السقیفه

اشارة

سرشناسه : مظفر، محمدرضا، 1964 - 1904

عنوان و نام پديدآور : السقیفه / محمدرضا المظفر. ویلیه علی هامش السقیفه / محمود المظفر

مشخصات نشر : قم : موسسه انصاریان ، 1415ق . = 1373.

مشخصات ظاهری : ص 207

يادداشت : چاپ سوم : 1421ق . = 1379

يادداشت : چاپ چهارم : 2004م . = 1424ق . = 1382

یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس

عنوان دیگر : هامش السقیفه

موضوع : سقیفه بنی ساعده

موضوع : مظفر، محمدرضا، 1964 - 1904. السقیفه -- نقد و تفسیر

شناسه افزوده : مظفر، محمود. هامش السقیفه

رده بندی کنگره : ‫ ‮ BP223/54 ‫ ‮ /م 6س 7 1373

رده بندی دیویی : ‫ ‮ 297/452

شماره کتابشناسی ملی : م 75-300

ص :1

اشارة

ص :2

السقیفه

محمدرضا المظفر. ویلیه علی هامش السقیفه

محمود المظفر

ص :3

ص :4

بسم الله الرحمن الرحیم

ص :5

الفهرس

ص :6

الفهرس

ص :7

الفهرس

ص :8

مقدمات التحقيق

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم بقلم: الدكتور محمود المظفر

الاستاذ في كلية الفقه بالنجف الاشرف

يعد موضوع (السقيفة) الذي يدور البحث حوله في هذا الكتاب: من اهم الموضوعات و ابعدها اثرا في تاريخنا الاسلامي حيث تشابكت حوله آراء المؤرخين و الباحثين العقائديين، و امتد فيها الجدل واسعا بينهم.. باعتباره (فتنة) وقى الله المسلمين شرها _ على حد قول بعض اطرافها او باعتباره (انقلابا) تطبيقا لما جاء في قوله تعالى: (أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ).

و لذلك كان لهذا الموضوع الخطير الذي عالجه عمنا الراحل (الرضا) قدس الله نفسه الزكية في كتابه الفريد المذكور آثاره و صداه البعيد في حينه بحيث صار محورا للنقد و التعليق و مثارا للمناظرات:

فقد صدر على اثره عن مطابع مصر كتاب (رد على السقيفة) منسوبا الى عبد الله الحضرمي.. تناول فيه بالرد على كتاب (السقيفة) بشكل جانب فيه الموضوعية و اصول البحث و المناظرة.

ثمّ صدر ردا عليه الكتاب الموسوم ب (رد على السقيفة) لمؤلفه السيد القزويني احد اعلام البصرة الذي تولى فيه باسهاب مناقشة الرد المذكور و معالجة موضوعاته المختلفة.

كما ظهر بعدئذ (كراس) بعنوان (على هامش السقيفة) و هو الذي احتوى ما قدمه السيد عبد الله الملاح البحاثة الموصلي الى الشيخ المؤلف من اسئلة و ملاحظات، و ما توفر عليه المؤلف من اجابات و ايضاحات لها.

لقد كان من رغبتنا ان نقوم بجمع الاصل و الردود المذكورة مع ما كتب من ايضاحات او تعليقات رددتها بعض الكراريس و المجلات في مجلد ضخم واحد، يعرض المشكلة محررة باقلام اطرافها.. بيد ان محاولة تستر مؤلف كتاب (رد على السقيفة) وراء اسم عبد الله الحضرمي المذكور الذي لا واقع له فيما ظهر لنا، الامر الذي يتطلب استجازة صاحبه الحقيقي في اعادة نشره، مضافا الى ان المؤلف نور الله ضريحه لم يشأ في حينه ان يعلق على واحد من تلك الردود او التعليقات خلا تلك الاسئلة و الاستفسارات التي وجهها اليه الاستاذ الملاح و التي اثرنا الحاقها مع اجوبتها في آخر الكتاب.

ان هذا و نحوه دعانا بالفعل الى العدول عن تحقيق فكرة المجمع هذه، مفضلين اعادة نشر الكتاب ملحوقا به الهامش المذكور وحده لما احتواه هذا الهامش من اسئلة و اجوبة قد تساعد كثيرا على توضيح و تعميق بعض مسائل الكتاب.

على اني لا اجد في هذا الحين اكثر ثمرة و عطاء من التوسع في نشر هذا الكتاب نفسه و تعميمه بين الفئات المتطلعة الى هذا النوع من الدراسات التحليلية و الموضوعية لذلك بودر باعطاء الاجازة لنشره هذه المرات العديدة التي جاوزت السبع بما فيها هذه الطبعة.. سواء ما نشر منه في لغته الاصلية او فيما ترجم الى اللغات الاخرى من فارسية و اوردية.

هدانا الله تعالى جميعا سواء السبيل و شد من أزرنا كامة اسلامية واحدة تسعى وراء الحقيقة.

النجف الاشرف

17 ربيع الاول 1400 ه.

محمود الشيخ محمد حسن المظفر

مقدمة المؤلف

اشارة

كان المجمع الثقافي الديني لمنتدى النشر قد اشرف

على نشر الكتاب في طبعته الثانية، و قد سجل هذه

الكلمة القيمة التي نعيد نشرها في هذه الطبعة معتزين

بها.

1

موضوع هذا البحث قديم جدا و قد سبق ان عالجته عشرات الاقلام في مختلف العصور و كان مسرحاً لكثير من عواطف الكتاب تلاعبت فيه بأساليبها الخطابية التي لا يراد بها غير تركيز عقيدة اصحابها من طريق اللف و الدوران و لم يسلم من آفاتها الا القليل.

و على كثرة من كتب فيه في عصرنا الحاضر لم اجد في الغالب من اخضعه للتطور فغير في مناهج البحث، و جدد في طريقة الاستنتاج و بدل في اساليب العرض الى ما يلائم

ص:9

اذواق العصر فكانت حاجته كبيرة الى من يعالجه معالجة موضوعية مجردة من ناحية، و يأخذ بيده الى حيث يرجى له من التطور الذي تقتضيه مناهجنا العلمية الحديثة من ناحية اخرى.

و اشتدت الحاجة قبل عدة من سنين حين كثر البحث في هذا الموضوع كثرة تلفت اليها الانظار و حين ازدحمت عليه العواطف فأساءت استغلاله و تركته عرضة لاحداث و مشاكل اجتماعية يذكر الكثير من القراء مدى مفعولها في هذه الاوساط و كان لا بد لهذا الطغيان العاطفي من احداث رد فعل في نفوس بعض الباحثين المجردين ممن تهمهم رسالتهم العلمية قبل كل شيء.

و كان سماحة شيخنا العلامة المظفر مؤلف هذا الكتاب في طليعة اولئك الباحثين كما كان كتابه هذا نتيجة لرد الفعل الذي احدثه ذلك الطغيان.

2

اما الكتاب فقد وفق في عدة نواحي وُفق في نظرته لبحثه نضرة موضوعية خالصة لا يلمس فيها للمؤلف أية عاطفة و لا يدرك فيها أي تحيز و اذا قدر له ان ينتهي في بحثه الى حيث تنتهي عقيدته المذهبية فليس ذلك الا لان منهجه العميق انتهى به الى هذه النهاية، و وفق في منهجه العلمي الدقيق القائم على التماس ملابسات شتى القت كثيرا من الاضواء على هذه الحادثة التاريخية بالاضافة الى ما عرض من النصوص الواردة فيها خاصة ناقدا لها جميعا نقدا دلاليا دقيقا مجليا مفاهيمها

ص:10

على حسب ما يقتضيه الفن معتمدا في ذلك اصح الطرق الموصلة اليها مختارا من الاحاديث ما اتفق عليه الثقات من ائمة الحديث لدى الطائفتين المسلمتين، و وفق اخيرا في اسلوبه في العرض و تنظيمه لبحثه تنظيما فنيا ينتهي بك الى نتائجه من اقرب الطرق و ايسرها ببيان رائع جذاب.

و الحق ان الكتاب يعتبر مرحلة تطورية مهمة اوصل بها المؤلف هذا البحث الى عصره الذي يعيش فيه و هو من الكتب القلائل في هذا الموضوع التي ادت وظيفتها كاملة.

3

و لعل القارئ الكريم يود ان يعرف مدى اثر هذا الكتاب في نفوس الباحثين و المعنيين بهذه الشئون و كيف استقبلوا بحوثه الحرة و إلى أي مدى كان اقبالهم عليه او اعراضهم عنه، و الحقيقة ان الناس لم يتفقوا عليه بحال فقد انقسموا حوله طائفتين رضيت عنه اولاهما و حمدت لمؤلفه اسلوبه المجرد و اطرته اطراء عاطرا و خير من يمثلها من الاعلام سيد هذا الفن في عصرنا الحاضر سماحة آية الله العلامة الكبير السيد عبد الحسين شرف الدين مؤلف كتاب المراجعات و غيره مما يعتبر فتحا في البحوث الكلامية التي خضعت للمنهج العلمي في عصرنا الحاضر فقد كتب حفظه الله الى مؤلفه كتابا يعرب فيه عن رأيه فيه و في مؤسسته التي يرأسها، نذكره هنا بنصه اعتزازا بثقته بالكتاب و اكبارا لرأيه

ص:11

بالمؤسسة التي احتضنها المؤلف و اعتبر بحق، رائدها الاول و حافظ سيرها و توازنها منذ تأسيسها حتى اليوم و هذا نص الكتاب:

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام على امير المؤمنين و سيد الوصيين و رحمة الله و بركاته

ايد الله شيخنا العلامة البحاثة المجاهد الشيخ محمد رضا المظفر و اعز اقطاب مجمعه الثقافي الديني لمنتدى النشر و سلام الله عليه و عليهم وحي الله منهم ارواحا طيبة طاهرة تصدع بالحق في منتداه الكريم.

و بعد فقد اخذت هديتكم القيمة كتاب (السقيفة) بعين الشكر ثمّ استشففت فيه اثر الجهد النبيل الجدير بالمؤسسة العلمية الطالعة بما انتظمه من سلامة البحث و سمو التفكير و حسن الأداء على وجه سد فراغا في المطبعة النجفية.

و كنا فيمن عقد الامل (بالمنتدى) يوم تأسيسه و ناط به الرجاء ان يكون له الاثر المحمود في توجيه الناشئة الدينية و بناء الجيل الطالع و تجديد ميراث النجف في بعث يلائم التطور الحاضر و يماشيه في مداه الطويل و وسائله المنوعة و ذلك اني رايت من قديم ان الهدى لا ينتشر الا من حيث ينتشر الضلال و على هذا رجوت ان تكون المطبعة و تنويع المنهج

ص:12

الدراسي و احياء العلوم الاسلامية المذخورة كل هذا من رسالة منتداكم المرجو و لم تخلفوا الظن و لله الحمد فان الذي يبلغنا من اخباركم السارة و آثاركم النافعة يثلج الصدر و ينعش الامل و ليس شيء كأثركم الاخير هذا السفر الجليل داعيا الى الاطمئنان و الاستبشار بمستقبل نير يضع النجف الاشرف في مكانه الاسمى و محله الارفع و السلام عليك و رحمة الله

عبد الحسين شرف الدين

و لهذا الكتاب الكريم نظائر من الكتب من اعلام الباحثين الذين يألفون هذا النمط من التفكير تركنا ذكرها الآن اكتفاء بهذه الرسالة الجليلة. أما الطائفة الاخرى التي لم يبد انها ارتاحت لهذا الاسلوب من البحث و اعتادت على مواجهة مثله بأعصاب متوترة توجهها العاطفة حسبما تريد فخير من يمثلها مؤلف كتاب (رد على السقيفة) و هذا الرد اذا استثنينا منه ما حشد فيه مؤلفه من الفاظ السباب الخارجة على آداب البحث و التي يفزع اليها العاطفيون عادة اذا اعوزتهم الحجة لم يخلص لنا منه الا القليل.

و هذا القليل وضع في حضرته للنقد و الجدل مقياسا لا نتفق عليه معه بوجه و ما ادري الى أي حد يتفق معه الآخرون من باحثي قومه عليه فهو يرى كما يبدو من مجمع الكتاب ان المقياس لديه في كل شيء يتعلق بالموضوع هو

ص:13

ميوله الخاصة، فالاحاديث التي لا تتفق معها احاديث موضوعة و ان اجمع ثقات المحدثين من الطرفين على تصحيح اسانيدها مع ان بعضها متواتر لا يشك بصدوره عن النبي (صلی الله علیه و آله) بحال، و الاحاديث التي توافق هواه صحيحة و ان حكم ارباب الجرح و التعديل من قومه بوضعها و شخصوا الواضع و عينوه، و مداليل الاحاديث يجب ان تصرف عن ظواهرها اذا لم تؤيده و ان خرج الكلام على الاصول الموضوعة في هذا الفن الى آخر ما هنالك مما لا يقتضي التعرض له في صدور هذا الكتاب على ان هذا ليس غريبا على حضرته ما دام يواجه التأريخ بهذه الذهنية، و لكن الغريب من مجلة مصرية تنطق بلسان هيئة محترمة قرأ محرروها الرد و لم يقرءوا الاصل فاستعاروا منه اسلوبه في الشتم و نحوا على الكتاب و صاحبه باللوم و التقريع مع ان (التبين) كان اليق بهم و بمكانتهم العلمية لئلا يصيبوا قوما بجهالة فيصبحوا على ما فعلوا نادمين.

4

و على أي حال فإن لجنة المجمع الثقافي الديني لمنتدى النشر لم تجد ما يصلح للرد على هذا و امثاله اكثر من السماح للناشر الفاضل الشيخ محمد كاظم الكتبي باعادة طبعته للمرة الثانية و تمكين القارئ الذي لم يقدر له الحصول على نسخة منه من الاطلاع عليه تاركة للقراء وحدهم حق الحكم له او عليه، و لا يفوتنا ان نشكر الناشر على ما بذل في

ص:14

نشره من جهد و نسأله تعالى اخيرا ان يلهمنا جميعا الصواب و السداد.

5 رمضان سنة 1372 ه

ص:15

1 تأثير العقيدة على المؤرخ

بسم الله الرحمن الرحيم

و له الحمد على سوابغ آلائه. و الصلاة و السلام على نبيه و آله و صحبه النجباء.

من اشق الفروض على المؤرخ ان نفض عن ردائه غبار التعصب لنزعاته الشخصية من دينية أو قومية أو وطنية و نحوها. بل لعله من شبه المستحيل ان ينزع من قلمه لحاء عقائده و أهوائه. فان النفس تلهم عقل صاحبها التصديق بميولها و عواطفها، و كثيرا ما تقف سدا منيعا بين بصيص عقله و الحقيقة، و إن حاول ان يخرج من نفسيته التي ورثها و نشأ عليها. و يتحلل فكره من أسرها و سجنها ليحلق في جو الحق الطليق. و اذا رأيت طائرا أسعده الحظ فتحرر من سجنه فالحقه اذا كنت حرا مثله، فستجد ان جناحه مثقل بغبار

ص:16

السجن، و ارجله لا تزال متأثرة بالقيود، فيختلج في رفيفه و يتثاقل في طيرانه، و قد يهوي أحيانا الى الهوة غير مختار.

هذا من حاول ان يتحرر من شخصيته الاعتقادية و تأثيرها عليه. اما من يؤرخ لأجل غذاء عقيدته، أو يؤلف ارضاء نفسه أو محيطه، فاقرئه ألف سلام! و أرجو من الله تعالى ان يوفقني لئلا أكونه.

و أظنني غير مبالغ اذا قلت: إن المؤرخين من السلف على الأكثر و أقول (على الاكثر) اذا أردت الاحتياط في القول كانوا من النوع الثاني. بل حتى المؤرخين النوع الثاني. بل حتى المؤرخين في عصرنا لا يخرجون عن هذه الطريقة على الغالب. و إن تظاهروا بحرية الرأي و انصاف الواقع و الحق، فظهر جليا بالرغم على المؤرخ نزعته على قلمه و يتماشى تأريخه و تأليفه مع الروح التي يحملها، فيختار من الاحاديث ما لا يفسد عليه رأيه، و لا يصدق إلا بما يجري على هواه. فكم يكون الرجل عنده كذابا وضاعا، لأنه نقل ما لا يتفق و مبادئه، و كم يكون عنده صدوقا لأنه لم يرو إلا أحاديث تؤيد طريقته.

2 اضطراب التاريخ

و هناك بلاء مني به التاريخ الاسلامي خاصة حماه

ص:17

بالغموض و الشك عن الباحثين المنصفين. ذلك كثرة ما لفقه الوضاعون و الدساسون في القرون الاولى من الهجرة، لا سيما القرن الاول فاشاحوا بوجه الحقائق و قلبوها رأسا لعقب.

و ليس أدل على ذلك من التناقض و الاضطراب الموجود في اكثر احاديث الوقائع التاريخية، فضلا عن الاحكام الشرعية، ما عدا الاختلاف في خصوصيات الحوادث و الاحكام مما يذهب بالاطمئنان الى كل حديث. و لا اظن ناظرا في التاريخ لا يصطدم بهذه الحقيقة المرة. و لا يمكن ان يحمل كل ذلك على الغلط في النقل و الغفلة في الرواية.

و لنعتبر بأهم حادثة يجب اتقانها عادة، مثل يوم وفاة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، فانك تعلم كيف وقع الاختلاف في تعيين اليوم من الشهر بل في تعيين الشهر. و هذا أمر شهده جميع المسلمين و هزهم هزا عنيفا فلا يمكن ان يفرض فيه النسيان او الغفلة. فما ذا ننتظر بعد هذا من تاريخ حروبه و احواله، و من نقل اقواله و احاديثه لا سيما فيما يتعلق بالشئون التي اختلف فيها المسلمون فتحاربوا عليها، او تشاتموا لاجلها فكفر بعضهم بعضا.

و لعل اسباب الوضع ثلاثة اشياء:

1 حب تأييد النزاعات و العقائد، فيغري على الكذب و لعل ذلك يخدعه بأن الرأي الذي يعتقده حقا يسوغ له الوضع، ما دام الموضوع في اعتقاده هو او شبيه به.

ص:18

2 حب الظهور و التفوق فقد كان للمحدث في العصور الاولى المنزلة العظيمة بين العامة، و بالحديث كان التفاخر و التقدم، و يمتاز من كان عنده من الحديث ما ليس عند الناس، فأغرى ذلك ضعفاء العقول و عبدة الجاه، فاحتالوا للحديث من كل سبيل، حتى من طريق الوضع و التزوير.

3 ما بذله الامويون و اشياعهم من كل غال و رخيص للمحدثين على وضع ما يؤيد دسيستهم و ملكهم و اهواءهم، و لا سيما فيما يحط من كرامة آل البيت، و فيما يرفع من شأن اعدائهم و خصومهم، فكثرت القالة يومئذ و اتسع الخرق، حتى طعن الاسلام طعنة نجلاء لم يبرأ منها الى يوم الناس هذا.

3 خطة الكتاب

فلذا و ذاك أصبحت، و انا كثير الشك و التحفظ في جملة مما ينقله المؤرخون و المحدثون، و أقف حائرا عند كل حديث يتعلق بالخلافات المذهبية خاصة.

فكيف بي، و انا اقحمت نفسي في البحث عن اول حادث في الاسلام نشب فيه الخلاف بعد الرسول و انشق فيه المسلمون طائفتين ذلك حادث (السقيفة)!.

ص:19

كيف بي، و قد وقفت بين نفس تطالبني بأن ارضيها في عقيدتها، و بين تأريخ هذا حاله قد احيط بالشكوك و الشبهات و قد كتب في الحادثة الطرفان، فشرقت طائفة و غربت اخرى.

و لكني اريد الآن ان أتحرر من عقيدتي و اتمرد على نفسي فأقف حرا على نشز من الانصاف و التروي، و أمسح عن عيني غبار التعصب لأرى تلك الحقيقة الواحدة و هي واحدة في كل شيء فهل اراني استطيع علاج ما بي ؟ هذا ما أشكه في نفسي و واجب علي الا اثق بها، فما السبيل إذن ؟ ثمّ ما ذا سأصنع في علاج الناحية الاخرى: ناحية التاريخ المظلم ؟

انها لمزلة للقدم، و لها ما بعدها؟.

دعني أرجع ادراجي ؟.

لكنه الهوى في النفس و عزيمة صحت من عهد المعمي من عهد ليس بالقريب لا كشف لنفسي، او لغيري اذا جاء لي ذلك اللغز المعمى، و من يستطيع ان يدافع ذلك من نفسه.

على اني اجد في بحثي سلوة و متعة يلذ لي فيه ان المس بعض الحقائق عن بصيرة و متعة اخرى ان اسجله انتاجا باقيا للناس.

و ايضا لما كنت احاول ان صدقتني المحاولة ان احيط باسرار الحادثة و فلسفتها و نتائجها، فلا يكون ما اكتبه تأريخا مجردا جافا و احدوثة خالية من ذوق، فان ذلك يستحثني على

ص:20

المضي في البحث و يشجعني على اخراجه للناس. و ان كان فيه صعوبة اخرى قد تقحمتها وجب الي عبؤها الثقيل.

و بعد التفكير و المحاولات مدة طويلة هديت الى شيء واحد بالاخير ارجو ان ابتعد بسببه عن تأثير العواطف و لعبها بالعقول و اقترب من الحق و الصدق، هو ان اكثر من مراجعاتي لمؤلفات من اخالفه في الرأي من ناحية مذهبية، بل اجعلها هي المصدر في البحث و ظني ان بهذا سيحصل التفاعل من الجانبين: عقيدتي و هذه المصادر، لينتج ما قد يسمونه (الوسط في الرأي) او تكون الحقيقة قد اهتديت اليها بهذه الحيلة، إن طاوعتني.

و قد اخذت على نفسي في هذا الكتاب ان اسجل خلاصة مطالعاتي و محاكماتي التاريخية، بعد ان سبرت كثيرا من المصادر القديمة التي اشرت اليها آنفا، فاذا كنت اذكر حديثا او حادثا تأريخيا توافرت المصادر على ذكره و توثيقه، فاني لا اذكر معه تلك المصادر توفيرا على القارئ خشية إعناته بدون جدوى، الا بعض الاحاديث التي ينفرد بها مصدر او مصدران، فاني اضطر اضطرارا الى ذكر المصدر في التعليقة تنويرا لذهن القارئ غير المتتبع.

و كل جهدي ان اضع بين يدي القراء صورة مصغرة مما اهتديت اليه من افكار، ارجو ان تكون خالصة من تأثير

ص:21

العواطف و النزعات حرة هي الحق كله او قريبة من الحق، و بالله التوفيق و منه التسديد.

شهر رمضان 1353 هجرية

المؤلف

محمد رضا المظفر

ص:22

تمهيد

بسم الله الرحمن الرحيم في عام 11 للهجرة يفعل الدهر فعلته الأولى، فيقلب صفحة من صفحات التاريخ الاسلامي المجيدة كتبت بأحرف من النور الالهي. كلها ايمان و صدق، جهاد و تضحية، فخر و قوة، عز و مجد، عدل و رحمة، اخوة و انسانية.

يقلب الدهر هذه الصفحة الناصعة بالخيرات و الفضائل، بأفول ذلك النور المقدس من الأرض، فيستقبل بالمسلمين صفحة من كتابه التكويني مشوشة الخط قال عنها الكتاب التشريعي: (أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ...). لا شك عند من يعترف بالقرآن الكريم وحيا إلهيا لا ينطق صاحبه عن الهوى، في ان هذا الحادث التاريخي العظيم بموت منقذ الانسانية، كان حدا فاصلا بين عهدين يختلفان كل الاختلاف: ذاك اقبال بالنفس و النفيس على الحق تعالى، و هذا انقلاب عنه على الأعقاب. إذن نحن الآن أمام أمر واقع:

مات النبي صلى الله عليه و آله و سلم!

ص:23

و لا بد أن يكون المسلمون (كلهم ؟ لا أدري الآن) قد انقلبوا على اعقابهم.

و لكن... بأي حادث كان مظهر هذا الانقلاب ؟.

***

اعطني من نفسك أيها القارئ و فكر بحرية، و التمس لي حادثا ذا بال وقع بعد وفاة صاحب الرسالة مباشرة، فنضح برذاذه جميع المسلمين، فهل تجد غير حادث (السقيفة)؟ ما أعظمه من حادث! و هل تدري ان الشيعة تفسر الآية الكريمة به ؟.

فاذا اردنا الآن أن نبحث عن (السقيفة)، فإنما نبحث عن اعظم حدث في الاسلام، و اول حوادثه بعد الوفاة، له علاقته الخاصة بالآية الكريمة، أ تفسر به أو لا؟.

و على هذا الاساس قلت في المقدمة شرق فيها قوم و غرب آخرون فدخلت العقائد و الأهواء في سرد الحادثة، فكانت ذات ألوان و وجوه يكد فيها الباحث، و يجهد مستهدف الحقيقة.

***

و ما علي لو أدعي قبل الدخول في بحث السقيفة ان الآية الكريمة تفسر بحوادث الردة التي وقعت في خلافة ابي بكر.

ص:24

و لكني لا اطمئن الى هذا الاحتمال، ما دامت الآية تشعرنا بأن الانقلاب يقع بعد موت النبي مباشرة، و ما دامت هي خطاباً لجميع المسلمين، و اهل الردة كيفما فرضناهم هم اقل القليل من المسلمين، بل في العدوة القصوى منهم.

و فوق ذلك نجد ان عمدة من نسميهم بأهل الردة هم المتنبئون و اشياعهم، كمسيلمة و اتباعه، و طليحة و اوليائه. و هؤلاء كانوا في عهد النبي و استغلظ امرهم بعده، ما عدا سجاح التميمية، و ما كان لها كبير شأن و قد اندمجت بمسيلمة.

اما الأسود العنسي فقد قتل في حياة الرسول و لازم انصاره طريقته بعده. و علقمة بن علاثة ارتد في زمانه صلى الله عليه و آله. و مثله ام رفل سلمى بنت مالك و تابعوها.

أ فيصح ان نقول: إن هؤلاء انقلبوا على الاعقاب بعد النبي، و كان الخطاب بالآية لهم ؟ اللهم ان هذا يأبى الانصاف ان يصدق به، عند من كان له شيء من حرية الرأي و صحة التفكير.

و مالك بن نويرة(1).

مالك وادع سجاح (و الموادعة. المتاركة و المسالمة على ترك الحرب كما كان كعب القرضي موادعا لرسول الله).

و ليست الموادعة من الردة في شيء و اكثر من ذلك إنما كانت

______________________________

ص:25


1- (1) و به يضرب المثل المشهور: (فتىً و لا كمالك).

منه لمصلحة المسلمين، ليرد سجاح عن غزوهم في تلك الأصقاع النائية عن مركز المسلمين. و كان الذي أراد.

و إن كانت تلك الموادعة ذنباً، فقد اظهر هو و قومه التوبة بعد ذلك، كما صنع وكيع و سماعة، و هما وادعا سجاح ايضا، و قبل المسلمون المحاربون توبتهما.

و هذا ابو بكر يدين مالكا إذ قتله خالد بن الوليد و خلا بزوجته ليلة قتله، فهل تفسر بهذا آية الانقلاب ؟.

و لا ذنب لمالك إذ عد من اهل الردة إلا أن قاتله بطل المسلمين يومئذ و قائدهم. و حقيق عليهم ان يدافعوا عن فعلته و يبرروا عمله. فليكن مالك مرتدا يستحق القتل! و ما يهمنا ان نشين مالكا بما يستحق و بما لا يستحق، ما دامت كرامة خالد محفوظة مصونة من النقد!.

عمر بن الخطاب يريد ان يؤخذ خالد بقتله لمالك و نزوه على زوجته و ابو بكر يعتذر عنه (انه اجتهد فأخطأ). و ما الخطأ على المجتهدين بعزيز. و هذا من اوليات ابي بكر. إذ يجعل الاجتهاد عذرا للمخالفة الصريحة للقانون الاسلامي.

و ابو بكر لم يقل لمتمم اخي مالك انه ارتد فقتل بل قال له: ما دعوته و ما قتلته، لما قال له متمم من ابيات:

ادعوته بالله ثمّ قتلته لو هو دعاك بذمة لم يغدر

ص:26

نعم! التاريخ ينزه مالكا. و قضى الدفاع عن خالد ان يحكم بعض الكتاب في هذا العصر بكفر مالك و ارتداده!.

***

و من هم أهل الردة غير هؤلاء؟.

مانعو الزكاة.

مانعو الزكاة ؟. من هؤلاء بأسمائهم و قبائلهم! ليت احدا يرشدني اليهم! فقد وجدت التأريخ يجمجم في ذكرهم فيحصر، و يروح و يغدو فلا يجد غير المتنبئين و اشياعهم. و أبو بكر لما قال كلمته المشهورة: (لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه)، فانما قالها عند ما جاء وفد طليحة المتنبئ المتقدم ذكره يطلبون الموادعة على الصلاة و ترك الزكاة، لا في قوم غير المتنبئين.

و اذا كانوا و ربما كانت بعض القبائل المجهولة امتنعت عن الزكاة فهل العصيان بترك واجب، و هم يقيمون الصلاة يكون كفرا و ارتدادا؟ بأي مذهب و بأي دين ؟ فليتأول المتأولون ما شاءوا.

و لم يعرف عنهم انهم أنكروا وجوب الزكاة بقول، حتى يكونوا من منكري ضروريات الدين الذين يعدون في الكافرين المرتدين. و أكثر ما عرف عنهم اذا كان لهم من منكري ضروريات الدين الذين يعدون في الكافرين المرتدين.

ص:27

و أكثر ما عرف عنهم اذا كان لهم وجود غير المتنبئين انهم امتنعوا عن أدائها.

و تغلق دعوى المدعي أن هؤلاء أنكروا بيعة ابي بكر التي كانت عن غير مشورة من المسلمين كما صرح به عمر بن الخطاب، فلم يعترفوا له بامامة و ولاية حتى يؤدوا له الزكاة. و لعلهم كانوا يطالبون بخلافة من كان النص من النبي على خلافته، فأهمل مطالبتهم التأريخ.

هذه احتمالات لا يفندها التأريخ و الاعتبار و ادعتها الشيعة فيهم، فما لنا بتكذيبها من برهان، فالأحسن لنا ألا نعترف بوجودهم كما أهمل التأريخ أسماءهم و قبائلهم.

و مهما كان الامر، فان استطاع الكاتب ان يثبت الانقلاب بأول حدث في الاسلام، فلا يهمه ما ذا سيكون شأن الحوادث اللاحقة، بل يستعين على تفسيرها بتفسير الحادث الأول، و كفى!

و أجدني مضطرا قبل كل شيء الى ان اقف مع القارئ على ما صنعه النبي صلى الله عليه و آله، من حل للخلاف بعده: إما في وصية باستخلاف أحد، او في قاعدة مضبوطة يرجعون اليها، او انه اهمل الأمر و تركهم و شأنهم، لأن هذا البحث له علاقة قوية في موضوع بحثنا، يتوقف عليه تفسير كثير من الحوادث.

ص:28

إذن سنعقد الكتاب على اربعة فصول:

الفصل الاول في موقف النبي تجاه الخلافة

الفصل الثاني في تدبيره لمنع الخلاف

الفصل الثالث في بيعة السقيفة

الفصل الرابع موقف علي بن ابي طالب.

ص:29

ص:30

الفصل الاول: مَوقِف النَّبي تجَاه الخَلافَة..

اشارة

ص:31

(1 هل كان يعلم بأمر الخلافة ؟)

هل تجد من نفسك الميل الى الاعتقاد بأن النبي صلى الله عليه و آله كان لا يعلم بما سيجري بعده: من خلافات و حوادث من اجل الخلافة ؟ و هل تراه كان غافلا عما يجب في هذا السبيل ؟.

إذا كان لك هذا الميل فلا كلام لي معك، و ارجو منك يا قارئي العزيز علي أن تلقي الكتاب عندئذ عنك و لا تتعب نفسك بالاستمرار معي الى آخر الحديث، لاني افرض قارئي مسلما يؤمن بالنبي و رسالته، و يعرف من تأريخه ما يكفيه في طرد هذا الوهم.

فان من يمت الى الاسلام بصلة العقيدة لا بد ان يثبت عنده على الاقل ان صاحبه صرح في مقامات كثيرة بما ستحدثه امته من بعده فقد قال غير مرة: (ستفترق امتي على ثلاث و سبعين فرقة فرقة ناجية و الباقون في النار).

و اكثر من ذلك انه لم يستثن من اصحابه إلا مثل همل النعم، ثمّ هم يدخلون النار بارتدادهم بعده على ادبارهم القهقري، او يردون عليه الحوض فيختلجون بما احدثوا

ص:32

بعده. و في بعض الاحاديث: (فيقال لي: إنهم لم يزالوا مرتدين على اعقابهم منذ فارقتهم)(1)

و اخبرهم انهم يتبعون سنن من قبلهم شبراً بشبر و ذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعوهم.

و (الخلافة) امر كانت تحدثه به نفسه الشريفة، و يشير اليها انها ستكون ملكا عضوضا بعد الثلاثين سنة. و ثبت انه قال: (هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش). و قال: (من لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية). و قال... و قال... الى ما لا يحصى.

و سيرته و الأحاديث عنه و ما اكثرها تشهد شهادة قطعية على ما كان من اختلاف امته، و على أن الخلافة و الامامة من اولى القضايا التي كانت نصب عينيه.

______________________________

2 هل وضع حلا للخلاف ؟

إذن كان صلى الله عليه و آله و سلم عالما بأن الدهر سيقلب لأمته صفحة مملوءة بالحوادث و الفتن، و الخلافات و المحن، و ان لا بد لهم من خلافة و إمارة.

ص:33


1- (1) صحيح مسلم 8:107 و غيره

فلا بد ان نفرض انه قد وضع حلا مرضيا لهذا الامر يكون حدا للمنازعات و قاعدة يرجع اليها الناس، لتكون حجة على المنافقين و المعاندين، و سلاحا للمؤمنين، ما دمنا نعتقد انه نبي مرسل جاء بشيرا و نذيرا للعالمين الى يوم يبعثون، فلم يكن دينه خاصا بعصره، ليترك امته من بعده سدى من غير راع او طريقة يتبعونها، مع علمه بافتراق امته في ذلك.

و لا يصح من حاكم عادل ان يحكم بنجاة فرقة واحدة على الصدفة من دون بيان و حجة تكون سببا لنجاتهم باتباعها، و سببا لهلاك باقي الفرق بتركها.

لنفرض ان الحديث و التأريخ لم يسجلا لنا الحل الذي نطمئن اليه، فهل يصح ان نصدقهما بهذا الاهمال، و نوافقهما على ان النبي ترك امته سدى، و في فوضوية لا حد لها يختلفون و يتضاربون، ثمّ يتقاتلون، و تراق آلاف آلاف الدماء المسلمة، ساكتا عن اعظم امر مُني به الاسلام و المسلمون، مع انه كان على علم به ؟.

و لو كنا نصدقها مستسلمين لكذبنا عقولنا و تفكيرنا، فان الاسلام جاء رحمة لينقذ العالم الاسلامي من الهمجية و الجاهلية الأولى، فكيف يقر تلك المجازر البشرية في اقصى حدودها، تلك المجازر التي لم يحدث التأريخ عن مثلها و لا عن بعض منها في عصر الجاهليين.

ص:34

فما علينا إلا ان نتهم التأريخ و الحديث بالكتمان و تشويه الحقيقة بقصد او بغير قصد. و لئن لم يكن محمد نبياً مرسلا يعلم عن وحي و يحكم بوحي فليكن على الاقل اعظم سياسي في العالم كله لا اعظم منه، فكيف يخفى عليه مثل هذا الأمر العظيم لصلاح الأمة بل العالم بأسره مدى الدهر، او يعلم به و لا يضع له حدا فاصلا؟.

و هل يرضى لنفسه عاقل يتولى شئون بلده فضلاً عن امة، ان يتركها تحت رحمة الاهواء و اختلاف الآراء و لو لأمد محدود، و هو قادر على اصلاحها او التنويه عن اصلاحها، إلا ان يكون مسلوبا من كل رحمة و انسانية ؟ حاشا نبينا الاكرم من جاء رحمة للعالمين و متمما لمكارم الاخلاق و خاتما للنبيين! و قد قال الله تعالى على لسانه بعد حجة الوداع:

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ).

و قد وجدناه نفسه لا يترك حتى المدينة المنورة، اذا خرج لحرب او غزاة، من غير امير يخلفه عليها، فكيف نصدق عنه انه اهمل امر هذه الامة العظيمة بعده الى آخر الدهر، من دون وضع قاعدة يرجعون اليها او تعيين خلف بعده.

3 ايكال الامر الى اختيار الأمة

لنختار الآن لحل هذه المشكلة انه صلى الله عليه و آله

ص:35

و سلم أوكل امته الى اختيارهم، او الى اختيار اهل الحل و العقد منهم خاصة في تقرير شئون الخلافة. فهل يصح هذا الفرض للحل ؟.

اما انا ايها القارئ لا استطيع ان اقتنع بأن هذا الفرض يكون حلا مرضيا لهذه المشكلة، و لعلك انت ترى مع من يرى ان تعيين الرئيس بالانتخاب من ارقى التشريعات الحديثة و قد سبق اليه الاسلام، فهذا من مفاخره.

فوجب علينا ان نبحث هذه الناحية العلمية بدقة، و املي كما هو مفروض انك تعطيني من نفسك النصف و تفكر معي تفكيرا حرا، بعيدا عن تأثير العاطفة التي تقضي علينا ان نتمسك بهذه المفخرة للاسلام.

و لا ينبغي لنا ان نحاول هذه المحاولة، فربما نلصق به ما ليس له، و لعلها لا تثبت للبحث مفخرة يمتدح بها، فنكون قد نقضنا غرضنا الذي نريده من إثبات الفضيلة للاسلام بالسبق الى هذا التشريع.

و الذي ادعيه الآن ان إرجاع الأمة مدى الدهر الى اختيارها في تعيين الرئيس لها هو عين الفوضوية التي اردنا التخلص منها في البحث السابق، و ليس معناه إلا إلقاء الأمة في اعظم هوة من الخلاف لأحد لها و لا قعر.

ص:36

و سر ذلك ان الناس مختلفون متباينون، ليس بينهم اثنان يتفقان في فكر أو عاطفة أو ذوق أو عادة أو عمل، حتى التوأمين، إلا من التشابه القريب أو البعيد من غير اتفاق حقيقي، كاختلافهم في أجسامهم و سحنات وجوههم، و تشابههم في ذلك. بل الناس مختلفون في كل شيء من دقائق أجسادهم و أخلاقهم و نفوسهم و عاداتهم فلم يتفق لشخصين أن يتفقا تحقيقا حتى في بصمة الأصابع، حتى قيل ان كل فرد من الانسان نوع برأسه.

و عليه، فيستحيل أن تتفق أهل بلدة واحدة على حكم واحد أو عمل واحد، فضلا عن أمة كبيرة كالأمة الاسلامية على توالي الزمان. و بالأخص اذا كان الحكم مسرحا للعواطف و الأغراض الشخصية و التحيزات كالحكم في الزعامة العامة.

و من هذا نستنتج ان الرأي العام الحقيقي غير موجود أبدا، بل يستحيل وجوده لأية امة في العالم، و من خطل الرأي أن يطلب الانسان تكوين الرأي العام، و توحيد اختيار الأمة بأسرها لأمر من الأمور، على ان محاولة ذلك يستحيل أن تسلم من منازعات دموية و اضطرابات شديدة اذا كان تكوينه يراد لأمر ذي شأن، إلا أن يكون هنا حاكم يفصل بين المتنازعين بما له من القوة القاهرة لمخالفيه، كما هو موجود فعلا في الانتخابات الجارية عند الأمم المتمدنة، فان تحكيم الأكثرية ذات القوة الطبيعة خير علاج على منازعاتهم في الامور العامة.

ص:37

و تحكيم الاكثرية في الحقيقة فرار من محاولة تكوين الرأي العام الحقيقي، بل هو اعتراف باستحالته، و مع ذلك لم يستغن غالبا الرجوع الى الأكثرية ليكون لها الفصل عن ملطفات و مؤثرات اخرى تنضم الى قوته الطبيعية، أهمها سلطة الحكومة و القانون العام القاضي بتحكيم الأكثرية الذي أصبح بحكم التقليد لا مسيطرا على معتنقيه.

و بتوسيط أمثال هذه الأمور تمكن التسوية بين الأكثرية على رأي متوسط، و إلا فالاتفاق الحقيقي على تفاصيل الأمور يستحيل حتى في الأكثرية.

و هذا الرجوع الى الأكثرية آخر ما توصل اليه الانسان بعد العجز عن تحصيل الاتفاق الحقيقي و بعد أن فشل البشر على ممر تلك القرون الطويلة التي انهكته بالتجارب القاسية، فوجد ذلك خير ضمان للسلام في الأمم. و ليس معنى ذلك ان الأكثرية لا تخطأ، كيف و الجماعات دائما تفكر بأحط فكرة فيها، و من مزاياها انها خاضعة لسلطان العاطفة، فهي علاج لفضّ المنازعات ليس إلا، لا لضمان تحصيل الرأي المصيب.

و بهذا البيان نخرج الى فكرة ان تعيين الرئيس أو غيره بالانتخاب الذي هو من أرقى التشريعات الحديثة معناه الرجوع الى الأكثرية دائما التي أصبحت من التقاليد المرعية عند الناس في هذا العصر، و هذا لم يسبق اليه الاسلام، و من يدعي ان النبي صلى الله عليه و آله أوكل أمته الى اختيارهم

ص:38

في تقرير شئون الخلافة لا يدعي انه شرع قانون الاكثرية لأنه ليس لهذه الدعوى شاهد في زبر الأولين، على انه كما ذكرنا لا يسلم من الخطأ، فلا يسوغ لنا أن ننسبه الى من لا ينطق إلا عن وحي و لا يريد إلا الحق.

و إذا ادعى انه أوكل الأمر الى اتفاق أمته و اختيارهم جميعا، فمن خطل الرأي، إلا اذا جوزنا عليه ان يطلب المستحيل او تعمد ايقاع أمته في منازعات دائمية تفضي الى ازهاق النفوس و اضعاف القوى المادية و الأدبية، ثمّ الى ضعف كلمة الاسلام في الارض.

فتلخص ان هذا التشريع أعني تشريع تعيين الامام بالانتخاب لا يصح لنا ان ننسبه الى منقذ البشرية من الضلالة الى الهدى الذي لا ينطق إلا عن وحي، سواء فسرناه بالأكثرية او باتفاق الجميع.

***

و مهما حاولنا اصلاح هذا التشريع بتفسير الأمة بأهل الحل و العقد منها خاصة، فلا اجد هذه المحاولة تسلم من ذلك النقص البارز فان اهل الحل و العقد و كبار الأمة هم بؤرة الخلاف و النزاع. فان الخاصة مع اختلاف نفوسهم و تباين نزعاتهم كسائر الناس، لا ينفكون عن تحيزات فيهم اعظم منها في غيرهم. و يندر ان يتجردوا من اهواء نفسية و اغراض

ص:39

شخصية، تجعل كل فرد يشرئب الى هذا المنصب الرفيع ما هيئ له و وجد مجالا لارتقائه، و لو عن غير قصد، بل عن رغبة نفسية كامنة هي غريزية لا يفطن لها صاحبها او لا يعدها باطلا و خروجا عن محجة الصواب. بل حب النفس قد يحمله على الاعتقاد بأن زعامته اصلح للأمة واجدى، فيوحي الهوى للنفس البرهان المقنع على صحة رأيه.

و للمعتقد ان يعتقد ان الخليفة ابا بكر تفطن الى سوء عواقب هذا التشريع، فأسرع الى تعيين الخليفة من بعده، بالرغم على جدة هذا التشريع الذي به كان خليفة، و على تركزه في النفوس تتوقف صحة خلافته. كيف لا و قد شاهد هو الموقف في بيعته يوم السقيفة، و كان أدق من سم الخياط، مع غفلة الناس يومئذ عن الامر، و انشغالهم بفاجعة نبيهم.

و هكذا حذا حذوه خليفته، فاخترع طريقة الشورى من ستة اشخاص، و هي تبعد كل البعد عن قاعدة الرجوع الى اختيار اهل الحل و العقد، على ان وجدنا هؤلاء و هم ستة لا غير لم يتفقوا على رأي واحد، فلعبت دورها التحيزات و العواطف، فصغى رجل لضغنه، و مال الاخر لصهره، على حد تعبير الامام علي بن ابي طالب.

و لا شك لم يخف على الخليفة عمر استحالة حتى اتفاق الجماعة الصغيرة، فحكم فيها الأكثرية، و عند التساوي فالكفة الراجحة التي فيها عبد الرحمن بن عوف. و مع ذلك

ص:40

حدد لهم الوقت بثلاثة ايام، و اعطى السلطة التنفيذية لغيرهم، ليقهرهم على تنفيذ خطته.

لما ذا كل هذه القيود التي وضعها، مع تهديدهم بالقتل إن تأخروا عن الموعد و لم يبرموا العهد؟ لا شك انها كانت لقصد الابتعاد عن الخلاف و النزاع الطبيعي لمثل هذا الامر. اذا القى حبله على غاربه.

و هنا وجدنا كيف أحكم عمر بن الخطاب وضع هذه الخطة، اتقاء للخلاف و النزاع على الامارة الذي لا ينفك عادة عن اراقة الدماء، في وقت اراد ألا يتحمل تبعة تعيين شخص الخليفة بعده، او انه في الأصح لم يجد نفسه تميل كل الميل إلا لتعيين احد الثلاثة الذين قد ماتوا يومئذ، و هم ابو عبيدة بن الجراح، و سالم مولى ابي حذيفة، و معاذ بن جبل.

***

و لا اعجب ان يكون ابو بكر و عمر تفطنا الى ما في تشريع إلقاء الامر على عاتق اختيار الامة من فساد، و ما ينجم منه من جدال و جلاد. و لكن عجبي ممن يتسرع فينسب ذلك التشريع الى النبي الحكيم الذي لا يفعل إلا عن وحي و لا يحكم الا بوحي. و مع ذلك يدعي الاسلام و عرفان الرسول العظيم.

و لو كان للخليفة عثمان كلمة تسمع و رأي يطاع يوم

ص:41

حوصر و أيس من الحياة؛ لما تأخر عن تعيين من يخلفه قطعا. و لكن الموقف كان ابعد من ان يتحكم عليه بمثل ذلك، و هو محاط به ليخلع.

و مما يزيدنا اعتقادا بعقم هذا الحل لمشكلتنا الاجتماعية الخطيرة، انا لم نعرف خليفة تعين بهذه الطريقة إلا ابا بكر و علي بن ابي طالب، و ابو بكر كانت بيعته فتنة او فلتة وقى الله شرها على حد تعبير عمر عنها و هو نفسه الذي شيد اركانها، و مع ذلك قال عنها: (فمن دعا الى مثلها فهو الذي لا بيعة له و لا لمن بايعه)(1).

اما علي عليه السلام، فبعد تمام البيعة له (الشرعية بنظر اصحاب هذا الرأي) قد وجدنا كيف انتفض عليه نفس اهل الحل و العقد، و الإسلام بعدُ لم يرث و العهد قريب، و هؤلاء المنتقضون هم جلة الصحابة. فكانت حرب الجمل فحرب صفين اللتان اريقت بهما آلاف الدماء المحرمة هدراً، و انتهكت فيهما حرمات الشريعة، و شلت بهما حركة الدين الاسلامي.

و لم نعرف بعد ذلك خليفة تعين إلا بتعيين من قبله أو بحد السيف، و لقد لعب السيف دورا قاسيا جعل العالم الاسلامي يمخر في بحر من الدماء. و لم يجرئ الطامعين بالخلافة على

______________________________

ص:42


1- (1) كنز العمال ج 3 رقم 2326 و غيره.

خوض غمار الحروب إلا سن هذا القانون. قانون الاختيار، فمهد السبيل لطلحة الزبير ان يشعلا نار حرب الجمل، و مهد لمعاوية ما اجترم، و لابن الزبير تطاوله للخلافة و هو القصير، و للعباسيين ثورتهم على الامويين و لغيرهم ما شئت ان تحدث و الحديث ذو شجون.

الى هنا اجد من نفسي القناعة و الاطمئنان الى القول بفساد تشريع تعيين الامام باختيار اهل الحل و العقد. و هيهات ان يكون من النبي الحكيم مثل هذا التشريع.

و كيف يخفى عليه ضرر هذا التشريع، و لا يخفى على عائشة ام المؤمنين يوم تقول لعمر على لسان ابنه عبد الله:

(لا تدع امة محمد بلا راع. استخلف عليهم و لا تدعهم بعدك هملا فاني اخشى عليهم الفتنة).

و ما ادري لما ذا لم يشر احد على محمد عليه افضل التحيات ان يستخلف او يبين على الاقل طريقة الاستخلاف حتى لا يفتتنوا، كما اشارت عائشة على عمر؟ و لما ذا لم يسأله احد عن هذا الأمر، و هم يسألونه عن الكبيرة و الصغيرة لما ذا...؟

و المرجح انه سئل فأجاب، و لكن التأريخ هو المتهم في اهمال مثل هذه القضايا. على ان تأريخ الشيعة لم يهمل مثل هذا السؤال و الجواب الصريح عليه.

ص:43

4 لا نص في قاعدة الاختيار

لنتنازل الآن عن جميع ما قلناه في البحث السابق من فساد تشريع قاعدة الاختيار، و لكن أ لا يجب علينا ان نسأل مدعي صدور هذا التشريع من النبي عن الدليل عليه في كتاب أو سنة.

و بودي ان يدلني احد على قول الرسول في هذا الشأن، فما سمعنا عنه انه قال يوما: ان الاختيار في تعيين الامام لأهل الحل و العقد، او انه امر الأمة باختيار الإمام بعده، لا تصريحا و لا تلويحا. على ان الدواعي جد متوفرة لنقل مثل هذا القول، و القوة و الحول في صدر الاسلام الى ما بعده في يد من يرتئي هذا الرأي و يدافع عنه، فليس لأحد ان يدعي ان هذا الاثر قد خفي علينا او امتنع الرواة عن نقله.

أجل! إلا ان الله تعالى قال في كتابه العزيز: (وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ).

ص:44

أجل! إلا ان الله تعالى قال في كتابه العزيز: (وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ).

إذن لم يثبت عن النبي قول و تصريح في هذا الأمر من الاتكال على اختيار الأمة، بل قال تعالى: (ما كانَ لَهُمُ

اَلْخِيَرَةُ ). فلنذهب الآن من طريق ثانية الى إثبات صحة هذا التشريع، فنقول:

(أ ليس النبي كان غير غافل عن امر الخلافة! و لكنه سكت عن الحل لمشكلتها بطريق النص على احد من اصحابه، فلا بد انه أوكل ذلك الى اختيار أمته، فيكون سكوته إذن دليلا على هذا الايكال).

و هذا يقرب من التفكير الصحيح لأول وهلة، اذا استطعنا التصديق بسكوته عن النص فلذلك لا يصح إلا اذا ثبت لنا ان لا نص هناك، فوجب ان ننظر فيما تقوله اهل السنة و الشيعة من النص على ابي بكر او علي بن ابي طالب. و سيأتي في البحث (7) و (8).

و لكن لو فكرنا قليلا، فلا نرضى لمصلح عاقل فضلا عن النبي الكريم ان يرمز لهذا الأمر العظيم الذي وقع فيه اعظم خلاف في الامة بمثل هذا الرمز الخفي. و ما الذي يلجئه الى مثل هذا الدليل الصامت إن صح هذا التعبير مع علمه بما سيقع بعده من انشقاق و خلاف تتسع شقته هذا الاتساع، و تتخلله فتن و حروب أنهكت المسلمين و أفسدت روحية الاسلام ؟!.

أما كان الجدير اذا لم يكن قد نص على احد ان يصرح لامته بايكال الأمر الى اختيارهم ؟ ثمّ يحدده باختيار اهل الحل و العقد منهم، او يحدده بخصوص اهل المدينة او

ص:

اهل عاصمة الخلافة، ثمّ يكتفي باختيار الواحد و الاثنين منهم (على ما يذهب اليه جماعة من علماء اهل السنة)، ثمّ يذكر شروط الامام حتى يعرفوا من يجب ان يختاروه!

أ كل هذه الامور و القيود نستقيها من هذا الدليل الصامت و يكون هذا السكوت حجة على من يشكك في واحد من هذه الشئون فيستحق عقاب الخالق الجبار، ثمّ مع ذلك يخرج عن ربقة الاسلام و يدخل في زمرة الكافرين ؟!.

اللهم اشهد علي اني لا أستطيع ان أؤمن بصحة دليل صامت يدل هذه الدلالة الواسعة على اعظم الشئون العامة التي يعم بلاؤها جميع الخلق في كل زمان و مكان، في وقت الحاجة الى دليل ناطق و حجة واضحة.

اللهم اشهد اني لا استطيع ان أؤمن بذلك إلا اذا فقدت حرية التفكير و مسكة العقل.

5 اختلاف امتي رحمة

و أخشى الآن أن أكون قد أخذت بقلمي النعرة المذهبية في بحثي السابق، فبالغت في تشويه تلك الدعوى و خرجت عن خطتي التي رسمتها لنفسي.

و هل تراني اخفف وطأة من تلك السورة، فأطمئن الى

ص:46

تعليل مقبول لذلك الصمت، بأن أقول: إن الرسول إنما ترك بيان هذا الأمر ليوقع الخلاف بين امته رحمة بهم لما روى عنه: (اختلاف أمتي رحمة)؟.

و لكن هيهات! إن لم تؤول الكلمة بما يتفق و مبادئ الاسلام(1) فانها الكذب الصراح على داعية الوحدة و مقاتل نزعات الجاهلية الاولى بسيف من الاخوة الاسلامية انتشل العرب من هوة عميقة للتفرق و النزاع و النزال.

إن أكبر ظاهرة للاسلام بل من أعظم أعماله، تلك الدعوة الى الوحدة المطلقة بأوسع معانيها و تحطيم الفروق حتى بين الشعوب و الامم المختلفة. ألا (إنما المؤمنون إخوة).

______________________________

ص:47


1- (1) هذه الكلمة مروية من طرق الطرفين. و الوارد في تفسيرها عن آل البيت غير ما يتخيل من ظاهرها ففي علل الشرائع: (انه قيل للامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: ان قوما يروون أن رسول الله قال: (اختلاف امتي رحمة)، فقال: صدقوا، فقيل: اذا كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب، قال ليس حيث تذهب و ذهبوا انما أراد قول الله عز و جل (فلولا نفر من كل فرقة طائفة..) و اختلاف أهل البلدان الى نبيهم ثمّ من عنده الى بلادهم رحمة...) الخبر. و مثله في معاني الأخبار للصدوق، و فيه: (انما أراد اختلافهم من البلدان لا اختلافا في دين الله، انما الدين واحد).

و ليس هناك شيء في الاسلام غني عن البرهان بل عن البيان مثل دعوته الى الوحدة و العمل لها بكل الوسائل، ليكون المؤمنون كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا. و قد تجلى ذلك ظاهرا في كثير من الأحكام العملية: في وجوب الحج و صلاة الجمعة و الجماعة و حرمة الغيبة و اللمز و الغمز و القذف... و ما الى ذلك مما لا يحصى، و بعد هذا أ يمكننا ان نجرؤ فندعي ان الرسول يدعو الى الخلاف! و أكثر من ذلك يسعى الى التفرقة، و أية تفرقة هي ؟ إن هذا لبهتان عظيم و زور مبين! اللهم اني استجير بك من شطحات القلم و التفكير.

6 الاجماع على قاعدة الاختيار

و هنا لا بد أن ننصف في القول فلا نجري الكلام على عواهنه، فأني لم أعرف عن اخواننا أهل السنة أنهم فسروا هذا الصمت المدعى بذلك التفسير إلا من قل. و على الاقل انهم لم يجعلوه وحده دليلا على ايكال أمر الخلافة لاختيار أهل الحل و العقد، و إما يستدلون باجماع أهل الصدر الاول على كفاية اختيار أهل الحل و العقد، بدليل بيعة أبي بكر يوم السقيفة. و عندهم الاجماع حجة لما روي عنه عليه الصلاة و السلام، (لا تجتمع أمتي على الخطأ) و (لا تجتمع أمتي على ضلال).

ص:48

و لكن الشيعة لا يعتبرون مثل هذا الاجماع. و إنما يعتبرون الاجماع اذا كشف عن رضى امام معصوم حيث يكون داخلا في أحد المجمعين. و بيعة أبي بكر لم تقترن بموافقة الامام و هو علي بن أبي طالب فلم يتم عندهم الاجماع الذي يكون حجة.

و يذهبون الى أكثر من ذلك، فيقولون إن الاجماع بكل معانيه لم ينعقد على صحة بيعة أبي بكر، لمخالفة علي الذي يدور معه الحق حيثما دار و مخالفة قومه بني هاشم و سعد بن عبادة و ابنه و جماعة من كبار الصحابة كسلمان و ابي ذر و المقداد و عمار و الزبير و خالد بن سعيد و حذيفة اليمان و بريدة و غيرهم. و لم يبايع من بايع منهم بعد ذلك إلا قهرا و اضطرارا حفظا لبيضة الاسلام و توحيدا لكلمة المسلمين. و لا يصح بحال ان يدعي ان هؤلاء ليسوا من اهل الحل و العقد، و هم من تعرف. و يقول الشيعة ايضا: لم يتكرر بعد ذلك تعيين الامام باختيار أهل الحل و العقد، حتى نؤمن بحصول الاجماع على صحة الاختيار في تعيينه، لان كل خليفة تعين إنما تعين بنص السابق عليه أو بحد السيف و القوة، ما عدا علي بن ابي طالب عليه السلام، و هو امام بالنص من النبي (صلی الله علیه و آله) و لا شأن لاختيار الامة في امامته.

***

هكذا اختلف الطرفان، و أجدني الآن حائرا إزاء أدلة

ص:49

الطرفين. و اذا اردت ان اعالج في بحثي حادث السقيفة فانما اعالجه من عدة نواح هذه أهمها، فهل استطيع ان استنتج الحكم الفاصل لاحدى الطائفتين ؟ هذا ما قد يكشفه مستقبل البحث، و كل آت قريب. و لا أتنبأ بالنتيجة قبل وقتها.

و كنت راغبا في بحثي هنا أن احصل على نتيجة حاسمة قبل الدخول في تفسير حوادث السقيفة، بل قبل الدخول في البحث عن النص على الامام بعد النبي في هذا الفصل، و لكني هنا وجدت هذه المسائل متداخلة بعضها آخذ برقاب بعض.

و مع ذلك أجد بامكاني أن أضع تقريرا يقرب من التفكير الصحيح مع الاعراض عما يقوله الطرفان في هذا الشأن، مستعينا بما تقدم في الابحاث السابقة، فهل تعيرني تفكيرك لحظة.

لاحظ انك لا تشك و انا معك ان النبي ما فاه و لا ببنت شفة عن قاعدة انعقاد الامامة باختيار أهل الحل و العقد، مع ان الواجب يدعو للبيان الصريح، كما قلنا آنفا، فلما ذا سكت عن ذلك ؟.

أ كان إهمالا و توريطا للمسلمين في الخلاف و النزاع، او أنه لم يشرع مثل هذا التشريع ؟ و الثاني هو الاقرب للصحة. و عليه فما قيمة الاجماع إن تم مع علمنا بان هذا الامر ليس من الدين و لم يشرعه الله على لسان نبيه، على أنا وجدنا في

ص:50

ابحاثنا السالفة ان البرهان الصحيح يقودنا الى الاعتراف بفساد هذا التشريع، فنعلم بنتيجة ان النبي لم يشرعه لأمته، فلا بد ان نتهم الاجماع المدعى باحدى التهم المتقدمة.

هذا من جهة. و من جهة اخرى، انا لا أدري أن هؤلاء الذين اقدموا على الاجتماع في السقيفة لعقد البيعة بدون مشورة من جميع الموجودين في المدينة و غيرهم على أي سناد استندوا و بأية حجة اجتمعوا.

و المفروض ان لا حجة إلا الاجماع، و هو على فرضه بعد لم ينعقد على صحة عملهم ؟ فهذا العمل من أساسه كان بغير حجة قائمة و لا بينة واضحة، و لذا قال عمر لسعد بن عبادة: (اقتلوه قتله الله إنه صاحب فتنة).

فلأي شيء استحق القتل و لم يكن يدعو إلا الى نفسه كما دعا غيره ؟ و لما ذا كان صاحب فتنة ؟ ليس إلا لأن دعوته من غير حجة قائمة. و إذا كان قد ثبت من النبي صحة انعقاد الخلافة باختيار أهل الحل و العقد، و يكتفي بمثل القوم الذين اجتمعوا في السقيفة يومئذ فلم يكن قد دعا سعد إلا الى ما هو مشروع لا يستحق عليه قتلا و لا غضباً.

أما النص المروي: (الأئمة من قريش) فلم يكن معروفاً عند المهاجرين يومئذ او أنهم لم يريدوا ان يعرفوه، و لذا لم يستدلوا له ذلك اليوم، بناء على ما هو الصحيح و إنما

ص:51

استدل الخليفة أبو بكر بالقرابة من الرسول و ان العرب لا تعرف هذا الأمر إلا بهذا الحي من قريش.

7 النص على أبي بكر

لم نتوقف فيما مضى للاعتقاد بأن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم أو كل نصب الامام الى اختيار الامة، أو أهل الحل و العقد منهم خاصة... و هنا نبحث عما إذا كان قد عين شخص الامام بعده، فمن هو هذا الامام ؟

ا صحيح انه هو (أبو بكر)؟ يقطع الباحث ان الأحاديث المروية في النص عليه موضوعة إذا كان يفهم منها النص المدعي. و ليس أدل على ذلك مما ثبت من تصريحاته نفسه، و لا سيما عند ما تمنى قبيل موته ان يسأل عن أشياء ثلاثة ترك السؤال عنها، أحدها أمر الخلافة انه فيمن حتى لا ننازع أهله. ثمّ من تصريحات خليفته عمر بن الخطاب لا سيما عند ما دنت منه الوفاة فصرح ان النبي لم يستخلف. ثمّ من تصريحات عائشة (و هي المدافعة و المنفحة عن أبيها و قد قامت بقسط وافر من تأييده و تثبيت خلافته) فنفت الاستخلاف لما سئلت من كان رسول الله مستخلفاً لو استخلف.(1)

______________________________

ص:52


1- (1) و من الغريب اعتذار ابن حزم: (ان هذا الأثر خفي على عمر كما خفي عليه كثير من أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) كالاستيذان و غيره، أو أنه أراد استخلافا بعهد مكتوب، و نحن نقر ان استخلافه لم يكن بعهد مكتوب. و أما الخبر في ذلك عن عائشة فكذلك ايضاً...). و لئن خفي هذا الأمر على عمر و عائشة فعلى غيرهما اخفى و اخفى، على ان جمله ارادتها للعهد المكتوب فابعد و ابعد.

و يكفينا لعدم الوثوق بهذا النص المدعى أن نطلع على مجرى حادث السقيفة، و نعرف استدلال من استدل على صحة بيعته بالاجماع. أولا تراه نفسه يوم السقيفة كيف قدم للبيعة عمر و أبا عبيدة، فقال: (قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين). أ تراه كان لا يعلم بالنص عليه، أو كان عالماً به و لكنه أعرض عنه ؟ لا شيء منهما يصح أن يقال.

و لا شيء أوضح من خطبته يومئذ إذ يقول فيها: (ان العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لقريش أوسط العرب داراً و نسباً).

بل لو كان نص عليه لما كانت العرب تعرف هذا الأمر إلا لشخصه بنص صاحب الرسالة. و ليس المقام مقام حياء من الدعوة الى نفسه.

و عندي لا شيء أوضح من وضع الأحاديث في النص

ص:53

عليه. و أجد ان الذي ألجأ الى وضعها ان من وضعوها بعد ان ضاقوا ذرعاً بالاستدلال على خلافته بالاجماع، مما وجدوه من مخالفة من خالف ممن لا يمكن اهمال شأنهم. و هذا هو التعصب الذي يحمل صاحبه على الكذب و الاختراع، فيقف حجر عثرة دون وصول طالب الحقيقة الى هدفه، و يجعل النفس لا تثق بكل ما يرويه هذا المتعصب فيما يخص معتقده، بل في كل شيء.

***

أما قضية تقديمه للصلاة فان صحت (و هي صحيحة بمعنى انه صلى بالمسلمين)، فليس فيها اية اشارة الى تعيينه للخلافة، فضلا عن النص، لأن الامامة في الصلاة ليست بالأمر الخطير الشأن الذي لا يكون إلا لمن له الامامة، و لا سيما على مذهب اهل السنة، و كان ائتمام المسلمين بعضهم ببعض مما اعتادوا عليه، و شاع يومئذ بينهم بترغيب النبي فيه، فقد ورد(1) ان ابا بكر صلى بالناس من دون إذن النبي (صلی الله علیه و آله) لما ذهب الى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم.

و لا اعتقد بصحة ما يروى ان النبي هو الذي قدمه للصلاة و انه صلى أياما، لأن ابا بكر كان من جيش اسامة من غير شك و سيأتي و قد نهى النبي عن التخلف عنه،

______________________________

ص:54


1- (1) راجع صحيح البخاري 1:8.

و شدد في الاسراع بانفاذه، فكيف يجتمع هذا مع تقديم النبي له للصلاة مدة مرضه ؟

نعم الثابت انه صلى صلاة واحدة و هي صلاة الغدير يوم الاثنين يوم وفاة النبي (صلی الله علیه و آله)، و قبل ان يتمها خرج صاحب الرسالة يتهادى بين رجلين و رجلاه تخطان الأرض من الوجع فصلى بالناس صلاتهم و تأخر ابو بكر. فان عائشة هي التي روت امر النبي بتقديمه لا غيرها، و انها راجعته في ذلك حتى قال لها غاضبا: (انكن لأنتن صواحب يوسف) و هي نفسها تروي خروجه في نفس تلك الصلاة(1). و كان خروجه بهذه الحال الى الصلاة يوم وفاته و هو يوم الاثنين.

و لو ان النبي كان قدمه للصلاة اشارة الى خلافته، فلما ذا خرج بهذه الحال المؤلمة، و صلى بالناس صلاة المضطرين جالسا؟

و لا معنى ما يقال: (انه صلى ابو بكر بصلاة النبي و صلى الناس بصلاة ابي بكر) فمن هو الامام اذن ؟ ان كان أبا بكر فلم يكن قد صلى بصلاة النبي، و ان كان النبي فلم تكن الناس قد صلت بصلاة أبي بكر، و تأويله ان صح ان النبي جالسا فلا يرون شخصه و كان مريضا فلا يسمعون

______________________________

ص:55


1- (1) صحيح البخاري (1:78 و 84 في حديثين). و صحيح مسلم في باب استخلاف الامام اذا عرض له من كتاب الصلاة.

صوته، فكانت الناس تعرف ركوعه و سجوده بصلاة أبي بكر الذي كان بازائه لما تأخر عن مقامه.

و الأحاديث مضطربة في هذا الباب، مع أن أكثرها عن عائشة ام المؤمنين و اختلافها الجوهري في ستة امور:

1 (في علاقة عمر بالصلاة) فيذكر بعضها ان النبي قال: (مروا عمر) بعد مراجعة عائشة عن أبيها فأبي عمر و تقدم أبو بكر و بعضها ذكر انه ابتداء أمر عمر، فقال عمر لبلال قل له ان أبا بكر على الباب. و حينئذ أمر أبا بكر. و بعضهم ذكر انه اول من صلى عمر بغير اذن النبي فلما سمع صوته قال: (يأبى الله ذلك و المؤمنون) و في بعضها انه أمر أبا بكر ان يصلي نفس الصلاة التي صلاها عمر بالناس، و في بعضها صلى عمر و كان ابو بكر غائبا. و في بعضها ان النبي أمر أبا بكر و أبو بكر قال لعمر صل بالناس فامتنع.

2 (في من أمره النبي ليأمر ابا بكر)، فبعضها تذكر عائشة، و بعضها بلالا، و بعضها عبد الله بن زمعة.

3 (فيمن راجعه في أمر أبي بكر)، فبعضها تذكر عائشة وحدها راجعته ثلاث مرات أو أكثر، و بعضها تذكر عائشة راجعته ثمّ خالت لحفصة فراجعته مرة أو مرتين، فلما زجرها النبي قالت لعائشة: (ما كنت لأصيب منك خيراً).

ص:56

4 (في الصلاة المأمور بها)، فبعضها يخصها بصلاة العصر و بعضها بصلاة العشاء، و الثالث بصلاة الصبح.

5 (في خروج النبي)، فبعضها تذكر انه خرج و صلى، و اخرى تقول أخرج رأسه من الستار و الناس خلف ابي بكر ثمّ القى الستار و لم يصل معهم.

6 (و في كيفية صلاة النبي بعد الخروج)، فيذكر بعضها انه ائتم بأبي بكر بعد أن دفع في ظهره و منعه من التأخر.

و بعضها ان أبا بكر تأخر و ائتم بالنبي. و بعضها ان ابا بكر صلى بصلاة النبي و الناس بصلاة ابي بكر. و بعضها ان النبي ابتدأ بالقراءة من حيث انتهى ابو بكر.

7 (في جلوس النبي الى جنب ابي بكر) فبعضها تذكر جلوسه الى يساره، و بعضها الى يمينه.

8 (في مدة صلاة ابي بكر)، فبعضها تجعلها طيلة مرض النبي، و اخرى تخصها بسبع عشر صلاة، و ثالثة بثلاثة أيام، و رابعة بستة، و يظهر من بعضها انه صلى صلاة واحدة.

9 (في وقت خروج النبي الى الصلاة)، فبعضها صريحة في انه خرج لنفس الصلاة التي امر بها ابا بكر، و بعضها صريحة في انه خرج لصلاة الظهر بعد صلاة ابي بكر اماما، و بعضها صريحة في خروجه لصلاة الصبح.

ص:57

و هذه الاختلافات كما رأيت في جوهر الحادثة. و لم يظهر من الأخبار تعدد امر النبي له بالصلاة و لا تعدد خروجه.

و هذا كله يذهب بالاطمئنان بتصديقها في خصوصيات الحادثة لا سيما فيما يتعلق بأمر النبي له، نعم يعلم منها شيء واحد على الاجمال هو صلاة ابي بكر بالناس قبل خروج النبي.

و لعل أبا بكر كان مخدوعا في تبليغه أمر النبي، كما جاء في الحديث ان عبد الله بن زمعة خدع عمر بن الخطاب فبلغه أمر النبي له بالصلاة.

و احسب ان اصل الواقعة ان النبي (صلی الله علیه و آله) أمر الناس بالصلاة لما تعذر عليه الخروج من دون ان يخص احداً بالتقديم، فتصرف متصرف، و تأول متأول. و لما بلغ ذلك اسماع النبي التجأ ان يخرج يتهادى بين رجلين و رجلاه تخطان الأرض من الوجع، فصلى بالناس جالسا صلاة المضطرين، ليكشف للناس هذا التصرف الذي استبد به عليه.

و استغرب توبيخه لعائشة لما راجعته عن أبيها إذ قال لها: (انكن لأنتن صواحب يوسف). لما ذا هذا التوبيخ القارص ؟ و أي شيء صنعته تستحق به هذا اللوم ؟ ألا أنها ضنت على أبيها بهذه الكرامة، فلئن لم تستحق المدح فعلى الأقل لا تستحق مثل هذا التوبيخ.

و من هنا يتطرق الشك ايضا في صحة تقديم النبي لأبي

ص:58

بكر، و يبدو أنه كان من أمرها و تدبيرها، فلذا وجهت اليها هذه الكلمة اللاذعة، لا لمراجعة هناك. و لا شك انها ترغب لأبيها كل فضيلة و تلزه لزّاً. و لذا التجأت ان تعتذر عن مراجعتها المستغربة منها التي ادعتها بانها انما كانت تحب ان يصرف عن أبيها لأنها رأت ان الناس لا يحبون رجلا قام مقام النبي ابداً و انهم سيتشأمون به في كل حدث كان.

أ لا تراها كيف بعثت الى ابيها تدعوه لما بعث النبي الى علي يدعوه ليوصيه، و كذلك صنعت حفصة لأبيها، و لكن النبي لما رآهم قد اجتمعوا أمرهم بالانصراف و قال: (فإن تك لي حاجة ابعث اليكم)(1) و هذا قول من عنده ضجر و غضب باطن.

و النتيجة: انه ليس هناك ما يستحق ان يسمى نصا، و لا اشارة الى خلافة ابي بكر.

______________________________

8 النص على علي بن أبي طالب

اذن، أ فصحيح ما تقوله الشيعة من النص على علي عليه السلام ؟ ايها القارئ! بودي ان يكون حياديا، فلا تنظر الى ما تقوله الشيعة عن هذا الرجل إلا بتقزز، حتى لا اكلفك

ص:59


1- (1) الطبري (3:195).

بالرجوع الى كتبهم و اخبارهم. و انا معك الآن سأطرحها جانبا. و ما يدرينا لعل حبهم و تعصبهم لصاحبهم يسوقانهم الى القول عنه بما لم يكن، كما ساق أهل السنة الى رواية النص على أبي بكر. فلنأخذ حذرنا من الآن.

و بعد هذا أ ترانا نحذر من مؤلفات اهل السنة و صحاحهم في حق علي، و هم ان تعصبوا فعليه، لا له ؟ كلا؟ فان الكثير من محدثيهم يحذرون كل الحذر من رواة مدحه و فضائله، فيقدح المؤلف منهم في الراوي الذي تشم منه رائحة الميل اليه، و يرسلون الطعن في الحديث ارسالا فيقولون: (و في متنه غرابة شديدة)، و ليس إلا لأنه لا يتفق و عقيدته و يكفي في الثقة بالمحدث ان يكون ممن يميل عنه كأبي هريرة و المغيرة بن شعبة و عمران بن حطان و امثالهم.

و قبل ذلك نجد سيوف بني أمية مسلولة على رءوس الرواة لئلا ينسبوا فضيلة لهذا الذي ناصبوه العداء و سنّوا سبّه على المنابر و المعابر. و نجدهم كيف كانوا يغدقون بالاعطيات على الطاعنين فيه و المنحرفين عنه.

و لذا تراني اطمئن كل الاطمئنان و انت معي لا شك الى كل حديث خلص من هذه العقبات، و استطاع ان يطلع رأسه من بين الأحاديث ظافرا بالصحة و التأييد، فسجلته كتب اهل السنة و صحاحهم في فضل علي و النص على خلافته، و مع هذا فستجدني لا اعتمد إلا على بعض

ص:60

الصحيح الثابت عند اهل الحديث منهم الذي بلغ حد التواتر أو كالمتواتر.

و الحق ان لعلي منزلة كبرى عند اخيه و ابن عمه، يغبطه عليهما كل مسلم بل حسدوه عليها، و لا ينكرها إلا مكابر، حتى ان ام المؤمنين عائشة (على ما بينها و بين علي ما هو معروف) قالت فيه: (ما رأيت رجلا احب الى رسول الله منه و لا رأيت امرأة كانت احب اليه من امرأته).

و قد كان صلى الله عليه و آله و سلم يمجد و يرحب بصهره عند كل مناسبة من يوم ولد صهره قبل البعثة بعشر سنين الى يوم فاضت نفسه الزكية في حجره. و هذا مما لا يشك فيه مسلم، و إنما الشأن فيما يدل على العهد اليه بالخلافة فلنقرأ بعض الأحاديث الصحيحة المتواترة او المشهورة، و لننظر ما ذا سنفهم منها:

1 لما نزلت الآية الكريمة (وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) جمع النبي (صلی الله علیه و آله) من اهل بيته اربعين رجلا في قصة معروفة و كان ذلك في مبدأ البعثة فعرض عليهم الاسلام و ضمن لمن يؤازره و ينصره منهم الاخوة له و الوراثة و الوزارة و الوصاية و الخلافة من بعده فأمسكوا كلهم الا عليا، فقد اجابه وحده، فأخذ برقبته، و قال:

(ان هذا اخي و وصيي و خليفتي فيكم او من بعدي على اختلاف الروايات فاسمعوا له و اطيعوا). فقام القوم يضحك بعضهم الى بعض استهزاء)،

ص:61

و يقولون لأبي طالب قد امرك ان تسمع و تطيع لهذا الغلام. يعنون ابنه(1).

2 و في غزوة الخندق لما برز علي الى عمرو بن عبد ود قال (صلی الله علیه و آله) فيه: برز الايمان كله الى الشرك كله). و ذلك سنة 5 ه.

3 و في غزوة خيبر باهى به الذين تراجعوا بالراية فقال: (أني دافع الراية غدا الى رجل يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله كرار غير فرار) فتطاولوا لها، و لكنه دفعها الى علي، و ذلك سنة 7 ه.

4 و لما آخى بين المهاجرين قبل الهجرة و بين المهاجرين و الأنصار بعدها بخمسة اشهر، اصطفى عليا لنفسه فآخاه، و قال له: (انت مني بمنزلة هارون من موسى غير انه لا نبي بعدي). ثمّ لم يزل يكرر هذه الكلمة في مناسبات كثيرة، منها لما سد الابواب الشارعة الى المسجد إلا باب علي، و منها غزوة تبوك لما خلفه على المدينة سنة 9 ه. و في رواية ابن عباس زيادة (انه لا ينبغي ان اذهب إلا و انت خليفتي)(2).

______________________________

ص:62


1- (1) من الغريب ما صنعه الاستاذ محمد حسين هيكل. اذ يذكر هذه الحادثة في كتابه (حياة محمد) في الطبعة الاولى و يهملها في الطبعات الاخرى من غير تنبيه.
2- (2) و صححها الحاكم في المستدرك و الذهبي في تلخيصه.

5 و قال له: (لا يحبك إلا مؤمن و لا يبغضك إلا منافق). و بعد ذلك كان يعرف المنافق ببغضه لعلي.

6 و قال: (ان منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله). و بعد ان نفى ذلك عن ابي بكر و عمر قال: (و لكنه خاصف النعل) و كان علي يخصف نعل رسول الله ساعتئذ في الحجرة عند فاطمة.

7 و كان عند النبي طاير طبخ له، فقال: (اللهم آتني بأحب الناس اليك يأكل معي) فجاء علي فأكل معه.

8 و قال: (أنا مدينة العلم و علي بابها).

9 و قال: (أقضاكم علي).

10 و قال: (علي مع الحق و الحق مع علي، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض).

11 و أثبت له غير مرة الوراثة و الوصاية، و أوضح انهما وراثة و وصاية نبوة، فقال مرة: (لكل نبي وصي و وارث و إن وصيي و وارثي علي بن ابي طالب)(1). و قال له علي مرة:

______________________________

ص:63


1- (1) راجع ميزان الاعتدال في ترجمة شريك. و قال عن راوية محمد بن حميد الرازي ليس بثقة مع أنه قد وثقه احمد بن حنبل و ابو القاسم البغوي و الطبري و ابن معين و غيرهم. و نقل هذا الحديث عن السيوطي في اللآلئ و عن الحاكم.

(ما أرث منك). قال صلى الله عليه و آله و سلم: (ما ورث الأنبياء من قبل كتاب ربهم و سنة نبيهم)(1).

12 و قال سنة 8 ه: (إن عليا مني و أنا من علي لا يؤدي عني إلا أنا و علي).

13 و قال: (إن عليا مني و أنا من علي، و هو ولي كل مؤمن بعدي).

14 و قال: (انت ولي كل مؤمن بعدي).

15 وسد ابواب المسجد غير باب علي، فكان يدخل المسجد جنبا، و هو طريقه ليس طريق غيره. قال عمر بن الخطاب: (لقد اعطى علي بن ابي طالب ثلاثا لئن تكن لي واحدة منها أحب الي من حمر النعم: زوجته فاطمة بنت رسول الله، و سكناه المسجد مع رسول الله يحل له ما يحل فيه، و الراية يوم خيبر). و كذلك روي عن ابن عمر. و لما روجع النبي في فتح باب علي قال: (إنما أنا عبد مأمور ما امرت به فعلت إن اتبع إلا ما يوحى إلي).

16 و لما آخى النبي بين كل اثنين من المهاجرين، و ذلك قبل الهجرة اصطفاه لنفسه فآخاه و قال له فيما قال: (أنت أخي و وارثي. أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبي بعدي). و كذلك صنع و قال لما آخى بين المهاجرين و الانصار،

______________________________

ص:64


1- (1) راجع كنز العمال (41:5).

فاصطفاه لنفسه مع ان كلا منهما من المهاجرين و ذلك بعد الهجرة بخمسة اشهر. و لا يزال يدعوه أخي في مناسبات لا تحصى.

17 و يوم الغدير، بعد الرجوع من حجة الوداع سنة 10 ه أمر بالصلاة، فصلاها بهجير، و قام خطيبا على مائة الف أو يزيدون، حيث تفترق قبائل العرب. و بعد أن نعى نفسه اليهم ذكر الثقلين كتاب الله و عترته و انهما لن يفترقا و لن يضلوا بالتمسك بهما أبدا، أخذ بيد علي و قال:

أيها الناس أ لست أولى منكم بأنفسكم ؟

قالوا: بلى يا رسول الله! و كرر السؤال عليهم و اجابوا.

ثمّ قال: فمن كنت مولاه فعلي مولاه (و في أحاديث كثيرة: من كنت مولاه فعلي وليه). اللهم وال من والاه و عاد من عاداه، و انصر من نصره و اخذل من خذله، و أدر الحق معه حيثما دار (فلقيه عمر بن الخطاب فقال له: هنيئا يا بن أبي طالب أصبحت و أمسيت مولى كل مؤمن و مؤمنة)(1) أو (أصبحت مولاي و مولى كل مؤمن و مؤمنة)(2).

______________________________

ص:65


1- (1) مسند أحمد (281:4) و عن تفسير الثعلبي. و في الصواعق المحرقة في الشبهة 11 عن ابي بكر و عمر معا.
2- (2) تفسير الرازي في قوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما انزل اليك.)

هذه هي الاحاديث التي أخذناها من الصحيحة، اكتفاء بهذا القليل عن كثير لا تسعه هذه الرسالة. أما الآيات فقد قال ابن عباس: (نزلت في علي ثلاثمائة آية من كتاب الله تعالى). و لم يعرف من طريق اهل السنة إلا مائة، و نختار منها ثلاث آيات:

1 آية (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ). و قد نزلت فيه إذ تصدق بخاتمه و هو راكع في الصلاة، فاثبت الولاية له كولاية الله و رسوله على الناس. و هي مثل الأحاديث التي جعلت له تلك الولاية الالهية.

2 آية التطهير، إذ جمع النبي (صلی الله علیه و آله) عليا و زوجه و ابنيهما معه في كساء واحد، فنزلت الآية باذهاب الرجس عنهم و تطهيرهم، و هذه العصمة التي تشترط في الامامة.

3 آية المباهلة، إذ باهل بأهل بيته اولئكم، نصارى نجران في قصة مشهورة، و جعل علي بنص الآية نفسه.

و نحن لما اعتقدنا ان طريقة الاختيار لا يصح ان يقال ان النبي عول عليها في تعيين الخليفة من بعده، فمن الضروري ان ينص على واحد من اصحابه، و لكن لم يكن أبا بكر فمن هو إذن ؟

ليس هناك شخص ورد فيه ما ورد في علي يصح ان

ص:66

يكون نصا كهذه الأحاديث مع الآيات التي يؤيد بعضها بعضا و يفسر بعضها بعضا: فقد نصت على انه وارث النبي وراثة نبوة، و وصيه، و أخوه، و نفسه، و ولي المؤمنين بعده، و اولى بهم من انفسهم، و منزلته منه منزلة هارون من موسى عدا منزلة النبوة، و خليفته من بعده، و يدور معه الحق كيفما دار لن يفترقا، و هو أقصى الأمة، و باب مدينة علمه، المطهر من الرجس.

و هذه صفات لا تكون إلا لامام معصوم و خليفة للنبي يختاره الله و رسوله للأمة. و هل يمكن أن يكون شخص أولى بالمؤمنين من أنفسهم و وليهم بعد النبي و هو سوقة كسائر الناس تجب عليه طاعة غيره و السمع له ؟ هيهات!

و لكن كل واحدة من هذه الكلمات التمس لها بعض الباحثين في الامامة تأويلا، احتفاظا بكرامة الصحابة و اتقاء من نسبة مخالفة نص النبي اليهم. و نحن نقول لهؤلاء المؤولين إذا كنتم قد عرفتم حسن نوايا هؤلاء الصحابة، و هم في الوقت نفسه مجتهدون على رايكم فلا استغراب في مخالفة الصريح من كلام النبي (صلی الله علیه و آله) و ليس الخطا على المجتهدين بعزيز. ثمّ انا عرفنا عنهم عدم تعبدهم بالنصوص في كثير من الامور التي تفوت الحصر، كتوقفهم في بعث جيش اسامة و تأميره حتى أغضبوا النبي فقال ما قال و بالأخير امتنعوا عن الخروج حتى قبض، و كاعتراض عمر على صلح

ص:67

الحديبية، و كمنعه من املاء الكتاب الذي قال عنه النبي لن تضلوا بعده ابدا. و ما الى ذلك.

فنحن الآن بين أمرين إما أن نؤول هذه الأحاديث بما يصح و بما لا يصح و أما ان نقول إن اولئك الصحابة قد تأولها لأمر ما. و لا شك ان الثاني أقرب الى البحث العلمي و التفكير الحر المستقيم، لأنا وجدناهم قد تأولوا في حياة النبي النصوص الصريحة التي لا تقبل التأويل كما سمعت بعضها. و هل لمن يحسن الظن بهم إلا ان يعتقد انهم لم يقصدوا مخالفة النبي عصيانا، و انما كانوا يظنون المصلحة فيما ينقدح لهم من رأي، و قد اعتادوا أن يشاورهم في الامور اتباعا لأمر الله تعالى (وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) فانسوا التدخل حتى في الشئون العامة التي يأمر بها النبي و يعقدها.

و من جهة ثانية نرى امتناع دخول التأويلات التي تسمعها من الباحثين على بعض هذه الأحاديث، منها (حديث الغدير) و هو آخر النصوص و آية (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ ...) و حديث (ولي كل مؤمن بعدي). فقد اولوا المولى و الولي في كل ذلك بالناصر أو المحب.

و هذا بعيد كل البعد في حديث الغدير، لأن أهل اللغة ان فسرت المولى و الولي بالناصر و المحب فقد فسروها بمالك التصرف. و هل تفهم معاني الألفاظ المشتركة إلا بقرائنها؟ و القرينة الحالية و اللفظية صريحة في هذا المعنى الأخير:

ص:68

فان النبي قام خطيبا على مائة الف او يزيدون بحرّ الهجير، و هل يصح عند العقل ان يقف هذا الموقف الخطير و هو يريد أن يفهم الناس أن عليا ناصر للمؤمنين أو محب لهم ؟ و أية حكمه في بيان هذا الامر الواضح فتسترعي هذا الاهتمام من النبي الحكيم.

و ايضا و بعد ان ينعي نفسه و يذكر الثقلين يأخذ بيد علي و يرفعه اليه حتى يبين بياض ابطيهما. و يستنشدهم: (أ لست اولى منكم بأنفسكم). فما هذه التوطئة ؟ أ كانت كلاما مطروحا لا فائدة فيه ام انها لتوضيح ما سيفرغ عليها فقال:

(فمن كنت مولاه فعلي مولاه)؟

لا شك انها قرينة لفظية صريحة في بيان ان عليا مثله اولى من المؤمنين بأنفسهم. و المولى كما قلنا هو (مالك التصرف) أو (الاولى بالشيء منه)، كما تقول: السيد مولى العبد، أي مالك لتصرفه، او انه اولى بالتصرف في شئونه منه.

و لا حاجة الى دعوى ان المولى بمعنى كلمة (الأولى) فقط، حتى يعترض عليها المعترض فيقول: لا يصح أن يقال (مولى منه) كما تقول (اولى منه). بل ان معنى كلمة (المولى) معنى مجموع هذه العبارة (الاولى بالشيء منه) الذي يساوق معنى مالك التصرف.

و منها و هو اول النصوص الحديث: (ان هذا أخي

ص:69

و وصي و خليفتي فيكم أو من بعدي فاسمعوا له و اطيعوا). و هو حديث ثابت لا شك فيه، فهل تجد عبارة هي أصرح من هذه العبارة للنص على الخليفة و الامام ؟

و لو قرأنا نص ابي بكر على خليفته لم نر إلا عبارة (إني أمرت عليكم عمر بن الخطاب). و هذه لا تشبه تلك في صراحتها و لا تقاس عليها في قياس، فأين صراحة الامارة من صراحة الخلافة ؟ و الامارة تكون في الجيش و تكون في كل شيء، و الخلافة لفظ كان يجري على لسان النبي و المسلمين و لا يراد منه إلا هذا المعنى فعند ما تسمع قوله صلى الله عليه و آله و سلم: (هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنى عشر خليفة كلهم من قريش) لا نشك في المراد بكلمة (خليفة) كما لا نشك في كلمة قريش. فلما ذا لا نفهم من كلمة (خليفتي) هذا المعنى ؟ و هل استعملها في يوم من الايام في معنى آخر؟

و الفرق بين نص النبي و نص ابي بكر ان ابا بكر لم يحدث بعده ما يأخذ بالاعناق الى التأويل و التشكيك، لأنه قد عمل به و انتهى كل شيء. اما نص النبي فقد بقي قولا في صدور الرجال و صحائف الكتب و لم يعمل به، فسلبت صراحته و أدخل عليه التأويل احتياطا في حمل الصحابة على أحسن الأعمال. و لئن درئ الطعن عنهم فلا يجلون عن الخطأ، و ما هو بعزيز على مثلهم.

ص:70

على انا لا نريد ان ندخل في البحث عما يجب أن يقال في عذر الأصحاب، و انما الغرض أن نفهم مدى دلالة هذا الحديث في نفسه قاطعين النظر عن كل ما صدر عن الاصحاب، فلا نجد كلمة هي أوضح و أصرح من كلمة (وصيي) و كلمة (خليفتي)، ثمّ تعقيبهما بالأمر بالسمع و الطاعة.

و ينسق عليه حديث رقم (11): (لكل نبي وصي و وارث و ان وصيي و وارثي علي بن أبي طالب). و يعلم من هذا بصراحة انها وصاية نبوة لا وصاية اعتيادية، و وراثة نبوة على نسق الوصاية لا وراثة مال أو عقار، فان عليا ابن عمه و ابن العم لا يرث مع البنت، و لا معنى لوراثة النبي لأنه نبي غير ان يكون بمنزلته في الولاية العامة و وجوب السمع و الطاعة، أما العلم فكل المسلمين ورثوه منه فلا اختصاص لعلي إلا أن يراد من العلم معنى آخر لا يشترك فيه الناس، و هو الذي يكون من مختصات النبوة، فيكون على المقصود أدل و أدل.

أما باقي الأحاديث فلو لم يكن كل واحد منها نصا على امامته، فعلى الاقل انها بمجموعها مع ما تقدم من النصوص تكون نصا على امامته، فعلى الأقل انها بمجموعها مع ما تقدم من النصوص تكون نصا لا يقبل الاحتمال و التأويل، لا سيما بعد أن بينا فساد القول بتشريع ايكال الأمر الى اختيار الأمة

ص:71

و قلنا انه لا بد ان يكون واحد من الأصحاب قد نص على خلافته النبي (صلی الله علیه و آله).

لا تزال هناك شبهة مستعصية على الباحثين، و لا يزال يكررها الكتاب حتى يومنا هذا. و هي: ان هذه الأحاديث لو كانت للنص على خلافته، كما تقوله الشيعة، فلما ذا لم يتمسك بها هو، و يحتج بها على القوم لو كانوا قد اخذوا حقه ؟ و لما ذا لم يحتج بها اصحابه أو باقي المسلمين في اجتماع السقيفة ؟

و الحق انها شبهة قوية هي أقوى متمسك لإنكار النص، بل ليس شيء غيرها يستحق ان يذكر في معارضة تلك النصوص، فيلجئ الى تأويلها و تفسيرها على غير وجهها. و الباحثون اجابوا عنها بعدة امور يطول علينا استقصاؤها، و لكن الذي يرضي نفسي و ادين به ربي ان اقرر ما يلي:

ان مولانا امير المؤمنين لما انتهى الأمر بالناس الى مبايعة ابي بكر خليفة، فهو قد أمسى بين أمرين لا ثالث لهما: اما ان يستسلم للأمر الواقع، فيترك كل مطالبة علنية صريحة ابقاء لكلمة الاسلام. و أما ان يجاهد حتى يثبت حقه، و هو نفسه قال: (و طفقت ارتئي بين ان اصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء). و لما اختار الأمر الاول و هو أعرف بما اختار إذ يقول: (فرأيت ان الصبر على هاتا احجى) فلم يبق وجه لمطلبته العلنية بالخلافة، و قد طوى عنها كشحا

ص:72

و أسدل دونها ثوبا. و لو انه كان يعلن بالمطلبة فلا بد ان يتبعها بالسعي الى تنفيذها مهما أوتي من حول و قوة، و في ذلك تطويح بكلمة الاسلام و بنائه السامق و سيأتي تمام البحث في الفصل الرابع. اما اصحابه فله تبع، و في السقيفة قال الانصار كلهم أو بعضهم: (لا نبايع إلا عليا) و لكنها كلمة ذهبت في فضاء التأريخ منسية و قد عالجناها في غير موضع من هذا الكتاب كما يأتي.

ص:73

ص:74

الفصل الثاني: تدبير النبي لمَنع الخِلاَف..

اشارة

ص:75

(أ بعث اسامة)

1

مرض النبي صلى الله عليه و آله و سلم مرضه الذي انتقل به الى الرفيق الأعلى، فوجس منه خيفة الفراق، و هو يعلم ان امته على شفا جرف هار من بحر للفتن متلاطم، و العرب مغلوبة على أمرها تحرق الارم عليه و على قومه و اهل بيته، و تنتهز الفرصة للوثوب لأخذ ثأرها و هو على حذر منهم، و المنافقون بالمرصاد بين ظهراني المسلمين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم و يعدون من اصحابه و هو على المسلمين منهم احذر، و ليس عهد دحرجة الدباب في العقبة ببعيد. و اكثر من ذلك هذه الأخبار ترد بخروج الأسود العنسي و مسيلمة يدعيان النبوة فتتكاثر أتباعهما.

ما أشد حال النبي و حزنه، و هو يستدبر امة هذه حالها و هي تستقبل الفتن كقطيع الليل المظلم كما في الحديث. و قد رأى مواقع الفتن خلال بيوت المدينة كمواقع القطر في حديث آخر(1).

و لكنه في هذا الموقف الدقيق مع ذلك يرمي بجيشه

______________________________

ص:76


1- (1) صحيح مسلم 168:8 باب نزول الفتن.

اللجب الى مكان سحيق، إذ يعقد اللواء بيده للشاب اسامة بن زيد أميرا على الجيش بعد يوم واحد من ابتداء شكاته، بعد ان كان امرهم بالبعث قبل ابتداء مرضه. ثمّ يضم تحت لوائه شيوخ المهاجرين و الانصار و جلتهم و وجوههم منهم ابو بكر(1) و عمر بن الخطاب و عبد الرحمن بن عوف و ابو عبيدة و سعد بن ابي وقاص و اسيد بن حضير و بشر بن سعد و غيرهم، ليحارب بهم اهل أبي بناحية البلقاء من ارض الشام اولئك قتلة ابي اسامة زيد من الروم.

ثمّ يشدد في الخروج و يلعن المتخلف منهم و يغضب ذلك الغضب لتباطؤ القوم و لغطهم حول تأمير فتى يافع على

______________________________

ص:77


1- (1) صرح بدخول ابي بكر في البعث اكثر المؤرخين، منهم ابن سعد في طبقاته (46:4) و (136:4) و ابن عساكر في التهذيب (391:2) و (215:3) و صاحب كنز العمال (312:5). و صاحب تاريخ الخميس (172:2) و اليعقوبي في تاريخه (93:2) و ابن ابي الحديد (21:2) و محمد حسين هيكل من المتأخرين في حياة محمد (467) و غيرهم مما لا يحصى. و لم نجد تصريحا و لا تلويحا لأحد من المؤرخين بخروجه من جيش اسامة. و انما يكتفي بعضهم بقول (وجوه المهاجرين) و ما يؤذي هذا المعنى بدون تصريح باسم أحد، و لكن بعض المؤلفين الجدليين حاول انكار دخوله من غير حجة ظاهرة.

شيوخ المسلمين، فيقول: (ان تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة ابيه من قبل و ايم الله ان كان لخليقاً للامارة و ان ابنه من بعده لخليق للامارة).

2

لشد ما يعتلج العجب في نفوس المتفكرين من هذا الحادث، فيعجب الانسان.

(اولا) ان تسند قيادة اعظم جيش اسلامي يومئذ، في ذلك الظرف الدقيق الذي وصفناه، في مرض النبي، الى شاب يافع لم يتجاوز العشرين من سنيه (على جميع التقادير)، و هو لم يجرب الحروب بعد و بالأصح لم تسند اليه قيادة من هذا النوع و لا من نوع آخر. و الجيش معبإ لجهاد اقوى اعداء الاسلام في ذلك الموقع البعيد عن العاصمة الاسلامية.

(ثانيا) أن يؤمر هذا الفتى، مع ذلك، على شيوخ المسلمين الذين فيهم قواد الحروب و رؤساء القبائل و اصحاب النبي الذين يرون لأنفسهم مقاما اسمى و منزلة رفيعة. و يرشحون انفسهم لمنصب هو أعظم كثيرا من منصب قائدهم الصغير هذا.

(ثالثا) ان يتباطأ المسلمون عن الالتحاق بهذا البعث بالرغم على اصرار النبي و تشديده النكير على المتخلفين و لعنه

ص:78

اياهم. و يكفي ان نعرف ان البعث وقع قبيل شكاته أو في أولها و قد استدامت علته اربعة عشر يوما (على اوسط التقادير). و في كل هذه المدة الطويلة يثاقل القوم عن الخروج. و قد عسكر قائدهم الفتى بالجرف، و هو عن المدينة بفرسخ واحد (بعد ان عقد النبي له الراية بيده الشريفة) ينتظر جيشه المتمرد ان يجتمع اليه، فتخلق الاشاعات عن حال النبي فيرجع اسامة الى المدينة برايته فيركزها على باب النبي، و لكن الرسول في كل مرة يأمره بالعودة و يحث القوم على الالتحاق به. و لكنه في اليوم الاخير يرجع مرتين في المرة الاولى يأمره النبي بالسير قائلا: (اغد على بركة الله تعالى) فيودعه و يخرج، و في المرة الثانية يرجع و معه عمر و أبو عبيدة فيجد النبي يجود بنفسه، ثمّ يلتحق بالرفيق الاعلى.

فما ذا دهى المسلمين حتى خالفوا الصريح من أمر النبي هذه المدة الطويلة من غير حياء منه و لا خجل و لا خوف من الله و رسوله و توطنوا على غضبه و لعنهم جهارا، أ تراهم استضعفوا النبي و هو مريض شاك فتمردوا عليه، أم ما ذا؟

(رابعا) ان ينكر هؤلاء المسلمون على نبيهم تأميره لهذا الفتى، ثمّ لا يرتدعون ان نهاهم عن ذلك. و ليس لهم على كل حال حق هذا الانكار اذا كانوا حقا قد تغذوا بتعاليم

ص:79

الإسلام و عرفوا ان النبي لا ينطق عن الهوى و ما كان لهم الخيرة.

(خامسا) ان النبي قد علم بقرب أجله و يعلم ان الفتن قد أقبلت كقطع الليل المظلم، فكيف يبعد جيشه و قوته عن العاصمة و مركز الدعوة، بل كيف يخلي المدينة من شيوخ المهاجرين و الانصار و زعمائهم و اهل الحل و العقد منهم.

فلا بد أن يكون كل ذلك لأمر ما عظيم، اكثر من هذه الظواهر التي يتصورها الناس.

3

فهل نجد حلا لهذه المشاكل تطمئن اليه النفس الحرة، بعد عرفاننا للنبي و عظمته و انه لا يفعل و لا يقول إلا عن وحي و سر إلهي.

لم يصح عندنا تفسير لمشاكل هذا الحادث إلا بأن نقول انه (صلی الله علیه و آله) اراد:

(اولا) ان يهيئ المسلمين لقبول (قاعدة الكفاية) في ولاية امورهم، من ناحية، عملية، فليست الشهرة و لا تقدم العمر هما الأساس لاستحقاق الامارة و الولاية، فاذا قال عن اسامة مؤكدا جدارته بالقسم و لام التأكيد: (و ايم الله ان كان لخليقا للامارة يعني زيدا و ان ابنه لخليق للامارة).

ص:80

و إذا علمنا ان علي بن ابي طالب هو المهيأ لولاية امور المسلمين بعد النبي على الأقل ان فرض انه لم يكن هو المنصوص عليه، أ فلا يثبت لنا ان قضية اسامة كانت لقبول الناس امارة علي على صغر سنه يومئذ بالقياس الى وجوه المسلمين و كان إذ ذاك لا يتجاوز الثلاثين ؟ و هذا ما يفسر به المشكل الأول و الثاني في هذا البعث.

و (ثانيا) ان يبعد عن المدينة ساعة وفاته من يطمع في الخلافة خشية ان يزيحوها عن صاحبها الذي نصبه لها في الخلافة. و قد ثبت عنه انه كان يتوجس خيفة على اهل بيته و لا سيما على علي، فوصفهم بأنهم المظلومون من بعده. و لذا نراه اوعب في هذا الجيش كل شخصية معروفة تتطاول الى الرئاسة، و لم يدخل فيه عليا و لا احدا ممن يميل اليه الذين كانوا له بعد ذلك شيعة و وافقوه على ترك البيعة لأبي بكر، فلم يذكر واحد منهم في البعث، و هم ليسوا اولئك النكرات الذين لا يذكرون.

و هذا ما يفسر تباطؤ القوم عن البعث و عرقلتهم له بخلق الاشاعات في المعسكر عن وفاة الرسول، مع اصراره (صلی الله علیه و آله) ذلك الاصرار العظيم. و لم يمكنهم ان يصرحوا بما في نفوسهم، فاعتذروا بصغر قائدهم، و في هذا كل معنى التهجين لرأي النبي و عصيان أمره الصريح.

فكان الغرض اخلاء المدينة من المزاحمين لعلي ليتم الأمر

ص:81

له، بعد ان اتضح للنبي ان التصريحات بخلافته لا تكفي وحدها للعمل بها عندهم، كما امتنعوا عن السير تحت لواء اسامة و هو لا يزال في قيد الحياة، فقدر أن القوم إذا ذهبوا في بعثهم هذا يرجعون و قد تم كل شيء لخليفته المنصوب من قبله، فليس يسعهم إلا ان ينضووا حينئذ تحت جماعة المسلمين و رايتهم.

و (ثالثا) ان يقلل من نزوع المتوثبين للخلافة، ليقيم الحجة لهم و للناس بأن من يكون مامورا طائعا لشاب يافع و لا يصلح لإمارة غزوة موقّتة كيف يصلح لذلك الأمر العظيم و هو ولاية امور جميع المسلمين العامة، و هي في مقام النبوة و صاحبها اولى بالمؤمنين من انفسهم.

و زبدة المخض ان بعث اسامة لا يصح أن يفسر إلا بأنه تدبير لاتمام أمر علي بن أبي طالب بمقتضى الظروف المحيطة به من تقدم النص على علي و قرب أجل النبي (صلی الله علیه و آله) و علمه بأن هناك من لا يروق له ولاية ابن عمه، و بمقتضى الدلائل الموجودة في الواقعة نفسها: من تأمير فتى يافع و تكديس وجوه القوم و قوادهم في البعث و عدم دخول علي و من يميل اليه و امتناع جماعة عن الالتحاق بالجيش و حث النبي على تنفيذه و غضبه من اعتراضهم و تخلفهم، و هو في مرض الفراق و الظرف دقيق على المسلمين.

فهذا البعث في الوقت الذي كان تدبيرا لإخلاء المدينة

ص:82

لعلي و حزبه كان حجة على المستصغرين لسنة و دليلا على عدم صلاح غيره لهذا المنصب العظيم. فاذا كان الاخلاء لم يتم لتمانع القوم و عرقلتهم للبعث فان الحجة ثابتة مع الدهر.

و لا يصح للباحث ان يدعي أنّ السبب الحقيقي لتخلف القوم هو ما تظاهروا به من عدم الرضى بامارة قائدهم الصغير، و ان تذرعوا به من عذرا لا خفاء تلك الشنشنة التي عرفها النبي من اخزم، لأنا نرى ان لو كان هذا هو السبب الحقيقي، لما تنفذ البعث بعد أن تم أمر الخلافة الذي به زال المانع الحقيقي، و المسلمون الى النبي اطوع منهم الى ابي بكر لو كان يمنعهم صغر القائد. و لم يتأب عمر نفسه بعد ذلك ان يخاطب اسامة بالامير طيلة حياته اعترافا بامارته.

اما الشفقة على النبي ان لم تكن عذرا آخر تذرعوا به فلا يصح ان تكون سببا حقيقيا، إذ ينبغي أن يكونوا عليه أشفق بالتحاقهم بالبعث، و قد غضب أشد الغضب من تأخرهم على ما فيه من حال و مرض. و لئن ذهبوا يسألون عنه الركبان كان أكثر براً بنبيهم من أن يعصوا امره و يغضبوه ذلك الغضب المؤلم له.

و لو ان القوم كانوا قد امتثلوا الأمر لأصابوا خيرا كثيرا و لتبدل سير التأريخ و مجرى الحوادث تبدلا قد لا يحيط به حتى الخيال (و لو ان أهل القرى لآمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض و لكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)

ص:83

و لما وقع ما وقع بعد ذلك من خلاف بين المسلمين و تطاحن و حروب دموية انتهكت قوى الاسلام و اضعفت روحية الدين حتى انفصمت عرى الجامعة الاسلامية سريعا و انتهكت حرمات الأحكام الدينية، فعاد الاسلام كما نشاهد اليوم غريبا كما بدىء.

أي أمر عظيم و تدبير حازم صنعه النبي لسد باب كل خلاف يحدث ؟ (و كل أفعاله عظيمة) لو تم ما اراد. و لكن لا امر لمن لا يطاع.

ب ائتوني بكتف و دواة

قد شاهد النبي (صلی الله علیه و آله) ما كان من أمر عرقلة بعث اسامة، و هؤلاء القوم المتباطئون لم ينفع معهم صعوده المنبر عاصبا رأسه في أشد حال لا تقله رجلاه مما به من لغوب، مشددا عليهم النكير على مقالتهم في حق اسامة و تخلفهم عن البعث.

و هي اول حادثة من نوعها تمر على النبي في المدينة، لا يطاع امره و يتجاهل حكمه، و يتساهل في غضبه، ثمّ لا يستطيع ان ينفذ هذا الأمر و هو مصر على تنفيذه الى آخر يوم من حياته إذ دخل عليه اسامة راجعا من الجرف فأمره بالسير غاديا.

لا شك ان مثل هذا الحادث يدعو الى تدبير آخر سريع

ص:84

لاتمام الامر لعلي، و منه يتأكد للنبي جليا ما عليه القوم من التواطؤ على عدم التقيد بالنص على علي. و هم إذ كانوا في حياته لا يطيعون أمره في هذا السبيل فكيف اذن بعد وفاته. فلم يجد بعد هذا من خيرا من ان يكتب لهم كتابا فاصلا لا يضلون بعده ابدا، لأنه سيكون امرا ثابتا لا يقبل التأويل و النكران و التناسي، لا كالكلام الذي لا يحفظ الا في الصدور و هي لا تسلم من دخل.

ما أعظمه من كتاب ؟

أهم لا يضلون بعده ابدا؟

ما أعظمها من نعمة!

بالله أ باللّه أ هكذا قال النبي ؟

نعم! لما اشتد المرض به (يوم الخميس) و في البيت رجال منهم عمر بن الخطاب، قال (صلی الله علیه و آله): (هلموا اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ابدا).

فأية فرصة غالية هذه يجب ان يقتنصها الحاضرون لهم و لجيلهم للأجيال اللاحقة حتى الأبد؟ و أية نعمة كبرى هذه لا تعادلها نعمة!... أما كان على المسلمين ان يستغلوها اعظم غنيمة فيسرعوا الى تلبية هذا الطلب ليخلد لهم الهدى ما بقوا؟ فأي شيء كان يؤخرهم عن اقتناص هذه النعمة ؟

او ليس عمر بن الخطاب حال دون هذا التدبير، فأوهى

ص:85

منه عقدته المحكمة، فقال: (ان رسول الله قد غلبه الوجع أو ليهجر و عندكم القرآن و حسبنا كتاب الله)!. فاختلف الحضور و اكثروا اللغط و النقاش، منهم من يقول قربوا يكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، و منهم من يقول: ما قال عمر.

فما ترى نبي الرحمة صانعا بعد هذا؟ أ يكتب الكتاب و هو في زعم بعضهم على حال مرض غالب (حاشا النبي الذي لا ينطق عن الهوى ان هو إلا وحي يوحى)، فكيف إذن يهتدون به و لا يضلون بعده ابدا، و قد وقع فيه الخلاف من الآن، و طعن بتلك الطعنة النجلاء التي لا سبر لها و لا غور. فلم يجد روحي فداه إلا ان ينهرهم و ينبههم على خطأهم فقال: (قوموا. و لا ينبغي عند نبي نزاع) لتبقى هذه الحادثة حجة على مرور القرون.

حقا انها لرزية من أعظم الرزايا سببت كل ضلال وقع و يقع بعد النبي. و حق لابن عباس حبر الأمة ان يبكي عند تذكرها حتى يخضب دمعه الحصباء و يقول: (ان الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله (صلی الله علیه و آله) و بين ان يكتب لهم ذلك الكتاب).

و ليفكر المفكر أي شيء كان يدعو عمر ليقول هذه المقالة القارصة في حق النبي المختار، و ما ضره لو كان يكتب هذا

ص:86

الكتاب ليعصم الخلق عن الضلالة ابد الدهور و سجيس الليالي ؟

أ كان لا يحب أن يبقى الخلق على هدى لا يضلون ؟

أم كان يعتقد حقيقة ان النبي ليهجر. و لكن لا يعتقد هذا الاعتقاد إلا من كان يجهل حقيقة النبي و ما جاء به القرآن من الآيات التي ندد بها على المشركين. و ليس ذلك عمر. و ما باله لم يعتقد بهجر ابي بكر (و ليس شأنه شأن النبي) لما أوصى بالخلافة، و كان قد أغمى عليه اثناء تحرير الاستخلاف، فأتم ذلك عثمان بالنص على عمر من دون علم ابي بكر، خشية ان يدركه الموت قبل الوصية، فأمضى ما كتبه عثمان لما استفاق.

أم ما ذا؟

ليتني أستطيع أن افهم غير انه علم بما سيكتبه النبي من النص على علي، و قد سبق للنبي ان عبر مثل هذا التعبير في العترة يوم الغدير إذ ذكر الثقلين كتاب الله و عترته اهل بيته و وصفهما بأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، ثمّ قال: (لن تضلوا ان اتبعتموها)(1) أو على المشهور (لن تضلوا ما ان تمسكتم بهما ابدا) ففهم عمر من قوله: (لا تضلوا بعده ابدا) ما ذا سيريد ان يكتب الرسول. و يشهد لتنبه عمر

______________________________

ص:87


1- (1) مستدرك الحاكم (106:3).

لذلك قوله: (حسبنا كتاب الله) إذ فهم ان غرض النبي ان يقرن الثقلين احدهما بالآخر فكأنه قال: يكفينا واحد منهما و هو الكتاب و لا حاجة لنا بالآخر، و إلا فما كان معنى لقوله حسبنا... و هو يدعي هجر النبي (صلی الله علیه و آله)

فكانت هذه المقالة من عمر و المقالة بمشهد النبي للحيلولة دون الكتاب لعلي، اقداما جريئا جاء في وقته المناسب له قبل أن تفوت الفرصة. و لا يشبهه أي موقف آخر منه على كثرة مواقفه في اتمام البيعة لأبي بكر، كما سنرى في انكاره موت النبي و موقفه في السقيفة و بعدها فانه هو الذي شيد(1) بيعة ابي بكر و كافح المخالفين. و لولاه لم يثبت لأبي بكر امر و لا قامت له قائمة: فقد كسر سيف الزبير، و دفع في صدر المقداد، و وطأ سعد بن عبادة و قال: اقتلوه فانه صاحب فتنة، و حطم انف الحباب بن المنذر، و توعد من لجأ الى بيت فاطمة عليها السلام و كان بيده عسيب نحل(2) بعد خروجهم من السقيفة يدعو الناس الى البيعة...

و لا يستطيع الباحث ان ينكر من عمر بن الخطاب تمالؤه على علي بن ابي طالب و يقظته فيما يخص استخلافه. و كذلك جماعته الذين شاهدنا منهم التعاضد و التكاتف في اكثر

______________________________

ص:88


1- (1) راجع شرح ابن ابي الحديد (58:1).
2- (2) راجع كنز العمال (ج 3 رقم 2346 و 2363).

الحوادث كأبي بكر و ابي عبيدة سالم مولى حذيفة و معاذ بن جبل و اضرابهم. و كذا علي نفسه ظاهر عليه جليا ميله عن هؤلاء في جميع مواقفه معهم حتى انه لم يبايع ابا بكر حتى ماتت فاطمة فبايع مقهورا، و لم يدخل في حرب قط على عهد الخلفاء الثلاثة، و هو ابن بجدتها و قطب رحاها. و كان يتهم عمر انه لم يشد أزر ابي بكر إلا ليجعلها له بعده فقال له مرة: (احلب حلبا لك شطره اشدد له اليوم أمره ليرده عليك غدا)(1) و قد صدقت فيه مقالته فاستخلف من قبل ابي بكر.

و هل يخفى على أحد ما كان في القلوب من تنافر؟ و يكفي شاهدا أن نسمع المحاورة التي دارت بين عمر بن الخطاب و ابن عباس كما رواها ابن عباس(2).

عمر (لابن عباس): أ تدري ما منع قومكم منكم بعد محمد؟

ابن عباس: (و هو يكره أن يجيبه) ان لم أكن أدري فأمير المؤمنين يدريني.

: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة و الخلافة، فتبجحوا

______________________________

ص:89


1- (1) السياسة و الامامة: باب امامة ابي بكر. و شرح النهج (2:5).
2- (2) الطبري (31:5) و ابن الأثير (31:3) و شرح النهج (18:2).

على قومكم بجحاً بجحاً، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت و وفقت.

: يا أمير المؤمنين إن تأذن لي في الكلام و تمط عني الغضب تكلمت.

: تكلم:

: اما قولك: (اختارت قريش لأنفسها فأصابت و وفقت) فلو ان قريشاً اختارت لأنفسها حيث اختار الله عز و جل لها لكان الصواب بيدها غير مردود و محسود. و أما قولك: (انهم كرهوا ان تكون لنا النبوة و الخلافة) فان الله عز و جل وصف قوما بالكراهية فقال: (ذلك بأنهم كرهوا ما انزل الله فأحبط اعمالهم).

: هيهات! و الله يا ابن عباس قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت أكره ان افرك عنها فتزيل منزلتك مني.

: و ما هي ؟ فان كانت حقاً فما ينبغي ان تزيل منزلتي منك و ان كنت باطلا فمثلي اماط الباطل عن نفسه.

: بلغني انك تقول انما صرفوها حسداً و ظلماً.

: اما قولك (ظلما) فقد تبين للجاهل و الحليم. و أما قولك (حسداً) فإن إبليس حسد آدم فنحن ولده المحسودون.

: هيهات! ابت و الله قلوبكم يا بني هاشم إلا حسداً ما يحول و ضغنا و غشا ما يزول.

ص:90

: مهلا! لا تصف قلوب قوم اذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا بالحسد و الغش، فان قلب رسول الله من بني هاشم.

: اليك عني ؟

***

نقلنا هذه المحاورة بطولها لانها تجلي كثيرا من الغوامض في بحثنا، فهي تكشف لنا:

(اولا) عما في نفوس الطرفين من نزوان بغضاء كامنة يستطير شرارها. و هذا ما أردنا استكشافه الآن و سقنا لأجله المحاورة.

و (ثانيا) عن ان القوم كانوا قد تعمدوا منع الأمر عن آل البيت، و ان منعهم كان عاطفيا كراهة اجتماع النبوة و الخلافة فيهم خشية تبجحهم، و قد فسر ابن عباس هذه الخشية بالحسد و انها من الظلم. و استشعر الألم الكامن من تأكيد هذه الكلمة (بجحا بجحا).

و (ثالثا) عن ان الامامة انما هي باختيار الله، و أن الخلافة في آل البيت مما انزله الله، و ليست تابعة لاختيار قريش و كراهتهم.

ص:91

و (رابعا) عن ان ظلمهم لآل البيت بأخذها منهم مشهور يعرفه كل احد.

و هذان الامران الأخيران صرح بهما ابن عباس على شدة تحفظه و اتقائه غضب عمر الذي لم يسلم منه بالأخير. و لم يرد عليه عمر الرد الذي يكذب هذا التصريح اكثر من الطعن فيه و في بني هاشم ثمّ الزجر له بقوله: (اليك عني). و هذا الزجر ينطق صريحا بالعجز عن الجواب، فختمت به المحاورة.

و الغرض من كل ذلك ان اقدام عمر الجريء، على نسبة الهجر الى النبي المعصوم، و على دعوى ان كتاب الله وحده كاف للناس بلا حاجة الى شيء آخر على عكس تصريح النبي، لا يستغرب منه ما دام القصد منع الأمر عن علي.

و قد اتضح ان بينهما ما لا يستطيع التأريخ نكرانه و التمويه فيه.

و أما اعتذار بعض الناس عنه بأنه ظهر له ان الأمر ليس للوجوب فهو اعتذار بارد لا يقره العلم. فمن اين ظهر ذلك ؟ أمن قول النبي (لا تضلوا بعده أبدا) و هل هناك أمر اعظم مصلحة في الحكم الشرعي تجعله للوجوب من هداية الخلق اجمعين الى أبد الدهور ام من وقوع النزاع و غضب النبي و زجرهم بالانصراف. و اذا كان قد فهم الاستحباب فلما ذا يرده بأشنع كلمة لا يواجه بمثلها الرجل العادي من

ص:92

الناس لا سيما عند المرض، أعني كلمة الهجر و الهذيان، مهما لطف العبارة بتحويلها الى كلمة (قد غلبه الوجع). ثمّ أي معنى حينئذ لقوله: (حسبنا كتاب الله)، و هو رد على النبي و تدخل في مصلحة الحكم و اساسه، و كان يغنيه ان يقول لا يجب علينا امتثال الأمر.

***

و الخلاصة إن الكتاب الذي أراد أن يكتبه النبي (صلی الله علیه و آله) من نفس وصفه له: (لا تضلوا بعده أبداً) و من نفس رد عمر (حسبنا كتاب الله) و من قرائن الأحوال المحيطة بالقصة بعد سبق توقف البعث عن الذهاب نعرف ان المقصود منه النص على خليفته من بعده و هو علي بن أبي طالب، لا سيما ان كل خلاف بين المسلمين و كل ضلال وقع و يقع في الأمة هو ناشئ من الخلاف في أمر الخلافة فهو أسّ كل ضلالة. و لو تركوا النبي يكتب التصريح بالخلافة من بعده لما كان مجال للشك و الخلاف الا بالخروج رأسا عن الاسلام.

و ليس بالبعيد انه (صلی الله علیه و آله) امتنع عن التصريح شفاها أو كتبا بعد هذه القصة بالنص على خليفته لئلا يأخذ اللجاج بالبعض الى الخروج على الاسلام، فتكون المصيبة أعظم على الاسلام و المسلمين و هذا ما حدا بعلي عليه السلام إلى المجاراة و المماشاة، فلذا قال في خطبته الشقشقية: (فطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء...

ص:93

فرأيت ان الصبر على هاتا أحجى...). و سيأتي في الفصل الرابع الكلام عن موقفه مع الخلفاء تفصيلا.

ص:94

الفصل الثالث: بيعَة السقيفة..

اشارة

ص:95

(1 الدوافع لاجتماع السقيفة

(1)

تصور الأنصار انهم الذين آووا و نصروا يوم عز الناصر، و أسلموا يوم قحط المسلمين، فبذلوا للاسلام نفوسهم و اموالهم، فكانوا بحق (انصاراً) كما سماهم النبي صلى الله عليه و آله، و (حضنة الاسلام و اعضاد الملة) كما دعتهم الزهراء عليها السلام في خطبتها الشهيرة عند مطالبتها بالنحلة.

اذن، لا بد أن يروا لأنفسهم حقا في الإسلام لا يغمط و سابقة ليست لغيرهم لا تنكر، و لهم في تشييده يد مشهورة و ذكر جميل.. و هذا ما يطمعهم في امارة المسلمين كجزاء

______________________________

ص:96


1- (1) السقيفة: الصفة و الظلة، و هي شبه البهو الواسع الطويل السقف. و كان لبني ساعدة بن كعب بن الخزرج و هم حي من الأنصار و منهم سعد بن عبادة نقيبهم و رئيس خزرج ظلة يجلسون تحتها هي دار ندوتهم لفصل القضايا اشتهرت (بسقيفة بني ساعدة). اجتمع فيها الأنصار اوسهم و خزرجهم ليبايعوا سعد بن عبادة خليفة بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

لتضحيتهم في سبيل الاسلام و كنتيجة لنجاحهم و تفوقهم على العرب في النصرة و الايواء.

و من جهة ثانية: انهم كانوا قد وتروا قريشا و العرب؛ و أية ترة هي ؟ آووا و نصروا من سفه أحلامهم، و هم يحرقون الارم عليه ليقتلوه، فتمنع عن جبروتهم باولئك المستضعفين في نظر (أهل النواضح) و اكثر من ذلك انهم قتلوا صناديدهم و اسروا رجالهم و جعجعوا بهم حتى دانت بأسيافهم العرب. فكانت الأنصار و الحال هذه تتخوف هؤلاء الذين و تروهم اذا خلصت اليهم الامارة ان يأخذوهم بترتهم، و هم عندئذ المغلوبون على أمرهم سوقة لا يملكون لأنفسهم قوة و لا دفاعا، و كفاهم ما سمعوه من النبي (صلی الله علیه و آله) مخاطبا لهم: (ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض). و المناظرة التي وقعت يوم السقيفة كانت تشير الى تخوفهم هذا، بل صرح الحباب بن المنذر إذ يقول: (و لكنا نخاف ان يليها بعدكم من قتلنا ابناءهم و آباءهم و اخوانهم). و قد صدقت فراسته فتولى الأمر بنو أمية و كان ما كان منهم في وقفة (الحرة) المخزية التي يندى منها جبين الشرف و الانسانية، و يبرأ منها الاسلام و أهله.

و شيء ثالث هناك: إذا كان صاحب الأمر هو علي بن أبي طالب، فلم يخف عليهم حسد العرب له و تمالؤها عليه،

ص:97

و هي موتورة له اكثر من أي شخص آخر من المسلمين بعد النبي، فلا تمكنه العرب و قريش خاصة من امورهم. و ليس بعيدا عهد تأخر جيش اسامة و الحيلولة دون كتاب النبي. و لا بد انهم علموا بمؤامرات هناك و تفكيرات احسوها عيانا في جماعة من الناس. فالأنصار و الحال هذه قد لا يرون كبير إثم في تطاولهم لمنصب الخلافة، ما دامت خارجة عن معدنها، و لا يأمنون أن يتولاها من لا يحمدون مغبة أمره، و لا يجدون غيرهم ممن يتطاولون لها اولى بها في نصرة و خدمة و تضحية، و لعلهم لأجل هذا لما يئسوا من الأمر بعد محاولتهم الفاشلة و رأوه قد خرج من أيديهم ايضا قال كلهم أو بعضهم: (لا نبايع إلا عليا)(1) و لكن بعد خراب البصرة.

هذه أسباب قد تقنع النفوس الاعتيادية على تنفيذ رغباتها، و تحملها على الاعتقاد بصحة ما يوحي اليها أهواؤها بقصد أو بغير قصد من جراء تأثير العاطفة، فتعمى العين عن أوضح ما يقوم في طريقها من نور للحق و دليل على فساد ايحاء النفس بنزعاتها، و هذا ما يؤيده علم النفس.

و إذا نحن تفهمنا هذه الحقائق و تدبرناها جيداً استطعنا ان نعرف السر في استباق الأنصار بهذه العجالة الى عقد

______________________________

ص:98


1- (1) الطبري (198:3) و ابن الأثير (157:2) و غيرهما.

اجتماعهم سراً في سقيفتهم، و استطعنا ان نعرف لما ذا كان سرياً بلا مشورة لمهاجرين و لا باقي المسلمين.

أجل! ما هو إلا لأنهم طلبوا الغرة من أصحاب الرسول و اهل بيته، فانتهزوا فرصة انشغالهم بفادحهم العظيم و بجهازهم نبيهم، ليحكموا البيعة لأحد نقبائهم و سيد الخزرج، أو لأي شخص آخر منهم قبل ان يفرغ أهلها أو طالبوها. و حينئذ ظنوا ان سيتم لهم كل شيء.

2 نفسية الأنصار

حاولنا في البحث السابق ان نتشبث بما يرفع الأنصار عن سوء النية و القصد، و لكنا نؤمن بأن ما قلنا عنهم لا يخرج عن عدة من الوساوس التي لا تبرر عمل المرء من الناحية الدينية. على انا نرجو ان يكونوا معذورين فيما عملوا لئلا نخسر عدداً وفيراً من الصحابة.

اما نفس عملهم سواء كانوا بسوء نية أم لا فلا يسعنا ان نحكم بصحته، فإنا مهما فرضنا الحقيقة من جهة النص على الامام فان استبدادهم هذا و تسرعهم في عقد اجتماعهم لنصب خليفة منهم لا يخرج عن عدة خيانة للاسلام و تفريطاً في حقوق المسلمين بلا مبرر، و في وقت قد دهمت الاسلام فيه هذه الفاجعة

ص:99

الدهيماء، و المسلمون كالمذهولين بمصابهم لا يعلمون ما ذا سيلاقون من العرب و اعداء الاسلام.

و لا نريد الآن ان نجلس في دست القضاء لنحكم لهم أو عليهم، و لعل هناك من يرى صحة عملهم فلا نضايقه، و إنما مهمتنا ان ندرس الاسباب التي دعتهم إلى عملهم هذا، و أن ندرس نفسياتهم.

في البحث السابق رأينا ان خدمتهم للاسلام الممتازة هي التي خيلت لهم الحق في الخلافة أو في سلطان المسلمين. و هذا نعرفه من حجتهم على لسان المرشح منهم للخلافة سعد بن عبادة في خطبته ذلك اليوم، ينضم الى ذلك تخوفهم من ان يخلص الأمر الى من قتلوا أبناءهم و آباءهم و اخوانهم، مع اعتقادهم بخروج الأمر عن أهله، و يدل على هذا الأخير كما تقدم طلبهم مبايعة علي بعد اليأس.

هذه الأسباب التي استطعنا عرفانها. و كل ذلك تقدم و فيها قبس نسير على ضوئه لمعرفة نفسياتهم.

فانا نعرف مجموعها انهم في محاولتهم كانوا مدافعين اكثر منهم مهاجمين، و الدفاع دائما يكون عن الشعور بالضعف و الانخذال و هذا الشعور من أعظم الأدواء النفسية لمن أراد الظفر في الحياة، إذ ينشأ منه الوهن في العزيمة و الضعف في

ص:100

الارادة و الاضطراب في الرأي و التدبير. و كل ذلك كان ظاهراً على الأنصار في اجتماعهم بالسقيفة.

و الشاهد على ذلك: انقسامهم على انفسهم و انسحابهم امام خصومهم كما سترى، و أعظم من ذلك تنازلهم الى الشركة في الأمر من قبل أن ينازعهم منازع، اعني قبل مجيء جماعة المهاجرين اليهم، إذ قال قائلهم: (فانا نقول إذن أي عند ما ينازعوننا منا أمير و منكم أمير، و لن نرضى بدون هذا أبداً)، فقال لهم سعد: (هذا اول الوهن). و الحق انه اول الوهن و آخره. ثمّ يستمر معهم هذا التنازل حتى مجيء المهاجرين، فكرروا هذه الكلمة بالرغم على تنبيه سعد لهم انها من الوهن.

و هذا يكشف ايضا عن سماحة في نفوسهم و لين في طباعهم، و يصدق ما قلناه انهم مدافعون اكثر منهم مهاجمين، فلم يطلبوا الامارة ليملكوا مقدرات الأمة و شئونها بل ليدفعوا ضرر من يخافون ضرره، فاكتفوا بالشركة التي يحصل بها الغرض من الدفاع.

و الانصاف ان الأنصار لا ينكر ما هم عليه من استكانة و استخذاء و قصر الرأي و التدبير، و ضعف في العزائم، و لا سيما امام دهاء قريش و قوتها، و ان حاول بعضهم و هو الحباب بن المنذر ان يستر هذا الضعف. إذ قال في خطابه

ص:101

ذلك اليوم: (يا معشر الأنصار املكوا عليكم أمركم فان الناس في فيئكم و في ظلكم و لن يجترئ مجترئ على خلافهم و لن يصدر الناس إلا عن رأيكم. و أنتم اهل العزة و الثروة...). فاطرد خطبته على هذا الاسلوب زاعما ان سيرفع من منعتهم و بأسهم و يسد خللهم، و نهاهم عن الاختلاف و حذرهم عواقبه حتى قال: (فان أبى هؤلاء فمنعكم أمير و منهم أمير). و لكنه كما ترى بينا هو محلق في السماء رفعه و تعاظما و يملي ارادته قوة إذا به يهبط الى الحضيض ضعفا، إذ يقول: (فان ابى هؤلاء..) و نقول له: فان ابى هؤلاء الشركة ايضا فما أنتم صانعون ؟ لا شك ان ذلك الضعف الذي يملي عليه التنازل هو ذلك الضعف عينه موجود ايضا سيملي عليه التنازل عن جميع الامر، كما وقع.

و هذا من تنازل الخائر المغلوب على امره و تدبيره. و كانت عليه بذلك الحجة الظاهرة، فقال له عمر بن الخطاب:

(هيهات لا يجتمع اثنان في قرن) أو ما ينسق على هذا المعنى، على ان الحباب هذا من أقوى من وجدنا يومئذ و اشجعهم قلباً و أجرأهم لسانا، و أغلظهم على المهاجرين، لو لا سعد بن عبادة.

الى هنا لعلنا لمسنا شيئا من نفسية الأنصار ادركنا مقدار الضعف في نفوسهم، و الوهن في عزائمهم، و الاضطراب في

ص:102

تدبيرهم. كيف و قد تجلى ذلك في الحباب لسانهم المفوه و خطيبهم المصقع ذلك اليوم، و هو أقوى شكيمة و اكثرهم اعتداداً بنفسه و قومه، و كان يدعى بينهم (ذا الرأي).

بقي علينا ان ندرك لما ذا كل هذا الحذر من الحباب من اختلافهم إذ يقول: (و لا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم و ينتقض عليكم أمركم)؟ لا بد انه كان يحس بشرارة الخلاف تقدح، و يتوجس خيفة من الانتقاض و هذا ما سنبحث عنه في الآتي.

3 الأنصار حزبان

إذ قيل الأنصار أرادوا البيعة لسعد، فانما هم الخزرج فقط دون الاوس(1). و إذا كان الاوس اجتمعوا في السقيفة مع الخزرج فانما هو على ظاهر الحال، و لحس مشترك بالخوف ممن قتلوا آباءهم و ابناءهم أن ينالوا الامارة، و هم يبطنون في نفس الوقت للخزرج كمين أحن تتغلغل في صدورهم، فان بين الحيين دماء مطلولة ما زال نضخها على سيوفهم و جروحاً

ص:103


1- (1) و لذا يقول المؤرخون عند ذكرهم لبيعة الاوس: (فانكسر على الخزرج ما كانوا اجمعوا عليه).

بالغة لا يلأم صدعها و لا يرجى رأبها. و كان آخر أيام حروبهم يوم (بُعاث) المشهور و هو قبل الهجرة بست سنين، و هو سبب اسلامهم على ما قيل إذ جاء أحد القبيلين بعد يوم بعاث الى مكة يستنجد قريشا على الفريق الثاني، فالتقوا بالنبي (صلی الله علیه و آله) و هداهم الله تعالى الى الاسلام.

و كان رئيس الاوس يوم بعاث حضير الكتائب ابو اسيد بن حضير هذا الذي أفسد الأمر على سعد و بايع أبا بكر و معه الاوس. و كان رئيس الخزرج عمرو بن النعمان، ابو النعمان صاحب راية المسلمين يوم احد(1).

و لم يلطف الاسلام كثيراً من تنافسهم و تحاسدهم، و ان اطفأ بينهم نار الحروب، فقد كانا يتصاولان تصاول الفحلين، لا تصنع الأوس شيئا إلا قالت الخزرج نفاسة: لا يذهبون بهذا فضلا علينا. فلا ينتهون حتى يوقعوا مثله. و كذلك اذا فعلت الخزرج شيئا قالت الأوس مقالتهم و صنعت صنعهم(2).

و من منافساتهم التي بلغت حد الافراط يوم استعذر رسول الله من عبد الله بن ابي سلول المنافق الشهير و هو من الخزرج فقال: (يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد

ص:104


1- (1) راجع العقد الفريد (250:2).
2- (2) الطبري (7:3) و ابن الأثير (66:2).

بلغني عنه اذاه في أهلي.) الى آخر ما قال، فقام سعد بن معاذ رئيس الاوس فقال: (يا رسول الله انا و الله اعذرك منه ان كان الاوس ضربنا عنقه و إن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك) فترى سعداً كيف تجاهل الشخص المعنى و تحفظ عند ذكر الخزرج مما يدل على شديد تنافسهم فقام سعد بن عبادة سيد الخزرج فقال لابن معاذ: (كذبت لعمر الله لا تقتله و لا تقدر على قتله و لو كان من رهطك لما أحببت ان يقتل) فقام اسيد بن حضير ابن عم سعد بن معاذ فقال لابن عبادة: (كذبت لعمر الله لنقتلنه فانك منافق تجادل عن المنافقين). فثار الحيان الاوس و الخزرج حتى هموا ان يقتتلوا و رسول الله قائم على المنبر فنزل فخفضهم حتى سكتوا و سكت(1).

هكذا هم الاوس و الخزرج حزبان متنافسان متحاسدان و انما سعد بن عبادة بادئ بدء يوم السقيفة أراد ان يستميل الاوس باسم الأنصار، و هم حزب واحد امام حزب المهاجرين و قريش، فقال معرضا بخصومهم في خطبته على الأنصار: (يا معشر الأنصار ان لكم سابقة في الدين و فضيلة ليست لقبيلة من العرب.) و يقصد المهاجرين. و هكذا مضى في خطبته يضرب على هذا الوتر الى ان اجابوه جميعا: (أن

______________________________

ص:105


1- (1) راجع البخاري (6:2 و 24:3).

وفقت في الرأي و أصبت في القول و لن نعدو ما أمرت، نوليك هذا الأمر، فأنت لنا مقنع و لصالح المؤمنين رضى).

ثمّ انهم ترادوا الكلام فيما إذا أبت المهاجرين من قريش بيعتهم، فقالت طائفة: (اذن نقول منا امير و منكم امير). فقال سعد: (هذا اول الوهن) و قد سبقت الاشارة اليه. و في الحقيقة انه اول الوهن و تنازل منهم عرفنا فيما سبق دلالته على مبلغ ضعف ارادتهم امام ارادة قريش حتى قبل مواجهتهم، بل يدل ايضا على تخلخل صفوفهم و وجود خلاف كامن كمون النار في الرماد، فلم يتأثروا بدعوة سعد، و أبطئوا عليه حتى داهمهم المهاجرون، و هم إنما اسرعوا الى عقد هذا الاجتماع ليسبقوا الحوادث، و إلا فقد كانت الفرصة الكافية لبيعته من قبل ان يعلم جماعة المهاجرون باجتماعهم فتكبسه عليهم. لو لا انهم اضاعوها باختلافهم و تباطئهم حتى مضى الوقت. و مثل هذه الامور بعرف الساسة لا تقبل الاناة و الابطاء.

و الحق ان الاوس كانوا غير مرتاحين لبيعة سعد، و هم يتنافسون مع الخزرج في أتفه الأشياء و ادناها، و كأنهم كانوا لا يريدون ان يبدءوها بالخلاف خشية أن يقال: (اوس و خزرج)، و في هذه الكلمة ما فيها من معان لا تتفق و روحية الاسلام، فيبتعدون عنها ما استطاعوا ان المجاملة محفوظة

ص:106

بين الطرفين. و لذلك لما رأوا المجال للوثبة واسعا نقضوا أمر سعد و ما اجتمعت عليه الخزرج، و هذا عند ما رأوا ان الخلاف جاء من الخزرج انفسهم بمقالة بشير بن سعد الخزرجي، و ستأتي، و باسراعه الى بيعة ابي بكر، و قد كان اول المبايعين. و ايضا رأوا ان الدعوة ضد سعد أنما جاءت من قبل غيرهم و هم المهاجرين.

فظهرت منهم حسيكة الخلاف و التناقض، و قال بعضهم لبعض و فيهم اسيد بن حضير زعيمهم: (لئن وليتموها سعداً عليكم مرة واحدة لا زالت لهم بذلك الفضيلة و لا جعلوا لكم فيها نصيبا أبداً فقوموا فبايعوا ابا بكر) فقام اسيد فبايع و معه الاوس، و ليسأل السائل هل جُعل لهم نصيب فيها بمبايعتهم لأبي بكر؟ و لكنه التنافس هو الذي أملى عليهم هذا القول و منافسة القرابة ابعد أثراً و اعظم مفعولا.

هذا و لا ينكر ما لأبي بكر من كبير أثر في استمالة الاوس الى جانب المهاجرين، فقد وقف موقفا مؤثراً و كان يعرف من اين تؤكل الكتف فلم يفته ما كان يعلمه من التنافس بين الحيين، حتى استغله لانقاذ الموقف و برع في هذا الاستغلال، فقد قال في ذلك اليوم: (ان هذا الأمر ان تطاولت اليه الخزرج لم تقصر عنه الاوس و ان تطاولت اليه الاوس لم تقصر عنه الخزرج، و قد كانت بين الحيين قتلى لا تنسى و جراح لا

ص:107

تداوى، فان نعق منكم ناعق جلس بين لحيي اسد يضغمه المهاجري و يجرحه الأنصاري)(1).

فانظر الى كلمة (لم تقصر) و ما لها من بليغ اثر في القلوب المتحاسدة و ما بها من تحريض لأحد المتناظرين على نظيره المتطاول.

نعم! انها لتجعل لكل من الحيين الكفاية تجاه الحي الآخر، فان تطاول احدهما و هم الخزرج الآن فحقيق بالآخر ان يتطاول لها ككفتي ميزان، من غير فضيلة يختص بها المتطاول. فلا تسل كيف اشرأبّت اعناق الاوس لهذا الأمر؟

و بعدها انظر كيف ذكر التراث السابقة و نبش الدفائن. و هذا ما يثير بالحفائظ و يوقظ الضغائن. و هنا راح يستدل على خطأ تولى أحد الحيين لهذا الأمر، لأنه يقع بين خصمين ألدين: فرماهم بالمسكنة كما يقول ابن دأب عيسى بن زيد.

استطعنا في هذا البحث أن نلمس التنافس بين الاوس و الخزرج لنعرف مدى تأثيره على مجرى حادث السقيفة، كما عرفنا ان اهل الدعوة عند التحقيق انما هم الخزرج فقط، و لم تشاركهم الاوس مشاركة جدية.

______________________________

ص:108


1- (1) البيان و التبيين (181:3).

فلنترك الأنصار الآن مجتمعين في السقيفة يتبارون الخطب و يتحمسون لجهادهم و تضحيتهم، و سعد بن عبادة قد ترأس حفلهم يخطبهم و يقول في آخر خطبته: (استبدوا بالأمر دون الناس فانه لكم دون الناس) و لنذهب ميممين المهاجرين و باقي المسلمين حول دار النبي في المسجد، لنراهم ما ذا هم صانعون!

4 هل مات النبي محمد...؟

نعم! كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قد خرج في آخر فجر من حياته الى الصلاة، فصلى بالمسلمين الغداة. و كان هذا آخر عهدهم برؤية تلك الطلعة المحبوبة و ذلك النور الالهي.

و لم تزل شمس السماء إلا و قد آذنت شمس الأرض بالمغيب من افقها الى افق الحق الدائم، و ها هو ذا النبي مسجى بين اهله ينتدبون فيه حظهم، و الباب مغلق دون الناس.

انه يوم...! و أي يوم هو على اهل المدينة و المسلمين!.

فقدوا...؟ و أية نعمة فقدوا...؟

فقدوا الرحمة و الانسانية. فقدوا الأخلاق الالهية. فقدوا

ص:109

حياتهم و عزهم و مجدهم. فقدوا طريق الحق اللاحب و صراط الله المستقيم و نوره المشرق بآياته الباهرة...!

فقدوا نبيهم العظيم و أباهم الكريم...!

فاعظم بيومه يوما! و اعظم به فقيدا!

انه يوم كان للمسلمين مضرب المثل فاذا بالغوا في يوم مصيبة قالوا: (انه كيوم مات فيه رسول الله).

و ما تنتظر من المسلمين ساعة يسمعون الواعية و الباب مغلق على من فيه، إلا ان يُهرعوا فيجتمعوا في مسجدهم و الطرقات، نكسا ابصارهم مطأطئي رءوسهم. و لم تبق عين لم تدمع؛ و لا قلب لم يجزع، و لا نفس لم يتقطع.

و ما ينتظرون هم...؟

لا شك ليس هناك ما يدعوهم الى تكذيب النعاة. و إذ علموا آنئذ أن مجرى حياتهم قد تبدل راحوا و لا شك يتطلعون الى ما يظهر لهم على مسرح العالم الاسلامي من حوادث و مفاجئات، فتطيش لذلك عقولهم، و يقوى حسهم بمستقبل هذا الدين الجديد الذي أخذ بأطراف الجزيرة، و المنافقون يتحينون به الفرص، فتنهد عزائمهم، و يستشرفون على الأكثر على خليفة النبي الذي سيقود الأمة لينقذ الموقف، فيضربون اخماسا في اسداس.

كل هذه الأفكار و أكثر منها بغير شك كانت تمر على

ص:110

رءوس ذلك الجمع الحاشد الطائش اللب الحائر الفكر، الذي يحوم حول دار النبوة و الوحي، يرقب منها على عادته ان تبعث له بما يطمئن خاطره و يهدئ روعه و يعرفه مستقبل أمره، حتى اصبح الناس كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية (كما في الحديث).

و لكن.. و لكن عمر بن الخطاب صاحب رسول الله ذلك الرجل الحديدي أبى على الناس تصديقهم بموت نبيهم؛ إذ طلع صارخا مهددا (و قد قطع عليهم تفكيرهم و هواجسهم) و راح يهتف بهم: (ما مات رسول الله و لا يموت حتى يظهر دينه على الدين كله. و ليرجعن فليقطعن أيدي رجال و أرجلهم ممن ارجف بموته. لا أسمع رجلا يقول مات رسول الله إلا ضربته بسيفي).

أ تراك (لو خلوت بنفسك و أنت هادئ الأفكار) تقتنع بوحي هذه الفكرة من هذا الذي لا يقعقع له بالشنان، و أنت لا تدري لما ذا رسول الله يقطع أيدي و أرجل من أرجف بموته، أو بالأصح من قال بموته ؟ و لأي ذنب يستحق الضرب بالسيف هذا القائل ؟ و من أين علم ان رسول الله لا يموت حتى يظهر دينه على الدين كله ؟ و ما هو هذا الرجوع ؟ أ رجوع بعد الموت او بعد غيبة (كغيبة موسى بن عمران كما يدعيها عمر بن الخطاب في بعض الحديث) و لكنها أية غيبة هذه و هو مسجى بين اهله لا حراك فيه ؟

إلا اني اعتقد انك لو كنت ممن ضمه هذا الاجتماع

ص:111

لذهبت بتياره و لتأثرت بهذا القول الى أبعد حد كسائر من معك ما دام الاجتماع بتلك الحال التي وصفناها، و الخطيب هو عمر بن الخطاب، و قد جاء بتلك الدعوة الثائرة، في صرامة ارادة و رأي بلغا أقصى درجات الصرامة، و قد استعمل المغريات الخلابة للجماعات: فمن أمل بحياة الرسول و باظهار دينه على الدين كله الى توعيد بقطع رسول الله أيدي و أرجل المرجفين بموته، و تهديد منه (اعني عمر) بقتل من يقول مات رسول الله.

انهما الخوف و الأمل إذا اجتمعا مع هذا الرأي القاطع و الارادة الصارمة لهما التأثير العظيم الذي لا يوصف على افكار الجماعة الاجتماعية و أي تخدير بهما لأعصاب المجتمعين. و من وراء ذلك أن شأن المحبين يتعللون في موت حبيبهم إذا نعي بالأوهام و لا يرضون لأنفسهم التصديق بموته لا سيما مثل فقيدهم هذا العظيم الذي يجوز عليه ما لا يجوز على البشر.

و لا شك ان مميزات الجماعة المقصودة لعلماء الاجتماع كانت متوفرة في الاجتماع الفجائي المضطرب الأفكار المتأثر بهذا الحدث العظيم المتحفز للحوادث المجهولة و المفاجئات المنتظرة. و من البديهي ان الاجتماع الذي يتألف على هذا النحو تتكون منه روح واحدة مشتركة حساسة تتغلب على نفسيات أفراده الشخصية، و تكون هذه الروح خاضعة

ص:112

لمؤثرات لا حكم لها غالبا على روحية الفرد لو كان خارج الاجتماع. و أهم خواص هذه الروح انها تكون عرضة للتقلبات و الانقلابات الفجائية و يبطل فيها حكم العقل و سلطانه و يقوى سلطان المحاكاة و التقليد الأعمى. و لذلك لا تفكر الجماعات إلا بأحط فكرة فيها، و تقبل ايضا كل فكرة تعرض عليها إذا اقترنت بالمؤثرات الخلابة و ان خرجت عن حدود المعقول. و من أقوى المؤثرات شخصية الخطيب و صرامة رأيه.

فلا نستغرب قناعة المسلمين يومئذ برأي عمر بقدر ما نستغرب منه نفسه هذا الرأي، و إن لم ينقل لنا صريحا قبولهم له، كما لم ينقل في الوقت نفسه اعتراض أحد عليه سوى ابي بكر و قد جاء متأخرا. و إذا أبيت فعلى الأقل شككهم في موت النبي و ألهاهم عن التفكير فيما يجب أن يكون بعده و فيما سيحدث من حوادث منتظرة، لأنهم لا شك التفوا حوله عجبين مستغربين و هو مستمر يبرق و يرعد مهددا حتى (ازبد شدقاه).

و لكلمة (الارجاف) هنا التأثير البليغ في اقلاع أفكار الجماعات عن الدعوى التي يدعونها لأنها من الألفاظ الخلابة التي تتضمن التهجين الشنيع للدعوى و الاشمئزاز منها الى أبعد حد، إذ تشعر هنا ان مدعيها من المنافقين الذين لهم غرض مع النبي و الاسلام، فقال: (... ممن ارجف بموته)

ص:113

و لم يقل ممن ادعى أو قال. و هذا كاف للتأثير على الجماعات و تكوين الشعور بكراهية دعواها.

و يشهد لتأثير كلامه على سامعيه التجاء ابي بكر لما جاء من السنج(1) أن يكشف عن وجه النبي ليتحقق موته، ثمّ يخرج الى الناس مفندا مزاعم عمر، و عمر مستمر يحلف انه لم يمت. و طلب اليه ان يجلس فلم يجلس ثلاث مرات، فقال له: (أيها الحالف على رسلك).. ثمّ قام خطيبا في ناحية اخرى و قد اجتمع حوله الناس فتشهد و قال و عمر مستمر و قد تركه الناس:

(من كان يعبد محمدا فان محمدا قد مات، و من كان يعبد الله فان الله حي لا يموت...). ثمّ تلا هذه الآية الكريمة:

(أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ...)

و (شاهد ثان): أن الناس لما سمعوا كلام ابي بكر اصبحوا كأنما اخرجوا من مأزق أو اطلقوا ما عقال، فانهم تلقوا الآية كلهم و راحوا يلهجون بها (فما تسمع بشرا من الناس إلا يتلوها). أما عمر فقد صعق الى الأرض و صدق

______________________________

ص:114


1- (1) و هو يبعد عن المسجد بميل واحد (و في الرواية عن عائشة) و كذا في معجم البلدان و لعله اعتمد على هذه الرواية. و لكن السنح هو عالية من عوالي المدينة و أدنى العوالي بتقدير نفس المعجم يبعد أربعة أميال أو ثلاثة.

حينئذ بموت النبي بعد ان تحقق ان الآية من القرآن، كما يقول.

***

لله ابوك يا ابن الخطاب! ما أدهشني بك، و أنت و أنت، إذ تقف ذلك الموقف الرهيب حالفا مهددا، لتنكر أمرا واضحا، أ لم يعلمك الاسلام حقيقة محمد فتنكر انه يموت ؟ ثمّ تسمي مدعي موته (مرجفا)؟

لا؟

لا؟ و لكنك تحاول ان تقنع الناس انه غاب كموسى بن عمران، فيرجع ليقطع الأيدي و الأرجل. إلا انه بالله عليك أية غيبة هذه ؟

و أنت أعجب و أعجب حين تسرع مصدقا و تنقاد طائعا لقول قاله ابو بكر لا يكذبك و لا يصدقك، بعد ذلك التوعيد و التهديد. أ و لست أنت كنت تعترف انه يموت بعد ان يظهر دينه على الدين كله ؟ فأي دليل كان في الآية ناقض قولك فأقنعك حتى صعقت الى الأرض. و الآية تدل على انه يموت يوم مات!...؟

و اعجب من ذلك وقوفك بعد يوم معتذرا فتقول: (فاني قلت بالأمس مقالة ما كانت إلا عن رأيي و ما وجدتها في كتاب الله و لا كانت عهدا عهده الي رسول الله. و لكن كنت

ص:115

ارجو ان يعيش رسول الله فيدبرنا و يكون آخرنا موتا)(1). فأين هذا الرجاء الفاتر من تلك الصرخة المعلنة و ذلك الحلف و التهديد و طعن القائل بموته بالارجاف ؟ و اين هذا الاعتذار الهادئ من تلك الدعوى الثائرة ؟

إن لك لسرا عظيما!

يبدو لي ان عمر كان أبعد من أن يظهر بهذه السهولة لقارئي هذه الحادثة. و من البعيد جدا و فوق البعد ان يعتقد مثله ان النبي لا يموت يوم مات، و هو الذي قال في مرضه كما سبق بكل رباطة جأش: (ان النبي قد غلبه الوجع... حسبنا كتاب الله). فأي معنى تراه لقوله (حسبنا) لرد الكتاب الذي أراده النبي لأمته بعد موته، لو لم يكن معتقدا انه سيموت و ان كتاب الله يغني عن أي شيء آخر يريد ان يقرنه النبي به.

و هل تراه قال ما قال دهشة بالمصيبة ؟ فما باله لم يعتذر بذلك بعد يوم و قد سمعت اعتذاره! بل ما باله لم يزد دهشة

______________________________

ص:116


1- (1) اقتبسنا مجموع هذه العبارة من كنز العمال (129:3 و 53:4) و من تاريخ الطبري و ابن الأثير و البخاري (152:4) و السيرة الدخلانية (347:2) و لفظ (كنت أرجو ان يعيش...) في الصحيح و السيرة. و المروي في هذه الكتب و غيرها بألفاظ متقاربة جداً و تختلف بما لا يضر بالمعنى.

لما تحقق انه قد مات! هيهات ان يكون قد دهش فيخفى عليه موت النبي و هو هو من نعرف.

و بعض الناس قد جهّلوا عمر بهذا و ابعدوا، فقالوا: من يجهل مثل هذا الأمر الواضح المعلوم بالاضطرار جدير بألا يكون إماما راعيا للأمة...

و التجأ بعضهم الآخر ان يعتذر عنه بأن ذلك من فرط دهشته.

و فيما عندي ان الطرفين لم يعرفاه حق عرفانه و لم يصلا الى غوره و تدبيره في هذا الحادث المدهش. فان من يعتقد ان النبي قد غاب فيحلف لا يقنعه مثل حجة ابي بكر فيرتدع و من خبل بالمصيبة فهو عند اليقين بها ادهش و ادهش.

***

و يكفي المتدبر في مجموع نقاط هذه الحادثة ان يفهم هذا الذي لا يختل بالحرش، فيعرف ان وراء الاكمة ما وراءها، و لا يضعه حيث وضعه الناس.

أ لا تعتقد معي انه كان يخشى ان يحدث القوم ما لا يريد، و قد اشرأبت الأعناق بطبيعة الحال الى من سيخلف النبي، و هذه ساعة طائشة، و ابو بكر بالسنح غائب، و هو خدنه و ساعده، و هما اينما كانا هما. و لعلهما

ص:117

وحدهما قد تفاهما في هذا الأمر... فأراد ان يصرف القوم عما هم فيه، و يحول تفكيرهم الى ناحية اخرى، ان لم يجعلهم يعتقدون غياب النبي. حتى لا يحدثوا بيعة لأحد من الناس قبل وصول صاحبه. و ليس هناك من تحوم حوله الأفكار إلا عليا للنص عليه كما نعتقد او لأنه اولى الناس، ما شئت فقل (حتى كان عامة المهاجرين و جل الأنصار لا يشكون ان عليا هو صاحب الأمر بعد رسول الله)(1).

و كانوا يلاحظون في علي بن ابي طالب صغر سنّه(2) و حسد العرب و قريش خاصة إياه، و تمالؤها عليه، و لا تعصب الدماء التي اراقها الاسلام إلا به، لأنه الأمثل، في عشيرة الرسول على عادة العرب و بسيفه قتل اكثر ابطالهم.

و يلاحظون (رابعا) كراهة قريش لاجتماع النبوة و الخلافة في بني هاشم فيبجحون على قومهم بجحا بجحا كما يراه عمر فيما سبق في الفصل الثاني من محاورته مع ابن عباس. و يلاحظون (خامسا) انه سيحملهم إذا ولي الأمر على الحق الأبلج و المحجة البيضاء و ان كرهوا (على حد تعبير عمر نفسه)، و الحق مر في الأذواق.

و يظهر أن عمر كان بطل المعارضة في إمارة علي كما

______________________________

ص:118


1- (1) شرح النهج لابن أبي الحديد (8:2).
2- (2) راجع الامامة و السياسة.

شاهدنا موقفه في قصة الكتاب الذي أراد ان يكتبه النبي و في مواقفه التي أشرنا اليها في الفصل الثاني، فلا نعجب إذا رأيناه يقف هذا الموقف ليلهي الناس عما يخشاه من استباق احد الى بيعة علي قبل مجيء ابي بكر.

اما انه هل كان يدري كيف سيخرج من هذا المأزق الذي ادخل نفسه فيه فاغلب الظن انه غامر بنفسه ليقف الناس عند حدهم. و على صاحبه إذا جاء ان يدبر الأمر حينئذ.

و اقوى الشواهد على هذا التعليل ما قلناه من سرعة قناعته بقول صاحبه ابي بكر، و هو لا يمس دعواه تكذيبا... و ليس إلا ان جاء ابو بكر و وقف خطيبا و التف حوله الناس و هو يعلم من ابو بكر فقد انتهت مهمته و انقلب الدور، و لم يبق إلا ان يخرج من موقفه الحرج بلباقة، لئلا يحسوا بهذا التدبير فينتقض الغرض، فصعق الى الأرض كأنما تحقق موت النبي من جديد مظهرا القناعة بقول صاحبه. ثمّ لم يلبث ان راح يشتد معه لعملهما كأنما نشط من عقال و لم يقل ما قال، و لم يظهر ما أظهر من الدهشة و الاضطراب، حتى رُمى بالخبل و هو عنه بعيد، فقد ذهب بعد ذلك الى السقيفة مع ابي بكر حينما علما باجتماع الأنصار السري و وقفا ذلك الموقف العجيب، و سنحدثك:

ص:119

5 وصول النبأ باجتماع الأنصار

لم يهدنا التأريخ الى أن أبا بكر و عمر أي شيء صنعا مباشرة بعد حادثة انكار موت النبي و اجتماعهما، و اين كانا قبل ذهابهما الى السقيفة فهل دخلا الى دار النبي معا و الباب مغلق دون الناس، او انهما وقفا على الباب، او ان ابا بكر وحده دخل الدار؟ كل واحد من هذه الاحتمالات يستشعر فيه حدث و جائز وقوعها جميعا.

و لكن مثلهما جدير به إلا يبارح دار النبي (صلی الله علیه و آله) في مثل هذه الساعة، و إذا كان شيء يحدث فانما يحدث هاهنا، و محوره هذا المشغول بجهاز النبي (علي بن ابي طالب)، و من كان يتهم ان الأنصار تستبد بهذا الأمر على آل البيت و المهاجرين و تطمع فيه دونهم فتبادر إلى اجتماعها معرضة عمن لهم شأن لا ينكر في هذا الأمر.

و اغلب الظن انه لم يطل الزمن على وصولهما الى الدار حتى جاء اثنان من الأوس مسرعين الى دار النبي، و هما(1) معن بن عدي و عويم بن ساعدة، و كان بينهما و بين

______________________________

ص:120


1- (1) ذكر ذلك في العقد الفريد (63:3) و في الجزء الثاني من شرح النهج و لم نر غيرهما يصرح باسم الشخص المخبر. و لكن عمر بن الخطاب نفسه يحدثنا أنه صادفها في ذهابها الى السقيفة، فأشار عليهم بالرجوع ليقضوا أمرهم بينهم. و احسب ان عمر أراد أن يحفظ لهما هذه اليد، فيكتم عليهما غايتهما هذه على قومهما دفاعا عنهما، لأن الأنصار اجتمعت بعد بيعة ابي بكر في محفل فدعوهما و عيروهما بانطلاقهما الى المهاجرين واكبوا فعلهما فخطبا فردت عليهما الأنصار و أغلظوا و فحشوا عليهما و كل منهما قال شعرا: (راجع شرح النهج 11:2 نقلا عن كتاب الموفقيات للزبير بن بكار).

سعد الخزرجي المرشح للخلافة موجدة قديمة، فأخذ معن بيد عمر بن الخطاب، و لكن عمر مشغول بأعظم امر، فلم يشأ ان يصغي اليه، لو لا ان يبدو على معن الاهتمام إذ يقول له: (لا بد من قيام)، فأسر اليه باجتماع الأنصار ففزع اشد الفزع، و هو الآخر يصنع بأبي بكر ما صنع معن معه، فيسر الى ابي بكر بالأمر، و هو يفزع ايضا اشد الفزع. فذهبا يتقاودان مسرعين الى حيث مجتمع الأنصار، و تبعهما ابو عبيدة بن الجراح، فتماشوا الى الأنصار ثلاثتهم(1).

اما علي و أما من في الدار و في غير الدار من بني هاشم و باقي المهاجرين و المسلمين، فلم يعلموا بكل الذي حدث و بما عزم عليه ابو بكر و عمر.

و لما ذا؟ أ لم تكن هذه الفتنة التي فزعا لها اشد الفزع تعم

______________________________

ص:121


1- (1) الطبري (208:3).

جميع المسلمين بخيرها و شرها و أخص ما تخص عليا ثمّ بني هاشم ؟ أو ليس من الجدير بهما ان يوقفاهم على جلية الأمر ليشاركوهما على اطفاء نار الفتنة الذي دعاهما الى الذهاب الى مجتمع الأنصار مسرعين ؟ ثمّ لما ذا يخص عمر ابا بكر دون الناس ثمّ أبا عبيدة ؟

ليس من السهل الاحاطة بأسرار ذلك التكتم و هذا التخصيص، و هو موضوع بكر لم يقرع بابه الباحثون. و لكنا إذا علمنا ان الجماعة كانوا يلاحظون في علي تلك الامور التي ذكرناها في البحث السابق فيحذرون ان يستبق الى بيعته مستبق، نجد منفذا الى خبايا هذا التكتم و نطمئن الى انهم رأوا الأصلح لهم ان يتداركوا الأمر بأنفسهم من دون ان يشيع الخبر و حينئذ يستطيعون ان يهيمنوا على الوضع و لا يقع ما يحذرون، إذ يكسبون على الأنصار اجتماعهم السري في جو هادئ ممن يتحمس لعلي. و هذا التخصيص من عمر يشجعنا على ان ندرك التفاهم السري بينه و بين ابي بكر بل بينهما و بين ابي عبيدة في هذا الشأن بل بينهم و بين سالم مولى ابي حذيفة. و لذلك وجدنا عمر بي الخطاب يأسف عند الموت الا يكون واحد من هذين (ابي عبيدة و سالم) حيا حتى يجعل الخلافة فيه من بعده، مع ان سالما ليس من قريش.

و إذا كانوا لم يلاحظوا في علي ما قلناه، فمن هو أجدر منه بالاخبار بهذا الأمر و من أجدر من قومه بني هاشم، و علي

ص:122

ليس ذلك الرجل الذي يستهان بشأنه و يستصغر قدره حتى لا يستشار و لا يخبر بمثل هذا الأمر الخطير، و هو ان لم يكن منصوصا عليه بالخلافة فان مؤاخاة النبي له مرتين دون سائر الخلق و جعله منه بمنزلة هارون من موسى و هو أحب الناس اليه و مولى كل من كان مولاه و ولي كل مؤمن بعده و وارثه و وصيه و يدور الحق معه كيفما دار... كل هذا و غيره ما شئت ان تحدث يجعل له المنزلة الأولى في هذا الشأن ليستشار على الأقل.

و لئن كان مشغولا عنهم بجهاز النبي (صلی الله علیه و آله) فجدير بأن يكون على خبر من ذلك ليكون ردا لهم عند حدوث ما يكره، و هم مقدمون على أمر عظيم، و علي من لا ينكر في شجاعته و بطولته و ايمانه و تفانيه في سبيل نصرة الاسلام. و لكنه بالرغم من ذلك كله لم يعلم بالحادث إلا بعد ان سمع التكبير من المسجد عاليا، و قد فرغوا من اجتماع السقيفة و جاءوا بأبي بكر يبايعونه البيعة العامة.

و لست في تعليلي هذا أدعي الاحاطة بأسرار هذا التكتم و إنما ذكرت ما يبدو لي عند البحث مقتنعا انه أهم أسراره و عسى ان يكون هناك من يستطيع ان يشبع الموضوع بحثا، فيزيدنا علما على علم أو يكشف لنا انا على جهل.

ص:123

6 تأثير دخول المهاجرين في اجتماع الأنصار

لنجيء الآن مع ابي بكر و عمر و ابي عبيدة الى السقيفة، فنرى الأنصار مجتمعين يتداولون الحديث، و سعد بن عبادة بينهم مزّمل وجع يخطب فيهم و قد ترأس حفلهم مرشحا للخلافة. و لا نشك ان الأنصار الآن في لغط و حماس، قد اخذت الأنانية و الفخر بأطرافهم معدين للوثبة عدتها، يريدون في اجتماعهم السري هذا ان يقبضوا على ناصية هذا الامر العظيم، و ليس امامهم من يطاولهم.

و إذ يدخل عليهم وجوه المهاجرين فجأة لا بد ان يسقط ما في أيديهم بافتضاح امرهم قبل ابرامه، و بتخوفهم من خروجه من ايديهم بعد ما قالوا و صنعوا. و لا بد ان يرتبكوا لذلك و يقوى فيهم شعور الخذلان. و قد عرفنا نفسياتهم التي يتغلب عليها الضعف، فيتغير عليهم مجرى الحادثة. و هنا ينقلب الدور فيتهيئون لمواجهة هذا الحادث الجديد بما يقتضيه: فمن كان يبغض الامارة لسعد وجد الفرصة قد حانت للانتقاض عليه، و بالعكس اصحابه الذين يوادونه لا بد ان ينقلبوا مدافعين. و هذا أول تبدل في حالهم و انخذال في اجتماعهم.

و بعد دخول جماعة المهاجرين هذا الاجتماع و سؤالهم عن

ص:124

هذا المزمل من هو؟ و ما شأنه ؟ نرى عمر يذهب ليبتدئ النطق، و قد زور في نفسه مقالة في الطريق ليقولها بين يدي ابي بكر، و كان يخشى جد ابي بكر أو حدته، و كان ذا جد كما يقول هو. و من الواضح ان الموقف دقيق جدا يدعو الى كثير من اللين و اللباقة رعاية لهذه العواطف الثائرة المتحفزة، و لكن ابا بكر يمنع عمر من ابتداء الكلام، و كأنه هو ايضا يرقب شدته و غلظته المعروفتين فيه فانطلق يتكلم، و ما شيء كان زوره عمر إلا أتى به أو بأحسن منه على ما يحدثنا عمر نفسه.

و لقد كان ابو بكر يحسن المعرفة بما يتطلب هذا الوضع من الرفق و السياسة، أولا ترى لما كادوا ان يطئوا سعدا قال قائل: قتلتم سعدا.. فقال عمر و هو مغضب: (اقتلوا سعداً قتله الله انه صاحب فتنة) فالتفت اليه ابو بكر قائلا: (مهلا يا عمر! الرفق هنا ابلغ).

و لا اعتقد مع ذلك ان عمر كان يجهل ضرورة الموقف، و لكني اخاله و قد تمت البيعة لأبي بكر لم يجد حاجة لكثير من هذا اللين و المداراة، و قد أخذ بموافقة الأنصار إلا القليل، و تحقق فشل سعد و انخذاله. فهو اذن يعرف موضعي اللين و الشدة. و لعله و هو رجل الساعة بعد أبي بكر أراد ان يظهر بالغلظة لينطق ابا بكر بكلمة اللين.

ص:125

7 تأثير خطب أبي بكر على المجتمعين

من المتيقن ان الرجال الذين سادوا الأمم و الجماعات فأحسنوا سيادتهم هم من ابرع الناس في علم الاجتماع و هم لا يشعرون. و إنما جبلوا على معرفة فطرية تشحذها التجارب التي تخلق في النفس الملكة على تطبيق النظريات عند الحاجة. و ابو بكر و عمر هما من اولئك الناس الذين عرفوا خواص نفسية الجماعات و كيف يمكن التأثير عليها في الوقت المناسب كما دلت الحوادث المتكررة على ذلك.

و لا شك ان مميزات الجماعة المقصودة لعلماء الاجتماع كانت متوفرة ايضا هنا أتم من توفرها في اجتماع المسجد غب موت النبي الذي أشرنا اليه سابقا: فقد كان الاجتماع حافلا التجأ فيه سعد بن عبادة أن ينيب عنه ابنه أو بعض بني عمه في إلقاء كلامه، فيرفع به صوته ليسمع المجتمعين. و قد اجتمعوا لغرض واحد حساس اعني تأمير من يخلف ذلك النبي العظيم، ليكون على رأس هذه الامة الكبيرة القوية المستجدة، و هم على ما هم عليه من الحال التي وصفناها من التوثب و الشعور بالاستحقاق و التكتم.

و أظنك عرفت في البحث الأسبق ان الاجتماع الذي يتألف على هذا النحو كيف يطلع فيه قرن العاطفة و يأزر

ص:126

رأس العقل و التفكير في المجتمعين فيصبح عرضة للتقلبات و الانقلابات الفجائية و يقوى فيه سلطان المحاكاة و التقليد الأعمى. بل تظهر عليه الأعراض المتناقضة، فبينا تجده قد يقوم بأعمال وحشية جبارة تدل على شجاعة افراده البالغة حدها تجده مرة اخرى يجبن من الصفير. و بينا تراه يأتي بأعمال صبيانية مضحكة تراه تارة اخرى يحكم التدبير و التنظيم. و ما ذلك إلا من سجية المحاكاة الموجودة في كل انسان فتسود على المجتمع عند ما يبطل حكم العقل و حينئذ يكون تابعا مسخرا لكل من يحسن تسخيره بالمؤثرات التي تهيمن على العاطفة كالمنوم تنويما مغناطيسيا.

و نحن إذ فهمنا جيدا هذه البديهيات عن روحية الجماعات، و لاحظنا توفر شروط الجماعة الاجتماعية في جماعة السقيفة، نفهم معنى تلك الأساليب التي اتبعها ابو بكر و صاحبه كما سترى للتأثير على المجتمعين يومئذ و نفهم سر تأثر جماعة الأنصار و انقلابهم الفجائي على انفسهم، فأخذ ابو بكر و عمر الأمر من أيديهم باختيارهم. على انهما في جنب قوة الأنصار و اعتزازهم بجمعهم تلك الساعة لا يعدان شيئا، و ليس من المهاجرين معهما إلا أبو عبيدة بن الجراح كما سبق و سالم مولى أبي حذيفة على رواية. فاسمع الآن الى الأساليب التي قلنا عنها:

لقد رأينا سابقا كيف حرش ابو بكر بين الأنصار، و أثار

ص:127

عواطف الأوس على الخزرج. و قد صادف منهم نفوسا متهيئة الوثبة على سعد. حتى استمالهم الى جانبه و هم يشعرون أو لا يشعرون. في حين انهم يعلمون ان الأمر إذا كان للأنصار و ان تولاه رئيس الخزرج فهو الى حيازتهم أقرب و إلى سلطانهم أدنى. و لكن للعاطفة هنا سلطانها القاهر على النفس لا يقف في وجهها أي سور محكم من النطق و التفكير.

و لنفحص الآن (خطبته) التي واجههم بها في أول الملاقاة و قال عنها عمر: (ما شيء كان زورته في الطريق إلا اتى به أو بأحسن منه) فانه ذكر فيها اولاً ما للمهاجرين من فضل و سابقة في الإسلام بأنهم أول من عبد الله في الارض و آمن بالله و بالرسول و انهم اولياؤه و عشيرته و احق اناس بهذا الأمر (أي الخلافة) من بعده. و أن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش، و انهم لا ينازعهم في ذلك إلا ظالم...! ثمّ خاطب الانصار فلم يغمط حقهم و سابقهم و جهادهم، لكن...

لكن من غير استحقاق لهذا الأمر، و إذا استحقوا شيئا فانما هي (الوزارة)... و لغيرهم... (الامارة)، فقال:

(... و أنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلكم في الدين و لا سابقتكم العظيمة في الاسلام. رضيكم الله انصارا لدينه و لرسوله و جعل اليكم هجرته، و فيكم جلة أزواجه

ص:128

و أصحابه، فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم، فنحن الأمراء و أنتم الوزراء)(1).

و في هذا البيان الشيء المدهش من اطفاء نار عواطفهم المتأججة ضد المهاجرين، و اشباع نهمة نفوسهم الفخورة المتطاولة بفضلهم، و جهادهم و نصرتهم، و تقريبها الى المهاجرين للاعتراف بفضلهم عليهم، لأنه ليس اقوى على تخدير أعصاب الجماعة الهائجة من الذهاب مع تيار روحهم المندفعين بها، فأعطى لهم ما يسألون بلسان حالهم من الاعتراف بالفضل و الجهاد و كل فخر يشعرون به متطاولين.

حقاً لقد صدق و صدقوا، فان لهم الفضل الذي لا ينكر، و لكنهم أخطئوا بزعمهم ان لهم بذلك حق الامارة، و هنا نجد أبا بكر يريد أن يحولهم عن هذا الزعم، فيحذر أن يخدش عواطفهم بما ينقص منزلتهم و يحط من مقامهم، فعدل عن التصريح بكلمة الخطأ أو ما ينسق عليها من معناها، و اتبع اسلوبا آخر من البيان و انه لمن السحر المأثور فلم يزد على كلمة: (فليس بعد المهاجرين الاولين عندنا بمنزلتكم فنحن الامراء و أنتم الوزراء). و فيها تنبيه على خطأهم من طرف خفي من دون التجاء الى الكلمة التي بها تجرح عواطفهم و تثير الحزازات مع الثناء عليهم في نفس الوقت ثمّ اثبات الوزارة لهم

ص:129


1- (1) الطبري (208:3).

و إذا أردت التدقيق في هذه الكلمة ترى الشيء الأعجب: فهو الآن يريد أن يفضل المهاجرين الأولين (الأولين بالخصوص!) عليهم، ليثبت لهم استحقاق الخلافة، و لو كان وضعهما في طرفين و فضل المهاجرين لأثار ذلك بحفيظتهم و حرش بين خصمين متطاولين من القديم، فعدل عن منطوق مقصوده و التاف اليهم من طريق تفضيل الأنصار أنفسهم على الناس و القى في الطريق كلمة (بعد المهاجرين الأولين)، فتظاهر انه يريد ان يقول: ليس أحد بمنزلة الأنصار. و أن مقصوده ليس غير، و إنما استثنى المهاجرين كأمر ثابت مقرر لا يتطرق اليه الشك و ليس محلا للنقاش لا لأنه المقصود في البيان.

هنا إذ تهدأ تلك النفوس الجامحة في الجماعة راضية بما قيل فيها وفق شعورها تتفكك أوصالها و ترجع من حيث جاءت كأنما حصل لها كل ما تصبو اليه. و هذا من انحطاط نفسية الجماعات، فلا تشعر بالنتيجة التي يراد أخذها منها و ان خالفت تفكيرها عند التأمل، لأن عادة الجماعة في الأفكار ان تقبلها جملة أو تردها جملة، و لا طاقة لها على التأمل و التفكيك بين الأفكار و لا صبر لها على التمييز.

مضافا الى ان الوعد بجعلهم الوزراء لا يفتاتون بمشورة و لا تقضي الامراء دونهم الامور يطمئن من رغباتهم و اطماعهم، و يذهب بخوفهم من الاستبداد عليهم و أخذ الثأر منهم،

ص:130

و يسدل على ما حاولوه ستارا كثيفا من النسيان. و بعبارة أصح، يأخذ أثره الوقتي و تلهو الجماعة عن صدق الوفاء و لا تحتاج الى التدليل عليه، و لا يكلف قائله إلا الوعد و بهرجة الكلام.

و هناك كلمتان أخريان في تلك العبارة التي حللناها لا يفوتنا أن نتعرف اليهما و إلى ما فيهما من معنى أخاذ.

الاولى كلمة (الأولين) فأبعدهم بها عن شعور الخصومة الموجودة للمهاجرين عامة. و المهاجرين و الأنصار حزبان متطاولان و قد كان تنافسهما أمرا واضحا للعيان في زمن الرسول و بعده حتى قال لهم النبي يوما: (ما بال دعوى اهل الجاهلية)، و ذلك عند ما قال الأنصاري: (يا للأنصار!) و قال المهاجرين: (يا للمهاجرين) فأقبل جمع من الجيشين و شهروا السلاح حتى كاد ان تكون فتنة عظيمة، في قصة مشهورة(1) فتجد ابا بكر بتخصيص المهاجرين بالأولين كيف اتقى شعور الأنصار بخصومتهم لعامة المهاجرين، و هم لا ينكرون ما للأولين من فضل و قد سبقوهم الى الاسلام و عبادة الرحمن على انه بهذا التخصيص قرب نفسه و صاحبيه الى هذا الأمر.

الثانية كلمة (عندنا) فانظر الى ما فيها من قوة

ص:131


1- (1) راجع البخاري (165:2 و 126:3).

سحرية إذ رفع بها عن مقام القرن المنازع للأنصار، و أخرجها عن الحزبين: الأنصار و المهاجرين، و نصب نفسه بها كحكم بينهما يفضل هذا على ذاك ثمّ يختار لهم ما فيه الصلاح. و هذا له الأثر البليغ في اخماد نار عاطفة التعصب عليه، و يعطيه ايضا منزلة في نفوسهم هي أعلى و أرفع تجعل له نفوذ الحكم المستشار و الزعيم للفريقين و على العكس فيما لو نصب نفسه مزاحما لهم مطالبا بحق يعود له و لحزبه. و شأن الجماهير انها لا تنتظر الدليل على الدعاوي البراقة المبهرجة. لأن التصوير و لو بالألفاظ له الحكم الفصل على نفسياتها.

فارجع الآن الى تلك العبارة و دققها! و هي جعجعة تسحن الجماعات من غير طحن، و إلا فمن المقصود بضمير (عندنا) يتكلم عنه ابو بكر غير جماعة المهاجرين و هو منهم، و على تقديره فمن الذي خوله ان يمثل المهاجرين بشخصه ؟... و لكنه جرد من نفسه (و معه غيره) حكما مفضلا، عنده المهاجرين أفضل من الأنصار و ليس بمنزلة الأنصار أحد بعدهم.

فلا نعجب بعد عرفاننا هذه الاساليب التي لها القوة السحرية على الجماعات ان يأخذ ابو بكر بناصية الحال، و يستهوي المجتمعين لينظروا اليه بقلوبهم لا بعقولهم، فيصرفهم كيف يريد. فانتظر نتيجة تأثيره عليهم.

ص:132

8 نقاش المهاجرين و الأنصار

قرأنا في الفصل السابق خطبة ابي بكر و ما فيها من الأساليب فلنر مدى تأثيرها على المجتمعين و كيف كانت النتيجة ؟:

لم يردّ عليه إلا الحباب بن المنذر في كلامه المتقدم في البحث رقم (2) و قد رأيناه لم يأت بشيء و كان اول منخذل امام المهاجرين و إن ظهر بالقوة التي تلاشت في آخر كلامه كما شرحناه، ففتح على نفسه باب الحجة الظاهرة إذ قال:

(فمنكم أمير و منهم أمير)، على انه ظهر جليا بمظهر المتعصب المغالب، فاستهل كلامه بقوله: (املكوا عليكم أمركم....) و هذا مردود عليه معكوس الاثر، و سيأتي.

و هنا. جاء دور عمر بن الخطاب فقال: (هيهات! لا يجتمع اثنان في قرن. و الله لا ترضى العرب ان يؤمروكم و نبيها من غيركم، و لكن العرب لا تمتنع ان تولي أمرها من كانت النبوة فيهم و ولي امورهم منهم. و لنا بذلك من أبى من العرب الحجة الظاهرة و السلطان المبين. من ذا ينازعنا سلطان محمد و إمارته و نحن اولياؤه و عشيرته إلا مدل بباطل أو متجانف لا ثمّ أو متورط في هلكة).

فتجد كلام عمر هذا و ان كان هادئاً لا يبلغ كلام ابي

ص:133

بكر، إذ ظهر بمظهر الخصم المدعي بحق الامارة. و كأن ابا بكر فسح له المجال لأن يكون هو المدعي العام عن المهاجرين بعد ان نصب نفسه كحكم للمتنازعين. كما نلاحظ ايضا انه لم يشر الى قضية النص على قريش أو على خصوص واحد منهم، و إنما القضية قضية رضى العرب و ابائها و ان المهاجرين اولياء محمد و عشيرته. و لذا قال علي عليه السلام بعد ذلك: (احتجوا بالشجرة و اضاعوا الثمرة).

فقام الحباب بعد عمر فقال: (يا معشر الانصار املكوا عليكم امركم و لا تسمعوا مقالة هذا و اصحابه، فيذهبوا بنصيبكم من هذا الامر، فان ابوا عليكم ما سألتموه فاجلوهم عن هذه البلاد، و تولوا عليهم هذه الامور، فأنتم و الله احق بهذا الامر منهم فانه بأسيافكم دان لهذا الدين من دان ممن لم يكن يدين. انا جذيلها المحك و عذيقها المرجب. انا شبل في عرينة الأسد. اما و الله لو شئتم لنعيدنها جذعة. و الله لا يرد أحد على ما أقول إلا حطمت أنفه بالسيف).

و هذه عصبية جاهلية و سوء قصد ظاهر. فقال له عمر: (إذاً يقتلك الله) فانتحى به الناحية الدينية إذ نسب القتل الى الله تعالى و لم يقل يقتلك الناس. و هذا اسلوب من الرد فيه التهديد و التنديد على تلك دعوى الجاهلية منه. فقال الحباب:

(بل إياك يقتل).

ص:134

و هذه مهاترة يلتجأ اليها ضعف الحجة و شدة الغضب، فترى الحباب في كل ذلك كان قلق الوضين يرسل من غير سدد، و تتضوع من فمه رائحة نفسه، و لا يعرف ان يسر حسوا في ارتغاء. فاقتحم في الميدان بجنان الفارس المدلة المدل بقوته و نفسه، و من سيفه و لسانه تنطف دعوى الجاهلية الاولى البشعة في الاسلام، تأباها عليه الصبغة الدينية المصطبغ بها المجتمع يومئذ، و هو في الدرجة الاولى متأثر بالإسلام و تعاليمه و للشعور الديني الأول في تأثر الجماعات الدينية و انفعالاتها، فما لم يستخدم هذا الشعور لا يرجى ان يحدث في الجماعة التعصب الذي يجعل الانسان يرى سعادته في التضحية بنفسه و بكل عزيز فداء للمقصد الذي يوجه اليه.

فالحباب ان تولى الدفاع عن سعد و قومه نصرة لهم فهو الذي أفسد عليهم أمرهم اكثر من أي شخص آخر من حيث يظن الصلاح و بدلا من ان يقود المجتمعين للغرض الذي اجتمعوا لأجله قد خسرهم و اعطى القيادة من حيث لا يشعر لغيره الذي عرف كيف تؤكل الكتف في استمالتهم و استعمال نفوذه فيهم. و كان اول ظهور هذه الخسارة قيام ابن عمه بشير بن سعد الخزرجي، فنقض على الخزرج ما اجمعوا عليه فقال:

(يا معشر الأنصار انا و الله لئن كنا اولى فضيلة في جهاد

ص:135

المشركين و سابقة في هذا الدين ما اردنا إلا رضى ربنا و نبينا و الكدح لأنفسنا، فما ينبغي لنا ان نستطيل على الناس بذلك و لا نبتغي من الدنيا عرضا فان الله ولي المنة علينا بذلك. ألا إن محمداً من قريش و قومه أحق به و أولى.

و ايم الله لا يراني الله انازعهم هذا الأمر ابداً فاتقوا الله و لا تخالفوهم و لا تنازعوهم).

انظر الى الشعور الديني كيف أخذ بأطراف كرم هذا الرجل، متأثراً بدعوة ابي بكر و صاحبه، خارجا على قومه بل على نفسه، و كان بعد ذلك اول مبايع من القوم. و لا اعتقد ان ذلك كله عن نفاسة لسعد كما رماه به الحباب لما مد يده للبيعة فناداه: (يا بشير بن سعد عققت عقاق! ما أحوجك الى ما صنعت ؟ أنفست على ابن عمك الامارة!). فقال بشير:

(لا و الله و لكن كرهت ان انازع قوما حقاً جعله الله لهم).

بل اعتقد انه كان صادقا بعض الصدق أو كله فيما ادعاه عن نفسه فان سير الحادثة كما وصفناه يدل دلالة واضحة على تأثر الجماعة بكلام ابي بكر و انقيادها الى دعوته و لا سيما بعد ما صدر من الحباب ما يبعد النفوس عن دعوة قومه. نعم! و إنما كان مبدأ ظهور ذلك التأثر في بشير بن سعد، فيصح ان نجعله ممثلاً لشعور قومه تلك الساعة.

ص:136

9 المهاجرون يربحون الموقف

إن الحقيقة هي التي وصفناها لك. إن القوم قد تكهربوا بدعوة المهاجرين و تهيئوا لبيعة واحد منهم بالرغم من وجود التنافس بين الحزبين كما أشرنا اليه و صرح به ابو بكر في خطبته التي تقدمت في البحث (3) إذ قال: (فقد جلس بين لحي اسد يقضمه المهاجري و يجرحه الأنصاري) و زاد في تهيئهم هذا منافسة الأوس للخزرج و حسدهم لسعد. و طبيعي ان تنافس القريب اكثر أثراً من منافسة البعيد مهما كانت.

و لذلك نرى ابا بكر لما سمع مقالة بشير لم يتأخر عن تقرير النتيجة من هذا النقاش، فلا بد انه علم بانقلاب الجمع تأثراً بدعوتهم كيف و هو قد هيمن عليهم و نومهم تنويماً مغناطيسيا، فيعرف كيف سخره و قاده فقدم للبيعة أحد الرجلين اللذين معه: عمر بن الخطاب و ابي عبيدة الجراح، و قال: (قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فأيهما شئتم فبايعوا).

و قد جرى في هذا الكلام هنا على نفس تلك الطريقة التي سلكها في خطبته المتقدمة في البحث (7) من ترفعه عن مقام المعارضة، و تجريده من نفسه حكما للحزبين يختار لهما ما هو الصالح باجتهاده، فاختار لهم احد هذين الرجلين.

و لكن الجمهور كما قلنا ضعيف الرأي و الاختيار،

ص:137

لا يعرف ان يختار و لا يعرف ان يعين ما يختار، و يبقى في مثل هذا الحال منتظراً اشارة من سخره و نومه التنويم المغناطيسي أو لأي شخص آخر يفاجئه بارادة قوية حازمة، فلو ان احداً من الحاضرين قام فبايع احداً منهما عمر أو أبا عبيدة لبويع و انتهى كل شيء. و لو ان ابا بكر عين واحداً لما تأخروا عن بيعته، و لكن هذا الترديد بين الرجلين يظهر انه كان مقصوداً تمهيداً لإرجاع الأمر اليه، و لعله عن تفاهم سابق و اتفاق بين الثلاثة ليتعاقبوا هذا الأمر. و لذلك تمنى عمر عند الموت ان يكون ابو عبيدة حيا ليعهد اليه.

اما هما فقد أبيا عليه و قال عمر: (لا و الله لا نتولى الأمر عليك ابسط يدك نبايعك!) قال هذا القول و لم يترك فرصة تستغل للرد و الحجاج، فحقق القول بالعمل، و أقدم بارادة جازمة لا تعرف التردد يتطلبها الموقف الدقيق، فذهب ليبايع ابا بكر، و لم يتمنع ابو بكر فمد يده، و لكن بشير بن سعد هذا الذي تقدمت خطبته سابق عمر بن الخطاب اليها فوضع يده بين يديهما مبايعا، كأنما اراد بذلك ان يحرز الفضيلة في السبق أو ليبرهن على اخلاصه للمهاجرين، بل هذا من اندفاعات الجمهور المدهشة بنتيجة انفعالهم بالمؤثرات التي تطرأ عليهم.

و هو من ابلغ الشواهد على ما قلنا من تكهرب نفوس جمهور السقيفة بتلك المؤثرات التي استعملها ابو بكر بتلك

ص:138

الحذاقة و اللباقة، فان لبعض الألفاظ و الجمل سلطاناً لا يضعفه العقل و لا يؤثر فيه الدليل. الفاظ و جمل يفوه بها الخطيب خاشعاً امام الجمهور، فلا تكاد تخرج من فيه حتى تعلو الوجوه هيبتها و تعنو القلوب لها احتراما كأن فيها قوة إلهية أو موجة سحرية، فتثير تارة في النفوس أشد الصواعق من الغضب، و تسكنها تارة إذا جاشت فتمزق اشلاءها و تقودها الى حيث يريد المتكلم راضية قانعة(1).

و يظهر ان عمر ايضا أدرك حقيقة الموقف و كيف قد ربحه المهاجرين فلم يبق إلا أن يصدر أحدهم. الحكم الفاصل في تعيين من يبايع منهم، فأقدم على بيعة ابي بكر كما رأينا ه غير متردد و لا متخوف و لا مستشير، و مد يده مسرعا. و إلا فان الأمر أعظم من أن يتم بهذه السرعة و السهولة التي كانت: باقدام شخص واحد يعقد البيعة لشخص آخر الظاهر ظهور الشمس انه صاحبه المنحاز اليه في وقت هو احد ثلاثة أو أربعة من الحزب المعارض لقوم في عقر دارهم معتزين بقوتهم يريدون أن يملكوا أعظم سلطان لأعظم امة، و هو لم يأخذ رأيهم و تصديقهم على ما أراد(2)

______________________________

ص:139


1- (1) راجع كتاب (روح الاجتماع) المعرب لغستاف لبون ص 113.
2- (2) على انه قال بعد ذلك في خلافته: (فمن بايع اميراً من غير مشورة المسلمين فلا بيعة له و لا بيعة للذي بايعه تغرة يقتلا) راجع كنز العمال الجزء الثالث رقم الحديث 2323.

و إنما اقدم كأن الأمر لا يدور إلا بينه و بين ابي بكر كأمر ثابت لا شك فيه. و هذه مغامرة خطيرة لها ما بعدها، و لم تكن منه إلا لأنه أدرك نضج القوم و تهيئهم لبيعة أحد المهاجرين.

و لذلك لم نجد معارضة من القوم، بل الأوس ذهبت جميعها مسرعة للبيعة من غير تردد و لا تلكؤ يقدمها أسيد بن حضير بعد ان قالت ما قالت كما تقدم في البحث (3). ثمّ تبعهم جميع الأنصار ما عدا سعداً و من كان شديد التعصب له كإبنه قيس و الحباب. و لا شك ان للعدوى أثرها الفعال في الجماعات فتسري سريان النار في الهشيم، او تيار الكهرباء في سلكه، فقد وجدنا كيف كان هلعهم في تزاحمهم على البيعة و تسابقهم اليها، كأنما تفوت دونها الفرصة، فأقبلوا من كل جانب يبايعون ابا بكر، حتى ازدحموا على سعد بن عبادة السيد المطاع في الخزرج بل الأنصار كلهم، هذا الزعيم الذي كان قبل ساعة مرشحا للبيعة خليفة للنبي و أميراً على جميع المسلمين، و كادوا يطئونه فيقتلونه و هو مزمل وجع، فحمل الى داره صفر اليدين.

و هذا ألطف شيء في تناقض أفعال الجمهور و عدم ثباته و تطرفه في اعماله و آرائه و شدة نزقه، فانه لا يعرف الحلم و الصبر و لا قمع النفس عن الاسترسال في نزعاتها، و لا المحافظة على الآداب العامة المصطلح عليها، و هو مع ذلك كثير النسيان لأحواله السابقة.

ص:140

أما الحباب و لا ينبغي أن ننساه لما رأى اقبال الناس على البيعة انتضى سيفه، فحامله عمر فضرب يده، فندر السيف، فأخذ منه. فجعل يضرب بثوبه وجوههم حتى فرغوا من البيعة، و لكن من المعلوم أنه لم يصنع شيئا و لم يستطيع رد جماح أي شخص من قومه حتى تمت البيعة مرغما، و صدق فيه و في قومه المثل المشهور (ربّ ساعٍ لقاعد). وليتني أراه في تلك الساعة كيف كان حاله فتزبد شدقاه و يتميز غيظا و يعض على أنامله و قد ملكت حواسه سورة الغضب، و ما ذا كان يقول لقومه و لنفسه بعد ذلك الذي مضى منه من التهديد و الوعيد ثمّ ذهب هباء و خار ضعفا؟ لا شك انه لو كان من ابناء هذه المدينة الحديثة متشبعا بعاداتها، لكان هو على مثل هذه الحال ضحية الانتحار ليتخلص من شنارها و يستر عارها.

10 - النتيجة

نستنتج من سير الحادثة ان طريقة بيعة ابي بكر لم تكن طريقة اختيار بالمعنى الصحيح(1) و يحقق معنى أنها كانت (فلتة) وقى الله شرها على حد تعبير عمر بن الخطاب.

ص:141


1- (1) فنصدق كلمة الاستاذ محمد فريد أبي حديد في مقاله (نظرة في نظام بيعة الخلفاء) المنشور في مجلة الرسالة المصرية العدد 10.

و قد رأينا السرعة التي جرت بالحادث لم تبق مجالا للمفكر ان يشحذ فكره و لا للمعارض ان يقيم حجته، فكانت مفاجأة في مفاجأة. مع ان العاطفة العدائية عند الأوس المهيجة من ابي بكر كان لها الأثر الفعال في تقريب النتيجة، و ساعدها بل اشعل أوارها ان المجتمعين انطبعت فيهم اوصاف الجماعة الاجتماعية، مما يذهب عنهم صحة الاختيار و الحكم.

فلا بدع إذا لم يثق الباحث المفكر باختيار جماعة السقيفة، و لا يغتر به دليلا على صحة هذه الطريقة من البيعة في الاسلام. و قد أشرنا في الفصل الأول الى ان عمر نفسه قال عنها: (فمن دعا الى مثلها فهو الذي لا بيعة له و لا لمن بايعه).

و لا غرابة ايضا إذا لم يدافع احد عن النص على علي بن ابي طالب، و قد اندفع المجتمعون بتيار جارف لا يقف في سبيله شيء، و نحن نعرف رأي المهيمنين على الاجتماع في علي، و هم يبعدون ان يتم له شيء من ذلك. أ فتراهم يدعون اليه في هذا المجتمع الذي اسس على الأعراض عن النص فيه، و إذا قال بعد ذلك بعض الأنصار أو كلهم (لا نبايع إلا عليا) كما سبق فقد قلنا ان ذلك بعد خراب البصرة، فان هذا الجمهور اصبح لا يملك اختياره و تفكيره و شعوره بواجبه الديني لما قلناه من تكهربه بتيار تلك القوة السحرية

ص:142

قوة الاجتماع التي تجعل اعماله اعمالاً لا شعورية، على ان اساس الاجتماع ارتكز على طمع الأنصار من جهة تخوفهم من جهة اخرى (على ما شرحناه فيما تقدم). و هذان لم يتركاهم يفكرون في واجبهم الديني فبعد أن افحموا و غلبوا و اندفعوا مع الغالبين، و تلك هي فطرة البشر.

و يشهد على ما نحسه من الضعف الديني في تلك الأحكام العاجلة و القرارات الخاطفة في اجتماع السقيفة، انه مما تقرر في تلك النهزة أمران عامان:

1 ان الأنصار لا حق لهم في هذا الأمر.

2 انهم الوزراء لمن كانت له الامارة.

مع ان الأول شك فيه ابو بكر نفسه بعد ذلك إذ تمنى فيما تمنى لو سأل النبي عنه، و الثاني هذا المنصب المزعوم وزارة الخليفة لم يعط لأحد منهم لا في عهد ابي بكر و لا بعده، بل هذا المنصب لم يحدث لأحد إلا في عهد العباسيين.

و بهذه النتيجة التي حصلنا عليها من سير حوادث السقيفة و ملابساتها يسهل علينا ان نفسر بها الآية الكريمة (أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ ...) . فان الاجتماع كان على كل حال انقلابا على الأعقاب حتى لو لم نؤمن بالنص من قبل النبي صلى الله عليه و آله و سلم على من سيكون خليفة من بعده، لأن الاجتماع كما قلنا من اصله كان افتياتاً على المسلمين و لم

ص:143

يكن مستندا الى قاعدة اسلامية أو تصريح من الرسول. و كذلك ما قرره الاجتماع لم يكن إلا قراراً خاطفا تحكمت فيه العواطف في المبدأ و المنتهى، و ليس فيه مجال الرجوع الى النص. و إلى هنا نستطيع ان نرجع الى ما قلناه في التمهيد انه كيف تفسر الآية بحوادث السقيفة و أرجو من القارئ ان يرجع من جديد الى بحث السقيفة ليأخذ بأطراف الموضوع على ضوء هذه النتيجة.

و من نفس الحادثة نستطيع ايضا ان نؤيد النص على الامام علي عليه السلام، لأن ما ورد فيه من تلك النصوص لو لم تكن لتعيينه خليفة و كانت لمجرد الثناء و بيان فضله و لم يكن الاجتماع لاستغلال الفرصة لمخالفة النص و كان اجتماعا طبيعيا شرعيا لو لم يكن كل ذلك لوجب أن يكون هذا الرجل الذي هو من النبي بمنزلة هارون من موسى في مقدمة المجتمعين و على رأسهم و معه أهل بيته و لما كان ينعقد الاجتماع و لا يقرر فيه شيء من دون مشورته و موافقته و لكن كما سبق كل ذلك لم يقع. بل الحادثة من مبدأها الى منتهاها اخذت على أن تقع على غفلة منه و من بني هاشم الى آخر لحظة منها و اهمل شأنها و كأنهم لم يكونوا من المسلمين أو لم يكونوا من الحاضرين إلا بعد أن تم كل شيء.

ص:144

الفصل الرابع: عَلي مَع الخلفاء..

اشارة

ص:145

(1 - الافتيات على الامام)

لا يشك التأريخ ان علياً عليه السلام كما قدمنا لم يكن على علم من اجتماع الأنصار في سقيفتهم، حتى بعد ذهاب الثلاثة من حزب المهاجرين متكتمين، و هم ابو بكر و عمر إذ ذهبا يتقاودان على حد تعبير الطبري في تاريخه و تبعهما ابو عبيدة. بل لم يعلم الامام بما تم في السقيفة إلا بعد خروجهم الى المسجد في ضجيجهم (و في مقدمتهم عمر بن الخطاب و بيده عسيب نخل و هو محتجز يحث الناس على البيعة)، فبلغه تكبيرهم، و هو مشغول لا يزال في جهاز النبي. و لم يخرج اليهم إلا في اليوم الثاني.

و اول شيء يبدو دليلا على افتيات القوم عليه بالمشورة، و هم يشعرون بأنهم في مقام الخصومية له انهم لم يخبروه بحادث اجتماع الأنصار عند ما أسر عمر الى ابي بكر و هو في بيت الرسول بالخبر، و هما ايضا لم يخبرا احدا غير ابي عبيدة الذي تبعهما وحده حيث الاجتماع السري، مع ان مثل الامام اولى الناس بتدارك هذا الموقف الدقيق ان كان في اجتماع الأنصار خطر على الاسلام أو فتنة، و الامور جارية على ظواهرها الطبيعية بين الامام و بين هذه الجماعة. ثمّ الأغرب انهم لم يدعوه للمشاورة بل حتى للبيعة قبل أن يتم كل شيء ينتظر لبيعة ابي بكر. و لا ينتهي التساؤل عما إذا

ص:146

ينبغي ان يرسلوا اليه من يخبره بالأمر على الأقل! اما كانوا على حسن نية معه او ثقة بموافقته لهم و رضاه ؟

نعم! لقد وجدناهم قد قضوا أمرهم بينهم، ودعوا الناس الى البيعة اشتاتا و مجتمعين، مستشعرين الكفاح و الخصومة بل الخوف امام حزب علي. و لذا انتهزوا فرصة انشغاله و انشغال اصحابه و بني هاشم بجهاز سيدهم. و يشهد لهذا قول الطبري في تأريخه: (و جاءت اسلم فبايعت فقوي بهم جانب أبي بكر و بايعه الناس)، تأمل كلمة (فقوي بهم جانب أبي بكر)، لتفهم ان هناك جانبين متخاصمين يقوى احدهما و يضعف الآخر، و ليس المراد بالجانب الآخر الأنصار لأنهم قد بايعوا في السقيفة و لم يبق إلا سعد بن عبادة و ابنه، و ليس له كبير اهتمام و قد اهملت بيعته حسب اشارة بعض ابناء عمه.

أما علي فقد قلنا انه جاءه الخبر عفواً لما سمع تكبير القوم في المسجد و هو حول النبي مشغول بجهازه. و لما بلغته حجتهم على الأنصار لم يكتم نقدها، فقال كما في نهج البلاغة: (احتجوا بالشجرة و أضاعوا الثمرة).

2 رأيه في بيعة السقيفة

قلنا في آخر الفصل الأول انه لما ذا لم يطالب الامام

ص:147

صراحة بالنص عليه بالخلافة، و هنا نقول: انه مع ذلك لم يكتم رأيه في بيعة السقيفة، فان التأريخ لا يشك، عند من ينظر اليه نظرة فحص و تمحيص، أنه كان ناقما على ما اسرعوا اليه من بيعة ابي بكر، و كان يعدها غضبا لحقه، فلم يلاق الحادث إلا بالاستغراب و الاستنكار كما يبدو من كلمته السابقة التي قرأتها أخيرا، و من كلمات كثيرة منبثة في نهج البلاغة و غيره و أهمها الخطبة الشقشقية. و أقل ما يقال في انكاره تخلفه عن البيعة حتى ماتت فاطمة الزهراء عليها السلام.

على ان من الظلم نقول: ان الامام تخلف عن البيعة، و هو صاحب الأمر الذي يجب أن يؤتى اليه، و إنما الحق أن نقول: إن الناس هم الذين تخلفوا عنه.

و أول اعلان له عن رأيه كان عند خروجه في اليوم الثاني من السقيفة بعد البيعة العامة كما في مروج الذهب فقال لأبي بكر: (أفسدت علينا أمرنا و لم تستشر و لم ترع لنا حقا). و هذا القول صرخة في وجه الاستئثار عليه، و تصريح بعدم الرضى بما تم، و ليس علي ممن يداجي أو يخاتل و لا ممن تأخذه في الله لومة لائم. و لذلك هم كانوا يفرون من التحرش به قبل تمام البيعة خوف اعلان خصومتهم، فنرى ابا بكر في جواب كلامه السابق يعترف له و يقول: (بلى! و لكن خشيت الفتنة).

و يسكت التأريخ عن ذكر جواب الامام، أ فتراه اقتنع

ص:148

بكلمة ابي بكر أو أغضى عن جوابها أو التأريخ أهمل الجواب. و لكن عليا نفسه يقول من خطبة له عن هذه الحادثة: (فلما قرعته بالحجة في الملأ الحاضرين هب كأنه لا يدري ما يجيبني به).

و لئن فرض انه سكت هذه المرة فانه لم يترك الدعوة الى نفسه و استنكار حادث السقيفة، و ان بايع بعد ذلك فلم يبايع عن طيبة خاطر و اطمئنان الى الوضع، و هو الذي يقول بالصراحة في الشقشقية: (فصبرت و في العين قذى و في الحلق شجا أرى تراثي نهبا).

ثمّ التأريخ يحدثنا انه لم يبايع إلا بعد أن صرفت عنه وجوه الناس بموت فاطمة الزهراء. و كم تذمر و تظلم من دفعه عن حقه مثل قوله من كلام له في النهج: (فوالله ما زلت مدفوعا عن حقي مستأثرا علي منذ قبض نبيه صلى الله عليه و آله و سلم حتى يوم الناس هذا) و يشير بهذا اليوم الى عصره في خلافته.

***

هذا هو الصريح الواضح من رأي الامام في بيعة السقيفة و ما وقع بعدها. و يكفي النظر في الشقشقية وحدها، غير ان التأريخ قد يحاول ان يكتم هذه الصراحة، لأنه لا ينكر على كل حال ان علياً مع الحق و الحق مع علي، فلا

ص:149

يمكنه ان يتهمه بالحيدة عن طريق الحق إذا اعترف بهذا الرأي منه، و هو أعني التأريخ يريد ان يصحح ما وقع يوم السقيفة الذي لا يصح من دون رضى صاحب الحق و موافقته، فيركن الى المداورة.

و لكن في الحقيقة لا بد ان تتم على نفسها، فانه جاء في صحيحي البخاري و مسلم عدا كتب التأريخ و السير ما لا يخرج عن هذا القول: (ان وجوه الناس كانت اليه و فاطمة باقية فلما ماتت انصرفت وجوه الناس عنه و خرج من بيته فبايع ابا بكر و كانت مدة بقائها بعد أبيها ستة أشهر).

و جاء ما هو أصرح من كل ذلك في جوابه لكتاب لمعاوية، إذ يتهمه معاوية بالبغي على الخلفاء و الابطاء عنهم و كراهية أمرهم، فيقول الامام منكراً لبعض التهم و معترفا بالبعض الآخر: (فأما البغي فمعاذ الله أن يكون و أما الابطاء و الكراهية لأمرهم فلست اعتذر الى الناس في ذلك)(1).

______________________________

3 الموقف الدقيق

يظهر للمتتبع ان الامام كان يرى عطفاً على رأيه السابق وجوب مناهضة القوم حتى يأخذ حقه منهم.

ص:150


1- (1) راجع شرح النهج (409:3).

و يستشعر ذلك من سيرته معهم و من كثير من أقواله التي منها قوله في الشقشقية عن حربه لأهل الجمل و معاوية:

(أما و الذي فلق الحبة و برأ النسمة لو لا حضور الحاضر و قيام الحجة بوجود الناصر، و ما أخذ الله على العلماء ألا يقاروا على كظة ظالم و لا سغب مظلوم؛ لألقيت حبلها على غاربها و لسقيت أخرها بكأس أولها).

فانظر الى موقع كلمته: (لسقيت آخرها بكأس أولها)، فانه يريد أن يقول: ان زهدي بالدنيا يدعو الى أن أترك حقي في المرة الأخيرة كما تركته في المرة الاولى، و لكن الفرق كبير بين الحالين: ففي الاولى لم تقم علي الحجة في القتال لفقدان الناصر دون هذه المرة، فلا يسعني ان اعرض عنها هذه المرة و اسقيها بالكأس الذي سقيت به اولها يوم طويت عنها كشحا و صبرت على القذى.

و أصرح من ذلك ما كان يقوله: (لو وجدت اربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم) و هذا ما عده معاوية من ذنوبه، و ذلك فيما كتب اليه من قوله: (فمهما نسيت فلا أنسى قولك لأبي سفيان لما حركك و هيجك لو وجدت اربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم، فما يوم المسلمين منك بواحد)، و لم ينكر امير المؤمنين عليه السلام هذا القول في جوابه على هذا الكتاب.

و في التاريخ مقتطفات تؤيد ذلك، كما في تأريخ

ص:151

اليعقوبي: إن اصحابه الذين كانوا يجتمعون اليه طالبوه بمناهضة القوم و تعهدوا بالنصرة، و كأنهم ظنوا ان قد بلغوا العدد المطلوب (40 ذوي عزم) فقال لهم: اغدوا على هذا محلقي الرءوس، و هو إنما يريد ان يريهم انهم لم يبلغوا المنزلة التي تقام بها الحجة، فلم يعد عليه إلا ثلاثة نفر.

و إذا كان هذا رأيه في المناهضة للقوم يبلغ يا سبحان الله هذه الشدة و الصرامة فما ذا تراه صانعا؟ لنتركه الآن يحدثنا هو عن نفسه و موقفه الدقيق، إذ يقول من الشقشقية: (و طفقت ارتئي بين أن أصول بيد جذاء أو اصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير و يشيب فيها الصغير و يكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه). ثمّ يبين لنا كيف ان يده جذاء من خطبة ثانية (نظرت فاذا ليس لي معين إلا أهل بيتي فضننت بهم على الموت).

فهو إذن بين امرين لا ثالث لهما: اما المغامرة بما عنده من اهل بيته، و أما الرضوخ للأمر الواقع، اما الحالة الاولى ففيها خطر على الاسلام لا يتدارك فإنه إذا قتل هو و آل بيته ارتفع الثقل الثاني من الأرض (عترة الرسول) و افترق عن عديله القرآن الكريم و هناك الضلالة التي لا هداية معها، و قد قال النبي: (لا تضلوا ما ان تمسكتم بهما ابداً) أو (لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) و أما الحالة الثانية فان في الصبر على هضم حقوقه اضاعة لوصية النبي، و تعطيل لنصبه اياه اماماً و خليفة من بعده.

ص:152

فأي الأمرين هو اولى بالرعاية لحفظ بيضة الاسلام ؟

و أنى لنا ان نتحكم في ترجيح أحد الأمرين، و نعرف الامام واجبه في هذا الأمر؟!

و ما بالنا نذهب بعيداً، فانا نعرف ما صنع الامام، انه استسلم للقوم و بايع كما بايع الناس بالأخير، و قد قرر الرأي الأخير بعد ان طفق يرتئي بين ان يصول بيد جذاء أو يصبر على طخية عمياء عند ما قال: (فرأيت الصبر على هاتا احجى) فسدل دونها حينئذ ثوباً و طوى عنها كشحاً.

على انه لا يضيع وجه الرأي على الناظر في هذا الأمر ليعرف كيف كان الصبر أحجى، لأنه لو نهض في وجه القوم مع قلة الناصر و حسد العرب له وترات قريش عنده، لكان المغلوب على أمره، و عندئذ يصبح نسياً منسيا، و لربما لا يحفظه التأريخ إلا باغياً بغى على الدين كأولئك اصحاب الردة، فقتل (بسيف الاسلام) و اضيع مع ذلك النص على خلافته. و قد رأيناه مع بقائه حيا و انتهاء الأمر اليه بعد ذلك كيف غمط حقه و أعلن سبه و بقي الشك فيه الى يوم الناس هذا

و قد أشار الى ذلك في كلامه لعمه العباس و ابي سفيان لما طلبا بيعته، إذ قال لهما: (أفلح من نهض بجناح أو استسلم فأراح.. ثمّ قال: و مجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه).

ص:153

حقا، لا ينهض في هذا الموقف إلا من لا يبالي إلا بالحرص على الملك و مطاولة الناس مهما كانت النتائج على الدين و الصالح العام، و أمير المؤمنين أحرص على الاسلام من ان يغرر به لأمر يقول عنه: (انه ماء آجن و لقمة يغص بها آكلها). و لا يساوي عنده نعله التي لا تسوى درهما، إلا إذا كان يقيم حقا أو يدحض باطلا. و لذلك، ينصح الناس في كلامه الذي أشرنا اليه مع العباس و ابي سفيان، و هما يحثانه على قبول البيعة، فيقول: (شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة و عرجوا عن طريق المناظرة، وضعوا عن تيجان المفاخرة).

و كأنه في كلامه هذا يحس منهما إذ دعواه لهذا الأمر الآنفة من الخضوع لأخي تيم، و (تيم) على حد تعبير ابي سفيان أقل حي في قريش، فهما ينظران الى لأمر من ناحيته القبلية، و العصبية الجاهلية. أما فقهه هو فكما قال من كتاب له في جواب معاوية في خصوص هذا الأمر: (و ما على المسلم من غضاضة في ان يكون مظلوما ما لم يكن شاكا في دينه)، و هو غير فقههما فان العباس مشى اليه ابو بكر و جماعة ليلا، لما عرفوا موقفه، فأطمع في الخلافة له و لولده، بعد نقاش انتهى بالاعراض عن النزاع. و أما ابو سفيان فقد نقل ابن ابي الحديد (30:1) و غيره ان عمر كلم ابا بكر فقال إن ابا سفيان قد قدم و انا لا نأمن شره، فدفع له ما في يده فتركه، و كان أبو سفيان قد بعث قبل وفاة النبي على الصدقات.

ص:154

ثمّ لنفترض ثانياً أنه ما كان ليقتل لو ناهض القوم و لكن مع ذلك فالصبر على ترك حقه كان أحجى و أجدر لأن منازعتهم كانت لا شك تجر إلى الفتنة و تبعث على الفرقة، و الاسلام بعد لم يتغلغل في نفوس العرب و لم يضرب جرانه في الجزيرة، و قد اشرأبّت الاعناق للانتقاض عليه.

فهو إذ وطن نفسه على ما هو أمر من طعم العلقم كما يقول بالتنازل عن حقه، كان يخاف و يخشى، و لكن لا على الحياة و هو هو ابن أبي طالب في شجاعته و استهانته بالحياة، الذي كان يقول: و الله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها بل كان خوفه على الدين من التصدع و على جامعته من التفرق، فسالم إبقاءً لكلمة الاسلام و اتقاء للخلاف و الشقاق في صفوف المسلمين فيرتدوا جميعاً على أعقابهم، و المفروض ليس عنده القوة الكافية لاظهار كلمة الحق و إقامة السلطان.

و هو يشير إلى هذا الخوف فيما يقول في هذا الصدد من خطبته في النهج: (ما شككت في الحق مذ رأيته. لم يوجس موسى عليه السلام خيفة على نفسه. أشفق من غلبة الجهال و دول الضلال. اليوم توافقنا على سبيل الحق و الباطل من وثق بماء لم يظمأ). فهو في هذه الكلمة يتأسى بموسى عليه السلام إذ رموه بالخيفة و لكنّ فرقاً بين الخوف على الحياة و الخوف من غلبة الباطل: و هذا أفضل تفسير لقوله تعالى: (فأوجس في نفسه خيفة) و فيه تبرئة لنبي الله من الوهن و الشك و ما أدق

ص:155

معنى كلمة (من وثق بماء لم يظمأ) بعد تقديم قوله: (ما شككت في الحق مذ رأيته) و قد رأى الحق و هو ابن عشر سنين!.

و يوضح لنا ذلك جوابه المشهور لأبي سفيان لما جاءه مستفزاً على أبي بكر و هو يقول: (فوالله لئن شئت لأملؤها خيلاً و رجلاً) و أنت تعرف ما قال له الامام أنه قال: (أنك و الله ما أردت بهذا إلا الفتنة و أنك و الله طالما بغيت للاسلام شراً لا حاجة لنا في نصيحتك) ما أعظم هذه الصرامة و الصراحة منه لمن يريد أن يبذل نفسه و قومه في ظاهر الحال ناصراً و معيناً على خصومه و هو يشكو فقد الناصر. نعم أن الدين الذي بذل له مهجته كان عنده فوق جميع للاعتبارات، و إن استهان به غيره، و قد رأينا أبا سفيان كيف أسرع في الرجوع عن وعده و وعيده لما تركوا له ما في يده. و أمير المؤمنين قد صرح بغرضه هذا بعد ذلك في جوابه الذي أشرنا إليه عن كتاب معاوية كما في النهج و العقد الفريد إذ قال عن إبائه على أبي سفيان: (حتى كنت أنا الذي أبيت لقرب عهد الناس بالكفر مخافة الفرقة بين أهل الاسلام).

4 سلوكه مع الخلفاء

اما و قد تركنا الامام يغضي عن حقه و يقرر بالأخير خطة

ص:156

الصبر على ما فيها من قذى و شجى فما ذا تراه يتخذ من خطه في سياسته و سلوكه مع الخلفاء: أ يستسلم فيسرع الى بيعتهم كسائر الناس و يعمل لهم كما يعمل باق المسلمين أم يسلك بقدر ما تسمح به الضرورة و تقتضيه المصلحة للدين ؟

قد ابى بعض المؤرخين من القدماء و المحدثين إلا ان يصور الامام مسالماً الى أبعد حدود المسالمة، فيسرع الى البيعة عن طيبة خاطر و رضى بمن نصب لها، و لكن البحث الصحيح يأبى علينا أن نسلم بهذا التسرع في النقل أو الحكم: فقد ثبت تأريخياً ان عليا لم يبايع ابا بكر إلا بعد موت فاطمة بضعة الرسول، و في تقدير ابن الأثير في تاريخه و البخاري و مسلم في صحيحهما و غيرهم انه ستة اشهر، و في كل هذه المدة هو جليس بيته لم يشترك في جماعة و لا جمعة و لا أمر و لا نهي و لم يسمع له صوت في حروب الردة و غيرها. و اكثر من ذلك كان يطرق ابواب الأنصار و اهل السوابق ليلا حاملا معه فاطمة و الحسنين يدعوهم الى نفسه و يذكرهم عهد رسول الله صلى الله عليه و آله، و هذا ما جعله معاوية من ذنوبه في كتابه السابق الذكر، ثمّ انه كان يقرعهم بالحجة و ينير لهم طريق المحجة ذلك قوله المتقدم:

(فلما قرعته بالحجة).

و هل يظن الظان انه كان يحاول في هذا العمل ان يتحولوا في البيعة و ان يتركوا ما ابرموه و هو الذي اسدل دونها

ص:157

ثوبا و طوى عنها كشحا و رأى الصبر على ذلك احجى و هو الذي يدعوه العباس و ابو سفيان الى البيعة فيأبى ؟ ان هذا الاباء و ذاك الصبر لا يجتمعان مع تلكم المحاولة و الدعوة الى نفسه ما لم يكن يرمي الامام من وراء ذلك الى غرض أسمى مما يظن، انه كان يقيم الحجة في عمله على اولئك الناس و يفهمهم خطأهم فيما ارتكبوا و تنكبهم عن الحق فيما اسرعوا و إلى ذلك يشير فيما قال: (اللهم انت تعلم انه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان و لا التماس شيء من فضول الطعام و لكن لنرد المعالم في دينك و نظهر الصلاح في بلادك).

و يؤخذ من طيات التأريخ انه لم تأخذه هوادة في الدعاية و الدعوة الى مبدئه اظهاراً لحقه و اقامة للحجة على سواه، فلا ينكر التأريخ اجتماع اصحابه عنده طيلة ايام انعزاله، فيعتبره الطرف الآخر كمؤامرة يحاول ابطالها خشية توسعها، فيرسل من يفرق القوم المجتمعين فيجتمعون. و لا ينكر التأريخ ايضا تطوافه على الأنصار و اهل السوابق كما قدمنا. و لا ينكر عدم اشتراكه في جمعة و لا جماعة، و هو احرص على الشعائر الدينية و الواجبات الالهية من ان يجرأ مجترئ على اتهامه بالمسامحة فيها.

و هذه المقاطعة و ما اليها اعلان صريح برأيه فيما عليه القوم و لذا نرى الخليفة ابا بكر يتذمر من موقف الامام

ص:158

فعرض فيه من خطبة: (يستعينون بالضعفة و يستنصرون بالنساء كأم طحال احب اهلها اليها البغي إلا اني لو اشاء ان أقول لقلت و لو قلت لبحت. اني ساكت ما تركت) و في هذا تخوف مما يظن انه سيقع و تهديد باذاعة أمر مكتوم. ما أدري و لا أظن أحد يدري اليوم أي شيء هذا الأمر الذي يهدد الخليفة بافشائه، و الظنون تذهب و لا تقف على شيء معين!

و زبدة المخض: انا نفهم كل ذلك ان خطة الامام في حياة فاطمة كانت المقاطعة و الدعوة الى مبدئه و ان يقعد حجزة الضنين على تعبير فاطمة نفسها معتزاً بوجودها، و قد جاهدت معه في هذا المضمار جهادا له الأثر فيما بعد في تركيز مقام الامام في ذهنية المجتمع الاسلامي. و لا ننسى خطبتها البليغة التي يرن صداها الى اليوم.

و لذا نراه بعد وفاتها يبدل خطته، فبايع، و يبايع معه اهل بيته و اصحابه، و يدخل فيما يدخل فيه القوم. و لكن الى حد محدود بقدر ما تحكم به الضرورة الدينية للاحتفاظ بالجامعة الاسلامية.

لنسمعه يحدثنا هو عن تبديل خطته في كتابه الى اهل مصر: (فأمسكت يدي، حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام يدعون الى محق دين محمد صلى الله عليه و آله،

ص:159

فخشيت ان لم انصر الاسلام و اهله ان أرى فيه ثلماً أو هدما تكون المصيبة به علي اعظم من فوت ولايتكم...).

و لم تكن نصرته للاسلام و أهله إلا بسكوته عن حقه و متابعته للقوم، و نصيحته لهم في مواقع النصح، و إلا فلم يشترك معهم في طعنة رمح و لا ضربة سيف في جميع المواقف الى يوم بويع بالخلافة.

و ما ذا يظن الظان في من جاهد و جالد في سبيل الاسلام عشرين عاما، و في كل هذه المدة كان سيفه يقطر من دماء المشركين، و لم تثر حرب إلا و هو ابن بجدتها، و حامل لوائها و مقطر أبطالها و المقذوف في لهواتها؟ ما ذا يظن الظان فيه عند ما يجلس جلس البيت عن هذا الدين الذي قام بسيفه، و قد تألبت العرب عليه و اشرأبت اعناق النفاق ؟ و الجهاد فرض من فروض الاسلام، أ كان ذلك زهدا في الجهاد و تواكلا عن الواجب، أم ما ذا؟ أ هناك غير ما نقول من رأيه في المقاطعة إلا ما تدعو اليها ضرورة المحافظة على الجامعة.

و قد يقول القائل: ان الخلفاء هم الذين لم يدعوه الى الدخول معهم في الحروب و الاشتراك في الحكم لمصلحة يرونها، و ما كان يجب عليه ان يقدم نفسه متبرعا، كما لم يدع الى ذلك جميع الهاشميين، و لم يسمع ان هاشميا اشترك قائدا في حرب أو حكم في عهد الخلفاء الثلاثة. و يشهد لذلك

ص:160

المحاورة(1) بين الخليفة عمر بن الخطاب و ابن عباس حينما يدعوه الى العمل في حمص، فيقل لابن عباس:

(و في نفسي شيء لم أره منك و أعياني ذلك) ثمّ يصرح بذلك الشيء: (اني خشيت ان يأتي علي الذي هو آت و أنت في عملك فتقول: هلم الينا و لا هلم اليكم دون غيركم اني رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم استعمل الناس و ترككم).

فيقول ابن عباس: فلم نراه فعل ذلك ؟

فقال عمر: و الله ما أدري اضن بكم عن العمل، فأهل ذلك انتم، أم اخشى ان تبايعوا بمنزلتكم منه، فيقع العقاب و لا بد من عتاب ؟

و عندئذ يمتنع ابن عباس عن قبول العمل و يقول: ان اعمل لك و في نفسك ما فيها لم ابرح قذى في عينيك.

أ ليست هذه المحاورة شاهدة على ان الخلفاء هم الذين كانوا يمتنعون عن استعمال بني هاشم خوف ان يستغلوا مناصبهم للدعوة الى أنفسهم ؟

و للمجيب ان يجيب، فيقول: ان امتناع الخلفاء عن استعمال علي و بني هاشم ان صح فهو دليل آخر على سيرة الامام معهم، و استعماله خطة يخشون معها ان يأخذ و قومه ناصية الأمر ان تولوا عملا من الأعمال. على انا لا

______________________________

ص:161


1- (1) راجع مروج الذهب (427:1).

نعدم شاهدا على ان عليا هو الذي كان يمتنع عن قبول اعمالهم، فلنستمع الى الحديث الذي جرى بين الخليفتين عمر و عثمان.

يشير عثمان على عمر: (ابعث رجلا أي لحرب فارس له تجربة بالحرب و مضربها.

عمر: من هو؟

عثمان: علي بن ابي طالب!

عمر: فالقه و كلمه و ذاكره ذلك، فهل تراه مسرعا اليه ؟

(فيخرج عثمان و يلقي عليا، فيذاكره فيأبى علي ذلك و يكرهه).

تأمل استفهام عمر و شكه في قبول علي، ثمّ امتناع علي و كراهيته للأمر! و ما نستنتج من ذلك ؟

من هذا و امثاله نعرف ما ذا كان علي عليه السلام يتبع في سيرته مع القوم، و ما كان يجري عليه في معاملته معهم، حتى كان يخفت صوته في جميع الحروب و المواقف، و كأنه ليس من المسلمين أو ليس موجودا بينهم، و هو منهم في الرعيل الأول، اللهم إلا صوته إذا استشير و نبراس علمه إذا استفتي، حتى اشتهر عن عمر كلمته (لو لا علي لهلك عمر) أو (لا كنت لمعضلة ليس لها ابو الحسن).

ص:162

و تتبع استشاراته و احكامه في كثير من الوقائع يخرج بنا الى موضوع آخر يحتاج الى كتاب آخر.

انتهى

29 جمادي الاولى 1368 ه

ص:163

على هامش السَّقيفَة

ص:164

ص:165

ص:166

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة بقلم محمد جواد الغبان

تفرض علي الأبوة أن أذهب بين حين و آخر إلى ناحية (الشنافية) لزيارة سيدي الوالد سماحة الشيخ عبد الكاظم الغبان الذي يشغل مركز العالم الديني هناك.

و قبل بضعة أشهر سافرت إلى (الشنافية) فترامى الى سمعي من عامة أهل المدينة مديح وافر و ثناء جزيل على مدير جديد في ناحيتهم هو الاستاذ السيد عبد الله الملاح الذي تم نقله الى تلك الناحية قريبا.

و ما كان إلا أن اجتمعت بهذا المدير الجديد و تتابعت الاجتماعات بيني و بينه حتى رأيت نفسي منجذبا اليه و متخذا منه صديقا حميما و أخا كريما لأنني وجدت فيه رجلا متمسكا بالصفات الحميدة و الأخلاق الكريمة بالاضافة الى كونه قويا في ادارته نزيها في احكامه و معاملاته.

ص:167

و مما لفت نظري من الأخ الاستاذ الملاح أن هوايته المفضلة هي العكوف على العلم و الأدب و الثقافة فهو لا يمضي أوقات فراغه الا بالمطالعة أو البحث و النقاش، و هو في بحثه و نقاشه يمتاز بحرية الرأي و طلب الحقيقة من دون تعصب.

لقد دارت بيني و بينه عدة مباحثات و مناقشات دينية و علمية و أدبية كان في مقدمتها موضوع (الامامة) الذي هو نقطة الخلاف بين (السنة و الشيعة)، و كنا في بحثنا و مناقشتنا في هذا الموضوع متجردين عن كل عاطفة و تعصب ذميم فوصلنا إلى نتائج حسنة جدا.

و قد أرشدت الاستاذ تتمة لما دار بيننا من المناقشات الى مطالعة كتاب (السقيفة) الذي كتبه استاذنا سماحة العلامة الشيخ محمد رضا المظفر (عميد منتدى النشر).. ذلك الكتاب القيم الذي نفدت طبعته الاولى و اعيد طبعه مرة اخرى لأنه الكتاب الوحيد الذي درس موضوع الخلافة الدقيق دراسة مستفيضة على ضوء المنطق المتجرد عن العواطف و المغالطات.

و حين رجعت الى النجف ارسلت نسخة من كتاب (السقيفة) الى الاستاذ الملاح، و بعد بضعة أيام وصلتني منه رسالة يسجل فيها إعجابه بالكتاب و براعة عرضه و قوة حجته مع إكباره لمؤلفه الكريم، و قد سرد في رسالته المذكورة عدة ملاحظات اعترضته أثناء مطالعته للسقيفة فطلب مني ان

ص:168

اعرضها على الاستاذ المؤلف ليتفضل بالاجابة عنها، فما كان مني الا أن عرضت الرسالة على استاذنا العميد بعد أن اعطيته لمحة خاطفة عن صديقي الاستاذ الملاح فأبدى الاستاذ المظفر استعداده للجواب عن تلك الملاحظات و تفضل فأفرغ نفسه على كثرة أشغاله و مسئولياته لكتابة كراس خاص ضمنه أجوبته عنها.

هذا و قد رأيت بملاحظات الاستاذ الملاح و أجوبة استاذنا (العميد) عنها موضوعا رائعا طريفا أهم مميزاته طلب الحقيقة و كشف الواقع عن طريق الدراسة الصحيحة التي يوحيها العقل و المنطق السليم، فوجدت نفسي مدفوعا الى تمثيلها لعالم الطبع و النشر بعد موافقة الطرفين طبعاً خدمة للحقيقة و عرضاً لنماذج من البحث النزيه المتجرد عن الانجراف مع العواطف، لعل اخواننا المسلمين جميعا من سنة و شيعة يسيرون على منوال هذا الكلام البريء و المنطق السليم فيجتمع الشمل و تتوحد الصفوف. و إذا كانوا يرون اجتماع الكلمة ضربا من المستحيل فلا أقل من أن يتركوا التطاحن الذي مزق صفوف الطرفين و أوهى قوى الإسلام الذي يتمثل بكلا الفريقين.

و ها أنا ذا الآن أنشر في هذا الكراس نص رسالة الاستاذ الملاح التي تتضمن ملاحظاته مع نص جواب (العميد) عنها. و ما أدري عسى الاستاذ الملاح تخطر في ذهنه ملاحظات اخرى بعد ذلك. و إنني أعد القارئ الكريم بعرضها على استاذنا العميد عند ما أتلقاها لعلنا نظفر بنشر كراسة ثانية في

ص:169

هذا الموضوع إكمالا للفائدة المتوخاة و الله تعالى من وراء القصد.

النجف الأشرف 2 رجب 1373 ه

محمد جواد الغبان

ص:170

نص رسالة الاستاذ عبد الله الملاح حول كتاب السقيفة

أخي الكريم الاستاذ محمد جواد الغبان لا حرمت اخوته تحية و شوقا

دعني أشكر لك قبل كل شيء هذه الاخوة الصادقة و حسن ظنك بي فأنا اعتقد انني لا أستحق منك كل هذا الاطراء إنما هي نفسك النبيلة تريك الناس في صورة نفسك. لوددت اني احقق ظنك في و الله المسئول ان يلهمنا الصواب و يهدينا الى أحسن الأخلاق انه لا يهدي لأحسنها إلا هو.

أشكر لك أيها الأخ الكريم هديتك الممتعة كتاب السقيفة فقد أمضيت بقراءته وقتاً سعيداً و كنت أود ان ادون لكم رأيي حوله بعد انتهائي من قراءته و لكن حال دون ذلك ذهابي الى بغداد.

كتاب السقيفة كتاب ممتع جداً يدل على سعة علم مؤلفه الفاضل و تمكنه من الاسلوب العلمي العصري و لو التزم بما جاء في المقدمة لكان خير كتاب أخرج للناس و لكنه آثر ارضاء عقيدته فلم يلتزم بما أوجبه على نفسه اولا من الجهاد التام، و كنت أود ان اطلع على كتاب (رد على السقيفة) لأطلع على المآخذ التي أخذها على المؤلف. و سأورد باختصار

ص:171

كل ما عن لي عند مطالعة الكتاب، و لعل بعض ما أورده لا يخرج عن حدود السؤال الذي لا أحسن الاجابة عنه فاذا كان عندك أو عند المؤلف جواب شاف له فأرجو التفضل بعدم حرماني من فائدته.

1 يرى المؤلف استبعاد سكوت النبي عن أمر الخلافة و توكيل ذلك إلى اختيار الأمة. لما في ذلك من توقع حدوث الاختلاف كما حصل فعلا و أنا أسأل فأين النص الصريح إذن على تعيين أحد بالذات ؟

ستقول دون شك: أ فليس في حديث الغدير كفاية ؟

إن حديث الغدير لم يؤمن بصحته كل الناس من المسلمين، و بعض من آمن بصحته فسره على غير تفسير الشيعة مستفيدا من دلالة كلمة المولى على معاني مختلفة، و أنا شخصياً أرى تفسير كلمة المولى بغير التفسير الذي فسرته الشيعة في حديث الغدير تمحل و سخف.

و لكن في نفسي شيء كثير من الحديث فان البخاري و مسلم لم يرويا الحديث، و في سنده من طعن فيه، و لكنني لا أهتم لذلك فان كتب الشيعة ترويه بسند صحيح و هم ليسوا أقل حرصا على دينهم من السنة، و لكني سأطرح النقل هنا و أعتمد على العقل فقط.

يقول القرآن: (وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى ).

ص:172

و يعتقد السنة و الشيعة ان جميع ما صح عن النبي يجب الأخذ به باعتباره وحيا من الله و لكننا نرى ان النبي أمر بكتابة القرآن علما منه بأن كل ما اعتمد في حفظه على الذاكرة اعتوره النسيان أو التحريف بزيادة أو نقصان و لم نسمع انه أمر أحدا بكتابة الحديث فاذا كان الحديث وحيا من الله كالقرآن فلما ذا لم يكن قرآنا؟ و أي فرق بين وحي الحديث و وحي القرآن ؟

إن عدم تدوين الحديث أدى إلى الاختلاف الذي نراه الآن فليس من حديث صح عند السنة إلا وجد فيه الشيعة مجالا للطعن و العكس صحيح أ فيمكن أن يبنى دين موحد على حديث يصدقه اناس و يكذبه آخرون، و لكن الفرق الاسلامية كلها متفقة على أن القرآن الذي بين أيديها صورة صحيحة للوحي المنزل على رسول الله و لا عبرة ببعض الأقوال المنسوبة إلى اناس زعموا ان القرآن قد حذف منه كل ما كان فيه مدح لآل البيت.

اريد ان اخلص من هذه المقدمة الى القول بأن امر الخلافة و هي من الاهمية بحيث صورها مؤلف السقيفة الفاضل لا يعقل ان يترك أمرها الى حديث كحديث الغدير لا تكاد الصحابة تسمعه حتى ينساه أكثرهم و يذهب في تأويله الآخرون مذاهب مختلفه، أ فما كان ينبغي و الأمر بهذه الأهمية ان ينزل فيها قرآنا. صحيح (ان الله لا يسأل عما يفعل و هم

ص:173

يسألون) و لكن منطق الحوادث يدلنا على ان امراً كهذا لا سيما إذا أخذنا عقيدة اللطف الإلهي بنظر الاعتبار لم يكن ينبغي ان يسكت عنه القرآن و قد نزل في أشياء أقل أهمية من هذا بكثير، أما الآيات التي أوردها المؤلف (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ) فلا أظن ان من له أقل المام باسلوب القرآن يرى قصر الذين آمنوا على علي (رض) فإن الله لم يشر الى واحد بلفظ الجمع و قد خاطب النبي بقوله (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ). و بقوله: (وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ). و قال: (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ ... الخ). ثمّ شيء آخر لا بد من الاشارة اليه و هو لو صح ان النبي جعل عليا عليه السلام نفسه حقيقة في آية المباهلة كيف جاز له تزويجه من ابنته.

2 إذا صح ان النبي (صلی الله علیه و آله) قد نص على الائمة الاثنى عشر بعد ان فقد ابنه ابراهيم و حزن عليه حزنا شديدا ترتب على ذلك اتهام النبي بأنه إنما قام بالدعوة لحصر الملك و الخلافة في نفسه و في أحفاده من بعده و هو ما يتناقض الآية القرآنية (فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى اللّهِ ).

3 حديث الغدير وقع بعد منصرف النبي من حجة الوداع و وفاته (صلی الله علیه و آله) في أواخر صفر أو أوائل ربيع الأول من نفس السنة فيكون بين سماع الحديث و الوفاة نحو شهرين و هي مدة قصيرة فاذا كان عدد الذين سمعوا حديث الغدير سبعين

ص:174

الفا يزيدون أو ينقصون قليلا فلا بد ان يكون الأنصار الذين اجتمعوا في السقيفة من جملة من سمع الحديث و هم لم يكونوا ممن انامهم عمر مغناطيسيا بنفيه الموت عن رسول الله لأنهم ساعة الاحتضار كانوا مجتمعين في السقيفة كما يدل على ذلك مجيء معن بن عدي و عويم بن ساعدة إلى عمر و ابي بكر في دار النبي (صلی الله علیه و آله) و لم يكن بين الأنصار و بين علي عليه السلام ترات فإذا كانت قريش لم تشأ أن تجمع لبني هاشم بين النبوة و الخلافة و إذا كان علي عليه السلام قد وتر أكثرهم فان الأنصار لم يكونوا يريدون غير رضا رسول الله فما بالهم و لم يمض على سماعهم حديث الغدير غير ايام قليلة لا يقوم واحد منهم و قد تنازعوا أمر الخلافة و رشحوا لها مرشحيها يذكرهم بالحديث و بأن أمر الخلافة قد فرغ منها و قد عين رسول الله لها بأمر ربه عليا.

أما ما أورده المؤلف الفاضل من تطاول الأنصار للخلافة بعد تيقنهم من انصرافها عن مستحقها علي عليه السلام لما يعلمون من حسد العرب له و قريش خاصة فلا يمكن ان يقبله العقل لأن استحالة نصب علي للخلافة للأسباب المذكورة إذا كانت لم تغب عن فطنة الأنصار فقد كان الأولى ان لا تغيب عن فطنة رسول الله و هو المؤيد بالوحي فلا يأمر امته بأمر يعلم سلفا انهم لا يطيعون فيه فيعرضهم بذلك الى غضب الله و تذهب جهوده طيلة حياته في هدايتهم سدى.

ص:175

أما قول أحد الأنصار: (لا نبايع إلا عليا) فلا يخرج عن كونه ترشيحا لعلي من قبل أحد المسلمين و لا ينكر أحد أهلية علي عليه السلام لهذا الترشيح إذ ان الرجل لم يحتج بحديث الغدير أو آية قرآنية دالة على وجوب نصب علي.

4 استدل المؤلف الفاضل بتأمير اسامة بن زيد و تخلف وجوه المهاجرين و فيهم ابو بكر و عمر و أبو عبيدة عن اللحاق بجيشه على الرغم من تشديد النبي عليهم في الخروج على رغبة الرسول في إبعاد من يطمع في الخلافة عن المدينة و في تهيئة المسلمين لقبول (قاعدة الكفاية).

إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لم تكن تأخذه في الحق لومة لائم و هذا التدبير أشبه بتدبير الضعفاء منه بتدبير الأنبياء فمن كان يدري النبي و قد تمت البيعة لعلي في غياب جيش اسامة و وجوه المهاجرين و الأنصار ان القائد و جيشه و قد علموا بوفاة النبي و بالغاية التي ارسلوا من أجلها في ذلك الظرف الحرج و بنفاذ المؤامرة في تعيين علي للخلافة، من كان يدريه انهم لا يولون الخلافة من يريدون و ليس في عنقهم بيعة لأحد ثمّ يحتلون المدينة بالقوة و يعود التدبير الذي ظنه المؤلف الفاضل حكيما شرا على المسلمين جميعاً فان من يخالف أمر النبي و هو في المدينة لا يعجزه ان يخالفه و هو في جيش يؤيده في رأيه.

إن حياة الرسول (صلی الله علیه و آله) كلها تدل على أنه لم يكن يرهب القوة في سبيل نشر الدعوة و تبليغ أوامر الله فقد كان في مكة

ص:176

وحيدا و في قريش أمثال عمر و أبي لهب و أبي جهل فلم يمنعه ذلك من تسفيه أحلامهم و الكفر بآلهتهم و فعل كل ما من شأنه استجلاب غضبهم فاذا كان الله قد أمره بقوله: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ) بتعيين علي للخلافة فلا عمر و لا غيره كان يمكن ان يحول بين رسول الله و تنفيذ أمر الله و ما كان يمكن أن يترك النبي تنفيذ هذا الأمر الذي فيه صلاح الدين و بقاؤه إلى أحاديث تحمل معاني مختلفة و تدابير يذهب في تأويلها كل واحد مذهبا فأمر الخلافة كما تعتقدون من اسس الدين فكان يجب و قد علم النبي بدنو أجله و علم كذلك لما ينتظر امته من فتن كقطع الليل المظلم و رأى مواقع الفتن خلال بيوت المدينة كمواقع القطر يجب و قد علم كل ذلك أن يأخذ البيعة لعلي في حياته و يتخذ من التدابير ما يحول بين امته و بين الفتن و هو قد بعث رحمة للعالمين و إلا فليس نبي اضيع جهدا منه فقد اذهب حياته في هدى امة ما لبثت ان أخذت طريقها من بعده الى النار.

5 حديث (هلموا أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ابدا). لا شك في وضعه أبدا على الرغم من رواية ائمة الحديث له إذ لا يخلو أن يكون ما أراد النبي كتابته حديثا أو قرآنا و قد ظل النبي ثلاثاً و عشرين سنة يتحدث و يوحى اليه بالقرآن فلم نره أمر بكتابة شيء من الحديث أما القرآن فلم يكن النبي يقول (هلموا أكتب لكم) بل كان يخبرهم بنزول

ص:177

الوحي عليه و يأمر كتبة الوحي بتدوين ما نزل عليه فاذا كان ما أراد يكتبه قرآناً فلما ذا لم يدع كتبة الوحي ليضيفوه الى القرآن أو لما ذا لم يتله على الحاضرين على انه قرآن كما كان يفعل فيحفظه عنه الصحابة كما كانوا يحفظون عنه القرآن فلا يتأتى لأحد الشك فيه و لم يكن لعمر حق منع الوحي من النزول و لم ينكر أحد جواز نزول الوحي على النبي في مرضه. أما إذا كان حديثا فمتى يا ترى أمر النبي بكتابة الحديث و ما الحاجة الى كتابة هذا الكتاب إذا كان كل ما فيه هو التأكيد على امامة علي عليه السلام ؟ أ لم يسبق أن نص النبي على امامته يوم الغدير و من نسى حديث الغدير أو أنكره على قرب العهد به فهو لما في الكتاب المزمع كتابته أشد نسيانا و نكرانا.

ثمّ من هو عمر هذا الذي يأمر و ينهى و لا يستطيع أحد مخالفته حتى رسول الله يمنعه عمر من أن يرشد المسلمين إلى أهم أمر من أمور الدين بعد التوحيد.

لقد كان عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) علي و عبد الله بن العباس و غيرهما من وجوه بني هاشم و لم يزد عمر على أن رأى رأيا حين قال: (إن الرجل قد غلبه الوجع حسبنا كتاب الله). فلو كان الأمر من الأهمية بحيث كان ابن عباس يبكي حتى يبل الحصباء كلما ذكر ذلك لكان وجب أن يأمر رسول الله باخراج عمر من عنده و يصر على املاء ما أراد املاءه بمحضر ممن يثق بأمانتهم و لو كان الأمر متعلقا بأمر جوهري من

ص:178

امور الدين لما جاز الله أن يعدل عن تبيانه لمجرد اعتراض عمر و إلا لترتب على ذلك ان النبي (صلی الله علیه و آله) كتم كثيرا مما كان يريد تبليغه خشية عمر و غيره و لا أظن أن مؤمنا يقول بذلك.

6 إن ما نسب الى الامام علي عليه السلام بعد تمام البيعة لأبي بكر يدل دلالة صريحة على عدم ثبوت حديث الغدير آنذاك فان قول الامام: (احتجوا بالشجرة و اضاعوا الثمرة). و قوله لأبي بكر: (أفسدت علينا أمرنا و لم تستشر و لم ترع لنا حقا) لا يدل إلا على انه كان يرى نفسه أحق بالخلافة من أبي بكر و ليس ذلك بعجيب، فعلي من عرفه المسلمون ربيب رسول الله و زوج الزهراء و أبو الحسنين و أتقى الناس لله فلا غرو إذا رأى نفسه أحق بالخلافة من غيره و لكن اعتقاد الاحقية في الخلافة شيء وعد استخلاف غيره اغتصاباً لحقه و مروقاً من الدين شيء آخر فاننا لا زلنا نرى ترأس المفضول على الأفضل في جميع الأزمان و السلطة كالرزق حظوظ و حتى في أيامنا ليس انتخاب نائب عن منطقة على فرض حرية الانتخاب دليلا على ان المنتخب هو خير أهل المنطقة.

ثمّ ما معنى انصراف وجوه الناس عنه بعد موت الزهراء عليها السلام فاذا كان قد اجتمع اليه قبل موت الزهراء إنما اجتمع لأنه آمن بحديث الغدير و اعتقد ان البيعة لغيره ضلال لما جاز أن يتغير بموت الزهراء و إلا لثبت أن اجتماعه

ص:179

إلى علي عليه السلام لم يكن من أجله هو و لا ايمانا بوجوب امامته بل اكراما للزهراء فلما دعاها ربها الى جواره انتفى السبب الذي كان يربطه بعلي.

ثمّ انظر رحمك الله إلى قول الامام: (فنظرت فاذا ليس لي معين إلا أهل بيتي فضننت بهم على الموت). كيف يعقل ان امة قال الله فيها (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) تعلم من أمر دينها ان عليا أمامها لا يجوز العدل عنه إلى غيره و لا يتم الايمان إلا بإمامته لا يبقى فيهم من ينهي عن المنكر و أي منكر أعظم من مخالفة صريح أمر النبي و العدول بالخلافة الى غير مستحقها حتى لم يبق منهم من يؤيد عليا غير اهل بيته وليتني اعلم فيم باع كل هؤلاء الذين رضى الله عنهم و رضوا عنه مرارا و تكرارا دينهم، أمن أجل سواد عيني أبي بكر و عمر فقط أو يكون بغض علي قد بلغ بهم حدا هوّن عليهم دخول النار؟

7 أ لا ترى تناقضا بين قولي الامام: (لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم)، و بين قوله: (فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام يدعون الى محق دين محمد فخشيت ان لم أنصر الاسلام و أهله ان ارى فيه ثلما أو هدما تكون المصيبة به علي أعظم من فوت و لا يتكلم).

فهو عليه السلام يود مرّة لو يجد أربعين ذوي عزم

ص:180

ليناهض بهم القوم و مرة يرى وجوب نصرهم و يحشرهم مع أهل الاسلام، أو تراه لو وجد أربعين ذوي عزم ثمّ ناهض بهم القوم أما كان ذلك هدما للاسلام أو ثلما له، إذ من كان يضمن النصر له فالأمة مجمعة على ان جيش يزيد كان مبطلا و كان جيش الحسين محقا و مع ذلك جاء الباطل و زهق الحق. و إذا صح أن مالكا بن نويرة قد رفض بيعة أبي بكر لأنه لم يرى البيعة إلا لعلي أما تكون الحجة قد قامت بوجود الناصر فلا شك ان مالكا كان من ذوي العزم الذين كان الامام يود وجودهم.

ثمّ كيف يتفق قوله: (فخشيت إن لم أنصر الاسلام و أهله أن أرى فيه ثلما أو هدما)، مع ما ذهب اليه المؤلف الفاضل من تقاعسه عن نصرة الخلفاء و عدم التعاون معهم إلا بمقدار، فان كل معاونة باليد او باللسان نصر للاسلام و أهله و أي تباطؤ عن ذلك ثلم له.

فلو علم الامام عليه السلام ان الاسلام يعزٌّ بالعمل الفلاني أو القول الفلاني ثمّ احجم عن الفعل أو القول لكان خاذلا للاسلام و لأهله.

و لم أر في عيوب الناس عيبا كعيب القادرين على التمام

لذلك فأنا أشك في صحة نسبة الأقوال المذكورة للامام فأبو الحسن أجل في نفسي من ذلك ليس هو دون خالد بن الوليد حين

ص:181

قال و قد عزله عمر عن امرة الجيش: (لم أكن احارب من أجل عمر) فلم يكن الاسلام ملكا لأبي بكر و عمر أو غيرهما حتى يتباطأ أبو الحسن عن نصرتهما.

أما عدم ورود ذكره في الحروب التي جرت على عهد الخليفتين الأولين فلا يدل ذلك على عدم تعاونه معهما تعاونا صادقا تاما في كل ناحية من نواحي العمل و إلا فأين الحروب التي اشترك فيها عمر و عثمان و طلحة و الزبير في زمن أبي بكر و هل يدل عدم ذكر اسمائهم على عدم معاونتهم له معاونة صادقة.

و بعد فهذه ملاحظات عابرة أحببت أن ادونها تزجية للوقت و قد يكون لها أجوبة مقنعة أنا أجهلها.

و أرجو أن تتهيأ لي فرصة الاجتماع بالمؤلف الفاضل الذي أرجو أن تبلغه اعجابي و تحياتي فنتوسع فيما اجملته هنا.

و اسلم لمحبك

عبد الله الملاح

الشنافية 3 ربيع الثاني 1373

ص:182

نص رسالة الشيخ المظفر رداً على رسالة الاستاذ الملاح إلى حضرة الأخ الفاضل عبد الله الملاح المحترم

اشارة

اهدي تحياتي العاطرة

اطلعني الأخ قرة العين (الغبان) على رسالتكم اليه المؤرخة 3 ربيع الثاني 1373 فقرأت فيها الأدب الجم و التواضع المستحب و الرغبة في الركون إلى الانصاف في القول. و هذا ما كنت اتوقعه بعد ان كان قد عرفك إلي (الجواد) من قبل.

و لأجل ان لا تفوتني فرصة التعرف اليك فضلت أن احرر بنفسي الجواب عن رسالتك و سامحني إذا تأخرت اياما اقتضتها طبيعة أشغالنا هذه الأيام.

و قبل كل حديث احببت أن أذكر للأخ ان كل بحث و سؤال يمكن ان يعقب و يجاب عنه إذا استعمل الاسلوب الخطابي بمهارة، عند ما تكون العاطفة تأخذ أثرها في الجدل، غير اني ارجو من الله تعالى أن يعصمني و يعصمك من ان تطلع رأسها خلال هذه الأبحاث التي يجب ان يتبع فيها الحق للحق.

و على ذكر العاطفة فانك رعاك الله بعد ما تفضلت من الثناء العاطر على كتاب السقيفة و صاحبه بما يعبر عن سمو نفسك

ص:183

و اخلاقك قلت: (و لكنه آثر ارضاء عقيدته فلم يلتزم بما أوجبه على نفسه اولا من الحياد التام). صحيح إني لم يظهر على بحثي الأخير الحياد التام بل و لا الحياد الناقص، و يجب ان اعترف بذلك، و لكن ما حيلتي إذا كان منطق البحث هو الذي ساقني الى ذلك. فلم أشأ أن اغالط القارئ أو اخادعه فيما توصلت اليه من رأي. و لو كان البحث قد ساقني الى الانحراف عن هذا الطريق لما عدوته. و حينئذ اتبع مسلكا آخر في اسلوب التأليف أو نشره. و الله المطلع. على السرائر و هو الشاهد إذا كان ما أمليته بدافع العاطفة و لو بنحو لا شعوري. و لا ابرئ نفسي كما قلت في مقدمة السقيفة إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما عصم الله.

و لا اطيل في المقدمة، فأقول ما عندي باختصار في الأبحاث التي أثرتها

البحث الأول

1 انك شككت في صحة حديث الغدير، لأن البخاري و مسلماً لم يروياه في كتابيهما. و إني لملتجئ أن اصارحك انه لا يضر هذا الحديث المستفيض بل المتواتر انهما لم يروياه بشخصهما، و لا سيما بعد أن استدركه عليهما الحاكم في المستدرك (109:3) و (381:4) و اكثر من ذلك صححه على شرطهما و كذلك في كنز العمال (390:6).

ثمّ هل تدري يا أخي كم ترك البخاري و مسلم من احاديث

ص:184

صحيحة على شرطهما استدركت عليهما؟ و يكفي ان تراجع مستدرك الحاكم. و الله اعلم لما ذا تركا هذا الحديث و نحوه! و أرجو الا تذهب بك الثقة بصحيحي البخاري و مسلم هذا المذهب. حتى تجعل عدم روايتهما لحديث سببا في الطعن بذلك الحديث. فقد رابني منهما ما يريب كل منصف طالب للحق، فانهما لم يرويا أبدا و لا حديثا واحدا عن جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، و لئن لم يكن اماما فعلى الأقل هو أوثق و أجل و أعلم فقهاء عصره ؟ بل لم يرويا عن أبنائه الأئمة كلهم. و ما أقل ما روياه عن آبائه حتى عن علي أمير المؤمنين عليه السلام و هو من تعرف.

هذا كله في وقت قد اكثرا من الرواية عن جماعة كثيرة هم محل الريب بل الطعن فضلاً عن المجهولين. و لو وسع الوقت و هذه الرسالة العابرة لذكرت لك العشرات من هؤلاء الرواة. و لا محيص من أن أذكر لك جماعة منهم على سبيل المثال لتعرف اني على حق فيما قلت و لك علي أن لا أنقل إلا من علماء و رجال من أهل السنة لتطمئن إلى قولهم:

فمن هؤلاء الرواة (احمد بن عيسى المصري) فقد ذكر ابن حجر في تهذيب التهذيب و الذهبي في ميزان الاعتدال: ان ابن معين حلف عن احمد هذا انه كذاب. و نقل في التهذيب عن أبي زرعة انه انكر على مسلم روايته عن احمد هذا في الصحيح قال: (هؤلاء قوم يعني مسلما و نحوه أرادوا التقدم قبل أوانه فعملوا شيئا يتشرفون به) و قال: (يروي يعني مسلما عن احمد في الصحيح ما رأيت أهل مصر يشكون في انه...) و أشار إلى لسانه يعني انه يقول الكذب.

ص:185

و (منهم) اسماعيل بن عبد الله بن اويس، فقد نقل في هذين الكتابين المتقدمين اعني التهذيب و الميزان: (ان ابن معين قال عنه: لا يساوي فلسين. و قال ايضا: هو و أبوه يسرقان الحديث) و نقلا غير هذا من الطعون الشديدة فيه.

و (منهم) عبد الله بن صالح المصري طعن فيه في التهذيب و الميزان نقلا عن ثقاة العلماء بأنه يكذب و ليس بشيء و ليس بثقة، و قال في الميزان: (روى عنه البخاري في الصحيح و لكنه يدلسه فيقول عبد الله و لا ينسبه) فانظر و اعجب.

و (منهم) عمران بن حطان السدوسي الخارجي المعروف، و قد روى عنه البخاري و قد أكثر علماء الرجال من الطعن فيه، و هو المادح لابن ملجم بقوله المشهور:

يا ضربة من تقى ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

و (منهم) عنبسة بن خالد الذي كان على خراج مصر و كان يعلق النساء بالثدي، فقال عنه يحيى بن كثير كما في التهذيب و الميزان: (إنما يحدث عنه مجنون أو أحمق لم يكن موضعا للكتابة عنه).

و (منهم) محمد بن سعيد الكذاب المشهور الذي صلبه أبو جعفر على الزندقة قال في الميزان: (روى عنه ابن عجلان و الثوري و مروان الفزاري و ابو معاوية و المحاربي و آخرون، و قد غيروا اسمه على وجوه ستراً له و تدليساً لضعفه) إلى أن قال أحد العلماء: (قلبوا اسمه على مائة

ص:186

اسم و زيادة قد جمعها في كتاب) ثمّ قال الميزان: (قد اخرج عنه البخاري في مواضع و ظنه جماعة).

و (منهم) هشام بن عمار خطيب دمشق و محدثها و عالمها قيل عنه: انه حدث بأربعمائة حديث لا أصل لها، و قيل عنه غير ذلك.

و منهم... و منهم... و ما أدري ما ذا احصي لك من رواة الصحيحين على هذه الشاكلة. قيل لمسلم كما في التهذيب و الميزان بترجمة سويد بن سعيد الهروي: (كيف استجزت الرواية عن سويد)؟ فقال: (و من أين آتي بنسخة حفص بن ميسرة!). بالله عليك أ يصلح هذا عذرا في الرواية عن الضعفاء ممن اشترط على نفسه انه لا يروي إلا عن ثقة مأمون، و عند جعفر بن محمد الصادق و ابنائه و آبائه من العلم و الحديث ما طبق الخافقين و ما يغنيه عن امثال سويد و حفص ؟ أ فلا يساوي أهل البيت عنده امثال أولئكم الضعفاء المطعون في صدقهم ؟. بالله عليك أ يأخذ الانسان المؤمن الموقن دينه من هؤلاء الرواة و أمثالهم و يوثقهم ثمّ يترك آل البيت! أي عذر يتخذه الانسان يلاقي به ربه يوم الحساب إذا كان ممن يعتقد بالله و بيوم الجزاء و يريد مخلصاً أن يخلص إلى الحق الصريح إلا اذا أراد أن يخادع نفسه أو يداهن في دينه ؟

2 و أما قولك: (ان في سند الحديث من طعن فيه) فأظن يكفينا مراجعة الجزء الأول من كتاب الغدير لنعرف ان الطعن مهلهل لا سيما بعد أن نعرف ان الحديث ليس له سند واحد يبقى مجال معه للطعن، بل هو مستفيض إن لم يكن متواتراً، على أنه قد روى بسند صحيح على

ص:187

شرط الشيخين مسلم و البخاري كما نقلت لك عن مستدرك الحاكم و كنز العمال.

3 و أما حديثكم عن تدوين الحديث عامة كالقرآن، فان صريح القول فيه عندي الذي ادين به ربي و لا اغالط نفسي انه ثبت من طرق الطرفين الصحيحة(1) التي لا ريب فيها ان نبينا الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم قال: (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي أهل بيتي ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً. ألا و إنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض).

فقد قرن الهداية (ابدا) بالتمسك بهما معاً لا بالتمسك بواحد منهما فكل حديث لا يرجع الى الثقل الثاني لا أجد مجالا للتمسك به إلا إذا كنت لا أفهم الكلام العربي المبين أو أغالط نفسي.

دقق النظر يا أخي في هذا الحديث الجليل تجد ما يدهشك في مبناه و معناه، فما أبعد المرمى في قوله: (لن تضلوا بعدي ابدا) و لكن بشرط إذا تمسكنا بهما (بهما) لا بواحد منهما فقط. و ما أوضح المعنى في قوله: (لن يفترقا) فمن فرق بينهما أ يجد الهداية يا ترى ؟

و على هذا نستطيع أن نتنبه لما ذا لم يأمر (صلی الله علیه و آله) بتدوين الحديث كالقرآن، فقد كفاه انه (ترك) لنا الثقل الثاني الذي هو عدل القرآن

______________________________

ص:188


1- (1) و مسلم قد رواه في صحيحة في فضائل علي من عدة طرق إذا كنت لا تصدق إلا بمسلم و البخاري. أما البخاري فلم يروه و لكن الحاكم استدركه عليه (109:3).

الكريم حسب تعبيره و أمر بالتمسك به مقروناً بالتمسك بالثقل الأول (القرآن)، فهو الذي يكفل لنا دين النبي و قوانينه من وقوع الضلال فيها أبدا (أبدا) ما إن تمسكنا به مع القرآن، و هو الذي يبين لنا كل ما أجمل في القرآن و ما نزل من أحكام و ما جاء من قوانين لا (الحديث).

و لا يبقى بعد هذا مجال لمن قال أو يقول: (حسبنا كتاب الله) فانه لو كان (حسبنا) و فيه الكفاية لما قرنه النبي بعدله الثقل الثاني. أ ليس كذلك يا قرة عيني ؟

و استطيع ان اخلص من هذا الكلام الى موافقتك (موافقتك أنت) انه لا يصح الاعتماد على (الحديث) لانه ليس بعدل للقرآن و إلا لو كان الحديث المعمول به عند الناس طريقا الى اثبات الوحي الإِلهي لكان النبي يأمر كما قلت بتدوينه كما أمر بتدوين القرآن. بل ازيدك بأنه لم يقرن (صلی الله علیه و آله) الحديث بالقرآن و لم تأت بذلك رواية معتبرة و لا آية، بل اكثر من ذلك قد اخبر عن كثرة الكذابين عليه بعده و حذرنا منهم، و لم يرو عنه انه شجع على الحديث عنه.

و هنا اعيد كلامك السديد فأقول معك: (أ فيمكن ان يبني دين موحد على حديث يصدقه اناس و يكذبه آخرون). إذن فليسقط (الحديث) من اعتبارنا جملة، و لكنا إنما نستدل به لنتخذه حجة على من يراه حجة عنده من باب الزام الخصم بما يعترف به، فان تنازل الخصم عن حجية الحديث و انكره جملة، قلنا له: بما ذا تثبت تفاصيل الاحتكام و خصوصياتها فان القرآن فيه المجمل و المبين و المتشابه و المحكم و العام و الخاص و الناسخ و المنسوخ و ليس فيه تفاصيل الأحكام

ص:189

و خصوصياتها، فهذه الصلاة مثلا من أين تعرف أوقاتها و فرائضها و ركعاتها و أجزائها و شرائطها و مقدماتها و ما يتصل بها من أحكام لا تحصى ؟

فهل ترجع إلى اعتبار الحديث مرة اخرى ؟

أم تلتجئ عندئذ إلى الاعتراف بالثقل الثاني الذي أرجعنا اليه النبي (صلی الله علیه و آله) مع القرآن.

أم ما ذا؟

4 قولك سدد الله قولك: (لا يعقل أن يترك أمرها أي الخلافة إلى حديث كحديث الغدير)، فيا قرة العين ليس الأمر منحصراً بحديث الغدير حتى يتم استغرابك فكم هي الأحاديث و الآيات كما قرأت بعضها في السقيفة و هي يؤيد بعضها بعضاً و يفسر بعضها بعضاً إذا كان الواحد منها لا يكفيك.

أما وصفك لحديث الغدير بأنه (لا تكاد الصحابة تسمعه حتى ينساه أكثرهم و يذهب في تأويله الآخرون مذاهب مختلفة) فاني أجلك من هذا الكلام فانه ما على النبي من ضير أن تنسى حديثه الصحابة أو تتأوله، بل ترك أمر الخلافة إلى الصريح الفصيح من الكلام و بلغهم و إذا كانوا نسوه فالعيب فيهم لا في الحديث، على أنا لا بد أن نقول: انهم تناسوه لا نسوه، و من أين علمنا بأنهم نسوه.

و أما الذين ذهبوا المذاهب المختلفة في تأويله فاولئك قوم من المتأخرين و ليس هم الصحابة كما يشعر به قولك و ذلك لما ضاقوا

ص:190

ذرعا في الطعن في سنده فاضطروا لتأويله بالتأويلات التي تعرفها.

5 و أما آية (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ ...) فصحيح ما قلت فيها على ما اعتقد انه لم يعهد التعبير في الكتاب العزيز عن المفرد بالجمع. و ازيدك انه لو كان المراد التعبير بالجمع عن المفرد لقال (الذين أقاموا... و آتوا...). و التعبير المضارع (يُقِيمُونَ ... وَ يُؤْتُونَ ..) دليل على أن المقصود بها قاعدة كلية. و بتعبير منطقي تعرفه إذا كنت درست علم المنطق ان هذه حقيقة معناها ان كل من فرض فيه انه وقع منه هذا العمل أو يقع فهو ولي للمؤمنين ولاية كولاية الله و رسوله، لا قضية شخصية مشار بها إلى شخص أو أشخاص مخصوصين موجودين في الخارج، و إلا لوجب ان يقول بصيغة الماضي أقاموا و آتوا.

و عليه فالمقصود بالآية الكريمة ان كل مؤمن يقيم الصلاة و يؤتي الزكاة و هو في حال ركوعه فهو له الولاية العامة التي كولاية الله و رسوله. و على هذا تكون الآية كبرى كلية لا يتألف منها وحدها القياس المنطقي و لا تنتج شيئا إلا إذا عرفنا الصغرى لها، و لا يمكن الاستبدال بها وحدها مجردة بدون ضم الصغرى لها، و ليس منطوقها إلا كمنطوق القوانين العامة مثل ان يقول القانون (كل من يحمل الشهادة الحقوقية له الحق أن يعين حاكما) فإن هذا القانون لا ينفعنا في معرفة الأشخاص الذين يحملون الشهادة بل لا بد من الخارج ان نعرفهم بأشخاصهم لنعطي لهم هذا الحق.

و بهذه المقدمة نخلص إلى معرفة وجه الاستدلال بالآية على ولاية

ص:191

علي، و ذلك بضميمة الصغرى أي بضميمة معرفة نزولها، و قد ثبت انها نزلت في علي عند ما تصدق بخاتمه و هو في حال ركوعه، فتشخصت هذه القاعدة الكلية فيه باعتبار انها نزلت فيه. و لم يعهد من غيره من الصحابة من آتى الزكاة و هو راكع لا قبله و لا بعده، فانحصر هذا الكلي في فرد واحد بحكم نزول الآية فيه.

و أما الحكمة في التعبير بهذه القاعدة الكلية فلبيان ان علياً بالاستحقاق نال هذه المنزلة من الولاية لصدور هذا العمل منه الذي يعطي له هذا الحق، و المفروض انه لم يقع من غيره فتنحصر فيه هذه الولاية من دون باقي الصحابة.

6 أما آية (المباهلة) فأظن ان ما ذكرته عنها ستتراجع عنه عند ما تعيد التأمل فيه فإنه قول غريب منك مع ذكائك و فطنتك، لأنه واضح ليس المقصود من انه نفسه انه هو على وجه تبطل الاثنينية حتى يترتب عليه انه لا يجوز ان يتزوج علي ببنت محمد (صلی الله علیه و آله) باعتبار انها تكون ابنته ايضا، فان هذا لا يتوهمه عاقل و لا يتوقف عليه الاستدلال، فان محمداً محمد و علياً علي هما شخصان اثنان احدهما ابن عم الآخر و أحدهما ولد قبل الآخر و مات قبله، و لكل منهما مميزاته الشخصية التي تختلف عن مميزات شخصية الآخر، بل المقصود انه نفسه تنزيلا أي انه كنفسه و ذلك مبالغة في تقاربهما و اتحادهما في كثير من الأحكام المنزلة. و ذلك يشبه قول الشاعر في مبالغته عن اتحاده مع حبيبه.

أنا من أهوى و من أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا

ص:192

فاذا أبصرتني أبصرته و إذا أبصرته أبصرتنا

في البحث الثاني

قلت: (إذا صح أن النبي (صلی الله علیه و آله) قد نص على الأئمة الاثنى عشر بعد ان فقد ابنه ابراهيم) لا يا أخي لم يدع أحد أن النص على الأئمة كان بعد فقد ابراهيم و لم يصح فيه حديث، فمن أين جئت بهذا. و لا بأس أن ألفت نظرك إلى ان هناك آية قرآنية اخرى نظير التي ذكرتها و هي قوله تعالى: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) فما ذا تقول فيها(1)؟

و هلا تدري أن النبي لما نزلت هذه الآية (وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) جمع عشيرته و استنصرهم و جعل لناصره ان يكون اخاه و وصيه و وارثه و خليفته من بعده و كان علي صبيا فأجابه دونهم فقال في حقه: (إن هذا أخي و وصيي و خليفتي من بعدي فاسمعوا له و اطيعوا) فخرجوا يتضاحكون من تأميره هذا الغلام على شيوخ قومه و فيهم

______________________________

ص:193


1- (1) و ما ذكرت انها آية فلا وجود لها بنصها، و إنما بمضمونها آيات نزلت في نوح و هود و صالح و شعيب و لوط عليهم السلام. و النازلة على لسان نبينا إنما هي آية القربى و آية اخرى في سبأ 47 (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى اللّهِ ) و هما يفسر احداهما الاخرى، و يدلان على انه (صلی الله علیه و آله) سأل اجرا هو المودة في القربى، و لكنه للمسلمين أي نفعه لهم.

ابوه. بالله عليك كم سبقت هذه الواقعة في الزمن مولد ابراهيم. و تأمل في صبي لم يبلغ الحلم يقال له هذا القول من نبي لا يقول إلا عن وحي. أ هذا جد أم هزل ؟. تأمل في هذا و حكم وجدانك و اعرضه على انصافك و أوله ما شئت أن تأوله فانك لا محالة ستجد هذا الصبي أكبر من أن يقاس إلى الناس و قد أمر من يومه ذاك في مبدأ البعثة، ثمّ فكر في قول من يقول انه لا قيمة لإسلامه يومئذ و هو لم يبلغ الحلم كم يبلغ من درجة الانصاف و قول العدل و قوة الحجة.

في البحث الثالث

1 ذكرت ان الأنصار ساعة الاحتضار كانوا مجتمعين في السقيفة و جعلت دليلك مجيء معن و عويم إلى دار النبي لاخبار أبي بكر و عمر. و لكن الدعوى منك غريبة لا شاهد لها من التأريخ، و الدليل أغرب، لأنه في ساعة الاحتضار كان أبو بكر في السنح و ما جاء الى المدينة إلا بعد ان بلغه وفاة النبي فجاء إلى دار النبي فكشف عن وجهه صلى الله عليه و آله و سلم على ما ذكره بعض المؤرخين ثمّ ذهب إلى المسجد حيث وجد عمراً يخطب الناس بأن النبي لم يمت، و من المسجد بعد أن هدأت سورة عمر ذهبوا إلى دار النبي و لا بد أن الأنصار حينئذ انسلوا إلى سقيفتهم.

2 استغربت من الأنصار أن يتنكروا للنص على علي، و لكن

ص:194

اعتقد يا عزيزي لو انك رجعت الى ما ذكرته في السقيفة عن دوافعهم على تنكيرهم لكان لك مقنعاً كافياً.

و أما قولك: (فقد كان الأولى أن لا تغيب عن فطنة رسول الله و هو المؤيد بالوحي فلا يأمر بأمر امته يعلم سلفاً بأنهم لا يطيعون فيه فيعرضهم بذلك إلى غضب الله...) فاني أقول كيف يغيب عن فطنتك قوله تعالى: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ). و قوله: (إِنْ أَنْتَ إِلاّ نَذِيرٌ) . و قوله:

(فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ...) و أمثال ذلك في القرآن كثير. و في الحقيقة ان الرسول عليه ان يبلغ الأمر الإلهي و ليس عليه أن لا يطيعه الناس. و لا يصح أن يتنازل عنه لمجرد انه يعلم سلفا انهم لا يطيعونه. و إلا لوجب ان يترك كثيرا من الأحكام كلها لأنه يعلم سلفا انهم كلهم أو بعضهم لا فرق لا يطيعونه. و من المواقع التي يعلم سلفا انهم لا يطيعونه فيها و مع ذلك بلغها قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ) فانه اجمع المفسرون و أهل الحديث انه لم يعمل بهذا الحكم إلا علي عليه السلام(1)

يا عزيزي إن الله تعالى يقول: (وَ ما أَكْثَرُ النّاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) ثمّ يقول عن المؤمنين بالخصوص: (وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ ) فاذا كان تعالى يعلم سلفاً و رسوله يعلم سلفاً ان الناس اكثرهم لا يؤمنون و أن يؤمنون اكثرهم في ايمانهم مشركون، فيكون على قولك ارسال الرسل و تبليغ الأحكام للناس من قبلهم تعريضاً

ص:195


1- (1) هذا الحديث مما ترك روايته البخاري و مسلم أيضاً و استدركه عليهما الحاكم على شرطهما (482:2) مع الاجماع على نقله فلما ذا تركه الشيخان ؟

لاكثر الناس و اكثر المؤمنين منهم إلى غضب الله و تذهب جهود الرسل في هدايتهم سدى.

أ هذا هو المنطق يا قرة عيني ؟ أ يترك الله دينه و احكامه لسواد عيون الناس لأنه يعلم سلفاً انهم يعصونه ؟ لا يا أخي إن الحق يجب ان يبين و الحكم يجب ان يوضح سواء أطاع الناس أم عصوا و ما على الرسول إلا البلاغ.

في البحث الرابع

قلت عن بعث اسامة: (ان رسول الله (صلی الله علیه و آله) لم تكن تأخذه في الحق لومة لائم و هذا التدبير أشبه بتدبير الضعفاء). و أقول: نحن بعد أن تثبت عندنا النصوص على علي فانا نعرف كيف لم تكن تأخذ ه

في الحق لومة لائم، فقد بين و أوضح و كرر و أكد، و لكنه بعد ان اتضح لديه ان كل هذه التأكيدات و البيانات ستخالف على كل حال و ان هناك جماعة سوف لا تطيع الأمر في علي فأراد أن يبعدهم عن المدينة بهذه الطريقة. و ليس هذا من تدبير الضعفاء بل من التدبير الحكيم بعد أن نعرف ملابسات الواقعة كما أوضحناها في كتاب السقيفة.

نعم نتصوره من تدبير الضعفاء إذا نحن أنكرنا تلك النصوص على علي و تصريحات النبي في حقه و أنكرنا ان المسلمين يوم

ص:196

الغدير سلموا عليه بإمرة المؤمنين. نعم إذا انكرنا تلك النصوص جملة و تصورنا أن النبي أراد البيعة لابن عمه سراً فدبر ذلك التدبير الخفي لأبعاد خصومه فلا نتصور النبي حينئذ و حاشاه إلا جباناً ضعيفاً يريد أن يخاتل المسلمين في ابن عمه. و لكن يا أخي كل هذا التدبير إنما يكون مقبولا حكيما إذا كان قد وقع بعد ما اعلن أمر ابن عمه فلم تنفع معهم كل تلك التوضيحات و علم اصرارهم على المخالفة فأرسل هذا البعث، و إن لم ينفذوه فقد أقام به الحجة البالغة عليهم، و الا فلما ذا خالفوا أمره فيه و لما ذا تباطؤا و اعترضوا على تأمير اسامة ؟ و قد بسطنا كل ذلك في كتاب السقيفة.

و لا يشك التاريخ في وقوع البعث و لا في تأخر المبعوثين عن تنفيذه و لا في تألم النبي منهم و غضبه عليهم و اصراره عليه مرة اخرى. و لا يصح تفسير ذلك بغير ما ذكرنا إلا إذا كنا ننكر النصوص على علي جملة، فهذا أمر آخر و لا كلام لنا مع هذا المنكر فان مثله لا يستطيع أن يستسيغ هذا التفسير قطعاً.

أما تقديرك أن جيش اسامة هذا لو رجع بعد ان يفتح و قد وجد الأمر قد تم لعلي قد ينتقض فيحارب من في المدينة، فهذا احتمال من الجائزان يقع و أن لا يقع، و لكن لو وقع منهم فانهم يكونون كأهل الردة الخارجين على امام زمانهم يحاربون و تكون الحجة عليهم لا سيما مع سبق النصوص و بيعتهم لعلي يوم الغدير و لم يبق مجال للتأويل أو تجاهل النص على علي بعد تمام البيعة له.

في البحث الخامس

انك تشك في صحة حديث الكتاب الذي أراد النبي أن

ص:197

يكتبه. و أنا أقول لا مجال لهذا الشك بعد ثبوته برواية أهل الحديث و التاريخ و التفسير. و لا بد من التسليم به بعد ان كان متواتر النقل أو في حكم المتواتر. و أما ما ذكرت من سبب الطعن فيه ففيه كثير من فضول القول فيما يتعلق باحتمال انه كان قرآنا فانه ليس مجال لهذا الاحتمال و لا يتصوره أحد بل هو كتاب أراد أن يسجله للمسلمين لئلا يضلوا بعده فأبوا لأنفسهم هذه النعمة. و كونه بادرة لم يسبق لها مثيل منه (صلی الله علیه و آله) فهو صحيح و لكن لا يوجب ذلك انكار للحديث و هل تعجب من النبي ان يصنع شيئا لم يسبق له نظير لا سيما و انها بادرة تقع في اخريات ايامه قصد بها أن يفارق امته عن شيء يسد عليهم باب الخلاف و الضلال. ان النبي اعظم من ان تستكثر عليه مثل هذه البادرة.

و أما قولك: (ثمّ من هو عمر هذا الذي يأمر و ينهي و لا يستطيع أحد مخالفته) فهذا صحيح و لكن عمر لم يمنعه بقوة سيف أو سيطر على المسلمين أو على النبي و إنما منعه لأنه ألقى شبهة تثير الخلاف مدى الدهر و هي ان النبي كان يهجر أو غلبه الوجع ما شئت فعبر، و أقل الناس يستطيع ان يصنع ذلك لا سيما إذا وجد أعوانا و انصارا و بالفعل قد وجد عمر اولئك الأعوان إذ رأينا المسلمين الحاضرين قد اختلفوا على فرقتين، فبطل مفعول الكتاب الذي كان المقصود منه أن لا يضلوا بعده أبدا كيف و قد صار هو نفسه موضوعاً للنزاع و الجدال و النبي حاضر بينهم و امام عينيه حتى أغضبوه و قال: (قوموا عني و لا ينبغي عند نبي نزاع). و لا يريد النبي أن ينفذ مثل هذا بقوة السيف أو العشيرة فان طبيعة الموضوع تأبى ذلك لأن هذا يزيد في الخلاف و يعقده.

ص:198

نعم صحيح قولك: (و لم يزد عمر على ان رأى رأيا حين قال: ان الرجل قد غلبه الوجع...) و لكن هذا الرأي لا بد أن يحول دون تنفيذ الكتاب لأن طبيعة الموضوع تقتضي أن يحول هذا الرأي دونه كما قلنا، فنعرف السر في عدوله (صلی الله علیه و آله) عن تنفيذ الكتاب و نعرف كيف جاز له العدول عنه.

و ما أدري أي أمر جوهري أعظم من كتاب يؤمن الناس من الضلال ابدا، و هل المقصود من الدين شيء فوق هذا، حتى تقول أنت: (و لو كان الأمر متعلقا بأمر جوهري من امور الدين...)

و بذلك البيان تعرف يا أخي مدى قولك بالأخير (و إلا لترتيب على ذلك ان النبي (صلی الله علیه و آله) كتم كثيرا مما كان يريد تبليغه خشية عمر و غيره و لا أظن مؤمنا يقول بذلك) فاني اكرر القول بأن النبي انما عدل عنه لا خشية من عمر و غيره و لكن الشبهة التي أثارها و تقبلها بعض الحاضرين بالفعل فاختلفوا بحضوره لا تبقى مجالا للكتاب، لأنه بالعكس سيكون سببا للضلال و الخلاف ابدا الدهور بعد ان كان المقصود منه تأمين البشر من الضلال، فلا بد أن يعدل عنه روحي فداه، و لا ينفع معه التدبير باخراج عمر و لا أي تدبير آخر حتى بقتله كما تقول، لأن الشبهة قد وقعت رضوا أم أبوا، و كل قول و فعل حينئذ من النبي بعد هذا يكون موضعا لهذه الشبهة بأنه من الهجر و غلبة الوجع. و حق لابن عباس و غير ابن عباس بعد هذا أن يبكي و يبكي بل حق له أن تتفطر كبده ألماً لفوات هذه النعمة الكبرى التي لا تعادلها نعمة، مهما كان مقصود

ص:199

النبي من ذلك البيان الذي لا يضلون بعده أبدا سواء كان هو النص على علي أو على أي شيء آخر.

و نحن رجحنا ان يكون المقصود هو النص على علي للدلائل و الاشارات التي ذكرناها في كتاب السقيفة و من جملتها قول عمر: (حسبنا كتاب الله) الذي هو صريح في ان ما يريد ان يبينه النبي هو عدل للقرآن، و يسرع إلى أذهاننا حينئذ حديث الثقلين و انه هو المستهدف في البيان و المنع منه.

ثمّ انك تسأل عن الحاجة إلى الكتاب بعد نص الغدير و غيره، فان الحاجة اليه ما كان يستشعره النبي من عزم جماعة على تجاهل تلك النصوص كما وقع فعلا. و أما قولك: (و من نسي حديث الغدير و انكره على قرب العهد به فهو لما في الكتاب المزمع كتابته أشد نسيانا و نكرانا) فاني لم استطيع فهمه و لم اعرف فيه وجه كون الكتاب أشد نسيانا، فان ما هو مكتوب أثبت مما ينقل على الأفواه و كيف يتطرق اليه النسيان أو النكران و هو حجة ثابته مكتوبة، على انه لو وقع يكون أقرب عهداً إلى الناس من حديث الغدير لو كان بعد العهد هو السبب في النسيان أو النكران كما اردت ان تقول.

في البحث السادس

1 قلت: (إن ما نسب إلى الامام... يدل دلالة صريحة على عدم ثبوت حديث الغدير) و أنا استميحك عذرا إذا قلت لك:

إن كلامك هذا غير فني فان ما ذكرته من قولي الامام: (احتجوا

ص:200

بالشجرة...) و (افسدت علينا...) لا معنى لان يقال فيه انه يدل دلالة صريحة على نفي الحديث، لأنه لا دلالة لفظية فيه على ذلك، و أقصى ما يمكن ادعاؤه انهما يدلان بالدلالة العقلية على نفيه باعتبار انه ترك الاستدلال بحديث الغدير في موقع كان الأولى أن يستدل به، فعدوله عنه دليل على عدم ثبوته و إلا لاستدل به. و هذه الدلالة لا تسمى دلالة صريحة.

و نحن ننكر عليك حتى هذه الدلالة العقلية لأنه لم يكن في موقع الاستدلال بحديث الغدير حتى يكون تركه دليلا على عدم ثبوته في القول الاول، لانه جاء احتجاجا على من احتج باستحقاق الخلافة بالقرابة من الرسول فقال لهم: إذا كان ذلك سببا للاستحقاق فمن كان اكثر قرابة و أقرب فهو أولى بالاستحقاق. و التشبيه بالشجرة و الثمرة من التشبيهات البديعة في الباب فانه لبيان أولوية الاستحقاق للأقرب لأنه هو الثمرة التي هي أولى من أصل الشجرة بالاستفادة منها بل الثمرة هي الغاية المقصودة من الشجرة. و ليس هذا موردا لذكر النص لأنه من باب النقض على المستدل بحجته.

و أما القول الثاني فعلى تقدير صحة نقله فان قوله: (لم ترع لنا حقا) كلام عام يجوز ان يراد به النص و يجوز ان يراد مطلق الحق الذي صورته في كلامك. و هذا التصوير الذي ذكرته و أطنبت فيه ليس في كلام الامام دلالة عليه و إنما هو من اجتهاد الكاتب حينما تخيل ان الامام لا نص عليه فلا بد أن تكون احتجاجاته و شكواه ناشئة من اعتقاده بالأحقية.

ص:201

2 تحدثت عن قصة انصراف الناس عنه بعد موت فاطمة فانه كلام غريب فانه لا ربط له بقصة النص و إنما تلك القصة ترتبط بقصة التجاء الامام إلى مسالمة القوم بعد الانصراف عنه.

3 تقارن بين قول الامام: (فنظرت فاذا ليس لي معين...) و بين آية (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ) لتستدل من الآية على تكذيب نسبة هذا القول اليه. و ازيدك انك بهذا الاستدلال تستطيع ان تكذب كثير من الأحاديث النبوية مثل احاديث الحوض و نحوها الدالة على ارتداد أصحابه بعده و تبدلهم و رجوعهم القهقرى و المروية في الصحاح.

غير اني احيلك على كتب التفسير لمعرفة مدى دلالة هذه الآية. و ما علينا من كتب التفسير! لننظر بأنفسنا إلى مدى دلالة هذه الآية على المقصود:

ان دلالتها تكمن في كلمة (كنتم) فان كانت على ظاهرها من دلالتها على الماضي المنقطع بمعنى انهم كانوا فيما مضى خير امة ثمّ لم يستمر ذلك لهم فلا ينافيها أن تكون الامة قد انقلبت بعد الرسول على الاعقاب لأنه قال: كنتم خير امة، و لم يقل انتم خير امة أبد الدهر.

و لكن بعض المفسرين أوّل معنى (كنتم) فقال: انها للماضي الاستمراري مثل قوله تعالى: (وَ كانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِيماً) و أنا شخصياً كذلك أفهم هذا المعنى من الآية، غير ان الذي يشكل علينا ان المسلمين لم يكونوا في جميع عهودهم على ما تصف الآية الكريمة يأمرون بالمعروف و ينهون عن

ص:202

المنكر لا سيما في مثل عهودهم الحاضرة التي لم يبق فيها من المعروف حتى رسمه فضلا عن أن يكون كلهم من الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر. هذا هو الواقع المرير الذي لا سبيل لنا من انكاره و المكابرة فيه فكيف نتصور انطباق الآية على عهودنا و امثالها.

و عليه فليس الاشكال يخص الامة الاسلامية في أول عهودها بعد النبي بل في جميع عهودها الغابرة و الحاضرة فكيف نستطيع التوفيق بين واقع امتنا المحزن و بين دلالة الآية على امتداح هذه الامة و تفضيلها على سائر الامم لأنها تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر؟ كيف التوفيق يا ترى ؟

و الذي يخطر في بالي من الجواب على ذلك أحد أمرين (الأول) و هو الأرجح عندي ان الآية قد تقدمتها آيات أخر ذكرت وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و إن هذا التشريع كما يبدو منها انه من مختصات المسلمين المخاطبين بهذا الوجوب على أن يتولى بعضهم هذا الأمر ثمّ ذكرت نهي المؤمنين عن ان يتفرقوا و يختلفوا من بعد ان جاءتهم البينات فتبيض وجوه بعض و تسود وجوه آخرين ثمّ قال: (كنتم خير امة...) لبيان انه لما كانوا خير الأمم لا ينبغي ان يختلفوا و سر انهم خير الأمم لأنه قد شرع لهم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و ليس المقصود الأخبار عن انهم كلهم يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر لا سيما ان المخاطب

ص:203

بالوجوب بعض المسلمين على نحو الوجوب الكفائي (و لتكن منكم امة يدعون الى الخير و يأمرون بالمعروف...)

(الثاني) ان المراد انكم تأمرون بالمعروف من حيث مجموعكم و لو بامتثال البعض و ان كان ذلك البعض قليلا باعتبار ان ذلك البعض من الامة يعمل باسمها كأنه يقول: انكم خير الامم لأن فيكم من يأمر بالمعروف و ليس كذلك باقي الامم. و هذا كما نقول مثلا ان الأمة الانكليزية احتلت العراق، و ليس المراد ان جميع الامة احتلته بل بعض جيوشها و ذلك باعتبار ان ذلك البعض منها و كان عمله باسمها.

في البحث السابع

1 تسأل عما إذا كان تناقض بين قول الامام: (لو وجدت اربعين ذوي عزم...) و بين قوله: (فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس...) فاني لم اعرف وجها للتناقض بين القولين فان الامام في الأول يقول: لو وجدت الأربعين على هذه الصفة لناهضت القوم، و معنى ذلك انه لم يجد الأربعين فلم يناهضهم يعني انه سالمهم، ثمّ صرح في الثاني بأنه امسك يده عن نصرتهم غير انه لما رأى راجعة الناس عن الاسلام فرأى ان المصيبة في ذلك اعظم من مصيبة فوت الولاية فالتجأ أن ينصر الإسلام لأجل ذلك، لا نصرة للامراء و لا لكونهم عنده أهلاً للنصرة كما هو مدلول كلامه. و أنت

ص:204

ترى ان احد الكلامين يتصل بالآخر و يكون متمماً له، فأين التناقض ؟

أما انه لو ناهض القوم بالأربعين عند ما يجدهم فانك تحتمل ان تدور عليه الدائرة كالحسين فهذا تكهن لم يعترف به الامام و هو من ظاهر كلامه كان جازما بأن الأربعين على هذه الصفة لو وجدهم لكانوا كافين له في النصرة على خصومه. أما انه يكون ذلك ثلما للاسلام لو انتصر عليهم، فمن أين نفهمه إذا فرضنا انه انتصر على غاصبي حقه من الخلافة التي هي بنص النبي و بها حينئذ قوام الاسلام لا هدمه إلا إذا كنا لا نعترف بالنص فهذا أمر آخر.

و أما كفاية نصرة مالك بن نويرة فعلى تقديره فهو واحد من ذوي العزم إذا كان هو حقيقة من ذوي العزم الذين يشترطهم الامام فكيف تفرض ان الحجة قد قامت عليه بمالك وحده على انه كونه يعترف بحقه شيء و كونه من ذوي العزم شيء آخر.

و أما سؤالك عن اتفاق قوله عليه السلام: (فخشيت ان لم أنصر الاسلام و أهله ان أرى فيه ثلماً أو هدما) مع ما ذهبتُ اليه من تقاعس الامام عن نصرة الخلفاء إلا بمقدار الضرورة فانه واضح الاتفاق لان الامام في صدر كلامه ذكر انه أمسك يده و لكن ضرورة حفظ بيضة الاسلام دعته إلى النصرة. و هذا صريح بأن الضرورة هي التي دعته الى ذلك

ص:205

و الضرورات تقدر بقدرها لا ان النصرة ابتدائية بدافع نفسي ليناقض ما قلته عنه، بل هذا الكلام مما يؤيد قولي و يؤكده و هو يدل على أن العمل الذي يعلم انه يضر بالاسلام يتركه و يعمل ما يرى عمله ضرورة اسلامية، فكيف كان قوله هذا يدل على انه يحجم عن الفعل أو القول الذي يكون خذلانا للاسلام كما رغبت انت ان تقوله و تتصوره عن هذه الكلمة.

نعم ان الامام اعظم و أجل ان يتقاعس عن عمل يراه واجبا لنصرة الاسلام، و من اين يدل كلامه المنقول او كلامي المسطور على خلاف ذلك فاذا تباطأ ابو الحسن فانما تباطأ عن شيء يكون فيه نصرة لأبي بكر و عمر و لم يتباطأ عما تدعوه الضرورة الاسلامية الى فعله، و انما لم يشترك في الحروب لأنه حينئذ يكون مأموراً لهم و هذا ما كان يتحاشاه بل يتحاشونه معه. و ما ذكرته في السقيفة عن ذلك ففيه الكفاية.

و أما قياسه في الاشتراك في الحروب بعمر و عثمان و طلحة و امثالهم فقياس مع الفارق البعيد، لو كان هناك قياس، و ابو الحسن من تعرف في حروبه ايام خلافته و لم يشترك قبله و لا بعده من الخلفاء بنفسه في الحروب، فكيف يقاس غيره به و كيف لا يستغرب عدم اشتراكه في الحروب ايام الخلفاء قبله و كيف لا يدل ذلك على عدم تعاونه معهم معاونة صادقة ؟

هذا ما أردت ان اقوله يا قرة العين في جوابات

ص:206

اسئلتك و اعذرني إذا كنت قد رمزت لك رمزاً في كثير من الأبحاث اقتصاداً في الوقت و استعجالاً في الاجابة للشواغل التي دهمتني في خلال تسجيل هذه الرسالة فعاقتني عن الاسراع إلى اتمامها في الوقت المناسب.

و تقبل التحيات من المخلص

محمد رضا المظفر

12 جمادي الاولى سنة 1373

أهم مصادر الكتاب

1 صحيح البخاري المطبوع بمصر عام 1320 ه

2 صحيح مسلم المطبوع بمصر عام 1390 ه

و ما في ص 58 رجعنا فيه الى المطبوع عام 1334 ه

3 مسند احمد المطبوع بمصر عام 1313 ه

4 العقد الفريد المطبوع بمصر عام 1353 ه

5 مستدرك الحاكم

6 الجمع بين الصحيحين

7 كنز العمال

8 تاريخ الطبري

9 تاريخ ابن الأثير

10 تاريخ الخميس

11 تاريخ اليعقوبي

12 السياسة و الامامة لابن قتيبة

13 تاريخ الخلفاء للسيوطي

14 تاريخ ابن خلدون

15 مروج الذهب

16 السيرة الحلبية

17 سيرة ابن هشام

18 سيرة دحلان

19 طبقات ابن سعد

20 الاصابة

21 الاستيعاب

22 اسد الغاية

23 التهذيب لابن عساكر

24 ميزان الاعتدال

25 نهج البلاغة

26 شرح النهج لابن ابي الحديد

27 منهاج السنة لابن تيمية

28 الصواعق المحرقة له

29 مقالات الاسلاميين لأبي الحسن الأشعري

30 الملل و النحل للشهرستاني

31 الفصل في الملل و النحل لابن حزم

32 البيان و التبين للجاحظ

33 معجم البلدان

34 لسان العرب

53 حياة محمد للدكتور محمد حسين هيكل

ص:207

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.