سرشناسه:نظامی پور، علی، 1326 -
عنوان قراردادی:زیارتنامه جامعه کبیره .شرح
عنوان و نام پديدآور:المعارف الرافعة فی شرح الزیارةالجامعة/ علی نظامی پورالهمدانی.
مشخصات نشر:مشهد: بنیاد پژوهشهای اسلامی، 1431 ق.= 1389.
مشخصات ظاهری:644 ص.
شابک:90000 ریال 978-964-971-386-1 :
وضعیت فهرست نویسی:فاپا
يادداشت:عربی.
یادداشت:کتابنامه به صورت زیرنویس.
موضوع:زیارتنامه جامعه کبیره -- نقد و تفسیر
شناسه افزوده:بنیاد پژوهش های اسلامی
رده بندی کنگره:BP271/202 /ن6 1389
رده بندی دیویی:297/777
شماره کتابشناسی ملی:2071785
وضعيت ركورد:ركورد كامل
ص :1
المعارف الرافعة فی شرح الزیارةالجامعة
علی نظامی پورالهمدانی
ص :2
من الذخائر النفيسة التي منّ بها علينا أهل البيت صلوات اللّه عليهم، فأذنوا بأن نخاطبهم بها:هذا النصّ العاصم الذي شاع بيننا باسم«الزيارة الجامعة».و هو نصّ مدّخر مكنون منّت به ألطاف الإمام العاشر أبي الحسن عليّ بن محمّد الهادي سلام اللّه عليه على أهل الإيمان من الموحّدين يوم ألقاه إلى موسى بن عبد اللّه النّخعيّ من أصحابه،لمّا طلب منه بأدب أن يعلّمه ما يقوله إذا زار الأئمّة الطاهرين من آل محمد صلوات اللّه عليهم أجمعين:«علّمني يا ابن رسول اللّه قولا أقوله بليغا كاملا إذا زرت أحدا منكم».و أجابه مولانا الهادي عليه السّلام إلى ما طلب من القول البليغ الكامل في هذا الشأن،فكان أن فاض من خزائن جود الإمام الهادي هذا النصّ السماويّ الهادي البليغ الكامل المناسب-بطبيعة الحال-لما يستوعبه موسى بن عبد اللّه النخعيّ و من هم على شاكلته من المؤمنين.
و قد أريد لهذه الزيارة أن تنتشر فيما بين أشياع آل محمّد و محبّيهم و تشيع.و هكذا كان،إذ غدت ممّا لا تخلو منه كتب الأدعية و الزيارات، و غدت ممّا يزار به أئمّة أهل البيت عليهم السّلام في مزاراتهم المباركة و مزارات
ص:3
من انتمى إليهم من أصفياء أبنائهم المطهّرين.
و شرع الناس يقرأونها إذا زاروا أئمّتهم الأكرمين،فإذا هي نصّ«مميّز» و قول بليغ يبلغ بقارئه المصدّق مراقي من المعرفة العالية النقيّة،و مدارج رفيعة من خالص التوحيد..إلى جوار ما تشتمل عليه فقرات هذه الزيارة المباركة من حركة قلب الزائر بالتحية و السلام على من يزور،و من إقرار و اعتراف بمقام الإمامة الإلهيّة،و من الأشواق الصاعدة المتعالية إلى قدس عالم الملكوت،و من الثناء على اللّه تبارك و تعالى و الإذعان بالعبوديّة المتطامنة أمام عظمة الربوبيّة.إنّها زيارة مبصّرة تبلغ بأهل التسليم و التصديق مقام اليقين،و هو ما يريده آل محمد صلّى اللّه عليه و آله لشيعتهم و محبّيهم منّة عليهم بهذه الكرامة النفيسة النادرة؛فإنّ أقلّ رزق ينزل من السماء هو اليقين (1).
إنّ الزيارة الجامعة-بهذه المضامين القيّمة التي تتحدّر علينا منها- تكفي بمفردها أن نعرف من خلالها أفقا مهمّا ساميا من الآفاق الملكوتيّة النورانيّة العالية لأهل البيت،بما منّ اللّه تعالى به عليهم فجعلهم خلصاءه و أصفياءه و أمناءه و الأدلاّء عليه.و من هنا كان اسم«الزيارة الجامعة»،إذ جمعت من مقاماتهم سلام اللّه عليهم ما لم يجمعه غيرها من نصوص
ص:4
الزيارات.و هي«جامعة»كذلك؛لأنّها ممّا يزار به كلّ واحد من الأئمّة المعصومين،فهي نصّ جامع يزار به أهل العصمة أجمعين.و إنّ العديد من آثار هذه الزيارة المباركة ليتحقّق للعبد إذا ما أقبل بكلّه عليها:أشواقا في القلب،و أدبا في الخطاب،و صفاء في العقل،و مزيدا من التطامن و التواضع و الخضوع في قبالة ذلكم المقام السامي الآخذ بالعبد إلى ربّه و موصله إلى حقيقة الصراط المستقيم،و العاصم له من الزيغ في المعتقد، و من الوهن في الارتباط،و من التفريط بأدب الخطاب.
و هذا النصّ الذي رواه فحول رجال الرواية لقي اهتماما متميّزا من كثير العلماء،مذ تفطّنوا إلى تأكيد أئمّة أهل البيت عليه،و مذ أدركت قلوبهم و عقولهم ما يموج به من أنوار الهداية الخاصّة،فكان أن كتبت له شروح متعدّدة،على درجات شتّى من الطول و الإيجاز،و من التعمّق و اليسر في البيان،و من التعدّد في مشارب شارحيه و في الأذواق.و من هذه الشروح ما نقدّمه اليوم لقرّائنا الأعزّاء بعنوان«المعارف الرافعة في شرح الزيارة الجامعة»للأستاذ الفاضل المحقّق الشيخ عليّ النظاميّ الهمدانيّ.
و سيجد القارئ في هذا الشرح الجديد الذي قسّم فقرات الزيارة إلى اثني عشر بابا في(144)فصلا،مضامين بيانيّة و مباحث معرفيّة قصد بها مؤلّفها المحترم إلى تقريب البعيد و تيسير العسير و تعميق المعرفة بأهل البيت صلوات اللّه و سلامه عليهم.و سيجد القارئ أيضا أنّ هذا الشرح الذي كتبه فضيلة المؤلّف إنّما هو ثمرة جهود علميّة معرفيّة إيمانيّة طويلة
ص:5
عايشها في حياته،فأثمرت هذه الثمرة الطيّبة،مريدا لها أن تكون رافعة لوعي قارئها إلى درجات عالية من الإيمان و من الارتباط الباطني المستنير بأهل البيت الطاهرين.
مجمع البحوث الإسلاميّة
ص:6
الحمد للّه المحمود بنعمته،المعبود بقدرته،المطاع في سلطانه، المرهوب من عذابه،المرغوب إليه فيما عنده،النافذ أمره في سمائه و أرضه،الذي خلق الخلق بقدرته و ميّزهم بأحكامه و أعزّهم بدينه.
و الصلاة على رسوله نبيّ الرّحمة و إمام الأئمّة،و سراج الأمّة،المنتجب من طينة الكرم،و سلالة المجد الأقدم،و على أهل بيته مصابيح الظّلم، و عصم الأمم،و منارات الدين الواضحة،و مثاقيل الفضل الراجحة،و لعنة اللّه على أعدائهم و منافقيهم و منكري مناقبهم أبد الآبدين.
أمّا بعد،لا شكّ في أنّ هويّة الإنسان لا تحدّ بغرائزه و أوهامه،و لا شبهة أيضا في أنّ كماله الحقيقيّ هو الذي يرتبط بما يتقوّم به نوعه الإنسانيّ؛لأنّ الغرائز و الأوهام لا تعدّان من نوعه الحقيقيّ أي الإنسانيّة، فالظفر بهذا الكمال يحتاج إلى المعرفة باصول أربعة حقّة تواجهها أفكار جميع البشر في كلّ زمان و مكان،و هي عبارة عن:المبدأ و المسير و السير و المقصد،فلو أخلّ في معرفة أيّ من هذه الاصول-فضلا عن
ص:7
ترك المعرفة بجميعها-لا يبلغ إلى مقصده،و هو النيل بكماله الحقيقيّ الإنسانيّ،فالمراد من معرفته بالمبدأ،هي معرفته باللّه و بالمقصد،المعاد و السير،الأوصاف و الأعمال،و لا تحصل المعرفة بأيّ من هذه الثلاثة إلاّ بمعرفته بالمسير،و الغرض من المسير هي النبوّة و الإمامة،و هو:المعرفة بكلّ واحد منها لا تحصل إلاّ بتقديم العقل الصريح على النقل الصحيح، و جعله النقل مؤيّدا للعقل،فالعقل دالّ على لزوم صيانة النقل عن الخطأ و الخلاف،و أيضا على ضرورة كون المنقول عنه معصوما؛لأنّ المقصد هامّ جدّا في غاية الأهمّيّة بحيث تكون الغفلة عنه مهلكة فحيث لا أحد معصوم في الإسلام-كما سيأتي البحث عنه-إلاّ آل البيت عليهم السّلام،أردنا التعرّف على آل البيت عليهم السّلام(و هم المسير)،معتصمين بهم عن الخطأ و الخلاف،فرأينا أن نشرح هذه الزيارة كي تحصل بسبب معرفتهم معرفة الأصول الثلاثة الأول،متوكّلين على اللّه،و مستمدّين فضله العميم.إنّ مبادرتنا إلى الشرح كانت بتأليف كتاب بالفارسيّة في ثلاثة مجلّدات سمّيناه ب«سيماى أئمّه در شرح زيارت جامعه كبيره»،ثمّ أردنا أن نعرّب ذلك الكتاب،و صنعنا في المعرّب إصلاحات بالحذف و الإضافة، و تفصيل بعض المجملات و إجمال المفصّلات،و إتيان ما هو أنسب في بعض مطالبه،فلمّا انتهينا منه سمّيناه ب«المعارف الرافعة في شرح الزيارة الجامعة»مقتبسين اسمه من مضمون قوله تعالى: يَرْفَعِ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ، 1فهذا هو ما بين يديك أيّها القارئ الكريم، نسأل اللّه أن ينفعنا و إيّاك به،إنّه قريب مجيب.
ص:8
أمّا بعد،لا شكّ في أنّ هويّة الإنسان لا تحدّ بغرائزه و أوهامه،و لا شبهة أيضا في أنّ كماله الحقيقيّ هو الذي يرتبط بما يتقوّم به نوعه الإنسانيّ؛لأنّ الغرائز و الأوهام لا تعدّان من نوعه الحقيقيّ أي الإنسانيّة، فالظفر بهذا الكمال يحتاج إلى المعرفة باصول أربعة حقّة تواجهها أفكار جميع البشر في كلّ زمان و مكان،و هي عبارة عن:المبدأ و المسير و السير و المقصد،فلو أخلّ في معرفة أيّ من هذه الاصول-فضلا عن
ص:
ص:10
قبل الورود في موضوع الكتاب تقع هنا مسائل،ينبغي الإجابة عنها:
إحداها:ما الحاجة إلى هذا الشرح بعد تأليف كتب كثيرة في هذا الباب؟لأنّ الطالب يمكن له أن يرجع إلى كلّ واحد منها فينال حاجته و يستغني عن مثل هذا الشرح.
ثانيها:ما معنى الزيارة و كم لها من الأقسام؟
ثالثها:لماذا سمّيت الجامعة بالجامعة؟
رابعها:ما الحاجة إلى التعرّف على تفسيرها؟
خامسها:ما حدّ صحّتها و اعتبارها؟
سادسها:لماذا نزور المعصومين عليهم السّلام؟
أمّا الإجابة عن السؤال الأوّل فنقول:إنّ الكتب المؤلّفة في المقام،أوّلا ليست كثيرة؛لهذا قد يكون هذا الشرح جديدا في بابه.ثانيا ليس كلّ الشروح في متناول جميع الطالبين،و على فرض إمكان ذلك فإنّه لا يستفيد منها الجميع،مضافا إلى أنّ من لا علم له بالقراءة يمكن له الاستفادة كثيرا من الخطابة،و لكنّ البعض كثيرا ما يتمتّعون بالمطالعة و لا ينتفعون كثيرا من طريق الاستماع.أضف إلى ذلك أنّ فهم المسائل المطروحة في الباب يمكن أن يتعسّر لأكثر الناس لغموضها،و لكنّا نجتهد
ص:11
أن نسهّلها لينتفع الأكثر مهما أمكن.
الإجابة عن السؤال الثاني:إنّ الزيارة بمعنى اللّقاء،نقل أنّ أبا هريرة كان يأتي النّبيّ صلّى اللّه عليه و اله و يصاحبه كثيرا و هو رجل غير جيّد و كأنّه لم يرض النبيّ صلّى اللّه عليه و اله من كثرة لقائه،لهذا قال صلّى اللّه عليه و اله له:«يا أبا هريرة!زر غبّا تزدد حبّا» (1).
فالحاصل أنّ الزيارة بمعنى اللقاء و هو على أقسام:حسّيّ و خياليّ و قلبيّ.
أمّا الأوّل:فيتعارفه الجميع،و أمّا بمعنى الثاني:فهو ما يتصوّر الزائر المزور و يتوهّمه عنده فيتكلّم معه،مثلا مع تمثاله،كما قيل:
و ما شربت لذيذ الماء من عطش إلاّ رأيت خيالا منك في الكاس
و أمّا الثالث من أقسام الزيارة فالزيارة بالقلب،فالقلب يثبت لنا بالدليل ذلك المطلوب فقط و لا يذهب بنا إليه،و لكنّ القلب يذهب بعمقه و سويداه إلى لقاء المطلوب.
فمن زارهم عليهم السّلام بقلبه فقد زارهم حقّا من غير حسّ ظاهريّ؛لأنّ هذه زيارة بالقلب،و لو حضر عندهم كان يحسّه(بحسّ الظاهر)فيكون ذلك مقدّمة لهذه الزيارة القلبيّة،فالمقصد الأصليّ و النتيجة الحقيقيّة ما وفّق له الزائر من اللقاء القلبيّ،و إلاّ فقد كان المنافقون يزورونهم عليهم السّلام بحواسّهم الظاهرة.
و حيث إنّ الزيارة الحقيقيّة كانت هذه بالقلب،فلا يؤثّر فيها البعد الزمانيّ أو المكانيّ،كما قيل بالفارسيّة:
ص:12
گرچه دوريم به ياد تو سخن مى گوئيم بُعد منزل نبود در سفر روحانى (1)
بناء على هذا،فالمهمّ هو الزيارة بالقلب،التي تحصل للزائر قريبا كان أو بعيدا مع بعد كثير زمانيّ أو قليل،و لا سيّما مع بقاء المعصومين عليهم السّلام أحياء و إحاطتهم الولويّة كما نصّ عليه القرآن الكريم في وصف الشهداء:
بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (2).
و أمّا الإجابة عن السؤال الثالث فهي:نقل في كتب الأدعية و الزيارات، و منها مفاتيح الجنان،زيارة لأهل البيت عليهم السّلام هي المعروفة بالجامعة،كفى في فضلها أنّ الإمام المهديّ(عجّل اللّه فرجه الشريف)أوصى السيّد أحمد بن السيّد هاشم الموسويّ الرشتيّ بقراءتها،و أيضا يكفي في فضلها كونها«جامعة».
و أحببنا هنا أن نبيّن أنّ لكلمة الجامعة معنيين،و هذا الاسم أي «الجامعة»محتمل لكليهما:
الأوّل:أنّ المراد من الجامعة هو استجماع الزائر بها جميع المعصومين عليهم السّلام في الزيارة،فلو زار الإمام الحسين عليه السّلام مثلا بزيارة عاشوراء فقد زاره عليه السّلام فقط دون سائر المعصومين عليهم السّلام و لكن بها يزارون عليهم السّلام جميعا، فهي تستلزم ثواب زيارتهم جميعا للزائر.
ص:13
الثاني:ذكر جميع كمالاتهم و مناقبهم عليهم السّلام،فالحاصل أنّ كون هذه جامعة ناظرة إلى كمالاتهم الوافرة،و شؤونهم العالية الكثيرة.
فمثل هذه الزيارة تعرّفنا المعصومين معرفة أكمل و أجمع مع معرفتنا فوق العلم بهم حول علومهم و عباداتهم و صلتهم عليهم السّلام بالغيب و مناقبهم الجليلة الذاتيّة و الفعليّة و غيرها.
و يلزم أن نتذكّر أنّ هذه الألفاظ و العبارات ليست في الحقيقة زيارة، بل هي أدوات مذكّرة للزيارة،كما تقدّم أنّ الزيارة في الحقيقة هي بالقلب، و هو به معنى لقاء الذي يكون عقيبا لهذه الألفاظ.
أمّا الإجابة عن السؤال الرابع:فإنّا نذكر في ما بعد أنّ معرفة مقام الأئمّة هي حقيقة التوحيد و لبّ الدين و النبوّة،و دون المعرفة بهم لا ينجو أحد، و نذكر أيضا أنّ كثيرا من كمالاتهم ذكر في هذه الزيارة،فبالمقدّمتين تتبيّن لنا ضرورة شرح هذه الزيارة و لزومه،لأنّا إن لم نتعرّف على شرحها ليس لنا مأخذ معتبر كي نأخذ التعرّف منه،أو إن وجد مأخذ معتبر كان متفرّقا لم يجمع فيه كمالاتهم كما جمعت في هذه الزيارة.
و الجواب عن خامس الأسئلة نقول:نكتفي بما أتى به مؤلّف الكتاب «مقام ولايت»في مقدّمة كتابه حيث قال:«إنّ جميع العظماء من الأعلام اتّفقوا على أنّ«الجامعة»أحسن الزيارات و أكملها،و لا نظير لها من جهة علوّ مضامينها و بلاغتها.(إلى أن قال:)من الأسناد الموثّقة في سند هذه الزيارة،هو الشيخ الأجلّ يعني محمّد بن عليّ بن بابويه الصدوق رحمه اللّه في
ص:14
كتابه«من لا يحضره الفقيه»،و هكذا الشيخ الأجلّ محمّد بن الحسن الطوسيّ في كتابه«تهذيب الأحكام»عن محمّد بن إسماعيل البرمكيّ، عن موسى بن عبد اللّه النخعيّ،نقلوا جميعا أنّه(النخعيّ)قال:قلت للإمام الهادي عليه السّلام(عاشر الأئمّة):علّمني يا ابن رسول اللّه،زيارة بليغة كاملة كلّما أردت أزور أحدكم أقرؤها،فهو عليه السّلام علّمنيها مع شرائط و آداب أقرأها.
و أيضا أتى السيّد حسين الهمدانيّ صاحب كتاب«الشموس الطالعة» (1)في كتابه بما هذا لفظه:«ثمّ إنّ أجمع حديث يشير إلى مقاماتهم الروحانيّة، و أكمل جملة تكشف عن منازلهم و مراتبهم المعنويّة،و أبلغ بيان يرشد و يهدي إلى معرفتهم بالنورانيّة،هو الزيارة الجامعة المعتبرة المرويّة عن أهل العصمة،و يكفيك في بيان جامعيّتها و كمال بلاغتها أنّها وردت في ذلك المورد.
فإنّ المنقول في مزار«التهذيب»و«الفقيه»و الباب 72 من«عيون أخبار الرضا عليه السّلام»:«أنّ موسى بن عبد اللّه النخعيّ قال لعليّ بن محمّد بن عليّ الرضا عليه السّلام:علّمني يا ابن رسول اللّه قولا بليغا كاملا أقوله إذا زرت أحدا منكم...».
و لنعم ما قاله العلاّمة المجلسيّ(في المزار من البحار)بعد نقله الزيارة و بيان لغاتها الغامضة:«إنّما بسطت الكلام في شرح تلك الزيارة قليلا -و إن لم أستوف حقّها-حذرا من الإطالة،لأنّها أصحّ الزيارات سندا،
ص:15
و أعمّها موردا،و أفصحها لفظا و أبلغها معنى،و أعلاها شأنا» (1).
و الجواب عن سادس الأسئلة:أنّ لزيارة المعصومين عليهم السّلام فوائد عقليّة و عاطفيّة و روحيّة و تربويّة و عباديّة،تقريرها:
إنّ زيارتهم عليهم السّلام يعرّف كمالاتهم الزائر استدلالا،و من جهة العطف إنّ القلوب الملتهبة بنار عشقهم يسكن لهيبها بالزيارة،و توصل الزيارة المبتلين بألم مفارقتهم إلى محبوبيهم.
و من الجهة الروحيّة:إنّ إيمان الزائر بالمعصومين عليهم السّلام يتعمّق و يتحكّم بالزيارة.و أمّا من الجهة التربويّة،فكثيرا ما كان الرجل قبل زيارته إيّاهم عاصيا سيّئ الخلق و العمل،و لكنّه يتوب و يسير مطهّرا من الذنوب و محبوبا عند اللّه،كما قال سبحانه: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (2).
و أمّا من الجهة العباديّة:أنّ الزيارة و إن كانت تكريما للمعصومين عليهم السّلام،و لكنّها عبادة عظمى للّه سبحانه،كما تشهد عليه الرواية الآتية:
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله لعليّ عليه السّلام:«يا عليّ،من زارني في حياتي أو بعد مماتي، أو زارك في حياتك أو بعد مماتك،أو زار ابنيك في حياتهما أو بعد مماتهما،ضمنت له يوم القيامة أن أخلّصه من أهوالها و شدائدها،حتّى أصيّره معي في درجتي» (3).
ص:16
و من جهة العقل،بما أنّهم عليهم السّلام أحبّاء اللّه،فيكون تكريمهم و مدحهم و زيارتهم و دفع الشرّ عنهم،و تفدية الأنفس في نصرتهم،و غير ذلك عبادة للّه تعالى.
نضيف إلى هذه المقدّمة مطالب عدّة:
الأوّل:صلتنا في هذه الزيارة بأهل البيت عليهم السّلام لا غير،فنقول إنّ الفوائد و الآثار و الأنوار التي يحتمل البلوغ إليها في سائر الأدعية و الزيارات هي أقلّ من الفوائد التي في هذه(الجامعة)،لأنّهم عليهم السّلام هم من اصطفاهم ملك الملوك،و جعلهم شفعاء عنده لعباده،و لا تنحصر شفاعتهم في الآخرة(كما سيأتي الكلام فيه تفصيلا).
الثاني:إنّ هذه الزيارة مرويّة عن الإمام الهادي عليه السّلام،و واضح أنّ الإمام أعرف بشؤون الإمام من غيره،كما قيل:«أهل البيت أدرى بما في البيت»، فلو أنّا اخترعنا تعابير و ألفاظا من عند أنفسنا،لكانت تلك التعابير قاصرة، لأنّها ناشئة عن علمنا القليل و معرفتنا المحدودة بهم،فلم تكن زيارة جامعة لجميعهم،و لا متضمّنة لكلّ كمالاتهم،إلاّ أن كانت ما صنعنا من العبارات شبيهة بعباراتهم عليهم السّلام،فتكون لمصنوعاتنا أكثر اعتبارا،فبهذه الزيارة نكون مستغنين عن الإبداع و الاختراع.
الثالث:ما هو الفارق بين الزيارة و الملاقاة و الرؤية،نقول:أمّا الرؤية فأعمّ بالنسبة إلى اللقاء و الزيارة،توضيح ذلك:يمكن أن يرى الإنسان صديقه أو عدوّه قاصدا له،و يمكن بلا قصد،و كذلك يمكن أن يرى
ص:17
أشياء أخرى كالكتاب و غيره؛و لكنّ اللقاء،و هو الرؤية مع القصد خاصّة، أعمّ من أن يلاقي الصديق لإظهار المحبّة له،أو العدوّ لإبراز العداوة عليه.
و أمّا الزيارة فهي رؤية أخصّ من سابقتيها؛لأنّها أوّلا مقيّدة بالقصد،و ثانيا تقيّدت بقصد تعظيم الزائر المزور،و هي(رؤية كهذه)تستلزم تحقير الزائر نفسه حتّى يستنتج تكريمه المزور.
فالحاصل تتقوّم الزيارة بثلاثة:الزائر و الزيارة و المزور،فبفقد أحد هذه الأجزاء لم تتحقّق الزيارة.
و لكلّ من هذه الثلاثة لوازم و فروع:
ألف)ما يلزم الزائر،فهو(الزائر)مضافا إلى ما هو شرط له في الظاهر كالطهارة من الحدث و الخبث و الخشوع عند الزيارة،أن ينسى كلّ شيء غير ذكر المزور له شرط باطنيّ،و هو أضعف معرفة بالمزور،ليتحرّك بها إلى الزيارة.
ب)ما يلزم الزيارة نفسها:
الأوّل:أن لا تكون زيارته خياليّة،فهذا صعب لأكثر الناس؛لأنّ معرفة الأكثر لا تكون على عقول كاملة،بل يلزم كونها قلبيّة و إن كانت الخياليّة أيضا صحيحة مجازيّة تنتهي إلى الحقيقة لا محالة،كما قيل:«المجاز قنطرة الحقيقة».
الثاني:يلزم أن تكون الزيارة مصاحبة للمعرفة و إن كانت تلك المعرفة إجماليّة.
ص:18
الثالث:مراعاة الآداب الشرعيّة فيها.
ج)و أمّا اللازم في المزور فهو:أنّ المزور لا بدّ و أن يكون حيّا،و إلاّ تكون زيارته زيارة الأموات و لا يفعلها أيّ عاقل،و لهذه الجهة أنكرت الوهّابيّة على الشيعة زيارة أئمّتهم؛لقولهم(الوهّابيّة):إنّهم أموات!و لهذا يعدّون الشيعة مبدعة،و لكنّا نقول:هذا القول باطل من أساسه،لأنّا لا نزور الأموات حتّى يرد علينا الإشكال،فمبنى عقيدتنا هو حياة المعصومين عليهم السّلام، و بقاؤهم حتّى في النشأة الأخرى المحيطة المشرفة على نشأتنا،فنزورهم معتقدين بأنّهم أحياء،كما قال اللّه سبحانه: وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ (1).
و ينبغي هنا ذكر أنّ زيارتنا إيّاهم عليهم السّلام ليست زيارة حسّيّة لأبدانهم و أشخاصهم عليهم السّلام،بل نزور أعيانهم الحقيقيّة و ذواتهم القدسيّة،فيكون الزائر أيضا أنفسنا لا أبداننا للزوم المناسبة و السنخيّة بين الزائر و المزور.
فإذا كان المقتولون في سبيل اللّه أحياء،فما ظنّك في حقّ من لا يقاس بهم أحد.فالحاصل أنّهم عليهم السّلام حيث كانوا مخاطبين جميعا أو فردا من أيّ مكان،هم أولياء أحياء،محيطون حاضرون،يجيبون العارفين من زائريهم، فإن كانت الزيارة-مع جميع ما ذكر من المقدّمات-كانت معرفة الزائر بهم معرفة تفصيليّة،لأنّه كما قلنا يلزم للزائر أقلاّ معرفة إجماليّة بالمعصومين،و تفصيل معرفته بهم عليهم السّلام يأتي في شرح فقرات الزيارة
ص:19
الجامعة،فيكون أعرف بهم ممّا كان إن شاء اللّه.
و الحاصل أنّ الزيارة محفوفة بمعرفتين،السابقة على الزيارة و هي معرفة إجماليّة غير ثابتة،فهذه ليست بزيارة كاملة.و الثانية هي المعرفة اللاحقة حتّى تصير معرفته بهم ملكة راسخة في نفسه و بعد حصول تلك الملكة القدسيّة تكون زيارته مطلوبة مهما كانت،و لا تعدّ من قبيل ما قاله النبيّ لأبي هريرة في الخبر المتقدّم ذكره.
الرابع من المطالب:
إنّ بين زيارة المعصومين عليهم السّلام و بين سائر الزيارات من غيرهم فرقا بيّنا و هو أنّ هذه الزيارة تنتهي إلى زيارة اللّه؛لأنّهم عليهم السّلام مظاهر أسمائه الحسنى،و مجالي صفاته القدسيّة العليا (1).
«...عن صالح بن عقبة عن زيد،قال:«قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:ما لمن زار قبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله؟قال:كمن زار اللّه في عرشه». (2)
كما أنشدت في بيت من قصيدة ذات قافيتين (3):
زيارتكم مثال زيارة اللّه على العرش اجعلونا الزائرين
و الآن نشرع في شرح هذه الزيارة بتوفيقه سبحانه و عونه تعالى و هو مشتمل على اثني عشر بابا.
ص:20
«السّلام عليكم يا أهل بيت النّبوّة»
هذه العبارة الشريفة تتضمّن نكات عشرة:
الأولى:يلزمنا في بدء الشرح،الإيماء إلى مسائل أصليّة،راجعة إلى فضيلة التسليم و أهمّيّته و آثاره و غيرها،إجمالا لا تفصيلا فنقول:
ألف)السلام اسم من أسماء اللّه السامية،قال سبحانه: اَلسَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبّارُ الْمُتَكَبِّرُ (1)و لكن لا نقصده من السلام هنا اسما للّه تعالى؛لأنّا نقول مثلا:«قال المعصوم عليه السّلام...»،فلا مورد للسّلام هنا بهذا المعنى،فمعناه إذا هو التحيّة و التكريم الّذي هو أمر وجدانيّ يعلمه كلّ أحد بالتكرار و مبادلة السلام،و تظهر أهمّيّته و فضيلته بالوقوف على آثاره
ص:21
و تأكيد الشرع الشريف البالغ عليه.و من آثار السلام:
1)تحكيم المودّة و الترابط بين الناس في المجتمع،المستتبع لنتائج قيّمة.
2)إشباع الميول الكامنة في الإنسان،في أن يجذب الغير إلى نفسه و ينجذب بنفسه إلى غيره.
3)تحصيل مرضاة اللّه تعالى.
4)التشبّه بالموحّدين الصالحين.
ب)«السلام»من سنن البشريّة القديمة،و يلزم فيه ذكر أمرين:
الأوّل:مقتضياته.
الثاني:مقوّماته.
أمّا مقتضياته،فهي:تكوينيّ اجتماعيّ لعامّة البشر،و تشريعيّ خاصّ بالمتديّنين.
فالتكوينيّ منهما،أن خلق الإنسان مدنيّا بالطبع،يريد أن يتآلف مع أبناء نوعه،و هذا التآلف يبرز إمّا بالفعل كالتعظيم للغير و القيام له و أمثالهما من الأعمال؛و إمّا بالقول كالتسليم المرضيّ.
و الحاصل أنّ للسلام مقتضيا تكوينيّا في جبلّة الإنسان،فبموجبه يكون السلام أمرا خلقيّا قبل أن يكون شرعيّا.
و أمّا التشريعيّ،فهو عبارة عن التأكيدات البالغة و الوصايا الوافرة بهذا
ص:22
الأمر،حتّى قال صلّى اللّه عليه و اله:«من بدأ بالكلام قبل السّلام فلا تجيبوه» (1)و وجوب إجابة تسليم المسلّم حتّى في أثناء الصّلاة.
و أمّا الأمر الثاني،و هو ذكر مقوّمات السلام،فإنّ سنّة التسليم تتقوّم بثلاثة أشياء:
أحدها:فاعل السلام و مؤدّيه(المسلّم).
ثانيها:من يقبله و يخاطب به(المسلّم عليه).
ثالثها:تأديته.
قد يكون المسلّم أعلى شأنا من المسلّم عليه،و قد يتساويان في الشأن و قد يكون أدنى منه،و نبيّن هنا الغرض في كلّ من هذه الصور؛ففي الصورة الأولى،المقصود من أداء التسليم هو تفضّل المسلّم و تكريمه للمسلّم عليه كتسليم اللّه و المقرّبين من الملائكة على أهل الجنّة: سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (2)، سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (3)، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ (4).
إنّ المسلّمين الأعلين يريدون أن يتفقّدوا المسلّم عليهم الأدنين؛لأنّ
ص:23
الأدنى يحتاج إلى تفقّد الأعلى،و للأعلى أن يتفضّل على الأدنى.
و في الصورة الثانية،و هي تساوي المسلّم و المسلّم عليه،(و هي التساوي بينهما رتبة)،المقصد من التسليم هو التأليف و التوحيد و الأخوّة و تقويتها بينهما.
و أمّا الصورة الثالثة،فهي ما إذا كان المسلّم أدنى و المسلّم عليه أعلى، و مقصوده من التسليم هو التعظيم و الخضوع و الخشوع و إظهار الحبّ و الوداد للمسلّم عليه و استدعاء توجّهه و لطفه،فتسليماتنا على أهل البيت عليهم السّلام من هذا القبيل،نقصد منها تحقير أنفسنا و تعظيمهم و إبراز التعشّق و التعلّق بهم.
الثانية:ينبغي ذكر أمرين في تسليماتنا على المعصومين عليهم السّلام.
الأوّل:بين المسلّم و المسلّم عليه مقابلة،فحين نسلّم عليهم يكونون هم حاضرون لا بتسليمنا يحضرون،أي أنّ حضورهم لنا قبل تسليمنا عليهم كحضور النفس قبل صدور كلّ فعل من أعضائنا بإرادتها.و الحاصل أنّ حضورهم عليهم السّلام في كلّ موضع كحضور الشمس للمستضيء لا يغيبون، كما يقول الزائر حين يزور الإمام الثامن عليه السّلام:«أشهد أنّك تسمع كلامي و تردّ سلامي و تشهد مقامي» (1).
ص:24
الثاني:قال سبحانه: وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها... (1)، فإذا قال لك المسلّم:«السلام عليك»،فرددت عليه ب«سلام عليك و رحمة اللّه»فقد حيّيته بأحسن ممّا حيّاك به،و إذا أجبته كتسليمه عليك،فقد رددت سلامه بالمثل.فنحن مخيّرون أن نجيب التسليم بأحد البدلين:إمّا الردّ بالأحسن أو بالمثل،فالمسلّم عليه هنا يردّ بما تقتضيه كمالاته النفسانيّة؛فإن كان شخصا عاديّا ردّ التحيّة بالمثل و إلاّ حيّى بالأحسن؛لأنّه عالم بأفضليّة الأحسن و حاجة المسلم إلى تفقّده و رحمته إيّاه،و شدّة حرصه على تحصيل ما عند اللّه من القرب و الثواب و سائر آثارها المطلوبة.
فإذا كان المسلّم رديئا عند المسلّم عليه غير لائق لأن يجاب بالأحسن فإنّه يجاب بالمثل،و إذا كان المسلّم محبّا لقابل التحيّة،عارفا به،مشتاقا إليه،محتاجا إلى إجابته،كان حقّا للمسلّم عليه الردّ بالأحسن،و هذه الصورة الأخيرة بعينها واقعة بيننا و بين المعصومين عليهم السّلام،فتحصّل أنهم أو الأنبياء أو الملائكة عليهم السّلام إن ردّوا تحيّاتنا بالمثل فهو يحكي عن سقوطنا من أعينهم الشريفة لا غير.
الثالثة:قد تقدّم أنّ بلوغ تحيّاتنا و وصولها إلى آل البيت عليهم السّلام إنّما يكون بثلاثة أمور:
ص:25
ألف)تجرّد النفس للزائر و المزور.
ب)التناسب بينهما.
ج)إمكان تلاقيهما معا.
و بحصول هذه الأمور يحصل لنا الاطمئنان بأنّ تحيّاتنا و زياراتنا تصل إليهم عليهم السّلام،و لكنّ الردّ و الإجابة من قبلهم عليهم السّلام إيّانا هل هو قطعيّ أيضا أم لا؟فيلزم البحث عنه على حدة.
ألف)تجرّد النفس للزائر و المزور:قد ذكرنا في ما مضى أن زيارتنا إيّاهم عليهم السّلام ليست حسّيّة،حتّى أنّ الزيارة الحسّيّة لو حصلت لكانت مقدّمة للحقيقيّة،و لكن مع فرض عدم وجود المزور بقالبه المطهّر الطبيعيّ عند الزائر فلا حاجة إلى آلات الزائر الحسّيّة،فإذا تؤخذ الغايات و تترك المبادي،فتكون الزيارة نفسانيّة.و لا شكّ في وجود النفس لنا و تجرّدها، و لا يؤثّر فيها القرب و البعد الزمانيّان و المكانيّان،و ليس من شأنها الزوال و الاستهلاك؛لأنّ جميع ذلك مؤثّرات في النشأة الطبيعيّة،و لكن إذا كانت الزيارة بين المجرّدين فلا تأثير لأيّ من هذه العوامل المادّيّة.
ب)التناسب بينهما:هو عبارة عن السّنخيّة في العقائد الحقّة و الأخلاق الحسنة و الأعمال الصالحة في كلّ من الزائر و المزور،و بهذا التناسب الجامع يمكن لهما التلاقي و الاجتماع في الملكوت الأعلى،فلو سلّم الكافر مثلا على الإمام الحسين عليه السّلام لم يبلغ تسليمه؛لعدم المناسبة
ص:26
المذكورة؛لأنّ نفس الكافر المسلّم محجوبة بحيوانيّته أو شيطنته،مع أنّ نفس المزور القدسيّة تكون في الملكوت الأعلى فلا تتحقّق الزيارة.
ج)إمكان التلاقى بين الزائر و المزور:و ذلك واضح إذا كانت السّنخيّة بين الشيئين موجودة يتجاذبان و يدرك كلّ واحد منهم الآخر.فلهذا لا يمكن أن يكون الرسول ملكا و المرسل إليه بشرا؛لعدم إمكان التآلف بينهما،بل بينهما تدافع.الحاصل أنّا إذا كنّا مؤمنين بتلك المقدّمات تكون زياراتنا واصلة إليهم قطعا و إجاباتهم لنا حاصلة بلا ريب.
و بهذا البيان يظهر التفاوت بين الزائرين و زياراتهم عنهم عليهم السّلام،فكلّما كان تعلّق الزائر بالملابس البدنيّة أضعف،يكون تجرّده النفسانيّ أقوى و تكون زيارتهم أكمل و حضورهم عنده أشدّ،كما أنّ حضورهم عليهم السّلام لدى الزائر يكون أشدّ؛لكون تجرّدهم النفسانيّ فيما لا أقوى منه في الإمكان.
الرابعة:أنّ زيارتنا و تحيّاتنا للمعصومين عليهم السّلام لا تبقى بلا جواب ما دامت شرائط الإجابة فينا موجودة و الموانع مفقودة،و الشرائط كما قدّمنا هي وجود المناسبة و السّنخيّة الباطنيّة من قبلنا،بكون كلّ منّا في الحقيقة و في الظاهر و الباطن عبدا للصمد،لا أن يكون في الظاهر عبدا للصمد و في الباطن للصنم.تشهد على ذلك إجابتهم عليهم السّلام لبعض الكمّلين،كالمقدّس الأردبيليّ،إذ إنّه زار و سمع الإجابة منهم عليهم السّلام،فإن كانت الزيارة و التحيّة منّا بلا جواب كنّا نحن القاصرون أو المقصّرون،و مع ذلك لا تبقى من دون إجابة منهم بل تدّخر الزيارات و التحيّات منّا و الإجابات و التفقّدات
ص:27
منهم عليهم السّلام لزمان ارتفاع حجب الطّبيعة عنّا،فنشاهد هدايانا و إجاباتهم عليهم السّلام لنا في ملكوت هذا العالم إن شاء اللّه.نرجو ذلك كلّه من فضل اللّه العميم و لطفهم الواسع.
الخامسة:في الفرق بين الأهل و الآل و العترة و الذرّيّة:
فنقول:إنّ بين جميعها حدّا مشتركا و هو التعلّق بالغير،سواء كان الغير (المتعلّق به)شخصا أو خصلة؛فإذا كان المتعلّق أهلا كان التعلّق أعمّ، يعمّ البيت و الخصلة و الشخص،كما يقال:«أهل البيت»،و الخصلة، كقوله سبحانه: هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (1).و الشخص،مثلا:فلان من أهل فلان.
أمّا إذا كانت الأهليّة بين شخصين فتكون سببيّة،كأهليّة الزوجة لزوجها،أو نسبيّة كأهليّة الولد لأبيه.
و لكنّ العترة عبارة عن أقارب الشخص نسبا،فعترة النبيّ صلّى اللّه عليه و اله هم أقاربه صلّى اللّه عليه و اله،و هم أصحاب الكساء عليهم السّلام.
و الآل و إن كان لغة مأخوذا من الأهل،و لكنّه أوسع شمولا من الأهل و العترة.و الذرّيّة أشمل و أعمّ من الأهل و الآل و العترة،كما يشهد عليه ما روي عن أبي بصير قال:«قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام من آل محمّد صلّى اللّه عليه و اله؟قال ذرّيّته،فقلت من أهل بيته؟قال الأئمّة الأوصياء،فقلت من عترته؟قال أصحاب
ص:28
العباء...» (1)،فيسع الآل الذّرّيّة أيضا.
السادسة:أنّ جميع كمالات المعصومين عليهم السّلام تنقسم إلى الذاتيّة و النفسيّة و الخارجيّة؛فالأولى من الأقسام ما ينظر فيها إلى هويّة الموصوف بها لا إلى أنّها جسمانيّة بخصوصها أو نفسانيّة بخصوصها.و الثانية من الأقسام ينظر فيها إلى اتّصاف نفس المعصوم القدسيّة بها كالفطنة و الكياسة.و الثالثة فهي منظورة من حيث كون وقوعها قبال الأوليين فهي فعليّة و غير فعليّة.
فالفعليّة كالقيام بالعدل؛و غير الفعليّة كالانتساب إلى شخص عظيم جليل.ففي قول الزائر:«السلام عليكم يا أهل بيت النبوّة»إشارة إلى القسم الثالث؛لأن الأهليّة لبيت النبوّة لا تعدّ من نوع كلّ واحد من الأوليين كالجمال و الفطنة الكائنين جسمانيّا و نفسانيّا،فالحاصل أنّ أهليّتهم عليهم السّلام لبيت النبوّة تكون من كمالاتهم الخارجيّة الغير فعليّة.
و ينبغي أن يعلم أنّ السرّ في إضافة أهليّتهم لبيت نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و اله مثلا مزيّتهم على غيرهم و هو الإضافة إلى شأن النبوّة لا إلى الشخص،فإنّ المنسوبين إلى شخص النبيّ هم غير المعصومين و أيضا كزوجاته الطاهرات،فإذا أضيف المعصومون عليهم السّلام إلى شأن النبوّة يكون لهم من الفروع و التوابع ما يكون لشأن النبوّة،كالصّلة بعالم الغيب و الطهارة النفسانيّة و التحدّث عن الملك،و غيرها.
ص:29
السابعة:ليعلم أن بدء كونهم عليهم السّلام أهل بيت النبوّة هو زمن إبراهيم عليه السّلام؛ لأنّ الخليل عليه السّلام كان جدّ نبيّنا الأعلى من جهة،و من جهة أخرى هو صلّى اللّه عليه و اله دعوته المستجابة،كما قال:«أنا دعوة أبي ابراهيم» (1)؛لأنّ الخليل عليه السّلام حين بناء البيت مع ولده إسماعيل،دعا اللّه سبحانه بقوله: رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ (2)،فتبيّن أنّ كونهم عليهم السّلام أهل بيت النبوّة كان من عصره عليه السّلام،كما بشّرته الملائكة بهذه البشارة الإلهيّة العظمى: رَحْمَتُ اللّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (3).و يتفرّع على كونه سبحانه:حميدا مجيدا،أن لا ينقرض أهل البيت عليهم السّلام،و أن يكون البيت في كلّ عصر مليئا بالخيرات الوافرة و البركات المتكاثرة،و لا سيّما العصمة و الطهارة.و أيّ بركة تتصوّر أعلى من النبيّ الأعظم و الأئمّة المعصومين عليهم السّلام؟!
الثامنة:أنّ للفظة«البيت»تفسيرين:
أحدهما:أن يكون على معناه المتعارف،فعلى هذا المعنى نقول:
«شرف المكان بالمكين»،فيكون شرف بيت النبوّة بمن فيه،كما قال سبحانه: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ* رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ
ص:30
اَلزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ (1)،فيكون إذنه تعالى لشرف البيوت معلولا لتسبيح ساكنيها و حمدهم الّذين هم موصوفون بهذه الصفات العالية.فالحاصل أن شرف بيت النبوّة ينشأ ممّن كان فيها.
ثانيهما:أن يكون المراد من«البيت»من جهة المعنى هو قلب النبيّ صلّى اللّه عليه و اله، فتكون قلوب الأنبياء قبل النبيّ بيوت الكمالات النفسانيّة،فيكون الأئمّة عليهم السّلام أهل هذا البيت و المتعلّقون بها كما قال عليّ عليه السّلام في تأويل: وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها (2)،«نحن البيوت الّتي أمر اللّه أن تؤتى من أبوابها،و نحن باب اللّه و بيوته الّتي يؤتى منه فمن بايعنا و أقرّ بولايتنا فقد أتى البيوت من أبوابها،و من خالفنا و فضّل علينا غيرنا فقد أتى البيوت من ظهورها» (3)،و كما قال النبيّ صلّى اللّه عليه و اله:
«أنا مدينة العلم و عليّ بابها». (4)
التاسعة:أن للفظة النبوّة معنيين:
أحدهما:ما قاله المتكلّمون من أنّها:إنباء بشر عن اللّه تعالى من غير وساطة أحد من البشر بين المنبئ و بين اللّه تعالى.
ثانيهما:أنّ النبوّة مأخوذة من النّبوّ بمعنى الرّفعة و العلوّ،فإن فسّرناها
ص:31
في هذه الجملة:«السلام عليكم يا أهل بيت النبوّة»بالمعنى الأوّل يكون صحيحا؛لأنّهم عليهم السّلام أهل بيت إنباء لا يتوسّط بين اللّه و المنبئ بشر،بل كانت الواسطة ملكا هو جبرئيل عليه السّلام: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى* إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (1)،و إن فسّرناها بالمعنى الثاني فذلك بيّن،لأنّ النبيّ هو من كان متّصلا بعالم الغيب،و ذلك الذي يعتقده جميع الملّيّين من أنّ النبيّ ما لم يتّصل بالغيب و ما لم يكن أكمل الناس و ممتازا من بين قومه بالكمالات الفائقة لا يصير نبيّا.
العاشرة:قد تقدّم أنّ مفهوم الآل أوسع من مفهوم الأهل،فلو كان المعصومون عليهم السّلام أهلا لبيت النبوّة،و كان بدء هذا الشرف زمان ابراهيم عليه السّلام، فيكون التعميم من ذلك العصر،فيشمل كونهم أهل البيت عليهم السّلام،فيتقارب الأهل و الآل في سعة المفهوم،فيلزم أن نوجّههما بالاعتبارين:
أحدهما:إن قلنا بوحدة معناهما فلا يقع سؤال في البين و لا حاجة لنا إلى إجابة و توجيه؛لكون معناهما واحدا،فيكون معنى الآل هو معنى الأهل الذي قلبت هاؤه ألفا،فلا يكون إذا الآل مأخوذا من الأول.
ثانيهما:لو كان كلّ من الأهل و الآل مستقلاّ في معناه لكان«الآل» مأخوذا من«آل،يؤول»بمعنى«عاد يعود»،و لا إشكال إذا قلنا إنّه استعمل في أفصح الكلام معنى الأهل و الآل بمعنى واحد،كما قال سبحانه:
ص:32
رَحْمَتُ اللّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ هذا من جهة،و من جهة أخرى قال سبحانه: إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (1)،فلا نحتاج إذا للتعرّض إلى أبحاث صرفيّة و لغويّة في المقام، فيتداخل الأهل و الآل إذن،فهو حجّة؛لأنّه أفصح الكلام،فيرتفع الإشكال من البين؛لأنّه موقوف على تصوّرنا من سعة البيت و ضيقه،فبفرض ضيق بيت النبوّة يتفارق معنى الأهل و الآل،و إلاّ كان جميعهم أهل بيت واحد، كما قدّمنا أنّ زمان شروع كونهم أهل البيت هو زمان الخليل عليه السّلام.
«و موضع الرّسالة» (2) [2]
و هذه الفقرة الشريفة تتضمّن ستّ نكات:
الأولى:أنّ الزائر يشير فيها إلى كمال من كمالاتهم الخارجيّة دون القسمين الآخرين،و هو كونهم عليهم السّلام«موضع الرسالة».
الثانية:لا حاجة لنا هنا إلى التفريق بين الرسالة و النبوّة على طريقة المتكلّمين،و لكن ينبغي ذكر أنّ الرسالة أعلى من النبوّة و أخصّ منها؛لأنّه إن قلنا بأنّ النبيّ لم يؤمر بالتبليغ وجوبا و لكنّ ذلك موجود في الرسول،
ص:33
كما أنّ الرسول يرى الملك الواسطة بينه و بين اللّه سبحانه في المنام، و لكنّ النبيّ يسمع صوته فقط بلا رؤية فيثبت المطلوب،و هو أفضليّة الرسول من النبيّ و كون رسالته أعلى من النبوّة.فالحاصل أنّ الزائر يذكر كمالا أدنى لهم في الفقرة السابقة و يذكر هنا كمالا أعلى لهم ممّا سبق.
الثالثة:أنّ للرسالة مرتبتين:عامّة و خاصّة.
فالخاصّة منهما،ما كانت لرسول اللّه،و هو تلقّي الوحي منه سبحانه و تبليغه الناس.و الأعمّ منهما،هو الإخبار عن مراد اللّه سبحانه،فلو أخذنا الرسالة بهذه المرتبة فهم عليهم السّلام موضع نفس الرسالة المتقيّدة بالعصمة و الصيانة،لأنّهم يخبرون عن مراده تعالى كإخبار الرسول من غير فرق بينهما،و لهذا كان كلامهم عليهم السّلام تاليا للقرآن،فما يخبرون به هو عين ما يريد اللّه تعالى أمرا و نهيا و فعلا و تركا.فهم عليهم السّلام رسل اللّه بهذا المعنى،أي بالرسالة التشريعيّة العامّة لا التكوينيّة الثابتة مثلا للريح و البرق و أمثالها.
الرابعة:أنّ لموضعيّتهم الرسالة معنيين:
أحدهما:تبليغها.
ثانيهما:إبقاؤها.
فلو أخذنا الرسالة بمعناها الخاصّ،أي تلقّي الوحي منه سبحانه بلا واسطة بشر و تبليغه،فهم عليهم السّلام ليسوا بالموضع نفسه لانحصار الخاتميّة في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله،و لا يلزم نقضها بكونهم عليهم السّلام رسل اللّه على معناها العامّ،لأنّ
ص:34
الرسول له تأسيس الشريعة(فهذا من لوازم المعنى الخاصّ للرسالة و لهم عليهم السّلام إبقاء الشريعة،فهذا لا يناقض ذاك).
الخامسة:يلزم من كونهم عليهم السّلام موضعا لها استجماع الشرائط اللازمة فيهم عليهم السّلام كالعصمة،لأنّ بدونها أو بغير أحدها يلزم وضع الرسالة أي التبليغ و الإبقاء من قبله سبحانه في غير موضع،فهذا ممتنع لحكمته البالغة كما قال سبحانه: اَللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ (1)،فإذا ثبت صحّة وضع الرسالة فيهم و استجماعهم لشرائطها يثبت أنّهم عليهم السّلام يحقّقون الغاية و الغرض منها، بلا أيّ تفريط أو إفراط و من غير أيّ تقصير.
السادسة:غايات الرسالة كما في القرآن ما يلي:
ألف)تلاوة الآيات على الناس.
ب)تزكيتهم.
ج)تعليم الكتاب و الحكمة: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ (2).
د)الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.
ه)تحليل الطيّبات و تحريم الخبائث.
و)وضع الإصر و الأغلال عنهم: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ
ص:35
وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ (1).
ز)غلبة دين اللّه على الدين كلّه: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ (2).
ح)تبيين القرآن و تفسير آياته أو إراءة طرق التفسير: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (3).
ط)رفع الاختلاف من بين الناس: وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ (4).
ي)و في النهاية إخراج الناس من الظلمات إلى النور: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ (5).
«و مختلف الملائكة»
و هو مشتمل على نكات ثمان:
الأولى:ينبغي أن لا نترك هنا ذكر ما يناسب في المقام،و هو أن المسلّم حين التسليم يتوجّه الى كمال المسلّم عليه،و قد يذكر كماله
ص:36
كقوله:«سلام عليك أيّها الشيخ و أيّها العالم»؛و قد لا يذكر و لكنّه متوجّه إلى كماله،فهنا يذكر الزائر كمال المزورين مضافا إلى توجّهه القلبيّ إليه.
الثانية:الدليل على ثبوت الملائكة-مضافا إلى القرآن و الأحاديث المتواترة،بل فوق التواتر-هو إجماع الملّيّين (1)على ذلك،و انكشاف وجودهم لمن كان له أهليّة للكشف،حيث إنّهم عاينوهم،فالحاصل أنّهم حقيقة موجودة غير قابلة لأي شكّ أو شبهة و عدم استحالة وجودهم عقلا.
الثالثة:أنّهم(أي الملائكة)حقائق درّاكة فعّالة علاّمة قادرة في غيب هذا العالم و ما فوقه،و يمكن لهم النزول في عالم الملك و الشهود على ما تقتضي المصلحة نزولهم،مجسّمة(غير الأجسام الرديّة)أو غير مجسّمة، فهم عليهم السّلام قوى روحانيّة مؤثّرة في العالم كالقوى المادّيّة بل أبسط منها و أشرفها له(لعالم الملك)،و هذا الإشراف و الإحاطة سرّ كونهم مدبّرات للأمر؛لكون كلّ من وجودهم و علمهم و قدرتهم أبسط و أوسع،لا اختلاف في تجسّمهم،و لكن الاختلاف واقع بين المتكلّمين و الحكماء في تجرّدهم و جسميّتهم،فالمتكلّمون قائلون بأنّهم أجسام لطيفة بألطف ما يمكن،و خالفوا الحكماء في قولهم بالتجرّد و ما يقرب إلى الحقيقة هو قول الحكماء مع أنّ أهل الكلام أيضا لا يقولون بلا دليل،و اللّه أعلم
ص:37
بحقيقة مخلوقه.
الرابعة:لفظة«المختلف»،اسم مفعول من الاختلاف(من مجرّده:خلف يخلف)؛و له معنى اسم مكان،يتبيّن منه أنّ مجيء الملائكة إليهم و ذهابهم فوجا بعد فوج و فردا عن فرد،يدوم و يستمرّ بلا انقطاع، و يستفاد هذا من اسم المختلف،المفيد للدوام و التجدّد،فالجائي يخلف الذاهب،و الداخل في بيوتهم خليفة عمّن خرج.فالحاصل أنّه ربّما كان المعصوم عليه السّلام مشتغلا بأمور دنيويّة أو بالمحادثة مع الأصحاب و في نفس الوقت كان عليه السّلام مزورا للملائكة و لا يعلمه الناس،و بعبارة أخرى يمكن للمعصوم عليه السّلام الجمع بين الأمرين في وقت واحد،لإحاطة الولويّة و إشرافه المطلق على عالمي الملك و الملكوت جميعا،في عالم الملك ببعده المشهود،و في الملكوت بعقله القادس الكلّي؛و ما يؤيّد ذلك هو إمكان كون عزرائيل عليه السّلام(الذي هو أدنى منهم)في لحظة واحدة في أمكنة عديدة،فإذا كان هذا هو شأن الأدنى فكيف بالأعلى الّذي له ولاية على الأدنى،بل لا يقاس الأدنى بالأعلى،فهذا الأمر(الجمع بين العالمين)يكون أسهل و أيسر لهم عليهم السّلام،مضافا إلى أنّهم عليهم السّلام حيث كانوا فهم مظاهر أسماء اللّه و صفاته،فلا يشغلهم شأن عن شأن كما لربّهم سبحانه في دعاء المشلول:«يا من لا يشغله شأن عن شأن».
و تؤيّده أدلّة كثيرة من النقل كما هو مفاد حديث أنّ الإمام الصادق عليه السّلام قال لبعض أصحابه،عن أبان بن تغلب قال:«كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فدخل
ص:38
عليه رجل من أهل اليمن،فقال له:يا أخا أهل اليمن عندكم علماء؟قال:نعم.قال:
فما بلغ من علم عالمكم؟قال:يسير في ليلة مسيرة شهرين،يزجر الطّير و تقفو الأثر.
فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:عالم المدينة أعلم من عالمكم،قال:فما بلغ من علم عالم المدينة؟قال:يسير في ساعة من النّهار مسيرة شمس سنة حتّى يقطع اثني عشر ألف عالم مثل عالمكم هذا ما يعلمون أنّ اللّه خلق آدم و لا إبليس.قال:فيعرفونكم؟قال:
نعم،ما افترض عليهم إلاّ ولايتنا و البراءة من عدوّنا» (1).
الخامسة:في تعيين الملائكة المتردّدين إليهم عليهم السّلام:يمكن القول بوجوه، و منشأ اختلاف الوجوه هو تفسير«اللام»في أنّها هل هي للعهد أو الكلّ أو الجنس؟فإن كان الأوّل،كان الملائكة الذين يختلفون إليهم هم عدّة خاصّة،و لا دليل على ذلك،لأنّهم إن كانوا معهودين يلزم ذكرهم قبل ذلك،كقوله سبحانه: إِنّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً* فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ (2)،فاللام في الآية هي لام العهد، و ليست كذلك في الملائكة؛لأنّ الملائكة ذكرت أوّل مرّة هنا.فإن كانت اللام لام الكلّ،يلزم اختلاف الملائكة الموجودين إليهم،و لا دليل على هذا التخصيص أيضا،فيقوى القول الثالث و هو كون اللام لام الجنس (3).
فالحاصل أنّ الموجودين من الملائكة و ما سيوجدون يختلفون إليهم،مع
ص:39
تفاضل بينهم(الملائكة)،فهم عليهم السّلام بهذا المعنى مختلف الملائكة.
السادسة:أنّ حكمة اختلاف الملائكة إليهم عليهم السّلام من وجوه:
أحدها:زيارة الملائكة لهم؛لأنّ الإنسان الكامل أفضل من الملك كما كان آدم عليه السّلام،و الدليل عليه أنّه تعلّم الأسماء منه سبحانه،فلو لم يكن أفضل منهم لم يعلّمه اللّه إيّاها دونهم،فإذا كان الأمر كذلك في آدم الذي هو دون المعصومين عليهم السّلام،فكيف بالأئمّة الذين يفتخر آدم بهم،بل و لو لم يكونوا ما خلق آدم و ما سواه فضلا أن يكون أبا للبشر،فالحاصل أنّ اختلاف الملائكة إليهم لزيارتهم إيّاهم.
ثانيها:لخدمتهم لهم عليهم السّلام،كما كان بعض الملائكة يأتي إلى الزهراء عليها السّلام ليحرّك مهد الحسين عليه السّلام و يدير الرّحى إعانة لها،يؤيّده القرآن في قوله سبحانه: وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (1).
ثالثها:لعرضهم أمام المعصومين المقدّرات الإلهيّة،كما في ليلة القدر، قال سبحانه: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (2).
رابعها:لكي يتعلّم(الملائكة)منهم،لأنّ علم الملك بنفسه لا يقبل الزيادة، وَ ما مِنّا إِلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (3)،بينما علم المعصوم عليه السّلام يتزايد،و قد
ص:40
أمر اللّه سبحانه النبيّ بقوله: وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (1)،فربّما يختلفون إليهم لبسط وعاء وجودهم للتعلّم،لأنّ المعصوم واسطة الفيض؛و لأنّ علمه أزيد من المتعلّم،و قد كان علّمه اللّه الأسماء،كما قال سبحانه: وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ* قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (2).
السابعة:هذا الكمال(كونهم عليهم السّلام مختلف الملائكة)يعدّ من كمالاتهم النفسانيّة باعتبار،و من كمالاتهم الخارجيّة باعتبار آخر،فبما أنّ ذات المعصوم مسانخة مع ذات زائريه(الملائكة)فهو كمال يكون كمالا نفسانيّا لهم،و لكن بما أنّ الملائكة ليسوا أجزاء ذاتيّة للمعصومين يعدّ هذا الكمال كمالا خارجيّا غير فعليّ لهم،و لكنّ الأقوى على التفسير الآتي للعبارة يكون ذلك الكمال كمالا ذاتيّا لهم.
الثامنة:جميع ما تقدّم من البيان مبنيّ على تفسير المختلف بمجيء الملائكة و ذهابهم،و أمّا إذا فسّرنا لفظة المختلف بالمفعول،يكون المعنى أنّ المعصومين عليهم السّلام تكون أنفسهم ملائكة،وقع عليهم الاختلاف من الملائكة،حيث إنّ الملائكة غير متعلّقين بالأجسام العنصريّة
ص:41
و المعصومون ملائكة متعلّقون بها.فيكون حاصل المعنى أنّكم أنتم ملائكة أنفسا و بشر أجساما،فتفارقون إذا من الملائكة.و بتعبير آخر أنّ بينهم عليهم السّلام و بين الملائكة حدّين:مشترك و مفترق.فالمشترك هو المجانسة النفسانيّة لهم مع الملائكة،و المفترق تعلّقهم بالمادّة و عدم تعلّق الملك بها،سواء كنّا قائلين بتجرّد غير اللّه-كما اعتقد به الحكماء-أو لم نقل به على قول المتكلّم.
و يدلّ على قوّة التفسير الأخير أمور:
الأوّل:لزوم المسانخة بين الملاقي و الملاقى للتفاهم.
الثاني:انحصار ذوات الشعور و العقول في الإنسان و الجنّ و الملك، فالمعصومون عليهم السّلام حيث لم يكونوا من الأجنّة يلزم أن يكونوا بذواتهم القدسيّة ملائكة؛لأنّه لو لا ذلك لبطل الحصر.
الثالث:«عن عبد اللّه بن سنان قال:سألت أبا عبد اللّه جعفر بن محمّد الصّادق عليه السّلام فقلت الملائكة أفضل أم بنو آدم؟فقال:قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام إنّ اللّه ركّب في الملائكة عقلا بلا شهوة،و ركّب في البهائم شهوة بلا عقل،و ركّب في بني آدم كلتيهما،فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة،و من غلب شهوته عقله فهو شرّ من البهائم» (1).
الرابع:لزوم السنخيّة بين المقيس و المقيس عليه،فلمّا قاس الإمام من
ص:42
غلب عقله شهوته أنّه أعلى من الملائكة،يكون الإنسان عامّة و المعصومون خاصّة مسانخا للملك،و هو المطلوب.
«و مهبط الوحي»
فيه ثماني نكات:
الأولى:أنّ لفظ«المهبط»على وزن المسجد،يقرب معناه مع المنزل، و هما مجيء الشيء من العالي إلى السافل؛و لكن بينهما فرق،و هو أنّ المهبط يستعمل في مقام التشريف،و لكنّ المنزل ليس كذلك،كما أنّ الجلوس يستعمل تشريفا و لا يستعمل القعود هكذا (1).
و لا ينافي هذا الفرق مع إطلاق النزول في القرآن الكريم،لأنّ استعمال الهبوط في من يدرك و يشعر،و القرآن بما أنّه كتاب و حروف و كلمات غير مأخوذ فيه الشعور و الإدراك (2)مضافا بأنّ في النزول لا يلحظ قبح.
الثانية:معنى الوحي و مراتبه:الوحي هو إلقاء معنى على الغير باللّين و الخفاء،و هكذا كان إيحاء اللّه إلى النبيّ،لأنّ الناس حين مجيء الملك لم يكونوا يرونه إلاّ بإخبار النبيّ إيّاهم،بأنّ هذه الحالة العارضة لي هي حالة الوحي و الملك يلقي مراد اللّه على النبيّ باللّين.و أمّا مراتبه فكما يلي:
ص:43
ألف)الوحي بالمعنى الخاصّ،و هو أن يجيء ملك بأمره سبحانه إلى النبيّ فيلقي إليه مراده تعالى،و لا يشارك النبيّ أحد في ذلك الأمر: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ (1).
ب)الوحي بالمعنى العامّ،و هو أن يلقى في القلب شيء بغير واسطة، و يعبّر عنه بالإلهام أيضا،و جهة التعبير عنه بالوحي العامّ هو إمكان تلقّيه من قبل النبيّ و الوليّ و التقيّ: وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (2).
ج)الوحي بالمعنى الأعمّ،و هو وحي غريزيّ: وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمّا يَعْرِشُونَ (3).
و ما ينبغي ذكره هنا هو أنّ الوحي بمعناه الثالث ليس كمالا للمعصومين من حيث إنّ عقولهم عقول كلّيّة و نفوسهم نفوس قادسة، و لكنّهم مهبط الوحي بالمعنى الأوّل و الثاني.غاية الأمر أنّ بعضهم(و هو رسول اللّه)متمايز عن الباقين بالمعنى الأوّل،و مشارك معهم بالمعنى الثاني:«كنت نبيّا و آدم بين الماء و الطّين» (4)؛لأنّ المرتبة الثانية من الوحي فرع
ص:44
على الولاية الكاملة الباطنيّة،و المرتبة الأولى مختصّة بالنّبوّة،و هذا مبيّن بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و اله في حين كون آدم بين الماء و الطين لم ينزل جبرئيل عليه السّلام عليه فكان الوحي حين ذاك بالمعنى الثاني لا الأوّل.فالحاصل أنّ النبيّ في كونه ملهما كان كسائر المعصومين عليهم السّلام و الفرق بينهم أنّه صلّى اللّه عليه و اله تلقّى الوحي الخاصّ و لم يكن ذلك لهم عليهم السّلام.
الثالثة:يثبت كونهم عليهم السّلام مهبط الوحي بأدلّة نقليّة كثيرة كقراءة عليّ عليه السّلام الآيات الأولى من سورة«المؤمنون»بعد ولادته و لم ينزل القرآن آنذاك، بل نزل بعد عشر سنين،كما كان النبيّ عالما بالقرآن قبل نزوله التدريجيّ عليه صلّى اللّه عليه و اله،كما يشهد له قوله سبحانه: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ (1)،و لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (2).
فلا يبعد كون جميعهم عالمين بالقرآن قبل نزوله،لأنّ القرآن علم اللّه، و نفوسهم القادسة مظاهر تامّة لعلمه سبحانه و مراياه،فإن قيل:ما الحكمة في نزول الوحي مع كونهم جميعا عالمين بما سيوحى؟
نقول:الحكمة فيه كالتالي:
1-أنّ فيه تشريفا للموحي(و هو اللّه)،و الموحي به(و هو جبرئيل)، و الموحى إليه(و هو النبيّ)،و الموحى نفسه(القرآن)،و الموحى له(و هو
ص:45
غرض الوحي).
2-إجراء الأمر في هذا العالم على ما يقتضيه النظام السببيّ و المسبّبيّ.
«عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال:أبى اللّه أن يجري الأشياء إلاّ بأسباب» (1).
3-حفظ ما يوحى و كتابته بين الأمّة.
4-بقاء الأمّة نشيطة و مترقّبة لنزول وحي جديد.
5.تعليم الناس أنّ التكلّم بأيّ كلام ينبغي ألاّ يكون إلاّ في موضعه، خصوصا مع وقوع شأن النزول لكلّ آية أو آيات.
6.إمكان مصالح أخرى خفيّة علينا.
الرابعة:لكونهم عليهم السّلام مهبط الوحي وجهان:
أحدهما:أنّهم مهبط الوحي،بمعنى أنّ الوحي هبط في بيان تشريف لهم،و ذكر فضائلهم الجليلة و مناقبهم الجميلة.
ثانيهما:أنّهم عليهم السّلام مهبط الوحي بمعنى أنّ الوحي هبط عليهم و هم متلقّوه.
فالحاصل أنّهم عليهم السّلام مهبط الوحي بكلا الوجهين:
أمّا الأوّل:فقد،نزلت في الكتب السماويّة قبل القرآن حقائق كثيرة في نعوتهم و أوصافهم و بيان شخصيّاتهم دون أشخاصهم،و في القرآن أيضا
ص:46
آيات كثيرة دالّة على المراد،كآيات سورة الدهر في كونهم عليهم السّلام أبرارا و آيات أخر في كونهم ذوي القربي و الراسخين في العلم و المطهّرين و الصادقين و غير ذلك من الآيات.
و أمّا الثاني:فكونهم عالمين بما نزل من السماء في جميع ما يحتاج إليه الناس،و الحقّ في المقام أخذ مهبط الوحي على إطلاقه كما أخذنا الوحي على معناه الخاصّ و العامّ،سواء كان الوحي مرتبطا ببيان فضائلهم أو جميع ما للناس إليه حاجة،سواء كان في القرآن أو في الكتب السماويّة قبله.
الخامسة:أنّ هذا الكمال من كمالاتهم النفسانيّة،لوضوح عدم دخل لأبدانهم العنصريّة الشريفة فيه.
السادسة:يتصوّر في الهبوط أربعة فروض:
الف)كون الهابط مجرّدا و المهبط عكسه.
ب)كون المهبط مجرّدا و الهابط خلافه.
ج)كون كلاهما مادّيّين.
د)كون كلاهما مجرّدين.
فمن الأوّل و الثاني يلزم المحال،للزوم المناسبة بين الهابط و المهبط و عدمها بين كلّ من الهابط و المهبط في تلك الصورتين،كما لا يمكن تحقّق الهبوط بين الروح و الجسد في كلتا الصورتين،فلو سئل:ما الربط
ص:47
بينهما؟نجيب بأنّ الربط بينهما هو التعلّق التدبيريّ،فأحدهما متعلّق و الآخر متعلّق،كتعلّق الرّبّان بالسفينة و السلطان بالمدينة.بتعبير آخر:إن كان المراد من الهبوط هو التحيّز و الإشغال المكانيّ،لا يمكن ذلك بين المجرّد و المادّيّ.و إن أخذنا مفهوم الهبوط أوسع من التحيّز فلا إشكال في أن أحدهما مجرّدا،لأنّ الهبوط حينئذ يكون التعلّق لا التحيّز كما تقدّم، فإطلاق الشيخ ابن سينا الهبوط على الروح المجرّدة في قصيدته العينيّة (1)يكون من باب التشبيه و المسامحة،فلا يريد أنّ الروح تحيّزت في البدن و أشغلته.
و أمّا في الصورة الثالثة،فلا إشكال فيه لكونهما مادّيّين،يعبّر عن الهبوط إذا بهبوط مكانيّ،كهبوط الحجر من العالي إلى السافل و إن لم يطلق الهبوط في مثل هذا المورد،لأنّ الحجر لا شعور له.
فالحاصل أنّ للهبوط المكانيّ حكمين:
أحدهما:خلوّ المبدأ من الهابط بعد الهبوط: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها... (2)فهنا صارت الجنّة خالية من آدم و حوّاء عليهما السّلام و من صاحبهما.
ثانيهما:لزوم التزاحم بين الهابطين المادّيّين،بمعنى عدم إمكان وقوع الهابطين في نقطة واحدة،و كون النقطة مهبطا لكليهما في زمان.
ص:48
و أمّا الصورة الرابعة،أي كون الهابط و المهبط مجرّدين فيعبّر عن هذا الهبوط بالهبوط الرتبيّ،و هو متحقق في العين بلا ريب،و يكون مثل هذا الهبوط غالبا في الشأن و الشرف،و العلوّ و الدنوّ المعنويّين،بمعنى أنّ الهابط هبط من الرتبة العالية إلى السافلة،و مع ذلك لم يخل مبدأ الهبوط عن الهابط كخلوّه(خلوّ هابط مادّيّ)و لا تزاحم بينه و بين هابط آخر في عين هذا المهبط،كما في الصورة السابقة: إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ (1)و بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (2).
و لذلك ترى أنّ القرآن بعد نزوله على النبيّ صلّى اللّه عليه و اله هو باق بحقيقته عند اللّه كما قال سبحانه: وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (3).
السابعة:أنّ أهل البيت يكونون مهبط الوحي بالصورة الرابعة،لأنّ القرآن بحقائقه و معانيه دون ألفاظه و عباراته،مجرّد؛فعقولهم القادسة أيضا مجرّدة،فلا يلزم الإشكالات التي لزمت في كلّ من الصور السابقة.
الثامنة:الكلام في مبادي الوحي و مهابطه،و كلّ منهما على قسمين:
إن كان مبدأ الوحي هو اللّه جلّ شأنه أو مطالعة الألواح السماويّة بغير واسطة ملك من الموحي و نفس من المهبط،فيكون هذا الوحي وحيا عامّا أو إلهاما،و المهبط يكون عقولهم القادسة،و إن أخذنا أرواحهم الطيّبة غير
ص:49
متعلّقة بالمادّة و لا فعل مادّيّ يطلق عليها العقول،و إلاّ فالنفوس.
ففي كونهم مهبطا للوحي،إن كان تشترك نفوسهم عليهم السّلام من حيث تعلّق أرواحهم بالأبدان،تكون المهبط نفوسهم،فيلزم الواسطة إذا في البين (كجبرئيل)،ففي مثل هذا المقام انقلبت حال النبيّ و تغيّر لونه المبارك لاشتراك بعده المادّيّ في البين،و في صورة كون عقولهم مهبطا فلا، لامتناع بلوغ ملك و لا غيره إلى تلك الرتبة.و إن أوحي إلى المعصوم في الرؤيا فيكون إذا بالتمثيل: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَ لَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَ لَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ (1).
«و معدن الرّحمة»
و فيه أربع نكات:
الأولى:أنّ الزائر يشير إلى أحد كمالاتهم،أعمّ من أن يكون كمالا نفسيّا،و كون معدنيّتهم للرحمة التكوينيّة،أو فعليّا خارجيّا للرحمة التشريعيّة.
الثانية:المعدن و المعدن بمعنى واحد،و هو محلّ إقامة الشيء و مقرّه و منبته،و هو ملازم للخلود،إمّا نسبيّا و إمّا حقيقيّا (2)،فإطلاق العدن على
ص:50
درجة من درجات الجنّة فهو باعتبار الإقامة و الاستقرار فيه،و التعبير بمعدن الملح و العقيق مثلا باعتبار كون الموضع محلّ العقيق و منبته.
و أمّا معنى الرحمة فهو بيّن بالوجدان،و غنيّ عن البيان،مع ذلك نقول:
الرحمة حالة ينبعث بها صاحبها إلى إيصال نفع لغيره المحتاج إلى ذلك النفع،(و إن انبعث بها إلى دفع مضرّة عنه تسمّى بالرأفة).
الثالثة:لو قيل بأنّ هذا الإطلاق(معدن الرحمة)لا يليق بغير اللّه سبحانه،فكيف أطلق على المعصومين عليهم السّلام؟نجيب:بعدم صحّة هذا التعبير فيه سبحانه؛لأنّه تعالى عين الرحمة لا معدن،كما تقول صحيحا:«ذات هي العلم أو القدرة أو الحياة لا ذات لها كذا و كذا...».
و لكن يطلق ذو الرحمة عليه تعالى باعتبار رحمته الفعليّة و صدورها منه سبحانه على الخلق،فالحاصل أنّهم عليهم السّلام ذوو الرحمة لا عين الرحمة.
الرابعة:تنقسم الرحمة الإلهيّة باعتبار متعلّقها إلى عامّة تكوينيّة يعبّر عنها بالرحمة الرحمانيّة،و خاصّة تشريعيّة يعبّر عنها بالرحيميّة التشريعيّة، فيكون أهل البيت عليهم السّلام معدن الرحمة بكلا المعنيين توضيحه:
إنّ رحمته سبحانه لجميع ما خلق لا يخلو من:إيجاد أو إبقاء أو إكمال،بمعنى أنّه:يوجد كلّ معدوم،أو يبقي كلّ ما كان في معرض زوال، أو يكمل كلّ ناقص.فهو رحمة لهم(لكلّ من:المعدوم و الزائل و الناقص)،كما كان هذا سرّ ذكر الرحمة الرحمانيّة المشيرة إلى الإيجاد،و
ص:51
الرحيميّة المشيرة إلى الغاية،و الرحمة الأولى بعد الربوبيّة المشيرة إلى الإبقاء و الرحيميّة المشيرة إلى الإكمال الذي يتحقّق في المكلّفين؛لأنّهم خلاصة الكون و أشرافه الذين يتحقّق فيهم كمال العالم كلّه.
فالحاصل أنّهم لولاهم لم يخلق اللّه شيئا،فضلا عن إبقائه و إكماله، فإيجاده تعالى الآن و كذا إبقاؤه تكوينا و إكماله تشريعا يكون بهم و لهم، فهم عليهم السّلام غاية نسبيّة للخلق و الإبقاء و الإكمال،كما هو مفاد أخبار كثيرة، منها أنّ اللّه تعالى خلق جميع الأشياء من نور محمّديّ على ترتيب خاصّ، كما أنّهم عليهم السّلام كانوا وسائط فيض البقاء منه تعالى،كما أنشدت فيهم عليهم السّلام في ضمن أرجوزة:
وسائط الوجود و البقاء لكلّ كائن بلا استثناء
خلاصة القول أنّ تقسيم الأرزاق المادّيّة و المعنويّة الموجبة لبقاء الموجودات يكون بهم عليهم السّلام؛لكونهم عليهم السّلام ذوي رتبتين،يلي الربّيّ و يلي الخلقيّ،فبالأولى يأخذون الفيوضات من المبدأ الفيّاض،و بالثانية ينشرونها بين خلقه،فجميع التحوّلات الكماليّة و الانقلابات التكوينيّة في الخلق و البقاء،و جميع الحقائق التربويّة يكون بوسائطهم كما قال سبحانه: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً (1).
ص:52
فكما أنّ الرحمة الإلهيّة عامّة،فكذلك كانت معدنيّتهم للرحمة التكوينيّة،كما قيل في المهدي عليه السّلام:«بيمنه رزق الورى،و بوجوده ثبتت الأرض و السّماء» (1)،و قال الصادق عليه السّلام:«لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت» (2).
و أيضا قال أبو جعفر(الباقر)عليه السّلام:«لو أنّ الإمام رفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله» (3).
و أمّا كون معدنيّة هؤلاء الأشراف للرحمة التشريعيّة فهو معلوم بالنسبة إلى ما بعد ظهور الإسلام،بسبب هدايتهم التشريعيّة،أي بالنبوّة و الرسالة و الإمامة.و أمّا قبل الإسلام فهم أيضا كذلك،أي كانوا معدنا للرحمة التشريعيّة،لأنّ بعثة جميع الأنبياء كانت مقدمة لمجيء الإسلام كشريعة كاملة،فواضح أنّ الغاية هي(شريعة الإسلام)،و إن كانت متأخّرة عن المغيّا بالزمان،و لكنّها تتقدّم عليه بالرتبة،فلو أمكن سؤال سبحانه:لم تبعث نوحا و إبراهيم عليهما السّلام مثلا؟لأجاب اللّه:«أنّي أريد أن أبعث في ما يأتي من الزمان محمّدا صلّى اللّه عليه و اله بشريعة كنبيّ تكمل نبوّته و تتمّ شريعته بإمامة هؤلاء الأشراف و وصايتهم له».فلولا إمامتهم كعلّة مبقية لهذه الشريعة لما بعث النبيّون من قبله و لم يأتوا بشريعة؛فتبيّن كونهم عليهم السّلام معدنا للرحمة التشريعيّة في ما قبله،و تبيّن أيضا كونهم معدن الرحمة في
ص:53
جهتي التكوين و التشريع.
«و خزّان العلم»
و هو محتو خمس نكات:
الأولى:إنّ الإمام الهادي عليه السّلام استعمل لفظة الأهل في عبارته الشريفة«يا أهل بيت النبوّة»،و له معنى الجمع،و لكن في تعبيراته الأخرى المتقدّمة كالمهبط و الموضع،و إن كان اللفظ مفردا و لكنّ المراد منه هو معنى الجنس،فلو أريد الجنس من لفظ يشمل جميع أفراده الموجودة و غير الموجودة،و لكنّ التعبير بالخزّان هنا من حيث كونه جمعا لا حاجة إلى التكلّف في تفسيره.و الحاصل أنّ كلا من هؤلاء الأعاظم عليهم السّلام خازن للعلم، فيكون استعمال الخزّان في جميعهم في مورده.
الثانية:يحتمل كون اللام في الفقرات السابقة،أي النبوّة و الرسالة و الوحي و الرحمة،أن تكون للعهد أو للكلّ،و لكن ليست هنا علامة أو قرينة على أن تكون اللام هنا خاصّة لعلم معهود أو مخصوص،فالأقوى أن تكون اللام للجنس،كاللام للحمد،فإذن يكون معنى هذه الجملة «و خزّان العلم»،كونهم خزانا لجنس العلم على الإطلاق للعلوم الإلهيّة فقط،و يؤيّد ذلك مفاد روايات كثيرة من أقوالهم،منها:قول الصادق عليه السّلام:
ص:54
«إنّ عندنا علم ما كان و علم ما هو كائن إلى أن تقوم السّاعة» (1).هذا التعبير(ما كان،ما يكون،ما هو كائن)مطلق شامل لجميع العلوم التكوينيّة أيضا، فالحاصل أنّهم عالمون بجميع ما في الكون من الخفايا و الأسرار و الرموز.
الثالثة:كون العلم من أشرف الكمالات أمر غير خفيّ على العاقل،بل هو من أبرز الحقائق.و تقريره:
إنّ لكماليّة كلّ كمال صورتين:إمّا بواسطة أو بغيرها.
الأولى:أنّ شرف العالم على الجاهل مثلا تكون بواسطة،و واسطته العلم الموجود في العالم و غير موجود في الجاهل،فلو ارتفع العلم من البين لا يبقى بينهما فرق،حتّى يحتاج في إثبات فضيلة الأوّل على الثاني إلى سبب.
الثانية:و هي أن لا تكون واسطة في كون حقيقة كمالا كالعلم و الوجود،و بعبارة أخرى كماليّتهما ثابتة ذاتا.
بعد هذه المقدّمة نخوض في تفسير هذه العبارة،فنقول:
إنّ لكل شيء خزينة،كما صرّح به القرآن في قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (2).فالعلم شيء و حقيقة،
ص:55
فتكون له خزينة عند اللّه،و على قول الإمام عليه السّلام كان المعصومون عليهم السّلام خزّان العلم،فيلزم أن يكونوا هم مع كونهم عند اللّه و كون أجسادهم و أشخاصهم في الأرض خزّان العلم،و بتعبير آخر كانت رتبتهم عليهم السّلام هي الرتبة العنديّة،لأنّ الآية الكريمة تصرّح بأنّ خزائن كلّ شيء عند اللّه، و بموجب هذه العبارة و ما يشبهها من العبارات الآتية هم عليهم السّلام خزّان العلم، فيجب أن يكونوا هم عند اللّه،فهذه مرتبة جليلة و هي المرتبة العنديّة، و التي يعبّر عنها بدوام الحضور أو الحضور الدائم،و هي حاصلة للأدنين منهم عليهم السّلام و هم الملائكة كما هو مفاد عدّة آيات،منها: وَ مَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ (1).فإذا كان الأدنى هكذا فالأعلى بطريق أولى،و سيأتيك مزيد بيان في موضعه إن شاء اللّه.
الرابعة:أنّ للعلم ثلاث درجات؛إحداها:العلم بألفاظ الحقائق،ثانيتها:
بمفاهيمها دون المصاديق،ثالثتها:العلم بمصاديق الأشياء و حقائقها.
فالعلم بالألفاظ فقط ليس كمالا لهم،و إن كانوا ذووه أيضا،لأنّ الأطفال و الطيور الناطقة تكون عالمة بها،و العلم بالمفاهيم و القواعد الصوريّة و إن كان كمالا كان لنا،و إن كان لهم أيضا،ليس بمهمّ أو كمال خاصّ بهم عليهم السّلام.
و أمّا العلم بالمفاهيم و المصاديق فيتفاوتان فينا،و التفاوت ينشأ من الانطباق الدقيق للمفهوم مع المصداق و عدم دقّته و عدم مطابقته رأسا.
ص:56
و لكنّ الكلام فيهم مغاير للكلام فينا،لأنّ لهم عليهم السّلام سعة نفسانيّة غير حاصلة لنا،فالحاصل أنّ مفاهيم العلوم لهم مصاديق،فمعنى قولنا أنّهم خزّان العلم كونهم خزّان مصاديق العلوم و حقائقها.
الخامسة:يومئ الزائر في الجملة إلى كمال نفسانيّ لهم عليهم السّلام،لكونهم خزّان العلم بنفوسهم الزكيّة لا بأبدانهم الشريفة؛لأنّ أبدانهم عليهم السّلام كائنة في الأرض مضافا بأنّ هذا الكمال للبدن لا معنى له.
لو وقع سؤال في التفاضل بين الخازن(المعصوم)و المخزون(العلم) أيّهما أشرف من الآخر؟نجيب عنه بأنّ المخزون(العلم)حيث كان وصفا من أوصافه تعالى الذاتيّة تكون أشرف من الخازن(آل البيت)و لا شيء أشرف من المعصومين بعد الذات و الصفات الواجبتين.
«و منتهى الحلم»
و هو متضمّن لأربع نكات:
الأولى:يسلّم الزائر هنا على المعصومين عليهم السّلام و يشير في تسليمه إلى كمال نفسانيّ لهم كسابقه،و هو كونهم عليهم السّلام«منتهى الحلم».
الثانية:أنّ للحلم معنيين:
ألف)التثبّت في الأمور،فلو سلّمنا هذا المعنى يلزمنا أن نأخذ الأمور أعمّ من المنافية و الملائمة،فالحلم عند المنافي هو التثبّت بأن لا ييأس من
ص:57
الخلاص و النجاة،و هو(الحلم)عند الملائم كما في الظفر على الأعداء و حصول المراد من المال و المنال و غيرهما،أن لا يذهب صبره و وقاره فلا يطغى و لا ينسى المنعم الحقيقيّ و هو اللّه،و لا يترك شكره.
ب)الحلم هو عدم المسارعة إلى العقوبة مع القدرة،فالحاصل أنّ معنى كونهم عليهم السّلام«منتهى الحلم»،هو أنّ الحلم انتهى إلى نهايته فيهم،فهم مع كونهم قادرين على الانتقام بسبب جنود السماوات و الأرض المطيعة للّه استقلالا،و لهم عليهم السّلام بجعل إلهيّ،لا يسارعون إلى الانتقام،فهذا هو المعنى المختار للحلم عندنا (1).
الثالثة:في صلة هذه الجملة مع سابقتها:
أشار الزائر أولا إلى أنّهم«خزّان العلم»و الآن يشير إلى أنّهم«منتهى الحلم»،فنقول إنّ صلة العلم بالحلم من وجوه:
ألف)وقع الحلم تلو العلم في القرآن في وصفه تعالى: وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (2)،كما في الخطبة المرويّة عن الإمام عليّ عليه السّلام في وصف آل النبيّ عليهم السّلام:«هم عيش العلم و موت الجهل،هم الّذين يخبركم حلمهم عن علمهم»، (3)فالإمام الهادي عليه السّلام هنا استعمل الحلم بعد العلم تبعا لما في القرآن.
ص:58
ب)أنّ الحلم على حسب الترتيب الطبيعيّ فرع للعلم،فلو لم يكن الشخص عالما لا يمكن أن يكون حليما،فالحلم كاشف عن علم صاحبه، لأنّ غير العالم أقرب إلى غير ذوي العقول كالحيوان،لأنّ بالعلم يقوى العقل و بعدمه يضعف،فبهذا الضعف تغلب الحيوانيّة على العاقلة،فهو بفقدانه العلم يكون فاقدا للحلم،لأنّ بينهما ملازمة كالملازمة بين الأصل و فرعه.
ج)و لما كان العالم ينظر بعلمه إلى مصالح العفو أو التأنّي و مفاسد العجلة(قريبتين كانتا أو بعيدتين)و السرعة للانتقام من حيث الفرد و المجتمع و آثاره الوضعيّة و القربيّة و غير ذلك من المضارّ و المنافع، فيحلم عن صاحبه.
الرابعة:أنّ للفظة«منتهى»هنا معنى مكانيّا،فهي اسم مكان في الحقيقة كما أشرنا،و الدليل على بلوغ الحلم فيهم إلى نهايته أربعة أنواع:عقليّ، فلسفيّ،كلاميّ،عرفانيّ.
أمّا العقليّ منها،فلأنّهم عليهم السّلام بلغوا إلى نهاية العلم في الممكن (1)،فيلزم أن يكونوا منتهى الحلم؛للتلازم بين العلم و الحلم،فكلّما كان العلم أوسع كان سعة الحلم على سعة العلم،فكونهم عليهم السّلام«خزّان العلم»يلازم كونهم
ص:59
«منتهى الحلم».
و أمّا الفلسفيّ من الأدلّة،(و هو قريب من الأوّل و بينهما فرق دقيق يعلمه الذكيّ)،فهو أنّ كلّ ما كان الوعاء الإمكانيّ للشيء أوسع،يقبل الواعي الكمال على قدر وعائه،و لا شكّ في كماليّة الحلم و سعة وعاء وجودهم،فيكونون هم«منتهى الحلم»لأنّ سعة وعائهم بلغت إلى حدّ لا يتصوّر في الممكن أوسع منه.
و الدليل الكلاميّ،إن قلنا بعدم ربط بين ما يعطي اللّه الممكن بإمكانه، و قلنا بأنّ اللّه يخلق ما يشاء و يختار ما يشاء و يعطي من يشاء و ينزع ممّن يشاء،و لا يسأل عمّا يفعل و هم يسألون،كما كلّ ذلك مفاد آيات من القرآن،نقول:إنّ اللّه حيث أعطاهم أقصى درجات العلم يلزم ذلك أن يجعلهم بجعله التبعيّ«منتهى الحلم».
و أمّا الدليل العرفانيّ،إن كان جميع ما خلق اللّه مظاهر صفاته تعالى و مجالي كمالاته،و تتفاوت الظهورات و التجلّيات بتفاوت القوابل،و كلّ ما كان المجلي في ذاته أقبل،كان التجلّي و الظهور فيه أكمل،يكون حاصل الكلام أنّ ذواتهم القدسيّة من حيث كونهم أزكى الذوات و أصفاها،و ظهور كمالاته سبحانه فيها يكون أتمّ الظهورات فيهم،و حيث إنّ من كمالاته تعالى هو الحلم يكون ظهور حلمه فيهم أتمّ و أكمل ممّا ظهر في غيرهم،فيكونون هم عليهم السّلام«منتهى الحلم»دون غيرهم،(و هذا كأصل عامّ في إثبات كلّ كمال لهم عليهم السّلام).
ص:60
«و أصول الكرم»
فيه أربع نكات:
الأولى:أنّ الزائر يشير إلى كمال من كمالاتهم الذاتيّة حتّى يكون تسليمه عليهم أقرب إلى عرفانه بهم،و يظهر لهم عليهم السّلام بأنّي عارف بأنّكم «أصول الكرم».
الثانية:«الأصول»جمع«الأصل»و هو«ما يبنى عليه غيره»،فيكونون هم عليهم السّلام مباني للكرم،و الكرم كفرع مبتن عليهم،توضيح ذلك:
أنّ الكرم لا ينشأ منهم كنشوء الأغصان من الشجر،بل هم شيء بعنوان أصل و مبنى،و الكرم شيء آخر بعنوان المبتنى،و لا ينافي ما ذكرنا من تفسير الأصل كونهم معدنا للكرم ككونهم معدنا للرحمة للمغايرة بين أصليّتهم و معدنيّتهم،فبالنظر إلى كونهم أصلا للكرم من جهة مغاير لكونهم معدنا،و من جهة أخرى فلا منافاة في البين.
الثالثة:الكرم كمال ظاهر من موصوفه للغير،و هذا التفسير يستفاد من استعماله في موارد عديدة من اللّه سبحانه و الإنسان و النبات؛قال الراغب في(المفردات):الكرم إذا وصف اللّه تعالى به،فهو اسم لإحسانه و إنعامه.
ص:61
و الظاهر،نحو قوله: فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (1)،و إذا وصف به الإنسان،فهو اسم للأخلاق و الأفعال المحمودة التي تظهر منه،و لا يقال هو كريم حتى يظهر ذلك منه) (2).ترى أنّ الظهور مأخوذ في معناه من أيّ كريم صدر، و أيضا ترى أنّ مفهومه عامّ واسع،و الحاصل يكون تعريف الكرم النهائيّ كالآتي.
«الكرم هو إفادة الكريم ما يظهر له من الكمال الذاتيّ لغيره المستحقّ من غير عوض»،انظر إلى كتاب اللّه حيث وصف النبات بالكرم مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (3)لاستفادة الحواسّ منه تكوينا و جبرا،و يلزم شمول تعريف الكرم على هذا المورد أيضا.
الرابعة:قد تقدّم أنّهم عليهم السّلام أصول الكرم و مبانيه تكوينا و غير تكوين، و التكوينيّ نفسانيّ و غير نفسانيّ.
ألف)أمّا النفسانيّ،كنور جباههم و وجوههم مثلا و ملاحة أصواتهم الشريفة و وقارهم التي يستفيد منها(من النور و الملاحة و الوقار)المحبّ و المبغض،فكما ترى أنّ في ذلك كلّه و أمثاله لا يمكن فرض غرض فيها، فإفادة المعصوم عليه السّلام بها للغير يكون قهريّا بلا غرض.
ب)و أمّا الكرم الغير نفسانيّ لهم،فهذا هو ما أوضحناه في تفسير
ص:62
«معدن الرحمة»،الذي كان إيجاد الخلق بهم،و لولاهم لما أوجد اللّه الخلق كما ظهر.و بعض الأعاظم من العلماء على مكتوب عن مولانا العسكريّ عليه السّلام نقله الشهيد قدّس سرّه أنّه قال في حديث طويل:
روح القدس في جنان الصاقورة (1)،ذاق من حدائقنا الباكورة (2).
ترى تعبير الإمام عليه السّلام هنا عن الحديقة بالصاقورة(المأخوذة من الصقر) أوّلا،و عن الثمار بالباكورة أي غير البالغة حدّ الكمال ثانيا.غرضه عليه السّلام هنا أنّ روح القدس مع الإقرار بأنزل الدرجات و الشؤون من ولايتنا بلغ إلى شأنه و نال من اللّه إلى مقامه،أي لو لم يعترف بذلك لم يبلغ إلى ما بلغ، فضلا عن الاعتراف بولايتنا التامّة و كاملها.فكلام الإمام هنا من باب تشبيه المعقول بالمحسوس(ولايتهم و الإقرار بها هما معقولان بالحدائق و ثمار الباكورة المحسوستين)،فبهذا تبيّن معنى كونهم عليهم السّلام أصول الكرم تكوينا نفسانيّا و غير نفسانيّ.
و أمّا لكونهم أصول كرائم الأخلاق و الأفعال غير تكوينيّتين موارد كثيرة،منها إعطاؤهم المال إلى الفقراء ذوي العيال،و كإعطاء عليّ عليه السّلام سيفه للعدوّ حين الحرب،و كذا وساطة الإمام الهادي عليه السّلام عند اللّه لبرء المتوكّل و صحّته عن دمّل حين نذرت أمّه فبرئ،و أنت ترى أنّ معنى
ص:63
الكرم ينطبق على جميع هذه القضايا،فعلى أيّ تقدير أنّهم عليهم السّلام كانوا أصولا لجميع الكرامات التي أكرم اللّه بها كلّ مكرم.و الحاصل:كما لا يتحقّق بناء بدون مبنى،لا يوجد كرم و لا يقع إكرام دون كونهم مبنى له، كالجسم و العرض و إيجاد اللّه إيّاه إكراما له(للعالم)،و هم عليهم السّلام كالروح أو الجوهر المقوّمتين لهما(الجسم و العرض)،فالإكرام مع فرض عدمهم محال؛لأنّه يكون إيجاد المتقوّم بدون مقوّمه،و على فرض إمكانه يكون طفرة غير ترتيبيّة،و هو محال أيضا.
«و قادة الأمم»
و فيه خمس نكات:
الأولى:أشير في هذه العبارة الشريفة إلى أحد كمالاتهم الخارجيّة، و هو أعمّ من أن يكون فعليّا و غير فعليّ باعتبار،و إلى كمال من الكمالات النفسانيّة لهم باعتبار آخر.
توضيح ذلك:أنّ القيادة بأفعالهم و أقوالهم تعدّ كمالا فعليّا،و بأخلاقهم الكريمة و خصالهم الحميدة تعدّ كمالا نفسانيّا،و بعبارة أخرى يكونون هم عليهم السّلام معلّمين بالأقوال و مربّين بالأفعال و بإراءتهم الناس أنفسهم كالأماثل لمجموع الكمالات و الفضائل بالأخلاق و الخصال،فإذا تقارن التعليم بالتربية من حيث العمل و إراءة الأمثل كانت القيادة كاملة تامّة.
ص:64
الثانية:في تفسير القيادة و بيان شرائطها:
«القادة»جمع القائد و هو«من يقود قوما»مثلا(و هو قريب المعنى إلى الإمام و الهادي)،و هو الذي يعرف الطريق،بمعنى إذا بعثت الجيوش إلى القتال،يبعث رجل قبل البعث إلى العدوّ خفاء للتفحّص عن خصوصيّات العدوّ،كالكمّيّة و الكيفيّة و العدد و غير ذلك من الجزئيّات، حتّى يرجع فيخبرهم و يقودهم في السير،ليكون هجومهم على الأعداء على معرفة كاملة منهم،يقال لهذا المبعوث المتفحّص،قائد.
الثالثة:أمّا«الأمم»فهي جمع«الأمّة»،و هي عبارة عن«جماعة لهم مقصد واحد»،و لهذا يقال للمسلمين أمّة الإسلام،لكونهم سائرين إلى مقصد واحد،قال تعالى: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (1).
المراد من«الأمم»هنا أمران،كلّ منهما محتمل:
ألف)المراد من الأمم كلّ مخلوق ذي روح: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ (2).ترى أنّ القرآن أطلق هذا اللفظ على الطيور في الجوّ و كلّ دابّة في الأرض،فبناء على هذا المفهوم الوسيع لهذا اللفظ هم عليهم السّلام يكونون قادة الأمم بمعنى أنّ جميع الأمم على المعنى المذكور تسير إلى مقصد واحد جامع عيّنه اللّه لها،فقيادتهم عليهم السّلام بهذا
ص:65
المعنى مشروطة على ولايتهم عليهم السّلام على ذوات الأرواح جميعا،فتكون ذوات الأرواح أمما لهم و تقبل قيادتهم،و بدونها-أي بدون الولاية المذكورة منهم عليها-لا تتحقّق القيادة منهم عليهم السّلام و لا كون كلّ نوع من ذوات الأرواح أمّة لهم.
ب)أن يكون المراد من الأمم كلّ البشر،فتكون قيادتهم عليهم السّلام للبشر إذا قيادة تشريعيّة مشروطة بالعصمة و الكمال،اللذين لولاهما لا تمكن لهم القيادة و لا أمثليّة للأمم الإنسانيّة،لأنّه بدون العصمة لا يمكن إيصال الأمم إلى غايتهم و إراءة أنفسهم القدسيّة كالأماثل لهم،لوجود الخطأ أو احتماله أو لوجود خلاف المحتمل في القيادة(و سيجيء مزيد بيان لك منّا أيّها القارئ الكريم في شرح«القادة الهداة»إن شاء اللّه).
الرابعة:في توضيح قيادتهم للأمّة الإسلاميّة و سائر الأمم من الموحّدين،نقول:إنّ قيادة هؤلاء الأخيار عليهم السّلام معلومة لهذه الأمّة أعمّ من أن يؤمنوا بها أو لم يؤمنوا،فقد آمن بها الأقلّ فسمّوا بالشيعة،و لم يؤمن بها أكثر الأمّة،فلا يضرّ إنكار الأكثر على قيادتهم الإلهيّة المجعولة بجعله سبحانه،فليست قيادتهم للأمّة فوق ربوبيّته تعالى للعالمين،التي آمن بها أقوام و كفر بها الأكثرون؛و هكذا آمن بنبوّة محمد صلّى اللّه عليه و اله قليلون و كفر بها كثيرون طيلة التاريخ مع عدم الشكّ في كونه صلّى اللّه عليه و اله نبيّا و رسولا لعامّة البشر إلى آخر الدهر و أوّل المحشر،فلا يضرّ ذلك الكفر هذه النبوّة أصلا،فلو رجع المنكرون عن إنكارهم إلى إيمانهم بها تتحقّق نبوّته صلّى اللّه عليه و اله لهم و تكون
ص:66
نبوة فعليّة.
و أمّا كونهم عليهم السّلام قادة للأمم الماضية قبل الإسلام فعلى معنيين:
أحدهما:أنّ الغرض من توافد الشرائع السالفة مع وحدة الدين و عدم تغييره و إن كانت كلّ أمّة في زمانها تنجو بشريعتها الخاصّة للماضين، كونها مقدّمة معدّة لمجيء الشريعة الكاملة،و هي الشريعة التي كان هؤلاء الأشراف مبلّغوها و حافظوها،لهذا كانت قيادة هؤلاء الأشراف عليهم السّلام جزء رئيسيّا من كلّ الشريعة،و بتوضيح آخر:كما أنّ اللّه تعالى يربي كلّ فرد و يوصله إلى كماله اللائق به جسما و روحا كذلك يربي كلّ مجتمع بأصول عقيديّة و كلّيات عمليّة(المسمّاة بأصول الشريعة)،بناء على ذلك فالماضية من الأمم كانوا كأطفال ينمون و يترقّون للوصول إلى إمامة أهل البيت عليهم السّلام كي يمكن لهم الاتّباع و الإطاعة في جميع شؤونهم من هؤلاء الآباء و الأئمّة و القادة،فقد تبيّن بهذا البيان قيادتهم عليهم السّلام للأمم المتقدّمة (1).
ثانيهما:أنّ معنى كونهم عليهم السّلام قادة الأمم هو كون الاعتقاد بهم من الأمور الرئيسيّة الاعتقاديّة للأمم المتقدّمة،فكان يجب أن يعتقد جميع الأمم بهم و بإمامتهم الآتية و إن لم يروا هؤلاء المعصومين،كما جاء في الحديث في وصف الزهراء عليها السّلام:«و هي الصّدّيقة الكبرى،و على معرفتها دارت القرون
ص:67
الأولى» (1).فكانت معرفتها كقطب تدور عليه رحى الشرائع و الأمم،فيلزم هنا اتّحاد القيادة و غايتها،و لا يرد إشكال لكونهما متغايرين بالاعتبار، و هذا التغاير كاف في دفع الإشكال،كمن يبني دارا ليسكن فيها،فالسكنى فيها يحرّكه للبناء و إعداد لوازم البناء،فيكون السّكنى قائدا إلى البناء باعتبار و غاية و غرضا له باعتبار آخر.
فالحاصل أنّ معرفتهم عليهم السّلام تكون غاية للإسلام و قائدا و جاذبا و محرّكا و باعثا إليه،و بهذا يتحقّق معنى قادة الأمم.
الخامسة:أنّهم عليهم السّلام يكونون قادة الأمم في الآخرة إلى الجنّة كما كانوا في الدنيا،فقيادتهم متحقّقة للمنقادين لهم (2)و التابعين عنهم بشفاعتهم التي سنبحث عنها في محلّها،إن شاء اللّه.
«و أولياء النّعم»
و فيه سبع نكات:
الأولى:يشير الزائر هنا إلى واحد من الكمالات الفعليّة لهم عليهم السّلام بعد
ص:68
تصريحه بكمال آخر لهم من هذا القبيل،و هو ولايتهم على النّعم.
الثانية:تفسير لفظتي النعم،و الأولياء:
«النعم»جمع«النعمة»،و هي«كلّ ما يتناسب و يلتام لانتفاع المتنعّم به دون المنافرة أعمّ من التكوينيّة و غيره في عالم الملك و الشهود أو الغيب و غير المشهود موجودا كان أو ما يوجد بعد»؛فيكون هنا،جميع ذلك، فتكون ولايتهم عليهم السّلام ولاية عامّة لجميع النعم على ما فسّرناها بغير استثناء، فيكونون هم عليهم السّلام،أولياء جميع النعم في الدنيا و الآخرة.
و أمّا كلمة«الأولياء»فهي جمع«الوليّ»كالأنبياء جمع النبيّ،و المراد منه هنا،هو المتصرّف و المدبّر؛فالحاصل أنّ معنى كونهم«أولياء النعم» هو ما يتصرّفون في جميع ما خلق اللّه و يدبّرونه،فيكون لهم دور و مدخل في تنعّم كلّ مخلوق و تدبيره،و إلاّ لا يكون كلّ منهم وليّا على النعم، سواء كان مستقلاّ في تصرّفه و تدبيره أو مأذونا فيهما.
فالحاصل أنّهم«أولياء النعم»بهذا المعنى في إيجادها و إعدامها و قبضها و بسطها و أخذها و إعطائها و تبديل بعضها بالأخرى،كما ورد عن عليّ عليه السّلام أنّه قال:«فإنّا صنائع ربّنا و النّاس بعد صنائع لنا» (1).
يستفاد من كون صنائع الخلق لهم على الإطلاق،تدخّلهم عليهم السّلام في جميع الشؤون المذكورة للنعم من الإيجاد و غيره.
ص:69
الثالثة:أنّ ولاية هؤلاء الأطياب عليهم السّلام ليست تعارض ولاية اللّه عزّ و جلّ، بل هي طوليّة لولاية اللّه و مجعولة منه و مأذونة بإذنه سبحانه،و إلاّ تكون مستقلّة قبال ولايته تعالى،فإذا يردّ ما أشكلته الوهّابيّة من لزوم الشرك في توحيده الفعليّ،لأنّ التدبير و التصرّف (1)كانا في مقولة الفعل و هو يرجع إلى الشرك في الصفات،الراجع لا محالة إلى الشرك الذاتيّ،نعوذ باللّه من جميع أنواعه (2).
الرابعة:في تفسير طوليّة ولايتهم و تفصيلها،نقول:طوليّة الولاية لولايته سبحانه متصوّرة على مبنى المتكلّمين و المحدّثين و العرفاء و الحكماء، فالأوّلان قائلان بأنّ اللّه سبحانه ولاّهم على الخلق،أعني فوّض إليهم أمر خلقه،فتكون ولايتهم من نوع التفويض.
أمّا العرفاء فيقولون:إنّ ولايتهم هي ظهور ولايته سبحانه،كالظهور المتجلّي في المجلى و الظاهر في المظهر على سعة أوعيتهم الإمكانيّة، و أمّا الحكماء القائلون بتشكيكيّة الوجود فيقولون:كلّما كان وجود المتصرّف أشدّ و آكد كانت ولايته على ما دونه أوسع و أشمل،فحيث إنّ وجودهم عليهم السّلام أشدّ الوجودات و آكدها بحيث لا أشدّ في وجودهم في
ص:70
الإمكان كانت ولايتهم أوسع الولايات و أشملها،بحيث ليس فوقها إلاّ الولاية الواجبة الذاتية الغير متناهية.
الخامسة:و هي حصيلة القول ممّا تقدّم في التفاوت بين ولاية اللّه و ولايتهم عليهم السّلام،فنقول تنقيحا لذلك:إنّ بين الولايتين تفاوتا،و هو أنّ ولاية اللّه ذاتيّة وجوبيّة غير متناهية و غير قابلة للانفكاك عن الخلق،و لكنّ ولايتهم عليهم السّلام تخالفها في جميع هذه الأوصاف.
توضيح عدم قبول ولاية اللّه الانفكاك عن الخلق:و هو أنّ الحكيم يعتقد بأنّ الربط الممكن و تعلّقه به تعالى،هو عين الفقر و الفاقة،لا ما له الربط و الفقر فلو كان غير ذلك لكان الممكن شيئا دون فقره،و الحال أنّه ليس هكذا،بل هو فقر محض وجودا و ماهيّة و لا يتصوّر كون ماهيّة الممكن شيئا و فقره أو ربطه شيئا آخر،فولاية المعصومين عليهم السّلام مضافا إلى ما ذكرنا تكون قابلة للسلب عنهم،كما قال سبحانه: وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (1).
السادسة:ما يقرب في الاحتمال قويّا،هو كون الأوصاف المتقدّمة التي ذكرها الزائر لهم كالأهليّة لبيت النبوّة و الموضعيّة للرسالة و غيرهما مقدّمات لكونهم أولياء النعم،فبناء على هذا لو كانوا عليهم السّلام فاقدين لأحد هذه الأوصاف لم يكونوا صاحبي الولاية على النعم (2).
ص:71
السابعة:يمكن أن نفسّر الجملة الشريفة«أولياء النعم»بأنّ المراد من الأولياء و النعم كليهما بهم عليهم السّلام،أي هم عليهم السّلام نعم و في نفس الوقت هم أولياؤها،كما في قوله سبحانه: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (1).و ما جاء في تأويل الآية في الأخبار (2)،و هي سبعة أخبار ذكرنا هنا مضمون جميعها.
فالحاصل أنّهم عليهم السّلام كون ولايتهم من أعظم نعم اللّه على العباد،هم أولياؤها،و لا يرد إشكال اتّحاد الوليّ و المولّى عليه،لأنّ كون ولايتهم نعمة هي في مقام الفعل،فيكونون هم أولياءه،أي أولياء التدبير و التصرّف و فروعهما،فهم المخيّرون في إظهار ولايتهم بالفيض و البسط و الإحياء و الإماتة،فيعمّ النعيم في الآية جميع ما أنعمه اللّه على الخلق حتّى ولايتهم كما ذكر.لا بأس هنا بإيراد قصيدة أنشدتها في الثناء عليهم و سمّيتها ب«ذات القافيتين»،التي تحتوي الإشارة إلى بعض الأدلّة العقليّة و النقليّة على المراد و ذكر فضائلهم على قدر الوسع،ليتيقّن القارئ الكريم في كلّ بيت منها،و لتظهر له من الإشارات و النكت و اللطائف المودعة في الأبيات،و سنشير فيها إلى بعض المطالب المهمّة.
«ذات القافيتين»
ص:72
ألا يا آل ياسين ارحمونى أحيّيكم فردّوا و اسألونى
بأن من أنت؟حتى اخبراكم بأنّي من محبّيكم فقوني
تلوّ النار كي لا تلتقطني فها أنا أستغيث بكم خذوني
ثناء قد أردت لكم و لكن لساني قاصر عنه انصروني
جمالكم جمال اللّه يا من بهم ختم الجمال فجمّلونى (1)
حياة العالمين بكم تفاض فقلبي ميّت لا تتركوني
خيار الناس بعد الأنبياء لشيعتكم،فمنهم خاطبوني
دباديب عدوّكم فضيحه ففي درك الشّقا لا تخذلوني
ذللت إذ انقلبت إلى سواكم بكلتا النشأتين فثبّتوني (2)
رياح اللاقحات بكم تفوح ربيعا و الثمار بكم تكون (3)
زخارف عالم البالي ستبلى بزينة حبّكم لي زينونى
سكوت العالم فيما ظلمتم بأيّ علة هو؟أنبؤوني (4)
ص:73
شروق جنّة الفردوس منكم و أنتم كلمة كاف و نون (1)
صلاة اللّه دائمة عليكم فحقّ أن يصلّي العالمون (2)
ضحيّة حبّكم لا تستقلّ جعلت فداكم طول القرون (3)
طواغيت الهوى قد أهلكتنى فمن لجج المعاصي أنقذوني
ظلالكم ظلال اللّه فى الأرض ذليل من يعاديكم بكون (4)
عقول المستفادة قطرة من بحار عقولكم عند الفطون (5)
غوامض ديننا تنحلّ منكم و أنتم قدوة النائي و دون
فريضة حبّكم لبّ الديانه و ذلك من أخصّاء الشؤون (6)
قناديل معلّقة منيره حيال العرش كنتم تحدقون (7)
ص:74
كفانا حبّكم جنّات عدن و رضوان و خلد و عيون (1)
لسان الغيب أنتم لا سواكم فممّا تعلمون فعلّموني (2)
مآتمكم معابد أهل ذكر و هم بكلامكم يتديّنون
نجاة الرّسل من بحر البلايا بغير نجاة منكم لا تكون (3)
ولايتكم على الإيجاد غايه إلى التوحيد منها يعرجون
هذا ليل الأنام رمت هداكم وساوسهم بلطف جنّبوني (4)
يطالب ثاركم مهدي منكم و يستهدي به المستضعفون
«نظامي»شاكر للّه دوما و يشكركم بما أمددتموني
أباطح أجبل العرفان أنتم و يجري منكم للسالكين (5)
براهين إمامتكم منيره فويل من تعامي المنكرين
ص:75
تجلّى اللّه فيكم بالتّمام و هذا لي من إيمان و دين (1)
ثقافتكم أزيلت في السقيفة فوا أسفا و حزنا بالرنين (2)
جماهير فلاسفة الدّهور بمكتبكم من المتعلّمين (3)
حجاب اللّه بغضكم عن الخلق و معرفة بكم حصن حصين (4)
خطيئة آدم و بنيه ملح يذوب بماء فضلكم المعين (5)
دلائل فضلكم مكتوبة في صحيفة ذا المكان و ذا المكين (6)
ذريعتنا إليكم ليس إلاّ محبّتكم مع الشوق الدّفين
رزيّتكم تنغّص كلّ و منها القلب منكسر حزين
زيارتكم مثال زيارة اللّه على العرش اجعلونا الزّائرين (7)
سلاسل باديات الكون كانت عقولكم عقول الراشدين (8)
ص:76
شفاعتكم لنا أعلى الأماني ألا فهي النجاة المذنبين (1)
صبيّكم مطهّر كلّ قلب من الأدناس بالسّوء اليقين (2)
ضياء نفوسكم نور النفوس قبوركم قلوب المؤمنين
طبيعة اسطقسّى بمدّة لها بولائكم اثر متين
ظفير (3)كلّ منصرف إليكم و راغب عنكم من هالكين
عطوف كلّ منكم بالأحبّه حريص في هداية ضالّين
غيار بين كل الناس و الدّين و ليس له سواكم من أمين (4)
فواكه جنّة الأفعال ليست سوى من ماء جودكم المعين (5)
قبول القابلات و فعل فاعل رشيحة فيض نوركم المبين (6)
ص:77
كتاب اللّه مشحون بآي يبيّن فضلكم للمسلمين
لقاء اللّه أمر مستحيل لأقوام بكم مترددين
مصادر علمكم،علم الوجوبى و هذا لاعتقاد الموقنين (1)
نعيش بذكرياتكم الجليله بشوق يا أجلّة عالمين
و سادة ثنّيت لكم و لكن لأرجو لعنة للغاصبين
هدّامة كلّ مبنية بظلم لغيركم لعون الظالمين
يسار ببغضكم قعر الضلاله يطار بحبّكم غرف اليقين
قصيدة ذات قافيتين فاقبل ألا يا حجّة في العالمين
«و عناصر الأبرار»
و فيه ثلاث نكات:
الأولى:يشير الزائر بعطف هذه الجملة إلى ما قبلها من الجمل المبتدئة بالسلام إلى كمال آخر لهم،و هو كونهم عناصر الأبرار (2)،و العناصر جمع
ص:78
عنصر،و هو مادّة بسيطة لا محلّ له في المجرّدات،و هو أمّ المركّبات في عالم المادّة و أصلها.
قالت القدماء من الحكماء،أجزاء عالم المادّة هي أربعة عناصر:النار و الماء و التراب و الهواء،و لكنّ المتأخّرين وقفوا على أكثر من عشرات العناصر،كتحليلهم الماء مثلا الذي كان يعدّ عنصرا واحدا على قول القدماء إلى عنصرين بسيطين،و هما:الأوكسجين و الهيدروجين،فبطل إذا بساطة عنصر الماء،فالحاصل أنّ عالم المادّة،يكون كالابن و العناصر المركّبة،كامّ له،و العنصر البسيط كجدّه.
الثانية:في معنى«الأبرار»و هي جمع«البرّ»،على وزن الصعب،و هو صفة مشبّهة صيغة،و معناه المحسن،و لكن بينه و بين المحسن فرق،و هو أنّ البرّ يطلق على واسع الإحسان،كسعة البرّ في مقابل البحر،و لكنّ المحسن يطلق عليه و على غيره،و لو كان ضيّق الإحسان،و إنّما اطلقت الكلمتان في حقّه تعالى،أي اطلق المحسن عليه على معنى مطلق الإحسان،و البرّ على معنى سعة إحسانه،كقوله: إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (1).
و يمكن القول بأنّ البرّ في حقّه تعالى يقرب من معنى الرحمان،فيكون
ص:79
إطلاق البرّ مقارنا بالرحيم هنا،كإطلاق الرحيم مقارنا بالرحمان في آية البسملة.فيكون المراد من الرحيم في كلتا الآيتين هو الرحمة الخاصّة، و البرّ و الرحمان رحمة عامّة.و حاصل الكلام أنّ الأبرار جمع البرّ،و هم الذين لا ضيق في إحسانهم على الغير،و لهذا اطلقت الأبرار في حقّ المعصومين عليهم السّلام: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (1).هذه الآية و ما بعدها من الآيات (2)حاكية عن سعة إحسانهم عليهم السّلام حتّى أنّهم باتوا جياعا صائمين كي لا يبقى المسكين و اليتيم و الأسير جائعين،فلازم كونهم عناصر الأبرار،كونهم أبرارا،لاستحالة كون فاقد الشيء معطيا له، و للزوم كون الفرع في أصله،فكونهم أبرارا فرع على كونهم عناصر الأبرار.
الثالثة:و أمّا معنى عنصريّتهم للأبرار هو أنّهم كالموادّ البسيطة التي تتكوّن منها الأبرار،فيكون المعصومون عليهم السّلام مقوّمات ماهويّة للأبرار،كما أنّ الهيدروجين و الأوكسجين مقوّمين لمادّة الماء )O2H( ،فالحاصل أنّهم عناصر الأبرار بمعنى أنّ أبدان الأبرار متكوّنة منهم،كما تدلّ عليه أخبار الطينة،منها قول مولانا الصادق عليه السّلام:
«رحم اللّه شيعتنا،خلقوا من فاضل طينتنا،و عجنوا بماء ولايتنا،يحزنون لحزننا و يفرحون لفرحنا» (3)،فيكون المراد من الأبرار هو شيعتهم،و لا
ص:80
تختصّ الشيعة بأتباعهم عليهم السّلام بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و اله،بل تعمّ الأنبياء الماضين كإبراهيم عليه السّلام على حدّ تأويل الآية المباركة: وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ 1.
عن عبد الرحمان بن سمرة قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله:لمّا خلق اللّه تعالى إبراهيم الخليل كشف عن بصره فرأى نورا إلى جنب العرش،فقال:إلهي ما هذا النّور؟قال:يا إبراهيم،هذا نور محمّد صفوتي من خلقي إلى أن ذكر أنوار الأئمّة عليهم السّلام،ثمّ قال:فقال إبراهيم:إنّي أرى أنوارا قد أحدقوا بهم لا يحصي عددهم إلاّ أنت.فقال:يا إبراهيم،هذه أنوار شيعتهم،شيعة عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السّلام.قال إبراهيم:فبما تعرف شيعة عليّ بن أبي طالب عليه السّلام؟قال:
بصلاة إحدى و خمسين،و الجهر ببسم اللّه الرّحمن الرّحيم،و القنوت قبل الرّكوع،و تعفير الجبين،و التّختّم باليمين.فقال إبراهيم:اللّهمّ اجعلني من شيعة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب.قال تبارك و تعالى قد جعلتك منهم؛فلهذا أنزل اللّه تعالى فيه في كتابه: وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ 2.
فإن قلنا(كما هو الحقّ)بأنّ المراد من مرجع الضمير(شيعته)هو عليّ عليه السّلام و أبناؤه على البدليّة،نقول:إنّ جميع الصالحين من الماضين كانوا شيعتهم،أعمّ أن يكونوا أنبياء أو غير أنبياء،كما تؤيّده أخبار أخر أغمضنا عن ذكرها.
ص:81
فحاصل الكلام أنّ هذا التفسير لعنصريّتهم صحيح إن أخذ على معنى العنصر المصطلح،و هو معناه الحقيقيّ في عالم المادّة،فتكون النتيجة أنّ أبدان جميع الصالحين كانت من طينتهم الطاهرة (1).و لكن إن قلنا بإطلاق العناصر هنا كان من باب التشبيه و المجاز يكون معنى عنصريّتهم للأبرار أصالة نفوسهم الشريفة في المجرّدات على غيرها،و تفرّع الغير عليها، فأصالة المجرّدات الكاملة على المجرّدات الناقصة،كالعقول على النفوس مبيّن في الحكمة الإلهيّة.فالحاصل أنّ كلّ من تنفّر من الباطل في العقيدة و الأخلاق و العمل،و رغب إلى الحقّ في جميع ذلك،كان برّا،فيكون له أصل و يكون لهذا الأصل مصاديق جليّة كاملة،فتكون هذه المصاديق هم آل البيت،فهذا هو المراد من كونهم عناصر الأبرار على التفسير المجازيّ و التشبيهيّ للعنصر (2).من جهة أخرى،فإنّ الولاية الإلهيّة ظهرت في نفوسهم الشريفة أوّلا،و في غيرهم على ترتيب خاصّ به ثانيا،فتكون ولايتهم عنصرا لبريّة كلّ برّ تكوينا،و هدايتهم تكون عنصرا في مقام الفعل،فيكون هم تكوينا و تشريعا عناصر للأبرار.
ص:82
«و دعائم الأخيار»
و فيه خمس نكات:
الأولى:في معنى الدعائم و الأخيار؛«الدعائم»جمع«دعامة»و هي العمود،و هي كلّ ما ينصب تحت شيء قائم(كالسقف مثلا)لمنعه عن الخراب و السقوط يقال له«الدعامة»،و«الأخيار»جمع«الخيّر»،إمّا على معناه الوصفيّ أو التفضيليّ،و هو«متعلّق الاختيار لخيريّته عن ما يشابهه».
الثانية:لا شكّ في أنّ المراد من الأخيار هنا هو الأخيار من المكلّفين من الجنّة و الناس أجمعين،و هم دائما في معرض السقوط عن مقاماتهم الرفيعة بوساوس الشيطان الرجيم و النفس الأمّارة بالسوء،و يشير إليه كثير من الآيات و الأخبار،كقوله سبحانه عن كلام يوسف عليه السّلام: وَ إِلاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (1)،و كذلك قول النبيّ صلّى اللّه عليه و اله:«اللّهمّ و ربّ لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا» (2)،لأنّ الوساوس الشيطانيّة و المشتهيات الطبيعيّة ثقيلتان على الأخيار،و هما توجبان السقوط،و ما زالت هذه الحال موجودة،فحاجة الأخيار إلى الدعامة تكون دائمة، و الدعائم المحتاج إليها في كلّ زمان و مكان لكلّ من الأخيار هي
ص:83
آل البيت عليهم السّلام.
الثالثة:صلة هذه الفقرة بما قبلها،و هي أنّ للمعصومين عليهم السّلام دورين و تأثيرين:
الأوّل:دور في قبولهم للوجود،فبهذا الاعتبار يكونون عناصره.
و الثاني:دور في بقائهم،و بهذا الاعتبار يكونون دعائمه،فالحاصل أنّ كونهم عناصر مشير إلى الأوّل،و كونهم دعائم يشير إلى الثاني.
هذا التفسير من الصلة بين الجملتين،إنّما يصحّ إذا كان المصداق الخارجيّ من الأخيار و الأبرار واحدا،و إلاّ إذا كانوا هم طائفتين متغايرتين فلا يصحّ هذا الربط بينهما،و لكن نقول:مصداقهما واحد و يكون اختلاف التعبيرين عنهم لغرض آخر،و هو أنّهم من جهة الخيريّة:العقيدة و الأخلاق و العمل،و إدبارهم عن الباطل في المجالات الثلاثة يكونون أبرارا،و باعتبار طهارة طيناتهم و ذواتهم الشريفة يكونون أخيارا،فتكون بينهما ملازمة لتلازم كلّ من الخيريّة و البرّيّة مع الآخر هنا،يقع سؤال و هو أنّ مع كونهم مصداقا واحدا فلماذا استعمل الاسم الظاهر في الجملة الثانية (دعائم الأخيار)مقام الضمير(و دعائمهم)؟نجيب عنه:لو استعمل الضمير لم يفد الكلام جامعيّتهم رتبتي البرّيّة و الخيريّة،فلا تحصل لا بلاغة في الكلام و لا جمال لفظيّ.
الرابعة:استعمال الجمع في لفظي:العناصر و الدعائم،يكون:إمّا لتعدّد
ص:84
المعصومين عليهم السّلام،و إمّا لتعدّد أدوارهم للأبرار و الأخيار في مجالات شتّى في افقي الوجود و البقاء تكوينا و تشريعا.
الخامسة:قد تقدّم أنّ الأخيار كانت دائما في معرض السقوط عن مقام الخيريّة لهم،و المعصومون عليهم السّلام يمنعونهم عن السقوط و الهبوط:إمّا بولايتهم التكوينيّة،أو بالهداية التشريعيّة الناشئة عن إمامتهم،و تتأيّد الصورة الأولى بالحديث التالي:
عن أبي حمزة الثّماليّ قال:قال أبو جعفر عليه السّلام:«بني الإسلام على خمس:
إقام الصّلاة،و إيتاء الزّكاة،و حجّ البيت،و صوم شهر رمضان،و الولاية لنا أهل البيت.فجعل في أربع منها رخصة و لم يجعل في الولاية لنا أهل البيت رخصة.من لم يكن له مال لم تكن عليه الزّكاة،و من لم يكن له مال فليس عليه حجّ،و من كان مريضا صلّى قاعدا و أفطر شهر رمضان،و الولاية صحيحا كان أو مريضا أو ذا مال أو لا مال له فهي لازمة» (1).
فالحاصل أنّ خيريّة الأخيار تكون بالإسلام،و الإسلام غير مفارق لنفوسهم،و نفوسهم معتمدة على الولاية،فتكون ولاية المعصومين عليهم السّلام دعامة لهم،فبهذا المعنى يكون هذا الكمال كمالا نفسانيّا لهم.و إن قلنا بالصورة الثانية في المقام،أي قلنا بكون دعامتهم لهم بالإمامة التشريعيّة فالأمر واضح،لأنّ لو لم تكن إرشاداتهم القيّمة و تعليماتهم الرشيقة لهم
ص:85
من التوحيد الصحيح في كلّ مرحلة من مراحله الأربعة على المشهور(أو الخمسة بقول أستاذنا الأعظم سماحة آية اللّه الآخوند المعصوميّ)لسقطوا من تلك المرحلة و وقعوا في الشّرك،فبهذا المعنى يكون كمال الدعاميّة كمالا فعليّا خارجيّا للمعصوم عليه السّلام.
«و ساسة العباد،و أركان البلاد»
و فيه ستّ نكات:
الأولى:يسلّم الزائر بهذه العبارة الشريفة عليهم ذاكرا في تسليميه كمالين فعليّين خارجيّين لآل البيت عليهم السّلام؛لأنّه كما يأتي أنّ سياسة العباد و الركنيّة في البلاد تكونان من أفعالهم الشريفة،و لا يعدّ الفعل بما هو فعل كمالا نفسانيّا.
الثانية:أنّ«الساسة»جمع«السائس»،و هو المدبّر لأمور المجتمع بعوامل و أسباب خفيّة (1)،قال الإمام عليّ عليه السّلام في حكمة قصيرة له:«سوسوا إيمانكم بالصّدقة» (2)،أي دبّروه و احفظوه خفاء و رمزا للصدقة،فليست الصدقة في نفسها أمرا خفيّا مرموزا،و لكن لها صلة مرموزة بالإيمان،و هي أنّ بالصدقة يجاهد المتصدّق مع حبّه للمال و من هذا الطريق يضعف
ص:86
الحبّ،فكلّما ضعف حبّ المال قوي الإيمان في قلبه؛فقد تبيّن أنّ بين الصدقة و الإيمان ربطا مرموزا،و تبيّن أيضا أنّ المراد بهذا الحديث هو توضيح معنى السياسة.
الثالثة:أنّ آل البيت عليهم السّلام هم ساسة العباد،و معناه أنّهم يدبّرون امور العباد في المجالين:الدنيويّ و الأخرويّ،بأسباب خفيّة،فمثلا في الأمور الأخرويّة للعباد يسنّون سننا و يفرضون فرائض و يبلّغونها و يرغّبون العباد على العمل بها بذكر الثواب الجزيل و الأجر الموفور، (1)و لكن لا يكشفون أسرارها و لا صلتها بالأمور الدنيويّة في حقول شتّى.و امتناعهم عن كشف الأسرار و الآثار للأمور الدنيويّة إنّما هو على ما اقتضته حكمتهم البالغة و ليس ذلك عن بخل،معاذ اللّه(الذي هو النافي عنهم ذلك إطلاقا).
الرابعه:في توضيح«و أركان البلاد»،البلاد جمع البلد،و الأركان جمع الركن،و هو ما يعتمد عليه افقيّا،كالجدار الذي يتّكئ عليه الرجل،بخلاف الدعامة التي يعتمد عليها المعتمد عموديّا كالسقف،مضافا إلى أنّ الدعامة مانعة عن الخراب في زاوية أو ناحية خاصّة،و لكنّ الركن هو أصل لكلّ البناء فيحفظه جميعا عن الخراب،فالحاصل أنّ الخلق عامّة كبناء عظيم،
ص:87
و الأخيار كناحية أو زاوية قائمة بدعامة أهل البيت،و لكن معنى كونهم أركانا للبلاد هو أنّ بهم يتقوّم الخلق (1):من الإنسان و غيره،و الإنسان من المؤمن و غيره.
الخامسة:في توضيح«الرّكنية»،إنّ ركنيّة آل البيت عليهم السّلام مع تمهيد مقدّمة لها في العالم نوعين موجودين من الحياة،قبال كلّ نوع من الحياة موت بالنسبة إليه،فكلّ من العمران و الخراب اثنان:معنويّ و ماديّ،و هو قوله تعالى: اِعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها . (2)المراد من ظاهر الآية هو الحياة و الموت المادّيّان،و لكن يفسّره الإمام الصادق عليه السّلام بالمعنويّتين في قوله:«أي يحييها بعدل القائم عليه السّلام بعد موتها بجور أئمّة الظّلم و الضّلال» (3).فتبيّن من ذلك أنّ للأرض حياتين و موتين مادّة و معنى،فالحياة الطبيعيّة و كذا الموت تتبادلان في كلّ عام،و لكنّ المعنويّ من الموت يقع قرب ظهور المهديّ عليه السّلام بعد أن تملأ الأرض من الجور و الظلم على أهلها،و المعنويّة من الحياة لها تتحقّق بظهوره،مع تحقّق العدل العالميّ،و خلوّ الأرض كاملة من الجور و الظلم،فيكون للركنيّة أيضا معنيان،كلّ واحد منهما يكون قبال ما يناسب،أي ركنيّة المادّيّة بالنسبة إلى الحياة و العمران
ص:88
المادّيّتين،لا حاجة إلى ذكرها،و المعنويّة قبال معنويّتين من العمران و الحياة.
فالمراد من كون المعصومين أركانا للبلاد هو ركنيّتهم المعنويّة،بمعنى أنّهم يحقّقون العدل الواسع بين الناس و يبقون الرحمة و المروّة فيهم، و بذلك يمنعون الأرض من الخراب و الدمار المعنويّين،فيكون بقاء الحياة المعنويّة بهدايتهم و إرشادهم،و أمّا ركنيّتهم المادّيّة للأرض فواضح، لولايتهم التكوينيّة عليها و على أهلها،و قد ظهر أنّهم أركان البلاد مادّة و معنى.
السادسة:قد تقدّم في الفصل السابق أنّ الأخيار لا تزال في معرض السقوط،و الهلاك إلاّ أن تكون دعامة لهم،فالبلاد هنا كالأخيار محتاجة إلى الركن،فعلى هذا دوام كون البلاد مأمورة تحتاج إلى هداية حقّة،و هي منحصرة في آل البيت عليهم السّلام.أضف إليه أنّ المعصومين بسبب ركنيّتهم للبلاد يكونون مظاهر للرحمة الرحمانيّة،و بكونهم دعائم الأخيار و عناصر الأبرار يكونون مظاهر للرحمة الرحيميّة،لأنّ مظهريّة الأولى أعمّ و أوسع من الثانية.
«و أبواب الإيمان،و أمناء الرّحمن»
و فيه سبع نكات:
ص:89
الأولى:في بيان كمّيّة تسليم الزائر عليهم،فنقول:إنّ تسليمه عليهم عليهم السّلام و إن كان تسليما منه بحسب الظاهر،و لكنّه في الحقيقة طلب سلام غير متناه من اللّه عليهم،لأنّه سبحانه هو السلام حقيقة،و صفاته القدسيّة لا تحدّ كذاته المتعالية (1).
و الحاصل أنّ منشأ التسليمات عليهم هو رحمته سبحانه التي لا تتناهى،و ليست هذه التسليمات الغير متناهية عليهم في غير محلّها، لأنّهم عليهم السّلام لا تزال تتزايد كمالاتهم إلى أبد الآباد،(فانظر مزيد البيان في المقام إن شاء اللّه).و ينبغي هنا أن نذكر أنّ لمحدوديّة تسليمنا عليهم بحسب الظاهر جهتين.
ألف)أنّا كالمسلمين كنّا محدودون من جهات شتّى،و كذا وسائطنا و أسبابنا في التسليم محدودة.
ب)أنّ كمالاتهم منقسمة إلى الكمالات الأصوليّة المحدودة،و الفروعيّة الغير محدودة،فمن الجهة الأولى تكون تسليماتنا محدودة لكون تلك الكمالات فيهم محدودة.
الثانية:في سرّ تعدّد استعمال الأبواب:
تعدّد كونهم عليهم السّلام أبوابا،يكون لتعدّد أفرادهم،أي كلّ واحد منهم عليهم السّلام
ص:90
يكون بابا للإيمان،و إمّا باعتبار أنّ كلّ كمال يعرفه الناس منهم كان بابا للإيمان لأنّ فيه أثرا تعليميّا أو تربويّا؛و يمكن كون التعدّد بتعدّد هداياتهم كيفا و كمّا كهدايتهم،بعض بإنذار شديد و بعض بأشدّ منه و بعض باللّين و بعض بالحكمة و بعض بالموعظة الحسنة و بعض بالتي هي أحسن.
الثالثة:في كونهم عليهم السّلام أبوابا للإيمان،إنّا نعلم بأنّ المعرفة بهم و بكلّ حقيقة غير محسوسة كالتوحيد مثلا،أمر عقليّ و الباب و الدخول فيه أمر حسّيّ،فما السّرّ في التعبير عنهم بالباب؟
نقول:أوّلا؛يتبيّن من هذا التعبير الذي فيه تشبيه،يريد الإمام الهادي عليه السّلام أن يشبّههم بالأبواب المحسوسة،و يستلزم هذا التشبيه تشبيه الإيمان أيضا بدار محدودة،كقوله سبحانه: وَ رَأَيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أَفْواجاً (1)،فيتحصّل من هذا التقرير أنّ كلّ ما استعمل من الدخول أو الورود هو كناية عن كون مدخول فيه محصورا،فيكون هذا من قبيل التشبيه المعقول بالمحسوس (2).
بناء على هذا يكون الإيمان كمحيط محدود،له أبواب عديدة،فأبوابه آل البيت عليهم السّلام كما قال سبحانه: وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها (3)،و المراد من
ص:91
البيوت في الآية على ما تدلّ عليه الأخبار هو الإسلام،و قد قال النبيّ فيما روي عنه صلّى اللّه عليه و اله:«أنا مدينة العلم و عليّ بابها» (1).
و لعلّ سرّ محدوديّة الإيمان المفهومة من التشبيه،هو كون الانصراف عنه كفرا،و كأنّ الكافر خارج عن حيطة دار الإيمان و حصاره،و كأنّه أحاط جدران الإيمان أرض الكفر و الشرك و النفاق.
الرابعة:عبّر عنهم عليهم السّلام بأبواب الإيمان لا الإسلام؛لأنّ للإسلام مرتبتين:
الأولى:دون الإيمان،و هي إقرار ظاهريّ فقط دون اعتقاد قلبيّ،كما قال سبحانه: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا (2).فباب هذه الرتبة من الإسلام هو إقرار بالشهادتين ليحقن به الدم و تحصل المعاملات الاجتماعيّة في الأمّة.و أمّا أنّهم باب الإيمان،أي الذي هو فوق رتبة الإسلام المذكورة بمعنى أنّ من أراد أن يعرف اللّه،و كذا أنبياءه عليهم السّلام و المعاد على معناه الصحيح،و يعتقد به،يجب عليه أن يأخذ معرفته و اعتقاده من هدايتهم و ولايتهم،(كما قال الإمام عليّ عليه السّلام:«نحن البيوت الّتي أمر اللّه أن يؤتى من أبوابها» (3)).فتحصل بذلك الرتبة العليا من الإسلام (و هي الرتبة الثانية منه)،و هي حقيقة التسليم التي تكون فوق الإيمان،
ص:92
و إلاّ لو لم تكن هدايتهم لا يعرف التوحيد الصحيح،بل ينحرف الناس عنه،فيكون توحيده كتوحيد المجسّمة أو الحلوليّة أو الاتّحاديّة القائلين بالتجسيم له سبحانه،أو حلوله في خلقه أو اتّحاده بهم،أو يكون اعتقاده بالعدل كاعتقاد الأشعريّة أو المعتزلة،حيث ضلّوا عن طريق العقل القويم و الفطرة السليمة،فتحصّل أنّ لهدايتهم إلى هذا المقصد الأعلى حاجة ماسّة؛و من جهة أخرى،فبالاعتقاد بولايتهم عليهم السّلام يصير كلّ من التوحيد و العدل و النّبوّة و المعاد كالجسد المنفوخ فيه الروح.
الخامسة:في كونهم«أمناء الرحمن»:الأمناء جمع الأمين،و هو من يأتمنه المؤتمن بإيداع شيء عنده ليحفظه كما كان و لا يخون؛فالأمانة بهذا المعنى ملازم لنوع من العصمة التحصيليّة بالتقوى و الجهاد مع النفس و الهوى.و أمّا الحصوليّة الذاتيّة،فهم أمناء الرحمن بالعصمة على نوعها الثاني،(التي سنبحث فيها إن شاء اللّه تفصيلا)؛لأنّ كون الشخص أمينا كاملا في أمانته لا يمكن بدون العصمة الكاملة الذاتيّة.فحاصل الكلام، أنّهم أمناء الرحمن بولايتهم التكوينيّة في أخذ الفيوضات عن الفيّاض المطلق،و نشرها في العالم كما في إمامتهم،و أخذهم الوحي و تفسيرهم الكتاب و تقريرهم السنّة،و تبيينهم الأحكام و إجرائهم الحدود و يتأيّد هذا المعنى في كونهم أمناء بقوله سبحانه عن عدّة من الأنبياء: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ 1.
ص:93
الخامسة:في كونهم«أمناء الرحمن»:الأمناء جمع الأمين،و هو من يأتمنه المؤتمن بإيداع شيء عنده ليحفظه كما كان و لا يخون؛فالأمانة بهذا المعنى ملازم لنوع من العصمة التحصيليّة بالتقوى و الجهاد مع النفس و الهوى.و أمّا الحصوليّة الذاتيّة،فهم أمناء الرحمن بالعصمة على نوعها الثاني،(التي سنبحث فيها إن شاء اللّه تفصيلا)؛لأنّ كون الشخص أمينا كاملا في أمانته لا يمكن بدون العصمة الكاملة الذاتيّة.فحاصل الكلام، أنّهم أمناء الرحمن بولايتهم التكوينيّة في أخذ الفيوضات عن الفيّاض المطلق،و نشرها في العالم كما في إمامتهم،و أخذهم الوحي و تفسيرهم الكتاب و تقريرهم السنّة،و تبيينهم الأحكام و إجرائهم الحدود و يتأيّد هذا المعنى في كونهم أمناء بقوله سبحانه عن عدّة من الأنبياء: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (1).
السادسة:الغرض من ذكر لفظة الرحمن هنا أمران:
أحدهما:لفظيّ،موافقة للفظة الإيمان.
و ثانيهما؛إشارة إلى مظهريّة المعصومين للرحمة الرحمانيّة،و أهمّيّة وساطتهم في نشر الفيوضات للعالم أجمع.
السابعة:أنّ هذين الكمالين لهم عليهم السّلام من نوع كمال نفسيّ لهم،لأنّهما ليسا من مقولة أيّ نوع من الكمال الخارجيّ أو البدنيّ.
«و سلالة النّبيّين،و صفوة المرسلين،و عترة خيرة ربّ العالمين،
و رحمة اللّه و بركاته» (2)
و فيه سبع نكات:
ص:
الأولى:يشير الزائر هنا إلى ثلاث من كمالاتهم عليهم السّلام،فكونهم سلاسة النبيّين،يحتمل فيه الكمال الجسميّ،إن فسّرنا السلالة لبعدهم المادّيّ و نفسانيّا،إن فرضناه أعمّ من ذلك،نقول:سلالة كلّ شيء،لغة،هي خلاصته الخارج منه،بناء على هذا يمكن لها معنيين:
ألف)من الجهة المادّيّة.ب)من الجهة الغير مادّيّة.
فإن قلنا بالأوّل،فنقول:أنزل الأشياء و أخسّها في عالم الكون هو الجماد،و خلاصته الكاملة الخارجة منه هو النبات،و عصارة النبات يكون حيوانا،و الإنسان خلاصة كاملة من الحيوان،و الأنبياء من الإنسان كذلك، فآل البيت عليهم السّلام خلاصة للأنبياء،و قد تبيّن أنّهم عليهم السّلام إذا كانوا سلالة و خلاصة للنبيّين بهذا التقرير يكونون خلاصة لجميع ما خلق اللّه.
و إن قلنا بثاني الاحتمالين،فنقول:كلّ ما قدّمناه من الكلام في مراحل الكمالات يأتي بعينه هنا،و يضاف إليها حينئذ البعد الروحيّ الذي كمل بالإدراك و الشعور،بمعنى أنّ للجماد روحا خاصّة به،فيتكامل و يصير حيوانا مع روح أكمل من الجماد،و الحيوان باستكمال روحه الحيوانيّة يصير إنسانا،و هكذا الإنسانيّة تنقلب مستكملا إلى النبوّة بروح القدس (1)، و النبوّة بصيرورتها يكون آل البيت من أكمليّة روح القدس في الإمام بالنسبة إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و اله،لكون وعاء وجود الإمام أوسع من وعاء النبيّ صلّى اللّه عليه و اله
ص:95
(على معناه المطلق لا الخاصّ)،فبهذا التقرير يكون أهل البيت عليهم السّلام أكمل من ما سوى اللّه من جهتهم الغير مادّيّة.
إن وقع سؤال:لماذا لم يعبّر الإمام الهادي عليه السّلام عن آل البيت عليهم السّلام بسلالة العالمين؟نجيب عنه:لكون غرضه عليه السّلام في المقام بيان أجلى المصاديق من المخلوقين،و لا شكّ في أنّ النبيّين هم أجلاها،فيكون هؤلاء العظماء سلالتهم.
الثانية:في بيان كونهم عليهم السّلام صفوة المرسلين،نقول:يتفرّع على كون آل البيت سلالة النبيّين(بأخذ اللام،لام الكلّ)كونهم صفوة المرسلين، لأنّهم لا يقفون في حدّ من الكمال إلاّ إذا بلغوا إلى نهاية ما يمكن للممكن.
الثالثة:في سرّ اختلاف تعبيرين بالسلالة في النبيّين و الصفوة في المرسلين،هو أنّ ذات المرسلين و جوهرهم أصفى من النبيّين غير المرسلين،فالنبيّون أكدر ذاتا من المرسلين(على حدّ قابليّتهم الذاتيّة لكلّ منهما للكمال)و بيان شؤون آل البيت عليهم السّلام يكون من العالي إلى الأعلى، فيكون التعبير بسلالة النبيّين أخذ العالي،و صفوة المرسلين السير إلى الأعلى،كما أنّ الصفوة لعدم كدر فيه أكمل من السلالة لوجود كدر ضعيف فيها،و المرسلون أكمل من النبيّين على هذا القياس،فالحاصل أنّ كونهم صفوة المرسلين يتضمّن كونهم صفوة النبيّين أيضا،و مع ذلك كلّه يتصوّر كدر ضعيف في المرسلين أيضا،و لا كدر في آل البيت عليهم السّلام أصلا،
ص:96
لكونهم صفوتهم (1)؛فحاصل الخبر هو أن لكلّ نبيّ وظيفتين:
ألف)أن يعرف بنفسه أهل البيت عليهم السّلام.
ب)و أن يعرفهم الناس،ليعتقدوا بهم،و أن يفضّل أهل البيت عليهم السّلام على من سواهم و يعلّم الناس على تفضيلهم هذا.
الرابعة:في توضيح«و عترة...»،قد تقدّم في ما مضى معنى العترة، و المراد من«خيرة ربّ العالمين»هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله.يخاطب الزائر هنا- كما في سائر الفقرات-آل البيت عليهم السّلام،و لا نظر له في زيارته إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نفسه.فيستفاد من هذه الفقرات أنّه يريد زيارة المعصومين بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله،و لا يلزم من ذلك زيادة الفرع(آل البيت)على الأصل (رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله)،لأنّا نقول:إذا زور الفرع يزار الأصل بالأولويّة،و لو لم يذكره الزائر.مضافا بأن يلزم هذا الإشكال في ما إذا كان تفاوت بين النبيّ
ص:97
و أهل بيته عليهم السّلام،مع أنّه لا تفاوت بينهم في الحقيقة لكونهم معه صلّى اللّه عليه و اله حقيقة واحدة نوريّة،و يؤيّد ذلك أنّ كلّ واحد منهم نفس نفيسة للرسول على البدليّة على ما نطق به القرآن في آية المباهلة في حقّ عليّ عليه السّلام،و يؤيّد أيضا إطلاق عدّة من الفقرات ذكرت فيها نسبتهم إلى الرسول صلّى اللّه عليه و اله.
الخامسة:في سرّ التعبير ب«خيرة ربّ العالمين»بدل التعبير برسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله مثلا،فيه غرضان:
الأوّل:مراعاة الجمال اللفظيّ في العبارة و موافاتها في آخر العبارة،مع آخر الفقرتين السابقتين.
و الثاني:من جهة المعنى،و هو الدّور و التأثير من النبيّ و آله عليهم السّلام في تربية نفوس العالمين من جهات شتّى؛لأنّهم وسائط الفيض،قال اللّه تعالى مخاطبا لرسوله الكريم: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (1).
السادسة:في ذكر«رحمة اللّه و بركاته»هو أنّ الزائر في مختتم هذا الفصل من الزيارة(أو هذه الفقرة منها)يعطف رحمة اللّه و بركاته على تسليماته التي قدّمها،و في الحقيقة يطلب الرحمة و البركة من اللّه لهم؛ لأنّ في السلام طلب دفع الضرر عن المسلّم عليه،و الرحمة جلب النفع لهم،و لا يتمّ كلّ واحد منهما دون الآخر.و في الحقيقة أنّ السلام من شؤون رأفته تعالى،لكونه سبحانه رؤوفا،و الرحمة لكونه رحيما،و في
ص:98
ذكر البركات هنا إشارة إلى دوام الرأفة و الرحمة الإلهيّتين و ثباتهما لهم.
السابعة:في تعيين نوع هذه الكمالات الثلاثة؛فنقول:
أمّا الأوّل،فقد تقدّم فيه احتمالان،و أمّا الثاني(صفوة المرسلين) فكسابقه،و أمّا الثالث(كونهم عترة)فيعدّ كمالا خارجيّا غير فعليّ لهم عليهم السّلام.
الإمام الهادي عليه السّلام راعى(في الفصل الأوّل من الزيارة)في ذكر الكمالات المشار إليها أحسن ترتيب،بحيث يكون كلّ كمال لا حق أرقى من سابقه،و كلّ سابق أنزل بالنسبة إلى اللاحق،و تقريره كما يلي:
الكمال الأوّل:(و هو مع عظمه بنفسه)أنزل شؤونهم عليهم السّلام بالنسبة إلى ما يعدّه من الكمالات،لأنّ الأهليّة لبيت النبوّة أنزل من كونهم موضع الرسالة،كما أنّ النبوّة أضعف بالنسبة إلى الرسالة.
الثاني:كونهم موضع الرسالة أنزل من كونهم مختلف الملائكة؛لأنّ الملائكة كانوا وسائط الوحي على الرسل،و لكنّ آل البيت عليهم السّلام هم الملائكة بأنفسهم(على قول المختار)المتعلّقون بالأبدان.
الثالث:كونهم مهبط الوحي؛أنّ شرف الرسل في هبوط الوحي عليهم، و هم يفتخرون بذلك،و لكنّ آل البيت عليهم السّلام لا يفتخرون بهبوط الوحي عليهم،بل هم مهابط الوحي مع كونهم غير مرسلين.
ص:99
الرابع:منشأ الوحي النازل على الرسل هو الرحمة الإلهيّة،و لكنّ آل البيت عليهم السّلام أنفسهم معدن هذه الرحمة.
الخامس:أنّ الباعث لرحمة اللّه على الرسل هو علمه سبحانه بمصالح العباد تكوينا و تشريعا،و لكنّ آل البيت عليهم السّلام هم خزّان هذا العلم.
السادس:أنّ حلمه تعالى المقارن بعلمه يمنع عن المعاجلة في تعذيب العباد،و هم عليهم السّلام منتهى هذا الحلم الشامل،فيكون هذا الشأن أرفع من سابقه.
السابع:أنّ جميع ما يشمل على العباد من بعث الرسل و الإيحاء إليهم و العلم بمصالحهم و الحلم عن خطاياهم و غير ذلك ينشأ من الكرم الإلهيّ الذاتيّ،و آل البيت عليهم السّلام هم أصول ذلك الكرم الفعليّ(فما أعجب هذا الشأن!).
الثامن:أنّ كلّ رسول قائد لأمّته خاصّة،و لكنّ آل البيت عليهم السّلام هم قادة جميع الأمم.
التاسع:أنّ كلّ رسول قائد لأمّته في نظام التشريع،و لكنّ آل البيت عليهم السّلام هم أولياء النّعم حتّى في التكوينيّات التي لا تعدّ و لا تحصى.
العاشر:لا يعدّ أيّ رسول أو نبيّ عنصرا،بل كان عن خارج الخلق هاديا و قائدا و غيرهما،و لكنّ آل البيت عليهم السّلام كانوا كالموادّ التي يتشكّل منها الأبرار.
ص:100
الحادي عشر:أنّ كلّ ما كان عنصرا لشيء لا يكون من خارجه دعامة، و كلّ ما كان دعامة من خارج الشيء لا يكون عنصرا من داخله،و لكنّ آل البيت عليهم السّلام هم جامعو هذين الشأنين.
الثاني عشر:و هكذا كلّ من كان سائسا على قومه من الخارج لا يكون ركنا لبلدهم،و لكنّ آل البيت عليهم السّلام جمعوا في أنفسهم هذين الكمالين.
الثالث عشر:كلّ نبيّ أو رسول كان هاديا إلى الإيمان و مفسّرا و مبيّنا له، و لكنّ آل البيت عليهم السّلام كانوا على مستوى لا يتحقّق الإيمان بدونهم،فهم باب للإيمان،و دار الإيمان بدونهم هي دار خربة.
الرابع عشر:كونهم أبواب الإيمان لا يكفي لحفظ دار الإيمان عن السارقين و المهاجمين ما لم يكن للدار أمناء يحفظونها،فكونهم أمناء الرحمن بعد كونهم أبواب الإيمان هو شأن أرفع و كمال أرقى.
الخامس عشر:بل شأن آل البيت عليهم السّلام أرقى من ذلك،و هو كونهم سلالة النبيّين،لأنّ كونهم أمناء يمكن مشاركة غيرهم فيه،كالعلماء العدول، و لكن لا يمكن مشاركة الغير معهم في كونهم سلالة النبيّين.
السادس عشر:بل شأنهم أرقى من ذلك،و هو كونهم صفوة المرسلين، حيث إنّ المرسلين أعلى من النبيّين.
السابع عشر:بل كمالهم أعلى من ذلك أيضا،و هو كونهم عترة خيرة ربّ العالمين،و امتيازهم في ذلك الشأن على غيرهم امتياز رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله
ص:101
على جميع ما سوى اللّه؛لأنّهم عترته و خاصّته،بحيث لا يمكن للممكن أن يصعد إلى أرفع من ذلك السطح.
فانظر بالدقّة إلى هذا الترتيب العجيب،الذي يتحيّر فيه اللبيب، و يشتاق إلى قائله الحبيب عليه السّلام،و يعتبر منه الأديب،و يموت من غيظه الحسود الرقيب.
«السّلام على أئمّة الهدى»
فيه ستّ نكات:
الأولى:بدأت هذه الزيارة الشريفة بتسليم الزائر مخاطبا المزورين مع تعبير«عليكم»،و لم يستعملها في بدء هذا الفصل منها،بل يقول هنا:
«السلام على أئمّة الهدى»،و سرّ اختلاف التعبيرين هو أنّه كان يريد في البدء عطف توجّه المزورين إلى نفسه،فكان يلزم توجيه الخطاب إليهم، و لكن الآن لا يريد ذلك،لأنّه كتحصيل الحاصل،بل يريد أداء تحيّات جديدة عليهم،مع ذكر كمالات أخرى لهم،فلا حاجة إذا إلى جملة خطابيّة(عليكم).
الثانية:في تفسير لفظ الإمام لغة و اصطلاحا؛«الأئمّة»جمع«الإمام»، و هو من يؤتمّ به،و يقف أمام المؤتمّين القاصدين له،فيكون هو مقصودهم،و لهذا يقال لوالدة الطفل الأمّ،لأنّ الطفل يقصدها(يؤمّها)،
ص:102
فمعنى المقصوديّة أخذ في هذا اللفظ و مشتقّاته كأم الرأس مثلا،فكلّ معنى لهذا اللفظ كالهادي و القائد و غيرهما ليس معناه الدقيق المأخوذ من مادّة اللفظ(أمم)،و الحاصل أنّ لفظ الإمام و إن كان مصدرا كالسلام و الكلام و لكنّه مفعول معنى.
أمّا معناه الاصطلاحيّ للمتكلّمين،و المستفاد من تعريفهم للإمامة،فهو كما يلي:
إنّ أهل الكلام قالوا في تعريف الإمامة:«الإمامة،رياسة عامّة إلهيّة في أمور الدين و الدنيا،نيابة عن النبيّ»،فيكون تعريف الإمام:«الإمام هو رئيس عامّ إلهيّ في أمور الدين و الدنيا،نائب عن النبيّ»،فيكون هؤلاء الأعاظم أئمّة الهدى و الرؤساء عامة من قبل اللّه و نوّاب النبيّ صلّى اللّه عليه و اله في أمور الدين و الدنيا.
الثالثة:الإمامة على أيّ معنى كانت ملازمة للإجراء العمليّ في تربية الأمّة،و لهذا تفوق الإمامة على النبوّة؛لأنّ تأثير النبوّة و دورها هو التعليم و التبليغ فقط،بإنذار الكفّار و تبشير المؤمنين،كما قال سبحانه: وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (1)،و لكن للإمامة-مضافا إلى ما في النبوّة-تأثير آخر،بل وظيفة أخرى فالإمام يصنع الأمّة بعمله و يربّيها،فبعد أن ختم إبراهيم عليه السّلام مراتب العبوديّة و النبوّة و الرسالة و الخلّة،بلغ إلى الإمامة
ص:103
العليا،كما عن الصادق عليه السّلام:«إنّ اللّه تبارك و تعالى اتّخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتّخذه نبيّا،و إنّ اللّه اتّخذه نبيّا قبل أن يتّخذه رسولا،و إنّ اللّه اتّخذه رسولا قبل أن يتّخذه خليلا،و إنّ اللّه اتّخذه خليلا قبل أن يجعله إماما،فلمّا جمع له الأشياء قال: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً (1).
فهذه الوظيفة التربويّة في نطاقها الواسع لتشكيل الحكومة بيّنة واضحة في تاريخ كلّ واحد من المعصومين بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم،و لا سيّما في حكومة الإمام المهدي(عجّل اللّه تعالى فرجه)العالميّة الآتية.
الرابعة:المراد من الهداية هنا الهداية التشريعيّة التي تكون من شؤون الإمامة دون التكوينيّة الناشئة عن الولاية الباطنيّة على الأشياء (2)،و هي (الهداية التشريعيّة)التي تشتمل على إراءة الطريق في الدنيا و الإيصال إلى المطلوب في الآخرة،فالشطر الأوّل من الهداية(إراءة الطريق)واضح، و لكنّ الشطر الثاني منها(الإيصال)يثبت بأدلّة نقليّة متواترة،ككون الإمام عليّ عليه السّلام مثلا قسيم الجنّة و النار،يقود المؤمنين إلى الجنّة و يسوق الكفّار إلى النار،كسقي آل البيت عليهم السّلام شيعتهم من الكوثر،و غير ذلك.
الخامسة:في بيان نوع إضافة الأئمّة إلى الهدى:
ألف)تحتمل أن تكون الإضافة إضافة الموصوف إلى الصفة،فيكون معنى هذه الفقرة:السلام على الأئمّة الموصوفين بالهداية.فتكون الهداية
ص:104
إذا كوصف ذاتيّ لهم،فهم ليسوا بأئمّة الضلال،لعدم إمكان تصوّر الضلال في ذواتهم الطاهرة،فتكون المغايرة بين إمامتهم و الهدى اعتباريّة لا حقيقيّة،كما تتغاير الفضّة مع الخاتم في«خاتم فضّة»،فيكون آل البيت عليهم السّلام متوغّلين في الهداية كأن لا شأن لهم غيرها،كما في«زيد عدل»،و هو أقوى عندنا،فإذا يشترط كون الإمام مهديّا قبل أن يكون إمام الهدى، لاستحالة كون فاقد الشيء معطيا له.
ب)و تحتمل أن تكون الإضافة أيضا حقيقيّة،فتكون الهداية إذا أمرا خارجا من ذواتهم الشريفة،و المغايرة بين شأني الإمامة و الهداية مغايرة حقيقيّة،كقولنا:«كتاب عليّ»مثلا.
السادسة:في أن التصديق التامّ بالشيء ملازم لتصديق لوازمه،فإذا صدّقنا كونهم أئمّة الهدى،يلزمنا التصديق بهذه الأمور:
ألف)أنّهم مجعولون للإمامة،أي أنّ إمامتهم مجعولة من قبل اللّه تبارك و تعالى.
ب)أنّهم معصومون.
ج)أنّ كلاّ منهم أعلم الناس.
د)أنّهم أفاضل الأمّة.
و هنا ينبغي القول بأنّ من لوازم كونهم أئمّة الهدى اهتداء أتباعهم و ضلالة من خالفهم،و أن يكون الأوّلون سعداء ناجين،و الآخرون أشقياء
ص:105
هالكين.
«و مصابيح الدّجى»
و فيه ثلاث نكات:
الأولى:«المصابيح»جمع«مصباح»و هو السّراج،و«الدجى»جمع «الدّجية»بمعنى الظّلمة،فتكون معنى الفقرة أنّهم سرج للظلمات.و الفرق بين كونهم مصابيح الدّجى و الفقرة السابقة هو بالاعتبار،فباعتبار تعليماتهم يكونون أئمّة الهدى،و باعتبار أعمالهم و أمثليّتهم يكونون مصابيح الدجى،إذا لم يتكرّر المراد.
الثانية:في وجه استعمال مصابيح الدجى فيهم يمكن كون هذين الاستعمالين من باب تشبيه المعقول بالمحسوس،حيث إنّ أكثر الناس لا يعرفون من الحقائق سوى محسوساتها،إذا يلزم تشبيه المعقولات بالمحسوسات ليفهمه الناس،فيكون عدم الإقرار بالحقّ و ترك العمل به، و كذلك الجهل في العقيدة و الأخلاق و العمل ظلمة،و نقيضها نورا و مصباحا،(كما تقدّم سابقا في الفصل 14:و أبواب الإيمان)؛و يمكن أن يكون مفهوم كلّ من اللفظين أوسع من المحسوس،كما قيل بأنّ الألفاظ موضوعة لروح المعاني الكلّيّة،إذا لا معنى هنا لتشبيه المعقول بالمحسوس.فإن قلنا ليس المراد هنا التشبيه،بل المراد بيان حقيقة مطلقة،
ص:106
ألزمنا القول بأنّ للنور و الظلمة مراتب،مرتبة منها محسوسة و الأخرى غير محسوسة،إذا يتبيّن أنّهم مصابيح الهدى حقيقة في ما وراء الحسّ.
إنّ لكلّ من النور و الظّلمة أربع مراتب،فمراتب الظلمة الغير محسوسة هي:العدم و الجهل و الشكّ و الفناء،فتكون مراتب النور،هي:الوجود و العلم و اليقين و البقاء؛و إن كان العدم جامعا للبواقي من الظلمات(الجهل عدم العلم،و الشكّ عدم اليقين،و الفناء عدم البقاء)،كما يجمع الوجود بواقي مراتب النور،فتكون كلّ ظلمة محسوسة و غيرها أمرا عدميّا،و كذا كلّ كمال محسوس و غير محسوس أمرا وجوديّا نوريّا،فيتحصّل أنّ آل البيت عليهم السّلام لولاهم لم يكن وجود و لا علم و لا يقين و لا بقاء؛لأنّ جميع ذلك يفيض منه سبحانه على الخلق بتوسّطهم،فيكونون بهذا المعنى «مصابيح الدجى».و حيث إنّ كلّ مرتبة من هذه المراتب الوجوديّة النوريّة تقبل الشدّة و الضعف في الدنيا،فيكون مصباحيّتهم قابلة للزيادة، و تؤيّد ما فسّرنا به«مصابيح الدجى»الرواية الآتية عن الإمام الحسين بن عليّ عليهما السّلام قال:«دخلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و عنده أبيّ بن كعب،فقال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله:مرحبا بك يا أبا عبد اللّه يا زين السّماوات و الأرضين.فقال له أبيّ:و كيف يكون يا رسول اللّه زين السّماوات و الأرض أحد غيرك؟فقال:يا أبيّ،و الّذي بعثني بالحقّ نبيّا،إنّ الحسين بن عليّ في السّماء أكبر منه في الأرض،و إنّه لمكتوب عن يمين عرش اللّه:مصباح هدى و سفينة نجاة» (1).
ص:107
الثالثة:يشير الزائر هنا إلى كمال نفسانيّ لهم،باعتبار وساطتهم في إفاضاته سبحانه على الخلق،أو إلى كمال فعليّ،باعتبار كونهم مصابيح بأفعالهم و إراءتهم الناس أنفسهم كالأماثل.
«و أعلام التّقى،و ذوي النّهى»
و فيه سبع نكات:
الأولى:«الأعلام»جمع«علم»،و هو ما يعلم به،و هو أعمّ من أن يكون راية أو جبلا أو علامة و غيرها،يطلق على كلّ ذلك علم باعتبار حصول العلم به،فأخذ العلم في جميع ذلك جزء معناه،فلو صار اسم علما لشخص أو مكان فهو أيضا بالاعتبار المذكور،و لفظ«التّقى»أيضا بمعنى «التقوى»،كقوله سبحانه: اِتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ (1).
الثانية:لا شبهة لأحد في فضيلة«التقوى»،حتّى أنّ أعداء الإسلام يدّعون ذلك و ينسبون أنفسهم إليها،فيلزم ذلك أنّ كلّ من كان علما للتقوى قد بلغ إلى نهاية كمالها.
و أمّا معنى التقوى(و هي التحرّز عن الباطل)،فهو أيضا واضح إجمالا لكلّ عاقل،و الحاصل أنّ لكونهم عليهم السّلام«أعلام التقى»معنيين،و التفاوت من نحو إضافة التقوى إليهم،فإن كان الإضافة لاميّة،فيصير معنى أعلام التقى
ص:108
أنّهم أعلام بالتقوى الثابتة لهم.
توضيح ذلك:أنّهم اشتهروا بالتقوى بين الخاصّ و العامّ في الملك و الملكوت،بما لا شهرة فوقه بالنسبة إلى سائر كمالاتهم القدسيّة كالعلم البالغ في الرؤية و المشاهدة إلى نهاية إمكانه،بحيث أوجب خفاء نسبيّا لسائر كمالاتهم.و إن كانت الإضافة بيانيّة،فيكون المعنى«أعلام التقى»، أنّهم أعلام لتقوى غيرهم،بمعنى أنّ كلّ من أراد الاهتداء إلى التقوى، ليفرّق بين الحقّ و الباطل،و القصد أن لا يقع في الهرج و المرج،و أن لا تشتبه عليه الأمور،و يجب عليه أن ينظر إليهم و يأخذهم لنفسه أسوة و قدوة،حتّى يجد التقوى الحقيقيّة بسببهم،كمن ينظر إلى علم و يجعله وسيلة لنفسه ليصل إلى مقصده.
الثالثة:يتفرّع على كونهم أعلام التقى أن يكون كلّ من آل البيت عليهم السّلام هو الأكمل فيما يلزمه التقوى،لأنّ الكمال الملزوم،ملازم لكمال اللازم،فكما أنّ المتقي محبوب للّه تعالى،لقوله سبحانه: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ، (1)فيلزم أن يكونوا أعلاما للتقوى،و يلزم كونهم الأكمل في المحبوبيّة مثلا،و يلزم ذلك أن تكون معيّته سبحانه لهم أكمل من معيّته لغيرهم من المتّقين، و يلزم أيضا أن يكون كلّ واحد منهم عليهم السّلام أكمل في كلّ مقوّم من مقوّماتها، و هي الإطاعة الغير مشوبة بالمعصية،و الذكر الغير مشوب بالنسيان،
ص:109
و الشكر الغير مشوب بالكفران،كما قال أبو بصير:«سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: اِتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ (1)،قال:يطاع فلا يعصى،و يذكر فلا ينسى، و يشكر فلا يكفر» (2).و هو محال،و قس على ما قلنا،جعل المخرج و الفرقان للمتّقين،أي لازم كونهم أعلام التّقى،أكمل المخارج و الفرقانات لهم،كما في قوله سبحانه: وَ مَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (3)،و إِنْ تَتَّقُوا اللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً (4)،و إلاّ يلزم انتفاء الملازمة بين اللازم و الملزوم،و هو محال.
الرابعة:توضيح«ذوي النّهى»؛ذوي:جمع ذو،بمعنى الصاحب،أي من كان له التصرّف فيما بيده،و النّهى:جمع نهية و هي العقل،فإطلاق النهية على العقل يكون باعتبار نهيه صاحبه عن الباطل.
الخامسة:في معنى كونهم عليهم السّلام«ذوي النّهى»؛أنّ«ذو»كما أشرنا آنفا هو القادر على التصرّف فيما بيده،لا كلّ من له العقل،لأنّ عقول أكثر العقلاء مقهورة لغرائزهم المادّيّة،أو توهّماتهم الباطلة (5).
فهم في الحقيقة ليسوا بذوي النّهى على معناه الكامل،لأنّ آل البيت عليهم السّلام حيث كانت عقولهم قاهرة و غرائزهم و أوهامهم مقهورتين لكلّيّة عقولهم،
ص:110
كانوا أحقّاء بهذا الوصف.
السادسة:في عطف كونهم«ذوي النهى»؛على كونهم«أعلام التقى»، الثاني(ذوي النهى)بمنزلة التعليل للأوّل(أعلام التقى)،أي كونهم أعلام التقى معلول،و علّته هي كونهم ذوي النهى،لأنّ كمال التقوى فرع على انقهار الغرائز و الأوهام،و كمال العقل و قاهريّته.
السابعة:أنّ كونهم«أعلام التقى»على أوّل الاحتمالين،كان كمالا نفسانيّا لهم كذوي النهى،و بالاحتمال الثاني،يكون كمالا فعليّا خارجيّا.
«و أولي الحجى،و كهف الورى،و ورثة الأنبياء»
و فيه ثماني نكات:
الأولى:«أولو»اسم جمع كالقوم و الطائفة،بمعنى ذوو؛و«الحجى» بمعنى العقل،و لكن يختلف الحجى عن النّهى(في الفقرة السابقة)من جهتين:
ألف)من جهة اللفظ،أنّ النهى جمع نهية كما ذكر،و المراد منه هو تعدّد المعصومين عليهم السّلام،و لكنّ الحجى مفرد و جمعه الأحجاء(كإلاء بمعنى النعمة و جمعه آلاء)أريد منه هنا الجنس.
ب)من جهة المعنى،أنّ للعقل تأثيرين:في الفعل و في الترك؛فله لكلّ
ص:111
ممّا يوافقه البعث إليه،و بهذا الاعتبار يقال له الحجى؛و لكلّ ما يخالفه الصرف عنه و بهذا الاعتبار يطلق عليه النهية.
الثانية:أنّ معنى الكهف ظاهر،و الفرق بينه و بين الغار في الضيق و السعة،فلضيقه يطلق عليه الغار،و لوسعه يقال الكهف.و المراد هنا جنس الكهف،و إلاّ يلزم إطلاق الكهوف عليهم بدل الكهف.و المراد من الورى،هو مطلق الخلق،إذا يشمل هذا المعنى الأنبياء أيضا،فيكون آل البيت عليهم السّلام كهفا لجميع الناس من النبيّين و غيرهم في جميع الأعصار الماضية و الحاضرة و الآتية،و يتأيّد هذا بما قلنا في هذه الرواية و نظائرها:
عن معمّر بن راشد قال:سمعت أبا عبد اللّه يقول:«أتى يهوديّ إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و اله فقام بين يديه يحدّ النّظر إليه،فقال:يا يهوديّ ما حاجتك؟فقال:أنت أفضل أم موسى بن عمران النّبيّ الّذي كلّمه اللّه تعالى،و أنزل عليه التّوراة و العصا،و فلق له البحر و أظلّه بالغمام؟فقال له النّبيّ صلّى اللّه عليه و اله:إنّه يكره للعبد أن يزكّي نفسه،و لكن أقول:إنّ آدم عليه السّلام لمّا أصاب الخطيئة كانت توبته أن قال:اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ محمّد و آل محمّد لمّا غفرت لي،فغفرها اللّه له.و إنّ نوحا لمّا ركب في السّفينة و خاف الغرق قال:اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ محمّد و آل محمّد لمّا أنجيتني من الغرق، فنجّاه اللّه عنها،و إنّ إبراهيم عليه السّلام لمّا ألقي في النّار قال:اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ محمّد و آل محمّد لمّا أنجيتني منها،فجعلها اللّه عليه بردا و سلاما.و إنّ موسى عليه السّلام لمّا ألقى عصاه و أوجس في نفسه خيفة قال:اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ محمّد و آل محمّد لمّا
ص:112
آمنتني منها،فقال اللّه جلّ جلاله: لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (1).يا يهوديّ!إنّ موسى لو أدركني ثمّ لم يؤمن بي و بنبوّتي ما نفعه إيمانه شيئا و لا نفعته النّبوّة.يا يهوديّ! و من ذرّيّتي المهديّ إذا خرج نزل عيسى ابن مريم لنصرته و قدّمه و صلّى خلفه» (2).
الثالثة:أنّ جميع ما ذكر من آل البيت عليهم السّلام في هذه الزيارة هو بيان كمالاتهم و شؤونهم العالية،ليست هي أمورا عاديّة أو حقائق متعارفة لهم، مع أنّك ترى أنّ كونهم عقلاء(بأيّ تعبير)أمر عادي لجميع الناس،إذن بماذا يمتاز آل البيت عليهم السّلام عن أبناء النوع؟
قلنا:إنّ بعث العقل إلى كلّ خير و صرفه عن كلّ سوء مشوب في غيرهم بميول مضادّة (3)،و إن تغلّب العقل في النهاية على الطبيعة في كلّ من الجهتين.فالحاصل لا يمكن لعقل غير المعصوم تأثير غير مشوب، و لهذا لا يطلق على غير المعصوم إطلاق«ذوي النهى»أو«أولي الحجى» على معناه الصحيح الكامل،لشوبه بالضدّ.ينتج من هذا البيان أنّ لهذه الإطلاقات معنى كاملا صحيحا في آل البيت عليهم السّلام فقط،لأنّ كلاّ من الطبائع المادّيّة لهم،و أوهامهم أيضا منقادة لعقولهم القادسة الكلّيّة،كما قال النبيّ صلّى اللّه عليه و اله:«أسلم شيطاني على يدي،فلا يأمرني إلاّ بخير» (4).
ص:113
الرابعة:يلزم للكهف الاستحكام كي يحفظ من يدخل فيه،فكون أهل البيت عليهم السّلام كهف الورى يلزم لهم ذلك،و إلاّ لم يكونوا كهفا و لا يحفظ فيه الداخلون،فحيث إنّهم مظاهر حكمة اللّه الفعليّة،فلهم إتقان و ثبات ليس فوقه شيء أتمّ منه يوجد في غيرهم،فيلزم للخلق أن يدخلوا في هذه الكهوف الإلهيّة المتقنة،فتبيّن كهفيّتهم للورى.
الخامسة:قال عليّ عليه السّلام:«اجعل الدّين كهفك،و العدل سيفك،تنج من كلّ سوء،و تظفر على كلّ عدوّ» (1)،فإذا كان الدين كهفا و كانت حقيقة الدين و لبّه ولايتهم،و بدونها ينتفي الدين من رأسه،كانوا هم كهفا ينجى به من كلّ سوء.
السادسة:في بيان كونهم ورثة الأنبياء،إنّ الوراثة للأنبياء لا تنحصر في مولانا الحسين المفدّى كما هو مقتضى ظاهر زيارة«وارث»له عليه السّلام،بل تكون لجميع أهل البيت عليهم السّلام.
السابعة:ينبغي هنا توضيح ثلاثة أمور:
المورّث و الوارث و الميراث،فالمورّثون هم الأنبياء عليهم السّلام،و الوارثون هم آل البيت عليهم السّلام على ما مضى من البيان أنّ الأنبياء عليهم السّلام هم المستفيضون بآل البيت و المتنعّمون بهم،لهذا ينبغي التوضيح لوراثتهم عنهم،و الجمع بينهما(بين الوارث و بين الاستفاضة منهم)،فنقول:
ص:114
أوّلا:لا يلزم دائما لكلّ مورّث أفضليّته عن الوارث،حتّى يشكل الأمر في أفضليّة آل البيت عليهم السّلام على الأنبياء عليهم السّلام.
ثانيا:إنّ وراثة آل البيت عليهم السّلام من الأنبياء تكون في عالم من العوالم،و هو هذا العالم،المحكوم بحكم الزمان و التقدّم و التأخّر الزمانيّين و غير ذلك من الأحكام الخاصّة به،و إلاّ فالحقّ هو ما ذكر من أنّ الأنبياء كانوا تحت ولاية كلّيّة إلهيّة لآل البيت عليهم السّلام.فالحاصل أنّ وراثة الأئمّة من الأنبياء محدودة في شؤون ظاهريّة كالنبوّة و الهداية و الرسالة و الإمامة،لأنّهم (ورثة)تأخّروا بالزمان عن المورّثين،و هذه الأمور هي أمور خارجيّة.
نحن لا نقول بأنّ كمالات أهل البيت المعنويّة(كالعصمة)مواريث انتقلت من الأنبياء إلى أئمّتنا،فالعلم و العصمة و غيرهما من الكمالات النفسانيّة لا تعدّ ممّا تركه الأنبياء للأئمّة،فلو عدّت العصمة مثلا ميراثا، فكيف تكون عصمة الأنبياء عصمة صغرى،مع كونها في آل البيت عليهم السّلام الكبرى؟!و قس على العصمة الولاية المطلقة،مع كونها لآل البيت عليهم السّلام مطلقة و ولاية الأنبياء ليست كذلك،بل هي مطلق الولاية.فحاصل الكلام إنّما يعدّ ميراثا من الأنبياء إليهم تكون أمورا خارجيّة كالنبوّة و أشباهها،أو أشياء كالتابوت و القميص و العصا و الدرع و السيف،و بتعبير آخر أنّ الحقائق القابلة للتوريث و الوراثة ثلاثة أنواع:تكوينيّ،تشريفيّ و تشريعيّ.
ففي النوع الأوّل هم وسائط الفيض،كما أنشدت:
ص:115
وسائط الوجود و البقاء لكلّ كائن بلا استثناء
فلا معنى لكونهم ورثة فيما أخذه الأنبياء منهم،فالولاية و العصمة و العلم،تعدّ من هذا القبيل.
و النوع الثاني(التشريفيّات)تكون كما تتبيّن لفظة التشريف تنسب إليهم تشريفا و اعتبارا،كإطلاق بيت اللّه على المسجد مثلا،فلا معنى أيضا لكون الأئمّة ورثة للأنبياء فيها(التشريفيّات)،لأنّ آل البيت عليهم السّلام أشرف من الأنبياء و لكن لا إشكال في كونهم ورثة للأنبياء في التشريفيّات،كالدرع و السيف و غيرهما،لأنّها خارجة عن القسمين الأوّلين.فالحاصل أنّ كونهم ورثة في الأمور التشريفيّة غير مقبول؛لأشرفيّتهم على الأنبياء،و في التكوينيّات أيضا كذلك لما أفاضها آل البيت عليهم السّلام عليهم،لأنّهم موصوفون بأكمل ممّا في الأنبياء،و لكن لا إشكال في كونهم ورثة في فعل الإمامة و الحكومة،و لا إشكال في نقل هذه الأمور و الأشياء السابق ذكرها من الأنبياء إليهم.
الثامنة:ليتبيّن ممّا ذكر أنّ كونهم«أولي الحجى»،فكونهم«أولي الحجى»من الكمالات النفسانيّة،و كذا كونهم«كهف الورى»باعتبار فاعليّة آل البيت عليهم السّلام،و لكن باعتبار صدور فعل الإغاثة و الإعاذة منهم للمستغيث و المستعيذ(الورى)،يكون كمالا فعليّا،و هكذا كونهم ورثة الأنبياء كمالا فعليّا خارجيّا لهم عليهم السّلام.
ص:116
«و المثل الأعلى»
و فيه سبع نكات:
الأولى:أنّ الإمام الهادي عليه السّلام أخذ هذه الحقيقة في بيان مناقب آل البيت عليهم السّلام من الكتاب العزيز و هو قوله تعالى: وَ لِلّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)،و هذا يؤيّد أنّ جميع ما تحتوي هذه الزيارة من الحقائق مقتبسة لفظا أو معنى من القرآن العزيز.
الثانية:في الفرق بين المثل المنفيّ له تعالى (2)و المثل الثابت له سبحانه؛ (3)يمتنع كون الأئمّة مثلا له سبحانه،لأنّه يستلزم مثليّته تعالى لهم، و ينتهي الأمر إلى التماثل بين ذاته سبحانه المتعالية و ذواتهم الطاهرة، و لكن كونهم مثلا له تعالى لا ينتهي إلى محال،لأنّ المثل هو المشابهة في الصفات(و لو مفهوما لا مصداقا)،خصوصا إذا كانت الصفات صفات فعليّة،كما يعترف القرآن بوجود الخالق و الرازق سواه،و الحاصل يمتنع أن يكون له تعالى مثلا في صفاته التي هي عين ذاته المقدّسة،كالقدم
ص:117
و الأزليّة و غيرهما من الصفات الحقيقيّة المحضة،و لا يمتنع ذلك في الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة أو الفعليّة.
يلزم هنا ذكر أنّ صيغة«الأعلى»،تفضيليّة من«العالي»،فحيث إنّ جميع ما خلق اللّه،كما تقول به العرفاء،يكون مثلا و مرآة له تعالى، فالمثليّة و المرآتيّة لتجلّي كمالاته تكون متفاوتة،فكلّ ما كان مثلا أصفى كان ظهور كمالاته فيه أشدّ و أقوى بالنسبة إلى ما دونه،فيكون آل البيت عليهم السّلام أعلى مثل له بالنسبة إلى جميع المخلوقين بحيث لا أعلى فوقهم في المثليّة.
الثالثة:في تبيين المعاني الثلاثة للمثل و بيان ما هو الحقّ هنا؛قد يفسّر المثل بالحديث تارة و بالحجّة أخرى،و بالمماثلة ثالثة،فكونهم عليهم السّلام مثلا بالمعنى الأوّل بعيد و بالمعنى الثاني محتمل،و لكنّ الحقّ القويّ هنا المعنى الثالث-كما أشرنا-و تشهد عليه آية النور المباركة المؤوّلة بالمعصومين عليهم السّلام.
الرابعة:في توضيح آخر للمرآة؛نقول:يمكن تحليل مثليّتهم له سبحانه بعلم الكلام و العرفان و الحكمة.
أما الأوّل:فإنّ كلّ شيء آية له تعالى و علامة لصفاته و كمالاته،كالبناء الحاكي عن وجود بانيه و صفاته،فحيث إنّ واحدا من معاني المثل الثلاثة هو الحكاية و الحديث،فتكون مخلوقاته حاكيات تحكي عنه سبحانه،
ص:118
و يكون كلّ واحد منها مثلا عاليا،و لكنّ آل البيت عليهم السّلام هم«المثل الأعلى» لكونهم آيات كبرى بين جميع الآيات،لا على نحو الظهور و التجلّي،بل معنى أنّ كلّ عاقل لبيب إذا أمعن النظر في وجودهم و ما فيهم من الكمالات أيقن بأنّ لهم موجدا صانعا،و أنّ لكمالاتهم جاعلا و هو اللّه سبحانه.
و أمّا الثاني:أي العرفان،فإن قلنا بأنّ الصفات الإلهيّة تظهر و تتجلّى في الموجودات كظهور الأشياء في المرآة،فيلزمنا القول بمظهريّة كلّ موجود لصفاته الجلاليّة و الجماليّة،فيصير كلّ موجود مثلا عاليا له تعالى(على نحو التفاوت لا التساوي)،فيكون آل البيت عليهم السّلام مثلا أعلى له سبحانه (1).
و الحاصل أنّ ظهور صفاته تعالى في غير المعصوم ضعيف لضيق وعائه الإمكانيّ و كدره،و في المعصوم قويّ باعتبار السعة الذاتيّة له،فيكون هو عليه السّلام المثل الأعلى.
و أمّا الثالث:أي الحكمة،فلا شكّ في أنّ كلّ كمال أمر وجوديّ،فكلّ ما يحصّل الممكن أكثر من الكمالات أو يقوّيها في ذاته يطرد العدم عن نفسه،و يصل إلى مرتبة من الوجود بقدر ما حصل له الكمال،و على هذا المنوال يشتدّ فيه الوجوب و يتأكّد،لأنّ في الوجوب الذاتيّ الممتنع حصوله للممكن استجمعت جميع الكمالات فيه آبيا عن أيّ تركيب أو
ص:119
محدوديّة،فالحاصل أنّ القابليّة للوجود و طرد العدم،موجود في كلّ ممكن،و الإنسان يفوق جميع الموجودات في ذلك(في وجود القابليّة للوجود و طرد العدم)،ليحصل له الوجود الأقوى و الأكثر و الأشدّ،لهذا تكون الموجودات مثلا عاليا لمحدوديّة قابليّتها للوجود و الكمال،و لكنّ المعصوم لسعة قابليّته و لعدم البخل في المفيض عليه للكمالات يكون مثلا أعلى،لأنّه أبعد من العدم و أقرب إلى الوجود و الكمال الذاتيّين، اللذين لا نهاية لهما و الأحسن أن نعبّر عن التقسيم في غير الإنسان بالمثل الأدنى،و في غير المعصوم من الإنسان بالمثل العالي،و في المعصوم بالأعلى.
الخامسة:في تطبيق المثل مع مماثله في الصفات،تقدّم الكلام-كما اعتقد به العرفاء-أنّ لكلّ مخلوق مظهريّة لصفاته تعالى على قدر ظرفيّته الذاتيّة،فهذه المظهريّة في آل البيت عليهم السّلام مظهريّة تامّة لتماميّة الظهور فيهم، فينبغي هنا تبيين مماثلتهم عليهم السّلام له سبحانه في الصفات على قدر الوسع:
ألف)المماثلة في العلم؛قد نعلم أنّ علمه سبحانه،هو عين ذاته أن لا تتناهى،و نافذ في باطن العالم أجمع كما في دعاء السحر عن أمير المؤمنين عليه السّلام:«اللّهمّ إنّي أسألك من علمك بأنفذه،و كلّ علمك نافذ» (1)،فعلم آل البيت عليهم السّلام أيضا نافذ في كلّ شيء سوى الغيب المطلق(الذات الواجبة)،
ص:120
فنفوذ علمهم أكثر من نفوذ علم غيرهم،كما أنّ فصلا واسعا من معجزاتهم عليهم السّلام معجزات علميّة،لا نريد من قولنا هذا أنّ علمهم قابل للقياس مع علمه سبحانه(نعوذ باللّه من ذلك)؛لامتناع المقايسة بين الواجب و الممكن أوّلا،و ثانيا أنّهم عليهم السّلام عالمون بكلّ ما يتعلّق به العلم سوى الغيب المطلق،فحيث إنّ علم كلّ عالم لا يسع كما يسع علمهم، فيكونون هم عليهم السّلام مثلا أعلى له سبحانه في العلم.
ب)المماثلة في القدرة،و صفت قدرته سبحانه بالاستطالة كما في دعاء السحر،«اللّهمّ إنّي أسألك من قدرتك بالقدرة الّتي استطلت بها على كلّ شيء،و كلّ قدرتك مستطيلة» (1).
وجه المماثلة فيها(القدرة)بينهم و بين اللّه هو أنّ قدرته مستطيلة مسيطرة قاهرة على كلّ شيء و قدرة المعصومين عليهم السّلام كذلك،و يشهد على ما ادّعينا كثير من معجزاتهم عليهم السّلام،و بتوضيح آخر:تنقسم المعجزات الصادرة منهم إلى قسمين:
الأوّل:أنّهم يعلمون ما لا يعلمه غيرهم.
الثاني:أنّهم يقدرون على ما لا يقدر عليه غيرهم.
فكلّ قادر يفعل بقدرته و قدرته تناسب قابليّة ذاته،و هي عبارة عن وعائه الذاتيّ الإمكانيّ،و لكنّ هذه القابليّة و الوعاء كان في المعصومين
ص:121
أوسع،بحيث ليس ما في سوى اللّه وعاء أوسع منه،فتكون قدرتهم أوسع، فيكون كلّ منهم عليهم السّلام على عجائب الأفعال و غرائبها أقدر،و هو المراد من التماثل في القدرة بينهم و بينه سبحانه،و يناسب هنا ذكر نموذج من معجزاتهم:
محمّد بن يعقوب في(الكافي)عن عليّ بن محمّد عن أبي أحمد بن راشد عن رجل من أهل المدائن،قال:«كنت حاجّا مع رفيق لي،فوافينا إلى الموقف،فإذا شابّ قاعد عليه إزار و رداء(إلى أن قال:)فدنا منّا سائل فرددناه،فدنا من الشّابّ فسأله،فحمل شيئا من الأرض و ناوله فدعا له السّائل،فقلنا له:ما أعطاك؟فأرانا حصاة ذهب مضرّسة،قدّرناها عشرين مثقالا،فقلت لصاحبي:مولانا عندنا و نحن لا ندري!ثمّ ذهبنا في طلبه فدرنا الموقف فلم نقدر عليه» (1).
فانظر أيّها اللبيب العاقل إلى هذه المعجزة البديعة و البرهان النيّر المضيء،و إلى القدرة الواسعة التي لا يكون من شأن غيرها،تبديل الهويّات و قلب الماهيّات،و استنتج منه حديث التماثل المذكور تفسيره منّا آنفا.
ج)المماثلة في الكلام،لا شكّ في أنّ الكلام ما يظهر به مراد المتكلّم لفظا كان أو حقيقة اخرى كالفعل،و أنّ كل موجود كلمة فعليّة للّه تعالى،
ص:122
لأنّه حاك عمّا يريده سبحانه، (1)و لا شبهة أيضا في أنّ كلّ كلمة أبين من مراد المتكلّم،فهي بكونها كلمة أليق و أجدر.و أيضا لا شكّ في أنّ المعصومين عليهم السّلام لكونهم أكمل،بما لا يفوق عليه فائق،يكونون أبين لمراداته سبحانه،فهو تعالى يتكلّم بهم قبل أن يتكلّم بغيرهم،فيكونون هم أجلى الكلمات و أتمّها؛لظهور العلوم الغزيرة و الأفعال الغريبة و الصفات الكاملة العجيبة عنهم عليهم السّلام،فهذا كافّ في إيضاح تماثلهم عليهم السّلام للّه في التكلّم.
السادسة:مماثلة الممكن في الصفات له تعالى على نوعين:تكوينيّة و تحصيليّة.
فالأوّل:حاصلة في كلّ موجود،و الثاني:يحصل في المختارين من الموجودات؛و في هذا المقام قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله:«تخلّقوا بأخلاق اللّه» (2).
فتبتدئ هذه المماثلة بمراعاة الأحكام الشرعيّة،و تستمرّ حتّى تصير ملكة راسخة،كالجود و الرحمة على الغير و الإنعام و الإنفاق و الإعانة و غير ذلك،فكلّ من آل البيت عليهم السّلام أكمل من غيرهم في كلتا المماثلتين،فحيث إنّ المماثلة من النوع الثاني في غيرهم لا تخلو من شوب و كدر و ضيق، فلا يكون الغير مثلا أعلى له سبحانه،و لكنّ آل البيت عليهم السّلام لعدم هذه
ص:123
النقصانات فيهم يكونون مثلا أعلى (1).
السابعة:أنّ هذا الشأن لهم عليهم السّلام لا ينحصر في الدنيا و لا يتفاوتون فيه،لأنّ الصفات إمّا أن تكون خاصّة للماهيّات الممكنة أو لكمالاتها الوجوديّة، فالمماثلة في النوع الأوّل منفيّة لهم لتنزّهه سبحانه عن الماهيّة بالمعنى المتعارف،و في النوع الثاني حاصلة،و المفروض عدم تفاوتهم في قابليّات ذواتهم الباعثة لعدم تفاوتهم في هذا الشأن.
«و الدّعوة الحسنى»
و فيه ثلاث نكات:
الأولى:أنّ لفظة«الدعوة»هنا موصوف،و«الحسنى»صفته،و يمكن أن يكون لهذه الفقرة تفسيران:
الأوّل:يخاطب الزائر آل البيت عليهم السّلام بأنّكم الداعون إلى اللّه،أي كلّ واحد منكم داع حسن إليه،و لكنّ التعبير بالدعوة الحسنى يكون من المبالغة من باب«زيد عدل»بدل«عادل»،كأنّ الزائر يريد بيان محوضة آل البيت عليهم السّلام في الدعوة الحسنى،و رسوخ دعوة الحسنى فيهم عليهم السّلام،كأنّهم هم الدعوة الحسنى لا الداعي حسن.و أمّا وجه كون هذه الدعوة حسنى فيتبيّن من قوله تعالى: وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللّهِ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ قالَ إِنَّنِي مِنَ
ص:124
اَلْمُسْلِمِينَ (1)،فقليلا ما يكون الداعي إلى اللّه جامعا للشرائط المذكورة، للداعي الحسن في الآية الكريمة (2).
و إن وجد فلا يبلغ إليهم في هذا الشأن،لكونه غير معصوم؛و لتكدّر نفسه و ضيق علمه و ضعف خلوصه بالنسبة إليهم عليهم السّلام.
و التفسير الثاني هو أن يكون معنى الفقرة كونهم هم الدعوة الحسنى،لا بمعنى الداعي الأحسن المذكور آنفا،بل بمعنى كونهم عليهم السّلام ثمرة دعوة،دعا بها جدّهم الخليل عليه السّلام لذرّيّته كما قال سبحانه: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ (3)، رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ (4)، رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (5).
لا شكّ في أنّ من أسكنه الخليل عليه السّلام من ذرّيّته في واد غير ذي زرع (بكّة)هو إسماعيل عليه السّلام فقط،و لكنّك ترى أنّه يطلق الضمائر الجمع على من أسكن(يقيموا،إليهم،و ارزقهم،لعلّهم،يشكرون)؛فإذا يكون المراد
ص:125
من من أسكن هو إسماعيل عليه السّلام،و من سيوجد و يسكن ثمّ من أولاده و لا ينطبقون إلاّ مع من نعتقد بإمامتهم و عصمتهم و هم الأئمّة الاثنا عشر من ذرّيّة رسول اللّه،الذي كان من أولاد إسماعيل كما قال صلّى اللّه عليه و اله:«أنا دعوة أبي إبراهيم» (1)،فتحصّل كونهم عليهم السّلام«الدعوة الحسنى»بهذا المعنى و لا مبالغة فيها.
قال في شرح الزيارة للأحسائيّ في تفسير هذه الجملة ما هذا لفظه:
إنّهم أهل الدعوة الحسنى على حذف مضاف.«و الدعوة الحسنى»أنّهم يدعون إلى الإيمان و إلى الجنّة التي هي الحسن،كما في قوله تعالى:
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَ زِيادَةٌ (2).
الثانية:في كونها«حسنى»لوجوه على الاحتمال الثاني.
الأوّل:أنّ من حسن الدعوة الإجابة،و قد أجاب اللّه دعاء الخليل فيهم.
الثاني:هو إخلاص الداعي في دعوته،و لا شكّ في إخلاص الخليل عليه السّلام لأنّه كان من عباد اللّه المخلصين.
الثالث:كون الدعوة في خير بقاع الأرض.
الرابع:كون المسألة عظيمة،و هذا(أي طلب الخليل الإمامة لذرّيّته)من أعظم الطلبات المستتبعة لتسليم الناس و محبّتهم لهم،فباستجماع هذه
ص:126
الكمالات في دعوة الخليل هذه تكون الدعوة الحسنى.
الثالثة:أنّ كونهم عليهم السّلام«الدعوة الحسنى»كمال فعليّ خارجيّ لهم،على التفسير الأوّل،و هكذا على التفسير المنقول من الأحسائيّ،و على التفسير الثاني تكون كمالا خارجيّا غير فعليّ لهم؛لكون الدعاء صادرا عن الخليل فيهم و لم يكونوا هم الدعاة و لا المجيبين.
«و حجج اللّه على أهل الدّنيا و الآخرة و الأولى،و رحمة اللّه
و بركاته»
و فيه سبع نكات:
الأولى:في بيان الحجّة؛«الحجّة»هي«الغلبة»مفهوما،و لها مصاديق عديدة،فكلّ مصداق تحصل به الغلبة كالنبيّ و الإمام و الكتاب و البرهان، يطلق عليه الحجّة،من باب ذكر السبب و إرادة المسبّب،فوجه إطلاق الحجّة على النبيّ و الإمام مثلا هو«غلبة اللّه على المنكرين»كما قال سبحانه: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ (1).
الثانية:في بيان لزومها،فنقول:لا يمكن لنا أن نخوض في لزوم الحجّة من اللّه؛لأنّ ذلك ينجرّ إلى الخروج عن موضوع الكتاب،و لكن نحقّق فيه
ص:127
إجمالا فنقول:يجب من اللّه (1)نصب الحجّة بين الناس،كلّ على اقتضاء زمانه،إن لم ينقض الزمان لبعث النبيّ،فيكون النبيّ حجّة،و إلاّ كان إماما،و إن كان زمان حضور الإمام منقضيّا فيكون الحجّة أخيار الناس من المؤمنين،كما في زماننا هذا،فعلى أيّ تقدير يجب من اللّه نصبه لشهادة العقل و الضرورة و النقل.
أمّا العقل،فإنّ اللّه خلق العباد جاهلين،و جعل فيهم طبيعة غير شاعرة و معها عقلا شاعرا و جعل الطبيعة على ما توجبه المادّيّة الجسمانيّة أقوى من العقل،فيلزم حينئذ جعل معاضد للعقل الضعيف لحصول التعادل بينه و بين الطبيعة،لكي يقدروا على تحصيل غرض خلقتهم الأعلى المنظور في حكمته تعالى؛و إن لم يفعله يكون ترك نصب الحجّة خلاف لطفه سبحانه،لأنّ قاعدة اللطف(الثابتة بين المتكلّمين)تقتضي جميع المقدّمات التي تقرّب العبد إلى الطاعة و تبعّده عن المعصية،فإذا لم ينصب بينهم حجّة يكون عقابهم على الكفر و المعاصي بلا بيان،و أخذهم عليها بلا برهان،مع فرض ثبوت المعاد بين الملّيّين و وجود المعاقبة
ص:128
و المؤاخذة فيه،فهذا(أي ترك نصب الحجّة)ممتنع على الكمال المطلق و العدل المحض و الرحمة الواسعة و الحكمة البالغة.
و أمّا الضرورة،و المراد منها هو الضرورة بين الملّيّين،و هي ما لم يختلف اثنان فيها،فالحاصل أنّ جميع المعتقدين بالإلهيّة و المعاد قائلون بوجوب نصب الحجّة على اللّه على معناه العامّ من إعطاء العقول و إنزال الكتب،و نصب الدلائل و البراهين،و بعث الأنبياء و جعل الأوصياء، و إبقاء الآثار العلميّة من المتقدّمين و المتأخّرين.
و أمّا النقل في ذلك فكثير،نحو قوله سبحانه: قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (1).
فثبت بهذه الأنواع الثلاثة من الدليل وجوب نصب الحجّة على اللّه، و هو المطلوب،لأنّه سبحانه بمفاد الدليل الأوّل لا يفعل قبيحا،كأن يعاقب بلا بيان،و لا يخلّ بواجب كالإخلال في جعل المقرّبات إلى الطاعة و المبعّدات عن المعصية،و بمفاد الدليل الثاني لا يمكن اتّفاق الملّيّين مع كثرتهم و وجود أولي الألباب و الدرايات فيهم على عقيدة باطلة،و بمفاد الدليل الثالث يمتنع أن يقول الكمال المطلق كذبا.
الثالثة:في تفسير اللفظة الأولى(و هي المؤنّث الأوّل قبال الثانية) احتمالات:
ص:129
يمكن أن يكون المراد من الأولى هو الدنيا لوقوعها قبل الآخرة، و لذكرها لرعاية السجع،و هذا ضعيف.
و يحتمل كون المراد منها هو البرزخ،أي النشأة الواقعة بين الدنيا و الآخرة،و إطلاق لفظة الأولى عليها لكونها قبل الآخرة صحيح.
و يحتمل كون المراد منها زمان الرجعة(التي سنبحث عنها قريبا إن شاء اللّه): رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ (1)،فيكون أحد الإحياءين في الآية هو الرجعة،و هذا الاحتمال أقوى من سابقه لدلالة القرآن عليه.
و الاحتمال هو أنّ المراد من الأولى هو القرون الماضية قبل الإسلام، كما تقدّم البحث عنه،و استشهدنا في ما تقدّم بالخبر الوارد في الزهراء عليها السّلام:
«و هي الصّدّيقة الكبرى،و على معرفتها دارت القرون الأولى» (2)،و هذا أقوى عندي من الاحتمالات السابقة فيكونون هم حججا على القرون الماضية.
الرابعة:في بيان حجّيّتهم عليهم السّلام على أهل الدنيا؛المراد من أهل الدنيا هم المعاصرون لهم و الذين يأتون من بعدهم.فحجّيّتهم على هذا المعنى لأهل الدنيا معلومة؛لكون الشريعة الإسلاميّة تعمّ جميع البشر في كلّ زمان و مكان إلى آخر ساعة من تكليف الإنسان (3)،بمعنى أنّ شريعة الإسلام تكون غالبة بهم لا محالة على جميع الشرائع و النّحل المدّعية للخلود
ص:130
غلطا،فهم عليهم السّلام أسباب هذه الغلبة.
الخامسة:أنّ حجّيّتهم لأهل الآخرة واضحة أيضا،على ما تدلّ عليه الأدلّة المتكاثرة من النقل،من كونهم الشفعاء و ولاة أمر الكوثر،و قسمة الجنّة و النار،و كونهم على الأعراف و كونهم صاحبي اللّواء،لأجل نفسيّتهم على البدليّة لرسول اللّه(و غير ذلك)كما قال صلّى اللّه عليه و اله:«آدم و من دونه تحت لوائي يوم القيامة» (1)،بمعنى أنّهم يصيرون سببا لغلبة الصالحين في النجاة و الفلاح على غير الصالحين،أو سببا لغلبة إيمان المؤمنين العاصين على عصيانهم،أو يغلبون بأنفسهم على غيرهم من الشفعاء في الشفاعة.
السادسة:في بيان حجّيّتهم لأهل الأولى:
إن قلنا بأنّ المراد من الأولى هي النشأة البرزخيّة فحجّيّتهم فيها إذا ظاهرة،لأنّهم يتفقّدون المتنعّمين من المؤمنين،فهذا التفقّد للمؤمنين من أعظم النّعم عليهم فيخاصمون المعذّبين و يغلبون عليهم،و ذلك كلّه من فروع الحجّيّة و توابعها.
و إن قلنا كون المراد من الأولى هو زمان الرجعة،فما لم يكن آل البيت عليهم السّلام حجّة لا يغلبون على الأعداء و لا يصيرون حكّاما مسيطرين على أهل العالم أجمع،و إن فسّرنا المراد من لفظة الأولى بالقرون الماضية، فنقول:حجّيّتهم عليهم السّلام على تلك القرون لم تكن ظاهرة مشهودة في عالم
ص:131
الملك،بل كانت في عالم المعنى و الملكوت،كما قال الإمام عليّ عليه السّلام:
«كنت مع جميع الأنبياء سرّا،و مع خاتم الأنبياء جهرا» (1)،فهم عليهم السّلام-و لو ببعض أشخاصهم-كانوا غالبين بمعيّتهم مع الأنبياء على غيرهم.
السابعة:أنّ حجّيّتهم عليهم السّلام على غير القرون الماضية-بأيّ تقدير كان- تكون كمالا فعليّا خارجيّا لهم،و على القرون الماضية كان كمالا نفسانيّا.
و لا نعيد الكلام في تفسير«و رحمة اللّه و بركاته»بعد أن فسّرناه في الفصل الخامس عشر.
هذا هو الفصل الثاني على حسب تفصيل الإمام عليه السّلام للزيارة(لا على تفصيلنا للكتاب)،و صلته بسابقه هو أنّ الفصل السابق(كما اشير إليه) كان يبيّن الكمالات الذاتيّة لهم عليهم السّلام،و هذا الفصل مبيّن لكمالاتهم الفعليّة،كالفروع المترتّبة على اصولها.
فانظر في هذا الفصل أيضا بنظر دقيق حتّى يتّضح نظير ما اتّضح في ما قبل،و هو أنّهم وصفوا أوّلا بكونهم أئمّة الهدى،و تكون الأوصاف التسعة الآتية كتفسير لذلك الوصف على ترتيب رائع كما يلي:
لا يكون الإمام إمام هدى،حتّى يتبيّن به النور من الظّلمة غاية التبيّن، بحيث لا يقع للمأموم أيّ اشتباه بينهما،فلهذا كانوا عليهم السّلام مصابيح الدجى.
ص:132
و لا يفيد المصباح حتّى يكون علما للمأموم الذي يطلب الحقيقة.
و لا يكون الإمام مصباحا و لا علما حتّى يميّز بنفسه بين مأمومه و عدوّه،و بين المقصد و المسير و غيرها من الأمور،و لا يكون مميّزا لذلك إلاّ بكمال عقله؛(لأنّ الطبيب العليل يستطيع أن يداوي عليلا آخر؟!) فلهذا وصفوا بكونهم«ذوي النهى و أولي الحجى»،و بعد ذلك كلّه يلزم كونه ملجأ لمن يأتمّ به (1).
ثمّ إنّه لا تكون إمامته متحقّقة إلاّ أن تتأيّد بما في منوب عنه من الكمالات كالعلم،لهذا وصفوا بكونهم«و ورثة الأنبياء»،و بعد ذلك لا يكون الإمام إماما إلاّ بكونه الأمثل و المثل الأعلى في جميع الكمالات، فلهذا كان أحد أوصافهم«المثل الأعلى».
أمّا كون دعوتهم«دعوة حسنى»أو كون أنفسهم كذلك،فهي متمّمة لإمامتهم و مفرّق عن إمامة الضلالة.
و أمّا كونهم حجج اللّه،فهذا الوصف مبيّن لتماميّة إمامتهم و كمالها بالنسبة إلى الكمالات السابقة عليها.
ص:133
«السّلام على محالّ معرفة اللّه» (1)
و فيه سبع نكات:
الأولى:استعملت لفظة«المحالّ»بصيغة الجمع من المحلّ على حسب النسخة المشهورة،و كذا المحلّ في بعض النسخ،و المآل منهما (النسختين)واحد (2)؛لأنّ كلّ واحد منهم محلّ معرفة اللّه أو حلول مراتب التوحيد فيه،كلاهما بالاعتبار الأوّل(المحالّ)،و كلّهم حقيقة واحدة من جنس الواحد بالاعتبار الثاني(محلّ)،كما تقدّم نظائره ك«موضع الرسالة» و«معدن الرحمة».
توضيح ذلك:أنّ كلّ وعاء لكلّ أحد من الإنس و الجنّ و الملك لا يسع له حلول المعرفة كاملا في جميع مراتب التوحيد،و إن كان عرشا للرحمان كما روي«...أنّ قلب المؤمن عرش الرّحمن» (3)،سوى أوعية ذواتهم الشريفة.فإذا كانوا محالّ المعرفة بهذا البيان فإنّ حقيقة التوحيد تظهر و تتجلّى بجميع مراتبها في أفعالهم و خصالهم و أقوالهم،فصفاء قلوبهم
ص:134
مثلا مظهر لتنزّهه تعالى،و ولايتهم على الأشياء مظهر لقيّوميّته جلّ شأنه، و أسماءهم الشريفة المبيّنة كلّ واحد منها عن كمال وجوديّ مظهر لكمال من كمالاته تعالى.
الثانية:الحالّ و المحلّ متلازمان من حيث الوجود و الأهمّيّة،و لا يمكن أحدهما بدون الآخر،فكون المعرفة(الحالّ)أهمّ حقائق الوجود،يوجب كون محلّها أهمّ المحالّ،و أنت خبير بأنّ معرفة اللّه هي المقصد الأعلى للتكوين و التشريع لأنّها موصلة إلى خلافة اللّه العظمى و كون الإنسان مثلا أعلي له تعالى،و هذا كاف في أهمّيّة المعرفة و لزومها،و حاك عن كمال قابليّتهم و لياقتهم عليهم السّلام.
الثالثة:الفرق بين الإيمان و التصديق و المعرفة:
أمّا الإيمان فهو إفعال من الأمن،و هو خلاف الريب و التزلزل،و ليس بذي أهمّيّة بالغة؛و التصديق خلاف التكذيب،و هو أيضا كصاحبه،و مع ذلك فهما حقيقتان إجماليّتان قابلتان للزوال،و لكنّ المعرفة بالشيء- مضافا إلى كونها في الرتبة الأعلى منهما-هي حقيقة تفصيليّة غير قابلة للزوال،و القرآن لا يؤكّد على المعرفة كثيرا،بل يؤكّد على الإيمان لما يلزم من تأكيده بالمعرفة عسر و مشقّة لأكثر الناس.و الحاصل أنّهم يكونون محالّ معرفة اللّه لا محالّ الإيمان به سبحانه؛لأنّ الإيمان أنزل من المعرفة،فما لم يكن آل البيت عليهم السّلام في الرتبة الأعلى من الإيمان(المعرفة) لا يمكن لهم دعوة الناس إلى الإيمان.
ص:135
الرابعة:لا شكّ في كون آل البيت عليهم السّلام محالّ معرفة اللّه من جهة نفوسهم الشريفة الغير مادّيّة،و المعرفة أيضا حقيقة غير مادّيّة،مع أنّ كلاّ من الحالّ و الحلول و المحلّ حقيقة مادّيّة،فيلزم أن نحقّق في سرّ هذا الاستعمال الذي تتبادر منه مادّيّة الحالّ و المحلّ.نجيب عن ذلك:بأنّ الإشكال هنا باق على زعم المتكلّمين من قولهم بأنّ النفس حقيقة مادّيّة لطيفة في غاية اللطافة،و أنّ المعرفة حقيقة غير مادّيّة فلا يرتفع الإشكال كما قلنا.
و أمّا على قول الحكماء من تجرّد النفوس فيرتفع الإشكال لإمكان القول بمجازيّة هذا الاستعمال،أو القول بأنّ مفهوم الحلول و أخويه (الحالّ و المحلّ)أوسع من متفاهم العرف،فلا ينحصر إذا تحقّق الحلول في المادّة فقط.
الخامسة:إقامة الدليل على كونهم عليهم السّلام في هذا الشأن الشريف:
أوّلا:الدليل على ذلك-مضافا إلى الأدلّة الكثيرة من النقل-هو أفعالهم الزكيّة و أقوالهم المهذّبة و روابطهم الطيّبة مع الخلق و الخالق؛لأنّ كلّ ذلك مبنيّ على الاعتقاد،و لا شكّ في أشرفيّة الاعتقاد باللّه و المعرفة به؛ فكلّما كانت المعرفة و الاعتقاد به تعالى أكمل كان كلّ من الفعل و القول و الارتباط مع الغير أزكى و أرضى و أطيب.
ثانيا:أنّ أقوالهم و خطبهم في التوحيد،و احتجاجاتهم مع المنكرين، و إجاباتهم على المسائل التوحيديّة التي تنحلّ بها أصعب المسائل
ص:136
الكلاميّة و الفلسفيّة و العرفانيّة،أدلّ دليل على المدّعى،و مع ذلك لم نفصّل القول في المقام فإنّ لتفصيله محالّ أخرى يعرفها المتتبّعون في التاريخ و الحديث و غيرهما.
السادسة:كيفيّة معرفتهم عليهم السّلام به تعالى:
إنّ العرفان بالشيء إمّا تحصيليّ،و إمّا حصوليّ،فإن كان تحصيليّا فلا يجمع مع الحلول،لأنّ الحلول يتصوّر مع كونه حصوليّا،فيعلم من كونهم محلاّ لمعرفة اللّه و أنّ معرفتهم عليهم السّلام حصوليّة كالبياض للجصّ،فكما أنّ البياض للجصّ غير تحصيليّ بل من نفس ذاته،لهذا نطلق عليه أنّه محلّ للبياض،فبهذا يتبيّن سرّ استعمال الإمام عليه السّلام المحلّ بدل المكان أو الموضع أو غيرهما.
السابعة:الإجابة عن سؤال،و هو أنّ جميع الناس و غيرهم من المخلوقات الغير شاعرة مفطورون بالمعرفة-كما يصرّح بذلك القرآن من تسبيح كلّ شيء للّه تعالى-فهو فرع على المعرفة به؛ينتج ذلك محلّيّة الشاعرين و غيرهم لمعرفة اللّه،فحينئذ كيف يكون شأن المحلّيّة امتيازا لآل البيت عليهم السّلام؟
نجيب عنه:أوّلا،لا ندري كيفيّة تسبيح الأشياء الغير شاعرة حتّى نعتقد بأنّ تسبيحها يتفرّع على المعرفة،إذا يخرج كلّ غير شاعر من مورد السؤال،و على فرض دخوله نقول:يحتمل أن لا يكون تسبيح الأشياء
ص:137
معلوما لها،لأنّ الفرق بين الأشياء الغير شاعرة و الشاعرة هو أنّ غير الشاعرة لا علم له بفعله و فاعليّته حتّى بوجوده و سائر شؤونه،و هذا العلم حاصل في الشاعر و العاقل فقط.
و ثانيا،بين معرفة غير المعصوم باللّه و معرفة المعصوم فروق ثلاثة:
1-معرفة غير المعصوم إجماليّة.
2-معرفته و إن كانت راسخة،لكنّ زوالها-مع ذلك-بعوامل أقوى غير محال.
3-المعرفة المفطورة في غير المعصوم تكون بالقوّة،و لكنّها في المعصوم تخالف المعرفة في غيره في جميع ذلك.
فالحاصل أنّ الإنسان عارف باللّه بالقوّة فطرة (1)،فيجب له أن يسيّرها إلى أن تبلغ الفعليّة،و لكنّ آل البيت عليهم السّلام هم العارفون باللّه بالفعل و لا يبلغون إليها من طريق السير بالقوّة،كما يحكي التاريخ قصّة ولادة الإمام عليّ عليه السّلام و قراءته آيات من سورة المؤمنون قبل نزول القرآن بعشر سنين.
فتحصّل أنّ محليّتهم كهذه المعرفة منحصرة فيهم،و هي كمال نفسانيّ لهم،فإذا كانوا هم على هذا الشأن العالي فلا يمكن لغيرهم أن يعرف اللّه إلاّ بهم و من خلالهم،كما ورد عن الإمام عليّ عليه السّلام:«نحن الأعراف الّذين لا
ص:138
يعرف اللّه إلاّ بسبيل معرفتنا» (1).
«و مساكن بركة اللّه»
و فيه خمس نكات:
الأولى:«المساكن»جمع مسكن،و هو اسم مكان،يقال للموضع الذي يسكن فيه:ساكن،و الساكن هو ما له قرار في مسكنه،كقوله سبحانه:
وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها (2)،و قد تقدّم للبركة معناها اللغويّ فلا حاجة إلى التكرار.
الثانية:موارد استعمال«البركة»في القرآن:
المستفاد من الاستعمالات القرآنيّة لهذا اللفظ،هو أنّه يطلق على النّعم المعنويّة الغير مادّيّة باعتبار ثباتها،و إن استعمل في القرآن غبّا في النعم المادّيّة،فالغرض منه هو آثاره المعنويّة لا نفس المادّيّة،كما استعمل في سورة المؤمنون بعد ذكر مراحل الاستعماليّة المادّيّة للإنسان: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (3)،و إن ترك استعمال البركة في مادّيّة الإنسان و استعمالها بنفخ الروح الغير مادّيّة فيه،كقوله سبحانه: تَبارَكَ
ص:139
اَلَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1).و معلوم أيضا أنّ نزول الفرقان و كذا كونه سبحانه ملكا،و كون الملك بيده،ليسا أمرين مادّيّين، فيحصّل ممّا ذكر أنّ الخيرات و الأمور المستعملة فيها البركة في القرآن، هي أمور معنويّة،و لا شبهة في أنّ القرآن أفصح الكلام،فيكون استعماله برهانا لنا على المدّعى،و هو اختصاص البركة بالمعنويات لكونها ثابتة غير قابلة للزوال.و الحاصل أنّ المراد من كون المعصومين عليهم السّلام مساكن بركة اللّه،هو الأمور و الشؤون و الحقائق المعنويّة فيهم عليهم السّلام.
الثالثة:بعد ما اتّضح لك معنى البركة و مورد استعمالها،تعلم أنّ الثبات و الدوام مأخوذان في البركة،فالصلوات التي نقدّمها إليهم نسألها من اللّه لهم أيضا،تكون دائمة،فعلى هذا يمكن كون المراد من كونهم مساكن بركة اللّه هم مساكن الصلوات الدائمة.و ينبغي هنا نقل حديث نبويّ صلّى اللّه عليه و اله في فضل الصلوات:«أنا عند الميزان يوم القيامة،فمن ثقلت سيّئاته على حسناته جئت بالصّلاة عليّ حتّى أثقل بها حسناته» (2)،فإتيان الصلوات عند الميزان دليل على بقائها،و هذا هو معنى البركة.
الرابعة:لا يكون غيرهم عليهم السّلام في هذا الشأن العالي على حدّ كماله،لتغيّره و عدم الثبات فيه،فلا يتناسب الغير ليكون مسكنا للبركات الدائمة؛للزوم
ص:140
التناسب بين الساكن و المسكن،لأنّ الغير مفروض في معرض التلوّن و التغيّر،و بهذا يظهر أنّ بعض الشّرّاح فسّروا البركة عمدا في المادّيّات، و لكن الحقّ هو ما قلناه،و لا منافاة في كونهم مساكن بركة اللّه.و كون المراد من البركات هو الحقائق المادّيّة أيضا،و لكن باعتبار آثارها المعنويّة، كما نسأل اللّه بركة لمال شخص،و ليس المقصود كثرة المال،بل المقصود أن يرزقه اللّه بسبب ماله في الخيرات المعنويّة كالثواب الوافر و الأجر الكبير.
الخامسة:مأخذ هذه الفقرة:
مضافا إلى كون هذا الكمال كمالا نفسانيّا لهم عليهم السّلام،فإنّ هذه الفقرة الشريفة مأخوذة من الآية الكريمة التالية: وَ بارَكَ فِيها (1)،فيكون المراد من الأرض(على ما تقدّم من البيان للبركة و مسكنها و التناسب بينهما)،هي أراضي نفوسهم الشريفة(قبال سماوات عقولهم القادسة) (2).
«و معادن حكمة اللّه»
و فيه سبع نكات:
الأولى:قد تقدّم معنى المعدن فلا حاجة إلى التكرار،و لكن نضيف
ص:141
إليه سرّ استعماله مفردا هناك و جمعا هنا،لعلّ استعماله مفردا لإرادة الجنس أو وحدانيّة حقيقتهم في النشأة الغائبة عنّا،و تعدّدهم في نشأة الملك الشهود،كما أنشدت في أرجوزة:
تعدّدوا في ظاهر الإنشاء توحّدوا في عالم المعناء
لكونهم حقيقة نوريّة تجرّدت عن مثل الصّورية
الثانية:معنى الحكمة:ما يناسب ذكره هنا من معانيها الكثيرة و تعاريفها العديدة هو:«أنّ الحكمة هي القضايا الحقّة المطابقة للواقع من حيث اشتمالها بنحو على سعادة الإنسان» (1).
الثالثة:إضافة المعادن إلى الحكمة،و هي يمكن أن تكون لاميّة أو بيانيّة،فإن كانت لاميّة كان معناها:أنّهم عليهم السّلام معادن حكمة للّه تعالى، و الحكمة على هذا الفرض هي ما تعدّ إحدى صفاته القدسيّة،و لا يمكن إعطاؤها إلى الغير،و بهذا الاعتبار تظهر حكمة اللّه في نفوسهم الشريفة.
فيكونون هم مظاهر هذه الحكمة الذاتيّة للّه،لكونهم مظاهر لأسمائه الحسنى الأخرى،كالعليم و القدير و غيرهما.فعلى هذا يكون هذا الكمال كمالا نفسانيّا،و على التفسير الآتي يكون كمالا فعليّا خارجيّا لهم،و هو أنّ الحكمة هي العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليها في نفس الأمر؛فإن كانت الإضافة بيانيّة فيكون آل البيت عليهم السّلام معادن حكمة من اللّه التي أعطاها لهم،فتكون إذا حكمة فعليّة؛و بتعبير آخر:فعل حكمة أي إيجادها منه
ص:142
سبحانه فيهم عليهم السّلام،و هي الحكمة البشرية التي أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و اله بتعليمها للغير، قال تعالى: وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ... (1).
و الحاصل أنّ حكمته تعالى قسمان:ذاتية و هي ما يطلق اسم الحكيم باعتبارها عليه سبحانه،و لا تقبل الإعطاء إلى الغير،و فعليّة قابلة للإعطاء، كما قال سبحانه: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً (2)،و كقوله سبحانه: وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ (3)،و لكنّ الإنصاف أنّ الفقرة تحتمل كلا المعنيين.
الرابعة:منابع الحكمة التي هم عليهم السّلام معادنها:
إن قلنا بكونهم معادن الحكمة الفعليّة،أي كون الإضافة بيانيّة،فتكون لها منابع:الكتاب،و سنّة النبيّ،و تحديث الملك،و إلهام اللّه إيّاهم...و غير ذلك؛لأنّ الكتاب و السنّة مشتملان على الحكمة بلا ريب،و تحديث الملك و كذا إلهام اللّه إيّاهم لا يكونان خلاف الحكمة.
و إن كانت الإضافة لاميّة تكون معدنيّتهم عليهم السّلام لها بنحو ظهور ظاهر في المظهر،و هذا أنسب لكونهم معدنا لها(كما سبق ذكره)،فهذه الحكمة تكون منشأ للحكمة الفعليّة،فلا منافاة في كونهم عليهم السّلام جامعين للحكمتين.
الخامسة:الفرق بين العلم و الحكمة:لا نحتاج في معنى العلم إلى
ص:143
تعريف،لأنّ معناه وجدانيّ،و ما قيل في تعريفه لفظيّ لا حقيقيّ،و لكنّ مفهوم الحكمة يشمل العلم و العمل أيضا،فتكون النسبة بينهما هي العموم و الخصوص مطلقا،و بذلك يظهر الفرق بين كونهم عليهم السّلام خزّان العلم و معادن الحكمة،لأنّ العلم مخزون فيهم عليهم السّلام،و الفعل المحكم الذي هم معادنه يظهر و يستخرج منهم،كاستخراج الفلزّات من معادنها.
السادسة:انحصار الشأن الشريف بهم عليهم السّلام:
يستفاد من استعمال الإعطاء و التعليم للحكمة و ترك استعمال المعادن لها في غيرهم،أنّ المعدنيّة منحصرة فيهم،و لكنّ الآخذين و المتعلّمين لها من غيرهم عليهم السّلام كثيرون،كما قال سبحانه: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً .
السابعة:وجه امتيازهم عليهم السّلام عن غيرهم بهذا الشأن:يقع هنا سؤال و هو:
إن كان المراد من كونهم معادن حكمة اللّه المعنى الثاني(الحكمة الفعليّة التي هي قابلة للإعطاء و التعليم إلى الكلّ)،فكيف يمتازون به عن غيرهم؟
نجيب عن السؤال:بأنّهم يمتازون بوجوه:
الأوّل:أخذهم عليهم السّلام الحكمة من منهلها بغير واسطة،و هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله، و سائر الناس يأخذونها منهم،فهم عليهم السّلام باقون على مستوى التعليم،و هذه فضيلة خاصّة بهم عليهم السّلام.
ص:144
الثاني:يكون أخذهم لها من خير الأوعية و أوسعها و أصفاها من الكدر و لا يسع ذلك لغيرهم.و الحاصل أنّ أخذهم عليهم السّلام لها باختلاف عن غيرهم بالكمّ و الكيف،بحيث لا يمكن قياس الغير معهم في الجهتين.
الثالث:أنّ في أخذهم لها مقرّبيّة لا يمكن حصولها لغيرهم؛لقوّة إخلاصهم في العبوديّة،و للكمال في عرفانهم بساحة الربوبيّة.
«و حفظة سرّ اللّه»
و فيه خمس نكات:
الأولى:أنّ«الحفظة»جمع حافظ،على وزن طلبة جمع طالب،و«السرّ» اسم مصدر.يقرّ الزائر بهذا التعبير بكونهم عليهم السّلام حافظين لسرّ اللّه و يشير فيه إلى كمال فعليّ لهم عليهم السّلام؛لأنّ ترك إفشاء السرّ يكون فعلا و إن كان منفيّا.
الثانية:الغرض من حفظ الأسرار إنّما يكون للصيانة من خطر إفشائها، فينبغي هنا أن يعرف ما الأسرار (1)،و ما الخطر من إفشائها؟
و نجيب عن الثاني(الأخطار):أنّ المفسدة التالية لإفشائها جعلها في محلّ غير مناسب لها هي تبدّلها أو تغيّرها و بالنهاية زوال أصالتها و ذهاب سلامتها،و حيث إنّهم يحفظون الأسرار من أيّ ضياع و زوال فإظهارهم عليهم السّلام إيّاها للكمّلين الخلّص لا ينافي كونهم حفظة لها.
ص:145
الثالثة:تبيين مقدّمات حفظها،و هي عبارة عن:
ألف)العلم بالأسرار و تمييزها عمّا ليس سرّا.
ب)العلم بالأخطار.
ج)العلم بحكمة حفظها و الفائدة المترتّبة عليه.
د)سعة صدر الحافظ لئلاّ يضيق أو يتعب من الحفظ.
ه)كون الحافظ حرّا،و هذه الحرّية مأخوذة من كلام العرفاء حيث قالوا:«صدور الأحرار قبور الأسرار»،و تعدّ هذه الأخيرة من المقدّمات لكونها حقيقة و شرطا في نفس الأمر لحفظ السرّ،لأنّ الشخص ما لم يكن حرّا عن قيود الأغراض لا يقدر على حفظ الأسرار.
فالحاصل أنّ هذه المقدّمات مقدّمات عقليّة للنتيجة،فعلى هذا أنّ كونهم عليهم السّلام حفظة للأسرار الإلهيّة في عينه كمالا نفسانيّا،و يكون كاشفا عن كمالات أخرى(المقدّمات الخمسة)لهم،فتبيّن من هذا البيان أنّ بين الأوصاف و الشؤون و الحقائق الكونيّة صلة كصلة بين الأعيان و الهويّات العينيّة،و لا يقف عليها(أي على الصلة بين الأوصاف و الشؤون)إلاّ أولو الدرايات و الألباب.
الرابعة:أنّ نظام الوجود(لا النظام المادّيّ منه فقط)،كان كبحر زخّار مليء بالأسرار،و هي على أقسام:
1)من الأسرار ما تكون وديعة في النشأة المادّيّة كالحقائق القابلة
ص:146
للاختراع و الاكتشاف و المصنوعات البشريّة.
و الحاصل أنّ من كونهم حفظة للأسرار (1)يتبيّن علمهم بجميع ذلك،و لم يفشوها لجهتين:
ألف)لكون الحياة المادّيّة في حاشية الحياة الحقيقيّة الأصيلة الإنسانيّة، لأنّ الإنسان لم يؤمر بجعل الحياة المادّيّة غرضا نهائيّا لخلقه،فآل البيت عليهم السّلام لو أفشوا العلوم المادّيّة و نشروها لحصل خلاف المقصود،و لغلبت الحاشية الفرعيّة على المتن الأصليّ،و لكانت خلاصة رسالات الأنبياء هي عقائد مادّيّة.
ب)و لتنمو القوى و الاستعدادات المودعة في الإنسان بنفسها و لا تضيع و لا تزول،و يكون هذا الارتقاء مقدّمة لرقيّه المعنويّ،كما قال سبحانه: اَللّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ،يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ اللّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (2).
2)منها الأسرار المودعة في الشرائع السماويّة على الخصوص في أوسعها و هي شريعة الإسلام.إنّا جاهلون بأسرار الشريعة إلاّ قليلا منها، و قد كانت المصلحة في إخفائها،لأنّ ظهورها جميعا مناف للتسليم للّه تعالى،و لا سيّما بالنسبة إلى ضعفاء الإيمان و العقل،و لهذا لا يصلح علم
ص:147
الناس بجميعها لكي يبلغوا مع هذا الجهل بتسليمهم و تعبّدهم مراتب العرفان،و لا ينافي علم المعصومين عليهم السّلام تسليمهم و تعبّدهم لكون إيمانهم و عرفانهم أقوى من أن يتصوّر،و حضورهم لدى اللّه،و كونهم مع اللّه، و ظهور صفات اللّه و أسمائه في أنفسهم غالب على جميع ما سوى اللّه حتّى على أنفسهم.
3)و منها الأسرار التكوينيّة الغير مادّيّة،إنّا جاهلون بجلّها لولا الكلّ، و إن علمنا بعضها بعقولنا الضعيفة فلا يعدّ البعض هو السرّ الحقيقيّ في نفس الأمر،بل يمكن أن يكون في حقيقته خلاف معلومنا.مضافا إلى ذلك فإنّ ما علمنا من تلك الأسرار بالنسبة إلى ما جهلنا كنسبة القطرة إلى بحر واسع،كسرّ خلقة الشيطان لعنه اللّه،و سرّ كون آدم في الجنّة،و سرّ إخراجه منها و تعيّشه في الأرض،و سرّ توبته إلى اللّه و قبولها منه عليه السّلام، و سرّ سلطة الطواغيت على الأتقياء و غلبة الباطل حينا بعد حين على الحقّ و أهله،و غير ذلك من الأسرار التي كانت جميعها مقضيات للّه سبحانه و مقدّراته؛فهم عليهم السّلام كانوا عالمين بذلك كلّه و حفظة له من جهة اخرى.إنّا لمعترفون بأنّ جميع ما خلق اللّه هم جنوده سبحانه،كلّهم منقادون لأولياء الأمر و لا أولياء كمّل على الإطلاق للّه سبحانه سواهم،إذا يقطع قاتل المعصوم أوداجه المباركة و فعله و آلته القطّاعة تحت ولاية المعصوم عليه السّلام الكلّيّة،و مع ذلك لا يوجد أيّ مانع للخبيث في فعله الشنيع،و لا نعلم ما هو السرّ في عدم تأثير ولاية المعصوم عليه السّلام و تركه عليه السّلام إرادته القاهرة للمنع
ص:148
و سلب الأثر،و لكن نؤمن بأنّ ذلك كلّه موافق للحكمة المطلقة الإلهيّة البالغة،و لا يسع لنا المجال سوى التسليم لما يريده الحكيم.
4)و من الأسرار الإلهيّة أيضا:هي الإشراقات الغيبيّة الذاتيّة و الأسمائيّة التي تتجلّى في نفوسهم الشريفة،فهم كانوا يكتمون تلك الإشراقات،لأنّ «صدور الأحرار قبور الأسرار»،كما قال الإمام عليّ عليه السّلام:«بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطّويّ البعيدة» (1).
5)و من الأسرار التي هم عليهم السّلام حافظوها ما يتعلّق بأبناء البشر،حيث إنّ اللّه تعالى يحفظها بحلمه و رحمته،فلازم مظهريّتهم لصفات اللّه كونهم حفظة لتلك الأسرار.و لا ينافي كونهم حفظة إفشاؤهم عليهم السّلام إيّاها لمن كان له أهليّة،كإراءة الإمام الصادق عليه السّلام بواطن الحجيج لأحد أصحابه حين قال له أبي بصير بالأبطح:«...ما أكثر العجيج و الضّجيج،و أقلّ الحجيج!(إلى أن قال:)فمسح يده على وجهي و قال:يا أبا بصير،انظر.قال:فإذا أنا بالخلق كلب و خنزير و حمار إلاّ رجل بعد رجل» (2).
الخامسة:أنّ إضافة السرّ إلى اللّه تحتمل أن تكون لاميّة،و هي فيما إذا
ص:149
قلنا بأنّ المقصود من الأسرار هو ظهور أسماء اللّه و صفاته فيهم،و فيما سوى ذلك تكون الإضافة بيانيّة،فتفطّن و فرّق بين هذه النكتة و بين كونهم عليهم السّلام حفظة لسرّ اللّه من أيّ نوع من الكمال.
«و حملة كتاب اللّه»
و فيه ستّ نكات:
الأولى:«حملة»جمع«حامل»،كحفظة جمع حافظ،و«الكتاب»بمعنى «المكتوب»،(لا معناه المصدريّ)أي الثابت و المقضيّ و ما يلزم به.
الثانية:بيان حملهم عليهم السّلام كتاب اللّه،و هو يتصوّر كما يلي:
ألف)حمل الأوراق و الصحائف المكتوبة كالقرطاس،فهذا النوع من الحمل كمال لكلّ مؤمن للتبرّك بكتاب اللّه،لأنّ فيه أثرا تربويّا،و المؤمن يستحيي من فعل القبيح لأنّ مصاحبه كتاب اللّه،بشرط أن لا يستخفّ به كالإدبار و الجلوس عليه و مسّه على غير طهارة(نعوذ باللّه من ذلك كلّه).
و لكنّ هذا الحمل ليس بكمال هامّ لهم،لأنّه يمكن للمنافق أيضا،فضلا عن المؤمن العاميّ،و لهذا أمر أمير المؤمنين عليه السّلام في قتال الخوارج أصحابه بإلقاء تلك المكتوبات من القرآن على الأرض،لأنّ المنافقين توسّلوا بها لإحياء الباطل و إماتة الحقّ و تضييع حقيقة القرآن بأوراقه و صحفه،فلا تبقى إذا حرمة لتلك المكتوبات.
ص:150
ب)حمل ألفاظ الآيات و السور و عباراتها اللفظيّة،و هذا النوع من الحمل أيضا كمال هامّ لكلّ مؤمن،و لكنّه غير مراد فيهم عليهم السّلام لعدم بقاء ميّز لهم عليهم السّلام عن غيرهم،و إن لم ننظر إلى إيمان المؤمن بكتاب اللّه لا يعدّ حفظه كمالا له أيضا،و قد يستطيع المنافق ذلك،قال سبحانه: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (1).
ج)حمل السور مع معانيها اللّفظيّة كما قال الإمام السجّاد عليه السّلام:«كتاب اللّه عزّ و جلّ على أربعة أشياء:على العبارة،و الإشارة،و اللّطائف،و الحقائق.
فالعبارة للعوامّ،و الإشارة للخواصّ،و اللّطائف للأولياء،و الحقائق للأنبياء» (2).
و ليس المقصود من حملهم هذا أيضا عدم امتيازهم به،و إنّما استشهدنا بهذا الحديث لإثبات كون الكتاب ذي مراتب.
د)حمله مع جميع مراتبه المذكورة بالإضافة إلى حقائقه العينيّة الجارية في الملك و الملكوت و الغيب و الشهود المطابقة لعامّة المكوّنات،لأنّ جميع ما في الكتاب التدوينيّ حقائق علميّة منطبقة مع ما في عالم التكوين من حقائق عينيّة،فكلّ منهما(:الحقائق العلميّة،و العينيّة) تنطبق مع صاحبتها،و كلّ ما في الكون و كتاب التكوين من الموجودات فهو موجود في الكتاب التدوينيّ بالرمز و الإشارة و التلويح و الكناية.
فالحاصل كونهم حملة لكتاب اللّه بالمعنى الأخير من الحمل.
ص:151
الثالثة:في إمكان هذا النوع من الحمل،لا شكّ في أنّ الحمل بهذا المعنى ممكن لهم عليهم السّلام لتجرّد الحقائق الموجودة في كتاب اللّه،و لتجرّد نفوسهم الشريفة و سعتها بأوسع ما يمكن للممكن،فتتناسب الظروف مع مظروفاتها،و الأوعية مع محتواها،فيثبت هذا الحمل بالكشف و النقل.
أمّا الكشف فهو كما يلي:قال السيّد حيدر الآملي فيما كشف له:«و اللّه، لو صارت أطباق السماوات أوراقا،و أشجار الأرضين أقلاما،و البحور السبعة-مع المحيط-موادّ،و الجنّ و الإنس كتّابا،لا يمكنهم شرح عشر من عشير ما شاهدت من المعارف الإلهيّة و الحقائق الربانيّة،الموصوفة في الحديث القدسيّ:«أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت،و لا أذن سمعت،و لا خطر على قلب بشر» (1)،المذكورة في القرآن: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (2).و لا يتيسّر لهم بيان جزء من أجزاء ما عرفت من الأسرار الجبروتيّة و الغوامض الملكوتيّة المعبّر عنها في القرآن بما لم يعلم لقوله تعالى: اِقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ* اَلَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (3)،المومى إليها(أيضا)بتعليم الرحمن؛لقوله تعالى: اَلرَّحْمنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)،المسمّاة
ص:152
بكلمات اللّه التي لا تبيد و لا تنفد،لقوله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (1)،و لقوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (2)» (3).
و هذا انكشاف آخر وقع للعارف الربّانيّ الحاجّ ملاّ فتح علي الأراكيّ، حيث رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله في المنام،رأى وجهه المبارك نيّرا و نقطة خاصّة منه أنور من بقيّة وجهه الشريف،فتوجّه بدقّة إليها،و كلّما نظر إليها بدقّة توسّع نورها حتّى ملأ الخافقين،فيلهم بعد انتباهه بحقائق خفيّة كثيرة من القرآن،فهذا هو الرجل الذي فسّر آية من القرآن بعشرين معنى في عشرين ليلة.
و أمّا النقل كقوله سبحانه: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ (4).
الرابعة:يحتمل أن يكون المراد من كتاب اللّه أمورا:
ألف)هو القرآن.
ب)هو مع سائر الكتب السماويّة.
ص:153
ج)جميع الكتب السماويّة مع الكتاب التكوينيّ،أي العالم كلّه.
د)جميع ذلك بالإضافة إلى الألواح السماويّة(كاللّوح المحفوظ و لوح المحو و الإثبات)و هي التي تندرج فيها المقضيّات و المقدّرات الإلهيّتان.
ه)جميع ما سبق بالإضافة إلى نفوسهم الشريفة،و لا يشكل هنا اتّحاد الحامل و المحمول،لأنّهما يتغايران بالاعتبار،كما نقول:أيّها الإنسان!أنت عاقل لبيب،فكما لا يشكل الأمر هنا من حيث كون المخاطب و المخاطب به متّحدين،و كما لا ينجرّ الأمر إلى محال فكذلك هناك.
فالحاصل أنّ نفوسهم باعتبار تكون كتابا محمولا و باعتبار آخر تكون حامل الكتاب،فيرتفع الإشكال.و محصّل القول تتأيّد جميع الأقوال بإطلاق الكتاب،لأنّ الكتاب هو الذي تندرج فيه الحقائق،فيلزم إذا القول بسعة مفهوم الكتاب.
الخامسة:الاستدلال على المراد:يدلّ على ذلك نظير قوله تعالى: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ (1)،فإذا ثبت بما تقدّم أنّهم عليهم السّلام آل إبراهيم، فيثبت المراد هنا بهذه الآية الكريمة،مضافا إلى لونهم من المصطفين الأخيار،قال تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا (2).
السادسة:أنّ حمل الكتاب-على ما سبق بيانه-يكون كمالا نفسانيّا
ص:154
لهم عليهم السّلام و لا يشاركهم فيه أحد؛و الدليل على عدم مشاركة أحد لهم فيه هو أنّ سليمان عليه السّلام قال: يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها؟ (1)، قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ 2أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ . (2)ترى أنّه ليس بعالم على كلّ الكتاب بل كان له منه نصيب؛و لكن يقول تعالى في موضع آخر:
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا ،ترى أنّ هؤلاء كانوا ورثة لجميع الكتاب لا بعضه،فكم من فرق بين من هو عالم بالكتاب كلّه و من هو يعلم بعضه؛و هذا الفرق جار في سعة أثر هذين العلمين،و يقول تعالى أيضا: قُلْ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (3).
فالحاصل أنّ المراد من العالمين بالكتاب كلّه و ورثته و حملته هم آل البيت عليهم السّلام،كما جاء في(الكافي)و(الخرائج)و(تفسير العيّاشيّ)عن الباقر عليه السّلام:«إيّانا عنى» (4)،و في تأويل هذه الآيات روايات أخر بهذا المضمون؛فيكون هذا الشأن كمالا خاصّا بهم،و لا نصيب فيه لغيرهم.
ص:155
«و أوصياء نبيّ اللّه»
و فيه ثلاث نكات:
الأولى:يذكر الزائر هنا كمالا فعليّا خارجيّا لهم عليهم السّلام و هو شأن الوصاية، و من تصريحه بشأن الوصاية لهم يظهر اختصاص هذه الزيارة الشريفة بالأئمّة عليهم السّلام دون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و دون الصّدّيقة الطاهرة(عليهما و آلهما السلام)،و لعلّ سرّ هذا الاختصاص هو عدم اختلاف الأمّة في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و عدم شأن ظاهريّ متعلّق بالأمّة في الصدّيقة،و وجود شأن الإمامة للأئمّة مع اختلاف الأمّة فيه(فتدبّر).
الثانية:الأوصياء جمع الوصيّ،كالأنبياء جمع النبيّ (1)،و يلزم هنا توضيح معنى الموصى و الوصيّ و الموصى به و الموصى له،فالموصى هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و يمكن أن يكون المراد من نبيّ اللّه هنا جنس النبيّ(لا خصوص النبيّ الخاتم صلّى اللّه عليه و اله)كما في زيارة الوارث،حيث نسبت وراثة آدم و نوح و إبراهيم و غيرهم عليهم السّلام إلى مولانا الحسين عليه السّلام،و مفاد أدلّة كثيرة من عدم اختصاص وصايتهم عليهم السّلام للرسول الخاتم يؤيّد ذلك،و قد سبق شرح فقرة «و ورثة الأنبياء»(في الفصل التاسع عشر)و هو أيضا مؤيّد لذلك،و يقتضيه العقل أيضا،لأنّهم إذا كانوا أوصياء للنبيّ الخاتم يكونون بتوسّطه صلّى اللّه عليه و اله
ص:156
أوصياء لجميع الأنبياء،لكون دين الأنبياء واحدا،و التفاوت و التفاضل إنّما هو في الشرائع،مضافا إلى أنّ تعيين الوصيّ سنّة جارية بين جميع الأنبياء، فلا يستثنى النبيّ الخاتم منهم،فيلزم إذا تعيينه أوصياءه عليهم السّلام بأمر اللّه تعالى.
فالحاصل أنّهم أوصياء جميع الأنبياء بلا واسطة بالنسبة إلى الخاتم أو معها بالنسبة إلى غيره من الأنبياء،فيلزم تصريح الأنبياء أو تلويحهم على وصايتهم عليهم السّلام كما قدّمنا نظير ذلك في ما سبق،كما أوصى المسيح بنبوّة النبيّ الخاتم في قوله سبحانه: يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ (1)،فكون إيصائهم و إخبارهم في نبوّة النبيّ الخاتم يلزم إيصائهم في وصاية آل البيت عليهم السّلام؛لأنّ وصاية آل البيت عليهم السّلام تكون من لوازم النبوّة الختميّة، و التفريق بين الشيء و لوازمه قبيح لا يرتكبه نبيّ.
و أمّا«الموصى به»فهو أمور:
ألف)تفسير كتاب اللّه و بيان مراده سبحانه.
ب)إجراء الحدود الشرعيّة.
ج)الرئاسة على الأمّة.
د)منع الظالم عن ظلمه،و الانتصاف للمظلوم.
و أمّا«الموصى له»(و هو غرض الوصيّة)،فهو تحقيق أغراض الرسالة و غاياتها من:إقامة القسط،و تربية الناس و إنقاذهم من الضلالة و الجهالة،
ص:157
و حثّهم على عبادة اللّه وحده،و وضع الأغلال و العسر عنهم،و غير ذلك، و غاية الأمر تحصيل رضا اللّه سبحانه و التقرّب إليه.
الثالثة:توضيح كلّ نسبة لهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله،لتبيين معنى الوصاية متميّزة عن النّسب الأخرى:
ألف)الوزارة،مورد الوزارة هو ما إذا كان الوزير و من ينتخبه للوزارة حاضرين،و يتحمّل الوزير إذا أثقل الأمور و مهامّها،لأنّ الوزير و الوزارة من«الوزر»بمعنى«الثّقل»؛فمعنى كون عليّ عليه السّلام وزيرا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله هو تعهّده للمباشرة بأموره،كما قال سبحانه(حاكيا عن قول موسى عليه السّلام):
وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (1).ترى أنّ موسى و هارون عليهما السّلام يؤمران معا بدعوة فرعون و قومه، و لا اختصاص لهذا الأصل بهما،بل يشمل الرسول و عليّا؛لقوله صلّى اللّه عليه و اله لعليّ عليه السّلام:«أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي» (2)،فحديث المنزلة يعمّ شأن الوزارة أيضا لعليّ عليه السّلام.
ب)الخلافة،و هي ما إذا كان المستخلف غائبا(إمّا بوفاة أو بسبب آخر)و الخليفة حاضرا،فواضح كون عليّ عليه السّلام خليفة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله بعده،و يدلّ عليه أخبار كثيرة منها«أنت الخليفة من بعدي» (3).
ص:158
ج)الولاية،و المراد منها هو الأولويّة في التصرّف بعد النبيّ(و لا حاجة لنا إلى المعاني الأخرى من مادّة«ولي»)،فقد قال سبحانه: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ (1).
د)الأخوّة،و معنى الأخوّة واضح،و الأخوّة بين رسول اللّه و عليّ (عليهما و آلهما السلام)أوضح؛لأخبار كثيرة مع شمول حديث المنزلة المتقدّم للأخوّة أيضا.
ه)الإمامة،و المراد منها في الإسلام التقدّم على الأمّة،فصاحبها يقف أمام الأمّة و الأمّة تأتمّ به.
و)الوصاية،و المراد منها(على معناها المتبادر بين العموم)،هي ما إذا مات الموصى و كان صاحب الوصاية حيّا،و الشاهد على وصاية الأئمّة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله كثير في الأخبار و قد صارت وصايتهم ضروريّة في مذهب الشيعة لتكاثر الأخبار فيها،و لا يلزم محال فيما إذا كان بين الموصى و الوصيّ بعد زمانيّ،كوصاية الإمام الرضا عن رسول اللّه(عليهما و آلهما السلام)؛لعدم وقوع الانقطاع في أمر الوصاية بعد موت النبيّ صلّى اللّه عليه و اله.
ص:159
«و ذرّيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله،و رحمة اللّه و بركاته»
و فيه أربع نكات: (1)
الأولى:التكرار يفيد التذكار،و هو يستفاد هنا أيضا من عدم دخول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله في عداد المزورين عليهم السّلام في هذه الزيارة الشريفة،و لا شكّ في كون المراد من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله هو محمّد صلّى اللّه عليه و اله لا غير،أي لا يشمل لفظ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله إبراهيم عليه السّلام مثلا و الأئمّة عليهم السّلام،سوى أبيهم عليّ عليه السّلام كانوا ذرّيّة له،فإطلاق الذرّيّة عليهم يشمل عليّا عليه السّلام من باب التغليب مع أنّه ابن عمّه صلّى اللّه عليه و اله.
الثانية:في بيان كونهم ذرّيّة له صلّى اللّه عليه و اله،الذرّيّة هي أولاد الابن لا البنت، فالأئمّة عليهم السّلام(سوى عليّ عليه السّلام)هم أولاد بنت له صلّى اللّه عليه و اله،فلا يعدّون أولاده فضلا أن يكونوا ذرّيّة له،و الجواب عن الإشكال هو أنّ القرآن يصحّح بل يثبّت كون أولاد البنت ذرّيّة،كما عدّ عيسى عليه السّلام ذرّيّة لإبراهيم عليه السّلام على ما في سورة الأنعام،مع أنّه ولد من غير أب،بل كانت نسبته إلى إبراهيم عليه السّلام من طريق أمّه.فيثبت بإطلاق القرآن أنّ الذرّيّة تطلق على ولد البنت أيضا، كما قال تعالى: وَ زَكَرِيّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ،كُلٌّ مِنَ الصّالِحِينَ (2)،
ص:160
و يقول اللّه تعالى في الآيات المتقدّمة على الآية الشاهدة: وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ،وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (1).ترى تصريحه سبحانه بكون المذكورين ذرّيّة،و عطف عيسى عليهم عليهم السّلام،فيثبت المطلوب بكون أولاد البنت ذرّيّة،و هكذا يثبت أنّهم أبناء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله من خلال الآيتين التاليتين:
1- فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ (2)،اتّفق المفسّرون على أنّ المراد من الأبناء في الآية هو الحسنان عليهما السّلام.
2- حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ الْأَخِ وَ بَناتُ الْأُخْتِ وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَ رَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ (3).
و الحاصل من الآية أنّ حرمة تزوّج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله من زوجة كلّ واحد من الأئمّة تثبت أنّهم عليهم السّلام أبناؤه صلّى اللّه عليه و اله،و يشهد على المراد ما ورد عن الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام قال:«دخلت على الرّشيد...ثمّ قال:لم جوّزتم للعامّة و الخاصّة أن ينسبوكم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و يقولون لكم:يا بني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله
ص:161
و أنتم بنو عليّ و إنّما ينسب المرء إلى أبيه،و فاطمة إنّما هي وعاء و النّبيّ جدّكم من قبل أمّكم؟فقلت:يا أمير المؤمنين!لو أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و اله نشر فخطب إليك كريمتك،هل كنت تجيبه؟فقال:سبحان اللّه!و لم لا أجيبه؟!بل أفتخر على العرب و العجم و قريش بذلك.فقلت:لكنّه صلّى اللّه عليه و اله لا يخطب إليّ و لا أزوّجه،فقال:
و لم؟فقلت:لأنّه صلّى اللّه عليه و اله ولدني و لم يلدك،فقال:أحسنت يا موسى! (1).
الثالثة:في بيان هذا الشأن ميّزة لهم عن غيرهم،فنقول:يتقوّم كلّ امتياز بثلاثة أشياء و هي:الممتاز،و الممتاز به،و الممتاز منه.فكونهم عليهم السّلام ذرّيّة هو امتياز لهم،و الممتاز به كلّ واحد من الأئمّة،و يكون الناس الممتاز منهم،فكونهم عليهم السّلام ذرّيّة أحد امتيازاتهم،و هو كمال عرضيّ؛فعلى حسب قاعدة فلسفيّة من انتهاء كلّ عرضيّ إلى ما في الذات فهو مطلوب،و إن لم ينته إلى كمال ذاتيّ لا يعدّ كمالا أصلا،و لكنّ الحقّ أنّ كونهم ذرّيّة كان كمالا عرضيّا منتهيا إلى الذاتيّ و هو ذات الرسول الشريفة.فالحاصل أنّ هذا كمال عرضيّ انتهى إلى الذاتيّ و هو مسانخة ذاتيّة بينهم و بين الرسول صلّى اللّه عليه و اله،لأنّ الرسالة الإلهيّة كانت كمعلولة،و علّتها الطهارة و العصمة الذاتيّتان،و سعة العلم و المظهريّة لأوصاف الإلهيّة،و الولاية التامّة و الخلافة الكبرى و الإلهيّتين،كلّ ذلك كمالات ذاتيّة انتهت إلى كونهم ذرّيّة بحيث لو لم تكن تلك الكمالات في نفس الرسول صلّى اللّه عليه و اله لم تكن الرسالة،إذا لم يعدّ شأن الذرّيّة كمالا لهم؛فالحاصل أنّ هذا الكمال كان
ص:162
كمالا خارجيّا غير فعليّ لهم.
الرابعة:تكرار الرحمة و البركة هو إشارة الزائر إلى كونه عارفا بكمالاتهم و طالبا للرحمة و البركة من اللّه لهم في مختتم كلّ فصل من الزيارة.
يمكن أن يكون هذا الفصل من الزيارة مجمعا لشرائط الحجّيّة التامّة للّه على عامّة البشر في جميع العوالم و النشآت،فالحجّيّة العامّة كهذه لا تتحقّق إلاّ بالكمالات الآتية:
الأوّل:يجب أن تحلّ فيه معرفة اللّه على معناها الصحيح،و تترتّب على هذا(على حلول المعرفة)بركات،و لا يمكن ذلك إلاّ بكون الحجّة (من الأشخاص)معدنا للأفعال و الأقوال المحكمتين،و يمتنع كون أقواله و أفعاله هكذا إلاّ بحفظه للأسرار،حتّى لا تختلّ الحكمة في أفعاله و أقواله بإضاعة الأسرار،و لا يتحقّق هذا الأمر إلاّ بكونه حاملا لكتاب اللّه و معناه و تفسيره و تأويله و غير ذلك،و يجب أن تكون الحجّية كهذه متأيّدة بكون صاحبها وصيّا للنبيّ،و تكون وصايته بكون الوصيّ من ذرّيّة الرسول صلّى اللّه عليه و اله.
ص:163
«السّلام على الدّعاة إلى اللّه»
و فيه خمس نكات:
الأولى:«الدعاة»جمع الداعي،كالقضاة جمع القاضي.إنّ استعمال الاسم(دعاة)بدل الفعل(يدعون)هنا و في كلّ مورد شبيه بهذا كالفقرات التالية:«و الأدلاّء و المستقرّين و التامّين و المخلصين و المظهرين و المكرمين»يدلّ على الثبات و الدوام،و ليس ذلك في استعمال الفعل.
الثانية:قد تقدّم في الفصل الحادي و العشرين تفسير«و الدعوة الحسنى»و هي تشبه مضمونا هذه الفقرة الشريفة،و لكن بينهما فرق من جهتين:
الأولى:يحتمل أن يكون المراد من«الدعوة الحسنى»هو المبالغة في كونهم داعين من حيث استغراقهم في الدعوة إلى اللّه و أمّا في هذه الفقرة فالمبالغة غير منظورة،بل ينظر إلى كونهم فاعلين للدعوة فقط،فعلى هذا يكون هذا الشأن كمالا فعليّا لهم.
الجهة الثانية:يمكن كون المراد في«الدعوة الحسنى»أن يكون آل البيت عليهم السّلام أنفسهم،فعلى ذلك يكون هذا الشأن كمالا نفسانيّا لهم،أمّا هذه الفقرة فمشيرة إلى كمال فعليّ،و إن قلنا بالمبالغة في ما سبق فتكون تلك مشيرة إلى حسن فاعليّ،و في هذه إشارة إلى حسن فعليّ،و الحسن
ص:164
الفعليّ متفرّع على الحسن الفاعليّ،كما قيل:«لولا الكمال الذاتيّ للفاعل لما صدر من الفاعل فعل كماليّ.و بتقرير آخر،تلك الفقرة تبيّن حسنا وصفيّا لهم،و هذه مبيّنة لحسن فعليّ.و الحاصل:إذا كان آل البيت عليهم السّلام مستغرقين في الدعوة،صارت الدعوة صفة حسنة لهم،ينشأ منها فعل حسن.
الثالثة:الفرق بين المعصومين عليهم السّلام و غيرهم من الداعين:
يمكن لغير المعصوم أن يكون داعيا إلى اللّه بعلمه و عمله و قوله كما قال سبحانه: وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللّهِ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ قالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (1)،و قال الإمام الصادق عليه السّلام:كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم (2).
فلا يختصّ هذا الشأن الشريف بهم.إذا ينبغي ذكر الفرق بينهم و بين غيرهم من الداعين،فنقول:نعم،لا ينحصر الشأن بأصله فيهم عليهم السّلام و لكن للشأن خصوصيّات توجب الانحصار فيهم.
ألف)كون دعوتهم على بصيرة،كما قال سبحانه مخاطبا للنبيّ صلّى اللّه عليه و اله:
قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي (3)،فكلّ دعوة كهذه قد صدّقها اللّه بكونها على بصيرة لتقارن العصمة في ناحية العلم بالدعوة،أي لا يعرض للداعي خطأ علميّ.و أنت ترى،لا يمكن لغير المعصوم كالعالم
ص:165
أن يكون داعيا مصاحبا للعصمة،إذ يعرض له الخطأ و النسيان و تشتبه عليه الأمور،و غير ذلك من التوالي.فعلى هذا يمكن وقوع التخالف بين ظاهر دعوة غير المعصوم التي تكون إلى اللّه،و باطنها التي تكون إلى غير اللّه حقيقة لعروض الخطأ أو النسيان في العلم،يقول سبحانه: إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (1)، وَ داعِياً إِلَى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً (2)،و يحتمل كون الدعوة المذكورة في هذه الآية الكريمة أن تكون في ناحية العمل.إذا المعصوم عليه السّلام كما لا يعرض خطأ أو نسيان على علمه و هكذا لا يخطأ في عمل دعوته.
ب)أنّ دعوة غير المعصوم إلى اللّه مندوبة و فضيلة غالبا و للمعصوم عليه السّلام فريضة واجبة لما تقتضي النبوّة أو الإمامة،و لا يقاس مندوب مع واجب.
الرابعة:أنّ دعوة المعصوم عليه السّلام على أنحاء،فمنها:الدعوة بالحكمة، حيث تكمل بها النفوس القابلة و تبلغ إلى يقين علميّ(علم اليقين)،و قد تكون من طريق الكشف،بأن يكشف المعصوم عليه السّلام لمخاطبه حقيقة من الغيب برفع الحجاب عن بصيرته،لتبلغ القوابل إلى اليقين العينيّ(عين اليقين)،كما فعل مولانا الحسين عليه السّلام في ليلة عاشوراء لأصحابه المستشهدين،حيث أراهم مكان كلّ واحد منهم في الجنّة على حسب
ص:166
المنقول،و منها دعوته عليه السّلام بالقول و العمل و الطاعة و التقوى،فتكون الدعوة إذا الدعوة بالعمل.
الخامسة:إن قيل:الدعوة إلى الغيب المطلق أمر مستحيل،و هو تعالى غيب مطلق بحسب الذات،فلا تسع كنهه العقول و لا العلوم،فكون الدعوة إلى اللّه محال ثان،و يكون المعصومين عليهم السّلام داعيا إليه محال ثالث.
نجيب عنه بجوابين:
الأوّل:أنّ الدعوة هي الدعوة إلى معرفة وجوده سبحانه و وجود صفاته تعالى،فهو أمر ممكن بل المأمور به،و هو أعظم التكاليف،و غاية الخلق لا إلى كنه ذاته أو كنه صفاته تعالى،فالحاصل أنّ الممكن غير المحال، و هم عليهم السّلام يدعون إلى الممكن.
الثاني:أنّ المعصوم عليه السّلام يكشف الحقيقة للقابل برفع الحجاب عن عينه كما قلنا،إذا يبلغ العبد إلى مقام الفناء في اللّه و اندكاك ذاته في ذاته تعالى (و إن حصل له البقاء باللّه)،فيصير وجهه الباقي،كما قال سبحانه: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ (1)،فلهذا النوع من العرفان لا يمكن التقرير و لا البرهان،لأنّه يحصل بالوجدان.فالحاصل أنّهم يدعون إلى اللّه بكلا المعنيين:برهانيّ و عرفانيّ.
ص:167
«و الأدلاّء على مرضاة اللّه»
و فيه ثماني نكات:
الأولى:«الأدلاّء»جمع«دليل»،كالأخلاّء جمع خليل،و«المرضاة» مصدر ميميّ(و ليس جمعا)و كان أصله«مرضي»كمخوف،قلبت ياؤه ألفا و تاؤه مصدريّة.
الثانية:كونهم أدلاّء يتأيّد بما ورد عن مولانا الرضا عليه السّلام:«الإمام الماء العذب على الظّماء،و الدّالّ على الهدى،و المنجي من الرّدى» (1)،و هو كمال فعليّ خارجيّ لهم؛لأنّ الدلالة على مرضاته تعالى كانت من مقولة الفعل و إن كانت حاكية عن كمال فاعله.
الثالثة:الدليل(اصطلاحا)،هو ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر، كالعلم بالدخان الذي يلزم منه العلم بالنار.فمعنى كونهم أدلاّء هو لزوم علمنا بمرضاة اللّه من علمنا بهم عليهم السّلام،و هذا إنّما يصحّ فيما إذا كان الأمر معقولا أو ينشأ من معقول،و إلاّ فمع كونهم أدلاّء تفوق العقول فلا يمكن العلم بهم،فضلا عن العلم بمرضاة اللّه من طريقهم،كما أنّ دلالة الدخان على النار أمر قابل للإدراك،و الحاصل أنّ لكونهم أدلاّء دلائل كثيرة من
ص:168
العقل و النقل.
الرابعة:الفرق بين الدلالة و الهداية و الدعوة:
إن كان المراد من الهداية (1)هو إراءة الطريق،تكون الهداية قريبة المعنى من الدلالة،فيكون معنى كونهم أئمّة الهدى هو معنى كونهم أدلاّء،و إن فسّرناها بالإيصال إلى المطلوب تكون ذات فرق مع الدلالة،لأنّ الهادي هو الآخذ بيد الطالب الموصل إلى مطلوبه.
و أمّا الفرق بين«الدلالة»و«الدعوة»أيّتهما متقدّمة على الأخرى؟ فنقول:الدلالة مسبوقة للدعوة،لأنّ الإنسان على ما توجبه طبيعته الضالّة الطاغية ساكن مسكن الشرك و الكفر،فيلزم أن يدعى بسبب داع،فإن قبل الدعوة و تحرّك،لزمه دلالة الدليل ليعرّفه الطريق إلى المقصد؛لأنّ الإنسان الطبيعيّ جاهل بحريم القرب و منزل الأنس،فتبيّن تقدّم الدعوة و الداعي على الدلالة و الدليل،فعلى هذا راعى الإمام الهادي عليه السّلام هنا الترتيب الطبيعيّ في ذكر«الدعاة إلى اللّه»قبل«الأدلاّء على مرضاة اللّه».
الخامسة:أنحاء دلالتهم عليهم السّلام:
الدلالة على ثلاثة أنواع:مطابقيّ،و التزاميّ،و تضمّنيّ.
فالمطابقيّ هو دلالة تمام الدليل على تمام المدلول وضعا،كدلالة زيد على تمام الشخص المعيّن من غير تجزئة في اللفظ أو الشخص،
ص:169
و التضمّنيّ هو ما يدلّ جزء اللفظ على جزء المسمّى،كالناطق الدالّ على نطق الإنسان،و التزاميّ هو ما إذا دلّ الدليل على خارج المعنى من المدلول،كالحاتم الدالّ على الجود التزاما،فكون المعصومين أدلاّء بالمطابقة بمعنى أنّ أوامرهم و نواهيهم بالقول دلالات تامّات على مرضاة اللّه من غير تقييد و لا تخصيص و لا تفريق لغوا،بحيث يقولون شيئا لم يقولوا لازمه أو ينسوه،مثلا إجابتك على سؤال الإنسان ما هو بالناطق، إجابة ناقصة،لتركك ذكر الحيوان؛و دلالتهم بالفعل و الترك دلالة تضمّنيّة، لأنّهم بأنفسهم مكلّفون بالفعل و الترك لوظيفة العبوديّة للّه،و لم يضع واضع لغويّ صلاة المعصوم عليه السّلام و إنفاقه لغير المعصوم،و الناس مأمورون باتّباعهم كما قال سبحانه: أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (1).
و أمّا إذا عمل عامل فعلا من عند نفسه ثمّ أيّده المعصوم عليه السّلام و أمضاه، يكون تأييد المعصوم عليه السّلام و إمضاؤه دلالة التزاميّة؛لأنّه خارج المعنى، فيكون عمل هذا الشخص مدلولا،و تأييد المعصوم عليه السّلام دالاّ،و الحاصل يكون العمل مرضيّا للّه تعالى و مشروعا و إن لم يشرّع،فتبيّن مشروعيّة العمل من الخارج بتأييد المعصوم عليه السّلام.فتحصّل كونهم أدلاّء بالأقسام الثلاثة للدلالة،و على هذا نعتقد أنّ تقرير المعصوم عليه السّلام حجّة كما كان كلّ
ص:170
من فعله و قوله حجّة،و لا منافاة بين كونهم أدلاّء بأنفسهم(كما قال النبيّ «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» (1))و بين كون أقوالهم و أعمالهم أدلاّء،لإطلاق الدليل عليهم حقيقة،و على أقوالهم و أفعالهم مجازا،أو بالعكس.
السادسة:بيان حاجة الناس إلى دلالة آل البيت عليهم السّلام:الضلالة مطبوعة للناس،كما قال سبحانه: وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (2)،فيحتاجون إلى الدلالة ليهتدوا بالأدلّة من الضلالة،و الذين يضلّونهم في الجاهليّة(قبل الإسلام) هم الشياطين الجنّيّة (3)و بعد الإسلام هم الشياطين الإنسيّة أيضا،ففي الجاهليّة كانت الأنبياء حجّة تامّة لهم،و لكن بعد الأنبياء خصوصا بعد خاتمهم(عليه و آله السلام)كانت الحجّة تامّة لهم،و مراد الشياطين الإنسيّة هو إضلال الناس بعد مجيء الحجّة و العلم،فالأئمّة عليهم السّلام يصدّونهم عن هذا النوع من الضلال.
السابعة:توضيح مرضاة اللّه(و هي مدلول عليه):
المسائل العارضة للإنسان على ثلاثة أنواع:
ألف)الموافقة للعقل،كحسن العدل و قبح الظلم.
ب)المخالفة للعقل،كقبح العدل و حسن الظلم.
ص:171
ج)المسائل الفائقة على العقل،كأكل لحم الخنزير و التيمّم على التراب.
فالمراد من كونهم عليهم السّلام أدلاّء على مرضاة اللّه هو النوع الثالث من المسائل،لأنّ الأوّلين(العقائد و الأخلاق)من المدركات العقليّة،و لا تحتاج المدركات العقليّة إلى دليل،و لكنّ النوع الثالث(الفائقة على العقول)يحتاج فيه إلى الدليل،لأنّ الإنسان بما هو غير قادر على المعرفة ب«مرضاة اللّه»تفصيلا،كما قال تعالى: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (1)، وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ (2)، فَاذْكُرُوا اللّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (3)،فيحتاج إلى الدليل،و لا يمكن لغير المعصوم أن يدلّ على حقائق النفس الأمريّة(مرضاة اللّه) الحقيقيّة.
الثامنة:بيان صلة هذه الفقرة بسابقتها:
مفاد الفقرة المتقدّمة(الدعاة إلى اللّه)هو تكميل القوّة النظرية،و هذه الفقرة المبحوث عنها هي تكميل القوّة العملية؛و بتعبير آخر:الأولى:
لحصول الكمال في قوّة العلامة،و هذه(الدلالة)لحصول الكمال في قوّة العمّالة،اللتين هما كجناحين للإنسان،ليطير بهما من مسكن الطبيعة إلى مجلس الربانيّين المؤكّدين في القرآن،من الأولى بالإيمان،و من الثانية
ص:172
بالعمل الصالح.
فالحاصل أنّ جميع الأمور،الإمامة و شؤونها تكمل بهذين الدورين، فبالنظر إلى دعوة المعصومين بالقول و العمل لا تتفاوت الدعوة مع الدلالة،و لكن إن قلنا بكون دعوتهم هي الكشف و الإشهاد و إراءة الحقائق للنفوس القابلة تكون الدعوة و الدلالة متفاوتتين،و تكون الدعوة متقاربة المعنى بالهداية بمعنى الإيصال إلى المطلوب،كما ذكرنا.
«و المستقرّين في أمر اللّه» (1)
و فيه خمس نكات:
الأولى:«المستقرّين»أي«المستقيمين»الغير متزلزلين؛و الأمر الذي معناه«الشأن»جمعه الأمور،و الذي معناه«الطلب»جمعه الأوامر.
الثانية:يذكر الزائر هنا كمالا آخر لهم عليهم السّلام،فإن فسّرنا«أمر اللّه»فيما بعد بشأنه سبحانه،يكون الكمال نفسانيّا،و إلاّ فالكمال فعليّ خارجيّ لهم ناشئ من كمال ذاتيّ.
الثالثة:يتصوّر ثلاثة فروض في المراد من أمر اللّه(بمعنى الشأن)،و هي:
التوحيد،أو الإمامة،أو الولاية.
ص:173
الأوّل:أنّ آل البيت عليهم السّلام هم المستقرّون في التوحيد،فيكون الشأن إذا هو التوحيد الربوبيّ،و الاستقرار هو الكمال في الشأن العبوديّ،بعكس سائر الموحّدين الذين كان توحيدهم خليطا بالشرك الخفيّ،ضعيفه أو قويّه،كما قال النبيّ صلّى اللّه عليه و اله:«الشّرك أخفى في أمّتي من دبيب النّمل على الصّفا في اللّيلة الظّلماء» (1).
فالحاصل أنّ قوّة التوحيد في أيّ موحّد موقوفة على قدر ضعف الشرك،كما روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله:«العلماء كلّهم هلكى إلاّ العاملون، و العاملون كلّهم هلكى إلاّ المخلصون و المخلصون على خطر» (2).
الثاني:أو المراد من أمر اللّه هو الإمامة؛لكونها مجعولة من اللّه،كما قال سبحانه:«و جعلناهم أئمّة يهدون بأمرنا» (3)بمعنى أنّ الأئمّة عليهم السّلام لم ينكروا إمامة أنفسهم في أشدّ الظروف و أصعبها و إن عملوا بالتقيّة في بعض الأحيان،فعدم إنكار الإمامة كهذا يؤيّد كون المقصود من أمر اللّه هو الإمامة.
الثالث:أو المراد من الأمر هو الولاية التكوينيّة على الأشياء،فهم المستقرّون فيها بحيث لا يمكن لأحد غصبها من أيديهم لظهور المعجزات الباهرة منهم،و الحال أنّ فعل المعجز يكون من شؤونه
ص:174
سبحانه.
الرابعة:إن قلنا بكون المراد من الأمر بمعنى«الطلب»،كان معنى الفقرة أنّهم استقرّوا دون أيّ زعزعة في عبادة اللّه،و لا يمكن ذلك لأكثر العبّاد.
لإمكان استقرارهم في صور العبادات و تلوّنهم في الشرائط الباطنيّة لها، لأنّ العابد قد يكون مخلصا في العبادة و قد يكون مرائيا و قد يكون نشيطا فيها،و قد يكون كسلانا و غير ذلك من الأحوال المختلفة،كما قال النبيّ صلّى اللّه عليه و اله:«إنّ قلب ابن آدم مثل العصفور،ينقلب في اليوم سبع مرّات» (1)،و لكنّ آل البيت عليهم السّلام لبعدهم عن أيّ تلوّن،و كونهم في كمال التمكين،كانوا هم المستقرّين في العبادة،كما قال أبو الأئمّة و أوّلهم و خاتم الأوصياء (بالنسبة إلى الأوصياء الماضين للأنبياء)و سيّدهم،عليّ بن أبي طالب عليه السّلام:
«لا يقيم أمر اللّه سبحانه إلاّ من لا يصانع،و لا يضارع،و لا يتّبع المطامع» (2)،فلا يقدر المصانع أو المضارع،أو التابع للمطامع على إقامة أمر اللّه في العبادة كما هو حقّه سوى آل البيت عليهم السّلام.فالحاصل أنّ الاستقرار يتقدّم على إقامة الأمر،فما لم يكن العابد منزّها عن هذا الأسلوب لا يمكن له الاستقرار في أمر اللّه،أي في عبادته،فإن أخذنا الأمر بمعنى الطلب،و قلنا بكون المراد منه العبادة،و كنّا قائلين بأنّ آل البيت عليهم السّلام هم المستقرّون في عبادة اللّه، يتبيّن تحقّق مقدّمات هذا الاستقرار فيهم عليهم السّلام و براءتهم منها،كما يؤيّد
ص:175
التاريخ براءتهم لعدم رحيل أيّ منهم بموت طبيعيّ.
الخامسة:في الجمع بين التفسيرين للأمر،نقول:إنّ الفقرة تحتمل معنيين جميعا،لأنّ الاستقرار في الأمر بمعنى العبادة يتفرّع على استقرارهم في الأمر بمعنى التوحيد أو الإمامة،كتفرّع العمل على الاعتقاد،و هكذا استقرارهم في الأمر بمعنى التوحيد أو الإمامة كان كأصل ملازم لفرعه و هو الاستقرار في العبادة،لأنّ كلّ علّة و سبب ملازم لمعلولها و مسبّبه.
«و التّامّين في محبّة اللّه» (1)
و فيه ستّ نكات:
الأولى:«التامّ»اسم فاعل من«التمام»،كما أنّ الفارّ فاعل الفرار.و قد استعمل الإمام عليه السّلام لفظ التامّ دون الكامل،فيلزم هنا بيان الفرق بينهما، فنقول:إنّ التمام و الكمال ليسا مترادفين،ليكون لهما معنى واحد،بل كانا متقاربي المعنى،و بينهما فرق دقيق كما قال سبحانه: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي (2)بهذه الآية،و استعمال اللفظين فيها و عطف التمام على الكمال يبطل الترادف بينهما.
ص:176
الثانية:فرق الكمال و التمام:
إنّ الحكماء يعبّرون في وصفهم للّه تعالى بالتمام و فوق التمام دون الكمال و فوقه؛فلو كان الكمال فوق التمام لزم الغلط و الخطأ في تعبيرهم،فتبيّن من ذلك أوّلا الفرق بينهما،و ثانيا تفوّق التمام على الكمال، لأنّهم يريدون استعمال أحسن الألفاظ و أبلغها في وصفه تعالى،فلو كان الكمال فوق التمام لزم النقص في وصفهم له سبحانه،مضافا إلى أنّ ذكر التمام بعد الكمال في الآية هو عطف القويّ على الضعيف،كقولهم:«مات الناس حتّى الأنبياء عليهم السّلام»فبهذا التقرير ثبت إجمالا أنّ التمام أنسب للبلاغة من الكمال و أبلغ في بيان المراد.
توضيح الفرق:هو أنّ لكلّ موجود أجزاء أصليّة تتشكّل منها هويّته و ماهيّته،فبهذا يبلغ كماله و هكذا له آثار و فضائل مضافا إلى أجزائه الأولى،فإذا بلغ إلى هذه المرتبة و ظهرت منه آثاره و فضائله المذكورة تمّ،كما قال الإمام عليّ عليه السّلام:«إذا تمّ العقل نقص الكلام» (1)،و روي عن مولانا الرضا عليه السّلام أنّه قال:«لا يتمّ عقل امرئ مسلم حتّى تكون فيه عشر خصال:الخير منه مأمول،و الشّرّ منه مأمون،يستكثر قليل الخير من غيره،و يستقلّ كثير الخير من نفسه،لا يسأم من طلب الحوائج إليه،و لا يملّ من طلب العلم طول دهره، الفقر في اللّه أحبّ إليه من الغنى،و الذّلّ في اللّه أحبّ إليه من العزّ في عدوّه، و الخمول أشهى إليه من الشّهرة.ثمّ قال عليه السّلام:العاشرة و ما العاشرة!قيل له:ما
ص:177
هي؟قال عليه السّلام:لا يرى أحدا إلاّ قال:هو خير منّي و أتقى.إنّما النّاس رجلان، رجل خير منه و أتقى،و رجل شرّ منه و أدنى،فإذا لقي الّذي شرّ منه و أدنى قال:
لعلّ خير هذا باطن و هو خير له:و خيري ظاهر و هو شرّ لي!و إذا رأى الّذي هو خير منه و أتقى تواضع له ليلحق به،فإذا فعل ذلك فقد علا مجده،و طاب خيره، و حسن ذكره،و ساد أهل زمانه» (1).
لا شكّ في كمال عقل الرجل الموصوف قبل ظهور هذه الآثار،و إلاّ لم يكن مكلّفا أصلا،فبظهور هذه يكون عقله تامّا.و إنّك خبير بأنّ من هذه الآثار و الخصال(المذكورة في الحكم القصار للإمام عليّ عليه السّلام و في حديث ابنه الرضا عليهما السّلام)و لها أثر مترتّب على تماميّة عقل الرجل و لم يترتّب شيء منها على كماله مضافا إلى عدم ذكر الكمال في الحديثين.
الثانية:نقل السيّد شبّر رحمه اللّه عن قوم ما هذا لفظه:«و هذه الفقرة صريحة في الردّ على قوم من البهائم أنكروا محبّة اللّه،بل أحالوا و قالوا لا معنى لها إلاّ المواظبة على طاعة اللّه عزّ و جلّ»،و أمّا حقيقة المحبّة فمحال إلاّ مع الجنس و المثل.و قال في ردّ هذا القول:«يلزم من إنكار المحبّة إنكار الأنس و الشوق و لذّة المناجاة،و سائر لوازم الحبّ و توابعه»،نجيب عنه بجوابين مضافا إلى ردّه رحمه اللّه:
الأوّل:أنّ القرآن يثبت حبّ اللّه للعباد و حبّهم له في كثير من الآيات، و لا يمكن رفع اليد عن ظاهر تلك الآيات الكثيرة كقوله سبحانه: فَسَوْفَ
ص:178
يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ (1)، وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ (2)،و كما قال النبيّ صلّى اللّه عليه و اله في دعائه:«اللّهمّ ارزقني حبّك و حبّ من يحبّك،و حبّ ما يقرّبني إلى حبّك،و اجعل حبّك أحبّ إليّ من الماء البارد» (3).
الثاني:نعم،إنّا قائلون مثلكم بالتناسب و التجانس بين الحبيب و المحبوب؛و لكنّ التناسب و التجانس على قسمين:وجوديّ و ماهويّ، و أنتم خلطتم بين التجانسين،فما أنكرتموه هو التجانس الماهويّ،و ما أثبتناه هو الوجوديّ منهما،أي أنّ اللّه تعالى موجود،و المحبّ(العبد) أيضا موجود،و الوجود ما يناقض العدم،و لا فرق في هذا الوجود أكان للّه أم للعبد،و أصل المحبّة أيضا كمال وجوديّ(و لا حاجة لنا إلى خصوصيّاتها و توابعها أو لوازمها أو فروعها الملحقة بالماهيّة)،فبهذا ثبتت المسانخة بين المحبّ و المحبوب،و هكذا يثبت إمكان أصل المحبّة في كلّ منهما للآخر،و إلاّ لزم تعطيل التكوين و التشريع.
الرابعة:للتامّيّة في محبّة اللّه لوازم و توابع:
منها:المحبّة لكلّ شيء تحصل من المعرفة به،فدرجات المحبّة متفاوتة بتفاوت المعرفة به،فكلّما كانت المعرفة أنقص كانت المحبّة أنزل،و هكذا في كمال المعرفة تكون المحبّة أتمّ و أكمل.و منها:
ص:179
الاشتياق إلى المحبوب،فهو من توابع شدّة المحبّة و ضعفها.و منها:
إخلاص المحبّ للمحبوب و ذكره إيّاه.و بيانهما في ما سيأتي كلّ في محلّه(إن شاء اللّه)في الاشتياق إليه،فإذا قلنا بتماميّة محبّة استتبع ذلك تماميّة المعرفة و الاشتياق و الذكر و الإخلاص،و جدّ المحبّ في طلب وصال المحبوب،و غيرها من الآثار و اللوازم.
الخامسة:يلزم للتاميّة في محبّة اللّه أمران:
1)الاقتضاء:و المراد منه هو القابليّة لهذا الكمال في المحبّ.
2)الباعث:و المراد منه هو المعرفة.
و قد تقدّم أنّ تماميّة المحبّة بتماميّة المعرفة،و لكنّ المعرفة التامّة لا تكفي،إذا يلزم الكمال في القابليّة قبلها،فلو كانت محبّة آل البيت عليهم السّلام للّه مثلا فينا لاحترقنا و تمزّقنا،كما قال جبرائيل عليه السّلام في المعراج لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله حين عجز عن المصاحبة له صلّى اللّه عليه و اله:«لو دنوت أنملة لاحترقت» (1)؛لما لم تكن له سعة الوجوديّة و لا صفاء القابليّة الذاتيّتين فيه ما كان في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله،كذلك لم توجد فينا بطريق أولى،فنحن عاجزون عن كوننا تامّين في محبّة اللّه؛لعدم الاقتضاء لذلك أو الباعث إليه،فالحاصل أنّ غيرهم عليهم السّلام لا يمكن له أن يكون تامّا في هذا الشأن.
السادسة:هو أنّ هذا الكمال كمال نفسانيّ لهم،و يلازم كمالا فعليّا،
ص:180
مضافا إلى أنّ هذا الكمال(التامّيّ)-على ما فسّرنا به التمام-له آثار مذكورة في الفقرات الآتية.
«و المخلصين في توحيد اللّه»
و فيه خمس نكات:
الأولى:يمكن قراءة هذه الفقرة بصيغة الفاعل(مخلصين كما هو معروف)من باب الإفعال،أو المفعول(مخلص)من الباب.
فالأوّل،يمكن أخذه لازما كما قال سبحانه: وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلّهِ (1)أو متعدّيا بمعنى أنّهم فاعل و الإخلاص في أتباعهم بالتعليم و التزكية و الهداية و غير ذلك.
و يمكن أخذه بصيغة المفعول،إذا هذه الفقرة تكون مقتبسة من قوله سبحانه،حكاية عن قول إبليس(لعنه اللّه): قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (2).فالحاصل إن قرئت الكلمة بالفاعل يكون هذا الكمال كمالا فعليّا لآل البيت عليهم السّلام،و بالمفعول يكون كمالا نفسانيّا لهم.
توضيحه:إن عدّ الكمال فعليّا يكون لأفعالهم الحميدة دخل في
ص:181
الإخلاص(على أيّ من التفسيرين)،فبعدّ الكمال نفسانيّا لا يكون هناك دخل لأفعالهم الحميدة في ذلك الكمال،لأنّهم خلقوا هكذا،فنستنتج من هذا أنّ خلقهم مخلصين يكون كمالا لهم،و تأثير هذا الكمال يكون الإخلاص في العبادة و العمل،و هذا موجب لكون إخلاصهم التكوينيّ تامّا.
الثانية:ترتّب هذا الكمال على غيره:
إن كان بين كمال و كمال آخر صلة و ربط من العلّيّة و المعلوليّة أو الفاعليّة و القابليّة،و غير ذلك من الروابط و الصلات،فيكون أحد الكمالين بالنسبة إلى الآخر طوليّا،و إلاّ كان عرضيّا،فهذا الكمال(كونهم مخلصين في توحيد اللّه)بالنسبة إلى ما قبله(كونهم التامّين في محبّة اللّه) يكون كمالا طوليّا،فبهذا يتبيّن أنّ الإمام الهادي عليه السّلام راعى ترتيبه الطبيعيّ؛ لأنّ كونهم«التامّين في محبّة اللّه»علّة لإخلاصهم في توحيد اللّه.
الثالثة:يستنتج من مراعاة الإمام هنا الترتيب الطبيعيّ في الفقرة «المستقرّين في أمر اللّه»،بمعنى أنّ الاستقرار في أمر اللّه يكون علّة لكونهم تامّين،كما أنّ كونهم تامّين علّة لكونهم مخلصين،فعلى هذا يضعّف الأمر هناك معنى الطلب و يقوّي معنى الشأن،فمن حيث كونهم عليهم السّلام المستقرّين في شأن اللّه يكونون تامّين،و من هذا الحيث يكونون مخلصين،و بهذا يقوّى أنّ التعبير بالمخلصين بصيغة الفاعل.
ص:182
الرابعة:مراتب التوحيد و إخلاصهم عليهم السّلام:
في تلك المراتب في هذه الفقرة الشريفة،ينظر إلى جميع مراتب التوحيد(الذاتيّ و الصفاتيّ و الأفعاليّ و العباديّ و الأسمائيّ (1))و إخلاصهم فيها،أنّ ذواتهم القدسيّة عليهم السّلام من حيث فنائها في ذاته تعالى تكون مخلصة في توحيده الذاتيّ سبحانه،و هكذا صفاتهم في صفاته و أفعالهم في أفعاله،لأنّ المظهر فان في الظاهر،و المجلى في المتجلّي،كالظلّ بالنسبة إلى الجدار و الموج بالنسبة إلى الماء،و من حيث عدم توجّههم إلى كونهم عبادا يثبت إخلاصهم في توحيده العباديّ لوجود الشرك و لو بأضعف مراتبه في غيرهم عليهم السّلام و عدمه بالكلّيّة فيهم و حتّى عدم توهّمه فيهم عليهم السّلام.و من حيث اشتقاق أسمائهم الشريفة من أسمائه الحسنى يثبت إخلاصهم في توحيده الأسمائي،و لا شكّ في غالبيّة المشتقّ منه على جميع مشتقّاته،و كون المشتقّات مغلوبات له.
الخامسة:يستلزم كونهم عليهم السّلام المخلصين أو المخلصين في توحيد اللّه أن يكونوا تامّين في مقدّمات هذا الشأن الشريف،و هي مندرجة مترتّبة منتهية إلى الإخلاص في الخطبة التالية عن الإمام عليّ عليه السّلام:«أوّل الدّين معرفته،و كمال معرفته التّصديق به،و كمال التّصديق به توحيده،و كمال
ص:183
توحيده الإخلاص له،» (1).
«و المظهرين لأمر اللّه و نهيه»
و فيه ستّ نكات:
الأولى:الإظهار نقيض الإخفاء،و معنى الفقرة هو:أنّهم عليهم السّلام لم يخفوا أمر اللّه عزّ و جلّ و لا نهيه،قال سبحانه: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ (2)،فلو كانوا غير ذلك لزم تخلّفهم عمّا أمروا به،و لزم العبث بل القبيح في جعلهم للإمامة،و هذا مناف لعصمتهم عليهم السّلام و ينافي حكمته سبحانه و صدق قوله: اَللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ (3)،و الرسالة هنا تشمل الإمامة أيضا لإرادة معناها العامّ.
الثانية:مفهوم الأمر و النهي:
المراد منهما هو المعنى المطلق لكلّ منهما،فيكون معنى الأمر:«طلب ما يرغب فيه الآمر»،و النهي:«طلب ترك ما يرغب عنه الناهي».فالحاصل ليس المراد من الأمر و النهي ما استعمل في كلّ منهما على صيغة الأمر أو النهي،نحو: أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (4)،أو لفظ الأمر أو
ص:184
النهي مثل: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ (1)،فتحصّل كونهم عليهم السّلام مظهرين لكلّ ما يحبّه اللّه و ما يبغضه و يكره من العقيدة و الخلق و العمل في أيّ لفظ كان و بأيّ تعبير.
الثالثة:تعيين مصاديقهما:
مصاديق أوامر اللّه و نواهيه سبحانه لا تعدّ و لا تحصى،خصوصا و هي تتزايد على مرّ الدهور و الأزمان في الشؤون العديدة للإنسان و الكتب السماويّة،و لا سيّما القرآن و أقوال جميع الأنبياء و الأوصياء و العلماء و الحكماء الإلهيّين المحتوية لها بعد التشريع،و ما تقتضي العقول السليمة و الفطرات الصحيحة في باب التكوين،و لكن يمكن تلخيصها و إحصائها في ثلاثة أنواع،كما أحصاها النبيّ في الرواية التالية:«دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله المسجد فإذا جماعة قد أطافوا برجل،فقال:ما هذا؟فقيل علاّمة،فقال:و ما العلاّمة؟فقالوا له:أعلم النّاس بأنساب العرب و وقائعها و أيّام الجاهلية و الأشعار العربية،قال:فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه و اله:ذاك علم لا يضرّ من جهله،و لا ينفع من علمه.ثمّ قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و اله:إنّما العلم ثلاثة:آية محكمة،أو فريضة عادلة،أو سنّة قائمة،و ما خلاهنّ فهو فضل» (2).
فالمراد من الآية المحكمة-كما فسّرها الشارحون-هو العقائد،و من الفريضة العادلة الأخلاق،و من السّنّة القائمة الأعمال.فتحصّل أنّ مصداق
ص:185
جميع الأوامر و النواهي الإلهيّتين هو هذه العلوم الثلاثة.
الرابعة:كيفيّة هذا الإظهار من آل البيت عليهم السّلام:
جميع الصفات و الكمالات المذكورة للمعصومين عليهم السّلام من أوّل الزيارة إلى هنا كانت كأسباب قريبة أو بعيدة،و لها دخل في وجود كمال إظهار الأمر،فتشكّل من مجموعها علّة تامّة لا ينفكّ عنها المعلول؛فكونهم مظهرين لأمر اللّه،معلول و الصفات السابقة الذكر،فكما لا تنفكّ الإنارة عن الشمس و السراج،كذلك لا يمكن انفكاك الإظهار عن المعصوم عليه السّلام إذ كيف يمكن كون المعصوم عليه السّلام تامّا في محبّة اللّه أو مستقرّا لأمر اللّه أو دليلا على مرضاة اللّه(أو غير ذلك)و لا يكون لأمره و نهيه سبحانه؟!
الخامسة:إقامة الدليل على إثبات هذا الكمال للمعصومين عليهم السّلام:
الدليل إمّا إنّيّ،و إمّا لمّيّ (1).فاللمّيّ هو العلم بالمعلول من العلم بالعلّة، و عكسه الإنّيّ(و إن كان اللمّيّ أليق من الإنّيّ في إعطاء اليقين).و قد تقدّم أنّ إمامة آل البيت عليهم السّلام مجعولة من عند اللّه سبحانه،فلو لم يكونوا هم المظهرين لأمر اللّه و نهيه،لم يجعلهم اللّه أئمّة،كما قال سبحانه: اَللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ (2)،فينكشف من هذا عدم وجود أدنى تخلّف منهم في
ص:186
إظهار أوامره و نواهيه سبحانه،لاستحالة انفكاك المعلول عن علّته التامّة، و أمّا الإنّيّ فهو متبيّن لكلّ متتبّع في أخبارهم المتواترة و آثارهم المتكاثرة المحتويتين على أوامر اللّه و نواهيه.
السادسة:إمكان الجمع بين إظهارهم هذا و بين تقيّتهم من الأعداء:
إنّهم عليهم السّلام لا يخافون في اللّه لومة لائم،و تكون تقيّتهم إطاعة؛لأنّه تعالى أمرهم بها في قوله سبحانه: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً (1).
«و عباده المكرمين الّذين لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون،
و رحمة اللّه و بركاته»
و فيه ستّ نكات:
الأولى:الفرق بين العبد و العابد:
تعبير الإمام عليه السّلام هنا بالعباد يكون لإرادته عليه السّلام معنى العبد لا العابد،لأنّ بينهما فارقا،و هو أنّ العابد من يعبد اللّه بأعماله و أخلاقه و عقائده خالصا له تعالى،لتحصل له الجنّة أو النجاة من النار،و لكنّ العبد من لم يكن له إنّيّة أو إرادة في جميع شؤونه و أفعاله سوى مولاه و مرضاته كما
ص:187
جاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه السّلام:«العبوديّة جوهرة كنهها الرّبوبيّة» (1).
فالحاصل أنّ معنى العبد هو ما قدّمناه،و لكنّ العابد هو من يعمل أعمال العبد و إن لم يكن حقيقة عبدا،و بتوضيح آخر أنّ العبوديّة متقوّمة بالعبد و المولى،لكنّ العبادة متقوّمة بالعابد و المعبود و ما قصده العابد من عبادته.و الضمير الغائب المستعمل في هذه الفقرة مشير إلى مولويّته سبحانه،فلو عبّر الإمام عليه السّلام هنا بالعبّاد أو العابدين دون العباد،لم يكن لهم عليهم السّلام كمال هامّ،لأنّ العبادة تقع قبال المعصية العمليّة،و لكنّ العبوديّة واقعة قبال الشرك باللّه الناشئ من استقلال المشرك و إنّيّته تجاهه تعالى، و بتعبير آخر يجمع الشرك الخفيّ مع العبادة،فالعابد يمكن فيه أدنى درجة من الشرك فيه و لا يجمع الشرك مع العبوديّة من أصله،فمنشأ العبوديّة هو استغراق العبد في مولاه،و نفي وجوده عنده.
الثانية:بيان ثمرة القول بعبوديّتهم عليهم السّلام:
ثمرة ذلك هو الامتناع عن الغلوّ فيهم،الذي هو كفر بوحدانيّته تعالى و إشراك به سبحانه،فالغالون في حقّ آل البيت عليهم السّلام و النصارى في حقّ المسيح عليه السّلام قد أشركوا لما اعتقدوا فيهم(آل البيت عليهم السّلام و المسيح)من الألوهيّة،و لو في بعض شؤون اللّه المختصّة به سبحانه.و هذا باطل بالعقل و النقل؛أمّا العقل فلاستحالة صفات الربّ في العبد الفقير المحتاج
ص:188
إلى ربّه،و امتناع صيرورة الممكن واجبا،و أمّا النقل فلقوله سبحانه: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلّهِ وَ لاَ الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ (1).
الثالثة:نقول في بيان إضافة العباد إلى ضمير مرجعه الربّ سبحانه، الإضافة على قسمين:حقيقيّة،و تشريفيّة.
فالحقيقيّة هي التي لا يكون المضاف موجودا بدون مضاف إليه كإضافة المعلول إلى علّته،و التشريفيّة هي التي لا دخل لمضاف إليه في وجود المضاف،و إنّما ينتسب إليه المضاف باعتبار شرف له عند مضاف إليه،فإضافة العباد هنا إليه سبحانه إضافة تشريفيّة(و إن كان مضافا إليه بالاعتبار الأوّل أيضا،و هو معلوليّتهم له تعالى)،فانظر إلى الإنسان العجيب و ما يحدث له من الغرائب،كيف يصير من العدم إلى الوجود و من أخسّ الأشياء(كالتراب و النطفة)إلى أعلى المراتب التي لا يتصوّر لها فائق،و هي الانتساب إلى الواجب تعالى أي الكمال المحض و محض الكمال،كما قال سبحانه: يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (2)،و فَادْخُلِي فِي عِبادِي (3)و هي الرتبة التي لا يبلغ إليها ملك مقرّب.و في مثل هذا المقام قال الإمام عليّ عليه السّلام:«إلهي كفى بي عزّا أن أكون لك عبدا،و كفى بي فخرا أن تكون لي
ص:189
ربّا» (1).
الرابعة:هذه الفقرة الشريفة مقتبسة من الآية المباركة: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (2)،و مبيّنة لثلاث فضائل (3)لهم عليهم السّلام.
و الآية ردّ على القائلين بأنّ الملائكة بنات اللّه،لكونهم عباد اللّه،فلو قيل:
إذا ما هو الامتياز لآل البيت عليهم السّلام على الملائكة إذا كانوا معهم في رتبة واحدة؟نجيب عنه:أوّلا:أنّ الملائكة لم يبلغوا إلى مقام العبوديّة و الإكرام إلاّ بالاستفاضة من آل البيت عليهم السّلام،فتثبت فضيلة آل البيت عليهم السّلام على الملائكة،كما قال الإمام الباقر عليه السّلام:«بنا عبد اللّه،و بنا عرف اللّه» (4)،بمعنى أنّ أيّ عبادة تصدر عن أيّ عابد إنّما تكون بسبب آل البيت عليهم السّلام.ثانيا:قد تقدّم في شرح«و مختلف الملائكة»القول المختار عندنا أنّ آل البيت عليهم السّلام هم الملائكة المتعلّقة بالأبدان العنصريّة،و لم تتأثّر نفوسهم الشريفة بالكدورات الطبيعيّة من المادّة أو الواهمة،بل كانت باقية شفّافة صافية أشدّ صفاء من ذات الملك(فاطلب تفصيله في محلّه).
الخامسة:يمكن أن يقال بأنّ جميع فضائل آل البيت عليهم السّلام-ممّا مضى
ص:190
و ما سيأتي-ناشئة من إكرامه تعالى لهم،و ذلك لجهتين:
الأولى:قد كان في علمه تعالى أنّهم لا يسبقونه بالقول إذا وجدوا، و الثانية:أنّهم سيعملون بأمره آن ذاك،و هو تعالى عالم بكمال قابليّتهم لأكمل الإكرامات و الإفاضات.
السادسة:أنّ للآية المباركة: لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ معنيين:
ألف)كون هذه الجملة من الآية تفسيرا لإكرامه تعالى بأنّ خلقهم اللّه هكذا في عدم سبقتهم له بالقول و كونهم ممتثلين لأوامره.
ب)إكرامه تعالى لهم شيء آخر و سبب في ذلك الإكرام،و هو هاتان الصفتان:أي عدم السبق في القول،و امتثال الأمر،فعلى التفسير الثاني يكون إكرامه لهم أمرا تحصيليّا و كمالا فعليّا،و على التفسير الأوّل يكون الإكرام حصوليّا و كمالا نفسانيّا لهم،و بتحليل آخر أنّ كونهم مكرما كمال نفسانيّ بنفسه،لكلّ واحد من عدم السبقة في القول و الامتثال كمال فعليّ خارجيّ لهم.
إنّ صلة هذا الفصل(من الزيارة)بالفصل السابق كصلة أغراض و نتائج بمقدّماتها،فيكون هذا الفصل مستجمعا للأغراض و الغايات المترتّبتين على وصاية الرسول.إذا قد راعى الإمام عليه السّلام الترتيب بين الفصول(كما هو حقّه)كرعايته عليه السّلام له بين الفقرات كما يلي:
ص:191
فمن غايات الرسالة للرسول أن يكون الوصيّ داعيا إلى اللّه كموصيه، و لا يكون داعيا إلاّ بالدلالة،و لا يكون داعيا دالاّ إلاّ باستقرار نفسه في أمر اللّه (1)،و لا يكون مستقرّا في أمر اللّه إلاّ بكونه تامّا في محبّة اللّه،و هكذا لا يكون تامّا في المحبّة إلاّ بإخلاص العقيدة في التوحيد،و يلزم ذلك إظهاره لأمر اللّه و نهيه،و يتفرّع على ذلك كلّه أن يكون عبدا مكرما للّه.
«السّلام على الأئمّة الدّعاة»
و فيه ستّ نكات:
الأولى:كانت الإضافة في هذه الفقرة و شبيهتها«أئمّة الهدى»إضافة الموصوف إلى الصفة؛لأنّ الأئمّة في كليهما موصوف أضيف إلى صفته و هي:الهداة و الدعاة،و الصفتان المذكورتان تكونان أمرين خارجيّين (2).
الثانية:يمكن أن يكون قيد الدعاة للأئمّة قيدا توضيحيّا و يمكن كونه احترازيّا،لأنّه إن قلنا بانفكاك الدعوة عن حقيقة الإمامة يكون الإمام على قسمين:داعيا و غير داع،فيكون القيد إذا احترازيّا لأنّ الإمامة إنّما تتقوّم بوجود المأموم و بدونه لا تتحقّق مع كون الموصوف بها مستجمعا لشرائطها،يكون شخص المنظور إذا إماما غير داع،و إلاّ مع القول بجزئيّة
ص:192
الدعوة لحقيقة الإمامة بحيث لا تقبل الانفكاك عنها يكون الداعي قيدا توضيحيّا،إذا يكون الدعاة و الهدى قيدين توضيحيّين،و مرجعهما واحد.
الثالثة:قد يكون متعلّق الدعوة في الإمامة هو اللّه تعالى و قد يكون غيره،و هكذا متعلّق الهدى في(أئمّة الهدى)،فالشاهد على الثاني هو قوله سبحانه: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النّارِ (1)،و كذا قول الرسول برواية الإمام عليّ عنه عليهما السّلام:قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله في وصيّته:«يا عليّ، أربعة من قواصم الظّهر:إمام يعصي اللّه عزّ و جلّ و يطاع أمره...» (2)،ترى إطلاق النبيّ صلّى اللّه عليه و اله لفظ الإمام على شخص مطاع و هو يدعو إلى غير اللّه.
الرابعة:ينبغي هنا الإجابة على إشكال،و الإشكال يطرح قبل الجواب بعدّة مقدّمات:
إحداها:أنّ عدد الأئمّة على قول الحقّ لا يزيد على اثني عشر.
ثانيتها:أنّ لكلّ إنسان عمرا طبيعيّا.
ثالثتها:أنّ مدّة التكليف أطول من العمر الطبيعيّ لمجموع الأئمّة الاثني عشر.
رابعتها:لم يمت حتّى واحد من الأئمّة بأجل طبيعيّ،بل قتلوا جميعا إمّا بالسمّ و إمّا بالسيف.
ص:193
خامستها:لزوم كون الإمام إلى آخر زمان التكليف.
سادستها:أنّ قاتليهم قد أقدموا على قتلهم اختيارا،و كان يمكن لهم عدم قتلهم،فلو لم يختاروا قتلهم كيف يجمع وجود الإمام بهذا العدد مع قصر أعمارهم بالنسبة إلى طول زمان التكليف؟
نجيب عنه:أوّلا:يمكن أن يكون العمر الطبيعيّ بتقدير اللّه أكثر ممّا نعرفه،و يمكن أيضا أن يكون زمان التكليف عدلا لأعمارهم الطبيعيّة في علم اللّه،فلا يقلّ عمر الإمامة عن زمان التكليف بعد النبيّ.و ثانيا:تقسيم اللّه تعالى جميع زمان التكليف على السويّة بين هؤلاء الأشراف عليهم السّلام بحيث لا يبقى زمان قصير من غير إمام منير.و ثالثا:إماتته تعالى كلاّ منهم في عمره الطبيعيّ و مدّه سبحانه عمر خاتمهم إلى آخر زمان التكليف.
الخامسة:الفرق بين القيادة و الإمامة:
قد تقدّم في ما سبق معنى الإمامة،و هي:رئاسة عامّة إلهيّة في امور الدين و الدنيا نيابة عن النبيّ؛و يمكن أن تكون هذه الرئاسة بالتعليم و التبليغ و استخدام العمّال من غير قيادة عمليّة من قبل الإمام على الأمّة، فتكون النسبة بينهما العموم و الخصوص مطلقا،فالإمامة تكون عامّا و القيادة خاصّا،فالحاصل عدم إمكان تخلّف المنقاد عن القائد و إمكان ذلك عن الإمام الغير قائد،فلا يرد إشكال في إمامة الإمام و في جعل اللّه إيّاه إماما بتخلّف المأموم عنه،كما لم يرد الإشكال في نبوّة الأنبياء و في
ص:194
بعثه سبحانه إيّاهم إلى الناس بعدم قبول الناس دعوتهم.
السادسة:تتقوّم الدعوة بعدّة أمور:
1)الداعي،و هم آل البيت عليهم السّلام أنفسهم.
2)المدعوّ،و هم جميع المكلّفين من الجنّ و الإنس،و إذا حسبنا الملائكة أيضا من المدعوّين فهو على مقتضى شأن الولاية لآل البيت عليهم السّلام؛ لأنّ إمامتهم متعلّقة بمن تتعلّق به الشريعة و هو يستلزم المادّيّة و تحوّل الشرائط،و الملائكة عليهم السّلام ليسوا كذلك،أي لا يكونون مادّيّين و لا محكومين بأحكام الشرائط المتحوّلة،فلا يحكم عليهم بالشرائع،فالحاصل أنّ الملائكة مدعوّون بدعوتهم الناشئة عن ولايتهم كما قد تعلّموا التسبيح و التهليل عنهم عليهم السّلام على ما جاءت به الأخبار المتعلّقة به.
3)المدعوّ إليه،و هو غرض نسبيّ لدعوتهم،توضيحه أنّ جميع ما يدعو إليه النبيّون من امّهات المسائل،و هو:معرفة المبدأ(اللّه سبحانه)، و المسير(النبوّة و ملحقاتها)،و السير(العمل و الأخلاق)،و المقصد (المعاد و فروعه)،و هي الحقيقيّات (1).
4)المدعوّ فيه،و المراد منه الزمان و المكان،و هو:جميع الأزمنة بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و اله إلى آخر زمان التكليف،و الأمكنة جميع البقاع المسكونة للمكلّفين.
ص:195
5)المدعوّ عليه،و هو مبنى دعوتهم و أساسها،أي البصيرة(و المراد منها العصمة)كما قال سبحانه: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي (1)،فالبصيرة كما كانت أساس دعوة النبيّ،كذلك تكون أساسا لدعوتهم عليهم السّلام.
6)المدعوّ له،و هو غرض نهائيّ للدعوة،و المقصود من هذا الغرض هو عبادة اللّه الخالصة،كما قال سبحانه: وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (2).
7)المدعوّ به،و هو سبب الدعوة،أي:الكتاب و السّنة،فلا يدعو إمام بسبب غيرهما؛لأنّ الإمامة فرع النبوّة،و الإمام تابع للنبيّ في جميع هذه الموارد السبعة.
«و القادة الهداة،و السّادة الولاة»
و فيه خمس نكات:
الأولى:هنا يذكر الزائر أربعة من كمالاتهم الخارجيّة،و هي:القيادة، و الهداية،و السيادة،و الولاية.و قد تقدّم البحث في الهداية لدى شرح «و أئمّة الهدى»(في الفصل السادس عشر)كما سبق البحث في القيادة
ص:196
أيضا في الفصل التاسع في«و قادة الأمم».فالحاصل أنّ آل البيت عليهم السّلام قادة صالحون للأمّة لاستجماعهم الشرائط المذكورة،على معنى أنّهم عليهم السّلام صالحون لأن يقودوا الأمّة الإسلاميّة للغلبة على الأعداء جنّا و إنسا في الجهات الاعتقاديّة و العمليّة و الأخلاقيّة،بالتقيّة أو التصريح،و الموعظة أو البرهان.
الثانية:الهداية فرع القيادة و نتيجتها،هذا إذا فسّرت الهداية بالإيصال إلى المطلوب؛و لكن إذا كان المراد منها إراءة الطريق فلا،و لكنّ الأقوى في النظر هو كون المراد من الهداية هنا هو الإيصال،و لا يلزم للهادي أن يصاحب المهتدي في المسير،إن فسّرت الهداية بالإراءة،و يلزم ذلك للقائد أن يذهب أمام التابع.فالحاصل أنّ الهداية عبارة عن إراءة الطريق ليذهب الطارق بنفسه و يصل إلى غايته،و لكنّ القيادة هي جذب القائد بنفسه،التابع إلى مقصده.
الثالثة:معنى السيادة:أنّ نظام العالم هو نظام طوليّ،بمعنى أنّ المخلوقات يترتّب بعضها على بعض كترتّب الفرع على أصله،إذا توجد المتبوعيّة و التابعيّة،فيكون كلّ متبوع سيّدا بالنسبة إلى التابع،و التابع يكون مسودا لسيّده و يكون سيّدا لما يتبعه (1)،شاعرين كانا-كسيادة النبيّ على ولد آدم،كما قال:«أنا سيّد ولد آدم و لا فخر» (2)،و كسيادة ابن زكريّا
ص:197
على بني إسرائيل كقوله سبحانه: وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ (1)- أو غير شاعرين،و إلاّ لم يكن موجود على طريق الكمال أو حصل له الكمال بطفرة،أي بغير ترتيب أو نظم،كصيرورة النطفة إنسانا مرّة واحدة قبل أن تكون علقة و العلقة مضغة و غيرهما من المراتب،فالطفرة محال كما قالت به الحكماء،و العقل السليم يؤيّده أيضا،أي يرى العقل ارتقاء الموجود بلا ترتيب محالا.فالحاصل أنّ استكمال الموجودات يكون في مسير الترتيب،فتوجد المتبوعيّة و التابعيّة و السيادة نتيجة؛فالحاصل أنّ هذه السيادة العامّة الجارية في جميع ما سوى اللّه و تكون من شؤونه سبحانه،فكون آل البيت عليهم السّلام سادة الولاة ظهور و تجلّ من السيادة الإلهيّة، و هكذا تكون السيادة في كلّ سيّد على قدر قابليّته و وعائه الذاتيّ.
الرابعة:«الولاة»جمع«والي»،كقضاة جمع قاضي.إنّ إضافة السادة إلى الولاة يمكن أن تكون لاميّة(و بيانيّة)،فعلى الأولى يكون معنى الفقرة أنّكم سادة لجميع ولاة الأمور في العالم،بمعنى أنّ جميع الولاة يكونون تحت سيادتكم(سيادتكم العامّة على جميع الولاة)،كما أنّ كلاّ من العبد و القاضي و النائب وليّ تحت سيادتكم،و على الأخرى يكون معناها أنّكم سادة،و تختصّ بكم الولاية و الحكومة،و على هذا تكون«الولاة» صفة لهم،و هذا الكمال(سيادتهم على الولاة)كمال ذاتيّ لهم،و ينبغي
ص:198
ذكر أنّ إضافتين في سادة الولاة باينهما في قادة الهداة.
الخامسة:الفرق بين الوالي و الوليّ:
إنّ والي(مفرد ولاة)كما ترى اسم فاعل و هو يقبل الانتزاع عن فاعله، و لكنّ الوليّ(مفرد أولياء)صفة مشبّهة غير قابلة للانتزاع(و هذا تناقض بعينه).بعبارة اخرى:ننظر إلى كونهم ولاة و أولياء من جهتين:مرّة إلى مجعوليّة ولايتهم من قبله سبحانه،فبهذا المعنى ولايتهم عليهم السّلام تقبل الانتزاع، و اخرى إلى أنّ ولايتهم و إن كانت مجعولة من اللّه و لكنّ المجعوليّة غير مقصودة،بل ننظر إلى كون الولاية ذاتيّة لهم،إذا لا تقبل الانتزاع،فإطلاق الولاة أو الوالي عليهم صحيح باعتبار الأوّل،كما يصحّ إطلاق الوليّ أو الأولياء بالاعتبار الثاني.
«و الذّادة الحماة»
و فيه ثماني نكات:
الأولى:ما أحسن الترتيب بين العبارات و الفقرات في هذه الزيارة الشريفة لذكر الأصول أي الكمالات النفسانيّة غالبا في الفصول المتقدّمة و في الفصول الأخيرة،ذكرت الفروع،أي الكمالات الفعليّة أو الخارجيّة المتفرّعة على النفسانيّات،و منها هذه الفقرة.
الثانية:كان«الذادة»في الأصل«ذودة»فقلبت واوها ألفا،و هي جمع
ص:199
«ذائد»(أصله ذاود)،فمعنى الذّود هو الدفع و المنع.و ما ينبغي ذكره هنا أنّ كلاّ من القيادة أو الدفع أو المنع إنّما يكون في ما إذا كان هجوم في البين و قتال من قبل العدوّ،و إلاّ فلا مورد لأيّ من القيادة و صاحبتيها.
و هو يخرج على امور:
1)المهاجم كان موجودا عينيّا:
2)أو شأنيّا.3)أو ذاتيّا.4)أو وصفيّا.
الثالثة:في بيان كلّ من هذه الأنواع:
الف)الدفع العلميّ،و هو في ثلاثة موارد:
1)في باب التوحيد؛و هو مثل ما علّمه الإمام الصادق عليه السّلام للمفضّل الذي جمع الدروس و ألّفها في كتاب قيّم (1).
2)في الإمامة؛و هو ما روي عن الأئمّة كثيرا،و لا سيّما الاحتجاجات و المناظرات التي وقعت ما بين الإمام الرضا عليه السّلام و المأمون.
3)في الشرعيّات،و أكثر المباحث في هذا المقام فيما روي عن الصادقين عليهما السّلام كي يصان فقه الشيعة عن الاختلاط بالبدع المضلّة من الأجانب،فيلزم هنا التتبّع التامّ لحصول الخبرة في جميع ما ذكر.
ص:200
ب)دفعهم عليهم السّلام باب السياسة؛و هو كمصالحة مولانا المجتبى عليه السّلام مع معاوية،و نهضة أخيه المفدّى عليه السّلام في حكومة يزيد(عليه اللعنة).
ج)المنع في باب الأخلاق المتعلّقة بعواطف الناس و الروابط بينهم، و هذا يوجد في تعاليمهم الأخلاقيّة؛لئلاّ تختلط الأخلاقيّة الموهونة بالأخلاق الدينيّة للمسلمين.
د)المنع في باب الفتن و البلايا،كالفقر و المرض و غيرهما للشيعة.
الرابعة:سبب دفعهم:كان دأب هؤلاء الأشراف عليهم السّلام في باب أيّ هجوم من أيّ عدوّ هو استعمال السبب المناسب،كما ورد كثير من أدعيتهم عليهم السّلام في دفع البليّات و الفتن،و إليك نموذج منها:
عن بشّار المكاريّ أنّه قال:«دخلت على أبي عبد اللّه عليه السّلام بالكوفة و قد قدّم له طبق رطب طبرزد و هو يأكل،فقال لي:يا بشّار ادن فكل،فقلت:هنّاك اللّه و جعلني فداك،قد أخذتني الغيرة من شيء رأيته في طريقي أوجع قلبي و بلغ منّي،فقال لي:بحقّي لمّا دنوت فأكلت.قال:فدنوت و أكلت،فقال لي:حديثك، فقلت:رأيت جلوازا يضرب رأس امرأة يسوقها إلى الحبس و هي تنادي بأعلى صوتها:المستغاث باللّه و رسوله!و لا يغيثها أحد،قال:و لم فعل بها ذاك؟قال:
سمعت النّاس يقولون:إنّها عثرت فقالت:لعن اللّه ظالميك يا فاطمة،فارتكب منها ما ارتكب.قال:فقطع الأكل و لم يزل يبكي حتّى ابتلّ منديله و لحيته و صدره بالدّموع،ثمّ قال:يا بشّار،قم بنا إلى مسجد السّهلة فندعو اللّه و نسأله خلاص هذه المرأة.قال:و وجّه بعض الشّيعة إلى باب السّلطان،و تقدّم إليه بأن لا يبرح
ص:201
إلى أن يأتيه رسوله،فإن حدث بالمرأة حدث صار إلينا حيث كنّا.قال:فصرنا إلى مسجد السّهلة و صلّى كلّ واحد منّا ركعتين،ثمّ رفع الصّادق عليه السّلام يده إلى السّماء و قال:أنت اللّه لا إله إلاّ أنت مبدئ الخلق و معيدهم.(الدّعاء مذكور في كتب الأدعية و المزار)قال:ثمّ خرّ ساجدا لا أسمع منه إلاّ النّفس،ثمّ رفع رأسه فقال:قم،قد أطلقت المرأة.قال:فخرجنا جميعا،فبينما نحن في بعض الطّريق إذ لحق بنا الرّجل الّذي وجّهنا إلى باب السّلطان فقال له:ما الخبر؟قال:لقد أطلق عنها.قال:كيف كان إخراجها؟قال:لا أدري،و لكنّني كنت واقفا على باب السّلطان إذ خرج حاجب فدعاها فقال لها:ما الّذي تكلّمت به؟قالت عثرت فقلت:لعن اللّه ظالميك يا فاطمة،ففعل بي ما فعل،قال:فأخرج مائتي درهم و قال:خذي هذه و اجعلي الأمير في حلّ.فأبت أن تأخذها،فلمّا رأى ذلك منها دخل و أعلم صاحبه بذلك،ثمّ خرج فقال:انصرفي إلى بيتك.فذهبت إلى منزلها» (1).
الخامسة:كيفيّة منعهم عليهم السّلام على قسمين:إمّا بالتسبيب كتعليم صلاة جعفر الطيّار(عليه الرضوان)،أو بالمباشرة،أي أنّهم بأنفسهم يباشرون الدعاء و التضرّع إلى اللّه،كما أشير إليه آنفا.
السادسة:تظهر عموميّة دفعهم حتّى عن غير شيعتهم للمتتبّع في تاريخ حياتهم الطيّبة،أنّهم عليهم السّلام قد يدفعون البلايا عن غير شيعتهم،كما يشهد
ص:202
عليه ما روي عن معلّى بن خنيس قال:«خرج أبو عبد اللّه عليه السّلام في ليلة قد رشّت (1)و هو يريد ظلّة بني ساعدة،فاتّبعته فإذا هو قد سقط منه شيء،فقال:بسم اللّه،اللّهمّ ردّ علينا.قال:فأتيته فسلّمت عليه،قال:فقال:معلّى؟قلت:نعم جعلت فداك،فقال لي:التمس بيدك،فما وجدت من شيء فادفعه إليّ.فإذا أنا بخبز منتشر كثير،فجعلت أدفع إليه ما وجدت،فإذا أنا بجراب أعجز عن حمله من خبز،فقلت:جعلت فداك أحمله على رأسي؟فقال:لا،أنا أولى به منك،و لكن امض معي.قال:فأتينا ظلّة بني ساعدة فإذا نحن بقوم نيام،فجعل يدسّ الرّغيف و الرّغيفين حتّى أتى على آخرهم،ثمّ انصرفنا،فقلت:جعلت فداك،يعرف هؤلاء الحقّ؟فقال:لو عرفوه لواسيناهم بالدّقّة(و الدّقّة هي الملح)..» (2).
لا شكّ في أنّ الفقر عدوّ قويّ للإنسان،فعلى هذا كانوا عليهم السّلام يدفعونه حتّى عن غير شيعتهم من العدوّ،كما نقل في قصّة المتوكّل المتقدّمة.
فلو سئل عن سبب دفعهم البليّة عن الأعداء كما أنّ عليّا عليه السّلام كان يغيث الخلفاء من قبله و يدفع عنهم البلوى في إجاباته لهم عن المعضلات و غيرهما،حتّى قال الثاني منهم كرّات و مرّات:«لو لا عليّ لهلك عمر» (3)،و لو فوّض الأمر إلينا لتركنا الدفع عنهم،و لكن نجيب عنه بجوابين:
1)أنّ حكمتهم في مصالح الفرد و المجتمع في الأمور الدنيويّة
ص:203
و الأخرويّة بالغة مبتنية على عصمتهم الكبرى و علمهم الواسع،و لعل من ثمراته تأليف القلوب و حفظ المصالح المهمّة للأمّة.
2)أنّهم عليهم السّلام مظاهر صفات اللّه الجلاليّة و الجماليّة،و منها الرحمة الرحمانيّة التي وسعت كلّ شيء،فهذه الرحمة الواسعة تتجلّى فيهم عليهم السّلام كسائر أخواتها من الصفات،فهذا التجلّي لا يقتضي غير ذلك الدفع العامّ،كما في دعاء شهر رجب«يا من يعطي من لم يسأله و من لم يعرفه تحنّنا منه و رحمة» (1).
السابعة:دفعهم في الآخرة عن شيعتهم خاصّة يكون بالشفاعة التي لا تليق لغير المؤمن بهم،و يطردون الخير عن أعدائهم،ليكون الشرّ للأعداء و الخير للأولياء خالصا محضا،كمنعهم الأعداء من الكوثر،لأنّ الرحمة الشاملة في الآخرة هي الرحمة الرحيميّة المختصّة بالمؤمنين كما قال سبحانه: وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (2).
الثامنة:أنّ«الحماة»جمع«حامي»،كرماة جمع«رامي»؛بيانه أنّهم عليهم السّلام عند هجوم الأعداء على الأولياء كانوا ذادة،و في سوق أوليائهم إلى الأعداء مضافا إلى قيادتهم كانوا حماة،و هذا كمال فعليّ خارجيّ
ص:204
لهم عليهم السّلام (1).
«و أهل الذّكر»
و فيه خمس نكات:
الأولى:قد تقدّم معنى الأهل في الفصل الأوّل فلا حاجة إلى تكراره، و لكنّ الجدير بالذكر أنّ هذه الفقرة مأخوذة من القرآن،حيث قال سبحانه:
فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (2)،المراد في الآية من«أهل الذكر» هم العلماء من أهل الكتاب،أي اليهود و النصارى،و في تأويلها هم الأئمّة عليهم السّلام كما ورد كثير من الأخبار في المقام،منها ما في(البصائر)عن
ص:205
الباقر عليه السّلام:«الذّكر القرآن،و نحن أهله» (1).و الحاصل أنّ بعض الكمالات لآل البيت عليهم السّلام مصرّح بها في القرآن،كما في أنّهم موضع الرسالة و أهل الذكر و غيرهما،و بعضها ملوّح به و العلم به،يحصل لمن يحصل بتوفيق اللّه و منّه،و لو لم يحصل هذا العلم لنا،فإنّا مؤمنون بأنّ كلام الإمام هو كلام اللّه في كتابه الناطق،و هو العدل لكتابه الصامت،و بتعبير آخر:
الطائفة الأولى من الكمالات مأخوذة من الثقل الأكبر،و الثانية من الثقل الأصغر،و الثقلان متوافيان و لا يتفارقان،و يتفرّع على هذا أنّ وصفهم بما جاء في القرآن أو في كلامهم واحد؛لأنّ كليهما كتاب اللّه،و كلّ كلام من أيّ واحد منهما يكون كلام اللّه،لأنّ القرآن كتاب مبين كما قال سبحانه:
وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (2)،و كلّ واحد منهم عليهم السّلام إمام مبين،كما قال سبحانه: وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (3).
الثانية:يقع التحقيق في الذّكر من جهتين:
ألف)ما هو معنى الذكر؟الذكر ما يقابل الغفلة أو السهو،و هو حقيقة حاصلة في قلب الذاكر للمذكور بزوال سهوه أو زوال غفلته عن المذكور، قال سبحانه: وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ
ص:206
اَلظّالِمِينَ (1).
ب)أسباب الذكر:إن اطلق الذكر في الآيات و الأخبار على حقائق كالقرآن (2)و النبيّ محمّد صلّى اللّه عليه و اله (3)و الصلاة (4)،فلا منافاة بين هذه الإطلاقات و المعنى الكلّيّ للذكر؛لأنّ في جميع هذه الإطلاقات ذكر السبب و اريد المسبّب،فالنبيّ صلّى اللّه عليه و اله هو سبب الذكر لا نفسه،لأنّه صلّى اللّه عليه و اله يزيل الغفلة عن الغافلين فيحصل ذكر اللّه في قلوبهم كحصول الذكر و زوال الغفلة بسبب الصلاة،كما قال سبحانه: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اللّهِ أَكْبَرُ (5).
الثالثة:قد تقدّم آنفا أنّ إطلاق الذكر على كلّ من القرآن 6بل و سائر الكتب السماويّة و النبيّ صلّى اللّه عليه و اله و الصلاة اريد به المسبّب بذكر السبب، فالقرآن أو الكتب الماضية 7أو النبيّ أو الصلاة سبب لزوال الغفلة أو السهو،فيظهر ممّا ذكر علم آل البيت عليهم السّلام بجميع الكتب من القرآن و غيره لسقوط أهليّة الآخرين عن الذكر بعدم العلم بها.إذا هم عليهم السّلام عالمون بها
ص:207
جميعا كما يشهد عليه ما ورد عن الإمام عليّ عليه السّلام:«لو ثنيت لي الوسادة فجلست عليها لحكمت بين أهل التّوراة بتوراتهم،و بين أهل الإنجيل بإنجيلهم، و بين أهل الزّبور بزبورهم،و بين أهل القرآن بقرآنهم» (1).
الرابعة:في بيان المذكور،نقول:إنّ كلّ حقيقة في جنب الكمال المطلق حقير صغير،فلا ينبغي للعاقل المتفكّر و لذي الفطرة السليمة أن يذكر سواه،و ذلك واضح بأنّ لا كمال مطلقا غير الحقّ سبحانه،كما قال الإمام عليّ عليه السّلام في وصف المتّقين:«عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم» (2)،و قال أيضا:«عظم الخالق عندك يصغّر المخلوق في عينك» (3).و قد أمر القرآن بكثرة ذكر اللّه في كثير من آياته الشريفة و وصف الذاكرين و مدحهم و وعدهم،و ذمّ الغافلين عنه تعالى و المعرضين عن ذكره و أوعدهم،منها قوله تعالى: وَ اذْكُرُوا اللّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (4)، وَ اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ (5)، اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ (6)،حيث عدّهم من أولي الألباب.
الخامسة:في بواعث الذكر؛أنّ كلّ ذاكر لأيّ مذكور يرى في مذكوره ما
ص:208
لا يرى في غيره من الكمال أو غيره من الميزات،فذاكر اللّه يذكره سبحانه، لأنّه عارف به موقن بوجوده و صفاته من الجماليّة و محامد أفعاله،بحيث يعشقه و يشتاق إليه و لا يحبّ أن ينساه و لو لحظة واحدة،و لا يملّ بذكره،كما قيل:«الغفلة عن اللّه كفر،و الغفلة عن حقيقة ذات اللّه توحيد».
فتحصّل أنّ الباعث إلى ذكر اللّه هو كمالاته،بل كونه تعالى كمالا محضا، و يتفرّع على ذلك أنّ آل البيت عليهم السّلام هم أهل الذكر و الكاملون في هذا الشأن،بحيث لا يبلغ أحد في ذلك إليهم،فإطلاق أهل الذكر لا يناسب حقيقة إلاّ عليهم،لسعة علمهم بأسباب الذكر و كمال عرفانهم بالمذكور و كمالاته،و لكن ليس كلّ ذاكر يكون من أهل الذكر على حدّهم عليهم السّلام لضعف علمه بأسبابه و ضعف عرفانه بالمذكور و كماله،كما قال الإمام عليّ عليه السّلام:«أهل القرآن أهل اللّه و خاصّته» (1)،و جدير بالذكر أنّ هذه الفقرة مشيرة إلى واحد من كمالاتهم النفسانيّة.
«و أولي الأمر»
و فيه ستّ نكات:
الأولى:هذه الفقرة الشريفة متّخذة من صريح القرآن في كونهم عليهم السّلام أولي الأمر،كما قال سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ
ص:209
وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (1)،و هذه(الفقرة)مشيرة إلى كلّ كمال من كمالاتهم عليهم السّلام الذي سيتّضح لك و من أيّ نوع هو.
الثانية:لفظة«أولي»قريبة المعنى من«الصاحب»و«ذي»،و تختلف عن الصاحب بكونها مستعملة على قصد التشريف و التكريم غالبا،و لكنّ الصاحب ليس كذلك في الاستعمال،فبينهما عموم و خصوص،فيكون «الصاحب»،عامّا و«أولي»،خاصّا.و أمثليّتهم كالآتي:اولو الأبصار (2)،أولو الألباب (3)،أولو النعمة (4)،أولو العلم (5)،أولو القوّة (6)،أولو النّهى (7)،أولو الفضل و أولو القربى (8)؛ أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ 9.
الثالثة:نقل بالتواتر 10في شرح المجلسيّ الأوّل(للزيارة الجامعة)من أنّ المراد من أولي الأمر هم الأئمّة الاثنا عشر عليهم السّلام،منها:خبر جابر الجعفيّ
ص:210
قال:«سمعت جابر بن عبد اللّه يقول:لمّا أنزل اللّه عزّ و جلّ على نبيّه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ قلت:يا رسول اللّه، عرفنا اللّه و رسوله،فمن أولو الأمر الّذين قرن اللّه طاعتهم بطاعتك؟قال:هم خلفائي يا جابر و أئمّة المسلمين من بعدي،أوّلهم عليّ بن أبي طالب،ثمّ الحسن، ثمّ الحسين،ثمّ عليّ بن الحسين،ثمّ محمّد بن عليّ المعروف في التّوراة بالباقر، و ستدركه يا جابر،فإذا لقيته فاقرأه منّي السّلام،ثمّ الصّادق جعفر بن محمّد،ثمّ موسى بن جعفر،ثمّ عليّ بن موسى،ثمّ محمّد بن عليّ،ثمّ عليّ بن محمّد،ثمّ الحسن بن عليّ،ثمّ سميّي و كنيّي حجّة اللّه في أرضه و بقيّته في عباده،ابن الحسن ابن عليّ،ذاك الّذي يفتح اللّه على يديه مشارق الأرض و مغاربها،ذاك الّذي يغيب عن شيعته و أوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلاّ من امتحن اللّه قلبه للإيمان.قال:فقال جابر:يا رسول اللّه،فهل ينتفع الشّيعة به في غيبته؟فقال صلّى اللّه عليه و اله إي و الّذي بعثني بالنّبوّة،إنّهم لينتفعون به يستضيئون بنور ولايته في غيبته كانتفاع النّاس بالشّمس و إن جلّلها السّحاب.يا جابر،هذا مكنون سرّ اللّه و مخزون علم اللّه،فاكتمه إلاّ عن أهله» (1).
الرابعة:الاعتقاد بالشيء يستلزم الاعتقاد بلوازمه(و إلاّ لانتفت الملازمة بينه و بينها)،فلكونهم عليهم السّلام أولي الأمر لوازم،فبالاعتقاد بأنّهم اولو الأمر يعتقد المؤمن باللّوازم التالية.
أحدها:وجوب إطاعتهم؛لاستحالة كونهم أولي الأمر و عدم وجوب
ص:211
الإطاعة منهم.
ثانيها:أنّ وجوب طاعتهم طوليّ؛لوجوب طاعة اللّه و رسوله،لا عرضيّ؛لتفرّع الإمامة على الرسالة و تفرّعهما على الألوهيّة.
ثالثها:أنّ طاعتهم منجية ككون معصيتهم مهلكة،و إلاّ لم تتفرّع الإمامة على الرسالة.
رابعها:أنّهم عليهم السّلام معصومون و ما ضلّوا(في عقيدتهم)و ما غووا(في عملهم)،و لا ينطقون عن الهوى،كما كان الرسول صلّى اللّه عليه و اله،و إلاّ كانوا غير معصومين.
الخامسة:في بيان أمر الذي هم عليهم السّلام أولوه؛إنّ للأمر معنى كلّيّا و مفهوما واسعا،و لهذا الكلّيّ الواسع مصاديق ثلاثة،الأجلى و الجلّي،و الخفيّ..
فأجلاها هو عالم الأمر الذي يقابل عالم الخلق،كما قال سبحانه: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ (1)،قالت الحكماء:«إنّه عالم المجرّدات التي توجد بلا مادّة و لا مدّة و لا تدريج،كالعقول و الأرواح و الملائكة»،خلافا لعالم الخلق الذي يحكم عليه بالمادّة و المدّة و التدريج،المعبّر عنه بعالم الملك و الشهود،فالحاصل أنّ أجلى المصاديق من الأمر هو عالم المجرّدات، و آل البيت عليهم السّلام هم صاحبوه و الآمرون فيه.
و الجلّيّ من مصاديق الأمر،هو عالم الكون و الفساد،المعبّر عنه بعالم
ص:212
التكوين أو المادّة،فعلى هذا يقرّ الزائر بأنّهم قادرون على كلّ ما يشاؤون بإذن اللّه فيه من القبض و البسط و التصرّف،كصعود الأبخرة و نزول الأمطار و إنبات النبات و حركة الأرض و غير ذلك،و إليك ما نروي عن مولانا الباقر عليه السّلام:«كلّ شيء خلقه اللّه من طير أو بهيمة أو شيء فيه روح فهو أسمع لنا و أطوع من ابن آدم» (1).
فبهذا يثبت نفوذ ولايتهم التكوينيّة في عالم المادّة كلّها (2)،و الخفيّ من مصاديق الأمر هو أمر قبال النهي،فعلى هذا قد تجري أوامرهم و نواهيهم و تنفذ بطاعة الناس منهم و قد لا تجري.و هذا هو السرّ في خفاء هذا المصداق للأمر،لكون المأمورين بها مختارين،و الآمرين(آل البيت عليهم السّلام) كمستخلفهم ليسوا بمصيطرين،كما قال سبحانه: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (3).
السادسة:أنّ هذا الشأن لهم عليهم السّلام كمال نفسانيّ باعتبار الأوّلين لمصاديق الأمر،و كمال فعليّ بالاعتبار الثالث.
«و بقيّة اللّه و خيرته»
و فيه ثمان نكات:
ص:213
الأولى:هذان الوصفان في هذه الفقرة مأخوذان من الآيتين التاليتين:
الأولى: بَقِيَّتُ اللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)،و الثانية: وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ (2).و هذا الاتّخاذ و نحوه شاهد قويّ على الالتيام التامّ بين القرآن و بين ما صدر من الأئمّة الكرام،كما هو مفاد حديث الثقلين المتواتر من عدم وقوع المفارقة بينهما إلى يوم القيامة.
الثانية:في هذه الفقرة معطوف و معطوف عليه،فالمعطوف هو الصفة الثانية«و خيرته»،و المعطوف عليه هو«بقيّة اللّه»،و ليس عطف الثانية على الأولى عطفا لفظيّا فقط،بل هو عطف معنويّ أيضا،لأنّ الوصف الثاني(خيرة)يترتّب على الوصف الأوّل(بقيّة اللّه)،و الترتّب بينهما يمكن أن يكون ترتّب المعلول على علّته أو ترتّب المقتضى على مقتضيه، بمعنى أنّ كونهم عليهم السّلام«خيرة اللّه»معلول أو مقتضى لكونهم بقيّة اللّه.
الثالثة:إضافة البقيّة إلى لفظة«اللّه»هنا لاميّة لا بيانيّة،لأنّ البيانيّة لا تتمّ إلاّ ب«من»،إذا يكون آل البيت عليهم السّلام«بقيّة»،و يكون الحقّ تعالى مبقيّا منه، و قد يتصوّر في«المبقيّ منه»زوال(تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا)،و لكن إذا كانت الإضافة لاميّة يكون آل البيت عليهم السّلام بقيّة للّه،أي بقيّة مختصّة أو مملوكة(و نحو ذلك)له تعالى.
ص:214
الرابعة:يتصوّر كونهم بقيّة له تعالى على وجوه ثلاثة:
الأوّل:بمحو ذاتيّة البقاء أحد أوصافه سبحانه و لهذا سمّي بالباقي،قال الطوسيّ في«تجريد العقائد»-المسألة السابعة:في أنّه تعالى باق،توضيح الكلام أنّ صفاته تعالى الذاتيّة تنقسم على حقيقيّة ذات إضافة،كالقادر و العالم،و حقيقيّة محضة،و هي التي لا متعلّق لها سوى ذاته المقدّسة، بخلاف الأولى المتعلّقة بالمقدور و المعلوم و نحوهما،فالبقاء من النوع الثاني من الصفات.
فالحاصل أنّهم عليهم السّلام بقيّة اللّه بهذا المعنى في مقام المفهوم الذي هو مقام الاستدلال و الإثبات،و لكن لا يدرك كونهم بقيّة اللّه بهذا المعنى مصداقا،كما ورد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله:«لا تسبّوا عليّا فإنّه ممسوس (1)في ذات اللّه» (2)؛فبهذا المعنى يعلم إجمالا كونهم بقيّة اللّه،و لكن ينبغي أن يعلم أن ليس عندنا دليل على اختصاص هذا الشأن بالإمام عليّ عليه السّلام فقط،و أيضا ينبغي ذكر أنّا مسجونون في عدّة سجون:سجن الإمكان الذاتيّ،و سجن الطبيعة المادّيّة،و سجن الأوهام الباطلة،إذا لا يمكن لنا إدراك ما وراء السجون و حقيقة الحال في كون آل البيت عليهم السّلام بقيّة لبقائه الذاتيّ سبحانه.
ص:215
الثاني:كونهم بقيّة اللّه بمحو وصفيّ،و هو أنّ كلّ واحد منهم فان فيه تعالى،يستلزم ذلك كونهم في أعلى مرتبة البقاء به،أي ظهر بقاؤه تعالى فيهم بأقوى الظهورات للّه و أتمّ التجلّيّات فيهم،فبهذا الاعتبار و كذا بالاعتبار الأوّل يكون هذا الكمال كمالا ذاتيّا لهم،و لكن بالاعتبار الثالث كان من نوع الكمال الفعليّ لسببيّتهم في بقاء غيرهم من التكوين و التشريع.
الثالث:كونهم بقيّة اللّه بنحو فعليّ،و هو كونهم سببا(من قبله تعالى) لبقاء نظامي التكوين و التشريع،و سببيّتهم لبقاء التكوين هي ولايتهم التكوينيّة،و لبقاء التشريع إمامتهم و خلافتهم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله بلا واسطة و عن جميع الأنبياء و الرسل معها،كما يشهد عليه كلام مولانا الرضا عليه السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله:«لو خلت الأرض طرفة عين من حجّة لساخت بأهلها» (1).
الخامسة:الدليل على المراد،و يستدلّ على كونهم بقيّة اللّه بكونهم «وجه اللّه»و وجه اللّه لا يقبل الفناء،كما قال سبحانه: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ (2)، كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ* وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ (3)،
ص:216
و يشهد على كونهم وجه اللّه هو ما ورد عنهم عليهم السّلام:«نحن وجه اللّه»، (1)و إطلاق الوجه على الإمام المهديّ صاحب الزمان عليه السّلام:«أين وجه اللّه الّذي يتوجّه إليه الأولياء؟» (2)و أيضا قال النبيّ صلّى اللّه عليه و اله:«تنام عيناي و لا ينام قلبي» (3)،و أبين من ذلك قول الإمام عليّ عليه السّلام:«إنّه يموت من مات منّا و ليس بميّت» (4).
السادسة:لا يختصّ هذا الشأن ببعض آل البيت عليهم السّلام(المراد من البعض هو الإمام المهديّ صاحب الزمان عليه السّلام)،لأنّ الموجب يعمّ الجميع،و هو كونهم وجه اللّه،و لا دليل على التخصيص.
السابعة:يمكن أن يكون المراد منه(الخيرة)معنى مصدريّا أو وصفيّا أو تفضيليّا،فمن الأوّل قوله سبحانه: ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ (5)(الاختيار)،و من الثاني قوله سبحانه: أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ (6)(الخير و المختار)،و من
ص:217
الثالث قوله سبحانه: وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى (1).
فالحاصل إن قلنا خيرة على المعنى الأوّل،يكون المراد منه المبالغة ك«زيد عدل»،و إن قلنا على الثاني يكون كلّ واحد منهم الذي اختاره اللّه، و إن قلنا بالثالث فظاهر أنّهم خيرة الخلق و أفاضلهم حتّى على النبيّين و الملائكة المقرّبين،و لا استحالة في ذلك عقلا،بل و يشهد عليه كثير من الأخبار،فيجب الاعتقاد بأفضليّتهم عليهم السّلام على غيرهم.
الثامنة:تفسير كونهم عليهم السّلام خيرة (2):لا يخرج موجود عن حالين:
ألف)أن يكون مادّيّا من عالم الكون و الفساد،كالعنصر و الجماد و النبات و الحيوان و الإنسان(باعتبار هويّته الخارجيّة لا من حيث إنّه نوع من الحيوان أو ذو بعد مجرّد)،فكلّ ما كان من حيث الوجود و الكمال أضعف فهو إلى العدم أقرب،و وجوب الوجود و ثبوته فيه أضعف، و هكذا كلّ ما كان الوجود و الكمال فيه أشدّ و آكد كان إلى وجوب الوجود أقرب،(المراد من وجوب الوجود هنا هو الوجوب الغيريّ لا الذاتيّ الذي لا يمكن له أكثر من واحد و هو منحصر في اللّه تعالى)، فيكون العنصر من النوع الأوّل كلّ من البواقي بالقياس إلى الأكمل منه، يكون إلى العدم أقرب،فبالنسبة إلى أنقص منه،يكون إلى وجوب الوجود أقرب.و قس على هذا الأصل:الجماد الذي هو أكمل من العنصر في شدّة
ص:218
الحركة و الكمال،و النبات الذي أكمل من الجماد حركة و وجودا،و هكذا الحيوان بالنسبة إلى النبات مع كونه مدركا.فالإنسان الذي هو فوق هذه الأجناس المتقدّمة،الوجود فيه آكد و أشدّ (1)؛لأنّه للحركة و الإدراك أجمع من السوابق،فهو أقرب الأجناس إلى الوجود و أبعدها من العدم.
ب)أن يكون مجرّدا غير مادّيّ،و لا شكّ في كون المجرّدات (كالملائكة و العقول)خيرا بالنسبة إلى المادّيّات،لكون المادّيّ في معرض الكون و الفساد و التبدّل و الاضمحلال و الاندثار و الزوال و غير ذلك و المجرّدات مصونة عن جميعها،مضافا إلى أنّها دفعيّة الوجود مع الإثبات و الدوام،و لا حدّ سوى الإمكان الذاتيّ لحياتها،مضافا لعدم تزاحم أو تعارض بينما.
فالحاصل أنّ الملائكة و العقول تفوق على المادّيّات،لأنّ الوجوب فيهم أقوى و الإمكان فيهم أضعف،فبهذا التقرير يتبيّن خيريّة آل البيت عليهم السّلام بالنسبة إلى جميع ما سوى اللّه حتّى الملائكة،لكون الوجود و الوجوب الغيريّ فيهم آكد و أشدّ من الملك،و كونهم للكمالات أجمع؛ لكون الملك مستفيضا من الإنسان الكامل،لكمال علمه،كما قال سبحانه:
وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ
ص:219
كُنْتُمْ صادِقِينَ (1)،و أنت خبير بأنّ العلم أشرف الكمالات بل هو كمال وحيد بعد العقل يمتاز به المجرّد عن المادّيّ،كما قال سبحانه: وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (2).و يتبيّن أيضا ميزان تفاضل الكمّلين من الإنسان فيما بينهم،فكلّ من كان منهم أعلم يكون الخير و الأفضل بالنسبة إلى أدناه في العلم،فآل البيت عليهم السّلام أشرف من الأنبياء(سوى النبيّ الختميّ و أفضلهم)،كما كان علمهم عليهم السّلام أوسع منهم،كما تقدّم بعض الكلام في المقام (3)،و لعلّ مزيد بيان يأتي من بعد إن شاء اللّه.
«و حزبه»
و فيه ستّ نكات:
الأولى:معنى الحزب؛إنّ للفظة«حزب»مع ألفاظ أخرى كالطائفة
ص:220
و الجماعة و القوم تقاربا في المعنى،و لكنّ الفروق الدقيقة بينها مانعة من الترادف،فيكون لكلّ منها معنى خاصّ به غير مشارك مع نظائره،لا حاجة لنا إلى ذكر هذه الفروق،و لكن نحتاج إلى معنى الحزب و هو لفظ يستعمل في جماعة بينها و بين غيرها منافسة و مخاصمة،كقوله سبحانه:
كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (1)،أي لكلّ حزب مع أحزاب اخرى مفارحة، و كلّ واحد منها يفرح لنفسه بالنسبة إلى الآخرين.
الثانية:يظهر بالتأمّل في الآيات القرآنيّة انقسام الحزب إلى قسمين:
حزب اللّه،و حزب الشيطان،كما يظهر أيضا أنّ لكلّ منهما توابع، كالخسران يتلو حزب الشيطان: أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (2)، و الغلبة و الفلاح يتبعان حزب اللّه، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (3)، و وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (4).
فالحاصل أنّ الزائر مع إقراره بكون آل البيت عليهم السّلام حزب اللّه يعترف بتالييه،أي الفلاح و الغلبة،و بالتضمّن يعترف بأنّ كلّ حزب غير آل البيت عليهم السّلام يكون حزب الشيطان،و له الخذلان و الخسران،و لا يخفى عليك أنّ ما يفهم من لفظة حزب أيضا مضافا إلى المنافسة و المبارزة،
ص:221
احتمال وجود الآفة و الآهة،يكون استعمال المبارزة و الفلاح في غير موردهما،فتدبّر.
الثالثة:حزبيّة آل البيت عليهم السّلام مع خصمهم:إنّ للمخاصمة مع حزب اللّه (و هم آل البيت عليهم السّلام)منشأين (1):إمكانيّ و عدوانيّ.
ألف)المنشأ الإمكانيّ:إنّ كلّ معقول سوى الواجب الذاتيّ و الممتنع الذاتيّ ممكن،و بإمكانه لا يقتضي وجودا و لا عدما،فبحصول العلّة التامّة يوجد و بعدم حصولها لا يوجد،و لا شكّ في العلّة التامّة للباري سبحانه، و هو تعالى لا يفيض الوجود لأيّ ممكن إلاّ بتوسّط واسطة أو وسائط، فلو لا إرادة اللّه القاهرة و وساطة العترة الطاهرة لم يخرج عالم الإمكان من أسفل العدم إلى غرفة الوجود،فبهذا يتبيّن كون آل البيت عليهم السّلام حزبا غالبا مفلحا على خصمهم،و هو ليس ناشئا من الإمكان الذاتيّ للممكنات لتوجد،و عدم الثاني لها لتبقى و عدم الكمال فيها لتكمل،لأنّهم إطلاق وسائط الفيض وجودا و بقاء و كمالا.
ب)المنشأ العدوانيّ:يلزم لكونهم حزبا للّه غالبا مفلحا غلبتهم على جميع أعدائهم و غاصبي حقوقهم و منكري مناقبهم في كلّ عصر و مصر، لكون حزبيّتهم للّه محقّقة،و غلبة حزب اللّه مسلّمة.و لكن ليس هذه الغلبة جسدانيّة حتّى يشكل الأمر في قتال مولانا المفدّى الإمام الحسين عليه السّلام
ص:222
و غلبة يزيد(عليه لعنة اللّه).فالحاصل أنّ الحسين عليه السّلام خصوصا و سائر أهل البيت عموما غالبون على أعدائهم الملعونين من جهات شتّى،و هي:
ألف)بالحجّة و البرهان،و ذلك بيّن بالمقايسة بين مسلك كلّ منهما مع الآخر كما يشهد عقل كلّ حرّ و التاريخ في كلّ عصر من هو الغالب و من هو المغلوب.
ب)بالشأن و الشوكة:إنّ شخصيّة آل البيت عليهم السّلام كالشمس المضيئة، و شخصيّة أعدائهم كالسّحب المظلمة،و لا يشكّ في هذا من كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيد.
ج)في الهدف و المقصد:إنّ كثيرا من الأقوام و الأمم-كما يحكي القرآن الكريم-قد انقرضوا و هلكوا بالسيول و الزلازل و الصواعق و غيرها من المهلكات،و لكنّ مسلك الأنبياء و سالكيه باق حتّى الآن و سيبقى بعون اللّه المنّان إلى آخر الزمان،لكون الأنبياء حزب اللّه كما صار المسلك كاملا من حيث العلم و العقيدة بسبب خاتم الأنبياء و سيصير كاملا من حيث العمل بنصر اللّه العزيز بسبب خاتم الأوصياء(المهديّ روحي له الفداء)،و هذه غلبة في مقصد نسبيّ.
و أمّا غلبتهم في المقصد النهائيّ،و هو بلوغ المؤمنين إلى جنّة الرضوان،فستحصل في الآخرة إن شاء اللّه.و الحاصل أنّ هذه الغلبات تكون بالجملة(و للّه الحمد)لا في الجملة،لكمال الشرائع يوما بعد يوم،
ص:223
و ظهور الإسلام كنتيجة هادفة لجميع الكتب الماضية و الأنبياء الماضين، و بقاء الشيعة(و للّه المنّة)من بين المذاهب الباطلة الإسلاميّة مع شدّة محاربة أعدائهم لهم على مدى قرون طويلة.
الرابعة:أنّ للولاية المطلقة لآل البيت عليهم السّلام شأنين:
الأوّل:الشأن الجميل،كالمعجزات الصادرة عنهم،أو إخباراتهم عن المغيّب أو كشف بعض الأسرار لبعض أصحابهم من الأحرار في غير مقام الخصومة.
الثاني:الشأن الجليل مع المخاصمة،و هذا في مقام دفع الأعداء و مكائدهم و الغلبة عليهم.و الحاصل أنّ حزبيّتهم للّه تكون من شؤونهم الجليلة،و لا يخفى عليك أنّ ولايتهم التي تكون منشأ لهذين الشأنين ليست معارضة لولاية اللّه سبحانه (1)،و إلاّ تكون ولايتهم مستقلّة،و الاعتقاد باستقلال ولاية غير اللّه هو عين الغلوّ و الشرك(نعوذ باللّه من ذلك).
توضيح الكلام:ينظر إلى ولايتهم عليهم السّلام نظرتين:
الأولى:ينظر إلى وجود ولايتهم،فبهذه لا استقلال لها قبال ولاية اللّه.
الثانية:إلى هويّتها؛فبهذه النظرة تكون ولايتهم مستقلّة،هذا إذا اعتقدنا بولايتهم على مشرب أهل الكلام،و إلاّ تكون ولايتهم ظهور ولاية اللّه
ص:224
و تجلّيها فيهم و على أيديهم و ألسنتهم،كما قال سبحانه: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ رَمى (1)،و قال سبحانه: وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ (2).
الخامسة:في تعيين نوع هذا الكمال،إنّ لهذا الكمال اعتبارين:فهو (كمال الحزبيّة)باعتبار إظهارهم المعجزات و خوارق العادات،و إخبارهم عن المغيّبات،فيكون كمالا فعليّا،و باعتبار وساطتهم للإفاضات عن المبدأ الفيّاض يكون كمالا نفسانيّا.
السادسة:في بيان الصلة بين كونهم خيرة و بقيّة و حزبا له سبحانه؛ فنقول:إنّ دوام الحكومة ذاتيّة للّه،يستلزم بقاء آل البيت عليهم السّلام وسائطها المبقية؛فيكونون هم بقيّة،و لازم ذلك كونهم خيرة،لأنّ كلّ سلطان يخصّ المقرّبين له بشؤونه العالية في ملكه،و لا أخصّ له سبحانه من آل البيت عليهم السّلام فيكونون هم خيرة.و من لوازم الحكومة هذه وجود الأعداء المردة من الإمكان و غيره من الإنس و الجنّ،فيلزم ذلك إذا حزبا غالبا على اولئك الأعداء.
«و عيبة علمه»
و فيه أربع نكات:
ص:225
الأولى:«العيبة»ما تحفظ فيها أشياء نفيسة،كالصندوق،و تطلق على آل البيت عليهم السّلام مفردة باعتبارين:
الأوّل:بإرادة الجنس،و الثاني؛لكونهم حقيقة واحدة فيما سوى نشأة الملك و الشهود.
الثانية:في هذه الزيارة الشريفة وصف آل البيت عليهم السّلام بالعلم(و هو كمال نفسانيّ)في ثلاثة مواضع،بعبارات ثلاث:
1-«و خزّان العلم»و قد تقدّم شرح هذه الفقرة.
2-«و خزنة لعلمه»سيأتي بيانها إن شاء اللّه.
3-«و عيبة علمه».
و هذا حاك عن كمال الأهمّيّة لكمال العلم،فلو كان كمال أهمّ من العلم لذكر و تكرّر دونه،و لكن بين التعبيرات الثلاثة فرق.و المراد من التعبير بالخزنة أو الخزّان للعلم سعة نفوسهم الشريفة،و إحاطتهم الواسعة بها كخزانة السلطان لكلّ ما يخزن في بلاده،و لكن في التعبير بالعيبة إشارة إلى أنفس الأشياء(الحقائق البالغة في الأهمّيّة)و أقومها المحفوظة فيها.
الثالثة:في بيان فرق الإضافات الثلاث في العلم؛لعلّ المراد من إضافة الخزّان إلى العلم هو علومهم الإمكانيّة دون إضافة العيبة أو الخزنة،و لعلّ العلم الذي اضيفت إليه العيبة أو الخزنة هو العلم الوجوبيّ الذي هو أنفس من صاحبه؛لأنّ في إضافة الخزّان إليه إطلاقا،و في هذين اضيف العلم
ص:226
إلى العلم الذي اضيف إلى ذاته سبحانه،فالحاصل أنّ التفاوت بين الإضافات بتفاوت متعلّقات العلم.
الرابعة:يقع هنا سؤال،و هو:كيف يكون آل البيت عليهم السّلام خزنة أو خزّانا لعلمه تعالى مع أنّهم محدودون بالإمكان،و أنّ علمه سبحانه لا يحدّ لأنّه عين ذاته التي لا تحدّ،فيلزم إذا أحد المحالين:إمّا عدم تناهي أوعيتهم الذاتيّة حتّى تسع العلم الغير متناه،أو محدوديّة علمه سبحانه ليتناسب الظرف مع المظروف؟!نجيب عنه:أمّا على مبنى الكلام أو العرفان،فنقول:
أمّا الأوّل:فقد قسّم المتكلّمون علمه تعالى بحسب متعلّقه(متعلّق العلم)على:الذاتيّ(و هو العلم الوجوبيّ)،و الفعليّ.فالذاتيّ منهما ما يتعلّق بذاته المتعالية و صفاته الذاتيّة،لأنّه سبحانه عالم بذاته،و الفعليّ من العلمين ما يتعلّق بعالم الإمكان أجمع.و قد اشير إلى كلا العلمين في قوله: عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ (1)؛لأنّ ذاته المقدّسة و صفاته الذاتيّة هي غيب المطلق،و المراد من الشهادة هو معلوماته الإمكانيّة؛فالحاصل أنّ العلم الفعليّ يحدّ تعلّقه بمحدوديّة معلوماته الإمكانيّة العينيّة،فلا يرد الإشكال فيما إذا كان آل البيت عليهم السّلام خزنة أو خزّانا لهذا العلم.
و أمّا الثاني:و هو كما يقتضي العرفان،فنقول:إنّ سير الموحّدين إمّا سير إلى اللّه وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (2)،و إمّا سير في اللّه،فالأوّل للناقصين
ص:227
المستكملين(و هم غير المعصومين)و هو أن يكون السائر قصّر في تحصيل الكمال مع كون وعائه أوسع ممّا حصل له،فهذا رقيّ من النقص إلى الكمال.و الثاني هو السير في اللّه،و هذا السير لا نهاية له و لا نهاية أيضا لوعاء السائر إذ لم يقصّر السائر في سيره و لم يترك موضعا خاليا من الكمال،بل كلّما دام السير زاد في سعة وعائه،و كلّما توسّع وعاؤه زاد في كماله،إلى غير نهاية،فهذا رقيّ من الكمال إلى الكمال،فكون آل البيت عليهم السّلام«عيبة،أو خزنة لعلمه»هو من هذا القبيل (1).
«و حجّته»
و فيه ستّ نكات:
الأولى:قد تقدّم معنى الحجّة في الفصل الثاني و العشرين،و مضافا إلى ما تقدّم نقول هنا:قال الراغب في(المفردات)في معناها:«الحجّة، الدّلالة المبيّنة للمحجّة،أي المقصد المستقيم و الذي يقتضي صحّة أحد النقيضين» (2).
الثانية:بالنظر إلى ظاهر الأمر وقع تكرار حجّيّتهم عليهم السّلام هنا و في فقرة «و حجج اللّه»،و لكن يظهر بالدقّة أنّ التكرار لا يكون غير مفيد،لأنّ التعبير
ص:228
هناك بصيغة الجمع أوّلا؛و هنا بالإفراد،و ثانيا؛قد ذكر هناك متعلّق حجّيّتهم و هم أهل الدنيا و الآخرة و الأولى،و لم يذكر هنا شيء من المتعلّق.و ثالثا:لعلّ الإفراد هنا اشير به إلى وحدتهم في المقصد و الهدف، كوحدة الغرض في بعث جميع الرسل،فيكونون جميعا كشخص واحد بهذا الاعتبار. (1)
و يمكن أن يكون المراد من الأفراد هنا،جنس الحجّة أو وحدة حقيقتهم عليهم السّلام في ما سوى هذه النشأة،و يحتمل أن يكون المراد من حجّيّتهم في ما تقدّم حجّيّتهم على سعتها بأقوالهم و أعمالهم و نيّاتهم هناك،و المقصود من حجّيّتهم هنا حجّيّتهم بالعلم فقط لتعقّب هذه الفقرة بفقرة«و عيبة علمه».
الثالثة:أنّ لحجّيّتهم عليهم السّلام توابع و فروعا:
أحدها:وجود إنكار المنكر.
ثانيها:الاحتجاج على المنكر على حقّانيّتهم.
ثالثها:غلبة حجّيّة الحقّ على الاحتجاجات الباطلة للمنكر.
رابعها:كون الناس مخيّرين في الردّ أو القبول لحجّيّتهم.
خامسها:وجود الطريقين:أحدهما الحقّ،و ثانيهما الباطل.
يفهم جميع هذه الفروع من لفظ الحجّة،و إلاّ لم تصحّ حجّيّتهم كما
ص:229
في قصّة آدم و الملائكة عليهم السّلام مثلا و تعليم اللّه الأسماء له و إنباء آدم الأسماء إيّاهم،فإن لم تكن الملائكة جاهلين بفضله و لم يكن هناك إنكار من قبلهم لم يلزمهم اللّه بالاحتجاج عليهم على فضله.فتبيّن من كونهم حجّة وجود المنكر و إنكاره و هكذا كونه،و كذا الناس مخيّرون في الردّ و القبول.و يتبيّن أيضا وجود الطريقين:الهداية و الضلالة،و خلق الإنسان لأن يسلك الأوّل و يترك الثاني،الذي وجوده تبعيّ و لا استقلاليّ،ليصحّ الاختيار و الامتحان،و يقع الفرق بين الملك و الإنسان،و إلاّ لم تكن حكمة جاعلهم حجّة بالغة.و يقتضي بلوغ الحكمة كونهم حجّة بالغة تكون حكمته غير بالغة،و يشهد القرآن على بلوغ حجّة اللّه كما قال سبحانه: فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ (1)،و هذه الآية مضافا إلى تأييد ما قلناه آنفا تؤيّد ما قدّمناه من لزوم اختيار الناس في الردّ و القبول.
الرابعة:أنّ لكونهم حجّة مضافا إلى هذه الفقرة المصرّحة و ما يشبهها في هذه الزيارة أدلّة كثيرة،منها ما قاله الإمام الكاظم عليه السّلام:«إنّ للّه على النّاس حجّتين:حجّة ظاهرة،و حجّة باطنة،فأمّا الظّاهرة فالرّسل و الأنبياء و الأئمّة عليهم السّلام و أمّا الباطنة فالعقول.يا هشام،إنّ العاقل الّذي لا يشغل الحلال شكره،و لا يغلب الحرام صبره» (2).
الخامسة:أنّ حجّيّتهم عليهم السّلام ليست معارضة لحجّيّة العقل،بل تكون
ص:230
متتالية لها،و إلاّ يلزم التعدّد في صراط اللّه المستقيم،لكلّ منهما صراط، و هذا ينافي مرحلتين من التوحيد:الربوبيّة و العبوديّة،خلافا للتوحيد المحض الكامل في جميع المراتب،و أيضا ينافي وحدة الغاية،فالحاصل يلزم وحدة الصراط،وحدة الحجّة،ظاهرة و باطنة،(كما قال تعالى: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ (1))،و يلزم وحدة حكم الحجّتين إلاّ بالإجمال و التفصيل،و كون أحدهما(و هي حجّيّة العقل):
ذاتيّة،الأخرى:المقبولة بالعقل(و هي حجّيّة الرسول و الإمام)عرضيّة (2).
السادسة:في معنى بلوغ الحجّة؛قد تقدّم في ما مضى بلوغ الحجّة تلويحا في الفصل المتعلّق بالموضوع،و هنا نفسّره بأوضح ممّا مضى،فهو كون الحجّة بالغة من جهات المقتضى و الكمّ و الكيف و المتعلّق؛أمّا مقتضى الحجّة بالغة فهو حكمة اللّه البالغة و مقصده نيل جميع المؤمنين إلى رضوان اللّه،و المنكرين إلى غضبه و نيرانه،(ليتحقّق بالأوّل فضله، و بالثاني عدله سبحانه).و أمّا كمّا فشمولها و سعتها لجميع البشر،و أمّا كيفا فتحقّقها بالعلم الواسع بأوسع ما يمكن،و العصمة الكاملة من أبعاد الدعوة بالحكمة و الموعظة الحسنة و الجدال مع الأعداء بالتي هي أحسن.
و ينبغي القول بأنّ لحجّته البالغة مصاديق أخرى دون آل البيت عليهم السّلام
ص:231
كما جاء في الحديث:قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:«تؤتى بالمرأة الحسناء يوم القيامة، الّتي قد افتتنت في حسنها،فتقول:يا ربّ،حسّنت خلقي حتّى لقيت ما لقيت!فيجاء بمريم عليها السّلام فيقال:أنت أحسن أو هذه؟!قد حسّنّاها فلم تفتتن...»، (1)و لكنّ آل البيت عليهم السّلام أجلى المصاديق للحجّة البالغة.
«و صراطه»
و فيه تسع نكات:
الأولى:«الصراط»مفرد جمعه«صرط»،و إنّما أطلقه الإمام عليه السّلام في آل البيت عليهم السّلام مفردا لجهات ثلاث:
إمّا أريد منه الجنس،أو وحدة جميعهم عليهم السّلام في النشآت النوريّة الغيبيّة دون هذه النشأة،أو البدليّة بأنّ كلّ واحد منهم بدل لما سبقه،و لا يرد على هذا الوجه إشكال سقوط مبدل منه بالبدل،لأنّ كونهم صراطا كمال فعليّ لهم،و هو(الإمامة الظاهريّة)مقصورة في الحكومة و التشريع الظاهريّين، و لا يمكن حاكمان أو إمامان مستقلاّن في عصر واحد،فسقوط السابق باللاحق لا ينتهي إلى محال أو قبيح.
الثانية:وجه إطلاق الصراط فيهم عليهم السّلام دون السبيل أو الطريق،هو أنّ الصراط موصل إلى المطلوب و لا يمكن فيه عدم الوصول إليه،لأنّ
ص:232
الاستقامة لازمة له (1)،و وصفه بالمستقيم،كما جاء في القرآن هو قيد توضيحيّ أو تأكيديّ،و لكنّ ذلك في متقاربيه في المعنى لإمكان الاعوجاج فيهما،و لا يرد الإشكال في استعمال السبيل أو الطريق منسوبين إلى اللّه في القرآن و الحديث مع إمكان اعوجاج فيهما،لأنّه أوّلا:المراد من أيّهما هو الصراط لإضافته إلى اللّه،و لا يمكن الاعوجاج في سبيل أو طريق منسوب إلى الحكيم المطلق،و ثانيا:يرد إشكال فيما إذا استعملا و نسبا إلى اللّه دون استعمال الصراط،لأنّ القرآن يفسّر بعضه بعضا،و ينحلّ المشكل عن بعض آياته بالأخرى و هو(القرآن)،ففي نفس الوقت هو أحد ملاكات صحّة الحديث.
الثالثة:في إضافة الصراط إليه سبحانه؛فإن كانت الإضافة لاميّة بمعنى أنّهم صراط تكوينيّ للّه تعالى،جعله اللّه مسيرا لفيضان:
الفيض من مبدئه إلى جميع ما سوى اللّه،و مسيرا إلى عود الخلق إليه سبحانه،كما قال تعالى: ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ
ص:233
مُسْتَقِيمٍ (1).
فبهذا الاعتبار يكون هذا الكمال كمالا نفسانيّا لهم عليهم السّلام،فعلى هذا لا يختصّ كونهم صراطا بالمكلّفين فقط،بل يعمّ جميع ما سوى اللّه.
و أمّا بالاعتبار الثاني-أي فيما إذا كانت الإضافة بيانيّة-فالمراد من كونهم صراطا(شأن الإمامة)مختصّا بالمكلّفين يكون كمال صراطيّتهم كمالا فعليّا خارجيّا لهم كما ذكر.
الرابعة:قد تواترت الأخبار-على ما نقله الشيخ المجلسيّ-في أنّ المراد من الصراط الموصوف بالسّوى أو المستقيم،هو أئمّة آل البيت عليهم السّلام و نحن نورد هنا بعضا منها:
1-قال أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام:«أنا صراط اللّه المستقيم،و عروته الوثقى الّتي لا انفصام لها» (2).
2-عن الإمام السجاد زين العابدين عليه السّلام:«نحن الصّراط المستقيم،و نحن عيبة علمه» (3).
3-قال الإمام الصادق عليه السّلام في معنى الصراط:«و هو الطّريق إلى معرفة اللّه عزّ و جلّ،و هما صراطان:صراط في الدّنيا،و صراط في الآخرة.فأمّا الصّراط الّذي في الدّنيا فهو الإمام المفروض الطّاعة،من عرفه في الدّنيا و اقتدى بهداه مرّ
ص:234
على الصّراط الّذي هو جسر جهنّم» (1).
الخامسة:في بيان كونهم عين الصراط،فنقول:كونهم صراطا مغاير لكونهم هاديا فيه،إذا أخذ الكمال لا يتناهى و الحياة الأبديّة مقصدا، و التوحيد بجميع مراتبه حتّى يعمّ الأفعال و الأخلاق طريقا إليه،فيكون آل البيت عليهم السّلام عين الصراط؛لأنّ المعرفة بهم شرط لكمال التوحيد، و بدونها كأنّ التوحيد لم يكن:«صلّوا كما رأيتموني أصلّي» (2).
و لكن إذا كان التوحيد مقصدا،كانوا هم هادين إليه،لأنّ التوحيد الصحيح لا يحصل إلاّ بتعليمهم و تربيتهم بأقوالهم و أخلاقهم و أعمالهم، فالحاصل يعتبر كونهم صراطا بالمعنى الأوّل.
السادسة:إنّما يبدأ كونهم صراطا من نشأة قبل هذه النشأة،و سالكوه هم الملائكة؛عن الثماليّ قال:دخلت حبّابة الوالبيّة على أبي جعفر عليه السّلام فقالت:
أخبرني يا ابن رسول اللّه أيّ شيء كنتم في الأظلّة؟فقال عليه السّلام:كنّا نورا بين يدي اللّه قبل خلق خلقه،فلمّا خلق الخلق سبّحنا فسبّحوا،و هلّلنا فهلّلوا،و كبّرنا فكبّروا، و ذلك قوله عزّ و جلّ: وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً ، الطّريقة حبّ عليّ صلوات اللّه عليه،و الماء الغدق الماء الفرات،و هو ولاية آل محمّد عليهم السّلام» (3).
ص:235
و يمتدّ الصراط إلى الدنيا،فيكون معناه ما فسّرنا من كونهم عين الصراط،و يمتدّ من الدنيا إلى الآخرة،فيكون جسرا على جهنّم،و يسلك فيه المؤمن و الكافر،فينتهي المؤمن منه إلى الجنّة،و ينتكس غيره في النار.
السابعة:في إقامة الدليل على وحدة الصراط في النشآت الثلاث،يدلّ على المراد،أوّلا:يلزم من تعدّد الصراط إمّا تجانب الصراطين،و إمّا كون الثاني بعد الأوّل و يكون بينهما فاصل،فمن فرض تجانبهما مع كونهما مستقلّين يلزم استقامة كلّ واحد منهما و له مقصد غير مقصد الآخر،و هذا يستلزم أن تكون لكلّ منهما شريعة مستقلّة و عبادة على حدة و معرفة غير تابعة لشريعة كلّ واحد منهما،و هذا كلّه ينافي التوحيد الربوبيّ و العبوديّ، و هو عين الشّرك،و يلزم من فرض كون أحد الصراطين بعد الآخر،فإن لم يتمايزا بفاصل يكون واحدا،و إن تمايزا يكون الصراط الأوّل غير مفيض إلى مقصد الباري سبحانه،فيكون وجود الأوّل لغوا و الثاني مفيضا إلى الغاية المنظورة للباري،و هو صراط واحد،و ذلك هو المطلوب.
و ثانيا:إفراد الصراط المنسوب إلى اللّه في القرآن و استعمال الضمائر المفردة الراجعة إلى هذا الصراط كقوله تعالى: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ (1)،ترى أنّ كلاّ من الصراط و وصفه مستقيما و الضمير الراجع إليه
ص:236
في«فاتّبعوه»مفرد،فلو كان الصراط متعدّدا لم يستعمل هكذا.
الثامنة:في بيان صلة هذه الفقرة بسابقتها«و حجّته»،لعلّ الصلة بينهما هو هذا،إنّ لهؤلاء الأشراف عليهم السّلام اعتبارين:
الأوّل:كونهم حجّة في مقام التغالب مع الخصم حتّى تحصل الغلبة للسالك إلى اللّه بهم و الخيبة و الخسران لخصمه،لأنّه ما لم يكن للسالك خصم و ما لم يكن بينهما مغالبة لا يتقوّم سلوكه بقيمة أصلا،و يسير السالك في سلوكه كالملائكة الذين حكى اللّه سبحانه قولهم: وَ ما مِنّا إِلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (1)،و الحاصل أن ليس له كمال كما ليس للملائكة،و لكنّ السالك الذي يريد أن يسير إلى اللّه ثمّ في اللّه،و يريد أن لا ينتهي كماله في سيره في اللّه،يلزم وجود الخصم له،و يلزم إذا الحجّة في البين،مضافا إلى أنّ الصراط كنتيجة للحجّة،فبها تثبت حقّيّة الصراط ثمّ يسلك السالك فيه.
الثاني:أنّ الصراط في الأخبار بأوصاف عديدة،فإذا كان آل البيت عليهم السّلام صراطا لزم اجتماع تلك الصفات فيهم،و إلاّ لم يكونوا صراطا،منها ما روي عن الإمام العسكريّ عليه السّلام في قوله تعالى: اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (2).
ص:237
يقول:أدم لنا توفيقك الّذي به أطعناك في ماضي أيّامنا،حتّى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا.و الصّراط المستقيم هو صراطان:صراط في الدّنيا،و صراط في الآخرة.فأمّا الصّراط المستقيم في الدّنيا فهو ما قصر عن الغلوّ،و ارتفع عن التّقصير،و استقام فلم يعدل إلى شيء من الباطل.و أمّا الطّريق الآخر فهو طريق المؤمنين إلى الجنّة الّذي هو مستقيم..» (1).
أمّا الصفات المذكورة في هذا الحديث و التي ينبغي ذكرها فكالتالي:
إحداها:يسأل المؤمن اللّه بقوله: «اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» دوام توفيقه حتّى لا ينحرف بعد اهتدائه (2)،فيكون أعظم الأسباب آل البيت عليهم السّلام، فيرجع سؤاله حينئذ في الحقيقة أن لا يسلبه تعالى منه،بل يديمه له في يده في ما بقي من عمره.
ثانيتها:كون الصراط متوسّطا بين الإفراط و التفريط،كما قيل في وصف الصراط المستقيم:«هو الطريق الوسط الذي يفضي سالكه إلى المطلوب»،و ورد عن الإمام عليّ عليه السّلام:«نحن النّمرقة الوسطى،بها يلحق التّالي، و إليها يرجع الغالي» (3)،كما ذكر في قول الإمام عليه السّلام فيكون آل البيت عليهم السّلام هكذا.
ثالثتها؛بدء الصراط من الدنيا و إدامته في البرزخ،و يمتدّ كجسر على
ص:238
جهنّم في الآخرة،و ينتهي إلى الجنّة.تكون ولاية آل البيت عليهم السّلام و إمامتهم هكذا،و بدونها لا يتيسّر دخول الجنّة لأحد (1).
رابعتها؛المأخوذة من قول الإمام الصادق عليه السّلام دقّة الصراط،فإذا كان آل البيت عليهم السّلام هم الصراط و كون الصراط دقيقا،لزم هذه الدقّة في آل البيت عليهم السّلام و هو هكذا في كلّ زمان؛لكثرة أعدائهم و توافر مكائد الأعداء عليهم و قلّة أنصارهم عليهم السّلام،فهذا يقتضي كون صراطهم دقيقا،بل أدقّ من الشّعر،و لا يثبت فيه كثير،لا سيّما في عصر غيبة قائمهم عليهم السّلام، لهذا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله:«أثبتكم قدما على الصّراط أشدّكم حبّا لأهل بيتي» (2).
«و نوره»
و فيه خمس نكات:
الأولى:يسلّم الزائر بهذه الفقرة بواو العطف على آل البيت عليهم السّلام تسليما و إن لم يتلفّظ به صريحا،و يذكر فيها كمالا نفسانيّا آخر لهم،فالحاصل
ص:239
أنّهم عليهم السّلام نور اللّه ككونهم صراط اللّه و حجّته،و ذلك يثبت بأخبار كثيرة مرويّة في تأويل عدد من الآيات في القرآن.عن أبي خالد الكابليّ قال:
«سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه تعالى: «فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا» فقال:يا أبا خالد،النّور و اللّه الأئمّة عليهم السّلام من آل محمّد صلّى اللّه عليه و اله إلى يوم القيامة...و اللّه يا أبا خالد لنور الإمام في قلوب المؤمنين أنور من الشّمس المضيئة بالنّهار،و هم و اللّه ينوّرون قلوب المؤمنين،و يحجب اللّه عزّ و جلّ نورهم عمّن يشاء فتظلم قلوبهم» (1).
الثانية:قد تكرّر في هذه الزيارة الشريفة كمال نوريّتهم مفردا(النور) و جمعا(الأنوار)،أو بلفظ غير النور ك(مصابيح الدّجى) (2)،فيلزم هنا تعريف النور و توضيح كونهم عليهم السّلام مصداقا له.
قيل في تعريفه:«النور ما هو ظاهر بذاته،مظهر لغيره»،فيجب شمول هذا التعريف لهم حتّى يكونوا ظاهرين بذواتهم الشريفة و مظهرين لغيرهم،و الحال أنّهم هكذا تكوينا و تشريعا،أمّا تكوينا فإنّهم كانوا ظاهرين قبل وجود الطبيعة،كما تشهد عليه الأخبار،كخبر مشاهدة آدم عليه السّلام صورهم(أشباحهم)النيّرة في العرش و قد قرأ أسماءهم السامية مكتوبة فيه.
قال الإمام جعفر الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ
ص:240
كَلِماتٍ (1):كان آدم و حوّاء جالسين فجاءهما جبرئيل و أتى بهما إلى قصر من ذهب و فضّة شرفاته من زمرّد أخضر فيه سرير من ياقوتة حمراء، و على السرير قبّة من نور فيه صورة على رأسها تاج و في أذنيها قرطان من لؤلؤ و في عنقها طوق من نور،فتعجّبوا من نورها حتّى أنّ آدم نسي حسن حواء،فقال:ما هذه الصورة؟قال:فاطمة،و التاج أبوها،و الطوق زوجها، و القرطان الحسن و الحسين.فرفع آدم رأسه إلى القبّة فوجد خمسة أسماء مكتوبة من نور:أنا المحمود و هذا محمّد،و أنا الأعلى و هذا عليّ،و أنا الفاطر و هذه فاطمة...يا آدم لو سألتني في جميع ذرّيّتك لغفرت لهم» (2).
و خلاصة الكلام هو أنّ اللّه خلق نشآت الملك و الملكوت من نورهم، فأصبحوا ظاهرين بذواتهم،مظهرين لغيرهم و لو كوسائط،و يبقى الخلق و يكمّله بوساطتهم أيضا.
إلى هنا تنتهي نوريّتهم تكوينا،و أمّا نوريّتهم في نظام التشريع فظاهر لا يحتاج إلى البيان لانتشار علومهم في البشر عامّة و بين المسلمين خاصّة و في شيعتهم بالأخصّ،و هكذا ظهور أعمالهم الحميدة و أخلاقهم الشريفة و حياتهم الطيّبة في منشورات الكتب و منشورات الصحف، مضافا إلى أنّ الحكماء قالوا:«النور و الوجود متساوقان»،فإذا كانوا هم عليهم السّلام وسائط الوجود و البقاء و الكمال،اتّضحت نوريّتهم بكمال الوضوح.
ص:241
الثالثة:في تبيين نوع نوريّتهم؛ينقسم كلّ من النور و نقيضه(الظّلمة) و البصر المدرك لهما إلى الحسّيّ و غير الحسّيّ،كما قال سبحانه: اَللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ (1).
المراد من النور و الظلمات غير الحسّيّين،فيلزم لكلّ نوع من الظلمة ما يناسبها من النور و البصر من الحسّيّة و غيره،فتصدق النوريّة لآل البيت عليهم السّلام بكلا المعنيين،و لكنّ المراد في هذه الفقرة من النور هو غير المحسوس منهما،فيلزم لإدراكه بصر في القلب.
الرابعة:في تبيين نوريّتهم عليهم السّلام بتحليل عقليّ،فنقول:إنّ بين النور الحسّيّ و غير الحسّيّ تشابهات عديدة لا يمكن لنوع منهما تخلّفه عن النوع الآخر في جهة،و نحن نذكر هذه الجهات و نطبقها مع آل البيت عليهم السّلام حتّى تتّضح لك نوريّتهم بتمامها.
1)لا يمكن ستر النور المحسوس بساتر،فإن ستره أحد فهو يستر المستنير(بصر الرائي)من النور،فشؤون آل البيت عليهم السّلام و فضائلهم ظاهرة جليّة لا يمكن و لن يمكن لأعدائهم إخفاؤها أو سترها على مدى القرون و الأعصار مع شدّة مكائدهم و كثرة نفقاتهم في ذلك.
2)لو كان النور المحسوس شديدا فلا يمكن إدراكه كاملا بالأبصار، كنور الشمس،بل تدرك كلّ عين منه بقدر قوّتها،كما لا يمكن معرفة
ص:242
حقيقة آل البيت عليهم السّلام معرفة كاملة،كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله:«يا عليّ،ما عرفك إلاّ اللّه و أنا،و ما عرفني إلاّ اللّه و أنت،و ما عرف اللّه إلاّ أنا و أنت...» (1).
3)يلزم اتّصال عين الرائي بالنور المتّصل بالمرئيّ حتّى تحصل الرؤية، إذا يلزم أن يتّصل قلب الإنسان بنور آل البيت عليهم السّلام من أقوالهم و أفعالهم حتّى يرى الإنسان به الكمال المطلق(اللّه سبحانه).
4)النور واحد لا يتعدّد إلاّ بقوابله،كما قيل في آل البيت عليهم السّلام:«كلّهم نور واحد» (2)،فتعدّد نورهم بتعدّد أشخاصهم الكريمة البشريّة.
5)كلّ فاقد للنور يقع في الظلمة و البلاء،كما أنّ فاقد الاعتقاد الصحيح السليم بآل البيت عليهم السّلام يكون ضالاّ و منحرفا عن الحقّ (3).
الخامسة:في بيان انطباق نوريّتهم عليهم السّلام مع القرآن،فنقول:الشواهد
ص:243
القرآنيّة على المدّعى عديدة،و نحن نورد بعضها مع تأويل كلّ منها:
ألف) اَللّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ (1):المراد من النور هنا هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله خاصّة و آل البيت عليهم السّلام عامّة،(و هذا مفاد جميع ما ورد في المقام)منه ما نقل عن مولانا الرضا عليه السّلام أنّه قال:«نحن المشكاة في المصباح، و هو محمّد صلّى اللّه عليه و اله يهدي اللّه لنوره من يشاء،و يهدي اللّه لولايتنا من أحبّ» (2).
ب) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً (3).
إنّ الأئمّة عليهم السّلام اكتسبوا العلم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله،فإطلاق القمر على الأئمّة و النور على علمهم يكون بهذا الاعتبار،لكون نور القمر يكتسب دائما من الشمس،و إطلاق الشمس على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و على علمه (الضياء)يكون باعتبار أنّه صلّى اللّه عليه و اله لم يكتسب العلم من غير اللّه.ففي(روضة الكافي)عن أبي جعفر عليه السّلام قال:«فضرب اللّه مثل محمّد صلّى اللّه عليه و اله الشّمس و مثل الوصيّ القمر،و هو قوله عزّ و جلّ: جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً ...» (4).
ج) فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)،المراد من اتّباع النور هنا هو الاتّباع عن ولاية آل البيت عليهم السّلام
ص:244
كما في(الكافي)عن الصادق عليه السّلام:«النّور في هذا الموضع عليّ أمير المؤمنين و الأئمّة عليهم السّلام» (1)،و لا يرد إشكال هنا من أنّ المراد من النور المتّبع هو القرآن،نجيب عنه من القرآن و الحديث:أمّا من القرآن فعطف الكتاب المبين على النور في الآية السابقة الذكر،و المعطوف عليه غير المعطوف، لأنّ ظاهر العطف المغايرة،و أمّا الحديث فلا شكّ في أنّ القرآن نور،فيلزم ذلك نوريّة العترة التي هي عدل القرآن،لأنّ الظلمة لا تكون عدلا للنور و لا مساوية له.
د) اَللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ (2)،الاعتقاد بالنبوّة العامّة غير النبوّة الختميّة ظلمة،لأنّ حقيقة كلّ شيء دون جزئه الأخير حقيقة ناقصة،بل لا هويّة للشيء أصلا،و الإيمان بالنبوّة الختمية دون تاليها و هي الخلافة و الوصاية عنها غير تامّة،بل غير كائنة،فكون النبوّة نورا موقوف على وصاية آل البيت عليهم السّلام و خلافتهم عن النبيّ صلّى اللّه عليه و اله،فمن أنكر إمامتهم للأمّة و وصايتهم عن النبيّ صلّى اللّه عليه و اله وقع في الظلمة الظلماء،كمن لم يصدّق بالنبوّة أصلا.و بهذا التحليل ثبتت نوريّة آل البيت عليهم السّلام لظهور حقيقة النبوّة الخاصّة و العامّة بهم،و لولاهم لم تظهر إحداهما بحقيقتها المرضيّة الإلهيّة،كما يشهد عليه ما في(الصافي)عن الصادق عليه السّلام:«النّور
ص:245
آل محمّد،و الظّلمات عدوّهم» (1)،و ثبت أيضا كون أعدائهم في هذه المرتبة طواغيت مخرجة من النور إلى الظلمات،لأنّ للكفر مراتب،فإمام كلّ مرتبة من المراتب طاغوت.
ه) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللّهِ بِأَفْواهِهِمْ (2)قد تقدّم في ما مضى من الكلام كون آل البيت عليهم السّلام نورا،و هنا نقول:إنّهم النور الذي يريد الأعداء إطفاءه بأفواههم،و لا يقدرون على ذلك و إن قدروا على تضعيفه أحيانا، لأنّ اللّه وعد: أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ، (3)و في(الإكمال)عن الصادق عليه السّلام:«و قد ذكر شقّ بطون الحوامل في طلب موسى،كذلك بنو أميّة و بنو العبّاس لمّا وقفوا على أنّ زوال ملكهم و الأمراء و الجبابرة منهم على يد القائم منّا،ناصبونا العداوة و وضعوا سيوفهم في قتل آل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله» (4).
ص:246
«و برهانه،و رحمة اللّه و بركاته» (1)
و فيه خمس نكات:
الأولى:تقتضي العبوديّة ترك البدعة في الدين و الشريعة،فلهذا إن كان كلّ واحد منّا متعبّدا و كان ظنّه قويّا بورود هذا اللفظ عن الإمام،فيأتي به في زيارته و إلاّ يتركه مع كونهم في الحقيقة براهين اللّه الباهرة على حقائقه المبرهنة،إذا لا يرد إشكال في عدّ هذا الكمال من كمالاتهم العالية من غير مقام العبادة؛لأنّهم عليهم السّلام مجامع الفضائل بأجمعها بحيث لم تفتهم فضيلة من الفضائل،لا كمّا(في العدد)و لا كيفا(في الرتبة).
الثانية:معنى البرهان؛يطلق على كلّ دليل باعتبار غلبته على الخصم حجّة(كما تقدّم في موضعه)،و باعتبار وضوحه برهانا و يجب أن تكون أجزاؤه من عقليّات محضة،و مع كون بعضها من العقليّات و بعضها و هميّا لا يطلق عليه البرهان،فالحاصل أنّ البرهان هو دليل واضح عقليّ لم يختلط بالوهم، (3)كما تقول:«العالم مليء بآثار العلم و القدرة،و كلّما كان
ص:247
كذلك كان مؤثّرا قادرا عالما،فثبت وجود مؤثّر قادر عالم للعالم».
الثالثة:في صلة البرهان بالنور؛قد تقدّم كونهم نورا،فكونهم برهانا لا يتّضح في عين العقل إلاّ بوجود النور في البين،كما أنّ السالك لا يجد مقصده الحسّيّ براية منصوبة فيه إلاّ إذا رآها،و لا تتحقّق الرؤية الراية إلاّ بالنور،و إلاّ كان نصب الراية لغوا،فتبيّن ترتيب الإمام عليه السّلام في تقديم النور على البرهان.
الرابعة:التعليل على كونهم برهانا؛يحتاج إلى البرهان أشدّ حاجة في ما إذا كان المنكر أشدّ لجاجة،و إلاّ يهتدي بإشارة من دليل ما،فمن كونهم برهانا يستنتج أنّ هناك لجاجة شديدة من أعدائهم،كما قال سبحانه في تعجيز الكفّار: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (1)،فثبت كونهم برهانا لجهتين:الأولى:تبيّنهم قولا و فعلا في الحجّيّة.
الثانية:كون أعدائهم أشدّاء في لجاجهم،كما قال سبحانه(في شأن المنافقين): وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اللّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (2).
الخامسة:إنّ هذا الكمال،كمال فعليّ لهم باعتبار أفعالهم الحميدة
ص:248
و أقوالهم الرضيّة و كمال نفسانيّ باعتبار تعيّن أوصافهم الشريفة و كونهم أسوة و قدوة.
في الفصل الأوّل تبيّنت الكمالات الذاتيّة لآل البيت،و في الفصل الثاني الكمالات الفعليّة،و في الفصل الثالث شرائط الحجّيّة،و في الرابع الأغراض المترتّبة على الفعليّات،و لكنّ هذا الفصل يستجمع شؤونهم العالية،لأنّ الشؤون كأركان لإمامة الإمام في المجتمع،فمن الشؤون،كونهم أئمّة دعاة و هذا الشأن كأصل لما يتفرّع عليه من كون الإمام قائدا و هاديا،و سيّدا واليا،و ذائدا حاميا،و أهلا للذّكر، و صاحب الأمر و بقيّة و خيرة للّه و من حزبه سبحانه،و يكون أيضا عيبة لعلمه تعالى، و هكذا البواقي.
أقول:إنّ هذه التذنيبات هي ما خطر ببالي بعد التأمّل في كلّ منها،و لا أدّعي أنّي بلغت إلى كمال مراعاة الإمام فيها و غاية حسن كلامه،و لعلّ هنالك من كان له أهليّة غيري بلغ إلى ما لم يبلغه فكري.
ص:249
«أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له،كما شهد اللّه
لنفسه و شهدت له ملائكته و أولوا العلم من خلقه،
لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم».
و فيه ستّ نكات:
الأولى:هذه الفقرة الشريفة كنظائرها مقتبسة من الآية الكريمة: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2).
ص:250
و معلوم أنّ هذه الاقتباسات توجب مزيد الاعتبار لهذه الزيارة،لأنّ الكتاب المجيد عدّ معيارا بين الحقّ و الباطل،كما قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله:«إنّ على كلّ حقّ حقيقة،و على كلّ صواب نورا، فما وافق كتاب اللّه فخذوه،و ما خالف كتاب اللّه فدعوه» (1).
الثانية:بيان النسبة بين هذه الشهادات و بين ما سبق من التسليمات؛ تبدأ شهادات كثيرة من أوّل هذا الفصل و ابتداء هذا الباب،و هي بعد أن ذكر الزائر قريبا من ستّين كمالا (2)لآل البيت عليهم السّلام،يبتدئ هنا في ما بقي من زيارته بشهادات،أوّلها:الشهادة على التوحيد للّه سبحانه،بيّن أحد الشرّاح في هذه النسبة وجها غير جيّد عندنا،و هو كون الزائر يشهد بالتوحيد حتّى يعلن أنّه ليس بغال في حقّ آل البيت عليهم السّلام و غير زاعم ارتقاء رتبتهم السامية إلى الربوبيّة،و قد قلت في ردّ هذا الوجه:لا حاجة إلى هذا التوجيه في الامتناع عن الغلوّ،لأنّ الزائر نسب في ما مضى فصلا
ص:251
مشبعا من كمالاتهم عليهم السّلام إلى اللّه سبحانه،و هو كافّ في المقام،ككونهم «التامّين في محبّة اللّه»،و«و المخلصين في توحيد اللّه» (1)و غير ذلك،أمّا الوجوه المقبولة المبيّنة لهذه النسبة فكما يلي:
الأوّل:إنّ الزائر العارف بالمزورين عليهم السّلام يجد نفسه عندهم حين الزيارة،فيشهد بالتوحيد إذا ليستشهد بآل البيت عليهم السّلام على كونه موحّدا غير مشرك،لأنّ الإيمان باللّه و توحيده في جميع المراتب غاية الخلق،كما قال سبحانه: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ (2)،و لا يمكن أن يعبد اللّه أحد دون الاعتقاد بالوحدانيّة.إذا يريد الزائر أن يكون له في ذلك شهود صادقون،فمن أصدق منهم في الشهادة و أقبل لشهادته عند اللّه منهم؟و هم الذين أشهدهم اللّه على الجنّ و الإنس من هذه الأمّة(على تفسير للآية التالية)،و على جميع الأمم(على تفسير آخر لها)،كما قال اللّه تعالى: وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (3).
ينبغي هنا ذكر خبر في تفسير الآية؛عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال:«فرسول اللّه في هذا الموضع:النّبيّون،و نحن الصّدّيقون و الشّهداء» (4).
ص:252
كما سيجيء إن شاء اللّه كونهم شهداء دار الفناء،فمن حيث كونهم شهداء مستقلّين أو على البدليّة من النبيّ صلّى اللّه عليه و اله تكون الأمّة مع جميع ما تعتقد به(و منهم الزائر)مشهودة لهم.
الثاني:إنّ الزائر بعد ذكر عدّة كمالات لهم،يتوجّه إلى كونهم عليهم السّلام آيات اللّه النيّرة،و علاماته الباهرة،و مظاهره التامّة و مجاليه الجليّة.و مع هذه الكمالات يخطر بباله ذوو الآيات و منبع الكمالات،و قد كان اللّه جاعلها لهم و موجدها فيهم،و لا يكون هذا(ذو الآية)أحدا سوى اللّه تعالى،لأنّ الآية شاهدة على ذي الآية،و المظهر يشهد على الظاهر تبعا.
الثالث:يستحبّ للزائر أن يكبّر اللّه تعالى قبل شروعه بالزيارة مائة تكبيرة و أن يسمّي اللّه تعالى حين الشروع،فهو ذكر اللّه قبل زيارته مرّتين بالتكبير و البسملة،فتكون زيارته مسبوقة بالتوحيد،و يلزم أن يختم كمالاتهم المذكورة بالتوحيد أيضا،لأنّ اللّه كما كان أوّلا يكون آخرا،كما قال سبحانه: هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ (1)،و قال تعالى على لسان المؤمنين:
إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (2).
الثالثة:الشهادة إن كانت واقعة في معرض الإنكار يكون معناها الإقرار، و إلاّ كان معناها المشاهدة،فإن أخذنا الشهادة هذه بمعناها الأوّل،كان
ص:253
المنكر كلّ كافر بوحدانيّة اللّه من الجنّ و الإنس،إذا يقرّ الزائر بما يقرّ من التوحيد خلاف زعم المنكرين.و إن أخذنا المراد منها المشاهدة كانت شهادته بيانا لكمال إيمانه البالغ من العلم إلى العين،(هذه شهادته على التوحيد دون شهاداته الآتية في حقّ آل البيت عليهم السّلام).
الرابعة:الشاهدون أربعة:
1-الزائر(على ترتيب ما في الفقرة).2-اللّه تعالى.
3-الملائكة.4-أولو العلم.
كلّ أولئك موحّدون إلاّ الثاني منهم و هو متوحّد بالذات.
الخامسة:في أنواع الشهادة على معناها الأوّل:
1-شهادة غير اللّه(من الزائر و أولي العلم)على التوحيد،إمّا أن يكون قوليّا أو قلبيّا،فالقلبيّ منهما إمّا أن يكون قد بلغ إلى عين اليقين فتكون شهادته شهوديّا أو كشفيّا أو عرفانيّا(بأيّ تعبير شئت فعبّر)،و إلاّ تكون إيمانيّا،و هي ما لم تتجاوز عن العلم اليقين،و لكنّ شهادة الملائكة ملازمة لعين اليقين(و هو معناها الثاني)لأنّهم كاملون في عقولهم و صفاء ذواتهم.أمّا المؤمنون من غير الملك فيمكن أن يكون فيهم نقصان معرفة عن عين اليقين.و أمّا شهادة اللّه على وحدانيّته قولا و فعلا فتكون شهادة ذاتيّة حقيقيّة،و توضيح كلّ من هذه الأنواع كما يلي:
ألف)الشهادة القوليّة للزائر:و هي شهادته باللسان إذا قلّد غيره في
ص:254
الإقرار بالتوحيد من غير دليل.
ب)الشهادة الإيمانيّة للزائر:و هي أن تكون بالأدلّة و البراهين،كما في علم الكلام. (1)
ج)الشهادة الشهوديّة:حيث يعترف الزائر في مرآة آل البيت عليهم السّلام، التي شاهد فيها كمالات ظاهرة لهم من جهة و لمن تجلّى فيهم من جهة أخرى،ثمّ يشهد على وحدانيّة الظاهر و المتجلّي،خصوصا في ذكره صفتي:«العزيز»و«الحكيم»،الجامعتين لجميع صفات الجمال و الجلال (2).
2-و أمّا الشهادة القوليّة للّه على وحدانيّة ذاته،فهي عبارة عن جميع ما جاء في المقام في الكتب السماويّة خصوصا القرآن،كسورة الإخلاص و آية الكرسيّ و غيرهما من الآيات،و أمّا شهادته الفعليّة على ذلك فهي عبارة عن وحدة العالم في انتظام الموجودات و كون بعضها مرتبطا ببعض بالتعامل و التأثر و العلّيّة و السببيّة و غير ذلك من الروابط،و أمّا شهادته سبحانه الشهوديّة،فهي عبارة عن ظهور ذاته و كمالاته و منها الوحدانيّة
ص:255
لذاته المتعالية.
3-و أمّا الشهادة القوليّة للملائكة على التوحيد فهي اعترافاتهم عليهم السّلام به،و شهادتهم الفعليّة هي إطاعتهم له سبحانه و عبادتهم إيّاه فقط،و هي شهادة فعليّة عبوديّة لهم على الوحدانيّة،و أمّا شهادتهم بمعنى المشاهدة فهي عبارة عن استغراق كلّ على حسب قابليّة ذاته في جمال اللّه و ذاته و عدم رؤية غيره سبحانه.
4-و أمّا الشهادة القوليّة لأولي العلم على التوحيد فهي كما تقدّمت في الشهادات القوليّة السابقة و الفعليّة منهم كنظائره المتقدّمة و الشهوديّة هي عبارة عن علمهم التحقيقيّ،أي العلم المقارن لإيمان العالم بمعلومه، فتكون وحدانيّته سبحانه معلومهم و لهم علم مقارن لتصديقها بها (1).
السادسة:نقول في نسبة ذكر عزّة اللّه و حكمته،أنّ الزائر لمّا رأى و ذكر حجّيّتهم من جهات شتّى على سعتها الواسعة،انتقل إلى جاعل الحجّيّة لهم و جاعلهم حجّة على الخلق،فهذان الجعلان يكون من شؤون عزّته سبحانه،و لمّا رأى و ذكر كمالات مهمّة (2)لآل البيت عليهم السّلام مع الإيمان
ص:256
و اليقين بها،انتقل إلى حكمة جاعلها فيهم (1).
«و أشهد أنّ محمّدا عبده المنتجب و رسوله المرتضى،أرسله
بالهدى و دين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه و لو كره المشركون»
و فيه ستّ نكات:
الأولى:يتأيّد إطلاق كلّ واحد من ألفاظ هذه الفقرة بآية من القرآن، إطلاق العبد هنا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله مأخوذ من أيّ آية اطلق العبد عليه فيها قوله سبحانه:«فمحمّد صلّى اللّه عليه و اله»،نحو قوله سبحانه: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ (2)،و«العبد»: تَبارَكَ
ص:257
اَلَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1)،و«المنتجب»:
مأخوذة من معنى قوله: إِنّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدّارِ (2)،لأنّ «الخلوص و النجابة»مترادفان(كما في المنجد) (3):«نجائب الشيء خالصه، لبابه الذي ليس عليه نجب،أي قشر»،و الرسول المرتضى من نحو قوله:
عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ (4)،و أرسله بالهدى و دين الحقّ: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (5).
الثانية:نقول في صلة هذه الفقرات الشريفة بما تقدّم،قد سبق منّا تقرير في وجه تسمية الجامعة بالجامعة،و قلنا هناك إمّا لأنّ الزائر يزور جميع المعصومين عليهم السّلام بزيارة واحدة،أو لكون الزيارة مستجمعة لجميع كمالاتهم،هنا يظهر وجه ثالث،و هو استجماع جميع العقائد الأصوليّة:
من التوحيد و النبوّة(هنا)،و المعاد(كما سيأتي إشارة)،و الإمامة(و هي ظاهرة).و لعلّ النسبة بين هذه الفقرات و ما سبق هو الوجه الثالث،حيث يقرّ الزائر بجميع أجزاء الدين و يعترف بحقيّتها.و يمكن في بيان الصلة
ص:258
وجه آخر،و هو أنّ الزائر في جميع ما أقرّ في حقّ آل البيت عليهم السّلام من الكمالات ينتقل إلى من كان واسطة في إفاضة اللّه هذه الكمالات عليهم، و لا تكون الواسطة في الإفاضة إلاّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله،كما روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام إذ قال:«علّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله عليّا ألف حرف،كلّ حرف يفتح ألف حرف..» (1).
فالحاصل أنّ الزائر يمتنع في حقّ آل البيت عليهم السّلام عن الغلوّ إلى النبوّة الختميّة(المنحصرة في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله)،فضلا أن يكون غالبا فيهم إلى الربوبيّة،فإعراضه عن هذين الغلوّين هو جعله الأئمّة في المرتبة التي رتّبهم اللّه فيها.
الثالثة:وصف النبيّ صلّى اللّه عليه و اله هنا بوصفين،و هما:العبوديّة و النجابة، فنقول:ذكر العبوديّة قبل الرسالة في القرآن،أصل جار في حقّ الأنبياء و في حقّه صلّى اللّه عليه و اله(أيضا): قالَ إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا (2)، وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَ الْأَبْصارِ (3)، تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ
ص:259
نَذِيراً (1).
فالحاصل أنّ الزائر يشهد طبقا للأصل الجاري المذكور على عبوديّة النبيّ صلّى اللّه عليه و اله ثمّ على رسالته صلّى اللّه عليه و اله،لأنّ العبوديّة تكون كمقدّمة عامّة لجميع الكمالات،ثمّ يذكر بعد العبوديّة وصف النجابة،لأنّه صلّى اللّه عليه و اله كان من أولاد الأنبياء فنجابته صلّى اللّه عليه و اله راجعة إلى شرافة نسبه،و هي تكون ككمال ذاتيّ حصوليّ،من قبل أجداده الكرام،و يتأيّد ذلك الكمال بحسن سيرته من بدء صغر سنّه إلى آخر عمره الشريف،كما قال صلّى اللّه عليه و اله:«أدّبني ربّي فأحسن تأديبي» (2)،و أمّا دلالة هذا الخبر الشريف على المراد فهو من جهة أنّ التأديب(المتقارب المعنى بالتربية و الصنع)،إنّما فعل في حقّه تكوينا، و ما يؤيّد هذا المعنى التكوينيّ للتأديب هو قوله سبحانه: إِنّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدّارِ (3).
الرابعة:في رسالته و ارتضاه صلّى اللّه عليه و اله:
نقول شهادة الزائر على رسالته المرتضاة صلّى اللّه عليه و اله تكون:إمّا إيمانيّا،و هي الرسالة المرتضاة الثابتة بالأدلّة العقليّة و النقليّة (4)،و إمّا أن تكون عرفانيّا،
ص:260
و هي مشاهدة المراد(الرسالة المرتضاة)في مرايا وجود خلفائه المكرّمين مع تلك الكمالات الأصيلة الوافرة المذكورة لهم،تنقل أي أولويّة وجود هذه الكمالات و أتمّيّتها إلى من استخلفهم و أوصاهم بالخلافة كنظيره المتقدّم في التوحيد.
الخامسة:في بيان المقارنة:
نقول:يشهد الزائر(مضافا إلى كون رسالة النبيّ صلّى اللّه عليه و اله مرتضاة)بأنّ رسالته مقترنة بالهداية و دين الحقّ،لأنّه لو لم تكن الرسالة مقترنة بالهداية و دين الحقّ لم يكن خلفاؤه مستجمعين للكمالات المذكورة،ككونهم:
خزنة للعلم،و اصول الكرم،و قادة الأمم،و حجّة على أهل الدنيا و الآخرة و الأولى،و التامّين في محبّة اللّه،و غير ذلك،لامتناع دعوة إنسان كامل غيره إلى خلاف ما تقتضيه كمالاته الذاتيّة و الوصفيّة(خصوصا العصمة) و الفعليّة،فوجود هذه الكمالات في خلفاء الرسول كهذا و أتمّها فيه، يقتضي أن تكون رسالته مقترنة بالهداية و دين الحقّ،و ظاهرة و غالبة على كلّ الأديان سواه،كما وردت في المقام أخبار،منها:«عن محمّد بن الفضيل عن أبي الحسن الماضي عليه السّلام،قال قلت: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ ؟قال:هو الّذي أمر رسوله بالولاية لوصيّه،
ص:261
و الولاية هي دين الحقّ.قلت: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ؟قال:يظهره على جميع الأديان عند قيام القائم» (1).
السادسة:تعيين و تطبيق؛
يذكر الزائر هنا عدّة كمالات لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله،و حيث إنّ الأئمّة يكونون خلفاءه يلزم ما كان للمستخلف من الكمال أن يكون في خليفته، فتكون كمالاته صلّى اللّه عليه و اله في الأئمّة حتّى لا تقع البينونة بين المستخلف و خلفائه:
أوّلها:العبوديّة؛و هي كمال و صفيّ له صلّى اللّه عليه و اله كما في الأئمّة بلفظة«عباده المكرمين».
ثانيها:الانتجاب؛و هو كمال ذاتيّ،و في الأئمّة«و انتجبكم لنوره».
ثالثها:الرسالة؛و هو كمال فعليّ له صلّى اللّه عليه و اله كما في الأئمّة«و موضع الرسالة»،فإن كانت الرسالة مأخوذة على معناها العامّ اللّغويّ فإنّ الأئمّة أيضا يكونون رسلا.
رابعها:الارتضاء؛و هو كمال وصفيّ كما في الأئمّة«و ارتضاكم لغيبه».
خامسها:إرسال اللّه إيّاه صلّى اللّه عليه و اله بالهداية؛و هو كمال فعليّ،و وصف أوصياءه المعصومين ب«أئمّة الهدى».
سادسها:إرسال اللّه إيّاه بدين الحقّ؛و هو كمال فعليّ،كذا في الأئمّة:
ص:262
«و الحقّ معكم و فيكم،و منكم و إليكم».
سابعها:ظهوره صلّى اللّه عليه و اله على الدين كلّه؛و هو كمال فعليّ،و في الأئمّة:
«و حزبه»،للملازمة بين كونهم حزب اللّه و الغلبة.
«و أشهد أنّكم الأئمّة الرّاشدون المهديّون»
و فيه خمس نكات:
الأولى:سلّم الزائر و قرن كلّ تسليم مع ذكر كمال لهم في الباب السابق،و لكن يقارن هنا كلّ كمال بالشهادة،لعلّ الوجه في ما سبق ابتداؤه بالملاقاة و يلزم له دوام تحيّاته على المزور،ثمّ تبيين مطالبه للمزور،لأنّ ما يظهر يقع بعد تحيّاته.
الثانية:في عطف الزائر ما للأئمّة عليهم السّلام على ما لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و جهان:
ألف)عطف ذكريّ،و هو ما لا ينظر فيه إلى بعديّة وقوع المعطوف على معطوف عليه،كما لو قرأت الدرس أوّلا و كتبته ثانيا،تقول قاصدا للإخبار:«كتبت درسي و قرأته».
ب)عطف رتبيّ،و في ذلك ينظر إلى الترتّب الزمانيّ،و العطف بالواو هنا هو عطف رتبيّ،لتبيّن كون الإمامة بعد الرسالة،كما اتّفقت الأمّة عليه، مضافا إلى الأمر بإطاعة أولي الأمر بعد الأمر بإطاعة اللّه و الرسول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ 1.
ص:263
ب)عطف رتبيّ،و في ذلك ينظر إلى الترتّب الزمانيّ،و العطف بالواو هنا هو عطف رتبيّ،لتبيّن كون الإمامة بعد الرسالة،كما اتّفقت الأمّة عليه، مضافا إلى الأمر بإطاعة أولي الأمر بعد الأمر بإطاعة اللّه و الرسول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (1).
فالحاصل من هذا العطف رتبيّا لا ذكريّا،فنستنتج أنّ الإمام الهادي عليه السّلام راعى الترتيب الطبيعيّ هنا لجعله شهادات الزائر في حقّ آل البيت عليهم السّلام بعد ما يشهد في حقّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله.
الثالثة:تحليل علميّ في المقام:
قالت الحكماء:«إنّ تماميّة العلة تكون بجزئها الأخير»،فلو اجتمعت أجزاء لعلّة و لو بلغت إلى آلاف أجزاء دون جزئها الأخير كان وجودها كعدمها.
فالحاصل:إنّ صحّة الشهادة على وحدانيّة اللّه و تحقّقها بعد الشهادة على الرسالة،و لم تكن بعدهما الشهادة على الإمامة،فتكون الأوليين كأن لم تكونا ما لم تذكر الإمامة بعدهما،لأنّ الإمامة هي جزء أخير في الدين و متمّمه،كما يستفاد ذلك من قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ (2).
الرابعة:إن كانت شهادة الزائر على ما يشهد في آل البيت عليهم السّلام حاصلة بالأدلّة كانت شهادته إيمانيّة(بلّغنا اللّه إلى ما فوقها)و إلاّ كانت عرفانيّة؛ لأنّه قد شاهد في مرايا وجود آل البيت عليهم السّلام ما يقرب من ستّين كمالا،
ص:
فيشاهد إمامتهم و خلافتهم عن النبيّ صلّى اللّه عليه و اله في مجموع الكمالات لامتناع اجتماع تلك الكمالات على سعتها في رجل و عدم كون الرجل إماما و خليفة عن اللّه و رسوله،إذ كيف يمكن عقلا و عرفا و عادة،و أيضا على ما تقتضيه حكمته سبحانه و عصمة الرسول،كون رجل مستقرّا في أمر اللّه،تامّا في محبّة اللّه،مخلصا في توحيد اللّه،و كونه برهانا و حجّة على أهل الدنيا و الآخرة و الأولى و غير ذلك،و لا يكون هو إماما بل يكون مأموما و يقتدي بمن له سابقة في عبادة الأوثان،و غير ذلك من المطاعن و القبائح!فالحاصل أنّ الزائر بشهادته هذه على إمامتهم يقرّ بلوازمها التالية:
ألف)مجعوليّة إمامتهم من اللّه سبحانه.
ب)كونهم منصوصا عليهم بالإمامة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله.
ج)كونهم أولي العلم.
د)ضلالة من خالفهم و هلاكته.
ه)نجاة مواليهم و مطيعهم..و غير ذلك.
الخامسة:نقول في لفظتي(الراشدون،و المهديّون):إنّهما وصفان ذاتيّان حصوليّان،و لهذا لم يعبّر الإمام عليه السّلام عنهم بالمسترشدين و المهتدين(و غير ذلك)حتّى يفهم عن التعبيرين المتروكين كونهما تحصيليّين.فالحاصل أنّ كلاّ من هذين الوصفين حاصل لآل البيت عليهم السّلام في ذواتهم الشريفة قابليّة و فعليّة ككمال نفسانيّ لهم،و ينبغي هنا توضيح
ص:265
كلّ من الوصفين على حدة،فنقول:
أمّا الرّشد فهو(على ما استفدنا من موارد استعماله)عبارة عن الكمال المطلوب بخلاف مطلق الكمال،لأنّه نقيض النقص و أعمّ من أن يكون مطلوبا أو غير مطلوب،مثلا لا نقص في كفر فرعون لدعواه الربوبيّة، و لكن كماله في الكفر و الإلحاد كمال غير مطلوب؛و لهذا قال سبحانه:
وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (1)؛و أيضا ليس في قوم لوط مع كمالهم في الفجور رشيد كما حكى عنه سبحانه: أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (2)، و يؤيّد هذا المعنى ما ورد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله:«عليكم بسنّتي و سنّة الخلفاء الراشدين (3)من بعدي» (4).
و أمّا الهداية الذاتيّة فحاصلة لآل البيت،و هي مفهومة و مستفادة من الأوصاف و الكمالات التي سبق ذكرها،خصوصا من النفسانيّات المذكورة،فتبيّن كونهم راشدين و مهديّين كما خلقوا.
ص:266
«المعصومون»
و فيه أربع نكات:
الأولى:معنى«العصمة»في اللغة«الإمساك»،كما في(المفردات)، و«المنع»كما في(المنجد).و لم يستعمل في آل البيت عليهم السّلام غير مادّة العصمة ما يقاربها من اللغات في المعنى كردع و منع و غيرهما،لأنّ المراد إمساكهم عليهم السّلام عن الذنوب و المعاصي اختيارا،و هذا المعنى ليس موجودا في اللغات القريبة معنى،هذا ما اكتفينا به في توضيح معنى العصمة لغة.
الثانية:قبل الورود في تعريف العصمة و اختيار القول المختار،يلزمنا إثبات إمكانها،فنقول:لا شكّ في إمكان كون الإنسان معصوما من جهة الفاعل و القابل،أما الفاعل(اللّه سبحانه)،فهو قادر على كلّ شيء،و ذلك ثابت بالبرهان و القرآن،و يثبت في محلّه،و أمّا القابل،فلكون تعلّق قدرته تعالى به لا يلزم منه محال عقليّ،فثبت إمكان العصمة من جهتين،و هو المطلوب.
الثالثة:أمّا تعريفها اصطلاحا فكما يلي:
نذكر أوّلا بعض تعاريفها من غيرنا،ثمّ نأتي بتعريف آخر منّا،قيل:
1-«العصمة ملكة باعثة على فعل الواجبات و ترك المحرّمات»،و هذا
ص:267
التعريف غير تامّ؛لأنّ حقيقة الملكة فيه مجهولة من أيّ مقولة هي،و لم يذكر فيها،هل هي منافية للقدرة على ارتكاب الذنب أم لا؟
2-و عرّفها العلاّمة الحلّيّ بما هذا لفظه:
«العصمة،لطف خفيّ يفعله اللّه بالمكلّف بحيث لا يكون له داع إلى ترك الطاعة و ارتكاب المعصية مع قدرته على ذلك»،و هذا أيضا غير تامّ، لكون اللّطف الخفيّ مجهولا (1)،مضافا إلى أنّ جميع المكلّفين ليسوا بمعصومين.
3-و قيل:«العصمة:حالة علميّة نفسانيّة تصون الإنسان عن الزلل في القول و الرأي و العمل»،و هذا أيضا غير خال من إشكال،لأنّ الحالة تتحوّل،فقد تزول و قد لا تزول،إذا لا تكون صفة ثابتة،مع أنّ العصمة ثابتة في المعصوم (2)،و لكن يمكن.
4-تعريف آخر أجود منه،و ستطّلع على جودة تعريفنا:«العصمة، عبارة عن أقوى الدواعي إلى الطاعة و أقوى الصوارف عن المعصية (3)في نفس المعصوم الرشيدة (4)،فيوجبان عدم أدنى توجّه إلى غير اللّه».
ص:268
أمّا قيد الرشيدة في أخير التواريخ لكون الرشد(و المراد من الرشد هو القابليّة الواسعة)في نفس المعصوم،فلو لم تكن نفس المعصوم رشيدة بهذا المعنى،فلا تسع أقوى الدواعي و أقوى الصوارف.
الرابعة:تحليل أقوى الدواعي و أقوى الصوارف بالكلام و الحكمة و العرفان.
أمّا الكلام،فكلّ واحد من أقوى الدواعي و أقوى الصوارف هو علمه الواسع بعواقب الطاعة الحلوة فينبعث إليها،و عواقب المعصية المرّة كذلك،فينصرف عنها لآثارها الوضعيّة و القربيّة في الفرد و المجتمع في الدنيا و الآخرة،بل في كلّ نظام التكوين.
و أمّا الحكمة،فلكون المعصية صغيرة كانت أو كبيرة أمر عدميّ، و الأمور العدميّة لا تساعد مع آكد الوجودات و أشدّها،فكلّما كان فاعل المعصية وجوده أشدّ و آكد كان عن المعصية أبعد.و الحاصل أنّ وجود المعصوم كذلك،فبعده عن المعصية هكذا،يتبيّن مقصودنا بمثال طفلين، أحدهما في السنة السابعة من عمره،و ثانيهما ولد اليوم،و أنت تعلم أنّ الثاني أقرب إلى الموت من الأوّل،لضعفه أمام الحرارة أو البرودة الشديدتين،و لكنّ الأوّل أقوى بالنسبة إلى الثاني لضعف تأثيرهما عليه بالنسبة إلى الثاني.فالحاصل أنّ وجود المعصوم أشدّ الوجودات و آكدها، فهو أبعد عن المعصية من غيره،فيكون أقوى الدواعي و أقوى الصوارف
ص:269
فيه،عبارة عن تأكّد وجوده المسعود و شدّته،فينبعث إذا إلى الطاعة ما يناسبه في قوّة الوجود و شدّته و سعته،فينصرف عمّا لا يناسبه في الوجود و هو المعصية التي هي أمر عدميّ.
و أمّا العرفان،فلمّا كان المعصوم عليه السّلام مظهرا و مجلى لصفات اللّه القدسيّة و أسمائه السامية مع عينيّة صفاته مع ذاته،كان ظهوره تعالى عنده أقوى الحقائق ظهورا،و لمّا كان حضور المعصوم لسعة معرفته به و انجذابه إليه سبحانه أشدّ الانجذاب كان حضوره عند اللّه أقوى الحضور، بحيث لا يمكن له الغفلة عنه سبحانه فضلا عن أن يعصيه تعالى،فهذا هو المراد من أقوائين على مشرب العرفان،و يدلّ على ذلك كثير من النقل، كحديث قرب النوافل (1)،و وصف أمير المؤمنين عليه السّلام بأنّه عين اللّه و أذن اللّه و يد اللّه،و هما دالاّن على الشطر الأوّل من المراد(الظهور و التجلّي)، و قول النبي صلّى اللّه عليه و اله:«لي مع اللّه وقت لا يسعه ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل» (2)الدالّ على الشطر الثاني منه،و سيأتي مزيد بيان في محلّه إن شاء اللّه.
ص:270
«المكرّمون»
و فيه أربع نكات:
الأولى:«المكرّم»مفعول من التكريم،أي«جعل ذات الشيء كريما» بحيث يظهر كماله من غير اختيار للغير،كزوج كريم من النبات.
الثانية:يشهد الزائر هنا بأنّ آل البيت عليهم السّلام هم الذين كرّمهم اللّه (1)و إن كان تكريمه تعالى لا ينحصر بهم،لأنّه عامّ بالنسبة إلى جميع بني آدم،كما قال سبحانه: وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ (2)،لكون التكريم مقولا بالشدّة و الضعف على حسب القوابل،و يمكن القول بأنّ تكريمه لبني آدم يكون في الجملة،أي بعضهم كريمه الذات و بعضهم كريمه الصفات و بعضهم كريمه الذات و الصفات،و في الأقوال و الأفعال.كذلك نقول بالتبعيض، و لكنّ آل البيت عليهم السّلام هم المكرّمون بالجملة،أي في جميع الشؤون،فعلى ذلك تكون المرتبة الأعلى من التكريم مختصّة بهم عليهم السّلام،لأنّهم لو لم يكونوا مكرّمين كانوا مهانين(لعدم ثالث بين التكريم و التوهين)،كما قال زين العابدين عليه السّلام:«و الحمد للّه الّذي و كلني إليه فأكرمني،و لم
ص:271
يكلني إلى النّاس فيهينوني» (1).
و يشهد الزائر بكون كرامة اللّه لهم كجزء متمّم لإمامتهم،لأنّ المأموم ما لم يعتقد بأنّ إمامه مكرّم لا ينقاد لأمره و نهيه،و لا يؤمن بفرض طاعته على نفسه،و ينجرّ إلى لغويّة نصبه من اللّه للإمامة(نعوذ باللّه من ذلك) و لكن إذا اعتقد بكون إمامه مكرّما يعترف بكون اتّباعه فريضة مع ثقلها أحيانا.
الثالثة:الفرق بين كونهم«عباد مكرمون» (2)و كونهم مكرّمين؛
أمّا معنى كونهم مكرّمين،فهو جعل اللّه تعالى إيّاهم كرماء في خلقتهم، و أمّا كونهم مكرمين،فهو جعله تعالى إيّاهم بحيث يكرّمهم كلّ مؤمن، لإيمانه و كلّ مسلم غير شيعيّ لكونهم آل النبيّ،و كلّ كافر حرّ لكونهم أهل الكمال،مضافا إلى أنّ ذكر إكرام هناك وقع بعد ذكر العبوديّة،و هنا يقع ذكر تكريمهم بعد العصمة،و لعلّ التكريم هو مبالغة في إكرام اللّه لهم.
الرابعة:تبيين سعة كرمهم؛إذا قلنا بأنّهم مكرّمون في أكمل مراتب التكريم،لزم في كرمهم سعة لأنّ ضيق النفس نقص،و هو مناف لأكمل مراتب التكريم.إذا هذا التكريم الواسع من اللّه لهم يشمل ذواتهم و صفاتهم و أحوالهم و أقوالهم و أفعالهم و غير ذلك من شؤونهم،فإن قلنا
ص:272
بأنّ المراد من تكريم اللّه لهم إيجادهم مع سعة قابليّتهم ذاتا كان الكمال كمالا ذاتيّا،و إلاّ كان الكمال فعليّا خارجيّا حاصلا بسبب عباداتهم و أعمالهم الزاكية.
«المقرّبون»
و فيه ستّ نكات:
الأولى:هذا الإطلاق فيهم عليهم السّلام مقتبس من نحو قوله تعالى:
اَلسّابِقُونَ السّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (1)،و فَأَمّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ* فَرَوْحٌ وَ رَيْحانٌ وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ (2)،و عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (3).و يشهد على كون المراد منهم في الآية هم الأئمّة أخبار، منها:عن محمّد بن زيد عن أبيه قال:«سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قوله عزّ و جلّ: فَأَمّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ* فَرَوْحٌ وَ رَيْحانٌ وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ ، فقال:هذا في أمير المؤمنين و الأئمّة من بعده صلوات اللّه عليهم أجمعين» (4).
ص:273
و ينبغي أن يقال بأنّ ظاهر هذه الآيات الكريمات من القرآن يفيد بلوغ غيرهم أيضا إلى هذا الكمال،لكنّ تأويل الآيات في آل البيت عليهم السّلام لا يوجب الاختصاص بهم و عدم بلوغ غيرهم إلى مقام القرب و جدير بالذكر أنّ ما يبدو في ظاهر الآيات أنّ هذه المرتبة عامّة بالنسبة إلى كلّ من يليق بها،و يعارضه ظاهر الروايات الواردة في المقام في كونها مختصّة بآل البيت عليهم السّلام.نجيب عنه أنّ التأويل لا يحدّ مفهوم الآيات،لأنّ التأويل يشير إلى أجلى المصاديق في المقرّبين،و يشهد عليه روايات أخرى عدّت الشيعة فيها من المقرّبين أيضا،منها:عن ابن عبّاس قال:
«سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله عن قول اللّه عزّ و جلّ: وَ السّابِقُونَ السّابِقُونَ * أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ،فقال:قال لي جبرائيل:ذاك عليّ و شيعته،هم السّابقون إلى الجنّة،المقرّبون من اللّه بكرامته لهم» (1).
و ينبغي أيضا ذكر أنّ القرب:إمّا نسبيّ و إمّا تامّ،فالنسبيّ يعمّ كلّ من يليق حتّى غير الأنبياء عليهم السّلام،و التامّ منحصر في آل البيت عليهم السّلام.
الثانية:يلزم لكل مقرّب مقرّب إليه،فالمقرّب إليه لجميع ما سوى اللّه هو الكمال المطلق(الباري سبحانه)تكوينا،كما عليه اعتقاد كلّ عارف، و يمكن وقوع الاشتباه في المسير إليه أو المصداق،و لكن لا شكّ في سير
ص:274
الجميع إلى الكمال المطلق،و يشهد عليه قوله سبحانه: إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (1)،و وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (2)،فيكون المقرّب إليه لآل البيت و لغيرهم هو اللّه سبحانه.
الثالثة:ليس قربهم عليهم السّلام إلى اللّه تعالى زمانيّا و لا مكانيّا،لأنّه تعالى لا يحيط به الزمان و لا المكان،بل هو فوق الزمان و المكان،و لا نسبيّا لعدم وجود مجانسة بينه و بين غيره سبحانه،لكون ذلك في خواصّ الممكنات، و اللّه تعالى منزّه عن الإمكان،و لا علّيّا و معلوليّا،لأنّ هذا النوع عامّ لكلّ الممكنات بالنسبة إليه سبحانه،الذي هو علّة تامّة لها،بل القرب هو قرب حقيقيّ لا زوال فيه للمقرّب إليه و لا للمقرّب أيضا،كما يشهد عليه ما روي عن الإمام الصادق عليه السّلام:«لنا مع اللّه حالات نحن فيها هو و هو نحن،و نحن نحن و هو هو» (3)،و يقول العارف في المقام:
ص:275
أنا من أهوى و من أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا
الرابعة:بيان طلبهم القرب:
فإنّ المعصوم يسأل اللّه تعالى القرب إليه مع كونه في المقرّبين و هو تحصيل الحاصل،كما ورد عن عليّ عليه السّلام:«و أسألك بجودك أن تدنيني من قربك» (1)،أو«و أدنو منك دنوّ المخلّصين» (2)،يرتفع الإشكال:إمّا بعدم توجهه عند السؤال إلى كونه مقرّبا،و إمّا لكون سيره سيرا في اللّه الذي لا ينتهى،لا سيرا إلى اللّه الذي ينتهي،فسؤاله القرب هو طلبه لظهورات جديدة لكون الظاهر غير متناه،فيكون ظهوره هكذا.
الخامسة:ينظر إلى قربهم عليهم السّلام إليه باعتبارين:الأوّل:هو من باب المزيد(التقريب)،فهذا القرب يكون تحصيليّا،و لهذا النوع من القرب شواهد كثيرة من القرآن،فيكون لأعمالهم الزاكية و عباداتهم الخالصة أثر و دخل في حصول هذا القرب،و بهذا الاعتبار يكون هذا الكمال فعليّا خارجيّا.
و الثاني:من باب المجرّد،فيكون قربهم إليه مع عدم كونه من نوع
ص:276
القرب العلّيّ و المعلوليّ،كمالا ذاتيّا لكونهم خلقوا قرباء إليه.
السادسة:ينتج قربهم الحقيقيّ أن يكون فعلهم فعل اللّه،و طاعتهم طاعته و معصيتهم معصيته،و هكذا أمرهم و نهيهم،و هدايتهم و مرادهم مراده سبحانه،و يشهد عليه بعض الآيات: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ (1)،و وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ (2)، وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ رَمى (3).
«المتّقون»
و فيه أربع نكات:
الأولى:إنّ أصل التقوى«وقيا»،فقلبت واوه تاء،فبني المتّقي فاعلا منه،و جمعه«المتّقون».فهذه شهادة سادسة من الزائر على كمال سادس في هذا الباب لآل البيت عليهم السّلام بعد شهادته على التوحيد و الرسالة،لتفرّع جميع الشهادات في الباب عليها،ثمّ إنّ مصداق التقوى و حقيقتها(كما قال علماء الأخلاق)ليس كمالا في نفسه؛للزوم كلّ كمال أن يكون ثبوتيّا وجوديّا،و التقوى ليست كذلك بل تكون أمرا منفيّا،و لكنّها كمقدّمة لكلّ
ص:277
كمال لعدم تحقّق كمال بدونها.
الثانية:أنّ آل البيت عليهم السّلام هم أجلى المصاديق للمتّقين؛لأنّ إطلاق المطلق ينصرف إلى فرد أكمل،و قد دريت ما لهم عليهم السّلام من الكمالات في ما سبق،فمن كان موصوفا بها لا يمكن كونه مصداقا خفيّا للتقوى فضلا عن أن يكون فاقدها.
الثالثة:يقع هنا سؤال حول امتياز آل البيت عليهم السّلام عن غيرهم في التقوى، نجيب عنه مضافا إلى ما سبق آنفا(في هذه النكتة)،أنّ بينهم و بين غيرهم من المتّقين فروقا،منها:
الأوّل:أنّ التقوى في غيرهم تابعة لتعاليمهم عليهم السّلام بالأقوال الصادرة عنهم و تأديباتهم(المراد من التأديب التربية)بالأعمال المشهودة منهم، و لكنّ تقواهم عليهم السّلام كانت أصيلة.
الثاني:لا يمكن حصول التقوى عادة عن غيرهم من غير شائبة من الشّرك الخفيّ،كما قال النبيّ صلّى اللّه عليه و اله:«الشّرك اخفى في أمّتي من دبيب النّمل على الصفا في اللّيلة الظّلماء» (1).
لأنّ للتقوى ثلاثة أجزاء:«إطاعة من غير عصيان،ذكر من غير نسيان، و شكر بلا كفران»،كما قال الإمام الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: «اِتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ» :أن يطاع فلا يعصى و يذكر فلا ينسى،و يشكر فلا
ص:278
يكفر» (1).
فالحاصل أنّ التقوى المتحقّقة من غير المعصوم:إمّا أن تكون فاقدة لبعض هذه الأجزاء،و إمّا أن تستجمع الأجزاء مع نقيض ما أحيانا أو مع ضدّ ما أحيانا،و لكن لا يتصوّر منهم عليهم السّلام أيّ واحدة من الصور المتصوّرة في تقوى غيرهم.
الثالثة:أنّ تقوى غيرهم تتكدّر(و إن كانت تامّة كاملة من الأجزاء الثلاثة)بالكدورات الطبيعيّة خلقة و جبرا،و ليس من خلقتهم عليهم السّلام إلاّ تمام النور و الصفاء،و كمال البهجة و البهاء،فتدبّر.
الرابعة:مقوّمات التقوى:
إنّ التقوى متقوّمة:بالمتّقي،و المتّقى منه و المتّقى به.أمّا المتّقي هنا فهو كلّ واحد من آل البيت عليهم السّلام،و المتّقى به عبارة عن كمال حضورهم لدى اللّه سبحانه و تمام ظهوره تعالى فيهم،مع أنّ المتّقى به في غيرهم عبارة عن العلم الحصوليّ بالمبدأ و المعاد و عواقب العصيان و خواتيم الطاعة،و غير ذلك.
و أمّا المتّقى منه لغير آل البيت عليهم السّلام فهو عذاب النار و غير ذلك من أسباب الخوف،و فيهم عليهم السّلام ما سوى اللّه حتّى أنفسهم الشريفة،كما قال الإمام عليّ عليه السّلام:«فهبني يا إلهي و سيّدي و مولاي و ربّي صبرت على
ص:279
عذابك،فكيف أصبر على فراقك؟!و هبني صبرت على حرّ نارك، فكيف أصبر عن النّظر إلى كرامتك؟!» (1).
«الصّادقون»
و فيه خمس نكات:
الأولى:ترتّب الصدق على التقوى:
إنّ الصدق مترتّب على التقوى،و الصادقون أكمل من المتّقين،لأنّ التقوى على معناها العامّ من مقولة الفعل و إن كان فعلا منفيّا(و هو الترك)،و لكنّ الصدق من مقولة الوصف و هو أمر وجوديّ،و يحصل في النفس من دوام التقوى،و يتبيّن من ذلك أنّه كمال نفسانيّ و ليس فعليّا خارجيّا،كما يظهر من تفسير القائلين بكون الصدق وصفا للقول،فهنا نعود إلى أصل الكلام(و هو ترتّب الصدق على التقوى).و نحن نرى ذكر التقوى في القرآن مصاحبا بالتقوى،و لعلّ الإمام عليه السّلام اقتبس فقرتين على هذا الترتيب من الآيات التالية: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى
ص:280
وَ الْمَساكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ السّائِلِينَ وَ فِي الرِّقابِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ الصّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (1)، وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (2)،ترى أنّ التقوى في الآيتين أخذت مدلولا لخفائها،لكونها أمرا عدميّا،و الصدق دليلا عليها لكونه ثبوتيّا،و في الآية التالية جعل التقوى سببا لحصول الصدق الذي هو الكمال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ (3)، و جعلت التقوى في هذه الآية سببا للكون مع الصادقين: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَ نَهَرٍ* فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (4)،و صفت الجنّات و النهر نتيجة تقوى المتّقين،و كونها مقعد صدق كمال أعلى من النهر، و أعلى منه كون المتّقين عند مليك مقتدر،و ملخّص القول أنّ الصدق مترتّب كنتيجة على التقوى كمقدّمة.
الثانية:تعريف الصدق:
إنّ الصدق هو ما يطابق الحقّ،و هو أعمّ من أن يكون قولا أو فعلا أو قصدا أو عقيدة،خلافا لمن يتصوّره وصفا للكلام أو القول خاصّة،و لهذا
ص:281
ذكره المتكلّمون في كتبهم عقيب كونه سبحانه متكلّما،و لا يمنع كونهم عليهم السّلام صادقين بالجملة غيرهم من الصدق و لو في الجملة،فلا يزالون يمتازون عن الصادقين الغير معصومين عليهم السّلام.
الثالثة:أنّ المراد من الصادقين هم أهل البيت عليهم السّلام كما نقل المجلسيّ التواتر في تأويل الآية: وَ كُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ (1).
و أمّا الإجابة على اشتهار سادس الأئمّة بالصادق فهي أنّ المذاهب الباطلة-و لا سيّما الفقهيّة منها-حدثت في عصره عليه السّلام كثيرا،و كلّ مبدع كان يدّعي صدق مذهبه،لهذا اشتهر الإمام بالصادق عليه السّلام،ثانيا لا دليل على انحصار الصدق فيه دون سائر الأئمّة عليهم السّلام بعد قيام الأدلّة العقليّة و النقليّة المفيدة للقطع بكونهم صادقين.
الرابعة:كونهم عليهم السّلام صادقين على الإطلاق:
إنّهم عليهم السّلام كانوا صادقين و لم يتقيّد صدقهم بقيد،كقوله سبحانه: مِنَ
ص:282
اَلْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ (1)،و لم يجعل الصدق شرطا لمشروط،كقوله سبحانه: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (2)، فيكون صدقهم مطلقا،و هذا الصدق ملازم للعصمة،خصوصا إذا أمر اللّه تعالى بالكون مع موصوفين به،قال اللّه سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ (3).
الخامسة:تمايز آل البيت عليهم السّلام في الصدق عن الأنبياء:
إنّ آل البيت عليهم السّلام يمتازون في هذا الوصف عن النبيّين و المرسلين، لكون عصمتهم هي العصمة الكبرى،و فطرتهم أصفى و علمهم أوسع و صلتهم بالغيب و الملائكة أقوى بالنسبة إلى النبيّين في جميع تلك الجهات،فيكون صدقهم أكمل،كما يشهد على ما قلنا صدور ترك الأولى من آدم و غيره من الأنبياء عليهم السّلام و عدم صدور ذلك من آل البيت عليهم السّلام على التحقيق.
«المصطفون»
و فيه نكتتان:
ص:283
الأولى:تحليل هذه الفقرة الشريفة يلزم توضيح عدّة ألفاظ:
1-«الاصطفاء»افتعال من«الصّفوة»،و هو بمعنى التصفية إلى أخذ كدره ليكون ما بقي منه صافيا،قال سبحانه: أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ (1)، أي هل اختصّكم بالبنين؟أخذ منكم كدر البنات(بزعم عبدة الأوثان)، فالحاصل:لا يتحقّق كمال دون تصفية في كلّ موجود خليط بالكدر.فمع ثبوت حصول الكمال كأصل عامّ في كلّ موجود يتبيّن جريان أصل الاصطفاء.
2-المصطفي(فاعل الاصطفاء)،يجب أن يكون المصطفي عالما بالصفوة و الكدر،و قادرا على الاصطفاء و أخذ صفوة الشيء و ترك كدره،و حكيما في فعل الاصطفاء،ليكون فعله هذا موافقا للحكمة أي خاليا من أصغر عيب و جامعا لجميع المصالح الممكنة دون فوت أيّ منها،فبهذا التقرير يعلم أنّ المصطفي كهذا لا يكون إلاّ اللّه سبحانه، فمصطفي الأئمّة عليهم السّلام هو اللّه وحده.
3-المصطفى(على البناء المفعول)،يجري أصل الاصطفاء في كلّ من الملائكة و الناس،كما يشهد عليه القرآن: اَللّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَ مِنَ النّاسِ (2)،و يفهم من هذه الكريمة أنّ في كلّ منها كدرا،و هو
ص:284
سبحانه بتفريق الكدر يصطفي عدّة من كلّ منهما رسلا،فيكون المصطفون من الناس هم المعصومين عليهم السّلام،كما خاطب سبحانه موسى عليه السّلام: قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي (1)،فالحاصل أنّ آل البيت عليهم السّلام مصطفون من جميع المعصومين عليهم السّلام،و الآيات التالية شاهدة عليه: قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى (2)، و المراد من هؤلاء العباد آل البيت عليهم السّلام كما قال عليّ بن إبراهيم في تفسيره للآية: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا (3).عن إبراهيم عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام أنّه قال: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ فنحن الّذين اصطفانا اللّه عزّ و جلّ...»،و إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (4).و قد تقدّم بعض الكلام في أنّ آل البيت عليهم السّلام هم آل إبراهيم،فيتبيّن من هذه الآيات مع تأويلاتها أنّ آل البيت عليهم السّلام هم المصطفون.
4-المصطفى منه،يجب أن يكون المصطفى و المصطفى منه من جنس واحد،فلا يصحّ مثلا اصطفاء الذهب و الفضة من الماء أو الخبز فكون آل البيت عليهم السّلام مصطفين يجب أن يكون المصطفى منه هو سائر
ص:285
الناس؛لأنّ الإنسان مصطفى على الجنّ،فإذا كان آل البيت عليهم السّلام مصطفين من الإنس كانوا مصطفين من الجنّ بطريق أولى.
5-المصطفى عنه،و المراد من المصطفى عنه،هو كدورات موجودة في غيرهم من الناس،كضيق الأنفس و الجهل و غيرهما،دون الكدورات الإمكانيّة اللازمة للإمكان،غير القابلة للتفريق عن الممكن،كما شهدت عليه آية التطهير.
6-المصطفى فيه،و المراد منه هو الأبعاد الوجوديّة لهم من الأجسام و الأرواح،و توضيح ذلك أنّهم مصطفون في أجسامهم كما تدلّ عليه أخبار الطينة من أنّ طينتهم عليهم السّلام غير طينات سائر الناس،و هكذا نفوسهم القدسيّة،فهي مصطفاة من كدورات سائر النفوس.
الثانية:أنّ لهذا الشأن لهم عليهم السّلام اعتبارين:فباعتبار صحّة أخبار الطينة يكون هذا الشأن كمالا ذاتيّا لهم(و هو يعمّ أجسامهم و أرواحهم)،و إلاّ كان كمالا نفسانيّا.
«المطيعون للّه»
و فيه خمس نكات:
الأولى:يشهد الزائر صريحا في هذه الفقرة على كمال من الكمالات الفعليّة في مزوريه الأطهار،و قد قلنا بأنّ الشهادة بأيّ كمال فعليّ صريحا،
ص:286
شهادة بكمالات نفسانيّة كمقدّمات لهذا الكمال الفعليّ ضمنا،كالمعرفة الباعثة إلى هذا الكمال الفعليّ و غيرها.
الثانية:معنى الطاعة و أقسامها:
معنى«الطاعة»هو«الانقياد»،لأنّها من الطّوع و هي على قسمين:
تكوينيّة و تشريعيّة،فالتكوينيّة منها جارية في جميع الموجودات للواجب تعالى،و التشريعيّة خاصّة بالمكلّفين،و بينهما فروق كالتالي:
أ:التكوينيّة غير قابلة للتخلّف،كما قال سبحانه: فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (1).
ب:لا يستحقّ فاعلها المدح و لا الأجر (2).
ج:و لا يتوعّد فاعلها.
د:أنّها لا تنشأ من اختيار فاعلها،و لكن يتحقّق جميع ذلك في التشريعيّة،كما قال سبحانه مادحا و مثيبا للمكلّفين المطيعين: اُدْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (3).
ص:287
الثالثة:أنّ الطاعة التشريعيّة التي تصدر من المكلّفين مبتنية على معارف خمسة:
الأولى:معرفة المطيع بالمطاع،لأنّه ما لم يعرف اللّه المكلّف كمطاع حقيقيّ و لم يقف على مولويّته سبحانه،لا معنى لطاعته إيّاه.
الثانية:معرفته بالمطيع(و هو نفسه)لأنّ ما لم يعرف نفسه(بعنوان أنّه مكلّف)و لم يعرف لوازم الطاعة و آلاتها في نفسه و لم يعرف كيفيّة طاعته،لا تقع الطاعة.
الثالثة:المعرفة بالمطاع به،(و هو التكليف)،فيلزم عليه أن يعرف جميع ما كلّف به من الأفعال كالواجب و المندوب،و الترك كالمحرّم و المكروه.
الرابعة:المعرفة بلزوم الطاعة،فلو وقع في اشتباه و علم من الطاعة بأنّه لغو(معاذ اللّه)لا يطيع.
الخامسة:المعرفة بنقيض الطاعة(و هي المعصية)،فيلزم عليه أن يعرف المعصية كخارج من حدود اللّه حتّى لا يتعدّى إليها،و لا يعدّ المعصية طاعة و لا يحسب العاصي مطيعا؛لأنّه حينئذ يصير مصداقا لقوله سبحانه: وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (1).
و قد جمع الإمام الصادق عليه السّلام هذه الخمس في أربع،و ذلك بقوله:
ص:288
«وجدت علم النّاس كلّه في أربع:أوّلها أن تعرف ربّك،و الثّاني أن تعرف ما صنع بك،و الثّالث أن تعرف ما أراد منك،و الرّابع أن تعرف ما يخرجك من دينك» (1).
فالحاصل أنّ الزائر إذا وصف آل البيت عليهم السّلام بأنّهم«المطيعون للّه» يكون معناه أنّهم عليهم السّلام عارفون بهذه الأصول الخمسة معرفة بالغة بما لا يمكن فوقها.
إذا تقع الطاعة الكاملة منهم عليهم السّلام و لا يقع من غيرهم في هذه المرحلة الكاملة لضعف معرفة غيرهم بالأصول المذكورة.
الرابعة:نقيض الطاعة هو العصيان(كما قدّمنا)فلو لم يكن آل البيت عليهم السّلام مطيعين لكانوا عاصين،و هو ناقض للعصمة،فحيث ثبت كونهم معصومين و مستجمعين لجميع الفضائل النفسانيّة،فلا يمكن أن يكونوا غير مطيعين؛لأنّ عدم الطاعة معلول لأمرين:
ألف)حصول الصارف عن الطاعة.
ب)حصول الداعي إلى المعصية.
فالحاصل أنّ جميع الكمالات النفسانيّة المذكورة لآل البيت عليهم السّلام تقتضي الطاعة لا المعصية،و لهذا لا يختارون بأنفسهم إلاّ ما يشاء اللّه كما
ص:289
قال: وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ (1).
الخامسة:لوازم الطاعة:
فإذا تبيّن أنّ آل البيت عليهم السّلام هم المطيعون الكاملون في الطاعة،لزم لطاعتهم امور:
الأوّل؛الهداية،و هي الوصول إلى الغاية،كما قال سبحانه: وَ إِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا (2).
الثاني:الظفر بإطاعة اللّه،كما قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ (3).
الثالث:حصول غفران اللّه،كما قال تعالى: وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4).
الرابع:الفوز،قال تعالى: وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اللّهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (5).
الخامس:البلوغ إلى أجر حسن،قال سبحانه: فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللّهُ
ص:290
أَجْراً حَسَناً (1).
السادس:عدم ضياع الأعمال،قال تعالى: إِنْ تُطِيعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً (2).
السابع:دخول الجنّة: مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ (3).
الثامن:المعيّة مع النبيّين و الصّدّيقين و الشهداء و الصالحين: وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (4).
التاسع:نوال رحمة اللّه: وَ يُطِيعُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ (5).
«القوّامون بأمره»
فيه خمس نكات:
ص:291
الأولى:«القوّامون»جمع«القوّام»و هو مبالغة من القائم،و(القائم) فاعل القيام،فيكون المعنى«أشهد أنّكم كثير القيام بالجدّ و الجهد مع تحمّل المشاقّ بأمر اللّه و نهيه»،و هذا كمال خارجيّ فعليّ لآل البيت عليهم السّلام.
الثانية:الاحتمالات في معنى القوّام ثلاثة:
ألف)شديد القيام،و فيه ينظر إلى كيفيّة القيام.
ب)كثير القيام،و فيه ينظر إلى كمّيّته.
ج)الشدّة و الكثرة في القيام معا،ينظر في ذلك المعنى إلى كمّيّته و كيفيّته،و هذا هو المقصود من كونهم قوّامين،و يؤيّده الكمالات و الفضائل المتقدّمة لهم،مثلا ما لم يكن العبد شديدا في قيامه و ما لم يكن قيامه كثيرا لا يكون مستقرّا في أمر اللّه،و هكذا كون العبد تامّا في محبّة اللّه يستلزم كثرة قيامه و شدّته في طريق رضى المحبوب.
الثالثة:أنّ آل البيت عليهم السّلام أمروا بأن يكونوا قائمين أوّلا،و أن يكونوا قوّامين ثانيا،فالأوّل في امتثال الأوامر الصادرة منه سبحانه إليهم،و هذا ما توجبه عبوديّتهم،و يلزم كونهم مكلّفين كسائر الناس،كما قال سبحانه:
وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ (1).و الثاني فيما يتعلّق بإمامتهم و كونهم هادين و قائدين يلزم لتلك الشؤون كون الهادي و القائد و الإمام و النبيّ و الرسول
ص:292
قوّامين،مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ* قُمِ اللَّيْلَ (1)ناظر إلى الأوّل، و قوله تعالى: إِلاّ قَلِيلاً* نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً* أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (2)ناظر إلى الثاني،لأنّ الإمام أو القائد ما لم يكن قوّاما لا يمكن له تربية قائم.
فالحاصل يفهم من ثاني الأمرين بهذا التأكيد و التشديد شدّة القيام و كثرته،و هكذا في الأمر بالجهاد بقوله سبحانه: «جاهِدِ الْكُفّارَ» إشارة إلى تكليف العبوديّة للرسول،و في قوله: «وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ» (3)إشارة إلى وظيفة القيادة الحاصل أنّ آل البيت عليهم السّلام مع كونهم قائمين يكونون قوّامين بأمر اللّه،كما روي عنه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم:«أنّه قام في الصّلاة حتّى تورّمت قدماه» (4)، و لا فرق في أمثال ذلك من الشؤون و الوظائف بين الرسول و الأئمة، لكونهم خلفاءه في الأمّة و أبداله في العبوديّة و في كلّ كمال،و يؤيّد ذلك (عدم الفرق)مبالغة الأئمّة عليهم السّلام كزين العابدين و جدّه أمير المؤمنين عليهما السّلام في العبادة.
الرابعة:معنى الأمر و الباء الجارّة:
ص:293
يمكن تفسير الأمر هنا بالشأن،فتكون الباء بمعنى«في»،فيصير معنى الفقرة«القوّامون»في شأن اللّه(و المراد من الشأن،هو الجنس)من شؤون العبادة المتعلّقة بعبوديّتهم،أو غير العباديّة التي تتعلّق بها إمامتهم.
و الحاصل أنّ آل البيت عليهم السّلام كانوا قائمين و كذا قوّامين في كلّ واحد من هذين الشأنين (1)،و تشهد على كونهم قائمين الآيتان التاليتان: قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلّهِ مَثْنى وَ فُرادى (2)، يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ (3)،و على كونهم قوّامين أيضا هاتان الآيتان: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ (4)، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ لِلّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ (5)و يمكن أيضا تفسير الأمر بمعنى«الطلب».فتكون الباء سببيّة فلا تتوجّه إذا تكاليف اللّه إليهم،لأنّها وظائف عبوديّة،بل يكون التوجّه إلى أنّهم لا يقولون و لا يفعلون(على المعنى الكامل من القول و الفعل)إلاّ بأمر اللّه.قال تعالى: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى* إِنْ هُوَ إِلاّ
ص:294
وَحْيٌ يُوحى (1).و الحاصل أنّكم قوّامون بأمر اللّه لا من قبل أنفسكم و لا بميولكم؛و هذا مؤيّد للمعنى الثاني(الطلب)،و الفقرة التالية(العاملون بإرادته)فإنّه إن كان المراد من الأمر هو الشأن فلا تبقى صلة بين الفقرتين، و مع تفسيره بالطلب تحفظ الصلة بينهما.
الخامسة:كلام في تعارض أمرين أو في تزاحمهما:
إنّ كونهم عليهم السّلام القوّامين بأمره بمعنى لا تعارض عندهم بين الأمرين؛ لأنّهم عليهم السّلام عالمون بمرادات اللّه الحقيقيّة،و لكن يتعارض الأمران بالنسبة إلينا لأنّا جاهلون بما صدر من اللّه،و لكن يمكن تزاحم الأمرين عندهم، فإذا وقع التزاحم فيختارون الأشقّ منهما،كما إذا حضر وقت الصلاة و في نفس الوقت تنجّس المسجد،فهم عليهم السّلام يختارون ما هو أصعب على ما يقتضي كونهم قوّامين،لما قدّمنا من أنّ معنى القوّام هو كثير القيام و شديده.
«العاملون بإرادته»
و فيه ثماني نكات:
الأولى:يشهد الزائر بما حصل له من المعرفة بكمالاتهم السابقة،أنّهم عاملون بإرادته،لأنّ ما سبق من كمالاتهم كان كعلّة أو كالمقتضى،و يكون
ص:295
هذا الكمال الفعليّ الخارجيّ كالمعلول أو المقتضى.
الثانية:قد تقدّم في باب التسليمات شرح نظير هذه الفقرة في كونهم «و عباده المكرمين،الّذين لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون» (1)،و لكن بين الفقرتين فرقان:
ألف)ذكر الأمر في الفقرة السابقة و الإرادة ذكرت هنا،و معلوم أنّ الإرادة متقدّمة على الأمر وجودا و الأمر يتأخّر عنها،فتكون هذه الفقرة متأخّرة عنها ذكرا و متقدّمة حقيقة،بمعنى أنّ الآمر بشيء يريده أوّلا و يأمر به ثانيا.و الحاصل أنّ هذه الفقرة تبيّن كمالا أرقى ممّا سبق؛لأنّ عمل آل البيت عليهم السّلام بما يأمر اللّه ليس بمهمّ بالنسبة إلى كونهم عاملين بإرادته، (فانتظر مزيد بيان في المقام).
ب)أنّ لفظة«يعملون»في تلك الفقرة،لا تفيد الدوام بالنسبة إلى الماضي و المستقبل،بخلاف لفظة«العاملون»التي تفيد الدوام في الأزمنة الثلاثة:الماضي و الحاضر و المستقبل.
الثالثة:استعمل الإمام عليه السّلام لفظة العمل و لم يستعمل الفعل في كلتا الفقرتين؛لأنّ النسبة بين الفعل و العمل نسبة العموم و الخصوص مطلقا، فالفعل عامّ و العمل خاصّ،لأنّ الفعل يطلق على كلّ ما صدر من ذي
ص:296
شعور و غيره، (1)و لكنّ العمل هو ما يصدر من ذي شعور و علم و اختيار فقط،فهذا هو السرّ في أخذ الإمام عليه السّلام و تركه.
الرابعة:يثبت من أقوال المتكلّمين و المفسّرين و الحكماء و المحدّثين و اعتقاد الملّيّين أنّه تعالى مريد،و لا حاجة لنا إلى إيراد مقالاتهم في أنّ الإرادة هل هي صفة الذات أو الفعل،و ما هو تفسيرها و هل هي حادثة أو قديمة؟و غير ذلك من المسائل المتعلّقة بها،و ذلك خشية الخروج عمّا نحن بصدده.
الخامسة:إذا كان آل البيت عليهم السّلام العاملين بإرادته،لزم ذلك كونهم عالمين بها،لأنّ العمل فرع العلم،و ما لم يكن العامل عالما كان عمله كما لم يعمل.
السادسة:يلزم من كون إرادته تعالى صفة ذاتيّة(و هي علمه تعالى بالأصلح)علم آل البيت عليهم السّلام بما يعلمه اللّه أزلا مصلحة الأمور و الأشياء، إذا يتعلّق علمهم عليهم السّلام بجميع ما كان أصلح في علم اللّه،و إن فسّرت إرادته تعالى بالإيجاد(و هي صفة فعليّة)يكون معنى الفقرة أنّهم عليهم السّلام عاملون بما يوجده اللّه،و لكنّ الأظهر أنّه ليس المراد هنا هذا و لا ذاك،بل المراد من الإرادة هو القصد و المشيئة،فيكون معنى الفقرة أنّكم تعملون
ص:297
باستمرار بما شاء اللّه عمله كما قال سبحانه: وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ (1).
السابعة:قد قلنا بأنّ العمل بإرادته تعالى مستلزم للعلم بمراداته سبحانه،إذا علمهم بمراداته إمّا أن يكون من طريق صلتهم بعالم الوحي أو الإلهام أو تحديث الملائكة إيّاهم أو مطالعتهم الألواح السماويّة،أو من طريق التجلّي،بمعنى تتجلّى إرادته تعالى في نفوسهم الشريفة،و الكلّ ممكن،و لكن يتأيّد الأخير بقوله تعالى: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ رَمى (2).فالحاصل أنّ كونهم عاملين بإرادته على أيّ تفسير مبيّن لتوحيدهم الأفعاليّ المحض الخالص (3).
الثامنة:أنّ أصل العمل المداوم من آل البيت عليهم السّلام بإرادته ليس كمالا خاصّا بهم،لإمكان مشاركة غيرهم في هذا الوصف،و لكن الأزكى و الأخلص منه خاصّ بهم،لإمكان الكدورات النفسانيّة و ضيق النفس و عدم العصمة،و خلط العلم في غيرهم من العاملين،و هكذا ضعف
ص:298
مقرّبيّة عملهم،فيكون أكمل العمل بإرادته مختصّ بهم.
«الفائزون بكرامته»
و فيه سبع نكات:
الأولى:يشهد الزائر هنا على كمال آخر لآل البيت عليهم السّلام من كمالاتهم النفسانيّة،و هو فوزهم بكرامة اللّه،و لكنّه يؤدّي هذه الشهادات عند جميعهم لا مع حضور واحد منهم،فكلّهم شاهدون عليه،لهذا يلزم أن تكون شهاداته في كمال الإخلاص لأنّ علم هؤلاء الشاهدين نافذ في قلبه و لا يغيب أيّ توهّم له عن علمهم عليهم السّلام و إن كانت مرتبة إخلاصه موقوفة على مرتبة عرفانه.
الثانية:الفرق بين الفوز و الفلاح:
لا يرى فرق فارق بينهما في كتب اللغة،و لكن ما استفدناه من موارد استعمالهما في أبلغ الكلام(و هو القرآن العزيز)،هو أنّ الفلاح عبارة عن «الخلاص من المكروه»،و الفوز هو«النيل بالمحبوب».و معلوم أنّ في الفلاح غبارا من العدم،و في الفوز صفاء الوجود،فكرامة اللّه هو أمر وجودي،لهذا وصف آل البيت عليهم السّلام بكونهم فائزين بالكرامة،و لا يتصوّر لهم عليهم السّلام مكروه حتّى يتخلّصوا منه فيصيروا مفلحين لها فيهم من التمكين و عدم مشيّة إلاّ ما يشاء اللّه.
ص:299
الثالثة:قد تقدّم آنفا أنّ الإخلاص في شهادات الزائر متوقّف على معرفته بهم نقصا و كمالا،فعلى هذا يمكن أن تكون شهادته هذه شهادة إيمانيّة ناشئة من علمه بكمالاتهم السابقة،و يمكن أن تكون شهوديّة عرفانيّة بالكشف كما سبق نظيره.
الرابعة:مقدّمات الفوز:
يلزم من كونهم فائزين أن يستجمعوا جميع مقدّمات الفوز،و هي- على ما يستفاد من الكتاب العزيز أمور:
أحدها:طاعة اللّه و الرسول صلّى اللّه عليه و اله و سلّم،قال تعالى: وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (1).
ثانيها و ثالثها و رابعها و خامسها:الإيمان و الهجرة و الجهاد بالمال و الجهاد بالنفس،قال تعالى: اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (2).
سادسها:هي الصبر بجميع أقسامه،قال تعالى: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (3).
ص:300
سابعها:خشية اللّه،و ثامنها:التقوى: وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اللّهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (1).و لا شكّ في جميع هذه المقدّمات أنّهم أبلغ ما يمكن فيهم،كما تشهد على كلّ واحد منها فقرات هذه الزيارة و الأخبار الكثيرة و تاريخ حياتهم الطيّبة.
الخامسة:في بيان مصداق الفوز المستفاد من القرآن؛الأوّل:الوقاية عن العذاب و صرفه عمّن يصرف (2)،كما قال تعالى: وَ مَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (3)و مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (4).
الثاني:الظفر بأعلى القيم و أكثر المنافع في المبايعة للّه تعالى:
فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (5).
ص:301
الثالث:الخلود في الجنّة: خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (1).
الرابع:البلوغ إلى رضوان اللّه و هو أكبر من المصاديق الأخرى للفوز:
وَ رِضْوانٌ مِنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (2).
فعلى هذا،فآل البيت عليهم السّلام من حيث بلوغهم إلى أكمل مقدّمات الفوز و نيلهم إلى أعلى المصاديق هم أجلى المصاديق للفائزين.
السادسة:علّة فوزهم:
هل هي أنفسهم عليهم السّلام مع الجدّ و الجهد و تحمّل المشاقّ،أو كرامة اللّه لهم؟نقول:لا شكّ في كونهم عليهم السّلام مختارين كسائر الناس،و لاختيارهم و تحمّلهم المشاقّ حظّ وافر في فوزهم،و لكنّ تأثير الإنسان المختار يكون في ماهيّة أفعاله و أعماله بتعيين حدودها و قيودها و شرائطها،و لكنّ وجود الفوز و وجود كلّ شيء هو من اللّه (3)،كما قال سبحانه: وَ اللّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ (4).
السابعة:في بيان الصلة بين هذه الفقرة و سابقتها الشريفتين:
يحتمل أن يكون المراد من كرامة اللّه لهم هو إرادة اللّه الخير بأيّ معنى
ص:302
كان فيهم،الموجبة لعلمهم بالخيرات،الإيمان(العمل)كان كمقدّمة لفوزهم،فعلى هذا يكون الترتيب بينهما ترتيبا طبيعيّا و الثانية مرتبة على الأولى.
«اصطفاكم بعلمه» (1)
و فيه خمس نكات:
الأولى:قد مضت من هذه الزيارة(حسب ترتيب الإمام عليه السّلام)حتّى الآن فصول مشتملة على تسليمات الزائر على آل البيت عليهم السّلام،و فصل مشتمل على شهاداته في حقّهم،و يمكن أن تكون هذه الفقرة و ما تتلوها من الفقرات فصلا جديدا في بيان إفاضات اللّه عليهم،و يحتمل أن تكون هذه و ما بعدها من الفقرات-و لو بالصيغ الفعليّة لا الاسميّة السابقة-في الاستدامة لشهاداته.و الحاصل يشهد الزائر من هنا على مفيض الكمالات و في السوابق المبتدئة ب«أشهد أنّكم الأئمّة...»إلى قابل الإفاضات،كما قال سبحانه: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ (2).
ص:303
الثانية:اصطفاكم بعلم ذاته المقدّسة،أي اصطفاهم و هو عالم بأنّهم لائقون بالاصطفاء،لا لكونهم عالمين،و إليك التقرير التالي:قد يكون المعلوم تابعا للعلم و قد يقع الأمر معكوسا،أي قد يكون العلم تابعا لمعلومه فتبعيّة العلم للمعلوم هو قول المتكلّمين،إذا يكون للمعلوم وجود في نفس الأمر يقتضي ذلك الوجود للمعلوم تعلّق العلم به،فيتحقّق المعلوم،فيكون الباري عالما به على ما كان المعلوم في الواقع،بحيث لو لم يكن المعلوم هكذا في الواقع بل كان طورا آخر لم يتعلّق علمه به هكذا،و أمّا تبعيّة المعلوم للعلم(و هو قول الحكماء)فهو ما إذا لم يكن للمعلوم وجود لا في الواقع العينيّ و لا في نفس الأمر الخارج من علمه تعالى،بل حقيقة المعلوم هو ما يقتضي علم العلّة التامّة،أي يتحقّق المعلوم بمقتضى علم الواجب تعالى.فمحصّل القول هنا أن اصطفاهم اللّه بسبب اللياقة التي كانت في آل البيت عليهم السّلام فيكون علمه تعالى تابعا و تكون لياقتهم الذاتيّة متبوعا و علّة لاصطفاء اللّه إيّاهم،و إلاّ إذا فرضنا عدمهم و عدم لياقتهم فأصبحوا لائقين على ما يقتضي علم اللّه يكون علم الباري علّة و هم مع لياقتهم معلولا،و لا يمكن للممكن اصطفاء شيء على ما يقتضيه علم المصطفي؛لأنّ ذلك خاصّ للعلّة الموجدة،و الممكن لم يكن علّة وجوديّة لشيء بل هو علّة ماهويّة،فالحاصل تحقّق آل البيت عليهم السّلام تحقّقا عينيّا لا على ما تقتضي ذواتهم الشريفة ثمّ تعلّق علمه بهم،بل كان تعيّنهم في الخارج حسب مقتضى علمه سبحانه،(فتدبّر فيه
ص:304
جيّدا ليحصل الفرق بين القولين).
الثالثة:تفسير قول المختار (1)(اصطفاكم بعلمه):
إنّ في التعبير بعلمه يكون معنى الباء سببا،و قد اصطفاكم اللّه بسبب علمه،ففيه احتمالان:
الأوّل:إنّ اصطفاءه إيّاهم يكون بالعلم المخزون و المحفوظ فيهم، و يتأيّد هذا الاحتمال بقوله سبحانه: وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (2)،أي اصطفيناهم فكان اصطفاؤنا مبرهنا على كونهم عالمين (3)، فعلى هذا تكون علّة اصطفاء آل البيت عليهم السّلام هي العلم الذي أعطاه تعالى إيّاهم،كما في آدم عليه السّلام أعطاه العلم أوّلا ثمّ أثبت بهذا الفضل(بفضل العلم المعطى له)فضيلته على الملائكة.
الثاني:اصطفاهم اللّه بسبب علمه الذاتيّ الذي أوجب لياقتهم،فعلى هذا يكون علمه تعالى الموجب للياقتهم علّة و متبوعا،و لياقتهم معلولا تابعا (4).
ص:305
الرابعة:العلم و الحكمة:
إنّ استعمال الإمام هنا العلم دون الحكمة مع كونها أنسب من العلم (1)؛ لكون العلم قريبا من الحكمة الذاتيّة للّه،لأنّها أيضا علم بحقائق الأشياء على ما هي عليها في نفس الأمر،فتكون المغايرة بينهما مغايرة في المفهوم،و إلاّ فإنّ المراد منهما واحد مصداقا،فالحاصل اصطفاء اللّه آل البيت عليهم السّلام بالعلم كاصطفائه إيّاهم بالحكمة.
الخامسة:إن كان الصادر عن الإمام(اصطفاكم لعلمه)يكون هذا الكمال نفسانيّا لهم عليهم السّلام،و لكن إن صدر عنه عليهم السّلام(بعلمه)على أيّ من التفسيرين يكون كمالا خارجيّا غير فعليّ،لأنّ الاصطفاء يكون فعل اللّه تعالى الذي نشأ من علمه الذاتيّ بهم أو بكونهم خزّان علم اللّه و عيبة لعلمه،و غير ذلك.
«و ارتضاكم لغيبه»
و فيه خمس نكات:
الأولى:يشهد الزائر هنا على كمال آخر لهم عليهم السّلام من الكمالات الخارجيّة الغير فعليّة،و هو ارتضاء اللّه إيّاهم لغيبه المقتبس من قوله
ص:306
سبحانه: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ... (1).و الحاصل أنّ مراد الإمام عليه السّلام من بيان هذه الفقرة كمالا لآل البيت عليهم السّلام هو الرسالة على معناها العام المشتملة على الإمامة أيضا،و إلاّ لا يعدّ هذا الارتضاء كمالا لهم لأنّه وصف للرسول.
الثانية:بيان صلة هذه مع سابقتها:
إنّ الإمام عليه السّلام راعى الترتيب الطبيعيّ بين الفقرتين،لأنّ الارتضاء كنتيجة للاصطفاء و الاصطفاء مقدّمة له،فصفاء ذاتهم و بهاء جوهرهم سبب لاصطفائهم.لأنّه لو لا اصطفاؤهم و بهاؤهم لم يصطفيهم اللّه حتّى يقبلهم مرضيّين،فكون كلّ واحد مرتضى يتفرّع على كونه مصطفى فرع على كونه ذا بهاء و صفاء ذاتيّ،فظهر من هذا البيان أنّ لقب المصطفى لا ينحصر في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم و يؤيّده قوله تعالى: وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (2)و هكذا لقب المرتضى غير مختصّ بأمير المؤمنين و الإمام الرضا عليهما السّلام كما قال الإمام:«و ارتضاكم لغيبه»،و يؤيّده قوله سبحانه: إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ .
الثالثة:الغيب ما يقابل الشهود،و هو على قسمين:ذاتيّ و نسبيّ.
ص:307
و المراد بالغيب الذاتيّ هو حقيقة ذات الباري و كنهه،و هويّته سبحانه،و هذا المصداق من الغيب لا يمكن إدراكه للممكن لا حسّا و لا تخيّلا و لا عقلا،و لا يعلم ما هو إلاّ هو (1).
و أمّا الغيب النسبيّ،فهو كلّ ما غاب عن الإدراك،لقصور إدراك المدرك،لا لخفاء المدرك،لعدم خفاء فيه،لأنّه أمر وجوديّ،و الأمر الوجوديّ لا يقبل الخفاء،لأنّ الوجود مساوق للنور و الظهور.فالحاصل أنّ اللّه سبحانه ارتضى آل البيت عليهم السّلام لهذا النوع من الغيب،كوقت نزول الغيث و ما في الأرحام من ذكر أو أنثى و زمان موت كلّ حيّ و وقوع القيامة،و غير ذلك من المغيبات،و الشاهد على علمهم بالغيب كثير من إخباراتهم عمّا سيقع و بعض المعجزات الصادرة عنهم و قول عليّ عليه السّلام:
«لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا» (2).
الرابعة:إضافة الغيب هنا(و في الآية المباركة أيضا)إلى«اللّه»ليست الإضافة لاميّة،لاستلزامها أن يكون للّه أيضا غيب كما للممكنات القاصرة الإدراك(نعوذ باللّه منه)،بل كانت الإضافة بيانيّة،و هو الغيب المجهول من قبله غيبا لخلقه.
الخامسة:رفع تعارض:
ص:308
إنّ الروايات في علم آل البيت عليهم السّلام بالغيب،تنقسم على ثلاث طوائف:نافية، (1)مثبتة، (2)إراديّة،و المراد بالإراديّة أنّ علم الإمام عليه السّلام بكلّ غيب هو علم إراديّ إذا أراد أن يعلم علم و إلاّ فلا (3).
و أنت ترى التعارض بين هذه الطوائف،فيلزم لنا رفع التعارض من البين:
فالطائفة الأولى،ناظرة إلى العلم بالغيب بالذات لعدم إمكان ذلك على أحد سوى اللّه تعالى،لأنّه هو العالم بالغيب فقط و علمه به ذاتيّ،و لكنّ آل البيت عليهم السّلام هم العالمون بالغيب لا بعلم ذاتيّ فيهم،بل بإظهار اللّه الغيب لهم و تعليم عالم الغيب لهم،(فالحاصل أنّهم عالمون بالغيب).و الإراديّة مضافا إلى ضعف سندها-معارضة بالعقل و النقل المعتبر من كونهم عالمين بما كان و بما يكون و ما هو كائن.
ص:309
«و اختاركم لسرّه» (1)
و فيه أربع نكات:
الأولى:يشهد الزائر بكمال آخر من الكمالات النفسانيّة لهم،و هو كونهم مختارين لسرّ اللّه،و هذا الكمال لا يمكن حصوله لأيّ إنسان لما بين الناس من الفرق في سعة النفوس و ضيقها و قوّة القلوب و ضعفها، و كذا في درجات المعرفة باللّه.
الثانية:في ذكر شاهد،إنّ كونهم عليهم السّلام مختارين لسرّ اللّه لا يثبت بهذه الفقرة فقط،بل له مؤيّدات في الأخبار،منها عن أبي جعفر عليه السّلام قال:«إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم دعا عليّا عليه السّلام في المرض الّذي توفّي فيه فقال:يا عليّ ادن منّي حتّى أسرّ إليك ما أسرّ اللّه إليّ،و أئتمنك على ما ائتمنني اللّه عليه.ففعل ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم بعليّ عليه السّلام و فعله عليّ عليه السّلام بالحسن عليه السّلام و فعله حسن عليه السّلام بالحسين عليه السّلام و فعله الحسين عليه السّلام بأبي عليه السّلام و فعله أبي عليه السّلام بي صلوات اللّه عليهم
ص:310
أجمعين» (1).
الثالثة:الفرق بين الفقرات الثلاث(حفظة سرّ اللّه،و ارتضاكم لغيبه، و اختاركم لسرّه):
الفقرة«و حفظة سرّ اللّه»(كما هو واضح)تتقدّم مع فصل طويل على هذه،لأنّ هناك ذكرا من كمالاتهم النفسانيّة و كونهم حفظة كان من تلك الكمالات،فيجب أن يذكر هناك و لكنّ كونهم مختارين لسرّه هنا،فيكون ذلك من الإفاضات الإلهيّة لهم،فيجب أن يذكر بين نوعه من الإفاضات في هذا الفصل من الزيارة،و لكنّ في الحقيقة كونهم مختارين يسبق على كونهم حفظة،لأنّ حفظ الشخص سرّا لا يمكن إلاّ بعد اختياره لذلك، فتحصّل الفرق بين كونهم حفظة و كونهم مختارين.
و الفرق بين السرّ و الغيب اللذين يتبيّن بالفرق بينهما الفرق بين الفقرتين(الارتضاء للغيب و الاختيار للسرّ)كما يلي:أنّ الحقائق في التكوين و التشريع(من جهة الظهور و الخفاء)تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
جليّة و سرّيّة و غيبيّة.
فالجليّة منها هي التي لا يترتّب خطر على ظهورها و لا يستحيل إدراكها لكلّ عاقل،كوجوب الركعتين لصلاة الصبح و ظهور الشمس من وسط النهار.و أمّا الغيبيّة منها فهي الّتي لا يسع للناس إدراكها حتّى
ص:311
تحصل لهم المكنة لذلك في ما بعد،كخفاء أسرار القضاء و القدر في التكوينيّات،و خفاء الحكم و المصالح في أكثر التعبّديّات (1).
و لكنّ الحقائق السرّيّة هي التي يتفرّع على ظهورها خطر مهمّ،فقول النبيّ صلّى اللّه عليه و اله و سلّم:«لو علم أبو ذرّ ما في قلب سلمان لكفّره» (2)من هذا القبيل، و كذا قول عليّ عليه السّلام،كما روي عن الإمام جعفر الصادق عن أبيه عليهما السّلام قال:«ذكر عليّ عليه السّلام التّقيّة في يوم عيد فقال:«و اللّه لو علم أبو ذرّ ما في قلب سلمان لقتله» (3).
فظهر الفرق بين الغيب و السرّ،و لا تكون فقرة«و اختاركم»تأكيدا لفقرة«و ارتضاكم»،كما قال الأصوليّون:«التأسيس أولى من التأكيد»،و لا يمنع هذا الفرق من اجتماعهما في حقيقة واحدة لا يسع للناس إدراكها و حصول خطر في ظهورها.
الرابعة:أنّ لفظ«السرّ»اضيف إلى ضمير راجع إلى اللّه،فهذه الإضافة بيانيّة،فيكون معنى الفقرة«اختاركم اللّه لسرّ منه»،فهذه الإضافة العالية منه سبحانه إليهم لا تكون إلاّ لسعة نفوسهم الشريفة؛لأنّ اللّه تعالى منّ عليهم
ص:312
من سعة النفس بما منّ على رسوله صلّى اللّه عليه و اله و سلّم كما قال: أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ* وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (1)،أي خفّفنا لك تحمّل المشاقّ،و يسّرنا لك كتمان الأسرار.
«و اجتباكم بقدرته»
و فيه خمس نكات:
الأولى:لا شكّ في أنّ الاجتباء كمال لآل البيت عليهم السّلام كنظائره،و لكن من أيّ نوع من الكمال هو؟يتعيّن بعد تفسير كامل للفقرة مع تثّني الاحتمال في تفسيره،إذا يمكن كونه كمالا ذاتيّا لهم على الاحتمال الثاني، و كمالا خارجيّا على الاحتمال الأوّل.
الثانية:«الاجتباء»،افتعال من«الجبي»،و هو بمعنى الجذب و الجمع.
الفرق بين الاجتباء و الاختيار و الاصطفاء يظهر من المعنى المادّيّ لكلّ واحد منها،و المشترك بين جميعها هو«الأخذ ببعض و ترك البعض الآخر»،فهذا البعض المأخوذ إن كان لصفاء الشيء و ترك البعض الآخر لكدره سمّي الأخذ اصطفاء،و إن كان المأخوذ لمطلق حسنه و ترك نظيره لعدم ذلك الحسن سمّي الأخذ اختيارا،و إن كان الأخذ بجذب آخذ
ص:313
المأخوذ سمّي اجتباء،فكون آل البيت عليهم السّلام مجتبين بالاعتبار الثالث (1)، و مختارين بالاعتبار الثاني،و مصطفين بالاعتبار الأوّل.
الثالثة:يلزم هنا توضيح ما يشتقّ من هذه المادّة،أمّا الاجتباء فقد تقدّم آنفا،و أمّا المجتبي(الفاعل)فهو اللّه تعالى كما هو ظاهر من الفقرة،و أمّا المجتبى فهو عبارة عن ذات قدسيّة لكلّ واحد لآل البيت عليهم السّلام،و المجتبى منه هو سائر الناس،و المجتبى إليه سيتّضح لك إن شاء اللّه.
الرابعة:يحتمل لهذه الفقرة معنيان:
الأوّل:قد اجتباكم اللّه بقدرته،أي بقدرته الذاتيّة عليكم،فمعلوم أنّه تعالى على كلّ شيء قدير يخلق كلّ شيء بها و يغيّره بها و يكمّله، و يوصل بينه و بين سائر الأشياء و يفنيه بها،فلا يبقى إذا بين آل البيت عليهم السّلام و بين سائر الأشياء ميّز لعدم اختصاص هذا الشأن بهم،و لكنّ وصف الإمام الهادي عليه السّلام لهم بهذا الوصف حاك عن عظمة المقدور المجتبى التي جميع الأشياء فاقدة لها،كما خاطب بني إسرائيل حين أعطاهم التوراة:
خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ (2)،و ذلك(الأمر بالأخذ بالقوّة)إنّما هو لأهمّيّة التوراة.
الثاني:أنّه تعالى اجتباكم بالقدرة الخاصّة الممتازة التي أعطاكموها
ص:314
و جعلكم بها مظاهر أسماء له:كالقاهر و القادر و القدير و المقتدر،و ما يشبه هذه،لهذا تصدر المعجزات و خوارق العادات عنهم في حياتهم الطيّبة و الكرامات أيضا بعد وفاتهم (1)،و يؤيّد ذلك ما روي:«إنّه رئي بيده (الإمام عليّ عليه السّلام)كسرة خبز من شعير يابسة يريد أن يكسرها فلا تنكسر،فقيل له يا أمير المؤمنين،أين تلك القوّة التي قلعت بها باب خيبر؟فقال عليه السّلام:«تلك قوّة ربّانيّة،و هذه قوّة جسمانيّة» (2).
الخامسة:في تعيين المجتبى إليه،و فيه احتمالان:
الأوّل:إنّهم صاروا مجذوبين إلى هذا العالم بقدرته تعالى بعد أن كانوا ملائكة مجرّدين نوريّين(كما هو مختارنا المشروح عند قوله عليه السّلام «و مختلف الملائكة»)و متباينين لهذا العالم المادّيّ الظلمانيّ الموصوف بالكون و الفساد،مع ذلك اقتضت حكمة اللّه البالغة تعلّقهم بالأبدان العنصريّة و انجذابهم إلى عالم الطبيعة (3)،أو اجتباكم إلى هذا العالم مع قدرته التي منّ عليكم بها كي تكونوا بها قادرين على أيّ تدخّل و تصرّف و قبض و بسط في كينونة الخلق بإذن اللّه و على ما تقتضيه الحكمة.
ص:315
و أمّا ثاني الاحتمالين فهو كون المجتبى إليه هو الباري سبحانه كما قال: اَللّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (1)،لكونهم من هذا العالم من جهة كما قال سبحانه: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ (2)و مع ذلك اجتباهم اللّه و جذبهم إلى حضرته بحيث كانت أقدامهم تتورّم،لكثرة القيام في العبادة،فلقّب بعضهم(زين العابدين عليه السّلام)بذي الثّفنات في مواضع سجوده،و غير ذلك ممّا يدلّ على استغراقهم في جمال المعبود تعالى و جلاله،و عدم اعتنائهم بما سوى اللّه.
«و أعزّكم بهداه»
و فيه أربع نكات:
الأولى:يشهد الزائر هنا على كمال آخر ممّا أفاض اللّه عليهم عليهم السّلام، و هو كونهم معتزّين بهداية اللّه.و قد سبق منّا في ما مضى تفسير الهداية، فلا حاجة إلى الإعادة و التكرار،و لكن يلزمنا هنا ذكر ترتّب الهداية على الاجتباء كما قال سبحانه: اِجْتَباهُ وَ هَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (3)،و قال سبحانه: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى (4)، وَ مِنْ آبائِهِمْ
ص:316
وَ ذُرِّيّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (1)، اَللّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (2)،ترى في هذه الآيات الكريمات تفرّع الهداية و ترتّبها على الاجتباء (3)،و يمكن كون المراد من الهداية المتفرّعة على الاجتباء هو الإيصال إلى رضوان اللّه الذي ليس فوقه شأن،كما قال سبحانه: وَ رِضْوانٌ مِنَ اللّهِ أَكْبَرُ (4)،أو كون المراد منه كيفيّة إرشاد الناس و تربية الخلق.
الثانية:«العزّة هي ما في العزيز يمنعه عن غلبة الغير عليه» (5)،فيكون معنى الفقرة،أنّ اللّه جعلكم بهدايته بحيث لا تغلبون.
الثالثة:في إضافة الهداية إلى ضمير راجع إليه سبحانه احتمالان:
أحدهما:أنّه تعالى أعزّهم بالهداية الخاصّة لهم،أي هداهم ثمّ صاروا معتزّين بها،و هي مجعولة بجعل بسيط،و معناه،«أنّهم خلقوا و جعلوا
ص:317
مهديّين»؛و هذا الجعل هو جعل الذي خلقوا بالعصمة الذاتيّة،فتكون الهداية و العصمة فيهم غير منفكّتين عن ذواتهم الشريفة كإمكانهم الذاتيّ، فتكون المهدويّة و المعصوميّة عين ذواتهم الشريفة،كما أنّ الذهبيّة عين ماهيّة الذهب،فلا يمكن أن تكون ذواتهم نيّرة طاهرة مع عدم كونها مهديّة.فتحصّل أنّ إعزازه تعالى إيّاهم فرع على هداية ذاتيّة فيهم،و معلوم أنّ نسبة هذه الهداية مع كونها ذاتيّة لآل البيت لكونه سبحانه جاعل هويّاتهم مع جميع ذاتيّاتها،لأنّ إرادته تعالى هي منشأ الوجود و الكمال بجعل بسيط كان أو تأليفيّ.
ثانيهما؛أعزّهم بهداية منهم لعامّة الناس،إذا تكون الهداية مجعولة بجعل تأليفيّ،بمعنى أنّه تعالى جعلهم و أوجدهم طاهري النفوس،أزكياء القلوب،نيّري العقول،و معصومين مهديّين،ثمّ جعلهم للناس هادين بأوامره التشريعيّة.فعلى أيّ تقدير من الإضافتين المذكورتين هم أعزّاء (1)، و قد تبيّن هذا في شرح كونهم حجّة (2).
الرابعة:لا شكّ في أنّ إعزازه تعالى لآل البيت بهداه امتنان منه سبحانه عليهم،و هذا يصحّ في إمكان تصوّر الضلالة لهم،و قد تقدّم بأنّ الهداية الموجودة فيهم ذاتيّة كالإمكان الذاتيّ لكلّ شيء،فلا يتصوّر نقيضها منهم حتّى يصحّ الامتنان.نجيب عنه:ينظر إليهم عليهم السّلام تارة من جهة عقولهم
ص:318
القادسة و فطراتهم السليمة لهم،فالهداية المذكورة الغير مجعولة بجعل تأليفيّ كانت من شؤون عقول كهذه و فطرة مثل ذاك لا امتنان،إذا هو في ذلك عليهم إلاّ من حيث إنّه تعالى أوجدها و كوّنها و تارة من جهة أنّهم اناس خلقوا بأبدان عنصريّة و مع طبيعتي الغريزة و الوهم،فالضلالة و عدم إدراك الحقيقة و عدم التمييز بينها و بين الباطل،و نهاية الضلالة من شؤون هذا البعد،لأنّ خواصّ كلّ حقيقة و اللوازم الذاتيّة لها لا تنفكّ عنها، فالحاصل أنّ الامتنان المذكور إنّما يصحّ من هذه الجهة كما منّ به على رسوله بقوله: وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (1).
«و خصّكم ببرهانه» (2)
و فيه ثلاث نكات:
الأولى:أنّ المستفاد من مادّة«خ،ص،ص»بأيّ هيئة كان،هو الحصر و عدم مشاركة الغير و لا يسع شموله،فعلى هذا فهذه الفقرة مبيّنة لرتبة
ص:319
سامية لآل البيت عليهم السّلام منحصرة فيهم،فلا نصيب لغيرهم منها.فإن سأل سائل ألم يكن ليوسف عليه السّلام منه حظّ أيضا لأنّه رأى برهان ربّه،كما قال تعالى: وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ (1)نجيب عنه بوجوه:
ألف)أنّ هذا الحصر إضافيّ لا حقيقيّ كما هو جمع بين الخبرين الآتيين عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم:«كلّ أمر ذي بال لم يذكربسم اللّه فيه فهو أبتر» (2)و«كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد اللّه فهو أقطع» (3)،قيل:
الحصر في ذكر البسملة حقيقيّ و في الحمدلة إضافيّ و نسبيّ،بالنسبة إلى ما يذكر بعد الحمد من الكلام،فيكون حصر البرهان ليوسف بالنسبة إلى سائر الناس إضافيّا و في آل البيت عليهم السّلام حقيقيّا.
ب)الحصر(كون آل البيت عليهم السّلام برهانا فقط)،هو حصر حقيقيّ لا إضافيّ،و لكنّ رؤية يوسف عليه السّلام برهان ربّه كانت بوساطة آل البيت عليهم السّلام.
ج)أنّ المراد من كونهم برهانا هو أكمل الرتب البرهانيّة،فلا يقع كلام من حصر الإضافيّ في البين،و ما كان ليوسف عليه السّلام هو رؤية البرهان لا كونه عليه السّلام بنفسه برهانا.
ص:320
د)أنّ هذا الشأن شأن لكلّ معصوم و لا يشارك المعصومين فيه غير المعصومين عليهم السّلام،فيكون امتياز آل البيت عليهم السّلام،إذا على سائر المعصومين عليهم السّلام في أنّ آل البيت عليهم السّلام رتبتهم أكمل من سائر المعصومين عليهم السّلام.
الثانية:هذه الفقرة تحتمل تفسيرين:
أحدهما:أنّ البرهان يستعمل في إثبات مدّعى،فيمكن أن يكون المدّعى هنا إمامتهم،و البرهان على ذلك هو الدليل،و قد خصّ اللّه على إثباتها أدلّة كثيرة من العقل و النقل،و له ثلاثة وجوه:
الأوّل:أنّ الدلائل المذكورة مثبتة لإمامتهم فقط،و نافية لخلافة الكاذبين،فضلا من أن تعمّهم،فهذه الدلائل مجعولة من اللّه خاصّة في إمامتهم فقط (1).
الثاني:أنّ المراد من البرهان على احتمال ضعيف من كون البرهان الآتي من الربّ هو القرآن،و قد خصّ اللّه علم تفسيره و تأويله و ناسخه و منسوخه و محكمه و متشابهه و ظاهره و باطنه،بل بطونه و لطائفه و حقائقه بهم على ما لا يتطرّق خطأ أو زلّة إلى ذلك العلم (2).
الثالث:أنّ المراد من كونهم مخصوصين بالبرهان كونهم ذوي
ص:321
معجزات باهرة و كرامات وافرة،ليس لغيرهم قدرة على إصدارها و لا ولاية على فعلها (1).
ثانيهما:أنّ آل البيت عليهم السّلام بأنفسهم كانوا برهانا أتمّ لوجوده سبحانه، و لصفاته الجلاليّة و الجماليّة،و محامد أفعاله؛لأنّهم مظاهر أوصافه (2)،كما قال الإمام عليّ عليه السّلام(فيما روي عنه):«ما للّه آية أكبر منّي» (3)؛و لهذا المدّعى أدلّة كثيرة غير هذا الخبر.
الثالثة:فيما هو أقوى الاحتمالات:
أما القويّ هو الأوّل(كون إمامتهم مخصوصة من اللّه)بالدلائل العقليّة و النقليّة؛و الثاني فهو قويّ أيضا(كونهم مخصوصين بالعلوم القرآنيّة)؛ و أمّا الثالث فهو الأقوى من سابقيه،لأنّ البرهان لا يطلق على أيّ دليل،بل هو دليل واضح بيّن،بحيث لا يخفى على أحد ثبوت المدلول به،و لا شكّ في أنّ ثبوت إمامتهم بمعجزاتهم الباهرة أبين من الآيات القرآنيّة لأكثر الناس(لأنّ الناس ضعفاء العقول)،لأنّ معجزاتهم دلائل عينيّة على المراد (الإمامة)،مع أنّ الآيات القرآنيّة دلائل علميّة عليه،و معلوم بأنّ العيان هو الوجدان و هو مغن عن البرهان،فالحاصل أنّ آخر الاحتمالات(على التفسير الثاني)و هو كونهم بأنفسهم برهانا،و أقواها؛لإطلاق المجيء على
ص:322
البرهان (1)(دون نزول)في القرآن و على الرسول صلّى اللّه عليه و اله أيضا،كما قال سبحانه: يا أَيُّهَا النّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (2)،و لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ (3)،لأنّ كلّ آية ظهور صفات ذي الآية فيها أتمّ،فتكون الآية على كونها برهانا أصدق و أنسب، فحينئذ نقول:إنّ آل البيت عليهم السّلام هم أتمّ المظاهر و أجلى المجالي و أصفى المرايا لصفات اللّه و كمالاته سبحانه،فيكونون هم أجلى البراهين على صفاته،لأنّهم آياته الفعليّة،و الفعل أبين من القول.فالحاصل أنّهم عليهم السّلام أصدق برهان عليه،و مخصوصون بأكمل المراتب البرهانيّة؛لإطلاق المجيء على البرهان و هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و كلّ واحد من آل البيت عليهم السّلام بدل عنه صلّى اللّه عليه و اله لخلافته منه و نفسيّته له(على ما في آية«أنفسنا»).
الأولى:هذه شهادة أخرى من الزائر على كمال آخر نفسانيّ لهم،و هو انتجابهم بنور اللّه.«الانتجاب»بمعنى«تقشير الشّجر»،أي أخذ القشر و طرحه،و هذا المعنى غريب من معنى الانتخاب،و هو انتخاب خاصّ لا مطلق الانتخاب.ترى أنّه قد تكرّر ترجيح آل البيت عليهم السّلام بتعبيرات عديدة، فلو لم تلحظ الخصوصيّة المادّيّة في مادّة كلّ تعبير لكان تكرارا مملاّ غير بليغ(سيّما إذا كان صادرا من الإمام الموصوف ببلاغة الكلام،عليه آلاف التحيّة و السلام).إذا ففي كلّ تعبير يلحظ معناه الخاصّ المادّيّ في أصل ذلك التعبير،بتوضيح آخر أخذ بعض الشيء و ترك البعض الآخر(المعنى المشترك لجميع أنواع الانتخاب)،إمّا أن يكون غير جامع أو يكون جامعا، فينقسم الانتخاب إلى جامع و غير جامع،فغير الجامع منه ما يلحظ فيه حسن واحد أو بعض المحسّنات للشيء،و لكنّ الجامع بخلافه،فالحاصل أنّ اللّه سبحانه انتخب آل البيت عليهم السّلام انتخابا جامعا من جميع الجهات، فمن جهة حسن ذواتهم اختارهم،و من جهة صفاء ذواتهم الشريفة اصطفاهم،و من جهة كونهم مرضيّين عنده ارتضاهم،و من جهة جذبه تعالى إليه إيّاهم اجتباهم،و من جهة تعريته إيّاهم انتجبهم،فهذا هو ما أردناه من الانتخاب الجامع (1).
الثانية:في ما انتجبهم اللّه منه،يحتمل فيه أمران:
ص:324
الأوّل:أن يكون كلّ ما سوى اللّه بالنسبة إلى آل البيت عليهم السّلام بمنزلة القشر و الجلد،فهم عليهم السّلام بالنسبة إلى ما سوى اللّه كاللبّ و الحقيقة،و اللّه تعالى قشّرهم و عرّاهم منه،فبقوا خالصين من غير اللّه،غير متعلّقين بما عداه (1).
الثاني:أن يكون المراد ممّا انتجب آل البيت عليهم السّلام هو القشور الجسمانيّة المادّيّة و الجلود الغريزيّة و الوهميّة،فتكون إذا نفوسهم الشريفة و أرواحهم الطيّبة بمنزلة لبّ هذه القشور و الجلود،فالحاصل أنّه تعالى لم يجعل نفوسهم متأثّرة(على ما كان زائدا على الضرورة)منها كسائر النفوس الناقصة.
الثالثة:ما المراد من هذا النور؟فنقول:إمّا إضافة النور إليه تعالى هي بيانيّة،فيكون معنى الفقرة:انتجبكم اللّه بنور منه (2).
و إمّا المراد من النور هنا هو العلم،لأنّ العلم(و هو النور الحقيقيّ) كالنور الحسّيّ يظهر بذاته و يظهر للعالم غيره(و هو حقيقة المعلوم) لإطلاق النور عليه،كما قال الإمام الصادق عليه السّلام:«ليس العلم بالتّعلّم،إنّما هو نور يقع في قلب من يريد اللّه تبارك و تعالى أن يهديه» (3).و أنت
ص:325
خبير بأن ليس في النشأة المادّيّة بما هي مادّيّة نور أصلا،بل هي ظلمة محضة؛لأنّ الشعور و غرض الخلقة و مبدأه و مسيره و مقصده كلّها مجهول غير معلوم،بل لا يمكن للمادّة أن تدرك حتّى واحدا من هذه الأمور.
الرابعة:توضيح غير المشهور من الفقرة(لنوره):
لا شكّ في كونه تعالى نورا؛لانطباق مفهوم النور(و هو الظهور بالذات و إظهار الغير)عليه،و أيضا لظاهر آية النور،فهو تعالى و إن كان ظاهرا في كلّ شيء و كلّ شيء آية له،و لكنّه سبحانه أظهر و أبين في آل البيت عليهم السّلام لكونهم آياته التامّات،و علاماته الباهرات،كما تقدّم ذكر ذلك مرارا، فالحاصل أنّه تعالى انتجب آل البيت عليهم السّلام من قشور مادّيّتهم(لكونهم بشرا)و من قشور العالم أيضا،ليظهر بهم تمام الظهور،فهذا هو المراد من نوره الذي انتجبهم له.
«و أيّدكم بروحه»
و فيه خمس نكات:
الأولى:هذه شهادة أخرى للزائر على كمال آخر خارجيّ لهم عليهم السّلام، و هو الواحد و العشرون من شؤون آل البيت عليهم السّلام(في هذا الباب،أي باب
ص:326
الشهادات،سوى ما يشهد في ابتداء هذا الباب على التوحيد و الرسالة، و هو كونهم مؤيّدين بروح اللّه.
«التأييد»بمعنى«التقوية الشديدة»،لأنّ الأيد هو القوّة،كما قال تعالى:
وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَ إِنّا لَمُوسِعُونَ (1)،فينكشف من استعمال هذه المادّة بأيّ هيئة كانت وجود المخالف لمن يتأيّد(لقابل التائيد)و إلاّ لم يكن مورد لاستعمال الأيد،أي القوّة الشديدة.
الثانية:معنى الروح:
إذا كانت الحياة متعدّدة بتعدّد قوابلها(الجماد و النبات و الحيوان و الإنسان)يكون لها معنى كلّيّا و مفهوما عامّا.فيحصل أنّ الحياة ما يكون الشيء بها ذا أثر و ثمر،فإذا لسببها(الروح)أيضا مفهوم عامّ جامع، فيكون كلّ سبب لأيّة حياة مصداقا للروح،كالّتي تنفخ للحيوان أو للنبات، و هكذا القرآن و جبرئيل عليه السّلام و غير ذلك.
و الحاصل أنّه لا إشكال في القول بكون المراد من الروح التي بها أيّد اللّه آل البيت عليهم السّلام هو القرآن،أو جبرائيل،أو الروح الأعظم(ملك ذو منزلة فخيمة و هو أعظم من سائر الملائكة).فإطلاق الروح على كلّ واحد ممّا ذكر لكونه سببا لحصول مرتبة من الحياة،مثلا تحصل الحياة الإنسانيّة بنزول القرآن لمن كان ميّتا من هذه الجهة و إن كان حيّا في ناحية
ص:327
الحيوانيّة،كما قال سبحانه: اِسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ (1)،و قال سبحانه(في حقّ القرآن): وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لاَ الْإِيمانُ (2).
الثالثة:ما يتبادر إلى ذهن كلّ خبير أمران:اقتباس هذه الفقرة من قوله سبحانه: وَ أَيَّدْناهُ 3بِرُوحِ الْقُدُسِ (3)و تأييد اللّه آل البيت عليهم السّلام بها بطريق أولى،فلم تكن الروح إذا روحا بخاريّا أو إيمانيّا أو غيرهما من الأرواح إلاّ القرآن أو روح القدس،لعدم الامتياز في تأيّد آل البيت عليهم السّلام بأيّة واحدة منها،فإن كان المراد منها روح القدس أو القرآن فهذا امتياز خاصّ لآل البيت،لأنّ العلم بالقرآن و كيفيّة الاحتجاج به مخصوص بهم عليهم السّلام.
الرابعة:قد تقدّم أنّ معنى التأييد هو الشدّة في القوّة(التقويّة الشديدة) و هو في ما إذا كان مخالفا شديد المخالفة للمتأيّد،فيتبيّن أنّ لآل البيت عليهم السّلام مخالفين أقوياء في إمامتهم التشريعيّة أو ولايتهم التكوينيّة،كما كان المخالفين من بني إسرائيل للمسيح في نبوّته،فأيّده اللّه بروح القدس.
و الحاصل أنّ آل البيت عليهم السّلام مع تأييد اللّه بروحه إيّاهم يقدمون على وظيفة
ص:328
إمامتهم حسب اقتضاء الظروف،و أيضا هم مقدمون في إثباتهم الولاية التكوينيّة مع إظهار المعجزات و خوارق العادات،و كان هذا كلّه بتأييد بروح اللّه.
الخامسة:ينبغي التذكير بأنّ الإضافة(إضافة الروح)قد تكون حقيقيّة و قد تكون تشريفيّة؛فالأولى فيما إذا كان المضاف متقوّما بما يضاف أو العكس و بدون الإضافة لا يكون موجودا.و الثانية ليس كذلك،و ليس تقوّم أحدهما بالآخر وجودا،بل هي من حيث إنّ المضاف كان بالغا في الشرافة عند المضاف إليه،فإضافة الروح هنا ضمير راجع إلى اللّه تكون من هذا القبيل،فهذه الشرافة في الروح كانت مختصّة بها،و هذا الاختصاص حاك عن شرافة بالغة للمتأيّدين بها،و شرافة حياة موهوبة بها لآل البيت عليهم السّلام.
«و رضيكم خلفاء في أرضه»
و فيه تسع نكات:
الأولى:هذه شهادة اخرى للزائر على كمال فعليّ لآل البيت عليهم السّلام و هو دالّ على كمال ذواتهم الشريفة القابلة له،و الارتضاء المنظور هنا و ما تأتي من الفقرات إلى قوله عليه السّلام:«و الأدلاّء على صراطه»،و هو كمال نفسانيّ لهم عليهم السّلام.
ص:329
الثانية:معنى الرضا و السخط:
هذان وصفان متناقضان،فالرضا وجوديّ،و السخط(أي نقيضه) عدميّ،قيل في معنى الرضا:«رضا العبد عن اللّه أن لا يكره ما يجري به قضاؤه،و رضا اللّه عن العبد هو أن يراه مؤتمرا لأمره و منتهيا عن نهيه» (دون اعتراض حاليّ أو مقاليّ)،فلا حاجة إلى ما قيل في تعريف السخط بعد تبيّن كونه نقيض الرضاء (1).و أمّا حقيقة الرضا و السخط في اللّه سبحانه فلا يمكن كونهما حالين كما في الممكن،بل حقيقتهما فعلان صادران منه بإرادته القاهرة،فيكونان إذا-حسب تعبير أهل الكلام- وصفين فعليّين منتزعين من حاقّ فعله،فيكون منشأهما فعلاه لا ذاته المتعالية.
الثالثة:توضيح رضا اللّه و سخطه:
إنّ المتكلّمين و المفسّرين الذين يمشون كما مشى أهل الكلام، يقولون بأنّ المراد من رضا اللّه و سخطه هو نتيجة حالتي الرضا و السخط، فيكون معناهما فيه سبحانه من باب أخذ الغايات و ترك المبادي،فكما من رضي عن أحد يكرمه و ينعم عليه و إن سخط عليه لا يكرمه بل يضربه مثلا.فالمراد من الرضا و السخط فيه تعالى هو نفس الإنعام أو التعذيب دون أيّة مقدّمة.و لكن يمكن القول بأنّهما وصفان كماليّان فرعان على
ص:330
جماله و جلاله مجهولا الحقيقة؛و لكنّ الأقوى هو التفسير الأوّل،فالحاصل أنّه تعالى لمّا رضي عن كون آل البيت عليهم السّلام خلفاء يكون معناه جعلهم كذلك،و لا يمكن لنا العلم من صفاته بأكثر من هذا.
الرابعة:بيان دوام جعل الخليفة؛
إنّ جعل الخليفة من قبله تعالى من الكمّلين أمر مستمرّ دائم و يثبت هذا المدّعى بالعقل و النقل،أمّا العقل فلكون الخلق كلّهم(في أيّ عصر و مصر)عياله،و هو تعالى ذو رحمة واسعة عليهم و لا يفرّق بينهم في إيصال الرحمة،فلو لم يجعل خليفة لأهل زمان خاصّ مثلا،كان ذلك إخلالا بالواجب الذي تقتضيه حكمته البالغة و رحمته الواسعة،و الحال أنّه منزّه من الإخلال بالواجب أو فعل القبيح الذي يأتي بترك الجعل،و أمّا نقلا فيستفاد من القرآن أنّ جعل الخليفة سنّة ثابتة جارية غير قابلة للتبديل و التحويل،كما قال: وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً (1)،و قال أيضا: وَ لا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (2).و أمّا الآيات المثبتة لذلك فكما يلي: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (3)، هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ (4)، يا داوُدُ
ص:331
إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ (1)، إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً ... إِنَّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ (2)، وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ (3).
هذه الكريمة أيضا كالآيات السابقة دليل نقليّ قطعيّ الصدور على المراد (4).
الخامسة:إنّ الخلافة المجعولة لكلّ إنسان كامل في أيّ زمان تكون متتالية غير متعارضة(أمرا و نهيا و نفوذا و حكومة)لخلافة اللّه،لأنّها إن
ص:332
كانت متعارضة،مضافا إلى أنها تنتهي إلى الشرك،تنافي مجعوليّتها من اللّه.
السادسة:يقع هنا سؤال عن ضرورة جعل الخليفة مع أنّ المستخلف هو اللّه الحيّ الذي لا يموت كما قال: وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ (1).و أيضا لا يغيب،كما قال: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ (2).
نجيب عنه:إنّ هذه الضرورة لا لحاجة الفاعل إليه بل لحاجة القابل؛لعدم المسانخة بين الممكن و الواجب،و لكنّها موجودة بين(الخليفة)و بين القابل،لأنّه تعالى(و هو المستخلف)متنزّه عن المباشرة الماهويّة (3)في أمور العالم.
السابعة:يستفاد من هذه الفقرة و ما يشبهها من الفقرات الماضية و الآتية،و لا سيّما من التعبير ب«في أرضه»،أنّ المراد من الخلافة هي الخلافة التشريعيّة دون التكوينيّة التي تعمّ جميع ذرّات الكون آخذا من الهيولى منتهيا إلى أقوى درجات الإمكان التي هم عليهم السّلام واجدوها أيضا كما في التشريع.
الثامنة:يشهد الزائر في هذه الفقرة(مبتدئا من«رضيكم»إلى أن ينتهي إلى«و أدلاّء على صراطه»)على اثني عشر شأنا لآل البيت عليهم السّلام،كلّ شأن
ص:333
منها موصوف بوصف مرضيّ(على الترتيب الآتي)فهم الخلفاء المرضيّون في الأرض و الحجج المرضيّة في الخلق و الأنصار المرضيّون للدين و...
ترى أنّ آل البيت عليهم السّلام وصفوا بكونهم مرضيّين في جميع هذه الشؤون، فإن تدبّرت في ما سبق من الزيارة و لا سيّما في الفصل الأوّل من الباب الأوّل ينكشف لك سرّ ذلك،لأنّ كماليّة كلّ الشؤون المتقدّمة و وجوديّتها (دون كون حتّى واحد منها عدميّة)يشهد أنّهم مرضيّون للّه،و أنّه تعالى رضي عنهم في جميع شؤونهم؛فتكون هذه الشؤون الاثنا عشر مرضيّة كنتيجة جامعة لجميع ما سبق.
التاسعة:أنّ كلّ واحد من هذه الشؤون الاثني عشر أضيف إليه سبحانه؛لعدم وجود موصوف بالذات في الوجود غير اللّه تعالى؛و لتعلّق جميع الأعيان و الحقائق من الأشياء و الأشخاص و الأوصاف و الشؤون و الجواهر و الأعراض به تعالى وجودا و بقاء و فعلا و انفعالا.
«و حججا على بريّته»
و فيه ثلاث نكات:
الأولى:هذه مرّة ثالثة تذكر حجّيّتهم،و هي غير مكرّرة (1)؛لأنّ أولى
ص:334
المراتب (1)ذكرت فيها سعة حجّيّة آل البيت عليهم السّلام،و في الثانية(و حجّته) كانت تثبيتا لنفس حجّيّتهم،و في الثالثة(و حججا على بريّته)تبيين متعلّق الحجّيّة،و هو البريّة.
الثانية:معنى البريّة:البريّة هنا صفة مشبّهة و لها معنى مفعوليّ،كالقتيلة بمعنى المقتولة،و مع ذلك لا يتّضح معناها أوّلا إلاّ إذا اتّضح معنى الفاعل (الباري)منها؛فنقول:إنّ الباري(و هو من أسماء اللّه الحسنى)هو من يسوّي دقائق الشيء بعد أن خلق،كمن يصنع القداح ثمّ يسوّي أجزاءها، قال سبحانه: هُوَ اللّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ (2)،و قال تعالى: اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّى* وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3)،و قال أيضا: اَلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوّاكَ فَعَدَلَكَ* فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (4).ترى أنّ مرتبة البرء واقعة بعد الخلق،و هو هكذا لكون تسوية الأجزاء تقع بعد خلقها و تركيبها.
و الحاصل أنّ الباري من يسوّي أجزاء الخلق و البريّة ما تتسوّى أجزاؤه بعد أن خلق و قبل التسوية بعد خلقه،و المراد منها كلّ ما سوى اللّه؛لأنّه تعالى سوّى بين الأجزاء الذاتيّة لكلّ شيء و بين قواه و غرائزه(إن كان الشيء صاحب غريزة)،و إن كان إطلاقه على ذوي العقول كالإنسان
ص:335
أقوى و أصدق،كما قال: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (1)،كما أنّ أحسن تقويم أيضا لذوي العقول بالقرآن،قال تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (2).
فمن حيث إنّ الغلبة لذوي العقول على غيرهم تكون حجّيّتهم الأقوى لهم،و المرتبة النازلة لغير ذوي العقول،لأنّ آل البيت عليهم السّلام حجج اللّه على غير ذوي العقول بكونهم وسائط الفيض التكوينيّ،و لذوي العقول مضافا إليها تشريعا أيضا،فالحاصل أنّ المخالفة الموجودة في غير ذوي العقول هي ميلها إلى العدم لو لم تتعلّق إرادة اللّه القاهرة بوجودها بسبب وساطتهم الغالبة عليها.و خلاصة القول أنّ المراد من البريّة التي هم حجج عليها هو جميع ما سوى اللّه،و أجلى مصاديقها ذوو العقول الذين حجّيّتهم فيهم أقوى من غيرهم ثمّ إنّ حجّيّة آل البيت عليهم السّلام واقعة في المرتبة الثالثة بعد الأوليين لجميع ما سوى اللّه.
الثالثة:إثبات حجّيّتهم على ذوي العقول(و هم الإنس و الجنّ و الملك)من البريّة:
كلّ دليل من العقل أو النقل تثبت به النبوّة و الرسالة الختميّتان لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم فهو بعينه مثبت لحجّيّتهم عليهم السّلام،كقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ
ص:336
رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (1)،و كقوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (2).و الدليل على كونهم حجّة على الجنّ هو آيات من سورتي الجنّ و الأحقاف،و أيضا على كونهم حجّة على الملائكة حديث تعليم الأسماء لآدم على الملائكة لكونه عليه السّلام خليفة و إنسانا كاملا.
و هكذا فإنّ آل البيت عليهم السّلام خلفاء اللّه أيضا و أكمل من آدم.و الدليل على كونهم حجّة على غير ذوي العقول(من الجماد و النبات و الحيوان)هو معجزاتهم الباهرة الصادرة منهم،كإحياء الأموات و تبديل الحصاة ذهبا، و تمثال الأسد إلى أسد مفترس و غير ذلك.
«و أنصارا لدينه» (3) [3]
و فيه نكات أربع:
الأولى:أنّ«الأنصار»جمع الناصر أو النصير على المعنى الفاعليّ (ناصر)أو المفعوليّ(منصور)،و الدّين عبارة عن حقيقة ثابتة غير مادّيّة و غير قابلة للتغيّر ذات مصاديق،هذا ما استفدناه من موارد استعمال مادّة
ص:337
«دين»من القرآن و الحديث،فلا نحتاج إذا إلى ما ذكر في معناه اللغويّون، و غيرهم؛لعدم خلوّه من الإشكالات،كما و يشمل هذا التعريف«الدّين» أيضا.و أمّا مصاديقها العقليّة فهي الاعتقاد بالمبدأ(و هو اللّه و صفاته)، و المسير(النبوّة و فروعها)،و المقصد(المعاد و مسائله)و مصداقها (العاطفيّة)،و السير(كلّيّات الأعمال و الأخلاق)،كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله:
«لا دين لمن لا عهد له» (1).
الثانية:أنّ لكونهم أنصارا مرضيّين لدين اللّه اصولا و مقدّمات،و هذا الشأن مبنيّ عليها،و هي الشؤون و الكمالات السابقة الذكر،فالحاصل لكلّ من السوابق دور و تأثير في هذا الشأن لهم عليهم السّلام،و لكنّ بعضها قويّ التأثير و بعضها أقوى،ككونهم متأيّدين بروح اللّه و معتزّين بهدى اللّه،فلولاها (الكمالات السابقة)لم يكونوا أنصارا أصلا أو أنصارا مرضيّين.
الثالثة:يتبيّن المقصود من المقايسة بين كونهم أنصارا مرضيّين و بين حواريّي المسيح عليه السّلام،من قوله سبحانه(كما قال عيسى ابن مريم للحواريّين): قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللّهِ (2).
ترى عدم الانطباق في إجابتهم له،بل ترى الغلوّ فيها؛لأنّه عليه السّلام قال:
ص:338
مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللّهِ و لكنّهم أسندوا أنفسهم بكونهم أنصار اللّه،مع أنّهم في الحقيقة أنصار المسيح،و ناصر اللّه هو المسيح نفسه،و ترى شائبة الغلوّ في إجابتهم هذه،فهذه الإجابة الناقصة كافية في كونهم أنصارا غير مرضيّين(و إن قبل اللّه نصرتهم تفضّلا عليهم)،و لكن في هذه الفقرة تصريح بأنّ آل البيت عليهم السّلام أنصار اللّه بلا أيّ واسطة في البين و من غير أيّ غلوّ،ففي هذا الشأن الشريف ترى مساواة بين كلّ واحد من آل البيت عليهم السّلام (في زمانه)مع المسيح عليه السّلام.
فالحاصل أنّ آل البيت عليهم السّلام حيث كانوا مؤيّدين بروح اللّه كما تقدّم كانت نصرتهم لدين اللّه خالية من كلّ نقص و خطأ،فيكونون أنصارا مرضيّين (1)،و لكن هناك فرق بين النصرة المقبولة و النصرة المرضيّة،فتكون آثار نصرة كهذه باقية غير زائلة،و لعلّ وجه رضا اللّه عنهم و عن نصرتهم هو خلود آثار نصرتهم،و كون نصرتهم مقرونة بسعة العلم،و مبتنية على التأييد من اللّه كما سبق.
الرابعة:،أنّ لنصرة دين اللّه(المشار اليها)آثارا(و هي مستفادة من القرآن)كما يلي (2):
ألف و ب)أنّ الناصر لدين اللّه ينصره اللّه و يثبّته كما وعد بقوله: يا
ص:339
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (1).فعلى هذا فإنّ آل البيت عليهم السّلام منصورون(كما احتملنا أنّ الأنصار جمع النصير بمعنى المنصور)، وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (2).
ج)أنّ ناصر دين اللّه غير مغلوب(و إن قتل): إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ (3).
د)غلبة الأنصار على الأعداء: وَ نَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (4).
ه)شمول نصرة اللّه ناصر دينه مع عدم نصرة الناس إيّاه إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ (5).
و)شمول نصرة اللّه للناصر في القيامة أيضا: إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (6).
تذكرة:إن كانت نصرة ناصر مؤمن مقبولة،و لا تحصل له جميع الآثار، و إن كانت مرضيّة لا شكّ في حصول جميعها،فآل البيت عليهم السّلام حيث كانوا
ص:340
أنصارا مرضيّين،لا شكّ في حصول ذلك كلّها لهم،خصوصا من حيث كونهم مظلومين،كما قال تعالى: وَ الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (1).
«و حفظة لسرّه» (2) [2]
و فيه نكات ستّ:
الأولى:أنّ«الحفظة»مفعول آخر لرضي،و هو جمع حافظ كالطلبة جمع الطالب،و«السرّ»اسم مصدر مضاف إلى ضمير راجع إلى اللّه تعالى.
الثانية:أنّ الإمام الهادي عليه السّلام و هو إمام المعرضين عن اللغو و هو أجلى المصاديق في ذلك لقوله سبحانه: وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)،فلهذا لم يتكرّر قوله عليه السّلام هنا«و حفظة لسرّه»لقوله«و حفظة سرّ اللّه»،و هكذا«و اختاركم لسرّه»،فيلزم ذكر الفرق بين الفقرات لئلا يتصوّر التكرار،فنقول:أوّلا؛الغرض من فقرة«و حفظة سرّ اللّه»هو عدّ عدّة من كمالاتهم النفسانيّة.و الغرض من فقرة«و اختاركم لسرّه»هو ذكر إفاضات اللّه و امتناناته عليهم بكونهم مختارين لمطلق أسراره تعالى.و أمّا
ص:341
الغرض هنا(و حفظة لسرّه)هو كونهم مرضيّين لحفظ الأسرار التشريعيّة، كما تؤيّده الفقرات السابقة الناظرة إلى التشريع،كقوله:«و أنصارا لدينه، و...».
ثانيا:أنّ الفقرتين السابقتين مشيرتان إلى قابليّتهم عليهم السّلام و في هذه الفقرة إشارة إلى أنّ هذا الشأن بلغ في آل البيت عليهم السّلام إلى حدّ الفعل و لم يبق في قابلية محضة،و لهذا صاروا حفظة مرضيّين.
الثالثة:أنّ لكونهم حفظة مرضيّين لسرّ اللّه مقدّمات خاصّة غير مقدّمات لحفظ مطلق الأسرار،و هي هذه:
إحداها:كون الحافظ مرضيّا لذلك،و هي المستفادة من هذه الفقرة نفسها.
ثانيتها:كون الحافظ مؤيّدا بروح اللّه(و أيّدكم بروحه).
ثالثتها:كونه خليفة له سبحانه و موثوقا به تعالى،حتّى يتمكّن من حفظ أسرار المستخلف له.
الرابعة:فإذا ثبت هنا و في ما تقدّم أنّهم حافظون لأسرار اللّه في التكوين و التشريع،لزم إيداع اللّه الأسرار لهم.فلهذا يعدّ كلّ مدّع غيرهم كاذبا لعدم اختيار اللّه إيّاه،و لا رضاه عنه و لا إيداعه الأسرار له.و الدليل على ذلك:
أوّلا؛تعليم اللّه الأسماء لآدم خليفته،فيكون تفويض الأسرار لآل
ص:342
البيت عليهم السّلام بالأولويّة.
ثانيا؛خطابه سبحانه لرسول اللّه بقوله: وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ (1)، فيوجب ذلك كون آل البيت عليهم السّلام حافظين لوصايتهم و خلافتهم عن النبيّ صلّى اللّه عليه و اله.
الخامسة:أنّ الأنبياء عليهم السّلام-كما حكى اللّه سبحانه عن قول يعقوب عليه السّلام:
وَ أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (2)(قوله هذا لا يختصّ بقصّة يوسف عليه السّلام)-هم عالمون ببعض الأسرار،و لكنّ الفضل في ذلك لآل البيت لكونهم أكمل منهم،و لوصايتهم لخاتم النبيّين و هو أفضلهم،مضافا إلى أنّ لآل البيت ولاية في عالم المعنى على السابقين من الأنبياء،كما قال الإمام عليّ عليه السّلام:«كنت مع جميع الأنبياء سرّا،و مع خاتم الأنبياء جهرا» (3)،و الوليّ أفضل من المولّى عليه،و الأسرار المودعة عنده أهمّ و أكثر ممّا عند المولّى عليه.
السادسة:يمكن لنا ذكر دليل عقليّ في إثبات المدّعى على كونهم حافظين للأسرار،و هو أنّ كلّ عاقل يتعب في جهله بالأسرار،و قوّة التفتيش تحرّكه إلى كشفها،و لكن لا يكشف له جميع ما يريد لضيق نفسه
ص:343
و ضعف تحمّله،و لكنّ اللّه لا يرضى ذلك التعب لوليّه الذي له صدر مشروح و سعة نفس.
«و خزنة لعلمه»
و فيه ثلاث نكات:
الأولى:هذه شهادة أخرى من الزائر على شأن أو كمال آخر لهم عليهم السّلام و هو كونهم خزّانا لعلمه تعالى.
إنّ هذه الفقرة الشريفة في بادئ النظر ترى متكرّرة لنظيرتيها (1)،و لكن سبق هنا ذكر الفرق بينهما،و قلنا هناك لم تتكرّر أيّ فقرة،و نقول هنا مضافا إلى ما تقدّم بأنّ الأمر هنا مقام ذكر ارتضائهم من جميع الشؤون، و منها كونهم مرتضين لعلمه،حتّى لا يبقى هذا الشأن الكبير(ارتضاء اللّه إيّاهم للعلم)متروك الذكر.
الثانية:قد تقدّم في ما مضى منّا ما لم يتعرّض له شارح،و هو كونهم عليهم السّلام في رتبة عنديّة للّه،و لكن أمضيناه هناك بالإجمال،و هنا نأتيه بالتفصيل لأهمّيّته البالغة،و إنّما يحصل من فقرتي«و خزّان العلم»و«خزنة لعلمه»و الآية الكريمة: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلاّ
ص:344
بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (1)،هو أنّ لكلّ شيء عند اللّه خزائن،و منه العلم حتّى العلوم المادّيّة،و من كون آل البيت عليهم السّلام خزنة أو خزّانا له تكون نتيجة كونهم في مقام العنديّة،لعدم التفرقة بين الخزنة و المخزونات،فإذا كان المخزون (العلم)عند اللّه لزم منه كون الخزنة أيضا عند اللّه.
الثالثة:في إجابة على سؤال و هو أنّ المتّقين و الشهداء أيضا عند اللّه بدليل قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَ نَهَرٍ* فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (2)،و قال في الشهداء: عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (3)،و في آل البيت عليهم السّلام بدليل قوله سبحانه: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ ، (4)فما الفرق إذا بين آل البيت عليهم السّلام و المتّقين و الشهداء؟نجيب،أوّلا:المراد هنا شهادة الزائر على كونهم خزنة مرضيّين لعلم اللّه،و الموضوع هنا ارتضاهم لذلك لا كونهم خزنة.و ثانيا:أنّ للعنديّة عند اللّه مراتب في الرقيّ و النزول،كالمتشرّفين بحضور الملك بالتفاضل و التفاوت و القرب و البعد.
فللشهداء و المتّقين في الرتبة النازلة للعنديّة،لأنّ في الشهداء ذكر الرزق و في المتّقين ذكرت الجنّات و النهر،و كلاهما مادّيّان إن كانت الآيتان مأخوذتين على إطلاقهما،و لكنّ آل البيت عليهم السّلام في الرتبة العليا من العنديّة
ص:345
لعدم ذكر شأن مادّيّ فيهم عليهم السّلام،و معلوم أنّ العلم الذي هم خزنه له و مرتضون له ليس من مقولة المادّة.
«و مستودعا (1)لحكمته»
و فيه أربع نكات:
الأولى:لا بدّ لنا قبل الورود في شرح هذه الفقرة من الإجابة عن سؤال،و حاصل السؤال أنّ هذه الفقرة يبدو كونها تكرارا لنظيرتها«و معادن حكمة اللّه» (2)،فنجيب عنه،أوّلا:كما أنّ التدبّر في القرآن لازم لفهم المعاني، لأنّه كلام اللّه الصامت،كذلك يلزم ذلك في كلام المعصوم لأنّه عدل القرآن و كلام اللّه الناطق؛لوجود المشابهة بين الكلامين أو الكتابين(بتعبير آخر)، فكما أنّ التكرار غير وارد في القرآن حتّى في آية بسملة،كذلك في كلام المعصوم.ثانيا:الغرض من الفقرة«و معادن...»ذكر كمال آخر من
ص:346
كمالاتهم النفسانيّة.و أمّا المقصود هنا ذكر كونهم مرتضين لهذا الشأن فهو امتنان منه سبحانه عليهم،و أيضا في الفقرة المتقدّمة كان الزائر يذكر ذلك الشأن لهم،و لكنّه يشهد هنا،و الفرق بين المدح و الشهادة وجدانيّ.
الثانية:الفرق بين الوديعة و نظيرتيها:(الأمانة و العارية):
إذا سلّمت شيئا إلى أحد و الغرض حفظه سالما،يقال لهذا التسليم أمانة.و إذا سلّمته ليستفيد منه الآخذ المتسلّم ثمّ يردّه إليك يقال له العارية.
و لكن إذا سلّمته إليه و لكنّ الآخذ يلزم له أن يودّع المأخوذ يوما أو يودّعه الشيء(مجازا)يسمّى وديعة،ففي كون آل البيت عليهم السّلام«أمناء الرحمان» (1)إشارة إلى كمال آخر من كمالاتهم النفسانيّة فقط،و لا ينظر في الفقرة المرتبطة به إلى أنّ هذا الكمال يودّع صاحبه يوما أو يودّعه صاحبه،و لا ينظر أيضا إلى المعنى الخاصّ للعارية.و لكنّ المقصود هنا المعنى الخاصّ للوديعة للحكمة،ككلّ كمال لأيّ ممكن كما أنّ كلّ كمال لأيّ ممكن وديعة له من اللّه،و لا يمكن للممكن أن يكون صاحب كمال بنفسه و من قبل ذاته.فيستفاد من هذه استقلال المفيض سبحانه في علوّه و عدم استقلال المستفيضين(آل البيت عليهم السّلام)في دنوّهم.
الثالثة:في توضيح للمراد،بأنّ أشرف الممكنات عند اللّه و أقربها إليه سبحانه هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم و لا يشكّ في ذلك أيّ محقّق منصف،و مع
ص:347
ذلك نرى أنّ اللّه تعالى منّ عليه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم بمنن عديدة في عدّة آيات من القرآن،كقوله سبحانه: أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ* وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ * اَلَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ* وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (1)،و أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى* وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى* وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (2)،و مع ذلك كلّه نرى في بعض الآيات أنّه تعالى خاطب نبيّه متكبّرا كمن لا صلة ودّية بينه و بين مخاطبه فقال: وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (3)،و نظيره قوله: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (4).الحاصل أنّ الغرض من استشهادنا بهذه الآيات هو بيان أنّ المستفيض في أيّ درجة من القرب إلى المفيض،و أنّ المفيض في أيّ لطف و امتنان عليه،لا يوجب ذلك استقلال المستفيض و لا سلب الإنّيّة المستقلّة عن المفيض، فلهذا استعمل الإمام الهادي عليه السّلام هنا لفظة المستودع،و هذا موافق لأصول الحكمة و العرفان،لأنّ أصل الحكمة-و هو انقسام الوجود إلى الواجب و الممكن-لا يقتضي إلاّ انحصار الاستقلال في الواجب في جميع شؤونه
ص:348
و عدمه في الممكن حتّى عدم كهذا (1).
و أمّا في العرفان فهو واضح؛لأنّ العارف لا يقول بأضعف مراتب الوجود في شيء إلاّ كونه كالظّلّ و الموج.
الرابعة:الحكمة التي استودعهم اللّه لها،ما هي؟قال صاحب (الشموس الطالعة)ما هذا لفظه:«و أمّا الحكمة فقد مضى أنّها حقيقة الولاية في قوله عليه السّلام:«و معادن حكمة اللّه».و لعلّه(قدّس سرّه)استفاد هذا الرأي من بعض الروايات الواردة في تأويل آية الأمانة،و لا يمنع ذلك من إطلاق الحكمة على غير الولاية،نعم إنّ الولاية من المصاديق الجليّة للحكمة (2).
«و تراجمة لوحيه»
و فيه ستّ نكات:
الأولى:«التراجمة»جمع ترجمان،و هو«مترجم»و من مادّة«رجم»، و معناه«الرمي بالحجارة»،فالمترجم أو الترجمان«من يرمي لغة إلى لغة اخرى ليسهّل فهم معناها»،فكون أهل البيت عليهم السّلام تراجمة لوحي اللّه معناه أنّهم مترجمون للوحي.و الحاصل أنّهم مترجمون مرضيّين عند اللّه لوحيه،
ص:349
أعني يفصّلون للناس إجماله،و يفسّرون لهم إبهامه،و يسهّلون صعبه و يوضّحون إغلاقه،و يفرّقون محكمه عن متشابهه،و يميّزون ناسخه عن منسوخه،و غير ذلك من الوظائف العلميّة لهم عليهم السّلام في الوحي.
الثانية:معنى الوحي و أقسامه (1):
الوحي عبارة عن«إلقاء حقيقة علميّة إلى الغير بطريق مرموز»،و هو على ثلاثة أنواع:خاصّ و عامّ و أعمّ (2).
فالخاصّ،هو ما يختصّ به النبيّون و هو ما يلقي اللّه إليهم بسبب ملك، و العامّ ما يعبّر عنه بالإلهام أيضا و هو غير مختصّ بأحد أو عدّة معيّنة من الناس،كقوله تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ (3)،و غير منحصر بحالة يقظة،بل يتّفق في الرؤيا أيضا،و هو(ما في الرؤيا)ما عدّ جزء من سبعين جزءا من النبوّة كما جاء في الخبر:«الرّؤيا الصّادقة جزء من سبعين جزءا من النّبوّة» (4).و الوحي الأعمّ هو ما قد يعبّر عنه بالوحي الغريزيّ،كقوله تعالى: وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ
ص:350
اَلْجِبالِ بُيُوتاً (1)و له مصاديق ككلّ فعل كماليّ نافع يصدر عن الحيوان و عن الإنسان أيضا(كنوع من الحيوان)ينشأ من غريزة من الغرائز الحيوانيّة،كبكاء الصبيّ يمكن إطلاق الوحي عليه(بناء على الأصل المذكور في تفسيره).
الثالثة:أنّ ترجمة الوحي من شؤون اللّه تعالى(و من صفاته الأفعاليّة) أوّلا،كما قال تعالى: قَدْ بَيَّنّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)،و يكون من شؤون المعصوم عليه السّلام ثانيا،لكونه خليفة منه سبحانه:قال تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (3).
الرابعة:يحتاج الإنسان الغير معصوم،بل المعصوم أيضا بندرة في الوحي،إلى مترجم،كالمعبّر للرؤيا،و إلاّ كان الوحي لغوا و يبقى الموحى إليه حيرانا،فالحاصل أنّ آل البيت عليهم السّلام تراجمة للوحي بجميع أنواعه،أمّا في النوع الأوّل(الوحي الخاصّ)كالقرآن فهو واضح،كما تقدّم ذكره آنفا (في النكتة الأولى)،و لسائر الكتب السماويّة أيضا كما قال الإمام عليّ عليه السّلام:«و لو ثنّيت لي و سادة لحكمت بين أهل التّوراة بتوراتهم، و بين أهل الإنجيل بإنجيلهم،و بين أهل الزّبور بزبورهم،و بين أهل
ص:351
الفرقان بفرقانهم» (1).
و أمّا الثاني(الوحي العامّ):فكما أوحي إلى زكريّا عليه السّلام في قوله تعالى:
فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ* قالَ رَبِّ أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَ امْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (2)،و حيث إنّه عليه السّلام لم يطمئنّ بكون النداء من الملائكة (إلهاما بمعناه الخاصّ و إلاّ لم يشتبه بالإلقاءات الشيطانيّة): قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلِّمَ النّاسَ ثَلاثَةَ أَيّامٍ إِلاّ رَمْزاً (3).فمجمل القول هو الحاجة إلى المترجم المعصوم أعمّ من أن يكون المترجم ملكا أو بشرا معصوما،كما في قصّة يوسف عليه السّلام و تعبيره للرؤيا؛و أعمّ من أن يكون المحتاج إلى المترجم الغير المعصوم أو معصوما في درجة ضعيفة من العصمة،على أيّ تقدير يلزم العصمة في ترجمان الوحي فيجب تعلّم علم التعبير أيضا من المعصوم.
و النوع الثالث الوحي الأعمّ):و هو كما قال النبيّ صلّى اللّه عليه و اله:«لا تضربوا أطفالكم على بكائهم فإنّ بكاءهم أربعة أشهر شهادة أن لا إله إلاّ اللّه،
ص:352
و أربعة أشهر الصّلاة على النّبيّ و آله عليهم السّلام،و أربعة أشهر الدّعاء لوالديه» (1)،ترى أنّ المعصوم يترجم بكاء الصبيّ أيضا و يبيّن حكمته.
الخامسة:أنّ لكون المعصوم ترجمانا للوحي مقدّمات و معارف، و يفقدان إحداها لا يكون هو مترجما له.
الأولى و الثانية:معرفته بالموحي(من يلقي الوحي)و الموحى(ما يلقى إليه)،كقوله سبحانه: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى* ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (2)،فيتبيّن من لفظة عبده معرفته عليه السّلام بالموحي،و من جملة: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى معرفته عليه السّلام بالموحى.
الثالثة:معرفته بمن يوحى إليه(من يتلقّى الوحي)،إنّ آل البيت عليهم السّلام هم أعرف الناس برسول اللّه خاصّة و بسائر الأنبياء عموما،لكون كلّ منهم نفس رسول اللّه على البدليّة،و كون الإمام عليّ عليه السّلام وزيرا له،و أيضا لكونهم ورثة للأنبياء مضافا إلى كون الإمام عليّ عليه السّلام مع الأنبياء سرّا و مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله جهرا،كما قال عليه السّلام:«كنت مع جميع الأنبياء سرّا و مع خاتم الأنبياء جهرا» (3).
الرابعة:معرفته بصلة كلّ وحي و ارتباطه مع نظامي التكوين و التشريع
ص:353
و غرض الموحي منه،و أمّا معرفتهم بما يوحى و صلته بالنظامين و غرض الموحي من الوحي فهو واضح لعلمهم الواسع بالقرآن و جميع علومه؛ لأنّهم غوّاصون في بحاره،و قرناؤه و نظائره كما يتبيّن من حديث الثقلين المعروف.
السادسة:معرفته بسبب الوحي،و هذا أيضا واضح؛لأنّهم مختلف الملائكة على أيّ من التفسيرين للفقرة (1)،و له شواهد أخرى كمشاهدة الإمام عليّ عليه السّلام جبرئيل بصورة دحية الكلبيّ (2).
لا بأس هنا بايراد أرجوزة متضمّنة لفضائل الثقلين و حاجة كلّ منهما إلى الآخر و قد نظمت فيها مسائل عديدة و لا سيّما مسألة إبطال و التحريف.
ألحمد للّه منزّل الهدى من أزل الآزال حمدا سرمدا
و أفضل السلام و التحيّة على النّبي و العترة و الزّكيّة
ثمّ الهدى إمّا بتشريع نزل أو هي تكوينيّة في ما عقل
كتابنا العزيز شرعا نزل كما هو مكمّل العقول جا
إنّ كلام اللّه فى القرآن مجلى صفات خالق الأكوان
بنوره تكشف كلّ ظلمة بشرط تفسير لآل العصمة (3)
ص:354
تدبّر القرآن خذه طاعة قراءة آياته عبادة
ثقافة القرآن لا تتمّ إلاّ بمن حقّ لأن يؤتمّ (1)
جارية آياته كالنّهر من بحر علم اللّه،يا للبحر (2)
حياة قلب النّاس بالقرآن و إنّه ماء الحياة الثاني
خيار أهله،خيار الأمّة ليس لمن آنسه من غمّة
دليل كلّ حائر من حيرته نجاة من أذنب في شفاعته
ذلّ من استعزّ من غير هداه و لم ينل قطّ بغيره مناه
رؤية ربّ العالمين فيه ممكنة لقلب من يعيه (3)
زور و كذب و من البهتان من قال بالتّحريف في القرآن (4)
ص:355
سماؤه سماء غيب اللّه و أرضه قلب رسول اللّه
شهرته في عالم الملائكة هو كتاب،منكروه هالكة
ص:356
صلاح ذات البين،بين الملل ليس سوى القرآن لا بالدّول
ضعف مقام المؤمن في طوره رقيّه الكامل في ظهوره (1)
طالبه يجب أن تطهّر من دنس الخفي،و ما قد ظهر
ظهر طلوع الشّمس للقرآن بفرج لصاحب الزّمان
عرفان ما حقّ لك أن تعرف لا يمكن إلاّ بقرآن إعرف (2)
غير غيره يد الخوّان ككتب العهدين أو زمان
فواكه العلوم للعقول توجد في القرآن لا تهول
قرآننا الكتاب و البرهان و النّور و الموعظ و الفرقان
كفى بفضله مهيمن الكتب و ناسخا لها بأحسن الرّتب
لغاته من أوسع اللّغات معنا،فأخبرن لكلّ خاطي
مبيّن حال القرون الخالية فيا له من معجزات عالية (3)
نزوله النّزول بالتّجلّي على رسول اللّه لا لتّجافي
واسطة النّزول جبرائيل منكر مكرماته ذليل
ص:357
هدم بناء فطرة الإنسان بتركه أوامر القرآن
يقارن القرآن آل المصطفى به بلا قرينه لا يكتفى (1)
أنشد هذه علي النّظامي لعلّه يذكره كرام
من بعد موته بذكر خير رجاء أن يغفر بخير ذكر
أنشدها ملبّيا بالدعوة في ثالث الأيّام من ذي الحجّة
«و أركانا لتوحيده»
و فيه ستّ نكات:
الأولى:و هذا ذكر ثان عن ركنيّة آل البيت عليهم السّلام،و أوّلهما ما سبق في الفصل الثالث عشر«و أركان البلاد»،و لكنّ الفرق بينهما هو أنّ هناك ذكر بأنّهم عليهم السّلام ركن للمجتمع التوحيديّ الذي يتقوّم بهم،و لكنّ هنا ذكر بأنهم عليهم السّلام ركن للتوحيد نفسه،و يمكن أن يكون ذكر ما سبق معلولا و ركنيّتهم هنا علّة لذاك،إذا يكون هذا الشأن أرقى بالنسبة إلى ما سبق من
ص:358
ركنيّتهم،أي ما لم يكونوا أركانا للتوحيد لا تتحقّق ركنيّتهم للبلاد.
الثانية:الفرق بين الركن و نظيريه:
إنّ للركن نظيرين في المعنى،و هو:الدعامة و العمود،و هما متقاربا المعنى و هو كالجدار بالنسبة إلى السقف يمنعه عن الخراب و السقوط، و لكنّ الركن هو ما يتّكأ عليه،و لولاه لا يقوم المتّكي،قال اللّه سبحانه عن قول لوط عليه السّلام: أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (1)،و مع ذلك يتحمّل الركن ما هو أثقل من الشيء.و الحاصل أنّ معنى كونهم«أركانا»هو أنّ التوحيد الصحيح بجميع مراتبه(من الذاتيّ و الصّفاتيّ و الأفعاليّ و العباديّ و الأسمائيّ)متّكئ عليهم،و لكن يمكن أن تقوّم بعض مراتبه بغير المعصوم أيضا،فلهذا لا يعدّ غير المعصوم كالمتكلّمين و غيرهم ركنا، و لكن يمكن عدّهم دعامة أو عمودا بالمسامحة و المجاز.
الثالثة:أنّهم عليهم السّلام ركن للتوحيد لا للتوحّد،إذا يلزم التفريق بينهما.
التوحيد هو تفعيل من«وحد»،و هو مصدر متعدّ من باب التفعيل،و لكنّ التوحّد لازم،فالحاصل أنّ في توحيد الباري يلزم من يوحّده،و لكنّ التوحّد لا يلزم شيئا،لأنّ المتوحّد فيه هو سبحانه،كما جاء في الحديث القدسيّ عن قوله تعالى:«كنت كنزا مخفيّا(هذا مقام التوحّد)،فأحببت
ص:359
أن أعرف،فخلقت الخلق لكي أعرف» (1)،(فمعرفة الخلق به تعالى هو التوحيد)،فيكون آل البيت عليهم السّلام أركانا للتوحيد الذي يحتاج إلى الركن (و لهذا شبّه عليه السّلام التوحيد بالبناء الذي يفرض له ركن)،لأنّه وظيفة الخلق، لا للتوحّد الذي هو غنيّ عن كلّ شيء،و منزّه عن الزوال و الهدم.
الرابعة:في إضافة لفظة التوحيد؛فقد اضيفت لفظة التوحيد هنا إلى ضمير يرجع إليه سبحانه،و هي إضافة بيانيّة،فيكون معنى الفقرة أنّ آل البيت عليهم السّلام هم أركان للتوحيد الذي ألهمه اللّه عباده في فطرتهم (2)،و علّمهم يتلقّي عقولهم من الأدلّة الآفاقيّة و الأنفسيّة (3)،فتبيّن إنّ الإضافة هنا بيانيّة.
الخامسة:فيما يلزم للتوحيد غير الركن؛كلّ بناء لا بدّ له من المبنيّ فيه كالأرض مثلا،و ما بني فيهم بناء التوحيد هو جميع المكلّفين إنسانا كان أو غيره،و يلزم أيضا للبناء موادّ و مصالح،ففي بناء التوحيد العرفانيّ المعبّر عنه بعين اليقين:هي الفطرة،و للإيمانيّ منه المعبّر عنه بعلم اليقين:العقل؛ و يلزم ثالثا لكلّ بناء ذي ركن ما يوجب الهدم و الخراب،و إلاّ لا حاجة للبناء إلى ما يمنعه منه،فهنا موجبات لانهدام التوحيد الإيمانيّ،و هو الشكوك و الشبهات من الملحدين كالدهريّة،قال تعالى عن قولهم: ما
ص:360
هِيَ إِلاّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ (1).
و الموجبات لخراب التوحيد العرفانيّ هي الوساوس النفسانيّة و عدم الإخلاص و المراتب الخفيّة من الشرك و التوجّه إلى غير اللّه،فمعنى كون آل البيت عليهم السّلام أركانا للتوحيد هو ركنيّتهم لمراتب التوحيد الخمس المذكورة إيمانيّا كان ذلك التوحيد أو عرفانيّا،أي هم يمنعون الإيمان بالتوحيد عن الخراب بأدلّتهم القاطعة و مناظراتهم الوافية،و يمنعون عرفان العرفاء عن الخراب بمواعظهم البليغة و أنواع مناجاتهم المهيّجة.
السادسة:بيان حصر هذا الشأن فيهم عليهم السّلام:
إنّ المدّعين للتوحيد و تبليغه كثيرون،و لكنّهم منحرفون عن الحقّ الصريح و ما يقتضيه العقل الصحيح،و في الحقيقة هم يهدمون بناء التوحيد،فضلا عن أن يمنعونه من الخراب،و هم يشعرون بذلك أو لا يشعرون،و لكنّ آل البيت عليهم السّلام يقولون فيه ما يؤيّده القرآن(بل كان قولهم تفسيرا لآياته العزيزة غير مغاير لها)،و يقبله العقل و تشرحه الحكمة الإلهيّة،بل الحكماء الإسلاميّون يأخذونه عن أقوالهم كما أشرنا إليه في بعض المباحث السابقة،فيكون هذا الشأن بكماله منحصرا فيهم، كما سيجيء الكلام في شرح فقرة«و من وحّده قبل عنكم»إن شاء اللّه.
ص:361
«و شهداء على خلقه»
و فيه ستّ نكات:
الأولى:يمكن أن يكون«الشهداء»هنا جمع«شاهد»،كفضلاء جمع فاضل،أو جمع«شهيد»كسعداء جمع سعيد (1).
الثانية:أنّ كونهم عليهم السّلام شهداء مرضيّين موقوف على الكمالات التي لها دخل في ذلك،ككونهم مؤيّدين بروح اللّه و مستقرّين في أمر اللّه، و غيرهما من الكمالات،فإذا كانوا موصوفين بالكمالات السابقة كانوا شهداء مرضيّين على خلقه.
الثالثة:أنّهم عليهم السّلام شاهدون على الخلق من جهات أربع:
ألف)شهداء على أعمالهم.
ب)على ذواتهم على استحقاقاتها و قابليّة كلّ ذات منهم.
ج)على مكتوباتهم من العقائد و الأعمال و الأخلاق.أو ما يكتب على كلّ واحد من الخلق لكلّ عامّ ليلة القدر.و الحاصل أنّ شهادة آل البيت عليهم السّلام لا تحدّ بشهودهم لأعمال الخلق فقط،كي تنتج الفقرة(و شهداء على خلقه)موعظة فقط.
ص:362
د)أنّهم مشاهدون للمتقدّر من كلّ فيض على كلّ أحد كمّه و كيفه، لامتناع كونهم مشاهدين للمستفيض و غير مشاهدين للفيض الذي هم وسائط إفاضته سبحانه إيّاه(المستفيض).
الرابعة:فوائد الشهادة:
ألف:أنّهم يشاهدون أعمال الخلق،و فائدتها ارتداع الخلق عن القبائح و إقدامهم على الحسنات،مع اعتقادهم بأنّ آل البيت عليهم السّلام يشاهدونهم.
ب:أنّهم يشاهدون أعمال الخلق كي لا يعترض الخلق على ردّ أعمالهم و أدعيتهم إذا لم يكونوا مخلصين في العمل و الدعاء.
ج:أنّ ذوات الخلق مشهودة لآل البيت عليهم السّلام مع قابليّة كلّ ذات و استحقاقها لأيّ مقدار من الفيض،حتّى يتوجّهوا إذا أنعم اللّه عليهم أو منع عنهم،إنّما هو لما يستحقّون و هم مشهودون لآل البيت عليهم السّلام و يعلمون أنّ الإنعام أو المنع إنّما كان على مرأى آل البيت عليهم السّلام و مشهدهم (1)(مضافا إلى علم اللّه بهم و لياقتهم)،و لم يقع أيّ حيف و لا ميل عن الحقّ المحض لا من جهة المعطي أو المانع و لا من جهة الوسائط،فشهادة آل البيت عليهم السّلام تسع تكوين الخلق في هذه النشأة و جزاؤهم على الأعمال في
ص:363
دار اخرى.و لا تنحصر ثمرة الشهادة بالموعظة المفيدة للقيامة فقط،و هذا المعنى يتأيّد بكونهم«شهداء دار الفناء،و شفعاء دار البقاء».
د:أنّ كونهم شهودا على أعمال العباد يفيد ترك توقّع الخلق لثواب أكثر أو عقاب أقلّ ممّا قدّر لهم.
الخامسة:الدلائل على المراد:
الأوّل:أنّهم مظاهر تامّة لأسماء اللّه و صفاته،و من جملة أسمائه سبحانه المتجلّية في آل البيت عليهم السّلام هو الشهيد،كقوله سبحانه: وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (1)،و هذا دليل عرفانيّ على المقصود).
الثاني:قد ثبت في ما تقدّم من المباحث أنّ لآل البيت ولاية تامّة تكوينيّة على جميع الخلق،و هذه الولاية التامّة مقتضية لإشرافهم على جميع الخلق،فإشراف كهذا ملازم لشهودهم،بل هو عين الشهود.
الثالث:الأدلّة النقليّة من المستقلّة و غيرها،و أمّا الثاني:هو كون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله شاهدا على الخلق حقيقة مصرّحة في القرآن،كقوله سبحانه:
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (2)، و إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (3)و لا شكّ في أنّ كلّ واحد
ص:364
من آل البيت عليهم السّلام هو نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله النفيسة على البدليّة(بدليل آية أنفسنا)،فهذا يقتضي أن يكون فيهم من الصفات النفسانيّة ما كان لرسول اللّه،و منها الشهادة على الخلق.
أمّا النوع الأوّل من النقليّات،فقوله تعالى: وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ (1)،و المراد من«المؤمنون»هنا هم المعصومون،كما تدلّ عليه الأخبار،لا جميع المؤمنين،للزوم اتّحاد الرائي و المرئي،و هو ممتنع.فيلزم إذا كون المراد من«المؤمنون»الرائين عدّة خاصّة منهم،و هم المعصومون عليهم السّلام لا غيرهم،كما تشهد عليهم الرواية الآتية:«عن عمر بن أذينة،عن بريد العجليّ قال:كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فقلت له:جعلت فداك،قوله عزّ و جلّ: اِعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ ؟قال:إيّانا عنى» (2).
السادسة:في كيفيّة مشاهدتهم للخلق تارة و لأعمالهم اخرى؛أمّا الأوّل فشهادتهم عبارة عن علم حضوريّ لهم بالخلق،لأنّ الخلق كالأجسام و هم كالنفوس،كما أنشدت من الوافر:
يدوم حضور جسمك عند نفسك فنفسك غير غافلة لجسم
كذاك خليفة اللّه الزمان أحاط بما له رسم و إسم
ص:365
و أمّا الثاني،فتكون مشاهدتهم للأعمال إمّا أن يشاهدوها في عمود من النور،أو في صحائف الأعمال،كما روي عن إسحاق القمّيّ:قلت لأبي جعفر عليه السّلام جعلت فداك،ما قدر الإمام؟قال:يسمع في بطن أمّه،فإذا وصل إلى الأرض كان على منكبه الأيمن مكتوبا وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (1)،ثمّ يبعث أيضا له عمودا من نور من تحت بطنان العرش إلى الأرض،يرى فيه أعمال الخلائق كلّها،ثمّ يتشعّب له عمود آخر من عند اللّه إلى أذن الإمام،كلّما احتاج إلى مزيد أفرغ فيه إفراغا» (2).
«و أعلاما لعباده،و منارا في بلاده»
و فيه سبع نكات:
الأولى:يشهد الزائر هنا على إفاضتين اخريين من إفاضات اللّه على آل البيت عليهم السّلام،و كونهم مرضيّين عند اللّه لهما،و لكنّ شهادته الثانية مترتّبة على الأولى،لتقدّم العلم على المنار رتبة،بمعنى أنّ المنار لا يفيد وجدان الطريق ما لم يكن علما.
الثانية:قد تقدّم معنى العلم في شرح الفقرة«و أعلام التّقى»،و العباد
ص:366
جمع عبد،كما أنّ البلاد جمع بلد،و المنار موضع النور.
الثالثة:المراد من العباد هنا جميع المكلّفين،بل جميع ذوي العقول من الجنّ و الإنس و الملك،و أمّا إطلاق العبد على غير المؤمنين من الجنّ و الإنس فيعتبر فيه التكوين،أي أنّ غير المؤمنين أيضا يعدّون عبادا للّه،أو باعتبار فطرتهم التوحيديّة الأولى التي فطرهم اللّه عليها،كما قال سبحانه:
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ (1)،و قوله: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (2).فالحاصل أنّ آل البيت عليهم السّلام كانوا أعلاما لهؤلاء من المؤمنين و غيرهم،بمعنى أنّ ذوي العقول لا يتمكّنون من وجدان طريق العبوديّة ليصلوا إلى مرضاة اللّه بدون علميّة آل البيت عليهم السّلام و هم مشتهرون بين الجميع بالفضل و الكمال،و هم المطهّرون من كلّ نقص و وبال حتّى بين أعدائهم.
الرابعة:أمّا كونهم أعلاما للجنّ فهو ثابت بأدلّة كثيرة مصرّحة على المراد من القرآن،كآيات من سورتي الجنّ و الأحقاف؛و أمّا علميّتهم للإنس فهي أظهر و أبين؛و أمّا للملائكة،فتشهد عليه أخبار كثيرة في أن لو لا آل البيت عليهم السّلام في النشآت الغيبيّة قبل خلق عالم الشهود لم يعلم الملائكة كيف يسبّحون اللّه و يكبّرونه...،و قد قدّمنا في المقام بعض
ص:367
الكلام،فتذكّر.
قد أورد الأحسائيّ في شرحه للزيارة الجامعة خبرا(و إن كان ضعيفا لكنّه)يتأيّد بأخبار أخر و لا بأس لنا بإيراد ذلك الخبر:«روي أنّ جبرئيل عليه السّلام كان جالسا عند النبيّ صلّى اللّه عليه و اله فأتى عليّ عليه السّلام فقام له جبرئيل،فقال صلّى اللّه عليه و اله:
أتقوم لهذا الفتى؟فقال:إنّ له عليّ حقّ التعليم،فقال صلّى اللّه عليه و اله:و كيف ذلك التعليم يا جبرئيل؟فقال:لمّا خلقني اللّه تعالى سألني:من أنت و ما اسمك، و من أنا و ما اسمي؟فتحيّرت في الجواب،ثمّ حضر هذا الشابّ في عالم الأنوار و علّمني الجواب،فقال:قل:أنت ربّي الجليل،و اسمك الجميل، و أنا العبد الذليل،و اسمي جبرئيل؛و لهذا قمت له و عظّمته،فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه و اله:كم عمرك يا جبرئيل؟فقال:يا رسول اللّه،يطلع نجم من العرش في كلّ ثلاثين ألف سنة مرّة،و قد شاهدته طالعا ثلاثين ألف مرّة» (1).يستفاد من هذا الخبر الشريف طول عمريهما:أمير المؤمنين و جبرئيل.و هذا الخبر يشهد على المراد من كونهم مرضيين عند اللّه فيكونوا أعلاما للملائكة.
الخامسة:إذا كانت الملائكة محتاجة إلى علميّة آل البيت عليهم السّلام حتّى يجهدوا طريق العبوديّة و يصلوا إلى رضا الربّ تعالى،و بدونهم لا يتمكّنون من الوجدان و الوصول مع كونهم تامّي العقول و كونهم أنوارا،
ص:368
فكلّ من الجنّ و الإنس أولى بهذه الضلالة،لكونهم ناقصي العقول و ضيّقي النفوس،و لكونهم أيضا من عالم المادّة الظلمانيّ.
السادسة:أنّ كونهم منارا ملازم أو مترتّب على كونهم عليهم السّلام علما،كما أشرنا إليه،و لكن هنا نقول:إنّ كلّ كمال له صلة بارزة بكمال آخر يكون كلّ منهما كمالا مرتبطا،و إلاّ (1)كان كمالا منفردا.الحاصل أنّ كلاّ من كمال المناريّة و العلميّة كمال مرتبط بالنسبة إلى الآخر،و لكن بقي هنا كلام و هو أنّ المنار هو-كما قلنا-موضع النور لا النور نفسه،فينبغي أن نذكر أنّ آل البيت عليهم السّلام هم منار،و النور الساطع من المنار هو نور علمهم و عرفانهم الذي يظهر من أعمالهم الزكيّة و أقوالهم الرضيّة.
السابعة:كلّ علم منصوب لا يصل به السالك إلى مقصده،و لكنّ آل البيت عليهم السّلام من حيث كونهم علما موصلا للسالك هم أعلام مرضيّة،و أمّا المنار فيجب أن يوضع و يجعل في مكان عال رفيع حتّى يجد السالك برؤيته مقصده،و إلاّ إن جعل المنار في نقطة منخفضة كان منارا غير مرضيّ؛لعدم اهتداء السالك به إلى المقصد،فالحاصل أنّ آل البيت عليهم السّلام منار مرضيّ في بلاد اللّه لكونهم شديدي النور و رفيعي المكان،كما تشهد عليه آية النور تأويلا خصوصا في قوله سبحانه: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ
ص:369
تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ (1).
«و أدلاّء على صراطه»
و فيه نكات ثلاث:
الأولى:هذا آخر الشؤون الاثني عشر التي ابتدأت من«و رضيكم خلفاء في أرضه»التي كان آل البيت عليهم السّلام مرضيّين لما عند اللّه،و هو كونهم«أدلاّء على صراطه»،و قد تقدّم توضيح لفظتين«أدلاّء» و«الصراط» (2)،و هنا نقول:إنّ هذا الشأن(كونهم أدلاّء)يكون من نوع الكمالات المرتبطة بهم عليهم السّلام،و يرتبط بكونهم«و أعلاما لعباده،و منارا في بلاده»،لأنّ العلّة التامّة لوصول السالك إلى مقصده تتشكّل من العلم و المنار و الدليل،و بانتفاء أحد هذه الأجزاء الثلاثة تكون العلّة ناقصة غير موصلة،فتبيّن أنّ هذا الكمال كمال مرتبط.
الثانية:أنّ كلّ إنسان إلهيّ في سلوكه هو مثل سالك حسّيّ سلوكه متقوّم بأمور ستّة:
1)السالك
ص:370
2)المسلوك منه(و هو مبدأ السلوك).
3)المسلوك به(و هو سبب السلوك).
4)المسلوك فيه(و هو طريق السلوك).
5)المسلوك إليه(و هو نهاية السلوك).
6)المسلوك له(و هو الغرض من السلوك).
فبانتفاء أحد هذه الستّة،إمّا أن لا يتحقّق السلوك،و إمّا أن لا يكون سلوكا معقولا،فضلا من عدم جميعها،مثلا مع عدم غرض السلوك لا يكون إلاّ التحيّر.الحاصل أنّ آل البيت عليهم السّلام هم السالكون كسائر الخلق (1)، (بل أشرف مصاديقهم)باعتبار كونهم بشرا،كما قال سبحانه مخاطبا نبيّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم، قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ (2)و هم عليهم السّلام باعتبار كونهم أدلاّء بأقوالهم و أحاديثهم الشريفة،كانوا أسباب السلوك،و باعتبار كونهم منارا لأفعالهم الحميدة و أخلاقهم النيّرة يكونون شرطا في تأثير السبب (3).
فكونهم أدلاّء مشروط بكونهم منارا،و باعتبار كونهم صراطا (4)يكونون مسلوكا فيه،و باعتبار كون معرفتهم شرطا في كمال التوحيد و قبوله،بل ركنيّتهم له،يصيرون مسلوكا إليه،و باعتبار كون تبعيّتهم شرطا في صحّة
ص:371
كلّ عبادة و طاعة،يكونون مسلوكا له.فتبيّن من ذلك كلّه أنّهم عليهم السّلام وحدهم مقوّمات ستّة للسلوك إلى اللّه،و لا يمكن السلوك إليه سبحانه إلاّ من طريق المعرفة بهم و لزوم اتّباعهم وحدهم.
الثالثة:الجمع بين كونه تعالى نهاية السلوك و بين كون آل البيت عليهم السّلام كذلك(المسلوك إليه)،هو عدم الفصل بين المقصد النسبيّ للسالك(و هو علم)و مقصده الحقيقيّ؛لشدّة القرب بين المقصدين.إذا لا منافاة بينهما لأنّ المقصد النسبيّ يكون في طول المقصد الحقيقيّ لا معارضا له،فإذا كان آل البيت عليهم السّلام في هذه الشؤون الرفيعة و المراتب الفائقة التي لا يبلغها أحد إلاّ هم،فلا بأس هنا بإيراد قصيدة مشتملة على فصلين:
1)المواعظ 2)مدح لآل البيت عليهم السّلام
صباحك بالإكرام يا ابن الأكابر تقدّم إلى ما فيه خير و ما أري
صباحك من بعد المساء سينقضي مساؤك من بعد الصباح لمدبر
صباحك بدل العصر و العصر بدله فما بدل كلّ الحياة فأخبر
تبادل صبحيك دليل مبيّن على خالق حيّ عليم مدبّر
فعمرك مثل الشمس و الشمس تغرب الا بالتقى قبل الغروب فبادر
و ذكّر أخلاّء الصّداق مضيّه كمرّ سحاب بالسنين و أشهر
و أسرع من مرّ الشهور مضيّه بمرّ الأسابيع و الأيّام فانظر
ففرّ من الشيطان جنّا و إنسه و في حصن تقوى اللّه نفسك قرّر
ص:372
و قس جنّة الذات و الأفعال و الصفات بعالمك البالي الشتيت العناصر (1)
و لا تشتغتل في غير علم بساعة و لا تجعلنّ العلم من غير مثمر
و هاجر من النفس إلى اللّه كي تفز بما شئت من نيل المقام المهاجر
و لا تنس ذكر اللّه في كلّ لحظة و أنعمه أشكر لا تكوننّ بكافر
و قلبك خلّ من محبّة كلّ ما سوى اللّه يا ذا اللبّ يا ذا التفكّر
و لو أنّني شئت لزدتك فاتّعظ بموعظة من مذنب بئس شاعر
تمسّك بحبّ المصطفى و ابن عمّه و آلهما ينجيك من خزي محشر
و عادي لمن عاداهم و ادر أنّها يكافيك رضوانا من اللّه الأكبر
فإن كانت الأعمار غير قصيرة بحبّهم طوبى لكلّ معمّر
فحبّهم لبّ الديانة يا أخي و ذلك أصل كان فوق التواتر
و حبّهم شمس مضيئة في السما و بغضهم حرّا كبحر مسجّر
و حبّهم في الرفع مثل الشوامخ و بغضهم خفضا كقبر مبعثر
مكارمهم لا تحتويها عقولنا مناقبهم لا تحتوى في الدفاتر
وسائط فيض اللّه نعم الوسائط جواهر أفراد لنعم الجواهر (2)
مجالي صفات اللّه جلّ جلاله مظاهر الأسماء أتمّ المظاهر
ص:373
عقولهم عقل العقول جميعها نفوسهم ألواح ثبت مقدّر
و لولاهم لم يخلق اللّه عالما و في كلّ صعب مثل جند مظفّر
هم الذكر و البرهان و النور و الهدى و هم غاية المعنى و كلّ مصوّر
و قرآن مفهوم و علم و هم له كمصداق عينيّ و خير مفسّر
و لا تك من أشياعهم كاذبا لهم فإنّهم لا يخدعون بفاجر
و إن كنت شيعيّا فدم ثابتا عليه و إلاّ فكن مستبصرا كالزمخشري
تذكرت هذا ثمّ أنشدت هذه بدار تقى من عالم في ملاير (1)
عليّ هو اسمي و النظامي تخلّصي لعلّك تستغفر لي اللّه أغفر
«عصمكم اللّه من الزّلل،و آمنكم من الفتن،
و طهّركم من الدّنس،و أذهب عنكم الرّجس أهل البيت
و طهّركم تطهيرا»
و فيه ثلاث نكات:
الأولى:هذه مرّة ثانية يشهد الزائر على عصمة آل البيت عليهم السّلام،و يذكر معها متعلّقات عصمتهم مع ذكر دليل على ذلك بعد أن شهد بأنّهم معصومون إجمالا في الفصل الثاني و الخمسين.
ص:374
الثانية:يلزم توضيح هذه المفردات من هذه الفقرة:
1)العاصم؛المراد من العاصم هو اللّه تعالى و ليس عاصم غيره،كما قال سبحانه: وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ (1)،و ترى الزائر يصرّح على ذلك«عصمكم اللّه من الزّلل».و أمّا نفي العاصم غير اللّه فهو كقوله سبحانه حاكيا عن ابن نوح: قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ (2)، (فأجابه نوح): قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ (3)؛لأنّ ماهيّة العصمة و إن كانت متوقّفة على أسباب طبيعيّة(بل هي تتشكّل منها على فرض وجودها)لا يمكن أن تكون إلاّ من اللّه سبحانه.
2)كيفيّة العصمة؛و قد تقدّم في ما سبق من بحث العصمة أنّ للعصمة ثلاثة تفاسير:
ألف)تجلّي اللّه و ظهوره بأسمائه الحسنى و صفاته العليا في المعصوم،و حضور المعصوم حضورا تامّا لدى اللّه.
ب)كون المعصوم في أشدّ مراتب الوجود الإمكاني و شدّة الوجود، و تأكّده يقتضي بعد صاحبها عن العدميّات مع أنّ المعصية عدميّة.
ج)الملكة العلميّة النفسانيّة التي جعلها اللّه في المعصوم تنافي صدور
ص:375
أيّ ذنب منه.
و يمكن الجمع بين هذه المعاني الثلاثة للعصمة،لأنّه بظهور أسماء اللّه و صفاته في المعصوم ظهورا تامّا يعلم تأكّد وجوده و شدّته،لأنّه لو لم يكن وجوده أشدّ و آكد لم تظهر صفات اللّه و أسماؤه فيه على هذه المرتبة التامّة،و هذان الأمران:أمر الظهور و شدّة الوجود،يوجبان حصول الملكة المذكورة فيه،فتبيّن كمال التوفيق و عدم المنافاة بين هذه المعاني.
3)أمّا المعصوم منه،فهو عبارة عن الزلل في القول و الرأي و العمل، و الزلل مع موارده الثلاثة يعمّ الدّنس و الفتنة و الرجس؛و الزلل أقلّ مراتب الباطل و أضعفها،فإذا كان المعصوم قد عصمه اللّه من أضعف المراتب الباطلة كان معصوما من أقوى مراتبها(الذنب)بطريق أولى،لعدم مقتضي (1)المعصية فيه،فإذا لم يكن المقتضي لا يكون المقتضى،إذا لا يكون فيه أثر المعصية و هي الدنس،و هذا معنى تطهير اللّه إيّاهم من الدنس.
4)أمّا المعصومون فهم أصحاب الكساء،خمسة خاصّة،كما يستفاد من الآيات: إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ
ص:376
تَطْهِيراً (1)،و لا يشاركهم فيها غيرهم إلاّ الباقون من الأئمّة من عليّ بن الحسين زين العابدين إلى الإمام الثاني عشر،الذين نصّ على عصمتهم من قبل أصحاب الكساء و لا سيّما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله.
5)قوّة العصمة،إنّ العصمة مشكّكة بالشدّة و الضعف،فجميع الأنبياء معصومون أيضا،و لكنّ عصمتهم لا تبلغ إلى ما بلغه آل البيت عليهم السّلام من القوّة و الشدّة،و لهذا خصّصهم اللّه بها،و الدليل على كونهم في الرتبة العليا من العصمة،أوّلا:فعل(أخصّ)المقدّر الذي نسب به الأهل في الآية.و ثانيا:تنوين التنكير في«تطهيرا»الدّال على فخامتهم في الطهارة التي ليس هناك أكمل منها.
6)متعلّقات العصمة،العصمة تتعلّق بعدم إمكان صدور الذنب عمدا أو سهوا من صغير أو كبير،بدليل قوله سبحانه: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى* وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (2)،فتشمل هذه الآيات الأئمّة أيضا لأنّهم أوصياء رسول اللّه عليهم السّلام بعده،و كلّ واحد منهم نفسه على البدليّة.
الثالثة:في إثبات العصمة،تثبت العصمة بالأدلّة العقليّة اوّلا،و الدلائل النقليّة ثانيا (3).
ص:377
ألف)أمّا الأدلّة العقليّة المذكورة هنا فهي كالتالي (1):
1)لو لم يكن الإمام(أو النبيّ)معصوما لا يحصل الوثوق بقوله و فعله و تقريره،فتنتفي إذا فائدة بعثه و نصبه؛لجواز صدور الذنب أو الخطأ أو السهو منه،و مثل هذا البعث و النصب لا يفعله الحكيم.
2)لو صدر خلاف العصمة من إمام(أو نبيّ)لوجب علينا اتّباعه؛ لكونه نبيّا أو إماما،و لا يجب(بل يحرم)في نفس الوقت لأنّه عاص، و هذا جمع النقيضين في التكليف،و يوجب تحيّر المكلّف،و داع إلى اللّغويّة في فعل المكلّف.
3)مع عدم العصمة في الإمام(أو النبيّ)و جواز صدور الذنب منه يجب على الأمّة نهيه عن المنكر،و هذا إيذاء له و هو حرام،كما قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (2)،أو سقوط النهي عن الوجوب و هو محال و الناهي يكون مثابا لنهيه و ملعونا بإيذائه عليه السّلام و هو غير ممكن لأنّه جمع بين النقيضين.
4)يسقط الإمام(أو النبيّ)عن القلوب،و لا ينقاد الناس له لو لم يكن معصوما،مع أنّ الفرض هو إقبال القلوب مشتاقة إليه مفدّية له.
ص:378
5)إنّ الإمام(أو النبيّ)لو لم يكن معصوما لكان بصدور ذنب منه من الأراذل،بل كانت رذيلته مضاعفة بالنسبة إلى غيره من عوامّ الأمّة لكون الذنب منه أقبح.
6)أنّ الإمام(أو النبيّ)الغير معصوم يعاقب بذنبه،و لا يمكن له أن يتوقّع عدم العقوبة و التوبيخ لسائر آحاد الأمّة.
7)لو لم يكن معصوما لكان يحتاج إلى إمام أو نبيّ ليهديه و يرشده، فينتهي الأمر إمّا إلى معصوم أو إلى عدم النبوّة أو الإمامة في الأنبياء أو الأئمّة الغير معصومين و هما محالان.
8)أنّ الإمام(أو النبيّ)بعصمته من أجلّ مصاديق اللطف الذي يجب على اللّه في حقّ العباد،و إلاّ لا يكون مقرّبا إلى الطاعة أو مبعّدا عن المعصية،بل قد يكون الأمر فيه عكس ذلك،فيكون جعله خلافا لحكمة اللّه البالغة،و هو محال.
9)لا يمكن حفظ الشرع من الزيادة و النقصان و التغيير و التحريف إلاّ بعصمة الإمام،و إلاّ لكان اللّه مؤاخذا لأصل التشريع أو فوّضه إلى غير المعصوم و قد كان عالما بعجزه عن الحفظ.
10)أنّ العصمة النسبيّة التحصيليّة لكلّ عادل تقيّ تكون عرضيّة،و لابدّ أن ينتهي كلّ عرضيّ إلى ذاتيّ(حسب القاعدة الحكميّة)،فيجب أن يكون الإمام معصوما حتّى يكون منشأ ذاتيّا للعصمة العرضيّة،و لا يمكن أن
ص:379
تكون العصمة الذاتيّة عصمة اللّه لعدم المناسبة بين الواجب و الممكن، فتجب عصمة الإمام.
11)مع عدم العصمة في الإمام(أو النبيّ)تلزم لغويّة في التكوين،لأنّ كمال العالم يحصل بكمال ذوي العقول،و هم لا يكملون إلاّ إذا كانوا متّصلين بالمعصوم و الممتثلين لما يطلب المعصوم منهم،و إلاّ لا ينالون كمالهم اللائق بهم،و بتبع عدم نيلهم إليه لا ينال العالم الى كماله اللائق؛ لأنّ ذوي العقول أشراف العالم.
12)أنّ النبوّة(و بعدها الإمامة)استمرار لولاية اللّه التشريعيّة أو مجراها،فلو لم يكن الإمام(أو النبيّ)معصوما لزم التباين الكلّيّ بين ولاية اللّه سبحانه و بين مجراها جوهرا و مقصدا.أمّا جوهرا فلكون ولاية اللّه الجارية في النبوّة أو الإمامة هي محو الطاغوت و إزهاق الباطل،مع أنّ الغرض الحاصل من ولاية غير المعصوم يكون عكس ذلك.
13)أنّ بين نظامي التكوين و التشريع موافقات موجودة،و من الموافقات وجود العصمة و عدم التخلّف و التخطّي المندرج تحت اصول كلّيّة حاكمة في نظام التكوين،فإذا كان الإمام(أو النبيّ)معصوما وجد التوفيق بين النظامين؛لكون الإمام(أو النبيّ)في نظام التشريع كالأصول الثابتة في التكوين،و إلاّ لتخالفا،و حيث يمتنع هذا التخالف تجب عصمة النبيّ و الإمام،و هو المطلوب.
ص:380
14)أنّ نصب إمام و بعث نبيّ معصوما كان مقدورا للّه تعالى،و هما (البعث و النصب)خاليان عن المفسدة،بل يترتّب عليهما أتمّ المصالح، فلو لم يفعل اللّه ذلك لكان مخلاّ بالواجب و مغريا عباده بالقبيح،و لكان ناقضا لغرض نفسه(و هو تقريبهم إليه)ببخله عن نصب إمام(و بعث نبيّ)معصوم،فحيث إنّ هذه التوالي كلّها ممتنعة عليه سبحانه،يكون الإمام(أو النبيّ)من قبله معصوما،و هو المطلوب.
15)أنّ المعاد و فروعه كالحساب و الثواب و العقاب و الوعد و الوعيد و الجنّة و النار،أمور لا تعقل إلاّ ببلوغ التكاليف إلى المكلّفين صحيحة،و هذا لا يمكن مع عدم العصمة الذاتيّة في مبلّغها و حافظها و إلاّ لبطل أصل المعاد و فروعه المذكورة،أو لكان جميع ذلك لغوا،فيجب أن يكونا(النبيّ و الإمام)معصومين.
16)يصف القرآن نفسه بكونه هاديا إلى التي هي أقوم،و مخرج الناس من الظلمات إلى النور،و غير ذلك من الأوصاف،فهذا إنّما يصدق في عصمة الآتي به(النبيّ)و مفسّره(الإمام)،و إلاّ يكون كاذبا في هذه الأوصاف(نعوذ باللّه و نستجير به).
17)لمّا سأل إبراهيم الخليل عليه السّلام الإمامة لذرّيّته (1)اجيب بعدم نيل عهد الإمامة للظالمين،و لا شكّ في كون غير المعصوم ظالما إمّا عمدا و إمّا
ص:381
سهوا،فلابدّ أن ينال عهد الإمامة معصوما،و هكذا في أمره تعالى بطاعة أولي الأمر (1)و أمره بالكون مع الصادقين،فلو لم يكن معصوما لم يأمر اللّه عباده بطاعته و الكون معه (2)،و لو أمر لكان لغوا أو إغراء بالقبيح (3).
ب)و أمّا دلائل النقليّة على المراد فهي كما يلي:
ص:382
في خبر الأعمش عن الإمام الصادق عليه السّلام:«الأنبياء و أوصياؤهم لا ذنوب لهم؛لأنّهم معصومون مطهّرون» (1).
و عن ابن عباس قال:سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله يقول:«أنا و عليّ و الحسن و الحسين،و تسعة من ولد الحسين،مطهّرون معصومون» (2).
و عن أمير المؤمنين قال:«إنّ اللّه طهّرنا و عصمنا،و جعلنا شهداء على خلقه و حجّته في أرضه،و جعلنا مع القرآن و جعل القرآن معنا،لا نفارقه و لا يفارقنا» (3).
و عن الإمام جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السّلام قال:«قال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام:«إنّ اللّه عزّ و جلّ فضّلنا أهل البيت،و كيف لا يكون كذلك و اللّه عزّ و جلّ يقول في كتابه: إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (4)!فقد طهّرنا اللّه من الفواحش ما ظهر منها و ما بطن،فنحن على منهاج الحقّ» (5).
ص:383
«فعظّمتم جلاله»
و فيه أربع نكات:
الأولى:قد قسّمنا(في ما تقدّم)كمالات آل البيت عليهم السّلام إلى ثلاثة أقسام:ذاتيّة،و فعليّة،و خارجيّة.و في الغالب تذكر الكمالات الذاتيّة لهم، و قليلا ما يوجد من الكمالات الفعليّة،و ما يوجد كان راجعا إلى الذاتيّات أيضا،فيكون جميع ما يذكر هنا من كمالاتهم الفعليّة،و معلوم أنّ الفعليّات متفرّعة على الذاتيّات،و هذا كلّه يستفاد من كون الفاء حرف تفريع.
الثانية:إضافة الجلال إلى ضمير غائب لم يذكر مرجعه الظاهر، فمرجع الضمير هو اللّه؛لوجهين:
الأوّل:القرينة المقاليّة موجودة هنا في ما سبق عليها كأن قيل:«إنّكم عظّمتم جلال اللّه الذي عصمكم من الزلل».
الثاني:لا جليل في الوجود سوى اللّه تعالى،كما قال سبحانه: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ (1).
الثالثة:معنى الجلال؛يجب رجوع جميع المعاني اللغويّة للجلال إلى معنى جامع،و المعنى الجامع له هو ما يندفع الرائي عن القرب إليه
ص:384
و يدهش و يهاب من رؤيته،و يجد نفسه مرعوبة من أن يقرب إليه،كبناء مجلّل و امرأة مجلّلة و غيرهما،فإذا قلنا بأنّ اللّه جليل كان معناه أنّ الممكن يندفع عن القرب إلى الواجب؛لحقارته و عجزه عن إدراك كنهه تعالى ذاتا و صفات غير متناهية،بحيث لولا جذب جماله سبحانه الممكن إليه لبقي في وادي العدم أبد الآباد و لم يوجد قطّ،و نحن واقعون في الرتبة الثالثة(و هي أنزل المراتب)من العجز عن إدراك ذاته و صفاته الذاتيّة سبحانه،و هي مرتبة المادّيّة،و فوقها مرتبة المجرّدات و فوقها مرتبة الإمكان،فكيف لا نكون مقهورين لجلاله و مندفعين عن القرب إلى حريم قدسه كما قال تعالى: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ (1).
الرابعة:أنّ تعظيم آل البيت عليهم السّلام لجلاله سبحانه مبنيّ على المعرفة بأمرين،و هما:العزّ الربوبيّ،و الذلّ العبوديّ؛فبالأولى لا يرون ما سواه تعالى حتّى أنفسهم الشريفة،و يرون كلّ ما سواه حقيرا لا قدر له،فبهذا يكون التعظيم و رؤيتهم إيّاه سبحانه جليلا و غيره حقيرا أمرين قهريّين، فهذا التعظيم التامّ(المبتني على عرفانين تامّين)يعمّ قوليّا و فعليّا،الفعليّ منه هو ما يظهر في دموعهم الغزيرة و سجداتهم الطويلة و كونهم متهيّبين في ساعات مناجاتهم متغيّري الألوان عند سماع الأذان و ورودهم المسجد و غير ذلك،و أمّا من تعظيمهم القوليّ فكما يلي:
ص:385
قال النبيّ صلّى اللّه عليه و اله مخاطبا ربّه سبحانه:«لا أحصي ثناء عليك،أنت كما أثنيت على نفسك» (1).
و قال الإمام عليّ عليه السّلام:«الحمد للّه الّذي لا يبلغ مدحته القائلون، و لا يحصي نعماءه العادّون،و لا يؤدّي حقّه المجتهدون» (2).
و قال عليه السّلام أيضا:«...الّذي ليس لصفته حدّ محدود،و لا نعت موجود،و لا وقت معدود،و لا أجل ممدود» (3).
و قال الإمام عليّ بن الحسين سيّد الساجدين عليه السّلام:«...الّذي قصرت عن رؤيته أبصار النّاظرين،و عجزت عن نعته أوهام الواصفين» (4).
«و أكبرتم شأنه»
و فيه أربع نكات:
الأولى:الفرع الثاني من فروع العصمة هو إكبار شأنه سبحانه،و السرّ في تعبيره عليه السّلام بالإكبار دون التكبير هو وجدان شأنه كبيرا كما قال سبحانه:
ص:386
فَلَمّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ (1)،وجدنه كبيرا في الحسن و الجمال،فيكون معنى الفقرة الشريفة أنّكم وجدتم شأنه تعالى كبيرا، فبهذا يعلم أنّ تكبيره تعالى(من أيّ مكبّر عارف)متأخّر عن الإكبار.
الثانية:سرّ تفرّع تعظيم الجلال و إكبار الشأن(و الفقرات الآتية)على العصمة،هو أنّ غير المعصوم لا يمكن خلوّه من أدنى مراتب الشرك، فلهذا لا يمكن صدور كلّ من التعظيم و الإكبار عنه على معناه التامّ الكامل؛لوجود المنافاة بين الشرك في أيّ رتبة منه و بين العصمة على أيّ من التفاسير الثلاثة لها.
الثالثة:الفرق بين الكبر و العظمة:
الكبر و العظمة يستعملان في الحقائق الجسميّة و العينيّة الغير جسميّة، و الفرق بينهما في الأوّل(في حقائق الجسميّة)هو أنّ استعمال الكبر يكون في مطلق الأجسام،و العظمة في كبر العظم،و في الثاني(في الحقائق العينيّة غير الجسميّة)و هو ما في الفقرتين(عظّمتم جلاله،و أكبرتم شأنه)؛لأنّ اللّه متنزه عن الجسميّة و لوازمها،مع أنّه سبحانه حقيقة عينيّة و هو محقّق الحقائق.
و الفرق بين الشأن و الجلال هو أنّ المراد من الشأن هو أمر الألوهيّة التي لا تتعلّق بشيء سوى ذاته سبحانه.و الحاصل أنّكم(آل البيت عليهم السّلام)
ص:387
إذا عرفتم اللّه كما هو هو،و نزّهتموه عن الحدود الإمكانيّة و الصفات الممكنات،و لم تعرفوه كما تعرف الممكنات،فهذا هو إكبار الشأن.أمّا الجلال فهو ما له متعلّق سوى ذاته المتعالية،أي السلطنة الواسعة الباسطة على جميع الممكنات المندفعة المقهورة،فيكون معنى تعظيم الجلال هو أنّكم عرفتم اللّه بأنّه علّة الوجود و البقاء و الكمال و الزوال للممكنات وصلة بعضها ببعض،و كذا علّة التفاعل بينهما،و له الحكومة و السلطنة المطلقة عليها،فهذا هو المراد من تعظيم الجلال،كما نسب إلى الإمام عليّ عليه السّلام لقوله:
إعتصام الورى بمغفرتك عجز الواصفون عن صفتك
تب علينا فإنّنا بشر ما عرفناك حقّ معرفتك
الرابعة:الفرق بين الإكبار و التعظيم:
يستفاد من تأخّر ذكر الإكبار للشأن عن التعظيم للجلال،أنّ التعظيم يحصل للعارف و هو مندفع بالجلال،و لكنّ الإكبار حاصل من انجذابه بسبب الجمال،فيقع العارف بين الجذب و الدفع،و هذا من ألذّ اللذّات للعارفين؛لغلبة الانجذاب على الاندفاع(لكون الجمال من شؤون الرحمة السابقة على الغضب)؛و لهذا قال النبيّ صلّى اللّه عليه و اله:«اللّهمّ زدني فيك تحيّرا» (1).
ص:388
«و مجّدتم كرمه»
و فيه نكتتان:
الأولى:هذا فرع ثالث من فروع العصمة لآل البيت عليهم السّلام توجب تمجيدهم كرمه تعالى بعد تعظيمه للجلال و إكبارهم للشأن.أمّا معنى الكرم فقد تقدّم في ما مضى (1)،و المراد به هنا هو الجمال،بقرينة ذكر الجلال آنفا،كما قال تعالى: وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ (2)، تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ (3).
قال في(الشموس الطالعة)في معنى المجد:«حقيقة المجد عبارة عن كون الشيء بحيث لا يمكن توصيفه لرفعته،فكلّ ما يوصف به،يكون هو أرفع و أعلى منه».
و معنى كون كرمه تعالى مجيدا هو أنّ وصفه كما هو حقّه غير ممكن للممكن؛و تمجيد آل البيت عليهم السّلام كرمه هو إظهارهم العجز عن وصف جماله،و إقرارهم بأنّ ارتفاع جماله فوق وصفهم،و هذا التمجيد لا يحصل لتعظيمهم للجلال،لأنّه حالة الاندفاع؛و معلوم أنّ تمجيد الكرم
ص:389
و الجمال إنّما يحصل بالانجذاب للجمال و قرب الرائي من المرئيّ،كما سئل الإمام عليّ عليه السّلام:«هل رأيت ربّك حين عبدته؟فقال:ما كنت أعبد ربّا لم أره» (1).
الثانية:تمجيد كرم اللّه على معناه الكامل لا يمكن من غير المعصوم (كتمجيد الحكماء و العرفاء)،إلاّ بتعلم منه،و مع ذلك فتمجيده يحاذي و يساوي تمجيد المعصوم في القول و الفعل،و لكن لا يبلغ إلى تمجيد المعصوم في المعرفة.
«و أدمنتم ذكره» (2) [1]
و فيه نكات خمس:
الأولى:هذا فرع آخر ممّا يتفرّع على العصمة في هذا الباب،و هو إدمان الذّكر الذي يشهد الزائر عليه في آل البيت عليهم السّلام.و الإدمان و الإدامة متقاربا المعنى،و تفرّعه على العصمة ظاهر؛لأنّ الغفلة و النسيان منافيان للعصمة،و لا سيّما إذا كانت العصمة عصمة كبرى و هي تلازم إدامة ذكر المعصوم إيّاه سبحانه.
الثانية:أنّ الاستدامة لذكر اللّه من أفاضل العبادات،بل هي أفضل
ص:390
عبادة،كما قال الإمام الصادق عليه السّلام:«أفضل العبادة إدمان التّفكّر في اللّه و في قدرته» (1)،لا يقال بأنّ هذا الخبر لا يكون شاهدا على المراد،لأنّا نقول لا يمكن التفريق بين التفكّر و التذكّر إلاّ في المفهوم،نعم يمكن أن تكون نسبة بينهما هي نسبة العموم و الخصوص مطلقا،أي يعمّ التفكّر التذكّر، و إن لم يكن كلّ ذكر فكرا،و مع ذلك يمكن الاستشهاد بخبر آخر عن أبي بصير قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: اِتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ ،قال:يطاع فلا يعصى،و يذكر فلا ينسى،و يشكر فلا يكفر» (2)، و كما قال تعالى واصفا أولي الألباب: اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ (3).
الثالثة:إدمان الذكر ملازم لحصول آثاره الكثيرة للذاكر قطعا.
الأوّل:أن يكون مدمن الذكر من جملة اولي الألباب،كما أشرنا إليه.
الثاني:يكون مذكورا للّه تعالى،كما قال سبحانه: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ (4).
الثالث:حصول الفلاح لمدمن الذكر،قال تعالى: وَ اذْكُرُوا اللّهَ كَثِيراً
ص:391
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (1).فحيث إنّ آل البيت عليهم السّلام أدمنوا ذكره تعالى مع أنّهم أعرف الممكنات بالمذكور و شأن الذكر و آثاره و مرتبة الذاكرين،فكان حصول آثار الذكر لهم عليهم السّلام أكمل ممّا يحصل لغيرهم؛لأنّ مرتبتهم هي المرتبة الجامعيّة (2)،و لهذا يمكن لهم ذكر جميع كمالاته سبحانه بمرّة واحدة بلا غفلة عن أيّ كمال،لسعة نفوسهم الشريفة،و لا يمكن ذلك لغيرهم،لأنّ غيرهم إن كان ذاكرا للجمال يكون غافلا عن الجلال مثلا.
الرابعة:أنّ للذكر مقوّمين يتقوّم بهما،و هما:الذاكر و المذكور (3)،و لكلّ منهما شرائط،حتّى يكون الذاكر ذاكرا حقيقة و المذكور مذكورا حقا.أمّا شرائط الذاكر فهي ثلاثة:
الأوّل:أن تكون نفسه واسعة.
الثاني:أن تكون صافية.
الثالث:كونها مشتاقة ولعة بالمذكور.
فكلّما كان الذاكر أصفى و أوسع نفسا و أشدّ اشتياقا إلى المذكور،
ص:392
و كلّما كان غير المذكور أحقر عنده،كان ذكره أكمل.
و أمّا شرائط المذكور فهي اثنان:
الأوّل:شدّة الوجود و تأكّده،الثاني:شدّة الجمال و قوّته.
فكلّما كان المذكور أظهر وجودا و أنور كمالا و جمالا كانت جاذبيّته للذاكر أشدّ،فيكون الذكر إذا أخلص و أعمق،و يكون الذاكر عن غير المذكور أغفل و أنسى،لحقارة غير المذكور عند الذاكر أشدّ،كما قال الإمام عليّ عليه السّلام:«عظم الخالق عندك يصغّر المخلوق في عينك» (1)،و قال أيضا في وصف المتّقين:«عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم» (2).
الخامسة:أنّ في هذه الفقرة الشريفة و فقرة«و أهل الذّكر» (3)إشارتان:
فالأولى:إشارة إلى كمّيّة ذكرهم،و في الثانية:إيماء إلى كيفيّة ذكرهم.
و الحاصل أنّ آل البيت عليهم السّلام استجمعوا جميع شرائط الذكر و الذاكر الحقيقيّين(كما أنّ المذكور سبحانه جامع للشرطين للمذكور،و هو ظاهر).
ص:393
«و وكّدتم ميثاقه،و أحكمتم عقد طاعته»
و فيه نكات خمس:
الأولى:يذكر هنا فرعان كماليّان ممّا يتفرّع على العصمة،و هما:توكيد الميثاق،و إحكام عقد الطاعة للّه.و التوكيد هو التأكيد،و المراد منه التشديد و الميثاق،و هو أمر ينعقد بين اثنين،يقال له الميثاق لعدم انقطاعه،و للوثوق و الاطمئنان به،و هو متقارب المعنى مع الإحكام، و معنى الإطاعة ظاهر،و الفرق بينهما هو أنّ توكيد الميثاق يكون في باب الاعتقاد،و إحكام أمر الطاعة في باب العمل.
الثانية:هذان الكمالان أيضا ليسا ممّا اختصّ به المعصوم عليه السّلام بل يعمّانه و جميع الصالحين أيضا،و لكن ما يخصّ به المعصوم هو رتبتهما الكاملة التي لا يشاركه فيها أحد لما ذكرنا مرارا من أنّ نفس غير المعصوم ضيّقة كدرة،و معرفته ضعيفة خليطة بالشرك،و غير المعصوم مع ذلك يعرض عليه الخطأ و السهو و النسيان و غير ذلك من النقائص.فلو لم يشارك غيره معه في مثل هذين من الكمال لبطلت الصلة و الربط بين الإمام و مأمومه،و بين الهادي و من يهتدي به.
الثالثة:المراد من الميثاق المؤكّد هو الميثاق الذي لم يبق في مرحلة العقد فقط،بل يكون بالغا إلى حدّ الفعل،و المقصود منه هنا التوحيد
ص:394
الكامل الذي يلازم النبوّة و الولاية أيضا،أخذ اللّه عهده من جميع بني آدم (بعد ما أخذه من أبيهم عليه السّلام)و منهم آل البيت عليهم السّلام قال تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا (1)،و قال الإمام الصادق عليه السّلام في ذيل هذه:«إنّ اللّه أخذ الميثاق على النّاس للّه بالرّبوبيّة،و لرسوله صلّى اللّه عليه و اله بالنّبوّة،و لأمير المؤمنين و الأئمّة عليهم السّلام بالإمامة،ثمّ قال:ألست بربّكم،و محمّد نبيّكم و عليّ أميركم و الأئمّة الهادون أولياءكم؟قالوا:بلى.فمنهم إقرار باللسان،و منهم تصديق بالقلب» (2). (3)
الرابعة:بيان المراد من توكيدهم عليهم السّلام للميثاق،أنّ آل البيت عليهم السّلام قد فعلوا في هذا التوحيد أفعالا كالتالي:
ألف)لم يستنكفوا من أيّ جهد و جدّ حتّى بذلوا النفوس و الأموال و
ص:395
الأولاد في إبقاء التوحيد و ترويجه.
ب)لم يقطعوا الصلة بين ما جاء في القرآن من أمر الدين و الشريعة و بين ما جاء به الأنبياء من الأصول و الكلّيّات.
ج)لم يبنوا من عند أنفسهم(في المقام)بناء و لم يحدثوا أمرا جديدا غير ما أذن اللّه و أوحى.
الخامسة:الفرق بين الفقرتين«المطيعون للّه»و«أحكمتم عقد طاعته»:
أنّ فقرة«المطيعون للّه»مشيرة إلى كمال آل البيت عليهم السّلام فيما صدر من الطاعات منهم و تمحّضهم عليهم السّلام في الطاعة،و مبيّنة أنّهم هم الكاملون في ذلك،و لكن في هذه إشارة إلى أنّهم مكمّلوها في غيرهم أو(المطيعون للّه)مشيرة إلى كمّيّة طاعتهم،و في الثانية إشارة إلى كيفيّتها،و ما يناسب هنا ذكره هو:
عن عبد اللّه بن الحسن عن آبائه عليهم السّلام قال:«ما عاهد اللّه عليّ بن أبي طالب و حمزة بن عبد المطّلب و جعفر بن أبي طالب أن لا يفرّوا في زحف أبدا،فتمّوا كلّهم،فأنزل عزّ و جلّ:«من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه فمنهم من قضى نحبه»حمزة استشهد يوم أحد، و جعفر استشهد يوم مؤتة،«و منهم من ينتظر»يعني عليّ بن أبي طالب،«و ما بدّلوا تبديلا»يعني الّذي عاهدوا عليه» (1).
ص:396
«و نصحتم له في السّرّ و العلانية»
و فيه ستّ نكات:
الأولى:السرّ و العلن متخالفان،و يفهم معنى كلّ منهما بمناقضته الآخر،و«النّصح»خالص الشيء و صافيه،و هو خلاف الغشّ و الشوب، قال تعالى: تُوبُوا إِلَى اللّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً ، (1)(أي غير مشوبة)و هذا أيضا فرع من فروع العصمة،و شأن عال و كمال فعليّ لآل البيت عليهم السّلام،فإطلاق النصيحة على المواعظ يكون من باب ذكر الشيء و إرادة اللازم،لأنّ الواعظ يخلص كلامه و قصده للمستمع.و تشبهها الفقرة الشريفة «المخلصين في توحيد اللّه»(في الفصل الرابع و الثلاثين).
و لعلّ الفرق بينهما هو أنّ في الأولى إشارة إلى كمال التوحيد في آل البيت عليهم السّلام من حيث الاعتقاد،و في هذه إشارة إلى مرتبة خاصّة من مراتب التوحيد،و هي التوحيد العبوديّ،و يمكن أن تكون الأولى إن قرئت(مخلصين)على هيئة الفاعل،تكون صفة فعليّة،و إن قرئت على هيئة المفعول(مخلصين)تكون صفة ذاتيّة،و هذا حسن فعليّ لآل البيت عليهم السّلام في جميع أفعالهم سرّا و علانيّة.
الثانية:ترتّب هذا الكمال على العصمة ظاهر،لما ذكرنا غير مرّة من أنّ
ص:397
غير المعصوم مهما بلغ من الكمال لا يمكن له أن يخلص من الشرك الخفيّ بالكلّيّة،فيكون المعصوم أجلى المصاديق للناصحين أي المخلصين للّه،قال تعالي: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (1).بل يكون شأن المعصوم في المقام أرفع ممّن سواه،لأنّه كان مخلصا أي أخلصه اللّه تعالى كما قال سبحانه: إِنّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدّارِ (2)،و غيرهم ليس كذلك، بل يكون مخلصا.
الثالثة:سرّ إضافة شؤون العبد إلى اللّه هو أن يصل العبد إلى مرتبة لا يرى فيها غيره سبحانه،و هي المسمّاة بمرتبة الفناء في اللّه الذي يحصل منه البقاء باللّه،قال تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ (3).
الرابعة:ذكر في هذه الفقرة المباركة شأن الاستكمال لآل البيت عليهم السّلام كما يأتي بعيد ذلك شأن الإكمال لهم،و لكنّ استكمالهم غير استكمال غيرهم؛و الفرق الاستكمالين هو في غيرهم تحصيل الكمال بعد النقص، و فيهم عليهم السّلام تحصيل الكمال بعد الكمال،توضيح ذلك هو أنّ المستكمل الغير معصوم قبل أن يحصل له كمال جديد كان ناقصا،لخلوّ وعائه من
ص:398
الكمال(و خلوّه هذا،ينشأ من تقصيره)و لكنّ المعصوم لا يكون و عاؤه خاليا،بل يسع حتّى يحصل له كمال جديد.
الخامسة:أنّ هذه الفقرة مشيرة إلى أصعب كمال من الكمالات الفعليّة لمن يريد أن يكون عبدا كاملا للّه،لأنّه يجب أوّلا إيجاد الإخلاص،و ثانيا حفظه و إبقاؤه لنفسه مع ظهور الإخلاص بين الناس،حتّى يكون أسوة في الأرض للمؤمنين.
السادسة:نموذج من إخلاصهم عليهم السّلام:
قال زين العابدين عليه السّلام في دعاء له:«أسألك حبّك و حبّ من يحبّك، و حبّ كلّ عمل يوصلني إلى قربك،و أن تجعلك أحبّ إليّ ممّا سواك، و أن تجعل حبّي إياك قائدا إلى رضوانك،و شوقي إليك ذائدا عن عصيانك» (1)،و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله في حقّ الإمام عليّ عليه السّلام حين قتل عمرو بن عبد ودّ بضربة واحدة:«لضربة عليّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثّقلين» (2)،فما تفوق به هذه الضربة هو الإخلاص.
«و دعوتم إلى سبيله بالحكمة و الموعظة الحسنة»
و فيه ستّ نكات:
ص:399
الأولى:هذا أيضا من الكمالات المتفرّعة على عصمة آل البيت عليهم السّلام و معناه أنّ غيرهم لا يمكن له دعوة مثل هذه تامّة(و هذا لا يمنع من مشاركة غيرهم في أصل الدعوة).و الدليل على انحصار الدعوة التامّة كهذه فيهم،هو أنّ غيرهم قد يخطأ في أصل الدعوة بأن يتركها أو يخلّ في أجزائها أو في أقسامها أو في مورد كلّ نوع من أنواع الدعوة أو غير ذلك،كما إذا دعا مغضبا في مورد الحلم أو بالعكس أو دعا بالحكمة في مورد الموعظة أو بالعكس،فلهذا قلنا بأنّ الدعوة التامّة تتفرّع على العصمة.
الثانية:قد تقدّم آنفا أنّ إخلاصهم و نصحهم للّه شأن استكماليّ على معناه الخاصّ المذكور،لأنّ إخلاصهم لا يتعلّق بالغير إلاّ كونه للّه كما قال سبحانه: قُلِ اللّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (1)،و هذا شأن كماليّ كأصل و قاعدة أنّ كلّ كامل لا يكون تامّا إلاّ إذا كان مكمّلا(حسب ما فرّقنا بين التمام و الكمال في شرح«و التامّين في محبّة اللّه»)فالدعوة إلى سبيل اللّه بهذه الجامعيّة إكمال منهم للغير.
الثالثة:هذه هي المرّة الرابعة (2)التي ذكرت فيها الدعوة،فلا نعود إلى
ص:400
كلام فيها،بل نذكر أنواع الدعوة،فالدعوة تنقسم إلى ثلاثة أقسام،هي:إمّا بالحكمة،أو بالموعظة الحسنة،أو بالمجادلة بالتي هي أحسن.
فالدعوة بالحكمة أو بالموعظة الحسنة كما أمر اللّه نبيّه أن يدعو الناس بهما في قوله سبحانه: اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (1).
أمّا الدعوة بالحكمة فهي دعوة بتمهيد مقدّمات عقليّة،و إرجاع الخصم إلى اصول عقليّة،و الإجابة عن شبهة الخصم من طريق الحلّ و النقض، كلّ ذلك يختصّ لذوي العقول القويّة.و أمّا كونها بالموعظة فهي تختصّ بضعفاء العقول و أقوياء الأوهام من ذكر العواقب السيّئة للسيّئات، و الخواتيم الحسنة لجميل الأفعال و الأخلاق،من غير ذكر دليل عقليّ،بل يلزم فيها ذكر قصص مهيّجة و نحوها كما هو دأب القرآن العزيز،فإنّه قد يستدلّ على وجود الصانع بأدلّة آفاقيّة و أنفسيّة(و هذا من نوع الأوّل من الدعوة)،و قد يعظ المشركين بأنّ عاقبتهم تنتهي إلى النار و سلاسلها و أنواع العذاب فيها و غير ذلك(و هذا هو النوع الثاني من الدعوة).
الرابعة:أمّا إطلاق الحكمة على النوع الأوّل من الدعوة،فلكونها محكمة تنبع من عقل الداعي و تنتقل إلى عقل المدعوّ،و العقل و المعقول
ص:401
لا يقبلان الريب و الشكّ.و أمّا تقييد الموعظة بالحسنة فهو احتراز من المواعظ السيّئة،و هي:إمّا متشكّلة من الأكاذيب و الأساطير الباطلة كوصف المشركين أصنامهم و أوثانهم،و إمّا لغرض فاسد في نظر الواعظ.
و تقييد الجدال بالأحسن أيضا احترازا من الجدال السيّئ الذي يوجب الاختلاف و المفارقة بين المجادلين.
الخامسة:لم يذكر الإمام الهادي عليه السّلام هنا شيئا من الجدال الأحسن،مع أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و اله مأمور به كما قال تعالى: وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ،و مع أنّ الأئمّة خلفاء الرسول و يلزم أن يكونوا مأمورين بالجدال الأحسن أيضا،نقول:لصحّة عدم ذكر الجدال وجوه:
الأوّل:يحتمل أنّ الإمام عليه السّلام كان يريد الإيجاز في الكلام؛لظهور التفصيل في كلامه.
الثاني:أنّ الجدال الأحسن يلزم في أمر تأسيس الدين،و الأئمّة لم يؤسّسوه بل كان مؤسّسه النبيّ صلّى اللّه عليه و اله.
الثالث:منافاة جدالهم الأحسن مع التقيّة التي كانوا مكلّفين بها،و مع ذلك كلّه توجد مجادلات في آثارهم عليهم السّلام كإجابات الإمام الصادق عليه السّلام و مجادلاته مع ابن أبي العوجاء و الديصانيّ (1).
السادسة:يحتاج في النوع الأوّل من الدعوة(الحكمة)إلى كمال العقل
ص:402
في الداعي و سلامته(العقل)في المدعوّ.و في النوع الثاني(الموعظة الحسنة)إلى العلم الواسع في الداعي و سلامة الفطرة و إن كانت ضعيفة في المدعوّ،و في الثالث(الجدال بالتي هي أحسن)إلى حلم وسيع في الداعي،و إلى الحرّيّة و الشجاعة و القبول في المدعوّ،و لا شكّ في أنّ آل البيت عليهم السّلام كاملون و جامعون للشرائط المختصّة في الداعي.
«و بذلتم أنفسكم في مرضاته»
و فيه خمس نكات:
الأولى:أنّ هذه الفقرة الشريفة مقتبسة من الآية الكريمة التالية؛لعدم آية في القرآن أقرب إلى هذه الفقرة منها،و هي قوله سبحانه: وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ وَ اللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (1).
و التفاوت في التعبير في الآية بالشراء و في هذه الفقرة بالبذل،من جهة الفاعل و القابل.و المراد من الفاعل هو الإمام عليّ عليه السّلام و هو الذي بذل نفسه في ليلة المبيت كي يهاجر النبيّ سالما من الأعداء،و لم يرد بذلك إلاّ وجه اللّه،و المقصود من القابل هو اللّه سبحانه،الذي تفضّل على المجاهدين بما أعطاهم من النفس و المال بالتعبير بالشراء،كما قال تعالى:
ص:403
إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ (1).
الثانية:بيان تفرّع بذل النفس على العصمة:
قد ذكرنا مرارا أنّ كلّ كمال فعليّ يمكن صدوره من غير المعصوم و غالبا يمتنع صدوره بلا عيب أو نقص في وقته أو مقدّماته أو قصد فاعله أو معرفة الفاعل بمن يفعل له،و غير ذلك من النواقص؛فلهذا أمر المسلمون في فتح مكّة بالاستغفار(و إن كان المخاطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله) بقوله تعالى: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَ الْفَتْحُ* وَ رَأَيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أَفْواجاً* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوّاباً (2)،و لكنّه يصدر من المعصوم بلا أصغر عيب فيه،لعلمه و عصمته،فالمراد من بذل النفس المتفرّع على العصمة هذا النوع،أي النوع الثاني،فلا يرد السؤال إذا في تفرّعه على العصمة مع إمكان صدوره عن غير المعصوم.
الثالثة:أنّ بذل النفس أمر هامّ،بل هو أهمّ الأمور للغاية،لأنّ للنفس محبوبيّة ذاتيّة لكلّ ذي نفس من الإنسان و غيره،و محبوبيّة المال و الجاه و الولد و غيره لتعلّقه بالنفس،و لهذا يكون لبذل النفس أهمّيّة بالغة و قيمة فائقة،و لا تنال مرتبة الأبرار إلاّ ببذل ما كان محبوبا،كما قال تعالى: لَنْ
ص:404
تَنالُوا الْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ (1)،و كلّما كان المبذول أحبّ كانت رتبة الباذل أرقى،فيكون لبذل النفس أرقى المراتب التي لا رتبة فوقها.
الرابعة:بيان المعنى البذل و الباذل و المبذول و المبذول فيه:
فالبذل عبارة عن«إباحة الشيء للغير عن طيب نفس»،بمعنى رفع المانع للغير عن التصرّف فيه،و الفرق بينه و بين الإنفاق هو أنّ الإنفاق أعمّ من البذل،و البذل أخصّ.و الباذل في هذه الفقرة هو آل البيت عليهم السّلام، و المبذول هو أنفسهم القدسيّة،و المبذول فيه هو مرضاة اللّه تعالى، و نفاسة المبذول كاشف عن أهمّيّة البذل و اشتياق الباذل و شدّة حبّه للوصول إلى المبذول فيه،لما كان عظيما عنده بالغاية.و الدليل على أهمّيّة المبذول فيه قوله سبحانه: وَ رِضْوانٌ مِنَ اللّهِ أَكْبَرُ (2)،و توضيح المراد هو أنّ الوقوف على عظمة المبذول فيه يتفاوت بتفاوت معرفة الواقف، فإن كان الواقف من الأولياء الكاملين فهو يقف على عظمة البذل و الباذل بالمبذول من كمال معرفته بعظمة اللّه و رضاه،لأنّ كلاّ من البذل و الباذل و المبذول متعلّق به سبحانه،و دونه حقير عنده.و إن كان الواقف من الناقصين تكون رؤيته عكس الأوّل،أي من عظمة المبذول يقف على
ص:405
عظمة المبذول فيه.
الخامسة:أنّ لبذل النفوس في مرضاة اللّه ثلاثة موارد،و هي:مورد العبادات الشاقّة،و الإطاعات الصعبة (1)،و الشهادة(القتل)،و كلّ ذلك معلوم في حقّ آل البيت عليهم السّلام،إذا تعدّ إطاعتهم و شهادتهم عبادة أيضا لعدم قصدهم فيهما غير مرضاة اللّه.
«و صبرتم على ما أصابكم في جنبه» (2)
و فيه خمس نكات:
الأولى:قد كرّرنا وجه تفرّع هذه الكمالات للعصمة مع إمكان حصولها في غير المعصوم فلا نعود إليه،و لكن هنا نقول:صبر آل البيت عليهم السّلام على ما أصابهم في جنبه يترتّب على بذل النفوس في مرضاته أيضا،لأنّ البذل يستلزم الصبر،و الصبر-كما قيل-أمّ الفضائل.
ص:406
الثانية:معنى الصبر و لوازمه:
قال المحدّث القمّيّ في(سفينة البحار)في معنى الصبر ناقلا عن المحقّق الطوسيّ(رضوان اللّه عليهما):«الصبر:حبس النفس عن الجزع عند المكروه،و هو يمنع الباطن عن الاضطراب و اللسان عن الشكاية و الأعضاء عن الحركات الغير معتادة»،و قال صاحب(الشموس الطالعة) في معناه(و هو أحسن من المنقول آنفا):«حقيقة الصبر تصلّب النفس و وقارها عند الشدائد،و لازمه عدم الاضطراب (1)عندما يرد عليه من المولى من النقص في الأموال و الأولاد و الأنفس و الثمرات،و مطلق ما يتعلّق به من الإضافات من العزّة و الراحة و غيرهما».
الثالثة:لا منافاة بين صبرهم عليهم السّلام و بكائهم في المصائب الواردة عليهم من جهة و بكائهم في الاشتياق إلى ما يتوقّعون وصولهم إليه و حصولهم من جهة أخرى،فنقول:أمّا البكاء في المصائب فهو لازم لطبائعهم الطاهرة البشريّة و دوام حياتهم الطيّبة من غير أيّ اعتراض أو شكوى،كما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و اله بكاؤه عند وفاة ولده إبراهيم:«...فقالوا:يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله، تبكي و أنت رسول اللّه؟!فقال:إنّما أنا بشر،تدمع العين و يفجع القلب و لا نقول ما يسخط الرّبّ،و اللّه يا إبراهيم إنّا بك لمحزونون» (2).
ص:407
و أمّا البكاء فيما يشتاقون إليه فهو أيضا لازم لعبوديّتهم المحضة و عدم تعلّقهم بما سوى المولى تبارك و تعالى،كما قال الإمام عليّ عليه السّلام،في وصف المتّقين:«لولا الآجال الّتي كتبت عليهم لم تستقرّ أرواحهم في أبدانهم طرفة عين؛شوقا إلى الثّواب،و خوفا من العقاب» (1).
الرابعة:بعض ما يترتّب على الصبر:
1)أنّ الصبر من صفات الأنبياء العظام عليهم السّلام: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ (2).
2)و هو من خصال أهل الجنّة: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ (3).
3)الصبر من صفات اولي الألباب: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ...
وَ الَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ (4).
4)و هو يوجب المغفرة و الأجر الكبير: إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (5).
ص:408
5)أنّ الصابر محبوب للّه تعالى: وَ اللّهُ يُحِبُّ الصّابِرِينَ (1).
6)هو تعالى مع الصابرين: إِنَّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ (2).
7)الصابرون مبشّرون بصلوات اللّه و رحمته لهم: وَ بَشِّرِ الصّابِرِينَ* اَلَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ* أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (3).
8)و الصابرون لهم أجر بغير حساب: إِنَّما يُوَفَّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (4).
9)جزاء الصابر أحسن عند اللّه من عمله: وَ لَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (5).
الخامسة:للمصيبة معنيان:لغويّ،و عرفيّ:
أمّا اللغويّ فهو يعمّ المحبوب و المكروه،و الأظهر هو المراد من هذه الفقرة،فيكون معنى الفقرة أنّكم صبرتم في جنب اللّه لما أصابكم من المحبوب،و لم تطغوا فيه و لم تفرحوا به بحيث يوجب الفرح و نسيانكم للّه و غفلتكم عن ذكره و شكره،و صبرتم أيضا في جنب اللّه على جميع
ص:409
ما كان مكروها(و هو المعنى العرفيّ للمصيبة)في الطبيعة البشريّة،و لم تعترضوا و لم تشكوا،و لم تكونوا ممّن فرّط في جنب اللّه،كما قال سبحانه حاكيا عن النادم: يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ (1).
«و أقمتم الصّلاة،و آتيتم الزّكاة»
و فيه خمس نكات:
الأولى:أنّ الإمام الهادي عليه السّلام اقتبس هذه الفقرة الشريفة من آية الولاية: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ (2)؛لأنّها نزلت في الإمام عليّ عليه السّلام حين أعطى خاتمه للفقير أثناء ركوعه،و قصّة نزولها متواترة بين الفريقين.
الثانية:معنى التعبير في باب الصلاة في كلّ موضع من القرآن و الأخبار بالإقامة و مشتقّاتها دون فعل الصلاة و ما يشبهه هو الإدامة معتدلا ثابتا من غير نقص و لا اعوجاج كما قال سبحانه: وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (3)،و حكى سبحانه عن قول إبراهيم عليه السّلام: رَبِّ اجْعَلْنِي
ص:410
مُقِيمَ الصَّلاةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي... (1)،و هو غير يسير لعامّة الناس،بل للخواصّ أيضا،و لهذا قال مولانا الرضا عليه السّلام:«الصّلاة لها أربعة آلاف باب» (2).
الثالثة:هذان كمالان فعليّان أيضا متفرّعان على العصمة،و توضيح تفرّعهما عليها مع أنّهما تكليفان لعموم المسلمين،هو أنّ الأوّل استكمال، و الثاني إكمال،و لا يخلو صدور أيّهما من غير المعصوم من النقص،لأنّ فعل غير المعصوم من النقص مهما بلغ من الكمال مشوب قطعا بالشرك الخفيّ أو غيره،و لكنّ ما يصدر من المعصوم من إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة هو كمال فعليّ خالص،كما أشرنا إلى ذلك غير مرّة،و ما ينبغي ذكره هنا مكرّرا هو أنّ استكمالهم بإقامة الصلاة من نوع الاستكمال الذي يختصّ بهم،أي يكون من الكمال إلى الكمال لا كغيرهم من النقص إلى الكمال.
الرابعة:أنّ معنى إقامة الصلاة الظاهرية هو ما ذكر،و أمّا المراد من معناها الباطنيّ فهو الولاية للإمام المعصوم عليه السّلام كما قال الإمام عليّ عليه السّلام:
«...و قوله يُقِيمُونَ الصَّلاةَ فمن أقام ولايتي فقد أقام الصّلاة» (3)؛فلهذا كلّ من الصلاة و الولاية شبيهة بالأخرى في كونها مشروطة بالشرائط،لهذا يصحّ تأويل الصلاة بالولاية،فكما أنّ الصلاة مشروطة بالطهارة الظاهرة من
ص:411
الحدث و الخبث،كذلك الولاية مشروطة بالطهارة الباطنيّة من الشرك.
الخامسة:معنى إيتاء الزكاة:
إنّ إيتاء الزكاة شرعا هو إخراج قدر معيّن من الأموال الخاصّة التي تتعلّق بها الزكاة،و ليس هذا-بظاهره-كمالا هامّا للمعصوم عليه السّلام حتّى يمدحه الزائر و يثنى به عليه،و لكن ليس معناه الحقيقيّ محدودا على تفسير الفقيه منه،بل له مفهوم أوسع من هذا و هو المستفاد من قول الإمام الصادق عليه السّلام:«لكلّ شيء زكاة و زكاة العلم نشره» (1)،فعلى هذا لا يعطي غير المعصوم زكاة كلّ شيء؛لأنّ المعصوم عالم بزكاة كلّ شيء و بالمقدار الذي يجب أن يخرج منه و بمن يتعلّق فقط،و بهذا يتبيّن سرّ تفرّع إيتاء الزكاة على العصمة؛لأنّ غير المعصوم جاهل بالشيء المزكّى و بمقدار الزكاة منه و المستحقّ له،و بفرض علمه بجميع ذلك يخطأ في العمل بموجبه.
«و أمرتم بالمعروف،و نهيتم عن المنكر»
و فيه أربع نكات:
الأولى:إنّ معاني الأمر و النهي و المعروف و المنكر ظاهرة خصوصا للمتشرّعين،فلا حاجة إلى توضيح أيّ منها،و لكنّ ما ينبغي ذكره هو أنّ
ص:412
للمعروف و المنكر معنيين غير المتعارف منهما،و هما أنّ المعروف هو المرضيّ عند اللّه و المقبول لديه،و المنكر بخلافه،و الميزان هو مطابقتها لحقيقة النفس الأمريّة.
الثانية:يتبيّن من المعنى الثاني لكلّ من المعروف و المنكر تفرّعهما على العصمة،إذ لا ينطبق الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر الصادران من المعصوم إلاّ مع الميزان المذكور،و لا يمكن لغيره ذلك الانطباق الدقيق،فأمر المعصوم و نهيه غير مخالفين مع نفس الأمر،فضلا عن كونهما يخالفان أصل الفعل،لأنّ أمر كلّ آمر و نهي كلّ ناه موقوفان على إرادتهما لهما و مشيّتهما فيهما(الأمر و النهي)،و المعصوم لا يريد و لا يشاء إلاّ ما شاء اللّه و أراد،كما قال تعالى: وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ (1).
الثالثة:أنّ الإمام يكون أولى من الأمّة بفعل الأمر و النهي.و فعل كلّ أمر هو محبوب عند اللّه لإمامته للرعيّة و قوّة معرفته باللّه و سعة علمه بمصالح الفعل و مفاسد تركه،و أيضا علمه بشدّة افتقار الأمّة في دنياها و آخرتها إليه،فلكون هذه الأولويّة للإمام،قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:«قال أمير المؤمنين عليه السّلام:اعرفوا اللّه باللّه،و الرّسول بالرّسالة،و أولي الأمر بالأمر
ص:413
بالمعروف و العدل و الإحسان» (1).
الرابعة:أنّ صدور كلّ فعل كماليّ،أو ظهور كلّ كمال فعليّ،يصيّر الفاعل على حدّه و ظرفيّته مظهرا لاسم من أسماء اللّه الحسنى،فالآمر بالمعروف يكون مظهرا لاسمه الهادي،و الناهي عن المنكر يكون مظهرا لاسمه العاصم سبحانه،و إن كان المعصوم أتمّ المظاهر فيهما و في كلّ موضع.
«و جاهدتم في اللّه حقّ جهاده»
و فيه ستّ نكات:
الأولى:هذه الفقرة الشريفة مقتبسة من القرآن،حيث قال سبحانه:
وَ جاهِدُوا فِي اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ (2).و قد قلنا في ما سبق بأنّ اقتباس فقرات من هذه الزيارة من القرآن يوجب مزيد صحّتها و اعتبارها،ليطابق القرآن الناطق مع القرآن الصامت،و الإمام العلميّ(القرآن)مع الإمام العينيّ، و لكنّ الإمام يساوي المؤمنين في أصل كونه مكلّفا بالجهاد و يكون أولى منهم به لكونه إماما.
الثانية:يحتمل خطاب الزائر في هذه الفقرة على آل البيت عليهم السّلام أن
ص:414
يكون في الجملة و بالجملة أيضا،أمّا كون الخطاب بفي الجملة أنّ في مجموعكم من جاهد في اللّه(على معناه الفقهيّ)حقّ جهاده،و هو أمير المؤمنين و ولده المفدّى سيّد الشهداء عليهما السّلام،كما سيجاهد وصيّه الجليل صاحب الزمان عليه السّلام.و لخطاب الزائر على جميع آل البيت عليهم السّلام شواهد عديدة في القرآن،كما في قصّة بني إسرائيل و عقر ناقة صالح،مع كون المعاصرين منهم للنبيّ الخاتم لم يكونوا مع أسلافهم الخبثاء،و هذا كاف في وجه الخطاب على الجميع،و الغرض مشاركة البعض مع الآخرين في القصد و الاعتقاد،و أمّا إن كان الخطاب عليهم بالجملة فيصير معنى الجهاد أوسع من معناه السابق،فيشمل جهاد جميع أعداء اللّه جنّيّين كانوا أو إنسيّين،أو الأنفس الأمّارة بالسوء.
الثالثة:لا فرق في أصل الجهاد للّه بين التعبير ب«في سبيل اللّه»و التعبير ب«في اللّه»،إلاّ أنّ الثاني دالّ على تمحّض المجاهد و توغّل فعله في اللّه، و كمال خلوصه لوجهه الكريم،كأنّ المجاهد مستغرق فيه سبحانه فعلا و قصدا و عقيدة،و غير ذلك.
الرابعة:إن سئل:فلماذا أمر اللّه في كثير من الآيات بالجهاد في سبيله؟ نجيب عنه بوجوه:
ألف)أنّ فعل الجهاد شاقّ ثقيل،و لعلّ إرادة اللّه من تعبيره هذا أن يخفّف جهته الباطنة حتّى يتعادل الثقيل مع الخفيف.
ص:415
ب)أنّ الآية التي لم يعبّر فيها بالسبيل مفسّرة للآيات التي جاء فيها التعبير بالسبيل.
ج)لعلّ المراد من ترك التعبير بالسبيل هو أفاضل المؤمنين و كمّلهم الذين هم أجلى مصاديقهم،المعصومون.
الخامسة:ينقسم الجهاد من حيث المقصد إلى قسمين:
الأوّل:في اللّه،و هو ما سبق ذكره،كجهاد الكفّار و المشركين.
الثاني:في غير اللّه (1)،و هو ينقسم أيضا إلى نوعين:
الأوّل:جهاد المشركين و الكفّار،و لكن لم يقصد فيه وجه اللّه كجهاد المرائين من المؤمنين.
و الثاني:كجهاد المرتاضين الهنديّين الذين يجاهدون مع قوى أنفسهم الطبيعيّة و غرائزهم الطاغية،و أيضا كجهاد المتصوّفة و الرهبانيّين.و وجه عدم جهاد هؤلاء في اللّه هو عدم اعتقاد المرتاضين باللّه و تصرّفهم في ملك الغير(القوى و الغرائز التي مالكها هو اللّه)عدوانا الذي ينتهي أحيانا إلى ضياعها،و عدم مشروعيّة الجهاد،و أيضا جهاد المتصوّفة لكونه بدعة في الشريعة،فلا شكّ في كون جهاد آل البيت عليهم السّلام في اللّه؛لأنّ آمرهم به
ص:416
هو اللّه،و المأمور به(الجهاد)هو مشروع للّه،و هم لا يقصدون فيه إلاّ وجه اللّه،و لا يطلبون به إلاّ مرضاته.و ينبغي أن يقال:إنّ جهاد المعصوم مع قواه و غرائز نفسه القدسيّة لا ينتهي إلى ضياعها،بل الأمر ينجرّ إلى انقياد الغرائز لعقله الكلّيّ.
السادسة:أنّ لكلّ حقيقة لوازم عقليّة ثابتة لا تتغيّر،و الجهاد في اللّه -كحقيقة-لها لوازم لا تنفكّ عنها،و نحن نذكر هنا بعضها:
1)أنّ المجاهد أفضل من القاعد،كما قال سبحانه: وَ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (1).
2)هو راج لرحمة اللّه،بخلاف المجاهد المرائيّ،قال تعالى: وَ الَّذِينَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ (2).
3)هو مؤمن حقّا، وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا (3).
4)هو أعظم درجة، اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللّهِ (4).
ص:417
5)يجمع بينه و بين النبيّ صلّى اللّه عليه و اله، لكِنِ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ (1).
6)و هو المهتدي، وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا (2).
7)و هو تاجر قد أفلح من العذاب، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ (3).
و الحاصل أنّ آل البيت عليهم السّلام حيث جاهدوا في اللّه في مجالات شتّى بأجمع معنى الكلمة،بأيّ معنى من الجهاد فقد احرزوا جميع ما للمجاهدين بأتمّ وجه و أكمل رتبة.
«حتّى أعلنتم دعوته،و بيّنتم فرائضه،و أقمتم حدوده،
و نشرتم شرائع أحكامه،و سننتم سنّته»
و فيه ثلاث نكات:
الأولى:هذه الفقرة الشريفة تكون نتيجة للفقرة المتقدّمة (و جاهدتم...)؛بدليل لفظة«حتّى»،و هذا يؤيّد ما احتملناه من كون المراد
ص:418
من الجهاد هو معناه العامّ.
و يتفرّع على جهادهم المتفرّع لعصمتهم فروع خمسة،أو تكون هذه الفروع تفسيرا لجهادهم:
أحدها:إعلان الدعوة.
ثانيها:تبيين الفرائض.
ثالثها:إقامة الحدود.
رابعها:نشر الشرائع.
خامسها:جعل السّنن.
الثانية:يتبيّن تفرّع هذه الأفعال الخمسة لجهادهم؛لكون جهادهم في اللّه من جهة و حقّ الجهاد من جهة اخرى،فلو لم يتقيّد جهادهم بهذين القيدين لم تتفرّع هذه الفروع عليه،لإمكان انجرار دعوتهم خطأ إلى إخفائها أو إلى اختلاط الفرائض؛لأنّ الجهاد في غير اللّه ينتهي إلى الخسران،كما صرّح القرآن به،و ينتج عكس المقصود.
الثالثة:توضيح هذه الفروع:
الإعلان هو خلاف الإخفاء و التبيين،و خلاف الإبهام.و الإقامة خلاف الاعوجاج،و الباقي ظاهر.
إنّ اللّه سبحانه دعا إليه عباده بدلالات عقليّة و شهادة الفطرة،و بألسنة الرسل و الكتب،و لكنّها بقيت مخفيّة في حجب الزمان و النفس و غيرهما
ص:419
من الحجب،و افول شمس الدين،حتّى انتهى الأمر إلى خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و اله فكانت الدعوة أيضا خفيّة عن سائر الملل و الأقوام على وجه الأرض و مجملة،لكون النبيّ الخاتم صلّى اللّه عليه و اله كان في مقام التأسيس،و هو ملازم للإجمال،و لكنّ آل البيت عليهم السّلام أعلنوها(على ما اقتضته الشرائط)لتتمّ الحجّة على المعاصرين و على كلّ من بلغت من الآتين،إلى آخر زمان التكليف،فلا يقولوا: رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزى (1).
و أما تبيين الفرائض فهو عبارة عن بيان العقائد و الأخلاق و الأعمال بحيث لا تشتبه و لا تختلط مع غيرها من الأوامر الإلهيّة،هذا في ما إذا أخذنا الفرائض قبال المندوبات،و أمّا إذا أخذناها أعمّ منها فيكون معنى تبيين الفرائض إبانة ما أمر اللّه عن المنهيّات.و أمّا إقامة الحدود،حدّ كلّ شيء عبارة عمّا يتقوّم الشيء به و يمتاز به عن غيره،فمعنى إقامة آل البيت عليهم السّلام حدود اللّه أنّهم أوضحوا للخلق جميع مقوّمات الدين(في العقائد و الأخلاق)و جميع ما يتقوّم به الشرع(من المقرّرات العمليّة) على أدقّ إيضاح،حتّى لم يبق لأحد عذر إن وقع في انحراف عن التوحيد إلى الشرك،و عن النبوّة الحقّة إلى ادّعاء الكاذبين من المتنبّين،و عن الإمامة الحقّة إلى دعوة غاصبيها،و عن الاعتقاد بالمعاد إلى الاعتقاد
ص:420
بأساطير الأوّلين،و عن العبادات الحقّة إلى العبادات المتلوّثة بالبدع.و أمّا نشر الشرائع فهو عبارة عن نشرها و تعميم تعليمها لعامّة المكلّفين على مقتضى الشرائط و الإمكانات.
فالحاصل أنّهم عليهم السّلام لم يقصّروا في ذلك،و هذا معلوم للمتتبّعين أخبارهم عليهم السّلام و إن اخفي أو ترك كثير منها بسبب حقد الأعداء و جهل الأصدقاء.
و أمّا جعل السنن،فإنّ صاحب كتاب(الشموس الطالعة)رحمه اللّه قال في تفسير هذه الفقرة«و سلكتم سنّته»و لكن لا يقال لسالك السّنّة هو سانّ لها،بل السانّ هو المشرّع و المقنّن،فيكون معنى الفقرة أنّكم شرّعتم سننا في شريعة اللّه فتكون هذه السنن منهم عليهم السّلام سننه سبحانه كما قال تعالى: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (1)،لأنّ لهم حقّ الولاية في التشريع كما كان لهم حقّ في التكوين،فهذا الجعل يعمّ جميع الشرائع السياسيّة كقتال الإمام عليّ عليه السّلام للخوارج مع إقرارهم لعنهم اللّه بالشهادتين و لم يكونوا مهدوري الدم في ظاهر الأمر أو غيرها، كالأحكام الفرديّة العباديّة أو غيرها،كما أضاف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله ركعتين على صلاة الظهرين و العشاء و ركعة للمغرب بعنوان فرض النبيّ،و هكذا صلوات النوافل اليوميّة و صوم شهر شعبان،و هكذا صوم ثلاثة أيّام في كلّ
ص:421
شهر ندبا،و كجعله صلّى اللّه عليه و اله السّدس ممّا ترك الجدّ المتوفّى،و قد رخّص اللّه تعالى الأئمّة عليهم السّلام في جميع هذه السنن من قبل النبيّ صلّى اللّه عليه و اله.و الحاصل أنّ آل البيت عليهم السّلام كانوا أهلا لهذا الشأن و قد أخذوه بخلافتهم عن الرسول صلّى اللّه عليه و اله،و لا دليل في ذلك على امتناعه لهم ذاتا أو على عدمه وقوعا.
«و صرتم في ذلك منه إلى الرّضا،و سلّمتم له القضاء،
و صدّقتم من رسله من مضى»
و فيه نكات سبع:
الأولى:نعدّ هذه الجمل الثلاث كفقرة واحدة و إن كانت كلّ واحدة منها مبيّنة لكمال على حدة،(و المعاني اللغويّة في هذه الجمل ظاهرة لا تحتاج إلى بيان).و الظاهر أنّ هذه الجمل الثلاث تتفرّع على فقرة:«و جاهدتم في اللّه حقّ جهاده» (1)مع الفروع الخمسة السابقة عليها؛و يمكن تفرّعها على الفروع السابقة أيضا كي لا يقع بينها و بين ما تتفرّع عليه فاصل،فتكون الفروع ثمانية لأنّ كلّ جملة هنا مبيّنة لفرع.
الثانية:أنّ ذلك إشارة إلى جهاد آل البيت عليهم السّلام السابق ذكره،هذا إذا قلنا بتفرّع هذه العبارات على الجهاد فيصير المعنى،فصرتم في جهادكم و إعلانكم الدعوة و تبيينكم الفرائض و إقامتكم الحدود و نشركم الشرائع
ص:422
و تسنينكم سننه تعالى إلى رضاه سبحانه،أي تحصّل رضاه عنكم بتلك المقدّمات الصادرة منكم،و يستلزم هذا الرضا رضاهم عن اللّه تعالى،أي إذا كان اللّه راضيا عنهم يكونون هم راضين عن اللّه كما قال سبحانه:
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ (1).
الثالثة:تعريف الرضا:إنّ رضا العبد عن اللّه عبارة عن سروره بما يرد عليه عن مولاه و ابتهاجه به فيما يحبّ و يكره،لعلمه بأنّ ما يقضي له هو صلاحه دون غيره،و أمّا رضا اللّه عن العبد فهو عبارة عن إكرامه للعبد و إنعامه عليه (2)،و هما غاية الرضا.
الرابعة:كون العبد نائلا رضا اللّه و مرضيّا عنده شأن عظيم للغاية كما قال تعالى: وَ رِضْوانٌ مِنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (3)،و هو منزل قبل منزل التسليم كما رتّبه السالكون (4)،و لا يصل إليه إلاّ الكمّل من أوليائه،كما قال الإمام الصادق عليه السّلام:«إنّ أعلم النّاس باللّه أرضاهم بقضاء اللّه عزّ و جلّ» (5)،فلا ينحصر البلوغ إليه في آل البيت عليهم السّلام.
ص:423
الخامسة:أنّ تسليمهم عليهم السّلام لقضاء اللّه سبحانه من الإقصاء و القتل و السّبي و الحبس و التهمة و غير ذلك،معلوم لعامّة الأمّة؛لأنّ تلك الأمور كلّها مقضيّة منه تعالى لهم،و لا يلزم هذا القضاء أيّ جبر لأعدائهم في الظلم و لا لهم في التسليم؛لأنّ العلّة غير المقتضي،فقضاء اللّه هو المقتضي و العلّة هي الاختيار الراجع إلى الخصمين.
السادسة:أنّ التصديق و الإيمان متغايران مفهوما و متّحدان مصداقا، و إنّما يقال للإيمان إيمان لإيجاده الأمن في القلب من الوساوس و الشكوك،و يقال له تصديقا لإيجاده الإقرار بالصدق ما صدّق و آمن به،و آل البيت عليهم السّلام صدّقوا الرسل الماضين و آمنوا بهم على معنيين:الأوّل:
لكونهم أفاضل المؤمنين.الثاني:لخلافتهم عن الرسول صلّى اللّه عليه و اله كما قال تعالى:
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ (1).
السابعة:بيان تصديقهم الرسل:
إنّ للتصديق مراتب ثلاثا،أولاها:هو العلم بصدق الحقيقة فقط،ثانيتها:
بالعين و المشاهدة و الكشف الذي للكمّل من الأولياء،و تصديق آل البيت عليهم السّلام ليس كهاتين المرتبتين،بل معناه صيرورة أنفسهم عليهم السّلام مصاديق تامّة كاملة للرسل الماضين في كمالاتهم الأفعاليّة و الأوصافيّة و ذواتهم
ص:424
الشريفة،فبتصديقهم أنفسهم يكون التصديق بمن تقدّم عليهم زمانا،لأنّ تصديق الأكمل يتضمّن التصديق الأنقص،و يشهد عليه كثير من الأخبار كزيارة وارث.
ص:425
«فالرّاغب عنكم مارق،و اللاّزم لكم لاحق،و المقصّر في
حقّكم زاهق،و الحقّ معكم و فيكم و منكم و إليكم،و أنتم
أهله و معدنه،و مثواه و منتهاه»
و فيه نكات عشر:
الأولى:هذه الفقرات الشريفة كالآتية لها مبيّنة لفروع على جميع ما تقدّم من أوّل الزيارة؛بدلالة الفاء للتفريع،أي يستنتج الزائر هذه النتائج من جميع ما ذكر من كمالات آل البيت عليهم السّلام الذاتيّة و النفسانيّة و الفعليّة و الخارجيّة،و النتائج تنقسم إلى حقّة و باطلة،و النتائج الحقّة مترتّبة على إيمان من آمن بآل البيت و عرفهم و تولاّهم و تبعهم و تبرّأ عقيدة و قولا و فعلا من أعدائهم،و الباطلة تتفرّع على من صار خلاف ذلك.
ص:426
الثانية:«الراغب»فاعل من«رغب»،و قد يتعدّى ب«إلى»و«في»، فهذان فيما إذا كان للمرغوب إليه أو المرغوب فيه ميل و اشتياق،و إلاّ يتعدّى ب«عن»،و هو إذا كان مرغوبا عنه مكروها عنده و متروكا له.
و المارق هو المتجاوز عن حدّه،كمروق السهم إذا خرج من موضعه إلى مقصد الرامي،و باقي الألفاظ ظاهرة المعنى.
ترى في أوّل هذه الجمل إلى«زاهق»جمالا لفظيّا مضافا إلى كمال معناها،و في الجمل بعدها المبدوّة من«و الحقّ»إلى«إليكم»جمالا لفظيّا آخر كذلك.
الثالثة:أنّ لكلّ موجود مبدأ معيّنا و مسيرا خاصّا و مقصدا مشخّصا، يسير منه إليه بسير مقدّر،فإذا أخلّ في أحد هذه الأمور صار متعدّيا و لم يبلغ إلى مقصده،كما قال سبحانه في وصف أولي الألباب: وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً (1)،فالإنسان لا يستثنى من هذا الأصل العامّ،و أهل البيت عليهم السّلام مسير حقّ للبشر،و به يتعيّن مسير الحقّ و مقصده الحقيقيّ؛لما تقدّم لهم من الفضائل و الكمالات في مجالات شتّى (2).
ص:427
الرابعة:يتبيّن ممّا قلنا آنفا معنى اللحوق للازم آل البيت عليهم السّلام توضيحه:
أنّ من لزمهم عليهم السّلام يبلغ إلى مقصده الحقيقيّ.
لأنّه صار بسير حقّ(في شعاع هداهم)و في مسير حقّ،و هو عارف بمبدئه لكمال توحيده بهداهم أيضا.
الخامسة:يتصوّر التقصير في حقّهم عليهم السّلام كالتالي:
1)عدم المعرفة بهم من الأساس.
2)عدم المعرفة بإمامتهم للأمّة و خلافتهم للنّبيّ صلّى اللّه عليه و اله.
3)عدم المعرفة بولايتهم التكوينيّة؛لأنّ بينهما ملازمة،و لأنّ الولاية التكوينيّة مثبتة بإتيان المعجزات للإمامة و الخلافة.
4)عدم حفظ مراتبهم في ما رتّبهم اللّه فيه،لأنّ فيه إمّا غلوّ الإفراط و إمّا غلوّ التفريط.
5)عدم اتّباعهم،و هذا أضعف التقصيرات في حقّهم لانقطع بزهوق مقصّر كهذا،إن كان المراد به الهلاكة بالكلّيّة،لأنّه ينجو بالمآل إن شاء اللّه.
و الحاصل أنّ الانحراف عنهم عليهم السّلام من حيث الاعتقاد بأيّ معنى كان باطل،و إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (1)،فيكون المنحرف عنهم زاهقا (2).
ص:428
السادسة:معنى الحقّ هو الثابت،و هو ما يجب كونه عقلا و إن لم يكن في بعض الأحيان،و قيل في معناه:«الحقّ هو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره» (1).و الباطل بخلافه،و هو ما لا يجب كونه عقلا من رأس و إن كان مضافا إلى أنّ الحقّ وجوديّ أو راجع إلى الوجود،و الباطل عدم أو عدميّ.و الحاصل أنّ الحقّ مع آل البيت عليهم السّلام بالعقل و النقل؛أمّا العقل فلكونهم حقّا و لا يوجد من الحقّ إلاّ الحقّ،و لا يكون الحقّ إلاّ مع مجانسه؛و لكونهم أيضا خلفاء الحقّ(و هو اللّه تعالى)و حججه و آياته (كما مرّ مرارا).و أمّا النقل،فكقول النبيّ صلّى اللّه عليه و اله:«عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ،يدور حيثما دار» (2).
السابعة:يقرّ الزائر بأنّ الحقّ مضافا إلى معيّته لآل البيت مستقرّ فيهم و ناشئ منهم،و هذا لما قدّمنا آنفا من أنّ الحقّ لا يجمع مع غير جنسه و لا يستقرّ(في غيره)إلاّ في مجانسه،و لا يصدر منه إلاّ كذلك، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (3).
ص:429
الثامنة:لم يعط الحقّ من الخارج لآل البيت عليهم السّلام فيستقرّ فيهم،لكونهم معدنا للحقّ (1)،كما يؤيّد ذلك نشوء الحقّ منهم.
التاسعة:معنى ير الحقّ إلى آل البيت عليهم السّلام هو كونهم مقصدا له،لأنّهم مظاهر اللّه،فكلّ أمر سائر إلى أيّ مقصد فهو يسير إلى مظهر مقصده، و أيضا لعدم الانفكاك بين الظاهر و المظهر،كما قال سبحانه: إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (2)، وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (3)،و إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (4)،فمن حيث كونهم مقصدا نسبيّا يسير الحقّ إليهم.
العاشرة:ما يتحصّل ممّا تقدّم أنّهم عليهم السّلام هم الحقّ المحض(سوى إمكان وجودهم الجامع لجميع شؤون الإمكانيّة)و الممحّضون فيه،كما قال الإمام عليّ عليه السّلام في المقام:«لا يخالفون الحقّ و لا يختلفون فيه» (5)، و«بهم عاد الحقّ إلى نصابه،و انزاح الباطل عن مقامه،و انقطع لسانه عن منبته» (6).
ص:430
«و ميراث النّبوّة عندكم» (1)
و فيه خمس نكات:
الأولى:هذا فرع ثان من الفروع المذكورة في الفصل السابق،و هو كون ميراث النبوّة عند آل البيت عليهم السّلام،و قد ذكر فيما تقدّم معنى الميراث (فلا نعود إليه)و لكن نقول هنا:إنّ الميراث إمّا أن ينتقل بعد المورّث للوارث أو لا،فما يمكن عدم انتقاله فهو من الأمور الظاهرة المادّيّة،و قد منع انتقاله إليه مانع كالغاصب و السارق و غيرهما،و أمّا ما كان منتقلا إلى الوارث و لم يمكن الغصب و السرقة فيه فهو من الشؤون المعنويّة كالعلم، فالمراد من الميراث هو القسم الثاني الذي لا يمكن منع انتقاله من المورّثين(الأنبياء)إليهم عليهم السّلام،و إن كانت الإمامة أيضا من مواريث الأنبياء،و لكنّها كانت عندهم شأنا و عند غيرهم من الغاصبين عينا،فما في قوله تعالى في الإمامة، لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ (2)نظر إلى شأنها، و هي لا تنال الظالمين شأنا و عينا معا،و الظالم قادر أن يغصبها عن
ص:431
مستحقّها دون شأنها.
الثانية:تنقسم الأمور إلى:تكوينيّة و تشريعيّة،فمن الأوّل كالولاية على الأشياء و الدخل و التصرّف فيها،و من الثاني كالأوصاف النفسانيّة،و من الثالث كالإمامة و الرئاسة على الناس.و الحاصل أنّ أصل المواريث من هذه الأقسام عند آل البيت عليهم السّلام و عندهم مضافا إلى أصل هذه الأقسام أكملها و أتمّها لهم؛لكونهم أفضل من الأنبياء(لعلّنا أشرنا فيما مضى إلى ذلك،و يمكن الإشارة إليه فيما يأتي من موضعه).
الثالثة:في توضيح ما تقدّم:أنّ الأنبياء كانوا يظهرون المعاجز بأيديهم للأعداء؛ليثبتوا حقّيّة مدّعاهم(النبوّة)،و هذا من التكوينيّات،و يلحق بهذا القسم:العلم،و العصمة،و الإخلاص،و الحرص على هداية الخلق،و غير ذلك من النفسانيّات.و كان للأنبياء مراتب و درجات،و هي:الرسالة، و النبوّة،و اولو العزميّة،و الخلّة،و الإمامة،فهذا من التشريفيّات،و كان لهم:الحكومة و القضاء،و جهاد الأعداء،و إجراء الحدود،و غير ذلك.
و هذا من القسم الثالث(التشريعيّات).الحاصل أنّ جميع ما ذكر من الأقسام هي عند آل البيت عليهم السّلام و هم ورثوها من الأنبياء،و إن كان ما عندهم أكمل و أزيد ممّا كان للأنبياء كما أشرنا إليه.
الرابعة:في ذكر الشواهد على المراد:و أمّا الشاهد على كلّ ممّا ذكر فهو كالتالي؛الأوّل:(و هو الولاية التكوينيّة و ما يلحق بها)المعجزات
ص:432
الصادرة من آل البيت عليهم السّلام و هي كثيرة من كلّ واحد منهم.و على النفسانيّات من العلم،كقوله تعالى: وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَ قالَ يا أَيُّهَا النّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ (1)،و كذا: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ (2)،و ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا (3)،و وَ أَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (4)،و العصمة: إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (5)،و الإخلاص: وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً (6)،الحرص على هداية الخلق:
حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (7).و الثالث،أي التشريعيّات كالحكومة: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ (8)، وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها (9)،
ص:433
و كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (1)،و إِنَّ الْأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ (2)،و نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (3)،و القضاء: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (4)،و الجهاد: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفّارَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ (5)،و إجراء الحدود: وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما (6).
الخامسة:لا ينافي ما قدّمنا من تفسير المواريث مع كون العصا لموسى و التابوت و قميص يوسف و درع داود و غير ذلك ممّا وردت الأخبار بكونها مواريث من الأنبياء،هي عند آل البيت عليهم السّلام؛لأنّها أسباب و لوازم للمواريث على المعنى المتقدّم،و لا ينافي أيضا من كون فدك ميراثا منتقلا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله إلى الصّديّقة الزهراء عليها السّلام لأنّ الأئمّة و الأنبياء أولى من غيرهم بقانون التوارث في الأموال،قليلة كانت أو كثيرة.
ص:434
«و إياب الخلق إليكم،و حسابهم عليكم،
و فصل الخطاب عندكم»
و فيه ستّ نكات:
الأولى:هذه ثلاثة فروع من الفروع المشار إليها في الفصل الأوّل من هذا الباب،مع كونها مأخوذة من قوله سبحانه: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (1)،و وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ (2)،و مشيرة إلى أمور متعلّقة بمقصد الخلق و هو المعاد؛و فيها رجوع الخلق إلى آل البيت عليهم السّلام و كون حسابهم مفوّض إليهم عليهم السّلام،و كذلك فصل الخطاب أي رفع الاختلاف من بين الخلق،و القضاء لكلّ أحد منهم على ما يستحقّ،و أيضا فيها بيان لمتمّم الولاية التشريعيّة التي كانت لبعض الأنبياء فلا تنحصر ولاية الأنبياء عليهم السّلام في الدنيا خاصّة،بل تمتدّ إلى الآخرة أيضا، فمن هذا التقرير يتبيّن صلة هذه الجمل بالفقرة السابقة عليها(و ميراث النّبوّة عندكم).
الثانية:أنّ الترتّب في هذه الجمل ترتّب طبيعيّ؛لأنّ الثالثة(فصل
ص:435
الخطاب)تترتّب على الثانية(و حسابهم)،و الثانية مترتّبة على الأولى (و إياب الخلق)،لأنّ المتشاكيين يجب رجوعهما إلى القاضي أوّلا،و أن يحكم القاضي بينهما ثانيا،لأنّه هو عالم بالقضاء و قادر على رفع الخلاف ثالثا.
الثالثة:أنّ المستفاد بل الصريح من قوله سبحانه: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ هو أنّ رجوع الخلق إلى اللّه سبحانه و أنّ حسابهم عليه تعالى،و هذا التفسير ينافي ظاهر قوله تعالى؛لكن يمكن التوفيق بينهما بأنّ الرجوع الممكن إلى الواجب غير ممكن لعدم حاجة الواجب إلى المكان و عدم الفصل بين المعلول(الخلق)و علّته التامّة(الواجب تعالى)،حتّى يلزم الرجوع،إذا يكون المراد من الإياب إمّا إلى زمان الحساب أو مكانه أو إلى من كان عاملا لحساب الخلق من قبله سبحانه، فهؤلاء العاملون إمّا أن تكون الملائكة أو آل البيت عليهم السّلام أو كلاهما معا.
و لكنّ القول بأنّ المراد من العاملين هو آل البيت عليهم السّلام يكون أولى؛لكونهم أشرف من الملائكة،و لهذا النوع من الاستعمال نظائر كثيرة في القرآن، كإسناده تعالى الإنبات إلى ذاته المتعالية مع كون السّحاب و المطر مؤثّرين فيه،و يمكن له جمع آخر(أدقّ من سابقه)،و هو أنّ كلّ حقيقة متحقّقة في العين لها جهتان:وجوديّة و ماهويّة،فمن حيث الأولى يسند إليه سبحانه،و من حيث الثانية يسند إلى غيره تعالى،كما قال سبحانه:
ص:436
أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ* أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ (1)،و قوله تعالى أيضا: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ رَمى (2).
الرابعة:في إقامة الدليل على المراد،قد ورد في تأويل قوله تعالى أخبار دالّة على أنّ المراد من«إلينا»في الآية هم آل البيت عليهم السّلام،منها:عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال:«قال:يا جابر،إذا كان يوم القيامة جمع اللّه عزّ و جلّ الأوّلين و الآخرين لفصل الخطاب دعي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و دعي أمير المؤمنين عليه السّلام فيكسى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله حلّة خضراء تضيء ما بين المشرق و المغرب و يكسى عليّ عليه السّلام مثلها و يكسى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله حلّة وردية يضيء لها ما بين المشرق و المغرب و يكسى عليّ عليه السّلام مثلها ثمّ يصعدان عندها ثمّ يدعى بنا فيدفع إلينا حساب النّاس فنحن و اللّه ندخل أهل الجنّة الجنّة و أهل النّار النّار» (3).
«عن سماعة قال:كنت قاعدا مع أبي الحسن الأوّل عليه السّلام و النّاس في الطّواف في جوف اللّيل،فقال:«يا سماعة،إلينا إياب هذا الخلق، و علينا حسابهم..» (4).
ص:437
و عن قبيصة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله عزّ و جلّ: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ قال:فينا.قلت إنّما أسألك عن التّفسير، قال نعم يا قبيصة،إذا كان يوم القيامة جعل اللّه حساب شيعتنا إلينا،فما كان بينهم و بين اللّه،استوهبه محمّد صلّى اللّه عليه و اله من اللّه،و ما كان فيما بينهم و بين النّاس من المظالم أدّاه محمّد صلّى اللّه عليه و اله عنهم،و ما كان فيما بيننا و بينهم و هبناه لهم حتّى يدخلوا الجنّة بغير حساب» (1).
الخامسة:أنّ ما يحاسب به الخلق ليس من التكوينيّات المحضة الخارجة عن دائرة التكليف،بل هو إمّا أن يكون ممّا يرجع إلى عقولهم كاعتقادهم بالحقّ و إنكارهم الباطل،و إمّا أن يرجع إلى نفوسهم و هو الأعمال و الأخلاق،فعقول الخلق عقول جزئيّة راجعة إلى عقول كلّيّة و مندرجة تحتها،و كذلك نفوسهم و ليست عقولا و لا نفوسا كلّيّتين على حدّ أكملهما(العقول و النفوس)إلاّ في آل البيت عليهم السّلام،فبهذا الرجوع و الاندراج تقع محاسبة الخلق بسبب آل البيت عليهم السّلام،فما كان حقا يبقى مندرجا،و ما كان باطلا يخرج عن حالة الاندراج،و بهذا التقريب يتبيّن معنى كونه سبحانه سريع الحساب.
السادسة:لا يرتفع الخلاف بين المحقّ و المبطل(من الناس)،و الظالم و المظلوم،و الضالّ و المضلّ،إلاّ بفصل الخطاب،و لا يمكن ذلك إلاّ لآل
ص:438
البيت؛لأنّهم محاسبون للخلق كما أثبتنا،و لقوله تعالى في داود عليه السّلام:
وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ (1).
«و آيات اللّه لديكم»
و فيه أربع نكات:
الأولى:هذا هو السادس من الآثار و الفروع التي أشرنا إليها فيما سبق، و هو كون آيات اللّه لدى آل البيت عليهم السّلام،و نقول في معنى الآية و لزومها:
إنّ الآية هي العلامة و هي لازمة،لأنّ الناس مكلّفون بمعرفة اللّه تعالى، و هذه المعرفة أعظم التكاليف بل هي الغاية القصوى و الغرض الأعلى لإيجاد الخلق،و من جهة اخرى فإنّ المعرفة بهويّته الذاتيّة و صفاته التي هي عين ذاته غير مقدورة للبشر،لكون ذاته المتعالية غير متناهية و الإنسان لا يسع له ذلك،فإن لم تكن هناك آية تدلّ على وجوده تعالى و تثبت صفاته القدسيّة يكون الإنسان متحيّرا بين الطاعة و التمرّد،بل يصير به اللبيب مجنونا،فبهذا التقرير تبيّن لزوم الآية و العلامة ليصل الإنسان بها إلى مقصده،هذه إذا كانت إضافة الآية لامية،و إلاّ لا يثبت المراد ببيانيّتها.
الثانية:الأقوى إطلاق الآيات هنا لتشمل الآيات التكوينيّة و التدوينيّة
ص:439
معا(من الآفاق و الأنفس و معجزات الأنبياء) (1)،فيكون المعنى أنّ كلّ ما يقع عليه اسم الآية هو عندكم و يشهد على كون الآيات التدوينيّة عندهم:
بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ (2).
الثالثة:كيفية كون الآيات عندهم:
قد تقدّم غير مرّة أنّ آل البيت عليهم السّلام وسائط كلّ فيض و جميع ما خلق اللّه مستفيض،و أنّ وجود كلّ شيء و شخص و شأن و صفة و تأثير و فعل و انفعال و تبدّل كمالي،كلّ ذلك من فيوضاته تعالى،و لا يصل أيّ فيض إلى أيّ مستفيض بلا واسطة،فيكون كلّ فيض آية منه سبحانه،فيجب إذا كون المستفيضات كالفيوضات عند الوسائط حتّى تتحقّق الإفاضة و الاستفاضة و الآيات أيضا،كما ورد عن الإمام عليّ عليه السّلام قوله:«أنا الّذي حملت نوحا في السّفينة بأمر ربّي،و أنا الّذي أخرجت يونس من بطن الحوت بإذن ربّي،و أنا الّذي جاوزت بموسى بن عمران البحر بأمر ربّي،و أنا الّذي أخرجت إبراهيم من النّار بإذن ربّي،و...» (3)،و أيضا«أنا تكلّمت على لسان عيسى ابن مريم في المهد» (4).
ص:440
أمّا الكلام في كون المعجزات عندهم فهو واضح،لأنّ آل البيت عليهم السّلام مضافا إلى كونهم ورثة للأنبياء و خلفاء عنهم،هم حجج اللّه التامّات،فلا يشكّ عاقل في لزوم كونهم ذوي معجزات قاهرات و آيات باهرات، و الدليل على لزوم آيات اللّه التدوينيّة عندهم كونهم مفسّريها و مبيّنيها أوّلا،و ثانيا كونهم ذوي علم واسع،(كما ثبت في موضعه)،و ثالثا وجود شواهد كثيرة في أقوالهم على ذلك،منها:قول الإمام عليّ عليه السّلام:«و صار محمّد صاحب الدّلالات،و صرت أنا صاحب المعجزات و الآيات» (1)، و رابعا قوله سبحانه: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ (2).
الرابعة:الفرق بين التعبيرين(عند،ولدى):
عبّر الإمام عليه السّلام عن كون فصل الخطاب لآل البيت ب«عندكم»و عن كون الآيات لهم ب«لديكم»لجهتين:
الأولى:على ما تقتضي البلاغة ترك التكرار،و لا سيّما بلاغة الإمام المحتوية لأحسن نظام في الكلام بعد كلام اللّه الحكيم العلاّم.
الثانية:أنّ كون الشيء عند أيّ شخص:إمّا شأنيّ كأمور البلاد الواسعة عند السلطان،و إمّا عينيّ ككون خاتمه عنده،فحضور فصل الخطاب لهم
ص:441
حضور شأنيّ لا عينيّ(لعدم وقوع القيامة الآن،و أيضا لعدم حضور جميع أهل الأعصار و الأمصار و اختلافاتهم عندهم عينيّا)و آيات اللّه لديهم عينا (1).
«و عزائمه فيكم،و نوره و برهانه عندكم،و أمره إليكم»
و فيه نكات خمس:
الأولى:هذه فروع و آثار أخر من الآثار أو النتائج المترتّبة على الأصول السابقة،و هي كون عزائم اللّه و نوره و برهانه سبحانه عندهم و أمره إليهم.إنّ السيّد عبد اللّه شبّر رحمه اللّه احتمل عدّة معان في تفسير العزائم (في كتابه الأنوار اللامعة)،و لكنّه قدّس سرّه مع هذه الاحتمالات البعيدة ترك الصلة بين هذه الجمل مع الفقرات السابقة عليها.و نحن أخذنا القرينة لتعيين معنى العزائم من تلك الفقرات،فنقول:إنّ العزائم جمع العزيمة، و هي مأخوذة من العزم الذي كان صفة لعدّة من المرسلين (2)،قال تعالى:
فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ (3)،فيكون معنى الجملة أنّ قوّة
ص:442
الإرادة الموجودة في اولي العزم تكون فيكم،و أنّ الأركان المجعولة للّه في التكوين و التشريع و كلّ ما كان أصلا يكون عندكم،و لعلّ التعبير بالجمع(عزائم)دون الإفراد(عزيمة)باعتبار أفراد آل البيت عليهم السّلام.
الثانية:احتمل بعض الشّرّاح أنّ المراد من النور هنا هو القرآن،كما قال سبحانه: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (1)،و وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ (2)،و لكنّا نقول:إن كان يلزم التكرار من كون المراد من النور قرآنا، لذكر الآيات قبله،بل المراد منه هو التجلّي و الظهور باسمه الظاهر:( هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظّاهِرُ وَ الْباطِنُ (3)).و التجلّي أو الظهور هو أمر وجوديّ،و هو مشهود في كلّ موجود و لا يلزم منه تكرار؛و قد بلغ قوّة هذا الظهور و شدّته إلى بطونه في ظهوره،كالشمس التي ظهرت و من شدّة ظهورها بطنت،كما قال المحقّق السبزواريّ(في منظومته):
يا من هو اختفى لفرط نوره الظاهر الباطن في ظهوره
الثالثة:أنّ للموجودات مراتب،و أضعف مراتبها الهيولى،و أقوى منها المادّة،ثمّ الصورة،ثمّ المثال،ثمّ النفس ثمّ العقل،و لا أضعف من الهيولى في الوجود و لا أقوى من العقل.و العقل أيضا له مراتب،فأضعفها العقل بالهيولى،ثمّ بالملكة،ثمّ بالفعل،ثمّ بالمستفاد.و المستفاد أكمل مراتب
ص:443
الوجود الذي اختصّ بآل البيت عليهم السّلام.و العقل يتضمّن جميع مراتب الوجود،الذي يعبّر عنه و عن العقل و العلم أيضا بالنور،فعلى هذا يمكن أن يكون المراد من النور الكائن عند آل البيت عليهم السّلام هو أكمل مراتب الوجود الجاري في جميع الموجودات،فبهذا التقرير يتبيّن معنى كون النور عند آل البيت عليهم السّلام لأنّ كلّ قويّ يتضمّن جميع المراتب الضعيفة تحته،فالوجود الأشدّ المختصّ لآل البيت متضمّن لجميع مراتب الوجود، و يندرج تحت هذه المرتبة من الوجود،العقل و العلم أيضا اللذان اطلق عليهما اسم النور،كما قال الإمام الصادق عليه السّلام،في وصف العلم:«إنّما هو نور يقع في قلب من يريد اللّه تبارك و تعالى أن يهديه» (1)،و كما اطلق النور على العقل أيضا كقول النبيّ صلّى اللّه عليه و اله:«أوّل ما خلق اللّه نوري» (2)،و قد فسّر العلماء النور هذا بعقله القادس.
الرابعة:قد ذكرنا كون المراد من النور هو الوجود،و هو بجميع مراتبه مشهود معاين لآل البيت عليهم السّلام،فهذا الإدراك منهم له إدراك فطريّ و دونه إدراك عقليّ له،و إن شئت فعبّر عن الأوّل بمشاهدة الوجود، (3)و عن الثاني بالعلم به،و المراد بالبرهان هو المرتبة الثانية.
الخامسة:المراد من الأمر هنا هو الأمر الذي يقبل التفويض،و هو
ص:444
المرتبة الأولى للأمريّة التي فوّضها اللّه إليهم،و الناس مكلّفون باتّباعهم (كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (1))و هم عليهم السّلام موظّفون بإراءته و إثباته،و كون المراد من الأمر الولاية التكوينيّة،أو هي مع ما ذكر آنفا و هو بعيد.
ص:445
«من والاكم فقد والى اللّه و من عاداكم فقد عادى اللّه،و من
أحبّكم فقد أحبّ اللّه،و من أبغضكم فقد أبغض اللّه،و من
اعتصم بكم فقد اعتصم باللّه»
و فيه ستّ نكات:
الأولى:هاتان الجملتان(من والاكم...عادى اللّه)مأخوذتان من قول النبيّ صلّى اللّه عليه و اله في خطبته بغدير خمّ بعد كلام و أخذ الإقرار على كونه مولى الناس،«فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه،اللّهمّ وال من والاه،و عاد
ص:446
من عاداه» (1).
الثانية:معنى الموالاة هو كون الشيئين بحيث لم يكن بينهما فاصل و كان أحدهما تلو الآخر،و المعاداة بخلافه،لأنّ المعاداة مأخوذة من العدو،و هو التجاوز عن الحدّ،فيكون الموالي لآل البيت مواليا للّه،فكما لم ينفصل الموالي لهم عنهم عليهم السّلام فهكذا ليس بينه و بين اللّه فاصل،و معنى المحبّة ظاهر لأنّها أمر وجدانيّ لا برهانيّ،إذا لا تحتاج إلى التعريف و إن عرّفها بعضهم،و هي خلاف البغض،و أنت ترى فيها إحساسا لطيفا رطبا.
و لعلّ الفرق بين الموالاة و المحبّة هو أنّ المحبّة من مقولة الإحساس النفسانيّ،و الموالاة كنتيجة لها من مقولة العمل.
الثالثة:الاعتصام هو طلب العصمة،فيكون معنى الجملة أنّ من طلب منكم العصمة،طلب العصمة من اللّه.و في الحقيقة،المعتصم بآل البيت هو الذي جعل نفسه في موضع العصمة للّه تعالى،يؤيده قوله تعالى:
وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (2).
الرابعة:الاعتصام يتقوّم بثلاثة مقوّمات،و هي:المعتصم(و هو فاعل الاعتصام)،و المعتصم به،و هو سبب الاعتصام،و معتصم منه،و هو الخطر أو الخسران الذي لو لا الاعتصام لحصل.و الحاصل أنّ جميع أبناء
ص:447
البشر مأمورون بالاعتصام بآل البيت،كما قال سبحانه: وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً (1)،كما ورد عن الإمام الباقر عليه السّلام في تفسير الآية أنّه قال:«آل محمّد عليهم السّلام هم حبل اللّه المتين الّذي أمر بالاعتصام به» (2).و لكنّ المعتصمين الحقيقيّين هم المؤمنون بهم.و أمّا المعتصم به(و هو ثاني المقوّمات)فهو آل البيت عليهم السّلام؛لأنّهم حبل اللّه الذي من اعتصم به فهو معتصم باللّه.و المعتصم منه(و هو ثالث المقوّمات)هو الضلالة و الوقوع في زمرة المغضوب عليهم،المشار اليهما في آخر سورة الفاتحة،و كلّ خطر و خسران كالخلود في النار يوم القيامة و ضنك المعيشة في الدنيا و غير ذلك.و أمّا ثمرة هذا الاعتصام فهي الاهتداء إلى صراط مستقيم، الموصل إلى الفلاح من كلّ خطر و خسران،و إلى الفوز في الحشر مع الأبرار في الجنان،و غير ذلك.
الخامسة:يستفاد من هذه الجمل أصل هامّ و هو معيّة آل البيت عليهم السّلام مع اللّه،و لعلّنا أشرنا إليها فيما مضى (3)و يمكن إثبات هذه المعيّة من طرق الحكمة و العرفان و النقل.
ألف)لا شكّ في أنّ كلّ واجب بالغير كما كان وجوب وجوده من
ص:448
واجب ذاتيّ،و كلّ ما يحصل له كمال يتأكّد وجوده و يشتدّ،فكلّ ما كان تحصيله للكمال أكثر كان وجوبه و وجوده أشدّ،و كلّ ما كان الوجود أشدّ و آكد و الكمالات الوجوديّة أقوى كان ذلك الموجود إلى اللّه أقرب.
و الحاصل أنّ آل البيت عليهم السّلام حيث بلغوا من كلّ كمال إلى غايته بحيث لا يتصوّر فوقه كانوا هم عليهم السّلام أقارب الخلق إلى اللّه،و غير آل البيت(الموالى لهم)لمّا اتّصل بهم و قوّى صلته بالموالاة و المحبّة كانت الصلة أقوى الصلات بأكمل الوجود.
ب)عرفان؛قد تكرّر فيما مضى أنّ آل البيت عليهم السّلام مظاهر أسماء اللّه الحسنى،و مجالي صفاته العليا،و من هذا الحيث يكونون فانين فيه سبحانه(لفناء المظهر في الظاهر)،فتكون الموالاة لهم هي الموالاة للّه، فهذا معنى«من والاكم فقد والى اللّه،و من أحبّكم فقد أحبّ اللّه».
ج)و أمّا من جهة النقل فهو كالتالي،قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللّهَ،يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ (1)،و وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً (2)،و مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ (3)،و فَلَمّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ (4).و من الروايات كقوله سبحانه في حديث قدسيّ:«و إنّه ليتقرّب
ص:449
إليّ بالنّافلة حتّى أحبّه،فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به،و بصره الّذي يبصر به،و لسانه الّذي ينطق به،و يده الّتي يبطش بها» (1)،و قوله أيضا:«من أهان لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة» (2)،و كقول النبيّ صلّى اللّه عليه و اله في حقّ الصدّيقة الزهراء عليها السّلام:«إنّ فاطمة شعرة منّي،فمن آذى شعرة منّي فقد آذاني و من آذاني فقد آذى اللّه،و من آذى اللّه لعنه اللّه ملء السّماوات و الأرض» (3).
السادسة:أنّ بين الموالاة لآل البيت و الموالاة للّه ملازمة،و هكذا في باب المحبّة من جهة و البغض و المعاداة من جهة أخرى،أي من كان مواليا و محبّا لآل البيت كان محبّا و مواليا للّه،و من كان مواليا و محبّا حقيقة للّه كان كذلك لآل البيت،هكذا؛لأنّ المظهر كما قلنا فان في الظاهر (4)،و أنت خبير بأنّ كلّ قطرة ساقطة من السماء في النهر هي متّصلة بالبحر،و إن سقطت في البحر جرت إلى النهر أيضا،قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ (5).
ص:450
و لازمه وجود صراط غير أقوم،أي صراط قويم؛لأنّ الأقوم(على الأقوى) أفعل من القويم و إن كان لا يبعد أن يكون القيد توضيحيّا أيضا.
الثانية:في اختصاص هذا الشأن لآل البيت وجوه:
الأوّل:العقل يقضي كمال الإسلام من حيث الشريعة بالنسبة إلى الشرائع الماضية،فإمامة آل البيت عليهم السّلام تهدي الأمّة إلى أكمل الشرائع، و هذا هو المراد من الصراط الأقوم الذي يهدي القرآن و آل البيت إليه.
الثاني:أنّهم قرين القرآن كما في حديث الثقلين،قال صلّى اللّه عليه و اله:«إنّي تارك فيكم الثّقلين،ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا:كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي،و إنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض» (1)المتواتر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و اله،فكما إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ فإن لم يكونوا هم الصراط الأقوم لزم أن لا يكون هناك صراط أقوم يهدي القرآن إليه.
الثالث:ما ورد من الأخبار عن أبي عبد اللّه في تأويل قوله: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ قال:«يهدي إلى الإمام عليه السّلام» (2)،(أي:إلى معرفة الإمام) (3).
الثالثة:قد قلنا:إنّ قيد الأقوم قيد احترازيّ للصراط،و المراد من كونها
ص:452
«أقوم»هو«الأوسط»و«أبعد»من أيّ إفراط أو تفريط،و أكمل إيصالا لسالكها إلى المقصد،فكلّ صراط سوى صراط آل البيت عليهم السّلام غير أقوم، فيكون إمّا مفرط أو مفرّط و غير موصل إلى المقصد،و قد يدخل فيه غير القويم أيضا،كالنّحل و المكاتب المصنوعة من قبل البشر.
الرابعة:هنالك يمكن تفسير آخر كونهم عليهم السّلام صراطا أقوم،و هو أنّهم صراط أقوم قبال صراط قويم،و المراد من الصراط القويم هو القرآن؛ لكونه منبع العلم بالكمالات و مصدرا لتعاليمها،مع أنّ آل البيت عليهم السّلام كانوا منبعا لظهور عين الكمالات و مصدرا تربويّا،و التربية بإراءة الكمالات عينيّا أكثر تأثيرا من تعليمها،و الإنسان الفاقد للكمال أكثر تأثّرا بالتربية منه بالتعليم،كما قيل:«ليس الخبر كالمعاينة».فالحاصل يكون طريق القرآن طريقا قويما،و آل البيت عليهم السّلام صراطا أقوم.
«و شهداء دار الفناء،و شفعاء دار البقاء» (1)
و فيه ثمان نكات:
الأولى:أنّ مشاهدة آل البيت عليهم السّلام للحقائق تكون على قسمين:عينيّة، و علميّة.
الأولى:ما كانت من شؤون ولايتهم التكوينيّة،كمشاهدتهم أعمال
ص:453
العباد في عمود من نور في حياتهم عليهم السّلام و بعد وفاتهم،و قد فصّلنا القول في البحوث السابقة.
الثانية:(و هي مذكورة هنا)المتقيّدة بدار الفناء،و هي من شؤون إمامتهم،و الإمامة كما قلنا سابقا شأن ظاهريّ كحكومة كلّ حاكم و سلطنة كلّ سلطان،أي يلزم لكلّ إمام أن يكون مطّلعا خبيرا بشؤون رعاياه من الطاعة و العصيان.و أمّا سرّ التعبير بالشهداء دون العلماء،فهو قوّة علمهم و سعته بشؤون الرعايا،و العلم القويّ الواسع يكون كالمشاهدة،مضافا إلى أن لو لم تكن هذه الشهادة لانهدم ركن من أركان الإمامة؛لأنّ الإمام بالنسبة إلى الرعيّة كأب رحيم مدبّر للولد،فكما أنّ أولاد أب كهذا كانوا جاهلين أمّيّين لمصالحهم و مفاسدهم الحقيقيّتين كذلك الرعايا للإمام.
الثانية:أنّ لتقييد شهادتهم بدار الفناء سرّا،و هو أنّ هذا العالم عالم تنازع الأسباب و تزاحم المسبّبات،و نشأة تلاقي العلل و تداخل المعاليل، و في النهاية يكون عالم كتمان الحقائق و خفاء الأمور،لأنّ في النشآت الأخرى لا تكون هذه الخصوصيّات،فلهذا سبق ذكر شهادتهم الولويّة بأنّها في عمود من نور،لكونها من نشأة أخرى لا تداخل فيها و لا تزاحم و لا خفاء لأيّ حقيقة أصلا،هذا كلّه فيما إذا كان المراد من تعبير الإمام عليه السّلام بشهداء دار الفناء هو المشاهدة،و إلاّ إن كان المقصود هو شهادتهم في محكمة عدل اللّه تعالى فنقول:إنّهم عليهم السّلام يشهدون عند اللّه في الآخرة على أعمال الخلائق من الطاعة و المعصية،و على عقائدهم من الحقّ و الباطل.
ص:454
الثالثة:في نسبة الشهادة إلى الشفاعة:
إنّ الشهادة تتناسب مع ذكر الشفاعة هنا على أيّ من التفسيرين،لأنّ الشفيع يلزم له أن يكون خبيرا باستحقاق المشفوع له أو عدم استحقاقه:
إمّا عن طريق العلم،و إمّا عن طريق مشاهدة العين،كي تكون شفاعته أو تركها له وجيهة مقبولة عند اللّه.
الرابعة:أنّ شفاعة آل البيت عليهم السّلام كشفاعة النبيّ،عامّة بالنسبة إلى العاصين و غير العاصين من المؤمنين،فمنها لرفع درجات المتّقين(غير العاصين)كما قال النبيّ صلّى اللّه عليه و اله:«آدم و من دونه تحت لوائي يوم القيامة» (1)، و منها لدفع العذاب عن عدّة من العاصين قبل أن يعذّبوا،و منها لرفعه عن عدّة اخرى كما قال النبيّ صلّى اللّه عليه و اله:«ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي» (2).
الخامسة:حقّيّة الشفاعة:يمكن الاستدلال على حقّيّتها بالعقل و القرآن و الحديث،أمّا بالعقل مضافا إلى كونها كأصل ضروريّ بين المسلمين بل بعض الملّيّين أيضا،كالنصارى،فهو أنّا نرى في نظام الموجودات نواقص (بل النقص بعد كون كلّ موجود كأصل ثان،أوّلهما وجوده) (3)،و الحقّ المتعالي الحكيم جعل لرفع كلّ نقصان سببا،فهذه الحكمة البالغة لا
ص:455
تقتضي أن يبقى المتمرّدون على قبول الحقّ و العمل به في الشقاوة الأبديّة و الهلاكة السرمديّة،بل يجب جعل سبب لنجاة كلّ من له أضعف قابليّة و لياقة للنجاة و السعادة،و إلاّ لزم خلاف الأصل العامّ المذكور،و ذلك السبب هو الشفاعة،فتدبّر.
و أمّا بالقرآن فتدلّ عليه عدّة من الآيات،كقوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ (1).
و أمّا بالحديث،فهو كثير أيضا عن النبيّ و أوصيائه المعصومين عليهم السّلام كقول النبيّ صلّى اللّه عليه و اله:«من لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله اللّه شفاعتي» (2)، و كقوله صلّى اللّه عليه و اله أيضا:«أربعة أنا الشّفيع لهم يوم القيامة و لو أتوني بذنوب أهل الأرض:معين أهل بيتي،و القاضي لهم حوائجهم عندما اضطرّوا إليه،و المحبّ لهم بقلبه و لسانه،و الدّافع عنهم بيده» (3).
السادسة:لعلّنا أشرنا فيما مضى إلى أنّ بين نظامي التكوين و التشريع مشابهات،فمنها:كما أنّ كلاّ من الريح و المطر و غيرهما كان كشفيع لحصول الكمال في التكوين،فآل البيت عليهم السّلام بهدايتهم في الدنيا هم شفعاء
ص:456
لنجاة الخلق من الكفر و الفسق و العصيان و الاختلاف،فهم شفعاء الخلق في الدنيا أيضا،و شفاعتهم تبدو في الدنيا و تستمرّ إلى القيامة (1)،مضافا إلى أنّ الشفيع في نظام التشريع يلزم أن يكون أقرب بالنسبة إلى المشفوع له و بالنسبة إلى المشفوع عنده،فهم عليهم السّلام أقارب إلى الخلائق بماهيّاتهم الإمكانيّة،و بالنسبة إلى الخالق بعقولهم القادسة الربانيّة.
السابعة:أنّ كونهم عليهم السّلام شفعاء لا يختصّ ذلك بهم (2)،بل كلّ ما له دور و تأثير في حصول الكمال يمكن له الشفاعة أيضا،كالقرآن و العلماء و الشهداء،بل سائر المؤمنين أيضا،و يشهد على ذلك عدد من الأخبار، كقوله صلّى اللّه عليه و اله في حقّ العلماء و الشهداء:«ثلاثة يشفعون إلى اللّه عزّ و جلّ فيشفّعون:الأنبياء،ثمّ العلماء،ثمّ الشّهداء» (3)،و في القرآن:«الشّفعاء خمسة:القرآن،و الرّحم،و الأمانة،و نبيّكم،و أهل بيت نبيّكم» (4)، «و الشّفاعة:للأنبياء،و الأوصياء،و المؤمنين،و الملائكة» (5).
الثامنة:من يستحقّ الشفاعة؟إنّ الشفاعة الدافعة للعذاب أو الرافعة له، تشمل من مات مؤمنا و عليه الكبائر من الذنوب و لم يتب منها،فكلّ من
ص:457
مات كافرا أو مرتابا في عقيدته (1)أو تائبا عن معاصيه(بتوبة مقبولة)أو مات و عليه الصغائر من غير توبة،أو من شمله عفو اللّه أو طهر من لوث معاصيه بالمحن و المصائب في الدنيا أو البرزخ،لا حاجة له إلى الشفاعة، لأنّ بعض هؤلاء لا ينتفع بها أصلا كالكافر و المرتاب (2)و بعضهم مستغنون عنها كالمعفوّ عنه أو التائب (3)،و أمّا الرافعة للدرجات و الموجبة لزيادة القرب فيستحقّها كلّ مؤمن.
«و الرّحمة الموصولة،و الآية المخزونة،
و الأمانة المحفوظة»
فيه ستّ نكات:
الأولى:هذه إقرارات أخرى في هذا الباب يقرّ بها الزائر بأنّ آل البيت عليهم السّلام هم رحمة اللّه الموصولة و آيته المخزونة و أمانته المحفوظة،
ص:458
و إن لم يأت فيها ذكر من اللّه عزّ و جلّ،لأنّ القرينة شاهدة عليه و هي عدم تصوّر الآية دون ذيها،و عدم فرض الرحمة دون منشئها،و الأمانة دون مؤتمنها(بصيغة الفاعل)فيكونون عليهم السّلام رحمة اللّه الموصولة و آية اللّه المخزونة و أمانة اللّه المحفوظة (1).
الثانية:أنّ الرحمة أمر وجوديّ كماليّ،فهي لا توجد إلاّ من اللّه(ككلّ كمال وجوديّ)حتّى رحمة الكافر على ولده كما قال تعالى: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً (2)،و قال الإمام عليّ عليه السّلام في أوّل دعاء كميل:«اللّهمّ إنّي أسألك برحمتك الّتي وسعت كلّ شيء».و يدلّ على ما قلنا وصفها بالموصولة؛لامتناع وصف كلّ رحمة بالموصولة دون رحمته الغير متناهية.
الثالثة:في كونهم رحمة موصولة:
إنّهم عليهم السّلام رحمة موصولة غير منقطعة للّه تعالى في جميع نشآت الوجود على حسب أوعية الإمكان (3)في جميع الأزمان و في كلّ مكان، لأنّهم تلو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و ثانيه (4)(في غير الشؤون المختصّة به صلّى اللّه عليه و اله)،فكما
ص:459
أنّه صلّى اللّه عليه و اله رحمة للعالمين كذلك هم،قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (1).
الرابعة:أنّ وصفهم عليهم السّلام بكونهم رحمة موصولة يدلّ على أنّهم مظاهر رحمة اللّه الرحمانيّة و الرحيميّة (2)؛لأنّ تخصيصها بالرحيميّة موجب لتحديدها،مضافا إلى أنّ هذا التخصيص خلاف الظاهر،و أنت خبير بأنّ الرحمة الرحمانيّة تجري في جميع الأشياء،ظواهرها و بواطنها،بل هي موجبة لوجودها كما تشهد عليه آيتا أوّل سورة الفاتحة،مضافا إلى ما تقدّم قبيل هذا،فالحاصل أنّ المراد من هذه الرحمة العامّة الجارية النافذة في جميع الأكوان،المسمّاة بالرحمانيّة،هو آل البيت عليهم السّلام.
الخامسة:قد تقدّم فيما مضى معنى«المخزونة»بتوضيح نظائرها، و الآن نقول:إنّ كونهم آية مخزونة صورتان:
الأولى:من جهة أجسامهم الطاهرة.
الثانية:من جهة أرواحهم و نفوسهم الطيّبة.
أمّا الأولى فإنّ نطفهم عليهم السّلام لم تستقرّ في الأصلاب القذرة و لا الأرحام الكدرة (3)،بل كانت في شمّخ أصلاب الأجداد المؤمنين و طواهر أرحام
ص:460
الجدّات المؤمنات،لأنّها إن استقرّت في الأصلاب غير الشامخة أو في الأرحام غير المطهّرة لكان هذا الاستقرار مكدّرا لأرواحهم الشريفة؛لأنّ بين الجسم و الروح و بين النفس و البدن تفاعلا في التأثير و التأثّر،يدلّ عليه ما ورد في زيارة وارث،حيث يخاطب الزائر فيها مولانا المفدّى سيّد الشهداء عليه السّلام فيقول:أشهد أنّك كنت نورا في الأصلاب الشّامخة و الأرحام المطهّرة،لم تنجّسك الجاهليّة بأنجاسها،و لم تلبسك من مدلهمّات ثيابها» (1).
و أمّا الثانية،فإنّ أرواحهم و نفوسهم كانت محفوظة في مخازن الأسماء و الصفات للّه سبحانه،و لم تتكدّر بالصفات المظلمة النفسانيّة كالجهل و الوسوسة و غيرهما من الصفات السوداء،و يؤيّده في كلتا الصورتين قوله سبحانه: وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ (2)؛لأنّ العصمة هنا غير متقيّدة بالجسم فقط،و لا بالروح أو في زمان خاصّ و غير ذلك من القيود،و لا تكون آية سواهم عليهم السّلام في هذه الخصوصيّة،لأنّها تتأثّر و تتكدّر مع العوارض الطبيعيّة التكوينيّة،فلا تكون مخزونة مثلهم عليهم السّلام،و كان أمير المؤمنين عليه السّلام يقول:«ما للّه آية أكبر منّي،و لا للّه من نبأ هو أعظم منّي» (3).
ص:461
السادسة:المراد من الأمانة هو التي ذكرها اللّه سبحانه في قوله عزّ و جلّ من قائل: إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (1)،و الحاصل أنّهم كانوا تلك الأمانة (2)،كما ورد في تأويل الآية الشاهدة(آية عرض الأمانة)،عن الرضا عليه السّلام:«الأمانة الولاية،من ادّعاها بغير حقّ فقد كفر» (3).و أمّا المراد من كونها محفوظة فهو استحالة دعوة إمامتهم و ولايتهم كذبا،و ستنتهي الدعوة الكاذبة إلى الخزي و العار عند الأحرار في الدنيا،و الخذلان و عذاب النار و غضب المتكبّر الجبّار في الآخرة،(أعاذنا اللّه من شرورهم و مكائد غرورهم).
«و الباب المبتلى به النّاس،من أتاكم نجا،
و من لم يأتكم هلك»
و فيه ستّ نكات:
الأولى:معنى كلّ من ألفاظ هذه الفقرة،كالباب و الابتلاء ظاهر لا
ص:462
حاجة فيه إلى توضيح،و ما ينبغي أن يذكر هو أنّ كون آل البيت عليهم السّلام بابا مبتلى به الناس مقتبس من الآية التالية: وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ* فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (1)،مضافا إلى ما صرّح به في بعض الأخبار من أنّهم عليهم السّلام باب حطّة.
الثانية:أنّ استعمال المبتلى هنا دون ألفاظ أخرى كالمختبر و الممتحن، لخصوصيّة لا تكون في تلك الألفاظ،و هي الصعوبة و المشقّة لمن يبتلى بآل البيت و إمامتهم و ولايتهم،فيصير من فاز به من الناس بالثبات على حبّهم،و بغض أعدائهم كالثوب البالي،كما قال تعالى: وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً (2)،و قال أيضا: وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ (3)و قد حكى التاريخ كثيرا حول مواليهم و المعادين لأعدائهم،فراجع.
الثالثة:هذا إقرار آخر من الزائر في هذا الباب يقرّ به بأنّ آل البيت عليهم السّلام
ص:463
باب،كذا،فالتعبير عنهم بالباب إمّا أن يكون من باب التشبيه المعقول بالمحسوس،و إمّا أن يكون للفظة الباب معنى حقيقيّا عامّا يشمل المعقول أيضا،(و هو محدودة اعتقاديّة و عمليّة).و على أيّ تقدير فإنّهم الباب الذي يختبر به الناس اختبارا شديدا،كما اختبر بنو إسرائيل بباب حطّة ليميز اللّه الخبيث من الطيّب و الثابت من المتزلزل و المؤمن من المرتاب.
الرابعة:قد عبّر عن آل البيت عليهم السّلام بالباب مرّة،و بالسفينة أخرى، و بالمصباح ثالثة،و هكذا،و الحاصل أنّ في تعدّد هذه التعابير فوائد:
الأولى:على مقتضى البلاغة في الكلام.
الثانية:لكلّ تعبير في موضعه أثر خاصّ غير حاصل في تعبير آخر.
الثالثة:أنّ اختلاف التعابير يوجب رسوخ إيمان المؤمن بهم و دوام ذكره إيّاهم؛لاحتمال أن ينسى تعبيرا فيذكر آخر،فمثلا إذا كان ناسيا أنّهم مصابيح،فإنّه سيذكر أنّهم سفينة.
و هكذا الرابعة من الفوائد،ليس أنس جميع الناس بجميع الحقائق على حد سواء،بل يتفاوت بعضهم فيأنس بالسفينة مثلا كمن يعيش قرب البحر و لا أنس له بالشمس و النجم كالأعمى،و هكذا،فاختلاف التعابير يوجب حصول معرفة واسعة لدى جميع الناس بالشؤون العالية لآل البيت عليهم السّلام.
الخامسة:أنّ لكونهم عليهم السّلام بابا وجوها:
ص:464
الأوّل:كأنّ الإيمان كبيت يجب الدخول فيه من الباب،و الدخول من الباب سبب للنجاة و الأمن،و كون الداخل برّا و الإتيان من ظهره يوجب الهلاك،فآل البيت عليهم السّلام باب لبيت الإيمان كما قال سبحانه: وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها (1)،كما روى أبو بصير قال:قال أبو عبد اللّه(الصادق)عليه السّلام:
«الأوصياء هم أبواب اللّه عزّ و جلّ الّتي يؤتى منها،و لولاهم ما عرف اللّه عزّ و جلّ،و بهم احتجّ اللّه تبارك و تعالى على خلقه» (2).
الثاني:أنّ بابيّتهم عليهم السّلام إنّما لمشابهة بين إمامتهم و بين باب حطّة لبني إسرائيل كما ذكر،و يؤيّده ما روى أبو الطّفيل عن أبي ذرّ و هو آخذ بباب الكعبة،رفعه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و اله أنّه قال:«إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح،من ركبها نجا و من تخلّف عنها هلك،و إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل،من دخله غفر له» (3).
فكما ابتلي بنو إسرائيل بباب حطّة،فدخل منهم من دخل خاضعين خاشعين قائلين حطّة و تخلّف آخرون و حرّفوا قول حطّة،كذلك في أمر آل البيت عليهم السّلام بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و اله فدخل من دخل فغفر له و ازداد أجرا(جعلنا
ص:465
اللّه منهم)،و امتنع من الدخول من امتنع، فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (1).
الثالث:أنّ المراد منه كلا المعنيين المتقدّمين؛لأنّ كلاّ منهما قابل للإثبات،كما أثبتنا.
السادسة:أنّ جملة«من أتاكم...»كان كتفسير لكونهم بابا أو تفصيل لما اجمل من بابيّتهم،فهذه الجملة إشارة إلى جميع الأخبار لدى الفريقين (الناجين و الهالكين)الدالّة على نجاة أشياع آل البيت عليهم السّلام و هلاك غير الأشياع،عن فرات بن أحنف قال:«كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام إذ دخل عليه رجل من هؤلاء الملاعين فقال:و اللّه لأسو أنّه في شيعته!فقال:يا أبا عبد اللّه،أقبل إليّ.فلم يقبل إليه،فأعاد فلم يقبل إليه،ثمّ أعاد الثّالثة،فقال:ها أنا ذا مقبل،فقل و لن تقول خيرا،فقال:إنّ شيعتك يشربون النّبيذ،فقال:و ما بأس بالنّبيذ،أخبرني أبي عن جابر بن عبد اللّه أنّ أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله كانوا يشربون النّبيذ،فقال:لست أعنيك النّبيذ،أعنيك المسكر،فقال:شيعتنا أزكى و أطهر من أن يجري للشّيطان في أمعائهم رسيس،و إن فعل ذلك المخذول منهم فيجد ربّا رؤوفا،و نبيّا بالاستغفار له عطوفا،و وليّا له عند الحوض و لوفا، و تكون و أصحابك ببرهوت عطوفا.قال:فأفحم الرّجل و سكت،ثمّ
ص:466
قال:لست أعنيك المسكر إنّما أعنيك الخمر،فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:
سلبك اللّه لسانك!ما لك تؤذينا في شيعتنا منذ اليوم،أخبرني أبي عن عليّ بن الحسين،عن أبيه،عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام،عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله،عن جبرئيل،عن اللّه تعالى أنّه قال:يا محمّد،إنّني حظرت الفردوس على جميع النّبيّين حتّى تدخلها أنت و عليّ و شيعتكما،إلاّ من اقترف منهم كبيرة،فإنّي أبلوه في ماله أو بخوف من سلطانه حتّى تلقّاه الملائكة بالرّوح و الرّيحان و أنا عليه غير غضبان.فهل عند أصحابك هؤلاء شيء من هذا؟!» (1). (2)
ص:467
«إلى اللّه تدعون،و عليه تدلّون،و به تؤمنون،و له تسلّمون،
و بأمره تعملون،و إلى سبيله ترشدون،و بقوله تحكمون»
و فيه أربع نكات:
الأولى:إنّ هذا الفصل من الباب ليس هناك فصل غيره تشكّل من فقرات سبع،و هو كما ذكرنا في العنوان مبيّن للوظائف التي لا يمكن لأئمّة الجور أن يعلموا بها،و يؤيّد ما قلنا إتيان ذكر هذه الوظائف بعد كونهم كباب حطّة؛لأنّ اللّه قدّر لبني إسرائيل دخولهم فيه لكي يعيشوا سعداء في ظلّ حكومة الكليم و إمامته عليه السّلام،و معلوم أنّ الكليم عليه السّلام
ص:468
لا يدعو إلاّ إلى اللّه،و لا يدلّ إلاّ على اللّه،و لا يؤمن بالطاغوت دون اللّه، و لا يسلّم إلاّ للّه،و لا يعمل إلاّ بأمر اللّه،و لا يرشد إلاّ إلى سبيله سبحانه، و لا يحكم إلاّ بقوله تعالى،و لا تسعد امّته إلاّ بعمل إمامهم بتلك الوظائف.
الثانية:كلّ من هذه الفقرات السبع الشريفة مأخوذة من آية كريمة، قوله عليه السّلام«إلى اللّه تدعون»من: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي (1)،«عليه تدلّون»: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (2)،«و به تؤمنون»: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ (3)،«و له تسلّمون»: قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدى وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (4)،«و بأمره تعملون»:
وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (5)،«و إلى سبيله ترشدون»: وَ قالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (6)،«و بقوله تحكمون»: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا
ص:469
بِالْعَدْلِ (1).
الثالثة:لكلّ واحدة من هذه الفقرات المباركة نظير أو نظائر في هذه الزيارة،و لا يضرّ إتيان النظائر كما لا يعدّ تكرارا مملاّ؛لأنّ التكرار المملّ يكون فيما إذا لم تكن فيه فائدة مهمّة،كذكر أهمّيّة المطلب أو ذكر بعض الطرائف و اللطائف الدقيقة،و إلاّ كان تكرارا محضا و لغوا،و حاشا أن يكون ذلك في كلام المعصوم.فالنظائر لهذه الفقرات كما تلي،قوله عليه السّلام هنا:«إلى اللّه تدعون»أمثاله:
1)و الدّعوة الحسنى.
2)و الأئمّة الدّعاة.
3)و الدّعاة إلى اللّه.
4)دعوتم إلى سبيله بالحكمة و الموعظة الحسنة.
5)حتّى أعلنتم دعوته.
يلزم الرجوع إلى شرح كلّ من هذه النظائر ليتبيّن التفاوت بينهما و بين صاحبتها هنا«و عليه تدلّون»:
1)و الأدلاّء على مرضاة اللّه.
2)و الأدلاّء على صراطه.
ص:470
فينبغي التذكير بأنّ الموضوع العامّ في هذه الفقرة و نظيرتيها هو الدلالة،و التفاوت بينها هو أنّ بعضها مشير إلى الدلالة على الغاية(على مرضاته)،و بعضها إلى الدلالة على الطريق الموصل إلى المقصد(على صراطه)،و نجاة السالك من الحيرة في مسيره،و بعضها يشير إلى كمال الغرض و النهاية(عليه تدلّون)،لإمكان التحيّر للسالك في مسيره أو في مقصده النسبيّ أو المقصد النهائيّ،و ينبغي التذكير أيضا بأنّ دلالاتهم أو دعواتهم في هذه الموارد متطالية لا متعارضة.
و أمّا نظيره«و به تؤمنون»و قوله عليه السّلام:«و أبواب الإيمان»،و موضوع هاتين الفقرتين هو الإيمان،و التفاوت بينهما هو أنّ جملة«و أبواب الإيمان»تشير إلى امتناع تحصيل الإيمان من غير ولايتهم و إمامتهم، و جملة«و به تؤمنون»مشيرة إلى أنّكم(أنتم يا آل البيت)أسبق إلى الإيمان من غيركم،كما قال تعالى حاكيا عن قول إبراهيم الخليل عليه السّلام:
وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (1).
«و له تسلّمون»؛إنّ لهذه الفقرة نظيرين تاليين:«و سلّمتم له القضاء»، و«المطيعون للّه»،و المراد من الفقرة«و سلّمتم هو تسليم اعتقاديّ في جنب قضاء اللّه،و في التعبير ب«المطيعون للّه»إشارة إلى تسليمهم العمليّ للّه تعالى،و هنا«و له تسلّمون»اريد مطلق التسليم اعتقادا و عملا و قولا،
ص:471
و غير ذلك من شؤون العبوديّة.
«و بأمره تعملون»؛لهذه الفقرة نظائر كما يلي:
1)المستقرّين في أمر اللّه.
2)و المظهرين لأمر اللّه و نهيه.
3)و أمره إليكم.
4)و هم بأمره يعملون.
5)أولي الأمر.
6)القوّامون بأمره.
7)و أمرتم بالمعروف.
إنّ الأمر هنا بمعنى الطلب،و من أراد معرفة استعمال الأمر هنا و في نظائرها،فليرجع إلى شرح كلّ منها.
«و إلى سبيله ترشدون»؛المراد من الرشد هنا إعطاؤهم الرشد للغير (كما هو ظاهر)،إذا يظهر الفرق بين هذه و بين فقرة«و الأئمّة الراشدون»؛ لأنّ تلك الفقرة مشيرة إلى أنّ آل البيت عليهم السّلام ذوو رشد في أنفسهم،و في هذه إشارة إلى أنّهم ذوو إرشاد للمسترشدين.
«و بقوله تحكمون»؛الفرق بين هذه و بين«لا يسبقونه بالقول»ظاهر.
الرابعة:قال النحويّون:«تقديم ما حقّه التأخير يفيد الحصر»،و حقّ الجار و المجرور ك«إلى اللّه تدعون»(دون تدعون إلى اللّه)،و«و عليه
ص:472
تدلّون»(دون تدلّون عليه)إلى آخر هذه الفقرات السبع هو التأخير، فتقديمها لإفادة الحصر.و الحاصل أنّهم عليهم السّلام ليس لهم دعوة إلاّ إلى اللّه، و لا دلالة إلاّ على اللّه،و هكذا في البواقي،فإن كانت لهم دعوة أو دلالة غير اللّه كما في الأمور العاديّة الحيويّة،فهي أيضا راجعة إلى اللّه حسب نيّاتهم الطاهرة و قصودهم القادسة و هكذا في البواقي؛لأنّهم لا يريدون إلاّ الكمال المطلق و الحقّ الصّرف،و هذا ليس إلاّ اللّه سبحانه،فتكون جميع أمورهم و مقاصدهم تلو مقصدهم النهائيّ و غايتهم القصوى.
ص:473
جحدكم كافر،و من حاربكم مشرك،و من ردّ عليكم في أسفل درك من الجحيم»
و هو فصل واحد و فيه خمس عشرة نكتة:
الأولى:أنّ كلّ واحدة من هذه الفقرات مبيّنة لنتيجة من نتائج الإمامة الحقّة و القيادة الإلهيّة،كما أشرنا إليه آنفا،و يثبت هذا المدّعى بثلاثة أنواع من الأدلّة:
الأوّل:الدلائل المستفادة من متن هذه الزيارة الشريفة،لأنّ كلّ فطن لبيب بعد تأمّله في فقراتها مؤمنا باعتبارها و اصولها الاعتقاديّة(كعصمة قائلها و منشئها سلام اللّه عليه)يستنتج هذه النتائج بعلم قطعيّ.
الثاني:الدلائل العقليّة،و لا سيّما إذا كانت الدلائل مبتنية على اصول إيمانيّة(كالإيمان بوجود اللّه و حكمته،و غيرهما).
الثالث:الدلائل النقليّة من القرآن و الحديث.
الثانية:إنّ الإمام الهادي عليه السّلام و إن استعمل الأفعال في هذه الفقرات بصيغة الماضي،لكنّها(الأفعال)منسلخة عن الزمان؛لأنّ المراد منها بيان طبيعة الأمر،فلهذا لا دخل للماضي و الحال و المستقبل هنا.
الثالثة:لعلّنا أشرنا فيما سبق من المباحث إلى أنّ علّيّة آل البيت عليهم السّلام،
ص:475
و سببيّة موالاتهم في طرف المثبت و التمرّد عنهم و إنكار فضائلهم في الجانب المنفيّ ليست معارضة،لكونه تعالى علّة أو سببا،فلا تنافي مع التوحيد الخالص في التوحيد الأفعاليّ،و لا يوجب الشرك أصلا،كما يقول الزائر:«أمن من لجأ إليكم»مع أنّ الملجأ الحقيقيّ هو اللّه.
الرابعة:تتضمّن هذه الفقرات الشريفة نوعين من الفعل،هما:جوانحيّ و جوارحيّ،كما يقول:«سعد من والاكم»(جوانحيّ و قلبيّ)و يقول:«من اتّبعكم...و من خالفكم...»(جوارحيّ).
الخامسة:أنّ لكلّ فعل من أيّ فاعل ثلاثة نسب:نسبة وجوديّة إلى علّة العلل و هو اللّه سبحانه،و نسبة ماهويّة إلى فاعله المباشر،و نسبة مؤثّريّة إلى نظام الوجود.
أمّا الأوّل:فقد تقدّم في أنّ الموالاة لآل البيت موالاة للّه تعالى،و هي (الموالاة)أمر ممكن،و كلّ ممكن لا بدّ أن ينتهي في وجوده إلى الواجب، فلا توجد موالاة لآل البيت عليهم السّلام إلاّ من اللّه من حيث وجودها.
و أمّا الثاني:فلا يمكن أن تتحقّق ماهيّة فعل إلاّ بإعداد فاعل ممكن لمقتضيها و تعيين حدودها و قيودها،فهنا لا ينظر الزائر إلى علّة وجود الموالاة أو المعاداة أو الاتّباع أو غير ذلك،لأنّه مفروغ عنه و مسلّم فيه،بل ينظر-تعليم الإمام الهادي عليه السّلام-إلى المباشر(فاعل الماهويّة).
ص:476
و أمّا الثالث:فلا ينظر أيضا إلى تأثير الموالاة أو المعاداة في نظام الممكنات كلّها،لأنّ الغرض النهائيّ هو ما يحصل لأشرف الممكنات و هو الإنسان،و إن كانت الموالاة أو المعاداة مؤثّرة في نشأتي الملك و الملكوت،و لهذين الأثرين شواهد كثيرة من الحكمة و النقل،و نحن نتلوا عليك من النقل حديثا واحدا،و هو قول النبيّ صلّى اللّه عليه و اله:«المؤمن إذا كذب بغير عذر لعنه سبعون ألف ملك،و خرج من قلبه نتن حتّى يبلغ العرش،فيلعنه حملة العرش،و كتب اللّه،عليه بتلك الكذبة سبعين زنية أهونها-كمن يزني مع أمّه» (1).
السادسة:أنّ هذه الفقرة الشريفة(سعد...عاداكم)مأخوذة من قوله سبحانه: «فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ» (2).و أمثال هذا من مصاديق انطباق القرآن مع العترة على مقتضى حديث الثقلين،فقد انقسم الناس في الآية إلى قسمين:«سعيد و شقيّ»،و في قول الإمام إلى«سعيد و هالك»،من حيث كون كلام الإمام تفسيرا لكلامه تعالى،أي مراده سبحانه من الشقاوة هي الهلاك،و الشقيّ هو الهالك،و علّة كون الموالي لآل البيت سعيدا هي وجود كلّ مقتض للسعادة في موالاتهم ممّا لا يوجد في موالاة غيرهم،أمّا
ص:477
المقتضيات المشار إليها كما يستفاد من الأخبار فكالتالي:
1)إخلاص الطاعة،كما قال الإمام عليّ عليه السّلام:«السّعيد من أخلص الطّاعة» (1).
2)كمال العقل.
3)كمال الإيمان،كما قال:«أسعد النّاس العاقل المؤمن» (2).
4)حفظ الدين و العمل للآخرة،كما قال:«سعادة الرّجل في إحراز دينه و العمل لآخرته» (3).
5)كون الإنسان موثوقا به عند غيره في امور الدارين:«كفى بالمرء سعادة أن يوثق به في أمور الدّين و الدّنيا» (4).
و أنت خبير بعدم هذه المقتضيات في من يتّبع أئمّة الجور الغير معصومين عليهم السّلام،فينحصر وجودها في أتباع آل البيت عليهم السّلام المطهّرين (5)عليهم السّلام
ص:478
لأنّهم لم ينحرفوا-في العقيدة و الخلق و العمل-عن الحقّ المحض إلى الباطل،و لم تتكدّر فطرتهم و لم تظلم قلوبهم،و لكنّ المعادين لآل البيت يهلكون بفقدان هذه المقدّمات و الأسباب.
السابعة:«و خاب من جحدكم»الخيبة هي الحرمان عن المطلوب (1)، كلّ منكر لإمامة آل البيت عليهم السّلام و فضائلهم خائب،حيث لم يعرف اللّه و لم يوحّده في الحقيقة،فيكون كافرا مشركا مفتريا ظالما،و لم يعمل بالعمل بالحقّ،فيكون مصداقا لقوله تعالى: وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسّاها (2)،و لا يكون هذا المسكين إلاّ جبّارا معاندا للحقّ،فيصير مصداقا لقوله تعالى: وَ خابَ كُلُّ جَبّارٍ عَنِيدٍ (3)،و أيضا يصدق فيه قوله سبحانه: وَ قَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (4)،و هكذا: وَ قَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (5)؛لأنّ الجاهد حقّ آل البيت عليهم السّلام مجمع لجميع الرذائل،بينما وليّهم تجمع فيه الفضائل.
الثامنة:«ضلّ من فارقكم»الضلالة نقيض الهداية،فكما أنّ كلّ من كان
ص:479
مع آل البيت عليهم السّلام كان مهتديا،يصير المفارق لهم ضالاّ،لعدم استفادته من تربيتهم،و عدم استضاءته بنور علومهم.
التاسعة:«و فاز من تمسّك بكم»؛فوز (1)المتمسّك بآل البيت واضح، و مع ذلك لا يخلو توضيحه من فائدة،أنّ المتمسّكين بآل البيت هم الفائزون قطعا؛لعصمة آل البيت عليهم السّلام و لاعتصام المتمسّكين بهم(في الجهات الثلاث:العقيدة،و الخلق،و العمل)،فهاتان المقدّمتان منتجتان للفوز،كما قال تعالى: وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (2)،و قال أيضا: وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (3).
العاشرة:«و أمن من لجأ إليكم»،حصول الأمن باللجوء إلى آل البيت عليهم السّلام،و إن اتّضح من توضيح أمثال هذه الفقرة فيما سبق،و لكن نقول هنا:لا تنافي بين كونهم عليهم السّلام ملجأ و بين انحصار الملجئيّة في اللّه سبحانه،كما قال تعالى: وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاّ إِلَيْهِ (4)؛لأنّ
ص:480
ملجئيّتهم لا تعارض ملجئيّته سبحانه،بل تكون في طولها،و هي(ملجئيّة آل البيت عليهم السّلام)مع ذلك مجعولة بجعله تعالى،فهم ملجأ الخلق في الدنيا بهدايتهم،و في الآخرة بشفاعتهم،(جعلنا اللّه من المهتدين بهم المشفوع لهم).
الحادية عشرة:«و سلم من صدّقكم»المراد من السلامة هنا هو السلامة من كلّ سوء و مكروه،و تصديق آل البيت عليهم السّلام هو تصديق،كأصل جار في جميع الأمم،كما قال تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ (1)،و قال أيضا وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها (2).و الحاصل أنّ تصديق آل البيت عليهم السّلام من الأجزاء الرئيسيّة للإيمان،و بدونه يصير وجود الإيمان كعدمه،و معلوم أنّ كلّ من صدّق جميع الأجزاء الرئيسيّة للإيمان في كلّ زمان و مكان يكون سالما من المساوئ و المكاره،و غانما للمحاسن و الرغائب.
الثانية عشرة:«و هدي من اعتصم بكم»لا شكّ في حصول الهداية للمعتصمين بآل البيت؛لأنّ الناس امروا بالاعتصام بحبل اللّه،كما قال تعالى: وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا (3)،و إلاّ لزم لغوية أمره
ص:481
سبحانه بهذا الاعتصام(نعوذ باللّه من هذا الظنّ الفاسد)،و حبل اللّه هم آل البيت عليهم السّلام كما روي عن الإمام الباقر عليه السّلام أنّه قال:«آل محمّد عليهم السّلام هم حبل اللّه الّذي أمر بالاعتصام به»،فقال: وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا» (1)؛و معلوم أنّ الاعتصام (2)بحبل اللّه هو الاعتصام باللّه، فحصول الهداية إذا قطعيّ غير مرتاب فيه.
الثالثة عشرة:«من اتّبعكم...مثواه»أنّ الاتّباع هو نتيجة للاعتصام أو هو اعتصام عمليّ و عينيّ،و المخالفة أيضا هي خلاف لآل البيت في الأعمال، فتكون النسبة بينهما(الاعتصام و الاتّباع)نسبة العامّ و الخاصّ مطلقا.
فيترتّب أثر الدخول في الجنّة بالاعتصام و الاتّباع معا،و الدخول في النار كأثر مترتّب على عدم هذا الاعتصام و الاتّباع معا،فاتّضح بهذا معنى«من اتّبعكم...مثواه».
الرابعة عشرة:«و من جحدكم كافر»أنّ كفر المنكر لإمامة آل البيت عليهم السّلام و ولايتهم يثبت بالعقل و النقل؛أمّا العقل فهو قد ثبت بأنّ
ص:482
الاعتقاد بإمامتهم و ولايتهم كان من الأجزاء الرئيسيّة للدين،و أنت خبير بأنّ إنكار جزء كهذا كان كإنكار أصل الدين.و أمّا النقل فهو مضافا إلى أخبار كثيرة دالّة على المراد،كقول النبيّ صلّى اللّه عليه و اله:«لا ترجعوا بعدي كفّارا» (1)، قال تعالى في حديث الغدير مخاطبا نبيّه صلّى اللّه عليه و اله: وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (2).
الخامسة عشرة:«و من حاربكم مشرك...الجحيم»إشراك المحاربين لآل البيت يكون من جهة أنّ المحارب لهم اتّخذ إلها غير اللّه،و لو لم يقرّ به قولا،و أمّا المراد من الرادّ عليهم فهو الرادّ على اللّه(لصلة آل البيت الوثيقة باللّه تعالى ككونهم،حبلا له سبحانه)،و يؤيّده قول الإمام الصادق عليه السّلام:
«و الرّادّ علينا الرّادّ على اللّه،و هو على حدّ الشّرك باللّه» (3).مضافا إلى أنّه منافق،إمّا لكفره القلبيّ و الظاهريّ،كما قال تعالى: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (4)،و إمّا لنفاقه(و النفاق هو الكفر بالقلب و الإسلام في الظاهر)، و قد قال تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّارِ (5).
ص:483
«اشهد أنّ هذا سابق لكم فيما مضى 1 [2]،و جار لكم فيما بقي»
و فيه أربع نكات:
الأولى:قد تقدّم توضيح في معنى الشهادة و أقسامها،و هنا مضافا إلى ما سبق نقول:تعيين نوع الشهادة من كونها إيمانيّة بالأدلّة العقليّة و النقليّة أو العرفانيّة بالانكشاف الفطريّ للزائر موقوف على نوع معرفة الزائر بآل البيت،فإن كانت معرفته لم تبلغ من الإيمانيّة إلى العرفانيّة،تكون شهادته إيمانيّة و إلاّ كانت عرفانيّة.
ص:484
الثانية:يشير الزائر بلفظه هذا إلى حقيقة سارية جارية في آل البيت عليهم السّلام ماضيا و باقيا،فما هذه الحقيقة؟في ذلك ثلاثة احتمالات:
الأوّل:أنّها منازلهم الفائقة على الملكوت و التي تعجز الملائكة عن إدراكها كما عجزوا عن إدراك رتبة آدم قبل قصّة تعليم الأسماء (1).
الثاني:هي عبارة عن مراتبهم الظاهرة التي يمكن لكلّ عاقل إدراكها.
و لكنّ الحقّ هو الاحتمال الثالث،و هو كون المراد منها كلتا المرتبتين المذكورتين آنفا؛لأنّ هذا الباب كان كذكر نتيجة لجميع ما اعترف و أقرّ به الزائر،فإن رجّحنا إحدى المرتبتين على الأخرى كان ترجيحا من غير مرجح و ادّعاء بلا دليل.
الثالثة:أنّا إذا اخترنا أنّ جميع مراتب آل البيت عليهم السّلام من الملكوتيّة وفوقها و دونها متعلّقة لإشارة الزائر بهذا مع ذكر كثير من المراتب من أوّل الزيارة إلى هنا بعيدا،فكان حقّا أن يشير إليها بلفظ غير«هذا»(كتلك)و مع ذلك يشير بهذا،ذلك علامة لشدّة ولع الزائر بذكر كمالاتهم،فكانّه لم ينس حتّى واحدا من أوصافهم و كمالاتهم،و كأنّها جميعا حاضرة عنده،فلذلك يشير بلفظة هذا.
الرابعة:المراد ممّا مضى الأئمّة الماضون بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و اله إلى زمان مولانا الهادي عليه السّلام،و المراد ممّا بقي هم:الإمام الهادي و العسكريّ و المهديّ
ص:485
(عليهم جميعا تسليم اللّه الزاكي).الحاصل أنّ الزائر يشهد على المساواة دون أيّ تفاضل بينهم في هذه الكمالات العامّة و الشؤون الشاملة؛لأنّ الفاعل المفيض(و هو اللّه تعالى)تامّ الفاعليّة و تامّ الفيض،و القوابل (آل البيت عليهم السّلام)هم تامّون في القابليّة،فليس هناك جهة للتفاضل في الاتّصاف بالكمالات المذكورة،أو لانقطاع الفيض عن بعضهم.
«و أنّ أرواحكم و نوركم و طينتكم واحدة،طابت و طهرت،
بعضها من بعض»
و فيه أربع نكات:
الأولى:يشهد الزائر هنا على أمر آخر،و هو وحدة أرواحهم و نورهم و طينتهم،قد اشير في هذه الفقرة إلى وحدة المعصومين عليهم السّلام في أبعاد ثلاثة،و هي:البعد الطبيعيّ و البرزخيّ و العقليّ،فأرواحهم عبارة عن البعد العقليّ لهم،و نورهم كناية عن بعدهم البرزخيّ،و طينتهم هي بعدهم الطبيعيّ.فآل البيت عليهم السّلام موصوفون بالوحدة في هذه الثلاثة،لأنّ الإنسان -و لا سيّما الإنسان الكامل-جامع لجميع ما في الكون،فكما أنّ عالم الوجود مرتّبة بالطبيعة و البرزخ و القيامة،و كذلك الإنسان الذي هو خلاصة الكون،فكلّما كان الإنسان أكمل كان ظهور هذه المراتب له أشدّ.
و أمّا سرّ التعبير عن برزخهم(قوّة الخيال)بالنور،فهو عدم تكدّر ذلك
ص:486
البرزخ بكدورات الطبيعة و بقاؤه صافيا (1).
الثانية:لا إشكال في كون آل البيت عليهم السّلام نورا على حدة و في كون نشآتهم الخياليّة أيضا نورا بالخصوص؛لأنّ النور لا يجمع مع الظّلمة، فيصحّ إطلاق النور على كلّ منهم و على البعض.
الثالثة:أنّ وحدة آل البيت عليهم السّلام في ما ذكر تثبت بوجوه:
الأوّل:قد سبق قبيل هذا ذكر التفاضل بينهم،فهذا يوجب الوحدة؛لأنّ التفاضل موجب للفقدان و الوجدان،أي يوجب أن يكون الأفضل واجدا لما كان الفاضل فاقده،فهذا سبب النقص في بعضهم بالنسبة إلى الآخر، و هو غير صحيح.
الثاني:بهذه الوحدات الثلاث تتمّ الخلافة و الإمامة و الولاية على جميع ما سوى اللّه لكلّ منهم عليهم السّلام،و بدونها تكون الشؤون المذكورة غير تامّة،و هو محال،فيثبت لزوم الوحدة المذكورة.
الثالث:أنّ جميع الشؤون و الكمالات المذكورتين من أوّل هذه كانت لجميعهم،و لم نظفر بكمال أو شأن لبعض منهم دون بعض،و ذلك يوجب وحدتهم كما ذكر.
ص:487
الرابعة:أنّ الطّيب و الطهارة بينهما عموم و خصوص مطلقا،فالطهارة تطلق على الغير خبيث في الظاهر و الباطن و جوهر الشيء و عرضه، و لكنّ الطّيب يقع على كون الذات و الجوهر الغير خبيث.
و أمّا معنى فقرة«طابت و طهرت،بعضها من بعض»فهو أنّ المراتب المذكورة الثلاثة بعضها أطيب و بعضها طيّب،أو بعضها أطهر و بعضها طاهر،فالنشأة العقليّة أطيب و أطهر بالنسبة إلى الخيال و الطبيعة،و الخيال أطهر بالنسبة إلى الطبيعة،و لكنّ طبيعتهم طاهرة غير خبيثة،و الحمد للّه على ما منّ عليهم بهذه المواهب العليا.
«خلقكم اللّه أنوارا فجعلكم بعرشه محدقين»
و فيه ثماني نكات:
الأولى:أنّ خلق النور المعنويّ ممكن،كخلق النور الحسّيّ لسنخيّة بينهما،و هي الظهور و الخروج عن الخفاء لكلّ منهما،و أمّا لإمكان خلقه دليلان:
الأوّل:لو لم يكن خلق النور المعنويّ لامتنع الخلق الحسّي أيضا.
الثاني:عدم انجرار خلقه إلى محال،أضف إلى الدليلين هنالك مؤيّدات كثيرة من النقل،مضافا إلى أنّ الاعتقاد بوجود النور المعنويّ و خلقه من مصاديق الغيب(غيبيّته بالنسبة إلى المسجونين في سجن عالم الطبيعة)
ص:488
الذي يكون الإيمان به هو أصل كلّ عقيدة،قال تعالى: اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ (1).
الثانية:يشهد الزائر هنا على حقيقة اخرى و هي خلقه تعالى آل البيت عليهم السّلام أنوارا و جعلهم محدقين بعرشه.لا شكّ في وجود عرش (2)للّه تعالى،على حسب الآيات القرآنيّة بل الكتب السماويّة أيضا و الأخبار الكثيرة الواردة في هذا الباب عن الأطهار،و لا شبهة أيضا في أنّ آل البيت عليهم السّلام خلقوا دون أبدانهم الطاهرة قبل هذا العالم،كما جاءت أخبار كثيرة جدّا في هذا المقام.و ما يلزم أن يقال هنا هو إحداق اللّه إيّاهم بعرشه،و هذا الإحداق ليس شأنا طبيعيّا و لا أمرا مادّيّا حتّى ينقطع، فالحاصل أنّهم عليهم السّلام محدقون بالعرش إلى أبد الآباد و لا دليل على الحصر و التحديد،خصوصا إذا قلنا(و هو الحقّ)بأنّ نوريّتهم و إحداقهم شأنان من شؤون البعد غير المادّيّ لهم عليهم السّلام.
الثالثة:إن قام دليل نقليّ(كالخبر الآتي ذكره)على كون المحدقين به هم الملائكة،و آل البيت عليهم السّلام هم حملة لا المحدقون به،فهذا لا ينافي ما
ص:489
في الزيارة من كونهم محدقين مع كون الملائكة حوله؛لإمكان المراد من الملائكة حوله هم آل البيت عليهم السّلام أيضا؛لما تقدّم من أنّ آل البيت عليهم السّلام هم الملائكة(فراجع إلى شرح«و مختلف الملائكة»)،قال أبو جعفر عليه السّلام:
«...ثمّ قال:الّذين يحملون العرش،يعني الرّسول و الأوصياء من بعده صلّى اللّه عليه و اله يحملون علم اللّه».ثمّ قال:«و من حوله،يعني الملائكة يسبّحون بحمد ربّهم...و يستغفرون للّذين آمنوا،و هم شيعة آل محمّد عليهم السّلام يقولون ربّنا وسعت كلّ شيء رحمة و علما فاغفر للّذين تابوا من ولاية هؤلاء و بني أميّة و اتّبعوا سبيلك و هو أمير المؤمنين عليه السّلام» (1).
الرابعة:أنّ شهادة الزائر هنا على نوريّتهم إمّا:علميّة إيمانيّة و إمّا عينيّة و كشفيّة عرفانيّة؛فإن كان الأوّل فيكفي في صحّة شهادته الأدلّة النقليّة التي هو مؤمن بها،و لا أقلّ بيان الإمام الهادي عليه السّلام في هذه الزيارة الشريفة، و إن كان الثاني لا ينبغي تعرّضنا له،بل نكله إلى أهله(جعلنا اللّه منهم).
الخامسة:أنّ استعمال النور في حقّهم عليهم السّلام تارة(كما في الفصل السابق)و الأنوار في هذا الفصل غير متنافيين؛لأنّ المراد من استعمال كلّ منهما لمورد خاصّ،فمورد النور باعتبار وحدة نوريّتهم في نشأة غير نشأتهم الطبيعيّة الماديّة،و مورد الأنوار هو هذا العالم باعتبار تعلّقهم
ص:490
بالأبدان الطاهرة العنصريّة،فتدبّر حتّى لا تشتبه.
السادسة:أنّ الخلق هنا هو الجعل،و قد ذكرنا فيما مضى أنّ الجعل جعلان:بسيط و تأليفيّ.أمّا البسيط فمتعدّ إلى مفعول واحد و يعبّر عنه بالجعل التامّ،و هو مفاد«كانت»التامّة.و المركب(و المؤلّف)ما له مفعولان،و هو مفاد«كانت»الناقصة.و الحاصل أنّ آل البيت عليهم السّلام خلقوا أنوارا من حيث كانوا في علم اللّه ما كانوا،و خلقوا في العين و الخارج أنوارا،اعطوا وجوب الغيريّ فصاروا أقمارا منيرة و صار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله شمسا مضيئة(كما أشرنا إلى الفرق بين الشمس و القمر من حيث الإضاءة و الإنارة).
السابعة:من ذكر كونهم عليهم السّلام أنوارا مع كون النور القمر من الشمس، يستفاد أنّهم مستفيضون من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله(و لو في بعض النشآت)الذي هو أوّل الصوادر و أشرفها كما اشتهر عنه صلّى اللّه عليه و آله:قوله«أوّل ما خلق اللّه نوري» (1)،و استفاضتهم منه صلّى اللّه عليه و اله تشريعا معلوم،و لا ينافي ذلك-أي كونه صلّى اللّه عليه و اله شمسا مضيئة-و لكون إضاءته ذاتيّة و كونهم أنوارا،لأنّ نور القمر مكتسب من الشمس مع إطلاق النور عليه تعالى،لأنّ النسبة بين النور و الضياء نسبة العامّ و الخاص مطلقا،فيطلق النور على الذاتيّ و غير الذاتيّ،فظهر أنّ ما يظهر من آل البيت عليهم السّلام هو النور الاكتسابيّ و لا الضياء
ص:491
الذاتيّ،و هذا يشبه بتقدّم العقل على النفس و تأخّر النفس عن العقل تأخّرا رتبيّا،كما يتأيّد هذا بآية«أنفسنا».و قد ورد في الباب كثير من الأخبار، منها ما جاء في تأويل قوله سبحانه: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً (1).
عن جابر،عن أبي جعفر عليه السّلام:«فضرب اللّه مثل محمّد الشّمس و مثل الوصيّ القمر،و هو قوله عزّ ذكره جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً» (2).
و هذا غير مناف لما قلناه سابقا بتوحّدهم في أصل النوريّة كما أيّدنا ثمّة بهذين البيتين منّا:
توحّدوا في عالم المعناء تعدّدوا في ظاهر الإنشاء
لكونهم حقيقة نوريّة تجرّدت عن مثل الصوريّة
لكونهم نورا واحدا في عالم الأسماء و الصفات،و متعدّدا في النشأة الملكوتيّة فضلا عن هذا العالم الذي هو عالم الكثرات.
الثامنة:معنى كونهم عليهم السّلام محدقين بعرش اللّه:
المحدقين اسم فاعل من باب إفعال،فيكون معنى المحدق من يحيط بشيء من أطرافه الأربعة،و لهذا اطلقت«الحديقة»في التنزيل و الحديث على كلّ واحدة من رياض الجنّة؛لوقوعها محصورة بإحاطة الأشجار،
ص:492
و حدقة العين أيضا من هذا القبيل،و المراد من عرش اللّه المحاط بآل البيت عليهم السّلام يمكن أن يكون هو علم اللّه الفعليّ بجميع ما سواه (1)،و وجه التعبير من هذا العلم بالعرش هو ارتفاعه عن سائر صفاته القدسيّة و لو في عالم المفهوم،و لا شكّ في كون ما سواه محدودا قابلا للإحاطة،و لا العلم الذاتيّ الذي هو عين ذاته المتعالية غير المتناهية، (2)إلى الذاتيّ و الفعليّ،بل هذا الانقسام من جهة التعلّق أو عدم التعلّق بالحقائق العينيّة الخارجيّة، فمن جهة التعلّق بها يسمّى علما فعليّا.
«حتّى منّ علينا بكم فجعلكم في بيوت أذن اللّه أن ترفع
و يذكر فيها اسمه»
و فيه أربع نكات:
الأولى:يستفاد من لفظة«حتّى»-التي تكون لانتهاء الغاية-أنّ هذه الفقرة الشريفة تكون كنتيجة لما شهد أنّ اللّه خلقهم أنوارا و جعلهم بعرشه محدقين،فعلى هذا تكون الفقرة السابقة إلى كونهم عليهم السّلام في عالم الأسماء و الصفات الذي هو فوق عالم الملكوت،فضلا عن عالم الطبيعة،و هو
ص:493
ابتداء سيرهم،فهذه الفقرة مشيرة إلى انتهاء ذلك السير،أي السفر من الحقّ إلى الخلق،المعدود من الأسفار الأربعة الوجوديّة.
الثانية:أنّ من أسماء اللّه الحسنى:المنّان،الذي استعمل هنا بصيغة الفعل،و معناه من حيث اللغة ظاهر،فنقول هنا:إنّ لكلّ اسم من أسمائه سبحانه ظهورا و تجلّيا فعليّا،فلظهور هذا الاسم السامي مصاديق عديدة، كبعثة الرسول،قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ (1)و الهداية إلى الإيمان،قال تعالى: بَلِ اللّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ (2).و يستفاد من استعمال الإمام عليه السّلام هذا اللفظ (منّ)هنا أنّ إمامة آل البيت عليهم السّلام و ولايتهم قرينة لنبوّة الأنبياء،و لا سيّما نبوّة الختميّة بل لو لا إمامتهم لم تتمّ نبوّة نبيّ و لا رسالة رسول أصلا(كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق).
و ينبغي أنّ غيره تعالى لا يجوز له التسمّي بهذا الاسم السامي،و لا أن يمنّ أحد على أحد،لأنّ المنّان اسم خاص لمن يعطي أو يحسن إلى غيره من كرم ذاته،لا بأن يأخذ من الغير ثمّ يعطي إلى الآخر،مضافا إلى أنّ المنّة يجب أن تكون من منعم عظيم بنعمة عظمى على المستحقّ،فحيث لا أعظم من اللّه،بل كلّ ما سواه حقير فقير إليه،و كلّ نعمة دون الهداية
ص:494
بالنبوّة و الإمامة صغيرة لا قدر لها،فمنّة غيره بأيّ نعمة غير النبوّة و الإمامة و ما يشبههما قبيحة محرّمة بالعقل و النقل،أمّا العقل:فلأنّ كلّ منّان سواه لا يعطي غيره من قبل ذاته،بل هو سبب لإعطاء اللّه إليه.و أمّا النقل:فلعدم جواز تسمية غيره بالمنّان إلاّ بإضافة العبد إليه،و قال تعالى: بَلِ اللّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ (1)،و في هذه الفقرة إشارة إلى عظمة نعمة إمامة آل البيت عليهم السّلام التي هي ممنون بها.
الثالثة:أنّ لحسن منّته تعالى على المؤمنين بآل البيت وجوها:
أحدها:بإمامتهم تتمّ نبوّة النبيّ و رسالته(بل سائر النبوّات و الرسالات أيضا كما ذكر آنفا)،كما تشهد عليه آيتا:التبليغ،و إكمال الدين (2)،فمنّته تعالى على المؤمنين إنّما تكون برسالة تامّة،و التي بدون إمامتهم تكون ناقصة.
ثانيها:أنّ الأمّة الإسلاميّة متشكّلة من المسلمين و المؤمنين،فالمسلم هو الذي آمن بالمشروط(حقّيّة الإسلام)دون شرطه(إمامة آل البيت عليهم السّلام)،و المؤمن من آمن بالشرط و المشروط جميعا،فيتبيّن إذا من المؤمن الذي منّ اللّه عليه.
ثالثها:كون الشيعة محبوبين عند اللّه،و لهذا المدّعى أدلّة من القرآن
ص:495
و الحديث و أغمضنا عن ذكرها إلاّ قوله تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ (1)،و ما نقل عن مولانا الصادق عليه السّلام في(الكافي)أنّه عليه السّلام قال لرجل من الشيعة:«و أنتم أهل الرّضا عن اللّه عزّ و جلّ برضاه عنكم، و الملائكة إخوانكم في الخير،فإذا جهدتم ادعوا،و إذا غفلتم اجهدوا، و أنتم خير البريّة،دياركم لكم جنّة،و قبوركم لكم جنّة،للجنّة خلقتم و في الجنّة نعيمكم،و إلى الجنّة تصيرون» (2).
رابعها:أنّ صحّة أخبار الطينة من أنّه تعالى خلق أرواح الشيعة من الطينة الطاهرة لآل البيت عليهم السّلام تعدّ وجها آخر على المنّة التكوينيّة على الشيعة.
الرابعة:أنّ حرف الفاء في جملة«في بيوت»هنا حرف تفريع،فيتفرّع كونهم في بيوت كذا على«خلق اللّه إيّاهم أنوارا»،أو على منّه تعالى على المؤمنين بهم،بحيث لو لم يخلقوا أنوارا أو لم يجعلوا قادة على المؤمنين لم يستقرّوا في بيوت كذا.و أمّا المراد من البيوت تأويلا فهو أنفسهم النفيسة،كما يؤيّده ما روي عن الإمام الباقر عليه السّلام:«إنّ قتادة قال له:و اللّه لقد جلست بين يدي الفقهاء و قدّام ابن عبّاس،فما اضطرب قلبي قدّام واحد منهم ما اضطرب قدّامك،قال له أبو جعفر عليه السّلام:ويحك!أتدري
ص:496
أين أنت؟أنت بين يدي بيوت أذن اللّه أن ترفع و يذكر فيها اسمه» (1).
«و جعل صلواتنا عليكم،و ما خصّنا به من ولايتكم،طيبا
لخلقنا (2) [2]و طهارة لأنفسنا،و تزكية لنا،و كفّارة لذنوبنا»
و فيه خمس نكات:
الأولى:يشهد الزائر في هذه الفقرة على أمور:
الأوّل:أنّ في الصلوات عليهم و في تخصيص اللّه إيّاها للمؤمنين من ولايتهم عليهم السّلام فوائد:
1)طيب الخلق.
2)حصول طهارة النفس.
3)التزكية لنفوس المؤمنين.
4)كفّارة للذنوب.
و هذا الجعل و التخصيص من اللّه كان كمكافاة لما أحسنوا إلى المؤمنين بالهداية و الإمامة و غيرهما في حقّهم،لئلاّ ينسى المؤمنون حقّ
ص:497
هذه النعمة العظمى و شكرها،كما قال تعالى: وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ (1).
الثانية:أنّ معنى الصلاة هنا هو تحيّة متواصلة على آل البيت عليهم السّلام و لها فضل عظيم و أجر وافر،و قد أمر اللّه بها في كتابه،«و هو و ملائكته يصلّي عليهم»،كما أخبر بذلك و أمر المؤمنين بأن يصلّوا عليهم،قال تعالى: إِنَّ اللّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً (2).و لا بأس بذكر بعض الروايات الواردة هنا:
1)عن عمّار الساباطيّ قال«كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال رجل:
اللّهمّ صلّ على محمّد و أهل بيت محمّد،فقال له أبو عبد اللّه عليه السّلام:يا هذا،لقد ضيّقت علينا،أما علمت أنّ أهل البيت خمسة أصحاب الكساء؟فقال الرّجل:كيف أقول؟قال:قل:اللّهمّ صلّ على محمّد و آل محمّد،فسنكون نحن و شيعتنا قد دخلنا فيه» (3).
2)و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و اله:«من صلّى عليّ و لم يصلّ على آلي لم يجد ريح الجنّة،و إنّ ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام» (4).
3)و قال أبو عبد اللّه الصادق عليه السّلام:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله:«ارفعوا
ص:498
أصواتكم بالصّلاة عليّ؛إنّها تذهب بالنّفاق» (1).
الثالثة:أريد بالولاية المخصوصة هنا الولاية التشريعيّة(و هي مكسورة الواو)و هي بمعنى المحبّة و النّصرة،و لا التكوينيّة(هي مفتوحة الواو) العامّة على جميع الأشياء،و معناها التصرّف و السيطرة،إذا تكون هذة الولاية أي بمحبّتهم لنا أو نصرتنا إيّاهم نعمة عظيمة أنعمها اللّه علينا.
الرابعة:أنّهما(الصلوات و الولاية)متضمّنتان لفوائد و آثار كما يلي:
أحدها:طيب الخلق،فالمصلّي عليهم صاحب الولاية لهم ولد من حلال،كما يدلّ على ذلك كثير من الأخبار،منها،قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله«يا عليّ،من أحبّني و أحبّك و أحبّ الأئمّة من ولدك فليحمد اللّه على طيب مولده؛فإنّه لا يحبّنا إلاّ من طابت ولادته،و لا يبغضنا إلاّ من خبثت ولادته» (2).
ثانيها:طهارة الأنفس،و المراد منها كون نفوس المؤمنين طاهرة من الأدناس و الأقذار النفسانيّتين؛لأنّ النفس كالجسد قد تكون فاقدة للطهارة و واجدة للمقتضيات المكدّرة المظلمة،كمقتضى الشرك و الفسق و غيرهما،و أضعف المقتضيات سوء النيّة،فبذكر الصلوات تطهر النفس
ص:499
عن الغفلة عن شؤون آل البيت عليهم السّلام و مراتبهم السامية بالصلوات و الولاية لهم عليهم السّلام،فتكون هذه الطهارة كسبيّة،و إن قلنا بصفة أخبار الطينة و اعتبارها تكون الطهارة تكوينيّة لا تحصيليّة،و لكن صحّة هذه الأخبار محلّ تردّد إلاّ بإمكان القول فيها على نحو الاقتضاء لا العلّيّة.
ثالثها:التزكية،و المراد منها هو دوام التزكية الحاصلة من بعثة الرسول صلّى اللّه عليه و اله خصوصا و بعثة الأنبياء عليهم السّلام مع الواسطة عموما،كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ (1).و هذه التزكية هي التنمية،لأنّ بها تتمّ الرسالة،و لها من الفوائد و النتائج ما كان للرسالة.
رابعها:كفّارة الذنوب،و لها شواهد كثيرة في الأخبار،منها:ما عن الرضا عليه السّلام عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله:«حبّنا أهل البيت يكفّر الذّنوب و يضاعف الحسنات،و إنّ اللّه تعالى ليتحمّل عن محبّينا أهل البيت ما عليهم من مظالم العباد إلاّ ما كان منهم فيها على إضرار و ظلم للمؤمنين،فيقول للسّيّئات:كوني حسنات» (2).
الخامسة:أنّ كلّ شأن و فعل وجوديّ و كماليّ لا يصدر وجودا إلاّ منه سبحانه،فيكون هو تعالى مطيّب الخلق،مطهّر النفوس و مزكّيها و مكفّر
ص:500
الذنوب،و لكنّ آل البيت عليهم السّلام هم مظاهر تامّة لأسماء اللّه الساميّة و صفاته العالية،يظهر منهم من الآثار ما يظهر من أسمائه و صفاته سبحانه،فيرتفع التنافي بين كونه تعالى مؤثّرا و بين كونهم ذوي آثار.
«فكنّا عنده مسلّمين (1)بفضلكم،و معروفين بتصديقنا إيّاكم»
و فيه خمس نكات:
الأولى:لا فرق بين الإسلام و التسليم(بمعنى الانقياد التامّ)و المسلم و المسلّم في المعنى،و إنّما الفرق بين كلّ من صاحبه فرق لفظيّ،و حرف الفاء هنا للتفريع،و مدخولها فرع على ما تقدّم.
الثانية:جعله تعالى صلواتنا على آل البيت عليهم السّلام و تخصيصه إيّانا بولايتهم موجبان لكون الشيعة مسلّمين للّه و معروفين عند اللّه،بتصديق إمامة آل البيت عليهم السّلام (2)و قيادتهم (3)،و هذا هو سرّ استعمال«كنّا»الذي يفيد الاستمرار،لأنّ الصلوات و التحيّات على آل البيت عليهم السّلام و المخصوصيّة
ص:501
بولايتهم من الأمور النفسيّة الغير مادّيّة،و كلّ أمر كان من هذا القبيل لا يتطرّق إليه الزوال،بل هو ملازم للثبات و الدوام،و هذا أصل كلّيّ في كلّ أمر غير مادّيّ،لهذا يخلد أهل النار فيها و يخلد أهل الجنّة فيها،فالحاصل إن لم تكن صلواتنا عليهم و لم تكن ولايتهم خاصّة بنا،لم يطب خلقنا و لم تظهر نفوسنا،فلم نبلغ عند اللّه هذا الشأن العظيم.
الثالثة:يتعلّق التسليم به تعالى،فيكون المعنى:أنّا سلّمنا للّه تعالى بإمامتكم،و أطعنا أمره سبحانه حين أمرنا على لسان رسوله بآية أولي الأمر و يوم الغدير،و أمره بالكون مع الصادقين في آية اخرى،و غير ذلك،و لم نك ممّن قالوا آمنّا و خوطبوا ب لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ (1)،بل سرنا من مصاديق قوله تعالى: ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (2)، و الحمد للّه.
الرابعة:ينبعث تسليم كلّ مسلّم لأيّ مسلّم له من أسباب:
الأوّل:نقص المسلّم،الثاني:كمال المسلّم له،الثالث:الحاجة الماسّة للمسلّم إلى المسلّم له،الرابع:طلب المسلّم له من المسلّم التسليم، الخامسة:معرفة المسلّم بنقصان نفسه و لزوم رفع النقص،السادس:
ص:502
معرفته بكمال المسلّم له و كونه قادرا على رفع النقص.
الحاصل أنّ الشيعة مسلّمون للّه تعالى،لأنّهم عارفون بجميع مقدّمات التسليم و مقتضياته ببركة هداية آل البيت عليهم السّلام.
الخامسة:أنّ الكافر عند اللّه غير معروف بكفره (1)كما يصرّح التنزيل في قوله سبحانه: وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ (2)،فحيث إنّ من أنكر ولاية آل البيت عليهم السّلام و إمامتهم مع الكافر سواء(بل كفره القلبيّ أشدّ مراحل الكفر)،فلذلك لم يكن معروفا عند اللّه، و لكنّ المؤمن بآل البيت المتّبع لهم عملا،حيث كان مؤمنا حقيقيّا يكون معروفا،هذا إذا قلنا بمعروفيّة الشيعة عند اللّه،و أمّا إن قلنا بأنّه يصير معروفا بين الأمم الماضية فنقول:زمان وقوعها،إمّا أن يكون في زمان الرجعة كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (3)،و إمّا في الآخرة كما يشهد عليه بعض الأخبار المرويّة عن الأطهار،كالخبر التالي:عن أبي عبد اللّه جعفر بن محمّد عليه السّلام قال:«إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش:أين خليفة اللّه في أرضه؟فيقوم داود النّبيّ عليه السّلام،فيأتي النّداء
ص:503
من عند اللّه عزّ و جلّ:لسنا إيّاك أردنا (1)و إن كنت للّه تعالى خليفة ثمّ ينادي ثانية:أين خليفة اللّه في أرضه؟فيقوم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام،فيأتي النّداء من قبل اللّه عزّ و جلّ:يا معشر الخلائق،هذا عليّ بن أبي طالب خليفة اللّه في أرضه و حجّته على عباده،فمن تعلّق بحبله في دار الدّنيا فليتعلّق بحبله في هذا اليوم؛ليستضيء (2)بنوره و ليتّبعه إلى الدّرجات العلى من الجنّات.قال:فيقوم النّاس الّذين قد تعلّقوا بحبله في الدّنيا فيتّبعونه إلى الجنّة،ثمّ يأتي النّداء من عند اللّه جلّ جلاله:ألا من ائتم بإمام في دار الدّنيا فليتّبعه إلى حيث يذهب به.
فحينئذ تبرّأ الّذين اتّبعوا من الّذين اتّبعوا و رأوا العذاب و تقطّعت بهم الأسباب،و قال الّذين اتّبعوا:لو أنّ لنا كرّة فنتبرّأ منهم كما تبرّؤوا منّا، كذلك يريهم اللّه أعمالهم حسرات عليهم و ما هم بخارجين من النّار» (3)، و إن كان المراد من كون الشيعيّ معروفا معروفيّته عند الأمم في الآخرة يكون علّتها نور وجوههم،قال تعالى في وصف أمير المؤمنين عليه السّلام:
ص:504
سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ (1)،و قال أيضا: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ (2).
«فبلغ اللّه بكم أشرف محلّ المكرّمين،و أعلى منازل
المقرّبين،و أرفع درجات المرسلين،حيث لا يلحقه لا حق،
و لا يفوقه فائق،و لا يسبقه سابق،و لا يطمع في إدراكه طامع»
و فيه أربع نكات:
الأولى:يلزم ذكر استعمال حرف الباء و معنى الشرف و العلوّ،فنقول:
أمّا الباء فهي حرف تعدية على أقوى احتمال،و الجملة التي استعملت فيها باء التعدية إخباريّة،و أمّا معنى الشرف فهو مجد لا يقدر على إدراكه أحد،و معنى العلوّ هو المرتبة التي ليس فوقها مرتبة،و الرّفعة هي كون رتبتهم فوق جميع الرتب.
و الحاصل أنّ الشرف و العلوّ و الرفعة متقاربة المعاني،و الفرق بينها دقيق،و محصّل المعنى أنّا إذا قلنا بأنّ آل البيت عليهم السّلام كانوا في أشرف محلّ
ص:505
المكرّمين فنريد أنّهم في محل لا يمكن لكلّ أحد إدراك ذلك المحلّ،و إذا قلنا بأنّهم عليهم السّلام بلغوا إلى أعلى منازل المكرّمين فمعناه أن لا منزلة فوق منزلتهم،فنعبّر عن تلك المنزلة بالعلوّ لنفينا منزلة فوقها،و المراد من الرفعة هنا هو عدم تصوّر درجة فوق درجتهم في الإمكان إلاّ مرتبة الوجوب الذاتيّ الغير قابلة للمقايسة مع الواجب الغيريّ فضلا عن الممكن الذاتيّ.
الثانية:قد ذكرنا أنّ شهادة الزائر في حقّ آل البيت عليهم السّلام على أنّهم خلقوا أنوارا حتّى منّ اللّه على المؤمنين بهم،كناية عن السفر الأوّل لآل البيت عليهم السّلام و هو من الحقّ إلى الخلق(و هو قوس النزول قال تعالى: إِنّا لِلّهِ )و لكنّ«فبلغ اللّه بكم»إشارة إلى السفر الثاني لهم و هو من الخلق إلى الحقّ(و هو قوس الصعود قوله تعالى: وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (1)).
الثالثة:لا شكّ في أفضليّة النبيّ الخاتم على جميع الأنبياء و المرسلين و الملائكة أجمعين،و هذا ضروريّ للأمّة المسلمة.و الضروريّة العقليّة تقضي بذلك أيضا،لكون كلّ نبيّ إنسانا كاملا في عصره و قومه،و الإنسان الكامل أفضل من الملك،فيكون الخاتم(عليه و آله السلام)أكمل و أفضل على حسب ناموس التكامل،فيكون آل البيت عليهم السّلام في درجته،لكون كلّ واحد منهم نفسه أو كنفسه النفيسة بشهادة آية«أنفسنا»،فالحاصل أنّهم أفاضل الخلق كالخاتم،كما قال النبيّ في الإمام عليّ عليه السّلام:«من أراد أن
ص:506
ينظر إلى آدم في علمه و إلى نوح في تقواه و إلى إبراهيم في حلمه و إلى موسى في هيبته و إلى عيسى في عبادته،فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب عليه السّلام؛فإنّ فيه سبعين خصلة من خصال الأنبياء» (1).
و الأخبار الدالّة (2)على المراد من هذا القبيل كثيرة،يكفيك«خلقهم اللّه أنوارا محدقين بعرش اللّه»دون سائر الخلق حتّى الأنبياء.
الرابعة:يمتنع أن يصل أيّ من المخلوقين من الماضين و الآتين إلى محلّ آل البيت عليهم السّلام الرفيع و مقامهم المنيع،كما يمتنع بلوغ الممكن إلى مرتبة الواجب،و الفرق بين هذين الامتناعين هو أنّ امتناع الأوّل وقوعيّ و الثاني ذاتيّ،توضيحه أن ليس للممكن قابليّة ذاتيّة لبلوغ ذلك الشأن، و عدم قابليّته ينشأ من ضيق وعائه الذاتيّ،و إن لم يكن وعاؤه ضيّقا يناله، و لكنّ الامتناع الثاني ذاتيّ.فإذا امتنع نيل غيرهم إلى محلّهم فلا يطمع النّيل أحد،كما لا يطمع مسكين ذو متربة أن يصير ملكا،نعم يمكن له أن يتخيّل ذلك.
ص:507
«حتّى لا يبقى ملك مقرّب،و لا نبيّ مرسل،و لا صدّيق
و لا شهيد،و لا عالم و لا جاهل،و لا دنيّ و لا فاضل،و لا
مؤمن صالح،و لا فاجر طالح،و لا جبّار عنيد،و لا شيطان
مريد،و لا خلق فيما بين ذلك شهيد،إلاّ عرّفهم جلالة أمركم،
و عظم خطركم،و كبر شأنكم و تمام نوركم،و صدق مقاعدكم،
و ثبات مقامكم،و شرف محلّكم و منزلتكم عنده،و كرامتكم
عليه،و خاصّتكم لديه،و قرب منزلتكم منه» (1)
و فيه ثماني نكات:
الأولى:قد تقدّم آنفا أنّه لا يمكن لأحد بلوغ رتبة آل البيت عليهم السّلام السامية،و هنا نقول:يمكن لكلّ مخلوق معرفتهم،بل اللّه سبحانه عرّفهم إيّاه (2).
الثانية:أنّ كلّ تعريف يتقوّم بامور:المعرّف،و المعرّف،و المعرّف له.
ص:508
فالمعرّف يلزم له إحاطة تامّة بالمعرّف،ليعرّفه بتعريف جامع مانع،و أن يقدر على التعريف،و أن يكون عالما بلزوم التعريف خبيرا بمورده، و عالما بإمكان التعريف،فالمعرّف هنا هو اللّه تعالى و لا شكّ في توفّر جمع الشرائط المذكورة فيه سبحانه.
الثالثة:ينقسم المعرّف له هنا إلى قسمين:
أحدهما:الكمّل،ثانيهما:غيرهم.
أمّا الأوّلون،فهم الملائكة المقرّبون و الأنبياء المرسلون (1)،و الصّدّيقون (2)و الشهداء و العلماء و الفضلاء،و المؤمنون الصالحون.
أمّا ثانيهما،فهم الجهّال و الدنايا و الفجّار و الجبابرة المعاندون و الشياطين،و يمكن إلحاق خلق في ما بين ذلك شهيد على الأوّلين، و يمكن أيضا بيان المراد منهم بأنّهم خلق بلغوا إلى أعلى مراتب الشهود في معرفة آل البيت عليهم السّلام.
الرابعة:أنّ في معرفة آل البيت عليهم السّلام للأوّلين فائدتين:
ألف)إدراك الكمال الأوّل،و هو الوجود،ففي هذه الفائدة يشترك الكمّل مع غيرهم بحيث لو لا آل البيت عليهم السّلام لم يخلقوا لا هم و لا غيرهم.
ص:509
ب)إدراك ثاني الكمالين،و هو البلوغ إلى الرحمة الرحيميّة منه سبحانه؛و أمّا غير الكمّل فلهم أيضا فائدتان:
الأولى:لو لم يعرفوا آل البيت عليهم السّلام(و لو جبرا و تكوينا)لم يوجدوا، فتكون أولى الفائدتين أن وجدوا.
الثانية:تماميّة الحجّة،لكي لا يقال:«لو لا أرسلت إلينا رسولا منذرا و أقمت لنا علما هاديا» (1)،أضف إلى هذا أنّ المعرفة التكوينيّة لمنكر آل البيت عليهم السّلام غير كافية؛لأنّ اللّه كلّفه بمعرفتهم الاختياريّة،و لم يقبل الكافر هذا التكليف.
الخامسة:أنّ المعرّفين(بصيغة المفعول)هم آل البيت عليهم السّلام،و قد عرّفوا(بتعريف اللّه)بصفاتهم الجميلة لا بذواتهم القدسيّة لعجز الممكن عن المعرفة التامّة بتلك الذوات الشريفة(و إن كانت المعرفة بالصفات تفيد معرفة إجماليّة بالذوات)؛لأنّهم المظاهر التامّة للّه تعالى،فكما يستحيل الإحاطة بالظاهر(و هو اللّه تعالى)كذا يستحيل الإحاطة بمظهره أيضا.
السادسة:ذكر الإمام الهادي عليه السّلام من أوصاف آل البيت عليهم السّلام عشر صفات:
ص:510
1)جلالة أمرهم،و قد تقدّم في ما سبق معنى الجلال.
2)عظم خطرهم.
3)كبر شأنهم (1).
4)تمام نورهم (2).
5)صدق مقاعدهم،و هذا يعمّ مقعد الإمامة للمكلّفين و مقعد الولاية التكوينيّة لجميع ما سوى اللّه و غير آل البيت عليهم السّلام غير مناسب لهذين المقعدين الرفيعين.
6)ثبات مقامهم.
7)شرف محلّهم و منزلتهم عند اللّه.
8)كونهم مكرّمين عند اللّه.
9)خاصّتهم لدى اللّه تعالى.
10)قرب منزلتهم من اللّه.
السابعة:أنّ تعريفه تعالى آل البيت عليهم السّلام يمكن بعدّة أشياء:
الف)أنّه تعالى أوجدهم بالكمالات المذكورة(لأنّهم عليهم السّلام آيات اللّه التامّات).
ص:511
ب)إعطاؤه سبحانه إيّاهم الكمالات و القدرة الخاصّة النفسانيّة لإتيان المعجزات،و العلم الخاصّ للإخبار عن المغيّبات،لأنّ الناس يعرفون المعصوم إذا ثبت لهم أنّه يقدر على المعاجز و يعلم الأمور الغيبيّة،فإذا تصرّف المعصوم في مخلوق غير ذي شعور كشجرة لا يقدر على مثله غيره يعرفونه كحجّة اللّه،و كذلك إذا أطاعهم غير ذي شعور دلّ على أنّه يعرفه و لو تكوينا.
ج)على لسان الأنبياء السابقين (1).
د)في الكتب السماويّة السابقة(كالإنجيل و التوراة،و قد ذكرناه في ما مضى أيضا).
ه)عرّفهم بكونهم شفعاء مشفّعين عند اللّه عن المذنبين من أهل الإيمان في الآخرة و وساطتهم إلى اللّه لقضاء حوائج المحتاجين في الدنيا.
و يستفاد من إطاعة الموجودات غير الشاعرة لولايتهم أنّها شاعرة،و إن لا تشعر بكونها شاعرة.
الثامنة:قد تقدّم التحقيق مرارا في ولاية آل البيت عليهم السّلام التكوينيّة على كافّة الموجودات؛لأنّهم وسائط الفيض،فيجب للمستفيض الممتنع لأخذ الفيض عن المفيض أن يعرف الواسطة حتّى يأخذ الفيض منه دون غيره، إذا ثبت أنّ كلّ مخلوق،شاعرا كان أو غير شاعر يعرف آل البيت عليهم السّلام بتعريف اللّه إيّاه،و هو المطلوب.
ص:512
«بأبي أنتم و أمّي و أهلي و مالي و أسرتي»
و فيه أربع نكات:
الأولى:هذه التفدية من الزائر مأخوذة(على ما زعمنا)من مفهوم هذه الكريمة: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ
ص:513
وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (1).
الثانية:أعلى مراتب الشوق و العشق هو أن يفدّي العاشق كلّ ما عنده لمعشوقه،و يؤثره حتّى على نفسه،و لا يرى في جنبه محبوبا،فمحبوباته إمّا غريزيّة كالزوج و المال،أو عقليّة كالأبوين،أو وهميّة عاطفيّة كالأولاد (2)،أو ذاتيّة كالنفس،فالزائر حينئذ يفدّي جميع ما يتعلّق به من المحبوبات لآل البيت،لأنّه لا يرى فوق محبوباته هذه شيئا حتّى يقدّمه لهم و يؤثرهم بها (3).
الثالثة:أنّ المحبوبين المذكورين للزائر هم الذين يتقوّم بهم وجوده و كمالاته و شؤونه (4)،فليس له فوقهم شيء ليفدّيه،و يستدلّ على صحّة
ص:514
التفدية بكمال إيمانه بهم،و الدليل على كمال إيمانه بهم خلوص إيمانه، و على خلوص إيمانه بإنكار أعدائهم و الكفر بهم (1).
الرابعة:قد تكرّرت التفدية من الزائر في هذه الزيارة فهذه اولاها و كلّ تفدية و لو كانت واحدة تحكي عن عشق المفدّي للمفدّى،و تكرارها كلّ ما كان أكثر حاك عن شدّة غليان شوق المفدّي للمفدّى و التفدية متقوّمة بأمور:
1)المفدّي:و يلزم له أن يكون عارفا كاملا بالمفدّى،و يؤمن بأنّه أكمل و يحبّه حبّا شديدا.
2)المفدّى:(و هو قابل الفداء)،و شرطه أن يكون أكمل على اعتقاد المفدّي.
3)المفدّى به:و لازمه كونه أنفس الأشياء عند المفدّي و أنقصها بالنسبة إلى المفدّى.
4)المفدّى له:(و هو غرض التفدية)،و الغرض هنا عبارة عن إظهار المفدّي عن معرفته بآل البيت،و إبراز حبّه لهم و شكره لنعمة هدايتهم العظمى.و الحاصل أنّ الزائر-و إن أفدى ما تتقوّم و تبقى به نفسه بآل البيت-و لكنّه يعرف أنّ تقويمهم إيّاه ناقص و تقوّمه بآل البيت أكمل من التقوّم بهم،فلهذا يفدّي المقوّمات الناقصة و المبقيات النازلة بمقوّمات
ص:515
و مبقيات أكمل،ليحصل له قوام و بقاء أكمل و أفضل.
«أشهد اللّه و أشهدكم أنّي مؤمن بكم و بما آمنتم به،كافر بعدوّكم
و بما كفرتم به،مستبصر بشأنكم و بضلالة من خالفكم،موال لكم
و لأوليائكم مبغض لأعدائكم و معاد لهم،سلم لمن سالمكم و حرب لمن
حاربكم،محقّق لما حقّقتم مبطل لما أبطلتم،مطيع لكم،عارف بحقّكم،
مقرّ بفضلكم،محتمل لعلمكم،محتجب بذمّتكم،معترف بكم»
و فيه إحدى عشرة نكتة:
الأولى:(أشهد اللّه و اشهدكم)،الزائر يستشهد باللّه و بآل البيت عليهم السّلام و يجعلهم جميعا شهداء على صدق اشتياقه،و على أنّه مؤمن بهم و بما آمنوا به،و يختلف هذا الاستشهاد مع استشهاداته في ما سبق(في باب الشهادات الأولى)من جهتين:
الجهة الأولى:أنّ تلك الشهادات شهادات أصوليّة في حقّ آل البيت عليهم السّلام ممّا لهم من الكمالات،و هذه شهادات في حقّ نفسه بالنسبة إلى آل البيت عليهم السّلام.
و الثانية:هذه الشهادات متقارنة مع غليان الأشواق في الزائر،و تختلف مع باب الشهادات الثانية و هي أنّ ذلك الباب كان يشتمل على ما لآل البيت من الكمالات الفرعيّة،و لكنّ هذه الشهادات مشتملة على ما للزائر من
ص:516
نفسه من الإيمان و الطاعة و الاشتياق،و غير ذلك.
الثانية:استشهاد الزائر باللّه و بآل البيت على ما يدّعي هو من جهة أنّه لا يجد و لا يمكن أن يوجد شهداء أصدق من اللّه و من آل البيت عليهم السّلام، لهذا لا يمكن له أن يظهر خلاف ما يبيّن و يعلن غير ما يخفي؛لأنّهم (شهداء)يحيطون به علما إحاطة حقيقيّة (1)؛مضافا إلى أنّه لو كان إظهاره غير إبطانه لانتهى إلى استهانة بالشهداء.
الثالثة:أنّ لاستشهاد الزائر هذا فوائد كثيرة منها:
1)تسكين فؤاده المشتاق و تخفيف ألم الفراق.
2)تثبيت إيمانه بهذه الإقرارات و التلقينات.
3)تحقيق الإقرار الذي هو الجزء الثالث للإيمان (2)،و هو بعد التصديق و العمل،و هو هامّ جدّا،كما قال تعالى: وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللّهِ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ قالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (3).
4)عدّ آل البيت عليهم السّلام إيّاه من المشتاقين الصادقين في حقّهم.
5)أن يموت هيّنا بحبّهم.
ص:517
6)و أن يكون منتفعا بحبّهم في قبره و برزخه و ما بعدهما،كما قال النبيّ صلّى اللّه عليه و اله:«حبّي و حبّ أهل بيتي نافع في سبعة مواطن،أهوالهنّ عظيمة:عند الوفاة،و في القبر،و عند النّشور،و عند الكتاب،و عند الحساب،و عند الميزان،و عند الصّراط» (1).
الرابعة:(أنّي مؤمن بكم و بما آمنتم به)،أنّ الزائر لا يكتفي بإظهار الإيمان بهم عليهم السّلام فقط،بل يقرّ بإيمانه بما آمنوا به،فيكون هذا الإقرار على إيمانه بهم،و المراد ممّا آمنوا به هو جميع الحقائق في الملك و الملكوت، تكوينيّة كانت أو غير تكوينيّة،لأنّه إن لم يؤمن بما آمنوا به لا يصير مصداقا لقوله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا (2)،و ينبغي هنا ذكر الفرق بين الإيمانين:
ألف)إيمانه بآل البيت.
ب)إيمانه بما آمن به آل البيت عليهم السّلام و هو أنّ الأوّل،ابتني على جميع الأدلّة و الشواهد و المقدّمات و الممهّدات(من أوّل هذه الزيارة)و القرائن و المقتضيات،و الثاني(و هو إيمان إجماليّ)،مبنيّ على الأوّل،فالأوّل تفصيليّ،و الثاني إجماليّ؛لعدم إمكان تحصيله تفصيلا للزائر.
ص:518
الخامسة:يقرّ الزائر بأنّه مستبصر بشأنهم و بضلالة من خالفهم، كالبصير الذي هو مستبصر بين الليل و النهار،فكما أنّ الليل المظلم لا يشتبه عليه مع النهار،كذلك الزائر في آل البيت عليهم السّلام و أعدائهم،و هذا يحكي التبيّن الكامل عنده بين الرشد و الغيّ،كما قال تعالى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ (1).
السادسة:(موال لكم و لأوليائكم،مبغض لأعدائكم و معاد لهم)،قد ذكرنا في ما سبق أنّ التولّي و التبرّي كجزءين خارجين هامّين لكلّ مؤمن حتّى المبتلين،و بدونهما لا يتحقّق إيمان بحقّ أو بباطل؛لإمكان اختلاط الإيمان بما يضادّه أو يناقضه،فهنا يقرّ الزائر بأنّه متولّ لهم متبرّئ من أعدائهم.و يمكن أن يكون الفرق بين إيمانه بهم المتقدّم ذكره و بين موالاته لهم،و هو فرق بين الاعتقاد و العمل،و هكذا بين كفره المتقدّم بأعدائهم و المعاداة هنا للأعداء هو الإنكار القلبيّ و ترك تابعيّته للأعداء عملا.
السابعة:لا يخلو الأمر من كونه إيمانا أو كفرا أو شركا،يتحقّق الأوّل بكون الإيمان بآل البيت بين جداري التوّلي و التبرّي،و الثاني بانتفاء الإيمان من أصله،و الثالث بانتفاء أيّ من الجدارين أو كليهما،فبالسّلم لآل البيت محاربا لأعدائهم يتحقّق الإيمان،و المعاداة لآل البيت(نعوذ باللّه من
ص:519
ذلك)هو الكفر،و موالاة آل البيت مع موالاة أعدائهم هو الشرك.
الثامنة:(محقّق لما حقّقتم،مبطل لما أبطلتم)،يقرّ الزائر بتحقيق ما حقّقه آل البيت عليهم السّلام و إبطال ما أبطلوه في مقولة الاعتقاد و الاتّصاف و العلم و العمل و القول.توضيحه:ينحلّ إقرار الزائر هذا إلى عرفانيّ و إيمانيّ،فالثاني ينشأ من اعتقاد كلاميّ للزائر في حقّهم عليهم السّلام،و الأوّل ناشئ من عرفانه باللّه و أسمائه و صفاته و حقّيّته المحضة(و بطلان كلّ شيء ما خلا اللّه)،و مظهريّة آل البيت عليهم السّلام لذلك،فتحقيق الزائر و إبطاله راجع إلى هذه المعارف.
التاسعة:(مطيع لكم)،إنّ البواعث الثلاثة لكلّ عابد (1)إلى عبادته(كما جاء في الأخبار)جارية في طاعة كلّ مطيع إلى طاعته أيضا،و لكنّ الطاعة التي يذكرها الزائر(و هو من مقولة الفعل)هنا هي من القسم الثالث؛لأنّ باعثه الشكر أو الحبّ(كما عبّر عن ذلك في خبر آخر)،و كلّ منهما يلازم اشتياق المطيع إلى مطاعه المشكور أو المحبوب.
العاشرة:(عارف بحقّكم)،أنّ هذه الجملة إقرار آخر من الزائر بأنّه حيث يعرفهم يلزم أن تترتّب على معرفته،الآثار الخاصّة الحقّة،منها كون المعرفة بهم بالنورانيّة كما:«سأل أبو ذرّ الغفاريّ سلمان الفارسيّ رضي
ص:520
اللّه عنهما:يا أبا عبد اللّه،ما معرفة الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام بالنّورانيّة؟ قال:يا جندب،فامض بنا حتّى نسأله عن ذلك.قال:فأتيناه فلم نجده، قال:فانتظرناه حتّى جاء.قال صلوات اللّه عليه:ما جاء بكم؟قالا:
جئناك يا أمير المؤمنين نسألك عن معرفتك بالنّورانيّة،قال صلوات اللّه عليه:مرحبا بكما من وليّين متعاهدين لدينه،لستما بمقصّرين،لعمري إنّ ذلك الواجب(واجب)على كلّ مؤمن و مؤمنة.ثمّ قال صلوات اللّه عليه:يا سلمان و يا جندب،قالا:لبّيك يا أمير المؤمنين،قال عليه السّلام:إنّه لا يستكمل أحد الإيمان حتّى يعرفني كنه معرفتي بالنّورانيّة،فإذا عرفني بهذه المعرفة فقد امتحن اللّه قلبه للإيمان و شرح صدره للإسلام،و صار عارفا مستبصرا،و من قصّر عن معرفة ذلك فهو شاكّ و مرتاب...» (1).
الحادية عشرة:(مقرّ بفضلكم...)،و المراد من فضلهم الذي يقرّ الزائر به هو كونهم عليهم السّلام أفاضل الخلق طرّا،و قد بسطنا الكلام في ذلك في المواضع المناسبة السابقة.
قال صاحب(الأنوار اللامعة)في توضيح«محتمل لعلمكم»ما هذا لفظه:«أي لا أردّ ما ورد عنكم و إن لم يحتمله عقلي القاصر،و أعلم أنّه حقّ و إن لم يصل إليه فكري الفاتر».
ص:521
أقول:«الاحتمال»افتعال من الحمل،فيكون المعنى إنّي أقبل حمل علمكم ما لا يحمله غير المؤمن بكم،و أكتمه عن غير أهله.«محتجب بذمّتكم»،أي آخذ ذمّتكم و أمانكم حجابا لنفسي من الضلالة في الدنيا و الهلاك في الآخرة.
«معترف بكم»،مقصود الزائر من اعترافه بآل البيت هو انقياده و اطاعته في الاتّصاف و العمل على حسب معرفته بهم.و الفرق بين جملة«عارف بكم»المتقدّمة و«معترف بكم»هنا،هو أنّ تلك الجملة ناظرة إلى معرفته القلبيّة،و الاعتراف هنا إشارة إلى امتثاله و معرفته عينا.
«مؤمن بإيابكم،مصدّق برجعتكم،منتظر لأمركم،مرتقب
لدولتكم»
و فيه ثماني نكات:
الأولى:يقرّ الزائر هنا(مشتاقا إلى آل البيت عليهم السّلام)بحقائق اخرى،منها:
«الإيمان بإيابهم»،و الأخرى:«التصديق برجعتهم»،الثالثة:«الانتظار لأمرهم»،و الرابعة:«المراقبة لدولتهم».و يلزم هنا ذكر الفرق بين الإيمان و التصديق(و إن كان مآلهما واحدا)،و بين الانتظار و الارتقاب.
فنقول:إيمان الزائر بالرجعة عبارة عن كونه آمن القلب غير مرتاب في إيابهم،و مراده من التصديق بالرجعة هو كونه معتقدا بصدقها،و الفرق
ص:522
بين الانتظار و الارتقاب هو أنّ الانتظار مقدّمة للمراقبة و عدّ السنين و الشهور و الأيّام بالدقّة.
الثانية:إقرار الزائر هنا كإقرار بعلّة و معلول،كأنّه يقول إنّي لإيابكم على حال من الاطمئنان و الطمأنينة؛بسبب اعتقادي بصدق رجعتكم.
الثالثة:(مصدّق برجعتكم)،قال الشيخ محمّد رضا المظفّر في معنى الرجعة ما هذا لفظه:«إنّ الذي تذهب إليه الإماميّة-أخذا بما جاء عن آل البيت عليهم السّلام-أنّ اللّه تعالى يعيد قوما من الأموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها،فيعزّ فريقا و يذلّ فريقا آخر،و يديل المحقّين من المبطلين،و المظلومين منهم من الظالمين،و ذلك عند قيام مهديّ آل محمّد عليه و عليهم أفضل الصلاة و السلام،و لا يرجع إلاّ من علت درجته في الإيمان أو من بلغ الغاية من الفساد،ثمّ يصيرون بعد ذلك إلى الموت» (1).
الرابعة:في إقامة الدليل على الرجعة:يدلّ على صحّتها من العقل؛ أوّلا:إمكانها،كإمكان المعاد الثابت بين الملّيّين،ثانيا:التاريخ يحكي عن رجوع أقوام و أشخاص إلى الدنيا بعد موتهم،كعدّة من بني إسرائيل بدعاء الكليم عليه السّلام،و من أحياهم المسيح داعيا إلى اللّه،و هكذا أصحاب الكهف،و كذا بعض الأنبياء عليهم السّلام كإرميا أو عزير،و قصص جميعهم
ص:523
معلومة في القرآن،و ما يدلّ عليه من الأخبار الكثيرة قول الإمام الصادق عليه السّلام:«ليس منّا من لم يؤمن برجعتنا،و لم يستحلّ متعتنا» (1).
الخامسة:الذين يرجعون إلى الدنيا بعد موتهم هم الذين بلغوا في كلّ من الإيمان و العمل غايته،و الذين نالوا في كلّ من الكفر و الفساد نهايته (كما ذكر)،أمّا المتوسّطون في الكفر و الإيمان فلا رجعة لهم إلى الدنيا.
السادسة:أنّ للرجعة حكما و مصالح،منها ظهور بعض أسماء اللّه الجماليّة،كصادق الوعد و أصدق القول،و تحقّق عداته في نصرة المؤمنين (2)،و الأسماء الجلاليّة،كالمنتقم و العزيز و شديد المحال و غيرها، في انقهار الأعداء على يد الأولياء (3)،و غلبتهم على الأعداء،(و إلاّ لزم خلف الوعد منه سبحانه،و هو محال).و لا شكّ في تحقّق كلّ ذلك في الرجعة،منها:قد قدّر اللّه سبحانه منازل خاصّة عالية للصالحين من أوليائه، كمنزلة الشهيد في سبيل اللّه،فربّما كان كثير منهم يتمنّون بلوغ تلك المنازل طول القرون و الأعصار و ماتوا و لم يبلغوها،فبحقّيّة الرجعة يحيى هؤلاء و ينالون في الرجعة ما تمنّوا،و لولاها لا ينالون.
ص:524
السابعة:(منتظر لأمركم)،المراد من أمر الذي ينتظره الزائر هو إمامة آل البيت عليهم السّلام المبسوطة المقتدرة،كما تشهد على ذلك آية اولي الأمر مع الرواية المشهورة في تفسيرها عن النبيّ صلّى اللّه عليه و اله (1)؛لأنّ إمامتهم كانت غير مبسوطة بسبب الجبابرة في أعصارهم عليهم السّلام.
الثامنة:(مرتقب لدولتكم)،قد أشرنا إلى الفرق بين الانتظار و الارتقاب،و نقول هنا:معنى قوله«مرتقب»و أنّي في حال إعداد المقدّمات و الإمكانات لظهور دولتكم الكريمة،فانتظاري لأمركم ينتج مراقبتي و إعدادي و استعدادي (2)،و هذا أمر مسلّم،كما وعد اللّه به في قوله الرضيّ: وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً (3).
«آخذ بقولكم،عامل بأمركم،مستجير بكم،زائر لكم،لائذ
ص:525
عائذ بقبوركم» و فيه تسع نكات:
الأولى:أنّ هذه الجملة(آخذ بقولكم)مأخوذة من مضمون قوله سبحانه: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ (1)،و نظيرتها: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ (2)،و هذا دليل آخر على مقارنة العترة مع القرآن من جهة،و كون آل البيت عليهم السّلام أقران النبيّ صلّى اللّه عليه و اله من جهة اخرى.
الثانية:الآخذ بقول آل البيت عليهم السّلام يبتني على عدّة مبان تقدّم شرحها:
1)أنفسيّة آل البيت عليهم السّلام لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله.
2)إمامتهم الحقّة المنصوبة من قبل اللّه.
3)عصمتهم الكبرى و أنّهم لا ينطقون بموجبها عن الهوى كالنبيّ صلّى اللّه عليه و اله، قال تعالى: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى* إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (3).
4)علمهم الواسع بالحقائق و لا سيّما الحقائق التشريعيّة.
5)كونهم أولياء في التشريع.
6)كونهم ذوي رحمة واسعة على الأمّة،و غير ذلك من المباني.
ص:526
الثالثة:الأخذ بقولهم عليهم السّلام هامّ جدّا،لأنّه كجزء رئيسيّ للإيمان،فلهذا قال مولانا الرضا عليه السّلام:«شيعتنا المسلّمون لأمرنا الآخذون بقولنا، المخالفون لأعدائنا،فمن لم يكن كذلك فليس منّا» (1).و لأنّه لو لا الأخذ لا يكمل المؤمن في مرتبة العبوديّة و العمل،و لا يقدر على أن يطير من أرض الهوى السفلى إلى الأفق الأعلى كطائر له جناح واحد،لأنّ المؤمن بدونه يصير كمن لم يعمل،و معلوم أنّ العمل مصرّح بلزومه بعد الإيمان في كثير من الآيات في القرآن.
الرابعة:أنّ المراد من الأخذ هنا هو مفهومه الواسع الذي يعمّ جميع المجالات من العمل و الاعتقاد و الخلق في الأمور الحيويّة مع الأفراد و المجتمعات،و في الأمور الأخرويّة بالنسبة إلى اللّه سبحانه.
الخامسة:(عامل بأمركم)،ليس المراد من الأمر هنا هو الشأن،بل الطلب خصوصا بذكره بعد أخذ القول،و يريد الزائر من تعبيره بآخذ و عامل(بدل التعبير بصيغة الفعل)بيان كونه مستعدّا للرجعة قبلها؛لأنّ صيغة الفاعل مفيد للدوام و الاستمرار دون الفعل،و لا يتوهّم أنّ جملة (عامل)تؤكّد مضمون(آخذ)،بل الزائر يريد أن يبيّن أنّي لا أكتفي بتعلّم أقوالكم الرزيّة و حفظها و نشرها ليصدق فيّ قوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا
ص:527
تَفْعَلُونَ (1)،و قوله تعالى: أَ تَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (2).
السادسة:(مستجير بكم)الاستجارة استفعال من الجوار(و هو القرب)،أي أطلب منكم الجوار،قال تعالى: وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللّهِ (3)،لأكون في أمن من الضلال في الدنيا و من النّكال في الآخرة،فلهذا ألصق نفسي بقبوركم و أعوذ بها.و قد روعي في هذه التعابير(الاستجارة ثمّ اللّوذ ثمّ العوذ)الترتيب الطبيعيّ؛لأنّ الاستجارة متقدّمة على اللّوذ(و هما قريبا المعنى).
السابعة:أنّ الزائر المستجير يكون مطمئنّا بإجارتهم إيّاه؛لكونهم مأمورين بإجارة الأعداء فضلا عن الأولياء،قال تعالى: وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللّهِ .و لكن بين الإجارتين فرق،فإجارة الأعداء لإتمام الحجّة و إثبات الحقيقة،و إجارة الأولياء لرفع الدرجة و علوّ المنزلة.
الثامنة:الاستجارة و العوذ و اللوذ بآل البيت عليهم السّلام لا تتنافى مع كونه تعالى مجيرا؛لأنّهم مظاهر أسماء اللّه الحسنى،و مجالي صفاته العليا،فهم
ص:528
معاذ و مجير؛لظهور هذه الصفات فيهم،و قد تقدّم نظير ذلك في ما سبق من الفصول.
التاسعة:أنّ لوذ الزائر و عوذه بقبور آل البيت عليهم السّلام الشريفة ليس نابعا من اعتقاده بتأثير القبور دون ذويها؛لأنّه بذلك يتشبّه بعبادة الأوثان و الأصنام (1)،بل يرى أنّ القبور منسوبة لآل البيت عليهم السّلام،و المشتاق إلى كلّ شيء يشتاق إلى آثاره كما قيل:
أمرّ على الديار ديار ليلى أقبّل ذا الجدار و ذا الجدارا
و ما حبّ الديار شغفن قلبي و لكن حبّ من سكن الديارا
ص:529
«مستشفع إلى اللّه عزّ و جلّ بكم،و متقرّب بكم إليه،و مقدّمكم
أمام طلبتي و حوائجي و إرادتي في كلّ أحوالي و أموري»
و فيه خمس نكات:
الأولى:أنّ الشفاعة متقوّمة بأمور،فبتحقّقها يصحّ الاستشفاع.
الأمر الأوّل:حقّيّة الشفاعة،و قد حقّقنا فيها(في شرح«شهداء دار الفناء،و شفعاء دار البقاء»).
الأمر الثاني:المستشفع(و هو طالبها)،يلزم في من يطلب الشفاعة كونه محتاجا إليها و مؤمنا بحقّيّتها،و كذا يكون مؤمنا بالشفيع و المشفّع (و إن كان مقصّرا في باب العمل و الخلق)،و ثبوت كون الشفيع شفيعا حقّا و أنّه يشفّع أي تقبل شفاعته،و كذلك المشفّع،أي جاعل الشفيع شفيعا،فلو لا أحد من هذه اللوازم لا يصحّ استشفاعه و لا تفيد الشفاعة منه،كما قال تعالى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشّافِعِينَ (1).
الأمر الثالث:(من مقوّمات الشفاعة)الشفيع،و يلزم فيه أن يكون أكمل من المستشفع و مستغنيا عنه،و أنقص المشفّع و أقرب إليه من المستشفع.
ص:530
الأمر الرابع:المشفّع(و هو اللّه تعالى)و هو جاعل الشفاعة للشفيع تحصيلا لنجاة المستشفع،و يلزم فيه الاستقلال في أمر جعله.
الأمر الخامس:يترتّب على الشفاعة عدّة أغراض:
1)رفع العذاب عن المستشفع.
2)دفعه.
3)ارتفاع درجته(كلّ مستشفع بحسب استحقاقه).
4)إظهار كمال الشفيع عند المشفّع للمستشفع و في النهاية تبيين رحمة المشفّع على المستشفع.
الثانية:(متقرّب بكم إليه)،إذا لم يكن بين الشيئين فصل تكون النسبة بينهما نسبة القرب،فالقرب إمّا أن يكون حاصلا(كقرب العلّة و المعلول) فلا حاجة إذا إلى تحصيله لئلاّ يلزم تحصيل الحاصل المحال،و إمّا غير حاصل فيكون تحصيليّا،و التقرّب و المتقرّب و مشتقّاته من باب التفعيل يطلق على هذا النوع،فالقرب الذي يطلبه الزائر بآل البيت تحصيليّ؛لأنّ قربه إلى اللّه تكوينا حاصل لأنّ اللّه علّة وجوده و ما يتفرّع على وجوده كالبقاء،و هذا من شؤون الرحمة الرحمانيّة التي تعمّ جميع الخلائق،فلو لا هذا القرب بين الخلق و الخالق و هذه الرحمة العامّة على الخلق للزم التعطيل و رجوع الخلق إلى العدم المحض.
الثالثة:التقرّب(و هو قرب تحصيليّ)يطلق في ما إذا كان بين
ص:531
المتقرّب و المتقرّب إليه بعد يلزم رفعه(كما أشير إليه)،فالزائر حيث يرى بينه و بين اللّه بعدا و لا يرى أيضا سببا لرفع هذا البعد إلاّ آل البيت عليهم السّلام فلا جرم يتقرّب بهم إلى اللّه (1).
الرابعة:سبب التقرّب إلى اللّه يكون على حسب الأبعاد الوجوديّة للإنسان من البدن و العاطفة (2)و العقل،فالتكاليف البدنيّة أدنى الأسباب و أعلى منه التكاليف العاطفيّة المعبّر عنها بالأخلاق،و التكاليف الاعتقاديّة على حسب البعد العقليّ أعلى منهما.و الحاصل أنّ معرفة آل البيت عليهم السّلام جزء رئيسيّ لكونها متعلّقة بالعقل،و لا ينافي كونهم عليهم السّلام أقرب إلى المتقرّب لكونهم مخلوقا ممكنا مجانسا للمتقرّب من جهة،و من جهة اخرى لكونهم أقرب إلى اللّه لأنّهم مظاهر أسمائه السامية و مجالي صفاته العالية،كما روى معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال:«سمعته يقول في قول اللّه عزّ و جلّ: وَ لِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها :نحن و اللّه الأسماء الحسنى الّذين لا يقبل اللّه من العباد عملا إلاّ بمعرفتنا» (3).
الخامسة:(و مقدّمكم أمام طلبتي)أنّ تقديم الزائر آل البيت عليهم السّلام أمام طلبته و قبل حاجاته هو ذكره آل البيت عليهم السّلام بالصلاة و التحيّات عليهم،
ص:532
و جعله إيّاهم وسائط إلى اللّه لقضائها (1)،لأنّه يحسّ نفسه بعيدة عن اللّه، و هو مؤمن بكونهم أقارب الخلق إليه،و قضاء حوائجه يعدّ فيضا من اللّه الفيّاض و هم عليهم السّلام وسائط الفيض،و لا يمكن له أن يستفيض من اللّه المفيض بلا واسطة.و في هذا إشارة ضمنا إلى خالص توحيده،و عدم تكدّره بإشراكه إيّاهم للّه سبحانه و الاقتداء بقولهم و فعلهم عليهم السّلام أيضا؛لأنّ كلّ واحد منهم يصلّي على محمّد و آله و يقدّمهم قبل ذكر مطلوبه حين الدعاء،و ذلك معلوم لمن استأنس بأدعيتهم عليهم السّلام كأدعية الإمام زين العابدين عليه السّلام،قال الإمام عليّ عليه السّلام:«إذا كانت لك إلى اللّه سبحانه حاجة فابدأ بمسألة الصّلاة على رسوله صلّى اللّه عليه و اله ثمّ سل حاجتك؛فإنّ اللّه أكرم من أن يسأل حاجتين فيقضي إحداهما و يمنع الأخرى» (2).
ص:533
«مؤمن بسرّكم و علانيتكم،و شاهدكم و غائبكم،و أوّلكم
و آخركم»
و فيه نكتتان:
الأولى:يقرّ الزائر هنا بحقائق ستّ كفرائض اعتقاديّة في آل البيت عليهم السّلام:سرّهم و علانيتهم،و شاهدهم و غائبهم،و أوّلهم و آخرهم عليهم السّلام؛لأنّ عدم الإيمان بأيّة منها يكون كإنكار جميعها،قال تعالى: وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ (1).
الثانية:هنا يلزم توضيح المراد من هذه الحقائق:
1)المراد من سرّ آل البيت عليهم السّلام هو سرّ اللّه الذي اختاره اللّه،و هو الذي كان آل البيت عليهم السّلام حفظة له (2)،و أمّا إضافة هذا السرّ تارة إلى اللّه و تارة إلى آل البيت عليهم السّلام غير منافيتين.
2)المراد من علانيتهم هو كونهم كسائر الناس في الأمور المعيشيّة، و يجمع هذين المرادين قوله سبحانه مخاطبا نبيّه صلّى اللّه عليه و اله: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ (3)،فقوله:لهم«إنّما أنا بشر»كعلانية آل البيت عليهم السّلام
ص:534
و قوله«يوحى إليّ»كسرّهم،فالأسرار التي أودعها اللّه فيهم بالإلهام و غيره بمنزلة الإيحاء للنبيّ ّ صلّى اللّه عليه و آله.
3)يمكن أن يكون المقصود من شاهدهم جميعهم دون مهديّهم المنتظر،و المراد من غائبهم هو المهديّ،و هذا ليس ببعيد كما فسّره الشرّاح.و يحتمل كون المراد من الشاهد هو إمامتهم المشهودة بين الناس،و من الغائب هو ولايتهم التكوينيّة على الأشياء و علومهم اللدنيّة و غيرهما من شؤونهم الخفيّة على الناس.
4)و المقصود من أوّلهم و آخرهم عليهم السّلام وجوه من التفسير:
ألف)الأوّل هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و الآخر هو المهديّ،كما قال تعالى:
لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ (1).
ب)الأوّل هو أنّهم وجدوا قبل إيجاد الخلق،و الآخر هو أنّهم سيظهرون في القيامة ظهورا تامّا بالولاية الإلهيّة الذي لم يظهروا في الدنيا مثله،لضيق إدراك الناس لذلك الظهور.
ج)الأوّل هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله،و الآخر جميعهم غير الرسول،المتّحدون به اتّحادا نوريّا في غيب هذا العالم؛فهم كدائرة،أوّل نقطة منها هي آخر النّقط،كما قال الصادق عليه السّلام:«أوّلنا محمّد،و أوسطنا محمّد،و آخرنا
ص:535
محمّد» (1).
«و مفوّض في ذلك كلّه إليكم،و مسلّم فيه معكم،و قلبي
لكم مسلّم،و رأيي لكم تبع،و نصرتي لكم معدّة»
و فيه تسع نكات:
الأولى:يذكر الزائر هنا امورا فيها إظهار شوقه إليهم عليهم السّلام و هي:
التفويض و التسليم،و انقياد القلب و تبعيّة الرأي و إعداد النّصرة،كلّ ذلك يحكي-مضافا إلى اشتياقه-عن محض إيمانه بآل البيت،كما هو سجيّة أشياعهم المخلصين،و يتبيّن ذلك بالتتبّع في تاريخ شيعتهم كسلمان الفارسيّ و أبي ذرّ الغفاريّ و ميثم التمّار،و غيرهم(رضوان اللّه عليهم و جعلهم لنا قدوة في التشيّع لآل البيت).
الثانية:في الفرق بين التفويض و التسليم،التفويض هو غاية التسليم، و الغاية متأخّرة عن المغيّا رتبة و متقدّمة عليها شرفا،لأنّ الشخص يستسلم و ينقاد لسيّده أوّلا ثمّ يفوّض أمره إليه،فلهذا قدّمه الإمام عليه السّلام في الذكر.
الثالثة:أنّ الزائر عرف آل البيت عليهم السّلام حقّ معرفته على ما هم عليه من الكمالات و المنازل الجليلة و الشؤون الرفيعة بقدر وسعه،و منها يريد
ص:536
اظهار امتثاله عملا بالتفويض و التسليم و التبعيّة و غير ذلك.أمّا المراد من ذلك(و مفوّض في ذلك)هو أنّه عرف آل البيت عليهم السّلام و آمن بمنازلهم و شؤونهم بعضها بالإجمال و بعضها بالتفصيل،فمقصوده من ذلك هو ما عرف من بعض شؤونهم بالإجمال الذي لا يسع له تفصيله،فيقول:«إنّي فوّضت إليكم السادة ما لم يسع لي تفصيله:كسرّ شهادتكم و مظلوميّتكم و كيفيّة صلتكم باللّه و قبولكم الاستضعاف(مع قدراتكم الواسعة)،و غير ذلك.
الرابعة:ذكر التسليم هنا مرّتين،حيث يقول الزائر:«و مسلّم فيه معكم» مرّة و«قلبي لكم مسلّم»اخرى،و الفرق بين التسليمين هو أنّ مراده في الأوّل انقياده لآل البيت،و في الثاني انقياده معهم للّه تعالى،كأنّه قال كما أنّكم سلّمتم للّه في جميع ما قدّره لكم فأنا أيضا مسلّم للّه كما تكونون.
الخامسة:إذا استشكل أحد في كون الزائر المأموم في مرتبة التسليم كون أئمّته عليهم السّلام أيضا كذلك فلا يبقى فرق بين الإمام و المأموم مع أنّ المساواة بينهما باطلة،نقول:لا يريد الزائر نيله إلى رتبتهم و لا التساوي بينه و بينهم،بل يريد أن يقول:أنا في أصل التسليم مثلكم،و إن كنت في أنزل مراتبه و أنتم في أعليها،بحيث لا يمكن المقايسة بين أحد و بينكم في عينيّة شؤونكم و منها شأن التسليم،و يؤيّد الجواب ما سيقول«و رأيي لكم تبع».
ص:537
السادسة:أنّ التسليم(و كذا التفويض)كما رسمه العارفون هو كمنزل من منازل السير إلى اللّه،فيجب أن يكون التسليم له سبحانه،لا لغيره،كما قال الإمام عليّ عليه السّلام:«الإيمان له أركان أربعة:التّوكّل على اللّه، و تفويض الأمر إلى اللّه،و الرّضا بقضاء اللّه،و التّسليم لأمر اللّه عزّ و جلّ» (1).
فوجه تسليم الزائر لآل البيت عليهم السّلام هو أنّ تسليمه لهم يعدّ تسليما للّه (و تفويضه إليهم يعدّ تسليما إلى اللّه)؛لأنّهم خلفاؤه و حججه كما قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ (2)،و قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللّهَ (3)و غير ذلك من الآيات الكريمة.
السابعة:هذه مرّة ثانية ذكر فيها التسليم كما أشرنا إليه،و يمكن القول في وجه التكرار أنّ التسليم الأوّل مشير إلى التسليم في القول و العمل، و هنا(و قلبي لكم مسلّم)إشارة إلى التسليم الاعتقاديّ(و الفرق بينهما ظاهر)،فما لم يكن المؤمن مسلّما(أو مسلما)في العقيدة لا يظهر تسليمه في القول و لا في العمل،و إن ظهر كان منافقا،قال تعالى: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ
ص:538
حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (1)،إنّ هذه الآية-مضافا إلى تجويزها التسليم لخليفة اللّه-تعدّ التسليم جزءا هامّا للإيمان،بحيث لولاه كان وجود الإيمان كعدمه.
الثامنة:أنّ الإمام عليه السّلام علّم الزائر مراعاة الترتيب بين هذه الجمل الثلاث،حيث قدّم التسليم و التفويض كمقدّمتين و تبعيّة رأيه كنتيجتهما، و هو يريد أن يقول:إذا كنت مفوّضا إليكم و مسلّما لكم،فلا رأي لي،و إن كان لي رأي فهو تبع لرأيكم.
التاسعة:«و نصرتي لكم معدّة»يخبر الزائر آل البيت عليهم السّلام هنا بأنّ نصرته معدّة لهم،و هذا التعبير أبلغ لإبراز الشوق إليهم،حيث لا يتوجّه إلى البعد الزمانيّ من طول الفصل بينه و بين زمان الرجعة،بل يظنّ كأنّ الرجعة تقع اليوم أو غدا،و كأنّه يقول:و أنا لنصرتكم معدّ أو مستعدّ (2)، و قد احتمل الشرّاح في تفسير هذه النصرة وجوها،و لكنّ المراد منها هو نصرته إيّاهم في عصر ظهور الإمام المهديّ عجّل اللّه تعالى فرجه زمان رجعتهم سلام اللّه عليهم أجمعين،و يتأيّد هذا المعنى كما سيقرأه الزائر فيما بعد.
ص:539
«حتّى يحيي اللّه تعالى دينه بكم،و يردّكم في أيّامه،
و يظهركم لعدله،و يمكّنكم في أرضه»
و فيه خمس نكات:
الأولى:المراد من الأيّام هو أيّام الرجعة،عن مثنّى الحنّاط قال:سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول:«أيّام اللّه ثلاثة:يوم يقوم القائم،و يوم الكرّة(أي الرجعة)،و يوم القيامة» (1).الحاصل أنّ هذه الفقرة مأخوذة من هذه الآية الشريفة وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيّامِ اللّهِ (2)و إضافة الأيّام لنسبتها إلى اللّه تعالى (3).
الثانية:بعد أن ذكر الزائر تسليمه و نصرته لآل البيت و تفويضه إليهم، يذكر هنا ثلاث غايات،و هي:إحياء الدّين،و ردّهم في أيّامهم، و تمكينهم.
الثالثة:يلزم هنا توضيح الألفاظ المحيي،و المحيى،و المحيى به،
ص:540
و المحيى له،و المحيى فيه.
1)أمّا المحيي،فشرائطه:أن يكون قادرا على الإحياء و استخدام سببه، عالما بمصالح الإحياء في أيّ زمان تحصله،و عادلا حكيما لئلاّ يكون إحياؤه لغوا و عبثا،فذلك المحيي ليس إلاّ اللّه جلّ و علا.
2)و أمّا المحيى و هو الدين (1)،فشرط إحيائه أن يكون ميّتا،و حياة كلّ شيء هي أن يكون ذا أثر و ثمر متوقّع منه،كما أنّ حياة الأرض كونها منبتة و منمّية للنبات و مخضرّة بالأشجار و الخضر،قال تعالى: اِعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها (2).فحياة الدين هي كونه حافظا لأصالة الفطرة في الإنسان،و محرّكا للعمل بمقتضاها،و مانعا عن كلّ باطل و هو ما تنفر منه الفطرة الأصيلة،و بدون تلك الآثار يكون الدين قد مات، و موت الدين أعظم المصائب،كما قال النبيّ صلّى اللّه عليه و اله في دعائه:«و لا تجعل
ص:541
مصيبتنا في ديننا» (1)،و قال وصيّه أمير المؤمنين عليه السّلام:«المصيبة بالدّين أعظم المصائب» (2).و أمّا تفسير بعض الشرّاح للدين بما ينطبق على الشريعة(و هي المقرّرات العمليّة)فغير صحيح.
3)و أمّا المحيى به(و هو سبب الإحياء)فهم آل البيت عليهم السّلام،و يشترط أن يكون المحيى به موجودا ظاهرا عالما بالإحياء،قادرا على السببيّة للإحياء،لأنّ اللّه سبحانه هو علّة الإحياء،و آل البيت عليهم السّلام هم أسبابه، و الفرق بين العلّة و السبب ظاهر و صلتهم بالمحيى فيه واضحة.
4)و أمّا المحيى له(و هو غرض الإحياء)،و هو متعدّد مذكور في الآيات و الأخبار،بعضها كما يلي:
ألف)إظهار الدين على كلّ دين باطل،قوله تعالى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ (3).
ب)رفع الفتنة،قوله سبحانه: وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّهِ (4).
ج)إمامة المستضعفين و حكومتهم في الأرض و اقتدارهم فيها،قوله سبحانه: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ
ص:542
أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ* وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (1).
د)إخلاء الأرض من الظلم و الجور بعد ملئها منهما،قال النبيّ صلّى اللّه عليه و اله:« لو لم يبق من الدّنيا إلاّ يوم واحد لطوّل اللّه ذلك اليوم حتّى يخرج رجلا من أهل بيتي،يملأ الأرض عدلا و قسطا كما ملئت ظلما و جورا» (2).
ه)و أمّا المحيى فيه،و هو البشر عامّة فيشترط أن يكونوا أحياء بالغين.
الرابعة:أنّه تعالى يصنع في أيّامه في حقّ آل البيت عليهم السّلام أمرين:
الأوّل:يظهرهم بعد أن كانوا مبعدين مخفيّين مكتوفي الأيدي.
الثاني:يجري عدله بهم بين عامّة البشر في جميع بقاع الأرض.
الخامسة:قد تقدّم أنّ القدرة تكون شرطا لمن كان سببا لإحياء الدين، و هذه القدرة موعود بها في قوله تعالى: وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (3)،مضافا إلى ما جاء في الأخبار الواردة في هذا المقام من كون الوعد حتما لا يقبل الريب،منها قول الإمام عليّ عليه السّلام:«لتعطفنّ الدّنيا علينا بعد شماسها عطف الضّروس
ص:543
على ولدها.و تلا عقيب ذلك: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ» (1).
«فمعكم معكم لا مع عدوّكم،آمنت بكم،و تولّيت آخركم
بما تولّيت به أوّلكم».
و فيه خمس نكات:
الأولى:هذه الفقرة مترتّبة على الفقرات المتقدّمة،فلهذا جاءت مسبوقة بفاء النتيجة،فتكون هذه كتصديق للإقرارات السابقة التي لولاها لكان الزائر كاذبا فيها.
الثانية:يظنّ بكون هذه الفقرة مأخوذة من قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ (2)،فبهذا يصرّح الزائر بكونه مع آل البيت عليهم السّلام،و يلوّح ضمنا بأنّهم هم الصادقون المذكورون في الآية، الذين أمر اللّه المؤمنين بالكون معهم في جميع الشؤون،من:الإيمان و العمل و الخلق.
الثالثة:قد تكرّرت المعيّة هنا،و في سرّ تكرارها احتمالات:
ص:544
1)يقول إنّي معكم في الآخرة بعد معيّتي لكم في الدنيا.
2)إنّي معكم في زمان الرجعة بعد معيّتي لكم قبلها.
3)هي تأكيد للمعيّة الأولى.
4)المعيّة الثانية إشارة إلى كونه معهم في العقيدة و العمل بعد أن كان مقرّا بهما آنفا.
الرابعة:يقرّ الزائر بكونه معهم و يرفض المعيّة لأعدائهم؛لأنّ هاتين المعيّتين متنافيتان لا تجتمعان (1)،مضافا إلى أنّ الجمع بين المعيّتين يخالف التولّي و التبرّي المبحوث فيهما في ما سبق.
الخامسة:المراد من التولّي هنا قبول ولايتهم،و المقصود من الأوّل و الآخر يمكن أن يراد كلّ إمام سابق بالنسبة إلى اللاحق،كالمجتبى عليه السّلام يكون أوّلا و الإمام الشهيد(روحي فداهما)يكون آخرا.و يحتمل كون المراد من أوّلهم هو الإمام عليّ و من الآخر هو الإمام المهديّ (2)(جعلنا اللّه من أعوانه).و قد أقرّ الزائر في ما سبق بإمامتهم جميعا،و هنا يظهر قبول ولايتهم،و يتبرّأ من الذين توقّفوا في إمامة من بقي منهم و أنكر أنّهم اثنا عشر،كالزيديّة و الواقفة و غيرهم.
ص:545
«و برئت إلى اللّه عزّ و جلّ من أعدائكم،و من الجبت
و الطّاغوت و الشّياطين،و حزبهم الظّالمين لكم،الجاحدين لحقّكم،
و المارقين من ولايتكم،و الغاصبين لإرثكم،الشّاكّين فيكم،
المنحرفين عنكم،و من كلّ وليجة دونكم،و كلّ مطاع سواكم،
و من الأئمّة الّذين يدعون إلى النّار»
و فيه نكتتان:
الأولى:أنّ الزائر بعد تولّيه يتبرّأ هنا من طوائف عديدة؛لأنّ التولّي و التبرّي كما ذكرنا سابقا كانا كجدارين حافظين لدار الإيمان من تجاوز أهل العدوان و الطغيان.
الثانية:الذين يتبرّأ الزائر منهم و هم:
1)أعداء آل البيت عليهم السّلام (1):الزائر يجعل اللّه غاية لتبرّيه باستعمال حرف «إلى»،و يقرّ ضمنا بأنّ هذا التبرّي عبادة للّه،و يستمدّ منه سبحانه بعزّته و جلاله تبرّيه،حتّى يوفّق للثبات على التولّي و التبرّي و يتغلّب على الأعداء المذكورين.
2 و 3)الجبت و الطاغوت:ورد في بعض الروايات أنّ المراد من
ص:546
الجبت و الطاغوت الأوّل و الثاني،قال الإمام الرضا عليه السّلام فيما كتبه للمأمون:
«و لا إيمان إلاّ بالبراءة من الجبت و الطّاغوت اللّذين ظلما آل محمّد صلّى اللّه عليه و اله حقّهم،و أخذا ميراثهم،و أخذا خمسهم،و غصبا فدك من فاطمة» (1).و أنت خبير بأنّ هذا التعبير عن بعض المصاديق و لا يختصّ بهذين الشخصين،لأنّ لفظي الجبت و الطاغوت يعمّان كلّ صنم يعبد من دون اللّه.
4 و 5)الشياطين و حزبهم الظالمون:و المراد من الشياطين هم الإنسيّون منهم،و إن كان اللفظ يعمّ الجنّيّين أيضا،و المراد من حزبهم هو التابعون لهم الذين يعاونون الشياطين و الجبت و الطاغوت،و ينصرونهم في مواجهة آل البيت عليهم السّلام بطرق شتّى (2)،و لكنّ الزائر يقرّ هنا ضمنا بخسرانهم و خذلانهم كما وعد اللّه سبحانه في قوله بخصوص ذلك: أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (3).
6)الجاحدون لحقوق آل البيت عليهم السّلام:و إنكارهم ينشأ إمّا عن جهل أو عن علم،فما ينشأ عن علم فهو غاية العناد و الإلحاد،قال تعالى:
ص:547
وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ (1)،و قال أيضا: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها (2)،و قال أيضا: يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (3).
و أمّا ما كان ناشئا عن الجهل،فهو على قسمين:
الأوّل:ما إذا كان الجاحد يجحد الحقّ عن جهل بسيط معبّر عنه بالجهل القصوريّ،فالموصوف بهذا الجهل لا يستحقّ اللعن أو التبرّي،بل هو أقرب إلى الهداية و التوبة،و لكن يذمّ و يوبّخ على كلّ تأخير غير موجّه في التعلّم و الاهتداء.
و أمّا الثاني:فهو الذي ينكر الحقّ و يجحده جاهلا به و هو متمكّن من تحصيل العلم بالحقيقة،و لكن يقصّر أو يتخيّل نفسه عالما به و يصرّ على إنكاره،فهذا الجهل ما يعبّر عنه بالجهل المركّب،فمثل هذا الجاهل محكوم بما حكم عليه الجاحد العالم،من استحقاق اللعن و التبرّي (و غيرهما).و هذا النوع من الجاحدين هو مراد الزائر هنا،لأن الجاحد ربّما كان عالما،لما علم الزائر من أنّ حقوق آل البيت عليهم السّلام من الإمامة و الولاية و الخلافة و الوصاية و غير ذلك مغصوبة،و هذا لا يخفى على أحد من المخالف و الموافق،بل ثبتت بأدلّة قاطعة كثيرة(من:العقل
ص:548
و القرآن و الحديث)فلا ينبغي أن يرتاب فيها و في صحّة أدلّتها.
7)و أمّا المارقون من ولايتهم،فهم الذين خرجوا منها عالمين بحقّيّة أمير المؤمنين،و المشهورون بالخوارج.
8)و أمّا الغاصبون لإرث آل البيت عليهم السّلام،فيلزم هنا ذكر مصاديق إرث أهل البيت عليهم السّلام و الغاصبين له،أمّا إرثهم فهو عبارة عن:
الف)فدك،و قد انتقلت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله إلى الزهراء عليها السّلام إرثا.
ب)الخمس،كما قال تعالى: وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى (1).
ج)الغنائم الحاصلة من القتال،قال تعالى: ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى (2).
د)الأنفال،قال تعالى: قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَ الرَّسُولِ (3).
ه)الإمامة و الخلافة، إِنّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْها وَ إِلَيْنا يُرْجَعُونَ (4).
و معلوم أنّه إذا كانت الأرض و من عليها يرثها اللّه تعالى،يصير حاكما
ص:549
و تجري حكومته سبحانه فيها على أيدي خلفائه الحقيقيّين،و هم ليسوا غير آل البيت عليهم السّلام.
9)و أمّا الشاكّون في آل البيت عليهم السّلام المنحرفون عنهم،فهم المذبذبون المتردّدون بين الإقرار و الإنكار في إمامتهم عليهم السّلام (1)،و أمّا سرّ التبرّي منهم فهو سوء تأثيرهم في من كان إيمانه ضعيفا،و لأنّهم ليسوا مصداقا لقوله سبحانه: وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (2).
10)و أمّا الوليجة دون آل البيت عليهم السّلام فهي من يأتمنه المؤمن على أسراره و خفاياه،فالزائر يتبرّأ من كلّ مؤتمن دون آل البيت عليهم السّلام و يعترف ضمنا بكونهم عليهم السّلام وليجة فقط،و هذا من خصائص المؤمنين الكاملين الذين لا يتّخذون دون اللّه و رسوله و المؤمنين وليجة (3)،كما قال سبحانه:
وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً (4).
11)و أمّا المطاع من دون آل البيت عليهم السّلام،فيتبرّأ الزائر منه لعدم كونه من أولي الأمر الذين أمر اللّه بطاعتهم،لأنّه لو لم يتبرّأ منه لزم:إمّا أن لا يطيع آل البيت عليهم السّلام و يطيعه،و إمّا أن يطيعهما كليهما،و إمّا أن لا يطيع أيّا
ص:550
منهما،فيلزم من الأوّل نفع إيمانه بهم،و من الثاني الإشراك في الإمامة الذي يرجع في الحقيقة إلى الإشراك باللّه في العبادة و الطاعة،و من الثالث أن لا يكون طاعة منه أصلا،فهذه الصور كلّها باطلة،فتلزمه الصورة الرابعة،و هي طاعته لآل البيت عليهم السّلام و عرفانه بكونهم المطاعين دون غيرهم.
12)و أمّا الأئمّة الداعون إلى النار،فيتبرّأ الزائر منهم؛لذكر علّة ذلك صريحا (1)،و هي دعوتهم إلى النار،و يعترف ضمنا بكون آل البيت عليهم السّلام مصداقا لقوله سبحانه: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا (2).
ص:551
«فثبّتني اللّه أبدا ما حييت على موالاتكم و محبّتكم و دينكم، و وفّقني لطاعتكم،و رزقني شفاعتكم،و جعلني من خيار مواليكم التّابعين لما دعوتم إليه،و جعلني ممّن يقتصّ آثاركم، و يسلك سبيلكم،و يهتدي بهداكم،و يحشر في زمرتكم،و يكرّ
ص:552
في رجعتكم و يملّك في دولتكم،و يشرّف في عافيتكم، و يمكّن في أيّامكم،و تقرّ عينه غدا برؤيتكم» و فيه سبع عشرة نكتة:
الأولى:أنّ حصول كلّ أمنيّة هامّة حسنة من كلّ أحد لأيّ شخص هو فرع على ثلاثة اصول:
الأوّل:معرفة الشخص(المتمنّي)بالمتمنّى منه،و الثاني؛حبّه له، و الثالث؛ذكره امنيّاته إيّاه.
فالزائر أبرز عرفانه باللّه و بخلفائه و كمالاتهم و شؤونهم عليهم السّلام في الفصول السابقة من الأبواب المتقدّمة،و أبرز أيضا حبّه و كمال اشتياقه إلى آل البيت عليهم السّلام في الباب السابق على هذا،و هنا يذكر ما يتمنّى من اللّه بتوسيط آل البيت عليهم السّلام.و الحاصل أنّ ترتّب هذا الباب على ما قبله من الأبواب ترتّب طبيعيّ،فيا له من ترتّب جميل.و إذا قلنا بأنّ معرفة اللّه (كما نقول به حقّا)و حججه شرط في إجابة دعاء الزائر،فهنا أحرز الزائر هذا الشرط حتّى تستجاب دعوته و تعطي طلبته إن شاء اللّه.
الثانية:قد وعد اللّه سبحانه المؤمنين بأنّه يثبّتهم على حقيقة الإيمان في الحياة الدنيا و في الآخرة بقوله الرضيّ: يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ 1.
ص:553
الثانية:قد وعد اللّه سبحانه المؤمنين بأنّه يثبّتهم على حقيقة الإيمان في الحياة الدنيا و في الآخرة بقوله الرضيّ: يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ (1).
الثالثة:(فثبّتني اللّه...و دينكم)أنّ ثبات المؤمن على إيمانه أمر واجب، كوجوب إيمانه بجميع متعلّقات الإيمان؛لأنّه بدون الثبات ينقلب إيمانه كفرا و توحيده شركا (2)،و يحبط عمله،و قد قال تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ (3).و قال المتكلّمون:«إنّ الإيمان مشروط بالموافاة»، و معلوم أنّ ثبات الزائر على إيمانه صعب مشكل و هو لا يقدر عليه، خصوصا مع أعداء كثيرين لآل البيت عليهم السّلام،الذين يصدّون عن سبيل اللّه، إذا يلتجأ الزائر إلى اللّه أن يثبّته.و أمّا استثباته على موالاة آل البيت عليهم السّلام و محبّتهم (4)فهو حقيقة الدين و التوحيد،فبطلبه الثبات على جزء أخير من الدّين يكون ثابتا على كلّه،مضافا إلى أنّ دين آل البيت عليهم السّلام هو الدين الوحيد الذي ينجو به المرء و يرضى به اللّه.
الرابعة:(و وفّقني لطاعتكم)يسأل الزائر من اللّه التوفيق لطاعتهم،لأنّه في الحقيقة جاهل بأسباب الطاعة و توجيهها،حتّى يصل إليها بلا خطإ، و لكنّه عارف بأنّ طاعتهم خير بعد المعرفة بهم و المحبّة لهم.و يعلم من
ص:
ذكر الطاعة بعد ذكر الدّين أنّ المراد من الدين هو الاعتقاد الثابت،و تكون الطاعة ثمرة له.
الخامسة:أنّ صلة الفقرة«وفّقني»بما قبلها(ثبتني اللّه)هي أنّ كلّ وصول إلى كلّ خير يجب فيه ثلاث مقدّمات:
إحداها:رفع الموانع،ثانيتها:المعرفة بخيريّة المطلوب،ثالثتها:الثبات على الطريقة،و الأخيرتان هما جمع الشرائط.و الحاصل أنّ الزائر عرف خيريّة مطلوبه فيما تقدّم من الفصول و سأل التثبيت آنفا،و هنا يسأل التوفيق إلى الطاعة،إذا روعي الترتّب الطبيعيّ.
السادسة:(و رزقني شفاعتكم)أنّ من طلب الزائر شفاعة آل البيت عليهم السّلام من اللّه يعلم أنّه مؤمن بكونهم شفعاء مشفّعين من قبل اللّه عزّ و جلّ، و معلوم من إطلاق الرزق على الشفاعة أنّه يطلبها،لينتفع بها أعمّ من أن تكون شفاعة دافعة للعذاب أو رافعة له أو ترفع بها درجته،لما قيل في تعريف الرزق:«الرزق ما صحّ الانتفاع به»و إن عرّف بأنّ رزق كلّ شيء ما به قوامه، (1)فوجه إطلاق الرزق على الشفاعة بأنّ سعادتي و تجنّبي من الشقاوة يتقوّمان بشفاعتكم.
السابعة:(و جعلني من خيار مواليكم)أنّ ممّا تمنّى الزائر من اللّه
ص:555
بتوسيطهم عليهم السّلام هو أن يجعله اللّه من خيار مواليهم،فلفظة«خيار الموالي» لها موضوعيّة لما يتمنّاه(إن أخذنا الخيار قيدا احترازيّا)؛لأنّ مواليهم ليسوا على حدّ سواء في المعرفة و العمل و الخلق،فهو إذا يسأل أن يكون من خيارهم،و هؤلاء الخيار(الأخيار)هم أشباه أبي ذرّ و سلمان(عليهما و علينا الرضوان).
و إن أخذنا قيد الخيار توضيحيّا ليس له موضوعيّة(إلاّ قبال أشياع الأنبياء الماضين)،فالزائر يتمنّى أن يكون من مواليهم فقط،كما أنشد الإمام الشهيد المفدّى أبو عبد اللّه الحسين عليه السّلام حين كان يقاتل الأعداء يوم عاشور.
و شيعتنا في الناس أكرم شيعة و مبغضنا يوم القيامة يخسر
و أنت خبير بأنّ وصف الزائر خيار الموالي بالتبعيّة،لما دعا آل البيت عليهم السّلام إليه،فهو لكون التبعيّة تكون ملاكا و ميزانا للكون من خيار أوليائهم،و بدون التبعيّة يكون مخالفا لهم في العمل،و إن كان مؤمنا بهم.
إذا يسأل الزائر أن لا يجعله اللّه تابعا لغير ما دعا إليه آل البيت عليهم السّلام،لأنّه إن كان تابعا لهذا الغير كان تابعا لأئمّة الجور و هم يدعون إلى النار.
الثامنة:(و جعلني ممّن يقتصّ آثاركم)،يتمنّى الزائر من اللّه أن يجعله ممّن يقتصّ آثار آل البيت عليهم السّلام،و يلزم هنا ذكر معنى القصص و الاقتصاص،قال في المنجد«قصّ قصصا عليه الخبر:حدّثه به،و قصّا
ص:556
و قصصا أثره:تتبّعه شيئا فشيئا.اقتصّ أثره:اتّبعه».قال تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ (1)،أي نتّبع جميع ما وقع فيها شيئا فشيئا.
الحاصل أنّ من أمنيّات الزائر هي أن يكون متّبعا لآثارهم؛لأنّ الكمال الحقيقيّ لا يحصل له إلاّ بهذا الاتّباع،و وجهه يظهر من جميع البحوث المتقدّمة.
التاسعة:أنّ لسؤال الزائر هذا معنيين:
الأوّل:أن يجعله اللّه بفضله و كرمه من المقتصّين لآثارهم بكتابته تعالى إيّاه في زمرتهم.
و الثاني:أن يوفّقه للعلم و العمل بآثارهم.و هذان الوجهان يجريان في الفقرات الماضية و الآتية من هذا الباب،و هذا تكليف هامّ و فريضة:«قال الإمام الصادق عليه السّلام:«ليس من شيعتنا من قال بلسانه و خالفنا في أعمالنا و آثارنا» (2).
و هذا شأن رفيع و هو شأن إبراهيم الخليل عليه السّلام كما جاء في تأويل قوله سبحانه: وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (3)،أنّ الخليل عليه السّلام كان من شيعة عليّ عليه السّلام،و قد استشهدنا عليه بحديث طويل عن الصادق عليه السّلام في الفصل
ص:557
الحادي عشر.
العاشرة:(و يسلك سبيلكم،و يهتدي بهداكم)،يحتمل أن يتفرّع سلوك سبيلهم و الاهتداء بهداهم على اقتصاص آثارهم.و الحاصل أنّ الزائر بهذين السؤالين يتبرّأ ضمنا من كلّ سبيل غير سبيل آل البيت عليهم السّلام كأصحاب البدع و المتصوّفة،و غيرهم.
الحادية عشرة:الفرق بين سلوك السبيل هنا و الاهتداء بهداهم هو أنّ السلوك يكون من مقولة العمل،و الاهتداء من مقولة الاعتقاد،هذا إذا كان المراد من الاهتداء قبول الزائر إراءة الطريق من قبل آل البيت عليهم السّلام،أمّا إذا كان المراد من الاهتداء الوصول إلى المطلوب فيكون سلوك السبيل مقدّمة،و الاهتداء نتيجة له.
الثانية عشرة:أنّ فقرة«يحشر في زمرتكم»مأخوذة من سورة الزّمر المباركة،فيريد الزائر بتمنّيه هذا أن يكون مصداقا للمتّقين الذين قال اللّه تعالى فيهم: وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (1)،و لا يصير مصداقا لقوله سبحانه: وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا
ص:558
بَلى وَ لكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (1).
الثالثة عشرة:(و يكرّ في رجعتكم)يتمنّى الزائر الكرّة في رجعتهم، و يلازم هذا التمنّي كونه من خلّص شيعتهم،و هم الذين محّضوا الإيمان محضا؛لأنّ غيرهم(غير ممحّضي الإيمان محضا،أي هم المتوسّطون من المؤمنين)لا يعودون في الرجعة.
الرابعة عشرة:(و يملّك في دولتكم)الزائر يتمنّى أن يصيّره اللّه ممّن تملّك في دولة آل البيت عليهم السّلام عصر الرجعة،حتّى يكون مصداقا للمستضعفين،الذين صاروا أئمّة الأرض و ورثتها،و يصير ممّن يصدق فيه قوله سبحانه: إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً (2)؛ليعلى الحقّ بهذا التملّك،فإذا بلغ الزائر ما تمنّاه كان من قبل اللّه سلطانا بتبع آل البيت عليهم السّلام و أمرهم المطاع.
الخامسة عشرة:(و يشرّف في عافيتكم)سؤال الزائر التشرّف في عافية آل البيت عليهم السّلام راجع إلى عافيتهم من ظلمة الزمان و الجبابرة من أهل الطغيان،فهو يتمنّى بأن يتشرّف في عافيتهم بعد أن يكون من خلّص شيعتهم.و جميع هذه التمنّيات و أمثالها من الزائر بتعليم الإمام الهادي عليه السّلام تكون موافقة لحكمة اللّه البالغة و عداته المفعولة،لأنّ اللّه لم يرد الذلّة
ص:559
لخلّص عباده أبدا،مضافا إلى أنّه عزّ و جلّ وعدهم بالنصر و الغلبة.
السادسة عشرة:(و يمكّن في أيّامكم)الفرق بين تمليك اللّه للزائر و تمكينه في أيّام آل البيت عليهم السّلام(التي تكون من أجلى المصاديق لأيّام اللّه المذكورة في القرآن)هو أنّ تملّكه يمكن أن يكون مقترنا بالعسر و الصعوبة(كعصر الخلافة الظاهريّة لأمير المؤمنين عليه السّلام)،و يمكن أن يكون مقترنا باليسر و الراحة،فهنا لا يريد الزائر بسؤاله الأوّل بل يريد ثانيهما.
السابعة عشرة:(و تقرّ عينه غدا برؤيتكم)أنّ لاستعمال الزائر لفظة «الغد»هنا جهتين:
الأولى:أنّه يرى ذلك الزمان قريبا في الحقيقة و إن بعد في الظاهر كما قال تعالى(في يوم القيامة): إِنَّهُمْ (أي المنكرون لها) يَرَوْنَهُ بَعِيداً* وَ نَراهُ قَرِيباً (1).
الثانية:أنّ الزائر يرى الأزمنة قبل زمان الرجعة مظلمة طويلة كالليل المظلم،و معلوم أنّ ليلا يعقبه نهار نيّر مبصر دون أيّ فاصل بينهما.
ص:560
«بأبي أنتم و أمّي و نفسي و أهلي و مالي (2)،من أراد اللّه بدأ
بكم،و من وحّده قبل عنكم،و من قصده توجّه بكم»
و فيه نكتتان:
الأولى:ألف)(من أراد اللّه بدأ بكم،و من وحّدة قبل عنكم)،إنّ كون الشخص موحّدا يستلزم أمرين:جبريّا و اختياريّا،فالأوّل:هو اقتضاء فطريّ للتوحيد،و لولاه كان التوحيد تعليميّا محضا غير مفيد لا يريد
ص:561
توحيد اللّه اختيارا،و هو خلاف قوله سبحانه: فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها (1)،فإرادة الزائر هنا راجعة إلى الأمر الثاني.و الحاصل أنّ كلّ إرادة و اختيار يتوقّف على العلم بالمراد و المختار،كمن يريد أن يبتاع شيئا،فإن لم يكن له علم به(و العلم به غير إختياريّ)لم يقبل على الابتياع.و محصّل القول أنّ إرادة كلّ مريد للّه سبحانه هو من قبيل الأمر الثاني؛لأنّ الأمر الفطريّ لا تتعلّق به الإرادة،لكونه خارجا عن الاختيار.أمّا تعلّم التوحيد صحيحا و الاتّصاف بصفات الموحّدين على ما هو عليه، و التخلّق بأخلاق اللّه على ما هو مرضيّ عند اللّه و التعبّد للّه كما يرضى سبحانه،و بالجملة التوحيد بمراتبه الخمسة المقبولة عند اللّه،فلا يمكن إلاّ أن يكون بتعليمهم و تربيتهم؛لأنّهم قد تربّوا في حجر التوحيد،و تغذّوا من ثدي النبوّة حتّى رسخت فيهم اصوله و نما فيهم فروعه بحيث صاروا مظاهره التامّة.
و يمكن تبيّن الفرق بين هاتين الجملتين«من أراد اللّه...و من وحّده...» بأن نقول:الأولى مشيرة إلى الاعتقاد بوحدانيّة اللّه،و الثانية إلى الاتّصاف و العبادة،أو أن تكون الأولى إشارة إلى علم التوحيد(المعبّر عنه بالتوحيد النظريّ)،و الثانية،أي العمل بمقتضاه المعبّر عنه بالتوحيد العمليّ.
ب)(و من قصده توجّه بكم)أنّ القصد للّه تعالى على قسمين:
ص:562
تكوينيّ،و تشريفيّ.
ففي الأوّل لا يحتاج الممكن إلى واسطة كوسائط مختارين،كما قال تعالى: ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (1)، و لكنّه(القاصد)يفتقر إلى واسطة في الثاني؛فالواسطة يجب أن تكون قويّة(من القاصد الممكن)في كمالاته،حتّى يكون بها أقرب إلى الواجب الذاتيّ،و يكون بإمكانه الذاتيّ أدنى من الممكن القاصد-المعبّر عن الأوّل ب«يلي الربّيّ»و عن الثاني ب«يلي الخلقيّ»-،فآل البيت هم أقرب الخلق إلى اللّه بكمالاتهم،و هم الأقرب إلى الخلق بإمكانهم الذاتيّ، فجميع المكلّفين القاصدين للّه محتاجون إليهم كي يتوجّهوا بهم إليه سبحانه.
الثانية:الفرق بين الإرادة و القصد،هو أنّهما يشتركان في كونهما طلبا، و لكنّ الإرادة طلب ضعيف بالنسبة إلى القصد الذي هو طلب أقوى منه؛ لأنّ المريد يريد مراده أوّلا ثمّ يتوجّه قاصدا السير إليه (2).
ص:563
«مواليّ لا أحصي ثناءكم،و لا أبلغ من المدح كنهكم،و من
الوصف قدركم»
و فيه خمس نكات:
الأولى:قد ذكرنا في توضيح عنوان هذا الباب أنّ الزائر يريد الثناء على آل البيت عليهم السّلام مصرّحا به مرّتين،فهذا أوليهما،و لكنّه يظهر العجز عن إحصاء ثنائهم،أي لا يقدر أن يحصي جميع كمالاتهم واحدا واحدا من جهة،و لا يتمكّن ترك أصل الثناء لكونه مشتاقا إليهم و الها بهم مفتونا فيهم،و لا يريد بعد اللّه سواهم،بل يريدهم بعده سبحانه بإذنه و أمره بطاعتهم كأمره بالكون معهم و غير ذلك.و أمّا علّة عجزه عن الإحصاء فهي ضعف علمه بما هم عليه من الكمالات و الشؤون و كلّ لسانه عن أداء الثناء،و ضعف عقله و ضيق نفسه عن إدراك الكمالات (1).
الثانية:(مواليّ لا احصي ثناءكم)أنّ المولى هنا بمعنى السيّد و صاحب الاختيار و المدبّر،و لا نظر هنا إلى سائر معانيه الغير صالحة،فالمولويّة قد تنقسم بحسب ذاتها إلى:تكوينيّة و تشريعيّة.و بحسب الموصوف بها تنقسم إلى المستقلّة و التبعيّة،فالمولويّة التكوينيّة المستقلّة منحصرة فيه
ص:564
سبحانه،و هكذا المولويّة التشريعيّة المستقلّة؛و لكنّ التشريعيّة التبعيّة منها تكون عامّة لآل البيت و غيرهم عليهم السّلام،فمراد الزائر هنا من إطلاق المولى على آل البيت عليهم السّلام من هذا القبيل.
الثالثة:قد تقدّم أنّ آل البيت عليهم السّلام مظاهر اللّه التامّة و مجاليه الكاملة في الأسماء و الصفات،فكما لا يمكن الإحاطة بالظاهر و المتجلّي(لكونه غير متناه)يمتنع الإحاطة بالمظهر و المجلى،و الدليل النقليّ على استحالة الإحاطة بالمتجلّي(مضافا إلى استحالتها في العقل)هو قوله تعالى: وَ ما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ (1)،و قول النبيّ صلّى اللّه عليه و اله:«لا أحصي ثناء عليك،أنت كما أثنيت على نفسك» (2)،و من الأدلّة النقليّة على امتناع الإحاطة بالمجلى و المظهر هو قول النبيّ صلّى اللّه عليه و اله أيضا للإمام عليّ عليه السّلام:«يا عليّ،ما عرف اللّه إلاّ أنا و أنت،و ما عرفني إلاّ اللّه و أنت،و ما عرفك إلاّ اللّه و أنا» (3)، فتبيّن بهذا التقرير-مضافا إلى ما مرّ آنفا-عجز الزائر عن إحصاء ثنائهم عليهم السّلام.
الرابعة:(و لا أبلغ من المدح كنهكم)في الفرق بين المدح و الثناء:إنّ المدح كما يستظهر من هذه الفقرة السابقة الشريفة هو وصف المادح الممدوح بكماله الذاتيّ،(لأنّ المراد من الكنه هنا هو الذات)،و الثناء هو
ص:565
وصف المثني،المثنى بكماله الفعليّ،كما يقال في الأوّل:«مدحت اللّؤلؤ لصفائه»،و في الثاني:«أثنيت على حاتم لسخائه»،قال الإمام عليّ عليه السّلام:
«الحمد للّه الّذي لا يبلغ مدحته القائلون (1)،و لا يحصي نعماءه العادّون» (2)، فعدم بلوغ القائلين مدحته سبحانه يتعلّق بالأوّل،و عدم إحصاء العادّين نعماءه،يتعلّق بالثاني؛لأنّ الإنعام كمال فعليّ له تعالى.
الخامسة:(و من الوصف قدركم)يظهر الزائر العجز عن بلوغه إلى وصف قدرهم عليهم السّلام،فيكون هذا كمعلول ذكرت علّته قبله و كفرع سبق ذكر أصله.
توضيح ذلك:كأنّ الزائر يقول:«إنّي حيث كنت عاجزا عن إحصاء ثنائكم و عن بلوغ مدح كنهكم،يجري هذا العجز في وصف قدركم،لأنّ وصف قدر كلّ شيء يتفرّع على العلم بكماله الذاتيّ أو الفعليّ».الحاصل أنّ كلّ ما قاله الزائر في عدّ شؤونهم و كمالاتهم أو كلّ ما سيقول و كلّ ما أثنى عليهم أو مدحهم أو سيثني و يمدح،إنّما هو بقدر علمه و على حدّ عرفانه،لا على ما هم عليه؛لأنّه إن أراد أن يصف قدرهم أو يثني عليهم على ما هم عليه،لغرق في بحر الضلالة،الغلوّ أو القلوّ.
ص:566
«و أنتم نور الأخيار،و هداة الأبرار،و حجج الجبّار»
و فيه خمس نكات:
الأولى:إظهار الزائر هذا بكون آل البيت عليهم السّلام«نور الأخيار...»يكون كبرهان على ما ادّعى آنفا من عجزه إحصاء ثنائهم و بلوغه كنه مدحهم و وصف قدرهم.توضيح ذلك:كأنّه يقول إنّي عاجز عن كذا و كذا في حقّكم؛لأنّكم نور الأخيار و...و لو لم تكونوا هكذا ما كنت عاجزا عن إحصاء ثنائكم و بلوغ مدح حقائقكم و ذواتكم،و لم أعجز عن وصف قدركم.
الثانية:إطلاق النور هنا على آل البيت عليهم السّلام،إنّما هو باعتبار وحدتهم الغير مادّيّة،و إطلاق الأنوار عليهم السّلام يكون باعتبار تعدّدهم في هذه النشأة؛ لأنّهم في النشآت الغيبيّة و في عالم الأسماء و الصفات ليسوا إلاّ حقيقة واحدة محمّديّة،و لكنّهم تعدّدوا هنا بتعدّد قوالبهم القابلة لتلك الحقيقة النوريّة،و قد سبق الكلام في المقام في شرح«خلقكم اللّه أنوارا»أبسط من ذلك.
الثالثة:الفرق بين الأبرار و الأخيار:
المراد من هاتين الطائفتين واحد و ليس كلّ منهما غير الآخر،لأنّهم
ص:567
أخيار باعتبار كمال ذاتيّ لهم،و أبرار باعتبار كمالهم الفعليّ (1)،و المقصود منهما هو الشيعة (2)،و كلّ من كان محبّا لهم في عالم الملك و الملكوت (فيعمّ الملائكة أيضا)من السابقين لهم أو معاصريهم أو من يأتي من بعدهم.
الرابعة:إنّ في كونهم عليهم السّلام نورا للأخيار و هداة للأبرار إشارة إلى مظهريّتهم لجمال اللّه سبحانه،و في كونهم حجج الجبّار إيماء إلى مظهريّتهم لجلاله تعالى؛لأنّ النوريّة و الهداية يجذبان الأحباب،و الحجّيّة تدفع الأعداء خصوصا مع إضافة الحجج إلى اسم الجبّار السامي.
الخامسة:أنّا و إن ذكرنا حجّيّة آل البيت عليهم السّلام و ما يتعلّق بها في ما سبق،و لكن هنا نقول:ذكر الزائر إيّاها هنا من باب الثناء عليهم،و الثناء- كما قلنا-هو أن يذكر المثني كمالا فعليّا ممّن يثنى عليه،فحجّيّتهم عليهم السّلام الملازمة لدفع الأعداء بأيّ معنى كان من إظهار المعجزة أو الدعاء عليهم أو إقامة البرهان،و نحو ذلك.
ص:568
«بكم فتح اللّه و بكم يختم،و بكم ينزّل الغيث،و بكم يمسك
السّماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه،و بكم ينفّس الهمّ
و يكشف الضّرّ»
و فيه عشر نكات:
الأولى:يمكن أخذ كلّ جملة في هذا الفصل من آية معيّنة،إمّا من مضمونها كما في:«بكم فتح اللّه و بكم يختم»من قوله تعالى: ما يَفْتَحِ اللّهُ لِلنّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَ ما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ (1)،«و بكم ينزّل الغيث»: وَ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَ يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ (2)،و يكشف الضّرّ»: فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَ آتَيْناهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا (3).و يحتمل أخذ الجملة«و ينفّس الهمّ»من مضمون إحدى الآيتين التاليتين: قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اللّهُ
ص:569
اَلْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (1)، قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اللّهِ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (2)،و أنت خبير بتنفيس اللّه له عليه السّلام همّه على أيّ تقدير.
الثانية:يقرّ الزائر بسببيّة آل البيت عليهم السّلام و فاعليّته سبحانه و تسبيبه تعالى إيّاهم لأمور ستّة:
1)الفتح.2)الختم في كلّ أمر.3)نزول الغيث.
4)إمساك السماء.5)تنفيس الهمّ.6)كشف الضّرّ.
فيظهر من ذلك عدم منافاة تأثيرهم عليهم السّلام مع التوحيد الخالص،لأنّ تأثيرهم عليهم السّلام تأثير سببيّ(و ماهوي)مجعول بجعله تعالى،و تأثيره تعالى تأثير علّيّ وجوديّ.
الثالثة:أنّ الموارد المذكورة في هذه الفقرة هي موارد اصوليّة؛لأنّ كلاّ من الفتح و الختم يعمّ الآفاق و الأنفس و التنزيل و الإمساك خاص بالآفاق،كما أنّ التنفيس و الكشف يخصّان بالأنفس.
الرابعة:أنّ لكلّ من الفتح و الختم معنيين:
ألف)الختم بمعنى السدّ،و الفتح ما يقابله.
ب)الفتح بمعنى الشروع و الابتداء،و الختم ما يقابله.
ص:570
فعلى هذين المعنيين(السدّ و مقابله)يكون معنى الجملة ظاهرا لا يحتاج إلى توضيح.فكلّ ما يفتح اللّه من الأمور المادّيّة ظاهر،كفتح الأنهار و سدّ الطرق،و من الأمور المعنويّة كالختم على قلوب المنافقين( خَتَمَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ (1))يكون بسببيّة آل البيت عليهم السّلام.
و إن فسّرنا الفتح بالابتداء و الشروع،و الختم بمقابله،كان معنى الجملة أنّ اللّه يبتدئ كلّ أمر بسببكم و يختمه بسببكم.
الخامسة:لم يذكر هنا عين المفتوح و المختوم ما هما،بل المذكور هو أنّهما من شؤون الرحمة (2)(كما أشرنا)،و لكن نقول:الغرض من حذف المفعولين هو التعميم،أي ليذهب ذهن السامع و القارئ و القائل إلى كلّ مفتوح و مختوم في أيّ نشأة كان،سواء أكان الأمر تشريعيّا أو تكوينيّا.
السادسة:في تفسير آخر على الفتح و الختم يمكن أن يكون المراد من الفتح أن يوجد اللّه الماهيّات الممكنة بوجود آنيّ انقطاعيّ غير مستمر، و من الختم عدم كلّ موجود آنا فآنا،قبل كلّ وجود جديد له.فعلى هذا تكون وساطة آل البيت عليهم السّلام في الفتح و الختم آكد و أبلغ ممّا فسّرناه سابقا (3).
ص:571
السابعة:(و بكم ينزّل الغيث)أنّ للماء النازل من السماء أسماء،فكلّ اسم يكون باعتبار خاصّ،كالوابل يطلق عليه باعتبار توالي نزوله و عدم الفصل و الانقطاع بين سقوط القطرات متسارعة،و لكن يطلق عليه الغيث باعتبار استغاثة الناس لكي ينزل،فاستعمال الإمام هنا غيثا دون الوابل أو المطر إشارة إلى سببيّة آل البيت عليهم السّلام في مثل هذا الأمر الهامّ،فضلا عن أن يكون أمرا خفيفا.
الثامنة:(و بكم يمسك السماء...)أنّ السماء جسم مادّيّ،و هو ثقيل لما ينجذب بالقوّة الجاذبة للأرض،و السماء تقتضي السقوط على الأرض، لكنّه سبحانه أمسكها بقدرته القاهرة و منعها من السقوط (1)،و لهذا المنع سببان:سبب طبيعيّ كما بيّنته العلوم الحديثة،و سبب غير طبيعيّ و هو ولاية الكمّلين من الأولياء و هم آل البيت عليهم السّلام (2)،و يؤيّده ما ورد عن الإمام
ص:572
الصادق عليه السّلام عن السجّاد عليه السّلام:«و نحن الّذين بنا يمسك اللّه السّماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه،و بنا يمسك الأرض أن تميد بأهلها،و بنا ينزّل الغيث و بنا ينشر الرّحمة و يخرج بركات الأرض» (1).
التاسعة:(و بكم ينفّس...)يقرّ الزائر بأنّ لآل البيت عليهم السّلام سببيّة في تنفيس الهموم و كشف الأضرار،و ظاهر العبارة يفيد أنّ جميع الهموم التي ينفّسها اللّه و جميع الأضرار التي يكشفها سبحانه من المؤمن و غير المؤمن،إنّما هو بسببيّة آل البيت عليهم السّلام،لإنّ لهم مظهريّة للرحمة الرحمانيّة الواسعة كلّ شيء،كما تقدّمت الإشارة إليه في قصّة المتوكّل اللعين مع الإمام الهادي عليه السّلام (2).
العاشرة:أنّ سببيّة آل البيت عليهم السّلام في هذه الموارد الستّة،بل في جميع الموارد،كان كمالا نفسانيّا لهم عليهم السّلام؛لعدم تعلّقها بأبدانهم الشريفة؛لأنّها ناشئة من شأن الولاية الكلّيّة المطلقة لهم.
ص:573
«و عندكم ما نزلت به رسله،و هبطت به ملائكته،و إلى
جدّكم (1)بعث الرّوح الأمين،آتاكم اللّه ما لم يؤت أحدا من
العالمين»
و فيه إحدى عشرة نكتة:
الأولى:هنا إشارة إلى جامعيّة علميّة و كمال نفسانيّ لآل البيت، و مظهريّة لهم عن جامعيّة رسول اللّه كما قال صلّى اللّه عليه و اله:«أوتيت جوامع الكلم» (2).
توضيح ذلك:كأنّ الزائر يقرّ بأنّ قلوبهم عليهم السّلام مجمع لكلّ ما أوحى اللّه تعالى إلى رسله بتوسيط الملك،و لكلّ ما ألهمه اللّه لهم عليهم السّلام.و ظاهر أنّ هذا لشأن رفيع لهم،و ثناء جميل من الزائر في حقّهم.
الثانية:(و عندكم ما نزلت به رسله)أنّ المراد هنا من الرسل هو المرسلون الذين فاقوا غير المرسلين،فإذا كان عندهم ما نزلت به رسل اللّه لزم أن يكون عندهم ما كان عند غير المرسلين؛لأنّ الأنقص في ضمن الأكمل(و لا أكثر)،مضافا إلى أنّ حرف الباء(به)هنا سببيّة أو للمصاحبة.
ص:574
الثالثة:أنّ لما نزل به رسل اللّه مصداقين:أحدهما الكتب و فيها الشرائع،و ثانيهما الإلهامات القلبيّة و العلوم السرّيّة بينهم و بين اللّه.
و يمكن كون المراد ممّا نزل هو الإلهامات القلبيّة فقط،بقرينة التقابل بينه و بين ما هبطت به الملائكة،و يشهد على كون الملهمات عند آل البيت عليهم السّلام ما ورد عن الإمام عليّ عليه السّلام أنّه قال:«كنت مع الأنبياء سرّا...» (1)،فيستلزم كونه معهم سرّا أن يكون عالما بما في قلوبهم الشريفة و خبيرا بما في نفوسهم الطاهرة.و أمّا كون آل البيت عليهم السّلام عالمين بما هبطت به ملائكة اللّه فهو ظاهر؛لأنّ النبيّ الخاتم الذي استخلفهم كان صاحب مقام الختميّة،أعني من ختمت به جميع الكمالات العلميّة و العمليّة،و من الكمالات العلميّة إحاطته صلّى اللّه عليه و اله بالشرائع السابقة،و هم عليهم السّلام كانوا له كنفسه الشريفة و كعقله القادس الكليّ،فيكون ما عنده(ما أوحي بسبب الملائكة على الرسل)عندهم،و يتأيّد ذلك بما روي عن الإمام عليّ عليه السّلام حيث قال:
«لو كسرت لي الوسادة و جلست عليها لحكمت بين أهل التّوراة بتوراتهم،و بين أهل الإنجيل بإنجيلهم،و بين أهل الزّبور بزبورهم، و بين أهل الفرقان بفرقانهم» (2).
الرابعة:يستفاد من كون«ما نزلت به رسل اللّه»و«هبطت به ملائكة اللّه
ص:575
عندهم»عدم عروض النسيان أو الغفلة على آل البيت عليهم السّلام،و أنّ علمهم بجميع ذلك علم حضوريّ شهودي؛لأنّه لو عرض النسيان أو الغفلة لا تصدق هذه الفقرة على إمام معصوم،و يؤيّده قوله سبحانه مخاطبا النبيّ:
سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (1)،فما كان للنبيّ من عدم النسيان يكون لهم،و يتأيّد ذلك أيضا بقوله تعالى: وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (2)،إذ لو كانت علوم آل البيت عليهم السّلام في معرض الغفلة أو النسيان فإنّه لا تصدق في حقّهم عبارة أذن واعية،و محال بأن يصفهم اللّه بوصف ليس فيهم (3).
الخامسة:من الأثنية التي أثنى بها الزائر على آل البيت عليهم السّلام هو هبوط الملائكة على جدّهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله (4)،و معلوم أنّ الهبوط و الصعود وصفان للأجسام المادّيّة،و هنا اسند الهبوط إلى الملائكة من حيث إنّهم
ص:576
أجسام لطيفة نوريّة-على قول المتكلّمين-كما تؤيّده ظواهر الآيات و الأخبار،إذا لا إشكال في هبوطهم عليهم(و كذا في صعودهم).و أمّا على قول الحكماء القائلين بتجرّد الملك من الجسميّة،فيكون معنى الهبوط هو التجلّي و الظهور من عالم الغيب إلى عالم الشهود،لا التجافي و التخلّي اللّذان يخصّان بالأجسام.
السادسة:بين النزول و الهبوط تقارب في المعنى،و يتفاوتان في استعمال النزول بقصد التكريم،و الهبوط ليس كذلك.فلهذا عبّر في الرسل بالنزول و في الملائكة بالهبوط،لأنّ الرسل أشراف بالنسبة إلى الملائكة على الفريقين جميعا(عليهم سلام اللّه و التحيّة)،فيكون معنى الجملة:
و عندكم ما استنزلته الرسل.
السابعة:يتصوّر كون الشرائع الماضية عند آل البيت عليهم السّلام على فرضين:
ألف)أنّهم عليهم السّلام كانوا عالمين بها مع الواسطة،و الواسطة هي القرآن، فعلمهم بالقرآن يستلزم علمهم بها،لأنّ ما في القرآن أكمل و أوسع ممّا سبق عليه،مضافا إلى أنّ الشرائع السابقة منسوخة بالشرائع القرآنيّة،فالعلم بالناسخ من حيث كونه ناسخا يستلزم العلم بالمنسوخ.
ب)أنّهم عالمون بها بلا واسطة،كما يفيده ظاهر الفقرة الشريفة.
الثامنة:يثني الزائر على آل البيت عليهم السّلام ببعث الروح الأمين 1إلى جدّهم،
ص:577
و لكنّه يترك التعبير بالبعث في الرسل؛لعدم انقطاع الرسل و مجيء كلّ واحد منهم بعد الآخر،كما قال تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا 1،و وقوع الفترة و الفصل في زمان يقرب من ستّة قرون بعد المسيح عليه السّلام،حتّى بعث الخاتم،فكأنّ الأمم التوحيديّة كانت راقدة،و الشرائع كانت خامدة، و لكنّ الرقود و الخمود تبدّل إلى الحركة و الظهور،فهذا هو معنى البعث، كما قال تعالى: قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا 2.
التاسعة:الزائر يثني هنا على آل البيت عليهم السّلام بثناء جميل جليل،و هو أن بعث اللّه الروح الأمين إلى جدّهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله،و سرّ كونه جميلا جليلا هو أنّ الروح الأمين(جبرائيل)هو أشرف الملائكة(لكونه موكّلا على العلم)كما يصفه تعالى بقوله الرضيّ: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ 3،و بأنّه شديد القوى(على احتمال)بقوله: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى 4،فالحاصل أنّ أشرف الملائكة مبعوث بأكمل الشرائع إلى أفضل الأنبياء،لتأسيس أجلّ الأبنية التوحيديّة بعد خمول طويل،فيتبيّن إذا سرّ التعبير بالبعث في حقّ الروح الأمين،أي لوحظ في التعبير بالبعث عدم
ص:578
مجيئه إلى الأرض بعد المسيح عليه السّلام.
العاشرة:قد ذكرنا فيما مضى أنّ المخاطبين في هذه الزيارة المباركة هم الأئمّة الاثنا عشر فقط،دون رسول اللّه و دون الصّدّيقة الطاهرة،لأنّهما (عليهما و آلهما السلام)إن كانا من المخاطبين لم يستقم معنى هذه الفقرة «و إلى جدّكم...»،مضافا إلى أنّ واحدا من أغراض هذه الزيارة هو إحياء الإمامة التي وقع الاختلاف فيها بين الأمّة.
الحادية عشرة:(آتاكم اللّه ما لم يؤت أحدا من العالمين)من الأثنية التي أثنى الزائر بما هو أنّ اللّه سبحانه آتى آل البيت عليهم السّلام ما لم يؤت أحدا من العالمين،فهذه مأخوذة من قوله سبحانه مخاطبا بني إسرائيل: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (1)،فهو تعالى آتى بني إسرائيل ما لم يؤت أحدا من معاصريهم من العالمين،و لكن آتى آل البيت عليهم السّلام ما لم يؤت أحدا من السابقين و لن يؤتي أحدا من المعاصرين و لا اللاحقين،و المراد من ما آتى هو جميع الكمالات و الشؤون الفائقتين،كما قال الإمام الصادق عليه السّلام:«إنّ عيسى ابن مريم عليه السّلام أعطي حرفين و كان يعمل بهما،و أعطي موسى بن عمران عليه السّلام أربعة أحرف،و أعطي إبراهيم عليه السّلام ثمانية أحرف،و أعطي نوح عليه السّلام خمسة عشر حرفا،و أعطي آدم عليه السّلام خمسة و عشرين
ص:579
حرفا،و إنّه جمع اللّه ذلك لمحمّد صلّى اللّه عليه و اله و أهل بيته،و إنّ اسم اللّه الأعظم ثلاثة و سبعون حرفا،أعطى اللّه محمّدا اثنين و سبعين حرفا و حجب عنه حرفا واحدا» (1).
«طأطأ كلّ شريف لشرفكم،و بخع كلّ متكبّر لطاعتكم،
و خضع كلّ جبّار لفضلكم،و ذلّ كلّ شيء لكم»
و فيه خمس نكات:
الأولى:أنّ هذه الجملات الشريفة تكون كتفسير لما قبلها،أي ما آتاكم اللّه الذي لم يؤت أحدا هو هذه الحقائق.مضافا إلى أنّ ما تحتويه هذه الجمل،ذكر بعض الكمالات الخارجيّة الغير فعليّة لهم عليهم السّلام،و هكذا المضامين السابقة.
الثانية:طأطأ كدحرج،رباعيّ مجرّد،بمعنى التواضع،قال النبيّ صلّى اللّه عليه و اله:
«لو لا ثلاثة في ابن آدم ما طأطأ رأسه شيء:المرض و الموت و الفقر...» (2).
ص:580
و الشريف يطلق أوّلا؛على كلّ من كان في مكان عال بالنسبة إلى من هو في مكان سافل،و لكنّه اطلق ثانيا؛على كلّ ذي كمال من المال و الجاه و غيرهما.
الثالثة:تقتضي القاعدة العامّة،أن يتواضع كلّ ناقص عند من هو أكمل منه،فعلى هذا كلّ شريف يطأطأ لآل البيت عليهم السّلام؛لأنّه يرى نفسه أنقص منهم في الشرف،بل حيث ينظر إلى أنّ شرفه في النقص لا يقاس مع شرفهم في الكمال،فيكون أشدّ تواضعا و خضوعا.
الرابعة:(بخع كلّ...لفضلكم)بخع بخوعا بمعنى أقرّ و أذعن،فيكون معنى الجملة أنّ كلّ متكبّر أقرّ و أذعن بلزوم طاعته لكم،و هذا الإقرار إقرار تكوينيّ منهم (1)،لأنّ لآل البيت وساطة تكوينيّة في شمول الفيوضات على كلّ ما سوى اللّه،فالمتكبّرون هم المستفيضون بآل البيت،فيلزم لهم الإقرار بطاعة الوسائط كإقرارهم تكوينا بطاعة اللّه،و يمكن أن يكون إقرارهم من جهة ولاية آل البيت عليهم السّلام و تمكّنهم على الأشياء،لأنّهم أتقى الناس و أطوعهم للّه،فكلّ من كان أطوع و أتقى كانت ولايته على الأشياء
ص:581
أشدّ و أقوى،كما قال الإمام الهادي عليه السّلام:(من اتقى الله يتقى،و من أطاع الله يطاع) (1)فتكون ولاية آل البيت عليهم السّلام على الأشياء(و منها على المتكبّرين)أقوى مراتب الولاية،و يمكن الإقرار اختياريّا في زمان الرجعة أو في القيامة،فلهذا عبّر الإمام عليه السّلام عن إقرارهم بفعل الماضي(بخع) لدلالته على الحتميّة في مقام الحكاية.
الخامسة:(و ذلّ كلّ شيء لكم)يطلق اسم الشيء على كلّ ما له وجود حقيقة،و على كلّ ما ليس كذلك(كالموهومات)مسامحة فكلّ ما كان وجوده أقوى فالشيئيّة فيه أجلى،و لهذا يطلق على الواجب أيضا،قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (2)و المقصود من ذلّة كلّ شيء هنا هي ذلّة الممكنات،فلا يعمّ الممتنع الذاتيّ و لا الواجب الذاتيّ.و الحاصل أنّ بالعلم بما صدر منهم عن المعجزات و الكرامات يتبيّن ذلّة كلّ شيء من الجماد و النبات و الحيوان حتّى القلوب لهم، (3)و(الذلّة)إمّا من جهة أنّ لهم ولاية مطلقة كلّيّة تكوينيّة على الأشياء،فهم مقتدرون على أن يتصرّفوا فيها متى شاؤوا و كيف شاؤوا و من حيث شاؤوا بإذن اللّه،و إمّا لكونهم مظاهر أسماء اللّه الحسنى و صفاته العليا (4)من غير إعمال قدرة أو اختيار
ص:582
منهم.
«و أشرقت الأرض بنوركم،و فاز الفائزون بولايتكم،بكم
يسلك إلى الرّضوان،و على من جحد ولايتكم غضب الرّحمن»
و فيه تسع نكات:
الأولى:يذكر الزائر هنا في ثنائه على آل البيت عليهم السّلام بعضا آخر ممّا آتاهم اللّه ما لم يؤته أحدا من العالمين؛لأنّها تعدّ من الكمالات الخارجيّة المنحصرة فيهم عليهم السّلام حيث لا يشاركهم فيها غيرهم.
الثانية:أنّ جملة«و أشرقت الأرض بنوركم»،مأخوذة من قوله تعالى:
وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها 1؛و الجمع بينها و بين قوله سبحانه هذا على وجهين:إمّا بإبقاء الآية على معناها و ظهور ذلك النور القاهر في آل البيت عليهم السّلام،فيكون نورهم نوره من باب ظهور الظاهر في المظهر، فيكون إشراق الأرض بنورهم عين إشراقها بنوره،فيكونوا هم مظاهره في الربوبيّة و لم يكونوا أربابا،و ربوبيّته تعالى و ولايته على الأشياء تكوينا 2
ص:583
و تشريعا (1)تجريان فيهم و تظهران منهم،و يؤيّده قول الحكماء بالعقول(و إن لم تثبت صحّة هذا القول)،و إمّا بتأويل الآية و القول بالسعة في مفهوم الربّ،فيؤوّل إمّا بتأويل الآية و القول بالسعة في مفهوم الربّ،فيؤوّل الربّ إذا بالإمام،كما يشهد عليه الحديث الآتي:«عن المفضّل بن عمر أنّه سمع أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول في قول اللّه: وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها :ربّ الأرض،يعنى إمام الأرض» (2)،إذا يستقيم معنى جملة الإمام عليه السّلام«و أشرقت الأرض بنوركم»،و يرتفع التعارض بينها و بين الآية بكلا الوجهين.
الثالثة:استعمال الإشراق هنا بصيغة الماضي-كنظائره-يدلّ على حتميّة الأمر و إن أبقينا معنى الآية على إطلاقها،فيكون الإشراق في القيامة،و هذا(الإبقاء على إطلاقها)يؤيّد معناها التأويليّ،فيكون شروق الأرض زمان الرجعة.
الرابعة:يتصوّر المراد من الشروق أمران:
أحدهما:ما وقع،و هو وجود الأرض بعد عدمها (3)،و هذا بإفاضة اللّه من طريق وساطة آل البيت عليهم السّلام(كما حقّقناه في نظائره مرارا)تكوينا.
ثانيهما:ما سيقع(عجّل اللّه تعالى فيه)بإمامتهم و ولايتهم التشريعيّة المجعولتين من اللّه في زمان الرجعة،و لكنّ الآية و جملة الإمام عليه السّلام
ص:584
ناظرتان إلى الثاني دون الأوّل.
الخامسة:سرّ التعبير بالإشراق دون النور:
الفرق بين الإشراق و النور هو أنّ إطلاق النور في ما إذا وصل النور من خارج الشيء،و أمّا إذا كان النور في باطن الشيء و ظهر برفع الحجب المانعة فيعبّر عنه بالإشراق (1).و الحاصل إذا قلنا بأنّ المراد من الأرض هنا أهل الأرض فهم خلقوا مفطورين بالعدل و الإنصاف و مجبولين بالكمالات و النفرة من الظّلم و النقص.فإذا قام المهديّ عليه السّلام و حان بقيامه زمان الرجعة ترتفع حجب الطواغيت و يظهر من باطن أهل الأرض كلّ كمال و فضيلة،و هذا هو المقصود من إشراق الأرض،و أمّا نور آل البيت عليهم السّلام فواصل من الخارج الذي بسببه يظهر شروق الأرض،فهو نور الإمامة و الولاية(إذ الجنس إلى الجنس يميل).
السادسة:(و فاز الفائزون بولايتكم)،قد سبق في ما مضى معنى كلّ من الولاية و الفوز (2)،و هنا نقول:إنّ ولاية آل البيت عليهم السّلام هي سبب لحصول الفوز،و هذا يعدّ من الكمالات الخارجيّة لهم عليهم السّلام كسابقته (إشراق الأرض).
توضيح الكلام:أنّ المؤمن الذي له ولاية آل البيت الكاملة،لا يمكن أن
ص:585
يتولاّهم دون التبرّي من أعدائهم،و لا أن يحبّ في قلبه حبّا شديدا و لا يتّبعهم في أعماله،و لا يمكن أن يترك التسمّي بأسماء أهل البيت،أو أن يترك ذكرهم،و هذا هو سبب تامّ لفوزه فضلا عن فلاحه.
السابعة:(بكم يسلك إلى الرّضوان)ذكر السلوك إلى الرضوان بسبب آل البيت عليهم السّلام تفسير للفوز المذكور آنفا،لأنّا قلنا سابقا بأنّ المراد من الفوز هو النيل إلى المحبوب(دون الفلاح الذي هو الخلاص من المكروه)، فرضوان اللّه أعظم محبوبات المؤمن كما قال تعالى: وَ رِضْوانٌ مِنَ اللّهِ أَكْبَرُ (1)،فيتبيّن إذا من أعظميّة الرضوان عظمة سبب حصوله و جلالة السلوك إليه،فقد ظهر أنّ هذا الثناء من الزائر من أعظم الأثنية لآل البيت، و هو كمال خارجيّ لهم.
الثامنة:تقديم الظرف يفيد الحصر،و الظرف ظرفان:
1)بكم.2)على من.
فيكون المعنى أنّ بسببكم فقط يسلك إلى الرضوان،و لا سبب إليه غيركم،و ليس على من جحد ولايتكم إلاّ غضب الرحمن،مضافا إلى رعاية السجع في آخر كلّ من الجملتين(الرضوان،و الرحمن)،و هذا موجب لجمال اللفظ مع كمال المعنى،فيصير الجاحد من مصاديق قوله
ص:586
تعالى: اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ (1)،(و اليهود مصداق آخر منه).
التاسعة:(و على من جحد...)أنّ لاستعمال لفظة الرحمن السامية عناية خاصّة،و هي أنّ الرحمة الرحمانيّة عامّة بالنسبة إلى المؤمن و الكافر، و بالنسبة إلى عموم ما سوى اللّه،و لهذا شواهد كثيرة من النقل،فهي مع سعتها العامّة الشاملة لا تشمل الجاحدين بولاية آل البيت عليهم السّلام،و هذا يدلّ على شدّة قبحهم و شنأتهم و خبث سرائرهم.
«بأبي أنتم و أمّي و نفسي و أهلي و مالي،ذكركم في
الذّاكرين،و أسماؤكم في الأسماء،و أجسادكم في الأجساد،
و أرواحكم في الأرواح،و أنفسكم في النّفوس،و آثاركم في
الآثار،و قبوركم في القبور»
و فيه ثماني نكات:
الأولى:هذه تفدية ثالثة من الزائر في حقّهم عليهم السّلام،و قد قدّمنا شرحا للتفدية في كلّ من المرّتين الأوليين،و ما يقال هنا هو أنّ التفدية من أيّ مفدّ وقعت لأيّ مفدّى بأي مفدّى به كاشفة عن أمرين:
ألف)تجلّي المفدّى عند المفدّي بشدّة الحسن و الكمال و قوّة البهاء
ص:587
و الجمال.
ب)شدّة لهب قلب المفدّي و اشتياقه و احتراقه لفراق مفدّاه،فلو لا هذا الظهور و التجلّي من المفدّى و هذا الالتهاب و الشوق من المفدّي لم تقع التفدية أصلا،و لهذا لا يقنع الزائر المشتاق بتفدية واحدة،بل كلّما ذكر شيئا من كمالات آل البيت عليهم السّلام و عدّدها غلى عشقه و اشتياقه،و كرّر التفدية بأشدّ ممّا سبق.
الثانية:قد عدّ الزائر كمالات لآل البيت عليهم السّلام و ذكر لهم شؤونا عالية خارجة عن تصوّر خواصّ الناس فضلا عن المتوسّطين و العوامّ،و هذا يوجب الغلوّ في حقّهم عليهم السّلام و بلوغهم من البشريّة إلى حدّ الألوهيّة،فلهذا علّمه الإمام الهادي عليه السّلام بأن يسدّ باب الغلوّ،و لتستقيم معرفته بهم،بالقول التالي،الذي لولاه لم تتوجّه القلوب إلى كونهم بشرا مخلوقين،بل كانوا كآلهة باطلة و كأرباب متفرّقين من دون اللّه،الذين وصفوا بعدم الخيريّة، قال تعالى: أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْواحِدُ الْقَهّارُ (1)،و أمر الناس بترك اتّخاذهم أربابا،قال تعالى: وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ (2)،فالحاصل أنّ الزائر يريد بإقراراته الآتية أن ينزل آل البيت عليهم السّلام في المراتب التي رتّبهم اللّه فيها حتّى لا يغلو فيهم و لا يشرك فيهم.
ص:588
الثالثة:يمكن أن تفسّر الجملة(ذكركم في الذاكرين)على معنيين:
ألف)أنّ الذاكرين من المؤمنين يذكرونكم بالتسلية و التحيّة عليكم، فكلّ من الذّكر اللسانيّ أو النظر إليهم يلازم الذكر القلبيّ،و لا شكّ في أنّ ذكر اللّه عبادة،فإذا كان ذكرهم ذكرا للّه كان ذكرهم عليهم السّلام أيضا عبادة،و إذا أمر الناس بإكثار ذكر اللّه،فإنّ الناس مأمورون بإكثار ذكرهم أيضا بالملازمة،قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللّهَ ذِكْراً كَثِيراً (1).
عن جابر قال:«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله لعليّ:عد عمران بن حصين فإنّه مريض.فأتاه و عنده معاذ و أبو هريرة،فأقبل عمران يحدّ النّظر إلى عليّ،فقال له معاذ:لم تحدّ النّظر إليه؟فقال:سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله يقول:«النّظر إلى عليّ عبادة»،فقال معاذ و أنا سمعته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله،و قال أبو هريرة:و أنا سمعته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله» (2).
ب)أنّ الألفاظ المرويّة عنكم بعنوان ذكر اللّه هي في الذاكرين،بمعنى أنّ الذاكرين يردّدون الألفاظ كالأذكار بألسنتهم و يتصوّرون معانيها في قلوبهم و يتقرّبون بها إلى ربّهم،فلو لا تلك الأذكار المرويّة عنكم لم يكن للذاكرين طريق إلى محفل القرب،فعلى هذا الاحتمال يكون معنى الجملة أنّ ذكركم(إفراد الذكر لإرادة الجنس)في ذكر الذاكرين.
ص:589
الرابعة:مراد الزائر من كون أسماء آل البيت عليهم السّلام في الأسماء،إمّا ألفاظ الأسماء أو حقائقها،فإن كان الأوّل كان معنى الجملة أنّ المؤمنين من الناس يتسمّون بأسمائهم و يسمّون بها،و يذكرون أسماءهم السامية ملتذّين بها(كما سيذكر خطاب الزائر بهم عليهم السّلام حيث يقول:«فما أحلى أسماءكم»).و إن كان الثاني(حقائق الأسماء و مصاديقها)كان معنى الجملة أنّ كمالاتكم و فضائلكم التي اتّصف بها المؤمنون تعدّ من الكمالات الوجوديّة،و هي تدلّ على المسمّيات (1).
الخامسة:«و أجسادكم في الأجساد،و أرواحكم في الأرواح»،يقرّ الزائر مرّة اخرى بحضور آل البيت عليهم السّلام في عالم الملك بالأجساد و في عالم الملكوت في نفس الوقت بالأرواح،فحاصل إقراره هو إحاطتهم بالغيب و الشهود،كما قال تعالى في حقّ جدّهم الأمجد: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ (2)،(و هذه إشارة إلى حضور النبيّ صلّى اللّه عليه و اله في هذه النشأة)، و«يوحى إليّ»(إشارة إلى اتّصاله صلّى اللّه عليه و اله بالغيب).
السادسة:قد ذكرنا سابقا أنّ الزائر يريد في هذه الفقرات أن لا يغلو في
ص:590
حقّ آل البيت عليهم السّلام،و لازمه أن يقرّ فيهم بالأحكام التي يحكم بها سائر الناس،فمنها أن تكون أنفسهم في النفوس.إذا ليس المراد من الأنفس قبال الأبدان،بل المراد ذواتهم الشريفة جسما و روحا،بقرينة جعل الأنفس قبال الأرواح.
السابعة:أنّ اللام الداخلة في الآثار هي لام الجنس،فيلزم كون آثار آل البيت عليهم السّلام فيها أن تكون باقية في آثار كلّ عصر.و الحاصل أنّ تاريخهم لا ينقرض،و علومهم و معجزاتهم لا تنقضيان،بل هما باقيتان كبقاء القرآن؛لأنّ تلك الآثار هي أحدى مصاديق الذّكر،فتكون في حفظ اللّه،قال تعالى: إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ (1).
الثامنة:هذا أيضا دليل آخر على ترك الزائر الغلوّ في حقّهم و اعترافه بكون قبورهم في القبور،و هو خلاف الغلوّ الذي يقتضي عدم اعتقاد الغالي بمماتهم حتّى تكون لهم قبورا.
«فما أحلى أسماءكم،و أكرم أنفسكم،و أعظم شأنكم،
و أجلّ خطركم،و أوفى عهدكم،و أصدق وعدكم»
و فيه ثماني نكات:
ص:591
الأولى:يتعجّب الزائر في أثنيته هنا من كمالات ستّة لهم عليهم السّلام،و هذا العجب يتفرّع على جميع ما ذكر من كمالاتهم و شؤونهم،مؤمنا بها و مشتاقا إلى موصوفيها و متمتّعا بذكرها.
الثانية:الإيمان بكلّ شيء إمّا أن يكون إيمانا عقليّا فقط غير مؤثّر في الأحاسيس و العواطف،كالأوراق اليابسة في الأشجار،و إمّا ليس كذلك، فإيمان الزائر بآل البيت عليهم السّلام ينشأ من عقله و يؤثّر في إحساسه و عاطفته، فيكون إيمانه كالأوراق الرطبة الخضرة في الربيع على الأشجار،قال تعالى:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ (1)،و قال أيضا:
وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ (2)، فلهذا يؤدّي الزائر هذه الكلمات بكلّ إحساس و شوق من أعماق قلبه.
الثالثة:«أحلى»تفضيل من الحلاوة و معناها ظاهر،يتعجّب الزائر هنا من حلاوة أسماء آل البيت عليهم السّلام فلحلاوة أسمائهم جهات ثلاث:
ألف)خفّتها في التلفّظ.
ب)اشتمالها على أوصاف كماليّة.
ج)اشتقاقها من أسماء اللّه الحسنى.
لا يحسّ غيره هذه الحلاوة لعدم عرفانه بها كعرفان الزائر،و عدم
ص:592
التذاذه بالأسماء كما يلتذّ بها الزائر،فسبب حصول هذه الحلاوة أمران:
الأوّل؛ما قلنا من الجهات الثلاث في الأسماء.
و الثاني،سلامة الذائقة الروحيّة للزائر و هي عبارة عن معرفته بكماليّة الأسماء و كمال المسمّيات،و عشقه و التذاذه بها،و هذا من خواصّ عشق كلّ عاشق لمعشوقه فيرى العاشق جميع ما يتعلّق بمعشوقه حسنا و لو كان سيّئا فضلا عن أن يكون المعشوق حسنا في الحقيقة.
الرابعة:قد يراد من الاسم معناه الخاصّ قبال الكنية و اللقب،و قد يراد معناه العامّ(مطلق العلامة)الشامل لهما أيضا،و هذا من هذا القبيل، فالحاصل أنّ الزائر يصف كلّ اسم و كنية و لقب لآل البيت بأشدّ حلاوة.
الخامسة:هذا ثناء آخر لهم عليهم السّلام و هو كرامة أنفسهم،قد حقّقنا في ما مضى معنى الكرامة،و نقول هنا ما حاصله أنّ كرامة كلّ شيء عبارة عن صفائه و بهائه الذاتيّين،قال تعالى: فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (1)، فيكون كرامة الأنفس هو النور و البهاء و الصفاء و الجلاء في أنفس آل البيت عليهم السّلام التي تكون منشأ للكرامة في الأقوال و الأفعال،فالزائر يذكر كرامة أصليّة لهم و هي التي تتضمّن جميع الكرامات.
السادسة:يستفاد من وصف الإمام هنا شأنهم بالعظمة و خطرهم بالجلالة أنّ الفرق بين الشأن و الخطر هو في الشأن،فينظر إلى موصوفيّتهم
ص:593
بالكمال و في الخطر إلى نزاهتهم عن النقص،كما نصف اللّه تعالى بصفاته الثبوتيّة بالحمد و ننزّهه عن النقائص بالتسبيح.
السابعة:يثني الزائر على آل البيت عليهم السّلام بكون عهدهم هو الأوفى، و الأوفى أفعل من الوفيّ،و الوفاء بالعهد من جلائل الصفات لكلّ إنسان فضلا عن أهل الإيمان و أئمّتهم،قال تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (1)،و أمّا سرّ وصفهم بالأوفى للعهد دون الوفيّ فهو لما تستوجبانه قوّة إيمانهم و إمامتهم للأمّة.
الثامنة:يصفهم الزائر بكونهم أصدق الوعد و يمكن لكلّ مؤمن الاتّصاف بصدق الوعد بأن يكون صادقا في ما وعد،و لكن لا يمكن أن يكون الأصدق في عداته،فاتّصاف آل البيت عليهم السّلام بكونهم الأصداق ناشئ من عصمتهم عليهم السّلام،قال تعالى: وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَ كانَ رَسُولاً نَبِيًّا (2).و أنت ترى أنّ اللّه وصف إسماعيل بصدق الوعد(كمعلول)ثمّ يصفه بالرسالة و النبوّة الملازمتين للعصمة، و قد قال تعالى في حقّ آل البيت عليهم السّلام(على ما جاء فيهم تأويل الآية):
ص:594
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ (1).
«كلامكم نور،و أمركم رشد،و وصيّتكم التّقوى،و فعلكم الخير،
و عادتكم الإحسان،و سجيّتكم الكرم،و شأنكم الحقّ و الصّدق و الرّفق،
و قولكم حكم و حتم،و رأيكم علم و حلم و حزم».
و فيه إحدى عشرة نكتة:
الأولى:يصف الزائر آل البيت عليهم السّلام في هذا الفصل من فصول«باب الأثنية»بعدّة صفات اخرى،و هي كون كلامهم نورا (2)،ثمّ يذكر بعدها من الصفات.
إنّ لنوريّة كلامهم وجوها:
الأوّل:لا شّك في كون القرآن نورا و هم عليهم السّلام يفسّرونه بكلامهم،و لازم ذلك أن يكون كلامهم مسانخا له،و إلاّ يكون كلامهم نقيض النور،و الظلمة لا يكون تفسيرا للنور.
ثانيا:أنّهم عليهم السّلام بأنفسهم كانوا كتابا ناطقا للّه كما أنّ القرآن هو كتابه الصامت،فيلزم ذلك نوريّة كلامهم للزوم التوافق بين الكتابين.
ثالثا:أنّ صورة كلّ كلام و لفظه تصدر من لسانه و شفتيه و حلقومه
ص:595
و غير ذلك كأسنانه،و لكنّ معناه و نظمه و قصد أدائه يكون صادرا من نفسه،فإذا كانت الأنفس لآل البيت مخلوقة من النور (1)لزم ذلك نوريّة الكلام الصادر منها.
الثانية:أنّ النوريّة(و هي الظهور بالذات و إظهار الغير)جارية في القرآن،كما تجري في كلامهم عليهم السّلام،إلاّ أنّ نوريّة كلامهم تلي نوريّة القرآن،فلا يكون بين النورين معارضة،كعدم المعارضة بين القمر و الشمس،و لكن بينهما فرق من حيث إنّ القرآن منشأ نوريّة علومهم و كلامهم كما أنّ نور القمر ينشأ من الشمس و هما حسّيّان،و بالجملة لهذا التقرير مؤيّدات من الأخبار.
عن جابر،عن أبي جعفر عليه السّلام:«فضرب مثل محمّد صلّى اللّه عليه و اله الشّمس و مثل الوصيّ القمر،و هو قوله عزّ و جلّ: جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً» (2).
الثالثة:(و أمركم رشد،و وصيّتكم التقوى)أنّ كون أمرهم رشدا و وصيّتهم«التقوى»يدلاّن على نوريّة كلامهم و علوّ مقاصدهم و عظمة نفوسهم،لأنّ الأمر بالرشد و الوصيّة بالتقوى لا ينبعثان من النفوس الحقيرة،و لا تبعثهما المقاصد الدانية النازلة،و الكلام المظلم لا يصدر منه
ص:596
إلاّ الأمر المظلم و الوصيّة المظلمة.
الرابعة:هذا ثناء من أثنية الزائر(و هو كون أمرهم رشدا)إنّما استعمل الإمام الرشد لا الكمال،لأنّ بينهما فرقا و هو نسبة العامّ و الخاصّ المطلقتين،فالكمال يطلق على كلّ ما ليس له نقص،سواء كان محبوبا أو غير محبوب،كالإيمان و الكفر الكاملين.و لكنّ الرشد هو الكمال في المحبوب،و لا يطلق الرشد على المبغوض الكامل،قال تعالى على لسان لوط عليه السّلام: أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (1)،و قال أيضا: وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ* يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النّارَ (2).و الحاصل أنّ ضلالة فرعون و أصحابه كاملة،و لكنّ اللّه نفى الرشد لعدم محبوبيّته،و أمّا كون أمر آل البيت عليهم السّلام رشدا فيفيد عصمتهم عليهم السّلام،و مع عدم العصمة لا يقطع بالرشديّة في أمرهم،قال تعالى: إِنّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنّا بِهِ (3)،فحيث ثبت أنّ أمرهم رشد لزم كونهم معصومين (4).
ص:597
الخامسة:أنّ الوصيّة بالتقوى وصيّة مؤكّدة في كلمات آل البيت عليهم السّلام و خطبهم و مواعظهم بما لا يعدّ و لا يحصى،و ذلك معلوم للمتتبّع،بألفاظ عديدة و تعابير مختلفة و ذلك أقوى برهان على سعة علومهم بمفاسد العمل بجميع ما يجب التجنّب و التحرّز منه،خصوصا إذا كانت تلك الوصايا موافقة لما في القرآن من الترغيب و التحضيض على رعاية التقوى.
السادسة:(فعلكم الخير)وصف آل البيت عليهم السّلام في هذه الزيارة بكثير من كمالاتهم الذاتيّة،و هذا يدلّ على الحسن الفاعليّ متى كانوا فاعلين، فالحسن الفاعليّ يكون علّة للحسن الفعليّ،و لا يمكن صدور فعل سيّئ (بما هو سيّئ)عن فاعل حسن(بما له حسن فاعليّ)فهذا معنى كون فعلهم خيرا(و فعلكم الخير).
السابعة:(عادتكم الإحسان)معنى العادة ظاهر،و هي مأخوذة من العود،و إنّ لكون عادتهم الإحسان سببين:
الأوّل:كونهم مظاهر رحمة اللّه الرحمانيّة.و الثاني:كرامة أنفسهم الشريفة،فكما أنّ الرحمة الرحمانيّة عامّة بالنسبة إلى التقيّ و الطاغيّ، و كما أنّ الكريم من كلّ شيء ينفع المعادي و الحبيب،كذلك آل البيت عليهم السّلام في الإحسان إلى العدوّ و الصديق.
ص:598
الثامنة:(سجيّتكم الكرم)هذا كعلّة لما قبلها،أي إن لم تكن سجيّتهم كرما و لم يكونوا طيّبي الطبيعة و طاهري الجوهر و نيّري الذات لم تكن عادتهم الإحسان،كما أشرنا إليه آنفا.
التاسعة:(شأنكم الحقّ)الشأن هو الحال و القصّة،و الأمر هو الذي جمعه أمور.الحاصل:إنّ معنى شأنهم الصدق هو كونهم صادقين في جميع المجالات،فيكون كلّ واحد من شؤونهم الاعتقاديّة و الأخلاقيّة و القوليّة و العمليّة و الوصفيّة مطابقا للحقّ الحقيق ملازما له.
العاشرة:(و قولكم (1)حكم و حتم)وصف قول آل البيت عليهم السّلام بوصفين:
الحكم و الحتم،و يلزم هنا توضيح الوصفين لقولهم الرضيّ،أمّا الحكم فله معنيان:
ألف)الحكم،هو القضاء النهائيّ في كلّ معضلة مشكلة،و هذا المعنى من خواصّ القرآن،قال تعالى في وصف القرآن: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ* وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ (2)،فقول آل البيت عليهم السّلام إن لم يوصف بهذا الوصف لا يكون عدلا للقرآن.
ص:599
ب)الحكم بمعنى الحكمة،فيكون معنى الجملة:أنّ قولكم متضمّن للحكمة و متوغّل فيها،بحيث صار عين الحكمة،(فيكون مبالغة من باب:
زيد عدل)،فإن كان المراد هذا المعنى كان تكليف شيعتهم في اتّباع أقوالهم خطيرا،و التخلّف عنه عظيما،لانتهاء التخلّف إلى الإخلال في الحكمة.
و أمّا الحتم(و هو وصف ثان للقول)فمعناه أنّه لازم الاتّباع و يجب التسليم له،إمّا لكونه فاصلا بين الحقّ و الباطل،قال تعالى: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ، (1)و أمّا لكونه حكمة يجب تحصيلها و الظفر بها.
الحادي عشر:وصف رأي آل البيت عليهم السّلام هنا بأوصاف ثلاثة:
ألف)كونه علما.ب)حلما.ج)حزما.
فيكون رأي كهذا أكمل رأي،و لا يوجد مثله في الآراء في الكمال و الجامعيّة.أمّا وصف الرأي بالعلم فمعناه عدم صدور رأي منكم على الظنّ أو الحدس أو التخمين،فضلا عن أن يكون على الوهم و الجهل (معاذ اللّه)،بل يكون رأيكم دائما على العلم الشهوديّ بجميع الحقائق الكونيّة و الشرعيّة.
ص:600
و أمّا وصفه بالحلم،فالحلم هو ثبات النفس و استقرارها عند المكروه، فيكون معناه أنّ رأيكم لا يتلوّن بألوان الشروط المتغيّرة،و لا يتأثّر بأثر كلّ زمان أو مكان أو حال،بل هو حقّ ثابت لا يتطرّق إليه الباطل.و أمّا وصفه بالحزم،فمعناه أنّكم حين تصدرون رأيكم لا تغفلون عن المصالح و المفاسد الجانبيّتين(فتدبّر).
«إن ذكر الخير كنتم أوّله و أصله و فرعه و معدنه و مأواه
و منتهاه»
و فيه سبع نكات:
الأولى:هذا ثناء آخر لآل البيت عليهم السّلام عند ذكر الخير،و ينحلّ بعدّة أثنية اخرى،و بهذه الفقرات تتبيّن نسب آل البيت عليهم السّلام مع الخير،و ليس معناها أنّ كون هذه النسب فيهم عليهم السّلام مشروطة بذكر الخير و مع عدم ذكره تنتفي النسب عنهم،بل تكون هذه النسب حقائق ثابتة أعمّ من أن يذكر الخير أم لم يذكر،و أعمّ من أن يكون للخير ذاكر أم لم يكن،(كما أنّ الحمد للّه سواء كان هناك حامد أو لم يكن)،بل المراد هو أنّ ذكر الخير في ذكر كلّ عارف يوجب توجّهه إليهم كما بذكر الجود يتبادر«حاتم»إلى الذهن بدلالة التزاميّة.
الثانية:الخير صيغة تطلق على ثلاثة معان في علم الصرف،و هي:
ص:601
المعنى المصدريّ،و الوصفيّ،و التفضيليّ،فمعناه المصدريّ هو ما كان أصلا لمشتقّاته،كالضرب بالنسبة إلى جميع ما يشتقّ منه،و لا اعتبار هنا بهذا المعنى،و أمّا معناه الوصفيّ فهو ما يقابل الشرّ،و معناه التفضيليّ هو ما كان في الأصل الأخير.و ما اريد هنا من لفظة الخير هو معناه الوصفيّ لا التفضيليّ،لأنّه يندرج تحت معناه الوصفيّ بملاحظة جميع هذه النسب فيه،أي إذا كان آل البيت عليهم السّلام أوّلا و أصلا و فرعا و معدنا و مأوى و منتهى للخير كانوا في كلّ خير أكمل من غيرهم.
الثالثة:أنّ للخير مفهوما واسعا،و هو ما يرغب إليه الكلّ،و لمفهومه مصاديق لا تعدّ و لا تحصى،و لكن ذكر بعض مصاديقه في القرآن و الحديث،قال تعالى: وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (1)،(و هو المال على ما فسّروه):
«...أنّ رجلا من أهل الكوفة كتب إلى الحسين بن عليّ عليه السّلام:يا سيّدي أخبرني بخير الدّنيا و الآخرة.فكتب صلوات اللّه عليه:«بسم اللّه الرّحمن الرّحيم،أمّا بعد؛فإنّ من طلب رضا اللّه بسخط النّاس كفاه اللّه أمور النّاس،و من طلب رضا النّاس بسخط اللّه و كله اللّه إلى النّاس،و السّلام» (2)،و قال زين العابدين عليه السّلام:«الخير كلّه صيانة
ص:602
الإنسان نفسه» (1).
الرابعة:أنّ الخير الذي ينسب إلى آل البيت عليهم السّلام هو ما كان خيرا حقيقيّا،لا الخيرات الإضافيّة المتغيّرة بحسب تغيّر الظروف و الشروط كالزمان و المكان و الملّيّة و الاعتقاد الخاصّ،فالخير الحقيقيّ:إمّا أن يكون أمرا وجوديّا،فالوجود خير لا شرّيّة فيه أصلا(و إن كانت ماهيّته المعروضة له شرّا)،و إمّا أن يكون ما يرغب فيه العقل السليم و الفطرة الأصيلة،فالحاصل أنّ لآل البيت عليهم السّلام نسبا إلى الخير بهذين المعنيين؛لأنّه إن اريد بالخير أمر وجوديّ كانوا أوّله،لأنّ فيض الوجود من اللّه يفيض إلى كلّ موجود بوساطتهم،و إن اريد منه الخير،بالمعنى الثاني فلا ينشأ ذلك الخير الحقيقيّ إلاّ منهم.
الخامسة:أنّ لآل البيت عليهم السّلام في الخير نسبيّات ستّ.
ألف)الأوّليّة.ب)الأصليّة.
ج)الفرعيّة.د)المعدنيّة.
ه)المأوائيّة.و)المنتهائيّة.
توضيح النّسبة:
ألف)الأوّليّة،أنّ آل البيت عليهم السّلام من حيث كونهم وسائط في عالم التكوين،و أوّل ما صدر كانوا أوّل الخيرات(فيتعيّن المعنى الأوّل من
ص:603
الخير).
ب)الأصليّة،معنى أصليّتهم للخير أكمليّتهم من كلّ موجود:
عن جابر بن عبد اللّه قال:«قلت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله:أوّل شيء خلق اللّه تعالى ما هو؟فقال:نور نبيّك يا جابر،خلقه اللّه،ثمّ خلق منه كلّ خير» (1)،فعلى هذا ينطبق معنى الأصل عليهم عليهم السّلام(و هو الذي يبنى عليه شيء غيره).
ج)الفرعيّة،و هي ثالثة النسبيّة و معناها هو عبارة عن بقاء كلّ خير بسببهم.
توضيحه:أنّ كلّ أصل مجمل يتفصّل بفروعه،و من الفروع بقاء وجوده و دوامه و إنتاجه،و تحصّل غرضه كشجرة مثمرة،فما كانت أعراقها و اصولها في بطن الأرض فهي في مقام الإجمال،فإذا نبتت أغصانها و أوراقها كانت مثمرة،فكلّ هذه الفروع من الأغصان و الأوراق و الثمر تعين على بقائها،فحيث إنّ آل البيت عليهم السّلام علّة مبقية مفصّلة لكلّ خير حقيقيّ،كانوا فرعه بهذا المعنى؛لأنّه كما اشير إليه:البقاء و التفصيل فرعان على الوجود الإجماليّ الأصليّ كما مثّلنا لك في الشجرة.
د)معدن كلّ شيء هو مقرّ الشيء و منبته،فكون آل البيت عليهم السّلام معدنا للخير معناه أنّ الخير ينبت منهم و يستقرّ فيهم،كظهور المعجزات و تكرّر
ص:604
الكرامات منهم أحياء و أمواتا.
ه)مأواه،المأوى هو المنزل و المرجع،جاء في كتاب اللّه تعالى على لسان ابن نوح: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ (1)،فكون آل البيت عليهم السّلام مأوى للخير معناه أنّ الخير يرجع إليهم و يأمن بهم من الزوال و غلبة الشرّ المعارض له،كما تأوي القطرة النازلة من السماء إلى النهر و من النهر إلى البحر لئلاّ تزول أو لا تضمحلّ بحرارة الشمس أو برودة الهواء أو يبوسة التراب و غير ذلك،فكلّ خير يقع في العالم يرجع إليهم في القيامة؛لأنّ وساطتهم في نزول الخيرات من اللّه كوساطتهم في صعودها و بلوغها إلى الكمال المطلق (2).
و)منتهاه،و أمّا لكونهم«منتهى الخير»معنيان:
الأوّل:أنّ كلّ خير سواهم ينتهي إليهم كما تقدّم آنفا،فيكونون هم نقطة نهائيّة للخيرات،الثاني أنّهم عليهم السّلام بلغوا في الخيريّة نهايتها و وصلوا إلى غايتها،بحيث لا يفوق خيّريّتهم في الإمكان شيء،بل لا تتصوّر خيريّة إلاّ الخيريّة الصرفة المطلقة الذاتيّة لواجب الوجود.
السادسة:أنّ للخيريّة مفهوما واسعا كمفهوم الشيئيّة و الوجود،تطلق
ص:605
على الواجب و الممكن و على الخيريّة الذاتيّة المحضة و غيرها،و لكنّ المراد هنا من الخيريّة هو ما في افق الإمكان،فلا تعمّ الخيريّة الواجبة الذاتيّة،فلا يشاركون في الخيريّة مع اللّه(نعوذ باللّه)،و يشهد على ما قلناه التصريح بكونهم عليهم السّلام منتهى الخيريّة،و الخيريّة الذاتيّة لا تتناهى.
السابعة:أنّ الخير منسوب إلى آل البيت عليهم السّلام بالنسبيّات الستّ المذكورة تكوينا،و لكنّها لا تمنع من انتساب الخيرات التشريعيّة إليهم بنفس هذه النسب أيضا،بل تؤكّده؛للصلة بين التكوين و التشريع،فإنّ آل البيت عليهم السّلام لا يؤدّون أولياء في التشريع و عللا مبقية للشريعة ما لم يكونوا منسوبين إلى الخيرات التكوينيّة،فتدبّر.
«بأبي أنتم و أمّي و نفسي،كيف أصف حسن ثنائكم،
و أحصي جميل بلائكم،و بكم أخرجنا اللّه من الذّلّ و فرّج عنّا
غمرات الكروب،و أنقذنا من شفا جرف الهلكات و من النّار»
و فيه ثماني نكات:
الأولى:هذه مرّة رابعة من تفديات الزائر لآل البيت عليهم السّلام،قد انقسمت المحبوبات في ما مضى إلى:العقليّة،و العاطفيّة،و الغريزيّة.و هنا نضيف إلى ما تقدّم أنّ التفدية تنقسم إلى العليا،و غير العليا،و هي ما كانت غير عقليّة(سواء كانت غريزيّة أو عاطفيّة)،فهنا يفدّي الزائر محبوباته العقليّة
ص:606
و هي نفسه و أبوه و أمّه،فهي(المحبوبات العقليّة)متضمّنة لصاحبتيها لكونها أصلا بالنسبة إليها (1).
الثانية:(كيف أصف حسن ثنائكم)يظهر الزائر العجز عن وصف حسن ثنائهم عليهم السّلام،و هذا العجز:إمّا لعدم إدراكه لحسن الثناء،و إمّا لكلّ لسانه و بنانه عن البيان،و إمّا لضعف كليهما؛و الحقّ هو الأخير كما قال في ما سبق:«و لا أبلغ من المدح كنهكم،و من الوصف قدركم»،إذا يعجز عن البيان أيضا،لأنّ التبيين فرع على الإحاطة بالمبيّن و هي منتفية هنا، و الدليل على امتناع الإحاطة الممكنة بثناء آل البيت عليهم السّلام هو أنّهم كلمات اللّه التي تستحيل الإحاطة بها كما قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ
ص:607
إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (1).
الثالثة:(و أحصي جميل بلائكم)أنّ الزائر يظهر العجز مرّة اخرى عن إحصاء ما ابتلي به آل البيت عليهم السّلام لعدم إمكان إحصاء تلك البلايا؛لأنّ البلايا مع آثارها و توابعها في قلوب آل البيت عليهم السّلام،و في الأمّة و الإسلام بل في العالم أجمع،خارجتان كمّا و كيفا عن حيطة الحدّ و العدّ،أضف إلى ذلك كيف يمكن إحصاء هذه البلايا و جوانبها،كبلايا أمير المؤمنين بعد رحيل سيّد المرسلين؛أو كيف يمكن إحصاء ما ورد على إمامنا المفدّى الشهيد و أهل بيته في كربلاء،و كذلك ما ورد عن أئمّة الهدى من بعده،و لا يزال ترد على سيّدنا المهديّ عليه السّلام طول هذه القرون من طواغيت العالم،هل يقدر أحد على إحصائها؟!
الرابعة:وصف الزائر البلايا الواردة عليهم بالجمال،فكأنّ هذا الوصف للبلاء مأخوذ من قوله تعالى: وَ لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً (2)، (و الحسن و الجمال قريبا المعنى)،أو من مضمون قوله سبحانه عن يعقوب النبيّ عليه السّلام: قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ (3).
ص:608
الخامسة:علّة وصف البلايا بالجمال:إمّا أن تكون باعتبار تشبّههم بالأنبياء شباهة تامّة،كما قال إمامنا الكاظم عليه السّلام:«إنّ الأنبياء و أولاد الأنبياء و أتباع الأنبياء خصّوا بثلاث:السّقم في الأبدان،و خوف السّلطان،و الفقر». (1)و أمّا باعتبار الآثار المثبتة على تلك البلايا فهي متضمّنة لنتائج عظيمة لهم و لشيعتهم،كظهور كمالات لهم مثل قوّة الصبر و شدّة العزم و كمال الإيمان باللّه و خزي الأعداء و فضيحة المخالفين، و بقاء الشريعة،و المنازل الجليلة في الآخرة للشيعة،و تبيّن الحقّ من الباطل في التاريخ عند أحرار العالم،و غير ذلك.
السادسة:(بكم أخرجنا اللّه من الذّلّ)يقول الزائر مخاطبا لهم عليهم السّلام:
«قد أخرجنا اللّه بسببكم من ذلّ الكفر في العقيدة،و النفاق في قبول الإسلام ظاهرا،و من الفسق في الخلق و العمل،فلو لا إمامتكم و كونها شرطا لتحقّق الإيمان بقينا نحن في الذلّ بأقسامه»،و لعلّ هذا كان تفسيرا أو ذكر علّة لكون البلايا المذكورة جميلة.
السابعة:(و فرّج عنّا غمرات الكروب)أنّ المراد من تفريج اللّه مضائق الكروب عن الشيعة،و هي كروب الدنيا،لأنّ لكلّ من الكفر و النفاق و الفسق مخاوف و خطرات خاصّة،و إن كانت غير محسوسة للمؤمنين الأتقياء،قال تعالى في بعض مخاوف الكفر: وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا
ص:609
تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ (1)،و قال تعالى فيهم أيضا: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَ قُلُوبُهُمْ شَتّى (2)،و قال سبحانه في المنافقين: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ... (3)،مضافا إلى أنّ:«من لا إيمان له لا أمان له».
الثامنة:(و أنقذنا من شفا جرف الهلكات و من النار)كأنّ هذه الفقرة أخذت من قوله تعالى: وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها (4).و يمكن كون المراد هنا من الهلكات و النار هو الهلكات و النار يوم القيامة،بقرينة التقابل مع الجملة السابقة،لأنّ كروب الدنيا أنزل من كروب الآخرة و عذابها،إذا يريد الزائر هنا ذكر الأشدّ بعد الأضعف على ترتيبه الطبيعيّ.
«بأبي أنتم و أمّي و نفسي،بموالاتكم علّمنا اللّه معالم ديننا
و أصلح ما كان فسد من دنيانا،و بموالاتكم تمّت الكلمة و عظمت
النّعمة و ائتلفت الفرقة،و بموالاتكم تقبل الطّاعة المفترضة»
و فيه اثنتا عشرة نكتة:
ص:610
الأولى:أنّ هذه التفدية تعدّ خامسة من الزائر و تعليمها من الإمام الهادي عليه السّلام،و الفارق بين تفديته و تفدية الإمام،هو أنّ كلّ تفدية تنشأ من قوّة معرفة المفدّي و شدّة لطافة إحساسه بالنسبة إلى المفدّى،كما اشير إليه في ما سبق،فكما أنّ الإمام أقوى معرفة و ألطف إحساسا بالنسبة إلى آل البيت عليهم السّلام،بحيث لا نسبة للزائر معه عليه السّلام في هاتين الجهتين،تكون تفديته أنزل بما لا أنزل منه جنب معرفة الإمام عليه السّلام بهم،و هكذا بين الإحساسين باللطف،مضافا إلى أنّ الزائر يفدّي هنا بعد ذكر البلايا الواردة عليهم،إذا ينبعث إلى التفدية لشدّة لهيب قلبه،فكأنّ الزائر يقول:«لو كنت في خدمتكم حين ورد عليكم كلّ بليّة لآثرتكم بنفسي لكي تحفظوا، فتصيبني البليّة دونكم».
الثانية:الزائر يثني عليهم بذكر ستّة آثار جليلة مترتّبة على موالاتهم، و لكنّ ترتيب الآثار المذكورة و غير المذكورة مشروط بقبول الأمّة عامّة، فحيث لم تقبل الأمّة ذلك بعد رحيل النبيّ صلّى اللّه عليه و اله لم تتحقّق(فيا له من أسف شديد)،و تلك الآثار عباره عن:
1)تعليم معالم الدين.2)إصلاح كلّ فاسد من دنيا المؤمنين.
3)تماميّة الكلمة.4)تعظّم النعمة.
5)ائتلاف الفرقة.6)قبول الطاعة.
الثالثة:(بموالاتكم علّمنا اللّه معالم ديننا)تعليم المعالم المذكور بموالاة
ص:611
آل البيت عليهم السّلام يقتضي تبعيّة المؤمنين في جميع الشؤون من آل البيت عليهم السّلام، فهذا هو معنى الموالاة هنا (1).و أمّا سرّ التعبير بالموالاة من المفاعلة (2)فهو أنّ الزائر يليهم كما ذكر و هم عليهم السلام يلونه بالحبّ و الوداد.
الرابعة:أنّ لتعليم المعالم علّة وجوديّة،و هي اللّه سبحانه(كما قال تعالى: كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (3))،و سببا ماهويّا و هم آل البيت عليهم السّلام،فلولا موالاة آل البيت عليهم السّلام للمؤمن لم يتعلّم منهم معالم الدين و لم يمكن أن يوجد اللّه العلم بالمعالم فيه.
الخامسة:يحتاج إلى تعليم آل البيت عليهم السّلام في ما إذا قصّر النبيّ في التعليم(معاذ اللّه)مع أنّه صلّى اللّه عليه و اله لم يقصّر فيه كما قال صلّى اللّه عليه و اله في حجّة الوداع:
«يا أيّها النّاس،و اللّه ما من شيء يقرّبكم من الجنّة و يباعدكم من النّار إلاّ و قد أمرتكم به،و ما من شيء يقرّبكم من النّار و يباعدكم من الجنّة إلاّ و قد نهيتكم عنه» (4).نجيب عنه أوّلا:أنّ النبيّ علّم الناس معالم الدين بقدر حاجتهم إليه في زمانه أو ما يقرب من زمانه بعده،فذلك يكون تعليما على الإجمال؛لأنّه صلّى اللّه عليه و اله كان مؤسّسا للشريعة،و يستلزم
ص:612
التأسيس إجمال الكلام لا تفصيله،و لكنّ آل البيت عليهم السّلام يعلّمون تفصيل الأحكام بما يناسب حاجات الناس المتغيّرة المتبدّلة،و لما كانوا أئمّة للناس،و ثانيا:أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و اله علّمهم المعالم من جهة و علّمهم عمّن يأخذوا العلم من بعده من جهة اخرى.
السادسة:يتحقّق تعليمهم المعالم بأقوالهم الرضيّة و أعمالهم الزكيّة و تقريراتهم الجميلة،و كانوا عليهم السلام يكرّرون ما يعلّمون على مشي القرآن العزيز لحصول الحفظ في قلوب الناس.
السابعة:(و أصلح ما كان فسد من دنيانا)إصلاح مفاسد الأمور من قبله تعالى بالعلّيّة الوجوديّة و لآل البيت سببيّة ماهويّة كما أشرنا إلى ذلك؛ و المراد من المفاسد هو المفاسد التبعيّة الناشئة من الكفر و النفاق و الفسق في الدنيا،فلإصلاح الأمور هذا أسباب أربعة:
1)الاعتقاد بإمامة آل البيت عليهم السّلام.
2)المحبّة الشديدة لهم.
3)التعلّم منهم.
4)استعمال تعاليمهم كما ينبغي.
الثامنة:أنّ لموالاة آل البيت عليهم السّلام تأثيرا جامعا للآخرة و الدنيا و لا يقصر التأثير موالاتهم في الدنيا فقط،أو في الآخرة فقط،فموالاتهم تكون سببا لإجابة مسألة أولي الألباب الذين وصفهم اللّه في الكتاب،إلى أن قال:
ص:613
رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا عَذابَ النّارِ (1).
التاسعة:(و تمّت الكلمة)أنّ في تفسير الكلمة احتمالين:
الأوّل:المراد منها هو كلمة الإخلاص أعني«لا إله إلاّ اللّه»،و تماميّتها بالموالاة معلومة لكلّ مؤمن،لكون الموالاة شرطا لها،فلولاها كان توحيد الموحّد كأن لم يكن.و يؤيّده حديث سلسلة الذهب الآتي عن مولانا الرضا عليه السّلام عن آبائه:«سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و اله يقول:«سمعت اللّه جلّ جلاله يقول:لا إله إلاّ اللّه حصني،فمن دخل حصني أمن من عذابي.قال:
فلمّا مرّت الرّاحلة نادانا:بشروطها،و أنا من شروطها» (2).
الثاني:المراد من الكلمة«وحدة الأمّة»التي غير متحقّقة دون موالاة آل البيت عليهم السّلام كما لم تتحقّق حتّى اليوم.
العاشرة:تماميّة الكلمة: (3)إن كان المراد من الكلمة هو كلمة الإخلاص، فتكون تماميّتها بتحقّق الآثار المطلوبة منها عينا،و التي لا تحقّق لها بغير الموالاة،و يؤيّده كثير من الأخبار،منها ما ورد عن النبيّ صلّى اللّه عليه و اله:
«من رزقة اللّه حبّ الأئمّة من أهل بيتي فقد أصاب خير الدّنيا و الآخرة،فلا يشكّنّ أحد أنّه في الجنّة،فإنّ في حبّ أهل بيتي
ص:614
عشرين (1)خصلة،عشر منها في الدّنيا و عشر في الآخرة.أمّا في الدّنيا:فالزّهد،و الحرص على العمل،و الورع في الدّين،و الرّغبة في العبادة،و التّوبة قبل الموت،و النّشاط في قيام اللّيل،و اليأس ممّا في أيدي النّاس،و الحفظ لأمر اللّه و نهيه عزّ و جلّ،و التّاسعة بغض الدّنيا،و العاشرة السّخاء،و أمّا في الآخرة:فلا ينشر له ديوان، و لا ينصب له ميزان،و يعطى كتابه بيمينه،و يكتب له براءة من النّار،و يبيضّ وجهه،و يكسى من حلل الجنّة،و يشفّع في مائة من أهل بيته،و ينظر اللّه عزّ و جلّ إليه بالرّحمة،و يتوّج من تيجان الجنّة، و العاشرة يدخل الجنّة بغير حساب،فطوبى لمحبّي أهل بيتي» (2).
و إن كان المراد منها هو الوحدة التي تكون تماميّتها بانتفاء كلّ خلاف عقيديّ:كالأشعريّ و المعتزليّ و الشيعيّ غير الاثني عشريّ و...أو خلاف فقهيّ:كالحنفيّ و الحنبليّ و المالكيّ و...فتكون هذه الاختلافات كلّها معلومة لعدم جريان موالاتهم في الأمّة.
و الحاصل أنّ التماميّة تتحقّق في ما إذا لم يكن في الأمّة أيّ اختلاف و انشعاب في الأصول و الفروع،و تكون السبل في شتّى المجالات متّصلة بطريق واحد مستقيم.
ص:615
الحادية عشرة:لعلّ المقصود من«عظمة النعمة»،هو أن يكون الإسلام بعقائده و شرائعه حاكما وحيدا في جميع بقاع الأرض بعد يأس جميع الأعداء و قطع أمنيّتهم عن زواله،و ذلك لم يحصل حتّى اليوم و سيحصل بعون اللّه و مشيّته.
الثانية عشرة:(و بموالاتكم تقبل الطاعة المفترضة)،قال المنطقيّون:
«بانتفاء الشرط ينتفي المشروط»،فهنا تكون الموالاة شرطا و مقبوليّة الطاعة مشروطا (1)،إذا لا تقبل طاعة بدون الموالاة.و وصف الطاعة بالمفترضة ليس ما يقابل المندوب أو المكروه أو الحرام،بل المراد من المفترضة هنا هو المشرّعة قبال الطاعات المبتدعة،كالأحكام الصادرة عن غير بيت العصمة،و يؤيّده قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (2).
«و لكم المودّة الواجبة،و الدّرجات الرّفيعة،و المكان
المحمود و المقام المعلوم عند اللّه عزّ و جلّ،و الجاه العظيم،
ص:616
و الشّأن الكبير،و الشّفاعة المقبولة»
و فيه اثنتا عشرة نكتة:
الأولى:هذا الفصل أيضا من فصول باب الأثنية،و هو الفصل الذي يبدأ ببيان وجوب المودّة لآل البيت.و في هذا الفصل تتبيّن الآثار القربيّة المترتّبة على مودّتهم،كما أنّ الفصول الأخيرة السابقة مبيّنة لما يترتّب عليه من الآثار الدنيويّة كما أشرنا إليه قبيل هذا.
فبهذا البيان تحفظ الصلة بين هذا الفصل و الفصل السابق،و يمكن تبيين الصلة بوجه آخر،و هو أنّ في الفصل السابق ذكرت عدّة علل و في هذا يذكر المعلول،أي:لكم المودّة الواجبة لما ذكر من العلل كتعليم المعالم و إصلاح المفاسد و غيرهما،فبهذا يتبيّن وجه إيجاب اللّه مودّة آل البيت عليهم السّلام كتكليف فوق الصلاة و الصيام و أعظم منهما.
الثانية:أنّ هذه الفقرة(لكم المودّة الواجبة)مأخوذة من قوله تعالى:
قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (1)،فالآية الكريمة تكون مأخذا لها من جهة،و دليلا على إثبات محتواها و هو وجوب المودّة من جهة أخرى،مضافا إلى الكمالات المذكورة السابقة لآل البيت (في هذه الزيارة)و التي توجب عقلا القول بإمامتهم و وجوب اتّباعهم.
الثالثة:ذكر في هذا الفصل سبعة من الأثنية،بعضها منحصر في
ص:617
آل البيت عليهم السّلام و لا يشاركهم فيه غيرهم،و بعضها لا يشارك معهم الغير في كماله لاختصاص مرتبته الكاملة بهم،و إن شاركهم غيرهم في مراتبه النازلة،فمن الأوّل كوجوب المودّة،و من الثاني كرفع الدرجة أو كبر الشأن.
الرابعة:الفرق بين المودّة و المحبّة و الموالاة:
أنّ للمحبّة باعثا عقليّا ينبعث به المحبّ إلى محبوبه،كانبعاث المتعلّم إلى المعلّم و الولد إلى أبيه،و لكنّ المودّة لها باعث عاطفيّ إحساسيّ، كانبعاث الوالدين إلى ولدهما و انبعاث أحد الزوجين إلى الآخر،قال تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً (1)،و أمّا الموالاة(فهو كما أشير إليه)من مقولة التبعيّة في العمل.
الخامسة:أنّ جميع التكاليف الدينيّة تنقسم إلى الأفعال و التروك، فالأفعال تنقسم إلى الواجبات و المندوبات،و الواجبات منقسمة إلى الواجبات البدنيّة و الواجبات القلبيّة،و القلبيّة تكون أوجب من البدنيّة لشرافة القلب بالنسبة إلى البدن،فالمودّة من القسم الأخير.فكلّ ما كان وجوب التكليف أشدّ يكون التخلّف عنه أكبر عصيانا،فيكون ترك المودّة هكذا بالنسبة إلى ترك الصلاة و نظائرها،فهذا الترك و إن لم يعدّ كفرا في
ص:618
الفقه و لكن يعدّ كفرا بحسب الاعتقاد،و يؤيّده بعض الآيات(كآية القربى) التي لا يشكّ في كفر تارك محتواها أحد من المسلمين،و كثير من الأخبار، منها قول النبيّ صلّى اللّه عليه و اله في حديث طويل:«ألا و من مات على بغض آل محمّد مات كافرا» (1).
السادسة:(و الدرجات الرفيعة)وصف آل البيت عليهم السّلام هنا برفعة الدرجات،فاستعمال الدرجات إمّا لمجموعهم باعتبار الأفراد و الأشخاص، فتكون لكلّ منهم درجة رفيعة،و إمّا لجميعهم،أي لكلّ فرد منهم درجات باعتبار شؤونهم المختلفة من العلم و الإيمان و العمل و التقوى،و غير ذلك من الشؤون.
السابعة:أنّ رفعة درجاتهم تثبت بوجوه:الأوّل؛كونهم أئمّة،فكما يجب للإمام تقدّمه على الأمّة في كلّ خير(كما قال تعالى عن قول
ص:619
إبراهيم عليه السّلام: وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (1))،هكذا يجب أن تكون درجته أرفع من الأمّة.الثاني:كمالهم في العلم،قال تعالى: يَرْفَعِ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ (2).
الثالث:أنّهم أرفع درجة من حيث كونهم أشخص و أبرز بين العباد، و لكنّ المرتبة العليا من هذا الشأن تنحصر فيهم،و سائر المؤمنين يشاركونهم في المراتب النازلة لهم.
الثامنة:هذه الفقرة(و المكان المحمود)مأخوذة من الآية التالية،فهم ذوو مقام محمود،فهذا الشأن لا يختصّ بالنّبيّ صلّى اللّه عليه و اله:( وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (3))،بل يعمّهم عليهم السّلام أيضا لجهتين:
الأولى:أنّ كلّ واحد منهم كان كنفس النبيّ صلّى اللّه عليه و اله مضافا إلى استخلافه منه صلّى اللّه عليه و اله.
الثانية:أنّ كلّ سبب(خصوصا التهجّد)أوجب بلوغ النبيّ صلّى اللّه عليه و اله إلى هذا الشأن،و هو بعينه كان موجودا في آل البيت عليهم السّلام كما يشهد عليه التتبّع.
التاسعة:(و المقام المعلوم عند اللّه عزّ و جلّ)أنّ لآل البيت عليهم السّلام مقاما
ص:620
معلوما عند اللّه تعالى،فالتعبير بعند اللّه يدلّ على أفضليّة آل البيت عليهم السّلام على الملائكة،كاختصاص عباده المرضيّين بجنّة خاصّة،قال تعالى في حقّهم: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبادِي* وَ ادْخُلِي جَنَّتِي (1)و قال تعالى: عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (2)،فهذا فرق بينهم و بين الملائكة (3).
العاشرة:يمكن أن يراد«بالجاه العظيم»بما لهم عند اللّه من الزلفى و«بالشأن الكبير»،بما لهم من الكبر و الجلالة في قلوب الناس حتّى في قلوب أعدائهم،أو يراد بالجاه من الشأن آخذيّتهم للفيوضات(يلي الربّي)، و ب«الشأن»بكونهم سببا لاستفاضة الخلق منهم(يلي الخلقي).
الحادية عشرة:(و الشفاعة المقبولة)قد سبق منّا تحقيق طويل في الشفاعة،و هنا و بمناسبة المقام نقول:إنّ الشفاعة تقيّدت بالمقبولة،فإن كان القيد توضيحيّا كان معنى الجملة أنّ لكم شفاعة لا تردّ(لأنّ هذه الجملة و كلّ جملة سابقة لها عطف على جملة«و لكم المودّة الواجبة») و الشفاعة لا تنقسم إذا إلى مردودة و مقبولة،و إن كان احترازيّا،كان
ص:621
معناها أنّ شفاعتكم ليست من سنخ الشفاعات المردودة بين الناس،بل هي مقبولة عند اللّه.و الحاصل أنّ كلّ شفاعة تقع يوم القيامة تكون مقبولة، و الشفاعات الكاذبة التي لا تقع أصلا في القيامة هي شفاعات ترجوها عبدة الأوثان و الأصنام،و هي غير مأذونة،قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ (1)،فبهذا البيان يتعيّن كون المقبولة قيدا توضيحيّا.
الثانية عشرة:أنّ هذه الشفاعة كانت كمعلولة ذكرت علّتها قبلها، و علّتها تتشكّل من أجزاء و هي عبارة عن:
ألف)وجوب مودّتهم للمستشفع،و هو جزء رئيسيّ لسائر الأجزاء الآتية،و به يتحقّق الربط و النسبة بين الشفعاء و المستشفعين.
ب)كون درجاتهم رفيعة.
ج)كون مقامهم محمودا.
د)كون مكانهم معلوما.
ه)عظمة الجاه.
و)كبر الشأن.
ص:622
«رَبَّنا آمَنّا بِما أَنْزَلْتَ وَ اتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ (1)، رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ (2)، سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (3)»
و فيه أربع نكات:
الأولى:الغرض من إيراد هذه الآيات هنا،إقرار الزائر متضرّعا إلى اللّه إقرارا تضمّنته الآيات،و هو كالتالي:
ص:623
ألف)إظهاره الإيمان بما أنزل اللّه.
ب)الإقرار بمتابعة الرسول.
ج)الإقرار بكونه مهتديا(و للّه الحمد).
د)الإقرار بكونه تعالى وهّابا.
ه)الاعتراف بصدق عداته سبحانه.
فالحاصل أنّ بعض هذه الإقرارات يرتبط بنفسه و بعضها يكون مدحا للّه تعالى،فذكر جميعها يكون كتوطئة و تمهيد لما سيسأل؛لأنّ قبل مسألة الحاجة من اللّه أمر المؤمن بإظهار الإيمان و بأن يمدح اللّه تعالى و يثني عليه ليستجاب دعاؤه و يعطى مسألته،كما قال الصادق عليه السّلام:«كلّ دعاء لا يكون قبله تمجيد فهو أبتر» (1).
و أمّا طلباته فهي كما يقول: فَاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ و أن لا يضيق اللّه قلبه عن الهدى،و أن يهب اللّه ما يسأله؛و ذكر اسم الوهّاب لذلك و لبيان أنّه لا يستحقّ قضاء حوائجه إلاّ أن يهب اللّه له،لأنّ الهبة لا يشترط فيها الاستحقاق (2).
ص:624
الثانية:يريد الزائر متعلّما من الإمام الهادي عليه السّلام أن يقرّ بكلّ ما ذكر في آل البيت عليهم السّلام من الأوصاف و الشؤون و الكمالات و وجوب التولّي لهم و التبرّي من أعدائهم ممّا يجب الإيمان به،لأنّ جميعها مصاديق جليّة لمتعلّقات الإيمان،و هي حقيقة الاهتداء التي لا ينبغي زيغ القلب عنها، و أنّ الإيمان بها و الاتّصاف بها يعدّ اتّباعا للرسول.و أخيرا يسبّح اللّه و ينزّهه عن خلف الوعد،و يضيف في مسألته هبة الرحمة من عند اللّه، و مراده من هذه الرحمة هو أن يزيد اللّه في قلبه معرفة آل البيت عليهم السّلام و حبّهم،لأنّهم تلو النبيّ و إمامتهم تلو النبوّة،فتكون المعرفة بهم و محبّتهم تلوا لمعرفة النبيّ و محبّته،كما قال تعالى: وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ (1)،و قد فسّرت الرحمة بالنّبوّة،و يؤيّده سياق الآيات.
الثالثة:(فاكتبنا مع الشاهدين)أنّ المراد من الشاهدين الذين يسأل الزائر معيّتهم،هم آل البيت عليهم السّلام،كما سبق توضيحه في الفصول السابقة، كما أنّ المراد من الصادقين،هم عليهم السّلام أيضا،كما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ (2).و لكنّ الزائر من حيث كونه مؤمنا أمر بأن يكون مع الصادقين،كما في الآية،و لكن هنا يسأل اللّه أن يكتبه مع الشاهدين،و في ظاهر الأمر بكونه مع الصادقين،و في مسألته
ص:625
تعارض؛لأنّ المعيّة إن كانت من فعله فكيف يسأل أن يكتبه اللّه،و إن كانت من فعل اللّه فكيف اسند إليه و كيف أمره اللّه أن يحصّله لنفسه؟ يستفاد الجواب في رفع التعارض من التفاوت في التعبيرين(الصادقين، و الشاهدين)فكون معيّته الصادقين إنّما هي باختياره بأن يؤمن بعصمتهم و انتفاء الكذب عنهم فيتّبعهم،و لكن كونه مكتوبا مع الشاهدين في طومارهم خارج عن اختياره،فيجب أن يصنعه اللّه فيه لحصول هذه المعيّة في القيامة،أو يسأل الزائر أن يتقبّل اللّه معيّته و اتّباعه منهم في الدنيا و يثبّته على هذه المعيّة حتّى يموت.
الرابعة:يريد الزائر من ذكر هذه الآية(سبحان ربّنا...)تأكيده في مسألته و إصراره للإجابة كفقير محتاج عند ملك كريم،يستدلّ على تنزّه الملك من أن يردّه من غير إعطاء له بعدة الملك إيّاه،فكأنّ الفقير يقول:لا يحسن أن تردّني أيّها الملك؛لما وعدتني بقولك هذا(إن كان وعد ربّنا لمفعولا).مضافا إلى أنّ الزائر مؤمن عقلا باستحالة خلف الوعد عليه سبحانه،لأنّ خلف الوعد إمّا أن يكون من جهل الواعد المخلف أو من عجزه أو من حاجته إلى الخلف،أو من كذب وعده أو كون خلف الوعد حسنا ذاتا،فانتفاء هذه البواعث و نزاهته سبحانه دليل عقلي قاطع على امتناع الخلف عليه.
ص:626
«يا وليّ اللّه،إنّ بيني و بين اللّه عزّ و جلّ ذنوبا لا يأتي عليها
إلاّ رضاكم فبحقّ من ائتمنكم على سرّه،و استرعاكم أمر خلقه،
و قرن طاعتكم بطاعته،لمّا استوهبتم ذنوبي و كنتم شفعائي»
و فيه سبع نكات:
الأولى:أنّ الزائر أقرّ بجميع الكمالات و الشؤون العالية و الأوصاف الحميدة،و بكلّ ما يجب أن يؤمن به في حقّ آل البيت عليهم السّلام من ابتداء هذه الزيارة إلى هنا،فهنا يسأل آل البيت عليهم السّلام بأشدّ الخوف و التضرّع إليهم أن يتوسّطوا بينه و بين اللّه لاستيهاب ذنوبه.و يستفاد من ذلك أنّ ذنوب المؤمن لا تغفر إلاّ من طريق المعرفة بهم و توسيطهم عند اللّه عزّ و جلّ، و هذا اعتقاد ضروريّ للشيعة الاثني عشريّة بأنّ آل البيت عليهم السّلام وسيلة بين اللّه تعالى و بين خلقه تكوينا و تشريعا في امور الدين و الدنيا،كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله:«الأئمّة من ولد الحسين،من أطاعهم فقد أطاع اللّه، و من عصاهم فقد عصى اللّه،هم العروة الوثقى،و هم الوسيلة إلى اللّه عزّ و جلّ» (1).
الثانية:يستشفع الزائر هنا ليشفعوا له بأن يغفر اللّه له و يعفو عنه،و هذا
ص:627
الاستشفاع يتفرّع على ما أقرّ سابقا بكون شفاعتهم،مقبولة و التعبير ب«كنتم»مفيد لإطلاق شفاعتهم في الدارين،فلا ينظر في هذا التعبير إلى الزمان الماضي أو إلى المستقبل المحقّق الوقوع(الذي يعبّر عنه بالماضي)،بل ينظر إلى انسلاخ شأن الشفاعة لهم عن الزمان و ثبوته فيهم.
الثالثة:أنّ مراد الزائر من تعبيره ب«يا وليّ اللّه»ثمّ خطابه بالجميع(بلفظ «إلاّ رضاكم»)،أمّا جنس الوليّ،فهذا يعمّ جميع الأئمّة عليهم السّلام فيما إذا قصد زيارتهم معا،و أمّا إذا كان زائرا لأحدهم فلا يشكل تعبيره بالوليّ،و لكنّ تعبيره بالجمع في رضاكم حاك عن اعتقاده هذا في حقّ جميعهم،و إن كان مزوره واحدا منهم عليهم السّلام.
الرابعة:يريد الزائر(بعد الإقرار بمعرفتهم)من إقراره بالذنوب أنّه مع ذلك كلّه قاصر في معرفتهم و مقصّر في اتّباعهم،و أنت خبير بأنّ الذنوب من إمكان جمعها مع الإيمان و عدم ذلك الإمكان قسمان،فمراد الزائر هنا من الذنوب هي القسم الأوّل،و إلاّ لم يكن مؤمنا من رأسه.
الخامسة:الحكمة في وصفه اللّه بالعزّة و الجلال هي أن يعترف بأنّي مع علمي بكونه تعالى غالبا قاهرا عليّ،و كونه ذا شوكة و هيبة قصّرت في طاعته فعصيته،فهذا العلم أوجب كبر ذنوبي بأزيد ممّا كانت على كبرها الذاتيّ،فلهذا جعلتكم وسيلتي إلى اللّه؛لأنّ ذنوبا كبيرة كهذه لا تغفر إلاّ في ما إذا كانت الوسيلة إلى اللّه كبيرة أيضا،فهو يسأل آل البيت عليهم السّلام أن
ص:628
يرضوا عنه؛لأنّ رضاهم عنه هو عين رضا اللّه أو يستلزمه (1).
السادسة:لا شكّ في أنّ اللّه،و هكذا آل البيت عليهم السّلام،يرضون عن الزائر المستشفع؛لكونه مؤمنا،و لكنّ الزائر لا يطمئنّ أوّلا بأنّه هل يلقاهم مؤمنا أم لا؟و ثانيا هو يرى نفسه مقصّرا في أعماله و لا يطمئنّ هل يعذّبه اللّه على ما قصّر ثمّ يخلّصه من العذاب أم لا يعذّبه أصلا،فلهذا يطلب منهم الشفاعة.
السابعة:أتى الزائر هنا بثلاث أقسام(جمع قسم)،و المقسم به في جميعها هو اللّه جلّ و علا:
الأوّل:من ائتمنكم على سرّه،الثاني:«و استرعاكم أمر خلقه»،الثالث:
«و قرن طاعتكم بطاعته»،و الغرض منها تبيين أنّه غير مرضيّ لدى اللّه و عند آل البيت عليهم السّلام أيضا بأعماله الغير صالحة،ثمّ يطلب من آل البيت عليهم السّلام استيهاب ذنوبه من اللّه بأن يهب له العفو عنها.
ص:629
«فإنّي لكم مطيع،من أطاعكم فقد أطاع اللّه،و من عصاكم
فقد عصى اللّه،و من أحبّكم فقد أحبّ اللّه،و من أبغضكم فقد
أبغض اللّه»
و فيه خمس نكات:
الأولى:يريد الزائر هنا التوبة بعد تضرّعه إلى اللّه و إلى آل البيت عليهم السّلام بأن يضمن للّه الطاعة و الإعراض عن المعصية،لأنّ للتوبة شرائط أصليّة و شرائط للكمال،فالتضرّع شرط لكمالها،و لكنّ الالتزام بالطاعة و الندامة عن المعصية شرط أصليّ لها،فالزائر يتوب إلى اللّه بالشرائط كلّها لتكون توبته مقبولة عند اللّه،و ليستجلب شفاعة آل البيت عليهم السّلام و وساطتهم إليه سبحانه.
الثانية:يقول:«فإنّي لكم مطيع»،و لا يعبّر عن قصده ب«فإنّي مطيع لكم»ليفيد الحصر،فلو عبّر عكس ذلك لم يفد الحصر،لما قالت الأدباء:
«تقديم ما حقّه التأخير يفيد الحصر»،و هذا الحصر ناشئ من وحدة الصراط،كما قال تعالى: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ (1)،و هو ليس إلاّ صراط آل البيت عليهم السّلام،و يدلّ عليه ما ورد
ص:630
من الأخبار في تأويل قوله سبحانه: اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (1)،و ما تشبهه من الآيات(هذا مضافا إلى أنّه مصرّح بكونهم عليهم السّلام هم الصراط في نفس هذه الزيارة،كما سبق شرحه).
الثالثة:ينبعث الزائر إلى كونه مطيعا لهم عليهم السّلام بثلاثة بواعث:
ألف)الاستعطاف.
ب)إرادة التوبة.
ج)بقاؤه على الإيمان و إقراره به و إن كان مقصّرا في العمل و الخلق.
الرابعة:(من أطاعكم فقد أطاع اللّه،و من عصاكم فقد عصى اللّه)يقرّ الزائر بأنّ طاعة آل البيت عليهم السّلام هي طاعة اللّه و مطيعهم مطيعه سبحانه، و كذلك في المعصية و مرتكبها،كما قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ (2)،فهذا الإقرار من الزائر يحكي عن معرفته بصلة آل البيت عليهم السّلام الكاملة مع اللّه سبحانه،كما مرّ غير مرّة ما يشبه ذلك.
الخامسة:(من أحبّكم...)يقرّ الزائر بأنّ من أحبّ آل البيت عليهم السّلام أحبّ اللّه،و هكذا في من أبغضهم؛لأنّهم عليهم السّلام فانون في اللّه ذاتا و إرادة و فعلا و قولا،ينتج هذا الفناء الكامل منهم فيه سبحانه أن يكون محبّهم محبّا للّه، و مبغضهم مبغضا للّه.و أمّا الشواهد على المراد فكالتالي:الشاهد على
ص:631
فنائهم الذاتيّ،مضافا إلى كون فناءاتهم الآتية متفرّعة إلى هذا الفناء،كمال معرفتهم بالعزّ الربوبيّ و الذّلّ العبوديّ،و الفقر الممكن إلى الواجب: يا أَيُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللّهِ (1).و الشاهد على فنائهم إرادة:عن أبي الحسن عليه السّلام قال:«إنّ اللّه جعل قلوب الأئمّة موردا لإرادته،فإذا شاء اللّه شيئا شاءوه،و هو قوله: وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (2)»،و على فنائهم فعلا،قوله سبحانه: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ رَمى (3)،و على فنائهم في اللّه سبحانه قولا،قوله: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى* إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى (4).
«اللّهمّ إنّي لو وجدت شفعاء أقرب إليك من محمّد و أهل بيته الأخيار،الأئمّة الأبرار،لجعلتهم شفعائي،فبحقّهم الّذي أوجبت لهم عليك،أسألك أن تدخلني في جملة العارفين بهم و بحقّهم،و في زمرة المرحومين بشفاعتهم إنّك أرحم
ص:632
الرّاحمين،و صلّى اللّه على محمّد و آله الطّاهرين،و سلّم تسليما كثيرا،و حسبنا اللّه و نعم الوكيل» و فيه إحدى عشرة نكتة:
الأولى:أنّ الزائر بعد زيارته يتضرّع إلى اللّه تعالى؛لأنّه سبحانه كما هو الأوّل هو الآخر،فلهذا ندبت البسملة في أوّل كلّ أمر و الحمدلة في آخره، مضافا إلى أنّ بهذا التضرّع تنتهي زيارته بمسك الختام.
الثانية:في ما قدّم الزائر من كمالات آل البيت عليهم السّلام بأنواعها و أوصافهم و شؤونهم عليهم السلام صار مؤمنا عارفا بهم،و بكونهم باب اللّه الوحيد و سبيله الفريدة،و هنا يقرّ بهذا في ضمن تضرّعه إلى اللّه.
الثالثة:يقرّ الزائر بأنّه لم يجد شفعاء أقرب إلى اللّه من النبيّ و أهل بيته،و قد عبّر عن عدم وجدانه بلفظة«لو»الشرطيّة بدل أختها«إن» الشرطيّة،و كأنّه يقول:يمتنع أن يوجد شفيع بمثل قربهم إلى اللّه.فتبيّن من هذا كونهم أفضل من جميع المقرّبين من الأنبياء و المرسلين و الملائكة، فعدم وجدانه هذا دليل على عدم الوجود،و إلاّ لزم الكذب المنافي للعصمة (1)؛(لأنّ الزائر يقول هذا تعلّما عن المعصوم).
الرابعة:إقرار الزائر بأقربيّة آل البيت عليهم السّلام(و هم شفعاء)إلى اللّه من
ص:633
غيرهم،قد حصل ممّا عرفهم في الفصول السابقة و عرف بالملازمة أو التضمّن،إمّا ببطلان غيرهم أو بنقصانه،و إمّا بالنقصان،فلهذا لا يستشفع بغيرهم؛لعدم صدور الأثر عن الباطل،و للزوم كون الأكمل أقرب،و كون الأقرب شفيعا.
الخامسة:أنّ شفاعة آل البيت عليهم السّلام مجعولة منه سبحانه،و مجعوليّتها ملازمة لمأذونيّتها؛لامتناع أن يجعل اللّه أحدا شفيعا ثمّ لا يأذن له بالشفاعة،و لاستحالة أن يأذن اللّه لأحد في الشفاعة مع عدم جعله لها، فالحاصل أنّ شفاعتهم مأذونة مجعولة،فالزائر يستشفع من شفعاء كهؤلاء، فكلّ شفاعة كهذه من كلّ شفيع مثلهم ممتنع الردّ و واجب القبول،و كلّ شفاعة مقبولة ينجو بها المستشفع من الهلاك قطعا أو يصل إلى علوّ درجاته حتما.
السادسة:(فبحقّهم الذي أوجبت لهم عليك)في إيجاب اللّه الحقّ على آل البيت عليهم السّلام أنّه تعالى أوجب لآل البيت عليهم السّلام حقّا على نفسه،و هذا ثابت بالبرهان و القرآن،أمّا البرهان فهو عدله و حكمته،و بهما يمتنع إضاعة حقّ ذي حقّ،فالإمامة و النبوّة و الهداية و أشباه ذلك من الشؤون لا تبقى بلا أجر،و أمّا القرآن فكما قال تعالى على لسان نوح عليه السّلام: إِنْ أَجرِيَ إِلاّ عَلَى اللّهِ (1)،و قال تعالى على لسان نوح عليه السّلام أيضا: إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلى
ص:634
رَبِّ الْعالَمِينَ (1)،فكلّما كان موجب حقّ أعظم كان الحقّ بالنسبة إلى مستوجبه أعظم،فحيث لا موجب أعظم من النبوّة و الإمامة فليس حقّ أعظم من حقّهما.
السابعة:قد قلنا في ما سبق:إنّ وساطة آل البيت عليهم السّلام في قضاء حوائج المؤمن تعدّ من شؤون الشفاعة،إذا يلزمه أن يقدّم ذكرهم و يؤخّر مسألته ليستجاب دعاؤه،فلو قدّم ذكر حاجته و أخّر توسيطهم كان ممّن لا يعبأ به لعدم استقامة دعائه،قال تعالى: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ (2)،مضافا إلى ما خاطبهم عليهم السّلام في ما سبق بقوله:«و مقدّمكم أمام طلبتي و حوائجي و إرادتي(مراداتي)في كلّ أحوالي و أموري».
الثامنة:(أسألك أن تدخلني...)يسأل الزائر بتوسيطهم عليهم السلام أن يدخله اللّه في جملة العارفين بهم،مع ما أقرّ فيما سبق بأنّه عارف(عارف بكم و بضلالة من خالفكم)،فتتعارض مسألته هذه ظاهرا مع إقراره السابق،و الجواب عن ذلك من وجوه:
ألف)يريد من مسألته هنا أن يثبّته اللّه على معرفتهم إلى أن يدخل في جملة العارفين.
ب)أن يقوّي عرفانه حتّى لا يزول.
ص:635
ج)أنّ عرفانه بهم و إن كان منتجا لنتائجه المطلوبة،و منها دخوله في جملة العارفين بهم و بحقّهم،و لكنّه يحتاج إلى أن ينجّز اللّه وعده من ترتيب الآثار المطلوبة من العرفان بهم،لأنّه سبحانه هو الفعّال لما يشاء و الحاكم لما يريد،و لا يخرج شيء أو أمر عن سلطانه،و لا يحدّ حادّ قدرته المطلقة.
التاسعة:يسأل الزائر هنا دخوله في زمرة المرحومين بشفاعتهم،مع أنّ عليّا عليه السّلام قال:«و لا شفيع أنجح من التّوبة» (1)،فينبغي إذا أن يسأل توفيق التوبة؛لأنّ شفاعتها ظاهرا طبق هذا أنجح من شفاعتهم،نجيب عنه بأنّ شفاعة التوبة مؤثّرة في رفع العذاب،و لكنّ الزائر في مسألته هذه يسأل ارتفاع الدرجة،و هذا لا يترتّب على التوبة،مضافا إلى عدم تنافي التوبة مع شفاعتهم،لأنّ التوبة مقبولة بهم،فتكون التوبة إذا سببا قريبا لرفع العذاب،و يكون آل البيت عليهم السّلام سببا بعيدا له،فنسبة رفع عذاب الزائر إلى كلّ من التوبة و إلى آل البيت عليهم السّلام نسبة صحيحة كنسبة فتح البلد إلى السلطان مرّة و إلى العسكر أخرى.
العاشرة:يختم الزائر طلباته بالصلاة مع تعبيره ب«و صلّى اللّه...»(دون أن يعبّر ب«أصلّي و أسلّم»)و بالتسليم الكثير،لأنّ الصلاة هي الرحمة الخاصّة،و ليس للزائر رحمة دون رحمة اللّه،و أمّا وصفه التسليم بالكثير
ص:636
لكون التسليم تحيّة منقطعة،بخلاف الصلاة فإنّها غير منقطعة فالكثرة تكون في الصلاة فلا حاجة إلى وصفه إيّاها بالكثرة،و لكنّ التسليم ينبغي وصفه بها،مضافا إلى أنّ طلب الصلاة و التسليم للزائر من اللّه يجاب قطعا؛لقوله سبحانه: إِنَّ اللّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً (1).
الحادية عشرة:يريد الزائر من هذه الآية الكريمة:( حَسْبُنَا اللّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ ) (2)بيان تبرّيه من الشرك،و إقراره بأنّ الاستقلال في المؤثّريّة للّه فقط و لا يشرك به سبحانه آل البيت عليهم السّلام و لا يطلب منهم إلاّ الشفاعة إلى اللّه،و أنّ شفاعتهم عليهم السّلام من شؤون وكالته الحسنة و كفايته التامّة،و هم عليهم السلام غير مستقلّين في التأثير،ينتج هذا الإيمان على هذا النحو:الظّفر بنعمة اللّه و فضله العظيم،و رضوانه الأكبر،و الصيانة من مسّ السوء،كما قال تعالى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَ اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللّهِ وَ اللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (3).
ص:637
كلمة الناشر 3
مقدّمة المؤلّف 7
المدخل 11
الباب الأوّل:التسليمات
1:«السّلام عليكم يا أهل بيت النّبوّة»21
2:«و موضع الرّسالة»33
3:«و مختلف الملائكة»36
4:«و مهبط الوحي»43
5:«و معدن الرّحمة»50
6:«و خزّان العلم»54
7:«و منتهى الحلم»57
8:«و أصول الكرم»61
9:«و قادة الأمم»64
10:«و أولياء النّعم»68
11:«و عناصر الأبرار»78
12:«و دعائم الأخيار»83
13:«و ساسة العباد،و أركان البلاد»86
14:«و أبواب الإيمان،و أمناء الرّحمن»89
15:«و سلالة النّبيّين،و صفوة المرسلين،و عترة خيرة ربّ العالمين،و رحمة اللّه و بركاته»94
تذنيب 99
ص:638
16:«السّلام على أئمّة الهدى»102
17:«و مصابيح الدّجى»106
18:«و أعلام التّقى،و ذوي النّهى»108
19:«و أولي الحجى،و كهف الورى،و ورثة الأنبياء»111
20:«و المثل الأعلى»117
21:«و الدّعوة الحسنى»124
22:«و حجج اللّه على أهل الدّنيا،و الآخرة و الأولى،و رحمة اللّه و بركاته»127
تذنيب 132
23:«السّلام على محالّ معرفة اللّه»134
24:«و مساكن بركة اللّه»139
25:«و معادن حكمة اللّه»141
26:«و حفظة سرّ اللّه»145
27:«و حملة كتاب اللّه»150
28:«و أوصياء نبيّ اللّه»156
29:«و ذرّيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،و رحمة اللّه و بركاته»159
تذنيب 163
30:«السّلام على الدّعاة إلى اللّه»164
31:«و الأدلاّء على مرضاة اللّه»168
32:«و المستقرّين في أمر اللّه»173
33:«و التّامّين في محبّة اللّه»176
34:«و المخلصين في توحيد اللّه»181
35:«و المظهرين لأمر اللّه و نهيه»184
36:«و عباده المكرمين الّذين لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون،و رحمة اللّه و بركاته»187
تذنيب 191
37:«السّلام على الأئمّة الدّعاة»192
ص:639
38:«و القادة الهداة،و السّادة الولاة»196
39:«و الذّادة الحماة»199
40:«و أهل الذّكر»205
41:«و أولي الأمر»209
42:«و بقيّة اللّه و خيرته»213
43:«و حزبه»220
44:«و عيبة علمه»225
45:«و حجّته»228
46:«و صراطه»232
47:«و نوره»239
48:«و برهانه،و رحمة اللّه و بركاته»247
تذنيب 249
الباب الثاني:الشهادات الأولى
49:«أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له،كما شهد اللّه لنفسه و...»250
50:«و أشهد أنّ محمّدا عبده المنتجب،و رسوله المرتضى،أرسله بالهدى و...»257
51:«و أشهد أنّكم الأئمّة الرّاشدون المهديّون»263
52:«المعصومون»267
53:«المكرّمون»271
54:«المقرّبون»273
55:«المتّقون»277
56:«الصّادقون»280
57:«المصطفون»283
58:«المطيعون للّه»286
59:«القوّامون بأمره»291
60:«العاملون بإرادته»295
ص:640
61:«الفائزون بكرامته»299
62:«اصطفاكم بعلمه»303
63:«و ارتضاكم لغيبه»306
64:«و اختاركم لسرّه»310
65:«و اجتباكم بقدرته»313
66:«و أعزّكم بهداه»316
67:«و خصّكم ببرهانه»319
68:«و انتجبكم لنوره»323
69:«و أيّدكم بروحه»326
70:«و رضيكم خلفاء في أرضه»329
71:«و حججا على بريّته»334
72:«و أنصارا لدينه»337
73:«و حفظة لسرّه»341
74:«و خزنة لعلمه»344
75:«و مستودعا لحكمته»346
76:«و تراجمة لوحيه»349
77:«و أركانا لتوحيده»358
78:«و شهداء على خلقه»362
79:«و أعلاما لعباده،و منارا في بلاده»366
80:«و أدلاء على صراطه»370
81:«عصمكم اللّه من الزّلل،و آمنكم من الفتن،و...»374
82:«فعظّمتم جلاله»384
83:«و أكبرتم شأنه»386
84:«و مجّدتم كرمه»389
85:«و أدمتم ذكره»390
ص:641
86:«و وكّدتم ميثاقه،و أحكمتم عقد طاعته»394
87:«و نصحتم له في السّرّ و العلانية»397
88:«و دعوتم إلى سبيله بالحكمة و الموعظة الحسنة»399
89:«و بذلتم أنفسكم في مرضاته»403
90:«و صبرتم على ما أصابكم في جنبه»406
91:«و أقمتم الصّلاة،و آتيتم الزّكاة»410
92:«و أمرتم بالمعروف،و نهيتم عن المنكر»412
93:«و جاهدتم في اللّه حقّ جهاده»414
94:«حتّى أعلنتم دعوته،و بيّنتم فرائضه،و...»418
95:«و صرتم في ذلك منه إلى الرّضى،و سلّمتم له القضاء،و صدّقتم من رسله من مضى»422
الباب الثالث:الآثار
96:«فالرّاغب عنكم مارق،و اللاّزم لكم لاحق،و...»426
97:«و ميراث النّبوّة عندكم»431
98:«و إياب الخلق إليكم،و حسابهم عليكم،و فصل الخطاب عندكم»435
99:«و آيات اللّه لديكم»439
100:«و عزائمه فيكم و نوره و برهانه عندكم،و أمره إليكم»442
الباب الرابع:النسب
101:«من والاكم فقد والى اللّه،و من عاداكم فقد عادى اللّه،و...»446
الباب الخامس:الإقرارات
102:«أنتم الصّراط الأقوم»451
103:«و شهداء دار الفناء،و شفعاء دار البقاء»453
104:«و الرّحمة الموصولة،و الآية المخزونة،و الأمانة المحفوظة»458
105:«و الباب المبتلى به النّاس،من أتاكم نجا و من لم يأتكم هلك»462
الباب السادس:في وظائف الإمامة الحقّة
106:«إلى اللّه تدعون،و عليه تدلّون،و به تؤمنون،و له تسلّمون،و...»468
ص:642
الباب السابع:النتائج،لكونهم عليهم السّلام باب حطّة
107:«سعد من والاكم،و هلك من عاداكم،و خاب من جحدكم،و...»474
الباب الثامن:الشهادات الثانية
108:«أشهد أنّ هذا سابق لكم فيما مضى و جار لكم فيما بقي»484
109:«و أنّ أرواحكم و نوركم و طينتكم واحدة،طابت و طهرت بعضها من بعض»486
110:«خلقكم اللّه أنوارا فجعلكم بعرشه محدقين»488
111:«حتّى منّ علينا بكم فجعلكم في بيوت أذن اللّه أن ترفع و يذكر فيها اسمه»493
112:«و جعل صلواتنا عليكم،و ما خصّنا به من ولايتكم،طيبا لخلقنا و...»497
113:«فكنّا عنده مسلّمين بفضلكم،و معروفين بتصديقنا إيّاكم»501
114:«فبلغ اللّه بكم أشرف محلّ المكرّمين،و أعلى منازل المقرّبين،و...»505
115:«حتّى لا يبقى ملك مقرّب،و لا نبيّ مرسل،و لا صدّيق و...»508
الباب التاسع:الطاعة و الشوق
116:«بأبي أنتم و أمّي و أهلي و مالي و أسرتي»513
117:«أشهد اللّه و اشهدكم أنّي مؤمن بكم و بما آمنتم به،كافر بعدوّكم و...»516
118:«مؤمن بإيابكم مصدّق برجعتكم،منتظر لأمركم مرتقب لدولتكم»522
119:«آخذ بقولكم عامل بأمركم،مستجير بكم زائر لكم لائذ عائذ بقبوركم»525
120:«مستشفع إلى اللّه عزّ و جلّ بكم و متقرّب بكم إليه،و مقدّمكم أمام طلبتي و...»530
121:«مؤمن بسرّكم و علانيتكم،و شاهدكم و غائبكم،و أوّلكم و آخركم»534
122:«و مفوّض في ذلك كلّه إليكم،و مسلّم فيه معكم،و...»536
123:«حتّى يحيي اللّه تعالى دينه بكم،و يردّكم في أيّامه،و يظهركم لعدله،و...»540
124:«فمعكم معكم لا مع عدوّكم،آمنت بكم و تولّيت آخركم بما تولّيت به أوّلكم»544
125:«و برئت إلى اللّه عزّ و جلّ من أعدائكم،و من الجبت و الطّاغوت و...»546
الباب العاشر:التمنيّات
126:«فثبّتني اللّه أبدا ما حييت على موالاتكم و محبّتكم و دينكم،و...»552
ص:643
الباب الحادي عشر:الأثنية
127:«بأبي أنتم و أمّي و نفسي و أهلي و مالي،من أراد اللّه بدأ بكم،و...»561
128:«مواليّ لا أحصي ثناءكم،و لا أبلغ من المدح كنهكم،و من الوصف قدركم»564
129:«و أنتم نور الأخيار،و هداة الأبرار،و حجج الجبّار»567
130:«بكم فتح اللّه و بكم يختم،و بكم ينزّل الغيث،و بكم يمسك السّماء...»569
131:«و عندكم ما نزلت به رسله،و هبطت به ملائكته،و إلى جدّكم...»574
132:«طأطأ كلّ شريف لشرفكم،و بخع كلّ متكبّر لطاعتكم،و خضع...»580
133:«و أشرقت الأرض بنوركم،و فاز الفائزون بولايتكم،بكم يسلك إلى الرّضوان...»583
134:«بأبي أنتم و أمّي و نفسي و أهلي و مالي،ذكركم في الذّاكرين،و...»587
135:«فما أحلى أسماءكم،و أكرم أنفسكم،و أعظم شأنكم،و أجلّ خطركم،و...»591
136:«كلامكم نور،و أمركم رشد،و وصيّتكم التّقوى،و فعلكم الخير،و...»595
137:«إن ذكر الخير كنتم أوّله و أصله و فرعه و معدنه و مأواه و منتهاه»601
138:«بأبي أنتم و أمّي و نفسي،كيف أصف حسن ثنائكم،و أحصي جميل...»606
139:«بأبي أنتم و أمّي و نفسي بموالاتكم علّمنا اللّه معالم ديننا و أصلح...»610
140:«و لكم المودّة الواجبة و الدّرجات الرّفيعة و المكان المحمود و...»616
الباب الثاني عشر:التضرّع و التوبة
141:«ربّنا آمنّا بما أنزلت و اتّبعنا الرّسول فاكتبنا مع الشّاهدين ربّنا لا تزغ قلوبنا...»623
142:«يا وليّ اللّه إنّ بيني و بين اللّه عزّ و جلّ ذنوبا لا يأتي عليها إلاّ رضاكم...»627
143:«فإنّي لكم مطيع من أطاعكم فقد أطاع اللّه و من عصاكم فقد عصى اللّه و...»630
144:«اللهمّ إنّي لو وجدت شفعاء أقرب إليك من محمّد و أهل بيته...»632
ص:644