال علاقة النفس عن البدن،فكيف تكون تلك المرتبة حاملة لإمكان فسادها و زوال علاقتها عنها،فإنّ فساد شيء عن شيء يستلزم بقاء الشيء الثاني حين زوال الشيء الأوّل.و المفروض هنا خلافه.

نعم لو فرضنا أن يكون مرتبة من مراتب البدنيّة بمادّتها و بصورة خاصّة،أو هيئة خاصّة حاملة لإمكان حدوث النفس و تعلّقها بها،كالمرتبة الأخلاطيّة بحيث يكون المحلّ القابل المستعدّ لذلك الحدوث و التعلّق،هو نفس تلك المادّة،و يكون تلك الصورة أو الهيئة الأخلاطيّة علّة معدّة لها،فيحدث حينئذ النفس متعلّقة بها و ينعدم تلك الصورة أو الهيئة لكونها علّة معدّة يجب أو يجوز زوالها فيحدث فيها صورة اخرى أو هيئة غير الاولى و فرضنا أنّ تلك المادّة باقية بعينها إمّا مع تلك الصورة أو الهيئة الثانية أو مع الصور أو الهيئات المتواردة المتعاقبة المعتورة عليها كما هو المعلوم فيما نحن فيه،و فرضنا بقاء تعلّق النفس بتلك المادّة في جميع تلك المراتب المتجدّدة المتغيّرة،حتى إذا انتهى إلى المرتبة الأخيرة تكون تلك المادّة الباقية مع هيئة أو صورة اخرى غير الاولى مستعدّة بإعداد تلك الهيئة أو الصورة أن تكون حاملة لإمكان فساد النفس و فساد تعلّقها عنها، فيحدث الفساد و يزول أيضا تلك الهيئة أو الصورة التي هي العلّة المعدّة لذلك،مع كون تلك المادّة باقيّة في حالتي الكون و الفساد.

لجاز أن يكون البدن بمادّته علّة قابليّة مستعدّة لحدوث النفس متعلّقة به،و لفسادها و فساد التعلّق عنه،و أن يكون بصورة خاصّة علّة معدّة لحدوث ذلك،و بصورة اخرى علّة معدّة لفساده،و كأنّ ذلك هو منظور من قال:إنّه يجوز أن يكون البدن محلاّ لإمكان حدوث النفس و لإمكان فسادها،إلاّ أنّ هذا لا يضرّنا،فإنّه على هذا أيضا لا يمكن أن يكون البدن محلاّ لوجود ذات النفس و لا لفسادها،بل لحدوث تعلّقها به و لفساد ذلك التعلّق عنه،أي أن يكون محلاّ لاستعداد تعلّقها به و تصرّفها فيه في جميع مراتبه،و حيث توقّف تعلّق النفس به-حيث فرض كونها حادثة بحدوثه على ما يقتضيه الدليل كما سيأتي،لا قديمة و لا حادثة قبل البدن-على وجود النفس في نفسها،كان هذا الاستعداد منسوبا أوّلا و بالذات إلى تعلّقها به أي وجودها متعلّقة به،و ثانيا و بالعرض إلى وجودها

ص:207

في نفسها،فهذا الاستعداد كاف لفيضان الوجود عليها متعلّقة بالبدن،و لا حاجة في ذلك إلى استعداد منسوب أوّلا و بالذات إلى وجودها في نفسها ليمتنع قيامه بالبدن لكونها مباينة الذات و القوام للبدن.

و من هذه الجهة أيضا جاز أن يكون البدن محلاّ لاستعداد عدم النفس عنه،أي لفساد علاقتها عنه،و انقطاع تصرّفها عنه،لكن لمّا لم يتوقّف زوال علاقتها عنه على عدمها في نفسها،لم يكن هذا الاستعداد منسوبا إلى عدمها في نفسها،لا بالذات،و لا بالعرض،فلا يكفي هذا الاستعداد لعدمها في نفسها أصلا،بل لا بدّ من استعداد آخر،و قد تبيّن امتناع قيامه بالبدن.و بالجملة قيام إمكان حدوث علاقة النفس بالبدن،يكفي لإمكان حدوث النفس في نفسها،و يستلزم الحدوث الأوّل الحدوث الثاني.و أمّا قيام إمكان فساد علاقتها عن البدن بالبدن،فلا يكفى لإمكان فسادها في نفسها،و لا يستلزم أيضا فساد علاقتها عنه،فسادها في نفسه.

و بهذا التقرير ظهر أنّ البدن لا يمكن أن يكون محلاّ لإمكان فساد النفس في نفسها، و ظهر أيضا معنى ما تقرّر عندهم أنّ البدن علّة بالعرض للنفس،لأنّ مادّته و إن فرض كونها علّة قابليّة لها،لكن هذه العلّية القابلية منسوبة أوّلا و بالذات إلى قابليّته لتعلّقها به،و ثانيا و بالعرض إلى وجودها في نفسها،و صورته الخاصّة المعدّة لتلك المادّة لذلك علّة معدّة لوجود النفس،و العلة المعدّة مطلقا علّة بالعرض،فكيف إذا نسبت إلى تعلّق النفس بالبدن أوّلا و إلى وجودها في نفسها ثانيا.

و حيث عرفت حال احتمال كون البدن حاملا لإمكان حدوث النفس و فسادها أي علّة قابليّة لذلك،فحريّ بنا أن نتكلّم في أن البدن،هل يمكن أن يكون شرطا بالمعنى المصطلح لحدوث النفس و وجودها في ذاتها،أو من حيث تعلّقها به،حتّى يمكن أن تفسد،من حيث وجودها في نفسها،أو من حيث التعلّق به،بفساد شرطه أي البدن،أم لا يمكن؟

فنقول:إن الشرط عندهم عبارة عن أمر لوجوده مدخل في وجود مشروطه،و يتوقّف وجود مشروطه عليه،حيث قالوا إنّ مدخليّة شيء في وجود آخر إمّا أن يكون بحسب وجوده فقط كالفاعل و الشرط و المادّة و الصورة،فيجب أن يكون موجودا،و إمّا بحسب

ص:208

عدمه فقط كالمانع،فيجب أن يكون معدوما،و إمّا بحسب وجوده و عدمه معا كالمعدّ،إذ لا بدّ من عدمه الطارئ على وجوده،فيجب أن يوجد أوّلا ثمّ يعدم،فيستفاد من ذلك و من غيره ممّا ذكروه من معنى الشرط أنّه يعتبر في مفهوم الشرط،أن يكون أمرا وجوديّا يتوقّف وجود مشروطه عليه،و يجتمعان معا في الوجود،و يلزم ذلك أن يكون بانتفائه ينتفي المشروط،و أن يكون أمرا خارجا عن حقيقة المشروط،إذ لو كان نفس المشروط أو داخلا فيه،كان توقّف المشروط عليه توقّفا للشيء على نفسه،أو على ما هو داخل في حقيقته،و هو ممتنع،إذ الموقوف و الموقوف عليه يجب أن يكونا متغايرين،و أن لا يكون هو مباين الذات للمشروط،إذ المباين لا يمكن أن يكون ممّا يتوقف عليه وجود مباينه، و كلّ ذلك ظاهر.

و إذا تقرّر هذا،فنقول:لا يخفى عليك أنّ النفس من حيث كونها جوهرا مفارقا مجرّدا عن المادّة،لا يمكن أن يكون البدن شرطا لوجودها مطلقا إذ هما من هذه الجهة متباينان بحسب الذات،و المتباين لا يمكن أن يكون شرطا لوجود ما هو مباين له ذاتا،فلننظر في أنّها من جهة مقارنتها للبدن و ارتباطها به و تصرّفها فيه،هل يمكن أن يكون البدن شرطا لها أي شرطا لتعلّقها به أم لا؟

فنقول:إنّ البدن على هذا يكون شرطا لتعلّق النفس به،و يكون المشروط هو التعلّق، و ظاهر أنّ التعلق المذكور أمر إضافيّ يستدعي الطرفين،أي المتعلّق الذي هو النفس، و المتعلّق به الذي هو البدن في وجوده الخارجي و الذهني جميعا،و كما أنّه في الخارج يتوقّف تصوّره على تصوّرهما،فطرفاه داخلان في حقيقته،فإذا كان البدن الذي هو داخل في حقيقته،شرطا له،يلزم أن لا يكون الشرط و المشروط متغايرين؛هذا خلف.فكيف يمكن أن يكون البدن شرطا له.

و الحاصل أنّ وجود التعلّق المذكور و إن كان فرعا على وجود البدن،إلاّ أنّا لا نسلّم كون البدن شرطا له،حيث يلزم منه كون شيء شرطا لما هو داخل في حقيقته،و الشرط ينبغي أن يكون خارجا عن حقيقة مشروطه،و كذا عمّا يدخل في حقيقته.و على تقدير تسليم إمكان ذلك بناء على أنّ المشروط،هو نفس التعلّق المذكور الذي هو غير البدن و أنّ طرفيه خارجان عن حقيقته،نقول:لا يخفى أنّ المادّة البدنيّة من حيث هي هي من

ص:209

غير اعتبار انضمام صورة إليها لا يمكن أن يكون شرطا لتعلّق النفس بها،إذ الشرط كما عرفت يجب أن يكون أمرا وجوديّا أي أمرا موجودا في حدّ ذاته يتوقّف عليه وجود مشروطه،و المادّة البدنيّة كالهيولى الاولى ليست كذلك،إذ وجودها إنّما هو بصورتها، فبقي أن يكون الشرط هو مادّة البدن مع صورة خاصّة و مزاج خاصّ و تركيب خاصّ،أي مجموع المادّة و الصورة،بحيث أن يكون مناسبا لمشروطه و يتوقّف وجوده عليه.

و لا يخفى أنّه لا يمكن أن يكون شيء من المراتب البدنيّة شرطا له،أمّا ما قبل المرتبة النطفية،كمرتبة الأجزاء الغذائيّة و الأجزاء الخلطيّة،فظاهر،لأنّه ليس في تلك المرتبة حدوث نفس و لا تعلّقها بالبدن أصلا،بل إنّما ذلك في المرتبة المنويّة كما هو المقرّر عندهم.مع أنّ تلك المرتبة متغيّرة جدّا و الشرط يجب أن يكون مجتمعا مع وجود مشروطه،بحيث ينتفي وجود مشروطه بانتفائه و الحال أنّ المشروط أي تعلّق النفس بالبدن باق مع انتفاء تلك المرتبة،سواء فرضنا حدوث النفس في المرتبة التي قبل المرتبة المنويّة أو في المرتبة المنويّة أو فيما بعدها.

و كذلك لا يمكن أن يكون شيء من المراتب التي بعد المرتبة المنويّة،كمرتبة العلقة و المضغة و العظم و اللحم شرطا لذلك،لأنّ المقرّر عندهم،أنّ تعلّق النفس بالبدن،إنّما هو عند المرتبة النطفيّة،و هي مع ذلك باقية بعينها في تلك المرتبة و فيما بعدها من المراتب، إلى أوان حلول الأجل،و واحدة بالذات مختلفة باعتبار الكمالات.

و من المعلوم أيضا أنّ تلك المراتب متغيّرة زائلة بصورها و هيآتها،و كلّ مرتبة سابقة منها تنعدم بعد حصول المرتبة اللاحقة إلى أن يكمل البدن.و قد مرّ أيضا أنّ الشرط يجب أن يجامع مشروطه في الوجود،فكيف يمكن أن يكون ما سوى المرتبة الأخيرة من المراتب لتغيّرها شرطا لذلك،أي لتعلّق النفس بالبدن الذي هو باق بعينه في جميع تلك المراتب،فبقي أن يكون المرتبة الأخيرة التي هي مرتبة كمال البدن شرطا له،و هو أيضا لا يمكن أن يكون شرطا،لأنّ حدوث النفس و كذا تعلّقها بالبدن،إنّما هما قبل تلك المرتبة البتّة،و الشرط لا يمكن أن يكون متأخّرا في الوجود عن وجود مشروطه.

نعم لو أمكن أن يكون الشرط لشيء ما أمرا كلّيا منحصرا في أفراد محصورة و يكون الشرط بالحقيقة لذلك الشيء هو ذلك الأمر الكلّي أي أفراده من حيث كونها أفرادا له،

ص:210

لا من حيث خصوصيّاتها،و يكون كلّ فرد منها شرطا له على سبيل البدليّة،ينعدم فرد واحد و يخلفه فرد آخر في ذلك.

لأمكن أن يقال فيما نحن فيه:أنّ الشرط لتعلّق النفس بالبدن و لبقاء ذلك التعلّق،هو الأمر الكلّي الذي أفراده تلك المراتب البدنيّة إلى كمال البدن،و كلّ مرتبة منها شرط له، لا لخصوصيّاتها،بل لكونها ممّا تحقّق في ضمنها ذلك الأمر الكلّي الذي هو الشرط بالحقيقة،فيحصل فرد منها و يصير شرطا لذلك،ثمّ ينعدم،و لكن لا ينعدم المشروط،بل يبقى لأجل حصول فرد آخر منها و نيابته عن الأوّل في ذلك،إلى أن يتمّ البدن و يتكامل، فيكون حينئذ المرتبة الأخيرة شرطا لذلك إلى أوان حلول الأجل،حتّى إذا انعدمت هي بفساد البدن،انعدم الشرط بالكلّية،فينعدم المشروط الذي هو التعلّق المذكور.

و على هذا و إن أمكن تصحيح كون البدن شرطا لتعلّق النفس به،و أمكن أيضا تصحيح كون البدن علّة بالعرض للنفس،حيث إنّ تلك العلّية أي الشرطية منسوبة أوّلا و بالذات إلى التعلّق المذكور،و ثانيا و بالعرض إلى وجود ذات النفس في ذاتها،حيث فرضناها حادثة بحدوث البدن،متعلّقة به،و تعلّقها به فرع وجودها في نفسها،إلا أنّ ذلك أيضا ممّا لا يضرّنا،لأنّ وجود هذا الشرط،و إن استلزم وجود النفس و حدوثها،لكن انتفاؤه لا يستلزم انتفاء ذات النفس في ذاتها،بل انتفاء تعلّقها بالبدن كما مرّ بيانه في السابق، فيمكن أن يكون التعلّق وحده منتفيا لأجل انتفاء التعلّق به خاصّة،أي البدن،و لا يكون المتعلّق أي ذات النفس منتفيا،بل باقيا بذاته لبقاء علّته المقيمة إيّاه،فتبصّر.

و حيث أحطت خبرا بتفاصيل ما فصّلناه،ظهر لك الجواب عن الاعتراض المذكور الذي أورده الإمام،سواء قرّر على وجهين،أي وجه احتمال كون البدن علّة قابلية لفساد النفس،و وجه احتمال كونه شرطا لوجودها كما هو ظاهر كلام الإمام،أو قرّر على الوجه الأوّل فقط كما هو الاحتمال،إلاّ أنّك إن اشتهيت زيادة إيضاح لهذا المقام فاستمع لما يتلى عليك من الكلام.

زيادة إيضاح للمقام

فنقول:إنّ الحكمة الإلهيّة المتعالية،لمّا اقتضت وجود الإنسان الذي من شأنه أن يكون

ص:211

عارفا باللّه تعالى و اسمائه الحسنى و صفاته العليا و أفعاله و صنائعه الكلّية و الجزئية،عابدا له تعالى عاملا بما أمره و نهاه من الكلّيات و الجزئيات.

و بالجملة أن يكون من شأنه الإدراكات الجزئيّة و الأفعال التي هي من خصائص المادّيات و المتعلّقات بالمادّة،مضافا إلى الإدراكات الكلّية و الأفعال التي هي من خصائص المجرّدات عنها،و كان لا يتمّ وجود من شأنه هكذا إلاّ بوجود شيئين:

أحدهما شيء مجرّد عن المادّة في ذاته،متعلّق بالمادّة في أفعاله الجزئية،و هو الذي نسمّيه بالنفس،ليكون هو بذاته ممّا يصدر عنه إدراك الكلّيات و المجرّدات عن المادّة، و يكون أيضا سبب تعلّقه بالمادّة نوع تعلّق ممّا يصدر عند الأفعال التي هي من خصائص المادّيات.

و الآخر شيء متعلّق القوام بالمادّة من جسم يصلح أن يكون آلة للأوّل في أفعاله المختصّة بالمادّيات،و يكون هو محتاجا إلى الأوّل بحيث يكون الأوّل متعلّقا به تعلّق التدبير و التصرّف،كما أنّ الأوّل محتاج إلى الثاني بحسب أفعاله الجزئيّة.و بالجملة أن يكون بين الأوّل و الثاني ارتباط تامّ و احتياج كامل،و هذا الشيء الثاني هو الذي نسمّيه بالبدن.و كان أيضا هذا الشيء الذي نسمّيه بالبدن،حيث كان آلة لشيء مجرّد مفارق ينبغي أن يكون له نوع شرافة و كمال،منشؤه نوع وحدة بسببها كان قريبا من المبدأ الفيّاض الواحد بالذات الكامل من جميع الجهات المفيض عليه صورة كاملة،و أن يكون جسما مناسبا للمجرّد في الشرافة و الكمال،و يكون له نوع من الوحدة،ليصلح أن يكون آلة للمجرّد،و مرتبطا به ارتباطا تامّا،فلا يمكن أن يكون ممّا ليس فيه تلك الوحدة المناسبة،كالبسائط من العنصريّات التي فيها الكيفيّات المتضادّة بالفعل،و كبعض المركّبات الاسطقسية البعيدة من الوحدة و الاعتدال،بل يجب أن يكون مركّبا معتدلا نوع اعتدال،و واحدا نوع وحدة،بهما تفيض (1)عليه من المبدأ الفيّاض صورة وحدانيّة كاملة، بها يصلح أن يكون آلة للأوّل الذي هو أيضا كامل بالذات و بحسب الافعال،أي الصورة الإنسانيّة التي هي أكمل الصور و أتمّها و أقربها إلى الوحدة الحقيقية و كان أيضا وجود هذا البدن ممّا لا يمكن أن يكون دفعة،لتوقّف حصوله على حصول مزاج خاصّ يستدعي

ص:212


1- -تفاض(خ ل).

حركة في زمان لا محالة،بل يجب أن يكون حصوله في زمان،و أن يكون مع ذلك ممّا يتوقّف حصوله على وجه الكمال على استعدادات متواردة،يكون هو بحسب كلّ استعداد قابلا لفيضان صورة،حتّى تكمل صورته،و تفيض عليه الصورة الإنسانية بكمالها،إذ الصورة الإنسانيّة مستجمعة للصورة الجماديّة المعدنيّة،و الصورة النباتيّة و الصورة الحيوانية،فيتوقّف حصولها على وجه الكمال على حصول تلك الصور أوّلا حتّى تكمل،كما قال تعالى: «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» . (1)أي ثمّ أنشأناه خلقا آخر بحيث كملت صورته الإنسانيّة و نفسه،بحيث يصدر عنها مع ما تقدّم من الأفعال المعدنيّة و النباتيّة و الحيوانيّة الأفعال المختصّة بالإنسان.

فبالجملة حصول الصورة الإنسانيّة بكمالها يتوقّف على حصول تلك الصور،سواء قلنا بأنّ تلك الصور التي تحصل في ضمن الصورة الإنسانيّة غير الصورة الإنسانيّة، يتوقّف حصولها على وجه الكمال عليها،أو هي مراتبها المتفاوتة الغير الكاملة منها.

و كان أيضا قد اقتضت الحكمة الإلهيّة و المصلحة المتعالية الربّانيّة بقاء هذا النوع أي الإنسان بالتوالد و التناسل.

و بالجملة لمّا اقتضت العناية الرّبانيّة ما فصّلنا،و اقتضت كما دلّ عليه كلام المحقّق الطوسي الذي نقلناه سابقا في مسألة حفظ المزاج،أن تكون نفس الأبوين تجمع بالقوّة الجاذبة أجزاء غذائيّة،ثمّ تجعلها أخلاطا،و تفرز منها بالقوّة المولّدة مادّة المنيّ،و تجعلها مستعدّة لقبول قوّة من شأنها إعداد المادّة لصيرورتها إنسانا.فتصير بتلك القوّة منيّا، و تكون تلك القوّة صورة حافظة لمزاج المنيّ كالصورة المعدنيّة.

أي اقتضت أن تكون نفس الأبوين تجمع بالقوّة الجاذبة أجزاء غذائيّة غالب أجزائها الطين،كما سمّاها اللّه تعالى في كتابه العزيز تارة طينا،و تارة سلالة من طين،ثمّ تجعل تلك الأجزاء مستعدّة لصور الأخلاط فتفاض صورة الأخلاط عليها،بأن يكون العلّة المعدّة هناك لذلك الصورة الغذائيّة وحدها،أو هي مع حركة ما أو فعل ما من نفس الأبوين،

ص:213


1- -المؤمنون:12-14. [1]

و بالجملة ما لا يجتمع وجوده مع وجود الصورة الخلطيّة،ثمّ تفرز نفس الأبوين من تلك الأخلاط بالقوّة المولّدة مادّة المنيّ و تجعلها مستعدّة لمرتبة اخرى،بأن يكون العلّة المعدّة هناك،إمّا الصورة الخلطيّة وحدها،أو هي مع حركة ما أو فعل ما من نفس الأبوين،و كأنّه نسب ذلك الإعداد إلى نفس الأبوين،لأجل أنّ لها مدخلا في ذلك،أي و تجعلها مستعدّة لقبول قوّة و نفس من شأنها أي من شأن الصورة التي تلك النفس و القوّة مبدأ قريب لها،أي الصورة المنويّة،إعداد تلك المادّة لصيرورتها بدن إنسان بالاستعدادات المتدرّجة، فتصير تلك المادّة الخلطيّة بتلك القوّة و النفس الفائضة عليها منيّا،فتكون تلك القوّة و النفس مبدءا قريبا لفيضان صورة منويّة عليها،و تكون أيضا صورة حافظة لمزاج المنيّ كالصورة المعدنيّة.و الحاصل أنّه يكون عند حصول الصورة الخلطيّة تلك الصورة وحدها، أو هي مع حركة ما من نفس الأبوين،علّة معدّة لشيئين،و تكون المادّة الخلطيّة،مستعدّة لاستحقاق أمرين:

الأوّل فيضان نفس المولود حينئذ التي تكون هي مبدءا قريبا لفيضان الصورة المنويّة عليها،و حافظة لمزاج المنيّ كما سبق،من أنّ نفس المولود حينئذ حافظة لمزاج المنيّ، و تقرّر أيضا أنّها مبدأ قريب لصورة بدنه،و ظاهر أنّ الصورة المنويّة أيضا من مراتب صور بدنه،إلاّ أنّهم لا يطلقون على النفس في تلك المرتبة اسم النفس،بل اسم القوّة أو الصورة، و يطلقون اسم النفس عليها فيما بعد تلك المراتب،كما سبق ذكره فيما نقلنا عن المحقّق الطوسي في باب حفظ المزاج.

و بالجملة أنّ الصورة الخلطيّة تكون علّة معدّة لفيضان نفس المولود و حدوثها حينئذ متعلّقة بتلك المادّة و شأنها ما ذكر فتحدث تلك النفس حينئذ و تنعدم تلك الصورة الخلطيّة حين حدوثها.

الثاني الصورة المنويّة التي هي من الصور البدنيّة و مبدؤها القريب هو تلك النفس، فتنعدم الصورة الخلطيّة بحدوثها أيضا،حيث إنّ العلّة المعدّة،إمّا ما يجب انعدامها عند حدوث معلولها كما هو التحقيق،و إمّا ما لا يجب بقاؤها مع وجود معلولها بل يجوز عدمها.

و على التقديرين فيجوز عدمها،كما فيما نحن فيه بالنسبة إلى نفس المولود،و كذا بالنسبة إلى الصورة المنويّة،إلاّ أنّ المادّة البدنيّة باقية بعينها،و كذا النفس متعلّقة بها،و مبدءا قريبا

ص:214

لتلك الصورة المنويّة،و حافظة لمزاج المنيّ.

ثمّ إنّ المنيّ يتزايد كمالا في الرحم بحسب استعدادات يكتسبها هناك في حالاتها، فحيث استقرّ بحركة ما من نفس الأبوين في قرار الرحم و صادف هناك مادّة طمثيّة صالحة لتكوّن بدن إنسان منها،و خالطها و امتزجها بحيث كان هو فيها بالنسبة إلى صورة اخرى إنسانيّة بعدها كالإنفحة في اللبن بالنسبة إلى الجبن مثلا،تكون صورته المنويّة الكائنة بتلك الحالة علّة معدّة لفيضان صورة اخرى.أي الصورة العلقيّة على تلك المادّة المنويّة الممتزجة مع المادة الطمثية المستعدّة بذلك الإعداد للصورة العلقيّة،فتنعدم الاولى عند حصول الصورة الثانية،لكن المادّة باقية بعينها،و كذا النفس باقية بعينها متعلّقة بها مبدءا قريبا لتلك الصورة و حافظة لمزاج العلقة،و هكذا إلى أن يتكامل المادّة و تصير بإعداد الصورة العلقيّة مستعدّة لقبول صورة اخرى أكمل من الأولى،أي الصورة المضغيّة،فتكون الصورة العلقيّة علّة معدّة لفيضان الصورة المضغيّة على تلك المادّة،فتحدث هي و تنعدم الصورة العلقيّة،لكونها علّة معدّة لها و المادّة باقية حينئذ بعينها،و كذا النفس باقية بعينها متعلّقة بها و مبدءا قريبا لتلك الصورة المضغيّة و حافظة لمزاج المضغة.و هكذا إلى أن يتكامل المادّة و تصير بإعداد الصورة المضغيّة مستعدّة لقبول صورة أكمل منها،أي الصورة العظميّة و اللحميّة على تركيب مخصوص و هيئة مخصوصة،هي الصورة الإنسانيّة،فتحدث تلك الصورة و تنعدم الصورة المضغيّة لكونها علّة معدّة،و المادّة باقيّة بعينها.

و كما أنّ المادّة باقية بعينها في جميع المراتب في ضمن الصور المتواردة،كذلك النفس باقية في جميع تلك المراتب البدنيّة بعينها و بشخصها من غير تغيّر في ذاتها،نعم يتزايد كمالاتها بحسب تزايد كمالات البدن،و تزايد استعداداته.

و بالجملة بحسب تزايد كمالات آلتها و قبولها للصور الكاملة واحدة بعد واحدة،فهي تكون في جميع المراتب البدنيّة مبدءا قريبا لتلك الصور الفائضة،و حافظة لمزاج ما فاضت الصورة عليه،كالمنيّ و العلقة و المضغة و العظم و اللحم،فبرهة تكون منشأ لإفاضة الصورة و حفظ المزاج فقط كالصورة المعدنيّة،و برهة تكون مع ذلك منشأ للأفعال النباتيّة أيضا،فتجذب الغذاء و تضيفه إلى تلك المادّة فتنميها و يتكامل المادّة بتربيتها

ص:215

إيّاها،و برهة تكون مع ما تقدّم منشأ للأفعال الحيوانيّة أيضا.و برهة تكون مع ذلك كلّه منشأ للأفعال الإنسانيّة و الإدراكات الكلّية أيضا.

ففي جميع تلك المراتب تكون تلك النفس متعلّقة بذلك البدن نوع تعلّق،منشؤه كون البدن محتاجا إلى النفس بحسب ذاته و تماميّة حقيقته و صورته،حيث إنّ النفس مبدأ قريب للصور المتواردة عليه،و حافظة لمزاجه في جميع المراتب،و كذا كون النفس محتاجة إلى البدن في أفعالها المخصوصة بالمتعلقات بالمادّة،و هذه العلاقة الحاصلة بينهما مستحكمة إلى أوان حلول الأجل،كما أنّ تزايد كمالات النفس بتزايد استعدادات البدن مرتبة فمرتبة ثابت إلى أوانه.

و حيث تمّ وجود بدن كذلك مع نفس كذلك،تمّ حينئذ وجود إنسان هو مقصود العناية الأزليّة،و ملحوظ الحكمة المتعالية،فما دام يكون منشأ العلاقة بينهما باقيا بسبب كون النفس بحيث يصدر عنها حفظ المزاج و المبدئية للصورة الإنسانيّة،و لم يكن هناك مانع من ذلك،و كان البدن قابلا و مستحقّا لذلك،يكون تلك العلاقة بينهما باقية،و إذا كان الأمر بخلاف ذلك و استعدّت تلك المادّة البدنيّة مع صورة مخصوصة أو هيئة مخصوصة أو مزاج مخصوص لفساد علاقة النفس عنها،فيحدث الفساد و يزول تلك الصورة أو الهيئة أو المزاج،لكونها علّة معدّة لفساد العلاقة،و يتبع ذلك فساد ذات البدن بزوال صورته و هيئته و مزاجه،لكن لا يتبعه فساد ذات النفس بل فساد علاقتها عن البدن.

و التفصيل:أنّه إذا كان الأمر بخلاف ذلك مثل أن طرأ من جهة البدن،أو من جهة القاسر الخارج ضدّ على ذلك المزاج الواقع بين الكيفيّات المتضادّة المتداعية بموضوعاتها إلى الانفكاك لو خليّت و طباعها،كانت المادّة البدنيّة بذلك المزاج مستعدّة لفساد علاقة النفس عنها،و حدث بطروئه عليه فساد في ذلك المزاج الذي هو العلّة المعدّة لذلك،و يتبعه أن لا تكون حينئذ تلك النفس حافظة لذلك المزاج،لحصول المانع من الحفظ،فزالت من حيث كونها حافظة له لا من حيث ذاتها،و أن لا تكون أيضا مبدءا قريبا للصورة النوعيّة الفائضة على البدن،لعدم كونه بزوال المزاج و التركيب الخاصّين قابلا لفيضان صورة إنسانيّة عليه،و لا قابلا لبقائها فيه.

و بالجملة بذلك تفسد العلاقة بينهما و تزول لزوال منشئها،أي العلّية في حفظ المزاج

ص:216

و المبدئية للصورة النوعيّة الإنسانيّة،حيث زالت علّيّتها لانعدام معلولها،أي ذلك المزاج الخاصّ و التركيب المخصوص،و تلك الصورة،إلاّ أن فساد العلاقة لا يستلزم فساد ذات المتعلّق كما تقدّم وجهه.

و المحصّل أنّه ما دام يكون البدن بذلك المزاج الخاصّ و التركيب المخصوص،بحيث يصلح أن يكون آلة للنفس في أفعالها،أو يكون قابلا لفيضان الصورة الإنسانيّة عليه و قابلا لحفظ النفس مزاجه،تكون العلاقة بينهما باقية.

و إذا كان الأمر بخلاف ذلك،بأن لم تحتج إليه في أفعالها،-إمّا بأن تستكمل هي في سعادتها أو شقاوتها،و بالجملة فيما هو كمالها،و لم يبق بعد احتياج لها إليه في ذلك،و إمّا بأن طرأ هناك من قاسر أو غيره مانع من استكمالها بسببه،و إمّا بأن لم يكن البدن صالحا لكونه آلة لها في ذلك و لم يكن صالحا لفيضان الصورة الإنسانيّة عليه أو لحفظ مزاجه، بسبب طروء فسادها من داخل أو خارج على مزاجه و تركيبه اللذين بهما هو صالح للآلية لها،و بسبب انتفائهما ينتفي مبدئيّة النفس لصورته،و حفظها لمزاجه-زالت العلاقة بينهما.

و على التقادير،فزوال العلاقة،لا يستلزم فساد ذات المتعلّق أي النفس كما مرّ وجهه،بل لا يمكن الاستلزام هنا،حيث إنّ استلزام زوال العلاقة لزوال المتعلّق،أي النفس،إنّما يمكن إذا كان المتعلّق متعلّق القوام بالمتعلّق به الفاسد،أي البدن،و إذ ليس فليس.

و بما قرّرنا لك بطوله،تلخّص لك أنّ ما قالوه،من أنّ النفس تحدث بحدوث البدن، معناه أنّ البدن بهيئة مخصوصة و صورة مخصوصة علّة مهيّئة معدّة لحدوث النفس متعلّقة به،فتحدث النفس متعلّقة به،و يكون المستعدّ لذلك هو المادّة البدنيّة الباقية،و المعدّ له هو الصورة المخصوصة الزائلة بحدوث النفس.فظهر معنى قولهم:إنّ البدن علّة بالعرض للنفس،فإنّ العلّة المعدّة علّة بالعرض مطلقا لو نسبت عليّتها إلى حدوث النفس أوّلا و بالذات،فكيف إذا نسبت تلك العليّة إلى تعلّقها بالبدن أوّلا و بالذات و إلى حدوثها ثانيا و بالعرض،كما فيما نحن فيه.و هذا إذا نسبت العليّة إلى الصورة المخصوصة الفائضة على البدن،التي كانت علّة معدّة لحدوث النفس متعلّقة بالبدن.و كذلك إذا نسبت العليّة إلى المادّة البدنيّة،حيث إنّ تلك المادّة علّة قابليّة أوّلا و بالذات لتعلّق النفس بها،و ثانيا و بالعرض لوجود النفس.

ص:217

و تلخّص لك أيضا معنى ما قالوه،من أنّ النفس لا تفسد بفساد البدن،حيث إنّ ذلك الفساد لا يتصوّر بالنسبة إلى المادّة البدنيّة الباقية بعينها،بل يتصوّر بالنسبة إلى صورها و أنّ أولى المراتب البدنيّة،أي الصورة الأخلاطيّة،علّة معدّة لحدوث النفس متعلّقة بها، كما أنّها علّة معدّة لحدوث المرتبة الاخرى بعدها،أي الصورة المنويّة و هكذا كلّ صورة سابقة علّة معدّة للاحقة منها،و النفس باقية بعينها في تلك المراتب الاخرى،و لا يقدح انعدام العلّة المعدّة مطلقا حين وجود معلولها سواء فرضت علّة معدّة لوجود النفس أو لعلاقتها بالبدن،كما فيما نحن فيه،إذ العلّة المعدّة ما يجوز بل يجب انعدامها حين وجود معلولها،و يتوقّف وجود معلولها على عدمها الطارئ على وجودها،فلا تفسد النفس حينئذ بفساد تلك المرتبة من البدن،بل يجب وجود النفس حينئذ،و حيث إنّ النفس فيما بعد تلك المرتبة الاولى من المراتب الاخرى إلى تمام البدن،و إلى حلول الأجل باقية بعينها،و بينها و بين البدن علاقة منشؤها نوع علّية و احتياج بينهما كما ذكرنا،و تلك العلاقة و إن كانت تزول و تفسد بفساد البدن كما ذكرنا وجهه،لكن زوالها لا يستلزم زوال ذات النفس المتعلّقة بالبدن كما بيّنا وجهه،بل لا يمكن الاستلزام هنا،إذ زوال العلاقة بين شيئين بزوال المتعلّق به كالبدن هنا إنّما يمكن أن يستلزم زوال المتعلّق كالنفس هنا،إذا كان المتعلّق متعلّق القوام بالمتعلّق به و إذ ليس فليس.

فيظهر أنّه بفساد البدن لا تفسد ذات النفس،بل تكون باقية بعد خراب البدن أيضا بعلّتها الموجدة لها المبقية إيّاها الباقية التي لا يطرأ عليها الزوال و الفساد.

و ظهر الجواب مفصّلا عن ذلك الاعتراض المورد هنا بحيث انحسمت مادّته،إلاّ أنّه بما ذكرنا من الجواب إنّما يظهر أنّه يمكن بقاء النفس بعد فساد البدن،و لا يجوز أن يكون خراب البدن سببا لفساد النفس.

و أمّا أنّه لا يمكن فساد النفس مطلقا من جهة ذاتها،فيدلّ عليه الدليل الثاني الذي ذكره الشيخ في الكتابين.فلذا ذكره بعد الدليل الأوّل ليتمّ بالدليلين ما هو المقصود من عدم إمكان طريان الفساد على النفس،لا من جهة فساد البدن و لا من جهة ذاتها.

و أمّا عدم إمكان طريان الفساد عليها من غير جهة البدن و ذاتها مثل جهة أمر آخر يكون فساده مستلزما لفسادها،فكأنّه مبنيّ على الظهور،إذ ليس يتصوّر هنا أمر كذلك،

ص:218

فلذا لم يتعرّض الشيخ له،و أورد الدليلين،و أورد الثاني عقيب الأوّل،حيث إنّه بمجموعهما مع ملاحظة ظهور أن ليس هنا أمر آخر يمكن أن يكون منشأ لفساد النفس، يتمّ المقصود،و هو وجوب بقاء النفس بعد خراب البدن.

و المحصّل أن طرق تطرّق الفساد إلى النفس منسدّة كلّها.

أمّا من جهة الفاعل،فلأنّ المفروض بقاؤه.

و أمّا من جهة ذاتها،فلعدم قبولها الفساد كما مرّ.

و أمّا من جهة البدن،فلعدم كون فساده منشأ لفسادها.

و أمّا من جهة غير ذلك فلكون المفروض انتفاؤه فحيث انسدّت طرق تطرّق الفساد إليها،و كانت علّتها الموجدة المبقية لها باقيّة،وجب بقاؤها.

ثمّ إنّه بما ذكرنا كما يحصل الجواب عن اعتراض الإمام بالوجهين،إذا اورد على دليلي الشيخ،كذلك يحصل به الجواب عنه إذا اورد على ما ذكرنا أوّلا من الدليل على بقاء النفس،و كذا إذا اورد على ما نقلنا عن أفلاطون من الدليل إن أمكن الإيراد.

و حيث أطنبنا الكلام في هذا المقام لكونه عزيز المرام دقيق المنال عند اولي الأفهام، فلنرجع إلى تحقيق القول فيما ذكروه،من الجواب عن اعتراض الإمام،و توجيهه بقدر الإمكان،فلنتكلّم أوّلا في الجواب الذي ذكره المحقّق الطوسي رحمه اللّه و قد نقلناه سابقا.

في تحرير جواب المحقّق عن اعتراض الإمام

فنقول:قوله رحمه اللّه:«و الجواب أنّ كون الشيء محلاّ لإمكان ما هو مباين القوام له،أو لإمكان فساده غير معقول،فإنّ معنى كون الجسم محلاّ لإمكان وجود السواد،هو تهيّؤه لوجود السواد فيه،حتّى يكون حال وجود السواد مقترنا به،و كذلك في إمكان الفساد، و لذلك امتنع أن يكون الشيء محلاّ لإمكان فساد ذاته،فالبدن ليس بمحلّ لإمكان حدوث النفس من حيث هو مباين لها،و لا لإمكان فسادها أيضا»واضح،و ملخّصه أنّ الشيء لا يمكن أن يكون محلاّ لإمكان حدوث ما هو مباين القوام عنه،و لا محلاّ لإمكان فساده عنه،فلا يكون البدن محلاّ لإمكان حدوث النفس فيه،من جهة كونها مباينة القوام عنه،و لا لإمكان فسادها عنه من هذه الجهة.و قد مضى أيضا ما يتّضح به شرحه.

ص:219

و قوله:«بل إنّما كان مع هيئة مخصوصة موجودة قبل حدوث النفس،محلاّ لإمكان و تهيّؤ لحدوث صورة إنسانيّة تقارنه و تقوّمه نوعا محصّلا،و لم يكن وجود تلك الصورة ممكنا إلاّ مع ما هو مبدؤها القريب بالذات،أعني النفس فحدث بحسب استعداده و تهيّئه ذلك مبدأ الصورة المقارنة المقوّمة إيّاه على وجه كان ذلك المبدأ مرتبطا به هذا النوع من الارتباط،و زال بذلك الحدوث ذلك الإمكان و التهيّؤ عن البدن،إذ زال عنه ما كان البدن محلاّ لإمكان حدوث النفس،أعني الهيئة المخصوصة».

كأنّه أراد أن يبيّن به أنّ البدن،و إن لم يمكن أن يكون محلاّ لإمكان حدوث النفس و وجودها،و لا لإمكان فسادها عنه،من حيث إنّ النفس مباينة الذات و القوام عنه،إلاّ أنّ البدن يمكن أن يكون محلاّ لذلك من حيث هي مرتبطة به نوع ارتباط،و بينهما علاقة خاصّة،أي محلاّ لذلك من حيث هي مرتبطة به نوع ارتباط،و بينهما علاقة خاصّة،أي محلاّ لإمكان حدوث النفس و وجودها،و لا لإمكان فسادها عنه،من حيث إنّ النفس مباينة الذات و القوام عنه،إلاّ أنّ البدن يمكن أن يكون محلاّ لإمكان حدوث تعلّقها به، و لإمكان فساد تعلّقها عنه،لكن حدوث التعلّق هنا مستلزم لحدوث ذات النفس و وجودها،بخلاف فساد التعلّق،فإنّه غير مستلزم لفساد ذات النفس.

فبيّن أوّلا كيفيّة كون البدن محلاّ لإمكان تعلّق النفس به،حيث يكون محلاّ أوّلا و بالذات لإمكان حدوث ما هو متعلّق القوام به،أي الصورة النوعية الإنسانيّة،و ثانيا و بالعرض لإمكان تعلّق النفس التي هي المبدأ القريب لتلك الصورة،فقال:بل إنّما كان مع هيئة مخصوصة-إلى آخره-و حاصله:أنّه إنّما كان البدن أي مادّة الأجزاء الأخلاطيّة مع هيئتها المخصوصة و صورتها الأخلاطية الموجودة قبل حدوث النفس محلاّ لإمكان و تهيّؤ لحدوث صورة إنسانيّة متعلّقة القوام به،تقارنه و تقوّمه نوعا محصّلا،و لم يكن وجود تلك الصورة فيه ممكنا إلاّ مع ما هو مبدؤها القريب بالذات،بل الحافظ لمزاج البدن أيضا أعني النفس،فكانت المادّة البدنيّة الأخلاطية بإعداد تلك الهيئة التي هي العلّة المعدّة لها مستعدّة أوّلا و بالذات لحدوث صورة إنسانيّة فيها،و ثانيا و بالعرض لحدوث نفس تكون هي علّة قريبة لتلك الصورة الإنسانية،فحصل بحسب استعداد البدن و تهيّئه تلك الصورة الإنسانيّة فيه.و كذا النفس التي هي المبدأ القريب لها،و زالت أيضا تلك الهيئة

ص:220

المخصوصة لكونها علّة معدّة لذلك،و العلّة المعدّة يجوز،بل يجب زوالها عند حدوث معلولها.

و أيضا من المعلوم أنّ الصورة الأخلاطية تزول عند حصول الصورة الإنسانيّة،أي الصورة المنويّة التي هي أوّل مراتبها،و حصل الارتباط بين النفس و البدن ذلك الارتباط، فكان ذلك الاستعداد منسوبا أوّلا و بالذات إلى حدوث تلك الصورة،و ثانيا و بالعرض إلى حدوث النفس،و زال بذلك الحدوث،أي حدوث الصورة و النفس ذلك الإمكان و التهيّؤ عن البدن،إذ زال عنه ما كان علّة ماهيّة معدّة له،أي الصورة الأخلاطيّة التي علّة معدّة لاستعداد البدن لإمكان حدوث النفس،بل لحدوثها و حدوث تلك الصورة الإنسانيّة جميعا.

و أيضا ليس المراد بالإمكان هنا الإمكان الذاتي،الذي تبقى مع حدوث الحادث،بل الإمكان الاستعدادي الذي هو عبارة عن كون الشيء بالقوّة القريبة إلى الفعل،و هذه القوّة لا تجتمع مع فعليّة ذلك الشيء الحادث،بل تزول فيزول بسببها ذلك الإمكان و التهيّؤ عن البدن.

و قوله:«فبقي البدن محلاّ لإمكان فساد الصورة المقارنة به،و زوال ذلك الارتباط عنه، و امتنع أن يكون محلاّ لفساد ذلك المبدأ من حيث هو ذات مباين عنه».

كأنّه أراد أن يبيّن به أنّ البدن و إن كان لأجل كونه محلاّ بالذات لإمكان حدوث تلك الصورة النوعيّة فيه محلاّ بالعرض لإمكان حدوث نفس هي مبدأ قريب لتلك الصورة متعلّقة بالبدن،لكنّه لأجل كونه محلاّ بالذات لإمكان فساد تلك الصورة عنه،لا يمكن أن يكون محلاّ مطلقا و لو بالعرض لإمكان فساد ذات ذلك المبدأ القريب،أي النفس،بل إنّما يمكن أن يكون محلاّ لزوال ارتباط النفس به ذلك الارتباط عنه،و زوال ذلك الارتباط بزوال البدن،لا يستلزم زوال ذات النفس المرتبط بالبدن كما مرّ وجهه،بل لا يمكن ذلك، حيث إنّ زوال الارتباط بزوال المرتبط به كالبدن هنا إنّما يمكن أن يستلزم زوال المرتبط كالنفس هنا،إذا كان المرتبط متعلّق القوام بالمرتبط به،و إذ ليس فليس.

فليس البدن حاملا لإمكان فساد النفس مطلقا،و لا فساده مستلزما لفسادها.و هذا هو حاصل مقصوده،حيث قال:«فبقي البدن محلاّ لإمكان فساد الصورة-إلى آخره-»،أي

ص:221

فحيث كان البدن أوّلا محلاّ لإمكان حدوث الصورة النوعيّة أوّلا و بالذات،و لإمكان حدوث النفس متعلّقة به نوع تعلّق و ارتباط،كما ذكر ثانيا و بالعرض،و حدثت الصورة و النفس و زال ذلك الإمكان و التهيّؤ عن البدن بزوال ما هو العلّة المعدّة لذلك،أعني تلك الهيئة المخصوصة،و لأنّ فعليّة الممكن الحادث تستلزم زوال إمكانه أعني كونه بالقوّة.

فبقي أن تكون تلك المادّة البدنيّة الباقية بعينها مع هيئة مخصوصة اخرى،غير الهيئة الاولى المعدّة لاستعداد الحدوث مستعدّة لإمكان الفساد،أي فساد ما حدث أوّلا بحيث كانت العلّة القابلة لذلك هي تلك المادّة البدنيّة الباقية و تلك الهيئة الاخرى الحاصلة هنا علّة معدّة لها،فتزول تلك العلّة المعدّة حين فعليّة الفساد،و المادّة باقية مع فساد ذلك الفاسد عنها.و هذا الاستعداد لإمكان الفساد إنّما يمكن أن يكون استعدادا لفساد ما هو متعلّق القوام بتلك المادّة أعني الصورة الإنسانيّة،و امتنع أن يكون استعدادا لفساد ما هو مباين القوام عنه،أي النفس،بل إنّما يكون استعدادا لفساد الارتباط الذي بينه و بينها، حيث كانت أوّلا مبدءا قريبا لتلك الصورة النوعيّة،و قد زالت عنها حينئذ هذه المبدئية لزوال ما هي مبدأ له.

و بما وجّهنا كلامه اندفع عنه الإيراد بأنّ الحامل لإمكان الفساد،يجب أن يكون هو بعينه حاملا لإمكان الحدوث،كما هو المقرّر عندهم،و دلّ عليه كلام الشيخ في الشفاء كما نقلناه،و هنا ليس الأمر كذلك،إذ المفروض أنّ حامل إمكان الحدوث هو البدن مع هيئة مخصوصة،و المفروض أنّ تلك الهيئة قد زالت،فيكون البدن مع هيئة اخرى غير الاولى حاملا لإمكان الفساد،و لا شكّ أنّ البدن الحامل للإمكان بهذا الاعتبار غير البدن بالاعتبار الأوّل.

و بيان الاندفاع أنّ الحامل للإمكانين في الحالتين،هو المادّة البدنيّة الباقية بعينها في الحالتين.و أمّا الهيئتان فهما علّتان معدّتان،ليستا بحاملتين،و لا من أجزاء الحامل،حتّى يكون الحامل متعدّدا أو غير باق،فتدبّر.

ثم إنّه بما حرّرنا كلامه رحمه اللّه،ظهر الجواب عن اعتراض الإمام،و أنّه هو الجواب الذي فصّلناه سابقا إلاّ أنّه رحمه اللّه زاد بيانا له.

فقال:بعد ذلك فإذن البدن مع هيئة مخصوصة شرط في حدوث النفس،من حيث

ص:222

صورة أو مبدأ صورة،لا من حيث هي موجودة مجرّدة،و ليس بشرط في وجودها، و الشيء إذا حدث فلا يفسد بفساد ما هو شرط في حدوثه،كالبيت فإنّه يبقى بعد موت البنّاء الذي كان شرطا في حدوثه،و ربّما يتوّهم منه أنّه حمل اعتراض الإمام على وجهين:

الأوّل من جهة احتمال كون البدن علّة قابليّة للنفس،و حاملة لإمكان حدوثها و فسادها.

و الثاني من جهة احتمال كون البدن شرطا بالمعنى المصطلح لحدوث النفس،فتنتفي هي بانتفائه،كما هو شأن الشرط و المشروط به.

و انّه حيث أجاب عن الاعتراض بالوجه الأوّل كما بيّناه،شرع في بيان الجواب عنه على الوجه الثاني،بأنّه يجوز أن يكون البدن مع هيئة مخصوصة شرطا في حدوث النفس، و أن لا تفسد بفساد البدن،كما في البنّاء و البيت.

و هذا التوهّم باطل،لأنّ الشرط بالمعنى الخاصّ المصطلح كما سبق بيانه،هو ما يتوقّف وجود مشروطه على وجوده،و ينتفي مشروطه بانتفائه،فكيف يصحّ ادّعاء خلاف ذلك.

و أيضا كيف يصحّ التمثيل المذكور،فإنّ البنّاء ليس شرطا في وجود البيت،حيث إنّ التحقيق أنّ البنّاء ليس شرطا في وجود البيت،و لا علّة لقوامه،بل إنّ البنّاء علّة لوجود حركة خاصّة صادرة منه،و تلك الحركة علّة معدّة لوجود البيت،فلذا يبقى البيت بعد انعدام تلك الحركة بل بعد انعدام ذات البنّاء أيضا،و إن اجتمع وجوده مع وجوده أيضا، لكن لا يجتمع وجوده مع وجود تلك الحركة.

و هذا الذي ذكرناه موافق لما حقّقه الشيخ في إلهيات الشفاء في فصل في الفرق بين العلل الحقيقية و العلل بالعرض،كما يظهر على من راجع إليه. (1)

فعلى هذا فالظاهر منه أنّه حمل اعتراض الإمام على الوجه الأوّل خاصّة،و حمل الشرط في كلامه على ماله مدخل في وجود النفس في الجملة،و إن كان على سبيل القابليّة لها أو على سبيل كونه علّة معدّة لها،فأطلق اسم الشرط على البدن متابعة للإمام في ذلك،فقال:إنّ هذا الاشتراط و المدخليّة.

ص:223


1- -راجع الشفاء،الإلهيات:257-261.

إن كان من جهة مادّة البدن و كون البدن بمادّته حاملا لإمكان حدوث النفس و فسادها،فقد عرفت حاله،حيث بيّن فيما سبق أنّ البدن بمادّته القابلة،و إن كان يمكن كونه حاملا لإمكان حدوث النفس بالعرض،لكنّه لا يمكن أن يكون حاملا لإمكان فسادها مطلقا.

و إن كان من جهة الهيئة المخصوصة البدنيّة،فهذا أيضا لا يضرّنا،لأنّه يجوز أن يكون البدن مع هيئة مخصوصة شرطا،أي علّة معدّة لحدوث النفس من جهة ارتباطها بالبدن، أي من حيث كونها صورة بدنيّة،كما في المرتبة المنويّة،حيث إنّه لا يطلق على النفس في تلك المرتبة اسم النفس،بل اسم القوّة و الصورة كالصورة المعدنيّة،و إن كانت النفس حينئذ مغايرة للصورة النوعيّة المنويّة لكونها متعلّقة القوام بتلك المادّة،بخلاف النفس، أو من حيث كونها مبدءا قريبا للصور النوعيّة كما في المراتب الاخر المتأخّرة عن تلك المرتبة الاولى،لا من جهة كون النفس مباينة القوام عن البدن،و من حيث هي موجودة مجرّدة،فإنّ النفس من هذه الحيثيّة ليس البدن ممّا له مدخل في وجودها حتّى على سبيل كونه علّة معدّة لها أيضا،لكونه مباين القوام عنها،و الشيء كالنفس إذا حدث فلا يفسد بفساد ما هو شرط و علّة معدّة لحدوثه،كالبدن بتلك الهيئة المخصوصة،إذ المفروض كون ذلك الشرط علّة معدّة لحدوثه و شأن العلّة المعدّة أن يجوز بل يجب انعدامها مع وجود معلولها كما هو المقرّر عندهم،فلا يضرّنا انتفاء الشرط هنا حتّى لو كان الشرط أي البدن مع تلك الهيئة المخصوصة شرطا و علّة معدّة لحدوث النفس و وجودها من حيث هي ذات موجودة مجرّدة مباينة القوام للبدن،فكيف إذا كان شرطا لحدوث تعلّقها بالبدن و ارتباطها به كما ذكرنا،و هذا كالبيت فإنّه يبقى بعد موت البنّاء الذي هو شرط في حدوثه،حيث إنّ البنّاء بحركته الخاصّة منه،أي من حيث كونه بنّاء و من حيث وصف البنّائيّة لا من حيث ذاته شرطا و علّة معدّة لوجود البيت،و يبقى البيت بعد موت البنّاء،أي بعد زوال وصف البنّائيّة عنه،أو بعد انعدام ذاته الذي كان منشأ لانعدام ذلك الوصف عنه.

و على هذا التوجيه فيكون هذا الكلام منه زيادة بيان للجواب،و تأكيدا لما سبق منه و يكون هو رحمه اللّه غير متعرّض للجواب عن الاعتراض على احتمال كون البدن شرطا

ص:224

مصطلحا لحدوث النفس.

و الجواب عنه ما ذكرناه سابقا.

ثمّ إنّه رحمه اللّه قد زاد في البيان فقال:فإن قيل:لم استوجب استيجاب البدن لحدوث صورة ما حدوث مبدأ لتلك الصورة،و لم يوجب استيجابه لفساد تلك الصورة،فساد مبدأ ذلك،و ما الفرق بين الأمرين؟

قلنا:لأنّ ما يقتضي حدوث معلول ما فإنّما يقتضي وجود جميع علل ذلك المعلول بشرائطها،و ما يقتضي فساد معلول لا يقتضي فساد العلل،بل يكفيه شرط ما و لو كان عدميّا،و شرحه واضح.و كأنّ غرضه رحمه اللّه من ذلك أنّه كما لا يمكن أن يكون البدن علّة حاملة لإمكان فساد النفس،كذلك لا يمكن أن يكون فساد الصورة الإنسانيّة التي هي معلولة للنفس منشأ لفساد النفس التي هي علّتها،حيث إنّ وجود المعلول و إن كان يتوقّف على وجود جميع علله بشرائطها،لكن انعدام المعلول لا يستلزم انعدام جميع علله،بل يكفي فيه انعدام شرط ما و لو كان عدميّا.

فبذلك يمكن انعدام تلك الصورة مع بقاء مبدئها القريب،أي النفس.مع أنّ وجود النفس و بقاءها مستندان إلى العلل التي هي باقية.فبذلك تمّ الجواب عن الاعتراض، و اتّضح كمال الاتّضاح،و ظهر أنّ فساد البدن لا يمكن أن يكون منشأ لفساد النفس،مع أنّه اتّضح بدليل آخر كما سبق ذكره،أنّه لا يمكن أن يطرأ عليها الفساد من جهة ذاتها أو من جهة اخرى،فثبت المقصود،و هو امتناع طريان الفساد على النفس الإنسانيّة مطلقا،و هذا الذي ذكرناه هو غاية توجيه كلام المحقّق الطوسي رحمه اللّه و اللّه تعالى أعلم.

في التكلّم فيما قاله صدر الأفاضل من الجواب عن الاعتراض

و حيث انتهى الكلام إلى هذا المقام فلنتكلّم فيما قاله صدر الأفاضل من الأجوبة عن الاعتراض كما نقلنا كلامه سابقا،فنقول:إنّه ممّا يلوح عليه آثار الإجمال و الإهمال، و على تقدير كونه متضمّنا لتحقيق الحال و دفع الإعضال فهو ممّا يعسر علينا دركه،حيث إنّ ما ذكره في جوابه الأوّل الذي قال:«إنّه مما سنح له في سالف الأزمان على طريقة أهل النظر»،لا يدلّ إلاّ على أنّ النفس الإنسانيّة،مجرّدة من حيث كونها ذاتا عقليّة و مادّية من

ص:225

حيث كونها متصرّفة في البدن،و أنّها مجرّدة من حيث الذات،مادّية من حيث الفعل،و أنّها من حيث الفعل مسبوقة باستعداد البدن حادثة بحدوثه زائلة بزواله،و أمّا من حيث حقيقتها أو مبدأ حقيقتها،فغير مسبوقة باستعداد البدن إلاّ بالعرض،و لا فاسدة بفساده، و لا يلحقها شيء من مثالب المادّيات إلاّ بالعرض،و هذا ممّا لا كلام فيه.

لكنّه لا يتبيّن منه أنّها من جهة مسبوقيّتها باستعداد البدن بالعرض،كيف استلزم استعداد البدن لها بالعرض،وجود ذاتها،و لم يستلزم ذلك الاستعداد فساد ذاتها.و ما الفرق بين الأمرين؟مع أنّه اعترف أنّها من جهة المسبوقيّة باستعداد البدن حادثة بحدوثه زائلة بزواله.اللّهم إلاّ أن يوجّه ذلك بما يؤول إلى جواب المحقّق الطوسي،و إلى ما فصّلناه من الجواب.

ثمّ إنّ ما ذكره ثانيا بقوله:«و أمّا الذي نراه الآن في تحقيق الحال،فهو أنّ للنفس الإنسانيّة مقامات و نشئات ذاتية بعضها من عالم الأمر و التدبير: «قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» (1)و بعضها من عالم الخلق و التصوير: «وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا» ، (2)فالحدوث و التجدّد،إنّما يطرءان لبعض شأنها».

فهو أيضا ممّا لا كلام فيه،لا في كونها ذات نشئات،و لا في أنّ الحدوث و التجدّد يطرءان عليها من جهة كونها من عالم الخلق و التصوير و من جهة تعلّقها بالبدن تعلّق التصرّف و التدبير.

إلا أنّ قوله:«فنقول:لمّا كانت للنفس ترقّيات و تحوّلات من نشأة اولى إلى ثانية و إلى ما بعدها،فإذا ترقّت و تحوّلت من عالم الخلق إلى عالم الأمر،يصير وجودها وجودا عقليّا إلهيا لا تحتاج إلى البدن و أحواله و استعداده،فزوال استعداد البدن إيّاها لا يضرّها دواما و بقاء،إذ ليس حال النفس في أوّل حدوثها كحالها عند الاستكمال،و مصيرها إلى العقل الفعّال،فهي بالحقيقة جسمانيّة الحدوث روحانيّة البقاء».

إن أراد به أنّ النفس في أوّل حدوثها مادّية بحسب الذات،و تصير عند استكمالها مجرّدة،فهو مع كونه خلاف ما تقرّر عندهم،يستلزم انقلاب ذاتها من المادّية إلى التجرّد و هذا باطل.

ص:226


1- -الإسراء:85. [1]
2- -الأعراف:11. [2]

و إن أراد أنّها في جميع الحالات مجرّدة بحسب الذات،مادّية بحسب الفعل و التصرف في المادّي،إلاّ أنّ كمالاتها الذاتيّة التي هي منشأ الحكم بتجرّدها عند حدوثها،و في بعض مراتبها أقلّ منها عند استكمالها،و هي عند الاستكمال أكثر،حتّى أنّها بذلك يصير وجودها وجودا عقليّا،و يظهر عند العقل أنّها مجرّدة،فهو مسلّم،لكن ما ذكره:«من أنّها عند الاستكمال لا تحتاج إلى البدن و أحواله و استعداده»،إن أراد أنّها حينئذ يزول تعلّقها عن البدن و احتياجها إلى أحواله و استعداده،و قد كانت قبل ذلك متعلّقة به محتاجة إليه، و إلى استعداده و أحواله حتّى يحصل له الاستكمال،و الحاصل أنّها عند الاستكمال،غير متعلّقة بالبدن أصلا،حتّى يستلزم فساد البدن لفسادها،بل باقية بذاتها،فزوال استعداد البدن لا يضرّها دواما و بقاء.

فيرد عليه أنّه كيف صار استعداد البدن ايّاها منشأ لاستكمالها الذي هو منشأ لقطع تعلّقها عن البدن،و لم يصر زوال ذلك الاستعداد منشأ لفساد ذاتها و لو بالعرض،مع أنّه كان قبل ذلك استعداد البدن منشأ لحدوثها و لوجود ذاتها و لو بالعرض،و لم يكن ذاتها قبل ذلك مادّية بحسب الذات و بعد الاستكمال مجرّدة بحسب الذات،حتّى يمكن أن يكون استعداد البدن قبل ذلك منشأ لوجود ذاتها لأجل كونها مادّية،و لا يمكن أن يكون هو حين الاستكمال منشأ لفساد ذاتها لكونها مجرّدة حينئذ.

اللّهمّ إلاّ أن يكون أراد أنّها حين حدوثها،و إن كانت مجرّدة بالذات،لكنّها محتاجة إلى البدن في أفعالها،فلذلك استلزم استعداده إيّاها لحدوث ذاتها لأجل المناسبة التي بينهما، و أمّا هي بعد الاستكمال،فكما كانت مباينة الذات للبدن،كذلك تصير مباينة له بحسب الأفعال أيضا،فلا مناسبة و لا ارتباط بينهما بوجه،حتى يصير زوال استعداده منشأ لفساد ذاتها،و على هذا،و إن امكن أن يكون لما ذكره وجه،إلاّ أنّه يرد عليه أنّه على هذا التوجيه يرجع إلى الجواب الذي ذكره المحقّق الطوسي،و فصّلنا بيانه،فليس جوابا آخر كما هو ظاهر كلامه.

و أيضا نقول:إنّه يكفي لعدم استلزام زوال استعداد البدن لزوال النفس من حيث الذات،كونها مباينة للبدن بحسب الذات كما بيّناه،فاعتبار كونها مباينة له بحسب الفعل أيضا-مع أنّه غير واضح-ممّا لا احتياج إليه في إثبات المطلوب،و إن كانت المباينة

ص:227

بذلك أتمّ و عدم الاستلزام أظهر.

كيف و لو قيل بأنّ المباينة بحسب الفعل التي منشؤها الاستكمال المذكور،لها مدخل في عدم ذلك الاستلزام،و في بقاء النفس،لكان الدليل على بقاء النفس مخصوصا بالنفس التي حصل لها الاستكمال،و لا يجري في النفوس التي لم يحصل لها الاستكمال،و الحال أنّ ظاهر كلام من أقام الدليل على عدم فساد النفس بفساد البدن،هو العموم بحيث يشمل النفوس الغير الكاملة أيضا كنفوس الصبيان و البله و المجانين و أمثالها.

اللّهمّ إلاّ أن يكون قد أشار بذلك إلى أنّ هذا الدليل على بقاء النفس إنّما يجري في بقاء نفوس المستكملين في كمالاتها دون غيرهم كما سيأتي أنّ بقاء نفوس غير المستكملين محلّ خلاف بين الحكماء،إلاّ أنّ هذه الإشارة أيضا فيها شيء،لأنّه في الشواهد الربوبيّة قال ببقاء نفوس غير المستكملين أيضا،كما يظهر على من راجع كلامه،و الحال أنّ عمدة الدليل عندهم على بقاء النفس الإنسانيّة،هو هذا الدليل الذي هو على توجيه مخصوص بالمستكملين،و كفاك شاهدا على قوله ببقاء نفوس غير المستكملين أيضا ما نقلنا عنه سابقا في جواب ذلك الاعتراض،حيث قال:فالجواهر النطقية بعد وجودها و تجرّدها عن الموادّ،هي كسائر المفارقات الصوريّة لا ضدّ لها،إذ لا قابل لها فتبقى ببقاء مبدئها و معيدها،و لو لم يكن فيها من المميّزات إلاّ شعور كلّ منها بهويّتها لكفى،فضلا عن الصفات و الملكات و الأنوار الفائضة عليها من المبادئ،و سيأتي إن شاء اللّه تعالى تحقيق القول في ذلك في موضع يليق به.

و إن أراد أنّها حين الاستكمال أيضا يبقى تعلّقها بالبدن و لو كان تعلّقا ضعيفا،ثمّ يزول بعد ذلك بسبب ما هو منشأ لزوال التعلّق،فيرد عليه أنّه على هذا يبقى تعلّقها به عند الاستكمال أيضا.فكيف لم يصر فساد البدن بعد ذلك منشأ لفساد ذاتها،و لو بالعرض،كما كان في ابتداء التعلّق منشأ لحدوث ذاتها و لو بالعرض.

و قوله:و مثالها كالطفل و حاجته إلى الرحم أوّلا و الاستغناء عنه أخيرا،و كمثال الصيد و الحاجة في اصطياده إلى الشبكة أوّلا و الاستغناء في بقائه عنها أخيرا،ففساد الرحم و الشبكة لا ينافي بقاء المولود و الصيد و لا يضرّه.

هذا المثال إن كان مثالا لما كان بصدده في السابق من أنّ استعداد البدن في الابتداء كان

ص:228

منشأ لحدوث النفس،و أنّ زواله في الانتهاء لا يضرّ بقائها،فهو غير منطبق على الممثّل، حيث إنّ البدن علّة قابليّة مستعدّة،و الرّحم و الشبكة ليستا بعلّتين قابليّتين،بل هما بالشرط بالمعنى المصطلح أشبه.

و إن كان مثالا لأنّ البدن يمكن أن يكون شرطا لوجود النفس أو لتعلّقها بالبدن في الابتداء،و أنّ زوال الشرط بعد ذلك لا يضرّ بقاءها،فهو-مع كونه خلاف ما كان بصدد بيانه أوّلا حيث إنّ كلامه في كون البدن علّة قابليّة لحدوث النفس،لا في كونه شرطا له بالمعنى المصطلح-يرد عليه:أنّا لا نسلّم أنّ الشرط في وجود الطفل و اصطياد الصيد،هو خصوص الرّحم و الشبكة من حيث خصوصيّتها،بل الشرط هناك أمر كلّي ينحصر في أفراد،و الرّحم و الشبكة من جملة أفراده،فلذا لا ينعدم المشروط بانعدام شرط على الخصوص.نعم لو انعدم ذلك الأمر الكلّي من حيث جميع أفراده،انعدم المشروط.

و الحاصل أنّ الشرط أوّلا في وجود الطفل هو الرّحم،ثمّ ينعدم هو و يخلفه شرط آخر، و هو حصول حالة خاصّة و مكان خاصّ و هواء خاصّ و نحو ذلك،به يبقى الطفل،و هكذا إلى أن ينعدم الشرط بكلّيته فينعدم وجود الطفل.

و كذلك الشرط أوّلا في اصطياد الصيد هو الشبكة،ثمّ يخلفها و ينوب عنها أمر آخر من آلة اخرى كانس الصيد بالصيّاد و الإنسان و عدم توحّشه عنه،و هكذا إلى أن ينعدم الشرط بكلّيته،فينعدم المشروط،و حينئذ نقول:لو كان الشرط في حدوث النفس هو البدن مع هيئة مخصوصة من حيث الخصوصية،للزم انعدام المشروط بانعدامه،حيث إنّ معنى الشرط هو ذلك.

و كذلك لو فرضنا أنّ الشرط هناك أمر كلّي حيث يلزم من انعدام الشرط بكلّيته انعدام المشروط.

اللّهمّ إلاّ أن يصار إلى أنّ البدن شرط أوّلا و بالذات لتعلّقها به،لا لوجودها إلاّ بالعرض، و حدوث التعلّق و إن كان يستلزم حدوث المتعلّق إلاّ أنّ فساد التعلّق لا يستلزم فساد المتعلّق،كما مرّ بيانه لكنّه رحمه اللّه لم يبيّن ذلك.

ثمّ إنّ ما ذكره ثالثا بقوله:«ثمّ اعلم أن العلّة المعدّة عند التحقيق علّة بالعرض،و ليست علّيتها كعلية العلل الموجبة،حتّى يقتضي زوالها زوال المعلول-إلى آخره-»،لو امكن

ص:229

توجيهه بما قرّرنا الجواب عن الاعتراض كما سبق ذكره،لأمكن أن يكون له وجه،لكنّه لا يكون وجها آخر من الجواب كما هو ظاهر كلامه.

و أمّا لو حمل على ما هو ظاهر كلامه،فهو طريق آخر غير ذلك،و فيه شيء،حيث إنّه مع ابتنائه على الحركة في الجوهر،و على أنّ صور المراتب البدنيّة باقية بعينها كلّ سابقة في مرتبة لاحقتها،و فيهما ما لا يخفى.

مبناه على ما ذكره أخيرا بقوله:فإذا بلغت النفس الإنسانيّة في استكمالها و توجّهاتها إلى مقام العقل،و اتّحدت بالعقل الفعّال بعد أن كانت عقلا منفعلا،اطلقت عن المادة و الحدثان،و تجرّدت عن القوّة و الإمكان،و صارت باقية ببقاء اللّه سبحانه من غير تغيير و فقدان،و يوافقه في ذلك ما نقلنا عنه في الشواهد الربوبيّة.

و هذا هو ما ذكره سابقا في قوله:فإذا ترقّت و تحوّلت من عالم الخلق إلى عالم الأمر- إلى آخره-و قد عرفت ما فيه.

و بالجملة ما ذكره رحمه اللّه ممّا يعسر علينا دركه و فهمه،و عسى أن يفهمه غيرنا و هو رحمه اللّه أعلم.

و حيث بيّنا كيفيّة فناء بدن الإنسان،و أقمنا الدليل النقلي و العقلي على بقاء نفسه الناطقة،و انتهى الكلام إلى هذا المقام،و خرجنا بالإطناب عمّا هو المرام،فلنعد إلى ما كنّا بصدده من بيان حال الأجزاء المخصوصة من هذه النشأة الدنيويّة في إمكان البقاء و عدمه

ص:230

في بقاء النفوس

فنقول:إنّك إذا تأمّلت فيما ذكرنا من الدليل العقلي على بقاء النفس الناطقة الإنسانيّة أمكنك أن تجريه في بقاء نفس الجنّ أيضا إذا قيل:بأنّ نفوسهم أيضا كنفوس الإنسان مجرّدة عن الموادّ بحسب ذواتها،متعلّقة بأبدانهم نحوا من التعلّق،مرتبطة بها نوعا من الارتباط و التدبير و التصرّف،و إن كانت أبدانهم مخالفة لأبدان الإنسان،فيظهر لك أنّه بفساد أبدانهم لو فرضنا فسادها،لا تفسد نفوسهم،بل تبقى بعد خرابها أيضا.

و هذا مع قطع النظر عن أنّ الشرع دلّ على بقاء بعض أنواعهم،أو أصنافهم كالشيطان، حيث دلّ على أنّه من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم.

و كذلك أمكنك أن تجريه في بقاء العقول المجرّدة عن المادّة في ذواتها و أفعالها جميعا،لو قيل بها،و إن لم نقل بقدمها،بل بحدوثها،بل إنّ جريان ذلك الدليل في العقول أتمّ و أظهر،إذ ليس لها أبدان،و لا احتياج أصلا إلى المادّة،حتّى بحسب الفعل أيضا،كي يمكن أن يقال بفسادها بفساد أبدانها،و يجاب بذلك الجواب.

و كذلك أمكنك أن تجريه في الملائكة،سواء قيل بأنّهم عقول مجرّدة عن المادّة مطلقا، كما هو مذهب بعضهم،أو قيل كما يدلّ عليه ظاهر الشرع،بأنّهم كالإنسان عبارة عن مجموع نفس و بدن،إلاّ أنّ أبدانهم ليست كأبدان الإنسان،بل هي أجسام لطيفة و جواهر نورانية في غاية اللطافة و النورانية،كالأجسام السماوية أو ألطف منها و أنور.و كذلك نفوسهم المتعلّقة بتلك الأجسام في غاية التجرّد و التعقّل و العلم و الإدراك.

فيظهر لك أنّه لو فرض انقطاع علاقة نفوسهم عن أبدانهم،بسبب زوال أبدانهم أو بسبب آخر،لكان تبقى نفوسهم بعد ذلك ببقاء موجدهم و مبدعهم الباقي.

ص:231

و كذلك أمكنك أن تجريه في الأفلاك و ما فيها،لو قيل بأنّ لها نفوسا كليّة غير منطبعة فيها،بل مجرّدة متعلّقة بأجرامها نوع تعلّق،فيظهر لك أنّه بفساد أجرامها لو فرض فسادها، لا تفسد نفوسها الكلّية المجرّدة.

و بالجملة انّك إذا تأمّلت فيما تلوناه عليك سابقا،تبيّن لك أنّ كلّ ما هو مجرّد عن المادّة في ذاته من الموجودات،سواء كان متعلّقا بها في أفعاله،كالنفس المجرّدة،أو لم يكن متعلّقا بها فيها كالعقل،إن جوّزنا وجوده،فهو من حيث تجرّده عن المادّة في ذاته ممّا لا يطرأ عليه الفساد و الزوال من جهة ذاته بذاته،سواء كانت تلك النفس نفسا ناطقة إنسانيّة،أو جنّية أو ملكيّة أو فلكيّة،و إنّما الفساد الذي يتصوّر بالنسبة إلى النفس،إنّما هو فساد تعلّقها عن بدنها و عن الجسم الذي هو آلة لها في أفعالها،و بذلك يمكن أن يتأوّل قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» (1)على تقدير أن يراد بكلّ نفس هذا المعنى من النفس.و أن يتأوّل نظائر هذا،ممّا ورد في الكتاب و السنّة،و أنّه لا يتصوّر هذا،أي فساد التعلّق أيضا بالنسبة إلى العقل أصلا،حيث إنّ المفروض على تقدير جواز وجوده كونه غير متعلّق بالمادّة أصلا.

و بذلك استبان لك حال المجرّدات من الموجودات،من جملة الأجزاء المخصوصة من العالم في كونها باقية بعد وجودها،بقاء مستندا إلى علّة من خارج،و إن كانت هي في ذواتها ممكنة الوجود و العدم.

ص:232


1- -الأنبياء:35؛ [1]آل عمران:185. [2]

في بيان حال المادّيات من الموجودات

و بقي بعد،بيان حال الموجودات المادّية من جملة أجزاء العالم،سواء كانت أجساما أو صورا أو أعراضا،و سواء كانت من جملة الكائنات الفاسدات،أم غيرها،فلنتكلّم في ذلك.

فنقول:إنّ الكائنات الفاسدات منها سواء كانت اجساما أو صورا أو أعراضا،لا يخفى أنّ طريان الفساد و الزوال عليها من جهة ذواتها ممكن،بل واقع،كما يدلّ عليه المشاهدة و العيان.

و بالجملة لا ينكره أحد،و وجهه أنّ موادّها لكونها قابلة لكلا الضدّين،يمكن أن تستعدّ لكون صورة أو هيئة فيها فتتكوّن هي فيها ثمّ تستعدّ لفساد تلك الصورة أو تلك الهيئة، و لطروء ضدّها عليها فتفسد هي،و قد يفسد بذلك الجسم أيضا لفساد جزئه أي صورته، و أمّا تلك المواد،فلعدم كونها قابلة لفساد نفسها فلا يطرأ عليها الفساد،بل هي باقية في الحالين،فلذلك لا ينعدم ذلك الجسم بالمرّة،و قد مرّ بيان ذلك كلّه فيما سبق.

و أمّا غير الكائنات الفاسدات منها كالأفلاك و ما فيها من النجوم و الكواكب و الكرات، فهي و إن كانت ممّا زعمت الفلاسفة بقاءها و أبديّتها و عدم إمكان طروء الفساد عليها، و لكنّها عند العقل ممّا لا مانع من طروء ذلك عليها،لا من جهة ذواتها،و لا من جهة غيرها، فإنّها حيث كانت ممكنة بالذات،يتساوى وجودها و عدمها بالنظر إلى ذواتها،كما لا مانع من وجودها لا مانع عند العقل من امكان فنائها،و انعدام صورها عن موادّها،بل من انعدام موادّها أيضا و انعدامها بالمرّة.

و كذلك هي حيث كانت مركّبة من مادّة و صورة،كالكائنات الفاسدات،لا مانع عند

ص:233

العقل من كون موادّها قابلة لكلا الضدّين،فتكون قابلة لكون صورة فيها،فتتكوّن هي فيها،و كذا لفسادها عنها فتفسد عنها،و كذلك لا مانع عند العقل أن يقتضي العلم بالأصلح أن يخلق ضدّ صورها،فيطرأ عليها ضدّها،فتنعدم صورها و تفسد.

و ما ذكره الفلاسفة من الوجوه الدالّة عندهم على عدم إمكان طروء الفساد عليها كلّها وجوه ضعيفة،مبنيّة على اصول غير ثابتة،لا يكاد يتمّ التمسك بها في ذلك.مثل ما ذكروه من أنّها قديمة،و ما ثبت قدمه امتنع عدمه،كما مضى دليله.فإنّ ذلك مبنيّ على قدم العالم، أو على قدم خصوص الأفلاك و ما فيها،و قد ثبت بطلان ذلك،بل الحقّ أنّ العالم بجميع أجزائه حتّى الأفلاك و ما فيها حادثة حدوثا دهريّا كما بيّناه في رسالة موضوعة لذلك، فليرجع إليها. (1)

و مثل ما ذكروه من أنّ الكائن الفاسد،يجب أن يكون فيه مبدأ ميل مستقيم،و الأفلاك و ما فيها لوجود مبدأ ميل مستدير فيها،لا يمكن أن يكون فيها مبدأ ميل مستقيم،للتنافي بين الميلين،و إذا لم يمكن أن يكون فيها مبدأ ميل مستقيم،فلا يمكن أن يطرأ عليها ما هو لازم ذلك من التغيّر و الفساد.

و لذلك فرّعوا على عدم إمكان الحركة المستقيمة فيها،و كذا على أنّ الحركة المستقيمة لو جاز عليها لجاز أن تكون إلى فوق و سفل أيضا،و قد ثبت عندهم أنّ المحدّد لذلك، هو الفلك،فيلزم أن يقع الحركة المستقيمة إلى جهة محدّدها.أي الفلك الذي فرض فساده، فيلزم وقوع الحركة إلى جهة من غير محدّد لتلك الجهة،عدم إمكان قبولها لطروء الخرق و الالتيام و التخلخل و التكاثف،و أمثال ذلك ممّا لا يمكن حصوله إلاّ بالحركة.

و مثل ما ذكروه من عدم إمكان ضدّ لصور الأفلاك،فكيف يطرأ عليها الفساد الذي هو يكون بطروء أضدادها عليها.و أنّ موادّها مخالفة بالنوع لموادّ الكائنات الفاسدات، فلا تقبل فساد صورها عنها و نحو ذلك ممّا ذكروه في كتبهم،فإنّ ذلك كلّها وجوه ضعيفة فاسدة،كما هو مبيّن في كتب أهل الشرع من العلماء.و نحن أيضا في تعليقاتنا على الشفاء قد بيّنا فساد تلك الوجوه بما لا مزيد عليه،فليطالع ثمّة.

غاية الأمر أنّ موادّها و صورها لكونها مخالفة من بعض الجهات لموادّ العنصريّات

ص:234


1- -توجد نسخة هذه الرسالة في مكتبة مدرسة المروي بطهران و مكتبة آية اللّه المرعشي بقم.

و صورها،يجوز أن يقتضي العلم بالأصلح بقاءها بعينها،أي بقاء صورها في موادّها في هذه النشأة الدنيوية،ثمّ يقتضي عند قيام الساعة زوالها و انعدامها،أي فساد صورها عنها بخلق أضداد تلك الصور،فتطرأ عليها فتقبل موادّها تلك الأضداد و فساد الصور الاولى.

و لا مانع من ذلك عند العقل،بل إنّ النصوص السمعيّة القطعيّة،دالّة على وقوع الفساد و طروئه عليها،كما دلّت على طروئه على غيرها من الأجسام العنصريّة،كليّاتها و أجزائها و جزئيّاتها،و تلك النصوص في الكتاب و السنّة من الكثرة بحيث لا تكاد تحصى،مثل قوله تعالى:

«يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ» . (1)

«وَ السَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ» . (2)

«فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ، وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ، وَ الْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ» . (3)

«وَ فُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً، وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً» . (4)

«يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ، وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ» . (5)

«وَ إِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ، وَ إِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ» . (6)

«وَ إِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ» . (7)

«إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ» . (8)

«إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ» . (9)

«يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلّهِ الْواحِدِ الْقَهّارِ» . (10)

«فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ» . (11)

«يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً، وَ تَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً» . (12)

ص:235


1- -الأنبياء:104. [1]
2- -الزمر:67. [2]
3- -الحاقّة:13-17. [3]
4- -النبأ:19-20. [4]
5- -المعارج:8-9. [5]
6- -المرسلات:9-10. [6]
7- -التكوير:11. [7]
8- -الانشقاق:1. [8]
9- -الانفطار:1. [9]
10- -ابراهيم:48. [10]
11- -الرحمن:37. [11]
12- -الطور:9-10. [12]

«السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً» . (1)

«اقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ» . (2)

«فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ، وَ خَسَفَ الْقَمَرُ، وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ» . (3)

«فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ» . (4)

«إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ» . (5)«وَ إِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ» . (6)

«وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَ تَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً، وَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا،لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» . (7)

«فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكّاءَ وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا» . (8)

«وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً، فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً» . (9)

«وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ» . (10)

«وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ» . (11)

«يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً» . (12)

«وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ، وَ أَلْقَتْ ما فِيها وَ تَخَلَّتْ» . (13)

«إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها، وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها» . (14)

«وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ» . (15)

«وَ إِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ» . (16)

و هذه الآيات الكريمة و أمثالها،ممّا ورد في السنّة الشريفة في ذلك،كما تدلّ دلالة قطعيّة على وقوع الفساد على الأفلاك و ما فيها من النجوم و الكواكب،و على غيرها من

ص:236


1- -المزمّل:18. [1]
2- -القمر:1. [2]
3- -القيامة:7-9. [3]
4- -المرسلات:8. [4]
5- -التكوير:1-2. [5]
6- -الانفطار:2. [6]
7- -الكهف:98. [7]
8- -الكهف:98. [8]
9- -طه:105-106. [9]
10- -النمل:88. [10]
11- -الزمر:67. [11]
12- -المزّمّل:14. [12]
13- -الانشقاق:3. [13]
14- -الزلزلة:1-2. [14]
15- -التكوير:6. [15]
16- -الانفطار:3. [16]

الأرض و الجبال و البحار،كذلك تدلّ على عدم كونها قديمة،إذ لو كانت قديمة،لما جاز عليها وقوع الفساد،حيث إنّ ما ثبت قدمه،امتنع عدمه،إلاّ أنّها لا تدلّ على انعدام تلك المذكورات بالمرّة،و فسادها بالكلّية،بل إنّما تدلّ على فسادها على تلك الأنهاج المذكورة و على الأنحاء التي هي مضامين تلك الآيات الكريمة،كما يظهر على من تدبّر فيها.

و لا يخفى أنّ تلك الأنهاج و الأنحاء ليست بانعدامها بالمرّة،بل إنّما هي فساد صورها و زوال هيآتها و عدم بقائها على النهج الذي كانت تلك الأشياء عليه أوّلا من الوجود و التشخّص و الصورة و الكيفيّة،و لعلّ سرّ ذلك-و اللّه أعلم-اقتضاء العلم بالأصلح عند قيام الساعة فسادها،بأن يخلق أضداد تلك الصور،فتطرأ عليها،و حيث كانت موادّها قابلة لكلا الضدّين،قبلت أضدادها ففسدت عنها تلك الصور الأوّل،لكنّها باقية في الحالين حيث لا دليل على فسادها في ذاتها.

و بالجملة فهذه الآيات و نحوها،لا تدلّ على انعدام تلك المذكورات بالمرّة حتّى بموادّها،و لا دليل آخر أيضا عليه،بل إنّما تدلّ على انعدامها بصورها و هيآتها و وجوداتها الخاصّة،و يمكن بقاء موادّها،و لا ضير فيه،لو قلنا بحدوث تلك الموادّ و بقائها بعد وجودها لأجل عدم كونها قابلة للفساد،كما في النفس الإنسانيّة،و من هذه الجهة ليس في ذلك انعدام تلك الأشياء بالمرّة،فلذا يجوز إعادتها لو فرضنا إعادتها،مع أنّا لو قلنا بوجود نفس مجرّدة متعلّقة بالأفلاك و ما فيها كما هو مذهبهم،و قلنا ببقاء تلك النفوس بعد خراب الأفلاك و فساد صورها و هيآتها كما أشرنا إليه سابقا،لكان عدم انعدام الأفلاك و ما فيها بالمرّة أظهر،إذ النفوس المتعلّقة بها باقية و كذا موادّها.و اللّه أعلم.

ص:237

في بيان معنى ما دلّ من السمعيّات

اشارة

على هلاك كلّ ما سواه أو على الفناء بالمرّة

ثمّ إنّه قد وردت في القرآن الكريم آيات اخر في هذا المقام:

منها قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» . (1)

و هذه مفادها لو كان المراد بالنفس،النفس بالمعنى المصطلح،أنّ كلّ نفس تذوق الموت بخراب بدنها و زوال الجسم الذي هي متعلّقة به نوعا من التعلّق،و تنقطع علاقتها عنه،فيشمل هذا كلّ ذي نفس مجرّدة من الإنس و الجنّ و الملك و الفلك،و لو كان المراد بالنفس أعمّ من النفس المجرّدة و المنطبعة كالصور و القوى الحالّة في الأجسام،كان مفاد الآية أنّ كلّ نفس مجرّدة أو منطبعة تذوق الموت،أمّا النفس المجرّدة فكما ذكر،و أمّا المنطبعة فبفسادها في ذاتها،و زوالها عن مادّتها،لقبول تلك المادّة فسادها عنها من غير فساد ذات المادّة بذاتها.

و منه يعلم الحال لو اريد بالنفس ذات الشيء،أي الشيء مطلقا مجرّدا كان أم مادّيا، فلكيّا كان أم عنصريّا و حينئذ لو لم نقل بالعقول المجرّدة،لكان عموم كلّ شيء في الآية باقيا بحاله،و لو قلنا بها ينبغي تخصيص ذلك العموم بما سوى العقول و نحوها،إذ الدليل العقلي كما مضى ذكره،قائم على بقاء الموجودات المجرّدة عن المادّة في ذاتها،و كذا المفروض أن لا مادّة هنا يتعلّق بها العقل،حتّى يمكن أن يقال إنّ موته عبارة عن قطع تعلّقه عن تلك المادّة كما ينبغي تخصيصه بغير الصادر الأوّل أيضا.

و كذا بغير موجودات النشأة الاخرويّة،حيث إنّا قد أقمنا فيما مضى الدليل على بقائها

ص:238


1- -آل عمران:185؛ [1]الأنبياء:35. [2]

أيضا،و اللّه تعالى أعلم.

و منها قوله تعالى: «كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ، وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ» . (1)

و هذه بمنطوقها حيث قال: «كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ» :تدلّ على فناء كلّ من على الأرض من ذوي العقول،أو فناء كلّ ما على الأرض من ذوي العقول و غيرهم،و ينبغي أن يكون معنى الفناء في شأنهم كما فصّل سابقا.

و بمفهومها حيث قال: «وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ» تدلّ على فناء كلّ شيء سوى وجهه تعالى،و ذاته المقدّسة تعالى شأنه،سواء كان من في الأرض أو من في السماء أو نفس الأرض و السماء و أجزائهما و جزئيّاتهما،حيث إنّ بقاء وجه الربّ تعالى أي ذاته وحده كما هو مفهوم الآية،إنّما يكون إذا انعدم ما سواه مطلقا فيرجع مفاده إلى فناء كلّ شيء سواه تعالى.و ينبغي أن يكون معنى الفناء حينئذ كما ذكر أيضا سابقا في فناء كلّ شيء،مع أنّه يمكن تأويل هذه الآية بما سيأتي من تأويل قوله تعالى: «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ» ، (2)فانتظر.

و منها قوله تعالى: «وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ وَ كُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ» . (3)و قوله تعالى: «وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ» . (4)

و هاتان الآيتان تشتركان في الدلالة على عروض تلك الحالة التي هي مضمونهما من الفزع أو الصعق على كلّ من في السّماوات و من في الأرض من ذوي العقول حتّى الملائكة أو على كلّ ما فيهما من ذوي العقول و غيرهم،إلاّ أنّ الاولى منهما تدلّ على أنّ تلك الحالة هي الفزع،و الفزع معناه نوع اضطراب و تغيّر حالة و الثانية منهما تدلّ على أنّ تلك الحالة، هي الصعق و هو الموت،فإنّ حملت الاولى على الثانية،فيكون المراد بتلك الحالة الموت، أو الثانية على الاولى فيكون المراد بها الاضطراب و التغيّر،و ان لم تحمل إحداهما على الاخرى،فيكون المراد طروء تينك الحالتين جميعا عليهم،و لا بعد في أن تطرأ الحالة الاولى أي الفزع أوّلا ثمّ تطرأ الحالة الثانية أي الموت ثانيا.

ص:239


1- -الرحمن:26-27. [1]
2- -القصص:88. [2]
3- -النمل:87. [3]
4- -الزمر:68. [4]

و كذا تشترك الآيتان في الدلالة على عروض التغيّر و الفساد و الموت على من في السموات و الأرض،إلاّ من شاء اللّه،و قد فسّره المفسّرون تارة بالملائكة الأربعة أي جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل،و تارة بالشهداء.

و بالجملة فالمراد بمن شاء اللّه إمّا جماعة من الملائكة المقرّبين أو جمع من النبيّين و الصدّيقين.فيصير المعنى أنّ تلك الحالة عند النفخة،لا تعرض لهؤلاء الملائكة و للشهداء،فيكون مفاد الآيتين عروض الموت و الفناء لكلّ أهل العقل أو لكلّ موجود في السماء و الأرض،غير من شاء اللّه،و ينبغي أن يفسّر الموت و الفناء بالنسبة إلى كلّ أحد و كلّ شيء بما يناسب حاله كما ذكر سابقا.

و منها قوله تعالى: «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» . (1)

و هذه الآية لو اريد بها العموم الحقيقي بحيث يشمل كلّ شيء ممّا سواه تعالى حتّى ما دلّ الدليل على بقائه أيضا كالصادر الأوّل،و النشأة الاخرويّة بما فيها و النفوس المجرّدة الإنسانيّة و غيرها،فينبغي أن تتأوّل الآية بما أوّلها بعضهم من أنّه لعلّ المراد بالهلاك ضعف الوجود و ليسيّة الماهيّات الممكنة في أنفسها،يعني أنّ كلّ شيء بحسب وجوده الفائض عليه ضعيف ناقص ليس وجوده تامّا كاملا،حيث إنّه لو فرض انقطاع فيض الوجود عنه و لو آنا مّا،لا نعدم و فني إلاّ وجهه أي إلاّ من جهة إفاضته تعالى الوجود عليه،فإنّه بهذه الجهة يكون موجودا باقيا،و بعبارة اخرى أنّ كلّ موجود من الموجودات و كلّ ماهيّة من الماهيّات الممكنة من حيث إنّه ممكن في ذاته،فهو قابل لطريان العدم عليه،كما أنّه قابل لطريان الوجود عليه،فهو بالنظر إلى ذاته و ماهيّته ممكن هالك،ليس له وجود،بل إنّما وجود من جهة ارتباطه بجاعله و مفيض الوجود عليه.

و الحاصل أنّه على تقدير إرادة العموم الحقيقي من كلّ شيء،ينبغي إرادة أنّ المراد بالهلاك،الهلاك في مرتبة الذات،لا الهلاك بالفعل الطارئ بعد الوجود.

و أمّا لو اريد بكلّ شيء العموم في الجملة،بحيث يعمّ كلّ شيء عدا ما استثني،لأمكن إرادة الهلاك بالفعل منه،و يكون المعنى أنّ كلّ شيء سوى ما دلّ الدليل على بقائه،يعرض له الهلاك و الموت بالمعنى الذي يناسب حاله،كما ذكر سابقا حتّى الملائكة أيضا،أمّا

ص:240


1- -القصص:88. [1]

غير الملائكة الأربعة و الشهداء كما دلّت الآيتان السابقتان عليه،فهو إن كان من غير الملائكة من الجنّ و الإنس و غيرهم فعروض الهلاك على بعضهم الذين لم يكونوا باقين عند النفخة الاولى،يكون قبل النفخة الاولى بموتهم قبلها،و على بعضهم الباقين عندها، يكون عندها،كما يكون عروض ذلك على غيرهم من السماء و الأرض و الجبال و البحار و أمثالها،ممّا كانت باقية عند النفخة الاولى عندها أيضا،كما دلّت عليه الآيات السابقة، و إن كان من الملائكة غير من شاء اللّه فعروضه عليهم أيضا يكون عندها أيضا كما دلّت عليه الآيتان السابقتان.و أمّا من شاء اللّه فإن لم نقل بعروض الهلاك عليهم أصلا كما هو مفاد الآيتين،فينبغي تخصيص «كُلُّ شَيْءٍ» في قوله تعالى: «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ» بغيرهم أيضا و لا محذور فيه.و إن قلنا بهلاكهم كما يدلّ عليه عموم «كُلُّ شَيْءٍ» في الآية،فينبغي أن يقال بأنّه يجوز أن يطرأ عليهم الموت أيضا بعد موت الملائكة غيرهم،و إن كانت البعدية آنا مّا،و كذلك الهلاك آنا مّا.

و على التقادير فينبغي أن يراد بهلاك الملائكة انقطاع علاقة نفوسهم الشريفة عن أبدانهم اللطيفة،لا انعدامهم بالمرّة.و هذا الذي ذكرنا،هو وجه التأويل في قوله تعالى: «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ» و يظهر منه أنّه لا دليل فيه على انعدام النشأة الاخرويّة،و لو آنا مّا كما تمسّك به من قال به و إنّ ما ذكره بعضهم من حمل «كُلُّ شَيْءٍ» على العموم الحقيقي، و حمل الهلاك على الهلاك بالفعل،و حمل الآية على أن كلّ شيء يعرض له الموت و الفناء قبل قيام الساعة و لو آنا مّا فيعاد بعده،ليس بواضح.و بالجملة الهلاك و الفناء و أمثالهما من الألفاظ ليست بصريحة في الانعدام بالمرّة،بل يمكن حملها على الهلاك و الفناء الذي يناسب حال ذلك الفاني و الهالك كما ذكرنا سابقا،فتأمّل.

و منها قوله تعالى: «هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ» ، (1)

و بيان كيفيّة دلالة هذه الآية يحتاج إلى تفسير معنى الأوّل و الآخر في شأنه تعالى أوّلا حتّى يستبين ذلك،حيث إنّ الأوليّة و الآخريّة اللتين أطلقنا على ذاته تعالى،سواء اريد بهما الأوّليّة و الآخريّة الحقيقيّتين كما في الآية أو أعمّ منهما و من الإضافيّتين،معناهما التقدّم و التأخّر.

ص:241


1- -الحديد:3. [1]

و المشهور عندهم أنّ التقدّم و التأخّر على أنحاء خمسة:بالعلّية و بالطبع و بالزمان و بالرتبة و بالشرف،كما هو مذهب الحكماء،أو ستّة كما هو رأي المتكلّمين:تلك الخمسة و بالذات،كما بين أجزاء الزمان عندهم.

فينبغي أن ينظر أنّ أيّا من معاني التقدّم و التأخّر يصحّ إرادته في الآية الكريمة،و على تقدير الصحّة فهل هما بمعنى واحد في الأوّلية و الآخريّة أو بمعنيين مختلفين،و أنّه كيف يصحّ إطلاق الأوّل و الآخر على ذات واحدة،و أنّ هذا الإطلاق هل هو باعتبار واحد أم باعتبارين،و أنّ هذه الأوّليّة و الآخريّة هل هما بالنسبة إلى ذاته تعالى بمعنى أنّه تعالى متقدّم على ذاته و متأخّر عن ذاته،أو بالنسبة إلى غيره بمعنى أنّه متقدّم على غيره و متأخّر عن غيره.

فنقول:لا يخفى عليك أنّ التقدّم بالعلّية و إن صحّ إطلاقها على ذاته تعالى بالنسبة إلى غيره،بمعنى أنّه تعالى علّة موجدة لما سواه،لكنّه لا يصحّ إطلاق المتأخّر بهذا المعنى عليه،فإنّ المتأخّر بالعلّية معناه كونه معلولا،و الحال أنّه تعالى شأنه ليس بمعلول لا لذاته و لا لغيره.

و كذلك التقدّم بالطبع،لو اريد به تقدّم العلّة الناقصة ما سوى العلّة الفاعليّة،فلا يصحّ إطلاقه عليه تعالى أصلا و إن اريد به أعمّ من ذلك حتّى يشمل تقدّم العلّة الفاعليّة أيضا، فهو على تقدير صحّة إطلاقه عليه تعالى بالنسبة إلى غيره،لا يصحّ إطلاق المتأخّر بالطبع عليه تعالى، لاستلزام كونه معلولا بالطبع،و هو سبحانه و تعالى منزّه عن ذلك.

و أيضا قد تقرّر عندهم أنّه لا يجوز في السبق بالعلّية و بالطبع أن يصير السابق متأخّرا و هو هو بعينه،و لذلك قيل:إنّهما سبقان حقيقيّان،و أولى بمفهوم السبق من غيرهما، كالسبق بالشرف و بالرتبة و بالزمان،حيث يجوز فيها ذلك.

و الحال أنّه في الآية الكريمة اطلقت الأوّلية و الآخريّة كلتاهما على ذاته تعالى و لا يخفى أنّ ذاته تعالى لا تغيّر فيه أصلا و هو هو بعينه في الحالين،فلا يكون معناهما التقدّم و التأخّر بالعلّية أو بالطبع.

و لا يخفى أيضا أنّ التقدّم و التأخّر بالرتبة لا يصحّ إرادتهما في الآية،إذا المعتبر فيهما أن يكون هناك ترتّب بين السابق و المسبوق،إمّا ترتّب حسّي كما بين الإمام و المأموم،

ص:242

أو ترتّب عقلي كما بين الأجناس و الأنواع الإضافية المترتّبة على سبيل التصاعد أو التنازل،و لا سترة في أنّ هذا الترتّب منفيّ هنا،سواء فرض ترتّب بين ذاته تعالى و بين ذاته،أو بين ذاته تعالى و بين غيره،فلا يصحّ إرادتهما في الآية.

نعم لو صحّت إرادتهما فيها،لا مانع من إطلاق الأوّليّة و الآخريّة كلتيهما على ذاته تعالى،حيث يجوز فيهما أن يصير السابق متأخّرا و هو هو بعينه.

و لا يخفى أيضا أنّ التقدّم بالشرف و إن كان يجوز إطلاقه عليه تعالى،لكن بالنسبة إلى غيره،بمعنى أنّه تعالى أشرف من غيره،لكنّه لا يصحّ إطلاق المتأخّر بهذا المعنى،سواء اعتبر بالنسبة إلى ذاته تعالى إلى غيره،و سواء كان ذلك باعتبار واحد أم باعتبارين،و إن جاز في هذا القسم أيضا اجتماع الوصفين على ذات واحدة باعتبارين.

و لا يخفى أيضا عدم صحّة إرادة التقدّم و التأخّر بالذات اللذين أثبتهما المتكلّمون بين أجزاء الزمان،كسبق الأمس على الغد،سواء اعتبر ذلك بالنسبة إلى ذاته تعالى أو إلى غيره،و سواء كان باعتبارين أو باعتبار واحد.

فبقي أن يكون المراد بالأوّليّة و الآخريّة في الآية التقدّم و التأخّر بالزمان،و معنى ذلك هو أن يكون السابق قبل المسبوق قبليّة لا يجامع معها البعد.و هذا أيضا لا يصحّ إرادته في الآية،أمّا إذا اعتبر التقدّم على ذاته أو التأخّر عن ذاته سواء فرض وجوده تعالى وجودا زمانيّا،أم لم يفرض،لأنّ السابق هنا يجامع المسبوق،و أيضا تقدّم الشيء على نفسه غير معقول،و لا جهة أيضا هنا بها يصحّ اعتبار تقدّمه على نفسه و تأخّره عن نفسه بجهة اخرى حتّى يكون التقدّم و التأخّر باعتبارين.

و أما إذا اعتبر ذلك التقدّم على غيره و ذلك التأخّر عن غيره،فلأنّ المعتبر في التقدّم و التأخّر الزمانيّين أن يجوز كون المتقدّم و المتأخّر زمانيّا،و ما وجوده زماني،إمّا ما يكون وجوده تدريجيّا كالزمان مثل الحركة،و هذا لا يجوز على وجوده تعالى لكونه ثابتا أبد الدهر لا تدريجيّا موجودا شيئا فشيئا و لا متجدّدا متصرّفا.و إمّا ما يكون وجوده ثابتا غير تدريجيّ سواء كان حدوثه تدريجيّا أو دفعيّا،و مع ذلك ما يكون وجوده محفوفا بالزمان، واقعا تحته،و يكون قبله زمان و بعده زمان إن انقطع زمان وجوده كبعض الأجسام.و هذا أيضا لا يجوز على وجوده تعالى،لأنّه ليس قبله زمان و لا ما هو منشأ لانتزاع الزمان عنه،

ص:243

بل ليس له قبل أصلا،و كذا ليس له بعد و لا بعده زمان.

و إمّا ما كان الزمان منتزعا عنه و يكون هو واقعا في حدّ من الزمان،و إن كان حدّا أوّلا منه و يبقى بعد ذلك،و هذا كالفلك على رأيهم،و هذا أيضا لا يجوز على وجوده تعالى لأنّه حيث كان ثابتا أبد الدهر لا يجوز أن ينتزع منه الزمان الذي هو متغيّر متقضّ شيئا فشيئا، و ليس أيضا في مرتبة ذاته تعالى شيء يمكن أن ينتزع منه الزمان،و يكون أوّل وجوده واقعا في الحدّ الأوّل منه،تعالى اللّه عن ذلك كلّه علوّا كبيرا.

و بالجملة التقدّم و التأخّر الزمانيان إنّما يصحّ إطلاقهما على ما هو وجوده زماني، داخل تحت الزمان،و متغيّر بتغيّره،محفوف به أو واقع في حدّ منه،و أمّا ما هو وجوده غير متغيّر،بل ثابت أبد الدهر،متعال عن الزمان،كوجوده تعالى فلا يصحّ عليه إطلاق المتقدّم و المتأخّر بهذا المعنى.

و ممّا ذكرناه و فصّلناه ظهر أنّه لا يصحّ إرادة الأوّليّة و الآخريّة في الآية بأحد المعاني الخمسة أو الستّة،سواء كان الإطلاق بمعنى واحد أو بمعنيين،و سواء كان باعتبار واحد أو باعتبارين،و سواء كان بالنسبة إلى ذاته تعالى أو إلى غيره،فكأنّ ما ذكرنا يرد إشكالا على معنى الآية الكريمة في إطلاق الأوّل و الآخر على ذاته تعالى.

و أمّا الجواب عن هذا الإشكال،فهو أنّ التقدّم و التأخّر الزمانيّين،كما يطلقان على ما كان وجوده زمانيّا،و هذا بهذا المعنى منفيّ عن وجوده تعالى،حيث إنّه ليس زمانيّا،كذلك يمكن أن يطلقا على ما ليس وجوده زمانيّا،لكن بمعنى آخر،و هو أن يكون هناك زمان موجود أو زمان مقدّر،بحيث لو فرض هناك فارض أمكن حكمه فيه بأنّ ذلك الشيء موجود،و ليس شيء غيره موجودا،لا بأن يكون ذلك الزمان الموجود أو المقدّر ظرفا لوجود الشيء حتى يكون زمانيّا،بل ظرفا للحكم به.و حينئذ لو كان ذلك الشيء بحيث يفرض وجود غيره بعد وجوده،و كذا بعد زمان صحّة هذا الحكم،كان متقدّما على غيره بالزمان بهذا المعنى،و لو كان بحيث يفرض وجود غيره قبل زمان صحّة هذا الحكم كان متأخّرا عن غيره بهذا المعنى أيضا،و لا شك أنّ إطلاق التقدّم و التأخّر بهذا المعنى يصحّ في شأنه تعالى،إذ لا سترة في أنّ وجوده تعالى بحيث لا يمكن أن يكون في مرتبته شيء غيره،و لا في أنّ وجوده كان ثابتا دائما باقيا في الأزل في الواقع،و لم يكن معه شيء،لا في

ص:244

الواقع و لا في مرتبة منه،ثمّ شاء و أوجد الأشياء بحيث كان قبل إيجاده الأشياء زمان مقدّر أو دهر غير متناه كما هو معنى القول بالحدوث الدهري على ما بيّناه في الرسالة الموضوعة لذلك،و بحيث لم يكن ذلك الدهر الغير المتناهي ظرفا لوجوده تعالى حتّى يلزم كون وجوده تعالى زمانيّا أو دهريّا،بل ظرفا لصحّة الحكم بأنّه تعالى موجود،و ليس شيء غيره موجودا،و لا أن يكون وجوده حدّا أوّلا لذلك الدهر،و يكون وجود غيره حدّا آخر منه، حتّى يلزم كون غير المتناهي محصورا بين حاصرين.

ثمّ إنّه تعالى شاء-بعد إيجاد الأشياء و بقائها زمانا-فناءها،فتفنى هي كما دلّت عليه الآيات و الأخبار،بحيث إنّ الأشياء تفنى بعد وجودها،و يفرض هناك زمان موجود أو مقدّر،يصحّ الحكم فيه بأنّه تعالى موجود و ليس غيره موجودا.

فيظهر ممّا ذكرنا أنّه بالاعتبار الأوّل يصحّ إطلاق الأوّل عليه تعالى،حيث كان أوّلا بحسب الزمان بهذا المعنى،و كذا بالعلّية بالنسبة إلى غيره،و بالاعتبار الآخر يصحّ إطلاق الآخر عليه بالنسبة إلى غيره،لكن بالزمان بهذا المعنى فقط،فيظهر منه أنّ إطلاق الأوّل عليه تعالى يمكن أن يكون بمعنيين،و أمّا اطلاق الآخر عليه،فإنّما هو بمعنى واحد،هو بالزمان بهذا المعنى،و أنّ إطلاقهما جميعا إنّما هو بالنسبة إلى غيره تعالى لا بالنسبة إلى ذاته،و كذلك إطلاقهما عليه تعالى باعتبارين،لا باعتبار واحد،و بذلك انحلّ الإشكال و ظهر تفسير معنى الأوّل و الآخر في حقّه تعالى.

و إن أبيت إطلاق التقدّم و التأخّر الزمانيّين بهذا المعنى عليه تعالى فلا مشاحّة في أن يطلق عليه تعالى التقدّم و التأخّر بمعنى آخر غير تلك المعاني الخمسة أو الستّة كالتقدّم و التأخّر بالوجود مثلا بذلك المعنى الذي ذكرنا،فإنّ الحصر في الخمسة أو الستّة،ليس حصرا عقليّا حتّى لا يمكن إثبات قسم سابع معها،بل استقرائي و كأنّه لذلك أثبت بعضهم كصدر الأفاضل قسمين آخرين أيضا مع تلك الأقسام المشهورة،هما التقدّم بالحقّ و التقدّم بالحقيقة.و مثّل للأوّل بأنّ الحقّ في تجلّيه في أسمائه و مراتب شئونه التي هي أنحاء وجودات الأشياء يتقدّم و يتأخّر بذاته،لا بشيء آخر،فلا يتقدّم متقدّم و لا يتأخّر متأخّر إلاّ بحقّ لازم.و للثاني بأنّ الجاعل و المجعول إذا كان لكلّ منهما شيئيّة و وجود، فتقدّم الشيئيّة على الشيئيّة من جهة اتّصافهما بالوجود،تقدّم بالذات،سواء كان بالعلّية

ص:245

أو بالطبع،و تقدّم نفس الوجود على الوجود تقدّم بالحقيقة.

و حيث عرفت ما ذكرنا من تفسير الأوّل و الآخر في شأنه تعالى،فاعلم أنّه موافق لما ورد من بعض كلمات المعصومين عليهم السّلام كقولهم في الأدعية المأثورة عنهم:«يا كائنا قبل كلّ شيء،يا كائنا بعد كلّ شيء،يا حيّ قبل كلّ حيّ،و يا حيّ بعد كلّ حيّ،يا حيّ حين لا حيّ،يا حيّ يبقى و يفنى كلّ حيّ،يا ذا الذي كان قبل كلّ شيء،ثمّ خلق كلّ شيء، ثم يبقى و يفنى كلّ شيء».

و كذا هو مطابق للتفسير الذي ذكره العلماء.قال الشيخ الطوسي رحمه اللّه في تفسير قوله تعالى في سورة الحديد هو الأوّل:القديم السابق لجميع الموجودات بما لا يتناهى من الأوقات أو تقدير الأوقات.و الآخر الذي يبقى بعد فناء كلّ شيء.-انتهى. (1)

و قال بعض أجلّة العلماء رحمه اللّه ما مضمونه:إنّ معنى الأوّل في حقّه تعالى أنّه قبل كلّ شيء،و ليس قبله أو في مرتبة وجوده شيء و معنى الآخر في حقّه تعالى أنّه ليس بعده شيء،و كلاهما من الصفات السلبيّة.-انتهى.

و حيث عرفت تفسير الأوّل و الآخر في حقّه تعالى،و عرفت أنّ معنى الآخر في حقّه سبحانه أنّه هو الذي يبقى و يفنى غيره،عرفت أنّ معنى هذه الآية الكريمة آئل من بعض الوجوه إلى معنى الآية السابقة،و هي قوله تعالى: «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ» إلاّ أنّه يمكن في تلك الآية السابقة التأويل بكلا الوجهين اللذين ذكرناهما،و أمّا في هذه الآية فلا يستقيم التأويل إلاّ بالوجه الأخير،لأنّ المتبادر من فناء غيره فناؤه بالفعل،كما دلّت عليه الآيات و الأخبار أيضا،لا الفناء في مرتبة ذاته.

و حيث كان المراد،هو الفناء بالفعل الشامل بإطلاقه لفناء كلّ شيء غيره تعالى-كما هو الظاهر-فينبغي أن يخصّص هذا العموم أيضا بما سوى ما دلّ الدليل على بقائه،و قلنا إنّه مستثنى من العموم.و اللّه تعالى يعلم حقيقة الحال.

و منها قوله تعالى: «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» . (2)

و هذا لا يدلّ على فناء المخاطبين بالمرّة،بناء على أنّهم في حال البدء كما لم يكونوا

ص:246


1- -تفسير التبيان 9:518؛ [1]تفسير مجمع البيان 9:230.
2- -الأعراف:29. [2]

شيئا فبدءوا و خلقوا عن لا شيء،كذلك هذا التشبيه،يقتضي أن يكونوا في حال العود أيضا معدومين بالمرّة،فيعادوا عن لا شيء،لأنّه لا نصّ في الآية أنّ التشبيه في هذا المعنى،بل يمكن أن يكون التشبيه في أصل الفعل،أي كما أنّ البدء قد وقع،يكون العود واقعا أيضا و إن لم يكونوا في حال العود معدومين بالمرّة،و أن يكون التشبيه في الآية نظير التشبيه في قوله تعالى: «وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ» . (1)و سيأتي أنّ إعادة المعدوم بالمرّة بعينه ممتنع.

ثمّ إنّك حيث أحطت خبرا بتفاصيل ما قدّمناه لك،يظهر لك تأويل كلام أمير المؤمنين عليه السّلام في نهج البلاغة في خطبة له عليه السّلام في التوحيد و هو قوله عليه السّلام:«و انّه يعود سبحانه بعد فناء الدنيا وحده،لا شيء معه كما كان قبل ابتدائها،كذلك يكون بعد فنائها بلا وقت،و لا مكان و لا حين و لا زمان،عدمت عند ذلك الآجال و الأوقات و زالت السنون و الساعات،فلا شيء إلاّ الواحد القهّار الذي إليه مصير جميع الامور». (2)فتدبّر تعرف.

و بالجملة تلك السمعيات المذكورة و غيرها،لا دلالة قطعيّة فيها على فناء كلّ ما سواه تعالى فناء بالفعل،و يمكن تخصيص عموماتها بما عدا ما استثني،كما أنّها لا دلالة قطعيّة فيها على أنّ ما يفنى من جملة الموجودات يفنى بالمرّة و ينعدم بالكلّية،بل يمكن تأويلها بما ذكرنا في ذيل بيان حال كلّ و اللّه تعالى يعلم.

ختام

قد استبان لك ممّا ذكرنا بطوله في هذا الباب،أنّ العالم بجميع أجزائه و إن كان بالنظر إلى ذاته و إمكانه جائز الفناء و العدم،إلاّ أنّه لا يدلّ دليل عقلي أو سمعي على طريان الفناء بالفعل عليه بجميع أجزائه،بحيث لا يشذّ عنها فرد،و إنّما الدليل يدلّ على طروء الفناء بالفعل على بعض أجزائه كما فصّلنا،و كذا لا دليل على أنّ كلّ ما يفنى بالفعل من جملة أجزائه يفنى بالمرّة و ينعدم بالكلّية،بل الدليل كما عرفت بيانه،إنّما يدلّ على أنّ بعضا من

ص:247


1- -الأنعام:94. [1]
2- -نهج البلاغة 2:148،طبع مطبعة [2]الاستقامة بالقاهرة.

ذلك ينعدم بالمرّة كالصور و الأعراض القائمة بالموادّ،و بعضا منه و إن كان ينعدم لكن لا بالكلّية.

و اللّه أعلم بالصواب،و إليه المرجع و المآب،و هذا آخر ما أردنا إيراده في هذا الباب، أي في المقام الأوّل من المقامين اللذين كنّا بصدد بيانهما،فلنرجع إلى التكلّم في المقام الثاني.

ص:248

المقام الثاني في جواز إعادة المعدوم و عدمه

اشارة

فنقول:المقام الثاني في أنّ المعدوم هل يجوز أن يعاد بعينه،أي بجميع عوارضه المشخّصة أم لا؟ذهب أكثر المتكلّمين إلى جوازه،و ذهب الحكماء و بعض المتكلّمين إلى امتناعه،و لكلّ من الفريقين حجج،فلنذكر أوّلا حججهم على ما ذهبوا إليه،ثمّ نتبعه بتحقيق ما هو الحقّ،إن أمكن،فنقول:إنّ الشيخ في الفصل الخامس من إلهيّات الشفاء حقّق أوّلا:أنّ الموجود و الشيء و الضروري و الواحد ترتسم معانيها في النفس ارتساما أوّليّا،ليس ذلك الارتسام ممّا يحتاج إلى أن يجلب بأشياء أعرف منها،و تكون هي مبادئ تصوريّة،كما يقال:إنّ الشيء هو الذي يصحّ عنه الخبر،حيث إنّ ذلك لو كان تعريفا حقيقيّا لكان دوريّا،فإنّ قولنا يصحّ أخفى من الشيء و الخبر أيضا أخفى من الشيء،و إنّما يعرف الصحّة،و يعرف الخبر بعد أن يستعمل في بيان كلّ واحد منهما إنّه شيء أو أمر أو نحو ذلك.

نعم ربما كان في هذا التعريف و أمثاله تنبيه على ما في النفس،و أمّا بالحقيقة فليس تعريفا فإنّك إذا قلت إنّ الشيء هو ما يصحّ الخبر عنه،يكون كأنّك قلت إنّ الشيء هو الشيء الذي يصحّ عنه الخبر،فتكون قد أخذت الشيء في حدّ الشيء.

و بالجملة أنّه قد حقّق أن الشيء و الموجود و نحوهما،أعرف الأشياء عند العقل،ثمّ حقّق أنّ معنى الموجود و معنى الشيء متصوّران في الأنفس،و هما معيّنان فالموجود و المثبت و المحصّل،أسماء مترادفة على معنى واحد،و لا نشكّ أنّ معناها قد حصّل في النفس،و الشيء و ما يقوم مقامه،قد يدلّ به على معنى آخر في اللغات كلّها،فإنّ لكلّ أمر حقيقة هو بها ما هو.فللمثلّث حقيقة أنّه مثلّث،و للبياض حقيقة أنّه بياض،و ذلك هو الذي ربما سمّيناه الوجود الخاصّ،و لم يرد به معنى الوجود الإثباتي،فإنّ لفظ الوجود يدلّ به

ص:249

أيضا على معان كثيرة،منها الحقيقة التي يشيّء عليها الشيء،فكأنّه ما عليه يكون الوجود الخاصّ للشيء.

ثمّ قال:إنّه من البيّن أنّ لكلّ شيء حقيقة خاصّة،هي ماهيّته،و معلوم أنّ حقيقة كلّ شيء الخاصّة به غير الوجود الذي يرادف الإثبات،و ذلك لأنّك إذا قلت حقيقة كذا موجودة،إمّا في الأعيان أو في النفس أو مطلقا،يعمّها جميعا،كان لهذا معنى محصّل مفهوم،و لو قلت إنّ حقيقة كذا،أو أنّ حقيقة كذا حقيقة،لكان حشوا من الكلام غير مفيد، و لو قلت إنّ حقيقة كذا شيء،لكان أيضا قولا غير مفيد ما يجهل،و أقلّ إفادة منه،أن يقال:

إنّ الحقيقة شيء،إلاّ أن يعنى بالشيء الموجود،كأنّك قلت إنّ حقيقة كذا حقيقة موجودة.

و أمّا إذا قلت حقيقة«ألف»شيء،و حقيقة«ب»شيء آخر،فإنّما يصحّ هذا و أفاد، لأنّك تضمر في نفسك أنّه شيء آخر مخصوص،و مخالف لذلك الشيء الآخر،كما قلت:

إنّ حقيقة«ألف»حقيقة،و حقيقة«ب»حقيقة اخرى،و لو لا هذا الإضمار،و هذا الاقتران جميعا لم يفد.

فالشيء يراد به هذا المعنى و لا يفارق لزوم معنى الوجود إيّاه البتّة بل معنى الموجود يلزمه دائما،لأنّه يكون إمّا موجودا في الأعيان،أو موجودا في الوهم و العقل،فإن لم يكن كذا لم يكن شيئا.

و انّ ما يقال إنّ الشيء هو الذي يخبر عنه،حقّ،ثمّ الذي يقال مع هذا إنّ الشيء قد يكون معدوما على الإطلاق،أمر يجب أن ينظر فيه.فإن عنى بالمعدوم المعدوم في الأعيان،جائز أن يكون كذلك،فيجوز أن يكون الشيء ثابتا في الذهن معدوما في الأشياء (1)الخارجة،و إن عنى غير ذلك كان باطلا،و لم يكن عنه خبر البتّة،و لا كان معلوما إلاّ على أنّه متصوّر في النفس فقط،فأمّا أن يكون متصوّرا في النفس صورة تشير إلى شيء خارج،فكلاّ،أمّا الخبر فلأنّ الخبر يكون دائما عن شيء متحقّق في الذهن، و المعدوم المطلق لا يخبر عنه بأن يجاب.و اذا اخبر عنه بالسلب أيضا فقد جعل له وجود بوجه ما في الذهن،لأنّ قولنا هو يتضمّن إشارة،و الإشارة إلى المعدوم الذي لا صورة له بوجه من الوجوه في الذهن محال.فكيف يوجب على المعدوم شيء.

ص:250


1- -الأعيان(خ ل).

و معنى قولنا إنّ المعدوم كذا،معناه أنّ وصف كذا حاصل للمعدوم،و لا فرق بين الحاصل و الموجود،فيكون كأنّا قلنا:إنّ هذا الوصف موجود للمعدوم،بل نقول:إنّه لا يخلو ما يوصف به المعدوم و يحمل عليه إمّا أن يكون موجودا و حاصلا للمعدوم أولا يكون موجودا و حاصلا له،فإن كان موجودا حاصلا للمعدوم،فلا يخلو إمّا أن يكون هو في نفسه موجودا أو معدوما،فإن كان موجودا فيكون للمعدوم صفة موجودة،و إذا كانت الصفة موجودة فالموصوف بها موجود لا محالة،فالمعدوم موجود،و هذا محال و إن كانت الصفة معدومة،فكيف يكون المعدوم في نفسه موجودا لشيء،فإنّ ما لا يكون موجودا في نفسه يستحيل أن يكون موجودا للشيء.نعم قد يكون الشيء موجودا في نفسه و لا يكون موجودا لشيء آخر.فأمّا إن لم تكن الصفة موجودة للمعدوم،فهو نفي الصفة عن المعدوم،فإنّه إن لم يكن هو النفي للصفة عن المعدوم،فإذا نفينا الصفة عن المعدوم،كان مقابل هذا،فكان وجود الصفة له و هذا كلّه باطل.و إنّما نقول:إنّ لنا علما بالمعدوم،فلأنّ المعنى إذا تحصل في النفس فقط،و لم يشر فيه إلى خارج،كان المعلوم نفس ما في النفس فقط،و التصديق الواقع بين المتصوّر من جزئيه،هو أنّه جائز في طباع هذا المعلوم وقوع نسبة له معقولة إلى خارج،و في هذا الوقت فلا نسبة له،فلا معلوم غيره، و عند القوم الذين يرون هذا الرأي،أنّ في جملة ما يخبر عنه و يعلم أمورا لا شيئيّة لها في العدم،و من شاء أن يقف على ذلك فليرجع إلى ما هذوا به من أقاويلهم التي لا يستحقّ فضل الاشتغال بها،و إنّما وقع أولئك فيما وقعوا فيه بسبب جهلهم بأنّ الإخبار إنّما يكون عن معان لها وجود في النفس،و إن كانت معدومة في الأعيان،و يكون معنى الإخبار عنها، أنّ لها نسبة ما إلى الأعيان،مثلا إذا قلت:«إنّ القيامة تكون»فهمت«القيامة»،و فهمت «تكون»و حملت«تكون»التي في النفس على«القيامة»التي في النفس،بأنّ هذا المعنى إنّما يصحّ في معنى آخر معقول أيضا،و هو معقول في وقت مستقبل أن يوصف بمعنى ثالث معقول،و هو معقول الوجود،و على هذا القياس الأمر في الماضي.فبيّن أنّ المخبر عنه لا بدّ من أن يكون موجودا وجودا ما في النفس و الإخبار بالحقيقة هو عن الموجود في النفس،و بالعرض عن الموجود في الخارج.و قد فهمت الآن أنّ الشيء بما ذا يخالف المفهوم للموجود و الحاصل،و أنّهما مع ذلك متلازمان.و على أنّه قد بلغني أنّ قوما يقولون:

ص:251

إنّ الحاصل يكون حاصلا و ليس بموجود،و قد يكون صفة الشيء و ليس شيئا لا موجودا و لا معدوما،و أنّ«الذي»و«ما»يدلّ على غير ما يدلّ عليه الشيء،فهؤلاء ليسوا من جملة المخيرين.

ثمّ إنّه قد حقّق تعسّر تعريف الواجب و الممكن و الممتنع بالتعريف الحقيقي،بل إنّما يمكن ذلك بوجه العلامة و أنّ جميع ما قيل فيه قد يكاد يقتضي دورا و بيّن ذلك.

ثمّ قال:و من تفهيمنا هذه الأشياء يتّضح لك بطلان قول من يقول:إنّ المعدوم يعاد، لأنّه أوّل شيء يخبر عنه و ذلك لأنّ المعدوم إذا اعيد يجب أن يكون بينه و بين ما هو مثله لو وجد بدله،فرق،فإن كان مثله إنّما ليس هو لأنّه ليس الذي كان و عدم،و في حال العدم كان هذا غير ذلك،فقد صار المعدوم موجودا على النحو الذي أومأنا إليه فيما سلف آنفا، و على أنّ المعدوم إذا اعيد احتيج إلى أن يعاد جميع الخواصّ التي بها كان هو ما هو و من خواصّه وقته فإذا اعيد وقته كان المعدوم غير معاد،لأنّ المعاد هو الذي يوجد في وقت ثان،فإن كان المعدوم يجوز إعادته و إعادة جملة المعدومات التي كانت معه،و الوقت إمّا شيء له حقيقة وجود و قد عدم،أو موافقة موجود لعرض من الأعراض على ما عرفت من مذهبهم،جاز أن يعود الوقت و الأحوال فلا يكون وقت و وقت فلا يكون عود.

على أنّ العقل يدفع هذا دفعا لا يحتاج فيه إلى بيان و كلّ ما يقال فيه فهو خروج عن طريق التعليم.-انتهى كلامه.

و نقل المحقّق الدواني عن الشيخ في التعليقات:«انّه قال في بيان هذا المطلب إذا وجد الشيء وقتا ما ثمّ لم يعدم و استمرّ وجوده في وقت آخر و علم ذلك أو شوهد علم أنّ الموجود واحد،و أمّا إذا عدم فليكن الموجود السابق«ألف»و ليكن المعاد الذي حدث «ب»و ليكن المحدث الجديد«ج»و ليكن«ب»ك«ج»في الحدوث و الموضوع و الزمان و غير ذلك،و لا يخالفه إلاّ بالعدد فلا يتميّز«ب»عن«ج»في استحقاق أن يكون«ألف» منسوبا إليه دون«ج»فإنّ نسبة«ألف»إلى أمرين متشابهين من كلّ وجه إلاّ في النسبة التي ننظر هل يمكن أن يختلفا فيه أو لا يمكن،لكنّهما إذن لم يختلفا فليس أن يجعل لأحدهما أولى من أن يجعل للآخر.

فإن قيل:إنّما هو أولى ل«ب»دون«ج»لأنّه كان ل«ب»دون«ج»فهو نفس هذه

ص:252

النسبة و أخذ المطلوب في بيان نفسه،بل يقول الخصم إنّما كان ل«ج».

بلى إذا صحّ مذهب من يقول إنّ الشيء يوجد فيفقد من حيث هو موجود و يبقى من حيث ذاته بعينه ذاتا لم يفقد من حيث هو ذات.ثمّ اعيد إليه الوجود أمكن أن يقال بالإعادة إلى أن يبطل من وجوه اخرى،و إذا لم يسلّم ذلك و لم يجعل للمعدوم في حال العدم ذات ثابتة،لم يكن أحد الحادثين مستحقّا لأن يكون قد كان له«ألف»و هو الموجود السابق دون الحادث الآخر،بل إمّا أن يكون كلّ واحد منهما معادا أولا يكون و لا واحد منهما معادا و إذا كان المحمولان الاثنان،يوجبان كون الموضوع لهما مع كلّ واحد منهما غير نفسه مع الآخر،فإن استمرّ موجودا واحدا و ذاتا ثابتة واحدة كان باعتبار الموضوع الواحد القائم موجودا و ذاتا شيئا واحدا و بحسب اعتبار المحمولين شيئين اثنين فإذا فقد استمراره في نفسه ذاتا واحدة،بقي له الاثنينيّة الصرفة لا غير.-انتهى كلامه.» (1)

و قال المحقّق الطوسي رحمه اللّه في التجريد:«و المعدوم لا يعاد لامتناع الإشارة إليه، فلا يصحّ الحكم عليه بصحّة العود،و لو اعيد لتخلّل العدم بين الشيء و نفسه،و لم يبق فرق بينه و بين المبتدأ،و صدق المتقابلان عليه دفعة و يلزم التسلسل في الزمان،و الحكم بامتناع العود لأمر لازم للماهيّة.-انتهى. (2)»

و قال الفاضل الأحساوي رحمه اللّه في المجلي:«قال:النوع الثاني في تحقيق المذهب في جواز إعادة المعدوم.فنقول:ذهب طائفة كثيرة من المتكلّمين كالأشعري و من تبعه إلى جواز إعادة المعدوم محتجّين بأنّه لو استحال عوده للزم انقلابه من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي و هو باطل،إذ لا شكّ في أنّه ممكن الوجود حالتي الوجود و العدم، فلا يصحّ اتّصافه بالامتناع الذاتي للتنافي بين حقيقتي الإمكان و الامتناع الذاتيّين.

و تحرير محل النزاع أنّ مراد المانعين بعود المعدوم إن كان الامتناع الغيري،فينبغي أن يرتفع النزاع،لأنّ دعوى القائلين بالجواز تحقّق الإمكان الذاتي،و إن كان الامتناع الذاتي فهو الظاهر من عباراتهم،لأنّ إطلاق الامتناع و إطلاق الوجوب مشعر بالذات إذ المطلق ينصرف إلى الكامل،و لأنّ المحال لازم على تقدير العود،و ما هو ممكن لذاته لا يستلزم المحال.

ص:253


1- -راجع هامش شرح التجريد:72. [1]
2- -شرح التجريد:71-75.

فإذا قيل:كيف يقال للذي وجد في وقت ما ممتنع ذاتا،قالوا إنّ وجوده الثاني ممتنع، فأجازوا الأوّل و أحالوا الثاني.

و اعترضوا على حجّة القائلين بجوازه بأنّ قبول الوجود ثانيا أخصّ من مطلق الوجود، و قابليّة الأعمّ لا توجب قابليّة الأخصّ كما أنّ الإنسان قابل للحيوانية و ليس بقابل للفرسية،فجاز أن يكون قابلا لمطلق الوجود دون الوجود الثاني.

و أقول:و بيان ذلك،أنّ الوجود الثاني مقيّد بكونه بعد الوجود الأوّل متخلّلا بينهما عدم، و الممتنع هو هذا المقيّد،و الوجود الأوّل خال عن هذا القيد،لأنّه وجود أوّل بعد عدم أوّل، فيكون مطلقا بالنسبة إلى هذا الوجود.

و تحقّق الامتناع في المقيّد لا يستلزم تحقّقه في المطلق،لما بينهما من المغايرة الذاتيّة،فإمكان الأوّل لا يستلزم إمكان الثاني لما قلناه من المغايرة،فصحّ اتّصاف أحدهما بالامتناع و الآخر بالإمكان.

قال:اجيب بأنّه إذا ثبت أنّه قابل للوجود من حيث هو يلزم أن يكون قابلا له في جميع الأوقات،فحينئذ لو فرضناه أنّه لم يكن موجودا أوّلا كانت هذه القابليّة ثابتة دائما، فوجوده الأوّل إن أفاده زيادة استعداد لقبول وجوده الثاني،أو لم يفده،فإن أفاده فقد صار العود أهون،و إن لم يفده فلا ينقص عمّا هو عليه في الذات من قابليّة الوجود في جميع الأوقات لامتناع الانقلاب.

أقول:لقائل أن يقول إنّ قبوله الوجود الأوّل ما زاده استعداد القبول الثاني،بل كان مانعا من قبول الوجود الثاني،لأنّ قبول المطلق يكون هو المانع من قبول المقيّد الذي لا يصحّ اجتماعه معه بناء على امتناع اجتماع المثلين.

قال:بل الحقّ أنّ حصول الوجود الأوّل يفيده زيادة استعداد لاكتسابه معنى يفيد زيادة استعداد لقبول الوجود ثانيا لأنّ القبول إذا حصل للقابل مرّة يصير القابل أقبل له و اتّصافه به أسهل،فإذا اتّصف ثالثا صار أشدّ قبول،حتى يصير ملكة و هذا ضروري.

أقول:لمانع أن يمنع الضرورة هنا،فإنّ القابل لا يزداد في الاستعداد بتكرّر القبول إلاّ إذا كانت الهويّة القابلة متحقّقة الثبوت بعد عدم المقبول الأوّل،أمّا إذا انتفت الهويّة بانتفاء المقبول فلا يتحقّق زيادة الاستعداد،بل و لا يبقى هناك استعداد أصلا خصوصا إذا قيل:إنّ

ص:254

الاستعداد أمر وجودي يفتقر إلى محلّ يقوم به فمع انتقاء الهويّة لا يبقى شيء أصلا فلا استعداد البتّة،خصوصا على مذهب الأشعري القائل بأنّ الموجود نفس الماهيّة،فإنّ بانتفائه ينتفي الماهيّة بالكلّية،لأنّه نفسها فلا يبقى للاستعداد محلّ إذ لا مستعدّ.

نعم هذا الكلام لو صحّ فإنّما يتمّ على رأي المعتزلي القائل بمغايرة الوجود للماهيّة خارجا فإنّ محلّ الاستعداد حينئذ يكون باقيا عند زوال الوجود الأوّل،لكون الماهيّة شيئا في العدم مع أنّ لقائل أن يقول إنّ قبولها للثاني منع من قبولها للأوّل،و المانع للشيء لا يكون معدّا له،فتدبّر.

قال:و لعلّ المراد من قوله تعالى: «وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» هذا القدر،و للّه المثل الأعلى فإنّ خلق السموات و الأرض ابتداءً أعلى و أقوى من الحشر،فهو مثال له و دليل عليه لمن تدبّر.

و لهذا قال عليّ عليه السّلام:«عجبت لمن أنكر النشأة الآخرة و هو يرى النشأة الاولى» و الآية الكريمة دالّة على ذلك في قوله تعالى: «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ» ، (1)

و من ذهب إلى امتناع العود،احتجّ عليه بوجوه:

الأوّل:أنّا المعدوم لا يبقى له هويّة ليصحّ الحكم عليه بالعود،و الصغرى بديهيّة،و أمّا الكبرى،فلأنّ الحكم إنّما يكون على الهويّة و حيث لا هويّة لا حكم.

الثاني أنّه لو اعيد لوجب أن يعاد جميع الخواصّ التي هو بها،و إلاّ لما كان المعاد هو،بل غيره،لأنّ الشخص إنّما يكون هو بخواصّه،و من خواصّه وقته الذي وجد فيه،و إذا اعيد مع وقته فقد اعيد هو في وقته،فيكون مبتدأ من حيث إنّه معاد فلا يكون معادا،فإنّ المعاد هو الذي وجد في وقت ثان،و قد وجد في وقته الأوّل،فكيف يكون معادا.

الثالث:أنّه لو أمكن عوده لأمكن عود مثله معه،لأنّ حكم الأمثال واحد،و ذلك محال، فإنّه لو اعيد مع مثله لما امتاز أحدهما عن الآخر لتساويهما مع جميع الوجوه،و إلاّ لما كانا مثلين،فلا امتياز بين اثنين؛هذا خلف.

و اعترض على الأوّل:بأنّ قولكم«لا يصحّ الحكم عليه»حكم عليه،و هو تناقض، و متى صحّ الحكم عليه لا يصحّ الحكم عليه بامتناع العود،لأنّ الامتناع إن كان لما هو هو،

ص:255


1- -يس:79. [1]

كان وجوده محالا مطلقا فلا يصحّ عليه الدخول في الوجود؛هذا خلف،و إن كان لغيره كان هو من حيث هو قابلا للعود و هو المطلوب.

أقول:قوله:«قولكم لا يصحّ الحكم عليه حكم عليه»فيه نظر،لأنّه عند التحقيق مغالطة ظاهرة،لأنّ قولنا لا يصحّ الحكم عليه،ليس هو من الإيجاب المعدول حتّى يتحقّق احتياجه إلى الموضوع المحصّل،بل هو من السلب البسيط الذي لا يفتقر إلى ثبوت موضوع،لأنّ الشيء إذا عدم و انتفت هويّته صحّ سلب كلّ شيء عنه بخلاف الحكم عليه بالعود،فإنّه حكم إيجابي محصّل يحتاج فيه إلى موضوع محصّل ثبت له المحمول في ذاته و بينهما فرق كما حقّق في المنطق و حينئذ نقول:قولكم:«المعدوم يعاد»،موجبة محصّلة يحتاج في ثبوت محمولها لموضوعها إلى ثبوت الموضوع و تحقّقه في ذاته و المعدوم لا هويّة له حتّى يصحّ ثبوت حكم العود له بخلاف قولنا:المعدوم لا يعاد،فإنّه سالبة بسيطة فلا يحتاج في جواز الحمل هنا إلى ثبوت الموضوع و تحقّقه في نفسه حتّى يصح سلب العود عنه،بل يصحّ ذلك السلب عنه لكون هويّته غير متحقّقة فلا يتحقّق شيء من صفاتها،فإن الماهيّة إذا انتفت صحّ سلب جميع لوازمها على سبيل المناسبة،و ذلك ممّا بيّن عند أهله.

قال:و فيه نظر،لأنّ الحكم بامتناع العود لا يستلزم الحكم عليه بامتناع الوجود الأوّل، لأنّ امتناع الوجود لا يستلزم امتناع الوجود الأوّل،لعدم التلازم.

و التحقيق أنّ الحكم بالإعادة ليس على المعدوم المطلق ليمتنع،و انّما هو حكم على المعدوم الذهني بأنّه يعاد في الخارج كما كان قبل وجوده الأوّل فإنّه إن صدق عليه أنّه يصحّ الحكم عليه بالوجود فكذا يصحّ هنا.و العجب عن غفلتهم عن هذا المعنى مع ظهوره.

و على الثاني:بعدم تسليم كون الوقت من الخواصّ التي يكون الشخص بها هو،فإنّ الزمان لا دخل له في التشخّص.

و فيه نظر،إذ لمانع أن يمنع من ذلك،فإنّ الوقت من جملة المشخّصات،بل الأحسن أن يقال لا نسلّم أنّ المعاد الذي وجد في وقت ثان،بل الذي وجد ثانيا سواء وجد في وقت آخر أو في وقته الأوّل،بل نقول إنّه يجوز أن يكون هو و وقته معادين.

ص:256

و على الثالث:أنّ المثل هو المساوي في الماهيّة،و لا يجب المساواة في جميع الصفات، فلا يلزم أنّه لو اعيد مثله لما بقي الامتياز،فإنّ الامتياز متحقّق بين زيد و عمرو مع تحقّق المماثلة بينهما،و التماثل من جميع الوجوه ممتنع.

قال:قال بعض من منع أنّ هذه الوجوه تنبيهيّة لا استدلاليّة فلا يرد عليها ما ذكروه،فإنّ الحكم بامتناع إعادة المعدوم من الأحكام الضرورية،فإنّ من عدمت هويّته بالكليّة لا يصحّ اتّصافه بشيء من الصفات الضروريّة،و العود صفة ضروريّة ثبوتيّة لا حقة له،فلا يصحّ ثبوتها لمن لا هويّة له قطعا.

و اعترض عليه بأنّ تجويز نقيضه يمنع من كونه ضروريّا،فإنّ الشيء مع جواز النقيض لا يصحّ أن يكون ضروريّا.

و حقّق آخرون هذه الدعوى،فقالوا:إنّ المعدوم لا يعاد مع جميع عوارضه،فلعلّ أحدا لا يخالفه،فإنّ بعض من جوّز إعادته ذهب إلى أنّ بعض العوارض لا مدخل له في هويّة الشخص،كالقدر المعيّن و الوقت المعيّن و الوضع المعيّن و أمثال هذه،و قد صرّحوا بأنّ الشخص بعد البعث يكون على وصف آخر،فيرتفع النزاع من البين،و صحّ دعواهم تجويز العود مع بعض العوارض،و دعوى منعه،لأنّ المراد بجميع العوارض.

أقول:هذا صلح بين الفريقين،و دفع للتنازع الواقع بين القوم في منع إعادة المعدوم و جوازه،فإنّ القائل بمنعه إنّما منعه على تقدير أخذ جميع العوارض و المشخّصات معه، و معلوم أنّ إعادته على هذا النوع من الإعادة ممتنع،و القائل بجوازه إنّما جوّزه على تقدير أخذه من حيث الهويّة الذاتيّة،و ان اختلفت العوارض،فيرتفع النزاع من البين،و هو ظاهر.فإنّ من منع إعادة المعدوم مطلقا يكون مخالفا لمقتضى البديهة،و كذلك من جوّزه بجميع أحواله و عوارضه،إذ العقل الصريح يمنعه، لاستحالة إعادة الأعراض و الصفات و العوارض اللاحقة الاعتبارية،بل و الصفات الحقيقية.فالنزاع بين الفريقين حينئذ لا طائل تحته،لأنّه نزاع لا محصول له.-انتهى كلامه. (1)

ص:257


1- -المجلي:497-500.

في تحرير ما ذكره الشيخ في الشفاء أوّلا في هذا المطلب

و أقول و باللّه التوفيق:إنّ تحرير ما ذكره الشيخ في الشفاء بحيث يتّضح منه المدّعى أن يقال:من المستبين عند العقل السليم أنّ الشيء و الموجود و المحصّل و المثبت و أمثال ذلك أسماء مترادفة على معنى واحد،و كلّها بديهيّة التصوّر،غنيّة عن التحديد و التعريف، و أنّ معنى الموجود لا يفارق الشيء،بل يلزمه دائما،لأنّ الشيء يكون إمّا موجودا في الأعيان أو موجودا في الأذهان،فإنّه إن لم يكن كذا،لم يكن شيئا،و أنّ الشيء هو الذي يمكن أن يخبر عنه،و أنّه لا يكون معدوما مطلقا.نعم قد يكون معدوما في الأعيان و موجودا في الأذهان.و أنّ الخبر دائما-كما هو مذهب الشيخ و المنقول عن الفارابي- يكون بالحقيقة،سواء كان إيجابيّا أو سلبيّا،عن شيء متحقّق في الذهن و عن الموجود في الخارج بالعرض،يعني أنّ الإخبار مطلقا يكون دائما بالذات عن الموجود في النفس،من حيث ماهيّته الموجودة في ضمن الوجود الذهني،لا من حيث تقيّده بوجوده الذهني خاصّة،حتى يرد أنّه من هذه الحيثية علم،لا معلوم،سواء كان الموجود في النفس من تلك الحيثيّة المذكورة مشارا به إلى خارج،حيث كان هناك خارج و واقع مع قطع النظر عن الوجود في الذهن،و كان حينئذ الإخبار عن الموجود في الخارج بالعرض،سواء قلنا بأنّ الموجود في النفس نفس ماهيّة الشيء الخارجي معرّى عن الوجود الخارجي،كما هو مذهب القائلين بوجود الأشياء في أنفسها في الذهن و منهم الشيخ في مبحث العلم من الشفاء،أو قلنا بأنّ الموجود فيها هو شبحه و مثاله،كما هو مذهب القائلين بوجودها بأشباحها و صورها في الذهن،أو لم يكن مشارا به إلى خارج حيث لم يكن هناك خارج و واقع،بل كان وجوده في الذهن بمحض الفرض و اختراع النفس.

ص:258

و إنّما قلنا إنّ المعلوم بالذات و المخبر عنه بالحقيقة،هو ما في الذهن من تلك الحيثيّة المذكورة،و أنّ الأمر الخارجي معلوم و مخبر عنه بالعرض،حيث كان هناك أمر خارجي، لأنّ النفس لا تدرك إلاّ ما حصل فيها أوّلا و بالذات،و ما ذلك إلاّ ما في الذهن دون الأمر الخارجي.

و أيضا لو كان المخبر عنه بالذات،هو الأمر الخارجي لكان يجب في كلّ خبر أن يكون هناك أمر خارجي هو المخبر عنه،و ليس كذلك،إذ قد لا يكون ما في الذهن مشارا به إلى خارج كما قد عرفت،و مع هذا يكون الإدراك و الإخبار بحاله على نحو الإدراك و الإخبار عن الأمر الخارجي.

و من هذه الجملة قد انكشف أنّ الحكم و الإخبار سواء كان إيجابيّا أو سلبيّا يستدعي وجود المخبر عنه و المحكوم عليه في الذهن.كيف و قولنا في الحكم السلبي:«هو ليس كذا»يتضمّن إشارة،و الإشارة إلى المعدوم المطلق لا معنى له بوجه من الوجوه،إلاّ أنّ بين الحكم الإيجابي و الحكم السلبي فرقا من وجه آخر،و هو أنّ الحكم الإيجابي-حيث كان الغرض منه الإيجاب المحض،و إن عبّر عنه بالحكم السلبي،و كان المحمول أمرا ثبوتيّا واقعيّا ثابتا للموضوع في الواقع لا سلبيّا و إن عبّر عنها بالأمر السلبي-يستدعي وجود المخبر عنه و الموصوف في ظرف الثبوت و الاتّصاف وجودا واقعيّا مع قطع النظر عن ذلك الفرض في الذهن،وجودا يترتّب عليه الآثار الواقعيّة المطلوبة منه.و هذا الوجود الواقعي قد يكون وجودا خارجيّا حيث كان الخارج ظرفا لثبوت المحمول أو مبدأه في نفسه في الخارج،سواء كان ذاتيّا للموضوع كقولنا:زيد إنسان،أو عرضيّا له في قولنا:الجسم أبيض،أو أمرا عدميّا باعتبار و له ثبوت في الخارج باعتبار آخر،كما في قولنا:زيد أعمى، فانّ العمى أي عدم البصر و إن كان أمرا عدميّا باعتبار،لكنّه حيث كان عدم ملكة من محلّ قابل،و لم يكن هو محض العدم،بل كان لذلك الشكل و تلك الهيئة الحاصلان في البدن مدخل في انتزاعه،كان له نحو ثبوت في الخارج بوجود موضوعه فيه،و لذلك كان ثبوته له منشأ لثبوته في الخارج،أو كان المحمول أمرا انتزاعيّا منتزعا من موجود خارجي،أي ينتزعه العقل من الموجود الخارجي من حيث وجوده الخارجي كما في قولنا:السماء فوقنا.و قد يكون وجودا واقعيّا في نفس الأمر أعمّ من الوجود الخارجي و الذهني الواقعى

ص:259

مع قطع النظر عن الفرض الذهني،حيث كان المحمول أو مبدؤه منتزعا من كلا الوجودين كما في قولنا:الأربعة زوج،و قد يكون وجودا ذهنيّا واقعيّا مع قطع النظر عن الفرض الذهني كما في قولنا:الإنسان نوع و الحيوان جنس،فإنّ النوعيّة و الجنسيّة إنّما تنتزعان من الطبيعة الكلّية للإنسان و الحيوان من حيث وجودهما في النفس،لكن لا بمحض وجودهما الذهني الفرضيّ الاختراعي،بل بوجودهما في النفس وجودا واقعيّا يترتّب عليه الآثار الواقعيّة المطلوبة منه و لو قطع النظر عن فرض الذهن وجودهما فيه.

و على التقادير فوجود الموضوع في الواقع،أي مشارا به إلى واقع كما فصّلنا في الخبر الإيجابي ممّا لا خفاء فيه،أعمّ من أن يكون ثبوت المحمول له حين الحكم كما في الأمثلة المذكورة أو بعده كما في قولنا:القيامة تكون،و المعدوم الممكن يجوز أن يوجد و من سيوجد يجوز أن يتعلّم،و أمثال ذلك،أو قبله كما في قولنا:وقائع الامم الماضية قد كانت.

و من هذه الجملة يظهر أنّ الحكم الإيجابي الذي الغرض فيه الإيجاب كما يقتضي وجود الموضوع في الواقع كما فصّلناه كذلك يقتضي وجود المحمول أيضا فيه،حتّى العدميّات،إلاّ أنّ وجود الذاتيّات بالذات و العرضيّات بالعرض.

و ما ذكرنا كلّه ظاهر في الصوادق من الأحكام الإيجابيّة،و أما في الكواذب منها كالاختراعيات المحضة منها فلا يقتضي وجود الموضوع في الواقع،و لا وجود المحمول فيه،بل إنّما يكون وجودها بمحض الفرض كما في قولنا:للأغوال أنياب،و العنقاء طائر طويل العنق يسكن الجبال،و أمثال ذلك.

و هذا كلّه بخلاف الحكم السلبي مطلقا سواء كان صادقا أو كاذبا حيث كان المقصود فيه السلب،فإنّه لا يقتضي سوى وجود الموضوع في الذهن،أي من جهة فرض الذهن له و اختراعه إيّاه،و أمّا الوجود الواقعي فلا،بل قد يكون و قد لا يكون.

فظهر من ذلك معنى قول القوم:إنّ الإيجاب يقتضي وجود الموضوع بخلاف السلب.

و ظهر أيضا أنّ المعدوم المطلق لا يخبر عنه مطلقا،لا خبرا إيجابيّا و لا خبرا سلبيّا،أمّا الإيجاب فلكونه يقتضي وجود الموضوع في الذهن و في الواقع جميعا،و المفروض كونه معدوما مطلقا غير موجود في شيء من الذهن و الواقع أصلا؛هذا خلف،و أمّا السلب، فلكونه أيضا يقتضي وجوده في الذهن،و إن كان بمحض الفرض،و المفروض خلافه،

ص:260

لكونه معدوما مطلقا بالفرض،إلاّ أنّ هذه القضية التي حكمنا فيها بأنّ المعدوم المطلق لا يخبر عنه،سواء عبّرنا عن الحكم بالحكم الإيجابي أو الحكم السلبي،و عبّرنا عن المحمول فيها بالأمر السلبي كما ذكرنا أو نحو ذلك،من نحو قولنا:المعدوم المطلق ليس يجوز،أو ليس يصحّ الإخبار عنه،أو الحكم عليه،أو بالأمر الإيجابي أو بالأمر العدولي كما في قولنا:المعدوم المطلق غير مخبر عنه،أو ممّا لا يخبر عنه،أو ممّا يمتنع الإخبار عنه، أو نحو ذلك،قد قصدنا فيه سلب الإخبار عنه،إذ هو الغرض،لا إثبات امتناع الإخبار، أو عدم الإخبار،و إن عبّرنا به،و حيث كان المقصود ذلك فلا يقتضي هذا السلب وجود الموضوع في الواقع،بل إنّما يقتضي وجوده في الذهن فقط،كما هو مقتضى الحكم السلبي،و حيث فرضناه معدوما مطلقا،فالموجود في الذهن منه سواء قلنا بوجود الأشياء بأعيانها في الذهن،أو بأشباحها و أمثالها و صورها فيه،ليس هو ماهيّة المعدوم المطلق،إذ لا ماهيّة و لا وجود واقعيّا له،و كذا ليس هو صورة و شبحا و مثالا له يطابقه من بعض الوجوه و إن كان يخالفه من بعض الوجوه الاخر،كما في الصورة الذهنية للأشياء الواقعيّة،حيث لا واقعيّة للمعدوم المطلق أصلا،بل إنّما هو الصورة التي اخترعها النفس و فرضتها المعدوم المطلق لكنّه ليس ماهيّته و لا شبحه بوجه من الوجوه.

و حيث كان الأمر كذلك فلا تناقض في هذه القضية من جهة أنّا حكمنا بكون المعدوم المطلق ممّا لا يصحّ الإخبار عنه أصلا لا إيجابيّا و لا سلبيّا.و مع هذا قد حكمنا بالإخبار السلبي عنه لأنّ الحكم الأوّل إنّما هو على حقيقة المعدوم المطلق و ماهيّته أو شبحه، و الحكم الثاني على أمر آخر سوى ذلك فرضناه معدوما مطلقا و اخترعناه في الذهن، فالموضوع في الحكمين مختلف،و حيث كان مختلفا فلا تناقض،إذ من شروطه وحدة الموضوع.

ص:261

في الإشارة إلى الجواب عن شبهة المعدوم المطلق

و بهذا يظهر الجواب عن الشبهة المشهورة بين القوم،على قولهم:المعدوم المطلق أو المجهول المطلق لا يخبر عنه.فتدبّر فيه.فإنّه الجواب الحقّ عن ذلك و لا تصغ إلى غيره ممّا ذكره فيه أقوام،فإنّه لا يفيد إلاّ زيادة الإلباس و الإبهام.

و كذلك ظهر ممّا ذكرنا أنّ المعدوم الواقعي أيضا و إن كان له وجود في الذهن بمحض الفرض،ممّا لا يخبر عنه خبرا إيجابيّا أصلا كالمعدوم المطلق،لأنّ معنى قولنا:«إنّ المعدوم كذا»كما حقّقه الشيخ،أنّ وصف كذا حاصل للمعدوم،و إذ لا فرق بين الحاصل و الموجود،فيكون كأنّا قلنا إنّ هذا الوصف موجود وجودا واقعيّا للمعدوم،و إذا كان للوصف وجود واقعي و ثبوت في نفس الأمر للمعدوم،فيجب أن يكون للمعدوم أيضا وجود و ثبوت كذلك؛و المفروض خلافه،إذ المفروض أنّه إمّا معدوم مطلقا أو معدوم في الواقع،و إن كان له وجود فرضيّ اختراعي.بل نقول كما حقّقه أيضا أنّه لا يخلو إمّا أن يكون ما يوصف به المعدوم و يحمل عليه موجودا و حاصلا للمعدوم،أو لا يكون موجودا و حاصلا له.

فإن كان موجودا و حاصلا للمعدوم،فلا يخلو إمّا أن يكون في نفسه موجودا في الواقع أو معدوما فيه،فإن كان موجودا في الواقع فيكون للمعدوم مطلقا أو في الواقع،صفة موجودة وجودا واقعيّا،و إذا كانت الصفة موجودة وجودا واقعيّا فالموصوف بها أيضا موجود كذلك،لحكم العقل بأنّ الصفة الموجودة في الواقع،لا يمكن ثبوتها للمعدوم مطلقا أو للمعدوم في الواقع،و إذا كان الموصوف موجودا فيلزم أن يكون المعدوم مطلقا أو في الواقع موجودا في الواقع،و هذا محال.

ص:262

و إن كانت الصفة المثبتة معدومة في نفسها مطلقا أو في الواقع،فكيف يكون المعدوم في نفسه موجودا لشيء،فإنّ ما لا يكون موجودا في نفسه يستحيل أن يكون موجودا للشيء،إذ العقل السليم يحكم بأنّ الوصف الذي يكون موجودا لشيء حتّى العدميات الانتزاعية يجب أن يكون موجودا في الواقع نحو وجود،حتّى يمكن أن يثبت لشيء، و ليس المراد بقولنا:إنّه يجب أن يكون الوصف موجودا في نفسه حتّى يمكن أن يثبت للموصوف،أنّه يجب أن يكون موجودا في الخارج،أو في الواقع بوجود مباين لوجود الموصوف أوّلا حتّى يمكن أن يثبت ثانيا للموصوف و يتحدّ معه نوعا من الاتّحاد لكي يرد أن ذلك لو صحّ فإنّما يصحّ في بعض المحمولات العرضيّة،و في بعض العوارض،كما في قولنا:الجسم أبيض،و لا يعمّ الجميع،إذ كثير من المحمولات إنّما وجودها بوجود الموضوع،إمّا بالذات كما في الذاتيّات أو بالعرض كما في العرضيّات،و ليس لها وجود مباين لوجود الموضوع أوّلا،بل المراد أنّ الوصف المثبت يجب أن يكون له وجود و ثبوت في نفسه،أي في الواقع و في نفس الأمر،مع قطع النظر عن الفرض الذهني،حتّى يمكن أن يثبت للموصوف،و إن كان له وجود بوجود الموضوع في ظرف الاتّصاف مثل وجوده.

و بالجملة فهذا الحكم حكم.يحكم به العقل الصريح،و لا يرد عليه النقض بثبوت الوجود للموجود،فإنّه مندفع بما هو المحقّق في محلّه و لا يسع المقام ذكره،و قد حقّقناه في رسالة أصل الاصول بما لا مزيد عليه،فليرجع إليها.

نعم قد يكون الشيء موجودا في نفسه و لا يكون موجودا لشيء آخر،

و أمّا إن لم تكن تلك الصفة موجودة للمعدوم،فهو نفي الصفة عن المعدوم،و يكون حكما سلبيّا لا إيجابيّا.فإنّه إن لم يكن نفيا للصفة عن المعدوم كان مقابل هذا،فكان وجود الصفة له،إذ لا واسطة بين النفي و الإثبات،و قد تبيّن أنّ وجود الصفة له باطل.نعم نفي الصفة عنه ممكن كما مرّ بيانه.

و قد استبان من ذلك أنّ الحكم الإيجابي كما يقتضي ثبوت الموضوع في الواقع،كذلك يقتضي ثبوت المحمول في الواقع و أنّ المعدوم المطلق كما لا يكون مخبرا عنه مطلقا، كذلك لا يكون مخبرا به مطلقا،و أنّ المعدوم في الواقع،-و إن كان موجودا في الذهن-كما لا يكون مخبرا عنه خبرا إيجابيّا،كذلك لا يكون مخبرا به خبرا إيجابيّا،و كلّ ذلك ظاهر

ص:263

بأدنى تأمّل فيما تلوناه عليك.

و حيث ذكرنا أنّ المراد بالإيجاب و ما هو الغرض الأصلي منه الإيجاب في الواقع،و إن عبّر عنه بالسلب،كذلك المراد بالسلب و ما هو الغرض الأصلي منه السلب في الواقع،و إن عبّر عنه بالإيجاب المحض أو بالعدول،ظهر منه،

أنّ قولنا:المعدوم المطلق لا يخبر عنه،خبر سلبي كما عرفت.و كذلك قولنا:اجتماع النقيضين محال،و شريك البارئ ممتنع.إلى غير ذلك من الأخبار الكذائية كلّها أخبار سلبيّة،إذ الغرض الأصلي فيها سلب الوجود و الشيئيّة و نفي الجواز و الإمكان،و إن عبّرت بالمحمولات الإيجابية صورة أو بالعدوليّة،فكلّها لا يقتضي سوى وجود الموضوع في الذهن،وجودا فرضيّا اختراعيّا.

و أنّ قولنا:المعدوم يعاد أو يمكن أن يعاد أو يصحّ أن يعاد،أو نحوه،خبر إيجابي،إذ المقصود الأصلي منه الإيجاب و الإثبات،و إن عبّر فيه عن المحمول بأمر سلبي، كقولنا:المعدوم لا يمتنع عوده،و أنّه لو كان هذا الخبر و نحوه صادقا،اقتضى من جهة كونه إيجابا ثبوت الموضوع في الواقع،كثبوت المحمول فيه،فتثبّت و لا تتخبّط،و اللّه أعلم بالصواب.

ثمّ إنّك إذا أحطت خبرا بما تلونا عليك اتّضح لك بطلان قول من يقول:إنّ المعدوم يعاد،أو يصحّ أن يعاد،أو يمكن أن يعاد و نحو ذلك،لأنّه خبر إيجابي،بل أوّل شيء يخبر عنه أي أوّل خبر إيجابي اخبر فيه عن المعدوم.أمّا أنّه خبر إيجابي،فظاهر،لأنّه لا سترة في أنّ المحمول فيه أمر ثبوتي،المقصود إثباته للمعدوم.و أمّا أنّه أوّل خبر كذلك،لأنّ الإخبار فيه،إنّما هو بالإعادة.أي بثبوت الوجود الثانوي للمعدوم،و كما أنّ الوجود نفسه أوّل بالنسبة إلى سائر الصفات و الأحوال المثبتة للشيء،كذلك الإخبار به أوّل بالنسبة إلى الإخبار بسائر الصفات و الأحوال.و حينئذ نقول:إنّ المخبر عنه في هذا الخبر الإيجابي إمّا ما هو معدوم مطلق،فذلك باطل،لأنّ المعدوم المطلق كما مرّ بيانه لا يخبر عنه مطلقا حتّى الخبر السلبي،فكيف يمكن أن يخبر عنه بالإيجاب كما فيما نحن فيه.و إمّا هو معدوم في الخارج أو الواقع،موجود في الذهن فيكون مفاد الخبر أنّ المعدوم في الخارج أو الواقع يعاد أو يمكن أن يعاد في الواقع عودا واقعيّا،و حينئذ نقول مطابقا لما في التعليقات:إنّ

ص:264

المعدوم،إذا اعيد أو فرض إعادته،فلا يخفى أنّه يمكن حينئذ فرض أن يوجد حينئذ موجود آخر أيضا و ليس هو بمعاد،بل موجود مبتدأ يكون هو مثلا للمعدوم المعاد لو وجد بدله أو معه،أي أن يكون مماثلا له في الحدوث و الموضوع و الزمان و غير ذلك من الأحوال و الصفات،و لا يخالفه إلاّ بالعدد أي بالشخص و إلاّ في النسبة التي ينبغي أن ينظر أنّهما هل يمكن أن يختلفا فيها أم لا-كما سيأتي بيانها-إذ لا يخفى أنّ فرض وجود المثل بهذا المعنى غير ممتنع و كذا المفروض.

و حينئذ نقول:إمّا أن يكون كلّ واحد من المثل المبتدأ و ما فرض كونه معادا،منسوبا إلى الموجود السابق الذي فرض انعدامه ثمّ عوده،بأن يكونا عينه أو لا يكون شيء منهما منسوبا إليه كذلك،أو يكون واحد منهما كالمعاد منسوبا إليه دون الآخر أي المثل المبتدأ.

و على الأوّل فيكون كلّ منهما معادا و عين السابق و هذا باطل.لأنّ المفروض أنّ واحدا منهما معاد دون الآخر.

و أيضا يلزم أن يكون شيئان اثنان عين شيء واحد و هو باطل.و أن لا يكون بين الاثنين فرق أصلا مع فرض الاثنينيّة،و هو أيضا باطل.

و على الثاني فيكون كلّ منهما موجودا مبتدأ و لا يكون شيء منهما معادا؛هذا خلف.

و على الثالث فنسأل و نقول:لم صار ما هو المفروض معادا منسوبا إلى الموجود السابق بالعينيّة و لم يصر المثل المفروض منسوبا إليه بالعينيّة مع تشابههما من كلّ وجه إلاّ في العود،و ما وجه الفرق بينهما في ذلك؟فان اجيب بأنّهما كانا كذلك لأنّهما كانا كذلك،فهو مصادرة على المطلوب،و أخذ المطلوب في بيان نفسه.

و إن اجيب بأنّ المعاد حين الإعادة صار عين الموجود السابق،لأنّه كان قبل الإعادة و في حال العدم عين الموجود السابق الذي عدم،و كذا هو كان غير المثل الذي وجد حينئذ،فينعقد هنا خبران إيجابيّان:أحدهما أنّ المعاد حين العدم كان غير المثل المستأنف،و لا يخفى أنّ الحكم في كلّ من الخبرين حكم واقعي حكم فيه بأمر واقعي أي العينيّة الواقعيّة في الأوّل،و المغايرة الواقعيّة في الثاني على المعدوم و حال العدم،فإنّه قد حكم فيهما حكما ثبوتيّا واقعيّا كما هو المفروض بأنّ المعدوم في الواقع حال كونه معدوما

ص:265

عين الذي وجد أوّلا ثم عدم و فرض إعادته،و كذا هو في تلك الحال مغاير للمثل المبتدأ في الواقع،و بالجملة أنّ المعدوم في حال العدم موصوف في الواقع بتلك العينيّة و تلك المغايرة الواقعيّتين،فقد صار المعدوم في الواقع موجودا في الواقع على النحو الذي أومأنا إليه فيما سلف،إذ لا يخفى أنّ المحمول في هاتين القضيّتين أمر ثبوتي واقعي كان الفرض إثباته للمعدوم الموضوع،و ثبوت الشيء للشيء في الواقع،فرع ثبوت المثبت له في ظرف الثبوت و ظرف الاتّصاف أي في الواقع،فإمّا أن يلتزم صيرورة المعدوم الواقعي في حال العدم موجودا واقعيّا حينئذ حتّى يمكن إثبات العينيّة الواقعيّة و المغايرة الواقعيّة له في الواقع،فهذا باطل بالضرورة.و إمّا أن يلتزم أن ثبوت المعدوم بمهيّته الذهنيّة في نفس الأمر في علم البارئ تعالى شأنه أو في المبادئ العالية كاف في ذلك،و هذا أيضا باطل،لأنّ ثبوت المعدوم بمهيّته،الذهنية في نفس الأمر،ليس ثبوتيّا خارجيّا أو واقعيّا،يترتّب عليه الآثار المطلوبة منه،حتّى يمكن أن يثبت له الأمر الواقعي في الواقع،و إلاّ لكان قولا بثبوت المعدومات في الواقع و هو باطل،كما تقرّر في محلّه.

و كذلك وجوده في علم البارئ تعالى شأنه أو المبادئ العالية ليس إلاّ ثبوتا ذهنيّا لا واقعيّا،إذ لا نعني بالوجود الذهني إلاّ ما لا يكون منشأ لترتّب الآثار الخارجية أو الواقعيّة المطلوبة منه عليه،و هو كذلك،كثيرا من المعدومات الممكنة لها وجود و ثبوت في علم البارئ أو المبادئ العالية،و مع هذا لا يترتّب عليها أثر خارجي أو واقعي مطلوب منها أصلا.

و الحاصل أنّ ذلك وجود ذهني للمعدوم،سواء قيل بوجود الأشياء بأعيانها في الذهن أو بأشباحها فيه،حيث لا يترتّب عليها أثر خارجي أو واقعي مطلوب منه،فإنّ الوجود الذهني ما يكون كذلك سواء كان بمحض اختراع ذهن ذاهن أو لا و بالجملة هو ما لا يترتّب عليه الآثار المطلوبة منه،و أمّا الوجود الواقعي أو الخارجي،فهو ما يترتّب عليه أثر واقعي،سواء كان ذلك في الخارج أو في الذهن،لكن لا من حيث هو موجود ذهني كما عرفت بيانه فيما تقدّم.

ص:266

حاصل الدليل الذي ذكره الشيخ في الشفاء أوّلا

و ذكره في التعليقات أيضا على بطلان إعادة المعدوم

و حاصل هذا الدليل أنّه على تقدير فرض إعادة المعدوم،لا يخفى أنّه يمكن فرض محدث جديد يكون هو مثلا للمعاد بالمعنى الذي ذكرنا،و على تقديره فإمّا أن يلزم كون كلّ منهما معادا،و هو خلاف الفرض،أو أن لا يكون شيء منهما معادا،و هو أيضا خلاف الفرض،أو أن يصير المعدوم مع فرض عدمه موجودا،و هذا أيضا باطل.و على كلّ التقديرات فيلزم عدم امتياز المعاد عن المستأنف الجديد المفروض في اختصاصه بصفة العود دون المستأنف.و هو أيضا خلاف الفرض.

و لا يخفى أنّ هذه المحالات لم تلزم من فرض المثل لكونه ممكنا في الواقع،فبقي أن يكون منشؤها فرض إعادة المعدوم بعينه و هو المطلوب.

ثمّ إنّ ما قرّرناه في توجيه كلام الشيخ في الشفاء هو المحمل الصحيح له فينبغي أن يحمل هو عليه.و كذا يدلّ عليه كلامه في التعليقات عند النظر الدقيق،كما أنّه يدلّ عليه كلامه في الشفاء عند النظر الأدقّ،و إن كانت بعض المقدّمات مطويّة في كلّ من الكلامين، فتدبّر تعرف.

ثمّ إنّ هذا المحال الذي ذكرنا أنّه يلزم على تقدير فرض المعدوم معادا،كما قرّرنا، لا يخفى أنّه لا يلزم على تقدير فرض المعدومات الممكنة موجودات ابتدائية و إن فرضناها أمثالا،أي مماثلة في الحدوث و الموضوع و الزمان و غيرها من الأحوال و الصفات،و متخالفة بالعدد،فإنّ التمايز بينها إنّما هو بعد الوجود الخارجي الواقعي،و أمّا هي في حال العدم فلا تمايز واقعيّا بينها،و لا تغاير حتّى يمكن أن يحكم بأنّ أحدها مثلا مغاير للآخر في الواقع و يلزم ذلك المحال.

نعم التمايز الذهني و التغاير الفرضي بينها في حال العدم مسلّم،لكنّه على تقديره لا يلزم كون المعدوم في الواقع مع فرض عدمه موجودا في الواقع،و لهذا إنّما قلنا حيث قلنا بلزوم ذلك المحال في ذينك الخبرين الضمنيّين الواقعيّين،أي قولنا:المعدوم في حال العدم عين الموجود السابق،و قولنا:إنّ المعدوم في حال العدم مغاير للموجود المبتدأ المماثل له في الواقع،لا في قولنا:المعدوم يعاد أو يصحّ أن يعاد،مع أنّ المحمول فيه أيضا

ص:267

أمر واقعي ثبوتي،و الغرض إثباته للموضوع في الواقع،و هو يقتضي ثبوت الموضوع في الواقع،و المفروض انتفاؤه فيه لكونه معدوما في الواقع،لأنّ هذا الخبر يمكن أن يؤخذ على طريق قولنا:المعدوم الممكن يجوز أن يوجد،و قولنا:من سيوجد يجوز أن يتعلّم، و قولنا:إنّ القيامة تكون،حيث إنّ المحمول في الجميع و إن كان أمرا ثبوتيّا واقعيّا و كان الغرض إثباته للموضوع في الواقع،لكنّ الحكم الذهني به و إن كان في حال العدم إلاّ أن ذلك الثبوت ليس في حال العدم،بل بعد الحكم،و في حال الوجود،أي أنّ الموضوع المعدوم إذا فرض وجوده و حصل له الوجود ثبت له ذلك المحمول في الواقع،سواء كان المحمول نفس الوجود،كما في قولنا:القيامة تكون،و المعدوم الممكن يجوز أن يوجد، أو غيره بالذات،كما في قولنا:من سيوجد يجوز أن يتعلّم،أو بالاعتبار كما في قولنا:

المعدوم يعاد،و حينئذ يقتضي ثبوت الموضوع في الواقع،و أمّا في حال العدم فلا ثبوت واقعيّا للمحمول للموضوع.نعم الحكم الذهني به،كان واقعا في حال العدم،و ذلك ظاهر في النظائر المذكورة،و كذا في قولنا:المعدوم يعاد و نحوه،فإنّ هذا الحكم الذهني و إن كان في حال العدم و قبل الإعادة،إلاّ أنّ ثبوت الإعادة له إنّما هو حين الإعادة و حين الوجود ثانيا،ففي حال العدم لم يكن أمر واقعى ثابتا له في الواقع،حتّى يلزم صيرورة المعدوم مع عدمه موجودا،بل إنّما ذلك الثبوت في حال وجوده،و المفروض ثبوت الموضوع ثبوتا واقعيّا في تلك الحال،فلا إشكال.

و الحاصل أنّ هذا الحكم،ليس حكما على معدوم المطلق حتّى يمتنع،بل هو كما ذكره الفاضل الأحساوي في التحقيق الذي ادّعى أنّهم غفلوا عنه،حكم على المعدوم الخارجي الموجود في الذهن،بأنّه يعاد،أو يصحّ أن يعاد في الخارج في المستقبل في حال وجوده، نظير قولنا:المعدوم الممكن يمكن أن سيوجد،و لا إشكال فيه بوجه.

و على هذا فيندفع ما قالوه:من أنّ الإعادة صفة ثبوتيّة واقعيّة،قد حكم في تلك القضيّة بثبوتها للمعدوم ثبوتا واقعيّا و هو يقتضي ثبوت الموضوع في الواقع،و المفروض خلافه.

و وجه الاندفاع ظاهر،فتدبّر.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ إيراد ذلك المحال على قولنا:المعدوم يعاد و نحوه،ممّا لا وجه له، بل إنّما ينبغي أن يورد على ذينك الخبرين الضمنيّين...،أي قولنا:إنّ المعدوم المعاد في

ص:268

حال العدم هو عين الذي وجد أوّلا ثمّ عدم،أو مغاير للمثل المبتدأ في الواقع،كما وجّهنا به كلام الشيخ،و به ينبغي أن يوجّه كلام من قال:إنّ المعدوم لا يصحّ عليه الحكم بالعود،أو إنّ المعدوم لا يبقى له هويّة ليصحّ الحكم عليه بالعود،كما نقله الفاضل الأحساوي رحمه اللّه في الاحتجاج الأوّل،أو أنّه لا يصحّ الحكم عليه بصحّة العود كما قاله المحقّق الطوسي رحمه اللّه في التجريد،لا أن يحمل على ظاهره،و هو أنّ الحكم بالعود لكونه صفة ثبوتيّة لا يمكن أن يكون على المعدوم.

في الإشارة إلى دفع ما أورده الشارح القوشجي على المحقّق الطوسي

و بعبارة اخرى كما ذكره الشارح القوشجي في شرح قول المحقّق الطوسي:«لو صحّ إعادة المعدوم لصحّ الحكم عليه بصحّة العود،لكن المعدوم ليس له هويّة ثابتة،فيمتنع الإشارة العقليّة إليه،و ما لا يمكن أن يشار إليه لا يصحّ الحكم عليه.»و إن كان إذا حمل على ظاهره أيضا لا يرد عليه كثير ممّا أورده الشارح القوشجي من الإيراد بالوجوه الثلاثة عليه،حيث قال:«و الجواب عنه من وجوه:

الأوّل بالمعارضة،و هي أن يقال لو امتنع إعادة المعدوم،لصحّ الحكم عليه بامتناع العود،لكن المعدوم ليس له هويّة ثابتة و يساق الكلام إلى آخره.

لا يقال:الحكم بصحّة العود لكونه إيجابا يستدعي وجود الموضوع،فلا يصحّ الحكم على المعدوم بصحّة العود،بخلاف الحكم بامتناع العود،فإنّه يجوز اعتباره سلبا،بأن يقال:يمتنع عوده في معنى لا يصحّ عوده،و السالبة لا تقتضي وجود موضوعها،فيصحّ الحكم السلبي على المعدوم.

لأنّا نقول:يجوز مثل هذا الاعتبار في الحكم بصحّة العود،بأن يقال:معنى يصحّ عوده:

لا يمتنع عوده،فليعتبر حتّى يصحّ،على أنّ السلب يشارك الإيجاب في اقتضاء الإشارة العقليّة إلى المحكوم عليه،فلو امتنع الحكم الإيجابي على المعدوم لامتناع الإشارة العقليّة إليه على ما ذكرت،لامتنع الحكم السلبي عليه أيضا و تمّت المعارضة،و إلاّ لم يتمّ دليلك.

الثاني النقض،و هو أن يقال:ما ذكرتموه من الدليل على عدم صحّه الحكم على

ص:269

المعدوم بصحّة العود لو تمّ،لدلّ على أنّه لا يصحّ أصلا حكم من العقل على ما ليس بموجود في الخارج،مع أنّا نحكم على ما ليس بموجود في الخارج أحكاما صادقة و لا شبهة فيها كقولنا:المعدوم الممكن يجوز أن يوجد،و من سيوجد يجوز أن يتعلّم،و اجتماع النقيضين محال،و شريك البارئ ممتنع،إلى غير ذلك ممّا لا يعدّ و لا يحصى،بل قولكم:المعدوم لا يصحّ الحكم عليه،حكم على ما ليس؛بموجود في الخارج بعدم صحّة الحكم عليه.

الثالث المنع،و هو أن يقال:لا نسلّم أنّه لو صحّ إعادة المعدوم لصحّ الحكم عليه بصحّة العود،فإنّ امتناع حكم العقل على المعدوم بصحّة العود بكونه لا هويّة له يتصوّرها ليحكم عليها،لا يستلزم امتناع العود،لجواز وقوعه بتأثير الفاعل من غير أن يتصوّره متصوّرا أو يحكم عليه بشيء من الأحكام.و لو سلّم فقوله:لكنّ المعدوم ليس له هويّة ثابتة،إن أراد أنّه ليست له هويّة ثابتة في الجملة أو في الذهن فهو ممنوع،و إن أراد أنّه ليس له هويّة ثابتة في الخارج فذلك أيضا ممنوع عند المعتزلة القائلين بثبوت المعدوم في الخارج، فلا يقوم حجّة عليهم،و أمّا عندنا فمسلّم،لكن نمنع قوله:فيمتنع الإشارة العقليّة إليه،لأنّ الإشارة العقليّة لا تتوقّف على الهويّة الخارجيّة،بل يكفيها الهويّة الذهنيّة،و لو سلّم أنّها تتوقّف على الهويّة الخارجيّة،فنقول:إمّا أن يريد أنّه ليس له في زمان من الأزمنة هويّة خارجيّة على معنى دوام السلب،فذلك أيضا ممنوع،لأنّ المعدوم في زمان كونه موجودا له هويّة خارجيّة،و إمّا أن يريد أنّه ليس له هويّة خارجيّة في زمان كونه معدوما لا دائما فذلك مسلّم،لكن حينئذ نمنع قوله:فيمتنع الإشارة العقليّة،إلاّ أن يريد أنّه يمتنع الإشارة العقليّة إليه في زمان كونه معدوما،و ذلك غير مفيد،لجواز أن يكون الحكم عليه بصحّة العود في زمان كونه موجودا،كحكمنا على زيد في زمان وجوده بأنّه يجوز أن يعدم ثمّ يعاد.-انتهى كلامه.» (1)

و بيان عدم ورود الإيرادين الأوّلين ظاهر ممّا حقّقناه فيما تقدم فلا نعيده.نعم النقض بقولنا:المعدوم الممكن يجوز أن يوجد،و من سيوجد يجوز أن يتعلّم،و أمثال ذلك،وارد كما ذكرنا.

و قد أورده المحقّق الدواني أيضا في الحاشية عليه،عليه،حيث قال في قوله:لو صحّ

ص:270


1- -شرح التجريد:72.

إعادة المعدوم لصحّ الحكم بصحّة العود هكذا:

«لقائل أن يقول:لو تمّ هذا لزم أن لا يوجد المعدوم أصلا،فيلزم انتفاء الحوادث،بأن يقال:لو صحّ إيجاد المعدوم لصحّ الحكم عليه بصحّة الإيجاد-إلى آخر ما ذكر-و هذا النقص أظهر ممّا ذكره الشارح-انتهى.» (1)

و قد عرفت أن وروده إنّما هو على التقرير الذي ذكره الشارح المذكور،دون التقرير الذي وجّهنا به كلام الشيخ،و يجري في كلام المحقّق الطوسي أيضا.

و أمّا عدم ورود إيراده الثالث،فلأنّه من المستبين عند العقل السليم،أنّه إذا جاز عود المعدوم و وقع ذلك أيضا بتأثير الفاعل في الواقع كما هو المفروض،لصحّ عند العقل الحكم عليه بصحّة العود حكما واقعيّا،و وجب أن يتصوّره متصوّر و يحكم عليه بذلك،و إذا لم يصحّ ذلك فيعلم منه أنّه كان ممتنعا،فتسليم صحّة العود،و عدم تسليم الحكم بذلك عليه كأنّه سفسطة.

ثمّ نقول:إنّ المراد أنّ المعدوم ليس له هويّة ثابتة في الخارج،أو في الواقع،و القول بثبوت المعدوم في الخارج كما هو عند المعتزلة قول باطل كما حقّق في محلّه،و الإشارة العقليّة مطلقا و إن كانت لا تتوقّف على الهويّة الخارجيّة،بل على الهويّة الذهنيّة كما في الأحكام السلبيّة،لكنّ الإشارة العقليّة في الأحكام الإيجابيّة الواقعيّة الخارجيّة الصادقة كما هو المفروض عند القائل بإعادة المعدوم في قوله:المعدوم يعاد،تتوقّف على الهويّة الخارجيّة لاقتضاء هذه الأحكام وجود الموضوع في الواقع و في الخارج حين ثبوت المحمول الواقعي له كما مرّ بيانه.

و لا يخفى أن ليس للمعدوم في الخارج تلك الهويّة الخارجيّة في زمان كونه معدوما و حين إثبات العود له.

و أمّا ثبوت تلك الهويّة له في زمان كونه موجودا،فإن اريد به زمان وجوده الابتدائي كما هو ظاهر كلامه،فذلك غير كاف في ذلك،لأنّ المفروض انعدام تلك الهويّة الخارجيّة الحاصلة في زمان وجوده الابتدائي،فكيف يكون ثبوت الموضوع الذي اقتضاه قولنا:

«المعدوم يعاد»منوطا بذلك الوجود الذي عدم و لم يبق حين الحكم و لا حين ثبوت

ص:271


1- -راجع هامش شرح التجريد:72.

المحمول،أي العود له،و إن اريد به زمان وجوده العودي،كما ذكرنا سابقا من أنّه يجوز أن يبنى هذا الحكم على أنّه إذا وجد المعدوم ثانيا و ثبت له الوجود،ثبت له العود في الواقع.

و حينئذ يكون ذلك المحمول،أي العود ثابتا له في الواقع،و يكون قد اقتضى وجود الموضوع في الواقع،و إن كان الحكم الذهني به في زمان عدمه،كما في قولنا:المعدوم الممكن سيوجد،و القيامة تكون،فذلك مسلّم.

و لا يخفى أنّه أيضا يرد إيرادا على التقرير الذي ذكره الشارح المذكور،دون التقرير الذي ذكرنا،فتأمّل.

في الإشارة إلى قول المحقّق الطوسي

ثمّ إنّ هاهنا دقيقة اخرى،ينبغي التنبيه عليها.و هي أنّ قول المحقّق الطوسي رحمه اللّه:

«و المعدوم لا يعاد لامتناع الإشارة إليه،فلا يصحّ الحكم عليه بصحّة العود» (1)و إن كان الظاهر من قوله:فلا يصحّ الحكم،عدم الصحّة بمعنى الامتناع،و كذا الظاهر من الحكم عليه بصحّة العود،الحكم في القضيّة التي كان محمولها مفهوم صحّة العود،و موضوعها المعدوم،حتّى يكون معنى الكلام:أنّه يمتنع الحكم عليه بأنّه يصحّ عوده كما فهمه الشارح القوشجي،لكن لا يخفى أنّ المحقّق الطوسي لم يجعل هذا القول دليلا على قوله:

«و المعدوم لا يعاد»سواء أراد به أنّه لا يمكن أن يعاد أولا يصحّ أنّ يعاد كما هو الظاهر، أو أراد أنّه لا يعاد بالفعل،كما هو الاحتمال،بل جعل الدليل عليه قوله:«لامتناع الإشارة إليه»و جعل ذلك القول نتيجة له و متفرّعا عليه.

و لا يخفى أيضا أنّ قوله:«لامتناع الإشارة إليه»بظاهره مجمل أو مطلق،يشمل امتناع الإشارة العقليّة إلى هويّة المعدوم مطلقا،سواء كانت هويّة ذهنيّة أو خارجيّة،و كذا خصوص الهويّة الخارجيّة،و كذا يشمل امتناع الإشارة إليه في حال وجوده السابق أو اللاحق،أي حين الإعادة أو في حال العدم قبل الإعادة و بعد الوجود السابق،إلاّ أنّ الفحص و التدقيق يقتضي أن يكون مراده رحمه اللّه بامتناع الإشارة إليه،امتناع الإشارة إلى هويّته الخارجيّة الواقعيّة في حال العدم،و يكون حاصل دليله:أنّ المعدوم لا يعاد،بل

ص:272


1- -شرح التجريد:72.

لا يصحّ إعادته،لأنّ ذلك يقتضي أن يكون له هويّة خارجيّة مشارا بها إلى خارج في حال العدم في الحكم بأنّه هو عين الموجود السابق أو غير المثل المستأنف كما بيّنا،و الحال أنّه ليس له تلك الهويّة الخارجيّة،و حيث كان الحال كذلك فلا يصحّ الحكم عليه بأنّه يصحّ إعادته،و معناه حينئذ أنّه لا يكون ذلك الحكم الذي ادّعاه القائلون بجواز الإعادة حقّا و صادقا و مطابقا للواقع،بل باطلا،لا أنّه يمتنع ذلك الحكم إذ المفروض أنّهم حكموه، فعلى هذا فلا إيراد على المحقّق الطوسي رحمه اللّه اصلا،فتبصّر.

في الإشارة إلى دفع إيراد عن الشيخ و عن المحقّق الطوسي

ثمّ إنّه بما قرّرنا في توجيه كلام الشيخ،و ذكرنا من معنى المثل المبتدأ يندفع عنه إيراد آخر أورده الشارح المذكور على هذا المقام،بناء على ما قرّره كلام المحقّق الطوسي، حيث قال هكذا:

«وجه آخر و هو أنّه لو جاز إعادة المعدوم لجاز أن يوجد مثله بدلا عند مبتدأ في وقت إعادته،فإذا جاز أن يوجد فرد من أفراد ماهيّة نوعيّة،لا يكون نوعها منحصرا في شخص مكتنف بعوارض مشخّصة بعد العدم.و جاز أن يوجد ابتداءً فلم يبق فرق بين المبتدأ و المعاد،فإنّ الفارق بينهما لا يكون الماهيّة و لا عوارضها،لعدم الاختلاف فيهما،و يمكن أن يحمل قوله:«و لم يبق فرق بينه و بين المبتدأ»على هذا الوجه.

و الجواب أنّه إن أراد بمثله ما يشاركه في ماهيّته و تشخّصه معا كما يظهر من قوله:«فإنّ الفارق بينهما لا يكون الماهيّة و لا عوارضها المشخّصة لعدم الاختلاف فيهما»،فوجود المثل بهذا المعنى محال،إذ يلزم منه أن يتشخّص شخصان بتشخّص واحد،فيكون الشخص الواحد مشتركا بينهما،فلا يكون تشخّصا لأنّ مقتضى التشخّص التوحّد المانع من الشركة مطلقا.و لو سلّم فلم لا يجوز الامتياز بعوارض غير مشخّصة،فإنّ المعاد ما قد وجد،ثمّ عدم،و المثل المبتدأ ما لا يكون كذلك.

لا يقال:فعلى هذا إذا وجد فرد مكتنف بعوارض مشخّصة فبم يعلم أنّه الذي وجد أوّلا ثمّ عدم و ليس موجودا مبتدأ.

لأنّا نقول:لا استحالة في عدم التميّز بينهما عند العقل،إذ ربما يلتبس على العقل ما هو

ص:273

متميّز في نفس الأمر،على أنّه كلام على السند الأخص.

و إن أراد بالمثل ما يشاركه في الماهيّة فقط،فلزوم عدم الفرق ممنوع،لجواز الامتياز بالعوارض المشخّصة.-انتهى كلامه.»

و بيان الاندفاع:أنّا لا نريد بالمثل المبتدأ ما يشارك المعاد في الماهيّة و التشخّص معا، فإنّ ذلك محال،حيث إنّه لا يجوز أن يتشخّص شخصان بتشخّص واحد،لأنّ ذلك يرفع الاثنينيّة الواقعيّة بين الاثنين و هو ممتنع،بل نريد بالمثل ما يشارك المعاد في الماهيّة و في الموضوع و الحدوث و الزمان و غير ذلك من الصفات و الأحوال،و يخالفه بالعدد،أي بالشخص،كما دلّ عليه كلام الشيخ في التعليقات،و لا يخفى أنّ فرض وجود المثل بهذا المعنى غير ممتنع.

ثمّ إنّا نسوق الكلام إلى آخره و نقول:إنّه إذا جاز إعادة المعدوم بعينه فلا سترة في إمكان فرض وجود المثل بهذا المعنى الذي ذكرناه حينئذ،فإمّا أن يلزم عدم الامتياز بين المعاد و المثل المبتدأ أصلا مع فرض كونهما متمايزين بالعدد و بالشخص،و إمّا أن يلزم أن لا يكون شيء منهما معادا مع فرض كون أحدهما معادا،و إمّا أن يلزم صيرورة المعدوم الواقعي مع فرض عدمه موجودا واقعيّا،كما فصّلنا ذلك،و ذكرنا أنّ كلاّ من تلك المحالات يلزم على تقدير.

و لا يخفى أنّ لزوم تلك المحالات ليس منشأه فرض وجود المثل بهذا المعنى،لكونه ممكنا في الواقع لا مانع منه،فبقي أن يكون منشؤه فرض إعادة المعدوم،و هو المطلوب، و حينئذ فلا إيراد على هذا الدليل أصلا و لا يحتاج أيضا في دفع إيراد الشارح المذكور إلى ما ذكره المحقّق الدواني في الحاشية،حيث قال في قوله:«و الجواب أنّه إن اراد-إلى آخره-:أنت خبير بأنّ هذا إنّما يرد على تقرير المتأخّرين كما ذكره الشارح،و أمّا على ما نقل عن الشيخ في التعليقات فلا،لأنّه لا يتوقّف على أخذ إمكان هذا المثل،إذ محصّله أنّا نفرض المثل المذكور،و نقول (1)لا امتياز بينهما أصلا،إذ لو كان بينهما امتياز لكان لكون أحدهما هو بعينه الذي كان ثابتا حال العدم،بخلاف الآخر،لكن هذا محال فما فرضناه معادا يكون بعينه هو المستأنف المفروض،لامتناع الامتياز فلا يكون معادا.-انتهى

ص:274


1- -أقول(خ ل).

كلامه.»

كلام مع المحقّق الدواني

مع انّه يرد على ما ذكره هذا المحقّق أنّه إذا سلّم عدم إمكان المثل،ففرض وجوده لا يفيد شيئا،إذ ربما كان منشأ لزوم هذا المحال هو فرض وجود المثل،لا فرض إعادة المعدوم،فهذا منه رحمه اللّه غريب.مثل حمله كلام الشيخ في التعليقات على ما ذكره،حيث إنّه لم يدع فيه عدم الامتياز بين المعاد و المستأنف،إلاّ لكون أحدهما هو بعينه الذي كان ثابتا حال العدم بخلاف الآخر،و كيف يدّعي ذلك و الحال أنّه فرضهما متخالفين بالعدد أي بالشخص.و كيف يكون الامتياز بين الشيئين المتخالفين بالعدد منحصرا في ذلك الامتياز الذي ذكره.اللّهم إلاّ أن يراد بعدم الامتياز بينهما إلاّ من هذا الوجه،عدمه من جهة كون أحدهما معادا و الآخر مثلا مستأنفا لا مطلقا.

و أنت تعرف بعد التأمّل الصادق أنّ كلامه في التعليقات موافق لكلامه في الشفاء في ذلك،و ينبغي أن يقرّر على ما قرّرناه،و سنزيده توضيحا فانتظر.

على أنّ في قول الشارح المذكور:«و لو سلّم فلم لا يجوز الامتياز بعوارض غير مشخّصة»كلاما قد ذكره المحقّق الدواني في الحاشية عليه،و هو أنّه على تقدير عدم الامتياز بالماهيّة و التشخّص يكون ما يعرض لأحدهما عارضا للآخر فلا يتحقّق بالعوارض غير المشخّصة أيضا يعني أنّ عروض عارض لأحدهما دون الآخر،يحتاج إلى تشخّصه و امتيازه،و المفروض خلافه.و قد قال أيضا في قوله:«على أنّه كلام على السند الأخص» بهذه العبارة:«يعني أنّه يتوجّه على قوله فإنّ المعاد ما قد وجد ثمّ عدم،و المثل المبتدأ ما لا يكون كذلك،و لو ذكر بدله عارض آخر غير مشخّص،لم يتوجّه ذلك،و قد علمت أنّه على تقدير عدم الامتياز بالماهيّة و التشخّص يكون ما يعرض لأحدهما عارضا للآخر، فلا يتصوّر الامتياز بالعوارض غير المشخّصة أيضا.

نعم يكون ذلك الشخص مع بعض العوارض غيرا لنفسه مع عارض آخر غير مشخّص، فلا يصدق الحكم بأنّه مبتدأ لا معاد،أو معاد لا مبتدأ أصلا،فلا يتصوّر العلم بالامتياز أصلا،

ص:275

فتأمّل.-انتهى كلامه.» (1)

و أيضا في قول الشارح المذكور:«لا استحالة في عدم التميّز بينهما عند العقل،إذ ربما يلتبس على العقل ما هو متميّز في نفس الأمر»كلام لا يخفى،فتأمّل.

ثمّ إنّك بعد ما أحطت خبرا بما حقّقناه و فصّلناه،ظهر لك أنّ الحجّة الثالثة التي نقلها الفاضل الأحساوي عن القائلين بامتناع الإعادة،ليست هي حجّة اخرى،بل هي مع الحجّة الاولى التي نقلها عنهم حجّة واحدة تقريرها ما ذكرنا،و أنّه لا يرد عليها شيء ممّا أورده على تينك الحجّتين بناء على ما فهمه،فتدبّر.

نعم الحجّة الثانية التي نقلها عنهم حجّة اخرى لهم على ذلك،و سيأتي تقريرها على وجه لا يرد عليه أيضا ما أورده،فانتظر.

و هذا الذي ذكرناه كلّه إنّما ذكرناه في مقام تحرير الدليل الأوّل الذي ذكره الشيخ في الشفاء على بطلان قول من يقول إنّ المعدوم يعاد.

و أمّا الكلام في تحرير الدليل الثاني الذي ذكره بقوله:«و على أنّ المعدوم إذا اعيد احتيج إلى أن يعاد جميع الخواصّ التي بها كان هو ما هو،و من خواصّه وقته،فإذا اعيد وقته كان المعدوم غير معاد،لأنّ المعاد هو الذي يوجد في وقت ثان.»فهو أن يقال:

لا يخفى أنّ المعدوم إذا اعيد بعينه كما هو المفروض،احتيج إلى أن يعاد جميع الخواصّ و المشخّصات التي بها كان المعدوم هو ما هو،أي متشخّصا و إلاّ لم يكن معادا بعينه،أي بشخصه كما هو المفروض.

و لا يخفى أيضا أنّا سواء قلنا إنّ العوارض المشخّصة هي المشخّصة بالحقيقة كما هو مذهب فريق منهم،أو إنّ المشخّص بالحقيقة هو نحو من الوجود الخاصّ،و أنّ تلك العوارض لوازم له و أمارات عليه كما هو مذهب الفارابي و هو الحقّ،يكون الوقت من جملة تلك المشخّصات بدليل أنّا إذا صنعنا مثلا من طين مخصوص كوزا مخصوصا على مقدار مخصوص،و هيئة و شكل مخصوصين،بقالب خاصّ،ثمّ كسرناه و هدمناه،فصنعنا من ذلك الطين المخصوص بعينه من غير أن ينقص منه جزء أرضي أو مائي،أو يزيد عليه بذلك القالب الخاصّ كوزا آخر على ذلك المقدار و الشكل و الهيئة،و بالجملة بحيث يكون

ص:276


1- -راجع هامش شرح التجريد:79. [1]

الثاني مماثلا للأوّل في الماهيّة و في جميع الصفات و الأحوال،مغايرا له بحسب الزمان فقط،نعلم بالضرورة أنّ الثاني ليس هو الأوّل بعينه،بل غيره بحسب التشخّص،و إن كان مماثلا له فيه.

و الحاصل أنّا نعلم بديهة أنّ الأوّل شخص خاصّ،و الثاني شخص آخر مغاير له بحسب التشخّص في الواقع و الخارج،لا بحسب الذهن و الاعتبار فقط،كما زعمه بعض، و إن كان مماثلا له،و إذا ليس هنا أمر يفرض كونه منشأ لاختلاف الشخص إلاّ الوقت،فيعلم منه أنّ الوقت له مدخل في التشخّص،و هو المطلوب.

و أيضا إذا كان هناك مثلا لوح خاصّ معيّن تلوّن في وقت خاصّ بلون خاصّ مشخّص،ثمّ ازيل ذلك اللون عنه،ثمّ لوّن في وقت آخر بعد ذلك بذلك اللون بعينه ذلك اللوح المخصوص مثل الأوّل،نعلم بالبديهة أنّ اللون الثاني غير الأوّل بحسب التشخّص في الواقع،و إن كان مماثلا له في الماهيّة و الموضوع و سائر الصفات،فيعلم من ذلك أيضا أنّ للوقت دخلا في التشخّص،و أنّه من جملة المشخّصات،كما أنّ الموضوع أيضا من جملة المشخّصات،كما إذا كان هناك لو حان خاصّان قد تلوّنا في وقت واحد بلون خاصّ، حيث نعلم بالضرورة أن أحد اللونين غير الآخر بالشخص،و ما ذلك إلاّ لاختلاف الموضوع.و بالجملة الحكم بكون الزمان من جملة المشخّصات أو لازما لما هو مشخّص مما يحكم به الوجدان الصحيح،و عليه منبّهات كثيرة تعلم بالتتبّع.

إلاّ أنّا نعني بكون الزمان مشخّصا كما ذكره بعض أهل التحقيق،مثل المحقّق الدواني و غيره،أنّ لزمان وجود الشيء بوحدته الاتّصالية مدخلا في تشخّصه،فاذا انقطع اتّصاله من حيث هو زمان الوجود بتخلّل العدم،لم يبق الشخص،و لا نعني بهذا أيضا أنّ الزمان المتّصل الممتدّ من آن حدوثه إلى آخر زمان البقاء،له مدخل في تشخّصه،حتى يرد أنّ هذا الأمر الممتدّ لم يوجد في شيء من آنات زمان وجوده،مع أنّ زيدا مثلا كان مشخّصا في كلّ آن يفرض منها،بل نعني به أنّ القدر المشترك بين تلك الأزمنة و بين الآنات المفروضة فيها،له مدخل في تشخّصه بشرط الاتّصال و عدم الانقطاع بالعدم.أو أنّا نعني بكون الزمان مشخّصا أنّ لآن الحدوث مدخل في تشخّصه،و لما بعده من الزمان مدخلا في حفظ ذلك التشخّص بشرط اتّصاله من حيث هو زمان الوجود.

ص:277

و كيفما كان فلا نعني بذلك-كما فهمه بعضهم كالشارح القوشجي و غيره-أنّ لأجزاء زمان الوجود من حيث التقضي و الانصرام و التجدّد مدخلا أيضا في التشخّص،حتّى يلزم تغيّر الشخص بتغيّر الزمان و تبدّله بتبدّله،و أن يكون زيد الموجود في هذا الزمان غير زيد الموجود في الزمان السابق أو اللاحق،و يناقض بأنّا قاطعون بخلافه،حيث إنّا نعلم بالضرورة أن زيدا الموجود في هذه الساعة،هو بعينه الذي كان بالأمس،حتّى أنّ من زعم خلاف ذلك ينسب إلى السفسطة.و ما يحكى من مناقضة الشيخ مع تلميذه بهمنيار،حيث إنّه طالب الشيخ بالدليل على بقاء الذات في الإنسان حتّى يستدلّ به على التجرّد، فأجاب عنه بالرجوع إلى الوجدان الصحيح،ثمّ أورد بهمنيار على مسألة اخرى سمعها من الشيخ كلاما،فقال الشيخ في جوابه:كيف تجعلني المسموع منه مع تجويزك تبدّل الذات، فهو إن كان مبنيّا على تجويز بهمنيار تبدّل الذات بتبدّل الزمان فلعلّه محمول على ما ذكرنا،فتدبّر.

و حيث ظهر أنّ الوقت من جملة المشخّصات،و أنّ المعدوم إذا اعيد بعينه،يجب أن يكون وقته الأوّل معادا أيضا.فنقول:إنّ وقته إمّا أن يعاد بحيث لا يكون هناك وقت غيره، و يكون المعدوم معادا فيه،فهذا باطل،لأنّه حينئذ لا يكون معادا أصلا بل مبتدأ فقط،لأن المعاد هو الذي يوجد في وقت ثان غير الوقت الأوّل،و هذا قد وجد في الوقت الأوّل بعينه فقط.

و القول بأنّ المعاد لا يلزم أن يكون موجودا في وقت ثان البتّة،بل هو الذي يوجد ثانيا، سواء وجد في وقته الأوّل أو في وقت ثان آخر،كما فهمه بعض من جوّز إعادة المعدوم، ممّا لا معنى محصّل له،لأنّ الثانويّة في قوله:«هو الذي يوجد ثانيا»لا يخفى أن ليس المراد بها الثانويّة بالعلّيّة أو بالطبع أو بالشرف أو بالرتبة،و هذا كلّه ظاهر،و لا الثانويّة بالذات كما فيما بين أجزاء الزمان،لأنّ التقدّم و التأخّر بين وجود وجود ليس من هذا القبيل،و هذا ظاهر أيضا،بل المراد الثانويّة بحسب الزمان.و إذا كان كذلك فيكون معنى الوجود ثانيا الوجود في زمان ثان.فإذا وجد في زمانه الأوّل فلا يكون موجودا في زمان ثان.فلا يكون معادا أصلا بل مبتدأ فقط؛هذا خلف.

و أيضا إذا فرض كونه معادا أيضا،فلا يكون ذلك إلاّ بفرض الوقت ثانيا أيضا،حتّى

ص:278

يمكن أن يفرض كون الموجود فيه معادا،فيصدق على الوقت الأوّل أنّه أوّل من حيث كونه ثانيا،و أنّه ثان من حيث كونه أوّلا.و كذا يصدق على الموجود فيه أنّه مبتدأ من حيث كونه معادا.و معاد من حيث كونه مبتدأ،خصوصا إذا كان المعاد معادا مع جميع خواصّه و حيثيّاته و عوارضه كما هو المفروض،فيصدق المتقابلان على ذات واحدة في حال واحدة من حيثيّة واحدة،إذ لا جهة مختلفة هنا بها يختلف الحال.

و أيضا يلزم رفع التفرقة و الامتياز بين المبتدأ و المعاد،و كذا بين الوقت الأوّل و الثاني عند العقل.مع أنّ الامتياز بينهما ضروريّ عنده.و أمّا أن يعاد ذلك الوقت الأوّل،بحيث يكون هناك وقت ثان أيضا،و يكون أحدهما ظرفا للآخر،و يكون كلاهما أي الوقتان معا ظرفين لوجود المعدوم المعاد،فحينئذ يلزم أن يكون هو معادا من جهة وجوده في الوقت الثاني،و مبتدأ من جهة وجوده في الوقت الأوّل،و يصدق عليه حين الإعادة هذان الوصفان المتقابلان معا أعني أن يكون مبتدأ حين كونه معادا و معادا حين كونه مبتدأ.

و هذا إن لم يسلّم امتناعه من جهة أنّ صدق الوصفين المتقابلين ليس من حيثيّة واحدة حتّى يكون تناقضا ممتنعا،بل من حيثيّتين مختلفين حيث إنّ صدق المبتدأ عليه من جهة كونه موجودا في الوقت الأوّل،و صدق المعاد عليه من جهة كونه موجودا في الوقت الثاني،فلا سترة في أنّه حينئذ يكون الامتياز بين المبتدأ و المعاد-مع كونه ضروريّا عند العقل-مرتفعا،حيث صدق على ذات واحدة في حال واحدة كونه مبتدأ و معادا معا، خصوصا إذا كان معادا مع جميع عوارضه و خواصّه كما هو المفروض.

و أيضا يلزم أن لا يكون معادا فقط كما هو المفروض،بل يكون مبتدأ و معادا جميعا؛ هذا خلف.

و أيضا إذا فرض إعادة الوقت الأوّل في الوقت الثاني و كون أحدها ظرفا للآخر،لزم أن يكون للزمان زمان،و هذا باطل بالضرورة،لأنّ التقدّم و التأخّر المفروضين بين زمان و زمان إنّما هما بالذات،و ليس كالتقدّم و التأخّر بين الزمانيّات،لأنّ زمانا ما إذا كان متقدّما على زمان آخر لكونه واقعا في زمان متقدّم أو كان متأخّرا عن زمان آخر لكونه واقعا في زمان متأخّر كما في الصورة المفروضة لا بالذات لكان تأخّر ذلك الزمان المفروض كونه ظرفا للمتأخّر منه،أو تقدّمه عبارة عن وقوعه في زمان متأخّر كذلك

ص:279

أو متقدّم و هكذا و يلزم التسلسل في الزمان،و هذا باطل.

أمّا عند القائلين بوجود حقيقة للزمان في الواقع كما هو عند القائلين بامتناع إعادة المعدوم فظاهر،لأنّه على تقديره يلزم التسلسل في الحقائق الواقعيّة في نفس الأمر، و هذا باطل بالضرورة و بالبرهان.

و أمّا عند القائلين بكونه اعتباريّا كما هو عند القائلين بجواز إعادة المعدوم بعينه فكذلك،لأنّ مرادهم به إن كان كونه اعتباريّا محضا،لا حقيقة له في نفس الأمر أصلا، فذلك باطل الضرورة،و إن كان كونه اعتباريّا واقعيّا منتزعا من موجود في الواقع،فذلك ممنوع،و يكون التسلسل فيه أيضا باطلا كما في الأوّل.

و بما قرّرنا يندفع ما يتوهّم هنا من أنّه لا يلزم كون المعدوم مبتدأ،لكونه واقعا في الزمان الأوّل،و إنّما يلزم ذلك لو كان الوقت الأوّل أوّلا و ليس كذلك،بل إنّما هو اعيد بعينه و وقع ثانيا،فيكون الموجود فيه معادا فقط كما هو المفروض لا مبتدأ أيضا.

في الإشارة إلى دفع توهّم هنا

و بيان الاندفاع أنّ المراد بوقوعه ثانيا ليس هنا إلاّ فرض وقوعه في زمان ثان،و هو باطل،كما عرفت بيانه.

و محصّل هذا الدليل على ما قرّرناه:إنّ المعدوم إذا اعيد،فإمّا أن لا يعاد وقته الأوّل، فهذا باطل،لأنّه على تقديره يلزم أن لا يكون معادا بعينه،لأنّ الوقت أيضا من جملة المشخّصات كما عرفت.و إمّا أن يعاد وقته الأوّل أيضا،و هو إنّما يتصوّر على وجهين كما عرفت،و على كلّ تقدير فيلزم أن لا يكون هناك إعادة معدوم مع سائر المفاسد اللازمة كما عرفت.و على تقدير أن يكون هناك إعادة معدوم،فلا يلزم أن يكون المعدوم معادا بعينه أيضا كما هو المفروض،لأنّه كما أنّ التفرقة بين الوقت الأوّل و الثاني ضروريّة،و أحدهما ليس هو الآخر بعينه،كذلك التفرقة بين المبتدأ الواقع في الوقت الأوّل و المعاد الواقع في الوقت الثاني ضروريّة،و أحدهما ليس هو الآخر بعينه.

و أيضا هذان الوصفان متقابلان،فالموصوف بأحدهما لا يكون بعينه هو الموصوف بالآخر،فلا يكون المعاد هو المبتدأ بعينه،فلا يكون هنا إعادة المعدوم بعينه،ففرض إعادة

ص:280

المعدوم بعينه يستلزم أن لا يكون هنا إعادة بعينه.و كذلك الوقت مع كونه مشخّصا سواء اعيد أم لا،لم يكن هناك إعادة معدوم بعينه.

لا يقال:سلّمنا أنّ هذين الوصفين متغايران،و أنّ هذين الوقتين متغايران،لكن لا نسلّم أنّ الواقع في أحدهما ليس هو الواقع في الآخر بعينه،و أنّ الموصوف بأحدهما مغاير للموصوف بالآخر بعينه.و هذا كما أنّ زيدا إذا كان في زمان موصوفا بعدم الكتابة،ثمّ صار في زمان آخر موصوفا بالكتابة،فيصدق عليه أنّه موجود في الوقتين و موصوف بالكتابة و بعدمها،مع أنّ الوجود في الوقتين المتغايرين،و صدق ذينك الوصفين عليه،لا يستلزم أن يكون من حيث وجوده في أحد الزمانين و اتّصافه بأحد الوصفين المتغايرين،مغايرا لنفسه من حيث وجوده في الزمان الآخر و اتّصافه بالوصف الآخر.

لأنّا نقول:هذا مسلّم فيما إذا كان التشخّص،أي نحو من الوجود الخاصّ أو ما هو لازم له باقيا في الحالين كما في المثال المذكور،و أمّا إذا لم يكن باقيا كما في صورة إعادة المعدوم بعينه فلا يتميّز عند العقل أنّ الواقع في أحد الوقتين،و الموصوف بأحد الوصفين المتقابلين،أ هو الموجود في الوقت الآخر و الموصوف بالوصف الآخر بعينه أم لا؟بل ربّما يغلب على العقل أنّه غيره،فتدبّر.

و الحاصل أنّ فرض إعادة المعدوم بعينه ممّا يستلزم محالا على كلّ تقدير،و ما كان كذلك فهو محال بالضرورة.و اللّه أعلم بالصواب.

في تحرير ما ذكره الشيخ بعد دليله الثاني

ثمّ إنّ قول الشيخ:«فإن كان المعدوم يجوز إعادته و إعادة جملة المعدومات التي كانت معه،و الوقت إمّا شيء له حقيقة وجود و قد عدم أو موافقه موجود (1)لعرض من الأعراض على ما عرفت من مذهبهم،جاز أن يعود الوقت و الأحوال فلا يكون وقت و وقت،فلا يكون عود».

إن كان مبناه على فرض إعادة الوقت،على أنّه من المشخّصات كالسابق على أن يكون المراد بقوله:«و إعادة جملة المعدومات التي كانت معه»إعادة جملة المعدومات

ص:281


1- -وجود(خ ل).

التي لها مدخل في تشخّص المعدوم،كان هذا الكلام منه من تتمّة السابق،أي الدليل الثاني و زيادة بيان له،فلذا قال في السابق في بيان لزوم المحال:«فإذا اعيد وقته كان المعدوم غير معاد»،و قال هاهنا:«فلا يكون وقت و وقت فلا يكون عود»حيث رتّب عليه لزوم عدم كون عود أي ذلك المحال السابق،و علّله بأنّه لا يكون وقت و وقت،و هو محال آخر على ما سيجيء بيانه.

و إن كان مبناه على فرض إعادة الوقت مطلقا،سواء اعتبر كونه من المشخّصات أم لا بناء على أن يكون المراد بقوله:«و إعادة جملة المعدومات»إعادة جملة المعدومات مطلقا سواء اعتبر كونها من جملة المشخّصات للمعدوم أم لا،فهذا الكلام منه يحتمل وجهين:أحدهما كونه من تتمّة السابق أيضا كما عرفت.و الثاني كونه دليلا آخر ثالثا على المطلوب.أمّا كونه تتمّة للسابق،فعلى سبيل التنزّل،يعني أنّه قال أوّلا إنّ الوقت من جملة المشخّصات و أنّه لو اعيد المعدوم،لوجب أن يعاد وقته الأوّل أيضا و أورد عليه محالا، و هو أنّه يكون المعدوم غير معاد مع فرض إعادته،لأنّ المعاد هو الذي يوجد في وقت ثان.

و قال ثانيا إنّا لو تنزّلنا عن ذلك و سلّمنا عدم كون الوقت من المشخّصات،للزم ذلك المحال أيضا،لأنّه لو جاز إعادة المعدوم لجاز إعادة الوقت أيضا،لأنّه أيضا من جملة المعدومات، بل جاز إعادة كلّ حال و صفة معدومتين كانتا مع المعدوم،فإنّ المفروض جواز إعادة المعدوم،أيّ معدوم كان،و لا دليل هنا يخصّص الحكم ببعض المعدومات دون بعض، فالوقت اذا اعيد سواء فرض كونه مشخّصا أو غير مشخّص،لزم أن لا يكون هنا وقت و وقت،و لزم أيضا أن لا يكون عود.

و منه يعلم بيانه على تقدير كونه دليلا آخر.و الحاصل أنّه إذا جاز إعادة المعدوم،لجاز أن يعاد وقته الأوّل أيضا نفسه،سواء كان الواقع هناك هو ذلك الوقت فقط من دون وجود وقت آخر ثان،هو يكون ظرفا له أو مظروفا له أو يكون الواقع هناك وقت آخر كذلك،و على كلّ تقدير فيلزم أن لا يكون وقت و وقت،إذ يكون حينئذ الوقت الأوّل ثانيا،و الثاني أوّلا، فلا يكون امتياز و تقدّم و تأخّر بين أجزاء الزمان بالذات،و القول به سفسطة،و مع ذلك فلا يكون حينئذ إعادة معدوم كما هو المفروض.

أمّا على تقدير فرض كون الوقت من جملة المشخّصات سواء كان الموجود هناك

ص:282

هو الوقت الأوّل فقط،أو كان الموجود معه وقت آخر ثان أيضا،يكون أحدهما ظرفا للآخر فظاهر كما مرّ بيانه سابقا.

و أمّا على تقدير فرض عدم كون الوقت من المشخّصات،فكذلك أيضا لأنّ الوقت الأوّل و إن لم يكن من جملة المشخّصات لكن وجود المعدوم المعاد فيه يستلزم كونه مبتدأ فقط،إن لم يكن هناك وقت سواه،و مبتدأ و معادا جميعا إن كان.

و على كلّ تقدير فليس هنا إعادة المعدوم فقط،بل إمّا ابتداء وجود فقط،أو ابتداء وجود مع إعادة معدوم.و أيضا لا يكون هنا إعادة معدوم بعينه كما مرّ بيانه،فتذكّر.

و أيضا على تقدير فرض وقتين هناك سواء فرض كون الوقت من المشخّصات أم لا، يلزم التسلسل في الزمان كما مرّ بيانه أيضا.و بالجملة يلزم على تقدير هذا الفرض أي فرض إعادة الوقت مطلقا،سواء كان مشخّصا أم لا،ما يلزم على تقدير فرض إعادته على تقدير كونه مشخّصا كما فصّلناه،إلاّ بعضا ممّا يختصّ بتقدير كونه مشخّصا،فتدبّر تعرف.

و لا يخفى عليك بما بيّناه أنّه يلزم على كل تقدير محالات عديدة،و إن كان الشيخ قد اكتفى بذكر بعضها لحصول الغرض به.

ثمّ إنّ قول الشيخ:«و الوقت إمّا شيء له حقيقة وجود أو موافقة وجود لعرض من الأعراض»-على ما عرفت من مذهبهم-إشارة إلى ما حقّقه في الطبيعيّات من الشفاء في فصل تحقيق ماهيّة الزمان فليطالع ثمّة.

و بالجملة أشار به إلى كون الزمان أمرا واقعيّا في نفس الأمر كسائر الامور الواقعيّة لا أمرا اعتباريّا محضا،و أنّ فرض إعادته على تقدير القول بإعادة المعدوم،ليس بممتنع، كما في نظائره من الواقعيّات المعدومة.

و كذلك التسلسل فيه محال كما في غيره من الامور الواقعيّة.

و بما حرّرنا الدليل و قرّرناه،يندفع عنه اعتراض أورده الشارح القوشجي في شرح التجريد هنا.

قال:إنّه استدلال بمقدّمتين لا تجتمعان في الصدق،لأنّ الوقت إن كان من المشخّصات لم يصحّ القول بأنّ المبتدأ في زمان سابق و المعدوم في زمان لاحق ،لامتناع التغاير بين المبتدأ و المعاد بحسب العوارض المشخّصة،و إن لم يكن مشخّصا،لم يصحّ

ص:283

القول بأنّه يلزم إعادته،لأن اللازم إنّما هو إعادة العوارض المشخّصة لا إعادة جميع العوارض.-انتهى. (1)

و بيان الاندفاع ظاهر باختيار كلّ من الشقّين.

أمّا باختيار الشقّ الثاني فبأن يقال:إنّا لم نقل بإعادة الوقت حينئذ،لأنّه من جملة المشخّصات،بل لأنّه من جملة المعدومات،و كونه ممّا كان له حقيقة عند وجوده، و المفروض إعادة المعدوم مطلقا،إذ لا دليل على تخصيص الحكم ببعض المعدومات دون بعض،و على تقدير إعادته يلزم المحال كما ذكرنا.

و أمّا باختيار الشقّ الأوّل فبأن يقال:لا يخفى أنّ التغاير بين المبتدأ و المعاد بكون الأوّل واقعا في وقت أوّل و الثاني واقعا في وقت ثان،ممّا لا يمكن إنكاره،سواء كان ذلك تغايرا بحسب العوارض المشخّصة أم لا،فإذا فرض إعادة المعدوم بعينه و فرض معه إعادة الوقت أيضا،لأنّه من جملة مشخّصاته،لزم من ذلك محال مبنيّ على ذلك التغاير، فأمّا أن يلزم هو من فرض إعادة الوقت،فذلك باطل،لأنّه على تقدير فرض جواز إعادة المعدوم لا امتناع في فرض إعادة الوقت معه أيضا،و لا سيّما إذا كان من مشخّصاته.فبقي أن يكون منشأ لزوم ذلك المحال فرض إعادة المعدوم،فهو باطل و هو المطلوب.

ثمّ إنّ قول الشيخ:«على أنّ العقل يدفع هذا دفعا و لا يحتاج فيه إلى بيان و كلّ ما يقال فيه فهو خروج عن طريق التعليم،دليل آخر على المطلوب ثالث أو رابع قد ادّعى فيه بداهة الحكم بامتناع إعادة المعدوم بعينه.»

في تحرير ما ذكره الشيخ في الشفاء أخيرا

و هذه البداهة قد ادّعاها غير الشيخ أيضا،كما نقله الفاضل الأحساوي عن بعضهم بعد ذكر الأدلّة الثلاثة على امتناع العود و الإيراد عليها حيث قال:

قال بعض من منع أنّ هذه الوجوه تنبيهيّة لا استدلاليّة،فلا يرد عليها ما ذكره،فإنّ الحكم بامتناع إعادة المعدوم من الأحكام الضروريّة،فإنّ من انعدمت هويّته بالكلّية، لا يصحّ اتّصافه بشيء من الصفات الضروريّة،و العود صفة ضروريّة ثبوتيّة لا حقة له.

ص:284


1- -شرح التجريد:73.

فلا يصحّ ثبوتها لمن لا هويّة له قطعا. (1)و كما قد ادّعى تلك البداهة بعض من الفضلاء أيضا، و نبّه على ذلك بأنّه نظير الطفرة في المكان،و كما أنّ تعلّق الجسم بمكان ثمّ تعلّقه بمكان ثالث من غير أن يتعلّق بمكان ثان بين المكانين محال بالبديهة،حيث يلزم منه وجوده في مكان أوّل،ثم انعدامه في المكان الثاني،ثم وجوده في مكان ثالث،و هذا محال بالبديهة،كذلك تعلّق شيء موجود بزمان أي وجوده فيه ثمّ انعدامه في زمان آخر بعده،ثمّ تعلّقه بزمان ثالث أي وجوده فيه،محال بالبديهة.و لا يخفى عليك وقع النظير و التنبيه.

ثمّ إنّه لا يخفى أنّه لا يرد على الحكم بالبداهة الاعتراض الذي نقله الفاضل الأحساوي عن بعضهم،حيث قال:و اعترض عليه بأنّ تجويز نقيضه يمنع من كونه ضروريّا،فإنّ الشيء مع جواز النقيض لا يصحّ أن يكون ضروريا.

و حاصل الاعتراض أنّ الحكم البديهي كيف يكون مختلفا فيه بين العقلاء كما فيما نحن فيه.

و بيان عدم الورود أنّ الحكم البديهي،قد يكون خفيّا لعدم تصوّر الأطراف أو لخفائه، و لذلك ربّما أمكن أن يكون مختلفا فيه بين العقلاء،و أمّا بعد تصوّر أطرافه فيكون بداهة ذلك الحكم ظاهرة لا سترة فيها،خصوصا بعد ذكر المنبّه عليه.

و لا يخفى أنّ ما نحن فيه من هذا القبيل و لا أظنّك أن تكون في مرية من هذا إن خلّيت و نفسك.و اللّه أعلم بالصواب و إليه المرجع و المآب.

و هذا الذي ذكرناه كلّه إنّما هو تحرير ما في الشفاء،و بما حرّرنا كلامه في الدليل الأوّل يعلم تحرير ما ذكره في التعليقات في هذا المطلب،فإنّه عند النظر الدقيق،لا مخالفة بينهما في أصل المدّعى إلاّ في بعض الخصوصيّات،و لذا لا نبالي بإعادة تحريره.

فنقول:إنّ تحريره أن يقال:إذا وجد شيء وقتا ما ثمّ لم يعدم و استمرّ وجوده في وقت آخر و علم ذلك أو شوهد،علم أنّ الموجود واحد،و أمّا إذا عدم فلا.لأنّه لو كان الموجود ثانيا عين السابق و جاز إعادة المعدوم بعينه،فلا يخفى أنّه يمكن أن يفرض حينئذ محدث جديد يكون مماثلا للمعاد في الموضوع و الحدوث و الزمان و غير ذلك و لا يخالفه إلاّ بالعدد و إلاّ في النسبة التي ينبغي أن تنظر أنّهما هل يمكن أن يختلفا فيها أم لا؟فليكن

ص:285


1- -المجلي:499.

الموجود السابق«ألف»و ليكن المعاد«ب»و ليكن المحدث الجديد المماثل له«ج».

فنقول:إمّا أن يكون كلّ من«ب»و«ج»منسوبا إلى«ألف»بأن يكونا عينه،و إمّا أن لا يكون شيء منهما منسوبا إليه كذلك،و إمّا أن يكون أحدهما و هو«ب»منسوبا إليه دون الآخر و هو«ج».

و على الأوّل يكون كلّ من«ب»و«ج»منسوبا إلى«ألف»و عينه،فيكون الشيئان الاثنان المتخالفان بالعدد عين شيء واحد بالذات أي«ألف»،فهو محال بالضرورة.

و أيضا يكون كلّ منهما معادا ليس شيء منهما مثلا مستأنفا؛هذا خلف.

و على الثاني فلا يكون شيء منهما معادا كما هو المفروض،بل يكون كلّ منهما مثلا مستأنفا و موجودا ابتدائيّا؛هذا خلف.

و على الثالث فنسأل و نقول لم صار«ب»مثلا منسوبا إلى«ألف»بالعينيّة و لم يصر «ج»منسوبا إليه كذلك،و لم صار«الف»أولى ل«ب»دون«ج»؛فإن اجيب بأنّهما كذلك، لأنّهما كذلك،فهو نفس هذه النسبة و أخذ المطلوب في بيان نفسه،بل للخصم أن يقول بالعكس و أنّ«ألف»كان ل«ج»و أنّ«ج»منسوب إلى«ألف»دون«ب».و إن اجيب أنّ «ألف»أولى ل«ب»،لأنّه كان«ب»قبل هذه الحالة،أي في حال العدم منسوبا إلى«ألف» بالعينيّة و كون«ألف»أولى له،و لا كذلك«ج»،فيحصل هنا خبر إيجابيّ ثبوتيّ،بل خبران إيجابيّان ثبوتيّان و هو أنّ«ب»في حال العدم كان«ألف»و أنّه في تلك الحال كان«ألف» أولى له،و قد حكم فيهما بثبوت أمر واقعي للموضوع في الواقع و اتّصافه به،فيقتضي وجوده في ظرف الثبوت و ظرف الاتّصاف،أي في الواقع،و قد فرض عدمه في الواقع،فأمّا أن يصار إلى القول بصيرورة المعدوم الواقعيّ في حال العدم و على وصف العدم موجودا في الواقع حينئذ و هو محال بالضرورة.و أمّا أن يصار إلى القول بأنّ ذلك المعدوم في حال عدمه،له وجود في نفس الأمر في علم البارئ تعالى شأنه أو في المبادئ العالية،و ذلك أيضا وجود واقعيّ له،فذلك أيضا باطل،لأنّك قد عرفت فيما تقدّم أن الوجود العلميّ وجود ذهني له،لا واقعيّ،لأنّ الوجود الواقعي لا نعني به إلاّ ما يترتّب عليه الآثار المطلوبة منه و ليس كذلك.

بلى إذا صحّ مذهب من يقول إنّ الشيء يوجد فيفقد من حيث هو موجود،و يبقى من

ص:286

حيث ذاته بعينه ذاتا لم يفقد من حيث هو ذات،ثمّ يعاد إليه الوجود،كالمعتزلة القائلة بثبوت المعدوم و بإعادة المعدوم،أمكن أن يقال بالإعادة و بصحّة ذلك الخبر الإيجابي أو ذينك الخبرين الإيجابيّين في حال عدم وجود الموضوع حتّى يبطل ذلك المذهب من وجوه اخرى كما تبيّن في محلّه.

و إذا لم يسلّم ذلك و لم يجعل للمعدوم في حال العدم ذات ثابتة كما هو عند غيرهم، و هو الحقّ،لم يكن أحد الحادثين بخصوصه ك«ب»مثلا مستحقا لأن يكون قد كان له «ألف»و هو الموجود السابق دون الحادث الآخر ك«ج»،بل إمّا أن يكون كلّ منهما معادا إذا كان كلّ منهما منسوبا إلى«ألف»بالعينيّة و هو خلاف الفرض،و مع هذا يلزم صيرورة الاثنين المتخالفين بالعدد واحدا،و أن لا يكون بينهما امتياز أصلا مع فرض الامتياز بالشخص،أو لا يكون و لا واحد منهما معادا،إذا لم يكن شيء منهما منسوبا إلى«ألف» بالعينيّة،و هذا أيضا خلاف الفرض.و إذا كان المحمولان الاثنان يوجبان كون الموضوع لهما مع كلّ واحد منهما غير نفسه مع الآخر بالاعتبار،فإن استمرّ الموضوع موجودا واحدا و ذاتا ثابتة واحدة،كان باعتبار الموضوع الواحد القائم موجودا و ذاتا شيئا واحدا و بحسب اعتبار المحمولين شيئين اثنين،كما إذا فرضنا أنّه وجد شيء وقتا ما ثمّ لم يعدم و استمرّ وجوده في وقت آخر و علم ذلك أو شوهد،و فرضنا صدق المحمولين عليه أي «ألف»و«ب».أو الوجود السابق و الوجود اللاحق،فإذا افقد استمراره في نفسه ذاتا واحدة كما في صورة انعدامه،و فرض صدق ذينك المحمولين عليه،بقي له الاثنينيّة الصرفة الذاتيّة الواقعيّة لا الاعتباريّة فقط.

و بالجملة إذا فرضنا انعدام الموجود السابق و فقدان ذاته،و فرضنا صدق«ألف»عليه حين الوجود السابق،و صدق«ب»عليه حين الوجود اللاحق،لا يعلم حينئذ أنّه ذات واحدة صدق عليه المحمولان،و كان هو مع صدق أحد المحمولين مغايرا لنفسه بالاعتبار مع صدق الآخر عليه،بل المعلوم هنا هو الاثنينيّة الصرفة و أنّ«ألف»و«ب»متغايران بالذات و شيئان اثنان في الواقع.

و بالجملة أنّه يلزم على كلّ تقدير مع لزوم المحال المختصّ به،أن لا يكون بين المعاد و المثل المستأنف المفروض امتياز في اختصاص المعاد بصفة الإعادة دون المثل،و هذا

ص:287

خلاف الفرض،فمن أين يمكن أن يقال بإعادة المعدوم بعينه و هو المطلوب.

و بما ذكرنا تمّ تحرير كلامه في التعليقات،و منه يعلم أنّ كلامه في الكتابين متوافقان في أصل المقصود،لا تخالف بينهما.

إلاّ في بعض الخصوصيات في التقرير و العبارة.

و إلاّ أنّ كلامه في التعليقات في كونه بحيث يمكن أن ينفهم منه انفهاما ظاهرا أنّ اللازم على تقدير فرض إعادة المعدوم و فرض وجود مثل له ثلاثة محالات،يلزم كلّ منها عن تقدير كما فصّلناه مخالف لكلامه في الشفاء،فإنّ انفهامه منه،ليس بتلك المثابة،حيث إنّه في التعليقات،أشار إلى جميعها،فإنّ مفاد كلامه فيها أنّه على فرض إعادة المعدوم و فرض وجود مثل له مستأنف،ليس أحد الحادثين كالمعاد مستحقا لأن يكون له الموجود السابق دون المثل المستأنف،و أنّ المعاد ليس مختصّا بصفة الإعادة،دون المثل المفروض،بل إمّا أن يكون كلّ منهما معادا أو لا يكون شيء منهما معادا،و أنّه في الشفاء أشار إلى أنّ اللازم هو واحد من تلك المحالات.حيث قال:و من تفهيمنا هذه الأشياء يتّضح لك بطلان قول من يقول إنّ المعدوم يعاد،لأنّه أوّل شيء يخبر عنه،و ذلك لأنّ المعدوم إذا اعيد يجب أن يكون بينه و بين ما هو مثله لو وجد فرق،فإن كان مثله إنّما ليس هو،لأنّه ليس الذي كان و عدم و في حال العدم كان هذا غير ذلك،فقد صار المعدوم موجودا على النحو الذي أومأنا إليه فيما سلف.

و إلاّ أنّ ما في الشفاء ظاهره أنّ ذلك المحال اللازم هو صيرورة المعدوم موجودا و ينفهم منه عدم صحّة ذلك الحكم الإيجابي الضمني اللازم على تقدير فرض الإعادة.أي قولنا:إنّ المعاد حال العدم هو الموجود السابق و أنّه غير المحدث الجديد المفروض مثلا له،و أنّ ما في التعليقات ظاهره عدم صحّة نسبة المعاد بالعينيّة إلى الموجود السابق دون المثل المستأنف،و عدم أولوية استحقاق المعاد لأن يكون قد كان له الموجود السابق دون المثل المفروض.

و هذان الأمران اللذان يستفادان من هذين الكلامين و إن كان أحدهما غير الآخر بحسب المعنى الظاهري،إلاّ أنّ مآلهما واحد عند التحقيق.

و يلزم منهما محال آخر أيضا،هو بالمآل راجع إليهما،و هو عدم امتياز المعاد عن

ص:288

المثل المستأنف المفروض في اختصاصه بصفة الإعادة كما هو المفروض؛هذا خلف.

و ينبغي أن يحمل أحد الأمرين على الآخر،بل أن يحمل كلّ من الكلامين على أنّه يلزم من الفرض المذكور كلّ من ذينك الأمرين اللذين مآلهما واحد،و يلزم منهما المحال الآخر الذي هو راجع إليهما أيضا.

و كذا ينبغي أن يحمل ما في الشفاء في الدليل الأوّل على تمام ما في التعليقات في هذا المطلوب،و بالعكس تطبيقا بين الكلامين،و تصحيحا لهما بقدر الإمكان،و اللّه المستعان.

نقل كلام من المحقّق الدواني في هذا المقام و الإشارة إلى ما فيه

ثمّ إنّ المحقّق الدواني في الحاشية على شرح التجريد في مقام توجيه كلام المحقّق الطوسي رحمه اللّه في الدليل الأوّل على هذا المطلب،و أن ليس غرضه منه ما فهمه الشارح القوشجي منه،و أورد عليه الاعتراض بالوجوه الثلاثة بعد أن نقل كلام الشيخ في التعليقات،قال بهذه العبارة:

و ليس فيه استدلال على امتناع العود بامتناع الحكم على المعدوم كما ذكره المتأخّرون،و كيف يتصوّر من عاقل مثل هذا الاستدلال،بل محصّله أنّ العدم عبارة عن فقدان الذات،و بطلانه،فلا يكون موضوع الوجودين و العدم شيئا واحدا،لعدم انحفاظ وحدة الذات حال العدم.فامتياز المعاد عن المستأنف المفروض،و اختصاصه بصفة الإعادة إن كان لكونه ثابتا من حيث الذات في حال العدم،فهو باطل،لأنّ المعدوم لا هويّة له،و إن كان لكونه معروض الوجود أوّلا فهو عين النسبة التي وقع النظر في إمكانها،و ذلك غير متصوّر مع فقدان الاستمرار،لأنّه يوجب الاثنينيّة الصرفة.و الظاهر أنّ ذلك مقصود المصنّف،و كلامه ظاهر الانطباق عليه من غير كلفة،فإنّ ظاهر قوله:«فلا يصحّ الحكم عليه بصحّة العود»أنّه لا يصدق الحكم عليه بها فيندفع عنه تلك الإيرادات المبنيّة على ما قرّره.

نعم يبقى أن يقال:المعدوم في الخارج يجوز أن يبقى في نفس الأمر بحسب الذهن، فينحفظ وحدته بحسب ذلك الوجود،و يندفع بأنّ الموجود في الذهن في الحقيقة هو الهويّة المكتنفة بالمشخّصات الذهنيّة،و اتّحادها مع الموجود الخارجي بمعنى أنّها بعد

ص:289

التجريد عينه،فليست إيّاه مطلقا بالفعل،فتأمّل.-انتهى كلامه. (1)

و أقول:قوله:«و ليس فيه استدلال-إلى آخره.»

قد عرفت ممّا قرّرنا كلام التعليقات أنّه يستفاد منه ذلك الاستدلال أيضا لكن لا في قولنا:«المعدوم يعاد»كما فهمه الشارح القوشجي و اعترض عليه،بل في ذلك الخبر الضمني المتضمّن له القول بصحّة الإعادة،أي قولنا:«المعدوم حال العدم عين الموجود السابق أو غير المثل المستأنف»و إن كان دلالة كلام الشفاء عليه أظهر.

و بالجملة لا غبار على هذا الاستدلال بهذا الوجه،لو استدلّ به أحد و يتصوّر ذلك من العقلاء.

و قوله:«بل محصّله أنّ العدم عبارة-إلى آخره-»هذا إشارة إلى بعض ما يستفاد من كلام التعليقات من لزوم المحالات لا إلى كلّه،فإنّك قد عرفت أنّه يدلّ على أنّه على تقدير فرض إعادة المعدوم و فرض وجود مثل مستأنف معه يرد محالات عديدة و هذا أحدها.

و كأنّه في قوله:«بل محصّله»اكتفى به،لكونه لازما على كلّ تقدير من التقديرات كما بينّاه سابقا.

و قوله:«فامتياز المعاد عن المستأنف المفروض و اختصاصه بصفة الإعادة».

هذا منه،يدلّ على أنّ مراده فيما نقلنا عنه في كلام الشارح سابقا من قوله:«إذ محصّله أنّا نفرض المثل المذكور و نقول لا امتياز بينهما أصلا،إذ لو كان بينهما امتياز-إلى آخره-» عدم الامتياز بينهما في كون المعاد مختصّا بصفة الإعادة دون المثل لا عدم الامتياز بينهما مطلقا كما هو ظاهرة،حتّى يرد أنّ ذلك مع فرض كونهما متخالفين بالعدد خلاف الفرض كما أوردنا،و إن كان الإيراد الآخر الذي أوردنا عليه هنالك من أنّ الاعتراف بعدم إمكان المثل مع فرض وجوده كما فعله لا يجدي شيئا وارادا عليه،فتذكّر.

و قوله:«إن كان لكونه ثابتا من حيث الذات-إلى قوله-لأنّه يوجب الاثنينيّة الصرفة»، هذا حاصل ما فهمه من كلام الشيخ،و قد ذكرنا أيضا تقريره بعبارة اخرى هي ألصق بكلامه،فتذكّر.

و قوله:«و الظاهر أنّ ذلك مقصود المصنّف رحمه اللّه و كلامه ظاهر الانطباق عليه من غير

ص:290


1- -راجع هامش شرح التجريد:72 و [1]فيه:«بالعقل»مكان«بالفعل».

كلفة»،فإنّ ظاهر قوله فلا يصحّ الحكم عليه بصحّة العود أنّه لا يصدق الحكم عليه بها لما كان ظاهر قول المحقّق الطوسي«و المعدوم لا يعاد لامتناع الإشارة إليه فلا يصحّ الحكم عليه بصحّة العود»أنّه لا يصحّ الحكم عليه بها في القضيّة التي وقع محمولها هذا المفهوم أي صحّة العود،و موضوعها المعدوم،أي قولنا:المعدوم يصحّ عوده أو يجوز عوده أو يعاد، و كان ظاهر عدم صحّة هذا الحكم امتناعه،و كان هذا دالاّ على ما فهمه الشارح القوشجي منه،و أورد عليه الاعتراض بالوجوه الثلاثة،مع أنّه كان هذا الادّعاء غير مطابق للواقع، حيث إنّه لو امتنع هذا الحكم لما حكم به القائلون بجواز الإعادة و الحال أنّهم قد حكموا بذلك،فلذا قال:إنّ معنى قوله:«فلا يصحّ الحكم عليه بصحّة العود»أنّه لا يصدق الحكم عليه بها أي لا يكون ذلك الحكم حقّا مطابقا للواقع،بل باطلا و أشعر بذلك أنّ ذلك نتيجة للدليل،و متفرّع عليه،لا أنّه دليل على المطلوب،كما فهمه الشارح القوشجي و أورد عليه.

و أنّ حاصل الدليل الذي ذكره المحقّق الطوسي على امتناع إعادة المعدوم،هو أن يقال:إنّ المعدوم لا يعاد،أي لا يصحّ عوده،لأنّه لو جاز عوده لجاز فرض وجود مثل له مستأنف، كما ذكر،و حينئذ نقول:فامتياز المعاد عن المثل المفروض في اختصاصه بصفة الإعادة مع تماثلهما إنّما يكون بأن يجوز الإشارة العقليّة إلى هويّته الخارجيّة في حال العدم لحصول الامتياز المذكور حتّى يصحّ أن يقال:إنّه منسوب إلى الموجود السابق دون المثل المستأنف،و ليس كذلك،لامتناع الإشارة العقليّة إلى هويّته الخارجيّة،فلا يصحّ الحكم عليه بصحّة العود.

و معناه أنّه لا يكون ذلك الحكم الذي حكمه مجوّزو الإعادة صادقا و حقّا مطابقا للواقع بل باطلا غير مطابق له،لا أنّه يكون ذلك الحكم ممتنعا إذ لا امتناع في أصل ذلك الحكم.كيف و قد حكم به كثير من العقلاء أي المجوّزون للإعادة.و هذا على ما فهمه المحقّق الدواني من كلام الشيخ في التعليقات.

و أمّا على ما فهمناه منه و من كلامه في الشفاء،فنقول:لو جاز عود المعدوم لجاز فرض وجود مثل له.

فإمّا أن لا يكون شيء منهما منسوبا إلى الموجود السابق بالعينيّة فهذا يقتضي أن لا يكون شيئا منهما معادا؛هذا خلف.

ص:291

و إمّا أن يكون كلّ منهما منسوبا إليه كذلك،فهذا يقتضي أن يكون كلّ منهما معادا،و هو أيضا خلاف الفرض.

و إمّا أن يكون أحدهما و هو المعاد،منسوبا إليه كذلك دون المثل المفروض،فهذا يقتضي أن يكون للمعاد في حال العدم نسبة إلى الموجود السابق بالعينيّة،بل إلى المثل أيضا بالغيريّة فيقتضي أن يحكم هناك بحكمين واقعيّين ثبوتيّين يقتضيان وجود الموضوع في الخارج و الإشارة العقليّة إلى هويّته الخارجيّة،و ليس الأمر كذلك،لامتناع الإشارة العقليّة إلى هويّة المعدوم في حال العدم و مع وصف العدم.و على هذا أيضا فلا يكون الحكم عليه لصحّة العود حقّا مطابقا للواقع بل باطلا.

في الإشارة إلى توجيه الدليل الأوّل

الذي ذكره المحقّق الطوسي على هذا المطلب

و على التوجيهين فحمل كلام المحقّق الطوسي على ما ينفهم من كلام الشيخ في الكتابين ممكن بلا سترة،و قد أشرنا إليه فيما سبق أيضا إلاّ أنّه يحتاج إلى أدنى عناية و ليس ذلك تكلّفا.و لو سلّمنا كونه تكلّفا،فلا يخفى أنّه تكلّف سهل،يرتكب مثله، و لا سيّما في مقام التوجيه كثيرا،و لذلك قال المحقّق الدواني:«و الظاهر أنّ ذلك مقصود المصنّف،و كلامه ظاهر الانطباق عليه من غير كلفة-إلى آخره-.»و قوله:«نعم يبقى أن يقال-إلى آخره-»هذا الإيراد إنّما يرد على ما قرّره كلام الشيخ في التعليقات به،و مبناه على وجود الأشياء بأعيانها في الذهن كما هو التحقيق عندهم.و أمّا على ما قرّرناه و ذكرنا أنّه محتمل فيه،و هو ظاهر كلامه في الشفاء،فلا يرد إيراد،إذ لا سترة في أنّ ذلك الخبر الضمني اللازم على تقدير الفرض المذكور يقتضي وجود الموضوع في الخارج،مع كون المفروض عدمه في الخارج،و في أنّ وجوده في الذهن في نفس الأمر سواء قيل بوجود الأشياء بأعيانها في الذهن،أو قيل بوجودها بأشباحها فيه،ليس وجودا خارجيّا أو واقعيّا له كما يقتضيه ذلك الخبر،كما بيّناه فيما سبق.

و بالجملة فعلى ما قرّرناه لا يرد إيراد،و لو أورد أيضا يكون اندفاعه ظاهرا بأدنى تأمّل.

و أمّا على ما قرّره هو،فمع ورود الإيراد الذي أورده عليه لا يخلو ما ذكره في وجه اندفاعه

ص:292

عن نظر و تأمّل.و لذلك أمر بالتأمّل و ذلك النظر مثل النظر الذي أورده فيه المحشي م ن الشيرازي،حيث قال في قوله:«و يندفع بأنّ الموجود في الذهن-إلى آخره-»فيه نظر ظاهر،فإنّ كون الموجود في الذهن شخصا ذهنيّا محفوفا بعوارض،يكون بعد التجريد عين الشخص الخارجي،لا ينفي كونه عين الشخص الخارجي محفوظا في الذهن و موجودا فيه محفوفا بتلك العوارض.بل الحقّ في الجواب أن يقال:إنّ الحكم بأنّ«ب» مثلا في الخارج هو ما كان«ألف»فى الخارج يستدعي حفظ الذات و استمراره في الخارج،و لا ينفع كونها في الذهن محفوظة،نعم الحفظ في الذهن إنّما ينفع العلم بأنّ«ب» كان«ألف»و أمّا أنّ«ب»كان«ألف»في الخارج فلا بدّ فيه من أن لا يكون الذات مفقودة في الخارج،فليتأمّل.-انتهى.

و إن كان الجواب الحقّ الذي ذكره هو أيضا محلّ تأمّل.فلذا أمر بالتأمّل و كأنّ وجه التأمّل،أنّ لقائل أن يقول:لعلّه كان العلم بأنّ«ب»كان«ألف»كافيا في المقصود،أي في امتياز المعاد عن المثل المستأنف المفروض،لا بدّ لنفي ذلك من دليل.و حيث كان هذا الجواب أيضا محلّ تأمّل كجواب المحقّق الدواني،ظهر أن التقرير الأتمّ و الأحسن ما ذكرناه،فتبصّر.

ثمّ إنّه حيث اتّضح بما ذكرنا تقرير كلام المحقّق الطوسي في التجريد في دليله الأوّل، و اتّضح أيضا بما ذكرنا تقرير ما ذكره في دليله الثالث بقوله:«و لم يبق فرق بينه و بين المبتدأ و صدق المتقابلان عليه دفعة و يلزم التسلسل في الزمان»،فلنتكلّم في تقرير دليله الثاني الذي ذكره بقوله:«و لو اعيد لتخلّل العدم بين الشيء و نفسه». (1)

فنقول:إنّ الظاهر أنّ مقصوده أنّه لو اعيد المعدوم بعينه،أي لو جاز كون شيء واحد موجودا بوجود أوّلا ثمّ زوال ذلك الوجود عنه في زمان آخر ثمّ وجوده بذلك الوجود في زمان ثالث،فإمّا أن يكون الموجود بالوجود أخيرا غير الموجود بالوجود أوّلا،غيريّة بالذات و بالشخص،و كذا الوجودان،فحينئذ لا يكون إعادة معدوم أصلا فضلا عن أن يكون إعادة معدوم بعينه كما هو المفروض،لكون الموجودين بالوجودين،و كذا الوجودين متغايرين بالذات و بالشخص.و إمّا أن يكون عينه عينيّة بالذات و بالشخص

ص:293


1- -شرح التجريد:72. [1]

فحينئذ يلزم أن يكون العدم متخلّلا بين الشيء و نفسه أي بين الموجود الأوّل و نفسه، و كذا بين الوجود أوّلا و نفسه،و هذا محال،لأنّ تخلّل شيء إنّما يتصوّر بين شيئين لا بين شيء واحد.

مضافا إلى أنّه لا يتصوّر تخلّل نقيض شيء كالعدم بين شيء و نفسه كالوجود.

و أيضا يلزم منه أن يكون شيء واحد أي العدم سابقا على شيء واحد،أي ذلك الموجود أو وجوده،و كذا مسبوقا أيضا بذلك الشيء سابقيّة و مسبوقيّة بالزمان.

و يلزم أيضا منه سبق ذلك الشيء على نفسه بالزمان.إذ السابق على السابق على شيء سابق عليه،و كذا المسبوق بالمسبوق به مسبوق به،و كلّ ذلك ممتنع،و لزومه على تقدير الفرض المذكور ظاهر بأدنى تأمّل.

و قد ذكر الشارح القوشجى في هذا الدليل كلاما بهذه العبارة:«و لو اعيد لتخلّل العدم بين الشيء و نفسه إذ المفروض أنّ المعاد هو المبتدأ بعينه،و تخلّل شيء إنّما يتصوّر بين شيئين.

و الجواب أنّه لا معنى لتخلّل العدم هنا سوى أنّه كان موجودا في زمان،ثم زال عنه ذلك الوجود في زمان آخر،ثمّ اتّصف به في زمان ثالث،و من هذا تبيّن أنّ التخلّل بحسب الحقيقة إنّما هو لزمان العدم بين زماني وجوده بعينه.

و أيضا لم لا يجوز التميّز بين الحالين بعوارض غير مشخّصة مع بقاء العوارض المشخّصة بحالها في الحالين،فلا يلزم تخلّل العدم بين الشيء الواحد من جميع الوجوه.

و أيضا لو تمّ هذا الدليل لدلّ على امتناع بقاء شخص من الأشخاص زمانا،و إلاّ لزم تخلّل الزمان بين الشيء و نفسه،لوجود ذلك الشخص في طرفي زمان البقاء.-انتهى كلامه.» (1)

و أقول:لا يخفى على المتأمّل أنّ ما أورده عليه غير وارد أصلا.

أمّا ما أورده أوّلا فلأنّ ما ذكره من معنى تخلّل العدم لا يجديه نفعا أصلا،لأنّه لا خفاء في أنّ زمان العدم الذي فرض وقوع العدم فيه إذا كان متخلّلا بين زماني وجوده بعينه اللذين فرض وقوع الوجودين أي الوجود الواحد بعينه فيها لصدق حينئذ تخلّل العدم

ص:294


1- -شرح التجريد:72-73.

نفسه بين الوجود الواحد بعينه نفسه و كذا بين الموجود الواحد بعينه نفسه الذي فرض كونه هو الموجود بذلك الوجود الواحد بعينه نفسه و يلزم منه المحال كما ذكرنا،فتغيير العبارة لا يفيد شيئا بل هو تهافت.

و أمّا ما أورده ثانيا فلأنّا نقول:إنّ تلك العوارض غير المشخّصة إمّا أن تفيد أن يكون الموجود أخيرا غير الموجود أوّلا غيريّة بالذات و بالشخص أو لا تفيد،و على الأوّل فلا يكون هناك إعادة معدوم أصلا فضلا عن أن يكون إعادة معدوم بعينه.و على الثاني فيكون الثاني عين الأوّل بعينه و بالذات و بالشخص و يلزم منه المحال.مع أنّ فرض حصول التميّز و المغايرة بعوارض غير مشخّصة مع بقاء العوارض المشخّصة بتمامها ممّا لا يمكن،إذ معنى العوارض المشخّصة أن يكون التميّز و التغاير بها،لا بغيرها من العوارض ففرض حصولهما بغيرها خلاف الفرض.

و أيضا إذا كانت العوارض المشخّصة باقية بحالها،يكون ما يعرض لأحدهما عارضا للآخر أيضا،لأنّ عروض عارض لأحدهما دون الآخر يحتاج إلى تشخّصه و امتيازه و المفروض عدمه.فعلى هذا فلا يتحقّق الامتياز بالعوارض غير المشخّصة أيضا.و قد أشرنا إلى ذلك فيما سبق أيضا.

و أمّا ما أورده ثالثا،فلأنّك قد عرفت أنّه في صورة تخلّل زمان العدم بين زماني وجوده بعينه كما عبّر به عن معنى التخلّل ليس تخلّل زمان العدم بمجرّد كونه زمانا مطلقا،أعمّ من أن يكون ذلك الزمان زمان العدم،أو الوجود أو زمان الشيء المتخلّل أو زمان الشيء المتخلّل فيه بين زماني وجود ذلك الشيء من حيث هما أيضا زمان مطلقا منشأ للزوم المحال،إنّما المنشأ له،هو تخلّل زمان العدم من جهة كون الواقع فيه هو العدم،أي تخلّل العدم الواقع فيه بين زماني وجوده بعينه أي بين ذينك الزمانين من حيث كون الواقع فيهما هو الشيء و نفسه أي بين ذينك الزمانين من حيث كون الواقع فيهما هو الشيء و نفسه أي الموجود بالوجود أوّلا و الموجود به أخيرا،و كذا الوجودان.

و الحاصل أنّ المنشأ لذلك هو التخلّل غير الشيء و خصوصا نقيضه بين ذلك الشيء و نفسه.و لا يخفى أنّه في صورة فرض زوال الوجود أوّلا و انقطاع استمرار حقيقة الموجود بذلك الوجود،يتحقّق هذا التخلّل و يكون منشأ للمحال كما ذكرنا،و أمّا في صورة بقاء

ص:295

الوجود و استمرار حقيقة الموجود،فالمتخلّل بين زماني وجود ذلك الشيء و إن كان يكون هناك زمان،لكن لا زمان غيره و نقيضه،بل زمان وجوده بعينه.

و بالجملة أنّ الزمان المتخلّل،و كذا الزمانان المتخلّل فيهما و إن كانت متغايرة بالذات، لكن الواقع في تلك الأزمنة،هو نفس ذلك الشيء بعينه و وجوده بعينه من غير أن يكون هو بحسب وجوده في تلك الازمنة غيرا لنفسه بالذات و بالشخص.و أمّا كونه بحسب حصوله في أحد تلك الأزمنة مغايرا لنفسه بحسب حصوله في الزمان الآخر،فهو مغايرة بالاعتبار لا بالذات.

و الحاصل أنّ ذلك عبارة عن بقاء الشيء بعينه بالذات في تلك الأزمنة،و لا يلزم منه محال من تلك المحالات.

فإن قلت:على هذا أيضا يلزم المحال،حيث إنّه يلزم منه أن يكون ذلك الشيء باعتبار حصوله في الزمان أوّل سابقا على نفسه باعتبار حصوله في الزمان الثاني.و كذا يلزم منه أن يكون هو باعتبار حصوله في الزمان الوسط مسبوقا بنفسه باعتبار حصوله في الزمان الأوّل،و سابقا على نفسه باعتبار حصوله في الزمان الثالث.

قلت:لا ضير فيه،فإنّ ذلك كلّه إنّما هو من حيث الاعتبار لا من حيث الذات.

فإن قلت:أيّ شيء أردت بذلك؟فإن أردت به أنّ السابقيّة و المسبوقيّة الزمانيّتين،إنّما تعرضان للزمان المفروض بالذات و لذلك الشيء الواقع فيه باعتبار ذلك الزمان و بواسطته كما في مطلق الزمان و مطلق الزمانيّات الواقعة في الزمان حيث إنّ التقدّم و التأخّر الزمانيّين،إنّما يعرضان للزمان بالذات و للزمانيّات باعتباره و بواسطته،فهذا مسلّم،لكنّه لا يدفع لزوم المحال المذكور هنا،و لا يكون منشأ للفرق بين الصورتين،أي أن يكون سبق شيء على نفسه و كذا سابقيّته على شيء و مسبوقيّته به في صورة تخلّل زمان العدم بين زماني وجوده بعينه محالا،و جائزا في صورة تخلّل زمان وجوده نفسه بين زماني وجوده بعينه،مع أنّ كلاّ منهما سابقيّة و مسبوقيّة،باعتبار الزمان،بل ينبغي أن يكون كلّ من الصورتين سواء في الامتناع أو الجواز.

و إن أردت به معنى آخر فلا بدّ له من بيان.

قلنا:أردنا به مع ذلك أمرا آخر أيضا يحكم به بديهة العقل،و هو أنّه في صورة تخلّل

ص:296

زمان العدم حيث فرض زوال الوجود و انقطاع استمرار الذات،و فرض عود الوجود و الذات ينفرض هناك اثنينيّة،إذ العود لا يكون إلاّ أن يكون هناك اثنينيّة،فإنّ معناه عود الموجود الأوّل أو الوجود الأوّل بعد انعدامه و حصوله مرّة اخرى أو في زمان آخر و حيث ينفرض اثنينيّته فينفرض هناك ذات و ذات،و حيث كان المفروض مع ذلك كون الذات الثاني عين الذات الأوّل بعينه،و كون كلّ منها واقعا في زمان واحد الزمانين سابقا على الآخر بالذات،فيلزم أن يكون العدم المتخلّل بينهما و كذا زمانه سابقا على شيء و مسبوقا بذلك الشيء بعينه،و أن يكون ذلك الشيء سابقا على نفسه كما ذكرنا سابقيّة و مسبوقيّة من حيث الذات،و إن كانتا تعرضان للذات بواسطة عروضهما للزمان،و للزمان بالذات، و أمّا في صورة تخلّل زمان الوجود بين زماني وجوده بعينه،فحيث كان استمرار الذات و استمرار الوجود باقيين بحالهما فلا ينفرض هناك اثنينيّة من حيث الذات،فلا يكون هناك ذات و ذات،فلو كانت هناك سابقيّة و مسبوقيّة لم تكونا من حيث الذات،بل من حيث الاعتبار،بمعنى أنّ الذات باعتبار ما سابق و بالاعتبار الآخر مسبوق،بل بمعنى أنّ تلك السابقيّة و المسبوقيّة إنّما تعرضان في الحقيقة لذينك الاعتبارين أنفسهما،لا للذات من حيث هي،و إن كان عروضهما للاعتبارين أيضا بواسطة الزمان.

فالمحصّل أنّه يلزم حينئذ أن يكون أحد اعتباري تلك الذات و إحدى حيثيّاته سابقا على الاعتبار الآخر و الحيثيّة الاخرى،و كذا أن يكون أحد اعتباراته و إحدى حيثيّاته سابقا على بعض اعتباراته و حيثيّاته،و مسبوقا ببعض آخر من اعتباراته و حيثيّاته، فلا سابقيّة و لا مسبوقيّة تعرضان للذات،من حيث هي.

ثمّ إنّه حيث كانت تلك الاعتبارات و الحيثيّات متغايرة،ليس واحد منها عين الآخر، فلا يلزم من سابقيّتها و مسبوقيّتها سبق شيء على نفسه،و لا أن يكون شيء واحد سابقا على شيء و مسبوقا به بعينه،فتبصّر.

و حيث عرفت ما ذكرنا في تحرير هذا الدليل الذي ذكره المحقّق الطوسي و في دفع اعتراضات الشارح القوشجي عنه،ظهر لك تماميّة الدليل و عدم ورود شيء عليه.

و قد ذكر المحقّق الدواني أيضا في الحاشية عليه كلاما في مقام الجواب عن تلك الاعتراضات،لا بأس بنقله مع بيانه،عسى أن يكون ذلك موجبا لزيادة إيضاح المقام.

ص:297

قال:في قول الشارح القوشجي:«و الجواب أنّه لا معنى لتخلّل العدم-إلى آخره-» (1)بهذه العبارة:

معنى تخلّل العدم بين الشيء و نفسه أن يكون عدمه مسبوقا و سابقا لشيء واحد بعينه بالسبق الزماني،فإنّه إذا جاز الإعادة يكون«ألف»سابقا على عدمه و هو بعينه مسبوق بذلك العدم،و هو محال، لاستلزامه تقدّم الشيء على نفسه بالزمان،و هو محال بالبديهة، بحذاء الدور،فإنّه محال لاستلزامه تقدّم الشيء على نفسه بالذات.

و من هاهنا تبيّن ما في قوله:«إنّ التخلّل بحسب الحقيقة إنّما هو لزمان العدم بين زماني وجوده بعينه»فإن تخلّل زمان العدم بين زماني وجود شيء واحد بعينه يستلزم تخلّل العدم بين شيء واحد بعينه،بأن يكون ذلك الشيء سابقا على ذلك العدم و هو بعينه مسبوق به.

فإن قيل:لا نسلّم لزومه،بل يلزم تخلّل العدم بين وجودي شيء واحد بعينه.

فالجواب أنّ اختلاف الوجود يستلزم اختلاف الذات بديهة،فإنّا نعلم قطعا أنّ الشيء الواحد لا يكون له وجودان خارجيّان،فإنّ الوجود الخاصّ لكلّ شيء هو عينه في الخارج،و إن كان غيره بحسب الاعتبار،إذ نسبة الوجود إلى الماهيّة،ليست نسبة العوارض التي يجوز تبدّلها و اختلافها مع انحفاظ وحدة الذات،إذ لا وحدة لها إلاّ باعتبار الوجود.

ثمّ على تقدير جواز ذلك لا فرق بين الماهيّة و الوجود في جواز الإعادة.

قال الشيخ في التعليقات:و لم لا يكون الوجود نفسه معادا و يكون الوقت أيضا معادا، فيكون الحدوث أيضا معادا فيكون ليس هناك وجودان و لا وقتان و لا حدوثان اثنان،بل واحد بعينه معاد،ثمّ كيف يكون العود و لا اثنينيّة،و كيف يكون اثنينيّة و يجوز أن يكون المعاد بعينه هو الأوّل.

ثمّ قول من يريد أن يهرب عن هذا منهم (2)و يقول الوجود صفة،و الصفة لا توصف و لا تعقل،و ليست بشيء و لا موجودة،و أنّ الوقت أو بعض الأشياء لا يحتمل الإعادة و بعضها يحتمل،حتّى لا يلزمه أن فرض الإعادة للمعدوم قد يجعل المعاد غير معاد،

ص:298


1- -شرح التجريد:73.
2- -ينهم(خ ل).النهم المبالغة في الجدّ في طلب الشيء.

و يجوز أن يكون ما هو معاد ليس له حالتان أصلا،قول ملفّق يفضحه البحث المحصّل.

هذا لفظه و لمّا كان الشيخ يدّعي بداهة المدّعى،لم يبال بذكر بعض المقدمات التنبيهيّة في صورة المنع.-انتهى.» (1)

و قال أيضا في قول الشارح المذكور:«و أيضا لو تمّ هذا الدليل-إلى آخره-»:لا يخفى أنّ الذات مستمرّة في زمان البقاء،فلا يلزم تخلّل الزمان بين الشيء و نفسه،بل تخلّله بين الشيء باعتبار وقوعه في الزمان الأوّل،و بينه باعتبار وقوعه في الزمان الثاني،لأنّ السابق بالسبق الزماني،و اللاحق بذلك اللحوق،إنّما هو الزمان بالذات و الشيء مع حصوله في الزمانين بالواسطة لا نفس الذات من حيث هي،لأنّها مستمرّة،فتدبّر.-انتهى كلامه. (2)

و أقول:ما ذكره في الحاشية الاولى أوّلا غنيّ عن البيان،و هو بعض ما ذكرنا في تحرير الدليل.

و قوله:فإن قيل لا نسلّم لزومه-إلى آخره.

مراد القائل أنّه لا يلزم من ذلك تخلّل العدم بين شيء واحد بعينه،بل إنّما يلزم منه تخلّله بين وجودي شيء واحد بعينه.و لا نسلّم اتّحاد الوجودين،بل إنّهما مختلفان و حيث كانا مختلفين فيلزم منه تخلّل العدم بين شيئين و لا محذور فيه.

و هذا الإيراد و إن كان يمكن الجواب أيضا عنه بأن يقال:إنّه لو كان كذلك لمّا كان الموجود بالوجود ثانيا عين الموجود بالوجود أوّلا فلا يكون حينئذ إعادة معدوم أصلا، فضلا عن أن يكون إعادة معدوم بعينه كما هو المفروض؛هذا خلف.لكنّه لم يلتفت إليه ظاهرا بل تعرّض لإثبات المقدّمة الممنوعة،بحيث يمكن أن يفهم هذا الجواب أيضا عنه.

و قال:فالجواب أنّ اختلاف الوجود يستلزم اختلاف الذات بديهة،فإنّا نعلم قطعا أنّ الشيء الواحد لا يكون له وجودان خارجيان،فأثبت المقدّمة بكونها من البديهيّات المعلومة.

و قال أيضا فإنّ الوجود الخاصّ لكلّ شيء،هو عينه في الخارج،و إن كان غيره بحسب الاعتبار،و هذا إمّا من تتمّة السابق،بأن يكون فيه أيضا إثبات تلك المقدّمة بطريق

ص:299


1- -راجع هامش شرح التجريد:73.
2- -راجع هامش شرح التجريد:73. [1]

البداهة،أو يكون فيه تنبيه على السابق الذي ادّعى البداهة فيه،و إمّا بيان آخر يكون فيه إثبات تلك المقدّمة بطريق البرهان.

و على كلّ تقدير فهو مبنيّ على ما هو المستبين أو المحقّق عندهم من أنّ الوجود الخاصّ لكلّ شيء هو عينه في الخارج،و إن كان غيره بحسب الاعتبار العقلي،و أراد بالوجود الخاصّ منشأ الموجوديّة و مناط صدق الوجود بالمعنى العامّ الانتزاعي على الذات و مصداق حمل الموجود بهذا المعنى عليها.و كأنّه أشار بذلك إلى ما تقدّم منه،في بعض حواشيه على الشرح المذكور حيث حقّق فيه أنّ الوجود بالمعنى العامّ الانتزاعي المشترك فيه بين الأشياء من المعقولات الثانية.و هو ليس عينا لشيء منها حقيقة.نعم مصداق حمله و هو المراد بالوجود الخاصّ على الواجب ذاته بذاته و مصداق حمله على غيره،ذاته من حيث هو محمول الغير. (1)

فالمحمول في الجميع زائد بحسب الذهن،إلاّ أنّ الأمر الذي هو مبدأ انتزاع المحمول في الممكنات ذاته من حيثيّة مكتسبة من الفاعل،و في الواجب ذاته بذاته،فإنّه في ذاته بحيث إذا لاحظه العقل انتزع منه الوجود المطلق بخلاف غيره.-انتهى ملخّصا.

و لا يخفى أنّ هذا الكلام منه يدلّ على ما ذكره هنا كما أنّ ما نقلناه عن الشيخ في الشفاء سابقا يدلّ عليه،حيث قال:فإنّ لكلّ أمر حقيقة هو بها ما هو،فللمثلّث حقيقة أنّه مثلّث و للبياض حقيقة أنّه بياض،و ذلك هو الذي ربما سمّيناه الوجود الخاصّ و لم نرد به الوجود الإثباتي.

و قال أيضا:إنّه من البيّن أنّ لكلّ شيء حقيقة خاصّة هي ماهيّته و معلوم أنّ حقيقة كلّ شيء الخاصّة به،غير الوجود الذي يرادف الإثبات-إلى آخر ما ذكره-كما نقلنا عنه هنالك.

و ينبغي أن يحمل كلام الشيخ على ما دلّ عليه كلام المحقّق المذكور،يعني أنّه أراد بالحقيقة في الحكم بأنّه عين الوجود الخاصّ الحقيقة من حيث كونها منشأ لانتزاع صفة الوجود الإثباتي عنه،لا الحقيقة من حيث هي،فإنّها من حيث هي،بل من حيث كونها أيضا معروضة للوجود الإثباتي و موصوفة بها،غير الحقيقة بمعنى الوجود الخاصّ

ص:300


1- -في المصدر:مجعول الغير.

بالاعتبار،كما ذكره المحقّق المذكور.

و بالجملة فيظهر من الكلامين المنقولين:كلام الشيخ و كلام المحقّق المذكور،كون الوجود الخاصّ بهذا المعنى عين الموجود في الخارج،و إن كان غيره بحسب الاعتبار العقلي،و أنّ الوجود الإثباتي أي أمر الانتزاعي العقلي غيره مطلقا،و أنّ باختلاف الوجود الخاصّ الذي هو الأصل في موجوديّة الموجود،و منشأ انتزاع صفة الوجود عنه،يختلف الذات،و أنّه لا يكون لذات واحدة بالشخص وجودان خاصّان،إذ لا يكون لشيء واحد بالشخص حقيقتان مختلفتان و هذا ظاهر،بل لا يكون لشيء واحد بالشخص وجودان انتزاعيان أيضا،فإنّ الحصّة من الوجود الانتزاعي العامّ المنتزعة من الوجود الخاصّ هي في الوحدة و عدمها تابعة لذلك الوجود الخاصّ تبعيّة المنتزع للمنتزع منه،إن واحدا فواحدا و إن كثيرا فكثيرا،و على تقدير فرض تعدّد تلك الحصّة و اختلافها و تبدّلها أيضا مع فرض وحدة الذات بوحدة الوجود الخاصّ،فلا يقدح ذلك في وحدة الذات و عدم تغيّرها، فإنّ المفروض أنّ ما هو الأصل في منشئيّة وحدة الذات و عدم تغيّرها أعني الوجود الخاصّ واحد غير متبدّل و لا متغيّر،فلا يضرّ اختلاف العارض الذي لا دخل له في تلك المنشئيّة أعني الوجود الانتزاعي،فافهم.

و قوله:«إذ نسبة الوجود إلى الماهيّة ليست نسبة العوارض التي بجوز تبدّلها و اختلافها مع انحفاظ وحدة الذات،إذ لا وحدة لها إلاّ باعتبار الوجود»،

تعليل لما ذكره سابقا من قوله:«إنّ اختلاف الوجود يستلزم اختلاف الذات»أو قوله:

«فإنّ الوجود الخاصّ لكلّ شيء،هو عينه في الخارج»أو تنبيه على السابق من القولين.

و على تقدير أن يكون هذا التعليل أو التنبيه بالنسبة إلى القول الأوّل من القولين، فيكونان بوجه آخر غير ما ذكره أوّلا.

و على كلّ تقدير فمعناه:إذ نسبة الوجود أي الوجود الخاصّ الذي هو الأصل في موجودية الماهيّة و الذات،إلى الماهيّة و الذات،ليست نسبة العوارض التي يجوز تبدّلها و اختلافها مع انحفاظ وحدة الذات،إذ قد عرفت أنّه عين الماهيّة و الذات في الخارج، لا عارض لها،فلا يكون نسبته إليها نسبة العوارض إليها مطلقا،فضلا عن أن تكون نسبة العوارض التي يجوز تبدّلها و اختلافها مع انحفاظ وحدة الذات.و حيث كان كذلك

ص:301

فاختلاف الوجود الخاصّ و تبدّله يكون منشأ لتبدّل الذات مثل أنّ تبدّل الذات نفسها يكون منشأ لتبدّلها في نفسها فلا يكون وحدة الذات منحفظة،إذ لا وحدة لها إلاّ باعتبار ذلك الوجود،فإذا لم يتبدّل،تكون وحدة الذات منحفظة و إذا تبدّل لم تكن منحفظة.

و يمكن أيضا أن يكون كلامه في الوجود مطلقا خاصّا كان أم انتزاعيّا و يكون وجه ما ادّعاه في الوجود الخاصّ ما ذكرناه و في الوجود الانتزاعي بأن يقال:إنّ نسبة الوجود الانتزاعي إلى الماهيّة و إن كانت نسبة العوارض،لكنّها ليست نسبة العوارض التي يجوز تبدّلها و اختلافها مع انحفاظ وحدة الذات،إذ قد عرفت أنّه في ذلك تابع للوجود الخاص.

و قوله:ثمّ على تقدير جواز ذلك،لا فرق بين الماهيّة و الوجود في جواز الإعادة.

قال الشيخ في التعليقات:و لم لا يكون الوجود نفسه معادا-إلى آخره.

إن قلت:لا يخفى عليك أنّ الظاهر منه على تقدير جواز ذلك و عدم الفرق بين الماهيّة و الوجود في جواز الإعادة،كما دلّ عليه كلام الشيخ في التعليقات،أنّه بصدد إثبات لزوم تخلّل العدم بين الشيء و نفسه أيضا،كما كان فيما تقدّم بصدده،و الحال أنّ ما نقله من كلام الشيخ شاهدا على غرضه غير دالّ على لزوم التخلّل المذكور،بل على لزوم محال آخر حينئذ و على أن لا يكون هناك عود مع فرض العود فكيف توجيه الكلام؟

قلت:يمكن توجيهه على وجوه:

أحدها:أن يكون غرضه أنّه على هذا التقدير،و إن لم يلزم التخلّل المذكور،لكنّه يلزم منه محال آخر،و هو ما أشار إليه الشيخ كما سيأتي بيانه،فيكون مفاده حصر المحال اللازم حينئذ مطلقا في المحال الآخر.و هذا الوجه و إن كان ظاهرا من كلامه،و كذا من ظاهر كلام الشيخ المنقول شاهدا،لكنّه لا يلائم سياق كلامه السابق.و كذا هو غير مطابق للواقع، إذ على هذا التقدير أيضا يمكن إلزام تخلّل العدم بين الشيء و نفسه أيضا كما سيأتي بيانه، و سيأتي توجيه كلام الشيخ بما يحتمل غير الحصر أيضا،فانتظر.

و ثانيها:أن يكون غرضه أنّه على هذا التقدير لا فرق بين الماهيّة و الوجود و الوقت و الحدوث في جواز الإعادة،و يلزم منه المحالان جميعا،لكن كلّ منهما على تقدير،أي أنّه إن نظر إلى أنّ المفروض معادا متّحد مع الأوّل من جميع الوجوه،لزم منه أن لا يكون هناك عود مع فرض العود.و إن نظر مع ذلك إلى انقطاع استمرار حقيقة الأوّل و تخلّل العدم

ص:302

في البين،يلزم منه تخلّل العدم بين الشيء و نفسه،و أنّه على هذا التقدير و لزوم الاتّحاد بين المفروض معادا و بين الأوّل من جميع الوجوه إن أمكن فرض اثنينيّة حينئذ بها يصحّ فرض التخلّل يلزم منه تخلّل العدم بين الشيء و نفسه،و إن لم يمكن فرض اثنينيّة كذلك، يلزم منه المحال الآخر أي أن لا يكون هناك عود مع فرضه،و كلاهما محالان فأحد المحالين لازم إلاّ أن كلاّ منهما على تقدير،ففرض العود محال.

و ثالثها:أن يكون غرضه أنّه يلزم على هذا التقدير مع جواز إعادة الوجود و الوقت و الحدوث واحد من ذينك المحالين المذكورين جزما،لكن بشرط أن يؤخذ لزوم أحدهما مقدّمة في لزوم الآخر،و دليلا عليه،بأن يقال:يلزم على هذا التقدير أيضا تخلّل العدم بين الشيء و نفسه،لأنّ المفروض اتّحاد الثاني مع الأوّل من جميع الوجوه،و كذا انقطاع وحدة الأوّل و زوال استمرار حقيقته،فينفرض هناك اثنينيّة،بها يصحّ فرض التخلّل في البين،إذ لو لم ينفرض الاثنينيّة مطلقا لكان ليس هناك عود أصلا؛هذا خلف.

فيجب أن ينفرض الاثنينيّة كذلك،و مع انفراضها كذلك،يلزم تخلّل العدم بين الشيء و نفسه البتّة إذ المفروض أنّ الثاني عين الأوّل مع فرض الاثنينيّة و تخلّل العدم في البين.

أو أن يقال إنّه على هذا التقدير يلزم أن لا يكون هناك عود مع فرضه،لأنّه على هذا التقدير مع جواز عود الوجود و الوقت و الحدوث يكون الثاني عين الأوّل من جميع الوجوه، فلا يكون هناك عود إذ العود يقتضي اثنينيّة،بها يصحّ إطلاق العود،و فرض الاثنينيّة هنا ممتنع إذ مع انفراضها حينئذ يلزم تخلّل العدم بين الشيء و نفسه و هو محال.

و الحاصل أنّ القائل بجواز إعادة المعدوم إن هرب من أحد المحالين،دخل في المحال الآخر.

و بالجملة فهذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه كلام المحقّق الدواني،و سيأتي توجيه كلام الشيخ،فانتظر.

و حيث عرفت ما ذكرنا،فلنقدّم شرح معنى التقدير المذكور،ثم نفصّل بيان لزوم المحالين.فنقول:معنى التقدير المذكور أنّه على تقدير تسليم جواز تبدّل الوجود الخاصّ و اختلافه مع انحفاظ وحدة الذات بناء على تسليم كونه من العوارض و كذا كونه من العوارض التي يجوز تبدّلها و اختلافها مع انحفاظ وحدة الذات لا عين حقيقة الذات كما

ص:303

هو التحقيق،أو بناء على أنّه و إن كان عين حقيقة الشيء و يتبدّل الوحدة الخارجيّة للذات،لكنّه لا تتبدّل بتبدّله وحدتها الذهنيّة،أو على تقدير تسليم جواز تبدّل الوجود مطلقا،خاصّا كان أم انتزاعيّا مع انحفاظ وحدة الذات،أمّا في الوجود الخاصّ،فبناء على ما ذكر،و أمّا في الوجود الانتزاعى،فلكونه عارضا،و يجوز تبدّله مع انحفاظ وحدة الذات من جهة كونه من العوارض،دون كونه تابعا للوجود الخاصّ في ذلك.

و بالجملة على تقدير تسليم جواز تبدّل الوجود الخاصّ أو الوجود مطلقا مع انحفاظ وحدة الذات حتّى لا يلزم حينئذ تخلّل العدم بين الشيء الواحد بعينه و بين نفسه،بل بين وجوديه المتغايرين المتبدّلين،مع أنّ فرض انحفاظ وحدة الذات مطلقا،حينئذ أي مع فرض انعدام ذلك الشيء في البين غير ممكن.و ينبغي أن يكون مبناه على تسليم أن يراد بوحدة الذات المنحفظة إمّا الوحدة الخارجيّة الحاصلة مع الوجودين لا مطلقا و لو في حال العدم.و إن كان الوجودان متبدّلين و لم يكن لهما دخل في تلك الوحدة المذكورة،و إمّا تلك الوحدة المذكورة مع الوحدة الذهنيّة الباقية حين انعدام الشيء أيضا.و إمّا الوحدة الذهنيّة الباقية المنحفظة مطلقا سواء فرضت هي مع الوجودين المتبدّلين أو مع انعدام الشيء،و هذا الذي ذكرنا هو معنى التقدير المذكور.و أمّا بيان لزوم تخلّل العدم بين الشيء و نفسه على هذا التقدير،فبأن يقال إنّه على تقدير تسليم ذلك كلّه حتّى لا يلزم تخلّل العدم بين الشيء و نفسه لكون وحدته باقية منحفظة و عدم اثنينيّة فيه لكي يتصوّر التخلّل المذكور،بل تخلّل العدم بين وجودي شيء واحد بعينه الذين هما متبدّلان متغايران و تخلّله بينهما لا امتناع فيه.

فنقول:على هذا أيضا يلزم تخلّل العدم بين الشيء و نفسه،لأنّه لا فرق بين الماهيّة و الوجود في جواز الإعادة،كما يدلّ عليه كلام الشيخ في التعليقات،فإنّ الماهيّة المعدومة إذا جاز إعادتها و لا يخفى أن ليس ذلك لخصوصيّة فيها،بل لكونها معدومة،فيجوز إعادة كلّ معدوم كان معها أو مطلقا،و من جملته الوجود أوّلا و الحدوث و الوقت و أمثالها، و لا دليل على تخصيص ذلك الجواز ببعض المعدومات دون بعضها،فحينئذ يجوز إعادة الوجود الأوّل أيضا،و حيث فرض انقطاع ذلك الوجود في البين ثمّ عوده ثانيا و عدم انحفاظ وحدته الخارجيّة و زوال استمرارها لكون المفروض انقطاعها فينفرض هناك

ص:304

اثنينيّة و وجود فوجود،و به يصحّ فرض التخلّل أي تخلّل العدم حينئذ و انفراض هذه الاثنينيّة و صحّة فرض التخلّل المذكور معها،إمّا بناء على أنّه لو لم تنفرض تلك الاثنينيّة، لكان ليس هناك عود أصلا على ما هو المفروض،لأنّه على تقدير عود الوجود و الوقت و الحدوث،يكون الثاني عين الأوّل و متّحدا معه من جميع الوجوه،فلا يكون عود،و حيث فرض عود،فيجب أن ينفرض هناك اثنينيّة بها يصحّ العود،و حيث فرضت اثنينيّة صحّ فرض التخلّل المذكور،و إمّا بناء على أنّه على تقدير فرض الاثنينيّة كذلك و إمكان حصولها يصحّ التخلّل المذكور،و لا يخفى أنّه كذلك.

و على التقديرين نقول:لمّا كان المفروض حينئذ أنّ الوجود الثاني عين الأوّل بعينه، فيلزم منه تخلّل العدم بين الوجود الأوّل و الثاني بعينه،و هو أيضا تخلّل العدم بين الشيء، أي الوجود و نفسه.بل يلزم ذلك بين الحدوث الأوّل و نفسه و بين الوقت الأوّل و نفسه بعين ما قرّرنا.بل يلزم ذلك بين الماهيّة بوجودها أوّلا و بينها بوجودها ثانيا،فإنّه و إن كان ليس للوجود مدخل في انحفاظ وحدة الذات،كما هو مبنى هذا التقدير،لكنّه لا يخفى أنّ للماهيّة وحدة خارجيّة حاصلة مع الوجود أوّلا و إن لم يكن ذلك الوجود منشأ لها،و أنّ تلك الوحدة الخارجيّة تنقطع مع انقطاع الوجود.

ثمّ إنّه مع فرض عود ذلك الوجود بعينه ثانيا يكون المفروض عود تلك الماهيّة بعينها مع عود ذلك الوجود بعينه،و كذا عود تلك الوحدة الخارجيّة بعينها،فينفرض هناك أيضا ماهيّة و ماهيّة و كذا وحدة و وحدة.و بالجملة اثنينيّة بها يصحّ فرض التخلّل المذكور،و بناء فرض هذه الاثنينيّة و التخلّل أيضا على ما ذكرنا آنفا،و لمّا كان المفروض أنّ الماهيّة ثانيا عينها أوّلا و كذا الوحدة ثانيا عينها أوّلا فيلزم منه تخلّل العدم بين تلك الماهيّة و نفسها،و كذا بين الوحدة الاولى الخارجيّة و نفسها.

فإن قلت:لا نسلّم صحّة فرض التخلّل المذكور إذ هي مبنيّة على أن يكون هناك اثنينيّة و أن لا تكون هناك وحدة منحفظة أصلا و هذا ممنوع.إذ الوحدة الذهنيّة باقية مستمرّة منحفظة في جميع الأحوال حتّى حال عدم الماهيّة و انقطاع الوجود،و تلك الوحدة الذهنيّة المستمرّة التي يمكن فرضها في جميع تلك المذكورات التي فرضت إعادتها كالماهيّة و الوجود و الوحدة و الحدوث و الوقت و أمثالها كافية في كونها واحدة بأشخاصها في

ص:305

الذهن،لا يصحّ فيها فرض اثنينيّة،و لا فرض تخلّل شيء في أثنائها،فإنّ تخلّل العدم إنّما هو بين الوحدة الخارجيّة المنقطعة،لا بين هذه الوحدة الذهنيّة،لكونها مستمرّة غير منقطعة.

قلت:من الظاهر أنّ هذا لا يجدي نفعا،إذ على هذا التقدير،لا يصحّ فرض إعادة المعدوم أيضا،فإنّه كما أنّ التخلّل إنّما يصحّ فرضه إذا فرضت هناك اثنينيّة،كذلك العود إنما يصحّ فرضه إذا كان كذلك،و إذا كانت الوحدة الذهنيّة كافية في وحدة الذات،و لم يكن هناك اثنينيّة أصلا،فكما لا يصحّ فرض التخلّل المذكور،كذلك لا يصحّ فرض العود أيضا؛ هذا خلف.بل ليس الفرض إلاّ أنّ هذا التخلّل يلزم على تقدير فرض عود المعدوم كما ذكر و هو كذلك.

و أيضا على تقدير كون انحفاظ الوحدة الذهنيّة منشأ لانحفاظ شيء،أي وحدة مطلقة في الجملة،فلا يخفى أنّها من حيث كونها ذهنيّة،لا تكون منشأ لانحفاظ الوحدة الخارجيّة من حيث كونها خارجيّة كما أنّ انحفاظ الوجود الذهنيّ من حيث هو وجود ذهني، لا يكون منشأ لانحفاظ الوجود الخارجي من حيث هو خارجيّ،بل يجوز أن ينحفظ الذهنيّ و ينقطع الخارجي.و حيث جاز الانقطاع فلا بقاء للوحدة الخارجيّة و لا انحفاظ لها،و حيث كان كذلك فينفرض هناك اثنينيّة و تخلّل شيء،و مبناه أيضا على ما ذكرنا سابقا.و حيث كان مع ذلك الأمر الثاني الخارجيّ عين الأوّل الخارجي فينفرض تخلّل العدم بين الشيء و نفسه في الخارج في جميع تلك المذكورات التي فرضنا انعدامها في الخارج ثمّ عودها بأعيانها في الخارج،يعني أنّه يلزم منه تخلّل العدم في الخارج بين تلك الأشياء بحسب كونها امورا خارجيّة و بين أنفسها من حيث كونها كذلك أيضا،و إن لم يلزم ذلك من حيث وجوداتها الذهنيّة و انحفاظ وحدتها (1)في النفس،و ذلك كاف في لزوم المحال المذكور،بل ليس كلامنا في هذا المقام إلاّ في لزوم المحال المذكور بحسب ما هي امور خارجيّة فقط،فتبصّر.

و أمّا بيان لزوم المحال الآخر على تقدير عود الوجود و الحدوث و الوقت فيظهر ممّا ذكره الشيخ في التعليقات،حيث قال:

ص:306


1- -في المصدر:وحداتها.

و لم لا يكون الوجود نفسه معادا و يكون الوقت أيضا معادا،فيكون الحدوث أيضا معادا،فيكون ليس هناك وجودان و لا وقتان و لا حدوثان اثنان،بل واحد بعينه معاد.ثمّ كيف يكون العود و لا اثنينيّة و كيف يكون اثنينيّة و يجوز أن يكون المعاد بعينه هو الأوّل.

و قوله:«و لم لا يكون الوجود نفسه معادا»يعني إذا جاز إعادة المعدوم و الحال أنّه ليس هناك دليل على تخصيص هذا الحكم ببعض المعدومات دون بعض،فكما جاز إعادة الماهيّة المعدومة كذلك يجوز إعادة الوجود الأوّل مطلقا بعينه خاصّا كان أم انتزاعيا،إذ المفروض انعدامه أيضا و كذلك المفروض جواز إعادة المعدوم أيّ معدوم كان،و إنّما عبّر جواز إعادة الوجود المعدوم بصورة المنع،و بعبارة تشعر بالمنع-و هو قوله:لم لا يكون- مع أنّ الظاهر أنّ غرضه إثبات ذلك الجواز و ادّعاء ظهوره إمّا بناء على ما هو الشائع في المحاورات من أنّهم قد يعبّرون في أمثال هذه المقامات التي يدّعون ظهورها بأمثال هذه العبارات،و يسألون عنها بلم لا يكون و نحوه،و هو مع كون الغرض منه الإثبات يكون بصورة المنع،و إمّا بناء على أنّ ذلك المنع و مقابلة ادّعاء من ادّعى تخصيص جواز إعادة المعدوم ببعض المعدومات كالماهيّة دون بعض كالوجود و نحوه،كما نقله عنهم في عبارته الآتية و أبطله.

و قوله:«و يكون الوقت أيضا معادا»أي مطلقا سواء قلنا بأنّه من جملة المشخّصات أم لا.أمّا على تقدير كونه مشخّصا فظاهر،و أمّا على تقدير العدم،فلأنّه أيضا من جملة المعدومات،و لا دليل يدلّ على تخصيص جواز الإعادة ببعض المعدومات دون بعض كما ذكرنا.

و فيه إشارة إلى أنّه على تقدير جواز إعادة المعدوم،يلزم جواز إعادة الوقت الأوّل أيضا،و يلزم منه المحالات التي فصّلناها فيما سبق في شرح كلامه في الشفاء.و إلى أنّ كلامه في الشفاء في جواز إعادة الوقت،يحتمل جواز ذلك و إن لم يكن مشخّصا أيضا كما ذكرنا هنالك،فتذكّر.

و قوله:«فيكون الحدوث أيضا معادا»لأنّه أيضا من جملة المعدومات كما أنّه يجوز أن يكون الماهيّة المعدومة معادة و كذا وحدتها الخارجيّة.

و قوله:«فيكون ليس هناك وجودان و لا وقتان و لا حدوثان اثنان و لا ماهيّتان

ص:307

و لا وحدتان اثنتان أيضا»فإنّ الاثنينيّة تقتضي أن يكون هناك تعدّد و لو في الجملة و ليس كذلك،لأنّه فرض كون جميع ذلك واحدا بالعدد من حيث كون المفروض أنّ الماهيّة مع جميع صفاتها و خواصّها و لوازمها و عوارضها و ما يمكن أن يعتبر معها في حال وجودها الأوّل واحدة وحدة شخصيّة خارجيّة في حال وجودها الثاني.

و قوله:«بل واحد بعينه معاد»أي يكون هناك واحد بعينه فرض كونه معادا إلاّ أنّه معاد حقيقة حتّى يرد أنّ فرض الوحدة ينافي كونه معادا كما ذكره من قوله:«ثمّ كيف يكون العود و لا اثنينيّة»أي كيف يصحّ فرض العود و الحال أنّه لا اثنينيّة هناك بوجه ما،مع أنّ العود إنّما يصحّ إذا كان هناك اثنينيّة حتّى يصحّ أن يقال إنّه أعيد مرّة اخرى أو في زمان آخر.و فيه دلالة على أنّه في صورة فرض إعادة المعدوم بعينه و فرض إعادة كلّ معدوم معه بعينه كما هو لازم على ذلك الفرض،يلزم أن لا يكون هناك عود مطلقا،فضلا عن أن يكون بعينه،فمن فرض العود يلزم عدم العود،هذا خلف،بل هو من أشنع المحال.

و قوله:«و كيف يكون اثنينيّة و يجوز أن يكون المعاد بعينه هو الأوّل»أي و كيف يكون هناك اثنينيّة بها يصحّ فرض العود،مع أنّه يجوز أن يكون ما هو معاد بالفرض هو الأوّل من جميع الوجوه و الجهات و الاعتبارات،و كأنّ الشيخ يضمّ إلى ما ذكره مقدّمة اخرى،و هي أنّه مع ذلك لو صحّ فرض الاثنينيّة كذلك حتّى يصحّ بها فرض العود،يلزم تخلّل العدم بين الشيء و نفسه كما مرّ بيانه،و هو محال،فيكون كلامه هذا مبنيّا على الوجه الأخير الذي احتملناه في كلام المحقّق الدواني،إلاّ أنّ الشيخ اكتفى بذكر لزوم أحد المحالين،أعني لزوم أن لا يكون هناك عود،و أخذ لزوم المحال الآخر،أي لزوم التخلّل،مقدّمة فيه و دليلا عليه،فإنّه لو رام بيان لزوم المحال الآخر،فله أن يعكس الأمر و يقول:يلزم على هذا التقدير تخلّل العدم بين الشيء و نفسه،فإنّه لو لم يتصوّر التخلّل المذكور،لم يكن هناك عود كما هو المفروض؛هذا خلف.و يحتمل أن يكون كلام الشيخ مبنيّا على الوجه الثاني الذي احتملناه في كلام المحقّق الدواني.

و حاصله أنّه حينئذ إمّا أن يلزم تخلّل العدم بين الشيء و نفسه إذا نظر إلى انقطاع الوجود و زوال استمرار حقيقة الذات مع كون الثاني متّحدا مع الأوّل من جميع الوجوه، أو إذا صحّ فرض اثنينيّة بها يصحّ التخلّل المذكور.

ص:308

و إمّا يلزم أن لا يكون هناك عود مع فرضه إذا نظرنا إلى كون الثاني متّحدا مع الأوّل من جميع الجهات و الوجوه و الاعتبارات،أو إذا لم يصحّ الفرض المذكور.

فأحد المحالين لازم و كلّ منهما على تقدير،إلاّ أنّه اكتفى ببيان المحال الثاني في كلامه و أحال بيان الأوّل على المقايسة.

و الحاصل أنّ فرض إعادة المعدوم كما ذكر محال على كلّ تقدير،سواء فرضت اثنينيّة أم لم تفرض.

ثمّ إنّ قول الشيخ:«ثم قول من يريد أن يهرب عن هذا منهم-إلى آخر ما ذكره-»، تأكيد لما ذكره أوّلا و إبطال لقول من يدّعي أن فرض الإعادة إنّما يصحّ بالنسبة إلى بعض المعدومات دون بعض.و قوله:«منهم»،أي من جملة المجوّزين للإعادة،و في بعض النسخ«ينهم»بصيغة المضارع الغائب المعلوم من النهم،بمعنى المبالغة في الجدّ في طلب الشيء.

و قوله:«و يقول الوجود صفة و الصفة لا توصف و لا تعقل،و ليست بشيء و لا موجودة» الغرض منه نفي جواز إعادة الوجود،لأنّ الوجود صفة و عرض انتزاعي مطلقا حتّى الوجود الخاصّ،و أنّ الصفة لا توصف بشيء و لا يحكم عليها بجواز الإعادة مثلا و لا تعقل مطلقا حتّى يحكم عليها بشيء أو في أمثال هذه الأحكام الواقعيّة حتّى يمكن أن يكون محكوما عليها بالإعادة،بل و ليست بشيء و لا موجودة أصلا حتّى يصحّ إعادتها،فإنّ الإعادة إنّما يمكن فرضها بالنسبة إلى المعدومات التي كان لها وجود بوجه ما،و قد عدمت،و الوجود ليس كذلك.

و قوله:«و انّ الوقت أو بعض الأشياء كالوقت و الوجود و الحدوث لا يحتمل الإعادة، و بعضها كالماهيّة المعدومة و بعض أحوالها الآخر يحتمل الإعادة»و معنى الادّعاء ظاهر، و إن لم يكن عليه دليل،و هو أيضا لم ينقل عنهم دليلا عليه.

و قوله:«حتّى لا يلزم أنّ فرض الإعادة للمعدوم قد يجعل المعاد غير معاد».يعني إنّما ادّعى هذا المدّعي الهارب عن لزوم المحال ما ادّعى هربا عن لزوم أن فرض الإعادة للمعدوم،قد يجعل المعاد غير معاد و هو خلاف الفرض،كما لزم ذلك عن فرض إعادة الوجود و الوقت و الحدوث،و إنّما ذكر كلمة«قد»التي للتقليل ظاهرا إشعارا بأنّ فرض

ص:309

الإعادة لا يجعل المعاد غير معاد مطلقا و لو في صورة فرض إعادة الماهيّة وحدها من غير فرض إعادة الوجود و الوقت و الحدوث،بل يجعله كذلك في بعض الفروض،و هو فرض عود تلك المذكورات أيضا.

و قوله:«و يجوز أن يكون ما هو معاد ليس له حالتان أصلا».

كلمة«يجوز»إمّا بصيغة المضارع المجرّد و بالنصب عطفا على قوله:«يلزمه»،أي حتّى لا يلزمه ذلك،و لا يجوز أن يكون ما هو معاد بالفرض ليس له حالتان حتّى لا يصحّ فرض الإعادة،بل يجوز أن يكون له حالتان و تفرض هناك اثنينيّة بها يصحّ فرض الإعادة.

و إمّا بصيغة المضارع المزيد فيه من باب التفعيل المبنيّ للفاعل و بالرفع،عطفا على قوله:«قد يجعل»أي حتّى لا يلزمه أن فرض الإعادة قد يجعل المعاد غير معاد،و يجوّز أي يكون منشأ لتجويز أن يكون ما هو معاد ليس له حالتان،و لا يصحّ فيه فرض الإعادة، فتدبّر.

و قوله:«قول ملفّق»هو خبر عن قوله:«ثمّ قول من يريد أن يهرب-إلى آخره-»أي أنّ ذلك القول قول ملفّق غير بيّن بنفسه،و لا مبيّن،بل هو مجرّد ادّعاء يفضحه البحث المحصّل،حيث إنّ القول بأنّ الوجود صفة مطلقا باطل،بل قسم منه عين الماهيّة في الخارج كما تبيّن،كالقول بأنّ الصفة مطلقا لا توصف و لا تعقل،فإنّ ذلك أيضا باطل كما لا يخفى،فإنّ كثيرا من الصفات توصف و تعقل.أي تعقل و توصف بشيء و على شيء،بل إنّ كلّ الصفات حتّى الصفات العدميّة كذلك،و كالقول بأنّ الصفة ليست بشيء و لا موجودة،فإنّ هذا أيضا باطل،و كيف لا تكون الصفة كذلك و الحال أنّها صفة للموجودات،و موصوفة بالصفات الثبوتيّة،مع أنّه بالوجود يكون الشيء موجودا، و كالقول بأنّ بعض الأشياء يحتمل الإعادة و بعضها لا يحتملها،فإنّ ذلك أيضا مجرّد ادّعاء لا دليل عليه،بل الدليل يدلّ على خلافه،حيث إنّه لو جاز إعادة المعدوم لجاز إعادة كلّ معدوم.

و بالجملة فبطلان ما ادّعاه هذا المدّعي بيّن ينفسه لا يحتاج إلى بيان و برهان،و إنّما ذكرنا ما ذكرنا تنبيها على بطلانه.

ص:310

ثمّ إنّ قول المحقّق الدواني:«و لما كان الشيخ يدّعي بداهة المدّعى لم يبال بذكر المقدمات التنبيهيّة في صورة المنع»كأنّه أراد ببعض المقدّمات قول الشيخ:و لم لا يكون الوجود نفسه معادا-إلى آخره-،حيث أورده بصورة المنع و قد عرفت توجيهه سابقا.

و أمّا أنّ الشيخ يدعّي بداهة المدّعى،فكأنّه فهمه من بعض كلماته في التعليقات،و قد عرفت سابقا كلامه في الشفاء صريح في ادّعاء البداهة في ذلك.

و على هذا فيكون المقدّمة مقدّمة تنبيهيّة،كما ادّعاه المحقّق المذكور.

و قد تمّ بما حقّقه في هذه الحاشية على ما ذكرنا بيانه،جواب الاعتراض الأوّل الذي أورده الشارح القوشجي على دليل المحقّق الطوسي رحمه اللّه.

ثمّ إنّ ما ذكره في الحاشية الثانية التي نقلناها عنه بقوله:«لا يخفى أنّ الذات-إلى آخره -»،جواب عن الاعتراض الثالث الذي أورده الشارح المذكور على المحقّق الطوسي.

و قوله فيها فلا يلزم تخلّل الزمان بين الشيء و نفسه كأنّه بظاهره موهم لأنّ تخلّل الزمان بمجرّده مطلقا سواء كان زمان الوجود أو زمان العدم مستلزم للمحال،و أنّه لا يلزم هناك تخلّل الزمان بين الشيء و نفسه.

و هذا غير مستقيم فإنّك قد عرفت فيما حقّقناه سابقا أنّ تخلّل الزمان إنّما يستلزم المحال باعتبار ما هو كائن فيه.و قد اعترف المحشيّ نفسه بذلك في الحاشية السابقة، حيث قال:فإنّ تخلّل زمان العدم بين زماني وجود شيء واحد بعينه يستلزم تخلّل العدم بين شيء واحد بعينه،و قد عرفت أيضا فيما حقّقناه أنّ الواقع في الزمان المتخلّل لو كان هو العدم،لكان مستلزما للمحال.و لا كذلك لو كان هو الوجود.

و قوله:«بل تخلّله بين الشيء باعتبار وقوعه في الزمان الأوّل-إلى آخره-»فيه أنّه لو كان محمولا على ظاهره لكان ذلك مشتركا بين صورتي تخلّل زمان العدم و زمان الوجود،حيث إنّه في صورة تخلّل زمان العدم أيضا بين زماني وجوده بعينه يكون تخلّله بين الشيء باعتبار وقوعه في الزمان الأوّل و بينه باعتبار وقوعه في الزمان الثاني،لأنّ السابق بالسبق الزماني و اللاحق بذلك اللحوق،إنّما هو الزمان بالذات،و الشيء مع حصوله في الزمانين بالواسطة كما أنّ سابقيّة العدم أو مسبوقيّته أيضا مع حصوله في زمان البين بواسطة زمان البين.و لا كلام في أنّ عروض التقدّم و التأخّر للزمان إنّما هو بالذات،

ص:311

و لغيره من الزمانيّات إنّما هو بواسطته.إنّما الكلام في أنّ ذلك هل يجدي نفعا في الفرق بين تخلّل زمان العدم و زمان الوجود،و هذا غير ظاهر منه.

نعم قوله أخيرا:«لا نفس الذات من حيث هي لأنّها مستمرّة»ربما كان إشارة إلى التحقيق الذي ذكرناه في الفرق و في جواب الاعتراض و هو أعلم.

و بالجملة فما ذكره في هذه الحاشية كأنّ فيه إبهاما و به يعسر دركه علينا.و القول المحصّل المفصّل في جواب الاعتراض و حسم مادّة الشبهة هو ما ذكرنا سابقا،فتذكّر.

ثمّ إنّه بقي في كلامه الجواب عن الإيراد الثاني الذي ذكره الشارح القوشجي و هو لم يلتفت إليه،و كأنّه مبنيّ على ظهوره عنده،و قد نقلنا عنه سابقا في موضع آخر من كلامه أنّ التحقيق عنده أنّه على تقدير عدم الامتياز بالماهيّة و التشخّص يكون ما يعرض لأحدها عارضا للآخر فلا يتحقّق الامتياز بالعوارض غير المشخّصة أيضا و كيفما كان فالتحقيق في جواب ذلك الإيراد هو ما حقّقناه أيضا،فتذكّر.

و هذا آخر ما قصدنا إيراده في تحرير حجج المنكرين لإعادة المعدوم.و إذ قد فرغنا بتوفيق اللّه و تأييده عن تحريرها على الوجه الأتمّ الأولى الذي هو كأنّه من خواص هذه الرسالة،فلنتكلّم في تحرير حجج المجوّزين للإعادة و نقدها و تزييفها.

ص:312

في ذكر حجج المجوّزين لإعادة المعدوم و ذكر ما فيها و نقدها و تزييفها

اعلم أنّ من جملة حججهم على ذلك،بل من أشهرها و أقواها عندهم،ما أشار إليه المحقّق الطوسي؛مع جوابه بقوله:«و الحكم بامتناع العود لأمر لازم للماهيّة»و ذكره أيضا الفاضل الأحساوي في المجلي كما نقلنا كلامه في ذلك.

و تحرير كلام المحقّق الطوسي كما سيظهر تلخيصه فيما بعد،و إن لم يكن يحتاج إلى زيادة بسط في الكلام،إلاّ أن شارحه و العلمين المحشّين حيث تصدّوا فيه لذكر القيل و القال و الجواب و السؤال،فلا بأس أن ننقل كلماتهم في ذلك و نتبعه بالنقد و التزييف و بتحقيق الحقّ إنّ امكن،عسى أن يكون موجبا لزيادة اتّضاح المرام و للإحاطة بأطراف الكلام في هذا المقام.

فنقول:قال الشارح القوشجي في شرحه:«استدلّ القائلون بجواز إعادة المعدوم بأنّه لو امتنع عود المعدوم،هو عبارة عن وجوده ثانيا،فهذا الامتناع ليس لماهيّة المعدوم،و لا للوازمها،و إلاّ لم يوجد ابتداءً بل كان من قبيل الممتنعات،لأنّ مقتضى ذات الشيء أو لازمه لا يتخلّف و لا يختلف بحسب الأزمنة.فهو لأمر ينفكّ عنها فيزول الامتناع عند انفكاكه فكان العود جائزا».

و أجاب المصنّف بقوله:«و الحكم بامتناع العود لأمر لازم للماهيّة»يعني أنّ الموصوف بامتناع العود هو الماهيّة الموصوفة بطريان العدم،و هذا الوصف أعني كونها قد طرأ عليها (1)العدم،أمر لازم للماهيّة الموصوفة بطريان العدم،لكونها مأخوذة مع هذا الوصف،و امتناع العود لها سبب هذا اللازم،و هو لا يقتضي امتناع وجوده ابتداءً،لعدم تحقّق سبب

ص:313


1- -طرأ عليه(خ ل).

الامتناع،أعني هذا اللازم هناك.

قيل:لا نسلّم أنّ الماهيّة الموصوفة بهذا الوصف،ممتنعة الوجود و ذلك لأنّه كما لا يكون الماهيّة الموصوفة بالوجود بعد العدم واجبة الوجود و ممتنعة العدم،كذلك لا تكون الماهيّة الموصوفة بالعدم بعد الوجود ممتنعة الوجود و واجبة العدم.

أقول:و فيه نظر،لأنّ جواب المصنّف في التحقيق منع و سند،إذ حاصله أنّا لا نسلّم أنّه لو كان امتناع العود لماهيّة المعدوم أو لأمر لا ينفكّ عنها امتنع وجوده ابتداءً.

قوله:لأنّ مقتضى ذات الشيء أو لازمه لا يتخلّف و لا يختلف بحسب الأزمنة.

قلنا:مسلّم،لكن لم لا يجوز أن يكون سبب الامتناع وصفا لماهيّة المعدوم الموصوفة بطريان العدم لازما لها،أعني كونها قد طرأ عليها العدم و يتخلّف (1)الامتناع عن الوجود ابتداءً لانتفاء المتقضي أعني طريان العدم.

فكلام هذا القائل إن كان منعا للسند كما يفهم من قوله«لا نسلّم»فهو غير مفيد،و إن كان إبطالا له فما ذكره لا يفيد الإبطال،لأنّه قياس فقهي غير معقول في العقليات،و لو سلّم فإبطال للسند الأخصّ إذ قد يسند المنع بأنّ ماهيّة المعدوم من حيث هي يجوز أن تقتضي امتناع العود،و العود لكونه وجودا حاصلا بعد طريان العدم أخصّ من الوجود المطلق.

و لا يلزم من إمكان الأعمّ إمكان الأخصّ،و لا من امتناع الأخصّ امتناع الأعمّ،فيجوز أن يمتنع وجوده بعد عدمه لذاته،فلا يمتنع وجوده مطلقا.

قال صاحب المواقف:الوجود أمر واحد في حدّ ذاته لا يختلف ابتداءً و إعادة بحسب حقيقته و ذاته،بل بحسب الإضافة إلى أمر خارج عن ماهيّته و هو الزمان.فإذن يتلازم الوجودان أي المبتدأ و المعاد إمكانا و وجوبا و امتناعا،لأنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة، يجب اشتراكها في هذه الامور المستندة إلى ذواتها.و لو جوّزنا كون الشيء الواحد ممكنا في زمان كزمان الابتداء ممتنعا في زمان آخر كزمان الإعادة،معلّلا بأنّ الوجود في الزمان الثاني أخصّ من الوجود مطلقا و مغاير للوجود في الزمان الأوّل بحسب الإضافة،فلا يلزم من امتناع الوجود الثاني امتناع ما هو أعمّ منه،أو امتناع ذلك المغاير،لجاز الانقلاب من الامتناع الذاتي إلى الواجب الذاتي معلّلا بأنّ الوجود في زمان أخصّ من الموجود المطلق

ص:314


1- -و تخلّف(ظ).

أو مغاير للوجود في زمان آخر.فجاز أن يكون ذلك الأخصّ ممتنعا و المطلق أو المغاير واجبا.و في تجويز هذا الانقلاب من الامتناع الذاتي إلى الوجوب الذاتي مخالفة لبديهة العقل الحاكمة بأنّ الشيء الواحد يستحيل أن يقتضي لذاته عدمه في زمان و يقتضي لذاته وجوده في زمان آخر،و إغناء للحوادث عن المحدث،و سدّ لباب إثبات الصانع،لجواز أن تكون ممتنعة لذواتها في زمان كونها معدومة،و واجبة لذواتها حال كونها موجودة، فلا حاجة لها إلى صانع يحدثها.-انتهى كلامه. (1)

و أقول:إنّ هذا الكلام عن آخره حقّ و صواب،لكن لا أثر له في دفع هذا الجواب.

و تحقيق المقام يقتضي زيادة بسط في الكلام،فنقول:الوجوب عبارة عن اقتضاء الذات للوجود مطلقا،و الامتناع عن اقتضاء الذات العدم مطلقا،و الإمكان عن لا اقتضائهما مطلقين،و قد تقدّم أنّه لا يجوز الانقلاب بين هذه المفهومات الثلاثة،بأن يكون شيء واجبا في زمان ثمّ يصير ممكنا،أو ممتنعا في زمان آخر أو بالعكس،لأنّ مقتضى ذات الشيء لا يختلف و لا يتخلّف بحسب الأزمنة،لكن الوجود قد يقيّد بقيد سلبيّ أو إضافيّ فلا يقتضي ذات الواجب الوجود المقيّد بهذا القيد،بل يمتنع اتّصافه به، كما إذا قيّدنا الوجود بكونه مسبوقا بالعدم،فإنّ هذا الوجود يمتنع اتّصاف ذات الواجب به فضلا عن اقتضائه له،و بذلك لا يخرج ذات الواجب عن كونه واجبا،و لا ينقلب عن وجوبه الذاتي إلى الامتناع الذاتي،لأنّ اقتضاءه للوجود مطلقا باق بحاله،لم يدخله تغيّر و لا تبدّل و لا انقلاب،و كذلك العدم قد يقيّد بكونه مسبوقا بالوجود،فلا يقتضي ذات الممتنع هذا العدم المقيّد،بل لا يمكن اتّصافه به،و لا يلزم من ذلك الانقلاب من الامتناع الذاتي إلى الوجوب الذاتي بناء على أنّ اقتضاءه للعدم مطلقا باق بحاله.

و على هذا القياس إذا قيّد الوجود بكونه ناشئا عن ذات الموصوف به لم يمكن اتّصاف ذات الممكن به و لم يصر الممكن بذلك ممتنعا إذ نسبته إلى الوجود المطلق باق بحاله لم يتغيّر بعد.

و أيضا فإنّهم قالوا:أزليّة الإمكان غير إمكان الازليّة و غير مستلزمة له،و ذلك لأنّا إذا قلنا إمكانه أزليّ أي ثابت أزلا كان الأزل ظرفا للإمكان،فيلزم أن يكون ذلك الشيء

ص:315


1- -شرح التجريد:74-76.

متّصفا بالإمكان اتّصافا مستمرّا غير مسبوق بعدم الاتّصاف،و هذا هو الذي يقتضيه لزوم الإمكان لماهيّة الممكن.و إذا قلنا أزليّته ممكنة كان الأزل ظرفا لوجوده،على معنى أنّ وجوده المستمرّ الذي لا يكون مسبوقا بالعدم ممكن.و من المعلوم أنّ الأوّل لا يستلزم الثاني،لجواز أن يكون وجود الشيء في الجملة ممكنا إمكانا مستمرّا و لا يكون وجوده على وجه الاستمرار ممكنا أصلا،بل ممتنعا و لا يلزم من هذا أن يكون ذلك الشيء من قبيل الممتنعات دون الممكنات،لأنّ الممتنع هو الذي لا يقبل الوجود بوجه من الوجوه.

و هذا كلام حقّ لا شبهة فيه مشهور في ما بين القوم.

و ما قيل من أنّ إمكانه إذا كان مستمرّا أزلا لم يكن هو في ذاته مانعا من قبول الوجود في شيء من أجزاء الأزل،فيكون عدم منعه منه أمرا مستمرّا في جميع تلك الأجزاء.فاذا نظر إلى ذاته من حيث هو،لم يمنع من اتّصافه بالوجوب في شيء منها،بل جاز اتّصافه به في كلّ منها،لا بدلا فقط بل و معا أيضا.و جواز اتّصافه به في كلّ منها معا هو إمكان اتّصافه بالوجود المستمرّ في جميع أجزاء الأزل بالنظر إلى ذاته فأزليّة الإمكان مستلزمة لإمكان الأزليّة.

أقول:مدفوع بأنّ قوله:«لا بدلا فقط بل و معا أيضا»ممنوع.و إذا تمهّد هذا فنقول:

مقصود المانع أنّ العود ليس وجودا مطلقا على أيّ وجه كان،بل هو وجود مقيّد بكونه حاصلا بعد طريان العدم،فلم لا يجوز أن يمتنع اتّصاف ماهيّة المعدوم بهذا الوجود المقيّد، و لا يمتنع اتّصافها بالوجود المطلق من غير لزوم انقلاب من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي كما في أخواته و نظائره على ما تقدّم.

فنقول:هذا القائل«و لو جوزّنا كون الشيء الواحد-إلى آخره-»لا تعلّق له بكلام هذا المانع،لأنّه لا يقول بهذا التجويز و لا يلزمه أيضا،و كذا قوله:«الوجود أمر واحد-إلى قوله- و لو جوزّنا»،لأنّ حاصله أنّ الوجود المعاد إذا اقتضى لذاته أمرا يجب أن يقتضي الوجود المبتدأ أيضا لذاته ذلك الأمر بعينه،و بالعكس لأنّها متّحدان ذاتا و حقيقة.و إنّما اختلافهما بحسب أمر خارج،و هو لم يقل بخلاف ذلك،و لم يلزم أيضا من كلامه خلافه،بل اللازم من كلامه أنّ الموجودين المبتدأ و المعاد متغايران بحسب الإضافة إلى أمر خارج،فيجوز أن يقتضي ماهيّة المعدوم لذاته عدم الاتّصاف بأحدهما يعني الوجود المعاد،و لا يقتضي

ص:316

عدم الاتّصاف بالآخر،و لا ينافي هذا أن لا يجوز أن يقتضي أحد الوجودين لذاته أمرا، و لا يقتضيه الوجود الآخر.

و أقول:يمكن أن يتمّم هذا الدليل بأن يقال:الحكم بامتناع عود المعدوم إذا لخّص و جرّد أطرافه يعود إمّا إلى قولنا:إنّ ذاتا ما من الذوات الممكنة الوجود يمتنع وجودها المسبوق بالعدم المسبوق بالوجود.و إمّا إلى قولنا:إنّ ذاتا ما قد اتّصفت بالعدم المسبوق بالوجود يمتنع وجودها.

فعلى الأوّل نقول:لا شبهة أنّ اتّصاف ذات الممكن بالوجود المطلق غير ممتنع، فلو امتنع اتّصافها بالوجود المقيّد بهذين القيدين أعني المسبوقيّة بالعدم و المسبوقيّة بالوجود لكان هذا الامتناع ناشئا إمّا من أحد هذين القيدين أو كليهما لكنّه[نعلم أنّ] المسبوقيّة بالعدم لا تكون منشأ لهذا الامتناع،و إلاّ لم يتّصف ماهيّة بالحدوث.و كذا المسبوقيّة بالوجود،و إلاّ لم يتّصف ماهيّة بالبقاء.و نعلم بالضرورة أن لا أثر لاجتماعهما في هذا الامتناع،فاتّصافها بالوجود المقيّد بهذين القيدين أعني اتّصافها بالعود غير ممتنع.

و على الثاني،نقول:ذات الممكن من حيث هي لا يمتنع اتّصافها بالوجود،و ذاته الموصوفة بالعدم المسبوق بالوجود لو امتنع اتّصافها بالوجود،لكان ذلك الامتناع ناشئا من أحد هذين الوصفين أعني اتّصافها بالعدم و مسبوقيّته بالوجود أو من كليهما،و اتّصافها بالعدم لا يصلح ذلك و إلاّ لم تخرج ماهيّة من العدم إلى الوجود.و كذلك المسبوقيّة بالوجود،لأنّ الوجود الأوّل إن أفادها زيادة استعداد لقبول الوجود على ما هو شأن سائر القوابل،بناء على اكتساب ملكة الاتّصاف بالفعل فقد صار قابليّتها للوجود ثانيا أقرب و إعادتها على الفاعل أهون،و إن لم يفدها زيادة الاستعداد،فمعلوم بالضرورة أنّها لا تنقص عمّا هي عليه (1)بالذات من قابليّة الوجود في جميع الأوقات،و معلوم بالضرورة أن لا أثر لاجتماعهما في هذا الامتناع.فذات الممكن الموصوفة بالعدم المسبوق بالوجود، لا يمتنع اتّصافها بالوجود و ذلك هو المطلوب.

وجه آخر اقناعي و هو أنّ الأصل فيما لا دليل على وجوبه و امتناعه،هو الإمكان على ما قالته الحكماء أنّ كلّما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه

ص:317


1- -عمّا هي عليها(خ ل).

قائم البرهان.-انتهى كلامه.

و قال المحقّق الدواني في الحاشية عليه بهذه العبارة:قوله:«لازما لها»أي ممتنع الانفكاك عنها بعد حدوثها لا مطلقا.

قوله:«إذ يسند المنع بأنّ ماهيّة المعدوم»،لا يخفى أنّ هذا ظاهر عبارة المتن من غير تكلّف.

قوله:فقول هذا القائل و لو جوزّنا كون الشيء-إلى آخره-.

وقف الشارح عند ظاهر لفظ هذا القائل،و لم يأت بما يحسم مادّة الشبهة،إذ لا خفاء في أنّ مقصود هذا القائل أنّه لو جاز أن يكون الشيء بعد ما طرأ عليه العدم ممتنعا و قبله ممكنا كما في التقرير الأوّل لجاز أن يكون الحادث في زمان عدمه ممتنعا و في زمان وجوده واجبا.

و أيضا لو جاز كون الشيء ممكن الاتّصاف بالوجود الأوّل،ممتنع الاتّصاف بالوجود الثاني كما قيل في التوجيه الثاني لجاز كون الحادث ممتنع الاتّصاف بالوجود في زمان عدمه،واجب الاتّصاف بالوجود في زمان وجوده.فإنّ العلّة المذكورة في الوجهين جارية فيه إلاّ أنّه تسامح في قوله:«لأنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة-إلى قوله-و لو جوّزنا»و كان حقّ العبارة أن يقول:لأنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة يجب اشتراكها في اقتضاء الذات الواحدة إيّاها.

و قوله:و لو جوّزنا-إلى آخره-،معناه أنّه لو جوّز كون الشيء ممكنا وجوده الابتدائي، ممتنعا وجوده الثاني بناء على اختلاف الوجودين،لجاز مثل ذلك في الحادث،بأن يكون ممتنعا وجوده في زمان عدمه،واجبا وجوده في زمان وجوده،لاختلاف الوجودين، و الحاصل أنّ الاختلاف سواء اعتبر في الموضوع أو في المحمول و حكم باختلافهما في الإمكان و الامتناع،يجري في الحادث إلاّ أنّ ظاهر عبارته أشبه بالابتناء على الوجه الأخير.و الذي يحسم مادّة الشبهة أن يقال:لا يمكن كون الحادث مقتضيا وجوده في زمان و عدمه في زمان آخر لا بأن يعتبر الاختلاف في جانب الموضوع و لا بأن يعتبر في جانب المحمول.

أمّا الأوّل فلأنّ الموضوع و هو الحادث بوصف اقتران الزمان محتاج في ذاته إلى غيره،

ص:318

فلا يكون واجب الوجود.

و أمّا الثاني فلأنّه لو كان مقتضيا بذاته للوجود في وقت معيّن،لم ينفكّ عنه،فكان موجودا في ذلك الوقت دائما؛هذا خلف.

قوله:«و نعلم بالضرورة أن لا أثر لاجتماعها في هذا الامتناع»ممنوع،بل هو أوّل المسألة،و كيف يسمع دعوى الضرورة في مثل هذا المقام مع مخالفة الجماهير من الأعلام.و أنت خبير بأنّه يمكن إجراء نظير ما ذكره في استلزام أزليّة الإمكان إمكان الأزليّة،بأن يقال:اتّصاف ذات الممكن بالوجود المطلق غير ممتنع،فلو امتنع اتّصافه بالوجود المقيّد بالدوام لكان الامتناع ناشئا من هذا القيد،لكنّه ليس منشأ الامتناع،و إلاّ لم يتّصف ممكن بالدوام.

قوله:«إن أفادها زيادة استعداد-إلى قوله-:و إن لم يفدها زيادة استعداد»من البيّن أنّ الشيء إذا حصل بالفعل برئ المادّة من جميع مراتب استعداده و ما ليس في المادّة استعداده أصلا لا يمكن حدوثه،فكيف يصير قابليّته للوجود ثانيا أقرب،و كيف علم بالضرورة أنّه لا ينقص أصلا عمّا هي عليه بالذات من قابليّة الوجود في جميع الأوقات.

على أنّ كون ما هي عليه بالذات من قابليّة الوجود في جميع الأوقات باطل،كما حقّقه الشارح آنفا،ثم كيف علم بالضرورة أن لا أثر لاجتماع الوصفين في هذا الامتناع.

قوله:«وجه آخر إقناعي»الأصل هنا إن كان بمعنى الكثير الراجح فيكون أكثر ما لم يقم دليل على استحالته و وجوبه ممكنا غير ظاهر،و إن كان بمعنى ما لا يصار إليه إلاّ بدليل فهو باطل.لأنّ الوجوب و الإمكان و الامتناع ليس شيء منها أصلا بهذا المعنى،بل كلّ منها يقتضي ماهيّة موضوعه،فما لم يقم دليل على أنّ الشيء من أيّ قسم،لم يعلم حاله.

و ما قال الحكماء معناه أنّ ما لا دليل على وجوبه و لا على امتناعه،لا ينبغي أن ينكر،بل يترك في بقعة الإمكان العقلي الذي مرجعه الاحتمال،لا أنّه يعتقد إمكانه...على هذا تقييده بما لم يذدك عنه قائم البرهان.و كيف يتوهّم ذلك،و قد كرّر الشيخ في كتبه أن من تعوّد أن يصدّق من غير دليل فقد انسلخ من الفطرة الإنسانيّة.

وجه آخر،في امتناع إعادة المعدوم و هو أن إعادته بعينه تستلزم إعادة جميع أسبابه من الحوادث المتسلسلة من غير بداية و هو باطل.

ص:319

و يمكن أن يمنع لزوم إعادة جميع الأسباب لجواز أن يعود بأسباب اخر متناهية فقط، أو بها منضمّة إلى تلك الأسباب السابقة المتسلسلة.-انتهى كلامه.

و قال م ن الشيرازي في الحاشية على الحاشية بهذه العبارة:

قوله:«هذا ظاهر عبارة المتن من غير تكلّف».

وجه تطبيق عبارة المتن عليه أنّ معنى كلام المصنّف أن حكمنا بامتناع عود المعدوم من جهة أنّه يمتنع وجوده ثانيا.و الحاصل أنّ الحكم بامتناع عود المعدوم إنّما هو لخصوصيّة المحمول الذي هو لازم الماهيّة من حيث هي الناشئة منها،لما تقرّر أن لوازم الماهيّة مستندة إلى نفس الماهيّة كما في تقرير هذا السند.

و لمّا كان اللازم في هذا التوجيه بالمعنى المشهور،لا بالمعنى الذي بيّنه فيما تقدّم،قدّم تلك الحاشية على ما بعدها على ما في أكثر النسخ مع تأخّرها عنه رتبة،حتّى لا يتوهّم أنّ بناء هذا التوجيه أيضا على أن يحمل اللازم على هذا المعنى الغير المتعارف،و للإشارة إلى أنّ حمل اللازم على هذا المعنى الغير المتعارف تكلّف قال:من غير تكلّف.

قوله:أي ممتنع الانفكاك عنها بعد حدوثها.الظاهر من عبارة الشارح أنّه جعل الملزوم هو الماهيّة بشرط وصف الطريان.و من المعلوم أنّ الطريان ممتنع الانفكاك عن الماهيّة المأخوذة بشرط وصف الطريان مطلقا و لا حاجة إلى جعل اللزوم بالمعنى الغير المشهور.

نعم يرد عليه حينئذ أنّ مجرّد كون وصف الطريان ممتنع الانفكاك عن الماهيّة بشرط الوصف لا يكفى في امتناع إعادة المعدوم،فالسند لا يستلزم المنع،و لا يصلح للسنديّة.

و لعلّه رحمه اللّه للتخلّص عن هذا الإيراد لم يحمل كلامه على أن يكون الملزوم هو الماهيّة بشرط الوصف بل جعل الملزوم هو الماهيّة لا بشرط،و جعل الطريان لازما لها بعد حدوثها، و قوله:الموصوفة حمله على أنّه بيان لوقت اللزوم و امتناع الانفكاك،لا أنّه قيد للملزوم.

قول الشارح:«أقول:مدفوع بأنّ قوله لا بدلا فقط»،الأظهر في الجواب أن يقال:أزليّة الإمكان تقتضي أن يكون الوجود المطلق جائزا للممكن في جميع أوقات الأزل على أن يكون الأوقات ظرفا للجواز و الإمكان،و ذلك لا يستلزم كون الوجود في جميع تلك الأوقات ممكنا،على أن يكون الأوقات ظرفا للوجود.

و قوله:«وقف الشارح»اعلم أنّ صاحب المواقف أبطل السند المذكور في الشرح ثانيا

ص:320

بوجهين:

أحدهما من قوله:«الوجود أمر واحد-إلى قوله-و لو جوّزنا».

و الثاني من قوله:«و لو جوّزنا-إلى آخر ما قال».و لمّا كان إبطال السند الأخصّ لا يفيد في دفع المنع نبّه رحمه اللّه على أنّ ما ذكره من الوجه الثاني لإبطال السند الثاني بطل به الوجه الأوّل من السند،إلاّ أنّ عبارته أشبه بإبطال الثاني.

و الأظهر أن يقول ما ذكره لإبطال السند الثاني يمكن إجراؤه في إبطال الأوّل،لأنّ ما ذكره صريح في إبطال الثاني،و لم يتعرّض رحمه اللّه لجريان الوجه الأوّل من وجهي إبطال السند في إبطال السند الأوّل.و لا يخفى عليك جريانه بأن يقال:الماهيّة أمر واحد في حدّ ذاته لا يختلف إعادة و ابتداءً فلا يختلف في اقتضاء إمكان الاتّصاف بالوجود الواحد.

ثمّ لمّا كانت المناقشة الاولى للشارح التي أشار إليها في التحقيق الذي مهّده،تتوجّه على قوله:لجاز الانقلاب الذاتي،بناء على أنّ هذا ليس انقلابا ذاتيّا أصلا،طوي في توجيه كلامه لدفعها حديث الانقلاب الذاتي و اكتفى بلزوم غناء الحوادث عن المحدث.

و حينئذ يندفع ما أورده الشارح بقوله:«فقول هذا القائل و لو جوّزنا-إلى قوله-و لا يلزمه أيضا»لأنّ المراد من كون شيء واحد ممكنا في زمان ممتنعا في زمان آخر ليس باعتبار الوجود المطلق في كليهما،بل إمّا باعتبار الوجود الخاصّ في كليهما أو باعتبار الوجود المطلق في الأوّل و الخاصّ في الثاني،و حينئذ يظهر أنّ المانع جوّز هذا.

فإن قيل في توجيه الانقلاب الذاتي أنّ صاحب المواقف،تسامح فأطلق الانقلاب الذاتي على مثل هذه الصورة تجوّزا.

قلت:في كونه خلاف البديهة حينئذ نظر و تأمّل،فلأجل ذلك لم يتوجّه رحمه اللّه لتوجيهه، بل رأى إسقاطه أولى.

و قوله:«إلاّ أنّه تسامح-إلى آخره-»دفع للإيراد الثاني للشارح على الوجه الأوّل لإبطال السند بتغيير العبارة.و لا يخفى أنّه حينئذ ينبغي تطبيق التعليل على الدعوى إمّا بتغيير الدعوى أو تعميم الدليل عند قوله:«لأنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة»لأنّ هذا الدليل بظاهره لا ينطبق إلاّ على الوجوب الذاتي،و لا يتناول الإمكان و الامتناع كما يظهر بأدنى تأمّل.

ص:321

و يمكن أن يقال الوجوب و الإمكان و الامتناع إذا اخذت صفة للوجود و كانت من مقتضيات الوجود فلا حاجة إلى تغيير العبارة،لأنّ الكلام في المعاني التي هي صفة الوجود،ضرورة أنّ المانع لم يقل إنّ الذات يصير واجبا في وقت ممكنا في وقت آخر.

قوله:فلا يكون واجب الوجود أي بالذات لاحتياجه إلى اقتران الزمان مثلا.لا يقال:

يلزم عدم الحاجة إلى المؤثّر الموجود،و هذا كاف في لزوم المحذور،لأنّ الذات مع هذا الوصف إنّما هي علّة لنفس الوجوب،و أمّا أصل الوجود فلا بدّ من استناده إلى علّة موجودة،لما تقرّر عندهم أنّ العدم لا يفيد الوجود و ذلك كما أنّ العدم الطارئ مستند إلى عدم علّته.نعم وجوبه الذي في قوّة امتناع وجوده ثانيا مستند إلى الذات مع القيد،فتأمّل.

قوله:«بل هو أوّل المسألة»اقتفى أثر الشارح في جعل القيدين قيدا للوجود،و الظاهر أنّ القيد الثاني قيد للأوّل،إذ هو صريح الإعادة و يلائم العبارة الثانية.و بما قرّرنا ظهر اندفاع ما ذكره الشارح من لزوم كون الممكن غير متّصف بالبقاء،فتأمّل.

قوله:«و إلاّ لم يتّصف ممكن بالدوام»أي الدوام المطلق المتناول لدوام الوجود و دوام العدم المتحقّق في ضمن دوام العدم،و هذا على مذهب من لم يقل بالصفات الموجودة الزائدة على ذاته تعالى.و أمّا من قال بها فالممكن المتّصف بالدوام أي دوام الوجود متحقّق لا محالة.

قوله:«فكيف يصير قابليّة الوجود ثانيا أقرب».

لا يقال:إنّما برئ المادّة من جميع مراتب استعدادات الوجود الأوّل دون الثاني.لأنّا نقول:الكلام في العبارة الاولى و التقييد و التخصيص إنّما يعتبر هاهنا في جانب الموضوع، و ترك المحمول الذي هو الوجود على صرافة الإطلاق.

قوله:«كما حقّقه الشارح آنفا»،هذا بناء على جعله في جميع الأوقات ظرفا للوجود، كما هو الظاهر حتّى ينفع الشارح،و إن جعل ظرفا للقابليّة فلا ينفع الشارح،إذ القابليّة في جميع الأوقات إنّما هو للوجود في الجملة.

قوله:«لجواز أن يعود بأسباب اخر متناهية فقط»،هذا السند ليس بشيء لما تقرّر عندهم أنّ العلّة التامّة للحادث،لا بدّ أن تشتمل على امور غير متناهية متعاقبة،و إلاّ يلزم التخلّف عن العلّة التامّة؛هذا خلف.-انتهى كلامه.

ص:322

في تحرير كلام المحقّق الطوسي

و أقول و باللّه التوفيق:لا يخفى عليك بعد إمعان النظر أنّ مفاد كلام المحقّق الطوسي حيث قال:«و الحكم بامتناع العود لأمر لازم للماهيّة»، (1)أنّ الحكم بامتناع عود المعدوم يمكن أن يكون لأجل أمر لازم للماهيّة أي لأجل طريان العدم عليه أي على وجوده الابتدائي.و بعبارة اخرى لأجل كون وجوده الابتدائي متخلّلا بين عدمين،عدم سابق و عدم طار لاحق،و بعبارة اخرى لأجل كون عوده أي وجوده ثانيا بالفرض بعد عدم طار،و بالجملة لأجل طريان العدم الذي هو لازم للماهيّة أي لا يمكن أن ينفكّ عن الماهيّة و يتخلّف عنها حتّى يجوز بسبب انفكاكه عنها العود أي وجوده ثانيا كالوجود ابتداءً فلا يلزم من امتناع وجوده ثانيا بسبب تحقّق هذا الأمر اللازم فيه المانع منه امتناع وجوده الابتدائي كما ادّعاه المستدلّ لعدم تحقّق هذا اللازم فيه.و أشار بذلك إلى أنّه حيث كان الحكم بامتناع العود لأجل ذلك الأمر اللازم،يكون المحكوم به نفسه أي امتناع العود أيضا لأجله و حيث كان ذلك الأمر لازما للماهيّة من حيث هي و الحال أنّ لازم الماهيّة يكون مستندا إلى ذات الماهيّة الملزومة فيكون العود ممتنعا بالذات كما هو المقصود إلاّ أنّه بقي بعد تفسير الملزوم و بيان اللزوم هنا،و هذا يمكن على أحد وجهين مآلهما واحد في الحقيقة.

أحدهما و هو الذي أشار إليه الشارح في التقرير الأوّل للسند المذكور،و ينبغي حمل كلامه عليه لا على ما يوهمه ظاهره أن يراد بالماهيّة الملزومة ماهيّة المعدوم،و يقال إنّ طريان العدم لازم لماهيّة المعدوم،لا لماهيّة مطلق المعدوم حتّى المعدوم الذي لم يوجد

ص:323


1- -شرح التجويد:75.

أصلا بل لماهيّة هذا المعدوم المفروض الذي فرض وجوده و فرض طريان العدم على وجوده،و طرأ عليه في الواقع فإنّه لا خفاء في أنّ الماهيّة الكذائيّة ماهيّة لزمها طريان العدم، إذ هو لو لم يكن لازما لها،لجاز انفكاكه عنها و لو جاز انفكاكه عنها،لم تكن الماهيّة تلك الماهيّة المأخوذة المفروضة التي طرأ عليها العدم البتّة في الواقع،بل تكون غيرها لا بحسب الفرض فقط،بل بحسب الواقع و نفس الأمر أيضا؛هذا خلف.

ثمّ إنّ طريان العدم و إن كان مأخوذا مع تلك الماهيّة على أنّه وصف لازم لها لكنّا لم نأخذه على أنّه قيد لها حتّى يصير الملزوم هو الماهيّة بشرط وصف الطريان،و يكون المعنى أنّ طريان العدم ممتنع الانفكاك عن تلك الماهيّة المأخوذة بشرط هذا الوصف،أي بشرط أخذه على أنّه ممتنع الانفكاك عنها،فإنّه على هذا يكون اللزوم ضروريّا غير قابل للنزاع.

و أيضا لا يكون اللازم لازما للماهيّة من حيث هي،كما هو معنى ظاهر اللفظ،بل لازما للماهيّة المأخوذة مع القيد،و لا سيّما أنّ القيد هو نفس اللازم،و مع ذلك فالسند على هذا لا يستلزم المنع،و لا يصلح للسنديّة،لأنّه حينئذ يكون معنى كلام المانع أنّ الحكم بامتناع العود يمكن أن يكون لأجل طريان العدم الذي هو لازم لماهيّة المعدوم التي اعتبر لزومه لها و اخذ هو معها.

و يرد عليه أنّ هذا إنّما يستلزم المنع على هذا التقدير لا مطلقا كما هو المقصود.

نعم لو كان لازما لها مطلقا،لكان يستلزم المنع مطلقا و إذ ليس فليس.

و بعبارة اخرى أنّ هذا اللزوم إنّما لزم من أخذك الماهيّة كذلك،فإنّك لو أخذتها مطلقة غير معتبر كونها بشرط هذا اللازم لربما كان غير لازم لها،فلا يلزم أن يكون الحكم بامتناع العود لأجل طريان العدم مطلقا كما هو المقصود،بل إنّما يكون ذلك على هذا التقدير خاصّة.

فإن قلت:إنّا إنّما أخذنا الماهيّة كذلك،لكونها في الواقع كذلك و كون اللازم،لازما لها في الواقع كما مرّ بيانه.

قلنا:فحينئذ فأيّ (1)فائدة في أخذها كذلك،و اعتبار لزوم اللازم له على تقدير هذا

ص:324


1- -فأيّة(خ ل).

الأخذ،مع أنّه يمكنك أخذها مطلقة و ادّعاء لزوم اللازم لها مطلقا،فتدبّر.بل إنّما أخذنا هذا الوصف أي وصف طريان العدم على أنّه بيان وقت اللزوم حتّى يصير الملزوم هو الماهيّة من حيث هي،لكن لا مطلقا بل الماهيّة الحادثة المفروضة التي طرأ عليها العدم.

و يكون معنى لزومه لها أنّه لازم لها حين حدوثها و حين كونها متّصفة به،إذ لا سترة في أنّها بعد حدوثها قد طرأ عليها العدم و امتنع انفكاكه عنها،إذ لو فرض انفكاكه عنها لم يكن تلك الماهيّة تلك الماهيّة لا بحسب الفرض و لا بحسب الواقع،و حيث كان ممتنع الانفكاك عنها مطلقا مع كونه وصفا عارضا لها خارجا عن ماهيّتها كان لازما لها مطلقا من غير اعتبار كونه مع الشرط كما على الأوّل،و إن كان اللزوم بعد حدوثها،و بذلك كان السند مستلزما للمنع و صالحا للسنديّة مطلقا.

و إلى ما ذكرنا مفصّلا أشار المحقّق الدواني مجملا بقوله في تفسير قول الشارح لازما لها:أي ممتنع الانفكاك عنها بعد حدوثها،لا مطلقا،و أراد بقوله:«بعد حدوثها»ما ذكرنا و بقوله:«لا مطلقا»أي لا مطلقا و إن كان قبل حدوثها،فإنّه قبل ذلك لم يطرأ عليها العدم أو أنّ امتناع انفكاكه عنها إنّما هو بالقياس إلى تلك الماهيّة المعدومة التي فرضت لا بالقياس إلى كلّ ماهيّة معدومة حتّى الماهيّة التي لم توجد أصلا.

و كذلك أشار به إلى توجيه قول الشارح في التقرير الأوّل للسند في بيان معنى اللزوم و تفسيره و أنّه يمكن أن يحمل على هذا الاحتمال الصحيح دون الاحتمال الأوّل الذي يوهمه ظاهر كلامه على ما بيّن المحشّي الشيرازي كلّ ذلك،إلاّ أنّه ادّعى أنّ تفسير الملزوم و بيان اللزوم بالوجه الذي ذكره المحقّق الدواني هنا يجعل اللزوم بالمعنى الغير المشهور،و كأنّ وجهه أنّ للقوم في تفسير لازم الماهيّة عبارتين:

إحداهما أنّه ما يلزم الماهيّة في كلا وجوديه أي الذهني و الخارجي جميعا.

و الثانية أنّه ما يلزم الماهيّة من حيث هي مع قطع النظر عن كلّ ما سواها.

و لا يخفى أنّ التفسير الأوّل و إن لم يمكن إجراؤه في المعدوم الخارجي،لعدم وجود خارجي له،لكن التفسير الثاني يمكن إجراؤه فيه،فإنّ للمعدوم أيضا يمكن فرض ماهيّة من حيث هي،و إذا اجري فيه فينبغي أن يكون معناه حينئذ كما هو المشهور أنّه لازم للماهيّة من حيث هي،مع قطع النظر عن كلّ ما سواها،و غير مختصّ لزومه إيّاها بوقت دون

ص:325

وقت و حال دون اخرى،و إذا اعتبر اللزوم بالقياس إلى حالة خاصّة و وقت مخصوص كما فيما نحن فيه حيث اعتبر طريان العدم لازما لماهيّة المعدوم بعد حدوثها كما فعله المحقّق الدواني،فيكون اللزوم بوجه غير مشهور مخالف له إلاّ أنّه ربما يمكن أن يدفع هذا.

في الإشارة إلى دفع مناقشة المحشّي الشيرازي عن المحقّق الدواني

بأنّ لكلّ ماهيّة حكما و حالا،فإن كانت الماهيّة بحيث يكون وجودها أو فرضها غير مختصّ بحال دون اخرى كماهيّة الأربعة الملزومة للزوجيّة مثلا فينبغي أن يعتبر لزومها لها لزومها لماهيّتها (1)من حيث هي،غير مختصّ بحالة دون اخرى إذ المفروض أنّ تلك الماهيّة من حيث هي كذلك في الواقع و أنّ ذلك اللازم لازم لها من حيث هي.

و أمّا لو كانت الماهيّة بحسب وجودها أو فرضها مختصّة بوقت خاصّ أو حالة مخصوصة كماهيّة المعدوم المفروض فيكون لازمها أيضا كذلك،و يكون لزومه لها أيضا في تلك الحالة و إن كان ذلك اللازم لازما لها من حيث هي،إذ المفروض أن ليس لتلك الماهيّة في غير تلك الحالة و في غير ذلك الوقت تحقّق و لا اعتبار تحقّق أصلا.فجعل طريان العدم لازما لماهيّة المعدوم المفروض من حيث هي بعد حدوثها كما فعله المحقّق الدواني لا مخالفة فيه للمشهور بوجه،فتأمّل.

الوجه الثاني لتفسير الملزوم و بيان اللزوم هو الوجه الذي أشار إليه الشارح في التقرير الثاني للسند.و ادّعى المحقّق الدواني أنّه ظاهر عبارة المتن من غير تكلّف،إلاّ أنّه لم يبيّن وجه تطبيق العبارة عليه.و بيّنه المحشيّ الشيرازي بقوله:وجه تطبيق العبارة عليه،أنّ معنى كلام المصنف أن حكمنا بامتناع عود المعدوم من جهة أنّه يمتنع وجوده ثانيا.

و الحاصل أنّ الحكم بامتناع عود المعدوم،إنّما هو لخصوصيّة المحمول الذي هو لازم الماهيّة من حيث هي،الناشئة منها،لما تقرّر أن لوازم الماهيّة مستندة إلى نفس الماهيّة كما في تقرير هذا السند،إلى آخر ما ذكره في تلك الحاشية.

و كأنّ غرضه أنّ معنى كلامه أن حكمنا على المعدوم بامتناع العود من جهة خصوصيّة هذا المحمول المحكوم به،أي من جهة العود الذي هو لازم لماهيّة المعدوم من حيث هي،

ص:326


1- -لزومه لها لزومه لماهيّتها(خ ل).

و اقتضاء ماهيّة المعدوم ثبوت هذا اللازم له،و كون لازم الماهيّة مستندة إلى نفس الماهيّة كما هو المقرّر عندهم،و أشار إليه الشارح في تقرير هذا السند بقوله:إنّ ماهيّة المعدوم من حيث هي يجوز أن تقتضي امتناع العود،و قوله:فيجوز أن يمتنع وجوده بعد عدمه لذاته.

و بالجملة يجوز أن يكون حكمنا بامتناع العود لخصوصيّة هذا المحكوم به اللازم له الناشئ منه كما أنّ امتناع العود نفسه يجوز أن يكون لخصوصيّة في العود،و هي كونه وجودا حاصلا بعد طريان العدم.

و الحاصل أنّ الحكم بامتناع المعدوم يجوز أن يكون لأجل امتناع العود الذي هو لازم لماهيّة المعدوم من حيث هي ناش منها،كما أنّ امتناع العود نفسه يجوز أن يكون لأجل ما يعتبر في العود من كونه وجودا بعد عدم طار.

و هذه الضميمة،و إن لم يذكرها المحشّي الشيرازي صريحا و لا هي مدلول كلامه،لكن لا يخفى أنّها مما لا بدّ منه في تطبيق عبارة المتن على ما ذكره الشارح في تقرير هذا السند و كذا في تصحيحها.

أمّا في التطبيق فلأنّ الشارح قد ذكرها أيضا بقوله:و العود لكونه وجودا حاصلا بعد طريان العدم أخصّ-إلى آخره.

و أمّا في التصحيح فلأنّه على تقدير عدم ذكر تلك الضميمة لو سلّمنا أن تعليل الحكم بامتناع العود بامتناع العود كما هو ظاهر كلام المتن على هذا الوجه لا يكون من قبيل تعليل الشيء بنفسه بناء على أنّه في مقام ظهور المقصود،يمكن أن يذكر مثل تلك العبارة،بأن يقال مثلا إنّ الحكم بزوجيّة الأربعة لأجل زوجيّة الأربعة،فلا يخفى أنّه على هذا التقدير لا يتبيّن وجه الفرق بين الوجود المبتدأ و الوجود المعاد الذي كان المستدلّ في مقام نفيه،و المانع في مقام إبدائه،فلم يكن كلام المانع في مقابلة استدلال المستدلّ، بخلاف ما لو ضمّت تلك الضميمة،فإنّه على هذا يكون وجه الفرق ظاهرا.

و بالجملة فعلى هذا التوجيه الذي ذكره المحشّي يكون الملزوم ماهيّة المعدوم من حيث هي و اللازم لها امتناع العود،و هو و إن كان مبنيّا على حمل اللازم على المعنى المتعارف من غير تكلّف فيه،لكنّه لا يخفى أنّ فيه تكلّفا ما في توجيه العبارة،بل ربما يجعل لفظ الأمر في قول المصنّف غير ملائم،بل مستدركا لأنّ المتبادر من قوله:«و الحكم

ص:327

بامتناع العود لأمر لازم للماهيّة»،أن ذلك الأمر غير ذلك المحكوم به،لا نفسه،كما يلزم على هذا التقدير،و لو اريد بالأمر طريان العدم فهو و إن كان غير ذلك المحكوم به لكنّه ممّا لم يفرض لازما لماهيّة المعدوم على هذا التقدير،بل هو على تقدير مدخليّة فرضه في إتمام المدّعى كما ذكرنا قد فرض أمرا معتبرا في مفهوم العود،فتدبّر.

و حيث أحطت خبرا بما فصّلناه عرفت أنّ مآل الوجهين المذكورين في الحقيقة إلى أمر واحد،و هو أنّ الحكم بامتناع عود المعدوم،بل امتناع عوده،يجوز أن يكون لأجل طريان العدم،سواء اعتبر وصف الطريان في جانب الموضوع أو في جانب المحمول.و أنّ هذا السند في الحقيقة سند واحد مساو للمنع،إذ بإثباته يثبت المنع،و بإبطاله يبطل، كما لا يخفى.

كلام مع الشارح القوشجي و المحشّين

فما تضمّنه كلام الشارح،بل يظهر من كلام المحشّين أيضا أنّ كلاّ من التقريرين المذكورين في سند المنع،سند أخصّ من المنع،فهو إن كان المراد به الأخصّية في الواقع و في الحقيقة،فليس ذلك بمسلّم،إذ باعتبار وصف الطريان في جانب الموضوع كما في التقرير الأوّل أو في جانب المحمول كما في التقرير الثاني لا يتفاوت الحال و لا يتغاير السندان في الواقع،حتّى يكون كلّ واحد منهما بخصوصه أخصّ من المنع،و إن كان المراد به الأخصّية بحسب التقرير و التعبير فهو مسلّم لكن لا ينافي ما ذكرنا.

و إذا تحقّقت ما ذكرنا،فنقول:

في الإشارة إلى توجيه كلام القائل الأوّل

بحيث يندفع عنه إيراد الشارح القوشجي

لعلّ مبنى كلام القائل الأوّل الذي نقل عنه الشارح بقوله:«قيل لا نسلّم أنّ الماهيّة الموصوفة بهذا الوصف ممتنعة الوجود-إلى آخره-»على أنّه بصدد إبطال سند المنع، لا بصدد منع السند،و إن كان قوله«لا نسلّم»موهما له،حيث إنّ منع السند لا يفيد،و كذا على أنّه إبطال له بحيث لا يكون قياسا فقهيّا كما زعمه الشارح،بل يكون مقتضى الدليل،

ص:328

و بيانه أنّ امتناع عود المعدوم إذا كان لأجل طريان العدم على ماهيّة المعدوم كما ذكره الشارح في التقرير الأوّل،فلا يخفى أنّ معناه:أنّه لأجل طريان العدم على وجود ما فرض موجودا ثمّ معدوما.و لا يخفى أيضا أن ليس وجه كون طريان العدم على الوجود الابتدائي منشأ لامتناع الوجود ثانيا،إلاّ أنّ طريان أحد النقيضين على النقيض الآخر يمكن أن يكون منشأ لذلك،يعني أنّ طريان النقيض الطارئ يجوز أن يكون سببا لامتناع النقيض الآخر المطروء عليه،و إذا كان كذلك فحيث يجوز أن يكون طريان العدم على الوجود سببا لامتناع الوجود ثانيا و كونه ممتنعا،أي لذاته،كما هو المقصود كذلك يجوز أن يكون طريان الوجود على العدم سببا لامتناع العدم ثانيا لذاته،إذ لا فرق بين الصورتين في أنّ في كلّ منهما طريان أحد النقيضين على النقيض الآخر.

و لا وجه أيضا لأن يكون طريان أحد ذينك النقيضين بخصوصه منشأ لذلك دون النقيض الآخر.و حينئذ فيجوز أن يكون الماهيّة الموصوفة بالوجود بعد العدم ممتنعة العدم ثانيا و واجبة الوجود لذاتها،كما جاز أن يكون الماهيّة الموصوفة بالعدم بعد الوجود ممتنعة الوجود و واجبة العدم،و هذا باطل بالضرورة.

و حيث كان كذلك فكما لا تكون الماهيّة الموصوفة بالوجود بعد العدم واجبة الوجود و ممتنعة العدم،بل جائزة العدم،كذلك لا تكون الماهيّة الموصوفة بالعدم بعد الوجود واجبة العدم و ممتنعة الوجود،بل جائزة الوجود و فيه المقصود.

و من ذلك يظهر أنّ ما أورده الشارح على كلام هذا القائل ليس بوارد،و أن تغيير السند و اعتبار وصف الطريان في جانب المحمول كما فعله لا ينفعه أصلا،إذ قد عرفت أنّ السند في الحقيقة أمر واحد مساو للمنع لا يتغيّر في الحقيقة بتغيير العبارة.

و حيث بطل السند مع اعتبار وصف الطريان في جانب الموضوع،بطل أيضا مع اعتباره في جانب المحمول،فبطل بالكلّية،و بطلانه حيث كان مساويا للمنع،بطل المنع أيضا رأسا.

على أنّه على تقدير تسليم كون كلّ من السندين أخصّ من المنع أيضا كما زعمه،نقول إنّ كلام هذا القائل و إن كان بحسب الظاهر ناظرا إلى التقرير الأوّل للسند،حيث قرّر كلام المصنّف هكذا،لكنّه عند التأمّل يمكن أن يورد على التقرير الثاني للسند أيضا بعينه،فإنّ

ص:329

لذلك القائل أن يقول حينئذ،إنّ ماهيّة الموجود من حيث هي يجوز أن يقتضي امتناع العدم ثانيا اي امتناع عود العدم،فإنّ العدم ثانيا لكونه عدما حاصلا بعد طريان الوجود السابق أخصّ من مطلق العدم،و لا يلزم من إمكان الأعمّ إمكان الأخصّ و لا من امتناع الأخصّ امتناع الأعمّ فيجوز أن يمتنع عدمه بعد وجوده لذاته و لا يمتنع عدمه مطلقا.

فإن قلت:إنّ فرض الأخصّ و الأعمّ في الوجود غير ممتنع،و أمّا فرضهما في العدم فممتنع،إذ لا تمايز في الأعدام و لا خصوص و لا عموم فيها.

قلت:لا امتناع في ذلك فإنّه كما أنّ الوجود يمكن أن يكون عاما كالوجود المطلق الانتزاعي،و خاصّا كالوجود الخاصّ بمعنى ما ينتزع منه الوجود الانتزاعي،أو كحصّة الوجود الانتزاعي الخاصّة المنتزعة من الوجود الخاصّ،أو الخاصّة باعتبار التقييد بقيد سلبي أو إضافي،كذلك العدم و إن لم يكن فيه تمايز و لا خصوص و لا عموم بحسب ذاته من حيث هي،يمكن أن يفرض فيه العموم و الخصوص بإضافته إلى الوجود العامّ أو الخاصّ و ذلك بيّن و مبيّن أيضا في موضعه.

على أنّا نقول:إنّ الوجود الأخصّ الذي فرضه الشارح و ادّعى امتناعه في هذا التقرير للسند لا معنى له إلاّ الوجود ثانيا بعد العدم،و كذا الوجود الأعمّ أو المطلق الذي فرضه فيه و فرض إمكانه،لا معنى له إلاّ الوجود الخاصّ السابق على هذا العدم اللاحق المسبوق بالعدم السابق،و أطلق الشارح عليه الوجود العامّ و الوجود المطلق بمعنى الوجود في الجملة.إذ لا وجود هنا عامّا أو مطلقا بأيّ معنى اخذ غيره.

و الحاصل أنّ المراد من ذلك هو الوجود المغاير و حينئذ فيمكن لنا أن نقول:إنّ العدم الخاصّ الذي فرضنا نحن خصوصه و امتناعه،هو العدم اللاحق المسبوق بالوجود السابق، و أنّ العدم المطلق أو الأعمّ الذي نحن فرضناه و فرضنا إمكانه هو العدم السابق على الوجود السابق المغاير للعدم اللاحق سواء بسواء.

و حيث عرفت ذلك عرفت أنّ إيراد هذا القائل يرد على هذا التقرير للسند أيضا،على تقدير كون كلّ من السندين سند آخر أخصّ من المنع أيضا كما زعمه الشارح،و أنّه به يبطل هذا السند الأخير،و به يبطل المنع بالكلّية،إذ مجموع السندين مساو للمنع إذ لا سند هنا غيرهما يستلزم المنع.و بإبطال السند المساوي سواء اعتبرته سندا واحدا مساويا له

ص:330

أو سندين كلّ منهما أخصّ،و مجموعها مساو له يبطل المنع.و هذا الذي ذكرنا هو توجيه كلام هذا القائل،و به يتمّ إيراده على ما يفهم ظاهرا من كلام المصنّف،و يظهر أنّه لا يندفع عنه بما أورده الشارح عليه،فتبصّر.

إلاّ أنّ إيراده ليس ممّا لا يمكن دفعه عن المصنّف،بل يمكن ذلك،لكن بوجه آخر غير ما ذكره الشارح.

و بيانه يستدعي تمهيد مقدّمة و هي أن يقال:من المستبين ممّا تبيّن في محلّه و كذا ممّا ذكره الشارح في التمهيد الذي حقّقه أن الوجود لو اريد به الوجود الخاصّ بمعنى ما ينتزع منه الوجود العامّ الانتزاعي،فكلّ وجود خاصّ بهذا المعنى حقيقة خاصّة مغايرة للوجود الآخر الخاصّ،مخالف له بحسب الحقيقة و مع ذلك فيمكن أن يكون بعضها مخالفا أيضا لبعض آخر بحسب التقييد بقيود سلبيّة أو إضافيّة،هي تكون منشأ لإمكان بعضها و لامتناع آخر،و أنّه لو اريد به الوجود العامّ الانتزاعي،فهو و إن كان معنى واحدا عامّا مشتركا بين الموجودات اشتراكا معنويّا إلاّ أنّ حصصه أيضا متخالفة و متغايرة بحسب إضافتها إلى الوجودات الخاصّة،و كذا بحسب التقييد بقيود سلبيّة أو إضافيّة.

و بذلك يمكن أن يحصل الاختلاف بينها في الحكم إمكانا و امتناعا و وجوبا.و كذلك العدم و إن كان مفهوما واحدا،لا تمايز بين الأعدام بحسب مفهوماتها،إلاّ أنّه قد يمكن التمايز بينها بحسب إضافتها إلى الوجودات الخاصّة المتمايزة،أو إلى حصص الوجود العامّ المتمايزة،و كذا بحسب التقييد سلبيّة أو إضافيّة و بذلك يحصل التغاير و التخالف بين الأعدام و يمكن الاختلاف بينها في الحكم امتناعا و إمكانا و وجوبا.

و إذا تمهّد هذا فنقول:إنّ للمصنّف أن يقول حينئذ إنّا لا نسلّم ما ادّعاه هذا القائل من أنّه لو كان امتناع عود المعدوم أي وجوده ثانيا لأجل طريان العدم على وجوده أوّلا،و الحال أنّه ليس إلاّ لأجل طريان النقيض على النقيض،و كون النقيض المطروء عليه ممتنعا،يلزم أن يكون عود العدم بعد ما طرأ عليه الوجود ممتنعا أيضا لأجل ذلك.لكنّا نقول:إنّ معنى ذلك امتناع عود ذلك العدم الخاصّ المطروء عليه أي العدم السابق على الوجود،كما أنّ المراد في الأوّل،امتناع عود ذلك الوجود الخاصّ المطروء عليه بعينه،ضرورة أنّه لو فرض الوجود بعد العدم الطارئ،كان هو وجودا خاصّا آخر غير الأوّل مقيّد بكونه

ص:331

مسبوقا بالعدم السابق فقط.و الثاني مقيّد بكونه مسبوقا بالعدم الطارئ،و إن كان مسبوقا بالعدم السابق أيضا بالواسطة.

و كذلك لو فرض عدم بعد الوجود الطارئ على العدم،كان العدم الثاني عدما خاصّا غير الأوّل لكون الأوّل مقيّدا بكونه عدما سابقا على الوجود مطلقا و الثاني مقيّدا بكونه عدما لاحقا،طارئا على الوجود و أحدهما غير الآخر.

و حينئذ نقول:سلّمنا امتناع ذلك العدم الخاصّ،لكنّه لا يلزم منه عدم جواز انعدام الماهيّة أو انعدام وجودها بعدم خاصّ آخر غير الأوّل،حتّى يلزم أن يكون الماهيّة الموصوفة بالوجود بعد العدم ممتنعة العدم مطلقا و واجبة الوجود لذاتها،بل يجوز انعدامها ثانيا بعدم آخر،حيث لا مانع منه عند العقل.

و أمّا ما قلناه من أنّه يجوز أن يكون الماهيّة الموصوفة بالعدم بعد الوجود ممتنعة الوجود و واجبة العدم،فهو لأجل أنّ الماهيّة لو فرض وجودها ثانيا فهو إمّا بالوجود الخاصّ الأوّل فذلك ممتنع،لامتناع عوده بعينه كما تبيّن،و إمّا بوجود خاصّ غير الأوّل فذلك أيضا ممتنع لما تقرّر في موضعه من أنّ اختلاف الوجود يستلزم اختلاف الماهيّة و الذات على ما بيّنا وجهه فيما تقدّم،فلا يكون ما فرض معادا بعينه بل يكون الموجود الثاني غير الموجود الأوّل؛هذا خلف.و هذا بخلاف العدم،فإنّ اختلاف العدم لا يستلزم اختلاف الذات،فتدبّر.و بما حقّقناه تنحسم مادّة الشبهة و اللّه أعلم بحقيقة الحال.

في تحرير ما ذكره صاحب المواقف

و أمّا صاحب المواقف على ما نقل الشارح كلامه،فظاهره أنّه بصدد إبطال سند المنع على التقرير الثاني له،و أنّ مبنى كلامه على أنّه فهم من قول المانع بأنّ ماهيّة المعدوم من حيث هي يجوز أن تقتضي امتناع العود،و العود لكونه وجودا حاصلا بعد طريان العدم أخصّ من الوجود المطلق-إلى آخره.

أنّ غرضه أنّ منشأ امتناع الوجود ثانيا و إمكان الوجود ابتداءً،إنّما هو اختلاف الوجودين بحسب الزمان فقط،بأن كان الوجود الأخصّ في زمان و هو زمان طريان العدم و الوجود الأعمّ أو المطلق في زمان آخر قبل طريان العدم،أو ادّعى أنّ الوجودين و إن قيّدا

ص:332

بقيد غير الزمان أيضا كقيد طريان العدم في الوجود ثانيا و قيد عدم طريانه في الوجود ابتداءً لا يكون بينهما اختلاف إلاّ بحسب الزمان فقط،لا بحسب الحقيقة،و لا بحسب غير الزمان.

ثم قال:الوجود أمر واحد في حدّ ذاته لا يختلف ابتداءً و إعادة بحسب حقيقته و ذاته بل بحسب إضافته إلى أمر خارج عن ماهيّته و هو الزمان فقط،فإذن يتلازم الوجودان المبتدأ و المعاد-أي الواقع في زمان الابتداء و الواقع في زمان الإعادة-إمكانا و وجوبا و امتناعا،لأنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة كالوجودين المبتدأ و المعاد،يجب اشتراكها في هذه الامور أي في الإمكان و الوجوب و الامتناع المستندة إلى ذواتها أي إلى ذوات تلك الأشياء.

فلو كان الوجود المعاد ممتنعا يجب أن يكون الوجود المبتدأ أيضا ممتنعا،و لو كان الوجود المبتدأ ممكنا يجب أن يكون الوجود المعاد أيضا ممكنا مثله،و كذلك لو كان أحدهما واجبا يجب أن يكون الآخر واجبا مثله،فإنّ المفروض استناد هذه الامور إلى ذوات تلك الأشياء،و ما بالذات لا يختلف و لا يتخلّف،فلا يمكن أن يكون الوجود المعاد ممتنعا مع إمكان الوجود المبتدأ.

و كيف يجوز ذلك،و الحال أنّا لو جوّزنا كون الشيء الواحد كالوجود ممكنا في زمان كزمان الابتداء،ممتنعا في زمان آخر كزمان الإعادة،معلّلا بالتعليل الذي ذكره المانع في التقرير الثاني للسند،و يرجع حاصله إلى أنّ الوجود في الزمان الثاني أخصّ من الوجود مطلقا و مغاير للوجود في الزمان الأوّل بحسب الإضافة إلى الزمان،فلا يلزم من امتناع الوجود الثاني امتناع ما هو أعمّ منه،أو امتناع ذلك المغاير،و جوّزنا هذا الانقلاب الذي هو من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي،للزم علينا أن نجوّز نظير هذا الانقلاب من الانقلابات الاخر الذاتية كالانقلاب من الامتناع الذاتي إلى الوجوب الذاتي معلّلا بنظير التعليل المذكور أي بأنّ الشيء الوجود في زمان أخصّ من الوجود في زمان آخر أو مغاير له،فجاز أن يكون ذلك الأخصّ ممتنعا و المطلق أو المغاير واجبا،فأنّ المفروض أن لا اختلاف بينهما إلاّ بحسب الزمان،مع وحدتهما بحسب الحقيقة.

و في تجويز هذا الانقلاب من الامتناع الذاتي إلى الوجوب الذاتي،مخالفة لبديهة

ص:333

العقل الحاكمة بأنّ الشيء الواحد يستحيل أن يقتضي لذاته عدمه في زمان و يقتضي لذاته وجوده في زمان آخر.و إغناء للحوادث عن المحدث.و سدّ لباب إثبات الصانع،لجواز أن تكون ممتنعة لذواتها في زمان كونها معدومة،و واجبة لذواتها حال كونها موجودة، فلا حاجة لها إلى صانع يحدثها.

فحاصل كلامه إبطال سند المنع من وجهين:أوّلها بطريق البرهان،و الثاني بطريق النقض الإجمالى و الإلزام.

و هذا الذي ذكرناه،هو تحرير كلام صاحب المواقف،إلاّ أنّ قوله:«الوجود أمر واحد في حدّ ذاته لا يختلف ابتداءً و إعادة بحسب حقيقته و ذاته-إلى آخره-».

كأنّ مراده منه الوجود العامّ الانتزاعي الذي قالوا:إنّه أمر واحد بحسب الحقيقة، مشترك معنوى بين الموجودات،و إلاّ فالوجود الخاصّ بمعنى ما ينتزع منه الوجود العامّ و حصصه ليس واحدا بحسب الحقيقة،بل مختلف بحسب اختلاف الماهيّات و الذوات.

و أنّ إيراده للفظ المغاير في المواضع الأربعة،سواء كان بلفظ الواو العاطفة أو بلفظ(أو) العاطفة على اختلاف النسختين،كان فيه إشارة إلى أنّ المراد من الوجود الخاصّ أو الاخصّ،و كذا من الوجود المطلق أو الأعمّ،ليس إلاّ الوجود المغاير أي المغاير بحسب الإضافة إلى الزمان،إذ ليس هنا خصوص و لا عموم،و لا إطلاق بحسب معنى من المعاني إلاّ معنى المغايرة.و أنّه ينبغي أن يحمل إطلاق هذه الألفاظ في كلام المانع في تقرير السند الثاني على هذا المعنى أيضا حتّى يكون له وجه كما أشرنا نحن أيضا فيما سبق إليه.

و إلاّ أنّ قوله:«لجواز أن يكون ممتنعة لذواتها في زمان كونها معدومة و واجبة لذواتها حال كونها موجودة،فلا حاجة لها إلى صانع يحدثها»كأنّ فيه إيماء إلى أنّه حينئذ يلزم تجويز انقلاب آخر غير ذلك أيضا،و هو تجويز أن تكون الحوادث ممكنة لذواتها في زمان كونها معدومة،و واجبة لذواتها حال كونها موجودة،فلا حاجة لها إلى صانع يحدثها، و إنّما لم يدّعه أيضا لعدم كونه في مقام استقصاء جميع الانقلابات الممتنعة،فاكتفى بالأوّل مع كونه في ظهور المفسدة بحيث لا يخفى على أحد.

ثمّ إنّك بعد ما تبيّنت تحرير كلام صاحب المواقف،لا يخفى عليك أنّ إيراده على السند الثاني حيث أورده بحيث كان مقابلا له في الظاهر لو كان واردا عليه،لربّما أمكن

ص:334

إيراده على السند الأوّل أيضا لكن بتغيير في العبارة،كأن يضمّ إلى ادّعاء وحدة الوجود بحسب الذات ادّعاء وحدة الذات أي ذات المعدوم أيضا أي وحدته في حالتي الابتداء و العود،و يدّعي مع ادّعاء تلازم الوجودين أي المبتدأ و المعاد إمكانا و وجوبا و امتناعا،أنّ تلك الذات الواحدة أيضا يجب أن يكون ما تقتضيه هي بذاتها من جملة تلك الامور واحدا في حالتي الابتداء و العود.

أو أن يقول:إنّ الماهيّة أمر واحد في حدّ ذاته لا تختلف إعادة و ابتداءً،فلا تختلف في اقتضاء إمكان الاتّصاف بالوجود الواحد كما ذكره المحشّي الشيرازي.و أن يبدّل قوله:

لأنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة يجب اشتراكها في هذه الامور المستندة إلى ذواتها، بقوله:لأنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة،يجب اشتراكها في اقتضاء الذات الواحدة إيّاها كما ذكره المحقّق الدواني.

أو أن يضمّ القول الثاني إلى القول الأوّل،و يذكرهما جميعا و أن يسقط قيد الخصوص أو الأخصّية في أحد الوجودين،و قيد الإطلاق أو الأعميّة في الآخر،بل يكتفي بقيد المغايرة،و أن يريد بالشيء الواحد في قوله:«لو جوّز كون الشيء الواحد ممكنا في زمان -إلى آخره-»الذات الواحدة كما أنّه ينبغي أن يراد به في الإيراد على السند الثاني الوجود الواحد.

و بالجملة أن يغيّر العبارة على نحو تكون عبارة إبطال السند في مقابلة السند الأوّل، و يكون ورود الإيراد عليه ظاهرا إمّا بما ذكرنا أو بنهج آخر.

و هذا إذا اريد مقابلته للتقرير الأوّل،و أمّا إذا اريد مقابلته للتقريرين جميعا،فينبغي أن يدّعي هناك تعميم و ضمّ بعض العبارات إلى بعض،حيث يكون مقابلا لكلا التقريرين،كما لا يخفى على المتأمّل.

في تحرير ما ذكره الشارح القوشجي في مقام الجواب

عمّا أورده صاحب المواقف

ثمّ إنّ الشارح قد تصدّى للجواب عمّا ذكره صاحب المواقف،فمهّد أوّلا لذلك مقدّمة و تحقيقا،ثمّ ذكر الجواب عنه.

ص:335

و بيان ما ذكره في التمهيد أنّ الوجوب عبارة عن اقتضاء الذات للوجود مطلقا أي غير مقيّد بقيد ينافيه،و الامتناع عن اقتضاء الذات العدم مطلقا أي غير مقيّد أيضا بقيد ينافيه، و الإمكان عن لا اقتضائهما مطلقين أي غير مقيّدين أيضا بقيد ينافيهما.و قد تقدّم أنّه لا يجوز الانقلاب بين تلك المفهومات الثلاثة،أي الوجوب الذاتي و الإمكان الذاتي و الامتناع الذاتي،بأن يكون شيء واحد كالوجود أو العدم واجبا في زمان،ثمّ يصير ممكنا أو ممتنعا في زمان آخر أو بالعكس،أو أن يكون شيء واحد كالذات الواحدة من جملة الذوات واجب الوجود لذاته في زمان ثمّ يصير ممكن الوجود لذاته أو ممتنع الوجود لذاته في زمان آخر أو بالعكس،لأنّ مقتضى ذات الشيء لا يختلف و لا يتخلّف بحسب الأزمنة.

لكنّ الوجود و كذا العدم قد يقيّد بقيد سلبي أو إضافي يجعل ذلك القيد المقيّد به أمرا آخر مغايرا لما لم يقيّد به.و كذلك الذات بحسب اعتبارها متّصفة بالوجود أو العدم و مقتضية لأحدهما أو غير مقتضية لواحد منهما،قد تقيّد بقيد سلبي أو إضافي و بسبب ذلك القيد يختلف الحال لا اختلافا بحسب الزمان،بل بحسب ذلك القيد،و إن كان القيد و كذا المقيّد به مقارنا للزمان.

و بالجملة لا مدخل للزمان في اختلاف الوجود أو العدم بحسب الإمكان أو الامتناع أو الوجوب،أو في اختلاف الذات في الاتّصاف بالوجود أو العدم بحسب هذه الامور،و إن كان بحسب الإضافة إلى الزمان أيضا يختلف حال الوجود و العدم في الجملة غير الاختلاف في تلك الامور.بل إنّما المدخل في ذلك لذلك القيد نفسه و مدخليّة الزمان فيه إنّما هي لأجل اقتران القيد و المقيّد به معه.

و تفصيل ذلك أنّ الوجود قد يقيّد بقيد سلبي أو إضافي،فلا يقتضي ذات الواجب الوجود لذاته المقيّد بذلك القيد،بل يمنع اتّصافه به،كما إذا قيّدنا الوجود بكونه مسبوقا بالعدم،أو قيّدنا الواجب بكون وجوده مسبوقا بالعدم،فإنّ هذا الوجود يمتنع اتّصاف ذات الواجب لذاته به،لكونه منافيا للوجوب الذاتي فضلا عن اقتضائه له.و بذلك لا يخرج ذات الواجب لذاته عن كونه واجبا بالذات و لا ينقلب وجوبه إلى الامتناع،لأنّ اقتضاءه للوجود مطلقا غير مقيّد بقيد ينافيه باق بحاله لم يدخله تغيّر و لا تبدّل و لا انقلاب.و كذلك

ص:336

العدم قد يقيّد بكونه مسبوقا بالوجود،أو الممتنع قد يقيّد عدمه بكونه مسبوقا بالوجود، فلا يقتضي ذات الممتنع لذاته هذا العدم المقيّد بهذا القيد.بل لا يمكن اتّصافه به لكونه منافيا للامتناع الذاتي،و لا يلزم من ذلك الانقلاب من الامتناع الذاتي إلى الوجوب الذاتي،بناء على أنّ اقتضاءه للعدم مطلقا غير مقيّد بقيد ينافيه باق بحاله.و كذلك إذا قيّد الوجود بكونه ناشئا عن ذات الموصوف به،أو قيّد الممكن بكون وجوده ناشئا عن ذاته، لم يمكن اتّصاف ذات الممكن لذاته به،لكونه منافيا للإمكان الذاتي الذي معناه عدم اقتضاء الوجود و العدم لذاته،و لم يصر الممكن لذاته بذلك ممتنعا لذاته،إذ نسبته إلى الوجود المطلق و العدم المطلق أي غير مقيّد بالقيد المنافي باق بحاله، (1)لم يتغيّر بعد، و كذلك الوجود إذا قيّد بالوجود القديم الأزلي المستمرّ في جميع أجزاء الأزل و في جميع أوقاته المفروضة أو قيّد الممكن بكون وجوده وجودا كذلك،لم يمكن اتّصاف ذات الممكن به لكونه منافيا للإمكان الذاتي و لو بعد النظر في الدليل،حيث إنّهم أقاموا الدليل على حدوث العالم بجملته حدوثا زمانيّا أو دهريا،و لم يصر الممكن لذاته بذلك ممتنعا لذاته،إذ نسبته إلى الوجود المطلق غير مقيّد بقيد ينافيه أي الوجود في الجملة و في بعض أجزاء الأزل باق بحاله (2)لم يتغيّر بعد.و الممتنع بذاته هو الذي لا يقبل الوجود بوجه من الوجوه و هذا الممكن ليس كذلك.و لأجل كون هذين الوجودين أي الوجود الازلي و الوجود في الجملة مختلفين عندهم في جواز اتّصاف ذات الممكن بالثاني دون الأوّل، قالوا:إنّ أزليّة الإمكان غير إمكان الأزليّة و غير مستلزمة له كما بيّنه الشارح،و نقل عن بعضهم إيرادا عليه و دفعه،و إن كان الأظهر في دفع ذلك الإيراد ما ذكره المحشّي الشيرازي بقوله:

أزليّة الإمكان تقتضي أن يكون الوجود المطلق أي في الجملة جائزا للممكن في جميع أوقات الأزل،على أن يكون الأوقات ظرفا للجواز و الإمكان،و ذلك لا يستلزم كون الوجود في جميع تلك الأوقات ممكنا.على أن يكون الأوقات ظرفا للوجود.

و إنّما كان أظهر في الدفع،لأنّه لا يسلّم قول ذلك البعض بدلا أيضا كما سلّمه الشارح، فتفطّن.و هذا الذي ذكرنا إنّما هو بيان ما ذكره الشارح في التمهيد،و منه يظهر الجواب عن

ص:337


1- -باقية بحالها(خ ل).
2- -باقية بحالها(خ ل).

كلام صاحب المواقف.

في تحرير الجواب

لكن لا يخفى عليك أنّ الأظهر في الجواب عنه بالنظر إلى ذلك التمهيد على ما بيّناه و بحيث ينحسم به مادّة الشبهة،سواء اوردت على التقرير الأوّل للسند أو على التقرير الثاني له،أن يقال إنّه كما جاز في تلك الصور المفروضة المتقدّمة اختلاف الوجود و العدم إمكانا و وجوبا و امتناعا أو اختلاف الذات بحسب اتّصافها بأحدهما من هذه الجهات من غير لزوم انقلاب محال.كذلك يجوز أن يكون إذا قيّد الوجود بكونه مسبوقا بعدم طار على الوجود أو قيّد الممكن بكون وجوده مسبوقا بعدم طار على وجوده الابتدائي، لا يمكن اتّصاف ذات الممكن به،لكونه منافيا لإمكانه الذاتي و لو بعد النظر في الدليل.

كما مرّ من الأدلّة على امتناع عود المعدوم بعينه،و لا يصير الممكن بذلك ممتنع الوجود لذاته،إذ نسبته إلى الوجود مطلقا غير مقيّد بقيد ينافيه كهذا القيد باق بحاله و لم يتغيّر بعد.

و بالجملة فكما جاز أن يكون الوجود المسبوق بالعدم مطلقا سابقا كان أم لاحقا ممّا لا يمكن اتّصاف ذات الواجب لذاته به لكونه منافيا و لم يكن ذلك من الانقلاب المحال في شيء،لأنّ اقتضاءه للوجود مطلقا غير مقيّد بقيد ينافيه كهذا القيد باق بحاله،كذلك يجوز أن يكون الوجود المسبوق بالعدم اللاحق المسبوق بالوجود المسبوق بالعدم السابق أعني العود ممّا لا يمكن اتّصاف ذات الممكن لذاته به لكونه منافيا له أيضا و لو بعد التأمّل و أن لا يكون ذلك من الانقلاب من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي،لأنّ نسبته إلى الوجود مطلقا غير مقيّد بقيد ينافيه،كالوجود المسبوق بالعدم السابق خاصّة باق بحاله (1)و ذلك القيد الذي صار التقييد به منشأ لامتناع اتّصاف ذات الممكن بالمقيّد به و إن كان لازما لماهيّة الممكن المعدوم الكذائي أو معتبرا في مفهوم العود و داخلا في حقيقته،و لذلك صار العود ممتنعا لذاته.و كذا صار المعدوم الممكن ممتنع الاتّصاف به لذاته و خالف به الوجود المعاد الوجود المبتدأ و اختلفا في الامتناع و الإمكان حيث امتنع المعاد و أمكن المبتدأ،إلاّ أنّه إذا قلنا إنّ كلاّ من الوجود المعاد و الوجود الابتدائي وجود خاصّ مغاير

ص:338


1- -باقية بحالها(خ ل).

للآخر في الحقيقة كما هو التحقيق في الوجود الخاصّ بمعنى ما ينتزع منه الوجود العام، فلا اشكال حينئذ في اختلاف حال الوجودين إمكانا و امتناعا،و كذا في اختلاف اتّصاف الممكن بهما بحسبهما.

و أمّا إذا أردنا بهما الوجود الانتزاعي،و قلنا بوحدة حقيقته و اختلافه بحسب الإضافة إلى أمر خارج عن حقيقته.

فنقول:ليس منشأ الاختلاف بين الوجودين،هو أصل حقيقتهما الواحدة،و لا أصل ذات الممكن المفروض وحدتها في حالتي فرض الاتّصاف بالوجودين،و لا ذلك ممّا ادّعاه المانع،و لا ممّا يلزم من كلامه حتّى يرد ما ذكره صاحب المواقف من أنّ الوجود أمر واحد في حدّ ذاته لا يختلف إعادة و ابتداءً بحسب حقيقته و ذاته،و أنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة كالوجودين يجب اشتراكها في الإمكان و الوجوب و الامتناع المستندة إلى ذوات تلك الأشياء،أو أنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة يجب اشتراكها في اقتضاء الذات الواحدة ايّاها.بل أنّ منشأ الاختلاف في ذلك هو الإضافة إلى أمر خارج عن ماهيّة الوجود،و لكن ليس ذلك الأمر هو الزمان كما ادّعاه صاحب المواقف،فإنّ الزمان بمجرّده لا دخل لاختلافه في اختلاف حال الوجود،و لا في اختلاف حال الممكن في اتّصافه به أصلا.و ليس ذلك أيضا ممّا ادّعاه المانع أو ممّا يلزم من كلامه،حتّى يرد عليه ما أورده هو من أنّه لو جوّزنا هذا الانقلاب أي كون الشيء الواحد أي الوجود الواحد أو الذات الواحدة ممكنا في زمان كزمان الابتداء ممتنعا في زمان آخر كزمان الإعادة معلّلا بالتعليل المذكور،لجاز نظير هذا الانقلاب أيضا كالانقلاب من الامتناع الذاتي إلى الوجوب الذاتي معلّلا به-إلى آخر ما ذكره-بل إنّ ذلك الأمر الخارج إنّما هو ذلك القيد المنافي للوجود الممكن الذي يكون المقيّد به ممّا يمتنع اتّصاف ذات الممكن به و إن كان مقارنا للزمان.

و بالجملة هذا القيد مناف له داخل في مفهوم العود و لازم لماهيّة ذلك المعدوم به صار العود ممتنعا بالذات.و كذا اتّصاف المعدوم به،و كذا هذا القيد،و كذا المقيّد به،و إن كان مقارنا للزمان لكن لا دخل للاقتران به في هذا الامتناع أصلا،كيف و لو كان الامتناع المذكور مستندا إلى الاقتران بالزمان لم يكن الامتناع ذاتيّا كما هو المفروض،لكونه

ص:339

مستندا إلى أمر خارج عن حقيقة العود و عن حقيقة المعدوم المفروض،و غير لازم لماهيّتهما بل كان امتناعا غيريّا؛هذا خلف.

و لا يخفى أنّ في صورة ما ادّعاه من لزوم الانقلاب من الامتناع إلى الوجوب ليس سوى قيد الوقوع في الزمان قيد مناف يوجب ذلك،إذ ليس في زمان كون الممكن معدوما بالعدم السابق سوى الاقتران بالزمان قيد معتبر مع وجوده أو مع ذات الممكن من جهة الاتّصاف ينافي الإمكان و يوجب الامتناع الذاتي،حتّى يلزم أن يكون الممكن في ذلك الزمان ممتنعا لذاته،و كذا ليس في زمان كونه موجودا بالوجود الابتدائي المسبوق بالعدم السابق خاصّة سوى الاقتران بالزمان قيد ينافي الإمكان و يوجب الوجوب الذاتي،حتّى يلزم كونه فيه واجبا لذاته،و قد عرفت أنّ الاقتران بالزمان بمجرّده لا يكون منشأ لذلك.

و لا يمكن أيضا أن يقال:إنّ المراد أنّ الممكن بشرط العدم يمتنع وجوده.و كذا هو بشرط الوجود يجب وجوده،لأنّ هذا يكون خلاف الفرض،لأنّ المفروض هو الامتناع و الوجوب في زمان الوصف لا بشرطه،و أيضا يكونان حينئذ غيريّين حيث إنّ هذا الشرط خارج عن حقيقة ما فرض ممتنعا أو واجبا و غير لازم لماهيّتهما لا ذاتيّين كما هو المفروض أيضا.

نعم في كلّ صورة يعتبر فيها القيد المنافي يلزم الاختلاف،و ليس هو مع ذلك من الانقلاب المحال في شيء كما عرفت بيانه.

فإن قلت:إذا كان ذلك القيد المنافي لازما للماهيّة أو معتبرا في مفهوم شيء كقيد طريان العدم الذي ذكرت أنّه لازم لماهيّة الممكن المعدوم و معتبر في مفهوم العود أي الوجود ثانيا، لا يخفى أنّه حينئذ يكون الاختلاف مستندا إلى ذلك القيد الذي هو لازم للماهيّة أو معتبر في المفهوم،و حيث كان لازم الماهيّة مستندا إلى الماهيّة من حيث هي كما هو المقرّر بينهم، فيكون الاختلاف مستندا إلى ماهيّة الملزوم أي الممكن المعدوم،و المفروض أنّ حقيقة الممكن حقيقة واحدة،و كذلك حيث كان القيد معتبرا في مفهوم العود و ما هو إلاّ الوجود ثانيا الذي هو واحد بحسب الحقيقة فيكون الاختلاف أيضا مستندا إلى حقيقة الوجود التي هي واحدة.

ص:340

و على التقديرين فيعود المحذور المذكور جذعا. (1)

قلت:لا عود للمحذور أصلا فإنّا لا نعني بكون هذا القيد معتبرا في مفهوم العود أنّه معتبر في مفهوم الوجود الذي حقيقته واحدة،كالوجود العامّ المشترك فيه المتّحد بالحقيقة من حيث هو حقيقة واحدة،بل نعني به أنّه معتبر في مفهوم العود الذي هو وجود خاصّ،سواء أردنا بالوجود الخاصّ هو الأمر الذي ينتزع منه الوجود الانتزاعي و قلنا بتغاير الوجودات الخاصّة في الحقيقة كما هو الحقّ،أو أردنا به تلك الحصّة المنتزعة من ذلك الوجود الخاصّ و قلنا بتغاير الحصص أيضا بتغاير الاعتبارات و الإضافات إلى أمر خارج،و كذا بتغاير المفروضات لها التي هي ممّا ينتزع منها تلك الحصص.

و على التقديرين فلا عود للمحذور،إذ لا يلزم من اعتبار القيد في وجود خاصّ كالعود اعتباره أيضا في وجود خاص آخر كالوجود الابتدائي،و لا اعتباره في مفهوم الوجود العامّ الواحد بالحقيقة حتّى يلزم أن يكون ما يقتضيه العود يقتضيه الوجود الابتدائي، أو يقتضيه الوجود العامّ أو يختلف مقتضاه.

و كذلك لا نعني بكون ذلك القيد لازما لماهيّة الممكن المعدوم أنّه لازم لماهيّة الممكن مطلقا،و لو كان ممكنا موجودا أو أنّه لازم لماهيّة الممكن المعدوم مطلقا و لو كان معدوما بالعدم السابق فقط،بل أنّه لازم لماهيّة هذا الممكن المعدوم بالعدم الطارئ على وجوده السابق المسبوق بالعدم السابق،و هذه الماهيّة باعتبار اتّصافها بهذا العدم الطارئ تكون مغايرة للماهيّات الممكنات الاخر معدومات أو موجودات،فلا يلزم أن يكون القيد اللازم لها من هذه الجهة لازما لها من الجهة الاخرى،أو لازما لغيرها من الماهيّات الممكنة،حتّى يعود المحذور.

و الحاصل أنّ إمكان اتّصاف المعدوم الممكن بالوجود الابتدائي،و عدم إمكان اتّصافه بالعود،و اختلاف حاله في ذلك،و كذا اختلاف حال الوجودين امتناعا و إمكانا،يمكن أن يكون لأجل اختلاف الوجودين بسبب ذلك القيد المعتبر في مفهوم العود،و كذا لأجل اختلاف حال الماهيّة أي ماهيّة المعدوم في الحالين بسبب ذلك القيد اللازم لها من حيث هي،و أنّ مجموع الاختلافين أي الاختلاف في الصفة و الموصوف،يمكن أن يكون منشأ

ص:341


1- -أي جديدا.

لاختلاف الحكم،فإنّه لا شبهة في أنّ أحد الاختلافين يمكن أن يكون كافيا في ذلك حيث يمكن أن يكون الذات الواحدة حيث كانت هناك صفات متغايرة و مختلفة،إمّا بالذات أو بالاعتبار،مقتضية لصفة منها دون صفة اخرى مغايرة للاولى،و كذا يمكن أن يكون الصفة الواحدة،حيث كانت الذات الموصوفة بها باعتبار تقيّدها بقيد مغايرة لنفسها باعتبار تقيّدها بقيد آخر ممّا تقتضيها تلك الذات باعتبار و لا تقتضيها باعتبار آخر، فكيف إذا كان هناك اختلاف في الموصوف و الصفة جميعا كما فيما نحن فيه،فتبصّر.

و بما ذكرنا يظهر الجواب الحقّ التفصيلي عمّا ذكره صاحب المواقف،و به ينحسم مادّة الشبهة،سواء أوردت على التقرير الأوّل للسند أو على الثاني.

في الكلام فيما ذكره الشارح القوشجي نفسه في الجواب

عمّا ذكره صاحب المواقف

و أمّا ما ذكره الشارح نفسه بعد التمهيد المذكور،فكأنّه لا يخلو عن إبهام بسببه صار منشأ لإيراد المحقّق الدواني عليه،و تطبيقه على ما ذكرنا أو توجيهه بنحو آخر يندفع به عنه الإيراد و ينحسم به مادّة الشبهة على التقريرين يحتاج إلى نوع عناية.

و بيان ذلك أنّ قوله:و إذا تمهّد هذا فنقول مقصود المانع أنّ العود ليس وجودا مطلقا على أيّ وجه كان،بل هو وجود مقيّد بكونه حاصلا بعد طريان العدم،فلم لا يجوز أن يمتنع اتّصاف ماهيّة المعدوم بهذا الوجود المقيّد،و لا يمتنع اتّصافها بالوجود المطلق من غير لزوم انقلاب من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي كما في إخوته و نظائره على ما تقدّم.

أشار بذلك إلى الجواب عن النقض و الإلزام،و لعلّه أراد به أنّ مقصود المانع أنّ العود ليس وجودا مطلقا على أيّ وجه كان،بل هو وجود خاصّ مقيّد بكونه حاصلا بعد طريان العدم،و هذا القيد داخل في مفهومه معتبر فيه،و به صار هذا الوجود وجودا خاصّا مخالفا لما لم يقيّد به من الوجود في الحكم لا بمجرّد الإضافة إلى الزمان كما ادّعاه صاحب المواقف،كما أنّ هذا القيد لازم لماهيّة الممكن المعدوم أي لماهيّة هذا الممكن المعدوم المفروض الذي طرأ عليها العدم،فلم لا يجوز أن يمتنع اتّصاف ماهيّة هذا الممكن المعدوم

ص:342

بهذا الوجود المقيّد أي العود الذي سبب اختلافه مع غيره في الحكم إنّما هو هذا القيد فقط و لا يمتنع اتّصافها بالوجود المطلق أي بما لم يقيّد بهذا القيد من الوجود كالوجود الابتدائي من غير لزوم انقلاب من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي على ما ادّعاه صاحب المواقف،كما لم يلزم الانقلاب في إخوته و نظائره على ما تقدّم من الأمثلة.

و أنّ قوله:فقول هذا القائل:و لو جوّزنا كون الشيء-إلى آخره-،لا تعلّق له بكلام هذا المانع،لأنّه لا يقول بهذا التجويز و لا يلزمه أيضا.لعلّه أراد به أنّ قول هذا القائل أي صاحب المواقف:و لو جوّزنا كون الشيء الواحد أي الوجود الواحد ممكنا في زمان الابتداء، ممتنعا في زمان الإعادة،أو كون الماهيّة الواحدة ممكنة الاتّصاف بالوجود في زمان الابتداء،ممتنعة الاتّصاف به في زمان الإعادة-إلى آخر ما ذكره-،لا تعلّق له بكلام هذا المانع،لأنّه لم يقل بوحدة الوجود في الحالين،بل إنّه كما ظهر من التقرير الثاني لسند المنع قال:بأنّ الوجود في زمان الإعادة وجود خاصّ و تقيّد بقيد كان ذلك القيد سببا لاختلافه في الحكم و كونه مغايرا لما لم يقيّد به و به صار ممتنعا،و ليس سبب ذلك هو الإضافة إلى الزمان حتّى يلزم ما ذكره القائل،و كذلك لم يقل بوحدة الماهيّة في الحالين من جميع الجهات حتّى يلزم ما ادّعاه القائل،بل إنّه كما ظهر من التقرير الأوّل للسند،عنى بها ماهيّة الممكن المعدوم بالعدم الطارئ التي هي باعتبار الاتّصاف بهذا الوصف اللازم لها مغايرة لنفسها باعتبار عدم الاتّصاف به كما أنّها مغايرة لغيرها من الماهيّات الممكنات.و بذلك تمّ الجواب عن الإلزام.

ثمّ إنّ قوله:و كذا قوله الوجود أمر واحد-إلى قوله-و لو جوّزنا لأنّ حاصله-إلى آخر ما ذكره-،إشارة إلى الجواب عمّا ذكره القائل أوّلا بطريق البرهان،و لعلّه أراد به أنّ قول القائل هذا القول أيضا لا تعلّق له بكلام المانع،لأنّ حاصل هذا القول الذي ذكره القائل،أنّ الوجود المعاد إذا اقتضى لذاته أمرا،يجب أن يقتضي الوجود المبتدأ لذاته ذلك الأمر و بالعكس،لأنّهما متّحدان ذاتا و حقيقة و إنّما اختلافهما بحسب أمر خارج هو الزمان عنده،فإذن يتلازم الوجودان أي المبتدأ و المعاد إمكانا و وجوبا و امتناعا لأنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة كالوجودين،يجب اشتراكها في هذه الامور المستندة إلى ذواتها أو أنّ مع وحده حقيقة الوجودين في الحالين و كون اختلافهما بحسب الأمر الخارج إذا كانت

ص:343

الذات الموصوفة بهما في الحالين واحدة أيضا،كماهيّة المعدوم و الحال أنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة،يجب اشتراكها في اقتضاء الذات الواحدة ايّاها كذلك،فلا يجوز أن يختلف اقتضاؤها إيّاها.

و المانع لم يقل بخلاف ذلك و لم يلزم أيضا من كلامه خلافه،بل اللازم من كلامه أنّ الوجودين المبتدأ و المعاد و إن كانا متّحدين بحسب الحقيقة لكنّهما متغايران بحسب الإضافة إلى أمر خارج،و ليس هو الزمان كما ادّعاه،بل ذلك القيد الذي اعتبر في الوجود المعاد و لم يعتبر في الوجود المبتدأ و كذلك الذات و إن كانت واحدة في الحالين لكنّها بحسب اتّصافها بالمقيّد بذلك القيد مغايرة لنفسها بحسب عدم اتّصافها به.فيجوز حينئذ أن يختلف اقتضاء الماهيّة و الوجود جميعا أي يجوز أن يقتضي ماهيّة المعدوم،أي هذا المعدوم المفروض عدم الاتّصاف بأحدهما يعني الوجود المعاد و لا يقتضي عدم الاتّصاف بالآخر أو يقتضي الاتّصاف بالآخر يعنى الوجود المبتدأ لكونهما مختلفين متغايرين و لو بالاعتبار و كذا لكون الذات مختلفة و متغايرة لنفسها و لو بالاعتبار.

و كذلك يجوز أن يقتضي أحد الوجودين جواز اتّصاف ماهيّة المعدوم به أو لا يقتضي عدم جواز اتّصافها به،و يقتضي الآخر عدم جواز اتّصافها به،لكون الذات مختلفة و لو بالاعتبار و كذا لكون الوجودين متغايرين و مختلفين و لو بهذا الاعتبار فقط إن لم نقل بكونهما متغايرين في الحقيقة،و كون كلّ واحد منهما وجودا خاصّا مغايرا للآخر بحسب الذات أيضا.

و الحاصل أنّ منشأ الاختلاف في الحكم فيما نحن فيه إنّما هو اختلاف في الصفة أي في الوجود و اختلاف في الموصوف أي الذات الموصوفة بهما جميعا،و أنّ مجموع الاختلافين اللذين أحدهما كاف في اختلاف الحكم كما أشرنا إليه،سبب لذلك،و أنّ اختلاف الاقتضاء ممكن حينئذ سواء اسند إلى الذات أو إلى الوصف،ثمّ إنّه حيث كان اختلاف الحال مستندا إلى ذلك القيد الذي هو معتبر في الوجود المعاد و لازم لماهيّة ذلك المعدوم،لا إلى حقيقة الوجود المتّحدة،و لا إلى ماهيّة الممكن المعدوم مطلقا.فلا ينافي هذا أن لا يجوز أن يقتضي أحد الوجودين لذاته و بحسب حقيقته المتّحدة من غير قيد معتبر معه أمرا إن كان فرض اقتضاء ذاتي مستند إلى حقيقته الواحدة و لا يقتضيه الوجود

ص:344

الآخر لذاته،أو يقتضي عدمه،و أن لا يجوز أن يقتضي الذات الواحدة من جهة ذاتها بذاتها مع قطع النظر عن قيد و الاتّصاف بوصف أمرا مرّة لو كان لها اقتضاء كذلك و أن لا تقتضيه مرّة اخرى أو تقتضي عدمه.

و هذا الذي ذكرنا هو توجيه كلام الشارح بحيث تنحسم به مادّة الشبهة،و ينكشف به الإبهام،و منه يظهر اندفاع ما أورده المحقّق الدواني عليه في الحاشية عليه.

ص:345

في الإشارة إلى اندفاع ما أورده المحقّق الدواني عن الشارح القوشجي

حيث قال:وقف الشارح عند ظاهر لفظ هذا القائل و لم يأت بما ينحسم مادّة الشبهة -إلى آخر ما ذكره-و اقتفى أثره المحشّي الشيرازي،حيث نسج الكلام على منواله و بنى على أساسه.

و بيان الاندفاع:أنّه لا خفاء فيما ذكره من أنّ مقصود هذا القائل-أي صاحب المواقف-أنّه لو جاز أن يكون الشيء بعد ما طرأ عليه العدم ممتنعا و قبله ممكنا كما قيل في التقرير الأوّل للسند،لجاز أن يكون الحادث في زمان عدمه ممتنعا و في زمان وجوده واجبا.

و أيضا لو جاز كون الشيء ممكن الاتّصاف بالوجود الأوّل،ممتنع الاتّصاف بالوجود الثاني كما قيل في التوجيه الثاني للسند،لجاز كون الحادث ممتنع الاتّصاف بالوجود في زمان عدمه،واجب الاتّصاف بالوجود في زمان الوجود.

فإنّ العلّة المذكورة في الوجهين للسند جارية فيما ادّعاه أيضا.

إلاّ أنّ مقصود الشارح كما بينّا مراده أنّ العلّة المذكورة ليست جارية فيه،إنّما تكون جارية فيه لو كان مقصود المانع في التقرير الأوّل للسند جواز أن يكون الشيء بعد ما طرأ عليه العدم بمجرّد كونه في ذلك الزمان و إضافته إليه ممتنعا و قبله بمجرّد كونه واقعا في الزمان القبل و إضافته إليه ممكنا من غير اعتبار قيد آخر هنا.و كذا لو كان مقصوده في التقرير الثاني للسند جواز كون الشيء ممكن الاتّصاف بالوجود الأوّل من حيث كونه وجودا أوّلا واقعا في الزمان الأوّل،و ممتنع الاتّصاف بالوجود الثاني من جهة كونه وجودا ثانيا واقعا في الزمان الثاني من غير اعتبار قيد آخر معتبر معه،فإنّه على هذا التقدير

ص:346

يجري العلّة المذكورة في الوجهين فيما ذكره أيضا،و يرد ما أورده عليه،و ليس ذلك مقصود المانع،بل إنّما مقصوده في التقرير الأوّل للسند جواز أن يكون الشيء بعد ما طرأ عليه العدم ممتنعا باعتبار قيد معتبر معه،هو لازم ماهيّته أي طريان العدم الذي هو منشأ الاختلاف حال ذلك الشيء في الاتّصاف بالوجود،و منشأ امتناعه،أي امتناع وجوده مرّة اخرى،و لا مدخل في ذلك للزمان أصلا و إن كان مقارنا معه،و أن يكون قبل ذلك ممكنا، أي أن يكون مع عدم اعتبار ذلك القيد معه كما هو قبل طريان العدم ممكن الوجود.

و كذلك مقصود المانع في التقرير الثاني جواز كون الشيء ممكن الاتّصاف بالوجود الأوّل،لا من جهة كونه وجودا واقعا في الزمان الأوّل،بل من جهة كونه وجودا مطلقا بمعنى عدم تقيّده بقيد مناف،كقيد طريان العدم.و كذا جواز كون الشيء ممتنع الاتّصاف بالوجود الثاني،لا من جهة كونه وجودا ثانيا واقعا في الزمان الثاني،بل من جهة تقيّده بقيد معتبر في مفهومه،و هو طريان العدم،و إن كان مقارنا للزمان.

و لا يخفى أنّ العلّة المذكورة بهذا المعنى الذي ذكرناه ليست جارية فيما ذكره القائل في الحادث،و أجراها المحقّق الدواني فيه،إذ الحادث في زمان عدمه لم يقيّد بقيد لازم لماهيّته أو داخل في ماهيّته،يمكن أن يكون ذلك القيد منشأ لامتناعه،و كذا هو في زمان وجوده لم يقيّد بقيد كذلك يمكن أن يكون سببا لوجوبه،و كذلك الوجود في زمان عدمه لم يقيّد بقيد معتبر في مفهومه أو لازم له،يوجب كون الحادث ممتنع الاتّصاف به،و كذا هو في زمان وجوده لم يقيّد بقيد كذلك يكون منشأ لوجوب اتّصاف الحادث به.

نعم في هذه الصور قد قيّد الحادث أو وجوده بقيد الوقوع في الزمان المختلفين،و قد عرفت مرارا أنّ اختلاف الزمان بمجرّده لا يصير منشأ لاختلاف حال الشيء و لا لاختلاف حال الوجود إمكانا وجوبا و امتناعا.

و هذا الذي ذكرنا في توجيه كلام الشارح،و إن كان غير مصرّح به في كلامه في الجواب الذي ذكره،لكنّه ظاهر منه بقرينة ما سبق منه فى التمهيد الذي ذكره.فانّه ينادي به عند التأمّل الصادق فيما ذكره من أنّ الوجود و كذا العدم قد يقيّد بقيد سلبي أو إضافي، فلا يقتضي الشيء،إيّاه،بل يمتنع اتّصافه به،كما فصّله من الأمثلة،فإنّ كلامه ظاهر في أنّ سبب ذلك الامتناع ليس إلاّ ذلك القيد،لا اختلاف الزمان.كيف و هو قد ذكر في صدر

ص:347

التمهيد أنّه قد تقدّم أنّه لا يجوز الانقلاب بين هذه المفهومات الثلاثة،بأن يكون شيء واجبا في زمان،ثم يصير ممكنا أو ممتنعا في زمان آخر أو بالعكس،لأنّ مقتضى ذات الشيء لا يختلف و لا يتخلّف بحسب الأزمنة،حيث نفى كون الزمان بمجرّده سببا لاختلاف الحال في ذلك و كأنّ المحقّق الدواني في إيراده على الشارح نظر إلى ظاهر كلامه في الجواب،حيث لم يصرّح بكون منشأ الاختلاف هو القيد،بل أجمل بحيث كونه هو الزمان،و لم ينظر إلى ما ذكره في التمهيد.

و من هذا يظهر أنّ المحقّق الدواني وقف على ظاهر لفظ الشارح في الجواب و ذهل عمّا ذكره في التمهيد له و لم يأت بشيء و يظهر انعكاس التشنيع،فتدبّر.

ثم إنّ قول المحقّق الدواني:إلاّ أنّه تسامح في قوله:لأنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة -إلى قوله-:و لو جوّزنا،و كان حقّ العبارة أن يقول:لأنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة يجب اشتراكها في اقتضاء الذات الواحدة،إيّاها.

ذكر المحشّي الشيرازي أنّه دفع للإيراد الثاني للشارح على الوجه الأوّل لإبطال السند بتغيير العبارة و عنى بالإيراد الثاني للشارح،قوله:و كذا قوله:الوجود أمر واحد-إلى قوله -و لو جوّزنا لأنّ حاصله أنّ الوجود المعاد إذا اقتضى لذاته أمرا-إلى آخره-و هو و إن لم يبيّن صريحا أنّ مفاد هذا الإيراد ما ذا؟و أنّ مبنى دفعه على ما ذا؟لكنّه يفهم من بعض أقواله بعد ذلك كما سنشير إليه في شرح كلامه أنّ مفاد إيراد الشارح أنّ ما ذكره القائل، ليس في مقابلة كلام المانع،و لا يضرّه،لأنّ حاصل ما ذكره القائل أنّ الوجود المعاد إذا اقتضى لذاته أمرا،يجب أن يقتضي الوجود المبتدأ أيضا لذاته لذلك الأمر بعينه،لأنّهما متّحدان ذاتا و حقيقة،و إنّما اختلافهما بحسب أمر خارج،و هذا لا يضرّ المانع،لأنّه لم يقل بخلافه،و لم يلزم أيضا من كلامه خلافه،بل اللازم من كلامه أنّ الوجودين المبتدأ و المعاد متغايران بحسب الإضافة إلى أمر خارج،فيجوز أن يقتضي ماهيّته المعدوم لذاته عدم الاتّصاف بأحدهما،يعنى الوجود المعاد،و لا يقتضي عدم الاتّصاف بالآخر يعني المبتدأ.

و المحصّل أنّ المانع جوّز اختلاف اقتضاء ماهيّة المعدوم بالنسبة إلى الوجودين، و لم يجوز اختلاف اقتضاء الوجودين،و لا ينافي ما ذكره المانع أن لا يجوّز اختلاف اقتضاء الوجودين أي أن لا يجوّز أن يقتضي أحد الوجودين لذاته أمرا و لا يقتضيه الوجود

ص:348

الآخر،فليس كلام القائل في مقابلة كلام المانع،و لا يضرّه أيضا.

و كذلك يفهم منه أنّ مبنى دفع هذا الإيراد على أنّه إنّما يرد هذا على ظاهر كلام القائل، حيث قال:«لأنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة يجب اشتراكها في هذه الامور»و أراد بالأشياء هنا الوجودين المبتدأ و المعاد.و أمّا إذا غيّرت هذه العبارة إلى قولنا:لأنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة يجب اشتراكها في اقتضاء الذات الواحدة إيّاها كما ذكره المحقّق الدواني فلا ورود له بل يكون حينئذ كلام القائل مقابلا لكلام المانع و يضرّه،و هذا ظاهر و على هذا فيكون قول المحقّق الدواني،و قوله:و لو جوّزنا-إلى آخره-،معناه أنّه لو جوّز كون الشيء ممكنا-إلى آخره-تفسيرا لكلام القائل بناء على هذا التعليل المغيّر.

كلام مع المحشّي الشيرازي

و لا يخفى عليك بعد ما أحطت خبرا بما ذكرنا في توجيه كلام الشارح،أنّ مقصود الشارح من هذا الإيراد ليس ما فهمه المحشّي و أن تغيير العبارة لا يضرّ بحال المانع.فإنّ للشارح أن يقول:إنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة،إنّما يجب اشتراكها في اقتضاء الذات الواحدة إيّاها إذا كان اقتضاؤها إيّاها من جهة كون تلك الأشياء متوافقة في الماهيّة و واحدة من جميع الجهات،و أمّا إذا كانت تلك الأشياء مختلفة بحسب الإضافة إلى أمر خارج أي ذلك القيد المنافي كما بيّناه فلا يجب الاشتراك في ذلك.و كذلك له أن يقول:إنّ وحدة الذات من جميع الجهات غير مسلّمة هنا،بل هي باعتبار ذلك القيد أيضا مختلفة مغايرة لنفسها باعتبار كما بينّاه أيضا.

ثمّ نقول من رأس في بيان مقصود الشارح:إنّ مقصوده أنّه إذا كان الوجودان المتّحدان بالحقيقة مختلفين بحسب أمر خارج كما هو المفروض فلا ينفع في مطلوب القائل أخذ اتّحاد الذات و أنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة يجب اشتراكها في اقتضاء الذات الواحدة إيّاها،لأنّه مع وحدة الذات أيضا إذا كان المحمولان كالوجودين مختلفين و لو بحسب أمر خارج كالقيد المذكور،يجوز اختلاف اقتضائها لذينك المحمولين،و يمكن اتّصافها بأحدهما دون الآخر،بل يجوز اختلاف اقتضاء ذينك المحمولين أيضا بحسب اتّصاف الذات الواحدة بهما إمكانا و امتناعا،بل بحسب أنفسهما أيضا امتناعا و إمكانا و إن كان

ص:349

يرجع الحكم بامتناع أنفسهما أو إمكانهما إلى الحكم بامتناع اتّصاف تلك الذات بهما أو إمكان اتّصافها بهما.

و معنى ذلك القول أنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة يجب اشتراكها في اقتضاء الذات الواحدة إيّاها من حيث كون تلك الأشياء متوافقة في الماهيّة و عدم كونها مختلفة بوجه، لا من حيث كونها مختلفة أيضا و لو بحسب أمر خارج.على أنّ وحدة الذات من جميع الجهات فيما نحن بصدده غير مسلّمة،فانّك قد عرفت ممّا ذكر لك من التقريرين (1)لسند المنع أنّه كما أنّ الوجود المعاد باعتبار تقيّده بطريان العدم و كونه معتبرا في مفهومه مخالف للوجود المبتدأ باعتبار عدم تقيّده به،كذلك ذات المعدوم المفروض باعتبار ذلك القيد اللازم له مغاير لنفسه باعتبار عدم تقيّده به و عدم لزومه له.فكما أنّ الوجودان مختلفان، كذلك الذات مختلفة و لو بالاعتبار،و كما أنّ الذات الواحدة من جميع الوجوه يجوز اختلاف اقتضائها بالنسبة إلى صفتين مختلفين و لو بالاعتبار،كذلك الذات الواحدة بالذات المختلفة بالاعتبار يجوز اختلاف اقتضائها لصفة واحدة غير مختلفة و لو بالاعتبار.

و الحاصل أنّ منشأ الاختلاف في الحكم يجوز أن يكون اختلافا في المحمول،و كذا اختلافا في الموضوع،و أحدهما كاف فيه،فكيف بالمجموع،و أنّه يجوز اختلاف الاقتضاء حينئذ سواء اسند إلى الموضوع أو إلى المحمول.

فيظهر ممّا ذكرنا ورود إيراد الشارح على القائل،و عدم اندفاعه عنه بتغيير التعليل.

و هذا الذي ذكرنا هو مع قطع النظر عمّا أورده عليه المحشّي الشيرازي على تقدير تغيير التعليل المذكور كما سيأتي بيانه.

ثمّ إنّ قول المحقّق الدواني:«و الحاصل أنّ الاختلاف سواء اعتبر في الموضوع أو في المحمول و حكم باختلافهما في الإمكان و الامتناع،يجري في الحادث،إلاّ أن ظاهر عبارته أشبه بالابتناء على الوجه الأخير.»معناه أنّ الاختلاف سواء في الموضوع أي الذات أو الشيء أو المعدوم كما هو مبنى التقرير الأوّل لسند المنع أو في المحمول،أي الوجود كما هو على التقرير الثاني له و حكم باختلاف و حكم باختلاف الموضوع

ص:350


1- -في التقريرين(خ ل).

المختلف باعتبار هذا الاختلاف و المحمول المختلف به في الإمكان و الامتناع كما ادّعاه المانع يجري نظير ذلك في الحادث أيضا كما ادّعاه القائل،و بيّنه المحقّق المذكور في صدر الحاشية أي أن يكون هناك اختلاف في الموضوع أو المحمول بالامتناع و الوجوب فسواء قرّر سند المنع بالتقرير الأوّل أو بالتقرير الثاني يرد عليه إيراد القائل،إلاّ أنّ ظاهر عبارة القائل أشبه بابتناء إيراده على الوجه الثاني أي على التقرير الثاني لسند المنع كما هو ظاهر كلامه.

و بالجملة فما ذكره المحقّق الدواني هنا،هو حاصل كلامه فيما تقدّم و قد عرفت ما فيه.

ثمّ إنّ قوله:«و الذي يحسم مادّة الشبهة أن يقال-إلى آخره-».حاصله أنّ ما ادّعاه القائل و أبطل به سند المنع الذي ذكره المانع سواء قرّر بالتقرير الثاني أو بالأوّل من أنّه يلزم على تقدير تجويز كون الشيء بعد ما طرأ عليه العدم ممتنعا و قبله ممكنا كما هو على التقرير الأوّل للسند تجويز أن يكون الحادث في زمان عدمه ممتنعا و في زمان وجوده واجبا.و على تقدير تجويز كون الشيء ممكن الاتّصاف بالوجود الأوّل،ممتنع الاتّصاف بالوجود الثاني كما هو على التقرير الثاني له تجويز أن يكون الحادث ممتنع الاتّصاف بالوجود في زمان عدمه،واجب الاتّصاف بالوجود في زمان وجوده،و هذا محال كما ذكره و بيّن وجهه،إنّما يلزم إذا كان ما ادّعاه بحيث يمكن فرضه بوجه،و ليس كذلك،إذ لا يخفى أنّ مراده من وجوب الوجود أو وجوب الاتّصاف بالوجود في هذا الفرض ليس هو الوجوب بالغير لأنّه خلاف صريح كلامه.

و لأنّه لو كان هو مراده لم يرد إلزاما على المانع،لأنّ المانع لم يدّع إلاّ الإمكان الذاتي في أحد الحالتين و الامتناع الذاتي في الآخر لا الغيري.

و لأنّه لا امتناع في أن يكون الحادث في زمان عدمه أو اتّصافه بالوجود في زمان عدمه ممتنعا بالغير أي لأجل عدم علّته مثلا،و أن يكون هو في زمان وجوده أو اتّصافه بالوجود في زمان وجوده واجبا بالغير،أي لأجل حصول علّته التامّة مثلا،بل مراده إنّما هو الوجوب الذاتي.

و منه يظهر أنّ مراده من الامتناع أيضا هو الامتناع الذاتي لا الغيري.

ثمّ إنّ الوجوب الذاتي لا يمكن فرضه فيما فرضه،أمّا على التقرير الأوّل للسند

ص:351

و اعتبار الاختلاف بحسب الزمان في الموضوع،فلأنّ الموضوع و هو الحادث بوصف اقتران الزمان و من حيث كونه في زمان وجوده محتاج في ذاته إلى غيره،و هو الزمان أو اقترانه به،فلا يكون واجب الوجود لذاته،لأنّ واجب الوجود لذاته ما لا يحتاج في وجوب وجوده إلى غيره مطلقا و يكون هو واجبا لذاته،مع قطع النظر عن كلّ ما سواه و هذا ليس كذلك،فيكون فرض كونه واجب الوجود لذاته في زمان وجوده كما هو على هذا التقدير ممتنعا.

و أمّا على التقرير الثاني للسند و اعتبار الاختلاف بحسب الزمان في المحمول أي الوجود،فلأنّه لو كان الحادث مقتضيا بذاته للوجود في وقت معيّن أي وقت وجوده لم ينفكّ هذا الاقتضاء عنه،فكان موجودا في ذلك الوقت دائما،أي يجب أن يكون ذلك الوقت موجودا دائما،و أن يكون هو في ذلك الوقت موجودا دائما؛هذا خلف.لكون المفروض وجود وقت آخر أيضا و عدمه في ذلك الوقت الآخر.فيكون فرض كونه واجب الاتّصاف لذاته بالوجود في وقت وجوده ممتنعا أيضا.

نعم لو أمكن فرض الوجوب الذاتي على التقديرين لربّما أمكن إلزام ما ادّعاه القائل على المانع على التقريرين و إذ ليس فليس.

و هذا محصول كلام المحقّق المذكور.و لا يخفى عليك أنّ ما ذكره من الوجه على امتناع فرض الوجوب الذاتي على التقديرين،لو تمّ يجري في امتناع فرض الامتناع الذاتي أيضا في الحادث في زمان عدمه أو في اتّصافه بالوجود في زمان عدمه كما فرضه القائل و ألزمه على المانع،أمّا على التقدير الأوّل و اعتبار الاختلاف بحسب الزمان في الموضوع،فلأنّ الحادث بوصف اقتران الزمان أي زمان عدمه،و إن لم يتصوّر هنا احتياج لكون الموضوع هو الحادث الممتنع بالذات،لكونه ليس بشيء حتّى يتصوّر احتياجه إلى غيره في امتناعه.لكنّه يكون امتناعه بالنظر إلى غيره و هو اقتران الزمان أو الزمان، فلا يكون امتناعه بالذات،لأنّ الممتنع بالذات ما يكون امتناعه ذاتيّا و لو قطع النظر عن كلّ ما سواه و هذا ليس كذلك.

و أمّا على التقدير الثاني و اعتبار الاختلاف في المحمول أي الوجود فبعين ما ذكره في امتناع فرض الوجوب الذاتي على هذا التقدير سواء بسواء،لأنّه لو كان مقتضيا لذاته

ص:352

للعدم في وقت معيّن-أي وقت عدمه-لم ينفكّ عنه ذلك فكان معدوما في ذلك الوقت دائما؛هذا خلف.يعني أنّه يلزم على هذا التقدير أن يكون ممتنع الوجود في وقت عدمه دائما؛هذا خلف.بل يلزم مع فرضه واجب الوجود في وقت وجوده أن يكون واجب الوجود في وقت وجوده دائما،و كذا ممتنع الوجود في وقت عدمه دائما،أي أن يكون الوقتان موجودين دائما،و يكون هو ممتنع الوجود دائما في وقت عدمه الذي يجب وجود ذلك الوقت دائما،و واجب الوجود دائما في وقت وجوده التي يجب وجود ذلك الوقت دائما.و هذا من أشنع المحال.

بل يجري أيضا فيما ادّعاه المانع من امتناع المعدوم بعد طريان العدم،أو امتناع اتّصافه بالوجود بعد طريان العدم،حيث عرفت أنّ مراده من الامتناع هو الامتناع الذاتي لا الغيري،و عرفت أنّ القائل بنى كلامه على أن هذا الامتناع إنّما هو لأجل الاقتران بالوقت أي اقتران الموضوع أو المحمول به،و ألزم عليه ما ادّعاه،و عرفت أنّ المحقّق الدواني سلّم ذلك منه و بيان الجريان ظاهر بعين ما ذكرنا في امتناع فرض الامتناع الذاتي في الحادث في زمان عدمه أو في اتّصافه بالوجود في زمان عدمه.

كلام مع المحقّق الدواني

و حيث تحقّقت ما ذكرنا،ظهر لك أنّه يرد على المحقّق الدواني الإيراد من وجهين:

الأوّل أنّه لم لم يتعرّض لإبطال فرض الامتناع الذاتي في الحادث في زمان عدمه،مع أنّ دليله على إبطال فرض الوجوب الذاتي فيه في زمان وجوده لو تمّ يجري فيه أيضا كما ذكرنا،و به تنحسم مادّة الشبهة بالكلّية،حيث إنّ القائل المذكور ادّعى أنّه يلزم على ما ادّعاه المانع أمران:

أحدهما الوجوب الذاتي في الحادث في زمان وجوده.

و الآخر الامتناع الذاتي فيه في زمان عدمه.

و حسم مادّة هذه الشبهة إنّما يحصل بإبطال كلا الفرضين جميعا لا بإبطال أحدهما خاصّة كما فعله.

الوجه الثاني أنّه لا يخفى أنّ ذلك القائل في مقام إبطال سند المنع الذي ذكره المانع

ص:353

سواء قرّر بالتقرير الأوّل أو الثاني،حيث أورد الشبهة عليه بحيث تجري على التقريرين و أبطل بها سند منعه على ما فهمه من كلام المانع من أنّه ادّعى أنّ المعدوم بعد طريان العدم أو اتّصافه بالوجود بعد طريان العدم،ممتنع امتناعا ذاتيّا و أنّه ليس هذا الامتناع إلاّ لأجل الاقتران بالزمان.

و لا يخفى أنّ المحقّق المذكور أيضا سلّم ذلك من القائل كما دلّ عليه كلامه في مقام إيراده على الشارح بأنّ كلامه لا يحسم مادّة الشبهة،فحيث كان هو بصدد حسم مادّة تلك الشبهة عن المانع،كان في مقام معاضدة المانع،فينبغي أن يكون حسمها بحيث يكون مع إبطال ما ذكره القائل ممّا لا يضرّ المانع بوجه.و هذا ليس كذلك فإنّه يهدم بنيان ما ذكره المانع أيضا،لأنّه إذا لم يمكن فرض الامتناع الذاتي فيما هو مقترن بالزمان،فكيف يدّعي المانع الامتناع الذاتي فيما ادّعاه.و هو أيضا نظير ما ادّعاه القائل في الفرض المذكور،فهما في البطلان أو الصحّة سواء.و ما الوجه في الفرق بينهما بتجويز أحدهما و إبطال الآخر،بل ليس إيراد القائل إلاّ مبنيّا على أنّه إذا صحّ فرض الامتناع الذاتي في المعدوم بعد طريان العدم،و الحال أنّه ليس ذلك إلاّ لأجل الاقتران بالزمان،لصحّ الإلزام الذي ذكره،و أنّه إذا لم يصحّ ذلك فكما يبطل به الإلزام المذكور يبطل به ما ادّعاه المانع أيضا،لكنّه أورد الإلزام على أحد التقديرين،و سكن عن التقدير الآخر.و لا يخفى عليك أنّ إيرادنا بالوجه الأوّل، و إن امكن دفعه عن المحقّق الدواني،بأنّه لعلّه كان في مقام حسم الشبهة بصدد الاكتفاء و الاختصار،فأبطل فرض الوجوب الذاتي في الحادث بحيث يمكن أن يعلم منه بطلان فرض الامتناع الذاتي فيه أيضا بالمقايسة،فلا ضير فيه أو أنّ غرضه كما فهمه المحشّي الشيرازي منه،و سيأتي بيانه أنّ المحذور اللازم،إنّما هو الوجوب الذاتي في الحوادث و غنائها عن المحدث لا الانقلاب.فلذا تعرّض لإبطال الوجوب الذاتي و لم يتعرّض لإبطال فرض الامتناع الذاتي إلاّ أنّ الإيراد بالوجه الثاني ممّا لا يمكن دفعه عنه،بل هو وارد عليه،و يعلم منه أن حسم مادّة الشبهة عن المانع لا يمكن بالوجه الذي ذكره أصلا، بل ينبغي أن يصار إلى ما ذكرناه سابقا،و وجّهنا به كلام الشارح،من أنّ غرض المانع و إن كان امتناع عود المعدوم امتناعا ذاتيّا،لكنّه ليس للزمان مدخل في ذلك بوجه،بل إنّما المدخل في ذلك لذلك القيد أي لقيد طريان العدم الذي هو لازم لماهيّة المعدوم و داخل في

ص:354

مفهوم العود،كما بيّنا وجهه،و يظهر منه أن حسم مادّة الشبهة إنّما يحصل به،لا بما ذكره ذلك المحقّق،و يظهر انعكاس التشنيع،فتدبّر.

و حيث انتهى الكلام إلى هذا المقام فلا بأس للتعرّض لبيان ما ذكره المحشّي الشيرازي متعلّقا بما نقلنا عن المحقّق المذكور هنا و نسجه على منواله و كذا لبيان ما فيه.

فنقول:قوله في الحاشية:اعلم أنّ صاحب المواقف أبطل السند المذكور في الشرح ثانيا بوجهين:أحدهما من قوله:الوجود أمر واحد-إلى قوله-و لو جوّزنا-إلى آخره-.

و الثاني من قوله:و لو جوّزنا-إلى آخر ما قال-أي أنّه في مقام إبطال السند المذكور في الشرح ثانيا،أي السند بالتقرير الثاني الذي اعتبر فيه الاختلاف في جانب المحمول،أي الوجود لا في مقام منعه،حيث إنّ منعه لا يفيد و أنّه أبطله من وجهين.

الوجه الأوّل بطريق البرهان و الثاني بطريق النقض الإجمالى و الإلزام.

و قوله:و لمّا كان إبطال السند الأخصّ لا يفيد في دفع المنع،نبّه رحمه اللّه على أنّ ما ذكره من الوجه الثاني لإبطال السند الثاني،بطل به الوجه الأوّل من السند،إلاّ أنّ عبارته أشبه بإبطال الثاني،فيه دلالة على أنّ السند الثاني أخصّ من المنع،و كأنّ مراده بالأخصّيّة، الأخصّيّة بحسب التقرير،و إلاّ فقد عرفت أنّ السند في الحقيقة أمر واحد مساو للمنع و دلالته أيضا على أنّ إبطال السند الأخصّ لا يفيد في دفع المنع،بل ينبغي أن يبطل كلا السندين على التقريرين اللذين كلّ واحد منهما بخصوصه أخصّ من المنع و مجموعهما مساو له.فلذا نبّه المحقّق رحمه اللّه في كلامه في مقام توجيه كلام القائل و الإيراد على الشارح، على أنّ ما ذكره القائل من الوجه الثاني الذي ذكره بطريق الإلزام لإبطال السند الثاني أي بالتقرير الثاني يبطل به الوجه الأوّل من السند أيضا أي بالتقرير الأوّل الذي مبناه على اعتبار الاختلاف في الموضوع،فيبطل به السندان جميعا،فيبطل المنع رأسا إلاّ أنّ عبارة القائل أشبه بإبطال السند الثاني.

و قوله:و الأظهر أن يقول ما ذكره لإبطال السند الثاني يمكن إجراؤه في إبطال الأوّل، لأنّ ما ذكره صريح في إبطال الثاني،مناقشة مع المحقّق المذكور في قوله:إلاّ أنّ ظاهر عبارته أشبه بالابتناء على الوجه الأخير و فيما فهمه منه أنّه نبّه عليه لأنّ ما ذكره القائل من الوجه الثاني للإبطال صريح في إبطال السند الثاني،و لا يظهر منه أنّ نظره إلى إبطال السند

ص:355

الأوّل أيضا حتّى يبطل هو أيضا به فعلى هذا فالأظهر أن يقول المحقّق أنّ ما ذكره القائل من الوجه الثاني لإبطال السند الثاني يمكن اجراؤه في إبطال السند الأوّل أيضا و لا يخفى عليك أنّ هذه المناقشة سهلة.

و قوله:و لم يتعرّض رحمه اللّه لجريان الوجه الأوّل من وجهي إبطال السند في السند الأوّل، و لا يخفى عليك جريانه بأن يقال:الماهيّة أمر واحد في حدّ ذاته لا يختلف إعادة و ابتداءً فلا يختلف في اقتضاء إمكان الاتّصاف بالوجود الواحد.أي أنّ المحقّق لم يتعرّض لجريان الوجه الأوّل من وجهي إبطال السند الذي ذكره بطريق البرهان بقوله:الوجود أمر واحد في حدّ ذاته،لا يختلف إعادة و ابتداءً في ابطال السند الأوّل الذي ذكره الشارح بالتقرير الأوّل في ذيل قول المصنّف أوّلا،و لا يخفى عليك جريانه فيه بأن يقال-إلى آخره.

و لا يخفى عليك أيضا أنّ المحقّق أشار إليه في قوله:و كأنّ حقّ العبارة أن يقول لأنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة يجب اشتراكها في اقتضاء الذات الواحدة إيّاها،فتأمّل.

و قوله:ثمّ لمّا كانت المناقشة الاولى للشارح التي أشار إليها في التحقيق الذي مهّده تتوجّه على قوله:لجاز الانقلاب الذاتي بناء على أنّ هذا ليس انقلابا ذاتيّا اصطلاحا، طوي في توجيه كلامه لدفعها حديث الانقلاب الذاتي و اكتفى بلزوم غناء الحوادث عن المحدث.

كأنّه فهم هذا الاكتفاء من قول المحقّق في تقرير الشبهة على السند الأوّل:لجاز أن يكون الحادث في زمان عدمه ممتنعا،و في زمان وجوده واجبا،و من قوله في تقريرها على الثاني،لجاز كون الحادث ممتنع الاتّصاف بالوجود في زمان عدمه،واجب الاتّصاف بالوجود في زمان وجوده،حيث لم يتعرّض للزوم الانقلاب،بل إنّما تعرّض للزوم الوجوب الذي هو مستلزم للزوم غناء الحوادث عن المحدث،و كذا فهمه من أنّه في مقام حسم مادّة الشبهة إنّما تعرّض لإبطال فرض الوجوب الذاتي،لا لإبطال فرض الامتناع الذاتي أيضا،حيث يعلم منه أنّ المحذور اللازم إنّما هو غناء الحوادث عن المحدث،دون الانقلاب أيضا فلذا أبطله و لم يتعرّض لإبطال الانقلاب.

و الحاصل أنّه لمّا كانت المناقشة الاولى للشارح التي أشار إليها بقوله:مقصود المانع

ص:356

أنّ العود ليس وجودا مطلقا-إلى آخره-،و أشار إليها في التحقيق الذي مهّده تتوجّه على قول القائل؛لجاز الانقلاب الذاتي بناء على أنّه ليس انقلابا ذاتيّا اصطلاحا،و لم يكن وجه لدفع تلك المناقشة،طوى المحقّق في توجيه كلام القائل في تقرير الشبهة لدفع تلك المناقشة عنه حديث الانقلاب الذاتي الذي ذكره أيضا،و اكتفى من بين المحذورين اللذين ادّعى القائلون لزومهما بأحدهما و هو لزوم غناء الحوادث عن المحدث، و لم يتعرّض للزوم المحذور الآخر،و هو الانقلاب الذاتي.

و قوله:و حينئذ يندفع ما أورده الشارح بقوله:فقول هذا القائل:و لو جوّزنا-إلى قوله- و لا يلزمه أيضا،لأنّ المراد من كون شيء واحد ممكنا في زمان و ممتنعا في زمان آخر، ليس باعتبار الوجود المطلق في كليهما،بل إمّا باعتبار الوجود الخاصّ في كليهما أو باعتبار الوجود المطلق في الأوّل و الخاصّ في الثاني.و حينئذ يظهر أنّ المانع جوّز هذا أي حين اكتفينا في توجيه كلام القائل بلزوم غناء الحوادث عن المحدث،يندفع عنه ما أورده عليه الشارح بأنّ قوله:و لو جوّزنا كون الشيء الواحد ممكنا-إلى آخره-لا تعلّق له بكلام المانع،لأنّه لا يقول بهذا التجويز و لا يلزمه أيضا.

و بيان الاندفاع أنّ مراد القائل بقوله:و لو جوّزنا-إلى آخره-.ليس تجويز كون شيء واحد ممكنا في زمان،ممتنعا في آخر باعتبار الوجود المطلق في كليهما،حتّى يكون مدّعيا للزوم الانقلاب الذاتي و يرد عليه ما أورده الشارح،بل باعتبار الوجود الخاصّ في كليهما،أو باعتبار الوجود الخاصّ في الثاني و المطلق في الأوّل كما ذكره الشارح أيضا في بيان مقصود المانع بقوله:إنّ العود ليس وجودا مطلقا-إلى آخره-و حينئذ يكون مفاد كلام القائل:إنّه لو جوّزنا كون الشيء الواحد ممكنا في زمان كزمان الابتداء باعتبار الوجود المطلق أو الخاصّ،ممتنعا في زمان آخر كزمان الإعادة باعتبار الوجود الخاصّ، معلّلا بأنّ الأوّل مطلق أو خاصّ،و أنّ الثاني خاصّ،لجاز أن يكون شيء واحد ممتنعا في زمان،كزمان عدمه باعتبار الوجود المطلق أو الخاصّ،واجبا في زمان آخر،كزمان وجوده باعتبار الوجود الخاصّ،معلّلا بالتعليل المذكور،و حينئذ و إن لم يلزم الانقلاب الذاتي لكون الوجودين متغايرين،أمّا على تقدير إرادة المطلق في الأوّل و الخاصّ في الثاني فظاهر،و أمّا على تقدير إرادة الخاصّ في كليهما،فلأنّ المراد بالخاصّ في كلّ منهما

ص:357

ما هو غير الآخر،لكنّه يلزم البتّة غناء الحوادث عن المحدث،و هو كاف في المحذور.

و لا يخفى أنّه يكون هذا الإلزام حينئذ متعلّقا بكلام المانع واردا عليه،و يظهر من المانع أنّه قال بهذا التجويز،لا كما ادّعاه الشارح من عدم التعلّق و عدم القول و عدم اللزوم.و بهذا التوجيه كما يندفع إيراد الشارح عن كلام القائل،كذلك يندفع عمّا ذكره المحقّق في توجيه كلام القائل،حيث إنّه أيضا و إن كان موهما للزوم الانقلاب و لإرادة الوجود المطلق في كلتا الحالتين،لكنّ المراد ما ذكر،فتدبّر.

و أنت خبير بأنّ هذا التوجيه لا يحسم مادّة ما أورده الشارح على القائل،فإنّك حيث عرفت ما بيّناه من مقصود الشارح،لا يخفى عليك أنّ للشارح أن يقول على تقدير تسليم أنّ القائل أراد بقوله:و لو جوّزنا-إلى آخره-هذا المعنى مع كونه خلاف ظاهر كلامه-كما سيأتي بيانه-أنّ المانع و إن قال بامتناع الوجود في زمان الإعادة و كونه وجودا خاصّا، لكنّه لم يقل بذلك بمجرّد اعتباره خاصّا مطلقا،بل قال بأنّ امتناعه،و كذا كونه خاصّا إنّما هو لأجل قيد مناف معتبر فيه،و لازم لماهيّة المعدوم أي طريان العدم الذي صار منشأ للامتناع المذكور،و ليس هو في الوجود الابتدائي،سواء اعتبرته وجودا مطلقا أي غير مقيّد بقيد كذلك كما فعله الشارح،أو اعتبرته وجودا خاصّا آخر،فلذلك كان ممكنا،و كما أنّه ليس قيد مناف معتبرا مع الوجود الابتدائي،كذلك ليس معتبرا فيما ذكره القائل من الإلزام،حيث إنّه ليس مع الحادث في زمان عدمه قيد مناف يوجب امتناعه أو امتناع اتّصافه بالوجود،و كذا ليس معه في زمان وجوده قيد يوجب وجوبه أو وجوب اتّصافه بالوجود،سوى الاقتران بالزمان،و هو بمجرّده لا يكون منشأ لذلك،كما عرفت بيان ذلك كلّه فيما تقدّم.

فيظهر منه أنّه على تقدير إمكان حمل كلام القائل على هذا التوجيه أيضا لا يظهر وجه لورود الإلزام الذي أورده على المانع،كما أنّه على تقدير حمله على اعتبار الوجود المطلق في كلتا الحالتين،كما هو ظاهر كلامه لا يرد إلزامه أيضا عليه،فإنّ المانع لم يقل باعتبار الوجود المطلق فيهما،بل قال باعتبار الوجود المقيّد الخاصّ في الثاني-كما بيّن الشارح مقصوده-و اعتبار المطلق أو خاصّ آخر في الأوّل.

فيظهر منه أنّ إيراد الشارح على القائل وارد على كلّ تقدير و غير مندفع عنه بوجه

ص:358

أصلا.

على أنّ هذا التوجيه مخالف لظاهر كلام القائل،لأنّه يجعل ما ادّعاه القائل من لزوم الانقلاب الذاتي كما هو صريح كلامه لغوا،بل باطلا،لأنّ هذا الانقلاب إنّما يتصوّر إذا اريد الوجود المطلق في كليهما،أو اريد وجود خاصّ بعينه،من جهة واحدة في كليهما، و إذ ليس فليس.

سلّمنا كونه مستدركا لا دخل له في المحذور،كما فهمه المحشّي المذكور،إلاّ أنّه يجعل ما ادّعاه القائل في الشقّ الأوّل من الإلزام،و هو كون الحادث في زمان عدمه ممتنعا مستدركا أيضا لا طائل تحته،إذ لو كان المحذور اللازم،هو غناء الحوادث عن المحدث وحده لكفى أن يقول يلزم حينئذ كون الحادث في زمان وجوده واجبا بالذات من غير تعرّض لبيان حاله في زمان عدمه.

سلّمنا أنّه تعرّض له مقابلة لكلام المانع،حيث إنّه تعرّض لبيان حال الممكن أو لوجوده في زماني الابتداء و الإعادة إلاّ أنّه حينئذ لا يلزم ادّعاء لزوم كون الحادث في زمان عدمه ممتنعا،بل يكفي أن يقال:إنّه يلزم كون الحادث في زمان عدمه ممكنا و في زمان وجوده واجبا،إذ على هذا أيضا يلزم غناء الحوادث عن المحدث،كما هو المقصود.

بل أنّ هذا التوجيه يجعل ما ادّعاه المحقّق في توجيه كلام القائل على التقريرين من لزوم كون الحادث في زمان عدمه أو اتّصافه بالوجود في زمان عدمه ممتنعا مستدركا أيضا بعين ما ذكرنا،فتدبّر.

و قوله:فإن قيل في توجيه الانقلاب الذاتي-إلى قوله-بل رأى إسقاطه أولى.

لمّا كان هذا التوجيه يجعل حديث الانقلاب الذاتي الذي ادّعى القائل أي صاحب المواقف لزومه مستدركا أراد توجيه الانقلاب بمعنى لا يكون مستدركا.

فقال:أوّلا إنّ القائل لعلّه أراد بالانقلاب الذاتي مثل هذه الصورة أي أن يكون شيء واحد في زمان عدمه ممتنعا باعتبار الوجود المطلق أو الخاصّ ثمّ يصير في زمان وجوده واجبا باعتبار وجود خاصّ آخر.و هذا و إن لم يكن انقلابا ذاتيّا اصطلاحا،لكنّه اطلق عليه لفظه تجوّزا.

ثمّ أجاب عنه بأنّ هذا المعنى لا يلائم ما ذكره القائل بقوله:و في تجويز هذا الانقلاب

ص:359

مخالفة لبديهة العقل الحاكمة بأنّ الشيء الواحد يستحيل أن يقتضي لذاته عدمه في زمان و يقتضي لذاته وجوده في زمان آخر،فإنّ المخالفة لبديهة العقل إنّما هي مسلّمة في الانقلاب الذاتي اصطلاحا،لا في مثل هذه الصورة،بل هي فيها منظور فيها فلأجل ذلك لم يتوجّه المحقّق لتوجيه الانقلاب،بل رأى إسقاطه أولى.

و قوله:و قوله إلاّ أنّه تسامح-إلى آخره-دفع للإيراد الثاني للشارح على الوجه الأوّل لإبطال السند،بتغيير العبارة قد تقدّم بيانه مع ما فيه،فتذكّر.

و قوله:و لا يخفى أنّه حينئذ ينبغي لتطبيق التعليل على الدعوى،إمّا تغيير الدعوى أو تعميم الدليل عند قوله:لأنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة،لأنّ هذا الدليل بظاهره لا ينطبق إلاّ على الوجوب الذاتي،و لا يتناول الإمكان و الامتناع كما يظهر بأدنى تأمّل.

مناقشة مع المحقّق

و حاصلها أنّه عند تغيير العبارة بقولنا:لأنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة يجب اشتراكها في اقتضاء الذات الواحدة إيّاها،يكون التعليل مختصّا بالوجوب الذاتي لأنّ اقتضاء الذات لتلك الأشياء المتوافقة التي اريد بها الوجودان أي الوجود المبتدأ و المعاد إنّما يتصوّر في الوجوب،حيث إنّ ذات الواجب يقتضي بذاته الوجود لا في الامتناع و الإمكان.

أمّا الإمكان،فظاهر لأنّ ذات الممكن بذاته لا يقتضي شيئا من الوجود و العدم،بل مقتضى ذاته عدم اقتضاء شيء منهما،و كونهما بالنظر إليه على السواء.و أمّا الامتناع،فلأنّ ذات الممتنع على تقدير أن يكون له اقتضاء،يكون مقتضيا للعدم،لا للوجود كما هو المفروض.و حيث كان هذا التعليل مختصّا بالوجوب الذاتي فينبغى لتصحيح التعليل، إمّا تغيير الدعوى في كلام القائل أي حذف قوله:«إمكانا و امتناعا»،و الاكتفاء بقوله:

«وجوبا»في قوله:«فإذن يتلازم الوجودان أي المبتدأ و المعاد إمكانا و وجوبا و امتناعا»، حتّى ينطبق التعليل على الدعوى،أو تعميم الدليل عند قوله:«لأنّ الاشياء المتوافقة في الماهيّة»،بحيث يشمل الإمكان و الامتناع أيضا،حتّى ينطبق عليه أيضا.

و لا يخفى أنّ كلاّ من تغيير الدعوى أو تعميم الدليل غير مستقيم هنا.أمّا الأوّل،فلأنّ

ص:360

هذا القائل قد ذكر الإمكان و الامتناع أيضا،و حذفهما غير مستقيم.و أمّا الثاني فلأنّ التعليل المغيّر،ليس يشملهما بل لا يتناول إلاّ الوجوب الذاتي،و لا عبارة هنا غير ذلك، بحيث تشملهما،و بها يندفع الإيراد الثاني للشارح.

في الإشارة إلى دفع مناقشة المحشّي الشيرازي عن المحقّق الدواني

و أنت خبير باندفاع هذه المناقشة عن المحقّق،بأن يقال:يمكن أن يكون المراد باقتضاء الذات الواحدة إيّاها اقتضاءها للاتّصاف بها امتناعا أو إمكانا أو وجوبا أو اقتضاءها لوجوب الاتّصاف بها أو لامتناع الاتّصاف بها أو لإمكان الاتّصاف بها.فكما يصحّ في الوجوب أن يقال:إنّ ذات الواجب يقتضي وجوب الاتّصاف بالوجود،كذلك يصحّ في الامتناع أن يقال:إنّ ذات الممتنع يقتضي امتناع الاتّصاف به،و في الإمكان أن يقال:إنّ ذات الممكن يقتضي إمكان الاتّصاف به،و هذا كما أنّ المحشّي المذكور نفسه في كلامه السابق حيث ذكر جريان الوجه الأوّل من وجهي إبطال السند في إبطال السند الأوّل،قال:الماهيّة أمر واحد في حدّ ذاته لا يختلف إعادة و ابتداءً،فلا يختلف في اقتضاء إمكان الاتّصاف بالوجود الواحد،فأسند اقتضاء امكان الاتّصاف بالوجود إلى الماهيّة الممكنة.

و الحاصل أنّه يمكن إسناد الاقتضاء إلى الممتنع و الممكن أيضا،و لو كان على سبيل التجوّز،و حينئذ فيكون الدليل عامّا كالدعوى لا يحتاج فيه إلى تغيير آخر،و كذا لا يحتاج إلى تغيير الدعوى في تطبيق الدليل على المدّعى،فافهم.

و قوله:و يمكن أن يقال:الوجوب و الإمكان إذا اخذت صفة للوجود،كانت من مقتضيات الوجود،فلا حاجة إلى تغيير العبارة،لأنّ الكلام في المعاني التي هي صفة الوجود،ضرورة أنّ المانع لم يقل إنّ الذات يصير واجبا في وقت ممكنا في وقت آخر.

مناقشة اخرى مع المحقّق

حاصلها أنّ مقصود المحقّق من تغيير العبارة إنّما هو دفع الإيراد الثاني للشارح على الوجه الأوّل لإبطال السند،و دفعه لا يحتاج إلى هذا التغيير في العبارة،حتّى يرد عليه

ص:361

المناقشة المتقدّمة،بل إنّه لو ابقيت عبارة القائل بحالها لا ندفع عنه إيراد الشارح عليه من غير ورود مناقشة عليه.

و بيان الاندفاع أنّ هذه الموادّ الثلاث أي الوجوب و الإمكان و الامتناع إذا اخذت صفة للوجود كما هو ظاهر كلام المانع و القائل،كانت تلك الموادّ من مقتضيات الوجود،لكونها صفات له،لا من مقتضيات الماهيّة،لعدم كونها صفات لها،بل صفات لوجودها،فعلى هذا يصحّ إسناد الاقتضاء لها إلى الوجود،و لو أسند الاقتضاء إلى الماهيّة أيضا يكون المراد به نظير الوصف بحال متعلّق الموصوف،يعني أنّ اقتضاء الماهيّة لها بمعنى اقتضاء وجوداتها لها،فحينئذ يكون ما قاله القائل من أنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة يجب اشتراكها في هذه الامور المستندة إلى ذواتها صحيحا.و مع صحّته يكون مقابلا لكلام المانع و مضرّا له،فإنّ المانع و إن أسند الاقتضاء إلى الماهيّة كما زعمه الشارح،إلاّ أنّ معنى قوله هذا ينبغي أن يكون راجعا إلى إسناد الاقتضاء إلى الوجود لما ذكر،فكما أنّه لا يجوز اختلاف اقتضاء الوجود إمكانا و وجوبا و امتناعا كما سلّمه الشارح من القائل،كذلك لا يجوز اختلاف اقتضاء الماهيّة في ذلك سواء بسواء و إن ادّعى الشارح جوازه فحينئذ فلا حاجة إلى تغيير العبارة،لأنّ الكلام في المعاني التي هي صفة للوجود،و هذه الموادّ كذلك،لا أنّها صفات للماهيّة،ضرورة أنّ المانع أيضا في كلا التقريرين للسند،لم يقل بكونها صفات للماهيّة،بل قال بكونها صفات للوجود،و هذا هو بيان مقصود المحشّي المذكور،إلاّ أنّ قوله:ضرورة أنّ المانع لم يقل إنّ الذات يصير واجبا في وقت ممكنا في وقت آخر،الأنسب أن يقول بدله:ضرورة أنّ المانع لم يقل إنّ الذات يصير ممتنعا في وقت ممكنا في وقت آخر،لكنّ المقصود واضح،و هو أنّ المانع لم يقل بصيرورة الماهيّة بذاتها ممتنعة أو واجبة أو ممكنة، بل قال بأنّ وجودها يصير ممكنا أو ممتنعا أو واجبا،و إلاّ أنّ فيما ذكره نظرا لأنّه مبنيّ على أن يكون مقصود الشارح من الإيراد ما فهمه،و قد بيّنا فيما تقدّم مقصود الشارح،بحيث لا يرد عليه كلام القائل،سواء غيّر التعليل أم لم يغيّر،و إلاّ أنّ فيما ادّعاه من كون الموادّ الثلاث من مقتضيات الوجود مطلقا مناقشة،فإنّه ربما يمكن أن يقال:إنّ المقتضي في الحقيقة هو الماهيّة لا الوجود،و أنّه إذا نسب الاقتضاء إلى الوجود فهو بالحقيقة منسوب إلى الماهيّة نظير الوصف بحال متعلّق الموصوف،لكن هذه المناقشة كأنّها لا تقدح فيما هو

ص:362

غرض المحشّي هنا،فتدبّر.

ثمّ إنّ قول المحشّي المذكور في الحاشية التالية المعنونة بقوله:قوله فلا يكون واجب الوجود أي بالذات لاحتياجه إلى الاقتران بالزمان مثلا-إلى آخر ما ذكره في تلك الحاشية-فبيانه أنّ ما ذكره المحقّق في حسم مادّة الشبهة:«أنّ الموضوع و هو الحادث بوصف اقتران الزمان،محتاج في ذاته إلى غيره،فلا يكون واجب الوجود»،معناه أنّه لا يكون واجب الوجود بالذات لاحتياجه إلى الاقتران بالزمان مثلا.

و قوله فيها:لا يقال:يلزم عدم الحاجة إلى المؤثّر الموجود و هذا كاف في لزوم المحذور»إيراد على المحقّق،بأنّه حينئذ و إن كان فرض الوجوب الذاتي الذي هو ظاهر كلام صاحب المواقف ممتنعا لما ذكره،لكنّه يلزم محال آخر،و هو لزوم عدم الحاجة إلى المؤثّر الموجود.

و بعبارة اخرى لزوم الوجوب الغيري من غير أن يكون هنا أمر يكون منشأ لهذا الوجوب الغيري،و لا يخفى أنّ فرضه حينئذ غير ممتنع،و أنّ لزومه ظاهر،و لعلّه كان هو مقصود صاحب المواقف في الإلزام على المانع حيث ادّعى لزوم غناء الحوادث عن المحدث.

و قوله:«لأنّ الذات مع هذا الوصف إنّما هي علّة لنفس الوجوب،و أمّا اصل الوجود فلا بدّ من الاستناد إلى علّة موجودة،لما تقرّر عندهم أنّ العدم لا يفيد الوجود،و ذلك كما أنّ العدم الطارئ مستند إلى عدم علّته.نعم وجوبه الذي في قوّة امتناع وجوده ثانيا مستند إلى الذات مع القيد،فتأمّل»جواب عنه بأنّه لو كان ذلك هو مراد صاحب المواقف فهو لا يرد إلزاما على المانع،لأنّ للمانع أن يقول:يجوز أن يكون الذات أي ذات الحادث مع هذا الوصف،أي وصف اقتران الزمان أي زمان الوجود علّة لنفس الوجوب،أي هذا الوجوب الغيري اللاحق،و أمّا أصل الوجود،فلا بدّ من الاستناد إلى علّة موجودة لما تقرّر عندهم أنّ العدم لا يفيد الوجود،فلا يلزم عدم الحاجة إلى مؤثّر موجود،و لا أن يكون هناك الوجوب الغيري،من غير أن يكون شيء منشأ له حتّى يرد إلزاما على المانع.

و هذا كما أنّ المانع قال في امتناع إعادة المعدوم بجواز أن يكون العدم الطارئ الذي جعله مانعا عن عود الوجود مستندا إلى عدم علّته أي إلى عدم علّة وجود ذلك المعدوم

ص:363

المفروض،و بجواز أن يكون وجوب ذلك العدم الطارئ الذي في قوّة امتناع وجود ذلك المعدوم ثانيا مستندا إلى ذات المعدوم مع قيد طريان العدم.

كلام معه أيضا

و لا يخفى أنّ ما ذكره أنّما هو مبنيّ على ما فهمه صاحب المواقف من كلام المانع، و تبعه فيه المحقّق الدواني،و أمّا على ما وجّهنا به كلام المانع كما فهمه الشارح منه و بيّناه أيضا فلا ورود لما ذكره صاحب المواقف على المانع بوجه،و لا يحتاج في دفعه إلى هذه التكلّفات و التعسّفات.و اللّه أعلم بالصواب.

و حيث أحطت خبرا بما ذكرناه،و ظهر لك اندفاع ما أورده القائل الأوّل،و كذا صاحب المواقف عن كلام المانع،و ظهر أيضا اندفاع ما أورده المحقّق الدواني و تبعه فيه المحشّي الشيرازي عمّا ذكره الشارح في جواب إيراد صاحب المواقف،فحريّ بنا أن ننظر في أنّ ما أورده الشارح نفسه على المانع بقوله:و أقول:يمكن تتميم هذا الدليل بأن يقال:الحكم بامتناع عود المعدوم-إلى آخر ما ذكره-هل له وجه أم لا؟

في الكلام فيما أورده الشارح القوشجي على المحقّق الطوسي

فنقول:إنّه أراد بذلك تتميم الدليل الذي نقله عن القائلين بجواز إعادة المعدوم بإبطال ما ذكره المحقّق الطوسي في جوابهم بطريق المنع،و أسنده بأنّه يمكن أن يكون امتناع إعادة المعدوم لأمر لازم للماهيّة،أي طريان العدم أي أراد الشارح إبطال كلا سندي منع المانع اللذين يحتمل هذا المنع في كلامه أن يكونا سندين له.و الحال أنّ مجموع السندين سند مساو للمنع و بإبطالهما يبطل المنع بالكلّية،فيبطل الجواب الذي ذكره المحقّق الطوسي.فقال:إنّ الحكم بامتناع عود المعدوم كما ذكره المصنّف في الجواب،إذا لخّص و جرّد أطرافه يعود،إمّا إلى قولنا:«إنّ ذاتا ما من الذوات الممكنة الوجود يمتنع وجودها المسبوق بالعدم المسبوق بالوجود»،بأن يكون التقييد في جانب المحمول كما هو مفاد التقرير الثاني لسند المنع.و إمّا إلى قولنا:«إنّ ذاتا قد اتّصف بالعدم المسبوق بالوجود يمتنع وجودها»،بأن يكون التقييد في جانب الموضوع كما هو مفاد التقرير الأوّل للسند.و على

ص:364

التقريرين فالموصوف بالامتناع إمّا الوجود أي الوجود المنسوب إلى تلك الماهيّة أو اتّصافها بالوجود حيث إنّ المآل واحد،و لذلك هو اعتبر في التلخيصين،كون الموصوف به،هو الوجود و في إبطالهما كونه هو اتّصاف الماهيّة بالوجود.

ثمّ قال إنّ كلا التلخيصين باطلان،لأنّ القيد المعتبر هنا في جانب المحمول أو الموضوع إنّما هو في الحقيقة قيدان اثنان:أحدهما المسبوقيّة بالعدم و الثاني المسبوقيّة بالوجود.و لا شبهة في أنّه لا مدخل لواحد منهما و لا لمجموعهما في هذا الامتناع،أي امتناع الوجود أو امتناع اتّصاف الماهيّة بالوجود.

و بيان ذلك أمّا في التلخيص الأوّل،فلأنّه لا شبهة في أنّ اتّصاف ذات الممكن بالوجود المطلق غير المقيّد بالقيد غير ممتنع،فلو امتنع اتّصافها بالوجود المقيّد بهذين القيدين أي بالعود لكان هذا الامتناع ناشئا إمّا من المسبوقيّة بالعدم،فهذا باطل أيضا،لأنّه على هذا يلزم أن لا يتّصف ماهيّة بالحدوث حيث إنّ الحدوث وجود مسبوق بالعدم و إمّا من المسبوقية بالوجود فهذا باطل أيضا لأنّه على هذا يلزم أنّ لا يتّصف ماهيّة بالبقاء و لو كان البقاء بقاء في الجملة حيث إنّ البقاء وجود مسبوق بالوجود.و إمّا من مجموع القيدين فهذا باطل أيضا،لأنّا نعلم بالضرورة أن لا أثر لاجتماعهما في هذا الامتناع.و حيث بطلت الاحتمالات الثلاثة ثبت أنّ اتّصاف الذات الممكنة بالوجود المقيّد بهذين القيدين أعني اتّصافها بالعود غير ممتنع و هو المطلوب.

و أمّا في التلخيص الثاني،فلأنّه لا شبهة في أنّ ذات الممكن من حيث هي أي غير مقيّدة بقيد أو وصف لا يمتنع اتّصافها بالوجود،فلو امتنع اتّصاف ذاته المقيّدة بالقيدين و الموصوفة بهذين الوصفين بالوجود أي بالعود،لكان هذا الامتناع ناشئا،إمّا من المسبوقيّة بالعدم و اتّصافها به،فهذا باطل،و إلاّ لم تخرج ماهيّة من العدم إلى الوجود،حيث إنّ الذات متّصفة بالعدم حينئذ،و إمّا من المسبوقيّة بالوجود،فهذا باطل أيضا،لأنّ الوجود الأوّل إن أفادها زيادة استعداد لقبول الوجود على ما هو شأن سائر القوابل بناء على اكتساب ملكة الاتّصاف بالفعل،فقد صار قابليّتها للوجود ثانيا أقرب و إعادتها على الفاعل أهون،و إن لم يفدها زيادة الاستعداد فمعلوم بالضرورة أنّها لا تنقص عمّا هي عليه بالذات من قابليّة الوجود في جميع الأوقات،لكونها ممكنة بالذات،و معنى الإمكان ذلك،

ص:365

و إمّا من مجموع الوصفين،فهذا أيضا باطل،لأنّا نعلم بالضرورة أن لا أثر لاجتماعهما في هذا الامتناع.و حيث بطلت الاحتمالات الثلاثة ثبت أنّ ذات الممكن الموصوفة بالعدم المسبوق بالوجود لا يمتنع اتّصافها بالوجود أي بالعود و هو المطلوب.

و هذا الذي ذكرنا هو محصّل كلامه فيما رامه من تتميم الدليل.

و لا يخفى عليك أنّ ما ذكره في إبطال أن يكون المسبوقيّة بالعدم منشأ للامتناع المذكور في كلا التلخيصين دليل واحد،و إن كان مختلفا بحسب العبارة،حيث إنّ لزوم عدم اتّصاف ماهيّة بالحدوث كما ذكره في الأوّل و لزوم عدم خروج ماهيّة من العدم إلى الوجود معناهما واحد.

و أمّا ما ذكره في إبطال أن يكون المسبوقيّة بالوجود منشأ للامتناع المذكور،فهو في التلخيص الثاني أمر آخر غير ما ذكره في التلخيص الأوّل،حيث إنّه في الأوّل لزوم عدم اتّصاف ماهيّة بالبقاء،و في الثاني هو الدليل الأخير المبنيّ على شقّي الترديد،بل هو الجواب الذي ذكره القائلون بجواز عود المعدوم عمّا أورده عليهم القائلون بامتناعه، حيث إنّك قد عرفت ممّا نقلنا من كلام الفاضل الأحساوي فيما سلف أنّه نقل عن القائلين بجوازه دليلا عليه،مفاده:أنّه لو استحال عود المعدوم للزم انقلابه من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي-إلى آخر ما نقله عنهم-و مآله هو الدليل الذي نقله الشارح عنهم،و جعل كلام المصنّف إشارة إلى الجواب عنه.ثمّ نقل عن القائلين بامتناعه إيرادا عليه و جوابا عنه،مفاده أنّ العود أي الوجود الثاني مقيّد بكونه بعد الوجود الأوّل متخلّلا بينهما عدم، و الممتنع هو هذا المقيّد و الوجود الأوّل خال عن هذا القيد،لأنّه وجود أوّل بعد عدم أوّل، فيكون مطلقا بالنسبة إلى هذا الوجود،و تحقّق الامتناع في المقيّد لا يستلزم تحقّقه في المطلق،لما بينهما من المغايرة الذاتيّة-إلى آخر ما نقله عنهم-ثمّ نقل عن القائلين بجوازه جوابا عن هذا الإيراد،و هو ما ذكره الشارح أخيرا دليلا على أنّه لا يمكن أن يكون المسبوقيّة بالوجود منشأ للامتناع المذكور.

و حينئذ نقول:لا سترة في أنّ ما ذكره الشارح أوّلا لإبطال أن يكون المسبوقيّة بالوجود إذا اعتبرت قيدا للمحمول منشأ لهذا الامتناع،أي لزوم عدم اتّصاف ماهيّة بالبقاء،لو تمّ لجرى في إبطال ذلك لو اعتبرت قيدا للموضوع أيضا كما في التلخيص الثاني،و أنّ ما ذكره

ص:366

أخيرا لإبطال ذلك،أي الدليل المبنيّ على الترديد،لو تمّ لجرى في الأوّل أيضا،فيرد عليه سؤال وجه الفرق بين الدليل في الصورتين.

و يمكن أن يقال:إنّه لعلّه إنّما خالف بينهما في الدليل إمّا تفنّنا في الدليل،و إشارة إلى أنّ كلاّ من الدليلين يجري في كلّ من الصورتين.و إمّا لأجل أنّه رأى أنّ الدليل الأوّل إنّما يجري في الوجود المسبوق بالوجود الذي يكون المسبوقيّة فيه بلا واسطة،أي لا يتخلّل بينهما عدم،كما في صورة البقاء،و لا يجري في الوجود المسبوق بالوجود الذي يكون المسبوقيّة فيه بالواسطة و تخلّل بينهما عدم،كما فيما نحن بصدده،أي العود،فحيث إنّه تفطّن لذلك،ذكر فيه في إبطال التلخيص الثاني ما يجري في صورة تخلّل العدم أيضا،و هو الدليل الذي ذكره بقوله:لأنّ الوجود الأوّل-إلى آخره-و أشار بذلك إلى أنّه يجري في إبطال التلخيص الأوّل أيضا،فأشار به إلى أنّ المسبوقيّة بالوجود مطلقا لا يمكن أن تكون منشأ لهذا الامتناع.أمّا المسبوقيّة به بلا واسطة سواء كانت قيدا للموضوع أو المحمول، فلأنّه يلزم أن لا يتّصف ماهيّة بالبقاء.و أمّا المسبوقيّة بواسطة،أي مع تخلّل العدم،سواء كانت أيضا قيدا للموضوع أو المحمول،فللدليل الذي ذكره أخيرا.

بل ربما يمكن أن يقال:إنّه أشار أيضا به إلى أنّ القيد الذي اعتبرناه قيدا للمحمول في التلخيص الأوّل،و قيدا للموضوع في التلخيص الثاني،لو اعتبر قيدين اثنين للمحمول أو الموضوع كما اعتبرناه،فظاهر أنّه لا يمكن أن يكون منشأ للامتناع المذكور،لما ذكرنا من الوجه في ابطال كون كلّ من المسبوقيّة بالعدم و المسبوقيّة بالوجود أو مجموعهما منشأ له.و كذا لو اعتبر قيدا واحدا أي أن يكون المسبوقيّة بالعدم قيدا للمحمول أو الموضوع، و المسبوقيّة بالوجود قيدا للعدم كما هو المحتمل،فإنّه لا يكون أيضا منشأ له،لما ذكرنا من الدليل الأخير،فسواء اعتبر ذلك القيد قيدين اثنين أم قيدا واحدا،فهو لا يكون منشأ لهذا الامتناع.

و لا يخفى عليك أنّ الإشارة الثانية،و إن كانت ممّا يمكن فهمها من كلامه بتكلّف و عناية،إلاّ أنّ الإشارة الأخيرة ممّا يأبى عنها كلامه،فإنّ صريح كلامه في إبطال التلخيصين أنّه جعل القيد قيدين اثنين لا واحدا،و مع ذلك فلا يخفى أنّ في كلامه أنظارا و أبحاثا.

ص:367

في بيان ما يرد على الشارح من الأنظار

منها ما أشار إليه المحشّي الشيرازي،و بيانه أنّ ما ادّعى الشارح من كون القيد هنا قيدين اثنين للمحمول أو الموضوع خلاف ما ادّعاه المانع،فإنّ للمانع أن يقول:إنّا لم نجعله قيدين اثنين للمحمول أو الموضوع،بل جعلناه قيدا واحدا لما قيّد به كما هو ظاهر العبارة في كلا تقريري سند المنع في كلامنا.و كذا هو ظاهر عبارة القائلين بامتناع العود كما نقله الفاضل الأحساوي عنهم.و كذا هو صريح معنى الإعادة التي ادّعينا امتناعها أي جعلنا المسبوقيّة بالعدم قيدا للمحمول أو الموضوع و المسبوقيّة بالوجود قيدا للعدم.و على تقدير عدم ظهور العبارة في ذلك و عدم صراحة الإعادة في ذلك أيضا،فلا يخفى أنّه يمكن أن يقال بوحدة القيد هنا على النحو المذكور في مقام المنع،كما هو منصب المانع، فيندفع ما ذكره الشارح في إبطال كون كلّ من القيدين منشأ للامتناع في إبطال التلخيص الأوّل،و في إبطال كون المسبوقيّة بالعدم منشأ له في ابطال التلخيص الثاني،أمّا لزوم كون الممكن غير متّصف بالبقاء،فلأنّ البقاء ليس مسبوقا بالعدم المسبوق بالوجود الذي كلامنا فيه،بل إنّما هو مسبوق بالوجود خاصّة بلا واسطة.و أمّا لزوم عدم اتّصاف ماهيّة بالحدوث، و كذا لزوم عدم خروج ماهيّة من العدم إلى الوجود،فلأنّ الحدوث أو الخروج من العدم ليسا مسبوقين بالعدم المسبوق بالوجود،بل إنّما هما مسبوقان بالعدم السابق على الوجود وحده.

و منه يظهر أنّ اكتفاء المحشّي الشيرازي باندفاع الأوّل غير جيّد،فإنّه يندفع بذلك الثاني أيضا،بل جميع ما ذكره الشارح في تتميم الدليل،حيث إنّ كلّه مبنيّ على جعل القيد،قيدين اثنين و قد عرفت بطلانه.

نعم لا يندفع بذلك ما ذكره من الدليل أخيرا،لو اجرى على تقدير وحدة القيد،و سيأتي بيان وجه اندفاعه أيضا.

و منها ما أشار إليه المحقّق الدواني،و كأنّه على سبيل التنزّل.و بيانه أنّه على تقدير تسليم كون القيد هنا قيدين اثنين لا قيدا واحدا،فما ذكره الشارح في إبطال كلّ من التلخيصين من قوله:و نعلم بالضرورة أن لا أثر لاجتماعهما في هذا الامتناع.و معلوم بالضرورة أيضا أن لا أثر لاجتماعهما في هذا الامتناع ممنوع،بل هو أوّل المسألة،و كيف

ص:368

تسمع دعوى الضرورة في مثل هذا المقام مع مخالفة الجماهير من الأعلام.

و حيث ذكرنا أنّه يمكن أن يكون هذا الكلام من المحقّق الدواني على سبيل التنزّل، فلا يرد عليه ما ذكره المحشّي الشيرازي:من أنّه اقتفى أثر الشارح في جعل القيدين قيدا للوجود-إلى آخره-فتبصّر.

و أيضا يرد على الشارح على تقدير جعل القيد قيدين اثنين كما فعله،ما أشار إليه ذلك المحقّق أيضا و هو أنّه يمكن إجراء نظير ما ذكره في تتميم الدليل في استلزام أزليّة الإمكان إمكان الأزليّة،الذي نفاه الشارح فيما تقدّم منه في التمهيد.فما ذكره في التتميم مخالف لما ذكره في التمهيد،بل هو ينتقض به.و بيان الإجزاء أنّه يمكن أن يقال:إنّ اتّصاف ذات الممكن بالوجود المطلق،غير ممتنع،فلو امتنع اتّصافه بالوجود المقيّد بالدوام،لكان هذا الامتناع ناشئا من هذا القيد أي قيد الدوام الذي جعل قيدا آخر للممكن،لكنّه ليس منشأ للامتناع و إلاّ لم يتّصف ممكن بالدوام.و معناه كما ذكره المحشّي الشيرازي:و إلا لم يتّصف ممكن بالدوام المطلق المتناول لدوام الوجود و دوام العدم المتحقّق في ضمن دوام العدم،و هذا باطل،لأنّ اتّصاف ممكن ما بدوام العدم ممّا لا يمكن إنكاره،بل هو ممّا لم يخالف فيه أحد،و إن كان اتّصافه بدوام الوجود مختلفا فيه بين القائلين بقدم العالم و القائلين بحدوثه،متحقّقا عند القائلين بقدمه.هذا مع قطع النظر عن أنّ من قال بالصفات الموجودة الزائدة على ذاته تعالى قال بتحقّق اتّصاف الممكن بدوام الوجود.

فإن قلت:للشارح أن يقول في دفع هذا الإجراء و النقض عنه:إنّا حيث قلنا بامتناع اتّصاف ذات الممكن بالوجود المقيّد بالدوام،و جعلنا الامتناع ناشئا من هذا القيد فاللازم علينا أن لا يتّصف ممكن بدوام الوجود،و هو حقّ،نلتزمه،فإن فرض اتّصافه بدوام الوجود إنّما يصحّ عند من قال بقدم العالم أو بالصفات الزائدة،و كلّ من المذهبين باطل، كما تقرّر في مقرّه،و ليس يلزم علينا أن لا يتّصف ممكن بالدوام المطلق المتحقّق في ضمن دوام العدم حتّى يكون باطلا.

قلت:فعلى هذا فيجعل الشارح القيد قيدا واحدا،أي يجعل الوجود قيدا و وصفا للممكن،و يجعل الدوام قيدا للقيد الأوّل أي الوجود،فليكن الحال فيما ذكره في التتميم

ص:369

كذلك،فلم جعله فيه قيدين اثنين،مع كونه خلاف ظاهر كلام المانع،بل خلاف صريح كلامه.

فحاصل اعتراض المحقّق على الشارح أنّه إن اعتبر القيد قيدين اثنين،كما ذكره في التتميم،فيرد عليه أنّه يمكن إجراء نظير ذلك في استلزام أزليّة الإمكان إمكان الأزليّة، و إن اعتبره قيدا واحدا حتّى يندفع عنه هذا الإجراء،فليكن الحال فيما ذكره في التتميم كذلك،و به يندفع ما ذكره:فالفرق بجعل القيد قيدين اثنين و جعله قيدا واحدا هنا تحكّم.

و منه يظهر أنّ المحقّق الدواني تفطّن لإمكان جعل القيد قيدا واحدا،و أنّه به يندفع ما ذكره الشارح في التتميم،و أن ما أورده عليه على تقدير جعل القيد قيدين اثنين إنّما على سبيل التنزّل و التسليم كما ذكرنا،و إن كان أيضا بعض إيراده على مذهب بعض، فتدبّر.

و منها ما أورده المحقّق الدواني على قوله:لأنّ الوجود الأوّل إن أفادها زيادة استعداد -إلى آخره-،و حاصله امتناع فرض المقدّم في الشرطيّة الاولى،و لذلك امتنع لزوم التالى.و منع حقّية التالي في الشرطيّة الثانيّة.بيان الأوّل،أنّه من البيّن أن الشيء كالوجود الأوّل إذا حصل بالفعل كما هو المفروض،برئت المادّة القابلة له كالماهيّة من جميع مراتب استعداده،فلا يبقى استعدادها له بوجه أصلا فضلا عن أن يكون الوجود الأوّل مفيدا لزيادة استعدادها له،إذ الاستعداد و الفعليّة متنافيان،و ما ليس في المادة استعداده أصلا لا يمكن حدوثه مطلقا،فضلا عن أن يكون قابليّتها للوجود أقرب و إعادتها على الفاعل أهون.و بالجملة فمع عدم بقاء استعداد له بوجه كيف يكون قابليّتها للوجود أقرب.و هذا هو بيان إيراده في الشرطيّة الاولى.و قد اعترض عليه المحشّي الشيرازي و أجاب عنه.

و حاصل الاعتراض أنّ للشارح أن يقول:إنّما برئت المادّة من جميع مراتب استعداد الوجود المبتدأ الأوّل الحاصل بالفعل،دون الوجود الثاني المعاد،فإنّه يجوز أن يبقى استعدادها له.و هذا معنى قوله:فقد صارت قابليّتها للوجود ثانيا أقرب-إلى آخره-.

ص:370

و حاصل الجواب أنّ الشارح لا يمكنه القول بذلك،لأنّ كلامه في هذا الدليل إنّما هو في العبارة الاولى في تقرير السند التي هي العبارة الثانية في التلخيص،و لا يخفى أنّ في تلك العبارة قد اعتبر التقييد و التخصيص في جانب الموضوع،و ترك المحمول الذي هو الوجود على صرافة الإطلاق.و حيث كان الوجود مطلقا فلا يكون المأخوذ هنا وجود أوّل و ثان،حتّى يمكن أن يقال إنّ المادّة و إن برئت من استعداد الوجود الأوّل،لكن استعدادها للوجود الثاني باق،بل المعتبر هنا الوجود المطلق على إطلاقه،و حيث كان المفروض براءة المادّة عن استعداده مطلقا،فكيف يكون استعدادها له مرّة اخرى باقيا.

و أنت خبير بأنّ هذا الجواب لا يحسم مادّة الشبهة،فإنّ الشارح لو أجرى هذا الدليل في العبارة الاولى في التلخيص التي هي العبارة الثانية في تقرير السند،حيث إنّ ظاهره إمكان ذلك الإجراء،لورد عليه هذا الاعتراض و لم يصحّ هذا الجواب،فإنّه من البيّن أنّ التقييد و التخصيص فيها قد اعتبر في جانب المحمول أي الوجود و ترك الموضوع على صرافة الإطلاق.اللّهم إلاّ أن يقال:لعلّ الشارح لا يجري ذلك ثمّة و الجواب الحاسم لمادّة الشبهة أن يقال:إنّ الوجود الثاني إن كان هو الوجود الأوّل بعينه فقد فرض براءة المادّة من جميع مراتب استعداده،فكيف يكون استعداده باقيا و إن كان غيره فعلى تقدير بقاء استعدادها له و حصوله ثانيا بذلك الاستعداد،لم يكن هو الوجود الأوّل بعينه و لا الذات، هي الذات الاولى.إذ قد عرفت أنّ اختلاف الوجود يستلزم اختلاف الذات،فلم يكن هنا عود معدوم كما هو المفروض؛هذا خلف.

و أيضا على تقدير الإغماض عن ذلك،فما ذكره الشارح من«إفادة الوجود الأوّل زيادة استعداد للثاني،و كون قابليّة المادّة للوجود الثاني أقرب،و إعادتها على الفاعل أهون»ممنوع،إذ اللازم ممّا ذكر إمكان بقاء أصل الاستعداد له، لا زيادته.

فإن قلت:لعلّ من يقول بجواز عود المعدوم بعينه،يقول:بجواز عود جميع مراتب استعداده بعد براءة المادّة عنها أيضا،و حينئذ يمكن أن يكون الوجود الثاني هو الأوّل بعينه،و أن يعود و يحصل بعود جميع مراتب استعداده،و أن يكون الوجود الأوّل أفاد

ص:371

المادّة القابلة زيادة استعداد لقبول الوجود،على ما هو شأن سائر القوابل،بناء على اكتساب ملكة الاتّصاف بالفعل.حيث إنّ المقبول إذا حصل للقابل مرّة،يصير القابل أقبل له،و اتّصافه به أسهل،فإذا اتّصف مرّة اخرى،صار أشدّ قبولا له،حتّى يصير ملكة،و هذا ظاهر،و أن يصير قابليّتها للوجود ثانيا أقرب و إعادتها على الفاعل أهون.

قلت:فعلى هذا يجوز أن يعود جميع الصفات و الخواصّ و الحالات الحاصلة مع الوجود الأوّل ثانيا،حتّى الزمان،و إن لم نقل بكونه مشخّصا فيعود حينئذ جميع المفاسد التي ذكرت سابقا على تقدير عود الزمان؛فتذكّر.

و أيضا القابل إنّما يزداد في الاستعداد بتكرّر القبول،إذا كانت الهويّة القابلة باقية بعد عدم المقبول الأوّل.و أمّا إذا انتفت الهويّة بعد المقبول الأوّل،حيث إنّ المفروض هنا انتفاء الهويّة أي ذات الممكن في الخارج بعد ما وجد أوّلا أو انتفت بانتفاء المقبول،حيث إنّك قد عرفت أنّ اختلاف الوجود يستلزم اختلاف الذات،و أنّه بانتفائه ينتفي الذات.فلا يتحقّق حينئذ هنا أصل استعداد فضلا عن زيادة استعداد،فإنّ الاستعداد لكونه أمرا وجوديّا يفتقر إلى محلّ يقوم به،و إذ ليس فليس.نعم ربما يمكن تصحيح ما ذكره على مذهب المعتزلة القائلة بثبوت المعدومات و هذا المذهب مع كونه باطلا في نفسه كما تقرّر في موضعه لم يذهب هو إليه.

و أمّا بيان الثاني-أي بيان منع التالي في الشرطيّة الثانية-،أنّه على تقدير عدم إفادة الوجود الأوّل زيادة استعداد للثاني كيف علم بالضرورة أنّ الماهيّة لا تنقص حينئذ أصلا عمّا هي عليه بالذات من قابليّة الوجود في جميع الأوقات.و هل النزاع إلاّ فيه،حيث إنّ المانع لم يدّع إلاّ أنّ طريان العدم يجوز أن يكون مانعا عن قبول الماهيّة للوجود ثانيا يعني أنّه يمكن أن يمتنع اتّصافها بالوجود المسبوق بالعدم و إن لم يمتنع اتّصافها بالوجود المطلق غير المقيّد بهذا القيد،أو أنّه يمكن أن يمتنع اتّصاف الماهيّة الموصوفة بطريان العدم عليها بالوجود مطلقا،و إن لم يمتنع اتّصاف الماهيّة غير الموصوفة بهذا الوصف به.

و الحاصل أنّ ذلك محلّ النزاع،فكيف يدّعي الضرورة فيه؟!

و أيضا إن أراد بقابليّة الوجود في جميع الأوقات معنى يكون فيه جميع الأوقات ظرفا

ص:372

للوجود،فهذا و إن كان ينفعه هنا لكنّه باطل في نفسه،كما أبطله هو نفسه في التمهيد،و إن أراد به معنى يكون فيه ذلك ظرفا للقابليّة،فهو على هذا يكون ظرفا للوجود في الجملة كما تبيّن فيما سبق،و هذا و إن لم يكن باطلا،لكنّه ممّا لا ينفعه هنا أصلا إذ قابليّة الماهيّة في جميع الأوقات للوجود في الجملة لا تستلزم كونها قابلة بعد طريان العدم عليها للوجود.

و هذا التفصيل هو مقصود المحشّي الشيرازي في توجيه كلام المحقّق.

ثمّ إنّه بما ذكر يتلخّص أنّ الوجود الأوّل بعد طريان العدم عليه كما أنّه لم يفد زيادة استعداد للثاني،يمكن أن يكون مانعا أيضا عن الثاني،فتدبّر.

ص:373

بيان ضعف احتجاج القائلين بجواز إعادة المعدوم

على الجواز بالآيات و الروايات]

ثمّ إنّه بما ذكرناه هنا مع ما أسلفناه فيما تقدّم يظهر ضعف احتجاج القائلين بجواز إعادة المعدوم على الجواز بالآية و الحديث،كقوله تعالى:

«وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» (1)

و قوله تعالى: «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ» . (2)

و قوله تعالى: «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» . (3)

و أمثال ذلك من الآيات

و كقول عليّ عليه السّلام:«عجبت لمن أنكر النشأة الاخرى و هو يرى النشأة الاولى». (4)

و أمثاله من الأخبار،كما وقع لبعض القائلين بالجواز.

أمّا الاحتجاج بالآية الاولى،فلأنّ الاحتجاج بها عليه،إنّما هو مبنيّ على أن يكون معنى الأهونيّة في الآية،هو ما ادّعاه الشارح المذكور تبعا للقائلين بجواز إعادة المعدوم، و قد عرفت عدم صحّة هذا المعنى،و مع ذلك فالآية غير صريحة و لا ظاهرة في الأهونيّة بهذا المعنى حتّى يجب تصحيحها،بل يمكن حملها على معنى آخر لا يكون مؤيّدا للقول بجواز الإعادة،و لا يكون منافيا أيضا للقول بامتناعها،و هو حملها-و اللّه أعلم-على أنّه إذا جاز بدء الخلق و إنشاؤه ابتداءً من غير مادّة و عن لا شيء و إخراجه عن كتم العدم،

ص:374


1- -الروم:27. [1]
2- -يس:79. [2]
3- -الأعراف:29. [3]
4- -نهج البلاغة، [4]الكلمة 126 من قصار كلمات أمير المؤمنين عليه السّلام.

فإعادته بعد فنائه و هلاكه،أى جمع الأجزاء المتفرّقة من الأجسام مطلقا بعد تفرّقها مع بقاء موادّها،بل بقاء أجزائها الأصليّة،كما دلّ الدليل على بقائها،و كذا إعادة النفوس و الأرواح التي هي باقية غير فانية فيما له نفس مجرّد كما دلّ الدليل على بقائها أيضا إلى تلك الاجسام ذوات النفوس بعد قطع علاقتها عنها تكون أهون عليه،حيث إنّ الجمع بعد التفرّق،و كذا إعادة ما هو باق إلى ما كان متعلّقا به و زال تعلّقه عنه أهون من الإنشاء ابتداءً و من الإخراج من كتم العدم،لا الأهونيّة بحسب الحقيقة حتّى يرد أنّ قدرة القادر على الإطلاق-تعالى شأنه-لا يختلف نسبتها إلى مقدور دون مقدور،بل هي بالنسبة إلى جميع الممكنات على السواء،بل أهونيّة بحسب ما يراه القادرون غيره تعالى في مقدوراتهم و أفعالهم.

و الحاصل أنّ الأهونيّة ينبغي أن تكون محمولة على التمثيل و المجاز،و كأنّ قوله تعالى: «وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى» (1)يمكن أن يكون إشارة إليه،و إن كان قد فسّره بعض المفسّرين بأنّ له الوصف الأعلى.

و أمّا الاحتجاج بالآية الثانية،فلأنّ قوله تعالى: «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ» (2)لا دلالة فيه على أنّ الإحياء مثل الإنشاء في الكيفيّة و أنّه كما كان الإنشاء إخراجا من كتم العدم،كذلك الإحياء،حتّى يكون دليلا على إعادة المعدوم،سواء قيل بكون الإنشاء مفيدا زيادة استعداد للإحياء في تلك المادّة القابلة أم لم يقل،بل إنّما تدلّ الآية على أنّ الذي أنشأها أوّل مرّة يحييها بعد ذلك،و إن كانت الكيفيّة مختلفة على ما ذكرنا.و لعلّ قوله تعالى في صدر الآية: «مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ» إشارة إلى الاختلاف في الكيفيّة، لأنّ العظام إذا كانت رميما لا تنعدم بالمرّة،بل من وجه.

و أمّا الاحتجاج بالآية الثالثة فبمثل ما تقدّم،لأنّ قوله: «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» (3)لا دلالة فيه على أنّ التشبيه في ذلك مع استواء الكيفيّة،بل يمكن أن يكون التشبيه في أصل الفعل، و إن كانت الكيفيّة مختلفة أيضا كما ذكرنا.

و أمّا الاحتجاج بالحديث فبمثل ما تقدّم أيضا لأنّه يمكن أن يكون معناه:عجبت لمن

ص:375


1- -الروم:27. [1]
2- -يس:79. [2]
3- -الأعراف:29. [3]

أنكر النشأة الاخرى و أنكر العود،و الحال أنّه يرى النشأة الاولى،أي أنّه حيث رأى النّشأة الاولى،و علم أنّه تعالى أوجد الأشياء عن لا شيء،فلم لم يعلم أنّه يقدر أن يوجد النشأة الاخرى مع كونه أهون بالنظر إلى ما يراه القادرون،أي أن يجمع متفرّقات الأجسام الباقية موادّها و أجزاؤها الأصليّة و أن يعيد النفوس الباقية أيضا فيما له نفوس مجرّدة إلى تلك المجتمعات من الأجسام،بعد قطع تعلّقها عنها،و اللّه تعالى و أولو العلم أعلم.

ص:376

في تضعيف الوجه الإقناعي الذي ذكره الشارح القوشجي

على جواز الإعادة و كذا في تضعيف الوجه الذي ذكره المحقّق الدواني

على امتناع الإعادة

و حيث عرفت ذلك،فاعلم أنّ الوجه الإقناعيّ الذي ذكره الشارح القوشجي على جواز الإعادة ضعيف أيضا،يرد عليه ما أورده المحقّق الدواني عليه،كما لا يخفى على المتأمّل.

مثل أنّ الوجه الآخر الذي ذكره ذلك المحقّق نفسه على امتناع الإعادة ضعيف أيضا.

و بيانه أنّ ذلك الوجه إنّما يصحّ على مذهب من يقول بأنّ وجود الحادث يتوقّف على أسباب غير متناهية،و هي الحوادث المتسلسلة،من غير بداية كالحكماء القائلين بقدم العالم،و كذا بامتناع عود المعدوم،و أمّا على مذهب من لم يقل بالتوقّف المذكور كالمتكلّمين القائلين بحدوث العالم،سواء كانوا قائلين بجواز العود كالأكثرين منهم، أو بامتناعه كبعض المعتزلة منهم،فلا يصحّ ذلك لأنّ للقائلين بجوازه أن يقولوا:إنّا لم نقل بتوقّف الوجود الابتدائي على أسباب غير متناهية متسلسلة،حتّى يلزم علينا على تقدير العود توقّفه على تلك الأسباب المتسلسلة غير المتناهيّة،حتّى يكون باطلا.

و أيضا على تقدير أن يكون هناك قائل بجواز العود يقول بالتوقّف على تلك الأسباب المتسلسلة،فله أن يقول:إذا جاز العود أي عود المعدوم،فجاز أيضا عود أسبابه و إن كانت غير متناهية متسلسلة.و لا نسلّم بطلانه،لأنّه كما جاز وجود تلك الأسباب ابتداءً،جاز وجودها حين العود أيضا فما وجه الفرق؟فإن كان وجه الفرق هو مجرّد جواز وجودها الابتدائي و عدم جواز وجودها الثانوي،فهو أوّل المسألة،و إن كان وجهه أنّها حين الوجود

ص:377

الابتدائي كانت حاصلة في أزمنة غير متناهية،و لا امتناع فيه لكون العالم قديما،و لا مانع من وجود أزمنة غير متناهية فيما مضى يتحقّق فيها أسباب غير متناهية متسلسلة،و أمّا هي حين العود لو عادت فتتوقّف على عود تلك الأزمنة غير المتناهية أيضا حتّى يتحقّق هي فيها،و هو محال،لأنّا نعلم بالضرورة أن ليس تعود في حال العود تلك الأزمنة غير المتناهية،و أن ليس هنا أزمنة غير متناهية،بل ليس إلاّ زمان واحد عرفي أو أزمنة متناهية،فذلك الوجه يرجع إلى أنّ عود الزمان محال،فعلى هذا فلا يكون هذا الوجه وجها آخر مغايرا لما تقدّم إلاّ في أنّ ما تقدّم كان مبنيّا على امتناع عود الزمان مطلقا،و هذا مبنيّ على أنّه يمتنع عود الزمان غير المتناهي،فتدبّر.

و أمّا ما ذكره ذلك المحقّق في منع لزوم إعادة جميع الأسباب،بقوله:لجواز أن يعود بأسباب اخر متناهية فقط،فهو إن كان مبنيّا على هذا المذهب القائل بتوقّف وجود الحادث على أسباب غير متناهيّة،كما هو ظاهر سياق كلامه،فيرد عليه أنّه على هذا المذهب،كيف يمكن أن يقال بتوقّف وجود الحادث على أسباب متناهية،مع كونه مخالفا لهذا المذهب،و كأنّ هذا الإيراد هو منظور المحشّي الشيرازي،حيث قال:إنّ السند ليس بشيء،لما تقرّر عندهم أنّ العلّة التامّة للحادث لا بدّ أن تشتمل على امور غير متناهية متعاقبة و إلاّ يلزم التخلّف عن العلّة التامّة؛هذا خلف.و إن كان مبنيّا على أنّ هذا الوجه إنّما يصحّ على مذهب من يقول بالتوقّف على امور غير متناهيّة،و أمّا على مذهب من لا يقول به فلا يصحّ،لأنّ له أن يقول:يجوز أن يعود بأسباب اخر متناهية فقط،و لا امتناع فيه،فله وجه.و يرجع إلى ما ذكرنا،إلاّ أنّ سياق كلامه كأنّه يأبى عنه.

و أمّا ما ذكره بقوله:«أو بها منضمة إلى تلك الأسباب السابقة المتسلسلة»،فيرد عليه أنّ تلك الأسباب السابقة المتسلسلة حتّى السبب الأخير القريب لوجود الحادث لمّا فرضت معدومة بأجمعها،لم يكن لها دخل في وجود ذلك ثانيا،إذ ليست هي موجودة حينه،إلاّ أن يقال بجواز عودها،و هو باطل كما ذكره،فبقي أن يكون السبب في وجودها ثانيا هو تلك الأسباب المتناهية فقط،و قد عرفت حاله،فيظهر منه أنّ انضمام الثانية إلى الاولى لا يجدي نفعا،فتدبّر.

و حيث تحقّقت ضعف حجج القائلين بجواز إعادة المعدوم،فاعلم أنّ ما نقلناه عن

ص:378

الفاضل الأحساوي،حيث ذكر أنّه حقّق آخرون هذه الدعوى،فقالوا:إنّ المعدوم لا يعاد مع جميع عوارضه،فلعلّ أحدا لا يخالفه،فإنّ بعض من جوّز إعادته ذهب إلى أنّ بعض العوارض لا مدخل له في هويّة الشخص كالقدر المعيّن و الوقت المعيّن و الوضع المعيّن و أمثال هذه.و قد صرّحوا بأنّ الشخص بعد البعث يكون على وصف آخر،فيرتفع النزاع من البين،و صحّ دعواهم تجويز العود،مع بعض العوارض و دعوى منعه لأنّ المراد بجميع العوارض.

ثمّ ذكر أنّ هذا صلح بين الفريقين،و رفع للنزاع الواقع بين القوم في منع إعادة المعدوم و جوازه،فإنّ القائل بمنعه إنّما منعه على تقدير أخذ جميع العوارض و المشخّصات معه، و من المعلوم أنّ إعادته على هذا النوع من الإعادة ممتنع،و القائل بجوازه إنّما جوّزه على تقدير أخذه من حيث الهويّة الذاتيّة و إن اختلفت العوارض،فيرتفع النزاع من البين و هو ظاهر،فإنّ من منع إعادة المعدوم مطلقا يكون مخالفا لمقتضى البديهة،و كذلك من جوّزه بجميع أحواله و عوارضه،إذ العقل الصريح يمنعه، لاستحالة إعادة الأعراض و الصفات و العوارض اللاحقة الاعتباريّة،بل و الصفات الحقيقيّة،فالنزاع بين الفريقين حينئذ لا طائل تحته،لأنّه نزاع لا محصول له.

كأنّ فيه نظرا و تأمّلا،لأنّ هذا الصلح المبنيّ على هذا التحقيق الذي ملخّصه أنّ مراد القائلين بامتناع العود،امتناع عود المعدوم مع جميع عوارضه مشخّصة كانت أم غير مشخّصة،و أنّ مراد القائلين بجوازه،جواز عوده مع بعض العوارض،أي العوارض المشخّصة،إنّما يصحّ إذا تراضى الخصمان به،و كان كلامهم ممّا لا يأبى عن الحمل عليه، و كان على تقدير الحمل لا يرد عليه محذور،و الظاهر أنّه ليس كذلك فإنّه لا سترة في أنّ مراد القائلين بامتناعه،امتناع عود المعدوم بعينه كما هو المصرّح به فيما نقلنا من كلام المحقّق الطوسي و غيره.سواء كان كلامهم في امتناع عود المعدوم بالمرّة بعينه أو في امتناع عود المعدوم من وجه من ذلك الوجه الذي عدم بعينه.

و لا سترة أيضا في أنّ معنى امتناع عود المعدوم بعينه،امتناع عوده بشخصه و بجميع عوارضه المشخّصة فقط،لا بجميع عوارضه مطلقا و لو كانت غير مشخّصة،التي قد تتبدّل و تتغيّر مع بقاء الشخص بحاله بعينه كالكمّ و الوضع و أمثالهما،و أمّا أخذهم العوارض

ص:379

غير المشخّصة أيضا فهو إنّما كان في الدليل على مدّعاهم،لا في أصل الدعوى،كما أشرنا إليه في كلام الشيخ في الشفاء و التعليقات:من أنّ غرضهم أنّه لو جاز إعادة المعدوم بعينه و مع مشخّصاته،لجاز عوده مع جميع حالاته و صفاته و أعراضه و لو كانت غير مشخّصة أيضا،إذ لا فرق في ذلك بين العوارض المشخّصة و غير المشخّصة،و أنّه حينئذ يلزم المحال كما مرّ بيانه.

و كيف يمكن لهم أخذ العوارض غير المشخّصة في الدعوى،و الحال أنّه على تقدير أخذهم ذلك،و كون مرادهم أنّه لا يجوز عود المعدوم بجميع عوارضه المشخّصة و غير المشخّصة،إن كان مرادهم كما هو مبنى هذا التحقيق،أنّ العود بجميع العوارض مطلقا محال،و أمّا عوده بجميع عوارضه المشخّصة فقط فليس بمحال،لورد عليهم أنفسهم ما أوردوه على تقدير جواز عوده بجميع المشخّصات من المحالات المتقدّمة ذكرها،و هل هذا إلاّ تناقض؟

ثمّ إنّه حيث ظهر أن مدّعى القائلين بامتناع العود،امتناع عود المعدوم بجميع عوارضه المشخّصة،فيكون مدّعى القائلين بجوازه كما ذكره في التحقيق المذكور أي جواز عوده بجميع عوارضه المشخّصة،مقابلا لمدّعى القائلين بالامتناع،و يكون النزاع بين الفريقين معنويّا لا لفظيّا لا طائل تحته كما ذكره.

و حيث دلّ دليل القائلين بالامتناع على بطلان ذلك،يكون ما ادّعاه المجوّزون باطلا.

و الحاصل أنّه إن كان مراد المجوّزين ما ذكره،لورد عليهم المحال،كما أنّه لو كان مرادهم أعمّ من ذلك أي جواز عود المعدوم بجميع عوارضه مشخّصة كانت أم غير مشخّصة ورد عليهم أشنع المحال.و على كلا التقديرين،فيكون نزاعهم مع الأوّلين في ذلك معنويّا لا لفظيّا،فتدبّر.

و هذا آخر ما أردنا إيراده في هذا المقام الذي كان المقصود فيه إقامة الدليل على امتناع عود المعدوم،و إبطال ما ذكره المجوّزون له دليلا على التجويز.

و حيث فرغنا بعون اللّه و حسن تأييده من تحقيق الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه، و كأنّه من خواصّ هذه الرسالة و تمّ ما رمنا إيراده في المقدّمة،فلنرجع إلى ما كنّا بصدده و هو الغرض الأصلي من وضع الرسالة.

ص:380

النتيجة

فنقول و باللّه التوفيق إنّك بعد ما أحطت خبرا بتفاصيل ما قدّمناه في مقدّمة الرسالة بطولها التي اقتضى تحقيق المرام تطويلها،تلخّص لك أنّ المعاد الجسماني الذي نطق به الشرع الشريف،في الإنسان الذي كلامنا في معاده-و قد عرفت أنّه عبارة عن مجموع النفس و البدن،و أنّ بدنه و إن كان ممّا يطرأ عليه الفناء و الموت بمعنى تفرّق أجزائه و انعدام صورته،لكنّه لا يفنى و لا ينعدم بالمرّة،بل يبقى مادّته و أجزاؤه الأصلية،و أنّ نفسه و إن كانت ممّا يطرأ عليها الموت أيضا بمعنى قطع تعلّقها عن البدن،لكنّه ممّا لا يطرأ على ذاتها الفناء أصلا،بل هي باقية بذاتها بعد قطع تعلّقها عنه،كما كانت باقية حين تعلّقها به-يمكن أن يكون-و اللّه تعالى أعلم-بإعادة تعلّق النفس الباقية بعد قطع تعلّقها عن البدن أوّلا بالبدن ثانيا،أي بالبدن الذي ينشأ و يخلق بقدرة اللّه تعالى من تلك المادّة و الأجزاء الأصليّة الباقية مرّة اخرى.

و تلخّص لك أيضا أنّ المعاد روحاني و جسماني جميعا.

أمّا الرّوحاني فبالنسبة إلى روحه و نفسه بمعنى عود تعلّقها بالبدن أي تعلّقها به مرّة اخرى تعلّقا آخر غير التعلّق الأوّل،حيث إنّ التعلّق لمّا كان يستدعي أمرين متعلّقا و متعلّقا به،يكون تعيّنه بتعيّن الأمرين،و حيث كان المتعلّق به هنا أي البدن مغايرا للأوّل و لو بالاعتبار،فيكون التعلّق الثاني غير التعلّق الأوّل.

و أمّا الجسماني فبالنسبة إلى جسمه و بدنه بمعنى خلقه مرّة اخرى من مادّته و أجزائه الأصليّة،لا روحاني فقط كما ادّعاه بعض الحكماء.

و تلخّص لك أيضا أن ليس فيما ذكرنا من معنى المعاد إعادة معدوم بعينه،لا بالنسبة

ص:381

إلى النفس و لا بالنسبة إلى البدن و لا بالنسبة إلى التعلّق بينهما،حتّى يكون ممتنعا،و كذا ليس فيه خلق شخص آخر،مغاير للأوّل ذاتا،حتّى يلزم أن يكون محلّ الثواب و العقاب، غير ما هو محلّ فعل الطاعة و المعصية،و يكون ظلما ممتنعا على اللّه تعالى،بل إنّ الشخص المعاد يوم القيامة،هو بعينه الشخص الموجود في الدنيا نفسا من جهة ذاتها الباقية،و كذا بدنا من جهة المادّة و أجزائه الأصليّة الباقية،و إن كان مغايرا له باعتبار الأجزاء الفضليّة الفرعيّة و الصورة.

و حيث تلخّص لك في مقدّمة الرسالة ما ذكرنا فحريّ بنا الآن أن نزيدك بيانا لهذا،و إن ما ذكرناه من معنى المعاد لا مخالفة فيه للعقل و النقل بوجه،و أن نقيم الدليل العقلي على أنّ المعاد ينبغي أن يكون واقعا على هذا الوجه الذي دلّ عليه الشرع،لا على وجه آخر.

ثمّ إنّه حيث توقّف بيان ما ذكرناه في المقدّمة من أن ليس المعاد روحانيّا فقط كما زعمه بعض الحكماء على بيان حدوث النفس بحدوث البدن،على ما بيّناه هنالك، و توقّف ما ذكرناه فيها من بقاء النفس بعد قطع تعلّقها عن البدن على بيان تجرّدها عن المادّة في ذاتها كما بيّناه أيضا هنالك،و توقّف بيان ما نريد بيانه هنا على بيان كيفيّة تعلّقها بالبدن و احتياجها إليه في أفعالها و كيفيّة انتفاعها بقواها و حواسّها كما ستعرفه.

و بالجملة حيث توقّف تنقيح ما رمنا تنقيحه على القدر الضروري هنا من بيان صفاتها و حالاتها و خواصّها و أفعالها و إدراكاتها،بل على القدر الضروري هنا من معرفة إنيّة النفس و ماهيّتها و حقيقتها في الجملة أيضا فلنقدّم ذكر ذلك،ثمّ نتبعه بذكر ما هو المقصود، و لنبيّن هذه المطالب في أبواب.

ص:382

المجلد 2

اشارة

سرشناسه : نعیما طالقانی، محمدنعیم بن محمدتقی، قرن ق 12

عنوان و نام پديدآور : منهج الرشاد فی معرفه المعاد/ محمدنعیم بن محمدتقی المدعو بالملا نعیما العرفی الطالقانی؛ تحقیق رضا استادی

مشخصات نشر : مشهد: مجمع البحوث الاسلامیه، 1419ق. = - 1377.

مشخصات: 3ج

شابک : 964-444-108-79000ریال:(ج.1)

يادداشت : عربی

يادداشت : فهرستنویسی براساس اطلاعات فیپا.

یادداشت : کتابنامه

موضوع : معاد

موضوع : خداشناسی

شناسه افزوده : استادی، رضا، 1316 - ، مصحح

شناسه افزوده : بنیاد پژوهشهای اسلامی

رده بندی کنگره : BP222/ن 7م 8 1377

رده بندی دیویی : 297/44

شماره کتابشناسی ملی : م 78-578

ص :1

اشارة

ص :2

منهج الرشاد فی معرفه المعاد

محمدنعیم بن محمدتقی المدعو بالملا نعیما العرفی الطالقانی

تحقیق رضا استادی

ص :3

ص :4

الباب الأوّل: في إثبات النفس و إنّيّتها و تحديدها من حيث هي نفس

اشارة

ص:5

ص:6

الباب الأوّل:في إثبات النفس و إنّيّتها،و تحديدها من حيث هي نفس،و أنّها ليست بجسم و لا عرض،و أنّها غير البدن و أجزائه و أعضائه و آلاته و قواه و أعراضه،و غير جسميّته و مزاجه.

قد أشرنا لك في مقدّمة الرسالة إشارة إلى إثباتها،بل إلى أنّها جليّة الإنّيّة،و إن كانت خفيّة الماهيّة و الحقيقة؛و الآن نزيدك بيانا.فنقول:إنّك قد عملت ممّا بيّنوه في إثبات الصّورة النّوعيّة،أنّهم لمّا رأوا أنواع الأجسام-مع اشتراكها في أصل الجسميّة-مختلفة في أشياء كثيرة،كالأمكنة و الأحياز و الأوضاع و الطّبائع و الآثار و خواصّ الأفعال و سائر الأحوال و الصّفات،و يختصّ كلّ نوع منها في ذاته بجملة منها،بحيث لو فرض مخلّى بذاته،كان عليها؛و لو فرض هناك قسر و أخرجه القاسر منها،ثمّ خلّي و طبعه،عاد إليها.فالبرودة و التحتيّة للماء،و الحرارة و الفوقيّة للنار،حكموا بأنّ منشأ ذلك الاختلاف ليس هو الجسميّة المشتركة فيها،و إلاّ لاشتركت كلّ تلك الأنواع في ذلك،بل هو أمر آخر مبدأ لذلك،داخل في حقيقة كلّ نوع من تلك الأنواع؛فحكموا بأنّ لكلّ نوع من أنواع الأجسام من حيث هو ذلك النوع جزءا آخر مختصّا به،هو مبدأ عوارضه و لوازمه و صفاته و أحواله،و به قوام نوعيّته،يسمّى ذلك الجزء بالصّورة النوعيّة،و بذلك أثبتوا الصّورة النوعيّة لأنواع الأجسام كلّها:بسائطها،كالعناصر و الأفلاك و مركّباتها،ناقصة كانت،أي التي لا يكون من شأنها حفظ تراكيبها مدّة معتدّا بها،كالبخار و السّحاب و الريح

ص:7

و المطر و الثلج و ما أشبهها،أم تامّة،أي الّتي يكون من شأنها ذلك،كالجمادات و المعدنيّات الأحجار و الذائبات و الكباريت و الأملاح و ما شابهها؛سواء كانت المركّبات التامّة مركّبة من بسائط العناصر،ككثير منها؛أو مركّبة من المركّبات الناقصة كالمعدنيّات،و سواء كان التركيب من بسائط العناصر تركيبا أوّليّا،كما في الحبوب و البذور و الفواكه،أو ثانويّا كما في الدم المتكوّن من استحالة الغذاء،أو فيما بعد ذلك كاللحم و العظم و الشحم و ما شابهها.

ثمّ إنّك حيث علمت ما ذكرنا،ظهر لك أنّهم أثبتوا ذلك المبدأ الذي سمّوه بالصورة النوعيّة لكلّ نوع من أنواع الأجسام المشتركة في أصل الجسميّة من أجل اختلافها فيما ذكرناه من وجوه الاختلاف،فظهر لك أنّه بذلك الطريق يحكم العقل بثبوت مبدأ في النبات و الحيوان و الإنسان أيضا؛حيث إنّ النبات مع اشتراكه مع غيره من الأجسام في الجسميّة،مخالف لها في أمور أخر،كالتغذية و التنمية و التوليد،و كذلك الحيوان مع اشتراكه مع غير النبات في الجسميّة،و مع النبات فيما يختصّ به،مخالف لها في الاختصاص بالحسّ و الحركة الإراديّة؛و كذلك الإنسان مع اشتراكه مع غير النبات و الحيوان في الجسميّة،و مع النبات و معهما فيما يختصّ بهما،مخالف للجميع فى الاختصاص بالإدراكات الكلّيّة،و الأعمال الفكريّة و الأفعال الحاصلة بالرويّة و نحو ذلك ممّا يختصّ به،فلذلك أثبتوا ذلك المبدأ لهذه الأنواع أيضا،إلاّ أنّهم سمّوه فيها نفسا لا صورة نوعيّة.فحريّ بنا أن ننظر في أنّ تسميته بالنفس على أيّ وجه؟و أنّ تحديده ما ذا؟ و في أنّه هل يصحّ تسميته بالصورة أيضا فيها؟و أنّه هل يصحّ تسميته باسم آخر كالقوّة و الكمال أو نحو ذلك؟و حيث كان تحقيق ذلك مذكورا في كلام الشيخ في الشفاء، فلنذكر ما أفاده فيه،ثمّ نتبعه بتوضيحه حتّى يتلخّص لك ما رمنا بيانه.

نقل كلام و تحقيق مرام

فنقول:قال الشيخ في طبيعيّات الشفاء،في فصل«في إثبات النفس و تحديدها من

ص:8

حيث هي نفس» (1)بهذه العبارة:

إنّ أوّل ما يجب أن نتكلّم فيه:إثبات وجود الشيء الّذي يسمّى نفسا،ثمّ نتكلّم فيما يتبع ذلك،فنقول:إنّا قد شاهدنا (2)أجساما تحسّ و نتحرّك بالإرادة،بل نشاهد أجساما تغتذي و تنمو و تولّد المثل،و ليس ذلك لجسميّتها (3)،فبقي أن تكون بذواتها مباد (4)لذلك غير جسميّتها و الشيء الذي يصدر عنه هذه الأفعال (5).

و بالجملة،كلّ ما يكون مبدأ لصدور أفاعيل ليست على وتيرة واحدة عادمة للإرادة،فإنّا نسمّيه نفسا.و هذه اللفظة اسم لهذا الشيء،لا من حيث جوهره.و لكن من جهة إضافة ما له،أي من جهة ما هو مبدأ لهذه الأفاعيل،و نحن نطلب جوهره و المقولة التي يقع فيها من بعد.و لكنّا الآن إنّما أثبتنا وجود شيء هو مبدأ لما ذكرنا،و أثبتنا وجود شيء (6)ما جهة ماله عرض ما،و نحتاج أن نتوصّل (7)من هذا العارض الذي له إلى أن تحقّق ذاته لتعرف ماهيّته (8)،كأنّا قد عرفنا أنّ لشيء يتحرّك محرّكا ما،و لسنا نعلم من ذلك أنّ ذات هذا المحرّك ما هو؟فنقول:إذا كانت الأشياء التي نرى أنّ النفس موجودة لها، أجساما،و إنّما يتمّ وجودها من حيث هي نبات و حيوان لوجود (9)هذا الشيء لها،فهذا الشيء جزء من قوامها.و أجزاء القوام-كما عملت في مواضع-هي قسمان:جزء يكون به الشيء هو ما هو بالفعل،و جزء يكون به الشيء هو ما هو بالقوّة،إذ هو بمنزلة الموضوع.

فإن كانت النفس من القسم الثاني-و لا شكّ أنّ البدن من ذلك القسم-فالحيوان و النبات لا يتمّ حيوانا و لا نباتا بالبدن،و لا بالنفس؛فيحتاج إلى كمال آخر هو المبدأ بالفعل لما قلنا،و ذلك (10)هو النفس،و هو الذي كلامنا فيه.بل ينبغي أن تكون النفس هو ما به يكون الحيوان و النبات بالفعل نباتا و حيوانا؛فإن كان جسما أيضا،فالجسم صورته ما قلنا؛و إن كان جسما بصورة ما،فلا يكون هو من حيث هو جسم ذلك المبدأ،بل يكون كونه مبدأ من

ص:9


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 5/2-13،المقالة الاولى من الفنّ السادس،تحقيق الدكتور محمود قاسم،أوفست مكتبة المرعشي-قم عن طبعة مصر.
2- في المصدر:إنّا قد نشاهد...
3- و ليس ذلك لها لجسميّتها...
4- أن تكون في ذواتها مبادي...
5- تصدر عنه هذه الأفعال...
6- وجود شيء من جهة...
7- و يحتاج أن يتوصّل...
8- لتعرف ماهيّته...
9- و حيوان بوجود هذا الشيء...
10- فذلك هو النفس.

جهة تلك الصورة؛و يكون صدور الأحوال عن تلك الصورة بذاتها.و إن كان بتوسّط هذا الجسم،فيكون المبدأ الأوّل تلك الصورة،و يكون أوّل فعله بوساطة هذا الجسم،و يكون هذا الجسم جزءا من جسم الحيوان (1)مثلا لكنّه أوّل جزء يتعلّق به المبدأ،و ليس هو بما هو جسم إلاّ من جهة جملة (2)الموضوع،فتبيّن (3)أنّ ذات النفس ليس بجسم،بل هو (4)جزء للحيوان و النبات،هو صورة (5)أو كالصورة أو كالكمال.

فنقول الآن:إنّ النفس يصحّ أن يقال لها بالقياس إلى ما يصدر عنها من الأفعال:قوّة، و كذلك يجوز أن يقال لها بالقياس إلى ما يقبلها من الصورة (6)المحسوسة و المعقولة على معنى آخر:قوّة (7)،و يصحّ أن يقال أيضا (8)بالقياس إلى استكمال الجنس بها نوعا محصّلا في الأنواع العالية أو السافلة:كمال،لأنّ طبيعة الحسّ تكون ناقصة غير محدودة ما لم يحصّلها (9)طبيعة الفصل البسيط و غير البسيط منضافا إليها،فاذا انضاف كمل النوع.

فالفصل كمال النوع بما هو نوع،ليس (10)لكلّ نوع فصل بسيط،قد علمت هذا:بل إنّما هو للأنواع المركّبة (11)من مادّة و صورة،و الصورة فيها (12)هو الفصل البسيط لما هو كمال له،ثمّ كلّ صورة كمال،و ليس كلّ كمال صورة؛فإنّ الملك كمال المدينة،و الربّان كمال السفينة، و ليسا بصورتين للمدينة و السفينة،فما كان من الكمال مفارق الذات،لم يكن بالحقيقة صورة للمادّة و في المادّة؛فإنّ الصورة التي هي في المادّة،هي الصورة المنطبعة فيها القائمة بها.اللّهمّ إلاّ أن يصطلح فيقال:كمال (13)النوع صورة النوع.و بالحقيقة فإنّه قد استقرّ الاصطلاح على أن يكون الشيء بالقياس إلى المادّة صورة،و بالقياس إلى الجملة غاية و كمالا،و بالقياس إلى التحريك مبدأ فاعليّا و قوّة محرّكة.و إذا كان الأمر كذلك،فالصّورة تقتضي نسبة إلى شيء بعيد من ذات الجوهر الحاصل منها،و إلى شيء يكون (14)الجوهر الحاصل هو ما هو بالقوة،و إلى شيء لا ينسب (15)الأفاعيل إليه،و ذلك الشيء هو المادة،

ص:10


1- في المصدر:من جسم الحيوان،لكنه...
2- إلاّ من جملة الموضوع...
3- فبيّن...
4- بل هي جزء...
5- و النبات هي صورة...
6- الى ما تقبله من الصور المحسوسة...
7- قوّة،و يصح أن يقال لها أيضا بالقياس الى المادّة التي تحلّها،فيجتمع منهما جوهر نباتيّ أو حيواني:صورة،
8- و يصحّ...لها أيضا بالقياس...
9- ما لم تحصّلها طبيعة...
10- و ليس لكلّ نوع فصل...
11- للأنواع المركّبة الذوات...
12- و الصورة فيها هو...
13- فيقال لكمال النوع...
14- شيء يكون به الجوهر...
15- لا تنسب الأفاعيل.

لأنّها صورة باعتبار وجودها للمادّة،و الكمال يقتضي نسبة إلى الشيء التامّ الذي عنه يصدر (1)الأفاعيل،لأنّه كمال بحسب اعتباره للنّوع.

فتبيّن (2)من هذا أنّا إذا قلنا في تعريف النّفس:إنّه (3)كمال،كان أدلّ على معناها،و كان أيضا يتضمّن جميع أنواع النفس من جميع وجوهها،و لا تشذّ النّفس المفارقة للمادّة عنه.

و أيضا إذا قلنا:إنّ النفس كمال،فهو أولى من أن نقول:قوّة،و ذلك لأنّ الامور الصّادرة عن النّفس منها من (4)باب الحركة،و منها من (5)باب الاحساس و الادراك، بالحريّ (6)أن يكون لها لا بما لها قوّة هي مبدأ فعل،بل مبدأ قبول (7)،بل مبدأ فعل،و ليس أن ينسب إليها أحد الأمرين بأنّها قوة (8)أولى من الآخر.

فإن قيل لها:قوّة و عني به الأمران جميعا،كان ذلك باشتراك الاسم.و إن قيل:قوّة، و اقتصر على أحد الوجهين،عرض من ذلك ما قلنا.و شيء آخر،و هو أنّه لا يتضمّن الدّلالة على ذات النفس من حيث هي نفس مطلقا،بل من جهة دون جهة.و قد بيّنّا فى الكتب المنطقيّة أنّ ذلك غير جيّد و لا صواب.

ثمّ إذا قلنا:كمال،اشتمل على معنيين (9)،فإنّ النفس من جهة القوّة التي يستكمل بها إدراك الحيوان كمال،و من جهة القوة التي تصدر عنها أفاعيل الحيوان أيضا كمال،و النفس المفارقة كمال،و النفس التي لا تفارق كمال،لكنّا إذا قلنا:كمال،لم يعلم من ذلك بعد أنّها جوهر أو ليست بجوهر،فإنّ معنى الكمال هو الشيء الّذي بوجوده يصير الحيوان بالفعل حيوانا،و النبات بالفعل نباتا،و هذا لا يفهم عنه بعد أنّ ذلك (10)جوهر أو ليس بجوهر.

لكنّا (11)نقول:إنّه لا شكّ لنا في أنّ هذا الشيء ليس بجوهر (12)بالمعنى الذي يكون به الموضوع جوهرا و لا أيضا بالمعنى الذي يكون به المركّب جوهرا.فأمّا جوهر بمعنى الصورة فلننظر فيه.فإن قال قائل:إنّي أقول للنفس:جوهر (13)و أعني به الصورة،و لست

ص:11


1- في المصدر:تصدر الأفاعيل...
2- فبيّن من هذا...
3- إنّها كمال...
4- منها ما هي من...
5- و منها ما هي من...
6- و التحريك بالحرّي أن...
7- بل هي مبدأ قبول...
8- بأنّها قوّة عليه أولى...
9- على المعنيين...
10- بعد أنّه جوهر...
11- و لكنّا نقول...
12- ليس جوهرا...
13- للنفس: جوهرا.

أعنى به معنى أعمّ من الصورة،بل معنى أنّه جوهر معنى أنّه صورة،و هذا ممّا قاله خلف (1)منهم،فلا يكون معه موضع بحث و اختلاف البتّة،فيكون معنى قوله:«إنّ النفس جوهر»:

أنّها صورة؛بل يكون قوله:«الصورة جوهر»كقوله«الصورة صورة أو هيئة،و الإنسان إنسان أو بشر»،و يكون هذيانا من الكلام.

فإن عنى بالصّورة ما ليس في موضوع البتّة،أي لا يوجد بوجه من الوجوه قائما في الشيء الذي سمّينا لك موضوعا البتّة،فلا يكون كلّ كمال جوهرا،فإنّ كثيرا من الكمالات هي في موضوع لا محالة،و إن كان ذلك الكثير بالقياس إلى المركّب و من حيث كونه فيه ليس في موضوع،فإنّ كونه جزءا منه لا يمنعه أن يكون في موضوع،و كونه فيه لا كالشيء في الموضوع لا يجعله جوهرا،كما ظنّ بعضهم.لأنّه لم يكن الجوهر ما لا يكون بالقياس إلى شيء على أنّه في موضوع،حتّى يكون الشيء من جهة ما ليس في هذا الشيء على أنّه في موضوع جوهرا،بل إنّما يكون جوهرا إذا لم يكن و لا في شيء من الأشياء على أنّه في موضوع،و هذا المعنى لا يدفع كونه في شيء ما موجودا لا في موضوع،فإنّ ذلك ليس له بالقياس إلى شيء (2)حتّى إذا قيس إلى شيء يكون فيه لا كما يوجد الشيء في موضوع صار جوهرا،و إن كان بالقياس إلى شيء آخر،بحيث يكون عرضا،بل هو اعتبار له في ذاته فإنّ الشيء إذا تأمّلت ذاته و نظرت إليها فلم يوجد لها موضوع البتّة،كانت في نفسها جوهرا،و إن وجدت في ألف شيء لا في موضوع بعد أن يوجد في شيء واحد على نحو وجود الشيء في موضوع (3)،فهي في نفسها عرض،و ليس إذا لم يكن عرضا في شيء فهي جوهر فيه،فيجوز أن يكون الشيء لا عرضا في شيء و لا جوهرا في الشيء،كما أنّ الشيء يجوز أن لا يكون واحدا في الشيء (4)و لا كثيرا،و لكنّه (5)في نفسه واحد أو كثير،و ليس الجوهريّ و الجوهر واحدا،و لا العرض بمعنى العرض (6)

ص:12


1- في المصدر:قاله خلق منهم...
2- بالقياس الى كلّ شيء...
3- في الموضوع...
4- واحدا في شيء...
5- كثيرا،لكنّه في نفسه...
6- بمعنى العرضيّ.

الذي في إيساغوجي (1)هو العرض الذي في قاطيفورياس (2)،و قد بيّنّا هذه الأشياء لك في صناعة المنطق.

فبيّن أنّ النفس لا يزيل عرضيّتها كونها فى المركّب كجزء،بل يجب أن تكون في نفسها لا في موضوع (3)و قد علمت ما الموضوع.فإنّ كل (4)نفس موجودة لا في موضوع، فكلّ نفس جوهر،و إن كانت نفس ما قائمة بذاتها،و البوقي كلّ واحد منها في هيولى و ليست في موضوع،فكلّ نفس جوهر.فإن (5)كانت نفس ما قائمة في موضوع و هي مع ذلك جزء من المركّب،فهي عرض،و جميع هذا كمال،فلم يتبيّن لنا بعد أنّ النفس جوهر أو ليس بجوهر من وصفنا أنّها كمال.و غلط من ظنّ أنّ هذا يكفيه في أن تجعل (6)جوهرا كالصورة.

فنقول:إنّا إذا عرفنا أنّ النفس كمال بأيّ بيان و تفصيل فصّلنا الكمال،لم نكن (7)بعد عرفنا النفس و ماهيّتها (8)،بل عرفناها من حيث هي نفس،و اسم النفس ليس يقع عليها من حيث جوهرها،بل من حيث هي مدبّرة للأبدان و مقيسة إليها؛فلذلك يؤخذ البدن في حدّها كما يؤخذ مثلا البناء في حدّ الباني،و إن كان لا يؤخذ في حدّه من حيث هو إنسان، و لذلك صار النظر في النّفس من العلم الطبيعيّ،لأنّ النّظر في النفس من حيث هي نفس، نظر فيها من حيث لها علاقة بالمادة و الحركة؛بل يجب أن يفرد لتعرّضنا ذات النفس (9)بحث آخر،و لو كنّا عرفنا بهذا ذات النفس،لما أشكل علينا وقوعها في أيّ مقولة تقع فيه (10)،فإنّ من عرف و فهم ذات الشيء فعرض على نفسه طبيعة أمر ذاتيّ له،لم يشكل عليه وجوده له،كما أوضحناه في المنطق.

لكنّ الكمال على وجهين:كمال أوّل،و كمال ثان،فالكمال الأوّل هو الذي يصير به النوع نوعا بالفعل،كالشكل للسيف.و الكمال الثاني هو أمر من الامور التي تتبع نوع

ص:13


1- -إيساغي خ ل.
2- في المصدر:في قاطيغوزياس...
3- لا في موضوع البتّة...
4- -فإن كان خ ل.
5- و إن كانت نفس...
6- أن يجعلها جوهرا...
7- لم يكن بعد...
8- و ماهيّتها...
9- أن نفرد لتعرّفنا ذات النفس بحثا آخر...
10- مقولة تقع فيها.

وجود الشيء (1)من أفعاله و انفعالاته،كالقطع للسّيف و كالتمييز و الرويّة و الإحساس و الحركة للانسان،فإنّ هذه كمالات لا محالة للنوع،لكن ليست أوّليّة (2)فانّه ليس يحتاج النوع في أن يصير هو ما هو بالفعل إلى حصول هذه الأشياء له بالفعل،بل إذا حصل له مبدأ هذه الأشياء بالفعل،حتّى صار له هذه الأشياء بعد ما لم تكن بالقوّة الاّ بقوّة بعيدة يحتاج (3)إلى أن يحصل قبلها (4)شيء،حتّى يصير بالحقيقة بالقوّة؛صار حينئذ الحيوان حيوانا بالفعل.فالنفس كمال أوّل،و لأنّ الكمال كمال للشيء،فالنفس كمال الشيء، و هذا الشيء هو الجسم،و يجب أن يؤخذ الجسم بالمعنى الجنسيّ لا بالمعنى المادّيّ،كما علمت في صناعة البرهان،و ليس هذا الجسم الذي النّفس كماله كلّ جسم،فإنّها ليست كمال الجسم الصناعيّ كالسرير و الكرسيّ و غيرهما،بل كمال الجسم الطبيعيّ،و لا كلّ جسم طبيعيّ،فليس النفس كمال نار و لا أرض و لا هواء،بل هي في عالمنا كمال جسم طبيعيّ يصدر (5)عنه كمالاته الثانية بآلات يستعين بها في أفعال الحياة،التي أوّلها التغذّي و النموّ.فالنفس التي نحدّها كمال (6)أوّل لجسم طبيعيّ آليّ له أن يفعل أفعال الحياة؛لكنّه قد يتشكّك في هذا الموضوع بأشياء:من ذلك أنّ لقائل أن يقول:هذا (7)الحدّ لا يتناول النفس الفلكية،لأنّها (8)تفعل بلا آلات،و إن تركتم ذكر الآلات و اقتصرتم على ذكر الحياة لم يغنكم ذلك شيئا،فإنّ الحياة التي لها ليس هو التغذّي و النموّ،و لا أيضا الحسّ؛و أنتم تعنون بالحياة التي في الحدّ هذا.

و إن عنيتم بالحياة ما للنفس الفلكيّة من الإدراك مثلا و التصوّر العقليّ و التحريك لغاية إراديّة،أخرجتم النبات من جملة ما يكون نفس.و أيضا إن كان التغذّي حياة،فلم لا تسمّون النبات حيوانا؟

و أيضا لقائل أن يقول:ما الذي أحوجكم إلى أن تثبتوا نفسا؟و لم لم يكفكم أن

ص:14


1- في المصدر:وجود نوع الشيء...
2- ليست أولى...
3- تحتاج إلى...
4- -فيها خ ل.
5- تصدر عنه...
6- نحدّها هي كمال...
7- يقول:إنّ هذا.
8- -فإنّها خ ل.

تقولوا:إنّ الحياة نفسها هي هذا الكمال،فيكون الحياة هي المعنى الذي يصدر عنه ما تنسبون صدوره إلى النفس من ذلك؟ (1)

فلنشرع في جواب واحد و احد من ذلك و حلّه.

فنقول:أمّا الأجسام السماويّة فإنّ فيها مذهبين:

مذهب من يرى أنّ كلّ كوكب يجتمع منه و من عدّة كرات قد دبّرت بحركته جملة جسم كحيوان واحد،فيكون حينئذ كلّ واحد من الكرات يتمّ فعله (2)بعدّة أجزاء ذوات حركات،فيكون هي كمالات (3)،و هذا القول لا يستمرّ في كلّ الكرات.

و مذهب من يرى أنّ كلّ كرة فلها في نفسها حياة مفردة،و خصوصا،و يرى جسما تاسعا،ذلك الجسم واحد بالفعل لا كثرة فيه،فهؤلاء يجب أن يروا أنّ اسم النفس إذا وقع على النفس الفلكيّة و على النفس النباتيّة،فإنّها تقع (4)بالاشتراك،أنّ (5)هذا الحدّ إنّما هو للنفس الموجودة للمركّبات،و أنّه اذا احتيل حتى يشترك (6)الحيوانات و الفلك في معنى اسم النفس،خرج معنى النباتات من تلك الجملة.على أنّ هذه الحيلة صعبة،و ذلك لأنّ الحيوانات و الفلك لا تشترك في معنى اسم الحياة،و لا في معنى اسم النطق أيضا؛لأنّ النطق الذي هاهنا يقع على وجود نفس لها العقلان الهيولانيّان،و ليس هذا ممّا يصحّ هناك على ما يرى.فإنّ العقل هناك عقل بالفعل،و العقل بالفعل غير مقوّم للنفس الكائنة جزء حدّ للناطق،و كذلك الحسّ فيها (7)يقع على القوّة التي بها يدرك (8)المحسوسات على سبيل قبول أمثلتها و الانفعال منها،و ليس هذا أيضا ممّا يصحّ هناك على ما يرى.

ثمّ إن اجتهد فجعل النفس كمالا أوّلا لما هو متحرّك بالإرادة و مدرك من الأجسام، حتّى تدخل فيه الحيوانات و النفس الفلكيّة،خرج النبات من تلك الجملة؛و هذا هو القول المحصّل.و أمّا أمر الحياة و النفس فمثل (9)الشك في ذلك على ما نقول:إنّه قد صحّ أنّ الأجسام يجب أن يكون فيها مبدأ الأحوال (10)المعلومة المنسوبة إلى الحياة بالفعل،فإنّ من

ص:15


1- في المصدر:إلى النفس؟فلنشرع...
2- يتمّ فعلها...
3- ذوات حركة،فتكون هي كالآلات،و هذا القول...
4- النباتيّة،فإنّما يقع...
5- و أنّ هذا الحدّ...
6- تشترك الحيوانات...
7- الحسّ هاهنا...
8- التي تدرك بها...
9- فحلّ الشكّ...
10- مبدأ للأحوال.

سمّى هذا المبدأ حياة لم يكن معه مناقشة.و أمّا المفهوم عند الجمهور من لفظة الحياة المقولة على الحيوان فهو أمران:

أحدهما كون الشيء موجودا فيه مبدأ يصدر (1)تلك الأحوال عنه،أو كون الجسم بحيث يصحّ صدور تلك الأفعال عنه،فأمّا الأوّل فمعلوم أنّه ليس معنى النفس بوجه من الوجوه،و أمّا الثاني فيدلّ على معنى أيضا غير معنى النفس،و ذلك لأنّ كون الشيء بحيث يصحّ أن يصدر عنه شيء أو يوصف بصفة،يكون على وجهين:

أحدهما أن يكون في الوجود شيء (2)غير ذلك الكون نفسه يصدر عنه ما يصدر،مثل كون السفينة،بحيث يصدر (3)عنه منافع السفنيّة (4)،و ذلك ممّا يحتاج إلى الربّان حتّى يكون هذا الكون،و الربّان و هذا الكون ليس شيئا واحدا بالموضوع.

و الثاني أن لا يكون شيء غير هذا الكون في الموضوع،مثل كون الجسم بحيث يصدر منه الإحراق عند من يجعل نفس هذا الكون الحرارة،حتّى يكون وجود الحرارة في الجسم هو وجود هذا الكون،و كذلك وجود النفس وجود هذا الكون على ظاهر الأمر، الاّ أنّ ذلك في النفس لا يستقيم.فليس المفهوم من هذا الكون و من النفس شيئا واحدا.

و كيف لا يكون كذلك و المفهوم من الكون الموصوف لا يمنع أن يسبقه بالذات كمال و مبدأ تمّ (5)للجسم هذا الكون.و المفهوم من الكمال الأوّل الذي رسمناه يمنع أن يسبقه بالذات كمال آخر،لأنّ الكمال الأوّل ليس له مبدأ و كمال أوّل،فليس إذن المفهوم من الحياة و النفس واحدا إذ (6)عنينا بالحياة ما يفهم الجمهور.و إن عنينا بالحياة أن تكون لفظة مرادفة للنفس في الدّلالة على الكمال الأوّل،لم يناقش (7)؛و تكون الحياة اسما لما كنّا وراء إثباته من هذا الكمال (8)،و قد فرغنا الآن عن معنى (9)الاسم الذي يقع على الشيء الذي سمّي نفسا بالإضافة (10)له.فبالحريّ أن نشتغل بإدراك ماهيّة (11)هذا الشيء الذي صار باعتبار (12)المقول نفسا،و يجب أن نشير في هذا الموضع إلى إثبات وجود النفس التي لنا

ص:16


1- في المصدر:تصدر تلك...
2- يكون الوجود شيئا غير...
3- تصدر...
4- المنافع السفينيّة...
5- ثمّ للجسم...
6- إذا عنينا...
7- لم نناقش...
8- هذا الكمال الأوّل...
9- فقد عرفنا معنى...
10- بإضافة له...
11- ماهيّة...
12- بالاعتبار.

إثباتا(على سبيل التنبيه و التذكير)إشارة شديدة الوقوع (1)عند من له قوّة على ملاحظة الحقّ نفسه من غير احتياج إلى تثقيفه (2)و قرع عصاه و صرفه عن المغلّطات.

فنقول:«يجب أن يتوهّم الواحد منّا كأنّه خلق دفعة،و خلق كاملا،لكنّه حجب بصره عن مشاهدة الخارجات،و خلق يهوي في هواء و خلاء،هويّا لا يصدمه فيه قوام الهواء صدم ما (3)(4)يحوج إلى أن يحسّ،و فرّقت (5)بين أعضائه فلم تتلاق و لم تتماسّ،ثمّ يتأمّل أنّه هل يثبت وجود ذاته فلا (6)يشكّ في اثباته لذاته موجودا،و لا يثبت مع ذلك طرفا من أعضائه.و لا باطنا من أحشائه،و لا قلبا و لا دماغا و لا شيئا من الأشياء من خارج؛بل كان يثبت ذاته و لا يثبت لها طولا و لا عرضا و لا عمقا،و لو أنّه أمكنه في تلك الحال أن يتخيّل هذا (7)أو عضوا آخر،لم يتخيّله جزءا من ذاته و لا شرطا في ذاته.و أنت تعلم أنّ المثبت غير الّذي لم يثبت،و المقرّ به غير الّذي لم يقرّ به،فإذن للذّات التي أثبت وجودها خاصيّة لها على أنّها هو بعينه غير جسمه و أعضائه التي لم تثبت،فإذن المثبتة (8)(9)له سبيل على تنبّهه (10)على وجود النفس شيئا غير الجسم،و أنّه (11)عارف به مستشعر له،فإن (12)كان ذاهلا عنه،يحتاج إلى أن يقرع عصاه» (13)انتهى كلامه.

«في شرح كلام الشيخ»

و أقول و باللّه التوفيق:

قوله:«في إثبات النفس و تحديدها من حيث هي نفس»،أي من حيث إنّ لها إضافة

ص:17


1- في المصدر:شديدة الموقع...
2- -تثقيف الرماح:تسويتها.
3- -صدما ظ.
4- صدما ما...
5- و فرّق بين...
6- و لا يشكّ...
7- يتخيّل يدا أو عضوا...
8- -المتنبّه ظ.
9- المثبت...
10- سبيل إلى أن يتنبّه...
11- -فإنّه خ ل.
12- و إن كان...
13- -الشفاء- [1]الطبيعيّات؛و قد مرّ.

ما إلى البدن،لا من حيث حقيقتها و جوهرها،كما سيظهر وجه ذلك.

و قوله:«إنّ أوّل ما يجب أن نتكلّم فيه إثبات وجود الشيء الّذي يسمّى نفسا،ثمّ نتكلّم فيما يتبع ذلك»أي إثبات وجود الشيء الذي يسمّى نفسا من حيث إنّه يسمّى نفسا،أي من حيث إنّه يطلق عليه هذه اللفظة،و من جهة أنّ له إضافة إلى البدن و مقيس إليه.

و قوله:«إنّا قد شاهدنا أجساما تحسّ و تتحرّك بالإرادة،بل نشاهد أجساما تغتذي و تنمو و تولّد المثل...»-الى آخره-

يريد إثبات النّفس الأرضيّة المتناولة للنباتيّة و الحيوانيّة و الإنسانيّة،من حيث إنّها نفس و لها إضافة ما إلى الجسم الذي هي نفس له،بأنّا نشاهد أجساما تحسّ و تتحرّك بالإرادة،سواء كانت تحسّ و تتحرّك بالإرادة الجزئيّة فقط كما غير الإنسان من الحيوانات؛أو كانت تحسّ و تتحرك بالإرادة الجزئية و الكلّيّة جميعا،كما في الإنسان،بل نشاهد أجساما تغتذي و تنمو و تولّد المثل،كما في النبات،و كما في الحيوان و الإنسان أيضا.

و إنّما قدّم ذكر ما يختصّ بالحيوان و الإنسان،لكون الغرض الأصليّ منها إثبات النّفس الحيوانيّة،بل الإنسانيّة،و أنّ إثبات النّفس النباتيّة إنّما هو لأجل وجودها في الحيوان،بل في الإنسان.فلذا ذكر ما يختصّ به النبات ثانيا و على سبيل الترقي من السابق.

ثمّ إنّا حيث شاهدنا ذلك،علمنا أنّ لتلك الأحوال المشاهدة في تلك الأجسام مبدأ غير خارج عن ذوات تلك الأجسام،أمّا بيان ثبوت المبدأ لها فظاهر،و أمّا كونه غير خارج عنها،فلأنّا حيث شاهدنا وجود تلك الأحوال في تلك الأجسام،نحكم بأنّ مباديها يجب أن تكون موجودة فيها أو معها و لو بوجه،و هذا أيضا ظاهر.و سيأتي زيادة بيان لذلك.

و علمنا أيضا أن ليس ذلك المبدأ نفس جسميّتها المشتركة،و إلاّ لاشترك جميع الأجسام في تلك الأحوال،و ليس الأمر كذلك.فبقي أن يكون ذلك المبدأ غير جسميّتها

ص:18

المشتركة،و أن تكون لتلك الأجسام بذواتها مباد لتلك الأحوال،و أن يكون فيها أو معها الشيء الّذي يصدر عنه هذه الأفاعيل.

و قوله:«فبالجملة كلّ ما يكون مبدأ لصدور أفاعيل ليست على وتيرة واحدة عادمة للإرادة،فإنّا نسمّيه نفسا».

هذا تفريع على ما تقدّم،أي و بالجملة،فكلّ ما يكون مبدأ لصدور أفاعيل كذلك،كما في النبات و الحيوان حيث أشرنا إلى إثبات مبدأ لها فيهما،فإنّا نسمّيه نفسا.و لا يخفى أنّ تلك الأفاعيل-حيث كانت-إشارة إلى الأحوال التي ذكرها في النبات و الحيوان عامّة شاملة للحسّ و الإدراك أيضا،و يكونان هما أيضا فعلا بهذا المعنى،و إن لم يكونا فعلا بالمعنى الآخر.

ثمّ لا يخفى أنّ قوله:«عادمة للارادة»صفة لقوله:« وتيرة واحدة»و أنّ النفي وارد على الموصوف المقيّد بهذا الوصف،و أنّ تحقّق هذا النفي كما يكون بانتفاء الموصوف و الوصف جميعا،أعني أن يكون المتحقّق هنالك كون صدور تلك الأفاعيل على وتائر متعدّدة و أنهاج مختلفة،و مع الإرادة؛كذلك قد يكون بانتفاء الموصوف وحده،و إن لم ينتف الوصف،أعني أن يكون ذلك الصدور على وتائر مختلفة عادمة للإرادة،و قد يكون بانتفاء الوصف وحده،و إن لم ينتف الموصوف؛أعني أن يكون على وتيرة واحدة و مع الإرادة.و حينئذ فيكون المعنى أنّ كلّ ما يكون مبدأ لصدور أفاعيل ليست على وتيرة واحدة عادمة للإرادة،كما في أفعال الطبائع،حيث أنّها تكون على وتيرة واحدة عادمة للإرادة،و يسمّى مبدأ صدورها طبيعة،فإنّا نسمّيه نفسا،سواء كان مبدأ لصدور أفاعيل على أنهاج مختلفة عادمة للإرادة،كالنّفس النّباتيّة،أو مبدأ لصدور أفاعيل على أنهاج مختلفة لكن مع الإرادة،كالنفس الحيوانيّة،و كالنفس الإنسانيّة أيضا إذا استعملت القوى الحيوانيّة و فعلت بتوسّطها،أو مبدأ لصدور فعل على وتيرة واحدة مع الإرادة، كالنفس الإنسانيّة في فعلها الخاصّ بها من الإدراك الكلّيّ و نحوه،إذا قلنا بكونه على نهج واحد.

ص:19

لا يقال قوله:«مبدأ لصدور أفاعيل»بصيغة الجمع يأبى عن حمل العبارة على معنى يشمل القسم الثالث،بل إنّه يشعر بالحمل على معنى يشمل القسمين الأوّلين فقط.

لأنّا نقول:ما فهمته مبنيّ على أنّ إيراد صيغة الجمع إنّما هو بالقياس إلى نفس واحدة، و ليس كذلك؛بل الظاهر أنّه بالقياس إلى نفوس متعدّدة.فحيث اعتبر بالقياس إلى كلّ نفس من النفوس الأرضيّة فعلا خاصّا،اعتبر تعدّد الأفاعيل؛و هذا كما يقال:أفاعيل الطبائع،و الحال أنّ فعل الطبيعة إنّما هو على وتيرة واحدة.و كيف يمكن اعتبار التعدّد و الجمعيّة بالقياس إلى نفس واحدة،و الحال أنّه على هذا يلزم أن يكون قوله:«ليست على وتيرة واحدة»مستدركا لكون قوله:«أفاعيل»الدالّ بصيغة الجمع على التعدّد مغنيا عنه،و لكان حقّ العبارة أن يقول:إنّ كلّ ما يكون مبدأ لصدور أفاعيل،فإنّا نسمّيه نفسا؛ سواء كان عادما للإرادة أو واجدا لها.

و أيضا على ما ذكرته يلزم خروج النفس الإنسانيّة من حيث فعلها الخاصّ بها،إذا قلنا بوحدته و كونه على وتيرة واحدة،و الحال أنّ المقصود تعميم العبارة بحيث تشملها أيضا مطلقا.فتدبّر.

ثمّ إنّه ربما يظنّ أن ما عبّر به عن النفس الأرضيّة و هو قوله:«ما يكون مبدأ لصدور أفاعيل ليست على وتيرة واحدة عادمة للإرادة»كما أنّه متناول للنفس الأرضيّة بأفرادها و أقسامها،كذلك هو متناول للنفس الفلكيّة أيضا،إذ هي عندهم على القول بتعلّق النفس بكلّ كرة من الكرات و بكلّ كوكب من الكواكب،تكون مبدأ لصدور فعل واحد على وتيرة واحدة مع الإرادة.و على القول بتعلّقها بالفلك الكلّيّ و كون الكرات الجزئيّة و الكواكب المختلفة في الأفاعيل كالآلات،تكون مبدأ لصدور الأفاعيل على وتائر مختلفة و مع الإرادة.و على التقديرين،فتندرج النفس الفلكيّة أيضا في معنى هذه العبارة،و يكون هذا التعريف شاملا للنفس الأرضيّة و الفلكيّة جميعا.

فعلى هذا فيرد على الشيخ أنّه لا يخفى أنّه في هذا الفصل بصدد إثبات النفس الأرضيّة و تحديدها،دون الفلكيّة،فما باله قد عبّر عنها في هذا التعبير بما يتناول الفلكيّة

ص:20

أيضا.

و أيضا أنّه ذكر فيما بعد أنّ اسم النّفس إذا وقع على النّفس الفلكيّة و على النّفس النّباتيّة،فإنّها تقع بالاشتراك،أي اللفظيّ،و أنّ الحيلة في أن يشترك الفلك و الحيوانات في معنى اسم النفس صعبة،و الحال أنّ معنى هذا التعبير معنى مشترك يشترك فيه الجميع، فأين الاشتراك اللفظيّ الذي ادّعاه؟و أين صعوبة الحيلة؟

و ربّما يمكن الجواب عن هذا الإيراد بأنّه لا يخفى أنّ ما دلّت عليه هذه العبارة ليس تحديدا للنّفس مطلقا،لا من حيث جوهرها و ماهيّتها في نفسها،و لا من جهة إضافة ما لها إلى البدن كما هو مقصود الشيخ في هذا الفصل،لأنّ مفاده إنّما هو أمر سلبيّ،كما عرفت من أنّ معناه أنّ النّفس عبارة عن مبدأ أفعال ليس هي كأفعال الطبائع.و بعبارة اخرى أنّ المسمّى باسم النفس،ما لا يكون فعله كفعل الطبائع،و مثل هذا لا يكون تحديدا،لأنّ التحديد إنّما يكون بأمور وجوديّة ذاتيّة،و هل هو إلاّ مثل أن يقال في تحديد الإنسان.إنّه ما يكون مبدأ لأفعال ليست هي كأفعال الفرس،أو ما لا يكون فعله كفعل الفرس،حيث إنّه بذلك لا يتحدّد جوهره من حيث جوهره،و لا من حيث له إضافة إلى غيره.

و بالجملة فهذا ليس بتحديد للنفس،بل إنّما هو مجرّد تعبير عنها و تعيين للمسمّى باسم النّفس،و لا سيّما بوجه سلبيّ و ذكر اسم لها بهذا الوجه،فهو لا يكون تعريفا لها أيضا.و على تقدير تسليم صحّة كونه تعريفا لها،يكون رسما لها لا حدّا.و حينئذ يندفع الإيراد عن الشيخ،لأنّه حيث ادّعى فيما بعد ما ادّعاه،إنّما ادّعاه إذا اريد تحديد النفس به،و لا يخفى أنّه كذلك.و هذا لا ينافي أن يكون يمكن هنا تعبير أو رسم أو اسم بوجه سلبيّ يتحقّق فيه الاشتراك و يعمّ النفس الفلكيّة أيضا،كما أنّه لا يلزم عليه من جهة تعبيره عن مسمّى النفس باسم يتناول الفلكيّة مخالفة ما هو بصدده في هذا الفصل من إثبات الأرضيّة و تحديدها،إنّما يلزم المخالفة لو كان أثبت فيه الفلكيّة أيضا و حدّدها، و هو لم يفعله،كما لا يخفى على الناظر فيما ذكره في هذا الفصل.

ص:21

و قوله:«و هذه اللفظة اسم لهذا الشيء لا من حيث هو جوهره (1)،و لكن من جهة إضافة ما له،أي من جهة ما هو مبدأ لهذه الأفاعيل.و نحن نطلب جوهره و المقولة التي يقع فيها من بعد،و لكنّا الآن أثبتنا وجود شيء هو مبدأ لما ذكرنا،و أثبتنا وجود شيء من جهة ماله عرض ما و نحتاج إلى أن نتوصّل من هذا العارض الذي له إلى أن تحقّق ذاته لتعرف ماهيّته».

أي أنّ هذه اللفظة كما عرفت معناها اسم لهذا الشيء،لا من حيث جوهره و حقيقته في نفسه،و لكنّه اسم له من جهة إضافة ما له،أي من جهة ما هو مبدأ لهذه الأفاعيل التي ليست كأفاعيل الطبائع.و بعبارة اخرى:من جهة أنّه كمال لجسم،و نحن نطلب جوهره في حدّ ذاته،و المقولة الّتي يقع هو فيها من كونه جوهرا،لا عرضا من بعد.و لكنّا الآن في هذا الإثبات إنّما أثبتنا بما ذكرنا:«أنّا قد شاهدنا أجساما تحسّ و تتحرّك بالإرادة»-إلى آخره-وجود شيء هو مبدأ لما ذكرنا من الأفاعيل،و أثبتنا وجود شيء من جهة ماله عرض ما،أي كونه مبدأ لما ذكرنا،و من جهة ما له إضافة ما.و كذلك نريد تحديده من هذه الجهة،حيث أثبت أنّه ليس بجسم و لا مادّة لجسم،بل جزء منه به يتمّ و يكمل كونه مبدأ لما ذكر،و يتمّ كون النبات نباتا بالفعل،و كون الحيوان حيوانا بالفعل،و بالجملة جزء من الجسم النباتيّ و الحيوانيّ،بل الإنسانيّ،يمكن أن يطلق عليه في بادي النظر الصّورة أو كالصورة أو الكمال أو كالكمال أو القوّة،ثمّ فتّش و فحص عن ذلك،و أدى تفتيشه و فحصه إلى أنّه ينبغي أن يطلق عليه الكمال،لا مطلقا،بل الكمال الأوّل لجسم طبيعيّ آليّ له أن يفعل أفعال الحياة كما بيّنه؛و سيأتي زيادة بيانه.و نحتاج أن نتوصّل من هذا العارض و من هذا الحدّ الذي له بالإضافة إلى البدن،إلى أن تحقّق ذاته لتعرف ماهيّته،لا من حيث تلك الإضافة،بل في حدّ ذاته،و من حيث كونه داخلا في مقولة الجوهر؛كما فعله و بيّنه في الفصول الآتية.و لعلّنا نشير إلى ما ذكره فيها أيضا إن شاء اللّه تعالى.

و قوله:«كأنّا قد عرفنا أنّ لشيء متحرّك محرّكا ما،و لسنا نعلم من ذلك أنّ ذات هذا

ص:22


1- -في الأصل:من حيث جوهره.و مرّت في ص 9. [1]

المحرّك ما هو؟»أي كأنّا في إثبات النّفس من جهة كونه مبدأ لتلك الأفاعيل،و لم نعلم بعد حقيقتها و جوهرها في حدّ ذاتها،مثل حالنا في إثباتنا أنّ لشيء ما يتحرّك محرّكا ما،و لم نعلم منه حقيقة المحرّك.فكما أنّا إذا شاهدنا شيئا يتحرّك أيّة حركة كانت[علمنا]أنّ له مبدأ لحركته،أو لم يحصل لنا منه العلم بحقيقة المحرّك بذاته؛كذلك الحال فيما نحن فيه، فإنّ حصول العلم بالنّفس من جهة كونها مبدأ للأفاعيل المذكورة فيما شاهدها فيه،لا يستلزم حصول العلم بحقيقتها في ذاتها.فهذا-مع كونه تنظيرا أو تمثيلا لما نحن فيه- يمكن أن يكون بيانا له أيضا بعبارة أخرى،حيث إنّ مبدئيّة النّفس لتلك الأفاعيل تتضمّن كونها مبدأ للحركة أيضا،فافهم.

و قوله:«فنقول:إذا كانت الأشياء التي يرى أنّ النفس موجودة لها أجساما،و إنّما يتمّ وجودها من حيث هي نبات و حيوان لوجود (1)هذا الشيء لها،فهذا الشيء جزء من قوامها...»إلى آخر ما ذكره.

هذا مع كونه متضمّنا للإشارة إلى ثبوت النّفس للنبات و الحيوان،و إلى كونها داخلة في قوامها،غير خارجة عنها،بيان لكون النفس في النبات و الحيوان،بل في الإنسان أيضا جزءا من قوامها في الخارج،لا جزءا يكون هو بالنسبة إليها بمنزلة الموضوع أو المادّة، و يكون به تلك الأشياء بالقوّة؛بل جزءا يكون به تلك الأشياء بالفعل،و به يتمّ وجودها من حيث هي نبات أو حيوان أو إنسان،و يكمل به قوامها بمنزلة الصّورة أو الكمال.و كذا هو بيان لكون النفس غير جسم.

و توضيح ما ذكره:أنّه إذا كانت الأشياء التي يرى أنّ النفس موجودة لها،كالنّبات و الحيوان التي أثبتنا بالبيان السابق وجودها لها،أجساما كما هو المشاهد.و إنّما يتمّ وجودها من حيث هي نبات و حيوان بوجود هذا الشيء الذي هو مبدأ لتلك الأفاعيل، و سمّيناه نفسا،حيث إنّها مع عدم وجود ذلك المبدأ لها لا تكون نباتا و لا حيوانا بالفعل، و لا يتمّ وجودها،بل تكون كسائر الأجسام غير النبات و الحيوان.فهذا الشيء جزء من

ص:23


1- في المصدر:بوجود هذا الشيء.

قوامها في الخارج.و أجزاء القوام كما عملت في مواضع أخرى هي قسمان:جزء به يكون الشيء هو ما هو بالفعل كالصّورة،و جزء به يكون الشيء هو ما هو بالقوّة كالموضوع؛و لا شكّ فيما نحن فيه أنّ البدن-أي جسم تلك الأشياء-من قبيل الثاني،فلو كان النفس أيضا من هذا القبيل،للزم أن لا يكون يتمّ الحيوان و النبات حيوانا و نباتا بالبدن،و هو ظاهر،و لا بالنفس،لكون المفروض حينئذ كونها مثل البدن في كون الشيء به هو ما هو بالقوّة.و حيث كان المفروض تماميّة وجودهما نباتا و حيوانا بالفعل بهذين الجزءين،أي البدن و ما سمّيناه نفسا،و لم يكن جزء آخر سواهما،فبقي أن يكون النفس من قبيل القسم الأوّل،أي جزء منهما به هما يكونان بالفعل،و لا يكون جسما و هو المطلوب.

و أيضا لو لم يتمّ وجود النبات و الحيوان نباتا و حيوانا بالفعل بالبدن و لا بالنفس، فيحتاج إلى كمال آخر به يتمّ و يكمل وجودها بالفعل،و هو المبدأ بالفعل،لما ذكرنا من الأفاعيل،و ذلك هو النفس،و هو الذي كلامنا فيه.فإنّا لا نعني بالنفس إلاّ ذلك المبدأ.و لا شكّ أنّه لا يمكن أن يكون ذلك الجسم الذي سمّيناه بدنا،فإن لم يكن هو النفس أيضا،بل كان غيرهما،فإن كان جسما آخر من حيث هو جسم،فالجسم حاله كما ذكر من أنّه لا يمكن أن يكون بجسميّته المطلقة التي يكون بها الشيء بالقوة مبدأ لما ذكر و كمالا لهما، و إن كان جسما بصورة ما و كمال ما،يكون به الشيء بالفعل،فلا يكون هذا الجسم أيضا من حيث هو جسم ذلك المبدأ و ذلك الكمال،بل يكون كونه مبدأ أو كمالا من جهة تلك الصّورة،و يكون صدور تلك الأحوال و الأفاعيل عن تلك الصورة بذاتها،و إن كان بتوسّط هذا الجسم الثاني؛فيكون المبدأ الأوّل لتلك الأحوال و الأفاعيل في النبات و الحيوان تلك الصورة المفروضة ثانيا،و يكون أوّل فعله بوساطة هذا الجسم،و يكون هذا الجسم جزءا من جسم الحيوان؛لكنّه أوّل جزء يتعلّق به المبدأ،و ليس هو بما هو جسم إلاّ من جهة كونه موضوعا لتلك الصورة التي هي المبدأ حقيقة لتلك الأحوال،و هي الجزء الذي يكون به الحيوان و النبات تماما بالفعل.

فتبيّن من ذلك أنّ النفس ليس بجسم،سواء كان الجسم هو الجسم المفروض أوّلا

ص:24

أو ثانيا،بل هو جزء للحيوان و النبات،به يتمّ وجودهما،سواء كان الجزء هو الجزء الذي فرضناه أوّلا أو ثانيا.و كيف ما كان،فذلك المبدأ الّذي سمّيناه نفسا جزء من الحيوان و النبات به يتمّ وجودهما بالفعل،سواء سمّيته صورة أو كالصورة،أو كمالا أو كالكمال، أو قوّة أو نحو ذلك من الأسامي.

فلنظر في ذلك و في أنّ إطلاق أيّ هذه الأسماء عليه أولى و أحرى؟

و قوله:«فنقول الآن:إنّ النفس يصحّ أن يقال[لها] (1)بالقياس إلى ما يصدر عنها من الأفعال:قوّة.و كذلك يجوز أن يقال لها بالقياس إلى ما يقبلها من الصّور المحسوسة و المعقولة على معنى آخر:قوّة».

هذا نظر في أنّه هل يصحّ عليه إطلاق القوّة أم لا؟و حيث كان بيانه يستدعي تفسير معاني القوّة و شرحها،فلنذكرها حتّى يتّضح المقصود.

فنقول:قال الشيخ في«إلهيّات الشفاء»في فصل«في القوّة و الفعل و القدرة و العجز» (2):إنّ لفظة القوّة و ما يرادفها قد وضعت أوّل شيء للمعنى الموجود في الحيوان، الذي يمكنه بها أن تصدر عنه أفعال شاقّة من باب الحركات ليست بأكثريّة الوجود عن الناس في كيفيّتها أو كمّيّتها (3)،و يسمّى ضدّه (4)الضعف،و كأنّها زيادة و شدّة من المعنى الذي هو القدرة،و هو أن يكون الحيوان بحيث يصدر عنه الفعل إن (5)شاء،و لا يصدر عنه إذا لم يشأ،الّتي ضدّها عجز (6).

ثمّ نقلت عنه،فجعلت للمعنى الذي لا ينفعل له و بسببه الشيء بسهولة،و ذلك لأنّه كان يعرض لمن يزاول الأفعال و التحريكات الشاقّة أن ينفعل أيضا منها،و كان انفعاله و الألم الذي يعرض له منه يصدّه عن إتمام فعله،فكان إن انفعل انفعالا محسوسا قيل:له ضعف و ليس (7)له قوّة،و إن لم ينفعل قيل:إنّ له قوّة.فكان«أن لا ينفعل»دليلا على المعنى

ص:25


1- -في المصدر؛و مرّت في ص 10. [1]
2- -الشفاء- [2]الإلهيّات170/-176،الفصل الثاني من المقالة الرابعة، [3]أو فست مكتبة المرعشي-قم،عن طبعة القاهرة (1380 ه-1960 م).
3- في المصدر:في كمّيّتها و كيفيّتها...
4- ضدّها...
5- إذا شاء...
6- العجز...
7- و ليست له.

الذي سمّيناه أوّلا قوّة.

ثمّ جعلوه اسم هذا المعنى،حتّى صار كونه بحيث لا ينفعل إلاّ يسيرا تسمّى (1)قوّة،و إن لم يفعل شيئا.

ثمّ جعلوا الشيء لا ينفعل البتّة أولى بهذا الاسم،فسمّوا حالته من حيث هو كذلك قوّة.

ثمّ صيّروا القدرة نفسها(و هي الحالة التي للحيوان،و بها يكون له أن يفعل و أن لا يفعل بحسب عدم المشيئة و زوال العوائق)قوّة،إذ هو مبدأ الفعل.

ثمّ أنّ الفلاسفة نقلوا اسم القوّة،فأطلقوا لفظة (2)القوّة على حال يكون (3)في الشيء،هو مبدأ تغيّر يكون منه في الآخر من حيث ذلك آخر،و إن لم تكن (4)هناك إرادة؛حتّى سمّوا الحرارة قوّة،لأنّها مبدأ تغيّر من آخر في آخر بأنّه آخر،حتّى أنّه إذا حرّك نفسه أو عالج نفسه و كان مبدأ التغيّر منه فيه،فليس ذلك فيه من حيث هو قابل للعلاج و (5)الحركة،بل من حيث هو آخر،بل كأنّه شيئان:شيء له قوّة أن يفعل،و شيء له قوّة أن ينفعل.و يشبه أن يكون الأمران منه مفرّقين (6)في جزءين،فيكون مثلا المحرّك في نفسه،و المتحرّك في بدنه؛ و هو المحرّك بصورته،و المتحرّك بمادّته؛فهو من حيث يقبل العلاج غير،لذاته من حيث يعالج.

ثمّ بعد ذلك لمّا وجدوا للشيء (7)الذي له قوّة بالمعنى المشهور-قدرة كانت أو شدّة قوّة-ليس من شرط تلك القوّة (8)أن يفعل»و إمكان«أن لا يفعل»،نقلوا اسم القوّة إلى الإمكان،فسمّوا الشيء الذي وجوده في حدّ الإمكان:موجودا بالقوّة،و سمّوا إمكان قبول الشيء و انفعاله:قوّة انفعاليّة.

ثمّ سمّوا تمام هذه القوّة:فعلا،و إن لم يكن فعلا بل انفعالا،مثل تحرّك أو تشكّل أو غير ذلك.فإنّه لمّا كان هناك المبدأ الذي يسمّى قوّة،و كان الأصل الأوّل في المسمّى

ص:26


1- في المصدر:يسمّى قوّة...
2- لفظ القوّة...
3- تكون في...
4- و إن لم يكن...
5- أو الحركة...
6- مفترقين في جزءين...
7- وجدوا الشيء...
8- تلك القوّة أن يكون بها فاعلا بالفعل،بل له من حيث القوّة إمكان أن يفعل.

بهذا الاسم إنّما هو على ما هو بالحقيقة فعل،سمّوا هذا الذي قياسه إلى ما سمّوه الآن:قوّة، كقياس الفعل إلى المسمّى قديما قوّة باسم الفعل،و يعنون بالفعل حصول الوجود،و إن كان ذلك الأمر انفعالا أو شيئا ليس هو فعلا و لا انفعالا.فهذه هي القوّة الانفعاليّة،و ربّما قالوا:

قوّة لجودة هذه و شدّتها.

و المهندسون لمّا وجدوا بعض الخطوط من شأنه أن يكون ضلع مربّع.و بعضها ليس ممكنا له أن يكون ضلع ذلك المربّع،جعلوا ذلك المربّع قوّة ذلك الخطّ،كأنّه أمر ممكن فيه، و خصوصا إن (1)تخيّل بعضهم أنّ حدوث هذا المربّع هو بحركة ذلك الضلع على مثل نفسه.

و إذا (2)عرفت القوّة فقد عرفت القويّ،و عرفت أنّ غير القويّ:إمّا الضعيف،و إمّا العاجز،و إمّا السهل الانفعال،و إمّا الضروريّ،و إمّا أن لا يكون المقدار الخطيّ ضلعا لمقدار سطحيّ مفروض.

و قد يشكل من هذه الجملة أمر القوّة الّتي بمعنى القدرة،فإنّها يظنّ أنّها لا تكون موجودة إلاّ لما من شأنه أن يفعل،و من شأنه أن لا يفعل.فإن كان من (3)شأنه أن يفعل فقط، فلا يرد (4)أنّ له قدرة،و هذا ليس بصادق.فإنّه إن كان هذا الشيء الذي يفعل فقط،يفعل من غير أن يشاء و يريد،فذلك ليس له قدرة و لا قوّة بهذا المعنى،و إن كان يفعل بإرادة،إلاّ أنّه دائم الإرادة و لا يتغيّر إرادته (5)وجودا اتّفاقيّا،أو يستحيل تغيّرها استحالة ذاتيّة.فإنّه يفعل بقدرة.و ذلك لأنّ حدّ القدرة التي يؤثرون هؤلاء أن يحدّوها به موجود هنا (6)،و ذلك لأنّ هذا يصحّ عنه أن يفعل إذا شاء و أن لا يفعل إذا لم يشأ،و كلا هذين شرطيّان.أي أنّه إذا شاء فعل،و إذا لم يشأ لم يفعل،و أنّهما (7)داخلان في تحديد القدرة على ما هما شرطيّان، و ليس من صدق الشرطيّ أن يكون هناك استثناء بوجه من الوجوه،أو صدق حمل (8)،فإنّه ليس إذا صدق قولنا:«إذا لم يشأ لم يفعل»يلزم أن صدق«لكنه لم يشأ وقتا (9)»،و أنه (10)إذا كذب«أنه لا يشاء 10البتّة»يوجب (11)كذب قولنا:«و إذا لم يشأ لم يفعل»فإن هذا يقتضي

ص:27


1- في المصدر:إذ تخيّل...
2- و إذ قد عرفت...
3- كان لما من...
4- فلا يرون أنّ...
5- و إرادته...
6- موجود هاهنا...
7- و إنما هما...
8- صدق حمليّ...
9- وقتا ما...
10- أنّه لم يشأ...
11- يوجب ذلك.

أنّه لو كان لا يشاء لما كان يفعل،كما أنه إذا شاء فيفعل.فإذا (1)صحّ أنّه إذا شاء فعل،صحّ أنّه إذا فعل فقد شاء.أي إذا فعل فعلا (2)من حيث هو قادر،فيصحّ أنه إذا لم يشأ لم يفعل، و إذا لم يفعل لم يشأ.و ليس في هذا أنّه يلزم أن لا يشاء وقتا ما،و هو بيّن لمن عرف المنطق.

و هذه القوى التي هي مبدأ الحركات (3)و الأفعال،بعضها قوى تقارن النطق أو التخيّل، لأنّه (4)،يكاد أن يعلم بقوّة واحدة الإنسان و اللاإنسان،و يكون بقوة واحدة أن يتوهّم (5)أمر اللذّة و الألم،و إن لم يتوهّم (6)بالجملة الشيء و ضدّه.

و كذلك هذه القوى أنفسها أو خادمها تكون قوّة على الشيء و على ضدّه،لكنّها بالحقيقة لا تكون قوّة تامّة،أي مبدأ التغيّر من آخر (7)في آخر بأنّه آخر بالتمام و بالفعل،إلاّ إذا اقترن بها الإرادة منبعثة عن اعتقاد وهميّ تابع لتخيّل شهو انّي أو غضبيّ،أو عن رأي عقليّ تابع لفكرة عقلية،أو تصوّر صورة عقليّة.فيكون (8)إذا اقترن بها تلك الإرادة و لم تكن إرادة مخيّلة بعد،بل إرادة جازمة،و هي التي هي الإجماع الموجب لتحريك الأعضاء،صارت لا محالة مبدأ بالفعل للفعل (9)بالوجوب،إذ قد بيّنّا أنّ العلّة ما لم تصر علّة بالوجوب حتّى يجب عنها الشيء،لم يوجد عنها المعلول؛و قبل هذه الحال فإنّما تكون الإرادة ضعيفة لم يقع إجماع.فهذه القوى المقارنة للنّطق بانفرادها،لا يجب من حضور منفعلها و وقوعها (10)منها بالنسبة التي إذا فعلت فيه فعلت بها،و أن يكون (11)يفعل بها و هي بعد قوّة.

و بالجملة لا يلزم من ملاقاتها للقوّة المنفعلة أن تفعل ذلك،و ذلك لأنّه لو كان يجب عنها وحدها أن تفعل،لكان يجب من ذلك أن يصدر عنها الفعلان المتضادّان و المتوسّطان (12)بينهما،و هذا محال؛بل إذا صارت كما قلنا فإنّها تفعل بالضرورة.

ص:28


1- في المصدر:و إذا صحّ...
2- إذا فعل من حيث...
3- للحركات...
4- و التخيّل،و بعضها قوى لا تقارن ذلك.و التي تقارن النطق و التخيّل تجانس النطق و التخيّل،فإنّه يكاد...
5- لقوّة واحدة أن تتوهّم...
6- و أن تتوهّم بالجملة...
7- مبدأ تغيّر من أمر لآخر...
8- فتكون...
9- مبدأ للفعل...
10- و وقوعه منها...
11- فعلت فيه فعلا،فعلت بها أن يكون يفعل...
12- و المتوسّطات.

و أمّا القوة (1)الّتي في غير ذوات النّطق و التخيّل،فإنّها إذا لاقت القوّة المنفعلة وجب هناك الفعل،إذ ليس هناك إرادة و اختيار ينتظر (2)،فإن انتظر هناك فيكون طبع منتظر (3)فإذا كان يحتاج إلى طبع،فلذلك الطبع هو إمّا المبدأ للأمر أو جزء (4)من المبدأ.و المبدأ مجموع ما كان قبل و ما حصل،و يكون حينئذ نظيرا للإرادة المنتظرة،لكنّ الإرادة تفارق هذا من حيث تعلم.

و القوّة الانفعاليّة أيضا التي يجب إذا لاقت الفاعل أن يحدث الانفعال في هذه الأشياء،هي القوّة الانفعاليّة التامّة؛فأنّ القوّة الانفعاليّة قد تكون تامّة و قد تكون ناقصة، لأنّها قد تكون قريبة و قد تكون بعيدة،فإنّ في المنيّ قوّة أن يصير رجلا،و في الصبيّ أيضا قوّة أن يصير رجلا،لكنّ القوّة التي في المنيّ تحتاج إلى أن تلقاها أيضا قوّة محرّكة قبل التحرّك إلى الرجليّة،لأنّها تحتاج أن تخرج إلى الفعل شيئا ما غير الرجل،ثمّ بعد ذلك يتهيّأ أن يخرج (5)إلى الفعل رجلا بالحقيقة،فإن (6)القوّة الانفعاليّة الحقيقيّة هي هذه.و أمّا المنيّ فبالحقيقة ليست فيه بعد قوّة انفعاليّة،فإنّه يستحيل أن يكون المنيّ و هو منيّ ينفعل رجلا،لكنّه لمّا كان في قوّته أن يصير شيئا (7)غير المنيّ ثمّ انتقل (8)بعد ذلك إلى شيء آخر، كان هو بالقوّة أيضا ذلك الشيء،بل المادّة الاولى هي بالقوّة كلّ شيء.فبعض ما يحصل فيها يعوقها عن بعض،فيحتاج المعوق عنه إلى زواله،و بعض ما فيه لا يعوق عن بعض آخر،و لكنّه يحتاج إلى قرينة اخرى حتّى يتمّ الاستعداد،و هذه القوى هي بعيدة (9).

و أمّا القوة القريبة فهي الّتي لا تحتاج إلى أن تقارنها قوّة فاعليّة قبل القوّة الفاعليّة التي تنفعل عنها،فإنّ الشجرة ليست بالقوّة مفتاحا،لأنّها تحتاج إلى أن يلقاه (10)أوّلا قوّة فاعليّة غير (11)الفاعليّة المفتاحيّة،و هي القوّة القالعة و الناشرة و الناحتة،ثمّ بعد ذلك يتهيّأ لأن ينفعل (12)من ملاقاة القوّة الفاعليّة للمفتاحيّة مفتاحا (13).

و القوى بعضها يحصل بالطباع،و بعضها يحصل بالعادة،و بعضها بالصّناعة،و بعضها

ص:29


1- في المصدر:القوى...
2- تنتظر...
3- ينتظر...
4- و إمّا جزء...
5- أن تخرج...
6- رجلا،و بالحقيقة فإنّ...
7- شيئا من قبل...
8- ثمّ ينتقل...
9- قوّة بعيدة...
10- تلقاها...
11- قبل الفاعليّة...
12- تتهيّأ لأن تنفعل...
13- للمفتاحيّة.و القوى.

يحصل بالاتّفاق،و الفرق بين الّذي يحصل بالصناعة و الّذي يحصل بالعادة،أنّ الذي يحصل بالصناعة هو الّذي يقصد فيه استعمال موادّ و آلات و حركات،فتكسب النفس ملكة بذلك (1)كأنّها صورة تلك الصناعة.و أمّا الّذي بالعادة،فهو ما يحصل من أفاعيل ليست مقصودة فيها ذلك، (2)بل إنّما تصدر عن شهوة أو غضب أو رأي،أو يتوجّه فيها القصد إلى غير هذه الغاية ثمّ يتبعها (3)غاية هي العادة،و لم تكن تقصد،و لا تكون العادة بنفس ثبوت صورة (4)تلك الأفاعيل في النفس.و ربّما لم تكن (5)للعادة آلات و مواد معيّنة، فإنّه لا سواء أن يعتاد إنسان المشي و أن يعتاد النّجارة (6)من الجهة التي قلنا،و بينهما تفاوت شديد.

ثمّ مع ذلك (7)،فإنّك إذا دقّقت النظر،عاد حصول العادة و الصناعة إلى جهة واحدة.

و القوى التي بالطبع (8)،منها ما يكون في الأجسام الغير الحيوانيّة،و منها ما يكون في الأجسام الحيوانيّة».انتهى (9).

ثمّ إنّه حقّق الكلام في إثبات العادة لكلّ متكوّن،و كون كلّ حادث مسبوقا بالمادّة بما لا مزيد عليه.و قال في آخره (10):«و نحن نسمّي إمكان الوجود قوّة الوجود،و نسمّي حامل الوجود (11)الذي فيه قوّة وجود الشيء موضوعا و هيولى و مادّة و غير ذلك بحسب اعتبارات مختلفة،فإذن كلّ حادث فقد تقدّمته المادّة»انتهى.

و قال صدر الأفاضل في(الشواهد الربوبيّة)في الإمكان و الوجوب و القوّة و الفعل (12):

«إنّ الإمكان (13)معناه سلب ضرورة الوجود و العدم عن الماهيّة،و هو صفة عقليّة لا يوصف بها ما لا مادّة في الخارج و لا في نفس الأمر.فالمبدعات إنّما لها في نفس الأمر الوجود

ص:30


1- في المصدر:بذلك ملكة...
2- ليست مقصورة فيها ذلك فقط...
3- ثمّ قد تتبعها...
4- نفس ثبوت ذلك...
5- يكن...
6- التجارة...
7- و مع ذلك...
8- تكون بالطبع...
9- -الشفاء- [1]الإلهيّات 170-176. [2]
10- -نفس المصدر182/. [3]
11- حامل قوّة الوجود...
12- -الشواهد الربوبيّة83/-84، [4]تعليق و تصحيح السيّد جلال الدين الآشتياني،أوفست«مركز نشر دانشگاهى»، 1360 ه-.
13- الإمكان معناه.

و الوجوب،و هي ممكنة بحسب اعتبار ماهيّتها من حيث هي هي،مع قطع النظر عن استنادها إلى جاعلها التامّ.و عدم اعتبار الشيء لا يوجب اعتبار عدمه،فهي ممكنة لا في نفس الأمر،بل في مرتبة من مراتبها،و لا محذور فيه؛إذ الإمكان مفهوم عدميّ،و عدم الشيء في نحو من نفس الأمر لا يوجب عدمه فى نفس الأمر.فالمبدعات ضروريّة الوجود في الواقع،ممكنة الوجود بعض الاعتبارات.و نسبة الإمكان إلى الوجوب نسبة النقص إلى الكمال،و لهذا (1)يجامعه.و أمّا إمكان الحادث فهو قبل وجود الحادث،إذ كلّ كائن فإنّه قبل كونه ممكن الوجود لا واجب و لا ممتنع،فلا بدّ من (2)مادّة أو موضوع أو متعلّق به يحمل إمكانه.و هذا الإمكان ليس مجرّد ممكنيّة الشيء بل ما به يصير ممكن الوجود،و لهذا يتفاوت قربا و بعدا؛فالقريب استعداد و البعيد قوّة.و القوّة قد يقال لمبدإ التغيّر في آخر من حيث هو آخر،سواء كان فعلا أو انفعالا،و يقال لما به يجوز أن يصدر عن الشيء فعل أو انفعال و أن لا يصدر،و هي القوّة التي تقابل (3)الفعل؛و يقال لما به يكون الشيء غير متأثّر عن مقاوم،و يقابله الضعف.

ثمّ القوّة المنفعلة (4)قد تكون مرميّة (5)نحو القبول دون الحفظ كالماء (6)،و في الشمعة قوّة عليهما جميعا،و قد تكون (7)قوّة على واحد أو أمور محدودة،و في الهيولى الاولى قوّة الجميع إذ لا صورة لها،و لكن تقوى بتوسّط شيء على شيء.

و قوّة الفاعل قد تكون (8)محدودة،نحو أمر واحد كالنار على الإحراق؛و قد تكون (9)على امور كثيرة،كقوّة المختار على ما يختار،و قوّة الباري على الكلّ.

و القوّة الفعليّة المحدودة إذا لاقت القوّة المنفعلة،وجب الفعل.

و القوّة الفعليّة قد تسمّى قدرة،و هي إذا كانت مع شعور و مشيئة.و قد يظنّ أنّها ليست قدرة الاّ لما في (10)شأنه الطرفان:الفعل و الترك.و أمّا الفاعل الدائم فالمتكلّمون لا يسمّونه قادرا.و الحقّ خلافه؛فمن فعل بمشيئة يصدق عليه أنّه لو لم يشأ لم يفعل،سواء

ص:31


1- في المصدر:و لذا...
2- فلا بدّ له من...
3- الذي يقابل...
4- قوّة المنفعل...
5- ماهيّة...
6- كما في الماء...
7- يكون قوّة...
8- يكون محدودة...
9- قد يكون...
10- من شأنه.

اتّفق عدم المشيئة او استحال.و صدق الشرطيّة لا يتوقّف على صدق طرفيها.

و القوّة الفعليّة قد تكون (1)مبدأ الوجود و قد تكون (2)مبدأ الحركة.

و الإلهيّون يعنون بالفاعل مبدأ الوجود و مفيده،و الطبيعيّون يعنون به مبدأ التحريك كما مرّ.و الأحقّ باسم الفاعل من يطرد العدم بالكليّة عن الشيء من غير شوب نقص و تنزيه. (3)

ثمّ القوى التي من (4)مبادي الحركات،بعضهما يقارن النطق و التخيّل،و بعضها لا يكون،و الاولى لا يصدر عنها الشيء وحدها،فلا تكون (5)قوّة تامّة،و إنّما تتمّ (6)إذا اقترنتها إرادة جازمة تتوقّف (7)على علم بداع فيجب الفعل،فالقدرة فيها غير (8)القوّة و الاستعداد،و لهذا قيل:الانسان مضطرّ في صورة مختار (9).

و اعلم أنّ الحركة لا بدّ لها من قابل و فاعل،و لا يجوز أن يكونا واحدا،لأنّ أحدهما مكمّل مفيد و الآخر مستكمل مستفيد،فكلّ جسم متحرّك فله محرّك غيره،و لو كان الجسم-بما هو جسم-متحرّكا (10)لم يسكن البتّة،و لكان (11)الأجسام كلّها متحرّكة دائما، فالمحرك لا يحرّك نفسه،بل لشيء لم يكن هو في نفسه (12)متحرّكا،فيكون حركته بالقوّة، و الحارّ كيف يسخن نفسه،بل لشيء يكون السخونة فيه بالقوّة.

فكلّ متحرّك يحتاج إلى ما يخرجه من القوّة إلى الفعل،و هذا الخروج هو الحركة.

و الحركة أمر وجودها خروج الشيء من القوّة إلى الفعل لا دفعة،يقابلها (13)أمر بالقوّة بما هو بالقوّة.

و من هنا ظهر بالبرهان«أنّ كلّ جسم مركّب من الهيولى و الصورة،لأنّ كلّ جسم -بما هو جسم-أمر بالفعل،و بما هو قابل للحركة أمر بالقوة،و هما متقابلان،و هاهنا (14)كثرة»، (15)انتهى كلامه(ره).

ص:32


1- في المصدر:قد يكون...
2- و قد يكون...
3- و شرّيّة...
4- التي هي...
5- و الاولى يصدر عنها الشيء و ضدّه فلا يكون...
6- و إنّما يتمّ...
7- يتوقّف...
8- عين القوّة...
9- -القول لأرسطوطاليس.انظر صوان الحكمة144/. [1]
10- بما هو متحرّكا...
11- و لكانت...
12- لم يكن في نفسه...
13- فقابلها أمر...
14- متقابلات،هاهنا..
15- -الشواهد الربوبيّة82/-84. [2]

و أقول:لا يخفى عليك أنّ مراد الشيخ بقوله هاهنا:«إنّ النفس يصحّ أن يقال لها بالقياس إلى ما يصدر عنها من الأفعال:قوّة،و كذلك يجوز أن يقال لها بالقياس إلى ما تقبلها من الصور المحسوسة و المعقولة على معنى آخر:قوّة»كما هو ظاهر هذا الكلام، و كذا المصرّح به فيما بعد في بيان أولويّة إطلاق الكمال على النفس من إطلاق القوة عليها،أنّه يصحّ أن يقال لها بالقياس إلى ما يصدر عنها من الأفعال،بالمعنى المقابل للانفعال كالتحريكات:قوّة بمعنى الفعل بهذا المعنى،و كذلك يجوز أن يقال لها بالقياس إلى ما تقبلها من الصّور المحسوسة و المعقولة،أي بالقياس إلى ما يصدر عنها من الانفعالات،كالاحساسات و الإدراكات الجزئيّة و الكلّيّة:قوّة بمعنى آخر،أي قوّة بمعنى مبدأ الانفعال.

و لا يخفى أيضا أنّ ما ذكره أخيرا في بيان الأولويّة أنّ إطلاق القوّة عليها بمعنى مبدأ الفعل مثلا،ليس أولى من إطلاقها عليها بمعنى مبدأ الانفعال؛و كذا بالعكس.فحينئذ لو اطلق لفظة القوّة على النفس في تحديدها،فإمّا أن يراد بها أحد المعنيين دون الآخر،فيرد عليه-مع ما ذكر من عدم أولويّة إرادة أحد المعنيين دون الآخر-أنّه لا يتضمّن الدلالة على ذات النفس من حيث هي نفس مطلقا،بل من جهة دون اخرى،أي من جهة كونها مبدأ الفعل مثلا،دون جهة كونها مبدأ الانفعال،أو بالعكس،و إمّا أن يراد بها المعنيان جميعا،فيرد عليه أنّه يكون باشتراك الاسم؛حيث إنّ لفظة القوّة مشترك بين معنيين اشتراكا لفظيّا،فيكون من قبيل ذكر الألفاظ المشتركة في التحديد.و قد بيّن في الكتب المنطقيّة أنّ ذكر الألفاظ المشتركة في التحديدات،و كذا الدلالة على المحدود من وجه دون آخر،غير جيّد و لا صواب.

و هذا بخلاف إطلاق الكمال على النفس.حيث إنّ معنى الكمال كما بيّن المراد به، أي ما به يكمل و يتمّ وجود الشيء شيئا بالفعل،كوجود النبات نباتا بالفعل،و الحيوان حيوانا بالفعل،و ان كان مشتركا أيضا بين المعنيين،لكن اشتراكا معنويّا،و مع ذلك جامع لجميع أنواع النفس؛فإنّ النفس من جهة القوّة التي بها يستكمل إدراك الحيوان-أي هي

ص:33

مبدأ الانفعال-كمال،و من جهة القوّة التي بها يصدر عنها أفاعيل الحيوان كالتحريكات- أي هي مبدأ الفعل-كمال أيضا.و كذلك النفس المفارقة كالنفس الإنسانيّة كمال،و النفس التي لا تفارق كالنباتيّة و الحيوانيّة أيضا كمال.

و لا يخفى أيضا أنّ ما ذكره في وجه الأولويّة إنّما يتمّ لو كان اشتراك القوّة بين المعنيين اشتراكا لفظيّا،فإنّه لو كان اشتراكها بينهما معنويّا كما هو المحتمل،بل الظاهر من كلماتهم كما سنبيّنه،و أريد بها في التحديد القدر المشترك بينهما،لم يتوجّه ما ذكره في وجه الأولويّة،بل كان ذكر القوّة في تحديد النفس من قبيل ذكر الكمال،في كون الاطلاق على المعنيين بمعنى واحد مشتركا،و كونه جامعا لجميع أنواع النفس،و لا تفاوت بينهما إلاّ في الدلالة على كون النفس كمالا للنبات و الحيوان،كما في صورة ذكر الكمال،و عدم الدلالة على ذلك كما في صورة ذكر القوّة.و هذه الدلالة-على تقدير إمكان كونها وجها للأولويّة المذكورة-أنّما تكون وجها آخر غير ما ذكره الشيخ،و كلامنا إنّما هو في الوجه الذي نظره إليه.

و أمّا بيان احتمال كون اشتراك القوّة-بالمعنى المراد هاهنا-اشتراكا معنويّا بين المعنيين و بين جميع أنواع النّفس،فلأنّك بعد ما أحطت خبرا بتفاصيل ما نقلنا عن الشيخ في إلهيّات الشّفاء من معاني لفظ القوّة،و ما نقلنا عن صدر الأفاضل(و كأنّه تلخيص ما في الشفاء من وجه)،علمت أنّ لفظة القوّة،و إن اطلقت لغة و اصطلاحا على معان متعدّدة،إلاّ أنّ المعنى المناسب الذي به يصحّ إطلاق هذه اللفظة على النّفس،نباتيّة كانت أم حيوانيّة،هو القوّة،بمعنى مبدأ التغيّر من شيء في آخر من حيث إنّه آخر،حيث إنّ النّفس أيضا من جهة أفاعيلها و تحريكاتها مبدأ التغيّر في بدنها،من حيث إنّ البدن غيرها ذاتا؛و كذلك هي من جهة إحساساتها و إدراكاتها و انفعالاتها مبدأ التغيّر في آلاتها،من حيث إنّها غيرها ذاتا،و كذا في نفسها،من حيث إنّها غيرها بهذا الاعتبار.

و بالجملة،فالمعنى الذي به يصحّ إطلاق لفظ القوّة على النّفس لو أطلق،إنّما هو هذا المعنى،لا غيره من المعاني الأخر المذكورة؛و كأنّه لذلك ترى المحقّق الطوسيّ(ره)في

ص:34

مواضع عديدة من كلامه فى شرحه للإشارات-حيث إنّ الشيخ أطلق لفظة القوّة، و أراد بها الصّورة النوعيّة أو الطبيعة،أو الكيفيّة أو مشاعر النّفس و قواها-فسّرها بمبدإ التغيّر من شيء في آخر من حيث هو آخر.

و قال في بعض تلك المواضع التي أطلق فيه الشيخ القوّة على الكيفيّة،و ذكر أنّ القوى قد تكون مهيّأة نحو الفعل،كالحرارة و البرودة و غيرهما: (1)«إنّ (2)القوى مبادي التغيّرات و هي بحسب ماهيّاتها (3)قد تكون صورا،و قد تكون كيفيّات،و المراد هاهنا الكيفيّات.و تهيؤها نحو الفعل هي أن تجعل موضوعاتها معدّة للفعل،فإنّ الفاعل بها هو موضوعاتها،فالقوّة المهيّئة نحو الفعل كيفيّة يصير بها موضوعها معدّا للتأثير في شيء آخر،فهي مبدأ للتغيّر،و القوّة المهيّئة نحو الانفعال كيفيّة يصير بها موضوعها معدّا للتّأثّر (4)عن شيء آخر،فهي مبدأ التغير».

و لا يخفى أنّ النّفس من قبيل الصور التي هي مبادي التغيّر،و قد أطلق في بعض تلك المواضع لفظ القوّة بهذا المعنى على النّفس النّباتيّة و على النّفس الحيوانيّة و على الفلكيّة أيضا،و ذكر أنّ هذه القوى الثلاث تسمّى نفوسا،كما يظهر لمن تصفّح كلامه.

و لا يخفى أيضا أنّ القوّة بهذا المعنى الذي اريد في إطلاقها على النّفس-أي مبدأ التغيّر-معنى واحد مشترك بين معنيي القوّة،أي القوّة بمعنى مبدأ الفعل،و القوّة بمعنى مبدأ الانفعال و القبول؛فإنّ كلاّ من الفعل و الانفعال ممّا يصدق عليه كونه تغيّرا من وجه.فمعنى مبدأ التغيّر معنى واحد مشترك بين المعنيين اشتراكا معنويّا،و كأنّه لذلك قال صدر الأفاضل في تفسير القوّة بهذا المعنى:«إنّ (5)القوّة قد يقال لمبدإ التغيّر (6)في آخر من حيث هو آخر،سواء كان فعلا أو انفعالا» (7).

و ممّا يؤيّد ما ذكرنا أنّه يظهر من الشيخ نفسه في بيان معاني القوّة أنّه-حيث

ص:35


1- -شرح الإشارات 243/2.
2- في المصدر:القوى قد مرّ أنّها مبادي...
3- ماهيّاتها...
4- للتأثير...
5- و القوّة...
6- التغيير.
7- -الشواهد الربوبيّة 82، [1]تعليق و تصحيح السيد جلال الدين الآشتياني.

فسّر القوّة بمعنى مبدأ التغيّر-أدرج القوّة الفاعلة و القوّة المنفعلة تحته،و جعل كلاّ منهما قسما منه.

و قد قال الحكيم ابن رشد المغربيّ في جامع الفلسفة في تحقيق القوّة الغاذية:«إنّ القوّة يقال بضرب من التشكيك على الملكات و الصور حين ليس تفعل،كما يقال في النّار إنّها محرقة بالقوّة،إذا لم تحضرها المادّة الملائمة للإحراق،و على القوى المنفعلة،كما يقال في الخبز إنّه دم بالقوّة،و في الدم إنّه لحم بالقوّة و ذلك إذا لم يحضر المحرّك.»هذا كلامه.

و هو يدلّ أيضا على اشتراك القوّة بين القوى الفاعلة و المنفعلة اشتراكا معنويّا،حيث إنّ التشكيك مبنيّ عليه،و إن كان في كلامه خلطا بين القوّة بمعنى مبدأ التغيّر و القوّة بمعنى الإمكان،أي الاستعداديّ،فإنّ الظّاهر منه أنّه أراد بالقوّة مبدأ التغيّر لا مطلقا،بل من جهة كون تغيّره في حدّ الإمكان.فتدبّر.

و بالجملة فليس يظهر ممّا نقلنا من كلماتهم و لا من غيرها أنّهم جعلوا القوّة بمعنى مبدأ التغيّر موضوعة على حدة بوضع لغويّ و اصطلاحيّ لمعنى القوّة الفاعلة،و بوضع آخر كذلك لمعنى القوّة المنفعلة،حتّى يكون اشتراكها بينهما اشتراكا لفظيّا،و لا يصحّ ذكرها في مقام تحديد النّفس،لكون استعمال اللفظة المشتركة مخلا بالتحديد،بل الظاهر أنّ القوّة بهذا المعنى مشتركة بين القسمين اشتراكا معنويّا،كالكمال،و لا تفاوت بينهما إلاّ فيما ذكرنا.

فإن قلت:هب أنّ القوّة بهذا المعنى مشتركة معنى بين القسمين،لكن لا يخفى أنّها وردت لغة و اصطلاحا لمعان متعدّدة،لا سترة في أنّها وضعت لكلّ منها وضعا على حدة إذ ليس بينها قدر مشترك معنويّ،فيكون اشتراكها بين هذا المعنى و بين تلك المعاني اشتراكا لفظيّا،فحينئذ نقول:إذا ذكرت تلك اللفظة في مقام تحديد النّفس،كان استعمال اللفظة المشتركة اشتراكا لفظيّا في التحديد،و هو غير جيّد و لا صواب كما ذكره الشيخ.

قلت:هذا مع أنّه ليس ممّا كان نظر الشيخ إليه يمكن دفعه،بأنّا إذا ذكرنا هذه اللفظة

ص:36

في مقام التحديد و أردنا بها هذا المعنى الذي ذكرنا؛فإن كان المتبادر بقرينة المقام إرادة هذا المعنى خاصّة دون ما عداه من المعاني فلا إشكال،و إن لم يكن ذلك متبادرا،فلا سترة في أنّه يمكننا أن نقيّد القوّة بقيد تكون به مختصّة بالقوّة بهذا المعنى،و ينتفي إرادة المعاني الأخر،و لا يكون ذلك من استعمال اللفظ المشترك في التحديد.

فإن قلت:إنّ المتعارف الشائع في التحديدات عند القوم،أنّهم يذكرون أوّلا معنى عامّا بمنزلة الجنس يعمّ المحدود و غيره،ثمّ يقيّدونه بقيد واحد أو أكثر هو بمنزلة الفصل، به يختصّ ذلك المعنى.بل مجموع المقيّد،و القيد بالمحدود،و يخرج غيره.و فيما نحن بصدده،حيث كانت لفظة القوّة مشتركة لفظا بين تلك المعاني،و لم يكن هناك معنى عامّ مشترك،كما هو المفروض،لا يكون ذلك القيد بمنزلة الفصل،فكيف الحيلة في ذلك؟ فإنّك إن ذكرت ابتداء لفظة القوّة مطلقة،ثم قيّدتها بكونها مبدأ التغيّر،كأن قلت:إنّ النّفس قوّة هي مبدأ التغيّر،لم يكن الأوّل بمنزلة الجنس،و لا الثاني بمنزلة الفصل،كما عرفت.

و إن ذكرت لفظة مبدأ التغيّر بدون ذكر لفظة القوّة،لم يكن ذلك من إطلاق لفظة القوّة على النّفس في شيء كما هو المقصود،كما أنّك لو ذكرت لفظة القوّة و لم تذكر قيدا يخصّصها بمعنى مبدأ التغيّر،كان ذلك من استعمال اللفظة المشترك في التحديد.

قلت:الحيلة في ذلك يمكن أن تكون بأن نذكر أوّلا لفظة القوّة،ثمّ نتبعها بقيد يجعلها مختصّة بالمعنى المراد هاهنا،على أن يكون ذلك القيد تفسيرا للقوّة،لا بمنزلة الفصل.

كأن نقول:النّفس قوّة،أي مبدأ تغيّر.ثمّ إنّه لمّا كان قولنا:مبدأ تغيّر،معنى عامّا يشمل غير النّفس أيضا كالطبيعة،كما أنّه يشمل مبدأ التغيّر من حيث الفعل و الانفعال جميعا؛ نضعه كالجنس و نقيّده بقيد يكون بمنزلة الفصل،و يخرج به غير النّفس،كأن نقول:النّفس قوّة أي مبدأ تغيّر مقارنة للإرادة،و هذا كما أنّ الكمال لمّا كان شاملا للكمال الأوّل و الثاني،قيّدناه بالكمال الأوّل،حتّى يخرج الكمال الثاني.

ثمّ إنّه لمّا كان المقصود هنا تحديد النّفس بالقياس إلى البدن،قيّدناه بكونه كمالا أوّلا لجسم طبيعيّ آليّ يمكن أن يصدر عنه ما يصدر عن الأحياء،كما في التحديد الذي ذكره

ص:37

الشيخ،و هو المشهور بين القوم سواء بسواء؛فعلم من ذلك أنّه يصحّ إطلاق القوّة على النّفس،و كذا يصحّ تحديدها بما ذكرنا.و اللّه أعلم بحقيقة الحال.

ثمّ إنّ قول الشيخ: (1)«و يصحّ أن يقال (2)أيضا بالقياس إلى استكمال الجنس بها نوعا محصّلا في الأنواع العالية أو السافلة كمال،لأنّ طبيعة الجنس تكون ناقصة غير محدودة ما لم يحصّلها (3)طبيعة الفصل البسيط و غير (4)البسيط منضافا إليها،فإذا انضاف كمل النوع، فالفصل كمال النوع بما هو نوع،و ليس لكلّ نوع فصل بسيط،قد علمت هذا،بل إنّما هو للأنواع المركّبة (5)من مادّة و صورة،و الصورة منهما (6)هو الفصل[البسيط]لما هو كماله (7)».

هذا بيان لانّه يصحّ إطلاق الكمال على النّفس،و لأن إطلاقه عليها على أيّ معنى و على أيّة جهة،و حيث كان بيان ذلك،و كذا بيان ما بعده يستدعي تمهيد مقدّمة،قد حقّقها الشيخ في موضع آخر،فلنذكر ذلك ثمّ نتبعه بشرح هذا الكلام.

فنقول:إنّه قال في إلهيّات الشفاء في فصل«في الفصل بين الجنس و المادة» (8):«إنّ الجسم قد يقال إنّه جنس الإنسان و قد يقال (9)إنّه مادّة الإنسان،فإن كان مادّة الإنسان، كان لا محالة جزءا من وجوده،و استحال أن يحصل ذلك الجزء على الكلّ،و لننظر (10)كيف يكون الفرق بين الجسم-و قد اعتبرناه مادّة-و بينه-و قد اعتبر جنسا-فهناك (11)يصير لنا سبيل إلى معرفة ما نريد بيانه.

فإذا أخذنا الجسم جوهرا ذا طول و عرض و عمق من جهة ما له هذا الشرط، و يشترط (12)أنّه ليس داخلا فيه معنى غير هذا،و بحيث لو انضمّ إليه معنى غير هذا،مثل حسّ أو تغذّ أو غير ذلك،كان خارجا عن الجسميّة و محمولا في الجسميّة و مضافا إليها (13)،فالجسم مادّة.

ص:38


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 6/2-7،الفصل الأول من المقالة الأولى من الفنّ السادس.
2- في المصدر:أن يقال لها أيضا...
3- تحصّلها...
4- أو غير البسيط...
5- المركّبة الذوات...
6- منها...
7- الفصل البسيط لما هو كماله...
8- -الشفاء- [2]الإلهيّات213/-216. [3]
9- قد يقال له إنّه...
10- فلننظره...
11- فهنالك...
12- هذا،و بشرط أنّه ليس داخلا...
13- كان معنى خارجا عن الجسميّة،محمولا في الجسميّة،مضافا إليها.

فإن (1)أخذنا الجسم جوهرا ذا طول و عرض و عمق،بشرط أن لا نتعرّض (2)بشرط آخر البتّة،و لا نوجب أن يكون (3)جسميّته لجوهريّة مصوّرة (4)بهذه الأقطار فقط،بل جوهريّته (5)كيف كانت و لو مع ألف معنى (6)لخاصّيّة تلك الجوهرية و صورة (7)و لكن معها و فيها (8)الأقطار.فللجملة أقطار ثلاثة على ما هي للجسم،و بالجملة أي مجتمعات تكون بعد أن تكون جملتها جوهرا ذا أقطار ثلاثة،تكون (9)تلك المجتمعات-إن كانت هناك مجتمعات-داخلة في هويّة ذلك الجوهر،لا أن تكون تلك الجوهريّة تمّت بالأقطار،ثمّ عرضت (10)تلك المعاني خارجة عن الشيء الذي قد تمّ،كان هذا المأخوذ و هو الجسم (11)الذي هو الجنس.

فالجسم بالمعنى الأوّل،إذ هو جزء من الجوهر المركّب من الجسم و الصّورة التي بعد الجسميّة التي بمعنى المادّة،فليس بمحمول،لأنّ تلك الجملة ليست بمجرّد جوهر ذي طول و عرض و عمق فقط.

و أمّا هذا الثاني،فإنّه محمول على كلّ مجتمع من مادّة و صورة،واحدة كانت أو ألفا، و فيها الأقطار الثلاثة،فهو إذن محمول على المجتمع من الجسميّة(التي كالمادّة)و من النّفس،لأنّ جملة ذلك جوهر،و إن اجتمع من معان كثيرة،فإنّ تلك الجملة موجودة لا في موضوع،و تلك الجملة جسم لأنها جوهر،و هو جوهر له طول و عرض و عمق.

و كذلك (12)الحيوان إذا اخذ حيوانا بشرط أن لا يكون في حيوانيّته إلاّ جسميّة و تغذّ و حسّ،و أن يكون ما بعد ذلك خارجا عنه،فربّما كان لا يبعد أن يكون مادّة للإنسان أو موضوعا و صورته النّفس الناطقة،و إن اخذ بشرط أن يكون جسما بالمعنى الذي يكون به الجسم جنسا،و في معاني ذلك الجسم على سبيل تجويز الحسّ و غير (13)ذلك من الصّور،و لو كان[وجود]النطق أو فصل يقابل النطق غير متعرّض لرفع شيء منها أو وضعه،بل مجوّزا وجود أيّ ذلك كان في هويّته،و لكن كان هناك معها بالضرورة قوّة

ص:39


1- في المصدر:و إن...
2- لا يتعرّض...
3- لا يوجب أن تكون...
4- متصوّرة...
5- جوهريّة...
6- معنى مقوّم لخاصيّة...
7- و صوره...
8- أو فيها...
9- و تكون...
10- ثم لحقت تلك...
11- المأخوذ هو الجسم...
12- و كذلك فإنّ الحيوان...
13- لا غير ذلك.

تغذية و حسّ و حركة ضرورة،و لا ضرورة في أن لا يكون غيرها أو يكون،كان حيوانا بمعنى الجنس.

و كذلك فافهم الحال في الحسّاس و الناطق،فإن اخذ الحسّاس جسما أو شيئا له حسّ،بشرط أن لا يكون زيادة اخرى،لم يكن فصلا،و إن كان جزءا من الإنسان، و كذلك (1)الحيوان،فإنّ الحيوان غير محمول عليه،و إن اخذ جسما أو شيئا مجوّزا له و فيه و معه،أي الصور و الشرائط كانت بعد أن يكون فيها حسّ،كان فصلا،و كان الحيوان محمولا عليه.

فإذن ايّ معنى أخذته ممّا يشكل الحال في جنسيّته أو مادّيّته (2)،فوجدته قد يجوز انضمام الفصول إليه أيّها كان على أنّها منه و فيه (3)،كان جنسا.

و إنّ أخذتها (4)من جهة بعض الفصول،و تمّمت به المعنى و ختمته،حتّى لو دخل شيء آخر لم يكن من تلك الجملة،بل مضافا من خارج،لم يكن جنسا،بل مادّة.

و إن أو جهت لها تمام المعنى،حتّى دخل فيه ما يمكن أن يدخل،صار نوعا.

و إن كنت في الإشارة إلى ذلك المعنى،لا تتعرّض لذلك،كان جنسا.فإذن باشتراط أن لا تكون زيادة يكون (5)مادّة،و باشتراط أن تكون زيادة يكون نوعا،و إن (6)لا تتعرض لذلك،بل يجوّز أن يكون كلّ واحد من الزّيادات على أنّها داخلة في جملة معناه،يكون جنسا،و هذا إنّما يشكل فيما ذاته مركّبة،و أمّا فيما ذاته بسيطة،فعسى أنّ العقل يفرض فيه هذه الاعتبارات في نفسه،على النحو الذي ذكرناه قبل هذا الفصل.و أمّا في الوجود، فلا يكون منه شيء متميّز هو جنس و شيء هو مادّة.انتهى كلامه.

ثمّ إنّه حقّق الكلام في بيان تقدّم بعض هذه الاعتبارات على بعض،و حاصله أنّ الجسميّة مثلا بمعنى المادّة متقدّمة في بعض وجوه التصوّر،بل بالذات أيضا على الحيوانيّة،و بمعنى الجنس متأخّرة عنها كذلك،و بهذا المعنى متأخّرة عن أنواع الحيوان أيضا كذلك،بل الحيوانيّة أيضا بهذا الاعتبار متأخّرة عن أنواعه،و بالاعتبار الأوّل

ص:40


1- في المصدر:و كذلك فإنّ الحيوان غير محمول...
2- مادّيّته من هذه فوجدته...
3- فيه و منه...
4- أخذته...
5- تكون...
6- و بأن.

متقدّمة عليها،و كذلك حال كلّ على جنس و نوع.انتهى بخلاصته.

و أقول:إنّ توضيح ما ذكره و تحريره،أنّا إذا أخذنا الجسم مثلا،مجرّد أنّه جوهر ذو طول و عرض و عمق من جهة ما له هذا المعنى،أي مركّبا من الهيولى الاولى و الصّورة الجسميّة المنفرضة فيها تلك الأقطار الثلاثة،و أخذناه بالنسبة إلى هذا المعنى بشرط شيء و شيئا محصّلا،لم يبق له تحصّل منتظر،و تمّمنا حقيقته و ختمناها به.ثمّ أخذناه بالنسبة إلى غير هذا المعنى من المعاني التي يمكن أن تدخل فيه أيّ معنى كان بشرط لا شيء،أي أنّه يشترط أنّه ليس داخلا فيه معنى غير هذا،أو أنّه بحيث لو انضم إليه و زيد عليه معنى غير هذا،مثل حسّ و تغذية أو غير ذلك من المعاني،كان ذلك المعنى الزائد خارجا عن الجسميّة و مضافا إليها زائدا عليها،كان الجسم المأخوذ بهذا الاعتبار مادّة؛أي مادّة خارجيّة بالمعنى الأخصّ،بالقياس إلى ما اعتبر مضافا إليه زائدا عليه و جزءا خارجيّا بالنسبة إلى المجموع المركّب منه،و ممّا اعتبرنا زائدا عليه متقدّما عليه في الوجودين؛ و علّة مادّية بالنسبة إليه،و غير محمول لا على ذلك المجموع،و لا على ما اعتبر زائدا عليه.

أمّا كونه مادّة كذلك،فلأنّ قياس إلى ما يمكن أن يؤخذ معه مضافا إليه،قياس المادّة الخارجيّة المقابلة إلى الصورة المقبولة التي يمكن اعتبار إضافتها إليها،و جعلها إيّاها شيئا محصّلا غير ما كان أوّلا.

و أمّا كونه جزءا خارجيّا بالنسبة إلى المجموع المركّب منه،و ممّا اعتبر زائدا عليه، فلأنّه حيث فرض متحصّلا باعتبار ما أخذ داخلا فيه و ختم معناه به،يكون موجودا بوجود مغاير لوجود المجموع.و كذا لوجود الجزء الآخر المضاف إليه.و حيث اخذ جزءا لهذا المجموع و موجودا بوجود مغاير،فيكون جزءا خارجيّا.و يلزم كونه متقدّما عليه في الوجود الخارجيّ و الذهنيّ،كما هو شأن الأجزاء الخارجيّة،و يكون أيضا علّة مادّيّة له،حيث أنّ وجود ذلك المجموع إذا كان مسبّبا عن وجود جزئيه،و أحدهما(و هو الجسم بهذا الاعتبار)مادّة للجزء الآخر الذي بمنزلة الصّورة أو هو الصّورة،كان الجسم علّة

ص:41

مادّيّة له.

و أمّا كونه غير محمول على المجموع و على ذلك الزائد،فلأنّ مناط الحمل-على ما هو التحقيق-هو الاتّحاد في الوجود،و هذا منتف هنا،إذ المفروض كون الجسم بهذا الاعتبار متحصّلا في نفسه،موجودا بوجود مغاير لوجود المجموع و لوجود ذلك الأمر الزائد.

أ ليس من المستبين أنّ الجسم المأخوذ بهذا الاعتبار،إنّما هو مجرّد أنّه جوهر ذو أقطار ثلاثة،بشرط أن لا يدخل فيه معنى آخر،و أنّ كلّ جملة من المجتمعات من الجسم بهذا المعنى و ممّا اعتبر زائدا عليه لو لوحظ مجتمعا معه،ليست مجرّد أنّه ذو طول و عرض و عمق،بل هذا مع شيء آخر زائد عليه.و كذا ليس ما اعتبر زائدا عليه نفس كونه مجرّد أنّه ذو أقطار ثلاثة،بل بمعنى آخر،لا يصدق أحدهما على الآخر.

ثمّ إنّا لو أخذنا الجسم جوهرا ذا طول و عرض و عمق،و أخذناه بالنسبة إلى ما سوى هذا المعنى من المعاني التي يمكن أن تؤخذ معه لا بشرط شيء،أي بشرط أن لا نتعرّض لشرط آخر معه أو فيه نفيا و لا إثباتا،و لا نوجب أن يكون جسميّته لجوهريّة مصوّرة بهذه الأقطار فقط،بل نجوّز كون تلك المعاني داخلة في معناه،أعني أن نجوّز كون جوهريّته جوهريّة كيف كانت،و لو مع ألف معنى من تلك المعاني،و ألف صورة من الصّور،يكون ذلك المعنى المأخوذ مقوّما لخاصيّة جوهريّة الجسم المأخوذ أوّلا،و تلك الصّورة المأخوذ بحيث يكون فيها أو معها تلك الأقطار أيضا،أعني أن يكون للجملة من المجتمع من الجسم و من ذلك المعنى و تلك الصورة،أقطار ثلاثة أيضا على ما هي للجسم المأخوذ أوّلا.و أن يكون كلّ جملة من تلك المنضمّات إليه المجتمعات معه،إن كانت هناك مجتمعات،بعد أن تكون كلّها جوهرا ذا أقطار ثلاثة،داخلة في هويّة جوهريّة الجسم،لا أن تكون جوهريّته تمّت بالأقطار الثلاثة ثمّ عرضت تلك المعاني خارجة عن الشيء الذي تمّ،أي عن حقيقة الجسم.أعني أن لا نختم جوهريّة الجسم بكونه ذا أقطار ثلاثة و لا نتمّ معناه به،حتّى يكون ما يمكن أن يؤخذ معه بعد ذلك خارجا عن حقيقته،

ص:42

بل أن نأخذه مع تحصّله في الجملة على هذا الوجه،بحيث يبقى له تحصّل منتظر،يكون ذلك التحصّل المنتظر بتلك المعاني و الصور التي يمكن أن تؤخذ معه.

و بالجملة إنّا لو أخذنا الجسم المأخوذ من حيث هو هو،من غير اشتراط قيد وجوديّ أو عدميّ غير ما اخذ معه أوّلا،مع تجويز كونه مع قيد من القيود التي يمكن أن تؤخذ معه،أو مع عدم ذلك القيد؛و مع احتمال صدقه على المأخوذ مع القيد و على المأخوذ مع عدمه؛و أخذناه غير متحصّل في نفسه التحصّل المطلوب الباقي المنتظر عند العقل،و قابلا لأن يكون مشتركا بين أشياء متخالفة المعاني،بان يكون عين كلّ منها؛ و إنّما يتحصّل بما ينضاف إليه ذلك التحصّل المطلوب،و يصير به أحد تلك الأشياء،فعلى هذا الاعتبار يكون الجسم المأخوذ بهذا الوجه جنسا،أي طبيعة مبهمة ناقصة غير محدودة و غير كاملة،يكون تحصّله المنتظر المطلوب حصوله و كذا تماميّته و كماله بذلك المعنى الآخر المأخوذ معه،كما هو شأن الجنس.

و كذا يكون هو محمولا على كلّ مجتمع من مادّة و صورة،واحدة كانت أو ألفا، و فيها أو معها الأقطار الثلاثة،أي على كلّ مجتمع من الجسم المأخوذ أوّلا و من صورة هي بعد تلك الجسميّة كالنفس،نباتيّة كانت أم حيوانيّة،أو غير النّفس من الصور التي هي الطبائع.

و كذا يكون هو محمولا على تلك المجتمعات معه،و المنضمّات إليه؛فإنّ مناط الحمل هو الاتّحاد في الوجود و هو حاصل هنا،إذ لا يكون الجسم المأخوذ على هذا الوجه موجودا بوجود مغاير لوجود ذلك الأمر المجتمع معه المنضمّ إليه،و لا لوجود المجموع،بل يكون هو و ما يعتبر معه موجودا بوجود واحد.

أ ليس من المستبين أنّه يصدق على كلّ جملة من تلك المجموعات،أنّها جوهر ذو أقطار ثلاثة؟و أنّها موجودة لا في موضوع،و إن صدق هنا معنى آخر أيضا؟و كذلك يصدق على كلّ من تلك الامور المجتمعة معه أنّه موجود لا في موضوع،و أنّه جوهر ذو أقطار ثلاثة أعمّ من أن تكون تلك الأقطار الثلاثة فيه أو معه؛فإنّ فرض الأقطار الثلاثة

ص:43

قد يكون في شيء كالصّورة الجسميّة و نحوها،و قد يكون معه كالنّفس مثلا،أي بعض أقسامها،و بالجملة فيصدق عليه هذا المعنى،و إن صدق هنا معنى آخر أيضا.

و كذا يكون الجسم بهذا الاعتبار جزءا عقليّا للمجموع المركّب منه و من ذلك الأمر الآخر المقوّم له،أي النوع الذي هو عبارة عن مجموع الأمرين العقليين من حيث إنّهما متّحدان في الوجود الخارجيّ.

و إن شئت قلت:إنّه عبارة عن الجسم بشرط شيء،أي بشرط دخول ذلك الأمر الآخر المقوّم في حقيقته،بحيث كان أمرا محصّلا في نفسه،باعتبار أخذ ذلك الأمر الآخر معه،و لم يبق له تحصّل منتظر.

و إن شئت قلت:إنّه عبارة عن ذلك الأمر الآخر،بشرط دخوله في حقيقة الجسم، و جعله له شيئا محصّلا كذلك.

فإنّ مآل الجميع إلى أمر واحد يسمّى بالنّوع،كما سيجيء الإشارة إليه.

و بالجملة،فالجنس يكون جزءا عقليّا بالنسبة إلى النوع،مقدّما عليه في الوجود العقليّ،و بحسب ملاحظة العقل،كالجزء الآخر المسمّى بالفصل؛حيث يقال للجنس أو للفصل:إنّه جزء من النوع،لأنّ كلاّ منهما يقع جزءا من حدّه،و يكون متقدّما عليه عند ملاحظة العقل صورة مطابقة لنوع داخل تحت جنس نوعا من التقدّم،كالتقدّم بالطبع.

و أمّا بحسب الوجود،فهذان الجزءان-و خصوصا الجنس-متأخّر عنه،لأنّه ما لم يوجد الإنسان مثلا،لم يعقل له شيء يعمّه و شيء يخصّه و يحصّله معنى متحصلا بالفعل.

و هذا الذي ذكرنا إنّما هو تصوير كون الشيء مادّة باعتبار،و جنسا باعتبار آخر في الجسم.

و أمّا تصويره في غير الجسم كالحيوان مثلا،فبأن يقال:الحيوان إذا أخذ حيوانا بشرط أن لا يكون في حيوانيّته إلاّ جسميّة و تغذّ و حسّ،و أن يكون ما بعد ذلك خارجا عنه،أي إذا اخذ بالنسبة إلى ما هو داخل في حيوانيته بشرط شيء،و بالنسبة إلى ما بعد ذلك من المعاني التي يمكن أخذها معه بشرط لا شيء،فربّما كان لا يبعد أن يكون مادّة

ص:44

للإنسان أو موضوعا،و صورته النّفس الناطقة،أي ينبغي أن يكون الحيوان المأخوذ بهذا الاعتبار مادّة للإنسان،كالجسم المأخوذ بهذا الاعتبار.

و إنّما يجزم به الشيخ هنا على ما يشعر به قوله:«فربّما كان لا يبعد»-إلى آخره-كما جزم به في الجسم،لأنّ القياس و إن كان يقضي أن يكون الحيوان المأخوذ بهذا الاعتبار مادّة بالمعنى الأخصّ،و أن يكون المأخوذ معه خارجا عن حقيقته صورة بالمعنى الأخصّ أيضا،أي صورة مقارنة للمادّة كما في صورة فرض الجسم مادّة،لكنّه غير ظاهر في الحيوان بالنسبة إلى الإنسان،لأنّ ما يؤخذ مع الحيوان حينئذ بشرط لا شيء هو النفس الناطقة،و هي ليست بصورة مقارنة للمادّة بل مفارقة عنها،فليس الحيوان أيضا إذا فرض مادّة لها،مادّة بالمعنى الأخصّ بالنسبة إليها،كما أنّ تلك الصورة ليست صورة مقارنة للمادّة.

فلذلك قال الشيخ فيما نقلنا عنه في مقام تحديد النّفس (1):«إنّ ما كان (2)من الكمال مفارق الذّات لم يكن بالحقيقة صورة للمادّة و في المادّة،فإنّ الصورة التي هي في المادّة، هي الصورة المنطبعة فيها القائمة بها،اللّهمّ إلاّ أن يصطلح فيقال لكمال النوع:صورة النوع.»

و حيث كان الأمر كذلك،لم يجزم به الشيخ هنا،بل قال على سبيل الاحتمال«فربّما كان لا يبعد أن يكون مادّة للإنسان أو موضوعا و صورته النفس الناطقة»أي فربّما كان لا يبعد أن يكون مادّة للإنسان أو موضوعا بالمعنى الأعمّ المتناول لما نحن فيه،يعنى إن أطلقنا المادّة عليه،أطلقناها و أردنا بها المعنى الأعمّ الذي يشمل ما يتعلّق به شيء آخر نوعا من التعلّق،كالبدن بالنسبة إلى النفس المجرّدة المتعلّقة به،و إن لم يصحّ إطلاق المادّة عليه أطلقنا الموضوع عليه،و أردنا به هذا المعنى الأعمّ أيضا،و على التقديرين،لو صحّ إطلاق الصورة على ذلك الأمر الزائد الآخر-و هو هنا النّفس الناطقة-و لو لم يكن

ص:45


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 7/2،الفصل الأوّل من المقالة الأولى من الفنّ السادس.
2- في المصدر:فما كان من الكمال.

الإطلاق على سبيل الحقيقة،بل على نوع من التجوّز،أو على سبيل الاصطلاح،أطلقنا الصّورة على النّفس و إن لم يصحّ الإطلاق،قلنا انّها كالصورة.و بالجملة أردنا بها أنّها ليست كالفصل بالنسبة إلى الجنس.

و هذا كما أنّ القياس يقتضي أن يصحّ اعتبار النوع أيضا-كالإنسان-بشرط لا شيء بالنسبة إلى ما يؤخذ معه مشخّصا له،أو كالمشخّص،و الأمارة للتشخّص،أي الأعراض الحالّة فيه.إلاّ أنّه لا يخفى أن ليس الإنسان بالنّسبة إلى تلك الأعراض مادّة بالمعنى الأخصّ،بل موضوعا لها،كما أنّ تلك الأعراض ليست بصورة بمعنى الأخصّ،فتدبّر.

ثمّ إنّا لو أخذنا الحيوان بالاعتبار الذي أخذنا الجسم بذلك الاعتبار جنسا،كان هو أيضا جنسا،أي لو أخذنا الحيوان،مع أخذه بالنّسبة إلى ما يدخل في حيوانيّته،كالجسميّة و التغذّي و الحسّ،بالنسبة إلى ما بعد ذلك من المعاني،كالنطق و ما يقابل النطق لا بشرط شيء،بمعنى أن لا نتعرّض لرفع شيء من تلك المعاني الأخر أو لوضعه،بل نجوّز وجود أيّ معنى من تلك المعاني داخلا في هويّة الحيوان،مقوّما لحقيقته،محصّلا له شيئا آخر متحصّلا منتظرا،بعد أن كان متحصّلا في الجملة،و مبهما غير محدود،بحسب ذلك التحصّل الباقي المنتظر.أي نجوّز كون الحيوان مع كونه ممّا يدخل بالضرورة في حقيقته الجسميّة،و قوّة التغذية و الحسّ و الحركة،بحيث يمكن أن ينضمّ إليه ما يحصّله شيئا آخر،و يقوّمه كالنطق و مقابله،و بحيث لا ضرورة هنا في ذلك.

و الحاصل أن لا نختم معنى الحيوان بما يدخل في حقيقته،و لا نجعل ما يمكن أن ينضمّ إليه من الأمر المقوّم المحصّل له خارجا عنه البتّة،بل نجوّز مع ذلك انضمامه إليه، و تحصيله إيّاه و تقويمه له،فحينئذ يكون الحيوان حيوانا بمعنى الجنس،كما أنّه إذا اخذ الحيوان بشرط شيء،أي بشرط دخول الأمر الآخر المنضمّ إليه في حقيقته،و كونه أمرا محصّلا في نفسه،و لم يبق له تحصّل منتظر كان نوعا.

و هذا الذي ذكرنا،هو اعتبار كون الشيء الواحد مادّة أو جنسا؛و منه يعلم اعتبار كون الشيء الواحد صورة أو فصلا،حيث يعلم منه أنّه بالاعتبار الذي يؤخذ الشيء به

ص:46

مادّة إذا أخذنا ما يمكن أن ينضمّ إليه أيضا يكون صورة،و بالاعتبار الذي يؤخذ الشيء جنسا إذا أخذ به ما يمكن أن ينضمّ إليه يكون فصلا.

و كما أنّه إذا اخذ الشيء بشرط لا شيء،و بشرط أن لا يدخل في حقيقته ذلك الأمر الزائد،بل أن يكون خارجا عنه،يؤخذ ذلك الأمر الزائد أيضا بشرط لا شيء،أي بشرط أن لا يدخل هو في حقيقة ذلك الشيء،بل أن يكون خارجا عنه.و حينئذ يكون ذلك الشيء مادّة،و ذلك الأمر الزائد صورة؛و يكونان موجودين بوجود على حدة،أي متغايرين بحسب الوجود الخارجيّ،و مغايرا كلّ منهما للآخر بحسبه و للمجموع المركّب الذي هو شيء آخر غيرهما في الخارج.

و كما أنّه إذا اخذ الشيء لا بشرط شيء بالنسبة إلى ذلك الأمر الزائد،و مع تجويز دخوله فيه و تحصيله له،فيكون الأوّل جنسا و الثاني فصلا منوّعا،كما أنّه يكون ذلك الأمر الزائد،بشرط أخذه داخلا في حقيقة الجنس و تقوّمه به نوعا،و هو عبارة عن المجموع باعتبار كونه متّحدا مع جزئيه في الوجود،و كون الجزءين متّحدين معا فيه؛ و بالجملة فيكون كلّ من الجزءين و المجموع متّحدا في الوجود الخارجيّ؛فحينئذ ينبغي أن يكون معنى ما أطلقوه على بعض الصور،أنّها صورة نوعيّة،أي محصّلة نوعا،لكن لا باعتبار ما يطلق عليها الصورة؛فإنّه حينئذ لا يكون المجموع نوعا،بل باعتبار ما يطلق عليها الفصل المنوّع.إلاّ أنّه حيث كانت الذات واحدة،أطلقوا على تلك الذات،التي هي صورة باعتبار أنّها نوعيّة،و إن كان ذلك باعتبار كونها فصلا.

و تصوير الفرق بين الصورة و الفصل في ضمن المثال:أنّ الحسّاس-مثلا-إذا اخذ بشرط لا شيء،أي اخذ جسما و شيئا له حسّ،بشرط أن لا يكون هنا زيادة اخرى،أي أن لا يدخل في حقيقة الحيوان أو الإنسان،بل يكون خارجا عن حقيقتهما،كما أنّ الحيوان و الإنسان قد اخذا حينئذ على أن يكون الحسّاس خارجا عن حقيقتهما،لم يكن فصلا لهما،و إن كان جزءا لهما،أي جزءا خارجيّا و صورة لهما،لعدم حصول الاتّحاد في الوجود الذي هو مناط الحمل،و صدق أحدهما على الآخر؛فإنّه بهذا الاعتبار لا يمكن أن

ص:47

يحمل الحيوان أو الإنسان على الحسّاس،و لا الحسّاس عليهما،و لا على المجموع المركّب من الجزءين،بل يكونان موجودين بوجود مغاير،كما هو شأن الصّورة و الجزء الخارجيّ.

و أمّا لو اخذ الحسّاس لا بشرط شيء،اخذ جسما أو شيئا له الحسّ،و مجوّزا له أو فيه أو معه،أيّ الصّور و الشرائط كانت،أي أن يكون هو داخلا في حقيقة الحيوان أو الإنسان،بعد أن يكون في تلك الصور و الشرائط حسّ؛كان حينئذ فصلا لهما،أي فصلا مقوّما للحيوان بالذات،و للإنسان بواسطة دخول الحيوان في حقيقته،و كان هو محمولا عليهما،كما أنّهما محمولان عليه لحصول مناط الحمل،و هو الاتّحاد في الوجود،و كان المجموع-أعني مجموع المقوّم و المتقوّم به-نوعا،و كذلك المتقوّم به بشرط دخول المقوّم فيه.و كذا المقوّم بشرط دخوله في المتقوّم به،و كان هو-أي النوع أيضا-متّحدا مع هذين في الوجود اتّحادا هو منشأ الحمل.

و كذلك الناطق مع أخذه شيئا له النطق،إذا اخذ بشرط لا شيء؛أي بشرط أن لا يدخل في حقيقة الإنسان مقوّما له،و لا في حقيقة الحيوان محصّلا إيّاه نوعا محصّلا،بل أن يكون خارجا عنهما،لم يكن فصلا و إن كان جزءا خارجيّا و صورة.و إن اخذ لا بشرط شيء،أي إن اخذ مع أخذه شيئا له النطق،مجوّزا له أو فيه أو معه أن يكون داخلا في حقيقة الإنسان مقوّما له،و فى حقيقة الحيوان محصّلا له نوعا كان فصلا،أي فصلا مقوّما للإنسان و فصلا مقسّما للحيوان،و كان يتحقّق الحمل بينها للاتّحاد في الوجود.

و من هذه الجملة يعلم كيفيّة أخذ الشيء نوعا،حيث يعلم أنّه إن اخذ المعنى الجنسيّ بشرط أخذ الفصل معه منضمّا إليه،أو اخذ المعنى الفصليّ بشرط أخذه مع الجنس،أي أخذ مجموع الأمرين،يكون الحاصل حينئذ نوعا.

فالملخّص إذن،أنّ أيّ معنى أخذته ممّا يشكل الحال في جنسيّته أو مادّيّته،فوجدته قد يجوز انضمام الفصول إليه-أيّها كان-على أنّها منه و فيه،كان جنسا و المضاف فصلا.

ص:48

و إن أخذتها (1)من جهة بعض الفصول و تمّمت به المعنى و ختمته حتّى أنّه لو دخل شيء آخر لم يكن من تلك الجملة،بل مضافا من خارج،لم يكن جنسا،بل مادّة،و المضاف صورة أو كالصّورة.و إن أوجبت لها تمام المعنى،حتّى أنّه دخل فيه ما يمكن أن يدخل صار نوعا،و إن كنت في الإشارة إلى ذلك المعنى لا تتعرّض لذلك،كان جنسا.فإذن باشتراط أن لا تكون زيادة،يكون مادّة؛و باشتراط أن تكون زيادة،يكون نوعا،و إن لم (2)يتعرّض لذلك،بل يجوّز أن يكون كلّ واحد من الزيادات،على أنّها داخلة في جملة معناه،يكون جنسا.

و يعلم من هذه الجملة أنّ هذه الاعتبارات الخمسة المذكورة،أي اعتبار كون الشيء مادّة و صورة و جنسا و فصلا و نوعا،يمكن في جميع مراتب وجود الجسم إلاّ في بعض مراتبه،فإنّه يمكن ذلك في صورة أخذ الجسم مركّبا من الهيولى و الصّورة الجسميّة،ثمّ أخذه بالنسبة إلى ما بعد ذلك،كالصّورة النوعيّة للبسائط من الأجسام بشرط لا شيء،و لا بشرط شيء،أو بشرط شيء؛و كذا في صورة أخذه مع الصّورة النوعيّة للبسائط،ثمّ أخذه بالنسبة إلى الصورة النوعيّة للمركّبات مطلقا بالاعتبارات المذكورة.و كذا في صورة أخذه مع الصورة النوعيّة للمركّبات،ثمّ أخذه بالنسبة إلى النفس النباتيّة بهذه الاعتبارات.

و كذا في صورة أخذه مع النّفس النباتيّة،ثمّ أخذه بالنسبة إلى النفس الحيوانيّة بهذه الاعتبارات.و كذا في صورة أخذه مع النفس الحيوانيّة،ثمّ أخذه بالنسبة إلى النفس الإنسانيّة بهذه الاعتبارات.إلاّ أنّه في هذه الصورة،و إن أمكن كون المأخوذ-أي الحيوان -جنسا،و النّفس الإنسانيّة فصلا،و المجموع نوعا؛لكنّه لا يظهر كونه مادّة بالمعنى الأخصّ،و كون النّفس صورة بالمعنى الأخصّ،أي الصّورة المقارنة للمادّة،إلاّ على نوع من التعميم،أو على سبيل الاصطلاح؛كما عرفت بيانه.

و بالجملة،فهذه الاعتبارات يمكن فرضها في جميع تلك المراتب،سواء كان

ص:49


1- -أخذته خ ل.
2- -لا خ ل.

الجنس جنسا عاليا أو متوسّطا أو سافلا،و سواء كان النوع نوعا عاليا أو سافلا أو متوسّطا،و سواء كان الفصل قريبا أم بعيدا،و سواء كانت الصورة صورة البسائط أو صورة المركّبات أو نفسا.

غير أنّ هذه الاعتبارات الخمسة،لا يمكن فرضها في الهيولى الاولى بالنسبة إلى الصورة الجسميّة،فإنّه في هذه الصورة،و إن امكن اعتبار كون الهيولى الاولى مادّة، و الصورة الجسميّة صورة،لكنّه لا يمكن اعتبار كون تلك المادّة جنسا،و تلك الصورة فصلا،و المجموع نوعا،لأنّ المعتبر في الجنس أن يكون له-أوّلا-طبيعة محصّلة في الجملة،ثمّ ينتظر له تحصّل آخر يكون هو بالفصل،و الهيولى الاولى ليس لها تحصّل أصلا،بل هي بالقوّة المحضة،فلا يمكن اعتبارها جنسا،و إذا لم يمكن ذلك،فلم يمكن اعتبار الصورة الجسميّة فصلا أيضا،و لا اعتبار المجموع نوعا.

فعلى هذا،فما ذكره القوم:من أنّ الطبيعة الجسميّة طبيعة نوعيّة،لعلّهم-كما يدلّ عليه كلامهم في ذلك المقام-لم يريدوا به أنّها نوع كسائر الأنواع،بل أرادوا به أنّها طبيعة واحدة محصّلة متّفقة في الحقيقة،كالطبيعة النوعيّة.

و غير أنّ هذه الاعتبارات لا يمكن فرضها في النوع الأخير،كالإنسان بالنسبة إلى الأعراض الحالّة فيه،مشخّصة كانت أم غير مشخّصة،فإنّه ليس الإنسان بالنسبة إليها مادّة بالمعنى الأخصّ،بل موضوعا؛و لا تلك الأعراض صورة بمعنى الصورة التي يكون تحصّل المحل و تقوّمه بها،بل عرضا يتقوّم بالمحل.و كذلك لا يمكن أن يكون الإنسان جنسا،حيث إنّ المعتبر في الجنس كونه طبيعة تامة من وجه،ناقصة من وجه آخر،مبهمة يبقى لها تحصّل منتظر و تماميّة بحسب الإشارة العقليّة،يكون ذلك الجنس و تلك التماميّة بالفصل،و هو ليس كذلك؛فإنّه-حيث فرض نوعا أخيرا،كان تامّا متحصّلا-لم يبق له تحصّل منتظر بحسب الإشارة العقليّة،حتّى يكون تحصّل ذلك بالفصل،بل إنّما بقى تماميّته بحسب الوجود الشخصيّ و الإشارة الحسيّة،و تكون تلك التماميّة بالعوارض المشخّصة،و هذا لا يكون منشأ لإبهامه،و منافيا لتحصّله العقليّ.و إذ لم يمكن

ص:50

اعتباره جنسا،فلم يمكن اعتبار تلك الأعراض فصلا،و لا المجموع نوعا آخر،و كيف يمكن اعتبار ذلك نوعا آخر،مع أنّ المفروض كونه بدون تلك الأعراض نوعا أخيرا؟! هذا خلف.

و حيث عرفت ما ذكرنا،علم أنّ هذا الإشكال،في الفرق بين الجنس و المادّة و الصّورة و الفصل و النّوع،و الاشتباه بينها،الذي يكون رفعه بتلك الاعتبارات المذكورة إنّما يكون فيما ذاته مركّبة،أي في النّوع الجوهريّ الذي يكون ذاته مركّبة من مادّة و صورة،كالجسم و الحيوان،و أمّا فيما ذاته بسيطة غير مركّبة فيهما،كبعض الأنواع الجوهريّة،مثل العقل و النّفس،بل الهيولى الاولى أيضا و كأنواع الأعراض مطلقا،سواء كانت أنواعا عالية أو سافلة أو متوسّطة،فلا يقع فيه هذا الإشكال و الاشتباه،و لا يمكن فيه تلك الاعتبارات المذكورة من الجهة التى اعتبرت في الأنواع الجوهريّة المركّبة من مادّة و صورة،بل إنّ العقل عسى أن يفرض فيه هذه الاعتبارات في نفسه،على النحو الّذي ذكره الشيخ قبل هذا الفصل في بيان إمكان انتزاع امور متعدّدة مختلفة من ذات واحدة بسيطة،و أما في الوجود الواقعيّ،فلا يكون منه شيء متميّز في الواقع هو جنس، و شيء متميّز كذلك هو مادّة،و لا شيء متميّز هو فصل،و شيء متميّز هو صورة.

و توضيح ذلك:أنّ للعقل في تحديد العقل أو النّفس،بل الهيولى الاولى أيضا،أن يعتبر أنّه جوهر من شأنه كذا و كذا،فيعتبر الجوهر جنسا،بناء على أنّه جنس لما تحته من الجواهر.

و يعتبر قولنا:من شأنه كذا و كذا،فصلا محصّلا له نوعا متحصّلا،و يعتبر الجنس باعتبار كونه بشرط ذلك الفصل،أو الفصل بشرط دخوله في معنى ذلك الجنس نوعا متحصّلا.

و كذلك للعقل في تحديد أجناس الأعراض،كالكمّ و الكيف و الأين و غيرها،التي هي أنواع عالية باعتبار،إذا قلنا:إنّ معنى العرض جنس لما تحته من الأعراض،أن يعتبر أنّه عرض من شأنه كذا و كذا،فيعتبر العرض جنسا،و ما بعده من القيد أو القيود فصلا

ص:51

محصّلا،و المتحصّل نوعا.و كذلك له أن يعتبر في تحديد أنواعها التي هي أنواع لتلك الأجناس،و هي أنواع عند كلّ فريق من الحكماء،كالخطّ و السطح و الجسم التعليميّ، التي هي أنواع للمقدار و هو جنس لها؛بأن يقول:إنّ الخطّ مثلا هو مقدار متّصل من شأنه الانقسام في جهة،و إنّ السّطح هو مقدار متّصل من شأنه الانقسام في جهتين،و إنّ الجسم التعليميّ مقدار متّصل من شأنه الانقسام في الجهات الثلاث؛فيعتبر المقدار جنسا،و ما بعده فصلا و المتحصّل نوعا و كذلك له أن يعتبر في جميع هذه الفروض ما اعتبره جنسا مادّة،و ما اعتبره فصلا صورة،من حيث إنّه يمكن أن يعتبر الجنس مادّة،و الفصل صورة في الأنواع الجوهريّة المركّبة من المادّة و الصّورة،إلاّ أنّه لا يكون على هذا شيء متميّز في الخارج أو في الواقع هو جنس،و شيء متميّز مادّة،و لا شيء متميّز كذلك هو فصل، و شيء هو صورة؛بل كلّ هذه موجود واحد،و شيء غير متعدّد.و كيف يمكن التميّز و التعدّد و المفروض كون الذّات واحدة غير مركّبة من مادّة و صورة؟

فإن قلت:إذا أخذ العقل الجنس و الفصل من نفس ذات بسيطة،ثمّ اعتبرهما اعتبارا يكونان به مادّة و صورة،فيكون الانضمام حينئذ انضمام متحصّل بمتحصّل،و اقتران متميّز بمتميّز؛فيلزم من هذا أن يكون المأخوذ منه مركّبا خارجيّا،بناء على أنّ الامور المتغايرة و خصوصا المتباينة لا تطابق موجودا واحدا و ذاتا واحدة بسيطة.

قلت:ما ذكرنا مبنيّ على جواز انتزاع الامور المتباينة أو المتخالفة،و أخذ المعاني الكثيرة من ذات واحدة و بسيطة،و على أنّ الأخذ على هذا الوجه إنّما هو بمجرّد التعمّل العقليّ،و بمحض الاحتيال الذهنيّ،حيث إنّ البسيط لا مادّة له و لا صورة إلاّ بمجرّد اعتبار العقل،و على أنّ التركيب في الحدّ لا يوجب التركيب في المحدود،و إن كان الحدّ عين المحدود باعتبار،إذ التّفاوت بالإجمال و التفصيل،إنّما هو في الملاحظة لا في الملحوظ؛و لا مانع من ذلك كلّه،كما حقّق في موضعه.

و هذا الذي ذكرناه،إنّما هو تحرير ما نقلنا من كلام الشيخ في إلهيات الشفاء،و يتّضح به شرح ما قصدنا شرحه من عبارته في تحديد النفس هنا،حيث يتّضح منه أنّ معنى قوله:

ص:52

«و يصحّ أن يقال أيضا..إلى آخره»أنّه يصحّ أن يقال أيضا للنّفس،بالقياس إلى استكمال الجنس بها؛أي استكمال الجسم الذي هو متعلّق النفس،نباتيّة كانت أم حيوانيّة،بل إنسانيّة أيضا،إذا اخذ ذلك الجسم بالاعتبار الذي يكون به جنسا لا مادّة،كما يدلّ عليه كلامه فيما بعد أيضا،أي«في أنّ النّفس كمال لجسم طبيعيّ»إلى آخره-.

حيث قال (1):«و يجب أن يؤخذ الجسم بالمعني الجنسي لا بالمعنى المادّة (2)».

و بالجملة أن يقال لها،بالقياس إلى استكمال ذلك الجسم-الذي هو جنس باعتبار-بها، نوعا محصّلا في الأنواع العالية أو السافلة،كالجسم النامي و الحيوان و الإنسان:إنّها كمال؛ أي منشأ لحصول ذلك الكمال و التماميّة النوعيّة،لأنّ طبيعة الجنس بما هي جنس تكون ناقصة غير محدودة ما لم يحصّلها طبيعة الفصل البسيط،أي الفصل الذي هو جزء متميّز في الوجود،كما في الأنواع الجوهريّة المركّبة من المادّة و الصورة،و ما لم يحصّلها الفصل غير البسيط،أي الفصل الذي هو بمجرّد اعتبار العقل،من غير أن يكون جزءا متميّزا،كما في الأنواع البسيطة،حال كون ذلك الفصل البسيط أو غير البسيط منضافا إلى تلك الطبيعة الجسميّة الجنسيّة،محصّلا لها و مقوّما إيّاها.فإذا انضاف إليها،كمل النوع و تمّ؛فالفصل حينئذ كمال النوع بما هو ذلك النوع،سواء كان نوعا عاليا أم سافلا،و سواء كان نوعا إضافيّا أم حقيقيّا،و سواء كان بسيطا أم مركّبا.

و قد عرفت-أي بما ذكره في إلهيّات الشفاء كما نقلناه و حرّرناه-أن ليس لكلّ نوع فصل بسيط بالمعنى المذكور،بل إنّما هو للأنواع المركّبة من مادّة و صورة،و الصّورة منهما هو الفصل البسيط لما هو كماله،أي النوع.

و قد أشعر الشيخ بما ذكره،أنّ الفصل-و إن كان أعمّ من الصورة باعتبار أنّه يكون للنوع البسيط و غير البسيط جميعا-بخلاف الصورة فإنّها إنّما تكون للنوع المركّب من مادّة و صورة وحده،و أنّ الفصل حيث كان كمالا للنوع،كان كمالا للنوع البسيط

ص:53


1- -الشفاء-الطبيعيّات 10/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.
2- في المصدر:الماديّ.

و المركّب جميعا،و هذا يمكن وجها لأولويّة إطلاق الكمال في تحديد النفس،من إطلاق الصورة لعمومه و شموله لكلّ نوع،بخلاف الصورة،إلاّ أنّ ما نحن فيه لمّا كان من قبيل النوع المركّب،لم يمكن أن يكون ذلك وجها للأولويّة،بل الوجه فيها ما سيذكره بعد.

أمّا بيان أنّ الحال فيما نحن بصدده كذلك،مع بيان أنّ النّفس فيه فصل و كمال،فلأنّ كلامنا في النبات و الحيوان،و لا خفاء في أنّهما كذلك،حيث إنّهما بما هما نوعان مركّبان من مادّة-هي جسمهما إذا اخذ ذلك بالمعنى الذي يؤخذ به الشيء مادّة-و من صورة هي نفسهما إذا اخذت بالمعنى الذي يؤخذ به الشيء صورة.و لا يخفى أنّ إطلاق المادّة و الصّورة بالمعنى الأخصّ المراد في المركّب منهما،و إن لم يصحّ على جزئي الإنسان، أعني بدنه و نفسه المفارقة،لكنّه يصحّ على نوع من التعميم أو الاصطلاح أو التجوّز.

و الحاصل أنّه يصحّ الإطلاق على جزئيه أنّهما كالمادّة و الصورة،في أنّ بدنه جزء به يكون الإنسان بالقوّة كالمادّة،و أنّ نفسه جزء به يكون الإنسان إنسانا بالفعل كالصّورة، و كأنّه لذلك أطلق فيما قبل على جسم النّبات و الحيوان و بدنهما مطلقا-بحيث يشمل بدن الإنسان أيضا-أنّه جزء يكون به النّبات و الحيوان بالقوّة،و اطلق على النّفس النباتيّة و الحيوانيّة مطلقا-بحيث تشمل النفس الإنسانيّة أيضا-أنّها جزء يكونان به بالفعل.

فبالجملة،التركيب من المادّة و الصورة،أو من مثل المادّة و مثل الصورة،حاصل في النبات و الحيوان و الإنسان.

و لا خفاء أيضا في أنّ جسم النبات و الحيوان،الذي هو المادّة باعتبار،و كذا بدن الإنسان الذي هو كالمادّة،يمكن أن يؤخذ بالمعنى الذي يمكن أن يؤخذ به الشيء جنسا، و كذلك النفس النباتيّة و الحيوانيّة المقارنة للمادّة،اللّتان هما صورة النبات و الحيوان، و كذا النفس الانسانيّة المفارقة عنها،التي هي كالصّورة للانسان،يمكن أن تؤخذ بالمعنى الذي به يؤخذ الشيء فصلا،فتكون هي فصولا لها،فتكون منشأ لاستكمال أجناسها بها أنواعا محصّلة،و منشأ لحصول كمال تلك الأنواع،فتكون كمالا بهذا المعنى.

و هذا الذي ذكرنا مع ابتنائه على ما ذكر،يبتني أيضا على مقدّمة اخرى قد حقّقها

ص:54

الشيخ و غيره في موضعه هي:أنّ ما يعبّر به عن فصول النبات و الحيوان و الإنسان،كالنّامي و الحسّاس و الناطق،إنّما هي أمارات للفصول و علامات لها و تعبيرات عنها،و ليست هي بالفصول حقيقة؛إنّما الفصول بالحقيقة هي ما يصدق عليه تلك المشتقّات،و هي النّفوس لها.

و بيان ذلك على الإجمال،أنّه و إن كان المميّز للنبات-مثلا-عن غيره هو النّموّ، و المميّز للحيوان عن غيره هو الحسّ،و المميّز للإنسان عن غيره هو النطق،إلاّ أنّ هذه المعاني،التي هي مبادي اشتقاق النامي و الحسّاس و الناطق،ليست بمحمولة بالتواطؤ على ما فرضت هي مميّزات لها،أي النبات و الحيوان و الإنسان،إذ لا يقال:إنّ النبات نموّ، و لا الحيوان حسّ،و لا الإنسان نطق؛بل إنّما تحصل هذه بالتواطؤ،على ما ليست هي بفصول لها.كما يقال:نموّ هذا الشجر نموّ ذلك الشجر نموّ،و حسّ هذا الحيوان حسّ،و حسّ ذلك حسّ،و نطق زيد نطق،و نطق عمرو نطق.أو يقال:التزايد في الأقطار نموّ،و البصر و السمع حسّ،و إدراك الكليّ نطق،و نحو ذلك.

و لا يخفى أنّ المعتبر في الفصل المميّز،أنّ يكون محمولا بالمواطأة على ما هو فصل له،إذ قد عرفت أنّ الفصل ما كان متّحدا في الوجود مع الجنس و النوع،و هذا الاتّحاد يقتضي أن يكون هو محمولا على الجنس و النّوع بالمواطاة،و ليس الأمر في هذه المبادي للاشتقاق كذلك،بل إنّها تحمل على الجنس و النوع حملا بالاشتقاق،و هو ليس بمناط للفصليّة.

فظهر أنّ تلك المبادي ليست بفصول حقيقة،فلننظر في أنّ المشتقات منها،أي النّامي و الحسّاس و الناطق،هل يمكن أن تكون فصولا حقيقيّة أم لا؟

فنقول:إنّ لتلك المشتقّات مفهومات،و كذا ما يصدق تلك المفهومات عليه؛أمّا مفهوماتها،فهي عبارة عن شيء ما ثبت له النموّ و شيء ما ثبت له الحسّ،و شيء ما ثبت له النطق؛فتكون عبارة عن مفهوم الشيء مع نسبة ما إضافيّة إلى تلك المبادي للاشتقاق.

و لا يخفى أنّ شيئا من ذلك لا يصلح لكونه فصلا،لأنّ مفهوم الشيء مفهوم عرضيّ

ص:55

بالنسبة إلى ما يصدق هو عليه،لا ذاتيّ،كما هو البيّن و المبيّن في موضعه؛فكيف يمكن أن يكون فصلا،و الفصل يجب أن يكون ذاتيّا لما هو فصل له؟و أيضا مفهوم الشيء مفهوم عامّ يعمّ ما فرض هو فصل له و غيره؛و الفصل يجب أن يكون مختصّا بما هو فصل له.

و كذلك تلك النسبة الإضافيّة عرض متقوّم بطرفيها،أي الشيء و تلك المبادي للاشتقاق؛ فكيف يمكن أن تكون فصلا؟فإنّها لو كانت فصلا للأنواع الجوهريّة،لزم تقوّم الجوهر بالعرض،و هو محال.و قد عرفت أنّ تلك المبادي للاشتقاق،التي هي إحدى طرفي تلك النسبة،ليست بفصل،فليس شيء من أجزاء هذا المفهوم فصل.و ظاهر أيضا أنّه لا يمكن أن يكون المجموع المركّب من تلك الأجزاء فصلا،إذ ليس هنا سوى تلك الأجزاء أمرا آخر-من هيئة تركيبيّة أو نحوها-يصلح أن يكون فصلا-.

فظهر أنّ ليس تلك المفهومات فصلا،و بقي النظر فيما صدق عليه تلك المفهومات؛ فنقول:إنّ ما صدق عليه النامي مثلا،إن كان المراد به الجسم من حيث هو جسم،كان جنسا،فلم يكن فصلا.و إن كان المراد به الجسم النامي من حيث هو جسم،نام،كان نوعا، فلم يكن فصلا أيضا،و كذلك الحال في الحسّاس،فإنّه إن اريد به الجسم النامي.لم يكن فصلا بل جنسا،و إن كان المراد به الحيوان،كان نوعا،فلم يكن فصلا أيضا.و كذلك الحال في الناطق،فإنّه إن اريد بما صدق هو عليه الحيوان،كان جنسا،و إن كان المراد به الإنسان،كان نوعا،فلم يكن فصلا أيضا.فبقي أن يكون المراد بما صدق عليه تلك المفهومات أمر آخر وراء هذه،يمكن أن يكون فصلا،و هو الموصوف حقيقة بهذه المشتقّات،و بتوسّطه،أي بتوسّط اتّحاده مع ذلك الجنس و النوع،اتّصف الجنس و النوع بها،و صحّ الحمل بينها بالتّواطؤ،أي النفس النباتيّة للنبات،و الحيوانيّة للحيوان،و الناطقة للإنسان،التي بها امتازت هذه عمّن غيرها و تحصّلت و تقوّمت،و لا نعني بالفصل إلاّ هذا.

إيراد شبهة هنا و دفعها

لا يقال:إذا كان امتياز تلك الأنواع بتلك الفصول التي قلت إنّها تلك النفوس،فامتياز

ص:56

تلك النفوس مع أنّها واقعة تحت أعمّ المقولات البتّة بما ذا؟

لأنّا نقول:هذه شبهة لا اختصاص لها بهذا الموضع،بل واردة على كلّ فصل؛و حلّها أن يقال:إنّ امتياز تلك الفصول إنّما هو بذواتها و أنفسها،بفصول اخر.

و بيان ذلك أنّ امتياز تلك الفصول بفصول اخر،إنّما يلزم لو كانت أعمّ المقولات التي فرضتها مقولة على تلك الفصول قولا ذاتيّا،كقول الجنس على النوع،و ليس الأمر كذلك، بل قولها عليها قول عرضيّ،مثلا الحيوان و إن كان يقال على الإنسان و الناطق،إلاّ أنّ قوله على الإنسان قول ذاتيّ،بمعنى أنّه جنس له،و هو نوع له يحتاج في تميّزه عن غيره بفصل،و هو النّاطق.و قوله على الناطق ليس كذلك،فإنّه لو كان كذلك،لكان الناطق أيضا نوعا و الحيوان جنسا له أيضا،فيحتاج إلى فصل آخر،و هذا الفصل الآخر لو كان قول الحيوان عليه قولا ذاتيّا كذلك،فيحتاج إلى فصل آخر،و هكذا؛فيلزم التسلسل،و هو محال.

فبقي أن يكون قول الحيوان على الناطق قولا عرضيّا،و أن يكون امتياز الناطق عن غيره بذاته،من غير احتياج إلى فصل آخر يميّزه عن غيره،كما هو رأي الشيخ و كثير من الحكماء.

و إن شئت قلت:إن امتيازه عن غيره بذاته،و كذا بوجوده الخاصّ الذي هو متميّز بذاته،حتّى يستقيم أيضا على رأي من يجعل الفصل بالحقيقة هو الوجود الخاصّ،كما في المشخّص.و اللّه أعلم بحقيقة الحال.

ثمّ إنّ قول الشيخ (1)«ثمّ كلّ صورة كمال و ليس كلّ كمال صورة،فإنّ الملك كمال المدينة»إلى آخر ما ذكره بيان للفرق بين الصورة و الكمال،و أنّه إذا قلنا في تعريف النّفس«إنّها كمال»،كان أولى،حيث كان أدلّ على معناها المقصود منها؛و كان أيضا يتضمّن جميع أنواع النفس من جميع وجوهها النباتيّة و الحيوانيّة و الإنسانيّة،و لا يشذّ النفس المفارقة عن المادّة كالإنسانيّة عنه،بخلاف ما إذا قيل في تعريفها:«إنّها صورة»،

ص:57


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 7/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

ظاهره أنّه بيّن ذلك الفرق بوجهين،و فرّع على الأوّل منهما الأولويّة من جهة تضمّن جميع أنواع النفس،و على الثاني الأولويّة من جهة كونه أدلّ على معناها.

و بيان الأول:أنّه لا يخفى أنّ كلّ صورة كمال،أي أنّ كلّ صورة نوعيّة منطبعة في المادّة كمال،لأنّها ممّا يكمل بها ذو الصورة،سواء اعتبر كونها كمالا من جهة اعتبار كونها صورة،حتّى تكون كمالا للجملة منها و من المادّة،أو من جهة اعتبارها فصلا،حتّى تكون كمالا للنوع.

و بالجملة فالصورة كمال،و لا يخفى أيضا أن ليس كلّ كمال صورة كذلك،فإنّ الملك كمال المدينة،و الرّبان كمال للسفينة،من حيث إنّهما يتمّ بهما ما هو المقصود من المدينة و السفينة و يكمل معهما،و الحال أنّهما ليسا بصورتين كذلك للمدينة و السفينة،بل هما مفارقا الذات عنهما،و ما كان من الكمال مفارق الذات،لم يكن بالحقيقة صورة للمادّة و في المادّة،أي صورة بالمعنى المراد منها عند القوم؛فإنّ الصّورة بالمعنى المصطلح عليه هي الصورة المنطبعة في المادّة القائمة بها،و ظاهر أنّ الكمال المفارق الذات ليس كذلك،اللّهمّ إلاّ أن يصطلح و يقال لكمال النوع،و إن كان مفارق الذات:إنّه صورة النوع بالحقيقة.فظهر أنّ الكمال قد يكون صورة منطبعة في المادّة،و قد يكون مفارق الذات؛بخلاف الصورة فإنّها لا تكون مفارقة الذّات إلاّ بنوع من الاصطلاح.

و ظاهر أيضا أنّ النفس التي نحن بصدد تحديدها،أعمّ من المنطبعة و المفارقة،حيث إنّها أعمّ من النباتيّة و الحيوانيّة المنطبعتين،و من الإنسانيّة المفارقة.

فلو قلنا في تحديدها:إنّها صورة،و أردنا ما بها الكمال أيضا،لكانت مخصوصة بالاوليين خاصّة،بخلاف ما إذا قلنا:إنّها كمال،فإنّه حينئذ يشمل الجميع،أي جميع أنواع النفس من جميع وجوهها،و لا يشذّ النفس المفارقة للمادّة عنه،و هذا هو تحرير ما ذكره.

مناقشة مع الشيخ

إلاّ أنّك خبير بأنّ ما ذكره من الشاهد على الكمال المفارق الذات،كأنّه لا ينطبق على

ص:58

ما نحن بصدده.

فإنّ المقصود وجود كمال مفارق الذات،أي الّذي ليس بصورة،مع هذا يكون كونه كمالا باعتبار أنّه فصل للنوع و كمال له،كالنفس الإنسانيّة على ما عرفت من بيان حالها، و ظاهر أنّ الملك و الرّبان،كما أنّهما ليسا بصورتين للمدينة و السفينة،ليسا بفصلين لهما أيضا.فالأحسن في بيان الفرق و تفريع الشمول عليه أن يقول:إنّ الصورة المنطبعة كمال، و ليس كل كمال صورة كذلك،لأنّه قد يكون الكمال للنوع فصلا للنوع،فصلا ليس صورة في المادّة و للمادّة،كالنفس المفارقة الإنسانيّة على ما عرفت؛ثمّ يفرّع الشمول الذي ادّعاه كما ذكرنا،لكنّه أعلم.

و أمّا بيان الثاني:فلأنّ الاصطلاح قد استقرّ على أن يكون الشيء بالقياس إلى المادّة صورة،و بالقياس إلى الجملة غاية و كمالا؛أي بالقياس إلى جملة المادّة و الصورة من جهة ما هما صورة و مادّة،بل بالقياس إلى جملتهما من جهة ما هما جنس و فصل،أي النوع،غاية باعتبار انتهاء الحركة إليه،و كمالا باعتبار تماميّة النوع و كماله به،و بالقياس إلى التحريك،أي بالقياس إلى تحريكه للمادّة حتّى تصير شيئا بالفعل مبدأ فاعليّا و قوّة محرّكة.و إذا كان الأمر كذلك،فالصورة من حيث إنّها صورة،و بالنظر إلى نفس مفهومها الاصطلاحيّ،تقتضي نسبة إلى شيء بعيد مباين في الوجود من ذات الجوهر الحاصل من الصّورة المتقوّم بها،و إلى شيء يكون الجوهر الحاصل منها هو ما هو بالقوّة،و إلى شيء لا ينسب الأفاعيل إليه؛و ذلك الشيء الموصوف بهذه الأوصاف الثلاثة هو المادّة، لأنّها صورة باعتبار وجودها للمادّة؛و الكمال من حيث هو كمال،و بالنّظر إلى نفس مفهومه الاصطلاحيّ،يقتضي نسبة إلى الشيء التامّ الذي يصدر عنه الأفاعيل.و بالجملة نسبة إلى الشيء الذي هو بخلاف الشيء الأوّل،لأنّه كمال باعتباره للنّوع.

فبيّن من هذا:أنّا إذا قلنا في تعريف النّفس:إنّها كمال،كان أدلّ بمفهومه على معنى النفس الذي هو المقصود هنا،إذ ظاهر أنّ المقصود من معناها أنّها ممّا يكمل و يتمّ الشيء الذي يصدر عنه الأفاعيل المقصودة منها،فبهذا الاعتبار أيضا يكون إطلاق الكمال على

ص:59

النفس النباتيّة و الحيوانيّة و الإنسانيّة أولى من إطلاق الصورة عليها،كما كان ذلك باعتبار الوجه الأوّل،أي الشمول لجميع أنواع النفس من جميع الوجوه أولى.

و قوله:«و أيضا إذا قلنا:إنّ النفس كمال،فهو أولى أن نقول:قوّة،و ذلك لأنّ الامور الصادرة عن النفس.»-إلى آخر ما ذكره-بيان لأولويّة إطلاق الكمال عليها من إطلاق القوّة،و قد عرفت تحريره مع ما فيه.

و قوله:«لكنّا إذا قلنا:كمال،لم يعلم من ذلك بعد أنّها جوهر أو ليست بجوهر،فإنّ معنى الكمال هو الشيء الذي بوجوده يصير الحيوان بالفعل حيوانا،و النبات بالفعل نباتا؛ و هذا لا يفهم عنه بعد أنّ ذلك جوهر أو ليس بجوهر،لكنّا نقول»-إلى آخر ما ذكره-.

بيان لأنّه بمجرّد إطلاق الكمال على النفس لا يثبت كونه جوهرا بالمعنى الذي اصطلح عليه،إلاّ أنّ توضيحه يستدعي الإحاطة بما ذكره في إلهيّات الشّفاء في فصل تعريف الجوهر و أقسامه بقول كليّ (1)

«قال:إنّ الوجود للشيء قد يكون بالذات،مثل وجود الإنسان إنسانا،و قد يكون بالعرض،مثل وجود زيد أبيض.و الامور التي بالعرض لا تحدّ.فلنترك الآن ذلك و لنشتغل بالموجود،و الوجود الذي بالذات.

فأقدم أقسام الموجودات بالذات هو الجوهر،و ذلك لأنّ الموجود على قسمين:

أحدهما:الموجود في شيء آخر،ذلك الشيء الآخر متحصّل القوام و النوع في نفسه،وجودا لا كوجود جزء منه،من غير أن يصحّ (2)مفارقته لذلك الشيء،و هو الموجود في موضوع.

و الثاني:الموجود من غير أن يكون في شيء من الأشياء بهذه الصّفة،فلا يكون في موضوع البتّة،و هو الجوهر.

و إن كان ما اشير إليه في القسم الأوّل موجودا في موضوع،فذلك الموضوع لا يخلو

ص:60


1- -الشفاء- [1]الإلهيّات57/-60. [2]
2- في المصدر:تصحّ.

أيضا من أحد هذين الوصفين،فإن كان الموضوع جوهرا،فقوام العرض في الجوهر،و إن لم يكن جوهرا،كان أيضا في موضوع،و رجع البحث إلى الابتداء،و استحال ذهاب ذلك إلى غير النهاية (1)،كما سنبيّن في مثل هذا المعنى خاصّة.

فيكون لا محالة بآخره (2)فيما ليس في موضوع،فيكون في جوهر،فيكون الجوهر مقوّم العرض موجودا،و غير متقوّم بالعرض،فيكون الجوهر هو المقدّم في الوجود.

و أمّا أنّه هل يكون عرض في عرض،فليس (3)ذلك بمستنكر،فإنّ السرعة في الحركة،و الاستقامة في الخطّ،و الشكل المسطّح في البسيط،و أيضا فإنّ الأعراض تنسب إلى الوحدة و الكثرة،و هذه-سنبيّن لك-أنّ (4)كلّها أعراض.و العرض-و إن كان في عرض-فهما جميعا في موضوع.و الموضوع بالحقيقة هو الذي يقيمهما جميعا،و هو قائم بنفسه.

ثمّ قد جوّز كثير ممّن يدّعى المعرفة أن يكون شيء من الأشياء جوهرا و عرضا معا بالقياس إلى شيئين،و قال (5):إنّ الحرارة عرض في غير جسم النار،لكنّها في جملة النار ليست بعرض،لأنّها موجودة فيها كجزء.و أيضا ليس يجوز رفعها عن النار و النار تبقى.

فإذن وجودها في النار ليس وجود العرض فيها،فإذا لم يكن وجودها فيها وجود العرض، فوجودها فيها وجود الجوهر.

و هذا غلط،كبير (6)قد أشبعنا القول فيه في أوائل المنطق،و إن لم يكن ذلك موضعه، فإنّهم إنما خلطوا فيه هناك.

فنقول:قد علم ممّا سلف إنّ بين المحلّ و الموضوع فرقا،و أنّ الموضوع يعنى به ما صار بنفسه و نوعيّته قائما ثمّ صار سببا لأن يقوم به شيء فيه ليس كجزء منه،و أنّ المحلّ كلّ شيء يحلّه شيء فيصير بذلك الشيء بحال ما،فلا يبعد أن يكون شيء موجودا في المحلّ (7)،و يكون ذلك المحلّ لم يصر نفسه (8)نوعا قائما كاملا بالفعل،بل إنّما تحصّل

ص:61


1- في المصدر:إلى غير نهاية...
2- لا محالة آخره...
3- فليس بمستنكر...
4- سنبيّن لك كلّها...
5- فيقول...
6- و قد أشبعنا...
7- في محلّ...
8- بنفسه.

قوامه من ذلك الذي حلّه وحده أو مع شيء آخر،أو أشياء أخرى اجتمعت،فصيّرت ذلك الشيء موجودا بالفعل،أو صيّرته نوعا بعينه.

و هذا الذي يحلّ هذا المحلّ،يكون لا محالة موجودا لا في موضوع؛و ذلك لأنّه ليس يصحّ (1)أن يقال:إنّه في شيء،الاّ في الجملة أو في المحلّ،و هو في الجملة كجزء.

و كان الموضوع ما يكون فيه الشيء و ليس كجزء منه،و هو في المحلّ ليس كشيء حصل في شيء،ذلك الشيء قائم بالفعل نوعا،ثمّ يقيم الحال فيه.بل هذا المحلّ جعلناه إنّما يتقوّم بالفعل بتقويم ما حلّه،أو جعلناه (2)إنّما تتمّ (3)له به نوعيّته إذا كانت نوعيّته إنّما تحصّل (4)به أو تصير له نوعيّة باجتماع أشياء جملتها تكون (5)ذلك النوع.

فبيّن أن بعض ما في المحلّ ليس في موضوع.

و أمّا إثبات هذا الشيء الذي هو محلّ دون موضوع،فذلك علينا إلى قريب.

و إذا أثبتناه،فهو الشيء الذي يخصّه في مثل هذا الموضوع باسم الصورة،و إن كنّا قد نقول لغيره أيضا صورة باشتراك الاسم.و إذا كان الموجود لا في موضوع هو المسمّى جوهرا،فالصورة أيضا جوهر.فأمّا المحلّ الذي لا يكون في محلّ آخر،فلا يكون في موضوع لا محالة،لأنّ كلّ موضوع في موجود (6)فهو موجود فى محلّ،و لا ينعكس، فالمحلّ الحقيقيّ أيضا جوهر،و هذا المجتمع أيضا جوهر.انتهى موضع الحاجة من كلامه.

و مضمونه واضح،إلاّ أنّه لا يستبين منه بيان غلط ما أسنده إلى كثير ممّن يدّعي المعرفة،من تجويز كون شيء واحد جوهرا و عرضا معا بالقياس إلى شيئين.و بيان خلطهم الذي قال إنّه أشبع القول فيه في أوائل المنطق،و ما ذكره فيها،و إن لم يكن الآن في نظرنا،إلاّ أنّ فيما ذكره هنا في بيان أنّه بمجرّد إطلاق الكمال على النفس لا يعلم منه أنّها جوهر أو عرض،كأنّه إشارة أيضا إلى بيان ذلك الغلط و الخلط كما سنبيّنه.

و بالجملة،فبيان ما ذكره هنا يتوقّف من وجه على فهم ما نقلناه عنه في الإلهيّات، و كذلك بيان ما ذكره ثمّة يتوقّف من وجه على ما ذكره هنا،كما سيظهر ذلك كلّه عن

ص:62


1- في المصدر:يصلح...
2- و جعلناه...
3- يتمّ...
4- تحصّل أو تصير...
5- يكون...
6- موجود في موضوع...

قريب.و حيث كان الأمر كذلك،فنقول.

قوله هنا:«لكنّا إذا قلنا كمال-إلى قوله-:لكنّا نقول»

ادّعاء بمجرّد إطلاق الكمال على النفس لا يعلم منه جوهريّتها أو عرضيّتها،و ذلك ظاهر.

و قوله (1):«لكنّا نقول:إنّه لا شكّ لنا في أنّ هذا الشيء ليس بجوهر بالمعنى الذي يكون به الموضوع جوهرا،و لا أيضا بالمعنى الذي يكون به المركّب جوهرا،فأمّا جوهر بمعنى الصورة فلننظر فيه»-إلى آخر ما ذكره-بيان لذلك الادّعاء.

و تحريره:أنّه لا شك لنا في أنّ هذا الشيء الذي بوجوده يصير الحيوان بالفعل حيوانا،و النبات بالفعل نباتا،و سمّيناه بالنفس،ليس بجوهر بالمعنى الذي يكون به الموضوع جوهرا،على ما بيّنه فيما نقلناه عنه في الإلهيّات من معنى الموضوع و معنى جوهريّته،إذ لم نعتبر ذلك الشيء موضوعا،حتّى يكون جوهريّته بمعنى جوهريّة الموضوع.بل و لم نعتبره محلاّ مطلقا أيضا على ما بيّنه هنالك من معناه و معنى جوهريّته؛ فلا يكون جوهريّته بمعنى جوهريّة المحلّ مطلقا أيضا،و لا أيضا يكون جوهريّة ذلك الشيء بالمعنى الذي يكون به المركّب جوهرا،على ما بيّنه أيضا هنالك من معنى المركّب و معنى جوهريّته،اذ لم نعتبر ذلك الشيء مركّبا أيضا.و بالجملة لا يكون جوهريّته بمعنى جوهريّة الجسم و جوهريّة مادّته،إذ لم نعتبره شيئا من ذلك،بل إنّما اعتبرناه كمالا هو باعتبار ما فصل،و باعتبار ما صورة.

و حيث اعتبرناه كذلك،فلننظر في أنّه هل يلزم من اعتباره كمالا جوهريّته،بمعنى جوهريّة الصورة في الجسم التي هي باعتبار ما فصل و كمال له؟فنقول:إن قال قائل:إنّي أقول للنفس جوهر،و أعني به الصورة خاصّة،و لست أعني به معنى أعمّ من الصّورة بحيث يشمل الموضوع و المركّب و نحوهما أيضا،بل معنى أنّه جوهر معنى أنّه صورة، و هذا ممّا قاله خلف منهم،فحينئذ فلا يكون مع هذا القائل موضع بحث و نزاع و اختلاف

ص:63


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 8/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

البتّة،لأن مفاد قوله هذا إنّما هو مجرّد إطلاق لفظ الصّورة على الجوهر،و مجرّد إطلاق لفظ الجوهر على النفس،من دون أن يكون هناك معنى الجوهر أو معنى ما قصد بالصورة الجوهريّة.فيكون معنى قوله:«إنّ النّفس جوهر»أنّها صورة،أي يطلق عليها لفظ الصّورة،بل يكون قوله:«الصورة جوهر»بهذا المعنى أيضا.أي أنّها يطلق عليها لفظ الجوهر.فيكون كقوله:«الصورة صورة أو هيئة،و الإنسان إنسان أو بشر»لأنّ الصورة كما يطلق عليها لفظ الصورة،يطلق عليها لفظ الهيئة،و كذلك الإنسان يطلق عليه هذان اللفظان.

و بالجملة فيكون هذا القول هذيانا من الكلام،كما لا يخفى،و حيث كان هذا القول منه بهذا التفسير غير مفيد هنا فائدة في إثبات معنى الجوهريّة للنفس،فبقي أن يكون قد عنى بالصورة التي أطلقها على النفس معنى يقصد بالجوهر،حتّى يكون مفيدا هنا.

فنقول:إن عنى بالصورة معنى الجوهر،أي ما ليس في موضوع البتّة،أي لا يوجد بوجه من الوجوه قائما في الشيء الّذي بيّناه لك،-أي في الإلهيّات-موضوعا البتّة،أي أن لا يكون في شيء من الأشياء بهذه الصفة،كما هو معنى الجوهر و حقيقته كما بيّنه هنالك، فلا يخفى أنّ هذا الادّعاء من هذا القائل،إنّما هو لأجل أنّه رأى النفس كمالا و صورة، و ظنّ ثبوت حقيقة الجوهر و معناه لكلّ كمال و صورة،فحكم بثبوت معناه للنفس،و لا سترة في أنّه لا يصحّ كلّيّا،أي ليس كلّ كمال جوهرا بهذا المعنى،فإنّ كثيرا من الكمالات التي هي صور أيضا باعتبار،تكون هي في موضوع و أعراضا لا محالة،سواء كانت كمالات اوّل أو ثواني،و هذا كالشكل للسّيف و القطع له،و كالتميّز و الرويّة و الإحساس و الحركة للإنسان،و كالحرارة التي هي كمال للنار في غير جسم النار،فلم يلزم من كون الشيء كمالا أو صورة كونه جوهرا بالمعنى المذكور،حيث إنّه قد يمكن أن يكون عرضا كما في تلك الأمثلة.

و بهذا القدر قد تمّ ما قصده الشيخ من منع الكليّة،إلاّ انّ ما ذكره بعد ذلك من قوله (1)

ص:64


1- -الشفاء-الطبيعيّات 8/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

«و إن كان ذلك الكثير بالقياس إلى المركّب،و من حيث كونه فيه ليس في موضوع»-إلى آخر ما ذكره-.

بيان:لأنّ الشيء إذا كان في شيء ما في موضوع،و في شيء آخر لا في موضوع، فإنّ ذلك لا يجعله جوهرا،و فيه إشارة أيضا إلى وجه الغلط و الخلط الذي نسبه في الإلهيّات إلى كثير ممّن يدّعي المعرفة.

و تحريره:أنّا لو جوّزنا في ذلك الكمال الذي قلنا إنّه في موضوع بالقياس إلى شيء كونه بالقياس إلى شيء آخر لا في موضوع،كما في الحرارة،حيث إنّها في غير جسم النار في موضوع البتّة،و قلنا إنّها في جسم النّار،أي في جملة النّار،و في المركّبة منها من حيث كونها فيها،ليست في موضوع و ليست بعرض،لأنّها موجودة فيها كجزء،و أيضا ليس يجوز رفعها عن النار و النار تبقى.

و بالجملة أنّها بالقياس إلى النار ممّا ينتفي عنها صفة العرض،كما ادّعاه كثير ممّن يدّعي المعرفة؛فإنّ ذلك لا يجعلها جوهرا في حدّ ذاتها،لأنّ كونها جزءا من النار لا يمنعها أن تكون في موضوع في حدّ ذاتها،حيث إنّ كون شيء في شيء ما،لا كالشيء في الموضوع،لا يكفي في كونه جوهرا في حدّ ذاته،كما ظنّه بعضهم كالكثير ممّن يدّعي المعرفة،لأنّ حقيقة الجوهر على ما عرّفها القوم:ما لا يكون في شيء من الأشياء بوجه من الوجوه موجودا في الشيء الذي سمّوه موضوعا،حتّى يكون في حدّ ذاته و في نفسه جوهرا،و هذا المعنى كما هو صريح كلمات الشيخ في تعريف الجوهر،كذلك هو مدلول ما قاله بعضهم في تعريفه:«أنّه الموجود لا في موضوع»حيث إنّ الموضوع نكرة في سياق النفي و هي تفيد العموم.

و الحاصل أنّ الجوهر ما لا يكون في شيء من الأشياء في موضوع،لا أن يكون ذلك بالقياس إلى شيء مخصوص،فعلى هذا،فالحرارة في جسم النّار-و إن فرضناها فيها-لا في موضوع،ممّا ليس يكون بذلك حقيقة الجوهر في حدّ ذاتها،لأنّ ذلك إنّما هو لها بالقياس إلى جسم النار،لا بالقياس إلى جميع الأشياء،و هذا ليس من معنى الجوهر.نعم

ص:65

هي باعتبار كونها في غير جسم النار في موضوع ممّا يكون حقيقة العرض،لأنّ تحديد العرض حيث كان في مقابلة تحديد الجوهر،على ما عرفته؛يكون ما كان في شيء من الأشياء في موضوع،كما يدلّ عليه قولهم:«إنّه الموجود في موضوع»حيث كان الموضوع نكرة في الإثبات،و هي لا تفيد العموم،أي ما كان بالقياس إلى شيء ما في موضوع،و إن لم يكن بالقياس إلى غيره في موضوع.فعلى هذا يلزم أن يكون ما يوجد في شيء ما في موضوع عرضا،و إن وجد في ألف شيء لا في موضوع،و لا يخفى أنّ تلك الحرارة المفروضة حالها ما ذكر.

و بيان هذا بعبارة أخرى،ما ذكره الشيخ:أنّه لم يكن الجوهر-كما يعلم من تعريفه- ما لا يكون بالقياس إلى شيء على أنّه في موضوع،حتّى يكون الشيء من جهة ما ليس في هذا الشيء على أنّه في موضوع جوهرا،بل أنّما يكون جوهرا إذا لم يكن و لا في شيء من الأشياء على أنّه في موضوع.و هذا المعنى لا يحصل بكونه في شيء ما موجودا لا في موضوع،فإنّ ذلك ليس له بالقياس إلى شيء،حتّى إذا قيس إلى شيء يكون فيه لا كما يوجد الشيء فى موضوع،صار جوهرا.و إن كان بالقياس إلى شيء آخر بحيث يكون عرضا،بل هو اعتبار له في ذاته،فإنّ الشيء اذا تأمّلت ذاته و نظرت إليها،فلم يوجد لها موضوع البتّة،كانت في نفسها جوهرا.و إن وجدت في ألف شيء لا في موضوع،بعد أن يوجد في شيء واحد على نحو وجود الشيء في موضوع،فهي في نفسها عرض.فظهر بما ذكر أنّ كثيرا من الكمالات تكون أعراضا موجودة في موضوع،و أنّ كونها بالقياس إلى شيء ما موجودة لا في موضوع،لا يجعلها جوهرا في نفسها.

و ظهر أيضا أنّه غلط من ادّعى أنّه يجوز أن يكون شيء بالقياس إلى شيء عرضا، و بالقياس إلى آخر جوهرا،فتدبّر.

ثمّ إنّ قول الشيخ (1):«و ليس إذا لم يكن (2)عرضا في شيء فهو (3)جوهر فيه،فيجوز أن

ص:66


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 9/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.
2- في المصدر:تكن...
3- فهي.

يكون الشيء لا عرضا في الشيء و لا جوهرا في الشيء،كما أنّ الشيء يجوز أن لا يكون واحدا في الشيء (1)و لا كثيرا،و لكنه (2)في نفسه واحدا أو كثير»،كأنّه دفع توهّم ينشأ هنا.

و بيان التوهّم:أنّ الحرارة في جسم النّار-مثلا-لا يخفى أنّ وجودها فيها ليس وجود العرض في الموضوع،كما هو المفروض؛و إذا لم تكن عرضا فيها،فهي جوهر فيها، لأنّ الجوهريّة و العرضيّة متقابلتان،فلا يمكن ارتفاعها،بل إذا انتفت إحداهما ثبتت الاخرى.و إذا ثبت أنّها في جسم النار جوهر مع أنّها في غير جسم النار عرض، عاد المحذور جذعا،و هو لزوم كون تلك الكمالات المذكورة بالقياس إلى شيء ما جوهرا بعد أن كانت بالقياس إلى آخر عرضا.و كذا لزوم كون شيء واحد جوهرا و عرضا معا بالقياس إلى شيئين.

و بيان دفع هذا التوهّم:أنّك قد عرفت أن ليس ذلك المعنى بالقياس إلى شيء، فحينئذ يجوز أن يكون الشيء لا عرضا في الشيء و لا جوهرا في الشيء،بل يكون في نفسه جوهرا و عرضا،و هذا ليس من ارتفاع المتقابلين المحال،كما أن الشيء يجوز أن لا يكون واحدا في الشيء،و لا كثيرا في الشيء،و لكنّه في نفسه واحد أو كثير،و الحال أنّ الوحدة و الكثرة أيضا متقابلتان.

و قوله (3):«و ليس الجوهريّ و الجوهر واحدا،و لا العرضيّ (4)بمعنى العرض الذي في إيساغوجي هو العرض الذي في قاطيغورياس (5)،و قد بيّنا هذه الأشياء لك في صناعة المنطق»كأنّه دفع توهّم آخر ينشأ هنا.

و بيان التوهّم:أنّا سلّمنا أنّه بمجرّد كون الشيء كمالا للشيء لا يلزم جوهريّته، حيث إنّ كثيرا من الكمالات أعراض،و كونها في شيء ما موجودة لا في موضوع،لا يجعلها جوهرا كما ذكرت.لكنّا نقول:إنّ الكمال الذي نحن بصدد بيانه،أي النفس النباتيّة و الحيوانيّة و الإنسانيّة،حيث جعلنا كونها كمالا،باعتبار كونها فصولا لنوع النبات

ص:67


1- في المصدر:في شيء...
2- لكنّه...
3- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 9/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.و مرّ في ص 12. [2]
4- و لا العرض بمعنى العرضيّ...
5- قاطيغورياس.

و الحيوان و الإنسان،التي هي أنواع جوهريّة مركّبة من مادّة و صورة،أي الفصول التي هي باعتبار ما صورة،كما في النبات و الحيوان،و كالصّورة كما في الإنسان،يكون جوهرا البتّة.إذ لو كان عرضا،لكان تقوّم تلك الأنواع الجوهريّة به،و يلزم تقوّم الجوهر بالعرض و هو محال.و إذا كان جوهرا،ثبت ما هو المطلوب،و هو جوهريّة تلك النفوس التي قلنا إنّها كمال.

و بيان دفع هذا التوهّم:أن ليس الجوهريّ و الجوهر واحدا،إذ الجوهريّ ما كان حمله على الشيء حملا جوهريّا،أي ذاتيّا كحمل الجنس على النوع،و حمل النوع على الشخص.و الجوهر ما كان موجودا لا في موضوع البتّة بالقياس إلى ذاته و إلى جميع الأشياء.و كذلك العرضيّ و العرض الذي في إيساغوجي،أي في باب الكلّيّات الخمس، ما كان حمله على الشيء حملا عرضيّا خارجا عن حقيقته،لا ذاتيّا كحمل العرض العامّ أو الخاصّة على ما تحتها،و كحمل الجنس على الفصل،كما عرفت بيانه.و العرض الذي في قاطيغورياس،أي في باب المقولات العشر،هو ما يكون في موضوع.

و حينئذ فالجوهر كما يمكن أن يكون جوهريّا بالنسبة إلى شيء،كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان،و كذلك مفهوم الجوهر بالقياس إلى الحقائق الجوهريّة التي هي الأنواع،إن قلنا إنّه جنس لما تحته من الأنواع،كذلك يمكن أن يكون عرضيّا غير جوهريّ بالنسبة إلى شيء،كالحيوان بالنسبة إلى الناطق،فإنّه لو كان جنسا ذاتيّا له أيضا،يلزم أن يكون امتيازه عن غيره بفصل آخر،و هكذا،فيلزم التسلسل المحال.

و كذلك العرض،كما يمكن أن يكون عرضيّا بالنسبة إلى شيء مثلا بالنسبة إلى فصول الكيفيّات،التي هي أنواع عرضيّة على ما عرفت بيانه.و كمفهوم العرض،إن قلنا إنّه ليس جنسا لما تحته من الأنواع،كذلك يمكن أن يكون جوهريّا بالنسبة إلى شيء، كالكيف بالنسبة إلى أنواع الكيفيّات،و كمفهوم العرض إن قلنا إنّه جنس لما تحته من الأنواع.

و إذا عرفت ما ذكرنا،ظهر لك أنّ تلك الكمالات التي نحن بصدد بيانها،أعني النفس

ص:68

النباتيّة و الحيوانيّة و الإنسانيّة،و إن كانت مما يصدق عليها الجوهر،إلاّ انّها حيث اعتبرت فصولا لتلك الأنواع الجوهريّة لا أنواعا،لا يكون صدق الجوهر-سواء قيل بأنّه جنس لما تحته،أو قيل بأنّه ليس بجنس لما تحته-و كذا صدق تلك الأجناس التي هي جواهر حقيقة،أعني الجسم المطلق و الجسم النامي و الحيوان عليها،أي على تلك الفصول، صدقا ذاتيا و جوهريّا،على ما عرفت من أنّ صدق الجنس على الفصل لا يكون ذاتيّا، أي أن يكون الجوهر داخلا في حقيقتها،أو مأخوذا في حدودها،بل عرضيّا خارجا عنها لازما لها.

و الحاصل أنّ تلك الفصول يلزمها كونها جوهرا باعتبار جوهريّة أجناسها و اتّحادها معها نوعا من الاتّحاد،و به ينتفي لزوم تقوّم الجوهر بالعرض،لا أن تكون حقائقها جواهر في أنفسها و في حدود ذواتها.

و لا يخفى أنّ هذا المعنى من الجوهريّة هو الذي نرومه هنا،و ندّعي عدم ثبوته لتلك الفصول بمجرّد كونها فصولا و كمالات،و هذا كما أنّ فصل الكيف مثلا،و إن صدق عليه أنّه عرض أو كيف،إلاّ أنّه لا يكون صدق العرض،سواء كان جنسا لما تحته من الأنواع العرضيّة أم لم يكن،و كذا صدق الكيف الذي هو جنس عندهم لما تحته على ذلك الفصل صدقا ذاتيّا و جوهريّا،يكون هو بالقياس إلى نوع الكيف،بل صدقا عرضيّا.

و الحاصل أنّه يلزم ذلك الفصل أن يكون عرضا أو كيفا باعتبار اتّحاده مع جنسه الذي هو عرض و كيف بالحقيقة،لا أن يكون هو نفسه في حدّ ذاته عرضا أو كيفا بالحقيقة،بحيث يكون ذلك ذاتيّا له و داخلا في حقيقته و حدّه.

و المحصّل أنّ صدق تلك الأجناس الجوهريّة على تلك الفصول التي نحن بصدد بيانها،ليس هو صدق حقيقة الجوهر،أي الموجود لا في موضوع،بل صدق ما صدق عليه حقيقة الجوهر؛و مع ذلك فليس صدقه عليها صدقا جوهريّا،بل عرضيّا؛فمن أين يلزم جوهريّة تلك الفصول بالحقيقة؟

فإن قلت:إذا لم يكن لفصول الجواهر جوهريّة إلاّ جوهريّة أجناسها،لكانت هي

ص:69

أعراضا في أنفسها،و كذا إذا لم يكن لفصول الأعراض عرضيّة إلاّ عرضيّة أجناسها، لكانت هي في حدّ ذاتها جواهر،لأنّ الجوهريّة و العرضيّة متقابلتان تقابلا في الغاية،و إذا لم يدخل أحد المتقابلين في حقيقة شيء،كان المقابل الآخر داخلا في حقيقته البتّة،و إلاّ لزم ارتفاع المتقابلين،و هو محال.

قلت:إنّ ارتفاع المتقابلين إنّما يستحيل إذا كان ارتفاعهما عن شيء من شأنه ثبوت أحدهما له من حيث ذاته بذاته،و لا نسلّم أنّ تلك الفصول-بحسب حقائقها و ذواتها و فى أنفسها-ليس من شأنها الجوهريّة و لا العرضيّة بالمعنى الذي يراد في الأنواع الجوهريّة و الأنواع العرضيّة،فارتفاعهما عنها في حدود ذواتها ليس بممتنع.

و الحاصل أنّ ارتفاع المتقابلين،بل ارتفاع النقيضين أيضا و إن كان ممتنعا في الواقع،لكنّه ليس بممتنع في بعض مراتب الواقع،و هذا كما يقولون:إنّ الماهيّة من حيث هي ليست إلاّ هي.

و من هذا أيضا يظهر أن ليس يلزم فيما نحن فيه تقوّم الجوهر بالعرض،لو لم تكن تلك الفصول التي هي الكمالات جواهر في أنفسها،فتدبّر.

و قوله (1)«فبيّن أنّ النّفس لا يزيل عرضيّتها كونها في المركّب كجزء،بل يجب أن تكون في نفسها لا في موضوع البتّة»-الى آخره-تفريع على ما تقدّم،و المعنى:فبيّن ممّا ذكرناه أنّ النّفس التي نحن بصدد بيان حالها لا يزيل احتمال عرضيّتها في نفسها و بحسب حقيقتها كونها كمالا و كونها في المركّب،أي في الجملة التي هي عبارة عن النفس و ما تعلّقت به،كالنبات و الحيوان و الإنسان كجزء منه،حيث عرفت أنّ بعض ما كان كجزء من المركّب يمكن أن يكون عرضا في ذاته،كالحرارة على ما عرفت من حالها.

و أنّ الفصل الذي هو جزء من المركّب الجوهريّ،و إن صدق عليه أنّه جوهر،إلاّ أنّه ليس صدقه عليه صدقا جوهريّا ذاتيّا يستلزم كونه جوهرا في حدّ ذاته،كما هو المقصود هنا من جوهريّة النّفس،بل صدقا عرضيّا يستلزم عروض معنى الجوهريّة له،بل إنّ ثبوت

ص:70


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 9/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

معنى الجوهريّة للنفس بحسب حقيقتها و ذاتها،إنّما يكون إذا ثبت أنّ النفس يجب أن تكون في نفسها لا في موضوع البتّة،كما هو معنى الجوهر،و قد علمت ما الموضوع و ما معناه،حيث علمت في الإلهيّ أن الموضوع يعني به ما صار بنفسه و نوعيّته قائما،ثمّ صار سببا لأن يقوم به شيء فيه ليس كجزء منه،و الحال أنّ هذا المعنى لم يثبت بعد للنفس باعتبار كونها كمالا،أو كونها في المركّب كجزء منه،نعم لو ثبت بالدليل أنّ كلّ نفس موجودة لا في موضوع،ثبت أنّ كلّ نفس جوهر بحسب الحقيقة،أو ثبت أنّ نفسا ما قائمة بذاتها و البواقي كلّ واحدة منها في هيولى و ليست في موضوع،ثبت أيضا أنّ كلّ نفس جوهر بذاتها.و أمّا لو كانت نفس ما قائمة في موضوع،و هي مع ذلك جزء من المركّب، فهي عرض بحسب الحقيقة،و جميع هذا كمال.فلم يتبيّن لنا بعد أنّ النّفس جوهر أو ليست بجوهر من وصفنا أنّها كمال،و غلط من ظنّ أنّ هذا يكفيه في أن تجعل جوهرا كالصورة،بل إنّ إثبات جوهريّة النّفس في ذاتها يحتاج إلى دليل آخر،كما حقّقه الشيخ في فصل آخر بعد هذا الفصل،و نحن سنذكر فيما بعد ملخّصه إن شاء اللّه تعالى.

ثمّ إنّ قوله:«فنقول:إنّا إذا عرفنا أنّ النّفس كمال بأيّ بيان و تفصيل (1)لم نكن بعد عرّفنا النّفس و ماهيّتها (2)»-إلى آخره (3)-هذا بيان بوجه آخر غير السّابق،لأنّ إطلاق الكمال على النّفس في تحديدها لا يدلّ على كونها داخلة في مقولة الجوهر،و لا على حقيقتها و ماهيّتها في نفسها،بل على النفس من حيث هي نفس،و من حيث يطلق عليها اسم النّفس،أي من جهة إضافة ما لها إلى البدن و كونها مقيسة إليه.

و توضيحه:أنّا إذا عرّفنا أنّ النّفس كمال بأي بيان و تفصيل فصّلنا الكمال و فسّرنا معناه،لم نكن بذلك عرّفنا النّفس و ماهيّتها بذاتها،بل عرّفناها من حيث هي نفس،و يطلق عليها هذه اللفظة.فإنّ اسم النفس ليس يقع عليها من حيث جوهرها بذاتها،و من حيث هي واقعة تحت مقولة الجوهر،بل من حيث ما لها إضافة ما،أي من حيث هي مدبّرة

ص:71


1- في المصدر:و تفصيل فصّلنا الكمال...
2- ماهيّتها.
3- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 9/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

للأبدان و مقيسة إليها؛فلذلك يؤخذ البدن في حدّها،أي في حدّها من جهة ما لها إضافة،لا في حدّها من حيث جوهرها و ذاتها بذاتها و كونها واقعة تحت مقولة الجوهر؛كما يؤخذ مثلا البناء في حدّ الباني من جهة الإضافة و من حيث كونه بانيا،و إن كان لا يؤخذ في حدّه من حيث جوهره،و من حيث إنّه إنسان،و لذلك،أي و لأجل أنّ النظر في النفس من حيث هي نفس و من حيث كونها مقيسة إلى الابدان،صار النظر فيها من العلم الطبيعي الذي يبحث فيه من حيث التعلّق بالمادّة و الحركة،أي بالمادّة بالمعنى الأخصّ أو الأعمّ، لأنّ النظر في النفس أيضا من حيث هي نفس،نظر فيها من حيث لها علاقة بالمادّة بالمعنى الأخصّ،كما في النفس النباتيّة و الحيوانيّة من حيث هي حيوانيّة أو بالمعنى الأعمّ،كما في النفس الإنسانيّة من حيث هي إنسانيّة،و كذا من حيث لها علاقة بالحركة.

فبالجملة،النظر في النفس من الجهة المذكورة لا يكفي لتعرّف ماهيّة النفس في حدّ ذاتها و كونها واقعة تحت مقولة الجوهر،بل يجب أن نفرد لتعرّفنا ذات النفس من هذه الجهة بحثا آخر،كما أفرده فيما بعد،و لو كنّا عرّفنا بالجهة الأولى ذات النفس من الجهة الثانية،لما أشكل علينا معرفة وقوعها في أيّ مقولة تقع فيها من مقولة الجوهر أو العرض، فإنّ من عرف و فهم ذات الشيء من حيث هي ذاته،فعرض على نفسه طبيعة أمر ذاتيّ له، لم يشكل عليه وجوده له،كما أوضحناه في المنطق.

ثمّ إنّ قوله:«لكنّ الكمال على وجهين:كمال أوّل و ثان (1)»-إلى آخره (2)-

بيان لأنّه بمجرّد إطلاق الكمال على النفس في تحديدها من جهة ما لها إضافة ما -كما هو المقصود هنا-لا يتحقّق حقيقتها من هذه الجهة،و لا يحصل حدّها من هذه الحيثيّة؛بل يجب أن يقيّد الكمال بقولنا:كمال أوّل،حتّى يختصّ بالنفس و يخرج غيرها، فإنّ الكمال على وجهين:كمال أوّل و كمال ثان؛و الكمال الأوّل هو الذي يصير به النوع نوعا كاملا بالفصل،كالشكل للسيف،و كالنفس للنبات و الحيوان و الإنسان؛و الكمال

ص:72


1- في المصدر:و كمال ثان.
2- -الشفاء-الطبيعيّات 10/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

الثاني هو أمر من الامور التي تتبع وجود الشيء بعد أن كان نوعا بالفعل من أفعاله و انفعالاته،و هذا كالقطع للسيف،و كالتميّز و الرويّة و الإحساس و الحركة للإنسان،فإن هذه كمالات لا محالة للنوع،أي لنوع السيف و لنوع الانسان،لكن ليست أوّليّة،فإنّه ليس يحتاج ذلك النوع في أن يصير هو ما هو بالفعل إلى حصول هذه الأشياء له بالفعل،بل إنّما يحتاج في صيرورته نوعا بالفعل إلى حصول مبدأ هذه الأشياء بالفعل،أي إلى الكمال الأوّل،و ما هو متبوع هذه الأشياء و ملزومها،و إن كان حصول هذه الأشياء له بالقوّة،أي بالقوّة القريبة.

و قوله:«بل إذا حصل له مبدأ هذه الاشياء»

شرط جوابه قوله:«صار حينئذ الحيوان حيوانا بالفعل» (1)

و قوله:«تحتاج»إمّا بضمير التأنيث نعت ثان لقوله:«بقوّة بعيدة»أو بضمير التذكير نعت للكون الذي يفهم من قوله:«بعد ما لم يكن بالقوّة الاّ بقوّة بعيدة». 1

و قوله:«إلى أن يحصل (2)فيها أو قبلها-على اختلاف النسختين-شيء»

الضمير في فيها أو قبلها راجع إلى القوّة.

و قوله:«حتّى تصير (3)بالحقيقة بالقوّة»

الضمير في«يصير»إن كان بالتذكير،فهو راجع إلى الكون بالقوّة،و إن كان بالتأنيث فهو راجع إلى القوّة،و معنى الصيرورة بالحقيقة بالقوّة،الصيرورة بالقوّة القريبة.و معنى الكلام أنّه ليس يحتاج النوع في أن يصير هو ما هو بالفعل إلى حصول هذه الأشياء التي الكمالات الثانية له بالفعل،بل إذا حصل له مبدأ هذه الأشياء،أي الكمال الأوّل بالفعل، حتّى صار له هذه الأشياء بسبب حصول مبدئها له بالقوّة القريبة،بعد ما لم تكن إلاّ بقوّة بعيدة،يحتاج تلك القوّة أو الكون بتلك القوّة إلى أن يحصل قبل تلك القوّة أو فيها شيء هو مبدؤها،حتّى يصير القوّة أو الكون بالقوّة قوّة قريبة و قوّة بالحقيقة،صار حينئذ ذلك النوع

ص:73


1- -الشفاء-الطبيعيّات 10/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.
2- في المصدر:يحصل قبلها...
3- حتّى يصير.

-كالحيوان مثلا-نوعا بالفعل،و حيوانا بالفعل،من غير أن يحتاج في كونه نوعا بالفعل إلى حصول هذه الأشياء له بالفعل.

و المحصّل أنّ الكمال الأوّل و الثاني و إن كان كلّ منهما كمالا للنوع،إلاّ أنّ الأوّل متبوع و ملزوم و الثّاني تابع و لازم له؛و أنّ الأوّل متقدّم،و الثاني متأخّر عنه،و الأوّل يتوقّف عليه حصول النوع في نفسه بالفعل،و الثاني متأخّر عن تحصّل النوع بالفعل؛حيث إنّ الأوّل ممّا يحتاج النوع في حصوله بالفعل إلى حصوله بالفعل،دون الثاني؛فإنّه و إن كان حصوله بالقوّة أيضا،أي بالقوّة القريبة يمكن أيضا حصول النوع بالفعل.و الملخّص أنّ الأوّل ممّا يكمل به النوع في ذاته،و الثاني ممّا يكمل به في صفاته،و حيث كان النفس من قبيل الكمال الأوّل،حيث إنّها مبدأ للكمالات الثانيّة،و يصدق عليها ما هو معنى الكمال الأوّل كما ذكر،فيجب أن يقيّد الكمال في حدّها بالكمال الأوّل،حتّى يكون مختصّا بها و يخرج غيرها.فيقال:إنّها كمال أوّل،و ربّما أشعر تمثيله للكمال الأوّل و الثاني أنّ الكمال-مطلقا-كما يمكن أن يكون جوهرا يمكن أن يكون عرضا أيضا،كما ادّعاه فيما تقدّم،فافهم.

و قوله (1):«و لأنّ الكمال كمال للشيء،فالنفس كمال الشيء؛و هذا الشيء هو الجسم، و يجب أن يؤخذ الجسم بالمعنى الجنسيّ لا بالمعنى المادّيّ،كما عملت في صناعة البرهان».

أي حيث قلنا إنّ النّفس كمال أوّل،فاعلم أنّ الكمال لمّا كان من باب المضاف، و كانت الإضافة معتبرة في معنونه،و كان معناه أنّه كمال لشيء،وجب إضافته إلى شيء، و هذا الشيء ليس شيئا مطلقا،بل شيئا خاصّا هو الجسم؛فيجب إضافته إلى الجسم، و القول بأنّها كمال أوّل لجسم،لكن لا للجسم بالمعنى المادّيّ،بل للجسم بالمعنى الجنسيّ،حتّى يمكن أن يكون ذلك كمالا و فصلا له،كما علمت ذلك في صناعة البرهان، و ذكرنا نحن نبذا منه،نقلا عن إلهيّات الشفاء.

ص:74


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 10/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

ثمّ إنّ ما يتراءى من ظاهر كلامه هنا أنّ الفصل كمال للجنس،لا ينافي كونه كمالا للنوع أيضا،كما تضمّنه كلامه السابق.حيث إنّ كونه كمالا للجنس بمعنى كونه محصّلا له مقسّما إيّاه،يستلزم كونه محصّلا للنوع أيضا مقوّما إيّاه،كما عرفت من البيان السابق.

فتذكّر.

و قوله (1):«و ليس هذا الجسم الذي النفس كماله،كلّ جسم»-الى آخره-

يعني أنّه بعد تقييد الكمال بكونه كمالا أوّلا لجسم،يجب تقييده بقيود أخر أيضا، حتّى يحصل حدّ تام للنفس من حيث هي نفس،و مقيسة إلى البدن؛لأنّ الجسم الذي النفس كماله ليس كلّ جسم،فإنّها ليست كمال الجسم الصناعيّ،كالسرير و الكرسيّ و نحوهما،بل كمال الجسم الطبيعيّ فيجب التقييد به؛و بعد ذلك فليست هي كمالا لكلّ جسم طبيعيّ،لأنّها ليست كمالا للنار و لا للأرض و لا للهواء من البسائط،حتّى تكون صورة نوعيّة للبسائط،و كذا هي ليست كمالا للمركّبات المعدنية و غيرها،حتّى تكون صورة نوعيّة للمركّبات مطلقا،بل هي في عالمنا هذا-أي عالم الأرضيّات-كمال لجسم طبيعيّ مركّب آليّ ذي آلات و قوى يصدر عنه كمالاته الثانيّة،أي أفعاله و انفعالاته بتوسّط آلات و قوى يستعين هو بها في أفعال الحياة،التي أوّلها التغذّي و النموّ و آخرها الإدراكات.و المعنى أنّه يستعين بها في أفاعيلها إن كان احتاج إلى الاستعانة،و إلاّ فيصدر عنه تلك الأفاعيل بنفسه من غير توسّط آلة،كما في النفس الإنسانيّة في فعلها الخاصّ بها،أي إدراك الكلّيّات.

و الحاصل أنّه يمكن أن يصدر عنه بتوسّط الآلات أو بدون توسّطها ما يصدر من أفاعيل الحياة،التي هي التغذّي و النموّ و التوليد و الإدراك و الحركة الإراديّة و النطق،و إنّما خصّ صورة الاستعانة بالذّكر،لأنّها عامّة لجميع النفوس الأرضيّة،إمّا في جميع ما يصدر عنها،كما في النباتيّة و الحيوانيّة؛و إمّا في الأكثر كما في النفس الإنسانيّة،بخلاف صورة عدم الاستعانة،فإنّها خاصّة ببعض تلك النفوس في بعض أفعالها،و هي النفس الإنسانيّة

ص:75


1- -الشفاء-الطبيعيّات 10/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

فيما يختصّ بها من الأفعال كالإدراك الكلّيّ.

فتلخّص من ذلك«أنّ النفس التي نحدّها،أي النّفس الأرضيّة الشاملة للنباتيّة و الحيوانيّة و الإنسانيّة،كمال أول لجسم طبيعيّ آليّ له أن يفعل أفعال الحياة.أي يمكن أن يفعل أفعال الحياة كلّها أو بعضها،سواء كان البعض بعضا أكثر أو أقلّ،و سواء كان صدورها عنه بالفعل أو بالقوّة،أي بالقوّة القريبة من الفعل،و سواء كان ما هو بالفعل دائميّا أم غير دائميّ،قد يكون و قد لا يكون مع إمكان أن يكون.فحصل منه حدّ جامع مانع للنفس من حيث هي نفس.

فالكمال بمنزلة الجنس يعمّ المحدود و غيره،لأنّه عبارة عمّا يتمّ به النوع مطلقا.و هو و إن كان من باب المضاف،إلاّ أنّه يصلح أن يكون جنسا للمسمّى باسم النّفس،لأنّ هذا الحدّ-كما عرفت سابقا-ليس لحقيقتها الجوهريّة،بل لمفهوم النفسيّة،و هي أيضا إضافة خاصّة،و المضاف يمكن أن يكون جنسا لأنواعه.

ثمّ إنّ ما بعد ذلك من القيود بمنزلة الفصل يخرج به غير المحدود،حيث إنّ قولنا:

«أوّل»،يخرج به عنه الكمالات الثانية كالعلم و القدرة و الإحساس و الحركة و غيرها من الأفاعيل و اللوازم التامّة للنّفس.

و قولنا:«لجسم»يخرج الكمال الأوّل للمجرّدات،إن كان لها كمال أوّل.

و قولنا:«طبيعيّ»يخرج صور الأجسام الصناعيّة،كهيئة السيف و السرير و الكرسيّ و غيرها.

و قولنا:«إليّ»يخرج صور البسائط و بعض المركّبات،كصور العناصر و المعدنيّات؛إذ لا يصدر عنها كمالاتها الثانيّة من أفعالها و انفعالاتها بواسطة الآلات،حيث ليست لها آلات و لا قوى متعدّدة،و إن كانت مشتملة على أجزاء مختلفة،فإنّ الأجزاء المختلفة لا تسمّى آلات.

و قولنا:«له أن يفعل أفعال الحياة»يخرج النفوس الفلكيّة،كما سيظهر وجهه.

ص:76

و قوله: (1)لكنّه قد يتشكّك في هذا الموضع بأشياء من ذلك-إلى آخره-

هذا التشكيك الذي ذكره هنا إنّما هو من وجهين.

بيان الأوّل:أنّ في هذا الحدّ الذي حدّدتم به النفس اختلالا من وجوه:أمّا أوّلا،فلأنّ لقائل أن يقول:هذا الحدّ لا يتناول النفس الفلكيّة،لأنّكم قد قيّدتم الجسم بكونه آليّا، و الحال أنّ النفس الفلكيّة تفعل بلا آلات على المذهب الصحيح.

و أمّا ثانيا،فلأنّكم على تقدير ترككم ذكر الآلات و قيد كونه آليّا،و اقتصاركم على قولكم:«له أن يفعل فعل الحياة»حتّى تدخل في الحدّ النفس الفلكيّة باعتبار ترك قيد كونه آليّا،يلزمكم أن تخرجوا النفس الفلكيّة من الحدّ من وجه آخر،لأنّكم عنيتم بالحياة و أفعالها فى قولكم في الحدّ:«له أن يفعل أفعال الحياة»-حيث فسّرتموها بأنّ أوّلها التغذّي و النموّ-معنى يشمل ما للنفس النباتيّة من التغذي و النموّ،و ما للنفس الحيوانيّة من الحسّ،سواء جعلتم الإضافة في قولكم أفعال الحياة،بيانيّة،حتّى تكون تلك الأفعال الحياة نفسها؛أو لاميّة،حتّى تكون تلك الأفعال غير الحياة منسوبة إليها،كما سيجيء تحقيق معنى هذه الإضافة عن قريب،و الحال أن ليس للنفس الفلكيّة هذا المعنى من الحياة و أفعالها.

و هذا الذي ذكرناه إنّما هو تفصيل بيان الاختلال من هذا الوجه،إلاّ أنّه يظهر من المتشكّك أنّه حمل الإضافة على البيانيّة،كما يدلّ عليه قوله (2):فإنّ الحياة التي لها ليس هو التغذي و النموّ،و لا أيضا الحسّ،و أنتم تعنون بالحياة التي في الحدّ هذا و كذا قوله بعد ذلك:«مع أنّ المذكور في الحدّ هو أفعال الحياة،فافهم»و الحاصل أنّه على التقديرين سواء ذكرتم قيد الآليّ في الحدّ أو تركتموه يلزم عليكم إخراج النفس الفلكيّة عن الحدّ.

و أمّا ثالثا،فلأنّكم لو عنيتم بالحياة و أفعالها،ما للنفس الفلكيّة من الإدراك مثلا و التصوّر العقليّ و التحريك لغاية إراديّة،حتّى تدخل النفس الفلكيّة في الحدّ،سواء

ص:77


1- -الشفاء-الطبيعيّات 10/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.
2- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 11/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

تركتم قيد الآليّ أيضا،حتّى يشمل الحدّ للفلك على المذهب الصحيح من عدم كونه آليّا، أو ذكرتموه حتّى يشمله على المذهب غير الصحيح من كونه آليّا،يلزمكم حينئذ أن تخرجوا النبات من جملة ما يكون له نفس،و أن تخرجوا النفس النباتيّة التي مقصودكم دخولها في هذا الحدّ عن هذا الحدّ،لأنّه ليس لها ما ذكر من الامور التي للنفس الفلكيّة،بل يلزمكم أن تخرجوا الحيوان من حيث هو حيوان من جملة ماله نفس،و أن تخرجوا النفس الحيوانيّة التي مقصودكم دخولها في هذه الحدّ أيضا عن الحدّ.لأنّه ليس لها التصوّر العقليّ الذي للفلك.

و هذا أيضا تفصيل بيان اختلال الحدّ من هذا الوجه،إلاّ أنّ المتشكّك اكتفى بلزوم خروج النفس النباتيّة خاصّة،لكونه أظهر.و كذلك ظاهر كلامه أنّه بناه على تقدير ترك قيد الآليّ،ليكون الفلك داخلا على المذهب الصحيح.

و أمّا رابعا،فلأنّكم حيث فسّرتم أفعال الحياة بقولكم«التي أوّلها التغذّي و النموّ».

يلزم عليكم أن تجعلوا التغذي و النموّ حياة على تقدير كون الإضافة بيانيّة،أو افعالا مستندة إلى الحياة على تقدير كونها لاميّة،و على التقديرين يلزمكم أن تقولوا بكون النبات ذا حياة،و أن تسمّونه حيوانا لأنّ اشتقاقه من الحياة،و كلّ ذي حياة فهو حيوان، و الحال أنّكم لا تسمّونه حيوانا و لا تقولون بذلك.

و بما ذكرنا تمّ التشكّك من الوجه الأوّل،و يظهر منه أنّ المتشكّك،و إن ادّعى خروج النفس الفلكيّة بقولهم في الحدّ:«له أن يفعل أفعال الحياة»إلاّ أنّ ذلك الخروج إنّما هو بسبب ما فسّروا أفعال الحياة كما عرفت،و أنّ قولهم:«له أن يفعل»بإسناد الفعل إليه على سبيل الإمكان،كما هو المفهوم من العبارة لا دخل له في ذلك الإخراج،فيفهم منه أنّه حمل قولهم:«له أن يفعل»على معنى عامّ يشمل النفس الفلكيّة أيضا،أي صورة كون الفعل دائميّا كما في الفلكيّة على ما حملناه عليه؛فتفطّن لهذه الدقيقة،فإنّ لها فائدة ستظهر عن قريب.

ص:78

و أمّا التشكّك من الوجه الثاني،فهو ما أشار إليه بقوله (1):«و أيضا لقائل أن يقول»-إلى آخره.

أي و أيضا لقائل أن يقول:ما الذي أحوجكم إلى أن تثبتوا نفسا-أي للنبات و الحيوان و الإنسان-غير حياتها،و لم لم يكفكم أن تقولوا إنّ الحياة نفسها هي هذا الكمال الذي فسّرتم النفس به؟فيكون الحياة هي هذا المعنى الذي يصدر عنه ما تنسبون صدوره إلى النفس من أفعال الحياة.

و كأنّ هذا التشكّك مبنيّ على جعل الإضافة في قولهم:«أفعال الحياة»لاميّة،حيث جوّز كون الأفعال المنسوبة إلى النّفس،منسوبة إلى الحياة،فإنّه كما تضمّن دعوى الاتّحاد بين النفس و الحياة،كذلك يتضمّن دعوى المغايرة بين الأفعال و الحياة،فيظهر من كلام المتشكّك أنّه بنى كلاّ من التشكّكين على تقدير،حيث بنى الثاني على تقدير جعل الإضافة لاميّة،كما هو ظاهر عبارة الحدّ أيضا،و الأوّل على تقدير جعلها بيانيّة،و إن كان يمكن بناؤه على اللاميّة أيضا كما ذكرنا،فتبصّر،و بهذا القدر تمّ بيان التشكّك من الوجهين.

و قوله (2):«فلنشرع في جواب واحد واحد من ذلك و حلّه،فنقول:أمّا الأجسام السماويّة فإنّ فيها مذهبين:مذهب من يرى»-إلى آخره.

هذا جواب عن التشكّك من الوجه الأوّل.و محصّله الجواب عنه بالتزام خروج النفس الفلكيّة عن هذا الحدّ الذي هو حدّ للنفس الموجودة للمركّبات،أي النفس الأرضيّة المتناولة للنباتيّة و الحيوانيّة و الإنسانيّة،و أنّ خروجها عن هذا الحدّ لا ضير فيه، فإنّه ليس هنا معنى مشترك يشترك فيه النفس النباتيّة و الفلكيّة،و أنّ اشتراكهما في اطلاق لفظ النفس عليهما إنّما هو بمجرّد اشتراك اللفظ دون المعنى،بل ليس هنا معنى مشترك يشترك فيه النفس الحيوانيّة و الفلكيّة إلاّ بحيلة صعبة كما سيأتي بيانها.

ص:79


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 11/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.
2- -الشفاء- [2]الطبيعيّات 11/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

و أمّا تحرير كلامه في هذا الجواب و الحلّ:أنّ الأجسام السماويّة،فإنّ فيها مذهبين:

مذهب من يرى أنّ كلّ كوكب يجتمع منه و من عدّة كرات قد دبّرت بحركته جملة جسم كحيوان واحد،فيكون حينئذ كلّ واحد من الكرات الكليّة التي يتمّ حركة الكواكب بها،إنّما يتمّ فعله بعدّة أجزاء ذوات حركات،أي الأفلاك الجزئيّة كالتداوير و الخوارج المركز،فتكون هي-أي الأفلاك الجزئيّة-كالآلات لها،أي لتلك الأفلاك الكليّة.و بعبارة اخرى أنّ النفس الكليّة إنّما تعلّقت بالفلك الكلّيّ،و أنّ ما في الفلك الكلّي من الأفلاك الجزئيّة إنّما هي بمنزلة الآلات له.

فعلى هذا المذهب،و إن كان الجسم الفلكيّ آليّا،إلاّ أنّه ليس هذا المذهب صحيحا في نفسه،لأنّه لا يستمرّ و لا يجري في كلّ الكرات الفلكيّة،لأنّه يلزم على هذا المذهب أن لا يكون نفس متعلّقة بالأفلاك الجزئيّة،و الحال أنّا نشاهد أنّ لها حركات خاصّة مختلفة مخالفة لحركة الفلك الكلّي،و عندهم أنّ كلّ حركة صادرة عن فلك إنّما هي حركة نفسانيّة،و هذا إذا قلنا بالأفلاك السبعة للكواكب السبعة السيّارة لا أزيد.

و أمّا إذا قلنا بأزيد من ذلك،كالفلك الثامن للكواكب الثوابت،و الفلك التاسع للحركة اليوميّة،كما هو مقتضى الدليل عندهم،فالأمر أظهر؛إذ الفلك التاسع عندهم لا كثرة فيه بوجه،حتّى يمكن أن يكون آليّا.و كذلك الفلك الثامن عندهم،و إن كان فيه الكواكب الثابتة،لكن تلك الكواكب ليست مما يمكن أن تكون أجزاء و آلات له بها يتمّ فعله و حركته،بل إنّما ذلك بمجرّد جسم ذلك الفلك الثامن.

و حيث كان هذا المذهب غير صحيح في نفسه،فليس كلامنا في تحديد النفس الأرضيّة بناء على هذا المذهب،و لا نبالي خروج النفس الفلكيّة على هذا المذهب عن الحدّ أو دخوله فيه،و إن تكلّمنا عليه أيضا و قيّدنا الجسم بالآليّ في الحدّ،حتّى تدخل هي فيه،ثمّ قيّدناه بقولنا:«له أن يفعل أفعال الحياة»بالتفسير الذي فسّرنا به أفعال الحياة حتّى تخرج عنه،فلا ضير فيه،إذ ليس هنا معنى مشترك يشترك فيه النفس الفلكيّة و النفس الأرضيّة بأنواعها،كما سيأتي بيانه.

ص:80

و مذهب من يرى أنّ كلّ كرة،كلّية كانت أم جزئيّة،فلها في نفسها حياة مفردة، و نفس على حدة و خصوصا؛و يرى جسما تاسعا،ذلك الجسم واحد بالفعل لا كثرة فيه، بل جسما ثامنا أيضا ليست الكواكب فيه بمنزلة الآلات،فهذا المذهب صحيح كما بيّنّا وجهه.و عليه لا يكون الفلك آليّا،و كلامنا أيضا في تحديد النفس بناء على هذا المذهب،لكونه صحيحا في نفسه،و حينئذ فلو قيّد الحدّ بكون الجسم آليّا،و أخرجنا النفس الفلكيّة عنه ابتداءً لعدم كون الفلك آليّا.و مع ذلك لو قيّدناه بقولنا:«له أن يفعل أفعال الحياة»،على التفسير الذي فسّرناه،ليكون الإخراج أتمّ و أظهر،فلا ضير فيه.

و كذلك لو تركنا ذكر الآلة و لم نقيّد الجسم بكونه آليّا،و أخرجناها بالقيد الأخير خاصّة، أي بقولنا:«له أن يفعل أفعال الحياة»،فلا ضير فيه أيضا؛لأنّ هؤلاء القائلين بهذا المذهب الأخير الصحيح،بل القائلون بالمذهب الأوّل غير الصحيح أيضا،يجب عندهم أن يروا و يعتقدوا أنّ النفس إذا وقع على النفس الفلكيّة و على النفس النباتيّة التي هي من جملة المحدود،فإنّها تقع بمحض الاشتراك اللفظيّ،من دون أن يكون هناك معنى مشترك بينهما؛لأنّ هذا الحدّ إنّما هو للنفس الموجودة للمركّبات-أي الأرضيّة-دون البسائط -أي الفلكيّة-و أنّه إذا احتيل في الحدّ حتّى يشترك الحيوانات و الفلك في معنى اسم النفس،خرج معنى النباتات و نفسها من تلك الجملة.على أنّ هذه الحيلة صعبة جدّا،ربّما يتراءى من صعوبتها أنّ اشتراك الحيوان و الفلك أيضا في وقوع اسم النفس عليهما،إنّما هو بمجرّد اشتراك اللفظ.

و بيان صعوبة الحيلة في ذلك،أنّ الحيوانات و الفلك لا تشترك في معنى اسم الحياة التي أثبتناها للحيوانيّة بما هي حيوانيّة،و لا في معنى اسم النطق الذي أثبتناها للحيوانيّة بما هى إنسانيّة،لأنّ النطق الذي هاهنا أي في الإنسانيّة،يقع على وجود نفس لها العقلان الهيولانيّان،أي العقل بالملكة،و ليس هذا مما يصحّ هناك أي في الفلك، على ما يرى أنّه مقتضى الدليل و معتقدهم.فإنّ العقل هناك عقل بالفعل،و العقل بالفعل، و إن كان يمكن أن يوجد في الإنسان أيضا،لكنّه غير مقوّم للنفس الكائنة جزء حدّ

ص:81

للناطق الذي يطلق على الإنسان،كما أنّه مقوّم للنفس الفلكيّة،إذ لو كان مقوّم لها،لكان الإنسان الذي يخلو عن العقل بالفعل-كما هو الأكثر-غير ناطق،و غير ما هو ثابت له النفس الإنسانيّة،و أن لا يكون إنسانا و لا ناطقا،هذا خلف.

بل المقوّم له العقلان الهيولانيّان اللذان لا يخلو إنسان عنهما،بل العقل الهيولانيّ وحده؛إذ الانسان ربما يخلو عن العقل بالملكة أيضا،و مع هذا فهو إنسان و ناطق.

و كذلك الحسّ من جملة أفعال الحياة هنا،أي في الحيوان يقع على القوّة التي بها يدرك المحسوسات على سبيل قبول أمثلتها و الانفعال عنها،و ليس هذا أيضا يصحّ هناك،أي في الفلك على ما يرى أنّه مقتضى الدليل و معتقدهم.

و بذلك ظهر أن ليس هنا معنى مشترك يشترك فيه الفلك و الحيوان مطلقا،كما أنّه ليس هنا معنى مشترك يشترك فيه الفلك و النبات.

ثمّ إن اجتهد مجتهد،فجعل النفس كمالا أوّلا لما هو متحرّك بالإرادة و مدرك من الأجسام،حتّى يدخل فيه الحيوانات مطلقا و الفلك،خرج النباتات من هذه الجملة،لأنّه ليس لها ذلك المعنى.

فظهر من ذلك أن ليس هنا معنى مشترك بين النفس الأرضيّة المتناولة لجميع أنواعها و بين النفس الفلكيّة،و أنّه حيث كان ذلك الحدّ حدّا للأرضيّة،فينبغي إخراج الفلكيّة عنه.

و هذا الذي ذكرنا هو القول المحصّل في ذلك.و منه يظهر الجواب عن التشكّك بالوجه الأوّل من الطرق الثلاثة الاول،بالتزام خروج النفس الفلكيّة عن الحدّ،و أنّها مما ينبغي خروجها عنه لعدم معنى مشترك هنا،و أنّ خروجها عن الحدّ بقولهم فيه:«له أن يفعل أفعال الحياة»إنّما هو باعتبار المعنى الذي اريد بأفعال الحياة كما ذكر،لا باعتبار إسناد الفعل إليه بطريق الإمكان،كما توهّمه بعض،فإنّ ذلك جار في الفلك أيضا،على ما فسّرنا العبارة فيظهر منه أنّه أيضا في جواب التشكّك،حمل العبارة على ما حملنا عليه، كما أنّ المتشكّك أيضا حملها عليه.

ص:82

نكته

و حيث عرفت ذلك،فاعلم أنّ هذا الجواب كأنّه لا يفي بحلّ هذا التشكّك من الطريق الرابع،و لا يظهر منه أنّ الجواب عنه ما ذا؟

و أقول:لعلّ الجواب عنه التزام كون التغذّي و نحوه من أفعال النبات حياة،أو من جملة أفعال الحياة،و أمّا أنّهم لا يسمّون النبات حيوانا،فلعلّ وجهه أنّ مناط التسمية بالحيوان،إمّا إمكان صدور جميع أفعال الحياة عنه كما في الإنسان،أو إمكان صدور أكثرها أو معظمها عنه كما في الحيوان غير الإنسان،و إمّا إمكان صدور بعض منها قليل كما في النبات؛فلعلّه لم يكن منشأ التسمية بالحيوان.

فان قلت:ما ذكرت من أنّ اشتراك اسم النفس بين الفلك و النبات،بل بين الفلك و الحيوان اشتراك لفظيّ،و أن ليس هنا معنى مشترك،إنّما هو مبنيّ على ما حدّدت به النفس،كما ذكرت؛فلعلّها إذا حدّت بوجه آخر،كان هناك معنى مشترك.فمن أين يحصل الجزم بعدم وجود معنى مشترك هنا كما ادّعيت؟

قلت:من البيّن أنّه لا يكون لحقيقة واحدة حدّان مختلفان،فإنّ الحدّ عين المحدود، و إن كان التفاوت بينهما بالإجمال و التفصيل.و كما أنّه لا يمكن أن يكون حقيقة واحدة حقيقتين مختلفتين،كذلك لا يمكن أن يكون لحقيقة واحدة حدّان مختلفان.و من البيّن أيضا أنّ ما ذكره الشيخ بقوله (1):«كمال أوّل لجسم طبيعيّ آليّ له أن يفعل أفعال الحياة».

تعريفا للنفس من حيث هي نفس،حدّ لها من هذه الجهة،كما عرفت بيانه،فلا يكون غير ذلك حدّا لها،بل إنّما يكون ذلك لو كان هنا تعريف آخر غير ذلك،رسما لها أو تعبيرا عنها او تعيينا للمسمّى بها بوجه إيجابيّ أو سلبيّ،من غير أن يكون حدّا لها.

و وجود معنى مشترك في هذه التعبيرات و الرسوم،كما في قول الشيخ فيما تقدّم (2):

ص:83


1- -الشفاء-الطبيعيّات 10/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.
2- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 5/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

«إنّ (1)كل ما يكون مبدأ لصدور أفاعيل ليست على وتيرة واحدة عادمة للإرادة»،على ما فسّرناه و لخّصنا معناه،و هو أتمّ التعبيرات عنها و أحسنها،لا يزيل الاشتراك اللفظيّ؛إذ المقصود حصول ذلك الاشتراك بحسب ما هو حدّ للنفس،و تلك الرسوم و التعبيرات ليست بحدّ.

على أنّ بعض تلك الرسوم و التعبيرات،و إن كان يشمل الفلكيّة أيضا،لكنّه مخلّ من وجه آخر.كما إذا قيل:إنّها مبدأ لصدور فعل ما،إذ يدخل فيه صور البسائط و العنصريّات، و بعضها مما هو مخلّ من وجه آخر.كما إذا قيل:إنّها مبدأ لصدور فعل مع الإرادة،إذ يخرج عنه حينئذ النفس النباتيّة،و بعضها مما لا يشمل الفلكيّة على المذهب الصحيح، كما إذا قيل:إنّها مبدأ لصدور أفعال مختلفة مع الإرادة،إذ ليست أفعال الفلكيّة على المذهب الصحيح-من أنّ لكلّ فلك نفسا مفردة نهج مختلفة،بل هي على نهج واحد على ما قالوا.و هذا أيضا يؤيّد الاشتراك اللفظيّ،و أمّا على المذهب غير الصحيح من أنّ النفس إنّما هي متعلّقة بالفلك الكلّيّ،و أنّ الأفلاك الجزئيّة المختلفة في الحركات بمنزلة الآلات لها،فأفعال الفلكيّة و إن كانت مختلفة،و كذا هذا التعريف و إن كان مشتملا على معنى مشترك بين الفلكيّة و الأرضيّة،لكنّه حيث كان رسما،فلا يزيل ذلك كون اسم النفس واقعا عليهما باشتراك اللفظ،بحسب ما هو حدّ للنفس،كما عرفت.

كلام مع المحقّق الطوسيّ و غيره

و حيث تحقّقت ما ذكرناه،فاعلم أنّ ما ذكره بعضهم-كالمحقّق الطوسيّ في شرح الإشارات و التجريد-و تبعه فيه كثير من القوم في تحديد النفس من حيث هي نفس،من أنّها كمال أوّل لجسم طبيعيّ آليّ ذي حياة بالقوّة (2):حيث غيّروا قول الشيخ في الحدّ:«له أن يفعل أفعال الحياة»،بقولهم:«ذي حياة بالقوّة».

ص:84


1- في المصدر:و بالجملة كلّ ما يمكن.
2- -شرح التجريد219/،للقوشجي،طبع تبريز.

إن كان مرادهم به ما دلّ عليه عبارة الشيخ كما بيّنّا معناها،فلا كلام معهم في كون هذا حدّا للنفس مطابقا لما ذكره الشيخ،إلاّ أنّ تطبيق ما ذكروه على ما ذكره يحتاج إلى تكلّف بالغ؛لأنّه حينئذ يكون معنى قولهم هذا،أنّ النفس كمال أوّل لجسم طبيعيّ آليّ ذي حياة بالفعل،يكون صدور أفعال الحياة عنه بالقوّة،أي ممكنا،كما ذكرنا في معنى قول الشيخ.

و إن كان مرادهم به ما يتبادر من ظاهر قولهم هذا،أنّ النفس كمال أوّل لجسم طبيعي آليّ ذي حياة،يكون حياته بالقوّة بالفعل؛فهذا ليس بصحيح في نفسه،لأنّه يخرج عنه جميع ما قصدوا تحديده،أي النفس الأرضيّة بجميع أنواعها.لأنّ حياة الجميع إنّما هي بالفعل لا بالقوّة،سواء اريد بالحياة عين النفس بناء على تسمية النفس بالحياة-كما وقع في عبارة بعضهم،و ادّعاه المتشكّك في التشكّك بالوجه الثاني-او اريد بها كون الشيء موجودا فيه مبدأ يصدر عنه أفعال الحياة،أو اريد بها كون الشيء بحيث يصحّ صدور تلك الأفعال عنه،كما سيأتي تفسيرها في كلام الشيخ.فإنّ جميع ذلك حاصل للجسم ذي النفس بالفعل لا بالقوّة،و أمّا إذا اريد بالحياة تلك الأفعال أنفسها-كما وقع في كلام المتشكّك بالوجه الأوّل-فتلك الأفعال،و إن كانت تارة بالفعل و تارة بالقوّة،لكنّها ليس يلزم كونها بالقوّة البتّة،كما يدلّ عليه ظاهر تلك العبارة.

و إن كان مرادهم به ما فهمه بعضهم منه،كالشارح القوشجي في شرح التجريد،حيث ذكر:«إنّ المراد به ما يمكن أن يصدر عنه ما يصدر عن الأحياء و لا يكون ذلك الصدور دائما،بل قد يكون بالقوّة (1)»و ادّعى أنّه بهذا القيد يخرج النفس الفلكيّة على المذهب غير الصحيح،أي على رأي من يجعل الفلك آليّا،لأنّ ما يصدر عنها يكون دائما،لا كأفاعيل النفس الأرضيّة،حيث قد تكون بالقوّة،كما أنّه يخرج بقيد كون الجسم آليّا النفس الفلكيّة على المذهب الصحيح،أي على تقدير عدم كون الفلك آليّا.

فهذا المعنى الذي فهمه بعيد عن تلك العبارة بمراحل،لا يستقيم حملها عليه عند من له أدنى معرفة بأساليب الكلام.

ص:85


1- -شرح التجريد220/، [1]للقوشجي.

فيظهر مما ذكرنا،أنّ تغيير عبارة الشيخ بما ذكره هؤلاء تغيير مخلّ،و أنّ فهم المعنى المقصود منه لا يخلو عن سماجة و ركاكة،و أنّ الأحسن ما ذكره الشيخ،و أن إخراج النفس الفلكيّة بما ذكره من القيد إنّما هو من جهة تفسير أفعال الحياة بما فسّر،كما دلّ عليه عبارته.و ادّعاه هو نفسه،و قبله منه المتشكّك:لا يكون تلك الأفعال بالإمكان أو بالقوّة، فاعرف ذلك.

و حيث عرفت ذلك،و عرفت أنّ الحدّ الجامع المانع للنفس الأرضيّة المتناولة للنباتيّة و الحيوانيّة و الإنسانيّة هو ما ذكر،تحصّل لك أنّه:

إن أريد تحديد النفس الأرضيّة النباتيّة على حدة،ينبغي أن يقال:إنّها كمال أوّل لجسم طبيعيّ آليّ له أن يفعل بعض أفعال الحياة،أي التغذية و التنمية و التوليد فقط.

و إن أريد تحديد الحيوانيّة على حدة،ينبغي أن يقال بعد قولهم:«آليّ»:له أن يفعل أكثر أفعال الحياة،أي أن يفعل-مضافا إلى أفعال النباتيّة-الحسّ و الحركة الإراديّة فقط من جملة أفعال الحياة.

و إن أريد تحديد الإنسانيّة على حدة،ينبغي أن يقال بعد قولهم:«آليّ»:له أن يفعل أفعال الحياة كلّها،أي أن يفعل-مضافا إلى أفعال النباتية و الحيوانيّة-النطق و التعقّل الكلّيّ.

و إن اريد تحديد الفلكيّة،ينبغي أن يقال:إنّها كمال أوّل لجسم طبيعيّ له أن يفعل الإدراك و الحركة الدائميّين اللذين يتبعان تعقّلا كلّيّا حاصلا بالفعل.

و هذا إذا اريد تحديدها على المذهب الصحيح.و إن اريد تحديدها على المذهب غير الصحيح،ينبغي أن يزاد قولنا:«آليّ»بعد قولنا:«لجسم طبيعيّ»في هذا الحدّ.

و هذا كلّه ظاهر،و اللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.

و قوله (1):«و أمّا أمر الحياة و النفس،فمثل (2)الشكّ في ذلك على ما نقول:إنّه قد صحّ أنّ

ص:86


1- -الشفاء-الطبيعيّات 12/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.
2- في المصدر:فحلّ الشك.

الأجسام يجب أن يكون فيها مبدأ الأحوال المعلومة المنسوبة إلى الحياة بالفعل»-الى آخر ما ذكره.

هذا جواب عن التشكّك من الوجه الثاني،و حاصله؛أنّ المفهوم عند الجمهور من لفظة الحياة المقولة على الحيوان ليس معنى النفس،نعم لو اصطلح أحد و سمّى مسمّى النفس بحياة،فلا مناقشة معه،و تحرير كلامه بحيث يتضمّن شرح نبذ من الدقائق التي يمكن أن تنفهم منه،بأن يقال:و أمّا أمر الحياة و النفس و الشكّ في ذلك بتجويز اتّحادهما، فمثل الشكّ في ذلك،أي حاله،و كذا حال حلّه مبنيّ على الوجه الذي نقول:إنّه قد صحّ أنّ الأجسام يجب أن يكون فيها مبدأ الأحوال المعلومة المنسوبة إلى الحياة بالفعل،يعني أنّ هاهنا مقدّمة حقّة بيّنة ممّا تقدّم،هي أنّ الأجسام التي أثبتنا النفس لها،أي النبات و الحيوان و الإنسان،يجب أن يكون فيها مبدأ الأحوال المعلومة المنسوبة إلى الحياة بالفعل،أي يجب أن يكون فيها نفس هي كمال أوّل لها و مبدأ لتلك الأفعال التي قلنا إنّها أفعال الحياة و نسبناها إلى الحياة على سبيل الإضافة إليها،فالمتشكّك كأنّه بنى تشكّكه على أحد أمرين ينشئان من هذه المقدّمة:

الأوّل أنّه حيث رأى أنّه يضاف تلك الأفعال إلى الحياة،و رأى أنّ كون النفس مبدأ لتلك الأفعال يستلزم إضافتها إلى النفس أيضا-أي القول بأنّها أفعال النفس و إضافتها إليها-رأى أنّ إضافتها إلى الحياة ينبغي أن تكون بالمعنى الذي هو المراد في إضافتها إلى النفس،و حيث كانت إضافتها إلى النفس إضافة ظاهرة في المغايرة بين المضاف و المضاف إليه،أي اللاميّة،و في كون المضاف إليه-أي النفس-مبدأ و سببا للمضاف،أي تلك الأفعال،و كون تلك الأفعال مستندة إلى النفس مسبّبة عنها،إذ ليست تلك الأفعال عين النفس،بل غيرها مستندة إليها.

فكذلك ينبغي أن تكون إضافتها إلى الحياة بهذا المعنى،و إذا كانت بهذا المعنى، فيكون النفس و الحياة واحدة بالحقيقة،عبّر عنها تارة بالكمال الأوّل،و تارة بالنفس، و تارة بالحياة؛حيث فرضت كلّ واحدة منهما مبدأ لتلك الأفعال بمعنى واحد،و الحال أنّه

ص:87

لا يكون لأمر واحد مبدءان بمعنى واحد مختلفان بالحقيقة.

و الأمر الثاني،أنّه حيث رأى انتساب تلك الأفعال إلى الحياة تارة،و إلى النفس أخرى،و رأى أنّ كلّ ذي نفس فهو ذو حياة،و بالعكس،رأى من ذلك اتّحاد النفس و الحياة.فهذا هو بيان تشكّك المتشكّك في ذلك.

و أمّا بيان حلّه على الإجمال،فهو أن يقال:إنّ ما ذكرته إنّما يصحّ إذا كان معنى النفس و معنى الحياة واحدا،و أمّا إذا لم يكن واحدا فلا،يعني أنّ العمدة في الحكم باتّحاد النفس و الحياة هو وحدة معنييهما،إذ مع اختلاف معنييهما-كما هو الحقّ عند الجمهور-لا يصحّ الحكم بذلك أصلا،و هذا ظاهر.

و أمّا جعل الإضافة و نسبة الأفعال تارة إلى النّفس،و تارة إلى الحياة،منشأ للاتّحاد، فلا وجه له أيضا أصلا،لأنّه يمكن أن يكون الإضافة إلى الحياة بيانيّة،كما يظهر من المتشكّك نفسه في التشكّك الأوّل،و إلى النفس لاميّة،كما ادّعاه هنا.و على تقدير كون الإضافة في كليهما لاميّة،فيمكن أن يكون الإضافة إلى النفس لاميّة،بمعنى استناد تلك الأفعال إليها و كونها مبدأ لها،و إلى الحياة بمعنى غير ذلك من نوع ملابسة يصحّ معها الإضافة اللاميّة،كما سنشير إليه.

و على تقدير أن تكون في كلّ منهما بمعنى المبدئيّة،فحينئذ إن اريد بها المبدئيّة التامّة،فيمكن أن تكون في إحداهما بمعنى المبدئيّة القريبة،و فى الاخرى بمعنى المبدئيّة البعيدة.و إن اريد بها المبدئيّة الناقصة،فيمكن أن تكونا في مرتبة واحدة.

و على كلّ تقدير،فلا يمكن الاستدلال بإضافة شيء إلى شيئين على اتّحاد ذينك الشيئين،كما يتراءى من المتشكّك.كما أنّه لا يمكن بكون النفس حاصلة لكلّ ما له الحياة حاصلة،الحكم بكونها متّحدتين كما يتراءى ذلك منه أيضا.إذ يمكن أن يكون لشيء واحد شيئان:أحدهما غير الآخر،بل العمدة في الحكم باتّحاد النفس و الحياة، اتّحادهما في الواقع،و هو ممنوع هنا،بل الواقع خلافه.

و أمّا بيان الحلّ على التفصيل،أنّه إن اصطلح أحد،و سمّى مسمّ مبدأ الأحوال

ص:88

المعلومة و مصدر الأفعال المنسوبة إلى الحياة،حياة؛لم يكن معه-حيث لا مناقشة في الاصطلاح-مناقشة في هذه التسمية،و فى كون إضافة تلك الأفعال إلى النفس و إلى الحياة بمعنى واحد،هو كون تلك الأفعال مستندة إلى الشّيء الذي يسمّى تارة نفسا، و اخرى حياة،و كونه مبدأ لها،و في أنّ كون ذي نفس ذا حياة و بالعكس؛يستلزم اتّحادهما حينئذ.

و أمّا المفهوم عند الجمهور من لفظة الحياة المقولة على الحيوان،فهو أمران غير معنى النفس:أحدهما كون الشّيء-أي الجسم-موجودا فيه مبدأ-أي نفس-يصدر عنه تلك الأحوال و الأفعال المعلومة،أو كون الشّيء-أي الجسم-بحيث يصحّ صدور تلك الأحوال و الأفعال عنه.

فأمّا المعنى الأول من المعنيين،فمعلوم أنّه ليس معنى النفس بوجه من الوجوه،إذ كون الشّيء موجودا فيه النفس لا يكون عين النفس،بل يكون حينئذ النفس أمرا آخر غير ذلك الكون،و غير ذلك الشّيء الكائن الذي قد فرض موجودا فيه النفس.

و أمّا المعنى الثاني،فيدلّ على معنى أيضا غير معنى النفس،و ذلك لأنّ كون الشيء بحيث يصحّ أن يصدر عنه شيء أو يوصف بصفة،لكون الجسم هنا بحيث يصدر عنه تلك الأحوال،أو يوصف بأنّه مبدأ لتلك الأحوال يكون على وجهين:

أحدهما أن يكون في الوجود-أي الموجود-هناك شيئا آخر أيضا غير ذلك الكون نفسه،و غير ذلك الكائن على تلك الحيثيّة،يصدر عن ذلك الكائن على تلك الحيثيّة بانضمام ذلك الشيء الآخر،الذي هو كمال للشيء الأوّل،ما يصدر عنه من تلك الأفعال و الأحوال.

و هذا مثل كون السفينة بحيث يصدر عنها منافع السفينة،فإنّ ذلك ممّا يحتاج إلى الربّان الذي هو كمال السفينة،و إلى انضمامه إليها؛حتّى يحصل و يتمّ هذا الكون.و لا يخفى أنّ هذا الربّان و هذا الكون ليسا شيئا واحدا بالموضوع و الذات،و كذا ليس الربّان و هذا الكائن بهذا الكون شيئا واحدا بالموضوع،بل إنّ الربّان مغاير بالموضوع و الحقيقة

ص:89

لذلك الكون،و كذا لذلك الكائن.

و لا يخفى أيضا أنّ ما نحن فيه من هذا القبيل،لأنّ كون الجسم بحيث يصحّ أن يصدر عنه تلك الأحوال المعلومة ممّا يحتاج إلى أمر آخر هو الكمال له،و يتمّ به هذا الكون،و هو الذي سمّيناه نفسا،كما تقدّم بيان ذلك كلّه.و ظاهر أنّه مغاير بالموضوع لذلك الكون الذي قلنا إنّه حياة،و كذا للجسم الكائن بهذا الكون،فيكون معنى الحياة على هذا الوجه أيضا غير معنى النفس البتّة.

و الوجه الثاني من الوجهين،أن لا يكون هنا شيء غير هذا الكون و غير هذا الكائن في الموضوع و الحقيقة،مثل كون الجسم بحيث يصدر عنه الإحراق عند من يجعل نفس هذا الكون الحرارة،حتّى يكون وجود الحرارة في الجسم هو وجود هذا الكون.و كذلك وجود النفس للجسم هو وجود هذا الكون له على ظاهر الأمر،لو كان من هذا القبيل.إلاّ أنّ ذلك لا يستقيم في النفس،لأنّك قد عرفت فيما تقدّم،أنّ ذلك في النفس إنّما يستقيم على الوجه الأوّل دون هذا الوجه.حيث عرفت أنّ كون الجسم بحيث يصدر عنه تلك الأفعال المعلومة يحتاج إلى انضمام أمر آخر هو غير ذلك الكون-أي النفس-حتّى يتمّ به هذا الكون،فليس المفهوم من هذا الكون و من النفس شيئا واحدا،و كيف لا يكون كذلك، و الحال أنّ المفهوم من هذا الكون الموصوف لا يمنع أن يسبقه بالذات كمال و مبدأ تمّ للجسم هذا الكون،و المفهوم من الكمال الأوّل الذي رسمناه و حدّدنا به النفس يمنع أن يسبقه بالذات كمال آخر،لأنّ الكمال الأوّل-حيث فرض أوّل-ليس له مبدأ و كمال أوّل.

و أيضا المفهوم من الحياة بالمعنى الأوّل أو المعنى الثاني،بالوجه الأوّل أو الثاني،أمر إضافيّ عرض في موضوع و النفس-كما سيأتي بيان حقيقتها-جوهر لا في موضوع، و أحدهما غير الآخر البتّة.و إنّما يتعرّض الشيخ لهذا الوجه،لأنّه لم يبيّن بعد جوهريّتها.

و كيف ما كان،فليس إذن المفهوم من الحياة و النفس أمرا واحدا بالذات،إذا عنينا بالحياة ما يفهمه الجمهور،و هو معناها عندهم كما عرفت.نعم لو عنينا بالحياة أن تكون لفظة مرادفة للنفس في الدلالة على الكمال الأوّل،و اصطلاحنا على ذلك،لم يناقش فيه؛

ص:90

و كانت الحياة حينئذ اسما لما كنّا وراء إثباته من هذا الكمال الأوّل.و هذا هو تحرير كلامه.

و ظهر منه أنّ النفس و الحياة أمران متغيران بالحقيقة،لا أمر واحد كما ادّعاه المتشكّك.

و يظهر منه أيضا أنّ النفس،كما أنّها مبدأ لتلك الأفعال و الأحوال المعلومة بالذات، كذلك هي علّة لحصول ذلك الكون،الذي هو معنى الحياة لذلك الجسم الذي له النفس.

و أنّ ذلك الجسم أيضا مصدر لتلك الأفعال،لكن لا بالذات،بل بتوسّط النفس.كما أنّه متعلّق الحياة و النفس.

و أنّه إذا اضيفت الأفعال إلى النفس تكون الإضافة لاميّة،بمعنى أنّ تلك الأفعال مستندة إلى النفس،و هي مبدأ لها بالذات.

و أنّها إذا اضيفت إلى ذلك الجسم تكون لاميّة أيضا؛بمعنى أنّه مصدر لها بواسطة النفس.

و كذلك إذا اضيفت الحياة إلى النفس تكون لاميّة أيضا،بمعنى أنّها معلولة للنّفس، و هي علّة لها.

و إذا أضيفت إلى ذلك الجسم تكون لاميّة أيضا،بمعنى أنّها حاصلة له،كما إذا اضيفت النفس إليه.

و امّا إذا اضيفت تلك الأفعال إلى الحياة،فتلك الإضافة لا تكون بيانيّة-كما يفهم من المتشكّك في التشكّك الأوّل-إذ ليست تلك الأفعال من جنس الحياة التي عرفت أنّها الكون الموصوف،بل لاميّة أيضا،لكن لا بالمعاني المذكورة،بل بمعنى أنّها ملابسة للحياة و مصاحبة معها ملازمة لها،حيث إنّ كلاّ من الحياة و تلك الأفعال متلازمتان،بمعنى أنّهما معلولتا علة واحدة هي النفس.

و يظهر منه أيضا أنّ ما وقع في كلام بمعنى الأقدمين من أنّ النفس حياة،كان معناه أنّ النّفس محيية للبدن و منشأ لحصول الحياة له حتّى كأنّها نفس الحياة،و قد أشرنا إلى ذلك

ص:91

فيما سبق في مبحث بقاء النفس.

فهذا القول منه أيضا لا يمكن أن يكون منشأ للتشكّك المذكور،و ادّعاء أنّ النفس نفس الحياة و متّحدة معها بالذّات؛فتبصّر.

ثمّ إنّ قول الشيخ (1):«و قد فرغنا الآن عن (2)معنى الاسم الذي يقع على الشيء الذي سمّي نفسا بالإضافة (3)له،فبالحريّ أن نشتغل بإدراك ماهيّة (4)هذا الشيء الّذي صار بالاعتبار المقول نفسا».

يعني أنّه بذلك الكلام الطويل قد فرغنا عن بيان معنى اسم النفس و تحديدها بحسب ما لها إضافة إلى البدن،و حيث كان هذا التحديد لا يفيد بيان حقيقتها بالنظر إلى ما لها في نفسها،و لا يتبيّن منه أنّ الكمال الأوّل الذي رسمناه،أ هو في ذاته جوهر أم عرض؟و على تقدير كونه جوهرا،هل هو جوهر مجرّد عن المادّة أم مادّيّ سماويّ أم أرضيّ؟و بالجملة لا يتبيّن منه بيان ماهيّتها في ذاتها،كما عرفت وجهه،و الحال أنّ هذا البيان أيضا مقصودنا.

فبالحريّ أن نشتغل بإدراك ماهيّة هذا الشيء الذي صار بالاعتبار المقول نفسا،أي بتحقيق حقيقته في نفسه التي هي حقيقته في حدّ ذاتها،و هي صارت باعتبار القول بأنّها كمال أوّل نفسا متعلّقة بالبدن،مدبّرة له،كما حقّقه فيما بعد هذا الفصل،أنّها جوهر مجرّد من شأنها كذا و كذا،و من حالها كيت و ذيت،و سنشير إليه إن شاء اللّه تعالى.

و قوله (5):«و يجب أن نشير في هذا الموضع إلى إثبات وجود النفس التي لنا إثباتا على سبيل التنبيه و التذكير»-إلى آخره-

معناه أنّه يجب أن نشير في هذا الموضع إلى اثبات وجود النفس التي لنا،أي النفس الناطقة الإنسانيّة،أي إثبات إنّيّتها إثباتا لا على طريق الاكتساب من حدّ أو رسم أو دليل، بل إثباتا ضروريّا بديهيّا يحتاج إلى تنبيه و تذكير.

ص:92


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 13/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.
2- في المصدر:فقد عرفنا الآن معنى...
3- بإضافة...
4- ماهيّة...
5- -الشفاء- [2]الطبيعيّات 13/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

[قوله:]«إشارة شديدة الموقع (1)عند من له قوّة على ملاحظة الحقّ نفسه من غير احتياج إلى تثقيفه و تسويته و قرع عصاه و صرفه عن المغلّطات»:

أي عند من له قوّة ملاحظة على الحقّ،و لا يكون اعوجاج في رأية و عدم استقامة في فكره،حتّى يحتاج إلى تسويته و تعديله،و لا يكون عادلا عن طريق الحقّ،حتّى يحتاج إلى ضربه بالعصا حتى يتنبّه و يجيء إلى سبيل الحقّ،أو إلى ضرب عصاه،حتّى يجد الطريق و يستشعر به كالأعمى.و لا يكون واقعا في الغلط،حتّى يحتاج إلى صرفه عمّا يوقعه فى الغلط.

ثمّ إنّ غرضه من هذه الإشارة يحتمل أحد أمرين:

احدهما أنّ ما تقدّم من إثبات وجود النفس،لمّا كان إثباتا بطريق الكسب، و استدلالا من آثارها عليها،و من جهة مشاهدة أفعالها على وجودها،فيجب هنا أن نشير إلى اثبات وجودها إثباتا بديهيّا،ليتأكّد العلم بوجودها،و يزيد اليقين بثبوت إنّيّتها؛ و يتضمّن مع ذلك بعض ما نريد بيانه هنا،من كونها مغايرة للبدن و لجميع أجزائه و قواه، بل لكلّ ما يدرك بالحواسّ الظاهرة و الباطنة،و بذلك يتضمّن كونها جوهرا مجرّدا عن المادة أيضا،كما يتضمّنه هذا الإثبات في هذه الإشارة،و سيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى.

الثّاني أنّه لمّا كان تحديد الشيء و العلم بحقيقته متوقفا على العلم بوجوده،و كان ما تقدّم تحديدا للنفس من جهة ما لها إضافة ما إلى البدن،فلذا اكتفينا فيه بإثبات وجودها من هذه الجهة،أي من جهة آثارها و أفعالها في البدن.و أمّا نحن فى هذا المقام،حيث كنّا بصدد تحقيق حقيقة النفس في ذاتها،و تحصيل العلم بها من هذه الحيثيّة،و أنّها جوهر مجرّد من شأنه كذا و كذا،و من حالها كيت و ذيت؛فيجب علينا أن نشير إلى إثبات وجودها من حيث ذاتها بذاتها،حتّى نحقّق بعد ذلك حقيقتها من هذه الجهة.

و على الوجهين فتخصيص هذا الإثبات بوجود النفس الإنسانيّة،مع أنّ ما تقدّم منه كان عامّا،يعمّ إثبات النفس الأرضية مطلقا.

ص:93


1- في المصدر:الوقوع.

إمّا لأنّ الإثبات بهذا الوجه الضروريّ التنبيهيّ إنّما يكون في النفس الإنسانيّة فقط، لأنّ ذلك التأمّل و التوهّم و الملاحظة إنّما يكون للإنسان دون النبات و الحيوان،يعني أنّ هذا التنبّه إنّما هو معلوم الحصول للإنسان دون غيره،فإنّه في غيره غير معلوم و إن كان عدمه غير معلوم أيضا.

و إمّا لأنّ الغرض الأصليّ هو إثبات وجود النفس الإنسانيّة و بيان أحوالها،و أما النباتيّة و الحيوانيّة فبالعرض و بتبعيّة بيان حال الإنسانيّة،حيث إنّهما أيضا موجودتان للإنسان أيضا.

و إمّا لأنّ هذا الإثبات،و إن كان في أوّل النظر مخصوصا بالإنسان و بالنفس الإنسانيّة،إلاّ أنّه في النظر الثاني الأدقّ،حيث يثبت أنّ النفس الإنسانيّة ذات واحدة بالحقيقة،لها اعتبارات مختلفة؛باعتبار تكون إنسانيّة،و باعتبار تكون حيوانيّة،و باعتبار تكون نباتيّة-كما سبقت الإشارة إليه فيما تقدّم،و سيجيء زيادة تحقيقه-يكون هذا الإثبات عامّا للجميع،فتدبّر.

و قوله (1):«فنقول:يجب أن يتوهّم الواحد منّا كأنّه خلق دفعة»-إلى آخره-.

إشارات إلى هذا الإثبات.و تحريره:أنّه يجب في هذه الإشارة أن يتوهّم الواحد منّا كأنّه خلق دفعة،أي أوّل خلقه حتّى لا يكون له تذكّر أصلا لشيء مطلقا،و خلق كاملا،أي صحيح العقل حتّى يمكنه التنبّه لذاته،و صحيح الهيئة لئلاّ يؤذيه مرض،فيدرك حالا لذاته غير ذاته،لكنّه حجب بصره عن مشاهدة الخارجات عن ذاته،أي بحيث لا يبصر أجزاءه و لا شيئا غيرها،لئلاّ يدرك شيئا من هذه،فيحكم بأنّ ذاته هو؛و خلق يهوي و يسقط في هواء،أي في هواء طلق غير محسوس بكيفيّة غريبة من حرّ أو برد أو خلاء، هويّا لا يصدمه فيه قوام الهواء صدم ما يحوج إلى أن يحسّ،حتّى يحسّ بصدمه أو كيفيّته.

و بالجملة بشيء خارج عن جسده أيضا،لئلاّ يحكم بأنّ ذلك ذاته أو جزء ذاته،

ص:94


1- -الشفاء-الطبيعيّات 13/2،الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الباب السادس.

و فرّقت بين أعضائه فلم تتلاق و لم تتماسّ،بل كانت مفرّقة في ذلك الهواء لئلاّ يحسّ بأعضائه،ثمّ يتأمّل أنّه هل يثبت وجود ذاته؟و لا شكّ أنّه لا يشكّ حينئذ في اثباته لذاته موجودا،و لا يثبت مع ذلك طرفا من أعضائه الظاهرة،و لا باطنا من أحشائه و أعضائه الباطنة،و لا قلبا و لا دماغا و لا شيئا من الأشياء من خارج،بل كان يثبت ذاته،و لا يثبت لها طولا و لا عرضا و لا عمقا.و لو فرضنا أنّه أمكنه في تلك الحال أن يتخيّل شيئا مما ذكر أو عضوا آخر،فلا شكّ أنّه لم يتخيّله جزءا من ذاته و لا شرطا في ذاته،و أنت تعلم أنّ المثبت غير الذي لم يثبت،و أنّ المقرّ به غير الذي لم يقرّ به.فإذن للذات التي أثبت وجودها خاصيّة هي أنّها مثبتة،و هي ذات ذلك المتنبّه المتوهّم المتأمّل المفروض بعينه غير جسمه و غير أعضائه و غير شيء آخر خارج،و بالجملة غير ما لم يثبته أيّا كان.

ثمّ إنّ ذلك المتأمّل المتنبّه،لو تأمل أدنى تأمّل،تنبّه لأنّه ليس هذا الذات التي أثبت وجودها سوى نفسه،فيحصل له سبيل على التنبّه على وجود النفس له شيئا غير جسمه و بدنه و أعضائه و مزاجه و أعراضه،بل غير ما هو غير لهذا الجسم من الأشياء الخارجة.

و يجب أن يكون عارفا بذلك مستشعرا له،فإنه مع ذلك التنبّه لو كان ذاهلا عنه،كان أعمى القلب ضالاّ عن السّبيل السويّ،ككثير من العوام و أصحاب الطبائع الكثيفة المتورّطين في الجهالات،يحتاج إلى أن يقرع عصاه حتّى يهتدي إلى السبيل،و يشهد بذلك ما نقل عن أرسطو.

إنّه سئل أنّه كيف تعمى النفس عن معرفة نفسها و هي أمّ الحكمة؟

فقال:إذا غابت الحكمة عن النفس،عميت عن نفسها و غيرها كما يعمى البصر عن نفسه و غيره اذا غاب عنه المصباح.

فحاصل هذه الإشارة:أنّه من الفروض الممكنة غير الممتنعة أن يفرض الإنسان كونه في أوّل الخلقة صحيح العقل و الهيئة،في هواء طلق أو خلاء،منفرج الأعضاء غير متلامسها،و غير مستعمل للحسّ في شيء أصلا،فإنّه حينئذ يكون واجدا لذاته و لنفسه، مثبتا لها مستشعرا إيّاها و فاقدا غير مستشعر و غير مثبت لكلّ شيء سواها،و غافلا عن

ص:95

كلّ شيء كأعضائه الظاهرة و الباطنة،و ككونه جسما ذا أبعاد،و كحواسّه و قواه و مزاجه و أعراضه،و كالأشياء الخارجة عنه جميعا،إلاّ عن ثبوت ذاته و نفسه فقط التي يشير إليها بقوله:«أنا».

و بعبارة اخرى،يمكن أن يفرض أنّ إنسانا خلق دفعة واحدة،و خلق متباين الأطراف و لم يبصر أطرافه،و اتّفق أن لم يمسها و لا تماسّت،و لم يسمع صوتا و لا استعمل حسّا من الحواسّ الظاهرة و الباطنة،بحيث جهل وجود جميع أعضائه و غيرها، و علم وجود إنّيته شيئا واحدا مع جهله جميع ذلك.

فإذن يحصل له إدراك هو أوضح الإدراكات و أجلاها،و علم ضروريّ غير مكتسب من حدّ أو رسم أو حجّة أو برهان بوجود نفسه لنفسه،و كونها مغايرة لجميع ما ذكر،حيث إنّ الموجود غير المفقود،و المعلوم غير ما ليس بمعلوم،و المشهور به غير المغفول عنه، و المثبت غير ما ليس بمثبت.

و هذا الذي ذكرناه إنّما هو تحرير كلامه في ذلك في الشفاء،و سنزيده توضيحا.

و أمّا هو في الإشارات فقد ذكر هذه الإشارة و هذا التنبيه هكذا: (1)

«تنبيه:

ارجع إلى نفسك و تأمّل هل إذا كنت صحيحا؟بل و على بعض أحوالك غيرها، بحيث تفطّن للشيء فطنة صحيحة،هل تغفل عن وجود ذاتك و لا تثبت نفسك؟ما عندي أنّ هذا يكون للمستبصر،حتّى أنّ النائم في نومه،و السكران في سكره،لا يعزب ذاته عن ذاته،و إن لم يثبت تمثّله لذاته في ذكره،و لو توهّمت أنّ ذاتك خلقت (2)أوّل خلقتها (3)صحيحة العقل و الهيئة،و فرض (4)أنّها على جملة من الوضع و الهيئة لا تبصر أجزاؤها و لا تتلامس أعضاؤها،بل هي منفرجة و معلّقة لحظة ما في هواء طلق،وجدتها قد غفلت عن كلّ شيء الاّ عن ثبوت إنّيّتها».

ص:96


1- -شرح الإشارات 292/2، [1]أوفست دفتر نشر الكتاب على طبعة المطبعة الحيدريّة،1403 ه.
2- في المصدر:ذاتك قد خلقت...
3- خلقها...
4- و قد فرض.

و حاصل ما ذكره فيه يرجع إلى ما في«الشفاء»،إلاّ أنّه اقتصر في«الشفاء»على فرض حالة للإنسان يكون هو في مثل تلك الحالة غافلا البتّة عن كلّ شيء غيره،أي غير ذاته و نفسه،و لا يكون غافلا عن ذاته،بل يكون مستشعرا له البتّة،كما عرفت بيانه.

و أمّا هو في«الإشارات»،فقد بيّن أوّلا أنّ الإنسان إذا كانت له فطنة صحيحة،فهو لا يغفل عن ذاته و إثبات إنّيّة ذاته في شيء من الحالات،و إن كان يغفل عما سوى ذاته.

ثمّ ازداد إيضاحا،و ترقّى عن ذلك،ففرض تلك الحالة التي يغفل الإنسان فيها البتّة عمّا سوى ذاته،و لا يغفل عن ذاته و ثبوت إنيّة ذاته البتّة.و تحريره:أنّه من المعلوم الضروريّ الوجدانيّ الذي يجد الإنسان من نفسه إذا كان مستبصرا و كانت له فطنة صحيحة،أنّه لا يغفل عن وجود ذاته،و لا يعزب ذاته و نفسه عن ذاته في شيء من الحالات،سواء كان صحيحا أو على بعض أحوال آخر غير الصحّة.و سواء غير مختلّ الإدراك،أو مختلّ الإدراك،يختلّ إدراكه إمّا بالحواسّ الظاهرة،كالنائم؛و إمّا بالحواسّ الباطنة و الظاهرة،كالسكران؛فإنّه في جميع تلك الأحوال يدرك ذاته البتّة،و لو فرضنا غفلته عن ذاته في شيء من تلك الحالات،فإنّما هي غفلة عن إدراكه لذاته،لا عن ذاته، أي أنّه يعلم ذاته البتّة،و إن عرض له غفلة عن العلم بعلمه،بدليل أنّه إذا زالت تلك الحالة كالسكر عنه،يتذكّر أنّه هو بعينه كان يفعل كذا،أو يقول كذا مثلا في تلك الحالة.و لا ضير في الغفلة عن الإدراك،فإنّ العلم بالعلم غير أصل العلم،و إن كانت المغايرة بالاعتبار.

و كذلك من المعلوم بالوجدان أنّه في تلك الحالات التي لا يعزب فيها ذاته و نفسه عن ذاته.قد يعزب عنه غير ذاته،كبدنه و قواه و أعضائه و الأشياء الخارجة،فذاته غير تلك،لأنّ المشعور به غير المغفول عنه.بل نقول:إنّه يمكن فرض حالة لا يعزب فيها ذاته و نفسه عن ذاته البتّة،و يعزب تلك الأشياء البتّة عنه.كما لو توهّم أنّه خلق أوّل مرّة-إلى آخره-فإنّه من المعلوم بالوجدان أنّه في تلك الحالة المفروضة-كما عرفت بيانها-يجد ذاته بحيث غفلت عن كلّ شيء إلاّ عن ثبوت إنّيّتها و وجود نفس له.

فهذا حاصل كلامه في«الإشارات»،و يعلم منه و كذا مما ذكره في«الشفاء»أنّ

ص:97

الإنسان لو تأمّل أدنى تأمّل في الفرض المذكور،أمكن له التنبّه بأنّ إدراكه لذاته،الذي هو عبارة عن تصوّر ذاته و التصديق بثبوت وجود لها،إدراك أوّليّ ضروريّ لا يحتاج فيه إلى حدّ أو رسم أو حجّة و برهان،كما يكون ذلك في الإدراكات الكسبيّة.

و لذلك المدرك-بصيغة اسم الفاعل-أوّلا و بالذات في هذا الإدراك،إنّما هو ذاته بذاته،و نفسه بنفسها،من غير افتقار إلى قوّة أخرى أو آلة أو مشعر من المشاعر الظاهرة أو الباطنة،كما يكون في إدراك المحسوسات و ما شابهها من المتخيّلات و الموهومات،و كذلك المدرك-بصيغة اسم المفعول-إنّما هو ذاته بذاته،و نفسه بنفسها،من غير أن يكون ذلك عضوا من أعضاء بدنه،أو جملة بدنه،أو شيئا آخر غير نفسه و ذاته.

و بالجملة لا مغايرة بين المدرك و المدرك بالذات،و كيف يكون هذا الإدراك بآلة أو قوّة اخرى غير النفس بذاتها،و الحال أنّ المفروض الغفلة عن جميع المشاعر و الحواسّ،و أن لا استعمال لشيء من الحواسّ أصلا؟و كيف يكون المدرك غير ذاته من بدنه و جسده و أعضائه الظاهرة و الباطنة و مزاجه و أعراضه،أو أمر خارج،و المفروض عدم الشعور لشيء من ذلك أصلا؟و كيف يكون هذا الإدراك كسبيّا،و المفروض عدم إدراك شيء هنا سوى الذات و إنّيّتها،حتّى يمكن أن يكون بسببه يحصل هذا الإدراك؟ و هذا كلّه ظاهر في الصورة المفروضة.و يعلم منه أنّ للمتنبّه أن يتنبّه أنّ الحال في إدراك الذات في غير هذه الصور أيضا،أي في جميع حالات إدراكه لذاته،كذلك،كما هو ظاهر على من راجع وجدانه.

ذكر أوهام مع رفعها

ثمّ إنّ في هذا المقام أوهاما ربّما يمكن ذهاب و هم أحد إليها،فيجب علينا أن نتصدّى لدفعها،حتّى تنكشف جليّة الحال حقّ الانكشاف.

منها ما ذكره الشيخ في الإشارات و دفعه،قال (1):

ص:98


1- -شرح الإشارات 296/2-297. [1]

«و هم و تنبيه،

و لعلّك تقول إنّما أثبتّ ذاتي بوسط من فعلي،فيجب أن يكون لك فعل تثبته في الفرض المذكور،أو حركة أو غير ذلك.ففي اعتبارنا الفرض المذكور،جعلناك بمعزل عن (1)ذلك،و أمّا بحسب الأمر الأعمّ،فإنّ فعلك إن أثبتّه فعلا مطلقا،فيجب أن تثبت به فاعلا مطلقا،لا خاصّا هو ذاتك بعينها.و إن أثبتّه فعلا لك فلم تثبت (2)به ذاتك،بل ذاتك جزء من مفهوم فعلك من حيث هو فعلك،فهو مثبت في الفهم قبله،و لا أقلّ من أن يكون معه لا به، فذاتك مثبتة لا به»انتهى.

و تحريره:أنّه عسى أن يذهب و هم أحد إلى أنّ إثبات الإنسان ذاته و نفسه في هذا الفرض ليس أوّليا،بل إنّه يفتقر إلى وسط،و هو فعله في هذا الفرض المذكور.أي أنّه كسبيّ يستفاد من ذلك الفعل،و العلم به نظير برهان الإنّ،أي الدليل الذي فيه يستدلّ على العلّة بمعلولها،و على المؤثّر بأثره،كما أنّ أكثر القوى تثبت بأفعالها و آثارها.

و هذا الوهم باطل من وجهين:

احدهما-و هو الوجه الخاصّ بهذا الفرض-هو أنّ الإنسان في الفرض المذكور لم يكن له فعل،حتّى يمكن له أن يستدلّ به على ذاته،بل كان غافلا عن أفعاله مع إدراك ذاته.

و لو فرضنا أنّه صدر عنه في الفرض المذكور فعل أيضا،فهذا الفعل-و إن كان في بادئ النظر فعلا-لكنّه في التّحقيق ترك كلّ فعل.و مع ذلك فهذا الترك أيضا ليس منشأ لإثبات الذات،بل هو كاشف عن ثبوتها في الواقع،فمن أين يحصل فيه الاستدلال بالفعل على الفاعل؟

و الثاني-و هو الوجه العامّ لهذا الموضع و لغيره-أنّه على تقدير تسليم كون ذلك فعلا أيضا،أنّ الفعل الذي يستدلّ به على الفاعل،إن كان مأخوذا من حيث كونه فعلا ما،و فعلا مطلقا من غير اختصاصه بفاعله الخاصّ،فهو لا يكون دليلا إلاّ على فاعل ما غير معيّن،

ص:99


1- في المصدر:من ذلك...
2- يثبت.

و لا سترة في أنّه لا يمكن أن يستدلّ الإنسان بفعل ما على فاعل معيّن هو ذاته،و إن كان مأخوذا من حيث كونه فعلا خاصّا،و كونه فعلا لفاعل معيّن و منسوبا إليه،فالفاعل المعيّن من حيث اعتباره و ملاحظته في ذلك الفعل الخاصّ،و كونه جزءا من مفهومه من حيث هو هذا الفعل الخاصّ،يجب أن يكون معلوما قبله.و لا أقلّ من أن يكون معلوما معه لا بعده،كما هو في الاستدلال بالفعل على الفاعل.و لا سترة أيضا في أنّه لا يمكن أن يستدلّ الإنسان بفعله الخاصّ،الذي خصوصيّته من جهة أنّه منسوب إليه و هو جزء من مفهوم هذا الفعل و ملحوظ فيه،على ذاته التي هي الفاعل المعيّن هنا؛لأنّ ذاته في هذا الاستدلال يجب أن تكون معلومة قبل هذا الفعل،و لا أقلّ من أن تكون معلومة معه.

و كيفما كان،فلا تكون معلومة بعده،كما هو مقتضى الاستدلال.

و حيث عرفت ذلك،عرفت أنّه لا يمكن أن يستدلّ الإنسان بفعله مطلقا على ذاته المعيّنة المخصوصة استدلال إنّ.و من المعلوم أيضا أنّه لا يمكن الاستدلال اللمّيّ هنا أيضا،أي الاستدلال على ذاته بعلل ذاته،لأنّ وجود ذاته له أظهر عنده من وجود علله و علل ذاته،فلا يمكن له أن يستدلّ عل ذاته استدلالا مطلقا إنيّا و لا لميّا فتبصّر.

فإن قلت كيف يصحّ ما ادّعيت من نفي الاستدلال،و الحال أنّ ما ذكره الشيخ في الفرض المذكور تنبيها على إدراك الإنسان ذاته،و إثبات إنّيّتها في قوّة القياس على هيئة الشكل الثاني هكذا:إنّا لا نغفل عن ذواتنا في حالة من الحالات،و كلّ ما هو غير ذاتنا (1)من البدن و أعضائه و أجزائه و أعراضه و الأشياء الخارجة،فإنّا قد نغفل عنه،ينتج أنّ ذاتنا (2)شيء موجود و ليست شيئا من هذه.

قلت:سلّمنا ذلك،لكنّا نقول:إنّ هذه النتيجة بديهيّة،و إنّ هذا القياس البديهيّ بمقدّمتيه،أعني صغراه و كبراه كما تبيّن بداهتهما في الفرض المذكور،تنبيه عليها،لا حجّة عليها حتّى تكون كسبيّة،و لا منافاة بين أن تكون مقدّمة بديهيّة و أن يكون هنا

ص:100


1- -ذواتنا خ ل.
2- -ذواتنا خ ل.

قياس معقود للتنبيه عليها.كيف و لو كانت مقدّمة من المقدّمات بمجرّد إمكان عقد قياس للتنبيه عليها كسبيّة،لزم أن لا يكون شيء من المقدّمات البديهيّة،حتّى البديهيّات الأوّليّة بديهيّة،بل كسبيّة،فإنّه يمكن عقد قياس لكلّ ذلك.مثلا يمكن أن يقال:إن هذا كلّ لذاك، و ذاك جزء منه،و كلّ ما كان كلاّ فهو أعظم من جزئه،فهذا أعظم من ذاك.

و من تلك الأوهام ما نقله المحقّق الطوسيّ في شرح الإشارات عن الإمام الرازي و دفعه،حيث قال.في مقام التنبيه على أغلاط الإمام و دفع اعتراضاته على الشيخ في هذا المقام (1):

«ثمّ عارضه-أي الإمام الشيخ-بأنّ الإنسان يعلم ذاته المخصوصة،و لا يخطر بباله تصوّر النفس التي يقولون بها،فكلّ ما يجعلونه عذرا عن ذلك،فهو عذر عن هذا الكلام.

و أقول:ليت شعري ما يريد بالنفس التي يقولون بها؟

إن أراد بها ذات الإنسان المدركة المحرّكة،فلا مغايرة.

و إن أراد بها شيئا آخر،فالشيخ لم يقل بها».انتهى.

و تقرير هذا الوهم:أنّ ما ادّعاه الشيخ من أنّ الإنسان عالم بثبوت ذاته في جميع الحالات،و غافل أحيانا عن جميع أعضائه،و المعلوم مغاير لما ليس بمعلوم،فذاته المعلومة التي ليست هي إلاّ نفسه مغايرة لأعضائه،معارض بمثله.و هو أنّ الإنسان يعلم ذاته المخصوصة في جميع الأحوال،و لا يخطر بباله في بعض الأحوال تصوّر النفس التي يقولون بها،و بأنّها عين ذاته.و الحال أنّ المعلوم مغاير لما ليس بمعلوم،فذاته مغايرة لنفسه،مع أنّهم لا يقولون بالمغايرة،بل يقولون بالعينيّة،كما جزم به الشيخ،فكلّ ما يجعلونه عذرا عن هذه المعارضة،فهو عذر عمّا ذكره الشيخ في التنبيه.

و هذا إذا قرّر كلام الإمام على سبيل المعارضة،كما فهمه المحقّق الطوسي(ره).

و يمكن تقريره أيضا على سبيل النقض الإجماليّ أو التفصيليّ.

امّا الأوّل فبأن يقال:لو كان ما ذكره الشيخ حقّا بجميع مقدّماته،لزم أن يكون ذات

ص:101


1- -شرح الإشارات 298/2. [1]

الإنسان مغايرة لنفسه،لجريان نظير هذا البيان فيه،كما عرفت؛و الحال أنّ ذات الإنسان عين نفسه عندهم.

و أمّا الثاني-و إن كان بعيدا عن كلام الإمام-فبأن يقال:إنّا سلّمنا أنّ الإنسان في الفرض المذكور لا يغفل عن ذاته،و يغفل عن أعضائه،و أنّ ذلك دليل على المغايرة،أي مغايرة ذاته لأعضائه.لكون المعلوم مغايرا لما ليس بمعلوم،إلاّ أنّا لا نسلّم أنّ ذاته المعلومة عين نفسه-كما ادّعاه الشيخ و قالوا به-إذ لا دليل هنا على هذا الاتّحاد و هذه العينيّة،بل الدليل قائم على خلافه،و هو نظير الدليل على مغايرة ذاته لأعضائه،إذ الإنسان لا يغفل عن ذاته في جميع الأحوال،و مع ذلك قد لا يخطر بباله تصوّر النفس التي يقولون بها.

و أمّا تحرير الجواب عن هذا الوهم على جميع التقارير الثلاثة،فواضح كما ذكره المحقّق الطوسيّ(ره)،و بيانه:أن لا سترة في أنّ المراد بذات الإنسان،ذاته المدركة المحرّكة المعلومة له في جميع الأحوال.

فالإمام إن أراد بالنفس التي يقولون بها هذا المعنى،كما هو مرادهم بها،فظاهر أنّ الإنسان كما لا يغفل عن ذاته في شيء من الأحوال،لا يغفل عن نفسه بالمعنى المذكور الذي أراده القوم و الشيخ،لكونهما واحدة،و لا مغايرة بينهما أصلا في المعنى.

و إن أراد بالنفس معنى آخر ادّعى هو الغفلة عنه و مغايرته للذات،فهو شيء لم يقل به الشيخ و لا أحد من القوم،كما يعلم من تتبّع كلامهم.

و من تلك الأوهام،ما ذكره الشارح القوشجيّ في«شرح التجريد»في هذا المقام، و أورد عليه النظر؛قال (1):و ردّ ذلك بأنّ ذات الإنسان عندنا هي الأجزاء الأصليّة الجسمانيّة التي هي أجزاء (2)لبدنه،و لا نسلّم أنّه يغفل عنها،بل إنّما يغفل عن الأجزاء الفضليّة،و عن الأعراض و القوى الحالّة فيها.

ص:102


1- -شرح التجريد 222،للقوشجي.
2- في المصدر:هي جزء لبدنه.

أقول:فيه (1)نظر،لأنّه لو كان لا يغفل عن الأجزاء الأصليّة (2)،لكان عالما بأنّها ما هي.لا نقول (3):يجب أن يعلمها بحقيقتها.بل بوجه يمتاز (4)به عما عداها من سائر الأعضاء و غيرها،و أكثر الناس لا يعلمونها كذلك،مع أنّهم يعلمون أنفسهم بوجه تمتاز به عما عداها»انتهى.

و تقرير هذا الوهم:أنّ ذات الإنسان عندنا أي عند بعض المتكلّمين-هي الأجزاء الأصليّة الجسمانيّة التي هي أجزاء لبدنه،و لا نسلّم أنّه في الفرض المذكور أو في شيء من الأحوال يغفل عنه،فإنّه كما لا يغفل عن ذاته،كذلك لا يغفل عن تلك الأجزاء،لكونها عين ذاته.بل الغفلة إنّما تقع عمّا هو غير ذاته من الأجزاء الفضليّة لبدنه،و عن الأعراض و القوى الحالّة فيها،فحينئذ نقول:إنّ الشيخ و كذا من ادّعى مغايرة ذات الإنسان لبدنه و أعضائه،بسبب أنّهم رأوا أنّ الإنسان لا يغفل عن ذاته و يغفل عن تلك الأشياء.

إن أرادوا به أنّ ذات الإنسان أمر آخر سوى الأجزاء الأصليّة أيضا،و هو مغاير لبدنه و أعضائه الأصليّة و الفرعيّة و الأعراض الحالّة فيها جميعا،كما هو مقصودهم،فلا نسلّم ذلك،إذ مبنى هذه المغايرة على وقوع الغفلة،و لا نسلّم وقوع الغفلة عن الأجزاء الأصليّة.

و إن أرادوا به أنّ ذات الإنسان هي الأجزاء الأصليّة من بدنه،و هي مغايرة للأجزاء الفرعيّة و لقواها و أعراضها،فهذا مسلّم،لكنّهم لم يقولوا بذلك.

و مع ذلك فهم إن أرادوا بالنفس التي يقولون بها،تلك الأجزاء الأصليّة-كما هو أيضا عند بعض المتكلّمين-حتّى يكون ذات الإنسان و نفسه واحدة،و عبارة عن تلك الأجزاء الأصليّة،فهذا أيضا مسلّم،إلاّ أنّ الشيخ و نظراءه من الحكماء لم يقولوا بذلك.

و إن أرادوا بالنفس أمرا آخر سوى تلك الأجزاء،و أنّها مغايرة لتلك الأجزاء أيضا،كما هو مقصودهم؛فلم يلزم ذلك من التنبيه المذكور كما عرفت.و هذا هو تقرير هذا الوهم.

و أمّا تقرير دفعه،فبأن يقال:إنّ ما ادّعاه المتوهّم من أنّ الإنسان لا يغفل في شيء من الأحوال عن الأجزاء الأصليّة من بدنه كما لا يغفل عن ذاته،باطل من وجوه:

أمّا أوّلا،فلما ذكره الشارح القوشجي،من أنّه لو كان كذلك لوجب أن يكون عالما

ص:103


1- في المصدر:و فيه نظر...
2- عن أجزائه...
3- لا تقول...
4- يمتاز عمّا عداها.

بأنّها ما هي.لا نقول:يجب أن يعلمها بحقيقتها،حتّى يرد أنّ ذلك غير لازم،كما في العلم بالذات،بل نقول:إنّه يجب أن يكون عالما بها بوجه تمتاز به عمّا عداها من الأجزاء الفرعيّة و غيرها،كما أنّه يعلم ذاته بوجه تمتاز به عمّا عداها،و ظاهر أنّه ليس كذلك،فإنّ أكثر الناس مع علمهم بذواتهم و أنفسهم بوجه تمتاز به عمّا سواها،لا يعلمون الأجزاء الأصليّة لأبدانهم بوجه تمتاز به عمّا عداها.

فإن قلت:لعلّ هذه الغفلة لأجل أنّ هؤلاء لم يتصوّروا معنى الأجزاء الأصليّة،و لم يدركوا أنّها عين ذات الإنسان،فإنّهم لو تصوّروا ذلك و أدركوا هذا الحكم لما غفلوا عنه.

قلت:من المعلوم بالضرورة،أنّ من تصوّر معنى الأجزاء الأصليّة أيضا ربّما يكون غافلا عن العلم بها مع العلم بذاته،و أمّا من أدرك و حكم بأنّها عين ذاته،فهو و إن كان عالما بها مع العلم بذاته،إلاّ لا يجدى نفعا،لأنّ المطلوب عدم الغفلة عن تلك الأجزاء مع العلم بالذات على جميع التقادير الواقعيّة،و لا نسلّم أنّ تقدير الحكم بأنّها عين ذات الإنسان تقدير واقعيّ،بل هو بمجرّد الفرض.فإنّ هذا التقدير إنّما يكون واقعيّا إذا كان ذلك الحكم ثابتا في الواقع،و ليس كذلك،لأنّه لم يثبت بعد و لم يدلّ عليه دليل،بل الدليل على خلافه،كما هو ظاهر على من تأمّل في التنبيه المذكور،و فيما سيأتي من الوجوه على ما نحن بصدده.

و أمّا ثانيا،فلأنّ الأجزاء الأصليّة لا تخلو من أن تكون متّصلة في الواقع بالأجزاء الفضليّة الفرعيّة،أو تكون منفصلة عنها في الواقع،و إن كان الانفصال غير محسوس.

و على الأوّل فواضح أنّه إذا فرضت الأعضاء متفرقة غير متماسّة متباينة الأطراف، كما في الفرض المذكور،كانت الأجزاء الأصليّة في ضمن فرض تفرق الأعضاء مفروضة التفرّق أيضا،كالأعضاء و الأجزاء الفضليّة.

و على الثاني،فإن لم تكن تلك الأجزاء الأصليّة مفروضة التفرّق بتفرّق الأعضاء، فلا خفاء في أنّه يمكن فرض تفرّقها أيضا كفرض تفرّق الأعضاء و الأجزاء الفضليّة،و لا خفاء أيضا في أنّ الإنسان حينئذ في الفرض المذكور لا يغفل عن ذاته مع أنّه يغفل عن

ص:104

إدراك تلك الأجزاء الأصليّة المتفرّقة،كالغفلة عن الأجزاء الفضليّة و عن الأعضاء،فإنّ السبب الذي فرض كونه سبب الغفلة مشترك،و الفرق تحكّم.

و أمّا ثالثا،فلأنّ تلك الأجزاء الأصلية لكونها مادّية و جسمانيّة،من شأنها أن تدرك بالحواسّ،و لا أقلّ من إدراكها بالحواسّ الباطنة كالتخيّل،و الحال أنّ المفروض في الفرض المذكور للتنبيه المسطور أن لا استعمال لحاسّة من الحواسّ أصلا في إدراك شيء من الأشياء مطلقا،و أنّه مع ذلك لا يغفل الإنسان عن ذاته،فكيف تكون الأجزاء مدركة أو عين ذاته مع ذلك الفرض؟فتدبّر.

و ممّا ذكرنا يظهر وجه اندفاع بعض أوهام أخر ربّما يتراءى ورودها على هذا المقام.

منها:أنّه يمكن أن يكون ذات الإنسان و نفسه التي لا يغفل عنها في شيء من الأحوال جسما داخلا في بدنه و في خلل بدنه و فرجه،أو خارجا عنه مجاورا له،إمّا جسما بسيطا عنصريّا نارا أو هواء أو أرضا أو ماء،و إمّا جسما بخاريّا،و إمّا دما أو نحو ذلك،كما ذهب إلى كلّ من ذلك طائفة من القدماء على ما سيجيء ذكره في ذكر عدّ المذاهب في النفس.

و بيان دفع هذا الوهم:أنّ تلك الأجسام أيضا في الفرض المذكور،إمّا مفروضة التفرّق،أو ما يمكن فرض تفرّقها.و أيضا هي ما من شأنها أن تكون مدركة بالحواسّ،و لا أقلّ من إدراكها بالحواسّ و المشاعر الباطنة،و المفروض وقوع الغفلة عن المتفرّقات و عدم استعمال الحواسّ.فتدبّر.

و منه يظهر أنّه لا يمكن ذهاب الوهم إلى أنّ ذات الإنسان هو الهواء الطلق المفروض في الفرض المذكور،لكون المفروض أنّه ظرف لوجود الإنسان المتوهّم المتأمّل المفروض،و محيط به،و ظرف وجود الشيء لا يكون عين ذاته،مع أنّ ذلك الهواء الطلق أيضا هو مما يمكن فرض تفرّقه،و من شأنه أن يدرك بالحواسّ،و لو بالحواسّ الباطنة، و مع أنّه لم يذهب و هم أحد إلى كونه ذات الإنسان و نفسه.

ص:105

و منها أنّه يمكن أن يكون ذات الإنسان و نفسه جسما بسيطا لطيفا سماويّا داخلا في البدن،أو مجاورا له،[و]هو لكونه لطيفا لا يمكن أن يدرك بالحواسّ،و لكونه سماويّا غير قابل للتفرّق،لا يمكن فرض تفرّقه.

و وجه دفعه،أنّه لا خفاء في أنّه لكونه جسما مادّيا يمكن إدراكه بالحواسّ الباطنة، و المفروض عدم استعمالها،فكيف يمكن أن يدرك في الفرض المذكور،فيعلم منه أنّ ذات الإنسان المدركة البتّة في الفرض المذكور غير هذا الجرم السماويّ أيضا،كما أنّها غير تلك الأشياء المذكورة،فتبصّر.

فان قلت:فعلى ما قرّرت التنبيه المذكور الذي قرّره الشيخ لإثبات وجود النفس للإنسان و إثبات إنّيّتها،يكون مفاده أنّ ذات الإنسان-أي نفسه-مدركة بذاتها له بذاته ثابتة له،و مغايرة لبدنه و لجسده الذي هو الجسم ذو الأبعاد الثلاثة،و لأعضائه الظاهرة و الباطنة،و كذا لقواه و حواسّه الظاهرة و الباطنة،و للأعراض الحالّة فيه،كمزاجه و غيره، و لما هو خارج عن ذلك أجمع.

و بالجملة أنّها موجودة بذاتها،مغايرة لما هو مادّيّ أو مدرك بالحواسّ الظاهرة أو الباطنة.ففي هذا التنبيه على هذا التقرير إشارة إلى كون النفس الإنسانيّة جوهرا مجرّدا عن المادّة أيضا،إذ الشيء الموجود القائم بذاته،المغاير للجسم و أجزائه و أعراضه و لكلّ ما يمكن أن يدرك بالحواسّ،لا يكون إلاّ جوهرا قائما بذاته،مجرّدا عن المادّة، و لذلك جعل بعضهم عدم غفلة الإنسان عن إدراك ذاته لذاته و نفسه في جميع الأحوال، و غفلته عن بدنه و أعضائه و الأشياء الخارجة في بعض الأحوال،دليلا على كون نفسه الناطقة جوهرا مجرّدا عن المادّة،حتّى إنّ الفاضل الأحساويّ (1)ذكر من جملة أدلّة القائلين بتجرّد النفس الإنسانيّة الناطقة عليه،هذا الدليل،و خصّه بالذكر،و عدّه أقوى دلائلهم على ذلك.

و حتّى أنّ صدر الأفاضل جعل ما في الإشارات حجّتين على ذلك؛إحداهما من

ص:106


1- -راجع المجلي493/،للأحسائيّ،الطبعة الحجريّة.

جهة مشاهدة حال النائم و السكران،و الاخرى من جهة مشاهدة حال الإنسان في الفرض المذكور للتنبيه المزبور.

و بالجملة،ففيما ذكره الشيخ إشارة-مع إثبات وجود النفس الإنسانيّة و إنّيّتها-إلى تحقيق حقيقتها من حيث كونها جوهرا مجرّدا عن المادّة.فما باله في أن أقام الدليل فيما بعد في الفصول الآتية على جوهريّتها و تجرّدها،و لم يذكر هنا ما يدلّ على أنّ في هذا التنبيه إشارة إلى ذلك،كما ذكر أنّ فيه إشارة إلى إثبات إنّيّتها.

قلت:لعلّ وجه ما فعله،أنّه على تقدير دلالة التنبيه المذكور على كونها جوهرا مجرّدا عن المادّة،فلا يخفى أنّها دلالة إجماليّة،و إشارة غير تفصيليّة على ذلك،فلذلك لم يكتف بها،و ذكر الدليل عليه فيما بعد بوجوه تفصيليّة،لأنّه أراد الدلالة التفصيليّة عليه.

على أنّه يمكن أن يكون نظره في ذلك إلى أنّ التنبيه المذكور،و إن كان فيه إشارة إلى ذلك،إلاّ أنّه ليست هذه الإشارة إشارة مقصودة.فإنّ الغرض من جوهريّة النفس و تجرّدها،جوهريّتها و تجرّدها على الوجه الذي به يكون مختصّا بالإنسان،و لا يجري في غيره من أفراد الحيوان البتّة،يدلّ على ذلك أنّهم قالوا:

إنّ النّفس الناطقة الإنسانيّة جوهر مجرّد عن المادّة،و أنّ النّفس الحيوانيّة و كذا النباتيّة منطبعة في المادّة قائمة بها،و هنا ليس الأمر كذلك،فإنّ عدم الغفلة عن الذات و الغفلة عمّا سواها الذي يمكن أن يكون،دليل على الجوهريّة.و التجرّد لا يخفى أنّه كما أنّه ثابت في الإنسان لا سبيل إلى انكاره فيه،كذلك لا دليل على نفيه في غيره من الحيوانات،و إن لم يكن دليل على ثبوته بالفعل فيها،و بالجملة لا دليل على ثبوت ذلك و لا على انتفائه في غير الإنسان من الحيوان،بل هو في غيره بحسب الاحتمال العقليّ محتمل أن يكون و أن لا يكون.

و لا يخفى أيضا أنّ هذا المعنى-على هذا-لا يكون مختصّا جزما بالإنسان،و إنّما يكون هذا الاختصاص جزما،إذا ثبت بدليل أو وجه تنبيهيّ وجدانيّ أنّه لا يجري في

ص:107

غيره،و المقدّر عدمه.فلذلك ترى الشيخ في الكتابين،و لا سيّما في«الشفاء»،أنّه أثبت أوّلا إنّيّة النفس الناطقة و مغايرته للبدن و أعضائه و أجزائه،ثمّ أثبت بعد ذلك كونها جوهرا مجرّدا عن المادّة،على الوجه الذي يكون مختصّا بالإنسان و لا يجري في غيره البتّة،لكونه هو المقصود.حيث أثبت خواصّ أفعال و أحوال للإنسان لا تجري تلك في غيره البتّة،كالإدراكات الكليّة و نحوها.ثمّ استدلّ بها على تجرّدها،كما سيجيء بيانه فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

و قد تبعه المحقّق الطوسيّ(ره)في التّجريد.

و من هنا يظهر أنّ ما فعله بعضهم،حيث جعل التنبيه المذكور تنبيها،بل دليلا على تجرّد النفس الإنسانيّة،مبنيّ إمّا على أنّه لم يكن في نظره إثبات تجرّدها على وجه يكون مختصّا بالإنسان،و لا يجري في غيره مع كونه مقصودا.و إمّا مبنيّ على أنّه كان في نظره ذلك،إلاّ أنّه اكتفى في الاختصاص المذكور العلم بحصوله في الإنسان و عدم العلم به في غيره،أي كونه ظاهر الاختصاص بالإنسان.حيث إنّ إدراك الذات و الغفلة عمّا سواها معلوم في الإنسان،و غير معلوم في غيره،و إن كان محتملا،و في الوجهين ما ترى.

و يظهر مما ذكرنا أنّ ما فعله بعضهم من جعله معنى لا خفاء في اشتراكه بين الإنسان و غيره من أفراد الحيوان،بل النبات أيضا،لكون ذاته باقية بعينها في جميع الأحوال،أي أحوال وجوده،مع كون بدنه و جسمه و أعضائه و أعراضه متبدّلة،دليلا على تجرّد النفس الناطقة الإنسانيّة،بعيد من الاستقامة جدّا.و إن اشتهيت الاطّلاع على تفصيل المقام، فاستمع لما يتلى عليك من الكلام.

فنقول:إنّ صدر الأفاضل (1)في مقام إقامة الحجج على أنّ النفس الإنسانيّة جوهر قائم بذاته-بعد ما أقام الحجج عليه و ذكر الحجّة عليه أوّلا هكذا:«إنّ إدراك الشيء لمّا كان عبارة عن حصول صورته للمدرك،فكلّ من أدرك ذاته يجب أن يكون مفارقا عن المحلّ، إذ لو كان في محلّ،لكان صورة ذاته غير حاصلة لذاته بل لمحلّه،لأنّ وجود الحالّ لا

ص:108


1- -الشواهد الربوبيّة211/. [1]

يكون إلاّ للمحلّ.هذا خلف.ثمّ إنّا ندرك ذاتنا بذاتنا (1)،و أمّا شعورنا بشعور ذاتنا فقد و قد (2)،إذ ليس نفس وجودنا،فهو كإدراكنا سائر الأشياء المدركة من خارج.»ثمّ أورد عليه شكّا و أجاب عنه،ثمّ ذكر حجّة اخرى على ذلك مبنيّة على إدراك النفس للمعقولات،ثمّ ذكر تينك الحجّتين اللتين استنبطهما من كلام الشيخ في«الإشارات»،كما أشرنا إلى ذلك فيما تقدّم-قال (3):

«حجّة اخرى:بدنك و أعضاؤك دائم الذوبان و السيلان،لعكوف (4)الحرارة الغريزيّة على التحليل و التنقيص،و كذا غيرها من الأسباب،كالأمراض الحادّة (5)و المسهلات، و ذاتك (6)أوّل الصّبا باقية،فأنت أنت لا بدنك (7)».ثمّ قال 1:حكمة عرشيّة قالوا:هذا منقوض بسائر (8)الحيوان،فإنّ الفرس تحلّل أجزاء بدنه معلوم،فلو كانت نفسه-كما قيل- منطبعة في جرم بخاريّ متحلّل دائما،أو في عضو متغذّ متحلّل،لكان كلّ عام بل كلّ اسبوع فرسا جديدا،و الحدس حاكم ببطلانه،فللحيوان نفس كما لنا.

و الشيخ و تلامذته و غيرهم من الحكماء تارة أنكروا بقاء الذات فيما سوى الإنسان، و تارة أثبتوا للجميع نفسا علانية (9)،و حكموا بصعوبة الفرق بين الإنسان و غيره في ذلك.

و أنت-بعد تذكّرك ما أسلفناه-ستذعن أنّ للحيوانات شركة في نفس متخيّلة مجرّدة عن (10)عالم الحسّ،لا عن عالم المثال،على أنّ هذه البراهين تقتضي (11)تجرّد النفس عن البدن المحسوس و عوارضه فقط،و لا تفيد (12)أزيد من هذا،فهو ممّا يقع فيه الاشتراك لسائر (13)الحيوان ممّا له قوّة باطنيّة يشعر (14)بذاتها.

و بعضها مما يقتضي تجرّد النفس عن الكونين،فهي مختصّة بالإنسان العارف،و ستعلم أنّ أصناف الناس ليسوا في درجة واحدة من المواطن».انتهى كلامه.

و أقول:لا يخفى عليك أنّ هذه الحجّة الأخيرة،سواء اقيمت حجّة على تجرّد النفس

ص:109


1- في المصدر:بذاتنا،لأنّا لا نعزب عن ذاتنا،و أمّا شعورنا..
2- فقد فقد...
3- -الشواهد الربوبيّة212/-213. [1]
4- بعكوف...
5- الحارّة...
6- و ذاتك منذ أوّل...
7- لا ببدنك...
8- بسائر...بسائر...
9- عقلانيّة...
10- من...
11- يقتضي...
12- و لا يفيد...
13- لسائر...
14- تشعر.

الناطقة الإنسانيّة-كما فعله-أو على كونها مغايرة للبدن و أجزائه و مزاجه و قواه و أعراضه-كما فعله المحقّق الطوسي(ره)في التجريد-يردّ عليها أنّها منقوضة بسائر الحيوان-كما قالوا-بل بالنبات أيضا،حيث إنّ جسمه و أجزاءه دائما في التبدّل و التغيّر بالاغتذاء و النشو و النماء،مع أنّا نعلم بالضرورة أنّ ذاته باقية بعينها من أوّل زمان وجوده إلى منتهاه.

و ما نقله عن الشيخ و تلامذته و غيرهم من الحكماء،لو كانوا قالوا به،فيردّ على إنكارهم تارة بقاء الذات فيما سوى الإنسان أنّه مكابرة،حيث إنّه خلاف ما يحكم به العقل السليم و الحدس المستقيم،و على إثباتهم تارة للجميع-أي لجميع أفراد الحيوان من الإنسان و غيره-نفسا عقلانيّة،أنّهم إن أرادوا بالنفس العقلانيّة ما هو مناط التكليف كما في الإنسان،فذلك خلاف ما هو ضروري عند جميع العقلاء و في جميع الملل و الأديان،و حينئذ فلا يصعب الفرق بين الإنسان و غيره في ذلك،و إن أرادوا بها غير ما هو مناط التكليف،أي نفسا مجرّدة عقلانيّة في الجملة،هي أقلّ تعقّلا من النفس الإنسانيّة و أدون تجرّدا منها،لم تبلغ مرتبة هي مناط التكليف،بناء على ادّعاء أنّ النفس العقلانية المجرّدة يمكن أن يتفاوت مراتبها في التعقّل و التجرّد المستند إلى ذلك التعقّل،كما يشاهد في الإنسان.حيث إنّ النفوس الإنسانيّة بعضها في مرتبة العقل الهيولانيّ،و بعضها في مرتبة العقل بالملكة،و بعضها في مرتبة العقل بالمستفاد،و بعضها في مرتبة العقل بالفعل؛و مع ذلك فلبعضها تلك المرتبة بالنسبة إلى بعض المعقولات أقلّها أو أكثرها، و لبعضها بالنسبة إلى كلّها أو جلّها.و بناء على ادّعاه أنّ أقلّ تلك المراتب من التعقّل و أدونها في التجرّد-كما في النّفوس الحيوانيّة-و إن كان يتحقّق فيه أصل التعقّل و التجرّد المترتّب عليه بعض أحكام التجرّد و خواصّه،لكون تلك النفس يمكن أن تكون باقية بعد خراب بدنها،لكونها مجرّدة بتلك المرتبة من التجرّد،و حاصلا لها أصل التجرّد،لكي يمكن تصحيح معاد الحيوانات أيضا لو قلنا به،كما في الإنسان،على ما سيجيء بيانه إن شاء اللّه تعالى؛إلاّ انّ تلك المرتبة من التجرّد و التعقّل لا تكون مناط التكليف أصلا،لا

ص:110

بالفعل و لا بالقوّة؛بل إنّما مناط التكليف هو ما بعد تلك المرتبة من المراتب الحاصلة في الإنسان،التي يترتّب على جميعها ما يترتّب على أصل التجرّد،ككونها باقية غير فانية، حتّى يمكن تصحيح المعاد في الأطفال و البله و المجانين و أمثالهم أيضا،مضافا إلى ذلك كونها مناط التكليف،إلاّ أنّ بعض تلك المراتب مناط التكليف بالقوّة البعيدة،كما في مرتبة العقل الهيولانيّ و بعضها مناطه بالقوّة القريبة،كما في مرتبة العقل بالملكة،و بعضها مناطه بالفعل لو لم يكن مانع منه كما في المرتبتين الأخيرتين.

فحينئذ نقول:إنّ إثباتهم للحيوانات نفسا عقلانيّة بالمعنى الذي ذكروا،إن أمكن تصحيحه على هذا الطريق،من غير صعوبة أيضا في الفرق بين الإنسان و غيره في ذلك كما ادّعوه،إلاّ أنّه يردّ عليهم أنّه ما الداعي إلى هذا الإثبات و إلى هذا الالتزام؛و ما الذي اضطرّهم إلى هذا القول؛فإن كان الداعي إلى ذلك قيام دليل على تجرّد النفس مشترك بين الإنسان و غيره من أفراد الحيوان،فيرد عليه أنّه ليس هنا دليل كذلك،فإنّ الحجّة الأخيرة المذكورة التي هي-مثلا-منشأ لتوهّمهم لذلك في زعمهم،كما يدلّ عليه كلام صدر الأفاضل،و إن كانت مشتركة بين الإنسان و غيره من أفراد الحيوان،إلاّ أنّ دلالتها عل تجرّد النفس غير مسلّمة،لأنّه لا دلالة فيها أزيد من أنّ ذات الإنسان أو الحيوان بعينها باقية في جميع أزمنة وجودها،و هي مغايرة لما يتبدّل منهما من البدن و أجزائه و أعضائه و أعراضه.و هذا لا يستلزم كون تلك الذات مجرّدة عن المادّة،لاحتمال أن يكون جوهرا مادّيّا غير متبدّل،باقيا بعينه في جميع الأحوال،إمّا داخلا في البدن،أو خارجا عنه مجاورا له،مثل الأجزاء الأصليّة بعينها،أو جسما بسيطا عنصريّا،أو جرما لطيفا سماويّا باقيا بعينه.فمن أين يحكم العقل بتجرّدها و اشتراك ذلك التجرّد بين الإنسان و غيره من الحيوان،حتّى اضطرّهم إلى إنكار بقاء الذات فيما سوى الإنسان تارة،و إلى إثبات النفس العقلانيّة للجميع أخرى.

و ظاهر أيضا أنّ ما ذكره الشيخ في الكتابين إشارة إلى إثبات إنّيّة النفس الناطقة الإنسانيّة.

ص:111

و جعله صدر الأفاضل حجّة اخرى،بل حجّتين على تجرّدها لا يمكن أن يكون منشأ لذلك،لأنّه و إن دلّ على تجرّدها باعتبار أنّه يدلّ على كونها ثابتة للإنسان بذاته، مدركة له في جميع الأحوال،مغايرة للبدن و جسميّته و أجزائه و مزاجه و أعراضه و أعضائه و قواه،و لكلّ ما يمكن أن يدرك بأحد الحواسّ الظاهرة أو الباطنة،و أنّ الذات الكذائيّة لا تكون إلاّ مجرّدة عن المادّة كما بيّناه سابقا؛إلاّ أنّ هذا ليس مشتركا بين الإنسان و غيره من الحيوان،حيث إنّ ثبوت تلك الحالة،أي إدراك الذات بالذات،و الغفلة عن كلّ ما سواها،و إن كان معلوما في الإنسان،لكنّه غير معلوم في غيره من أفراد الحيوان،و إن لم يكن انتفاؤه أيضا فيه معلوما.

و ظاهر أيضا أنّ البراهين التي أقاموها على تجرّد النفس الإنسانيّة من جهة الإدراكات الكليّة العقليّة و نحو ذلك من الوجوه التي هي مختصّة بالإنسان-كما ذكر صدر الأفاضل نبذا منها-و إن دلّت عل تجرّدها،لكنّها ليست مشتركة بين الإنسان و غيره من الحيوان،كما سيأتي بيانه فيما بعد في مقام إثبات تجرّد النفس الإنسانيّة.و الحال أنّه ليس هنا دليل أو برهان غير ما ذكر يمكن أن يجعل دليلا على تجرّدها،و مع ذلك يكون مشتركا بينهما كما يعلم من تصفّح أدلّتهم التي أقاموها على ذلك و بذلوا جهدهم فيها.

و الحاصل أنّ ما يدلّ على التجرّد،فهو ليس بمشترك بينهما،و ما هو مشترك فليس يدلّ على التجرّد،فمن أين حصل لهم الظنّ المذكور؟حتّى اضطرّوا إلى ما التزموه،فتارة أنكروا بقاء الذات فيما سوى الإنسان،و تارة أثبتوا لغيره أيضا نفسا عقلانيّا.

فإن قلت:إذا لم تكن النفس الحيوانيّة من حيث هي حيوانيّة مجرّدة أصلا،فليس يمكن بقاؤها،بل تكون فانية دائرة،كالبدن و أجزائه،حيث إنّ الادلّة التي تدلّ على بقاء النفس كلّها مبنيّة على تجرّدها،كما عرفت بيانه فيما سلف من الأبواب.و على هنا،فبأيّ طريق يمكن تصحيح المعاد في الحيوان و حشره،كما نطق به الشرع الشريف،و الحال أنّ إعادة المعدوم ممتنعة؟

قلت:معاد الحيوان ليس ضروريا فى الدين كمعاد الإنسان،حيث إنّ الآيات الواردة

ص:112

في حشر الحيوانات،كقوله تعالى: وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (1)،و قوله تعالى: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (2)و أمثال ذلك من الآيات و الأخبار غير ناصّة في ذلك،كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء اللّه تعالى.

و على تقدير القول بحشرها أيضا،فيمكن تصحيحه بوجه آخر،من غير توقّف على وجود نفس مجرّدة عن المادّة لها،تكون هي باقية بعد خراب أبدانها،و سيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء اللّه تعالى العزيز،فانتظر.

ثمّ إنّ ما ذكره صدر الأفاضل في تحقيق المقام بقوله (3):و أنت بعد تذكّرك ما أسلفناه -الى آخره-مبنيّ أيضا على القول بتفاوت مراتب التجرّد،و أنّ النفس الحيوانيّة أيضا أي نفسها المتخيّلة مجرّدة نوع تجرّد،أي أنّها مجرّدة من عالم الحسّ فقط دون عالم المثال، و أنّ النفس الإنسانيّة-لكونها عاقلة-مجرّدة عن العالمين جميعا.

و فيه أنّ هذا التجرّد ليس هو مقصود القوم ممّا أقاموا الدليل عليه،بل إنّما مقصودهم منه التجرّد الذي حكموا به في النفس الإنسانيّة،أي التجرّد عن العالمين،و أين هذا من ذاك؟نعم لا مشاحّة في الاصطلاح لو اصطلح أحد و سمّى النفس المتخيّلة الحيوانيّة مجرّدة بذلك المعنى.

و قوله 3«على أنّ هذه (4)البراهين تقتضي (5)تجرّد النفس عن البدن المحسوس و عوارضه فقط»-إلى آخره-.

فيه أنّه إن كان المشار إليه بكلمة الإشارة،ما ذكره من الحجّة الأخيرة و ما في معناها،ممّا يدلّ على كون الذات و النفس مغايرة للبدن المحسوس و عوارضه فقط،فقد عرفت أنّ مقتضاه،و إن كان مشتركا بين الإنسان و غيره،لكنّه لا يدلّ على التجرّد بالمعنى

ص:113


1- -التكوير5/. [1]
2- -الأنعام38/. [2]
3- -الشواهد الربوبيّة213/. [3]
4- في المصدر:بعض هذه...
5- يقتضي.

المراد.

و إن كان المشار إليه هو ما ذكره من الحجّتين اللتين استنبطهما من كلام الشيخ في إنّيّة النفس،كما يشعر به قوله:«مما له قوّة باطنة تشعر بذاتها»فقد عرفت أنّ تينك الحجّتين-على تقدير دلالتهما على تجرّد النفس-إنّما تدلاّن عليه في الإنسان خاصّة دون غيره من سائر الحيوان،لأنّ حصول تلك الحالة المفروضة في تينك الحجّتين غير معلوم في غير الإنسان،فليس مقتضاهما ممّا يقع فيه الاشتراك لسائر الحيوان ممّا له قوّة باطنة يشعر بذاته،و إن كان المشار إليه ما ذكره من الحجّة المبنيّة على إدراك النفس للمعقولات الكلّيّة،فظاهر أنّها،و إن كانت تدلّ على التجرّد بالمعنى المراد،إلاّ أنّ مقتضاها ليس بمشترك بين الإنسان و غيره أصلا،إذ إدراك الكلّيّ إنّما هو مختصّ بالإنسان وحده.

و حينئذ فلم يبق من البراهين التي ذكرها إلا الحجّة الاولى التي ذكرها.

و لا يخفى على المتأمّل،أنّها-كما قرّرها-لا دلالة فيها على شيء،حتّى ننظر في أنّ مقتضاها هل هو مشترك بين الإنسان و غيره أم لا؟

و بيان ذلك أنّ قوله فيها:«إنّ إدراك الشيء لمّا كان عبارة عن حصول صورة للمدرك»مبنيّ على كون علم الإنسان بذاته علما حصوليّا أيضا،و هو ممنوع،بل لا معنى له،لأنّ حصول صورة الشيء في الشيء نفسه ممّا لا وجه له،سواء أريد بصورته شبحه و مثاله أو حقيقته،على اختلاف المذهبين في ذلك.بل إنّ علم الشيء بذاته علم حضوريّ منشؤه كون المعلوم عين العالم بالذات،كما هو المقرّر بينهم.

و على تقدير تسليم كونه حصوليّا،فقوله:«فكلّ من أدرك ذاته يجب أن يكون مفارقا عن المحلّ-إلى آخره-ممنوع،لجواز أن يكون مادّيا،و أن يكون صورة ذاته حاصلة له أوّلا و بالذات،و لمحلّه أيضا ثانيا و بالعرض،فلم يلزم منه أن لا يكون تلك الصورة حاصلة إلاّ لمحلّه،حتّى يكون خلاف المفروض،

و هذا،كما أنّه على تقدير كون هذا العلم حضوريّا كما هو المقرّر بينهم،و كون العالم

ص:114

مادّيا،إنّما يلزم كون هذا العلم حاصلا لذات العالم نفسه،لحصول منشأه له و هو الاتّحاد بينها،دون محلّه أصلا لعدم الاتّحاد بينهما.فتبصّر.

و قوله:«و بعضها مما يقتضي تجرّد النفس عن الكونين»كأنّه أراد به البراهين التي مبناها على إدراك النفس للكلّيّات المجرّدة عن الموادّ مطلقا،حيث إنّها تدلّ على تجرّدها عن الكونين،أي عالم الحسّ و المثال جميعا.إلاّ أنّ قوله:«فهي مختصّة بالإنسان العارف»يدلّ على أنّ هذه البراهين تدلّ على تجرّد النفس الإنسانيّة التي هي في مرتبة العقل بالفعل و العقل المستفاد خاصّة،بالنسبة إلى كلّ المعقولات أو جلّها،و أنت ستعرف فيما بعد بيان تلك البراهين على وجه به تدلّ على تجرّد النفس الإنسانيّة مطلقا،سواء كانت للإنسان العارف أم لغيره.فانتظر.

و حيث انتهى الكلام إلى هذا المقام،و خرجنا بالإطناب عن موضوع الباب،فلنكتف بهذا القدر فى هذا المرام،و لنعد إلى ما كنّا بصدده،فنقول:إنّك بعد ما أحطت خبرا بتفاصيل ما نقلنا عن الشيخ في«الشفاء»في هذا الفصل،و ما ذكرناه في تحريره،يظهر لك.إلى هنا ما عقدنا الباب لأجله،و هو إثبات النفس و إنّيّتها و تحديدها من حيث هي نفس،و أنّها ليست بجسم و لا مزاج و لا عرض،و أنّها غير البدن و أعضائه و أجزائه و حواسّه و قواه و أعراضه،فلنتكلّم في بعض مطالب اخرى ممّا نرومه هنا،فنقول:

ص:115

ص:116

الباب الثاني: في بيان حقيقة النفس و ماهيّتها

اشارة

ص:117

ص:118

في بيان حقيقتها و ماهيّتها من حيث إنّها جوهر مجرّد عن المادّة في ذاتها،و في أنّها واحدة بالذات المختلفة بالاعتبار و من حيث الأفعال،و لها قوى متعدّدة تختلف أفاعيلها لاختلاف قواها.

و قبل الخوض في المقصود،حريّ بنا أن تقدّم ذكر المذاهب التي قيلت في النفس و جوهرها و نقضها،لكي يحصل للمتبصّر زيادة في التبصرة.

فنقول:قال الشيخ الطبرسيّ(ره)في«مجمع البيان» (1)في تفسير قوله تعالى:

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (2):«إنّه اختلف (3)العلماء في ماهيّة الروح.

فقيل:إنّه جسم رقيق هوائيّ متردّد في مخارق الحيوان،و هو مذهب أكثر المتكلّمين،و اختاره المرتضى قدّس اللّه روحه.

و قيل:هو جسم هوائيّ على بنية حيوانيّة،فى كلّ جزء منه حياة،عن عليّ بن عيسى:و كلّ (4)حيوان روح و بدن،إلاّ أنّ فيهم (5)من الأغلب عليهم (6)الروح،و منهم من الأغلب عليهم (7)البدن.

و قيل:إنّ الروح عرض،ثمّ اختلف فيه،فقيل:هو الحياة التي يتهيّأ به المحلّ لوجود

ص:119


1- -تفسير مجمع البيان 675/6،أوفست طهران على طبعة دار المعرفة-بيروت.
2- -الاسراء85/. [1]
3- في المصدر:و اختلف...
4- عيسى قال:فلكلّ...
5- أن منه...
6- عليه الروح...
7- عليه البدن.

القدرة و العلم و الاختيار،و هو مذهب الشيخ المفيد أبي عبد اللّه محمّد بن محمّد بن نعمان (1)و البلخي و جماعة من معتزلة (2)البغداديّين.

و قيل:هو معنى في القلب؛عن الإسوادي (3).

و قيل:إنّ الروح الإنسان،و هي (4)الحيّ المكلّف؛عن ابن الاخشيد و النظّام.

و قال بعض العلماء:إنّ اللّه تعالى خلق الروح من ستّة أشياء:من جوهر النّور، و الطيب،و البقاء،و الحياة،و العلم،و العلوّ.ألا ترى أنّه ما دام في الجسد كان الجسد نورانيّا يبصر بالعينين و يسمع بالاذنين و يكون طيّبا،و اذا اخرج من الجسد نتن الجسد.و يكون باقيا فإذا فارقة الروح بلي و فني.و يكون حيّا و بخروجه يصير ميّتا.و يكون عالما فإذا (5)خرج منه الروح لم يعلم شيئا.و يكون علويّا لطيفا توجد به الحياة،بدلالة قوله تعالى في صفة الشهداء بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ (6)و أجسامهم بليت (7)في التراب».- انتهى كلامه(ره).

و قال الشيخ في«الشفاء» (8):اختلف (9)الأوائل في ذلك،لأنّهم اختلفوا في المسالك إليه،فمنهم من سلك إلى علم النفس من جهة الحركة،و منهم من سلك إليه من جهة الإدراك،و منهم من جمع بين المسلكين،و منهم من سلك الحياة (10)غير مفصّلة.

و من (11)سلك منهم جهة الحركة،فقد كان يخيّل (12)عنده أنّ التحريك لا يصدر إلاّ عن متحرّك،و أنّ المحرّك الأوّل يكون لا محالة متحرّكا بذاته،و كانت النفس محرّكة أوّليّة إليه (13)يتراقى التّحريك من الأعضاء و العضل و الأعصاب،فجعل النفس متحرّكة لذاتها، و جعلها لذلك جوهرا غير مائت،معتقدا أنّ ما يتحرّك لذاته لا يجوز أن يموت.قال:

و لذلك ما كانت الأجسام السماويّة ليست تفسد،و السبب فيه دوام حركتها.

ص:120


1- في المصدر:بن النعمان(ره)...
2- المعتزلة...
3- الأسواري...
4- و هي...
5- فإذا...
6- -آل عمران169/ و 170. [1]
7- قد بليت...
8- -الشفاء- [2]الطبيعيّات 14/2-16،الفصل الأوّل من المقالة الأولى من الفنّ السادس.
9- قد اختلف...
10- طريق الحياة...
11- فمن...
12- تخيّل...
13- إليها.

و منهم (1)من منع أن يكون النفس جسما،فجعله (2)جوهرا غير جسم محرّكا (3)لذاته.

و منهم من جعلها جسما و طلب الجسم المتحرّك لذاته (4).

فمنهم من جعل ما كان من الأجرام التي لا تتجزّى كرويّا ليسهل دوام حركته،و زعم أنّ الحيوان يستنشق ذلك بالتنفّس،و أنّ التنفّس غذاء للنفس،و أنّ النفس يستبقى (5)به النفس بإدخال بدل ما يخرج من ذلك الجنس من الهباء التي هي الأجرام التي لا تتجزّى التي هي المبادي،و أنّها متحرّكة لذاتها (6)،كما يرى من حركة الهباء دائما في الجوّ،فلذلك صلحت لأن تحرّك غيرها.

و منهم من قال:إنّها ليست هي النفس،بل إنّ محرّكها هو النفس و هي فيها،و تدخل البدن بدخولها.

و منهم من جعل النفس نارا،و رأى أنّ النار دائم (7)الحركة.

و أمّا من سلك طريق الإدراك:

فمنهم من رأى أنّ الشيء إنّما يدرك ما سواه،لأنّه متقدّم عليه و مبدأ له،فوجب أن يكون (8)النفس مبدأ،فجعلها من الجنس الذي كان يراه إمّا نارا أو هواء أو أرضا أو ماء.

و مال بعضهم إلى القول بالماء لشدّة رطوبة النطفة التي هي مبدأ التكوّن،و بعضهم جعلها جسما بخاريّا،إذ كان يرى أنّ البخار مبدأ الاشياء على حسب المذاهب التي عرفتها.

و كلّ هؤلاء كان يقول إنّ النفس إنّما تعرف الأشياء كلّها،لأنّها من جوهر المبدأ لجميعها، و كذلك من يرى (9)أنّ المبادي هي الأعداد،فإنّه جعل النفس عددا.

و منهم من رأى (10)أنّ الشيء إنّما يدرك ما هو شبيهه،و أن المدرك بالفعل شبيه المدرك بالفعل،فجعل النفس مركّبا من الأشياء التي يراها عناصر،و هذا انباذقلس (11)،فإنّه قد جعل النفس مركّبة من العناصر الأربعة و من المحبّة و الغلبة،و قال:إنّما يدرك (12)النفس كلّ شيء يشبهه (13)فيها.

ص:121


1- في المصدر:فمنهم...
2- فجعلها...
3- متحرّكا...
4- بذاته...
5- تستبقي...
6- بذاتها...
7- دائمة...
8- تكون...
9- يراه المبدأ،إمّا...
10- رأى...
11- انبادقليس ...
12- تدرك...
13- بشبيهه.

و أمّا الذين جمعوا الأمرين،فكالذين قالوا:إنّ النفس عدد متحرّك (1)لذاته،فهى عدد، لأنّها مدركة؛و هي محرّكة لذاتها،لأنّها محرّكة أوّليّة.

و أمّا الذين اعتبروا أمر الحياة غير ملخّص.

فمنهم من قال:إنّ النفس حرارة غريزيّة لأنّ الحياة بها.

و منهم من قال:بل برودة،و إنّ النّفس مشتقّ من النّفس،و النّفس هو الشيء المبرّد، و لهذا ما يتبرّد بالاستنشاق ليحفظ جوهر النفس.

و منهم من قال:النّفس (2)هو الدم،لأنّه إذا سفح الدم بطلت الحياة.

و منهم من قال:بل النفس مزاج،لأنّ المزاج ما دام ثابتا لم يتغيّر (3)صحّة الحياة.

و منهم من قال:بل النفس تأليف و نسبة بين العناصر،و ذلك لأنّا نعلم أنّ تأليفا ما يحتاج إليه حتّى يكون من العناصر حيوان،و لأنّ النفس تأليف،فلذلك يميل (4)إلى المؤلّفات من النغم و الأراييح (5)و الطعوم و تلتذّ بها.

و من الناس من ظنّ أنّ النفس هو الإله-تعالى عمّا يقول (6)الملحدون-و أنّه يكون في كلّ شيء بحسبه،فيكون في شيء طبعا،و في شيء نفسا،و في شيء عقلا،سبحانه و تعالى عمّا يشركون.فهذه هى المذاهب المنسوبة إلى القدماء الأقدمين في أمر النّفس، و كلّها باطل.انتهى كلامه.

ثمّ أبطل هذه المذاهب و الوجوه المبنيّة هي عليها واحدا بعد واحد بوجوه مبسوطة مفصّلة،نقلها يوجب الإطناب،فلذا لم نتعرّض لنقلها و تحريرها،مع ما نرومه في هذا الفصل من بيان كون النفس جوهرا مجرّدا عن المادّة في ذاته،إذا ثبت بالبيان الذي سنذكره،يبطل به تلك المذاهب،و فيه كفاية في إبطالها عند اولي الألباب،بل إنّ فيما أشار إليه الشيخ-على ما نقلناه سابقا و حرّرناه من إثبات إنّيّتها-عنية في ذلك للمسترشد الطالب للصواب.

و بالجملة،فإبطالها لا يحتاج إلى تجشّم برهان آخر غير ما ذكر،بل إنّ هذه المذاهب

ص:122


1- في المصدر:محرّك...
2- بل النفس...
3- تتغيّر...
4- تميل...
5- الأراييح...
6- يقوله.

و الأقوال لو حملت على ظواهرها و قيل بها في النفس الناطقة الإنسانية،كانت هي في البطلان بمرتبة يستغرب من الحكماء الذين هم من أهل العقل،و كذا من العلماء الذين هم من أهل العلم،ذهابهم إليها و القول بها فيها.

في تأويل بعض تلك المذاهب المنقولة

نعم لو كان مبناها على الرمز،كما كان يقع ذلك في كلام الأقدمين كثيرا،لربّما أمكن تأويل بعضها،مثل أنّ من جعل النفس جوهرا غير جسم محرّكا لذاته،و متحرّكا بذاته، لو أراد بها كونها جوهرا مجرّدا عن المادّة في ذاته،متحرّكا من ذاته حركة رويّة و جولان، إمّا إلى المبادي العالية فيستكمل و يستفيد و يستنير،و إمّا إلى البدن فيفيد و يكمل و ينير، و أنّ شأنه إمّا إفادة الكمال أو استفادته-كما نقلنا ذلك في مسألة بقاء النفس عن أفلاطون و شيعته-لربّما أمكن أن يكون ذلك وجه صحة،و لم يبعد القول به في النفس الناطقة الإنسانيّة،فإنّه لا مخالفة فيه لما ذهب إليه المحقّقون من الحكماء،و لا لما اقتضاه الدليل.

و كذلك القول بأنّها نار أو هواء أو جسم بخاريّ أو حرارة غريزيّة أو برودة يستنشق بها أو دم،كما ذهب إلى كلّ واحد منها فريق،لو أريد به الروح الحيوانيّ الذي يقولون إنّه غير النفس الإنسانيّة و غير النفس الحيوانيّة و النباتيّة،بل إنّه حامل القوى الحيوانيّة و المطيّة الأولى للقوى النفسانيّة البدنيّة،و ما به الارتباط بين النفس و البدن.و يقولون إنّه جس لطيف نافذ في المنافذ،روحانيّ كالجرم السماويّ،و نسبته إلى لطافة الأخلاط و بخاريّتها،و لا سيّما إلى الدم،نسبة الأعضاء إلى كثافة الأخلاط،و أوّل معدن لتولّد هذا الرّوح،و أوّل عضو يحسره و يمنعه عن التفرّق،هو القلب.ثمّ ما بعده كالدماغ و الكبد؛ و لذلك كان أوّل تعلّق النفس بالقلب.و يقولون إنّه له نسبة إلى الهواء لرطوبته و لطافته، و لسهولة حركته إلى المجاري و المنافذ لكونه حاملا للقوى،و القوى لكونها من الأعراض لا يتصوّر تنقّلها من دون حامل لها،و لأنّ الهواء المستنشق إذا اختلط بذلك الروح،يصير عوض ما تحلّل منه.و كذا له نسبة إلى النار لصفائه و حرارته،و إلى الحرارة لحرارته

ص:123

الغريزية،و كون بقاء الحياة بها.و إلى البرودة للتنفّس و الاستنشاق بالمبرّد ليحفظ جوهر النفس.

و بالجملة،لو اريد بذلك الروح الحيوانيّ الذي يقوله الأطبّاء و الحكماء-كما تبيّنوا حقيقته في موضعه،و سيأتي الكلام فيه فيما بعد في موضع يليق به إن شاء اللّه تعالى- لربّما أمكن أن يكون له وجه صحّة.

و قد تأوّل صدر الأفاضل هذه الأقاويل بوجه آخر هو أيضا مرموز.

قال (1):«النفس من حيث نفسيّتها نار معنويّة من نارُ اللّهِ الْمُوقَدَةُ اَلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (2).و لهذا خلقت من نفخة الصور،فإذا نفخ فى الصور المستعدة للاشتعال النفسانيّ،تعلّقت بها شعلة ملكوتيّة نفسانيّة،و النفس لعدم (3)استكمالها و ترقّيها إلى مقام الروح،يصير نارها نورا محضا لا ظلمة فيه و لا إحراق معه،و عند تنزّلها إلى مقام الطبيعة يصير نورها نارا، مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (4).

ثمّ قال:النّفخة نفختان:نفخة تطفئ النار،و نفخة اخرى تشعلها،فوجود النفس و بقاؤها من النفس الرحمانيّ،و هو انبساط الفيض عن مهبّ رياح الوجود،و كذا زوالها و فناؤها،و تحت هذا سرّ آخر.فعلم أنّ ما ورد في لسان بعض الأقدمين«أنّ النفس نار» أو«شرر»أو«هواء»،لا يجب أن يحمل على التجوّز في اللفظ،و كذا الحال فيما صدر عن صاحب شريعتنا عليه السلام».انتهى كلامه،و هو(ره)أعلم بما قال.

تأويل بعض الاحاديث الواردة في الروح

ثمّ إنّه بما احتملناه في تأويل تلك الأقاويل أو نحوه،ربّما أمكن تأويل ما ورد في أخبار الصادقين عليهم السلام في حال الروح و وصفه و بيان حقيقته.

ص:124


1- -الشواهد الربوبيّة198/. [1]
2- -الهمزة6/ و 7. [2]
3- في المصدر:بعد استكمالها.
4- -الهمزة8/ و 9. [3]

مثل ما رواه الشيخ الطبرسيّ(ره)في كتاب«الاحتجاج»عن أبي جعفر محمّد بن علي الثاني عليه السلام،قال (1):أقبل امير المؤمنين عليه السلام ذات يوم معه (2)الحسن بن علي عليه السلام و سلمان الفارسي و امير المؤمنين عليه السلام متّكئ على يد سلمان، فدخل المسجد الحرام فجلس،إذ أقبل (3)رجل حسن الهيئة و اللباس،فسلّم (4)على أمير المؤمنين عليه السلام،فردّ عليه السلام،فجلس ثمّ قال:يا أمير المؤمنين أسألك عن ثلاث مسائل،إن أخبرتني بهنّ،علمت أنّ القوم ركبوا من أمرك ما أفضى إليهم أنّهم ليسوا بمأمونين في دنياهم و لا في آخرتهم،و إن لم تخبرني،علمت أنّك و أنّهم في شرع سواء، فقال أمير المؤمنين عليه السلام:سلني عمّا بدا لك.فقال:أخبرني عن الرجل إذا نام،أين يذهب روحه؟و عن الرجل كيف يذكر و ينسى؟و عن الرجل كيف يشبه ولده الأعمام و الأخوال؟

فالتفت أمير المؤمنين عليه السلام إلى أبي محمّد الحسن بن علي عليه السلام،فقال:

يا با محمّد (5)أجبه،فقال عليه السلام:أمّا ما سألت عنه من أمر الإنسان إذا نام أين يذهب (6)روحه،فإنّ روحه متعلّقة بالريح،و الرّيح متعلّقة بالهواء (7)،فإذا نام صاحبها جذبت تلك الروح الرّيح،و جذبت تلك الريح الهواء فرجعت و سكنت (8)في بدن صاحبها.و إن لم بأذن اللّه عزّ و جلّ بردّ تلك الروح على صاحبها،جذب (9)الهواء الريح،فجذبت الريح الروح،فلم تردّ على صاحبها إلى وقت ما يبعث».

و الحديث طويل نقلنا منه موضع الحاجة،و يعلم من آخره أنّ ذلك السائل كان هو الخضر عليه السلام.

و مثل ما رواه الشيخ المذكور في ذلك الكتاب من حديث طويل،روى فيه سؤال الزنديق الذي سأل أبا عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام عن مسائل كثيرة،

ص:125


1- -الاحتجاج للطبرسي 266/1،طبع مؤسسة [1]الأعلى-بيروت،الطبعة الثانية،1403ه.
2- في المصدر:و معه...
3- فأقبل...
4- فسلّم على...و هم...
5- أبا محمّد...
6- تذهب...
7- بالهواء الى وقت ما يتحرّك صاحبها لليقظة، فإن أذن اللّه بردّ تلك الروح على صاحبها،جذبت...
8- فسكنت...
9- جذبت الهواء.

و ما أجابه عليه السلام عنه،قال:قال (1):أخبرني عن السراج إذا انطفئ أين يذهب نوره؟ قال:يذهب فلا يعود.قال:فما أنكرت أن يكون الإنسان مثل ذلك،إذا مات و فارق الروح البدن لم يرجع إليه أبدا،كما لا يرجع ضوء السراج إليه أبدا إذا انطفئ.قال:لم تصب القياس،إنّ النار في الأجسام كامنة،و الأجسام قائمة بأعيانها،كالحجر و الحديد،فإذا ضرب أحدهما بالآخر،سطعت (2)من بينهما نار يقتبس (3)منه سراج له الضوء،فالنار ثابتة في أجسامها،و الضوء ذاهب،و الروح:جسم رقيق قد ألبس قالبا كثيفا،و ليس بمنزلة السّراج الذي ذكرت.إنّ الذي خلق في الرحم جنينا من ماء صاف و ركّب فيه ضروبا مختلفة:من عروق و عصب و أسنان و شعر و عظام و غير ذلك هو (4)يحييه بعد موته، و يعيده بعد فنائه.قال:فأين الروح؟قال:في بطن الأرض،حيث مصرع البدن إلى وقت البعث.قال:فمن صلب فأين روحه؟قال:في كفّ الملك الّذي قبضها حتّى يودعها الأرض.قال:فأخبرني عن الروح أغير الدم؟قال:نعم،الروح على ما وصفت لك،مادّتها من الدم،و من الدم رطوبة الجسم و صفاء اللون و حسن الصوت و كثرة الضحك.فإن اجمد (5)الدم،فارق الروح البدن.قال:فهل توصف (6)بخفّة و ثقل و وزن؟قال:الروح بمنزلة الريح في الزقّ،فإذا انفخت فيه امتلأ،الزقّ منها،فلا يزيد في وزن الزقّ ولوجها فيه،و لا ينقصه (7)خروجها منه؛كذلك الروح ليس لها ثقل و لا وزن.قال فأخبرني ما جوهر الريح؟ قال:الريح هواء إذا تحرّك يسمّى ريحا،و إذا (8)سكن يسمّى هواء،و به قوام الدنيا، و لو كفّت الريح ثلاثة أيّام لفسد كلّ شيء على وجه الأرض و نتن ذلك، (9)،لأنّ الريح بمنزلة المروحة،تذبّ و تدفع الفساد عن كلّ شيء و تطيّبه،فهي بمنزلة الروح إذا خرج عن البدن و تغير (10)،و فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (11).

قال:أ فيتلاشى (12)الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق؟قال:بل هو باق إلى وقت

ص:126


1- -الاحتجاج للطبرسيّ 349/2. [1]
2- في المصدر:سقطت...
3- تقتبس منها...
4- و هو يحييه...
5- فإذا جمد...
6- يوصف...
7- و لا ينقصها...
8- فإذا...
9- و ذلك...
10- عن البدن،نتن البدن و تغيّر...
11- -المؤمنون14/. [2]
12- أ فتتلاشى.

ينفخ في الصور،فعند ذلك تبطل الأشياء و تفنى،فلا حسّ و لا محسوس،ثمّ اعيدت الأشياء كما بدأها مدبّرها،و ذلك أربعمائة سنة يشيب (1)فيها الخلق،و ذلك بين النفختين.

قال و أنّى له البعث،و البدن قد بلي و الأعضاء قد تفرّقت،فعضو ببلدة يأكلها سباعها، و عضو بأخرى تمزّقها (2)هوامّها،و عضو قد صار ترابا بني به من (3)الطين حائط؟!قال:

الذي (4)أنشأه من غير شيء،و صوّره على غير مثال كان سبق إليه،قادر أن يعيده كما بدأه.

قال:أوضح لي ذلك!

قال:إنّ الروح مقيمة في مكانها،روح المحسن في ضياء و فسحة،و روح المسيء في ضيق و ظلمة،و البدن يصير ترابا (5)منه خلق،و ما يقذف (6)به السباع و الهوامّ من أجوافها ممّا أكلته و مزّقته كلّ ذلك في التراب،محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرّة في ظلمات الأرض،و يعلم عدد الأشياء و وزنها،و إنّ تراب الروحانيّين بمنزلة الذهب في التراب،فإذا كان حين البعث،مطرت الأرض مطر النشور،فتربو الأرض،ثمّ تمخض مخض السّقاء،فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء،و الزبد من اللبن إذا مخض،فيجمع (7)تراب كلّ قالب (8)فينقل بإذن اللّه تعالى القادر إلى حيث الروح، فتعود الصور بإذن المصوّر كهيئتها،و يلج (9)الروح فيها،فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا»و الحديث طويل نقلنا منه موضع الحاجّة.

و مثل ما رواه الشيخ المذكور في ذلك الكتاب (10)عن حمران بن أعين قال:سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول اللّه عزّ و جلّ وَ رُوحٌ مِنْهُ (11)قال:هي مخلوقة خلقها اللّه بحكمته في آدم و عيسى (12)عليهما السلام.

و مثل ما رواه فيه (13)عن محمّد بن مسلم،قال:سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول اللّه

ص:127


1- في المصدر:يسبت...
2- تمزّقه...
3- مع الطين...
4- قال:إنّ الذي...
5- ترابا كما منه...
6- تقذف...
7- فيجتمع...
8- قالب إلى قالبه،فينتقل بإذن...
9- و تلج...
10- -الاحتجاج 323/2. [1]
11- -النساء 323/2.
12- و في عيسى.
13- -الاحتجاج 323/2. [2]

عزّ و جلّ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي (1)،كيف هذا النفخ؟قال:إنّ الروح متحرّك كالريح، و إنما (2)سمّي روحا لأنّه اشتقّ اسمه من الريح.و إنّما أخرجه على (3)لفظة الروح لأنّ الروح متجانس للرّيح،و إنّما إضافة إلى نفسه لأنّه اصطفاه على سائر (4)الأرواح،كما اصطفى بيتا من البيوت،فقال:و«بيتي (5)»،و قال لرسول من الرّسل:«خليلي»و أشباه ذلك (6)،و كلّ ذلك مخلوق مصنوع مربوب مدبّر.

و هاتان الروايتان الأخيرتان قد رواهما الشيخ الكليني(ره)أيضا في الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السلام (7).

و مثل ما رواه الكليني(ره)فيه عن أبي حمزة،عن أبي جعفر عليه السلام، قال:سمعته يقول:المؤمن أخو المؤمن لأبيه و أمّه،لأنّ اللّه تعالى خلق المؤمنين من طينة الجنان،و أجرى في صورهم من ريح الجنّة،فلذلك هم إخوة لأب و أمّ.انتهى.

و بيان التأويل في هذه الاخبار،-و اللّه و رسوله و حججه أعلم-أمّا في الخبر الأوّل فيستدعي تمهيد مقدّمة،و هي:

إنّه من المعلوم المقرّر لدى العقلاء،المسلّم عند الأطباء،أنّ من الأسباب الستّة الضروريّة،الهواء المحيط بالأبدان،و يضطرّ إليه الإنسان و الحيوان لتعديل الروح الحيواني الذي أشرنا إلى بيان حقيقته،و إلى أنّه هو المطيّة الأولى للقوى النفسانيّة،و أوّل شيء من البدن يتعلّق به النفس الإنسانيّة،و أنّ هذا التعديل يحصل و يتمّ بفعلين:أحدهما الترويح،و هو يحصل بالاستنشاق،بأن ينبسط القلب و الحجاب و الرية و الشرائين كلّها، فتمتلئ هواء باردا بالقياس إلى الروح القلبيّ المتسخّن بالاحتقان و الحركة.و الفعل الثاني إخراج فضلات هذا الروح،و هي الأبخرة المحترقة بردّ النفس،بأن ينقبض الحجاب و الرية و الشرائين،فيندفع تلك الفضلات و الأبخرة،بمنزلة زقّ الحدّادين،يمتلئ هواء

ص:128


1- -ص72/.
2- في المصدر:إنّما...
3- عن لفظة...
4- ساير...
5- فقال:«بيتي»...
6- «خليلي»،و أشباه ذلك مخلوق مصنوع.
7- -أصول الكافي 103/1-104،طبع المكتبة [1]الإسلاميّة-طهران،1388ه.

بالانبساط،و يخلو بالانقباض.و أنّه لو لا هذان الفعلان لاحترق الروح القلبيّ،و استحال إلى الناريّة،كما أنّه لو كان أحدهما دون الآخر،لربما أدّى إلى فساد ذلك الروح و فنائه، فإنّه لو كان هناك استنشاق دون إخراج الفضلات،لربّما أدّى إلى تبريد الروح القلبيّ تبريدا غير مناسب لمزاجه،فيفسد.و كذا لو كان هناك إخراج الفضلات من دون استنشاق هواء أصلا،لربّما أدّى إلى إخراج الروح بالكليّة،أو إلى تسخينه تسخينا لا يناسب مزاجه، فيفنى.

و بالجملة،أنّ ذلك الهواء المستنشق،مع أنّه مروّح للروح الحيوانيّ غذاء له،إمّا بانفراده-كما هو عند قوم-و إمّا مع البخار اللطيف الحاصل من لطافة الأخلاط كما هو عند آخرين،فيقوم بدل ما يتحلّل من الروح.و أنّه ما دام الهواء المستنشق معتدلا صافيا عن الشوائب و المكدّرات لا يخالط بخار آجام أو بطائح أو آسن الماء أو نتن الجيف أو أبخرة رديّة و أشجار خبيثة أو غبار مترادف أو دخان،كان حافظا للصحة إن كانت حاصلة،أو محدثا لها إن لم تكن حاصلة.و إن تغيّر بسبب هذه المغيّرات كلّها أو بعضها،تغيّر حكمه؛سواء كانت تغيّراته طبيعيّة كالتغيرات الفصليّة،أو غير طبيعيّة.إمّا مضادّة للطبيعة،كالتغيّرات الوبائية،أو غير مضادّة لها،كالتغيّرات الحاصلة بسبب الجبال و البحار.و لذلك كان كلّ فصل يورث الأمراض المناسبة له،و يزيل الأمراض المضادّة له، كما فصّل ذلك فى الكتب الطبيّة.

و كذلك من المعلوم المقرّر عندهم،أنّ النوم و اليقظة اللّذين هما من الستّة الضروريّة، و إن كان النوم أشبه بالسكون،و اليقظة أشبه بالحركة،من حيث إنّ السكون يفعل أفعالا شبيهة بأفعال النوم،مثل الراحة و نضج الغذاء،و إنّ اليقظة يتبعها حركات الحواسّ،و لأنّ النوم يرطّب البدن،بمعنى أنّ البدن يغتذى فيه أكثر و أجود،لقلّة التحلّل فيه.و السكون أيضا يرطّب البدن بهذا المعنى؛و اليقظة تجفّف كالحركة للتحليل؛إلاّ أنّه في كلّ من النوم و اليقظة حركة للروح الحامل للقوى و الحرارة الغريزيّة.

أمّا في اليقظة فإلى خارج،فلذلك يتبعها حركة الحواسّ،و أمّا في النوم،فحيث كانت

ص:129

فيه الحواسّ معطّلة،و كان النوم عبارة عن رجوع الحرارة الغريزيّة إلى الباطن طلبا للإنضاج،يغور الروح الحامل للقوى و الحرارة الغريزيّة المنبثّ في الأعضاء إلى داخل، فيبرّد الظاهر.

و لذلك يحوج النوم إلى دثار أكثر مما فى اليقظة،حيث إنّه يلزم من توجّه الروح و الدم و الحرارة الغريزيّة،إمّا إلى داخل و إمّا إلى خارج،سخونة ما تحرّكت إليه،و برودة ما تحرّكت منه.

و لذلك أيضا إذا لم يكن خلاء في المعدة بل صادف النوم خلطا كثيرا مستعدّا لأن يصير دما جيّدا بالنضح،كان إفراط النوم مرطّبا و مبرّدا.أمّا الترطيب،فلما يلزم ذلك من كثرة الرطوبات بسبب قلّة تحلّل الفضلات،التي من شأنها أن تتحلّل فى اليقظة؛و لذلك يحدث أيضا بلادة القوّة النفسانيّة.و أمّا التبريد،لأنّ الأرطب ممّا ينبغي يجعل البدن أبرد ممّا ينبغي،بسبب حقن الحرارة و حبسها.و إذا وجد النوم خلاء البدن،كان مبرّدا و مجفّفا بانحلال الروح بسبب تحلّل الرطوبة الغريزيّة،فيتبعه تحلّل الروح و الحرارة الغريزيّة.

و إذا وجد غذاء مستعدّا للهضم-كالكيلوس مثلا-هضمه،أو خلطا مستعدّا للنضج -كالبلغم الفجّ-نضّجه،فيسخن لا محالة.و إن وجد خلطا أو غذاء عاصيا على الهضم و النضج،كالبلغم الكثير الفجاجة،الغير المستعدّ للاستحالة إلى الدمويّة،و كالغذاء الردي الكيلوس و الكيموس،كالسمك الغليظ،نشره،أي نشر النوم ذلك بسبب تحريك الحرارة إيّاه،فيبرّد البدن لا محالة.

كما أنّ السّهر المفرط يضعّف الدماغ و يفسد مزاجه إلى ضرب من اليبوسة،و ذلك لكثرة تحلّل الرطوبات بالحرارة التي تكون في الظاهر،بسبب تحرّك الأرواح إلى جهته، و بسبب حركة الحواسّ في إدراكها.و ربّما يؤدّي إلى اختلاط العقل بسبب إفراط سوء المزاج،لأنّ التصرّفات العقليّة تحتاج إلى ضرب من الاعتدال.

و كذلك السهر المفرط يسيء الهضم بتحليل القوّة لتحلّل الرطوبة الغريزيّة و الحرارة.

إلى غير ذلك من العلامات التي سببها حركة الروح،إمّا إلى داخل،كما فى النوم،و إمّا الى

ص:130

خارج،كما في اليقظة.

و بعبارة أخرى أنّ اليقظة حالة تكون النفس فيها مستعملة للحواسّ و القوى المحرّكة من ظاهر،فيكون النوم عدم هذه الحالة،فتكون النفس فيه قد أعرضت عن الجهة الخارجة إلى الجهة الداخلة.و إعراضها لا يخلو من أحد وجوه:إمّا أن يكون الكلال عرض لها من هذه الجهة،و إمّا أن يكون لمهمّ عرض لها في تلك،و إما أن يكون لعصيان في تلك الآلات إيّاها.

و الذي يكون من الكلال،هو أن يكون الروح قد تحلّل و ضعف فلا يقدر على الانبساط،فيغور و يتبعها (1)القوى النفسانيّة.و هذا الكلال قد يعرض من الحركات البدنيّة، و قد يعرض من الأفكار،و قد يعرض من الخوف؛فإنّ الخوف قد يعرض منه النوم،بل الموت.و ربما كانت الأفكار تنوّم لا من هذه الجهة،بل بأن تسخن الدماغ،فينجذب الرطوبات إليه،و يمتلئ الدماغ فيتنوّم بالترطيب.

و الذي هو لمهمّ له في باطن،هو أن يكون الغذاء و الرطوبات قد اجتمعت من داخل، فيحتاج إلى أن يفسدها الروح بجمع الحارّ الغريزيّ،ليفي (2)بهضمها التامّ،فيعطّل الخارج.

و الذي يكون من جهة الآلات،فأن يكون الأعصاب قد امتلأت و انسدّت من أبخرة و أغذية تنفذ فيها إلى أن تنهضم،إذ الروح ثقلت عن الحركة لشدّة الترطيب.

و على هذا فيكون اليقظة لأسباب مقابلة لهذه.من ذلك أسباب تجفّف،مثل الحرارة و اليبوسة؛و من ذلك جمام و راحة حصلت؛و من ذلك فراغ عن الهضم،فيعود الروح منتشرا كثيرا؛و من ذلك حالة رديّة تشغل عن الغور،بل تستدعيه إلى خارج،كغضب أو خوف لأمر قريب،أو مقاساة لمادّة مؤلمة،و غير ذلك من الأسباب،و اللّه تعالى أعلم بالصواب.

ثمّ إنّه حيث كانت في كلّ من النوم و اليقظة حركة للأرواح،إما إلى داخل،و إمّا إلى

ص:131


1- -و يتبعه خ ل.
2- -ليفيء خ ل.

خارج؛بل حركة للقوى النفسانيّة أيضا إلى جهة حركة الأرواح بتبعيّتها،لكونها كصور الأرواح،و كون الأرواح حاملة لها تتحرّك بحركتها؛و كانت الحركة موجبة لحصول سخونتها فى جهة حركتها،و كانت سخونتها موجبة لتحلّلها،لكونها أجساما لطيفة في الغاية حارّة سهلة التحلّل جدّا،فلا تسمح النفس بتحريكها الى جهة،إلاّ إذا كان معها ما يمدّها،ليتدارك ما تحلّل منها بالحركة و السخونة؛و ذلك الممدّ هو الجسم الذي من شأنه أن يكون غذاء للأرواح،و بدلا عمّا تحلّل منها،كالدم الصافي الشبيه بجوهرها،و الهواء المستنشق،كما ذكرنا.

و بالجملة،فهذا الممدّ ممّا لا بدّ منه في بقاء تلك الأرواح و حفظ صحّتها و مزاجها الموافق لها،و لكونها مطيّة للنفس و متعلّقة لها،بحسب تفاوت مراتب احتياج الأرواح إلى ذلك الممدّ،لتفاوت مراتب تحلّلها،كما في حالات النوم و اليقظة،و كما في النوم بالنسبة إلى اليقظة؛فإنّ ذلك التحلّل في النوم ربّما كان أكثر،لكون السخونة التي هي موجبة للتحلّل فيه أكثر،لحصولها بالحركة إلى الداخل.و كذا بسبب احتقان الروح و احتباسه في الداخل،بخلاف اليقظة؛فإنّ السخونة في اليقظة-من حيث هي يقظة-إنّما هي بسبب الحركة خاصّة؛و لا احتباس هاهنا إلاّ أن يكون بسبب من خارج،كما في المخنوق.

و الحاصل أنّ هذا الممدّ ممّا لا بدّ منه،و أنّه لو كان حاصلا،لأمكن بقاء الأرواح و بقاء الحياة؛و لو انتفى لربّما أدّى إلى زوال الأرواح،أو إلى تغيّر مزاجها و انقطاع علاقة النفس عنها و عن البدن،فيحصل الموت؛و كلّ ذلك بإذن اللّه تعالى.

و اذا تمهّدت هذه المقدّمة،اتّضح لك أنّه يمكن تأويل هذا الحديث الشريف بأحد وجهين:أحدهما أمّا ما سألت من أمر الإنسان إذا نام أين يذهب روحه؟فإنّ روحه،أي روحه الحيوانيّة التي هي المطيّة الأولى لروحه الإنسانيّة و ما به التعلّق بين النفس الإنسانيّة الناطقة و بين البدن،متعلّقة لتعديلها كما ذكر بالروح،أي بالهواء المستنشق الذي هو في حركته الانبساطيّة و الانقباضيّة كالريح،بل هو الريح نفسها؛لأنّ الريح ليست

ص:132

إلاّ هواء متحرّكا،و الهواء المستنشق أيضا كذلك.و تلك الريح متعلّقة بالهواء،أي بمطلق الهواء،لكونها بعضا منه و مستمدّة منه.فإذا نام صاحبها و أذن اللّه تعالى في بقاء حياة صاحبها،و في ردّ تلك الروح إلى (1)بدنه،و حصل لها مدد من داخل-كما ذكر-جذبت تلك الروح الريح،أي الهواء المستنشق،و جذبت تلك الريح الهواء،أي قدرا منه يكون مددا لها،و به يقوى الاستنشاق،فتقوى الروح.فرجعت بإذن اللّه تعالى بعد خروجها للاستنشاق إلى داخل،فسكنت في بدن صاحبها؛و بقيت علاقة النفس الإنسانيّة بالبدن لبقاء ما به الارتباط بينها و بين البدن فيه.و إن لم يأذن اللّه عزّ و جلّ برّد تلك الروح إلى صاحبها،و لم يكن لها مدد من داخل أو من خارج،جذب الهواء تلك الريح جذب الكلّ للبعض،فجذبت تلك الريح الروح،لكونها متعلّقة بها مصاحبة معها محتاجة إليها، فتوجّهت بكلّيّتها إلى خارج،فلم تردّ على صاحبها إلى وقت ما يبعث،و لم ترجع إلى بدنه،و انقطعت أيضا علاقة النفس الإنسانيّة عن بدن صاحبها،لزوال ما به الارتباط عنه، إلى أن يأذن اللّه تعالى بالعود في يوم المعاد.

الوجه الثاني،أنّ روحه-أي روحه الإنسانيّة-متعلّقة بالريح،أي أنّها متعلّقة أوّل تعلّق بالروح الحيوانيّة التي هي جسم لطيف رقيق مجانس للريح في صفاتها و أحوالها، و تلك الريح-أي الروح الحيوانيّة-متعلّقة لأجل تعديلها بالهواء لأجل الاستنشاق،فإذا نام صاحبها و ضعفت علاقتها عن البدن و عن تلك الروح الحيوانيّة التي هي مطيّتها الاولى،و توجّهت إلى خارج البدن و مالت إلى الارتباط بما يجانسها من موجودات العالم الأعلى،و توجّهت الروح الحيوانيّة أيضا إلى خارج بتبعيّتها،أو لأجل تعديلها و استنشاقها للهواء.فحينئذ،إن أذن اللّه تعالى في ردّها إلى بدن صاحبها و بقاء علاقتها بالبدن و بمطيّتها الاولى،قويت علاقتها بالبدن،و رجعت إليه،و جذبت تلك الروح-أي الإنسانيّة-الريح-أي الحيوانيّة-جذب الراكب لمطيّتها،و جذب المتبوع لتابعها،و المدبّر لما يدبّره؛و جذبت تلك الريح الهواء لأجل تعديلها و استنشاقها جذب المجانس لما

ص:133


1- -في خ ل.

يجانسه،فرجعت الروح الإنسانيّة إلى البدن،و رجعت الروح الحيوانيّة أيضا إليه بتبعيّتها، فسكنت في بدن صاحبها،و بقيت علاقتها بالبدن و بمطيّتها كما كانت أوّلا.و إن لم يأذن اللّه عزّ و جلّ بردّ تلك الروح على صاحبها،جذب الهواء الريح-أي الروح الحيوانيّة- جذب المجانس لما يجانسه،فجذبت الريح الروح جذب المطيّة لراكبها،فلم تردّ على صاحبها إلى وقت ما يبعث.و هذا الذي ذكرنا هو،-و اللّه أعلم-وجه التأويل في هذا الحديث الشريف.

و منه يعلم وجه التأويل في الحديث الثاني أيضا،فإنّ قوله عليه السلام فيه:«و الروح جسم رقيق قد ألبس قالبا كثيفا»لعلّه أراد به،أنّ الروح-أي الروح الحيوانيّ-جسم لطيف كما وصفناه،قد ألبس قالبا كثيفا،و جعل ذلك القالب متعلّقا له نوع تعلّق.و أنّ ذلك القالب الكثيف هو البدن،و هو-خصوصا أعضاؤه الرئيسة كالقلب و الدماغ و الكبد- معدن لتولّد ذلك الروح الحيوانيّ،و أنّ تعلّق الروح الإنسانيّة التي هي جوهر مجرّد عن المادّة،إنّما يكون أوّلا بذلك الجسم اللطيف،و بتوسّطه بالبدن.

و بما ذكرنا يتّضح شرح باقي الحديث الشريف،إلاّ أنّه حيث كانت فيه إشارات إلى امور،فلا بأس أن نبيّنها.

فنقول:إنّ قوله عليه السلام فى جواب سؤال السائل:«فأين الروح؟»

إشارة إلى أنّه إذا مات الإنسان و فني بتلاشي أعضائه و تفرّق أجزائه،يبقى الروح، أي ذلك الجسم اللطيف،بمادّته بل بصورته أيضا،في بطن الأرض،أي في قبره،و حيث مصرع بدنه و مسقط الأجزاء البدنيّة منه إلى وقت البعث.و أنّه لا امتناع في ذلك،فإنّ ذلك الجسم اللطيف ليس عرضا قائما بموضوع،أي البدن،حتّى يكون فناء موضوعه و تلاشي أجزائه موجبا لانعدامه كما هو شأن العرض،بل هو جوهر قائم بذاته،و إن كان معدن تولّده أجزاء البدن كلّها أو بعضها.فإنّه ليس يلزم من انعدام معدن التولّد انعدام ما يتولّد منه الذي هو جوهر قائم بذاته،بل يمكن أن يكون ما يتولّد منه باقيا و متعلّقا نوع تعلّق بالمادّة البدنيّة،كما دلّ عليه قوله عليه السلام في الحديث.

ص:134

و هذا كما أنّ النفس الإنسانيّة المجرّدة،التي هي متعلّقة بالبدن تعلّق تدبير و تصرّف، حيث كانت جوهرا قائما بذاته،لا يلزم من انعدام متعلّقها-أي البدن-انعدامها؛بل هي باقية بعد خرابه،كما دلّت عليه الأدلّة و النصوص على ما أسلفنا بيانها.بل إنّه ربّما دلّ الدليل على بقاء تعلّقها أيضا-نوع تعلّق-بالبدن من حيث المادّة البدنيّة و أجزائه الأصلية الباقية التي تدلّ على بقائها النصوص الكثيرة،على ما مضى بيانها.و يدلّ عليه آخر هذا الحديث أيضا،و كذا من حيث بقاء هذا الجسم اللطيف الذي هو من البدن أيضا، و يدلّ على بقائه هذا القول منه عليه السلام.

و بيان ذلك الدليل الدالّ على بقاء تعلّقها كذلك،أنّ تعلّق النفس الإنسانيّة بالبدن لمّا كان من جهتين:من جهة الصورة البدنيّة،و من جهة مادّته.فحيث بطلت الصورة البدنيّة بخراب البدن و لم تبطل المادّة،يلزم منه بقاء تعلّقها به من الجهة الثانية،و إن كان بطل تعلّقها به من الجهة الاولى.و كذلك حيث كان تعلّقها أوّلا و بالذّات بذلك الجسم اللطيف الذي في البدن،و ثانيا و بالواسطة بالبدن كلّه؛و كان المفروض بقاء ذلك الجسم اللطيف، يلزم منه بقاء تعلّقها به في الجملة،و إن لم يكن هو في ضمن البدن بصورته.

و ممّا ذكرنا يظهر سرّ ما ورد من زيارة القبور و مصارع الأبدان و الدعاء فيها.فتبصّر.

و قول عليه السلام في جواب سؤال السائل:«فمن صلب فأين روحه؟».

إشارة إلى أنّ مقبوض الملك الذي هو قابض الأرواح،إنّما هو ذلك الجسم اللطيف، و ينبغي أن يحمل على أنّه هو المقبوض أوّلا،و أنّ النفس الإنسانيّة المجرّدة مقبوضة بتوسّطه،حيث إنّها متعلّقة أوّلا و بالذات بذلك الجسم اللطيف،و بتوسّطه بالبدن كلّه.فإذا قبض هو،كانت هي مقبوضة أيضا و منقطعة علاقتها عن البدن الذي كان هو معه أو فيه انقطاعا من حيث الصورة البدنيّة،و إن كان تبقى علاقتها به من حيث المادّة و الأجزاء الأصليّة الباقية،و من حيث ذلك الجسم اللطيف الباقي،كما عرفت بيانه.

و كذلك في هذا القول منه عليه السلام إشارة إلى أنّ الإنسان،سواء كان مصلوبا أم غيره و سواء كان مأكول السباع أم غيره،و سواء كان مدفونا أم غيره؛فهذا الجسم اللطيف

ص:135

منه مقبوض بيد الملك،و باق في مصرع بدنه في بطن الأرض،حيث كان مسقط أجزاء بدنه كلّها أو معظمها أو بعضها،أو مسقط أجزائه الأصليّة،أو مودع في الأرض حيث أذن اللّه تعالى في إيداعه،و إن لم يكن مسقط بدنه،و إن لم يكن باطن الأرض بل ظاهرها.

و قوله عليه السلام في جواب سؤاله:«فأخبرني عن الروح،أغير الدم؟»

إشارة إلى أنّ ذلك الجسم اللطيف مادّته و معدن تولّده الدم،كما قاله الحكماء،من أنّه جسم بخاريّ يتولّد من الدّم الذي في القلب و ما يليه في ذلك.

و قوله عليه السلام في جواب سؤاله (1)«فهل توصف بخفّة أو وزن أو ثقل»إشارة إلى أنّه مع كونه متولّدا من الدم،مجانس للريح في صفاته و أحواله و خواصّه كما بيّنه عليه السلام و سبقت الإشارة إليه.

و قوله عليه السلام في جواب سؤاله:«أ فيتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق؟»إشارة أيضا إلى بقائه بمادّته و صورته إلى يوم ينفخ في الصور،و أنّ المتلاشي هو أجزاء البدن.

و قوله عليه السلام:«فعند ذلك تبطل الأشياء و تفنى»لعلّ المراد به-و اللّه أعلم- بطلان الأشياء بصورها،لا انعدامها بالمرّة،كما حقّقنا القول فيه فيما سبق،فتذكّر.

و قوله عليه السلام في جواب سؤاله:«و أنّى له البعث،و البدن قد بلي و الأعضاء قد تفرّقت-إلى آخره-»إشارة إجماليّة إلى ما يرتفع به استبعاد السائل للبعث و إلى كيفيّة العود و الحشر و هي أنّ القادر الّذي أنشأ الإنسان من غير شيء،و صوّره على غير مثال كان سبق إليه،قادر أن يعيده كما بدأه،أي أن يعيد الأمر الباقي منه،و يجمع المتفرّقات منه،فيصوّر مرّة اخرى كما بدأه من غير شيء،و إن كان البدن قد بلي و الأعضاء قد تفرّقت،فعضو ببلدة يأكله سباعها،و عضو بأخرى تمزّقه هوامّها،و عضو قد صار ترابا بني به من الطين حائط؛بل إنّ إعادته على هذا الوجه أهون عليه من البدء،كما قال تعالى:

وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ

ص:136


1- -في المتن«جوابه»،و الظاهر ما أثبتناه.

وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)،أي أنّه أهون عليه في ظاهر الحال و بالنظر إلى ما يراه القادرون- غيره تعالى-بالنسبة إلى مقدوراتهم،و إن كانت قدرته تعالى لا يختلف حالها في الواقع، بالقياس إلى مقدوراته بالأهونيّة و غيرها.

ثمّ انّ ما ذكره عليه السلام في الإيضاح،إشارة تفصيليّة،فيها بيان الأمر الباقي من الإنسان،من روحه و أجزاء بدنه بعد خراب بدنه،و كذا بيان كيفيّة البعث.

و بيان الأوّل:أنّ الروح،أي ذلك الجسم اللطيف،باقية بعد خراب البدن،مقيمة في مكانها الذي قدّره اللّه تعالى لها،أي في مصرع بدنه و مسقط أجزائه،أو فيما أودعه الملك بإذن اللّه تعالى،روح المحسن في ضياء و فسحة،و روح المسيء في ضيق و ظلمة.

و ينبغي أن يحمل على أنّ النفس الإنسانيّة المجرّدة أيضا باقية متعلّقة نوع تعلّق بذلك الجسم اللطيف،مقيمة معه نوع إقامة في ذلك المكان،إمّا في ضياء و فسحة كما في المحسن،أو في ضيق و ظلمة كما في المسيء،و لعلّه عليه السلام لم يذكره،لأنّه لم ير مصلحة في تحقيق حقيقة المجرّد و بيان أحواله و صفاته و خواصّه لذلك السائل،حيث كان هو الزنديق الذي لم يكن من أهل العلم،و لم يكن يتيسّر له فهم هذه المعاني.بل ربّما كان بيان ذلك له موجبا لزيادة غباوته و عناده و بعده عن الحقّ.و كأنّه لذلك قال تعالى:

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (2)بناء على ما فسّره بعض المفسّرين.حيث إنّهم سألوه عن حقيقة الروح المجرّدة الإنسانيّة التي تدبّر بدن الإنسان و بها حياته،و عن أحوالها و صفاتها،فأجيبوا بأنّها أبدعت و أنشأت من أمر اللّه تعالى،إشعارا بأنّهم ليسوا ممّن يتيسّر لهم علم ذلك،كما قال تعالى: وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً (3)بل إنّما ينبغي لهم أن يعلموا أنّها من أمر اللّه تعالى و من مبدعاته،مع الإيذان بتجرّدها عن المادّة أيضا، أي كونها من الإبداعيّات الكائنة من غير مادّة و تولّد من أصل،كأعضاء جسد الإنسان.

ص:137


1- -الروم27/. [1]
2- -الإسراء85/. [2]
3- -الإسراء85/. [3]

لأنّ المادّيّ لا يوجد بمجرّد أمر اللّه تعالى،كما هو ظاهر الآية؛بل إنّه و إن كان يوجد بأمر اللّه تعالى،لكن لا به وحده،بل بتوسّط المادّة أيضا،و إن كانت المادّة أيضا موجودة بأمر اللّه تعالى.و كأنّه لذلك اصطلح الحكماء على أنّ المجرّدات من عالم الأمر،و أنّ المادّيات من عالم الخلق.فافهم.

فإن قلت:ما ذكرت من أنّ الروح الإنسانيّة مقيمة مع الرّوح الحيوانيّة في مصرع بدن الإنسان،أو في موضع من الأرض أودعت الروح الحيوانيّة فيه،مخالف لما دلّت الأخبار الكثيرة عليه،من أن الأرواح الإنسانيّة على صور أبدانهم فى قوالب مثاليّة،و أن أرواح المؤمنين في ظهر الكوفة و في شاطئ الفرات،و أرواح الكفّار في وادي برهوت.

قلت:لا مخالفة في ذلك و لا منافاة،فإنّ الروح الإنسانيّة حيث كانت مجرّدة عن المادّة،و المجرّد ليس له في ذاته مكان خاصّ أو وضع خاصّ كما للمادّيّات،فيمكن أن يكون لها تعلّقان:أحدهما بذلك القالب المثالي،و الآخر بمصرع بدنه،و كانت هي في ضمن كلّ منهما،إمّا في ضياء و فسحة كما في روح المحسن،أو في ضيق و ظلمة،كما في روح المسيء،و بذلك ينبغي أن يتأوّل ما ورد من أنّ ملك الموت يقبض في ساعة واحدة أرواح جمع كثير و جمّ غفير من الخلائق،مع أنّ بعضهم في المشرق و بعضهم في المغرب.

و ما ورد من أنّه ما من أحد يحضره الموت،إلاّ مثّل له النبيّ و الحجج صلوات اللّه عليهم حتّى يراهم،فإن كان مؤمنا يراهم بحيث يحبّ،و إن كان غير مؤمن يراهم بحيث يكره.

فتبصّر.

و هذا بيان بقاء روح الإنسان بعد خراب جسده.

و أمّا بيان بقاء ما يبقى من بدنه و جسده بعد خرابه،فهو أنّ البدن،و إن كان يصير متلاشيا و ترابا،إلاّ أنّه يصير ترابا هو مبدأ خلقه و نشوّه،أي التراب الذي منه خلق أوّلا، كما يدلّ عليه نصوص اخر أيضا واردة عنهم عليهم السلام في ذلك،من أنّ الميّت يبلى جسده حتّى لا يبقى لحم و لا عظم إلاّ طينته التي خلق منها،فإنّها لا تبلى في القبر و تبقى

ص:138

مستديرة حتّى يخلق منها كما خلق أوّل مرّة (1).و أنّ كلّ طينة خلق منه الإنسان يدفن فيها، و أنّ النّطفة إذا استقرّت في الرّحم بعث اللّه تعالى ملكا يأخذ من تراب المكان الذي يدفن ذلك الإنسان فيه،فيأخذه و يخلطه بتلك النطفة،فيخلق الإنسان من تلك النطفة المخلوطة بذلك التراب.و إذا اقترب أجله يذهب إلى أن يجيء إلى ذلك المكان.فيموت و يدفن فيه (2).و هذه النطفة مستديرة في القبر،و تبقى إلى أن يخلق الإنسان منها مرّة اخرى،و يشهد به قوله تعالى: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (3).

و بالجملة،إذا صار جسد الإنسان ترابا،يصير ترابا منه خلق أوّلا،و إن بني به من الطين حائط؛و هو المراد ببقاء الأجزاء الأصليّة من بدنه،و أنّ ما يقذف به السباع و الهوامّ من أجوافها ممّا أكلته و مزّقته،و كذلك ما احرق و صار رمادا مثلا و نحو ذلك،فهو أيضا يصير ترابا كذلك.و كلّ ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرّة في ظلمات الأرض،و يعلم عدد الأشياء و وزنها؛و أنّ تراب الروحانيّين بمنزلة الذهب فى التراب،على معنى أنّ ذلك التراب متميّز في الواقع في ضمن جملة التراب،إلاّ أن تراب الروحانيّين-أي الأبرار-من البشر،بمنزلة الذهب في التراب،و إن كان تراب غيرهم بمنزلة غير الذهب،كالنحاس و الصفر مثلا في التراب متميّزا أيضا،أو أنّ تراب من هو ذو روح،أي البشر مطلقا،بمنزلة الذهب في التراب من جهة تميّزه في ضمن التراب في الواقع.

و أمّا بيان الثاني،أي كيفيّة البعث،فهو إنّه إذا كان حين البعث،مطرت الأرض بإذن اللّه تعالى مطر النّشور،فتربو الأرض،ثمّ تمخض مخض السقاء،فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء،و كمصير الزبد من اللبن إذا مخض،فيجمع تراب كلّ قالب،فينتقل بإذن اللّه تعالى القادر إلى حيث الروح،فتعود الصور بإذن المصوّر

ص:139


1- -بحار الأنوار 358/60 [1]عن الكافي. [2]
2- -تفسير الصافي 310/3؛ [3]بحار الأنوار 337/60 و 338 [4] عن الكافي.
3- -طه55/. [5]

-تعالى شأنه-كهيئتها أوّلا.أي فتفاض على ذلك التراب الصور مرّة اخرى،مشابهة للصور الاولى و مماثلة لها،و يلج الروح فيها.أمّا الروح الحيوانيّة،فبإدخالها فى ذلك الجسد،و أمّا الرّوح الإنسانيّة،فبإعادة تعلّقها به مرّة اخرى كما كان أوّلا،فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا،و يعلم أنّه حين البعث هو الذي كان قبل حين البدء،من غير تغاير في ذاته،لا في ترابه و أجزائه الأصليّة،و لا في روحه الحيوانيّة،و لا في روحه الإنسانيّة؛ و إن كانت المغايرة في أجزائه الفضليّة الفرعيّة و في صورته و هيئته حاصلة،فإنّ هذه المغايرة لا دخل لها في اختلاف الذات،مع اتّحاد ما هو الأصل في اتّحاد الذات،و هو باق في الحالتين،أي أجزائه الأصليّة البدنيّة و روحه الإنسانيّة و الحيوانيّة،و كذا مع مماثلة الهيئة و الصورة الثانية للاولى.

و بذلك يتّضح كيفيّة البعث و الحشر و النشر،و يتّضح تفسير آيات واردة في ذلك.

كقوله تعالى:

هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)

و قوله تعالى: وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاّ نَكِداً (2)

و قوله تعالى: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (3)

و قوله تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السّاعَةُ قُلْ بَلى وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرُ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (4)

و قوله تعالى: وَ اللّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ

ص:140


1- -الأعراف57/. [1]
2- -الأعراف58/. [2]
3- -الروم50/. [3]
4- -سبأ3/. [4]

اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (1)

و قوله تعالى: إِنّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (2)

و قوله تعالى: أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَ هُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ (3)

و قوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)

و قوله تعالى: وَ اللّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً* ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَ يُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (5)

و قوله تعالى: وَ الَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (6)

إلى غير ذلك من الآيات فتدبّر تعرف.و اللّه الموفّق.

و هذا الذي ذكرنا هو الكلام في تأويل الخبر الثاني،و اللّه أعلم.

و منه يعلم تأويل الأخبار الباقية؛فإنّ قوله عليه السلام فى الحديث الثالث (7)في تفسير قوله تعالى وَ رُوحٌ مِنْهُ (8):هي مخلوقة خلقها اللّه بحكمته في آدم و عيسى (9)عليهما السلام؛قيل:الروح الحيوانية و الإنسانيّة جميعا؛و كذا إسنادها إلى اللّه تعالى يحتمل التشريف و أنّها مخلوقة له تعالى.

ص:141


1- -فاطر9/. [1]
2- -يس12/. [2]
3- -يس81/. [3]
4- -فصّلت39/. [4]
5- -نوح18/. [5]
6- -الزخرف11/. [6]
7- -الاحتجاج 323/2. [7]
8- -النساء171/. [8]
9- في المصدر:و في عيسى.

كما أنّ قوله عليه السلام فى الحديث الرابع، (1)في تفسير قوله تعالى وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي (2)محمول على أنّ المراد بالروح هو الروح الحيوانيّة التي هي مجانسة للريح،و أنّ الإضافة للتشريف.

و كذلك قوله عليه السلام في الحديث الخامس«و أجرى في صورهم من ريح الجنّة» (3)لعلّ المراد به الروح الحيوانيّة التي هي مجانسة للريح كما ذكر،إلاّ أنّها في المؤمن من ريح الجنة،كما أنّ الظاهر أنّ المراد بطينة الجنان ذلك التراب الّذي ذكر أنّه مبدأ خلق الإنسان،إلاّ أنّه في المؤمنين من تراب الجنّة.

و حيث عرفت ما ذكرنا من الكلام الذي وقع في البين بالمناسبة و التقريب،فلنرجع إلى ما كنّا بصدده في هذا الباب.

في بيان جوهريّة النفس

فنقول:أمّا بيان جوهريّة النفس،فله طريقان:أحدهما خاصّ بالنفس الناطقة الإنسانيّة،و الآخر عامّ يعمّ النفس الأرضيّة بأنواعها،أي النباتيّة و الحيوانية و الانسانيّة.

أمّا الطريق الخاصّ بالإنسانيّة،فهو يتوقّف على إثبات تجرّدها،لأنّه إذا ثبت أنّها ليست بجسم،كما تقدّم؛و ثبت مع ذلك أنّها مجرّدة عن المادّة قائمة بذاتها؛لم يقع شكّ في أنّها جوهر.

و أمّا الطريق العامّ،فبأن يقال:لو كان وجود النفس الأرضيّة في الجسم كوجود العرض في الموضوع،لكان حال تلك النفس-بالقياس إلى ذلك الجسم-كحال الأعراض التي يتبع وجودها وجود الموضوع لها،و لا تكون مقوّمة لموضوعها بالفعل،كما هو شأن العرض الموجود في الموضوع.و لكان حال ذلك الجسم-بالقياس إلى النفس-كحال

ص:142


1- -الاحتجاج 323/2. [1]
2- -ص72/.
3- -أصول الكافي 133/2. [2]

الموضوع.أي مادّة محفوظة الذات باقية بعينها مع تبدّل الأعراض الواردة عليها،أي أن يكون ذلك الجسم الذي فرض موضوعا للنفس باقيا بعينه بعد مفارقة تلك النفس عنه، يكون هو موضوعا لغير تلك النفس من نفس أخرى،أو شيء آخر غير النفس،كما هو شأن موضوع العرض،و هذا باطل قد ظهر بطلانه ممّا بيّناه سابقا في مسألة بقاء النفس.

أمّا الأوّل،فلما عرفت هنا لك أنّ المادّة القريبة لوجود هذه الأنفس العنصريّة فيها، إنّما هي ما هي بمزاج خاصّ و هيئة خاصّة و تركيب مخصوص،هي بذلك تستعدّ لفيضان نفس عليها حافظة لمزاجها،جامعة لأجزائها.و أنّه إنّما تبقى تلك المادّة بذلك المزاج و التركيب و تلك الهيئة بالفعل ما دام فيها أو معها النفس،و النفس هي التي تجعلها بذلك المزاج الموافق،و هي علّة لتكوّن النبات و الحيوان على المزاج الذي لهما.و أنّ الموضوع القريب للنفس يستحيل أن يكون هو ما هو بالفعل إلاّ بالنفس،فإنّ النفس علّة لكونه كذلك،و أنّه لا يجوز أن يقال:إنّ الموضوع القريب لها حصل على طباعه موجودا بسبب غير النفس،ثمّ لحقته النفس لحوقا لا قسط لها بعد ذلك في حفظة و تقويمه و تربيته، كالحال في أعراض يتبع وجودها وجود الموضوع،و لا تكون مقدّمة لموضوعها بالفعل.بل إنّ النفس مقوّمة لموضوعها القريب،فحينئذ فهي ليست بعرض.

و منه يظهر أيضا أنّ النّفس مغايرة لمزاج بدنها و لجسميّته.

و أمّا الثاني،فلما عرفت أيضا ثمّة أنّه إذا فارقت النفس عن موضوعها،وجب ضرورة أن يكون فراقها يحدث لغالب صيّر الموضوع بحالة اخرى و أحدث فيه صورة جماديّة،كالمقابلة للصورة المزاجيّة الموافقة لتلك النفس و لتلك الصورة.و أنّ المادّة التي للنفس لا تبقى بعد النفس على نوعها البتّة،بل إما أن يبطل نوعها و جوهرها الذي به كان موضوعا للنفس،أو يخلف النفس عنها صورة أخرى تستبقي المادّة بالفعل على طبيعتها؛ فلا يكون ذلك الجسم الطبيعيّ كما كان أوّلا،بل يكون هناك صورة و أعراض اخرى، و يكون قد تبدّل أيضا بعض أجزائه و فارق عنه،مع تغيّر الكلّ فى الجوهر.

و مما يوضّح ما ذكرنا أنّه من المعلوم المشاهد أنّ النفس الإنسانيّة إذا فارقت بدن

ص:143

الإنسان،و كذا النفس الحيوانيّة إذا فارقت بدن الحيوان،لا يبقى البدن الإنسانيّ و البدن الحيوانيّ على طبيعته الأوّليّة التي كان هو بها موضوعا للنفسين،و على مزاجه و تركيبه الأوّلين؛بل يفسد و يتغيّر و يتلاشى أعضاؤه و يتفرّق أجزاءه و يبطل نوعه.و كذلك النفس النباتيّة إذا فارقت جسم النبات،لا يبقى ذلك الجسم على طبيعته الأوّليّة و نوعه السابق الذي به كان موضوعا للنفس النباتيّة،فإنّ الشّجر المقطوع-مثلا-و إن بقي بصورته و هيئته و تركيبه في الظاهر،إلاّ أنّه في الحقيقة ليس بشجر،بل هو خشب حدثت فيه صورة جماديّة،و لذلك ليس من شأنه أن تفاض عليه نفس تارة أخرى.

و بالجملة،فالنامي من حيث أخذه نفسا و فصلا لذلك الجسم من حيث أخذه جنسا، يلزم من زواله و انعدامه انعدام تلك الحصّة الجنسيّة التي تقوّمها و تحصّلها به.و كذلك من حيث أخذه صورة للجسم من حيث أخذه مادّة،يلزم من انعدامه انعدام تلك المادّة المتقوّمة بتلك الصورة،و عدم بقائها على الطبيعة السابقة.و على التقديرين،فيلزم من مفارقة النفس النباتيّة عن جسم النبات بطلان نوعه.و كذلك من المعلوم المبيّن أنّه عند فيضان النفس النباتيّة و الحيوانيّة و الإنسانيّة و تواردها على المادّة المنويّة البدنيّة الإنسانيّة في الرحم،سواء قلنا:بأنّها نفوس متعدّدة كما قد يظنّ،أو بأنّها ذات واحدة تتزايد كمالاتها كما هو الحقّ،و سيأتي تحقيقه بتوارد الصور المضغيّة و العقليّة و العظميّة و اللحميّة على تلك المادة؛فلا تبقى تلك المادّة على طبيعتها،بل تخلف كلّ نفس من تلك النفوس أو كلّ مرتبة من تلك المراتب نفس أخرى أو مرتبة أخرى تكون تلك المادّة معها على صورة أخرى و طبيعة اخرى غير الأولى،فلا يكون ذلك الجسم الطبيعيّ الذي يفرض موضوعا أو مادّة للنفس الاولى أو للمرتبة الاولى كما كان أوّلا،بل يكون هناك أعراض أخرى و تغيّرت تلك المادّة في الجوهر.

و حيث عرفت ذلك،و عرفت أنّه بعد مفارقة النفس لا تبقى المادّة التي فرض كونها مادّة للنفس على نوعها،عرفت أنّه حينئذ لا يكون هناك مادّة محفوظة الذات بعد مفارقة النفس هي كانت موضوعة للنفس،و الآن موضوعة لغير النفس،فإذن ليس وجود النفس

ص:144

في الجسم كوجود العرض في الموضوع،فثبت مما ذكرنا أنّ النفس ليست بعرض،و أنّ مادّتها ليست بموضوع لها،فثبت أنّ النفس جوهر،لأنّها صورة في موضوع،و هذا هو المطلوب.

فإن قلت:إنّ ما ذكرته من بيان حال المادّة البدنيّة فى الرحم،و إن كان ظاهرا على تقدير القول بأنّ الفائض هناك على المادّة البدنيّة نفوس متعدّدة متغايرة،إلاّ أنّه على تقدير القول بأنّ الفائض هناك نفس واحدة بالذات،يتزايد كمالاتها،ففيه إشكال.لأنّه إن كانت تلك المراتب المتزايدة من قبيل الأعراض،و الحال أنّ موضوعها يتغيّر بتغيّرها كما هو المفروض،فيلزم أن يكون بتغيّر العرض يتغيّر الموضوع،و هذا خلاف ما هو المقرّر عندهم.و إن كانت من قبيل الجواهر،فتكون هي صورا،فتكون نفوسا متعدّدة لا نفسا واحدة و ذاتا واحدة،و هذا خلاف المفروض.

قلت:لا إشكال في ذلك،لأنّها نختار أنّها جواهر و صور مقوّمة لموادّها،فلذا يلزم من تغيّرها تغيّر موادّها.لكن لا يلزم من كونها صورا كونها نفوسا متعدّدة،بل أنّها قوى متعدّدة لذات واحدة و نفس واحدة،أي قوى تنبعث عن النفس الواحدة في الأعضاء، يتأخّر فعل بعضها و يتقدّم فعل بعض آخر منها بحسب استعداد الآلة،و لا يلزم من اختلاف قوى متعدّدة لشيء واحد،اختلاف في ذات ذلك الشيء بحسب جوهره و سنخه، و هذا كما أنّ من البيّن أنّ لكلّ نفس من النفوس النباتيّة و الحيوانيّة و الإنسانيّة التي هي بانفرادها ذات واحدة قوى متعدّدة،و لا يلزم من تعدّد قواها تعدّد ذات تلك النفس الواحدة،و لم يقل به أيضا أحد.

ثمّ إنّ في هذا المقام إشكالا آخر ذكره الشيخ في الشفاء مع جوابه،و بيان الإشكال و تحريره: (1)أنّ ما ذكر من أنّ النفس علّة قريبة لقوام مادّتها القريبة،فهي ليست بعرض، و أنّ مادّتها ليست بموضوع،لو كان مسلّما،فانّما يسلّم في النفس النباتيّة.و أمّا النفس الحيوانيّة،فيشبه أن تكون النفس النباتيّة تقوم مادّتها،ثمّ يلزمها اتّباع هذه النفس

ص:145


1- -الشفاء-الطبيعيّات 24/2-26،الفصل الثالث من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

الحيوانيّة إيّاها اتّباع وجود العرض لوجود الموضوع؛فيكون الحيوانيّة متحصّلة في مادّة تقوّمت بذاتها،أي من غير أن تكون الحيوانيّة مقوّمة لتلك المادّة.بل إنّ تلك المادّة علّة لقوام الحيوانيّة التى حلّتها،فلا تكون الحيوانيّة إلاّ قائمة في موضوع.

و بيان الجواب و تحريره،أنّ النفس النباتيّة-بما هي نفس نباتيّة-لا يجب عنها إلاّ جسم متغذّ مطلقا،و أنّ النفس النباتيّة مطلقة ليس لها وجود إلاّ وجود معنى جنسيّ، و ذلك في الوهم،أي في الذهن فقط.و أمّا الموجود في الأعيان،فهو أنواعها.فحينئذ نقول:

إنّ النفس النباتيّة-بما هي نفس نباتيّة مطلقة-سبب واحد عامّ يجب عنه شيء عامّ أيضا، أي كلّي غير محصّل،و هو الجسم المتغذي النامي المطلق الجنسي الغير المنوّع.و أمّا الجسم ذو آلات الحسّ و التميّز و الحركة الإراديّة،فليس مصدره عن النفس النباتيّة بما هي نفس نباتيّة،بل بما ينضمّ إليها من فصل آخر يصير به طبيعة اخرى،و لا يكون ذلك إلاّ أن يصير نفسا حيوانية.فظهر من ذلك أنّ المادة القريبة للنفس النباتيّة-بما هي نباتيّة-لا تكون بعينها مادّة قريبة للنفس الحيوانيّة بما هي حيوانيّة،بل المادّتان متغايرتان كالنفسين.و أنّه لا يمكن أن تبقى مادّة النباتيّة بعينها مادّة للحيوانيّة،متقوّمة بالنباتيّة فقط، حتّى يمكن فرض النفس الحيوانيّة عرضا قائما في موضوع هو مادّة النباتيّة،بل إنّ تقوّم المادّة الحيوانيّة بالنفس الحيوانيّة؛فهي أيضا ليست بعرض كالنفس النباتيّة التي فرض تقوّم مادّتها بها.

ثمّ إنّه بيّن الجواب عن هذا الإشكال بوجه آخر أبسط و أوضح،و تحريره:أنّ النفس النباتيّة إمّا أن يعنى بها النفس النوعيّة التى تخصّ النبات دون الحيوان،أو يعنى بها المعنى العامّ الذي يعمّ النفس النباتيّة و الحيوانيّة من جهة ما يغتذي و يولّد و ينمو،فإنّ هذا قد يسمّى نفسا نباتيّة،و هذا مجاز من القول،فإنّ النفس النباتيّة لا تكون إلاّ في النبات، و لكن المعنى العامّ الذي يعمّ نفس النبات و الحيوان يكون في الحيوانات،كما يكون في النبات،و وجوده كما يوجد المعنى العامّ في الأشياء.و إمّا أن يعنى بها القوّة من قوى النفس الحيوانيّة التي يصدر عنها أفعال التغذية و التربية و التوليد،كما هو مقتضى القول

ص:146

بأنّ النفس واحدة و لها قوى متعددة،كما هو المذهب الحقّ،و سيأتي تحقيقه.فإن عنى بها النفس النباتيّة التي هي بالقياس إلى النفس الفاعلة للغذاء نوعيّة،أي النفس النوعيّة التي تخصّ النبات،فذلك يكون في النبات لا غير،و ليس في الحيوان؛فلا يمكن أن يقال إنّ النفس النباتيّة قوّمت مادّتها،و صارت تلك المادّة بعينها موضوعا للنّفس الحيوانيّة و هي عرض فيها.و إن عنى به المعنى العامّ،فيجب أن ينسب إليه معنى عامّ لا خاصّ،فإنّ الصانع العامّ هو الذي ينسب إليه المصنوع العامّ،و الصانع النوعي كالنجّار هو الذي ينسب إليه المصنوع النوعيّ،و الصانع المعيّن هو الذي ينسب إليه المصنوع المعيّن،و هذا شيء قد مرّ لك تحقيقه.فالذي ينسب إلى النفس النباتيّة العامّة من أمر الجسم أنّه تامّ عامّ،و أمّا أنّه تامّ بحيث أنّه يصلح لقبول الحسّ أولا يصلح،فليس ينسب إلى النفس النباتيّة من حيث هي عامّة،و لا هذا المعنى يتبعه.

فعلى هذا أيضا،لا يمكن أن يقال:إنّ النفس النباتيّة قوّمت مادّتها،ثمّ صارت تلك المادّة موضوعا للنفس الحيوانيّة.

و أمّا القسم الثالث،و هو أن يعني بها القوّة من قوى النفس الحيوانيّة التي يصدر عنها أفعال التغذية و التربية و التوليد،و هو مقتضى القول بوحدة النفس و تعدّد قواها،فظاهر أنّه على تقديره يستحيل أن يقال:إنّ القوّة النباتية وحدها تفعل بدنا حيوانيّا،إذ ليست هي منفردة بالتدبير،إذ لو كانت منفردة بالتدبير،لكانت تتمّم جسما نباتيّا،و ليس الأمر كذلك، بل المنفردة بالتدبير هناك نفس واحدة تتمّم جسما حيوانيّا بآلات الحسّ و الحركة في الحيوان،و جسما إنسانيّا في الإنسان،لتلك النفس قوى متعدّدة،أمّا قوّتان نباتيّة و حيوانيّة،كما في الحيوان غير الإنسان؛أو ثلاث قوى نباتيّة و حيوانيّة و انسانيّة،كما في الإنسان.و تلك القوى تنبعث عن تلك النفس الواحدة في الأعضاء،و يتأخّر فعل بعضها و يتقدّم بحسب استعداد الآلة.و سيتّضح من بعد أنّ النفس واحدة لها قوى كذلك.

و منه يظهر أن لا سبيل لإيراد نظير هذا الإشكال في المادّة الحيوانيّة،بالنسبة إلى النفس الإنسانيّة،لجريان نظير هذا الجواب بعينه فيه.

ص:147

و كذلك يظهر منه أنّ النفس التي لكلّ حيوان أو إنسان هي جامعة لاسطقسّات بدنه، و مؤلّفها و مركّبها على نحو يصلح معه أن يكون بدنا لها،و هي حافظة لهذا البدن على النظام الذي ينبغي،فلا يستولي عليه المغيّرات ما دامت النفس موجودة فيه أو معه،و لو لا ذلك لما بقي على صحّته.

و ممّا ينبّه على ما ذكرنا،ملاحظة ما يلاحظ من قوّة القوة النامية مثلا و ضعفها عند استشعار النفس الناطقة قضايا تحبّها أو تكرهها محبّة و كراهة ليست ببدنيّته البتّة،و ذلك عند ما يكون الوارد على النفس تصديقا ما.و ليس ذلك مما يؤثّر في البدن بما هو اعتقاد، بل يتبع ذلك الاعتقاد انفعال من غمّ أو سرور.و ذلك أيضا من المدركات النفسانيّة، و ليس ممّا يعرض للبدن بما هو بدن،إلاّ أنّه يؤثّر في القوّة النامية الغاذية،حتّى يحدث فيها من العارض الذي يعرض النفس أوّلا-كالفرح النطقيّ-شدّة و نفاذ في فعلها،و من العارض المضادّ لذلك-كالغمّ النطقيّ الذي لا ألم بدنيّ فيه-ضعف و عجز حتّى يفسد فعلها.و ربما انتقص المزاج به انتقاصا.بل ربّما كان الوارد على النفس الناطقة موجبا لتأثّر القوّة الحيوانيّة و قوّتها و ضعفها.و كذلك ربّما يكون الواردات على كلّ من النّباتيّة و الحيوانيّة موجبة لضعف الاخرى و قوّتها.و كذلك ربّما يكون الواردات عليهما موجبة لتأثّر القوّة الناطقة و قوّتها و ضعفها،و كلّ ذلك ممّا يجده الإنسان من ذاته في الأحوال الواردة عليه،و دليل على ما ذكرنا من وحدة النفس و تعدّد قواها.فإنّها لو كانت متعدّدة كما قد يظنّ،لما كان لضعف حال إحداها أو قوّتها مدخل في ضعف حال الاخرى أو قوّتها،و كذلك هو دليل على أنّ تلك النفس جامعة لقوى الإدراك و استعمال الغذاء، و هي واحدة ليست لها هذه منفردة عن تلك.

و إذا عرفت ما ذكر،تبيّن لك أنّ النفس مكمّلة للبدن الذي هي فيه أو معه،و حافظة على نظامه الأولى به أن يتفرّق و يتميّز،إذ كلّ جزء من أجزاء البدن يستحقّ مكانا آخر، و يستوجب مفارقة لقرينه،و إنّما يحفظه على ما هو عليه شيء خارج عن طبيعته،و ذلك الشيء هو النفس في الحيوان و الإنسان.فالنفس إذن كمال،موضوع ذلك الموضوع يتقوّم

ص:148

بها،لا بالعكس،و هي أيضا مكمّل النوع و صانعه،فإنّ الأشياء المختلفة الأنفس،تصير بها مختلفة الأنواع،و يكون تغايرها بالنوع لا بالشخص.فالنّفس إذن ليست من الأعراض التي لا يختلف بها،و لا يكون لها مدخل في تقويم الموضوع.فالنّفس اذن كمال كالجوهر لا كالعرض،إلاّ أنّه ليس يلزم من هذا أن يكون مفارقا أو غير مفارق،فإنّه ليس كلّ جوهر بمفارق،فلا الهيولى بمفارقة و لا الصورة.و قد علمت أنّ الأمر كذلك.انتهى ما ذكره الشيخ في هذا المقام بتحريره،و بذلك تمّت الدلالة على جوهريّة النفس الأرضيّة بأنواعها،إلاّ أنّه لمّا لم يستلزم الدلالة على تجرّد ما هو مجرّد عن المادّة من تلك الأنواع،أعني النفس الناطقة الإنسانيّة كما ذكره الشيخ،و كان ذلك أيضا هو المقصود هنا،بل المقصد الأسنى و المطلوب الأقصى الذي هو مختلف فيه بين المتكلّمين و الحكماء،و يتفرّع عليه أحكام اخرى و مقاصد لا تحصى،كما لا يخفى على اولى النّهى؛فحريّ بنا أن نتكلّم فيه تكلّما وافيا شافيا،عسى أن يرتفع به حجاب الإبهام عن وجه المدّعى،و يتّضح منهج الرشاد و طريق الهدى.

فنقول،و باللّه التوفيق:إنّ الذين قالوا بتجرّد النفس الناطقة الإنسانيّة و مفارقتها عن المادّة،و إن اقاموا عليه أدلّة كثيرة و حججا عديدة تترى من وجوه متكثّرة و طرق شتّى، إلاّ أنّا نذكر من تلك الأدلّة ما هو واضح السبيل،يكفي لدى المنصف المسترشد المستبصر لشفاء العليل،و لرواء الغليل.و لنقدّم قبل الخوض في المقصود ذكر نبذ من خواصّ الأفعال و الانفعالات التي للإنسان،و بيان قوى النظر و العمل التي للنفس الإنسانيّة على سبيل الإجمال،مقدّمة للدليل على ما هو المقصود،موافقا ل«الشفاء»و غيره من كتب العلماء؛فنقول:لا يخفى عليك أنّ للإنسان خواصّ أفعال تصدر عن نفسه ليست هي موجودة لسائر الحيوانات.

منها،أنّه لمّا كان الإنسان في وجوده المقصود منه،يجب أن يكون غير مستغن في بقائه عن المشاركة،و لم يكن كسائر الحيوان الذي يقتصر كلّ واحد منها في نظام معيشته على نفسه و على الموجودات في الطبيعة له.و أمّا الإنسان الواحد،فلو لم يكن في الوجود

ص:149

إلاّ هو وحده،و إلاّ الأمور الموجودة في الطبيعة له لهلك أو لساءت معيشة أشدّ سوء، و تفصيل ذلك لا يناسب المقام.بل الإنسان محتاج إلى أمور أزيد ممّا في الطبيعة،مثل الغذاء المعمول و اللباس المعمول و الموجود في الطبيعة من الأغذية ما لم يدبّر بالصناعات،فإنّها لا تلائمه بل يخسر (1)معها معيشته،و كذا الموجود في الطبيعة من الأشياء التي يمكن أن تلبس أيضا،فقد يحتاج إلى أن تجعل بهيئة و صفة حتّى يمكنه أن يلبسها.

و أمّا الحيوانات الاخرى،فإنّ لباس كلّ واحد معه في الطباع،فلذلك يحتاج الإنسان أوّل شيء الى الفلاحة،و كذلك إلى صناعات أخرى لا يمكن للانسان الواحد تحصيل كلّ ما يحتاج إليه من ذلك بنفسه،بل بمشاركة مع غيره،أي أن يكون مكفيّا بآخر من نوعه، يكون ذلك الآخر أيضا مكفيّا به بنظيره،حتّى يكون هذا يخبز لهذا،و ذلك ينسج لذلك، و هذا ينقل شيئا من بلاد غريبة إلى ذلك،و هذا يعطيه بإزاء ذلك شيئا من قريب،و هذا يخيط لهذا،و هو ينجر له،و أمثال ذلك من المعونات التي لا تتناهى.

و بالجملة،فهو يحتاج في ضرورات المعاش من المسكن و المطعم و الملبس،و دفع الأعداء و التحرّس من طوارق البلاء،إلى أشياء كثيرة من الزرع و الغرس و الحصاد و الطحن و الطبخ و الغزل و النسج و الحياكة و الخياطة و أدوات ذلك كلّه،و كذا إلى البناء و محاويجه و أسباب البناء و أسلحة الحروب و غير ذلك مما لا يحصيها غير علاّم الغيوب، و هي أشياء لا يستطيع لها و لا يقوى عليها إنسان واحد،و لا مائة و لا ألف؛بل يحتاج إلى جماعة كثيرة يجتمعون في مكان واحد و مساكن متقاربة،يعمل كلّ فرقة منهم عملا، فيتعاونون و يتعاضدون،و يتعاوضون أعمالهم،و يتبادلون صنائعهم،فيقع بينهم المعاملات في حقوقهم و مساعيهم.فلهذه الأسباب و أسباب اخرى أخفى و آكد من هذه يحتاج الإنسان إلى أن يكون له في طبعه قدرة على أن يعلم الآخر الذي هو شريكه بعلامة وضعيّة،و كان أخلق ما يصلح لذلك هو الصّوت،لأنّه ينبعث إلى حروف يتركّب منها تراكيب كثيرة من غير مئونة تلحق البدن في ذلك،و يكون سيّالا لا يثبت،فيأمن من وقوف

ص:150


1- -لا يحسن خ ل.

من لا يحتاج إلى شعوره عليه.و بعد الصوت الإشارة،إلاّ أنّها لا تفي بالمعدومات و المعقولات الصرفة و المدركات الباطنيّة،بل تختصّ بالمدركات بالحواسّ الظاهرة،و مع ذلك،فهي إنّما تهدي من حيث يقع البصر،و أن تكون من جهة مخصوصة،و أن تحرّك الحدقة إلى جهة مخصوصة حركات كثيرة يراعى بها الإشارة.

و أمّا الصوت فقد يغني الاستعانة به من أن يكون من جهة مخصوصة،و عن أن يراعى تحريكات،فجعلت الطبيعة للنفس أن تؤلّف من الأصوات ما يتوصّل به إلى إعلام الغير.و أمّا الحيوانات الأخرى،و إن كان فيها أيضا أصوات يقف بها غيرها على حال نفسه،إلاّ أنّ تلك الأصوات إنّما تدلّ بالطبع على جملة من الموافقة و المنافرة غير محصّلة و لا مفصّلة،و الذي للإنسان فهو بخلاف ذلك،لأنّه بالوضع،و على أغراض لا تتناهى، و مقاصد لا تحصى.

فاختصّ الإنسان بهذه الخاصيّة للضرورة الداعية إلى الإعلام و الاستعلام،لضرورة داعية إلى الأخذ و الإعطاء،و لضرورات اخرى.ثمّ باتّخاذ المجامع و استنباط الصنائع التي هي عن استنباط و قياس،بعضها للضرورة النوعيّة،و بعضها للضرورة الشخصيّة و لصلاح حال الشخص.

و أمّا الحيوانات الاخرى و خصوصا للطير (1)و إن كانت لها صناعات-و لا سيّما النحل،فإنّ لها بيوتا و مساكن و تسديسا فيها،و كذلك العنكبوت فإنّ لها نسجا و حياكة-إلاّ أنّ تلك الصناعات ليست ممّا يصدر عن قياس و استنباط و رأي كلّي،بل عن نوع إلهام و تسخير و رأي جزئيّ منبعث عن طبع و قوّة متخيّلة،و لذلك ليست تلك الصناعات ممّا يختلف و يتنوّع،و لا توجد متصرّفا فيها و لو تصرّفا ما كصناعات الإنسان،و كذلك ليست تلك الحيوانات ممّا يصدر عنها غير تلك الصناعات الخاصّة،أي أن تكون صناعاتها غير مخصوصة بوجه دون وجه كما في الإنسان أيضا؛بل إنّ صناعاتها خاصّة بتلك التي شوهد صدورها عنها،و مع ذلك فليست صناعاتها للضرورة

ص:151


1- -الطير خ ل.

الشخصيّة و لصلاح حال الشخص،بل للضرورة النوعيّة فقط،بدليل أنّها لو كانت لصلاح حال الشخص،لكانت ممّا تختلف و لو اختلافا ما،مع أنّ أحوال الأشخاص من حيث هي أشخاص مختلفة جدّا.

ثمّ إنّه حيث كان حال الإنسان ما ذكر،و كان يحتاج في ضرورات معاشه و بقاء نوعه و صلاح حال شخصه إلى بني نوعه الذين يجتمعون في مكان واحد و مساكن متقاربة، يعمل كلّ فرقة منهم عملا،فيتعاونون و يتعاضدون و يتعاوضون أعمالهم و يتبادلون صنائعهم،فيقع بينهم المعاملات في مساعيهم،و كان هذا الاجتماع إنّما ينتظم إذا كان بينهم عدل في المعاملات يتّفق الجميع عليه،لأنّ كلّ واحد يشتهي ما يحتاج إليه، و يغضب على ما يزاحمه،و أكثر الناس لا يكتفي بحقّه،و لا يجتزي بحظّه،بل كلّ إنسان يطمع في نصيب غيره،و لا ينصف من نفسه،و يرى ما له عدلا و ما عليه ظلما،فيؤدّي ذلك بينهم إلى التباغض و التحاسد و التنازع و التعاند،فيقع الجور و يختلّ أمر الاجتماع.

و كان العدل لا يتناول الجزئيّات الغير المحصورة،بل لا بدّ له من قوانين كلّية مصونة عن الخطاء،يقرّرها مقنّن و سانّ معدّل عدل حكيم،احتاج الإنسان لبقاء نوعه و ضرورة معاشه و صلاح حاله-أشدّ احتياج-إلى واضع لتلك القوانين شارع لها مبعوث من اللّه تعالى،يكون هو من نوع الإنسان بحيث يخاطب الإنسان،و يلزمهم التكاليف،و يسنّ للناس في امورهم سننا بإذن اللّه تعالى و وحيه،يرجعون هم إليها و إليه في معاملاتهم، و إلى رئيس لهم يعلم حقائق أعمالهم و دقائق أفعالهم و مقادير أجورهم و موازي صنائعهم،و يقدر على إحقاق حقوقهم و إيصال حظوظهم،و على تأديبهم و سياستهم؛ و يكون إنسانا عظيم المنزلة جليل الرتبة ينبغي له هذه المرتبة على الإطلاق و تليق به بالاستحقاق،لئلاّ يسع أحدا مخالفته و يلزم مطاوعته،و هو النبيّ عليه السلام،و هذا أحد أسباب الاحتياج إليه عليه الصلاة و السلام في كلّ عصر و زمان،و إن كانت أسباب الاحتياج إليه كثيرة يكاد يخفى على أذهاننا دركها،و ما بلغ إليه فهم المرءوسين من البشر هو أقلّ قليل منها.

ص:152

و منها أنّ بدن الإنسان و مزاجه مركّب من طبائع متضادّة و كيفيّات متعاندة، و هو محتاج في معاشه و صلاح حاله إلى أغذية و أشربة مختلفة،إن سالمت بعضا عاندت آخر؛و هو-مع تلك المعاندات-من داخل بدنه واقع في معرض الآفات و مورد البليّات من خارجه،إن انتهز بعضها فرصة،غلب صاحبه فأفسده و أدّى إلى هلاك بدنه و جسده من قريب،بل ربما أدّى بتوسّطه إلى هلاك روحه و نفسه أيضا،فيحتاج ضرورة إلى ضرب من التدبير في غذائه و شرابه و سائر وارداته ليسلم من الآفات و يبقى به مدّة يمكنه فيها الترقّي إلى الكمال المقدّر له.و معلوم أنّ معرفة مضارّها و منافعها و مسالمها و منازعها لا يمكن بالتجربة،فإنّ دواء واحدا أو غذاء و شرابا يختلف أثره في الأمزجة المختلفة و الأمكنة المختلفة و الأزمنة المختلفة،بل في شخص واحد بحسب أحوال و أوقات مختلفة لا تكاد تنضبط برابط،فضلا عن جميع الأغذية و الأشربة و الأدوية بكثرتها التي لا يحصيها و لا يجمعها الارتباط؛و لو كان الطريق إلى معرفتها هو التجربة،لكان في مدّة تجربة شيء واحد هلاك المجرّبين من الناس كلّهم أو جلّهم.و على تقدير فرض حصول معرفتها بالتجربة،لكان ذلك في أقلّ قليل منها،لا في أكثرها و لا في كلّها.و على تقدير تسليم حصول ذلك بالنسبة إلى أكثرها أو كلّها و لو في أزمنة متطاولة و أعصار متمادية، فلا يخفى أنّ التجربة إنّما تفيد معرفة طبائع الأشياء التي للتجربة دخل في معرفتها، و للعقل سبيل إلى العلم بها.و الحال أنّ في الوجود و الطبيعة و فيما يحتاج إليه الإنسان في نظام معيشته و صلاح حاله و بقاء نوعه و شخصه أشياء مثل أغذية و أشربة و مساكن و ملابس و أفعال،لتلك الأشياء خواصّ و أحكام،بعضها مقرّبة للإنسان إلى رحمة اللّه تعالى و إلى ساحة عزّه و كبريائه،و بعضها مبعّدة عن ذلك،و بعضها ممّا ينفع جسده أو روحه أو كليهما،و بعضها يضرّه كذلك؛و أنّ تلك الخواصّ و الأحكام ممّا ليس للتجربة إليها سبيل،و لا من العقل عليها دليل،بل لا يعلمها إلاّ علاّم الغيوب،و إلاّ من هو مبعوث من عنده تعالى.و حيث كان الأمر كذلك،فاحتاج الإنسان في نظام معيشته و بقاء نوعه و شخصه و صلاح حال روحه و جسده،إلى رئيس أديب يؤدّبهم،و معلّم يعلّمهم،و مبيّن

ص:153

يبيّن لهم منافع الأشياء و مضارّها و خواصّها و أحكامها،و أنّ بعضها حلال،و بعضها حرام، و بعضها مباح،و بعضها مندوب،و بعضها مكروه.و من تلك الأسباب،أنّه من المعلوم أنّ الغاية التي خلق الإنسان،الذي هو أشرف الكائنات و أفضل البريّات لأجلها،و أفضل الأعمال التي هو يكتسبها:معرفة اللّه تعالى و صفات جماله و جلاله،و معرفة حقائق الأشياء التي هي صنعه و آلاؤه تعالى،ثمّ امتثال طاعته و اجتناب معصيته بالتخلّق بالأخلاق الزكيّة،و الاتّصاف بالأوصاف المرضيّة،و التنزّه عن الصفات الدنيّة،و التزيّن بالأفعال الجميلة،و التورّع عن الأعمال الرذيلة.و من المعلوم أيضا أنّ هذه المعرفة و هذا العلم و إن كان عقليّا صرفا،بمعنى أنّ العقل السليم يمكنه أن يستقلّ في تحصيله،إلاّ أنّ التحصيل يتوقّف على التنبّه لذلك.و أكثر العقول لكونها منهمكة في الشهوات الحسّيّة، منغمرة في اللذّات و الشوائب الجسمانيّة،قد توسّخ جواهر مراياها بأوساخ تلك العادات الخبيثة،و ران عليها ملكاتها الخسيسة،فهي كأنّها قد رقدت في عادتها كأنّها سكارى، و توغّلت في حالتها كأنّها حيارى.و النائم و إن كان قد يتنبّه بنفسه،لكنّ النيام الغرقى في غمرات المنام لو تركوا و منامهم،لاستمرّوا في سكوتهم يعمهون.و النوم الغرق لو لم يوقظ أهله لتمادوا في نومهم إلى يوم يبعثون،فلو لم يكن رجل أيقظه اللّه تعالى بنوره،يوقظهم من نوم غفلتهم،و ينهضهم من صرعة جهلهم،لم يتيقّظوا و لم يخطر ببالهم أنّ لهم صانعا يجب عليهم أن يعرفوه،ثمّ يسمعوا له و يطيعوه؛و لم يختلج في قلوبهم أنّ هاهنا فضيلة و كمالا غير ما هم به مولعون،و هم فيه مستترون.فذهب أكثر الناس ضياعا،و مضى عامّتهم همجا رعاعا.ثمّ إنّهم بعد ما اوقظوا أيضا أو تيقّظوا،ليس أكثرهم من يبصر شيئا أو يهتدى سبيلا،لما غشى بصائرهم من رمد الغفلة،و أحاط بقلوبهم من رين هواجس العادة،فلا يبصرون طريقا و سبيلا و لا يعقلون حجّة و دليلا،بل لا غنى لهم عن معلّم بصير خبير يعلّمهم كمال التدبير و يهديهم إلى سواء السبيل،عسى أن يكون فرقة منهم تهتدي إلى قليل أو كثير،و هذا-أيضا-أحد أسباب احتياج الإنسان إلى النبيّ عليه السلام و إن كانت أسباب الاحتياج إليه عليه السلام لا تحصى،و ما تفطّن له العلماء من ذلك

ص:154

هو أقلّ قليل منها.

و تلخّص لك مما ذكرنا،أنّ مثل النبيّ عليه السلام بالنسبة إلى المكلّفين في التكاليف العقليّة،أي الاصوليّة،هو مثل أن يكون هناك طريق واضح رشد يفضي سالكه إن سلكه إلى المقصود الخير،إلاّ أنّ بعض سالكيه و إن كانوا صحيحي البصيرة و البصر،لكنّهم نيام يحتاجون إلى موقظ يوقظهم ليتيقّظوا و يفتحوا أعينهم و يروا السبيل لكي يسلكوه.

و بعضهم،و إن كانوا متيقّظين،لكنّهم رمد العين معيوبو البصر يحتاجون إلى معالج يعالج بصرهم و يزيل الغشاوة عن أعينهم حتّى يروا السبيل و يسلكوه،و هذا الموقظ و المعالج هو النبيّ عليه السلام.

و أمّا مثله بالنسبة إليهم في التكاليف الشرعيّة الفرعيّة،كمثل أن يكون هناك طريق رشد،و سبيل واضح أيضا،إلاّ أنّ سالكيه كلّهم عمون يحتاجون إلى قائد يقودهم،و دليل يدلّهم،و آخذ يأخذ بأيديهم و يسلك بهم ذلك السبيل،و هذا هو أيضا النبيّ عليه السلام وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (1)

في بيان اختصاص الإنسان بالقوّة العقليّة

اشارة

و قد تلخّص لك أيضا من هذه الجملة أنّ الانسان-من بين أنواع الحيوان-مختصّ بخاصّيّة،هي كونهم قابلين للتكاليف العقليّة و الفرعيّة و الخطابات الشرعيّة التي هي قوانين كلّيّة،فيظهر منه أنّ الإنسان مختصّ بخاصّيّة هي إدراك المعاني الكلّية دون سائر أفراد الحيوان،و أنّه بسبب حصول القوّة العقليّة فيه،التي هي مدركة الكلّيات،اختصّ بتلك التكاليف و الخطابات.

خاصّيّة للإنسان

و حيث عرفت ما ذكرناه،فاعلم أنّه من جملة خواصّ الإنسان أنّه يتبع إدراكاته

ص:155


1- -العنكبوت43/. [1]

للأشياء النادرة مطلقا انفعال يسمّى التعجّب،و يتبعه الضحك،و يتبع إدراكه للأشياء المؤذية مطلقا انفعال يسمّى الضجر،و يتبعه البكاء،و لا يكون ذلك للحيوانات الاخر.

خاصّيّة أخرى للإنسان

و من جملة خواصّه،أنّه حيث كان في الوجود أفعال،من شأنها و حقّها أنّه لا ينبغي أن يفعلها الفاعل لها،و كذا أفعال حقّها أن يفعلها الفاعل لها،و يسمّى الأولى قبيحة و الثانية جميلة،فيعلمها الإنسان بل ينشأ عليها من صغره إلى كبره،و يتعوّد عليها منذ صباه، و يكون ذلك العلم منه عن اعتقاد و رأي كلّيّ يتبعه رأي جزئيّ،حتّى كأنّه كالغريزيّ له، و إن لم يعمل بعلمه في بعض الموادّ.بخلاف سائر الحيوانات،فإنّها لو تركت أفعالا لها أن تفعلها و لا ينبغي لها أن تفعلها،أو فعلت أفعالا لها أن تتركها و لا ينبغي لها تركها،فليس سبب ذلك فيها اعتقاد و رأي كلّيّ نفسانيّ يتبعه رأي جزئيّ،بل ربّما كان نوع إلهام و تسخير أو هيئة و عارض نفسانيّ متخيّل أو متوهّم.فإنّ الكلب المعلّم-مثلا-إذا لم يأكل صاحبه و لا ولده و لا صيده،بل أمسكه على صاحبه،بل حمله إليه مع جوعه و صبره عليه،فليس ذلك منه عن رأي و اعتقاد كلّيّ،و إلاّ لكان حاله بالنسبة إلى غير صاحبه و ولده و صيده أيضا ممّا ينبغي له تركه كذلك،و المعلوم خلافه.و لكان كلّ كلب مع مشاركته في النوع و الطبيعة له كذلك،و ليس كذلك.بل ربّما كان سب ذلك عارضا نفسانيّا هو لذّة وهمّيّة ينالها،من توقّع إكرام صاحبه إيّاه،فإنّ كلّ حيوان يؤثر بالطبع وجود ما يلذّه و بقاءه و أنّ الشخص الذي يموّنه و يطعمه قد صار لذيذا له،لأنّ كلّ نافع لذيذ بالطبع عند المنفوع.و كذلك المرضعة من الحيوانات إذا آثرت ولدها على نفسها،و خاطرات محامية عليه أعظم من مخاطرتها في حمايتها لنفسها،أو الحيوان إذا أحبّ ولده،فليس سبب ذلك هنا اعتقاد و رأي،و إلاّ لكان حالها بالنسبة إلى غير ولدها ممّا ينبغي لها فعلها أيضا، و المعلوم خلافه.بل ربّما كان سبب ذلك لذّة وهميّة تجدها من تصوّر سلامة ولدها،

ص:156

و ربّما آثرتها على سلامة نفسها.و هذا كما أنّ بعض الإنسان قد يتخيّل لشيء نافع في الواقع و يتنفّر عنه إذا كان بصورة ما يتنفّر عنه،او لشيء متنفّر عنه و يميل إليه إذا كان بصورة ما يميل إليه من غير اعتقاد في ذلك.و كذلك ما يشاهد من أنّ الذئب يحذره كلّ شاة و إن لم تره قطّ و لا أصابته منه نكبة و أذيّة،و يحذر الأسد حيوانات كثيرة،و جوارح الطير يحذرها سائر الطيور،فليس ذلك عن اعتقاد و رأي،و إلاّ لوجب أن تحذر هذه الحاذرات،كالشاة و كثير من الحيوانات و الطيور غير الجوارح،عن غير هذه المحذورات، أي عن غير الذئب و الأسد و جوارح الطير أيضا ممّا ينبغي لها الحذر عنها مثل حذرها عنها،لكونها ممّا من شأنه إصابة الأذيّة إليها،و ليس كذلك،بل كلّ ذلك عن إلهام و تسخير، أو عن تخيّل خاصّ.

خاصّيّة ثالثة للإنسان

و من جملة خواصّ الإنسان،أنّه قد يتبع شعوره أنّه فعل شيئا من الأشياء التي لا ينبغي له أن يفعله انفعال نفسانيّ يسمّى الخجل،بخلاف سائر الحيوان.و كذلك قد يعرض للإنسان انفعال نفسانيّ بسبب ظنّه أنّ أمرا في المستقبل يكون ممّا يضرّه،و ذلك ممّا يسمّى الخوف.و الحيوانات الاخرى إنّما يكون لها ذلك بحسب الآن في غالب الأمر، أو متّصلا بالآن،بدليل أنّه يزول عنها ذلك الانفعال بعد ذلك الآن،بخلاف الإنسان.و كذلك للانسان بإزاء الخوف انفعال يسمّى الرجاء،و لا يكون ذلك أيضا للحيوانات الاخرى إلاّ متّصلا بالآن،لا فيما بعد ذلك من الزمان أيضا كما في الإنسان،و ما يفعله بعض الحيوانات من الاحتياط و الاستظهار،كما يفعله النمل في نقل البرّة بالسرعة إلى حجرتها إنذارا بمطر يكون هناك،فليس ذلك لأنّها تشعر بالزمان و ما يكون فيه،بل ذلك أيضا بضرب من الإلهام و التسخير،أو لأجل تخيّل أنّ ذلك هو ذا يكون فى هذا الوقت،كما أنّ الحيوان يهرب عن الضدّ،لأنّه يتخيّل أنّه هو ذا يضرّ به في الوقت.

و بالجملة،فهذا الرجاء للحيوانات ليس كما للإنسان،لأنّه إنّما يكون لبعض

ص:157

الحيوانات دون جميعها،و مع ذلك فهو يكون للحيوانات التي يكون ذلك لها بالنسبة إلى بعض الأمور دون آخر،و مع ذلك لا يكون إلاّ متّصلا بالآن،فليس ذلك لها عن اعتقاد كما للإنسان.

ثمّ إنّه يتّصل بهذا الجنس من الخاصّيّة ما للإنسان أن يروّي فيه من الأمور المستقبلة أنّه هل ينبغي له أن يفعلها أو لا ينبغي؟فيفعل ما يصحّ أن يوجب رويّته أن لا يفعله وقتا آخر أو في هذا الوقت بدل ما روّى فيه،و لا يفعل ما يصحّ أن يوجب رويّته أن يفعله وقتا آخر أو في هذا الوقت بدل ما روّى.و سائر الحيوانات إنّما يكون لها من الإعداد للمستقبل ضرب واحد مطبوع فيه،وافق عاقبتها أو لم يوافق.

و هذا الذي ذكرناه إنّما هو بيان جملة من الأفعال و الانفعالات و الأحوال،و هي ممّا يوجد للإنسان،و جلّها،بل كلّها يختصّ به الإنسان.و بعضها و ان كان بدنيّا،لكنّه موجود لبدن الإنسان بسبب النفس للإنسان،و ليست لسائر الحيوان،و عسى أن نذكر في طيّ الأبواب الآتية نبذا من الخواصّ أيضا.

و بالجملة،فأكثر الخواصّ الإنسانيّة،بل كلّها ممّا ذكرنا أو لم نذكرها،تدلّ على أنّ للإنسان إدراكا للمعاني الكلّيّة،و هو مختصّ به دون سائر أفراد الحيوان،و بذلك-و كذا بما يشاهد من أحوال الإنسان في أموره و شئونه مع قطع النظر عن تلك الخواصّ أيضا- يعلم أنّ أخصّ الخواصّ بالإنسان،الذي لا يشاركه فيه غيره من أفراد الحيوان،تصوّر المعاني الكلّيّة العقليّة المجرّدة عن المادّة كلّ التجريد،و التوصّل إلى معرفة المجهولات تصوّرا أو تصديقا من المعلومات الحقيقيّة.

فى بيان القوى النظريّة و العمليّة للنفس الإنسانيّة

و حيث عرفت ذلك،فنقول في بيان قوى النظر و العمل التي للنفس الإنسانيّة:إنّه لا يخفى أنّ للإنسان تصرّفا في الأمور الكلّيّة و تصرّفا في الامور الجزئيّة،و أنّ الامور الكلّيّة إنّما يكون فيها اعتقاد فقط،و لو كان أيضا في عمل.فإنّ من اعتقد اعتقادا كلّيّا أنّ البيت

ص:158

-مثلا-كيف ينبغي أن يبنى،فإنّه لا يصدر عن هذا الاعتقاد وحده فعل بيت مخصوص صدورا أوّليّا،فإنّ الأفعال تتناول أمورا جزئيّة،و تصدر عن آراء جزئيّة،و ذلك لأنّ الكلّ -من حيث هو كلّيّ-ليس يختصّ بهذا دون ذلك،فيكون للإنسان قوّة تختصّ بالآراء الكلّيّة،و قوّة أخرى تختصّ بالرويّة في الامور الجزئيّة فيما ينبغي أن يفعل و يترك،و ينفع و يضرّ،و فيما هو جميل و قبيح،و خير و شر،و يكون ذلك بضرب من القياس و التأمّل صحيح أو سقيم،غايته أنّه يوقع رأيا في أمر جزئيّ مستقبل من الأمور الممكنة،حيث إنّ الواجبات و الممتنعات لا يروّي فيها لتوجد أو تعدم،و ما مضى أيضا لا يروّي في إيجاده على أنّه ماض.

ثمّ إنّه إذا حكمت هذه القوّة،يتبع حكمها حركة القوّة الإجماعيّة إلى تحريك البدن، كما كانت تتبع أحكام قوى أخرى في الحيوانات،و تكون هذه القوّة مستمدّة من القوّة التي على الكلّيّات،فمن هناك تأخذ المقدّمات الكبرى فيما تروّى و ينتج في الجزئيّات.

فالقوّة الاولى للنفس الإنسانيّة التي تختصّ بالآراء الكلّيّة قوّة تنسب إلى النظر، فيقال:عقل نظريّ.و القوّة الثانيّة التي لها-و تختصّ بالآراء الجزئيّة-قوّة تنسب إلى العمل،فيقال:عقل عمليّ.و تلك للصدق و الكذب،و هذه للخير و الشرّ،و تلك للواجب و الممكن و الممتنع،و هذه للقبيح و الجميل و المباح.و مبادئ تلك من المقدّمات الأوّليّة، و مبادئ هذه من المشهورات و المقبولات و المظنونات و التجربيّات الواهية التي تكون من المظنونات غير التجربيّات الوثيقة.و لكلّ واحدة من هاتين القوّتين رأي و ظنّ، و الرأي هو الاعتقاد المجزوم به،و الظنّ هو الاعتقاد المميل إليه الراجح مع تجويز الطرف الآخر المرجوح.و ليس من ظنّ فقد اعتقد،كما ليس من أحسّ فقد عقل،أو من تخيّل فقد ظنّ أو اعتقد أو رأى.فيكون في الإنسان حاكم حسّيّ،و حاكم من باب التخيّل وهميّ، و حاكم نظريّ،و حاكم عمليّ،و يكون المبادئ الباعثة لقوّته الإجماعيّة على تحريك الأعضاء وهميّة خياليّة،و عقليّة عمليّة،و شهوة و غضبا،و يكون للحيوانات الأخرى بعض من هذه لا كلّها،كما سيأتي بيانه.

ص:159

ثمّ إنّ العقل العمليّ يحتاج في أفعاله كلّها إلى البدن و إلى القوى البدنيّة إلاّ نادرا، كإصابة العين من بعض النفوس الشّريرة،و الأفعال الخارقة للعادات من المتجرّدين الكاملين،لو قلنا بأنّ هذين النوعين من الفعل يقعان من غير توسّط البدن.

و أمّا العقل النظريّ فإنّ له حاجة ما إلى البدن و إلى قواه،لكن لا دائما و من كلّ وجه، بل قد يستغني بذاته.

ثمّ إنّه ليس شيء من هاتين القوّتين أو هذه القوى هو النفس الإنسانيّة بعينها،بل النفس هو الشيء الّذي له هذه القوى،و هو-كما أشرنا إليه و سنوضّحه-جوهر منفرد بذاته،و له استعداد نحو أفعال بعضها لا يتمّ إلاّ بآلات و بالإقبال عليها بالكلّيّة،و بعضها يحتاج فيه إلى الآلات حاجة ما،و بعضها لا يحتاج إليها البتّة،كما سيأتي شرح ذلك كلّه إن شاء اللّه تعالى.

فجوهر النفس الإنسانيّة مستعدّ لأن يستكمل نوعا من الاستكمال بذاته،و ممّا هو فوقه لا يحتاج فيه إلى ما هو دونه،و هذا الاستعداد له إنّما هو بالقوّة التي تسمّى العقل النظريّ،و هو بها مستعدّ لأن يتحرّز عن آفات تعرض له من المشاركة،كما سيأتي بيانه أيضا،و لأن يتصرّف في المشاركة تصرّفا على الوجه الذي يليق به و ينبغي له.

و هذا الاستعداد له لقوة تسمّى العقل العمليّ،و هي رئيسة القوى التي له إلى جهة البدن، و أمّا ما دون ذلك،فهي قوى تنبعث عنه لاستعداد البدن لقبولها و لمنفعته،و الأخلاق التي تكون للنفس إنّما هي من جهة هذه القوّة،كما سيجيء بيانه أيضا.

و لكلّ واحدة من هاتين القوّتين استعداد كمال،فالاستعداد الصرف من كلّ واحدة منهما أن تحصل لها المبادى التي بها تكمّل أفعالها.أمّا العقل النظريّ الهيولانيّ، فالمقدّمات الأوّليّة و ما يجري مجراها،و أمّا العمليّ،فالمقدّمات المشهورة و هيآت أخرى.فحينئذ يكون كلّ واحد منهما عقلا بالملكة،ثمّ يحصل لكلّ واحد منهما الكمال المكتسب الميسّر له،فيصير مراتبهما أربعا،كما سيأتي بيانه أيضا.

ص:160

تمهيد في أنّ النفس الناطقة الإنسانيّة جوهر مجرّد عن المادّة

و حيث عرفت هذه الجملة على الإجمال،فحريّ بنا أن نبيّن أنّ هذه النفس المستعدّة لقبول المعقولات بالعقل الهيولانيّ و ما بعده من المراتب ليست بجسم و لا جسمانيّ،و بالجملة ليست بذي وضع،بل أنّها جوهر مجرّد عن المادّة و عن توابعها،قائم بذاته.و لمّا كان بيان هذا المقصود على الوجه الذي نرومه هنا،مبنيّا على أنّ النفس الإنسانيّة تدرك المعاني الكلّيّة و المعقولات المجرّدة عن المادّة،فتكون هي أيضا مجرّدة عنها كمدركاتها المجرّدة،و كان هذا موقوفا على بيان مقدّمات:

منها أنّها مدركة للمعاني الكلّيّة و المعقولات،و هذه قد مضى بيانها،حيث عرفت أنّ أخصّ الخواصّ بالإنسان إدراك المعاني الكلّيّة و المعقولات.

و منها أنّ تلك المعاني مجرّدة عن المادّة.

و منها أنّ إدراك النفس لها على أيّ وجه و ما معناه؟

و منها أنّه بأيّ سبب وجهة يكون إدراك المجرّدات مستلزما لتجرّد ما يدركها؟

و هذه المقدّمات لم تتبيّن بعد،فلنبيّنها حتّى يتّضح المقصود.فلنتكلّم أولا في بيان أصناف الإدراكات التي للإنسان،و في إدراك المعاني الكلّيّة،و في تجرّد تلك المعاني و المعقولات عن المادّة.

نقل كلام و تنقيح مرام

فنقول:قال الشيخ فى طبيعيات الشفاء هكذا (1):«فصل في تحقيق أصناف الإدراكات التي لنا،فلنتكلّم الآن في القوى الحاسّة و المدركة (2)،و لنتكلّم فيها كلاما كلّيّا فنقول:يشبه أن يكون كلّ إدراك إنّما هو أخذ صورة المدرك بنحو من الأنحاء،فإن كان الإدراك إدراكا لشيء مادّيّ،فهو أخذ صورته مجرّدة عن المادّة تجريدا ما،إلاّ أنّ أصناف التجريد

ص:161


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 50/2،الفصل الثاني من المقالة الثانية من الفنّ السادس.
2- في المصدر:الدرّاكة.

مختلفة و مراتبها متفاوتة.

فإنّ الصورة المادّيّة يعرض (1)لها بسبب المادّة أحوال و أمور ليست هي (2)لذاتها-من جهة ما هي-تلك الصورة،فتارة يكون النزع عن المادّة نزعا مع تلك العلائق كلّها أو بعضها،و تارة يكون النزع نزعا كاملا،و ذلك بأن يجرّد الشيء عن المادّة و عن اللواحق التي لها (3)من المادّة،مثاله:أنّ الصّورة الإنسانيّة و الماهيّة (4)الإنسانيّة طبيعة لا محالة تشترك فيها أشخاص النوع كلّها بالسويّة،و هي يحدّها (5)شيء واحد،و قد عرض لها أن وجدت في هذا التشخّص (6)فتكثّرت،و ليس لها ذلك من جهة طبيعتها الإنسانيّة، و لو كانت (7)للطبيعة الإنسانيّة ما يجب فيها التكثّر،لما كان يوجد إنسانا (8)محمولا على واحد بالعدد.و لو كانت الإنسانيّة موجودة لزيد لأجل أنّها إنسانيّة (9)،لما كان لعمرو.فإذن أخذ (10)العوارض التي تعرض للإنسانيّة من جهة المادّة (11)هي هذا النوع من التكثّر و الانقسام،و يعرض لها أيضا (12)هذه من العوارض،و هو أنّها إذا كانت في مادّة (13)،حصلت بقدر من الكمّ و الكيف و الوضع و الأين،و جميع هذه امور غريبة عن طبائعها،و ذلك لأنّه لو كانت الإنسانيّة على هذا الحدّ،و حدّ آخر من الكمّ و الكيف و الأين و الوضع لأجل أنّها إنسانيّة،لكان يجب أن يكون كلّ إنسان مشاركا للآخر في تلك المعاني،و لو كانت لأجل الإنسانيّة على حدّ آخر وجهة اخرى من الكمّ و الكيف و الأين و الوضع،لكان كلّ إنسان (14)أن يشترك فيه،فإنّ (15)الصورة الإنسانيّة بذاتها غير مستوجبة أن يلحقها شيء من هذه اللواحق العارضة لها،بل من جهة المادّة،لأنّ المادّة التي تقارنها تكون قد لحقتها هذه اللواحق.فالحسّ يأخذ الصورة عن المادّة مع هذه اللواحق و مع وقوع نسبة بينها و بين المادّة،إذا زالت تلك النسبة بطل ذلك الأخذ،و ذلك لأنّه لا ينزع الصورة عن المادّة مع جميع لواحقها،و لا يمكنه أن يستثبت بتلك (16)الصورة إن غابت المادّة،فيكون كأنّه لم ينزع (17)الصورة عن المادّة نزعا محكما،بل يحتاج إلى وجود المادّة أيضا في أن تكون

ص:162


1- في المصدر:تعرض...
2- ليست هي لها بذاتها...المعنى...
3- له من جهة المادة...
4- الماهيّة...
5- بحدّها...
6- هذا الشخص و ذلك الشخص فتكثّرت...
7- و لو كان...
8- إنسان...
9- إنسانيّته،لما كانت...
10- أجد...
11- هي...
12- أيضا غير هذا من...
13- مادّة ما...
14- إنسان يجب أن...
15- فإذن الصورة...
16- تلك...
17- لم ينتزع الصورة إن غابت المادة،فيكون كأنّه لم ينتزع الصورة.

تلك الصورة موجودة لها.

و أمّا الخيال و التخيّل فإنّه تبرّي (1)الصورة المنزوعة عن المادّة تبرئة أشدّ،و ذلك لأنّه يأخذها عن المادّة بحيث لا يحتاج (2)في وجودها فيها إلى وجود مادّتها،لأنّ المادّة،و إن غابت عن الحسّ أو بطلت،فإنّ الصورة تكون ثابتة الوجود في الخيال،فيكون أخذه (3)إيّاها قاصما للعلاقة بينها و بين المادّة قصما تامّا،إلاّ أنّ الخيال لا يكون قد جرّدها عن اللواحق المادّيّة،فالحسّ لم يجرّدها عن المادّة تجريدا تامّا،و لا جرّدها عن لواحق المادّة (4)،لأنّ الصّورة التي في الخيال هي حسب (5)الصورة المحسوسة و على تقدير ما و تكيّف (6)ما و وضع،و ليس يمكن في الخيال البتّة أن يتخيّل (7)صورة هي بحال يمكن أن يشترك فيه (8)جميع أشخاص ذلك النوع،فإنّ الإنسان المتخيّل يكون كواحد من الناس، و يجوز أن يكون ناس موجودين متخيّلين (9)ليسوا على نحو (10)تخيّل ذلك الانسان.

و أمّا الوهم،فإنّه قد يتعدّى قليلا هذه المرتبة في التجريد،لأنّه (11)لا ينال المعاني التي ليست هي في ذاتها بمادّية،و أن عرض لها أن تكون في مادّة.و ذلك لأنّ الشكل و الكون و الوضع و ما أشبه ذلك،امور لا يمكن أن تكون إلاّ بموادّ جسمانيّة.

و أمّا الخير و الشرّ و الموافق و المخالف و ما أشبه ذلك،فهي امور في أنفسها غير مادّيّة،و قد يعرض لها أن تكون مادّيّة.

و الدليل على أنّ هذه الامور غير مادّيّة،أنّ هذه الامور لو كانت بالذات مادّيّة،لما كان يعقل خير أو شرّ أو موافق (12)أو مخالف،إلاّ عارضا لجسم،و قد يعقل ذلك،بل يوجد.

فبيّن أنّ هذه الامور في (13)أنفسها غير مادّيّة،و قد عرض لها أن كانت مادّيّة،و الوهم ربما (14)ينال أو يدرك أمثال هذه الامور،فإذن الوهم قد يدرك امورا غير مادّيّة و يأخذها

ص:163


1- في المصدر:يبرئ...
2- تحتاج...
3- -أخذها خ ل.
4- لواحق المادة.و أمّا الخيال فإنّه قد جرّدها عن المادّة تجريدا تامّا،و لكن لم يجرّدها البتّة عن لواحق المادّة،لأنّ الصورة...
5- على حسب...
6- تكييف ما و وضع ما...
7- تتخيّل...
8- فيها...
9- و متخيّلين...
10- نحو ما يتخيّل خيال ذلك...
11- لأنّه ينال...
12- موافق و مخالف...
13- هي في أنفسها.
14- -إنّما خ ل.

عن المادّة،كما يدرك (1)أيضا معان غير محسوسة و إن كانت مادّيّة،فهذا النزع إذن أشدّ استقصاء و أقرب إلى البساطة من النزعين الأوّلين،إلاّ أنّه مع ذلك لا يجرّد هذه الصورة عن لواحق المادّة،لأنّه يأخذها جزئيّة و بحسب مادّة مادّة،و بالقياس إليها،و معلّقة (2)بصورة محسوسة،مكفوفة (3)بلواحق المادّة و بما يشاركه (4)الخيال فيها.

و أمّا القوّة التي تكون الصور (5)المثبتة فيها،إمّا صور موجودات ليست بمادّيّة البتّة و لا عرض لها أن تكون مادّيّة،أو صور موجودات مادّيّة،لكن (6)مبرّاة عن علائق المادّة من كلّ وجه،فبيّن أنّها تدرك الصور بأن تأخذها أخذا مجرّدا عن المادّة من كلّ وجه.

أمّا (7)ما هو متجرّد بذاته عن المادّة،فالأمر فيه ظاهر،و أمّا ما هو موجود للمادّة،إمّا لأنّ وجودها مادّيّ،و إمّا عارض له ذلك،فتنزعها (8)عن المادّة و عن لواحق المادّة معه (9)، فيأخذه (10)(11)أخذا مجرّدا حتّى يكون مثل الإنسان الذي يقال على كثيرين،و حتّى يكون قد أخذ الكثير طبيعة واحدة،و يفرزه (12)عن كلّ كمّ و كيف و أين و وضع مادّيّ،و لو لم يجرّده (13)عن ذلك،لما صلح أن يقال على الجميع.فبهذا يفترق إدراك الحاكم الحسّيّ، و إدراك الحاكم الخيالي،و إدراك الحاكم الوهميّ،و إدراك الحاكم العقليّ،و إلى هذا المعنى نسوق (14)الكلام في هذا الفصل.

فنقول:إنّ الحاسّ في قوّته أن يصير مثل المحسوس بالفعل،إذ كان الإحساس هو قبول صورة الشيء مجرّدة عن مادّته فيتصوّر بها الحاسّ،فالمبصر هو مثل البصر (15)بالقوّة،و كذلك الملموس و المطعوم و غير ذلك،و المحسوس الأوّل بالحقيقة هو الذي ارتسم (16)في آلة الحسّ و إيّاه يدرك،و يشبه أن يكون إذا قيل:أحسست الشيء الخارجيّ كان معناه غير معنى أحسست في النفس؛فإنّ معنى قوله:أحسست الشيء الخارجيّ،أنّ صورته تمثّلت في حسّي.و معنى أحسست في النفس،أنّ الصورة نفسها تمثّلت في

ص:164


1- في المصدر:و يدرك...
2- متعلّقة...
3- مكنوفة...
4- -و بمشاركة خ ل.
5- الصورة...
6- و لكن...
7- فأمّا ما...
8- فتنزعه...
9- معها،
10- -فيأخذها خ ل.
11- و تأخذه...
12- و تفرزه...
13- لم تجرّده...
14- كنّا نسوق...
15- المبصر...
16- يرتسم.

نفسي (1).فلهذا يصعب إثبات وجود الكيفيّات المحسوسة في الأجسام.لكنّا نعلم يقينا أنّ جسمين و أحدهما يتأثّر عنه الحسّ شيئا،و الآخر لا يتأثّر عنه ذلك الشيء أنّه مختصّ في ذاته بكيفيّة هي مبدأ حالة (2)الحاسّة دون الآخر».انتهى موضع الحاجة من كلامه (3).

و قال فى الإشارات هكذا:«إشارة:إدراك (4)الشيء هو أن يكون حقيقة متمثّلة عند المدرك،يشاهدها ما به يدرك،فإمّا أن يكون (5)تلك الحقيقة نفس حقيقة الشيء الخارج عن المدرك إذا أدرك،فيكون حقيقته (6)ما لا وجود له في الأعيان الخارجة،مثل كثير من الأشكال الهندسيّة،بل كثير من المفروضات التي لا يمكن (7)إذا فرضت في الهندسة ممّا لا يتحقّق أصلا،و يكون (8)مثال حقيقته مرتسما في ذات المدرك غير مباين له،و هو الثاني (9)».

تنبيه:«الشيء قد يكون محسوسا عند ما يشاهد،ثمّ يكون متخيّلا عند غيبته بتمثّل صورته في الباطن،كزيد الذي أبصرته-مثلا-اذا غاب عنك فخيّلته (10)؛و قد يكون معقولا عند ما يتصوّر من زيد-مثلا-معنى الإنسان الموجود أيضا لغيره،و هو عند ما يكون محسوسا يكون قد غشيته غواش غريبة عن ماهيّته (11)لو أزيلت عنه لم تؤثّر في كنه ماهيّته (12)، مثل أين،و وضع،و كيف،و مقدار بعينه.و لو توهّم بدله غيره لم تؤثّر في حقيقة ماهيّة (13)إنسانيّته.

و الحسّ يناله من حيث هو مغمور في هذه العوارض التي تتوجّه (14)بحسب المادّة التي خلق منها،لا يجرّده عنها و لا يناله إلاّ بعلاقة وضعيّة بين حسّه و مادّته،و لذلك لا يتمثّل في الحسّ الظاهر صورته إذا زال.

و أمّا الخيال الباطن فيتخيّله (15)مع تلك العوارض لا يقدر (16)على تجريده المطلق عنها،لكنّه يجرّده عن تلك العلاقة المذكورة التي تعلّق بها الحسّ،فهو يتمثّل صورته مع

ص:165


1- في المصدر:في حسّي...
2- و إحالة...
3- -الاشارات 308/2-327.
4- درك الشيء هو أن تكون حقيقة...
5- تكون...
6- حقيقة ما لا وجود له الفعل في الأعيان...
7- لا تمكن...
8- أو يكون...
9- و هو الباقي...
10- فتخيّلته...
11- عن ماهيّته...
12- كنه ماهيّته...
13- حقيقة ماهيّة...
14- تلحقه...
15- فتخيّله...
16- لا تقتدر.

غيبوبة حاملها.

و أمّا العقل فيقتدر على تجريد الماهيّة (1)المكفوفة باللواحق الغريبة المشخّصة إيّاها، حتّى كأنّه عمل بالمحسوس عملا جعله معقولا».«و أمّا ما هو في ذاته بريء عن الشوائب المادّية و اللواحق الغريبة التي لا تلزم ماهيّته (2)عن ماهيّته،فهو معقول لذاته،ليس يحتاج إلى عمل يعمل به يعدّه لأن يعقله ما من شأنه أن يعقله،بل لعلّه في (3)جانب من شأنه أن يعقله».-انتهى كلامه-و قال في إلهيات الشفاء هكذا: (4)

فصل في العلم و أنّه عرض

و أمّا العلم فإنّ فيه شبهة،و ذلك لأنّ لقائل أن يقول أنّ العلم هو المكتسب من صور الموجودات مجرّدة عن موادّها،و هي صور جواهر و أعراض،فإن كانت صور الأعراض أعراضا،فصور الجواهر كيف تكون أعراضا؟فإنّ الجوهر لذاته جوهر،فماهيّته (5)لا تكون في موضوع البتّة،و ماهيّته (6)محفوظة،سواء نسبت إلى إدراك العقل لها،أو نسبت إلى الوجود الخارجيّ.فنقول:إنّ ماهيّة (7)الجوهر،بمعنى أنّه الموجود في الأعيان لا في موضوع،و هذا الصفة موجودة لماهيّة (8)الجواهر المعقولة،فإنّها ماهيّة (9)شأنها أن تكون موجودة فى الأعيان (10)،أي أنّ هذه الماهيّة (11)هي معقولة عن أمر وجوده في الأعيان أن يكون لا في موضوع.و أمّا وجوده في العقل بهذه الصفة،فليس ذلك في حدّه من حيث هو جوهر،أي ليس حدّ الجوهر أنّه في العقل لا في موضوع،بل حدّه أنّه سواء كان في العقل أو لم يكن،فإنّ وجوده في الأعيان ليس في موضوع.

فإن قيل:فالعقل أيضا من الأعيان.قيل:يراد بالعين التي إذا حصل فيها الجوهر صدرت عنه أفاعيله و أحكامه،و الحركة كذلك ماهيّتها (12)أنّها كمال ما بالقوّة،و ليست في

ص:166


1- في المصدر:تجريد الماهيّة...
2- لا تلزم ماهيّته عن ماهيّته...
3- لعله من جانب ما من شأنه...
4- -الشفاء-الإلهيّات140/-144.
5- فماهيّته جوهر لا تكون...
6- و ماهيّته...
7- إنّ ماهيّة...
8- لماهيّة...
9- ماهيّة شأنها...
10- الأعيان لا في موضوع...
11- هذه الماهيّة...
12- ماهيّتها أنّها.

العقل حركة بهذه الصفة،حتّى يكون في العقل كمال ما بالقوّة من جهة كذا،حتّى تصير ماهيّتها (1)محركة للعقل،لأنّ معنى كون ماهيّتها (2)على هذه الصفة هو أنّها ماهيّة (3)تكون في الأعيان كمالا لما بالقوّة،و إذا عقلت،فإنّ هذه الماهيّة (4)تكون أيضا بهذه الصفة،فإنّها في العقل ماهيّة (5)تكون في الأعيان كمال (6)لما بالقوّة،فليس يختلف كونها في الأعيان و كونها في العقل،فإنّه فى كليهما على حكم واحد،فإنّه في كليهما ماهيّة (7)توجد في الأعيان كمالا لما بالقوّة.فلو كنّا قلنا:إنّ الحركة ماهيّة (8)تكون كمالا بالقوّة (9)في الأين-مثلا-لكلّ شيء يوجد (10)فيه،ثمّ وجدت في النفس لا كذلك،لكانت الحقيقة تختلف.و هذا كقول القائل:

إنّ حجر المغناطيس حقيقته أنّه حجر يجذب الحديد،فإذا وجد مقارنا لجسميّة كفّ الإنسان و لم يجذبه،و وجد مقارنا لجسميّة حديد ما فجذبه،فلم يجب أن يقال:إنّه مختلف بالحقيقة في الكفّ و في الحديد،بل هو (11)كلّ واحد منهما بصفة واحدة،و هو أنّه حجر من شأنه أن يجذب الحديد.فإنّه إذا كان في الكفّ أيضا،كان بهذه الصفة،و إذا كان عند الحديد أيضا،كان بتلك الصفة.فكذلك حال ماهيّات (12)الأشياء في العقل (13)أيضا بهذه الصفة،و ليس اذا كانت في العقل في موضوع،فقد بطل أن يكون (14)في العقل ماهيّة ما في الأعيان ليست فى موضوع.

فإن قيل:قد قلتم إنّ الجوهر هو (15)ماهيّة لا تكون في موضوع أصلا،و قد صيّرتم ماهيّة (16)المعلومات في موضوع.

فنقول:قد قلنا:إنّه لا يكون في موضوع (17)أصلا.

فإن قيل:فقد (18)جعلتم ماهيّة الجوهر أنّها تارة تكون عرضا و تارة جوهرا،و قد منعتم هذا.

فنقول:إنّا منعنا أيضا أن يكون (19)ماهيّة شيء توجد في الأعيان مرّة عرضا،و مرّة

ص:167


1- في المصدر:تصير ماهيّتها...
2- كون ماهيّتها...
3- أنّها ماهيّة...
4- هذه الماهيّة...
5- ماهيّة تكون...
6- كمال ما بالقوّة،ليس يختلف...
7- ماهيّة توجد...
8- ماهيّة...
9- لما بالقوّة...
10- توجد فيه...
11- بل هو في كلّ...
12- ماهيّات...
13- العقل،و الحركة في العقل أيضا بهذه الصفة...
14- تكون في العقل ليست ماهيّة ما في...
15- هو ما ماهيّته...
16- ماهيّة المعلومات...
17- موضوع في الأعيان أصلا...
18- قد جعلتم ماهيّة...
19- تكون ماهيّة.

اخرى جوهرا حتّى تكون في الأعيان تحتاج إلى موضوع ما،و فيها لا تحتاج إلى موضوع البتّة،و لم نمنع أن يكون معقولة (1)تلك الماهيّة تصير عرضا،أي (2)أن تكون موجودة في النفس لا كجزء.

و لقائل أن يقول:فماهيّة (3)العقل الفعّال و الجواهر المفارقة أيضا كذا يكون حالها،حتّى يكون المعقول منها عرضا،لكنّ المعقول منها لا يخالفها،لأنّها لذاتها معقولة.

فنقول:ليس الأمر كذلك،فإنّ معنى قولنا:إنّها لذاتها معقولة (4)،هو أنّها تعقل ذاتها، و إن لم يعقلها غيرها،و أيضا (5)أنّها مجرّدة عن المادّة و علائقها لذاتها،لا بتجريد يحتاج أن يتولاّه العقل.و أمّا إن قلنا (6)هذا المعقول منها يكون من كلّ وجه هي أو مثلها،و قلنا (7):

إنّه ليس يحتاج إلى وجود المعقول منها،إلاّ أن توجد ذاتها في النفس،فقد أحلنا.فإنّ ذاتها مفارقة،و لا تصير نفسها صورة لنفس إنسان،و لو صارت لكانت تلك النفس قد حصل (8)فيها صورة الكلّ و علمت كلّ شيء بالفعل،و لكانت تصير كذلك لنفس واحدة، و تبقى النفوس الاخرى ليس لها الشيء الذي تعقله،إذ قد استبدّ بها نفس ما،و الذي يقال:

إنّ شيئا واحدا بالعدد يكون صورة لموادّ كثيرة،لا بأن يؤثّر فيها،بل بأن يكون هو بعينه (9)منطبعا،أي انفرد في تلك المادّة و في اخرى و أخرى،فهو محال يعلم بأدنى تأمّل.و قد أشرنا إلى الحال (10)،و ذلك عند كلامنا في النفس،و سنحوج (11)من بعد إلى خوض في إبانة ذلك.

فإذن تلك الأشياء إنّما تحصل في القوى (12)البشريّة معاني ماهيّاتها (13)لا ذواتها،و يكون حكمها كحكم سائر المعقولات من الجواهر،إلاّ في شيء واحد،و هو أنّ (14)تلك الجواهر تحتاج إلى تقشيرات حتى يتجرّد منها تعقّل (15)،و هذا أي الذوات العقليّة لا يحتاج إلى شيء غير (16)أن يوجد المعنى (17)من غير تقشير،كما هو،فينطبع بها النفس.و هذا (18)الذي قلناه إنّما

ص:168


1- في المصدر:معقول تلك الماهيّات يصير...
2- أي تكون موجودة...
3- فماهيّة...
4- -معنى معقول خ ل.
5- و أنّها أيضا...
6- قلنا إنّ هذا...
7- أو قلنا...
8- حصلت فيها...
9- بعينه منطبعا في تلك المادّة...
10- الحال في ذلك...
11- و سنخرج...
12- في العقول...
13- ماهيّاتها...
14- أن تلك تحتاج الى تفسيرات...
15- منها معنى يعقل...
16- و هذا لا يحتاج الى شيء غير...
17- المعنى كما هو،فتنطبع به النفس...
18- فهذا.

هو نقض حجّة المحتجّ،و ليس فيه إثبات ما يذهب (1)إليه.فنقول:إنّ هذه المعقولات سنبيّن من أمرها بعد،أنّ ما كان من الصور الطبيعيّة و التعليمات (2)،فليس يجوز أن يقوم مفارقا بذاته،بل يجب أن يكون في عقل أو في نفس،و ما كان من أشياء مفارقة،فنفس وجود تلك المفارقات مباينة لنا ليس هو علمنا (3)بها،بل يجب أن نتأثّر عنها فيكون ما نتأثّر (4)عنها هو علمنا بها،و كذلك (5)لو كانت صورا مفارقة و تعليمات 1مفارقة،فإنّما يكون علمنا بها ما يحصل لنا منها،و لم تكن أنفسها توجد لنا منتقلة إلينا،فقد بيّنّا بطلان هذا في مواضع.بل الموجود لنا منها هي الآثار الحاكية (6)لها لا محالة،و هي علمنا ذلك (7)إمّا أن يحصل لنا في أبداننا او نفوسنا (8)،و قد بيّنا استحالة حصول ذلك فى أبداننا فبقي (9)أنّها تحصل في نفوسنا،و لأنّها آثار في النفس،لا ذوات تلك الأشياء و لا أمثال لتلك الأشياء (10)،أمثلة قائمة لا في موادّ بدنيّة أو نفسانيّة،فيكون ما لا موضوع له يتكثّر نوعه بلا سبب يتعلّق به بوجه،فهي أعراض في النفس».انتهى كلامه.

و أقول:لا يخفى عليك أنّ فيما نقلناه عن الشيخ في الكتابين غنية و كفاية في بيان ما رمنا هنا بيانه،إلاّ أنّك إن اشتهيت زيادة إيضاح المقام بحيث ينقشع عن بصيرتك سحاب الارتياب في هذا المرام،و ينكشف عن قلبك أغشية المرية و الاوهام،فاستمع لما يتلى عليك من الكلام.

فنقول:كما أنّ للوجود معنيين:

أحدهما معنى مصدريّ انتزاعيّ يعبّر عنه في العربيّة ب«الكون و الحصول»،و في الفارسية ب«بودن».

و الآخر ما به يصير الشيء موجودا،و به يصحّ انتزاع ذلك المعنى الأوّل الانتزاعيّ عنه.

ص:169


1- في المصدر:ما تذهب..
2- -التعلميّات خ ل.
3- علمنا لها...
4- يتأثّر...
5- و كذلك إن كانت...
6- -المحاكية خ ل.
7- و ذلك يكون إمّا...
8- أو في نفوسنا...
9- فيبقى...
10- الأشياء قائمة.

و بالجملة مناط الموجوديّة و منشأ انتزاعها،و قد يعبّر عنه فى الفارسية ب«هستى».

و كذلك للعلم معنيان:

أحدهما معنى مصدريّ انتزاعيّ هو عبارة عن انكشاف المعلوم عند العالم به،و قد يعبّر عنه في الفارسية ب«دانا بودن و دانستن».

و الآخر ما به يصير الشيء عالما،و به يصحّ انتزاع ذلك المعنى الانتزاعيّ عنه،و قد يعبّر عنه في الفارسية ب«دانش».

و كذلك الحال في كثير من الصفات،كالحياة و القدرة.فكذلك الإدراك أيضا-سواء اريد به المعنى العامّ المتناول لأقسامه الأربعة،أعني الإحساس و التخيّل و التوهّم و التعقّل المسمّى بالعلم،كما هو المراد هنا،حتّى يكون العلم أيضا قسما منه و أخصّ منه،مندرجا عنه اندراج النوع تحت الجنس،أو أريد به خصوص الإحساس،كما قد يطلق و يراد به ذلك و إن لم يكن مرادا هنا-فله أيضا معنيان:

أحدهما معنى مصدريّ انتزاعيّ،هو عبارة عن انكشاف المدرك عند المدرك،و قد يعبّر عنه فى الفارسية ب«دريافتن».

و الآخر ما به يصير الشيء مدركا،و به يصحّ انتزاع ذلك المعنى الانتزاعي عنه.

فكما أنّ في الإدراك و العلم الحضوريّ يكون مناط ذلك الإدراك حضور ذلك المعلوم و المدرك عند العالم به المدرك له،و يكون ذلك مستندا إلى أمر به كان الحضور،كالاتّحاد و العينيّة في علم النفس بذاتها،أو ربط الآليّة في علم النفس بما يدركه حواسّها آلاتها، أو ربط العلّيّة التامّة،كما يقولون في علم اللّه تعالى بالموجودات بعد وجودها.كذلك في الإدراك الحصوليّ-سواء كان إدراكا لأمر جزئيّ أو كلّيّ-يجب أن يكون لذلك الإدراك مناط و منشأ،إذ من المعلوم أنّه عند إدراك شيء خارج عن ذات المدرك إدراكا حصوليّا يحصل للذات المدركة له-كالنفس-أمر بسببه تكون قد أدركته،و لم يكن ذلك الأمر قد حصل لها قبل ذلك،فلم تكن مدركة له؛و أنّ ذلك الأمر الحاصل حينئذ هو منشأ ذلك الإدراك.

ص:170

و قد علمت فيما نقلنا عن الشيخ في«الشفاء»أوّلا،أنّه قال:إنّ ذلك الأمر الحاصل في كلّ إدراك جزئيّ أو كلّيّ هو صورة المدرك صورة مجرّدة عن المادّة و لواحقها نحوا من التجريد الحاصل في كلّ إدراك،و أنّ كلّ إدراك إنّما هو أخذ صورة المدرك بنحو من الأنحاء،و إن كان قد أطلق على مدركات الوهم اسم المعاني أيضا،أي المعاني التي يأخذها عن المادّة،سواء كانت تلك المعاني أنفسها مادّيّة،كالشكل و اللون و الوضع، أو غير مادّيّة،لكن قد يعرض لها أن تكون مادّية كالخير و الشّرّ و الموافق و المخالف.

و فيما نقلنا عنه في«الإشارات»أنّه قال:إنّ إدراك الشيء-أي مطلقا-هو أن يكون حقيقته متمثّلة عند المدرك يشاهدها ما به يدرك،فأطلق عليه اسم الحقيقة،أي الحقيقة المتمثّلة من المدرك عند المدرك،و إن كان أطلق عليه بعد ذلك اسم مثال الحقيقة أيضا، و كذا أطلق على مدركات الحواسّ مطلقا اسم الصورة،أي الصورة المتمثّلة من المدرك فى المدرك،و على مدركات العقل اسم الماهيّة،أي الماهيّة المجرّدة من اللواحق الغريبة المشخّصة.

و فيما نقلنا عنه في«الشفاء»أخيرا إنّه قال في صورة حصول العلم،أي الإدراك الكلّيّ:أنّ ذلك الأمر الحاصل هو صور الموجودات مجرّدة عن موادّها،فأطلق عليه اسم الصورة،و إن كان قد أطلق عليه أيضا اسم الماهيّة،و المعقول من الماهيّة و معنى الماهيّة و الآثار الحاكية لها.

فحريّ بنا أن ننظر في ذلك،أي في بيان معاني هذه الألفاظ،و بيان المراد منها،و بيان مدلولات هذه الأسماء،و في بيان الوجه في كون حصولها على ذلك الوجه المخصوص سببا للإدراك.

فنقول:كما ذكر الشيخ في إلهيّات الشفاء في فصل في العلل العنصريّة و الصوريّة و الغائيّة (1)«إنّه (2)قد يقال صورة لكلّ معنى بالفعل يصلح أن (3)يعقل حتّى يكون الجواهر

ص:171


1- -الشفاء-الالهيّات282/.
2- في المصدر:قد يقال...
3- أن يفعل حتّى تكون.

المفارقة صورا بهذه المعنى.و يقال:صورة لكلّ هيئة و فعل (1)في قابل وحدانيّ أو بالتركيب حتّى يكون (2)الحركات و الأعراض صورا،و يقال:صورة لكلّ ما (3)يكمل (4)به المادّة بالفعل،فلا يكون (5)حينئذ الجواهر العقليّة و الأعراض صورا (6)،و يقال لما يكمل به المادّة،و إن لم (7)يكن متقوّمة بها بالفعل،مثل الصحّة (8)و ما يتحرّك إليها بالطّبع،و يقال صورة خاصّة لما يحدث في الموادّ بالصناعة من الأشكال و غيرها.و يقال:صورة لنوع الشيء و لجنسه و لفصله و لجميع ذلك.و يكون (9)كلّية الكلّ صورة في الأجزاء أيضا، و الصورة قد تكون ناقصة كالحركة،و قد تكون تامّة كالتربيع و التدوير».

و ذكر في طبيعيّات الشفاء في فصل في تعديد قوى النفس (10):«إن (11)الفرق بين إدراك الصورة و إدراك المعنى أنّ الصورة هو الشيء الذي يدركه الحسّ (12)الباطن،و الحسّ الظاهر يدركه أولا و يؤدّيه إلى الحسّ الباطن،مثل إدراك الشاة صورة (13)الذئب،أعني بشكله (14)و هيئته و لونه،فإنّ الحسّ الباطن من الشاة يدركها،لكن إنّما يدركها أوّلا حسّها الظاهر.

و أمّا المعنى،فهو الشيء الذي يدركه (15)النفس من المحسوس من غير أن يدركه الحسّ الظاهر أوّلا،مثل إدراك الشاة للمعنى المضادّ في الذئب،أو للمعنى الموجب لخوفها (16)إيّاه و هر بها منه،من غير أن يدرك الحسّ ذلك البتّة.فالذي يدرك من الذئب أوّلا الحسّ الظاهر،ثمّ الحسّ الباطن،فإنّه يخصّ في هذا الموضع باسم الصورة.و الذي يدركه (17)القوى الباطنة دون الحسّ،فيخصّ في هذا الموضع باسم المعنى»-انتهى-.

و ذكر أيضا في طبيعيّات الشفاء في فصل في نسبة الطبيعة إلى المادّة و الصورة و الحركة:«إنّ لكلّ جسم طبيعة و مادّة و صورة و أعراضا،فطبيعته (18)هي القوّة التى يصدر عنها تحرّكه أو تغيّره الذي يكون (19)عن ذاته،و كذلك سكونه و ثباته؛و صورته هي ماهيّته (20)

ص:172


1- في المصدر:و فعل يكون في...
2- تكون...
3- ما تتقوّم به المادّة...
4- -يتقوّم خ ل.
5- فلا تكون...
6- و يقال صورة لما تكمل...
7- لم تكن...
8- الصورة و ما يتحرّك بها بالطبع...
9- و تكون كلّيّة الكلّي صورة للاجزاء أيضا...
10- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 35/2،الفصل الخامس من المقالة الاولى في الفنّ السادس.
11- و الفرق...
12- الحسّ الباطن و الحسّ الظاهر معا،لكنّ الحسّ الظاهر يدركه أوّلا...
13- لصورة...
14- لشكله...
15- تدركه النفس...
16- لخوفها...
17- تدركه القوّة...
18- و طبيعته...
19- يتكوّن...
20- ماهيّته.

التي بها هو ما هو.و مادّته هي المعنى الحامل لماهيّة (1)،و الأعراض هي الأمور التي إذا تصوّرت مادّته بصورته و تمّت نوعيّته،لزمته أو عرضت له من خارج.

و ربّما كانت طبيعة الشيء هي بعينها صورته،و ربّما لم تكن.

أمّا في البسائط،فإنّ الطبيعة هي الصورة بعينها،فإنّ طبيعة الماء هي بعينها الماهيّة (2)التي بها الماء هو ما هو،لكنّها إنّما تكون طبيعة باعتبار،و صورة باعتبار،فإذا (3)قيست إلى الحركات و الأفعال الصادرة عنها سمّيت طبيعة،و اذا قيست إلى تقويمها لنوع الماء،و إن لم يلتفت إلى ما يصدر عنها من الآثار و الحركات،سمّيت صورة» (4)،انتهى.

و ذكر المحقّق الطوسيّ(ره)في التجريد«إنّ المهيّة مشتقّة عمّا هو،و هو ما به يجاب عن السؤال بما هو،و يطلق (5)غالبا على الأمر المعقول (6)،و يطلق الذات و الحقيقة عليها مع اعتبار الوجود» (7)،انتهى.

و ذكر الشارح القوشجيّ في شرح هذا الكلام«انّه (8)يطلق لفظ الماهيّة غالبا على الأمر المتعقّل (9)،أي الحاصل في القوّة العاقلة،فلا يكون إلاّ كلّيّا موجودا في الذهن،و من ثمّ قيل:لفظ الماهيّة يدلّ على مفهوم الكلّيّة التزاما.و يطلق الذات و الحقيقة غالبا عليها،أي على الماهيّة مع اعتبار الوجود (10)أي الخارجيّ،فلا يقال حينئذ:ذات العنقاء أو (11)حقيقتها، بل ماهيّتها.و هذا بحسب الأغلب،إذ قد تستعمل (12)هذه الألفاظ الثلاثة بلا اعتبار فرق بينها».انتهى.

و حيث عرفت ذلك،فنقول:إنّ ذلك الأمر الحاصل الذي ذكر أنّه لا بدّ من حصوله في الإدراك الحصوليّ حتّى يحصل الإدراك،لا خفاء في أنّه لا يمكن أن يكون أمرا مبائنا للمدرك و المعلوم،و مغايرا له من كلّ وجه؛فإنّه لو كان كذلك،لما كان لحصوله في المدرك إفادة للعلم بالمدرك،و هو ظاهر.و لا عينه و متّحدا معه من كلّ وجه؛إذ لو كان كذلك، لكان قد حصل المعلوم و المدرك بوجوده العينيّ في المدرك،أي في النفس و في القوى

ص:173


1- في المصدر:لماهيّته...
2- الماهيّة...
3- فإذا الحركات قيست إلى الحركات و الأفعال...
4- -شرح التجريد82/،للقوشجي.
5- تطلق لفظة...
6- المعقول...
7- -شرح التجريد85/، [1]مؤسسة النشر الإسلامي-قم،1412 ه.
8- و هي(أي الماهيّة)...
9- تطلق المتعقّل و الذات و الحقيقة...
10- للوجود الخارجي...
11- و حقيقتها،بل ماهيّتها...
12- يستعمل.

الدرّاكة،و لكان يجب أن يترتّب على ذلك المدرك عند حصوله في المدرك آثاره الخارجة المطلوبة منه،المترتّبة على وجوده العينيّ؛و لكان يجب أن لا يبقى فرق بين الوجود العينيّ و الوجود الذهنيّ أصلا،و مع ذلك يلزم انتقال الأعراض أيضا إذا كان الإدراك متعلّقا بها،إلى غير ذلك من الأمور التي هي معلومة البطلان.

فبقي أن يكون ذلك الأمر مغايرا للمدرك من وجه،حتّى لا يلزم تلك المفاسد،و كذا متّحدا معه نوعا من الاتّحاد من وجه آخر حاكيا آثاره،حتّى يكون حصوله في المدرك منشأ لإدراكه و لحصول العلم به.و حينئذ نقول:إنّ ذلك الأمر،امّا عبارة عن شبح المعلوم و مثال المدرك،كما يقوله القائلون بحصول الأشياء بأشباحها في الذهن؛و إمّا عبارة عن ماهيّته المجرّدة عن وجوده العينيّ الخارجيّ،و عن المشخّصات التي هي عبارة عن توابع وجوده الشخصيّ نوعا من التجريد الذي تفعله النفس،و تقتدر عليه في كلّ نوع من الإدراك بحسبه،كما يقوله القائلون بحصول الأشياء بأعيانها في الذهن،سواء كانت تلك الأشياء جواهر أو أعراضا،و سواء كانت مجرّدات أو مادّيّات.

و الأوّل باطل،إذ الإدراك-سواء كان كلّيّا أو جزئيّا-قد يتعلّق بما هو ممتنع الوجود في الخارج،و كذا بما هو معدوم في الخارج قطعا،و إن كان ممكنا في نفسه،و يحكم على ذلك بأحكام صادقة في نفس الأمر.

في نصرة القول بوجود الأشياء بأعيانها في الذهن

و من المعلوم أنّ وجود الشبح لشيء،فرع وجود ذي الشبح بوجود آخر مغاير لوجود الشبح،حتى يصحّ نسبة الشبح إلى ذي الشبح و إضافته إليه و الحكم بأنّه شبح له.

فأمّا أن يكون ذلك الوجود لذي الشبح في الخارج،فهو باطل؛إذ المفروض عدم الوجود له في الخارج؛و أمّا أن يكون في الذهن أيضا بوجود آخر مغاير لوجود الشبح فيه،فهذا أيضا باطل،لأنّ ذلك الوجود إمّا بأنّ حصول ذي الشبح بشبحه بشبح آخر غير الأوّل،فننقل الكلام فيه و يلزم التسلسل في الأشباح،و إمّا بأنّ حصول ذي الشبح ماهيّة معرّاة عن

ص:174

الوجود الخارجيّ في الذهن،فهو خلاف الفرض،مع أنّه يستلزم المطلوب أيضا، و هو حصول الأشياء بماهيّاتها في الذهن.

فإن قلت:ما ذكرته إنّما ينفي أن يكون الأشياء التي لا وجود لها في الخارج موجودة في الذهن بأشباحها،و لا ينفي أن يكون الأشياء التي لها وجود في الخارج موجودة في الذهن بأشباحها.فلعلّ القسم الأوّل موجود فيه بمهيّته،و القسم الثاني موجود فيه بشبحه.

قلت:هذا الفرق تحكّم لا دليل عليه و لا باعث له،بل العقل السليم يحكم بأنّه إذا كان وجود الأشياء في الذهن بماهيّاتها في بعض الموادّ،يجب أن يكون في الكلّ كذلك.

فإنّ قلت:لعلّ الداعي إلى هذا الفرق هو الفرار عن الإشكالات الموردة على تقدير وجود الأشياء الموجودة في الخارج بماهيّاتها في الذهن،على ما سيأتي بيانها،حيث إنّها لا ترد على القول بالأشباح.

قلت:هذا لا يمكن أن يكون داعيا إليه،فإنّ تلك الإشكالات كما يمكن دفعها على تقدير القول بوجود الأشياء بأشباحها في الذهن،كذلك يمكن دفعها على تقدير القول بوجودها بأعيانها و ماهيّاتها فيه،كما سيأتي بيانه فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

و أيضا نقول:إذا كان وجود الأشياء مطلقا في الذهن عبارة عن حصول ماهيّاتها فيه، لا يخفى أنّه يسهل الخطب في سراية العلم بتلك الماهيّات-التي هي معلومة بالذات-إلى العلم بتلك الحقائق الخارجيّة التي هي معلومات بالعرض،و الحكم عليها و إثبات المحمولات لها.سواء كانت تلك المحمولات ذاتيّات لتلك الحقائق،أو عرضيّات لازمة أو مفارقة،فإنّ تلك الماهيّات هي عين تلك الحقائق باعتبار الذات،و إن كانت مغايرة لها باعتبار الوجود،فيصحّ جعل تلك الماهيّات آلة لملاحظة تلك الحقائق و تعرّف أحوالها.

و أمّا على تقدير القول بأنّ وجود الأشياء في الذهن عبارة عن حصول أشباحها فيه، فيصعب الخطب في ذلك،لأنّ تلك الأشباح لا يخفى أنّها مغايرة لذوات الأشباح بحسب الذات و في أكثر الجهات،و إن كانت مناسبة لها من بعض الوجوه.فلا يعلم أنّ العلم بها هل يمكن أن يسري إلى العلم بتلك الحقائق الخارجيّة أم لا؟و بذلك يصعب الخطب.

ص:175

و حيث عرفت ذلك،عرفت ضعف الاحتمال الأوّل بل بطلانه،و هو حصول الأشياء بأشباحها في الذهن.فبقي أن يكون الحقّ هو الاحتمال الثاني،و هو حصول الأشياء بأعيانها-أي بماهيّاتها-في الذهن مجرّدة عن الوجود الخارجيّ و عن لواحقه،لا بحقائقها المأخوذة مع الوجود الخارجيّ،إلاّ أن يكون المدرك ممّا لا يكون خارجا عن ذات المدرك،كالصورة العلميّة من حيث إنّها علم و إدراك،على ما سيأتي بيانه.فإنّها من هذه الحيثيّة حاصلة في الذهن بحقيقتها،مأخوذة مع الوجود الخارجيّ،فإنّ وجودها في الذهن كذلك هو نوع وجود خارجيّ لها،و إن كان لسببها للمعلوم و المدرك وجود ذهنيّ، و سنزيده بيانا فانتظر.

لا يقال:كما أنّ الأشياء الممتنعة و الممكنة المعدومة في الخارج لا يمكن أن يكون لها أشباح كما ذكرت،فكذلك لا يمكن أن يكون لها ماهيّات،إذ وجود الماهيّة لشيء فرع وجود الحقيقة له،لأنّ الماهيّة-كما ذكروه-هي الحقيقة بعينها،إلاّ أنّ الحقيقة ماهيّة مأخوذة مع الوجود الخارجيّ،و الماهيّة حقيقة مجرّدة عنه.

لأنّا نقول:لا نسلّم ما ذكرته،حيث إنّ عدم كون حقيقة لشيء لا يستلزم عدم كون ماهيّة له،فإنّه قد يمكن أن لا يكون لماهيّة من الماهيّات وجود خارجيّ،و يكون لها مع ذلك وجود ذهنيّ.و نحن نعني بالممتنع و المعدوم في الخارج،ما كان حقيقته الخارجيّة و وجوده الخارجيّ ممتنعا أو معدوما،لا ما كان ماهيّته الذهنيّة و وجوده الذهنيّ ممتنعا أو معدوما.

فحينئذ،فالماهيّات المجرّدة عن الوجود الخارجيّ التي تحصل في الذهن أعمّ من أن يكون لها وجود خارجيّ فيجرّدها العقل عنه فيدركها،كما في الموجودات الخارجيّة، و أن لا يكون لها وجود خارجيّ حتّى تحتاج إلى تجريد،بل يدركها العقل كما هي عليه مجرّدة عن الوجود الخارجيّ،كما في الممتنعات و المعدومات في الخارج.

و بالجملة،إنّ الماهيّة المتمثّلة عند المدرك إن لم تكن خارجة عن ذات المدرك، كالصورة العلمية التي هي تلك الماهيّة الحاصلة في الذهن باعتبار أنّها علم لا باعتبار أنّها

ص:176

معلومة-كما سيأتي الفرق بينهما-فهي بهذا الاعتبار حاصلة بحقيقتها فيه،إذ ذلك الحصول نوع وجود خارجيّ لها،كما أشرنا إليه و سنزيده بيانا.

و إن كانت خارجة عن ذات المدرك،كالصورة الحاصلة التي قلنا إنّها ماهيّات الأشياء من حيث إنّها معلومات و مدركات،فهي عند حصولها في المدرك مجردة عن الوجود الخارجيّ،سواء كانت صورا منتزعة من الخارج إن كان الإدراك مستفادا من خارج؛ أو صورا حصلت عند المدرك ابتداء،سواء كانت الخارجيّة مستفادة منها أو لم تكن، و سواء كان ما يفرض خارجيّا ممتنع الوجود في الخارج أو ممكن الوجود فيه،واقعا في الخارج بالفعل أو غير واقع بل معدوما فيه،ففي كلّ تلك الصور فالماهيّة الحاصلة في الذهن ماهيّة مجرّدة عن الوجود الخارجيّ البتّة،إلاّ أنّ هذا التجريد يكون على وجهين، ففي بعضها يكون التجريد بأن يكون هناك وجود خارجيّ،و يجرّد العقل تلك الماهيّة عنه على الأنحاء المعتبرة في كلّ إدراك،ادراك؛و في بعضها لا يكون وجود خارجيّ هناك، فيدرك الذهن تلك الماهيّة كما هي عينه مجرّدة.

ثمّ إنّه،كما أنّ التجريد عن الوجود الخارجيّ معتبر في تلك الماهيّة الحاصلة،كذلك التجريد عن الغواشي الماديّة التابعة للوجود الخارجيّ في المادّيّات معتبر أيضا فيها،إلاّ أنّه يكون على وجهين أيضا:فتارة يكون بأن يكون هناك غواش مادّية فيجرّد العقل تلك الماهيّة عنها،فيدركها تجريدا هو بحسب كلّ إدراك،إدراك،كما في المادّيّات،أعمّ من أن تكون تلك المادّيّات في أنفسها مادّيّة أو غير مادّيّة،لكن عرض لها أن تكون مادّيّة.

و تارة يكون بأن لا تكون هناك غواش مادّيّة أصلا،كما في المفارقات من العقول و النفوس،فيدركها العقل على ما هي عليه مجرّدة عن الغواشي المادّيّة.و بالجملة فليس هناك تجريد المعقول و لا عمل تعمله النفس في جانب المعقول حتّى تعقله.بل إن كان هناك عمل فهو في جانب العاقل،كالفكر حتّى يعقله،و إن كان يجرّدها أيضا عن الوجود الخارجيّ حتّى يدركها.و حيث عرفت ذلك و عرفت أنّ إدراك الأشياء إنّما يكون بحصول ماهيّاتها في الذهن مجرّدة عن الوجود الخارجيّ العينيّ،عرفت أنّ إدراك ذات الواجب

ص:177

تعالى ممّا لا يمكن،حيث إنّ تجريده عن الوجود العينيّ غير ممكن،فإنّ وجوده تعالى عين ذاته عينيّة حقيقيّة،و تجريد الشيء عن نفسه ممتنع بالضرورة.

ثمّ إنّك بعد ما تحقّقت ما ذكرناه،تبيّنت أنّ تلك الماهيّة الحاصلة في الذهن من حيث إنّها معلومة و مدركة قد تكون جزئيّة،و قد تكون كلّيّة.أمّا الكلّيّة فكالماهيّة التي يدركها العقل،أي يدركها النفس بذاتها لا بتوسّط الحواسّ،سواء كانت قد انتزعت تلك الماهيّة من جزئيّات متعدّدة،أو جزئيّ واحد مادّيّ،أو مجرّد،فإنّه في جميع هذه الصور تكون تلك الماهيّة كلّيّة،و كذلك المعلوم بالذات كلّيّا و المعلوم بالعرض جزئيّا.و أمّا الماهيّة الجزئيّة،فكالماهيّة التي يدركها النفس بتوسّط الحواسّ،فإنّها جزئيّة البتّة،و يكون المدرك بالذات و بالعرض جميعا جزئيّا،إلاّ أنّ الصورة الإدراكيّة و العلميّة من حيث إنّها صورة إدراكيّة علميّة،أي من حيث إنّها علم،فهي جزئيّة ليس إلاّ،و إن كانت الماهيّة المعلومة كلّيّة أيضا،لأنّها من هذه الحيثيّة صورة خاصّة حاصلة في نفس جزئيّة،كما سنزيده بيانا.

ثمّ إنّه حيث كانت تلك الماهيّة من حيث كونها صورة علميّة،و من حيث كونها حاصلة في الذهن قائمة به،موجودة في موضوع هو النفس،أو قوّة،من قواها فتكون هي من مقولة العرض،و كذا تكون من مقولة الكيف،حيث يصدق عليها رسمه الذي ذكروه له،و هو أنّه عرض لا يقتضي لذاته قسمة و لا نسبة.

و حيث عرفت ما ذكرنا،فاعلم أنّ الظاهر من كلمات الشيخ أنّه أراد بذلك الأمر الحاصل في الذهن هذا المعنى الذي ذكرنا،إلاّ أنّه أطلق عليه أسامي مختلفة و عبّر عنه بعبارات متعدّدة.

فتارة أطلق عليه اسم الصورة نظرا إلى ما نقلنا عنه،و هو أنّ الصورة قد تطلق على معنى بالفعل يصلح أن يعقل،أي يدركه النفس؛و القوّة العاقلة أعمّ من أن تدركها بذاتها، كما في إدراكها للكلّيّات؛أو بتوسّط الحواسّ،كما في ادراكها للجزئيّات.فلذلك اطلق الماهيّة على صورة الجسم فيما نقلنا عنه أيضا.

و تارة اسم المعنى في خصوص مدركات الوهم،نظرا إلى ما نقلنا عنه،و هو أنّ

ص:178

المعنى قد يراد به ما يدركه الحسّ الباطن،كما أنّ الصورة قد يراد بها ما يدركها الحسّ الظاهر.

و تارة اسم الحقيقة،و أراد بها الماهيّة نظرا إلى ما نقلنا عن الشارح القوشجيّ،و هو أنّه قد يستعمل لفظ الماهيّة و الحقيقة و الذات بمعنى واحد بلا اعتبار فرق بينها.

و تارة اسم مثال الحقيقة،نظرا إلى أنّ الماهيّة لمّا كانت منتزعة من الحقيقة في الأغلب،و كانت هي مجرّدة عن الوجود الخارجيّ الذي هو مأخوذ مع الحقيقة،فكأنّها مثال للحقيقة.

و تارة اسم الماهيّة،و وجهه ظاهر كما ذكرنا.

و تارة اسم المعقول من الماهيّة و معنى الماهيّة،نظرا إلى أنّ ذلك الأمر هو المعنى الذي يدركه العقل من الماهيّة.

و تارة اسم الآثار الحاكية،نظرا إلى أنّ الماهيّة أثر من الحقيقة في الأغلب تحاكي حالها.

و قد عرفت ممّا ذكرنا أنّ تلك الماهيّة الحاصلة،من حيث إنّها مدركة و معلومة قد تكون جزئيّة و قد تكون كلّيّة.

فما ادّعاه الشارح القوشجيّ من أنّها لا تكون إلاّ كلّيّة،كأنّه خصّص ذلك بالماهيّة التي يدركها النفس بذاتها إدراكا حصوليّا،و لذلك فسّر الأمر المعقول في كلام المحقّق الطوسيّ بالحاصل في القوّة العاقلة،و إلاّ فما تدركها بتوسّط الحواسّ تكون جزئيّة،و ما تدركه بذاتها إدراكا حضوريّا يكون جزئيّا أيضا،كعلم النفس بذاتها و بالصور العلميّة الحاصلة فيها.

في وجه الاختلاف في أنّ العلم من أيّ مقولة

و إذا عرفت ذلك،فاعلم أنّه عند حصول ذلك الأمر الحاصل الذي قلنا:إنّه عبارة عن ماهيّة الأشياء مجرّدة عن الوجود الخارجي،و قلنا:إنّه كيفيّة حاصلة،يحصل للنفس

ص:179

باعتبار حصولها لها امور:

منها ذات تلك الماهيّة و نفس تلك الكيفيّة.

و منها انفعال للنّفس منها و قبول منها لها.

و منها إضافة ما،تحصل هي للنفس بالنسبة إلى تلك الكيفيّة.

و منها تجريد النّفس إيّاها و أخذها من حقائق الأشياء إن كان هناك تجريد.

و كلّ من هذه الأمور ممّا له مدخل في حصول الإدراك،و منشأ لانتزاع الإدراك بالمعنى المصدريّ،و إن كان العمدة و الأصل في ذلك هو ذات تلك الكيفيّة الحاصلة للنّفس.

فعلى هذا،فمن عدّ العلم و الإدراك من قبيل الكيف،كما هو المشهور بينهم و يشعر به كثير من كلمات الشيخ في الكتابين ممّا نقلناه أو لم ننقله،بل هو صريح ما نقلناه عنه في «الشفاء»في كون العلم عرضا،فلعلّه نظر إلى أصل تلك الكيفيّة الحاصلة.

و من عدّهما من قبيل الانفعال،كما هو رأي بعض،و كأنّه ينظر إليه قول الشيخ في «الشفاء»فيما نقلناه من قوله:«إذ كان الإحساس هو قبول صورة الشيء مجرّدة عن مادّته»و كذا بعض كلمات أخر منه،فلعلّه نظر إلى الثاني.

و من عدّهما من قبيل الإضافة،كما هو رأي بعض،فلعلّه نظر إلى الثالث،أي إلى خصوص هذه الإضافة الحاصلة بين النفس و بين تلك الكيفيّة بعد قبول النفس لها و حصولها فيها،و إلاّ فعدّهما من قبيل الإضافة مطلقا،و إن لم تكن هي تلك الإضافة الخاصّة بل إضافة مطلقة بين المدرك و المدرك الكائن في الخارج،كما هو ظاهر كلام بعض القائلين بها ممّا لا يكاد يصحّ.إذ ظاهر أنّ تلك الإضافة تستدعي ثبوت المتضايفين،فيلزم أن لا تكون المدركات التي لا تكون في الخارج مدركة البتّة،و أن لا يكون إدراك ما جهلا،إذ الجهل هو كون الصورة الذهنيّة المدركة من الحقيقة الخارجيّة غير مطابقة إيّاها،و أمّا الإضافة فلا توصف بالمطابقة و لا بعدمها.

و كذلك من عدّهما من قبيل الفعل،كما ينظر إليه قول الشيخ فيما نقلناه عنه في

ص:180

«الشفاء»أيضا،يشبه أن يكون كلّ إدراك إنّما هو أخذ صورة المدرك بنحو من الأنحاء، و كذا بعض كلمات اخر منه ممّا نقلناه عنه أم لم ننقل،فلعلّه نظر إلى الرابع،و إلاّ فلا فعل آخر للنّفس في إدراكها لشيء غير أخذ الصورة و التجريد من الوجود و المادّة و توابعها، كما هو معلوم بالضرورة الوجدانيّة.اللهمّ إلاّ على مذهب من يقول:إنّ اللّه سبحانه خلق النّفس الإنسانيّة متوسّطة بين العالمين،فجعل لها اقتدارا على إيجاد صور الأشياء و ماهيّاتها في عالمها المتوسّط،و أنّ لتلك الصورة حصولا تعلّقيّا بالنفس التي هي فاعلة لها موجدة إيّاها،بل أنّ حصولها في أنفسها هو بعينه حصولها لفاعلها المفيض لوجودها، و أنّ هذا هو معنى الإدراك،و القائل به أعلم.

و بالجملة،فهذه الاحتمالات الأربعة و إن كان يمكن الذّهاب إليها في بادئ النّظر على ما ذكرنا وجهها،إلاّ أنّ الحقّ هو الأوّل،و هو أنّ الإدراك بمعنى ما يحصل به الإدراك الانتزاعيّ من مقولة الكيف،لأنّ الإدراك قد يوصف بالمطابقة للخارج و يسمّى علما، و قد يوصف بعدم المطابقة له و يسمّى جهلا،و هذا لا يتصوّر في شأن الانفعال و الفعل و الإضافة،بل إنّما يتصوّر في شأن الصورة الذهنيّة فقط،مع أنّ الظاهر-كما أشرنا إليه-أنّ الأصل فى حصول الإدراك هو تلك الصورة،و أنّ ما سواها ليس كذلك.

ثمّ إنّك بعد ما تبيّنت ما فصّلناه،و تحقّقت ما حقّقناه،اتّضح لك شرح ما نقلنا عن الشيخ في الكتابين من معنى الإدراك الحصوليّ و بيان كيفيّته،إلاّ أنّه بقي بعد شرح بعض كلماته فيها،فحريّ بنا أن نشرحها:

فنقول:قوله فى«الشفاء»فى آخر كلامه في بيان معنى الإدراك (1):«فنقول إنّ الحاسّ في قوّته أن يصير مثل المحسوس بالفعل،إذ كان الإحساس هو قبول صورة الشيء مجرّدة عن مادّته فيتصوّر بها الحاسّ»-إلى آخر ما ذكره.كان معناه كما يدلّ عليه بعض كلماته الاخر أيضا،و خصوصا كلامه في آخر الفصل الذي نقلنا في معنى الإدراك.

أنّ الإحساس لمّا كان هو قبول صورة الشيء مجرّدة عن مادّة،أي قبول ماهيّة

ص:181


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 53/2،الفصل الثاني من المقالة الثانية في الفنّ السادس.

المحسوس التي هي منتزعة منه،و هي كيفيّة حاصلة في الحاسّ كما ذكر،سواء اطلق عليها اسم الصورة،أو اسم الماهيّة،أو اسم الحقيقة.أو اسم المعنى،أو اسم مثال الحقيقة، أو أمثال ذلك من الأسامي؛و كان الحاسّ بسبب قبوله لتلك الصورة الحاصلة فيه المنطبعة في ذاته يتصوّر بتلك الصورة،و يتكيّف بتلك الكيفيّة،و يتمثّل بذلك المثال،و يتّحد مع تلك الماهيّة نوعا من الاتّحاد،و يستكمل بها نحوا من الاستكمال بعد أن كان بالقوّة، و يصير بها نوعا آخر بالفعل،مثل اتّحاد الجسم بصورته النوعيّة،و استكماله بها و صيرورته نوعا بالفعل بها بعد أن كان بالقوّة؛فيصير بذلك مثل المحسوس،و مشاكلا له مجانسا إيّاه،كان في قوّة الحاسّ أن يصير مثل المحسوس بالفعل.

و على هذا،فالمبصر مثل البصر بالقوّة،و كذلك الملموس و المطعوم و غير ذلك،ففي كلّ ذلك يكون الحاسّ قبل حصول الإحساس،مثل المحسوس بالقوّة،و بعد حصوله مثله بالفعل.بل المحسوس أيضا يكون مثل الحاسّ،فهما متّحدان نوعا من الاتّحاد و متماثلان نوعا من التّماثل،و لذلك يكون المحسوس الأوّل بالحقيقة هو الذي ارتسم في آلة الحسّ و إيّاه يدرك،أي الصورة المتمثّلة في آلة الحسّ التي بتوسّطها يكون الشيء الخارجيّ محسوسا،و هو يكون محسوسا ثانيا و بالعرض.و يشبه أن يكون إذا قيل:أحسست الشيء الخارجيّ،كان معناه غير معنى أحسست في النّفس،فإنّ معنى قوله:أحسست الشيء الخارجيّ،أنّ صورته تمثّلت في حسّي،و أنّه بحصول تلك الصورة و تمثّلها في آلة الحسّ حصل الإحساس بذلك الشيء الخارجيّ،فكان إحساسه و إدراكه حصوليّا متعلّقا بما كان خارجا عن ذات المدرك.و معنى أحسست في النّفس،أنّ الصّورة نفسها -من حيث إنّها حاصلة في النّفس-تمثّلت في نفسي،فكان إدراكها لها حضوريّا متعلّقا بما كان داخلا في ذات المدرك غير خارج عنها،فلذا يصحّ في هذا الإدراك أن يقال:إنّ المدرك أدرك ذاته من وجه.

و إنّما قال:و معنى أحسست في النّفس،مع أنّ المناسب أن يقول:أحسست في الحاسّة،حيث إنّ الكلام في ادراك الحواسّ،إشارة إلى أنّ المدرك للمحسوسات و إن كان

ص:182

هو الحاسّة أوّلا،إلاّ أنّ المدرك لها بالحقيقة هو النّفس أيضا و إن كان بواسطة الحاسّة،كما في إدراك المعقولات،إلاّ أنّ المعقولات يرتسم صورها في النّفس بلا واسطة ارتسامها في شيء آخر،بخلاف المحسوسات،فإنّها ترتسم صورها في الحواسّ و في آلاتها.

ثمّ إنّه حيث كان المحسوس الأوّل بالحقيقة هو الذي ارتسم في آلة الحسّ من الصّورة دون ذي الصورة الذي هو الشيء الخارجيّ،و كانت الكيفيّات المحسوسة في الأجسام،إن كان لها وجود في الأجسام موجودة فيها،دون تلك الصورة التي هي المحسوسة بالحقيقة.فلذلك يصعب إثبات وجود تلك الكيفيّات في الأجسام،حيث إنّ الأجسام التي هي موجودة فيها،غير مدركة بالحقيقة،و ما هو مدرك بالحقيقة ليست تلك الكيفيّات موجودة فيه.إلاّ أنّ هذه الصعوبة تزول بأنّا نعلم علما يقينيّا-و إن كان ذلك العلم اليقينيّ حاصلا من جهة إدراك صور الأجسام و ماهيّاتها-أنّ في الوجود و الطبيعة أجساما ذوات كيفيّات خارجيّة حاصلة فيها قائمة بها في الواقع.فإنّا نعلم قطعا أنّ الأجسام منها ما يتأثّر عنه الحسّ،و منها ما لا يتأثّر عنه الحسّ؛و ذلك لا يكون إلاّ بأن يكون بعض الأجسام مختصّا في ذاته بكيفيّة هي مبدأ حالة الحس دون الآخر،و هذا الذي ذكرنا إنّما هو شرح كلام الشيخ،و كأنّ فيه تلويحا و إشارة إلى أنّ التعقّل أيضا مثل الإحساس فيما ذكره،حيث إنّ كلاّ منهما نوع من الإدراك.و ما ذكره في الإحساس إنّما هو لأجل كون الإدراك كذلك،فيكون فيه إشارة إلى أنّ العاقل أيضا في قوّته أن يصير مثل المعقول بالفعل،إذ كان التعقّل هو قبول صورة الشيء مجرّدة عن مادّته،فيتصوّر بها العاقل؛فالمعقول مثل العاقل و كذا العكس،و انّ المعقول بالحقيقة هو الذي ارتسم في القوّة العاقلة و إيّاه تدرك.و معنى عقلت الشيء الخارجيّ،أنّ صورته تمثّلت في العقل، أي في النّفس العاقلة.و معنى عقلت في النّفس،أنّ الصورة نفسها تمثّلت في نفسي، فيكون إشارة إلى أنّ مذهب الشيخ هو أنّ المعلوم بالذّات هو الصورة الحاصلة من الأمر الخارجيّ،أي الصورة التي هي ماهيّة الأمر الخارجيّ من حيث إنّها ماهيّة حاصلة في الذّهن.و من حيث إنّها معلومة لا من حيث إنّها صورة خاصّة قائمة بالنّفس الجزئيّة،فإنّها

ص:183

من هذه الحيثيّة علم لا معلوم،و إلى أنّ الأمر الخارجيّ معلوم بالعرض و بتوسّط العلم بصورته،و هذا موافق لمذهب الفارابي أيضا كما هو المنقول عنه،و هذا هو الحقّ كما ينبّه الشيخ في الإحساس،و أنّ القول بكون المعلوم بالذّات هو الأمر الخارجيّ ليس له وجه، إلاّ أن يكون مراد القائل به أنّ المقصود الأصليّ من العلم هو العلم بالشيء الخارجيّ،و إن كان بتوسّط العلم بالشيء الذهنيّ،فتدبّر.

في الإشارة إلى توجيه القول باتّحاد العاقل مع المعقول

و حيث عرفت ما ذكرنا في بيان معنى كلام الشيخ هنا،عرفت أنّ القول باتّحاد العاقل مع المعقول كما هو رأي فورفوريوس من الأقدمين،و تبعه جمع،ربّما يمكن أن يؤوّل بالاتّحاد الذي يظهر من كلام الشيخ هنا،و فصّلنا بيانه في الإحساس.و على هذا،فذلك المذهب ليس بذلك البطلان الذي زعمه الشيخ،و بذل جهده في إبطاله في كتاب«الإشارات»بما لا مزيد عليه.فإنّ ذلك الإبطال إنّما هو مبنيّ على إرادة الاتّحاد بين العاقل و المعقول الخارجيّ الذي هو معلوم بالعرض،مع كونهما ذاتين متباينتين أو متغايرتين في الخارج، حيث إنّ صيرورة شيء موجود بوجود منفرد مختصّ به شيئا آخر موجودا بوجود آخر مستحيل عند العقل،و أمّا لو اريد به الاتّحاد بين العاقل و المعقول بالذّات الذي هو تلك الصّورة العقلية نوعا من الاتحاد كما بيّناه،فله وجه،و كأنّه هو مراد القائلين بذلك المذهب،لكنّ الشيخ أعلم.

و هذا الذي ذكرنا من الفرق بين المدرك بالذّات و المدرك بالعرض،إنّما هو في الإدراك الحصوليّ؛و أمّا في الإدراك الحضوريّ،فليس هناك صورة علميّة و ماهيّة مجرّدة عن الوجود الخارجيّ،و لا إدراك بالعرض؛بل الإدراك هناك يتعلّق أوّلا و بالذّات بذلك الأمر الحاضر عند النّفس و هو مدرك بالذّات.

و بالجملة،أنّه في الإدراك الحصوليّ يكون هناك ماهيّة مجرّدة عن الوجود العينيّ هي تكون مدركة بالذّات،و يكون بتوسّطها الأمر الخارجيّ مدركا بالعرض،و يكون تلك

ص:184

الماهيّة تارة جزئيّة،إن كان إدراك النّفس لها بتوسّط الحواسّ؛و تارة كلّية،إن كان إدراكها لها بذاتها؛و يكون المدرك بالعرض-أي الأمر الخارجيّ-جزئيّا البتّة.

و أمّا في الإدراك الحضوريّ،فليس الحال كذلك؛إذ ليست هناك ماهيّة مجرّدة،بل المدرك بالإدراك الحضوريّ هو ذات ذلك الحاضر بوجوده العينيّ،و هو لا يكون إلاّ جزئيّا؛كما في علم النّفس بذاتها و بالصورة العلميّة الحاصلة فيها؛فإنّ لتلك الصورة أيضا في العقل نحوا من الوجود العينيّ و هي جزئيّة،و سيأتي زيادة توضيح لذلك.فانتظر.

و إذا عرفت شرح قوله في«الشفاء»،فاعلم أنّ ما ذكره في«الإشارات»من«أنّ إدراك الشيء هو أن يكون حقيقته متمثّلة عند المدرك يشاهدها ما به يدرك»،كأنّه أراد بالحقيقة المتمثّلة تلك الماهيّة المجرّدة التي ذكرنا سابقا حالها.

و قوله:متمثّلة عند المدرك،بإيراد كلمة«عند»دون كلمة«في»،كأنّ فيه إشارة إلى أنّ المدرك بالحقيقة في كلّ إدراك هو النّفس،و الحقيقة المتمثّلة في الإدراك الحصوليّ ينبغي أن تكون متمثّلة عندها،سواء كانت متمثّلة فيها نفسها،كما في إدراك الكلّيّات و الجزئيّات المفارقة،أو في آلاتها و حواسّها،كما في إدراك الجزئيّات المادّيّة،فإنّه على التقديرين يكون ذلك التمثّل عندها،أمّا على التقدير الأوّل فظاهر،لأنّه إذا كان فيها يكون عندها أيضا،و أمّا على التقدير الثاني فإنّ ذلك التمثّل،و إن لم يكن في النّفس نفسها بل في آلتها،إلاّ أنّ التمثّل في الآلة تمثّل عند ذي الآلة أيضا،لكون الآلة و ما يتمثّل فيها حاضرة عنده غير غائبة عنه.

و قوله:«يشاهدها ما به يدرك»أي يشاهد تلك الحقيقة المتمثّلة ما به يدرك المدرك إيّاها،إن قرأ«يدرك»بصيغة المضارع الغائب المذكّر المعلوم،و ما به تدرك تلك الحقيقة، إن قرأ بصيغة المضارع الغائب المؤنّث المجهول.و على التقديرين فيكون«ما به يدرك» عبارة عمّا به يقع إدراك النّفس لتلك الحقيقة،و هو ذات النّفس نفسها في إدراكها للكلّيّات،و حواسّها و آلاتها في إدراكها للجزئيّات.فيكون إشارة إلى أنّ الإدراك ينقسم إلى إدراك بآلة،و إلى ادراك بغير آلة بل بذات المدرك.و حينئذ،ففيه مع ملاحظة قوله:

ص:185

«متمثّلة عند المدرك»تنبيه على أنّه في القسم الأوّل ليس الإدراك هو كون الشيء حاضرا عند الحسّ فقط،بل كونه حاضرا عند المدرك أي النّفس،لحضوره عند الحسّ لا بأن يكون حاضرا مرّتين،بل بذلك الحضور عند الحسّ الذي هو آلة النّفس،حيث إنّ المدرك هو النّفس و لكن بواسطة الحسّ،فتدبّر.

و قوله:«فأمّا أن تكون تلك الحقيقة نفس حقيقة الشيء الخارج عن المدرك إذا أدرك -إلى آخر ما ذكره-».كأنّ فيه إشارة إلى أنّ تلك الحقيقة المتمثّلة إن لم تكن خارجة عن ذات المدرك،كملكات النّفس و صفاتها،و كالصّورة العلميّة،أي الماهيّة الحاصلة المتمثّلة المنتزعة من الشيء الخارجيّ من حيث إنّها علم لا من حيث إنّها معلومة،كما سيجيء الفرق بينهما.

و بالجملة،الحقائق التي وجوداتها العينيّة هي بعينها وجوداتها في الذهن من حيث إنّها قائمة به حاصلة فيه،فالحقيقة المتمثّلة عند المدرك من جملة تلك الحقائق هي نفس حقيقتها من غير تجريد لها عن وجودها الخارجيّ،بل هي حاصلة عند المدرك مع وجودها الخارجيّ العينيّ،و ليس الحاصل عنده صورها و لا أمثلتها.

و إن كانت خارجة عن المدرك،فهي على قسمين كما أشرنا إليه سابقا:

قسم لا يكون له وجود بالفعل في الأعيان الخارجة،كالممتنعات و الممكنات بالذّات المعدومة في الخارج،مثل كثير من الأشكال الهندسيّة،بل كثير من المفروضات التي لا تمكن إذا فرضت في الهندسة ممّا لا يتحقّق أصلا.ففي هذا القسم تكون تلك الحقيقة المتمثّلة عند المدرك إذا أدركها هي نفس حقيقة الشيء الخارج عن المدرك،أي نفس ماهيّاتها المجرّدة عن الوجود الخارجي لا تجريدا يفعله العقل،بل إنّها-في حدّ ذاتها-مجرّدة عن الوجود الخارجيّ،إذ ليس لها وجود خارجيّ فتتمثّل هي على ما هي عليه عند المدرك مجرّدة.و قد عرفت فيما تلونا عليك أنّ الممتنعات و المعدومات الممكنة و إن لم يكن لها حقيقة،أي ماهيّة مأخوذة مع الوجود الخارجيّ،لكنّها ممّا لها ماهيّة غير مأخوذ معها الوجود الخارجيّ،و أنّ حقيقتها هي نفس تلك الماهيّة المجرّدة في حدّ

ص:186

ذاتها عن الوجود العينيّ و لوازمه،و هذا هو القسم الأوّل.

و قسم له وجود بالفعل في الأعيان،ككثير من الأشياء الموجودة في الخارج،و في هذا القسم يكون تلك الحقيقة المتمثّلة عند المدرك مثالا من ذلك الشيء الخارجيّ مثالا غير مباين لذلك الشيء،بل مناسبا له حاكيا آثاره،بل عينه باعتبار الذّات أو مثالا غير مباين للمدرك،أي غير حاصل عند المدرك من جهة وجوده العينيّ الذي هو بهذه الجهة مباين للمدرك،و لا يمكن حصوله عنده،بل حاصلا من جهة وجوده الذهنيّ الذي هو بهذه الجهة غير مباين له و يمكن حصوله عنده.

و بالجملة ماهيّته التي هي عينه من حيث الذّات،لكنّها مجرّدة عن الوجود الخارجيّ و عن لوازمه و توابعه تجريدا يفعله العقل،فيرتسم ذلك المثال في ذات المدرك،فيدركه أوّلا و بالذّات،و يدرك الشيء الخارجيّ بواسطته،و هذا هو القسم الثانيّ.

و هذا الذي ذكرنا إنّما هو شرح كلامه على ما يستفاد منه ظاهرا،إلاّ أنّ المحقّق الطوسيّ(ره)في شرحه للإشارات حمله على محمل آخر.قال في شرح هذا الكلام (1):

«و الأشياء المدركة تنقسم إلى ما لا يكون خارجا عن ذات (2)،و إلى ما يكون.

أمّا في الأوّل،فالحقيقة المتمثّلة عند المدرك هي نفس حقيقتها.

و أمّا في الثّاني،فهي تكون غير الحقيقة الموجودة في الخارج؛بل هي إمّا (3)صور منتزعة من الخارج إن كان الإدراك مستفادا من خارج،أو صورة حصلت عند المدرك ابتداء،سواء كانت الخارجيّة مستفادة منها أو لم تكن.و على التقديرين،فإدراك الحقيقة الخارجيّة هو حصول تلك الصورة الذهنيّة عند المدرك.و استدلّ على ذلك بقوله:فإمّا أن تكون تلك الحقيقة-أي المتمثّلة-نفس حقيقة الشيء الخارج من المدرك إذا أدرك، أو يكون (4)مثال حقيقته مرتسما في ذات المدرك غير مباين له.و قدّم إبطال (5)القسم الأوّل على ذكر القسم الثاني،فقال بعد ذكر القسم الأوّل:فتكون حقيقة ما لا وجود له بالفعل في

ص:187


1- -شرح الإشارات 312/2 و 313.
2- في المصدر:ذات المدرك...
3- صورة...
4- أو تكون...
5- و قدّم إبطال القسم الثاني فقال.

الأعيان الخارجيّة مثل كثير من الأشكال الهندسيّة،مثلا كالكرة المحيطة باثنتى (1)عشرة قاعدة مخمّسات،بل كثير من المفروضات التي لا تمكن إذا فرضت في الهندسة،كما يفرض مثلا من الممتنعات ليتبيّن (2)به الخلف،فيكون (3)تلك الحقيقة ممّا لا تتحقّق أصلا، إذ لا حقيقة لها في الخارج.

و لمّا كانت ممّا (4)يدرك،فعلم أنّها موجودة لا في الخارج بل عند المدرك و فيما لا يباينه.فبإبطال القسم الاوّل تحقّق (5)الثاني.و أشار إلى ذلك بقوله«و هو (6)الثاني»،و المثال في قوله«أو يكون مثال حقيقته»هو الصّورة المنتزعة،أو الصّورة التي لا تحتاج إلى الانتزاع من الشيء الذي لو كان في الخارج لكان هو فهذا بيان ما قاله الشيخ»-انتهى كلامه(ره)-.

كلام مع المحقّق الطوسيّ

و أقول:إنّ ما ذكره(ره)لا غبار عليه،إلاّ أنّ حمل هذا الكلام على الاستدلال المذكور بإبطال القسم الأوّل كأنّه لا يلائمه سياق ظاهر كلام الشيخ،بل إنّ ظاهر سياقه يدلّ على أنّ الأشياء الخارجة عن ذات المدرك تكون على قسمين،و أنّ حقيقتها المتمثّلة عند المدرك تكون على نوعين كما حملنا عليه كلامه.و على تقدير حمله على ما حمله(ره)أيضا،فكأنّه لا يتمّ البيان الذي ادّعاه،إذ هذا البيان إنّما يتمّ في الأشياء التي لا وجود لها في الخارج،و لم يتبيّن منه أنّ الأشياء التي لها وجود خارجيّ و حقيقة خارجيّة لا يمكن أن تتمثّل حقائقها عند المدرك.

اللّهمّ إلاّ أن يقول هو(ره):إنّ الشيخ أحال ذلك على الظّهور،حيث إنّه كما لا تتمثّل الحقيقة الخارجيّة من الشيء الذي لا يكون له وجود في الخارج عند المدرك،إذ لا وجود له و لا حقيقة.كذلك من الظاهر أنّه لا تتمثّل عنده الحقيقة الخارجيّة من الشيء الذي له وجود في الخارج،إذ لو كان كذلك،لكان تترتّب على تلك الحقيقة المتمثّلة الآثار

ص:188


1- في المصدر:باثنى عشر...
2- ليبيّن...
3- فتكون...
4- ممّا تدرك،علم...
5- يتحقّق...
6- و هو الباقي.

الخارجيّة المطلوبة،و لكان لا فرق بين الوجود العينيّ و الوجود الذهنيّ،و هذا باطل بالضّرورة.إلاّ أنّ الظاهر منه أنّه أرجع الضمير المجرور في قول الشيخ:«غير مباين له»إلى المدرك،و قد عرفت أنّه يمكن إرجاعه إلى الشيء أيضا.

و أمّا قوله(ره)أخيرا:«و المثال»في قوله:«أو يكون مثال حقيقته هو الصورة المنتزعة،أو الصورة التي لا تحتاج إلى الانتزاع من الشيء الذي لو كان في الخارج لكان هو»فكأنّه إشارة إلى تعميم المثال بحيث يشمل الصورة المنتزعة من الخارج إن كان الإدراك مستفادا من خارج،و الصورة الحاصلة عند المدرك ابتداءً،سواء كانت الخارجيّة مستفادة منها أو لم تكن،كما ذكره في السابق؛و إن كان يمكن حمله أيضا على تعميم المثال بحيث يشمل الصورة المنتزعة من الأشياء الخارجيّة،و ماهيّات الأشياء التي ليس لها وجود في الخارج كما ذكرنا،و هو(ره)أعلم.

و إذا عرفت ذلك،فاعلم أيضا أنّ ما ذكره الشيخ في«الإشارات»من تنويع الإدراك إلى الأنواع الثلاثة،أعني الحسّ و التخيّل و التعقّل،ربما يتراءى كونه مخالفا لما ذكره في «الشفاء»،حيث نوّعه إلى الأنواع الأربعة،أعني:الحسّ و التخيّل و التوهّم و التعقّل» (1).

و كأنّ وجه ما ذكره في«الشفاء»أنّ ذلك بيان للواقع.و أمّا وجه ما فعله في(الإشارات) فلعلّه هو ما اعتذر عنه المحقّق الطوسيّ(ره)في شرحه،قال:«إنّ (2)الإدراكات إذا قيست إلى مدرك واحد،سقط الوهم عن الاعتبار،لأنّه لا يدرك ما يدركه الحسّ و الخيال بانفراده،بل يدرك (3)ما يدرك (4)بمشاركة الخيال،و بذلك يتخصّص مدركه و يصير جزئيّا، و لذلك لم يعتبره الشيخ في هذا الكتاب و اعتبره في سائر كتبه»-انتهى-.

ص:189


1- -شرح الإشارات 323/2.
2- في المصدر:إلاّ أنّها(أي الإدراكات)إذا قيست...
3- -شرح الإشارات 324/2.
4- ما يدركه.

في تحرير ما ذكره في الشفاء في العلم

و حيث انتهى الكلام إلى هذا المقام،فلنتكلّم في تحرير ما نقلناه عن الشيخ في «الشفاء»في بيان العلم و أنّه عرض،و ما أورد عليه من الشبهة و أجاب عنها.

فنقول:إنّ ما ذكره من الشبهة مبناها على أنّ الحاصل في الذهن من الشيء الخارجيّ -بل مطلقا-هو ماهيّته المجرّدة عن الوجود الخارجيّ و عن توابعه،و كذا مبناها على أنّ العلم عرض من مقولة الكيف.فيكون ذلك من إحدى القرائن على أنّ مذهب الشيخ-بل المعروف من مذهب الحكماء-هو القول بوجود الأشياء بماهيّاتها في الذهن دون القول بالأشباح،و أنّ العلم من مقولة الكيف دون الفعل و الانفعال أو الاضافة.

و بيان الشبهة هو أنّه لا يخفى أنّ العلم هو الصورة الحاصلة من الشيء أي المكتسب من صور الموجودات مجرّدة عن موادّها،و هي صور جواهر و أعراض؛حيث إنّ المعلوم لا يخلو عنهما،أي الماهيّات التي تكون للجواهر و الأعراض مجرّدة عن وجوداتها العينيّة و عن موادّها،و لا يخفى أيضا أنّ تلك الصورة الحاصلة عرض لصدق حدّه،و«هو الموجود في الموضوع»عليها،لكونها أيضا موجودة في موضوع هو النّفس.و كذا هي من مقولة الكيف لصدق حدّه أيضا،و«هو أنّه عرض لا يقتضي قسمة و لا نسبة»عليها، لكونها أيضا كذلك.

و بالجملة،لا يخفى أنّ تلك الصورة الحاصلة في النّفس عرض،و إن لم نقل بكونها من مقولة الكيف؛و حينئذ نقول:إن كانت صور الأعراض و ماهيّاتها الحاصلة في النّفس أعراضا،فصور الجواهر و ماهيّاتها الحاصلة فيها كيف تكون أعراضا،و الحال أنّ الجوهر ما يكون لذاته جوهرا،فماهيّته لا تكون في موضوع البتّة،و يجب أن يكون ماهيّته محفوظة في كلّ الأحوال،سواء نسبت إلى إدراك العقل لها أو نسبت إلى الوجود الخارجيّ.

و الحاصل أنّ تلك الصّورة الحاصلة و الماهيّة المتمثّلة في النّفس من الجواهر،لا سترة في أنّها عرض؛فإمّا أن يكون معنى الجوهر ذاتيّا لما تحته من الجواهر جنسا لها،كما هو رأي بعض،أو عرضيّا كما هو رأي آخرين.

ص:190

و على الأوّل،فكيف يكون ذاتي الشيء مختلفا؟و كيف يمكن أن يكون مقتضي الذات لا يترتّب عليها؟و كيف يمكن أن ينقلب الذّات مع أنّ كلّ ذلك محال بالضّرورة؟

و على الثّاني،فلا سترة في أنّ ذلك معنى عرضيّ لازم لها؛فكيف يمكن أن يترتّب عليها ذلك العرضيّ تارة و أن لا يترتّب اخرى؟و كيف يمكن أن ينقلب العرضيّ اللازم إلى العرضيّ المفارق؟و هذا بيان الشبهة.

و أمّا بيان الجواب عنها:فهو أنّ ماهيّة الجوهر-على ما يقتضيه حدّه-بمعنى أنّه الموجود في الأعيان لا فى موضوع،و هذه الصّفة موجودة لماهيّة الجواهر المعقولة الحاصلة في النّفس أيضا،فإنّها ماهيّة شأنها أن تكون-إذا وجدت في الأعيان-وجدت لا في موضوع،أي أنّ هذه الماهيّة هي معقولة من أمر،شأن ذلك الأمر أن يكون وجوده في الأعيان لا في موضوع،و أمّا وجوده في العقل بهذه الصّفة،أي أن لا يكون في موضوع، فليس ذلك مأخوذا في حدّه من حيث هو جوهر،أي ليس حدّ الجوهر أنّه إذا كان في العقل كان لا في موضوع؛بل حدّه أنّه سواء كان في العقل أو لم يكن،فإنّ وجوده في الأعيان ليس في موضوع.

و الحاصل،أنّه على تقدير كون معنى الجوهر عرضيّا لما تحته لازما لها،نقول:إنّه عرضيّ لازم لوجوداتها العينيّة الخارجيّة،كسائر لوازم الوجود الخارجيّ؛و لا سترة في أنّ هذا المعنى،أي كونه موجودا لا في موضوع،لا يتخلّف عن تلك الجواهر من حيث وجوداتها الخارجيّة،و أمّا تخلّفه منها بحسب وجوداتها العقليّة،فليس ذلك منافيا لما يقتضيه حدّ الجوهر،و على تقدير كون معنى الجوهر ذاتيّا لما تحته،نقول:إنّه حيث أخذ في حدّه الوجود،أي أن يكون موجودا لا في موضوع،فذلك الوجود معناه الوجود الخارجيّ لا الذّهنيّ و لا الأعمّ منهما.و لا سترة في أنّ هذا المعنى يصدق على الجواهر التي هي أفراده بحسب وجوداتها الخارجيّة و لا يتخلّف عنها،و لا ضير في أن يتخلّف عنها بحسب وجوداتها العقليّة و حصولاتها الذهنيّة.و ممّا ذكر يعلم أنّ المعتبر في معنى العرض و المأخوذ في حدّه أيضا،أن يكون وجوده العينيّ في موضوع.و أمّا كون وجوده

ص:191

الذهنيّ في موضوع،فليس بمأخوذ في حدّه.فعلى هذا فكون ماهيّات الأعراض الحاصلة في الذّهن من حيث وجودها الذّهنيّ أعراضا موجودة في موضوع هو النّفس،ليس ممّا يحقّق عرضيّتها،كما أنّ كون ماهيّات الجواهر الحاصلة في الذّهن من حيث كونها كذلك أعراضا موجودة في موضوع،لا ينافي جوهريّتها.

فإن قلت:من البيّن أنّ المعتبر في تلك الماهيّة الحاصلة في الذهن كونها مجرّدة عن الوجود الخارجيّ مطلقا،و لازم هذا أن لا يكون يتحقّق لتلك الماهيّة الحاصلة فيه شيء ممّا المدخل فيه للوجود الخارجيّ،و من جملته معنى الجوهر و العرض.حيث إنّ المدخل فيه إنّما هو للوجود الخارجيّ خاصّة،كما ذكرت من أنّ الجوهر ما لا يكون بحسب وجوده الخارجيّ في موضوع،و أنّ العرض ما يكون بحسب وجوده الخارجيّ في موضوع.فيلزم من ذلك أن لا تدخل تلك الماهيّة بحسب وجودها الذهنيّ تحت مقولة من المقولات،و أن لا يصدق عليها معنى الجوهر و لا معنى العرض،فكيف يصدق عليها معنى العرض كما ذكرت؟

قلت:الحال كذلك،إلاّ أنّ لتلك الماهيّة الحاصلة من حيث حصولها في الذهن و قيامها بنفس جزئيّة نحوا من الوجود العينيّ أيضا،كما سيأتي بيانه.فهي بذلك الاعتبار تكون عرضا و من مقولة الكيف،سواء كانت هي ماهيّة الجوهر أو ماهيّة العرض.

ثمّ إنّه بما ذكره الشيخ في جواب الشبهة الموردة في الجواهر و الأعراض كما حرّرنا بيانه،كما يندفع الشبهة عن ذلك،كذلك تندفع الشبهة إذا أوردت في مطلق الذّاتيّات و مطلق العرضيّات اللازمة للوجود الخارجيّ.

مثلا إذا قال قائل:لا يخفى أنّ الصورة الحاصلة من الإنسان هي ماهيّة الإنسان مجرّدة عن الوجود الخارجيّ،و من المعلوم أنّ الماهيّة الإنسانيّة ماهيّة نوعيّة معناها الحيوان الناطق،أي التي من شأنها أن يصدر عنها الحسّ و الحركة الإراديّة و إدراك الجزئيّات و الكلّيّات؛و لا سترة في أنّ تلك الماهيّة من حيث إنّها موجودة في الذهن لا يصدر عنها تلك الامور بالفعل،و لا هي ممّا من شأنه أن يصدر عنه تلك الأمور،فكيف يتخلّف عنها

ص:192

ذاتيّاتها و ما هو من مقتضى ذاتها؟

قلنا في جوابه:إنّا سلّمنا أنّ تلك الماهيّة هي الماهيّة الإنسانيّة التي هي الحيوان الناطق.

لكن نقول:إنّ معنى الماهيّة الإنسانيّة أنّها من شأنها أن تصدر عنها تلك الأمور إذا وجدت تلك الماهيّة في الأعيان،لا أنّها من شأنها أن تكون يصدر عنها تلك إذا وجدت في الذّهن أيضا.فهي-سواء وجدت في العين أو في الذّهن-من شأنها أنّها في وجودها العينيّ يمكن أن يصدر عنها تلك الأمور.فعلى هذا،فصدور تلك الأمور التي هي من مقتضى ذات الإنسان،أو إمكان صدورها عنها ممّا للوجود الخارجيّ مدخل فيه،و ان كان ذاتيّا له،و لا ضير في أنّه إذا جرّدت تلك الماهيّة عن الوجود الخارجيّ و حصلت في الذّهن،لم تكن صفتها كذلك من حيث إنّها موجودة فيه.

نعم،ربّما يتحقّق لها من حيث وجودها في الذّهن أمور أخر،كالكلّيّة و الجنسيّة و الفصليّة و أمثال ذلك ممّا لا مدخل للوجود الخارجيّ فيه،بل إنّما المدخل فيه للوجود الذهنيّ خاصّة.و على هذا فقس الحال في ماهيّات أخر و ذاتيّاتها.

و كذلك لو قال قائل:إنّه لا يخفى أنّه عند ادراكنا أو تعقّلنا مثلا للحارّ و البارد، أو للحرارة و البرودة،أو المستقيم و المعوّج،أو الاستقامة و الاعوجاج،يحصل في الذّهن ماهيّات تلك الامور كما ذكرت؛فيلزم أن يكون الذهن حارّا باردا معوّجا مستقيما،إذ لا معنى لهذه إلاّ ما يحصل فيه ماهيّة الحرارة و البرودة و الاستقامة و الاعوجاج.و أيضا يلزم أن تجتمع فيه الأمور المتضادّة من جهة واحدة و يتّصف بها،فيكون هو متضادا كالأمور الحاصلة فيه،و كلّ ذلك باطل بالضّرورة.

قلنا في جوابه:إنّا سلّمنا أنّ الحاصل في الذهن هو ماهيّات تلك الأمور،لكنّا نقول:إنّ تلك الآثار و الأحكام مترتّبة على وجود تلك الماهيّات في الأعيان فقط،فتلك الماهيّات سواء وجدت في الأعيان أو في الأذهان،فمن شأنها أنّها في وجوداتها العينيّة يمكن أن يصدر عنها تلك الآثار و الأحكام،و لا محذور في أن لا يترتّب تلك الآثار و الأحكام عليها من حيث تجرّدها عن الوجود الخارجيّ،أي من حيث وجوداتها الذهنيّة،لكونها

ص:193

غير لازمة لوجودها الذهنيّ.مع أنّ اتّصاف محالّ هذه الامور لصفاتها ممّا يتوقّف على أن يكون تلك المحالّ ممّا من شأنها أن تنفعل عنها و تتّصف بها.و لا نسلّم أنّ الذهن كذلك؛ و لذلك لا يلزم عند تصوّرنا و إدراكنا الأرض أو السّماء مع كون المتصوّر منهما ماهيّتهما، أن يكون الذهن عظيما مثلهما.فتبصّر.

ثمّ إنّ قول الشيخ: (1)«فإن قيل:فالعقل أيضا من الأعيان.قيل:يراد بالعين التي إذا حصل فيها الجوهر صدرت عنه أفاعيله و أحكامه».إيراد على الجواب الذي ذكره عن تلك الشبهة و جواب عن الإيراد.

بيان الإيراد:أنّه حيث ذكر في الجواب أوّلا أنّ معنى الجوهر و ماهيّته أنّه الموجود في الأعيان لا في موضوع،فلا ينافي أن يكون بحسب وجوده الذّهنيّ في موضوع،أورد عليه ثانيا أنّ ماهيّة الجوهر بحسب وجودها في الأذهان أيضا لها وجود في الأعيان،حيث إنّها -بحسب هذا الوجود-موجودة في العقل،أي النّفس.و لا سترة في أنّ العقل من الموجودات العينيّة؛فالموجود فيه أيضا موجود بوجود عينيّ.و الحال أنّ الجوهر بحسب هذا الوجود العينيّ موجود في موضوع،فكيف يمكن أن يكون بحسب هذا الوجود العينيّ موجودا في موضوع؟و كيف يمكن أن يكون ماهيّة الجوهر بأحد الوجودين العينيّين جوهرا و بالوجود الاخر العينيّ عرضا؟

و بيان الجواب:أنّ معنى الموجود في العين ليس أنّه الموجود في عين آخر غير نفس ذلك الموجود،بل المراد بالعين هو عين ذلك الموجود،و معنى الموجود في العين أنّه الموجود في نفسه و في حدّ ذاته،مع قطع النظر عن فرض فارض إيّاه و عن كلّ ما سواه، و هذا المعنى هو المراد من سائر العبارات التي يعبّر بها عنه،كالموجود في نفس الأمر،فإنّ المراد بالأمر هو ذلك الموجود،و بالنّفس ذاته،و بالموجود في نفس الأمر الموجود في نفسه و في حدّ ذاته،مع قطع النّظر عمّا ذكر.و هذا المعنى أيضا يراد بقولهم:الموجود في الخارج،أي أنّه الموجود في نفسه و في خارج الذّهن،و مع قطع النّظر عن فرض الذهن.

ص:194


1- -الشفاء- [1]الإلهيّات140/. [2]

و بالجملة،فالمراد من هذه العبارات و أمثالها،كالموجود العينيّ و الموجود الخارجيّ،أنّه الموجود في حدّ ذاته بوجود أصيل،سواء كان وجوده في موضوع كالعرض،أم لا كالجوهر،وجودا يترتّب عليه آثاره المطلوبة منه و أحكامه و أفاعيله الخارجيّة.و على هذا،فيكون معنى قولهم:الموجود في الذهن و الموجود في العقل و الموجود في النّفس و أمثال ذلك من العبارات،أنّه الموجود بوجود ظلّيّ غير أصيل، وجودا لا يترتّب عليه آثاره و أحكامه و أفاعيله،و إن كان موجودا في النّفس التي هي عين من الأعيان الخارجيّة.نعم لو كان يترتّب على وجوده في العقل آثاره المطلوبة، لكان ذلك وجودا له عينيّا أيضا،لكن باعتبار آخر.

فيلزم ممّا ذكرنا،أنّ كلّ ما هو موجود عينيّ من حيث هو موجود عينيّ يترتّب عليه أحكامه لا يكون موجودا ذهنيّا من حيث هو موجود ذهنيّ لا يترتّب عليه أحكامه المطلوبة منه،و كذا بالعكس،و أنّه لو كان موجود ذهنيّ يترتّب عليه آثاره و أحكامه،كان هو من هذه الحيثيّة موجودا عينيّا لا ذهنيّا.

و كذلك يلزم ممّا ذكر هنا و ما ذكر سابقا من أنّ الجوهريّة و العرضيّة إنّما هما باعتبار الوجود العينيّ من حيث هو وجود عينيّ،أنّ الموجود في الذهن من حيث هو موجود ذهنيّ لا يكون جوهرا و لا عرضا،و إن كان صدق عليه أنّه بحيث لو وجد في الخارج و العين،لكان إمّا جوهرا أو عرضا.و أنّ الموجود في الذهن لو كان بحيث يترتّب عليه آثاره المطلوبة منه،و كان ذلك وجودا عينيّا له باعتبار،لكان يصدق عليه أنّه جوهر أو عرض،إلاّ أنّه لا يكون إلاّ عرضا،لكونه من هذه الحيثيّة موجودا في موضوع هو النّفس.

و إذا تمهّد ذلك،فنقول:من المعلوم بالضّرورة أنّ الصورة العقليّة و الماهيّة الحاصلة في العقل من الجوهر مجرّدة و مادّيّة و بسيطة و مركّبة،و أيّ قسم منه لا يترتّب عليها من حيث كونها موجودة ذهنيّة تلك الآثار و الأحكام و الأفاعيل التي تترتّب على حقيقته الموجودة في الخارج،فليس وجودها في العقل من حيث هو وجودها فيه،و إن كان

ص:195

العقل عينا من الأعيان الخارجيّة،وجودا عينيّا خارجيّا له.و حيث لا يصدق عليها بحسب هذا الوجود أنّها جوهر،و كذلك لا يصدق على هذا الوجود أنّه وجود عينيّ،فلا يلزم أن يكون ماهيّة الجوهر بحسب وجوده العينيّ موجودا فى موضوع،و لا أن تكون بحسب أحد الوجودين العينيّين جوهرا و بالوجود الآخر العينيّ عرضا.و كذلك من المعلوم بالضّرورة أن الماهيّة الحاصلة من العرض،أيّ أنواع منه كانت،فهي من حيث كونها موجودة ذهنيّة،ممّا يترتّب عليها آثارها و أحكامها المترتّبة على حقيقته الموجودة في الأعيان،فليس وجودها في الذّهن من حيث لا يترتّب عليها آثاره،وجودا عينيّا لها، و كذا عرضيّتها بهذا الاعتبار،بل باعتبار وجودها في الأعيان وجودا به يترتّب عليها تلك الآثار.

نعم،إنّ الماهيّة الحاصلة في العقل من الشيء مطلقا،جوهرا كان أم عرضا،ربّما يترتّب عليها من حيث كونها صورة خاصّة قائمة بنفس جزئيّة،و من حيث كونها صورة علميّة،بعض الآثار التي هي من الآثار العينيّة،و هي كونها سببا لانكشاف الأشياء التي هي ذوات الصورة على النّفس،و واسطة لأن تدرك بها النّفس المعلوم الخارجيّ،و تنال بها مدركاتها العينيّة؛فلذلك يكون قيامها بالنّفس منشأ لاتّصاف محلّها-أي النّفس- بالعلم،و بكونها عالمة بمعلومها بسببها،كما يكون الجسم باعتبار حصول السّواد فيه -مثلا-متّصفا بكونه أسود.و الذي يوضح ذلك،أنّ العلم من جملة ملكات النّفس،و قيام ملكاتها بها مطلقا،سواء كانت فضائل أم رذائل،قيام و وجود عينيّ لها،و بسببه يكون منشأ لترتّب آثارها عليها و لاتّصاف محلّها،أي النّفس،بها.

ثمّ إنّه حيث كانت الصورة العلميّة بهذا الاعتبار موجودة في الأعيان،و كانت موجودة في موضوع،لا استبعاد في كون ماهيّات الأشياء الحاصلة في العقل-من حيث كونها صورا خاصّة قائمة بالنّفس-موجودة فيها وجودا يترتّب عليه الآثار.سواء كانت هي ماهيّة الجوهر أو العرض،أعراضا موجودة في موضوع.و لا ينافي ذلك أن تكون تلك الماهيّات-بحسب حقائقها و وجوداتها العينيّة في الخارج-غير هذا الوجود العينيّ له في

ص:196

العقل،بعضها جواهرا و بعضها أعراضا،و لذا لا ينافي أن تكون تلك الماهيّات بحسب وجودها الذهنيّ،أي من حيث وجودها في ضمن الصّورة العلميّة،موجودات ذهنيّة غير مترتّبة عليها الآثار المطلوبة،و لا تكون هي جواهرا و لا أعراضا.

في الفرق بين اعتبارات الماهيّة

و إن اشتهيت زيادة إيضاح المقام،فاعلم أنّه كما أنّ الموجود في الخارج من ماهيّات الأشياء و حقائقها جواهرها و أعراضا لا يكون إلاّ جزئيّا حقيقيّا و شخصا مشخّصا، حيث إنّ الكلّيّ-بما هو كلّيّ-ليس له وجود منفرد بنفسه،و إنّما الموجود في العين هو الشخص المعيّن،كما هو المحقّق في محلّه.و أنّ الشّخص الموجود في الخارج على رأي القائلين بوجود الكلّيّ الطبيعيّ و الطّبيعة من حيث هي في ضمن وجود الأشخاص-كما هو رأي الشيخ و غيره من المحقّقين-عبارة عن تلك الماهيّة المأخوذة مع الوجود العينيّ الشخصيّ،و الملحوظ معها التّشخّص الخارجيّ،أي الماهيّة بشرط شيء،أي بشرط ذلك الوجود و التّشخّص.و بعبارة أخرى مجموع المشروط و الشرط،أو مجموع العارض و المعروض،و هو موجود في الحقيقة في الأعيان وجودا يترتّب عليه جميع الآثار المطلوبة منه؛و كذا هو موصوف بالجوهريّة أو العرضيّة بالذّات،و مدرك أوّلا بالحواسّ، و بواسطتها تدركه النّفس إن كان هو شخصا مادّيّا.و امّا إن كان شخصا مجرّدا عن المادّة، فيدركه العقل أوّلا و بالذّات لا بتوسّط الحواسّ،و أنّ تلك الماهيّة الملحوظة في ضمن الشّخص،التي هي عبارة عن الطّبيعة من حيث هي التي هي من حيث ذاتها ليست إلاّ هي، و ليست في حدّ ذاتها لا عامّة و لا خاصّة و لا كلّيّة و لا جزئيّة و لا مأخوذا معها شرط من الشروط و لا قيد من القيود إلاّ نفسها.

و بالجملة،فهي لا بشرط شيء من كلّ وجه،إلاّ أنّها تصلح لأن يقارنها شرط،و يعتبر معها وجود،فتصير هي بذلك أيضا موجودة وجودا عينيّا يترتّب عليه الآثار في ضمن وجود الشّخص.إلاّ أنّ وجودها وجود ضعيف بالقياس إلى وجود الشّخص،و وجود

ص:197

بالعرض و بتوسّط وجود الشّخص.و لذلك يتّصف أيضا بالجوهريّة أو العرضيّة بالعرض.

إلاّ أنّ مدركها هو العقل و النّفس بذاتها،و ليس وجودها في العقل من هذه الجهة وجودا ذهنيّا لها،بل وجودا عينيّا كما ذكر.كذلك الموجود في النّفس و العقل من ماهيّات الأشياء جواهرها و أعراضها مجرّدها و مادّيّتها،سواء كانت تلك الماهيّة ممّا يمكن أن يكون لها أفراد متعدّدة في الخارج،أو لم يمكن.بل كان نوعها منحصرا في فرد،كالمفارقات،أو لم يمكن أن يكون لها فرد في الخارج أصلا،كماهيّات الممتنعات.و سواء كان ما يمكن أن يكون لها أفراد متعدّدة،بحيث يكون تلك الأفراد المتعدّدة موجودة في الأعيان،أو يكون كلّها معدومة في الأعيان،أو يكون الموجود منها بعضا منها واحدا كان أم أكثر مع إمكان الباقي،إنّما يكون ماهيّات تلك الأشياء مجرّدة عن تلك الوجودات التي لو كانت هي لتلك الماهيّات،لكانت منشأ للآثار المطلوبة منها في الخارج،و معرّاة عن العوارض الخارجيّة و اللواحق التابعة لتلك الوجودات العينيّة و تلك التّشخّصات الخارجيّة،سواء كانت تلك الماهيّات منتزعة عن أشياء خارجيّة أم لا،إلاّ أنّ تلك الماهيّات و إن أخذت في الذهن على أنّها معرّاة عن الوجود العينيّ و مجرّدة عن توابعها،لكنّها-من حيث حصولها في العقل و قيامها بنفس جزئيّة-يكون لها نحو من الوجود العينيّ أيضا غير ما هي جرّدت عنه، و هذا الوجود العينيّ وجود عينيّ ضعيف،له باعتبار ترتّب بعض الآثار عليه نسبة إلى الوجود العينيّ،و باعتبار عدم ترتّب جميع الآثار المطلوبة من الوجود العينيّ عليه نسبة إلى الوجود الذهنيّ،فكأنّه برزخ متوسّط بين الوجود العينيّ و الذهنيّ.فلذلك تكون هي منشأ لحصول العلم بالمعلوم،و منشأ لبعض الآثار دون كلّها،أي تكون منشأ لما يترتّب عليها من حيث كونها صورة علميّة،أي منشأ لاتّصاف محلّها-أي النّفس-بالعلم، و بكونها عالمة بمعلومها.و تكون أيضا،باعتبار اقتران هذا النحو من الوجود معها،جزئيّة و شخصا خاصّا،حيث إنّها بهذا الاعتبار لا تصدق على كثيرين،فإنّ الصورة الحاصلة في ذهن زيد من الإنسان مثلا،حيث إنّها حاصلة في ذهنه،لا تصدق على الصّورة الحاصلة في ذهن عمرو منه مثلا،من حيث هي حاصلة فيه و إحداهما غير الاخرى،و إن كانت

ص:198

أصل الماهيّة المنتزعة من الإنسان الحاصلة في كلّ من الذهنين واحدة بحسب الذات و الحقيقة،مع قطع النظر عن الخصوصيات الذهنيّة.و كذلك تكون هي بهذا الاعتبار عرضا،حيث إنّها قائمة بموضوع و موجودة في موضوع هو تلك النّفس التي هي حاصلة فيها قائمة بها،سواء كانت هي صورة منتزعة من جوهر أو من عرض.و هذه الصّورة بهذا الاعتبار و إن كانت جزئيّة،إلاّ أنّ مدركها هو النّفس بذاتها،لكونها حاضرة عندها.كما أنّ مدركها بالاعتبارين الأخيرين الآتيين أيضا هو النّفس بذاتها.و ما اشتهر عندهم من أنّ النّفس لا تدرك بذاتها الجزئيّ من حيث هو جزئيّ،فإنّما هو في الجزئيّات المادّية المحفوفة بالعوارض المادّيّة،و أمّا الجزئيّات المجرّدة عنها،فهي تدركها بذاتها.

ثمّ إنّه حيث قلنا بوجود الطبيعة من حيث هي في ضمن وجود الشخص،فتكون هي أيضا في ضمن وجود هذه الصّورة الخاصّة التي ذكرنا حالها،و بتوسّطها موجودة نحو وجودها العينيّ أضعف منه،يترتّب عليها ما يترتّب على وجود تلك الصورة من آثارها المذكورة،حيث إنّ مقتضى القول بوجود الطبيعة من حيث هي في ضمن الفرد،أنّ ما يترتّب على ذلك الفرد من الآثار،يترتّب عليها أيضا بأيّ وجود كان لذلك الفرد،و لذلك تكون تلك الطبيعة في ضمن تلك الصّورة الخاصّة جزئيّة،و إن كانت هي في حدّ ذاتها و من حيث هي لا جزئيّة و لا كلّيّة،و كذا تكون عرضا مثلها و إن كانت هي ماهيّة جوهرا، لأنّ ثبوت هذه الصّفات للطّبيعة من حيث هي في ضمن تلك الصّورة،إنّما هو بالعرض لا بالذّات،فإنّها من حيث ذاتها ليست إلاّ هي،من غير اعتبار أمر آخر معها،كما ذكرنا حالها سابقا.

ثمّ إنّ تلك الماهيّة الحاصلة في العقل إذا أخذت على أنّها مجرّدة عن هذا الوجود العقليّ أيضا كما أنّها مجرّدة عن سائر الوجودات العينيّة الخارجيّة و عن توابعها.

و بالجملة،إذا أخذت بشرط لا شيء بالنّسبة إلى كلّ وجود عينيّ و توابعه،و مع هذا أخذت مقيسة إلى الأشخاص التي تكون لها-إن كان يفرض لها أشخاص-و مقولة عليها، محمولة عليها،مشتركة بين كثيرين،كان لتلك الماهيّة في العقل وجود ذهنيّ،أي وجود

ص:199

أضعف من المراتب السّابقة كلّها،لا يترتّب عليه أثر ما من الآثار المطلوبة منها في الأعيان،و هي بذلك الاعتبار لا تكون إلاّ كلّيّة،و حيث لا يترتّب عليها أثر من الآثار العينيّة فهي لا تكون جوهرا و لا عرضا.

و هذا معنى قول بعضهم:«إنّ الطّبائع الكلّيّة من حيث كلّيّتها و وجودها الذّهنيّ لا تدخل تحت مقولة من المقولات،و من حيث وجودها في النّفس تدخل تحت مقولة الكيف».

و المحصّل أنّ تلك الماهيّة الحاصلة في العقل إن أخذت بشرط وجودها العقليّ الذي هو نحو من الوجود العينيّ و إن كان ضعيفا،و بشرط تشخّصها الذهنيّ و بشرط قيامها بنفس جزئيّة،فهي من هذه الحيثيّة صورة جزئيّة لا كلّيّة،و علم لا معلوم.و كذا هو عرض موجود في الموضوع مطلقا،سواء كانت صورة الجوهر أو صورة العرض.كما أنّ تلك الماهيّة أيضا بشرط وجودها في الخارج وجودا عينيّا من غير جهة وجودها العينيّ في العقل،أي من جهة ما يترتّب عليها جميع الآثار المطلوبة عنها شخص جزئيّ موجود في الخارج،و معلوم لا علم،و هي بحسب ذلك الوجود قد يكون جوهرا و قد يكون عرضا.

و إن أخذت تلك الماهيّة الحاصلة في العقل لا بشرط وجودها العقليّ و تشخّصها الذهنيّ،فهي من هذه الحيثيّة،الماهيّة من حيث هي التي هي في حدّ ذاتها ليست إلاّ هي، إلاّ أنّها تتّصف بالعرض في ضمن تلك الماهيّة الموجودة بالوجود الذّهنيّ بأوصافها و أحوالها،كالوجود العينيّ،و الجزئيّة و العرضيّة سوى وصف كونها علما،فإنّها معلومة لا علم.

كما أنّ تلك الماهيّة المأخوذة في حدّ ذاتها لا بشرط شيء،تتّصف بالعرض في ضمن حقائقها،و الماهيّات الموجودة في الأعيان بحسب الوجود العينيّ الذي يترتّب عليه جميع الآثار المطلوبة منه،غير الوجود العينيّ في العقل،بأوصاف تلك الحقائق كالوجود العينيّ،و الجزئيّة و الجوهريّة أو العرضيّة و المعلوميّة،حيث إنّ اتّصاف الماهيّة من حيث هي بالعرض،بأوصاف الماهيّة الموجودة بالوجود العينيّ،إنّما هو بحسب ذلك الوجود

ص:200

العينيّ خاصّة.

و أمّا إذا أخذت تلك الماهيّة الحاصلة في العقل بشرط لا شيء،أي بشرط عدم أخذ الوجودات العينيّة و توابعها معها،سواء كانت تلك الوجودات خارجيّة أم كانت باعتبار الوجود في العقل،و مع ذلك أخذت مقيسة إلى أفرادها التي تفرض لها و مشتركة بينها.

و بعبارة أخرى إذا أخذت بشرط العموم و بشرط عدم الخصوص،من غير أن تكون أيضا لا بشرط العموم أو الخصوص،فتلك الماهيّة الحاصلة في العقل من هذه الحيثيّة موجودة بالوجود الذّهنيّ الذي لا يترتّب عليه شيء من الآثار و الأحكام العينيّة و الأفاعيل الخارجيّة المطلوبة من تلك الماهيّة بحسب وجودها العينيّ.

و كذلك هي من هذه الحيثيّة لا تتّصف بالجوهريّة و لا بالعرضيّة أصلا،إذ ليس لها وجود عينيّ يترتّب عليه الآثار من هذه الجهة أصلا،حتّى تتّصف بالجوهريّة أو العرضيّة.

و كذلك هي من هذه الجهة كلّيّة لا جزئيّة،و من هذه الحيثيّة تكون جنسا أو نوعا و أمثال ذلك من الأمور الّتي هي معقولات ثانية،و تفرض هي لها بحسب وجودها الذهنيّ،إلاّ أنّها من تلك الحيثيّة معلومة أيضا لا علم.

فتلخّص ممّا ذكرنا،أنّ اختلاف تلك الماهيّة المعقولة بالكلّيّة و الجزئيّة و بالعلم و المعلوميّة و بالجوهريّة و العرضيّة و أمثال ذلك،إنّما هو بالاعتبار لا بالذات،و لا حجر في ذلك،إذ كما أنّ الشيء الواحد يمكن أن يكون باعتبارات مختلفة جنسا و نوعا و مادّة كما علمت فيما سلف،يمكن أن يكون باعتبارات مختلفة متّصفا بالأوصاف المختلفة المتغايرة المذكورة،يدلّ على ما ذكرنا ما حقّقه الشيخ في غير موضع من«الشفاء»،مثل ما ذكره في فصل كون الكلّيّة للطبائع الكلّيّة و غيره،فليطالع ثمّة.و إنّما لم ننقله بعبارته، لكون ذلك موجبا للإطناب،و اللّه أعلم بالصواب.

في الإشارة إلى دفع إشكال آخر هنا

ثمّ إنّك حيث تحقّقت ما حقّقناه و تبيّنت ما حرّرناه في بيان كلام الشيخ هنا في مقام

ص:201

دفع الإشكال المورد في الذّاتيّات و لوازم الوجود الخارجيّ من حيث الوجود الذّهنيّ.

فاعلم أنّ في هذا المقام إشكالا آخر ربّما يورد في لوازم الماهيّات ينبغي التعرّض لدفعه.

بيان الإشكال:أنّه لا يخفى أنّ لوازم الماهيّات كالزّوجيّة للأربعة،و الفرديّة للثّلاثة، سواء قيل بأنّها لوازم الماهيّة من حيث هي،أو بأنّها لوازم الماهيّة بكلا وجوديها،أي الخارجيّ و الذهنيّ،أنّما هي تلزم الماهيّة من حيث وجودها الذّهنيّ أيضا،كما تلزمها من حيث وجودها العينيّ.فالأربعة-مثلا-كما أنّها إذا وجدت في الخارج تلزمها الزّوجيّة و ينتزعها العقل منها،كذلك هي إذا وجدت في الذّهن أيضا تلزمها الزّوجيّة،و ينتزعها العقل منها،لكون الماهيّة في كلا الوجودين واحدة،و اللازم لازما لها فيهما.و كما أنّ محلّ الأربعة بحسب وجودها العينيّ يجب أن يكون متّصفا بها و كذا بالزوجيّة،و كذا محلّ الزّوجيّة بحسب وجودها العينيّ يجب أن يكون موصوفا بها،كذلك محلّهما بحسب وجودهما الذّهنيّ و هو النّفس،يجب أن يكون متّصفا بهما إذا حصلتا فيها،فيلزم أن تكون النفس أربعة و زوجا.و كذا يلزم أن تكون النّفس ثلاثة و فردا إذا حصلت الثّلاثة فيها، فيلزم أن تكون زوجا و فردا معا،و كلّ ذلك باطل بالضّرورة.

و لا يمكن الجواب عن هذا الإشكال بأنّ الأربعة مثلا ماهيّة إذا وجدت في الخارج كانت زوجا،كما ذكر في الجواب عن الإشكال في الجوهر و العرض و لوازم الوجود الخارجيّ،بل في الذّاتيّات أيضا،لأنّ الأربعة بحسب وجودها الذّهنيّ أيضا تلزمها الزّوجيّة،مع أنّه قد ظهر ممّا تقرّر سابقا من أنّ وجودها في الذّهن من حيث حصولها في نفس جزئيّة نوع وجود عينيّ لها.بل نقول على تقدير القول بوجود ماهيّات الأشياء في الذّهن،تكون ماهيّة الممتنع أيضا موجودة فيه إذا حصلت في العقل،فإنّه-كما قرّرت سابقا-و إن لم يكن للممتنع حقيقة موجودة في الخارج،إلاّ أنّ له ماهيّة موجودة في الذّهن، و إذا حصلت في الذّهن و كانت حالّة فيه،يلزم أن يكون محلّها-و هو النّفس-موصوفا بالامتناع،و ذلك باطل بالضّرورة.

ص:202

و بيان الجواب:أنّ الأربعة-مثلا-و إن كانت إذا حصلت في الذّهن أيضا تلزمها الزّوجيّة،إلاّ أنّ اتّصاف محلّها بالأربعيّة أو بالزّوجيّة من جملة آثارها المترتّبة على وجودها العينيّ،فإنّ اتّصاف كلّ محلّ بما حلّ فيه من آثار وجوده العينيّ،و قيام ذلك الحالّ بذلك المحلّ قياما خارجيّا،يترتّب عليه جميع الآثار المطلوبة،و ليس للأربعة و لا للزّوجيّة،بل و لا للثّلاثة و لا للفرديّة و لا للامتناع بحسب وجوداتها في العقل،وجود عينيّ كذلك،و لا قيام خارجيّ،و لذلك لا يتّصف النّفس التي هي محلّ لها بحسب وجودها الذّهنيّ بها أصلا.نعم إنّ لها بحسب حصولها في نفس جزئيّة من حيث حصولها فيها و كونها صورا علميّة،نحوا من الوجود العينيّ الضعيف الذي أثره إنّما هو اتّصاف محلّها بالعلم بها،و هو هنا حاصل بالضّرورة.و أمّا سائر آثار الوجود العينيّ التي من جملتها اتّصاف المحلّ بالحالّ،فلا يترتّب على وجودها في العقل مطلقا.

و بذلك يظهر الجواب عن الإشكال في كلّ لوازم الماهيّات،و كذا في الممتنع،فتدبّر.

و هذا الجواب الذي ذكرنا هو التحقيق في دفع الإشكال،و عليه مدار ما ذكره جمع من الأفاضل:كالسّيّد الشّريف و المحقّق الدّواني و المحشّي الشّيرازيّ من الأجوبة،و إن كانت عبارة بعضهم في ذلك لا تخلو عن خفاء كما يظهر على من راجع كلماتهم.

و أمّا الجواب الذي ذكره الشارح القوشجيّ بالفرق بين الحصول في الذّهن و القيام به، فهو شيء قد تفرّد به،و لا معنى محصّلا له،لأنّ القيام بالذّهن لا معنى له إلاّ الحصول فيه، و كذا الحصول فيه لا معنى له إلاّ القيام به،فالفرق تحكّم.و تفصيل الإيراد عليه لا يسعه المقام.

و هذا الذي ذكرناه كلّه،إنّما هو بيان الجواب عن الإشكال بالوجوه المفصّلة المذكورة،على تقدير القول بحصول الأشياء بأعيانها في الذّهن،كما هو المذهب الحقّ.

و أمّا الجواب عنه على تقدير القول بوجود الأشياء بأشباحها فيه،فهو و إن كان ظاهرا أيضا،لأنّ الموجود في الذهن على هذا القول ليس ماهيّة تلك الأشياء،بل أشباحها و الصّور المخالفة لها في كثير من اللوازم،فلا بعد في أن لا يترتّب عليها ما يترتّب على

ص:203

حقائقها الموجودة في الخارج،و على وجوداتها العينيّة.إلاّ أنّ هذا المذهب لمّا كان مبنيّا على أصل غير أصيل،كما أشرنا إليه فيما سبق،لم نفصّل الجواب على تقديره.

و ظنيّ أنّ القائلين بهذا المذهب كأنّه دعاهم إليه الفرار عن الإشكال بالوجوه المذكورة،و كأنّهم حسبوا أنّها إنّما ترد على تقدير القول بوجود الأشياء بأعيانها في الذهن،دون القول بوجودها بأشباحها فيه،فلذلك ذهبوا إلى ما ذهبوا،و اللّه أعلم بالصّواب.

و حيث انتهى الكلام إلى هذا المقام،فلنرجع إلى شرح كلام الشيخ الذي كنّا بصدد شرحه و تحريره،فنقول:قوله (1):«و الحركة كذلك ماهيّتها (2)أنّها كمال ما بالقوّة،و ليست في العقل حركة بهذه الصّفة»-إلى آخر ما ذكره-بيان نظير لمدّعاه،و ايراد شاهد على أنّ معنى الجوهريّة للجواهر-أي الوجود-لا في موضوع،سواء كان ذاتيّا لها أو عرضيّا لازما لها،لا يبطل بكون وجودها في موضوع في العقل،بل معنى الجوهر و حدّه أنّه سواء كان في العقل أو لم يكن،فإنّ وجوده في الأعيان ليس في موضوع.

و بيان الشهادة أنّه لا سترة في أنّ الحركة ماهيّتها و ما هو المأخوذ في حدّها،أنّها كمال ما بالقوّة،و معناه أنّها إذا وجدت في الأعيان تكون كمالا لما بالقوّة،لا أنّها إذا وجدت في العقل أيضا،تكون من حيث وجودها فيه بهذه الصّفة؛إذ ليست في العقل حركة بهذه الصّفة،حتّى يكون في العقل كمال ما بالقوّة من جهة كذا-مثلا-حتّى يصير ماهيّتها محرّكة للعقل،فإنّه لو كان في العقل حركة بهذه الصّفة،لكانت صفة لمحلّها و هو العقل.فيلزم أن تكون هي محرّكة لمحلّها،و أن يكون محلّها موصوفا بها حقيقة،كما في محالّها التي هي محالّها بحسب الوجود العينيّ،و هي حالّة فيها قائمة بها حلولا عينيّا و قياما خارجيّا.فيلزم أن يكون العقل متحرّكا و موصوفا بالحركة في كلّ مقولة،حتّى في الأين مثلا،و هذا باطل.بل إنّ معنى كون ماهيّة الحركة بهذه الصفة،هو أنّها ماهيّة تكون

ص:204


1- -الشفاء-الإلهيّات140/ و 141. [1]
2- في المصدر:ماهيّتها.

في الأعيان،و بحسب وجودها العينيّ كمالا لما بالقوّة،و إذا حصلت ماهيّتها في العقل، تكون أيضا بهذه الصّفة،بمعنى أنّها في العقل ماهيّة تكون في الأعيان كمالا لما بالقوّة، فليس يختلف كونها في الأعيان و كونها في العقل،فإنّها في كليهما على حكم واحد،حيث إنّها في كليهما ماهيّة توجد في الأعيان كمالا لما بالقوّة.فلو كنّا قلنا:إنّ الحركة ماهيّة تكون كمالا بالقوة في الأين-مثلا-لكلّ شيء يوجد فيه،ثمّ وجدت في النّفس لا كذلك،لم يلزم منه أن تكون حقيقتها مختلفة،بل إنّ حقيقتها كما ذكر متّحدة.و هي أنّها بحسب وجودها العينيّ كمال لما بالقوّة،سواء عقلت أم لم تعقل.

و حيث لا امتناع في ذلك و لا استبعاد فيه في الحركة،كذلك ينبغي أن يكون لا امتناع و لا استبعاد في ذلك في الجوهر.

و قوله (1):«و هذا كقول القائل إنّ حجر المغناطيس حقيقته أنّه حجر يجذب الحديد» -إلى آخر ما ذكره-إيراد نظير آخر و شاهد آخر.مفاده أنّه كما أنّ حقيقة الشيء لا تختلف بحسب اختلاف أحكامه بحسب الوجود العينيّ و الوجود الذهنيّ،إذا كان حكمه يترتّب عليه بحسب وجوده العينيّ،و كان ذلك الحكم لا يختلف بحسب ذلك الوجود كما في الجوهر و الحركة،فكذلك لا يختلف حقيقة الشيء بحسب اختلاف أحكامه في وجوده العينيّ أيضا،إذا كان حكمه الّذي يترتّب عليه بحسب وجوده العينيّ ممّا يكون مشروطا بأمر و مختصّا بحالة مخصوصة.كأن يكون لازما لوجوده الخارجيّ،و يكون ترتّب ذلك الحكم عليه بالفعل مشروطا بشرط،و إن كان من شأنه أن يكون له ذلك الحكم مطلقا، و كان لا يختلف أصلا.

و بيان الشّهادة أنّ قول القائل:إنّ حجر المغناطيس حقيقته أنّه يجذب الحديد،معناه:

أنّه إذا وجد مقارنا لحديد جذبه،فإذا وجد مقارنا لجسميّة كفّ الإنسان و لم يجذبه،و وجد مقارنا لجسميّة حديد فجذبه،فلم يجب أن يقال:إنّه مختلف بالحقيقة في الكفّ و في الحديد؛بل هو في كلّ واحد منهما بصفة واحدة،و هو أنّه حجر من شأنه أن

ص:205


1- -الشفاء- [1]الإلهيّات141/. [2]

يجذب الحديد،فإنّه إذا كان في الكفّ أيضا،كان بهذه الصّفة،كما أنّه إذا كان عند الحديد أيضا،كان بهذه الصفة.

و حيث لا امتناع و لا استبعاد في ذلك بحسب وجود واحد،أعني الوجود الخارجيّ، و كان لا يختلف بذلك حقيقة ذلك الشيء الواحد،كذلك لا امتناع و لا استبعاد في ذلك بحسب الوجودين،أعني الخارجيّ و الذهنيّ،و لا اختلاف حقيقة لذلك الشيء.

و حيث عرفت ذلك،عرفت أنّ حال ماهيّات الأشياء في العقل أيضا بهذه الصّفة، و ليس إذا كانت في العقل في موضوع،فقد بطل أن يكون في العقل ماهيّة ما في الأعيان ليست في موضوع.

و قوله (1):«فإن قيل:قد قلتم إنّ الجوهر هو (2)ماهيّة لا تكون في موضوع أصلا،و قد صيّرتم (3)ماهيّة المعلومات في موضوع.فنقول:قد قلنا:إنّه لا يكون في موضوع (4)أصلا» إيراد و جواب عنه.

و توجيه الإيراد:إنّكم قلتم:إنّ الجوهر هو ماهيّة لا تكون في موضوع أصلا،و قد صيّرتم ماهيّة المعلومات من حيث كونها معلومة موجودة في الذّهن في موضوع،فكيف هذا؟

و توجيه الجواب أنّا حيث قلنا:إنّ الجوهر ما لا يكون بحسب وجوده العينيّ الذي يترتّب عليه جميع الآثار المطلوبة منه في موضوع و الحال أنّ ماهيّة المعلومات الحاصلة في العقل من الجواهر،ليست بحسب ذلك الوجود العينيّ في موضوع،فقد قلنا:إنّ الجوهر ما لا يكون في موضوع أصلا بحسب وجوده العينيّ القويّ المعتبر في جوهريّته،و عرضيّة تلك الماهيّات بحسب وجودها الذهنيّ لا ضير فيها،كما بيّنّا وجهه.

و قوله (5):«فإن قيل:فقد (6)جعلتم ماهيّة الجوهر أنّها تارة تكون عرضا و تارة جوهرا،

ص:206


1- -الشفاء- [1]الإلهيّات142/. [2]
2- في المصدر:الجوهر هو ماهيّة...
3- ماهيّة...
4- موضوع في الأعيان...
5- -الشفاء- [3]الإلهيّات142/. [4]
6- قد جعلتم ماهيّة.

و قد منعتم هذا.فنقول:إنّا منعنا أيضا أن يكون (1)ماهيّة شيء توجد في الأعيان مرّة عرضا و مرّة جوهرا،حتّى تكون في الأعيان تحتاج إلى موضوع ما،و فيها لا تحتاج إلى موضوع البتّة،و لم نمنع أن (2)تكون معقولة تلك الماهيّة عرضا،أي أن تكون موجودة في النّفس لا كجزء».

إيراد آخر و جواب عنه أيضا

توجيه الإيراد:إنّكم حيث جعلتم ماهيّة الجوهر بحسب وجوده العينيّ لا في موضوع، و بحسب وجوده العقليّ الذي هو نوع من الوجود العينيّ في موضوع،فقد جعلتم ماهيّة الجوهر تارة جوهرا و تارة عرضا،فكيف هذا و قد منعتم ذلك؟

و بيان الجواب:إنّا قد منعنا أن يكون ماهيّة الجوهر تارة جوهرا و تارة عرضا بحسب وجود واحد عينيّ قويّ هو المعتبر في جوهريّته،و هو الوجود العينيّ الخارجيّ الذي يترتّب عليه جميع أحكامه و آثاره،مع قطع النّظر عن الوجود العقليّ،و إن كان هو باعتبار ما وجودا عينيّا ضعيفا لا يترتّب عليه جميع آثاره،بل بعضها كما ذكرنا فيما مضى،و لم نمنع أن يكون ماهيّة الجوهر بحسب الوجود العينيّ القويّ الخارجيّ جوهرا،و بحسب الوجود العقليّ-و إن كان هو نوعا من الوجود العينيّ الضعيف-عرضا،أي موجودة في النّفس لا كجزء.

و قوله (3):«و لقائل أن يقول:فماهيّة (4)العقل الفعّال و الجواهر المفارقة أيضا كذا يكون حالها،حتّى يكون المعقول منها عرضا»-إلى آخر ما ذكره-إيراد آخر على ما ذكره.

بيانه:أنّ ما ذكرت من أنّه يمكن أن يكون ماهيّة شيء موجود في الأعيان جوهرا لا يحتاج إلى موضوع،و إن كانت معقولة تلك الماهيّة تصير عرضا،أي أن تكون في النّفس لا كجزء،على تقدير تسليمه،إنّما يسلّم فيما إذا كانت الصّورة العقليّة منها مخالفة،

ص:207


1- في المصدر:تكون ماهيّة...
2- أن يكون معقول تلك الماهيّات يصير عرضا،أي تكون...
3- -الشفاء- [1]الإلهيّات142/. [2]
4- فماهيّة.

-و لو بوجه-للحقيقة الخارجيّة الموجودة في العين؛كأن تكون الصورة العقليّة و الماهيّة المجرّدة ماهيّة منتزعة من أمر أو أمور حاصلة في الأعيان،ينتزعها العقل منها بعد تجريدها عن العوارض المكتنفة تجريدا يتولاّه العقل،كما في المعنى الكلّيّ من الجوهر المنتزع من الجواهر الشّخصيّة العينيّة بعد تجريدها عن العوارض و المشخّصات.

و أمّا فيما لا تكون هناك مخالفة بين الصّورة المعقولة و الحقيقة العينيّة،فلا نسلّم ذلك.و هذا كما في الصورة العقليّة من العقل الفعّال و الجواهر المفارقة،حيث إنّ المعقول منها لا يخالفها،إذ المعقولة منها لذاتها معقولة من غير احتياج إلى تجريد عن العوارض المشخّصة،لأنّها لذاتها مجرّدة عن المادّة و علائقها و عوارضها،لا بتجريد يحتاج أن يتولاّه العقل.

و محصّل الجواب عن هذا الإيراد:أنّ الصّورة العقليّة من العقل الفعّال و الجواهر المجرّدة أيضا مخالفة لحقائقها الخارجيّة،لأنّ الصورة العقليّة منها أيضا عبارة عن ماهيّاتها المجرّدة عن وجوداتها العينيّة،و عن العوارض المكتنفة،كما في الصّورة العقليّة الكلّيّة المنتزعة من الجزئيات المادّيّة،حيث إنّ الشيء بوجوده العينيّ الذي يترتّب عليه آثاره،لا يحصل في الذهن،و إلاّ لكان الذهن خارجا،و لم يحصل فرق بين الموجود العينيّ و الموجود الذهنيّ.

و حينئذ ففي كلتا الصّورتين يجب أن يكون تجريد عن الوجود الخارجيّ و عن تلك العوارض،إلاّ أنّ التجريد عن الوجود الخارجيّ في كلتا الصورتين،إنّما هو بعمل يتولاّه العقل.و أمّا التجريد عن العوارض،فهو في الصّورة الكلّيّة المنتزعة انّما بتعمّل العقل،و في تلك المجرّدات ليس بتعمّله،إذ هي في حدّ ذاتها مجرّدة عنها،بل إنّما هي تحصل في العقل مجرّدة عنها كما هي عليه في الواقع،فيكون قد كفي المئونة في تجريدها.

فعلى هذا،فأصل التجريد مشترك بينهما و هو في تلك الصّور الكلّيّة بالقياس إلى الوجود الخارجيّ و تلك العوارض جميعا بعمل العقل،و في المعقول من تلك الجواهر المجرّدة المفارقة بالنسبة إلى الوجود الخارجيّ بعمل العقل أيضا،و بالنسبة إلى تلك

ص:208

العوارض لا بعمله.و هذا كما أنّ المعقول من الممتنعات و المعدومات في الخارج ليس إلاّ ماهيّاتها المجرّدة عن الوجود الخارجيّ و عن توابعه،و مع ذلك فليس يحتاج العقل إلى عمل في تجريدها عنها،إذ ليس لها وجود عينيّ أصلا حتّى يجرّدها العقل عنه،بل هي إنّما تحصل في العقل مجرّدة عنها على ما هي عليه في الواقع.

فظهر أنّ المعقول من تلك الجواهر المفارقة أيضا يخالف حقيقتها بوجه،كما في تلك الصّور الكلّيّة،فجاز أن تكون حقائقها جواهرا،و المعقول منها عرضا،و حينئذ فلا نقض بالجواهر المجرّدة التي وجودها زائد على ذواتها،و يمكن تجريدها عنه.

نعم لو كان شيء من الأشياء ممّا لا يمكن تجريده عن الوجود الخارجيّ،لأجل كون وجوده عين ذاته،و كون تجريد الشيء عن نفسه ممتنعا،كما فى ذات الواجب تعالى، فليس هناك حقيقة و ماهيّة متغايرتان،بل أنّ ماهيّته عين حقيقته،و هما عين وجوده بالحقيقة،و لا يمكن هناك حصول ماهيّته مجرّدة عن الوجود الخارجيّ في العقل،حتّى يمكن له أن يدركه.و لذلك قالوا:إنّه لا يمكن للعقل إدراك كنه ذاته تعالى،و معناه:أنّه ليس له كنه،حتّى يمكن أن يعقل،إذ الكنه عبارة عن الماهيّة المجرّدة عن الوجود الخارجيّ،و هي منفيّة في شأنه تعالى و تقدّس.لا أنّ له كنها و لا يمكن إدراكه؛فتبصّر.

و هذا الذي ذكرنا هو تلخيص السّؤال و الجواب مع بعض زوائد.

و أمّا تحرير كلام الشيخ فيهما،فهو أنّه لقائل أن يقول:فماهيّة العقل الفعّال و الجواهر المجرّدة المفارقة أيضا يلزم أن يكون حالها-كما ذكرت في الجواهر-غيرها،من كون حقائقها جواهر و المعقول منها عرضا،إلاّ أنّ ذلك لا يصحّ فيها،لأنّ المعقول منها لا يخالفها،لأنّها لذاتها معقولة من غير احتياج إلى تجريد في تعقّلها.و حيث لم يكن هناك اختلاف في الذّات،باعتبار الوجود العينيّ و الذّهنيّ،فمن أين يحصل الاختلاف بالجوهريّة و العرضيّة؟

فنقول في جواب هذا القائل:إنّه ليس الأمر كما ذكرت:من أنّ المعقول منها لا يخالفها؛فإنّ معنى قولنا:«إنّها لذاتها معقولة»هو تعقّل ذاتها بذاتها،و إن لم يعقلها غيرها،

ص:209

و أيضا أنّها مجرّدة عن المادّة و علائقها لذاتها لا بتجريد يحتاج أن يتولاّه العقل.

و أمّا إن قلنا:إنّ هذا المعقول منها يكون من كلّ وجه هي أو مثلها،أو قلنا:إنّه ليس يحتاج إلى وجود المعقول منها،إلاّ أن يوجد ذاتها بهويّتها العينيّة الخارجيّة في النّفس، و تكون تلك الهويّة الخارجيّة هي بعينها صورة علميّة حاصلة للنّفس،فقد أحلنا،أي قلنا قولا محالا،فإنّ ذاتها بوجودها العينيّ مفارقة عن المادّة و عن علائقها،حتّى عن الحصول في شيء و لشيء،و لا يصير نفس ذاتها بوجودها العينيّ صورة لنفس إنسان، و صورة علميّة لها،و لو صارت ذاتها بوجودها العينيّ صورة لنفس،لكانت تلك النّفس قد حصل فيها صورة كلّ شيء،و علمت كلّ شيء بالفعل،إذ ذات العقل الفعّال مثلا بوجوده العينيّ ذات حصل فيها صورة كلّ شيء و عالمة بكلّ شيء.

فإذا حصلت هي بوجودها العينيّ الذي يتبع حصولها حصول ما فيها بأجمعها في نفس،يلزم أن يكون النّفس الحاصلة هي فيها عالمة بكلّ شيء بالفعل و الوجدان يشهد بكذبه.

و أيضا لو كانت كذلك،لكانت تصير ذات العقل الفعّال و الجواهر المجرّدة صورة لنفس واحدة،و تبقى النّفوس الاخرى ليس لها الشيء الذي تعقله،حيث إنّ المفروض أنّه قد استبدّ بها نفس واحدة،و انفردت بحلولها فيها و حصولها لها و بكونها صورة لها، فلم يمكن أن تكون هي صورة لنفوس اخرى،و لا أن تعقلها نفس اخرى غير النّفس العاقلة لها أوّلا.إذ لو أمكن ذلك لأمكن كون شيء واحد بالعدد موجود بوجود عينيّ أصيل منفرد بذاته صورة لموادّ كثيرة كنفوس متعدّدة،لا بأن يؤثّر فيها،بل بأن يكون هو بعينه بوجوده العينيّ الشخصيّ منطبعا في تلك المادة و في أخرى و فى أخرى،و هذا محال بأدنى تأمّل،قد أشرنا إلى امتناعه في الكلام في النّفس و في مواضع أخرى.

نعم لو كان شيء واحد بالعدد صورة لموادّ كثيرة و نفوس متعدّدة،بأن يؤثّر فيها،كان يحصل في كلّ مادة منها و في كلّ نفس من تلك النفوس صورة منتزعة منه،أي ماهيّته المجرّدة عن الوجود العينيّ و عن العلائق المادّية،و تتأثّر تلك المادّة و تلك النّفس عنها

ص:210

و تقبلها.

و بعبارة أخرى أن تنتزع كلّ نفس من تلك النّفوس صورة من ذلك الشيء الواحد بالعدد،و ماهيّة مجرّدة منه،و تحصّلها و تجعلها حاصلة في ذاتها فتقبلها،لكان لا مانع من ذلك و لا استحالة فيه.

و حيث عرفت أنّ ذوات تلك الأشياء-أي العقل الفعّال و الجواهر المجرّدة-لا توجد بوجوداتها العينيّة في النّفس إذا عقلتها،عرفت أنّها عند كونها معقولة إنّما تحصل في النّفس ماهيّاتها المجرّدة عن الوجود العينيّ و عن لواحقه،كما في غيرها من المعقولات،فثبت عندك إذن أنّ تلك الأشياء إنّما تحصل في القوى البشريّة معاني ماهيّاتها المجرّدة،لا ذواتها بوجوداتها الشخصيّة العينيّة،و يكون حكمها كحكم سائر المعقولات من الجواهر التي هي ماهيّات كلّيّة مجرّدة عن الوجود الخارجيّ و عن المادّة و علائقها إلاّ في شيء واحد،و هو أنّ تلك الجواهر المادّيّة تحتاج إلى تقشيرات و تجريدات عن الوجود العينيّ و عن المادّة و عن علائقها حتّى يتجرّد منها تعقّل،و هذه الأشياء و الذوات العقليّة لا تحتاج إلى شيء غير أن يوجد المعنى كما هو فينطبع بها النّفس،أي لا تحتاج إلى تقشير و تجريد عن المادّة و علائقها،لكونها في حدّ ذاتها مجرّدة عنها،و قد كفت النّفس المئونة في تجريده عنها،فتنطبع هي كما هي عليه فيها،و إن كانت تحتاج إلى تجريد عن الوجود العينيّ،كما فى غيرها من المعقولات.

و حيث تحقّقت ما حقّقناه،تبيّنت أنّ هذا الذي قلناه إنّما هو نقض حجّة المحتجّ،أي القائل المذكور الذي ادّعى أنّ المعقول من العقل الفعّال و الجواهر المفارقة لا يخالفها،فلا يجوز أن يكون عرضا،و ليس فيه إثبات ما يذهب إليه.

ثمّ إنّ قول الشيخ (1):«فنقول:إنّ هذه المعقولات سنبيّن من أمرها بعد،أنّ ما كان من الصّور الطبيعيّة و التعليميّات،فليس يجوز أن يقوم مفارقا بذاته».-إلى آخر ما ذكره في الفصل-إعادة بيان لما ذكره قبل،مع زوائد و مزايا،و فيه إشارة إلى أمور.

ص:211


1- -الشفاء- [1]الإلهيّات143/. [2]

منها:أنّ المعقول من الجواهر المفارقة إنّما يكون ماهيّاتها المجرّدة عن الوجود العينيّ و عن المادّة و علائقها.

و منها:أنّ المعقول من الأشياء المادّية التي قيامها بالمادّة بحسب الوجود العينيّ كذلك أيضا،سواء كانت تلك الأشياء بحسب الحدّ أيضا متعلّقة بالمادّة،كالصّور الطبيعيّة، أو لم تكن بحسب الحدود متعلّقة بها،كالتّعليميّات،مثل التقعير و التربيع و التثليث و أمثالها ممّا هو بحسب الحدّ يمكن أن يتصوّر مجرّدا عن المادّة،لكنّه بحسب الوجود الخارجيّ متعلّق بها.و أنّ القول بأنّ الصّور الطبيعيّة و التعليميّات يجوز أن تقوم مفارقة بذاتها،و أنّ العقل ينالها مجرّدة من غير أن يتعرّض لمادّة تقارنها،حيث إنّ العقل لا ينال إلاّ المفارقات عن المادّة-و هي بهذا الاعتبار معلومة-باطل،و هذا القول هو ما حكاه في «الشفاء»عن أقوام من الأوائل؛قال (1):«و ظنّ (2)قوم أنّ القسمة توجب وجود شيء في كلّ شيء،كإنسانين في معنى الإنسانيّة،إنسان فاسد محسوس،و إنسان معقول مفارق أبديّ لا يتغيّر،و جعلوا لكلّ واحد منهما وجودا،فسمّوا الموجود المفارق موجودا (3)مثاليّا، و جعلوا لكلّ واحد من الأمور الطبيعيّة صورة مفارقة هي المعقولة،و إيّاها يتلقّى العقل،إذ كان المعقول أمرا لا يفسد،و كلّ محسوس من هذه فهو فاسد.

و جعلوا العلوم و البراهين تنحو نحو هذه و إيّاها تتناول.و كان المعروف بأفلاطون و معلّمه سقراط يفرطان في هذا الرأي،و يقولون (4):إنّ للإنسانيّة معنى واحدا موجودا تشترك (5)فيه الأشخاص و تبقى (6)مع بطلانها،و ليس هو المعنى المحسوس المتكثّر الفاسد،فهو إذن المعنى المعقول المفارق.

و قوم آخرون لم يروا لهذه الصّورة مفارقة بل لمباديها،و جعلوا الأمور التعليميّة التي تفارق بالحدود مستحقّة للمفارقة بالوجود،و جعلوا ما لا يفارق بالحدّ من الصّور الطبيعيّة لا يفارق بالذّات،و جعلوا الصّور الطبيعيّة إنّما تتولّد بمقارنة تلك الصّور التعليميّة للمادة،

ص:212


1- -الشفاء- [1]الإلهيّات310/ و 311. [2]
2- في المصدر:فظنّ...
3- وجودا مثاليّا...
4- و يقولان...
5- يشترك...
6- و يبقى.

كالتقعير فإنّه معنى تعليميّ،إذا (1)قارن المادة صارت فطوسة،و صار معنى طبيعيّا،و كان للتقعير من حيث هو تعليميّ أن يفارق (2)،و لم يكن له من حيث هو طبيعيّ أن يفارق.

و أمّا أفلاطون فأكثر ميله إلى أنّ الصّور هي المفارقة،و أمّا التعليميّات فإنّها عنده معان بين الصّور (3)و بين المادّيّات،فإنّها،و إن فارقت في الحدّ،فليس يجوز عنده أن يكون بعد قائم لا في مادّة.-إلى آخر ما ذكره في ذلك الفصل-.

و ذكر مذاهب أخرى في ذلك و أبطلها و ناقضها.

و بالجملة،ففيما ذكره هنا إشارة إلى إبطال ما حكاه ثمّة و أبطله،أي إلى أنّ القول بالمثل التي قال بها أفلاطون و غيره،و قالوا أنّها قائمة بالذات مجرّدة عن الموادّ،و هي بهذا الاعتبار معقولة من الأشياء المادّيّة،سواء صورا طبيعيّة أو تعليميّات،باطل كما أبطلناه في موضع آخر،و على تقدير تسليم جواز كونها مفارقة الذّات،فهي أيضا لا يمكن أن تكون بوجودها العينيّ علما و لا معلوما لنا،بل المعقول منها أيضا إنّما هو ماهيّاتها المجرّدة،كما في الذوات المفارقة.

و منها أنّ الصّورة العلميّة الحاصلة من كلّ شيء،مجرّد أو مادّيّ،جوهر أو عرض، فهي عرض في النّفس،كما مرّ.و هذا الذي ذكرنا إنّما هو بيان مقاصده في هذا المقام.

و أمّا تحرير كلامه،فهو أنّ هذه المعقولات مطلقا سنبيّن من أمرها بعد في موضع نبطل فيه المثل الأفلاطونيّة و نحوها،أنّ ما كان من الصّور الطبيعيّة و التعليميّات،فليس يجوز أن يقوم مفارقا بذاته،بل يجب أن يكون هو في وجوده العقليّ و بحسب كونه معلوما في عقل أو في نفس،و ما كان من أشياء مفارقة عن المادّة بحسب وجوده العينيّ كالذوات المجرّدة،فنفس وجود تلك المفارقات مباينة لنا،ليس هو علمنا بها،أي ليس وجودها العقليّ و وجودها من حيث كونها معلومة لنا حاصلة في عقولنا نفس وجودها لنا بوجودها العينيّ،الذي هي بذلك الوجه مباينة لنا،و لا يمكن أن تصير صورة لنفس إنسان كما مرّ،بل يجب أن نتأثّر عنها،أي أن تحصل ماهيّاتها لنا،بحيث يمكن أن تصير صورة

ص:213


1- في المصدر:فإذا قارن...
2- و إن لم يكن...
3- الصّور و المادّيّات.

لنفوسنا،و تقبلها و تتأثّر عنها،فيكون ما نتأثّر عنها،أي تأثرنا عنها و انفعال نفوسنا عنها، أو الشّيء الذي به نتأثّر عنها،أي الصورة العلميّة و الكيفيّة الحاصلة في نفوسنا هو علمنا بها،أي منشأ لحصول العلم بها و انكشافها علينا،و تكون تلك الماهيّة الحاصلة معلومة لنا كالأمر الخارجيّ.و كذلك لو كانت صور مفارقة و تعليميّات مفارقة و جوّزناها،فإنّما يكون علمنا بها هو ما يحصل لنا منها من التأثّر،أو الكيفيّة الحاصلة،و لم تكن أنفسها بحسب وجوداتها العينيّة المفارقة المباينة لنا،توجد لنا منتقلة إلينا،لأنّا قد بيّنا بطلان هذا في مواضع،و قد بيّنا فيما سلف أيضا أنّ الموجود العينيّ بوجوده العينيّ لا يمكن أن يحصل في نفس،و لا أن يصير صورة لنفس،بل الموجود لنا من تلك الصورة المفارقة أيضا-كما في غيرها من الذوات المجرّدة-هي الآثار الحاصلة منها الحاكية لا محالة، و هي ماهيّاتها المجرّدة.

و بالجملة،فتلك الآثار الحاكية لها هي علمنا بها باعتبار،و معلومة لنا باعتبار آخر.

و ذلك إمّا أن يحصل لنا في أبداننا و أجسامنا أو في نفوسنا.

و الأوّل باطل،إذ قد بيّنا في موضعه استحالة حصول ذلك في أبداننا،حيث إنّ الوجود في المادّيّ-من حيث هو موجود في المادّيّ-لا يكون إلاّ مادّيّا،و هذا باطل،إذ قد بيّنا في مواضع-و سنبيّن أيضا-أنّ تلك المعقولات من حيث كونها معقولات مجرّدة عن المادّة،فبقي أنّها تحصل في نفوسنا.

ثمّ نقول:إنّ تلك المعقولات الحاصلة في النّفس،لأنّها في الحقيقة آثار في النّفس لا ذوات تلك الأشياء المعقولة،حيث إنّ ذواتها بوجوداتها لا تحصل للنّفس،و لا أشياء أخرى هي أمثال لتلك الأشياء،قائمة تلك الأمثال بذواتها لا في موادّ بدنيّة أو نفسانيّة.

حيث إنّها لو كانت كذلك،يلزم أن يكون ما لا موضوع له يتكثّر نوعه بلا سبب يتعلّق به بوجه،لأنّ الصّورة العلميّة من حيث كونها صورة علميّة،و إن كانت حاصلة من ذات واحدة،فهي باعتبار تعدّد النّفوس التي هي حاصلة فيها متعدّدة متكثّرة،و إذا كانت قائمة بذاتها لا في موادّ بدنيّة أو نفسانيّة،أي كانت بحيث لا موضوع لها بوجه،يلزم أن يتكثّر

ص:214

نوعها بلا سبب يتعلّق به بوجه،و هو محال كما تبيّن في موضعه.

و حيث كان كذلك،فهي قائمة إمّا في موادّ بدنيّة أو نفسانيّة.

و الأوّل باطل،فبقي أن تكون هي قائمة في موادّ نفسانيّة،أي قائمة في النفس،بحيث كانت النّفس موضوعة لها،فثبت أنّها أعراض في النّفس،و هذا هو المطلوب.و قد تمّ بذلك تحرير كلام الشيخ و اتّضح بيان بعض ما كنّا بصدده،من بيان معنى الإدراك و كيفيّته، و بيان أصناف الإدراكات التي للإنسان و كيفيّة إدراك المعاني الكلّيّة و تعقّل المعقولات.

و منه اتّضح بيان كون المعاني الكلّيّة و المعقولات الحاصلة في النّفس بذاتها مجرّدة عن المادّة و علائقها،و هذا أيضا أحد المقاصد في هذا الباب.

و الحاصل أنّه اتّضح أيضا بما ذكرنا،أنّ ما يحصل في العقل من الأشياء المعقولة إنّما هو ماهيّاتها مجرّدة عن المادّة و عن علائقها،سواء كان ذلك لا بتجريد يتولاّه العقل،بل بوجود المعنى كما هو عليه فيه،كما في المعقول من الذوات المفارقة عن المادّة،و بتجريد يتولاّه العقل،كما في غيرها من المادّيّات.فلا يقتضي ذلك المعقول مطلقا-من حيث هو معقول-ما يقتضيه المادّيّ من حيث هو مادّيّ،من حدّ من الكمّ و الكيف و الوضع و الأين و نظائرها ممّا هو تابع للمادّة.بل الماهيّة المعقولة من حيث هي معقولة مجرّدة عن المادّة و عن تلك اللواحق أجمع،و إن كانت بحسب وجودها العينيّ ممّا يعرضها تلك اللواحق التابعة للمادّة.فالذوات المجرّدة المفارقة إن كان لها وجود في الخارج،فهي كما أنّها في الوجود العينيّ مجرّدة عن المادّة و توابعها،كذلك هي في وجودها العقليّ مجرّدة عنها.إذ المفروض أنّها كما هي عليه منطبعة في النّفس.و كذلك الإنسان مثلا،و إن كان بحسب وجوده العينيّ شخصا جزئيّا محفوفا بالمادّة و عوارضها،لكنّه بحسب وجوده العقليّ ليس كذلك،بل هو أمر كلّيّ مجرّد عنها.لأنّه لو كان في وجوده العقليّ مادّيّا محفوفا بتلك العوارض،أي محفوفا بمقدار معيّن و أين معيّن و كيف معيّن و وضع معيّن و غير ذلك،لم يكن ملائما لما ليس له ذلك،فلا يكون كلّيّا مشتركا بين كثيرين،هذا خلف.

و حيث تحقّقت ما تلوناه عليك،و تبيّنت أنّ الصّورة العقليّة مطلقا يجب أن تكون

ص:215

من حيث وجودها العقليّ مجرّدة عن المادّة و علائقها،تبيّنت أنّ النّفس الناطقة الإنسانيّة التي هي مدركة بذاتها للصّور العقليّة المجرّدة،و هي حاصلة فيها بذاتها،يجب أن تكون هي أيضا مجرّدة عنها مثلها.إذ لو لم تكن هي مجرّدة مثلها،بل كانت مادّيّة محفوفة بعوارض مادّيّة،و لا أقلّ بوضع معيّن،للزم أن تكون الصّورة العقليّة الحالّة فيها بذاتها العارضة لها غير مجرّدة أيضا،لأنّ اختصاص المحلّ بالمقدار المعيّن و الأين المعيّن و الكمّ المعيّن و الكيف المعيّن و الوضع المعيّن يوجب اختصاص الحالّ فيه بذلك،و لا أقلّ باختصاصه بالوضع المعيّن.هذا خلف

و بعبارة أخرى:الصّورة العقليّة ليست بذات وضع،و كلّ حالّ في مادّيّ،جسم أو جسمانيّ،فهو ذو وضع،فليس محلّها-أي النّفس-مادّية،بل مجرّدة عنها مثلها.

و بما ذكرنا تمّ بيان أنّ النّفس الإنسانيّة الناطقة-من حيث هي-مدركة للمعاني العقليّة،مجرّدة عن المادّة و عن توابعها،مثل تلك الصّورة العقليّة،إلاّ أنّ تلك الصّور مجرّدة قائمة بغيرها هو النّفس،و النّفس مجرّدة قائمة بذاتها.و اتّضح البرهان على ذلك، و هو أيضا من مقاصد الباب،بل ما ينتهي إليه المقاصد الأخر.

و لا يخفى عليك أنّ هذا البرهان-على التّقرير الذي قرّرناه-برهان واضح تامّ لا يرد عليه شيء من الاعتراضات التى أوردوها عليه أو يمكن أن تورد.

في الاشارة إلى دفع شكوك و أوهام ربّما يمكن أن

اشارة

تورد على دليل تجرّد النّفس الإنسانيّة الناطقة

مثل ما قيل:إنّ هذا البرهان مبنيّ على أنّ العلم و الإدراك إنّما هو بار تسام صورة المعلوم و المدرك في ذات العالم و المدرك،و هذا غير مسلّم،لجواز أن يكون بانكشاف الأشياء على النّفس من دون ارتسام صورة فيها،بل في مجرّد آخر،فيلاحظها النّفس من هناك،كما تدرك ما انتقش من الجزئيّات في آلاتها.بل يجوز أن يكون العلم مجرّد انكشاف،من غير أن يرتسم صورة شيء في شيء أصلا.

ص:216

فإنّ هذا الاعتراض مندفع عنه،لأنّا قد بيّنّا فيما سبق أنّ العلم بالمعنى المصدريّ و إن كان عبارة عن انكشاف شيء على شيء،لكنّه بمعنى ما يحصل به الانكشاف إنّما هو صورة حاصلة من شيء في شيء.و بيّنّا أيضا هنالك أنّه ما لم يحصل تلك الصّورة الحاصلة،لا يحصل العلم و لا الإدراك مطلقا.إلاّ أنّ الصّورة الحاصلة من الشيء الجزئيّ المادّيّ،إنّما تحصل في آلات النّفس و بتوسّط حصولها فيها و إدراك قواها لها،تكون هي مدركة للنّفس بالإدراك الحصوليّ،إذا أخذ كونها صورة للمعلوم و معلومه،أو بالإدراك الحضوري إذا أخذ كونها علما و حاضرة بذاتها عند النّفس.و الصّورة الحاصلة من المفارق الجزئيّ،و كذا الصّورة العقليّة الكلّيّة،إنّما تحصل في النّفس بذاتها،فما لم تحصل تلك الصّورة الحاصلة المدركة في ذات المدرك،لم يحصل الإدراك.فتلك الصّورة هي الأصل في كونها منشأ للإدراك و العلم،و إن كان يحصل هناك انفعال خاصّ و إضافة خاصّة أو فعل خاصّ أيضا،و لا نناقش في إطلاق اسم العلم أو الإدراك عليها.

فما ذكره هذا القائل،من أنّ العلم يجوز أن يكون بمجرّد انكشاف الأشياء على النّفس من دون ارتسام صورها فيها،بل في مجرّد آخر،أو من دون ارتسام صورة شيء في شيء أصلا،باطل.

و أيضا إنّا لا ننفي أن يكون صور الأشياء مرتسمة في مجرّد آخر كالعقل الفعّال مثلا، فيلاحظها النّفس من هناك،كما في حالة ذهولها عنها و اتّصالها بالعقل الفعّال فيلاحظها فيه،إلاّ أنّا ندّعي أنّها عند ملاحظتها تلك الصورة فيه،تحصل تلك الصّورة كما هي عليه في النّفس باتّصالها به،و هذا معنى ملاحظتها إيّاها من هناك،فتبصّر.

و مثل ما قيل:سلّمنا أنّ العلم بارتسام الصّورة،لكن جاز أن لا تكون تلك الصّورة مساوية للمعلوم في تمام الماهيّة،بل يكون كنقش الفرس على الجدار،و حينئذ لا يكون هذه الصّورة مجرّدة،بل المجرّد ما له هذه الصّورة.و ليس يلزم من اتّصاف هذه الصّورة بالعوارض المادّيّة،أن لا يكون ذو الصّورة مجرّدا عنها،فإنّه أيضا مندفع عنه،حيث إنّ ما ذكره مبنيّ على أنّ تلك الصّورة عبارة عن أشباح الأشياء،كما هو عند القائلين بحصول

ص:217

الأشياء بأشباحها في الذهن.و قد بيّنا بطلان هذا المذهب،و بيّنا أنّ تلك الصورة عبارة عن ماهيّات الأشياء بأعيانها في الذهن مجرّدة عن المادة و عن علائقها،فتذكّر.

و مثل ما قيل:سلّمنا كون تلك الصورة مساوية للمعلوم في تمام الماهيّة،لكن لا نسلّم أنّ اتّصاف النّفس الناطقة بهذه العوارض يقتضي اتّصاف ما يحلّ فيها بها،فإنّ اتّصاف المحلّ بصفة،لا يوجب اتّصاف ما حلّ فيه بها.ألا يرى أنّ الجسم يتّصف بالبياض،مع أنّ الحركة الحالّة فيه لا تتّصف به؟سلّمناه،لكنّ اتّصاف الصورة الحالّة في النفس بهذه العوارض من قبل محلّها،لا ينافي تجرّدها عنها بحسب ذاتها.و بعبارة أخرى،يمكن أن تكون تلك الصورة بالذّات مجرّدة،و بتوسّط محلّها مادّيّة.أي أن يكون كونها مادّيّة بالعرض،كما في الطبيعة من حيث هي،فإنّ طبيعة الإنسان مثلا من حيث هي هي مجرّدة، و هي من حيث وجودها في ضمن الأشخاص الخارجيّة مادّيّة.

و يؤيّد ذلك أنّه إذا جاز أن يكون الشيء بحسب وجوده العينيّ جوهرا،و بحسب وجوده الذّهنيّ عرضا كما ذكرت،فلم لا يجوز أن يكون الشيء بحسب ذاته من حيث هي،أو بحسب ذاته من حيث الوجود العينيّ مجرّدا عن المادّة و توابعها،و بحسب وجوده الذّهنيّ مادّيّا محفوفا بها.

فإنّ هذا الاعتراض أيضا مندفع.

أمّا ما ذكره أوّلا،فلأنّ اتّصاف الحالّ بصفة المحلّ إذا كان من شأن ذلك الحالّ أن يتّصف بتلك الصّفة أو بخلافها بالذات أو بالعرض ممّا لا يمكن إنكاره.و أمّا عدم اتّصاف الحركة بالبياض الذي موضعه الجسم الذي هو محلّها،فإنّما هو لأجل أن ليس من شأن الحركة الاتّصاف بالبياض و لا بخلافه،لا بالذّات و لا بالعرض.

و أمّا ما ذكره أخيرا،فلأنّا قد بيّنّا فيما سبق،أنّ تجرّد الصّورة العقليّة من غير الذّوات المفارقة إنّما هو في العقل،باعتبار تجريد العقل تلك الماهيّة عن المادّة و عن عوارضها، و أنّها بحسب الوجود الخارجيّ مادّيّة و محفوفة بالعوارض المادّيّة،فهي بحسب وجودها الذّهنيّ،و كذا من حيث ذاتها من حيث هي التي هي بهذا الاعتبار حاصلة في العقل،

ص:218

مجرّدة،و بحسب وجودها العينيّ مادّيّة.فكيف يمكن أن يكون الأمر بالعكس؟أي أن يكون تلك الصّورة في العقل مادّيّة،و بحسب وجودها العينيّ مجرّدة،مع أنّ كلّ ذلك خلاف الفرض،بل فيه التناقض.

و بيّنّا أيضا أنّ الصّورة العقليّة من الذّوات المجرّدة،و إن كانت في الوجود العينيّ مجرّدة عن المادّة،إلاّ أنّها في الوجود العقليّ أيضا منطبعة،كما هي عليه في النّفس من غير عروض شائبة مادّية عليها،فكيف يمكن فيها أيضا أن تكون تلك الصّورة بحسب وجودها العقليّ،أي من قبل محلّها مادّيّة؟فإنّ ذلك أيضا خلاف المفروض و مناقض لما تبيّن.

و ممّا ذكرنا يتلخّص برهان آخر على المطلوب.و قد ذكره الشيخ أيضا في «الشفاء»،و هو أنّه:«لا يخفى أنّ النّفس تجرّد المعقولات الحاصلة من المادّيّات عن المادّة و عن علائقها من الكمّ المحدود و الأين و الكيف و الوضع و سائر عوارض المادّة»، فيجب أن ننظر في ذات هذه الصّورة المجرّدة عن الوضع،كيف هي مجرّدة عنه،إمّا بالقياس إلى الشيء المأخوذ منه،أو بالقياس إلى الشيء الآخذ،أعني أنّ وجود هذه الماهيّة المعقولة المتجرّدة عن الوضع،هل هو في الوجود الخارجيّ أو في الوجود المتصوّر في الجوهر العاقل؟و محال أن تقول:إنّها كذلك في الوجود الخارجيّ،لأنّها في الوجود الخارجيّ محفوفة بالعوارض الخارجيّة البتّة،فبقي أن نقول:إنّما هي مفارقة للوضع و الأين و سائر العوارض المادّيّة عند وجودها في العقل،فإذا وجدت في العقل،لم تكن مادّيّة،و بالجملة ذات وضع و بحيث يقع إليها إشارة حسّيّة.فلا يمكن أن تكون حاصلة في شيء مادّيّ من جسم أو مقدار فيه أو نحو ذلك،لأنّ الحاصل في المادّيّ لا يكون إلاّ ذا وضع،هذا خلف.

فثبت أنّ محلّ تلك المعقولات-و هي النّفس الناطقة الإنسانيّة-مجرّدة عن المادّة مثلها،و هو المطلوب.

و بعبارة أخرى أنّ النّفس الناطقة الإنسانيّة تجرّد المعقولات عن المادّة و عوارضها،

ص:219

فتجرّدها إمّا لذاتها من حيث هي ذاتها،أو لما أخذت هي منه،أو من جهة الآخذ.

و الأوّل يوجب أن لا يعتريها شيء من تلك العوارض بحسب وجودها العينيّ أيضا، لأنّ ما بالذّات لا يتخلّف.

و الثاني يستلزم التناقض.

و في الأخير ثبوت المطلوب،و هو وجود المعقولات في شيء غير جسم و جسمانيّ،أي أنّ الجوهر العاقل الذي هو محلّ المعقولات ليس بجسم و لا هو قائم في جسم على أنّه قوّة فيه أو صورة له بوجه.

و هاهنا برهان آخر أيضا على هذا المطلوب،و هو إن كان محلّ المعقولات جسما أو مقدارا من المقادير،فإمّا أن يكون تلك الصّورة المعقولة تحلّ منه شيئا وحدانيّا غير منقسم بوجه،أو تكون إنّما تحلّ منه شيئا منقسما.

و الأوّل باطل،لأنّ الشيء الذي لا ينقسم من الجسم بوجه إنّما هو النقطة،و النقطة لا يمكن أن يكون محلاّ للصّورة المعقولة،لا لأجل أنّ النقطة عرض،و العرض لا يكون محلاّ لشيء،حتّى يرد النّقض بأنّ الخطّ مع كونه عرضا محلّ النقطة،و كذا السطح مع كونه عرضا محلّ للخط،و كذا الجسم التعليميّ مع كونه عرضا محلّ للسّطح،و كذا الحركة مع كونها عرضا هي محلّ للسّرعة و البطء.بل لأجل أنّ الحالّ الذي له وجود منفرد متميّز بالذّات،كالصّورة العلميّة،يجب أن يكون لمحلّه أيضا وجود منفرد متميّز بالذّات.و النقطة ليس لها (1)وجود منفرد كذلك،لأنّه لو كان لها وجود كذلك،لكانت جوهرا فردا،و قد ثبت بطلانه.

و كذلك الثاني باطل،لأنّه إذا كان محلّ الصّورة المعقولة من الجسم شيئا منقسما، يجب أن تكون هي أيضا منقسمة بانقسامه.

و بيان ذلك يقتضي تمهيد مقدّمة مبيّنة في موضعها،و هي أنّ المحلّ قد يكون بحيث لا يقتضي انقسامه انقسام الحالّ،و قد يكون بحيث يقتضي.

ص:220


1- -في الأصل«له»،و الظاهر ما أثبتناه.

و الأوّل هو المحلّ المنقسم إلى أجزاء غير متباينة في الوضع،كالجسم المنقسم إلى جنسه و فصله،و إلى مادّته و صورته.و المحلّ الذي ينقسم إلى أجزاء متباينة في الوضع، و لكن لا يحلّ فيه الحالّ من حيث هو ذلك المحلّ،بل من حيث لحوق طبيعة أخرى به؛ كالخطّ،فإنّ النقطة لا ينقسم بانقسامه لأنّها لا تحلّه من حيث هو خطّ،بل من حيث هو متناه؛و كالسّطح،فإنّ الشكل لا يحلّه من حيث هو سطح،بل من حيث هو ذو نهاية واحدة أو أكثر؛و كالجسم،فإنّ المحاذاة التي هي إضافة ما مثلا،لا تحلّه من حيث هو جسم،بل من حيث وجود جسم آخر على وضع ما منه؛و كالأجزاء فإنّ الوحدة لا تحلّها من حيث هي أجزاء بل من حيث هي مجموع.

و الثّاني هو المحلّ الذي يحلّ فيه شيء من حيث هو ذلك الشيء القابل للقسمة، كالجسم الذي يحلّ فيه السّواد أو الحركة أو المقدار.

و كذلك الحالّ قد يكون بحيث لا يقتضي انقسامه انقسام المحلّ،و قد يكون بحيث يقتضي.

و الأوّل هو الحالّ الذي لا ينقسم إلى أجزاء متباينة في الوضع،كالسّواد المنقسم إلى جنسه و فصله،و كأشياء كثيرة تحلّ محلاّ واحدا معا،كالسّواد و الحركة مثلا،فإنّهما لا يقتضيان بانقسامهما إلى هذين النّوعين انقسام المحلّ إلى جزء أسود غير متحرّك،و إلى جزء متحرّك غير أسود.

و الثّاني هو الحالّ الذي ينقسم إلى أجزاء متباينة في الوضع،كالبلقة،فإنّها تنقسم إلى عرضين متباينين في المحلّ و الوضع.

و بعد تمهيد هذه المقدّمة،نقول:لا يخفى أنّ الصّورة العقليّة التي ذكرنا أنّها كيفيّة حاصلة في العقل،إذا كانت حالّة في شيء منقسم من الجسم،يكون حلولها فيه من حيث هو منقسم،أي إلى أجزاء متباينة في الوضع،أي من حيث أنّ المحلّ هو المحلّ الذي يحلّ فيه شيء من حيث هو ذلك الشيء القابل للقسمة،كالجسم الذي يحلّ فيه السّواد مثلا،لا من حيث لحوق طبيعة أخرى به.و حينئذ يكون انقسام المحلّ إلى أجزاء متباينة في

ص:221

الوضع مستلزما لانقسام الصورة العقليّة إليها.أعني أنّا إذا فرضنا في ذلك المحلّ المنقسم أقساما،عرض للصّورة أن تنقسم أيضا إلى أقسام هي أجزاء لتلك الصّورة.و حينئذ نقول:

لا يخلو إمّا أن تكون الأجزاء أجزاء عينيّة لها،أو أجزاء عقليّة لها.

و الأوّل باطل،إذ الأجزاء العينيّة كيف يجتمع منها موجود عقلي ذهنيّ هو تلك الصورة؟بل يجب أن يكون المجتمع منها موجودا عينيّا مثلها،و هذا ظاهرة.و أيضا لو كانت تلك الأجزاء أجزاء عينيّة،لكانت أجزاء مقداريّة متباينة في الوضع كأجزاء محلّها، فكيف يجتمع منها ما هو شيء مجرّد عن المادّة و عن المقدار و الوضع،كما هو شأن الصّورة العقليّة؟

و الثاني أيضا باطل،إذ الأجزاء العقليّة حينئذ إمّا متشابهة أو غير متشابهة.

و الأوّل باطل،لأنّ الأجزاء المتشابهة ما تكون متّفقة الحقيقة،أعني أن يكون حقيقة كلّ جزء موافقة مع حقيقة الجزء الآخر،و كذا مع حقيقة الكلّ؛فيكون أحد الجزءين حافظا لنوع الصّورة العقليّة،و فيه كفاية للمعقوليّة من غير احتياج إلى الجزء الآخر في ذلك،هذا خلف.

و أيضا لا يكون الجزءان المتشابهان بحيث يحصل منهما مجموع إلاّ بحيث يحصل هناك انضياف و زيادة أحدهما على الآخر،إذ الكلّ من حيث هو كلّ ليس هو الجزء،إلاّ أن يكون ذلك الكلّ شيئا يحصل منهما من جهة الزيادة في المقدار،أو الزيادة في العدد،لا من جهة الصّورة.فحينئذ يكون الصّورة المعقولة معروضة للزيادة و النقصان و الجمع و التفريق و أمثالها،ممّا هو مخصوص بالشيء المادّيّ،و قد فرضناها مجرّدة عن المادّة و عوارضها.

و أيضا لا تكون حينئذ الصّورة المعقولة صورة معقولة،بل خياليّة مثلا،و الحال أنّ الصّورة العقليّة بخلاف الصّورة الحسّيّة و الخياليّة و الوهميّة،حيث إنّ النفس في ملاحظة أجزاء لها،تفتقر إلى ملاحظة أمور جزئية متباينة الوضع،مقارنة لهيئات غريبة مادّيّة، حتّى تكون رسمها و رشمها في ذي وضع و قبول انقسام،لأنّا إذا أحسسنا أو تخيّلنا وجه

ص:222

إنسان مثلا،فلا بدّ من أن يلاحظ النّفس أجزاء له متباينة الوضع،مقارنة لهيئات غريبة مادّيّة،كالعين و الأنف و الفم،فإنّ صورة العين اليمنى تدرك في مادّة أو في جهة لم تحلّ اليسرى فيها،و كذلك اليسرى،فهما متباينتان بالوضع.و أيضا كونهما على بعد مخصوص بينهما،و كون إحداهما في جهة من الأخرى غير جهة الأنف هيئات غريبة مادّيّة تقارنها، و تلك الملاحظة تفتقر إلى أن يكون رسمها الحسيّ و رشمها الخياليّ في ذي وضع و ذي قبول انقسام،أي في شيء مادّيّ،و هذا ظاهر.

و كذا الاحتمال الثّاني،أعني أن يكون أجزاء الصّورة العقليّة أجزاء غير متشابهة، باطل أيضا،لأنّ تلك الأجزاء لا تكون إلاّ أجناسا و فصولا ذاتيّة،كما هو المحقّق في محلّه،و محال أن تنقسم الصّورة العقليّة إلى الأجناس و الفصول بحسب انقسام محلّها،أي الجسم المنقسم إلى الأجزاء المقداريّة،لأنّ كلّ جسم،بل كلّ جزء من جسم يقبل القسمة في القوّة قبولا غير متناه كما حقّق في محلّه،فيجب أن يكون تلك الأجناس و الفصول أيضا في القوّة غير متناهية،و هذا محال.إذ يستلزم امتناع تعقّل كنه الأنواع،لأنّ تعقّله على هذا يتوقّف على تعقّل الامور الغير المتناهية.

و أيضا لو كانت القسمة في الجسم إلى أجزاء مقداريّة متباينة في الوضع تفرز أقساما في الصّورة العقليّة،أي أجناسا و فصولا،لكانت تلك الأجناس و الفصول أيضا متمايزة في الوضع،و هذا باطل،لأنّ الأجناس و الفصول غير متمايزة في الوضع.

و أيضا لو كانت تلك القسمة ممّا تفرز أجناسا و فصولا،فلتكن القسمة ممّا قد وقعت من جهة،فأفرزت من جانب جنسا و من جانب فصلا.فلو غيّرنا القسمة و أوقعناها من جانب آخر،يلزم أن يقع بحسب القسمة الأخيرة في جانب نصف جنس و نصف فصل، و هكذا في الجانب الآخر،أو انتقال الجنس و الفصل إلى القسمين الأخيرين بعد كونهما في القسمين الأوّلين،أعني أن يميل كلّ من الجنس و الفصل إلى القسمين الأخيرين، و يكون فرضنا الوهميّ أو القسمة الفرضيّة يدور بمكان الجنس و الفصل،و كان يجرّ كلّ واحد منهما إلى جهة ما بحسب إرادة مريد من خارج،و كلّ ذلك ممّا لا معنى له.

ص:223

و حيث عرفت ما ذكرنا،و عرفت بطلان جميع تلك الاحتمالات فيما إذا كان محلّ الصّورة العقليّة جسما أو جسمانيّا،عرفت أنّه يجب أن يكون محلّها جوهرا غير جسم و لا جسمانيّ،بل مجرّدا عن المادّة و علائقها مطلقا و هو المطلوب.

و عرفت أيضا أنّ الصّورة العقليّة ممّا لا يمكن أن ينقسم إلى أقسام عينيّة مطلقا،و لا إلى أقسام عقليّة متشابهة مطلقا،و لا إلى أقسام عقليّة غير متشابهة بحسب انقسام محلّها؛ بل إنّ انقسامها إلى الأقسام العقليّة غير المتشابهة،أي إلى الجنس و الفصل،إنّما هو فيما إذا كانت منتزعة من مركّب خارجيّ من مادّة و صورة بحسب انقسام ذلك المنتزع منه إلى المادّة و الصّورة،و فيما إذا كانت منتزعة من غير مركّب،بل من أمر بسيط بحسب تعمّل العقل،لو قلنا بكون الجنس و الفصل له،كما مرّت الإشارة فيما سبق إلى ذلك.

و عرفت أيضا أنّ كلّ معقول من حيث هو معقول،يجب أن يكون مجرّدا عن المادّة و علائقها،و كذا كلّ عاقل من حيث هو عاقل يجب أن يكون مجرّدا عنها،إلاّ أنّ المعقول بالتعقّل الحصوليّ قائم بالغير،و العاقل قائم بالذّات،و إن لم يثبت بذلك أنّ كلّ مجرّد يجب أن يكون عاقلا أو معقولا،لكنّه أيضا ممّا برهن عليه في موضعه.

ثمّ إنّك حيث عرفت أنّ هذه البراهين التي ذكرناها على تجرّد النّفس النّاطقة الإنسانيّة-كما قرّرناها-مبنيّة على إدراك النفس للمعقولات المجرّدة،و على تجرّد تلك المعقولات،و بيّنّا فيما سبق أنّ ذلك الإدراك مخصوص بالنّفس النّاطقة الإنسانيّة دون نفوس سائر الحيوانات،عرفت أنّ هذه البراهين مع دلالتها على تجرّد النفس الإنسانيّة تدلّ على عدم مشاركة نفوس الحيوانات معها في ذلك.

إلاّ أنّه بقي هنا سؤال ينبغي التعرّض للجواب عنه حتّى يتمّ المطلوب.

سؤال و جواب

بيان السؤال:أنّه لقائل أن يقول:إنّ ما ذكرت من الدلائل على تجرّد النّفس التي تبتني على ادراك المعقولات،إنّما تنهض فيما إذا كان هناك إدراك بالفعل للمعقولات لا

ص:224

مطلقا،و حينئذ فتدلّ الدّلائل المذكورة على تجرّد النّفس الإنسانيّة التي هي في مرتبة العقل بالفعل أو المستفاد،لا فيها في المرتبتين الأخيرتين المتقدّمتين.و لو سلّم أنّ النّفس في مرتبة العقل بالملكة أيضا لا تخلو عن إدراك بالفعل للمعقولات،و إن كانت من البديهيّات الأوّليّات كقولنا:الكلّ أعظم من الجزء،و الواحد نصف الاثنين مثلا،فلا سترة في أنّها في مرتبة العقل الهيولانيّ تخلو عن ذلك أيضا،فالدّلائل المذكورة لا تدلّ على تجرّدها إذا كانت في مرتبة العقل الهيولانيّ،و الحال أنّ المقصود تجرّد النّفس الإنسانيّة مطلقا سواء كانت في المرتبة الهيولانيّة أو فيما بعدها من المراتب،كما عقدتم عنوان الباب به.و هذا لا يتمّ بهذه الدلائل.و لذلك كان الحكماء القائلون بتجرّد النّفس الإنسانيّة الذين بنوا على تجرّدها بقاءها بعد خراب البدن،متّفقين على بقاء النّفوس التي صارت عقولها الهيولانيّة عقلا بالفعل بعد خراب البدن،و مختلفين في بقاء النّفوس التي لم تخرج من القوّة إلى الفعل.

فذهب بعضهم كالإسكندر الافريدوسي (1)إلى أنّها تهلك بهلاك البدن،لأنّ دلائل تجرّد النّفس و خصوصا التي تبتني على تصوّر المعقولات،إنّما تنهض في المعقولات بالفعل و المجرّدات بالفعل،لا التي من شأنها التّجريد،و ليس لكلّ أحد أن يدرك معقولا من جهة عقليّة من غير أن يشوب بالحسّ أو الخيال.

و قد نقل صدر الأفاضل عن الشيخ أنّه خالف رأي الإسكندر في أكثر تصانيفه، محتجّا بأنّ الإنسان لا يخلو عن إدراك بعض الأوّليّات،كالواحد نصف الاثنين،و الكلّ أعظم من الجزء،و وافق رأيه في بعض تصانيفه.

و هذا الذي ذكرنا إنّما هو بيان السؤال.

و أمّا بيان الجواب عنه،فهو أنّ مبنى تماميّة الدّليل على تجرّد النّفوس الإنسانيّة، حتّى النّفوس التي في مرتبة العقل الهيولانيّ،على أنّ النّفس الإنسانيّة التي لكلّ إنسان

ص:225


1- -الملل و النحل 433/2،طبع القاهرة، [1]1367 ه.قال:و أومأ(أي الاسكندر الافريدوسي)إلى أنّه لا يبقى للنفس بعد مفارقتها(للبدن)قوّة أصلا،حتّى القوّة العقليّة.

إنّما هي ذات واحدة بالشّخص،و يختلف حالاتها و كمالاتها بحسب مراتبها الأربع:

الهيولانيّة،و بالملكة،و بالمستفاد،و بالفعل.و هذا الاختلاف لا دخل له في اختلاف ذاتها بذاتها،كما سيجيء بيانه.و كذلك مبنيّ على أنّ النّفوس متّحدة بالنّوع و بالحقيقة،مختلفة بالعوارض المشخّصة،كما هو المقرّر عندهم،و سيأتي بيانه فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

و حينئذ نقول:إذا ثبت بالدّلائل المذكورة تجرّد النّفس الإنسانيّة التي في مرتبة العقل بالفعل أو بالمستفاد،يجب أن يثبت ذلك فيها في المرتبتين المتقدّمتين،و كذا في كلّ النّفوس الإنسانيّة،إذ لو كانت النّفس الواحدة التي في المرتبتين المتقدّمتين أو في الهيولانيّة منطبعة في المادّة و فيما بعد ذلك من المراتب مجرّدة عنها،لكانت ذاتا واحدة بالعدد بحسب وجود واحد-أعني الوجود الخارجيّ-متحصّلة القوام بالمادّة تارة، و مستغنية عنها في قوامها و تحصّلها أخرى،و هذا محال بالضرورة.

و كذلك لو كانت نفوس المستكملين مجرّدة عن المادّة في قوامها و نفوس غيرهم كالأطفال و البله و المجانين منطبعة فيها،لم تكن النفوس الإنسانيّة متّحدة في النّوع و الحقيقة،بل مختلفة فيهما،إذ ليس الاختلاف بالتجرّد عن المادّة في القوام و التحصّل و الانطباع فيها،فيهما اختلافا بحسب العوارض حتّى لا ينافي الاتّحاد في الحقيقة،بل إنّ ذلك اختلاف بحسب الحقيقة،أي بحسب الحقيقة التي هي لذلك الشيء بحسب وجوده الخارجيّ،و هذا أيضا خلاف الفرض.

فظهر أنّه كما أنّ الإدراك بالفعل للمعقولات دليل على تجرّد المدرك لها،كذلك كون النّفس بحيث يكون من شأنها إدراك المعقولات،لو لم يكن هناك مانع عنه،كاف في ذلك، كما في نفوس غير المستكملين.و سيظهر لك أنّ كلام الشيخ في«الشّفاء»أيضا يدلّ على ما ذكرنا.

فإن قلت:إنّ ما ذكرته وارد عليك في النّفوس الإنسانيّة الجامعة لمراتب النّفس النباتيّة و الحيوانيّة و الإنسانيّة الناطقة،حيث ذكرت فيما سبق أنّ النّفس واحدة بالذات و بالعدد،مختلفة بحسب الكمالات و الحالات،فتصدر عنها باعتبار قوّة أفعال النباتيّة،

ص:226

و باعتبار قوّة أخرى أفعال الحيوانيّة،و باعتبار قوّة أخرى أفعال الحيوانيّة،و باعتبار قوّة أخرى أفعال الإنسانيّة،مع أنّه عندك أنّ النّفس الإنسانيّة مجرّدة عن المادّة،و أنّ النباتيّة و الحيوانيّة منطبعتان فيها،فيلزم أن يكون ذات واحدة بالعدد بحسب وجود واحد مجرّدة عن المادّة تارة،و مستغنية عنها أخرى،و هذا هو ما ذكرت من المحال.

قلت:إنّا و إن ادّعينا أنّ النّفس الإنسانيّة الجامعة لتلك المراتب واحدة بالذات و بالعدد،إلاّ أنّا لا ندّعي أنّها بحسب الأفعال الإنسانيّة مجرّدة،و بحسب الأفعال النباتيّة و الحيوانيّة منطبعة في المادّة،بل ندّعي أنّ هناك ذاتا واحدة مجرّدة عن المادّة في ذاتها في جميع مراتبها و أحوالها و صفاتها و أفعالها،إلاّ أنّ أفعالها على قسمين:

قسم يصدر عنها بقوّة عقليّة،أي بنفسها منفردة عن غيرها مطلقا،و هو إدراك المعقولات،و هو دليل على تجرّدها.

و قسم يصدر عنها بتوسّط الآلات و القوى المادّية،و هو الأفعال النّباتيّة و الحيوانيّة، و ليس يلزم من كون فعلها تارة بتوسّط الآلة و المادّة أن تكون هي منطبعة في المادّة في ذاتها،بل هي في هذه الأفعال أيضا مجرّدة عن المادّة في ذاتها،و إن كان فعلها بتوسّط الآلة المادّية.كما أنّه لا يلزم من تقدّم أفعالها المادّية على أفعالها الذاتيّة أن تكون هي أوّلا منطبعة في المادّة،ثمّ تصير مجرّدة عنها،لأنّها خلقت بحيث يكون من شأنها أن تدبّر البدن و تتصرّف فيه و تستعمل الآلات فتفعل الأفعال الآليّة أوّلا حتّى تصير بذلك مستكملة،بحيث يمكن لها أن تفعل بعد ذلك الأفعال الذاتيّة التي هي دلائل على تجرّدها،فالاشتغال بالأفعال الآليّة كأنّه مانع عن الاشتغال بالأفعال الذاتيّة باعتبار،و إن كان للأوّل إعانة في الثاني،كما سيأتي تحقيقه،و بذلك تكون أفعالها الآليّة متقدّمة على أفعالها الذّاتيّة.

و هذا بخلاف نفس النّباتات و نفوس الحيوانات الأخر غير الإنسان،فإنّا لمّا لم نجد لنفوس الحيوانات الأخر مثلا فعلا صادرا عنها بنفسها دليلا على تجرّدها،بل وجدنا أنّ كلّ ما يصدر عنها إنّما يصدر بتوسّط الآلة الماديّة،حكمنا بأنّها منطبعة في المادّة،و لو كنّا

ص:227

وجدنا لها فعلا خاصّا صادرا عنها بذاتها دليلا على تجرّدها،لربما حكمنا بتجرّدها أيضا في ذاتها،و أنّ أفعالها الجزئيّة المادّية إنّما هو بتوسّط الآلة كما في النّفس الإنسانيّة،و إذ ليس فليس،فاحفظ هذا التحقيق فإنّه به حقيق.و اللّه تعالى أعلم بالصّواب،و إليه المرجع و المآب.

في الإشارة إلى براهين اخر على هذا المطلوب قد ذكرها القوم

ثمّ إنّك إذا تبيّنت ما بيّنّاه،فاعلم أنّ للقوم على هذا المطلب،أي تجرّد النّفس الإنسانيّة،براهين و حججا كثيرة،غير ما ذكرناها و نقلناها أيضا.

فمنها ما هو مبنيّ أيضا على إدراك النّفس للمعقولات،إلاّ أنّا تركنا نقله مخافة للإطناب،و لأنّ فيما نقلناه غنية لاولي الألباب،و كفاية للمسترشدين الطّالبين للصّواب.

و منها ما هو مبنيّ في الظّاهر على أمور أخر غير ما ذكر،إلاّ أنّ مبنى بعضها عند التّحقيق يرجع إلى ما ذكرنا أيضا.و هذا مثل ما قالوه من أنّ النّفس تقوى على إدراك أمور غير متناهيّة،و أنّ الجسم أو الجسمانيّ ليس يقوى على ذلك.فإنّ هذا البرهان ينبغي أن يؤول بما يستفاد من كلام الحكيم ابن رشد المغربي في جامع الفلسفة من أنّ النّفس تقوى على إدراك الكلّيّ و إدراك أفراده الغير المتناهية و الحكم عليها،و إن كان الحكم عليها على سبيل الكلّيّة و الإجمال دون التفصيل:بخلاف الجسم أو الجسمانيّ،فإنّه لا يقدر على ذلك،فإنّه لو لم ينزّل هذا البرهان على ما ذكر،بل حمل على ظاهره،لكان توجيهه مشكلا كما لا يخفى على المتأمّل.

و إلاّ أنّ بعضا من تلك البراهين و الحجج،بل كثير منها إقناعيّات تفيد الطمأنينة بأنّ النّفس الإنسانيّة من عالم آخر غير ما شاهدناه و علمنا حاله من عالم الأجسام و الجسمانيّات،و إن كان نبذ منها-مع ذلك الإقناع-يفيد القطع بالمطلب أيضا لدى التأمّل الصادق،و لا بأس بنقل جملة منها عسى أن يكون موجبا لزيادة الاطمئنان.

ص:228

فيما ذكره بعض مفسّري كلام أرسطو(هو أبو عليّ أحمد بن محمّد مسكويه)

اشارة

فنقول:ذكر بعض مفسّري كلام أرسطو في مقام إثبات أنّ النّفس الإنسانيّة ليست بجسم و لا عرض و لا مزاج،بل هي جوهر قائم بذاته غير قابل للموت:

أنّ من الأشياء البيّنة الواضحة،أنّ الجسم إذا قبل صورة،لم يمكنه أن يقبل صورة غير ما هي من جنسها إلاّ بعد أن يخلع الصّورة الاولى و يفارقها على التمام.و مثال ذلك أنّ الفضّة إذا قبلت صورة الخاتم،لم يمكنها أن تقبل صورة الكوز-مثلا-إلاّ بعد أن تزول عنها صورة الخاتم و تخلعها خلعا تامّا.و كذلك الشّمع إذا قبل صورة نقش ما لم يمكنه أن يقبل صورة نقش آخر،إلاّ بعد أن يمحو عنه صورة النّقش الأوّل،و يفارقه مفارقة تامّة.

و على هذا حال جميع الأجسام.

و هذه قضيّة صادقة مشهورة لا يحتاج فيها إلى دليل،فإن نحن وجدنا شيئا حاله بالضّدّ من حال الأجسام في المعنى الذي ذكرناه،أعني أنّه يقبل صورا كثيرة من غير أن يبطل شيئا منها،تبيّن لنا أنّه ليس بجسم.فإن بان لنا-مع ذلك-أنّه كلّما كثرت هذه الصّور فيها،ازدادت على قبول غيرها،ثمّ جرى ذلك على هذا النّظام إلى غير نهاية،ازددنا بصيرة و يقينا أنّه ليس بجسم.و النّفس العاقلة هذه صورتها،و تلك أنّها إذا قبلت صورة معقول ما،و ثبتت تلك الصّورة فيها،ازدادت بها قوّة على تصوّر معقول آخر إليها من غير أن تفسد الصّورة الأولى.ثمّ كلّما كثرت صور المعقولات فيها،اقتدرت بها على قبول غيرها،و قويت في هذا القبول قوّة متزايدة بحسب تزايد المعقولات.

ثمّ إنّ من الأمور المسلّمة أنّ الإنسان إنّما يتميّز عن البهائم و غيرها بهذا المعنى الموجود له،لا بتخاطيطه و لا ببدنه و لا بشيء من أشكاله البدنيّة.و من الدليل على أنّ ذلك كذلك،أنّ هذا المعنى هو الذي يقال به:فلان أكثر إنسانيّة من فلان،إذا كان فيه أبين و أظهر.و لو كانت إنسانيّته بالتخاطيط و غيرها من جملة البدن،لكانت إذا تزايدت في إنسان قيل بها:فلان أكثر انسانيّة من فلان،و لسنا نجد الأمر كذلك.

و هذا المعنى الذي ذكرناه يسمّى مرّة نفسا ناطقة،و مرّة قوّة عاقلة،و مرّة قوّة مميّزة،

ص:229

و لسنا نشّاح في الأسماء،فليسمّ بأيّ اسم كان.

و ممّا يدلّ أيضا على أنّ هذا المعنى ليس بجسم،أنّ جميع أعضاء الحيوان من الإنسان و غيره،صغر فيه أم كبر،ظهر منه أم بطن،إنّما هو آلة مستعملة لغرض لم يكن استمرّ إلاّ به،إذ كان البدن كلّه آلات،و لكلّ آلة منها فعل خاصّ،لا يتمّ إلاّ إذا اقتضى مستعملا،كما نجد آلات الصّانع و النّجار و غيرهما.

و ليس يجوز أن يقال:إنّ بعض البدن يستعمل بعضه هذا الاستعمال،لأنّ ذلك البعض الذي يشار إليه و يظنّ أنّه يستعمل الآلات الباقية،هو أيضا آلة أو جزءا من آلة،و جميعها مستعملة،فمستعملها غيرها.و اذا كان مستعملها غيرها و لم يكن جزءا منها،وجب أن يكون غير جسم،ليستمرّ له أن لا يشغل مكان الجسم،و لا يزال آلات الجسميّة موضعها، لأنّه لا يحتاج إلى مكان،و يستعملها كلّها على اختلاف الاغراض المستعملة فيها في حالة واحدة من غير غلط و لا عجز،ليتمّ من الجميع أمر واحد،فإنّ هذه الأحوال ليست أحوال الأجسام،و لا موضوعة في أحكامها.و سنبيّن أنّ هذا المعنى ليس بعرض و لا مزاج إذا ذكرنا الفرق بين العقل و الحسّ فيما يأتي من بعد.

على أنّا نقول هاهنا:إنّ المزاج،و بالجملة الأعراض التي توجد في الجسم،كلّها تابعة للجسم،و التّابع للشّيء هو أخسّ منه و أقلّ حظّا من الوجود،لأنّه لا يوجد إلاّ بوجوده.فإن كان أخسّ منه،فكيف يستخدمه و يستعمله،كما يستعمل الصانح آلته و يصير رئيسا عليه،و متحكّما فيه،و هذا تقبيح شنيع».-انتهى كلامه-

و قد ذكر بعض أهل التحقيق:أنّ كلّ صورة أو صفة حصلت في الجسم بسبب،فإذا زالت عنه و بقي فارقا عنها،يحتاج في استحصالها إلى استئناف سبب أو سببيّة من غير أن يكون مكفيّا بذاته،إذ ليس هذا من شأن الجسم.و من شأن النّفس في الصّور العقليّة أن قد تصير بعد استحصالها من معلّم أو فكر،مكفيّة بذاتها في استرجاعها،فالنّفس تعالت عن أن تكون جرميّة،فهي روحانيّة.

و أيضا أنّ كلّ جوهر مادّي لا يمكن أن تتراكم عليها صور كثيرة فوق واحدة،

ص:230

و العلوم كلّها لا تجتمع في دفتر واحد.

و أمّا النّفس فهي لوح يجتمع فيه علوم شتّى و صنائع تترى،و أخلاق مختلفة و أعراض متفاوتة،فليذعن أنّها دفتر روحانيّ و لوح ملكوتيّ لا تتراكم فيه الصّور كما تتراكم في الهيولى الجسمانيّة،و ربّما تزول عنها هذه الأسباب المؤدّية إلى كمالها،لإقبالها إلى شيء من الأمور العاجليّة عند مرض أو شغل قلب أو همّ أو غمّ يعرض لها،إلاّ أنّه لا يزول عنها بهذه الأمور صورها الكماليّة المستحفظة في ذاتها على الإطلاق أو في خزانتها،لأنّها روحانيّة الشّبح،متعلّقة الوجود بجوهر قدسيّ تختزن فيه صورها الكماليّة بنوع قوّة قريبة من الفعل،و العائق لها عن مشاهدة كمالاتها بعد خروجها عقلا بالفعل ليس أمرا داخليّا،كما في الجواهر و المعاني التي لم تخرج من القوّة إلى الفعل،بل عائقها عن الوصول إلى حاقّ ما لها من السّعادة حجاب خارجيّ احتجبت به ذاتها عن ذاتها،و هو اشتغالها بهذا البدن،و عادتها في الانجذاب إليه بحسب فطرتها الاولى دون الثانية،فإذا ارتفع غبار البدن من بصرها العقليّ و وقع نظرها على ذاتها وجدتها مستكملة بالمعقولات،مشاهدة إيّاها،مستعملة بها.

و بالجملة إذا زال عنها العائق،عادت إلى كمالها بنوع فعل،لا بنوع انفعال،و لهذا يقال لها العقل بالفعل،و إن كان بعد في هذا العالم.

و أمّا الجسم و قواه فلا يمكن له مثل ذلك.ألا ترى أنّ الحواسّ لا يمكن أن يستحفظ في ذاتها صورة و تقبل أخرى،و المعاودة إليها بعد الغيبة بنوع فعل استكفته بذاتها و بمقوّم ذاتها،بل بمثل ما ينشأ منها ابتداء.-انتهى كلامه-

و قد ذكر الشيخ في الإشارات في مقام أنّ النّفس النّاطقة تعقل بذاتها من غير آلة كلاما هذه عبارته (1):«تبصرة:اذا كانت (2)قد استفادت ملكة الاتّصال بالعقل الفعّال،لم يضرّها فقدان الآلات،لأنّها تعقل بذاتها-كما علمت-لا بآلتها،و لو عقلت بآلتها،لكان لا

ص:231


1- -الإشارات 266/3-275. [1]
2- في المصدر:اذا كانت النفس الناطقة قد استفادت.

يعرض للآلة كلال البتّة،إلاّ و يعرض للقوّة (1)كلال كما يعرض لا محالة لقوى الحسّ و الحركة.و لكن ليس يعرض هذا الكلال،بل كثيرا ما يكون (2)القوى الحسّيّة و الحركتيّة في طريق الانحلال،و القوّة العقلية إمّا ثابتة،و إمّا في طريق النموّ و الازدياد.و ليس إذا كان يعرض لها مع كلال الآلة كلال،يجب أن لا يكون لها فعل بنفسها،و ذلك لأنّك علمت أنّ استثناء عين التالي لا ينتج.

و أزيدك بيانا،فأقول:إنّ الشيء (3)إذا عرض له من غيره ما يشغله عن فعل نفسه فليس ذلك دليلا على أن لا فعل له بنفسه (4)،و أمّا إذا وجد قد (5)لا يشغله غيره و لا (6)يحتاج إليه، دلّ على أنّ له فعلا بنفسه».

«زيادة تبصرة:تأمّل أيضا أنّ القوى القائمة بالأبدان بكلّها تكرّر الأفاعيل،لا سيّما القويّة،و خصوصا إذا اتبع (7)فعل فعلا على الفور،فكان الضعيف في مثل تلك الحال غير مشعور به،كالرائحة الضعيفة إثر القويّة،و أفعال القوّة العاقلة قد تكون كثيرا بخلاف ما وصف».

زيادة تبصرة:«ما كان فعله بالآلة،و لم يكن له فعل خاصّ،لم يكن له فعل في الآلة، و لهذا فإنّ القوى الحسّاسة لا تدرك آلاتها بوجه،و لا تدرك إدراكاتها بوجه،فإنّها (8)لا آلات لها إلى آلاتها و إدراكاتها،و لا فعل لها إلاّ بآلاتها.و ليست القوي العقليّة كذلك،فإنّها تعقل كلّ شيء».-انتهى-.

و قد ذكر في«الشّفاء»في مقام أنّ النّفس الإنسانيّة غير مادّيّة (9)،هذه الوجوه مع وجوه اخر أيضا يوجب نقلها الإطناب في الباب.و كذا ذكر الحكيم ابن رشد المغربي في كتابه الموسوم:به«جامع الفلسفة»في مقام أنّ النّفس الإنسانيّة غير هيولانيّة جملة من تلك الوجوه التي ذكرها الشيخ.

ص:232


1- في المصدر:للقوّة العاقلة...
2- ما تكون...
3- الشيء قد يعرض له...
4- في نفسه...
5- و قد لا يشغله...
6- فلا يحتاج فدلّ...
7- اذا اتّبعت فعلا فعلا على الفور،و كان...
8- لأنّها.
9- -الشفاء-الطبيعيّات 187/2 فما بعد،الفصل الثاني من المقالة الخامسة من الفنّ السادس.
شواهد سمعيّة على هذا المطلب

و حيث عرفت ما نقلنا عنهم من الإقناعيّات التي تفيد الطمأنينة في تجرّد النّفس الإنسانيّة،و مع ذلك يفيد بعضها قطعا بالمطلب أيضا،كما يعلم بالتأمّل الصّادق فيما نقلنا.

فاعلم أنّ هاهنا شواهد سمعية أيضا تفيد نوع طمأنينة في هذا المطلب،حيث إنّها تؤذن بشرف النّفس،و كونها من عالم آخر غير عالم الجسم و الجسمانيّات.

أمّا من الكتاب الكريم،فلقوله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (1).

سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمّا لا يَعْلَمُونَ (2) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (3).

و أمّا من الأخبار فكقوله صلى اللّه عليه و آله:

«من عرف نفسه فقد عرف ربّه» (4)

«أعرفكم بنفسه أعرفكم بربّه» (5)

فيما استدلّ به بعض العلماء على نفي تجرّد

النّفس الإنسانيّة مع جواب ذلك الاستدلال

ثمّ إنّك حيث عرفت ذلك،فاعلم أنّ من السّمعيّات ما استدلّ به بعض المتأخرين من العلماء على أنّ النّفس الإنسانيّة غير مجرّدة،و أن لا مجرّد سوى اللّه تعالى،فلا بأس بنقله و كيفيّة الاستدلال به،ثمّ الجواب عنه.

و هو ما رواه الشيخ الكلينيّ(ره)في كتاب التوحيد من«الكافي»عن محمّد بن

ص:233


1- -المؤمنون14/. [1]
2- -يس36/. [2]
3- -التين4/. [3]
4- -بحار الأنوار 32/2؛99/61؛293/69. [4]
5- -روضة الواعظين للفتّال النيسابوريّ 20.

عبد اللّه الخراسانيّ خادم الرضا عليه السلام،قال (1):«دخل رجل من الزنادقة على أبي الحسن عليه السلام،و كان من سؤاله،أنّه قال:رحمك اللّه أوجدني،كيف هو و أين هو؟ فقال:ويلك،إنّ الّذي ذهبت إليه غلط،هو أيّن (2)الأين و كيّف الكيف بلا كيف،فلا يعرف بالكيفوفيّة و لا بأينونيّة،و لا يدرك بحاسّة و لا يقاس بشيء،فقال الرجل:فإذا إنّه لا شيء إذا لم يدرك بحاسّة من الحواسّ،فقال أبو الحسن عليه السلام:ويلك،لمّا عجزت حواسّك عن إدراكه أنكرت ربوبيّته،و نحن إذا عجزت حواسّنا عن إدراكه،أيقنّا أنّه ربّنا،بخلاف شيء من الأشياء-الحديث-.

و قد رواه الشيخ الطبرسيّ(ره)أيضا في كتاب«الاحتجاج» (3)بهذا السند هكذا:قال الزنديق:رحمك اللّه،فأوجدني (4)كيف هو و أين هو؟قال:ويلك،إنّ الّذي ذهبت إليه غلط، هو (5)أيّن الأين،و كان و لا أين،و هو كيّف الكيف،و كان و لا كيف،و لا يعرف بكيفوفيّة و لا بأينونيّة،و لا يدرك بحاسّة (6)من الحواسّ،و لا يقاس بشيء،و قال الرّجل:فإذا إنّه لا شيء إذ لم يدرك بحاسّة من الحواسّ،فقال أبو الحسن عليه السلام:ويلك!لمّا عجزت حواسّك عن إدراكه أنكرت ربوبيّته،و نحن إذا عجزت حواسّنا عن إدراكه،أيقنّا أنّه ربّنا،و أنّه شيء بخلاف الأشياء».

ثمّ ذكره(ره)بعد ذكر سؤال آخر و الجواب عنه:إنّه«قال الرّجل:فلم لا تدركه حاسّة البصر؟قال:للفرق بينه و بين خلقه الذين (7)تدركهم حاسّة الأبصار منهم و من غيرهم،ثمّ هو أجلّ من أن يدركه بصر أو يحيط به وهم أو يضبطه عقل.قال:فحدّه لي.قال:لا حدّ له.

قال:و لم؟قال:لأنّ كلّ محدود متناه،و إذا احتمل التّحديد احتمل الزّيادة (8)و احتمل النّقصان،فهو غير محدود،و لا متزايد و لا متناقص و لا متجزّ (9)و لا متوهّم».-الحديث-.

ص:234


1- -أصول الكافي 61/1،ب 57،ح 3. [1]
2- في المصدر:هو أيّن الأين بلا أين...
3- -الاحتجاج396/، [2]مؤسسة الأعلميّ-بيروت،1403 ه.
4- فأجدني...
5- و هو أيّن...
6- بحاسّة و لا يقاس بشيء،قال الرجل...
7- الذي تدركه...
8- الزيادة،و إذا احتمل الزيادة احتمل النقصان...
9- متجزّي.

و قال الفاضل الجليل مولانا الخليل القزوينيّ(ره)في شرحه على الكافي (1)في [شرح]عبارة الحديث الشريف:«فقال أبو الحسن عليه السلام:ويلك،لمّا عجزت حواسّك عن إدراكه،أنكرت ربوبيّته،و نحن إذا عجزت حواسّنا عن إدراكه،أيقنّا أنّه ربّنا» بهذه العبارة:حاصله منع أنّه إذا لم يدرك بحاسّة كان لا شيء البتّة،أو منع دلالة عدم الإدراك بحاسّة على كونه لا شيئا،مستندا بأنّ لازم أحد النقيضين أو شرطه يستحيل أن يكون ملزوما أو دليلا على الآخر،و عدم الإدراك بحاسّة لازم للربوبيّة،و شرط لليقين بالربوبيّة.و ليس مقصوده عليه السلام أنّ عدم الإدراك بالحواسّ دليل على الصّانعيّة.و لا يخفى أنّ هذا صريح في أنّه لا مجرّد سوى اللّه تعالى،فيبطل قول الزنادقة بتجرّد العقول العشرة و النّفوس النّاطقة.

و في[شرح]قوله عليه السلام:«بخلاف شيء من الأشياء بهذه»العبارة:خبر آخر، لأنّ،«أو»،استئناف بيانيّ،فهو خبر مبتدأ محذوف،أي هو بخلاف.و لمّا كان في الخلاف معنى النفي كان«شيء»نكرة في سياق النفي،أي ليس بينه و بين شيء مشترك ذاتيّ،فلا يمكن أن تدركه الحواسّ كما سيجيء بيانه.-انتهى كلامه ره-.

و قال السّيد الفاضل الرفيع ميرزا رفيع النائينيّ(ره)في حاشيته على الكافي (2)في هذا الحديث بهذه العبارة:قال الرّجل«فإذا إنّه لا شيء»يعني أردت بيان شأن ربّك،فإذا الذي ذكرته يوجب نفيه،لأنّ ما لا يمكن إحساسه لا يكون موجودا.أو المراد أنّه فإذا هو ضعيف الوجود ضعفا يستحقّ أن يقال له:لا شيء؛و قوله عليه السلام«لمّا عجزت حواسّك عن إدراكه»-إلى آخره-أي جعلت تعاليه عن أن يدرك بالحواسّ،و عجزها عن إدراكه دليلا على عدمه أو ضعف (3)وجوده،فأنكرت ربوبيّته،و نحن إذا عرفناه بتعاليه عن أن يدرك بالحواسّ،أيقنّا أنّه ربّنا،بخلاف شيء من الأشياء.أي ليس شيء من الأشياء

ص:235


1- -راجع شرحه الفارسي على الكافي، [1]المسمّى به الصافي 19/1-21،طبع الهند، [2]كتاب التوحيد؛و [3]شرحه العربيّ (مخطوط)و اسمه الشافي. [4]
2- -الحاشية [5]على الكافي للنائينيّ،مخطوط.
3- في المصدر:و ضعف وجوده.

المحسوسة ربّنا،لأنّ كلّ محسوس ذو وضع،و كلّ ذي وضع بالذّات منقسم بالقوّة إلى أجزاء مقداريّة لا إلى نهاية،لاستحالة الجوهر الفرد،و كلّ منقسم إلى أجزاء مقداريّة يكون له أجزاء متشاركة في الماهيّة و مشاركة للكلّ فيها.و كلّ ما يكون كذلك يكون ذا ماهيّة و وجود يصحّ عليها الخلوّ عنه،و كلّ ما يكون كذلك يكون محتاجا إلى مبدأ مغاير له،فلا يكون مبدأ أوّل،بل يكون مخلوقا ذا مبدأ،فما هو مبدأ أوّل لا يصحّ عليه الإحساس.فالتعالي عن الإحساس الذي جعلته مانعا للربوبيّة و باعثا على انكسارك، مصحّح للربوبيّة،و دالّ على اختصاصه بصحّة الربوبيّة بالنّسبة إلى الأشياء التي يصحّ عليها أن تحسّ».-انتهى كلامه(ره)-.

و أقول:ما نقلنا عن الشّارح الجليل(ره)في شرح الحديث الشريف هو بيان الاستدلال به على عدم مجرّد سوى اللّه تعالى.و ما نقلنا عن المحشّي النائيني(ره)قد فهم بعض الفضلاء من تلامذته أنّ فيه دلالة على الجواب عن ذلك الاستدلال،حيث ذكر في قول المحشّي المذكور(ره) (1):«و نحن إذا عرفناه بتعاليه عن أن يدرك بالحواسّ»-إلى آخره-كلاما بهذه العبارة:استدلّ بعض فضلاء الزمان بهذا الحديث الشريف على انحصار التجرّد في اللّه تبارك و تعالى،و أنّ القول بتجرّد النّفس و العقل قول بتعدّد الواجب تعالى عن ذلك،و إذا حمل على ما حمله المحشّي من أنّ المعنى:إنّ ربّنا بخلاف شيء من الأشياء المحسوسة،بجعل الضّمير في«أنّه»للشأن،أو جعله اسم«انّ»و جعل«ربّنا» بدلا أو بيانا منه،لا يبقى للاستدلال وجه.فإنّ مفاد الحديث الشريف:أنّ اللّه تعالى و تقدّس مخالف للمحسوسات و ذوات الأوضاع،و لا يلزم منه أنّ كلّ ما هو كذلك،فهو الربّ تدبّر».-انتهى كلامه-.

و أقول:لا يخفى عليك أنّ توجيه قوله عليه السلام«أيقنّا أنّه ربّنا بخلاف شيء من الأشياء»كما فهمه ذلك البعض،و هو ظاهر عبارة المحشيّ،لا يخلو عن شيء.أمّا أوّلا، فلأنّه مناف لما تضمّنته عبارة الحديث على رواية الشيخ الطبرسيّ(ره)،حيث رواه هكذا:

ص:236


1- -الحاشية على الكافي للنائينيّ،مخطوط.

أيقنّا أنّه ربّنا و أنّه شيء بخلاف الأشياء؛فإنّه صريح فيما حمل الشّارح الجليل العبارة عليه.

و أمّا ثانيا،فلأنّه على تقديره،يكون الحكم المذكور في الشرطيّة المذكورة،أي قوله عليه السلام:و نحن إذا عجزت حواسّنا-إلى آخره-من قبيل إفادة الأمر البديهيّ،إذ يكون مفاده حينئذ:و نحن إذا عجزت حواسّنا عن إدراكه أيقنّا أنّ ربّنا بخلاف الأشياء المحسوسة،أي إذا عجزت حواسّنا عن إدراكه،أيقنّا أنّه تعجز حواسّنا عن إدراكه و أنّه ليس بمحسوس و أنّه بخلاف المحسوسات.و هذا مع كونه إفادة بديهيّة لا تليق بمنصب الإمام عليه السلام،لا يكون فيه دلالة على وجه ظاهر في ردّ إنكار السّائل كما لا يخفى.

فبقي أن يكون توجيه العبارة على ما فهمه الشارح الجليل،و على تقديره يلزم ما ادّعاه،من نفي مجرّد سوى اللّه تعالى،حيث يلزم منه،إذا عجزت حواسّنا عن إدراكه أيقنّا أنّه-أي أنّ ذلك الشيء الذي عجزت حواسّنا عن إدراكه-هو ربّنا،و أنّه بخلاف شيء من الأشياء.إذ لو كان هناك مجرّد غيره تعالى-و الحال أنّ المجرّد،هو ما يعجز الحواسّ عن إدراكه-لكان هو أيضا مشاركا مع اللّه تعالى في هذا الحكم،أي في أنّه ربّنا،و أنّه بخلاف شيء من الأشياء.و خصوصا أنّ كلمة«إذا»في اللغة و في عرف المنطقيّين و إن كانت سورا للجزئية،لكنّها تطلق في العرف العامّ إطلاقا شائعا سورا للكلّيّة،فيلزم تعدّد الواجب تعالى،و هو باطل قطعا.

و حيث عرفت ذلك،فاعلم أنّ جواب ذلك الاستدلال إنّما يظهر بعد شرح الحديث الشريف و تحقيق مفاده،و هو أن يقال:لا يخفى أنّ مفاد عبارة الحديث الشريف أنّ ذلك الزنديق لمّا قال:أوجدني-أي أفدني-كيف هو و أين هو؟أجاب عنه عليه السلام:بأنّ ذلك غلط،لأنّ اللّه تعالى موجد الكيف بلا كيف،و موجد الأين بلا أين؛فكيف يتّصف الخالق الموجد لهما بهما،مع كونه خاليا عنهما في مرتبة ذاته،و كذا في مرتبة إيجاده لهما،فإنّ ذلك الاتّصاف لا سترة في أنّه لم يكن قبل إيجاده لهما،و كذا لا يمكن أن يحصل بعد ذلك؛لأنّه إن كان بعد ذلك متّصفا بهما،فإمّا أن يكون لا لحاجة له إليه،فيكون

ص:237

عبثا،و هو محال على اللّه تعالى.و إمّا أن يكون لحاجة له إليه،فيلزم أن يكون هو تعالى في مرتبة إيجاده لهما ناقصا،و يصير بعد اتّصافه بهما تامّا،و هذا أيضا محال.تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

فبيّن عليه السلام أنّه تعالى لا يعرف بكيفوفيّة و لا بأينونيّة،و زاد عليه بأنّه لا يدرك بحاسّة،أي بحاسّة من الحواسّ الخمس الظّاهرة،و كذا بحاسّة من الحواسّ الباطنة،نظرا إلى ظاهر إطلاق العبارة،أو لا يدرك بحاسة البصر،أي لا يدرك ببصر من الأبصار،نظرا إلى ما فهمه السّائل منه فيما رواه الشيخ الطبرسيّ،حيث روى بعد ذلك:«قال الرّجل:فلم لا تدركه حاسّة البصر؟»و قد ذكر المحشّي النائينيّ(ره) (1):«أنّ الإحساس في اللغة:الإبصار، و قد نقله عن صاحب الغريبين قال:قال في الغريبين في قوله تعالى فَلَمّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ (2)،أي علمه،و هو في اللغة أبصره،ثمّ وضع موضع العلم و الوجود،و منه قوله تعالى هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ (3)أي هل ترى،يقال:هل أحسست فلانا؟أي هل رأيته؟» -انتهى-.

و منه يعلم أنّه يمكن حمل قوله عليه السلام«و لا يدرك بالحواسّ»على أنّه لا يدرك بالقوى الدّرّاكة مطلقا،لا بالحواسّ الظاهرة و لا بالحواسّ الباطنة و لا بالقوّة العقليّة.

و بالجملة،فهذا القول منه عليه السلام،سواء حمل على الأوّل بناء على ظاهر العبارة، أو على الثاني بناء على أنّ المراد بنفي الإدراك بالبصر نفي إدراكه بغيره من الحواسّ أيضا، و إنّما ذكره بخصوصه،لأنّه أظهرها و ألطفها،أو على الثالث بناء على تعميم الإحساس و الحواسّ،كما يستفاد من كلام صاحب الغريبين.إمّا بيان حكم آخر برأسه،غير عدم المعرفة بالكيفوفيّة و الأينونية،أو حكم متفرّع على السّابق،لأنّ كلّ مدرك بالحواسّ لا يخلو عن كيفوفيّة و أينونيّة و لو بوجه،فما كان قد عرى عن ذلك من كلّ وجه،فهو لا

ص:238


1- -الحاشية [1]على الكافي للنائيني،مخطوط.
2- -آل عمران52/. [2]
3- -مريم98/. [3]

يمكن أن يدرك بها.و كذلك كلّ مدرك بالقوّة العاقلة لا يخلو عن كيفوفيّة ما،و إن كان يخلو عن أينونيّة ما،على ما بيّنا فيما سبق حال إدراك القوّة العاقلة لمدركاتها،و الحال أنّ ذاته تعالى منزه عن كيفوفيّة ما مطلقا.

و الحاصل أنّ وجوده تعالى عين ذاته المقدّسة،و لا يمكن للعقل تعرية ذاته عن ذاته حتّى يدركه.

ثمّ زاد عليه السلام على ذلك قوله«و لا يقاس بشيء»أي لا يعرف قدره بمقياس،إذ لا أين له و لا مقدار له حتّى يعرف بمقياس،أو لا يقاس على شيء بمقياس عقليّ أو وهميّ أو حسّيّ،إذ لا نظير له و لا شبيه حتّى يقاس هو عليه بمقياس.

ثمّ إنّ ذلك السّائل لمّا سمع منه عليه السلام ذلك الكلام المتضمّن لأنّه تعالى لا يدرك بالحواسّ و قد حمله على أحد الوجهين الأوّلين،و كان من مذهبه أنّ كلّ موجود يجب أن يكون محسوسا بالحواسّ،و أنّ ما لا يدرك بالحواسّ لا وجود له أصلا،فضلا عن أن يكون ربّا و صانعا،كما نقله ابن سينا في أوّل إلهيّات الإشارات عن قوم من الأوائل و أبطله؛قال (1):قد يغلب على أوهام النّاس أنّ الموجود هو المحسوس،و أنّ ما لا يناله الحسّ بجوهره،ففرض وجوده محال،و أنّ ما لا يتخصّص بوضع (2)أو مكان بذاته كالجسم،أو بسبب ما هو فيه كأحوال الجسم،فلا حظّ له من الوجود-إلى آخر ما ذكره هنالك-.

أو كان من مذهبه أنّ ما لا يدرك بالحواسّ،يكون ضعيف الوجود جدّا يستحقّ أن يقال له:إنّه لا شيء،فكيف يمكن أن يكون صانعا للعالم؟قال:إذا أنّه لا شيء،أي لا يكون موجودا،أو يكون ضعيف الوجود جدّا كاللاشيء،و على التقديرين،فلا يصحّ أن يكون ربّا خالقا للعالم،فنفى عنه الوجود مطلقا حتّى يلزم عنه نفي الربوبيّة،حيث إنّ نفي الأعمّ يستلزم نفي الأخصّ.فيكون معنى قوله:«إذا أنّه لا شيء»،كما قرّر الإمام عليه

ص:239


1- -شرح الإشارات 2/3 و 3. [1]
2- في المصدر:بمكان أو وضع بذاته.

السلام سؤاله،أنّه إذا عجزت الحواسّ عن إدراكه انتفى ربوبيّته،و كانت ربوبيّته منكرة.

و حينئذ فقوله عليه السلام«ويلك لمّا عجزت حواسّك عن إدراكه أنكرت ربوبيّته» بيان لوهمه و منشأ إنكاره،و أنّ مبناه على قضيّة شرطيّة متّصلة لزوميّة،مقدّمها أعني عجز الحواسّ عن إدراكه،مستلزم في وهمه لتاليها،أعني نفي الربوبيّة و إنكارها،حيث إنّه في وهمه مستلزم لنفي الوجود،المستلزم لنفي الربوبيّة.و يكون قوله عليه السلام:و نحن إذا عجزت حواسّنا عن إدراكه أيقنّا أنّه ربّنا،بخلاف شيء من الأشياء-على نسخة الكافي- أو أيقنّا أنّه ربّنا و أنّه شيء بخلاف الأشياء-على نسخة الاحتجاج-إبطالا لذلك الوهم، و ردّا لذلك الإنكار،و بيانا لأنّ عجز الحواسّ عن الإدراك لا ينافي الوجود و الربوبيّة،بل يصحّحهما و يقوّيهما.

فلننظر في كيفيّة دلالة هذا القول من الإمام عليه السلام على ذلك،فنقول:إنّ قوله عليه السلام:و نحن إذا عجزت حواسّنا عن إدراكه أيقنّا أنّه ربّنا-إلى آخره-لا يخفى أنّه قضيّة شرطيّة متّصلة أيضا،و ليست قضيّة اتّفاقية،لا علاقة بين مقدّمها و تاليها،إذ الاتّفاقية هنا لا تؤثّر في إفادة المطلوب شيئا،بل هي قضيّة متّصلة لعلاقة بينهما،و ما تلك العلاقة إلاّ اللزوم بينهما.و حيث كانت لزوميّة،وجب أن يحكم فيها باللزوم بين مقدّمها و تاليها،و مقدّمها و إن كان هو عجز الحواسّ عن إدراكه،لكنّه في الحقيقة هو العلم بعجز الحواسّ عن إدراكه و الإيقان به،كما أنّ تاليها هو الإيقان بأنّه ربّنا و أنّه بخلاف شيء من الأشياء.فكما أنّ اللزوم يجب أنّ يتحقّق بين ذينك العلمين و الإيقانين،كذلك يجب أن يتحقّق أيضا بين المعلومين و المتيقّنين،أي عجز الحواسّ عن إدراكه،و كونه ربّا و بخلاف شيء من الأشياء،فإنّ حصول اللزوم بين العلمين،لا يكون إلاّ إذا حصل اللزوم بين معلوميهما أيضا قطعا،فسواء اعتبر اللزوم بين العلمين،أو بين المعلومين،أو بين أحد المعلومين و بين العلم بمعلوم آخر،كما في ظاهر الحديث الشريف،وجب أن لا يختلف الحال.فلننظر في ذلك حتّى يتّضح المقصود.

فنقول:إذا حكمنا باللزوم بين عجز الحواسّ عن إدراكه و بين كونه ربّنا بخلاف شيء

ص:240

من الأشياء،فإمّا أن يكون ذلك اللزوم بأن يكون المقدّم ملزوما و علّة للتّالي،و التّالي معلولا و لازما له،فهذا مشكل؛لأنّه على هذا يلزم أن يكون الممتنعات و المعدومات أيضا ربّا،حيث إنّها أيضا تعجز الحواسّ عن إدراكها،و على تقدير تخصيص ذلك بما سوى المعدومات و الممتنعات،أي بالأشياء الموجودة التي تعجز الحواسّ عن إدراكها، يلزم أن يكون كثير من الأشياء الممكنة الوجود الموجود في الخارج أو العقل ربّا صانعا للعالم.

أمّا على تقدير تعميم الموجود،بحيث يشمل الموجود في العقل أيضا،فظاهر؛لأنّه لا يخفى أنّ المعاني الكلّيّة موجودات عقليّة،و هي ممّا يعجز الحواسّ عن إدراكها.

و أمّا على تقدير التخصيص بالموجود في الخارج،فكذلك؛لأنّ الكلّيّ الطبيعيّ،أي الطبيعة من حيث هي-على رأي القائلين بوجودها في ضمن أفرادها في الخارج كما هو المذهب الحقّ-موجودة في الخارج،و هي ممّا تعجز الحواسّ عن إدراكها،بل إنّما يدركها العقل خاصّة.و على تقدير عدم القول بوجود الطبيعة من حيث هي في ضمن أفرادها في الخارج-كما هو مذهب بعضهم-فلا يخفى أنّ نفس الحواسّ و القوى الحسّاسة و المشاعر الدرّاكة ممّا هي موجودات عينيّة خارجيّة،و هي ممّا يعجز الحواسّ عن إدراكها،كما هو المتبيّن و المبيّن في محلّه،بل المدرك لها هو العقل،أي النّفس بذاتها إدراكا حضوريّا لكونها آلات لها حاضرة عندها.و الحاصل أنّه لو كان عجز الحواسّ عن الإدراك في الشرطيّة المذكورة علّة و ملزوما للربوبيّة،لزم أن يكون غيره تعالى أيضا ربّا، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

و منه يعلم أنّه لا يمكن أن يكون العلم بهذا المقدّم أيضا علّة و ملزوما للعالم بهذا التالي و لليقين به،أي أن يكون اليقين بعجز الحواسّ عن إدراكه،علّة لليقين بكونه ربّا؛ للزوم ذلك المحذور على تقديره أيضا.

و بالجملة،فيظهر ممّا ذكرنا:أنّه لا يمكن أن يكون مقدّم هذه الشرطيّة دليلا على تاليها،أي دليل لمّ على الصّانعيّة،و كونه ربّا كما اعترف به الشّارح الجليل نفسه أيضا،

ص:241

و حيث بطل احتمال كون مقدّم هذه الشرطيّة علّة و ملزوما لتاليها،فبقي أن يكون معلولا و لازما له،أي أن يكون كونه تعالى ربّا،أو اليقين بكونه ربّا علّة و ملزوما.لكونه ممّا يعجز الحواسّ عن إدراكه أو لليقين بذلك،و هذا لازما له و معلولا له،كما اعترف الشّارح الجليل بأنّ عدم الإدراك بحاسّة لازم للربوبيّة.فلننظر في ذلك.

فنقول:إنّ هذا اللازم في بادي النظر لا يخلو عن أن يكون لازما أخصّ للربوبيّة، أو لازما مساويا لها،أي خاصّة لها أو لازما أعمّ.و الأوّل باطل بالضّرورة،إذ لا معنى للاّزم الأخصّ هنا،و كذا الثاني،إذ اللازم المساوي ما يكون مساويا للملزوم،و أن لا يتحقّق في غيره.فيلزم أنّه أينما تحقّق هذا اللازم-أي عجز الحواسّ عن إدراكه-تحقّق ذلك الملزوم أي الربوبيّة،و قد عرفت بطلانه،حيث عرفت أنّه في كثير المواضع يتحقّق عجز الحواسّ و اليقين به،و لا يتحقّق الربوبيّة و لا اليقين بها،فيظهر أنّه لا يمكن أن يكون لازما مساويا لها،أي أنّه لا يمكن أن يكون عجز الحواسّ عن إدراكه دليلا على الربوبيّة،أي دليل إنّ عليها،كما تضمّن اعتراف الشّارح الجليل:بأنّ عدم الإدراك بالحواسّ ليس دليلا على الصّانعيّة لذلك أيضا،فبقي أن يكون لازما أعمّ.

و على تقديره،يكون عجز الحواسّ عن الإدراك كما يتحقّق في الربّ تعالى شأنه، كذلك يتحقّق في غيره من الأشياء التي تعجز الحواسّ عن إدراكها،أي المجرّدات في ذاتها دون فعلها،كما في النّفس،أو في ذاتها و فعلها جميعا،كالعقول المفارقة إن قلنا بها.

و حينئذ فيكون ردّ إنكار السائل بأنّ عدم الإدراك بالحواسّ لا يمكن أن يكون دليلا على كونه لا شيئا،فإنّ الربّ تعالى شأنه يلزمه أن يكون الحواسّ تعجز عن إدراكه،كما في بعض الاشياء الممكنة الوجود أيضا.

و الحاصل أنّك لمّا عجزت حواسّك عن إدراكه أنكرت ربوبيّته،و نحن إذا عجزت حواسّنا عن إدراكه،أيقنّا أنّه ربّنا،إذ الرّبّ تعالى شأنه لا يكون إلاّ كذلك.و إنّا حيث أيقنّا بسبب ذلك أنّه ربّنا،و الحال أنّ الرّبّ تعالى يكون بخلاف شيء من الأشياء،أيقنّا أيضا أنّه بخلاف شيء من الأشياء،لأنّ هذين اليقينين متلازمان،و عند ذلك يظهر انعكاس

ص:242

الاستدلال،حيث إنّ ما استدلّ به الشّارح الجليل على عدم مجرّد سوى اللّه تعالى،يدلّ على ثبوت مجرّد سواه تعالى.و إنّ ما يتوّهم هنا:من أنّه لو كان مجرّد سواه تعالى،لكان مشاركا معه تعالى في صفة التجرّد فيلزم أن يكون بينهما مشترك ذاتيّ،أو أن يكون ما يختصّ به تعالى موجودا في غيره أيضا،و كلّ منهما محال،فمدفوع،لأنّ عجز الحواسّ عن إدراكه،أو معنى التجرّد،ليس أمرا وجوديّا ذاتيّا له تعالى،بل إنّه أمر عدميّ،و كذلك ليس لازما مساويا له و أمرا يختصّ به تعالى كما عرفت،بل اللازم المساوي للربوبيّة و ما يختصّ بها الذي لا يوجد في غيرها،هو مجموع ما تضمّنه قوله عليه السلام في صدر الحديث على الرّوايتين:فلا يعرف بالكيفوفيّة و لا بأينونيّة،و لا يدرك بحاسّة و لا يقاس بشيء،و كذا مجموع ما تضمّنه قوله عليه السلام بعد ذلك-على رواية الطبرسيّ(ره)-:

هو أجلّ من أن يدركه بصر أو يحيط به وهم أو يضبطه عقل.فإنّ ذلك لازم مساو للربوبيّة لا يتحقّق في غيره تعالى.

و كذلك ما يمكن أن يتوهّم هنا:أنّ التجرّد بمعنى عدم الاحتياج إلى المادّة في القوام، و إن كان معنى عدميّا كما ذكر،إلاّ أنّ معنى القيام بالذّات اللازم للتجرّد أمر وجوديّ.

فلو كان مجرّد سوى اللّه تعالى،يلزم أن يشاركه تعالى في هذا المعنى الوجوديّ.

فمدفوع أيضا،لأنّ هذا المعنى الوجوديّ لا نسلّم أنّه ذاتيّ له تعالى بل عرضيّ، و ليس أيضا عرضيّا لازما مساويا له تعالى،أي خاصّة له،لأنّه يوجد في غيره تعالى أيضا كما في الجسم،حيث إنّ الجسم-أي مجموع الهيولى و الصّورة-قائم بالذّات،غير محتاج إلى المادّة في قوامه و تحصّله،و إن كان جزءاه متحصّلا أحدهما بالآخر.

نعم لو أريد من معنى القيام بالذّات أنّه لا يحتاج في وجوده إلى شيء غيره أصلا، لكان ذلك المعنى مختصّا به تعالى لا يوجد في غيره.و لا نسلّم أنّه لو كان مجرّد سواه تعالى،كان ذلك المعنى متحقّقا فيه أيضا،حتّى يلزم الاشتراك فيما هو مخصوص به تعالى،فإنّ معنى القيام بالذّات في المجرّدات الممكنة أنّها مع احتياجها إلى فاعلها في وجودها لا تحتاج إلى المادّة في قوامها و تحصّلها.

ص:243

بل نقول:إنّ القيام بالذّات له معنيان:

أحدهما أنّه ليس بمحتاج في وجوده و تحصّله إلى غيره مطلقا،و هذا المعنى مختصّ به تعالى ليس يوجد في غيره تعالى،لا في الجسمانيّات و لا في المجرّدات.

و الثاني أنّه مع احتياجه إلى فاعله في ذلك غير محتاج إلى المادّة فيه،و هذا المعنى لا يتحقّق فيه تعالى،و يتحقّق فى غيره ممّا هو كذلك،كالجسم و كالمجرّدات.و كيفما كان،فلا يلزم من وجود مجرّد سواه تعالى،اشتراكه معه في معنى القيام بالذّات،حتّى يلزم الاشتراك فيما هو مختصّ به تعالى،فضلا عن أن يكون هناك اشتراك في ذاتيّ.حيث إنّ القيام بالذّات بكلا المعنيين لا نسلم أنّه أمر ذاتيّ لشيء؛فتبصّر.

و حيث عرفت ما ذكرنا و بيّنا[في]شرح الحديث الشريف،عرفت أنّ الاستدلال به على عدم مجرّد سوى اللّه تعالى في غاية الضّعف،بل أنّه لو أمكن الاستدلال به على شيء،لكان دالاّ على ثبوت مجرّد سواه تعالى كما عرفت.و اللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.

ثمّ اعلم أنّه ربّما ذهب ظنّ بعض من العلماء المتأخّرين (1)إلى الاستدلال على عدم كون مجرّد سوى اللّه تعالى بما تضمّنه الدعاء الذي دعا به سيّد السّاجدين و زين العابدين عليه و على آبائه المعصومين و أولاده الطّاهرين أجمعين أفضل التحيّات و أكمل الصّلوات في التضرّع إلى اللّه تعالى،و هو مذكور في الصّحيفة الكاملة (2)،قال عليه السلام:

«لك يا إلهي وحدانيّة العدد،و ملكة القدرة الصّمد،و فضيلة الحول و القوّة،و درجة العلوّ و الرّفعة،و من سواك مرحوم في عمره،مغلوب على أمره،مقهور على شأنه،مختلف الحالات،متنقّل في الصّفات».

فلا بأس أن ننظر في كيفيّة الاستدلال على المطلوب،ثمّ الجواب عنه.

بيان الاستدلال:انّ ذلك المستدلّ زعم أنّ قوله عليه السلام:«و من سواك مرحوم في عمره»-الى آخره-حيث يدلّ على أنّ من سواه تعالى مطلقا مختلف الحالات متنقّل في

ص:244


1- -و هو بعض الفضلاء القميّين.منه(ره).
2- -الصحيفة السّجاديّة194/ و 195،الدعاء 28،طبع طهران. [1]

الصّفات،يدلّ على نفي مجرّد سواه تعالى،لأنّه لو كان مجرّد سواه تعالى،و الحال أنّ المجرّد على اصول الحكماء غير مختلف الحالات و غير متنقّل في الصّفات،بل أنّ كمالاته بالفعل من كلّ وجه،فلا يكون كلّ من سواه مختلف الحالات متنقّلا في الصّفات، و هذا مخالف لما دلّ عليه قوله عليه السلام.

و بيان الجواب:أنّ هذا لو أجري في النّفس النّاطقة الإنسانيّة فلا يتّجه،لأنّها عند الحكماء و إن كانت مجرّدة بالذّات عن المادّة،لكنّها محتاجة إليها في فعلها و كمالاتها تخرج من القوّة إلى الفعل بتوسّط آلاتها البدنيّة،و لها مراتب و حالات مختلفة و صفات متفاوتة متنقّلة هي من بعضها إلى أخرى،كالمرتبة الهيولانيّة و بالملكة و بالمستفاد،و بالفعل من مراتب العقل النظريّ،و كذا لها مراتب مختلفة و حالات متفاوتة من مراتب العقل العمليّ.و أيّ اختلاف حالات و تنقّل في صفات أعظم من هذا و أظهر منه؟

نعم لو أجري ذلك في العقول المفارقة التي هي على أصول الحكماء مجرّدات في الذّات و الفعل جميعا و كمالاتها بالفعل من كلّ وجه،و قلنا بها،لربّما أمكن اتّجاهه، و مع ذلك يمكن الجواب عنه بأنّ تلك العقول أيضا،حيث إنّها ممكنة الوجود حادثة بالذّات عند الجميع،و بالزّمان و بالدّهر أيضا كما هو الحقّ،و بالجملة فهي ممّا أخرجه الموجد لها عن كتم العدم إلى الوجود،فلها نوع اختلاف في الحالات و نحو تنقّل في الصّفات.و بذلك يمكن أن يصدق عليها أيضا أنّها مختلفة الحالات متنقّلة في الصفات،بخلاف ذاته تعالى،فإنّه لا اختلاف له مطلقا و لا تنقّل في صفته أصلا.و اللّه أعلم بالصّواب و إليه المرجع و المآب.

في الاشارة إلى أنّه باتّضاح الدّليل على تجرّد النّفس

النّاطقة الإنسانية يتّضح الدّليل على جوهريّتها أيضا

و حيث انتهى الكلام إلى هذا المقام،و اتّضح لك الدّليل على تجرّد النّفس الناطقة

ص:245

الإنسانيّة،و اندفع ما يوهم خلافه،و اتّضح الدليل على جوهريّتها أيضا،كما هو أحد المقاصد في الباب،حيث إنّ الموجود الممكن المجرّد عن المادّة في ذاته ليس إلاّ جوهرا موجودا لا في موضوع،كما هو معنى الجوهر على ما عرّفوه،فحريّ بنا أن نصرف عنان العناية إلى صوب المقصود الآخر من مقاصد الباب،أي في أنّ النّفس الإنسانيّة واحدة بالذّات مختلفة بحسب الأفعال و باعتبار المراتب و الحالات،و أنّ لها قوى متعدّدة يختلف أفاعيلها لاختلاف قواها.

في أنّ النّفس الإنسانيّة واحدة بالذّات مختلفة بالاعتبار

اشارة

فنقول:قال الشيخ في«الشّفاء»:فصل في عدّ المذاهب الموروثة عن القدماء في أمر النّفس و أفعالها و أنّها واحدة أو كثيرة،و تصحيح القول الحقّ فيها (1):«إنّ المذاهب (2)في ذات النّفس (3)و أفعالها مختلفة،فمنها قول من زعم:أنّ النّفس ذات واحدة،و إنّما تفعل جميع الأفعال بنفسها باختلاف الآلات.و من هؤلاء من زعم أنّ النّفس عالمة بذاتها،تعلم كلّ شيء،و إنّما تستعمل الحواسّ و الآلات المقرّبة للمدركات منه (4)بسبب أن تتنبّه (5)لما في ذاتها.و منهم من قال:إنّ ذلك على سبيل التذكّر لها،فكأنّها عرض لها عنده إن نسيت.

و من الفرقة الاولى من قال:إنّ النّفس ليست واحدة،بل عدّة،و أنّ النّفس التي في بدن واحد هو مجموع:نفس حسّاسة درّاكة،و نفس غضبيّة،و نفس شهوانيّة،فمن هؤلاء من جعل النّفس الشّهوانيّة هي النّفس الغذائية،و جعل موضعها القلب،و جعل له شهوة الغذاء و التوليد جميعا.و منهم من جعل التوليد لقوّة من هذا الجزء من أجزاء النّفس فائضة إلى الأنثيين في الذّكر و الأنثى.و منهم من جعل النّفس ذاتا واحدة،و تفيض عنها هذه القوى،و يختصّ (6)كلّ قوّة بفعل،و أنّها إنّما تفعل ما تفعله من الامور المذكرة بتوسّط هذه القوى.

ص:246


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 221/2-223،الفصل السابع من المقالة الخامسة من الفنّ السادس.
2- في المصدر:المذاهب المشهورة...
3- و في أفعالها...
4- منها...
5- تتنبّه به...
6- و تختصّ.

فمن قال:إنّ النّفس واحدة فعّالة بذاتها،احتجّ بما سيحتجّ به أصحاب المذهب الأخير (1)ممّا نذكره.ثمّ قال:فإذا كانت واحدة غير جسم،استحالت (2)أن تنقسم في الآلات و تتكثّر،فإنّها حينئذ تتكثّر (3)صورة مادّيّة،و قد ثبت عندهم أنّها جوهر مفارق بقياسات لا حاجة (4)إلى تعدادها هنا.قالوا:فهي بنفسها تفعل ما تفعل بآلات مختلفة.

و الذين قالوا من هؤلاء:إنّ النّفس علاّمة بذاتها،احتجّوا و قالوا:لأنّها إن كانت جاهلة عادمة للمعلوم (5)،فإمّا أن يكون ذلك لها لجوهرها أو يكون عارضا لها،فإن كان لجوهرها استحال أن تعلم البتّة،و إن كان عارضا لها،فالعارض يعرض على الأمر الموجود للشيء، فيكون موجودا للنّفس أن تعلم الأشياء،لكن عرض لها إن جهلت بسبب،فيكون السّبب إنّما يتسبّب للجهل لا للعلم.فإذا رفعنا الأسباب العارضة،بقي لها الأمر الذي في ذاتها.ثمّ إذا كان الأمر الذي لها في ذاتها هو أن تعلم،فكيف يجوز أن يعرض لها بسبب من الأسباب أن تصير لا تعلم و هي بسيطة روحانيّة لا تنفعل،بل يجوز أن يكون عندها العلم و تكون معرضة عنه مشغولة إذا نبّهت علمت،و كان معنى التنبيه ردّها إلى ذاتها و إلى حال طبيعتها،فصادفت (6)نفسها عالمة بكلّ شيء.

و أمّا أصحاب الذكر (7)،فإنّهم احتجّوا و قالوا:إنّه لو لم تكن النّفس علمت وقتا ما تجهله الآن و تطلبه،لكان (8)إذا ظفرت به لم تعلم أنّه المطلوب،كطالب العبد الآبق،و قد فرغنا (9)من ذكر هذا في موضع آخر و عن نقضه.

و الذين كثّروا النّفس،فقد احتجّوا و قالوا:كيف يمكننا أن نقول:إنّ الأنفس كلّها نفس واحدة،و نحن نجد النبات و لها (10)النّفس الشهوانيّة،أعني الّتي ذكرناها في هذا القبيل (11)و ليس لها الفصل المميّز،فتكون لا محالة هذه النّفس شيئا منفردا بذاته،دون تلك (12)النّفس الحسّاسة المذكورة،ثمّ نجد الحيوان،و لها (13)هذه النّفس الحسّاسة الغضبيّة،و لا

ص:247


1- في المصدر:المذهب الآخر...
2- استحال...
3- تصير...
4- لا حاجة لنا...
5- عادمة للعلوم...
6- فتصادف...
7- أصحاب التذكّر...
8- لكانت...
9- فرغنا عن...
10- و له...
11- في هذا الفصل و ليس له النّفس المدركة الحاسّة،فتكون لا محالة النّفس هذه شيئا...
12- دون تلك النفس،ثمّ...
13- و له.

يكون (1)هناك النّفس النطقيّة أصلا،فتكون هذه الأنفس البهيميّة نفسا على حدة.

و إذا اجتمعت هذه الأمور في الإنسان،علمنا أنّه قد اجتمع فيه أنفس متباينة (2)الذوات،قد يفارق بعضها بعضا،فلذلك يختصّ (3)كلّ واحدة منها بموضع،فيكون للمميّزة الدّماغ،و يكون للغضبيّة الحيوانيّة القلب،و يكون للشهوانيّة الكبد.

فهذه هي المذاهب المشهورة في أمر النّفس،و ليس بصحيح (4)منها إلاّ المذهب الأخير ممّا عدّ أوّلا،فلنبيّن صحّته،ثمّ نقبل على حلّ الشبهة التي أوردوها».

ثمّ إنّه ساق الكلام في تصحيح ما رام تصحيحه،و في إبطال المذاهب الأخر و نقض احتجاجاتهم عليها بوجوه كثيرة،سنذكر نحن فيما سيأتي حاصلها و بيانها مع زوائد و فوائد استفدناها من كلمات الحكماء و سنحت بالبال جملة منها،فنقول:

إنّ القول بوحدة النّفس،أي القول بكون المدبّر في البدن المتصرّف فيه و في أجزائه -كما هو معنى النّفس عندهم-واحدا وحدة بالذات،كأنّه بديهيّ لا يحتاج إلى دليل و برهان،فإنّ كلّ أحد إذا كان سليم الفطرة و راجع إلى وجدانه،يجد من نفسه أنّ المدبّر في بدنه المتصرّف فيه ليس متكثّرا متعدّدا بالذات،بل واحد بالعدد بالذّات،و هو الذي يعبّر عنه بقولنا:أنا أو أنت.و لو جاز التشكّك في هذا لجاز التشكّك في أنّ الإنسان الواحد إنسان متعدّد.فعلى هذا،فالذين تشكّكوا فيه و قالوا بتكثير النّفوس في الإنسان الواحد، فتشكّكهم فيه كأنّه تشكّك في أمر بديهيّ،و هو لا ينبغي أن يلتفت إليه.نعم،لو أرادوا بذلك التكثّر تكثّر قوى نفس واحدة،لكان لذلك وجه،على ما سيأتي تحقيقه.ثمّ إنّه حيث كان هذا الحكم بديهيّا أو في حكمه،فما ذكره القوم دليلا عليه كأنّه تنبيه عليه، و نحن نذكر من ذلك وجهين يفيدان الاطمئنان،و قد سبقت في الأبواب السابقة إشارة ما إليهما.

الوجه الأوّل

إنّه لا سترة في أنّه يصحّ لك أن تقول:أنا قعدت و أنا قمت و أنا جئت و أنا ذهبت و أنا

ص:248


1- في المصدر:و لا تكون...
2- متباينة مختلفة الذوات...
3- تختصّ...
4- يصحّ.

أكلت و أنا شربت و أنا دخلت و أنا خرجت،إلى غير ذلك من الأفاعيل و الحركات و السّكنات التي هي-لا محالة-خاصّة بالجسم،مختصّة بالمادّة،و أنت تنسبها إلى ذاتك و تدّعيها لنفسك.فهذه إمّا مجازات-كما يلوح من كلام بعضهم كصاحب المطارحات- بناء على أنّ هذه أفعال بدنيّة،و أنت تنسبها إلى نفسك لعلاقة المصاحبة و المحبوبيّة،مثلا كما أنّ زيدا مثلا قد ينسب فعل عمرو إذا أحبّه إلى نفسه،فهذا باطل بالضّرورة،لأنّا نعلم قطعا أنّ هذه الإسنادات ليست بمجازات،بل حقائق،فإنّها من قبيل إنّ الجسم إذا جاء، جاء معه لونه المصاحب له حقيقة لكن بالعرض.و منه يظهر وحدة النّفس،حيث إنّ الفاعل في الكلّ واحد.بل يظهر أيضا كما ادّعاه بعضهم تجرّدها عن المادّة بالذات، و كونها مع ذلك موسّخة بأوساخ المادّة و متدرّنة بخبائث الطبيعة من العادات الدنيّة و الملكات الخسيسة و الصّفات الرذيلة،فصارت من العالم الوسط الذي بين عالم المادّة و عالم المجرّدات المحضة،حتّى تتطهّر-باتّباع الأحكام الدينيّة و سلوك الشرائع الإلهيّة و إطاعة أنبياء اللّه تعالى و خلفائه-عن هذه الأوساخ الخسيسة،و تنفض عن ذيل قدسها هذه الآثار الطبيعية،فتجرّد بالكلية عن هذا العالم الدنيويّ الخسيس،و تتدرّج إلى العالم الأعلى الشريف،فتنجو من هذا السّجن و تصير مجرّدة بالفعل.وفّقنا اللّه تعالى لهذا بمنّه و فضله بحقّ محمّد و آله الطّاهرين.

و كذلك لا سترة في أنّه يصحّ لك أن تقول:أنا اشتهيت و تغذّيت-ممّا هو من أفعال النّفس النباتيّة-و أنا أحسست و غضبت-ممّا هو من أفعال النّفس الحيوانيّة-و أنا أدركت و تعقّلت-ممّا هو من أفعال النّفس الإنسانيّة-فهذه أيضا إمّا مجازات لعلاقة المصاحبة مثلا،فهو باطل كما مرّ،فبقي أن تكون حقائق و فيه المطلوب.بل أن تقول:أنا اشتهيت فأحسست فتغذّيت،و أنا أحسست فاشتهيت،و أحسست فغضبت،و أدركت فحرّكت، إلى غير ذلك من العبارات التي تجعل فيها فعل بعض هذه النفوس الثلاثة سببا لفعل أخرى منها،و تدّعي أنّ المبدأ للكلّ أنت نفسك و أنت شاعر به،و لا يخفى أنّ فيه تنبيها واضحا على المطلوب عند ذي فطرة سليمة.

ص:249

الوجه الثّاني

إنّا نجد من أنفسنا أنّ أفعال النّفوس الثلاثة و قواها قد يضعف بعضها بعضا،و قد يقوّي بعضها بعضا،و قد يستعمل بعضها بعضا،و قد يشتغل بعضها عن بعض،و قد يحرّك بعضها إلى بعض،و قد يمنع بعضها عن بعض،و قد يردّ بعضها إلى بعض.

و ذلك كما نجد من أنّ الفرح النطقي-الّذي هو من فعل النّفس الإنسانية،و ذلك عند استشعارها بقضايا تحبّها محبّة ليست ببدنيّة-يؤثّر في القوّة النّامية و في فعل النّفس النباتيّة،فيفيدها شدّة و نفاذا في فعلها،و أنّ الألم النطقيّ-الذي هو من فعل النّفس الإنسانيّة أيضا،و ذلك عند استشعارها بقضايا تكرهها كراهة ليست ببدنيّة أيضا-يؤثّر في فعل النّفس النباتيّة و في القوّة النّامية،فيكون سببا لضعفها و عجزها حتّى يفسد فعلها، و ربّما انتقض المزاج به انتقاضا.

و كما نجد من أنّ الفرح الحسّيّ أو الألم الحسّيّ-اللذين هما من أفعال النّفس الحيوانيّة،و ذلك عند إدراكها للأشياء الملذّة أو المؤلمة،مثل إبصارها للصّور الحسنة أو القبيحة أو استماعها للأصوات الموافقة أو المنافرة-يؤثّران في فعل النامية قوّة أو ضعفا.و كما نجد من أنّ قوّة القوّة النّامية أو ضعفها تؤثّران في فعل الحيوانيّة و قواها قوّة أو ضعفا،بل في فعل الإنسانيّة أيضا.فإنّ من كان صحيح المزاج و البنية،يكون فعل حواسّه و كذا فعل قوّته العاقلة أتمّ و أكمل،و أنّ من كان عليل المزاج و البنية،يكون بعكس ذلك.

و كما نجد من أنّ قوّة الأفعال الحيوانيّة أو ضعفها قد يؤثّران في قوّة النّفس الإنسانيّة أو ضعفها و إن لم يكن ذلك كلّيّا و لا أكثريّا.

و كما نجد من أنّ القوّة النباتيّة قد تستعمل القوّة الحيوانيّة أو الإنسانيّة،و ذلك كما يكون عند التغذّي مثلا،فيلاحظ أوّلا بالقوّة الحيوانيّة أو الإنسانيّة كون ذلك الغذاء ملائما أو منافرا،فتدرك ذلك إمّا بالحواس أو بالحكم العقليّ حتّى تتغذّى به أو تتركه.

و كما نجد من أنّ إدراك الأشياء الملائمة قد يثير الشهوة،و أنّ إدراك الأشياء المنافرة

ص:250

يمنعها.

و كما نجد من أنّ القوى الحيوانيّة تعين النّفس الناطقة في أشياء:منها أن يورد الحسّ الجزئيّات فتحصل لها من الجزئيّات أمور أربعة:

أحدها انتزاع الذهن الكلّيّات المفردة عن الجزئيّات على سبيل تجريد لمعانيها عن المادّة و عن علائقها،و مراعاة المشترك فيه و المتباين به و الذاتيّ و العرضيّ،فتحدث للنّفس من ذلك مبادي التّصوّر،و ذلك بمعاونة استعمال الخيال و الوهم.

و الثاني بإيقاع مناسبات بين هذه الكلّيّات على سلب و إيجاب،فما كان التّأليف منها بسلب أو إيجاب أوّليّا بيّنا بنفسه،أخذه،و ما كان ليس كذلك يتركه إلى مصادفة الواسطة.

و الثالث تحصيل المقدّمات التجربيّة،و هو أن يجد محمولا لازم الحكم لموضوع ما، كان حكمه إيجابا أو سلبا،أو تاليا موجب الاتّصال أو مسلوبه،أو موجب العناد أو مسلوبه.

و الرابع الأخبار التي يقع فيها التصديق لشدّة التواتر،فإنّ النّفس الإنسانيّة تستعين بالبدن و بالقوى الحيوانيّة البدنيّة،لتحصيل هذه المبادي للتّصوّر و التّصديق.ثمّ إذا حصلتها رجعت إلى ذاتها،فإن عرض لها شيء من القوى التي دونها شاغلة إيّاها بما يليها من الأحوال،شغلتها عن فعلها أو أضرّت بفعلها،و إن لم تشغلها فلا تحتاج إليها بعد ذلك في خاصّ أفعالها،و إلاّ في أمور تحتاج فيها خاصّة إلى أن تعاود القوى الخياليّة مرّة اخرى،و ذلك لاقتناص مبدأ غير الذي حصل.و هذا ممّا يقع في الابتداء و لا يقع بعده إلاّ قليلا.

و أمّا إذا استكملت النّفس و قويت فإنّها تنفرد بأفاعيلها على الإطلاق،و تكون القوى الحسّيّة و الخياليّة و سائر القوى البدنيّة صارفة إيّاها عن فعلها،مثل أنّ الإنسان قد يحتاج إلى دابّة و آلات ليتوصّل بها إلى مقصد ما،فإذا وصل إليه،ثمّ عرض من الأسباب ما يعوّقه عن مفارقتها،صار السبب الموصل إليه بعينه عائقا.

ص:251

و كما نجد من أنّ إدامة استعمال الحواسّ في المحسوسات بحيث لا يكون هناك تعطّل للحواسّ أصلا،و كذا إدامة النّظر في المعقولات قد تشغل النّفس النباتيّة عن فعلها، بل قد تكلّ و تضعف جدّا،و كذلك إدامة استعمال الحواسّ قد تشغل القوّة العاقلة عن فعلها،بل قد تمنعها عنه،و كذا بالعكس،و كل ذلك ظاهر على من راجع إلى وجدانه.

و كما نجد من أنّ حكم الحسّ إذا غلط فيه يردّ إلى حكم العقل،و ذلك مثل أنّ الحسّ الدائم الغلط في محسوسه-كالعين-إذا نظرت من بعيد إلى الشيء الكبير فتراه صغيرا، حتّى ترى الشّمس مثلا و هي أضعاف مقدار الأرض،مثل المرآة التي قطرها شبر،و نظرت إلى الشيء في الماء فتراه كبيرا و هو صغير،و معوجّا و هو مستقيم؛و كالذّوق الصّفراويّ إذا أحسّ بالحلو مرّا،تردّ هذه الأغلاط إلى النّفس و إلى القوّة العاقلة،فتحكم بأنّ الحسّ قد غلط،و أنّ الحقّ غير ما أحسّ،فتردّ الجميع إلى حقائقها.

و حيث عرفت ذلك،أي ارتباط هذه الأفعال المتخالفة بعضها ببعض كما بيّنّا،اتّضح لك أنّ المدبّر للبدن و المتصرّف فيه-و هو المسمّى بالنّفس-شيء واحد.

إذ لو كان متعدّدا،أي نفوسا ثلاثة لا ارتباط بينها من حيث الذّات،لكونها متباينة الذوات كما هو رأي الخصم،و لا بين أفعالها،حيث إنّه من المقرّر عندهم أنّ كلّ نفس من حيث هي فإنّما هي كذلك من حيث يصدر عنها الفعل الخاصّ بها،أي الفعل الأوّل الذي لها،فلا النّفس الغضبيّة من حيث هي غضبيّة تنفعل من اللذّات،و لا الشهوانيّة من حيث هي شهوانيّة تنفعل من المؤذيات،و لا المدركة من حيث هي مدركة تتأثّر ممّا تتأثّر هاتان عنه،كما أنّه لا شيء من هاتين قابلا للصّور المدركة التي تتأثّر عنها النّفس المدركة، و القوّة المدركة،لم يكن هذا الارتباط.

و حيث كان ذلك الارتباط الذي عرفته،فهو إمّا مبنيّ على اشتراك تلك النّفوس المتعدّدة في الآلة أو في المحلّ،و هذا منتف،لأنّ المفروض أنّ بعض تلك النّفوس-و هي الإنسانيّة-ليست في محلّ،و لا لها آلة في أفعالها الذّاتيّة،لكون المفروض تجرّدها، و النفسان الأخريان،أي النباتيّة و الحيوانيّة و إن كان لهما محلّ و آلة،فليس ذلك مشتركا

ص:252

بينهما باعتقاد الخصم أيضا.

و إمّا مبنيّ على أن يكون هناك مدبّر أصل،و يكون ما سواه كالفروع بل كالقوى له، أي أن يكون لهذه النّفوس المتعدّدة رباط واحد يجمع كلّها،أي ما به الارتباط الذي يجمع كلّ ذلك إليه،و يكون نسبته إلى هذه نسبة الحسّ المشترك إلى الحواسّ التي هي الرواضع، و فيه المطلوب.

و بعبارة أخرى إنّك قد عرفت أنّ هذه القوى و النّفوس تشغل بعضها بعضا،و يستعمل بعضها بعضا مع أنّ المفروض أن ليس بينها و لا بين أفعالها ارتباط،و ليس هنا أيضا اشتراك في المحلّ أو الآلة.فلو لم يكن هنا رباط يستعمل هذه فيشغل بعضها عن بعض فلا يستعمل ذلك البعض و لا يدبّره،لما كان بعضها يمنع بعضا عن فعله بوجه من الوجوه،و لا ينصرف عنه،لأنّ فعل قوّة من القوى أو نفس من النّفوس إذا لم يكن له اتّصال بقوّة أخرى أو نفس أخرى لا تمنع الأخرى عن فعلها إذا لم تكن الآلة مشتركة و لا المحلّ مشتركا و لا أمر يجمعها غير ذلك مشتركا.فبقي أن يكون ذلك الارتباط لأمر رابط غير الآلة و المحلّ.

و حينئذ فنقول:إنّ هذا الجامع الرابط لا يجوز أن يكون جسما.

أمّا أوّلا فلأنّ الجسم بما هو جسم ليس يلزمه أن يكون مجمع هذه القوى أو النّفوس، و إلاّ لكان كلّ جسم كذلك،بل لأمر يصير به كذلك،و يكون ذلك الأمر هو الجامع الأوّل، و هو كمال الجسم من حيث هو مجمع و هو غير الجسم،فيكون إذن المجمع هو شيئا غير الجسم،و ليس هو إلاّ النّفس.

و أمّا ثانيا فلأنّه قد تبيّن ممّا سلف أنّ من هذه القوى أو النّفوس ما ليس يجوز أن يكون جسما أو جسمانيّا مستقرّا في جسم،و هو القوّة العاقلة و النّفس الناطقة.

و أمّا ثالثا فلأنّ ذلك الجسم إمّا أن يكون جملة البدن،فيلزم أن يكون إذا نقص منه شيء لا يكون ما نشعر به نحن«أنا»موجودا،و ليس كذلك لأنّي مثلا أكون أنا و إن لم أعرف أنّ لي يدا أو رجلا أو عضوا من هذه الأعضاء،بل أظنّ أنّ هذه توابعي،و أعتقد أنّها آلات لي أستعملها في حاجات،لو لا تلك الحاجات لما احتيج إليها لي،و يكون أنا أيضا

ص:253

أنا و ليست هي،و قد عرفت فيما سلف أنّا لو فرضنا أنّه لو خلق إنسان دفعة واحدة، و خلق متباين الأطراف و لم يبصر أطرافه،و اتّفق أن لم يمسّها و لا تماسّت و لم يسمع صوتا جهل وجود جميع أعضائه،و علم وجود إنيّته شيئا واحدا مع جهل جميع ذلك، و ليس المجهول بعينه هو المعلوم.

و إن لم يكن ذلك الجسم جملة البدن،بل كان عضوا مخصوصا،كالقلب أو الدماغ أو عدّة أعضاء منه هويّتها أو هويّة مجموعها هو الشيء الذي أشعر به«أنا»،أنّه«أنا»، فيجب أن يكون شعوري ب«أنا»هو شعوري بذلك العضو أو بتلك الأعضاء،لأنّ الشيء لا يجوز أن يكون من جهة واحدة مشعورا به غير مشعور به و ليس كذلك،فإنّي أعرف أنّ لي قلبا أو دماغا بالإحساس و السّماع و التجارب،لا لأنّي أعرف أنّي أنا،فيكون إذن ليس ذلك العضو لنفسه الشيء الذي أشعر به أنّه أنا بالذّات،بل يكون بالعرض أنا،و يكون المقصود بما أعرفه منّي أنّي أنا الذي اعيّنه في قولي:أنا أحسست و تعقّلت و فعلت و جمعت هذه الأوصاف شيئا آخر هو الذي أسمّيه أنا،و كذلك أنّي أعرف أنّي أنا بالمعنى الذي أسمّيه النّفس،أعني المدبّر للبدن و المتصرّف فيه،مع أنّي لا أعرف القلب و الدماغ و لا أفهم معناهما،و حيث بطل كون ذلك الرابط الجامع جسما بطل كونه جسمانيّا أيضا، و حيث بطل ذلك،بطل كونه من جملة هذه النّفوس الثلاثة نفسا نباتيّة أو نفسا حيوانيّة، لكون كلّ منهما جسمانيّة أيضا كما هو المقرّر عندهم و يعترف به الخصم أيضا.فبقي أن يكون ذلك الرابط الجامع الواحد نفسا انسانيّة،و بطل أيضا بذلك كون المتصرّف في البدن نفوسا متعدّدة،كما ادّعاه الخصم.

في إبطال ما تمسّكوا به في تعدّد النّفس في الإنسان

اشارة

مع أن ما تمسّك هو به باطل بما أبطله الشيخ.

قال (1):«و أمّا حجّة هؤلاء الذين يجزّءون النفس،فقد أخذ فيها مقدّمات باطلة،من

ص:254


1- -الشفاء-الطبيعيّات 228/2-231،الفصل السابع في المقالة الخامسة من الفنّ السادس.

ذلك قولهم:إنّه يوجد (1)للنفس النباتيّة مفارقة للحسّاسة،فيجب أن يكون (2)شيء آخر غيره.

فإنّ هذه المقدّمة سوفسطائية،و ذلك لأنّ المفارقة تتوهّم على وجوه،و التي يحتاج إليها هنا (3) وجهان:أحدهما أنّه قد يتوهّم (4)لها مفارقة،كما للّون عن البياض و للحيوان عن الإنسان،إذ يوجد (5)هذه الطبيعة في غير البياض و تلك في غير الإنسان،بأن يقارن كلّ فصلا آخر.و قد يتوهّم (6)مفارقة،كما للحلاوة المقارنة للبياض في جسم،فإنّها قد توجد مفارقة له،فيكون (7)الحلاوة و البياض قوّتين مختلفتين لا يجمعهما شيء و أليق المفارقات بالنّفس النباتيّة للنّفس الحسّاسة هو القسم الأوّل؛و ذلك (8)أنّ النّفس النباتيّة الموجودة في النخلة لا تشارك القوّة النامية الموجودة في الإنسان البتّة في النوع،فإنّ تلك القوّة ليست بحيث تصلح لأن تقارن النّفس الحيوانية (9)،و لا القوّة النّامية التي في الحيوان تصلح لأن تقارن النّفس النخليّة،و لكن يجمعهما معنى واحد،و هو أنّ كلّ واحد (10)منهما يغذّي و ينمي و يولّد،و إن كان ينفصل (11)عنه بعد ذلك بفصل مقوّم منوّع لا بعرض فقط.و المعنى الموجود فيهما جميعا هو جنس القوّة النباتيّة و التي للإنسان (12)يفارق على جهة ما يفارق المعنى الجنسيّ.و نحن لا نمنع أن يوجد جنس هذه القوى لأشياء اخر (13)،و ليس (14)ذلك أنّه يجب أن لا يجتمع (15)هذه القوى في الإنسان لنفس (16)واحدة،بل ليس يجب من ذلك أن لا (17)يكون الطبيعة النّامية الموجودة في الحيوان مقولة على النّفس الحيوانيّة التي له،حتّى يكون 17نفسه الحيوانيّة هي تلك القوّة،كما أنّ الإنسان ليس (18)شيئيا غير حصّة في جنس الحيوانيّة.و هذا شيء قد تحقّق لك في المنطق.فهذا ليس يوجب أن يكون (19)النّفس النّامية التي في الإنسان غير النّفس الحيوانيّة،فضلا عن أن تكون (20)قوى نفس واحدة،فليس إذن النباتيّة التي في الإنسان توجد البتّة مفارقة بنوعها

ص:255


1- في المصدر:توجد النفس النباتيّة...
2- يكون في الإنسان شيء...
3- هاهنا...
4- تتوهّم...
5- توجد...
6- و قد تتوهّم...
7- فتكون...
8- و ذلك لأنّ...
9- الحيوانيّة البتّة...
10- كلّ واحدة منهما تغذّي و تنمي و تولّد،
11- و إن كانت بعد ذلك تنفصل بفصل مقوّم...
12- و يفارق...
13- لأشياء أخرى...
14- و ليس في ذلك...
15- لا تجتمع...
16- نفس الحيوانيّة...
17- تكون...
18- ليس شيئا غير حصّته...
19- تكون...
20- تكونا قوّتي نفس.

للإنسان.و احتجاجهم غير منتفع به إذا كانت القوّة لا تفارق بنوعيّتها،بل بجنسيّتها،و هما مختلفان.و مع ذلك فلنضع القوّة النباتيّة في الحيوان مخالفة للقوّة الحيوانيّة فيه،كأنّ كلّ واحد (1)منهما نوع محصّل منفرد بنفسه،و ليس أحدهما الآخر،و لا مقولا عليه،فما في ذلك ممّا يمنع أن يكون (2)القوّتان جميعا في الحيوان لنفس الحيوان،كما أنّه ليس إذا وجدت الرطوبة في غير الهواء،و ليست مفارقة (3)للحرارة،يجب من ذلك أن لا يكون (4)الرطوبة و الحرارة في الهواء بصورة (5)واحدة و لمادّة واحدة.و ليس إذا كانت حرارة توجد غير صادرة عن الحركة،بل عن حرارة أخرى يجب من ذلك أنّ الحرارة في موضع آخر ليست تابعة للحركة.

و نقول:ليس يمتنع أنّ (6)هذه القوى متغايرة بالنوع أيضا،و تنسب إلى ذات واحدة هي فيه (7)،فأمّا كيفيّة تصوّر هذا،فهو أنّ الأجسام العنصريّة يمنعها (8)صرفة التّضادّ عن قبول الحياة.فكلّما أمعنت في هدم طرف من التّضادّ و ردّه إلى التّوسّط الذي لا ضدّ له، جعلت تضرب إلى تشبّه (9)بالأجسام السّماويّة،فتستحقّ بذلك قبول قوّة محبّة (10)من الجوهر المفارق المدبّر،ثمّ إذا ازدادت قربا من التّوسّط،ازدادت قبول حياة،حتّى تبلغ الغاية التي لا يمكن له أن يكون (11)أقرب منها إلى التّوسّط،و لا أهدم منها للطرفين (12).فيقبل جوهرا مقارب الشّبه من وجه ما للجوهر المفارق كما للجواهر السّماويّة،فيكون حينئذ ما كان يحدث في غيره من المفارق،يحدث فيه من نفس هذا الجوهر المقبول المتّصل به الجوهر.و مثال هذا في الطّبيعيّات:لتوهّم مكان الجوهر المفارق نارا (13)و شمسا،فكان (14)البدن جرما يتأثّر عن النّار،و ليكن كوّة (15)(16)ما،و ليكن مكان النّفس النباتيّة تسخينها إيّاها، و مكان النّفس الحيوانيّة إنارتها فيها،و مكان النّفس الإنسانيّة اشتعالها (17)فيها نارا.

فنقول:إنّ ذلك الجرم المتأثّر كالكوّة (18)إن كان ليس وضعه من ذلك المؤثّر فيه وضعا

ص:256


1- في المصدر:واحدة...
2- تكون...
3- مقارنة للحرارة...
4- لا تكون...
5- لصورة واحدة أو لمادّة...
6- أن تكون هذه...
7- فيها...
8- تمنعها صرفيّة...
9- شبه...
10- محيية...
11- تكون...
12- للطرفين المتضادّين فتقبل...
13- أو شمسا،
14- و مكان...
15- كرة ما...
16- -كوّة:نافذة.
17- إشعالها...
18- كالكرة.

يقبل الاشتعال منه نارا و لا إضاءته و لا (1)إنارته،و لكن وضعا يقبل تسخينه لم يقبل غير (2)فإن كان وضعه وضعا يقبل تسخينه،و مع ذلك هو مكشوف له أو مستشف أو على نسبة إليه يستنير بها عنه استنارة قويّة،فإنّه يسخن عنه،و يستضيء معا،و يكون الضّوء الواقع فيه منه هو مبدأ أيضا مع ذلك المفارق لتسخينه،فإنّ الشّمس إنّما تسخّن بالشّعاع.

ثمّ إن كان الاستعداد أشدّ،و كان (3)هناك ما من شأنه أن (4)تشتعل عن المؤثّر الذي من شأنه أن يحرق بقوّته أو شعاعه اشتعل،فحدثت الشعلة جرما شبيها بالمفارق من وجه، و يكون تلك الشعلة أيضا مع المفارق علّة للتنوير و التسخين معا،حتّى لو بقيت وحدها لاستتمّ أمر التنوير و التسخين،و مع هذا،فقد كان يمكن أن يوجد التسخين وحده (5)، و التسخين و التنوير وحدهما،و لم يكن المتأخّر منهما مبدأ يفيض عنه المتقدّم،و كان إذا اجتمعت الجملة يصير حينئذ كلّ ما فرض متأخّرا،مبدأ أيضا للمتقدّم و فائضا عنه المتقدّم،و هكذا (6)فليتصوّر الحال في القوى النّفسانيّة».-انتهى كلامه-.

أقول:و هذا الذي نقلنا منه لا يخفى أنّه واف بدفع احتجاج القائلين بتكثّر النّفس، كاف في بيان كيفيّة إمكان أن يكون تلك النّفوس المتعدّدة التي هي قوى متغايرة منسوبة إلى ذات واحدة هي نفس الإنسانيّة،و أن يكون تلك الذات مجمعا لتلك القوى و النّفوس، و في ذكر التمثيل اللائق بهذا المقام،و قد عرفت أيضا-ممّا ذكرنا في الأبواب السّالفة-أنّ السمعيّات الظّاهرة في تعدّد النفوس يمكن أن تأوّل بالحمل على تعدّد قوى النّفس الإنسانيّة التي هي ذات واحدة على تكثّر مراتب كمالاتها،فتذكّر.

شكّ مع حلّه

و قد بقي هنا شكّ ينبغي التّعرّض لرفعه،و هو أنّه إذا كان المتصرّف في البدن المدبّر له ذاتا واحدة،هي النّفس الإنسانيّة و هي مجمع القوى،يجب أن يكون تلك الذات مبدأ لجميع تلك الأفعال المنسوبة إلى تلك القوى المتخالفة،و إن كانت مبدئيّتها لبعضها

ص:257


1- في المصدر:و إنارته...
2- غير ذلك...
3- و هناك...
4- أن تشتعل...
5- أو التسخين...
6- فهكذا.

بالواسطة،و لبعضها بدون الواسطة،و الحال أنّ تلك الذات إنّما يصدر عنها فعلها بالاختيار و الإرادة،و تلك الأفعال منها ما ليس مقارنا للاختيار و الإرادة،كالأفعال النباتيّة،فكيف يصدر عن الفاعل بالإرادة فعل ليس بإرادة؟

و الجواب عنه:أنّه لا حجر في ذلك،فإنّ الذي يقتضيه الدليل أنّ الفاعل بالإرادة إنّما يكون فعله بالإرادة إذا كان يصدر عنه بلا واسطة،أو بتوسّط قوّة تختصّ به نفسه،كالأفعال الإنسانيّة.أمّا ما لا يكون كذلك،بل يكون بتوسّط أمر آخر أو قوّة لا تختصّ به نفسه،بل بآلته كالأفعال الحيوانيّة و النباتيّة،فهو تابع في ذلك لما يلزم تلك الواسطة،فتلك الواسطة إن كان فعلها بمقارنة الإرادة كالقوّة الحيوانيّة،يكون فعل ذلك المبدأ البعيد أيضا بالإرادة، لا لأجل أنّه مبدأ بعيد له،بل لأجل أنّ فعل ذلك المتوسّط الذي هو قوّة له بالإرادة،يعنى أنّه يكون بالإرادة لا بالذّات بل بالعرض،و إن كان فعل تلك الواسطة لا بالإرادة كالأفعال النباتيّة.فلا ينافي كون ذلك الفعل مستندا إلى ذلك المبدأ البعيد الذي هو بالإرادة،و كيف ذلك و الحال أنّ الأفعال الطبيعية التي ليست مع الإرادة مستندة بالاخرة إلى المبدأ الفيّاض الذي فعله مقارن للإرادة البتّة.

و هذا كما أنّ فعل النّفس الإنسانيّة بالذّات يكون كلّيّا،و ما يصدر عنها بتوسّط القوّة الحيوانيّة يكون جزئيّا و إن كان مع الإرادة،و لا حجر في ذلك أيضا.و حاصل المقام أنّ ما ينسب إلى النّفس النباتيّة في النبات من الأفعال الطبيعية التي ليست بالإرادة،منسوبة في الإنسان إلى بعض قوى النّفس الإنسانيّة،حيث إنّ المفروض أنّ النّفس النّباتيّة قوّة من قواها،و قواها أيضا من قواها،و كذلك ما ينسب إلى النّفس الحيوانيّة في الحيوان من الأفعال الجزئيّة المقارنة للإرادة،فهى منسوبة في الإنسان إلى بعض من القوى الإنسانيّة، حيث إنّ النّفس الحيوانيّة قوّة من قواها و كذلك قواها من قواها،و ما ينسب إلى النّفس الإنسانيّة،فهي منسوبة إليها بالذّات.

ص:258

في كيفيّة صدور الأفعال المختلفة عن الإنسان

ثمّ إنّك حيث تحقّقت ما ذكر،و عرفت أنّ المدبّر الأصل في البدن الإنسانيّ ذات واحدة هي النّفس الناطقة الإنسانيّة،و أنّ تلك القوى و النّفوس قوى لها و فروع لها،فنعود من رأس و نقول:

لا يخفى أنّ هاهنا أفعالا مختلفة نشاهد صدورها عن الإنسان،حيث إنّ ما ينسب إلى كلّ نفس من تلك النّفوس من الأفعال مخالف لما ينسب إلى الأخرى من الأفعال،و مع هذا فما ينسب إلى كلّ نفس بانفرادها هو أيضا أفعال مختلفة متخالفة.

فإمّا أن يقال بكون تلك الأفاعيل المختلفة مستندة إلى فواعل مختلفة،بأن يكون كلّ فعل من تلك الأفعال مستندا إلى فاعل واحد منفرد،و يكون مجموع تلك الأفاعيل المتعدّدة المتكثّرة مستندة إلى مجموع فواعل متعدّدة متكثّرة بعدد تلك الأفاعيل الجزئيّة أو كلّيّاتها،فهذا باطل،لأنّه بعينه هو القول بتكثّر النّفوس،و قد عرفت بطلانه.مع أنّه يلزم أن يكون عدد تلك النّفوس التي هي فواعل و مدبّرات أزيد من ثلاثة بكثير،حيث إنّ عدد تلك الأفاعيل جزئيّاتها بل كلّيّاتها أيضا أزيد من ثلاثة بكثير،و هذا ممّا لم يقل به أحد من ذوي العقول السّليمة.

و إمّا أن يقال باستناد جميع تلك الأفاعيل المتعدّدة المتكثّرة إلى ذات المدبّر الواحد بذاته-أعني النّفس الناطقة-من غير أن يكون ذلك بتوسّط آلة أو توسّط قوّة أو نحو ذلك، فهذا أيضا باطل،لأنّه بناء على ما تقرّر عندهم من أنّ الواحد بالذّات لا يصدر عنه من جهة واحدة إلاّ أمر واحد،لا يصحّ هذا الفرض.إلاّ أن يكون تكثّر و تجزّي في ذات ذلك الواحد،بحيث يكون له أجزاء كثيرة يفعل كلّ فعل من تلك الأفعال باعتبار جزء منه مناسب لذلك الفعل،و قد عرفت أنّ النّفس النّاطقة الإنسانيّة مجرّدة عن المادّة في ذاتها، بسيطة لا تركيب فيها من الأجزاء لا بالفعل و لا بالقوّة.نعم لو كانت هي جسما،لأمكن فرض ذلك فيها،و إذ ليس فليس.و أيضا على هذا يلزم أن لا يكون للقوى و الحواسّ حظّ في تلك الأفاعيل أصلا،و هو خلاف ما نجده من أنفسنا،كما سنبيّنه.و أيضا يلزم أن يكون

ص:259

فاعل الكلّيّ و الجزئيّ واحدا،و هو باطل كما سبقت الإشارة إليه،و سيتّضح فيما بعد أيضا ان شاء اللّه تعالى.

و إمّا أن يقال باستناد جميع تلك الأفعال إلى ذات تلك النّفس الواحدة بنفسها من غير أن يكون تفعل ما تفعله من الأفعال بتوسّط القوى،إلاّ أنّ ما تفعله بنفسها من الأفاعيل المختلفة إنّما تفعله باختلاف الآلات،كما نقله الشيخ من القول الأوّل في بيان نقل المذاهب،حيث قال (1):«فمنها قول من زعم أنّ النّفس ذات واحدة،و إنّما (2)تفعل جميع الأفعال بنفسها باختلاف الآلات».ثمّ نقل عن ذلك القائل احتجاجه عليه بما احتجّ به كما نقلنا سابقا.فهذا القول أيضا باطل.

أمّا أوّلا،فلأنّه يلزم على هذا المذهب أن لا يكون للحواسّ و المشاعر حظّ في الإدراكات أصلا،و أن لا يكون لها فعل قطعا،و أن لا يكون لها مدخل في تلك الأفعال إلاّ على سبيل الآليّة فقط،حيث إنّ المفروض أن الفاعل بلا واسطة للكلّ هو النّفس خاصّة، و هذا خلاف ما نجده من نفوسنا بالضّرورة.

و أمّا ثانيا،فلأنّه لو صحّ ذلك لصحّ في بعض الأفعال،أي فيما تحتاج فيه إلى الآلة من الأفعال كالأفعال المنسوبة إلى النّفس النّباتيّة و الحيوانيّة،لا في كلّ الأفعال حتّى فيما لا تحتاج فيه إلى الآلة،كالأفعال المنسوبة إلى النّفس الإنسانيّة،إذ ليست هي فيها محتاجة إلى الآلة و لا فيها اختلاف في الآلة حتّى يصحّ أن يقال:إنّها تفعلها بنفسها باختلاف الآلات.و كأنّ ما ذكره الشيخ من القولين الآخرين،-حيث قال:«و من هؤلاء من زعم أنّ النّفس عالمة بذاتها،تعلم كلّ شيء،و إنّما تستعمل الحواسّ و الآلات المقرّبة للمدركات منه بسبب أن تتنبّه به لما في ذاتها؛و منهم من قال:إنّ ذلك على سبيل التذكّر لها،فكأنّها عرض لها عنده أن نسيت»،ثمّ نقل احتجاج الفريقين على ما ذهبا إليه كما نقلنا عنه سابقا -مبنيّان على هذا المذهب أيضا،أي على القول الأوّل،لكن على نحو يحصل به التفصّي

ص:260


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 221/2،الفصل السابع من المقالة الخامسة من الفنّ السادس.
2- في المصدر:و أنّها.

عمّا ذكرناه من الإشكال الثاني،و كأنّ وجه التفصّي أنّ الأفعال المنسوبة إلى النّفس الإنسانيّة،و إن لم يكن لها فيها احتياج إلى الآلة في حصول أصل تلك الأفعال حتّى يلزم خلاف ما هو المقرّر عند الحكماء،إلاّ أنّ لها فيها احتياجا إلى الآلة و استعانة بها بنحو آخر،و هو حصول التنبّه أو حصول التذكّر.

و الحاصل أنّ العلوم و الإدراكات الكلّيّة التي هي أفعال النّفس النّاطقة الإنسانيّة ليس فيها احتياج إلى الآلة في حصول أصلها،كما في الأفعال المنسوبة إلى النّفسين الأخريين،بل إنّ تلك العلوم و الإدراكات مطلقا حاصلة للنّفس الإنسانيّة بذاتها،و هي أفعال لها بنفسها،و أمّا استعمال الحواسّ و الآلات،فهو لأجل أن تكون مقرّبة لها عندها على سبيل التنبّه كما هو رأي فرقة،أو على سبيل التذكّر كما هو رأي فرقة أخرى.و لا يخفى عليك أنّ هذين القولين أيضا باطلان.

أمّا أوّلا،فلأنّ الإشكال الأوّل الذي أوردناه وارد عليهما أيضا،و لا يمكن التفصّي عنه بهما.

و أمّا ثانيا،فلأنّ معنى التنبّه الذي قالت به الفرقة الأولى كأنّ مبناه على أنّ تلك العلوم و الإدراكات حاصلة للنّفس أوّلا على سبيل حصول البديهيّات لها و علمها بها،أي علمها بها علما إجماليّا،و أنّها إذا استعملت الحواسّ و الآلات كان ذلك مقرّبا لها هنا،فتتنبّه لها و يكون بذلك علمها الإجماليّ علما تفصيليّا،و يكون ذلك منبّها لها كما في العلم بالبديهيّات بعد حصول المنبّه لها،و هذا باطل،لأنّه على هذا يلزم أن يكون معلومات النّفس الإنسانيّة و مدركاتها كلّها بديهيّة،و أن لا يكون شيء منها نظريّا،حيث إنّ المنبّه إنّما يكون في البديهيّات دون النظريّات،و ذلك خلاف الواقع و خلاف ما نجده بالوجدان.

و كذلك معنى التذكّر الذي قالت به الفرقة الثانية،كأنّ مبناه على أن علوم النّفس و إدراكاتها نظريّاتها و بديهيّاتها،حاصلة لها علوما تفصيليّا،إلاّ أنّها عرض لها أن نسيتها.

ثمّ إنّها إذا استعملت القوى و الحواسّ،زال عنها النسيان و تذكّرت لها كما هي عليه قبل النسيان.و هذا أيضا باطل من وجهين:

ص:261

أحدهما أنّه أيضا خلاف ما نجده بالوجدان.

و الثاني أنّه على تقدير صحّته،إنّما يصحّ إذا كانت النّفس قديمة أو موجودة قبل البدن بأزمنة كثيرة.حصل لها في تلك الأزمنة تلك العلوم و الإدراكات المفصّلة ثمّ نسيتها بسبب من الأسباب-كالتعلّق بالبدن مثلا-ثمّ زال عنها باستعمال الحواسّ ذلك النسيان و عادت كما كانت أوّلا،إذ من المعلوم أن ليست لها بعد تعلّقها بالبدن زمان يكون لها فيه حصول تلك العلوم و الإدراكات بنفسها،من غير أن تكون قد استعملت الحواسّ حتّى تكون بعد ذلك قد نسيتها،ثمّ استعملت الحواسّ فتذكّرت لها.و هذا أيضا باطل،لأنّا سنقيم الحجّة على كون النّفس الانسانيّة حادثة بحدوث البدن.

و أمّا ثالثا:فلأنّ ما احتجّ به الفرقتان على ما ادّعتاه كما نقله الشيخ عنهما و نقلناه عنه سابقا،باطل بما أبطله به الشيخ.

قال (1):«و أمّا من تشكّك فجعل النّفس عالمة بذاتها (2)فهو فاسد،فإنّه ليس يجب إذا كان جوهر النّفس خاليا بذاته عن العلم (3)يستحيل له وجود العلم،فإنّه فرق بين أن يقال:

إنّ جوهر الشيء باعتبار ذاته لا يقتضي العلم،و بين أن يقال:إنّ جوهره بذلك الاعتبار يقتضي أن لا يعلم.فإنّ لزوم الجهل مع كلّ واحد من القولين يختلف (4).فإنّا إذا (5)سلّمنا أنّ النّفس بجوهرها جاهلة،فإنّما نعني أنّ جوهرها إذا انفرد و لم يتّصل به سبب من خارج لزمه الجهل،بشرط الانفراد مع شرط الجوهر،لا بشرط الجوهر وحده،و لسنا نعني بهذا أنّ جوهرها جوهر لا يعرى عن الجهل.و إن لم نسلّم،بل قلنا:إنّ ذلك أمر عارض لنا (6)، فليس يجب أن يكون مثل هذا العارض واردا على الأمر الطبيعيّ،فإنّه ليس إذا قلنا:إنّ الخشبة خالية عن صورة السرير (7)،و إنّ ذلك الخلوّ ليس لجوهرها،بل لأمر عارض (8)له حائز الزوال.كان هذا القول كأنّك تقول:يجب أن يكون قد كانت فيه صورة السرير (9)

ص:262


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 227/2،الفصل السابع من المقالة الخامسة من الفنّ السادس.
2- في المصدر:لذاتها...
3- أن يستحيل...
4- مختلف...
5- فإنّا و إن سلّمنا...
6- عارض لها...
7- صورة السريريّة...
8- عارض لها...
9- صورة السريريّة ثمّ انفسخت.

و انفسخت.

و من المحال أيضا ما قاله المتشكّك من ارتداد الشيء إلى ذاته،فإنّ الشيء لا يغيب البتّة (1)من ذاته،بل ربّما قيل (2)يغيب عن أفعال تخصّ (3)بذاته،و تتمّ بذاته وحدها،و إنّما يتوسّع فيقال هذا لأنّ هذه الأفعال لا تكون موجودة له،بل لا تكون موجودة أصلا.و أمّا ذاته فكيف تكون غير موجودة لنفسها و بالحقيقة،فإنّ أفعاله لا يجوز أن يقال فيه (4)إنّه يغيب عنها،لأنّ الغائب هو موجود في نفسه غير موجود للشيء،و هذه الأفعال ليست موجودة أصلا إلاّ وقت ما يوجدها،فلا يكون غائبا عنها،و أمّا ذات الشيء فلا يغيب الشيء عنه و لا يرجع إليه.

و أمّا أصحاب الذّكر (5)فقد نقض احتجاجهم في الصناعة الآليّة».-انتهى كلامه-

و أقول:قوله:و أمّا اصحاب الذّكر-إلى آخره-كأنّه إشارة إلى ما تقرّر في علم المنطق من أنّ المطلوب المجهول الذي يراد تحصيله بالنظر،يجب أن يكون معلوما بوجه حتّى لا يكون طالبه طالبا للمجهول مطلقا،و أن يكون مجهولا من وجه آخر،حتّى لا يكون تحصيله تحصيلا للحاصل،و أنّه إذا طلبته النّفس و حصّلته بالنّظر و علمته من الوجه الذي كان مجهولا و ظفرت به و علمت أنّه المطلوب الأوّل الذي كانت تطلبه، فعلمها بأنّه المطلوب إنّما هو من جهة أنّه كان معلوما أوّلا بوجه،و ليس يلزم من ذلك كونه معلوما أوّلا من كلّ وجه حتّى من الوجه الذي كان هو مجهولا بذلك الوجه،كما هو ظنّ أصحاب الذّكر و مبنى احتجاجهم المنقول عنهم عليه،فتدبّر.

و إمّا أن يقال باستناد تلك الأفعال أوّلا و بالذات إلى قوى مختلفة للنّفس الإنسانيّة التي هي ذات واحدة،و باستنادها إلى تلك الذات الواحدة بتوسّط تلك القوى المختلفة، و هذا هو المذهب الذي نقله الشيخ عن بعض القدماء،حيث قال (6):

«و منهم من جعل النّفس ذاتا واحدة،و تفيض عنها هذه القوى،و يختصّ (7)كلّ قوّة

ص:263


1- في المصدر:عن ذاته...
2- قيل إنّه قد يغيب...
3- تختصّ...
4- فيها...
5- التذكّر...
6- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 221/2،الفصل السابع من المقالة الخامسة من الفنّ السادس.
7- و تختصّ.

بفعل،و أنّها إنّما تفعل ما تفعله من الامور المذكورة بتوسّط هذه القوى».

ثمّ اختار هذا المذهب و قال (1):«و ليس بصحيح (2)من هذه المذاهب إلاّ هذا المذهب»،ثمّ صحّحه بأن قال 1:«قد بان ممّا ذكرناه أنّ الأفعال المتخالفة هي لقوى (3)متخالفة،و أنّ كلّ قوّة من حيث هي،فإنّما هي كذلك من حيث يصدر عنها الفعل الأوّل الذي لها،فتكون القوّة الغضبيّة لا تنفعل من اللذّات،و لا الشهوانيّة من المؤذيات،و لا يكون (4)القوّة المدركة متأثّرة ممّا تتأثّر هاتان (5)عنه،و لا شيء من هاتين من حيث هما قابل للصّور المدركة متصوّر لها.فإذا كان هذا متقرّرا،فنقول:إنّه يجب أن يكون لهذه القوى رباط يجمع (6)كلّها،فتجتمع إليه و تكون نسبته إلى هذه القوى نسبة الحسّ المشترك إلى الحواسّ التي هي الرواضع،لأنّا (7)نعلم يقينا أنّ هذه القوى يشغل بعضها بعضا، و يستعمل بعضها بعضا،و قد عرفت هذا فيما سلف،و لو لم يكن رباط يستعمل هذه فيشتغل ببعضها عن بعض،فلا يستعمل ذلك (8)و لا يدبّره،لما كان بعضها يمنع بعضا عن فعله بوجه من الوجوه و لا ينصرف عنه،لأنّ فعل قوّة من القوى إذا لم يكن له اتّصال بقوّة اخرى،لا تمنع (9)القوّة الاخرى عن فعلها إذا لم تكن الآلة مشتركة،و لا المحلّ مشتركا، و لا أمر يجمعها (10)غير ذلك مشتركا.و نحن نرى أنّ الإحساس يثير الشهوة»إلى آخر ما ذكره في بيان وجوب رباط لهذه القوى،و ذكرنا محصّله في بيان وحدة المدبّر للبدن، و كون ذلك المدبّر الواحد ما به الارتباط بين النّفوس الأخر.

ثمّ ذكر أنّ هذا الشيء أي الذي هو مجمع القوى،لا يجوز أن يكون جسما،و بيّن ذلك بالوجوه الثلاثة التى ذكرنا محصّلها فيما سبق،إلاّ،أنّه ذكر في ذيل الوجه الثاني من تلك الوجوه كلاما بهذه العبارة (11):«فإن تشكّك مشكّك،فقيل:إنّه إن جاز أن يكون (12)هذه القوى لشيء واحد مع أنّها لا تجتمع معا فيه،إذ بعضها لا تحلّ (13)الأجسام،و بعضها تحلّها (14)،

ص:264


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 223/2،الفصل السابع من المقالة الاولى من الفنّ السادس.
2- في المصدر:و ليس يصحّ منها الاّ...
3- بقوى متخالفة...
4- و لا تكون...
5- تتأثّر عنه هاتان...
6- يجمعها كلّها...
7- فإنّا نعلم...
8- ذلك البعض و لا...
9- لا يمنع...
10- يجمعهما...
11- -الشفاء- [2]الطبيعيّات 224/2،الفصل السابع من المقالة الخامسة من الفنّ السادس.
12- أن تكون...
13- لا يحلّ...
14- يحلّها،فتكون.

فيكون مع افتراقها من غير أن تكون بصفة واحدة منسوبة إلى شيء واحد،فلم لا يكون كذلك الآن،و يكون (1)كلّها منسوبة إلى جسم أو جسمانيّ،فنقول:لأنّ،هذا الذي ليس بجسم يجوز أن يكون منبع القوى يفيض (2)عنها بعضها في الآلة،و بعضها يختصّ بذاته، و كلّها يؤدي إليه نوعا من الأداء،و اللواتي تكون في الآلة تجتمع في مبدأ يجمعها في الآلة ذلك المبدأ،و هو فائض عن الغني عن الآلة،كما تبيّن حاله (3)في حلّ الشبهة.و أمّا الجسم فلا يمكن أن يكون (4)هذه القوى كلّها فائضة منه،فإنّ نسبة القوى إلى الجسم ليس على سبيل الفيضان،بل على سبيل القبول،و الفيضان يجوز أن يكون على سبيل مفارقة للفيض عن المفيض،و القبول لا يجوز أن يكون على تلك السّبيل (5)»-انتهى ملخّص ما ذكره دليلا على ما اختاره و محصّله-.

و أقول:لمّا كان مبنى هذا المذهب المختار عنده على أنّ النّفس المدبّرة للبدن إنّما هي ذات واحدة بالعدد،و أنّ اختلاف أفعالها إنّما هو لاختلاف قواها،و أنّ تلك القوى فائضة عن تلك الذات الواحدة،بيّن الثاني بقوله أوّلا:«قد بان ممّا ذكرناه أنّ الأفعال المتخالفة هي لقوى متخالفة»و بيّن الأوّل و الثالث بما ذكره بعد ذلك،فإنّه متضمّن لكون النّفس ذاتا واحدة رباطا لتلك القوى و فائضا عنه تلك القوى،و كأنّ قوله«قد بان ممّا ذكرناه في الفصول المتقدّمة»كالفصل الذي عقده لبيان أنّ اختلاف أفاعيل النّفس لاختلاف قواها.و يخدشه أنّه في ذلك الفصل أيضا و إن ادّعى ذلك،لكنّا لم نظفر فيه بذكر ما يمكن أن يكون دليلا على أنّ اختلاف الأفاعيل مطلقا-كما هو ظاهر إطلاق كلامه هنا-أو أنّ اختلاف أفاعيل النّفس-كما هو مقصوده هنا و فيما تقدّم-إنّما هو لقوى متخالفة.بل لا يظهر منه فيه و لا في شيء من الفصول المتقدّمة على ما تصفّحنا كلامه ما يدلّ على ما هو مطلوبه هنا،و هو أنّه لا يمكن أن تكون النّفس التي هي الذّات الواحدة تفعل بنفسها أفعالا مختلفة باختلاف الآلات من غير توسّط القوى في ذلك،كما هو مبنى المذهب الأوّل من المذاهب التي نقلها،حيث إنّه في كلّ موضع ذكر أنّ اختلاف أفعال

ص:265


1- في المصدر:و تكون كلّها...
2- فيفيض...
3- حاله بعد...
4- تكون...
5- تلك السبيل.

النّفس لاختلاف قواها ذكره على سبيل الادّعاء من غير إقامة دليل عليه،كما يظهر على من تصفّح كلماته.

اللّهم إلاّ أن يكون أحال ذلك على الظهور،و على أنّه بيّن بنفسه لا يحتاج إلى دليل، فإنّه إذا كانت النّفس المدبّرة للبدن ذاتا واحدة كما بيّنه،و الحال أنّا نجد للإنسان أنّه يصدر عنه أفاعيل مختلفة،

فإمّا أن تكون تلك الأفاعيل تصدر عن تلك الذّات الواحدة بنفسها من غير مدخليّة شيء ممّا يوجب الاختلاف سوى تلك الذّات الواحدة أو بنفسها،باختلاف الآلات،فهذان الاحتمالان باطلان،كما بيّنّاه فيما سبق.و بالجملة فعلى هذين الاحتمالين،لا يكون للقوى و الحواسّ و المشاعر حظّ في تلك الأفاعيل أصلا،و هو باطل بالضّرورة و الوجدان،حيث إنّا نجد أنّ لتلك القوى و الحواسّ حظّا أيضا فيها،و أنّ لكلّ قوّة فعلا يخصّها كما أشار هو إليه فى بيان نقل المذهب المختار عنده،حيث قال:و يختصّ كلّ قوّة بفعل».

و إمّا أن تكون تلك الأفاعيل تصدر عن تلك القوى بنفسها من غير أن تصدر هي عن تلك الذّات الواحدة أيضا بتوسّط تلك القوى،فعلى هذا يلزم أن لا يكون لتلك الذات الواحدة حظّ في تلك الأفعال أصلا،و هذا أيضا باطل.لأنّه لو كان كذلك،لما كانت تلك الذّات حاكمة بين تلك الأفعال،كما هو معلوم بالضّرورة،و لما كان غلط الحواسّ و تلك القوى يردّ على تلك الذّات،كما بيّنّاه فيما سبق.حيث إنّ الحاكم بين الشيئين لا بدّ و أن يكون مدركا لهما،و كذا الحاكم بالغلط يجب أن يكون مدركا له.و الإدراك أيضا من جملة تلك الأفاعيل،حيث إنّ تلك الأفاعيل إنّما هي الإدراكات و التحريكات.

و حيث انتفت هذه الاحتمالات،ثبت أنّ لكلّ من تلك الذّات الواحدة و تلك القوى حظّا في تلك الأفعال،أي أن تكون تلك الأفعال تصدر عن تلك القوى بنفسها،و عن تلك الذّات بتوسّط تلك القوى،لا بالعكس.حيث إنّه لا يعقل صدورها عن تلك الذّات بنفسها، و عن تلك القوى بتوسّط تلك الذّات،فإنّ تلك القوى آلات لتلك الذّات لا بالعكس.و إلى

ص:266

ما ذكرنا أشار في بيان نقل المذهب المختار عنده بقوله:«و يختصّ كلّ قوّة بفعل،و أنّها إنّما تفعل ما تفعله من الامور المذكورة بتوسّط هذه القوى».

و الحاصل أنّه يمكن أن يكون قد أحال وجه ما ذكره على الظّهور،كما بيّنّا.و هذا الذي هو غاية توجيه ما ذكره و تصحيحه.

و فيه مع ذلك أيضا أنّه على هذا التوجيه،إنّما يتمّ الدلالة على أنّ الأفاعيل المختلفة الجزئيّة التي للقوى و الحواسّ و الآلات مدخل فيها،إنّما هي تصدر عن تلك الذّات الواحدة بتوسّط القوى المتخالفة،و لا يتمّ الدّلالة على أنّ الأفاعيل الكلّيّة التي هي مختصّة بذات تلك الذّات الواحدة من غير مدخليّة للآلات فيها،كالتعقّلات و الإدراكات الكلّيّة،هي أيضا إنّما تصدر عن تلك الذّات الواحدة بتوسّط القوى المتخالفة،إذ لا امتناع في أن تكون تلك الأفعال الكلّيّة تصدر عن تلك الذّات الواحدة بنفسها،من غير مدخليّة القوى فيها-كما هو مذهب بعض من الحكماء-إذ ليست تلك[أفعال]آليّة،حتّى يصار فيها إلى ما يصار إليه في الأفعال الآليّة.و لا يخفى أنّ ذلك أيضا،أي كون الأفاعيل المختلفة الذّاتيّة للنّفس صادرة عنها بتوسّط القوى المختلفة مطلوبة أيضا،كما هو ظاهر كلامه في بيان نقل ذلك المذهب المختار عنده،بل صريح كلامه في بيان كيفيّة إفاضة تلك القوى المختلفة عن تلك الذّات الواحدة و كونها منبع القوى،على ما نقلنا كلامه في ذلك.

و حينئذ،ففي تتميم مدّعاه إمّا أن يقال بأنّه لما دلّ الدليل على أنّ الأفاعيل المختلفة الآليّة تصدر عن تلك الذّات الواحدة بتوسّط القوى المختلفة،فينبغي أن يحكم بذلك في الأفاعيل المختلفة الذّاتية غير الآليّة أيضا،ليكون الكلّ على نسق واحد.و فيه،أنّ هذا وجه استحسانيّ لا يفيد الاطمئنان،بل لا يفيد الإقناع أيضا.

و إمّا أن يقال:كما أنّ الأفاعيل الآليّة أفاعيل مختلفة تصدر عن تلك الذّات و الحال أنّها واحدة بسيطة لا اختلاف فيها و لا تعدّد،و يجب أن يكون هناك ما به الاختلاف،و هو توسّط القوى المتخالفة على ما تقرّر عندهم من أنّ الواحد بالذّات لا يصدر عنه من جهة واحدة إلاّ أمر واحد،كذلك الأفاعيل الذّاتيّة غير الآليّة أفاعيل مختلفة،حيث إنّ العقل

ص:267

النظريّ و العقل العمليّ فعلان مختلفان،و مع هذا فمراتب كلّ واحد منهما مختلفة، و أصولها الكلّيّة أربع،كما سيجيء بيانه،و المفروض أنّها أجمع صادرة عن تلك الذّات الواحدة.فلو لم يكن هناك ما به الاختلاف أيضا لم يمكن أن تصدر هي عنها بنفسها، حيث إنّها واحدة بسيطة،فيجب أن يكون هناك أيضا ما به الاختلاف،و ما هو إلاّ القوى المتخالفة.

فإن قلت:إنّا لا نسلّم أن ليس هناك ما به الاختلاف سوى القوى المتخالفة،فإنّه يمكن أن يكون هناك جهات و اعتبارات بها تصدر عن تلك الذّات الواحدة تلك الأفاعيل المختلفة،من غير أن يكون هناك قوى متخالفة بتوسّطها تصدر هي عنها.و بعبارة أخرى:

إمّا أن تكون هناك جهات و اعتبارات مختلفة،أو لا تكون.فعلى الأوّل،فتلك الجهات المختلفة أنفسها يمكن أن تكون كافية في صدور تلك الأفاعيل المختلفة عن تلك الذّات الواحدة من غير احتياج إلى القوى المتخالفة،و إلى توسّطها في ذلك.و على الثّاني فلا يمكن أيضا أن تفيض تلك القوى المتخالفة عن تلك الذّات الواحدة،كما هو مذهب الشيخ في ذلك،أو أن تفيض عليها من المبدأ الفيّاض كما هو الاحتمال،و سنشير إلى وجهه،لأنّ القوى المتخالفة أيضا حيث كانت أمورا مختلفة إنّما تفيض عن تلك الذّات الواحدة أو عليها إذا كانت هناك جهات و اعتبارات مختلفة،بناء على ما هو المقرّر عندهم من أنّ الذات الواحدة البسيطة لا تفيض عنها و لا عليها من جهة واحدة إلاّ أمر واحد.

و بعبارة أخرى إنّهم ذكروا أنّ النّفس الإنسانيّة جوهر واحد و له نسبة و قياس إلى جنبتين،جنبة هي تحته و هي البدن،و جنبة هي فوقه و هي المبادي العالية،و له بحسب كلّ جنبة و كلّ نسبة قوّة،و أنّ له بحسب النسبة إلى ما فوقه القوّة النظريّة،و بحسب النسبة إلى ما تحته القوّة العمليّة،و كذلك له بحسب كلّ نسبة من تينك النسبتين،نسب مختلفة إلى مدركاتها و أفعالها،و بتلك النسب المختلفة يكون له مراتب القوى النظريّة و العمليّة، كما سيأتي بيان ذلك مفصّلا فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

و حينئذ نقول:إذا كانت هناك تلك النسب المختلفة و الجهات المتغايرة،فلم لا يجوز

ص:268

أن تكون تلك النسب أنفسها كافية في صدور تلك الأفعال الذّاتيّة غير الآليّة عن تلك الذّات الواحدة،من غير أن يكون هناك قوى مختلفة متوسّطة في ذلك؟

قلت:لا كلام في كون النسب المختلفة و الاعتبارات و الجهات المتغايرة هناك،إلاّ أنّ من يقول بالقوى المتخالفة و بتوسّطها في صدور تلك الأفاعيل المختلفة عن تلك الذّات الواحدة،كالشّيخ و نظرائه بل الأكثرين منهم،كأنّ نظره في ذلك أنّ تلك النسب المختلفة بأنفسها لا تصحّ أن تكون منشأ لصدور الأفاعيل المختلفة،إلاّ أن يكون هناك أمر آخر من حال لتلك الذّات الواحدة،باعتبار يصحّ استناد فعل إليه،و لا نعني بقوّة النّفس إلاّ ذلك الأمر،حيث إنّهم أطلقوا لفظ القوّة على قوّة النّفس بمعنى الحال التي تكون في الشيء و تكون مبدأ تغيّر في آخر،كما أشرنا إليه فيما سلف،و هذا كالقدرة التي أثبتوها لبعض الفواعل،و قالوا بأنّ الفاعل الذي له أن يفعل و أن لا يفعل بحسب المشيّة و عدم المشيّة،سواء كان ذاتا واحدة بسيطة فرض له فعل واحد من جهة واحدة،أو أفعال متخالفة بحسب جهات مختلفة،أو ذاتا مركّبة فرض لها أفعال متخالفة بحسب جهات فيه، إنّما يفعله بالقدرة،فأثبتوا القدرة زائدة على تلك الجهة أو الجهات،فما وجه ذلك في إثبات القدرة هناك فهو الوجه في إثبات القوّة فيما نحن فيه سواء بسواء.

و حيث تحقّقت ما تلوناه عليك،ظهر تلك تصحيح ما ذهب إليه الشيخ،و تبعه الأكثر من القول بأنّ الأفاعيل المختلفة-سواء كانت آليّة أو غير آليّة-إنّما تصدر عن النّفس التي هي الذّات الواحدة بتوسّط القوى المتخالفة.فما ذهب إليه بعضهم كالمحقّق الطوسي و غيره من أنّ الأفعال الآليّة إنّما تصدر عنها بتوسّط القوى و الآلات،و أنّ الأفعال التي هي غير آليّة إنّما تصدر عنها بذاتها،لعلّهم أرادوا بالصدور عنها بذاتها،أنّ ذاتها مصدر لتلك من غير توسّط قوّة بدنيّة و آلة جسمانيّة و حواسّ و مشاعر،و إلاّ فإن أرادوا به أنّ ذاتها بذاتها من غير توسّط قوّة أصلا مصدر لتلك،ففيه خفاء.

فإن قلت:قد ذكر بعض مفسّري كلام أرسطو أنّه لو كانت النّفس النّاطقة تدرك المحسوسات بقوّة ما،و تدرك المعقولات بقوّة أخرى،لما جاز أن تردّ حكم الحسّ فيما

ص:269

يغلط فيه،و تردّه إلى ما حكم به العقل،كما لا تردّ ما حكمت به حاسّة إلى ما حكمت به حاسّة أخرى،و الحال أنها تردّ حكم الحسّ كثيرا إلى ما حكم به العقل،و ذكر الشاهد عليه الأمثلة التي ذكرتها سابقا،ثمّ ذكر أنّ النّفس النّاطقة تدرك الأمور المعقولة بغير النّحو الذي تدرك به الأمور المحسوسة،لأنّها إذا طلبت الأمور المعقولة انبسطت و رجعت إلى ذاتها كأنّها تطلب شيئا هو عندها،و إذا همّت تحصيل رأي بديع أو فكر في عاقبة أو استخراج علم غامض عويص،خلت بنفسها و أبعدت جميع المحسوسات عنها،و كرهت أن يشغلها شيء من الحواسّ،و اجتهدت في تعطيلها،و انبسطت انبساطا راجعا إلى ذاتها،و إذا طلبت الأمور المحسوسة خرجت عن ذاتها،كأنّها تطلب شيئا خارجا عنها،فتحتاج حينئذ إلى آلة تتوسّل بها إلى مطلوبها،فإن وجدت الآلة صحيحة استعملها و أدركت الأمر الخارج،ثمّ حصّلت صورتها عندها في الوهم.و إن لم تجد الآلة،فإنّها تعدم ذلك المطلوب.مثال ذلك الأكمه لأنّه لا يمكنه أن يتصوّر الألوان،لأنّه لم يجد آلتها.فالنّفس الإنسانيّة تدرك الأمور البسيطة بغير آلة،بل بنفسها،و تدرك الأمور المركّبة المحسوسة بتوسّط الحواس،و هذا المذهب لأرسطاطاليس،و يتبيّن منه رأيه في النّفس الناطقة، فإنّها تدرك المحسوسات و المعقولات معا،و ليس كما يظنّه قوم من أنّ الأشياء المحسوسة إنّما تدركها الحواسّ فقط،و الأشياء المعقولة يدركها العقل فقط-انتهى بخلاصته-.

و هذا الذي ذكره ذلك البعض من المفسّرين،يدلّ على عدم صحّة القول باستناد الأفعال الذّاتيّة إلى النّفس الإنسانيّة بتوسّط القوى،كما هو مذهب الشيخ.بل ينبغي القول -على تقديره-باستنادها إلى ذات النّفس بذاتها من غير توسّط قوى في ذلك،فكيف ذلك؟

قلت:هذا الذي ذكره ذلك البعض أوّلا غير مسلّم،فإنّ المسلّم أنّ النّفس لا تردّ حكم ما حكمت به قوّة بدنيّة آليّة إلى ما حكمت به قوّة أخرى آليّة بدنيّة،و أمّا أنّها لا تردّ ما حكمت به قوة آليّة إلى ما حكمت به قوّة أخرى غير آليّة بل ذاتيّة،فليس بمسلّم.كيف

ص:270

و هذا أيضا في الحقيقة ردّ إلى ذات النّفس؟و كيف و ذلك البعض نفسه ذكر أنّها تردّ ما حكمت به حاسّة إلى ما يحكم به العقل؟و الحال أنّ المراد بالعقل هنا عندهم ليس إلاّ قوّة للنّفس.

و أمّا ما ذكره بعد ذلك من الاختلاف بين الأفعال الذّاتيّة غير الآليّة-كالأمور المعقولة-و بين الأفعال الآليّة-كالأمور المحسوسة-فمسلّم،إلاّ أنّه ليس فيه عند التّأمّل دليل على أنّ النّفس تدرك المعقولات بذاتها من غير توسّط قوّة في ذلك،بل ربّما يمكن أن يوجّه ما أسنده إلى أرسطو من المذهب بما وجّهنا به كلام المحقّق الطوسي(ره)،فتدبّر.

و حيث عرفت صحّة ما اختاره الشيخ من المذهب،فاعلم أنّ ما ذكره في كيفيّة إفاضة القوى عن النّفس،حيث قال (1):«إنّ (2)هذا الذي ليس بجسم يجوز أن يكون منبع القوى يفيض (3)عنها بعضها في الآلة،و بعضها يختصّ بذاته،و كلّها يؤدّي إليه نوعا من الأداء،و اللواتي تكون في الآلة تجتمع في مبدأ يجمعها في الآلة ذلك المبدأ،و هو فائض عن الغنيّ عن الآلة».

و حاصله أنّ تلك النّفس التي هي الذّات الواحدة تفيض أوّلا عن المبدأ الفيّاض الذي هو الغنيّ عن الآلة مطلقا،ثمّ تفيض باقتضاء العناية الأزليّة عن تلك النّفس قوى متخالفة.

إلاّ أنّ القوى الآليّة منها تفيض عن تلك النّفس في الآلة و هي حالّة فيها،و أنّ القوى غير الآليّة منها أي الذاتيّة تفيض عنها و تختصّ بذاتها و هي قائمة بها،و أنّ تلك الذات بالنسبة إلى كلّ تلك القوى منبع و مجمع و مخدوم و لها تسلّط و اقتدار على تلك القوى في أن تستعملها في أفعالها،و أنّ تلك القوى كلّها بالنسبة إلى تلك الذات خوادم و رواضع.

فهذا الذي ذكره،و إن كان صحيحا على أصوله لكون النّفس مجمع القوى الآليّة و الذّاتيّة التي بتوسّطها تصدر عنها تلك الأفعال،إلاّ أنّ الأنسب بقواعد الشرع أن يقال إنّ

ص:271


1- -الشفاء الطبيعيّات 224/2،الفصل السابع من المقالة الخامسة من الفنّ السادس. [1]
2- في المصدر:لأنّ...
3- فيفيض عنه بعضها.

تلك الذّات تفيض عن المبدأ الفيّاض ثمّ تفيض عنه لأجل تلك الذّات قوى متخالفة بعضها تحلّ في آلاتها و بعضها تقوم بها بذاتها،و جعل لها اقتدار على استعمال كلّ تلك القوى في أفعالها،و كلّ تلك القوى خوادم لها.

و كيف ما كان،سواء بنى على ما ذكره أو على ما ذكرنا،فمحصّل الكلام أنّه يجوز أن يكون النّفس التي هي المدبّرة للبدن ذاتا واحدة بسيطة مجرّدة عن المادّة في ذاتها، و يفيض عنها أو عن المبدأ الفيّاض لأجلها في أعضاء مختلفة قوى مختلفة،أو أن يفيض عنها أو عن المبدأ الفيّاض لأجلها أوّلا في البذر و المنيّ قوّة الإنشاء،فتنشأ أعضاء على حسب موافقة أفعال تلك القوّة،يستعدّ كلّ عضو لقبول قوّة خاصّة به تفيض فيه.و لو لا ذلك لكان خلق البدن معطّلا لها.و هذا هو القول فى كيفيّة فيضان القوى الآليّة.

و أمّا القول في كيفيّة فيضان القوى الذّاتيّة،فبأن يقال:يجوز أن يفيض عن تلك النّفس،أو عن المبدأ الفيّاض لأجلها بحسب استعدادات حاصلة لها بسبب تعلّقها بالبدن قوى مختلفة عليها تقوم هي بذاتها تستعملها فى أفعالها الذّاتيّة،و اللّه أعلم بكيفيّة الحال.

فى الإشارة إلى أنّ تلك القوى المتخالفة كيف يخدم بعضها بعضا

ثمّ اعلم،أنّهم ذكروا-كما سيتّضح لك فيما بعد في باب تعديد القوى أيضا-أنّ تلك القوى كيف يرؤس بعضها بعضا و كيف يخدم بعضها بعضا،حيث يظهر لك أنّ العقل المستفاد رئيس للكلّ و يخدمه الكلّ،و هو الغاية القصوى.ثمّ العقل بالفعل يخدمه العقل بالملكة.ثمّ العقل العمليّ يخدم جميع هذه،لأنّ العلاقة البدنيّة-كما سيتّضح بعد-لأجل تكميل العقل النظريّ و تزكيته.و العقل العمليّ هو مدبّر تلك العلاقة،ثمّ العقل العمليّ يخدمه الوهم.و الوهم يخدمه قوّتان:قوّة بعده،و قوّة قبله.فالقوّة التي بعده هي القوّة التي تحفظ ما أدّاه الوهم،أي الذاكرة.و القوّة التي قبله هي جميع القوى الحيوانيّة.ثمّ المتخيّلة يخدمها قوّتان مختلفتا المأخذين:فالقوّة النزوعيّة تخدمها بالائتمار لأنّها تبعثها على

ص:272

التحريك نوعا من البعث،و القوّة الخياليّة تخدمها لعرضها الصّور المخزونة فيها المهيّأة لقبول التركيب و التفصيل،ثمّ هاهنا رئيسان لطائفتين،أمّا القوّة الخياليّة فيخدمها بنطاسيا، و بنطاسيا يخدمها الحواسّ الخمس.و أمّا القوّة النزوعيّة فيخدمها الشهوة و الغضب، و الشهوة و الغضب يخدمهما القوّة المحرّكة في الفعل.ثمّ القوى الحيوانيّة يخدمها النباتيّة، أوّلها و رأسها المولّدة.ثمّ النّاميّة تخدم المولّدة،ثمّ الغاذية تخدمها جميعا.ثمّ القوى الطبيعيّة الأربع تخدم هذه،و الهاضمة منها تخدمها الماسكة من جهة،و الجاذبة من جهة، و الدافعة تخدم جميعها،ثمّ الكيفيّات الاربع تخدم جميع ذلك،لكن الحرارة تخدمها البرودة،فإنّها إمّا أنّ تعدّ للحرارة مادّة أو تحفظ ماهيّتها،و لا مرتبة للبرودة في القوى الداخلة في الأعراض الطبيعيّة إلاّ منفعة تابع و تال،و تخدمهما جميعا اليبوسة و الرطوبة، فهذه درجات القوى.

و منه يعلم كيفيّة تقدّم بعضها في الوجود و تأخّرها في الشّرف و بالعكس،و كذا يعلم منه كيفيّة ارتباط تلك القوى بعضها ببعض،فتبارك اللّه أحسن الخالقين.

في الإشارة إلى أنّ أيّا من الأفاعيل تقتضي قوّة على حدة

و إذا انتهى الكلام إلى هذا المقام،فنتكلّم في أنّ أيّا من الأفاعيل تقتضى قوّة على حدة و أيّا منها يمكن أن يكون لها قوّة مشتركة،و أنّه هل يجب أن يكون لكلّ نوع من الفعل قوّة تخصّه أو لا يجب؟و في أنّه بأيّ سبب يكون القوى متغايرة تغايرا ذاتيّا،و بأيّ سبب وجهة يمكن أن يكون بينها جامع مشترك؟

فنقول:إنّ للنفس أفعالا تختلف على وجوه،فيختلف بعضها بالشدّة و الضّعف، و بعضها بالسّرعة و البط،فإنّ الظّن اعتقاد ما يخالف اليقين بالتأكّد و الشّدّة،و الحدس مخالف لليقين بسرعة الفهم.و قد تختلف أيضا بالعدم و الملكة،مثل أنّ الشكّ يخالف الرأي،فإنّ الشّك عدم اعتقاد من طرفي النقيض،و الرأي اعتقاد أحد طرفي النقيض، و مثل التحريك و التسكين.و قد تختلف بالنسبة إلى أمور متضادّة،مثل الإحساس

ص:273

بالأبيض و الإحساس بالاسود،و إدراك الحلو و إدراك المرّ.و قد تختلف بالنسبة إلى أمور متغايرة بالذات،بل متباينة كإدراك الصّورة و إدراك المعنى،و كإدراك المعنى الجزئيّ و إدراك المعنى الكلّيّ.و قد تختلف بالحسّ مثل إدراك اللّون و إدراك الطّعم.و قد تختلف بالذّات مثل الإدراك و التحريك،و مثل الشهوة و الغضب.و قد تختلف مع بعض هذه الاختلافات بالتقدّم و التأخّر أيضا،كالأفعال النّباتيّة و الحيوانيّة و الإنسانيّة،كما قالوا من أنّ المنيّ في الرّحم يكون له أوّلا الأفعال النباتيّة،ثمّ الحيوانيّة،ثمّ الإنسانيّة.و قد تختلف مع ذلك بالاختلاف في الموضوع أيضا،كهذه الأفعال أيضا،فإنّ النباتيّة قد توجد في النبات دون الحيوانيّة،و كذلك الحيوانيّة قد توجد في الحيوان دون الإنسانيّة،إلى غير ذلك من وجوه الاختلاف التي تعلم بالتّتبع.

و الذي يقتضيه التدبّر في كلام الحكماء،و في دليلهم على إثبات القوى الخاصّة و المشتركة،أنّ الأفعال المختلفة بالشدّة و الضّعف،أو بالسرعة و البطء،فإنّ مبدأها قوّة واحدة،لكنّها تكون تارة أتمّ فعلا و تارة تكون أنقض فعلا،إذ لو اقتضى ذلك قوى متعدّدة متغايرة،و أن يكون للأنقص قوّة غير القوّة التي للأتمّ،لوجب أن يكون عدد القوى بحسب عدد مراتب النقصان و الزيادة التي تكاد لا تتناهى.كما أنّه لو كان اختلاف الأفعال بحسب التشخّصات التي لا تكاد تنتهي إلى حدّ يوجب اختلاف القوى و تغايرها،لوجب أن يكون عدد القوى بحسب ذلك غير متناه،بل القوّة الواحدة يعرض لها أن تفعل الفعل أشدّ أو أضعف أو أسرع أو ابطأ بحسب الاختيار،أو بحسب مواتاة الآلة،أو بحسب عوائق من خارج أن يكون و أن لا يكون،أو أن يقلّ أو أن يكثر.كما أنّه يعرض للقوّة الواحدة اعتبارات و تشخّصات متعدّدة مع كون ذاتها واحدة.

و كذلك الأفعال المختلفة بالعدم و الملكة،فمبدؤها قوّة واحدة يعرض لها تارة أن تفعل،و تارة أن لا تفعل،مع كون شأنها أن تفعل لو لا العائق عنه.

و أيضا كلّ قوّة من حيث هي قوّة أوّلا و بالذات على فعل من الأفعال التي تقتضي قوى خاصّة،و إن كانت قوّة على ذلك الفعل الذي تخصّه،و يستحيل أن يكون مبدأ لفعل

ص:274

آخر غير بالقصد الأوّل.لكنّه قد يجوز أن يكون مبدأ الأفعال كثيرة غيره بالقصد الثاني.

و هذا مثل إنّ الإبصار إنّما هو قوّة أوّلا و بالذات على إدراك الكيفيّة التي هي اللّون،و اللّون يكون بياضا و سوادا و غيرهما.و مثل القوّة المتخيّلة التي شأنها أن تستثبت صور الأمور المادّيّة من حيث هي مادّيّة مجرّدة نوعا من التجريد غير بالغ،ثمّ يعرض أن يكون ذلك لونا أو طعما أو عظما أو صوتا أو غير ذلك،و مثل القوّة العاقلة التي شأنها أن تستثبت صور الأمور من حيث هي بريئة عن المادّة و علائقها،ثمّ يتّفق أن يكون ذلك شكلا أو عددا أو غير ذلك.

و كذلك قد يجوز أن يكون القوّة معدّة نحو فعل بعينه تحتاج إلى أمر آخر،فينضمّ إليها حتّى يصير بها ما بالقوّة حاصلا بالفعل.فإن لم يكن ذلك الأمر لم تفعل،فيكون مثل هذه القوّة تارة مبدأ للفعل بالفعل،و تارة غير مبدأ له بالفعل،بل بالقوّة.و هذا مثل القوّة المحرّكة،فإنّها إذا صحّ الإجماع من القوّة الشوقيّة بسبب داع من التخيّل أو التعقّل إلى التحريك،حرّكت لا محالة.فإن لم يصحّ،لم تحرّكه.و ليس يصدر عن قوّة محرّكة واحدة بآلة إلاّ حركة واحدة أو الحركات الكثيرة لكثرة آلات الحركة التي هي العضل فينا،و في كلّ عضلة قوّة محرّكة جزئيّة،لا تحرّك إلاّ حركة بعينها.و قد تكون الواحدة أيضا يختلف تأثيرها بحسب القوابل المختلفة و الآلات المختلفة.

هذا،و أمّا الأفعال التي بينها ترتيب و تقدّم و تأخّر زمانيّ،و لها اختلاف في الموضوع كالأفعال التي هي أقسام أوّليّة من جملة أفعال النّفس،و هي ثلاثة أقسام:أفعال يشترك فيها الإنسان و الحيوان و النبات،كالتغذية و التنمية و التوليد؛و أفعال يشترك فيها الإنسان و الحيوان كلّها أو جلّها و لا حظّ للنبات فيها،مثل الإحساس و التخيّل و الحركة الإراديّة؛و أفعال تختصّ بالإنسان،مثل تعقّل المعقولات و استنباط الصنائع و الرويّة في الكائنات و التفرقة بين الجميل و القبيح،فلها قوى متعدّدة،و لكلّ قسم منها قوّة على حدة،إذ ليس يمكن أن يكون لهذه الأقسام الثلاثة الأوّليّة التي قلنا إنّها مختلفة بالتقدّم و التأخّر الزمانيّ و في الموضوع،و مع ذلك فهي مختلفة غاية الاختلاف،قوّة واحدة هي

ص:275

مبدأ للجميع،و هذا هو القول في تلك الأقسام الأوّليّة.

و أمّا القول في خصوص كلّ قسم،قسم،فهو أنّ ما للإنسان من الأفعال الأوّليّة المختصّة به فعلان:علم و عمل،و حيث كانا فعلين مختلفين و أمرين متغايرين تغايرا بالذّات،ينبغي أن يكون لكلّ من العلم و العمل قوّة مختصّة،فلذلك كانت القوّة العمليّة مغايرة للقوّة النظريّة.

ثمّ إنّه حيث كانت مراتب كلّ منهما مختلفة متغايرة،ينبغي أن يكون لكلّ مرتبة من تلك المراتب قوّة أخرى تخصّها،و بيان ذلك:أمّا في مراتب العمليّة،فلأنّ تلك المراتب على ما قالوه أربع:

أوّلها:تهذيب الظاهر باستعمال النواميس الإلهيّة و الشرائع النبويّة.

و ثانيتها:تهذيب الباطن و تطهير القلب عن الملكات الرديّة و الأخلاق الظلمانيّة، و نقض آثار شواغله عن عالم الغيب.

و ثالثتها:تنويرها بالصّور العلميّة و الصفات المرضيّة،و بعبارة أخرى ما يحصل بعد الاتّصال بعالم الغيب،و هو تجلّي النّفس بالصّور القدسيّة.

و رابعتها:فناء النفس عن ذاتها،و قصر النظر على ملاحظة جمال اللّه تعالى و جلاله، حتّى يرى كلّ قدرة مضمحلّة في جنب قدرته الكاملة،و كلّ علم مستغرقا في علمه الشامل،و أنّ كلّ وجود و كمال فائض عن جنابه تعالى.

و لا يخفى أنّ تلك المراتب أمور متغايرة بالذّات،ليست إحداها هي الأخرى.

و حيث كانت كذلك،فينبغي أن يكون لكلّ واحدة منها قوّة تخصّها.

و أمّا في مراتب النظريّة التي هي أربع أيضا عندهم:و هي العقل الهيولانيّ، و بالملكة،و بالمستفاد،و بالفعل،فلأنّها و إن كانت من جهة يغاير بعضها بعضا بالكماليّة و الاستعداد نحو الكمال،و بأنّ الاستعداد إمّا قريب أو بعيد أو متوسّط،حيث إنّ العقل المستفاد كمال و الهيولانيّ استعداد بعيد و بالملكة استعداد متوسّط و بالفعل استعداد قريب كما قالوه،و يمكن أن يذهب الوهم إلى أنّ المبدأ للكلّ قوّة واحدة يختلف أحوالها

ص:276

و أفعالها بالكماليّة و الاستعداد و القرب و البعد و المتوسّط،كما ذكرنا أنّ القوّة الواحدة يمكن أن تكون تارة مبدأ لفعل بالفعل،و تارة مبدأ له بالقوّة،إلاّ أنّك ستعلم ممّا نذكره في بيان أحوال هذه القوّة،أنّ مراتبها مرتّبة في التقدّم و التأخّر الزمانيّين،و بعضها متقدّم على بعض في الزمان،و بعضها متأخّر عن بعض فيه،و كذلك بعضها رئيس و مخدوم لبعض، و بعضها مرءوس و خادم.و تعلم أيضا أنّ تلك المراتب التي حالها ما ذكر تكون مختلفة متغايرة البتّة،لا يجوز أن يكون لجميعها قوّة واحدة بالذّات،بل ينبغي أن يكون لكلّ مرتبة قوّة تخصّها،لأنّهم لذلك أثبتوا لتلك المراتب قوى متعدّدة و إن لم تكن تلك القوى متباينة بالذات،كالقوى الحيوانيّة مثلا.فإنّ القوى الحيوانية متباينة بالذّات لكونها مبادي أفعال مختلفة،و القوى الإنسانية غير متباينة بالذّات لكونها متعلّقة بذات واحدة مجرّدة.

و إنّما تختلف بحسب الاعتبارات التي هي بالقياس إلى تلك الذات عوارض،و هذا هو القول في القوى المتعدّدة التي للنّفس النّاطقة الإنسانيّة.

و أمّا القول في قوى النّفس الحيوانيّة،فهو أنّ لها بالقسمة الاولى فعلان:أحدهما التحريك،و الآخر الإحساس و الإدراك.و حيث كان التحريك و الإدراك فعلين متغايرين بالذات،و مع ذلك فقد يفترقان بالموضوع أيضا،كما في الرية من جملة الأعضاء،حيث قالوا إنّها دائمة الحركة،و لم يجعل لها حسّ و إدراك لئلا تتألّم باصطكاك بعضها ببعض، فينبغي أن يكون لكلّ من التحريك و الإدراك قوّة على حدة خاصّة،تسمّى إحداهما قوّة محرّكة و الأخرى قوّة حاسّة مدركة.ثمّ إنّ المحرّكة حيث كانت على قسمين:محرّكة، بمعنى أنّها باعثة على الحركة هي النزوعيّة،و محرّكة،بمعنى أنّها فاعلة للحركة،و كان البعث و الفعل أمرين متغايرين،حيث إنّ الباعثة النزوعيّة هي التي إذا ارتسمت في التخيّل صورة مطلوبة أو مهروبة عنها،بعثت القوّة المحرّكة الفاعلة على التحريك.و هي التي تنبعث في الأعصاب و العضلات،و من شأنها أن تشنّج العضلات،فتجذب الأوتار و الرّباطات المتّصلة بالأعضاء إلى نحو جهة المبدأ،أو ترخيها أو تمدّهما طولا فتصير الأوتار و الرباطات إلى خلاف جهة المبدأ،فينبغي أن يكون لكلّ من الفعلين قوّة

ص:277

على حدة تخصّه و كذلك الباعثة للحركة،حيث كانت لها شعبتان:شعبة تسمّى شهوانيّة، و هي ما تنبعث على تحريك يقرب به من الأشياء المطلوبة طلبا للّذّة؛و شعبة تسمّى غضبيّة،و هي ما تنبعث على تحريك يدفع به الشيء المهروب عنه طلبا للغلبة،و كان الغضب و الشهوة فعلين متغايرين مختلفين،ينبغي أن يكون لكلّ منهما قوّة تخصّه، و عسى أن نشير فيما بعد إن شاء اللّه تعالى إلى بعض جهات المغايرة أيضا.و كذلك الإدراك و إن كان معنى واحدا،إلاّ أنّه لمّا كان ينقسم بانقسام المدركات و بتبعيّتها إلى أقسام كثيرة بعدد الحواسّ و المشاعر الظاهرة و الباطنة،و كانت تلك المدركات التي هي مدركات أوّليّة مختلفة بالذّات،و كذا كانت إدراكاتها باعتبارها و بالعرض،و مع ذلك كانت تلك الإدراكات متفارقة بالموضوع و بحسب الآلة،و كانت لكلّ منها آلة غير ما هي للاخرى،إن صحّت تلك الآلة صحّ ذلك الإدراك المنسوب إليها،و إن فسدت فسد،كما يعلم ذلك بالتجربة و الاعتبار،فعلى هذا،كان ينبغي أن يكون لكلّ من تلك الإدراكات المختلفة قوّة تخصّها،و عسى أن نشير فيما بعد إن شاء اللّه تعالى إلى بعض جهات المغايرة أيضا،و هذا هو الكلام في قوى النّفس الحيوانيّة.

و أمّا الكلام في قوى النّفس النباتيّة،فهو أنّهم و إن أثبتوا لها بالقسمة الاولى قوى ثلاثا:هي القوّة الغاذية و المنمية و المولّدة،و أثبتوا لها بالقسمة الثانية قوى أخرى، كالهاضمة و الجاذبة و الدافعة و الماسكة،إلاّ أنّ لبعضهم في وحدة بعض هذه و تعدّده كلاما يعلم ذلك من النظر في كتب الحكماء و الاطبّاء،فلا نطيل الكلام بذكره.و الضّابط فيها أيضا أنّ ما كان من تلك الأفعال مختلفة بالذّات،أو في الموضوع،أو من جهة الخادميّة و المخدوميّة أو نحو ذلك من الجهات التي بها تكون قواها مختلفة-كما سيظهر لك في بيان تعديد القوى النباتيّة-،فيقتضي كلّ منها قوّة على حدة خاصّة،و إلاّ فلا وجه لإثبات القوّة الخاصّة لها،بل يمكن أن يكون هناك قوّة واحدة تختلف اعتباراتها و حالاتها.

ص:278

في الكلام في آلات النّفس و الأعضاء التي

يتعلّق بها القوّة الرّئيسة من النّفس

و حيث انتهى الكلام إلى هذا المقام،فلنتكلّم في آلات النّفس و الأعضاء التي يتعلّق بها القوّة الرئيسة من النّفس،و حيث كان تفصيل ذلك و تحقيقه على الوجه الأتمّ مذكورا في الشّفاء،فلنكتف فيه بنقل ما قال هو فيه،فنقول:

قال الشّيخ في«الشّفاء» (1):«إنّه قد أفرط النّاس في أمر الأعضاء التي يتعلّق (2)بها القوّة الرّئيسة من النّفس إفراطا في جنبي (3)اللّجاج،و ركنوا إلى تعسّف كثير و تعصّب شديد، مال إليه كلّ واحد من الفريقين حتّى خرج من الحقّ،و أكثرهم (4)من جعل النّفس ذاتا واحدة و قضى مع ذلك أنّ الأعضاء الرّئيسة كثيرة،فإنّه لما تخالف (5)فيه الفلاسفة القائلة بتكثّر أجزاء النّفس،و وافق من قال بوحدانيّتها،لم يعلم أنّه يلزمه أن يجعل العضو الرئيس واحدا،و هو الذي يكون به أوّل تعلّق النّفس،و أمّا المكثّرون لأجزاء النّفس،فما عليهم أن يجعلوا لكلّ جزء (6)معدنا مخصوصا و مركزا مفردا،فنقول:أوّلا أنّ القوى النّفسانيّة البدنيّة،مطيّتها الأولى جسم لطيف نافذ في المنافذ روحانيّ،و أنّ ذلك الجسم هو الرّوح،و أنّه لو لا أنّ قوى النّفس النّاطقة المتعلّقة بالجسم ينفذ (7)محمولة في جسم،لما كان سدّ المسالك حابسا لنفوذ القوى المحرّكة و الحسّاسة و المتخيّلة أيضا،و هو (8)أيضا حابس ظاهر الحبس عند من جرّب التّجارب الطبيّة،و هذا الجسم نسبته إلى لطافة الأخلاط و بخاريّتها نسبة الأعضاء إلى كثافة الأخلاط،و له مزاج مخصوص،و مزاجه أيضا (9)يتغيّر بحسب الحاجة إلى اختلاف يقع (10)فيصير به حاملا لقوى مختلفة،و أنّه ليس (11)يصحّ المزاج الذي منه يغضب للمزاج الذي معه يشتهي (12)،و لا المزاج الذي يصلح للرّوح الباصرة (13)هو بعينه الذي يصلح للرّوح المحرّك.و لو كان المزاج واحدا،لكانت (14)المستقرّة

ص:279


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 232/2،الفصل الثامن من المقالة الخامسة.
2- في المصدر:تتعلّق...
3- جنبتي...
4- و أكثرهم غلطا من...
5- لمّا خالف...
6- جزء منه معدنا...
7- تنفذ...
8- و هو حابس...
9- يتغيّر أيضا...
10- يقع فيه ليصير به...
11- فإنّه ليس يصلح المزاج...
12- يشتهي أو يحسّ...
13- الباصر...
14- لكانت القوى المستقرّة.

في الرّوح واحدة و أفعالها واحدة.فإذا كانت النّفس واحدة،فيجب أن يكون لها أوّل تعلّق بالبدن،و من هناك تدبّره و تنميه،و أن يكون ذلك بتوسّط هذا الرّوح،و يكون أوّل ما تفعل النّفس (1)تفعل بفعل العضو الّذي لوساطته (2)تنبعث قوّته في سائر الأعضاء بتوسّط هذا الروح،و أن (3)ذلك العضو متكوّن من الأعضاء،و أوّل (4)معدن لتولّد الرّوح،و هذا هو القلب، يدلّ على ذلك ما حقّقه التّشريح المتقن،و سنزيد لهذا (5)المعنى شرحا في الفن الذي في الحيوان.

فيجب أن يكون أوّل تعلّق النّفس بالقلب،و ليس يجوز أن تتعلّق بالقلب،ثمّ بالدّماغ،فإنّها إذا تعلّقت بأوّل عضو،صار البدن نفسانيّا.

و أمّا الثّاني:فانّما يعقل (6)لا محالة بتوسّط هذا الأوّل،فالنّفس تحيي الحيوان بالقلب، لكن يجوز أن يكون (7)قوى الأفعال الاخرى تفيض من القلب إلى الأعضاء الأخرى، لأنّ الفيض يجب أن يكون صادرا من أوّل ما يتعلّق (8)،فيكون الدّماغ هو الذي يتمّ فيه مزاج الرّوح الذي يصلح لأن يكون حاملا لقوى الحسّ و الحركة إلى الأعضاء حملا يصحّ (9)معه أن يصدر معها أفعالها حال (10)الكبد بالقياس إلى قوى التغذية،و لكن يكون القلب هو المبدأ الأوّل الذي أوّل تعلّقه به،و منه ينفذ (11)إلى غيره و يكون الفعل في أعضاء أخرى،كما أنّ مبدأ الحسّ عند مخالف (12)هذا القول إنّما هو في الدّماغ،لكنّ أفعال الحسّ لا تكون به و فيه،بل في أعضاء (13)كالجلد و كالعين و كالأذن،و ليس يجب من ذلك أن لا يكون الدّماغ مبدأ،كذلك أيضا يجوز أن يكون القلب مبدأ لقوى التّغذية،و لكن أفعالها في الكبد،و لقوى التّخيّل و التّذكّر و التّصوّر (14)لكن أفعالها في الدّماغ،بل ينبغي أن (15)يكون مبدأ القوى المختلفة غير صالح لأن يصدر عن معدنه جميع أفعالها،بل يجب أن (16)يتفرّع في آلات مختلفة تتخلّق بعد ذلك العضو تخلّقا،و تفيض من ذلك العضو إليها قوّة ملائمة

ص:280


1- في المصدر:النّفس يفعل العضو...
2- بوساطته تنبعث قواها...
3- و أن يكون...
4- أوّل متكوّن...
5- هذا المعنى...
6- تفعل فيه...
7- تكون...
8- متعلّق به...
9- يصلح معه أن تصدر عنها أفعالها...
10- و كذلك حال...
11- تنفذ...
12- مخالفي هذا...
13- أعضاء أخرى كالجلد...
14- و التصوّر و لكنّ...
15- يكون المبدأ للقوى...
16- تتفرّع.

لمزاج ذلك الرّوح و استعداده،على ما ستقف عليه في ذكر الحيوان،حتّى لا يكون على العضو الذي هو المبدأ ثقل،و لذلك خلقت العصب للدّماغ و الأوردة للكبد،و كان (1)الدّماغ مبدأين أوّلين للحسّ و الحركة و التغذية،و كانتا (2)مبدأين ثانيين.و إذ فاض من القلب قوّة التكوين و التّخليق إلى الدّماغ،فيكون (3)الدّماغ،فلا كثير بأس أن (4)يكون الدّماغ يرسل من نفسه آلة يستمدّ بها الحسّ و الحركة من القلب (5)،فلا يجب من القلب أو يكون القلب أن ينفذ إليه الآلة التي بتوسّطها ينفذ إليه الحسّ و الحركة.فلا يجب أن يقع من المضايقة في أمر خلقة العصب أنّ مبدأها من القلب أو (6)الدّماغ ما هو ذا يقع،بل (7)يسلّم أنّه من الدّماغ و يستمدّ من القلب،كما أنّ الكبد يرسل إلى المعدة ما يستمدّ منها فيه،و لها أيضا عروق تمدّ غيرها بها.فليس يجب أن يكون العضو-الذي هو مبدأ قوّة فيه أيضا-أوّل (8)تلك القوّة،و أن يكون آلة لأفعال تلك القوّة،بل يجوز أن (9)يكون الآلة خلقت للاستمداد من شيء آخر،و أن تكون (10)إنّما تستمدّ بعد تخلّقها،حتّى يكون الدّماغ أوّل ما يخلق (11)لم يكن مبدأ للحسّ و الحركة بالفعل،بل مستعدّا لأن يصير مبدأ (12)للأعضاء التي بعده إذا استمدّ من غيره بعد أن يتخلّق (13)آلة الاستمداد من غيره له،فلمّا تخلّق منه عصب ذاهب إلى القلب،استمدّ الحسّ و الحركة منه حينئذ،و يمكن أن يكون مع تخلّق هذا المنفذ بلا تأخّر،فلا يكون (14)في نفوذه عنه إلى القلب حجّة أيضا،و لا شبه حجّة،بل كما تخلّق الدّماغ تخلّق (15)معه عن مادّته شيء نافذ إلى القلب غريب عن القلب يستمدّ (16)منه الحسّ و الحركة.على أنّ نبات هذا العصب من الدّماغ،و مصيره منه إلى القلب ليس شيئا يظهر الظّهور الذي يظنّه مدّعي نبات العصب الذي (17)من الدّماغ أو القلب من الدّماغ إلى القلب، لا من القلب إلى الدّماغ،على ما سنوضّحه في موضعه من كلامنا في طبائع الحيوان (18).

و مع ذلك فلنعد إلى معاملة أخرى،فنقول:إنّه ليس بمستحيل أن يكون مبدأ وجوده (19)

ص:281


1- في المصدر:كان الدماغ...
2- أو كانا مبدأين...
3- فتكوّن...
4- بأن يكون...
5- من القلب،أو يكون القلب ينفذ...
6- أو من الدماغ...
7- بل نسلّم...
8- أول أفعال تلك...
9- أن تكون...
10- و أن تكون إنّما تستمدّ...
11- ما تخلق...
12- مبدأ ما للأعضاء...
13- أن تتخلّق...
14- فلا تكون...
15- يخلق معه من مادّته...
16- استعدّ منه...
17- الذي بين الدماغ و القلب،من الدماغ...
18- الحيوان،و نطول الكلام فيه طولا يشفي و يقنع...
19- وجود قوّة.

قوّة هي في عضو،فينفذ (1)من ذلك العضو إلى عضو آخر،و هناك تتمّ القوّة و تستكمل ثمّ ينعطف (2)إلى هذا العضو الأوّل فيرقده (3)،فإنّ الغذاء إنّما يصير إلى الكبد من المعدة،ثمّ إذا صار هنالك على نحو ما أعاد (4)،فغذاء المعدة في عروق تنبعث من الطّحال (5)في الأجوف و تنبثّ في المعدة.فلا ضير أن يكون مبدأ القوّة ينبعث من القلب (6)و لا تكون القوّة في القلب كاملة تامّة،ثمّ إنّها تعيد (7)القلب إذا استكملت في عضو آخر.

و هكذا حال الحسّ المشترك،فإنّ مبدأ القوّة الحسّاسة الجزئيّة منها (8)،ثمّ إنّها تعود إليه بالفائدة.

على أنّ حسّ القلب (9)بنفسه-و خصوصا اللّمس-أعظم من حسّ الدماغ نفسه و لذلك أوجاعه لا تحمل (10).و على [أنّه يمنع في القوى أن يصير (11)]أقوى و أشدّ في غير مباديها المصادفة (12)موادا تحملها بتلك الحالة،و يشبه أن يكون (13)قوّة أطراف الأوتار على الجذب أشدّ من قوّة أوائلها التي على (14)العصب،فالقلب مبدأ أوّل تفيض منه إلى الدّماغ قوى،بعضها (15)يتمّ أفعالها في الدّماغ و أجزائه،كالتّخيّل و التّصوّر و غير ذلك،و بعضها (16)يفيض من الدّماغ إلى أعضاء خارجة عنه،كما يفيض (17)إلى الحدقة و إلى العضل المتحرّكة، و يفيض (18)من القلب إلى الكبد قوّه التّغذية،ثمّ (19)يفيض من الكبد بتوسّط العروق في جميع البدن،و يغذو (20)القلب أيضا،فيكون (21)القوّة مبدؤها من القلب،و المادة مبدؤها من الكبد.

و أمّا القوى الدّماغيّة،فإنّ البصر يتمّ بالرّطوبة الجليديّة التي هي كالماء الصّافي، فيقبل (22)صور المبصرات و يؤدّيها (23)إلى الرّوح الباصرة (24)،و يكون تمام الأبصار عند ملتقى العصبة المجوّفة،على ما علم من تشريحه و تعريف حاله.

و أمّا الشّمّ فبزائدتين في مقدّم الدّماغ كحلمتي الثّدي.

و أمّا الذّوق فبأعصاب دماغيّة (25)في اللّسان و الحنك،و تعطيها (26)قوّة الحسّ

ص:282


1- في المصدر:فتنفذ...
2- تنعطف...
3- فترفده...
4- عاد فغذّى المعدة...
5- الطحال و الأجوف...
6- القلب مثلا...
7- تفيد القلب...
8- منها...
9- القلب نفسه...
10- لا تحتمل...
11- أنّه ليس بممتنع في القوى أن تصير...
12- لمصادفة مواد تجعلها بتلك...
13- تكون...
14- تلي العصب...
15- فبعضها تتمّ...
16- تفيض من...
17- تفيض إلى...
18- و تفيض من...
19- ثمّ تفيض...
20- و تغذو...
21- فتكون...
22- فتقبل...
23- و تؤدّيها...
24- الباصر...
25- دماغيّة بقي في...
26- و تؤتيهما قوّة.

و الحركة.

و أمّا السّمع فبأعصاب أيضا (1)دماغيّة تأتي الصّماخ فتغشّي السّطح المحيط به.

و أمّا اللّمس فبأعصاب دماغيّة نخاعيّة منتشرة (2)في البدن كلّه.و أكثر عصب الحسّ من مقدّم الدّماغ،لأنّ مقدّم الدّماغ ألين،و اللّين أنفع في الحسّ.و مقدّم الدّماغ كما يتأدّى إلى خلف و إلى نخاع (3)،فيصير أصلب لتدرّج إلى النّخاع الذي يجب أن يعين (4)و فيه الصّلابة.و أكثر عصب الحركة التي من الدّماغ إنّما ينبت (5)من مؤخّر الدّماغ،لأنّه أصلب، و الصّلابة أنفع في الحركة و أعون عليها،و العصبة (6)التي للحركة في أكثر الأمر يتولّد (7)منها العضل،فإذا جاوزت العضل حدث منها و من الرّطوبات الأوتار،و أكثر اتّصال أطرافها بالعظام،و قد تتّصل في مواضع بغير العضلة (8)،و قد يتّصل العظام أنفسها بالعضو المحرّك من غير توسّط وتر،و النّخاع كجزء من الدّماغ ينفذ في ثقب الفقارات،لئلاّ يبعد ما يتولّد من العصب من الأعضاء،بل يتولّد منها العصب مرسلة بالقرب إلى الموضع المحتاج كونها (9).

و أمّا القوّة المصوّرة و الحسّ المشترك،فهما (10)مقدّم الدّماغ في روح يملأ (11)ذلك التجويف،و إنّما (12)كان هناك ليطّلعا على الحواسّ التي أكثرها إنّما تنبعث من مقدّم الدّماغ، فيبقى (13)الفكر و الذكر في التّجويفين الآخرين،لكنّ الذّكر قد تأخّر موضعه،فيكون (14)الرّوح المفكّرة متوسّطا بين خزانة الصّورة (15)بين خزانة المعنى،و يكون (16)مسافته بينهما واحدة.و الوهم مستول على الدّماغ كلّه،و سلطانه في الوهم (17).

و أخلق بأن يتشكّك مشكّك،فيقول:كيف يرتسم (18)صورة جبل،بل صورة العالم في الآلة اليسيرة (19)تحمل القوّة المصوّرة؟

فنقول (20):إنّ الإحاطة بانقسام الأجسام إلى غير (21)النّهاية تكفي مئونة هذا التّشكّك،

ص:283


1- في المصدر:دماغيّة أيضا...
2- تنتشر...
3- و إلى النخاع يصير أصلب ليتدرّج...
4- تعين دقته...
5- تنبت...
6- و العصب...
7- تتولّد...
8- بغير العظام،و قد تتّصل العضلة نفسها بالعضو...
9- كونها به...
10- فهما من مقدّم...
11- تملأ...
12- و إنّما كانا هناك ليطلاّ...
13- فبقي...
14- ليكون مكان الروح...
15- الصور...
16- و تكون...
17- في الوسط متشكّك...
18- ترتسم...
19- التي تحمل...
20- فنقول له...
21- غير نهاية.

فإنّه كما يرتسم العالم في مرآة صغيرة،و في الحدقة بأن ينقسم ما يرتسم فيه بحذاء أقسامه،إذ الجسم الصّغير (1)بحسب قسمة الكبير عددا و شكلا،و إن كان يخالف القسم (2)في المقدار،فكذلك حال ارتسام الصّور الخياليّة في موادّها،ثمّ يكون (3)نسبة ما يرتسم فيه الصّور الخيالية بعضها إلى بعض في عظم ما يرتسم فيه و صغر ما (4)يرتسم فيه،نسبة لشيئين (5)من خارج في عظمهما و صغرهما،مع مراعاة التّشابه في البعد.

و أمّا قوّة العصب (6)و ما يتعلّق بها،فلم تجتمع (7)إلى عضو غير المبدأ،لأنّ فعلها فعل واحد،و يلائم (8)المزاج الشّديد الحرّ و يحتاج (9)إليه،و ليس تأثير المتّفق منه أحيانا تأثير المتّصل من المفكّرة (10)و الحركة حتّى يخاف أن يشتعل اشتعالا مفرطا،و ذلك لأنّه ممّا يعرض أحيانا،و ذلك (11)كاللّازم،مثل الفهم،و المفكّرة (12)و ما يشبههما ممّا يحتاج إلى ثبات و إلى قبول،و يجب أن يكون العضو المعدّ لها (13)أرطب و أبرد،و هو الدّماغ،لئلاّ يشتعل الحارّ الغريزيّ اشتعالا شديدا،و ليقاوم الالتهاب الكائن بالحركة،و لمّا كانت التّغذية ممّا يجب أن يكون العضو (14)عديم الحسّ،حتّى يمتلئ من الغذاء و يفرغ منه،فلا يوجعه ذلك و لا يتألّم كثيرا ممّا (15)ينفذ فيه و منه و إليه،و أن يكون أرطب جدّا كيما يحفظ الحارّ الغريزيّ (16)بالمفارقة و المقاومة،فجعل ذلك العضو الكبد،و جعل قوّة التّوليد في عضو آخر شديد الحسّ ليعين على الدعاء إلى الجماع بالشّبق،و إلاّ لم (17)يتكلّف ذلك،و لو لم يكن فيه لذّة و إليه شبق،إذ لا حاجة إليه في بقاء الشخص،و اللذّة تتعلّق بعضو حسّاس،فجعل له الأنثيان،و أعينا (18)بآلات اخرى بعضها لذبّ (19)المادّة و بعضها لدفعها،كما يأتيك ذكره حيث نتكلّم في الحيوان-انتهى كلامه-.

ص:284


1- في المصدر:الصغير ينقسم...
2- القسم القسم في...
3- تكون نسبة ما ترتسم فيه الصورة الخياليّة،بعضه...
4- ما ترتسم...
5- الشيئين...
6- الغضب...
7- فلم تحتج...
8- و تلائم...
9- و تحتاج...
10- الفكرة...
11- و ذانك...
12- و الفكرة...
13- المعدّ له...
14- يكون بعضو...
15- بما ينفذ...
16- الحارّ القويّ بالمعادلة و المقاومة...
17- لم يكن يتكلّف ذلك،لو لم يكن...
18- و أعينتا...
19- لجذب.

في الإشارة إلى المناسبة بين النّفس و البدن

و احتياج أحدهما إلى الآخر و الارتباط بينهما

و أقول:و أنت بعد تدبّرك فيما نقلنا عنه من هذا الكلام،و تذكّرك لما أسلفنا لك في الأبواب السّالفة،يظهر لك أنّه كما أنّ النّفس الإنسانيّة ذات واحدة بالعدد،و لها قوى مختلفة مرتبطة بعضها ببعض،و هي منبع تلك القوى و ما به الارتباط بينها؛و أنّ قواها يرؤس بعضها بعضا،و يخدم بعضها بعضا،و الرّئيس للكلّ واحد بالعدد،كذلك العضو الرّئيس من آلاتها-أي القلب-عضو واحد بالعدد،و هو بما فيه من الرّوح أوّل ما يتعلّق به النّفس،و هو أيضا منبع الآلات،و هي مرتبطة بعضها ببعض ارتباطا تامّا كما ذكر.

فيكون المناسبة بين النّفس و البدن بهذا الاعتبار تامّة.

و كذلك يظهر لك أنّه كما أنّ البدن محتاج إلى النّفس لأجل حفظ تركيبه و مزاجه و بقائهما،كذلك النّفس محتاجة إلى البدن،لأجل أفعالها الآليّة،و كذا للاستعانة في أفعالها الذّاتيّة.

و كأنّه لأجل ذلك اشتبه الأمر على بعض الأقدمين من الحكماء،فظنّ أنّ النّفس لا فعل لها بدون مشاركة البدن أصلا حتّى الأفعال الذّاتية لها كالتّعقّل و إدراك الأمور الكلّيّة على ما نقله صاحب«الملل و النحل»عن الاسكندر الأفريدوسي تلميذ أرسطو (1)، و إن كان رأيه هذا مخالفا لرأي أستاده،و لرأي الجمهور من الحكماء.

و بذلك يظهر أنّ بين النّفس و البدن احتياجا شديدا لا غنى لأحدهما من الآخر بوجه،و به يظهر أيضا أنّ بينهما ارتباطا تامّا،و كفاك شاهدا على هذا تأثّر كلّ منهما عن الآخر،و تأثير كلّ واحد منهما في الآخر.أ ليس إذا أحسست بشيء من أعضائك شيئا أو تخيّلت أو اشتهيت أو غضبت،تأثّرت نفسك منها،و حصل فيها هيئة و كيفيّة من الكيفيّات النفسانيّة تسمّى حالا ما دامت سريعة الزّوال؟فإذا تكرّرت و أذعنت النّفس لها، فصارت كلّ مرّة أسهل تأثّرا حتّى تتمكّن تلك الكيفيّة منها و تصير بطيئة الزّوال،فصارت

ص:285


1- -الملل و النحل 443/2،طبع القاهرة،1367 ه.

تلك الهيئة ملكة و عادة و خلقا.و أ ليس إذا عرضت في النّفس هيئة ما عقليّة تأثّر بدنك منها،فحصل أثر ما منها إلى قواك ثمّ في أعضائك؟انظر أنّك إذا استشعرت جانب اللّه عزّ و جلّ و فكّرت[في]جبروته كيف يقشعرّ جلدك و يقف شعرك!فمن هذه الجملة يظهر لك كيفيّة الارتباط و الاتّحاد بينهما.فتبارك اللّه أحسن الخالقين.و حيث انتهى الكلام إلى هذا المقام،فلنختم هذا الباب به،و لنصرف عنان العناية إلى صوب المقصد الآخر،فنقول:

ص:286

الباب الثّالث: في تعديد قوى النّفس الإنسانيّة على ما هو المشهور بين الجمهور

اشارة

ص:287

ص:288

الباب الثّالث في تعديد قوى النّفس الإنسانيّة على ما هو المشهور بين الجمهور، و الإشارة إلى نبذ من الحكمة فيما لعلّه يحتاج إلى بيان الحكمة فيه.

اعلم أنّهم ذكروا أنّ للنّفس النّاطقة الإنسانيّة قوى تشارك بها الحيوانات العجم و النّبات،و قوى أخرى تشارك بها الحيوانات العجم دون النّبات،و قوى أخرى أخصّ من الأوليين تختصّ بالإنسان.

أمّا القوى الأولى التي بها تشارك الكلّ،و هي التي تسمّى نباتيّة لا لاختصاص النّبات بها،بل لانحصار قواه فيها،و يسمّيها الأطباء قوى طبيعيّة،و هي مبادي لأفعال مختلفة من غير إرادة،و تلك الأفعال إنّما هي حركات لحفظ البدن و توليده،و تصرّفات في مادّة الغذاء.

و آلة تلك القوى إمّا من الكيفيّات الفعليّة فالحرارة الغريزيّة،فإنّ الحارّ هو المستعدّ لتحريك الموادّ،و يتبعها البرد لتسكينها عند الكمالات.و إمّا من الكيفيّات الانفعاليّة فالرّطوبة،فإنّها هي التي تتخلّق و تتشكّل،و تتبعها اليبوسة لحفظ الموادّ،فأصولها ثلاثة:

الغاذية،و النّامية و المولّدة،اثنتان منها-و هما الغاذية و النّامية-لأجل الشّخص، و واحدة منها-و هى المولّدة-لأجل النّوع:

أمّا الغاذية،ففعلها إحالة الغذاء إلى مشاكلة المغتذي و إضافته إليه بدلا عما يتحلّل، و يتمّ فعلها بأفعال ثلاثة جزئيّة:

ص:289

أحدها تحصيل جوهر البدن و هو في الحيوان و الإنسان الدّم و الخلط الذي هو بالقوّة القريبة من الفعل شبيه بالعضو،و قد يخلّ به كما يقع في علّة تسمّى أطروقيا و هو عدم الغذاء.

و الثاني الإلزاق،و قد يخلّ به كما في الاستسقاء اللحميّ.

و الثالث التّشبيه بالعضو المغتذي حتّى في قوامه و لونه،و قد يخلّ به كما في البرص و البهق،فإنّ جوهر البدن و الإلزاق موجودان فيهما،و التّشبيه غير موجود.

فهذه الأفعال الثّلاثة بقوى ثلاث الغاذية مجموعها،أو قوّة أخرى هي رئيسة لها تستخدم كلّ واحدة منها.و القوّة التي يصدر منها التشبيه يسمّونها مغيّرة ثانية.أمّا التّغيير فظاهر،و أمّا كونها مغيّرة ثانية،فلما سيأتي.و هي واحدة بالجنس في الإنسان و غيره من المركّبات التي لها أعضاء و أجزاء مختلفة بالحقيقة بمنزلة الأعضاء و تختلف بالنّوع،إذ في كلّ عضو منها قوّة تغيّر الغذاء إلى شبيه مخالف لشبيه الأخرى.

و أمّا النّامية،فهي التي تداخل الغذاء بين أجزاء المغتذي فتزيد في الأقطار الثّلاثة بنسبة طبيعيّة،بأن تزيد في الأعضاء الأصليّة،أعني ما يتولّد عن المني كالعظم و العصب و الرّباط و غيرها.و بقولنا:«بنسبة طبيعيّة»يخرج الورم،فإنّه خارج عن المجرى الطبيعيّ، و بذلك يظهر الفرق بين النّموّ و السّمن،فإنّ السّمن إنّما هو زيادة في الأعضاء المتولّدة من الدم كاللحم و الشّحم السّمن،لا في الأعضاء الأصليّة.

و قيل:إنّ النّمو و السّمن مع اشتراكهما في شيء واحد و هو الازدياد الطّبيعيّ للبدن بانضياف مادّة الغذاء إليه،يفترقان في أشياء،منها التّناسب في الأقطار، و منها طلب غاية ما يقصدها الطبع،و منها الاختصاص بوقت معيّن،فالنّموّ يختصّ بجميعها،السّمن يخالفه أحيانا فيها و يوافقه أحيانا،و الذّبول يقابل النّموّ،و الهزال يقابل السّمن.

و بالجملة فالغاذية تخدم هذه القوّة في تحصيل المادّة.

ص:290

و أمّا المولّدة،فقد قال بعضهم ك«شارح التجريد» (1):«إنّ (2)المراد بها قوّتان،فوحدتها اعتباريّة كما في الغاذية،فإنّها كما ذكر (3)عبارة عن ثلاث قوى:«إحداهما يجعل فضلة الهضم الرابع منيّا،و هذه القوّة عملها في الأنثيين،لأنّ ذلك الدّم يصير منيّا فيهما، و ثانيتهما (4)ما يهيّئ كلّ جزء من المنيّ الحاصل من الذّكر و الأنثى في الرّحم لعضو مخصوص،بأن يجعل بعضه مستعدّا للعظميّة،و بعضه مستعدّا للعصبيّة،و بعضه مستعدّا للرّباطيّة،إلى غير ذلك.

و هذه القوّة تسمّى (5)المغيّرة الأولى،لأنّ المغيّرة كما تطلق على هذه القوّة،تطلق على إحدى القوى الثّلاث من القوى الغاذية أيضا لوجود (6)(7)التغيير فيها،فخصّت هذه بالمغيّرة الأولى،و تلك بالمغيّرة الثانية،لتقدّمها عليها في بدن المولود.و فعل هذه القوة إنّما يكون حال كون المنيّ في الرّحم،ليصادف (8)ذلك فعل القوّة المصوّرة،لأنّها تعدّ موادّ الأعضاء،و المصوّرة تلبسها صورها الخاصّة بها.و إنّما لم يذكر المصنّف القوّة المصوّرة لأنّه سيبطلها».

و قال الشيخ في«الشّفاء»:«و أمّا المولّدة فلها فعلان:أحدهما تخليق البذر (9)و تشكيله و تطبيعه،و الثّاني إفادة أجزائه في الاستحالة (10)النباتيّة صورها من القوى و المقادير و الأشكال و الأعداد و الخشونة و الملاسة (11)،و ما يتّصل بذلك،متسخّرة تحت تدبير المنفرد بالجبروت،فيكون (12)الغاذية تمدّها بالغذاء و النّامية تخدمها بالتمديدات المشاكلة»-انتهى-.

و قال المحقّق الطّوسيّ(ره)في قول الشّيخ في«الإشارات» (13):«و الثّالثة (14)المولّدة للمثل،و تنبعث بعد فعل القوّتين مستخدمة لهما»هكذا:«هذه القوّة تنقسم إلى نوعين:

ص:291


1- -شرح التجريد 231 و 232،للقوشجي.
2- في المصدر:أمّا المولّدة فالمراد بها...
3- كما ذكرنا آنفا...
4- و ثانيهما...
5- بالمغيّرة الاولى...
6- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 47/2،الفصل الاوّل في المقالة الثانية.
7- لوجود معنى التغيير...
8- لتصادف...
9- البزر...
10- الاستحالة الثانية...
11- الملاسة...
12- فتكون...
13- -شرح الإشارات 409/2. [2]
14- و الثالث القوّة.

مولّدة و مصوّرة،و المولّدة تنقسم إلى نوعين:محصّلة للبذر (1)و مفصّلة إيّاه إلى أجزاء مختلفة كالأعضاء،و هي الّتي تسمّى مغيّرة أولى بالقياس إلى التي تغيّر الغذاء خدمة للغاذية،و الغاذية المنمية تخدمان المولّدة»-انتهى-.

و أقول:إنّ من أبطل القوّة المصوّرة-كالمحقّق الطّوسيّ-نظر إلى أنّه يستحيل صدور الأفعال المحكمة المتقنة عن قوّة بسيطة عديمة الشعور،و أمّا من أثبتها-كالشّيخ و الأكثر-نظر إلى أنّ تلك الأفعال إنّما تصدر عنها بتدبير المنفرد بالجبروت تعالى شأنه- كما دلّ عليه كلام«الشّفا»-و حينئذ فلا استبعاد في إثباتها.

في الإشارة إلى الحكمة في القوى النباتيّة

و حيث عرفت ذلك فاعلم،أنّهم ذكروا في الحكمة في هذه القوى الثلاث و سبب الاحتياج إليها:أنّ النّفوس إنّما تفيض على الأبدان المركّبة بحسب قرب أمزجتها من الاعتدال و بعدها عنه،و لا بدّ في الأمزجة المعتدلة من أجزاء حارة بالطّبع،و تنبعث أيضا من كلّ نفس كيفيّة فاعلة مناسبة للحياة تكون آلة لها في أفعالها و خادمة لقواها،و هي الحرارة الغريزيّة.فالحرارتان تقبلان على تحليل الرّطوبات الموجودة في البدن المركّب، و تعاونهما على ذلك الحرارة الغريبة من خارج.فإذن لو لا شيء يصير بدلا لما يتحلّل منه لفسد المزاج،و بطل استعداد الممتزج لاتّصال النّفس به،ففسد التركيب.فالعناية الإلهيّة جعلت النّفس ذات قوّة تتّخذ ما يشبه بدنها المركّب بالقوّة،و تحيله إلى أن يشبهه بالفعل، فتضيفه إليه بدلا عمّا يتحلّل،و هي قوّة لا تخلو ذات نفس أرضية عنها.

ثمّ لمّا كانت الأسطقسّات متداعية إلى الانفكاك و لم يكن من شأن القوى الجسمانيّة أن تجبرها على الالتيام أبدا،و كانت العناية المتعالية الإلهيّة مستبقية للطّبائع النّوعيّة دائما،فقدّر بقائها بتلاحق الأشخاص.

أمّا فيما لم يتعذّر اجتماع أجزائه،لبعده عن الاعتدال و لسعة عرض مزاجه،فعلى

ص:292


1- في المصدر:..للبدن.

سبيل التولّد.

و أمّا فيما تعذّر ذلك لقربه منه و لضيق عرض مزاجه،فعلى سبيل التّوالد.

و جعلت النّفس الأخيرة ذات قوّة تختزل من المادّة التي تحصّلها الغاذية ما تجعلها مادّة شخص آخر من نوعه.

و لمّا كانت المادّة المختزلة للتّوليد-لا محالة-أقلّ من المقدار الواجب لشخص كامل،إذ هي مختزلة من شخص،جعلت النّفس المدبّرة لها ذات قوّة تضيف من المادّة التي تحصلها الغاذية شيئا فشيئا إلى المادّة المختزلة،فيزيد بها مقدارها في الأقطار على تناسب يليق بأشخاص ذلك النوع إلى أن يتمّ الشخص،فإذن النّفوس النباتيّة التامّة إنّما تكون ذات ثلاث قوى تحفظ بها الشخص إذا كان كاملا،و تكمله مع ذلك إذا كان ناقصا، و تستبقى النوع بتوليد مثله،و هي المسمّاة بالغاذية و المنمية و المولّدة للمثل.

فظهر من ذلك أنّ أفعال جميع هذه القوى إنّما تتمّ بتصرّفات في مادّة الغذاء،و أنّ هاهنا قوى ثلاثا لأفعال ثلاثة،و أنّ الاحتياج إلى الغاذية و المنمية لأجل الشّخص،و إلى المولّدة لأجل النّوع.و أنّ غاية فعل الغاذية الإحالة إلى المشابهة سدّا لبدل ما يتحلّل.و أنّ غاية فعل المنمية،الزّيادة في النشء على تناسب محفوظ مقصود في أجزاء المغتذي في الأقطار يتمّ بها الخلق.و إنّ غاية فعل المولّدة،الاختزال من ذلك فضلة تعدّ مادّة و مبدءا لشخص آخر.و أنّ الغاذية متقدّمة على النّامية و المولّدة،لتقدّم فعلها على فعليهما.و كذا هي خادمة للنّامية في تحصيل المادّة.

ثمّ إنّ النّامية و المولّدة،و إن كانتا جميعا متأخرتين عن الغاذية لكون فعليهما-أي الإنماء و التوليد-محوجين إلى كثرة المادّة المتعذّر تحصيلها و التصرّف فيها إلاّ بالغاذية، إلاّ أنّه لمّا كان الإنماء الذي هو فعل المنمية أهمّ،لأنّه يتعلّق بإكمال الشّخص،و إنّما احتيج إلى توليد المثل لكون الشّخص معرّضا للفناء،فجعل الإنماء متقدّما على التوليد نوعا من التقدّم،فجعلت المنمية متقدّمة على المولّدة،و جعلت المولّدة في ثالث المراتب، و جعلت المنمية خادمة لها،كما جعلت الغاذية خادمة للنّامية و للمولّدة أيضا.

ص:293

و ذكروا أيضا أنّ الغاذية في أوّل الأمر تقوى على تحصيل مقدار أكثر ممّا يتحلّل، لصغر الجثّة و كثرة الأجزاء الرّطبة فيها،فتعمل المنمية فيما فضل من الغذاء،ثمّ تعجز عن ذلك لكبر الجثّة و زيادة الحاجة،لنفاد أكثر الرّطوبات الأصليّة الصالحة لتغذية الحرارة الغريزيّة،فيصير ما تحصّله مساويا لما يتحلّل،و حينئذ يقف المنمية.ثمّ يقوى المولّدة حينا،ثمّ تقف هي أيضا،أي أنّه عند القرب من تمام النّموّ،تفرغ النّفس للتّوليد،فتقوى المولّدة حينا،و أنّه إذا عجزت الغاذية من إيراد بدل ما يتحلّل،بحيث لم يفضل شيء تتصرّف فيه المولّدة،أو انحرف المزاج بسبب الانحطاط المفرط فصارت المادّة غير مستعدّة لذلك،وقفت المولّدة أيضا،و تبقى الغاذية عمّالة إلى أن تعجز،فيحلّ الأجل عند عجزها عن إيراد البدل،لسرعة تحلّل الأجزاء و انحراف المزاج عن الاعتدال،و انطفاء الحرارة الغريزيّة لعدم غذائها و وجود ما يضادّها.

ثمّ إنّهم ذكروا أنّه يخدم الغاذية قوى أربع،هي الجاذبة و الماسكة و الهاضمة و الدّافعة.و ذكروا في وجه الاحتياج إلى تلك القوى الأربع و بيان أفعالها:أنّه لما كان وجود الشّخص-بل بقاء النّوع بتوليد المثل أيضا-لا يمكن إلاّ بتحصيل الغذاء النافع و إصلاحه و دفع فضلاته،احتيج إلى فعل قوى أربع.

أمّا الاحتياج إلى الجاذبة،فلأنّ الغذاء لا يمكن أن يصل بنفسه إلى جميع الأعضاء، لأنّه إن كان ثقيلا لا يصل إلى الأعضاء العالية،و إن كان خفيفا لا يصل إلى الأعضاء السّافلة،فاحتيج إلى قوّة تجذب الغذاء إلى الأعضاء.

و أمّا إلى الماسكة،فلأنّ الغذاء لا بدّ فيه من الاستحالة،حتّى يصير شبيها بجوهر المغتذى،و الاستحالة حركة،و كلّ حركة في زمان،فلا بدّ من زمان في مثله يستحيل الغذاء إلى جوهر المغتذي.و لأنّ الخلط جسم رطب سيّال،استحال أن يقف بنفسه،فلا بدّ من قاسر يقسره على الوقوف و ذلك القاسر هو الماسكة.

و أمّا إلى الهاضمة،فلأنّ حالة القوّة المغيّرة إنّما تكون لما هو متقارب الاستعداد للصّورة العضويّة،و إنّما يمكن ذلك بعد فعل القوّة التي تجعله متقارب الاستعداد،و تلك

ص:294

هي القوّة الهاضمة.

و مراتب الهضم أربع:أوّلها في المعدة،و ثانيتها في الكبد،و ثالثتها في العروق و رابعتها في الأعضاء.كما فصّل ذلك في الكتب الطّبّيّة.

و أمّا إلى الدّافعة،فلأنّه ليس الغذاء يصير بتمامه جزءا من المغتذي،بل يفضل منه ما يضيق المكان،و يمنع ما يرد من الغذاء عن الوصول إلى الأعضاء،و يوجب ثقل البدن،بل يفسد و يفسد،فلا بدّ من قوّة تدفع تلك الفضلات،و هي الدّافعة،و قد يتضاعف هذه القوى لبعض الأعضاء،كما للمعدة،فإنّ فيها الجاذبة و الماسكة و الهاضمة و الدّافعة بالنسبة إلى غذاء جميع البدن،و فيها أيضا هذه القوى بالنسبة إلى ما تغتذي به خاصّة،فهذه هي القوى الخادمة للغاذية،و يلزم منه أن تكون هي خادمة للنامية و المولّدة،كما أنّ الغاذية خادمة لهما،فهذا هو الكلام في القوى النّباتيّة.

و أمّا الكلام في القوى الحيوانيّة

أي القوى التي يشارك بها الإنسان الحيوانات العجم دون النّبات،فهو أنّهم ذكروا أنّ القوّة الحيوانيّة بالقسمة الأولى تنقسم إلى قوّتين:محرّكة و مدركة،أمّا المحرّكة-و المراد بها ما تكون مبدأ للحركات الجزئيّة الاختياريّة التي تصدر عن شيء يقدر على الفعل و الترك،و يتساوى نسبتها إليه بحسب إرادة ترجّح أحدهما.و بعبارة أخرى ما تكون مبدأ للأفعال المختلفة المقترنة بإرادة التي تنسب إلى النّفس الحيوانيّة في الحيوان-فهي تنقسم [إلى]قسمين:محرّكة بأنّها باعثة على الحركة،و محرّكة بأنّها فاعلة للحركة.

و الباعثة هي القوّة النّزوعيّة الشّوقيّة،و هي التي إذا ارتسمت في التخيّل مثلا صورة مطلوبة أو مهروبة عنها،بعثت القوّة المحرّكة الفاعلة للحركة على الحركة،و لهذه الباعثة شعبتان:

شعبة تسمّى قوّة شهوانيّة،و هي قوّة تنبعث على تحريك يقرب به من الأشياء المتخيّلة ضروريّة كانت أو نافعة،طلبا للّذة.

ص:295

و شعبة تسمّى قوّة غضبيّة،و هي قوّة تنبعث على تحريك يدفع به الشّيء المتخيّل، ضارّا كان أو مفسدا طلبا للغلبة.

و أمّا القوّة المحرّكة على أنّها فاعلة للحركة،فهي قوّة تنبعث في الأعصاب و العضلات،من شأنها أن تشنّج العضلات،فتجذب الأوتار و الرّباطات المتّصلة بالأعضاء إلى نحو جهة المبدأ،أو ترخيهما أو تمدّهما طولا،فيصير الأوتار و الرّباطات إلى خلاف جهة المبدأ.

و التفصيل أنّ لهذه الحركات الاختياريّة مبادي أربعة مترتّبة،أبعدها عن الحركات هي القوى المدركة،و هي الخيال أو الوهم في الحيوان،و العقل العمليّ بتوسّطهما في الإنسان.

و يليها قوّة الشّوق،فإنّها تنبعث عن القوى المدركة،و تنبعث إلى شوق نحو طلب إنّما ينبعث عن إدراك الملائمة في الشّيء اللّذيذ أو النافع إدراكا مطابقا أو غير مطابق،و تسمّى شهوة،و إلى شوق نحو دفع و غلبة إنّما ينبعث عن إدراك منافاة في الشّيء المكروه أو الضّارّ،و يسمّى غضبا؛و مغايرة هذه القوّة للقوّة المدركة ظاهرة،و كما أنّ الرّئيس في القوى المدركة هو الوهم،على ما سيأتي بيانه،كذلك الرّئيس في القوى المحرّكة هو هذه القوّة.

و يليها الإجماع،و هو العزم الذي ينجزم بعد التردّد في الفعل و التّرك،و هو المسمّى بالإرادة و الكراهة،و يدلّ على مغايرته للشّوق،كون الإنسان مريدا لتناول ما لا يشتهيه، و كارها لتناول ما يشتهيه،و عند وجود هذا الإجماع يترجّح أحد طرفي الفعل و التّرك اللذين يتساوى نسبتهما إلى القادر عليهما.

و يليه القوى المنبثّة في مبادي العضل المحرّكة للأعضاء،و يدلّ على مغايرتها لسائر المبادي كون الإنسان المشتاق العازم غير قادر على تحريك أعضائه،و كون القادر على ذلك غير مشتاق و لا عازم،و هي المبادي القريبة للحركات،و فعلها تشنيج العضل و إرسالها،و يتساوى الفعل و التّرك بالنسبة إليهما.فيظهر أنّ القوى المنبثّة في مبادي

ص:296

العضل فاعلة للحركة و هي محرّكة بالحقيقة،و كذا هي خادمة و مطيعة لتلك القوى الثلاث التي هي آمرة و باعثة على الحركة،و أنّ تلك القوى الثلاث بعضها مباد بعيدة لها و هي القوى المدركة،و بعضها أقرب منها و هي القوّة الشّوقيّة الغضبيّة أو الشّهوانيّة المتوسّطة بين القوى المدركة و بين الإجماع،و بعضها أقرب منها أيضا،و هي الإجماع المذكور،و هو الذي تطيعه القوّة الفاعلة للحركة بلا واسطة.

في الحكمة في القوى المحرّكة الحيوانيّة

ثمّ إنّهم ذكروا في بيان الحكمة في تلك القوى و سبب الاحتياج إليها:أنّه كما أنّ الحكمة في القوى النّباتيّة حفظ الشّخص و بقاء النوع،كذلك الحكمة في هذه القوى المحرّكة الحيوانيّة في الحيوان المحافظة على الأبدان بحسب كمالاتها الشّخصيّة أو النّوعيّة و في الإنسان،فهذه المحافظة مع ما يتوسّل بها الشّخص إلى اكتساب الخير الحقيقيّ و الكمال الأبديّ بحسب العمل و العلم.

انظر إلى أنّ العناية الأزليّة كيف جعلت في جبلّة الحيوانات داعية الجوع و العطش، لتدعو نفوسها إلى الأكل و الشّرب،ليخلف بدلا عما يتحلّل ساعة فساعة من البدن الدائم التحلّل و الذوبان،لأجل استيلاء الحرارة الغريزيّة الحاصل من نار الطبيعة.و جعلت لنفوسها أيضا الآلام و الأوجاع عند الآفات العارضة لأبدانها،لتحرص النفوس على حفظ الأبدان من الآفات إلى أجل معلوم.ذلك تقدير العزيز العليم.

في القوى المدركة الحيوانيّة

اشارة

و هذا الذي ذكرناه هو الكلام في القوى المحرّكة الحيوانيّة،و أمّا القوى المدركة الحيوانيّة،فتنقسم-على المشهور-إلى الحواسّ الخمس الظاهرة المشهورة،و الحواسّ الخمس الباطنة المستورة.أمّا الخمس الظاهرة التي هي لظهورها غنية عن الإثبات،فمنها اللّمس.

ص:297

في اللاّمسة

و هي قوّة مرتّبة في أعصاب البدن في أعصاب البدن كلّه و لحمه،تدرك بالمماسّة، و تؤثّر فيه بالمضادّة المحيلة للمزاج و لهيئة التّركيب.و حيث كان الإحساس بهذه القوّة بالمماسّة و الملاقاة،فلا تحتاج إلى متوسّط كما في الحواسّ الأخر على ما سيأتي بيانه.

و أوّل الحواسّ الذي يصير به الحيوان حيوانا هو هذه القوّة،فإنّه كما أنّ كلّ ذي نفس حيوانيّة أو أرضيّة،فإنّ له قوّة غاذية،و يجوز أن يفقد قوّة أخرى،و لا ينعكس،كذلك حال كلّ ذي نفس حيوانيّة،فله حسّ اللّمس،و يجوز أن يفقد قوّة أخرى و لا ينعكس.

و حال الغاذية عند سائر قوى النّفس الأرضيّة حال اللّمس عند سائر قوى الحيوان، و ذلك لأنّ الحيوان تركيبه الأوّل هو من الكيفيّات الملموسة،فإنّ مزاجه منها و فساده باختلالها،و الحسّ طليعة للنّفس،فيجب أن يكون الطّليعة الاولى هو ما يدلّ على ما يقع به الفساد،و يحفظ به الصّلاح،و أن يكون قبل الطّلائع التي تدلّ على أمور تتعلّق ببعضها منفعة خارجة عن القوام،و مضرّة خارجة عن الفساد.و الذّوق و إن كان دالاّ على الشيء الذي به يستبقى الحياة من المطعومات،فقد يجوز أن يعدم الذّوق و يبقى الحيوان حيوانا،فإنّ الإحساس الآخر ربّما أعان على ارتياد الغذاء الموافق و اجتناب المضارّ.

و أمّا الحواسّ الأخرى،فلا تعين على معرفة أيّ هواء محيط بالبدن مثلا محرق أو مجمد.

و بالجملة،فإنّ الجوع شهوة اليابس الحارّ،و العطش شهوة البارد الرّطب،و الغذاء بالحقيقة ما يتكيّف بهذه الكيفيّات التي يدركها اللمس.و أمّا الطّعوم فتطييبات،فلذلك كثيرا ما يبطل حسّ الذّوق لآفة تعرض،و الحال أنّ الحيوان باق.فظهر أنّ اللّمس هو أوّل الحواسّ،و لا بدّ منه لكلّ حيوان أرضيّ.و لشدّة الاحتياج إلى هذه القوّة،كانت منبثّة في جميع البدن،و سارية بمعونة الأعصاب في جميع الأعضاء،إلاّ ما كان عدم الحس أنفع له، كالكبد و الطّحال و الكلية،لئلاّ تتأذّى ممّا يلاقيها من الحادّ اللذّاع،فإنّ الكبد مولّد للصّفراء و السّوداء،و الطّحال و الكلية مصبّتان لما فيه لذع،و كالرّية،فإنّها دائمة الحركة، فتتألّم باصطكاك بعضها ببعض،و كالعظام فإنّها أساس البدن و دعامة الحركات.فلو

ص:298

أحسّت لتألّمت بالضغط و المزاحمة و بما يرد عليها من المصاكّات،و كالشّعر فإنّه ضعيف بارز من البدن،و لو كان له حسّ لتأذّي دائما.

و بالجملة،فهذه القوّة من بين القوى الحسّاسة الظاهرة أقدمها،و لذلك قد توجد هذه القوّة معرّاة عن سائر الحواسّ الظاهرة،كما يوجد ذلك في الإسفنج البحريّ و غير ذلك ممّا هو متوسّط الوجود بين النّبات و الحيوان،و لا توجد سائر القوى معرّاة عنها،و إنّما كان كذلك،لأنّ هذه القوّة أكثر ضروريّة في وجود الحيوان من سائر قوى الحسّ.

ثمّ من بعد هذه القوّة،قوّة الذّوق،فإنّها أيضا لمس ما،و أيضا فإنّها القوّة التي بها يختار الحيوان الملائم من الغذاء من غير الملائم.

ثمّ قوّة الشّمّ،إذ كانت هذه القوّة أكثر ما يستعملها الحيوان في الاستدلال على الغذاء، كالحال في النّمل و النّحل،فهذه القوى الثّلاث هي القوى الضروريّة في وجود الحيوان.

و أمّا قوّتا السّمع و البصر،فموجودتان في الحيوان من أجل الأفضل،لا من أجل الضرورة،و لذلك كان الحيوان المعروف بالخلد لا بصر له،إلاّ أنّهما ألطف الحواسّ،كاد أن تكون مدركاتهما خارجة عن عالم المادّة،و البصر أشرفهما،و الكلام في ذلك طويل.

ثمّ اعلم أنّه ربّما يقال إنّ الحركة أخت اللّمس في الحيوان.و كما أنّ من الحسّ نوعا متقدّما هو اللّمس،كذلك قد يشبه أن يكون من قوى الحركة نوع متقدّم،و المشهور أنّ من الحيوان ما له حسّ اللّمس و ليس له قوّة الحركة،مثل ضروب من الأصداف.

و قال الشّيخ في الشّفاء في تحقيق ذلك (1):«إنّ الإرادة (2)على ضربين:حركة انتقال من مكان إلى مكان،و حركة (3)انبساط و انقباض للأعضاء من الحيوان من (4)دون انتقال الجملة من موضعها،فيبعد من أن يكون (5)له حسّ اللّمس،و لا (6)يكون له قوّة الحركة،فإنّه كيف يعلم أنّه له حسّ اللّمس،إلاّ بأن يشاهد فيه نوع هرب من ملموس و طلب

ص:299


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 59/2،الفصل الثالث في المقالة الاولى.
2- في المصدر:إنّ الحركة الإراديّة على...
3- و حركة انقباض و انبساط...
4- و إن لم يكن به انتقال الجملة عن موضعها...
5- يكون حيوان له...
6- و لا قوّة حركة فيه البتة،فإنّه.

ملموس (1).

و أمّا ما يتمثّلون (2)به من الأصداف و الإسفنجات و غيرها،فإنّا نجد للأصداف في غلفها حركات انقباض و انبساط و التواء و امتداد في أجوافها،و إن كانت لا تفارق أمكنتها،و لذلك يعرف (3)أنّها تحسّ بالملموس،فيشبه أن يكون (4)ما له لمس،فله في ذاته حركة ما إراديّة،إمّا لكلّيّته و إمّا لأجزائه».-انتهى-.

و أمّا الأمور الّتي تلمس،فالمشهور من أمرها أنّها الحرارة و البرودة و الرّطوبة و اليبوسة و الخشونة و الملامسة و الثّقل و الخفّة،و أمّا الصّلابة و اللّين و الزّوجة و الهشاشة و غير ذلك،فإنّها تحسّ تبعا لهذه المذكورات.

و للشّيخ في ذلك كلام مبسوط في«الشّفاء»،و كذا لابن رشد المغربي في«جامع الفلسفة»بعض كلمات مع الشّيخ،فليرجع إليهما.

ثمّ إنّهم اختلفوا،فذهب الجمهور إلى أنّ القوّة اللامسة قوّة واحدة،بها يدرك جميع الملموسات كسائر الحواسّ،لأنّ اختلاف المدركات لا يوجب اختلاف الإدراكات، ليستدلّ بذلك على تعدّد مباديها.

و ذهب كثير من المحقّقين إلى أنّها قوى متعدّدة حسب تعدّد أنواع الملموسات،و أنّه حيث كانت لهذه القوّة آلة واحدة مشتركة فيها،فلهذا يظنّ اتّحادها؛و إلى هذا المذهب يميل كلام الشّيخ في«الشّفاء»حيث قال (5):«و يشبه أن تكون هذه القوّة عند قوم،لا نوعا أخيرا بل جنسا للقوى (6)الأربع أو فوقها منبثّة معا في الجلد كلّها،واحدة (7)حاكمة في التّضادّ الذي بين الحارّ و البارد،و الثانية حاكمة في التّضادّ الذي بين الرّطب و اليابس، و الثالثة حاكمة في التّضادّ الذي بين الصّلب و اللّين،و الرابعة حاكمة في التضادّ الذي بين الخشن و الأملس،إلاّ أنّ اجتماعها في آلة واحدة يوهم (8)المحسوسات».-انتهى-.

ص:300


1- في المصدر:لملموس...
2- يتمثّلون هم به...
3- نعرف...
4- يكون كلّ ما له...
5- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 34/2،الفصل الخامس من المقالة الأولى.
6- جنسا لقوى أربع...
7- كلّها،و إحداها...
8- يوهم تأحّدها في الذات».

و تحقيق القول في هذا المرام يقتضي بسطا في الكلام لا يناسب المقام.

في الذّائقة

و منها الذّوق،و هي كما ذكره الشّيخ في«الشّفاء»«قوّة مرتّبة في العصب المفروض (1)على جرم اللسان،تدرك الطّعوم المتحلّلة من الأجرام المماسّة له،المخالطة للرّطوبة العذبة التي فيها مخالطة محيلة».

و ذكر علماء التشريح:أنّ الحامل لهذه القوّة هو الشعبة الرابعة من الزّوج الثالث،الذي منبته الحدّ المشترك بين مقدّم الدّماغ و مؤخّره من لدن قاعدة الدّماغ،و تنفذ هذه الشعبة في ثقبة في الفكّ الأعلى إلى اللّسان.

ثمّ إنّ هذه القوّة-كما أشرنا إليه-تالية للّمس في الاحتياج إليها،و منفعتها أيضا في الفعل الذي به يتقوّم البدن،و هي معرفة الصّالح من الغذاء و الفاسد منه.و تجانس هذه القوّة اللّمس في شيء،و هو أنّ المذوق في أكثر الأمر يدرك بالملاسة،و تفارقها في أنّ نفس الملامسة تؤدّي الطعم.كما أنّ نفس ملامسة الحارّ تؤدّي الحرارة،بل كان يحتاج إلى متوسّط يقبل الطّعم و يكون في نفسه لا طعم له،و هو الرّطوبة اللّعابيّة المنبعثة من الآلة المسمّاة بالملعبة،فإن كانت هذه الرّطوبة عديمة الطّعم،أدّت الطّعوم بصحّة،و إن خالطها طعم،كما يكون للممرورين من المرارة،لمن كان في معدته خلط حامض مثلا،يشوب ما يؤدّيه بالطّعم الذي فيه.

و أمّا أنّ هذه الرّطوبة اللّعابيّة هل هي تتوسّط،بأن يخالطها أجزاء ذي الطّعم مخالطة تنتشر فيها ثمّ تتغذّى فتغوص في اللّسان،حتّى تخالط اللّسان فيحسّه،أو يكون نفس هذه الرّطوبة تستحيل إلى قبول الطعم من غير مخالطة،فهو موضع نظر،و تحقيقه في«الشّفاء» فليرجع إليه.

ص:301


1- في المصدر:المفروش.
في الشّامّة

و منها الشّمّ،و هي كما ذكره في«الشّفاء» (1)،«قوّة مرتّبة في زائدتي مقدّم الدّماغ الشبيهتين بحلمتي الثّدي،تدرك ما يؤدّي إليه (2)من الهواء المستنشق من الرّائحة الموجودة في البخار المخالط له،أو الرّائحة المنطبعة فيه باستحالة (3)من جرم ذي الرّائحة»،و واسطة الشّمّ أيضا جسم لا رائحة له،كالهواء في الحيوان البرّيّ،و الماء في الحيوان البحريّ، و هذا المتوسّط يحمل رائحة المشمومات.

و ذكر علماء التّشريح أنّ حامل هذه القوّة هو تانك الزّائدتان النّابتتان من مقدّم الدّماغ،و هما قد فارقتا لين الدّماغ قليلا،و لم يلحقهما صلابة العصب.

و بالجملة فهذه القوّة من شأنها أن تدرك الرّوائح المشمومة،و ليست فصول الرّوائح عندنا بيّنة كفصول الطّعوم،و إنّما نسمّيها بفصول الطّعوم،مثل أن نقول رائحة حلوة و رائحة طيّبة.

و يشبه أن يكون هذه الحاسة فينا أضعف منها في كثير من الحيوان،كالنّسر و النّحل و ما أشبههما من الحيوان القويّ الشمّ.

ثمّ إنّهم قد اختلفوا في الرّائحة.

فمنهم من زعم أنّها تتأدّى بمخالطة شيء من جرم ذي الرّائحة،يتحلّل فيتنجّز فيخالط المتوسّط.

و منهم من زعم أنّها تتأدّى باستحالة من المتوسّط،من غير أن يخالط شيء من جرم ذي الرّائحة متحلّل عنه.

و منهم من قال أنّها تتأدّى من غير مخالطة شيء آخر من جرمه،و من غير استحالة من المتوسّط.و معنى هذا أنّ الجسم ذا الرّائحة يفعل في الجسم عديم الرّائحة، و بينهما جسم لا رائحة له من غير أن يفعل في المتوسّط،و تحقيق القول في ذلك مذكور

ص:302


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 34/2،الفصل الخامس من المقالة الاولى.
2- في المصدر:يؤدّي إليها الهواء...
3- بالاستحالة.

في«الشّفاء».

في السّامعة

و منها السّمع،و هي كما ذكره في«الشّفاء» (1):«قوّة مرتّبة في العصب المنفرش (2)في سطح الصّماخ تدرك صورة تتأتّى (3)إليه من تموّج الهواء المنضغط بين قارع و مقروع مقاوم له،لانضغاط (4)بعنف يحدث منه صوت،فيتأدّى تموّجه إلى الهواء المحصور الرّاكد في تجويف الصّماخ،و يحرّكه بشكل حركته،و تماسّ أمواج تلك الحركة العصبة» (5).

و ذكر علماء التّشريح:إنّ الحامل لهذه القوّة هو القسم الأوّل من قسمي الزّوج الخامس الذي منشؤه خلف الزّوج الثّالث،و منبت هذا القسم بالحقيقة هو الجزء المقدّم من الدّماغ.

و بالجملة فالمحسوس الأوّل لهذه القوّة هو الصّوت،و تحتاج أيضا إلى متوسّط حامل للصّوت،و أمّا بيان كيفيّة إحساسها و بيان ماهيّة الصّوت-بل الصّدى-فيقتضي بسطا في الكلام ليس هنا محلّه.

في الباصرة

و منها البصر،و هي على ما ذكره في«الشّفاء» 1:«قوّة مرتّب في العصب (6)المجوّفة تدرك صورة ما ينطبع في الرّطوبة الجليديّة من أشباح الأجسام ذوات اللون المتأدّية في الأجسام الشّفافة بالفعل إلى سطوح الأجسام الصقيلة».

و على ما ذكره بعضهم:هي قوّة مودعة في ملتقى العصبتين المجوّفتين اللّتين تنبتان من غور البطنين المقدّمين من الدّماغ عند جوار الزّائدتين الشّبيهتين بحلمتي الثّدي، يتيامن النابت منهما يسارا،و يتياسر النّابت منهما يمينا.حتّى يلتقيا و يصير تجويفهما واحدا،ثمّ يمتدّ النّابت يمينا إلى الحدقة اليمنى و النّابت يسارا إلى الحدقة اليسرى،فذلك

ص:303


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 34/2،الفصل الخامس من المقالة الاولى.
2- في المصدر:المتفرّق في...
3- ما يتأدّى إليها...
4- انضغاطا بعنف...
5- العصبة فيسمع...
6- في العصبة.

التّجويف الذي هو في الملتقى أودع فيه القوّة الباصرة،و يسمّى بمجمع النّور.و إنّما جعلت هاتان العصبتان مجوّفتين للاحتياج إلى كثرة الرّوح الحامل للقوّة الباصرة،بخلاف سائر الحواسّ الظّاهرة.

و ذكر علماء التّشريح أنّ الحامل لهذه القوّة هو الزّوج الأوّل من الأزواج السّبعة التي هي الأعصاب النّابتة من الدّماغ،و هما مجوّفتان تتلاقيان فتفترقان إلى العينين.

و بالجملة،فيتعلّق البصر بالذّات بالضّوء و اللّون،و بتوسّطهما بسائر المبصرات كالشّكل و المقدار و الحركة و غيرها،و هذا أيضا يحتاج إلى متوسّط،أي جسم شفّاف بين الرائي و المرئيّ،كما أنّه يشترط فيه شروط،و هي عشرة على المشهور،أحدها:

توسّط الشّفاف،و الباقية:المقابلة بين الرائي و المرئيّ،و عدم البعد و القرب المفرطين، و عدم الصّغر المفرط،و عدم الحجاب،و كون المرئيّ كثيفا أي مانعا من نفوذ الشّعاع منه، و كونه مضيئا أو مستضيئا،و سلامة الحاسّة،و القصد إلى الإحساس.

و أمّا أنّ ماهيّة الضّوء و اللّون و الشّفّاف ما ذا؟و أنّ كيفيّة الإبصار ما هي؟

هل هي بخروج الشّعاع من العين؟كما هو مذهب الرّياضيّين على اختلاف بينهم في ذلك الشّعاع الخارج،حيث ذهب بعضهم إلى أنّه مخروط مصمت،مركزه عند البصر، قاعدته عند سطح المبصر.و بعضهم إلى أنّه مخروط مركّب من الخطوط الشّعاعيّة المستقيمة أطرافها التي تلي البصر مجتمعة عند مركزها،ثمّ تمتدّ متفرّقة إلى المبصر.

و بعضهم إلى أنّه خطّ واحد مستقيم،فإذا انتهى إلى المبصر تحرّك على مسطّحه في جهتي طوله و عرضه حركة في غاية السّرعة،و يتخيّل بحركته هيئة مخروط.

أو أنّ المشفّ الذي بين البصر و المرئيّ يتكيّف بكيفيّة الشّعاع الذي في البصر، و يصير بذلك آلة للإبصار،كما هو المذهب المنسوب إلى أفلاطون.

أو بأن ينطبع شبح المرئيّ في جزء من الرّطوبة الجليديّة التي هي كالبرد و الجمد في الصّقالة،كما ينطبع في المرآة،لا بأن ينفصل منه شيء و يتحرّك إلى العين،بل بأن يفيض عليها صورة مثل صورته،بسبب استعداد يحدث لها بعد اجتماع شرائط الإبصار،كما هو

ص:304

المناسب المختار عند أرسطو و أتباعه كالشيخ و غيره من الحكماء الطّبيعيّين.

أو أنّ الإبصار ليس بخروج الشّعاع،و لا بتكيّف المشفّ،و لا بالانطباع،بل إذا اجتمع شرائط الإبصار يحصل للنّفس علم جزئيّ خاصّ بالمبصر على سبيل الحضور و المشاهدة من طريق البصر،علما خاصّا لنور البصر و شعاعها الخارج منها.و كذا التكيّف الهواء به مدخل فيه،فلذا عبّر عنه قوم بخروج الشّعاع و بتكيّف الهواء،و كذا الحاصل هناك إنّما هو شبح المرئيّ،أي المرئيّ بوجوده الظّلي لا العينيّ،فلذا عبّر عنه قوم بالانطباع،كما هو المنسوب إلى جماعة من حكماء الاسلام.و منهم المعلم الثّاني في الجمع بين الرأيين،حيث جمع بين رأيي أفلاطون و أرسطو بهذا الوجه،و قال (1):

«ليس مقصود أفلاطون و أرسطو و أشباههما إلاّ هذا المعنى.و كذلك كثير من المباحث المتعلّقة بالإبصار».

فالكلام فيه طويل يستدعي تأليف رسالة منفردة في ذلك،فلذا أعرضنا عن تحقيق القول في ذلك،مع أنّه ليس غرضنا في هذا المقام تحقيق أمثال هذه المسائل،بل ذكر قوى النّفس على سبيل الإجمال.

في الحواسّ الباطنة

و أمّا الحواسّ الباطنة،فهي أيضا خمس على المشهور:الحسّ المشترك،و الخيال، و الوهم،و الحافظة،و المتخيّلة،و هي التي لمعرفتها كثير ارتباط بمعرفة أحوال النّفس النّاطقة التي نحن بصدد بيان أحوالها،و هي التي تسمّى قوى مدركة باطنة.أمّا كونها باطنة،فلبطونها و عدم ظهورها ظهور الحواسّ الظّاهرة،و لذا كانت محتاجة إلى الإثبات كما سيأتي بيانه.بخلاف الحواسّ الظّاهرة حيث كانت غنيّة عن الإثبات.و أمّا كونها مدركة مع كون المدرك بالحقيقة اثنتين منها و هما الحسّ المشترك و الوهم،و كون الثّلاثة الباقية معينة على الإدراك لأنّ الإدراكات الباطنة لا تتمّ إلاّ بالجمع،مع أنّ الإعانة بالحفظ

ص:305


1- -الجمع بين الرأيين31/-40،للفارابيّ.

أو التّصرّف يستلزم الإدراك.

و بيان ذلك:إنّهم ذكروا:أنّ المدركة من هذه،إمّا مدركة لما يمكن أن يدرك بالحواسّ الظّاهرة،و هو ما يسمّى صورا،و إمّا لما لا يمكن أن يدرك بها،و هو ما يسمّى معاني،و أنّ المعينة التي تعين على الإدراك ما تحفظ المدركات من غير تصرّف،ليتمكّن المدركة من المعاودة إلى إدراكها أو بالتّصرّف فيها،و كذلك المعينة بالحفظ معينة،إمّا لمدركة الصّور أو لمدركة المعاني.فهذه خمس قوى:

الاولى،مدركة الصّور،و تسمّى حسّا مشتركا،لأنّها خيالات المحسوسات الظّاهرة بالتّأدية إليها.

و الثّانية،معينتها بالحفظ،و تسمّى خيالا و مصوّرة.

و الثّالثة،المتصرّفة في المدركات،و تسمّى متخيّلة و مفكّرة باعتبارين كما سيأتي بيانه.

و الرابعة،مدركة المعاني و تسمّى وهما و متوهّمة.

و الخامسة،معينتها بالحفظ،و تسمّى حافظة و ذاكرة.

في الاشارة إلى أنّ إثبات تلك القوى الخمس بالدّليل

و أنّ الحكماء و الأطبّاء اختلفوا في ذلك ظاهرا

ثمّ إنّه حيث كانت هذه القوى لبطونها و عدم ظهورها محتاجة إلى الإثبات،استدلّ كلّ فريق من الحكماء و الأطبّاء على وجودها،و مغايرة بعضها لبعض،و كذا للحواسّ الظّاهرة بطريق.

فالأطبّاء قد قيل:إنّهم استدلّوا على ذلك بعروض الآفات و الأمراض في محالّها،فلم يثبتوا إلاّ ثلاث قوى في الباطن،في ثلاثة مواضع:

الاولى في التّجويف الأوّل من التّجاويف الثلاثة التي للدّماغ المترتّبة ولاء بين الجبهة و القفاء،و بعبارة أخرى في البطن الأوّل من البطون الثّلاثة للدّماغ،و يسمّونها

ص:306

الحسّ المشترك و الخيال.

و الثانية في التجويف الثّاني و البطن الثّاني،و يسمّونها المفكّرة و الوهم.

و الثّالثة في الثّالث و يسمّونها الحافظة و المتذكّرة،لأنّ الآفات التي وجدوها،إنّما هي ثلاثة أصناف في هذه المواضع.

و أمّا الحكماء فقد قيل:إنّهم قالوا:إنّ للدّماغ تجاويف و بطونا ثلاثة مترتّبة ولاء بين الجبهة و القفاء،أعظمها البطن الأوّل،ثمّ الثّالث.و أمّا الثّاني فكمنفذ فيما بينهما مزرّد على شكل الدودة.و ينقسم كلّ من التّجاويف و البطون الثّلاثة إلى قسمين،كلّ قسم موضع موضع(كذا)لواحدة من الحواسّ الباطنة،إلاّ القسم الأخير من التّجويف الأخير و البطن الأخير،فإنّه لبعده من الحواسّ الظّاهرة التي هي جواسيس الآفات،و قربه من حلول العاهات،لم يودّع فيه شيء من القوى.فمقدّم التّجويف الأوّل و البطن الأول من التّجاويف و البطون الثّلاثة موضع الحسّ المشترك،و مؤخّره موضع الخيال.و مقدّم البطن الثّاني و التجويف الثّاني موضع المتخيّلة،و مؤخّره موضع الوهم.و مقدّم البطن الثّالث و التّجويف الثّالث موضع الحافظة،و مؤخّره لم يودع فيه شيء.

و قالوا أيضا في وجه التّرتيب بينها أنّ القوى الحيوانيّة الباطنة المدركة للجزئيّات،إمّا أن تكون مدركة فقط أو مدركة و متصرّفة،و الاولى إمّا أن تكون مدركة للصّور الجزئيّة، كصورة زيد و عمرو و هو الحسّ المشترك و بنطاسيا،و إمّا أن تكون مدركة للمعاني الجزئيّة كصداقة زيد و عداوة عمرو و هو الوهم.و لكلّ واحدة من هاتين القوّتين خزانة، فخزانة الحسّ المشترك الخيال،و خزانة الوهم الحافظة.و الحسّ المشترك ينبغي أن يكون مقدّم الدّماغ،ليكون قريبا من الحواسّ الظّاهرة،فيكون التّأدّي إليه سهلا،و خزانة كلّ شيء خلفه،فينبغي أن يكون الخيال موضوعا خلفه،فلذلك ينبغي أن يكون الحسّ المشترك في مقدّم البطن المقدّم من الدماغ،و الخيال في القسم المؤخّر منه،و الوهم ينبغي أن يكون بقرب الخيال،لتكون الصّورة الجزئيّة التي يحكم على معانيها الجزئيّة بحذائه و بقربه،فينبغي أن يكون في البطن الأوسط من الدّماغ و خزانته وراءه،فيكون الحافظة في

ص:307

البطن المؤخّر من الدّماغ.

و القسم الثاني،أعنى المدركة المتصرّفة،هي القوّة التي تسمّى مفكّرة بالقياس إلى النّفس الإنسانية النّاطقة،و متخيّلة بالقياس إلى النّفس الحيوانيّة.و ينبغي أن تكون في الوسط مع الوهم،لتكون قريبة من الصّور و المعاني حتّى تركّب بينهما بسهولة،لأنّه من شأنها تركيب بعض الصّور مع بعض،أو بعض المعاني مع بعض،أو بعض الصّور مع بعض المعاني.فتارة يكون ذلك على وفق الخارج،و تارة يكون مخالفا،كإنسان يطير،و جبل من زمرّد.

و أقول:و منه يعلم أن لا خلاف بين الحكماء و الأطبّاء في مواضع تلك القوى،إلاّ في أنّ الحكماء قسّموا كلاّ من البطون الثلاثة إلى قسمين،و جعلوا كلّ قسم موضع قوّة،إلاّ القسم الأخير من البطن الأخير،و الأطبّاء لم يفعلوا ذلك،و جعلوا كلّ بطن من البطنين الأوّلين موضع قوّتين،و البطن الثّالث موضع قوّة واحدة.و هذا الخلاف أيضا يمكن أن يرتفع لو كان الأطبّاء قائلين بتغاير ما في البطنين الأوّلين من القوى،أي قالوا بالمغايرة بين الحسّ المشترك و الخيال،و كذا بين المفكّرة و الوهم كما هو الاحتمال،حيث إنّ القوى المتغايرة يستدعي كلّ واحدة منها موضعا غير ما للاخرى،فيعلم منه أنّهم أيضا جعلوا كلا من البطنين الأوّلين قسمين،و جعلوا كلّ قسم موضعا لقوّة،و إن لم يعلم منه أيّ قسم موضع لأيّة قوّة،و أنّ موضع الحسّ المشترك مثلا هو مقدّم البطن المقدّم أو المؤخّر منه،و كذا موضع الوهم مثلا أ هو مقدّم البطن الثّاني أو مؤخّره؟و هذا أيضا نوع اختلاف بين الفريقين،و كذلك على هذا التقدير،أي القول بتغاير تلك القوى،يرتفع الخلاف بين الفريقين في عدد القوى،فإنّه عند الجميع خمسة لا ثلاثة.

نعم لو كانت الأطبّاء قائلين بوحدة ما في كلّ بطن،بطن،كما يدلّ عليه كلام سديد الدين الكازروني في شرح الموجز،حيث قال:«و أمّا عند الأطبّاء فإنّ المدركة في الباطن ثلاث قوى،فإنّ الحسّ المشترك و الخيال عندهم واحدة،و كذلك المتخيّلة و الوهم، فيثبتون لكلّ بطن من بطون الدماغ قوّة واحدة،و لا يحتاجون إلى غيرها،لأنّهم يستدلّون

ص:308

من آفة كلّ واحدة منها و من أفعالها على آفة محلّها.فعلى هذا يكون الاختلاف بين الفريقين كثيرا في ذلك.

و بالجملة من المعلوم أنّ الفريقين مختلفان في طريق إثبات تلك القوى،و أنّ الأطبّاء استدلّوا عليها بعروض الآفات على مواضعها و محالّها كما ذكر.

و أمّا الحكماء،فالعمدة في دليلهم على وجودها و تعدّدها و مغايرة بعضها لبعض، و كذا للحواس الظّاهرة إنّما هو مشاهدة الآثار و الأفعال المختلفة التي تدلّ على وجودها و تعدّد مباديها و اختلافها.و قد يستدلّون أيضا نادرا على ذلك بما استدلّ به الأطبّاء.

فلنذكر نبذا ممّا قالوه في ذلك،و نتبعه بالتوضيح إن احتاج إليه.

فنقول:قال الشّيخ في«الشّفاء»في فصل تعديد قوى النّفس الإنسانيّة هكذا (1):

«و من (2)القوى المدركة الباطنة الحيوانيّة قوّة بنطاسيا (3)،و الحسّ المشترك،و هي قوّة مرتّبة في التجويف الأوّل من الدّماغ،تقبل بذاتها جميع الصّور المنطبعة في الحواس الخمس المتأدّية إليه،ثمّ الخيال و المصوّرة،و هي قوّة مرتّبة أيضا في آخر التّجويف المقدّم من الدّماغ،تحفظ ما قبله الحسّ المشترك من الحواسّ الجزئيّة الخمس،و يبقى فيه بعد غيبته (4)تلك المحسوسات.

و اعلم أنّ القبول لقوّة غير القوّة التي بها الحفظ،فاعتبر ذلك من الماء،فإنّ له قبول النّقش و الرّقم،و بالجملة الشكل،و ليس له قوّة حفظه،على أنّا نزيدك لهذا تحقيقا من بعد.و إذا أردت أن تعرف الفرق بين فعل الحسّ (5)العامّ و فعل الحسّ المشترك و فعل المصوّرة،فتأمّل حال القطرة التي تنزل من المطر فترى خطّا مستقيما،و حال الشيء المستقيم الذي يدور فيرى طرفه دائرة،و لا يمكن أن يدرك الشيء خطّا أو دائرة إلاّ و يرى فيه مرارا.و الحسّ الظّاهر لا يمكن أن يراه مرّتين،بل يراه حيث هو.لكنّه إذا

ص:309


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 35/2-37،الفصل الخامس من المقالة الاولى.
2- في المصدر:فمن القوى...
3- بنطاسيا و هي الحسّ...
4- بعد غيبة تلك...
5- الحسّ الظاهر و فعل.

ارتسم في الحسّ المشترك و زال قبل أن ينمحي (1)الصّورة من الحسّ المشترك،أدركه الحسّ الظاهر حيث هو،و أدركه الحسّ المشترك كأنّه كائن حيث كان فيه،و كائن حيث صار إليه فرأى امتدادا مستديرا أو مستقيما.و ذلك لا يمكن أن ينسب إلى الحسّ الظّاهر البتّة،و أمّا (2)المصوّرة فتدرك الأمرين و تتصوّرهما،و إن بطل الشيء و غاب.

ثمّ القوّة التي تسمّى متخيّلة بالقياس إلى النّفس الحيوانيّة،و متفكّرة (3)بالقياس إلى النّفس الإنسانيّة،و هي قوّة مرتّبة في التّجويف الأوسط من الدّماغ عند الدّودة،من شأنها أن تركّب بعض ما في الخيال مع بعض،و تفصل بعضه عن بعض بحسب الإرادة.

ثمّ القوّة الوهميّة،و هي قوّة مرتّبة في نهاية التّجويف الأوسط من الدّماغ،تدرك المعاني الغير (4)المحسوسة الموجودة في المحسوسات الجزئيّة،كالقوّة الموجودة في الشاة،الحاكمة بأنّ هذا الذئب مهروب عنه،و أنّ هذا الولد هو المعطوف عليه،و يشبه أن تكون هي أيضا المتصرّفة في المتخيّلات تركيبا و تفصيلا.

ثمّ القوّة الحافظة الذاكرة،و هي قوّة مرتّبة في التّجويف المؤخّر من الدّماغ،تحفظ ما يدركه (5)القوّة الوهميّة من المعاني الغير (6)المحسوسة في المحسوسات الجزئيّة،و نسبة القوّة الحافظة إلى القوّة الوهميّة كنسبة القوّة التي تسمّى خيالا إلى الحسّ (7)المشترك، و نسبة تلك القوّة إلى المعاني كنسبة هذه القوّة إلى (8)القوّة المصوّرة،فهذه هي قوى النّفس الحيوانيّة».-انتهى كلامه-.

و قال أيضا في الفصل الذي فيه قول كلّي على الحواسّ الباطنة التي للحيوان هكذا (9):

«و أمّا الحسّ المشترك،فهو بالحقيقة غير ما ذهب إليه من ظنّ أنّ للمحسوسات المشتركة حسّا مشتركا،بل الحسّ المشترك هو القوّة التي (10)يتأدّى إليها المحسوسات كلّها،فإنّه لو لم تكن قوّة واحدة تدرك الملوّن و الملموس،لما كان لنا أن نميّز بينهما قائلين إنّه ليس

ص:310


1- في المصدر:أن تمحى...
2- و أمّا القوّة المصوّرة...
3- و مفكّرة بالقياس...
4- غير المحسوسة...
5- ما تدركه...
6- غير المحسوسة...
7- الحسّ،و نسبة...
8- إلى الصور المحسوسة،فهذه هي...
9- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 145/2-150،الفصل الأوّل من المقالة الرابعة.
10- التي تتأدّى.

هذا ذاك.

و هب أنّ هذا التّميّز (1)هو للعقل،فيجب (2)أن يكون لا محالة أن يكون العقل يجدهما معا،حتّى يميّز بينهما،و ذلك لأنّها من حيث هى محسوسة،و على النّحو المتأدّي من المحسوس لا يدركها العقل،لمّا (3)سنوضّح بعد.و قد نميّز نحن (4)بينهما،فيجب أن يكون لها اجتماع عند مميّز،إمّا في ذاته أو (5)في غيره،و محال ذلك في العقل على ما ستعلم، فيجب أن يكون في قوّة أخرى،و لو لم يكن قد اجتمع عند الخيال من البهائم التي لا عقل لها،المائلة بشهوتها إلى الحلاوة.مثلا أنّ شيئا صورته كذا هو حلو،لما كانت إذا رأته همّت بأكله.كما أنّه لو لا (6)عندنا أنّ هذا الأبيض هو هذا (7)المعنى لما كنّا إذا سمعنا معناه (8)الشخصيّ،أثبتنا عينيته (9)الشخصيّة،و بالعكس،و لو لم يكن في الحيوان ما يجتمع (10)فيه صور المحسوسات،لتعذّر (11)عليه الحياة،و لو لم (12)يكن الشّمّ دالاّ لها على الطّعم،و لم يكن الصّوت دالاّ إيّاها على الطّعم،و لم (13)يكن الصّورة الخشبيّة تذكّرها صورة الألم حتّى تهرب (14)منه،فيجب لا محالة أن يكون لهذه (15)مجمع واحد من باطن.

و قد يدلّنا على وجود هذه القوّة اعتبارات أمور تدلّ على أنّ لها آلة غير الحواسّ الظّاهرة.

منها (16):ما نراه من تخيّل المدوّريّة أنّ كلّ شيء يدور،فذلك إمّا عارض عرض في المرئيّات،أو عارض عرض في الآلة (17)بها يتمّ الرؤية،و إذا لم يكن في المرئيّات كان-لا محالة-في شيء آخر،و ليس الدّور (18)إلاّ بسبب حركة البخار في الدّماغ و في الرّوح التي فيه،فيعرض لذلك (19)الرّوح أن يدور،فيكون إذن القوّة المرئيّة هناك هي التي يعرض لها أمر قد فرغنا منه.و كذلك يعرض للإنسان دوار من تأمّل ما يدور كثيرا على ما أنبأنا به، و ليس يكون ذلك بسبب أمر في جزء من العين و لا في روح مصبوب فيه.

ص:311


1- في المصدر:هذا التمييز...
2- فيجب لا محالة أن يكون العقل...
3- كما سنوضّح...
4- نحن بينها...
5- و إمّا في غيره...
6- لو لا أن عندنا نحن أن...
7- هذا المغني...
8- غناءه الشخصيّ...
9- أثبتنا عينه...
10- ما تجتمع...
11- لتعذّرت...
12- و لم يكن الشمّ...
13- و لم تكن...
14- تهرب منها...
15- لهذه الصور مجمع...
16- منها ممّا نراه...
17- الآلة التي بها تتمّ الرؤية...
18- الدوار...
19- لتلك الروح أن تدور،فتكون إذن القوّة المرتّبة هناك.

و كذلك تخيّل (1)استعجال المتحرّك النقطيّ مستقيما أو مستديرا على ما سلف من قبل،و لأنّ تمثّل الأشباح الكاذبة و سماع الأصوات الكاذبة قد يعرض لمن يفسد (2)لهم آلات الحسّ،أو كان مثلا مغمّضا لعينيه (3)،و لا يكون (4)السّبب إلاّ تمثّلها في هذا المبدأ.

و التخيّلات التي تقع في النوم،إمّا أن تكون لارتسام (5)الصّورة في خزانة حافظة للصورة (6)،و لو كان كذلك،لوجب أن يكون كلّ ما اقترن (7)فيها متمثّلا في النّفس،ليس بعضها دون بعض،حتّى يكون ذلك البعض كأنّه مرئيّ أو مسموع وحده؛أو أن (8)يعرض لها التّمثّل في قوّة أخرى،و ذلك إمّا حسّ ظاهر و إمّا حسّ باطن،لكنّ الحسّ الظّاهر معطّل في النوم،و ربّما كان (9)ذلك الذي يتخيّل في النوم ألوانا ما مسمول العين،فيبقى (10)أن يكون حسّا باطنا،و ليس يمكن أن يكون إلاّ المبدأ للحواسّ الظّاهرة،و الذي كان إذا استولت القوّة الوهميّة و جعلت تستعرض ما في الخزانة،تستعرضه و لو في اليقظة،فإذا استحكم ثباتها فيها،كانت كالمشاهدة.فهذه القوّة هي التي تسمّى الحسّ المشترك،و هي مركز الحواسّ،و منها يتشعّب (11)الشّعب،و إليها تؤدّى الحواسّ،و هي بالحقيقة هي التي تحسّ، لكن إمساك ما تدركه هذه (12)للقوّة التي تسمّى خيالا و تسمّى مصوّرة و تسمّى متخيّلة، و ربّما فرّق بين الخيال و المتخيّلة بحسب الاصطلاح،و نحن ممّن نفصل (13)ذلك و الصّور التي في الحسّ المشترك و الحسّ المشترك و الخيال كأنّهما قوّة واحدة،و كأنّهما لا تختلفان (14)في الموضوع،بل في الصّورة،و ذلك (15)لأنّه ليس أن يقبل هو أن يحفظ،فصورة المحسوس يحفظها (16)القوّة التي تسمّى المصوّرة،و الخيال،و ليس إليها حكم البتّة،بل حفظ،و أمّا الحسّ المشترك و الحواسّ الظاهرة فإنّها تحكم بجهة ما،أو بحكم ما،فيقال:

إنّ هذا المتحرّك أسود،و أنّ هذا الأحمر حامض،و هذا الحافظ لا يحكم به على شيء من الموجود إلاّ على ما في ذاته،بأنّ فيه صورة كذا.ثمّ قد نعلم يقينا،أنّ (17)ما في طبيعتنا أن

ص:312


1- في المصدر:نتخيّل...
2- لمن تفسد...
3- لعينه...
4- و لا يكون السبب في ذلك...
5- لارتسام في...
6- المصوّر...
7- ما اختزن فيها...
8- أو أن يكون يعرض...
9- كان الذي يتخيّل ألوانا...
10- فبقي...
11- تتشعّب...
12- هذه هو للقوّة...
13- يفصّل،و الحسّ المشترك...
14- لا يختلفان...
15- و ذلك أنّه...
16- تحفظها...
17- أنّ في طبيعتنا.

نركّب المحسوسات بعضها إلى بعض،و أن نفصّل بعضها (1)من بعض،لا على الصّورة التي وجدناها عليها من خارج،و لا مع تصديق بوجود شيء منها أو لا وجوده،فيجب أن (2)يكون فينا قوّة تفعل ذلك بها،و هذه هي التي تسمّى إذا استعملها العقل:مفكّرة،و إذا استعملها (3)قوّة حيوانيّة:متخيّلة.

ثمّ إنّا قد نحكم في المحسوسات بمعان لا نحسّها،إمّا أن لا تكون في طبائعها محسوسة البتّة،و إمّا أن تكون محسوسة،لكنّا (4)لا نحسّها وقت الحكم.

أمّا التي لا تكون محسوسة في طباعها،فمثل العداوة و الرّداءة و المنافرة التي تدركها الشاة في صورة الذئب.و بالجملة المعنى الذي ينفّرها عنه،و الموافقة التي تدركها من صاحبها،و بالجملة المعنى (5)الذي يؤنسها به،و هذه أمور تدركها النّفس الحيوانيّة، و الحسّ لا يدلّها على شيء منها،فإذن القوّة التي بها تدرك قوّة اخرى،و لتسمّ الوهم.

و أمّا التي تكون محسوسة،فإنّا نرى مثلا شيئا أصفر،فنحكم أنّه عسل و حلو،فإنّ هذا ليس يؤدّيه إليه الحاسّ في هذا الوقت و هو من جنس المحسوس،على أنّ الحكم نفسه ليس بمحسوس البتّة،و إن كانت أجزاؤه من جنس المحسوس،و ليس يدركه في الحال،إنّما هو حكم (6)يحكم به،و ربّما غلط به،و هو أيضا لتلك القوّة.و في الإنسان للوهم أحكام خاصّة،من جملتها حملها (7)النّفس على أن تمنع وجود أشياء لا تتخيّل و لا ترتسم فيه (8)،و ثانيها التّصديق بها.فهذه القوّة لا محالة موجودة فيها (9)،و هي الرئيسة الحاكمة في الحيوان حكما ليس فصلا كالحكم العقليّ،و لكن حكما (10)تخييليّا مقرونا بالجزئيّة،و بالصّورة الحسّيّة،و عنه (11)يصدر أكثر الأفعال الحيوانيّة.

و قد جرت العادة بأن يسمّى مدرك الحسّ صورة و مدرك الوهم معنى،و لكلّ واحد منهما خزانة.

فخزانة مدرك الحسّ هي القوّة الخياليّة،و موضعها مقدّم الدّماغ،فلذلك إذا حدثت

ص:313


1- في المصدر:عن بعض...
2- تكون فينا قوّة يفعل...
3- إذا استعملتها...
4- لكننا...
5- المعنى يؤنسها...
6- حكم نحكم به ربّما غلط به...
7- حمله...
8- فيه و يأبى التصديق...
9- فينا...
10- حكما تخيليّا...
11- و عنها تصدر.

هناك آفة،فسدّ هذا الباب من التّصور،إمّا بأن (1)يتخيّل صورا ليست،أو يصعب استثبات الموجود (2).

و خزانة مدرك (3)المعنى هي القوّة التي تسمّى الحافظة،و معدنها مؤخّر الدّماغ، و لذلك إذا وقع هناك آفة يوقع (4)الفساد فيما يختصّ بحفظ هذه المعاني،و هذه القوّة تسمّى أيضا متذكّرة،فتكون حافظة لصيانتها ما فيها،و متذكّرة لسرعة استعدادها لاستثباته و التصوّر (5)بها يستعدّه إيّاها إذا فقدت،و ذلك إذا أقبل الوهم بقوّته المتخيّلة، فجعل يعرض واحدا واحدا من الصّور الموجودة في الخيال،ليكون كأنّه يشاهد الأمور التي هذه صورها،فإذا عرض له الصّورة الّتي أدرك معها المعنى الذي بطل،لاح له المعنى (6)كما لاح من خارج،و استثبته (7)القوّة الحافظة في نفسها كما كانت حينئذ تستثبت،فكان ذكرا (8)،و ربّما كان المصير من المعنى إلى الصّورة،فيكون المتذكّرة (9)المطلوب ليس نسبته إلى ما في خزانة الخيال (10)و كان إعادة،إمّا في وجود العود إلى هذه المعاني التي في الحفظ، حتّى يضبط (11)المعنى إلى لوح الصّورة،فيعود (12)النّسبة إلى ما في الخيال ثانيا،و إمّا بالرجوع إلى الحسّ.مثال الأوّل:أنّك إذا نسيت نسبته إلى صورة،و كنت عرفت تلك النسبة،تأمّلت الفعل الذي كان يقصد منها،فلمّا عرفت (13)أنّه أيّ طعم و شكل و لون يصلح له،فاستثبتّ النسبة به،و فالّفت (14)ذلك،و حصّلته (15)نسبته إلى صورة في الخيال،و أعدت النسبة في الذّكر،فإنّ خزانة الفعل هو الحفظ لأنّه من المعنى،فإن أشكل ذلك عليك من هذه الجهة أيضا و لم يتّضح،فأورد عليك الحسّ صورة (16)شيء،عادت مستقرّة في الخيال و عادت النّسبة إليه مستقرّة في التي تحفظ.

و هذه القوّة المركّبة بين الصّورة و الصّورة،و بين الصورة و المعنى،و بين المعنى و المعنى (17)كأنّها القوّة الوهميّة بالموضوع،لا من حيث تحكم بل من حيث يعمل (18)ليصل

ص:314


1- في المصدر:بأن تتخيّل...
2- الموجود فيها...
3- مدرك الوهم...
4- وقع الفساد...
5- التصوّر به مستعيدة إيّاه إذا فقد،و ذلك...
6- المعنى حينئذ...
7- استثبتته القوّة...
8- ذاكرا...
9- فيكون التذكّر للمطلوب ليست نسبته...
10- خزانة الحفظ،بل نسبته إلى ما في خزانة الخيال،فكأنّ إعادته إمّا في وجه العود...
11- حتّى يضطرّ...
12- فتعود...
13- عرفت الفعل و وجدته و عرفت أنّه...
14- و ألّفت...
15- و حصّلته نسبة إلى...
16- صورة الشيء...
17- و المعنى هي كأنّها...
18- تعمل لتصل.

إلى الحكم.و قد جعل مكانها وسط الدّماغ،ليكون لها اتّصال بخزانتي المعنى و الصّورة.

و يشبه أن تكون القوّة الوهميّة (1)بعينها المفكّرة و المتخيّلة و المتذكّرة،و هي بعينها الحاكمة،فتكون (2)حاكمة،و بحركاتها و أفعالها متخيّلة و متذكّرة،فتكون متخيّلة بما تعمل في الصّورة (3)و المعاني،و متذكّرة بما ينتهي إليه عملها.

و أمّا الحافظة،فهي قوّة خزانتها.و يشبه أن يكون التّذكّر الواقع بالقصد معنى للإنسان وحده،و أنّ خزانة الصّورة هي المصوّرة و الخيال،و أنّ خزانة (4)المعاني هي الحافظة و لا يمتنع أن يكون (5)الوهميّة بذاتها حاكمة (6)و بحركاتها متخيّلة و ذاكرة».-انتهى كلامه-.

و قال ابن رشد المغربي في كتابه الموسوم بجامع الفلسفة،بهذه العبارة:«القول في الحسّ المشترك و هذه القوى الخمس التي عددناها يظهر من أمرها أنّ لها قوّة واحدة مشتركة،و ذلك أنّه لمّا كانت هنا محسوسات لها مشتركة،فها هنا إذا لها قوّة مشتركة بها تدرك المحسوسات المشتركة،سواء كانت مشتركة لجميعها،كالحركة و العدد أو لاثنتين منها فقط،كالشكل و المقدار المدركين بحاسّة البصر و حاسّة اللّمس.

و أيضا فلمّا كنّا بالحسّ ندرك التغاير بين المحسوسات الخاصّة بحاسّة حاسّة،حتّى نقضي مثلا على هذه التّفّاحة أنّها ذات لون و طعم و ريح،و أنّ هذه المحسوسات متغايرة فيها،وجب أن يكون هذا الإدراك لقوّة واحدة،و ذلك أنّ القوّة التي تقضي على أنّ هذين المحسوسين متغايران هي ضرورة قوّة واحدة.فإنّ القول بأنّ القوّة التي بها يدرك التغاير بين شيئين محسوسين ليست بقوّة واحدة بمنزلة القول بأنّي أدرك المخالفة التي بين المحسوس الذي أنا،و المحسوس الذي أحسسته أنت و أنا لم أحسّه،و هذا بيّن بنفسه.

و قد يوقف أيضا على وجود هذه القوّة من فعل آخر ليس يمكننا أن ننسبه إلى واحد من الحواسّ الخمس،و ذلك أنّا نجد كلّ واحد من هذه الحواسّ تدرك محسوساتها، و تدرك مع هذا أنّها تدرك.فهي تحسّ الإحساس،و كان نفس الإحساس هو الموضوع

ص:315


1- في المصدر:الوهميّة هي بعينها...
2- فتكون بذاتها حاكمة...
3- في الصور...
4- خزانة المعنى...
5- أن تكون...
6- حاكمة متخيّلة، و بحركاتها.

لهذا الإدراك،إذ كانت نسبته إلى هذه القوّة نسبة المحسوسات إلى حاسّة حاسّة.و لذلك لسنا نقدر أن ننسب هذا الفعل إلى حاسّة واحدة من الحواسّ الخمس،و إلاّ لزم أن يكون المحسوسات أنفسها هي الإحساسات أنفسها.و ذلك أنّ الموضوع مثلا للقوّة الباصرة إنّما هو اللّون،و الموضوع لهذه القوّة هو نفس إدراك اللّون.فلو كان هذا الفعل للقوّة الباصرة، لكان اللّون هو نفس إدراكه،و ذلك محال.فإذن باضطرار ما يلزم عن هذه الأشياء كلّها وجود قوّة مشتركة للحواسّ كلّها هي من جهة واحدة،و من جهة كثيرة.أمّا كثرتها،فمن جهة ما تدرك محسوساتها بآلات مختلفة تتحرّك عنها حركات مختلفة،و أمّا كونها واحدة،فلأنّها تدرك التغاير بين الإدراكات المختلفة،و لكونها واحدة تدرك الألوان بالعين،و الأصوات بالأذن،و المشمومات بالأنف،و المذوقات باللّسان،و الملموسات باللّحم.و تدرك جميع هذه بذاتها،و تحكم عليها،و كذلك تدرك جميع المحسوسات المشتركة لكلّ واحدة من هذه الآلات،فتدرك العدد مثلا باللّسان و الاذن و العين و اللحم و الأنف،و هي بالجملة واحدة بالموضوع،كثيرة بالقوى،واحدة بالماهيّة،كثيرة بالآلات.

و الحال في تصوّر هذه القوّة واحدة من جهة،كثيرة من أخرى،كالحال في الخطوط التي تخرج من مركز الدائرة إلى محيطها،فإنّ هذه الخطوط كثيرة بالأطراف التي تنتهي إلى المحيط،واحدة بالنقطة التي تجمع أطرافها عندها و هي المركز.

و كذلك هذه الحركات التي تكون عن هذه المحسوسات،هي من جهة المحسوسات و الآلات كثيرة،و هي من جهة أنّها تنتهى إلى قوّة واحدة،واحدة»-انتهى موضع الحاجة من كلامه-.

في الكلام في الحسّ المشترك

و أقول:و باللّه التّوفيق،إنّ ما ذكره الشّيخ في معنى الحسّ المشترك،بقوله:«و أمّا الحسّ المشترك،فهو غير ما ذهب إليه من ظنّ أنّ للمحسوسات المشتركة حسّا مشتركا، بل الحسّ المشترك هو القوّة الّتي يتأدّى إليها المحسوسات كلّها».

ص:316

توضيحه:أنّه ظنّ بعضهم أنّ معنى الحسّ المشترك أنّه قوّة بها يحصل الإحساس بالمحسوسات المشتركة،و مبناه على أنّ المحسوسات بعضها ما هي مختصّة بحاسّة حاسّة،كالألوان المختصّة بالبصر،و الأصوات المختصّة بالسّمع،و الرّوائح المختصّة بالشّمّ،و الطّعوم المختصّة بالذّوق،و الحرارة و البرودة المختصّتين باللّمس.

و بعضها ما هي غير مختصّة بحاسّة واحدة،بل هي إمّا مشتركة بين جميع تلك الحواسّ كالحركة و العدد،و إمّا مشتركة بين أكثر من واحدة كالشّكل و المقدار حيث إنّهما مشتركان بين البصر و اللّمس.و كما أنّ لكلّ من المحسوسات الخاصّة قوّة خاصّة،كذلك لتلك المحسوسات المشتركة قوّة اخرى غير تلك القوى الخمس،هي المسمّاة بالحسّ المشترك،أي هو حسّ يدرك المحسوسات المشتركة.

و هذا الظّنّ باطل،إذ لو كان معنى الحسّ المشترك ما ذكر،لما كان لإثباته قوّة أخرى غير تلك الخمس وجه،لأنّ تلك المحسوسات المشتركة التي ذكرت،إنّما تدركها تلك الحواسّ الخاصّة أيضا،إلاّ أنّ مدركاتها على نوعين:نوع هو مدرك لها بالذّات،و نوع هو مدرك لها بالواسطة و بالعرض.فمدرك البصر مثلا أوّلا و بالذّات و إن كان هو الضّوء و اللّون،إلاّ أنّه يدرك تلك المحسوسات المشتركة أيضا ثانيا و بالواسطة.و كذلك الحال في اللّمس و سائر القوى الأخرى،و لا محذور أيضا أن يتعدّد إدراكات قوّة واحدة و مدركاتها،و أن يصدر عن الواحد أكثر من واحد إذا لم يكن ذلك الصّدور من جهة واحدة و من حيثيّة واحدة،بل أن يكون بعضها بالذّات و بعضها بالعرض،و بالجملة أن يكون من حيثيّات متعدّدة.

و حيث بطل هذا الظّنّ،بطل الوجه الأوّل الذي ذكره ابن رشد في إثبات الحسّ المشترك،إذ هو مبنيّ على هذا الظّنّ،و على أنّ معنى الحسّ المشترك هو ذلك.

بل أنّ معنى الحسّ المشترك كما هو مبنى الوجه الثاني الذي ذكره ابن رشد،أنّه القوّة التي يتأدّى إليها المحسوسات،أي محسوسات الحواسّ الظّاهرة كلّها،سواء كانت تلك المحسوسات محسوسات مختصّة،أو محسوسات مشتركة،بل قد يتأدّى إليها

ص:317

محسوسات بعض الحواسّ الباطنة أيضا،كما في من تعطّل حواسّه الظّاهرة،و استولت المتخيّلة و نقشت في لوح هذه القوّة صورا كانت مخزونة في الخيال،أو صورا ركّبتها من تلك الصّور المخزونة على طريقة انتقاشها فيه من الخارج،على ما سيأتي بيانه.

فهذه القوّة قوّة تقبل بذاتها جميع الصّور المنطبعة في الحواسّ الظّاهرة،و بعض ما في الباطنة المتأدّية لتلك الصّور إليها من طرق تلك الحواسّ،سواء كانت تلك الصّور صورا خاصّة بحاسّة حاسّة،أو مشتركة بينها.

و على هذا فمعنى كون تلك القوّة حسّا مشتركا،أنّها حسّ مشترك بين محسوسات الحواسّ الظّاهرة كلّها مختصّاتها و مشتركاتها،و أنّها تدرك محسوساتها كلّها،لا اختصاص لها بإدراك محسوس حسّ خاصّ،و كذا هي مشتركة بين محسوسات الحواسّ الظّاهرة كلّها و محسوسات الحواسّ الباطنة في الجملة.فالقوّة الباصرة مثلا تبصر و لا تسمع و لا تشمّ و لا تذوق و لا تلمس،و هذه القوّة تفعل الجميع،أي تبصر و تسمع و تشمّ و تذوق و تلمس.و كذا الحال في سائر الحواسّ الظّاهرة،فإنّ كلّ واحدة منها تدرك ما يختصّ بها من المحسوس و لا تدرك الجميع،بخلاف الحسّ المشترك.

و بهذا يحصل الفرق بينها و بين الحواسّ الظّاهرة.

مع أنّه فيما بينها و بين تلك الحواسّ في إدراك ما يختصّ بكلّ واحدة فرقا أيضا، و هو أنّ القوّة الباصرة-مثلا-إنّما تدرك المبصر إذا كانت النسبة المخصوصة محفوظة بينها و بين المبصر،و أمّا هذه فتدرك المبصر و تثبت فيها الصّورة المأخوذة من خارج منطبعة فيها،أي في الرّوح الّتي فيها هذه القوّة،سواء كانت النسبة المذكورة بينها و بين المبصر محفوظة،أو قريبة العهد.

و كذلك بينها و بين الحواسّ الباطنة التي تتأدّى الصّورة منها إليها فرق،و هو أنّ الحسّ المشترك قابلة للصّور لا حافظة لها،و القوّة الخياليّة مثلا حافظة لما قبلت الحسّ المشترك،و ذلك أنّه إذا غاب المبصر مثلا انمحت الصّورة عن الحسّ المشترك و لم تثبت زمانا يعتدّ به،و أمّا الرّوح التي فيها الخيال مثلا فإنّ الصّورة تثبت فيها،و لو بعد حين كثير،

ص:318

كما سيأتي بيانه.

و أيضا إذا كانت الصّورة في الحسّ المشترك،كانت محسوسة بالحقيقة فيها،حتّى إذا انطبعت فيها صورة كاذبة أيضا أحسّتها كما يعرض للممرورين،و أمّا إذا كانت في الخيال مثلا كانت متخيّلة لا محسوسة.

ثمّ نقول في بيان كيفية تأدّي صور المحسوسات إليها من طرق الحواسّ:إنّهم ذكروا:

أنّ لكلّ حاسّة من الحواسّ الخمس الظّاهرة عصبا هو بما فيه من الرّوح آلة لتلك القوّة، و مبدأ أعصاب الحواسّ الأربع غير اللّمس هو مقدّم الدّماغ،و مبدأ أعصاب اللّمس هو الدّماغ و النّخاع الذي مبدؤه أيضا الدّماغ،و أكثرها نخاعيّة،و أنّ آلة الحسّ المشترك هو الرّوح المصبوب في مبادي عصب الحسّ،لا سيّما في مقدّم الدّماغ،و الرّوح المصبوب في مبادي البطن المقدّم هو آلة للحسّ المشترك و الخيال،إلاّ أنّ ما في مقدّم ذلك البطن بالحسّ المشترك أخصّ،و ما في مؤخّره بالخيال أخصّ.فالحسّ المشترك كرأس عين ينشعب منه خمسة أنهار من خارج،و بعض أنهار من داخل،أو مثل حوض ينصبّ فيه خمسة أنهار من خارج و بعض أنهار من داخل،و إنّما يتأدّى الإدراكات الحسّيّة من الحواسّ الظّاهرة بواسطة الأرواح الّتي في الأعصاب إلى التي في مبادئها المتّصلة بالرّوح المصبوب في البطن المقدّم،و كذا يتأدّى من الخيال-مثلا-إلى الحسّ المشترك بواسطة اتّصال الرّوحين في مقدّم البطن المقدّم و مؤخّره،و ليس معنى التّأدية أنّ الكيفيّات المحسوسة تسير في الأعصاب إلى آلة الحسّ المشترك،أو تسير من الرّوح التي هي آلة الخيال إليها كما فهمه بعض،حتّى يرد أنّ الكيفيّات التي هي أعراض،كيف يمكن أن تنتقل عن موضوعاتها إلى غيرها؟بل معنى التأدية أنّها استعارة عن إدراك النّفس بواسطة الرّوح المصبوب إلى كلّ حسّ محسوسه،و بواسطة الرّوح الذي هو مبدأ مشترك للجميع، مثل المحسوسات الظّاهرة،و كذا مثل بعض المحسوسات الباطنة.و اتّصال الأعصاب و الأرواح ليس لتمهيد طرق تسير فيها الكيفيّات،فإنّ الكيفيّات لا تنتقل عن موضوعاتها،و إدراك النّفس ليس بمتأخّر عن ملاقاة الحواسّ للمحسوسات بزمان يقطع

ص:319

فيه تلك المسافات،بل هو لاتّصال الأرواح بمبدإ واحد مجتمعة في موضع يعدّها للإحساس.

و حيث تحقّقت ما تلوناه عليك،فاعلم أنّ الصّادر عن الحسّ المشترك التي هي قوّة واحدة بالقصد الأوّل،إنّما هو فعل واحد هو استثبات الصّور المادّيّة،ثمّ تصير مستثبتة للألوان و الأصوات و الطّعوم و غيرها بقصد ثان،و ذلك لانقسام تلك الصّور إليها،و هذا كالإبصار الذي فعله إدراك اللّون.

ثمّ إنّه يصير مدركا للضدّين،كالسّواد و البياض،لكون اللّون مشتملا عليهما،و ذلك لانقسام تلك الصّور إليهما،و الشيء الواحد يمكن أن يصدر عنه الكثير إذا كان الصّادر بالقصد الأوّل شيئا واحدا ثمّ يتكثّر بقصد ثان،كما في الصّورتين المذكورتين،كما أنّه يمكن صدور الكثير عنه إذا كانت وجوه الصّدورات مختلفة متكثّرة،كما في أفعال النّفس.

و على هذا،فلا يرد أنّ الحسّ المشترك مع كونها قوّة واحدة كيف يصدر عنها الكثير؟ و اللّه أعلم بحقيقة الحال.

في الدليل على وجود الحسّ المشترك

اشارة

ثمّ إنّ قول الشّيخ:«فإنّه لو لم تكن قوّة واحدة تدرك المكوّن و الملموس،لما كان لنا أن نميّز بينهما قائلين إنّه ليس هذا ذاك»-إلى آخر ما ذكره-دليل على إثبات الحسّ المشترك.

و بيانه:قد إنّا نميّز بين المحسوسات الظّاهرة،و نحكم ببعضها على بعض،سواء كان حكما سلبيّا،كما نحكم أنّ هذا الملوّن ليس هذا الملموس،أو حكما إيجابيّا،كما نحكم بأنّ هذا الأحمر حلو،و لو لم يكن لنا قوّة تجتمع فيها صور المحسوسات،لما كان لنا أن نميّز بينها و نحكم،لأنّ الحاكم المميّز بين الشيئين يحتاج إلى إدراكه لهما و حصولهما عنده و اجتماعهما لديه،إمّا في ذاته،أو في غيره.و محال أن يكون حصول هذين الأمرين في حسّ من الحواسّ الظّاهرة،لأنّه لا يدرك غير نوع واحد من المحسوسات كما

ص:320

سلف.سلّمنا أنّ هذا التّمييز هو للعقل،أي للنّفس بذاتها إلاّ أنّه يجب لا محالة أنّ العقل يجدهما معا حتّى يميّز بينهما و يحكم،و ذلك أيضا محال،لأنّ المحسوسات من حيث هي محسوسة،و على النحو المتأدّي من المحسوس،لا يدركها العقل،لما سنوضّح من بعد،فمحال أن يكون حصول ذلك في العقل أيضا.فإذن لا بدّ من قوّة أخرى غير الحسّ الظّاهر يجتمع فيها صور المحسوسات بالتأدّي إليها من طرق الحواسّ،حيث إنّها كجواسيس لهذه القوّة،تؤدّي مدركاتها إليها،فيجتمع تلك المدركات فيها،و لذلك سمّيت بالحسّ المشترك و هو المطلوب.

و في قوله:«و ذلك لأنّها من حيث هي محسوسة،و على النحو المتأدّي من المحسوس لا يدركها العقل»إيماء إلى دفع إيراد ربّما يمكن أن يورد هاهنا.

بيان إيراد مع دفعه

بيان الإيراد:أنّ الحاكم و المميّز بالحقيقة ليس إلاّ العقل،و إسناد الحكم و التمييز إلى القوّة مجاز،و اجتماع الأشياء عند النّفس حال حكمها عليها و بها قد يكون بارتسامها كلّها في ذاتها أو في قواها العقليّة،كما إذا حكمت بين المعقولات و ميّزت بينها،و قد يكون بارتسام بعضها في ذاتها أو في قواها العقليّة و ارتسام بعض آخر في آلاتها و قواها الجسمانيّة،كما إذا حكمت مثلا على زيد بأنّه إنسان،و على هذا الحجر بأنّه ليس بإنسان، و ميّزت بينهما،و قد يكون بارتسامها في آلتين و قوّتين جسمانيّتين لها،كما إذا حكمت -مثلا-على هذا اللّون بأنّه غير هذا الطّعم،و على هذا الأحمر بأنّه حلو،و ميّزت بينهما، و حينئذ فلا حاجة إلى قوّة أخرى يجتمع فيها صور المحسوسات.بل إنّ تلك الصّور المحسوسة إنّما هي في قواها المختصّة بها،و هي حاضرة عند النّفس،لكونها حاصلة في آلات النّفس التي علم النفس بها علم حضوريّ،و بذلك تحكم بينها و تميّز بينها.

و أمّا بيان الدفع لهذا الإيراد،فهو مبنيّ على مقدّمة،أحال وضوحها على ما ذكره من كلماته من بعد ذلك،و سبقت أيضا الإشارة منه إليها في بعض كلماته المتقدّمة على ذلك،

ص:321

و سلفت الإشارة منّا إليها أيضا فيما سبق من كلماتنا،و هي أنّ كلّ إدراك حصوليّ إنّما هو أخذ صورة المدرك بنحو من الأنحاء،و أنّه إن كان ذلك الإدراك إدراكا لشيء مادّيّ،فهو أخذ صورته مجرّدة عن المادّة و علائقها تجريدا.

إلاّ أنّ أصناف التّجريد مختلفة،و مراتبه متفاوتة،كما في إدراك الصّور المحسوسة التي تدركها الحواسّ الظّاهرة و الباطنة،و إدراك الصّورة المعقولة التي تدركها النّفس،و أنّ لتلك الصّور المأخوذة نسبتين:نسبة إلى الشيء الذي انتزعت تلك الصّورة منه،و نسبة إلى المحلّ القابل لها الذي هي حصلت فيه.

و بالاعتبار الأوّل،فهي مطابقة بحسب الماهيّة مع الشيء المأخوذ منه الصّورة، و لذلك يسري الحكم منها إليه.و كذا هي مجرّدة عن الوجود الخارجيّ مطلقا،و كذا عن المادّة و علائقها إن كان الشيء مادّيّا،و لذلك كانت مخالفة له في كثير من اللّوازم كما مرّ بيانه.و بالاعتبار الثّاني فهي معروضة لنحو وجود عينيّ جزئيّ باعتبار قيامها بمحلّ عينيّ و جزئيّ.

و كذلك هي بالاعتبار الأوّل معلومة،أي معلومة بالذات،و بتوسّطها يكون الشيء المنتزع هي منه معلومة بالعلم الحصوليّ،أي أنّها إن كانت صورا مادّيّة جزئيّة تحصل في الآلات البدنيّة التي هي آلات للنّفس،و كذا هي آلات لقوى النّفس،فتدركها تلك القوّة المختصّة بكلّ واحدة أوّلا،و بتوسّط تلك القوّة تدركها النّفس إدراكا حصوليّا،و إن كانت صورا كلّيّة تحصل في النّفس بذاتها،فتدركها بقوّتها العقليّة إدراكا حصوليّا أيضا.و أمّا هي بالاعتبار الثّاني،فمعلومة للنّفس علما حضوريّا،إذ ليس يتوسّط بينها و بين تلك الصّورة صورة أخرى،بتلك الصّورة يحصل علم النّفس بالصّورة الأولى علما حصوليّا، بل إنّ الصّورة الأولى حاضرة بذاتها عند النفس،مثل علمها بآلاتها و بقواها و بذاتها و بعلمها لعلمها و أمثال ذلك ممّا هو معلوم للنّفس علما حضوريّا.

و بعد تمهيد تلك المقدّمة،نقول:لا شكّ إنّا إذا رجعنا إلى وجداننا في صورة تمييزنا بين المحسوسات،و حكمنا عليها و بها،نجد أنّ إدراكنا المحسوسين اثنين أو أكثر،مثل

ص:322

إدراكنا لمحسوس واحد،و بقوّة واحدة،و لا نجد فرقا بين أن ندرك صورة مبصرة مثلا، و أن ندرك صورتين مبصرة و مذوقة حين تمييزنا بينهما،فيجب أن يكون إدراكنا في الحالتين على نسق واحد غير مختلف،و كما إنّا إذا أبصرنا شيئا يكون إبصارنا،له بحصول صورته في آلة الباصرة فتدركها القوّة الباصرة ثمّ تدركها النّفس بتوسّطها،كذلك ينبغى أن يكون إدراكنا للمبصر و المذوق معا مثلا بحصول صورتيهما في آلة من الآلات البدنيّة، فتدركهما قوّة شأنها إدراك المحسوسات كلّها التي قلنا إنّها الحسّ المشترك،و آلتها الرّوح المصبوب في مقدّم البطن المقدّم من الدماغ.و إسناد الحكم و التّمييز إلى هذه القوّة لا ينافي إسنادهما إلى النّفس أيضا،حيث إنّ الحاكم و المميّز أوّلا هو هذه القوّة،و بتوسّطها تكون النّفس أيضا مميّزة و حاكمة،لكونها قوّة من قواها،و بتوسّطها تصدر الأفعال عن النّفس،كما في القوى و الحواسّ الأخر.

و بالجملة،فإنّا لا نجد فرقا في ذلك بين إدراكنا لمحسوس واحد،و بين إدراكنا لأزيد من واحد،فكيف يكون إدراك المحسوس الواحد بحصول صورته في آلة حاسّة من الحواسّ تدركها تلك الحاسّة أوّلا و بتوسّطها تدركها النّفس إدراكا حصوليّا كما هو المقرّر عندهم،و يكون إدراك المحسوسات إذا كانت أزيد من واحد،بحصول صورة كلّ واحد في آلة مخصوصة بها،فتدركها الحواسّ الخاصّة بها أوّلا إدراكا حصوليّا ثمّ تدركها النّفس إدراكا حضوريّا بحصولها في آلاتها و حضور الآلات مع ما فيها عندها،كما في علم النّفس بآلاتها و بذاتها و علمها بعلمها،كما هو مبنى الإيراد.

و على هذا،فكأنّ معنى كلام الشيخ:«و ذلك لأنّها من حيث هي محسوسة،و على النّحو المتأدّي من المحسوس لا يدركها العقل».

أنّها من هذه الحيثيّة لا يدركها العقل أصلا،لا بأن يحصل صورها في ذات النّفس بدون حصولها في آلاتها،فتدركها النّفس إدراكا حصوليّا كما في إدراكها للصّور المعقولة، حيث إنّها لكونها مجرّدة عن المادّة و توابعها،يحتاج إدراكها للصّور المحسوسة إلى قوى جسمانيّة و آلات بدنيّة،و لا بأن تحصل تلك الصّور في آلاتها،فتدركها النّفس إدراكا

ص:323

حضوريّا لحضور تلك الآلات مع ما فيها عندها،لأنّا لا نجد فرقا بين إدراكنا لمحسوس واحد و إدراكنا لأكثر من واحد.

إيراد آخر مع دفعه

فإن قلت إذا كان إدراك أمرين محسوسين أو أكثر و التمييز بينهما أو بينها دليلا على إثبات قوّة على حدة،تدرك ذينك الأمرين أو تلك الأمور،لكان لا يجب أن يكون إدراك الكلّيّ و الجزئيّ و التمييز بينهما،و الحكم بأحدهما على الآخر،كما في قولنا:زيد إنسان و هذا الحجر ليس بإنسان،دليلا على إثبات قوّة على حدة تدركهما و تميّز بينهما،و لم يقل به أحد.

قلت:ذلك إنّما هو لأجل أنّ إثبات قوّة واحدة على حدة تدرك الكلّيّ و الجزئيّ،ممّا لا يمكن،حيث إنّ إثبات قوّة كذلك يستلزم القول بكونها مجرّدة و غير مجرّدة معا،و هذا محال.و لذلك قالوا:إنّ النّفس في تمييزها بين الكلّيّ و الجزئيّ تدركهما بقوّتين،يعنى إنّها تدرك الكلّيّ بقوّة عقليّة،و بحصول صورته في ذاتها،و تدرك الجزئيّ بقوّة جسمانيّة، و بحصول صورته في آلتها،و بما ذكرنا تمّ الدليل على هذا المرام،و اندفع الإيراد عنه،إلاّ أنّه بقي هاهنا دقيقة.

دقيقة

ينبغى التنبيه عليها،و هي أنّ التمييز بين المحسوسات و الحكم بينها،كما هو دليل على إثبات الحسّ المشترك كما ذكره الشّيخ،و بيّنّا وجهه،كذلك هو دليل على إثبات الخيال أيضا،كما سيومئ كلامه إليه،و لذلك قال في الإشارات (1):«و بهاتين القوّتين يمكنك أن تحكم أنّ هذا اللّون غير هذا الطّعم»و أشار بقوله:«هاتين القوّتين»إلى الحسّ المشترك و الخيال.

ص:324


1- -شرح الإشارات 338/2. [1]

و قال المحقّق الطّوسيّ(ره)في شرحه (1): (2)«إنّ (3)هذا الاستدلال مشترك على وجودهما معا،و هو بناء على أنّ النّفس لا تدرك المحسوسات إلاّ بقوى جسمانيّة، و تقريره أنّها لا تدرك بحسّ واحد من الحواسّ الظّاهرة غير نوع واحد من المحسوسات.

فإذن لا بدّ لها حين تحكم على أبيض ما أنّه ذو حلاوة،من قوّة تدرك البياض و الحلاوة معا بها،و لا محالة يكون (4)نسبة جميع المحسوسات إلى تلك القوّة نسبة واحدة.و أيضا كما أنّ النّفس لا تقدر على هذا الحكم إلاّ بقوّة مدركة للجميع،فإنّها أيضا لا تقدر على ذلك إلاّ بقوّة حافظة للجميع،و إلاّ فينعدم (5)صورة كلّ واحد من البياض و الحلاوة عند إدراك الآخر و الالتفات إليه»-انتهى-.

و بما ذكره يظهره وجه إثبات الخيال أيضا بذلك.

في إثبات الحسّ المشترك للحيوانات العجم أيضا

و الإشارة إلى دفع ذلك الإيراد بوجه آخر

ثمّ قول الشيخ:«و لو لم يكن قد اجتمع عند الخيال من البهائم التي لا عقل لها،المائلة بشهوتها إلى الحلاوة-إلى آخره-».

بيان لأنّ هذا التّمييز بين المحسوسات و الحكم بينها،كما أنّه معلوم التّحقّق في الإنسان،و دليل على وجود الحسّ المشترك له-كما ذكر بيانه-كذلك هو معلوم التّحقّق في غير الإنسان من البهائم الّتي لا عقل لها،و الحيوانات العجم؛فيدلّ على وجوده فيها أيضا،و على أنّه من قوى النّفس الحيوانيّة بما هي حيوانيّة،سواء كانت في الإنسان أو في غيره من الحيوانات،و أنّه-على هذا التقدير-لا مجال لتوهّم الإيراد الذي يتوهّم وروده على تقدير الاستدلال بوجود ذلك التّمييز و الحكم في الإنسان على وجود الحسّ المشترك له،حيث إنّه في الحيوانات العجم و البهائم التي لا عقل لها أو غير معلوم وجود

ص:325


1- -شرح الإشارات 338/2-339.
2- في المصدر:و أمّا قول الشّيخ(...)
3- فاستدلال مشترك...
4- تكون...
5- فتنعدم.

العقل و النّفس الناطقة المجرّدة لها،بل إنّ المعلوم أنّ نفوسها منطبعة في المادّة،لا يمكن أن يحصل لها العلم الحضوريّ بما في قواها و حواسّها،لا مجال لتوهّم أنّ تلك الصّور حاصلة في آلاتها و حواسّها،و هي حاضرة عند نفوسها،و بذلك تحكم و تميّز بينها،كما يمكن أن يتوهّم ذلك في الإنسان.

أمّا بيان وجود هذا الحكم و التّمييز في الحيوانات العجم،فلأنّه لو لم يكن قد اجتمع عند الخيال من البهائم التي لا عقل لها المائلة بشهوتها و بقوّتها الشهوانيّة إلى الحلاوة، و بالجملة إلى الشيء الملائم لها،إنّ شيئا صورته كذا هو حلو و ملائم لها،لما كانت إذا رأته همّت بأكله،و حيث كانت حالها كذلك،فهي تحكم بأنّ المبصر الكذائيّ هو حلو و ملائم لذائقتها،و مذوق مثلا و تميّز بينهما.كما أنّه لو لا عندنا أنّ هذا الأبيض هو هذا المعنى،لما كنّا إذا سمعنا معناه الشخصيّ أثبتنا عينيّته الشّخصيّة،و بالعكس،حيث إنّا نميّز بين المبصر و المسموع،و نحكم بينهما.و بالجملة فحال البهائم التي لا عقل لها في ذلك، مثل حالنا فيه سواء بسواء،فحيث كانت هي صدر عنها ذلك التّمييز و الحكم،فتدرك هي أيضا نوعين من المحسوس معا،فإذن لا بدّ لها من قوّة لذلك،و ليست تلك القوّة إحدى الحواسّ الظّاهرة،لأنّها لا تدرك إلاّ نوعا واحدا من المحسوسات كما سلف بيانه،و لا النّفس الحيوانيّة،لأنّها لا تدرك محسوساتها إلاّ بقوى جسمانيّة،و ليس لها لكونها منطبعة في المادّة أن تدرك الصّور التي في قواها و آلاتها إدراكا حضوريّا كالنّفس المجرّدة،فبقي أن يكون هي قوّة من القوى الباطنة،و نحن نسمّيها بالحسّ المشترك و فيه المطلوب.

و إنّما قال:«لو لم يكن قد اجتمع عند الخيال»،إيماء إلى أنّ للخيال أيضا دخلا ما في ذلك الحكم و التّمييز من جهة حفظ تلك الصّور،كما أنّ للحسّ المشترك دخلا فيه من حيث الإدراك كما عرفت بيانه.

و أيضا لو لم يكن في الحيوان مطلقا قوّة يجتمع فيها صور المحسوسات،لتعذّر عليه الحياة.إذ لو لم يكن الشّمّ مثلا دالاّ لها على الطّعم الملائم أو المنافر،و لم تكن تدرك أنّ هذا المشموم مذوق ملائم أو غير ملائم،و كذا لو لم يكن الصّوت دالاّ إيّاها على الطّعم،و لم

ص:326

تكن تدرك أنّ هذا المسموع مذوق ملائم أو غير ملائم.و كذا لو لم يكن المبصر كالصّورة الخشبيّة مثلا تذكّرها صورة و دليلا لها على أنّ هذا المبصر ملموس متنفّر عنه،يحصل من لمسها ألم لها حتّى تهرب منها،لتعذّر عليها الحياة.و حيث كان كذلك،فيجب-لا محالة- أن يكون لهذه المحسوسات مجمع واحد من باطن،و قوّة باطنيّة مدركة لها،و هو المطلوب.

و قوله:«و قد يدلّنا على وجود هذه القوّة،اعتبارات أمور تدلّ على أنّ لها آلة غير الحواسّ الظّاهرة»-إلى آخره-».

استدلال بوجوه أخر على وجود هذه القوّة للإنسان،و مبنى الوجهين الأوّلين على أنّ الدّوران و الدّوّار كما ذكره إنّما يعرض بسبب حركة البخار في الدّماغ،و في الرّوح التي فيه،أي الرّوح الّتي في البطن المقدّم منه،و هي آلة للحسّ المشترك،و ذلك مقرّر بين الأطبّاء و حكماء الطّبيعيّين.فالاستدلال بالوجهين على ذلك،لا غبار عليه على أصولهم.

و قوله:«و كذلك تخيّل استعجال المحرّك النّقطيّ مستقيما أو مستديرا على ما سلف من قبل»وجه آخر مشهور بينهم،و بيانه يظهر ممّا نقلنا أوّلا من كلامه في فصل تعديد قوى النّفس الإنسانيّة.

و قد اكتفى في الإشارات بهذا الدّليل على وجود الحسّ المشترك في مقام بيان الدّليل المنفرد عليه.

و بيّنه المحقّق الطّوسي(ره)في شرحه،بأن قال (1):«و الحاصل أنّ الموجود في الخارج كنقطة،و المرئيّ كخطّ،و النقطة المتحرّكة ترتسم في البصر عند وصولها إلى مكان ما يحدث (2)بحسب المقابلة بينهما،و تزول عنه بزوال المقابلة.و المقابلة إنّما تحصل في آن يحيط به زمانان لا حصول لها فيهما،لكون الحركة غير قارّة،فلو لا شيء آخر غير البصر ترتسم فيه تلك النّقطة،و تبقى قليلا على وجه يتّصل الارتسامات المتتالية في البصر

ص:327


1- -شرح الإشارات 333/2.
2- في المصدر:ما تحدث بحسبه.

و فيه بعضها ببعض،لم يكن اتّصال،فلم ير خطّ،فإذن هاهنا قوّة قد بقي فيها الارتسام البصريّ شاهدا (1)».

ثمّ ذكر أنّه اعترض الإمام الرّازي على هذا الاستدلال بأن قال (2):«لم لا يجوز أن يكون اتّصال الارتسامات في الهواء،بأن يكون كلّ شكل (3)يحدث في جزء من الهواء، لوصول (4)النّقطة إليه،فإنّه يحدث قبل زوال الشّكل السّابق،فيتّصل (5)التّشكّلات و ترى (6)خطّا،قال:و هذا أولى ممّا قالوه،لأنّ القول بمشاهدة ما ليس في الخارج سفسطة و جهالة».

ثمّ قال:«و لم لا يجوز أن يكون ذلك في البصر،و العلم بأنّ البصر لا يرتسم (7)فيه إلاّ صورة المقابل ليس ببرهانيّ،و التجربة لا تفيده».

ثمّ أجاب المحقّق(ره)عن هذا الاعتراض بأن قال (8):

«و الجواب عن الأوّل،بأنّ بقاء التّشكّل السّابق عند تشكّل (9)بعده يقتضي الخلاء، فإنّ التّشكّل إنّما حدث في الهواء لنهاياته المحيطة بالجسم المتحرّك فيه،و بقاء النهايات بحالها بعد خروج المتحرّك عنها،يقتضي إحالة (10)النهايات بالخلاء.

و عن الثّاني أنّ (11)القول بذلك أولى بأن ينسب إلى السفسطة و الجهالة،من القول بوجود قوّة للإنسان يدرك بها شيئا بعد غيبته،لأنّه مع كونه مشتملا على القول بمشاهدة ما ليس في الخارج،قول بمشاهدة ما لا يقابله البصر،و لا يكون في حكم ما يقابله».- انتهى كلامه ره-.

ثمّ إنّ قول الشّيخ:«و لأنّ تمثّل الأشباح الكاذبة و سماع الأصوات الكاذبة قد يعرض لمن يفسد لهم آلات الحسّ،أو كان مثلا مغمضا لعينيه.»-إلى آخره-.

دليل آخر على وجود الحسّ المشترك،مبناه على تأدّي الصّور إليه من قبل الحواسّ

ص:328


1- في المصدر:مشاهدا...
2- -شرح الإشارات 334/2. [1]
3- كلّ تشكّل تحدث...
4- بوصول...
5- فتتّصل...
6- و يرى...
7- لا ترتسم...
8- -شرح الإشارات 334/2. [2]
9- عند حصول التشكّل بعده...
10- إحاطة...
11- بأنّ.

الباطنة،كما أنّ ما تقدّم مبناه على تأدّي الصّور إليه من قبل الحواسّ الظّاهرة.و بيان هذا الدليل ظاهر كما ذكره.

و قوله:«فهذه القوّة هي التي تسمّى الحسّ المشترك»نتيجة لما تقدّم من الوجوه؛ و قوله:«و هي مركز الحواسّ و منها ينشعب الشعب،و إليها تؤدّي الحواسّ،أي الحواس الظّاهرة مطلقا،و الحواسّ الباطنة في الجملة»،و فيه دلالة على وحدة هذه القوّة من جهة، و كثرتها من جهة أخرى،و هو مطابق لما ذكره ابن رشد،و مثّله موافقا لما هو المنقول عن المعلّم الأوّل بالخطوط التي تخرج من مركز الدائرة إلى محيطها،حيث إنّ هذه القوّة كالمركز،و تلك الحواسّ كتلك الخطوط الخارجة.

و قوله:«و بالحقيقة هي التي تحسّ»فيه دلالة على أمرين:

الأوّل أنّ هذه القوّة ممّا تحسّ،و بيانه ظاهر ممّا تقدّم.و الثّاني أنّ الحاسّ بالحقيقة هو هذه القوّة دون غيرها من الحواسّ،و كأنّ وجهه أنّ الحواسّ الأخر لمّا كانت تحسّ من غير استثبات الصّورة فيها،و كانت هذه تحسّ مع استثباتها فيها،فكانت هي بالحقيقة تحسّ.

و قوله:«لكن إمساك ما يدركه هذه للقوّة التي تسمّى خيالا و تسمّى مصوّرة و تسمّى متخيّلة».

يعني أنّ إمساك ما يدركه الحسّ المشترك بعد غيبة المحسوس إنّما هو للقوّة التي تسمّى بهذه الأسامي باعتبارات مختلفة»و فيه دلالة على إثبات الخيال،مع إشارة ما إلى أنّ الخيال غير الحسّ المشترك،حيث إنّ الحسّ المشترك هو المدرك للصّور المحسوسة، و الخيال هو الممسك لها،و الممسك غير المدرك كما سيأتي وجهه.

و قوله:«و ربّما فرّق بين الخيال و المتخيّلة بحسب الاصطلاح».

فيه إشعار بأن لا فرق بين الخيال و المصوّرة بحسب الاصطلاح،فإنّهما واحدة، و تسمّى مصوّرة و خيالا باعتبار إمساك الصّور فيها و حفظها لها،كما يدلّ عليه كلامه الآتي،حيث قال:«فصورة المحسوس يحفظها القوّة التي تسمّى المصوّرة و الخيال»،

ص:329

و يدلّ أيضا عليه ما نقلنا عنه في تعديد القوى،فتذكّر.

و قوله:«و نحن ممّن نفصّل ذلك و الصّور الّتي في الحسّ المشترك»أي نحن ممّن نفرّق بين الخيال و المتخيّلة،و كذا بين الصّور التي في الحسّ المشترك المتأدّية إليه من طرق الحواسّ الباطنة الّتي يسمّى حافظها الخيال و المصوّرة،و الصّور المتأدّية إليه من طرق الحواسّ الباطنة الّتي يسمّى مركّبها و مفصّلها متخيّلة،كما سيأتي في كلامه.

و قوله:«و الحسّ المشترك و الخيال كأنّها قوّة واحدة».-إلى آخره-أي قوّة واحدة بالموضوع،و كأنّهما لا تختلفان في الموضوع،حيث إنّ موضوعهما جميعا هو البطن المقدّم من الدّماغ،و إن كان مقدّمه موضوعا للحسّ المشترك،و مؤخّره موضوعا للخيال، بل في الصّورة.أي بل إنّما تختلفان في الصّورة الحاصلة فيهما،لكن لا في ذات الصّورة نفسها،بل من جهة أخرى يدلّ عليها قوله«و ذلك لأنّه ليس أن يقبل هو أن يحفظ،فصورة المحسوس يحفظها القوّة التي تسمّى المصوّرة و الخيال»يعني أنّ تلك الصّور إنّما تحصل في الحسّ المشترك من حيث إنّه مدرك لها،قابل إيّاها،و تحصل في الخيال من حيث إنّه حافظ لها،ممسك إيّاها،و حيث كان القبول و الحفظ أمرين متغايرين،كان لا محالة مبدءاهما،و هما الحسّ المشترك و الخيال متغايرين.

و معنى قوله:«و ذلك لأنّه ليس أن يقبل هو أن يحفظ»كما يدلّ عليه قوله فيما نقلنا عنه في فصل تعديد القوى:«و اعلم أنّ القبول لقوّة غير القوّة التي بها الحفظ،فاعتبر ذلك من الماء،فإنّ له قبول النّقش و الرّقم و بالجملة الشّكل و ليس له قوّة حفظ»أنّ القبول من حيث هو قبول مغاير للحفظ من حيث هو حفظ،فإنّهما لو كانا متّحدين،لما تخلّف أحدهما عن الآخر،كما في الماء،حيث إنّ له القبول دون الحفظ.و حيث كان متخلّفا أحدهما عن الآخر،فكان أحدهما غير الآخر،و كان مصدراهما أيضا متغايرين،لأنّ الواحد لا يصدر عنه من جهة واحدة إلاّ الواحد،كان الحسّ المشترك من حيث إنّه قابل للصّور غير الخيال من حيث إنّه حافظ لها،و بهذا يتمّ الدّليل على وجودهما،و على مغايرة أحدهما للآخر.

ص:330

و لا يرد النقض بالأشياء التي تجتمع فيها القبول و الحفظ معا،كالأرض التي يجتمع فيها قبول صورة ما و حفظها،لأنّ ذلك إنّما هو لقوّتين فيها،و كالخيال نفسه الذي هو مع حفظ الصّورة قابل لها أيضا حيث إنّ حفظ الصّورة لا يتصوّر بدون القبول،لأنّ الخيال ليس شأنه بذاته قبول الصّور،بل إنّما ذلك القبول من جهة أنّه لمّا كان خزانة للحسّ المشترك القابل للصّور و حافظا لها،و كان الحفظ متوقّفا على القبول مسبوقا به،فلذا كان قابلا لها أيضا،و كان قبولها لها لا بالذات،بل بالواسطة و بالعرض،كما أنّ كثيرا من القوى يصدر عنها بالذّات فعل،و بالواسطة فعل آخر مغاير للأوّل،و المقصود إثبات قوّة شأنها بالذّات أن تكون قابلة للصّور.و ظاهر أنّ الخيال ليس كذلك،بل إنّما هي الحسّ المشترك، كما أنّ المقصود،إثبات قوّة شأنها بالذّات حفظ الصّور،و هي ليست بالحسّ المشترك،بل إنّما هي الخيال.

و كذلك لا يرد النّقض بالأشياء التي يصدر عنها الكثير،كالحسّ المشترك الذي يجتمع فيه صور المحسوسات و يدركها جميعا،و كالنّفس التي تصدر عنها أفعال مختلفة أشرنا إليه من قبل،حيث قلنا إنّ الصّادر بالذّات من الحسّ المشترك هو استثبات الصّور، ثمّ يصير مستثبتا لأنواع المحسوسات،كالألوان و الطّعوم و الروائح و غيرها بقصد ثان، لانقسام تلك الصّور إليها،و أنّ النّفس إنّما يتكثّر فعلها لتكثّر وجوه الصّدورات عنها.

و قوله:«و ليس إليها حكم البتّة بل حفظ،و أمّا الحسّ المشترك و الحواس الظّاهرة، فإنّها تحكم بجهة ما،أو بحكم ما،فيقال:إنّ هذا المتحرّك أسود،و إنّ هذا الأحمر حامض، و هذا الحافظ لا يحكم به على شيء من الموجود إلاّ على ما في ذاته،بأنّ فيه صورة كذا».

بيان لفرق آخر بين الحسّ المشترك و الخيال غير ما تقدّم.

و شرحه:أنّه كما أنّهما متغايران من جهة الصّورة الحاصلة فيهما باعتبار أنّ أحدهما -و هو الحسّ المشترك-قابل لها لا حافظ،و الآخر-و هو الخيال-حافظ بذاته لا قابل، و أنّ قبولها لها لا لذاته بل بالعرض.و لأجل أنّ الحفظ يتوقّف على القبول،كذلك بينهما فرق آخر يدلّ على تغايرهما،و هو أنّ الخيال و المصوّرة ليس إليهما حكم البتّة بوجه من

ص:331

الوجوه،بالقياس إلى الصّور التي هي حافظة لها إلاّ على ما فى ذاتها بأنّ فيها صورة كذا، و أمّا الحسّ المشترك،فإنّه يحكم بها و عليها حكما إيجابيّا أو سلبيّا،و يميّز بينها كما مرّ.

و إنّما قال:«و أمّا الحسّ المشترك و الحواسّ الظّاهرة،فإنّها تحكم»و ضمّ إلى الحسّ المشترك الحواسّ الظّاهرة في ذلك،مع أنّه ليس إليها أيضا حكم كما مرّ.إشعارا بأنّ الحسّ المشترك له حكم بمعونة الحواسّ الظّاهرة،و يتأدّى الصّور منها إليه،فكأنّها شريكة له في ذلك.

و قوله:«ثمّ قد نعلم يقينا أنّ في طبيعتنا أن نركّب المحسوسات بعضها إلى بعض،و أن نفصّل بعضها عن بعض لا على الصّورة التي وجدناها عليها من خارج،و لا مع تصديق بوجود شيء منها أو لا وجوده،فيجب أن يكون فينا قوّة تفعل ذلك بها،و هذه هي التي تسمّى إذا استعملها العقل مفكّرة،و إذا استعملها قوّة حيوانيّة متخيّلة».

بيان لإثبات القوّة المتخيّلة،و لمغايرتها لقوّة الخيال،و لتسميتها مفكّرة و متخيّلة باعتبارين،و شرحه واضح،و إنّما خصّها هنا بتركيب الصّور التي لا وجود لها في الخارج و تفصيلها إشعارا بأنّ أغلب أفعالها و أظهرها إنّما هو تركيب الصّور التي لا وجود لها في الخارج و تفصيلها،و إلاّ فمن شأنها تركيب الصّور الموجودة في الخارج أيضا و تفصيلها، كما يدلّ عليه إطلاق كلامه فيما نقلنا عنه في تعديد القوى،حيث قال:«من شأنها أن تركّب بعض ما في الخيال مع بعض،و تفصّل بعضها عن بعض بحسب الإرادة».

و بقي شيء،و هو أنّ كلامه في«الإشارات»حيث قال في بيان هذه القوّة:«لها أن تركّب و تفصّل ما يليها من الصّور المأخوذة من الحسّ،و المعاني المدركة بالوهم، و تركّب أيضا الصّور بالمعاني و تفصّلها عنها،و تسمّى عند استعمال العقل مفكّرة،و عند استعمال الوهم متخيّلة،مع دلالته على أنّه من شأنها أيضا تركيب المعاني بالمعاني و تفصيلها عنها،و الحال أنّه لم يذكر ذلك في هذا الكلام منه في«الشفاء»،كأنّه موهم لاختصاص الصّور المركّبة و المفصّلة بالصّور الموجودة في الحال،حيث إنّ الحسّ أي الحسّ الظّاهر لا يدرك إلاّ الموجودة دون المخترعة.فعلى هذا فيكون بين كلامه في

ص:332

«الشفاء»و كلامه في«الإشارات»مخالفة من وجهين.

فيه رفع المخالفة بين كلامي الشيخ في الشفاء و الإشارات

و أمّا رفع تلك المخالفة من الوجه الأوّل،فيمكن بأن يقال:لعلّه في هذا القول من «الشّفاء»لو أراد بالصّور مقابل المعاني،و لم يرد بها الصّورة الحاصلة من الشيء مطلقا -سواء كانت صورا بحسب الاصطلاح أو معان بحسبه-اكتفى ببيان بعض أفعال تلك القوّة،و هو تركيب الصّور بعضها ببعض و تفصيلها عنها،حيث إنّ المقصود و هو إثبات القوّة المتخيّلة يتمّ به،و هذا لا ينافي أن يكون من شأنها أيضا تركيب المعاني بالمعاني و تفصيلها عنها،و كذا تركيب الصّور بالمعاني و تفصيلها عنها،و يدلّ عليه أنّه فيما بعد ذلك من كلامه،قال هكذا:«و هذه القوّة المركّبة بين الصّورة و الصّورة،و بين الصّورة و المعنى،و بين المعنى و المعنى،كأنّها القوّة الوهميّة بالموضوع»-إلى آخره-فذكر جميع أفعالها.

و أمّا هو في«الإشارات»فبيّن جميع أفعالها المذكورة.

و أمّا رفع المخالفة من الوجه الثاني،فيمكن بأن يقال:لعلّه في«الشّفاء»-كما ذكرنا- خصّص في أحد كلاميه الصّور بالصّور غير الموجودة إشعارا بأنّها الأعمّ الأغلب الأظهر، و في كلامه الآخر،أطلق الصّور إشعارا ببيان الواقع.

و في«الإشارات»إمّا أن أراد بالصّور المأخوذة من الحسّ الصّور المأخوذة من الحسّ مطلقا،سواء كان حسّا ظاهرا،أم حسّا باطنا،فتشمل الصّور الواقعيّة الموجودة التي تدركها الحواسّ الظّاهرة،فتدركها الحسّ المشترك،و تجتمع في الخيال و الصّور المخترعة،غير الموجودة التي يخترعها الخيال،و يصدق عليها أنّها مأخوذة من الخيال.

و إمّا أن أراد بالصّور المأخوذة من الحسّ الصّور التي من شأنها أن يدركها الحسّ الظّاهر،و يمكن أن تؤخذ منه،سواء كانت صورا واقعية أو غير واقعيّة،بل مخترعة،فإنّ هذه أيضا من شأنها أن تؤخذ من الحسّ الظّاهر على تقدير إمكان وجودها.و على

ص:333

التقديرين،فيكون كلامه موافقا لما ذكره في«الشّفاء»في فصل تعديد القوى.و على تقدير تسليم أنّه أراد بالصّور المأخوذة من الحسّ الصّور الواقعيّة المأخوذة بالفعل من الحسّ الظّاهر،فلعلّه اكتفى في تركيب الصّور و تفصيلها بالصّور الواقعة،إشعارا بأنّ هذا أيضا من جملة أفعال تلك القوّة،و بأنّه به أيضا يتمّ المقصود،و هو إثبات المتخيّلة،و لا ينافي ذلك أن يكون من شأنها أيضا تركيب الصور غير الواقعيّة و تفصيلها.

ثمّ إنّ قوله:«ثمّ إنّا قد نحكم في المحسوسات بمعان لا نحسّها،إمّا أن لا تكون في طبائعها محسوسة البتّة و إمّا أن تكون محسوسة،لكنّا لا نحسّها وقت الحكم»-إلى آخره-.

بيان لإثبات القوّة التي تسمّى و هما و لمغايرتها للنّفس النّاطقة و لسائر القوى الحيوانيّة.

و قوله:«إنّا قد نحكم»-إلى آخره-أي إنّا قد نحكم حكما جزئيّا في المحسوسات الجزئيّة المخصوصة بمعان جزئيّة مخصوصة لا نحسّها.

و قوله:«إمّا أن تكون في طبائعها محسوسة»-إلى آخره-أي أنّ تلك المعاني الجزئيّة التي لا نحسّها،و هي المحكوم بها في المحسوسات المخصوصة الجزئيّة،قسمان:

قسم لا يكون من شأنها أن تكون محسوسة بإحدى الحواسّ الظّاهرة،و قسم يكون من شأنها أن تكون محسوسة،لكنّا لا نحسّها وقت الحكم بها في تلك المحسوسات.

و فيه دلالة على أنّ المعاني تطلق على القسمين جميعا،و كأنّه اصطلاح خاصّ.

و يوافقه أيضا ما سيأتي في كلامه من قوله:«و قد جرت العادة بأن يسمّى مدرك الحسّ صورة،و مدرك الوهم معنى»و كذا ما ذكره في فصل تعديد القوى بهذه العبارة (1):«و الفرق بين إدراك الصّورة،و إدراك المعنى،أنّ الصّورة هو الشيء الذي يدركه الحسّ الباطن و الحسّ الظّاهر (2)،و الحسّ الظّاهر يدركه أوّلا و يؤدّيه إلى الحسّ الباطن،مثل إدراك الشاة صورة (3)الذئب أعني بشكله (4)و هيئته و لونه،فإنّ الحسّ الباطن من الشاة يدركها،لكن

ص:334


1- -الشفاء الطبيعيّات 35/2،الفصل الخامس من المقالة الاولى. [1]
2- في المصدر:و الحسّ الظاهر معا،لكن الحسّ...
3- لصورة...
4- أعني لشكله.

إنّما يدركها أوّلا حسّها الظاهر.و أمّا المعنى فهو الشيء الذي يدركه (1)النّفس من المحسوس من غير أن يدركه الحسّ الظاهر أوّلا،مثل إدراك الشّاة للمعنى المضادّ في الذئب أو للمعنى الموجب لخوفها إيّاه و هربها (2)منه،من غير أن يدرك الحسّ ذلك البتّة.

فالذي يدرك من الذّئب أوّلا الحسّ الظاهر،ثمّ الحسّ الباطن،فإنّه يخصّ في هذا الموضع باسم الصّورة،و الذي يدركه (3)القوى الباطنة دون الحس فيخصّ في هذا الموضع باسم المعنى»-انتهى-حيث إنّ قوله:«و أمّا المعنى فهو الشيء الذي يدركه النّفس من المحسوس من غير أن يدركه الحسّ الظاهر أوّلا»أعمّ من أن يكون ممّا لا يمكن أن يدركه الحسّ الظّاهر أصلا،و أن يكون ممّا يمكن أن يدركه لكنّه لم يدركه حين الحكم.

و كذا قوله:«و الذي يدركه القوى الباطنة دون الحسّ فيخصّ في هذا الموضع باسم المعنى»فتدبّر.

و على هذا فقوله في تعديد القوى في بيان القوّة الوهميّة (4):«إنّها (5)قوّة مرتّبة في نهاية التجويف الأوسط من الدّماغ،تدرك المعاني الغير (6)المحسوسة الموجودة في المحسوسات الجزئيّة،كالقوّة الموجودة في الشّاة الحاكمة بأنّ هذا الذّئب مهروب عنه، و أنّ هذا الولد هو المعطوف عليه»ينبغي أن يحمل على أنّ القوّة الوهميّة تدرك المعاني الغير المحسوسة،سواء كانت غير محسوسة أصلا أو محسوسة،لكنّها تكون غير محسوسة وقت الحكم،فهذا أيضا يشمل القسمين جميعا،و أمّا ذكر القسم الأوّل بخصوصه فعلى سبيل المثال.

و كذلك ينبغي أن يحمل عليه كلامه في«الإشارات»حيث قال في مقام إثبات القوّة الوهميّة و القوّة الحافظة هكذا (7):«و أيضا فإنّ الحيوانات ناطقها و غير ناطقها تدرك في المحسوسات الجزئيّة معان جزئيّة غير محسوسة و لا متأدّية من طريق الحواسّ، كإدراك (8)الشّاة معنى في الذئب غير محسوس،و إدراك الكبش معنى في النعجة غير

ص:335


1- في المصدر:الذي تدركه...
2- و هربها عنه...
3- تدركه القوّة...
4- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 36/2 الفصل الخامس من المقالة الاولى.
5- و هي قوّة...
6- غير المحسوسة...
7- -شرح الإشارات 341/3. [2]
8- مثل إدراك الشاة.

محسوس،إدراكا جزئيّا يحكم به،كما يحكم الحسّ بما يشاهده،فعندك قوّة هذا شأنها، و أيضا فعندك و عند كثير من الحيوانات العجم قوّة تحفظ هذه المعاني بعد حكم الحاكم (1)غير الحافظ للصّورة (2)»-انتهى-،فإنّ الظّاهر أنّ قوله:«معان جزئية غير محسوسة» إشارة إلى القسم الأوّل،و قوله:«و لا متأدّية من طريق الحواسّ»إشارة إلى القسم الثّاني، و أنّ ذكر إدراك الشّاة معنى في الذئب-إلى آخره-على سبيل المثال.

دقيقة

و حيث عرفت ذلك،ظهر لك أنّ ما ذكره المحقّق الطّوسي(ره)في«شرح الإشارات» في ذيل كلام الشّيخ في شرح القوى الدّرّاكة من باطن،«إنّ الصّورة هي ما يمكن أن تدرك بالحواسّ الظاهرة،و المعنى ما لا يمكن أن يدرك بها»و قد تبعه في ذلك كثير من المتأخّرين،و بالجملة قد خصّوا المعنى بالقسم الأوّل فقط،كأنّه اصطلاح آخر منهم أو غفلة عن كلام الشيخ،و حينئذ فكلام هؤلاء في إثبات القوّة الوهميّة بإدراك المعاني الجزئيّة التي أرادوا بها القسم الأوّل فقط،إن كان مبناه على أنّ هذا الطريق أوضح طريق في اثباتها و فيه غنية،فلا غبار عليه،و إن كان مبناه على أنّ إثباتها إنّما هو بإدراك القسم الأوّل فقط،ففيه شيء،لأنّه كما يمكن إثباتها بذلك،يمكن إثباتها بإدراك القسم الثّاني أيضا،كما ذكره الشّيخ هنا،و يأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى.

و قوله:«أمّا التي لا تكون محسوسة في طباعها»-إلى آخره-بيان القسم الأوّل من المعاني الغير المحسوسة،و لإثبات القوّة الوهميّة بإدراكها و لمغايرتها لما سواها.و إنّما أسند هنا إدراك تلك المعاني إلى الشاة،مع أنّه فيما تقدّم من قوله:«ثمّ إنّا قد نحكم في المحسوسات بمعان لا نحسّها»أسنده إلينا-أي إلى النّفس الناطقة-إشعارا بأنّ إدراكها إنّما هو من خواصّ النّفس الحيوانيّة بما هي حيوانيّة،و كما أنّها يدركها الإنسان يدركها

ص:336


1- في المصدر:الحاكم بها...
2- للصور.

الحيوان أيضا.و لا فرق في ذلك بين الإنسان و الحيوانات العجم.فالإنسان أيضا إنّما يدركها بقوّته الحيوانيّة.

و قوله:«و هذه امور تدركها النّفس الحيوانيّة»فيه-مع التّصريح بما علم ضمنا من كون إدراكها من خواصّ النّفس الحيوانيّة بما هي حيوانيّة-دلالة على كون مدرك هذه الأمور مغايرا للنّفس الناطقة الإنسانيّة،لأنّه لو كان عينها،لما أدركها الحيوانات العجم التي ليس لها نفس ناطقة،و هذا مع قطع النظر عن أنّ النّفس النّاطقة الإنسانيّة-بما هي نفس ناطقة-إنّما تدرك الكلّيّ من حيث هو كلّيّ،و هذه الأمور أمور جزئيّة مخصوصة،لا يمكن أن يدركها بالذّات ما هو مدرك للكلّيّ.

و قوله:«و الحسّ لا يدلّها على شيء منها»فيه دلالة على مغايرة مدرك هذه الأمور للحسّ المشترك،فإنّه و إن كان حاكما بين الجزئيات مدركا لها مميّزا بينها،إلاّ أنّ مدركاته يجب أن تكون متأدّية إليه من طرق الحواسّ مجتمعة عنده،و هذه الأمور ليست كذلك،لأنّها حيث لم يكن من شأنها أن تكون محسوسة،كيف يمكن تأدّيها إليه من طرق الحواسّ،فلا هي ممّا يتأدّى إليه من طرق الحواسّ الظّاهرة-و هذا ظاهر-و لا من طرق الحواسّ الباطنة كالخيال،إذ ما في الخيال أيضا يجب أن يكون ممّا أن يتأدّى من طرق الحواسّ الظّاهرة،و تكون مخزونة فيه.

و إنّما لم يشر إلى وجه مغايرتها للحواسّ الظّاهرة و للباطنة أيضا غير الوهم،لظهور وجه المغايرة.

و قوله:«فإذن القوّة التي بها تدرك قوّة اخرى و لتسمّ الوهم»أي أنّه حيث ظهر أنّ مدرك هذه الأمور يجب أن يكون غير النّفس النّاطقة و غير الحسّ المشترك و غير الحواسّ الظاهرة و ما سوى الوهم من الباطنة،ظهر أنّ مدركها قوّة أخرى غير هذه،و نحن نسمّيها الوهم،و فيه المطلوب.

و قوله:«و أمّا التي تكون محسوسة،فإنّا نرى مثلا شيئا أصفر،فنحكم أنّه عسل و حلو،فإنّ هذا ليس يؤدّيه إليه الحاسّ في هذا الوقت،و هو من جنس المحسوس»بيان

ص:337

للقسم الثّاني من المعاني،و إثبات القوّة الوهميّة بإدراكه،أي أنّا قد نرى مثلا شيئا أصفر و لم نر عسلا قطّ،إلاّ أنّا سمعنا أنّ العسل يكون أصفر و حلوا،أو رأيناه وقتا ما و لم يثبت صورته في خيالنا أيضا،فنحكم بسبب رؤيتنا شيئا أصفر أنّه عسل و حلو،و لا شكّ أنّ هذا الحكم-حيث كان حكما جزئيّا-ليس الحاكم به أوّلا و بالذّات هو النّفس النّاطقة، و لا الحسّ المشترك،إذ هو،و إن كان حاكما جزئيّا في المحسوسات،إلاّ أنّ مدركه يجب أن يتأدّى إليه من طرق الحواسّ،و المفروض أنّ الصّورة العلميّة ليست كذلك،لأنّها لم تتأدّ إليه في ذلك الوقت من طرق الحواسّ الظّاهرة-و هذا ظاهر كما هو المفروض-و لا من طريق الحواسّ الباطنة كالخيال مثلا،لأنّ ما في الخيال أيضا ينبغي أن يكون متأدّيا من الحواسّ الظّاهرة إلى الحسّ المشترك،ثمّ إلى الخيال حتّى يمكن تأديته ثانيا من الخيال إلى الحسّ المشترك،و هذا ليس كذلك.إذا المفروض أنّا لم نر العسل قطّ،و على تقدير فرض رؤيتنا له وقتا ما،فالمفروض عدم ثبوت صورته في الخيال حتّى يمكن تأدّيها منه إليه.و ظاهر أيضا أنّ الحاكم به ليس شيئا من الحواسّ الظّاهرة مطلقا،و لا القوى الثلاث الباطنة،أي الخيال و المتخيّلة و الحافظة غير الحسّ المشترك،فبقي أن يكون مدركة قوّة اخرى،و نحن نسمّيها الوهم،و فيه المطلوب.

و قوله«على أنّ الحكم نفسه ليس بمحسوس البتّة،و إن كانت أجزاؤه من جنس المحسوس،و ليس يدركه في الحال،إنّما هو حكم يحكم به،و ربّما غلط به و هو أيضا لتلك القوّة».

بيان لإثبات الوهم بوجه آخر،و معناه على أنّ هذا الحكم الجزئيّ نفسه ليس بمحسوس البتّة،أي ليس كما يحكم الحسّ بما يشاهده من الحكم الفصل القطعيّ،بل حكما جزئيّا تخييليّا ليس بفصل،و ليس معناه أنّ هذا الحكم ليس من جنس الصّور،بل من جنس المعاني،حتّى يرد أنّ الحكم مطلقا سواء كان حكما كلّيّا كحكم النّفس النّاطقة، أو جزئيّا كحكم الحسّ المشترك،كذلك و لا اختصاص له بحكم القوّة الوهميّة،و بالجملة، فهذا الحكم ليس كحكم الحسّ بما يشاهده من الحكم الفصل،بل حكما ليس كذلك و إن

ص:338

كانت أجزاؤه من جنس ما يمكن أن يدرك بالحسّ،و مع ذلك فليس الحاكم به يدرك جنس أجزائه في الحال،بل لم يدرك بعض أجزائه بحسب الحسّ كما هو المفروض،بل إنّما هو حكم يحكم به الحاكم به على سبيل البغتة و الفلتة من غير تدبّر فيه،و ربّما غلط فيه،فالحاكم به ليس هو النّفس النّاطقة التي هي تحكم حكما كلّيّا فصلا،و لا الحسّ المشترك الذي هو أيضا يحكم حكما فصلا و إن كان جزئيّا،و لا شيئا من القوى الحيوانيّة الأخر.فبقي أن يكون الحاكم به هو القوّة الاخرى الّتي نسمّيها القوّة الوهميّة.

و منه يظهر أنّه على تقدير فرض تأدّي الصّورة العسليّة من الحواسّ الظّاهرة،أو من الخيال أيضا،حينئذ لا يمكن إسناد هذا الحكم إلى الحسّ المشترك،لأنّه إنّما يحكم حكما جزئيّا فصلا،و هذا الحكم ليس بفصل كما عرفت.

فإن قلت:إذا كان فعل القوّة الواهمة الحكم في المحسوسات بمعان غير محسوسة كما ذكرت،فلا شكّ أنّ تلك المحسوسات من أجزاء حكمها،فيجب أن تدركها أيضا حتّى يمكن لها أن تحكم فيها أو عليها بتلك المعاني،فكيف ذلك؟

قلت:لعلّ فعلها بالذّات إنّما هو إدراك تلك المعاني و الحكم بها،و أمّا إدراك تلك المحسوسات في ضمن الحكم،فلعلّه هو فعلها بالعرض و بالواسطة،أو بتوسّط آلة مدركة للصّور المحسوسة،حيث كانت القوى الحيوانيّة خوادم لها،و لا حجر في ذلك إذا كانت الجهتان متغايرتين،و اللّه أعلم.

و قوله:«و في الإنسان للوهم أحكام خاصّة،من جملتها حملها النّفس على أن تمنع وجود أشياء لا تتخيّل،و لا ترتسم فيه،و ثانيها التّصديق بها،فهذه القوّة لا محالة موجودة فيها»،أي أنّه من جملة الأحكام الخاصّة المستندة إلى الوهم في الإنسان،أنّ الوهم ربّما يحمل النّفس الإنسانيّة على أن تمنع وجود أشياء لا تتخيّل،و لا ترتسم فيه، أي في الوهم كالمعقولات الكلّيّة و المجرّدات عن المادّة،و من جملتها أنّه ربّما يحملها على التّصديق بوجود أشياء متخيّلة مرتسمة في الوهم،و إن كان يمنع منه العقل،فيعلم منه أنّ هذه القوّة لا محالة موجودة في النّفس الإنسانيّة،و من جملة قواها.

ص:339

و قوله:«و هي الرئيسة الحاكمة في الحيوان حكما ليس فصلا كالحكم العقليّ،و لكن حكما تخييليّا مقرونا بالجزئيّة و بالصّور الحسّيّة،و عنه يصدر أكثر الأفعال الحيوانيّة».

فيه بيان لمعنى كون حكم الوهم ليس بمحسوس،أي ليس بفصل كالحكم العقليّ و كحكم الحسّ بما يشاهده،بل حكما تخييليّا،و كذا فيه بيان لكون الوهم رئيسا في الحيوان للقوى الحيوانيّة.و معنى رئاسته أنّه مستخدم لسائر القوى الحيوانيّة،و لا سيّما الباطنة،و لا سيّما المتخيّلة،كما سيأتي.و إشارة إلى أنّه-حيث كان رئيسا للقوى الحيوانيّة،و عنه يصدر أكثر أفعالها-ينبغي أن يكون آلتها الدّماغ كلّه،أي الرّوح المصبوب في الدّماغ كلّه،و أنّ ما ذكروه من أنّ آلتها التجويف الأوسط من الدّماغ أو المؤخّر منه إنّما هو لمزيد اختصاصه بذلك التجويف الأوسط و المؤخّر منه،لأجل استخدام القوّة المتخيّلة المرتّبة في ذلك التجويف و في المقدّم منه،و لذلك قال في الإشارات:«و آلتها الدّماغ كلّه،لكنّ الأخصّ بها هو التجويف الأوسط» (1).

و قوله«و قد جرت العادة بأن يسمّى مدرك الحسّ صورة و مدرك الوهم معنى»قد مضى معناه.

و قوله«و لكلّ واحد منهما خزانة»-إلى آخره-.

فيه إشارة إلى إثبات الخيال بعد ما أشار إليه أوّلا.و كذا فيه إشارة إلى إثبات الحافظة.

و بالجملة،ففيه إشارة إلى إثبات هاتين القوّتين بطريقين:أحدهما الطريق الذي يناسب مذهب الحكماء،و الآخر الطريق الذي يناسب مسلك الأطبّاء،يعني أنّ لكلّ واحد من مدرك الحسّ و مدرك الوهم خزانة هي الحافظة لما يدركه المدرك له.

فخزانة مدرك الحسّ هي القوّة الخياليّة و المصوّرة و موضعها مقدّم الدّماغ،أي آخر التجويف المقدّم من الدّماغ تحفظ ما قبله الحسّ المشترك من الحواسّ الجزئيّة الخمس، و يبقى فيها بعد غيبة تلك المحسوسات،فلذلك إذا حدثت في مقدّم الدّماغ آفة فسد هذا الباب من التّصوّر و الحفظ،و فساده إمّا بأن يتخيّل الخيال صورا ليست في الواقع،و إمّا

ص:340


1- -شرح الإشارات 345/2. [1]

بأن يصعب استثبات الموجود فيه.

و خزانة مدرك المعنى هي القوّة التي تسمّى حافظة،و معدنها مؤخّر الدّماغ،أي البطن المؤخّر منه،و لا سيّما مقدّمة،و لذلك إذا وقع هناك آفة وقع الفساد فيما يختصّ بحفظ هذه المعاني.

و قوله:«و هذه القوّة تسمّى أيضا متذكّرة،فتكون حافظة لصيانتها ما فيها،و متذكّرة لسرعة استعدادها لاستثباته و التّصوّر بها،مستعيدة إيّاها إذا فقدت».

بيان لأنّ هذه القوّة-أي الحافظة-تسمّى متذكّرة أيضا باعتبارين،أمّا كونها حافظة، فلصيانتها ما فيها من المعاني المتأدّية إليها من الوهم،و أمّا كونها متذكّرة،فلسرعة استعدادها لاستثبات تلك المعاني و التّصوّر بها،مستعيدة لتلك المعاني إذا فقدتها بسبب من الأسباب و زالت هي عنها.

و قوله:«و ذلك إذا أقبل الوهم بقوّته المتخيّلة»-إلى آخر ما ذكره-.

بيان لكيفيّة تذكّرها لتلك المعاني و استعادتها إيّاها و استرجاعها لها،و محصّله أنّه إذا فقدت القوّة الحافظة تلك المعاني،ثمّ فرضنا أنّه أقبل الوهم الذي هو رئيس القوى الحيوانيّة بمعونة القوّة المتخيّلة التي هي خادمته كأنّها من قواه،فجعل يلاحظ واحدا واحدا من الصّور الموجودة في الخيال،ليكون كأنّه يشاهد الأمور التي هذه صورها،فإذا لاحظ الصّورة التي أدرك أوّلا معها أو فيها ذلك المعنى الذي أدّاه إلى الحافظة و اختزنته ثمّ زال عنها،لاح للوهم مرّة أخرى ذلك المعنى كما لاح من خارج،و حيث لاح له المعنى حينئذ أدّاه إلى الحافظة ثانيا،و استثبته القوّة الحافظة أيضا مرّة أخرى،فيكون هذا الاستثبات ثانيا ذكرا و تذكّرا و استرجاعا و استعادة،و يكون رجوع هذه القوّة الحافظة إلى لوح الصّورة،أي الخيال لا لضبط الصّورة نفسها،بل لضبط المعنى الذي معها ثانيا، و ليس الرّاجع إليه أوّلا و بالذّات هو هذه القوّة،بل الرّاجع إليه في الحقيقة هو الوهم،لكن لا بنفسها،بل بمعونة القوّة المتخيّلة،و ليس رجوعه إليه أيضا بالذات لأجل إدراك الصّورة،بل لأجل إدراك المعنى الذي معها ثانيا،حتّى يؤدّيه إلى الحافظة ثانيا،فتضبطه

ص:341

ضبطا بعد آخر،فتكون هذه القوّة أيضا راجعة إليه بالعرض بتوسّط رجوع الوهم إليه.ثمّ إنّه كما يمكن الرّجوع في ذلك إلى لوح الصّورة أي الخيال-كما ذكر-كذلك يمكن الرّجوع فيه إلى الحسّ الظّاهر،و ذلك إذا أشكل التذكّر و الاسترجاع و الاستعادة للمعنى من جهة الرّجوع إلى الخيال،و أورد الحسّ مرّة أخرى صورة شيء معه ذلك المعنى الذي بطل و عادت تلك الصّورة مستقرّة في الخيال.ثمّ توجّه الوهم و لاحظ ذلك المعنى فيه ثانيا فأدّاه إلى الحافظة،فاستقرّ ذلك المعنى فيها،و استثبته و ضبطته مرّة أخرى،فتذكّرته، و هذا الذي إنّما هو محصّل كلام الشّيخ هنا،و ينبغي أن يحمل عليه،و إن كان لا يخلو عن إغلاق ما يزول بتفسيره.

و هو أنّ قوله:«فجعل يعرض واحدا واحدا من الصّور الموجودة في الخيال»أي فجعل الوهم يشاهد ما في الخيال من الصّور،لا لأجل إدراك الصّور و الحكم بها،بل لأجل إدراك المعاني التي معها،و فيه دلالة على أنّ الوهم كما يدرك المعاني،و يحكم بها بالذّات، كذلك يدرك الصّور التي فيها تلك المعاني بالعرض،كما ذكرنا سابقا.

و قوله:«و استثبتته القوّة الحافظة في نفسها،كما كانت حينئذ تستثبت»أي حين لاح للوهم مرّة أخرى ذلك المعنى الذي لاح أوّلا و بطل،استثبتت القوّة الحافظة ذلك المعنى اللائح ثانيا في نفسها كما كانت تستثبت المعنى الذي لاح للوهم أوّلا.

و قوله:«فكان ذكرا»أي كان هذا الاستثبات ثانيا ذكرا،و بذلك يصدق على هذه القوّة الحافظة أنّها ذاكرة و متذكّرة.

و قوله:«و ربّما كان المصير من المعنى إلى الصّورة،فيكون المتذكّرة المطلوب ليس نسبته إلى ما في خزانة الخيال»أي كما أنّه قد يكون مصير الوهم و مصير الحافظة بتوسّط من الصّورة إلى المعنى كما ذكر،كذلك قد يكون مصيرهما من المعنى إلى الصّورة،و ذلك إذا كان معنى من المعاني التي حكم بها الوهم في المحسوسات و أدّاه إلى الحافظة مضبوطا في الحافظة غير منسيّ،إلاّ أنّه كانت تلك الصّورة التي أدرك معها الوهم ذلك المعنى منسيّة،فرجع الوهم حينئذ إلى لوح الصّورة و خزانة الخيال يعرف أنّ أيّا من تلك الصّور

ص:342

المخزونة فيه لها نسبة إلى ذلك المعنى المخصوص،حتّى يحكم ثانيا أنّ تلك الصّورة المعيّنة فيها ذلك المعنى المضبوط،فيكون المتذكّرة-بل الوهم أيضا-ليس المطلوب نسبتهما إلى ما في خزانة الخيال من الصّور من جهة نفس تلك الصّور،بل من جهة إدراك نسبة ذلك المعنى فيهما ثانيا،و بذلك يصدق أيضا على الحافظة أنّها متذكّرة.

ثمّ إنّ قوله:«و كان إعادة إمّا في وجود العود»،-إلى آخره-فقوله:«و كان إعادة» عطف على قوله:«فكان ذكرا»،و قوله:«إلى هذه المعاني»متعلّق بالعود،و قوله:«إلى لوح الصّور»متعلّق بقوله:«إعادة»،و قوله:«و إمّا بالرجوع إلى الحسّ»عطف على قوله:«إمّا في وجود العود»و المعنى أنّه كما كان هذا الاستثبات-أي استثبات المعنى ثانيا بعد بطلانه ذكرا لذلك-كان ذلك إعادة أيضا،و بذلك يصدق على الحافظة أنّها مستعيدة و مسترجعة كما أنّها متذكّرة،و أنّ هذه الإعادة إمّا إلى لوح الصّورة،أي الخيال لأجل حصول العود إلى هذه المعاني الزائلة التي كانت محفوظة في الحافظة أوّلا و فقدتها حتّى تضبط تلك المعاني مرّة اخرى،و تستثبتها الحافظة ثانيا،أي بأن تعود النسبة الى ما في الخيال ثانيا،لا لإدراك ما فيها من الصّور أو ضبطها،بل لأجل إدراك المعاني التي فيها و ضبطها و حفظها ثانيا،بعد ما فقدت و زالت.

و إمّا هذه الإعادة بالرّجوع إلى الحسّ لأجل ما ذكر أيضا.

و قوله:«مثال الأوّل»-إلى آخره-،هذا مثال للإعادة إلى لوح الصّورة.

و قوله:«فإن أشكل عليك ذلك من هذه الجهة أيضا و لم يتّضح فأورد عليك الحسّ» -إلى آخره-مثال للرجوع إلى الحسّ.

ثمّ إنّك حيث عرفت معنى كلام الشيخ و تلخيص مؤدّاه،عرفت أنّ مراده أنّ التّذكّر و الاستعادة و الاسترجاع كلّها معنى واحد،و هو عبارة عن ضبط المعنى و حفظه ثانيا بعد ضبطه و حفظه أوّلا و زواله عن الحافظة،و بالجملة فليس ذلك شيئا سوى الحفظ إلاّ بالاعتبار.فكما أنّ القوّة الحافظة تسمّى حافظة باعتبار حفظ المعنى و استثباته أوّلا، تسمّى متذكّرة و ذاكرة و مستعيدة و مسترجعة باعتبار حفظه و استثباته ثانيا و مرّة

ص:343

أخرى.

و أنّه حيث لم يكن التّذكّر و الاسترجاع و الإعادة مغايرة للحفظ و الضبط بالذّات، بل بالاعتبار،أي بحسب الحصول في الزمانين الأوّل و الثّاني،فلم يستلزم أن يكون الحفظ لقوّة،و التذكّر و الاسترجاع لقوّة أخرى،لعدم الاختلاف الذّاتيّ بينهما،حتّى يستدعي كلّ منهما مبدأ مغايرا لمبدإ الآخر.و هذا كما أنّ الوهم الذي فعله الحكم بالمعاني التي في المحسوسات إذا حكم بذلك في زمان ثمّ حكم بعد زوال المعنى و تذكّر به في زمان آخر ثان،لا يقتضي أن يكون كلّ من الحكمين لمبدإ متغاير،و أن يكون القوّة التي بها حكم به أوّلا مغايرة للقوّة التي بها حكم ثانيا،و لم يقل به أحد أيضا،بل إنّ هذه القوّة أيضا متّحدة بالذّات،متغايرة بالاعتبار.و بحسب الزّمان.

و حينئذ يظهر لك اندفاع ما أورده الإمام الرازي في شرح الإشارات على الشّيخ (1)، حيث ذكر ما حاصله:«أنّ حفظ المعاني مغاير لاسترجاعها بعد زوالها،فإن وجب أن ينسب كلّ فعل إلى قوّة»كما هو مذهب الشّيخ،وجب أن يكون القوى أكثر ممّا ذكره.

بل اندفاع ما ذكره المحقّق الطّوسيّ(ره)في ذلك المقام أيضا،حيث قال (2):«و الحقّ أنّ الذّكر ملاحظة المحفوظ،فهو مركّب من إدراك الشيء (3)ادرك في وقت آخر و فحفظ (....)،و الاسترجاع طلب تلك الحافظة بالفكر،فإذن الذّاكرة ليست هي قوّة بسيطة،بل هي مبدأ فعل مركّب من أفعال قوّتين:مدركة و حافظة،و المسترجعة مبدأ فعل تركّب (4)من أفعال ثلاث قوى:متصرّفة و مدركة و حافظة».

و بيان اندفاعها ظاهر على المتأمّل فيما ذكرنا.

ثمّ إنّ قول الشيخ،«و هذه القوّة المركّبة بين الصّورة و الصّورة،و بين المعنى و الصّورة،و بين المعنى و المعنى،كأنّها القوّة الوهميّة بالموضوع،لا من حيث يحكم،بل

ص:344


1- -راجع شرح الإشارات 346/2. [1]
2- -شرح الإشارات 347/2.
3- في المصدر:إدراك لشيء...
4- فعل يتركّب.

من حيث يعمل ليصل إلى الحكم»-إلى آخر الفصل-.

تفسيره واضح.و ليست هذه الكلمات منه دالّة على اضطرابه في أمر هذه القوى كما فهمه الإمام الرازي،إذ ليس يشتبه على مثل الشّيخ ذلك،بل إنّ مراده كما فهمه المحقّق الطوسيّ(ره)منه،أن المبدأ الذي ينسب إليه التّخيّل و التّذكّر و الحفظ هو الوهم،و لذلك جعله رئيسا حاكما على القوى الحيوانيّة،كما أنّ مبدأ الجميع في الإنسان هو النّفس الناطقة،فتدبّر.

و بما ذكرنا تمّ شرح كلام الشّيخ و تمّ تعديد القوى الحيوانيّة.و قد بقي القول في كثير من أحكام تلك القوى،و خصوصا القول في النّوم و اليقظة و الرّؤيا الصّادقة و الكاذبة و أمثال ذلك ممّا هو له مناسبة و اتّصال بأفعال المصوّرة و المفكّرة من هذه القوى على ما قالوه،إلاّ أنّ تفصيل القول في ذلك حيث كان موجبا للإطناب،لم نتكلّم فيه مخافة ملالة الأصحاب.

في القوى الإنسانيّة

و حيث عرفت تعديد القوى الحيوانيّة،فلنتكلّم في القوى الإنسانيّة،فنقول:

قال الشّيخ في«الشّفاء» (1)في فصل تعديد قوى النّفس:«و أمّا النّفس النّاطقة الإنسانيّة فينقسم (2)قواها إلى قوّة عاملة و قوّة عالمة،و كلّ واحد (3)من القوّتين يسمّى (4)عقلا باشتراك الاسم أو تشابهه،فالعاملة (5)هي مبدأ محرّك لبدن الإنسان إلى الأفاعيل الجزئيّة الخاصّة بالرّوية على مقتضى آراء تخصّها اصطلاحيّة،و لها اعتبار بالقياس إلى القوّة الحيوانيّة النّزوعيّة،و اعتبار بالقياس إلى القوّة المتخيّلة الحيوانيّة و المتوهّمة، و اعتبار بالقياس إلى نفسها.

ص:345


1- -الشفاء- [1]الطبيعيّات 37/2-40،الفصل الخامس من المقالة الاولى.
2- في المصدر:فتنقسم...
3- و كلّ واحدة...
4- تسمّى...
5- فالعاملة قوّة هي.

فاعتبارها بالقياس (1)إلى القوّة الحيوانيّة النّزوعيّة،هو القبيل الذي يحدث (2)فيه هيئات تخصّ الإنسان يتهيّأ بها بسرعة (3)و فعل و انفعال،مثل الخجل و الحياء و الضّحك و البكاء و ما أشبه ذلك.

و اعتبارها (4)بحسب القياس إلى القوّة الحيوانيّة المتخيّلة و المتوهّمة،هو القبيل الذي ينحاز (5)إليه إذا اشتغلت باستنباط التّدابير في الأمور الكائنة الفاسدة،و استنباط الصّناعات الإنسانيّة.

و اعتبارها الذي بحسب القياس إلى نفسها،هو القبيل الذي يتولّد (6)من العقل العمليّ و النظريّ الآراء التي تتعلّق بالأعمال و تستفيض ذائعة مشهورة،مثل أنّ الكذب قبيح، و الظّلم قبيح،لا على سبيل التّبرهن،و ما أشبه ذلك من المقدّمات المحدودة للانفصال عن الأوّليّات العقليّة في كتب المنطق (7).

و هذه القوّة يجب أن تتسلّط على سائر قوى البدن على حسب ما يوجبه (8)أحكام القوّة الأخرى التي نذكرها حتّى لا تنفعل عنها البتّة،بل تنفعل تلك عنها و تكون متبوعة (9)دونها،لئلاّ يحدث (10)فيها عن البدن هيئات انقياديّة مستعادة (11)من الأمور الطبيعيّة و هي الّتي تسمّى أخلاقا (12)رذيلة،بل يجب أن تكون غير منفعلة البتّة و غير منقادة،بل تتسلّط (13)،فيكون لها أخلاق فضيلة،و قد يجوز أن ينسب (14)الأخلاق إلى القوى البدنيّة أيضا،و لكن إن كانت هي الغالبة يكون (15)لها هيئة فعليّة،و لهذا الفعل قوّة انفعاليّة،و لتسمّ كلّ هيئة خلقا،فيكون شيء واحد يحدث منه خلق (16)في ذلك،و إن كانت هي المغلوبة يكون لها هيئة انفعاليّة،و لذلك هيئة فعليّة غير غريبة،فيكون ذلك أيضا هيئتين و خلقين، أو يكون الخلق واحدا له نسبتان.

و إنّما كانت الأخلاق التي فينا منسوبة إلى هذه القوّة،لأنّ النّفس الإنسانيّة-كما

ص:346


1- في المصدر:بحسب القياس...
2- تحدث منه فيها...
3- لسرعة و فعل...
4- و اعتبارها الذي بحسب...
5- تنحاز إليه...
6- تتولّد فيه بين العقل...
7- العقليّة المحصنة في كتب المنطق،و إن كانت إذا برهن عليها صارت من العقليّة أيضا على ما عرفت في كتب...
8- توجبه...
9- مقموعة...
10- تحدث...
11- مستفادة...
12- أخلاقا رذيليّة...
13- بل متسلّطة فتكون لها أخلاق فضيليّة...
14- تنسب...
15- تكون لها هيئة...
16- خلق في هذا و خلق في ذلك...

يظهر (1)بعد-جوهر واحد،له نسبة و قياس إلى جنبتين؛جنبة هي تحته،و جنبة هي فوقه، و له بحسب كلّ جنبة قوّة بها ينتظم (2)العلاقة بينه و بين تلك الجنبة.

فهذه القوّة العمليّة هي القوّة التي (3)لأجل العلاقة إلى الجنبة التي (4)دونها و هو البدن و سياسته.و أمّا القوّة النظريّة،فهي القوّة (5)التي لأجل العلاقة إلى الجنبة التي فوقها (6)، لتنفعل و يستفيد منها و تقبل (7)عنها،فكأن للنّفس منّا وجهين:وجه إلى البدن،و يجب أن يكون هذا الوجه غير قابل البتّة أثرا من جنس مقتضى طبيعة البدن،و وجه إلى المبادي العالية،و يجب أن يكون هذا الوجه دائم القبول عمّا هناك و التّأثّر منه.فمن الجهة السفليّة يتولّد (8)الاخلاق،و من الجهة الفوقانيّة (9)يتولّد العلوم،فهذه هي القوّة العمليّة.

و أمّا القوّة النظريّة،فهي قوّة من شأنها أن تنطبع بالصّور الكلّيّة المجرّدة عن المادّة، فإن كانت مجرّدة بذاتها،فأخذها بصورتها في نفسها أسهل،و إن لم تكن فإنّها تصير مجرّدة بتجريدها إيّاها،حتّى لا يبقى فيها عن (10)علائق المادّة شيء،و سنوضح كيفيّة هذا من بعد.

و هذه القوّة النظريّة لها إلى هذه (11)الصّورة نسب مختلفة،و ذلك لأنّ الشيء الذي من شأنه أن يقبل شيئا قد يكون بالقوّة قابلا له،و قد يكون بالفعل قابلا له.و القوّة تقال على (12)معان ثلاثة بالتّقديم و التّأخير:

فيقال قوّة للاستعداد المطلق الذي لا يكون خرج منه بالفعل شيء،و لا أيضا حصل ما به يخرج،كقوّة الطفل على الكتابة.

و يقال قوّة لهذا الاستعداد إذا كان لم يحصل للشيء إلاّ ما يمكنه به أن يتوصّل إلى اكتساب الفعل بلا واسطة،كقوّة الصبيّ الذي ترعرع،و عرف الدواة و القلم و بسائط الحروف على الكتابة.

ص:347


1- في المصدر:يظهر من بعد...
2- تنتظم...
3- التي له لأجل...
4- التي دونه...
5- التي له لأجل...
6- التي فوقها،لينفعل...
7- و يقبل عنها...
8- تتولّد الأخلاق...
9- تتولّد العلوم...
10- فيها من علائق...
11- هذه الصور على...
12- ثلاثة معان.

و يقال قوّة لهذا الاستعداد إذا تمّ (1)بآلاته،و حدث مع الآلة أيضا كمال الاستعداد،بأن يكون له أن يفعل متى شاء بلا حاجة إلى اكتساب (2)،بل يكفيه أن يقصد فقط،كقوّة الكاتب المستكمل للصّناعة إذا كان لا يكتسب (3)؛و القوّة الاولى تسمّى (4)كمال القوّة،فالقوّة النظريّة إذن تارة يكون (5)نسبتها إلى الصّور المجرّدة التي ذكرناها نسبة ما بالقوّة المطلقة، و ذلك بين (6)ما يكون هذا القوّة التي للنّفس لم تقبل بعد شيئا من الكمال الذي بحسبها، و حينئذ تسمّى عقلا هيولانيّا (7)،تشبيها لها باستعداد الهيولى الاولى التي ليست (8)بذاتها ذات صورة من الصّور،و هي موضوعة لكلّ صورة.

و تارة نسبة ما بالقوّة الممكنة،و هي أن يكون (9)القوّة الهيولانيّة قد حصل لها (10)من المعقولات الاولى التي يتوصّل منها و بها إلى المعقولات الثانيّة (11)،و أعني بالمعقولات الأولى المقدّمات التي يقع بها التصديق لا بالاكتساب (12)،و لا بأن يشعر المصدّق بها إنّه كان يجوز له أن يخلو عن التصديق بها وقتا البتّة،مثل اعتقادنا بأنّ الكلّ أعظم من الجزء،و أنّ الأشياء المساوية (13)لشيء واحد بعينه متساوية،فما دام (14)أنّه يحصل فيه من معنى ما بالفعل هذا القدر بعد،فإنّه (15)يسمّى عقلا بالملكة،و يجوز أن (16)يسمّى هذا عقلا بالفعل بالقياس إلى (17)الأوّل،لأنّ القوّة التي ليس لها أن تعقل شيئا بالفعل،و أمّا (18)أنّ هذه،فإنّ لها أن تعقل إذا أخذت تجب (19)بالفعل.

و تارة تكون نسبة ما بالقوّة الكماليّة،و هو أن يكون حصل فيها أيضا الصّورة (20)المعقولة المكتسبة بعد المعقولة الأوّليّة،إلاّ أنّه ليس يطالعها و يرجع إليها بالفعل،بل كأنّها عنده مخزونة،فمتى شاء طالع تلك الصّورة بالفعل فعقلها،و عقل أنّه قد عقلها،و يسمّى

ص:348


1- في المصدر:تمّ بالآلة...
2- الى الاكتساب...
3- لا يكتب...
4- تسمّى مطلقة و هيولانيّة،و القوّة الثانية تسمّى قوّة ممكنة،و القوّة الثالثة تسمّى كمال القوّة...
5- تكون نسبتها...
6- ذلك حينما تكون...
7- هيولانيّا،و هذه القوّة التي تسمّى عقلا هيولانيّا موجودة لكلّ شخص من النوع،و إنّما سميّت هيولانيّة تشبيها إيّاها باستعداد...
8- ليست هي بذاتها...
9- أن تكون القوّة...
10- حصل فيها من المعقولات المعقولات الاولى...
11- الثانية،أعني...
12- لا باكتساب...
13- الأشياء المتساوية...
14- فما دام إنّما حصل فيها من معنى...
15- فإنّها تسمّى...
16- أن تسمّى عقلا...
17- إلى الاولى،لأنّ القوّة الاولى ليس...
18- و أمّا هذه...
19- تبحث...
20- الصور.

عقلا بالفعل،لأنّه عقل (1)متى شاء بلا تكلّف اكتساب،و إن كان يجوز أن يسمّى عقلا بالقوّة بالقياس إلى ما بعدها (2).

و تارة تكون النسبة نسبة ما بالفعل المطلق،و هو أن يكون (3)الصّورة المعقولة حاضرة فيه،و هو يطالعها بالفعل،فيعقلها العقل (4)،و يعقل أنّه يعقلها بالفعل،فيكون ما حصل له حينئذ يسمّى عقلا مستفادا (5)،لأنّه سيتّضح لنا أنّ العقل بالقوّة إنّما يخرج إلى الفعل بسبب عقل هو دائما بالفعل،و أنّه إذا اتّصل العقل بالقوّة بذلك العقل الذي بالفعل نوعا من الاتّصال (6)،و انطبع فيه نوع من الصّور تكون مستفادة من خارج.

فهذه أيضا مراتب القوى التي تسمّى (7)عقلا نظريّة.و عند العقل المستفاد يتمّ الجنس الحيوانيّ و النّوع الإنسانيّ (8)و هناك يكون (9)القوّة الإنسانيّة قد تشبّهت بالمبادي الأولى للوجود كلّه»-انتهى كلامه-.

و قال في الإشارات بعد تفصيل القوى الحيوانيّة هكذا (10):«إشارة،و أمّا نظير هذا التفصيل في قوى النّفس الإنسانيّة على سبيل التصنيف (11)،فهو أنّ النّفس الإنسانيّة التي لها أن تعقل جوهر له قوى و كمالات.

فمن قواها ما لها بحسب حاجتها إلى تدبير البدن،و هي القوّة التي تختصّ باسم العقل العمليّ،و هي التي تستنبط الواجب فيما يجب أن يفعل من الامور الإنسانيّة جزئيّة، ليتوصّل به إلى أغراض اختياريّة من مقدّمات أوّليّة و ذائعة و تجربيّة،و باستعانة بالعقل النظريّ في الرأى الكلّيّ إلى أن ينتقل به إلى الجزئيّ.

و من قواها ما لها بحسب حاجتها إلى تكميل جوهرها عقلا بالفعل،فأولاها قوّة استعداديّة لها نحو المعقولات،و قد يسمّيها قوم عقلا هيولانيّة (12)،و هي المشكاة.

و يتلوها (13)قوّة أخرى يحصل (14)لها عند حصول المعقولات (15)لها،فيتهيّأ بها لاكتساب

ص:349


1- في المصدر:يعقل...
2- ما بعده...
3- أن تكون...
4- فيعقلها بالفعل...
5- مستفادا،و إنّما سمّي عقلا مستفادا لأنّه...
6- الاتّصال انطبع...
7- تسمّى عقولا نظريّة...
8- الإنسانيّ منه...
9- تكون...
10- -شرح الإشارات 351/2-354. [1]
11- سبيل التضيّف...
12- عقلا هيولانيّا...
13- تتلوها...
14- تحصل...
15- المعقولات الاولى، فتتهيّأ بها.

الثّواني،إمّا بالفكرة،و هي الشجرة الزيتونة إن كانت ضعيفة (1)،أو بالحدس،و هي (2)زيت أيضا إن كانت أقوى من ذلك،فتسمّى عقلا بالملكة،و هو (3)الزجاجة،و الشريعة البالغة منها قوّة قدسيّة،يكاد زيتها يضيء (4)و لو لم تمسسه نار،ثمّ يحصل بعد ذلك قوّة و كمال، أمّا الكمال،فأن يحصل لها المعقولات بالفعل مشاهدة متمثّلة في الذهن،و هو نور على نور.و أمّا القوّة،فأن يكون لها أن (5)تحصّل المعقول المكتسب المفروغ منه كالمشاهد متى شئت من غير افتقار إلى اكتساب،و هو المصباح.و هذا الكمال يسمّى عقلا مستفادا؛ و هذه القوّة تسمّى عقلا بالفعل.و الذي يخرج من الملكة إلى الفعل التّامّ،و من الهيولى أيضا إلى الملكة فهو العقل الفعّال و هو النّار».-انتهى-.

ثمّ قال (6):«تنبيه:لعلّك تشتهي الآن أن تعرف الفرق بين الفكرة و الحدس؛فاسمع (7):

أمّا الفكرة فهي حركة ما للنّفس في المعاني،مستعينة بالتخيّل في أكثر الأمر،يطلب بها الحدّ الأوسط،أو ما يجري مجراه ممّا يصار به إلى العلم بالمجهول حالة (8)الفقر استعراضا للمخزون في الباطن و ما يجرى مجراه،فربّما تأدّت إلى المطلوب،و ربّما انبثّت (9).و أمّا الحدس،فهو (10)أن يتمثّل (11)الحدّ الأوسط في الذهن دفعة،إمّا عقيب طلب و شوق من غير حركة،و إمّا من غير اشتياق و حركة،و يتمثّل منه ما هو وسط له أو في حكمه».

ثمّ قال (12):«إشارة (13).و لعلّك تشتهي أن تعرف زيادة دلالة على القوّة القدسيّة و إمكان وجودها،فاسمع (14):أ لست تعلم أنّ للحدس وجودا،و أنّ للنّاس (15)فيه مراتب،و في الفكر (16)،فمنهم غبيّ لا يعود (17)عليه الفكر مراده،و منهم من له فطانة إلى حدّ ما و يستمتع بالفكر،و منهم من هو أثقف من ذلك و له إصابة في المعقولات بالحدس.و تلك الثّقافة غير متشابهة في الجميع،بل ربّما قلّت و ربّما كثرت،و كما أنّك تجد جانب النقصان منتهيا إلى

ص:350


1- في المصدر:كانت ضعفى...
2- بالحدس فهي زيت...
3- و هي الزجاجة و الشريفة البالغة...
4- يضيء ثمّ يحصل لها بعد ذلك...
5- أن يحصل...
6- -شرح الإشارات 358/2. [1]
7- فاستمع...
8- حالة الفقد...
9- انبتّت...
10- و هو أن...
11- يتمثّل معه...
12- -شرح الإشارات 359/2-360. [2]
13- و لعلّك تشتهي زيادة...
14- فاستمع...
15- و أنّ للإنسان...
16- و في الفكرة...
17- لا تعود عليه الفكرة برادة.

عديم الحدس،فأتقن (1)أنّ الجانب الذي يلي الزيادة يمكن انتهاؤه إلى غنيّ في أكثر أحواله عن التّعلّم و الفكر» (2)-انتهى موضوع الحاجة من كلامه-.

و أقول:ما نقلنا من كلامه في«الشفاء»و اف ببيان تعديد القوى الإنسانيّة لا يحتاج إلى شرح،فلذا طويناه على غرّة.و كذا كلامه في«الإشارات»و اف ببيانه مع الإشارة إلى بعض مراتب أخر كالحدس و القوّة القدسيّة،و مع الإشارة إلى أنّ المراتب المرتّبة النظريّة نظير مراتب نور اللّه تعالى كما ورد في التنزيل،حيث قال عزّ و جلّ: اَللّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَضْرِبُ اللّهُ الْأَمْثالَ لِلنّاسِ -الآية (3)-و إلى تلك المراتب مطابقة لهذه المراتب،و قد ورد في الخبر«من عرف نفسه فقد عرف ربّه» (4).

و الحاصل أنّ المشكاة شبيهة بالعقل الهيولانيّ،لكونها مظلمة في ذاتها،قابلة للنّور على التّساوي لاختلاف السطوح و الثقب فيها،و الزّجاجة بالعقل بالملكة،لأنّها شفّافة في نفسها،قابلة للنّور أتمّ قبول،و الشجرة الزيتونة بالفكرة التي أشار إلى بيان ماهيّتها، لكونها مستعدّة لأن تصير قابلة للنّور بذاتها،لكن بعد حركة كثيرة و تعب،و الزّيت بالحدس الذي أشار إلى بيان ماهيّته،لكونه أقرب إلى ذلك من الزيتونة،و الذي يكاد زيتها يضيء و لو لم تمسسه نار بالقوّة القدسيّة التي أشار إلى بيان ماهيّتها،لأنّها تكاد تعقل بالفعل و لو لم يكن شيء يخرجها من القوّة إلى الفعل،و نور على نور بالعقل المستفاد،لأنّه ينير بذاته من غير احتياج إلى نور يكتسبه و النّار بالعقل الفعّال الذي يقولون به و يقولون إنّ الاتّصال به نوعا من الاتّصال هو المخرج من القوّة إلى الفعل،لأنّ المصابيح تشتعل منها.

و هذا آخر ما أردنا ايراده من تعديد قوى النّفس الإنسانيّة.فلنختم الباب به و لنرجع إلى بيان المقصود الآخر،فنقول:الباب الرابع...

ص:351


1- في المصدر:فأيقن...
2- و الفكرة.
3- -النور35/. [1]
4- -بحار الانوار 32/2؛99/61:293/69،و [2]قد مرّ.

ص:352

الفهرس

الباب الأوّل في إثبات النفس و إنّيّتها و تحديدها من حيث هي نفس نقل كلام و تحقيق مرام 8

«في شرح كلام الشيخ»17

إيراد شبهة هنا و دفعها 56

مناقشة مع الشيخ 58

نكتة 83

كلام مع المحقّق الطوسيّ و غيره 84

ذكر أوهام مع رفعها 98

الباب الثاني في بيان حقيقة النفس و ماهيّتها في تأويل بعض تلك المذاهب المنقولة:123

تأويل بعض الاحاديث الواردة في الروح 124

في بيان جوهريّة النفس 142

في بيان اختصاص الإنسان بالقوّة العقليّة 155

ص:353

خاصّيّة للإنسان 155

خاصّيّة أخرى للإنسان 156

خاصّيّة ثالثة للإنسان 157

فى بيان القوى النظريّة و العمليّة للنفس الإنسانيّة 158

تمهيد في أنّ النفس الناطقة الإنسانيّة جوهر مجرّد عن المادّة 161

نقل كلام و تنقيح مرام 161

فصل في العلم و أنّه عرض 166

في نصرة القول بوجود الأشياء بأعيانها في الذهن 174

في وجه الاختلاف في أنّ العلم من أيّ مقولة 179

في الإشارة إلى توجيه القول باتّحاد العاقل مع المعقول 184

كلام مع المحقّق الطوسيّ 188

في تحرير ما ذكره في الشفاء في العلم 190

في الفرق بين اعتبارات الماهيّة 197

في الإشارة إلى دفع إشكال آخر هنا 201

في الاشارة إلى دفع شكوك و أوهام ربّما يمكن أن تورد على دليل تجرّد النّفس الإنسانيّة الناطقة 216

سؤال و جواب 224

في الإشارة إلى براهين اخر على هذا المطلوب قد ذكرها القوم 228

فيما ذكره بعض مفسّري كلام أرسطو(هو أبو عليّ أحمد بن محمّد مسكويه)229

شواهد سمعيّة على هذا المطلب 233

فيما استدلّ به بعض العلماء على نفي تجرّد النّفس الإنسانيّة مع جواب ذلك الاستدلال 233

ص:354

في الاشارة إلى أنّه باتّضاح الدّليل على تجرّد النّفس النّاطقة الإنسانية يتّضح الدّليل على جوهريّتها أيضا 245

في أنّ النّفس الإنسانيّة واحدة بالذّات مختلفة بالاعتبار 246

الوجه الأوّل 248

الوجه الثّاني 250

في إبطال ما تمسّكوا به في تعدّد النّفس في الإنسان 254

شكّ مع حلّه 257

في كيفيّة صدور الأفعال المختلفة عن الإنسان 259

في الإشارة إلى أنّ تلك القوى المتخالفة كيف يخدم بعضها بعضا 272

في الإشارة إلى أنّ أيّا من الأفاعيل تقتضي قوّة على حدة 273

في الكلام في آلات النّفس و الأعضاء التي يتعلّق بها القوّة الرّئيسة من النّفس 279

في الإشارة إلى المناسبة بين النّفس و البدن و احتياج أحدهما إلى الآخر و الارتباط بينهما 285

الباب الثالث في تعديد قوى النّفس الإنسانيّة على ما هو المشهور بين الجمهور في الإشارة إلى الحكمة في القوى النباتيّة 292

و أمّا الكلام في القوى الحيوانيّة 295

في الحكمة في القوى المحرّكة الحيوانيّة 297

في القوى المدركة الحيوانيّة 297

في اللاّمسة 298

في الذّائقة 301

في الشّامّة 302

ص:355

في السّامعة 303

في الباصرة 303

في الحواسّ الباطنة 305

في الاشارة إلى أنّ إثبات تلك القوى الخمس بالدّليل و أنّ الحكماء و الأطبّاء اختلفوا في ذلك ظاهرا 306

في الكلام في الحسّ المشترك 316

في الدليل على وجود الحسّ المشترك 320

بيان إيراد مع دفعه 321

إيراد آخر مع دفعه 324

دقيقة 324

في إثبات الحسّ المشترك للحيوانات العجم أيضا و الإشارة إلى دفع ذلك الإيراد بوجه آخر 325

فيه رفع المخالفة بين كلامي الشيخ في الشفاء و الإشارات 333

دقيقة 336

في القوى الإنسانيّة 345

ص:356

المجلد 3

اشارة

سرشناسه : نعیما طالقانی، محمدنعیم بن محمدتقی، قرن ق 12

عنوان و نام پديدآور : منهج الرشاد فی معرفه المعاد/ محمدنعیم بن محمدتقی المدعو بالملا نعیما العرفی الطالقانی؛ تحقیق رضا استادی

مشخصات نشر : مشهد: مجمع البحوث الاسلامیه، 1419ق. = - 1377.

مشخصات: 3ج

شابک : 964-444-108-79000ریال:(ج.1)

يادداشت : عربی

يادداشت : فهرستنویسی براساس اطلاعات فیپا.

یادداشت : کتابنامه

موضوع : معاد

موضوع : خداشناسی

شناسه افزوده : استادی، رضا، 1316 - ، مصحح

شناسه افزوده : بنیاد پژوهشهای اسلامی

رده بندی کنگره : BP222/ن 7م 8 1377

رده بندی دیویی : 297/44

شماره کتابشناسی ملی : م 78-578

ص :1

اشارة

ص :2

منهج الرشاد فی معرفه المعاد

محمدنعیم بن محمدتقی المدعو بالملا نعیما العرفی الطالقانی

تحقیق رضا استادی

ص :3

ص :4

الباب الرابع: و فيه مطالب

اشارة

ص:5

ص:6

المطلب الأوّل

اشارة

في حدوث النفس

بحدوث البدن،و في عدم جواز التناسخ و نحوه عليها،

و في بيان حالها بعد خراب البدن،فهاهنا مطالب

في حدوث النفس بحدوث البدن

اعلم أنّهم اختلفوا في ذلك،فقال بعضهم بقدمها،و قد أسند هذا القول إلى أفلاطون و من قبله،و هو الموافق لما ذهب إليه الفلاسفة القائلون بقدم العالم.

و قال بعضهم بحدوثها.و قد أسند هذا القول إلى أرسطو و أتباعه،و هو الموافق لما ذهب إليه المليون القائلون بحدوث العالم،إلاّ أنّهم افترقوا فرقتين؛ففرقة قالت بحدوثها قبل حدوث البدن،و قد ذهب إليه جمع من الملّيّين،و فرقة قالت بحدوثها بحدوثه،و قد ذهب إليه كثير من الملّيّين،و هو الموافق لما ذهب إليه الشيخ الرئيس و أتباعه،فهاهنا مذاهب ثلاثة متناقضة،و حيث كانت متناقضة فبإثبات المذهب الأخير يبطل المذهبان الأوّلان،مع أنّ المذهب الأوّل يبطله ما يبطل قدم العالم من دلائل حدوثه،و قد أفردنا في ذلك رسالة على حدة (1).فلنتكلّم فيما ذكروه دليلا على المذهب الأخير،و نتبعه بشرحه إن احتيج إليه مع الإشارة إلى نقض المذهبين الآخرين.

ص:7


1- -نسختها موجودة في مكتبة آية اللّه المرعشيّ(ره)بقمّ.

فنقول:قال الشيخ في الشفاء:«إنّ النفس الإنسانيّة لم تكن مفارقة (1)للأبدان ثمّ حصلت في البدن،لأن الأنفس الإنسانيّة متّفقة في النوع و المعنى،و إذا فرض أنّ لها وجودا ما ليس حادثا مع حدوث الأبدان،بل هو وجود مفرد،لم يجز أن تكون النفس في ذلك (2)متكثّرة،و ذلك لأنّ تكثّر (3)الأشياء إمّا أن يكون من جهة الماهيّة و الصورة،و إمّا أن يكون من جهة النسبة إلى العنصر و المادّة المتكثّرة ممّا (4)يتكثّر به من الأمكنة التي تشتمل على كلّ مادّة في جهة،و الأزمنة التي تختصّ بكلّ واحد منها في حدوثه،و العلل القاسمة إيّاها،و ليست مغايرة بالماهيّة و الصورة،لأنّ صورتها واحدة،فإذن إنّما تتغاير من جهة قابل الماهيّة،المنسوب إليه الماهيّة بالاختصاص،و هذا هو البدن.

و أمّا إذا أمكن أن تكون النفس موجودة و لا بدن،فليس يمكن أن يغاير نفس نفسا بالعدد.و هذا مطلق في كلّ شيء فإنّ الأشياء التي ذواتها معان فقط و قد تكثّر نوعيّاتها بأشخاصها،فإنّما تكثّرها بالحوامل و القوابل و المنفعلات عنها أو ما بنسبة ما (5)إليها،و إلى أزمنتها فقط،و إذا كانت مجرّدة أصلا لم تتفرّق ممّا قلنا (6)فمحال أن تكون،و لا بينها مغايرة و تكثّر،فقد بطل أن تكون (7)النفس قبل دخولها الأبدان متكثّرة الذات بالعدد.

و أقول:لا يجوز أن تكون واحدة الذّات بالعدد،لأنّه إذا حصل بدنان،حصل في البدنين نفسان،فإمّا أن تكونا قسمي النفس الواحدة (8)،فيكون الشيء الواحد الذي ليس له عظم و حجم منقسما بالقوّة،و هذا ظاهر البطلان بالأصول المتقرّرة (9)في الطبيعيّات

ص:8


1- -في المصدر:لم يكن قائمة مفارقة.
2- -في المصدر:في ذلك الوجود.
3- -في المصدر:لأنّ كثرة.
4- -في المصدر:بما.
5- -في المصدر:أو بنسبة ما.
6- -في المصدر:بما قلنا.
7- -في المصدر:أن تكون بينها مغايرة و كثرة،فقد يكون أن يكون.
8- -في المصدر:فإمّا أن تكونا قسمي تلك النفس الواحدة.
9- -في المصدر:بالأصول المقرّرة.

و غيرها،و إمّا ان تكون النّفس الواحدة بالعدد في بدنين،و هذا لا يحتاج أيضا إلى كثير تكلّف في إبطاله.

و نقول بعبارة أخرى:إنّ هذه الأنفس إنّما تتشخّص نفسا واحدة من جملة نوعها بأحوال تلحقها ليست لازمة لها بما هي نفس،و إلاّ لاشتركت فيها جميعا،و الأعراض اللاحقة بها تلحق عن ابتداء لا محالة زمانيّ،لأنّها تتبع سببا عرض لبعضها دون بعض، فيكون تشخّص الأنفس أيضا أمرا حادثا،فلا تكون قديمة لم تزل،و يكون حدوثها مع بدن.

فقد صحّ إذن أنّ الأنفس تحدث كما تحدث مادّة بدنيّة صالحة لاستعمالها إيّاها، و يكون البدن الحادث مملكتها و آلتها،و يكون في جوهر النفس الحادثة مع بدن ما ذلك البدن،استحقّ حدوثها من المبادئ الأول،هيئة نزاع طبيعيّ إلى الاشتغال به و استعماله، و الاهتمام بأحواله و الانجذاب إليه،تخصّها و تصرفها عن كلّ الأجسام غيره،فلا بدّ أنّها إذا وجدت متشخّصة،فإنّ مبدأ تشخّصها يلحق بها من الهيئات ما تتعيّن به شخصا.و تلك الهيئة تكون مقتضية لاختصاصها بذلك البدن،و مناسبة لصلوح أحدهما للآخر،و إن خفي علينا تلك الحالة و تلك المناسبة،و قد تكون مبادي الاستكمال متوقّفة لها بوساطة، و يكون هو بدنها.

و لقائل أن يقول.

إنّ هذه الشبهة تلزمكم في النفوس إذا فارقت الأبدان،فإنّها إمّا أن تفسد و لا تقولون به،و إمّا أن تتّحد و هو عين ما شنّعتم به،و إمّا أن تبقى متكثّرة و هي عندكم مفارقة للموادّ، فكيف تكون متكثّرة؟

فنقول:أمّا بعد مفارقة الأنفس للأبدان،فإنّ الأنفس قد وجد كلّ واحد منها ذاتا منفردة باختلاف موادّها التي كانت،و باختلاف أزمنة حدوثها،و اختلاف هيئاتها التي لها بحسب أبدانها المختلفة لا محالة،فإنّا نعلم يقينا أنّ موجد المعنى الكلّيّ شخصا مشارا إليه لا يمكن أن يوجده شخصا،أو يزيد له معنى على نوعيّته،به يصير شخصا من المعاني التي تلحقه عند حدوثه و تلزمه،علمناها أو لم نعلم.و نحن نعلم أنّ النّفس ليست واحدة

ص:9

في الأبدان كلّها،و لو كانت واحدة و كثيرة بالإضافة،لكانت عالمة فيها أو جاهلة،و لما خفي على زيد ما في نفس عمرو؛لأنّ الواحد المضاف إلى كثيرين يجوز أن يختلف بحسب الإضافة.

و أمّا الأمور الموجودة له في ذاته فلا يختلف فيها حتّى إذا كان أبا لأولاد كثيرين و هو شابّ،لم يكن شابّا إلاّ بحسب الكلّ،إذا الشباب له في نفسه،فيدخل في كلّ إضافة، و كذلك العلم و الجهل و الظنّ و ما أشبه ذلك إنّما يكون في ذات النفس في كلّ إضافة (1)، فإذن ليست النّفس واحدة،فهي كثيرة بالعدد،و نوعها واحد،و هي حادثة كما بيّنّاه، فلا شكّ أنّها بأمر تشخّصت،و أنّ ذلك الأمر في النفس الإنسانيّة ليس هو الانطباع في المادّة،فقد علم به بطلان القول بذلك،بل ذلك الأمر هيئة من الهيئات،و قوّة من القوى، و عرض من الأعراض الروحانيّة،أو جملة منها تشخّصها باجتماعها و إن جهلناها،و بعد أن تشخّصت مفردة،فلا يجوز أن تكون هي و النفس الأخرى بالعدد ذاتا واحدة،فقد أكثرنا القول في امتناع هذا في عدّة مواضع،لكنّا نتيقّن أنّه يجوز أن تكون النّفس إذا حدثت مع حدوث مزاج ما،أن يحدث لها هيئة بعده في الأفعال النطقيّة و الانفعالات النطقيّة تكون على جملة متميّزة عن الهيئة المناظرة لها في أخرى،تميّز المزاجين في البدنين،و أن تكون الهيئة المكتسبة التي تسمّى عقلا بالفعل أيضا على حدّ ما تتميّز به عن نفس أخرى،و أنّها يقع لها شعور بذاتها الجزئيّة،و ذلك الشعور هيئة ما فيها أيضا خاصّة ليس لغيرها،و يجوز أن يحدث فيها من جهة القوى البدنيّة هيئة خاصّة أيضا،و تلك الهيئة تتعلّق بالهيئة الخلقيّة،أو تكون هي هي،أو تكون أيضا خصوصيّات أخرى تخفى علينا تلزم النفوس مع حدوثها و بعده،كما يلزم من أمثالها أشخاص الأنواع الجسمانيّة،لتتمايز بها (2)ما بقيت و تكون الأنفس كذلك تتميّز بمخصّصاتها فيها،كانت الأبدان أو لم تكن أبدان،عرفنا تلك الأحوال أو لم نعرف،أو عرفنا بعضها.انتهى كلامه (3).

ص:10


1- -في المصدر:في ذات النفس،و يدخل مع النفس في كلّ إضافة.
2- -في المصدر:الأنواع الجسمانيّة فتمايز بها.
3- -الشفاء، [1]الطبيعيّات353/-352،ط طهران.

و أقول:و تحرير ما ذكره من الدليل على هذا المطلب أنّ النّفس الإنسانيّة لا يجوز أن تكون موجودة قبل الأبدان،لأنّها لو كانت موجودة قبل الأبدان،فإمّا أن تكون متكثّرة بالعدد،أو واحدة بالعدد،و كلّ منهما باطل.

أمّا الأوّل،فلأنّها إذا كانت موجودة قبل الأبدان وجودا مفردا،و كانت متكثّرة بالعدد، فتكثّرها لا يكون إلاّ بأن تكون ممتازة بعضها عن بعض،فامتيازها إمّا أن يكون بصورها و ماهيّاتها،أو بفاعلها،أو بغايتها،أو من جهة النسبة إلى موادّها المنطبعة هي فيها المتكثّرة ممّا تتكثّر به من الأمكنة التي تشتمل على كلّ مادّة في جهة،و الأزمنة التي تختصّ بكلّ واحدة منها في حدوثه،و العلل القاسمة إيّاها،أو بما في حكم تلك الموادّ من القوابل و المنفعلات عنها كالأبدان،و العلل منحصرة في هذه،و لا يجوز أن يكون امتيازها بصورها و ماهيّاتها و ذواتها،لأنّ النفوس الإنسانيّة متّفقة في النوع و المعنى،و ما له حدّ نوعيّ فصورتها و ذاتها واحدة لا اختلاف فيها و لا تكثّر من حيث الماهيّة و الذات،و كذلك لا يجوز أن يكون امتيازها بفاعلها أو بغايتها،لأنّ فاعلها واحد و هو المبدأ الفيّاض تعالى شأنه.و كذا غايتها،و هي التشبّه بالفاعل و الاتّصال به و القرب إليه.فبقي أن يكون امتيازها بموادّها المنطبعة هي فيه،أو بما هو في حكمها كالأبدان،و هذا أيضا باطل،لأنّ النفوس الإنسانيّة قد فرضت مفارقة عن الموادّ،أمّا عن المنطبعة فيها،فلأنّ المفروض تجرّدها عن المادّة في ذاتها،كما ظهر من الدلائل الدالّة على تجرّدها،و أمّا عمّا في حكمها،فلأنّ المفروض وجودها قبل الأبدان وجودا مفردا،هذا خلف.

و من هذا يظهر أنّ المجرّدات عن المادّة إذا كانت متكثّرة بالعدد،فإنّما يكون تكثّرها بأن يكون كلّ منها نوعا على حدة منحصرة في فرد،لا أن تكون تلك الأفراد المتكثّرة أفرادا من نوع واحد،و لذلك قالوا به في العقول التي أثبتوها.

و هذا الذي ذكرنا هو محصّل مرامه،و إنّما لم يشر إلى إبطال كون امتياز تلك النفوس بفاعلها أو بغايتها إحالة على الظّهور،كما إنّه لم يذكر دليلا على كون النفوس الإنسانيّة متّفقة في النوع و المعنى،إحالة عليه أيضا.

و ربما ينبّه على ذلك،بأنّه كما أنّ الحكم بأنّ بعض الأشياء-كالإنسان و الفرس

ص:11

و الحمار مثلا-مختلفة بالنّوع و الذّات،و إنّما اشتراكها في معنى جنسيّ كالحيوانيّة،و أنّ بعضها-كزيد و عمرو و بكر مثلا متّفقة في النوع و الذات،و اشتراكها في معنى نوعيّ هو الإنسانيّة،و اختلافها بحسب العوارض الشخصيّة الخارجة عن الذّات،و أنّ بعضها كالرّوميّ و الزنجيّ و التّركيّ مثلا-متّفقة في النوع،و هو الإنسان أيضا،و اختلافها في معنى عرضيّ كلّيّ صنفيّ خارج عن الذّات ليس عليه دليل،إلاّ أنّ الحدس الصائب يحكم بذلك،حيث يجد الاختلاف في الأشياء الأوليّة شديدا جدّا،فيحكم بأنّ اختلافها ذاتيّ، بخلاف الأخيرين،فإنّ الاختلاف فيهما ليس بتلك المثابة،بل أقلّ من الأوّل بكثير، فيحكم باتّفاقها في الذّات،و اختلافها بحسب العوارض،أمّا بالعوارض الشّخصية،كما في الثّانية،أو الكليّة كما في الثّالثة.

كذلك الحدس الصّائب يحكم بأنّ النفوس الإنسانيّة متّفقة في النّوع و المعنى، و اختلافها إنّما هو بحسب العوارض الشخصيّة،مثل الذّكاء و البلادة و السّخاوة و البخل و الشّجاعة و الجبن و أمثال ذلك،بل الحكم بأنّ أفراد الإنسان متّفقة في المعنى و النّوع و مختلفة بحسب العوارض الشخصيّة يستلزم الحكم بأنّ النفوس الإنسانيّة أيضا كذلك، فإنّ الأفراد الإنسانيّة ليست إلاّ عبارة عن مجموع النّفوس و الأبدان.و هذا الذي ذكرنا ظاهر عند من له حدس صائب.

و حيث عرفت ما ذكرنا علمت أنّ ما ذكره بعض المحقّقين-كالمحقّق الطوسيّ رحمه اللّه في التّجريد (1)-من أنّ دخول النّفس الإنسانيّة تحت حدّ واحد يقتضي وحدتها-أي وحدتها نوعا-يمكن حمله على ما ذكرنا،يعني أنّ الحدس الصائب يحكم بذلك.

و الحاصل أنّا نجد دخول النّفوس الإنسانيّة تحت حدّ واحد نوعيّ مثل قولهم:النّفس كمال أوّل لجسم طبيعيّ آليّ ذي حياة بالقوّة من جهة ما تدرك الأمور الكليّة و تفعل الأفعال الفكريّة،و كذا نجد دخول أفراد الإنسان تحت حدّ واحد نوعيّ،مثل قولهم:

الإنسان حيوان ناطق،أي أن يكون الحدّ الأوّل مقولا في جواب السؤال بما هو عن كلّ

ص:12


1- -في الفصل الرابع من المقصد الثاني في الجواهر المجرّدة،حيث قال:و دخولها تحت حدّ واحد يقتضي وحدتها.شرح التجريد للقوشجيّ227/،ط تبريز.

فرد من أفراد النّفوس الإنسانيّة،و عن أيّة طائفة تفرض،و عن مجموع تلك النّفوس،و كذا أن يكون الحدّ الثاني مقولا في جواب السؤال بما هو عن كلّ فرد من أفراد الإنسان،و عن كلّ طائفة،و عن المجموع؛و ذلك أمارة أنّ ذينك الحدّين حدّان نوعيّان،و أنّ الأفراد الداخلة تحتهما متّفقة بحسب النّوع،مختلفة بحسب العوارض.و على هذا فمنع كون الحدّ هنا حدّا نوعيّا و احتمال كونه حدّا جنسيّا-كما ذكره بعضهم-كأنّه مكابرة ينبغي أن لا يرتكبه ذو حدس صائب.

ثمّ إنّه من جملة المنبّهات على هذا المطلب،بل من أعظمها،أنّه لو كانت النّفوس الإنسانيّة مختلفة في النّوع و الحقيقة،لجاز أن يصدر عن بعضها من الأفعال ما لا يمكن أن يصدر عن بعض آخر مخالف له في الحقيقة،بحيث يعدّ عنده خارقا للعادة.و حينئذ يلزم إفحام الأنبياء عليه السلام فيما يدّعونه من النّبوّة،و يظهرونه من المعجزة،لأنّ للرعيّة أن يقولوا إنّ نفوس الأنبياء عليه السلام يمكن أن تكون مخالفة بالحقيقة لنفوسنا،و يجوز أن يصدر عن نفوسهم عليه السلام ما يعجز عنه نفوسنا.

و حينئذ فلا يظهر أنّ ما يصدر عنهم عليه السلام معجزات صادرات من عند اللّه تعالى دلائل على صدقهم في نبوّتهم،فيلزم إفحامهم عليه السلام،و إنّما يكون ما يظهرونه عليه السلام معجزة لو كانت نفوسهم عليه السلام متّفقة بحسب الحقيقة لنفوس الرعيّة،إذ حينئذ يظهر كون ما يجري على أيديهم عليه السلام معجزات خوارق للعادة،حيث إنّ النفوس كلّها إذا كانت متّفقة بحسب الحقيقة و الذّات،و صدر عن بعضها ما يعجز عنه الآخر كان ذلك معجزة؛و هذا أيضا ظاهر عند أولي الألباب.

و بالجملة،هذا المذهب الذي ذهب إليه الشيخ من كون أفراد النّفوس الإنسانيّة متّفقة في المعنى و النّوع هو المذهب الذي دلّ عليه الدليل،و اختاره المحقّقون،و هو المنسوب إلى جمع كثير من الحكماء كأرسطو و أتباعه،حيث إنّ المنقول عنهم أيضا أنّ النّفوس البشريّة متّحدة بالنوع،و إنّما تختلف بالصّفات و الملكات و اختلاف الأمزجة و الأدوات.

و قد ذهب بعضهم-كالإمام الرازيّ-إلى أنّها مختلفة بالماهيّة،بمعنى أنّها جنس تحته أنواع مختلفة تحت كلّ نوع أفراد متّحدة بالماهيّة.

ص:13

و قيل:يشبه أن يكون قوله عليه السّلام:«الناس معادن كمعادن الذهب و الفضّة» (1)،و قوله عليه السّلام:

«الأرواح جنود مجنّدة،فما تعارف منها ائتلف،و ما تناكر منها اختلف» 1إشارة إلى هذا.

و أنت بعد التّدبّر فيما ذكرنا يظهر لك بطلان هذا المذهب،و أنّ الخبرين و أمثالهما يمكن حملها على اختلاف بالصّفات و الملكات و نحوها؛فتدبّر.

و أما القول بكون كلّ فرد من أفراد النفوس الإنسانيّة مخالفا بالماهيّة لسائر النّفوس حتّى لا يشترك اثنان منها في الحقيقة،فالظاهر أنّه لم يقل به أحد.و اللّه أعلم بالصّواب.

و أمّا الثاني،فلأنّه لو كانت النّفس الإنسانيّة قبل التعلّق بالأبدان واحدة الذّات بالعدد، فبعد حصول الأبدان.

أمّا أن تكون النّفس الواحدة بالعدد في بدنين مثلا فهذا ظاهر البطلان،لأنّه يلزم حينئذ أن يكون نفس زيد بعينها نفس عمرو،و نفس من اتّصف بالجبن و البخل بعينها نفس من اتّصف بالإسراف و التهوّر،و نفس من اتّصف بالعلم بعينها نفس من اتّصف بالجهل، فيلزم اجتماع الضّدّين،و أن لا يخفى على زيد ما في نفس عمرو مثلا.

و أمّا أن تحصل في كلّ من البدنين نفس واحدة بالعدد،أي أن تحصل في البدنين نفسان،و تتكثّر النّفوس بحسب تكثّر الأبدان.

فهذا إمّا أن يكون ببطلان الواحدة الأولى و زوالها و حدوث النفوس المتكثّرة بحسب تكثّر الأبدان،فهذا باطل.

أمّا أوّلا فلأنّه يستلزم زوال النّفس الأولى التي هي المجرّدة عن المادّة بالفرض،و قد تقرّر عندهم أنّ المجرّد لا يجوز زواله كما عرفت ممّا ذكرنا سابقا في مبحث بقاء النّفس بعد خراب البدن.و أيضا يستلزم زوال القديم على تقدير أن تكون النّفس الواحدة الأولى قديمة،كما هو مذهب بعض القائلين بوجود النّفس قبل البدن،و هو ممتنع.

و أمّا ثانيا،فلأنّه يستلزم حدوث النفس بحدوث البدن،و هو خلاف الفرض على هذا التّقدير،بل هو المطلوب.

ص:14


1- -من لا يحضره الفقيه،380/4،ط طهران،(من الألفاظ الموجزة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم).

و أمّا أن يكون بتكثّر تلك النّفس الواحدة و تجزّيها و انقسامها إلى تلك النفوس المتعدّدة،فهذا أيضا باطل،لأنّ ذلك إنّما هو من خواصّ ما له عظم و حجم و مقدار و مادّة يحلّ هو فيها،تقبل تلك المادة الانقسام إلى الأقسام،كما تقرّر في الأصول المتقرّرة في الطبيعيات و غيرها،فما ليس كذلك كالنّفس،حيث لا يكون له مقدار و عظم و حجم و مادّة تنطبع هي فيها يمتنع فيها ذلك،و لذلك قالوا:إنّ العقول حيث لا يكون لها مادّة منطبعة هي فيها لا يمكن تجزّيها و انقسامها،و كذلك النّفوس المنطبعة الفلكيّة و الكواكبيّة،لأنّها و إن كانت لها مادّة منطبعة هي فيها؛إلاّ أن تلك الموادّ لمّا لم تكن قابلة للانقسام و التجزّي، امتنع التكثّر فيها،بل كان نوعها منحصرا في فرد.

و هذا الذي ذكرنا هو محصّل تحرير كلامه في الدّليل على هذا المطلب،مع زوائد و مزايا.

و قوله:«و نقول بعبارة أخرى:إنّ هذه الأنفس إنّما تتشخّص نفسا واحدة»الخ.

هذا بظاهره و إن كان دليلا آخر بعبارة أخرى على إبطال كون النّفس موجودة قبل البدن و واحدة،لكنّه في التحقيق دليل آخر بعبارة اخرى على إبطال كونها موجودة قبل البدن مطلقا واحدة كانت أم متكثّرة،و حاصله أنّا نعلم بالضرورة أنّ تشخّص النّفوس البشريّة و حصولها نفسا واحدة متشخّصة من جملة نوعها،إنّما هو بأحوال تلحقها،و أنّ تلك الأحوال ليست لازمة لذات النّفس بما هي نفس و معنى واحد نوعيّ،و إلاّ لاشتركت فيها جميعا و كان لجميعها تشخّص واحد،فلم تكن متكثّرة اصلا؛هذا خلف.بل إنّما هي تلحقها من جهة البدن من الهيئات و المناسبات التي لها بالنسبة إلى البدن،و تكون تلك الهيئة و المناسبة ممّا يتعيّن به النفس شخصا واحدا و مقتضية لاختصاصها بذلك البدن، و مناسبة لصلوح أحدهما للآخر،و إن خفي علينا تلك المناسبة و الحالة و الهيئة،سواء قلنا بأنّ المشخّص في الحقيقة و مبدأ التشخّص بالذات هو تلك الهيئة،أو قلنا بأنّه نحو من الوجود الخاصّ،و أنّ تلك الهيئة و الحالة أمارة و علامة لازمة له،على اختلافهم في المشخّص الحقيقيّ.فيظهر من هذا أنّ تشخّص النفوس إنّما يحدث البدن،و ليس لها تشخّص قبل الأبدان،فإذا فرضنا وجود النّفس قبل البدن،سواء فرضناها واحدة أم

ص:15

متكثّرة،لم تكن لها تشخّص أصلا فلم تكن موجودة أيضا،إذ كلّ موجود بالعدد يجب أن يكون متشخّصا،هذا خلف.فيظهر من هذا أنّ تشخّصها إنّما يحدث بحدوث الأبدان و كذلك وجودها و حدوثها بحدوثها و كذلك تكثّرها بتكثّرها،و أنّ الأبدان و إن لم تكن بالنسبة إلى النّفوس مادّة منطبعة هي فيها،لكنّها بالنسبة إليها في حكم الموادّ في ذلك.

ثمّ إنّ قوله:«و لقائل أن يقول:إنّ هذه الشبهة»الخ،هذه شبهة على هذا المقام، و حاصلها أنّ النفس إذا فارقت الأبدان،فإمّا أن تفسد و أنتم لا تقولون به.و أيضا يلزم فساد المجرّد،و هو ممتنع عندكم.و إمّا أن تبقى متّحدة و هو عين ما شنّعتم به،بل أشنع، لأنّه يلزم-مع ما يلزم على تقدير الاتّحاد-من أن تكون نفس زيد بعينها نفس عمرو، و من اجتماع الضدّين-أنّ هذا الاتحاد بعد تكثّرها كما هو المفروض إمّا أن يكون بأن تفسد النفوس المتكثّرة و تحدث نفس أخرى واحدة،فيلزم أيضا فساد النفس،و كذا حدوثها بدون حدوث البدن،و أنتم لا تقولون بذلك.و إمّا أن يكون بأن تركّبت تلك المتكثّرة و امتزجت بعضها مع بعض،فحصل منها نفس واحدة،ففيه-مع لزوم فساد تلك النفوس أيضا-أنّ التركب و الامتزاج لا يكون إلاّ لما له مادّة مستعدّة قابلة له،و هي منفيّة عنها عندكم.و إمّا أن تبقى متكثّرة كما كانت مع الأبدان،و فيه أنّ النّفس عندكم مفارقة للأبدان فكيف تكون متكثّرة،يعني أنّ هذا البقاء متكثّرة إمّا أن يكون تكثّرها بتكثّر تلك الموادّ المتكثّرة التي هي منطبعة فيها فهذا باطل،لأنّ النفس ليست كذلك،لكونها مجرّدة عن المادّة عندكم،و إمّا أن يكون بتكثّر الأبدان التي هي في حكم الموادّ بالنسبة إليها فهذا أيضا باطل،لكون المفروض فساد الأبدان و فناؤها.و هذا هو تقرير الشبهة.

و أمّا ما ذكره في حلّها،فحاصله اختيار أنّ النّفس بعد مفارقة الأبدان تبقى متكثّرة كما كانت،لكن هذا البقاء متكثّرة إنّما يكون بتلك الحالة و الهيئة و المناسبة التي قلنا إنّها مشخّصة للنفوس مقتضية لاختصاص كلّ نفس ببدن،و مناسبة لصلوح أحدهما للآخر و إن لم نعلم ماهيّة تلك الهيئة،فإنّ تلك الهيئة كما تلزم النّفوس مع حدوثها،كذلك تلزمها بعد حدوثها،و لو بعد مفارقتها عن الأبدان فهي بعد فساد الأبدان،أيضا مشخّصة للنفوس مميّزة لبعضها عن بعض،و هي بذلك التشخّص موجودة باقية متكثّرة.

ص:16

و أمّا تحرير كلامه في ذلك،فهو أنّ بعد مفارقة الأنفس للأبدان،فإنّ الأنفس مع حدوث الأبدان و قبل المفارقة قد وجد كلّ واحد منها ذاتا منفردة باختلاف موادّها التي كانت،أي باختلاف ما هو كالموادّ لها،و هي الأبدان التي كانت لها باختلاف أزمنة حدوثها،و اختلاف هيئاتها التي لها بحسب أبدانها المختلفة لا محالة،فإنّا نعلم يقينا أنّ موجد المعنى الكلّي شخصا مشار إليه لا يمكنه أن يوجده شخصا أو يزيد له،أي إلاّ أن يزيد له معنى على نوعيّته به يصير شخصا من المعاني التي تلحقه عند حدوثه و تلزمه، سواء علمنا حقيقة تلك المعاني المشخّصة أو لم نعلمها،و سواء حكمنا بأنّها هي المشخّصة في الحقيقة أم هي أمارة المشخّص و علامته.و نحن نعلم أيضا أنّ النفس ليست واحدة في الأبدان كلّها،أي ليست متشخّصة بتشخّص واحد بالعدد في الأبدان كلّها،إذ لو كانت واحدة بالعدد و بالذات في الأبدان كلّها و كثيرة بالاعتبار و بالإضافة إلى الأبدان،لكانت عالمة في الأبدان كلّها أو جاهلة فيها كلّها،و امتنع أن تكون في بعضها عالمة و في بعضها جاهلة؛و لما خفي على زيد ما في نفس عمرو،لأنّ الواحد المضاف إلى كثيرين،و إن جاز أن يختلف بحسب الإضافة إليها فيما هو حاصل له بحسب الإضافة،لكنّ الأمور الموجودة لذلك الواحد في ذاته لا يجوز أن يختلف هو فيها.و هذا كما أنّ زيدا مثلا إذا كان أبا لأولاد كثيرين و هو شابّ،لم يكن حصول الشّباب له إلاّ بحسب الكلّ،إذ الشّباب له في نفسه موجود له في ذاته فيدخل في كلّ إضافة،و لا يجوز أن يختلف هو فيها-أي في تلك الإضافات-و كذلك العلم و الجهل و الظّن و ما أشبه ذلك،إنّما هي أمور موجودة لذات النّفس في نفسها،فيجب أن تدخل في كلّ إضافة و لا تختلف هي فيها،و يلزم ما ذكرنا من أنّها لو كانت واحدة بالذّات كثيرة بحسب الإضافة إلى الأبدان،لزم أن تكون عالمة فيها كلّها أو جاهلة فيها،و لما خفي على نفس زيد ما في نفس عمرو،فإذن ثبت أنّ النفس ليست واحدة بالعدد،بل هي كثيرة بالعدد.و قد ثبت أيضا أنّ نوعها واحد و هي حادثة.

و حينئذ نقول:لا شكّ أنّها بأمر ما تشخّصت تشخّصا متكثّرا،لأنّ المعنى النوعي يحتاج في تشخّصه إلى مشخّص،و لا شكّ أيضا أنّ ذلك الأمر في النفس الإنسانيّة ليس هو الانطباع في المادّة،فقد علم بطلان القول بذلك،حيث ثبت تجرّدها عن المادّة.و لا شكّ

ص:17

أيضا أنّ ذلك الأمر ليس أمرا لازما لذات النفس التي هي معنى نوعيّ،إذ لو كان كذلك لاشتركت النّفوس فيه،و لكان كلّها شخصا واحدا،و لم تكن متكثّرة.فبقي أن يكون ذلك الأمر هيئة من الهيئات و قوّة من القوى و عرضا من الأعراض الروحانيّة غير الجسمانيّة أو جملة منها يكون تشخّصها باجتماعها و إن جهلناها،و بعد أن تشخّصت النفس مفردة، فلا يجوز أن تكون هي و النفس الأخرى بالعدد ذاتا واحدة،فقد أكثرنا القول في امتناع هذا في عدّة،لأنّه حينئذ،إمّا أن يبقى تشخّص كلّ من النّفسين بحاله فيلزم أن يكون الاثنان مع اثنينيّتهما واحدا بالعدد،و هذا محال بالضرورة،و إمّا أن لا يبقى تشخّص لهما،فحينئذ إمّا أن يبطل النفسان و تحدث أخرى واحدة بالعدد،ففيه بطلان النّفس مع كونها مجرّدة،و هو محال كما مرّ.و أيضا ففيه حدوث نفس من كتم العدم لا صيرورة النفسين واحدة بالعدد؛ هذا خلف.و إمّا أن يمتزج النّفسان و تتركّبا و تصيرا واحدة بالعدد،فهذا فرع وجود المادّة على ما عرفت،و هو منتف هنا.

و بالجملة فبعد ما تشخّصت النفس مفردة يستحيل كونها و النّفس الأخرى المتشخّصة واحدة بالعدد،بل يجب أن تكونا اثنتين.و أن يكون كلّ واحدة منهما متشخّصة بتشخّص منفرد،باقيتين على ذينك التشخّصين الاثنين.لكنّا نتيقّن أنّه يجوز [أن تكون]النفس إذا حدثت مع حدوث مزاج ما كما عرفت الدّليل عليه،أن يحدث هيئة بعد حدوث المزاج،و يكون حدوث تلك الهيئة في الأفعال النطقية و الانفعالات النّطقية، التي تكون للنفس بذاتها،و تكون تلك الهيئة على جملة من تلك الأفعال و الانفعالات متميّزة عن الهيئة الأخرى المناظرة لها الحاصلة في نفس أخرى،مثل تميّز المزاجين في البدنين اللذين يتعلّق بهما النّفسان،و أن يكون الهيئة المكتسبة التي تسمّى عقلا بالفعل أيضا.و بالجملة الهيئة الحاصلة للنّفس من جهة تأثرها عمّا فوقها من المبادي كالعقل بالفعل أيضا على حدّ ما يتميّز به نفس عن نفس أخرى،فإنّها حين كونها في مرتبة العقل بالفعل يقع لها شعور بذاتها الجزئيّة الشخصيّة و ذلك الشعور هيئة ما فيها أيضا خاصّة ليس لغيرها و به تتميّز عن أخرى و نتيقّن أيضا أنّه يجوز أن يحدث فيها من جهة القوى البدنيّة، أي من جهة تأثيرها فيما دونها من البدن و قواه،هيئة خاصّة أيضا و تلك الهيئة تتعلّق

ص:18

بالهيئة الخلقيّة،أو تكون هي هي،أي نفس الهيئة الخلقيّة،و كذلك يجوز أن يكون أيضا هناك خصوصيّات أخرى سوى تلك الهيئات،تخفى تلك الخصوصيات علينا و تلزم النفوس مع حدوثها،و يكون تميّزها بها كما تلزم أمثال تلك الخصوصيات أشخاص الأنواع الجسمانيّة لتتمايز بها ما بقيت.

و حينئذ فيجوز أن يكون الأنفس التي هي أشخاص لنوع مجرّد كذلك تتميّز هي بمخصّصاتها و مميّزاتها التي فيها،سواء كانت الأبدان أم لم تكن،و سواء عرفنا حقيقة تلك الأحوال التي هي المخصّصات أو لم نعرف،أو عرفنا بعضها.

و الحاصل أنّه يجوز حين حدوث النّفس مع مزاج ما،أن يحدث لها هيئة من جهة تأثّرها عمّا فوقها من المبادي العالية أو من جهة تأثيرها فيما دونها من البدن و قواه أو خصوصيّات أخرى تخفى علينا،تكون تلك الهيئات و الخصوصيّات مخصّصات و مميّزات لها تلزمها حين الحدوث و بعده،فتبقى بها النّفس موجودة متكثّرة بعد خراب البدن أيضا كما هي في حال حدوثه،و لو لم يكن لها من المميّزات إلاّ شعور كلّ منها بهويّتها الجزئيّة لكفى مميّزا،فضلا عن الصّفات و الملكات و الهيئات و الأنوار الفائضة عليها من المبادي العالية.و حينئذ فلا تلزم أن تفسد النّفوس بعد خراب الأبدان و لا أن تتّحد،مع أنّ الاتحاد ممتنع كما عرفت،و كذا الفساد،حيث عرفت أنّ الفساد ممتنع على المجرّد،و قد عرفت أيضا أنّ الدليل يدلّ على تجرّد النفس مطلقا،فكلّ هذه النفوس بعد وجودها و حدوثها بحدوث أبدانها تبقى بعد خراب أبدانها أيضا ببقاء مبدئها و معيدها.

و اللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.

الإشارة إلى أنّ مذهب الشيخ في الشفاء بقاء النفوس مطلقا

حتّى نفوس غير المستكملة بعد خراب البدن

و هذا الذي ذكرناه هو تحرير كلامه و توضيح مرامه،و منه يظهر أنّ مذهبه في «الشفاء»بقاء النفوس مطلقا بعد خراب البدن،حتّى نفوس غير المستكملين من البله

ص:19

و الصّبيان و المجانين و أمثالهم،و القرينة عليه أنّه جعل شعورها بذاتها أيضا مميّزا،و الحال أنّه عامّ يعمّ المستكملين و غيرهم.و أيضا جعل من المميّزات لها الهيئات التي تحصل لها من جهة قواها النظريّة،و هي أيضا عامّة تعمّ الهيئة الحاصلة من جهة العقل الهيولانيّ الذي يعمّهم أيضا،و كذا الهيئات التي تحصل لها من جهة قواها العمليّة،و هي أيضا عامّة كما لا يخفى مع أنّ الأدلّة التي أقامها على تجرّد النفس-كما نقلنا بعضها و ذكرنا توجيهها- تجري في نفوس غير المستكملين أيضا و تعمّ المستكملين و غيرهم.و هذا الذي يظهر من كلامه هنا هو الحقّ الحقيق بالقبول،و يدلّ عليه العقل كما عرفت،بل النقل أيضا،كما نقلنا فيما سلف أخبارا عن الصادقين عليه السّلام دالّة على ذلك فتذكّر.

ثمّ إنّ هاهنا كلاما آخر،و هو أنّه قد نقل عن بعض أعاظم المتأخّرين أنّه قال في بيان كيفيّة زيارة القبور و إجابة الدعوات:«إنّ للنّفس الإنسانيّة نوعين من التعلّق بالبدن:

أحدهما من حيث المادّة،و الثاني من حيث الصورة،و إنّ الموت و إن كان سببا لزوال تعلّق الثاني،لكنّه لا يكون سببا لزوال الأوّل،و من هنا يظهر سرّ زيارة القبور و إجابة الدعوات» (1)انتهى.

و قد ذكر صدر الأفاضل رحمه اللّه في الشواهد الربوبيّة كلاما بهذه العبارة:«الإشراق الثامن في الأمر الباقي من أجزاء الإنسان مع نفسه و الإشارة إلى عذاب القبر.اعلم أنّ الروح إذا فارق البدن العنصريّ،يبقى معه أمر ضعيف الوجود من هذا البدن قد عبّر عنه في الحديث بعجب الذّنب.و قد اختلفوا في معناه،قيل:هو العقل الهيولانيّ.و قيل:بل الهيولى الأولى.

و قيل:الأجزاء الأصليّة.و قال أبو حامد الغزاليّ:إنّما هو النفس و عليها تنشأ النشأة الآخرة.و قال أبو يزيد الوقواقيّ:هو جوهر فرد يبقى من هذه النشأة لا يتغيّر ينشأ عليه النشأة الثانية.و عند الشيخ الغزاليّ هي أعيان الجواهر الثابتة.و لكلّ وجه،لكنّ البرهان منّا دلّ على بقاء القوّة الخياليّة التي هي آخر هذه النشأة الأولى و أوّل النشأة الثانية.

فالنفس إذا فارقت البدن و حملت المتخيّلة المدركة للصور الجسمانيّة فلها أن تدرك

ص:20


1- -و القائل هو السيّد الداماد رحمه اللّه.

الأمور الجسمانيّة و تتخيّل ذاتها بصورتها الجسمانيّة التي كانت تحسّ بها في وقت الحياة كما في المنام كانت تتصوّر بدنها الشخص و تحسّ به مع تعطّل هذه الحواس و ركودها، فإنّ للنفس في ذاتها سمعا و بصرا و ذوقا و شمّا و لمسا تدرك بها المحسوسات غائبة عن هذا العالم إدراكا جزئيّا و تتصرّف فيها،و هي أصل هذه الحواسّ الدنياويّة و مباديها،إلاّ أنّ هذه في مواضع مختلفة لأنّها هيولانيّة يحملها هذا البدن و هي في موضع واحد لأنّ النفس حاملها و حامل ما يتصوّرها فإذا مات الإنسان و فارقته نفسه مع جميع ما يلزمها من قواها الخاصّة بها و معها القوّة المصوّرة،يتصوّر ذاته مفارقة عن الدنيا،و يتوهّم نفسه عين الإنسان المصوّر الذي مات على صورته،و يجد بدنه مصوّرا،و يدرك الآلام الواصلة إليه على سبيل العقوبات الحسّيّة على ما وردت به الشّرائع،فهذا عذاب القبر.و إن كانت سعيدة تتصوّر ذاتها على صور ملائمة و تصادف الأمور الموعودة،فهذا ثواب القبر.كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«القبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النيران» (1)انتهى موضع الحاجة من كلامه.

و أقول:إنّ الذي ذكره بعض الأعاظم (2)هو الحقّ الحقيق بالتحقيق،و عليه يمكن تنزيل الحديث الذي نقله صدر الأفاضل،و يوافقه ما نقله هو في معنى الحديث،من أنّ ذلك الأمر الضعيف الهيولى الاولى و الأجزاء الأصليّة.و عليه فيحصل وجه آخر لدفع الشبهة التي ذكرها الشيخ و أجاب عنها،لأنّه إذا كان حدوث النفس الإنسانيّة بحدوث البدن كما هو المفروض،و كان بعد خراب البدن يبقى تعلّقها به من حيث المادّة،فلا مانع من أن تبقى النفوس بعد خراب أبدانها متكثّرة بتكثّرها،متمايزة بتمايزها،كما هو في حال الحياة التي كان فيها تعلّقها بالبدن من حيث المادّة و الصورة جميعا.

و أمّا الوجوه الاخر التي نقلها صدر الأفاضل عن القوم في معنى الحديث،فلا يكاد

ص:21


1- -الشواهد الربوبيّة، [1]مع تعليقات الأستاذ الحكيم الآشتيانيّ275/-276 [2] الإشراق السابع في الأمور الباقية من أجزاء الإنسان،و ليست فيها جملة«و الإشارة إلى عذاب القبر»،و فيها:«عند الشيخ المغربي»عوضا عن:«عند الشيخ الغزالي»،و بعد المنام كانت يتصوّر بدنها الشخصىّ يتوهّم نفسه عين الإنسان المقبور،يجد بدنه مقبورا...
2- -المراد ببعض الأعاظم هو السيّد الداماد.

يظهر لها وجه كما لا يخفى على المتأمّل،مثل الوجه الذي ذكره هو نفسه في معناه،فإنّه و إن أقام في بعض كلماته برهانا بزعمه على بقاء القوّة الخياليّة بعد خراب البدن،لكنّه لم يأت بشيء مبيّن كما يظهر على من راجع كلماته.

و ما ذكره هنا من أنّ للنفس في ذاتها سمعا و بصرا إلى آخر ما ذكره،إن كان المراد به أنّ لها بعد خراب البدن سمعا و بصرا و نحو ذلك من القوى في ضمن البدن المثاليّ،كما دلّ عليه النقل و ذهب إليه كثير من الحكماء و المتكلّمين،فله وجه؛إلاّ أنّ كلامه يأبى عن الحمل عليه.و إن كان مراده به غير هذا كما هو ظاهر كلامه،فهو شيء تفرّد به و ليس يظهر وجهه،بل لا يمكن فهمه ككثير من تحقيقاته في المسائل الحكميّة،و عسى أن يكون غيرنا يفهمه.و اللّه الموفّق.

و قد بقي في المقام شبهة أخرى،و هي أنّ ما يستفاد من كلام الشيخ،أنّه بعد خراب البدن يكفي شعور النفس بذاتها الجزئيّة مميّزة لها،ربّما يتراءى كونه جاريا في نفوس غير الإنسان من الحيوانات،فإنّ الظاهر أنّ لها أيضا شعورا بذواتها الجزئيّة و هويّاتها الخاصّة،فينبغي أن تكون نفوسها أيضا بعد خراب أبدانها باقية متميّزة بتميّز الأبدان متكثّرة بتكثّرها،و هو خلاف ما عليه الأكثر.

و أمّا الجواب عن هذه الشبهة،فهو أنّ مبنى كلام الشيخ أنّ الشعور بالذات يكفي مميّزا إذا كانت تلك الذات مجرّدة عن المادّة كما في النفوس الإنسانيّة،حيث إنّ الأصل في سبب كونها باقية غير فانية هو تجرّدها عن المادّة كما عرفت بيانه،و أمّا الشعور بالذات و سائر الهيئات و الحالات و الخصوصيّات التي ذكرها،إنّما هو لأجل تمايزها بتمايز الأبدان بعد أن كانت ممتنعة الزوال.

و أمّا نفوس غير الإنسان حيث لم يثبت تجرّدها عن المادّة فلا يكفي كون الشعور بالذات مميّزا لها،إذ ذاك الشعور إنّما يكفي مميّزا لها إذا كان هناك تجرّد عن المادّة به يمتنع الزوال عليها،و إذ ليس فليس.و كأنّ من قال بحشر الحيوانات الذي مبناه على بقاء نفوسها بعد خراب أبدانها،ادّعى تجرّدها أيضا عن المادّة،لزعمه أنّ بعض الدلائل التي أقيمت على تجرّد النفس الإنسانيّة،مثل قولهم:إنّها مغايرة للبدن و أعضائه و أجزائه فإنّ

ص:22

البدن و أعضاءه دائم الذوبان و السيلان و ذات الإنسان منذ أول الصّبا إلى آخر العمر باقية فهي غيرها،بل هي مجرّدة عن المادّة،و أمثال ذلك من الدلائل التي أقاموها على ذلك، جارية في نفوس الحيوانات أيضا،فأثبت بزعمه بذلك تجرّدها أيضا ثمّ جعل شعورها بذاتها مميّزة لها بعد خراب البدن.و قد عرفت فيما سبق أنّ التعويل في تجرّد النفس الإنسانيّة إنّما هو على الدلائل التي تجري فيها،و لا تجري في غيرها من نفوس سائر الحيوانات،فتذكّر.و سيجيء ذكر الخلاف في حشر الحيوانات،و تحقيق الحقّ فيه، فانتظر.

و هذا الذي ذكرناه كلّه،إنّما هو الكلام في البرهان الذي أقامه الشيخ على هذا المطلب،أعني حدوث النفس الإنسانيّة بحدوث البدن،إلاّ أنّ القوم ذكروا براهين اخر أيضا عليه،لا بأس بنقل نبذ منها و تحريرها:

منها أنّه لا سترة في أنّ النّفس الإنسانيّة التي هي مجرّدة عن المادّة لو كانت موجودة قبل البدن،ثمّ حدث لها التعلّق به كان تعلّقها به لحوق عارض غريب به،و قد تقرّر عندهم أنّ كلّ مجرّد عن المادّة لا يلحقه عارض غريب،لما حقّق أنّ لحوق عارض غريب لشيء لا يكون إلاّ من جهة قوّته و استعداده له،و أنّ جهة القوّة و الاستعداد راجعة إلى أمر هو في ذاته قوّة صرفة تتحصّل بالصور المقوّمة له،و ما هو إلاّ الهيولى الجرمانيّة،فيلزم من فرض تجرّد النفس الإنسانيّة عن المادّة اقترانها بها،هذا خلف.فإذن تكون حادثة بحدوث البدن،و هو المطلوب.

لا يقال:لعلّ النّفس الإنسانيّة كانت موجودة قبل هذا البدن الإنسانيّ،و كانت في ضمن أبدان جسمانيّة عنصريّة أو مطلقا حادثة بحدوثها،و كلّما فارقت بدنا من تلك الأبدان الجسمانيّة حدث بدن آخر فتعلّقت به،إلى أن انتهت النوبة إلى هذا البدن العنصريّ الإنسانيّ.

لأنّا نقول:هذا باطل،لأنّه تناسخ،و سيأتي بطلانه.

لا يقال:لعلّها كانت موجودة قبل البدن الإنسانيّ العنصريّ في ضمن بدن مثاليّ نورانيّ،ثمّ حصلت في ضمن البدن العنصريّ،إمّا مع ذلك البدن المثاليّ النورانيّ،حيث إنّ

ص:23

اجتماع هذين البدنين اللذين أحدهما مثاليّ نورانيّ و الآخر جسمانيّ لا امتناع فيه.و إمّا مفارقة عن البدن المثاليّ.و على هذين الوجهين،يمكن حمل قول بعض من قال بحدوث النفس قبل البدن،و كذا حمل ما روي عن الصادقين عليه السّلام:من أنّ الأرواح خلقت قبل الأبدان بألفي عام (1)،و لا تناسخ فيه،فإنّ الدليل الذي يبطل التناسخ كما سيأتي ذكره،إنّما يجري في تحوّل النفوس في الأبدان الجسمانيّة العنصريّة أو غير العنصريّة و تنقّلها منها، لا في تنقّلها في الأبدان المثاليّة أيضا.مع أنّ القول بحصولها بعد خراب أبدانها في الأبدان المثاليّة ممّا دلّ عليه النقل و ذهب إليه كثير من الفلاسفة و الملّيّين.

لأنّا نقول:هذا الاحتمال باطل أيضا،فإنّه قد تقرّر عندهم أنّ النفس الإنسانيّة مجرّدة في ذاتها عن المادّة و مفتقرة في أفعالها إليها،و أنّ البدن خلق لها و تعلّقت هي به لأجل استكمالها به،و لا سترة في أنّها لو كانت موجودة قبل البدن العنصريّ متعلّقة ببدن مثاليّ،لم يكن لها استكمال في ضمن البدن المثاليّ،إذ لو كان استكمال لها به و في ضمنه ثمّ تعلّقت بالبدن العنصريّ؛لزم حينئذ بعض مفاسد القول بالتناسخ أيضا،و هو أنّه يلزم أن يكون قد حصلت لها فعليّة ما في ضمن البدن المثاليّ،ثمّ رجعت إلى القوّة و الاستعداد؛ حيث إنّ النفس في أوّل حصولها في ضمن البدن العنصريّ إنّما هي بالقوّة المحضة و درجتها درجة النبات،ثمّ تترقّى شيئا فشيئا بحسب استكمالات المادّة حتّى تتجاوز درجة النبات و الحيوان،و صيرورة الشيء بالقوّة المحضة بعد ما كان بالفعل ضروريّ البطلان.

و أيضا لو كان للنفس استكمال في ضمن البدن المثاليّ قبل التعلّق بالبدن العنصريّ، لكان لها استكمال في ضمنه بعد خراب العنصريّ أيضا،و لم يقل به أحد.و إذا لم يكن له استكمال في ضمن البدن المثاليّ كان وجودها في ضمنه قبل حدوث البدن العنصريّ وجودا معطّلا،و قد تقرّر عندهم أنّه لا تعطّل في الوجود.

و بعبارة أخرى،أنّها لو كانت موجودة قبل البدن العنصريّ في ضمن البدن المثاليّ،

ص:24


1- -بحار الأنوار 357/47؛41/40؛90/41. [1]

فإمّا أن تكون مستكملة به،لزم حينئذ بعض مفاسد القول بالتناسخ و هو صيرورة ما بالفعل ما بالقوّة.و إمّا أن لا تكون مستكملة به لزم تعطّلها في الوجود،و القول بأنّها و إن لم يكن لها استكمال في ضمن البدن المثاليّ،إلاّ أنّه يمكن أن يكون لها في ضمنه ابتهاج بالكمالات و تألّم بالجهالات،كما في ما بعد خراب البدن العنصريّ،باطل،فإنّ ذلك الابتهاج و التألّم إنّما يمكن إذا كان حصل لها كمال في ضمنه،و إذ ليس فليس،و هذا بخلاف صورة ما بعد خراب البدن؛فتدبّر.

تأويل حديث خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام

فبالجملة،القول بذلك مع كونه مخالفا للعقل ليس عليه دليل مطلقا لا عقليّ و لا نقليّ ظاهر فيه،فإنّ حديث«خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام»يمكن حمله على أنّه خلقت الأرواح التي هي جواهر نورانيّة و هي مدبّرات للأبدان الإنسانيّة بل للإنسان بنفسه و بدنه،و يدلّ على وجودها الشرع و قال بها الحكماء أيضا،و تسمّى تلك الأرواح في لسان الشرع ب«الملائكة الموكّلين بالإنسان»،و في لسان الحكماء المتألّهين ب«ربّ النوع»،قبل الأجساد و قبل الأبدان العنصريّة الإنسانيّة بألفي عام،سواء حمل ألفا عام على الزّمان الكثير المتمادي،أو على هذا العدد المعيّن؛و سواء حمل هذا العدد بالنسبة إلى كلّ روح مع كلّ بدن أو بالنسبة إلى مجموع تلك الأرواح مع مجموع الأبدان.و حينئذ فلا دليل قطعيّا أو ظاهرا في الحديث على مطلوب هذا القائل،و هو خلق النفوس الإنسانيّة المتعلّقة بأبدانهم العنصريّة قبل أبدانهم بألفي عام،حتّى يمكن أن يقال:إنّها قبل الأبدان العنصريّة كانت في ضمن أبدان مثاليّة.

و أمّا القول بحصولها بعد خراب أبدانها العنصريّة في ضمن الأبدان المثاليّة فإنّما دعى إليه ما ورد من النقل الصحيح الصريح،فإنّه لو لم يكن هناك ذلك النقل لم نكن قائلين به، و كأنّ سرّ ما ورد من النصّ في ذلك-و اللّه أعلم-أنّ النفس الإنسانيّة لمّا كانت في أفعالها مفتقرة إلى البدن،حاصلة في ضمنه،متعلّقة به،و مستكملة به،و كانت أكثرها بل جلّها قد

ص:25

استكملت في الجملة في ضمن البدن العنصريّ ثمّ فارقته.و كانت باقية بعد خراب البدن، اقتضت العناية المتعالية الإلهيّة حصولها بعد خراب البدن في ضمن بدن مثاليّ مشارك لبدنها العنصريّ من بعض الجهات كالشكل و الهيئة،و إن لم يكن مشابها له في الكلّ،حتّى تكون في ضمن بدن أيضا بدنا هو و إن كان ممّا لم يحصل استكمالها في ضمنه إلاّ أنّها في ضمنه تفعل أفعالا في الجملة كالأفعال الحيوانيّة،لا كلّ أفعالها حتّى الأفعال النباتيّة و تدرك إدراكات مخصوصة،مثل ما يختصّ بقواها المدركة الحيوانيّة،مثل السمع و البصر و الذوق و الشمّ و اللمس و التخيّل و التوهّم و نحو ذلك،مضافا إلى ما تدركه بذاتها من المعقولات التي لا تحتاج في إدراكها إلى البدن،و حتّى تدرك في ضمن ذلك البدن المثاليّ جزاء ما كسبت من السعادة أو الشقاوة جزاء في الجملة.

و بالجملة،فتبتهج بالكمالات و تتألّم بالجهالات إلى أن يشاء اللّه تعالى انقضاء المدّة التي هي في عالم البرزخ،و تقوم القيامة الكبرى و تتعلّق تلك النفس بعناية اللّه تعالى ببدنها الأوّل العنصريّ،فتستوفي في ضمنه جزاء ما كسبت جزاء أوفى.

في تفسير قوله تعالى: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ))

و كذلك الدلالة في قوله تعالى: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبادِي* وَ ادْخُلِي جَنَّتِي)) (1)على ذلك كما ادّعاه بعضهم،حيث قال:إنّه يدلّ على حدوث النفس و الروح قبل الجسد،فإنّ رجوعها إلى ربّها معناه الرجوع إلى حالتها التي كانت لها قبل وجود الجسد من انقطاع تعلّقها بما سوى ربّها تعالى شأنه؛لأنّ مبنى هذا الاستدلال على أنّه يقال لها هذا القول عند الموت،و أنّ معنى الرجوع إلى ربّها ما ذكره ذلك البعض،و لا دليل ظاهرا على شيء منهما.

بل أنّ جمعا من المفسّرين،كصاحب الكشّاف و الشيخ الطبرسيّ ذكروا في تفسير الآية أنّه:«إنّما يقال ذلك لها عند الموت أو عند البعث أو عند دخول الجنّة،على معنى:

ص:26


1- -الفجر(89):27-30. [1]

ارجعي إلى موعد ربّك راضية بما أوتيت مرضيّة عند اللّه،فادخلي في جملة عبادي الصالحين و ادخلي جنّتي معهم.و قيل:النفس الرّوح،و المعنى:فادخلي في أجساد عبادي.و قرأ ابن عبّاس:فادخلي في عبدي.و قرأ ابن مسعود:في جسد عبدي.و قيل أيضا:إنّ المعنى ارجعي إلى صاحبك فادخلي في جسد عبدي» (1)انتهى.

و من تلك البراهين على هذا المطلب أنّ النفس الإنسانيّة لو كانت موجودة قبل البدن،لكانت إمّا مجرّدة في ذاتها و في فعلها عن المادّة،فكانت عقلا محضا على رأيهم، لا احتياج لها إلى المادّة اصلا حتّى في فعلها،فيمتنع عليها طروء حالة تلجؤها إلى مفارقة عالم القدس و التعلّق بهذا البدن العنصريّ و الابتلاء بهذه الآفات البدنيّة؛أو كانت مجرّدة عن المادّة في ذاتها محتاجة إليها في فعلها،فكانت نفسانيّة الجوهر؛فيلزم أن تكون معطّلة قبل البدن إذ لا مادّة قبل ذلك،و التعطّل محال.و قد عرفت أنّه يستحيل التناسخ و التنقّل في ضمن أبدان عنصريّة و سيأتي أيضا زيادة بيان لذلك.و كذلك قد عرفت أنّه يستحيل حصولها قبل البدن العنصريّ في ضمن بدن مثاليّ.و اللّه أعلم بالصواب،و إليه المرجع و المآب.

ص:27


1- -تفسير الكشّاف،254/4،ط طهران.و [1]راجع مجمع البيان،489/9.

المطلب الثاني

اشارة

في امتناع ما قيل من تناسخ النفوس و نحو ذلك من الأقوال

اعلم أنّ صدر الأفاضل بعد أن نقل عن الحكماء أنّهم اتّفقوا على أنّ النفوس التي صارت عقولها الهيولانيّة عقلا بالفعل،فلا شبهة في بقائها بعد البدن،و أنّهم اختلفوا في النفوس التي لم تخرج من القوّة إلى الفعل،فذهب بعضهم إلى أنّها تهلك بهلاك البدن، و بعضهم إلى أنّها تبقى بعد فنائه.قال:

«إنّ بناء هذا الاختلاف على انحصار نشئات الإنسان في النشآت الحسّيّة و النشأة العقليّة.و جمهور الحكماء لمّا لم يتفطّنوا بنشأة أخرويّة غير النشأة العقليّة،اضطرّوا إلى هذه الأقوال:

فتارة قالوا بعدم بعض النفوس و اضمحلالها، و تارة بتناسخ الأرواح السافلة و المتوسّطة،أمّا السافلة فإلى الأكوان العنصريّة من إنسان آخر أو حيوان آخر أو نبات أو جماد،و ذلك هو المسخ و النسخ و الفسخ و الرسخ.

و أمّا المتوسّطة فإلى عالم الأفلاك.

و تارة بصيرورة بعض الأجرام العالية موضوعا لتخيّلات نفوس الصلحاء و الزهّاد، من غير أن تصير متصرّفة فيه،و بعض الأجرام الدخانيّة للنفوس الشقيّة» (1)انتهى موضع الحاجة من كلامه.

ثمّ قال بعد ذلك:الإشراق التاسع في أنّ النفوس لا تتناسخ.

ص:28


1- -الشواهد الربوبيّة225/،و [1]فيه:إنّ بناء هذا الكلام و نظائره على انحصار نشئات.

التناسخ عندنا يتصوّر على ثلاثة أنحاء:

أحدها-انتقال نفس من بدن إلى بدن مباين له،منفصل عنه في هذه النشأة،بأن يموت حيوان و ينتقل نفسه إلى حيوان آخر أو غير الحيوان،سواء كان من الأخسّ إلى الأشرف أو بالعكس،و هذا مستحيل بالبرهان لما سنذكره.

و ثانيها-انتقال النفس من هذا البدن إلى بدن آخر،و هو مناسب لصفاتها و أخلاقها المكتسبة في الدنيا،فتظهر في الآخرة بصورة ما غلبت عليها صفاتها،كما سينكشف لك عند إثبات المعاد الجسمانيّ،و هذا أمر محقّق عند أئمّة الكشف و الشهود،ثابت منقول من أهل الشرائع و الملل،و لهذا قيل:«ما من مذهب و إلاّ و للتناسخ فيه قدم راسخ»و عليه يحمل ما ورد في القرآن من آيات كثيرة في هذا الباب.و ظنّي أنّ ما نقل عن أساطين الحكمة كأفلاطون و من سبقه من الحكماء الذين كانوا مقتبسين أنوار الحكمة من مشكاة نبوّة الأنبياء سلام اللّه عليهم أجمعين،من إصرارهم على مذهب التناسخ هو بهذا المعنى، لما شاهدوا ببصائرهم بواطن النفوس و الصور التي يحشرون عليها على حسب نيّاتهم وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً)) (1)و شاهدوا أيضا كيف تحصل في الدنيا للنفوس ملكات نفسانيّة لتكرّر أعمال جسمانيّة تناسبها،حتّى تصدر عنها الأعمال من جهة تلك الملكات بسهولة،صرّحوا القول بالتناسخ،و معناه حشر النفوس على صور صفاتهم الغالبة و أعمالهم،كقوله تعالى: وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ)) (2)أي على صور الحيوانات المنتكسة الرءوس،و قوله: وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ)) (3)و قوله: تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)) (4)و قوله: وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا)) (5)و قوله: اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)) (6)و في الحديث عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

ص:29


1- -الكهف(18):49. [1]
2- -الإسراء(17):97. [2]
3- -التكوير(81):5. [3]
4- -النور(24):24. [4]
5- -فصّلت(41):21. [5]
6- -يس(41):65. [6]

«يحشر النّاس على نيّاتهم» (1).«يحشر بعض الناس على صورة تحسن عندها القردة و الخنازير» (2).«كما يعيشون يموتون و كما ينامون يبعثون» (3).فهذا هو مسخ البواطن من غير أن يظهر صورته في الظاهر فترى الصور أناسيّ،و في الباطن غير تلك الصور من ملك أو شيطان أو كلب أو خنزير أو أسد أو غير ذلك من حيوان مناسب لما يكون الباطن عليه.

و ثالثها-ما يمسخ الباطن و ينقلب الظاهر من صورته التي كانت إلى صورة ما ينقلب إليه الباطن لغلبة القوّة النفسانيّة،حتّى صارت تغيّر المزاج و الهيئة على شكل ما هو من صفته من حيوان آخر،و هذا أيضا جائز بل واقع في قوم غلبت شقوة نفوسهم،و ضعفت قوّة عقولهم.و مسخ البواطن قد كثر في هذا الزمان كما ظهر المسخ في الصورة الظاهرة حسب ما قرأنا في بني إسرائيل،كما قال سبحانه: وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ)) (4)و قوله:

كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ)) (5).

و أما مسخ صورة الباطن دون الظاهر،فكقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في صفة قوم من أمّته:

«إخوان العلانية أعداء السريرة،ألسنتهم أحلى من العسل و قلوبهم امرّ من الصبر،يلبسون للناس جلود الضأن من اللين و قلوبهم قلوب الذئاب» (6)،فهذا مسخ البواطن أن يكون قلبه قلب ذئب و صورته صورة إنسان و اللّه العاصم من هذه القواصم» (7)انتهى موضع الحاجة من كلامه.

و قال الشيخ في«الإشارات»بعد بيان أحوال النفوس الكاملة،و المستعدّة للكمال

ص:30


1- -بحار الأنوار 290/70. [1]
2- -بحار الأنوار 89/7. [2]
3- -المجلى506/ الطبعة الحجريّة؛و انظر بحار الأنوار 197/18. [3]
4- -المائدة(5):60. [4]
5- -البقرة(2):65؛ [5]الأعراف(7):166. [6]
6- -بحار الأنوار 173/74. [7]
7- -الشواهد الربوبيّة،ص 231 و [8]فيه:انّ التناسخ عندنا...و ثانيها...إلى بدن أخرويّ مناسب...عليها صفاتها...عند إثباتنا...و ظنّي أن ما قال...أنوار الحكمة من الأنبياء سلام اللّه...على صور صفاتهم الغالبة كقوله...فترى الصور أناس و في الباطن غير تلك...لما يكون الباطن عليه...حسبما قرأنا في بني إسرائيل...

و الجاهلة في المعاد بهذه العبارة:

تنبيه.و أمّا البله،فإنّهم إذا تنزّهوا خلصوا من البدن إلى سعادة تليق بهم،و لعلّهم لا يستغنون فيها عن معاونة جسم يكون موضوعا لتخيّلات لهم،و لا يمتنع أن يكون ذلك جسما سماويّا أو ما يشبهه،و لعلّ ذلك يفضي بهم آخر الأمر إلى الاستعداد للاتصال المعدّ الذي للعارفين.امّا التناسخ في أجسام من جنس ما كانت فيه فمستحيل،و إلاّ لاقتضى كلّ مزاج نفسا تفيض إليه و قارنتها النفس المستنسخة فكان لحيوان واحد نفسان.ثمّ ليس يجب أن يتّصل كلّ فناء بكون،و لا أن يكون عدد الكائنات من الأجسام عدد ما يفارقها من النفوس،و لا أن يكون عدّة نفوس مفارقة تستحقّ بدنا واحدا فتتّصل به أو تتدافع عنه متمانعة.ثمّ ابسط هذا و استغن بما تجده في مواضع اخر لنا» (1)انتهى كلامه.

و قال المحقّق الطوسيّ رحمه اللّه في شرح قوله:«و أمّا البله..إلى قوله للعارفين»هكذا:

«لمّا فرغ عن بيان أحوال النفوس الكاملة و المستعدّة للكمال و الجاهلة في المعاد.

أراد أن يبيّن حال النفوس الخالية عن الكمال و عمّا يضادّه،و هي نفوس البله في هذا الفصل.و اعلم أنّ من القدماء من زعم أنّها تفنى،لأنّ النفس إنّما تبقى بالصور المرتسمة فيها،فالخالية عنها معطّلة،و لا معطّل في الوجود،و لكنّ الدلائل الدالّة على بقاء النفوس الناطقة تقتضى نقض هذا المذهب.ثمّ القائلون ببقائها قالوا:إنّها تبقى غير متأذّية لخلوّها عن أسباب التأذّي و الخلاص فوق الشقاء،فإذن هي في سعة من رحمة اللّه تعالى.

و يوافق هذا المذهب ما ورد في الخبر،و هو قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«أكثر أهل الجنّة البله»ثمّ إنّها لا يجوز أن تكون معطّلة عن الإدراك،و كانت ممّا لا يدرك إلاّ بآلات جسمانيّة،فذهب بعضهم إلى أنّها تتعلّق بأجسام اخر،و لا يخلو إمّا أن لا تصير مبادي صورة لها و هذا ما ذكره الشيخ و مال إليه،أو تصير فتكون نفوسا لها،و هذا هو القول بالتناسخ الذي سيبطله الشيخ.

أمّا مذهب الأوّل فقد أشار إليه الشيخ في كتاب«المبدأ و المعاد»و ذكر أنّ بعض أهل

ص:31


1- -شرح الإشارات،356/3-355 ط طهران. [1]

العلم ممّا لا يجازف فيما يقول-و أظنّه يريد الفارابي-قال قولا ممكنا،و هو أنّ هؤلاء إذا فارقوا البدن-و هم بدنيّون لا يعرفون غير البدنيّات و ليس لهم تعلّق بما هو أعلى من الأبدان فيشغلهم التعلّق بها عن الأشياء البدنيّة-أمكن أنّ تعلّقهم لشوقهم إلى البدن ببعض الأبدان التي من شأنها أن تتعلّق بها الأنفس،لأنّها طالبة بالطبع،و هذه ماهيّات،و هذه الأبدان ليست بأبدان إنسانيّة أو حيوانيّة،لأنّها لا يتعلّق بها إلاّ ما يكون نفسا لها،فيجوز أن تكون أجراما سماويّة لا أن تصير هذه الأنفس أنفسا لتلك الأجرام،أو مدبّرة لها،فإنّ هذا لا يمكن.بل قد تستعمل تلك الأجرام لإمكان التخيّل،ثمّ تتخيّل الصور التي كانت معتقدة عنده و في وهمه،فإن كان اعتقاده في نفسه و أفعاله الخير شاهدت الخيرات الأخرويّة على حسب ما تخيّلتها،و إلاّ فشاهدت العقاب كذلك.

قال:و يجوز أن يكون هذا الجرم متولدا من الهواء و الأدخنة.و لا يكون مقارنا لمزاج الجوهر المسمّى روحا الذي لا يشكّ الطبيعيّون أنّ تعلّق النفس به لا بالبدن.فهذا ما ذكره في الكتاب المذكور.و لو لا مخافة التطويل لأوردته بعبارته.و الشيخ جوّز بعد ذلك أن يفضي التعلّق المذكور إلى الاستعداد للاتصال المعدّ الذي للعارفين.ولي في أكثر هذه المواضع نظر» (1)انتهى.

و قال أيضا في شرح قوله:«أمّا التناسخ»إلخ بهذه العبارة:«و هذا هو المذهب الثاني، و قد أورد على إبطاله حجّتين:

إحداهما-أن يقال:لمّا ثبت أنّ تهيّؤ الأبدان يوجب إفاضة وجود النفس من العلل المفارقة،ثبت أنّ كلّ مزاج بدنيّ يحدث فإنّما يحدث معه نفس لذلك البدن،فإذا فرضنا أنّ نفسا تناسخها أبدان كان للبدن المستنسخ نفسان:إحداهما المستنسخة و الثانية الحادثة معه،فكان حينئذ للحيوان الواحد نفسان،و هذا محال،لأنّ النفس هي التي تدبّر البدن و تتصرّف فيه،و كلّ حيوان يشعر بشيء واحد يدبّر بدنه و تصرّف فيه،فإن كان هناك نفس أخرى لا يشعر الحيوان بها و لا هي بذاتها و لا تتصرّف في البدن؛فلا يكون لها علاقة مع

ص:32


1- -شرح الإشارات 356/3-355.

ذلك البدن،فلا تكون نفسا له،هذا خلف.

و الحجّة الثانيّة-أن يقال:النفس المستنسخة،إمّا أن تتّصل بالبدن الثاني حال فساد البدن الأوّل،أو تتّصل به قبله،أو بعده بزمان،فإن اتّصلت به في تلك الحالة،فإمّا أن يكون البدن الثاني قد حدث في تلك الحالة،أو يكون قد حدث قبله.

فإن كان قد حدث في تلك الحالة،فإمّا أن يكون عدد النفوس المفارقة و عدد الأبدان الحادثة في جميع الأوقات متساوية،أو يكون عدد النفوس أكثر،أو يكون أقلّ.و على التقدير الأول يجب أن يتّصل كلّ فناء بدن بكون بدن آخر،و وجب أيضا أن تكون عدد الكائنات من الأبدان عدد الفاسدات منها،و هما محالان فضلا عن أن يكونا واجبين.

و على التقدير الثاني يكون النفوس المجتمعة على بدن واحد إمّا متشابهة في استحقاق الاتّصال به أو مختلفة.و الأوّل يقتضي إمّا اتصال الكلّ به فيكون لبدن واحد نفوس كثيرة،و قد مرّ بطلانه.و إمّا أن تتدافع و تتمانع،فيبقى الكلّ غير متّصل ببدن بعد فساد البدن الأوّل و قد فرضناها متّصلة،هذا خلف.

و الثاني يقتضي اتّصال البعض و بقاء البعض غير متّصلة و يعود الخلف.و على التقدير الثالث لا يخلو إمّا أن تتّصل نفس واحدة بأبدان أكثر من واحد،حتّى يكون حيوان واحد هو بعينه غيره و هذا محال؛أو يبقى بعض الأبدان المستعدّة للنفس بلا نفس،و هو أيضا محال،أو يتّصل بعض النفوس ببعض الأبدان دون بعض من غير أولويّة،و الثاني حدوث النفس لبعض الأبدان المستحقّة دون بعض من غير أولويّة(كذا).

و إن اتّصلت النفس المفارقة ببدن قد حدث قبل حالة المفارقة،فذلك البدن لا يخلو إمّا أن يكون ذا نفس أخرى أو لا يكون،و يلزم على الأوّل اتّصال نفسين ببدن واحد، و على الثاني وجود بدن مستعدّ للنفس معطّل عنها.

و أمّا إن اتّصلت النفس المفارقة بعد المفارقة بزمان،فجواز كونه معطّلا في زمان يقتضي جواز ذلك في جميع الأزمنة،و لا يحتاج إلى القول بالتناسخ.و أيضا لا يخلو إمّا أن يكون اتّصالها ببدن موقوفا على حدوث مزاج مستعدّ،أو لم يكن.و يلزم على الأوّل حدوث نفس أخرى مع حدوث ذلك المزاج،و يعود المحالات المذكورة،و على الثاني

ص:33

يتخصّص اتّصاله بزمان دون زمان مع تساوي الأزمنة بالنسبة إليه،و هو محال.

و هاهنا قد تمّت الحجّة الثانيّة.و الشيخ أشار إلى هذه الأقسام بقوله:«ثمّ ابسط هذا» يعني البرهان الثاني،و إلى الأصول المقتضية لفساد المحالات اللازمة المذكورة بقوله:

«و استغن بما تجده في مواضع أخر لنا» (1)انتهى كلامه رحمه اللّه.

ثمّ إنّ الشيخ في«الشفاء»«في فصل في أنّ الأنفس الإنسانيّة لا تفسد و لا تتناسخ»، بعد ما بيّن عدم طروء الفساد عليها كما نقلنا كلامه في ذلك في الأبواب السالفة.قال في بيان عدم جواز التناسخ عليها بهذه العبارة:«فقد أوضحنا أنّ النفس إنّما حدثت و تكثّرت مع تهيّؤ من الأبدان،على أنّ تهيّؤ الأبدان يوجب أن يفيض وجود النفس عليها من العلل المفارقة،و ظهر من ذلك أنّ هذا لا يكون على سبيل الاتّفاق و البخت،حتّى يكون وجود النفس الحادثة ليس لاستحقاق هذا المزاج نفسا حادثة مدبّرة،و لكن قد كان و حدث النفس و اتّفق أن وجد بدن فعلّقت،فإنّ مثل هذا لا يكون علّة ذاتيّة البتة للتكثّر،بل أن تكون عرضيّة.

و قد عرفنا أنّ العلل الذاتيّة هي التي يجب أن تكون أوّلا ثمّ ربّما تليه العرضيّة،فإن كان كذلك و كلّ بدن يستحقّ مع حدوث مزاج مادّته حدوث نفس له،و ليس بدن يستحقّه و بدن لا يستحقّه،إذ أشخاص النوع لا تختلف في الأمور التي بها تتقوّم،و ليس يجوز أن يكون بدن إنسانيّ يستحقّ نفسا يكمل به،و بدن آخر و هو في حكم مزاجه بالنوع و لا يستحقّ ذلك،بل إن اتّفق كان،و إن لم يتّفق لم يكن،فإنّ هذا حينئذ لا يكون من نوعه؛ فإذا فرضنا أنّ نفسا تناسخها أبدان فكلّ بدن فإنّه بذاته يستحقّ نفسا تحدث له و تتعلّق به، فيكون البدن الواحد فيه نفسان معا،ثمّ العلاقة التي بين النفس و البدن ليس هو على سبيل الانطباع فيه كما بيّناه مرارا،بل العلاقة التي بينهما علاقة الاشتغال من النفس بالبدن حتّى يشعر النفس بذلك البدن و ينفعل البدن عن تلك النفس،و كلّ حيوان فإنّه يستشعر نفسه نفسا واحدة حتّى المصرّفة و المدبّرة للبدن الذي له،فإن كان هناك نفس أخرى لا يشعر

ص:34


1- -شرح الإشارات 356/3-359.

الحيوان بها و لا هو بنفسه و لا تشتغل بالبدن فليست له علاقة مع البدن،لأنّ العلاقة لم تكن إلاّ بهذا النحو،فلا يكون تناسخ بوجه من الوجوه،و بهذا المقدار لمن أراد الاختصار كفاية بعد أنّ فيه كلاما طويلا (1)انتهى كلامه.

أقول:و باللّه التوفيق،يستفاد ممّا نقلنا من كلام الشيخ في«الإشارات»على ما ذكره المحقّق الطوسيّ رحمه اللّه في شرحه:«أنّ من قال بالتناسخ و نحوه إنّما قال به في النفوس الساذجة الخالية عن الكمال و عمّا يضادّه،و هذا بإطلاقه يشمل نفوس البله و الصبيان و المجانين و أمثالهم من أصحاب النفوس الساذجة،و كأنّه حمل كلام الشيخ على ذلك، لأنّ الشيخ و إن عنون الباب بالبله،إلاّ أنّه أراد بالبله أصحاب النفوس الساذجة مطلقا، بقرينة أنّه قال قبل هذا الكلام المنقول عنه:«و اعلم أنّ رذيلة النقصان إنّما يتأذّى بها النفس الشيّقة إلى الكمال،و ذلك الشوق تابع لتنبّه يفيده الاكتساب،و البله بخسته من هذا العذاب و إنّما هو للجاحدين و المهملين و المعرضين عما ألمع به إليهم من الحقّ،فالبلاهة أدنى إلى الخلاص من فطانة بتراء»حيث جعل البله مقابلا لهؤلاء،فيشمل النفوس الساذجة مطلقا.

فلذا قال المحقّق الطوسيّ في شرحه ثمة هكذا:«و أمّا أصحاب النفوس الساذجة فهم الّذين وسمهم الشيخ بالبله،و الأبله في اللغة هو الذي غلب عليه سلامة الصدر و قلّة الاهتمام،و يقال عيش أبله:أي قليل الغموم،و هؤلاء لا يتعذّبون لأنّهم غير عارفين بكمالاتهم غير مشتاقين إليها» (2)انتهى.

و بالجملة،فيستفاد من كلام المحقّق الطوسيّ في شرح كلام الشيخ أنّ القدماء من الحكماء اختلفوا في النفوس الساذجة بعد مفارقتها عن الأبدان،فبعضهم قال:بأنّها تفنى، و بعضهم بأنّها تبقى،و إنّ القائلين ببقائها اختلفوا،فبعضهم قال بأنّها تبقى متعلّقة بأجسام أخر،بأن لا تصير مبادي صورة لها و لا تكون نفسا لها،و تلك الأجسام إمّا أجرام سماويّة كما لبعض تلك النفوس،و إمّا أجرام متولّدة من الهواء و الأدخنة كما لبعض آخر منها،

ص:35


1- -الشفاء، [1]الطبيعيات356/،الفصل الرابع(أنّ النفس الإنسانيّة لا تفسد و لا تتناسخ)،و فيه:...النفس لها من...وجد معه بدن فتعلّق بها بل عسى أن يكون عرضيه...إذ أشخاص الأنواع...الانطباع فيه كما...بينهما هي علاقة...
2- -شرح الإشارات 353/3-352.

و بعضهم قال بأنّها تبقى متعلّقة بأجسام أخر بأن تكون نفسا لها و تصير مبادي صورة لها، أي أنّها تتناسخ.و الحاصل أنّ هذه المذاهب كلّها إنّما هي في النفوس الساذجة الشاملة بإطلاقها لنفوس البله و الصبيان و المجانين و نحوهم.

و أمّا ما نقلنا من كلام صدر الأفاضل،فصدره و إن كان موافقا نوع موافقة لكلام المحقّق الطوسيّ حيث ذكر أنّ خلاف القدماء من الحكماء إنّما هو في النفوس التي لم تخرج من القوّة إلى الفعل إذا حملنا النفوس التي لم تخرج من القوّة إلى الفعل على النفوس الساذجة،إلاّ أنّ عجزه كأنّه مخالف له حيث ذكر أنّ القول بالنسخ و نحوه من الفسخ و الرسخ و المسخ إنّما هو في الأرواح السافلة،و أنّ القول بالانتقال إلى عالم الأفلاك أو الأجرام الدخانيّة إنّما هو في الأرواح المتوسطة،و أنّ تلك الأرواح إن كانت من نفوس الصلحاء و الزهّاد تتعلّق بالأجرام السماويّة من غير أن تتصرّف فيها،و إن كانت من نفوس الأشقياء تتعلّق بالأجرام الدخانيّة من غير أن تتصرّف فيها أيضا فإنّ المخالفة بيّنة،لأنّه و إن أمكن حمل الأرواح السافلة على النفوس الساذجة،إلاّ أنّ حمل الأرواح المتوسطة على ذلك بعيد جدّا،و مع هذا فالفرق بين الصلحاء و الزهّاد من أصحاب النفوس المتوسطة و بين الأشقياء منهم غير بيّن من كلام المحقّق الطوسيّ،إلاّ أنّ ما ذكره صدر الأفاضل كأنّه موافق لما ذكره الفاضل الأحساويّ في«المجلى»من بعض الوجوه كما يعلم من مراجعة كلامه (1).

فإن قلت:لعلّ ما ذكره المحقّق الطوسيّ رحمه اللّه مذهب لبعض الحكماء و ما ذكره صدر الأفاضل مذهب لبعض آخر،يشهد بذلك ما ذكره صدر الأفاضل نفسه بعد بيان بطلان التناسخ في بيان أحوال النفوس الناقصة و المتوسّطة و سعادتها و شقاوتها المظنونتين على رأي الحكماء،قال:«أمّا الناقصة الساذجة عن العلوم كلّها حتّى الأوّليات،فقد مرّ اختلاف الحكماء فيها.و المنقول من إمام المشّائين على رواية اسكندر أنّها فاسدة،و على رواية ثامسطيوس أنّها باقية،فإذا ماتت و لم ترسخ فيها رذيلة نفسانيّة تعذّبها و لا فضيلة عقليّة

ص:36


1- -المجلى504/ الطبعة الحجريّة.

تلذّها.و لا أمكن تعطّلها من الفعل و الانفعال و عناية اللّه واسعة و جانب الرحمة أرجح،فلا محالة لها سعادة وهميّة من جنس ما تتصوّره،و في هذه الحالة لا عرية عن اللّذّة بالإطلاق،و لذلك قيل نفوس الأطفال بين الجنّة و النار،و أمّا النفوس العامّيّة التي تصوّرت المعقولات الأوّليّة و لم تكتسب شوقا إلى الحقائق النظريّة حتّى تتأذّى بفقدها تأذّيا نفسانيّا.سواء كانت تقيّة النفس عن معاصي الأفعال الشهويّة و الغضبيّة أو فاجرة عاصية، فالحكماء عن آخرهم لم يكتفوا بالقول عن معاد هذه النفوس و من في درجتها،إذ ليست لها درجة الارتقاء إلى عالم المفارقات،و لا يصحّ القول برجوعها إلى أبدان الحيوانات و لا بفنائها لما علم.

فطائفة اضطرّوا إلى القول بأنّ نفوس البله و الصلحاء و الزهّاد تتعلّق في الهواء بجرم مركّب من بخار و دخان يكون موضوعا لتخيّلاتهم ليحصل لهم سعادة وهميّة،و كذلك لبعض الأشقياء فيه شقاوة وهميّة،و طائفة زيّفوا هذا القول في الجرم الدخانيّ،و صوّبوه في الجرم السماويّ،و الشيخ الرئيس نقل هذا الرأي من بعض العلماء و وصفه بأنّه ممّن لا يجازف في الكلام،و الظاهر أنّه أبو نصر الفارابيّ،و استحسنه قائلا:يشبه أن يكون ما قاله حقّا.و كذا صاحب(التلويحات)صوّبه و استحسنه في غير الأشقياء،قال:«و أمّا الأشقياء فليست لهم قوّة الارتقاء إلى عالم أسماء ذوات نفوس نوريّة و أجرام شريفة (1)،قال:

و القساوة تخرجهم إلى التخيّل الجرميّ،و ليس بممتنع أن يكون تحت فلك القمر و فوق كرة النار جرم كريّ غير منخرق هو نوع بنفسه،و يكون برزخا بين العالمين الأثيريّ و العنصريّ موضوعا لتخيّلاتهم،فيتخيّلون من أعمالهم السيّئة مثلا من نيران و حيّات تلسع و عقارب تلدغ و زقّوم يشرب،قال:بهذا يدفع ما بقي من شبهة أهل التناسخ» (2)، انتهى كلامه.

قلت:و على هذا أيضا تبقى المخالفة في الجملة بين ما ذكره المحقّق الطوسيّ و ما

ص:37


1- -شرح حكمة الإشراق452/-454.
2- -الشواهد الربوبيّة و [1]فيه:...فإذا كانت باقية و لم تترسّخ فيها رذيلة...لا عريّة عن اللّذة بالإطلاق و لا نائلة لها بالإطلاق و لذلك قيل:...لم يكشفوا بالقول عن معاد...قال...و القوّة يحوجهم إلى التخيّل...

ذكره صدر الأفاضل في نقل المذاهب كما لا يخفى على المتأمّل،و كيف ما كان،فتحقيق ذلك ممّا لا يهمّنا،بل الغرض المهمّ إبطال تلك المذاهب في النفوس مطلقا؛فنتكلم فيه، فنقول:

إشارة إلى بطلان القول بفناء النفس بعد خراب البدن

أمّا القول بفناء النفوس الإنسانيّة و انعدامها بعد خراب أبدانها،فقد ظهر بطلانه فيما سبق،حيث أقمنا الحجّة على بقائها بعده،و أمّا القول بتعلّقها بعد خراب أبدانها بأجسام أخر من غير أن تكون هي أنفسا لها و مبادي صورة لها كما نقله الشيخ عن الفارابيّ و مال إليه،سواء كانت تلك الأجسام أجراما سماويّة أو جرما دخانيّا،و سواء قيل به في نفوس السعداء و الأشقياء جميعا،كما هو ظاهر الفارابيّ و الشيخ،و سواء قيل بالتعلّق بجرم سماويّ في السّعداء،و بجرم دخانيّ في الأشقياء،أو قيل بالتعلّق بجرم دخانيّ فقط في السعداء و الأشقياء جميعا،أو قيل بالتعلّق بجرم سماويّ فقط فيها جميعا كما يستفاد هذه المذاهب ممّا نقلنا من كلمات صدر الأفاضل،أو قيل بالتعلّق بجرم سماويّ في السعداء و بجرم إبداعيّ غير منخرق تحت فلك القمر و فوق كرة النار يكون نوعه منحصرا في شخص في الأشقياء كما نقله عن صاحب التلويحات.

و بالجملة،القول بتعلّق تلك النفوس بتلك الأجسام و الأجرام من غير أن تكون هي متصرّفة فيها مدبّرة لها إلاّ أنّها تكون موضوعة لتخيّلاتها،فبيان بطلان تلك الأقوال على الإجمال أنّه من الأصول المقرّرة عند الحكماء أنّ النفس الإنسانيّة و إن كانت في ذاتها غير مفتقرة إلى البدن،لكنّها في أفعالها محتاجة إليه مستكملة به،و أنّها لا يجوز أن تكون معطّلة عن الإدراك،و إنّ إدراكاتها الجزئيّة لا تكون إلاّ بآلات جسمانيّة بدنيّة كما اعترف به الفارابيّ نفسه،حيث قال:و هم بدنيّون لا يعرفون غير البدنيّات.

و حينئذ نقول:إنّها إذا فارقت الأبدان فكيف يختلف حالها و تصير هي-على كونها بدنيّة-غير بدنيّة و غير مفتقرة إلى بدن يكون إدراكاتها الجزئيّة في ضمنه و بالآلات

ص:38

البدنيّة،و الحال أنّ النفوس التي الكلام فيها ليست نفوسا كاملة مستكملة حتّى يمكن القول بأنّها حينئذ لا تحتاج إلى البدن،بل إنّها تشتغل بكمالاتها الذاتية إمّا مبتهجة بلذّاتها العقليّة،أو متألّمة بآلامها العقليّة.كيف و لو كانت مستكملة كذلك غير مفتقرة إلى البدن، فكما لا تحتاج إلى البدن كذلك لا تحتاج إلى التعلّق بجرم سماويّ أو غيره يكون ذلك الجرم موضوعا لتخيّلاتها و لا تكون هي متصرّفة فيه متعلّقة به تعلّق النفس بالبدن.

و أيضا نقول كما قال صدر الأفاضل أيضا:إنّ كون كلّ جرم سماويّ أو عنصريّ دخانيّ أو جرم غير منخرق موضوعا لتصرّفات الأنفس و تخيّلاتها لا يستقيم إلاّ بأن يكون لها به علاقة طبيعيّة أو لبدنها معه علاقة وضعيّة،فإنّ المسلوب عن العلاقتين كما فيما نحن فيه،كيف تستعمله النفس أو تنسب إليه،فأيّة نسبة حدثت بين النفس التي هي جوهر روحانيّ أوجبت اختصاصه بذلك الجرم و انجذابه من عالمه إليه دون غيره من الأجرام،بل إلى حيّزه دون سائر الأحياز من نوع ذلك الجرم.و أيضا كون جرم سماويّ موضوعا لتصوّرات تلك النفوس إنّما يتصوّر إذا كان بينهما علاقة طبيعيّة ذاتيّة،و من أين يتصوّر العلاقة الطبيعيّة لجوهر نفسانيّ مع جرم تامّ الصورة الكماليّة غير عنصريّ الذات؟ و لا الممكن التصرّف فيه بالتصوير و التمثيل إلاّ لصورته الإبداعيّة الحاصلة له بالفيض الأوّليّ،و أنّه أيّة مادّة جسمانيّة تصير آلة لتخيّل قوّة نفسانيّة،فلا بدّ و أن تتّحد بها ضربا من الاتّحاد و تستكمل بها نوعا من الاستكمال،فتخرجها عن حدّ قوة إلى فعل بالانفعالات و الحركات المناسبة.و الحال أنّ الفلك على رأيهم لا يتحرّك إلاّ حركة واحدة متشابهة وضعيّة مطابقة لحركات النفسانيّة الحاصلة من جهة مدبّر نفسانيّ و معشوق عقليّ يتشبّه به فيها.

و لا يمكن أيضا أن يكون ذلك من قبيل المرايا التي لها نسب وضعيّة إلى ما يتصرّف فيها النفوس بالطبع كما تتخيّل صورة في المرآة التي لها نسبة وضعيّة إلى عينك التي هي بالحقيقة مرآة نفسك التي تتصرف فيها،إذ ليس الجرم الفلكيّ و ما يجري مجراه بالقياس إلى نفسك المدبّرة كإحدى هاتين المرآتين؛كيف و السماويّات عندهم ليست مطيعة إلاّ لمباديها الأولى،و هي ملائكة السماء المحرّكة لها بأمر اللّه تعالى.و لا قابلة للتأثيرات

ص:39

الغريبة لامتناع صورها عن ذلك و لعدم تطرّق القواسر إليها.

و كذلك ليست لهذه النفوس المفارقة عن أبدانها أبدان أخرى كما هو المفروض ليتصوّر بين تلك الأبدان و بين الأجرام العالية علاقة وضعيّة،بسببها تصير هي لها كالمرآة الخارجيّة لتشاهد ما فيها من الصور و الأشباح الخياليّة.ثمّ على تقدير تجويز كونها مرائي،كيف يكون المثل التي هي تخيّلات الأفلاك عين تخيّلات هذه النفوس خصوصا الأشقياء منهم المعذّبون بها كما اعترفوا بأنّ الصور المؤلمة هي التي قد حصلت من هيآتهم الرديّة و عقائدهم الباطلة،و الحال أنّ الحاصل في الأجرام الفلكيّة لصفاء قوابلها و شرف مباديها،ليس إلاّ صورا نقيّة مطابقة للواقع،فلا يستقيم ما قالوه،خصوصا كون جرم فلكيّ ممّا يتعذّب به الأشقياء.و كما لم يجز ذلك في الجرم الفلكيّ فكذلك لا يجوز في جرم إبداعيّ غير منخرق منحصر نوعه في شخصه،لأنّه مع كونه غير معلوم الوجود،إن كان على ما تصوّروه،فلا بدّ و أن يكون له طبيعة خامسة ممتنعة الحركة المستقيمة كالأفلاك، فيكون حكمه حكمها،سواء سمّي باسم الفلك أم لا،و إن كان في حكم العناصر فيكون حكمه حكم الجرم الدّخانيّ،و يكون المحال اللازم على تقديره مشتركا،و هو أنّ ذلك الجرم الدّخانيّ أو ذلك الجرم الإبداعيّ سواء قيل بكونه موضوعا لتصوّرات نفوس الأشقياء فقط،أو لتصوّرات نفوس الأشقياء و السعداء جميعا،إن كان واحدا بالعدد كما هو ظاهر كلامهم في الأوّل،و صريح كلامهم في الثاني.كيف يكون موضوعا لتخيّلات النفوس التي لا تتناهى إلى حدّ،و لتصوّراتها الإدراكية الغير المتناهية؟إذ لا أقلّ من أن يكون فيه بإزاء كلّ تعلق و تصوّر قوّة و استعداد غير ما بإزاء غيره،فيحصل في جرم واحد بالعدد استعدادات غير متناهية مجتمعة،و هذا معلوم الفساد.و إن كان متكثّرا بالعدد،أعني أن يكون بإزاء كلّ نفس من تلك النفوس جرم دخانيّ أو إبداعيّ منفرد،فهذا مع كونه خلاف ما ذهبوا إليه معلوم البطلان أيضا بالضرورة.

و أيضا فما ذكره الشيخ،من أنّه يجوز أن يفضي بهؤلاء التعلّق المذكور آخر الأمر إلى الاستعداد أو للاتّصال المعدّ للعارفين،منظور فيه،لأنّ ذلك موقوف على أن يكون للنفس بعد المفارقة عن البدن اكتساب للعلوم الحقّة و تحصيل للمعارف حتّى تلحق بالعارفين

ص:40

و تستسعد بالسعادة المعدّة لهم،و أنّى للنفوس البله ذلك؟!كيف و هو نفسه قد اعترف فيما سننقله من كلامه في«الشفاء»بأنّ أوائل الملكة العلميّة التي بها يمكن اكتساب المجهول من المعلوم و الاستكمال بالفعل لا شكّ أنّها تكتسب بالبدن لا غير،و قد فرض أنّها فارقت الأبدان.فتدبّر.

و بالجملة،فهذه المذاهب المنقولة ممّا ليس عليها دليل عقليّ و لا نقليّ أخبر به مخبر صادق من أهل العصمة سلام اللّه تعالى عليهم أجمعين،بل كلّها تخمين و جزاف ينبغي أن يتجنّبها من يتجنّب الاعتساف و يبتغي الإنصاف،و ليس المخلص في هذه الأحكام إلاّ بالتشبّث بأذيال المخبرين الصادقين المؤيّدين من عند اللّه تعالى.و كأنّ فيما ذكره المحقّق الطوسيّ رحمه اللّه بعد نقل مذهب الفارابيّ في ذلك بقوله:«ولي في أكثر هذه المواضع نظر»إشارة إلى ما ذكرنا من الأنظار و نظائرها.و اللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.

في معاني التناسخ

و حيث عرفت ذلك و بقي إبطال القول بالتناسخ و نحوه،فلنتكلّم في ذلك.

فنقول أوّلا:إنّ التناسخ كما ذكره صدر الأفاضل و نقلنا كلامه يتصوّر على معاني و وجوه:

و المعنى الأوّل الذي ذكره و قال باستحالته،هو محلّ النزاع هنا،و نحن بصدد إبطاله كما سيأتي بيانه،و هو انتقال نفس في هذه النشأة الدنيويّة من بدن إلى آخر عنصريّ مباين للأوّل منفصل عنه،بأن تصير تلك النفس نفسا لذلك البدن الثاني مدبّرة له متصرّفة فيه كما للبدن الأوّل،بأن يموت حيوان و ينتقل نفسه إلى بدن حيوان آخر من بدن إنسانيّ، و هو الذي يسمّونه نسخا،أو بدن حيوان غير إنسانيّ من البهائم و السباع و نحوهما،و هو الذي يسمّونه مسخا،أو بنبات،و هو الذي يسمّونه فسخا،أو إلى جماد،و هو الذي يسمّونه رسخا.

و المعنى الثاني الذي ذكره و جوّزه محصّله:أن يكون في هذه النشأة نفس في بدن

ص:41

اكتسبت في ضمنه أخلاقا رذيلة و هيآت رديّة و صفات ذميمة،ثمّ تظهر في النشأة الأخرويّة بصورة ما غلبت عليها صفاته و تنتقل فيها إلى البدن المناسب لأخلاقها و هيآتها لبدن البهائم و السّباع و نحوهما.

و بالجملة،أن تكون بواطن النفوس في هذه النشأة ممسوخة من غير أن تظهر صورها في الظاهر،بل إنّما كان تظهر هي في الآخرة و تحشر النفوس على صور صفاتها،فترى الصور في هذه النشأة أناسيّ و في الباطن غير ذلك،و هذا المعنى لا مانع منه،و يشهد به التنزيل و الأخبار عن الصادقين عليه السّلام،و به يمكن أن يؤوّل كلام بعض أساطين الحكمة كما حمله صدر الأفاضل عليه،و إن كان في شهادة بعض الشواهد التي ذكرها شاهدة على ذلك نظر،كما يظهر على المتأمّل.كما أنّ في قوله:«فترى الصور أناسيّ و من الباطن غير تلك الصور من ملك أو شيطان...الخ» (1).نظر أيضا،إذ يستفاد منه أنّ هذا المعنى يكون للنفوس التي اكتسبت الأخلاق الفاضلة أيضا،و أنّه يمكن أن يكون لبعض تلك النفوس صورة إنسان في الظاهر و في هذه النشأة،و صورة ملك في الباطن تظهر في النشأة الأخرويّة،و أنّه أيضا تناسخ بهذا المعنى.و فيه ما لا يخفى.

و المعنى الثالث الذي ذكره و جوّزه،و قال أنّه واقع هو كذلك،و محصّله:أن يكون في هذه النشأة نفس اكتسبت الرذائل و رسخت فيها و تمكّنت منها حتّى مسخ باطنها و انقلب بصورة حيوان غلبت عليه تلك الرّذائل و الصفات،ثمّ غلبت قوّتها النفسانيّة حتّى صارت قد غيّرت مزاج بدنها و هيئته إلى شكل ما هو بصفتها من حيوان آخر فمسخ ظاهرها أيضا، أي انقلب ظاهره من صورته التي كانت إلى صورة ما انقلب إليه باطنها من غير أن ينتقل من بدن إلى بدن آخر،و أن يكون كلّ ذلك بإذن اللّه تعالى بحسب ما يستحقّه تلك النفوس بسوء عملها.

و هذا المعنى أيضا لا مانع منه،بل هو واقع في قوم غلبت شقوة نفوسهم و ضعفت قوّة عقولهم كما أخبر به التنزيل في بني إسرائيل؛قال تعالى: وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ)) (2)،

ص:42


1- -الشواهد الربوبيّة233/. [1]
2- -المائدة(5):60. [2]

و قال كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ)) (1)و قد أخبر به أيضا الصادقون المعصومون عليه السّلام،روي مرفوعا عن عليّ عليه السّلام أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سئل عن المسوخ،فقال:هي ثلاثة عشر:الفيل،و الدّب، و الخنزير،و القرد،و الجرّيّ،و الضّبّ،و الخفّاش،و العقرب،و الدعموس،و العنكبوت، و الأرنب،و سهيل،و الزهرة.فلمّا سئل عن سبب مسخهم،قال:

أمّا الفيل فكان رجلا جبّارا لوطيّا لا يدع رطبا و لا يابسا.

و الدبّ كان رجلا مؤنّثا يدعو الرجال إليه.

و كان الخنزير رجلا نصرانيّا.

و القرد من الذين اعتدوا في السبت.

و الجرّيّ كان رجلا ديّوثا.

و الضبّ كان سرّاقا.

و الخفّاش كان يسرق الثمار.

و العقرب كان رجلا لذّاعا لا يسلم من لسانه أحد.

و الدعموس كان نمّاما يفرّق بين الأحبّة.

و الأرنب كانت امرأة لا تطهر من الحيض و لا من غيره.

و سهيل كان رجلا عشّارا.

و الزهرة امرأة نصرانيّة (2).

و قد روي عن دانيال عليه السّلام،أنّ بخت النصر مسخ في شبح صورة من السباع (3).

و كذلك روي عن داود و سليمان و غيرهما من أنبياء بني إسرائيل عليه السّلام أمثال ذلك (4).

إلاّ أنّ الحديث المرويّ عن عليّ عليه السّلام في المسوخ كأنّه مرموز يصعب دركه و فهم معناه على أذهاننا القاصرة.أمّا في خصوص سهيل و الزهرة،فلأنّ الظاهر كما يدلّ عليه سائر

ص:43


1- -البقرة(2):65، [1]الأعراف(7):166. [2]
2- -المجلى:507.
3- -نفس المصدر.
4- -نفس المصدر.

الشواهد على المسخ أنّ المسخ إنّما هو انتقال نفس من بدن أشرف إلى بدن أخسّ لا بالعكس كما في الصورتين،و خصوصا الانتقال من بدن عنصريّ قابل للكون و الفساد إلى بدن فلكيّ كوكبيّ نورانيّ غير قابل لهما على رأي الحكماء.

غايته أن يكون الانتقال من بدن إلى بدن مساو له في الشرف و الخسّة مسخا أيضا، و ليس الأمر هنا كذلك،و أمّا في غير سهيل و الزهرة من الحيوانات فلأنّه لا يخلو عن أحد احتمالين:

الأوّل:أن يحمل الحديث على أنّ حدوث تلك الحيوانات بأنواعها و أشخاصها كان على النهج المذكور،كأن كان حدوث نوع الفيل مثلا بأن كان أوّلا في الوجود رجل لوطيّ جبّار فمسخ إلى صورة الفيل،فحدث الفيل بنوعه و شخصه.ثمّ استمرّ وجود نوعه في ضمن أشخاصه بالتوالد،أو انعدم ذلك الفيل فخلق اللّه تعالى على صورته بعد ذلك فيلا آخر و بقي بنوعه و أشخاصه،كما يمكن أن يحمل عليه بعض الأخبار المرويّة من أنّ المسوخ بعد مسخه كان يبقى أيّاما قلائل ثمّ انعدم،فخلق اللّه تعالى على صورته و هيئته و شكله حيوانا آخر من نوعه.

فهذا الاحتمال على التقديرين و إن كان ظاهر لفظ الحديث إلاّ أنّه خلاف الظاهر من معنى المسخ،كما لا يخفى.و أيضا ينبغي على هذا أن يحمل ما ذكر في معنى التناسخ بهذا المعنى الثالث من أنّه انقلاب الباطن إلى صورة حيوان غلبت عليه صفاته،ثمّ انقلاب الظاهر من صورته إلى صورة ما ينقلب إليه الباطن،أعمّ من أن يكون هناك في الوجود حيوان كذلك انقلب المستنسخ إلى صورته،أو لم يكن هناك في الوجود حيوان كذلك إلاّ أن تقتضي صفات تلك النفس انقلابها إلى صورة حيوان كذلك،فمسخت و انقلبت إلى صورة حيوان كذلك فحدث نوع ذلك الحيوان،و هذا التعميم خلاف ظاهر هذا المعنى من التناسخ،بل الظاهر خصوص الشقّ الأوّل من هذين الشقّين،أي أن يكون هناك في الوجود حيوان آخر ثمّ حصل الانقلاب الباطنيّ فالظاهريّ.

الاحتمال الثاني:أن يحمل على أنّه و إن كان هناك في الوجود أنواع تلك الحيوانات و أشخاصها مستمرّة تلك الأنواع بوجود أشخاصها،إلاّ أنّه كان أيضا هناك مثلا رجل

ص:44

لوطيّ جبّار،فمسخ إلى صورة الفيل،فحدث ذلك الفيل أيضا،سواء كان انعدم بعد أيّام قلائل فخلق على صورته فيل آخر فبقي ذلك أيضا مشاركا في الوجود للأفراد الأخر من الفيل،كما يمكن أن يحمل عليه بعض الأخبار المأثورة في ذلك المذكورة آنفا،أو لم ينعدم في ذلك بل بقي هو أيضا مشاركا لها في الوجود،و كان هو مثل سائر أفراد الفيل، حيث تبقى إلى زمان انقضاء أجلها و تحدث منها بالتوالد أفراد أخر.

فهذا الاحتمال و إن كان ظاهر معنى المسخ و التناسخ بهذا المعنى الثالث،إلاّ أنّه خلاف ظاهر لفظ الحديث،فتدبّر.

و بالجملة،ففهم معنى هذا الحديث الشريف ممّا يعسر علينا و إن كان دلالته على ما هو مطلوبنا هنا من وقوع المسخ في الوجود في الجملة ظاهر،و اللّه أعلم بحقيقة الحال.

ثمّ إنّ قول صدر الأفاضل:«و أمّا مسخ صورة الباطن دون الظاهر،فكقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في صفة قوم من أمّته«إخوان العلانيّة...الخ»،كأنّه إشارة إلى أنّ هنا معنى رابعا للتناسخ واقعا في الوجود.

و أقول:إنّه كما يشهد عليه هذا الحديث الشريف النبويّ الذي ذكره،كذلك يشهد عليه بعض الأخبار المرويّة عن الصادقين عليه السّلام روى الراونديّ رحمه اللّه في كتابه الموسوم ب«الخرائج و الجرائح»بإسناده عن أبي بصير،عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام،قال:قلت:ما فضلنا على من خالفنا،فو اللّه إنّي لأرى الرجل منهم أرخى بالا و أكثر مالا و أنعم عيشا و أحسن حالا و أطمع في الجنّة؟قال:فسكت عنّي حتّى إذا كنّا بالأبطح من مكّة رأينا الناس يضجون إلى اللّه،فقال:يا أبا محمّد هل تسمع ما أسمع،قلت:أسمع ضجيج الناس إلى اللّه تعالى.فقال:ما أكثر الضجيج و العجيج و أقلّ الحجيج!و الذي بعث بالنبوّة محمّدا و عجّل بروحه إلى الجنّة،ما يتقبّل اللّه إلاّ منك و من أصحابك خاصّة.قال:ثمّ مسح عليه السّلام يده على وجهي فنظرت فإذا أكثر الناس خنازير و حمير و قردة إلاّ رجل بعد رجل (1).

و روي عن أبي بصير أيضا،قال قلت لأبي جعفر عليه السّلام:أنا مولاك و شيعتك ضعيف

ص:45


1- -الخرائج 821/2،طبع قم.

ضرير اضمن لي الجنّة.فقال:أ و لا أعطينّك علامة الأئمّة؟قلت:و ما عليك أن تجمعها لي! قال:و تحبّ ذلك؟قلت:و كيف لا أحبّ؟فما زاد أن مسح على بصري فأبصرت جميع ما في السقيفة التي كان فيها جالسا.ثمّ قال:يا أبا محمد مدّ بصرك فانظر ما ترى بعينك؟قال:

فو اللّه ما أبصرت إلاّ كلبا أو خنزيرا أو قردا،فقلت:ما هذا الخلق الممسوخ؟قال:هذا الذي ترى هذا السواد الأعظم،لو كشف الغطاء للناس ما نظر الشيعة إلى من خالفهم إلاّ في هذه الصور،ثمّ قال يا أبا محمد!إن أحببت تركتك على حالك هكذا،و إن أحببت ضمنت لك الجنّة و رددتك إلى حالك الأوّل،قلت:لا حاجة لي إلى النظر إلى هذا الخلق المنكوس، ردّني فما للجنّة عوض،فمسح على عيني فرجعت كما كنت (1).

إلى غير ذلك من الأحاديث الدالّة على هذا المعنى من النسخ.

و أمّا الفرق بينه و بين المعنى الثالث الذي ذكره صدر الأفاضل فظاهر،لأنّ المفروض في هذا المعنى مسخ الباطن وحده دون الظاهر،بخلاف المعنى الثالث فإنّ المفروض فيه مسخ الباطن و الظاهر جميعا.

و كذلك الفرق بينه و بين المعنى الثاني الذي ذكره ظاهر،على تقدير حمل هذا المعنى على أنّه انقلاب الباطن وحده دون الظاهر أصلا،لا في هذه النشأة و لا في النشأة الأخرويّة،و حينئذ يكون معنى رابعا.و أمّا على تقدير حمله على أنّه انقلاب الباطن وحده دون الظاهر في هذه النشأة،و أمّا في النشأة الأخرويّة فينقلب الظاهر أيضا إلى صورة الباطن.فعلى هذا يكون هذا المعنى عين المعنى الثاني،و لا فرق بينهما أصلا فلا يكون معنى رابعا،و اللّه تعالى يعلم.

و حيث أحطت خبرا بتفاصيل ما جرى ذكره بالتقريب في البين،فحريّ بنا أن نرجع إلى ما كنّا بصدده من إبطال التناسخ بالمعنى المتنازع فيه،الذي هو المعنى الأوّل من تلك المعاني.

ص:46


1- -الخرائج 882/2.
في إبطال التناسخ بالمعنى المتنازع فيه

فنقول:إنّهم أقاموا على إبطاله وجوها من الحجج

منها:ما نقلناه عن الشيخ في«الإشارات»من الحجّتين اللتين ذكر الشيخ أولاهما في «الشفاء»على ما نقلنا كلامه فيه.و بيان الأولى منها كما يدلّ عليه كلامه في الكتابين واضح،و أمّا بيان الثانيّة منهما فقد اختلف فيه الشارحون للإشارات و ذكروا فيه وجوها من التقرير.

منها-ما ذكره المحقّق الطوسيّ على ما نقلنا كلامه،و لعلّنا نذكر فيما بعد تلك التقريرات الأخر أيضا.و كيفما كان،فلا يخفى أنّ هاتين الحجّتين جميعا مبنيّتان على مقدّمة بإتمامها تتمّ الحجّتان،و تلك المقدّمة هي التي أشار إليها الشيخ في«الإشارات» إشارة إجماليّة بقوله:«و إلاّ لاقتضى كلّ مزاج نفسا تفيض إليه» (1).

و ذكرها في«الشفاء»بوجه مفصّل و بيان أبسط،بقوله:«فقد أوضحنا أنّ الأنفس إنّما حدثت و تكثّرت مع تهيّؤ من الأبدان على أنّ تهيّؤ الأبدان يوجب أن يفيض وجود النفس لها من العلل المفارقة،و ظهر من ذلك أنّ هذا لا يكون على سبيل الاتّفاق و البخت»إلى قوله:«فإذا فرضنا أنّ نفسا تناسخها أبدان» (2).

فلذا قدّم بيان تلك المقدّمة على بيان المطلوب تمهيدا و إشعارا بأنّه لا تتمّ تلك الحجّة إلاّ بإتمام تلك المقدّمة.

و حاصل تلك المقدّمة:أنّ حدوث النفس عن العلّة القديمة يتوقّف على حصول استعداد في القابل لها،أعني البدن،و عند حصول الاستعداد في القابل يجب حدوث النفس و فيضانها على ذلك القابل،لما تقرّر عندهم أنّ وجود المعلول لازم عند تمام العلّة.

و بعبارة أخرى أنّ العلّة الفاعليّة لفيضان النفس على البدن سواء فرضناها العلّة القديمة -كما دلّ عليه كلام الشيخ-أو المبدأ الفيّاض تعالى شأنه كما هو الحقّ،تامّ الفاعليّة لا

ص:47


1- -شرح الإشارات 356/3. [1]
2- -الشفاء، [2]الطبيعيات356/.

نقص في فاعليّته،و العلّة القابلة له هو البدن باستعداده الخاصّ و قابليّته الخاصّة،و عند تمام الاستعداد يتمّ قابليّته،و المفروض حصول كلّ شرط يتوقّف عليه فيضان النفس على البدن،و كذا ارتفاع كلّ مانع من ذلك.فإذا كانت الحال كذلك،أي كانت العلّة الفاعليّة تامّة الفاعليّة،و العلّة القابليّة تامّة الاستعداد،و حصلت جميع الشروط له و ارتفعت جميع الموانع عنه،تحقّقت العلّة التامّة له.و من المقرّر الثابت أنّه عند حصول العلّة التامّة يجب وجود المعلول و يمتنع تخلّفه عنها.

فظهر بما ذكرنا إتمام تلك المقدّمة،و ظهر أيضا وجه ما ذكره الشيخ من أنّه عند تهيّؤ الأبدان يجب فيضان وجود النفس لها،و أنّ ذلك ليس على سبيل الاتّفاق،و أنّ كلّ بدن يستحقّ مع حدوث مزاج مادّته حدوث نفس له،و أن ليس بدن يستحقّه و بدن لا يستحقّه،إذ أشخاص النوع لا تختلف في الأمور التي بها يتقوّم،فإنّه لو كان بدن إنسانيّ مثلا يستحقّ نفسا يكمل هو بها،و بدن آخر و هو في حكم مزاجه بالنوع و لا يستحقّ ذلك، بل إن اتّفق كان،و إن لم يتّفق لم يكن ذلك البدن الآخر من نوعه،هذا خلف.

و لا يخفى عليك أنّه بعد ثبوت هذه المقدّمة،لا سترة في تماميّة تينك المقدّمتين.و قد أورد جمع من المتأخّرين،منهم الشارح القوشجيّ في«شرح التجريد»على الحجّة الأولى،بل على هذه المقدّمة؛قال:«و اعترض عليه بأنّه مع ابتنائه على كون المبدأ موجبا لا مختارا مبنيّ على حدوث النفس،و قد مرّ أنّه لا يتمّ بيانه إلاّ بإبطال التناسخ الموقوف على حدوث النفس،فيلزم الدور.و أيضا،انحصار شرط حدوث النفس في حدوث استعداد البدن ممنوع،لجواز أن يكون مشروطا أيضا بأن لا يصادف استعداد البدن لتعلّق النفس به نفسا موجودة قد بطل بدنها في حال كمال ذلك الاستعداد،فلا يحدث حينئذ نفس أخرى لانتفاء شرط الحدوث.انتهى. (1)

و أقول:إنّ هذا الاعتراض مركّب من ثلاثة اعتراضات.

بيان أوّلها أنّ ما ذكره من أنّه عند حصول استعداد البدن يجب فيضان النفس عليه

ص:48


1- -شرح التجريد للقوشجيّ329/،ط تبريز.

إنّما يتمّ إذا كان المبدأ الفاعليّ لذلك فاعلا موجبا،لا يمكن تخلّف فعله عنه،و أمّا إذا كان فاعلا بالاختيار-كما فيما نحن فيه-فلا يتمّ،إذ ربّما كان ذلك الفاعل بالاختيار مع كونه تامّ الفاعليّة لا يريد الفعل و لا يشاؤه و لا يختاره،فلا يفعله.

و جوابه:أنّ ما ذكرنا من أنّ مبنى تلك المقدّمة،و هو أنّه عند حصول العلّة التامّة يجب حصول المعلول،لا فرق فيه بين كون العلّة الفاعليّة فاعلا بالاختيار أو بالايجاب،إذ الدليل الذي ذكروه على امتناع تخلّف المعلول عن علّته التامّة على تقدير تماميّته-كما هو الحقّ-يجري في الفاعل الموجب و المختار جميعا.

و بالجملة:فذلك الدليل يدلّ على أنّه عند حصول العلّة التامّة،يجب أن يريد الفاعل المختار ذلك الفعل و يختاره و يفعله البتّة،و أنّ العلّة التامّة يجب أن يكون علّة موجبة له.

و بعبارة أخرى أنّا حيث فرضنا تماميّة العلّيّة في ذلك،فقد فرضنا أنّ العلّة الفاعليّة له إذا كان مختارا قد أراد ذلك الفعل و شاءه أيضا لعلمه بالأصلح في ذلك أو لعنايته الأزليّة، فمع فرض إرادته لذلك و مشيّته له كيف لا يريده و لا يشاؤه؟حيث إنّ فرض عدم الإرادة حينئذ،إمّا أن يكون لحدوث مصلحة في تركه لم يكن ذلك الفاعل يعلم تلك المصلحة قبل ذلك و حين إرادته له فيلزم النقص،و المبدأ الفيّاض تعالى شأنه منزّه عنه و إمّا أن يكون لا لحدوث مصلحة في تركه،بل كانت المصلحة في فعله حينئذ كما كانت قبل، فيلزم ترجيح المرجوح،أي ترجيح ما لا مصلحة فيه في الواقع على ما فيه مصلحة في الواقع،و هذا باطل بالضرورة.و إمّا أن يكون لأنّ إرادته جزافيّة لا تكون على وفق المصلحة أصلا،فتارة يريد الفعل و تارة لا يريد تركه،فهذا أيضا محال بالضرورة.

و أمّا بيان ثاني تلك الاعتراضات،فهو أنّ دليل إبطال التناسخ مبنيّ على حدوث النفس،و بيانه متوقّف على بيانه.و كذا دليل حدوث النفس مبنيّ على إبطال التناسخ و متوقّف عليه،فيلزم الدور.

أمّا ابتناء دليل إبطال التناسخ على حدوث النفس كما هو مبنى الحجّتين اللتين أقامهما الشيخ عليه،فظاهر،و كذلك ابتناء دليل حدوث النفس على إبطال التناسخ،حيث إنّ الدليلين اللذين نقلا أخيرا عن القوم على ذلك لا يخفى ابتناؤهما عليه،بل هو مصرّح

ص:49

به فيهما كما ذكر.و كذا الدليل الأوّل الذي نقل عن الشيخ في«الشفاء»،إذ هو أيضا لو لم يكن مبنيّا عليه لم يتمّ،فإنّه لو جاز التناسخ،جاز أن يكون وجود النفس و تكثّرها و تشخّصها بالأبدان التي قبل هذه الأبدان الإنسانيّة التي كلامنا فيها،ثمّ تناسخت و تنقّلت إلى هذه الأبدان،سواء كانت تلك الأبدان الأوّلة-قديمة أو حادثة-قبل هذه الأبدان،فلا تكون النفس حادثة بحدوث هذا البدن كما هو المطلوب.

و بالجملة،فهذا البيان في كلّ من المطلبين دوريّ،و هو مستحيل.

و الجواب عن هذا الاعتراض:إنّ دليل حدوث النفس بحدوث البدن و إن كان متوقّفا على إبطال التناسخ،إلاّ أن إبطال التناسخ ليس متوقّفا عليه،بل إنّما هو متوقّف على حدوث تعلّق نفس بالبدن،و هذا المعنى لا يستلزم أن يكون ذات تلك النفس موجودة و حادثة بحدوث البدن،حتّى يكون البيان دوريّا،بل يمكن أن يكون ذات تلك النفس موجودة قبل حدوث هذا التعلّق،ثمّ حدث تعلّقها بالبدن المفروض.مع أنّا سنقيم الحجّة إن شاء اللّه تعالى على ذلك،بحيث لا تكون متوقّفة على حدوث النفس و لا على حدوث تعلّقها أصلا،فانتظر.

و أمّا ثالث تلك الاعتراضات،فيمكن تقريره على وجهين:

الأوّل:و هو الظاهر من كلام المعترض،أنّ ما ذكرتموه من أنّه عند حصول استعداد البدن يجب فيضان النفس عليه،و بنيتموه على أنّه عند حصول العلّة التامّة يجب حصول المعلول،إنّما يتمّ إذا كان هناك علّة تامة مستجمعة لجميع شرائطها،و لا نسلّم ذلك فيما نحن فيه،إذ يجوز أن يكون من جملة الشرائط أن لا يصادف استعداد البدن لتعلّق نفس به نفسا موجودة قد بطل بدنها في حال كمال ذلك الاستعداد،و حين صادف نفسا موجودة مستنسخة فلا يحدث نفس أخرى لانتفاء شرط حدوثها.

و الثاني:أن يقال:إنّ ما ذكرتموه و بنيتموه على امتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة إنّما يتمّ إذا كانت هناك علّة تامة مستجمعة لارتفاع جميع الموانع،و لا نسلّم ذلك فيما نحن فيه،إذ من الجائز أن تكون مصادفة لنفس موجودة مستنسخة مانعة عن حدوث نفس أخرى،فلا تحدث لحصول مانع عنها.

ص:50

و أمّا الجواب عن هذا الاعتراض على التقديرين،فهو أن يقال:إنّ مبنى هذا الاعتراض،إمّا على أنّ ذلك البدن المستعدّ لحصول نفس له كان مستعدّا لفيضان النفس الحادثة الأخرى و النفس المستنسخة جميعا،إلاّ أنّه سبق فيضان النفس المستنسخة و صادفها فلم تحدث النفس الأخرى.

فيردّ عليه أوّلا أنّه كيف يمكن أن يكون البدن الواحد بالعدد و بالشخص الذي هو علّة قابليّة لحدوث النفس قابلا لتعلّق نفسين متعدّدتين متكثّرتين بالعدد مختلفتين،و من المقرّر عندهم وجوب الموافاة بين المعلول و علّته،سواء كانت علّة قابليّة أو فاعليّة، و وجوب مساواتها و مناسبة بينهما و خصوصيّة لكلّ منهما بالنسبة إلى الآخر،بها يختصّ أحدهما بالآخر،و أنّه لو كان الواحد بما هو واحد مناسبا للكثير،لكان الواحد بما هو واحد كثيرا،و الكثير بما هو كثير واحدا و هذا،باطل بالضرورة.و منه يظهر وجه آخر لبطلان التناسخ،إذ على تقدير جواز تعلّق نفس واحدة بأكثر من بدن يلزم هذا المحال أيضا.

فتدبّر.

و أمّا ثانيا،فلأنّ سبق تعلّق النفس المستنسخة،إمّا أن يكون بدون أولويّة و رجحان أو مع أولويّة،و على الأوّل فإمّا أن تكون أولويّة في تعلّق النفس الأخرى،فيلزم ترجّح المرجوح في الواقع،و هو باطل،و إمّا أن لا تكون أولويّة فيه أيضا،بل كان تعلّق النفسين على السواء،فيلزم الترجيح من غير مرجّح،و هذا أيضا باطل.

و على الثالث،فيبقى السؤال عن تلك الأولويّة و أنّها ما ذا؟و من المعلوم خلافها فيما نحن فيه.

و أمّا أن يكون مبنى هذا الاعتراض على أنّ ذلك البدن المستعدّ لفيضان نفس عليه كان مستعدّا لنفس واحدة بالعدد،إلاّ أنّه سبق فيضان النفس المستنسخة فلم تحدث نفس أخرى.

فيرد عليه أنّه إذا كان مستعدّا لفيضان نفس واحدة،فكيف لم يتعلّق به تلك النفس الأخرى المفروض كونه مستعدّا لها و تعلّقت به النفس المستنسخة و سبقت،و الحال أنّ استعداده لها غير معلوم،و كذلك أولويّة تعلّقها به غير معلومة،بل الأولويّة في خلافه،

ص:51

حيث يلزم على تقديره جواز تعلّق نفس واحدة بالعدد بأكثر من بدن واحد،و كون الواحد بما هو واحد مناسبا للكثير بما هو كثير،و قد عرفت بطلانه.

و أمّا أن يكون مبناه على أنّ ذلك البدن لم يكن له استعداد بالقياس إلى نفس ما،إلاّ أنّه صادف نفسا مستنسخة بحسب الاتّفاق فلم تحدث النفس الأخرى،فهذا مع كونه خلاف ظاهر كلام المعترض أظهر بطلانا ممّا سبق،كما لا يخفى.

و الحاصل أنّ كلام هذا المعترض يحتمل احتمالات كلّها باطلة.فبقي أن يكون ما ذكروا من أنّه عند حصول كمال استعداد البدن لفيضان نفس عليه يجب فيضانها عليه، و أنّه إذا تعلّقت به النفس المستنسخة أيضا يكون لبدن واحد نفسان حقّا،و حينئذ يتمّ الحجّتان كما ذكروه.و حيث عرفت ذلك فلنرجع إلى تقرير الحجّتين.

فنقول:أمّا تقرير الحجّة الأولى،كما يدلّ عليه كلام الشيخ في«الشفاء»مفصّلا و في «الإشارات»مجملا،و يدلّ على تفصيله كلام المحقّق الطوسيّ(ره)في شرحه له،فظاهر لا احتياج إلى بيانها.

و أمّا الحجّة الثانية في«الإشارات»،فحيث كان كلام الشيخ في ذلك لا يخلو عن اجمال ما اختلف شارحوه في تقريرها،و قد عرفت ممّا نقلنا من كلام المحقّق الطوسيّ كيفيّة تقريره لها،و قد قال صاحب«المحاكمات»،في قول المحقّق الطوسيّ:«و الحجّة الثانيّة أن يقال:النفس المستنسخة...الخ» (1)هكذا قرّر الإمام هذه الحجّة (2)لو صحّ عليها التناسخ،فأمّا أن تتعلّق ببدن آخر كما فارقت،أو تبقى خالية عن التعلّق زمانا ثمّ تتعلّق ببدن آخر.

و الأوّل (3)يلزمه محالان:أحدهما أنّه مهما فسد يجب أن يحدث بدن آخر.و الآخر أنّه إذا فارقت نفوس كثيرة يجب أن توجد أبدان على عدد النفوس،و الاّ لتعلّق ببدن واحد أكثر من نفس واحدة،و القسم الثاني باطل،لأنّها حينئذ تكون معطّلة و لا معطّل في

ص:52


1- -شرح الإشارات 357/3. [1]
2- -في المصدر:بأنّ النفس لو صح...
3- -في المصدر:و على الأوّل يلزم...

الطبيعة.

و هذا التقرير فيه زيادة و نقصان،أمّا الزيادة فهي فرض خلوّ النفس عن التعلّق بالبدن،فلا أثر منها في الكتاب و لا حاجة إليه،لأنّ إثبات التناسخ مبنيّ على امتناع التعطيل،و أمّا النقصان،فلأنّ قوله:«و لا أن يكون عدّة نفوس مفارقة تستحقّ بدنا واحدا فتتّصل به أو تتدافع عنه» (1)يقتضي أن يكون قسما من الأقسام المفروضة في الدليل، و ليس في هذا التقرير منه أثر،فلهذا زاد الشارح في الأقسام في تقرير الحجّة:«و إنّما ترك بيان استحالة قسم الثاني،و هو أن يكون اتصال النفس بالبدن الثاني قبل فساد الأوّل لظهوره ممّا يذكر في الأقسام الأخر.فمن البيّن أنّه يلزم منه تعلّق نفس واحدة ببدنين و هو محال» (2)انتهى.

و قال في قوله:«و يعود المحالات المذكورة»بهذه العبارة:«إشارة إلى ما لزم من اجتماع النفوس على بدن واحد في الأقسام الثلاثة.لكن يرد عليه وجوه من الاعتراض:

أحدها على قوله:«و على التقدير الثاني يكون النفوس المجتمعة على بدن واحد إمّا متشابهة،فإنّ اجتماع النفوس على بدن واحد إن لم يستلزم اتّصالها به،لم يتمّ الخلف، لأنّه لم يفرضها حينئذ متّصلة،و إن استلزمه فالترديد إلى التشابه في الاستحقاق و الاختلاف،ثمّ إلى اتّصالها و تدافعها مستقبح غاية الاستقباح».

و ثانيها على قوله:«أو يحدث للبعض الآخر نفوس أخر،و يلزم منه محالان فإنّ عدم الأولويّة ممنوع،لجواز أن لا يستعدّ بعض الأبدان إلاّ لبعض النفوس،و إلاّ لم يجز أن يتعلّق نفس ببدن أصلا لعدم الأولويّة.

و ثالثها على قوله:«و أمّا إن اتّصلت النفس المفارقة بعد المفارقة،فإنّه زيادة لا حاجة إليها كما في تقرير الإمام».

و التقرير المنطبق على المتن كمال الانطباق أن يقال:لو تعلّقت النفوس بالأبدان على سبيل التناسخ،فإمّا أن يجوز أن يستحقّ نفوس متعدّدة بدنا واحدا أو لا يجوز،بل يستحقّ

ص:53


1- -شرح الإشارات 357/3، [1]كما مرّ و اما النقصان...
2- -شرح الإشارات 357/3-358.

كلّ نفس بدنا على حدّة،فإن استحقّ كلّ نفس بدنا،يلزم أن يكون بإزاء فساد كلّ بدن كون بدن آخر،و أن يكون عدد الأبدان الكائنة بعدد النفوس المفارقة،و ليس كذلك لأنّه ربّما يموت ألوف ألوف في يوم واحد لقتل أو وباء أو غير ذلك،و يعلم بالضرورة أنّه لم يحدث من الأبدان ألوف ألوف،و إن جاز أن يستحقّ نفوس بدنا واحدا،فإمّا أن تتّصل به فيلزم أن يكون لبدن واحد نفوس و هو محال،أو تتدافع فلا يتعلّق به فلا تتناسخ و قد فرضناه،هذا خلف»انتهى كلامه (1).

و أقول:لا يخفى على المتأمّل المنصف أنّ التقرير المنطبق على كلام الشيخ هو ما ذكره صاحب«المحاكمات»دون تقريري الإمام و المحقّق الطوسيّ،و أنّ إيراده عليهما ظاهر الورود.و أنّ المطلوب-و هو إبطال التناسخ-يتمّ على كلّ من التقريرات الثلاثة،و أنّ ما أورده عليهما لا يقدح في تماميّة الحجّة على ذلك،فلذا لم نتعرّض للتكلّم في دفع ما أورده عليهما،و إن كان يمكن دفعه بعناية يطول الكلام ببيانها.

نعم،ربّما أورد بعض المتأخّرين على ما تضمّنه كلام الشيخ من أنّه على القول بالتناسخ على بعض التقديرات،يلزم أن يتّصل كلّ فناء بكون،و أن يكون عدد الكائنات من الأبدان عدد ما يفارقها من النفوس،و إنّه ليس كذلك،و قد أخذه شارحوه كلّهم في تقريرهم للحجّة،بأنّه إنّما يلزم ذلك لو كان التعلّق ببدن آخر لازما البتة و على الفور،و أمّا إذا كان جائزا-و لو بعد حين-فلا،لجواز أن لا ينتقل نفوس الهالكين الكثيرين أو ينتقل بعد حدوث الأبدان الكثيرة،و ما ذكر من التعطّل مع أنّه لا حجّة على بطلانه،فليس بلازم، لأنّ الابتهاج بالكمالات أو التألّم بالجهالات شغل.

و هذا الإيراد مندفع،يظهر اندفاعه ممّا أشير إليه سابقا.و بيانه أنّ القائلين بالتناسخ -كما ذكره المحقّق الطوسيّ و صاحب«المحاكمات»فيما نقلناه عنهما و كذا غيرهما.

-إنّما قالوا به لأجل امتناع التعطّل،فكيف يقولون بجوازه؟مع أنّ القول بجواز التعطّل في الوجود بديهيّ البطلان،يحكم ببطلانه كلّ ذي فطرة سليمة،و ما ذكره من أنّ الابتهاج

ص:54


1- -شرح الإشارات 358/3.

بالكمالات أو التألّم بالجهالات شغل،هو و إن كان كذلك،إلاّ أنّه إنّما يكون في النفوس الكاملة أو المتوسّطة،لا في النفوس الساذجة أو الناقصة التي كلامنا فيها،و القائلون بالتناسخ إنّما قالوا به فيها.

و على تقدير تسليم كون ذلك الشغل فيها أيضا فنقول:إنّ النفس الإنسانيّة لمّا كانت بدنيّة يجب أن يكون شغلها بشيء في ضمن بدن ما،حيث إنّ شغلها و إدراكاتها الجزئيّة لا يكون إلاّ بآلات جسمانيّة،فكيف تكون مجرّدة عن البدن رأسا في أفعالها بعد مفارقتها عنه؟و كيف تكون تارة محتاجة إلى البدن في أفعالها،و تارة مجرّدة عنه؟و هل هذا إلاّ تهافت؟

برهان آخر على بطلان التناسخ

و حيث عرفت ذلك،فاعلم أنّه من جملة البراهين الواضحة على هذا المطلب-أي بطلان التناسخ-ما أشار إليه بعض الأفاضل،و نحن نذكر تفصيله:

و هو أن يقال:لا شكّ في أنّ النفس المستنسخة التي الكلام في جواز تناسخها قد حصلت لها في ضمن البدن الأوّل فعليّة ما في كمالاتها،فهي بعد تعلّقها بالبدن الثاني إمّا أن يبقى لها تلك الفعليّة في الجملة،أو أن تزول عنها رأسا و تصير هي بالقوّة المحضة.

و الأوّل خلاف الواقع و خلاف المشاهد المحسوس،حيث إنّا نعلم يقينا أنّ النفس في أوّل كونها ليس لها تلك الفعليّة في كمالاتها أصلا،بل إنّها في أوّل حدوثها درجتها درجة الطبيعة ثمّ تترقّى شيئا فشيئا بحسب استكمالات المادّة،حتّى تتجاوز درجة النبات و الحيوان،و تحصل لها الدرجة الإنسانيّة.

و أيضا على هذا يلزم أن تكون هي تتذكّر شيئا من أحوال البدن الأوّل و أحوال ذاتها في ضمنه،لأنّ محلّ العلم و التذكّر هو جوهر النفس الباقي بعينه كما كان،و هذا أيضا خلاف الواقع و المشاهد.

و القول بأنّ التذكّر إنّما يلزم أن لو لم يكن التعلّق بذلك البدن الأوّل شرطا،

ص:55

و الاستغراق في تدبير البدن الآخر مانعا،و طول العهد منسيا،لا يخفى أنّه من قبيل الخرافات و الأباطيل،يشهد بذلك أنّه لو كان ما ذكره هذا القائل حقّا،لكانت النفس في النشأة البرزخيّة و النشأة الأخرويّة لا تتذكّر شيئا من ذلك،و قد ورد التنزيل و أخبار المخبرين الصادقين عليهم السّلام بخلافه.

و الثاني:أي زوال تلك الفعليّة عنها و صيرورتها بالقوّة بالنسبة إليها محال أيضا،إذ يلزم أن تكون تلك النفس قد حصلت لها فعليّة ما أوّلا ثمّ ترجع إلى القوّة المحضة و الاستعداد الصرف،أي أن تكون نفس تجاوزت درجة النبات و الحيوان فرجعت قهقرى إلى المرتبة المنويّة و إلى مرتبة الجنين،حيث إنّها في أوّل كونها و تعلّقها بالبدن بالقياس إلى كمالاتها بالقوّة المحضة،و انقلاب ما بالفعل-من حيث هو بالفعل-إلى ما بالقوّة المحضة من حيث هو بالقوّة محال بالضرورة.و أمّا التمنّي الذي حكى اللّه سبحانه عن الأشقياء بقوله: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً)) (1)فهو تمنّي أمر مستحيل.مثل التمنّي الذي حكاه تعالى عنهم بقوله: نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنّا نَعْمَلُ)) . (2)

و بعبارة أخرى أنّا نعلم يقينا أنّه لا يبقى للنفس المستنسخة تلك الفعليّة،بل تصير بالقوّة،و صيرورة الفعليّة قوّة محال بالضرورة.و هذا البرهان على ما قرّرناه لا يخفى على المستبصر المسترشد أنّه برهان واضح تامّ على هذا المطلوب غير مبنيّ على حدوث النفس.و كذا هو كما أنّه جار في إبطال التناسخ جار أيضا في إبطال المسخ و الرسخ و الفسخ جميعا.بل ربّما يدّعي أنّ جريانه في ذلك أظهر منه فيه باعتبار حيث إنّ بقاء تلك الفعليّة للنفس المستنسخة المنتقلة إلى الجماد مثلا،بل إلى النبات و الحيوان أيضا ظاهر البطلان غاية الظهور،لا يدّعي خلافه من له أدنى مسكة.

و القول بأنّه ربّما كانت تلك الفعليّة باقية لها في هذه الصور،و أنّ النفس المستنسخة إلى الجماد أو إلى النبات أو إلى الحيوان ربّما كانت تتذكّر شيئا من أحوالها السابقة،إلاّ أنّا لا نعلم ذلك و لا نفهمه منها،قول في غاية السقوط،بل هو هذيان محض،و كيف تكون

ص:56


1- -النبأ(78):40. [1]
2- -الأعراف(7):53. [2]

هذه متذكّرة شيئا منها و لا تكون النفس المستنسخة المنتقلة إلى الإنسان الذي هو أكمل منها أو أشرف متذكّرة لشيء منها أصلا؟

بل ربّما يقال:إنّ النفس الإنسانيّة المستنسخة المنتقلة إلى الجماد أو النبات أو الحيوان كما أنّها لا تبقى لها تلك الفعليّة،لا تكون لها قوّة و استعداد أيضا للإنسانيّة و لو بعيدا،إلاّ أنّه حينئذ لا يكون المحال اللازم على تقدير جواز ذلك صيرورة الفعليّة قوّة،إذ لا قوّة أيضا على هذا،بل يكون ذلك المحال انتفاء الفعليّة رأسا من دون انقلاب إلى القوّة أيضا،و انتفاء الفعليّة رأسا مع كون محلّ تلك الفعليّة-و هو جوهر تلك النفس المستنسخة -باقيا بعينه،و مع عدم طروء شيء ينافي تلك الفعليّة من طروء ضدّ و نحو ذلك،محال قطعا.

و بعبارة أخرى:صيرورة النفس المستنسخة الباقية بعينها نفسا ساذجة محضة بعد أن كانت لها فعليّة ما محال قطعا.

لا يقال:ما ذكرت من عدم طروء المنافي للفعليّة هنا ممنوع،إذ ربّما كان المنافي لها هو أحد من الأمور التي جعلها بعضهم منافيا للتذكّر،كما ذكرت آنفا.

لأنّا نقول:قد عرفت أنّ القول به من الخرافات.

دليل آخر

ثمّ إنّه من جملة الدلائل على بطلان التناسخ بالمعنى المتنازع فيه ما ادّعاه بعض علمائنا-كما سننقل كلامه في مبحث انتقال الأرواح بعد مفارقتها عن الأبدان إلى الأبدان المثاليّة-أنّه انعقد إجماع المسلمين قاطبة على بطلانه،بل صار بطلانه ضروريّا من الدين.و هذا الادّعاء لو ثبت لكان هذا الدليل من أعظم الدلائل على بطلانه.و اللّه أعلم بالصواب.

ثمّ إنّه بما ذكرنا تمّ الدليل على بطلان التناسخ و أخواته،فلنرجع إلى صوب المقصد الآخر فنقول:

ص:57

المطلب الثالث

اشارة

في بيان أحوال النفس الإنسانيّة بعد خراب بدنها

اعلم أنّ هذا المطلب مركّب من مطلبين:

أحدهما:بقاؤها بعد خراب بدنها،و هذا قد مرّ مستقصى فيما سلف،حيث أقمنا الدليل العقليّ و النقليّ عليه،فتذكّر.

و الثاني:كيفيّة حالها بعده،و هذا أيضا و إن سبقت منّا إشارة ما إليه ثمّة في ضمن نقل الأخبار الواردة في بقائها بعده،إلاّ أنّا نزيدك هنا بيانا،و نقدّم لذلك مقدّمة تتضمّن لذكر ما قالته الحكماء في معنى اللّذة و الألم و السعادة و الشقاوة،و كذا لذكر ما قالوه في بيان كيفيّة حال النفس الإنسانيّة بعد مفارقتها عن البدن.

فنقول:قال الشيخ في«الشفاء»في فصل«في المعاد»:«و بالحريّ أن نحقّق هاهنا أحوال الأنفس الإنسانيّة إذا فارقت أبدانها،و أنّها إلى أيّة حال ستصير؟فنقول:يجب أن يعلم أنّ المعاد منه ما هو مقبول من الشرع و لا سبيل إلى إثباته إلاّ من طريق الشريعة و تصديق خبر النبوّة،و هو الآن (1)للبدن عند البعث،و خيرات البدن و شروره معلومة لا تحتاج إلى أن تعلم،و قد بسطت الشريعة الحقّة التي آتانا سيّدنا و نبيّنا و مولانا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حال السعادة و الشقاوة التي بحسب البدن.

و منه ما هو مدرك بالعقل و القياس البرهانيّ،و قد صدّقته النبوّة،و هو السعادة و الشقاوة الثابتتان بالقياس اللتان للأنفس،و إن كانت الأوهام منّا تقصر عن تصوّرهما

ص:58


1- -في المصدر:خبر النبيّ و هو الذي.

الآن لما سنوضّح من العلل.و الحكماء الإلهيّون رغبتهم في إصابة هذه السعادة أعظم من رغبتهم في إصابة السعادة البدنيّة،بل كأنّهم لا يلتفتون إلى تلك و إن أعطوها، و لا يستعظمونها في جنب هذه السعادة التي هي مقارنة الحقّ الأوّل.و على ما سنصفه عن قريب،فلنعرف حال هذه السعادة،و الشقاوة المضادّة لها،فإنّ البدنيّة مفروغ عنها في الشرع.

فنقول:يجب أن يعلم أنّ لكلّ قوّة نفسانيّة لذّة و خيرا يخصّها،و أذى و شرّا يخصّها.

مثاله:أنّ لذّة الشهوة و خيرها أن يتأدّى إليها كيفيّة محسوسة ملائمة من[الحواسّ] الخمسة،و لذّة الغضب الظفر،و لذّة الوهم الرجاء،و لذّة الحفظ تذكّر الأمور الموافقة الماضية،و أذى كلّ واحد منها ما يضادّه،و يشترك كلّها نوعا من الشركة في أنّ الشعور بموافقتها و ملائمتها هو الخير و اللذّة الخاصّة بها،و موافق كلّ واحد منها بالذات و الحقيقة هو حصول الكمال الذي هو بالقياس إليه كمال بالفعل،فهذا أصل.

و أيضا فإنّ هذه اللذّة (1)و إن اشتركت في هذه المعاني،فإنّ مراتبها بالحقيقة مختلفة، فالذي كماله أتمّ و أفضل،و الذي كماله أكثر،و الذي كماله أدوم،و الذي كماله أوصل إليه و حصل له،و الذي هو في نفسه أكمل فعلا و أفضل،و الذي هو في نفسه أشدّ إدراكا،فاللذّة التي له أبلغ و أوفى لا محالة،و هذا أصل.

و أيضا:فإنّه قد يكون الخروج إلى الفعل في كمال ما بحيث يعلم أنّه كائن و لذيذ و لا يتصوّر كيفيّته و لا يشعر بالتذاذه،ما لم يحصل و ما لم يشعر به لم يشتق إليه لا ينزع نحوه (2)مثل العنّين،فإنّه متحقّق أن للجماع لذّة،و لكن لا يشتهيه و لا يحنّ نحوه الاشتهاء و الحنين اللذين يكونان مخصوصين به،بل بشهوة أخرى،كما يشتهي من يجرب من حيث يحصل بها إدراك و إن كان موذيا في الجملة فإنّه لا يتخيّله،و كذلك حال الأكمه عند الصور الجميلة،و الأصمّ عند الألحان المنتظمة،و لهذا يجب أن لا يتوهّم العاقل أنّ كلّ لذّة فهو كما للحمار في بطنه و فرجه،و أنّ المبادي الأولى المقرّبة عند ربّ العالمين عادمة اللذّة

ص:59


1- -في المصدر:و إنّ هذه القوى.
2- -في المصدر:و لم ينزع نحوه.

و الغبطة،و أنّ ربّ العالمين ليس له في سلطانه و خاصيّته البهاء الذي له،و قوّته الغير المتناهية أمر في غاية الفضيلة و الشرف و الطيب كلّه أن نسمّيه لذّة،ثمّ للحمار و البهائم حالة طيّبة و لذيذة،كلاّ،بل أيّ نسبة تكون لما للعالية إلى هذه الخسيسة؟و لكنّا نتخيّل هذا أو نشاهده و لم نعرف ذلك بالاستشعار،بل بالقياس،فحالنا عنده كحال الأصمّ الذي لم يسمع قطّ في عدم تخيّل اللذّة اللحنيّة و هو متيقّن بطيبها،و هذا أصل.

و أيضا فإنّ الكمال و الأمر الملائم قد يتيسّر للقوّة الدرّاكة،و هناك مانع أو شاغل للنفس فتكرهه و تؤثر ضدّه عليه،مثل كراهيّة بعض المرضى للطعم الحلو،و شهوتهم للطعوم الرديّة الكريهة بالذات،و ربّما لم يكن كراهية و لكن كان عدم الاستلذاذ به كالخائف يجد الغلبة أو اللذّة فلا يشعر بها و لا يستلذّها،و هذا أصل.

و أيضا:فإنّه قد تكون القوّة الدرّاكة ممنوّة بضدّ ما هو كمال لها و لا تحسّ به و لا تنفر عنه،حتّى إذا زال العائق و رجعت إلى غريزتها تأدّت به،مثل الممرور فربّما لم يحسّ لمرارة فمه،إلى أن يصلح مزاجه و يستنقى أعضاؤه،فحينئذ تنفر عن الحالة العارضة له، و كذلك قد يكون الحيوان غير مشته للغذاء البتة،بل كارها له،و هو أوفق شيء له و يبقى عليه مدّة طويلة،فإذا زال العائق عاد إلى واجبته في طبعه،فاشتدّ جوعه و شهوته للغذاء، حتّى لا يصبر عنه و يهلك عند فقدانه،و قد يحصل سبب الألم العظيم،مثل إحراق النار و تبريد الزمهرير،إلاّ أنّ الحسّ مئوف فلا يتأذّى البدن به حتّى تزول الآفة فيحسّ حينئذ بالألم العظيم.

فإذا تقرّر هذه الأصول فيجب أن ننصرف إلى الغرض الذي نؤمّه.

فنقول:إنّ النفس الناطقة كمالها الخاصّ بها أن تصير عالما عقليّا مرتسما فيها صور الكلّ و النظام المعقول في الكلّ و الخير الفائض في الكلّ مبتدئا من مبدأ الكلّ و سالكا إلى الجواهر الشريفة الروحانيّة المطلقة،ثمّ الروحانيّة المتعلّقة نوعا من التعلّق بالأبدان،ثمّ الأجسام المعلومة بهيئاتها و قواها (1)،ثمّ كذلك حتّى تستوفي في نفسها هيئة الوجود كلّه

ص:60


1- -في المصدر:بهيئاتها و قوامها.

فتنقلب عالما معقولا موازيا للعالم الموجود كلّه،مشاهدا لما هو الحسن المطلق و الخير المطلق و الجمال الحقّ،و متّحدا به و منتقلة بمثاله و هيئته،و منخرطة في سلكه،و صائرة من جوهره،و إذا قيس هذا بالكمالات المعشوقة التي للقوى الأخرى توجد في المرتبة بحيث يصحّ (1)معها أن يقال إنّه أفضل و أتمّ منها،بل لا نسبة إليها بوجه من الوجوه فضيلة و تماما و كثرة و سائر ما يتمّ بدوام (2)إلذاذ المدركات كما ذكرناه.

و أمّا الدوام،فكيف يقاس الدوام الأبديّ بدوام المتغيّر الفاسد.و أمّا شدّة الوصول، فكيف يكون حال ما وصوله بملاقاة السطوح بالقياس إلى ما هو سار في جوهر قابله حتّى يكون كأنّه هو بلا انفصال،إذ العاقل و المعقول شيء واحد أو قريب من الواحد.و أمّا أنّ المدرك في نفسه أكمل،فأمر لا يخفى.و أمّا أنّه أشدّ إدراكا فأمر أيضا تعرفه بأدنى تأمّل و تذكّر منك لما سلف بيانه،فإنّ النفس النطقيّة أكثر عدد مدركات و أشدّ تقصّيا للمدرك و أشدّ تجريدا له عن الزوائد الغير الداخلة في معناه إلاّ بالعرض،و لها الخوض في بطن المدرك و ظاهره،بل كيف يقاس هذا الإدراك بذلك الإدراك،و كيف يقاس هذه اللذّة باللذّة الحسّيّة و الوهميّة و الغضبيّة؟و لكنّا في عالمنا و بدننا هذين و انغمارنا في الرذائل لا نحسّ بتلك اللذّة إذا حصل عندنا شيء من أسبابها كما أومأنا إليه في بعض ما قدّمناه من الأصول،و لذلك لا نطلبها و لا نحنّ إليها.اللهمّ إلاّ أن نكون قد خلعنا ربقة الشهوة و الغضب و أخواتهما من أعناقنا و طالعنا شيئا من تلك اللذّة،فحينئذ ربّما تخيّلنا منها خيالا طفيفا ضعيفا (3)و خصوصا عند انحلال المشكلات و استيضاح المطلوبات اليقينيّة (4)و نسبة التذاذنا ذلك نسبة التذاذ الحسّ بتنشّق روائح المذاقات اللذيذة إلى الالتذاذ بتطفّفها،بل أبعد من ذلك بعدا غير محدود.

و أنت تعلم إذا تأمّلت عويصا يهمّك و عرضت عليك شهوة و خيّرت بين الظفرين

ص:61


1- -في المصدر:بحيث يقبح معها...
2- -في المصدر:و سائر ما يتم به إلذاذ...
3- -في المصدر:خيالا طفيفا و خصوصا...
4- -في المصدر:النفسيّة...

استخففت بالشهوة،إن كنت كريم النفس،و الأنفس العاميّة أيضا فإنّها تترك الشهوات المعترضة و تؤثر الغرامات و الآلام الفادحة بسبب افتضاح أو خجل أو تغيّر أو سوء قالة (1)، و هذه كلّها أحوال عقليّة بعضها أضداد بعضها،يؤثر على ما يؤثر في أضدادها على المؤثّرات الطبيعيّة،و يصبر لها على المكروهات الطبيعيّة،فيعلم من ذلك أنّ الغايات العقليّة أكرم على الأنفس في محقّرات الأشياء،فكيف في النبيهة (2)العالية،إلاّ أن الأنفس الخسيسة تحسّ بما يلحق المحقّرات من الخير و الشرّ و لا يحسّ بما يلحق الأمور النبيهة، لما قيل من المعاذير.و أمّا إذا انفصلنا عن البدن و كانت النفس منّا تنبّهت في البدن لكمالها الذي هو معشوقها و لم تحصّله،و هي بالطبع نازعة إليه إذ عقلت بالعقل أنّه موجود،إلاّ أنّ اشتغالها بالبدن كما قلنا قد أنساها ذاتها و معشوقها،كما ينسي المرض الحاجة إلى بدل ما يتحلّل،و كما تنسي الأمراض الاستلذاذ بالحلو و اشتهاءه،و تميل بالشهوة من المريض إلى المكروهات في الحقيقة عرض لها حينئذ من الألم بفقدانه كفاء ما يعرض من اللذّة التي أوجبنا وجودها و دلّلنا على عظم منزلتها،فيكون ذلك هو الشقاوة و العقوبة التي لا يعد لها تفريق النار للاتّصال و تبديل الزمهرير للمزاج،فيكون مثلنا مثل الخدر الذي أومأنا إليه فيما سلف،أو الذي عمل فيه نار أو زمهرير،فمنعت المادّة الملابسة وجه الحسّ عن الشعور به،فلم يتأذّ،ثمّ عرض أن زال العائق فشعر بالبلاء العظيم.

و أمّا إذا كانت القوّة العقليّة بلغت من النفس حدّا من الكمال يمكنها به إذا فارقت البدن أن تستكمل الاستكمال التامّ الذي لها أن تبلغه،كان مثلها (3)الخدر الذي أذيق المطعم الألذّ،و عرض لحالته أن لا يشتهي،و كان لا يشعر به،فزال عنه الخدر فطالع اللذّة العظيمة دفعة،و يكون تلك اللذّة لا من جنس اللذّة الحسّيّة و الحيوانيّة بوجه،بل لذّة تشاكل الحال الطيّبة التي للجواهر الحيّة المحضة،و هي أجلّ من كلّ لذة و أشرف.فهذه هي السعادة،و تلك هي الشقاوة.و تلك الشقاوة ليست تكون لكلّ واحد من الناقصين،بل

ص:62


1- -في المصدر:استقباح أو خجل أو تغيّر أو سوء قالة....
2- -في المصدر:..في الأمور البهيّة العالية...
3- -في المصدر:..مثل الخدر.

للذين اكتسبوا القوّة العقليّة التشوّق إلى كمالها،و ذلك عند ما تبرهن لهم أنّ من شأن النفس إدراك ماهيّة الكلّ بكسب المجهول من المعلوم و الاستكمال بالفعل،فإن ذلك ليس فيها بالطبع الأوّل،و لا أيضا في سائر القوى،بل شعور أكثر القوى بكمالاتها إنّما يحدث بعد أسباب،و أمّا النفوس و القوى الساذجة الصرفة،فكأنّها هيولى موضوعة لم تكتسب البتة هذا الشوق،لأنّ هذا الشوق إنّما يحدث حدوثا و ينطبع في جوهر النفس إذا تبرهن للقوة النفسانيّة أنّ هاهنا أمورا يكتسب العلم بها،بالحدود الوسطى على ما علمت.

و أمّا قبل ذلك فلا يكون،لأنّ هذا الشوق يتبع رأيا،إذ كلّ شوق يتبع رأيا،و ليس هذا الرأي للنفس رأيا أوّليّا بل رأيا مكتسبا؛فهؤلاء إذا اكتسبوا هذا الرأي لزم النفس ضرورة هذا الشوق،فإذا فارقت و لم يحصل معها ما يبلغ به بعد الانفصال التمام،وقعت في هذا النوع من الشقاء الأبديّ،لأنّ أوائل الملكة العلميّة،إنّما كانت تكتسب بالبدن لا غير و قد فارقت،و هؤلاء إمّا مقصّرون عن السعي في كسب الكمال الإنسيّ،و إمّا معاندون جاحدون متعصّبون لآراء فاسدة مضادّة للآراء الحقّة،و الجاحدون أسوأ حالا لما اكتسبوا من هيئات مضادّة للكمال.و أمّا أنّه كم ينبغي أن يحصل عند الإنسان من تصوّر المعقولات حتّى يجاوز به الحدّ الذي في مثله تقع هذه الشقاوة،و في تعدّيه و جوازه ترجى هذه السعادة،فليس يمكنني أنصّ عليه نصّا إلاّ بالتقريب،و أظنّ أنّ ذلك أن تتصوّر نفس الإنسان المبادي المفارقة تصوّرا حقيقيّا،و تصدّق بها تصديقا يقينيّا بوجودها عنده بالبرهان،و تعرف العلل الغائيّة للأمور الواقعة في الحركات الكلّيّة دون الجزئيّة التي لا تتناهى و يتقرّر عندها هيئة الكلّ و نسب أجزائه بعضها إلى بعض،و النظام الآخذ من المبدأ الأوّل إلى أقصى الموجودات الواقعة في ترتيبه،و تتصوّر العناية و كيفيّتها،و تتحقّق الذات المتقدّمة للكلّ أيّ وجود يخصّها ذاتها،و أيّة وحدة يخصّها ذاتها كيف يعرف حتّى يلحقها تكثّر و تغيّر بوجه من الوجوه،و كيف ترتيب نسبة الموجودات إليها.

ثمّ إذا (1)ازداد الناظر استبصارا ازداد للسعادة استعدادا،و كأنّه ليس يتبرأ الإنسان عن

ص:63


1- -في المصدر:...ثمّ كلّما ازداد.

هذا العالم و علائقه إلاّ أن يكون أشدّ العلاقة مع ذلك العالم،فصار له شوق إلى ما هناك و عشق لما هناك،فصدّه عن الالتفات إلى ما خلفه جملة.

و نقول أيضا:إنّ هذه السعادة الحقيقية لا تتمّ إلاّ بإصلاح الجزء العمليّ من النفس، و نقدّم لذلك مقدّمة،و كأنّا قد ذكرناها فيما سلف.

فنقول:إنّ الخلق ملكة تصدر بها عن النفس أفعال ما بسهولة من غير تقدّم رويّة،و قد أمر في كتب الأخلاق بأن يستعمل التوسّط بين الخلقين الضدّين،لا بأن يفعل أفعال التوسّط دون أن تحصل ملكة التوسّط،بل أن تحصل ملكة التوسط،و ملكة التوسّط كأنّها موجودة للقوى الناطقة و للقوى الحيوانيّة معا،أمّا للقوّة الحيوانيّة فبأن يحصل فيها هيئة الإذعان،و أمّا للقوّة الناطقة فبأن يحصل فيها هيئة الاستعلاء و الانفعال،كما أنّ ملكة الإفراط و التفريط موجودة للقوّة الناطقة و للقوّة الحيوانيّة و لكن بعكس هذه النسبة، و معلوم أنّ الإفراط و التفريط مقتضيا القوى الحيوانيّة،و إذا قويت القوى الحيوانيّة و حصل له ملكة استعلائيّة،حدثت في النفس الناطقة هيئة إذعانيّة،و أثر انفعاليّ قد رسخ في النفس الناطقة من شأنها أن تجعلها قويّة العلاقة مع البدن شديدة الانصراف إليه.

و أمّا ملكة التوسّط فالمراد منها التنزيه عن الهيئات الانقياديّة و تبقية النفس على جبلّتها مع إفادة هيئة الاستعلاء و التنزّه،و ذلك غير مضادّ لجوهرها و لا مائل لها إلى جهة البدن بل عن جهته،فإنّ التوسط يسلب عنه الطرفين (1)دائما.ثمّ جوهر النفس إنّما كان البدن هو الذي يغمره و يلهيه و يغفله عن الشوق الذي يخصّه عن طلب الكمال له.و عن الشعور بلذّة الكمال إن حصل له،و الشعور بألم الكمال إن قصر عنه،لا بأنّ النفس منطبعة في البدن أو منغمسة فيه و لكن للعلاقة التي كانت بينها و هي الشوق الجبليّ إلى تدبيره و الاشتغال بآثاره،فربّما يورده عليها من عوارضه و بما يتقرّر فيها من ملكات مبدؤها البدن،فإذا فارقت و فيها الملكة الحاصلة بسبب الاتّصال به كانت قريبة الشبه من حالها و هي فيه،فبما تنقص من ذلك تزول غفلتها عن حركة الشوق الذي لها إلى كمالها،و ربّما

ص:64


1- -في المصدر:الطرفان.

يبقى منه معها تكون محجوبة النسبة عن الاتّصال الصرف بمحلّ سعادتها و يحدث هناك من الحركات المتشوّقة ما يعظم أذاها.ثمّ إنّ تلك الهيئة البدنيّة مضادّة لجوهرها موذية لها، و إنّما كان يلهيها عنها أيضا البدن و تمام انغماسها فيه،فإذا فارقت النفس البدن أحسّت بتلك المضادّة العظيمة و تأذّت بها أذى عظيما،لكنّ هذا الأذى و هذا الألم ليس لأمر لازم بل لأمر عظيم (1)غريب،و الأمر العارض الغريب لا يدوم و لا يبقى،و يزول و يبطل مع زوال (2)الأفعال التي كانت تثبت تلك الهيئة بتكرّرها،فيلزم إذن أن تكون العقوبة التي بحسب ذلك غير خالدة،بل تزول و تنمحي قليلا قليلا حتّى تزكو النفس و تبلغ السعادة التي تخصّها.

و أمّا النفوس البله التي لم تكتسب الشوق،فإنّها إذا فارقت البدن و كانت غير مكتسبة للهيئات الرديّة صارت إلى سعة من رحمة اللّه و نوع من الراحة.و إن كانت مكتسبة للهيئات البدنيّة الرديّة و ليس فيها هيئة غير ذلك و لا معنى يضادّه و لا ما ينافيه،فتكون-لا محالة-ممنوّة بشوقها إلى مقتضاها فتتعذّب عذابا شديدا بفقد البدن و مقتضيات البدن، من غير أن يحصل المشتاق إليه،لأنّ آلة ذلك قد بطلت و خلق التعلّق بالبدن قد بقي.

و يشبه أيضا أن يكون ما قاله بعض العلماء حقّا،و هو:أنّ هذه الأنفس إن كانت زكيّة و فارقت البدن و قد رسخ فيها نحو من الاعتقاد في العاقبة التي تكون لأمثالهم على سبيل ما يمكن أن يخاطب به العامّة،و تصوّر من ذلك في أنفسهم،فإنّهم إذا فارقوا الأبدان و لم يكن لهم معنى جاذب إلى الجهة التي هي فوقهم،لا كمال فيسعدوا تلك السعادة،و لا شوق كمال ليشقوا تلك الشقاوة،بل جميع هيآتهم النفسانيّة متوجّهة نحو الأسفل،منجذبة إلى الأجسام؛و لا منع في المواد السماويّة عن أن تكون موضوعة لفعل نفس فيها.قالوا:فإنّها تتخيّل جميع ما كانت اعتقدته من الأحوال الأخرويّة،و تكون الآلة التي يمكنها بها التخيّل شيء من الأجرام السماويّة،فتشاهد جميع ما قيل لها في الدنيا من أحوال القبر و البعث و الخيرات الأخرويّة،و تكون الأنفس الرديّة أيضا تشاهد العقاب بحسب ذلك

ص:65


1- -في المصدر:بل لأمر عارض قريب.
2- -في المصدر:مع ترك الأفعال...

المصوّر لهم في الدنيا و تقاسيه،فإنّ الصور الخياليّة ليست تضعف عن الحسّيّة،بل تزداد عليها تأثيرا و صفاء كما يشاهد في المنام،فربّما كان المحلوم به أعظم شأنا في بابه من المحسوس؛على أن الأخرويّ (1)أشدّ استقرارا من الموجودة في المنام بحسب قلّة العوائق و تجرّد النفس و صفاء القابل.و ليست الصورة التي ترى في المنام،بل و التي تحسّ في اليقظة كما علمت،إلاّ المرتسمة في النفس،إلاّ أنّ أحدهما يبتدئ من باطن و ينحدر إليه، و الثاني يبتدئ من خارج و يرتفع إليه.فإذا ارتسم في النفس (2)فعل فعلها هناك الإدراك المشاهد و إنّما يلذّذ و يؤذي بالحقيقة هذا المرتسم في النفس لا الموجود في الخارج، و كلّما ارتسم في النفس فعل فعله و إن لم يكن له سبب من خارج،فإنّ السبب الذاتيّ هو هذا المرتسم،و الخارج سبب بالعرض أو سبب السبب،فهذه هي السعادة و الشقاوة الخسيستان اللتان بالقياس إلى الأنفس الخسيسة،و أمّا الأنفس المقدّسة،فإنّها تبعد عن مثل هذه الأحوال و تتّصل لكمالها بالذات و تنغمس في اللذّة الحقيقيّة و تتبرّأ عن النظر إلى ما خلفها و الى المملكة التي كانت لها كلّ التبرّؤ،إذ لو كان قد بقي (3)فيها من ذلك أثر اعتقاديّ أو خلق تأذّت به و تخلّفت لأجله عن درجة العلّيين إلى أن ينفسخ و يزول (4).

انتهى كلامه.

و أقول:و مثله كلامه في«الإشارات»في كثير من تلك المطالب التي بيّنها،و لعلّنا نذكر فيما بعد بعض كلامه فيه.فلنتكلّم أوّلا في شرح ما نقلنا عنه في هذا الفصل،ثمّ نتكلّم في المقصد.

فنقول:إنّ ما ذكره أوّلا بقوله:«يجب أن يعلم أنّ المعاد منه ما هو مقبول من الشرع الخ»غرضه ظاهرا أنّ المعاد على قسمين:

قسم هو مقبول من الشرع و لا سبيل إلى إثباته إلاّ من طريق الشريعة و تصديق

ص:66


1- -في المصدر:الأخرى.
2- -في المصدر:في النفس ثمّ هناك الإدراك.
3- -في المصدر:و لو كان بقي...
4- -الشفاء، [1]الإلهيّات،فصل المعاد. [2]

النبيّ عليه السّلام و هو المعاد للبدن،أي إعادة هذا البدن العنصريّ عند البعث و إعادة الروح إليه مرّة أخرى،و حيث كان هذا القسم من المعاد لا استقلال للعقل في إثباته،و كانت خيرات البدن و شروره اللتان كان الغرض من إثبات هذا القسم من المعاد إثباتهما معلومة لا تحتاج إلى أن تعلم بالقياس البرهانيّ،و كان مع ذلك قد بسطت الشريعة الحقّة التي أتانا سيّدنا و نبيّنا و مولانا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حال السعادة و الشقاوة اللّتين بحسب البدن و حال تلك الخيرات و الشرور البدنيّة،فلذا لم نتعرّض لإثبات هذا القسم من المعاد.

و قسم هو مدرك بالعقل و القياس البرهانيّ،و للعقل سبيل إلى إثباته،و قد صدقته النبوّة،أي إخبار النبيّ عليه السّلام أيضا،و هو المعاد الروحانيّ،و السعادة و الشقاوة الثابتتان بالقياس البرهانيّ اللّتان هما حاصلتان للأنفس بحسب ذواتها و حقائقها.و إن كانت الأوهام منّا تقصر عن تصوّرهما و إدراكهما الآن،أي حين كوننا متعلّقين بالبدن العنصريّ الدنيويّ،منغمسين فيه كما سنوضّح في الأصول الآتية من العلل على عدم تصوّر ذلك، و الحكماء الإلهيّون رغبتهم في إصابة هذه السعادة أعظم من رغبتهم في إصابة السعادة البدنيّة،بل كأنّهم لا يلتفتون إلى تلك السعادة البدنيّة لخسّتها بالنسبة إلى السعادة الروحانيّة العقليّة،و لا يتوجّهون إليها و إن أعطوها،و لا يستعظمونها في جنب هذه السعادة العقليّة التي هي مقارنة الحقّ الأوّل تعالى شأنه على ما سنصفه عن قريب.و حيث كان الحال كذلك،فلا بدّ من إثبات هذا القسم من المعاد بالقياس البرهانيّ فلنعرف أوّلا حال هذه السعادة و الشقاوة المضادّة لها،أي العقليّتين،ثمّ نتعرّض لإثباتهما للأنفس،فإنّ السعادة و الشقاوة البدنيّتين مفروغ عنهما في الشرع الشريف،فلا علينا أنّ نتكلّم فيها، و هذا بيان مراده.

كلام مع كثير من الحكماء

و أقول:و فيه نظر قد أومأنا إليه في صدر الرسالة،و هو أنّه إن كان المراد أنّ المعاد الجسمانيّ ممّا لا يستقلّ في إثباته العقل أصلا،فهو ليس كذلك،لأنّا سنقيم فيما بعد

ص:67

إن شاء اللّه تعالى الدليل على إثبات أصله،و نبيّن أنّ للعقل استقلالا في أنّه يجب أن يعود النفس الإنسانيّة بعينها إلى بدنها الأوّل الباقي بعينه من حيث الأجزاء الأصليّة لأجل وقوع الثواب و العقاب البدنيّين الحسّيّين.

و إن كان المراد أنّ المعاد الجسمانيّ و إن كان ممّا يستقلّ العقل في إثبات أصله،لكن لا استقلال له في إثبات ما ورد في الشرع من خصوصيّات الثواب و العقاب الحسّيّين الأخرويّين،و كذا في خصوصيّات ما ورد فيه من الأمور الحسّيّة الواقعة في الآخرة،و في أنّه يجب أن يقع الثواب و العقاب البدنيّان على تلك الأنحاء و الأنهاج و الكيفيّات المخصوصة الواردة فيه،بل إنّ إثبات ذلك موكول على الشرع كما هي مبيّنة فيه،أي أنّ بيان تفاصيل تلك إنّما هو في الشرع،و إن كان العلم بها من حيث الخصوصيّة و الوجه الجزئيّ موقوفا على العيان و المشاهدة،فهذا الاحتمال و إن كان له وجه في الجملة،لكنّه خلاف ظاهر كلامهم،بل هو بعيد عنه بمراحل.

ثمّ إنّ الحكماء الإلهيّين الذين أهملوا إثبات المعاد الجسمانيّ و قصروا النظر على إثبات الروحانيّ منه فقط،لكون السعادة العقليّة أعظم من البدنيّة؛

إن كان المراد أنّه حيث كانت السعادة العقليّة أعظم من البدنيّة،و كانت البدنيّة مفروغا عنها في الشرع الشريف،فلذلك أهمل الحكماء الإلهيّون إثبات الجسمانيّ،و حاصله التصديق بالجسمانيّ من المعاد و الروحانيّ منه جميعا،إلاّ أنّ الجسمانيّ منه لما كان مبيّنا في الشرع،و كانت السعادة العقليّة أعظم،فلذا تعرّضوا لإثبات الروحانيّ،و أهملوا إثبات الجسمانيّ،و أحالوا إثباته على الشرع كما فعله الشيخ،فله وجه في الجملة إلاّ أنّه خلاف ظواهر كلماتهم،لأنّ حوالة إثبات الجسمانيّ منه على الشرع غير ظاهرة من كلماتهم المنقولة عنهم في ذلك،كما نقلنا جملة منها في صدر الرسالة،حتّى ممّا حكاه الشيخ هنا عنهم.

و إن كان المراد أنّهم تعرضوا لإثبات الروحانيّ و أهملوا إثبات الجسمانيّ مطلقا،و لو على سبيل الحوالة على الشرع،لكون السعادة العقليّة أعظم من البدنيّة كما هو ظاهر كلامهم،و منه ما حكاه الشيخ عنهم،ففيه مخالفة للشرع،لا من أجل إنكارهم للجسمانيّ،

ص:68

بل لأجل إهمالهم له،مع كونه ممّا نطق به الشرع و ضروريّا في الدين كما بيّناه في صدر الرسالة.

و قد عرفت أيضا ثمّة أن في مفهوم لفظ«المعاد»الذي قالوا به دلالة على ثبوت الجسمانيّ،فتذكر.

و أيضا أنّا سلّمنا أنّ السعادة العقليّة أعظم من البدنيّة-كما يظهر ذلك ممّا سيذكره الشيخ-إلاّ أنّ تلك الأعظميّة لا تكون منشأ لإهمال البدنيّة مطلقا،كيف و أكثر ما نطق به الشرع فيه دلالة على البدنيّة خاصّة،و ما نطق به في العقليّة هو أقلّ قليل منه كما يظهر على من تتّبع الآيات و الأخبار.و القول بأنّ الخطاب فيما يدلّ على البدنيّة،إنّما هو للعامّة خاصّة دون الخاصّة من العقلاء خلاف الظاهر جدّا.كما أنّ القول بأنّ السعادة البدنيّة حيث كانت خسيسة جدّا و ليست لذّة في الحقيقة،بل إنّما هي رفع آلام،فلذا ينبغي أن لا يلتفت إليها،بل ينبغي أن يلتفت إلى ما هو لذّة حقيقة و هي اللذّة العقليّة لا يكاد يصحّ،لأنّ كون البدنيّة رفع آلام إنّما يسلّم في اللذّات الحسّيّة الدنيويّة،و لا يسلّم في اللذّات الحسّيّة الأخرويّة،و قياس الأخرويّة على الدنيويّة غير معقول.

في حال السعادة و الشقاوة العقليّين

فهذه جملة من النظر الذي يرد على كلام الشيخ هنا فيما قال هو به،و فيما حكاه عن الحكماء الإلهيّين،فتبصّر.

ثمّ أنّه تعرّض لتعرّف حال السعادة و الشقاوة العقليّتين،و قرّر أوّلا لذلك أصولا خمسة.

و الذي ذكره في الأصل الأوّل من تلك الأصول بقوله:«يجب أن يعلم أنّ لكلّ قوّة نفسانيّة لذّة و خيرا...الخ»فيه تنبيه على أنّ لكلّ قوّة نفسانيّة لذّة و خيرا يخصّها،و أذى و شرّا و ألما يخصّها،و إنّما أورد في المثال اللذّات و الآلام التي للقوّة الحيوانيّة تنبيها على ظهورها،حيث أنّه لا ينكر أحد وجودها،حتّى إنّه قصر بعض الأوهام العامّيّة اللذّات

ص:69

و الآلام على اللذّات و الآلام الحسّيّة الحيوانيّة،كما يشعر به كلامه الآتي،و يدلّ عليه كلامه في«الإشارات»كما سننقله.

و كذلك فيه تنبيه على أنّ لكلّ هذه القوى النفسانيّة،و كذا كلّ اللذّات و الآلام تشترك نوعا من الشركة في أنّ شعور تلك القوّة بموافقة تلك الأمور و ملائمتها هو الخير و اللذّة الخاصّة بها،و أنّ موافق كلّ واحد منها بالذات و الحقيقة هو حصول الكمال الذي هو بالقياس إليه كمال بالفعل،و كذلك الحال في الألم،فإنّه بضدّ ذلك.و إنّما قال:«فإنّ الشعور بموافقتها هو الخير و اللذّة الخاصّة بها»،تنبيها على أنّه إذا لم يكن هناك شعور بموافقتها و ملائمتها لم يكن هناك لذّة و لا خير بالنسبة إلى تلك القوّة،و أنّه إذا كان لها شعور بها كانت هناك لذّة،و يعبّر عنها بالخير أيضا.

و إنّما قال:«و موافق كلّ واحد منها بالذات و الحقيقة هو حصول الكمال الذي هو بالقياس إليه كمال بالفعل»،تنبيها على أنّ الشعور بموافقة الموافق الذي هو اللذيذ و الكمال للملتذّ إنّما يكون لذة إذا كان لها شعور بحصول ذلك اللذيذ و الكمال و وصوله إليه،و على أنّ ذلك الكمال أيضا يختلف،فقد يكون كمالا في الواقع أو مقيسا إلى غير ذلك الملتذّ،فحينئذ لا يكون الشعور بحصوله له لذّة و لا خيرا له،و قد يكون كمالا بالقياس إليه بأن يعتقد كونه كمالا له،سواء كان كمالا له في الواقع أو لم يكن،فحينئذ يكون الشعور بحصوله له لذّة،و على أنّ الكمال الذي يكون الشعور بحصوله له لذّة ينبغي أن يكون كمالا بالفعل لا بالقوّة.و منه يتلخّص التنبيه على ماهيّة اللذّة،حيث تلخّص أنّ اللذّة-و يعبّر عنها بالخير أيضا-هو الشعور بموافقة الموافق الذي هو حصول الكمال الذي هو كمال بالقياس إليه،و هو كمال بالفعل.و كذلك يتلخّص منه التنبيه على ماهيّة الألم،فإنّه بخلاف ذلك.و هذا الذي يظهر منه التنبيه على ماهيّة اللذّة و الألم قريب ممّا ذكره في«الإشارات»في التنبيه على ماهيّتهما.

قال:«تنبيه أنّ اللذّة هي إدراك و نيل لوصول ما هو عند المدرك كمال و خير من حيث

ص:70

هو كذلك،و الألم هو إدراك و نيل لوصول ما هو عند المدرك آفة و شرّ». (1)

و قد قال المحقّق الطوسيّ في شرحه:«أمّا الإدراك فقد مرّ شرح اسمه،و أمّا النيل فهو الإصابة و الوجدان.و إنّما لم يقتصر على الإدراك،لأنّ إدراك الشيء قد يكون بحصول صورة تساويه،و نيله لا يكون إلاّ بحصول ذاته،و اللذّة لا تتمّ بحصول ما يساوى اللذيذ، بل إنّما تتمّ بحصول ذاته.و إنّما لم يقتصر على النيل لأنّه لا يدلّ على الإدراك إلاّ بالمجاز.

و إنّما أوردهما معا لفقدان لفظ يدلّ على المعنى المقصود بالمطابقة،فقدّم الأعمّ الدالّ بالحقيقة و أردفه بالمخصّص الدالّ بالمجاز.

و إنّما قال«لوصول ما هو عند المدرك»و لم يقل«لما هو عند المدرك»لأنّ اللذّة ليست هي إدراك اللذيذ،فقط بل هي إدراك حصول اللذيذ عند الملتذّ و وصوله إليه.

و إنّما قال:«ما هو عند المدرك كمال و خير»لأنّ الشيء قد يكون كمالا و خيرا بالقياس إلى شيء و هو لا يعتقد كماليّته و خيريّته فلا يلتذّ به،و قد لا يكون كذلك و هو يعتقده فيلتذّ به،فالمعتبر كماليّته و خيريّته عند المدرك لا في نفس الأمر،و الكمال و الخير هنا-أعني المقيسين إلى الغير-هما حصول شيء لما من شأنه أن يكون ذلك الشيء له، أي حصول شيء يناسب شيئا و يصلح له،أو يليق به بالقياس إلى ذلك الشيء.

و الفرق بينهما أنّ ذلك الحصول يقتضي لا محالة براءة من القوة لذلك الشيء،فهو بذلك الاعتبار فقط كمال،و باعتبار كونه مؤثّرا خير؛و الشيخ إنّما ذكرهما لتعلّق معنى اللذّة بهما،و أخّر ذكر الخير لأنّه يفيد تخصيصا ما بذلك المعنى.و إنّما قال:«من حيث هو كذلك»لأنّ الشيء قد يكون كمالا و خيرا من جهة دون جهة،و الالتذاذ به يختص بالجهة التي هو معها كمال و خير.

فهذه ماهيّة اللذّة،و يقابلها ماهيّة الألم كما ذكره.و هما أقرب إلى التحصيل من قولهم:

«اللذّة إدراك الملائم،و الألم إدراك المنافي».و لذلك عدل الشيخ منه إلى ما ذكره في هذا الموضع (2)،انتهى كلامه.

ص:71


1- -شرح الإشارات 337/3. [1]
2- -شرح الإشارات 337/3-339. [2]

و أنت بعد ما أحطت بما ذكره المحقّق الطوسيّ(ره)في شرحه،يظهر لك بيان تقارب ما ذكره الشيخ في الكتابين في المعنى المحصّل لماهيّة اللذّة و الألم،و إن كان بين ما في الكتابين تغاير ما في بعض العبارات،و من جملته أنّه أطلق في«الشفاء»لفظ الخير على اللذّة،و في«الإشارات»على الكمال،و الأمر فيه سهل.

و أما ما ذكره في الأصل الثاني،فهو تنبيه على أنّ مراتب اللذّات،و كذا مراتب الآلام مختلفة متفاوتة باعتبار تفاوت الكمالات التي حصولها لذّة و فقدانها ألم،فبعضها أفضل و أتمّ،و بعضها أكثر،و بعضها أدوم،و بعضها أوصل،و بعضها أكمل،و بعضها أشدّ،إلى غير ذلك من وجوه التفاوت و الاختلاف التي كلّها بيّنة لا سترة فيها.

و ما ذكره في الأصل الثالث هو بالحقيقة تفريع على ما ذكره في الأصل الأوّل،من التقييد بالشعور بالموافقة و التقييد بحصول الكمال،و تنبيه على فائدة القيدين في تعريف اللذّة،و يعلم منه فائدتهما في تعريف الألم بالمقايسة و تنبيه على أنّه قد يكون الخروج إلى الفعل في كمال بحيث يعلم أنّه كائن و لذيذ،لكن لا يتصوّر كيفيّته و لا يشعر بالتذاذه ما لم يحصل،و ما لم يشعر به لم يشتق إليه و لم ينزع نحوه،كما في العنّين بالنسبة إلى لذّة الجماع،و الأكمه عند الصور الجميلة،و الأصمّ عند الألحان المنتظمة،فإنّه و إن كان يتيقّن أنّ في هذه الأمور لذّة،إلاّ أنّ هؤلاء لا يلتذّون بها لأجل عدم شعورهم بها و عدم حصولها لهم.

و منه يعلم أنّ الوجه في أنّا لا نلتذّ بالصحّة و السلامة مع كونهما كمالا حاصلا لنا،أنّ الشعور بحصول الكمال الذي هو المعتبر في حصول اللذّة غير حاصل هناك،حيث استمرار المحسوسات يذهل النفس عن إحساسها.و بالجملة،فسواء انتفى الشعور و الحصول جميعا-كما في الصور الأوّلة-أو انتفى الشعور فقط كما في الصورة الأخيرة ينتفي اللذّة،فلذا قيّد في مفهوم اللذّة قيد الحصول و الشعور.

و منه يعلم وجه التقييد بضدّ ذلك في مفهوم الألم أيضا،فإنّ صاحب الحميّة مثلا إذا لم يقاس وصب(أي المرض)الأسقام و لم يعرضه آفاتها،ربّما يتألّم عن تناول المتناولات الرديّة و لم يحترز عنه لعدم شعوره بها مع العلم بكونها مؤلمة.و من ذلك يظهر

ص:72

أنّه يجب أن لا يتوهّم العاقل أنّ كلّ لذّة فهو كما للحمار في بطنه و فرجه،و أنّ المبادي الأولى و الملائكة المقرّبين عادمو اللذّة.

و بالجملة،يجب أن لا يتوهّم العاقل أنّ اللذّات مقصورة على اللذّات الحسّيّة الخسيسة،و أن ليس في الوجود لذّة عقليّة،و أنّ الملأ الأعلى ليس لهم لذّة،فإنّ من يتوهّم ذلك فحاله كحال العنّين و الأكمه و الأصمّ،بل كحال الحمار،حيث أنّه إنّما يجد تلك اللذّة الخسيسة في بطنه و فرجه فقط و لا يشعر بلذّة أخرى أعلى منها عقليّة،و لم يحصل له ذلك الكمال،مع أنّه لا نسبة للّذّة العقليّة إلى هذه اللذّة الخسيسة،فإنّ اللّذات-كما ذكره في الأصل الثاني-متفاوتة،و اللذّة العقليّة أعلى من الحسّيّة من كلّ وجه كما سيأتي بيانه.

و هذا المطلوب الذي بيّنه الشيخ هنا بعبارة و جيزة،قد بيّنه في«الإشارات»بكلام أبسط،قال:«و هم و تنبيه،إنّه قد سبق إلى الأوهام العامّيّة أنّ اللذّات القويّة المستعلية هي الحسّيّة و أنّ ما عداها لذّات ضعيفة،و كلّها خيالات غير حقيقيّة،و قد يمكن أن ينبّه من جملتهم من له تميّز ما،فيقال له:أ ليس ألذّ ما تصفونه من هذا القبيل هو المنكوحات و المطعومات و أمور تجرى مجراها،و أنتم تعلمون أنّ المتمكّن من غلبة ما-و لو في أمر خسيس كالشطرنج و النرد-قد يعرض له مطعوم و منكوح لطالب العفّة و الرئاسة مع صحّة جسمه في الغلبة الوهميّة،و قد يعرض مطعوم و منكوح لطالب العفّة و الرئاسة مع صحّة جسمه في صحّة(حشمة ن د)حسّيّة فيقبض اليد منهما مراعاة للحشمة،فتكون مراعاة الحشمة آثر و ألذّ لا محالة هناك من المنكوح و المطعوم،و إذا عرض للكرام من الناس الالتذاذ بانعام يصيبون موضعه آثروه على الالتذاذ بمشتهى حيوانيّ متنافس فيه،و آثروا فيه غيرهم على أنفسهم مسرعين إلى الإنعام به.

و كذلك فإنّ كبير النفس يستصغر الجوع و العطش عند المحافظة على ماء الوجه، و يستحقر هول الموت و مفاجآت العطب (1)عند مناجزة المبادرين،و ربّما اقتحم (2)الواحد

ص:73


1- -العطب:الهلاك.
2- -اقتحم:دخل بلا رويّة.

منهم على عدد دهم (1)ممتطيا ظهر الخطر لما يتوقّعه من لذّة الحمد و لو بعد الموت،كأنّ ذلك يصل إليه و هو ميّت.فقد بان أنّ اللذّات الباطنة مستعلية على اللذّات الجسميّة، و ليس ذلك في العاقل فقط،بل و في العجم من الحيوانات،فإنّ من كلاب الصيد ما يقبض على الجوع ثمّ يمسكه على صاحبه و ربّما حمله إليه،و المرضعة من الحيوانات تؤثر ما ولدته على نفسها،و ربّما خاطرت محامية عليه أعظم من مخاطرتها في ذات حمايتها نفسها،فإذا كانت اللذّات الباطنة أعظم من الظاهرة و إن لم تكن عقليّة،فما قولك في العقليّة. (2)

«تذنيب:فلا ينبغي لنا أن نسمع إلى قول من يقول:إنّا لو حصلنا على جملة لا نأكل و لا نشرب و لا ننكح،فأيّة سعادة تكون لنا؟و الذي يقول هذا،فيجب أن يبصّر و يقال له:يا مسكين،لعلّ الحال التي للملائكة و ما فوقها ألذّ و أبهج و أنعم من حال الأنعام،بل كيف يمكن أن يكون لأحدهما إلى الآخر نسبة يعتدّ بها». (3)انتهى كلامه.

و بالجملة،فيعلم ممّا ذكره في الكتابين أنّ اللذّات العقليّة أعظم من اللذّات الحسّيّة، و هو المطلوب.

و ما ذكره في الأصل الرابع هو بالحقيقة تفريع على ما ذكره في الأصل الأوّل أيضا، من التقييد بحصول الكمال الذي هو بالقياس إليه كمال بالفعل،و تنبيه على فائدة هذا القيد في تعريف اللذّة،بل تفريع عليه و على ما ذكره فيه من التقييد بالشعور أيضا في تعريف اللذّة.

و بالجملة فهو تنبيه على أنّه قد يتيسّر للقوّة الدرّاكة الكمال و الأمر الملائم لها،إلاّ أنّها لا تستلذّه لحصول مانع أو شاغل هناك للنفس،فتكرهه و تؤثر ضدّه عليه،مثل كراهيّة

ص:74


1- -الدهم:العدد الكثير.
2- -شرح الإشارات 334/3-335،و [1]فيه:إنّه قد سبق إلى...من له تمييز فيقال...و النرد و نحوهما...في صحبة فيقبض اليد...مناجزة الأقران المبارزين...الواحد على عدد...على اللذّات الحسّيّة...ما تقتنص على الجوع...و الواضعة من الحيوانات...
3- -شرح الإشارات 336/3-337. [2]

بعض المرضى للطعم الحلو و شهوتهم للطعوم الرديّة الكريهة بالذات،و ربّما لم تكرهه و لا تستلذّه أيضا،كالخائف يجد الغلبة و اللذّة فلا يستلذّها.

و ما ذكره في الأصل الخامس هو بالحقيقة تفريع على ما ذكره في الأصل الأوّل أيضا من التقييد بالشعور،و تنبيه على فائدة ذلك القيد في تعريف الألم،بل تنبيه على فائدة ذلك القيد و قيد حصول ضدّ الكمال الذي هو بالقياس إليه كمال جميعا في تعريف الألم، حيث ظهر فيه أنّ المعتبر في الألم هو الشعور بحصول ضدّ ما هو الكمال بالقياس إليه، و هذا ظاهر في المثال الذي ذكره أوّلا و ثالثا،و يظهر منه في مثاله الثاني أنّ ذلك تنبيه على فائدة ذلك القيد أو ذينك القيدين في تعريف اللذّة و الألم جميعا.و كيفما كان،فهو تنبيه على أنّه قد يكون القوّة الدرّاكة ممنوّة لضدّ ما هو كمال لها،لكن لا تحسّ به و لا تتنفّر عنه و لا تتألّم منه لحصول عائق عن ذلك،حتّى إذا زال العائق و رجعت إلى غريزتها تأذّت به و تألّمت،مثل الممرور فإنّه ربّما لم يحسّ بمرارة فمه إلى أن يصلح مزاجه و يستنقي أعضاءه،فحينئذ تنفر عن الحالة العارضة له.و كذلك قد يكون الحيوان غير مشته للغذاء البتة بل كارها له،و هو أوفق شيء له و يبقى عليه مدّة طويلة فلا يلتذّ بالغذاء،فإذا زال العائق عاد إلى واجبة في طبعه و اشتدّ جوعه و شهوته للغذاء،فيتألّم من فقدان الغذاء حتّى لا يصبر عنه و يهلك عند فقدانه،و قد يحصل سبب الألم العظيم،مثل إحراق النار و تبريد الزمهرير،إلاّ أنّ الحسّ مئوف فلا يتأذّى البدن به و لا يتألّم حتّى تزول الآفة فيحسّ حينئذ بالألم العظيم.

و الحاصل أنّه بتلك القيود التي اعتبرت في ماهيّة اللذّة و الألم،لا يرد نقض لا على تعريف اللذّة و لا على تعريف الألم.و قد زاد في«الإشارات»في البيان،و زاد قيدا آخر به يندفع النقوض عن تعريف اللذّة و الألم.

قال:«تنبيه،إذا أردنا أن نستظهر في البيان مع غناء ما سلف عنه إذا لطف لفهمه،زدنا فقلنا:إنّ اللذّة هي إدراك كذا من حيث هو كذا و لا شاغل و لا مضادّ للمدرك،فإنّه إذا لم يكن سالما فارغا أمكن أن لا يشعر بالشرط،أمّا غير السالم فمثل عليل المعدة إذا زال مانعه عادت لذّته و شهوته و تأذّى بتأخّر ما هو الآن يكرهه.

ص:75

تنبيه:و كذلك قد يحضر السبب المؤلم و يكون القوة الدرّاكة ساقطة،كما في قرب الموت من المرضى،أو معوّقة كما في الخدر فلا يتألّم،فإذا انبعثت القوّة أو زال العائق عظم الألم» (1).انتهى.

و هذا الذي ذكرناه إنّما هو الكلام في بيان الأصول الخمسة التي أصّلها.

في بيان اللذّة العقليّة للنفس و أنّها أعلى من الحسّيّة و كذلك الألم

ثمّ أنّ الشيخ بعد ما قرّر تلك الأصول قال:«فإذا تقرّرت هذه الأصول،فيجب أن ننصرف إلى الغرض الذي نؤمّه،فنقول:إنّ النفس الناطقة كما لها الخاصّ بها أن تصير عالما عقليّا إلى آخر ما ذكره»و مقصوده من ذلك أنّه حيث تقرّرت هذه الأصول و تقرّر أنّ مراتب اللذّة متفاوتة بعضها أعلى من بعض،و أنّ في الوجود لذّة عقليّة هي أعلى من اللذّة الحسّيّة،فيجب أن نبيّن أنّ اللذّة العقليّة للنفس الناطقة الإنسانيّة ما ذا؟و أنّها بأيّة جهة و أيّ سبب أعلى من الحسّيّة؟حتّى يعلم منه بالمقايسة وجود ألم عقليّ لها أيضا و أنّه أشدّ من الحسّيّ.

بيان الأوّل أنّ معنى اللذّة هو الشعور بحصول الكمال الذي هو بالقياس إلى المدرك كمال بالفعل،فشعور النفس الإنسانيّة أيضا بحصول الكمال الخاصّ لها يكون لذّة لها، و كمالها الخاصّ بها من حيث هي ذات مجردة أن تصير عالما عقليّا مرتسما فيها صور الكمال و النظام المعقول في الكلّ و الخير الفائض في الكلّ مبتديا مبدئا من الكلّ و سالكا إلى الجواهر الشريفة الروحانيّة المطلقة،ثمّ الروحانيّة المتعلّقة نوعا من التعلّق بالأبدان، ثمّ الأجسام المعلمة بهيئاتها و قواها،ثمّ كذلك حتّى تستوفي في نفسها هيئة الوجود كلّه، فتنقلب عالما معقولا موازيا للعالم الموجود كلّه،فتصير مع كونه عالما صغيرا منطويا فيها العالم الأكبر،مشاهدا لما هو الحسن المطلق و الخير المطلق و الكمال الحقّ،و متّحدا به و منتقلة بمثاله و هيئته و منخرطة في سلكه و صائرة من جوهره.

ص:76


1- -شرح الإشارات 343/3،و [1]فيه:فلا يتألّم به،فإذا انتعشت بالقوّة...

و بعبارة أخرى كما ذكره في«الإشارات»أنّ الكمال الخاص بالجوهر العاقل من الإنسان أن يتمثّل فيه جلية الحقّ الأوّل قدر ما يمكنه أن ينال منه ببهائه الذي يخصّه،ثمّ يمثل فيه الوجود كلّه على ما هو عليه،مجرّدا عن الشوب مبتدئا فيه بعد الحقّ الأوّل بالجواهر العقليّة العالية،ثمّ الروحانيّة السماويّة و الأجرام السماويّة،ثمّ ما بعد بذلك تمثّلا لا يمايز الذات،و حيث كان كمالها الخاصّ بها ما ذكر،يكون شعورها به هو لذّتها العقليّة، و الشعور بضدّه ألمها العقليّ.

و بيان الثاني أنّه لا سترة في أنّه إذا قيس هذا الكمال الخاصّ بها بالكمالات المعشوقة التي للقوى الأخرى الحسّيّة،كتكيّف العضو الذائق و الشامّ و اللامس مثلا بالكيفيّة الملائمة المحسوسة الذي هو كمال القوة الشهوانيّة،و كتكيّف النفس الحيوانيّة بكيفيّة غلبة أو كيفية شعور بأذى يحصل في المغضوب عليه الذي هو كمال القوة الغضبيّة،و كتكيّفها بكيفيّة ما ترجوه أو ما تذكره الذي (1)الأوّل منهما كمال القوة الواهمة،و الثاني كمال القوة الحافظة،إلى غير ذلك من الكمالات بالقياس إلى سائر القوى الحسّيّة الجسمانيّة،كان هذا الكمال الخاصّ بالنسبة إلى تلك الكمالات بحيث يصحّ أن يقال أنّه أفضل و أتمّ منها من جميع الوجوه،و أقوى كيفيّة و أكثر كمّيّة من جميع الجهات و الاعتبارات،بل لا نسبة له إليها بوجه من الوجوه فضيلة و تماما و كثرة،و سائر ما يتمّ بدوام إلذاذ المدركات كما ذكرناه في الأصل الثاني.

و أمّا الدوام فكيف يقاس الدوام الأبديّ الحاصل في الكمال العقليّ بدوام المتغيّر الفاسد الحاصل في الكمالات الأخر.و أمّا شدة الوصول فكيف يكون حال ما وصوله بملاقاة السطوح كما في كمال القوى الحسّيّة-حيث أنّ الحسّ لا يدرك إلاّ كيفيّات تقوم بسطوح الأجسام التي تحضره-بالقياس إلى ما هو سار في جوهر قابله كما في الكمال العقليّ-حيث أنّ العقل يصل إلى كنه المعقول فيعقل حقيقته المكتنفة بعوارضها كما هي، و ليرى في جوهر معقوله حتّى يكون كأنّه هو بلا انفصال،إذ العاقل و المعقول شيء واحد

ص:77


1- -«اللّذين»خ ل.

أو قريب من الواحد.

و أمّا أنّ المدرك في نفسه في الإدراك العقليّ أكمل فأمر لا يخفى.و أمّا أنّه أشدّ إدراكا فأمر أيضا تعرفه بأدنى تأمّل و تذكّر منك لما سلف بيانه،فإنّ النفس الناطقة أكثر عدادا للمدركات،حيث أنّ عدد تفاصيل المعقولات لا يكاد يتناهى،و ذلك لأنّ أجناس الوجودات و أنواعها غير متناهية،و كذلك المناسبات الواقعة بينهما و المدركات بالحواس محصورة في أجناس قليلة،و إن تكثّرت فإنّما تكثّرت بالأشدّ و الأضعف،كالحلاوتين المختلفتين،و كذلك هي أشدّ تقصّيا للمدرك و أشدّ تجريدا له عن الزوائد الغير الداخلة في معناه إلاّ بالعرض،و لها الخوض في بطن المدرك و ظاهره.فإذا كانت حال الكمالات العقليّة هذه،و حال الكمالات الحسّيّة بخلافه،و كانت اللذّة التابعة لهما بتينك الحالتين أيضا،حيث أنّ نسبة اللذّة إلى اللذّة نسبة الكمال إلى الكمال،و الإدراك إلى الإدراك،كانت اللذّة العقليّة أقوى كيفيّة و أكثر كمّيّة من جميع الجهات من الحسّيّة.بل كيف يقاس هذا الإدراك بذلك الإدراك،و كيف يقاس هذه اللذّة العقليّة باللذّة الحسّيّة و الوهميّة و الغضبيّة مثلا،و كيف يقاس الألم العقليّ بالألم الحسّيّ أيضا؟و بذلك تمّ بيان ما رامه هنا.

و قوله:«و لكنّا في عالمنا و بدننا هذين و انغمارنا في الرذائل لا نحسّ بتلك اللذّة...

إلى آخر ما قاله»تنبيه على حلّ إشكال يرد على هذا الموضع.

بيان الإشكال أنّ كلّ قوّة تشتاق إلى كمالها الخاصّ بها و تتألّم بحصول ضدّه لها، كالباصرة مثلا فإنّها تشتاق إلى النور و تلتذّ بالشعور بحصوله لها،و تنفر عن الظلمة و تتألّم منها،فإن كانت المعقولات كمالات للنفس الإنسانيّة،فما بالها لا تشتاق إلى حصولها و لا تتألّم لحصول الجهل بها المضاد لها؟

و بيان الحلّ أنّ سبب ذلك هو انتفاء شرط اللذّة هنا و كذا شرط الألم،من الشروط المتقدّمة في الأصول المتقرّرة.أمّا شرط اللذّة فمن جهة أنّه قد تقرّر فيها أنّه قد يتيسّر للقوّة الدرّاكة كمال و أمر ملائم،و هناك مانع أو شاغل للنفس،فلا تلتذّ به،بل ربّما تكرهه، و هذا فيما نحن فيه متحقّق،حيث أنّ اشتغال النفس بالمحسوسات حال كونها في ضمن البدن يمنعها إلى الالتفات إلى المعقولات،و انغمارها في الرذائل البدنيّة يشغلها عن

ص:78

الاقبال إلى المعقولات و الشعور بها،و لأجل ذلك لا تلتذّ بتلك المعقولات و إن كانت حاصلة لها،فإنّها ما لم تقبل إليها لم تجد ذوقا منها،فلم يحصل لها شوق إليها فلم تلتذّ بالشعور بحصولها لها.

و أمّا شرط الألم،فمن جهة أنّه قد تقرّر في تلك الأصول أيضا أنّه قد يحصل للقوّة الدرّاكة سبب الأذى و الألم،لكنّها لا تتأذّى منه لحصول عائق منه،و هذا أيضا حاصل هنا، فإنّ أضداد الكمالات العقليّة و هي الجهالات بها لما كانت مستمرّة الوجود غير متجدّدة، و كانت النفس الإنسانيّة مشتغلة بغيرها غير شاعرة بها،كما أنّها غير شاعرة بتلك الكمالات أيضا،فلم تكن مدركة لتلك الأضداد،فلم تكن تتألّم منها.و هذا بيان محصّل مرامه.

و أمّا تحرير كلامه،فهو أن يقال:و لكنّا في عالمنا و بدننا هذين و انغمارنا في الرذائل الحسّيّة البدنيّة لا نحسّ بتلك اللذّة العقليّة إذا حصل عندنا شيء من أسباب تلك اللذّة لأجل فقدان شرطها كما أومأنا إليه في بعض ما قدّمناه من الأصول الخمسة،و لذلك لا نطلب تلك اللذّة و لا نحنّ إليها و لا نشتاق إليها.اللّهمّ إلاّ أن نكون قد خلعنا ربقة الشهوة و الغضب و أخواتهما عن أعناقنا،و نفضنا تلك الرذائل عن جواهر نفسنا،و شعرنا بتلك الكمالات و لذّاتها نوعا من الشعور،و طالعنا شيئا من تلك اللذّة،فحينئذ حيث كان الخلع غير تامّ و النفض غير كامل،لم ندرك تلك اللذّة إدراكا كاملا أيضا،بل ربّما تخيّلنا منها خيالا طفيفا ضعيفا،و خصوصا عند انحلال المشكلات العقليّة و استيضاح المطلوبات اليقينيّة،و نسبة التذاذنا ذلك إلى الالتذاذ بإدراك حقائق تلك المعقولات و الوصول إلى كنهها نسبة التذاذ الحسّ بتنشّق الروائح المذاقات اللذيذة الطيّبة أنفسها،إلى الالتذاذ بتطفّفها و تخيّلها،بل أبعد من ذلك بعدا غير محدود غير متناه.

و يشهد بما ذكرنا أنّك إذا تأمّلت أمرا عويصا عقليّا يهمّك،و عرضت عليك شهوة بدنيّة جسمانيّة،و خيّرت بين الظفرين،أيّ الظفر بذلك الأمر العويص و الظفر بتلك الشهوة، استخففت بالشهوة و آثرت الظفر بالأمر العويص على الظفر بها إن كنت كريم النفس عالي الهمّة.فمن هذا يعلم أنّ لك في ضمن هذا البدن أيضا لذّة عقليّة و أنت تدركها و تؤثرها

ص:79

على اللذّة الحسّيّة.بل الأنفس العامّيّة الغير الكريمة أيضا تكون لها تلك الحالة،فإنّها أيضا قد تترك الشهوات المعترضة لها التي هي لذّات حسّيّة و تؤثر الغرامات و الآلام الفادحة بسبب افتضاح أو خجل أو تغير،التي كلّها آلام عقليّة.

و بالجملة،فالأحوال العقليّة تؤثّر على أضدادها الجسمانيّة و يصبر لها على المكروهات الطبيعيّة،فيعلم من ذلك أنّ الغايات العقليّة أكرم على الأنفس في محقّرات الأشياء،فكيف في الأشياء النبيهة العالية،إلاّ أنّ الأنفس الخسيسة تحسّ بما يلحق المحقّرات من الخير و الشرّ،و لا تحسّ بما يلحق الأمور النبيهة،لما قيل من المعاذير.و هذا شرح كلامه هنا.

و قد أشار في«الإشارات»إلى أنّه قد يوجد حظّ وافر من اللذّة الحقيقيّة العقليّة للنفس و هي في ضمن البدن.

قال:و ليس هذا الالتذاذ مفقودا من كلّ وجه و النفس في البدن،بل المنغمسون في تأمّل الجبروت،المعروضون عن الشواغل يصيبون و هم في الأبدان من هذا اللذّة حظّا وافرا قد يتمكّن منهم فيشغلهم عن كلّ شيء».

ثمّ قال:«و النفوس السليمة التي هي على الفطرة و لم يفظّظها مباشرة الأمور الأرضيّة الخاصّة،إذا سمعت ذكرا روحانيّا يشير إلى أحوال المفارقات غشيها غاش شائق لا تعرف سببه،و أصابها وجد مبرّح مع لذّة مفرجة(مفرّحة خ)يفضي بها ذلك إلى حيرة و دهش،و ذلك للمناسبة و قد جرّب هذا تجريبا شديدا». (1)انتهى كلامه.

في بيان السعادة و الشقاوة العقليّين من جهة القوّة

النظرية للنفس بعد مفارقتها عن البدن

و قوله:«و أمّا إذا انفصلنا عن البدن،و كانت النفس منّا تنبّهت في البدن لكمالها الذي هو معشوقها و لم تحصّله...إلى آخر ما ذكره».

ص:80


1- -شرح الإشارات 354/3. [1]

بيان:لأنّ الأنفس الإنسانيّة و إن كانت حين كونها منغمرة في البدن،غير مدركة للذّاتها العقليّة و آلامها العقليّة حقّ الإدراك،إلاّ أنّها بعد انفصالها عن البدن و مفارقتها عنه، تكون مدركة حقّ الإدراك لتلك اللذّات،ملتذّة بها،متألّمة بتلك الآلام.

و بيان ذلك في الألم أنّ النفس الإنسانيّة إذا انفصلت عن البدن،و كانت تنبّهت في البدن لكمالها الذي هو معشوقها و لم تحصّله و هي بالطبع نازعة إليه،مشتاقة إليه،إذ عقلت بالفعل أنّ ذلك الكمال موجود لها،إلاّ أنّ اشتغالها بالبدن-كما قلنا-قد أنساها ذاتها و معشوقها،كما ينسي المرض الحاجة إلى بدل ما يتحلّل،و كما تنسي الأمراض الاستلذاذ بالحلو و اشتهاءه،و تميل بالشهوة من المريض إلى المكروهات في الحقيقة كما تقرّر في الأصول المتقدمة،عرض لها حينئذ من الألم بفقدان ذلك الكمال كفاء ما يعرض من اللذّة العقليّة التي أوجبنا وجودها لها إن كانت لها،و دلّلنا على عظم منزلتها،فيكون ذلك الألم هو الشقاوة العقليّة و العقوبة التي لا يعد لها شقاوة حسّيّة كتفريق النار للاتّصال و تبديل الزمهرير للمزاج،بل أيّة نسبة للنار الروحانيّة التي هي «نارُ اللّهِ الْمُوقَدَةُ اَلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ» إلى النار الجسمانيّة؟فيكون مثلنا حينئذ في عدم إدراكنا لذلك الألم الروحانيّ حين كوننا في البدن،مثل الخدر الذي أومأنا إليه فيما سلف من الأصول،أو الذي قد عمل فيه نار أو زمهرير،فمنعت المادّة الملابسة وجه الحسّ عن الشعور به،فلم يتأذّ،ثمّ عرض أن زال العائق فشعر بالبلاء العظيم.

و أمّا بيان ذلك في اللذّة،فلأنّ النفس الإنسانيّة إذا انفصلت عن البدن،و كانت القوّة العقليّة بلغت من النفس حدّا من الكمال،يمكنها به إذا فارقت البدن أن تستكمل الاستكمال التامّ الذي لها أن تبلغه،أي أن تكون بحصول ذلك الكمال لها كاملة بحسب ذاتها كمالا مناسبا لها و من شأنها أن تبلغه،بلغته بعد مفارقة البدن و أدركته و التذّت به لذّة عظيمة أعظم من كلّ لذّة حسّيّة.و مثلها في أنّها لا تدرك تلك اللذّة في البدن و تدركها بعد المفارقة عنه،مثل الخدر الذي أذيق المطعم الألذّ و عرض لحالته أن لا يشتهيه،و كان لا يشعر به،فزال عنه الخدر،فطالع اللذّة العظيمة دفعة.

و لا سترة في أنّ تلك اللذّة العقليّة الحاصلة للنفس بعد مفارقتها عن البدن،لذّة لا من

ص:81

جنس اللذّة الحسّيّة و الحيوانيّة بوجه،بل لذّة تشاكل الحال الطيّبة التي هي للجواهر الحيّة المحضة و الملائكة المقرّبين،و هي أجلّ من كلّ لذّة و أشرف.فهذه هي السعادة الحقيقيّة العقليّة،و تلك هي الشقاوة الحقيقيّة العقليّة.

و قوله:«و تلك الشقاوة ليست تكون لكلّ واحد من الناقصين الخ»غرضه منه أنّ تلك الشقاوة ليست تكون لكلّ واحد من الناقصين،بل لبعضهم،و أنّها فيمن تكون له مختلفة المراتب أيضا.

و بيانه أنّ تلك الشقاوة التي ذكر أنّها تكون بفقدان النفس لكمالها الخاصّ بها الذي هو معشوق لها،ليست لكلّ واحد من الناقصين غير الكاملين،بل للناقصين الذين اكتسبوا في ضمن البدن،للقوّة العقليّة التشوّق إلى كمالها،ثمّ حرموا من ذلك الكمال،و ذلك الاكتساب للتشوّق أو التشوّق هو عند ما تبرهن لهم و تحقّق عندهم أن من شأن النفس إدراك ماهيّة الكلّ،أي كلّ الموجودات بكسب المجهول من المعلوم و الاستكمال بالفعل، فإنّ ذلك الاكتساب للتشوّق أو التشوّق ليس في النفس من حيث هي نفس بالطبع الأوّل، و إلاّ لكانت كلّ نفس مكتسبة لذلك متشوّقة إليه،و هو خلاف الواقع،حيث إنّ بعض النفوس الناقصة نفوس ساذجة صرفة،لم تكتسب تشوّقا أصلا.كما أنّ كسب المجهول من المعلوم و الاستكمال بالفعل ليس فيها بالطبع الأوّل أيضا،و هو ظاهر؛و لا أيضا ذلك الاكتساب للتشوّق أو التشوّق في سائر قوى النفس بالطبع الأوّل،حتّى يكون كونه فيها بالطبع سببا لتشوّق النفس إلى كمالها الخاصّ بها من دون اكتساب لذلك،لأنّ تشوّق تلك القوى إلى كمالاتها و شعورها بها إنّما يكون أيضا بعد حصول أسباب ذلك التشوّق و الشعور لا بالطبع،مع أنّ تشوّقها إلى كمالاتها كيف يكون سببا لتشوّق النفس إلى كمالها، و الحال أنّ كمالاتها مخالفة لكمال النفس و ليس بينهما رباط ليكون التشوّق إلى أحدهما سببا لحصول التشوّق بالآخر.

فظهر من هذا أنّ الاكتساب للتشوّق أو التشوّق إنّما يكون للنفس التي كانت في ضمن البدن في مرتبة العقل بالملكة بالنسبة إلى كمالها المعشوق لها،و إن كانت بالنسبة إلى غير ذلك الكمال في المراتب الأخر.و أمّا النفوس و القوى الناقصة الساذجة الصرفة التي

ص:82

في مرتبة العقل الهيولانيّ بالنسبة إلى حصول الكمال الخاصّ المعشوق لها،كنفوس البله و المجانين و الأطفال التي لم تدرك أنّ لها كمالات و لذّات،فكأنّها هيولى محضة موضوعة لم تكتسب البتّة هذا الشوق،لأنّ هذا الشوق إنّما يحدث حدوثا و ينطبع في جوهر النفس، إذا تبرهن للقوّة أنّ هاهنا أمورا يكتسب العلم بها بالحدود الوسطى على ما علمت.

و بالجملة،إذا تحقّق عندها أنّ هاهنا أمورا كذلك،و عرفت إنّيّتها و كذا ماهيّاتها من وجه في الجملة،و إن لم تعرفها من الوجه الآخر الذي تكون معرفتها منه بالاكتساب،و أمّا قبل ذلك التبرهن و كون النفس في مرتبة العقل الهيولانيّ بالنسبة إلى ذلك الكمال الخاص و إن كانت بالنسبة إلى غير ذلك في المراتب التي بعد العقل الهيولانيّ فلا يكون لها هذا التشوّق،لأنّ هذا التشوق يتبع رأيا،إذ كلّ شوق يتبع رأيا،فما لم يحصل الرأي لم يحصل الشوق،و ليس هذا الرأي للنفس رأيا أوّليّا،بل رأيا مكتسبا كما عرفت،فليس لهذه النفس الساذجة الصرفة شوق إلى كمالها الخاص،فليس لها ألم و تأذّي بسبب فقدانها إيّاه،و لا شقاوة من هذه الجهة.و مثلها حينئذ مثل العنّين بالقياس إلى لذّة الجماع،و الأكمه عند الصور الجميلة،و الأصمّ عند الألحان المنتظمة،فإنّهم لا يتأذّون بفقدان هذه اللذّات لعدم شوقهم إليها،بل النسبة أبعد بكثير،بل لا نسبة أصلا.

و أمّا هؤلاء المكتسبون للرأي المستتبع للشوق إلى الكمال الخاصّ للنفس،فهم إذا اكتسبوا هذا الرأي،لزم النفس ضرورة هذا الشوق،فإذا فارقت عن البدن و لم يحصل معها ما تبلغ به بعد الانفصال عن البدن الكمال و التمام الذي من شأنها أن تبلغه لو استكملت، حرمت من الوصول إلى ذلك الكمال المعشوق لها،و لم تنل ما رجت منه،فخابت و خسرت و وقعت في هذا النوع من الشقاء الأبديّ الذي تختلف مراتبه بحسب اختلاف مراتب الشوق إلى ذلك الكمال و حرمانها منه،و كذا بحسب اختلاف مراتب الكمالات المعدّة لكلّ نفس،فكلّما كان الشوق أعظم و الكمال المعدّ أكمل و الحرمان أبلغ،كان الألم أشدّ و الحسرة أدوم و أعظم،و إنّما كان هذا الشقاء أبديّا لا يزول لأنّه لا يجبر و لا يزول سببه،فإنّ أوائل الملكة العلميّة التي بها يمكن اكتساب المجهول من المعلوم و الاستكمال بالفعل،لا شكّ أنّها تكتسب بالبدن لا غير،و إن فرضنا أنّ لها في ضمن البدن إدراكا

ص:83

مخصوصا بها من دون مشاركة البدن و معاونته لها في ذلك،و قد فرض أنّها فارقت البدن، فلم يكن لها اكتساب تلك الملكة ثانيا حتّى يمكن لها الاستكمال مرّة أخرى،و زوال ما هو سبب لهذا الشقاء،و يتيسّر لها انقطاعه مع ظهور أنّ حصول العلم بتلك المعلومات التي فقدت النفس العلم بها،ليس ضروريّا حتّى يحصل لها العلم بها مرّة أخرى و يزول عنها الشقاء،فإنّه لو كان ضروريّا بعد الموت،لكان ضروريّا حين كونها في البدن أيضا،فكان حاصلا،و المفروض خلافه.

في أصناف الناقصين بحسب القوّة النظريّة

ثمّ إنّ هؤلاء الناقصين الذين تكون لهم هذه الشقاوة الأبديّة،بحسب الجليل من النظر صنفان:

صنف هم مقصّرون عن السعي في كسب الكمال الإنسيّ،أي في كسب الكمال الخاصّ بالنفس الإنسانيّة،و هذا بإطلاقه شامل للمعرضين و المهملين جميعا.

أمّا المعرضون فهم الذين كان تقصيرهم ذلك بسبب أنّهم مع اكتسابهم للتشوّق إلى ذلك الكمال.و معرفتهم باكتسابهم النظريّ القاصر أنّ لهم كمالا خاصّا بهم،لم يشتغلوا باكتسابه،فلم يكتسبوه و لا اكتسبوا ما يضادّ ذلك الكمال أيضا،إلاّ أنّهم اشتغلوا بما يصرفهم عن اكتساب الكمال،ممّا ليس بمضادّ له كبعض الأمور الدنيويّة،فصاروا معرضين عنه مقصّرين فيه.

و أمّا المهملون فهم الذين كان تقصيرهم ذلك بسبب أنّهم مع اكتسابهم لذلك التشوق لم يشتغلوا لا بكسب الكمال و لا بكسب ما يضادّه و تكاسلوا في اقتناء الكمال،فصاروا مقصّرين فيه،سواء تكاسلوا في اقتناء غير الكمال أيضا مطلقا،أم لم يتكاسلوا فيه بل اشتغلوا في الجملة بما ليس بمضادّ له و لا بصارف عنه من الأمور الدنيويّة.

و صنف هم المعاندون الجاحدون المتعصّبون لآراء فاسدة مضادّة للآراء الحقّة،و هذا أيضا بإطلاقه يشمل ما إذا كانت تلك الآراء الفاسدة سفسطيّة أو مشاغبيّة أو جدليّة،سواء

ص:84

كانت ناشئة عن رأي ذلك الجاحد نفسه،أو كانت مبنيّة على التقليد لغيره.و ما إذا كان الجحود لمحض العناد،أو طلبا للرئاسة و الشهرة و نحو ذلك،و ما إذا كان الجاحد مع اكتسابه للشوق إلى كماله منذ أوّل فطرته و اعترافه بإنّيّته،بحيث يكون له اعتراف بهميّته أيضا في الجملة باطنا،لكنّه كان جاحدا لماهيّة ذلك الكمال ظاهرا رأسا لا تفصيلا و لا إجمالا،كما قال تعالى في شأن بعض الجاحدين: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ)) (1).أو لم يكن اعتراف بمهيّة أصلا،كما في صورة الجهل المركب.

و بالجملة،فالمستفاد من كلامه أنّ كلّ هؤلاء الناقصين من الأصناف المذكورة يتعذّبون دائما بنقصانهم لاشتياقهم إلى الكمال الفائت عنهم،و أنّه إنّما حصل ذلك الشوق لهم باكتساب نظريّ قاصر عن الوصول إلى المشتاق إليه،و هو فطانتهم البتراء،و إنّما حصل القصور لهم من حيث قوّتهم النظريّة،و من حيث طروء حالة عليها جعلت قوّتهم النظريّة قاصرة،و تلك الحالة أوّلا هي في المعرضين هيئة وجوديّة صارفة عن اكتساب الكمال،و إن لم تكن مضادّة له،و في الجاحدين هيئة وجوديّة مضادّة له،و أمّا في المهملين فلا هذه و لا تلك،بل هي التكاسل،سواء اعتبرته أمرا وجوديّا أو أمرا عدميّا.

ثمّ أنّه تستتبع تلك الحالات حالات أخر هي في المعرضين و المهملين حالة الجهل البسيط بالمعلومات الحقّة،و هي حالة عدميّة تقابل العلم تقابل العدم و الملكة،و في الجاحدين اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه اعتقادا جازما،سواء كان مستند إلى شبهة أو تقليد أو عناد أو نحو ذلك،و هذا هو حالة وجوديّة تقابل العلم تقابل التضادّ،أي الحالة التي تسمّى جهلا مركّبا،لأنّها جهل بما في الواقع مع الجهل بأنّه جاهل،سواء كان الجهل باطنا و ظاهرا جميعا كما في بعض الجاحدين،أو ظاهرا فقط كما في بعضهم،كما أشرنا إلى ذلك.

ثمّ إنّ أسوأ هؤلاء الأصناف الثلاثة حالا هم الجاحدون،لما اكتسبوا من هيآت مضادّة للكمال،سواء كانت تلك الهيئات هيئات أوّليّة أو ثانويّة،ثمّ المعرضون،ثمّ

ص:85


1- -النمل(27):14. [1]

المهملون.و كلّ هؤلاء الأصناف أيضا مختلفون في التعذّب بحسب اختلاف مراتب الجحود و الإعراض و الإهمال.

و حيث كان المفروض في الكلّ التعذّب دائما،يجب أن تكون تلك الحالة الطارئة على القوّة النظريّة التي هي سبب لقصورها و نقصانها و لتألّمها و تعذّبها حالة مستحكمة مستمرّة راسخة،صارت هي صورة لجوهر النفس باقية ببقائها،إلاّ لم يكن التعذّب دائما، بل يمكن أن يكون ذلك الشقاء الذي بسببها منقطعا منجبرا بزوال تلك الحالة شيئا فشيئا، و يشهد بما ذكرناه ما ذكره المحقّق الطوسيّ(ره)في شرح كلام الشيخ في«الإشارات».

قال الشيخ:«ثمّ اعلم أنّ ما كان من رذيلة النفس من جنس نقصان الاستعداد للكمال الذي يرجى بعد المفارقة فهو غير مجبور،و ما كان بسبب غواش غريبة فيزول و لا يدوم بها التعذّب». (1)

و قال المحقّق الطوسيّ في شرحه هكذا:«يريد بيان مراتب الأشقياء؛و نقدّم لذلك مقدّمة،و هي أن نقول:فوات كمالات النفس يكون لا محالة لعدم استعدادها،و عدم الاستعداد يكون إمّا لأمر عدميّ،كنقصان غريزة العقل،أو وجوديّ،كوجود الأمور المضادّة للكمالات فيها،و هي إمّا راسخة،أو غير راسخة،فهذه أقسام ثلاثة تشترك في كونها رذائل و هي أسباب النقصان،و كلّ واحد منها إمّا بحسب القوّة النظريّة،و إمّا بحسب القوّة العمليّة فتصير ستّة.فالذي يكون بسبب نقصان الغريزة بحسب القوّتين معا فهو غير مجبور بعد الموت،و لا يكون بسببها تعذّب،و هو الذي ذكره الشيخ.و الذي يكون بحسب القوّة النظريّة و يكون راسخا فهو أيضا غير مجبور،لكن يدوم بها التعذيب (2)،لأنّه الجهل المركّب المضادّ لليقين،الذي صار صورة للنفس غير مفارقة عنه.و الشيخ لم يتعرّض لذكر هذا القسم صريحا في هذا الفصل،لكنّه أيضا بوجه تحت النقصان،الذي حكم الشيخ عليه بأنه غير مجبور،و الثلاثة الباقية،أعني النظريّة غير الراسخة،كاعتقادات العوامّ و المقلّدة،و العمليّة الراسخة و غير الراسخة،كالأخلاق و الملكات الرديّة المستحكمة

ص:86


1- -شرح الإشارات 350/3. [1]
2- -في المصدر:...يدوم به التعذّب.

و غير المستحكمة،و هي التي تكون بسبب غواش غريبة،و جميعها يزول بعد الموت،إمّا لعدم رسوخها،و إمّا لكونها هيئات مستفادة من الأفعال و الأمزجة،فتزول بزوالها لكنّها تختلف في شدّة الرداءة و ضعفها و في سرعة الزوال و بطئه،و يختلف التعذّب بها بعد الموت في الكمّ و الكيف بحسب الاختلافين». (1)انتهى كلامه(ره).

و الشاهد و إن كان في بعض ما ذكره،كالنظريّة غير الراسخة،إلاّ أنّا نقلنا كلامه بتمامه لاشتماله على فوائد أخر و شواهد أخرى فيما نحن بصدد بيانه،فتبصر.

و حيث عرفت أنّ ما ذكره الشيخ هاهنا إنّما هو قصور من حيث القوّة النظريّة بسبب طروء حالة عليها مع كون الغريزة تامّة سليمة في كسب الكمال،و أنّ المستفاد منه الفرق بين الحالة الراسخة و غير الراسخة كما يظهر ذلك ممّا نقلنا من كلام المحقّق الطوسيّ أيضا، ظهر لك أنّه لو كان القصور من حيث القوّة النظريّة،لكن من جهة نقصان الغريزة من كسب الكمال بعد أن كانت الغريزة منذ أوّل الفطرة سليمة تامّة في الجملة،بحيث اكتسبت الشوق إلى الكمال المعشوق لها في الجملة،لكن لم تكتسبه لنقصانها،فذلك النقصان أيضا إن استتبع هيئة راسخة كانت صورة للنفس باقية ببقائها مضادة لها منافية لحقيقتها،يكون التعذّب بها أيضا دائما كما في صورة الجهل المركّب المضادّ لليقين الذي صار صورة للنفس غير مفارقة عنها،و إن لم يكن كذلك فيمكن انقطاع ذلك التعذّب و انجباره،بل ربّما لم يكن به تعذّب أيضا.

ثمّ إنّ قول الشيخ:«و أمّا أنّه كم ينبغي أن يحصل عند الإنسان من تصوّر المعقولات، حتّى يجاوز به الحدّ الذي في مثله تقع هذه الشقاوة،و في تعدّيه و جوازه ترجى هذه السعادة،فليس يمكنني أنصّ عليه الخ».

لمّا بيّن سابقا كيفيّة السعادة و الشقاوة العقليّتين من جهة القوّة النظريّة،و أنّ السعادة العقليّة تحصل بالشعور بحصول الكمال الخاصّ للنفس الإنسانيّة،و الشقاوة تحصل بالشعور بضدّه،أراد أن يبيّن أنّ ذلك الكمال ما ذا؟و أن أيّة مرتبة من الكمال العلميّ يكون

ص:87


1- -شرح الإشارات 351/3-352.

حصولها للنفس منشأ للسعادة العقليّة،و حصول ضدّها لها منشأ للشقاوة العقليّة؟فقال:

«و أمّا أنّه كم ينبغي أن يحصل عند الإنسان من تصوّر المعقولات»أي من التصوّر بالمعنى الأعمّ الشامل للتصديق بالمعقولات،التي إدراكها كمال خاصّ بالنفس الإنسانيّة،حتّى يجاوز الإنسان بسبب ذلك الكمال الحدّ الذي في مثل ذلك الحدّ تقع هذه الشقاوة،و في تعدّيه و جوازه و الترقّي منه إلى حدّ آخر فوقه ترجى هذه السعادة،فليس يمكنني أنصّ عليه و أصرّح به،و أعيّنه تعيينا لخفائه و لإشكاله،إلاّ نصّا بالتقريب،و أظنّ أنّ ذلك أن تتصوّر نفس الإنسان المبادئ المفارقة التي هي مباد فاعليّة،لوجودها و لوجود غيرها من الأشياء التي تلك المبادي مباد لها،تصوّرا حقيقيّا بالكنه إن أمكن،و إلاّ فبوجه يمتاز به عمّا عداه،و تصدّق أيضا بها تصديقا يقينيّا بوجودها عنده بالبرهان،و أن تعرف العلل الغائيّة للأمور الواقعة في الحركات الكليّة،دون الحركات الجزئيّة التي لا تتناهى،و بذلك يعسر معرفتها،و أن يتقرّر عندها هيئة الكلّ و نسب أجزائه بعضها إلى بعض،و النظام الآخذ من المبدأ الأوّل إلى أقصى الموجودات الواقعة في ترتيبه،و أن تتصوّر العناية الأزليّة التي نظام الكلّ على طبقها،و تتصوّر كيفيّة تلك العناية،و أن تتحقّق أنّ الذات المتقدّمة للكلّ، أي ذات المبدأ الأوّل تعالى شأنه،أيّ وجود يخصّ ذاته،و أيّة وحدة تخصّ ذاته؟و كيف ينبغي أن تعرف تلك الذات المقدّسة عن التغيّر،حتّى يلحقها تكثّر و تغيّر بوجه من الوجوه في أسمائه و صفاته و أفعاله؟و كيفيّة صدور الكثرة من تلك الذات المقدّسة الواحدة بالذات،و كيف ترتيب نسبة الموجودات إليها؟

و بالجملة،أن يتحقّق عند النفس الإنسانيّة وجود المبدأ الأوّل تعالى شأنه و صفاته و أفعاله،على ما هو الواقع و يقتضيه البرهان.

و لا يخفى أنّ ما ذكره الشيخ في تحديد ذلك الكمال مع كونه تحديدا بالتقريب كما ذكره،فيه إشكال أيضا يعرف بالتأمّل الصادق.

و الأظهر أن يقال في تحديده مطابقا لما دلّ عليه العقل و نطق به الشرع،إنّه هو الإيمان باللّه تعالى و أسمائه و صفاته و أفعاله،و بملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر و بجميع ما جاء الرّسل به من عند اللّه تعالى،أي الإيمان و التصديق بذلك،بحيث يعدّ

ص:88

المصدّق به مؤمنا.

و كيفما كان،فبعد حصول أصل ذلك الكمال على ما حدّه الشيخ أو حدّدناه،إذا ازداد الناظر استبصارا فيه ازداد للسعادة استعدادا،كما أنّه كلّما ازداد عمى (1)عن ذلك الكمال، ازداد بعدا من السعادة و قربا من الشقاوة،و كأنّه ليس يتبرّأ الإنسان عن هذا العالم الأدنى الحسّيّ و علائقه حتّى يحصل له تلك السعادة،إلاّ أن يكون شديد العلاقة مع ذلك العالم الأعلى العقليّ،كما فيما بعد مفارقة النفس عن البدن،و كذا في ضمن البدن لبعض النفوس الكاملة،فصار له بسبب تلك الشدّة من العلاقة شوق إلى ما هناك،أي في العالم العقليّ، و عشق لما هناك،فصدّه ذلك عن الالتفات إلى ما خلفه،أي ممّا في العالم الحسّيّ جملة، فحصلت له السعادة حينئذ.رزقنا اللّه تعالى إيّاه و سائر المؤمنين،إنّه جواد كريم.

حال السعادة و الشقاوة العقليّتين من جهة القوّة العمليّة

و قوله«و نقول أيضا:إنّ هذه السعادة الحقيقيّة لا تتمّ إلاّ بإصلاح الجزء العمليّ من النفس،و نقدّم لذلك مقدّمة كأنّا قد ذكرناها فيما سلف.

فنقول:إنّ الخلق ملكة تصدر بها عن النفس أفعال بسهولة ما الخ».

لمّا بيّن سابقا حال السعادة و الشقاوة العقليّتين بحسب القوّة النظريّة للنفس،أي حال السعادة بحسب الهيئة العمليّة،و حال الشقاوة بحسب الجهالات،أراد أن يبيّن هنا حالها بحسب القوّة العمليّة لها،أي حال السعادة بحسب الملكات و الأخلاق الحسنة، و حال الشقاوة بحسب الملكات الرديّة،فذكر أوّلا:أنّ هذه السعادة الحقيقيّة لا تتمّ إلاّ بإصلاح الجزء العمليّ من النفس،يعني أنّ السعادة العقليّة كما أنّها تكون بإصلاح الجزء العلميّ من النفس،و بكمال قوّتها النظريّة،أي حصول العلوم الواقعيّة الحقيقيّة لها،و أنّ الشقاوة العقليّة بخلافها كما ذكر،كذلك تكون السعادة العقليّة بإصلاح الجزء العمليّ منها و بكمال قوّتها العمليّة،و حصول الأخلاق الحسنة لها أيضا،و الشقاوة العقلية بخلافها.و أنّه

ص:89


1- -«عميا»خ ل.

بحصول هاتين السعادتين العقليّتين جميعا تحصل السعادة الحقيقيّة التامّة الكاملة،فإنّها السعادة التي بحصول كلا قسمي كمال النفس جميعا،و أنّه بحصول واحدة منهما فقط،و إن كان تحصل السعادة لكنّها تكون غير حقيقيّة و غير تامّة،فإنّها بحصول أحد قسمي كمالها دون الآخر،و لا شكّ أنّ ما هو بحصول الجميع أتمّ و أكمل ممّا هو بحصول البعض.فحينئذ فالسعادة الحقيقيّة إنّما هي للكاملين في العلم و العمل،و المستكملين في القوّة النظريّة و العمليّة جميعا،دون الكاملين في أحدهما فقط،فإنّهم ناقصون أيضا باعتبار.

و منه يعلم حال الشقاوة الحقيقيّة،أي أنّها تكون للناقصين في العلم و العمل جميعا، دون الناقصين في أحدهما خاصّة.

ثمّ قدّم مقدّمة تتضمّن معنى إصلاح الجزء العمليّ و إفساده.

و بيانها:أنّ الخلق ملكة تصدر بها من النفس أفعال ما بالسهولة من غير تقدّم رويّة، و قد أمر في كتب الأخلاق بأن يستعمل التوسّط بين الخلقين الضدّين،كالتوسّط بين البخل و الإسراف،الذي هو الكرم،لا بأن يفعل أفعال التوسّط دون أن تحصل ملكة التوسّط،بل مع حصول تلك الملكة للنفس،و لا يخفى أن ملكة التوسّط كأنّها موجودة للقوى الناطقة و للقوى الحيوانيّة جميعا،أمّا للقوّة الحيوانيّة،فبأن يحصل فيها هيئة الإذعان و الانقهار و الانفعال من القوّة الناطقة بعد أن قويت القوّة الناطقة و حصلت فيها ملكة التوسّط،و أثّرت هي في القوّة الحيوانيّة و قهرته،فصارت القوّة الحيوانيّة منقهرة عندها مذعنة لها منفعلة منها.

و أمّا للقوّة الناطقة،فبأن تقوى هي و تحصل فيها هيئة الاستعلاء على القوّة الحيوانيّة و هيئة الانفعال و الإذعان من المبادئ العالية.و هذا كما أنّ ملكة الإفراط و التفريط موجدة للقوّة الناطقة و للقوى الحيوانيّة جميعا،و لكن بعكس هذه النسبة،إذ من المعلوم أنّه كما أنّ ملكة التوسط التي يتبعها الخيرات،و هي أمارة قوّة القوّة الناطقة،و مقتضى النفس الإنسانيّة التي في جبلّتها الخيرات،و كذا هي أمارة استعلائها على القوى الحيوانيّة التي في جبلّتها الشرور،تحدث هي أوّلا في الناطقة ثمّ في الحيوانيّة بانقهارها منها،كذلك ملكة الإفراط و التفريط التي يتبعها الشرور،و هي أمارة قوّة القوى الحيوانيّة التي في

ص:90

جبلّتها الشرور،و كذا هي أمارة استعلائها على القوّة الناطقة و انقهارها منها تحدث أولا في القوى الحيوانيّة،ثمّ في الناطقة بإذعانها منها و انقهارها دونها.

و بالجملة،أنّه من المعلوم أنّ الإفراط و التفريط مقتضيا القوى الحيوانيّة.و أنّه إذا قويت القوى الحيوانيّة و حصلت لها ملكة استعلائية على القوّة الناطقة،ضعفت الناطقة و انقهرت دونها،فحدثت في النفس الناطقة هيئة إذعانيّة و أثر انفعاليّ قد رسخ في النفس الناطقة،من شأن تلك الهيئة أن تجعل النفس الناطقة قويّة العلاقة مع البدن،شديدة الانصراف إليه؛و ذلك مضادّ لجوهر النفس الناطقة مؤلم مؤذ لها،لأنّ حقيقتها تستدعي أن تكون لها هيئة استعلائية قهريّة على البدن و قواه الحيوانيّة كالقوى الشهوانيّة و الغضبيّة مثلا،فإذا انقهرت منها و انقادت و خدمت إيّاها في تحصيل مآربها الدنيّة الدنيويّة،كان ذلك مضادّا لجوهرها مؤلما لها و موجبا لحسرتها و شقاوتها.

و أمّا ملكة التوسّط،فالمراد منها هيئة راسخة شأنها تنزيه النفس الناطقة عن الهيئات الانقياديّة الانقهاريّة من القوى الحيوانيّة،و كذا شأنها بتقيّة النفس الناطقة على جبلّتها الأصليّة،مع إفادة هيئة الاستعلاء على القوى الحيوانيّة،و ذلك غير مضادّ لجوهر النفس، و لا مائل إلى جهة البدن،بل عن جهته،فإنّ التوسّط يسلب عنه الطرفين المتضادّين دائما، بل هو مقتضى جوهرها و حقيقتها كما مرّ.

ثمّ إنّه حيث قرّر هذه المقدّمة،شرع في بيان كيفيّة حصول السعادة باعتبار صلاح الجزء العمليّ من النفس و حصول الشقاوة باعتبار فساده،فقال:«ثمّ جوهر النفس الذي ملكة التوسّط من مقتضياتها و ملائمة لها و كمال لها من جهة القوّة العمليّة،إنّما كان البدن هو الذي يغمره و يلهيه و يغفله عن الشوق الذي يخصّه عن طلب الكمال،و عن الشعور بلذّة الكمال-إن حصل له-و الشعور بألم الكمال إن قصر عنه،و ليس تلك الغفلة بسبب أنّ النفس منطبعة في البدن،أو منغمسة فيه حتّى ينافي ذلك تجرّدها في ذاتها عن المادّة و توابعها،و لكن للعلاقة التي كانت بينهما،و هي الشوق الجبلّي الذي أودعه اللّه تعالى في حقيقتها،و الميل الذاتيّ إلى تدبير البدن و الاشتغال بآثاره و بما يورده من عوارضه و بما يتقرّر فيها من ملكات مبدؤها البدن،و سواء كانت ملكة التوسّط أو ملكة الإفراط

ص:91

و التفريط،حيث إنّ تلك الملكات كلّها إنّما تحصل بتكرّر أفعال مبدؤها البدن،فإذا فارقت النفس البدن و فيها الملكة الحاصلة بسبب الاتّصال بالبدن،أي ملكة الإفراط و التفريط، حيث إنّها هي الحاصلة بسبب اتّصال النفس بالبدن المائلة لها إلى جهة،فإنّ ملكة التوسّط و إن كان مبدؤها البدن أيضا،إلاّ أنّها ليست حاصلة لها بسبب الاتّصال به،و لا مائلة لها إلى جهة،بل عن جهته كما ذكر.

و بالجملة،إذا فارقت النفس البدن و فيها تلك الملكة المائلة لها إلى جهة البدن،أي ملكة الإفراط و التفريط،سواء كانت تلك الملكة الحاصلة ملكة إفراط و تفريط في كلّ الأفعال،أو في بعضها دون بعض،كانت النفس من جهة تلك الملكة الحاصلة في كلّ الأفعال أو بعضها-التي هي من آثار الاتّصال بالبدن فيها-قريبة الشبه أو قريبة النسبة من حال النفس و هي في البدن،حيث إنّ الآثار البدنيّة كلّها أو بعضها تكون باقية فيها حينئذ كما كانت قبل المفارقة،و حيث إنّ تلك الآثار كما كانت شاغلة لها عن الشوق إلى الكمال و عن الشعور بلذّة الكمال قبل المفارقة تكون شاغلة أيضا لها عنه حينئذ،إلاّ أنّ تلك الملكة حيث كانت في معرض الزوال حيث إنّ مبدأها و هو البدن قد هلك و تلاشى و حصل للنفس المفارقة عنه و سببها،و هو استعلاء القوى الحيوانيّة على النفس قد بطل، حيث إنّه بتلاشي البدن بطل استعلاؤها و قوّتها،بل انعدمت أنفسها أيضا،لكنّ تلك الملكة حينئذ لم تزل بعد بالكلّيّة،حيث إنّها رسخت في النفس و انطبعت فيها كانطباع الرّين في المرآة الصافية في ذاتها المتدرّنة بالدرن (1)الغريب عن حقيقتها،و لا يكفي في زوالها بالكلّيّة بطلان مبدئها و انعدام سببها،بل ينبغي أن يكون هناك مع ذلك تصفية ما و تصقيل لقابلها و هو النفس،حتّى تنمحي تلك الملكة عنها بالكليّة.

و بالجملة،حيث كانت تلك الملكة باقية في الجملة،و كانت في معرض الزوال فهي تزول شيئا فشيئا بقدر استعداد قابلها للصفاء و حصول الصفاء له،فبأيّ قدر ينقص من تلك الملكة الملهية للنفس عن الشوق إلى كمالها عن النفس تزول غفلتها عن حركة

ص:92


1- -الرّين:الطبع و الدنس:و الدرن:محرّكة:الوسخ.

الشوق الذي لها إلى كمال المعشوق لها،علميّا كان-و هو العلم بحقائق الموجودات كما هي-أم عمليّا-و هو ملكة التوسّط-فتشعر بها.و بأيّ قدر يبقى من تلك الملكة مع النفس تكون محجوبة النسبة و الشبه عن الاتّصال الصرف بمحلّ سعادتها،لأنّ ذلك الاتّصال بمحلّ سعادتها-أي سعادتها العلميّة و العمليّة-موقوف على أن لا يبقى فيها من الآثار البدنيّة الشاغلة لها عنه شيء،و المفروض أنّه قد بقي.أو المعنى أنّه بسبب النقصان من تلك الملكة تزول غفلتها عن حركة الشوق الذي لها إلى كمالها،و بسبب بقائها في الجملة تكون محجوبة النسبة عن ذلك الاتّصال،و الحاصل أنّه حينئذ يحصل للنفس شعور و شوق إلى كمالها المعشوق لها مع كونها محجوبة عنه،فيحدث هناك من الحركات المتشوّقة ما يعظم أذاها،حيث إنّ الحركة إلى معشوق ما مع حصول مانع عن نيله أذى و ألم،و إن كان يختلف حاله بحسب اختلاف مراتب تلك الحركات الشوقيّة و مراتب تلك الموانع.

ثمّ إنّ نفس تلك الهيئة البدنيّة المنطبعة في النفس،حيث إنّها هيئة غريبة عن جوهر النفس بمنزلة الرّين و الدرن لها،مضادّة بنفسها لجوهر النفس أيضا،موذية لها دائما،كان يلهيها عنها و عن مضادّتها و إيلامها أيضا البدن و تمام انغماسها فيه،فإذا فارقت عنه و ارتفع الشاغل،أحسّت بتلك المضادّة العظيمة و تأذّت بها أذى عظيما،فيحصل لها حينئذ الأذى و الألم من وجهين:أحدهما،من جهة تلك الحركات المتشوّقة،و الآخر من جهة تلك الهيئة نفسها،فيتضاعف الأذى و الألم.لكنّ هذا الأذى و الألم،ليس لأمر لازم للنفس الناطقة كما في صورة نقصانها من جهة قوّتها النظريّة،بل لأمر عظيم غريب عن حقيقتها، و الأمر العارض الغريب لا يدوم و لا يبقى،بل يزول و يبطل مع زوال الأفعال التي كانت تثبت تلك الهيئة الغريبة البدنيّة بتكرّرها،أي الأفعال التي كان مبدؤها قوّة القوى الحيوانيّة و استعلاءها على النفس الناطقة،و كان تكرّر تلك الافعال منشئا لثبوت تلك الهيئة و انطباعها في النفس،و قد زالت تلك الأفعال بمفارقة النفس عن البدن،و كذا زال مبدؤها و منشؤها،و أفضى زوالها إلى زوال تلك الهيئة المسبّبة عنها،مع كون النفس بجوهرها و حقيقتها تقتضي زوال تلك الهيئة عنها لكونها غريبة عنها مضادّة لها.

و بالجملة،فالمبدأ الفاعليّ لتلك الهيئة قد زال،و القابل لها أي النفس مستعدّة لزوالها

ص:93

عنها استعدادا تامّا،فكلّما تأمّلت منها قرب استعدادها لزوالها عنها،فلهذا تزول و تنمحي شيئا فشيئا بحسب مراتب استعدادها لزوالها عنها،فيلزم إذن أن يكون العقوبة التي بحسب حصول الهيئة الغريبة غير خالدة،بل قد تزول و تنمحي قليلا قليلا بحسب انمحاء تلك الهيئة شيئا فشيئا.حتّى تزكو النفس عن تلك الهيئة و تصفو بمصفاة العقوبة و تنجلي بمصقل الألم و الأذى،و تبلغ حينئذ السعادة التي تخصّها من السعادة العلميّة إن كانت لها، و كذا السعادة العمليّة الحاصلة لها بالنسبة إلى هيئة و ملكة أخرى من ملكات التوسّط إن كانت أيضا لها.و هذا حال تلك الهيئة البدنيّة الغريبة إذا كانت ملكة راسخة.

و منه يعلم حالها،إذا لم تكن راسخة أيضا،فإنّها تزول بالطريق الأولى.

و بالجملة،فتلك الهيئات الردّية البدنيّة،سواء كانت مستحكمة أو غير مستحكمة، و كلّها إنّما تكون بسبب غواش غريبة،فجميعها يمكن أن تزول بعد الموت،إمّا لعدم رسوخها،و إمّا لكونها هيئات مستفادة من الأفعال و الأمزجة،فتزول بزوالها.و إن كانت تختلف في شدة الرداءة و ضعفها،و في سرعة الزوال و بطئه،و في كونها بالنسبة إلى كلّ الأعمال و الأفعال أو بعضها،و يختلف التعذّب بها بعد الموت في الكمّ و الكيف بحسب ذلك الاختلاف.

و بما ذكر يظهر سرّ ما ورد في الأخبار من أنّ المؤمن الفاسق لا يخلد في النار.و وجه ما اتّفق عليه أهل الحقّ من أنّ عذاب صاحب الكبيرة منقطع.

ثمّ إنّ هذا الذي ذكر إنّما هو بيان حال فساد الجزء العمليّ و الشقاوة بحسبه،إذا كان ذلك بحسب طروء حالة رديّة غريبة على النفس،بعد أن كانت في قوّتها القريبة تحصيل ملكة التوسّط،و لم تحصّلها،بل فرّطت و قصّرت في تحصيلها و حصّلت ملكة الإفراط و التفريط.

و منه يعلم بيان حاله،إذا كان من جهة نقصان الغريزة أيضا بحسب الجزء العمليّ،أي إذا كان عدم تحصيل ملكة التوسّط،لا لأجل أنّها فرّطت فيها و قصّرت،بل لأجل أنّه كانت غريزتها بحسب الجزء العمليّ ناقصة عن تحصيلها،بعد أن كانت من شأنها إمكان تحصيلها في الجملة و لو بعيدا،و أنّها بسبب ذلك النقصان في الغريزة،كما لم تحصّل ملكة

ص:94

التوسّط،لم تحصّل ملكة الإفراط و التفريط أيضا،و لم تطرأ على تلك النفس تلك الحالة الغريبة الرديّة،سواء كانت راسخة أو غير راسخة،فإنّ هذه النفس أيضا بسبب عدم تحصيلها ملكة التوسّط في كلّ أفعالها أو بعضها،سواء حصلت لها هيئة راسخة أو غير راسخة غير هيئة الإفراط و التفريط،أو لم تحصل،لا تكون عقوبتها خالدة،بل إنّ بعض تلك النفوس ممّا لا تتعذّب بذلك أصلا،كما في النفوس الساذجة بالقياس إلى الهيئة العلميّة؛و بعضها و إن كانت تتعذّب بذلك،إلاّ أنّ عذابها أدون من عذاب من حصّلت ملكة الإفراط و التفريط من وجه،حيث إنّها و إن كانت تتعذّب بفقدان ملكة التوسّط إذا كان لها شوق إليها،لكنّها لا تتعذّب من جهة نفس تلك الهيئة الغريبة الموذية المؤلمة الحاصلة فيها،أي هيئة الإفراط و التفريط،حيث إنّها لم تكن فيها.

ثمّ إنّ الذي ذكرنا كلّه،إنّما هو بيان كيفيّة الشقاوة بحسب فساد الجزء العمليّ من النفس،و منه يعلم بيان حال السعادة بحسب صلاحه،و أنّ السعادة بحسبه تكون خالدة دائمة.

أمّا بيان حصول أصل السعادة بحسبه،أي بحسب حصول ملكة التوسّط لها،فظاهر بتقريب ما سبق،لأنّ ملكة التوسّط،حيث كانت كمالا للنفس الإنسانيّة من جهة قوّتها العمليّة،و كانت هيئة مناسبة موافقة لجوهرها غير مضادّة لحقيقتها،كان إدراكها و الشعور بها لذّة و سعادة،و إنّما كانت النفس لا تشعر بها و لا تستلذّها قبل المفارقة عن البدن،لأنّ البدن هو الذي كان يغمرها و يلهيها و يغفلها عن الشوق الذي يخصّها عن طلب كمالها، و حيث فارقت البدن زالت تلك الغفلة و حصل لها الشعور بها على أكمل وجه،فحصلت لها بسببها السعادة العظيمة من جهة الشعور بها و استلذاذها،بل من جهة الشعور بكمالها العمليّ أيضا إن كان لها،لأنّه كما أنّ ملكة الإفراط و التفريط،التي هي هيئة مضادّة للنفس، كانت شاغلة لها عن إدراكها لكمالها العلميّ،و كانت هي بسبب ذلك محجوبة النسبة عن الاتّصال الصرف بمحلّ سعادتها،كذلك ملكة التوسّط التي هي هيئة موافقة للنفس،و هي بخلاف هيئة الإفراط و التفريط لا تكون شاغلة و حاجبة لها عن ذلك،بل هي معينة و مشوّقة إلى إدراك كمالها العلميّ أيضا،فتكون لها السعادة من وجهين:أحدهما من جهة

ص:95

الشعور بأصل تلك الملكة التوسطيّة التي هي كمال عمليّ لها،و الآخرة من جهة إعانتها للشعور بكمالها العلميّ،فيتضاعف لذّتها و سعادتها،و إن كانت تختلف بحسب اختلاف مراتب تلك الملكة في الكيف و الكمّ.

في بيان خلود السعادة من جهة صلاح الجزء العمليّ

و أمّا بيان خلود تلك السعادة و دوامها فلأنّ ملكة التوسّط أيضا،و إن كانت هيئة عارضة للنفس منطبعة فيها بسبب تكرّر الأفعال البدنيّة التي تزول،و مقتضى ذلك أن تزول تلك الهيئة المسبّبة عنها أيضا بزوال مبدئها و سببها،إلاّ أنّ تلك الهيئة لمّا كانت هيئة مناسبة بجوهر النفس و من مقتضى حقيقتها،و كانت هيئة غير غريبة عنها؛لم يكن فيها استعداد ما لزوالها عنها أصلا،بل كان فيها استعداد تامّ لاستثباتها فيها و بقائها،فتكون باقية خالدة بفيضان الوجود عليها من المبدأ الفيّاض.

و بالجملة فمبدؤها،و إن كان زائلا إلاّ أنّ القابل لها-و هو النفس الإنسانيّة-ليس فيه استعداد لزوالها عنه،بل استعداده إنّما هو لاستثباتها فيه،و حيث كان مستعدّا لبقائها فيه، تكون باقية بإفاضة الوجود عليها من المبدأ الفيّاض،بعد أن كان حدوثها من تكرّر الأفعال البدنيّة،و من إفاضة الوجود عليها من المبدأ الفيّاض أيضا،و حيث كانت تلك الملكة خالدة كانت السعادة بحسبها أيضا خالدة،و خلود هذه السعادة كما هو مقتضى الدليل العقليّ،كذلك هو مطابق لما نطق به الشرع،فتبصّر.

ثمّ إنّه بقي هنا شكّ،و هو:أنّه لقائل أن يقول:ما الفرق بين الهيئة الرديّة الحاصلة من جهة فساد الجزء العمليّ من النفس و قوّتها العمليّة و بين تلك الهيئة الرديّة الحاصلة من جهة فساد الجزء العلميّ و قوتها النظريّة؟حيث حكمتم بزوال الأولى عن النفس شيئا فشيئا و بانقطاع الشقاوة التي من أجلها،كما دلّ عليه كلام الشيخ هنا صريحا،و حكمتم ببقاء الثانيّة فيها و عدم زوالها عنها و عدم انقطاع الشقاوة التي من أجلها،كما أشعر به كلام الشيخ ثمّة،و أشرتم إلى وجهه هنالك مع كون الهيئتين سواء في كونهما هيئتين غريبتين

ص:96

عن جوهر النفس،مضادّتين لحقيقتها،و في كونهما هيئتين راسختين،و في كون مبدئهما الأفعال البدنيّة التي تزول بعد مفارقة النفس عن البدن،فإنّ الهيئة الثانية أيضا إنّما تحصل إمّا بالإهمال أو بالإعراض أو بالجحود،و كلّ منها إنّما يحصل بغلبة القوى الحيوانيّة على النفس الناطقة،و انقهار الناطقة عند الحيوانيّة كما في الهيئة الأولى.

و يمكن الجواب عن هذا الشكّ،بأنه:لعلّ الفرق بينهما بما أشرنا إليه سابقا،من أنّ الهيئة الرديّة الحاصلة من جهة فساد الجزء النظريّ،التي هي سبب قريب للتألّم و التعذّب، إنّما هي هيئة الجهل البسيط أو الجهل المركّب بالقياس إلى حقائق الأشياء التي كان للنفس الناطقة شوق إلى العلم بها و لم تكتسبه،إمّا لإعراضه أو لإهماله أو لجحوده،و تلك الهيئة لا يمكن زوالها عن النفس بعد الموت،لأنّ زوالها إنّما يكون بحصول العلم النظريّ للنفس بالنسبة إلى حقائق تلك الأشياء التي حصل لها الجهل بها،و بانقلاب الجهل علما، و قد عرفت أنّه لا يمكن ذلك،لأنّ أوائل الملكة العلميّة التي بها يمكن اكتساب المجهول من المعلوم و الاستكمال بالفعل لا شكّ أنّها تكتسب بالبدن لا غير،و المفروض أنّ النفس فارقت البدن،فلم يمكن لها اكتساب تلك الملكة ثانيا و الاستكمال مرّة أخرى،مع أنّ المفروض أن ليس حصول هذا العلم ضروريّا حتّى يحصل للنفس و يزول عنها الشقاء، و إلاّ لكان ضروريّا حين كون النفس في البدن أيضا،و المفروض خلافه.و إذا لم يكن زوال تلك الهيئة الجهليّة التي هي سبب قريب لتألّم النفس بها عن النفس،فلم يمكن زوال الشقاوة التي بحسبها عنها،فتكون خالدة.و أيضا إنّ تلك الهيئة الجهليّة،و إن كان مبدؤها الإهمال و الإعراض و الجحود،إلاّ أنّ تلك الأفعال ليست أفعالا بدنيّة يمكن زوالها ببطلان البدن،بل هي أفعال نفسانيّة صدرت عن النفس بذاتها،و إن كان مبدؤها نوع غلبة للقوى البدنيّة الحيوانيّة على القوّة العقلية الإنسانيّة،و ما تصدر عن النفس بذاتها يكون أثره باقيا فيها،فلا يكون حينئذ مبدأ تلك الهيئة الجهليّة المؤلمة الموذية أفعالا بدنيّة زائلة بزوال البدن،حتّى يمكن زوال تلك الهيئة عن النفس.

و يعلم ممّا ذكرنا أنّ تلك الهيئة لا يمكن زوالها لا من جهة القابل لها،و لا من جهة المبدأ القريب لها،فتكون باقية في النفس من جهتين.و أمّا المبدأ البعيد لها فهو و إن كان

ص:97

يمكن زواله،إلاّ أنّه يمكن أن يخلف و ينوب عنه مبدأ آخر،و هذا بخلاف الهيئة الرديّة الحاصلة من جهة فساد الجزء العمليّ كما عرفت بيان حالها.

فإن قلت:إنّ ما أشعر به كلام الشيخ ثمّة،و دلّ عليه ما نقلنا من كلام المحقّق الطوسيّ صريحا من الحكم بزوال اعتقادات العوامّ و المقلّدة عن النفس،و عدم خلود الشقاء بسببها للنفس،كيف يجتمع مع ما نطق به الشرع و أجمع عليه أهل الحقّ من خلود الكافرين و المشركين و نظرائهم في النار،و الحال أنّ أكثرهم عوامّ و مقلّدة،كانوا يقلّدون آباءهم و رؤساءهم في الكفر و الشرك و الجحود.

قلت:لعلّ من نطق الشرع الشريف بخلودهم في النار من العوامّ و المقلّدة منهم محمول على من حصل له اعتقاد راسخ في الكفر و الشرك و الجحود،و إن كان مبدأ حصول ذلك الاعتقاد تقليدا أو أمرا آخر من الأمور الخسيسة و الأعراض الدنيويّة،بخلاف من دلّ كلام الشيخ و المحقّق الطوسيّ(ره)على عدم خلودهم،فإنّه محمول على من لم يحصّل ذلك الاعتقاد الراسخ.

فإن قلت:إنّ من هؤلاء من لم يحصّل ذلك الاعتقاد الراسخ و اتّبع ظنّه،بل هوى نفسه أيضا،و قد نطق الشرع بخلودهم في النار،كما قال تعالى في شأن بعض المشركين: إِنْ هِيَ إِلاّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى)) . (1)

قلت:لعلّ المراد بهؤلاء أيضا من حصل له ذلك الاعتقاد الراسخ أيضا كما دلّ عليه قوله تعالى «إِنْ يَتَّبِعُونَ...» و إن كان مبدأ ذلك الاعتقاد نوع ظنّ أو هوى نفسانيّ أو تقليد الآباء،و أنّهم بذلك الاتّباع المبنيّ على حصول الاعتقاد الراسخ لهم في الشرك،خصوصا مع قيام الحجّة و وضوح الدليل على خلافه،كما يدلّ عليه قوله تعالى: وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى)) (2)مخلّدون في النار.

و بالجملة فما تضمّنه كلام الشيخ و المحقّق الطوسيّ من الحكم بزوال اعتقادات

ص:98


1- -النجم(53):23. [1]
2- -نفس الآية.

العوامّ و المقلّدة،يمكن أن يحمل على زوال اعتقاداتهم التي ليست راسخة،سواء كانت اعتقادات غير راسخة بل حالّة،أو لم تكن اعتقادا أيضا،بل ظنّا أو هوى نفس،أو نحو ذلك،و سمّيت اعتقادا مجازا.و تلك الاعتقادات و الحالات مثل الحالات الطارئة على نفوس المستضعفين منهم،الذين لا اعتقاد لهم في الكفر و الشرك و لا في الإيمان،و هم عوامّ و مقلّدة،فإنّ تلك الحالات لعدم كونها هيئة راسخة في نفوسهم،يمكن أن تزول عنها و ينقطع الشقاء بسببها خاصّة،و مع ذلك فليس لهم السعادة أيضا،بل إنّهم لو كانوا ممّن اكتسبوا الشوق إلى كمالاتهم النفسانيّة و لم يكتسبوها،فهم معذّبون بترك الإيمان و بفقدهم كمالاتهم تعذيبا دائميّا كما دلّ عليه كلام الشيخ،و إن لم يكونوا ممّن اكتسبوا الشوق إلى كمالاتهم،كالنفوس الساذجة فلا شقاء لهم من هذه الجهة أيضا،و إن لم تكن لهم سعادة أيضا بالشعور بكمالاتهم.و اللّه تعالى أعلم بحقائق الحال.

في بيان حال النفوس البله

ثمّ إنّ قول الشيخ:«و أمّا النفوس البله التي لم تكتسب الشوق،فإنّها إذا فارقت البدن..

إلى آخر ما ذكره في الفصل»بيان لكيفيّة حال النفوس الساذجة الصرفة،بعد مفارقتها عن الأبدان،كما سيأتي تحريره.

و تقييد النفوس البله،بقوله:«التي لم تكتسب الشوق»يدلّ على أنّه أراد بالنفوس البله النفوس الساذجة مطلقا،أعمّ من البله و المجانين و الصبيان.كما أنّ قوله سابقا«و أمّا النفوس و القوى الساذجة الصرفة فكأنّها هيولى موضوعة لم تكتسب البتّة هذا الشوق» يدلّ على هذا التعميم أيضا.

و بالجملة،فكلامه هنا قرينة على أنّه أراد في كلامه في«الإشارات»بالبله هذا المعنى الأعم أيضا،كما أشرنا إليه فيما سلف من مبحث التناسخ.

ثمّ إنّ في كلامه مع الدلالة على هذا التعميم،دلالة على تخصيص النفوس«البله بالنفوس الخالية عن الكمالات العلميّة خاصّة،و عمّا يضادّها لا عن الكمالات العمليّة

ص:99

أيضا و عمّا يضادّها.

و بيان ذلك،أنّه حيث قيّد النفوس البله بالّتي لم تكتسب الشوق،و أراد بالشوق الشوق إلى الكمال الخاصّ بالنفس الإنسانيّة،و قد فسّره فيما سبق بأنّه أن تصير النفس عالما عقليّا مرتسما فيه صور الكلّ،أي الكمال من جهة القوّة النظريّة،يستفاد منه أنّ النفوس البله،هي التي تكون خالية عن الكمال العلميّ و عمّا يضادّه،و أنّها لو اكتسبت كمالا عمليّا أو ما يضادّه،أي ما هو بحسب القوّة العمليّة،فلا ينافي ذلك كونها نفوسا ساذجة خالية عن الكمال العلميّ و عمّا يضادّه،و لأجل ذلك قسّم النفوس البله إلى قسمين:قسم هو كان غير مكتسب للهيئات الرديّة،و قسم كان مكتسبا للهيئات البدنيّة الرديّة،التي أراد بها هيئة الإفراط و التفريط،كما يدلّ عليه كلامه آنفا.و حينئذ فلا يرد عليه أنّ النفوس البله إذا كان معناها النفوس الخالية عن الكمال و عمّا يضادّه،فكيف تكون مكتسبة للهيئات الرديّة البدنيّة التي هي مضادّة للكمال العمليّ؟

إلاّ أنّه يرد عليه أنّ هاهنا قسما آخر ينبغي أن يذكره و يبيّن حاله،و هو لم يتعرّض له، و هو أن تكون قد اكتسبت الهيئة الفاضلة الملائمة الموافقة البدنيّة،أي هيئة التوسّط مع كون هؤلاء أحسن حالا من الذين لم يكتسبوا الهيئات الرديّة أصلا،و قد تعرّض لبيان حالهم.

و يمكن دفع هذا الايراد عنه أيضا بأنّ هذا القسم لعلّه داخل تحت قوله:«و كانت غير مكتسبة للهيئات الرديّة»فإنّ عدم الاكتساب للهيئات الرديّة أعمّ من أن يكون هناك اكتساب للهيئات الفاضلة أم لا.

ثمّ إنّ هذا التخصيص كما أنّه هو مفاد كلام الشيخ،كذلك هو مفاد كلام ذلك البعض من العلماء الذي نقل كلامه هنا،حيث إنّه أيضا في قوله:«إنّ النفوس البله إذا فارقوا الأبدان،و لم يكن لهم معنى جاذب إلى الجهة التي هي فوقهم،لا كمال فيسعدوا تلك السعادة،و لا شوق كمال فيشقوا تلك الشقاوة الخ»أراد هذا المعنى الذي يفهم من كلام الشيخ،و هو أنّ النفوس البله هم الذين ليس كمال من جهة القوّة النظريّة و لا شوق إليه، فيفهم منه أيضا أنّ النفوس البله هي النفوس الخالية عن الكمال العلميّ و ما يضادّه.

ص:100

و أمّا ما ذكره من تقسيم تلك النفوس إلى النفوس الزكيّة-و فسّرها بما رسخ فيها نحو من الاعتقاد في العاقبة التي تكون لأمثالهم الخ-و إلى النفوس الرديّة-و أراد بها ما يقابل النفوس الزكيّة،أي التي لم يكن فيها ذلك النحو من الاعتقاد أو أعمّ منه،و من التي رسخت فيها هيئة رديّة بدنيّة كملكة الإفراط و التفريط-فليس بمناف لإرادته البله بالمعنى المذكور،أي الخالية عن الكمال العلميّ و ما يضادّه خاصّة،لأنّ ذلك النحو من الاعتقاد الذي ذكره ليس كمالا علميّا للنفس حتّى ينافي الخلوّ من الكمال العلميّ،لأنّ الكمال العلميّ كما تضمّنه كلام الشيخ سابقا إنّما هو الاعتقاد الجازم بالمعقولات من حيث إنّها معقولات،بحيث تصير النفس عالما عقليّا مرتسما فيه صور الكلّ و النظام المعقول في الكلّ و الخير الفائض في الكلّ،و لا كذلك ذلك النحو من الاعتقاد،فإنّه كما يدلّ عليه كلام ذلك البعض اعتقاد في العاقبة من جهة الأمور الجزئيّة التي من شأنها أن تكون محسوسة.

و أيضا هو و إن كان اعتقادا في الجملة،لكنّه ليس اعتقادا في مرتبة الاعتقاد بالمعقولات الصرفة،بل هو اعتقاد شبيه بالتخيّل أو التوهّم.

و كذلك الأنفس الرديّة التي ذكرها و ذكر بيان حالها،ليس المراد بها ما ارتسم فيه الجهل بالكمالات العلميّة بسيطا أو مركّبا حتّى ينافي كونها خالية عن ضدّ الكمال العلميّ، بل المراد بها إمّا ما ارتسم فيه ضدّ ذلك النحو من الاعتقاد-كما هو الظاهر من كلامه-أو هو مع كيفيّة رديّة بدنيّة،و على التقديرين،فالمرتسم فيها ليس ضدّا للكمال العلميّ.

و كذلك ليس بين كلامي الشيخ و ذلك البعض منافاة في تقسيم النفوس البله إلى الأقسام،و بيان حال تلك الاقسام،فإنّ الشيخ قد بيّن أحوال تلك النفوس البله بحسب خلوّها عن الهيئات الرديّة البدنيّة،و بحسب اشتمالها عليها،بل بحسب اشتمالها على الهيئات الفاضلة أيضا،و لم يتعرّض لبيان حالها بحسب اشتمالها على الاعتقادات الشبيهة بالتخيّل أو التوهّم في العاقبة من الأمور الجزئيّة المحسوسة،و إنّ ذلك البعض قد تعرّض للثاني دون الأوّل،و لا ضير في كلّ ذلك،بل إنّ الشيخ ربّما لم يتعرّض للثاني إحالة على ظهوره ممّا نقله من ذلك البعض،بل إنّه ربّما يدّعي أنّ ما ذكره ذلك البعض من الأحوال راجع إلى الاشتمال على الهيئات البدنيّة الفاضلة و على الهيئات الردية البدنيّة

ص:101

أيضا،فإنّ رسوخ ذلك النحو من الاعتقاد الذي عرفت أنّه ليس بكمال علميّ للنفس،و كذا رسوخ خلافه،يرجع إلى رسوخ حالة بدنيّة رديّة أو فاضلة.

و منه يظهر وجه آخر لعدم تعرّض الشيخ صريحا لذكر قسم ما اكتسبت النفس الحالة البدنيّة الفاضلة،فإنّه لعلّه لم يتعرّض له لظهوره ممّا نقله عن ذلك البعض.

و حيث تحقّقت ما ذكرنا،فلنرجع إلى تحرير ما ذكره الشيخ من أحوال النفوس البله.

فنقول:معناه:و أمّا النفوس البله التي لم تكتسب الشوق التي كمالها الخاصّ بها،أي الكمال الحقيقيّ العلميّ،فإنّها إذا فارقت البدن،و كانت غير مكتسبة للهيئات الرديّة البدنيّة،سواء اكتسبت مع ذلك هيئة فاضلة بدنيّة أم لا،صارت إلى سعة من رحمة اللّه و نوع من الراحة.

أمّا إذا لم تكتسب هيئة رديّة و لا فاضلة مطلقا فلخلوّها عن أسباب التأذّي و الخلاص عنها فوق الشقاء،فإذن هي في سعة من رحمة اللّه تعالى و نوع من الراحة.و أمّا إذا اكتسبت مع ذلك هيئة فاضلة،فظاهر.

و على التقديرين و لا سيّما التقدير الأخير،يمكن أن يحمل ما ورد في الحديث من «أنّ أكثر أهل الجنّة البله» (1)و إن كانت مكتسبة للهيئات البدنيّة الرديّة،و ليس فيها هيئة غير ذلك من هيئة فاضلة و لا معنى يضادّها و لا أمر ينافيها،فتكون تلك النفوس لا محالة ممنوّة بشوقها إلى مقتضى تلك الهيئات الرديّة لعدم حصول شيء فيها غير ذلك،فتتعذّب عذابا شديدا بفقد البدن و مقتضياته،من غير أن يحصل المشتاق إليه،لأنّ آلة ذلك قد بطلت و خلق التعلّق قد بقي يعني أنّها حيث كانت ممنوّة بشوقها إلى مقتضى تلك الهيئة الرديّة البدنيّة،و الحال أنّ ذلك المقتضى إنّما كان يحصل بالبدن و بالآلات البدنيّة،فتتعذّب عذابا شديدا بسبب اشتياقها إلى ذلك المقتضى،مع كون الاشتياق حاصلا لها باقيا فيها، و كون المشتاق إليه،أي ذلك المقتضى غير حاصل لها،بل فائتا عنها.أمّا كون الاشتياق باقيا،فلأنّ خلق التعلّق بالبدن،و هو تلك الهيئة الرديّة البدنيّة باق فيها.و أمّا كون ذلك

ص:102


1- -بحار الأنوار 128/5؛9/67. [1]

المقتضى فائتا عنها،فلأنّ آلة ذلك-و هي البدن-قد بطلت.

و بالجملة،فسبب تعذّبها و تألّمها هو اشتياقها إلى شيء فائت عنها،و هذا هو مفاد كلامه.

و أمّا أنّه هل ينقطع هذا العذاب عنها أم لا ينقطع،فليس في كلامه هذا تعرّض لذلك، و مقتضى ما ذكره آنفا من أنّ الهيئة الرديّة البدنيّة و الأمر العارض الغريب لا تدوم و لا تبقى،بل تزول و تبطل مع زوال الأفعال التي كانت تثبت تلك الهيئة بتكرّرها،هو انقطاع هذا العذاب،حيث إنّ سببه أيضا إنّما هو الهيئات الرديّة و الأمر العارض الغريب.

ثمّ إنّه مال بعد ذلك إلى مذهب بعض العلماء في النفوس البله و بيان حالها بعد المفارقة،و كأنّه يريد بذلك البعض الفارابيّ،كما مرّ بيانه فيما سلف.

و قال:«و يشبه أيضا أن يكون ما قاله بعض العلماء حقّا،و هو أنّ تلك النفوس البله إذا فارقت البدن،و كانت زكيّة بأن رسخ فيها نحو من الاعتقاد في العاقبة و في أمور الآخرة التي تكون لأمثالهم،على مثل ما يمكن أن يخاطب به العامّة،أي المخاطبة بالأمور الجزئيّة المحسوسة من الأمور الحقّة في الآخرة،دون الأمور المعقولة التي ليس من شأنهم إدراكها و لا ينبغي مخاطبتهم بها و اعتقدوا تلك الأمور الجزئيّة المحسوسة نحوا من الاعتقاد،و إن كان شبيها بالتخيّل و التوهّم و تصوّر ذلك في أنفسهم،فإنّ هؤلاء إذا فارقوا الأبدان و الحال أن ليس لهم معنى جاذب إلى الجهة التي هي فوقهم،لا كمال فيسعدوا تلك السعادة الحاصلة بإدراك،و لا شوق كمال فيشقوا تلك الشقاوة الحاصلة بفقد ذلك الكمال،حيث إنّ المفروض أنّه لم يكن لهم شوق إلى كمالهم الخاصّ بهم حتّى يكتسبوه أم لم يكتسبوه،بل كانت جميع هيآتهم النفسانيّة متوجّهة نحو الأسفل،منجذبة إلى الأجسام لكون نفوسهم خسيسة،غير مكتسبة للشوق إلى الكمال،و الحال أنّ موضوع تخيّلهم بتلك الأمور الجزئيّة الأخرويّة التي يدركون الثواب على اعتقادهم بها و تخيّلهم لها،و هو البدن،و إن كان قد بطل،إلاّ أنّه لا منع في المواد السماويّة عن أن تكون موضوعة لفعل نفس فيها،كالتخيّل و التصوّر،و أن تكون تلك المواد تنوب عن أبدانهم في ذلك،لكن بحيث لا يكون تعلّق نفوسهم بتلك المواد تعلّق التدبير و التصرّف،كتعلّقهم بأبدانهم،بل

ص:103

مجرّد التعلّق لأجل حصول التخيّل،من غير أن تكون هي متصرّفة فيها،فهذه النفوس إذا فارقت الأبدان تتخيّل جميع ما كانت اعتقدته من الأحوال الأخرويّة،و يكون الآلة التي يمكنها بها التخيّل لذلك شيئا من الأجرام السماويّة،فتشاهد جميع ما قيل لها في الدنيا و اعتقدته نحوا من الاعتقاد،من أحوال القبر و البعث و الخيرات الأخرويّة،أي تشاهد جميع الأمور الجزئيّة الحسّيّة الأخرويّة و الثواب عليها،و تتصوّرها و تتخيّلها بالقوّة المتخيّلة التي آلتها ذلك الجرم السماويّ،و كذلك تكون الأنفس الرديّة التي لم يرسخ فيها ذلك النحو من الاعتقاد في العاقبة تشاهد أيضا العقاب بحسب ذلك المصوّر لهم في الدنيا و تقاسيه.

و بهذا تمّ بيان حال النفوس البله كما ذكره الشيخ نفسه،و نقله عن ذلك البعض الذي أراد به الفارابيّ و قد عرفت فيما سلف من مبحث إبطال التناسخ ما فيه من النظر،فتذكّر.

و أمّا قوله:«فإنّ الصور الخياليّة ليست تضعف عن الحسّيّة الخ»بيان،لأنّ تلك الصور الخياليّة كيف تكون سببا للثواب و العقاب،و وجهه أنّ تلك الصور الخياليّة التي قلنا إنّ مشاهدتها سبب للثواب و العقاب،ليست تضعف في الإلذاذ و الإيلام عن الصور الحسّيّة، بل تزداد عليها في ذلك تأثيرا و صفاء،و قد تقدّم في الأصول المتقدّمة ما يدلّ على أنّ زيادة التأثير و الصفاء توجب زيادة الإدراك للملذّ أو المؤلم،فيزيد اللذّة أو الألم،و هذا كما يشاهد في المنام،فربّما كان المحلوم به من الصور الخياليّة الدنيويّة أعظم شأنا في بابه،أي في الإلذاذ و الإيلام من المحسوس،على أنّ الصور الخياليّة الأخرويّة كما فيما نحن فيه أشدّ استقرارا من الموجودة المحلوم بها في المنام بحسب قلّة العوائق و تجرّد النفس و صفاء القابل،فتكون الصور الخياليّة الأخرويّة في الإلذاذ و الإيلام أقوى من الصور الحسّيّة بمرتبتين،بل بمراتب.

و قوله:«و ليست الصورة التي ترى في المنام الخ»بيان،لأنّه لا يلزم أن تكون الصور الخياليّة التي إدراكها سبب للذّة أو الألم منتزعة من ملذّ موجود في الخارج،أو مؤلم موجود في الخارج،بل إنّ نفس تلك الصورة الخياليّة إذا حصل ارتسامها في النفس،سواء كانت منتزعة من أمر في الخارج أو بمحض اختراع القوة الخياليّة تكون سببا لذلك.و بيانه

ص:104

أنّه ليست الصورة التي ترى فى المنام من الصور الخياليّة،بل و لا التي تحسّ في اليقظة منها-كما علمت في باب ذلك-إلاّ المرتسمة في النفس و في قواها،إلاّ أنّ إحداهما،و هي التي ترى في المنام تبتدئ من باطن و تنحدر إلى النفس.و الثانيّة و هي التي تحسّ في اليقظة،تبتدئ من خارج و ترتفع إليها،و على التقديرين،فإذا ارتسمت تلك الصورة في النفس بتوسّط ارتسامها في قواها فعلت فعلها هناك،أي الادراك المشاهد.و إنّما يلذّ و يؤذي بالحقيقة هذا المرتسم في النفس لا الموجود في الخارج،و كلّما ارتسم في النفس فعل فعله و إن لم يكن له سبب من خارج،فإنّ السبب الذاتيّ لذلك هو هذا المرتسم، و الخارج سبب بالعرض أو سبب السبب،فربّما كان و ربّما لم يكن.

فهذه التي ذكرناها من الثواب و العقاب بحسب مشاهدة الصور الخياليّة في النفوس البله هي السعادة و الشقاوة الحسّيّتان اللتان بالقياس إلى الأنفس الخسيسة المتوجّهة إلى الأسفل،و أمّا الأنفس المقدّسة عن تلك الخسّة المتوجّهة نحو الجهة التي هي فوقها،فإنّها تبعد عن مثل هذه الأحوال،و تتّصل بكمالها بالذّات و تنغمس في اللذّة الحقيقيّة العقليّة و تتبرّأ عن النظر إلى ما خالفها من الأمور الخسيسة الحسيّة،و إلى المملكة البدنيّة التي كانت لها كلّ التبرّؤ،أي تبرّءا كاملا،إذ لو كان قد بقى في تلك النفوس المقدّسة من النظر إلى ما خلفها أثر اعتقاديّ من جهة القوّة النظريّة،أو خلقيّ من جهة القوّة العمليّة،تأذّت بذلك الأثر،لكونه منافيا لحقيقتها المقدّسة عن ذلك،و تخلّفت لأجله عن درجة العليّين إلى أن ينفسخ شيئا فشيئا عنها و يزول،و ترقّت إلى درجة العليّين.

و هذا شرح كلامه هنا فيما نقله عن ذلك البعض عن العلماء،سواء كان كلّه هو قول ذلك البعض أو بعضه،و هو ما ذكره أوّلا.

و بالجملة،فليس فيه أيضا تعرّض لأنّ السعادة و الشقاوة الحسّيّتين بالقياس إلى النفوس البله،هل تنقطعان أم لا؟و قد ذكرنا آنفا أنّ مقتضى ما ذكره سابقا من زوال الهيئة الرديّة انقطاع شقاوتها.و قد ذكر في«الإشارات»كما نقلنا كلامه سابقا ما يشعر بزوال سعادتها الحسّيّة أيضا و تدرّجها إلى درجة العارفين آخر الأمر.

قال:«و أمّا البله فإنّهم إذا تنزّهوا خلصوا من البدن إلى سعادة تليق بهم،و لعلّهم لا

ص:105

يستغنون فيها عن معاونة جسم يكون موضوعا لتخيّلات لهم،و لا يمتنع أن يكون ذلك جسما سماويّا أو ما يشبهه،و لعلّ ذلك يفضي بهم آخر الأمر إلى الاستعداد للاتّصال المعدّ الذي للعارفين».انتهى.

و قد ذكرنا هنالك ما فيه من النظر،فتذكّر.

ثمّ إنّك بعد ما أحطت خبرا بتفاصيل ما نقلنا عن الشيخ من الكلام في هذا الفصل و شرحناه،و تبيّن لك مؤدّاه و تلخّص مغزاه،فاعلم أنّ لنا فيه مضافا إلى النظرين اللذين أوردنا أحدهما على أوّل كلامه في هذا الفصل،و الآخر على آخر كلامه فيه،نظرا آخر، و هو أن يقال:

هب أنّ السعادة و الشقاوة العقليّتين بحسب القوّة النظريّة و العمليّة حاصلتان للأنفس التي اكتسبت الشوق إلى كمالها الخاصّ بها كما فصّله الشيخ.

و هب أنّ ذلك أيضا ممّا نطق به الشرع و صدّقته أخبار النبوّة كما ادّعاه،مثل ما ورد في شأن السعداء من قوله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ)) . (1)

و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هناك:«ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر». (2)

و قوله تعالى: وَ رِضْوانٌ مِنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) . (3)

و قوله تعالى: رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ)) . (4)

و قوله تعالى: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً)) . (5)

و قوله تعالى: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللّهُمَّ وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)) (6).

ص:106


1- -السجدة(32):17. [1]
2- -بحار الأنوار 191/8. [2]
3- -التوبة(9):72. [3]
4- -المائدة(5):119. [4]
5- -الفجر(89):27-28. [5]
6- -يونس(10):10. [6]

و قوله تعالى: مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللّهِ لَآتٍ)) (1).

و قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَ لَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ* نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ)) . (2)

و قوله تعالى: وَ هُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ)) (3).

و قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ)) . (4)

و أمثال ذلك الآيات و الاخبار

أو حملناها على السعادة العقليّة،أو على أعمّ منها و من السعادة الحسّيّة.

و مثل ما ورد في شأن الاشقياء من قوله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللّهِ حَتّى إِذا جاءَتْهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها)) . (5)

و قوله تعالى: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ،لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ)) . (6)

و قوله تعالى: وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)) . (7)

و قوله تعالى: وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى)) . (8)

و قوله تعالى: إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَ السُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ)) . (9)

و قوله تعالى: خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ)) . (10)

ص:107


1- -العنكبوت(29):5. [1]
2- -فصّلت(41):31-32. [2]
3- -الأنبياء(21):102. [3]
4- -القيامة(75):22-23. [4]
5- -الأنعام(6):31. [5]
6- -الأعراف(7):179. [6]
7- -النحل(16):106. [7]
8- -طه(20):124. [8]
9- -النحل(16):27. [9]
10- -القلم(68):43. [10]

و قوله تعالى: وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ* تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ)) . (1)

و قوله تعالى: نارُ اللّهِ الْمُوقَدَةُ* اَلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ)) . (2)

إلى غير ذلك من الآيات و الأخبار،لو حملناها على الشقاوة العقليّة أو على أعمّ منها و من الحسّيّة.

و هب أن السعادة و الشقاوة العقليّتين حيث كانتا ممّا يستقلّ في إثباتها العقل بالقياس البرهانيّ،و كنّا مع ذلك ممّا لا نتصوّر هما حقّ التصوّر لكوننا منغمسين في البدن و رذائله،لم يفصلهما الشرع تفصيله للسعادة و الشقاوة الحسّيّتين،بل وقعت في الشرع إشارات و إيماءات إليهما يفهمها من يفهمها،إلاّ أنّ فيما ذكره الشيخ إهمالا لما هو المقصود الأهمّ هنا،و هو أنّه لم يتبيّن من كلامه أنّ النفس بعد مفارقتها عن البدن في إدراكها للسعادة و إصابتها للشقاوة العقليّة،هل هي مجرّدة عن المادّة في فعلها كما هو مجرّدة عنها في ذاتها؟أو هي متعلّقة بمادّة تتصرّف فيها تصرّف التدبير،كتصرّفها في البدن؟أو لا تتصرّف فيها ذلك التصرّف،بل إنّما هي متعلّقة بها نوع تعلّق،لتكون تلك المادّة موضوعة لإدراكاتها؟مع أنّه على فرض التجرّد كيف تكون مجرّدة عن المادّة في أفعالها و إدراكاتها؟و الحال أنّها كانت بدنيّة لا إدراك لها أصلا إلاّ في ضمن البدن،و كيف تكون ذات واحدة تارة بدنيّة كما في النشأة الدنيويّة و تارة غير بدنيّة أصلا،بل مجرّدة عن البدن و عمّا يشابهه مطلقا كما في ما بعد الموت إلى وقت البعث،و تارة بدنيّة أيضا كما في حال البعث،حيث إنّ الشيخ سلّم ذلك،و قبل المعاد الجسمانيّ من الشرع؟و لو قال بأنّ النفس إنّما كانت في النشأة الدنيويّة بدنيّة لأجل استكمالها في ضمنه،فإذا حصل الاستكمال فلا احتياج لها إليه في أفعالها و إدراكاتها،فيمكن أن تكون مجرّدة عن ذلك مطلقا.

قلنا:ذلك على تقدير تسليمه،إنّما يسلّم في النفوس الفاضلة التي حصلت كمالاتها العلميّة و العمليّة بالفعل،و أمّا في النفوس التي هي بخلاف ذلك و لم تحصّل كمالاتها،بل حصلت ما ينافي كمالاتها،فلا.

ص:108


1- -القيامة(75):24-25. [1]
2- -الهمزة(104):6-7. [2]

و أيضا يرد النقض بتلك النفوس حين البعث،فإنّها بدنيّة هنالك لا محالة كما نطق به الشرع و اعترف به الشيخ،فلو كان الاستكمال مغنيا لها عن البدن لكانت النفوس المحصّلة لكمالاتها غير بدنيّة هنالك أيضا،هذا خلف.

و إنّه على فرض التعلق بالمادّة بعد المفارقة،فلا شكّ أنّ تلك المادّة ليست هي البدن الأوّل الذي كانت متعلّقة به،لكون المفروض مفارقتها عنه و اضمحلاله و بطلانه،فهي مادّة أخرى غير ذلك البدن الأوّل،فلا يخلو حينئذ إمّا أن تكون متعلّقة بتلك المادّة الأخرى تعلّق التدبير و التصرّف،فهذا تناسخ،فقد ظهر بطلانه؛و إمّا أن تكون متعلّقة بها لا تعلّق التدبير و التصرّف،بل نوع تعلّق لأن تكون موضوعة لإدراكاتها كما ذهبوا إليه في النفوس الساذجة،من التعلّق بجرم سماويّ أو جرم دخانيّ،أو نحو ذلك،على ما عرفت من المذاهب المنقولة في ذلك،فهذا أيضا باطل،قد أشرنا إلى بطلانه فيما سبق.

و بالجملة،ففيما ذكره إهمال لما هو الغرض المهمّ هنا.

فإن قلت:لا إهمال،فإنّ الشيخ لعلّه لم يتعرّض لبيان ذلك صريحا،إشعارا بأنّ السعادة و الشقاوة العقليّتين لمّا كانتا حاصلتين للنفس بذاتها،و كان إدراكها غير مفتقر إلى آلة بدنيّة،فلا توقّف لبيان حال تلك السعادة و تلك الشقاوة على بيان كون النفس كائنة حينئذ في ضمن بدن،مع أنّه حيث قبل المعاد الجسمانيّ من الشرع،فقد أشعر بذلك البيان كما نطق به الشرع.

قلت:هب أنّ السعادة و الشقاوة العقليّتين تحصلان للنفس بذاتها،و أنّ إدراكهما لا يحتاج إلى آلة بدنيّة،إلاّ أنّا نقول:إنّ الإهمال الذي ادّعيناه من جهة أنّه لم يبيّن أنّ النفس في تلك الحالة التي يدرك فيها السعادة و الشقاوة العقليّتين،هل هي في ضمن بدن أم لا؟ و أنّ ذلك البدن ما ذا؟مع أنّ السعداء الذين تحصل لهم بعد المفارقة السعادة العقليّة تحصل لهم السعادة الحسّيّة أيضا،على ما دلّ الدليل النقليّ و العقليّ عليه،و أنّ السعادة الحسّيّة الأخرويّة ليست من جنس السعادة الحسّيّة الدنيويّة في الخسّة حتّى يهمل بيانها،بل أعظم منها بمراتب،بل إنّ أكثر ما دلّ عليه الشرع من السعادة هو السعادة الحسّيّة كما يظهر على من تتبّع.و كذلك الأشقياء،كما دلّ الدليل العقليّ و النقليّ على حصول الشقاوة

ص:109

العقليّة لهم كذلك،دلاّ على حصول الشقاوة الحسّيّة لهم أيضا،كما هو مدلول أكثر الآيات و الأخبار،و ليس تلك الشقاوة من جنس الشقاوة الدنيويّة،بل أشدّ منها بكثير،و الحال أنّ إدراك النفس للسعادة و الشقاوة الحسّيّتين يحتاج إلى آلة بدنيّة البتّة،و لذلك قال الشيخ في النفوس الساذجة بتعلّقها بجرم سماويّ ليكون ذلك موضوعا لتخيّلاتهم و إدراكهم لتلك السعادة و الشقاوة الحسّيّتين،فلم أهمل بيان ذلك و هو محتاج إلى البيان البتّة؟

ثمّ إنّ ما ذكرت:أنّ الشيخ حيث قبل المعاد الجسمانيّ من الشرع،فقد أشعر بذاك البيان كما نطق به الشرع،محلّ نظر،لأنّه إنّما قبل المعاد الجسمانيّ من الشرع،و ظاهر ذلك أنّه قبل تعلّق النفس ببدن حين البعث كما نطق به الشرع لا من حين المفارقة إلى حين البعث أيضا،أي في عالم البرزخ،فإنّه لا إشعار لذلك القبول ببيان حال النفس في عالم البرزخ،كما نطق به الشرع.و على تقدير التسليم فما نطق به الشرع في ذلك العالم إنّما هو التعلّق ببدن مثاليّ روحانيّ،كما سنبيّن ذلك فيما بعد إن شاء اللّه تعالى،لا التعلّق بغير ذلك من الأبدان و لا التجرّد عن الأبدان مطلقا.

و الشيخ لو كان قائلا بذلك البدن المثاليّ،لكان قائلا به في النفوس الساذجة التي هي على رأيه لا بدّ لها من جسم تتعلّق به في إدراكاتها،و لم يقل بالبدن المثاليّ فيها،مع أنّ القول به فيها لا مانع منه،كما سيتّضح ذلك من بعد،و أنّ ما قال به فيها واضح البطلان،كما عرفت.

و حينئذ فهو مع إهماله لبيان ما هو الغرض المهمّ هنا،يظهر منه أنّه غير قائل بما نطق به الشرع في بيان حال النفوس مطلقا في عالم البرزخ من حيث التعلّق ببدن مثاليّ،و يلزم منه مخالفته للشرع مع ادّعائه أنّه مصدّق به،كما يلزم مخالفة الشرع على الذين قالوا بالمعاد الروحانيّ و لم يقولوا بالجسمانيّ مطلقا،من جهة بيان حال النفوس في عالم البرزخ و حين البعث جميعا،و إن كانت مخالفته للشرع أقلّ من مخالفتهم له،و كأنّ منشأ ذلك قلّة الاعتناء و المبالاة بالشرع الشريف،أو الغفلة عنه مع ظهوره.نعوذ باللّه تعالى من ذلك.و إن احتمل أن يكون لذلك وجه آخر لم نعلم.

و قد يحكى عن بعض علمائنا ما مضمونه أنّه رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في المنام،فسأله

ص:110

عن حال ابن سينا فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:إنّ ابن سينا أراد أن يترقّى إلى الرفيع الأعلى بدون قائد إرشادي و هدايتي،فضربته بيدي فأسقطته إلى الأسفل الأدنى،فتردّى و هوى.

في بيان حال النفوس بعد المفارقة عن البدن،أي في

عالم البرزخ كما نطق به الشرع

و حيث انتهى الكلام إلى هذا المقام،و تمّ ما رمنا ذكره على سبيل المقدّمة،فلنرجع إلى ما كنّا بصدده من بيان حال النفوس بعد المفارقة عن البدن،كما قال تعالى: وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)) . (1)

فنقول:روى حجّة الإسلام و رئيس المحدّثين أبو جعفر محمد بن عليّ بن بابويه القمّيّ قدّس اللّه تعالى روحه في كتاب«من لا يحضره الفقيه»عن الصادق عليه و على آبائه الطاهرين و أولاده المعصومين أكمل الصلوات و أفضل التسليمات و التحيّات:«إنّ الأرواح في صفة الأجساد في شجرة من الجنّة تتساءل و تتعارف،فإذا قدمت الروح على الأرواح،تقول:دعوها فقد أفلتت من هول عظيم،ثمّ يسألونها ما فعل فلان؟فإن قالت لهم تركته حيّا ارتجوه،و إن قالت لهم:قد هلك،قالوا:هوى هوى». (2)

و روى شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسيّ نوّر اللّه تعالى ضريحه في كتاب«تهذيب الأحكام»بإسناده عن مروان بن مسلم عنه عليه السّلام،قال:قلت له:إنّ أخي ببغداد،و أخاف أن يموت بها،قال:ما تبالي حيثما مات،أمّا إنّه لا يبقى مؤمن في شرق الأرض و غربها،إلاّ حشر اللّه تعالى روحه إلى وادي السلام.قال:قلت:جعلت فداك، و أين وادي السلام؟قال:ظهر الكوفة،أمّا إنّي كأنّي بهم حلق حلق قعود يتحدّثون. (3)

و عن يونس بن ظبيان،قال:كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام جالسا،فقال:ما يقول الناس

ص:111


1- -المؤمنون(23):100. [1]
2- -من لا يحضره الفقيه 193/1،و فيه:ما فعل فلان؟و ما فعل فلان؟
3- -تهذيب الأحكام 466/1(في أحكام الأموات)و فيه:...أن يموت فيها...لا يبقى أحد...و لا في غربها...

في أرواح المؤمنين؟قلت:يقولون:تكون في حواصل طيور خضر في قناديل تحت العرش!فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:سبحان اللّه،المؤمن أكرم على اللّه من ذلك،أن يجعل روحه في حوصلة طائر أخضر.يا يونس،المؤمن إذا قبضه اللّه تعالى صيّر روحه في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون و يشربون،فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا. (1)

و عن أبي بصير قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن أرواح المؤمنين،فقال:في الجنّة على صور أبدانهم،لو رأيتهم لقلت فلان. (2)

إلى غير ذلك من الأحاديث التي رواها علماؤنا،و قد نقلنا جملة منها في صدر الرسالة.

و قد قال بعض العلماء المتبحّرين من المتأخّرين (3)في شرحه على التهذيب:إنّ هذه الأخبار تدلّ على انتقال الأرواح إلى الأجساد المثالية،و به يستقيم كثير من الآيات و الأخبار الواردة في أحوال الروح بعد مفارقة البدن،و قد وردت به أخبار كثيرة،و لا مانع عن القول به،و ليس هذا من التناسخ في شيء،مع أنّ التناسخ لم يتمّ دليل عقليّ على امتناعه،و لو تمّت لا يجري أكثرها فيما نحن فيه،و العمدة في نفيه إجماع المسلمين و ضرورة الدين،و معلوم أنّ هذا غير داخل فيما انعقد الإجماع و الضرورة على نفيه،كيف و قد قال به كثير من المسلمين،كشيخنا المفيد قدّس اللّه روحه و غيره من علمائنا المتكلّمين المحدّثين،بل لا يبعد القول بتعلّق الأرواح بالأجساد المثاليّة عند النوم أيضا، كما يشهد به ما يرى في المنام،و قد وقع في الأخبار تشبيه حالة البرزخ و ما يجري فيها بحالة الرؤيا و ما يشهد فيها.

قال الشيخ البهائيّ قدّس اللّه روحه:«قد يتوهّم أنّ القول بتعلّق الأرواح بعد مفارقة أبدانها العنصريّة بأشباح أخر-كما دلّت عليه الأحاديث-قول بالتناسخ،و هذا توهّم

ص:112


1- -تهذيب الأحكام 466/1.
2- -تهذيب الأحكام 466/1 و فيه:...لو رأيته لقلت:...
3- -هو المحدّث الجليل المولى محمّد باقر المجلسيّ(ره)منه.

سخيف،لأنّ التناسخ الذي أطبق المسلمون على بطلانه هو تعلّق الأرواح بعد خراب أجسادها بأجسام أخر في هذا العالم،أمّا عنصريّة كما يزعم بعضهم و يقسّمه إلى النسخ و المسخ و الفسخ و الرسخ،أو فلكيّة ابتداء،أو بعد تردّدها في الأبدان العنصريّة،على اختلاف آرائهم الواهية المفصّلة في محلّها.و أمّا القول بتعلّقها في عالم آخر بأبدان مثاليّة مدّة البرزخ إلى أن تقوم قيامتها الكبرى،فتعود إلى أبدانها الأوّليّة بإذن مبدعها،إمّا بجمع أجزائها المتشتّتة،أو بإيجادها من كتم العدم،فليس من التناسخ في شيء،و إن سمّيته تناسخا فلا مشاحّة في التسمية إذا اختلف المسمّى.و ليس إنكارنا على التناسخيّة حكمنا بتكفيرهم بمجرّد قولهم بانتقال الروح من بدن إلى آخر،فإنّ المعاد الجسمانيّ كذلك عند كثير من أهل الإسلام،بل بقولهم بقدم النفوس و تردّدها في أجسام هذا العالم،و إنكارهم المعاد الجسمانيّ في النشأة الأخرويّة».

ثمّ قال قدّس سرّه:«ما ورد في بعض أحاديث أصحابنا رضي اللّه عنهم،من أنّ الأشباح التي تتعلّق بها النفوس ما دامت في عالم البرزخ ليست بأجسامهم،و أنّهم يجلسون حلقا حلقا على صور أجسادهم العنصريّة يتحدّثون و يتنعّمون بالأكل و الشرب، و أنّهم ربّما يكونون في الهواء بين الأرض و السماء،يتعارفون في الجوّ و يتلاقون،و أمثال ذلك،كما يدلّ على نفي الجسميّة و إثبات بعض لوازمها،يعطي أنّ تلك الأشباح ليست في كثافة المادّيّات و لا في لطافة المجرّدات،بل هي ذوات جهتين و واسطة بين العالمين، و هذا يؤيّد ما قاله طائفة من أساطين الحكمة من أنّ في الوجود عالما مقداريّا غير العالم الحسّيّ،هي واسطة بين عالم المجردات و عالم الماديّات،ليس في تلك اللطافة و لا في هذه الكثافة،فيه ما للأجسام و الأعراض من الحركات و السكنات و الأصوات و الطّعوم و الروائح و غيرها مثل قائمة بذواتها لا في مادّة،و هو عالم عظيم الفسحة،و سكّانه على طبقات متفاوتة في اللطافة و الكثافة،و قبح الصورة و حسنها،و لأبدانهم المثاليّة جميع الحواسّ الظاهرة و الباطنة،فيتنعّمون و يتألّمون باللذّات و الآلام النفسانيّة و الجسمانيّة.

و قد نسب العلاّمة في«شرح حكمة الإشراق»،القول بوجود هذا العالم إلى الأنبياء و الأولياء و المتألّهين من الحكماء،و هو و إن لم يقم على وجوده شيء من البراهين العقليّة،

ص:113

لكنّه قد تأيّد بالظواهر النقليّة،و عرفه المتألّهون بمجاهداتهم الذوقيّة.انتهى». (1)انتهى كلامه.

أقول و باللّه التوفيق:اعلم أنّ القول بانتقال الأرواح بعد الموت إلى الأبدان المثاليّة، و كذا القول بوجود العالم المثاليّ المتوسّط بين العالم الحسّيّ و العقليّ هو قول كثير من العلماء الإسلاميّين المحدّثين و كثير من المتكلّمين،و لا سيّما الصوفيّة منهم،و كثير من أساطين الحكمة،و لا سيّما الإشراقيّين منهم،كما يظهر على من تصفّح كتب العلماء، مضافا إلى ما ذكره شارح«حكمة الاشراق»أنّه قول الأنبياء و الأولياء و المتألّهين من الحكماء.و كذلك بالقول بذلك يستقيم توجيه كثير من الآيات و الأخبار الواردة في أحوال الروح بعد مفارقة البدن،كما ذكره ذلك البعض من المتبحّرين أيضا،و يظهر ذلك على من تدبّر في تلك الآيات و الأخبار الواردة فيها.

مثل ما رواه الشيخ الصدوق في«الفقيه»عن الصادق عليه السّلام:«اذا قبضت الروح فهي مظلّة فوق الجسد روح المؤمن و غيره ينظر إلى كل شيء يصنع به،فإذا كفّن و وضع على السرير و حمل على أعناق الرجال عادت الروح إليه و دخلت فيه،فيمدّ له في بصره فينظر إلى موضعه من الجنّة أو النار،فينادي بأعلى صوته إن كان من أهل الجنّة:عجّلوني،و إن كان من أهل النار:ردّوني،و هو يعلم كلّ شيء يصنع به و يسمع الكلام». (2)

و مثل ما رواه فيه عن إسحاق بن عمّار:«أنّه سأل أبا الحسن الأوّل صلوات اللّه عليه عن المؤمن يزور أهله؟فقال:نعم.قال:في كم؟فقال:على قدر فضائلهم،منهم من يزور كلّ يوم،و منهم من يزور في كلّ يومين،و منهم من يزور في كلّ ثلاثة أيّام.قال:ثمّ رأيت في مجرى كلامه أنّه يقول:أدناهم جمعة،فقال له:في أيّ ساعة؟قال:عند زوال الشمس أو قبيل ذلك،فيبعث اللّه معه ملكا يريه ما يسرّه،و يستر عنه ما يكرهه،فيرى سرورا

ص:114


1- -الأربعين للشيخ البهائيّ191/ و 192 و فيه:...لوازمها على ما هو منقول في الكافي و غيره عن أمير المؤمنين و الأئمّة من أولادهم عليه السّلام...
2- -من لا يحضره الفقيه 193/1،و فيه:...الجنّة أو من النار...عجّلوني عجّلوني...ردّوني ردّوني...

و يرجع إلى قرّة عين». (1)

و مثل ما رواه حفص بن البختريّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:«إنّ الكافر يزور أهله،فيرى ما يكرهه،و يستر عنه ما يحبّ». (2)

و قد ذكر شارح الفقيه:أنّه روى في الموثّق عن أبي بصير،عن الصادق عليه السّلام إنّ كلّ مؤمن و كافر مات يجيء عند الزوال لزيارة أهله،فإن رأوا عملا صالحا من أهلهم شكروا اللّه عزّ و جلّ،و إن رأوا عملا سيّئا تألّموا و تحسّروا حسرة عظيمة. (3)

و روي أيضا عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام،في خبر كالصحيح«أنّه سئل عنه هل يجيء الميت لزيارة أهله؟فقال:نعم.قال:في كم؟قال:في كلّ أسبوع و شهر و سنة بمقدار منزلتهم،قال:في أيّ صورة؟قال:في صورة طائر لطيف يجلس على جدار بيته،و ينظر إلى أحوال أهله،فإن كانت حالهم حسنة يسرّ،و إن كانت سيّئة يغتمّ و يحزن» (4).

و روي أيضا في حديث قويّ عن عبد الرحيم،عنه عليه السّلام:«أنّه سأله عن أنّ المؤمن هل يزور أهله؟قال عليه السّلام:نعم يرخصه اللّه تعالى،و يرسل معه ملكين،و هو على صورة طائر، و يجلس على حائط بيته و ينظر إلى أهله و يسمع كلامهم». (5)

إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في حال الميت بعد مفارقة روحه عن جسده؛بل إنّه يستقيم بالقول بذلك توجيه القول بتجسيم الأعمال كما سيأتي بيانه،و كذا يستقيم توجيه ما ورد من ظهور الملكين منكر و نكير على المؤمنين بصورة حسنة و على غيرهم بصورة مهيبة،و كذا ظهور جبرئيل عليه السّلام في صورة دحية الكلبيّ و أمثال ذلك،سواء قيل بكون الملائكة أجساما نورانيّة لطيفة،كما هو ظاهر الشرع،أو ذواتا مجرّدة كما ذهب إليه بعض الحكماء،و سيجيء زيادة بيان لذلك فيما بعد،إن شاء اللّه تعالى.

ص:115


1- -من لا يحضره الفقيه 181/1.
2- -نفس المصدر.
3- -شرح الفقيه الفارسي 346/1 الطبعة الحجريّة.
4- -شرح الفقيه 346/1.
5- -نفس المصدر.

و قد وردت بما يدلّ على هذا القول أخبار كثيرة غير ما ذكرنا هنا أيضا،كما نقلنا في صدر الرسالة جملة من الأخبار في ذلك،و كلّها متقاربة المضامين تدلّ على انتقال الأرواح إلى القالب المثاليّ،فتذكّر.

ثمّ إنّ عمدة المستند في ذلك عند المتمسّكين بالأخبار،هي تلك الأخبار الواردة في ذلك،كما أنّ عمدة المستند فيه عند الحكماء الإشراقيّين و الصوفيّة من المتكلّمين هي ما عرفوه بمجاهداتهم الذوقيّة.

من جملة الشواهد على وجود العالم المثاليّ ما يشاهد في النوم

و قد جعل بعض من القائلين بوجود هذا العالم المثاليّ و انتقال الروح إلى بدن مثالي بعد المفارقة عن البدن العنصريّ،من جملة الشواهد على ذلك ما يشاهده النائم في نومه من الصور،كما ورد في الأخبار من تشبيه حالة البرزخ و ما يجري فيها بحالة الرؤيا و ما يشاهد فيها،و أنّ النوم أخو الموت.

و كان وجه هذه الشهادة،أنّ الصورة التي يراه الانسان في منامه من صورة ذاته،أو صورة غيره من الإنسان أو غيره إمّا أن تكون هي الصورة المحسوسة بحسّ البصر الظاهريّ المنتزعة من المحسوس العينيّ الموجود في الخارج،فهذا باطل،لأنّ البصر الظاهريّ معطّل في حالة النوم باتّفاق العلماء من الحكماء و غيرهم،بل إنّ تعطّله معلوم بالضرورة،فكيف يفعل فعلا؟و أيضا فعلم بالضرورة أنّ تلك الصور ليست صورا محسوسة منتزعة من أعيان خارجيّة،و إلاّ لترتّب الآثار الخارجيّة المترتّبة عليها،و ليس كذلك.

و إمّا أن تكون هي صورا موجودة في الخيال أو في القوة المتخيّلة،فهذا و إن كان ممّا قال به جمع من الحكماء،و لا سيّما الطبيعيّين منهم،لكنّه ممّا لا يكاد يتمّ،لأنّه مبنيّ على تعطّل الحواس الظاهرة و عدم تعطّل الحواس الباطنة في المنام،و هذا غير معلوم،بل إنّ ما ذكروه في سبب تعطّل الحواس الظاهرة في المنام يجري في تعطّل الحواس الباطنة أيضا،

ص:116

حيث إنّ سبب التعطّل سواء كان هو نوعا من قطع العلاقة مع البدن الذي يحصل للنفس حالة النوم،حيث إنّها في تلك الحالة يصير علاقتها مع البدن قليلة و منقطعة في الجملة، أو كان استيلاء رطوبة على أعصاب الدماغ التي هي مبادئ الحواسّ كما قالوا،أو أمر آخر غير ذلك،فهذا السبب كما أنّه يجري في تعطّل الحواسّ الظاهرة يجري في تعطّل الباطنة منها أيضا.و لا دليل على اختصاصه بالظاهرة منها،بل الظاهر جريانه في الباطنة و كونه سببا لتعطّلها أيضا.و أيضا إنّ الصور الخياليّة يجب أن تكون منتزعة من محسوس خارجيّ،تبقى تلك الصورة في خزانة الخيال،و نحن قد نرى في المنام صورة لم نر ذا صورتها قطّ،و إنّ القوة المتخيّلة و إن كانت قد تخترع صورا،لا تكون ذوات صورها موجودة،و لم تجيء تلك الصور إليها من جهة الحواسّ الظاهر و الخيال،إلاّ أنّ أكثر ما تخترعه هي الصورة الكاذبة التي لا حقيقة لها،و إن كان يمكن نادرا أن تخترع بمحض تعمّلها صورة توافق ما في الخارج من بعض الوجوه،و أندر منه الموافقة من كلّ الوجوه، و الحال إنّا كثيرا ما نرى في المنام رؤيا صادقة،بل نرى صورة لم نر ذا صورتها قطّ،ثمّ يتّفق أن نرى بعد ذلك ذا صورتها أيضا موافقا لما رأيناه في المنام من كلّ الوجوه، و مستبعد جدّا أن تكون تلك الصورة من مخترعات المتخيّلة،اتّفقت موافقتها من كلّ الوجوه،و على هذا فمن قال بأنّها خيال منفصل،إن أراد أنّها صورة مشابهة للصورة الخياليّة منفصلة عن المادّة الجسمانيّة فله وجه،و إن أراد أنّها نفس الصورة الخياليّة المنفصلة عن المواد،فعليه البيان،بل فيه نظر لا يخفى.

و أمّا أن تكون الصورة المشاهدة في المنام صورة مرتسمة في جسم فلكيّ أو عنصريّ أو في النفوس المنطبعة الفلكيّة مثلا يشاهدها النفس فيه بسبب ارتباطها به نوعا من الارتباط مشاهدة عقليّة كأنّها مشاهدة حسّيّة،فذلك أيضا ممّا لا يكاد يتمّ،لأنّه حينئذ كان ينبغي أن تشاهدها النفس في ذلك المحلّ المنطبع هي فيه مشاهدة الحالّ في محلّه،و الحال في الصور المرئيّة في المنام بخلاف ذلك،حيث إنّا نراها موجودة بوجود منفرد غير متعلّق بشيء آخر من جرم فلكيّ أو جسم عنصريّ أو نفس منطبعة فلكيّة.

و حيث بطلت تلك الاحتمالات فبقي أن تكون الصورة المرئيّة في المنام موجودة

ص:117

في عالم آخر هو عالم المثال،كما تبيّن حاله.

و أمّا وجه كون الصورة المرئيّة فيه تارة موافقة لما في الخارج،كما في الرؤيا الصادقة،و تارة غير موافقة كما في الرؤيا الكاذبة،فكأنّه لأجل أنّ النفس إذا كانت صافية من شوب كدورات الطبيعة،فبصرها الذي لها في بدنها المثاليّ صحيحة،فهي ترى بتلك العين الصحيحة الأشياء على ما هي عليها،و إن لم تكن صافية عن ذلك،فعينها التي لها في ذلك البدن عليلة،و هي ترى بتلك العين العليلة الأشياء على خلاف ما هي عليه كما في العين الظاهريّة للأحول مثلا.

و هذا الذي ذكرنا هو إشارة إجماليّة إلى الرؤيا الصادقة و الكاذبة،و لتفصيلها مقام آخر يطول بذكره الباب.و بما ذكرنا يتمّ الشهادة،و به يظهر سرّ ما ورد من تشبيه حالة البرزخ بحالة الرؤيا و أنّ النوم أخو الموت،و إن كان بين الحالتين فرق ما،حيث إنّ مفارقة النفس عن البدن في الموت مفارقة تامّة و في النوم مفارقة في الجملة،و بهذا الاعتبار أيضا يكون هذا الشاهد شاهدا على المطلوب،فتبصّر.

ثمّ إنّه ربّما عدّ بعض القائلين بهذا القول من الشواهد عليه ما يحكى من أنّ السفلة و الأوباش إذا قتلوا إنسانا و أحرقوه في أتّون الحمّام،فكثيرا ما يشاهد في سطح الماء الذي في خزينة ذلك الحمّام شبح مثل صورة إنسان،و يرى ذلك فيه ما دام ذلك الماء ساكنا غير متحرّك،و ذلك قد جرّب كثيرا،و لذلك كان ديدن الحمّاميّ و صاحب ذلك الحمّام أن يحتاط في ذلك و يلاحظ لكي يعلم أنّه في تلك الليلة هل أحرق في أتّون الحمّام إنسان أم لا؟و ما ذلك الشبح إلاّ قالبا مثاليّا لذلك الشخص المحترق تعلّق نفسه به بعد مفارقتها عن قالبها العنصريّ.و نحن أيضا قد سمعنا ذلك في عصرنا و هو-على تقدير الوقوع-لا يخفى أنّه ممّا يمكن أن يكون شاهدا على المطلوب.

ثمّ إنّه ممّا يؤيّد هذا المطلوب،و يكون شاهدا عليه ما نقل أنّه روى بعض الأعاظم من العلماء كالسيّد الداماد طاب ثراه في«الجذوات»:«أنّ مظهر العجائب و مظهر الغرائب سيّد الوصيّين عليّ بن أبي طالب عليه و على أولاده المعصومين أجمعين سلام اللّه تعالى إلى يوم الدين كان ليلة من ليالي شهر اللّه الأعظم شهر رمضان ضيفا لعدّة من الصحابة،و أفطر

ص:118

في بيوتهم المتعدّدة،و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:إنّ عليّا أفطر في بيته». (1)

فإنّ توجيه هذا الحديث،إنّما يمكن على القول بعالم المثال،و بوجود البدن المثاليّ، حيث إنّ حضور عليّ عليه السّلام ببدنه العنصريّ في بيوت عدّة من الصحابة مع كونه في بيته بذلك البدن ممتنع بالذات،فإنّ جسم واحد بالشخص لا يمكن أن يكون في زمان واحد و في آن واحد إلاّ في مكان واحد لا أزيد،و ادّعاء أنّ ذلك لعلّه كان من معجزته و كرامته عليه السّلام لا يكاد يصحّ،فإنّ المعجزة و الكرامة إنّما تمكن في شيء يكون ممكنا ذاتيّا،و يكون ممتنعا عاديّا،لا في الممتنع بالذات.كما أنّ ادّعاء أنّ ذلك لعلّه كان لأجل أنّ اللّه تعالى خلق ملائكة بصورة عليّ عليه السّلام،و أنّ أولئك الملائكة أفطروا في بيوت الصحابة و ظنّ الصحابة أنّهم عليّ عليه السّلام،و الحال أنّه عليه السّلام نفسه أفطر في بيته غير مستقيم،لأنّ المفروض في الحديث إفطار عليّ عليه السّلام في بيوت الصحابة،لا إفطار الملائكة.

نعم،يصحّ توجيه ذلك على القول بالبدن المثاليّ،فإنّه لا مانع من أن يكون لروحه الشريف المقدّس أبدان مثاليّة،و يكون قد ظهر في ضمن كلّ بدن مثاليّ في بيت واحد من الصحابة،و ظهر ببدنه العنصريّ في بيته،و على هذا فيكون في الحديث الشريف شهادة على المطلوب.

و فيه-مع الشهادة على ثبوت أصل عالم المثال و وجود البدن المثاليّ-شهادة على أمرين آخرين أيضا:

الأوّل إمكان تعلّق الروح في عالم اليقظة أيضا ببدن مثاليّ،و أنّه لا يلزم أن يكون ذلك بعد المفارقة التامّة كما في حالة الموت،أو المفارقة في الجملة كما في حالة النوم.

و الثاني:جواز تعلّق روح واحد،و خصوصا إذا كان مقدّسا شريفا بأكثر من بدن واحد مثاليّ.

و لا امتناع أيضا في كلّ منهما.

بل يشهد على الأوّل منهما أنّه روي عن الصادقين عليه السّلام أنّهم قالوا في تفسير قولهم:

ص:119


1- -الجذوات48/ الطبعة الحجريّة.

«يا من أظهر الجميل و ستر القبيح»:إنّ للمؤمن مثالا في العرش،و إنّه إذا فعل فعلا جميلا، فعله ذلك المثال أيضا في حضور الملائكة فيظهره اللّه تعالى عليهم،و إذا فعل فعلا قبيحا لم يقم بذلك القبيح ذلك المثال فيستره اللّه تعالى عنهم. (1)

فإنّ الظاهر،أنّ ذلك المثال هو القالب المثاليّ الذي تعلّق به روح المؤمن لا أمر آخر، و لا ملك من الملائكة كان بصورة ذلك المؤمن،و حيث كان ذلك قالبا مثاليّا،كان فيه شهادة على جواز تعلّق الروح في حالة اليقظة و في حال التعلّق التامّ بالبدن العنصريّ بذلك البدن المثاليّ،و لا امتناع في ذلك،حيث إنّ البدن المثاليّ ليس كالبدن العنصريّ حتّى لا يجوز تعلّق الروح الواحد في زمان واحد بأكثر من بدن واحد،بل هو كالظلّ و الشبح للبدن الأصليّ العنصريّ،و موجود بالعرض بوجود البدن الأصليّ،و تعلّق الروح به و بالبدن الأصليّ تعلّق واحد،إلاّ أنّه بالبدن الأصليّ بالذات،و بالمثاليّ بالعرض،فعلى هذا فلا امتناع في أن يتعلّق النفس الواحدة مع تعلّقها بالبدن الأصليّ بالبدن المثاليّ الواحد أو الأكثر من الواحد.و هذا بخلاف تعلّقها ببدنين عنصريّين أو أكثر،حيث إنّ أحدهما منفصل الذات و مباين الحقيقة عن الآخر،فإنّه لا يجوز تعلّق النفس الواحدة في زمان واحد بشيئين مبايني الذات تعلّق التدبير و التصرّف.

و كذلك يشهد على الثاني من الأمرين ما ذكره بعضهم من أنّ البدن المثاليّ كالشبح الذي يرى في المرآة،بل إنّ ما يرى في المرآة فهو كوّة مفتوحة إلى عالم المثال،و كما جاز انطباع صورة واحدة في مرايا متعدّدة متكثّرة في زمان واحد،فلم لا يجوز تعلّق روح واحد و خصوصا إذا كان مقدّسا شريفا بقوالب مثاليّة متعدّدة في زمان واحد؟

و بما ذكرنا يمكن توجيه ظواهر ما دلّ على ظهور ملك الموت في زمان واحد في أمكنة متكثّرة لقبض الأرواح،و إن كان يمكن أن يكون له وجه آخر لم نعلمه.و اللّه و رسوله و أولو العلم أعلم به.

و كذا توجيه ما قيل أنّ إلياس عليه السّلام هو إدريس النبيّ عليه السّلام،و هو عليه السّلام مع كونه في السماء

ص:120


1- -راجع بحار الأنوار 354/54 و [1]مفتاح الفلاح ذيل دعاء«يا من أظهر الجميل»،و شرح الأسماء للسبزواريّ91/.

يظهر بصورة إلياس في الأرض،و اللّه تعالى يعلم.

و قد حكى بعض الصوفية أنّ بعض مشايخهم و هو قضيب البان الموصليّ (1)كان يرى في زمان واحد في مجالس متعدّدة مشتغلا في كلّ مجلس بأمر غير ما في الآخر.و هذه الحكاية على تقدير صحّتها يمكن توجيهها بما ذكرنا.

ثمّ إنّك حيث عرفت بيان الشواهد على هذا المطلوب،و توجيه الأخبار الواردة في كيفيّة حال الروح بعد المفارقة عن البدن،و كذا توجيه غير ذلك من الأخبار على القول بوجود عالم المثال.

فاعلم أنّ العمدة في مستند هذا القول هو الأخبار الدالّة عليه،فلنتكلّم في دلالتها حتّى يتّضح لك ثبوت هذا العالم،و كذا كيفيّة حالاته و أوصافه.

فنقول:إنّ دلالة تلك الأخبار التي نقلناها دلائل على ثبوت العالم المثاليّ و وجود البدن المثاليّ،و إن كانت ظاهرة غنيّة عن البيان لدى التأمّل الصادق،إلاّ أنّا لا نبالي بالتنبيه عليه.فنقول:إنّ ما تضمّنه بعض تلك الأخبار من أنّ الأرواح في صفة الأجساد،و أنّهم على صور أبدانهم و نحو ذلك،ليس المراد به أنّ ذوات تلك الأرواح بأعيانها أجسام كثيفة أو لطيفة على صفة الأجساد و هيئتها و شكلها،لأنّه مع عدم كونه مذهبا لأحد من المليّين و الفلاسفة،ينفيه ما مرّ من الدليل على تجرّد الروح و على كونها مغايرة للبدن بتمامه و أجزائه،بل المراد كما هو صريح بعض الأخبار الأخر من تلك الأخبار أنّ تلك الأرواح ذوات أخر وراء الأجساد يصيّرها اللّه في قوالب و أجساد مثل قوالبها و أجسادها في الدنيا،بحيث يكون لها نوع تعلّق بتلك الأجساد،و هذا بظاهره و إن كان أعمّ من أن يكون ذلك التعلّق تعلّق التدبير و التصرّف،أو التعلّق بوجه آخر من الحلول أو الدخول أو الانضمام أو نحو ذلك إلاّ أنّ تشبيه تلك القوالب بالقوالب الدنيويّة يدلّ على أنّ ذلك التعلّق ليس سوى تعلّق التدبير و التصرّف،فإنّ هذا كان لها مع القوالب الدنيويّة لا غير.مع أنّ القول بتجرّدها-كما هو الحقّ و عرفت الدليل عليه-ينفي ما سوى تعلّق التدبير

ص:121


1- -راجع الأعلام للزركليّ 44/4 و 199/5.

و التصرّف.

و حينئذ نقول:إنّ ذلك القالب الذي يصيّر اللّه تعالى الروح فيه بعد المفارقة ظاهر أنّه ليس عين القالب العنصريّ الذي كان للروح حين التعلّق به في النشأة الدنيويّة،لأنّه باطل بالاتّفاق و لم يقل به أحد،حيث إنّ المفروض بطلان ذلك القالب و مفارقة الروح عنه و إعادته بعينه،أي بأجزائه الأصليّة،و إن كانت ممكنة كما دلّ الدليل عليه،إلاّ أنّ تلك الإعادة إنّما تكون عند قيام الساعة لا في النشأة البرزخيّة المتوسّطة بين النشأة الدنيويّة و الأخرويّة.

و أيضا التشبيه بالقالب الدنيويّ كما تضمّنته تلك الأخبار ينفي كونه عين ذلك القالب الدنيويّ،بل يدلّ على أنّه قالب آخر مثل قالبها في الدنيا.

و ظاهر أيضا أنّه ليس ذلك القالب الآخر قالبا عنصريّا جماديّا أو نباتيّا أو حيوانيّا أو إنسانيّا شبيها بقالبها في الدنيا،لأنّ كلّ ذلك متضمّن للتناسخ الذي عرفت الدليل على بطلانه كما مرّ.

و منه يظهر أنّه ليس قالبا جسمانيا فلكيّا أيضا،لأنّ مفسدة التناسخ لازمة على تقديره أيضا كما يقتضيه التدبّر في دليل بطلانه.مع أنّ الجرم الفلكيّ كما تقرّر عندهم غير قابل لصيرورته قالبا لروح ما و لتشكّله أشكالا مختلفة على هيئات القوالب البدنيّة العنصريّة.

و ظاهر أيضا أنّ ذلك القالب ليس شيئا من جرم فلكيّ،أو جرم إبداعيّ غير منخرق، أو جسم عنصريّ يكون للروح الإنسانيّ تعلّق به وراء تعلّق التدبير و التصرّف،بل بأن يكون ذلك موضوعا لتصوّرات الروح و تخيّلاتها،فإنّ ذلك مع كونه باطلا-كما مرّ الدليل عليه-ينفيه ظاهر تلك الأخبار الدالّة على التشبيه بالقالب الدنيويّ،و على أنّ التعلّق به تعلّق التدبير و التصرّف لا غير.

و ظاهر أيضا أن ليس ذلك القالب شيئا مجرّدا عن المادّة في ذاته مطلقا و أمرا عقليّا، لأنّ المفروض كونه قالبا للروح كقالبها في الدنيا و ذا هيئة و شكل مثله،و الشيء المجرّد و الأمر العقليّ لا يمكن أن يكون كذلك؛فحيث ظهر أنّ ذلك القالب ليس أمرا مجرّدا عقليّا

ص:122

و لا قالبا جسمانيّا عنصريّا أو فلكيّا،ظهر أنّه من عالم آخر غير العالم الحسّيّ و العقليّ متوسّط بين العالمين،يسمّيه القائلون به عالم المثال و عالم البرزخ،و سيجيء شرح معنى توسّطه بينهما.

ثمّ نقول:إنّ ما تضمّنه تلك الأخبار،من أنّ الأرواح في صفة الأجساد،و أنّهم على صور أبدانهم،و أنّ الروح يصيّر في قالب كقالبه في الدنيا،حيث يدلّ على أنّ القالب المثاليّ البرزخيّ مثل القالب الدنيويّ في الصفة و الصورة،لا ينافيه ما تضمّنه بعض الأخبار التي قدّمنا ذكرها آنفا،من أنّ الميّت يجيء لزيارة أهله بصورة طائر لطيف، و يجلس على جدار أهله و ينظر إلى أحوالهم،فإنّه يمكن أن يكون المراد به-و اللّه أعلم- أنّ القالب الذي أعدّه اللّه تعالى للأرواح و صيّرها فيه في الأصل،إنّما هو قالب كقالبه في الدنيا في الصورة و الصفة،إلاّ أنّ ذلك القالب لمّا كان قالبا مثاليّا متوسّطا بين العالمين قابلا للتشكّل بالأشكال المختلفة،و من جملتها شكل الطائر و صورته،فربّما يجيء بحسب مصلحة من المصالح و بحسب مرتبته و منزلته في صورة طائر لطيف.

و منه يظهر أن لا منافاة بين ذلك الخبر،و خبر يونس بن ظبيان (1)،عن الصادق عليه السّلام المتضمّن لقوله عليه السّلام:«سبحان اللّه،المؤمن أكرم على اللّه من ذلك أن يجعل روحه في حوصلة طائر أخضر»،لأنّ القائلين بجعله في حوصلة طائر أخضر،لعلّهم قالوا بذلك زعما منهم أنّ الأصل فيما أعدّه اللّه تعالى للأرواح هو حواصل الطيور الخضر،لا القوالب التي هي أمثال قوالبهم في الدنيا،فردّه عليه السّلام لذلك،و لأنّ فيه توهّم التناسخ المحال،و هذا لا ينافي جواز تشكّلهم بعد تعلّقهم بقوالبهم المثاليّة التي هي مثل قوالبهم في الدنيا بصورة طائر أخضر مثلا.

و كذلك لا ينافيه ما تضمّنه بعض الأخبار التي قدّمنا ذكرها في صدر الرسالة:أنّ الأرواح في حجرات،فإنّه يمكن أن يكون المراد به-و اللّه اعلم-أنّهم مع تعلّقهم بتلك القوالب المثاليّة يكونون في حجرات،أي مثاليّة برزخيّة.

ص:123


1- -تهذيب الأحكام 466/1(في أحكام الأموات).

ثمّ إنّ الأخبار الواردة في ذلك كما تدلّ على وجود الأبدان المثاليّة لأرواح المؤمنين، كالأخبار التي نقلناها هاهنا،كذلك تدلّ على وجودها لأرواح الكافرين المستضعفين و الأطفال،سواء كانوا أطفال المؤمنين أو أطفال الكفّار،كما يظهر ذلك على من تصفّح الأخبار،و قد نقلنا جملة منها في صدر الرسالة،فتذكّر.

و بالجملة،فمدلول الأخبار وجود البدن المثالي لكلّ روح انسانيّ من الأرواح بعد مفارقته عن البدن.

ثمّ إنّ ما دلّ من تلك الأخبار على أنّ أرواح المؤمنين في شجرة من الجنّة،أو في الجنّة،لعلّ المراد به-و اللّه أعلم-الجنّة المثاليّة و الشجرة المثاليّة،لا أصل الجنّة الموعودة و شجرتها،كما سنوضّح ذلك فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

كما أنّ ما دلّ منها على أنّ أرواح المؤمنين في بستان في المغرب في شاطئ الفرات يأكلون من ثماره،و أرواح الكفّار في نار في المشرق أحرّ من نار الدنيا،و هم فيها يأكلون من زقّومها و يشربون من حميمها،لعلّ المراد بتلك الثمار في ذلك البستان الثمار المثاليّة، و البستان المثاليّ،و بتلك النار النار المثاليّة و كذا الزقّوم و الحميم.

و لا منافاة بين ما دلّ على أنّ أرواح المؤمنين في الجنّة أو في شجرة من الجنّة،و ما دلّ على أنّ أرواحهم في وادي السلام،أي ظهر الكوفة يعني النجف الأشرف،الذي هو وادي السلامة،و ورد في بعض الأخبار أنّه بقعة من جنّة عدن،و ما دلّ على أنّهم في بستان في جانب المغرب على شاطئ الفرات،لأنّه يمكن أن يكون كلّ تلك الأمكنة مساكن لهم، فيكونون تارة في هذا و تارة في ذاك،و تارة في ذلك،حيث لا مانع منه،و خصوصا في الأبدان المثاليّة.

مع أنّه يمكن حمل بعض تلك الأماكن على بعض بحيث يؤول إلى أمر واحد،فتدبّر.

كما أنّه لا منافاة بين ما دلّ على أنّ أرواح الكفّار في نار في المشرق،و بين ما دلّ على أنّهم في وادي برهوت،و هو واد في اليمن،لما ذكرنا من الوجه أيضا،و اللّه سبحانه أعلم بحقيقة الحال.

ثمّ إنّك حيث عرفت ما ذكرنا،فاعلم أنّ تلك الأخبار الواردة الدالّة على وجود أصل

ص:124

تلك القوالب المثاليّة،مع دلالتها على ذلك،تدلّ أيضا على أحوالها و صفاتها و كيفيّاتها، و أنّها ممّا ينتفي عنها بعض لوازم الجسميّة،و يثبت لها بعض لوازمها الأخر،و أنّ اللوازم المثبتة ما ذا؟و المنفيّة ما هي؟و يستفاد منها معنى كون العالم المثاليّ متوسّطا بين العالمين ليس في كثافة الماديّات و لا في لطافة المجرّدات.

و بيان ذلك أنّ ما تضمّنته تلك الأخبار من أنّ الأرواح في النشأة البرزخيّة على صفة الأجساد،و أنّهم على صور أبدانهم،و أنّهم في قوالب مثل قوالبهم الدنيويّة،يدلّ على أنّ القالب المثاليّ ثابت له الشكل و الهيئة و الصورة و الوضع و أمثال ذلك ممّا هو كان ثابتا للبدن العنصريّ مشابها له،و كلّها من لوازم الجسميّة،و هذا ظاهر.

بل إنّه ربّما يشعر ذلك من جهة إشعاره بأنّ لكلّ روح قالبا مثاليّا مناسبا له في الصفات كما في النشأة الدنيويّة،بأنّ تلك القوالب المثاليّة بعضها نورانيّة كما للسعداء، و بعضها ظلمانيّة كما للأشقياء،و هذا موافق لما ذكره القائلون بوجود هذا العالم من الحكماء أيضا حيث قالوا:بأنّ الأشباح الموجودة في هذا العالم ذوات أوضاع مقداريّة، منها ظلمانيّة يتعذّب بها الأشقياء،و هي صور زرق مكروهة يتألّم النفوس بمشاهدتها، و منها مستنيرة يتنعّم بها السعداء،و هي صور حسنة بهيّة بيض كأمثال اللؤلؤ المكنون،و ما ذكروه يعمّ الأشباح الموجودة في ذلك العالم مطلقا،سواء كانت أشباحا هي قوالب الأرواح،أو أشباحا أخر هي صور الأعمال قرينة للأرواح.و قد دلّ عليه ما نقله الشيخ البهائيّ(ره)عنهم أيضا كما نقلناه سابقا،و لا امتناع في أن يكون لها مقدار و وضع و شكل مع عدم ثبوت جسميّة لها،و لذلك يتمثّلون في ذلك بالصور المرئيّة في المرآة،و يقولون أنّها كوّة مفتوحة إلى عالم المثال.

و كذلك ما تضمّنته تلك الأخبار من أنّ الأرواح في ضمن تلك القوالب المثاليّة البرزخيّة يجلسون حلقا حلقا على صور أبدانهم العنصريّة الدنيويّة و يتحدّثون و يتنعّمون بالأكل و الشرب،و أنّهم ربّما يكونون في الهواء بين الأرض و السماء يتعارفون في الجوّ و يتلاقون،و أنّهم ربّما يجيئون لزيارة أهلهم و يذهبون و ينظرون إلى أحوال أهلهم،فربّما يفرحون و يسرّون،و ربّما يكرهون و يغتمّون،و أنّهم إن رأوا عملا صالحا منهم شكروا،و إن

ص:125

رأوا عملا سيّئا اغتمّوا و تألّموا،و نحو ذلك من الحالات الواردة في شأنهم في ذلك العالم، يدلّ على أمور:

منها أنّ لتلك الأبدان المثاليّة حواسّا ظاهرة و باطنة،و كذا للنفس فيه آلات مثاليّة، كما كانت لها في النشأة الدنيويّة آلات بدنيّة جسمانيّة،و بالجملة قوى مدركة حيوانيّة و آلات مثاليّة،تدرك تلك الأرواح في ضمن تلك القوالب بتوسّط تلك القوى و بتلك الآلات المثالية إدراكات جزئيّة ملائمة أو غير ملائمة،فتلتذّ لذّة بدنيّة،أو تتألّم ألما بدنيّا، كما كانت تدرك في النشأة الدنيويّة بتوسّط القوى و الآلات البدنيّة،مضافا إلى ما هو ثابت لتلك الأرواح بالقياس إلى ذواتها المجرّدة الباقية من القوة العقليّة التي بها تدرك المعقولات،فتلتذّ لذّة عقليّة أو تتألّم ألما عقليّا.و هذا نظير ما قاله الحكماء من أنّ للنفوس المنطبعة الفلكيّة إدراكات جزئيّة مضافا إلى الإدراكات الكلّيّة للنفوس المجرّدة المتعلّقة بها،مع كون أجسام الأفلاك و أجرامها لطيفة غير كثيفة،فاللطافة لا تمنع أن تكون لها قوى مدركة جزئيّة،و آلات لذلك لطيفة.

و منها:أنّ في ذلك العالم أصواتا و طعوما و روائح و نحوها من مدركات الحواس،و إن كانت هي مثلا قائمة بذواتها لا أعراضا،أو كانت أعراضا قائمة بمثل قائمة بذواتها لا كالأعراض الموجودة في العالم الحسّيّ القائمة بالأجسام،و كذلك فيه مأكولات و مشروبات هي غذاء الأرواح في ذلك العالم.

و منها:أنّ للأرواح في ضمن تلك القوالب حركات و سكنات في الأين،بل في الكيف أيضا،و إن كانت الأينيّة منها في ذلك العالم ليست مثل الأينيّة منها في العالم الحسّيّ.

و بذلك،و كذا بما تضمّنته تلك الأخبار من أنّ لهم فيه أكلا و شربا و شوقا إليهما،و تنعّما بهما،و كذا كراهة و سرورا،يظهر أنّ لتلك الأرواح في ضمن تلك القوالب قوى محرّكة حيوانيّة فاعلة للحركة،و كذا باعثة عليها من الشوقيّة الشهوانيّة،بل الغضبيّة أيضا.حيث إنّ النفس التي لها القوة المحرّكة الشوقيّة لا تخلو عن قوّة غضبيّة أيضا.

و إنّ ما ورد من سرورهم و كراهتهم كما يدلّ على ثبوت القوّة الشوقيّة لهم،كذلك يدلّ على ثبوت القوّة الغضبيّة لهم،حيث إنّ تلك الكراهة أعمّ من الكراهة النفسانيّة و من

ص:126

الكراهة البدنيّة التي هي الغضب.

و بذلك يظهر أنّ لتلك الأرواح في ذلك العالم جميع القوى الحيوانيّة،مدركة كانت أم محرّكة،فاعلة للحركة أم باعثة عليها،مضافا إلى ما كان ثابتا لها بالقياس إلى ذواتها الباقية من القوى العقليّة النظريّة و العمليّة و العلوم و الملكات.

و هذا بيان جملة من لوازم الجسميّة التي يستفاد من تلك الأخبار ثبوتها لتلك القوالب المثاليّة و لذلك العالم.و يستفاد منه أيضا أنّ اللوازم الأخر الجسمانيّة منتفية عنها و عن ذلك العالم،و ذلك على وجوه:

الأوّل:أنّه لو كانت كلّ اللوازم الجسمانيّة ثابتة لها لكانت هي قوالب جسمانيّة عنصريّة أو فلكيّة،و هذا خلاف المفروض.

و الثاني:أنّه حيث تضمّنت تلك الأخبار لثبوت ما بيّنّا ثبوتها لها مع السكوت عن ثبوت اللوازم الأخر الجسمانيّة،فتدلّ بفحاويها على انتفائها عنها،إذ لو كانت هي أيضا ثابتة لها،لكان ينبغي أن يكون في تلك الأخبار دلالة عليها أو إشعار بها،و إذ ليس فليس.

لا يقال:إنّ ما تضمّنته تلك الأخبار،من أنّ لتلك الأرواح في ضمن تلك القوالب أكلا و شربا ربّما يشعر،بل يدلّ على أنّ لها قوى نباتيّة أيضا،إذ الأكل و الشرب لا يكونان إلاّ بها.

لأنّا نقول:إنّ القوى النباتيّة لا تكون إلاّ لجسم له تغذية و تنمية و توليد،و لا يظهر من تلك الأخبار أنّ هذه الأفعال الثلاثة ثابتة لتلك القوالب حتّى يثبت لها القوى النباتيّة.بل الظاهر منها أنّ فيها دلالة على خلاف ذلك،كما سنشير إليه.

و حينئذ نقول:إنّ ما دلّ على الأكل و الشرب لا يدلّ على أكثر من أنّ لها قوّة شوقيّة و شهوانيّة من القوى الحيوانيّة،و قد ذكرنا أنّ القوّة الحيوانيّة ثابتة لها،بل ربّما يدّعى أنّ فيه إشعارا،بأنّ لذّة الأكل و الشرب التي في ذلك العالم لذّة حقيقيّة،ليست مثل اللّذة التي في العالم الدنيويّ حيث إنّها في النشأة الدنيويّة إنّما هي رفع ألم الجوع و العطش اللذين هما مع التحلّل البدنيّ،ليكون المأكول و المشروب بدلين عمّا يتحلّل من البدن،و أمّا هي في ذلك العالم فليست كذلك،حيث إنّ التحلّل البدنيّ لا يكون فيه حتّى يقارنه ألم جوع أو

ص:127

عطش و يحتاج إلى بدل ما يتحلّل،بل هي لذّة حقيقيّة.و أمّا أنّ التحلّل البدنيّ لا يكون فيه فسنشير إليه.

الثالث:أنّ تلك الأخبار حيث تدلّ بفحاويها على أنّ تلك القوالب المثاليّة لطيفة في الغاية،روحانيّة جدّا،باقية دائمة كائنة على صفة الأجساد الدنيويّة دائما لا تتطرّق إليها شائبة تغيّر أو تبدّل أو زوال أو نحوها،و بالجملة الحالات التي هي من جهة المادّة الجسمانيّة،فتدلّ على أنّ كلّ اللوازم الجسمانيّة التي هي من جهة المادّة منتفية عن تلك القوالب و عن ذلك العالم،فيظهر منه أنّه ينتفي عنها ما في العالم الحسّيّ من صفات البسائط العنصريّة و الاسطقسّات كالحرارة و البرودة و الرطوبة و اليبوسة و الثقل و الخفّة و أمثال ذلك.و كذا صفات المركّبات منها من المعدنيّات و غيرها.و كذا صفات النبات و أفعالها،من الجذب و الإمساك و الهضم و الدفع و التصوير و التشكيل و التخليق و الإنماء و التوليد و التحلّل و نحو ذلك.

و بذلك يظهر أن ليس لها قوى نباتيّة،و أنّ الأكل و الشرب الواردين في الأخبار ليسا ليكونا بدلين عمّا يتحلّل.و أنّ لذّتهما في ذلك العالم لذّة حقيقيّة ليست مثل ما في النشأة الحسّيّة.و كذا ينتفي عنها الصفات التي للأفلاك من جهة موادّها التي هي متغيّرة في حدّ ذاتها،مع أنّ بعض ما تضمّنته تلك الأخبار من الحالات التي لتلك الأرواح في ضمن تلك القوالب كالأكل و الشرب و الحركة الأينيّة و نحوها،ينفي أيضا كونها أجراما فلكيّة،إذ ليس لها ذلك.

و ما فصّلناه جملة من أحوال هذا العالم استفدناها من تلك الأخبار بحسب فهمنا القاصر.

و به يظهر وجه تسمية هذا العالم بعالم المثال من جهة كونه مماثلا للعالم المحسوس الجسمانيّ المادّيّ في كثير من الصفات و اللوازم،و إن كان مغايرا له في بعض آخر.

و كذا يظهر وجه كون هذا العالم عالما متوسّطا بين العالم الحسّيّ و العقليّ من جهة أنّه ليس في كثافة المادّيّات و لا في لطافة المجرّدات،و أنّه ينتفي عنه بعض لوازم الجسميّة و يثبت لها بعض آخر منها.و هذا مطابق أيضا لما قال به الحكماء القائلون بهذا العالم كما

ص:128

يظهر على من تصفّح كلامهم في ذلك،إلاّ أنّهم زادوا على ذلك،و قالوا:إنّ المحسوسات بالحواسّ من الأجسام و الأعراض ثابتة في هذا العالم،قائمة بذاتها.

و إنّ كلّ ما في عالمنا هذا من الأفلاك و الكواكب و العناصر و المركّبات و الأرض و البرّ و البحر و الإنسان و الحيوان و الجماد و المعادن و النبات و الحركات و سائر الأعراض إلى غير ذلك من الموجودات،موجود في العالم المثاليّ إلاّ أنّها إليه ألطف و أحسن و أشرف و أفضل ممّا في عالمنا،لقربها من المبدأ الأوّل.

و إنّ العالم المثاليّ عالم عظيم الفسحة لا ضيق فيه،لأنّ الضيق إنّما يكون في الأمكنة و الأبعاد الهيولانيّة.و الصور هناك قائمة بنفسها لا تحتاج إلى مادّة،فلا تحتاج إلى مكان، لأنّ المكان إنّما يحتاج إليه ذو المادّة فلا يزاحم على مادّة و لا مكان و لا محل،بل إنّ ما في العالم العقليّ من المجرّدات و المفارقات و العقول،لها أشباح و مظاهر مثالية أيضا موجودة في العالم المثاليّ،يظهر تلك المجرّدات في عالمنا هذا بحسب ما يقتضيه المصلحة و الحال في ضمن تلك المظاهر و الأشباح اللطيفة في الغاية القابلة للتشكّل بأشكال مختلفة على أشكال و صور مختلفة،فقد تشاهد أحيانا و تغيب و تحضر بصورة أخرى كالبرق الخاطف،فيتوهّم الرائي أنّها انقلبت و ليس كذلك.

و إنّ العالم المثاليّ له طبقات كثيرة لا يحصيها إلاّ الباري تعالى،و كلّ طبقة منه فيها أشخاص غير متناهية،و هذه الطبقات منها نورانيّة ملذّة،هي طبقات الجنان بعضها أشرف و أفضل و أنور،و بعضها دون ذلك،و منها طبقات مظلمة موحشة مؤلمة هي طبقات الجحيم متفاوتة أيضا في شدّة الظلمة و الوحشة،فالطبقة الفاضلة متاخمة لعالم العقل،فهي في أفقه،و الطبقة السافلة متاخمة لعالم الحسّيّ،فهي في أفقه،و باقي الطبقات التي لا تحصى كثرتها محصورة بين هاتين الطبقتين،و كلّ طبقة منها يسكنها قوم من الملائكة و الجنّ و الشياطين لا يتناهى عددهم.

و إنّ هذا العالم المثاليّ لا تتناهى عجائبه،و لا يمكن إدراك غرائبه في العالم الدنيويّ الظلمانيّ،بل لا يحيط بحقائقه إلاّ اللّه تعالى و مقرّبو حضرته.

و إنّ هذا العالم عالم مقداريّ،غير العالم الحسّيّ و غير العالم العقليّ و النفسيّ،فيه

ص:129

مدن لا تحصى،من جملة ذلك ما سمّاه الشارع جابرصا و جابلقا،و هما مدينتان من مدائنه،لكلّ واحدة منها ألف باب لا يحصى ما فيها من الخلائق،و أعظم تلك المدائن هورقليا التي هي مدينة مثاليّة فلكيّة،فيها مثل الأفلاك و ما فيها،إلى غير ذلك من الأقوال التي قالوا بها و نسبوا القول بها إلى أساطين الحكمة،كأفلاطون و من قبله كسقراط و فيثاغورس و انباذقلس و غيرهم،بل إلى الأنبياء عليه السّلام أيضا،و ادّعوا أنّ أرباب الكشف منهم وصلوا إلى هذا العالم و أحواله،و شاهدوه بكثرة الرياضات و خلع نواسيت الأبدان.

و اللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.

في وجه تسمية العالم المثاليّ و البرزخيّ بالعالم المتوسّط

بين العالمين،و كذا في وجه تسمية النشأة الدنيويّة

بالعالم الحسّيّ و النشأة الأخرويّة بالعالم العقليّ

فإن قلت:قد ظهر ممّا قد قرّرت وجه كون العالم المثاليّ متوسّطا بين العالم الحسّيّ و العالم العقليّ،فما وجه ما يقال إنّ ما بعد الموت إلى قيام القيامة عالم البرزخ؟قلت:معنى البرزخ الحاجز بين الشيئين و المتوسّط بينهما،و هذا العالم لا يخفى أنّه بحسب الوجود في الخارج و الزمان متوسّط بين النشأة الدنيويّة و الأخرويّة،حاجز بينهما،و كذا بحسب المرتبة متوسّط بين العالم الحسيّ و العالم العقليّ،حيث إنّ موجودات هذا العالم من جنس موجودات العالم المثاليّ،و قد عرفت أنّه متوسّط بينهما.

فإن قلت:ما معنى ما يقال:إنّ النشأة الدنيويّة عالم حسّيّ و النشأة الأخرويّة عالم عقليّ؟كما هو مذكور في كلام كثير منهم،مع أنّ في كلّ من النشأتين محسوسا و معقولا تدرك النفس محسوساتها بالحواس و معقولاتها بذاتها و بالقوّة العقليّة،أمّا النشأة الدنيويّة فظاهر وجودهما فيها،و أمّا النشأة الأخرويّة فحيث نقول بالمعاد الجسمانيّ و بوجود الأجسام فيها،و كذا بوجود المعقولات فيها،و بإدراك النفس للقسمين جميعا حيث نقول باللذّات الحسّيّة و العقليّة فيها.

ص:130

قلت:يمكن أن يكون معنى ذلك أنّ النشأة الدنيويّة عالم مشاهد محسوس،و النشأة الأخرويّة عالم معقول،حيث إنّ وجود النشأة الدنيويّة يدرك بالمشاهدة و العيان،و أنّ النشأة الأخروية يدرك بأخبار الأنبياء عليه السّلام،و بالدلائل العقليّة،و هذا كما أنّهم قالوا:إنّ النشأة الدنيويّة عالم الشهادة،و النشأة الأخرويّة عالم الغيب،إلاّ أنّ هذا الوجه إنّما يستقيم بالقياس إلى من في هذه النشأة الدنيويّة فقط.

و كذلك يمكن إطلاق العالم العقليّ و عالم المعقول بهذا المعنى على النشأة البرزخيّة أيضا،حيث إنّ وجودها أيضا ليس بمشاهد،بل هو معلوم لنا بأخبار الأنبياء عليه السّلام و بالدلائل العقليّة.

و كذلك يمكن أن يكون معنى ذلك،أنّه و إن كان في كلتا النشأتين محسوسا و معقولا يدركهما النفس،إلاّ أنّ السلطنة و الغلبة في النشأة الدنيويّة إنّما هي للحسّ،و العقل مغلوب له،حيث إنّ انغماس النفس في الغواشي البدنيّة،شغلها و ألهاها عن إدراك المعقولات كما هو حقّه،إلاّ أن تكون النفس قد خلعت ربقة الغواشي البدنيّة عن عنقها،و أمّا في النشأة الأخرويّة فالسلطان إنّما هو العقل،حيث إنّه ليس بمنغمر في تلك الغواشي،و إنّ الحواسّ الظاهرة و الباطنة و الآلات البدنيّة العنصريّة و إن كانت موجودة لها في الآخرة-حيث نقول بمعاد البدن العنصريّ الأوّليّ-إلاّ أنّها لا تلهيها و لا تشغلها عن أفعالها الذاتيّة العقليّة أصلا،كما كانت تلهيها و تغفلها عن ذلك في النشأة الدنيويّة.

و الحاصل أنّ النشأة الأخرويّة عكس النشأة الدنيويّة،و كما كانت السلطنة في الدنيويّة للحسّ،و لذلك سمّيت بالعالم الحسّيّ،كذلك تكون السلطنة في الأخرويّة للعقل، و بذلك يسمّى عالما عقليّا.

و لا يخفى أنّ هذا الوجه يستقيم بالقياس إلى من في النشأتين جميعا.

و أنّه به يمكن أن يستفاد وجه آخر،لكون ما بعد الموت إلى قيام الساعة عالما برزخيّا متوسّطا بهذا المعنى بين العالمين،أي الحسّيّ و العقليّ،حيث إنّ ذلك العالم لما كان عالما مثاليّا،و كان محسوساتها بصور مثاليّة تدركها النفس بالحواسّ و الآلات البدنيّة المثاليّة،و كذلك كان هناك معقولات تدركها النفس بقوّتها العقليّة،و لم تكن هناك مزاحمة

ص:131

بين الحسّ و العقل،بل كان يفعل كلّ منهما فعله كما هو حقّه.مع أنّه ليس هناك شيء من شأنه أن يشغل العقل عن فعله،حيث إنّ الشاغل إنّما هو الآلات البدنيّة العنصريّة،لا الآلات المثاليّة،فبذلك يسمّى عالما متوسّطا بين العالمين.

و بالجملة،ففي النشأة الأخرويّة السلطان للعقل،حيث إنّه مع وجود ما من شأنه أن يكون معارضا له و مزاحما إيّاه،و هو القوى البدنيّة العنصريّة،يظهر أفعاله على الوجه الأتمّ،و في النشأة الدنيويّة السلطان للحسّ،حيث إنّه يلهي العقل عن فعله.و أمّا في النشأة البرزخيّة فلا سلطان لأحدهما على الآخر،و الحسّ يفعل فعله كما هو حقّه، و كذلك العقل يفعل فعله كما هو حقّه،من دون أن يكون هناك شيئا من شأنه أن يغلبه،و هو القوى الحسّيّة البدنيّة العنصريّة،إذ ليست هي هناك،و القوى الحسّيّة المثاليّة ليست من شأنها أن تغلبه و تعارضه،فهي بهذا الاعتبار عالم متوسّط بين العالمين.

و كذلك يمكن أن يكون وجه ذلك أنّ كثيرا من مستلذّات الآخرة لمّا كانت توجد بلا مادّة و مدّة،بل بمحض التصوّر و الاشتهاء،و بإذن اللّه تعالى كما دلّ عليه كثير من الآيات و الأخبار،كانت مشابهة للأمور العقليّة و المجرّدات عن المادّة،حيث إنّها أيضا توجد بلا مادّة و مدّة،بخلاف الموجودات الدنيويّة،حيث إنّها توجد مع مادّة و مدّة،فلذلك سمّيت الآخرة بالعالم العقليّ،و الدنيا بالعالم الحسّيّ،و يطابقه ما قالوه من أنّ الدنيا عالم الخلق، و الآخرة عالم الأمر.

أو أنّ مستلذّات عالم الآخرة من المحسوسات،و إن كانت لها مادّة جسمانيّة أيضا، إلاّ أنّها لمّا كانت لطيفة في الغاية،صافية جدا،و كانت النفس لقوّتها في إدراكها و شدّة تجريدها،تصل إلى غورها و تسري في جواهرها،حتّى كأنّها هي بلا فصل،كما في إدراك العقل للمعقولات،و ليس إدراكها لها هنالك بملاقاة السطوح كما في النشأة الدنيويّة، سمّيت الآخرة بالعالم العقليّ،حيث إنّ إدراك النفس لمحسوساتها أيضا شبيه بإدراك العقل للمعقولات،و سمّيت الدنيا بالعالم الحسّيّ حيث إنّ إدراكها لمحسوساتها ليس على جهة إدراكها لمعقولاتها و لا مشابها له.

أو أنّ موجودات عالم الآخرة من المستلذّات و إن كانت جسمانيّة أيضا،لطيفة في

ص:132

الغاية فوق اللطافة التي هي للأجسام الكائنة في الدنيا عنصريّاتها و فلكيّاتها،قريبة من اللطافة التي للعقليّات،كأنّها في أفق العالم العقليّ.

أو أنّ موجودات عالم الآخرة بأسرها لمّا كانت باقية غير داثرة،و إن كانت جسمانيّة أيضا كبقاء الأمور العقليّة و المجرّدات عن المادّة،و لم يكن للجسمانيّات منها مادّة قابلة للتغيّر و الزوال و الكون و الفساد،و كمادة الجسمانيّات في الدنيا،حيث إنّها قابلة للفناء، كان عالم الآخرة عالما عقليّا،حيث إنّ العقليّات منها غير قابلة للفناء و كذا الجسمانيّات، بخلاف عالم الدنيا،حيث إنّ الجسمانيّات منها قابلة لذلك.و اللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.

في أن القول بالأجساد المثاليّة في النشأة البرزخيّة ممّا لا مانع منه من

جهة النقل و العقل،بل إنّه ممّا يؤيّده العقل

ثمّ إنّك إذا تحقّقت ما بيّناه و فصّلناه،و تبيّنت أنّ الشرع الشريف القويم يدلّ على انتقال الأرواح بعد الموت إلى الأجساد المثاليّة التي عرفت صفاتها و حالاتها،فاعلم أنّ القول به ممّا لا مانع عنه مطلقا،لا من جهة الشرع و لا من جهة العقل،بل إنّ العقل ربّما يؤيّده.

أمّا بيان التأييد،فحيث ظهر ممّا أسلفنا لك أنّ النفس الإنسانيّة لمّا كانت بدنيّة في أفعالها،محتاجة إلى الآلات البدنيّة في إدراكاتها الجزئيّة،التي لا ينفكّ عنها في حال من الأحوال،فتحتاج البتّة بعد المفارقة أيضا إلى بدن ما تتعلّق هي به و تتصرّف فيه تصرّف التدبير،و تجعله آلة لأفعالها و إدراكاتها،و ظاهر أنّ ذلك البدن ليس هو البدن الأوّل العنصريّ،لكون المفروض مفارقتها عنه و لم يعد بعد،و لا بدنا آخر جسمانيّا عنصريّا أو فلكيّا،لما ظهر من بطلانه،و لا أمرا عقليّا لبطلانه أيضا كما سبق،فلا بدّ أن يكون بدنا آخر من جنس عالم آخر متوسّط بين التجسّم الماديّ و التجرّد العقليّ،أي البدن البرزخيّ المثاليّ،و فيه المطلوب.

ص:133

و كما أنّ الأخبار الواردة في ذلك دالّة على وجود البدن المثاليّ لكلّ روح من الأرواح على ما عرفت بيانه،كذلك هذا الدليل أيضا يدلّ عليه،حيث إنّ احتياج النفس الإنسانيّة إلى بدن غير مختصّ بنفس دون نفس،بل يعمّ الكلّ،أي نفوس الكاملين و غير الكاملين و السعداء و الأشقياء و المتوسّطين و البله و الصبيان و المجانين،إذ نفوس الكلّ باقية بعد خراب أبدانهم،كما عرفت الدليل عليه فيما سلف.

و قد دلّ الدليل المذكور على أنّ النفس الباقية بعد فناء بدنها العنصريّ تحتاج إلى بدن مثاليّ،و فيه المطلوب.

و أمّا بيان عدم المانع عنه،فلأن ذلك المانع،إمّا من جهة الشرع،و ظاهر انتفاؤه،و إمّا من جهة العقل،و ليس يتصوّر هنا مانع عنه من جهة إلاّ توهم لزوم التناسخ المستحيل، و هو منتف هنا.و بيان الانتفاء أنّك قد عرفت فيما قرّرنا دلائل إبطال التناسخ أنّ العمدة و الأصل في بطلانه أحد أمور ثلاثة:

أحدها:أنّ النفس المستنسخة إذا قلنا بجواز تعلّقها ببدن آخر،يكون ذلك البدن لاستعداده لحدوث تعلّق نفس به مناسبة له مستعدّا لحدوث نفس له غير النفس المستنسخة،فإذا جاز تعلّق تلك النفس الأخرى به،مع فرض جواز تعلّق المستنسخة أيضا به،لزم جواز أن يتعلّق به نفسان،و هذا محال كما مرّ بيانه.

و الثاني:أنّه إذا جاز التناسخ و تعلّق النفس المستنسخة ببدن آخر غير الأوّل،لزم أن ينقلب فعليّتها التي حصلت لها في ضمن البدن الأوّل إلى القوّة التي كانت لها أوّلا في ضمن البدن الآخر،و انقلاب الفعليّة إلى القوّة و الاستعداد المحض محال.

و الثالث:أنّه يلزم منه جواز تعلّق نفس واحدة بأكثر من بدن واحد تعلّق التدبير و التصرّف.

و لا يخفى أنّ هذه المحالات لا تلزم على تقدير القول بالانتقال إلى البدن المثاليّ أصلا،لأنّ البدن المثاليّ حيث إنّه ليس من جنس البدن الجسمانيّ،و ليس له مادّة جسمانيّة،فليس له قوّة و لا استعداد لشيء لأنّ ذلك من توابع المادّة الجسمانيّة،و إذا لم يكن له قوّة و استعداد كما للجسمانيّات،فلا يلزم أن يكون مستعدّا لحدوث نفس أخرى،

ص:134

حتّى إذا تعلّقت به النفس المستنسخة لزم أن يجوز أن يتعلّق به نفسان.

و لا أن يكون إذا تعلّق به نفس لزم أن تكون تلك النفس في ضمنه بالقوّة،حتّى يلزم انقلاب الفعليّة إلى القوّة،بل يمكن أن يكون النفس باقية في ضمنه أيضا على فعليّتها الأوّلية الحاصلة لها في ضمن البدن العنصريّ كائنة كما كانت.

و كذلك حيث كان البدن المثاليّ ظلاّ و شبحا للبدن العنصريّ و موجودا بالعرض بوجوده،لا يلزم منه تعلّق النفس الواحدة تعلّق التدبير و التصرّف ببدنين متغايرين بالذات منفصلين بالحقيقة موجودين كلّ منهما بوجود منفرد،فلا يلزم منه محال،لأنّ المحال إنّما هو تعلّقها ببدنين منفصلين موجودين كلّ منهما بوجود على حدة بالذات.

فإن قلت:كيف يجتمع القول بعدم مادّة لذلك البدن المثاليّ مع القول بحدوثه؟كما هو ظاهر بعض تلك الأخبار المذكورة،مع أنّ المقرّر عند الحكماء أنّ كلّ حادث فمسبوق بمادّة.

قلت:إنّ القول بمسبوقيّة كلّ حادث بمادّة،و إن كان ممّا قالته الحكماء،إلاّ أنّه ليس عليه دليل قطعيّ،بل إنّ الدليل على حدوث العالم بجملته-كما هو إجماعيّ أهل الملل و الأديان،على ما قرّرناه في رسالة«حدوث العالم»-ينفي ذلك القول،فإنّ هذا القول يستلزم القول بقدم العالم،و لا أقلّ من قدم المادّة زمانا،و مقتضى حدوث العالم بجملته حدوثا زمانيّا أو دهريّا كما قرّرناه هناك حدوث المادّة أيضا كذلك،لأنّها من أجزاء العالم.

بل نقول:

إنّه يمكن حدوث الحادث بمحض العلم بالأصلح و العناية الأزليّة المقتضية لحدوثه، و المرجّحة لتخصّصه بزمان دون زمان،سواء كان ذلك الحادث مجرّدا عن المادّة أو مادّيّا أو متوسّطا بينهما،و حدوث البدن المثاليّ على تقدير القول به لعلّه من هذا القبيل،حيث يجوز أن يكون اقتضى العلم بالأصلح حدوثه و تعلّق النفس به،كيلا تكون معطّلة من جهة إدراكاتها البدنيّة.و أمّا تخصّص كلّ نفس ببدن مثاليّ،فلعلّه كان وجهه مناسبة ما بين تلك النفس و ذلك البدن المثاليّ المناسب لها من حيث صفاتها و حالاتها الموافق للبدن الأوّل العنصريّ في بعض الصفات و الهيئات و الحالات،و إن لم نكن نعلم تلك المناسبة على

ص:135

التحقيق.

و هذا على تقدير تسليم كون البدن المثاليّ مغايرا بالذات و بالوجود للبدن العنصريّ، و أمّا على تقدير كونه ظلاّ و شبحا للبدن العنصريّ كما هو التحقيق،و موجودا بوجوده بالعرض،سواء قلنا بحدوثه بحدوث البدن العنصريّ،مقارنا له كما دلّت عليه كثير من الشواهد المتقدّمة،و بوجوده بالعرض بوجود البدن العنصريّ،أو قلنا بحدوثه بعد خراب البدن،و كون وجوده بالعرض بوجود الأجزاء الأصليّة من البدن الأصليّ و ظلاّ و شبحا لها، فلا يرد السؤال قطعا،لأنّ اللازم على هذا التقدير حدوث البدن المثاليّ بحدوث البدن العنصريّ المسبوق بالمادة أو بعده بتبعيّته،و كذا وجوده بالعرض بوجود البدن الأصليّ أو الأجزاء الأصليّة منه بالذات،و لا محذور فيه.

و هذا كما يقولون:إنّ لوازم الماهيّات غير مجعولة بجعل على حدة،بل إنّ هناك جعلا واحدا يتعلّق بالذات بالماهيّة و بالعرض بلازمها،و إنّهما موجودان بوجود واحد حاصل للماهيّة بالذات و للازمها بالعرض.

و بوجه آخر،أنّ ذلك الذي ذكرت،إنّما هو على تقدير القول بحدوث المثاليّ بعد مفارقة النفس عن البدن العنصريّ،و ذلك ليس بثابت،بل إنّ بعض الشواهد التي ذكرناها شاهدة على وجود البدن المثاليّ ربّما تشهد بأنّ البدن المثاليّ كان حاصلا للنفس حين تعلّقها بالبدن العنصريّ أيضا.

و يمكن حمل الأخبار الأخر عليه أيضا كما أشرنا إليه.

و على هذا،فلا يرد ما ذكرت أصلا،بل إنّه على تقديره يكون عدم ورود مفسدة التناسخ أظهر،لأنّ ذلك البدن المثاليّ حيث كان موجودا للنفس قبل المفارقة أيضا،كان بدنا أصليا لها كالبدن العنصريّ،إلاّ أنّه كان أوّلا معه مقارنا له بهيئته،و ثانيا منفردا عنه مقارنا للأجزاء الأصليّة منه،و البدن الأصليّ للنفس لا يكون فيه استعداد لنفس أخرى غيرها،حتّى يلزم جواز اجتماع نفسين في بدن واحد،و كذلك لا تصير النفس المتعلّقة به بالقوّة من جهة كمالاتها،حتّى يلزم انقلاب ما بالفعل إلى ما بالقوة،بل تكون بالفعل في كمالاتها كما كانت أوّلا،و كذلك لا يلزم تعلّق نفس واحدة ببدنين منفصلين متغايرين

ص:136

بالذات و الوجود،لما عرفت.و هذا هو المعتمد أيضا في دفع مفاسد القول بالتناسخ،على تقدير انتقال النفس يوم القيامة إلى البدن الجسمانيّ العنصريّ الذي هو عين البدن الأوّل العنصريّ بحسب الأجزاء الأصليّة و كثير من الصفات و الحالات و إن كان مغايرا له بحسب الأجزاء الفضليّة و بعض الصفات على ما سنحقّقه فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

و بالجملة،فينبغي أن يكون التعويل في دفع لزوم مفاسد التناسخ،على القول بانتقال الأرواح إلى الأجساد المثاليّة على ما ذكرنا،لو قلنا بامتناع التناسخ عقلا،كما قرّرنا الدليل العقليّ على امتناعه سابقا،سواء قلنا بامتناعه سمعا أيضا أم لم نقل،و إن كان يمكن دفع لزوم مفاسده عن هذا القول،على تقدير القول بامتناع التناسخ سمعا أيضا،بما تضمّنه كلام ذلك البعض من المتبحّرين،ككلام الشيخ البهائيّ الذي نقله هو عنه كما نقلنا كلاميهما.

كلام مع الشيخ البهائيّ و العلاّمة المجلسيّ

و حاصل الدفع أنّ العمدة في بطلان التناسخ هو إجماع المسلمين و ضرورة الدين، و هذا الإجماع و هذه الضرورة إنّما تحققا في بطلان التناسخ بالمعنى الذي قال به التناسخيّة،و هو انتقال الروح من بدن عنصريّ إلى بدن آخر جسمانيّ عنصري أو فلكيّ، لا إلى بدن مثاليّ أيضا،فإنّه لو انعقد الإجماع أو تحقّقت الضرورة في نفي هذا أيضا لما قال به كثير به من المسلمين كشيخنا المفيد(ره)و غيره من علمائنا المتكلّمين المحدّثين.

و لا يخفى أنّ هذا الوجه أيضا وجه جيد،لو ثبت ذلك الادّعاء،إلاّ أنّ في كلاميهما نظرا من جهة أخرى،و هو أنّ ما تضمّناه من أنّ التناسخ لم يتمّ دليل عقليّ على امتناعه منظور فيه،كيف و قد عرفت فيما سبق قيام الدليل العقليّ عليه،و على تقديره!فيبقى السؤال عن أنّ المحال العقليّ الذي يلزم على تقدير انتقال الروح إلى البدن الجسمانيّ غير البدن الأوّل كما يراه التناسخيّة،هل يلزم على تقدير انتقال الروح إلى البدن المثاليّ أم لا؟ و على تقدير عدم اللزوم فوجهه ما ذا؟بل ربّما يقال إنّ المحذور ليس هو لزوم إطلاق

ص:137

التناسخ،حتّى يجاب بأنّ الشرع جوّز هذا النحو من التناسخ و منع غيره،بل الإشكال إنّما هو لزوم المحذور اللازم للتناسخ،كما ذكروه في بيان استحالته من استيجاب كون بدن واحد ذا نفسين،و كون نفس واحدة ذات بدنين منفصلين متغايرين بالذات،أو انقلاب الفعليّة قوّة،و هذا لازم في الظاهر على تقدير الانتقال إلى البدن المثاليّ أيضا كما في صورة الانتقال إلى البدن الجسمانيّ،فينبغي دفع لزوم هذا اللازم فيما نحن فيه.

و أيضا فما تضمّنه كلامه الشيخ البهائيّ(ره)من عود الأرواح عند قيام القيامة الكبرى إلى أبدانها الأوّليّة بإذن مبدعها،إمّا بجمع أجزائها المتشتّتة،أو بإيجادها من كتم العدم يشعر بتجويزه إعادة المعدوم،و قد عرفت امتناعها عقلا.

و أيضا،فما تضمّنه كلامه من أنّه ليس إنكارنا على التناسخيّة حكمنا بتكفيرهم بمجرّد قولهم بانتقال الروح من بدن إلى بدن آخر،فإنّ المعاد الجسمانيّ كذلك عند كثير من أهل الإسلام،بل بقولهم بقدم النفوس و تردّدها في أجسام هذا العالم و إنكارهم المعاد الجسمانيّ في النشأة الأخرويّة محلّ تأمّل،لأنّ بطلان التناسخ إذا انعقد إجماع المسلمين عليه،و كان ضروريّا في الدين،ينبغي الحكم بكفرهم بمجرّد ذلك مطلقا.سواء قالوا بقدم النفس أم قالوا به،و إن كان القول بقدم النفس و إنكار المعاد الجسمانيّ منشئا للحكم بكفرهم أيضا لو كانوا قائلين بذلك و منكرين لذاك،و ليس يظهر أنّ ما انعقد الإجماع على بطلانه-و بطلانه ضروريّ في الدين-هو القول بالتناسخ بالمعنى المتنازع فيه،الذي كان مع القول بقدم النفوس و مع الإنكار للمعاد الجسمانيّ،بل الظاهر إنّه القول بهذا التناسخ مطلقا.

كما أنّه ليس يظهر من الشرع أنّ المعاد الجسمانيّ هو عود الروح إلى بدن آخر غير الأوّل مطلقا،كما أسند هو القول به إلى كثير من أهل الإسلام،بل الظاهر من الشرع و كذا من كلمات أكثر أهل الإسلام كما هو التحقيق،و سيأتي إن شاء اللّه تعالى بيانه،هو عود الروح الباقي بذاته إلى البدن الأوّل بعينه من جهة أجزائه الأصليّة الباقية،و إن كان مغايرا للبدن الأوّل من جهة الأجزاء الفضليّة،و أنّ المعاد يوم القيامة هو ذلك الشخص بعينه نفسا و بدنا،و اللّه أعلم بالصواب.

ص:138

في ثبوت السعادة و الشقاوة في عالم البرزخ

ثمّ إنّه حيث انجرّ الكلام إلى هذا المقام،فلنرجع إلى ما كنّا بصدده من المرام،فنقول:

إنّ الشرع كما نطق بوجود قالب مثاليّ لكلّ روح من الأرواح،و عرفت أنّه ممّا يؤيّده العقل أيضا،كذلك دلّ على أنّ للأرواح في ذلك العالم المثاليّ-أي في عالم البرزخ-سعادة و شقاوة بدنيّتين،و لذّة و ألما حسّيّين،و قد وردت بذلك أخبار لا تحصى،كما لا يخفى على من تتبّعها،و يؤيّده العقل أيضا،حيث إنّ البدن المثاليّ إذا كان له قوى و حواسّ بدنيّة، كما دلّت تلك الأخبار عليه،وجب أن يكون من شأن الروح المتعلّقة به إدراك المحسوسات فتلتذّ به أو تتألّم على وفق حالها و مرتبتها،و إلاّ فيكون وجود تلك القوى و الحواسّ معطّلا.

و بالجملة،فيجب أن يكون لها في ضمنه لذّة حسّيّة أو ألم حسّيّ،مضافا إلى السعادة و الشقاوة العقليّتين اللتين هما لها بالقياس إلى ذاتها،و قد دلّ الدليل العقليّ على وجودهما لها بحسب حالها،و لم ينكره الشرع أيضا،كما عرفت بيان ذلك فيما تقدّم.

و كذلك قد دلّ على أنّ اللذّة الحسّيّة و الألم الحسّيّ في عالم البرزخ أعظم شأنا و أشدّ تأثيرا منهما في العالم الدنيويّ،كما وردت به أخبار كثيرة أيضا.

و قد ورد أيضا تشبيه حالة البرزخ و ما يجري فيها بحالة الرؤيا و ما يشاهد فيها،و هذا أيضا مطابق للعقل،حيث إنّا نجد من أنفسنا أنّ المحلوم به أعظم شأنا في بابه من المحسوس الدنيويّ،و كأنّ وجهه قلّة العوائق و تجرّد النفس و صفاء القابل و نحو ذلك ممّا له مدخل في كون اللّذة أعظم و الألم أشدّ.

في تجسّم الأعمال

و كذلك قد ورد الشرع بما يدلّ على تجسيم الأعمال،و ذلك أيضا أكثر من أن يحصى:

ص:139

قال تعالى: وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) (1).

سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) . (2)

بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) . (3)

اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) . (4)

و في الحديث:«الذين يشربون في آنية الفضّة إنّما يخرج من بطونهم نار جهنّم» (5).

و فيه أيضا:«الجنّة قيعان غراسها سبحان اللّه و بحمده». (6)

و فيه أيضا:«إنّما هي أعمالهم ردّت إليهم». (7)

و فيه أيضا:«إذا دخل وقت كلّ فريضة نادى ملك من السماء:أيّها الناس قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها على ظهوركم فأطفئوها بصلاتكم». (8)

و فيه أيضا:«ما من عبد منع من زكاته شيئا،إلاّ كان ذلك الذي منعه ثعبانا من نار يكون طوقا في عنقه ينهش من لحمه حتّى يفرغ الناس من الحساب». (9)

و فيه أيضا:«إنّ العبد إذا كان في آخر يوم من الدنيا و أوّل يوم من الآخرة مثّل له ماله و ولده و عمله،فيلتفت إلى ماله فيقول:و اللّه إنّي كنت عليك لحريصا شحيحا،فما ذا عندك؟فيقول:خذ منّي كفنك،فيلتفت إلى ولده فيقول:و اللّه إنّي كنت لكم محبّا،و إنّي كنت عليكم لمحاميا،فما ذا عندكم؟فيقولون:نؤدّيك إلى حفرتك و نواريك فيها،فيلتفت إلى عمله فيقول:و اللّه إنّك كنت عليّ ثقيلا و إنّي كنت فيك زاهدا.فما ذا عندك؟فيقول:أنا

ص:140


1- -الكهف(18):49. [1]
2- -آل عمران(3):180. [2]
3- -البقرة(2):81. [3]
4- -النساء(4):10. [4]
5- -عوالي اللئالي 211/2؛ [5]المستدرك 598/2. [6]
6- -علم اليقين 884/2 طبع قم. [7]
7- -نفس المصدر.
8- -من لا يحضره الفقيه 208/1.
9- -الكافي 502/3. [8]

قرينك في قبرك و يوم حشرك حتّى أعرض أنا و أنت على ربّك». (1)

إلى غير ذلك من الآيات و الأخبار الواردة في ذلك،كما يعلم بالتتبّع (2).

و لا يخفى أنّها كما هي دالّة على تجسيم الأعمال في النشأة الأخرويّة،تدلّ على تجسيمها في عالم البرزخ أيضا،حيث إنّ بعضا منها ظاهرة الاختصاص بعالم الآخرة، و بعضا منها مطلق في ذلك يشمل العالمين جميعا،و بعضها منها ظاهر في أنّ ذلك في كلا العالمين جميعا،كالحديث الأخير.

و حينئذ فحريّ بنا أن نتكلّم في معنى تلك الآيات و الأخبار،و في أنّ معنى ذلك التجسيم ما ذا؟

فنقول:إنّ ذلك يحتمل وجهين:

أحدهما و هو الذي يظهر من كلام بعض العلماء القول به،و إن كان خلاف ظاهر تلك الآيات و الأخبار الواردة،أنّه ليس المراد أنّ نفس ذلك العمل يتصوّر بتلك الصورة و يتجسّم ذلك الجسم،بل المراد أنّه يخلق اللّه تعالى على وفق مصلحته الكاملة و مقتضى ذلك العمل صورة أخرى مناسبة لذلك العمل موافقة له،حيث إنّ لكلّ عمل خير أو شرّ، و كذا لكلّ صفة حاصلة للنفس فاضلة أو رديّة،و كذا لكلّ معنى من المعاني الحاصلة لها صورة تناسبه.و هذا كما أنّ صورة القردة و أمثالها مناسبة لمعنى الفجور و أمثاله،و صورة الفأرة و أمثالها مناسبة لمعنى الحرص و أمثاله،و صورة الكلب و أمثاله من السباع مناسبة لمعنى التهوّر و أمثاله،و صورة الماء و اللبن و أمثالهما مناسبة لمعنى العلم و أمثاله،إلى غير ذلك.و لذلك يشاهد في المنام من غلبت عليه تلك الصفات بتلك الصور كما هو المجرّب.

و حينئذ فلا امتناع في أن يخلق اللّه تعالى جزاء لكلّ عمل خير أو شرّ صورة تناسبه و يجعلها قرينة لصاحب ذلك العمل مصاحبة له،كصورة الحيّات و العقارب و الزقّوم و الحميم و الجحيم و أمثالها من الصور المؤلمة الموذية للأعمال الرديّة القبيحة و الصفات

ص:141


1- -من لا يحضر الفقيه 137/1.
2- - نيك و بد هرچه كنى بهر تو خوانى سازند كار بد جمله ز تو آيد و شيطان بدنام جز تو بر خوان بد و نيك تو مهمانى نيست بر تو جز نفس بدانديش تو شيطانى نيست

الذميمة،و صورة الحور و القصور و الولدان و الجنّات و نعيمها و أمثالها من الصور البهيّة الملذّة الحسنة للأعمال الحسنة و الصفات و الملكات الفاضلة الجيّدة،فتكون النفس بالصور الأولى متألّمة ذات شقاوة،و بالصور الثانيّة ملتذّة ذات سعادة و بهجة و سرور.

و تكون أيضا تلك الصور في كلّ عالم مناسبة لذلك العالم،بأن تكون الصور البرزخيّة مناسبة لعالم البرزخ،و يكون جسميّتها كجسميّة ما في ذلك العالم جسميّة مثاليّة،و تكون الصور الأخرويّة مناسبة لعالم الآخرة،و جسميّتها كجسميّة ما في ذلك العالم جسميّة أخرى غير ما في العالم الحسّيّ و العالم البرزخيّ.

و بالجملة،فلا امتناع في ذلك،سواء كان المراد أنّه يخلق اللّه تعالى في عالم البرزخ تلك الصورة المناسبة البرزخيّة فيجعلها مصاحبة لصاحب تلك العمل،ثمّ يخلق تعالى بعد ذلك في عالم الآخرة صورة أخرى أخرويّة مناسبة أيضا،فيجعلها مصاحبة له إلى أن يشاء اللّه تعالى.

أو كان المراد أنّه يخلق تعالى بعد صدور ذلك العمل من عامله و بعد حصول تلك الصفة لمن اتّصف بها صورة برزخيّة،و كذا صورة أخرويّة مناسبتين لذلك العمل و لتلك الصفة،و يجعلها مصاحبتين له في هذه النشأة الدنيويّة أيضا.إلاّ أنّه لمّا كان محجوب البصيرة في هذه النشأة عن إدراكهما و مشاهدتهما،لا يدركهما و لا يشاهدهما،فلا يلتذّ بهما و لا يتألّم.

ثمّ إنّه حيث يكون في النشأة البرزخيّة حديد البصيرة في الجملة،و ينكشف عنه غطاء هذه النشأة،يدرك الصور البرزخيّة فقط بالحواس البرزخيّة،فتلتذّ أو تتألّم.ثمّ إنّه بعد ذلك في عالم الآخرة حيث يكون بصيرته أحدّ و ينكشف عنه الغطاء بالمرّة،كما قال تعالى: «فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ») (1)،يدرك فيه الصور الأخرويّة فيلتذّ و يتألّم بحسب حاله و مرتبته،إلى أن يشاء اللّه تعالى.

أو كان المراد أنّه خلق اللّه تعالى-قبل ذلك العمل و قبل تلك الصفة-تلك الصور

ص:142


1- -ق(50):22.

المناسبة،ثمّ إنّه تعالى يظهر الصور البرزخيّة في عالم البرزخ،و الصور الأخرويّة في عالم الآخرة على صاحب ذلك العمل و تلك الصفة،بحيث يشاهدها و يدركها و يعلم أنّها كانت جزاء عمله.و اللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.

و الوجه الثّاني:أن يراد أنّ نفس تلك الأعمال و عين تلك الصّفات و الملكات تتجسّم و تتصوّر صورة جسمانيّة مثاليّة برزخيّة في عالم البرزخ،و صورة أخرويّة في عالم الآخرة،و أنّ أعمال الخير يتولّد منها الجنان و الحور و الولدان و القصور و الدور و أنواع المسرّات الحسّيّة و اللذّات البدنيّة،و أن أعمال الشرّ يتولّد منها النيران و الأغلال و الحميم و الزقّوم و أنواع الآلام الحسّيّة و الغموم البدنيّة،فتكون تلك الأجسام و الصور المتولّدة مصاحبة للنّفوس الّتي اكتسبتها،و قرينة للأرواح التي حصلت هي لها،موجبة لسعادتها أو شقاوتها،لا أن يكون هناك صورة أخرى مناسبة لتلك الصفات و الأعمال كما في الوجه الأوّل،بل إنّ تلك الأعمال و الصفات تتجسّم و تتصوّر صورة برزخية و أخرويّة بعد صدورها عن فاعلها،و في النشأة الدنيويّة أيضا،لكنّها لا تظهر على فاعلها و الموصوف بها في هذا العالم الحسّيّ،لكونه محجوب البصيرة عن إدراكها لانغماسه في الحجب البدنيّة،و انغماره في الأحوال الطبيعيّة،و إنّما تظهر المثاليّة من تلك الصور عليه في عالم البرزخ،و الأخرويّة منها في عالم الآخرة.

و هذا الوجه هو ظاهر تلك الآيات و الأخبار الدالّة على التجسّم،فإنّ الأصل هو الحقيقة و عدم المصير إلى المجاز،و هو الذي ذهب إليه كثير من العلماء.

و توجيه هذا الوجه،كما يظهر من كثير من القائلين به من أهل التحقيق أنّ أحكام النشئات الثلاث الحسّيّة و المثاليّة و العقليّة مختلفة،فيجوز أن تظهر الأعمال و الصفات في النشأة الدنيويّة بصورة العمل و الصّفة،و في عالم البرزخ بصورة الأجسام المثاليّة،و في عالم الآخرة بصورة الأجسام الأخرويّة،كما جاز أن يكون الحقيقة الكلّيّة تظهر في الصور المختلفة،و تتداول عليها أحكامها باعتبار ظهورها في تلك الصور المتلبّسة بها، بحيث يكون تلك الصور مظاهر لتلك الحقيقة في مواطن تظهر لتلك الحقيقة،في كلّ موطن من تلك المواطن أحكام خاصّة و أفعال خاصة،و أحوال خاصة،بواسطة ظهورها

ص:143

في تلك المواطن بواسطة تلك الصور على حسب اختلافها في تنزّلاتها من العالم العقليّ إلى النّفسيّ إلى غير ذلك من مواطنها المتعدّدة،باعتبار مراتب المعاينة الحاصلة عند النفس.

مثل أنّ الحقيقة الإنسانيّة مثلا تظهر في العالم الحسّيّ على النفس،و على البصر بالصور المعيّنة المكتنفة بالعوارض المادّيّة بشرط حضور المادة،و ملازمة وضع معيّن من محاذاة و قرب و عدم حجاب إلى غير ذلك،و هي بعينها تظهر في العالم النفسيّ في الخيال بصورة خياليّة تشابهها من غير تلك الشرائط،و هي في الحالتين تقبل التكثير بحسب الأشخاص،كصورة زيد و عمرو و بكر.

ثمّ تظهر تلك الحقيقة في العالم العقليّ في العقل بصورة عقليّة بحيث لا تقبل ذلك التّكثير،و يصير الأفراد المتكثّرة في الصّورة المبصرة و المتخيّلة متّحدة في الصّورة العقليّة،ثمّ إنّ الصورة العقليّة متفاوتة في قبول التكثّر،فإنّ صورة الأنواع من حيث خصوص نوعيّتها متكثّرة،و هي من حيث صورة جنسها واحدة،و هكذا إلى جنس الأجناس،فيتّحد في صورته جميع الأنواع،لكن يمتاز عن جنس آخر يقابله.و إذا اعتبرت من المفهومات ما يشمل جميع الحقائق و الاعتبارات اتّحد الكلّ في صورته، كالشيء و الممكن العامّ مثلا.و مثل أنّ المختلفين في الصورة في موطن قد يتّحدان فيها في موطن آخر،و قد يتعاكسان.أعني أنّه يظهر أحدهما في موطن بصورة خاصّة و الآخر بصورة أخرى في موطن،و يظهر أنّ في موطن على عكس ذلك كالفرح و البكاء الظاهرين في اليقظة بصورة و في الرؤيا على العكس.

و مثل أنّه يمكن أن يكون لصورة خاصّة واحدة آثار مختلفة في مواطن مختلفة،كما أنّ صورة الجسم الرطب مثلا-كالماء-متى فعلت في جسم قابل للرطوبة قبلها فصار رطبا مثله،و متى فعلت في مادّة أخرى كالقوّة الحسّيّة أو الخياليّة،و انفعلت عن الرطوبة لم تقبل مثالها و لم تصر رطبا مثله،بل قبلت مثالها،فلها أثر في النشأة الأخرى غير أثرها في النشأة الأولى.و كذا إذا حصلت تلك الرطوبة في العقل كان ذلك ظهورا آخر وراء الأوّلين، و كانت الصورة صورة أخرى هي الصورة العقليّة الكلّيّة.

ص:144

و مثل أنّه يمكن أن يكون حقيقة واحدة باعتبار وجود واحد،أي وجودها في النفس من حيث وجودها فيها عرضا،و باعتبار وجود آخر،أي وجودها في الخارج جوهرا، كذلك يجوز أن يكون المعصية و الطاعة اللتان هما حقيقتان كليّتان تظهران في العالم الحسيّ بالصور العمليّة التي هي أعراض قائمة بالجواهر،و في عالم البرزخ بملابسها البرزخيّة المعنويّة و صورها المثاليّة التي هي جواهر،و في عالم الآخرة بملابسها الأخرويّة التي هي كالصور المعنويّة أيضا،بل كالملابس العقليّة،و هي جواهر أيضا فتصيران جنّة و نارا مثاليّتين أو عقليّتين.

و بالجملة،فتجسيم الأعمال و الصفات كما هو ظاهر الآيات و الأخبار الدّالّة عليه، ممّا لا مانع عنه عند العقل و لا امتناع فيه،و فيما ذكرنا غنية للطالب المستبصر المسترشد، في أن يؤمن بجميع ما نطق به الشّرع و وعده الشّارع أو أوعده،فإنّه لو تأمّل في ذلك،و كذا في أنّ ما يشاهد من الصفات النفسانيّة كيف تصير منشئا للآثار و الأفعال الظاهرة،كفاه ذلك ذريعة إلى الاطمينان بكيفيّة استتباع بعض الأعمال و الصفات للآثار المخصوصة في النشأة البرزخيّة و في عالم الآخرة،ألا ترى أنّ شدّة الغضب-مثلا-في شخص يوجب ثوران دمه و احمرار وجهه و تسخّن بدنه و احتراق موادّه،و الحال أنّ الغضب صفة نفسانيّة موجودة في عالم باطنه،و هذه الآثار من صفات الأجسام المادّيّة،و قد صارت نتائج منها في هذا العالم،فلا عجب من أن يلزمها في النشأة البرزخيّة آثار أخرى أحرّ من الأولى، و في النشأة الأخرويّة نار أحرّ من الأولى و الثانيّة جميعا و هي نارُ اللّهِ الْمُوقَدَةُ* اَلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ)) (1).و أحرقت صاحبها،كما يلزمها في العالم الدنيويّ عند ظهورها ضربان العروق و الأوداج و اضطراب الأعضاء،و ربّما يؤدي إلى الأمراض الشديدة،و ربّما يموت صاحبها غيظا. (2)

و إذا عرفت ما ذكرنا،فاعلم أنّ الشرع كما نطق بتجسيم الأعمال و الصفات و الملكات،كذلك قد نطق بوقوع ثواب و عقاب جسمانيّين واردين على بدن المحسن

ص:145


1- -الهمزة(104):6-7. [1]
2- -راجع الشواهد الربوبية329/-330. [2]

و المسيء من خارج،و الآيات و الأخبار الواردة في ذلك الدّالّة عليه بظواهرها أكثر من أن تحصى،و هي في الدلالة عليه بحيث لا تقبل التّأويل في الظاهر،كما لا يخفى على من نظر فيها.و كثير منها و إن كانت ظاهرة في وقوع ذلك في الآخرة،إلاّ أنّ بعضها لاطلاقه يدلّ على وقوعه في النّشأة البرزخيّة أيضا،بل إنّ بعضها ظاهرة في ذلك:

قال تعالى: اَلنّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ)) (1).

و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«القبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النيران».

و هذه كما تدلّ على وقوع ثواب أو عقاب جسمانيّين محسوسين في عالم البرزخ و في القبر إلى قيام السّاعة،كذلك فيها دلالة على أنّ البرزخيّ منها من جنس عالم المثال، و أنّها أضعف تأثيرا ممّا في عالم الآخرة،فلذا عبّر في الآية عنها بالعرض على النار،يعني أنّه ليس دخولا في النار،و في الحديث بكون القبر روضة من رياض الجنّة،أو حفرة من حفر النيران،يعني أنّه ليس نفس الجنّة و لا نفس النار،بل إنّه ممّا يشابههما و من أشباحهما.

و كذا فيها دلالة على أنّ الأخرويّ منها من جنس عالم الآخرة،و من العالم العقليّ كما مرّ تفسيره،و على أنّها أشدّ تأثيرا ممّا في البرزخيّة،و لذا قال تعالى: وَ يَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ)) (2)و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«القبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النيران»دلالة على أنّ الدخول في أصل الجنّة و أصل النّار يكون بعد زمان القبر؛ و اللّه تعالى يعلم.

و بالجملة،فدلالة تلك الآيات و الأخبار على وقوع ثواب أو عقاب جسمانيّين بعد الموت من خارج في عالم البرزخ و في عالم الآخرة واضحة،و قد قال به أهل الشرع أيضا،و حيث إنّ الشرع قد نطق به يجب التّصديق به،و لا امتناع في وقوع الثواب و العقاب الجسمانيّين من جهتين:

إحداهما من داخل كما دلّ عليه ما دلّ على تجسيم الأعمال،و الأخرى من خارج،

ص:146


1- -غافر(40):46. [1]
2- -نفس الآية.

كما دلّت عليه هذه الآيات و الأخبار،و لا منافاة بينهما أيضا كما لا يخفى.

إلاّ أنّ هاهنا شبهة يختلف تقريرها على مذهب الحكماء و المتكلّمين،و كذا يختلف جوابها على الوجهين،و كذا على المذهبين،بل على مذهبي الأشاعرة و المعتزلة من المتكلّمين،فحريّ بنا أن نتكلّم في ذلك.

في الجبر و الاختيار

فنقول:إنّ تقرير تلك الشّبهة إمّا على مذهب الحكماء،فبأن يقال:إن كانت الأفعال الإنسانيّة صادرة عنه على سبيل الوجوب،لتمثّلها مع سائر الجزئيّات في العالم العقليّ، و لوجوب حدوث ما يحدث منها في هذا العالم مطابقا لما تمثّل هناك كما هو رأي الحكماء،فلم يعاقب الإنسان على شيء صدر عنه على سبيل الوجوب؟

لا يقال:وجوب صدور الفعل عن العبد،مع القول بأنّه قادر مختار،على ما يقوله الحكماء أيضا لا يجتمعان،لأنّه حينئذ يمتنع الترك،فيمتنع ملزوم الترك،و هو مشيّة الترك في تحديد القدرة،إن شاء ترك فلا قدرة أصلا.

لانّا نقول:الملازمة التي ادّعيت في تحديد القدرة إن شاء ترك،إنّما تثبت بين الممتنعين،مع أنّ الامتناع ليس بالذات،بل إنّ مشيّة الترك ممكنة بالنّسبة إلى العبد، و استمرار عدم الممكن لا ينافي إمكانه.

فمحصّل الشبهة أنّ الأفعال الصادرة من العبد إن وجب أن تكون مطابقة للعالم العقليّ -و هذا هو القدر كما يقوله الحكماء-فلم يعاقب العبد على ذلك؟

و هذا أحد وجهي تقرير الشبهة على مذهبهم.

و بوجه آخر:أنّ اللّه خير محض بالذات،و العقوبة شرّ محض،فكيف صدرت من اللّه تعالى؟

و إمّا على مذهب المتكلّمين،فبأن يقال-كما قالت المرجئة منهم-:إنّه يجب أن لا يكون عقاب أصلا،لأنّه لا فائدة فيه،لأنّها إن كانت عائدة إلى اللّه تعالى فذلك محال،أو

ص:147

إلى العبد فذلك أيضا باطل،لأنّ الضرر المحض لا فائدة فيه،و ما لا فائدة فيه يكون قبيحا لكونه خاليا عن وجوه المصلحة.

و أمّا الجواب عن هذه الشّبهة،فهو على تقدير القول بتجسيم الأعمال واضح على كلّ مذهب من المذاهب،لأنّه لا عقاب حينئذ من خارج،حتّى يسأل عن وجهه كما هو مدار الشبهة.بل العقاب الجسمانيّ الوارد على بدن المسيء إنّما يرد عليه من داخل ذاته،و هو لازم أعماله السيّئة،بل إنّ نفس تلك الأعمال تصوّرت بصورة العقاب.

و الحاصل أنّ العقاب الجسمانيّ للنفس على خطيئتها هو كالمرض للبدن،فهو لازم من لوازم ما ساق إليه الأحوال الماضية التي لم يكن بدّ من وقوعها،و لا من وقوع ما يتبعها.و كما أنّ الإنسان لمّا احتاج إلى تناول الغذاء و يبقي عند كلّ هضم لطخة من فضلات الهضوم يجتمع في بدنه منها مادّة كثيرة مستعدّة لتصوّرها بصور الأمراض، خصوصا إذا قصّر في الاحتياط،و في تناول الغذاء المناسب له،و أدّت شهوته البهيميّة إلى تناول الغذاء الغير المناسب،حتّى إذا أثّرت فيها الحرارة الغريبة،اشتعلت تلك المادّة و تصوّرت بصورة العلّة و المرض و حدثت الحمّى،و إذا انصبّت إلى عضو ورم ذلك العضو، إلى غير ذلك من الحالات الرديّة الموذية.

و بالجملة،إذا ساقت إليه قوّته البهيميّة أو صابا و أسقاما مؤلمة،كذلك حال العقاب الجسمانيّ الوارد عليه من داخل،فإنّه إذا فعل أفعالا رديّة،ينتقش في نفسه بحسب كلّ فعل ملكة رديّة،و يجتمع على مرّ الأيّام ملكات متعدّدة متصوّرة بصورة المؤلمات و المؤذيات الجسمانيّة،مصاحبة معها غير مفارقة عنها،إلاّ أنّها ما دامت متعلّقة بالبدن كأنّها ذاهلة عنها،حتّى إذا فارقت البدن أدركتها و شاهدتها و شعرت بها و تأذّت منها و تألّمت لها ألما جسمانيّا.

لا يقال:إذا كان العقاب الجسمانيّ من لوازم الأعمال أو نفسها،يجب أن يكون دائما بدوام صورة ذلك العمل و الهيئة المنتقشة في النفس،الباقية ببقائها،فما وجه انقطاعه بالنسبة إلى بعضهم كما نطق به الشّرع؟

لأنّا نقول:قد عرفت فيما سبق أنّ بعضا من تلك الهيئات المنتقشة في النفس يمكن

ص:148

زوالها عنها لعروض أسباب زوالها،فلا امتناع في زوال تلك الهيئة عنها و انقطاع العقاب بحسبها.و على تقدير بقاء ذات تلك الهيئة أيضا،فلا امتناع في بطلان تلك الصورة المؤلمة التي تصوّرت تلك الهيئة بصورتها،بحسب أسباب تعرض هناك من توبة أو شفاعة أو نحو ذلك،و إن لم يكن نعلمها.و على تقدير بقاء تلك الصورة المؤلمة أيضا فلا امتناع في بطلان إيلامها و إيذائها،فإنّ ما ذكرنا أنّ العقاب الجسمانيّ لازم للأعمال،لم نعن به أنّه لازم لماهيّة تلك الأعمال و الهيئات،حتّى لا يمكن انفكاكه عنها،بل عنينا به أنّه لازم للوجود الخارجيّ لها،و لا امتناع عقلا في أن يبقى ماهيّتها و ذاتها و ينفكّ عنها لازم وجوده الخارجيّ بسبب من الأسباب العارضة.بل ربّما يدّعى أنّ الشرع دلّ عليه كما في قصّة إبراهيم على نبيّنا و عليه السلام،و جعل النار عليه بردا و سلاما مع بقاء ذات تلك النار على ما هي عليه من مادّتها و صورتها.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ تلك الشّبهة-على تقدير تجسيم الأعمال-لا ورود لها أصلا،لا على مذهب الحكماء و لا على مذهب غيرهم.

نعم،تلك الشبهة إنّما ترد ظاهرا على تقدير وقوع العقاب من خارج،و على هذا التقدير أيضا،فإن أوّل بما يؤوّل إلى تجسيم الأعمال،سقطت تلك الشّبهة أيضا.

و ذلك التأويل بأن يقال:يمكن أن يكون ذلك العقاب الخارجيّ أيضا لازما لتلك الأعمال مسبّبة عنها و صورة لها،لا بأن يكون قد تصوّر العمل نفسه بصورة ذلك العمل كما ذكرنا في الوجه الثاني من وجهي تجسيم الأعمال،بل بأن يكون أوجد اللّه تعالى لحكمته القديمة و عنايته الأزليّة و عمله بالوجه الأصلح و بما يقتضيه نظام العالم بجملته،لكلّ عمل صورة مناسبة لها خارجة عن ذاتها مسبّبة عنها،كما ذكرنا في الوجه الأوّل من وجهي تجسيم الأعمال.

و حينئذ،فلو قلنا بوجود الجنّة و النار الآن و خلقها قبل صدور الأعمال من العباد كما هو مذهب جمهور المسلمين،و هو ظاهر الشرع المتين و الحقّ المبين،ينبغي القول بخلق تلك الصور المناسبة لتلك الأعمال قبلها.

و ربّما يدّعى أنّه ممّا يؤيّده بعض الآيات و الأخبار،كقوله: وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ)) 1حيث إنّ ظاهره الإحاطة في الزمان الحال.

ص:149

و ربّما يدّعى أنّه ممّا يؤيّده بعض الآيات و الأخبار،كقوله: وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ)) (1)حيث إنّ ظاهره الإحاطة في الزمان الحال.

و بالجملة،ينبغي القول بخلقها قبلها لحكمة و مصلحة لا يعلمها إلاّ علاّم الغيوب،و من جملتها ترغيب المكلّفين بالأعمال الحسنة التي يناسبها تلك الصور الملذّة و تزهيدهم عن الأعمال السّيّئة التي يناسبها تلك الصّور المؤلمة،فإنّه لا يخفى أنّهم إذا علموا بأنّ تلك الصور خلقت قبل صدور الأعمال عنهم و أعدّت لهم جزاء لأعمالهم الحسنة أو السّيئة، يكون التكليف أتمّ و الترغيب و التزهيد أبلغ و أكمل،و لا كذلك إذا لم تخلق قبل و وعدوا أو أوعدوا على خلقها و إعدادها لهم بعد صدور العمل عنهم.

و لو قيل بعدم خلق الجنّة و النار الآن،و إنّهما تخلقان يوم الجزاء-كما هو مذهب أكثر المعتزلة،و إن كان مخالفا لظاهر الشرع-فالأمر أظهر من وجه،فإنّه يكون الجنّة و النار اللتان هما صورتا الأعمال الحسنة و السيّئة مخلوقتين بعد الأعمال،و لا امتناع فيه أيضا، و يكون في التكليف و في الوعد و الوعيد بخلقها بعد ذلك حكمة و مصلحة لا تخفى.

و أمّا إذا لم يؤوّل ذلك بما ذكرنا أو نحوه بل أبقي على ظاهره،أي وقوع العقاب الجسمانيّ من خارج من غير أن يكون ذلك صورة العمل،فيمكن دفع تلك الشبهة أيضا بما نذكره،فنقول:

أمّا جوابها على مذهب الحكماء و على التقدير الأوّل،فبأن يقال:إنّ مبنى تلك الشبهة على ذلك التقرير،أنّ معنى القضاء أنّ اللّه تعالى عالم بجميع الموجودات من الأزل إلى الأبد،و أنّ معنى القدر مطابقة الموجودات فيما لا يزال للصور الموجودة في العالم العقليّ،و أنّ كلّ ما يوجد في عالم الحدوث يجب أن يكون على وفق علمه تعالى،و الاّ لزم جهله تعالى به،و هذا مسلّم.إلاّ أنّا نقول:إنّ ذلك الوجوب ليس وجوبا سابقا،بمعنى أن يكون القلم الأزليّ و المطابقة للعالم العقليّ علّة و سببا موجبا لصدور الفعل عن العبد حتّى يسأل عن أنّه لم يعاقب الانسان على شيء صدر عنه على سبيل الوجوب،لأنّ العلم تابع للمعلوم فكيف يكون علّة لوجوده؟و معنى التبعيّة أصالة موازنة في التطابق كما حقّق في

ص:


1- -التوبة(9):49. [1]

موضعه،بل إنّ ذلك وجوب لاحق ،بمعنى أنّه تعالى لما علم في الأزل أنّه يصدر فيما لا يزال عن العبد بإرادته و اختياره الفعل-كما هو مذهب الحكماء أيضا-فلذا تعلّق العلم الأزليّ به،و حيث تعلّق العلم الأزليّ به،وجب أن يكون هو مطابقا له،و الاّ لزم جهله تعالى.

و بالجملة،فهذا الوجوب وجوب لاحق باختيار العبد و إرادته،و الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار،بل يؤكّده.

فحينئذ إن سئل عن أنّه لم يعاقب الانسان على شيء صدر عنه على سبيل الوجوب و الاضطرار؟سقط السؤال البتة،لأنّه ليس على سبيل الوجوب و الاضطرار،و إن سئل عن أنّه لم يعاقب على شيء صدر عنه بالاختيار أو على سبيل الوجوب بالاختيار؟كان الجواب أنّه لمّا ارتكب بإرادته و اختياره الأفعال المنهيّة عاقبة اللّه تعالى على عصيانه.

و بتقرير آخر أنّه لما كان فعل العبد صادرا عنه بإرادته و اختياره-كما هو مذهبهم- و كان قدرته و اختياره مسبّبين عن أسباب،و من أسباب إرادته فعل الخير التخويف و العقاب،و هما من الأسباب المقدّرة لنظام العالم،كما أنّ فعل الخير مقدّر قدّره تعالى تكليفا و تخويفا و أوفي به فإن سئل عن أنّه لمّا كان فعل العبد مقدّرا،فلم التخويف أو لم العقاب؟كان الجواب عنه،بأنّهما من أسباب فعل الخير الصادر عن العبد.

و بعبارة أخرى لمّا كانت النّفس الإنسانيّة في علم الباري تعالى قابلة للكمالات، و كانت العناية الأزليّة و الحكمة المتعالية اقتضت إفاضته تلك الكمالات عليها،لكن بحسب استعدادات تحصل هي لها من أفاعيلها الإراديّة،و كانت فيها قوى تمنعها عن تلك الأفاعيل و تميلها إلى أفاعيل بالإرادة تضادّها قدّر تعالى تكليفا و تخويفا يكون من أسباب إرادته الأفاعيل الجميلة،و لما كان الوفاء بذلك التخويف أيضا من أسباب ذلك مؤكّدا له،و الوفاء بالتخويف هو العقوبة،لا جرم صارت العقوبة سببا من أسباب إرادة العبد للأفاعيل الجميلة،و تلك العقوبة كما أنّها من أسباب إرادة الأفاعيل الجميلة،كذلك هي واقعة على العبد بفعله بالاختيار للأفعال القبيحة لا محذور أصلا.

لا يقال:سلّمنا أنّ التخويف من أسباب إرادة الأفعال الجميلة،لكنّا لا نسلّم أنّ الوفاء

ص:151

به-و هو العقوبة-سبب لها،إذ لا مانع من أن يحصل التخويف و يكون سببا لإرادة الأفاعيل الجميلة،و لا يقع الوفاء به أي العقوبة،إذ ليس في ذلك خلف لوعد حتّى يكون قبيحا،بل هو إسقاط وعيد و عفو،بل إحسان فيحسن.

لأنّا نقول:إنّ التخويف الذي لا وفاء به أصلا لا يكون سببا لإرادة فعل الخير،و إنّما يكون سببا لها إذا كان مع الوفاء به و لو في الجملة.و لا أقلّ من أن يكون الوفاء مؤكّدا للتخويف،و هو أيضا مطلوب الشارع الحكيم.

و بالجملة،فالوفاء به حسن،و هو من حقّه تعالى بالنسبة إلى من ارتكب الأفعال القبيحة بإرادته و اختياره،و إن كان يمكن إسقاطه بالنّسبة إلى بعضهم بالتّوبة أو الشّفاعة أو نحو ذلك ممّا لا يعلمه غيره تعالى.

و حيث عرفت ما بيّناه،عرفت أنّ محصّل الجواب عن الشّبهة على ذلك التّقرير،أنّ قول الشّابه:فلم يعاقب الإنسان على شيء صدر عنه على سبيل الوجوب؟

إن كان محطّ السّؤال أنّ ما صدر عن العبد على سبيل الوجوب كيف يقع العقاب عليه؟كان الجواب عنه أنّ صدوره عنه ليس بالوجوب،بل بالاختيار كما عرفت.

و إن كان محطّ السّؤال أنّ الغرض من ذلك العقاب ما ذا؟كان الجواب عنه أنّ فعل اللّه تعالى لا يعلّل بالأغراض عند الحكماء،إذ هو تعالى عندهم-كما هو الحقّ أيضا-فيّاض مطلق و جواد على الإطلاق و هو تامّ الفاعلية،غير مستكمل بشيء أصلا و لا يكون لفعله تعالى علّة غائيّة و لا غرض يكون ذلك داعيا له إلى فاعليّته،و يكون هو تعالى بدونه غير فاعل له ناقصا في فعله،و إن كان يتبع فعله تعالى حكم و مصالح متقنة محكمة ليست هي باعثة له على الفاعلية.

و إن كان محطّ السؤال أنّ الحكمة و المصلحة في العقاب ما ذا؟كان الجواب عنه أنّ الحكمة في ذلك كونه من أسباب إرادة العبد للأفاعيل الجميلة كما عرفت.

و أمّا الجواب عن الشبهة،على التقدير الثاني للحكماء و على مذهبهم،فبأن يقال:لا نسلّم أنّ العقوبة شرّ محض مطلقا،فإنّها على تقدير تسليم كونها شرّا،فإنّما يسلّم ذلك بالقياس إلى الشخص المعذّب فقط،لا بالقياس إلى غيره أيضا،بل هو خير بالقياس إلى

ص:152

الأكثرين،حيث إنّ فيها مصالح عامّة،و من جملتها تحذيرهم عن ارتكاب المعاصي و المنهيات،و حيث كانت فيها مصالح عامّة فلا يلتفت لفتّ الجزئيّ لأجل الكلّيّ كما في قطع العضو لصلاح البدن.

على أنّا لا نسلّم كون العقوبة شرّا محضا بالنسبة إلى الشخص المعذّب أيضا،بل يمكن أن تكون بالقياس إليه أيضا خيرا،كما قال بعض العرفاء:«إنّ النّار قد تتّخذ لبعض الأمراض،و هو الداء الذي لا ينفى إلاّ بالكيّ من النار،فقد جعل اللّه تعالى النار وقاية في هذا الموطن من داء هو أشدّ من النار في حقّ المبتلى به،و أيّ داء أشدّ من الكبائر؟فقد جعل اللّه لهم النار يوم القيامة دواء كالكيّ بالنار،فدفع بدخولهم النار يوم القيامة داء عظيما أعظم من النار،و هو غضب اللّه تعالى،و لهذا يخرجون بعد ذلك من النار إلى الجنّة، كما جعل في الحدود الدنياويّة وقاية من عذاب الآخرة». (1)انتهى كلامه.

و أقول:و لعلّ معنى قوله:«و لهذا يخرجون»أنّه يخرج بعض أصحاب الكبائر، كالمؤمن الفاسق،و إلاّ فالكافر مخلّد في النار كما هو المذهب الحقّ.

و أمّا الجواب عن الشّبهة على تقرير المتكلّمين و على مذهب المعتزلة و من يحذو حذوهم في القول بالحسن و القبح العقليّين،و بأنّ فعل العبد صادر عنه بإرادته و اختياره، فبأن يقال:إنّ اللّه تعالى كلّف العباد و وعدهم على الطاعة،و أوعدهم على المعصية،لأنّ صلاح حالهم في التكليف،ثمّ إنّه يجب عليه تعالى ذلك لأنّ التكليف و الوعد و الايعاد لطف من اللّه تعالى يقرّبهم إلى الطاعة و يبعدهم عن المعصية،و اللطف واجب.ثمّ إنّه يجب عليه تعالى الإثابة على الطاعات،إذ الإخلال به قبيح و ظلم،و أمّا العقاب فحسن أيضا لارتكابهم المعاصي.فإذا قيل لم يعذّبون؟قيل:لأنّهم ارتكبوا المعاصي.و إذا قيل:لم ارتكبوا المعاصي؟قيل:لإرادتهم ذلك،و كونهم مختارين فيه.و إذا قيل:أ ليس يجب صدور المعصية عنهم حتّى يطابق علم اللّه تعالى؟قيل:إنّ اللّه تعالى كما علم وجود المعصية علم أنّ المعصية تصدر عنهم باختيارهم و إرادتهم،فعلم اللّه تعالى لا ينافي

ص:153


1- -و القائل هو الشيخ العارف محي الدين بن العربي،في الفتوحات المكيّة. [1]

اختيارهم،إذ العلم الأزليّ ليس علّة لوجود المعلوم،بل هو تابع له كما عرفت.

و أمّا الجواب عن الشبهة على رأي الأشاعرة،فبأن يقال:إنّهم لمّا ذهبوا إلى أنّ جميع الحوادث بل جميع الموجودات الممكنة من اللّه تعالى و هو سبب الكلّ.فإن قيل:فلم العقاب؟قالوا:إن كان المراد الغرض من العقاب فلا غرض،و إن كان المراد السّبب،فهو اللّه تعالى و لا يسأل عمّا يفعل.

و هذا الذي ذكرناه في تقرير هذه الشبهة و جوابها إنّما هو نبذ ممّا ذكروه في هذا المقام،و تفصيل المقام يقتضي بسطا في الكلام ليس هنا محلّه،و حيث كان هذا الذي ذكرناه كلاما وقع في البين بالتقريب،فلنرجع إلى ما كنّا نحن بصدده.

الثواب و العقاب في البرزخ

فنقول:إنّك بعد ما أحطت خبرا بما فصّلناه و بيّناه،تلخّص لك أنّ حال النفس الإنسانيّة بعد مفارقتها عن البدن العنصريّ أنّها تكون في ضمن بدن مثاليّ،و تكون لها في ضمنه سعادة و شقاوة حسّيّتان كما دلّ عليه الشرع الشريف و فصّل ذلك فيه،و يؤيّده العقل أيضا،مضافا إلى السعادة و الشقاوة العقليّتين اللتين هما لها بالقياس إلى ذاتها كما دلّ عليه العقل و لم ينكره الشرع.و أنّ كلّ ما يرد عليها من اللذّات و الآلام الحسّيّتين بعد المفارقة عن البدن إلى قيام الساعة هو من جنس عالم المثال،حتّى أنّ ظهور الملكين الكريمين اللذين يسألانها في القبر تارة بصورة حسنة،و تارة بصورة مهيبة منكرة،يمكن أن يكون بظهورهما كذلك في ضمن القالب المثاليّ،سواء قيل بكون الملائكة ذواتا مجرّدة عقليّة كما هو رأي كثير من الحكماء،أو بكونهم أجساما نورانيّة ذوات نفوس مجرّدة شريفة كما هو ظاهر الشرع الشّريف،فإنّه على التقديرين،لا امتناع عقلا و لا شرعا في أن يكون لهم مظاهر جسمانيّة مثاليّة يظهرون فيها بصور مختلفة.و اللّه تعالى يعلم.

نعم،قد دلّ الشّرع على أنّ بعض الأحوال الواردة على النفس من الأمور الحسّيّة، كضغطة القبر بل السؤال و الجواب،تكون للنفس في ضمن البدن الأوّل العنصريّ،كما دلّت

ص:154

عليه أخبار كثيرة،و يدلّ عليه بعض الآيات أيضا،كقوله تعالى حكاية: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ)) (1)و قد قال كثير من المفسّرين:إن إحدى الحياتين ليست إلاّ في القبر، و كذا إحدى الموتتين.

و بالجملة،فلا امتناع فيه أيضا،إذ لا امتناع في أن يعيد اللّه تعالى بحكمته المتعالية تعلّق النفس بالبدن الأوّل نوعا من التعلّق يسمّى إحياء،ثمّ يقع عليها الضغطة و المساءلة في ضمن ذلك البدن الأوّل،ثمّ ينتفي ذلك التعلّق المعاد،بحيث يسمّى إماتة،سواء كان البدن الأوّل باقيا بعينه،و كان في القبر أي في داخل الارض،و كانت الضغطة و المسائلة في القبر،أو كان البدن الأوّل في خارج الأرض،سواء كان في سطحها أو في الهواء كما في المصلوب،إذ لا امتناع في الإحياء بقدر المساءلة و لا في الضغطة،فإنّ ربّ الهواء هو ربّ الأرض،و لا امتناع في أن يوحي اللّه تعالى إلى الهواء فيضغطه،كما ورد في الحديث.

و سواء لم يكن البدن الأوّل باقيا بهيئته و صورته بل تفرّقت أجزاؤه،كأن أكله السّباع و الطيور و تشتّت أجزاؤه في بطونها و حواصلها،أو أن أحرق فصار رمادا،أو ذرّي في الرياح العاصفة شمالا و جنوبا و قبولا و دبورا،فإنّه لا امتناع في إعادة الروح إلى تلك الأجزاء المتفرّقة،أو إلى الأجزاء الأصليّة من البدن بعد جمعها و تأليفها و إن لم نشاهد ذلك،و في إحيائه مرّة أخرى للمساءلة و الضغطة فيقع،المساءلة و كذا الضغطة فيما كان جمع الأجزاء هنالك،ثمّ ينتفي ذلك التعلّق بحيث يسمّى إماتة،سواء تفرّقت الأجزاء بعد ذلك كما كانت أوّلا أو لم تتفرّق،و إن لم نكن نشاهد شيئا من ذلك و لا نعلمه.

و القول بأنّ المصلوب مثلا لو أحيي لكنّا نشاهد حياته و ليس كذلك،مجرّد استبعاد، فإنّ عدم مشاهدة الحياة ليس دليلا على عدمها كما في صاحب السّكتة،حيث إنّا لا نشاهد حياته مع أنّه حيّ.

كالقول بأن إحياء من تفرّقت أجزاؤه في بطون السّباع و حواصل الطيور،بل أحرق و ذرّي في الرياح خلاف ما يقتضيه ضرورة العقل،بأنّه أيضا مجرّد استبعاد،حيث إنّه

ص:155


1- -غافر(40):11. [1]

مبنيّ على اشتراط البنية الأولى بهيئتها الأولى التركيبيّة بعينها في الحياة،و هو ممنوع.

غاية ذلك أن يكون خلاف العادة،و خوارق العادات غير ممتنعة في مقدورات اللّه تعالى.

و كذلك القول بأنّ ما ذكر يخالف بعض السمعيّات،كقوله تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى)) (1)،و أنّهم لو أحيوا في القبر أو بعد الموت الأوّل قبل القيامة لذاقوا الموت مرّتين.ضعيف،لأنّ الآية كما ذكره المفسّرون إنّما وردت في شأن أهل الجنّة، و ضمير«فيها»للجنّة.و المعنى-و اللّه أعلم-أنّ أهل الجنّة لا يذوقون في الجنّة الموت،فلا ينقطع نعيمهم كما انقطع نعيم أهل الدنيا بالموت،فلا دلالة في الآية على انتفاء موتة أخرى بعد المساءلة و الضغطة و قبل دخول الجنّة،و أمّا قوله تعالى: إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى)) (2)،فهو تأكيد لعدم موتهم في الجنّة على سبيل التعليق بالمحال،كأنّه قيل:لو أمكن ذوقهم الموت في الجنّة لذاقوا الموتة الأولى،و هو غير ممكن.فذوقهم الموت في الجنّة غير ممكن،أو المراد أنّهم لا يذوقون الموت في الجنّة إلاّ الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا نظير الاستثناء المنقطع.و اللّه أعلم بحقيقة الحال.

و حيث انتهى الكلام إلى هذا المقام،و ذكرنا نبذا من أحوال النفس الإنسانيّة في عالم البرزخ،أي أحوالها بعد المفارقة عن البدن إلى قيام السّاعة،فلنتكلّم في أحوالها في العالم الأخرويّ عند قيام الساعة و بعده،فنقول:

ص:156


1- -الدخان(44):56. [1]
2- -نفس الآية.

الباب الخامس: في إثبات المعاد الجسمانيّ الّذي نطق به الشرع

اشارة

ص:157

ص:158

و هو ركن من أركان الإسلام،و ضروريّ في الدين المحمّديّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و كذا في سائر الملل و الأديان،بحيث يكون منكره كافرا كما هو معلوم لكلّ من تديّن بالإسلام،كما أشرنا في صدر الرسالة إلى ذلك،و في إقامة الدليل العقليّ عليه،كما نطق به الشّرع.

و حيث كان ما نطق به الشرع منحلاّ إلى أمرين:

أحدهما:إنّ للإنسان معادا في دار الآخرة التي هي دار الجزاء.

الثاني:أنّ ذلك المعاد جسمانيّ،و معناه عود الروح مرّة أخرى إلى البدن الأوّل للثواب و العقاب.فلنتكلّم في بيان الأمرين جميعا.

الأمر الأوّل

أنّ للإنسان معادا في دار الآخرة

فنقول:أمّا الأمر الأوّل،فهو كما أنّه ممّا نطق به الشرع و أخبر به الصادقون عليه السّلام و يجب التصديق به،و أنّه ممّا لا امتناع فيه عند العقل أيضا،حيث إنّه أمر ممكن،أخبر به الصادقون،فيجب التصديق،كذلك يؤيّده العقل و يدلّ عليه،و لذلك صدّق به الحكماء الذين مدارهم في الأحكام على الدليل العقليّ،إلاّ أنّ بعضا منهم قصروا المعاد على الروحانيّ كما مرّ.

و ذلك الدليل المؤيّد العقليّ كأن يقال:إنّا نعلم بالضرورة أنّ اللّه تعالى وعد المكلّف بالثواب على الطاعة،و توعّد بالعقاب على المعصية بعد الموت،و لا يتصوّر الثواب

ص:159

و العقاب بعد الموت إلاّ بعد العود،فيجب العود إيفاء للوعد و الوعيد،و عملا بمقتضى العدل،و إن كان يجوز العفو عن مقتضى الوعيد بالنّسبة إلى بعض المكلّفين لأسباب حاصلة هناك.و بعبارة أخرى،أنّا نعلم أنّ اللّه تعالى كلّف العباد بالأوامر و النّواهي،فيجب أن يوصل إليهم الثواب بالطاعة و العقاب على المعصية،فيجب البعث بمقتضى الحكمة، و إلاّ لكان ظالما،تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

و القول بأنّ إيجاب هذه التكاليف وقع شكرا للنعم التي أنعم اللّه تعالى بها،فلا يستحقّ المكلّف ثوابا كما قال به بعض المتكلّمين في غاية السقوط،إذ إيجاب المشقّة في شكر المنعم قبيح عقلا،مع أنّه لا يستقيم في العقاب أصلا.

و لا يخفى أنّ هذا الدليل الذي ذكرنا،كما أنّه يستقيم على قاعدة المتكلّمين القائلين بالحسن و القبح العقليّين و إنّ العدل يجب على اللّه تعالى،كذلك يستقيم على مذهب الحكماء القائلين بالعناية الأزليّة و بوجوب اشتمال أفعاله تعالى على حكم و مصالح تتبعها،و بوجوب صدور الخير عنه تعالى،و أمثال ذلك ممّا قالوا به.

نعم،لا يستقيم ذلك على مذهب الأشاعرة الّذين خلعوا ربقة العقل عن أعناقهم،و لا ضير فيه،مع أنّهم أيضا ليسوا ممّن أنكروا المعاد،بل صدّقوا به و قبلوه من جهة الشرع خاصّة.

ص:160

الأمر الثاني

أي كون المعاد جسمانيّا

و أمّا الأمر الثاني:أي كون المعاد جسمانيّا،فهو منحلّ إلى أمور:

أحدها:أنّه يجب أن يعود الروح في القيامة إلى بدن عنصريّ لها به تعلّق تدبير و تصرّف.

و الثاني:أنّه يمكن أن يكون ذلك البدن العنصريّ هو البدن الأوّل بعينه،و أنّه لا مانع منه شرعا و لا عقلا،و أنّه حينئذ يكون الشخص المعاد هو الشخص المبتدأ بعينه نفسا و بدنا.

و الثالث:أنّه يجب أن يكون البعث على هذه الكيفيّة،أي أن يكون تعلّق الروح بذلك البدن الأوّل بعينه،حتّى تكون هي في ضمنه موردة للثّواب و العقاب الحسّيّين،لا ببدن آخر غيره.

و المقصود أنّه كما أنّ هذا المطلب الأسنى المنحلّ إلى هذه الأمور الثلاثة ممّا نطق به الشرع،و وجب التّصديق به من جهة الشرع،كذلك هو ممّا يحكم به العقل و يقوم الدليل العقليّ عليه.و غرضنا من وضع الرسالة بيان هذا المطلب،فلذلك قدّمنا ما قدّمناه في مقدّمة الرسالة و أبوابها و فصولها تمهيدا لذلك،فإنّ ما ذكرناه في المقدّمة و تلك الفصول و الأبواب في التحقيق مقدّمات و أصول لهذا المطلب،و هو نتيجة لها و فرع عليها.

و الغرض الأصليّ من ذكرها و الإطناب فيها هو بيان هذا المطلب،و إن كان لها فوائد أخر أيضا،حيث إنّها في أنفسها أيضا فوائد علميّة لطيفة،و مطالب عظيمة شريفة.

و الحاصل أنّ المستبصر المسترشد،إذا تذكّر ما قدّمناه في المقدّمة و الأبواب،يكفيه

ص:161

دليلا واضحا و برهانا لائحا على هذا المطلب الأقصى بأجزائها الثّلاثة،و يتّضح ذلك عنده كلّ الاتّضاح.و إن شئت انكشاف جليّة الحال،فاستمع لما نتلو عليك من المقال،فنقول:

بيان الأمر الأوّل من تلك الأمور الثلاثة

أمّا بيان الأمر الأوّل من هذه الأمور الثلاثة،فيتّضح بعد الإحاطة بما قدّمناه في الأبواب المتقدّمة،أنّ النّفس الإنسانيّة بدنيّة تحتاج في أفعالها و إدراكاتها إلى بدن تتصرّف هي فيه،و يكون هو آلة لأفعالها و إدراكاتها،و أنّه لا يجوز أن تتعلّق بجسم فلكيّ أو عنصريّ أو نوع آخر،يكون ذلك الجسم موضوعا لإدراكاتها من غير أن تكون هي متصرّفة فيه مدبّرة له،فإنّه بعد الإحاطة بذلك مع الإحاطة بأنّ ذلك البدن المتعلّقة هي به تعلّق التدبير و التصرّف لا يمكن أن يكون جوهرا مجرّدا عن المادّة،لامتناع كونه بدنا لجوهر نفسانيّ،و لا أن يكون بدنا مثاليّا،لأنّه إنّما يكون في عالم البرزخ خاصّة،كما قال به جميع العقلاء و حكم به عقولهم،و إن كان النصّ الوارد مؤيّدا لحكم عقلهم،و عالم الآخرة غير عالم البرزخ باتّفاق الكلّ،و لا أن يكون جسما فلكيّا أو جوهرا،إبداعيّا غير منخرق لإبائهما عن كونهما بدنا لنفس إنسانيّة،حيث إنّ ذلك موقوف على قبول طبيعتهما للتجزّي و الانفصال و التغيّرات العارضة،و قبول التصرّفات و التدبيرات التي للنفس بالقياس إلى البدن العنصريّ،و ظاهر أن ليس ذلك للطبيعة الفلكيّة،و لا لذلك الجرم الإبداعي الغير المنخرق مع بقاء صورتهما،و إن كان تبدّل صورتهما و بطلانها أمرا ممكنا، كما قال تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ)) . (1)

و بالجملة،فبعد الإحاطة بما ذكرنا،يتّضح لك أنّه يجب أن يكون عود الروح في القيامة الكبرى إلى بدن عنصريّ كما نطق به الشّرع،هذا مع أنّ ما سنبيّنه في بيان الأمر الثالث من الأمور الثلاثة،من أنّه يجب أن يكون عود الروح في القيامة الكبرى إلى البدن الأوّل بعينه يثبت هذا المطلب مع شيء زائد و التعويل عليه،و إنّما ذكرنا ما ذكرنا هنا لزيادة

ص:162


1- -الأنبياء(21):104. [1]

الإيضاح و الاطمينان.

بيان الأمر الثاني من تلك الأمور الثلاثة

اشارة

و أمّا بيان الأمر الثاني،من هذه الأمور الثلاثة،فيستدعي تمهيد مقدّمات:

منها:ما أسلفنا لك في مقدّمة الرسالة،أنّ الشخص الإنسانيّ الذي نطق الشرع الشريف بمعاده و بعثه،عبارة عن مجموع نفسه و بدنه،و تحقيقه أنّه عبارة عن مجموع نفسه و بدنه،بمعنى أنّه عبارة عن البدن المخصوص الذي تعلّق به نفس مخصوصة،هي كالصورة الكماليّة له،أو عبارة عن النّفس المخصوصة التي تعلّقت ببدن مخصوص هو آلة لكمالاتها و أفعالها و إدراكاتها،و أنّ هويته و هذيّته إنّما هي بالتشخّص الحاصل لذلك المجموع،أي للنفس و الأجزاء الأصليّة من بدنه على ما مرّ تفسيرها في المقدّمة،سواء كان المشخّص نحوا من الوجود الخاصّ الذي تتبعه العوارض التي تسمّى عوارض مشخّصة أو تلك العوارض نفسها،على اختلاف المذهبين،و أنّه لا مدخل للأجزاء الفضليّة من بدنه،و لا لهيئته التركيبيّة الخارجيّة،و لا لتأليفه المخصوص في هذيّة البدن الخاص، و لا في هذيّة الشخص الإنسانيّ،فلذا كان تبدّلها و تغيّرها غير قادح في تشخّص البدن و تشخّص الشخص.و يشهد عليه أنّا نعلم بالضرورة أنّ زيدا الشاب هو بعينه زيد الطفل، و زيدا الشيخ هو بعينه زيد الشاب و الطفل،مع أنّا نعلم وقوع استحالات و تغيّرات في بدنه.

و بالجملة أنّا نعلم بالضرورة أنّ هويّة زيد و هذيّته باقية من أوّل عمره إلى انتهاه،مع تبدّل خصوصيّات بدنه،و لذلك كان في الشّريعة المقدّسة أنّ من جنى جناية استحقّ بها قتلا أو عقوبة،و كان هو حين ما جنى تلك الجناية تامّ الخلقة،ثمّ صار ناقصا في الخلقة أو كان مهزولا ثمّ سمن،أو بالعكس،و لم يرفع إلى الإمام عليه السّلام إلاّ حين الحالة الثّانية،فهو يجري عليه حدّ اللّه تعالى،و ليس ذلك ظلما عليه أصلا.

لا يقال:لعلّ بقاء الشخص بعينه في الحالات كلّها من أوّل العمر إلى منتهاه مستند إلى بقاء نفسه الباقية بشخصها في الحالات كلّها خاصّة كما ادّعاه بعض الحكماء،من غير أن

ص:163

يكون لبقاء الأجزاء الأصليّة من بدنه و تشخّصها مدخل في ذلك.

لأنّا نقول:هذا مبنيّ على أن يكون الشخص الإنسانيّ عبارة عن نفسه فقط،و يكون البدن آلة لها لا دخل له في كون الشخص الإنسانيّ شخصا و هذا باطل،لأنّا نعلم يقينا أنّ الشخص الإنسانيّ عبارة عن مجموع النفس و البدن و المركّب منهما،و بعبارة أخرى أنّا نعلم يقينا أنّه عبارة عن النفس الخاصّة المختصّة ببدن مخصوص،أو عبارة عن بدن مخصوص مختصّ بنفس خاصّة.

و بالجملة فليس الشخص الإنسانيّ عبارة عن نفسه فقط كما يراه بعض الحكماء، و لا عبارة عن الهيكل المخصوص البدنيّ فقط كما يراه جمع من العوام،أو لست سمعت القوم أنّهم يقولون في تحديد الإنسان إنّه حيوان ناطق،أو لست تحقّقت فيما نقلنا في الفصل (1)الأوّل الذي عقدناه في تحديد النفس عن الشيخ في«الشفاء»،أنّ النفس جزء من قوام الإنسان صورة له أو كالصورة،و أنّ الحيوان الذي هو جنس له،كيف يكون جنسا له باعتبار،و مادّة باعتبار آخر،و نوعا باعتبار آخر،و أنّ الناطق الذي هو فصل له كيف يكون فصلا له باعتبار،و صورة و نفسا له باعتبار آخر،و نوعا باعتبار،و أنّه كيف يكون البدن المخصوص كالمادّة و النفس المخصوصة كالصورة،و أنّه كيف يكون الشخص الإنسانيّ كالمركّب من المادّة و الصورة،أي المركّب من البدن و النفس.

و قد علمت في موضعه أنّه كما أنّ تشخّص المادّة بالصورة باعتبار،كذلك تشخّص الصورة بالمادّة باعتبار آخر،و تشخّص الشخص الذي هو عبارة عن المجموع المركّب منهما بتشخّص المجموع،إلى غير ذلك من الأمور التي يستبين من كلام القوم،و كذا من كلام الشيخ هنالك.و هي دالّة على أنّ الشخص الإنساني عبارة عن مجموع النفس و البدن الذي ذلك المجموع معروض لتشخّص خاصّ،لا أحدهما فقط.و حيث كان كذلك كان لبقاء هذيّة البدن أيضا مدخل في بقاء هذيّة الشخص الإنسانيّ،و ما هو إلاّ لبقاء هذيّة الأجزاء الأصليّة من بدنه،حيث إنّ هذيّة الأجزاء الفضليّة و التأليف و الهيئة التركيبيّة منه

ص:164


1- -في الباب الأوّل.

متبدّلة،مع بقاء هذيّة الشخص الإنسانيّ بعينها،و فيه المطلوب.

لا يقال:سلّمنا أنّ الشخص الإنسانيّ عبارة عن مجموع النفس و البدن.

إلاّ أنّا نقول:لم لا يجوز أن يكون هو عبارة عن نفس خاصّة و عن بدن ما؟لا بأن يكون هناك بدن مطلق على سبيل العموم جزء من المجموع،حتّى يرد أنّ المطلق بإطلاقه كيف يكون جزء من المشخّص،و كيف يكون له دخل في تشخّص الجزء الآخر المشخّص أعني النفس،بل بأن يكون هناك أبدان مشخّصة خاصّة كلّ واحد منها على سبيل البدليّة جزء للشخص الإنسانيّ و له مدخل في تشخّص النفس.

لأنّا نقول:هذا بعينه هو القول بالتناسخ لو كانت تلك الأبدان الخاصّة أبدانا عنصريّة كما هو المفروض،و قد عرفت بطلانه،فظهر لك أنّ البدن الذي هو جزء للشخص الإنسانيّ يجب أن يكون بدنا خاصّا بخصوصه الذي خصوصيّته إنّما هي بخصوصيّة الأجزاء الأصليّة منه لا غير.و فيه المطلوب.

فإن قلت:إنّ خصوصيّة البدن كما هي بخصوصيّة الأجزاء الأصليّة منه،كذلك هي بخصوصيّة التأليف الخاصّ و الهيئة الخاصّة البدنيّة جميعا،فإنّه لو لم يكن كذلك،و كان المدخل فيه للأجزاء الأصليّة فقط كيفما كانت،لزم أنّه لو كان هناك الأجزاء الأصليّة البدنيّة من غير تأليف أصلا،و لا هيئة تركيبيّة مطلقا،كان ذلك البدن الخاصّ حاصلا هناك،و البديهة تشهد بخلافه.

قلت:إنّا ندّعي أنّ الأجزاء الأصليّة من بدنه من حيث خصوصيّتها الخاصّة لها مدخل في خصوصيّة البدن،و كذا في خصوصيّة النفس و خصوصيّة الشخص الإنسانيّ، و أمّا التأليف الخاصّ و الهيئة الخاصّة،بل الأجزاء الفضليّة أيضا ممّا لا مدخل له في شيء من ذلك أصلا،بدليل أنّا نشاهد تغيّره و تبدّله مع بقاء تشخّص الشخص الإنسانيّ بحاله، و قد عرفت أنّ الشخص الإنسانيّ عبارة عن مجموع النفس و البدن،نعم لكليّات ذلك- أعني لفرد ما من الهيئة التركيبيّة البدنيّة الإنسانيّة و لفرد ما من التأليف البدنيّ الإنسانيّ،بل لفرد ما من الأجزاء الفضليّة أيضا-مدخل على سبيل البدليّة لنوعية البدن خاصّة،أي لكون البدن بدنا إنسانيّا مثلا،و لصدق اسم البدن عليه،و أنّه لو لا ذلك لانتفى البدن،لا

ص:165

لأجل انتفاء ما هو مناط خصوصيّته،بل لأجل انتفاء ما هو مناط نوعيّته.

و الحاصل أنّه لو كانت هناك الأجزاء الأصليّة البدنيّة المخصوصة،و كان معها فرد ما من التأليف البدنيّ الإنسانيّ و الهيئة التّركيبيّة و الأجزاء الفضليّة،أي فرد كان بشرط أن تكون الأفراد متماثلة و متشابهة،كانت هناك نوعيّة البدن الحاصلة بفرد ما من ذلك،و كذا خصوصيّة البدن الحاصلة بخصوصيّة تلك الأجزاء الأصليّة البدنيّة،و كذا خصوصيّة النّفس الإنسانيّة التي لتلك الأجزاء الأصليّة مدخل فيها،و كذا خصوصيّة الشّخص الإنسانيّ الّذي هو عبارة عن النفس الخاصّة و البدن المخصوص باقية بحالها لم تتغيّر و لم تتبدّل.و هذا ظاهر.

و أمّا إذا لم تكن هناك تلك الأجزاء الأصليّة أصلا بل أجزاء أخر،سواء كان معها تأليف ما و هيئة تركيبيّة ما و أجزاء فضليّة ما أو لم يكن معها شيء من ذلك أصلا،لم يكن هناك ذلك الشخص الإنسانيّ و لا تلك النفس الخاصّة و لا ذلك البدن المخصوص.و هذا أيضا ظاهر بالبيان المتقدّم.و أمّا إذا كانت هناك تلك الأجزاء الأصليّة الخاصّة و لم يكن معها فرد ما من التأليف البدنيّ الإنسانيّ،و الهيئة التركيبيّة البدنيّة الإنسانيّة و الأجزاء الفضلية أصلا و قطعا،كان هناك ينتفي البدن المخصوص،لا لأجل انتفاء ما هو مناط خصوصيّته،بل لأجل انتفاء ما هو مناط نوعيّته،و بانتفائه كذلك ينتفي الشخص أيضا، لأنّه عبارة عن مجموع النفس الخاصّة و البدن المخصوص،بعد أن كانت له صورة بدنيّة إنسانيّة نوعيّة،و هنا ليس كذلك،إلاّ أنّه لا ينتفي هنا خصوصيّة النفس،لأنّ خصوصيّتها إنّما هي منوطة بخصوصيّة الأجزاء الأصليّة التي المفروض بقاؤها.و الدليل على ذلك أنّا نعلم يقينا بقاء النفس بتشخّصها و خصوصيّتها بعد خراب بدنها و بعد قطع تعلّقها عنه و بعد بطلان التأليف رأسا و انعدام الهيئة التركيبيّة أصلا،و ما ذلك البقاء إلاّ لبقاء الأجزاء الأصليّة التي بيّنّا سابقا بقاءها و أنّ لها مدخلا في تشخّص النفس.

و حيث عرفت ذلك،اتّضح لك غاية الاتضاح انّه إذا كان هذيّة زيد الذي هو عبارة عن مجموع البدن المخصوص و النفس الخاصّة باقية من أوّل عمره إلى منتهاه،و كان ذلك مستندا إلى بقاء تشخّص نفسه و بدنه جميعا،فليس للأجزاء الفضليّة الخاصّة من بدنه و لا

ص:166

للتأليف الخاصّ و لا للهيئة التركيبيّة الخاصّة مدخل من حيث الخصوصيّة في تشخّصه البدني،و إلاّ لزال تشخّصه البدنيّ بوقوع استحالات و تغيّرات كثيرة فيه،و زال بسببه تشخّص الشخص الإنسانيّ أيضا لزوال المجموع بزوال الجزء.فبقي أن يكون المدخل في بقاء تشخّص بدنه للأجزاء الأصليّة من بدنه من حيث الخصوصية و في تشخّص الشخص الإنسانيّ لذلك و لبقاء تشخّص نفسه جميعا،و هو المطلوب.

و كأنّه يشير إليه قوله تعالى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها)) (1).

و قد روى الشّيخ الطّبرسيّ(ره)في كتاب«الاحتجاج»عن حفص بن غياث:«قال:

شهدت المسجد الحرام و ابن أبي العوجاء يسأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قوله تعالى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ)) (2).ما ذلك(ذنب خ)الغير؟قال:ويحك هي هي،و هي غيرها.قال:فمثّل لي ذلك شيئا من أمر الدنيا.قال:نعم،أ رأيت لو أنّ رجلا أخذ لبنة فكسّرها،ثمّ ردّ في ملبنها،فهي هي و هي غيرها (3).

و في هذا الحديث دلالة صريحة على ما نحن بصدد بيانه،فافهم.

ثمّ إنّه من جملة المقدّمات لهذا المطلب الذي نحن بصدد بيانه هنا،ما أسلفنا لك في مقدّمة الرسالة،أنّ النفس الإنسانيّة لتجرّدها عن المادّة في ذاتها باقية بعد خراب البدن غير فانية،حيث أقمنا هناك الدلائل العقليّة و النقليّة عليه،و أقمنا البرهان العقليّ في الباب الثاني على تجرّدها،و ما أسلفنا لك في المقدّمة أيضا أنّ البدن الإنسانيّ على كلّ مذهب من المذاهب المقولة في الجسم و قالت به الحكماء و المتكلّمون،لا ينعدم بالموت بالمرّة، حتّى لا يمكن إعادته لكونه إعادة للمعدوم،كما مرّ الدليل العقليّ على إبطالها،بل الموت عبارة عن قطع تعلّق النفس عن البدن الأوّل بهيئته،و عن تفرّق أجزاء البدن.و قد أسلفنا لك هنالك أيضا أنّ الحقّ كما دلّ عليه الدليل السّمعيّ و لا يأباه العقل،بقاء الأجزاء الأصليّة من بدنه ببقاء النفس.

ص:167


1- -النساء(4):56. [1]
2- -نفس الآية.
3- -راجع الاحتجاج للطبرسيّ 104/2. [2]

و منها ما أسلفنا لك في المقدّمة أنّ المعاد الجسمانيّ الذي هو ضروريّ في الدين القويم معناه عود تعلّق النّفس ببدنها الأصليّ مرّة أخرى بعد جمع أجزاء البدن،و لا سيّما الأجزاء الأصليّة منه،و عود تأليف البدن كرّة بعد أولى بهيئته الأولى كما يدلّ عليه الآيات و الأخبار.

أمّا الآيات،فكقوله تعالى:

أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ* بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ)) . (1)

و قوله تعالى حكاية: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ)) (2).

و قوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَ هُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ)) (3).

و قوله تعالى: قُلِ اللّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ)) (4).

و قوله تعالى: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ)) (5).

و أمّا الأخبار:فكما نقلنا سابقا في الباب الثاني من الشيخ الطبرسيّ(ره)في كتاب «الاحتجاج»،في حديث الزنديق الذي سأل أبا عبد اللّه الصادق عليه السّلام عن مسائل و أجابه عنها:قال الزنديق:و أنّى له البعث و البدن قد بلى،و الأعضاء قد تفرّقت،فعضو ببلدة يأكله سباعها و عضو بأخرى تمزّقه هوامها و عضو قد صار ترابا بني به من الطين حائط؟ قال عليه السّلام:إنّ الذي أنشأه من غير شيء و صوّره من غير مثال كان سبق إليه،قادر أن يعيده كما بدأه.قال:أوضح لي ذلك.قال:إنّ الرّوح مقيمة في مكانها،روح المحسن في ضياء و فسحة،و روح المسيء في ضيق و ظلمة،و البدن يصير ترابا منه خلق و ما يقذف به

ص:168


1- -القيامة(75):3-4. [1]
2- -يس(36):78-79. [2]
3- -الشورى(42):29. [3]
4- -الجاثية(45):26. [4]
5- -النساء(4):87؛ [5]الأنعام(6):12. [6]

السّباع و الهوامّ من أجوافها ممّا أكلته و مزّقته كلّ ذلك في التراب محفوظة،عند من لا يعزب عنه مثقال ذرّة في ظلمات الأرض،و يعلم عدد الأشياء و وزنها،و إنّ تراب الروحانيّين بمنزلة الذهب في التّراب،فإذا كان حين البعث مطرت الأرض مطر النشور، فتربى الأرض ثمّ تمخض مخض السقاء فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء،الزبد من اللّبن إذا مخض،فيجمع تراب كلّ قالب فينتقل بإذن اللّه تعالى القادر إلى حيث الروح،فتعود الصور بإذن المصوّر كهيئتها،و تلج الرّوح فيها،فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا (1)،الحديث.

و أقول:إنّ في هذا الحديث الشريف مع الدّلالة على أنّ المعاد الجسمانيّ يكون بجمع أجزاء البدن على مثل الهيئة الأولى و إعادة تأليفها مرّة أخرى كالأوّل،و إعادة تعلّق الروح بها كرّة بعد أولى-كما ذكرنا الحديث دليلا عليه-دلالة على أنّ الروح بعد مفارقتها عن البدن لا تفنى،بل تبقى في مكانها الذي قدّره اللّه تعالى لها،روح المحسن في ضياء و فسحة،و روح المسيء في ضيق و ظلمة.و كان ذلك في عالم المثال على ما دلّت عليه الأخبار الأخر كما نقلناها و ذكرنا شرحها سابقا.و كذا دلالة على أنّ البدن لا ينعدم بالموت،حتّى لا يمكن إعادته،بل إنّما ينعدم تأليفه الذي لا دخل له في تشخّص البدن و تشخص الشخص،و لا يلزم أيضا إعادته بعينه حتّى يلزم إعادة المعدوم،بل المعاد تأليف آخر مثل الأوّل.

و بالجملة يدلّ على أنّه ينعدم تأليفه و هيئته الأولى و الأجزاء الفضليّة منه،و تبقى أجزاؤه الأصليّة التي هي مع تأليف ما و هيئة ما و أجزاء فضليّة ما مناط الحكم بأنّها هو ذلك البدن الأوّل.

و قد عرفت في الباب الثاني-حيث نقلنا هذا الحديث الشّريف مع سابقه-أنّ ظاهره، و إن كان تجسّم الروح حيث تضمّن أنّها جسم رقيق،و أنّ جميع ما ذكره عليه السّلام في هذا الحديث،إنّما هو بيان حال الرّوح التي هي جسم رقيق،إلاّ أنّه يمكن تأويله بالروح

ص:169


1- -الاحتجاج 98/2. [1]

الحيوانيّة التي هي أيضا جسم رقيق،و هي ما به الارتباط بين الروح الإنسانيّة التي بيّنّا أنّها جوهر مجرّد عن المادّة و بين البدن،و هي أيضا من الأجزاء الأصليّة البدنيّة كما ذكرنا سابقا،و كذا تأويله بأنّه ببقاء ذلك الجسم الرّقيق يبقى ذلك الجوهر المجرّد أيضا الذي دلّ الدليل العقليّ و النقليّ على بقائه،و أنّه بولوج ذلك الجسم الرّقيق في البدن مرّة أخرى، يعود تعلّق ذلك الجوهر المجرّد به و بالبدن كما كان أوّلا،و به يحصل المعاد الجسمانيّ.

و بالجملة،فمضمون هذا الحديث من هذه الجهة،ليس منافيا لما نحن بصدده،بل يؤيّده.

و قد عرفت أيضا هنالك،أنّ في هذا الحديث الشريف من جهة تضمّنه لقوله عليه السّلام:«كلّ ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرّة الخ».

و قوله عليه السّلام:«فإذا كان حين البعث مطرت الأرض مطر النشور الخ»تفسير كثير من الآيات القرآنيّة،مثل قوله تعالى:

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السّاعَةُ قُلْ بَلى وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرُ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ)) (1).

و قوله تعالى: وَ اللّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ)) (2).

و قوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) (3).

إلى غير ذلك من الآيات،فتذكّر.

و بعد تمهيد تلك المقدّمات،نقول:إنّك إذا علمت أنّ النفس الإنسانيّة بدنيّة محتاجة إلى بدن عنصريّ.

ص:170


1- -سبأ(34):3. [1]
2- -فاطر(35):9. [2]
3- -الأعراف(7):57. [3]

و علمت أنّ الشخص الإنسانيّ عبارة عن مجموع نفسه و بدنه،و أنّ تشخّصه و هذيّته بتشخّص المجموع،أي تشخّص نفسه و الأجزاء الأصليّة من بدنه.

و علمت أنّ موته عبارة عن قطع تعلّق نفسه عن بدنه.

و علمت أنّه بعد قطع التعلّق،يكون نفسه التي هي الأصل في تشخّصه و في كونه هو هو-و لذا سمّيت بالنفس،فإنّ معنى النّفس هو العين،كان ذلك الشخص هو بعينه ذلك الأمر المسمّى بالنفس فقط-باقية بعينها و بشخصها،و يكون الأجزاء الأصليّة من بدنه التي لها أيضا مدخل في تشخّص الشخص و هذيّته باقية أيضا بعينها من غير تبدّل و تغيّر فيها.

و علمت أنّ المعاد الجسمانيّ عبارة عن جمع الأجزاء المتفرقة من بدنه،و لا سيّما الأجزاء الأصليّة كهيئتها الأولى البدنيّة،و إعادة التأليف مرّة أخرى،و إعادة تعلّق النفس بها كرّة بعد أولى كما كان أوّلا،و أن لا مانع من ذلك عقلا و لا شرعا.

لا يبقى لك شكّ في أنّه يمكن تحقّق المعاد الجسمانيّ بهذا النحو،أي عود تعلّق الروح الباقية بعينها بذلك البدن الأوّل العنصريّ الباقي بالأجزاء الأصليّة،حيث إنّ نسبة قدرة القادر المختار إلى كلّ أمر ممكن في ذاته على السواء.و كما أنّ تفريق أجزاء البدن و قطع تعلّق النفس عنه أمر ممكن،كذلك جمع تلك الأجزاء المتفرّقة الباقية و إعادة التأليف لها مرّة أخرى،و إعادة تعلّق تلك النفس الباقية إلى ذلك البدن كرّة بعد أولى أمر ممكن في ذاته،و كما أنّه لا مانع من الأوّل لا مانع من الثاني،و ليس فيه إعادة معدوم حتّى تمنع،كما سبق بيانه غير مرّة،و لا فيه شبهة تناسخ لما مضى و سيجيء.

و بالجملة،فحيث لم يكن فيه مانع عقلا و لا شرعا و قد أخبر به الشرع،وجب التصديق به.

و كذلك لا يبقى لك شكّ في أنّ الشخص المعاد يوم القيامة هو بعينه الشخص المبتدأ في دار الدنيا،كما نطق به الشرع أيضا،إذ لا اختلاف بينهما أصلا فيما هو مناط التشخّص و منشأ الهذيّة،و إن كان الاختلاف بينهما واقعا فيما ليس له مدخل في ذلك،كالأجزاء الفضليّة و التأليف المجدّد الواقع ثانيا و الهيئة التركيبيّة الثانويّة.

ص:171

فإن قلت:أ لست قلت فيما تقدّم في فصل امتناع إعادة المعدوم في مسألة أنّ الزمان من المشخّصات:إنّا لو فرضنا أن صنعنا من طين مخصوص كوزا مخصوصا على مقدار و هيئة و شكل خاصّ،ثمّ كسرناه و صنعنا من تلك المادة كوزا آخر على تلك الأوصاف، نعلم بالضرورة أنّ الكائن في الزمان الثاني غير الأوّل،و لازم ذلك أن يكون البدن المعاد الثاني كما فرضته غير البدن المبتدأ،و لازم ذلك أن يكون البدن الذي فرضته جزء للشخص الإنسانيّ منتفيا حين الإعادة،و لازم ذلك أن يكون ذلك الشخص منتفيا أيضا لانعدام الكلّ بانعدام الجزء.

قلت:إنّ ما ذكرنا ثمّة مبنيّ على تغاير الكوزين بحسب التأليف و الهيئة و الصورة الخاصّة،و هو مسلّم،و ما ذكرنا هنا مبنيّ على أنّ ما هو جزء للشخص الإنسانيّ هو البدن، مع فرد ما من التأليف و الهيئة لا التأليف الخاصّ و الهيئة الخاصّة،و لا شكّ أنّه بهذا الاعتبار لا ينعدم أصلا،إذ هو لا ينفكّ في الزمانين عن فرد ما من ذلك.و انعدام تشخّصه بحسب فرد خاص من ذلك لا يقدح فيما ذكرنا،إذ هو غير معتبر فيما هو جزء من الشخص.

شبهة الآكل و المأكول مع جوابها:

و حيث عرفت ما فصّلنا،ظهر لك أنّه بما ذكرنا يحصل الجواب عن شبهة مشهورة للمنكرين للمعاد الجسمانيّ.

تقرير الشّبهة:أنّ المعاد الجسمانيّ غير ممكن،لأنّه لو أكل مثلا إنسان إنسانا حتّى صارت أجزاء بدن المأكول جزء من بدن الآكل فهذا الجزء إمّا أن لا يعاد أصلا و هو المطلوب،أو يعاد في كلّ واحد منهما و هو محال،لاستحالة أن يكون جزء واحد بعينه في آن واحد في شخصين متباينين،أو يعاد في أحدهما وحده فلا يكون الآخر معادا بعينه، و هذا مع إفضائه إلى الترجيح بلا مرجّح يثبت مقصودنا،و هو أنّه لا يمكن إعادة جميع الأبدان بأعيانها كما زعمتم.

و تقرير الجواب:أنّ المعاد هو الأجزاء الأصليّة،و هي الباقية من أوّل العمر إلى آخره

ص:172

لا جميع الأجزاء على الإطلاق،و هذا الجزء فضل في الإنسان الآكل،فلا يجب إعادته فيه،ثمّ إن كان من الأجزاء الأصليّة للمأكول أعيد فيه و إلاّ فلا،و كان فيما نقلنا آنفا من حديث الزنديق إشارة إلى هذه الشبهة و إلى الجواب عنها،بأتمّ تقرير،فتبصّر.

و حيث عرفت ما ذكرنا،عرفت تصحيح الوجه في المعاد الجسمانيّ كما نطق به الشّرع،و أنّ ذلك أمر ممكن في ذاته لا مانع فيه،و عرفت قيام الدليل العقليّ على أنّ المعاد يوم القيامة هو ذلك الشخص الأوّل المبتدأ بعينه نفسا و بدنا.و أنّه ينبغي أن يحمل الآيات و الأخبار الدالّة على المعاد الجسمانيّ،و أنّ المعاد يوم القيامة هو الشخص الأوّل بعينه، على ما ذكر.و أنّ ما يدلّ منها على أنّ المعاد هو مثل الشخص الأوّل أو أنّ ما في القيامة هو خلق جديد،

كقوله تعالى: أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ)) (1).

و قوله تعالى: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَ نُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ)) (2).

و قوله تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)) (3).

و قوله تعالى: وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)) (4).

ينبغي حمله على أنّه مثل الأوّل في بعض الصفات و الأحوال التي لا دخل لها في تشخّص الشخص كالأجزاء الفضليّة،و التأليف الثاني،إلاّ أنّه عينه فيما هو مناط التشخّص كالنفس الباقية و الأجزاء الأصليّة الباقية.و كذا هو خلق جديد بحسب الأجزاء الفرعيّة الفضليّة و بحسب التأليف الثاني الواقع في الزمان الثاني.و قد تكلّمنا في ذلك في مقدّمة الرسالة أيضا،فتذكّر.

ص:173


1- -يس(36):81. [1]
2- -الواقعة(56):60. [2]
3- -سبأ(34):7. [3]
4- -السجدة(32):10. [4]

و بالجملة،فما ذكرناه مع قيام الدليل العقليّ عليه لا مانع منه شرعا و لا عقلا،و ما يتراءى من المانع العقليّ هنا،و هو أنّه يلزم أن يكون انتقال النفس بعد مفارقتها عن البدن الأوّل إلى البدن الثاني الذي ذكر أنّه غير الأوّل باعتبار و مثله باعتبار آخر تناسخا،فهذا المانع أيضا منتف،إذ قد عرفت فيما أسلفنا لك في مبحث إبطال التناسخ،أنّ العمدة في المحال اللازم على تقديره إنّما هو استيجاب كون بدن واحد ذا نفسين،و كون نفس واحدة ذات بدنين منفصلين متغايرين،و لزوم انقلاب الفعليّة قوّة محضة،و كلّ ذلك مبنيّ على أن يكون البدن الذي ينتقل إليه النّفس المستنسخة غير البدن الأوّل ذاتا حتّى يكون فيه استعداد لنفس أخرى أيضا،و يكون النّفس في ضمنه بالقوّة من جهة كمالاتها بعد كونها بالفعل،أو يلزم منه كون نفس واحدة ذات بدنين منفصلين موجودين بوجودين،و هذا غير لازم على تقدير كون البدن الثاني عين الأوّل ذاتا و إن كان غيره من جهة بعض الأحوال الغير المشخّصة،إذ ما هو عين البدن الأوّل ذاتا لا نسلّم أنّه يكون فيه استعداد لحدوث نفس أخرى غير الأولى،و لا نسلّم أيضا أنّه تكون النفس الأولى المتعلّقة بالقوّة من جهة كمالاتها،بل إنّها تكون بالفعل فيه كما كانت أوّلا،و لا يكون أيضا مغايرا بالذات للبدن الأوّل.و كذا لا يلزم انتفاء المرجح لتعلّقها به،لأنّ التعلّق السابق به،أي بأجزائه الأصليّة منه لم ينعدم،بل هو باق،كما أشرنا إليه سابقا و سنشير إليه،و حيث كان باقيا فلا يكون هنا تعلّق جديد حتّى يحتاج إلى المرجّح.و لو سلّم كونه تعلّقا جديدا،فالتعلّق السابق يكفي كونه مرجّحا لذلك.

و بالجملة،فالمحال اللازم على تقدير التّناسخ لا يلزم على تقدير المعاد الجسمانيّ كما قرّرناه،و إن سمّاه أحد بالتناسخ فلا مشاحّة للأسماء كما سمّاه الشرع بالبعث و الحشر و النشور و أمثال ذلك من الأسماء.

هذا الذي ذكرناه إنّما هو بيان الأمر الثاني من تلك الأمور الثلاثة.و لا يخفى عليك أنّه كما يتمّ في النّفوس الكاملة،يتمّ في النفوس الناقصة أيضا كنفوس البله و الصّبيان و المجانين،حيث إنّ المقدمات التي مبنى بيان هذا الأمر عليها مشتركة،أمّا ما سوى مقدّمة بقاء النفس و تجرّدها فظاهر اشتراكها،و أمّا هي فكذلك أيضا،لأنّك قد عرفت فيما

ص:174

سلف بيان بقاء نفوس هؤلاء الناقصين أيضا بعد خراب أبدانهم،و عرفت بيان تجرّدها أيضا،فتذكّر.

بيان الأمر الثالث من تلك الأمور الثلاثة

اشارة

و أمّا بيان الأمر الثالث من تلك الأمور الثلاثة،أي وجوب كون المعاد الجسمانيّ على النّحو الذي ذكرنا،أي بأن يعود تعلّق النّفس إلى ذلك البدن الأوّل بعينه كما ذكرنا،حتّى تكون في ضمنه موردة للثّواب و العقاب الحسّيّين،مضافا إلى ما يكون لها في ذاتها من الثّواب و العقاب العقليّين،لا إلى بدن آخر غيره بالذّات،فهو أيضا يستدعي تمهيد مقدّمات:

منها-ما قدّمناه في المقدّمة و الفصول و الأبواب المتقدّمة و ذكرناها تمهيدا لبيان الأمر الأوّل و الثاني.

و منها-ما أشرنا إليه في المقدّمة و حقّقناه في الباب الثّاني أنّ النّفس الإنسانيّة ذات واحدة بالعدد لها قوى متعددة و مراتب مختلفة،باعتبارها تسمّى تارة نفسا إنسانيّة و تارة حيوانيّة و تارة نباتيّة من غير تعدّد و اختلاف في ذاتها بل في حالاتها و مراتبها خاصّة.

و منها-ما أسلفنا لك في الباب الثاني أيضا أنّ الأفاعيل الجزئيّة المتعدّدة المختلفة الصّادرة عن النفس الإنسانيّة التي هي ذات واحدة بالعدد إنّما تصدر عنها بتوسّط قواها البدنيّة المختلفة المتعدّدة،كالأفاعيل الكلّيّة،فإنّها أيضا تصدر عنها بتوسّط قواها العقليّة و معنى ذلك أنّ الأفاعيل الجزئيّة تصدر أوّلا و بالذّات عن تلك القوى و بتوسّطها تصدر عن النّفس.

و الحاصل أنّ للقوى و المشاعر و الحواس أيضا حظّا و نصيبا في أفعالها و إدراك مدركاتها كما للنفس،إلاّ أنّ الأوّل أوّلا و بالذات،و الثاني ثانيا و بالتوسّط.

و بالجملة،ليس صدور الأفاعيل الجزئيّة المتعدّدة عن تلك الذات الواحدة بدون مدخليّة شيء من القوى و الحواسّ فيه،و كذا ليس ذلك لصدورها عنها بالذات لكن

ص:175

باختلاف الآلات،بأن تكون تلك القوى و الحواسّ فيه آلة لها في أفعالها من غير أن يكون لها حظّ فيه كما حقّقناه في ذلك الباب.

و منها ما أسلفنا لك في الباب الرابع،في مبحث حدوث النّفس بحدوث البدن،أنّ الأنفس الإنسانيّة التي هي متّفقة في المعنى و النّوع،إنّما يكون تكثّرها و تمايزها بالأبدان الخاصّة،و كذا يكون تشخّصها بالهيئات البدنيّة المخصوصة.

و منها ما أسلفنا لك في ذلك الباب من إبطال التناسخ و نحوه.

و بعد تمهيد تلك المقدّمات،نقول:إنّك بعد ما أحطت بتلك المقدّمات حقّ الإحاطة و تدبّرت فيها حقّ التدبير،كأنّك يتّضح لك هذا المطلوب الذي نحن بصدد بيانه حقّ الاتّضاح،و لا أظنّك في مرية من هذا،بل يتلخّص لك فيه براهين عقليّة دالّة عليه،كلّ واحد منها كاف في إثبات هذا المرام،و لمجموعها تأثير عظيم في إنارة المقام و إزاحة الشّكوك و الأوهام.

و من جملة تلك البراهين أن يقال:إذا كان الشخص الإنسانيّ عبارة عن النفس الخاصّة المتعلّقة ببدن مخصوص بخصوصه-كما عرفت بيانه-وجب أن يكون تعلّق تلك النفس في القيامة بذلك البدن المخصوص بعينه،حتّى يكون ذلك الشخص المعاد هو بعينه ذلك الشخص المبتدأ في الدّنيا،و يكون مصدر الطاعة و المعصية،و مورد الثواب و العقاب واحدا،فإنّه لو لم يكن و جاز تعلّق تلك النفس في القيامة ببدن آخر غير البدن الأوّل ذاتا، لم يكن ذلك الشخص هو بعينه ذلك الشخص المبتدأ بل غيره،و يكون ورود الثّواب و العقاب عليه ظلما منه تعالى،تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

و منها أن يقال:إذا كانت النفس الإنسانيّة بدنيّة و لم يكن البدن الذي لها حين المعاد بدنا مثاليّا،و لا بدنا فلكيّا،و لا بدنا من جرم إبداعيّ كما عرفت،بل يجب أن يكون بدنا عنصريّا،فذلك البدن العنصريّ إن كان عين البدن الأوّل كما عرفت معناه فهو المطلوب، و إن كان غيره بالذات،فيلزم التناسخ المحال.

لسنا نقول:إنّه يلزم إطلاق التناسخ عليه،حتّى يجاب بأنّ الشرع جوّز هذا النوع من التناسخ،بل نقول:إنّه حينئذ يلزم المحال اللازم على تقدير التناسخ،كما مرّ بيانه في

ص:176

مبحث إبطاله.

لا يقال:لا نسلّم لزوم ذلك المحال حينئذ،فإنّ لزومه مبنيّ على أن يكون المادّة البدنيّة التي هي مادّة البدن الذي هو غير البدن الأوّل،مستعدّة لفيضان نفس أخرى غير الأولى،حتّى يلزم إمكان اجتماع نفسين فيه،أو أن تكون النفس المستنسخة في ضمن ذلك البدن المغاير بالقوّة من جهة كمالاتها بعد أن تكون بالفعل و يلزم المحال اللازم على تقديره،و هذا غير مسلّم في المواد الأخرويّة،فإنّه إنّما هو من لوازم المواد الدنيويّة، و الموادّ الأخرويّة ليست مثلها،بل هي مخالفة في كثير من الصفات و الأحوال للمواد الدنيويّة،حتّى كأنّها مباينة لها بالذات كما مرّت الإشارة إليه،و لعلّ هذا منها.

لأنّا نقول:سلّمنا أنّ المواد الأخرويّة ليست من جنس المواد الدّنيويّة،بل هي مخالفة لها في كثير من الصفات و الأحوال،إلاّ أنّا نقول:إنّ تلك المادّة البدنيّة الأخرويّة الحاصل منها بدن آخر غير الأوّل،إن لم تكن مستعدّة لفيضان نفس عليها أصلا و لا قابلة لها قطعا، فكيف يمكن تعلّق النفس الأولى بها؟و إن كانت مستعدّة لفيضان نفس عليها،و كانت فيها قوّة قبول لها،فنسرد الكلام حينئذ و نقول في إبطاله كما نقلنا في إبطال التّناسخ في المواد البدنيّة الدنيويّة،حذو النّعل بالنّعل و القذّة بالقذّة.

و منها أن يقول:إذا كانت النفس الإنسانيّة واحدة بالذات و العدد،و كانت لها قوى و مراتب متعدّدة،باعتبارها تسمّى تارة نفسا إنسانيّة،و تارة حيوانيّة،و تارة نباتيّة،كما عرفت.و لا سترة في أنّ القوّة الإنسانيّة و إن كانت غير بدنيّة،إلاّ أنّ الحيوانيّة و النباتيّة بدنيّتان،أي حصولهما لها إنّما هو في ضمن بدن خاصّ بخصوصه لما عرفت أنّ ما هو جزء للشّخص الإنسانيّ و له مدخل في شخص نفسه الخاصّة و تميّزها و حصول المراتب و القوى لها إنّما هو البدن الخاصّ بخصوصه،فإذا كانت تلك النفس يوم القيامة متعلّقة ببدن آخر غير الأوّل،فإمّا أن لا تكون تلك القوى و المراتب البدنيّة حاصلة لتلك النفس أصلا فهذا محال،لأنّه يلزم أن لا تكون تلك النفس في حال البعث عين الأولى بل غيرها.

و إمّا أن تكون تلك القوى و المراتب حاصلة لها حين البعث،فهذا أيضا محال،لأنّ تلك القوى و المراتب إنّما هما قوى و مراتب خاصّة متخصّصة ببدن مخصوص و هيكل

ص:177

معيّن مشخّص،ليستا مراتب و قوى مطلقة حاصلة في ضمن بدن ما أو بدن مطلق.و على هذا أيضا يلزم أن لا تكون تلك النفس في حال البعث عين الأولى،بل غيرها،لعدم حصول تلك المراتب و القوى الخاصّة التي لها مدخل في تميّز تلك النفس و تحصّلها و تقوّمها و تخصّصها و تشخّصها لها حينئذ.و على التّقديرين فيلزم أن يكون وقوع الثّواب و العقاب على تلك النفس المتعلّقة ببدن غير الأوّل ظلما.تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

و منها،أن يقال:إذا كانت النفس الإنسانيّة تفعل الأفاعيل المختلفة الجزئيّة بتوسّط القوى و المشاعر و الحواسّ المختلفة البدنيّة التي تميّزها و تعيّنها بمواد خاصّة بدنيّة و آلات مخصوصة هي أجزاء البدن المخصوص المعيّن و لها دخل في تشخّص النفس الإنسانيّة أيضا،و كانت لتلك القوى أيضا حظّ و نصيب في تلك الأفعال كما للنفس بتوسّطها كما عرفت،و لا شكّ أنّ في الآخرة سعادة و شقاوة حسّيّتين كالعقليّتين،و لا شكّ أيضا أنّ الحكمة المتعالية تقتضي أن تكون لتلك الحواسّ و القوى حظّ في الثّواب و العقاب الحسّيّين اللذين هما بإزاء تلك الأفعال الجزئيّة التي لتلك القوى حظّ فيها،كما أنّ الحكمة تقتضي أن يكون للنفس بتوسّط تلك القوى حظّ في إدراك الثواب و العقاب الحسّيّين،فإذا أعيدت تلك النفس في القيامة في ضمن بدن آخر غير الأوّل،لم تكن تلك القوى و الحواسّ الحاصلة للنفس في ضمن البدن الثاني المغاير عين الأولى لكونها متعيّنة و متخصّصة بمواد بدنيّة و آلات بدنيّة هي أجزاء البدن الأوّل المخصوص بخصوصه، و المفروض عدمها،بل هي حواسّ و قوى أخرى،فحينئذ يلزم مضافا إلى لزوم أن لا تكون تلك النفس المعادة بعينها النفس المبتداة-حيث عرفت أنّ تميّزها و تخصّصها و تعيّنها إنّما هو بتلك القوى البدنيّة الأولى التي هي منتفية عنها في ضمن البدن الثّاني-أن يكون ورود الثواب و العقاب عليها حينئذ منافيا للحكمة،بل ظلما كما ذكرنا.و أن يكون إدراك اللذّات و الآلام الحسّيّة بتلك القوى و الحواسّ الأخر منافيا للحكمة أيضا،إذ ما كان فاعلا لتلك الأفعال التي هي منشأ للثّواب و العقاب،أي القوى و الحواسّ الأولى لم يقع عليه الثواب و العقاب،و ما لم يفعلها أي الحواسّ و القوى الأخرى وقع عليه الثواب و العقاب.

ص:178

و كذا يلزم أن يكون إدراك النفس للثواب و العقاب الحسّيّين بتوسّط تلك القوى الأخرى منافيا للحكمة أيضا،إذ الواسطة في إدراك النفس لها غير الواسطة في فعل الأفعال التي هي منشأ للثواب و العقاب.

و التفصيل أن يقال:إذا أعيدت النفس في الآخرة في ضمن البدن الآخر المغاير للأوّل فهذا محال من وجوه:

لأنّه مع لزوم أن لا تكون تلك النفس المعادة عين النفس الأولى المبتداة كما عرفت، يلزم منه محالات اخر أيضا،لأنّه حينئذ إمّا أن لا تكون للنفس في البدن الثّاني المغاير قوى و مشاعر حسّيّة أصلا فهذا محال،لأنّه مناف للحكمة،إذ التّعلق بالبدن العنصريّ -كما هو المفروض-إنّما هو لأجل أن تكون لها قوى حسّيّة بدنيّة.

و إمّا أن تكون لها قوى حسيّة،فحينئذ،إمّا أن لا تكون للنفس إدراك للذّات و الآلام الحسّيّتين أصلا،فهذا محال،لأنّه خلاف ما نطق به الشرع و خلاف ما دلّ عليه العقل من أنّ القوى الحسّيّة في الآخرة إنّما تكون لأجل إدراك اللذّات و الآلام الحسّيّتين،كما أنّها في الدنيا إنّما تكون لأجل الأفعال الجزئيّة الحسّيّة.

و إمّا أن تكون للنفس إدراك للذّات و الآلام الحسّيّتين،و حينئذ فإمّا أن يكون المدرك لهما ذات النفس بذاتها من غير مدخليّة شيء فيه أصلا،فهذا محال،لأنّه قد تقرّر عندهم كما عرفت سابقا أنّ النفس لا تدرك الجزئيّات بذاتها.و أيضا يلزم أن يكون وجود تلك القوى و الحواس معطّلا محضا،و قد تقرّر عندهم أنّه لا معطّل في الوجود.

و إمّا أن يكون إدراك النفس لتلك اللذّات و الآلام الحسّيّتين بمدخليّة تلك القوى و الحواس،على أن تكون تلك القوى مجرّد آلة من غير أن يكون لها حظّ في الإدراك،فهذا محال،إذ قد أثبتنا في الأبواب السّابقة-كما أشرنا إليه آنفا-أنّ تلك الحواسّ و القوى واسطة في ذلك،و لها حظّ و نصيب فيه كما للنفس،إلاّ أنّ ما للنفس بتوسّط تلك القوى و ما لتلك القوى بالذات لا بالواسطة.

و إمّا أن يكون إدراك النفس لهما بتوسّط تلك القوى كما هو الحقّ،فحينئذ نقول:إنّ تلك القوى و الحواسّ الحاصلة للنفس في ضمن البدن الثاني المغاير لمّا كانت غير الأولى

ص:179

الحاصلة لها في ضمن البدن الأوّل،لأنّ تخصّص كلّ قوة من تلك القوى و تميّزها و تعيّنها إنّما هو بمادة بدنيّة مشخّصة متخصّصة و بآلة بدنيّة متعيّنة،و المفروض أنّ البدن الثاني غير البدن الأوّل ذاتا،فتكون القوى الثانيّة أيضا مغايرة للقوى الأولى ذاتا،كان إدراك القوى الثّانية للذّات و الآلام الحسّيّتين الذي هو بالنسبة إليها ثواب و عقاب،و عدم إدراك القوى الأولى لذلك منافيا للحكمة بل ظلما،لأنّ ما فعلت الأفعال التي هي منشأ للثواب و العقاب لم يرد عليها ثواب و لا عقاب،و ما لم تفعل ورد عليها ذلك.

و أيضا يلزم أن يكون إدراك النفس بتوسّط القوى الثانيّة للثواب و العقاب الحسّيّين منافيا للحكمة أيضا،كما عرفت.

فبقي أن يكون عود النفس في القيامة في ضمن البدن الأوّل بعينه،حتّى لا يلزم تلك المحالات،و هو المطلوب.

و لذلك قال بعض أهل التحقيق (1):«إنّ الحكمة تقتضي بعث الإنسان لجميع قواه و جوارحه،و إنّ لكلّ قوّة من قوى النفس كمالا يخصّها و لذّة و ألما يناسبها،و بحسب كلّ ما كسبته يلزم لها في الطبيعة الجزاء كما قرّرته الحكماء من إثبات الغايات الطبيعيّة لجميع المبادئ و القوى عالية كانت أم سافلة وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها)) و إنّ من تحقّق هذا تحقّق لزوم عود الكلّ و لم يشتبه عليه ذلك،و هذا مقتضى الحكمة و الوفاء بالوعد و الوعيد و لزوم الجزاء على ما يراه الحكماء من لزوم المكافاة في الطبيعة و المجازاة،لامتناع ساكن في الخليفة،معطّل في الطبيعة»انتهى كلامه.

و منها،أن يقال:إذا كانت الأنفس الإنسانيّة التي هي متّفقة في المعنى،إنّما يكون تكثّرها و تمايزها بالأبدان الخاصّة،و تشخّصها بالهيئات البدنيّة المخصوصة،فلو كانت في القيامة تعاد في ضمن بدن مغاير للأوّل ذاتا لم يكن تلك النفس تلك النفس الأولى المبتداة الفاعلة للخيرات و الشّرور،فلم يكن ورود الثواب و العقاب عليها من مقتضى الحكمة،بل منافيا لها و ظلما.تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

ص:180


1- -هو صدر المتألّهين في الشواهد الربوبيّة277/-278. [1]

و ممّا قرّرنا في ضمن تلك البراهين،ظهر لك فساد ما قيل من أنّ المدرك للثواب و العقاب حقيقة إنّما هو النفس التي هي باقية بحالها و البدن آلة لها من غير أن يكون له دخل فيه أصلا،فلا مانع من أن تعود في النشأة الأخرويّة في ضمن بدن آخر غير الأوّل، فتبصّر.

ثمّ إنّه من جملة الشواهد على هذا المطلوب الذي نحن بصدد بيانه،أنّ النظر في لفظ «المعاد»الذي نطق به الشرع و صدّق به العقلاء يقتضي أن يكون عود النفس في القيامة في ضمن البدن الأوّل بعينه،لأنّك قد عرفت فيما ذكرنا في المقدمة أنّ المعنى الحقيقيّ لهذه اللفظة هو أن يكون قد وجد أوّلا شيء فرض هو متعلّق الإعادة على وجود مخصوص و حال و صفة مخصوصتين،ثمّ زال عنه ذلك الوجود و تلك الصفة و الحالة،ثمّ وجد بعد ذلك على ذلك الوجود الأوّل و الحالة و الصفة المخصوصتين الأوليين.

و قد عرفت فيما تلوناه عليك أنّ النفس باقية بذاتها و كذلك الأجزاء الأصليّة البدنيّة، و إنّما الزّائل هو تعلّق النفس بذلك البدن الأوّل بهيئته،فينبغي أن يكون متعلّق الإعادة هو التعلّق ثانيا بذلك البدن الأوّل بعينه كما عرفت معناه،لا التعلّق ببدن مطلق أو بدن ما غير الأوّل ذاتا،لأنّه لم يزل عنها حتّى يعاد.

و هذا أيضا من المؤيّدات للمطلوب،و إن لم يكن دليلا عقليّا عليه.و بما ذكرناه من البراهين و قرّرناه من الدلائل تمّ بيان الأمر الثالث أيضا من تلك الأمور الثلاثة.

و لا يخفى عليك أنّ هذا البيان أيضا غير خاصّ ببعض النفوس الإنسانيّة دون بعض، بل يجري في جميع النفوس الإنسانيّة كاملة كانت أم ناقصة أم متوسّطة،فإنّ المقدّمات التي بناء هذا البيان عليها مشتركة في الكلّ لا اختصاص لها ببعض دون بعض،كما يظهر بالتأمّل فيها.

و لا يخفى أيضا أنّه بما ذكرنا،كما يتمّ بيان جوب عود النفوس إلى البدن الأوّل بعينه، كذلك يتمّ به بيان وجوب وقوع الثّواب و العقاب الحسّيّين للنفس في ضمنه،أي لذلك الشخص بعينه،مضافا إلى وقوع الثّواب و العقاب العقليّين اللذين هما لتلك النفس في ذاتها،لأنّه إذا وجب عود النفس إلى البدن الأوّل و الحال أنّه يكون لها في ضمنه آلات

ص:181

بدنيّة و قوى حسّيّة البتّة،و أنّ تلك الآلات و القوى لا تكون معطّلة البتة،بل هي لأجل إدراك الثواب و العقاب الحسّيّين،وجب أن يكون لها في ضمنه ذلك البتّة.

و بالجملة،فيثبت بما بيّنّاه ما هو المقصود،أي وجوب عود النفس إلى البدن الأوّل بعينه البتّة،و كذا وجوب وقوع الثواب و العقاب الحسّيّين البتة كالعقليّتين،و إن كان بيان تفاصيل الثّواب و العقاب الحسّيّين و وقوعهما على كيفيّات مخصوصة موكولا إلى الشرع الشريف،إذ هو مبيّن فيه مفصّلا،و لا استقلال للعقل في ذلك.

شكّ مع جوابه

ثمّ إنّه بقي هنا شكّ ينبغي التعرّض له و لجوابه.

بيان الشكّ:أنّه لقائل أن يقول:إنّ ما ذكرته من البراهين على هذا المطلوب لو كان صحيحا لأشكل عليك الأمر في حال النفس الإنسانيّة في عالم البرزخ،إذ عندك أنّ النفس في ذلك العالم هي بعينها تلك النفس الأولى،و أنها تكون فيه موردة للثواب و العقاب الحسّيّين،كما أنّها تكون موردة للثواب و العقاب العقليّين،و الحال أنّها في ذلك العالم غير متعلّقة أصلا بالبدن الأوّل الذي قلت أنّه جزء للشخص و له مدخل في تشخّص الشخص و تشخّص النفس،و اذ ليست هي متعلّقة فيه به بل متعلّقة ببدن مثاليّ هو غير البدن العنصريّ الأوّل،فلا تكون لها فيه ذلك التشخّص،و لا تلك القوى و المراتب البدنيّة، و لا الحواس و المشاعر البدنيّة،و لا الهيئات البدنيّة التي ادّعيت أن لها دخلا في تشخّص النفس و تميّزها.

فحينئذ يردّ عليك جميع ما أوردته من الإشكالات على تقدير القول بعود النفس في القيامة في ضمن بدن عنصريّ مغاير للبدن الأوّل سواء بسواء،و يجب عليك التفصّي من هذه الإشكالات،إمّا المصير إلى أنّ البدن العنصريّ الخاصّ الأوّل ليس له دخل في تشخّص النفس و تميّزها أصلا،و لا هو جزء للشخص الإنسانيّ،و أنّ المستحقّ لوصول الثواب و العقاب إليه هو النفس وحدها،و البدن لا مدخل له في ذلك،بل هو كالآلة كما قاله

ص:182

بعضهم،و هذا خلاف ما قرّرته و بنيت عليه إثبات المعاد الجسمانيّ،و أمّا المصير إلى أنّ محلّ الثواب و العقاب يجوز أن يكون غير محلّ الطّاعة و المعصية،و هذا أيضا-مع كونه خلاف ما ذكرته-باطل قطعا لكونه ظلما.و بالجملة،فما تقول في جواب هذا الشكّ؟و ما وجه التفصّي عنه؟

و أمّا بيان الجواب عن هذا الشكّ،فبأن يقال:إنّا نختار أنّ النفس في عالم البرزخ هي بعينها تلك النفس في النشأة الدنيويّة.و نقول:إنّ ما ذكرت من أنّه ينقطع فيه تعلّقها عن البدن الأوّل أصلا،إن اردت به انقطاع تعلّقها عنه من حيث مادّته و صورته البدنيّة جميعا، فذلك غير مسلّم،لأنّك قد عرفت فيما تلونا عليك في باب حدوث النفس بحدوث البدن، و كذا في باب مائيّة النفس،أنّ للنفس نوعين من التعلّق بالبدن:أحدهما من حيث الصورة البدنيّة،و الآخر من حيث المادّة،و أنّه بالموت و إن كان يزول تعلّقها به من الجهة الأولى، لكنّه لا يزول تعلّقها به من الجهة الثانيّة،و أنّه بذلك يظهر سرّ زيارة القبور و إجابة الدعوات في المقابر.

و إن أردت به انقطاع تعلّقها عنه من حيث الصورة البدنيّة فقط و بقاء تعلّقها به من حيث المادّة،و لا سيّما من حيث الأجزاء الأصليّة فذلك مسلّم،إلاّ أنّه لا يلزم منه زوال تشخّص النفس و تميّزها،لجواز أن يكون تشخّصها باقيا من جهة بقاء تلك الأجزاء الأصليّة و بقاء تعلّقها بها كما قرّرنا ذلك لك فيما تقدم،و أن يكون لها من حيث تعلّقها بتلك الأجزاء الأصليّة جميع المراتب و القوى و المشاعر و الحواسّ التي قلنا إنّ لها مدخلا في تمايز النفوس و خصوصيّاتها،من حيث إنّ تلك الأجزاء الأصليّة بعضها أجزاء للدماغ،و بعضها للأعضاء الرئيسة الأخر،مثل القلب و الكبد،و بعضها لجميع الأجزاء، فيجوز أن يكون لها من حيث التعلّق بكلّ جزء من تلك الأجزاء نوع مرتبة و نوع قوّة منوطة بذلك مرتبطة به،و أن يكون بذلك لم يزل تشخّص النفس،و لا بطل شيء من تلك المراتب و لا فات عنها شيء من تلك القوى،بل كانت هذه باقية على ما كانت أوّلا من حيث تعلّقها بالبدن صورة و مادّة،إلاّ أنّ النفس لمّا كانت بدنيّة تحتاج في أفعالها الجزئيّة و إدراكاتها الحسّيّة إلى بدن،و كان قد بطل بدنها الأوّل من حيث الصورة،و زال تعلّقها عنه

ص:183

من هذه الجهة،اقتضت الحكمة المتعالية الإلهيّة تعلّقها حينئذ ببدن مثاليّ يماثل البدن الأوّل في جميع الصفات و الحالات و القوى و المشاعر إلاّ ما شذّ منها،و يكون ذلك البدن المثاليّ ينوب مناب البدن الأوّل العنصريّ في كونه آلة و واسطة في صدور تلك الأفعال الجزئيّة و الإدراكات الحسّيّة عنها،و لا يكون في تعلّقها به لزوم محال كالتناسخ و نحوه، على ما عرفت بيانه سابقا،سواء قلنا بحدوث البدن المثاليّ بعد خراب البدن العنصريّ الأوّل كما هو الاحتمال فيحدث تعلّقها به حينئذ،أو قلنا بكونه موجودا معه في النشأة الدنيويّة أيضا،و هو الأظهر كما دلّ عليه بعض الشواهد المتقدّمة،فيظهر تعلّقها به و يغلب و يكثر.و بالجملة أن تصير متعلّقة به،و يكون لها في ضمنه تلك الأفعال و الآثار و الإدراكات،كما في ضمن البدن العنصريّ،فإنّك قد عرفت فيما تلوناه عليك سابقا أنّ للبدن المثاليّ جميع الحواس و المشاعر و القوى الحيوانيّة،و أنّ للنفس في ضمنه جميع تلك القوى مضافا إلى القوّة العقليّة التي هي لها بذاتها.

نعم،القوة النباتية و إن لم تكن لها في ضمنه،إلاّ أنّ ذلك لعدم قبول المادّة المثاليّة لتلك القوّة،حيث إنّ التّنمية و التّغذية و التّوليد التي هي من لوازم القوّة النباتيّة،إنّما هي من خواصّ المادّة الجسمانيّة العنصريّة لا غير،فكان النقص من جهة القابل لا الفاعل.

و بالجملة،لا يلزم من تعلّقها ببدن مثاليّ مع التّعلّق بتلك الأجزاء الأصليّة زوال تشخّص النّفس و لا بطلان قواها و مراتبها،فلا إشكال.

فإن قلت:كيف يكون الشيء الواحد في زمان واحد متعلّقا بأمرين مختلفين؟

قلت:لا محذور في ذلك فيما نحن فيه،فإنّك قد ظهر لك فيما مرّ أنّ تعلّق النفس الإنسانيّة التي هي ذات مجرّدة عن المادّة في ذاتها بأمر من الأمور و بمادّة من المواد، ليس على سبيل الانطباع في المادّة،حتّى لا يمكن تعلّقها بأكثر من مادّة،بل على سبيل التصرّف و التدبير،و تعلّقها كذلك يجوز بأكثر من واحد،و مع ذلك فالبدن المثاليّ ظلّ و شبح للبدن العنصريّ موجود بالعرض لوجوده،بل لوجود أجزائه الأصليّة،فهو ليس بمنفصل الذات و مباين القوام عن البدن العنصريّ،حتّى لا يجوز تعلّقها به مع التعلّق بالبدن العنصريّ أو بأجزائه الأصليّة.و يرد عليه ما يرد على تقدير تعلّقها ببدنين مختلفين،

ص:184

فحينئذ يجوز تعلّقها بمادّة بدنيّة عنصريّة،و ببدن مثاليّ واحد أو اكثر في زمان واحد،كما دلّ عليه الشرع،و لا امتناع فيه عقلا أيضا.

فإن قلت:على ما ذكرت،و إن لم يلزم بطلان تشخّص النفس و لا فوات شيء من قواها و مراتبها البدنيّة،إلاّ أنّه يلزم منه انعدام ذلك الشخص الإنسانيّ الذي ذكرت أنّه عبارة عن مجموع النفس الخاصّة و البدن المخصوص،فإنّه لا سترة أنّه بانعدام التأليف البدنيّ و الهيئة البدنيّة و زوال صورة البدن رأسا ينعدم البدن و لا يبقى البدن بدنا من حيث هو بدن كما اعترفت سابقا،و إن كان يبقى أجزاؤه الأصليّة أو مادّته.و قد اعترفت أيضا أنّ ما هو جزء للشخص الإنسانيّ هو البدن الخاصّ من حيث صورته و مادّته جميعا،فحيث كان ذلك منعدما كان الشخص الإنساني الذي هو جزؤه منعدما أيضا لانعدام الكلّ بانعدام الجزء،و لا يجدي في بقائه بقاء الجزء الآخر أعني النفس،فإذا كان الشخص الإنسانيّ منعدما،فكيف يكون نفسه وحدها موردة للثواب و العقاب الحسّيّين في عالم البرزخ؟مع أنّ الحكمة-كما اعترفت به أيضا-تقتضي أن يكون مورد الثواب و العقاب هو ذلك الشخص الإنسانيّ بعينه بكلا جزئيه لا أحد جزئيه وحده،و هل هذا إلاّ القول بكون مورد الثواب و العقاب هو النفس وحدها و كون البدن آلة لها،كما قال به بعضهم،و هل هذا إلاّ نقض بنيان ما أصّلته لإثبات المعاد الجسمانيّ؟

قلت:سلّمنا أنّ ذلك الشخص الإنسانيّ العنصريّ اللحميّ العظميّ الرباطيّ ينعدم حينئذ بانعدام بدنه بهيئته،لكنّا لا نسلّم انعدام الشخص الإنسانيّ رأسا حينئذ،لأنّك قد عرفت ممّا قدّمناه لك،أن البدن المثاليّ ظلّ و شبح للبدن العنصريّ و موجود بالعرض لوجود العنصريّ،بل لوجود أجزائه الأصليّة،أي أنّه بوجود البدن العنصريّ و أجزائه الأصليّة بالذات،و المثاليّ يوجد بالعرض،كوجود لوازم الماهيّات تبعا للماهيّات.و أنّ تعلق النفس بالبدن العنصريّ و بالمثاليّ تعلّق واحد،إلاّ أنّ تعلّقها بالعنصريّ بالذات و بالمثاليّ بالعرض.و أنّه كما يجوز أن يبقى تعلّق النفس بالأجزاء الأصليّة من البدن العنصريّ تعلّقا بالذات،يجوز أن يبقى تعلّقها بالبدن المثاليّ الذي لا يفسد،و هو ظلّها و شبحها و موجود بتبعيّتها تعلّقا بالعرض.

ص:185

فحينئذ نقول:إنّ الشخص الإنسانيّ و إن كان في الظاهر عبارة عن النفس الخاصّة و البدن الخاصّ العنصريّ اللحميّ العظميّ الرباطيّ،لكنّه في الباطن و عند النّظر الدّقيق عبارة عن النفس الخاصّة المتعلّقة ببدن عنصريّ يتبعه بدن مثاليّ هو ظلّ و شبح له و موجود بوجوده،فحينئذ إن اعتبرت النفس الإنسانيّة مع البدن الخاصّ العنصريّ وحده، يلاحظ هناك شخص إنسانيّ لحميّ عظميّ.و إن اعتبرتها مع البدن المثاليّ وحده يلاحظ هنا شخص آخر مثاليّ إلاّ أنّ الشخصين لا تغاير بينهما بالحقيقة،و لا انفصال بينهما بالذات،إذ النّفس المتعلّقة بالبدنين واحدة بالشخص،و كذا تعلّقها بهما تعلّق واحد، و البدن المثاليّ ظلّ و شبح للعنصريّ،و تعلّق النفس به غير منفرد عن التعلّق بالبدن العنصريّ أو بأجزائه الأصليّة،بل في ضمنه و بتبعيّته،فأين الاختلاف بالحقيقة؟

بل إنّما هو بمجرّد الاعتبار،فإنّ أحد البدنين ظلّ و شبح،و الآخر ذو ظلّ و ذو شبح.

فعلى هذا فالشّخصان واحد بالحقيقة،و الشخص الإنسانيّ في الظاهر إنسان لحميّ عظميّ رباطيّ يتطرّق إليه باعتبار بدنه فناء و زوال،و في الباطن إنسان مثاليّ،لا يتطرّق إليه ذلك.

و كأنّ هذا معنى قول بعض أساطين الحكمة:«إنّ في باطن كلّ إنسان و في أهابه حيوانا إنسانيّا بجميع أعضائه و حواسّه و قواه،و هو موجود الآن،و لا يموت بموت البدن العنصريّ اللحميّ». (1)

و بالجملة،فكلّ من الشخصين عين الآخر باعتبار،و إن كان غيره باعتبار آخر،و كما أنّه في حال بقاء الهيئة التركيبيّة البدنيّة،و تعلّق النفس بالبدن العنصريّ بهيئته بالذات و بالمثاليّ بالعرض،يجوز أن يغلب تعلّقها بالبدن المثاليّ و ينفرد الشخص الإنسانيّ المثاليّ بأفعال و خواصّ و إدراكات كما في المنام بالنسبة إلى الكلّ و في التيقّظ أيضا بالنسبة إلى بعض النفوس الفاضلة الكاملة،حيث عرفت فيما حقّقناه لك في مبحث تحقيق عالم المثال،أنّ ما يراه الشخص الإنسانيّ من الرؤيا في المنام إنّما هو من جنس عالم المثال،و ليس من مخترعات الخيال و المتخيّلة،و إنّ مدرك ذلك إنّما هو النّفس

ص:186


1- -القائل هو صدر المتألّهين في كتابه الشواهد الربوبيّة288/. [1]

الإنسانيّة بتوسّط آلاته و قواه المثاليّة لا بالذّات من غير توسّط آلة و قوّة،حيث إنّ النّفس لا تدرك الجزئيّات المحسوسة المادّيّة بذاتها من غير توسّط القوى و الآلات.

و بالجملة،أنّ المدرك لتلك الرؤيا التي هي أمور مثاليّة هو النفس بتوسّط القوى و الآلات المثاليّة،و في ضمن البدن المثاليّ أي الشخص الإنسانيّ المثاليّ.و مع ذلك يحكم العقل حكما صريحا غير مشوب بريبة،أنّ المدرك لذلك هو بعينه الشخص الإنسانيّ الذي هو عبارة عن النفس الإنسانيّة المتعلّقة ببدن عنصريّ لا شخص آخر غيره،كما أنّه في حال اليقظة أيضا إذا انفرد البدن المثاليّ و الشخص المثاليّ بأفعال و خواصّ،يكون الحال كذلك و يعلم ذلك بالمقايسة.كذلك يجوز أن يكون في حال خراب الهيئة التركيبيّة البدنيّة،و بقاء الأجزاء الأصليّة من البدن،و غلبة تعلّق النفس بالبدن المثاليّ الذي هو موجود بالعرض بوجود الأجزاء الأصليّة و باق ببقائه-كما في عالم البرزخ-ينفرد الشخص الإنسانيّ المثاليّ،أي النّفس في ضمن البدن المثاليّ و بتوسّط القوى و الآلات المثالية بإدراك واردات عليه من المدركات الجزئيّة الحسّيّة الملذّة أو المؤلمة كما نطق به الشرع،و أن يكون هذا الشخص بعينه هو الشخص الإنسانيّ الذي صدر عنه الخيرات أو الشرور في النشأة الدنيويّة بلا مغايرة بينهما ذاتا و حقيقة،بل إنّه يحكم به العقل أيضا كما في الصورة الأولى.و كأنّ الحكمة المتعالية الإلهيّة اقتضت أن يكون الشخص الإنسانيّ الذي قلنا إنّه عبارة عن النفس الإنسانيّة المتعلّقة ببدن مخصوص عنصريّ،يتبعه بدن مثاليّ موجود بوجوده تعلّقا واحدا،و صدر عنه في النشأة الدنيويّة التي هي دار التكليف خيرات أو شرور مجزيّا بأعماله و أفعاله إمّا مثابا أو معاقبا بعد قطع تعلّق نفسه عن بدنه العنصريّ بهيئته و خراب بدنه ذلك،بأن يكون في النشأة البرزخيّة المتوسّطة مجزيّا في الأكثر في ضمن البدن المثاليّ بالثواب أو العقاب الحسّيّين المثاليّين،مضافا إلى ما يكون لنفسه من السّعادة و الشّقاوة العقليّتين،و كذا مضافا إلى ما يكون لذلك الشخص من الثواب أو العقاب الحسّيّين في ضمن البدن العنصريّ أيضا إذا لم يبطل تركيبه،أو بطل أيضا و ذلك كما في الضغطة و المساءلة،حيث إنّه قد دلّ الشّرع كما ذكرناه سابقا على أنّه في الحالتين بعد تعلّق النفس بإذن اللّه تعالى بذلك البدن العنصريّ بهيئته مرّة أخرى تعلّقا

ص:187

ما بقدر زمان الضغطة و المساءلة بعد قطع تعلّقها عنه،سواء كان ذلك البدن العنصريّ قد بقي بهيئته و لم يزل بعد هيئة التركيبيّة،أو زالت و تفرّقت أجزاؤه ثمّ أعيدت بإذن اللّه تعالى بتلك الهيئة في ذلك.

و بالجملة،يجوز أن يكون قد اقتضت الحكمة المتعالية المقدّسة،جزاء الشخص الإنسانيّ المثاليّ في عالم البرزخ بأنواع المثوبات أو العقوبات المثاليّة البرزخيّة كما ورد به الشرع،ثمّ إنّه إذا حان بمشيّة اللّه تعالى وقت المعاد و يوم نفخ الصور،أي (1)أن يجزيه اللّه تعالى في ضمن بدنه العنصريّ،يثيبه أو يعاقبه بالثواب أو العقاب الحسيّين الماديّين الجسمانيّين الأخرويّين اللذين لا يكونان للشخص الإنسانيّ إلاّ في ضمن البدن العنصريّ الجسمانيّ المادّيّ الأخرويّ،يكون هناك المعاد على النهج الذي قرّرناه و أقمنا الدليل العقليّ عليه،كما نطق به الشرع أيضا،و يكون لذلك الشخص ثواب و عقاب حسّيّان ماديّان مضافا إلى الثواب و العقاب العقليّين،سواء قلنا بأنّه مع عود البدن الأصليّ العنصريّ في النشأة الأخرويّة و عود تعلّق النّفس به بهيئته،يكون معه البدن المثاليّ أيضا، حيث إنّه ظلّ و شبح للبدن العنصريّ،و الظلّ لا ينفكّ عن ذي الظلّ،و لا دليل أيضا على فنائه،أو قلنا بأنّ البدن المثاليّ لا يكون هناك،بل ينعدم لأسباب لا نعلمها.

و الحاصل،أنّه يجوز أن يكون قد اقتضت الحكمة الإلهيّة ما فصّلنا،و أن يكون الشخص الإنسانيّ في الحالات كلّها و في النشئات الثلاث بأجمعها-أي النشأة الدنيويّة و البرزخيّة و الأخرويّة-واحدا بالحقيقة و الذات نفسا و بدنا،و إن كان يعرض له في تلك النشئات أمور و حالات لا دخل لها في تشخّصه،و لا ينافي تبدّلها و تغيّرها لتميّزه و تخصّصه الذاتيّين،و إن كان لها مدخل في تغايره الاعتباريّ،و كأنّه يشير إلى هذه الجملة قوله تعالى:

وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ* فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ

ص:188


1- -الظاهر زيادة كلمة«أي».

خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ* تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النّارُ وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ)) (1).

و إذا عرفت ذلك و تحقّقته حقّ التحقّق،علمت أنّه لا إشكال هنا،لا لزوم نقض بنيان ما أصّلناه لإثبات المعاد الجسمانيّ،و لا لزوم محال آخر،و لا أظنّك في مرية من ذلك إن كنت مستبصرا طالبا بطريق السّداد و منهج الرشاد،و هذا الذي ذكرناه في هذا المطلب بطوله،إنّما هو بيان إثبات أصل المعاد الجسمانيّ لوقوع الثواب أو العقاب الحسّيّين، و إقامة الدّليل العقليّ عليه كما نطق به الشّرع.

و أمّا بيان تفاصيل الثّواب و العقاب الحسّيّين الجسمانيّين أو المثاليّين في عالم الآخرة و في عالم البرزخ،و بيان وقوعهما على كيفيّات مخصوصة،و كذا بيان تفاصيل الأمور الحسّيّة الواقعة في النشأتين،فموكول إلى الشرع الشريف إذ ذاك مبيّن فيه مفصّلا.

و ليكن هذا آخر كلامنا في هذا المطلب الأسنى الذي نحن بصدده في هذا الباب،بل هو غرضنا الأصليّ من وضع هذا الكتاب،و علمت أنّه اعترفت جماهير العلماء بالعجز عن إقامة الدليل العقليّ عليه،معلّلين بأنّه لا استقلال للعقل فيه.و كذلك هذا البيان الذي ذكرناه و بيّناه بهذا التفصيل،و لا سيّما في بيان الأمر الثالث،إنّما هو بقدر فهمنا القاصر، و المظنون أنّه لم يسبقنا أحد فيه،و إن وافقنا كثير من العلماء في كثير ممّا ذكرناه في بيان الأمور الأوّلة،فإن أصبنا في ذلك فلنحمد اللّه عزّ و جلّ على توفيقنا له،و إن أخطأنا فيه فلنسأل اللّه تعالى العفو عن خطيئاتنا،إنّه وليّ ذلك.

دقيقة

و هاهنا دقيقة سبقت منا إشارة ما إليها و هي أنّ ما اعترف به جمهور العلماء بالعجز عنه،و بعدم استقلال العقل فيه،إن كان مرادهم به العجز عن إقامة الدّليل العقليّ على أصل المعاد الجسمانيّ و أصل وقوع الثّواب أو العقاب الحسّيّين كما نطق به الشرع،فقد عرفت أنّه ليس كذلك،و إن كان مرادهم به العجز عن إقامة الدليل العقليّ على وقوع الثواب

ص:189


1- -المؤمنون(23):100-104. [1]

و العقاب الحسّيّين الجسمانيّين أو المثاليّين على كيفيّات مخصوصة نطق بها الشّرع،فله وجه.و اللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال،و إليه المعاد و المآل.

تذنيب في حشر غير الإنسان

قد ورد في الشرع آيات و أخبار في حشر غير الإنسان؛أمّا في شأن الجنّ و الشّياطين فكقوله تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً)) (1)

يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ)) (2)

و قوله تعالى: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ)) (3)الآية.

و قوله تعالى: وَ لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ)) (4).

و قوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ الشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا)) (5)

و أمّا في شأن بعض الحيوانات غير الإنسان

فكقوله تعالى: وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ)) (6)

و أمّا في شأن كلّها

كقوله تعالى: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)) (7)

و قوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَ هُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ)) (8).

ص:190


1- -الأنعام(6):22؛ [1]يونس(10):28. [2]
2- -الأنعام(6):128. [3]
3- -الأعراف(7):179. [4]
4- -الصافّات(37):158. [5]
5- -مريم(19):68. [6]
6- -التكوير(81):5. [7]
7- -الأنعام(6):38. [8]
8- -الشورى(42):29. [9]

و أمّا في شأن ما جعله المشركون شركاء للّه تعالى، اُحْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْواجَهُمْ وَ ما كانُوا يَعْبُدُونَ* مِنْ دُونِ اللّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ* وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ)) (1).

و قوله تعالى: وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَ هؤُلاءِ إِيّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ* قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ)) . (2)

و قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ* لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَ كُلٌّ فِيها خالِدُونَ)) (3).

و أمّا في شأن جميع من في السموات و من في الأرض،حتّى الملائكة

فكقوله تعالى: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ* وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَ وُضِعَ الْكِتابُ وَ جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ* وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ)) (4).

و أمّا في شأن الخلق أجمع

فكقوله تعالى: اَللّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) (5).

و قوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) (6)

و قوله تعالى: أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ)) (7).

و قوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ

ص:191


1- -الصافّات(37):22-24. [1]
2- -سبأ(34):40 و 41. [2]
3- -الأنبياء(21):98 و 99. [3]
4- -الزمر(39):68-70. [4]
5- -الروم(30):11. [5]
6- -الروم(30):27. [6]
7- -العنكبوت(29):19. [7]

إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) (1)

و قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) (2)

إلى غير ذلك من الآيات و الأخبار،فلنتكلّم في ذلك.

فنقول:أمّا ما ورد في حشر الشّياطين و الجنّ،لو حملناه على ظاهره كما حمله عليه العلماء من أهل الإسلام،فيمكن بيان حشرهم كما بيّنّاه في حشر الإنسان سواء بسواء،إذ قلنا إنّ لهم أيضا نفوسا مجرّدة و أبدانا عنصريّة،و إن كانت ناريّة كما هو ظاهر الشّرع، و إنّهم أيضا إذا طرأ عليهم الموت تبقى نفوسهم المجرّدة و كذا الأجزاء الأصليّة من أبدانهم الناريّة،و إنّهم حين المعاد يعود تعلّق نفوسهم مرّة أخرى بأبدانهم بعد جمع أجزائها و إعادة تأليفها كهيئته الأولى كرّة بعد أولى،و يكون الحكمة في حشرهم إيصال جزاء أعمالهم إليهم كما في الإنسان.

و أمّا ما ورد في حشر الحيوانات غير الانسان،فهو كأنّه مختلف فيه بين العلماء، حيث لا يظهر منهم إطباقهم عليه،بل قد صرّح بعضهم-كصدر الأفاضل في شواهد الربوبيّة-«بأنّه قد وقع الاختلاف في حشر نفوس الحيوانات في القيامة،و بأنّ الروايات مختلفة في ذلك» (3).

و كذلك ما رأينا من كلام المفسّرين في تفسير الآيات الواردة في ذلك يدلّ على اختلافهم فيه،و إن كان الأكثرون منهم قد حملوها على ظاهرها.

قال الشيخ الطبرسيّ رحمه اللّه في«الجوامع»في تفسير قوله تعالى: وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ)) (4)،هكذا:«و اذا الوحوش جمعت حتّى يقتصّ بعضها من بعض،و يوصل إليها ما استحقّته من الأعواض على الآلام التي نالتها في الدنيا.و عن ابن عباس حشرها موتها.

ص:192


1- -العنكبوت(29):20. [1]
2- -القصص(28):88. [2]
3- -الشواهد الربوبية332/. [3]
4- -التكوير(81):5. [4]

و قال في تفسير قوله تعالى: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) (1)الآية،في قوله تعالى: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (2):يعني الأمم كلّها فيعوّضها و ينتصف لبعضها من بعض،و فيه دلالة على عظم قدرته و لطف تدبيره في الخلائق المختلفة الأجناس،و حفظه لما لها و عليها،و أنّ المكلّفين لم يختصّوا بذلك دون من سواهم.

و قال في تفسير قوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَ هُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) (3)،في قوله تعالى:«و ما بثّ فيهما من دابّة»:و ما بثّ،يجوز أن يكون مجرورا و مرفوعا عطفا على المضاف أو المضاف إليه،و قال:فيهما أي و الحال أنّ الدّواب في الأرض لا في السماء،لأنّ الشيء يجوز أن ينسب إلى جميع المذكور و إن كان ملتبسا ببعضه،كقوله: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ) (4)و إنّما يخرج من الملح.و يجوز أن يكون للملائكة مشي مع الطيران،فيوصفون بالدّبيب كما يوصف له الإنسان،و لا يبعد أن يكون في السموات من يمشي فيها كما يمشي الأناسيّ في الأرض».هذا كلامه (5).

و هو لم يتعرّض فيه لتفسير قوله تعالى وَ هُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) ؛و يفهم منه أنّه حمل الجمع على معناه الظاهر المتبادر،أي الحشر،إلاّ أنّه كما يفهم منه في تفسير قوله «فيهما»بالتّفاسير الثّلاثة قد أرجع ضمير الجمع في قوله«جمعهم»،إلى دوابّ الأرض وحدها على التّفسير الأوّل،و إلى دوابّ الأرض و السماء جميعا على التّفسيرين الأخيرين،و أنّه على كلّ تقدير،فالجمع محمول على معنى الحشر.

و مثله كلام صاحب«الكشّاف».قال في تفسير الآية الأولى هكذا:«حشرت، جمعت من كلّ ناحية»،قال قتادة:يحشر كلّ شيء حتّى الذباب للقصاص.و قيل إذا قضي بينها ردّت ترابا فلا يبقى منها إلاّ ما فيه سرور لبني آدم و إعجاب بصورته كالطّاوس

ص:193


1- -الأنعام(6):38. [1]
2- -نفس الآية.
3- -الشورى(42):29. [2]
4- -الرحمن(55):22. [3]
5- -جوامع الجامع531/-125-430.

و نحوه.و عن ابن عبّاس:حشرها موتها.يقال إذا أجحفت السّنة بالناس و أموالهم:

حشرتهم السّنة.و في تفسير الآية الثانيّة هكذا،ثمّ إلى ربّهم يحشرون يعني الأمم كلّها من الدوابّ و الطير،فيعوّضها و ينصف بعضها،كما روي أنّه يأخذ للجمّاء من القرناء.

ثمّ قال:فإن قلت:فما الغرض من ذلك؟قلت:الدلالة على عظم قدرته و لطف علمه وسعة سلطانه و تدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس،المتكاثرة الأصناف،و هو حافظ لما لها و عليها،مهيمن على أحوالها،لا يشغله شأن عن شأن،و إنّ المكلّفين ليسوا المخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان» (1)و في تفسير الآية الثالثة مثل ما نقلناه عن الشيخ الطبرسيّ رحمه اللّه فيه.

و قال البيضاويّ فيما رأيناه من تفسيره،في تفسير قوله تعالى: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) في الآية الثانيّة:«يعني الأمم كلّها،فينصف بعضها عن بعض،كما روي أنّه يأخذ للجمّاء من القرناء.و عن ابن عبّاس:حشرها موتها». (2)

و قال محيي السنّة صاحب معالم التنزيل فيما رأيناه من تفسيره،في تفسير قوله تعالى: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) :في هذه الآية أيضا هكذا:قال ابن عبّاس و الضحّاك، حشرها موتها.قال أبو هريرة:يحشر اللّه الخلق كلّهم يوم القيامة،البهائم و الدوابّ و الطير و كلّ شيء،فيأخذ للجمّاء من القرناء،ثمّ يقول كوني ترابا،فحينئذ يتمنّى الكافر و يقول الكافر:يا ليتني كنت ترابا.ثمّ روى عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،قال:لتؤدّون الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتّى للشاة الجلحاء-أي الجمّاء-من القرناء،انتهى».

و قد ذكر صدر الأفاضل في«شواهد الربوبيّة»كلاما يفهم منه تفسير قوله تعالى:

وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) بأنّ المعنى حشر بعض النفوس النّاقصة الإنسانيّة على صور الوحوش التي غلبت صفات تلك الوحوش على تلك النفوس،بأن يحشروا على تلك الصور،أو حشر تلك النّفوس في الآخرة بحيث تكون قرناءهم في الآخرة تلك الصور الوحوشيّة،حيث قال:إنّ حشر كلّ أحد إلى غاية سعيه و عمله و ما يحبّه،حتّى أنّه لو أحبّ

ص:194


1- -تفسير الكشّاف 222/4. [1]
2- -تفسير البيضاويّ 187/1،ط بيروت. [2]

أحدكم حجرا لحشر معه،فإنّ تكرّر الأفاعيل يوجب حدوث الملكات،فلكلّ ملكة تغلب على الإنسان في الدنيا متصوّر في الآخرة بصورة تناسبها، قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) . (1)و لا شكّ أن أفاعيل الأشقياء المدبرين إنّما هي بحسب هممهم القاصرة النازلة في مراتب البرازخ الحيوانيّة،و تصوّراتهم مقصورة على أغراض بهيميّة أو سبعيّة تغلب على نفوسهم،فلا جرم يحشرون على صور تلك الحيوانات في القيامة،كقوله: وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) (2).و في الحديث:يحشر بعض الناس على صورة تحسّ(تحسن)عندها القردة و الخنازير».انتهى (3)

و يوافقه في التفسير بالمعنى الأوّل كلام المحقّق الطوسيّ رحمه اللّه في رسالة منسوبة إليه.

و حيث عرفت ذلك،فنقول:لو حمل تلك الآيات الواردة في ذلك على أنّ المراد بحشر تلك الحيوانات موتها-كما هو المنقول عن ابن عبّاس و الضحّاك-أو على ما يفهم من كلام صدر الأفاضل.

و بالجملة،لو حملت على غير معناها الظاهر،فهو كلام آخر،و إن حملت على ظاهرها كما حملها عليه الأكثرون،فحينئذ إن كانت الحكمة في حشرها و بعثها أمرا لا نعلمه أصلا،أو حكمة و مصلحة عائدة إلى بني آدم كلّهم أو بعضهم،من نوع سرور و إعجاب أو اعتبار أو نحو ذلك،فهذا أيضا كلام آخر.

و إن كانت الحكمة في ذلك هي المجازاة كما ذكره المفسّرون،فهذا لا يخلو عن إشكال بحسب فهمنا القاصر،إذ المجازاة-كما دلّ عليه العقل و النقل-إنّما تكون لمن كان مكلّفا بالتّكاليف،و تلك الحيوانات ليس فيها ما هو مناط التكليف،و إلاّ لوقع عليهم تكليف في النشأة الدنيويّة،و ليس كذلك.اللّهمّ إلاّ أن يلتزم أنّها و إن كان ليس فيها ما هو مناط التكليف بكلّ التكاليف الشرعيّة و العقليّة،لكنّ فيها ما هو مناط بعض التكاليف، مثل التّكليف بعدم إيصال الأذى إلى غيرها من الإنسان و الحيوانات،بأن تكون لها نفس

ص:195


1- -الإسراء(17):84. [1]
2- -التكوير(81):5. [2]
3- -الشواهد الربوبيّة288/. [3]

مجرّدة أيضا نوع تجرّد مدركة لذلك،و إن كان تجرّدها أدون من تجرّد النفس الإنسانيّة بمراتب كثيرة كما عرفت فيما سبق أنّ بعضا من الدلائل التي أقامها القوم على التجرّد مشترك بين الإنسان و سائر الحيوانات،و أنّه يظهر من بعضهم القول باختلاف مراتب التجرّد،و أن أدناها موجود لتلك النّفوس الحيوانيّة،أو بأن لا تكون لها نفس مجرّدة أصلا، لكن كانت الرّوح الحيوانيّة التي تكون لكلّ حيوان مدركة لذلك.و على التّقديرين فإذا عصت تلك الحيوانات و آذت غيرها في النّشأة الدّنيويّة،اقتضت الحكمة الإلهيّة أن تقع عليها مجازاة في النّشأة الأخرويّة،فيؤخذ مثلا للجمّاء من القرناء.

و كيفما كان،فإن قلنا بأن لها نفسا مجرّدة باقية بعد خراب أبدانها،و كذا لأبدانها أجزاء أصليّة باقية،فالكلام في معادها و حشرها كالكلام في معاد الإنسان و حشره سواء بسواء.

و كذلك لو لم نقل بكون النفس المجرّدة الباقية لها،و قلنا بكون الرّوح الحيوانيّة لها التي قلنا إنّها جسم لطيف رقيق يبقى بعد خراب البدن مع البدن مع بقاء الأجزاء الأصليّة من أبدانها، فالأمر ظاهر أيضا،إذ لا امتناع في أن يعود تعلّق تلك الرّوح الحيوانيّة مرّة أخرى بذلك البدن بعد جمع أجزائه على مثل هيئته الأولى،و يعود ذلك الشخص الحيوانيّ كما كان، و يكون عين الأوّل كما قلنا في الإنسان.

و على التقديرين،فإن قلنا ببقاء تلك الحيوانات بعد عودها في دار الآخرة،كما هو ظاهر إطلاق كلام بعض المفسّرين فلا كلام.و إن قلنا بفنائها كلّها بعد ذلك كما هو ظاهر ما نقله محيي السنّة عن أبي هريرة،فلا إشكال،إذ لا امتناع في أن ينقطع بمشيّة اللّه تعالى تعلّق نفوسها المجرّدة نوع تجرّد أو أرواحها الحيوانيّة عن أبدانها مرّة أخرى و تتلاشى أبدانها و تصير ترابا فتفنى بذلك تلك الأشخاص الحيوانيّة.و كذا لا امتناع في أن يكون الوجه في فنائها بعد ذلك انتفاء الحكمة في عودها.

و الحاصل أنّه لمّا كانت الحكمة في عودها وقوع المجازاة عليها من جهة إيذاء بعضها لبعض مثلا،و هي تكون في زمان ما،فإذا وقعت المجازاة،و الحال أنّه ليس لتلك الحيوانات أفعال حسنة أو سيّئة تبقى هي بعد ذلك لأجل وقوع المجازاة عليها من هذه الجهة،و وقوع الثّواب أو العقاب بسبب ذلك،و قلنا إنّه ليس هنا مصلحة أخرى لبقائها،

ص:196

كانت الحكمة المتعالية مقتضية لفنائها لعدم حكمة في بقائها،و بذلك يمكن تأويل ما هو المنقول عن ابن عبّاس و الضّحاك من أن حشرها موتها،إذا حمل الحشر على معناه الظاهر أيضا،أي أنّ حشرها يكون فى زمان ما يكون المجازاة فيه ثمّ تنعدم هى و تموت بلا فصل، كان زمان حشرها هو زمان موتها.و إن قلنا بفناء بعضها و بقاء بعض آخر ممّا فيه سرور أو إعجاب لبني آدم،كما نقله صاحب الكشّاف عن بعضهم،فلا إشكال أيضا،إذ حينئذ يكون السبب في البقاء و الفناء و الوجه فيهما كما ذكرنا،حيث إنّ بقاء تعلّق نفوس بعضها أو أرواحها الحيوانيّة بأبدانها،و كذا انقطاع تعلّق بعضها عنها أمر ممكن،و كذلك اقتضاء الحكمة المتعالية لبقاء ما فيه بعد ذلك حكمة لبني آدم من سرور و إعجاب،و لفناء ما لا حكمة فيه بعد ذلك أمر ظاهر.و اللّه أعلم بالصّواب،و إليه المرجع و المآب.

و أمّا ما ورد في حشر شركاء اللّه تعالى،فهو إذا حملناه على ظاهره كما حمله عليه العلماء و المفسّرون و أريد بالشّركاء الجنّ و الشياطين،فالكلام في حشرهم كما تقدّم.و إن أريد بذلك الأصنام التي كانوا يعبدونها،فمعنى حشرها-و اللّه أعلم-إعادة الصور التركيبيّة مرّة أخرى إليها،أي إلى موادّها الجسمانيّة،و لا سيّما أجزائها الأصليّة إذا تفرّقت، أي جمع أجزائها الماديّة،ثمّ إعادة صورة تركيبيّة إليها مثل الأولى،فإنّه حينئذ يكون تلك الأجسام عين الأولى بحسب المادّة و إن كانت غيرها بحسب الصورة،و لا امتناع فيه،كما لا امتناع في إنطاقها،حتّى تجيب عمّا سئلت هي عنه،و هو من جملة المصالح في حشرها،حيث إنّ فيه إلزاما على الذين يعبدونها.

و بالجملة،فإنّ ذلك أمر ممكن في ذاته،و نسبة القادر المطلق إلى كلّ ممكن كذلك على السّواء.

و أمّا ما ورد في شأن الملائكة،فهو أيضا إذا حملناه على ظاهره،كما حمله عليه العلماء،و قلنا بطروء الموت عليهم،فوجه ذلك فيهم أيضا ظاهر،إذا قلنا بأنّ لهم نفوسا مجرّدة شريفة و أبدانا هي أجسام لطيفة نورانيّة،كما هو ظاهر الشّرع،حيث إنّه كما أنّ حياتهم يكون بتعلّق تلك النفوس و الأرواح المقدّسة بتلك الأبدان النورانيّة تعلّق التدبير و التصرّف،كذلك يكون موتهم عبارة عن قطع تعلّقها عنها،سواء قلنا بفناء تلك الأبدان

ص:197

حينئذ-أي بتفرّق أجزائها و تشتّتها-أم قلنا ببقائها على حالها كما كانت من غير تغيّر فيها مادّة و صورة،و كما أنّه لا امتناع في ذلك،كذلك لا امتناع في حشرهم أي إعادتهم مرّة أخرى بإعادة تعلّق تلك النفوس الشريفة بتلك الأبدان النورانيّة كرّة بعد أولى،و أن يكون في حشرهم حكم و مصالح لا يعلمها إلاّ خالقهم و مدبّرهم تعالى شأنه.

و من جملتها-كما دلّ عليه الأخبار-حكمة و مصلحة عائدة إلى الإنسان،بل إلى عباد اللّه المكرمين أجمعين،كما كان في خلقهم أوّلا تلك الحكمة و المصلحة العائدة إليهم.

و لا بعد أيضا في أن يكون في إعادتهم حصول زيادة بهجة و سعادة عقليّتين لهم كما كانتا في النشأة الدنيويّة و كانوا مستغرقين فيهما.

و ممّا ذكرنا يظهر الوجه في حشر الخلق أجمعين.و اللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال، و إليه المرجع و المآل.

و إذ قد فرغنا بعون اللّه تعالى و حسن تأييده عن ذكر ما رمنا ذكره في مقدّمة الرسالة و أبوابها الخمسة،فلنشرع في بيان ما نروم بيانه في خاتمتها،فنقول:

ص:198

الخاتمة

اشارة

ففيها مطالب

ص:199

ص:200

المطلب الأوّل

في الإشارة إلى دفع شبهات المنكرين للمعاد الجسمانيّ

اعلم أنّ لهم شبها دعتهم إلى إنكاره.

منها-أنّه يلزم منه إعادة المعدوم،و هي ممتنعة.

و هذه الشّبهة قد مرّت الإشارة إليها في المقدّمة و إلى جوابها فيها،و كذا في هذا الباب الخامس،إذ قد عرفت أن ليس في المعاد الجسمانيّ-على ما قررناه-إعادة معدوم بعينه من جهة ما هو معدوم بعينه حتّى تكون ممتنعة،و لا يحتاج في الجواب عنها إلى تجويز إعادة المعدوم كما جوّزها المتكلّمون،حتّى يكون مخالفا لما اقتضاه العقل.

و منها-أنّه يلزم منه مفسدة التناسخ.

و هذه الشبهة أيضا قد مرّت الإشارة إليها فيما تقدّم،و خصوصا في هذا الباب الخامس مع الجواب عنها،إذ قد عرفت أنّه ليس يلزم منه على الوجه الذي قرّرناه مفسدة التناسخ المحال،فتذكّر.

و منها-أنّ الإعادة لا لغرض عبث لا يليق بالحكيم،و الغرض إن كان عائدا إليه كان نقصا له،فيجب تنزيهه عنه،و إن كان عائدا إلى العبد،فهو إن كان إيلامه فهو غير لائق بالحكيم الجواد،و إن كان إيصال لذّة،فاللّذّات-سيّما الحسّيّات-إنّما هي دفع آلام،كما بيّنه الحكماء و الأطبّاء في كتبهم،فيلزم أن يؤلمه أوّلا حتّى يوصل إليه لذّة حسّيّة،فهل يليق هذا بالحكيم؟مثل من يقطع عضو أحد،ثمّ يضع عليه المراهم ليلتذّ به.

و هذا الشبهة أيضا قد مرّت الإشارة إليها في الباب الرابع مع الجواب عنها مفصّلا، فتذكّر.

ص:201

و منها-أنّه إذا صار مثلا إنسان معيّن غذاء بتمامه لإنسان آخر،و المحشور لا يكون إلاّ واحد منهما.ثمّ إن كان الآكل كافرا و المأكول مؤمنا،يلزم إمّا تعذيب المطيع و تنعيم العاصي و هو ظلم،أو كون الآكل معذّبا و المأكول منعّما مع كونهما جسما واحدا،و هذا ممتنع.

و هذا الشبهة أيضا قد مرّت الإشارة إليها في الباب الخامس مع الجواب عنها،إذ قد عرفت أنّ المعاد من البدن هو الأجزاء الأصليّة منه دون الأجزاء الفضليّة،و لا امتناع في أن تعود الأجزاء الأصليّة من بدن المأكول التي لا نسلّم جواز كونها غذاء لبدن الآكل منفردة،كالأجزاء الأصليّة من بدن الآكل،فيعذّب الكافر و ينعّم المؤمن كما هو مقتضى الحكمة المتعالية المقدّسة.

و منها أنّ جرم الأرض مقدار ممسوح بالفراسخ و الأميال،و عدد النفوس غير متناه، فلا معنى لحصول الأبدان الغير المتناهية جميعا فيها.

و الجواب عن هذه الشّبهة أنّها مجرّد استبعاد،و رفعه بأنّ مادّة الأرض و هيولاها يمكن لها قبول مقادير مختلفة،كما يمكن لها قبول مقادير و انقسامات غير متناهية،و لو متعاقبة،و كما أنّ زمان الآخرة ليس من جنس أزمنة الدنيا،كما قال تعالى: وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ)) (1)،و قال: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)) (2)كذلك مكان الآخرة ليس من جنس أمكنة الدنيا،و ليست هذه الأرض محشورة على هذه الصفة،و إنّما المحشورة منها صورة تسع الكلّ من الخلائق من الأوّلين و الآخرين.فاتل قوله تعالى:

يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلّهِ الْواحِدِ الْقَهّارِ)) (3)،

و قوله: وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ* وَ أَلْقَتْ ما فِيها وَ تَخَلَّتْ)) (4)،

ص:202


1- -الحجّ(22):47. [1]
2- -المعارج(70):4. [2]
3- -إبراهيم(14):48. [3]
4- -الانشقاق(84):3. [4]

و قوله: وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَ تَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً)) (1).

و قوله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً* فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً* لا تَرى فِيها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً)) (2)،

و قوله: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَ الْآخِرِينَ* لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ)) (3).

و بالجملة،فلا امتناع في أن تبدّل هذه الأرض غيرها،فتمدّ مدّ الأديم،و تبسط فلا ترى فيها عوجا و لا أمتا كما يدلّ عليه كلام المفسّرين،و سيأتي بيانه،ثمّ تجمع فيها جميع الخلائق من أوّل الدنيا إلى آخرها،كما أنّها اليوم مبسوطة على قدر يسع الخلائق كلّها.

و منها،أنّه يلزم تولّد البدن الإنسانيّ عند البعث من غير توالد،و هو ممتنع.

و الجواب عنها،أنّها مجرّد استبعاد أيضا،فإنّ التولّد من غير توالد ممكن،كما في آدم على نبيّنا و عليه السلام.

و منها،أنّ المعلوم من الكتاب و السّنّة أنّ الجنّة و النار موجودتان الآن بالفعل،و إن كان أهل الحجاب لغفلتهم عن أمور الآخرة يتعجّبون عن ذلك.

و أنّهما لو كانتا موجودتين،فأين مكانهما من العالم؟و في أيّ جهة تكونان؟

أ هما في فوق محدّد الجهات؟فيلزم أن يكون في اللامكان مكان،و في اللاجهة جهة.

أو في داخل طبقات هذه الأجرام الفلكيّة،فيلزم التداخل المستحيل،أو الانخراق المستحيل.

أو في مكانها،فيلزم انعدام الأفلاك حتّى تكونا في مكانها،و هو خلاف ما نشاهده.

أو فيما بين سماء و سماء،و هو مستحيل،لكون السماوات عندهم متّصلة بعضها ببعض ليست بينها فرجة،لا خلاء و لا ملاء.

و مع استحالة هذين الاحتمالين،فهما ينافيان قوله تعالى:

ص:203


1- -الكهف(18):47. [1]
2- -طه(20):105-107. [2]
3- -الواقعة(56):49-50. [3]

وَ جَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ)) (1)،حيث إنّ المفسّرين قالوا في تفسيره:إنّ المعنى:و جنّة عرضها كعرض السموات السبع و الأرضين السبع،و ذكر العرض دون الطول،لأنّ كلّ ما له عرض و طول،فإن عرضه في الأكثر أقلّ من طوله،فإذا كان العرض مثلا السموات و الأرض،فطولها لا يعلمه إلاّ اللّه تعالى،فإذا كان مقدار الجنّة ذلك المقدار، فلا يمكن أن يكون مكانها داخل طبقات السموات و لا في ما بينها.

و ما روي عن بعض المفسّرين كالحسن،من أنّ اللّه تعالى يفني الجنّة ثمّ يعيدها على ما وصفه،فلذلك صحّ و صفها بأنّ عرضها كعرض السماء و الأرض مبني على طروء فناء على الجنّة،و هو مخالف للإجماع،و كذا للنقل و العقل كما سبق بيانه في مقدّمة الرسالة.

كما أنّ القول بأنّه يمكن أن يوجد اللّه تعالى عند قيام الساعة الجنّة و يجعلها بذلك المقدار،و في مكان السموات و الأرض بعد فنائهما،أي بعد طيّ السموات و تسيير الجبال و دكّ الأرض و زلزالها (2)،مبنيّ على أن لا يكون الجنّة و النار موجودتين الآن و تكونان مخلوقتين في القيامة،و هذا أيضا مخالف للمذهب الحقّ الذي ذهب إليه جمهور المسلمين،إلاّ جمعا من المعتزلة،و دلّ عليه الكتاب و السنّة.

و بالجملة،فإذا كانتا موجودتين الآن،و كان عرض الجنّة ما ذكر من المقدار،أي كعرض السموات السبع و الأرضين السبع،فلا يمكن أن يكون مكان الجنّة وحدها داخل طبقات السموات،و لا فيما بين سماء و سماء،مع أنّ النار أيضا تستدعي مكانا آخر، و المفروض حينئذ عدمه.

و بهذا يندفع ما يمكن أن يقال:إنّ اتّصال السموات بعضها ببعض و إن قال به الحكماء، لكن لا دليل قطعيّا عليه،فيمكن أن يكون بينها فرج و أفضية،و تكون الجنّة و النار فيها.

و بيان الاندفاع ظاهر.

و كذلك يظهر بهذا البيان أنّه لا يمكن أن يكون مكان الجنّة و النار داخل طبقات

ص:204


1- -الحديد(57):21. [1]
2- -إشارة إلى سورة الكهف(18):47؛سورة الأنبياء(21):104؛سورة التكوير(81):3؛سورة الفجر(89):21 و سورة الزلزلة(99):1.

العناصر و لا فيما بينها.

فإن قلت:إنّ هذه الشبهة ليس لها مدخل في إنكار المعاد الجسمانيّ،فإنّه لو لم تكن الجنّة و النار موجودتين أيضا الآن،لم يكن ذلك منافيا لوقوع المعاد الجسمانيّ على ما قرّرناه،بل هذه شبهة على حيالها واردة على وجود الجنّة و النار الآن على المقدار المخصوص،و هل هذا إلاّ كسائر الشّبهات التي أوردها عليه القائل بعدم وجودهما الآن ككثير من المعتزلة؟مثل ما قالوه من أنّهما لو كانتا موجودتين الآن،لكان وجودهما قبل يوم الجزاء عبثا،و هو لا يليق بالحكيم تعالى شأنه.

و الجواب عنه:أنّه يجوز أن يكون الفائدة فيه في النشأة الدنيويّة ترغيب المكلّفين بالطاعات،و تزهيدهم عن المعاصي أتمّ ترغيب و تزهيد كما بيّناه في آخر الباب الرابع.

و في عالم البرزخ سرور أهل الجنّة بملاحظتها و اغتمام أهل النار بمشاهدتها.على أنّ الفائدة لا يلزم أن تكون معلومة لنا،إذ يجوز أن يكون في خلقها قبل يوم الجزاء مصلحة و حكمة عظيمة،و إن لم نكن نعلمها،حيث إنّ الشرع نطق بوجودهما الآن،و نحن نعلم أنّ فاعلها الحكيم تعالى شأنه لا يفعل العبث.

و مثل ما قالوه إنّ الجنّة و النار لو كانتا موجودتين الآن،و الحال أنّ الإجماع واقع على بقائهما و عدم طروء الفناء عليهما،كان ذلك مخالفا لما دلّ على طروء الفناء على كلّ المخلوقات،مثل قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ)) (1).و حيث كان ذلك مخالفا له، فيجب أن لا تكونا موجودتين الآن حتّى لا يلزم طروء فناء عليهما.

و الجواب عنه،ما مرّ في مقدّمة الرسالة في تفسير هذه الآية الشريفة.

و حاصله أنّه يمكن أن يكون معنى هلاك كلّ شيء-على تقدير إرادة العموم-ضعف وجود الماهيّات الممكنة و ليسيّتها بالنظر إلى ذواتها،و على تقدير أن يكون المراد بهلاكها طروء العدم عليها بالفعل في الواقع،فيمكن أن يكون الآية مخصّصة بما عدا الجنّة و النار، بل بما عدا المستثنيات التي دلّ الدليل على بقائها،كما مرّ بيانه في ذلك الموضع من

ص:205


1- -القصص(28):88. [1]

المقدّمة.

و الحاصل أنّ إيراد هذه الشبهة على المعاد الجسمانيّ لا وقع له،فبم أوردوها عليه؟

قلت:الحال كذلك،إلاّ أنّ من أوردها عليه كأنّه نظر إلى أنّ المعاد الجسمانيّ بظاهره لو كان حقّا،لكان حقّا كما نطق به الشرع،و قد نطق أيضا بوجود الجنّة و النار الآن،و أنّهما تكونان جزاء للمكلّفين في القيامة،و حيث كان وجودهما الآن ممّا يأباه العقل كما ذكر، و كان يجب تأويله،كذلك يجب تأويل ما دلّ على المعاد الجسمانيّ بالحمل على خلاف ظاهره.و بهذا يمكن أن يرجع ما ذكر من الشبهتين المذكورتين على وجود الجنّة و النار إلى الشبهة على المعاد الجسمانيّ أيضا،فتدبّر.

و هذا الذي ذكرناه إنّما هو تقرير الشبهة التي أوردها المنكر للمعاد الجسمانيّ عليه.

و أمّا الجواب عنها،فبأن يقال:لا امتناع في أن يكون مكان الجنّة محدّب الفلك الثامن الذي يسمّى عند الحكماء بفلك البروج،و في لسان الشرع بالكرسيّ،و مقعّر الفلك التاسع الذي يسمّى عند الحكماء بالفلك الأطلس و محدّد الجهات،و في لسان الشرع بالعرش الأعظم،أي فيما بين الفلكين كما قيل:إنّ أرض الجنّة الكرسيّ،و سقفها عرش الرحمن.

و يمكن حمل قوله تعالى: وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى* عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى* عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى)) (1)،عليه أيضا،كما قال بعض المفسّرين كالشيخ الطبرسيّ رحمه اللّه في تفسيره:«إنّ سدرة المنتهى هي شجرة نبق عن يمين العرش فوق السماء السابعة،ثمرها كقلال هجر، و ورقها كآذان الفيول،يسير الراكب في ظلّها سبعين عاما،و المنتهى موضع الانتهاء لم يجاوزها أحد،و إليها ينتهي علم الملائكة و غيرهم،و لا يعلم أحد ما وراءها.و قيل:ينتهي إليها أرواح الشهداء.و قيل:هي شجرة طوبى كأنّها في منتهى الجنّة،عندها جنّة المأوى، و هي جنّة الخلد يصير إليها المتّقون.و قيل:يأوي إليها أرواح الشهداء» (2)،انتهى.

و وجه الحمل ظاهر،إذا حمل قوله:«عن يمين العرش»على يمين مقعّر العرش،

ص:206


1- -النجم(53):13-15. [1]
2- -راجع مجمع البيان 175/9.

و قوله:«فوق السماء السابعة»على السماء الثامنة و تحت العرش كما هو الظاهر،و أنّه إذا كانت جنّة المأوى عند سدرة المنتهى التي مكانها ذلك،يكون مكان جنّة المأوى أيضا ذلك.

و أمّا احتمال أن يكون المراد ب«فوق السماء السابعة»محدّبها فبعيد غاية البعد،لأنّه يلزم حينئذ إمّا أن لا يكون بين السابعة و العرش فلك ثامن،أي الكرسيّ،و هو خلاف ما قال به أهل الشرع و الحكماء،و إمّا أن يكون سدرة المنتهى في داخل ثخن الثامنة، متداخلة لها إن قيل بالثامنة،و هو خلاف الظاهر جدا،إن لم نقل بامتناع تداخل السدرة في الثامنة،و لو قلنا به لكان الأمر أظهر.

و بالجملة،فلا امتناع في أن يكون مكان الجنّة بحيث يكون أرضها محدّب الفلك الثامن،أي الكرسيّ،و سقفها مقعّر الفلك التاسع،الذي هو العرش بلسان الشرع،و يؤيّده كونه مناسبا لمعناه اللّغوي أيضا.و أن يكون بينهما فضاء يسع الجنّة بما فيها،و يكون عرض ذلك الفضاء كعرض السّماء و الأرض،أي كعرض السّماوات السّبع و الأرضين السّبع كما قاله المفسّرون في تفسير قوله تعالى: وَ جَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ)) .و كان وجه ذلك التّفسير أنّ لفظ السّماء في الآية،و إن وقع محلّى بلام الجنس و مفاده العموم،إلاّ أنّ الشّائع في لسان الشّرع إطلاق السماء على السّماوات السّبع التي هي تحت الفلك الثّامن،كما ورد من إطلاق السموات السبع.و أمّا إطلاق السّماء على الفلك الثّامن و التّاسع، فهو و إن كان يمكن بحسب اللغة أو بحسب العرف،كما ورد في لسان الحكماء،إلاّ أنّه في الشرع لم يطلق عليها اسم السماء بل اسم الكرسيّ و العرش،و إن كان ورد فيه للعرش و الكرسيّ معنى آخر أيضا.و حيث كان كذلك فإذا أطلق السّماء يكون المراد منه ما سوى الفلك الثامن و التاسع من الأفلاك السّبعة.

و الحاصل،أنّه لا امتناع في أن يكون مكان الجنّة ذلك الفضاء الكائن بين الثامن و التاسع،و أن يكون عرض ذلك الفضاء،أي عرض الجنّة الواقعة فيه كعرض السموات السبع و الأرضين السبع،و ما ادّعاه الحكماء من لزوم اتّصال الأفلاك بعضها ببعض بحيث لا يكون بينها فرجة و فضاء،و لا في ذلك الفضاء شيء آخر غير مسلّم،إذ لا دليل قطعيّا

ص:207

عليه،بل إنّ الروايات الدالّة على وجود الحجب في السموات تدلّ على عدم اتّصال الأفلاك بعضها ببعض و كون الحجب بينها،إنّما المسلّم امتناع فرجة و فضاء بين السموات يكونان خلاء حيث إنّ الخلاء ممتنع،و كذا امتناع فضاء يكون فيه جسم يكون كونه فيه خلاف مقتضى طبعه مع بقائه على طبعه كالعنصريّات التي أحيازها الطبيعيّة ما تحت فلك القمر.

و لا نسلّم أنّ كون الجنّة بما فيها هناك خلاف مقتضى طباعها الذاتيّ،بل جاز أن يكون ذلك مقتضى طباعها،حيث إنّ الجنّة الجسمانيّة بما فيها و إن كانت مادّيّة من جنس الأجسام،إلاّ أنّها من جنس الأجسام الأخرويّة،و قد عرفت غير مرّة أنّ الأجسام الأخرويّة مخالفة في كثير من الصفات و اللوازم للأجسام الدنيويّة،عنصريّاتها و فلكيّاتها، كأنّها مخالفة بالحقيقة لها،و إلاّ أنّ لها نوع مشابهة للأجسام الفلكيّة في اللطافة و الصفاء و نحو ذلك،و إن كانت هي أشرف و أعلى منها في ذلك بكثير،فجاز أن تكون أحياز تكون الأجسام الأخرويّة أحيازا للأجرام الفلكيّة،أي ذلك الفضاء الذي فرضناه من غير لزوم محال،كما جاز أن يكون في أحيازها حجاب أو فلك أو فلكيّ غير الأفلاك التسعة،و إن لم نكن نعلمه.

و ما يتوهّم من أنّه على تقدير كون الجنّة بما فيها-كالأشجار و الأنهار و القصور و نحو ذلك-في محدّب الفلك الثامن يلزم خرق ذلك المحدّب،و الحال أنّ الخرق ممتنع على الأفلاك.

فهو مندفع،إذ يمكن كون الجنّة بما فيها فيه بحيث لا يستلزم خرقا.و على تقدير تسليمه أيضا نقول:إنّ الدليل الذي ذكره الحكماء على امتناع الخرق و الالتيام على الأفلاك،فهو على تقدير تماميّته إنّما يتمّ في محدّد الجهات الذي هو الفلك التاسع بزعمهم،لا في سائر الأفلاك،أي الأفلاك الثّمانية الباقية،بل إنّما هو فيها مجرّد استحسان، فجاز أن يطرأ الخرق على الفلك الثامن من غير لزوم محال.

و من هذا البيان يظهر أنّه يجوز أن يكون مكان الجنّة بما فيها بين الحجب التي في السماوات أيضا،أي بين الحجب التي هي فوق السماء السابعة و تحت العرش.

ص:208

و حيث عرفت ذلك،فنقول:و كذلك يمكن أن يكون مكان النار في فضاء يكون بين سماء و سماء من جملة السموات السبع التي تحت السماء الثامنة،أو بين الحجب التي فيها،إذ لا امتناع في أن يكون بينها فضاء يكون ذلك مكان النار،و كذا لا امتناع في أن يكون كونها فيها مقتضى طباعها،حيث إنّ النّار الجسمانيّة و إن كانت مادّيّة جسمانيّة،إلاّ أنّها من جنس أجسام الآخرة التي هي كأنّها مخالفة بالحقيقة للأجسام الدنيويّة و للنّار التي في عالم العناصر،و كأنّها للطافتها و مشابهتها للأجرام الفلكيّة في بعض الصّفات و الأحوال قريبة منها،فجاز أن يكون مكانها في ذلك الفضاء من غير لزوم محال.بل جاز أن يكون مكانها تحت مقعّر فلك القمر،أي بينه و بين محدّب كرة الأثير،إذ لا مانع من ذلك أيضا.

و لا ينافي ما جوّزناه من مكان الجنّة و النار ما ذكره الشيخ الطّبرسيّ رحمه اللّه،في«مجمع البيان»في تفسير قوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ)) (1).حيث قال:

«قيل فيه قولان:

أحدهما،أنّ المعنى تبدّل صورة الأرض و هيئتها،عن ابن عباس،فقد روى عنه أنّه قال:تبدّل آكامها و آجامها و جبالها و أشجارها و الأرض على حالتها،و تبقى أرضا بيضاء كالفضّة،لم يسفك عليها دم،و لم يعمل عليها خطيئة،و يبدّل السموات،فيذهب شمسها و قمرها و نجومها،و كان ينشد:

فما الناس بالناس الذين عهدتهم و لا الدار بالدّار التي كنت أعرف

و يعضده ما رواه أبو هريرة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،أنّه قال:يبدّل اللّه الأرض غير الأرض و السموات،فيبسطها و يمدها مدّ الأديم العكاظيّ لا ترى فيها عوجا و لا أمتا،ثمّ يزجر اللّه الخلق زجرة،فإذا هم في هذه المبدّلة في مثل مواضعهم من الأولى،ما كان في بطنها كان في بطنها،و ما كان على ظهرها كان على ظهرها.

و الآخر أنّ المعنى يبدّل الأرض و ينشأ أرض غيرها و السموات كذلك تبدّل بغيرها

ص:209


1- -إبراهيم(14):48. [1]

و تفنى هذه.هذه عن الجبائيّ و جماعة من المفسّرين.

و في تفسير أهل البيت عليه السّلام،بالإسناد عن زرارة و محمّد بن مسلم و حمران بن أعين، عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليه السّلام،قالا:يبدّل اللّه الأرض خبزة نقيّة يأكل الناس منها حتّى يفرغ من الحساب،قال اللّه تعالى: وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ)) (1)و هو قول سعيد بن جبير و محمّد بن كعب.

و روى سهل بن سعد الساعديّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،قال:يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء غفراء كقرصة النقيّ ليس فيها معلم لأحد.

و روي عن ابن مسعود،أنّه قال:يبدّل الأرض كلّها نارا يوم القيامة و الجنّة،و من ورائها يرى كواعبها و أكوابها،و يلجم الناس العرق،و لم يبلغوا الحساب بعد.

و قال كعب:تصير السماوات جنانا،و تصير مكان البحر النار،و يبدّل الأرض غيرها.

و روي عن أبي أيّوب الأنصاريّ،قال:أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حبر من اليهود،فقال:أ رأيت إذ يقول اللّه في كتابه «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ» فأين الخلق عند ذلك؟ فقال:أضياف اللّه،فلن يعجزهم ما لديه.

و قيل:تبدّل الأرض لقوم بأرض الجنّة،و لقوم بأرض النار.

و قال الحسن:يحشرون على الأرض الساهرة،و هي أرض غير هذه،و هي أرض الآخرة،و فيها تكون جهنّم.

و تقدير الكلام:و تبدّل السماوات غير السماوات،إلاّ أنّه حذف لدلالة الظاهر عليه» (2)انتهى كلامه رحمه اللّه.

و وجه عدم المنافاة أنّ ما تضمّن من تلك التفاسير لصيرورة الأرض كلّها نارا،أو لصيرورة مكان البحر النار،أو لتبدّل الأرض لقوم بأرض النار،أو لكون جهنّم في الأرض، يمكن أن يكون ذلك بتحريك النار و جعلها في الأرض،كما قال تعالى: وَ جِيءَ يَوْمَئِذٍ

ص:210


1- -الأنبياء(21):8. [1]
2- -مجمع البيان 324/6-325.

بِجَهَنَّمَ...)) (1)الآية.

و قال المفسّرون في تفسيره:إنّه يجيء بها سبعون ألف ملك،يقودونها بسبعين ألف زمام،فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع.و كذا يمكن أن يكون ذلك بمدّ النّار و بسطها حتّى تحصل في الأرض أيضا،إذ لا امتناع فيه.و على التقديرين فلا امتناع في أن يكون الجنّة فوق النار،بحيث تكون هي للطافتها و رفع الحجاب حينئذ يرى ما فيها من الأكواب و الكواعب،كما دلّ عليه بعض تلك التفاسير.

و أيضا ما يدلّ منها على كون الجنّة في الأرض،يمكن أن يكون بتحريكها أو بسطها كما قلنا في النار،فلا منافاة أيضا.و اللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.

و بما فصّلناه يظهر الجواب عن تلك الشّبهة،و هو مبنيّ عل تسليم استحالة تداخل الأجسام الأخرويّة في الأجسام الدّنيويّة،و على تسليم استحالة وجود عالمين جسمانيّين،و إمّا على تقدير تجويزها،فيمكن جوابان آخران أيضا عن تلك الشبهة.

بيان الأوّل:أنّ التّداخل المستحيل الذي يحكم العقل باستحالته إنّما هو تداخل جسمين كانا من أجسام الدنيا،و دخول أحدهما في حيّز الآخر من غير زيادة في الحجم، و أمّا إذا لم يكونا كذلك،فلا نسلّم امتناع تداخلهما.و هذا كما أنّ الأجسام المثاليّة التي دلّ على وجودها الدليل كما عرفت،و قال به الحكماء الإشراقيّون أيضا،حتّى قالوا:ب«أنّ كلّ ما هو من أجزاء هذا العالم المحسوس المشاهد،فله مثال في عالم المثال»لا شكّ أنّها أجسام ذوات مقادير و أوضاع و أشكال و أحياز و نحوها،و إن لم تكن ذوات مواد جسمانيّة فلكيّة أو عنصريّة،و لا شكّ أيضا أنّها موجودة في هذا العالم المحسوس لا في عالم آخر،على القول بعدم إمكان وجود عالم آخر جسمانيّ كما قالوا به،و لا شكّ أيضا أنّ وجودها إنّما هو في داخل أجرام هذا العالم و أجسامها،و في ثخنها لا في الخلل و الفرج و الأفضية بينها على القول باتّصال أجرام هذا العالم و أجسامها و كراتها بعضها ببعض،كما قالوا به أيضا،فأين مكان عالم المثال و الأجسام المثاليّة؟فلم يبق إلاّ أن يكون وجودها

ص:211


1- -الفجر(89):23. [1]

في داخل أثخان موجودات هذا العالم و أجسامه و أجرامه،متداخلة فيها من غير استحالة في ذلك.

و إذا جاز تداخل عالم المثال في العالم المحسوس المشاهد،جاز أيضا تداخل الأجرام و الأجسام الأخرويّة التي هي أيضا من عالم آخر غير عالم الظاهر المشاهد المحسوس في العالم المحسوس من غير لزوم محال.فجاز أن يكون مكان الجنّة و النار بما فيهما داخل أثخان وجودات هذا العالم المحسوس و أجسامه و أجرامه،أمّا الجنّة ففيما فوق السّماء السّابعة،و أمّا النار ففيما تحتها،كما قلنا.

و كان ما ذكرنا هو مراد من قال من الحكماء الإسلاميّين إنّه ليس للجنّة و النار مكان في ظواهر هذا العالم،لأنّه محسوس و كلّ محسوس بهذه الحواس فهو من الدنيا،و الجنّة و النار من عالم الآخرة.نعم مكانهما في داخل حجب السموات و الأرض و لها مظاهر في هذا العالم،و عليها يحمل الأخبار الواردة في تعيين بعض الأمكنة لهما،و الروايات في ذلك مختلفة» (1)،انتهى.

و لا يخفى عليك أنّ ما قدّمنا ذكره من التّفاسير في الآية الكريمة الدالّة على حصول الجنّة و النار في مكان الأرض لا ينافي هذا الوجه من الجواب أيضا،إذ لا امتناع في أن يكون الجنّة و النّار في داخل أجرام هذا العالم و باطنها حتّى في سطح الأرض و البحر أيضا،و تكونان يوم القيامة عند ارتفاع الحجاب تظهران على الخلق.و اللّه تعالى يعلم.

و أمّا بيان الثّاني فبأن يقال:إنّ عمدة ما قالوا في بيان استحالة وجود عالمين أمران:

أحدهما أنّه لو وجد عالم آخر،لكان كرة مثل هذا العالم،و لا يمكن وجود كرتين متماثلتين،إلاّ بتحقّق فرجة بينهما،و تلك الفرجة يلزم أن تكون خلاء،إذ المفروض عدم شيء آخر يملأ تلك الفرجة و الخلاء محال.

الثاني:أنّه لو وجد عالم آخر لكان فيه أيضا العناصر الأربعة،فإن لم تطلب أمكنة عناصر هذا العالم لزم اختلاف متّفقات الطبائع في مقتضياتها،و إن طلبت لزم أن تكون هي

ص:212


1- -القائل هو الحكيم المتألّه صدر المتألّهين في كتابه الشواهد الربوبية300/، [1]حيث قال:فاعلم أنّه ليس...و النقول و المرويّات في ذلك كثيرة مختلفة...

في الأمكنة الأخرى بالقسر دائما،و كلاهما مندفعان.

أمّا الأوّل:فلأنّه بعد تسليم الكرويّة و لزوم كون فرجة هناك،يمكن أن تكون تلك الفرجة،لا خلاء و لا ملاء كما يقولون فيما فوق محدّد الجهات.

و أمّا الثاني:فلأنّه على تقدير تسليم لزوم كون عناصر و أفلاك في ذلك العالم الآخر مثل العالم الأوّل،يمكن أن يكون فيه مركز و محيط أيضا،كما في العالم الأوّل،و يقتضي بعض موجوداته الميل إلى مركزه،و بعضها الميل إلى محيطه،مثل موجودات العالم الأوّل، من غير لزوم محذور.

على أنّا لا نسلّم لزوم كون عناصر و أفلاك هناك كما في هذا العالم،إذ يمكن أن يكون فيه أجسام أخر مخالفة في الصفات و اللوازم،بل في الحقيقة كموجودات العالم الأخرويّ، و إن كانت أجساما أيضا.فعلى هذا يمكن أن يكون الجنّة و النار موجودتين الآن بالفعل في ذلك العالم الآخر،و لا تكونان محسوستين لنا في هذا العالم.

و هذان الجوابان أيضا،و إن كانا ممّا يمكن التمسّك بهما في دفع تلك الشبهة،إلاّ أنّ الثاني منهما كأنّه يخالف ظاهر ما يدلّ على أنّ الجنّة و النار في هذا العالم،فلا تعويل عليه.

و اللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.

ثمّ إنّه من تلك الشبه التي تمسّك بها المنكرون للمعاد الجسمانيّ،أنّه لو كان حقّا، و كان كما نطق به الشرع،و الحال أنّ الشرع كما نطق بالمعاد الجسمانيّ،كذلك نطق بتأبيد الثّواب و العقاب الجسمانيّين بالنّسبة إلى بعض،و الحال أنّ ذلك التّأبيد لا يمكن أن يكون إلاّ بحصول تحريكات غير متناهية للقوى الجسمانيّة،لزم منه عدم تناهي أفعال القوى الجسمانيّة،و هو باطل كما بيّنه الحكماء في موضعه.

و أيضا يلزم منه دوام الحياة مع دوام الاحتراق،و هذا أيضا باطل.

و الجواب عنها،أنّا لا نسلّم أنّه يلزم من ذلك عدم تناهي أفعال القوى الجسمانيّة،بل إنّما يلزم منه عدم تناهي انفعالاتها،حيث إنّ إدراك اللّذّة و الألم الحسّيّين انفعال لا فعل.

و ما ذكره الحكماء من الدّليل على عدم التناهي فهو على تقدير تماميّته،إنّما ينهض دليلا على بطلان عدم تناهي أفعال الجسمانيّات المادّيّات،لا على بطلان عدم تناهي

ص:213

انفعالاتها أيضا،بل هو جائز عندهم،كما في انفعالات النفوس الفلكيّة المنطبعة و هيولى الأجسام العنصريّة.

فإن قلت:إنّ عدم تناهي الانفعالات يستلزم عدم تناهي الأفعال أيضا.

قلت:لا يلزم أن يكون تلك الأفعال الغير المتناهية مستندة إلى تلك القوى الجسمانيّة المادّيّة،بل يمكن أن تكون مستندة إلى ذوات مجرّدة لا استحالة في عدم تناهي أفعالها عندهم.

و على تقدير تسليم امتناع عدم تناهي انفعالات القوى الجسمانيّة أيضا،بناء على جريان دليل بطلان عدم التناهي فيه أيضا،كبرهان التطبيق و التضايف و نحوهما،نقول:إنّ زمان الآخرة ليس كزمان الدنيا،كما أنّ مكانها ليس كمكانها،فجاز في الآخرة عدم تناهي انفعالات القوى الجسمانيّة،بل أفعالها أيضا،لعدم التضايف و التطبيق و المسامتة و أمثالها فيها،كالتداخل و المباينة و التزاحم،ممّا هي من لوازم موجودات النشأة الدنيويّة.

و بالجملة،فقياس العالم الأخرويّ على العالم الدنيويّ،قياس الغائب على الشاهد، و هو باطل عند العقلاء.

و أمّا ما ذكره الشابه من دوام الحياة مع دوام الاحتراق،فهو أيضا ليس بممتنع،لأنّ امتناعه مبنيّ إمّا على لزوم عدم تناهي القوى الجسمانيّة،فقد عرفت حاله.

و إمّا مبنيّ على أنّه مع الاحتراق ينعدم ذلك البدن،فكيف تبقى الحياة؟و كيف يمكن عذاب ذلك الشخص بعينه؟فهو غير مسلّم،لأنّا لا نسلّم أنّه مع الاحتراق ينعدم ذلك البدن بالمرّة،أو ذلك الشخص بالمرّة،بل إنّ نفسه باقية كما كانت،و كذا الأجزاء الأصليّة من بدنه،و كذا الحياة القائمة بهما،و إنّما الاحتراق في أجزائه الفضليّة،كما قال تعالى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ)) (1)،و لا استحالة فيه.و اللّه أعلم بالصواب،و إليه المعاد و المآب.

ص:214


1- -النساء(4):56. [1]

المطلب الثاني

اشارة

في بيان جملة من الأحوال و الأمور التي نطق الشرع

بوقوعها يوم القيامة و يجب التصديق بها لكونها أمورا ممكنة

بالذات أخبر به المخبر الصادق

نفخ الصور

فمنها-النفخ في الصور،قال تعالى: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً* وَ عَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً)) (1).

و قال: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَ نَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً)) (2).

و قال: وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ وَ كُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ)) (3).

و قال: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ)) (4).

و قال: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ* وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ)) (5).

ص:215


1- -الكهف(18):99. [1]
2- -طه(20):102. [2]
3- -النمل(27):87. [3]
4- -الزمر(39):68. [4]
5- -ق(50):20-21.

و قال: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً)) (1).

إلى غير ذلك من الآيات و الأخبار.

و يظهر من المفسّرين أنّهم اختلفوا في معناه.

قال في مجمع البيان:«و اختلف في الصّور،فقيل:هو قرن ينفخ فيه،عن ابن عبّاس و ابن عمر.و قيل:هو جمع صورة،و إنّ اللّه تعالى يصوّر الخلق في القبور كما صوّرهم في أرحام الأمّهات،ثمّ ينفخ فيهم الأرواح كما نفخ و هم في أرحام أمّهاتهم،عن الحسن و أبي عبيدة.و قيل:إنّه ينفخ إسرافيل في الصّور ثلاث نفخات:فالنفخة الأولى الفزع،و الثانيّة نفخة الصّعق التي يصعق من في السموات و الأرض بها فيموتون،و الثالثة نفخة القيام لربّ العالمين،فيحشر الناس بها من قبورهم (2)،انتهى.

و أقول:إنّ ما نقله عن ابن عبّاس و ابن عمر مبناه على كون الصور اسما مفردا بمعنى القرن كما جاء في اللغة بمعناه،و على كون النفخ فيه بمعنى إحداث صوت عظيم فيه، و صيحة هائلة هما بفعل إسرافيل عليه السّلام المأمور بذلك من عند اللّه تعالى،كما هو مدلول كثير من الأخبار.

كما أنّ ما نقله عن الحسن و أبي عبيدة مبناه على كون الصور جمع صورة،فإنّ جمعها كما يجيء بصيغة الصّور بضم الصاد و فتح الواو،كذلك يجيء بإسكان الواو،و على كون النفخ فيه بمعنى إعادة الروح إلى الصورة البدنيّة مرة أخرى،أي حشرها و بعثها.إلاّ أنّ المعنى الأوّل هو المشهور المعروف بين العلماء من معنى نفخ الصور،و يؤيّده دلالة ظاهر أخبار كثيرة بل صريحها عليه،كما يعلم بالتتبّع.و كذلك يؤيّده ظاهر آيات كثيرة واردة في ذلك،مثل قوله تعالى:

وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ* قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ* إِنْ كانَتْ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا

ص:216


1- -النبأ(78):18. [1]
2- -مجمع البيان 496/6.

مُحْضَرُونَ)) (1).

و قوله تعالى: وَ اسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ* يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ)) (2).

و قوله تعالى: وَ ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ)) (3).

و كذلك قوله تعالى: فَإِذا نُقِرَ فِي النّاقُورِ* فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ)) (4)،حيث قال جمع من المفسّرون في تفسيره:إنّ معنى الآية،فإذا نفخ في الصور و لا سترة في أنّ الناقور يناسب الصور بمعنى القرن،لا الصّور جمع الصّورة.

و كذلك يؤيّده أنّ مضمون الآيات و الأخبار،أنّ النفخ في الصور يكون مرّتين:مرّة للإماتة،و مرة للإحياء إن لم نقل بكونه ثلاث مرات كما نقل عن بعضهم.و لا يخفى أنّه بالمعنى الأوّل يستقيم في كلتا المرّتين كما سيأتي بيانه،و هو بالمعنى الثاني لا يستقيم إلاّ في المرة الثانية التي للإحياء.

نعم لو كان مراد القائل بالمعنى الثاني نفخ الأرواح في الصور بتوسّط فعل إسرافيل عليه السّلام و بندائه بإذن اللّه تعالى للأرواح بعودها إلى الصور،و للأبدان باجتماع أجزائها و عودها كما كانت،لكان لذلك وجه،لكن في خصوص النفخة الثانية التي هي للأحياء.

ثمّ إنّ ما نقله عن القائل الثالث،من وقوع النّفخ في الصور ثلاث مرات،كأنّه خلاف ظاهر الآيات و الأخبار،بل ظاهرها وقوعه مرّتين:مرّة للإماتة و مرّة للإحياء.

و كذلك الظاهر أنّ قوله تعالى: وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ)) (5).

و قوله: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ)) (6)،

ص:217


1- -يس(36):51-53. [1]
2- -ق(50):41-42.
3- -ص(38):15.
4- -المدّثّر(74):8-9. [2]
5- -النمل(27):87. [3]
6- -الزمر(39):68. [4]

معناهما واحد،و أنّ معنى الفزع و الصعق واحد،هو الإماتة لا أن يكون الفزع بمعنى آخر غير الصعق،حتّى يمكن التمسّك به في القول بوقوعه ثلاث مرات،إن كان متمسّك القائل به ذلك.

و كيفما كان،فنفخ اسرافيل عليه السّلام و نداؤه للخلائق بتلك الآلة مرّة للإماتة،و مرّة للإحياء بإذن اللّه تعالى كما هو ظاهر النفخ في الصور لأجل ذلك،لا امتناع فيه عقلا،بل هو أمر ممكن في ذاته،و حيث أخبر الشرع به،وجب التصديق به.

و بالجملة،لا امتناع في أن ينادي إسرافيل عليه السّلام بإذن اللّه تعالى للخلائق مرّة بالموت، أي أن ينادي بتلك الآلة تارة،لأرواحهم،بقطع التعلّق عن الأبدان،حتّى يموتوا بانقيادهم لذلك النداء و الأمر،أو من هول تلك الصيحة كما قال المفسّرون في قوله تعالى: إِنْ كانَتْ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ)) (1)إنّه حين نزل العذاب على أهل انطاكية قوم عيسى عليه السّلام أخذ جبرئيل عليه السّلام بعضادتي باب المدينة و صاح بهم صيحة واحدة فماتوا عن آخرهم.

و مرّة بالحياة،أي أن ينادي للأجزاء الأصليّة من أبدانهم بالاجتماع و عودها مرّة أخرى كهيئتها الأولى،و ينادي للأرواح بعودها إلى تلك الأبدان،حتّى تحصل لهم الحياة، كما ورد في الأخبار أنّ إسرافيل ينفخ في الصور و ينادي:أيّتها العظام البالية و الأوصال المنقطعة و اللحوم المتمزّقة،إنّ اللّه يأمركنّ أن تجتمعن لفصل القضاء.

و هذا الذي ذكرنا هو ظاهر معنى النفخ في الصّور مرّتين:مرة للإماتة،و مرّة للإحياء.

و اللّه تعالى و أولو العلم أعلم.

و لصدر الأفاضل رحمه اللّه هنا كلام لا بأس بنقله،قال:«الإشراق الحادي عشر،في معنى النفخ؛قال سبحانه: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ)) (2)و لما سئل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الصّور ما هو؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:قرن من نور لنفخة إسرافيل،فوصف بالسّعة و الضيق،و اختلف في أنّ أعلاه ضيّق و أسفله واسع أو بالعكس،و لكلّ وجه.و الصّور بسكون الواو و قرئ بانفتاحها:جمع الصورة،و النفخة نفختان:نفخة تطفئ النار،و نفخة تشعلها.قال تعالى: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ

ص:218


1- -يس(36):29. [1]
2- -الكهف(18):99؛ [2]يس(36):51؛ [3]الزمر(39):68؛ [4]ق(50):20.

فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ)) (1).

فإذا تهيّأت هذه الصور كانت فتيلة استعدادها كالحشيش المحترق،و هو الاستعداد لقبول الأرواح كاستعداد الحشيش بالنار التي كمنت فيه لقبول الاشتعال،و الصور البرزخيّة كالسراج مشتعلة بالأرواح التي فيها،فينفخ إسرافيل نفخة واحدة فتمرّ على تلك الصور فتطفؤها،و تمرّ النفخة التي تليها-و هي الأخرى-على الصور المستعدّة للاشتعال-و هي النشأة الأخرى-فتشتعل بأرواحها فإذا هم قيام ينظرون،فتقوم تلك الصور أحياء ناطقة بما ينطقها اللّه،فمن ناطق بالحمد للّه،و من ناطق يقول: «مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا» ،و من ناطق ب«الحمد للّه الذي أحيانا بعد ما أماتنا و إليه النشور»و كلّ ينطق بحسب عمله و حاله و ما كان عليه،و ينسى حاله في البرزخ،و يتخيّل أنّ ذلك منام كما يتخيّله المستيقظ،و قد كان عند موته و انتقاله إلى البرزخ كالمستيقظ هناك،و أنّ الحياة الدنيا كانت له كالمنام،و في الآخرة يعتقد في أمر الدنيا و البرزخ أنّه منام في منام (2)،انتهى كلامه.

و لا يخفى عليك أنّه يظهر من كلامه تفسير الصّور أوّلا بالقرن،و من قوله:و الصور بسكون الواو قرئ بانفتاحها جمع الصورة،تفسيره بمعنى جمع الصورة،و أنّه جمع بين المعنيين،و ذكر لكون النفخ في الصور سببا للإماتة و الإحياء وجها عقليّا مرموزا هو أعلم به.

الصراط
اشارة

و من تلك الأحوال و الأمور:الصراط،و هو ممّا أخبر به الشرع،و وردت به أخبار

ص:219


1- -الزمر(39):68. [1]
2- -الشواهد الربوبيّة296/-297 و [2]فيه:قرن من نور التقمه إسرافيل...و قرئ بانفتاحها أيضا...و الصور البرزخيّة كالسّرج...ما كان عليه و نسي حاله في البرزخ.

كثيرة صريحة،و في الآيات القرآنيّة أيضا دلالة عليه.

قال الشيخ الصدوق ابن بابويه عليه الرحمة في«اعتقاداته»:«اعتقادنا في الصراط أنّه حق،و أنّه جسر جهنّم،و أن عليه يمرّ جميع الخلق،قال اللّه عزّ و جلّ: وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا)) (1)و الصراط في وجه اسم حجج اللّه،فمن عرفهم في الدنيا و أطاعهم أعطاه اللّه جوازا على الصراط الذي هو جسر جهنّم يوم القيامة.و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،لعليّ عليه السّلام:يا عليّ،إذا كان يوم القيامة أقعد أنا و أنت و جبرئيل على الصراط، فلا يجوز على الصراط إلاّ من كانت معه براءة بولايتك» (2)،انتهى.

و قال الشارح القوشجيّ في شرح التجريد:و أمّا الصراط فقد ورد في الحديث الصحيح أنّه جسر ممدود على متن جهنّم،يرده الأوّلون و الآخرون،أدقّ من الشعر و أحدّ من السيف،و يشبه أن يكون المرور عليه هو المراد من ورود كلّ أحد النار،على ما قال تعالى: وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها)) (3)و أنكره القاضي عبد الجبّار و كثير من المعتزلة زعما منهم أنّه لا يمكن الخطور (4)عليه،و لو أمكن ففيه تعذيب و لا عذاب على المؤمنين و الصّلحاء يوم القيامة.قالوا:بل المراد طريق الجنّة المشار إليه بقوله تعالى: سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ)) (5)و طريق النار المشار إليه بقوله تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ)) (6).

و قيل:المراد الأدلّة الواضحة.و قيل:العبادات كالصلاة و الزكاة و غيرهما.و قيل:

الأعمال الرديّة التي يسأل عنها و يؤاخذ بها،كأنّه يمرّ عليها،و يطول المرور لكثرتها و يقصر لقلّتها.

و الجواب،أنّ إمكان العبور ظاهر،كالمشي على الماء و الطيران في الهواء،غايته أنّه مخالفة العادة،ثمّ اللّه تعالى يسهّل الطريق على المارّين،كما جاء في الحديث أنّ منهم من

ص:220


1- -مريم(19):71. [1]
2- -الاعتقادات87/،الطبعة الحجريّة. [2]
3- -مريم(19):71. [3]
4- -الخطور أي العبور.
5- -محمّد(47):5. [4]
6- -الصافّات(37):23. [5]

يمرّ كالبرق الخاطف،و منهم من يمرّ كالرّيح الهابّة،و منهم هو كالجراد،و منهم من يجرّ رجلاه و يتعلّق يداه،و منهم من يخرّ على وجهه» (1)انتهى.

و قال الغزاليّ في رسالته المسمّاة ب«المضنون على غير أهلها»:و أمّا الصراط فهو عبارة عمّا لا مناسبة بين دقّته و دقّة الشعر،و حدّته و حدّة السّيف،فهو في الدّقة كالخطّ الهندسيّ،و الصّراط المستقيم عبارة عن الوسط الحقيقيّ بين الأخلاق المتضادّة،و لذا أمرنا اللّه بالدّعاء له في سورة الفاتحة،حيث قال: اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)) (2)،و قال في حقّ المصطفى عليه السّلام: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)) (3).مثال ذلك السّخاوة بين التّبذير و الإسراف و البخل،و الشّجاعة بين التّهور و الجبن،و التّواضع بين التّكبر و الدّناءة،و العفّة بين الشّهوة و الجمود،فلهذه الأخلاق طرف إفراط و تفريط،و هما مذمومان،و الوسط ليس من الإفراط و لا من التّفريط،فهو في غاية البعد من كلّ طرف،فلذا قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«خير الأمور أوسطها»و مثال ذلك الوسط الخطّ الهندسيّ بين الظلّ و الشّمس.

و التّحقيق في ذلك أنّ كمال الآدميّ في المشابهة بالملائكة و هم منفكّون عن هذه الأوصاف المتضادّة و ليس في إمكان الانفكاك عنها بالكلّيّة،فكلّفه اللّه تعالى ما يشبه الانفكاك و هو الوسط،فإنّ الفاتر لا حارّ و لا بارد،و العوديّ لا أبيض و لا أسود،فالبخل و التّبذير من صفات الإنسان،و المقتصد السخيّ كأنّه لا يبخل و لا يبذّر،فالصّراط المستقيم هو الوسط الحقّ بين الطّرفين الذي لا ميل له إلى أحد الجانبين،و هو أدقّ من الشعر،و الذي يطلب غاية البعد من الطرفين،فيكون على الوسط،و لو فرضنا حلقة حديدة محاطة بالنار وقعت فيها نملة،فهي تهرب بطبعها عن الحرارة،و لا تهرب إلاّ إلى المركز،لأنّه الوسط الذي هو غاية البعد من المحيط المحرق،و تلك النقطة لا عرض لها،فإنّ الصراط المستقيم لا عرض له،و هو أدقّ من الشعر،و لذلك خرج من القوّة البشريّة الوقوف عليه،فلا جرم، يرد أمثالنا النار بقدر ميله عنه،كما قال تعالى: وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً

ص:221


1- -راجع شرح التجريد للقوشجيّ424/-425.
2- -الفاتحة(1):6. [1]
3- -القلم(68):4. [2]

مَقْضِيًّا)) (1).و قال: وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ)) (2)، فإن العدل بين المرأتين في المحبّة و الوقوف على درجة متوسطة لا ميل فيه صراط الآخرة من غير ميل.و جاء في الحديث:«يمر المؤمن على الصراط كالبرق الخاطف» (3)انتهى كلامه،و مثله كلام بعضهم.

الصراط الدنيويّ

و أقول:لا يخفى عليك بعد التدبّر فيما ورد في الشرع من الآيات و الأحاديث أنّ الصراط صراطان:دنيويّ و أخرويّ.

أمّا الدنيويّ،أي الصراط المستقيم الذي ورد به الشرع،فقد قال كثير من أهل الشرع إنّه هو التوحيد،لأنّه الصراط الذي كان عليه جميع الأنبياء و الأولياء،و بعثوا كلّهم لأجل دعوة الخلق إليه،و كذا لأجل منع العباد عن الميل إلى أحد طرفيه،أي إلى يمينه أو شماله، أي الشرك الجليّ و الخفيّ،كما ورد في الخبر أنّ اليمين و الشمال مضلّتان (4).و قالوا:إنّه يشهد بذلك آيات و أخبار،كما قال تعالى:

وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* صِراطِ اللّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ)) (5).

و قال: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) (6).

ص:222


1- -مريم(19):71. [1]
2- -النساء(4):129. [2]
3- -بحار الأنوار 51/94. [3]
4- -عوالي اللئالى 110/4،و [4]فيه:مضلّة.
5- -الشورى(42):52-53. [5]
6- -الأنعام(6):161. [6]

و قال: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)) (1).

و قال: وَ إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ)) (2).

و قال: اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ الضّالِّينَ)) (3).

حيث إنّ الظاهر أنّ صراط الذين أنعمت عليهم،صراط الأنبياء و الأولياء عليه السّلام و تابعيهم من أهل التوحيد،كما قال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَ إِسْرائِيلَ وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا)) (4).

و قال: وَ مِنْ آبائِهِمْ وَ ذُرِّيّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)) (5).

و قال: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً)) (6)،و حينئذ يكون طريق المغضوب عليهم طريق المنحرفين عن التوحيد الذي الانحراف عنه ضلال و موجب لغضب اللّه تعالى و الدخول في النار، كالمشركين و الكفّار و كاليهود و النّصارى،كما ورد في التفسير أيضا،و قد قال تعالى في شأن الكفار:

وَ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ)) (7).

و في شأن الظالمين: وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ)) (8).

ص:223


1- -الزخرف(43):43. [1]
2- -مريم(19):36. [2]
3- -الفاتحة(1):6-7. [3]
4- -مريم(19):58. [4]
5- -الأنعام(6):87. [5]
6- -النساء(4):69. [6]
7- -المؤمنون(23):74. [7]
8- -هود(11):113. [8]

و في شأن اليهود: مَنْ لَعَنَهُ اللّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ)) (1).

و في شأن النصارى: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً)) (2).

و قد ورد في الخبر أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خطّ خطّا،و خطّ حواليه خطوطا،ثمّ أشار إلى الخط الأوسط فقال:«و انّ هذا صراطي مستقيما فاتّبعوه»،ثمّ أشار إلى الخطوط حوله فقال:

وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) (3).

و قال بعضهم:إنّ الصراط المستقيم هو الإسلام،و هو المرويّ عن ابن عبّاس و جابر و مقاتل.

و روى الحارث بن الأعور عن عليّ عليه السّلام،أنّه قال:الصراط المستقيم هو القرآن؛و هو المنقول عن ابن مسعود أيضا.

و قال محمّد بن الحنفيّة:إنّه هو الدين القويم (4).

قال أبو بريدة الأسلميّ:هو طريق محمّد و آل محمّد عليهم السّلام.

و على ذلك ينبغي أن يحمل ما نقلناه عن ابن بابويه آنفا،من أنّ الصراط في وجه، اسم الحجج عليه السّلام،يعني أنّ الصراط المستقيم هو طريقهم و معرفتهم و الانقياد لهم و الاهتداء بهداهم.

و قال شهر بن حوشب:إنّ الذين أنعمت عليهم هم صحابة رسول اللّه و أهل بيته، و يستفاد منه أنّ الصراط المستقيم طريقهم.

و قال بعضهم:إنّه إشارة إلى قوله تعالى: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً)) (5).حيث ورد في الخبر هكذا:النبيّين، محمّد،و الصدّيقين علي بن أبي طالب؛و الشهداء حمزة و جعفر؛و الصالحين الأئمة

ص:224


1- -المائدة(5):60. [1]
2- -المائدة(5):77. [2]
3- -الأنعام(6):153. [3]
4- -انظر:الصراط المستقيم للبيّاضيّ 284/1. [4]
5- -النساء(4):69. [5]

الهداة،و حسن أولئك رفيقا،مهديّ هذه الأمة عليه السّلام.

و قال عبد اللّه بن عبّاس:هم قوم موسى و عيسى عليه السّلام،قبل أن حرّفوا التوراة و الإنجيل،و يستفاد منه أنّ الصّراط المستقيم طريقهم.

و قال بعض العارفين:إنّ الصراط المستقيم عبارة عن الوسط الحقيقيّ بين الأخلاق الحميدة و الذّميمة،كالسّخاوة بين البخل و التّبذير،و الشّجاعة بين الجبن و التهوّر،إذ هذه الأخلاق الحميدة لها طرفا إفراط و تفريط،و هما مذمومان،حيث إنّ اليمين و الشّمال مضلّتان،و بين الإفراط و التّفريط هو غاية البعد من الطّرف كالنّقطة من الدّائرة،و عبّر الشّرع عن ذلك بالصّراط المستقيم،و أمر اللّه تعالى نبيّه عليه السّلام بالاستقامة عليه،كما قال تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ)) (1)،و قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«شيّبتني سورة هود» (2)،و هو إشارة إلى هذه الآية في تلك السّورة،و إشارة إلى صعوبة تحصيل هذه الدّرجة الّتي هي الاستقامة على هذا الصراط المستقيم.

و هذا الذي ذكرنا،إنّما هو ذكر جملة من الأقوال في معنى الصّراط المستقيم،و هذه الأقوال،و إن كانت ترى بظاهرها مختلفة،إلاّ أنّه لا اختلاف في الحقيقة،لكون مرجعها إلى أمر واحد،أي الدّين القويم الذي هو الإسلام.

الصّراط الأخرويّ

كما دلّ عليه الأخبار الصّريحة التي هي غير قابلة للتّأويل،و دلّ عليه الآيات القرآنيّة أيضا،مثل قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها)) (3)،بناء على ما فسّره كثير من المفسّرين،من أنّ المراد بورود جميع المكلّفين النّار،إشراف الكلّ عليها حين مرورهم على الصّراط الممدود على متن جهنّم،و إن كان لبعضهم دخول فيها أيضا.

ص:225


1- -هود(11):112. [1]
2- -تفسير الصافي،طبع الإسلامية 815/1 [2]ذيل الآية 113 من سورة هود،و [3]فيه:فاستقم كما أمرت...عن ابن عبّاس:ما نزلت آية كان أشقّ على رسول اللّه عليهما السّلام من هذه الآية،لهذا قال شيّبتني هود و الواقعة و أخواتها.
3- -مريم(19):71. [4]

و بالجملة،قال به العلماء من أهل الإسلام،و قالوا إنّه يجب الإيمان به لكونه ممّا نطق الشرع بوجوده،و كاد وجوده أن يكون ضروريّا في الدين القويم،فهو جسر ممدود على متن جهنّم أدقّ من الشعر،و أحدّ من السّيف،أي جسم كذلك،و هو مع كونه ممّا نطق به الشرع لا امتناع فيه عقلا،و ما ذكره منكروه في امتناعه،كما نقله الشارح القوشجيّ من القاضي عبد الجبّار و كثير من المعتزلة في ذلك،مندفع بما أجابه هو عنه كما مضى ذكره.

و الحاصل أنّ ما تمسّك به منكره من عدم إمكان العبور عليه،و أنّ فيه تعذيبا للمارّين و لا عذاب على المؤمنين مندفع.

أمّا الأوّل:فلأنّ ذلك الجسر الممدود،حيث كان جسما من أجسام الآخرة التي هي مخالفة بالحقيقة لأجسام الدّنيا،و كانت أبدان المكلّفين المعادين و أقدامهم أيضا من جنس تلك الأجسام الأخرويّة،فلا امتناع في أن يمرّوا بتلك الأقدام الأخرويّة على ذلك الجسر الممدود الأخرويّ،و قياس ذلك على الأجسام الدّنيويّة من جهة عدم إمكان المرور بالأقدام الدّنيويّة على الجسم الكذائيّ الدّنيويّ قياس الغائب على الشّاهد،و لا وجه له.

على أنّ ذلك في الدّنيا أيضا ليس بممتنع بالذّات،بل هو ممتنع عاديّ،و جاز في حكمة اللّه تعالى خرق العادة في كثير من الأمور لحكمة و مصلحة اقتضته،و كما جاز ذلك في الدّنيا،كذلك جاز في الآخرة أيضا على تقدير تسليم كون ذلك فيها ممتنعا عاديّا أيضا.

و أمّا الثاني،فلأنّه إذا كان مرور المؤمنين و الصّلحاء على ذلك الجسر كالبرق الخاطف،أو كالرّيح الهابّة،كما ورد في الخبر،فمن أين يكون لهم فيه عذاب؟

نعم،العذاب إنّما يكون لغير المؤمنين الذين يكون مرورهم عليه بصعوبة و مشقّة،كما دلّ الخبر عليه أيضا،و لا ضير فيه،بل ربّما يمكن أن يكون من جملة الحكمة في وجود ذلك الجسر،و تكليف هؤلاء بالمرور عليه تعذيبهم،كالحكمة في وجود جهنّم و إدخالهم فيها.

و حيث عرفت ذلك،فنقول:إنّ من أوّل الصراط الأخرويّ بالصّراط المستقيم

ص:226

الدّنيويّ،كالغزاليّ و أشباهه،و كذا من قال بأن المراد الأدلّة الواضحة أو العبادات،حيث إنّ ذلك أيضا يؤول إلى التّأويل بالصراط الدّنيويّ؛

إن كان مرادهم بذلك أنّه لا يكون في الآخرة ذلك الجسر الممدود على متن جهنّم أصلا و لا تكليف المكلّفين بالمرور عليه قطعا،بل إنّ الأخبار الواردة فيه كناية عن أنّ من استقام في الدّنيا على الصّراط المستقيم يكون بعيدا في الآخرة عن النّار و قريبا من الجنّة على تفاوت مراتب استقامته،و أنّ من نكب في الدّنيا عن الصّراط المستقيم و انحرف عنه يكون حاله بالعكس على تفاوت مراتب انحرافه،فهذا خلاف ما نطق به الشّرع،بل هو إنكار ما هو ضروريّ أو كالضروريّ فيه.

و إن كان مرادهم بذلك أنّ الصراط الأخرويّ هو مظهر الصراط الدنيويّ،يعني أنّ حقيقة الصّراط الدّنيويّ التي هي في الدّنيا بصورة الدّين القويم،تظهر في الآخرة بصورة ذلك الجسر الممدود،فله وجه.

و توجيهه أن يقال:إنّك قد عرفت فيما تلونا عليك سابقا في باب تجسيم الأعمال، أنّه يجوز أن يظهر حقيقة كلّيّة تارة بصورة كصورة العرض القائم في موضوع،و تارة بصورة أخرى كصورة الجوهر المستغني عن الموضوع،و أنّه يجوز أن يكون حقيقة العقائد و الأعمال و الأفعال هي في النّشأة الدّنيويّة بصورة المعاني و الأعراض تظهر فيما بعد الموت بصورة الأعيان و الجواهر و الأجسام صورة بهيّة أو مؤلمة جزاء لذلك،أمّا في النشأة البرزخيّة فبصورة الأعيان المثاليّة،و أمّا في النّشأة الأخرويّة فبصورة الأعيان و الأجسام الأخرويّة،و أنّه لا امتناع في ذلك،حتّى أنّه يجوز أن يكون أصل الجنّة و النّار بما فيهما مظاهر للعقائد و الأعمال الحسنة أو السّيئة.

و على هذا فجاز أن يكون الصراط المستقيم الذي هو عبارة عن الإسلام و الدّين القويم،و عبارة عن مجموع العقائد و الأفعال و الأعمال و الأمور الخاصّة الحقّة تظهر في النّشأة الأخرويّة بصورة ذلك الجسر الممدود على متن جهنّم الذي هو أدقّ من الشّعر و أحدّ من السيف،و يكون وجه المناسبة بين الظاهر و المظهر،بأنّه حيث كان هو في النّشأة الدّنيويّة طريقا وسطا كالخطّ المستقيم الهندسيّ الذي لا عرض له،كما أشار إليه

ص:227

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيما روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و كان الانحراف عنه أدنى انحراف،و الميل عنه إلى يمينه و شماله اللّتين هما كالخطوط حول ذلك الخط المستقيم التي أشار إليها صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في ذلك الحديث فقال:«و لا تتّبعوا السّبل فتفرّق بكم عن سبيله»وقوعا في الضّلالة،كما يدلّ عليه التفرّق عن السّبيل في الآية،و ما ورد أنّ اليمين و الشمال مضلّتان،و دخولا في الشّرك و الكفر،كما قال تعالى: وَ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ)) (1)،كان بهذا الاعتبار أدقّ من الشعر،و كأنّه ممدود على متن الضلالة و الشّرك و الكفر.و حيث كان في النّشأة الدّنيويّة بهذه الحالة و الصّفة،كان مظهره في النّشأة الأخرويّة،أي ذلك الجسر بهذه الصّفة أيضا،أي ممدودا على متن جهنّم التي هي مظهر الضّلالة و الشّرك،و أدقّ من الشّعر، بحيث يكون الانحراف عنه أدنى انحراف وقوعا في جهنّم.

و كذلك أنّه حيث كان في النّشأة الدّنيويّة مع دقّته و مدّه على متن الشّرك و الضّلال أحدّ من السّيف،حيث إنّ الإكباب و السّقوط عليه موجب للهلاك،كالهلاك بالسّيف الذي يوقع عليه،كما قال تعالى: أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)) (2)،كان مظهره في الآخرة أيضا كذلك،حيث إنّ من لم يستقم عليه و خرّ على وجهه يكون ذلك سببا لهلاكه،لسقوطه على ما هو أحدّ من السّيف،كما ورد أنّ من وقف عليه شقّه بنصفين،و كذلك أنّه حيث كان سلوكه و الاستقامة عليه في الدّنيا سببا لدخول الجنّة،كان الدّخول في الجنّة في الآخرة بحيث لا يحصل إلاّ بالمرور على ذلك المظهر،أي الجسر حتّى يدخل الجنّة،فهو كما كان في الدّنيا طريقا إلى الجنّة كان في الآخرة أيضا كذلك،لا يحصل الدّخول فيها إلاّ بالمرور عليه،و كان من جملة الحكم المتعالية في وجود ذلك الجسر،و في تكليف العباد بالمرور عليه أن يظهر أنّ أيّا منهم كان في الدّنيا مستقيما على الصّراط المستقيم ليثاب باستقامته الدّخول في الجنّة على تفاوت مراتب الاستقامة،و أنّ أيّا منهم كان في الدّنيا منحرفا عنها أو مكبّا على وجهه،ليعاقب بالدّخول في النّار على تفاوت مراتب الانحراف و الإكباب.

ص:228


1- -المؤمنون(23):74. [1]
2- -الملك(67):22. [2]

و بما ذكرنا يظهر لك أنّه لا امتناع في أن يكون الصّراط الأخرويّ مظهرا للصّراط المستقيم الدّنيويّ كما ذكرنا.و كذلك يظهر سرّ الحديث الذي رواه ابن بابويه،من أنّه قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام:يا عليّ إذا كان يوم القيامة» (1)الحديث.

حيث إنّ معرفة عليّ عليه السّلام و ولايته و انقياده و الاقتداء بطريقته هو الصّراط المستقيم، فيكون من استقام عليه و لم ينحرف عنه و لم يمل إلى ولاية غيره من أئمّة الضلالة،يعطى له براءة و جواز يمرّ به على ذلك الجسر الممدود،و من كان بالعكس كان بالعكس،كما قال تعالى: وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ)) (2).

وفّقنا اللّه تعالى و سائر المؤمنين للاستقامة على صراط عليّ و الاهتداء بهداه،فإنّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

الأعراف و السّور

و منها الأعراف و السّور،قال تعالى: وَ بَيْنَهُما حِجابٌ وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَ نادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَ هُمْ يَطْمَعُونَ* وَ إِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ)) (3)،و قال: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَ ظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ)) (4).

و قال الطّبرسيّ رحمه اللّه في الجوامع،في تفسير الآية الأولى:«و بين الجنّة و النار،أو بين أهليهما حجاب،أي ستر و نحوه،فضرب بينهم بسور.و على الأعراف،أي و على أعراف الحجاب،و هو السّور المضروب بين الجنّة و النّار،و هي أعاليه جمع عرف مستعار من عرف الفرس و الدّيك،رجال.الصادق عليه السّلام الأعراف:كثبان بين الجنّة و النّار يوقف عليها كلّ نبيّ و كلّ خليفة نبيّ مع المذنبين من أهل زمانه،كما يقف صاحب الجيش مع الضّعفاء

ص:229


1- -مرّ الحديث بأسره نقلا عن الاعتقادات للشيخ الصدوق(ره)،فراجع.
2- -هود(11):113. [1]
3- -الأعراف(7):46-47. [2]
4- -الحديد(57):13. [3]

من جنده،و قد سيق المحسنون إلى الجنّة،فيقول ذلك الخليفة للمذنبين الواقفين معه:

انظروا إلى إخوانكم المحسنين و قد سيقوا إلى الجنّة،فيسلّم عليهم المذنبون،و ذلك قوله:

«سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَ هُمْ يَطْمَعُونَ» أن يدخلهم اللّه إيّاها بشفاعة النبيّ و الإمام، و ينظر هؤلاء المذنبون إلى أهل النار،فيقولون: «رَبَّنا لا تَجْعَلْنا.. إلى آخره.و قيل إنّهم قوم قد استوت حسناتهم و سيّئاتهم،فجعلوا هنالك حتّى يقضي اللّه فيهم ما شاء و يدخلهم الجنّة،يعرفون كلاّ من زمر السّعداء و الأشقياء بسيماهم:بعلامتهم التي أعلمهم اللّه بها.

و إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار،و رأوا ما هم فيه من العذاب،استعاذوا باللّه و قالوا:«ربّنا لا تجعلنا معهم» (1)،انتهى موضع الحاجة من كلامه.

و قال أيضا في تفسير الآية التّالية لهذه الآية،أعني قوله تعالى «وَ نادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ» الآية:«أنّه روى الأصبغ ابن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السّلام،أنّه قال:نحن نوقف يوم القيامة بين الجنّة و النار،فمن نصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنّة،و من أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النار» (2)انتهى.

و قال في تفسير الآية الثّانية:فضرب بين المؤمنين و المنافقين بسور،أي حائط حائل بين شقّ الجنّة و شقّ النّار،لذلك السّور باب لأهل الجنّة يدخلون فيه،باطنه:باطن السّور أو الباب و هو الشقّ الذي يلي الجنّة فيه الرحمة أي الجنّة،و ظاهره ما ظهر لأهل النار من قبله من عنده،و من جهة العذاب هو النار» (3).انتهى موضع الحاجة أيضا.

و قريب ممّا ذكره كلام الزمخشريّ (4)و البيضاويّ في تفسير السّور و الأعراف و الرجال الذين على الأعراف،و لا تغاير إلاّ في بعض أمور لا يختلف به أصل المقصود،و هو وجود السّور و الأعراف و الرّجال على الأعراف،و الظّاهر أنّه لا خلاف بين العلماء من أهل الإسلام في وجود ذلك،كما هو منطوق الآية أيضا،فيجب الإيمان به لذلك.و اختلافهم

ص:230


1- -جوامع الجامع 438/1-439. [1]
2- -جوامع الجامع 440/1. [2]
3- -جوامع الجامع 481/1.
4- -تفسير البيضاويّ 11/3. [3]

في تفسير الرّجال مع كونه ممّا لا يقدح في أصل المقصود يمكن الجمع بأنّه يجوز أن يكون على الأعراف كلتا الطّائفتين جميعا،أمّا الأنبياء و الخلفاء فبأن يكونوا-مع كون منازلهم في الجنّة،و في أعلى علّيّين منها-على الأعراف مع المذنبين من أهل زمانهم في يوم الحساب،و الوقوف أو بعد ذلك أيضا في بعض الأحيان للحكمة التي تضمّنتها الآية.و أمّا الذين استوت حسناتهم و سيّئاتهم،فبأن يكون منازلهم على الأعراف أو فيها،و يمكثوا فيها إلى أن يشاء اللّه تعالى.و هذا الجمع هو الذي يدلّ عليه كلام ابن بابويه في «اعتقاداته».

قال:«اعتقادنا في الأعراف،أنّه سور بين الجنّة و النار،عليه رجال يعرفون كلاّ بسيماهم،و الرّجال هم النبيّ و الأوصياء عليه السّلام،لا يدخل الجنّة إلاّ من عرفهم و عرفوه، و لا يدخل النّار إلاّ من أنكرهم و أنكروه،و عند الأعراف المرجون لأمر اللّه،إمّا يعذبّهم أو يتوب عليهم» (1)انتهى.و اللّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.

الكتاب و الحساب و الميزان و السؤال
اشارة

و منها الكتاب و الحساب و الميزان:قال تعالى في الكتاب: وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً* اِقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)) (2)،

و قال تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً* وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً)) (3).

و قال: وَ وُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)) (4).

ص:231


1- -الاعتقادات للصدوق87/. [1]
2- -الإسراء(17):13-14. [2]
3- -الإسراء(17):71 و 72. [3]
4- -الكهف(18):49. [4]

و قال: وَ وُضِعَ الْكِتابُ وَ جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ* وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ)) . (1)

و قال: وَ تَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ* هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)) (2)،

و قال: وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ)) (3)،

و قال: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللّهُ وَ نَسُوهُ وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) (4).

و قال: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ* فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ* إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ* فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ* فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ* قُطُوفُها دانِيَةٌ* كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيّامِ الْخالِيَةِ* وَ أَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ)) الآية (5).

و قال: فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ* فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً* وَ يَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً* وَ أَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ* فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً* وَ يَصْلى سَعِيراً)) (6).

و قال: وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ* كِراماً كاتِبِينَ* يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ* إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَ إِنَّ الْفُجّارَ لَفِي جَحِيمٍ)) (7).

و قال: كَلاّ إِنَّ كِتابَ الفُجّارِ لَفِي سِجِّينٍ* وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ* كِتابٌ مَرْقُومٌ* وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)) (8)،

ص:232


1- -الزمر(39):69 و 70. [1]
2- -الجاثية(45):28 و 29. [2]
3- -القمر(54):53. [3]
4- -المجادلة(58):6. [4]
5- -الحاقّة(69):18-25. [5]
6- -الانشقاق(84):7-12. [6]
7- -الانفطار(82):10-14. [7]
8- -المطفّفين(83):7-10. [8]

و قال: كَلاّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ* وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ* كِتابٌ مَرْقُومٌ* يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ)) (1).

و قال تعالى في الحساب: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ)) (2).

و قال: وَ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ)) (3)،

و قال: اَلْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ)) (4)،

و قال: إِنْ حِسابُهُمْ إِلاّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ)) (5)،

و قال: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللّهُ إِنَّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)) (6)

و قال: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ)) (7)

و قال: فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً)) (8)،

و قال: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ)) . (9)

و قال تعالى في الميزان: وَ الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ)) (10).

و قال: وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ إِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ

ص:233


1- -المطفّفين(83):18-21. [1]
2- -البقرة(2):284. [2]
3- -الرعد(13):18. [3]
4- -غافر(40):17. [4]
5- -الشعراء(26):113. [5]
6- -لقمان(31):16. [6]
7- -الحاقّة(69):20. [7]
8- -الانشقاق(84):8. [8]
9- -الغاشية(88):25-26. [9]
10- -الأعراف(7):8-9. [10]

خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ)) (1)،

و قال: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ* فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ* تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النّارُ وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ)) (2)،

و قال: وَ وُضِعَ الْكِتابُ وَ جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ)) (3)

و قال: اَللّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ الْمِيزانَ وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السّاعَةَ قَرِيبٌ)) (4)

و قال: فَأَمّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ* فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ* وَ أَمّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ* فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ)) (5)

و قال: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)) (6)،

و قال: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً)) . (7)

الكتاب

فظاهر الشّرع كما هو ظاهر تلك الآيات المذكورة،و كذا ظاهر الأخبار،و هو قول المفسّرين و غيرهم من العلماء،إنّه عبارة عن صحيفة أعمال الخير أو الشرّ التي كتبتها الملائكة الحفظة للأعمال الكرام الكاتبون بأمر اللّه تعالى و حفظوها،و إنّه يخرج لكلّ

ص:234


1- -الأنبياء(21):47. [1]
2- -المؤمنون(23):101-103. [2]
3- -الزمر(39):69-70. [3]
4- -الشورى(42):17. [4]
5- -القارعة(101):6-8. [5]
6- -الزلزلة(99):7-8. [6]
7- -الكهف(18):105. [7]

إنسان يوم القيامة كتابه و صحيفة عمله «كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً» ،و يكلّف هو بقراءة ما فيه، و بما فعله من خير أو شرّ،فيقرأه و يعلم ما فعله و يعترف به،و يكون هو حسيبا على نفسه، و إنّه يكون ذلك الكتاب للأبرار منهم و السّعداء في علّيّين.

و معناه كما ذكره المفسّرون:أنّ ما كتب من أعمالهم يكون في علّيّين،أي في ديوان الخير الذي دوّن فيه كلّ ما عمله المقرّبون و الأبرار و المتّقون من الجنّ و الإنس،حيث إنّ علّيّين اسم ذلك الدّيوان و علمه،و فيه معنى العلوّ،سمّي بذلك إمّا لأنّه سبب الارتفاع إلى أعالي الدّرجات في الجنّة،و إمّا لأنّه مرفوع في السّماء السّابعة تحت العرش حيث يسكن الكروبيّون،و يشهد به قوله تعالى: يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ)) (1).

و قيل:علّيّون اسم الجنة.و قيل:سدرة المنتهى.و يحتمل أن يكون معنى كونه في علّيّين كونه من جنس الأوراق و الألواح العالية و الصحف المكرّمة المرفوعة المطهّرة بأيدي سفرة كرام بررة.

و كذلك يؤتى ذلك الكتاب للسّعداء و الأبرار بيمينهم،حيث إنّ إعطاء الكتاب باليمين علامة الرضا و الخلاص،كما أنّ إعطاءه باليسار و وراء الظّهر علامة السّخط و الهلاك.

أو لأنّ كتابهم لمّا كان من كتب الخيرات و الحسنات التي يكنّى عنها باليمين،فلذا يعطونه باليمين.أو لأنّهم حيث كانوا من أصحاب اليمين يؤتون كتابهم بها.

أو لأنّ كتابهم لمّا كان من كتب الخيرات و كان الملك الذي يكتب الخيرات و الحسنات عند الترقوة اليمنى من الإنسان،كما أنّ الملك الذي يكتب السيّئات عند التّرقوة اليسرى منه كما ورد به الأخبار،فلذلك يعطى كتابهم بيمينهم.

و كذلك يكون ذلك الكتاب للفجّار في سجّين،و معناه كما ذكره المفسّرون أيضا:أنّ السجّين فيه معنى السّجن أي الحبس و الضّيق،و معنى كونه فيه كونه في جبّ من جهنّم أو في ديوان الشّر الذي دوّن فيه أعمال الكفرة و الفسقة من الجنّ و الإنس،أو لأنّه مطروح،

ص:235


1- -المطفّفين(83):21. [1]

كما روي أنّه تحت الأرض السّابعة في موضع وحش يشهده الشّياطين كما يشهد ديوان الخير الملائكة.

و يحتمل أيضا أن يكون معناه أنّه من جنس الأوراق السّفلية و الصّحائف الدنيّة القابلة للاحتراق.

و كذلك يؤتى ذلك الكتاب لبعض هؤلاء الفسقة و الفجّار بشماله،و وجه المناسبة ظاهر،حيث إنّهم في مقابلة السّعداء و الأبرار،و كلّ حكمة تقتضي إعطاء كتاب السّعداء بيمينهم،فمقابل تلك الحكمة يقتضي إعطاء كتاب هؤلاء المقابلين لهم بشمالهم،و لبعضهم وراء الظّهر،حيث إنّهم أوتوا الكتاب،أي القرآن فنبذوه وراء ظهورهم،و اشتروا به ثمنا قليلا،فيعطون كتاب أعمالهم أيضا وراء ظهرهم.

و قد ذكر بعض المفسّرين:أنّه يكون يمينه مغلولة إلى عنقه،و شماله خلف ظهره، فيؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره.و على هذا المعنى فيؤتى كتابه بشماله أيضا مع زيادة خزي و هوان،و يكون الوجه في إعطاء كتابهم إيّاهم من وراء ظهرهم هو الوجه في إعطائه إيّاهم بشمالهم.و اللّه تعالى يعلم.

و بالجملة،فالظّاهر أنّ الكتاب عبارة عن تلك الصّحيفة التي كتبها الكرام الكاتبون من أعمال المكلّفين،و كلّ صغير و كبير مستطر فيه و لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلاّ أحصاها،و يكون للمؤمنين و السّعداء من جنس،و للفسقة و الفجّار من جنس آخر كما ذكر،و أنّ لكلّ مكلّف كتابا كتب فيه أعماله،و هذا مع كونه ممّا قد نطق به الشّرع لا مانع منه عقلا،فيجب الإيمان به.كما أنّ الشّرع قد نطق بتطاير الكتب أيضا يوم القيامة على ما دلّ عليه أخبار صريحة في ذلك،و يدلّ عليه قوله تعالى: وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ)) (1).على ما ذكره كثير من العلماء،بناء على أن يكون المراد بطائر الإنسان كتاب عمله الذي يطير،و بإلزامه في عنقه تعليقه عليه.و لا مانع منه أيضا عقلا فيجب الإيمان به.

و إن كان جمع من مفسّري الخاصّة و العامّة فسّروا الطّائر بالعمل و ما قدّر للعبد من الخير

ص:236


1- -الإسراء(17):13. [1]

و الشّر،كأنّه طير إليه من عشّ الغيب و وكر القدر لمّا كانوا يتيمّنون و يتشاءمون بسنوح الطائر و بروجه،استعير لما هو سبب الخير و الشّر من قدر اللّه و عمل العبد.و قالوا:إنّ لزومه في عنق الإنسان أنّه لازم له لزوم الطّوق في عنقه،و أنّه سبب لزينه أو شينه كالقلادة و الغلّ.

ثمّ إنّ هذا المعنى الذي ذكرنا للكتاب،و إن كان هو الظّاهر من الشرع و ذهب إليه العلماء،إلاّ أنّ بعضا منهم قد أوّله أيضا على وجه آخر.

قال البيضاويّ في قوله تعالى: وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً)) (1):«إنّ الكتاب صحيفة عمله أو نفسه المنتقشة بآثار أعماله،فإنّ الأفعال الاختياريّة تحدث في النّفس أحوالا،و لذلك يعيد تكرّرها لها ملكات» (2)،انتهى.

و قال صدر الأفاضل في«الشواهد»:«الإشراق التاسع في نشر الكتب و الصحائف.

كلّ ما يدركه الإنسان بحواسّه يرتفع منها أثر إلى الروح و يجتمع في صحيفة ذاته و خزانة مدركاته،و هو كتاب منطو اليوم عن مشاهدة الأبصار،فيكشف له بالموت ما يغيب عنه في حال الحياة ممّا كان مسطورا في كتاب لا يجلّيها إلاّ لوقتها،و قد مرّ أنّ رسوخ الهيئات و تأكّد الصّفات،و هو المسمّى عند أهل الحكمة بالملكة،و عند أهل النّبوة و الكشف بالملك و الشيطان يوجب خلود الثّواب و العقاب...

فكلّ من فعل مثقال ذرّة من خير أو شرّ يرى أثره مكتوبا في صحيفة ذاته أو صحيفة أعلى منها،و هو نشر الصّحائف و بسط الكتب،فإذا حان أن يقع بصره على وجه ذاته عند كشف غطاء و رفع شواغل ما يورده هذه الحواسّ المعبّر عنه بقوله تعالى: وَ إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ)) (3)فيلتفت إلى صحيفة باطنه و صحيفة قلبه،فمن كان في غفلة عن ذاته و حساب سرّه يقول عند ذلك: ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)) (4)،و منشأ ذلك كما مرّ مرارا،أنّ الدّار الآخرة هي دار الحياة

ص:237


1- -الإسراء(17):13. [1]
2- -تفسير البيضاويّ 198/3،و [2]في لفظه:هي صحيفة عمله...فإنّ الأعمال...لذلك يفيد تكريرها...
3- -التكوير(81):10. [3]
4- -الكهف(18):49. [4]

و الإدراك لقوله تعالى: وَ إِنَّ الدّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ)) (1)،و موادّ أشخاصها هي التّأمّلات الفكريّة و التّصوّرات الوهميّة،فيتجسّم الأخلاق و النّيّات في الآخرة يوم تبلى السّرائر، كما يتروّح الأعمال و الأفعال في الأولى،و الفعل هاهنا مقدّم على الملكة،و هناك بالعكس،قال سبحانه في قصّة ابن نوح عليه السّلام إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ)) (2)ففي الخبر:«خلق الكافر من ذمّ(ذنب)المؤمن».

و في كلام فيثاغورس:اعلم أنّك ستعارض لك في أقوالك و أفعالك و أفكارك، و سيظهر لك من كلّ حركة فكريّة أو قوليّة أو فعليّة صور روحانيّة أو جسمانية،فإن كانت الحركة غضبيّة أو شهويّة،صارت مادّة لشيطان يؤذيك في حياتك و يحجبك عن ملاحظة النّور بعد وفاتك،و إن كانت الحركة عقليّة صارت ملكا تلتذّ بمنادمته في دنياك،و تهتدي بنوره في أخراك إلى جوار اللّه و كرامته.

فإذا انقطع الإنسان عن الدّنيا و تجرّد عن مشاعر البدن،و كشف عنه الغطاء يكون الغيب له شهادة،و السّر علانية،و الخبر عيانا،فيكون حديد البصر قارئا لكتاب نفسه، بقوله تعالى: فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)) (3)و قوله: وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً* اِقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)) (4)،فمن كان من أهل السّعادة و أصحاب اليمين،و كان معلوماته أمورا مقدّسة،فقد أوتي كتابه بيمينه من جهة علّيّين،إنّ كتاب الأبرار لفي علّيّين و ما أدراك ما علّيّون،كتاب مرقوم،يشهده المقرّبون.

و من كان من الأشقياء المردودين،و كان معلوماته مقصورة على الجزئيّات،فقد أوتي كتابه من جهة سجّين،إنّ كتاب الفجّار لفي سجّين،لكونه من المجرمين المنكوسين،

ص:238


1- -العنكبوت(29):64. [1]
2- -هود(11):46. [2]
3- -ق(50):22.
4- -الإسراء(17):13-14. [3]

لقوله تعالى: وَ لَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ)) (1)،في الحساب و الميزان (2)، انتهى كلامه.

قال المحقّق الطّوسي رحمه اللّه فيما ينسب إليه من رسالة«المبدأ و المعاد»بهذه العبارة:

«فصل هشتم در اشارت به صحائف اعمال و كرام الكاتبين و نزول ملائكه و شياطين بر نيكان و بدان».

قول و فعل ما دام كه در دو كون اصوات و حركات باشند از بقا و ثبات بى نصيب بود، و چون به كون كتابت و تصوير آيند،باقى و ثابت شوند و هركه قولى بگويد،يا فعلى بكند اثرى از او باقى ماند،و به اين سبب تكرار اقتضاى اكتساب ملكه كند،كه با وجود آن ملكه معاودت به آن قول يا آن فعل آسان بود،و اگرنه چنين بودى هيچ كس علم و صناعت نتوانستى آموخت و تأديب كودكان و تكميل ناقصان را فائده نبودى.آن اثرها كه از اقوال و افعال باشد محل آن كتابتها و تصويرها را كتاب افعال و صحيفه اعمال خوانند،چه اقوال و اعمال چون مشخص شوند كتابت باشد،چنان كه بيان كنيم،و كاتبان و مصوّران مكتوبات و مصوّرات كرام الكاتبين باشند.قومى كه بر يمين باشند حسنات اهل يمين نويسند،و قومى كه بر شمال باشند سيّئات اهل شمال نويسند: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ)) (3).در خبر است كه هركه حسنه كند از آن حسنه فرشته در وجود آيد،و او را مثاب دارد،و هركه سيّئه كند از آن سيّئه شيطانى در وجود آيد،كه او را معذّب دارد،و خود در قرآن مى گويد: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاّ تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ* نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ)) (4).

ص:239


1- -السجدة(32):12. [1]
2- -راجع:الشواهد الربوبيّة293/-295. [2]
3- -ق(50):17.
4- -فصّلت(41):30-31. [3]

و به مقابل آن: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ* تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ)) (1).

و همچنين وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)) (2).

همين است كه به عبارت اهل بينش،ملك و شيطان هر دو يكى است.

و اگرنه بقا و ثبات آن ملكات بودى،خلود ثواب و عقاب را بر اعمال كه در زمان اندك كرده باشند وجهى نبودى،و لكن«إنّما يخلد أهل الجنّة في الجنّة و أهل النّار في النّار بالنّيّات»،پس هركه مثقال ذره نيكى يا بدى كند،نيكى و بدى در كتابى مكتوب و مصوّر شود،و مؤبّد و مخلّد بماند.و چون پيش چشم دارند،كه وَ إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ)) (3)،كسانى كه از آن غافل بوده باشند،گويند: ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً)) (4).

و همچنين در اخبار بسيار آمده است،كه از گفتن تسبيحى يا فعل حسنه مثلا حورى بيافرينند كه در بهشت جاودانى از آن تمتع يابند.و در ديگر جانب همچنين از سيئات گناهكاران اشخاصى بيافرينند كه سبب محنت و عقوبت قومى باشند.چنان كه در قصّۀ پسر نوح عليه السّلام آمده است: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ)) (5)،و در بنى اسرائيل: وَ لَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ* مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ)) (6).و در خبر است كه:«خلق الكافر من ذنب المؤمن».و امثال آن بسيار است.

و اين جمله به حكم آن باشد كه وَ إِنَّ الدّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)) (7)، پس هرچه در نظر اهل دنيا در آيد از وراء حجاب آن را غير حيوان بيند؛چون حجاب

ص:240


1- -الشعراء(26):221-222. [1]
2- -الزخرف(43):36. [2]
3- -التكوير(81):10. [3]
4- -الكهف(18):49. [4]
5- -هود(11):46. [5]
6- -الدخان(44):30-31. [6]
7- -العنكبوت(29):64. [7]

غطاء از پيش برگيرد،كه فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)) (1)،و اين آنگاه بود كه از اين حيات كه به حقيقت مرگ است بميرد،و به حيات آن جهان كه مرگ اين جهان است زنده شود،كه: أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها)) (2).آن را چنان بيند كه باشد،و اين است اجابت دعاء«اللهمّ أرنا الأشياء كما هي»پس هركسى را بعد از كشف غطاء و حدّت بصر كتاب خود ببايد خواندن و حساب خود كردن، وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً* اِقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)) (3).اگر سابق الخيرات باشد، يا از اهل يمين به حكم«كما تعيشون تموتون و كما تموتون تبعثون»كتابش از پيش يا از جانب راستش بدو دهند فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ)) (4).و اگر از جمله منكوسين باشد، وَ لَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ)) (5).يا از اهل شمال،كتابش از وراء ظهرش يا از جانب چپش به او دهند، وَ أَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ)) (6). «وَ أَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ» (7)،انتهى كلامه زيد اكرامه.

و لا يخفى عليك أنّ ما ذكره البيضاويّ،في معنى الكتاب،و كذا ذهب إليه صدر الأفاضل و فصّله،إن كان القول به على سبيل الاحتمال،أي بأن جعل الأصل في معناه ما ذكرناه كما هو ظاهر الشّرع،و مع هذا قيل بهذا الاحتمال أيضا فلا مانع منه،و إن حصر المعنى فيه،فلا يخفى أنّه خلاف ظاهر الشرع.

و لا يخفى عليك أيضا أنّ ما ذكره المحقّق الطوسيّ رحمه اللّه في معناه،و إن كان متضمّنا للتأويل،إلاّ أنّه ليس فيه خروج عن ظاهر الشرع،بل هو تحقيق أنيق جامع لظاهر الشرع

ص:241


1- -ق(50):22.
2- -الأنعام(6):122. [1]
3- -الإسراء(17):13-14. [2]
4- -الحاقّة(69):19؛ [3]الانشقاق(84):7. [4]
5- -السجدة(32):12. [5]
6- -الانشقاق(84):10. [6]
7- -المبدأ و المعاد23/-25،ط تهران.

و باطنه.و اللّه أعلم بالصواب.

و حيث انتهى الكلام إلى هذا المقام،فلنرجع إلى ما كنّا بصدده،فنقول:

الميزان

فقد اختلف في معناه.

قال الزمخشريّ في قوله تعالى: «وَ الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ» (1):يعني وزن الأعمال و التمييز بين راجحها و خفيفها،و رفعه بالابتداء،و خبره يومئذ،و الحقّ صفته.أو الوزن يوم يسأل اللّه الأمم و رسلهم الوزن الحقّ أي العدل.و قرئ بالقسط.

و اختلف في كيفيّة الوزن،فقيل:توزن صحائف الأعمال بميزان له لسان و كفّتان ينظر إليه الخلائق،تأكيدا للحجّة و إظهارا للنّصفة و قطعا للمعذرة،كما يسألهم عن أعمالهم،فيعترفون بألسنتهم و تشهد عليهم أيديهم و أرجلهم و جلودهم،و تشهد بها عليهم الأنبياء و الملائكة و الأشهاد،كما تثبت في صحائفهم فيقرءونها في موقف الحساب.

و قيل هي عبارة عن القضاء السّويّ و الحكم العادل.فمن ثقلت موازينه،جمع ميزان أو موزون فمن رجحت أعماله الموزونة التي لها وزن و قدر و هي الحسنات،أو ما وزن به حسناتهم.

و عن الحسن:«و حقّ لميزان توضع فيه الحسنات أن يثقل،و حقّ لميزان توضع فيه السيّئات أن يخفّ» (2)،انتهى.

و مثله كلام الطبرسيّ رحمه اللّه في«الجوامع»في تفسير هذه الآية.

و قال البيضاويّ في تفسيرها:«و الوزن أي القضاء أو وزن الأعمال،و هو مقابلتها بالجزاء،و الجمهور على أنّ صحائف الأعمال توزن بميزان له لسان و كفّتان ينظر إليه الخلائق إظهارا للمعدلة،و قطعا للمعذرة،كما يسألهم عن أعمالهم فيعترف بها ألسنتهم،

ص:242


1- -تفسير الكشّاف 67/2-68. [1]
2- -نفس المصدر.

و تشهد بها جوارحهم.و يؤيّده ما روي أنّ الرجل يؤتى به إلى الميزان فينشر عليه تسع و تسعون سجلاّ كلّ سجلّ مدّ البصر،فيخرج له بطاقة فيها كلمة الشهادة،فيوضع السّجلاّت في كفّة و البطاقة في كفّة،فطاشت السّجلاّت و ثقلت البطاقة (1).

و قيل:توزن الأشخاص،لما روي أنّه عليه السّلام قال:إنّه ليأتي العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند اللّه جناح بعوضة.

«يَوْمَئِذٍ» خبر المبتدأ الذي هو الوزن،و الحقّ صفته أو خبر محذوف،و معناه العدل السويّ.

«فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ» حسناته،أو ما يوزن به حسناته.و جمعه باعتبار اختلاف الموزونات و تعدّد الوزن،فهو جمع موزون أو ميزان» (2)،انتهى.

و قال الشّارح القوشجيّ في شرح التجريد:«و ذهب كثير من المفسّرين إلى أنّ الميزان له كفّتان و لسان و شاهين عملا بالحقيقة لا مكانها،و قد ورد في الحديث تفسيره بذلك، و أنكره بعض المعتزلة ذهابا إلى أنّ الأعمال أعراض لا يمكن وزنها،فكيف إذا زالت و تلاشت،بل المراد به العدل الثّابت في كلّ شيء،و لذا ذكر بلفظ الجمع،و إلاّ فالميزان المشهور واحد.

و قيل:هو الإدراك فميزان الألوان البصر،و الأصوات السمع،و الطّعوم الذوق،و كذا سائر الخواصّ،و ميزان المعقولات العقل.

و أجيب بأنّه يوزن صحائف الأعمال.و قيل:بل يجعل الحسنات أجساما نورانيّة، و السّيئات أجساما ظلمانيّة.و أمّا لفظة الجمع فللاستعظام.

و قيل:لكلّ مكلّف ميزان،و إنّما الميزان الكبير واحد،إظهارا لجلالة الأمر فيه،و عظم المقام (3)،انتهى.

و قال بعض المحقّقين موافقا للغزاليّ في تحقيق ميزان أعمال العباد:«إن لكلّ معنى

ص:243


1- -البطاقة:الرقعة الصغيرة.
2- -تفسير البيضاويّ 3/3. [1]
3- -شرح التجريد للقوشجى425/.

من المعاني حقيقة و روحا و له صورة و قالب،و قد يتعدّد الصور و القوالب لحقيقة واحدة، و إنّما وضعت الألفاظ للحقائق و الأرواح،و لوجودها في القوالب يستعمل الألفاظ فيها على الحقيقة،مثل القلم فإنّه وضع لآلة نقش الصور في الألواح من دون أن يعتبر فيها كونها من قصب أو حديد أو غير ذلك،بل و لا أن يكون جسما،و لا كون النّقش محسوسا أو معقولا،و لا كون اللوح من قرطاس أو خشب،بل مجرّد كونه منقوشا فيه،و هذا حقيقة اللوح.

فكذلك الميزان موضوع لما يعرف به مقادير الأشياء،و هذا معنى واحد هو حقيقته و روحه،و له قوالب مختلفة و صور شتّى بعضها محسوس و بعضها معقول،مثل ما يوزن به الأجرام و الأثقال كذي الكفّتين،و ما يوزن به المواقيت و الارتفاعات كالاصطرلاب،و ما يوزن به الدوائر و القسّي كالفرجار،و ما يوزن به الأعمدة كالشاقول،و ما يوزن به الخطوط كالمسطر،و ما يوزن به الشعر كالعروض،و ما يوزن به سائر العلوم كالمنطق،و ما يوزن به الكلّ كالعقل المستقيم.

و على هذا التحقيق يحتمل أن يقال:إنّ الميزان في الشرع للخواصّ من الناس المنطق،و القوانين النظريّة التي يعرف بها الحقّ و الباطل في الاعتقادات و الأصول، و للخواصّ و العوامّ جميعا في الأعمال و الأفعال الأنبياء و الأوصياء عليه السّلام،إذ صحّة الفعل و فساده يتحقّق بالموافقة لأفعالهم و أقوالهم و عدمها،انتهى.

و قال بعضهم:«إنّه قد ورد في الأحاديث أنّ الموازين القسط هم الأنبياء و الأوصياء، و أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام هو الميزان،فميزان كلّ أمّة هو نبيّ تلك الأمّة و وصيّ نبيّها»،انتهى.

و قال ابن بابويه في«اعتقاداته»:«اعتقادنا في الحساب و الميزان أنّهما حقّ،منه ما يتولاّه اللّه عزّ و جلّ و منه ما يتولاّه حججه،فحساب الأنبياء و الأئمّة عليه السّلام يتولاّه اللّه عزّ و جلّ،و يتولّى كلّ نبيّ حساب أوصيائه،و يتولّى الأوصياء حساب الأمم،و اللّه تبارك و تعالى هو الشهيد على الأنبياء و الرّسل،و هم الشهداء على الأوصياء،و الأئمّة شهداء على الناس،و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ:

ص:244

لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ)) (1)،

و قوله عزّ و جلّ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً)) (2)،

و قال اللّه عزّ و جلّ: أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ)) (3).و الشاهد أمير المؤمنين عليه السّلام.

و قوله تعالى: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ)) (4).

و سئل الصادق عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ. وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً)) (5).

قال:الموازين الأنبياء و الأوصياء.

و من الخلق من يدخل الجنّة بغير حساب.

السؤال

فهو واقع على جميع الخلق،لقول اللّه عزّ و جلّ: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ)) (6)،يعني عن الدّين.

و أمّا الذنب فلا يسأل إلاّ من يحاسب.قال اللّه عزّ و جلّ فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ)) (7)،يعني من شيعة النبيّ و الأئمّة عليه السّلام دون غيرهم،كما ورد في التفسير.

و كلّ محاسب معذّب،و لو بطول الوقوف،و لا ينجو من النار و لا يدخل الجنّة أحد إلاّ بعمله و الاّ برحمة اللّه تعالى،و اللّه تعالى يخاطب عباده من الأوّلين و الآخرين بمحلّ حسابهم مخاطبة واحدة يسمع منها كلّ واحد قضيّة دون غيرها،و يظن أنّه مخاطب دون

ص:245


1- -الحجّ(22):78. [1]
2- -النساء(4):41. [2]
3- -هود(11):17. [3]
4- -الغاشية(88):25-26. [4]
5- -الأنبياء(21):47. [5]
6- -الأعراف(7):6. [6]
7- -الرحمن(55):39. [7]

غيره،لا يشغله عزّ و جلّ مخاطبة عن مخاطبة،يفرغ من حساب الأوّلين و الآخرين في مقدار ساعة من ساعات الدنيا،و يخرج اللّه عزّ و جلّ لكلّ إنسان كتابا يلقاه منشورا ينطق عليه بجميع أعماله.لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلاّ أحصاها،فيجعله اللّه محاسب نفسه و الحاكم عليها،بأن يقال له: اِقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)) و يختم اللّه تبارك و تعالى على أفواههم و تشهد أيديهم و أرجلهم و جميع جوارحهم بما كانوا يكسبون،و قالوا لجلودهم لم شهدتم علينا؟قالوا أنطقنا اللّه الذي أنطق كلّ شيء و هو خلقكم أوّل مرّة و إليه ترجعون،و ما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم و لا أبصاركم و لا جلودكم،و لكن ظننتم أنّ اللّه لا يعلم كثيرا ممّا تعملون)) (1)،انتهى.

و أقول:و أنت تعلم بعد التأمّل في كلام العلماء من أهل الإسلام،ممّا نقلنا أو لم ننقل، أن لا خلاف بينهم،بل لا شكّ في أنّ في يوم القيامة معيارا صحيحا سديدا قويما يعرف به صحّة العمل و فساده،و صواب الاعتقاد و خطاؤه،قد عبّر عنه بلسان الشّرع بالميزان كما نطقت به الآيات القرآنيّة،و دلّت عليه الأحاديث الصحيحة المعتبرة،إلاّ أنّهم اختلفوا في حقيقة ذلك الميزان و المعيار ما هي؟

فمن قال بأنّ المراد منه الميزان الحسّيّ الجسمانيّ الذي له لسان و كفّتان،فكأنّه قال به نظرا إلى دلالة بعض الأخبار عليه،كخبر السجلاّت الذي نقله البيضاويّ و غيره من الأخبار،و الى أنّ المتبادر من لفظة الميزان و المعنى الحقيقيّ له هو هذا،فيجب الحمل عليه إذا لم يكن قرينة على خلافه.

و لا إشكال عليه أيضا من جهة أنّ الأعمال و الاعتقادات معاني و أعراض،فكيف يمكن وزنها بذلك الميزان الحسّيّ حتّى يظهر ثقلها أو خفّتها؟لأنّها من حيث كونها معاني و أعراضا و إن كان لا يمكن وزنها بذلك الميزان الحسّيّ الجسمانيّ،إلاّ أنّها كما دلّ عليه الأخبار الدالّة على تجسيم الأعمال في القيامة تكون أجساما،إمّا أجساما نورانيّة،كما للمحسنين،و إمّا ظلمانيّة كما للمسيئين،و إذا كانت أجساما فيمكن وزنها بذلك الميزان.

ص:246


1- -راجع الاعتقادات للصدوق88/-89. [1]

فإن قلت:إنّ الأخبار الدالّة على تجسيم الأعمال تدلّ على تجسيم أعمال المحسنين بصورة الحور و القصور و الولدان و نحو ذلك،و أعمال المسيئين بصورة الحيّات و العقارب و النيران و نحو ذلك،فما معنى وزنها؟

قلت:لا امتناع في وزنها حتّى يظهر ثقلها أو خفّتها.مع أنّه يمكن أن تكون تلك الأعمال مع تجسّمها بتلك الصّور المذكورة متجسّمة حين الوزن بصور جسمانيّة أخرى مؤلمة أو ملذّة،و يقع الوزن على تلك الأجسام الأخرى،و تكون الأجسام الأولى و الأخرى كلّها مظاهر لتلك الأعمال.

فإنّك قد عرفت فيما مضى أنّه يمكن أن يكون لحقيقة واحدة مظاهر متعدّدة،على أنّه يمكن أن يكون الموزون بذلك الميزان الحسّيّ صحائف الأعمال لا نفس الأعمال،أي أن يكون تلك الصّحائف الجسمانيّة من حيث كونها مشتملة على الأعمال المكتوبة فيها، و كون ثقلها و خفّتها دليلا على ثقل الأعمال و خفّتها موزونة.

و أمّا القول بأنّه توزن الأشخاص،فهو و إن كان يدفع هذا الإشكال أيضا،إلاّ أنّه خلاف الظاهر من الأخبار،بل مستبعد جدّا،فإنّ ثقل الأشخاص من حيث كونها أشخاصا و خفّتها،كيف يكون دليلا على ثقل الأعمال و خفّتها اللّذين هما مناط الرجحان و عدمه، و سبب الحكم على المكلّفين بالإساءة أو الإحسان.

اللهمّ إلاّ أن يكون المراد بوزن الأشخاص وزن أعمالهم أو وزن صحائف أعمالهم، فيرجع إلى السّابق.و كذا الحديث الذي نقله البيضاويّ (1):«من أنّه روي عنه عليه السّلام،أنّه قال:

«ليأتي العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند اللّه جناح بعوضة»،غير صريح و لا ظاهر في وزن الأشخاص،فإنّه يمكن أن يكون معنى الحديث-و اللّه أعلم-أنّه ليأتي العظيم السمين يوم القيامة لا قدر له عند اللّه تعالى بقدر جناح بعوضة،لكونه ممّن لا عمل خير له،و يؤيّده ما ذكره الشيخ الطبرسيّ رحمه اللّه في«مجمع البيان»في تفسير قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً)) (2).بهذه العبارة:

ص:247


1- -تفسير البيضاويّ 3/3. [1]
2- -الكهف(18):105. [2]

«فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا»أي لا قيمة لهم عندنا و لا كرامة،و لا نعتدّ بهم،بل نستخفّ بهم و نعاقبهم.يقول العرب:ما لفلان عندنا وزن،أي قدر و منزلة،و وصف الجاهل بأن لا وزن له لخفّته بسرعة طيشه في قلة تنبّه.

و روي في الصّحيح أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:إنّه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن جناح بعوضة» (1)،انتهى.

و لا يخفى أنّ ذكره رحمه اللّه هذا الحديث في تفسير الآية كما فسّرها يؤيّد ما ذكرنا في معنى الحديث،بل يدلّ عليه،و إن ذكر بعضهم في الآية تفسيرا آخر،و هو أنّه لا يقام للكافرين يوم القيامة ميزان،لكون أعمالهم حابطة،موافقا لما ورد في الأخبار:«إنّ أهل الشرك لا ينصب لهم الموازين،و لا تنشر لهم الدّواوين،و إنّما يحشرون إلى جهنّم زمرا،و إنّما نصب الموازين و نشر الدواوين لأهل الإسلام»رواه الكلينيّ رحمه اللّه في«روضة الكافي»عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام (2).

ثمّ إنّه حيث كان الميزان ميزانا حسّيّا جسمانيّا،كان ثقل الموازين-جمع ميزان أو موزون-و خفّتها ثقلا و خفّة حسّيّين أيضا،و كان الثّقل دليلا على الرجحان،و الخفّة دليلا على خلافه،كما أنّه في النشأة الدنيويّة كذلك.

و قد قال بعض أهل التحقيق،كالمحقّق الطوسيّ رحمه اللّه في رسالة«المبدأ و المعاد»:«إنّ في ذلك إشارة إلى دقيقة هي أنّ أثر كلّ فعل يقتضي اطمينان الفاعل كالخيرات و الأفعال الحسنة،فنسبته إلى الثقل أولى،و هذا كما أنّ المثقلات تحفظ السفن عن الاضطراب و الحركات المختلفة،و أثر كلّ فعل يقتضي تحيّر نفس الفاعل و تتبّع الأهواء المختلفة كالسّيّئات و الشّرور فنسبته إلى الخفّة أولى،حيث إنّ الجسم الخفيف يتحرّك بأدنى تغيّر يحدث في الهواء و يكون حركاته خالية عن الانتظام،و كذلك اطمينان النفس يستلزم الرضا،فلذا قال تعالى: فَأَمّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ* فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ)) (3).و اختلاف

ص:248


1- -مجمع البيان 497/6 و في لفظه:...و يوصف الجاهل...بسرعة بطشه و قلّة تثبّته...
2- -الكافي [1](الأصول و الروضة)412/11-413،طبع الإسلامية. [2]
3- -القارعة(101):6-7. [3]

حركات النفس و اضطرابها يستلزم متابعة الهواء،و هي مؤدّية إلى الهاوية،فلذا قال تعالى:

وَ أَمّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ* فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ)) (1).

و أيضا إن إبليس خلق من النار،و آدم خلق من الطين،كما قال تعالى: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)) (2)و النار خفيفة،و الطين ثقيل،فلذا يقتضي أفعال إبليس الخفّة، و أفعال آدم الثقل،كما قال تعالى: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ)) (3)انتهى بمضمونه. (4)

و أقول:و هذا التحقيق و إن كان متضمّنا للتأويل،لكنّه تحقيق أنيق جامع بين ظاهر الشّرع و باطنه.

و حيث عرفت ذلك.فاعلم أنّ القول بالميزان بهذا المعنى الحسّيّ الجسمانيّ،كأنّه لا ينافيه ما ورد في الأخبار الصحيحة أنّ الموازين هم الأنبياء و الأوصياء عليه السّلام،و أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام هو الميزان،إذ القائل بهذا القول لو رام القول بما تضمّنه تلك الأخبار أيضا، و أراد الجمع بين الأخبار،أمكنه أن يقول:لعلّ المتولّي لوزن الأعمال بذلك الميزان الحسّيّ هم الأنبياء و الأوصياء عليه السّلام،كما أنّهم هم المتولّون لحساب الأمم،فلذلك أطلق عليهم عليه السّلام،لفظ الميزان،و يكون الإطلاق على نوع من المجاز.

و على تقدير أن يكون المراد بتلك الأخبار أنّهم عليه السّلام هم الميزان نفسه،و أنّ ذواتهم المقدّسة و نفوسهم الشريفة هي المعيار لصحّة العمل و فساده،كما هو الظاهر من تلك الأخبار،بناء على أن يكون إطلاق الميزان عليهم عليه السّلام بنوع تجوّز كما هو الاحتمال،أو على سبيل الحقيقة بناء على التحقيق الذي نقلناه من الغزاليّ و غيره،و بناء على أن يكون معنى كونهم الميزان كما هو الاحتمال،أنّهم يحكمون بعقولهم المقدّسة المستقيمة في النشأة الأخرويّة على بعض الأعمال و الاعتقادات بالحسن و الرّجحان،و كذا بالثقل الذي هو دليل الرجحان،و على بعضها بخلاف ذلك.

ص:249


1- -القارعة(101):8-9. [1]
2- -الأعراف(7):12؛ [2]ص(38):76.
3- -الإسراء(17):84. [3]
4- -المبدأ و المعاد28/.

أو أنّه يوم القيامة يعرض أفعال العباد و عقائدهم على أفعالهم عليه السّلام و عقائدهم، و تقاس هي عليها،فما وافق أفعالهم و عقائدهم يحكم عليه بالرجحان و الثقل،و ما خالفه يحكم عليه بخلافه كما هو الأظهر،و بناء على أن يكون معنى الثقل و الخفّة معنى عقليّا.

فعلى هذا التقدير لا منافاة أيضا،إذ القائل بالميزان الحسّيّ لو رام الجمع أيضا،أمكنه أن يقول:لا امتناع في أن يكون يوم القيامة نوعان من الميزان و المعيار،يوزن بكلّ منهما الأعمال و يتميّز بهما صحّة الفعل و فساده:أحدهما الميزان الحسّيّ،و الآخر الأنبياء و الأوصياء الذين يرجع كونهم ميزانا إلى الميزان العقليّ،و لعلّ الحكمة في ذلك-و اللّه أعلم-ظهور حسن أفعال العباد و قبحها أتمّ ظهور،حيث إنّ تلك الأفعال توزن بميزان حسّيّ و عقليّ جميعا،فيظهر ثقل ما ظهر ثقله بالميزان الحسّيّ بالميزان العقليّ أيضا، و كذلك الخفّة.

و بالجملة،يكون إلزام الحجّة عليهم أوكد و أتمّ.

و هذا كما أن من يقول بأنّ المراد بالموازين القسط هم الأنبياء و الأوصياء نظرا إلى دلالة تلك الأخبار عليه،لو رام القول بالميزان الحسّيّ أيضا و الجمع بين الأخبار،أمكنه ذلك بأحد من الوجهين المذكورين.و اللّه أعلم بالصواب.

و حيث عرفت ذلك،ظهر لك أنّ من قال بأنّ الموازين عبارة عن القضاء السويّ و الحكم العادل،إن أراد به القضاء السويّ و الحكم العادل الذي يكون بالميزان الحسّيّ،فلا مانع منه.

و كذا لو أراد به الحكم العادل الذي يحكم به الأنبياء و الأوصياء عليه السّلام،أو يحكم به اللّه تعالى أو الملائكة المقرّبون بإذن اللّه تعالى،أو الحكم العدل الذي يكون هو بموافقة أفعال العباد لأفعال الحجج عليه السّلام و مخالفتها لها،فلا مانع منه أيضا.و كيفما كان فلا يكون في هذا القول مخالفة لشيء من الأخبار،بل على تقديره أيضا يمكن الجمع كما يعلم بالتأمّل فيما ذكرنا.

و أمّا من قال بأنّ المراد بالوزن وزن الأعمال،و هو مقابلتها بالجزاء،فهو بظاهره و إن كان يتراءى كونه معنى آخر غير ما ذكر،إلاّ أنّه بعد التأمّل يرجع إلى السابق أيضا،لأنّ

ص:250

وزن الأعمال و مقابلتها بالجزاء إنّما يكون بميزان البتّة،و هو إمّا الميزان الحسّيّ أو العقليّ.

و قد ذكر بعضهم أنّ المراد بالميزان تقابل الحسنات من أهل الطّاعة بسيّئاتهم،ليظهر الرجحان أو التساوي،و هذا مع رجوعه إلى السّابق باعتبار يتضمّن معنى آخر،هو الموازنة التي قال بها بعض المتكلّمين،و أبطلها بعض العلماء منّا.و لنا في تحقيق القول بها و في إبطال الإحباط و التكفير كلام مبسوط ذكرناه في«تنقيح المرام في شرح تهذيب الأحكام» (1)،من أراد الاطّلاع عليه فليرجع إليه.

و كيفما كان،فالميزان بأيّ معنى من تلك المعاني المتقدّمة،أمر ممكن في ذاته قد أنبأ عنه الشرع،فيجب الإيمان به.

الحساب

فمعناه جمع تفاريق المقادير و الأعداد و تفريق مبلغها لكي يظهر كيفيّة الحال،و هو في القيامة عبارة عن حصر آثار الحسنات و السيّئات و جمعها حتّى يجزى أهل الحسنات جزاء حسناتهم،و أهل السيّئات جزاء سيّئاتهم،و كما أنّ ذلك أمر ممكن في ذاته،كذلك يمكن في جنب قدرة اللّه تعالى البالغة أن يكشف في لحظة واحدة و ساعة واحدة للخلائق حاصل حسناتهم و سيّئاتهم،و لا يشغله حساب أحد عن حساب الآخر،و يفرغ في تلك اللحظة و السّاعة عن حساب الأوّلين و الآخرين و هو أسرع الحاسبين.

و أمّا بيان كيفيّة وقوع الحساب و بيان المتولّي له،و بيان من يقع عليه الحساب،و ما يحاسب به،و يسأل عنه،فقد عرفته على سبيل الإجمال ممّا نقلنا عن الشيخ ابن بابويه رحمه اللّه من المقال،فتذكّر.

إلاّ أنّ قوله أوّلا بوقوع الحساب على كلّ أحد،حتّى الأنبياء و الأوصياء عليه السّلام،و قوله أخيرا:إنّ من الخلق من يدخل الجنّة بغير حساب،يتراءى أنّه كونهما متنافيين ظاهرا.

و لعلّ وجه رفع التنافي كما يظهر من كلامه،أنّ معنى وقوع الحساب على الكلّ أنّ

ص:251


1- -نسخة منه موجودة في مكتبة مدرسة المروي بطهران.

الكلّ يحاسبون و يسألون عن الدين،و معنى أنّ من الخلق من يدخل الجنّة بغير حساب، أنّهم يدخلون الجنّة بغير حساب و سؤال عن الذنب لا عن الدين أيضا،و حينئذ فلا منافاة:

على أنّه ذكر بعض المفسّرين،كالشيخ الطبرسيّ رحمه اللّه في الجوامع في تفسير قوله تعالى:

مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاّ مِثْلَها وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ)) (1)هكذا:و قوله:«بغير حساب»في مقابلة«إلاّ مثلها»معناه أنّ جزاء السّيئة له حساب و تقدير لا يزيد على المستحقّ،و أمّا جزاء العمل الصالح فبغير تقدير و حساب،بل هو زائد على المستحقّ ما شئت من الزيادة و الكثرة» (2)، انتهى.

و لعلّ مراد ابن بابويه رحمه اللّه أيضا من قوله:«إنّ من الخلق من يدخل الجنّة بغير حساب» هذا المعنى،و حينئذ فلا إشكال و لا منافاة أصلا.

و قد تضمّن ما نقلناه عنه أنّ في القيامة،و لا سيّما حين وقوع الحساب،يكون إنطاق الجوارح أيضا كما دلّ عليه الآيات التي ذكرها و غيرها ممّا ورد في الشّرع من ذلك،و لا يخفى أنّه أيضا أمر ممكن في ذاته قد نطق به الشرع،فيجب الإيمان به.و هذا أيضا من جملة الأمور و الأحوال الكائنة في القيامة التي نروم بيانها هذا.

و قد ذكر المحقّق الطوسيّ رحمه اللّه في رسالة«المبدأ و المعاد»في بيان الحساب كلاما لا بأس بنقله.

قال:«فصل نهم در اشارت به حساب طبقات اهل حساب.در روز حساب مردمان سه طائفه اند:طائفه اى «يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ» و ايشان سه صنفند:

اوّل:سابقان و اهل اعراف،كه از حساب منزه اند.در خبر است كه چون درويشان را به حسابگاه برند،و فرشتگان از ايشان حساب طلبند،گويند چه به ما داده ايد،تا حساب بازدهيم.خطاب حضرت عزت مى رسد كه نيك مى گويند،شما را با حساب ايشان كار نيست.و خود خطاب با پيغمبر است در حق جماعتى ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ

ص:252


1- -غافر(40):40. [1]
2- -جوامع الجامع419/.

مِنْ شَيْءٍ،وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ)) (1).

و صنف دوم:جماعتى از اهل يمين،كه بر سيّئات اقدام ننموده باشند.

و صنف سوم:جماعتى كه ديوان ايشان از سيّئات خالى باشد.(سوم:جماعتى كه يبدل اللّه سيّئاتهم حسنات خ).

اما اهل حساب نيز سه صنفند:

اوّل:جماعتى كه ديوان اعمال ايشان از حسنات خالى باشد.

دوم:كسانى كه حَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)) (2)در شأن ايشان است.

وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً)) (3).

سوم:اهل حساب كه خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً)) (4)و ايشان دو صنف باشند:

صنفى كه حساب خود هميشه كنند،«و حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا»، پسنديده اند،لا جرم به قيامت يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً)) (5).

و صنفى كه از حساب و كتاب غافلند،لا جرم به مناقشۀ حساب مبتلا شوند.«و من نوقش في الحساب فقد عذّب».

و حساب عبارت از حصر و جمع آثار حسنات و سيئاتى است كه تقديم يافته باشند،تا به حكم عدل جزاى هريك بستانند،و هميشه موقنان مشاهد موقف حساب باشند(لا يؤخّر حساب المؤمن إلى يوم القيامة) (6)،انتهى كلامه رحمه اللّه.

ص:253


1- -الأنعام(6):52. [1]
2- -هود(11):16. [2]
3- -الفرقان(25):23. [3]
4- -التوبة(9):102. [4]
5- -الانشقاق(84):8. [5]
6- -المبدأ و المعاد26/-27.
العقبات

ثمّ إنّ من جملة تلك الأحوال و الأمور الكائنة يوم القيامة،بل فيما بعد الموت «العقبات»،و قد دلّ عليه الشّرع.روى الشيخ ابن بابويه،في«الفقيه»عن الصّادق عليه السّلام أنّه قال:إنّ بين الدنيا و الآخرة ألف عقبة،أهونها و أيسرها الموت. (1)

و ذكر صدر الأفاضل في الشّواهد«أنّه روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،أنّه سئل عن قوله تعالى:

سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً)) (2)فقال:إنّه جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ثمّ يهوي فيه كذلك أبدا.

و قال أيضا:يكلّف أن يصعد عقبة في النّار،كلّما وضع يده عليها ذابت،و إذا وضع رجله ذابت،فإذا رجعها عاقت(عادت خ)و يهوي فيه إلى أسفل سافلين» (3)،انتهى.

و قد ذكر العلماء في الحديث الأوّل وجوها:

فقال بعضهم:إنّ تلك العقبات عبارة عن الآلام و الغموم و الحسرات الكثيرة الحاصلة للإنسان بفعل أعمال الشرّ أو ترك أعمال الخير،سواء خصّصنا الشّرّ بالمحرّمات و الخير بالواجبات،و سواء عمّمنا الشرّ بحيث يشمل المكروهات،و الخير بحيث يشمل المستحبّات أيضا،حيث إنّه يلحقه بعد كشف الغطاء عنه بترك كلّ واجب بل مستحبّ، و كذا بفعل كلّ حرام،بل مكروه أيضا،ألم و حسرة و ندامة،فإنّ الألم الحاصل له لأجل كلّ واحد منها هو عقبة على حيالها.

و قال بعضهم:إنّها عبارة عن الآلام و الحسرات التي تحصل للنّفس الإنسانيّة بسبب قطع تعلّقها عن البدن و أجزائه و عن الأهل و المال و العشائر و الإخوان و الأحبّاء و الأصدقاء و نحو ذلك من موجودات النّشأة الدّنيويّة التي كان لها تعلّق بها،فإنّ الألم الحاصل لها بسبب قطع التّعلّق عن كلّ واحد واحد،هو عقبة واحدة من تلك العقبات.

ص:254


1- -من لا يحضره الفقيه 134/1.
2- -المدّثر(74):17. [1]
3- -الشواهد الربوبيّة301/-302 و [2]فيه:...كلّما وضع يده عليها ذابت،فإذا رجعها عادت،و إذا وضع رجله ذابت،فإذا رفعها عادت،و يهوي...

و على هذين المعنيين،فيكون المراد بالعقبات في الحديث العقوبات،سواء حمل قوله عليه السّلام:«ألف عقبة»على هذا العدد المعيّن أو على كثرة،إلاّ أنّ في المعنى الثّاني شيئا، و هو أنّ قطع تعلّق النّفس عن تلك المذكورات هو الموت،فلا يبقى حينئذ عقبة أخرى غير الموت يكون هو أيسر العقبات و أهونها كما دلّ عليه الحديث.

و قال ابن بابويه رحمه اللّه في اعتقاداته بهذه العبارة:«باب في العقبات التي على طريق المحشر:اعتقادنا في ذلك أنّ هذه العقبات اسم كلّ عقبة منها اسم فرض و أمر و نهي،فمتى انتهى الإنسان إلى عقبة اسمها اسم فرض و كان قد قصّر في ذلك الفرض،حبس عندها و طولب بحقّ اللّه فيها،فإن خرج فيه بعمل صالح قدّمه،أو برحمة تداركه نجا منها إلى عقبة أخرى،فلا يزال يدفع من عقبة إلى عقبة و يحبس عند كلّ عقبه،فيسأل عمّا قصّر فيه من معنى اسمها،فإن سلم في جميعها انتهى إلى دار البقاء فيحيا حياة لا موت فيها أبدا، و سعد سعادة لا شقاوة معها،و سكن جوار اللّه مع أنبيائه و حججه و الصّدّيقين و الشهداء و الصالحين من عباده.و إن حبس على عقبة فطولب بحق قصّر فيه فلم ينجه عمل صالح قدّمه،و لا أدركته من اللّه رحمة،زلّت به قدمه عن العقبة فهوى في جهنّم،نعوذ باللّه منها.

و هذه العقبات كلّها على الصراط؛اسم عقبة منها الولاية،يوقف جميع الخلائق عندها فيسألون عن ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام و الأئمّة عليه السّلام،فمن أتى بها نجا،و من لم يأت بها هوى،و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ)) (1)،و اسم عقبة منها المرصاد، و هو قول اللّه عزّ و جلّ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ)) (2)،و هو قول اللّه عزّ و جلّ«لا يجوزني ظلم ظالم».و اسم عقبة منها الرّحم،و اسم عقبة منها الأمانة،و اسم عقبة منها الصلاة،و باسم كلّ فرض أو أمر و نهي عقبة،يحبس عندها العبد فيسأل» (3)،انتهى كلامه رحمه اللّه.

و أقول:و على ما ذكره رحمه اللّه،فالعقبات محمولة على ظاهرها،سواء حملت على الكثرة أو على العدد المعيّن.و توجيهه على القول بتجسيم الأعمال و الأوامر و النّواهي ظاهرة،

ص:255


1- -الصافّات(37):24. [1]
2- -الفجر(89):14. [2]
3- -الاعتقادات للصدوق87/ و 88. [3]

فإنّه إذا جاز أن يكون الصّراط المستقيم الذي هو الدّين القويم،و عبارة عن مجموع ما أتى الشّارع به من الأوامر و النواهي و الأعمال و الأفعال و العقائد ممثّلا في الآخرة بصورة الجسر الممدود على متن جهنّم،كما تحقّقت القول فيه سابقا،كذلك يجوز أن يكون كلّ جزء من أجزاء الصراط المستقيم ممثّلا في القيامة بصورة عقبة من تلك العقبات،فيكلّف العبد بالمرور عليها و العبور منها،و يكون مرور من أتى بحقّ ذلك الجزء منه حقّ الإتيان بسهولة،و مرور من قصّر فيه بصعوبة.

إلاّ أنّ فيما ذكره رحمه اللّه شيئا أيضا،و هو أنّه يدلّ على أنّ كلّ تلك العقبات الواردة في الشّرع إنّما هي على الصّراط،و قد عرفت،أنّ الحديث الأوّل يدلّ على أنّها تكون فيما بين الدّنيا و الآخرة،حتّى في عالم البرزخ أيضا،و كذلك ما نقله صدر الأفاضل من الحديث النبويّ يدلّ على كونها في جهنّم أيضا.و اللّه تعالى يعلم.

الحوض

و من تلك الأمور الحوض،و هو أيضا ممّا ورد الشّرع به و يجب التّصديق له.

قال ابن بابويه رحمه اللّه في اعتقاداته:«اعتقادنا في الحوض أنّه حقّ،و أنّ عرضه ما بين أبلّة و صنعاء،و هو حوض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و أنّ فيه من الأباريق عدد نجوم السّماء،و أنّ الوليّ (الساقي خ)عليه يوم القيامة أمير المؤمنين عليه السّلام،يسقي منه أولياءه،و يذود عنه أعداءه،من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا.و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«ليختلجنّ قوم من أصحابي دوني و أنا على الحوض،فيؤخذ بهم ذات الشّمال،فأنادي:يا ربّ أصحابي أصحابي،فيقال لي إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك» (1)،انتهى.

ص:256


1- -الاعتقادات85/. [1]
الشفاعة

و منها الشفاعة،قال ابن بابويه رحمه اللّه:إنّها لمن ارتضى اللّه دينه من أهل الكبائر و الصّغائر،فأمّا التائبون من الذّنوب فغير محتاجين إلى الشّفاعة،و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:من لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله اللّه شفاعتي.و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:لا شفيع أنجح من التّوبة.

و الشّفاعة للأنبياء و الأوصياء و المؤمنين و الملائكة،و في المؤمنين من يشفع في مثل ربيعة و مضر،و أقلّ المؤمنين شفاعة من يشفع لثلاثين إنسانا.و الشّفاعة لا تكون لأهل الشّرك،و لا لأهل الكفر و الجحود،بل يكون للمذنبين من أهل التوحيد (1)،انتهى.

و بالجملة،ثبوت أصل الشفاعة مع كونه ممّا دلّ عليه الشّرع الشّريف،لقوله تعالى:

عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً)) (2)،حيث فسّر بالشفاعة.و لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي» (3)إجماعيّ بين المسلمين لا خلاف فيه لأحد،فيجب الإيمان به.و أمّا السّمعيات الدالّة على نفي الشفاعة،كقوله تعالى: وَ ما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ)) (4)و قوله تعالى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشّافِعِينَ)) (5)و غير ذلك،فهي متأوّلة بالكفّار.

و هل الشفاعة لزيادة المنافع أو لإسقاط المضارّ؟

فيه خلاف بين المتكلّمين،و الحقّ عند المحقّقين ثبوتها فيهما جميعا،إذ يقال:شفع فلان لفلان،إذا طلب له زيادة منافع أو إسقاط مضارّ.

و على التّقديرين،فيبطل الشفاعة منّا في حقّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،أمّا على التقدير الثاني فظاهر، إذ لا مضارّ له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى يمكن إسقاطها،و أمّا على الثاني،فلأنّ طلب زيادة المنافع في حقّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إن كان يتصوّر،إلاّ أنّ الشفيع ينبغي أن يكون أعلى مرتبة من المشفوع،و هنا ليس كذلك.

ص:257


1- -الاعتقادات85/ و 86. [1]
2- -الإسراء(17):79. [2]
3- -من لا يحضره الفقيه 574/3،و في لفظه:إنّما شفاعتي.
4- -البقرة(2):270. [3]
5- -المدّثر(74):48. [4]
الجنّة و النّار

و منها الجنّة و النار بما فيهما كما فصّل في الشرع الشريف و بيّن في الدين القويم، و يجب الإيمان بهما جميعا،إذ جميع ذلك أمر ممكن في ذاته،و قد نطق به الشرع المتين المبين.

ص:258

المطلب الثّالث

اشارة

في بيان أصناف الناس و بيان أحوالهم في الجملة في القيامة

و في كيفيّة خلود أهل الجنّة في الجنّة و أهل النّار في النّار

قال اللّه تعالى: وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً* فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ* وَ أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ* وَ السّابِقُونَ السّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)) (1)الآيات.

و قال: فَأَمّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ* فَرَوْحٌ وَ رَيْحانٌ وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ* وَ أَمّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ* فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ* وَ أَمّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضّالِّينَ* فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ)) (2).

و قال تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)) (3)الآيات.

و ذكر صاحب الكشّاف في تفسير الآية الاولى:أنّ معنى قوله تعالى: وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً)) :و كنتم أصنافا ثلاثة،يقال للأصناف التي بعضها مع بعض أو يذكر بعضها مع بعض أزواج.و أنّ أصحاب الميمنة الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم،و أصحاب المشأمة الذين يؤتونها بشمائلهم،أو أصحاب المنزلة السنيّة و أصحاب المنزلة الدنيّة،من قولك:فلان منّي باليمين و فلان منّي بالشّمال،إذا و صفتهما بالرّفعة عندك و الضّعة.و ذلك لتيمّنهم بالميامن و تشؤّمهم بالشّمائل،و لتفؤّلهم بالسّانح و تطيّرهم من البارح.و لذلك اشتقّوا لليمين الاسم

ص:259


1- -الواقعة(56):7-11. [1]
2- -الواقعة(56):88-94. [2]
3- -فاطر(35):32. [3]

من اليمن،و سمّوا الشّمال شوميّ.

و قيل:أصحاب الميمنة و أصحاب المشأمة أصحاب اليمن و الشوم،لأنّ السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم،و الأشقياء مشائيم عليها بمعصيتهم.

و قيل:يؤخذ بأهل الجنّة ذات اليمين،و بأهل النّار ذات الشمال.

و إنّ السّابقين المخلصون الذين سبقوا إلى ما دعاهم اللّه إليه،و شقّوا الغبار في طلب مرضاة اللّه تعالى.

و قيل:الناس ثلاثة:فرجل ابتكر الخير في حداثة سنّه،ثمّ دوام عليه حتّى خرج من الدنيا،فهذا السابق المقرّب.و رجل ابتكر عمره بالذنب و طول الغفلة،ثمّ تراجع بتوبة،فهذا صاحب اليمين.و رجل ابتكر الشرّ في حداثة سنّه،ثمّ لم يزل عليه حتّى خرج من الدّنيا، فهذا صاحب الشّمال (1)،انتهى.

و ذكر في تفسير الآية الثانية:أنّ المراد من المقرّبين:السابقون من الأزواج الثلاثة المذكورة في أوّل السّورة (2).

و يشعر كلامه هذا أنّ المراد من أصحاب اليمين أصحاب الميمنة،و بالمكذّبين الضالّين،أصحاب المشأمة.

و ذكر في تفسير الآية الثالثة ما يدلّ على أنّ المراد ب«الّذين»اصطفينا من عبادنا»أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الصحابة و التابعين و تابعيهم و من بعدهم إلى يوم القيمة،و أنّ الضمير في «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ» راجع إلى «الَّذِينَ» ،أي فمنهم ظالم لنفسه بجرم،و هو المرجى لأمر اللّه،و مقتصد،و هو الذي خلط عملا صالحا و آخر سيّئا،و سابق من السابقين (3)،انتهى.

و كلام الشيخ الطبرسيّ رحمه اللّه في الجوامع في تفسير الأولى و الثانية موافق لما ذكره صاحب الكشّاف،إلاّ أنّه لم يذكر معنى السّابقين،و لم يذكر أيضا ما ذكره صاحب الكشّاف بقوله:«و قيل النّاس ثلاثة»الخ.

ص:260


1- -راجع تفسير الكشّاف 52/4. [1]
2- -نفس المصدر.
3- -راجع تفسير الكشّاف 308/3. [2]

و أمّا كلامه في تفسير الآية الثالثة فهكذا:«و عن ابن عبّاس و الحسن أنّ الضّمير،أي الضّمير في قوله تعالى: «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ» للعباد،و اختاره المرتضى قدّس سرّه،قال:علّل تعليقه سبحانه وراثة الكتاب بالمصطفين من عباده،بأنّ فيهم من هو ظالم لنفسه،و من هو مقتصد،و من هو سابق بالخيرات.

و قيل:إنّ الضمير للذين اصطفاهم و روي عن الصّادق عليه السّلام،أنّه قال:الظّالم لنفسه منّا من لا يعرف حقّ الإمام،و المقتصد منّا العارف بحقّ الإمام،و السابق بالخيرات هو الإمام، و كلّهم مغفور لهم (1)،انتهى.

و قد روى الشيخ الكلينيّ في كتاب«الإيمان و الكفر»من كتاب«الكافي»في باب «الكبائر»عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السّلام حديثا تضمّن أنّ الناس على ثلاث طبقات:أصحاب الميمنة و أصحاب المشأمة و السابقون،و أنّ السابقين فهم الأنبياء مرسلين و غير مرسلين،و أنّ أصحاب الميمنة هم المؤمنون حقّا،و أنّ أصحاب المشأمة هم اليهود و النصارى.

و روى أيضا في ذلك الكتاب في باب«أصناف الناس»عن حمزة بن الطيّار،أنّه قال:

قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام:الناس على ستّة أصناف.قال،قلت:أ تأذن لي أن أكتبها؟قال نعم، قلت:ما أكتب؟قال:اكتب:أهل الوعيد من أهل الجنّة و أهل النّار.و اكتب:و آخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا و آخر سيّئا.قال،قلت:من هؤلاء؟قال:وحشيّ (2)منهم.

قال و اكتب:و آخرون مرجون لأمر اللّه إمّا يعذّبهم و إمّا يتوب عليهم،قال:اكتب:إلاّ المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان لا يستطيعون حيلة و لا يهتدون سبيلا، لا يستطيعون حيلة إلى الكفر و لا يهتدون سبيلا إلى الإيمان،فاولئك عسى اللّه أن يعفو عنهم.

قال:و اكتب:أصحاب الأعراف.قال،قلت:و ما أصحاب الأعراف؟قال:قوم استوت

ص:261


1- -أنظر الكافي 281/2-284؛ [1]الجوامع ذيل الآية.
2- -قاتل حمزة بن عبد المطّلب.

حسناتهم و سيّئاتهم،فإن أدخلهم اللّه النار فبذنوبهم،و إن أدخلهم الجنّة فبرحمته. (1)

و عن حمزة بن الطيّار أيضا،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:الناس على ستّ فرق و يؤولون كلّهم إلى ثلاث فرق:الإيمان،و الكفر و الضّلال،و هم أهل الوعيد الذين وعدهم اللّه الجنّة و النار:المؤمنون،و الكافرون،و المستضعفون،و المرجون لأمر اللّه إمّا يعذّبهم، و إمّا يتوب عليهم.و المعترفون بذنوبهم خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا،و أهل الأعراف. (2)

و قد روى أيضا في ذلك الكتاب في باب«الضلال»عن زرارة،عن أبي جعفر عليه السّلام، حديثا يتضمّن أنّه قال:فقلت:فقد قال اللّه عزّ و جلّ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)) (3)لا و اللّه لا يكون أحد من الناس ليس بمؤمن و لا كافر.قال:فقال أبو جعفر عليه السّلام:

قول اللّه أصدق من قولك يا زرارة،أ رأيت قول اللّه عزّ و جلّ: خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)) (4)فلما قال عسى؟فقلت:ما هم إلاّ مؤمنين أو كافرين.قال، فقال:فما تقول في قوله عزّ و جلّ «إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً إلى الإيمان»؟فقلت:ما هم إلاّ مؤمنين أو كافرين.

ثمّ أقبل عليّ،فقال:ما تقول في أصحاب الأعراف؟فقلت:ما هم إلاّ مؤمنين أو كافرين، إن دخلوا الجنّة فهم مؤمنون،و إن دخلوا النار فهم كافرون.فقال:و اللّه ما هم بمؤمنين و لا كافرين،لو كانوا مؤمنين لدخلوا الجنّة كما دخلها المؤمنون،و لو كانوا كافرين لدخلوا النّار كما دخلها الكافرون،لكنّهم قوم استوت حسناتهم و سيّئاتهم فقصرت بهم الأعمال،و إنّهم لكما قال اللّه عزّ و جلّ.فقلت:أ من أهل الجنّة هم أم من أهل النار؟فقال:اتركهم حيث تركهم اللّه.قلت:أ فترجئهم؟قال:نعم كما أرجأهم اللّه،إن شاء أدخلهم الجنّة برحمته، و إن شاء ساقهم إلى النار بذنوبهم و لم يظلمهم.فقلت:هل يدخل الجنّة كافر؟قال:لا.

قلت:فهل يدخل النار إلاّ كافر؟قال:فقال:لا،إلاّ أن يشاء اللّه.يا زرارة إنّني أقول ما شاء

ص:262


1- -الكافي 381/2 و [1]فيه:فإن أدخلهم النار.
2- -الكافي 381/2-382. [2]
3- -التغابن(64):2. [3]
4- -التوبة(9):102. [4]

اللّه،و أنت لا تقول ما شاء اللّه،أما إنّك إن كبرت رجعت و تحلّلت عندك عقدك (1).

و روى أيضا في باب«المستضعف»عن زرارة،قال سألت أبا جعفر عليه السّلام عن المستضعف،فقال:هو الذي لا يهتدي حيلة إلى الكفر فيكفر،و لا يهتدي سبيلا إلى الإيمان،لا يستطيع أن يؤمن و لا يستطيع أن يكفر،فهم الصبيان و من كان من الرجال و النّساء على مثل عقول الصبيان مرفوع عنهم القلم.

و عنه،قال:سألت أبا جعفر عليه السّلام عن المستضعف،فقال:هو الذي لا يستطيع حيلة يدفع بها عنه الكفر،و لا يهتدي بها إلى سبيل الإيمان،لا يستطيع أن يؤمن و لا يكفر،قال:

و الصبيان و من كان من الرجال و النساء على مثل عقول الصّبيان. (2)

و عن عمر بن أبان،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المستضعفين،فقال:هم أهل الولاية.فقلت:أيّ ولاية؟فقال:أما إنّها ليست بالولاية في الدّين،و لكنّها الولاية في المناكحة و الموارثة و المخالطة،و هم ليسوا بالمؤمنين و لا بالكفّار،و منهم المرجون لأمر اللّه. (3)

و عن أبي بصير،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:من عرف اختلاف الناس فليس بمستضعف.

و عن عليّ بن سويد،عن أبي الحسن موسى عليه السّلام،قال:سألته عن الضعفاء،فكتب إليّ:

الضعيف من لم ترفع إليه حجّة،و لم يعرف الاختلاف،فإذا عرف الاختلاف فليس بضعيف. (4)

و روى فيه أيضا في باب«المرجون لأمر اللّه»عن زرارة،عن أبي جعفر عليه السّلام،في قول

ص:263


1- -انظر:الكافي 402/2-403. [1]
2- -الكافي 404/2، [2]أمّا حديث أبي جعفر عليه السّلام،هكذا:عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام،قال:المستضعفون الذين لا يستطيعون حيلة و لا يهتدون سبيلا قال:لا يستطيعون حيلة إلى الإيمان،و لا يكفرون الصبيان و أشباه عقول الصبيان من الرجال و النساء.
3- -الكافي 405/2 و 406. [3]
4- -نفس المصدر. [4]

اللّه عزّ و جلّ: وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ)) (1)قال:قوم كانوا مشركين،فقتلوا مثل حمزة و جعفر و أشباههما من المؤمنين،ثمّ إنّهم دخلوا في الإسلام فوحّدوا اللّه و تركوا الشرك، و لم يعرفوا الإيمان بقلوبهم فيكونوا من المؤمنين فتجب لهم الجنّة،و لم يكونوا على جحودهم فيكفروا فتجب لهم النّار،فهم على تلك الحال إمّا يعذّبهم و إمّا يتوب عليهم (2).

و روى أيضا فيه في باب«أصحاب الأعراف»عن زرارة،عن أبي جعفر عليه السّلام مثل الحديث السابق في بيان حال أصحاب الأعراف.

و روى عن رجل قال:قال أبو جعفر عليه السّلام:«الذين خلطوا عملا صالحا و آخر سيّئا» فاولئك قوم مؤمنون يحدثون في إيمانهم من الذنوب التي يعيبها المؤمنون و يكرهونها، فأولئك عسى اللّه أن يتوب عليهم (3)،انتهى.

و قال الشيخ الصدوق ابن بابويه رحمه اللّه في«الفقيه»في باب«حال من يموت من أطفال المؤمنين»:«روى أبو زكريّا عن أبي بصير،قال:قال:ابو عبد اللّه عليه السّلام إذا مات طفل من أطفال المؤمنين نادى مناد في ملكوت السماوات و الأرض:ألا إنّ فلان بن فلان قد مات، فإن كان قد مات والداه أو أحدهما أو بعض أهل بيته من المؤمنين،دفع إليه يغذوه،و إلاّ دفع إلى فاطمة عليها السّلام تغذوه حتّى يقدم أبواه أو أحدهما أو بعض أهل بيته فتدفعه إليه. (4)

و في رواية حسن بن محبوب،عن عليّ بن رئاب عن الحلبيّ،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال:إنّ اللّه تبارك و تعالى يدفع إلى إبراهيم و سارة أطفال المؤمنين يغذونهم بشجر في الجنّة لها أخلاف كأخلاف البقر (5)،في قصر من درّ،فإذا كان يوم القيامة ألبسوا و طيّبوا و أهدوا إلى آبائهم،فهم ملوك في الجنّة مع آبائهم،و هو قول اللّه تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)) (6).

ص:264


1- -التوبة(9):106. [1]
2- -الكافي 407/2. [2]
3- -الكافي 408/2. [3]
4- -من لا يحضره الفقيه 490/3.
5- -الأخلاف جمع خلف:الثدي.
6- -الطور(52):22؛ [4]من لا يحضره الفقيه 490/3،و في لفظه:كفّل ابراهيم...

و في رواية أبي بكر الحضرميّ،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ:

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)) قال،قصرت الأبناء عن أعمال الآباء،فألحق الأبناء بالآباء لتقرّ بذلك أعينهم». (1)

و سأل جميل بن درّاج أبا عبد اللّه عليه السّلام عن أطفال الأنبياء عليه السّلام،فقال:ليسوا كأطفال النّاس.

و سأله عن ابراهيم بن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لو بقي كان صدّيقا نبيّا؟قال:لو بقي كان على منهاج أبيه عليه السّلام (2).

و قال فيه في باب«حال من يموت من أطفال المشركين و الكفّار»:روى وهب بن وهب،عن جعفر بن محمّد،عن أبيه عليهما السّلام،قال،قال عليّ عليه السّلام:أولاد المشركين مع آبائهم في النّار،و أولاد المسلمين مع آبائهم في الجنّة (3).

و روى جعفر بن بشير عن عبد اللّه بن سنان،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن أولاد المشركين يموتون قبل أن يبلغوا الحنث،قال:كفّار،و اللّه أعلم بما كانوا عاملين،يدخلون مداخل آبائهم.

و قال عليّ عليه السّلام:يؤجّج لهم نار،فيقال لهم:ادخلوها،فإن دخلوها كانت عليهم بردا و سلاما،و إن أبوا قال اللّه عزّ و جلّ لهم:هو ذا أنا قد أمرتكم فعصيتموني،فيأمر اللّه عزّ و جلّ بهم إلى النار. (4)

و في رواية حريز عن زرارة،عن أبي جعفر عليه السّلام قال:«إذا كان يوم القيمة احتجّ اللّه عزّ و جلّ على سبعة:على الطفل،و الذي مات بين النبيّين،و الشيخ الكبير الذي أدرك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو لا يعقل،و الأبله،و المجنون الذي لا يعقل،و الأصمّ،و الأبكم،كلّ واحد منهم يحتجّ على اللّه عزّ و جلّ.قال:فيبعث اللّه عزّ و جلّ إليهم رسولا فيؤجّج لهم نارا،

ص:265


1- -من لا يحضره الفقيه 490/3،و في لفظه:و اتبعتهم ذريتهم...ذريّتهم فألحق اللّه.
2- -من لا يحضره الفقيه 490/3.
3- -من لا يحضره الفقيه 491/3.
4- -من لا يحضره الفقيه 492/3؛(غلام لم يدرك الحنث:لم يجر عليه القلم).

فيقول:إنّ ربّكم يأمركم أن تثبوا فيها،فمن وثب فيها كانت عليه بردا و سلاما،و من عصى سيق إلى النّار (1)،انتهى.

و أقول:و أنت بعد تدبّرك فيما نقلنا من الآيات و الأخبار يظهر لك بيان أصناف الناس و بيان أحوالهم في القيامة.

أمّا بيان الأحوال فظاهر،حيث إنّ تلك الآيات و الأخبار المنقولة على حالة كلّ صنف من تلك الأصناف المذكورة،و إنّ مآلهم و مرجعهم يوم القيمة إلى ما ذا؟و إن كانت حالاتهم و لا سيّما حالات أهل الوعد و الوعيد،من أهل الجنّة و النّار و درجاتهم و دركاتهم مختلفة و متفاوتة بحسب تفاوت مراتبهم،كما دلّ عليه آيات و أخبار غير ما نقلنا.

و أمّا بيان الأصناف،فلأنّ ما نقلنا من حديثي حمزة بن الطيّار يدلّ على أنّ جميع الناس على ستّة أصناف:صنفان منها أهل الوعد و الوعيد من أهل الجنّة و النار،و الأصناف الأربعة الباقية هم الباقية من الناس كما فصّله عليه السّلام في ذينك الحديثين.و الحديث الثاني منهما يدلّ على أنّ تلك الأصناف الستّة بأجمعهم تؤول باعتبار إلى ثلاثة أصناف:أهل الإيمان و أهل الكفر،اللذين هما من أصحاب الجنّة و النار،و أهل الضلال الذين ينقسمون إلى تلك الأصناف الأربعة الباقية.و كأنّ مبناه-و اللّه أعلم-على أنّ بين الإيمان و الكفر منزلة و مرتبة كما هو رأي بعض المتكلّمين.و دلّ عليه حديثا زرارة و حديث عمر بن أبان.

و تلك المرتبة المتوسّطة تسمّى بالضلال،حيث إنّ أهل هذه المرتبة لا يستطيعون حيلة إلى الكفر و لا يهتدون سبيلا إلى الإيمان،فليسوا بالمؤمنين و لا بالكافرين،بل هم من أهل الضّلال،إذ لم يهتدوا سبيلا إلى الإيمان،و عدم الاهتداء إليه ضلال.و هذا كأنّه مبنيّ على أنّ معنى الإيمان هو التّصديق بالقلب،و الإقرار باللّسان جميعا كما عرّفه به بعض المحقّقين،و قال:إنّه لا يكفي التصديق بالقلب وحده لقوله تعالى: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ)) (2)حيث سمّاهم اللّه تعالى جاحدين أي كافرين،مع إثبات التّصديق القلبيّ لهم.و كذا لا يكفي الإقرار باللّسان وحده،لقوله تعالى قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ

ص:266


1- -من لا يحضره الفقيه 492/3.
2- -النمل(27):14. [1]

تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا)) (1)و لقوله تعالى: وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)) (2)حيث إنّه تعالى في هاتين الآيتين أثبت لهم الإقرار باللّسان،و نفى عنهم الإيمان،فإنّه على هذا التقدير-أي أن يكون معنى الإيمان هو مجموع التصديق بالقلب و الإقرار باللّسان-يظهر كون أهل تلك المنزلة غير مؤمنين،و كذا هو مبنيّ على أن يكون معنى الكفر المقابل للإيمان أمرا وجوديّا مضادّا للإيمان هو التكذيب.

فإنّه على هذا التقدير يظهر كون أهل تلك المنزلة غير كفّار أيضا.لا أن يكون معناه أمرا عدميّا هو عدم الإيمان عمّا من شأنه ذلك كما عرّفه به بعض المتكلّمين،فإنّه على هذا التّقدير يصدق على كثير من الأصناف الأربعة الذين هم أهل تلك المنزلة اسم الكافر، و الحال أنّه نفي عنهم في تلك الأحاديث المذكورة اسم الكافر.

و بالجملة،فهذه الأصناف الثلاثة التي تؤول إليها تلك الأصناف الستّة كما ذكر في ذلك الحديث،ليست هي تلك الأصناف الثلاثة المذكورة في تلك الآيات الثلاثة المتقدّمة،بل المذكور في تلك الآيات إنّما هو بيان صنفين من تلك الأصناف الستّة أو الثلاثة،و ذانك الصنفان إنّما هما أهل الوعد و الوعيد من أهل الجنّة و النّار.و قد قسّما إلى الأزواج الثلاثة و الأصناف الثلاثة أيضا،أي أنّه قسّم صنف المؤمنين إلى صنفين،أمّا في الآية الأولى فقد قسّما إلى السابقين و أصحاب الميمنة و أصحاب المشأمة.

و أمّا في الآية الثانية فإلى المقرّبين و أصحاب اليمين و المكذّبين الضالّين،و أمّا في الآية الثالثة فإلى السابق بالخيرات و الظالم لنفسه،و المقتصد،بناء على أن يكون الضمير في قوله تعالى: «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ» راجعا إلى قوله: «عِبادِنا» ،أو إلى قوله: «الَّذِينَ اصْطَفَيْنا» ،و أريد بهم مطلق أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و أمّا الحديث المرويّ عن الصادق عليه السّلام في تفسير الآية،فهو إن كان مبناه على إرجاع الضمير إلى أحد المذكورين،لكن مع بيان معنى تلك الأصناف الثلاثة من جملة ذريّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته،فهذا يرجع إلى السابق أيضا،حيث إنّ فيه أيضا تقسيما لمطلق

ص:267


1- -الحجرات(49):14. [1]
2- -البقرة(2):8. [2]

المؤمنين و الكافرين إلى تلك الأصناف الثلاثة مع بيان معنى تلك الأصناف في آل محمّد بحيث يشمل المعصومين منهم و غير المعصومين.

و إن كان مبناه على إرجاع الضمير إلى «الَّذِينَ اصْطَفَيْنا» و إرادة خصوص آل محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منهم،فهو يكون تقسيما لخصوصهم إلى تلك الأصناف الثلاثة و بيان معناها فيهم،لا تقسيما لمطلق المؤمنين و الكافرين.

و بالجملة،فالمستفاد من تلك الآيات الثلاث،أي الآيتين الأوليين مطلقا و الآية الثالثة على التقديرين الأوّلين،أنّ المراد بالسابقين الذين وصفوا بالمقرّبين في الآية الأولى هم المقرّبون في الآية الثانية،و السابق بالخيرات في الآية الثالثة.

و كذا المراد بأصحاب الميمنة في الآية الأولى على كلّ معنى من المعاني التي ذكرها المفسّرون لهم أصحاب اليمين في الآية الثانية،و المقتصد بالخيرات في الآية الثالثة.

و كذا المراد بأصحاب المشأمة في الآية الأولى-بأيّ معنى أريد بهم-المكذّبون الضالّون في الآية الثانية،و الظالم لنفسه في الآية الثالثة.

و كذلك المستفاد من حديث أصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السّلام،من أنّ السابقين هم الأنبياء مرسلين و غير مرسلين،و أنّ اصحاب الميمنة هم المؤمنون حقّا،و أنّ أصحاب المشأمة هم اليهود و النصارى،أنّه تفسير لما ذكر في الآيات الثلاث،حيث يظهر منه أنّ السابقين المقرّبين الذين هم السابقون في الخيرات هم الذين يكونون متبوعين في الخيرات و السّبق إليها،و أنّهم هم الأنبياء مرسلين أو غير مرسلين،بل الأوصياء أيضا في كلّ أمّة فإنّهم أيضا متبوعون بالقياس إلى سائر الأمّة،و أنّ أصحاب الميمنة و أصحاب اليمين و المقتصدين هم المؤمنون حقّا الذين كانوا تابعين للأنبياء و الأوصياء عليه السّلام فيما جاءوا به مطيعين لهم،و أنّ أصحاب المشأمة و المكذّبين لمتبوعيهم و الضالّين عن الصراط السّويّ غير المطيعين لهم فيما أمروا به و نهوا عنه،هم اليهود و النصارى،حيث إنّهم كانوا كذلك،و كأنّ ذكر خصوص اليهود و النصارى على سبيل المثال،و المراد مطلق المكذّبين الضالّين،سواء كانوا هم اليهود و النصارى أم غيرهم،و سواء كانوا من أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،أم من أمّة موسى و عيسى على نبيّنا و عليهما السلام،أو من الأمم السابقة.

ص:268

و حيث عرفت ذلك،ظهر لك بيان تقسيم أهل الوعد و الوعيد من أهل الجنّة و النار إلى تلك الأزواج الثلاثة و الأصناف الثلاثة،و بيان المراد من تلك الأصناف.

و ظهر لك أنّ ما ذكره صاحب الكشّاف بقوله:«و قيل الناس ثلاثة،فرجل ابتكر الخير»الخ،يمكن حمله على ما ذكر،حيث إنّه يمكن أن يحمل الرّجل الذي ابتكر الخير في حداثة سنّه ثمّ داوم عليه حتّى خرج من الدّنيا على من كان معصوما من الذنوب،و لا خفاء في أنّه هو النّبيّ أو وصيّه السابق إلى الخيرات و إلى ما دعاه اللّه تعالى المقرّب عنده تعالى،و كذا يمكن أن يحمل الرجل الذي ابتكر عمره بالذّنب و طول الغفلة،ثمّ تراجع بتوبة على الذي آمن بنبيّه و بوصيّ نبيّه،إلاّ أنّه عمل عملا غير صالح لغفلته و لما دعاه إليه هواه،ثمّ أدركته التوبة و خرج بذلك عن الضّلال ككثير من أمم الأنبياء عليه السّلام.و أن يحمل الرجل الذي ابتكر الشرّ في حداثة سنّه ثمّ لم يزل عليه حتّى خرج من الدنيا على الذي كان مكذّبا لنبيّه و وصيّ نبيّه،ضالاّ عن طريق الهدى حتّى خرج من الدنيا.

و كذلك يمكن أن يحمل على ما ذكر ما يظهر من كلام بعضهم في وجه تقسيم أهل الجنّة و النّار إلى تلك الأزواج الثلاثة،حيث قال:إنّ الإنسان إمّا كامل في علمه و عمله جميعا فهو السّابق المقرّب،و إمّا كامل في أحدهما ناقص في الآخر فهو من أصحاب اليمين،و إمّا ناقص في كليهما جميعا فهو من أصحاب الشمال.إلاّ أنّه ينبغي حمل كمال العلم أو العمل لأصحاب اليمين على ما كان أدون من كمال العلم أو العمل للمقرّبين.و هذا الذي ذكرناه إنّما هو بيان تقسيم أهل الجنّة و النّار إلى الأقسام الثلاثة.

و أمّا بيان تقسيم غيرهم إلى الأقسام الأربعة الباقية،فيظهر ممّا ذكرنا من الأحاديث الدالّة عليه مع تعريف كلّ صنف منها،فلا نطيل الكلام بشرحه.

ثمّ إنّه لبعض الفضلاء المعاصرين (1)كلام في ذكر أصناف الأمم و تفصيل عواقب أحوالهم،لا بأس بنقله.

قال:اعلم أنّ النّاس أوّلا قسمان:

ص:269


1- -هو الميرزا حسن القمّيّ رحمه اللّه منه.هو ابن الفياض اللاهيجيّ و صاحب شمع اليقين و المدفون بقم المقدّسة.

أحدهما من له صحّة ما من العقل و التمييز،حيث يميّز تمييزا ما بين الحسن و القبيح، و يعلم الخير من الشرّ،و يفرّق بين المدح و الذمّ،و يدرك الثواب و العقاب،فهؤلاء أصحاب التكاليف العقليّة و الشرعيّة و ما يترتّب عليها من المدائح و المذامّ و المثوبات و العقوبات، و إن اختلفت درجاتهم في العواقب حسب اختلافهم في المراتب.

و ثانيهما من لا يفرّق بين الخير و الشرّ،و لا يعرف البرّ من الهرّ،كالأطفال و المجانين و البله،فهم مثل سائر أنواع الحيوان إن فعلوا خيرا فباتّفاق أو تأديب،و إن انتهوا من شرّ فببخت أو ترهيب،ليس لهم همّة إلاّ ما استدعته قواهم الحيوانيّة،و لا وجهة إلاّ ما اقتضته طبائعهم الجسمانيّة من المآكل و المشارب و الملاهي و الملاعب،فقد سقط التكليف عن هؤلاء القوم،و لا ينبغي لهم مدح و لا لوم و هم يسمّون بالمستضعفين.

فأمّا المكلّفون،فينقسمون أوّلا أزواجا ثلاثة:السّابقون،و أصحاب اليمين،و أصحاب الشمال،لأنّهم إن آمنوا باللّه وحده لا شريك له و بأنبيائه و خلفائه عليه السّلام،و مع هذا هم من أهل العقول الشريفة و الأفهام المنيفة،و قد حصّلوا طرفا من العلوم الحقّة و تحصّلوا لطائفة من المعارف اليقينيّة،كلّ على قدر ما في إمكانه و يليق بشأنه،و مع هذا قد تجمّلوا بمكارم الأخلاق الجميلة،و تحلّوا بحليّ الأفعال النّبيلة،و تزيّنوا بزيّ التّقوى من المعاصي و الخصال الرّذيلة،بحيث قد خلصوا من آثار الطبيعة بالكليّة،فأولئك المقرّبون السّابقون إلى أعلى درجات الجنّة،المكرّمون من اللّه تعالى بالرّوح و الرّضوان.

و إن آمنوا و أحسنوا و تجمّلوا بالأعمال الصّالحة الفاضلة،و تخلّقوا بمحاسن الأخلاق العادلة المتوسّطة بين الأطراف،اللائقة بجمال الأشراف،إلاّ أنّهم لم يبلغوا في العقل و العمل درجات الأوّلين،فأولئك أصحاب اليمين.

و إن كفروا و أنكروا و جحدوا و ألحدوا و أشربوا في قلوبهم حبّ الدنيا و اتخذوا إلههم متابعة الهوى،و ركبوا في مهوى الجهالة،و تاهوا في بيداء الضّلالة،و أخلدوا في مصارع الدّناءة و السّفال،فأولئك أصحاب الشّمال.

فهؤلاء أصول الأزواج.ثمّ يمتزج هذه بعضها مع بعض،فيحصل أزواج أخرى.و ذلك أنّ الذين آمنوا و أصلحوا قد يكون منهم عدول في العلم و العمل عن حدود الأوساط،إمّا

ص:270

بتفريط أو إفراط،فإن كان ذلك على وجه مكابرة لأمر اللّه تعالى و جحود للحقّ فهؤلاء يلحقون بالكافرين،لامتناع اجتماع الإذعان بالشّيء و الجحود له.و إن لم يكن على وجه المكابرة و الجحود،بل إنّما هو من غلبة نفسه الأمّارة بالسوء و سلطان الشيطان الرجيم، فإن غلبت حسناتهم سيّئاتهم،بأن تكون أكثر منها و أفضل فتستولي عليها و تضمحلّ هي فيها محتها و أبطلتها،لأنّ الحسنات يذهبن السيّئات،أو بأنّ تركوا السيّئات بعد ذلك و ذكروا اللّه فاستغفروا لذنوبهم و لم يصرّوا على ما فعلوا،فأولئك يبدّل اللّه سيّئاتهم حسنات،لأنّ التوبة و الإنابة تنفّر منها و فرار و تباعد،و قد تقدّم-فيما تقدّم-أنّ البعد من أحد المتقابلين،لا يكون إلاّ بالقرب من الآخر،فمن هجر من الشّيطان و العصيان و النيران، فقد تقرّب إلى الرحمن و الرضوان و الجنان،فهذان الفريقان يلحقان بالمؤمنين المخلصين.

أو بأن اعترفوا بذنوبهم و استحيوا من اللّه تعالى لتقصيرهم،و إن لم يكونوا تابوا بعد، فهؤلاء أيضا قريب من السّابقين،عسى اللّه أن يتوب عليهم إن اللّه غفور رحيم،لأنّ الاعتراف بالذّنب و الحياء لا يكون إلاّ عن ندامة و أسف،فلا يبعد أن يقوم مقام التوبة.

و إن غلبت سيّئاتهم حسناتهم بأحد الوجوه الثلاثة،فهؤلاء مرجون لأمر اللّه إمّا يعذّبهم،إن كان إيمانهم في غاية الضّعف،بحيث تتأثّر نفوسهم من كلّ سيّئة و تهوى إليها و تلصق بها،كالثّوب الخشن الذي يسرع إليه الدّرن،و ينفذ فيه الوسخ فيتقذّر سريعا.

أو كان إيمانهم قويّا إلاّ أنّهم أصرّوا على السيّئات فرسخت بهم و اشتدّ لصوقها بهم، كمرآة صقيلة وقعت في طين مدّة طويلة،فصدأت جدّا،فهذان-لا محالة-محتاجان إلى تطهير شديد و مبالغة في التّغسيل و التصقيل بقدر الرسوخ،و شدّة اللصوق،و إمّا يتوب عليهم إن لم يكن الضعف و لا الرّسوخ بتلك المرتبة،فيطهر بأدنى عناية في الغسل و المسح.

و بالجملة،فهؤلاء ينجون آخرا لا محالة،و إن تعذّبوا مدّة فيلحقون بالّذين غلبت حسناتهم،لأنّ أصل الإيمان حسنة تغلب كلّ سيّئة،لأنّ الاعتقاد يتعلّق بجوهر الرّوح و القلب،و الأخلاق و الأفعال أشياء تلحق من خارج.

و يلحق بالمرجئين قوم من أهل العقول وحّدوا اللّه و خلعوا عبادة من يعبد من دونه،

ص:271

لكنّهم في النبوّة أو في شيء من سائر الأصول على شكّ،لا ينكرونه فيكونوا كافرين، و لا يذعنوا له فيكونوا مؤمنين.إمّا بسبب شبهة عرضتهم،كأكثر عوامّ المخالفين و ضعفائهم.و إمّا لأنّ الدّعوة لم تبلغهم كقوم في أقاصي البلاد،أو بلغتهم لكنّهم ليسوا من أولي الألباب المستقلّة في الهدى،و لا يستطيعون الخروج إلى من يميّز لهم الحقّ من الرّدي،كأكثر نسائهم و قصرائهم.

فهؤلاء إن كانوا بحيث لو أزيل عنهم الشّبهة و وصلوا إلى الحقّ آمنوا به،فهم ممّن يدركهم النجاة و يكونون مع المؤمنين،و إن كانوا حينئذ جحدوا الحقّ و أنكروه،فممّن تخلّد في السجن،و هؤلاء من حيث إبهام مآلهم يلحقون بالمؤمنين،و من حيث ضعف أحوالهم بالمستضعفين.

و يقرب من حال هؤلاء حال كثير من أهل الكفر و الضّلال أيضا،الذين و إن كانوا بالفعل منكرين،إلاّ أنّ ذلك ليس بعناد لهم و جحود في قلوبهم،بل إنّما هو لاقتدائهم بقومهم و آبائهم و التباس الحقّ عليهم،و ضعفهم أو ضعف عقولهم من الاجتهاد في بلوغه، فأمرهم أيضا موقوف حتّى يميّز اللّه الخبيث من الطيّب.

و إن تساوت حسناتهم و سيّئاتهم فهم أصحاب الأعراف،و هو السّور الذي بين الجنّة و النار،باطنه فيه الرحمة و ظاهره من قبله العذاب،فأوّلا يترجّح لهم أحد الطرفين فلا محالة يترجّحون في الحدّ المشترك بينهما حتّى إن حصل لأحدهما رجحان من عفو و شفاعة أو سخط أو براءة يلحقون بأهله.

و أمّا غير المكلّفين المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان فهؤلاء أيضا إن كانوا بحيث لو قوّوا و بلغوا التكليف آمنوا و أطاعوا،فلهم في عالم البرزخ المتوسّط بين هذه النشأة الدنيا الخسيسة و النشأة العليا العقليّة ترقّيات في العقل و الفهم كترقّي الصبيان في ذلك بحسب ترقّيهم في أبدانهم و نموّ أجسامهم يوما فيوما،و إن لم يبلغوا بعد حدّ عقول الرجال و اكتساب العلوم،حتّى إذا كانت القيامة،و امتاز الأخيار من الأشرار،التحقوا في الجنّة بعشيرتهم و آبائهم من الأبرار،و إن لم يكونوا يؤمنون بعد ذلك أيضا،فيلحقون لا محالة بأشباههم و إن لم يشاركوهم في عذابهم.

ص:272

و ورد في الأخبار عن أهل البيت الأخيار صلوات اللّه عليهم اختلاف في أحوال هؤلاء،ليس هنا مقام ذكرها،و لعلّها تؤول إلى هذا»انتهى كلامه رحمه اللّه.

و أقول:لا يخفى عليك أنّ هذا الفاضل،و إن بذل مجهوده في تفصيل أصناف الأمم و حصرها و بيان حال كلّ قسم و صنف،إلاّ أنّ في بعض ما ذكره تأمّلا و نظرا،كما يظهر ذلك على من تأمّل و نظر في الأخبار الواردة في هذا المطلب.و اللّه أعلم بحقيقة الحال،و إليه المرجع و المآل.

في بيان خلود أهل الجنّة في الجنّة و أهل النّار في النّار

ثمّ إنّه لا يخفى عليك أنّه قد ورد في الشرع آيات كثيرة و أخبار عديدة دالّة على خلود أهل الجنّة في الجنّة،و أنّ الجنّة و لذّاتها و خيراتها دائمة بأهلها،و كذا على خلود أهل النار في النّار،و أنّ الجحيم و آلامها و شرورها دائمة بأهلها.و لا خلاف أيضا بين المسلمين في الأوّل،و إن وقع الخلاف بينهم في الثّاني.

قال المحقّق الطوسيّ رحمه اللّه في التجريد:«و الكافر مخلّد،و عذاب صاحب الكبيرة منقطع لاستحقاق الثواب بإيمانه و لقبحه عند العقلاء،و السمعيّات متأوّلة،و دوام العقاب مختصّ بالكافر». (1)

و قال الشارح القوشجيّ في شرحه:«اتّفق المسلمون على أنّ عذاب الكفّار المعاندين دائم لا ينقطع،و الكافر المبالغ في الاجتهاد الذي لم يصل إلى المطلوب،ذهب الجاحظ و العنبريّ أنّه معذور،لقوله تعالى: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)) (2)و لأنّ تعذيبه مع بذله الجهد و الطّاقة من غير تقصير قبيح عقلا.

و ذهب الباقون إلى أنّه غير معذور،و ادّعوا الإجماع عليه قبل ظهور المخالفين.قالوا:

كفّار عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذين قتلوا و حكم بخلودهم في النار،لم يكونوا عن آخرين

ص:273


1- -شرح التجريد للقوشجيّ420/-421 و في لفظه:...و عقاب صاحب...
2- -الحجّ(22):78. [1]

معاندين،بل منهم من اعتقد الكفر مع بذل المجهود،و منهم من بقي على الشكّ بعد إفراغ الوسع،و ختم اللّه على قلوبهم و لم يشرح صدورهم للإسلام،فلم يهتدوا إلى حقيقته.

و لم ينقل عن أحد قبل المخالفين هذا الفرق الذي ذكره الجاحظ و العنبريّ.و قوله تعالى: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)) خطاب إلى أهل الدين لا إلى الخارجين من الدين.

و كذلك أطفال المشركين[عند الأكثرين]لدخولهم في العمومات.و لما روي من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:هم في النّار،حين سألته خديجة رضي اللّه عنها عن حالهم.

و قالت المعتزلة و بعض الأشاعرة:لا يعذبون،بل هم خدم أهل الجنّة.روي في الحديث:و إنّ تعذيب من لا جرم له ظلم.

و أمّا عذاب صاحب الكبيرة هل هو منقطع أم لا؟فذهب أهل السنّة و الإماميّة من الشيعة و طائفة من المعتزلة إلى أنّه ينقطع،و اختاره المصنّف.و احتجّ عليه:«بأنّ صاحب الكبيرة يستحقّ الثواب بإيمانه،لقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ)) (1)و لا شك أنّ الإيمان أعظم أعمال الخير.فإن استحقّ العقاب بالمعصية،فإمّا أن يقدّم الثواب على العقاب،و هو باطل بالاتّفاق،أو بالعكس و هو المطلوب.و بأنّه لو لم ينقطع عذابه يلزم أنّه إذا عبد اللّه مكلّف مدّة عمره ثمّ عمل كبيرة في آخر عمره لا ينقطع عذابه و هو قبيح عقلا.

و السمعيّات التي تمسّك بها المعتزلة في عدم انقطاع عذاب صاحب الكبيرة مثل قوله تعالى: وَ مَنْ يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها)) (2)، وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها)) (3)وَ مَنْ يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها)) (4)متأوّلة،إمّا بتخصيص العمومات بالكفّار،أو بحمل الخلود على المكث الطويل.

و أمّا قولهم إنّ الثواب و العقاب ينبغي أن يكونا دائمين لما تقدّم،فإن أريد بدوام

ص:274


1- -الزلزلة(99):7. [1]
2- -الجنّ(72):23. [2]
3- -النساء(4):93. [3]
4- -النساء(4):14. [4]

العقاب دوام عقاب الكفّار،فمسلّم،و إلاّ فممنوع» (1)انتهى كلامه.

في ذكر وجوه من التوهّم على عدم إمكان الخلود

و لسنا نحن في هذا المقام بصدد تحقيق هذا الخلاف،بل بصدد تحقيق أنّ الخلود في شأن من حكم بخلوده في الجنّة أو في النّار،هل هو ممكن أم لا؟و على تقدير الإمكان فالسّبب الموجب له ما هو؟و الحكمة و المصلحة فيه ما هي؟إذ قد يتوهّم أنّ الخلود أمر غير ممكن بالذّات،لأنّه يستدعي زمانا غير متناه،و وجود الزمان الغير المتناهي غير ممكن،حيث إنّ البرهان الذي يبطل وجود غير المتناهي مطلقا-كبرهان التطبيق-يبطل وجود الزمان الغير المتناهي أيضا.

و بيان ذلك أنّه قد تقرّر في محلّه أنّ الحكماء و إن قالوا بأنّ برهان التطبيق إنّما يجري في امتناع لا تناهي الأمور الموجودة معا المترتبة في الوجود لامكان التطبيق فيها،و لا يجري في غير ذلك،فلذا قالوا بجواز لا تناهي الأمور التي توجد معا لكن لا ترتيب بينها كالنفوس الناطقة،و كذا بجواز لا تناهي الأمور المتعاقبة المترتّبة في الوجود الغير المجتمعة في الوجود كالحركات الفلكيّة و الأزمنة المنتزعة منها،بناء على عدم إمكان جريان برهان التطبيق في هذين القسمين بزعمهم،و لذا قالوا بلا تناهي النفوس الناطقة، و كذا بقدم العالم زمانا.إلاّ أنّ المتكلّمين مجمعون على استحالة لا تناهي الأمور المجتمعة في الوجود المترتّبة فيه،و كذا على استحالة لا تناهي القسمين أيضا،بناء على إمكان التطبيق فيهما أيضا و لو على سبيل الإجمال و الوجه العقليّ الكلّيّ.فلذا قالوا بامتناع القدم الزمانيّ.

فعلى مذهبهم-و هو الحقّ كما تقرّر في-موضعه فكما يبطل وجود الزمان الغير المتناهي في جانب الأزل،كذلك يبطل وجوده في جانب الأبد،فمن أين يمكن الخلود الموقوف على وجود الزمان الغير المتناهي في طرف الأبد؟

ص:275


1- -شرح التجريد للقوشجيّ420/-421.

و كذلك قد يتوهم أنّ الخلود في النار لا سبب له،و دوام العقاب و العذاب و استزادتهما إلى ما لا نهاية له لا حكمة فيه و لا مصلحة،فإنّ العذاب و العقاب لا يكون إلاّ قسريّا، و القسر لا يدوم على طبيعة،فإنّ لكلّ موجود غاية لا بدّ أن يصل إليها وقتا ما،مع أنّ الرحمة الإلهيّة وسعت كلّ شيء،كما قال جلّ و علا: عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ)) (1)و مع أنّ الباري جلّ ثناؤه كما أنّه لا ينفعه الطاعة و لا يضرّه المعصية،كذلك لا يضرّه الثّواب و لا ينفعه العقاب،و مع أنّ العقاب الدائميّ لا منفعة فيه لأحد و لا خير،بل هو شرّ محض، و هو لا يمكن أن يصدر عن الخير المحض و الجواد المطلق و الفيّاض على الإطلاق.و هذا التوهّم عند كثير ممّن يدّعون الكشف قد صار قويّا بحيث كان منشئا لعدولهم عن ظاهر الشّرع المبين،النّاطق بخلود أهل النّار في النّار و دوام عذابهم و عقابهم.فقال بعضهم:إنّ الكفّار و إن كانوا خالدين في النّار،إلاّ أنّ عذابهم و عقابهم منقطع،كما ينقل عن بعض المكاشفين (2)منهم أنّه قال:«يدخل أهل الدارين فيهما:السعداء بفضل اللّه و أهل النار بعدل اللّه و ينزلون فيهما بالأعمال،و يخلّدون فيهما بالنّيّات،فيأخذ الألم جزاء العقوبة موازيا لمدّة العمر في الشّرك في الدنيا،فإذا فرغ الأمد جعل لهم نعيم في الدار التي يخلدون فيها،بحيث إنّهم لو دخلوا الجنّة تألّموا لعدم موافقة الطّبع الذي جبلوا عليه،فهم يلتذّون بما هم فيه من نار و زمهرير و ما فيها من لذع الحيّات و العقارب كما يلتذّ أهل الجنّة بالظلال و النّور و لثم الحسان من الحور،لأنّ طباعهم يقتضي ذلك.ألا ترى الجعل على طبيعته يتضرّر بريح الورد و يلتذّ بالمنتن،و المحرور من الإنسان يتألّم بريح المسك، فاللذّات تابعة للملائم و الآلام لفوته.

و ينقل عن بعضهم أنّه جعل ذلك العذاب مأخوذا من العذب،أي العذاب من الطّعام و الشّراب الذي معناه لغة كلّ مستساغ.

و قال بعضهم بخروج أهل النّار عن النّار و انقطاع عذابهم جميعا،كما ينقل عن

ص:276


1- -الأعراف(7):156. [1]
2- -هو ابن العربيّ في الفتوحات،و [2]فصوص الحكم.

صاحب الفتوحات المكّيّة (1)أنّه نقل عن بعض أهل الكشف،أنّه قال:إنّهم يخرجون إلى الجنّة حتّى لا يبقى في النّار أحد من الناس البتّة،و تبقى أبوابها تصطفق،و ينبت في قعرها الجرجير،و يخلق اللّه لها أهلا يملئوها.

و قال بعضهم ما يحتمل القولين:أي القول الأوّل أو الثاني.كما ينقل عن القيصريّ انّه قال في شرحه للفصوص:«و اعلم أنّ من اكتحلت عينه بنور الحقّ يعلم أنّ العالم بأسره عباد اللّه،و ليس لهم وجود و صفة و فعل إلاّ باللّه و حوله و قوّته،و كلّهم محتاجون إلى رحمته و هو الرحمن الرحيم،و من شأن من هو موصوف بهذه الصّفات أن لا يعذّب أحدا عذابا أبدا،و ليس ذلك المقدار من العذاب أيضا،إلاّ لأجل إيصالهم إلى كمالهم المقدّر لهم، كما يذاب الذهب و الفضّة بالنار لأجل الخلاص ممّا يكدّره و ينفض غباره،فهو يتضمّن لعين اللطف كما قيل:

و تعذيبكم عذب و سخطكم رضى و قطعكم وصل و جوركم عدل (2)

،انتهى.

ثمّ إنّك حيث عرفت ما ذكرنا،ظهر لك أنّ هاهنا توهّمين ينبغي رفعهما حتّى يتّضح المقصود.

في رفع تلك الوجوه من التوهّم

فنقول:أمّا بيان رفع التوهّم الأوّل منهما،فهو أنّك قد سمعت غير مرّة فيما تلونا عليك سابقا،أنّه كما أنّ مكان الآخرة ليس من جنس مكان الدنيا،كذلك زمانها ليس من جنس زمان الدنيا،كما قال اللّه تعالى: وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ)) (3)،و قال: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)) (4)،فلا امتناع في أن يكون غير متناه،إذ ليس يعلم أنّه يمكن فيه التّطبيق و التضايف و المسامتة و التزاحم و نحو ذلك،حتّى يمكن إجراء براهين

ص:277


1- -و هو الشيخ محي الدين بن العربيّ في الفتوحات المكيّة 178/2-179،ط بولاق. [1]
2- -شرح القيصريّ على فصوص الحكم246/،ط طهران.
3- -الحجّ(22):47. [2]
4- -السجدة(32):5. [3]

إبطال عدم التناهي فيه كما في زمان الدنيا،سواء قلنا بجريانها في الأمور المترتّبة المتعاقبة غير المجتمعة أيضا-كما هو عند المتكلّمين-أو لم نقل به فيها كما هو عند الحكماء.و حيث أخبر المخبر الصادق بالخلود،و هو ممكن عند العقل كما ذكرنا وجب التّصديق به.

و أمّا بيان رفع التوهّم الثاني،فهو و إن سبقت منّا إشارة إليه في الفصول و الأبواب المتقدّمة،إلاّ أنّا لا نبالي بإعادة الكلام فيه لزيادة التوضيح.فنقول:

اعلم أوّلا أنّ سبب خلود أهل الجنّة في الجنّة و دوام ثوابهم فيها،إنّما هو دوام ما هو سبب لذلك،أي دوام ما اكتسبوا في الدّنيا من الاعتقادات الحقّة و المعارف الإلهيّة و العلوم الربّانيّة و الإيمان باللّه و ملائكته و رسله و كتبه و باليوم الآخر.و بالجملة:كلّ ما هو كمال للنفس الناطقة بحسب قوّتها النظريّة و كان راسخا فيها،و كذا دوام ما اكتسبوا في الدّنيا من الملكات العادلة و الأخلاق الفاضلة و الهيئات الجميلة،و بالجملة:كلّ ما هو كمال لها بحسب قوّتها العمليّة و كان ملكة راسخة فيها.

و بيان ذلك أنّ تلك العلوم و الاعتقادات لمّا كانت كمالات للنّفس بذاتها و من مقتضى ذاتها و جوهرها،و كانت راسخة فيها،لم تنفكّ عنها،و كانت باقية ببقاء النّفس التي المفروض بقاؤها أبدا.و كذلك تلك الملكات و إن كانت بدنيّة و حاصلة للنّفس من جهة تكرّر الأفاعيل البدنيّة،إلاّ أنّها أيضا هيئة مناسبة لجوهر النّفس ملائمة لها غير غريبة عن ذاتها.فإذا كانت ملائمة لها و كانت مع ذلك راسخة فيها،و لم يكن هناك مضادّ لها و لا سبب يزيلها عن جوهر النّفس كما هو المفروض،كانت هي أيضا دائمة بدوام النّفس لازمة لها باقية معها.

و اذا كانت تلك الاعتقادات و الملكات الخالدة موجبة لحصول الثّواب كما دلّ عليه الآيات و الأخبار،فحينئذ نقول:لو كان الثّواب عبارة عن تلك العلوم و الاعتقادات الحقّة و عن تلك الهيئات و الملكات الفاضلة التي تصوّرت بصورة الثواب و تجسّمت بها،كما هو على القول بتجسيم الأعمال و الاعتقادات،و هو ظاهر كثير من الآيات و الأخبار كما تقدّم

ص:278

ذكرها،فلا شكّ أنّه يكون دائما بدوام تلك العلوم و الملكات لأنّها لازمة لها (1)و صورة لها غير منفكّة عنها،و يكون وجه الحكمة في دوامه أيضا ظاهرا لا سترة به.

و لو كان الثواب عبارة عن أمر مبتدئ من خارج وارد على المحسن روحه و بدنه كما هو ظاهر كثير من الآيات و الأخبار الأخر،فكذلك أيضا،لأنّه حيث كان الثواب في مقابلة تلك الاعتقادات و الملكات التي هي دائمة بدوام النفس باقية ببقائها،وجب في الحكمة المتعالية الإلهيّة أن يكون هو أيضا دائما كدوام ما هو بإزائه؛لأنّ السبب إذا كان دائميّا وجب أن يكون مسبّبه أيضا دائميّا مثله،و لأنّه لو لم يكن كذلك لزم الظلم،تعالى اللّه عن ذلك.و أيضا أنّ ذلك إيفاء بوعده،و خلف الوعد عليه تعالى قبيح عقلا و شرعا.

و يدلّ على ما ذكرنا آيات كثيرة،كقوله تعالى:

إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) (2).

و كقوله تعالى: وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللّهِ وَ كانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِيماً)) (3).

و كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ* دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللّهُمَّ وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)) (4).

و كقوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَ زِيادَةٌ وَ لا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَ لا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)) (5).

ص:279


1- -لأنّه لازم،خ ل.
2- -التوبة(9):111. [1]
3- -النساء(4):100. [2]
4- -يونس(10):9-10. [3]
5- -يونس(10):26. [4]

إلى غير ذلك من الآيات و الأخبار.

و الحاصل،أنّه لمّا كان إيمان المؤمنين الرّاسخ في قلوبهم دائميّا و كذا ملكاتهم الفاضلة دائميّة،وجب أن يكون الثّواب الذي هو بإزاء ذلك دائميّا مثله،و أنّهم حيث كان في نيّاتهم الراسخة في قلوبهم،أنّهم لو أبقوا دائما لبقوا على الإيمان و العمل الصالح دائما، كان مقتضى الحكمة المتعالية إيصال الثواب إليهم دائما.

و حيث علمت ذلك،فاعلم أنّ السبب في خلود أهل النار في النار و دوام عذابهم فيها إنّما هو دوام سبب ذلك أيضا،حيث إنّ ما اكتسبوه في الدّنيا بسوء اختيارهم من جهة قوّتهم النظريّة من الآراء الفاسدة و العقائد الباطلة الراسخة في نفوسهم،المستحكمة في قلوبهم،كالشرك و الكفر باللّه و باليوم الآخر و برسله و ملائكته و كتبه،سواء كانت تلك الاعتقادات الراسخة بمحض العناد و الجحود مع يقينهم بخلافها كما هو في حقّ بعضهم،أو مستندة إلى تقليد آبائهم و أسلافهم و علمائهم كما في حقّ بعض آخرين منهم،أو مستندة إلى ظنّ أو شبهة كما في بعض منهم.و كذا من جهة قوّتهم العمليّة من الملكات الرذيلة و الهيئات الرديّة و الأخلاق القبيحة الذميمة،مع تفاوت مراتبها فيهم أيضا،كما أنّها سبب لدخولهم في النار و حصول العقاب لهم على ما دلّت عليه الآيات و الأخبار،كذلك هي لخلودها و دوامها سبب لخلودهم في النّار و دوام عذابهم و عقابهم،كما دلّت عليه الآيات و الأخبار أيضا،لأنّ دوام السبب يستلزم دوام المسبّب.

أمّا دوام تلك العقائد و الآراء الباطلة،فبيانه أنّها لمّا كانت حاصلة للنفس بذاتها و من داخل جوهرها،كأنّها صورة لها و كانت راسخة فيها،فهي لا تكون زائلة عنها بل تكون باقية ببقائها.

و أمّا دوام تلك الملكات و الهيئات الرّذيلة،فبيانه أنّها و إن كانت حاصلة للنفس من خارج،أي من جهة تكرّر الأفاعيل البدنيّة،و من شأنها أن تكون زائلة بزوال مبدئها القريب و هو البدن و أفاعيله،و كذا بمرور الدّهور إذا لم يكن يصل إليها مدد من جهة،إلاّ أنّها لمّا كانت ملائمة لتلك العقائد التي رسخت في نفوسهم و تدرّنت هي بها مرتبطة بها كمال الارتباط،فلا تكون نفوسهم الخسيسة هذه مستعدّة لزوالها عنها،بل مستعدة

ص:280

لاستثباتها فيها و قيامها بها و بقائها معها ما دامت تلك النفوس باقية،فلذا تكون دائمة خالدة كدوام عقائدهم و آرائهم الباطلة.

نعم،لو كانت النّفس مستعدّة لزوالها عنها كنفوس الفسّاق من المؤمنين الذين رسخت في نفوسهم الآراء الحقّة و العقائد الدّينيّة،و مع ذلك اكتسبوا الأخلاق الذميمة و فعلوا الأفعال القبيحة،حيث إنّها غريبة عن جواهر نفوسهم لعدم مناسبة تلك الملكات بتلك العقائد و عدم ارتباط بينهما،لربّما أمكن زوالها عنها.بمرّ الدهور،و كذا بالتّصفية بمصقل العذاب و العقاب،فلذا ورد في الشرع الشّريف ما يدلّ على عدم خلود الفسّاق من المؤمنين الموحّدين في النار و العذاب،و على خروجهم منها و دخولهم في الجنّة،و حكم به معظم المسلمين؛لأنّه إذا زالت تلك الهيئة التي هي سبب للعذاب،و مع ذلك كانت عقائدهم الحقّة التي هي راسخة في نفوسهم-و هي سبب للدخول في الجنّة-باقية، فلا يبقى شكّ في أنّهم يكونون بعد الدخول في النّار خارجين عنها إلى الجنّة،لكن على تفاوت مراتبهم و أحوالهم في ذلك،بخلاف ما إذا لم تزل تلك الهيئة عن النفس،كما في نفوس الكفّار الذين ليس في نفوسهم استعداد لزوالها عنها،و ليس هناك سبب يزيلها عنها، فإنّهم خالدون في النار و في عذابها من جهتين:إحداهما من جهة العقائد الباطلة المستحكمة في نفوسهم،و الأخرى من جهة تلك الملكات و الهيئات الراسخة في قلوبهم، و إن كان يختلف أحوالهم في العذاب باختلاف مراتبهم في تلك العقائد و الملكات و الهيئات و الأفعال.

و بالجملة،فحيث كان في نيّاتهم الراسخة في قلوبهم أنّهم لو بقوا إلى غير النهاية لبقوا على الشرك و الكفر و العمل غير الصالح إلى غير النهاية،كانوا خالدين في النار،و كان عذابهم فيها إلى غير النهاية.

و هذا الذي ذكرنا إنّما هو بيان السبب في الخلود.

و أمّا بيان الحكمة فيه،فهو أنّا لو قلنا بأنّ العذاب هو صورة تلك العقائد و الهيئات التي تصوّرت بتلك الصور كما هو على القول بتجسيم الأعمال و العقائد،فالحكمة في أصل العذاب و كذا في خلوده ظاهرة،حيث إنّ العذاب هو لازم لها غير منفكّ عنها،بل هو نفس

ص:281

ما اكتسبوه من العقائد و الهيئات و رسخت في نفوسهم باقية ببقائها.

و أمّا لو قلنا بورود العذاب عليهم من خارج،كما هو على القول الآخر،فكذلك أيضا، لأنّ السبب إذا كان دائما و لم يكن مسبّبه كذلك لخرج السبب عن السببيّة،و هو خلاف مقتضى الحكمة المتعالية.

و أيضا،لا يخفى أنّ اللّه تعالى بعنايته الأزليّة و حكمته الكاملة التّامّة و بقضائه الأزليّ قدّر تكليفا فأمر العباد بالطاعة و نهاهم عن المعصية،لكونها لطفا واجبا،و كذا وعد بالثواب على الطاعة و أوعد بالعقاب على المعصية،لكونهما أيضا لطفا واجبا لأنّ فيهما ترغيبا للعباد في الطاعة و تزهيدا لهم عن المعصية.

و كما أنّ الوفاء بالوعد لطف واجب و الإخلال به قبيح،كذلك الوفاء بالوعيد حسن،إذ هو حقّه تعالى بالنسبة إلى العاصين،و فيه إظهار عدله تعالى،و خلاف مقتضى العدل خلاف مقتضى الحكمة المتعالية.

نعم،إنّه حيث كان حقّه تعالى على العاصين،جاز إسقاطه و العفو عنه،لكن بالنسبة إلى من كان مستحقا للعفو و التفضّل،كالمؤمنين الذين يستحقّون بإيمانهم إسقاط العقاب عنهم و التفضّل عليهم،و يستوجبون لذلك بالتوبة أو الشفاعة أو نحو ذلك،لكون العفو حسنا حينئذ.

و أمّا بالنسبة إلى من لا يستحق ذلك و لم يستوجبه،فالعفو منه و إسقاطه ليس بحسن بل هو خلاف مقتضى العدل،إذ لو عفا اللّه تعالى عن الكافرين الذين هم غير مستوجبين للعفو و التفضّل،و أسقط العقاب عنهم،إمّا بعدم إدخالهم في النّار أصلا،أو بإدخالهم فيها مدّة،ثمّ إخراجهم منها بعد ذلك و إدخالهم في الجنّة،لجاز أن يتمنّوا في الآخرة و يقولوا:يا ليتنا كنّا في الدنيا نزيد في المعصية و في العتوّ و الفساد و الطغيان و العناد،إذ كان فيه مع قضاء و طرنا في اللذّات و الشهوات التي في المعاصي حصول ثواب في الآخرة،و لجاز أن يتمنّى المؤمنون أيضا و يقولوا:يا ليتنا كنّا كافرين في الدّنيا،إذ كان جزاؤهم هذا الجزاء الذي للكافرين،فلم كنّا نتعب أنفسنا بترك الشهوات و اللذّات التي في المعاصي؟!

و أيضا يمكن أن يكون الحكمة في خلود الكفّار في النار و في عدم انقطاع عذابهم

ص:282

فيها أنّ في ذلك إكمال رحمه اللّه تعالى على المؤمنين و إتمام خلودهم في الراحة،إذ النعمة إنّما يعرف قدرها و ينال كنهها،إذا كان هناك ما يقابلها من العذاب و النقمة،و كلّ راحة إنّما تكون راحة كاملة إذا كانت هناك زحمة يعرف مقدارها بالمقايسة إليها،و لذا يكون من أبواب الجنّة باب مفتوح إلى النار ليلاحظ أهل الجنّة ما يكون فيه أهل النار، فيشكروا على ما يكونون عليه من الراحة و الثواب،كما قال تعالى: وَ إِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ)) (1).

و أيضا يمكن أن يكون الحكمة في ذلك،إخلاد سرور المؤمنين و إدامة فرحهم،حيث إنّ المؤمنين الذين هم أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم،كما أنّهم يسرّون و يفرحون براحة أنفسهم و نعمة غيرهم من المؤمنين،كذلك يفرحون بعذاب الكافرين الذين هم أعداؤهم و أعداء اللّه تعالى،إذ الإيمان حقّ الإيمان يقتضي ذلك،و لذا كان التولّي بأحبّاء اللّه و التبرّي عن أعدائه كلاهما واجبين.

و بالجملة،إنّ في ذلك سرورهم مع توبيخ منهم على الكفّار،كما قال تعالى حكاية:

وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّالِمِينَ)) (2)،و قال تعالى: وَ نادى أَصْحابُ النّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قالُوا إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ)) (3)و لا يخفى أنّ إكمال رحمة المؤمنين و إخلاد سرورهم من جملة الحكمة المتعالية،و أيّة حكمة أعظم منها و أعلى؟

و حيث عرفت ذلك،فاعلم:أنّ جميع ما ذكر في هذا التوهّم الثاني،و جعل منشأ للذهاب إلى انقطاع عذاب الكفّار في النار،مندفعة.

أمّا ما ذكر من أنّ القسر لا يدوم الخ،فبيان اندفاعه أنّه إذا كان العقاب هو لازم الأعمال و العقائد فلا قسر أصلا،حتّى يمكن أن يقال إنّه يدوم أو لا يدوم؛و إذا كان العقاب

ص:283


1- -الأعراف(7):47. [1]
2- -الأعراف(7):44. [2]
3- -الأعراف(7):50. [3]

أمرا واردا من خارج،فهو و إن كان قسرا،إلاّ أنّا لا نسلّم تلك الكلّيّة،بل القسر يمكن أن يدوم إذا كان سببه دائما كما في ما نحن فيه.

نعم،إذا كان سببه منقطعا يكون هو أيضا منقطعا،و ليس الحال هنا كذلك.

و أمّا ما ذكر من أنّ الرحمة الإلهيّة وسعت كلّ شيء فهو كذلك،حيث إنّ كلّ موجود من الموجودات،ناطقها و صامتها و مكلّفها و غير مكلّفها تعمّها نعمة الإيجاد،و ما يتبعها من إعطاء كلّ شيء خلقه و ما يحتاج هو إليه و يليق بحاله و شأنه،و هذا لا ينافي أن يكون عذابه المخصوص كعذاب الآخرة مخصوصا بجمع كالكفّار،و أن يكون رحمته المخصوصة كرحمة الآخرة مخصوصة بجمع كالمؤمنين،كما قال تعالى: عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ)) (1).

و أمّا ما ذكر،من أنّ الباري جلّ شأنه كما أنّه لا ينفعه الطاعة و لا يضرّه المعصية،كذلك لا يضرّه الثّواب و لا ينفعه العقاب،فهو أيضا كذلك،إلاّ أنّ العقاب و العذاب،و خلودهما هو مقتضى الحكمة المتعالية،كما عرفت.

و أمّا ما ذكر من:«أنّ العقاب الدّائميّ لا منفعة فيه لأحد و لا خير،بل هو شرّ محض، و يمتنع صدوره عن الخير بالذات».فهو ممنوع.

لأنّا لا نسلّم كونه شرّا بل هو خير،حتّى بالنسبة إلى المعذّبين أيضا.

كما قيل (2):إنّه جعل اللّه تعالى النار وقاية لما هو أعظم منها و أشدّ في حق المبتلى به و هو غضب اللّه تعالى،و أنّه كما أنّ النار في النّشأة الدنيويّة تتّخذ وقاية لبعض الأمراض الذي لا ينفى إلاّ بالكيّ،كذلك قد تتّخذ في النّشأة الأخرويّة وقاية لغضب اللّه تعالى الذي يترتّب على الكفر و الشرك و أمثالهما.

و بالجملة،فيمكن أن يكون العذاب الأخرويّ صلاحا لحال العاصين و خيرا لهم أيضا.

ص:284


1- -الأعراف(7):156. [1]
2- -القائل هو ابن العربيّ في الفتوحات المكّيّة.

و على تقدير تسليم كونه شرّا،فإنّما هو شرّ بالقياس إلى الشّخص المعذّب خاصّة لا مطلقا،إذ قد عرفت أنّ فيه مصلحة لحال المؤمنين و إكمال نعمتهم و إتمام سرورهم،فهو خير.و قد تقرّر في الأصول الحكميّة أنّ وقوع الشرّ القليل لأجل الخير الكثير سائغ في الحكمة المتعالية.

فإن قلت:ليس الأمر هنا كذلك،بل بالعكس،حيث إنّ المؤمنين قليلون،و الكافرين و المشركين و العاصين أكثرون،بل لا نسبة لهم إليهم أصلا.

قلت:على تقدير التّسليم،أنّ المؤمن الواحد يوازي عند اللّه تعالى مائة ألف كافر بل أكثر،فالمؤمنون و إن كانوا أقلّون عددا،إلاّ أنّهم أكثرون قدرا،الأعظمون منزلة بكثير، بحيث لا نسبة لهم إليهم في ذلك أصلا.

و على هذا،فيكون وقوع الشرّ بالنسبة إلى ألف ألف كافر،لأجل وقوع خير بالنسبة إلى مؤمن واحد مثلا شرّا قليلا لأجل خير كثير،فكيف إذا كان المؤمن أكثر من واحد.

و أمّا ما نقل من قول القائل الأوّل ممّن يدّعي الكشف حيث قال:«إنّ الكفّار و إن كانوا خالدين في النّار،إلاّ أنّ عذابهم ينقطع بعد مدّة و ينقلب ثوابا و راحة».

فلا يخفى أنّه خلاف ظاهر الآيات و الأخبار النّاطقة بأنّ النّار دار الخزي و الهوان و الانتقام،القائمة في ذلك في كلّ أزمنة الكون فيها،لا اختصاص له بوقت دون وقت،كما لا اختصاص بقوم من العاصين من الكافرين و أمثالهم دون قوم منهم،و الدّالة على أنّ الكافرين لا يخفّف عنهم العذاب وقتا ما.

كقوله تعالى: خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ)) (1)،

لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى)) (2)،

لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها)) (3)،

ص:285


1- -البقرة(2):162. [1]
2- -طه(20):74. [2]
3- -فاطر(35):36. [3]

وَ يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ما هُوَ بِمَيِّتٍ وَ مِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ)) (1)،

كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً)) (2)،

كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ)) (3)،

وَ نادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ)) (4)،

لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَ لا شَراباً* إِلاّ حَمِيماً وَ غَسّاقاً)) (5)،

رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ)) (6)،

إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَ السُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ)) (7)،

وَ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)) (8)،

إلى غير ذلك من الآيات و الأخبار.

نعم،إنّ الشّيخ ابن بابويه من علمائنا في«اعتقاداته»بعد أن قال:«إنّ النّار دار الهوان و دار الانتقام من أهل الكفر و العصيان،و لا يخلّد فيها إلاّ أهل الشّرك و الكفر،فأمّا المذنبون من أهل التّوحيد فإنّهم يخرجون منها بالرّحمة التي تدركهم و الشفاعة التي تنالهم»قال:«و روي أنّه لا يصيب أحدا من أهل التّوحيد ألم في النّار إذا دخلوها،و إنّما يصيبهم الآلام عند الخروج منها،فتكون تلك الآلام جزاء بما كسبت أيديهم،و ما اللّه بظلاّم للعبيد» (9).

ص:286


1- -إبراهيم(14):17. [1]
2- -الإسراء(17):97. [2]
3- -النساء(4):56. [3]
4- -الزخرف(43):77. [4]
5- -النبأ(78):24-25. [5]
6- -آل عمران(3):192. [6]
7- -النحل(16):27. [7]
8- -يونس(10):27. [8]
9- -الاعتقادات للصدوق90/. [9]

و هذا الذي رواه فيهم،على تقدير صحّة الرّواية يمكن أن يكون-و اللّه أعلم- مخصوصا بهم،فليس يجوز قياس حال غيرهم بحالهم.

و أمّا ما نقل من قول القائل الثاني فمخالفته لظاهر الشّرع المبين أظهر و أكثر،كما لا يخفى.

و بالجملة،فهذان القولان و نظائرهما عدول عن ظاهر الشرع و الحقّ المبين،صادر عن جزاف و تخمين،لا ينبغي للمستبصر أن يلتفت إليه،بل حريّ به الاستقامة على الصراط السويّ. وَ اللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)) (1)، رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ)) . (2)

و هذا آخر ما أردنا إيراده في هذه الرّسالة،و الحمد للّه على التوفيق للإتمام،و الصّلاة على محمّد و آله الأماجد الكرام.و قد اتّفق جفاف القلم من تأليفها و ترتيب ما أودع فيها و ترصيفها بيمين مؤلّفها:العبد المذنب الجاني:محمّد نعيم بن محمّد تقيّ المدعوّ بعرفي الطالقانيّ-أصلح اللّه شأنهما،و صانهما عمّا شأنهما و عفا عنهما و عن جميع المؤمنين- ضحوة يوم السّبت الثالث و العشرين من شهر ربيع المولود من سنة مائة و إحدى و خمسين بعد ألف من هجرة خير البريّة،على هاجرها و آله ألف ألف صلاة و سلام و تحيّة.

ص:287


1- -البقرة(2):213. [1]
2- -آل عمران(3):8. [2]

ص:288

الفهرس

الباب الرابع و فيه مطالب المطلب الأوّل:في حدوث النفس بحدوث البدن،و في عدم جواز التناسخ و نحوه عليها، و في بيان حالها بعد خراب البدن 7

في حدوث النفس بحدوث البدن 7

الإشارة إلى أنّ مذهب الشيخ في الشفاء بقاء النفوس مطلقا حتّى نفوس غير المستكملة بعد خراب البدن 19

تأويل حديث خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام 25

في تفسير قوله تعالى: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ)) 26

المطلب الثاني:في امتناع ما قيل من تناسخ النفوس و نحو ذلك من الأقوال 28

إشارة إلى بطلان القول بفناء النفس بعد خراب البدن 38

في معاني التناسخ 41

في إبطال التناسخ بالمعنى المتنازع فيه 47

برهان آخر على بطلان التناسخ 55

دليل آخر 57

المطلب الثالث:في بيان أحوال النفس الإنسانيّة بعد خراب بدنها 58

كلام مع كثير من الحكماء 67

ص:289

في حال السعادة و الشقاوة العقليّين 69

في بيان اللذّة العقليّة للنفس و أنّها أعلى من الحسّيّة و كذلك الألم 76

في بيان السعادة و الشقاوة العقليّين من جهة القوّة النظرية للنفس بعد مفارقتها عن البدن 80

في أصناف الناقصين بحسب القوّة النظريّة 84

حال السعادة و الشقاوة العقليّتين من جهة القوّة العمليّة 89

في بيان خلود السعادة من جهة صلاح الجزء العمليّ 96

في بيان حال النفوس البله 99

في بيان حال النفوس بعد المفارقة عن البدن،أي في عالم البرزخ كما نطق به الشرع 111

من جملة الشواهد على وجود العالم المثاليّ ما يشاهد في النوم 116

في وجه تسمية العالم المثاليّ و البرزخيّ بالعالم المتوسّط بين العالمين،و كذا في وجه تسمية النشأة الدنيويّة بالعالم الحسّيّ و النشأة الأخرويّة بالعالم العقليّ 130

في أن القول بالأجساد المثاليّة في النشأة البرزخيّة ممّا لا مانع منه من جهة النقل و العقل، بل إنّه ممّا يؤيّده العقل 133

كلام مع الشيخ البهائيّ و العلاّمة المجلسيّ 137

في ثبوت السعادة و الشقاوة في عالم البرزخ 139

في تجسّم الأعمال 139

[في الجبر و الاختيار]147

[الثواب و العقاب في البرزخ]154

الباب الخامس،في إثبات المعاد الجسمانيّ الّذي نطق به الشرع بيان الأمر الأوّل:أنّ للإنسان معادا في دار الآخرة 159

ص:290

بيان الأمر الثاني:أي كون المعاد جسمانيّا 161

بيان الأمر الأوّل من تلك الأمور الثلاثة 162

بيان الأمر الثاني من تلك الأمور الثلاثة 163

شبهة الآكل و المأكول مع جوابها:172

بيان الأمر الثالث من تلك الأمور الثلاثة 175

شكّ مع جوابه 182

دقيقة 189

تذنيب في حشر غير الإنسان 190

الخاتمة و فيها مطالب 199

المطلب الأوّل:في الإشارة إلى دفع شبهات المنكرين للمعاد الجسمانيّ 201

المطلب الثاني:في بيان جملة من الأحوال و الأمور التي نطق الشرع بوقوعها يوم القيامة و يجب التصديق بها لكونها أمورا ممكنة بالذات أخبر به المخبر الصادق 215

نفخ الصور 215

الصراط 219

الصراط الدنيويّ 222

الصّراط الأخرويّ 225

الأعراف و السّور 229

الكتاب و الحساب و الميزان و السؤال 231

الكتاب 234

الميزان 242

السؤال 245

ص:291

الحساب 251

العقبات 254

الحوض 256

الشفاعة 257

الجنّة و النّار 258

المطلب الثّالث:في بيان أصناف الناس و بيان أحوالهم في الجملة في القيامة و في كيفيّة خلود أهل الجنّة في الجنّة و أهل النّار في النّار 259

في بيان خلود أهل الجنّة في الجنّة و أهل النّار في النّار 273

في ذكر وجوه من التوهّم على عدم إمكان الخلود 275

في رفع تلك الوجوه من التوهّم 277

ص:292

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.