نهضة الحسین علیه السلام فی المنظور السنی

اشارة

مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنیف LC: BP41.75.N3 2017

المؤلف الشخصی: الناصری الداودی، عبد المجید.

العنوان: نهضة الحسین علیه السلام فی المنظور السنی

بیان المسؤولیة: تألیف: عبد المجید الناصری الداودی؛ ترجمة: د. أنور الرصافی؛ الإشراف العلمی: مؤسسة وارث الأنبیاء للدراسات التخصصیة فی النهضة الحسینیة.

بیانات الطبعة: الطبعة الأولی.

بیانات النشر: النجف، العراق: مؤسسة وارث الأنبیاء للدراسات التخصصیة فی النهضة الحسینیة، 1438ه- - 2017م.

الوصف المادی: 424 صفحة.

سلسلة النشر: قسم الشؤون الفکریة والثقافیة - مؤسسة وارث الأنبیاء للدراسات التخصصیة فی النهضة الحسینیة.

تبصرة عامة: تم نشر هذه البحوث فی مجلة الإصلاح الحسینی.

تبصرة ببلیوغرافیة: یتضمن هوامش، لائحة المصادر: الصفحات (391-407).

تبصرة المحتویات:

موضوع شخصی: الحسین بن علی علیه السلام ، الإمام الثالث، 4 - 61 هجریاً.

موضوع شخصی: یزید بن معاویة بن أبی سفیان الأموی، 25 - 64هجریاً - نقد وتفسیر.

موضوع شخصی: الحسین بن علی علیه السلام، الإمام الثالث، 4 -61 هجریاً - مآتم العزاء.

مصطلح موضوعی: واقعة کربلاء، 61 هجریاً - أحادیث أهل السنة.

مصطلح موضوعی: واقعة کربلاء، 61 هجریاً - المحدثین - تراجم.

مصطلح موضوعی: واقعة کربلاء، 61 هجریاً - أسباب ونتائج.

مصطلح موضوعی: الشعائر الإسلامیة (شیعة) - تاریخ.

مصطلح موضوعی جغرافی:

مؤلف هیئة إضافی: العتبة الحسینیة المقدسة، قسم الشؤون الفکریة والثقافیة - مؤسسة وارث الأنبیاء للدراسات التخصصیة فی النهضة الحسینیة.

مؤلف إضافی: الرصافی، أنور، مترجم.

----------------------------------------------------------------------------------------

تمت الفهرسة قبل النشر فی مکتبة العتبة الحسینیة المقدسة

رقم الإیداع فی دار الکتب والوثائق ببغداد (1766) لسنة (2017م)

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

«لاتبکوا علی الدین إذا ولیه أهله، ولکن ابکوا علی الدین إذا ولیه غیر أهله».

(مستدرک الحاکم: ج4، ص515).

ص: 7

ص: 8

مقدّمة المؤسّسة

إنّ نشر المعرفة، وبیان الحقیقة، وإثبات المعلومة الصحیحة، غایاتٌ سامیة وأهدافٌ متعالیة، وهی من أهمّ وظائف النُّخب والشخصیات العلمیة، التی أخذت علی عاتقها تنفیذ هذه الوظیفة المقدّسة.

من هنا؛ قامت الأمانة العامة للعتبة الحسینیة المقدسة بإنشاء المؤسّسات والمراکز العلمیة والتحقیقیة؛ لإثراء الواقع بالمعلومة النقیة؛ لتنشئة مجتمعٍ واعٍ متحضّر، یسیر وفق خطوات وضوابط ومرتکزات واضحة ومطمئنة.

وممّا لا شکّ فیه أنّ القضیة الحسینیة - والنهضة المبارکة القدسیة - تتصدّر أولویات البحث العلمی، وضرورة التنقیب والتتبّع فی الجزئیات المتنوّعة والمتعدّدة، والتی تحتاج إلی الدراسة بشکلٍ تخصّص-ی علمی، ووفق أسالیب متنوّعة ودقیقة، ولأجل هذه الأهداف والغایات تأسّست مؤسّسة وارث الأنبیاء للدراسات التخصّصیة فی النهضة الحسینیة، وهی مؤسّسة علمیّة متخصّصة فی دراسة النهضة الحسینیة من جمیع أبعادها: التاریخیة، والفقهیة، والعقائدیة، والسیاسیة، والاجتماعیة، والتربویة، والتبلیغیّة، وغیرها من الجوانب العدیدة المرتبطة بهذه النهضة العظیمة، وکذلک تتکفّل بدراسة سائر ما یرتبط بالإمام الحسین علیه السلام .

وانطلاقاً من الإحساس بالمسؤولیة العظیمة الملقاة علی عاتق هذه المؤسّسة المبارکة؛ کونها مختصّة بأحد أهمّ القضایا الدینیة، بل والإنسانیة، فقد قامت بالعمل علی مجموعة من المشاریع العلمیة التخصّصیة، التی من شأنها أن تُعطی نقلة نوعیة للتراث، والفکر، والثقافة الحسینیة، ومن تلک المشاریع:

1- قسم التألیف والتحقیق: والعمل فیه جارٍ علی مستویین:

أ- التألیف: والعمل فیه قائم علی تألیف کتبٍ حول الموضوعات الحسینیة المهمّة، التی لم یتمّ تناولها بالبحث والتنقیب، أو التی لم تُعطَ حقّها من ذلک. کما ویتمّ

ص: 9

استقبال الکتب الحسینیة المؤلَّفة خارج المؤسّسة، ومتابعتها علمیّاً وفنّیاً من قبل اللجنة العلمیة، وبعد إجراء التعدیلات والإصلاحات اللازمة یتمّ طباعتها ونشرها.

ب - التحقیق: والعمل فیه جارٍ علی جمع وتحقیق التراث المکتوب عن الإمام الحسین علیه السلام ونهضته المبارکة، سواء المقاتل منها، أو التاریخ، أو السیرة، أو غیرها، وسواء التی کانت بکتابٍ مستقل أو ضمن کتاب، تحت عنوان: (الموسوعة الحسینیّة التحقیقیّة). وکذا العمل جارٍ فی هذا القسم علی متابعة المخطوطات الحسینیة التی لم تُطبع إلی الآن؛ لجمعها وتحقیقها، ثمّ طباعتها ونشرها. کما ویتمّ استقبال الکتب التی تمّ تحقیقها خارج المؤسّسة، لغرض طباعتها ونشرها، وذلک بعد مراجعتها وتقییمها وإدخال التعدیلات اللازمة علیها وتأیید صلاحیتها للنشر من قبل اللجنة العلمیة فی المؤسّسة.

2- مجلّة الإصلاح الحسینی: وهی مجلّة فصلیة متخصّصة فی النهضة الحسینیة، تهتمّ بنشر معالم وآفاق الفکر الحسینی، وتسلیط الضوء علی تاریخ النهضة الحسینیة وتراثها، وکذلک إبراز الجوانب الإنسانیة، والاجتماعیة، والفقهیة، والأدبیة، فی تلک النهضة المبارکة.

3- قسم ردّ الشبهات عن النهضة الحسینیة: ویتمّ فیه جمع الشبهات المثارة حول الإمام الحسین علیه السلام ونهضته المبارکة، ثمّ فرزها وتبویبها، ثمّ الرد علیها بشکل علمی تحقیقی.

4- الموسوعة العلمیة من کلمات الإمام الحسین علیه السلام : وهی موسوعة تجمع کلمات الإمام الحسین علیه السلام فی مختلف العلوم وفروع المعرفة، ثمّ تبویبها حسب التخصّصات العلمیة، ووضعها بین یدی ذوی الاختصاص؛ لیستخرجوا نظریات علمیّة ممازجة بین کلمات الإمام علیه السلام والواقع العلمی.

5- قسم دائرة معارف الإمام الحسین علیه السلام : وهی موسوعة تشتمل علی کلّ ما یرتبط

ص: 10

بالنهضة الحسینیة من أحداث، ووقائع، ومفاهیم، ورؤی، وأسماء أعلام وأماکن، وکتب، وغیر ذلک من الأُمور، مرتّبة حسب حروف الألف باء، کما هو معمول به فی دوائر المعارف والموسوعات، وعلی شکل مقالات علمیّة رصینة، تُراعی فیها کلّ شروط المقالة العلمیّة، ومکتوبةٌ بلغةٍ عصریة وأُسلوبٍ سلس.

6- قسم الرسائل الجامعیة: والعمل فیه جارٍ علی إحصاء الرسائل الجامعیة التی کُتبتْ حول النهضة الحسینیة، ومتابعتها من قبل لجنة علمیة متخصّصة؛ لرفع النواقص العلمیة، وتهیئتها للطباعة والنشر، کما ویتمّ إعداد موضوعات حسینیّة تصلح لکتابة رسائل وأطاریح جامعیة تکون بمتناول طلّاب الدراسات العلیا.

7- قسم الترجمة: والعمل فیه جارٍ علی ترجمة التراث الحسینی باللغات الأُخری إلی اللغة العربیّة.

8- قسم الرصد: ویتمّ فیه رصد جمیع القضایا الحسینیّة المطروحة فی الفضائیات، والمواقع الإلکترونیة، والکتب، والمجلات والنشریات، وغیرها؛ ممّا یعطی رؤیة واضحة حول أهمّ الأُمور المرتبطة بالقضیة الحسینیة بمختلف أبعادها، وهذا بدوره یکون مؤثّراً جدّاً فی رسم السیاسات العامّة للمؤسّسة، ورفد بقیّة الأقسام فیها، وکذا بقیة المؤسّسات والمراکز العلمیة بمختلف المعلومات.

9- قسم الندوات: ویتمّ من خلاله إقامة ندوات علمیّة تخصّصیة فی النهضة الحسینیة، یحضرها الباحثون، والمحقّقون، وذوو الاختصاص.

10- قسم المکتبة الحسینیة التخصّصیة: حیث قامت المؤسّسة بإنشاء مکتبة حسینیّة تخصّصیة تجمع التراث الحسینی المطبوع.

11- قسم الموقع الإلکترونی: وهو قسمٌ مؤلّفٌ من کادر علمی، وکادر فنّی؛ یقومان بنشر وعرض النتاجات الحسینیة التی تصدر عن المؤسّسة، کما یقوم بتغطیة الجنبة الإعلامیة للمؤسّسة.

12- قسم المناهج الدراسیة: ویحتوی علی لجنة علمیة فنّیة تقوم بعرض القضیة

ص: 11

الحسینیة بشکل مناهج دراسیة علی ناشئة الجیل، علی شکل دروس وأسئلة بطرق معاصرة ومناسبة لمختلف المستویات والأعمار؛ لئلّا یبقی بعیداً عن الثورة وأهدافها.

13- القسم النسوی: ویتضمن کادراً علمیاً فنیاً یعمل علی استقطاب الکوادر العلمیة النسویة، وتأهیلها للعمل ضمن أقسام المؤسّسة؛ للنهوض بالواقع النسوی، وتغذیته بثقافة ومبادئ الثورة الحسینیة.

وهناک مشاریع أُخری سیتمّ العمل علیها قریباً إن شاء الله تعالی.

وتأسیساً علی ما سبق حرصت المؤسّسة علی فتح أبوابها لاستقبال الکتب الحسینیة التخصّصیّة، ومتابعتها متابعة علمیّة وفنّیة من قبل اللجنة العلمیة المشرفة فی المؤسّسة، وفی هذا السیاق قام قسم الترجمة باختیار مجموعة من الکتب الحسینیة القیمة والمکتوبة باللغة الفارسیة لغرض ترجمتها داخل القسم، أو بالتعاقد مع مترجمین محترفین ومنها کتاب: (انقلاب کربلا از دیدگاه اهل سنت)، أی: (نهضة الحسین علیه السلام فی المنظور السنی) لمؤلفه الشیخ الدکتور عبد المجید الناصری الداودی، وقد قام بترجمته الدکتور أنور الرصافی، فکان هذا الکتاب القیّم الماثل بین یدیک عزیزی القارئ.

وقد رکّز المؤلف بحثه حول مسألة مهمّة وحیویّة وهی رؤیة أهل السّنة لنهضة الإمام الحسین علیه السلام من خلال عرض المصادر التی یعتمدون علیها فی فهم وتقییم تلک الواقعة العظیمة حیث إنّ تلک المصادر تشکّل فی الأعم الأغلب منافذ المعرفة للوصول إلی الوقائع التاریخیّة والأحداث المهمّة فی ذلک الزمان.

وفی الختام نتمنّی للمؤلِّف والمترجم دوام السداد والتوفیق لخدمة القضیة الحسینیة، ونسأل الله تعالی أن یبارک لنا فی أعمالنا، إنّه سمیعٌ مجیبٌ.

اللجنة العلمیة فی

مؤسّسة وارث الأنبیاء

للدراسات التخصصیة فی النهضة الحسینیة

ص: 12

مقدمة المؤلف

نظرةٌ إلی

مصادر عاشوراء عند أهل السنة

ص: 13

ص: 14

نظرة إلی مصادر عاشوراء عند أهل السنة

لقد استحوذت معرفة المصادر والمراجع علی أهمّیة کبیرة فی الأبحاث العلمیة ولا سیما التاریخیة منها والموضوعات المشابهة لها، ولامناص لأی بحثٍ سواء أکان فی صدد وصف الحوادث الماضیة، أم کان فی مقام تحلیلها وبیان أسبابها، سوی الرجوع إلی المصادر وتهذیبها؛ بهدف الاعتماد علی مصادر رئیسة ذات قیمة علمیة وموضوعیة، والإعراض عن تلک المصادر والمراجع غیر الرئیسة أو السقیمة، التی لاتخلو من شوائب الانحیاز وتحریف الحقائق وقلبها، بدل أن ینصب همّها علی کشف الحقیقة والواقع.

إنّ معرفة عاشوراء عند علماء أهل السنة رهن بالمصادر التی یعتمدون علیها، وهم کسائر الفرق الإسلامیة یعتمدون فی تفسیر حادثة عاشوراء والثورة الحسینیة وتحلیلها علی مراجعة المصادر والأسانید المتعلّقة بهذه الحادثة المهمّة والمعتبرة لدیهم، من هنا یکتسب البحث والتقییم الدقیق والمنهجی لهذه المصادر تأثیراً کبیراً فی معرفة آراء أهل السنة حول عاشوراء، وتقییمهم لتلک النهضة العظیمة، وفی معرفة مَن اهتدی إلی هذا السبیل ممَّن زاغ عنه من أتباع المذاهب.

بالطبع أنّ ما یخضع هنا للتقییم والبحث العلمی هو تلک المصادر والمراجع التی حظت بقبول أهل السنة أو راجت فی أوساطهم، ممّا أتاح للباحثین وضعها تحت مجهر المعاییر العلمیة، والضوابط المعتمدة، وکشف نقاط قوّتها وضعفها، مع الأخذ بنظر الاعتبار الخصوصیات العلمیة والتاریخیة والرجالیة لهذه المصادر.

ص: 15

إلّا أنّ هذا لایعنی أنّ هذه الأسانید التی سوف نبحثها تختصّ بأهل السنة دون سائر الفرق الإسلامیة کالإسماعیلیة أو الزیدیة.

تصنیف المصادر

یمکن تقسیم مصادر عاشوراء - بنحوٍ إجمالی - إلی قسمین:

قسمٌ أشار إلی بیان حادثة عاشوراء والظروف التی رافقتها بصورة مباشرة.

وآخر أشار إلیها بصورة غیر مباشرة والتی سوف نتناولها فیما بعد.

ومن الواضح أنّ الحدیث جری فی القسم الأوّل من المصادر، عمَّن کان له حضور فی عاشوراء عام (61ه-) من الرواة وشهدوا أحداثها، وهذا ما یرفع من صحّة هذه المصادر والوثوق برواتها، ویفسح لها المجال لعدّها من أفضل مصادر واقعة عاشوراء، رغم إمکان خطأ الراوی وتعصّبه وتحامله وسهوه وغیرها.

ومن المؤسف القول بأنّ آثار أغلب الرواة الذین شهدوا عاشوراء ونقلوا وقائعها قد عفی علیها الدهر واندثرت، إلّا أنّه من حسن الحظ وقعت بعض تلک الآثار بید المؤرّخین ودوّنوها فی ثنایا کتبهم، من هنا یکون المراد من المصادر الأُولی والأصیلة الروایات التی نقلتها المصادر التاریخیة وغیر التاریخیة عن الرواة الذین شهدوا الحادثة ووصلت إلینا.

و الواقع أنّ هذه الروایات والتقاریر المنقولة عن عدّة رواة قد دوّنها المؤرِّخون والمحدِّثون وعلماء الأنساب والرجال، ونقلوها فی کتبهم، ویشکّل البحث العلمی المنهجی لأنواع النقول والرواة وتهذیبها وتنقیحها وفرز الأخبار الصحیحة عن الضعیفة والسقیمة جزءاً من الجهود التی ینبغی أن ترافق عملیة البحث والتحقیق.

المصادر التاریخیة

اشارة

ص: 16

من المؤسف - کما مرّت الإشارة - أنّ المقاتل التی دوّنت نهضة عاشوراء بصورة مستقلّة لم تسلم من تطاول الزمان ونوائب الحدثان، ممّا یقتضی اللجوء إلی المصادر التاریخیة؛ لنری ما هو موقفها من هذه الحادثة المروعة فی تاریخ الإسلام.

وبصورة عامّة یمکن وضع المصادر التاریخیة فی عرضها لحادثة عاشوراء علی طائفتین:

فطائفة منها قامت بنقل المقاتل التی کانت بحوزتها مع حفظ أسانیدها، الأمر الذی انتهی إلی نقل تفاصیل تلک الحادثة.

وطائفة أُخری قامت بإیجاز الحدث أو نقله بالمعنی، أو استخلاص تقاریر من المقاتل التی کانت بحوزتها بعیدةً عن الموضوعیة، وإلیک تفصیل کلّ منها:

مقتل أبی مخنف

اشارة

یعدّ مقتل أبی مخنف أوّل ما وصل إلینا من تقریر مدوّن وقدیم استأثر باهتمام المصادر التاریخیة الرئیسة، وقد جمعه ودوّنه لوط بن یحیی بن سعید بن مخنف بن سلیم الأزدی الکوفی (90 - 157ه-) فی القرن الثانی، وکان من أشهر مؤرِّخی القرن الثانی؛ حیث کتب فی موضوعات شتّی، کالسقیفة، والرِّدّة، والشوری، والجمل، وصفین، والحرَّة، ومحاصرة ابن الزبیر فی مکة، وإقدام عسکر یزید علی حرق الکعبة، والأحداث التی سبقتها، کمقتل حجر بن عدی، وهلاک معاویة وغیرها((1))، کانت آثاراً نادرة وقیمة، ولکنّها مع الأسف قد تلف معظمها سوی کتاب (مقتل الحسین علیه السلام ) الذی لم یبق کمقتل بل جمع من المصادر التاریخیة التی نقلت عنه.

وعلی الرغم من تضارب الآراء حول مذهب أبی مخنف، ولکن الکتاب الذی

ص: 17


1- ([1]) اُنظر: ابن الندیم، محمد بن أبی یعقوب، الفهرست: ص150.

خلّفه، أی: (مقتل الحسین علیه السلام ) أصبح مرجعاً لکثیر من المؤرخین والباحثین من مختلف النحل ومن بینهم أهل السنة((1))، إذ لا مناص لهم - حین الحدیث عن خلافة یزید بن معاویة، وما اقترفه من جرائم شنیعة فی کربلاء - عن نقل أکثره أو مجمله من مقتل أبی مخنف أو اختیار مقاطع ونقل محتواها.

وکثیراً ما کان محمد بن جریر الطبری وهو أشهر المؤرخین عند أهل السنة (المتوفی عام 310 ه-) ینقل عن مقتل أبی مخنف أحداث کربلاء، فنقل عنه ما یربو علی (97) روایة مع أسانیدها، وهذا من أکثر النقول تفصیلاً عن هذا المقتل.

وقد راعی أبو مخنف الأمانة والدقّة العلمیة حین نقلِه وقائعَ عاشوراء والأحداث التی دارت فیها؛ إذ نقل بواسطة واحدة عن شهود أو عدّة رواة لکلّ حادثة، ممَّن لدیهم اطلاع واسع علیها، ومن جملة الرواة عقبة بن سمعان - مولی الرباب زوج الإمام الحسین علیه السلام - الذی رافق الإمام علیه السلام من المدینة وحتی استشهاده ثمّ وقع فی الأسر وبقی حیاً إلی أن خُلّیَ سبیله.

وینقل أبو مخنف ما جری فی المدینة بواسطة واحدة عن عقبة بن سمعان، وأمّا حوادث الکوفة ومجریاتها حین حضور مسلم بن عقیل والتحوّلات التی شهدتها الکوفة بعد استشهاده، یرویها عن اثنی عشر راویاً کانوا من أتباعه فی الکوفة، وهؤلاء کانوا ممَّن شهد الأحداث ونقلها.

وقد نقل حرکة الإمام الحسین علیه السلام عند توجّهه إلی الکوفة بأمانة ودقّة علمیة وموضوعیة عالیة، فعلی سبیل المثال نقل حوادث مکة عن ستة رواة رافقوا الإمام علیه السلام ،

ص: 18


1- ([1]) اُنظر: ابن أبی الحدید، عبد الحمید، شرح نهج البلاغة: ج1، ص147. ابن حجر العسقلانی، أحمد بن علی، لسان المیزان: ج4، ص344. النجاشی، أحمد بن علی، رجال النجاشی: ص320.

ونقل الحوادث التی جرت ما بین مکة وکربلاء عن اثنی عشر راویاً کان لهم حضور مع الإمام علیه السلام ، وأهم مقطع لمقتل أبی مخنف هو شرح أحداث یوم عاشوراء ووقائع کربلاء التی نقلها عن (28) راویاً قد سمعوها ونقلوا أخبارها، ومن هؤلاء المذکورین أربع وعشرون راویاً کانوا فی جند عمر بن سعد وسائر الروایات عن الإمام السجاد والباقر سلام الله علیها .

وممَّن نقل عنه هو حمید بن مسلم الذی کان من المقرّبین لعمر بن سعد وقد رافق خولی الذی کان یحمل الرأس الشریف إلی الکوفة، بأمر من عمر بن سعد بهدف إخبار ذویه عن سلامته ومصرع الحسین علیه السلام .

ویعدّ حمید بن مسلم من أهمّ رواة أبی مخنف فی مقتل الحسین علیه السلام وهو یجاری عقبة بن سمعان فی دقّته وفی سعة معلوماته ونقله تفاصیل الأحداث.

1 - خصوصیات مقتل أبی مخنف

یمکن دراسة مقتل أبی مخنف الذی یتمتّع بخصوصیات فریدة من جهات عدیدة، مع الأخذ بنظر الاعتبار المعاییر العلمیة، والمؤشّرات المطروحة فی ضبط الوقائع والبحث التاریخی، ولذا روی عنه مؤرِّخو کلا الفریقین؛ نظراً لمزایاه العلمیة وأسانیده الدقیقة((1)).

ص: 19


1- ([1]) اُنظر: رسول جعفریان، منابع تاریخ إسلام (مصادر التاریخ الإسلامی): ص111.

وإلیک بعض تلک الخصوصیات:

1 - أدبیات بعیدة عن الانحیاز

ما یعنینا فی مقتل أبی مخنف هو أخبار الرواة وقول الشهود، فهو ینقل عن الشهود الذین ینتمون إلی المعسکرین المتخاصمین وکانوا علی علم واطمئنان بالموضوع، وقلّما یعکس وجهة نظره تجاه الأحداث إیجابیةً کانت أم سلبیة، ولا ینبس ببنت شفة تجاه المشارکین فی حادثة عاشوراء مدحاً أو ذماً، فهو یدوّن کلّ ما سمعه ورکن إلیه، ویحیل المدح والقدح إلی القرّاء، کما أنّ نوع الأخبار والتعبیر المتداول فیها کان بعیداً عن الانحیاز.

2 - حفظ الأمانة

من الواضح أنّه قد تتوارد أخبار عدیدة وقد تکون متناقضة بشأن حادثة ما، وکان أبو مخنف لاینتقی الأخبار فی نقله بل کان یقدم علی نقل أخبار مختلفة دون أی ترجیح فی البین، هذا الأمر أصبح مثاراً للشک فی مذهبه، فقد ذهب بعض إلی تشیّعه والبعض الآخر إلی تسنّنه، والجدیر بالذکر أنّ کلا الفریقین یعتمدون علیه فی النقل، مثلاً: نقل أبو مخنف أنّ عمر بن سعد کتب إلی عبید الله بن زیاد یقترح علیه فکرة توصّل إلیها مع الحسین علیه السلام :

1 - العودة إلی الحجاز.

2 - الاستجابة لبیعة یزید ویضع یده بیده.

3 - اللجوء إلی ثغرٍ من ثغور المسلمین.

ثمّ ینقل خبراً ثانٍ فی الموضوع ذاته هکذا: عن عبد الرحمن بن جندب، عن عقبة بن سمعان، قال: «صحبت حسیناً فخرجت معه من المدینة إلی مکة، ومن مکة إلی العراق، ولم أُفارقه حتی قُتل، ولیس من مخاطبته الناس کلمة بالمدینة ولا بمکة ولا فی الطریق ولا

ص: 20

بالعراق ولا فی عسکر إلی یوم مقتله إلّا وقد سمعتها، ألا والله، ما أعطاهم ما یتذاکر الناس وما یزعمون من أن یضع یده فی ید یزید بن معاویة، ولا أن یسیّروه إلی ثغرٍ من ثغور المسلمین، ولکنّه قال: دعونی فلأذهب فی هذه الأرض العریضة حتی ننظر ما یصیر أمر الناس»((1)).

کما یشاهد أیّ محقّق مواطن أُخری من التناقض والذی یبدو منه وضع بعضها، إلّا أنّه نقلها لأجل الحفاظ علی الأمانة والموضوعیة.

3 - اتّخاذ منهج تخصّصی

رغم أنّه کان من مؤرِّخی العراق وله باعٌ طویل فی شؤون هذا القطر، إلّا أنّه اقتصر علی نقل الأقوال حتی أنّه لم یکتفِ بأخبار شهود عیان لفاجعة عاشوراء، بل إنّه قسّم تلک الحادثة العظیمة إلی مقاطع، واعتمد فی کلّ مقطع علی شهود عیان موثوق بهم لأجل بیان الحقائق، فمثلاً: لجأ إلی ضبط الحوادث التی جرت علی مسلم بن عقیل فی الکوفة ممَّن حضر معه وکان فی رکابه، کما نقل ما قام به عمر بن سعد وخطبه ورسائله ومواقفه ممَّن کانوا معه، ونقل خطب ومواقف سیّد الشهداء علیه السلام من أقرب الشهود الذین کانوا برفقته.

4 - التتبع الوافی

من خصوصیات أبی مخنف فی مقتل الحسین علیه السلام هو إدراکه العمیق لأحداث عاشوراء، وکان علی علم ووعی وبصیرة بأنّ ثورة کربلاء ستکون ذات أبعاد واسعة فریدة فی تاریخ الإسلام، ولهذا أقدم علی ضبط تفاصیل الأحداث والقضایا المتعلِّقة بها

ص: 21


1- ([1]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص313.

بموضوعیة، ولهذا السبب أصبح مقتله حافلاً بالتفاصیل اللازمة حول الموضوع.

ومن الخصوصیات الأُخری هی تتبّعه الواسع بهدف التحرّی عن الحقیقة وکسب المعلومات حیث لم یکتفِ بالسماع وضبط الأخبار والبیان الإجمالی غیر المسند، بل خاض فی تفاصیل الأحداث وما تعلّق بها من مسائل.

5 - حفظ منهج التدوین التاریخی

ثمّة أخبارٌ متضاربة وردت فی موضوع الثورة الحسینیة، وقد صنّف فیها المحقّقون والباحثون کتباً ورسائل ومقالات، وفی هذا الخضم قامت ثلّة منهم لیست بالقلیلة ببیان مسائل عرفانیة، أو قضایا کلامیة تمتّ إلی ذلک الموضوع فی إطار تدوین تاریخی، کما خطّت ثلّة أُخری خطوات أبعد من ذلک عبر بیان موارد غیر قابلة للإثبات، ولاتنسجم ومکانة آل محمد صلی الله علیه و آله ، وأقرب ما تکون إلی الخرافة.

ومن خصوصیات مقتل أبی مخنف هی اتخاذه لمنهج علمی فی کتابة التاریخ، ورعایة العقلانیة فی نقل الأحداث، حتی أنّه لایمکن أن نلمس فیها موارد ونکات غیر طبیعیة وبعیدة عن العقل، وبالطبع هذا الأمر لا یعنی نفی الکرامات، فقد نقل أبو مخنف أخباراً حاکیة عن کرامات للحسین علیه السلام ، فقد کتب عند بیان علّة هلاک عبد الله بن حوزة التمیمی أنّه «وقف أمام الحسین، فقال: یا حسین یا حسین، فقال له الحسین: ما تشاء؟ قال: أبشِر بالنار، قال: کلّا، إنّی أقدم علی ربٍّ رحیم وشفیعٍ مطاع، مَن هذا؟ قال له أصحابه: هذا ابن حوزة، قال: ربّ حزه إلی النار. قال: فاضطرب به فرسه فی جدول فوقع فیه، وتعلّقت رجله بالرکاب ووقع رأسه فی الأرض، ونفر الفرس فأخذه یمرّ به فیضرب برأسه کلّ حجر وکلّ شجرة حتی مات»((1)).

ص: 22


1- ([1]) أبو مخنف، لوط بن یحیی، مقتل الحسین علیه السلام : ص125.

وهذه الأخبار قد رواها رواة بصورةٍ ظاهرها الاختلاف، إلّا أنّها لاتُستبعد عقلاً، وقد نقلها جمیعها کما أنّها قد تختلف مع بعض ما نقله المتقدّمون من الفریقین عن وقوع حوادث غیر طبیعیة فی عاشوراء.

6 - قربه من زمن الحادثة

عاش أبو مخنف ما بین الأعوام (90 - 157 ه-)، ولم تفصله عن زمان وقوع فاجعة کربلاء عام 61ه- هوة سحیقة، وفی الواقع کان معاصراً للعدید من الشهود، وحتی المشارکین فی تلک الفاجعة، فما یزال هناک عدد منهم علی قید الحیاة، وإن کان لا یتجاوز أصابع الید، عندما أخذ أبو مخنف یخطّ حوادث عاشوراء ویدوّن مقتل الإمام الحسین علیه السلام ، ویُعدّ هذا الأمر فی ذاته من خصوصیاته الممیَّزة.

7 - إحاطته العلمیة ومکانة أُسرته

من جملة خصوصیات أبی مخنف التی رفعت شأن کتاب (مقتل الحسین علیه السلام ) هو إحاطته العلمیة ومکانة أُسرته، فقد کان له باعٌ طویل فی الحدیث، حتی عرف بأنّه شیخ المحدِّثین فی الکوفة کما عدّه البعض من فقهاء القرن الثانی، وکالوا المدیح لأسرته، وکان جدّه من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله وأمیر المؤمنین علیه السلام ، وتولّی إمارة أصفهان، وکان زعیم قبیلة الأزد، وهذه الخصوصیات ألقت بظلالها علی خلفیاته العلمیة، وإتقانه الآثار وضبطه الأحداث ((1)).

المؤرِّخون ومقتل أبی مخنف

إنّ أصل مقتل أبی مخنف - کما تقدّم - قد عاثت به ید الدهر علی غرار سائر آثاره

ص: 23


1- ([1]) اُنظر: الیوسفی الغروی، محمد هادی، وقعة الطف: ص8.

العلمیة، ولم یصلنا، إلّا أنّه یمکن العثور علیه فی الآثار التاریخیة اللاحقة، کما یمکن العثور علی أجزاء منه فی ثنایا کتاب تاریخ الأُمم والملوک، وهو أثر معروف لمحمد بن جریر الطبری.

وبالطبع فإن الطبری لم یعتمد حین نقله لحوادث عاشوراء علی نقل مقتل أبی مخنف فقط، بل اعتمد أیضاً علی رواة وروایات أُخری، فقد نقل عن عمار الدهنی قبل أن ینقل ما رواه أبو مخنف، کما نقل عدّة روایات عن هشام حول الأحداث التی جرت فی الشام والتی نقلها أبو مخنف بإیجاز، وبذلک کشف عن أبعاد أُخری لهذه الحادثة التاریخیة.

ومن الواضح أنّ نقل الطبری عن مقتل أبی مخنف یکشف عن المکانة الرفیعة لهذا المقتل إزاء نقل حادثة عاشوراء عند هذا المؤرِّخ المشهور عند أهل السنة، علی الرغم من أنّه لایمکن الوقوف علی أنّ ما نقله، هل کان مقتل أبی مخنف برمّته، أو بعض الموارد التی کان ینتقیها حسب عادته أو یوجزها((1)

تیار تاریخی آخر یواف-ق أبا مخنف

ثمّة طائفة أُخری من المصادر التاریخیة حول عاشوراء اعتمد علیها أهل السنة، لم ینقل فیها الرواة مباشرةً وبالتفصیل، کما لم یرد فیها ذکر لأبی مخنف، إلّا أنّ التأمّل فیها یدلّ بالجملة علی نقل حادثة عاشوراء باختصار، وتصرف طفیف بالاعتماد علی مقتل أبی مخنف وسائر الرواة.

ولا یختلف نقل هذه المصادر کثیراً عن نقل أبی مخنف المستند والموضوعی، سوی

ص: 24


1- ([1]) فی السنوات الأخیرة قام بعض الباحثین - وهو الأُستاذ الشیخ محمد هادی الیوسفی الغروی - باستخراج وتحقیق وتهذیب مقتل أبی مخنف، اعتماداً علی نقل الطبری وآخرین، أمثال الشیخ المفید، وسبط ابن الجوزی، وطُبع تحت عنوان (وقعة الطف).

فی الإجمال والتفصیل، أو الکشف عن بعض الزوایا الغامضة.

ویعد أبو حنیفة الدینوری (المتوفی 282 ه-) من علماء ومؤرِّخی أهل السنة الذی نقل أحداث النهضة الحسینیة، فقد تطرّق إلی بیان استشهاد الإمام الحسین علیه السلام فی الأخبار الطوال، مثلما ورد فی مقتل أبی مخنف مع فارقٍ ضئیل تمثّل فی نقل محتوی رسالة الإمام إلی أشراف البصرة، ونزول الإمام بکربلاء فی یوم الأربعاء الأوّل من المحرم، ونزول عمر بن سعد بکربلاء فی الیوم الثالث من المحرم، وتسلّم الإمام کتاب مسلم، کما أنّه لم ینقل خطبة الإمام الحسین علیه السلام بعد صلاة العصر بأصحاب الحر بن یزید بذریعة تشابهها مع خطبته الأُولی.

وثمّة إشکالٌ آخر یرد علی الکتاب، وهو أنّه لم ینقل خطب الإمام فی طریقه من مکة إلی الکوفة، کما أنّه وقع فی خطأ لما ذکر أنّ أحد أبناء الإمام الحسین علیه السلام هو عمر بن الحسین ویحتمل أنّه هو عمر بن الحسن، وذکر ما جری بعد شهادة سیّد الشهداء علیه السلام باختصار شدید دون نقل مصادره، وربّما نقل محتواه عن أبی مخنف بشیء من التسامح، علی الرغم من عدم استبعاد وجود مصدر آخر غیر مقتل أبی مخنف.

ولابن قتیبة المروزی الدینوری (223 - 276ه-) کتاب الإمامة والسیاسة((1))، حیث ذکر فیه مقدمات قیام الإمام الحسین علیه السلام وبیان حادثة عاشوراء، ولکنّه وقع فی تناقضات وأخطاء فاحشة لاحصر لها، لا تُکتشف إلّا من خلال مراجعة مصادر معتبرة کمقتل أبی مخنف.

کما أشار أحمد بن یحیی البلاذری (المتوفی279ه-) فی باب ترجمة الحسین بن علی علیه السلام

ص: 25


1- ([1]) ثمّة شکوک تحوم حول نسبة هذا الکتاب إلی الدینوری، کما هو الحال بشأن کتاب سلیم بن قیس ومقتل أبی مخنف ما خلا وقعة الطف وإثبات الوصیة للمسعودی.

إلی قیام عاشوراء، ویتّضح من خلال مطالعة وتقییم ما نقله اعتماده علی أخبار أبی مخنف، نعم تبدو من بعض الموارد أنّه نقل عن غیر أبی مخنف، نظیر زیادة عطایا أهل الکوفة علی ید ابن زیاد بأمر من یزید بن معاویة، أو جمع أهل النخیلة ودعوتهم للانضمام إلی معسکر ابن سعد.

وعلی أی حال یمکن القول بأنّ البلاذری فی (أنساب الأشراف) قد اعتمد علی مقتل أبی مخنف حین نقل أخبار شهادة الإمام علیه السلام ، نعم نقلُه لخبر منع ابن عمر الإمام علیه السلام من التوجّه إلی الکوفة یدلّ علی أنّه اعتمد علی مصدرٍ آخر غیر أبی مخنف، مع أنّه لا یبلغ مقتل أبی مخنف کمّاً وکیفاً((1)).

کما تطرّق أحمد بن أبی یعقوب الیعقوبی (المتوفی284ه-) فی تاریخه المشهور (تاریخ الیعقوبی) باختصار إلی قیام الإمام الحسین علیه السلام واستشهاده، والمورد الوحید الذی یمیّزه عن مقتل أبی مخنف هو سرده لخطبة الإمام علی بن الحسین سلام الله علیها فی الکوفة، حیث ذمّ أهل الکوفة، قائلاً: «تنوحون وتبکون من أجلنا فمَن ذا الذی قتلنا؟!»((2)).

هذا النصّ لم یورده أبو مخنف، أمّا فی سائر الموارد فلیس ثمّة اختلاف یُذکر مع ما نقله أبو مخنف فی مقتله((3)).

الحصیلة

مع إجراء تقییم ومقارنة بین ما أورده أبو مخنف وبین المؤرِّخین بعده، مثل: الطبری، والیعقوبی، والمسعودی، والدینوری، والبلاذری، یتضّح أنّ هذه المصادر

ص: 26


1- ([1]) اُنظر: البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج3، ص178 - 220.
2- ([2]) ابن طاووس، علی بن موسی، اللهوف فی قتلی الطفوف: ص86.
3- ([3]) واکب الیعقوبی والمسعودی أبا مخنف فی نقل أحداث عاشوراء. اُنظر: الیعقوبی، أحمد بن أبی یعقوب، تاریخ الیعقوبی: ج2، ص242 - 245.

متّفقة فیما بینها ولیس ثمّة اختلاف فی نقل وقائع عاشوراء، رغم أنّ مقتل أبی مخنف یشکّل العمود الفقری لتلک المصادر، کما أنّ بعض المؤرِّخین مثل عز الدین ابن الأثیر الذی صنّف کتاب (الکامل فی التاریخ) اقتدی بالطبری، قد نهج منهجه فی اعتماده الکامل علی مقتل أبی مخنف عند بیان واقعة کربلاء، وکان أصل مقتل أبی مخنف ما یزال موجوداً فی زمانه؛ ذلک لأنّه بعدما نقل مقاطع من المقتل ذکر عبارة (آخر المقتل) وهو شاهد علی أنّه استعان بأصل المقتل، علی غرار ما فعل الطبری، حیث نقل عن أبی مخنف دون تغییر((1)).

لقد لاقی تاریخه إقبالاً واسعاً عند أهل السنة، وهذا الإقبال یتعلّق بمزایا الکتاب من حیث التفصیل والإسناد والموضوعیة، حتی أصبح محطّاً لاعتماد أغلب مصنفی الکتب التاریخیة الذین أعقبوه، فینقلون عنه ویأتون بخلاصة لذلک.

وهذا ما قام به ابن مسکویه وابن الأثیر وابن کثیر((2)).

ویمکن أن نتلمس مقتل أبی مخنف فی سائر المصادر التاریخیة کمقاتل الطالبیین لأبی الفرج الأصفهانی (المتوفی356ه-)، والفتوح لابن أعثم الکوفی (المتوفی314ه-) وآخرین، وقد أحجمنا عن ذکرهم بسبب اتّهامهم بالتشیع من قبل بعض أهل السنة.

تأمل فی روایة عمار الدهنی الموضوعة

من جملة الأخبار المشکوکة بل الموضوعة التی تسرّبت إلی المصادر التاریخیة المختلفة ممّا أدّی إلی سوء فهم ونشوء تعارض بین أخبار حادثة عاشوراء فی المصادر التاریخیة روایة عمار الدهنی، هذا الخبر علی طوله أورده الطبری فی سلسلة أخباره

ص: 27


1- ([1]) اُنظر: ابن خلکان، أحمد بن محمد، وفیات الأعیان: ج3، ص332.
2- ([2]) اُنظر: رسول جعفریان، منابع تاریخ إسلام (مصادر التاریخ الإسلامی): ص159.

وأسانیده عن شهادة الإمام الحسین علیه السلام وواقعة عاشوراء، ولم یکن نقله فی موضع واحد، بل فی عدّة مواضع متفرّقة عبر نقل مقاطع عدیدة منه أدّت فی النهایة إلی استنتاج متناقض وفهم خاطئ لحادثة عاشوراء.

هذا الخبر مع أنّه مسند إلی الإمام الباقر علیه السلام أحد شهود فاجعة کربلاء، إلّا أنّه لایخلو من إشکالات؛ إذ یطلب عمار الدهنی من الإمام علیه السلام إخباره عن تلک الفاجعة کما لو کان حاضراً هناک، ونقل الطبری علی لسان الإمام الباقر علیه السلام فی باب حوادث عام (61 ه-) بما یقرب من أربع صفحات فی مقطعین((1))، وکما تقدّم فإنّ هذا الخبر ترد علیه إشکالات کثیرة تجعل نسبته للإمام الباقر علیه السلام فی حیز الشک والتردید.

ومن هنا، لا یمکن الاعتماد علیه ولا الاستفادة منه فی بیان حوادث عاشوراء، والوقوف علی مقدّمات هذه الثورة الکبری وأسبابها؛ لأنّه:

أ - لم یرد فیه ذکر لکتاب یزید بن معاویة إلی الولید عامله علی المدینة لمّا أمره بأخذ البیعة من الإمام الحسین علیه السلام ، مع أنّه تسالمت المصادر المختلفة علی نقله.

ب - لقد أورد خبر مجیء الحر بن یزید الریاحی مع ألف فارس إلی الحسین علیه السلام ، ومنعه من الذهاب إلی الکوفة لا یظهر فیه الحر کقائد مکلّف بمهمّة خاصّة، بخصوص الإمام الحسین علیه السلام ولا یبدو أنّ مرافقیه ألف جندی یقومون بمراقبة الرکب الحسینی والإحاطة به، وهذا ما أکّدته جمیع المصادر.

ج - إنّ ما ورد فی خبر عمار الدهنی، والذی نسب إلی الحر بعد لقائه بالإمام علیه السلام حیث قال: «ارجع فإنّی لم أدَع خلفی خیراً أرجوه لک»((2)) ، وقد نسبه آخرون إلی امرئ من

ص: 28


1- ([1]) اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص257 - 261، وص292 - 294.
2- ([2]) المسعودی، علی بن الحسین، مروج الذهب: ج3، ص60.

بنی عکرمة أقبل من الکوفة، یوحی ذلک إلی أنّ الحر مجرّد مسافر کالذی تقدّم أو کالفرزدق وأمثاله ممَّن لاقوا الرکب الحسینی فی الطریق صدفةً ونصحوا الإمام أثناء لقائهم به.

د - ورد فی هذا الخبر مواجهة الإمام الحسین علیه السلام لعسکر عبید الله بن زیاد بعد لقائه بالحر، وهذا الأمر فی الواقع أدّی إلی عدول الإمام علیه السلام عن الذهاب إلی الکوفة والتوجّه إلی کربلاء، فی حین أنّ من الأُمور المسلَّمة فی تاریخ عاشوراء أنّ الحر وجنوده کانوا السبب فی اتّخاذ مثل هذا القرار.

ه- - لایخلو حدیث الإمام الباقر علیه السلام - طبقاً لنقل عمار الدهنی - من الغموض والمدعاة للتساؤل؛ ممّا یجعل نسبته للإمام علیه السلام غیر ممکنة ومحاطة بهالة من الإبهام.

التیار المخالف لأبی مخنف

ثمّة تیار آخر له تأثیره فی تزوید أهل السنة بالمعلومات عن ثورة کربلاء، منشأه أخبار ابن سعد المعروف بالکاتب الواقدی، ویبدو أنّ هذه الأخبار تلفیقیة من نقل أُستاذه الواقدی وانطباعاته وتصوراته عن حادثة عاشوراء، وتفتقد طبقات ابن سعد المعروضة فی الأسواق لهذا المقطع وطبعت من دونه، وفی السنوات الأخیرة عثر المحقِّق السید عبد العزیز الطباطبائی علی نسخ أصلیة وقدیمة لهذا الکتاب، تحتوی علی أخبار مقتل الحسین علیه السلام وقام بطبعها علی حدة، تحت عنوان: (ترجمة الإمام الحسین علیه السلام ).

وکما سنبیّن فیما یأتی أنّ هناک من شکّک فی أوساط أهل السنة بنهضة الإمام الحسین علیه السلام وشهادته من جهات متعدّدة، أو قام بتحریف وقائعها، معتمداً فی ذلک علی أخبار ابن سعد فی طبقاته، أو علی مؤلّفات متأثرة بأخباره، وهذا ما یدعونا إلی التأمّل فی أبعاد أخبار ابن سعد وتقییمها.

ص: 29

أُسلوب ابن سعد

اشارة

کان ابن سعد من کتّاب السیر والتراجم، حیث استعرض فی کتابه المعروف بالطبقات الکبری سیر صحابة النبی صلی الله علیه و آله والتابعین وفقاً لطبقاتهم، لهذا کانت نظرته إلی القضایا ومنها أحداث عاشوراء من باب السیر الذاتیة، وأجاز لنفسه التصرّف فی أحداثها، رغم أنّ هذا الأمر لایتّفق مع الموضوعیة وحفظ الأمانة.

وعلی هذا الأساس فقد حازت نظرته وروایاته علی اهتمام مَن لدیهم مؤلّفات علی شاکلته، نظیر: ابن عساکر فی تاریخ مدینة دمشق، وابن کثیر فی البدایة والنهایة، وابن حجر فی الإصابة، والذهبی فی تاریخ الإسلام وسیر أعلام النبلاء، وابن حجر فی تهذیب التهذیب، والمزی فی تهذیب الکمال وغیرهم.

مرور علی أخبار ابن سعد وإشکالاتها

اشارة

إنّ أخبار ابن سعد عن عاشوراء وأحداثها والتی صدرت تحت عنوان: (ترجمة الإمام الحسین علیه السلام ) لاتخلو من إشکالات نوجزها فی النقاط التالیة:

1 - الاعتماد علی رواة لم یشهدوا حادثة عاشوراء

ابن سعد وخلافاً لأبی مخنف والطبری حذف أسانید الروایات دون أن یحدّد هذا الخبر أو ذاک عمَّن یرویه، وعدد الوسائط التی نقل عنها، فهو بدایةً یورد أسماء رواته ورواة أُستاذه الواقدی ثمّ یشیر بصورة عامّة إلی أنّه سمع عنهم بعض الأُمور حول الإمام الحسین علیه السلام .

ونظرة خاطفة إلی سیر هؤلاء الرواة الذین اعتمد علیهم تدلّ علی أنّه لم یکن لهم حضور فی الأحداث المرتبطة بعاشوراء، کاستشهاد مسلم بن عقیل، ونزول الإمام الحسین علیه السلام بکربلاء، ومواجهة الإمام للحر بن یزید الریاحی وأصحابه، والحوادث التی أعقبت دخول الرکب الحسینی إلی کربلاء خاصّةً فی عاشوراء، واستشهاد الإمام

ص: 30

الحسین علیه السلام ، وأیضاً سبی حرم الإمام علیه السلام ، ولم یشهدوا أیاً منها، وهذا ما یثیر الشکوک بصحّة هذه المعلومات ودقّتها، وهذه الطائفة من الروایات لاتصمد أمام اعتبار روایات أبی مخنف.

2 - التناقض الذاتی
اشارة

إنّ أخبار ابن سعد مع صرف النظر عن صدق رواتها أو کذبهم وارتباطهم بالبلاط الأُموی تعانی تناقضاً ذاتیاً، وتهافتاً جلیاً فی موضوعات شتّی، هذا التناقض قلّل من مکانتها، وجعلها فی عداد الموضوعات غیر الموثوق بها:

أ - جرأة یزید أو مداراته

ورد فی روایة ابن سعد أنّ یزید بن معاویة أمر الولید بن عتبة - عامله علی المدینة - بمداراة الحسین علیه السلام ؛ لأنّ أمیر المؤمنین معاویة کان قد أوصی به، إلّا أنّ الولید أخذ الحسین أخذاً شدیداً، بینما یعترف ابن سعد فی موضعٍ آخر أنّ یزید کتب إلی عامله: خُذ حسیناً، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبیر، بالبیعة أخذاً شدیداً لیست فیه رخصة حتی یبایعوا.

ب - حکایة مروان بن الحکم

کان مروان بن الحکم عدواً لدوداً لأهل البیت علیهم السلام ، وقد اعترف ابن سعد بذلک لمّا دعا یزید عامله الولید إلی أخذ البیعة له من تلک الثلّة، فزع عند ذلک الولید إلی مروان لاستشارته فی الأمر، فقال: أری أن تبعث الساعة إلی هؤلاء النفر فتدعوهم إلی البیعة والدخول فی الطاعة، فإن فعلوا قبلت منهم، وکففت عنهم، وإن أبوا قدّمتهم فضربت أعناقهم! ومع ذلک فقد أورد ابن سعد خبراً مفاده أنّ مروان بن الحکم وعمرو بن سعید بعثا بکتاب إلی ابن زیاد طلبا منه مداراة الحسین علیه السلام ، ولم یرد خبر کتاب مروان

ص: 31

وطلبه المداراة فی أی مصدر تاریخی آخر.

3 - مخالفة المسلمات تاریخیاً
اشارة

ثمّة مقاطع فی أخبار ابن سعد حول عاشوراء لاتدعمها أخبار الفریقین فحسب، بل تخالفها أیضاً، مع معارضتها لمسلّمات التاریخ وما تواترت علیه الروایات.

وبیان تفاصیل هذه الأخبار وإثبات مخالفتها للمسلّمات التاریخیة بحاجة إلی مجالٍ أوسع، ونکتفی ببعض النماذج للاطلاع علی بعض تلک المواضع:

أ - حضور ابن عمر فی مکة

ورد فی المصادر التاریخیة أنّ عبد الله بن عمر بن الخطاب کان من خصوم یزید بن معاویة وخلافته، ولما وصل کتاب یزید إلی عامله الولید لطلب البیعة کان عبد الله بن عمر فی المدینة، بینما نقل ابن سعد أنّ ابن عمر کان فی العمرة فی مکة، ولم یبدِ مخالفةً لتولّی یزید الخلافة، بل انقاد لبدعة معاویة فی جعل الخلافة إرثاً وعهده إلی یزید، ولمّا لاقی الحسین علیه السلام أثناء توجهه إلی مکة فی منطقة الأبواء بعد عودته من مکة إلی المدینة، حذّره من الخروج علی یزید قائلاً:

إنّی محدّثک حدیثاً: إنّ جبرئیل أتی النبی صلی الله علیه و آله فخیّره بین الدنیا والآخرة، فاختار الآخرة ولم یُرِد الدنیا، وإنّک بضعةٌ من رسول الله صلی الله علیه و آله ، والله، ما یلیها أحدٌ منکم أبداً، وما صرفها الله عنکم إلّا للذی هو خیرٌ لکم. فأبی أن یرجع، قال: فاعتنقه ابن عمر وبکی((1)).

ب - دفن جسد الحسین علیه السلام بید غلام زهیر

نقل ابن سعد أنّ زوج زهیر بن القین قالت لغلام له یقال له شجرة: انطلق فکفّن

ص: 32


1- ([1]) ابن سعد، محمد، ترجمة الإمام الحسین علیه السلام : ص57.

مولاک، قال: فجئت فرأیت حسیناً ملقی، فقلت: أُکفّن مولای وأدع حسیناً، فکفنت حسیناً، ثم رجعت فقلت ذلک لها، فقالت: أحسنت، وأعطتنی کفناً آخر، وقالت: انطلق فکفّن مولاک، ففعلت ((1)).

لم یوثّق هذا الخبر أیُّ مصدرٍ تاریخی، بل أجمعت المصادر أنّ قبیلة بنی أسد التی کانت تقطن أطراف الفرات هی التی أقدمت علی دفن الشهداء، لا غلام زهیر الذی أقبل من الکوفة، وبعد وصوله کربلاء رأی جثة سیّد الشهداء الطاهرة علیه السلام فعاد إلی الکوفة وأحضر کفناً جدیداً وکفّنه به ودفنه.

وثمّة شکوک تحوم حول صحّة هذا الخبر، منها: لماذا لم ینقل الغلام شیئاً عن سائر الشهداء ولم یتحدّث عنهم کتعبیر عن شعوره تجاههم؟ وکیف عرف الحسین علیه السلام وهو مقطوع الرأس ملقی فی العراء، مسلوب العمامة والرداء؟ لماذا ظلّ ما قام به غلام زهیر بعیداً عن أنظار سائر المؤرِّخین، وأهل السیر، وعلماء الرجال، والأهمّ من کلّ هؤلاء أهل بیت الحسین علیه السلام ، دون أن تشیر إلیه الروایات والأحادیث والزیارات، ولم یرد فی حقّه إطراء ومدح علی لسان الأئمّة المعصومین علیهم السلام ؟

ج - الاستناد إلی خبر عمار الدهنی وکعب الأحبار

نقل ابن سعد عن عمار الدهنی أنّه قال: «مرَ علیّ علی کعب الأحبار فقال: إنّ من ولد هذا لرجل یُقتل فی عصابةٍ لا یجفّ عرق خیولهم حتی یردوا علی محمد صلی الله علیه و آله . فمرّ حسن، فقالوا: هو هذا یا أبا إسحاق؟ قال: لا. فمرّ حسین، فقالوا: هذا هو؟ قال: نعم»((2)).

ثمّة نقاط فی خبر ابن سعد تدلّ علی عدم دقّته، وتحریفه لحادثة کربلاء، من جملتها

ص: 33


1- ([1]) ابن سعد، محمد، ترجمة الإمام الحسین علیه السلام : ص81.
2- ([2]) المصدر السابق: 49.

التنبؤات الواردة فیه:

1 - کیف ظفر کعب الأحبار بهذه المعلومات، فهل کان عالماً بالغیب؟!

2 - توفی کعب عام (32ه-) فی عصر خلافة عثمان بن عفان، وکان عمار الدهنی حیاً حتی أواسط القرن الثانی، فکیف ینقل عنه مرفوعاً؟! والحدیث المرفوع لیس بحجّة.

3 - کان کعب من خصوم علی علیه السلام ، وأکثر الموضوعات تُنسب إلیه، فلایمکن الاعتماد علی أخباره.

أخبار تشاطر ابن سعد الرأی

لقد تأثّر کُتّاب أهل السنة بابن سعد واستندوا إلی أخباره؛ بهدف معرفة الإمام الحسین علیه السلام وثورته من جهة، ومعرفة یزید وموقفه فی النهضة الحسینیة من جهة أُخری:

أ - ومن الذین اعتمدوا علی أخبار ابن سعد فی الطبقات لفهم حادثة عاشوراء ومعرفة سید الشهداء علیه السلام هو ابن عساکر الدمشقی، حیث استعرض فی کتابه تاریخ مدینة دمشق سیرة الصحابة والتابعین، فلمّا وصل إلی الحسین بن علی سلام الله علیها ، أورد معظم أخبار أهل السنة حول أبعاد شخصیة الإمام علیه السلام وأحیاناً ینقل بعضها بأسانید مختلفة، إلّا أنّ ما قام به لایخلو من نقاط ضعف، نجملها بما یلی:

1 - اعتمد علی روایات ابن سعد فقط، ونظر إلی عاشوراء من منظار ابن سعد وتوجّهاته، مع توفّر روایات من الطبقة الأُولی بهذا الشأن کمقتل أبی مخنف.

2 - لم یهتمّ ابن عساکر بتدوین التاریخ، بل بذل عنایته بالسیرة والرجال، وقام بالتحریف والجعل الواضح، وأتی بروایات لم یرد لها ذکر فی طبقات ابن سعد، ولم تُضبط فی أی مصدر قبله، من جملتها مشارکة الإمام الحسین علیه السلام فی الحملة علی القسطنطینیة بقیادة یزید بن معاویة، وحضور الحسن والحسین سلام الله علیها لدی معاویة

ص: 34

وإغداقه العطایا علیهما، ودخول الحسین علیه السلام علی معاویة وإطلاق لقب خال المؤمنین علیه، وعشرات الأخبار المجعولة التی لم یرد لها ذکر فی أی مصدر، قد نقلها ابن عساکر کدلیل علی العلاقة الحسنة بین الإمام الحسین علیه السلام وبنی سفیان؛ بهدف إضفاء الشرعیة علی حکم بنی سفیان، وإظهارهم بوشاح الدین والشریعة((1)).

3 - إنّ مناقشة أسانید روایات ابن عساکر ومحتواها حول عاشوراء، ومیوله الواضحة تجاه معاویة بن أبی سفیان وابنه یزید یتطلّب مجالاً أوسع ودراسة مستقلّة، إلّا أنّنا نجد تناقضات کثیرة فی أخباره؛ ذلک لأنّه لم یستطع أن یُنکر بشکل کامل الروایات والأحادیث الکثیرة فی مقام الإمام الحسین علیه السلام ومنزلته، هذا من جهة، ومن جهةٍ أُخری أورد روایات عدیدة موضوعة لا أساس لها من الصحّة حول تنزیه بنی سفیان ممّا اقترفوه.

ب - إضافةً إلی ابن عساکر فهناک مَن هم علی شاکلته من أصحاب السیر، الذین لم یکونوا طلّاب حقیقة، حیث أقبلوا - بحسب ما یقتضیه عملهم - علی الروایات الموضوعة والأساطیر ووجدوا فی روایات ابن سعد حول عاشوراء ضالّتهم المنشودة، کشمس الدین محمد الذهبی (673 - 748ه-)، حیث استند فی کتابیه (تاریخ الإسلام وسیر أعلام النبلاء) إلی روایات ابن سعد ومَن لفّ لفّه، والتی منها خبر عمار الدهنی الذی أورده فی مقام توجیه ما اقترفه یزید، کما نقل نصائح بعض الصحابة للإمام الحسین علیه السلام بصورةٍ مبالغٍ فیها جداً واحترازه عن نقل خطب الإمام الحسین علیه السلام حول الأوضاع والظروف المحیطة به، وأسباب ثورته، وخصوصیات الحکم والحاکم العادل((2)).

ص: 35


1- ([1]) اُنظر: ابن عساکر، علی بن الحسن، ترجمة الإمام الحسین علیه السلام من تاریخ مدینة دمشق: ص10- 11.
2- ([2]) اُنظر: الذهبی، محمد بن أحمد، تاریخ الإسلام ووفیات المشاهیر والأعلام: حوادث عام 61 - 80.

ج - نقل جمال الدین یوسف المِزّی فی القسم الأوّل من تهذیب الکمال روایات ابن سعد المتعلِّقة بحرکة الإمام علیه السلام من المدینة وحتی خروجه من مکة، والأخبار الواردة عن شهادته علی لسان رسول الله صلی الله علیه و آله ، وأیضاً نقل نصائح بعض الصحابة للإمام علیه السلام بثنیه عن المضی فی مسیره نحو العراق.

ونقل حتی الرسائل الموضوعة لمروان بن الحکم وعمر بن سعد إلی ابن زیاد بمداراة الحسین علیه السلام بشکلٍ کامل، ولکنّه اهتمّ کثیراً بخبر عمار الدهنی حول مسیر الإمام الحسین علیه السلام من مکة، رغم ما فی خبر عمار الدهنی من هفوات، وهذا إن دلّ علی شیء فإنّما یدلّ علی الوضع المتعمّد، والتحریف الواضح لنهضة الإمام الحسین علیه السلام ((1)).

د - وقد تبع ابن حجر العسقلانی نهج المزی وسائر أصحاب السیر حول نهضة الحسین علیه السلام فی کتابه (تهذیب التهذیب) وجعل نصب عینیه روایة ابن سعد المتعلّقة بعاشوراء والقضایا المحیطة بها، واستعان کذلک فی بعض المواضع بخبر عمار الدهنی، وبهذا النحو أعاد کتابة تاریخ عاشوراء بنظرة تفتقر إلی الموضوعیة، وهذا النهج اختطّه أیضاً فی کتابه الآخر (الإصابة فی تمییز الصحابة)، وقد أدّی ذلک إلی تحریف تاریخ واقعة عاشوراء((2)).

ه- - أورد ابن کثیر الدمشقی (701 - 774ه-) أکثر الأخبار تحریفاً عن هذه الواقعة، ونقل تفاصیلها فی کتابه المعروف (البدایة والنهایة)، وصرح دون أدنی مواربة أو لبس قائلاً: «وساق محمد بن سعد کاتب الواقدی هذا سیاقاً حسناً مبسوطاً»، وبهذه الصورة رجّح نقل الأخبار الغاصّة بالتحریف والتناقض عن نهضة الإمام الحسین علیه السلام واعتبرها الأفضل.

ص: 36


1- ([1]) اُنظر: المزی، یوسف، تهذیب الکمال فی أسماء الرجال: ج2، ص299.
2- ([2]) اُنظر: ابن حجر العسقلانی، أحمد بن علی، تهذیب التهذیب: ج2، ص305. ابن حجر العسقلانی، أحمد بن علی، الإصابة فی تمییز الصحابة: ج2، ص69.

ثمّ إنّه قام بالنقل عن الرواة الآخرین کأبی مخنف؛ کی یزیل عن نفسه تهمة التقلید المحض لابن سعد، ویُضفی الطابع العلمی الموضوعی علی روایته، إلّا أنّه اعتمد بصورة رئیسة علی نقل ابن سعد، وإنّما جاء بأخبار غیره من الرواة للتأکید علی روایات ابن سعد وتوجّهاته، وقد اتّبع ابن کثیر فی کتابه الآنف الذکر أستاذه ابن تیمیة، وسلک منهجاً متعصّباً ومتطرّفاً مناوئاً للشیعة، حتی زاد فی التعصّبٍِ والتطرّف علی أتباع یزید أنفسهم فی مواضع، وفی مواضع أُخری انتقد ابن عساکر لنقله أخباراً بخصوص دخالة یزید باستشهاد الإمام الحسین علیه السلام ، وفی مواضع أُخری یُشکل علی أبی مخنف، ویعتبره منشأ الکثیر من الأکاذیب دون أن یأتی بدلیل علی اتّهاماته هذه((1)).

ومن الطبیعی أن ینقل ابن کثیر الروایات المجعولة أو المُختلقة التی تثنی علی یزید، کمشارکة الإمام الحسین علیه السلام فی حملة المسلمین علی الروم فی عهد معاویة دون أن یقدّم دلیلاً علی ذلک، فقد ذهب أبعد من ابن عساکر فی تنزیه بنی أُمیّة وتقدیسهم لا سیما معاویة، حیث ینقل أنّ الإمام الحسین علیه السلام کان لدیه سفر سنوی إلی الشام بعد وفاة أخیه الحسن علیه السلام ، وحضوره فی مجلس معاویة واحترام معاویة له، وممّا یجدر ذکره أنّ هذا النقل أورده مثل ابن عساکر فی البدایة لیدلّل علی انحیازه التامّ لمعاویة وابنه یزید، من هنا قد تجاهل ابن کثیر منذ البدایة التحرّی عن الحقیقة والموضوعیة الذی هو من مستلزمات التدوین العلمی المنهجی((2)).

وهو ممَّن أنکر إرسال سبایا أهل البیت علیهم السلام ورأس الإمام الحسین علیه السلام إلی الشام بهدف إثبات براءة یزید، وقام فی هذا السیاق بردّ الحقائق التاریخیة المسلمة حتی عند

ص: 37


1- ([1]) اُنظر: ابن کثیر، إسماعیل بن عمر، البدایة والنهایة: ج8، ص173.
2- ([2]) اُنظر: المصدر السابق: ج8، ص161.

أهل السنة أنفسهم دون إبداء أی دلیل أو سند((1))، رغم أنّه کان یرفع یده أحیاناً عن هذا الإنکار فی بعض المواضع لکنه حینما عرج علی أخبار إرسال الرأس الشریف وقع فی التناقض الصریح لمّا قال: «وقد اختلف العلماء بعدها فی رأس الحسین، هل سیّره ابن زیاد إلی الشام إلی یزید أم لا؟ علی قولین، الأظهر منهما أنّه سیّره إلیه، وقد ورد فی ذلک آثارٌ کثیرة»((2)).

وبهذه الطریقة أراح نفسه عن الإتیان بدلیل علی ذلک من التاریخ سواء أکان معتبراً أم لا.

وهو غالباً ما یتشبث باجتهاده وظنّه بدل التمسّک بأخبار معتبرة عن عاشوراء، لما أنکر رضا یزید بقتل الحسین علیه السلام قائلاً: «والذی یکاد یغلب علی الظن أنّ یزید لو قدر علیه قبل أن یُقتل لعفا عنه کما أوصاه بذلک أبوه، وکما صرّح هو به مخبراً عن نفسه بذلک، وقد لعن ابن زیاد علی فعله ذلک، وشتمه فیما یظهر ویبدو، ولکن لم یعزله علی ذلک ولا عاقبه ولا أرسل یعیب علیه ذلک، والله أعلم»((3)).

فی هذا المقطع من کلام ابن کثیر نلمس جعل أخبار عدم رضا یزید بقتل الحسین علیه السلام ووصیة معاویة لابنه یزید بمداراة الحسین علیه السلام ، ونلاحظ تخبّطه وحیرته من النقد الوارد علی رأیه ببراءة یزید، حینما تصدّی للإجابة بدل بیان عدم صوابه ومجانبته الحق، ثم یختمه بجملة: والله أعلم.

وعلی أیّ حال، فابن کثیر انطلاقاً من نزعته الأُمویة لا یأبه من إمساک القلم وتحریف الوقائع التاریخیة والحقائق المسلَّمة، التی هی أظهر من الشمس فی رابعة النهار

ص: 38


1- ([1]) اُنظر: ابن کثیر، إسماعیل بن عمر، البدایة والنهایة: ج8، ص179.
2- ([2]) اُنظر: المصدر السابق: ج8، ص 209.
3- ([3]) اُنظر: المصدر السابق: ج8، ص221.

لصالح بنی أُمیّة، وتصویر نهضة الحسین علیه السلام وأصحابه بنحوٍ تبتعد عن العقلانیة والتریّث والصبر، وینسب إلی یزید فضائل لم یرد لها ذکر فی أیّ مصدر علی الإطلاق، منها:

1- یثنی علی یزید لحدّة دهائه وفطنته، وینظر إلی حماقاته التی قوّضت حکم بنی سفیان نظرةً إیجابیة.

2- یلوم ابنُ کثیر الإمامَ الحسین علیه السلام فی مواطن کثیرة؛ بسبب عدم رضوخه لنصائح الآخرین((1))، وفاته القول أنّ هؤلاء الناصحین اعتراهم الخوف من بطش یزید وابن زیاد، وهل قاموا بتبریر شرعیة خلافة یزید کی یعدل الإمام علیه السلام عن رأیه بالذهاب إلی الکوفة؟ کما نَسب إلی الحسین بن علی سلام الله علیها العجلة وحبّ السلطة والجاه والنفاق، دون التحرّی عن شواهد تاریخیة أو روائیة أو قرآنیة تعضد مدّعاه.

ص: 39


1- ([1]) لا یصدر هذا اللوم إلّا عن جاهل بحقیقة الأُمور، وقد کشف الدکتور أحمد محمود صبحی عن جانبٍ منها لما قال: «لقد کان بقاء الحسین حیّاً غصّة فی حلق یزید، سواء بایع أم لم یبایع، ولو أنّه بایع لکانت بیعته حجّة للأُمویین علی الشیعة، ولکنّها لاتبعث علی الرضا ما بقی حیّاً، فما کان الأُمویون إذاً لیترکونه لدینه لو همّ أن یبایع، ولقد عوّل الحسین ألّا یموت بید خارجی یدفعه هوس الاعتقاد إلی أن یقدّم النصر من حیث لایرید للأُمویین، کما صمّم ألّا یضیع دمه هدراً بغدرةٍ لاتثبت حقّاً ولا تجعل له دیّة أو قصاصاً بقدر ما تقدّم لعدوّه نصراً مؤزّراً یسجد لله علی هذه الغدرة شکراً، فی دور هذا یتّضح موقف الحسین حین أصرّ علی الخروج بالرغم من نصح الناصحین له، ولم یکن ذلک منه عناداً أو رکوباً لرأسه». صبحی، أحمد محمود، نظریة الإمامة لدی الشیعة الاثنی عشریة: ص333. کما کشف العلایلی عن جانب آخر، إذ یری أنّ مبایعة الخلیفة الفاجر تعنی خدمة أهوائه الشریرة، ومیوله الفاسقة، فکان ضروریاً أن یأبی الإمام مبایعة یزید علی شهواته وأهوائه وفواحشه، وأن یُنکر وأن یثور ما دام قد أراح ضمیره وأرضی ربّه، فلم یصغِ إلی أمیر، ولم یسمع من مُشفق، ولم یتراخَ أمام سلطان أو قوّة غاشمة، وأبی أن یرضی للمؤمنین بالدنیة والخسف، فأعلن الإنکار، ولم یعطِ أُذنه إلی مَن نصحه بالبقاء دون الخروج؛ لأنّ عدم خروجه تعنی حتف المسلمین قاطبة. اُنظر: العلایلی، عبد الله، سمو المعنی فی سمو الذات: ص126. (المترجم).

3 - ممّا قام به ابن کثیر هو نقل خطبة بلیغة لابن زیاد حینما عزم علی الذهاب إلی الکوفة، وحذف خطب الإمام الحسین علیه السلام ، وقد أسفر کلّ هذا عن تبریر ما ارتکبه یزید من جرائم بشعة، وتحریفٍ فاضح لتاریخ ثورة کربلاء.

4 - ذکر أخباراً حول شهادة الحسین علیه السلام تدلّ علی أحقیته علیه السلام وأصحابه، وبطلان نهج یزید وابن زیاد علی الصعید الحماسی والعاطفی والمعنوی والعرفانی، تحت عنوان (بعض المشایخ) إلی جانب أخبار أبی مخنف للحدّ من تأثیر شهادة الإمام علیه السلام علی مختلف الأبعاد، ولإنقاذ یزید من حربة الاستهداف والذمّ، فهو فی الواقع من خلال حملاته المکرّرة علی أبی مخنف یدعم الروایات المخالفة والتی أغلبها مرسلة ومجهولة الراوی، وبذلک یقوم بدور تکمیل حلقة تحریف التاریخ بدل الإصحار بالحقیقة والواقع.

ویتدرّج عند بیان حادثة عاشوراء فی ذمّ الشیعة، ویجد أنّ مهمّته الأُولی تتلخّص فی نفی التشیّع، وتکذیب الأخبار الواردة عن حادثة کربلاء - والتی نالت قبولاً لدی أوساط الشیعة وفریق کبیر من أهل السنة - دون أدنی تأمّل.

وثمّة مصادر دُوّنت بعد القرن السابع الهجری وکانت ناظرة إلی ما سبقها من مصادر وسوف نستعرضها فی ثنایا هذا الکتاب.

وقد نظر محقِّقو أهل السنة المعاصرین إلی حادثة عاشوراء نظرةً إیجابیة، وظفروا بحقائق تاریخیّة عبر انتهاج أُسلوب علمی موضوعی، وکشفوا النقاب عن أبعاد أُخری لهذه الحادثة، ودعوا الناس إلی التأسّی بها، والنظر إلیها کحرکة تحرّریة.

وفی نفس الوقت تبنّت ثلّة من الکتّاب المعاصرین الدفاع عن مواقف ابن تیمیة وأتباعه کابن کثیر، التی نجد جذورها فی الروایات الموضوعة لابن سعد فی طبقاته وتأکیدهم علیها تحت عناوین مختلفة، کالدفاع عن الحضارة الإسلامیة، أو البحث فی التاریخ بموضوعیة بعیداً عن العواطف والعقائد المسبقة.

ص: 40

وفی هذا السیاق - الدفاع عن یزید وتأیید الخط الأُموی - صدرت کتب فی هذا المجال، منها: (تاریخ الدولة الأُمویة) و(تاریخ الأُمم الإسلامیة) و(تاریخ الدولة العباسیة) للشیخ خضری بک المصری، وکتاب (براءة یزید بن معاویة من دم الحسین) للدکتور محمد إبراهیم، وکتاب (أباطیل یجب أن تُمحی من التاریخ) للدکتور إبراهیم شعوط، هذا إلی جانب الکتب التی صنّفتها الوهابیة والتی عند مقارنتها بالمؤلّفات التحقیقیة الکثیرة لأهل السنة لایُعتدّ بها.

هذه الفئة وخلافاً لادّعاءاتها وتبریراتها الواهیة، قد ذبحت التاریخ والحقیقة علی مسلخ المصالح الفئویة والمذهبیة، وزاغت عن الصواب فی أحداث عاشوراء وثورة کربلاء، وبذلک خلقت المزید من المشاکل والمتاعب أمام الدراسات العلمیة لتدوین التاریخ وکتابته.

ص: 41

ص: 42

ص: 43

ص: 44

الفصل الأوَّل:خلافة یزید بن معاویة

خلافة یزید بن معاویة

احتدم جدل فی أوساط أهل السنة حول إطلاق عنوان الخلافة علی حکم یزید بن معاویة، فحینما یبحث علماؤهم الثورة الحسینیة تجدهم وبشکلٍ طبیعی یتأمّلون فی الأُسس الشرعیة لحکومة یزید ومشروعیتها، ویقومون بتقییمها والحکم علیها.

ممّا دعا بطائفة منذ البدایة إلی تخصیص الخلافة الإسلامیة بالخلفاء الأربعة بعد رسول الله صلی الله علیه و آله والإمام الحسن علیه السلام ، ورفضت أیّ توسیع لدائرة الخلافة بعد الحسن علیه السلام ، وقد تمسّک أتباع هذه النظرة بحدیثٍ للنبی صلی الله علیه و آله وأقوال لکبار الصحابة والتابعین، فقد کتب السیوطی یقول: «أخرج ابن أبی شیبة فی المصنف، عن سعید بن جمهان، قال: قلت لسفینة: إنّ بنی أُمیّة یزعمون أنّ الخلافة فیهم. قال: کذب بنو الزرقاء، بل هم ملوک من أشرّ الملوک وأوّل الملوک معاویة»((1)).

وذهبت طائفةٌ أُخری إلی عدم تحدید الخلافة فی إطار زمنی معیّن، وأصرّوا علی شرعیة خلافة یزید؛ بدلیل الخصائص الشخصیة لیزید، وانعقاد البیعة له من قبل غالبیة المسلمین، وهؤلاء یعتقدون بأنّ بیعة یزید تمّت من قبل الجمیع إلّا ثلّة قلیلة من المسلمین، وأوّل مَن بایع هم أهل الشام، أو أهل الحل والعقد فیها، ثمّ بقیة الأمصار

ص: 45


1- ([1]) السیوطی، جلال الدین، تاریخ الخلفاء: ص199. ابن الصباغ المالکی، علی بن محمد، الفصول المهمّة فی معرفة الأئمّة: ص155. المبارک، محمد، نظام الإسلام: ص59. ابن تیمیة، أحمد بن عبد الحلیم، منهاج السنة: ج2، ص238 - 239. الترحینی العاملی، محمد حسن، النهضة الحسینیة والنواصب: ص29 - 30.

وأطرافها، وإلی ذلک أشار ابن خلدون بقوله:

«کما وقع فی عهد معاویة لابنه یزید، وإن کان فعل معاویة مع وفاق الناس له حجّة فی الباب، والذی دعا معاویة لإیثار ابنه یزید بالعهد دون مَن سواه إنّما هو مراعاة المصلحة فی اجتماع الناس واتّفاق أهوائهم باتّفاق أهل الحلّ والعقد علیه حینئذٍ من بنی أُمیّة؛ إذ بنو أُمیّة یومئذٍ لایرضون سواهم وهم عصابة قریش، وأهل الملّة أجمع وأهل الغلب منهم، فآثره بذلک دون غیره ممَّن یظن أنّه أولی بها» ((1)).

ویصرّح مؤلّف کتاب تاریخ الأُمم الإسلامیة بذلک ضمن تخطئته قرار الإمام الحسین علیه السلام بالخروج علی یزید، فعبّر قائلاً:

«أمّا الحسین فإنّه خالف یزید وقد بایعه الناس، ولم یظهر منه ذلک الجور ولا العسف عند إظهار هذا الخلاف»((2)).

وتابعه علی ذلک محمد عزة دروزة، حیث وجد فی ثورة کربلاء أزمة تهدّد خلافة یزید، وقال:

«کان الحسین معترفاً بشرعیة خلافة معاویة المستندة إلی بیعة جمهور أهل الحل والعقد العامّة له، وبتنازل الحسن له وبیعته هو وإخوته له، وهو یعرف أنّ خلافة یزید مستندة إلی مثل هذه البیعة، ولایجهل أنّ الخروج علی الإمام المستند إلی مثل هذه البیعة موضوع وعید وتندید نبویین شدیدین، وعدم مبایعته شخصیاً لیزید، وصلته برسول الله صلی الله علیه و آله ، واعتقاده بأفضلیته وأولویته، بل والتسلیم بذلک لایمکن أن یبرّر له الخروج علیه والدعوة إلی نقض بیعته فی نطاق توجیه الأحادیث النبویة العدیدة»((3)).

ص: 46


1- ([1]) ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، مقدّمة ابن خلدون: ج1، ص210.
2- ([2]) الخضری، محمد، تاریخ الأمم الإسلامیة: ج2، ص129.
3- ([3]) دروزة، محمد عزة، تاریخ الجنس العربی: ج8، ص382 - 387.

وممَّن اتّجه هذا الاتجاه فی الفترة الأخیرة الدکتور إبراهیم علی شعوط، إذ قام بالدفاع عن خلافة یزید والتشکیک بشرعیة ثورة کربلاء قائلاً:

«یزید بن معاویة خلیفة بایعه المسلمون فی العاصمة الکبری للمسلمین وهی دمشق، التی حلّت محلّ المدینة، وإنّهم یقومون الآن مقام أهل الحلّ والعقد من المهاجرین والأنصار»((1)).

وذهب آخر أبعد من ذلک؛ إذ أنکر مخالفة أهل البیت علیهم السلام لیزید والخروج علیه((2)).

إنّ الفهم الصائب لهذه الأقوال بحاجة إلی البحث عن مفهوم الخلافة فی التاریخ والفقه السیاسی لأهل السنة، وهذا لا یتیسر إلّا بالتنقیب فی النصوص والأسانید التاریخیة؛ لنری السبل التی اتّخذها یزید للوصول إلی سدّة الحکم، وأیضاً مدی انطباق تعریف وشروط الخلافة الإسلامیة علی شخصیة یزید وأفکاره، بهدف فرز الحقائق عن الأباطیل.

مفهوم الخلافة

لم تذکر المصادر التاریخیة تعریفاً للخلافة والخلیفة، واکتفت بالإشارة بخصوص الخلیفة إلی المصادیق والأوصاف، ومدّة التصدّی للخلافة، ولهذا الأمر أدلّة عدیدة، منها: وضوح هذا المفهوم لدی المؤرِّخین، وفی الواقع فإنّ المؤرِّخین من خلال تقریر حیاة وسیرة الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله عرجوا علی عصر الخلفاء، معتبرین فترته تمتدّ منذ عام (11ه-) حتی نهایة عصر الإمام علی علیه السلام أو الإمام الحسن علیه السلام ، أو حتی سقوط بغداد (657ه-)، وأطلقوا عنوان خلیفة المسلمین علی مَن تسلّم مقالید الأُمور فی مرکز

ص: 47


1- ([1]) شعوط، إبراهیم علی، أباطیل یجب أن تُمحی من التاریخ: ص247.
2- ([2]) محمد إبراهیم، براءة یزید بن معاویة من دم الحسین: ص23.

خلافة العالم الإسلامی فی دمشق أو بغداد.

والنکتة الأُخری الجدیرة بالذکر، هی بیان هذا المفهوم لغةً من خلال کتب اللغة والأدب، وتعریفه الاصطلاحی فی الفقه السیاسی، والذی ظلّ الاهتمام به غائباً حتی السنوات الأخیرة.

وعلی أیّة حال فإنّ علماء أهل السنة وبسبب ارتباطهم التاریخی الوثیق والمستمر بالبلاط الحاکم، سبقوا غیرهم من الفرق الإسلامیة فی بیان الفقه السیاسی، والذی من مفرداته مفهوم الخلیفة والخلافة، وقلّما نلمس اختلافاً وتشتّتاً فی هذا المجال.

والخلافة لغةً: تعنی نیابة الولی والإمام، وقد ارتبطت إلی حدٍّ کبیر بالحکم من منظار فقهاء الإسلام وبعض المؤرِّخین، حیث عرّفت علی الوجه التالی: «هی خلافة الرسول فی إقامة الدین وحفظ حوزة الملّة بحیث یجب اتّباعه علی کافة الأمة»((1))، کما نستخلص من تعریف آخر: «إنّ الخلافة هی نیابة النبی فی إقامة الدین وحفظ حدوده بنحو لازم الاتّباع»((2)).

وذکر أبو الحسن الماوردی تعریفاً آخر للخلافة حیث قال: «الإمامة موضوعة لخلافة النبوة فی حراسة الدین وسیاسة الدنیا وعقدها لمَن یقوم بها فی الأُمّة واجبٌ بالإجماع»((3)).

و هذا التعریف فی الواقع لایختلف عن التعریف السابق إلّا فی الألفاظ، ومن بین المؤرِّخین المسلمین الذین قاموا بتعریف الخلافة، عبد الرحمن بن خلدون، فقد أضفی علیها صبغة دینیة، حیث قال:

ص: 48


1- ([1]) الإیجی، المواقف:ج3، ص579.
2- ([2]) أبو یعلی الفراء، محمد بن الحسین، الأحکام السلطانیة: ص29.
3- ([3]) الماوردی، علی بن محمد، الأحکام السلطانیة والولایات الدینیة: ص3.

«الخلافة فی الحقیقة خلافة عن صاحب الشرع فی حراسة الدین وسیاسة الدنیا به»((1)).

و یمکن القول من مجموع ماتقدّم أنّ الخلافة: هی نیابة النبی صلی الله علیه و آله فی حفظ وتفسیر ونشر الدین وتدبیر أُمور المسلمین بالاستناد إلی أحکام الدین ونظریاته.

شروط الخلافة

اشارة

بعد اتّضاح مفهوم الخلافة من منظار أهل السنة، نری من المناسب بیان شروط الخلافة، فما هی الشروط والخصوصیات اللازمة لتولّی الخلافة الإسلامیة، وعلی ضوئها تکون خلافته شرعیة، فإذا اختلّ شرطٌ أو عدّة شروط منها زالت الشرعیة عن الخلافة؟

وبإلقاء نظرة خاطفة علی مصادر وآثار أهل السنة التی دوّنت حول الخلافة والخلفاء، نستنتج أنّهم وبسبب تراکمات تاریخیة لم ینظروا فی القرآن والسنة النبویة بموضوعیة وتجرّد، کی یتم علی ضوء ذلک البحث عن الخلافة الإسلامیة وشروطها بنزاهة، بعیداً عن أیّ حکمٍ مسبق أو متحیّز، ومن ثمّ البحث عن کیفیة انتقال الحکم، بهدف تطبیق معاییر وشروط الخلافة علی مَن ادّعاها، أو علی من تولّاها قهراً فی تاریخ الإسلام.

وذهب علماء أهل السنة إلی اعتبار سیرة الخلفاء الراشدین حجّة وفصل الخطاب، بسبب استبعاد ارتکابهم للذنوب، من هنا اعتبروا الخط الذی سار علیه الخلفاء فی الحکم وخصوصیاته من جملة الشروط الشرعیة وآلیة مقبولة لنقل الخلافة الإسلامیة ودوامها، وأنّ الشروط التی اعتبرها علماء أهل السنة فی ذلک بعد ملاحظة خصوصیات الخلفاء الراشدین، عدیدة ومتنوعة وأکثرها محل اتّفاق بینهم إلّا کونه

ص: 49


1- ([1]) ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، مقدمة ابن خلدون: ج1، ص237.

قرشیاً فقد اختلفوا فیه، وإلیک تلک الشروط بشکل مقتضب:

أ - العدالة

هذا الأصل محلّ اتّفاق بین علماء أهل السنة، فقد ذهب الفقهاء والمؤرِّخون من أهل السنة إلی أنّ العدالة شرطٌ لازمٌ لتولّی الخلافة، والفاسق لیس جدیراً بالإمارة علی المسلمین وخلافة رسول الله’ فی أمر الدین والدنیا، نعم أُسلوب بیان هذا الموضوع مختلف عند العلماء، فعلی سبیل المثال صرّح أبو یعلی الفراء الحنبلی بهذا الشرط فی ضمن الشرط الثانی عند بیان شروط الخلافة، وقال: «وأمّا أهل الإمامة فیعتبر فیهم أربع شروط... الثانی: أن یکون علی صفة مَن یصلح أن یکون قاضیاً، من الحریة والبلوغ والعقل والعلم والعدالة. والثالث: أن یکون قیّماً بأمر الحرب والسیاسة وإقامة الحدود، لا تلحقه رأفة فی ذلک، والذبّ عن الأُمّة. الرابع: أن یکون من أفضلهم فی العلم والدین»((1)).

وقد کتب الماوردی عند بیان شروط أهل الإمامة یقول: «وأمّا أهل الإمامة فالشروط المعتبر فیهم سبعة: أحدها: العدالة علی شروطها الجامعة»((2)).

وهناک مَن ذهب إلی أنّ العدالة شرطٌ لازمٌ للخلیفة وإمام المسلمین، وإذا کان هناک تردید أو إبهام فإنّما یقع فی الشروط الزائدة علیها، کالشجاعة والقرشیة ونحوها، ویری ابن خلدون أنّ العدالة شرطٌ لازمٌ للخلیفة، وقد خالف بشدّة عدم تحقّق هذا الشرط فی یزید بن معاویة حینما عقد معاویة له ولایة العهد، أو علی الأقل أنّ معاویة کان علی علم بذلک، ومع ذلک أصرّ علی أخذ البیعة له، ویقول: «وأمّا العدالة فلأنّه منصبٌ دینیٌّ

ص: 50


1- ([1]) أبو یعلی الفراء، محمد بن الحسین، الأحکام السلطانیة: ص20. القلقشندی، أحمد بن عبد الله، مآثر الإنافة فی معالم الخلافة: ج1، ص31 - 39. النووی، یحیی بن شرف، روضة الطالبین: ص45.
2- ([2]) الماوردی، علی بن محمد، الأحکام السلطانیة والولایات الدینیة: ص31. المبارک، محمد، نظام الإسلام: ص61 - 64.

ینظر فی سائر المناصب التی هی شرطٌ فیها، فکان أولی باشتراطها فیه، ولا خلاف فی انتفاء العدالة فیه بفسق الجوارح من ارتکاب المحظورات وأمثالها»((1)).

وحول جهل معاویة بفسق یزید، یقول: «إیّاک أن تظن بمعاویة أنّه علم ذلک من یزید، فإنّه أعدل من ذلک وأفضل، بل کان یعذله أیّام حیاته فی سماع الغناء وینهاه عنه»((2)).

والنکتة التی لاینبغی استبعادها هی تأکید بعض الفقهاء علی عدالة المجتمع، وقد عبّر البعض بالعدالة والتدیّن، والمراد منها وجود العدالة بکلا المعنیین:

1- وجود ملکة فی المرء تمنعه من ارتکاب الذنوب الکبیرة وتکرار الذنوب الصغیرة.

2- السلوک المتّصف بالقسط والعدل مع الناس.

ب - الفقاهة

شرط الفقاهة محلّ اتّفاق بین أوساط علماء الإسلام لا سیما أهل السنة، کما مرّت الإشارة، وقد قام بعضٌ ببیان أنّ الخلیفة لا بدّ أن یتمتّع بأعلی درجات الفقاهة کی یتصدّی لمقام القضاء، وأمّا البعض الآخر فصرّح أنّه: «العلم المؤدّی إلی الاجتهاد فی النوازل والأحکام»((3))، کما کتب الجرجانی عند شرحه لکتاب المواقف للقاضی عضد الدین الإیجی، یقول: «الجمهور علی أنّ أهل الإمامة ومستحقّها مَن هو مجتهد فی الأُصول والفروع»((4)).

ص: 51


1- ([1]) ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، مقدمة ابن خلدون: ص152.
2- ([2]) المصدر السابق: ص167.
3- ([3]) الماوردی، علی بن محمد، الأحکام السلطانیة والولایات الدینیة: ص31. القلقشندی، أحمد بن عبد الله، مآثر الإنافة فی معالم الخلافة: ج1، ص37.
4- ([4]) الشریف الجرجانی، علی بن محمد، شرح المواقف: ج8، ص349. الشافعی، محمد بن إدریس، الفقه الأکبر: ص39.

وتصدّی أحد المحقِّقین للبحث فی هذا المقام، وذهب إلی أن شرط الفقاهة للإمام وخلیفة المسلمین محلّ اتّفاق بین علماء أهل السنة، وأکّد: أنّ القدر المتیقَّن لشرعیة الحکم من منظار علماء الفریقین هو الحکم الذی علی رأسه الفقیه، وقد صرّح جمهور فقهاء أهل السنة بذلک، وذهبوا إلی أنّ الفقاهة شرط لصحّة انعقاد البیعة والخلافة، کما صرّح بذلک إمام الحرمین الجوینی استناداً لما نقل عنه فی کتاب الأحکام السلطانیة، وکلمات فقهاء أهل السنة فی هذا الصدد کثیرة((1)).

ج - الشروط الأُخری

من جملة الشروط اللازمة الأُخری لإحراز مقام الخلافة هی الذکوریة والشجاعة والتدبیر والسیاسة والنسب والسلامة الجسمیة والنفسیة، وهذه شروط ضروریة لانعقاد الخلافة ودوام مشروعیتها وقد ذکرها العلماء تحت عناوین مختلفة.

آلیة انتقال الخلافة

اشارة

من الأُمور التی استحوذت علی اهتمام الباحثین وعلماء الإسلام لا سیما أهل السنة بشأن الخلافة کیفیة انتقال الخلافة والآلیات الشرعیة المتّبعة فیه، وقد خصّصت بعض المصادر ذات الصلة مساحة من اهتمامها بهذا الموضوع تحت عنوان (وجوه انعقاد الإمامة)، حیث تطرّقت فیه إلی البحث عن أُصول وشروط انتقال الخلافة کمّاً وکیفاً، وطرحت وجهات نظر عدیدة فی هذا الخصوص.

وبصورة عامّة تنقسم الآلیات الشرعیة فی هذا الصدد إلی قسمین، لکلّ منهما خصوصیات ومزایا:

ص: 52


1- ([1]) الآصفی، محمد مهدی، مجله پژوهش وحوزه (مجلة الأبحاث والحوزة)، السنة الثانیة، (1380ه-.ش)، العدد السابع: ص76 - 77.

أ - عهد الإمام والخلیفة السابق

إنّ من السبل الشرعیة فی انعقاد الإمامة أو الخلافة لدی أهل السنة هو تعیین ونصب الخلیفة السابق، فیتمسّکون بعهد الخلیفة الأوّل للخلیفة الثانی، وبعهد الخلیفة الثانی إلی ستّة من الصحابة بتعیین الخلیفة بعده، ویعدّ ما قاما به دلیلاً شرعیاً عند أهل السنة لهذا النحو من الاختیار.

ب - اختیار أهل الحل والعقد

السبیل الثانی لانعقاد الخلافة والانتقال الشرعی للحکم هو اختیار أهل الحل والعقد والذی یعبّر عنه بأهل الرتق والفتق، وهم أهل الخبرة فی الأُمّة الإسلامیة؛ لأنّ فی رضاهم رضا العامّة، هذه الجماعة هی فی الواقع انعکاس للرأی العام وممثّل عنه.

وقد تضاربت الآراء فی مصادر أهل السنة حول العدد اللازم لانعقاد أهل الحل والعقد، فذهبت طائفة إلی أنّها لاتنعقد إلّا بجمهور أهل الحل والعقد فی کلّ بلد؛ لیکون الرضا به عامّاً والتسلیم لإمامته إجماعاً، وقامت طائفة أُخری بردّ هذا الشرط تمسّکاً بمنهج اختیار الخلیفة الأوّل أو الخلیفة الثانی والثالث، حتی وصل بها الأمر إلی الاکتفاء بشاهدین فی انعقاد الخلافة، مثل النکاح، حیث ینعقد مع حضور الولی وشاهدین، حتی قیل: إنّه یکفی فی ذلک العلم برضا مجموعة من أهل الحل والعقد أو موافقة واحدٍ منهم.

وقد لجأ بعضٌ إلی الارتماء فی أحضان مصطلح أهل الشوکة للتخلّص من هذا التهافت، واعتبروا أنّ أهمّ شرط لانعقاد الإمامة هو موافقة أهل الشوکة، وأکّدوا فی الوقت نفسه أنّ هذا الشرط محلّ اتّفاق أهل السنة.

وتنعقد الإمامة لدی أهل السنة بموافقة أهل الشوکة، ولایبلغ أحد مقام الإمامة إلّا إذا اتّفق علیه أهل الشوکة؛ لکی یتحصّل بذلک المقصود والغرض من الإمامة،

ص: 53

والمقصود منها إفساح المجال أمامه لتولّی السلطة، وعلیه حینما تحصل البیعة تسلّم إلیه السلطة، ویصبح الفرد المختار إماماً.

من الواضح أنّ المراد من الموافقة العامّة التی تعقب موافقة أهل الحل والعقد أو أهل الشوکة، هی الموافقة الحرّة التی تبتنی علی الوعی والتعقّل، کما أنّه لیس ثمّة إجبار وإکراه فی حقّ المختار کإمام.

و رغم ذلک فإنّ هذین المنهجین یمکن جمعهما، فقد ذکر المنظّرون أنّه لایکفی تعیین الإمام السابق فقط، بل لا بدّ من انضمام اتّفاق أهل الحل والعقد إلیه. والذی یستنتج من القرائن الحافّة بکلامهم أنّ المهم هو اتّفاق أهل الحل والعقد أو الخبراء الحاکی عن رضا الناس المسلمین، وهذا الأمر یقتضی انعقاد الخلافة شرعاً.

أمّا الشروط والخصوصیات اللازم توفّرها فی أهل الحل والعقد، فلیس ثمّة اختلاف یُذکر حولها، وذکرت المصادر المختلفة ثلاثة شروط لازمة، هی:

1 - العدالة الجامعة للشروط.

2 - العلم الذی یتوصّل من خلاله إلی معرفة الإمام الجامع للشروط واختیاره.

3 - الرأی والحکمة المؤدّیان إلی اختیار مَن هو للإمامة أصلح، وبتدبیر المصالح أقوم وأعرف((1)).

ویترشّح عن أخذ تلک الشروط بنظر الاعتبار - فیما لو تمّ الاتّفاق - أثرٌ شرعی، ولا بدّ من ضمّ أهل الشوکة إلی تلک الشروط وإلّا سوف نقع فی ورطة التهافت، وما یعقب ذلک من تمهید الأرضیة لتقدیس أصحاب القدرة والنفوذ والانقلابات العسکریة ونهب الأموال.

ص: 54


1- ([1]) اُنظر: الماوردی، علی بن محمد، الأحکام السلطانیة والولایات الدینیة: ص31.

شروط استخلاف الخلفاء الراشدین

حاز الخلفاء الراشدون عند أهل السنة علی شروط الخلافة الإسلامیة من جهات مختلفة، واستلموا مقالید الخلافة بآلیات شرعیة، کما حازوا علی ملکة العدالة وساروا فی المجتمع بعدل، ویشیر إلی هذا الأمر الخصوصیات التی ذکرتها الکتب الحدیثیة والرجالیة والتاریخیة فی وصفهم.

من جانب آخر کانوا من الصحابة، الذین یشملهم الحدیث المنسوب إلی النبی’: «أصحابی کالنجوم بأیّهم اقتدیتم اهتدیتم»((1))، ولأجل هذه العدالة الإسلامیة والتقوی الإلهیة التی تمتّعوا بها، فقد عهد کلّ خلیفة إلی الخلیفة بعده، دون أن یمتّ إلیه بقرابة أو صلة، وهکذا الحال لدی الصحابة الستة الذین اختارهم الخلیفة الثانی لاختیار الخلیفة بعده، وأمّا فقاهتهم فإنّ فقهاء الأُمة الإسلامیة فی عهد الصحابة قد صنّفوا إلی ثلاثة أصناف یأتی عمر وعلی علیه السلام فی الصنف الأوّل - حسب عقیدة أهل السنة - ومن ثمّ أبی بکر وعثمان فی الصنف الثانی((2)).

ولمّا کان أهل السنة قد اتّخذوا موقفاً انفعالیاً تجاه الخلافة، فدعاهم هذا الموقف إلی تبنی فکرة کفایة الفاضل وحتی المفضول للخلافة مع وجود الأفضل والأفقه، من هنا أبدوا رضاهم بخلافة أبی بکر مع وجود علی علیه السلام وعمر، وبخلافة عثمان مع وجود علی علیه السلام باعتبارها تتمتّع بالمواصفات الشرعیة، وکان للخلفاء الراشدین مقام الفقاهة الذی هو شرط التصدّی للخلافة الإسلامیة، لذا لم یواجه أهل السنة مأزقاً، رغم أنّ الأبحاث والنظریات المطروحة حول الخلیفة ومقام الخلافة قد دوّنت بعد یزید والخلفاء الراشدین فی القرنین الثالث والرابع.

ص: 55


1- ([1]) ابن عبد البر، یوسف، جامع بیان العلم وفضله: ص90.
2- ([2]) اُنظر: أحمد نعمتی، اجتهاد وسیر تاریخی آن از دیدگاه أهل سنّت (الاجتهاد وحرکته التاریخیة عند أهل السنة): ص169.

یزید بن معاویة وشروط الخلافة

اشارة

بعد أن استعرضنا وجهة نظر أهل السنة إزاء مفهوم الخلافة وشروطها وکیفیة انتقالها، فمن الأجدر هنا أن نعرج علی یزید بن معاویة الذی یعتبر عند بعض فرق أهل السنة أمیراً للمؤمنین، وأنّ الخروج علیه خطأ ومنکر، حتی أنّ البعض اعتبر حادثة عاشوراء تحدّیاً لخلافته، لنری هل أنّه کان حائزاً علی شروطها.

إنّ إبرز شروط الخلافة عند أهل السنة والتی لا بدّ من توفّرها لدی کلّ مَن ادّعی الخلافة قبل تسلّم مقالیدها هو العدالة والفقاهة، هذان الشرطان من الشروط الأساسیة التی علی ضوئها یتمّ التصدی للخلافة، وبدونهما لا أثر شرعی لها، سواء ظفر بالخلافة عنوةً أم بأُسلوب آخر، ذلک أنّه حینما ینتفی الشرط ینتفی المشروط، فمَن افتقد العدالة أو الفقاهة لایصدق علیه عنوان الخلیفة من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

عدالة یزید

کما هو واضح فإنّ البحث والتنقیب عن هذا الموضوع علی غرار سائر مواضیع هذا التحقیق بحاجة للعودة إلی المصادر التاریخیة لعلماء أهل السنة، إذ هناک أُمور کثیرة حول سیرة یزید وتربیته وأخلاقه وردت فی مصادر أهل السنة، ومن حسن الحظ لانعانی فی هذا الموضع من سکوت التاریخ أو إهمال المؤرِّخین لهذا الجانب، وسنُلقی نظرة سریعة علی هذا الموضوع.

البیئة والتربیة

لا شکّ أنّ للتربیة والبیئة تأثیراً کبیراً علی أخلاق المرء وسلوکه، وکیفیة بلورة شخصیته وهویته، ولهذا شاع استخدام جملة (العلم فی الصغر کالنقش فی الحجر) الواردة فی ضرورة تلقی المعارف والتعالیم والثقافة التربویة والتعلیمیة فی سنّ الصغر، ولاقت إقبالاً واسعاً.

ص: 56

ولم یُستثنَ یزید من ذلک، فقد ترعرع فی أحضان أجواء عائلیة وقبلیة، واکتملت شخصیته وتبلورت أفکاره تحت ظلّ تلک العناصر، ومع أخذ ذلک الأصل البدیهی والمسلّم بنظر الاعتبار، سوف نسلّط الأضواء علی ملامح تربیته، حیث کتب عبد الله العلایلی أحد المؤرِّخین من أهل السنة عن یزید وثورة کربلاء، قائلاً:

إنّ یزید نشأ نشأةً مسیحیة، تبعد کثیراً عن معارف وآداب الإسلام؛ وذلک لأنّ یزید یرجع بالأُمومة إلی بنی کلب، هذه القبیلة التی کانت تدین بالمسیحیة قبل الإسلام، ومن بدیهیات علم الاجتماع أنّ انسلاخ شعب کبیر من عقائده یستغرق زمناً طویلاً، علی أنّ طائفةً من المؤرِّخین ترجّح أنّ من أساتذته بعض نساطرة الشام من مشارقة النصاری، وإذا صحّ هذا نعثر علی سببٍ خطیر أیضاً یساعده علی أن یظهر بهیئة الساخر من الأوضاع التی یأخذ المجتمع بها نفسه، کما أنّ القبلیة عملت فیه عملها فخرج جافیاً ذا عصبیة قاسیة ((1)).

کما راح فی موضعٍٍ آخر، یقول: «ذکروا أنّ یزید عُرف بشرب الخمر، واللعب بالکلاب، والتهاون بالدین، ویلهو بالنرد، ویتصید بالفهود، ومن شعره:

أقول لصحب ضمّت

الکأس شملهم

وداعی صبابات

الهوی یترنّم

خذوا بنصیب من

نعیمٍ ولذة

فکلٌّ وإن طال

المدی یتصرّم

وکان صاحب طرب ومنادمة علی الشراب، جلس ذات یوم علی شرابه وعن یمینه ابن زیاد بعد قتل الحسین فأقبل علی ساقیه، فقال:

اسقنی شربةً

تروی مشاشی

ثمّ مل فاسق

مثلها ابن زیاد

صاحب السرّ

والأمانة عندی

ولتسدید مغنمی

وجهادی

ص: 57


1- ([1]) اُنظر: العلایلی، عبد الله، تاریخ الحسین نقد وتحلیل: ص240 - 241. العلایلی، عبد الله، سمو المعنی فی سمو الذات: ص79 - 81.

ثمّ أمر المغنّین فغنّوا فی مجلسه، وغلب علی أصحاب یزید وعمّاله ما کان یفعله من المنکرات والفسق والفجور، وفی أیّامه ظهر الغناء بمکة والمدینة واستُعملت الملاهی»((1)).

والواقع أنّ انتساب یزید بن معاویة إلی قبیلة بنی کلب النصرانیة یشکّل بؤرة مظلمة ووصمة عارٍ له، ولم یکن هذا الأمر خافیاً علی المسلمین فی عهد معاویة بن أبی سفیان، کما أنّهم لم یقفوا علی هذه الحقیقة فحسب، بل کان القلق یساورهم حیال تربیة یزید وتنشئته نشأةً إسلامیة، حتی أنّ سعید بن عثمان أحد المقرَّبین لمعاویة قد صرّح بذلک وأبلغ معاویة عن قلقه حیال مستقبل یزید ومؤهّلاته، ولم ینکر علیه معاویة ذلک، بل أخذه أخذ المسلَّمات((2)).

یزید والتراث الفکری لأبی سفیان

لم یکن لأجداد یزید بن معاویة ماضیٌ مشرقٌ فی التاریخ، فعلاقاتهم بالإسلام وبالنبی صلی الله علیه و آله وآله علیهم السلام لم تکن فی یومٍ ما علاقات طیبة، فقد کان جدّه أبو سفیان بن حرب بن أُمیّة من أثریاء مکة، وکان خصماً لدوداً لرسول الله صلی الله علیه و آله ((3))، ولمّا فتحت مکة عام (8ه-) استسلم أبوسفیان وأبناؤه، ومنهم معاویة وأتباعه، ولکن النبی خلّی سبیل أهل مکة وأطلقهم ولم یسترقّهم بما فیهم أبو سفیان وأبناؤه، الذین طالما أضمروا العداء للإسلام، وحاکوا المؤامرات ضدّ رسول الله صلی الله علیه و آله ، إذ قال لهم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، من هنا أطلق علی أبی سفیان وأبنائه بالطلقاء ولیسوا من المهاجرین ولا الأنصار الذین

ص: 58


1- ([1]) العلایلی، عبد الله، تاریخ الحسین نقد وتحلیل: ص240 - 241. العلایلی، عبد الله، سمو المعنی فی سمو الذات: ص79 - 81.
2- ([2]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج3، ص249.
3- ([3]) وهو القائل: «أحبّ الناس إلینا مَن أعاننا علی عداوة محمد» اُنظر: الواقدی، محد بن عمر، المغازی: ج2، ص422. الحلبی، علی بن برهان الدین، السیرة الحلبیة: ج2، ص629.المقریزی، أحمد بن علی، إمتاع الأسماع: ج1، ص222. (المترجم).

کانوا یشکّلون معظم مسلمی صدر الإسلام((1)).

وتدلّ الشواهد التاریخیة علی أنّ أبا سفیان وبنی أُمیّة لم یعتنقوا الإسلام عن حبٍّ ورغبة، بل نظروا إلیه کطعمة، ولم یدخل الإیمان فی قلوبهم، واستمرّوا علی هذا المنوال:

أ - وقد سمع أبو سفیان - مثل سائر قریش - بدعوة النبی صلی الله علیه و آله منذ بدایة البعثة ولم یظهر رغبةً فی قبولها أبداً، بل علی العکس سعی إلی إطفاء هذا النور الإلهی وإلی اغتیال رسول الله صلی الله علیه و آله ، فقد خاض حروباً عدیدة سعیاً منه للقضاء علی هذا الدین الخالد إلی الأبد، وکان له - بشکلٍ مباشر أو غیر مباشر - دورٌ قیادی فی غزوة بدر وأُحد والأحزاب وغیرها، وفی خضم تلک الغزوات ألحق بالمسلمین وقریش خسائر بشریة ومادیة باهظة، ناهیک عن الضغوط المستمرّة والحصار الاقتصادی الذی مارسه، کما کان یصرّ علی أفکاره الجاهلیة والقبلیة والطبقیة التی غرست فی أعماق قلبه، وکان یؤمن بها بکلّ وجوده، وعلیه فلیس من المعقول أن یتخلّی هذا الشخص عن ثقافته الجاهلیة المتأصّلة عام فتح مکة، بعد أن فقد آخر حصون المقاومة والدفاع، ویعتنق الإسلام بإخلاص ودافع قلبی((2)).

ولم یکن یشعر برغبة إلی اعتناق الإسلام حین فتح مکة بل إنّ إخفاقاته وهزائمه المتکرّرة فی الحروب التی خاضها ضدّ رسول الله صلی الله علیه و آله قد عمّقت شرخ الحقد والانتقام فی وجوده، فتحوّل کلّه إلی حسد وحقد وانتقام، من هنا فإنّ إسلامه کان حرکة تکتیکیة وتغییر فی أُسلوب المواجهة قبل أن یکون تحوّلاً فکریاً((3)).

ب - ثمّة عوامل مختلفة ترکت تأثیراً عمیقاً علی مناهضته للإسلام، منها زوجه هند

ص: 59


1- ([1]) المقریزی، أحمد بن علی، النزاع والتخاصم فیما بین بنی أُمیّة وبنی هاشم، تحقیق محمد عرنوس: ص28.
2- ([2]) المصدر السابق.
3- ([3]) المصدر السابق: ص29 - 31.

التی ساندته فی هذا السبیل، والتی فقدت أباها وأخاها وعمَّها فی غزوة بدر، فخلّف ذلک حقداً عمیقاً فی قلبها، ودفعها ذلک إلی التفکیر ملیاً بقتل النبی صلی الله علیه و آله وأصحابه، وعلی رأسهم حمزة بن عبد المطلب عمّ النبی صلی الله علیه و آله وعلی بن أبی طالب علیه السلام صهره وابن عمِّه، وأخیراً تمکّنت بالتنسیق مع غلامٍ لها - یُدعی وحشی - من اغتیال حمزة فی غزوة أُحد والمثلة به، من هنا اشتهرت بآکلة الأکباد، وقد ساهمت إلی حدٍّ بعید علی تکریس کفر أبی سفیان وانتهازیته.

ج - ممَّا یدلّ علی رسوخ العقیدة الجاهلیة فی نفس أبی سفیان وأتباعه هو إطلاق عنوان الطلقاء أو المؤلّفة قلوبهم علیهم، ولم یکن ذلک بخافٍ علی أحد، بل راج أمرهم بین المسلمین((1))، من هنا أخذوا یشارکون فی الحروب الأخیرة - ومنها غزوة حنین - کناظرین لا کمجاهدین، وکانوا یترصّدون الفرص للانقضاض علی الإسلام، وبعد انتصار جیش الإسلام فی تلک الغزوة قسّم النبی صلی الله علیه و آله علیهم الغنائم باعتبارهم من المؤلّفة قلوبهم لا من ذوی الحقوق.

د - قام أبو سفیان بعد وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله بإجراءات تدلّ بوضوح علی رسوخ فکره الجاهلی، فبعد حوادث سقیفة بنی ساعدة ووصول أبی بکر إلی سدّة الخلافة جاء إلی المدینة، وقال: «أما والله، إنّی لأری عجاجة لایطفئها إلّا الدم، یا لعبد مناف، فیمَ أبو بکر من أمرکم؟ أین المستضعفان؟ أین الأذلّان، یعنی: علیاً والعباس؟ ما بال هذا الأمر فی أقلّ حی من قریش؟ ثمّ قال لعلی: ابسط یدک أبایعک، فوالله، إن شئت لأملأنّها علی أبی فضیل - یعنی أبا بکر - خیلاً ورجلاً،

فامتنع علی علیه السلام ، فلمّا یئس منه قام عنه وهو ینشد شعر المتلمِّس:

ص: 60


1- ([1]) المقریزی، أحمد بن علی، النزاع والتخاصم فیما بین بنی أُمیّة وبنی هاشم، تحقیق محمد عرنوس: ص29 - 31.

ولا یقیم علی

ضیم یراد به

إلّا الأذلّان

عیر الحی والوتد

هذا علی الخسف

مربوط برمّته

وذا یشجّ فلا

یرثی له أحد»((1))

وکان الإمام علی علیه السلام علی علم بما یضمره أبو سفیان فزجره وقال: «والله، إنّک ما أردت بهذا إلّا الفتنة، وإنّک والله طالما بغیت للإسلام شرّاً، لا حاجة لنا فی نصیحتک»((2)).

وقال علیه السلام فی خطبةٍ له بعد حوادث السقیفة: «أیّها الناس شقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وعرّجوا عن طریق المنافرة، وضعوا تیجان المفاخرة، أفلح من نهض بجناح أو استسلم فأراح، هذا ماء آجن ولقمة یغص بها آکلها، ومجتنی الثمرة لغیر وقت إیناعها کالزارع بغیر أرضه»((3)).

وکان عمر علی علم بماضی أبی سفیان وحزب الطلقاء، وکان یراقبه وکان لایخفی قلقه بشأنه بعد السقیفة، وقد قال لأبی بکر: «إنّ هذا - یعنی أبا سفیان - قد قدم وهو فاعل شرّاً، وقد کان رسول الله صلی الله علیه و آله یستألفه علی الإسلام، فدَع له ما بیده من الصدقة، ففعل، فرضی أبو سفیان وبایعه»((4)).

وقد أثبت التاریخ مقولته التی قالها فی زمن خلافة عمر بن الخطاب بعد تولّی ابنه یزید بن أبی سفیان ولایة الشام ومن ثمّ معاویة بن أبی سفیان والتی تدلّ صراحة علی رسوخ الثقافة الجاهلیة فی نفسه، کما أنّه بعد تصدّی عثمان لمسند الخلافة جمع بنی أُمیّة وراء الأبواب المغلقة، وقال لهم: «أعندکم أحد من غیرکم؟ قالوا: لا، قال: یا بنی أُمیّة،

ص: 61


1- ([1]) ابن أبی الحدید، عبد الحمید، شرح نهج البلاغة: ج1، ص221.
2- ([2]) ابن الأثیر، علی بن محمد، الکامل فی التاریخ: ج2، ص326.
3- ([3]) خطب الإمام علی علیه السلام ، نهج البلاغة: الخطبة رقم 5.
4- ([4]) ابن أبی الحدید، عبد الحمید، شرح نهج البلاغة: ج2، ص44 -45. المقریزی، أحمد بن علی، النزاع والتخاصم فیما بین بنی أُمیّة وبنی هاشم: ص31.

تلقفوها تلقف الکرة، فوالذی یحلف به أبو سفیان، ما من عذاب ولا حساب ولا جنة ولا نار ولا بعث ولا قیامة»((1)).

وقال أبو سفیان وقد مرَّ بقبر حمزة وضربه برجله: «یا أبا عمارة، إنّ الأمر الذی اجتلدنا علیه بالسیف أمسی فی ید غلماننا الیوم یتلعّبون به»((2)).

توعیة النبی صلی الله علیه و آله ولعنه أبا سفیان ومعاویة

لم یکتفِ النبی صلی الله علیه و آله بالتحذیر من مؤامرات بنی أُمیّة، بل تطرّق وبسبلٍ شتّی إلی هدایة الأُمّة وتوعیتها إزاء تعاظم نفوذ معاویة، فقد لعن فی مواطن عدیدة أبا سفیان ومعاویة، وحذّر المسلمین من الوقوع فی فخِّهما، حیث نقرأ فی التاریخ: «خرج رسول الله صلی الله علیه و آله من فجّ فنظر إلی أبی سفیان وهو راکب، ومعاویة وأخوه أحدهما قائد والآخر سائق، فلمّا نظر إلیهم، قال: اللهم العن القائد والسائق والراکب»((3)).

وقد اشتهر هذا الحدیث بین المسلمین ولم ینکره أحد، کما لم ینکر مصادیقه أحد، وإلیه أشار محمد بن أبی بکر فی کتاب کتبه إلی معاویة، بقوله: «وأنت اللعین ابن اللعین لم تزل أنت وأبوک تبغضان وتبغیان فی دین الله الغوائل، وتجتهدان فی إطفاء نور الله، تجمعان الجموع علی ذلک، وتبذلان فیه الأموال، وتحالفان علیه القبائل، علی ذلک مات أبوک، وعلیه خلفته أنت»((4)).

ص: 62


1- ([1]) ابن أبی الحدید، عبد الحمید، شرح نهج البلاغة: ج9، ص53. ابن عبد البر، یوسف، الاستیعاب فی معرفة الأصحاب: ج4، ص87.
2- ([2]) ابن حجر العسقلانی، أحمد بن علی، الإصابة فی تمییز الصحابة: ج8، ص285. التستری، محمد تقی، قاموس الرجال: ج1، ص80. الأمینی، عبد الحسین، الغدیر: ج10، ص83.
3- ([3]) الطبری، محد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج11، ص 357. الأمینی، عبد الحسین، الغدیر: ج10، ص139 - 142.
4- ([4]) ابن مزاحم، نصر، وقعة صفین: ص118 - 119.

وفی موضع آخر لعن النبی صلی الله علیه و آله معاویة وصاحبه عمرو بن العاص لما کانوا فی سفر، وهذا إن دلّ علی شیء فإنّما یدلّ علی عمق الصداقة بینهما، واتّحاد نوایاهما الخبیثة، ومواقفهما فی مختلف المسائل وذلک قبل تصدّیهما لولایة الشام ومصر، فعن ابن عباس: «کنّا مع رسول الله صلی الله علیه و آله فی سفر، فسمع رجلین یتغنّیان وأحدهما یجیب الآخر وهو یقول:

لا یزال حواری تلوح عظامه

زوی الحرب عنه أن یجنّ فیقبرا

فقال النبی صلی الله علیه و آله : انظروا مَن هما؟ قال: فقالوا: معاویة وعمرو بن العاص. فرفع رسول الله’ یده، فقال: اللهم ارکسهما رکساً ودعهما إلی النار دعّا»((1)).

المصیر الأسود

وردت تحذیرات مکرّرة عن النبی صلی الله علیه و آله بشأن معاویة فی مصادر أهل السنة، منها هذه الروایة التی یعلن فیها النبی صلی الله علیه و آله صراحةً ویقول: «یطلع من هذا الفج رجلٌ من أُمّتی یحشر علی غیر ملّتی، فطلع معاویة»((2)).

وقد ورد هذا المضمون بعبارات مختلفة نسبیاً، وبالتالی لایبقی شکٌ فی أنّ المراد بها معاویة، کما حذّر النبی صلی الله علیه و آله المجتمع الإسلامی من دسائس معاویة وانحرافاته للحیلولة دون وقوعه فی الفخ، کما نقل علی لسان الصحابی الجلیل أبی ذر الغفاری أنّ النبی صلی الله علیه و آله عدّ معاویة من أصحاب النار وتنبّأ له بمصیرٍ أسود((3)).

ص: 63


1- ([1]) الأمینی، عبد الحسین، الغدیر: ج10، ص139 - 142.
2- ([2]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج11، ص57.
3- ([3]) اُنظر: المصدر السابق.

أمرٌ صریح

رغم أنّ إطلاق النبی صلی الله علیه و آله التحذیرات بهدف الوقوف علی شخصیة معاویة وأفکاره الهدامة کان إیجابیاً وبنّاءً، إلّا أنه صلی الله علیه و آله لم یکتفِ بذلک بل خطی خطوةً أبعد، وتنبّأ صراحةً بوصول معاویة إلی مسند الحکم، وقد أصدر فی هذا الشأن أوامر صارمة تدلّ علی قلقه العمیق لمستقبل هذا الدین ومصیر الأمة الإسلامیة، وقد ضبط التاریخ ما قاله: «إذا رأیتم معاویة علی منبری فاقتلوه»، کما وردت روایة أخری بنفس المضمون: «إذا رأیتم معاویة یخطب علی منبری فاقتلوه»، وکذلک: «إذا رأیتم معاویة یخطب علی منبری فاضربوا عنقه»((1)).

وقد حقّق العلّامة الأمینی فی سلسلة أسانید هذه الروایات فوجد أنّها مسندة، ورجالها بنظر علماء السنة ثقات وموضع قبول عند علماءالفریقین((2)).

نماذج أُخری

إنّ تنبّؤات النبی صلی الله علیه و آله حول معاویة وبنی أُمیّة لا تتلخّص بما ذکر، بل إنّ النبی صلی الله علیه و آله ذکر فی مواطن عدیدة معاویة وحذّر المسلمین من مغبّة وصوله إلی سدّة الحکم، ونوایاه الخبیثة.

بعض تلک التحذیرات وردت فی حقِّ معاویة وصاحبه عمرو بن العاص، وقال: «إذا رأیتم معاویة وعمرو بن العاص مجتمعین ففرِّقوا بینهما، فإنّهما لن یجتمعا علی خیر»((3)).

وفی موضع آخر ذمّ معاویة وعمرو بن العاص علی بثّ بذور الفرقة والاختلاف، وأمر المسلمین بضرب أعناقهما فیما لو استهدفا وحدتهم.

ص: 64


1- ([1]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج11، ص57.
2- ([2]) الأمینی، عبد الحسین، الغدیر: ج10، ص142 - 147. العلوی الحضرمی، محمد بن عقیل، النصائح الکافیة: ص26.
3- ([3]) الأمینی، عبد الحسین، الغدیر: ج10، ص148.

الإمام علی علیه السلام ووقوفه علی حقیقة معاویة

إنّ مخالفة معاویة بن أبی سفیان للخلیفة والإمام واجب الطاعة کأمیر المؤمنین علیه السلام کافٍ لإدانته عقائدیاً وسیاسیاً، وإنزاله إلی مستوی الباغی والمارق الواجب قتله فی الإسلام، ومع ذلک فإنّ مواقف الإمام أمیر المؤمنین علی علیه السلام والجهود التی بذلها لم تتوقّف عند هذا الحد، فقد نوّه المسلمین بحقیقة معاویة وخلفیاته ومؤامراته وخططه، وبهذا النحو جعل المجتمع الإسلامی والتاریخ علی علم بجمیع مساعیه ومساعی أتباعه لحرف الإسلام.

وقد کشف الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام فی کلماته - لا سیما فی کتبه، بعدما تولّی الخلافة، وتحت عناوین مختلفة وذرائع شتّی - عن شخصیة معاویة وقام بتعریفه علی النحو التالی:

أتانی کتابک کتاب امرئٍ لیس له بصر یهدیه، ولا قائد یرشده، دعاه الهوی فأجابه، وقاده الضلال فاتّبعه... إلی أن قال: وأمّا شرفی فی الإسلام، وقرابتی من رسول الله صلی الله علیه و آله ، وموضعی من قریش، فلعمری لو استطعت دفعه لدفعته.

وقد أطلق الإمام علیه السلام علیه فی کتبه ورسائله عناوین مختلفة کأهل الضلالة، واللعین ابن اللعین، وأولیاء الشیطان، وأهل البغی والضلال وأهل الهوی، وعدو القرآن وأحکامه، هذه کلّها تدلّ علی أنّ الإمام علی علیه السلام لم یکن قلقاً من مخالفة معاویة لخلافته وإشعاله حرب صفین فحسب رغم أنّها من الأحداث الخطیرة التی فرضها معاویة علی الإمام علیه السلام والتی ألحقت خسائر بشریة فادحة بالإسلام والمسلمین، لا سیما خروجه علی إمام عادل وحاکم مثل علی علیه السلام ، وأنّ الحوادث التی جرت إنّما صدرت عن أفکاره الجاهلیة التی تأصّلت فیه وترسّخت فی نفسه عانی الإسلام خلالها أنواع الانحرافات والخرافات والتحریفات فی ظلّ تفشّی الغفلة والجهل وحبّ الدنیا بین المسلمین((1)).

ص: 65


1- ([1]) اُنظر: ابن أبی الحدید، عبد الحمید، شرح نهج البلاغة: ج1، ص252، وج3، ص302، وج4، ص50 - 57. الأمینی، عبد الحسین، الغدیر: ج10، ص148 - 153.

معاویة من منظار الإمام الحسن علیه السلام

استلم الإمام الحسن بن علی سلام الله علیها زمام الخلافة الإسلامیة بعد شهادة الإمام علی علیه السلام وسط أجواء سادها تدهور الأوضاع السیاسیة والاجتماعیة، ممّا اضطرّه إلی الصلح مع معاویة وفق شروط، رغم أنّ الإمام کان یری أنّ معاویة لیس جدیراً بتولّی إمارة الشام فکیف بالخلافة؟! ولهذا لم یعتبر حکم معاویة وتسلّطه خلافة أو إمامة فی وثیقة الصلح.

وقد دلّت الشواهد التاریخیة علی أنّ الإمام علیه السلام قد کشف النقاب عن ماضی معاویة وبنی سفیان الأسود وفضحه أمام الملأ کی لاینطلی علیهم مکر معاویة وأعوانه.

معاویة واستمرار الخط السفیانی

کان معاویة بن أبی سفیان من جملة مَن أسلم یوم فتح مکة تحت وقع السلاح، ولم یکن من المهاجرین والأنصار بل کان من الطلقاء والمؤلّفة قلوبهم، وبعد أن قام معاویة مقام أخیه یزید بن معاویة فی اعتلاء ولایة الشام، راح یسرف فی البذخ والترف، وینغمس فی مظاهر البهرجة وزخارف الدنیا، ممّا أثار اعتراض الخلیفة الثانی ذلک؛ لأنّها لا تمتّ بصلةٍ إلی روح الإسلام وسیرة النبی صلی الله علیه و آله .

وقد قام معاویة بجعل إمارة الشام ملکاً له بدل أن یسیر بها علی هدی رسول الله صلی الله علیه و آله ، کما عزم علی الانفصال عن المدینة، وإنشاء حکمٍ أُموی فیها، ومن ثمّ بسطه إلی سائر الأمصار الإسلامیة، واتّخذ فی هذا السیاق الإجراءات التالیة:

أ - نهض بوجه الإمام علی علیه السلام الذی کان یعتبر من أرکان وعناصر شرعیة الخلافة الدینیة والإسلامیة، کقربه من رسول الله صلی الله علیه و آله ، والولایة له، وماضیه الحافل بالجهاد والتضحیة، وهو أوّل مَن آمن بالنبی صلی الله علیه و آله ، بینما لم یکن معاویة یتمتّع بمؤهلات التصدّی للخلافة الدینیة، ولم تتوفّر فیه أرکان وعناصر الشرعیة.

ص: 66

ب - نازع الإمام الحسن علیه السلام الذی کان یعتبر من الخلفاء الراشدین بنصّ النبی صلی الله علیه و آله ، وباعتراف علماء أهل السنة، وأخذ الحکم منه عنوةً وغصباً، وبذلک أنهی عصر الخلفاء الراشدین أو عصر الخلافة الدینیة.

ج - قتل الإمام الحسن علیه السلام بهدف الوصول إلی نوایاه المُبیّتة، وهی إحالة ولایة العهد إلی یزید، وجعل الخلافة میراثاً، هذا مضافاً إلی نقضه لبنود وثیقة الصلح مع الإمام الحسن علیه السلام ، وجعلها تحت أقدامه والذی یعتبر جریمة أُخری فی سجلّه المظلم.

د - قتل حجر بن عدی وأصحابه الذی کان من زاهدی الدهر وأبرز الأصحاب، یعدّ وصمة عار أُخری علی جبین معاویة، ما جعل أهل السنة أنفسهم یندّدون بجریمته تلک، والتی لا یمکن تبریرها بوجهٍ من الوجوه.

ه- - مبادرة معاویة إلی البدعة فی الدین، أی تحویل الخلافة إلی میراث، والعهد إلی یزید بالولایة، وهذا ممّا یزید علامات الاستفهام حول إیمانه.

إنّ مجموع هذه الإجراءات أدّت بکبار علماء أهل السنة إلی لعنه؛ لأنّ کلّ ذنب من تلک الذنوب کان کافیاً لإدانته فی القیامة، وقد نقل علی لسان العالم السنی المعروف الحسن البصری (21 - 110ه-) أنّه قال: «قد کانت فی معاویة هنات لو لقی أهل الأرض ببعضها لکفاهم: وثوبه علی هذا الأمر واقتطاعه من غیر مشورة من المسلمین، وادّعاؤه زیاداً، وقتله حجر بن عدی وأصحابه، وبتولیته مثل یزید علی الناس»((1)).

عالمٌ سنّی آخر ذکر قریباً من هذا المضمون عن جمیع علماء السیرة مثل محمد بن جریر الطبری الذی ذمّ إجراءات معاویة وأعماله من جهات وزوایا مختلفة((2)).

ص: 67


1- ([1]) سبط ابن الجوزی، یوسف بن فرغلی، تذکرة الخواص (مقدّمة محمد صادق بحرالعلوم): ص286.
2- ([2]) طه حسین، علی وبنوه (ترجمة محمد علی الشیرازی): ص243.

ومن الإجراءات الأُخری التی اتّخذها معاویة ضدّ الإسلام وأهل بیت النبی صلی الله علیه و آله وضع الحدیث فی فضائل نفسه وبنی أُمیّة، وفی الطعن بعلی وبنی هاشم، وأیضاً سبّ الإمام علیه السلام ولعنه علی المنابر، وغیر ذلک ممّا لا یحصی ولایعدّ.

وقد وُلد یزید من صلب هذا الشخص، وخضع لتربیته وتأدیبه، إلی جانب ذلک فإنّ معظم أصحاب وندماء یزید کانوا من قبیلة بنی کلب النصرانیة هذا من جهة، ومن جهةٍ أُخری کان أعوانه ومستشاروه أبان ولایة عهده شخصیات من أمثال مروان بن الحکم، والمغیرة بن شعبة، وزیاد بن أبیه، وابنه عبید الله.

فترة شباب یزید

قلنا آنفاً: إنّ للأُسرة والمربّین والأصحاب والبیئة تأثیراً کبیراً علی أخلاق وسلوک الفرد، کما أنّ شخصیته تتبلور فی الواقع أثر عوامل وراثیة وبیئیة وتربویة کالمعلّمین والأقرباء والأصدقاء، ومع ذلک لما یجتاز المرء مرحلة الطفولة إلی مرحلة الشباب یطرأ علی سلوکه وشخصیته دفعة أو علی نحو التدرّج تحوّلات جذریة إیجابیة أو سلبیة، وشخصیة یزید لم تکن بمستثناة عن ذلک، فمن المحتمل عند دخوله مرحلة الشباب آفاق من غفلته وعاد من جادّة الضلال والانحراف إلی الإسلام والثقافة الدینیة.

واستناداً إلی الشواهد التاریخیة فلم یسجّل لنا طروء مفاجئ علی خطّه الفکری والسلوکی، بل علی العکس فقد أوغل فی الضلال واقتراف المعاصی والذنوب الأخلاقیة والاجتماعیة، والاستهتار بالقیم إلی حدّ أنّه لم ینقل لنا التاریخ أیّة توبة له، ولم یطرأ علیه تحوّل فکری وسلوکی، بل إنّ أقواله وتصرّفاته زمن خلافته توحی إلی ترسّخ آدابه وثقافته الجاهلیة الموروثة، والتی کان ینطلق منها فی اتّخاذ التدابیر والمواقف.

زواج یزید من بنی کلب

بعد أن وصل یزید سنّ البلوغ، لم یقلع عن أفکار ورغبات صباه وشبابه، بل ظلّ

ص: 68

کما کان سابقاً یقضی معظم أوقاته یتسلّی باللعب مع الحیوانات المتنوّعة، کما أنّه لم یدَع أصحاب وزملاء عهد صغره بل توثّقت علاقته بهم.

وممّا یجدر ذکره أنّ حبّ یزید المفرط لقبیلة أُمّه النصرانیة حدت به إلی الزواج من تلک القبیلة، هذا الأمر أدّی إلی نشوئه علی عادات وتقالید قبیلة بنی کلب وقیمها وثقافتها النصرانیة، وبالتالی استمرار انحرافه الفکری والعملی.

وممّا سبق یتّضح أنّ یزید بن معاویة قد بلغ من الفسق والفجور درجة لم یکن بإمکانه إخفاءه عن الملأ بل بلغ به الأمر إلی التجاهر بالفسق، وتجاوز الحدود الأخلاقیة والدینیة والإنسانیة کافة، وسنشیر إلی بعض منها فی فترة حکومته((1)).

فسق یزید وفجوره العلنی

یتّضح من خلال مطالعة التاریخ أنّ فسق یزید وفجوره کان علنیاً ولم یکن خافیاً عن أعین الناس فی ذلک الزمان، والأخبار الواصلة من الشام لا تدَع مجالاً للشکّ فی عدم عدالته وعدم جدارته فی التصدّی لمقام الخلافة، علی الرغم من أنّ هذا الأمر لم یحمل محمل الجد عند العامّة أو أنّ التصدّی للخلافة من قبل هکذا شخص ولأسباب عدیدة لم یواجه معارضة ولا مخالفة، وقد اعترف السیوطی بهذا الأمر صراحةً، وکتب یقول: «عهدَ معاویة إلی یزید وکان الناس له کارهون»((2)).

وکان ابن خلدون یعتقد أنّ فسق یزید وفجوره فی الوضوح والشهرة کالشمس فی

ص: 69


1- ([1]) وقد کتب عبد الله العلایلی فی کتابه (سمو المعنی فی سمو الذات أو أشعة من حیاة الحسین): ص 81، یقول: «إذا کان یقیناً أو ما یشبه الیقین أنّ تربیة یزید لم تکن إسلامیة خالصة، أو بعبارةٍ أُخری کانت مسیحیة خالصة، لم یبقَ ما یُستغرب معه أن یکون متجاوزاً مستهتراً مستخفّاً بما علیه الجماعة الإسلامیة، لا یحسب لتقالیدها واعتقاداتها أی حساب، ولا یقیم لها وزناً، بل الذی یستغرب أن یکون علی غیر ذلک». (المترجم).
2- ([2]) السیوطی، جلال الدین، تاریخ الخلفاء: ج1، ص 205.

رابعة النهار((1))، ولم یکن الإمام الحسین علیه السلام وشیعته علی علم بذلک فحسب، بل عامّة الناس أیضاً: «ظهر فسق یزید عند الکافّة من أهل عصره»((2)).

وقد اعترض محمد بن جریر الطبری علی ما قام به معاویة من اتّخاذ یزید ولی عهد له من جهات مختلفة، وذهب إلی أنّ معاویة قد أتی بموبقة وبدعة لا سابقة لها فی الإسلام: «أربع خصال کنّ فی معاویة لو لم یکن فیه منهنّ إلّا واحدة لکانت موبقة:

1 - انتزاؤه علی هذه الأُمّة بالسفهاء، حتی ابتزّها أمرها بغیر مشورة منهم، وفیهم بقایا الصحابة وذوو الفضیلة.

2 - واستخلافه ابنه بعده سکیراً خمیراً یلبس الحریر ویضرب بالطنابیر.

3 - وادّعاؤه زیاداً، وقد قال رسول الله صلی الله علیه و آله : الولد للفراش وللعاهر الحجر.

4 - وقتله حجراً، ویلاً له من حجر وأصحاب حجر مرّتین»((3)).

وقد نقل الیعقوبی فی هذا الصدد: «أنّ معاویة کتب إلی زیاد بأخذ البیعة لابنه یزید، فکتب له زیاد: یا أمیر المؤمنین، إنّ کتابک ورد علیّ بکذا، فما یقول الناس إذا دعوناهم إلی بیعة یزید وهو یلعب بالکلاب والقرود، ویلبس المصبغ، ویدمن الشراب، ویمشی علی الدفوف»((4)).

ص: 70


1- ([1]) ویعتبر یزید أوّل مَن أظهر شرب الشراب - علی حدّ تعبیر البلاذری - والاستهتار بالغناء، والصید، واتّخاذ القیان والغلمان، والتفکه بما یضحک منه المترفون من القرود والمعاقرة بالکلاب والدیکة، وکان أوّل مَن سنّ الملاهی فی الإسلام، وأظهر الفتک وشرب الخمر، وکان ینادم علیها سرجون النصرانی مولاه، والأخطل الشاعر النصرانی، وقال ابن حجر فی شرح الهمزیة: «إنّ یزید قد بلغ من قبائح الفسق والانحلال عن التقوی مبلغاً لایستکثر علیه صدور تلک القبائح منه، بل قال الإمام أحمد بن حنبل بکفره». اُنظر: البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج5، ص299. أبو الفرج الأصفهانی، علی بن الحسین، الأغانی: ج16، ص68. الشبراوی، عبدالله بن محمد، الإتحاف بحبّ الأشراف: ص177. (المترجم).
2- ([2]) ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، مقدّمة ابن خلدون: ص216.
3- ([3]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج3، ص250.
4- ([4]) الیعقوبی، أحمد بن أبی یعقوب، تاریخ الیعقوبی: ج2، ص241.

وقد ذکرنا أنّ الحسن البصری وهو من کبار علماء أهل السنة قال فی معاویة: «قد کانت فی معاویة هنات لو لقی أهل الأرض ببعضها لکفاهم: وثوبه علی هذا الأمر واقتطاعه من غیر مشورة من المسلمین، وادّعاؤه زیاداً، وقتله حجر بن عدی وأصحابه، وبتَولیته مثل یزید علی الناس»((1)).

ونقل عز الدین بن الأثیر فی تاریخه المعروف: «عزم معاویة علی البیعة لیزید فأرسل إلی زیاد یستشیره، فأحضر زیاد عبید بن کعب النمیری.. وقال: إنّ أمیر المؤمنین کتب یستشیرنی فی أخذ البیعة لیزید، وإنّه یتخوّف نفرة الناس ویرجو طاعتهم.. ویزید صاحب رسلة وتهاون مع ما قد أولع به من الصید»((2)).

وتناول ابن خلدون نهضة الإمام علیه السلام ودافعه لذلک: «وأمّا الحسین فإنّه لما ظهر فسق یزید عند العامّة من أهل عصره بعثت شیعة أهل البیت بالکوفة للحسین أن یأتیهم فیقوموا بأمره»((3)).

وقال الذهبی: «کان [یزید] ناصبیاً، فظاً، غلیظاً، جلفاً، یتناول المسکر ویفعل المنکر، افتتح دولته بمقتل الشهید الحسین، واختتمها بواقعة الحرّة، فمقته الناس، ولم یبارک فی عمره»((4)).

ونقل مؤلّف شذرات الذهب نفس المضمون باختلافٍ طفیف((5)).

تقریر ممثلی المدینة

رغم اشتهار أمر یزید بالفسق والفجور بین الملأ، إلّا أنّه بقیت ثلّة قلیلة لم تنطل

ص: 71


1- ([1]) سبط ابن الجوزی، یوسف بن فرغلی، تذکرة الخواص: ص286 - 287.
2- ([2]) ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج3، ص350 - 351.
3- ([3]) ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، مقدّمة ابن خلدون: ج1، ص415.
4- ([4]) الذهبی، محمد بن أحمد، سیر أعلام النبلاء: ج4، ص38.
5- ([5]) ابن العماد الحنبلی، عبد الحی بن أحمد، شذرات الذهب فی أخبار مَن ذهب: ج1، ص69.

علیها حیل معاویة ومکائده، ورفضت صراحةً عقد البیعة لیزید، ووجدتْ أنّه لیس جدیراً بأن تناط إلیه مقالید الخلافة الإسلامیة، إلّا أنّ هؤلاء قد مُورست بشأنهم إمّا سیاسة التهدید أو الترغیب، وقد أتت تلک الممارسات أُکلها؛ حیث رفعت تلک الثلّة الید عن المواجهة أو المخالفة العلنیة، ما عدا الإمام الحسین علیه السلام الذی ظلّ متشبّثاً بموقفه المبدئی الإلهی الرافض لتصدّی یزید منصباً خطیراً کالخلافة الإسلامیة.

وقد خفی عن أهل المدینة عمق فاجعة خلافة یزید واستهتاره، ولم یلتفتوا إلی ذلک إلّا بعد استشهاد الإمام الحسین علیه السلام ، إذ أرسلوا وفداً برئاسة عبد الله بن حنظلة غسیل الملائکة إلی الشام لیستطلع أمر یزید، وقد شاهدوه فی حالة شربه للخمر ولعبه بالقردة والکلاب، وعندما عادوا إلی المدینة نقلوا لأهلها ما شاهدوه، وأخذوا یسبّون ویلعنون یزید، ثمّ خلعوه من الخلافة وطردوا عامله علی المدینة محمد بن أبی سفیان، فکان ممّا قالوا: «إنّا قدمنا من عند رجلٍ لیس له دین، یشرب الخمر، ویعزف بالطنابیر، ویُضرب عنده القیان، ویلعب بالکلاب، ویسامر الحراب والفتیان، وإنّا نشهدکم أنّا قد خلعناه، فتابعهم الناس»((1)).

ثمّ إنّ أهل المدینة بایعوا عبدالله بن حنظلة، وقال لهم ذلک الصحابی العظیم المنعوت بالراهب قتیل یوم الحرة مخاطباً: «یا قوم، اتّقوا الله وحده لا شریک له، فوالله، ما خرجنا علی یزید حتی خِفنا أن نُرمی بالحجارة من السماء، إنّ رجلاً ینکح الأُمّهات والبنات والأخوات، ویشرب الخمر ویدَع الصلاة، والله، لو لم یکن معی أحدٌ من الناس لأبلیت لله فیه بلاءً حسناً»((2)).

ص: 72


1- ([1]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأمم والملوک: ج4، ص368.
2- ([2]) سبط ابن الجوزی، یوسف بن فرغلی، تذکرة الخواص: ص288.

إذعان مخالفی ثورة عاشوراء بفسق یزید

بُذلت محاولات لثنی الإمام الحسین علیه السلام عن المضی إلی الکوفة، کمحاولة ابن عباس وابن عمر وآخرین، وطلبوا منه العدول عن رأیه؛ لأنّ الأوضاع لا تسمح بذلک، دون أن یخوضوا فی الحدیث عن عدالة یزید وشرعیة خلافته، ودون أن یُثیروا شکوکاً حول شرعیة تحرّک الإمام علیه السلام ، وهذا بنفسه دلیلٌ علی فسق یزید وعدم امتلاکه العدالة والصلاحیة للخلافة الإسلامیة، ولقد نقل ابن أعثم فی کتابه الفتوح: «قال الحسین لابن عمر: أسألک بالله یا عبد الله، أنا عندک علی خطأ من أمری هذا؟ فإن کنت عندک علی خطأ فردّنی فإنّی أخضع وأسمع وأُطیع، فقال ابن عمر: اللهم لا، ولم یکن الله تعالی یجعل ابن بنت رسوله علی خطأ، ولیس مثلک من طهارته وصفوته من الرسول صلی الله علیه و آله علی مثل یزید بن معاویة باسم الخلافة، ولکن أخشی أن یُضرب وجهک هذا الحسن الجمیل بالسیوف، وتری من هذه الأُمّة ما لا تحبّ، فارجع معنا إلی المدینة، وإن لم تحبّ أن تبایع فلا تبایع أبداً واقعد فی منزلک. فقال الحسین: هیهات یابن عمر، إنّ القوم لا یترکونی وإن أصابونی، وإن لم یصیبونی فلا یزالون حتی أُبایع وأنا کاره أو یقتلونی»((1)).

وقد نقل ابن العماد الحنبلی عن المؤرِّخ الشهیر ابن عساکر والمعتمد عند المؤرِّخین وعلماء الرجال، کسبط ابن الجوزی فی تذکرة الخواص، والعسقلانی فی لسان المیزان، ویوسف المزی فی تهذیب الکمال، والذهبی فی سِیَر أعلام النبلاء، الأبیات التی أنشدها یزید:

لیت أشیاخی

ببدرٍ شهدوا

جزع الخزرج من

وقع الأسل

لعبت هاشم

بالملک فلا

خبرٌ جاء ولا

وحیٌ نزل

ص: 73


1- ([1]) ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج5، ص25.

ثمّ قال: فإن صحَّت عنه فهو کافرٌ بلا ریب((1)).

کما أشار العسقلانی إلی ما کتبه ابن عساکر حین ردّه علی مَن اعتبر یزید من الصحابة، قائلاً: «یزید بن معاویة بن أبی سفیان الأُموی.. مقدوح فی عدالته ولیس بأهلٍ أن یُروی عنه، وقال أحمد بن حنبل: لاینبغی أن یُروی عنه.. قال رسول الله صلی الله علیه و آله : لایزال أمر أُمّتی قائماً بالسوی حتی یکون أوّل مَن یثلمه رجل من بنی أُمیّة یُقال له: یزید»((2)).

وذهبت ثلّة من المؤرِّخین إلی أنّ فسق یزید وفجوره أمرٌ لا غبار علیه، ولا مجال للحدیث عنه، ولا یحقّ لبنی أُمیّة التصدّی للخلافة؛ باعتبارهم غیر مسلمین أو أنّ اعتناق أبی سفیان وأعوانه الإسلام کان خدعةً ومکراً منذ البدایة، کما جنحت إلی أنّ بنی أُمیّة لم یحیدوا عن عبادة الأوثان، وکانوا یحملون معهم الأزلام خفیةً فی غزوة حنین، وقد أنشد أبو سفیان أشعاراً فی حرب الیرموک تدلّ علی تشدّقه بجاهلیته.

کما ردّ کلّ من ابن عساکر فی تاریخ مدینة دمشق وابن منظور - من علماء القرن الثامن - فی مختصر تاریخ دمشق عدالة یزید وأضاف: «بأنّه لیس بأهل أن یُروی عنه»((3))، وقد بلغ فسق یزید واشتهار أمره أن دعا الذهبی إلی الاکتفاء بنقل أشعارٍ دالّة علی کفره، ویقول: «إنّ ابن الزبیر سمع جویریة تلعب وتغنی فی یزید بقول عبد الرحمن بن سعید بن زید بن عمرو بن نفیل:

لست منا ولیس

خالک منا

یا مضیع الصلاة

للشهوات»((4)).

ونقل فی العقد الفرید أنّ مسور بن مخرمة کان قد شهد علی یزید بالفسق وشرب

ص: 74


1- ([1]) ابن العماد الحنبلی، عبد الحی بن أحمد، شذرات الذهب فی أخبار مَن ذهب: ج1، ص69.
2- ([2]) ابن حجر العسقلانی، أحمد بن علی، لسان المیزان: ج6، ص293.
3- ([3]) ابن منظور، محمد بن مکرم، مختصر تاریخ دمشق: ج28، ص 18 - 19.
4- ([4]) الذهبی، محمد بن أحمد، تاریخ الإسلام: ج5، ص273.

الخمر، ولما وصل الخبر إلی یزید أرسل کتاباً إلی عامله علی المدینة یأمره بضرب مسور الحدّ، فقال مسور:

أیشربها صهباء

کالمسک ریحها

أبو خالد

والحد یضرب مسور

کما ورد فی المصدر ذاته أنّه لما جلس معاویة للناس قام یزید بن المقنع فقال: «هذا أمیر المؤمنین - وأشار إلی معاویة - فإن هلک فهذا - وأشار إلی یزید - ومَن أبی فهذا - وأشار إلی سیفه - فقال معاویة: اجلس فأنت سیّد الخطباء. فقال معاویة للأحنف بن قیس: ما تقول یا أبا بحر؟ فقال: نخافکم إن صدقنا ونخاف الله إن کذبنا، وأنت یا أمیر المؤمنین أعلم بیزید فی لیله ونهاره، وسرّه وعلانیته، ومدخله ومخرجه»((1)).

هذه الروایات التاریخیة التی وردت فی مصادر أهل السنة، تدلّ علی فسق یزید وعدم أهلیته للخلافة الإسلامیة بنحوٍ لا تدَع مجالا ً للشکّ والتردید((2)).

کما صرّح غیر واحدٍ من علماء أهل السنة بکفر یزید، وأثبتوا ذلک بأدلّة دامغة لاحصر لها، ولم یکتفوا بذلک، بل جوزوا لعنه وحکموا بفسق کلّ مَن خالف ذلک.

وقد کتب أبو مظفر شمس الدین سبط بن الجوزی (المتوفی عام 654 ه-) یقول: «ذکر جدّی أبوالفرج فی کتاب (الردّ علی المتعصب العنید المانع من ذمّ یزید) وقال: سألنی سائلٌ فقال: ما تقول فی یزید بن معاویة؟ فقلت له: یکفیه ما به، فقال: أتجوّز لعنه؟ فقلت: قد أجازه العلماء الورعون منهم أحمد بن حنبل، فإنّه ذکر فی حقّ یزید ما یزید علی اللعنة.

وقال: سألت أحمد بن حنبل عن یزید بن معاویة، فقال: هو الذی فعل ما فعل، قلت: ما فعل؟ قال: نهب المدینة، قال: فنذکر عنه الحدیث؟ قال: لا، ولا کرامة، لاینبغی لأحد

ص: 75


1- ([1]) ابن عبد ربه الأندلسی، أحمد بن محمد، العقد الفرید: ج4، ص28، وص32، وص150.
2- ([2]) اُنظر: المقریزی، أحمد بن علی، النزاع والتخاصم فیما بین بنی أُمیّة وبنی هاشم: ص29.

أن یکتب عنه الحدیث»((1)).

وقال ابن عقیل: «وممّا یدلّ علی کفره وزندقته فضلاً عن سبّه ولعنه أشعاره التی أفصح بها بالإلحاد، وأبان عن خبث الضمائر وسوء الاعتقاد، فمنها قوله فی قصیدته التی أوّلها:

علیة هاتی وأعلنی

وترنّمی

بذلک أنی لا

أُحبّ التناجیا

حدیث أبی

سفیان قدماً سمّی بها

إلی أُحد حتی

أقام البواکیا

ألا هات

فاسقینی علی ذاک قهوة

تخیرها العنس-ی

کرماً شامیا

إذا ما نظرنا

فی أُمور قدیمة

وجدنا حلالاً

شربها متوالیا

وإن متِّ یا أُمّ

الأحیمر فانکحی

ولا تأملی بعد

الفراق تلاقیا

فإن الذی حدّثت

عن یوم بعثنا

أحادیث طسم

تجعل القلب ساهیا

ولا بدّ لی من

أن أزور محمداً

بمشمولة صفراء

تروی عظامیا»((2)).

یزید وخصوصیات الخلافة الأُخری

اتّضح ممّا سبق فسق یزید بن معاویة بإجماع المسلمین، وکفره حسب أقوال أغلب علماء ومفکّری أهل السنة، کما اتّضح أنّ حکومة یزید کانت غیر شرعیة منذ البدایة، لذلک فالخروج علیها لا مانع منه شرعاً وعقلاً، بل جاء تأکید ذلک من قبل الإمام الحسین علیه السلام فی أحد خطبه حیث قال: «مَن رأی سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناکثاً

ص: 76


1- ([1]) سبط ابن الجوزی، یوسف بن فرغلی، تذکرة الخواص: ص257. ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج3، ص337. ابن حجر العسقلانی، أحمد بن علی، لسان المیزان: ج6، ص293 - 294.
2- ([2]) سبط ابن الجوزی، یوسف بن فرغلی، تذکرة الخواص: ص261.

لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، یعمل فی عباد الله بالإثم والعدوان، ثمّ لم یغیّر بقولٍ ولافعل، کان حقاً علی الله أن یدخله مدخله»((1)).

الفقاهة اللازمة

ثمّة اتّفاق - کما تقدّمت الإشارة - بین علماء أهل السنة علی ضرورة تمتّع الخلیفة الإسلامی بالفقاهة، وأنّ الخلافة ستکون غیر شرعیة إذا خلت من هذا الشرط، وقد عبّرت بعض المصادر عن هذا الشرط بالاجتهاد، وفی بعضٍ آخر بالعلم أو بالفقاهة وأخیراً بالعلم والوعی((2))، من هنا فقد ذهبوا إلی الاعتقاد أنّ الخلفاء الراشدین قاطبة من فقهاء عصرهم، وعلی هذا الأساس جوّزوا تصنیفهم إلی درجة أُولی ودرجة ثانیة حسب معیار الاجتهاد والعلم، إذ وضعوا الخلیفة الثانی والإمام علی علیه السلام فی الدرجة الأُولی، وأبا بکر وعثمان فی الدرجة الثانیة، وبهذا اللحاظ ذهب معظم أهل السنة إلی اعتبار أنّ الفقاهة شرطٌ لازم لتصدّی مقام الخلافة الدینیة.

و لم تدلّ أغلب المصادر التاریخیة والفقهیة والحدیثیة علی فقاهة یزید، کما أنّه لم یؤثر عنه أنّه ترک أصلاً أو روایة فی الفقه، وفی الواقع فإنّ یزید لو کان مؤمناً بالإسلام وثابتاً علیه، ومتمسّکاً بالعدالة لأصبح راویاً للحدیث وناقلاً له عن رسول الله صلی الله علیه و آله ولو بالواسطة.

وکما تقدّم فإنّ روایات أهل السنة تنفی إسلام یزید الخلیع فضلاً عن إیمانه، وکان کبار علمائهم ینکرون إسلامه قبل حادثة کربلاء، فما بالک بعد تلک الفاجعة، حیث انساق معظمهم إلی هذا الاعتقاد، وهو أنّه حتی لو کان مسلماً فإنّه بارتکابه تلک

ص: 77


1- ([1]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص204.
2- ([2]) اُنظر: أبو زهرة، محمد، تاریخ المذاهب الإسلامیة. عبد الکریم زیدان، الوجیز فی أُصول الفقه. السبحانی، جعفر، پیشوائی از نظر إسلام (الإمامة من منظار الإسلام).

الفاجعة الألیمة قد خرج عن ربقة الإسلام وجاز لعنه.

وانطلاقاً من ذلک فإنّه لم یجوّز علماء الرجال وفقهاء أهل السنة نقل الروایة عنه، وصرّحوا بأنّه: «مقدوح فی عدالته ولیس بأهلٍ أن یُروی عنه»((1)).

وهذا یدلّ بوضوح علی خلوّه من شرط الفقاهة لدی جمیع أهل السنة، وبالتالی عدم صلاحیته لتصدّی مقام الخلافة الإسلامیة، وسلب شرعیته لهذا المنصب الخطیر أبّان واقعة کربلاء، وهذا ما سنتعرّض إلیه بمزیدٍ من التفصیل فی الفصل اللاحق.

آلیة انتقال الخلافة

إنّ لانتقال القدرة فی الإسلام وسیرة الخلفاء الراشدین الذی یتمّ بآلیات محدّدة، قیمة دینیة واعتبار لدی أهل السنة، وفی هذه المسألة أمران استحوذا علی مزید من الاهتمام.

الأوّل: یجب علی الخلیفة الشرعی والقانونی السابق تعیین خلفٍ له، وطبقاً لنظرة أهل السنة فإنّ سیرة الخلفاء الراشدین تُوحی إلی أنّ العهد إلی الأبناء والأقرباء بالولایة یعتبر خرقاً للشریعة الإسلامیة، بل یجب الأخذ بنظر الاعتبار وقبل کلّ شئ اتّصاف الخلیفة الجدید بالتقوی وحسن السیرة، والقدرة علی الإدارة والشجاعة، وأهمّ من کل ذلک العدالة والفقاهة.

الثانی: وبعد اختیار شخص للخلافة من قبل الخلیفة السابق یصبح من الضروری أخذ بیعة المسلمین له؛ لأنّ هذه البیعة ستثبت خلافته، وأَخْذ البیعة لا بدّ أن یصدر عن رضا ورغبة بعیداً عن الضغوط، وکما قال ابن خلدون:

ص: 78


1- ([1]) الذهبی، محمد بن أحمد، میزان الاعتدال: ج7، ص242. ابن حجر العسقلانی، أحمد بن علی، لسان المیزان: ج6، ص293.

«اعلم أنّ البیعة هی العهد علی الطاعة، کأنّ المبایع یعاهد أمیره علی أنّه یسلّم له النظر فی أمر نفسه وأُمور المسلمین لا ینازعه فی شیء من ذلک، ویطیعه فیما یکلّفه به من الأمر علی المنشط والمکره، وکانوا إذا بایعوا الأمیر وعقدوا عهده جعلوا أیدیهم فی یده تأکیداً للعهد، فأشبه ذلک فعل البائع والمشتری، فسمّی بیعة مصدر باع، وصارت البیعة مصافحة بالأیدی، هذا مدلولها فی عرف اللغة ومعهود الشرع»((1)).

ولا قیمة من أخذ البیعة عن إکراه أو مکر أو ترغیب((2))، فقد رفع کلّ من أبی حنیفة، وعبد الحمید بن جعفر، وابن عجلان، وسائر فقهاء أهل السنة المعروفین آنذاک لواء العصیان علی المنصور العباسی، رغم أخذ البیعة منهم عنوةً، وحینما قیل: «إنّ فی أعناقنا بیعة للمنصور»، قال مالک بن أنس: «لیس علی مکره یمین»((3)).

أخذ البیعة لیزید

إنّ من شروط التصدّی للخلافة الإسلامیة مع الأخذ بنظر الاعتبار الآلیات والضوابط المعتبرة لدی أهل السنة والمستوحاة من سیرة الخلفاء الراشدین، أن تکون الخلافة تمّت وِفقاً للضوابط الشرعیة والمعتبرة، وحیازة یزید لتلک الضوابط رهنٌ بالإجابة عن الاستفسارات التالیة:

1- هل کان معاویة بن أبی سفیان خلیفة شرعیاً وقانونیاً للمسلمین، حتی یکون ما

ص: 79


1- ([1]) ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، مقدمة ابن خلدون: ج1، ص400.
2- ([2]) ویری عبد الله العلایلی أنّ البیعة بیع النفس للخلیفة فهی رقّ اجتماعی وسیاسی ودینی، ومن ثمّ کان لزاماً أن یتروّی المرء کثیراً حین یبیع نفسه، فیمَ یبیع؟ ولمَن یبیع؟ فإذا کان الخلیفة فاسقاً فحاشاً رقیق الدین، ظالماً عادیاً عابثاً کان معنی المبایعة له بیع النفس للفسوق، بیع النفس للفحشاء، بیع النفس للظلم والعدوان، بیع النفس لمجاهرة الله بالعصیان؛ لأنّ الخلیفة الفاجر صفة من هذه الخصال مجتمعة، وهی تعنی أیضاً خدمة أهوائه الشریرة ومیوله الفاسقة. اُنظر: العلایلی، عبد الله، سمو المعنی فی سمو الذات: ص126. (المترجم)
3- ([3]) السیوطی، جلال الدین، تاریخ الخلفاء: ص261.

قام به من تعیین الخلیفة بعده شرعیاً صادراً عن السیرة والسنة؟

ذکر عدد غفیر من علماء أهل السنة وانطلاقاً من الخصوصیات اللازمة للخلیفة الإسلامی ومن الحدیث المأثور عن رسول الله صلی الله علیه و آله أنّ الخلافة بعده ثلاثون عاماً، ثمّ ملکٌ عضوض، ثمّ کائن عتوّاً وجبریةً وفساداً فی الأُمّة یستحلّون الفروج والخمور((1))، ذکروا:

أوّلاً: أنّ معاویة اعتلی منصة الحکم بعد ثلاثین عاماً.

وثانیاً: عدم حیازته لخصوصیات الخلفاء قبله - لا سیما رسول الله صلی الله علیه و آله - من الزهد والعلم والجهاد.

ومن هذا المنطلق لم یکن معاویة خلیفةً بل سلطاناً وإمبراطوراً کأباطرة الروم وفارس قبل الإسلام، وکما تقدّم الحدیث عن ماضی یزید الأسود وخلفیاته، فإنّ معاویة لم یکن جدیراً لتصدّی الخلافة، بل ورد لعن النبی صلی الله علیه و آله له، والدعاء علیه، والتحذیر من مغبّة تسلّط معاویة علی مقالید الحکم ومکره.

من هنا فقد ذهب علماء أهل السنة إلی أنّ معاویة لم یکن یتمتّع بمکانة تؤهّله لتعیین الخلیفة بعده؛ لأنّه اغتصب الخلافة عنوة وقام بکثیر من البدع والمحارم.

2- هل تمّ أخذ البیعة لیزید وفق آلیات وضوابط إسلامیة صحیحة کی یصدق علیه عنوان الخلیفة الإسلامی وبالتالی عقد بیعة الناس له؟

وللإجابة عن هذا السؤال لا بدّ أن نتصفّح التاریخ ونطالع المصادر المعتبرة عند أهل السنة، ومن حسن الحظ فإنّ أحداث تَسلّم یزید لزمام الأُمور قد ضبطها التاریخ، والتی تکشف النقاب عن سجّل یزید الأسود وأبیه معاویة بن أبی سفیان ممّا دعا بعلماء أهل السنة إلی إبداء ردود فعل صریحة حیال ذلک.

ص: 80


1- ([1]) السیوطی، جلال الدین، الخصائص الکبری: ج2، ص119.

فقد کتب ابن الأثیر فی حوادث سنة (56ه-) یقول:

«فی هذه السنة دعا معاویة الناس إلی بیعة ابنه یزید من بعده وجعله ولیاً للعهد، وأوّل مَن طرح هذه البیعة المشؤومة المغیرة بن شعبة، أمّا السبب فی دعوته لبیعة یزید فهو أنّ معاویة أراد عزله من الکوفة لیولّی علیها سعید بن العاص، فلمّا بلغه ذلک سافر إلی دمشق لیقدّم استقالته من منصبه حتی لا تکون حزازة علیه فی عزله وأطال التفکیر فی أمره فرأی أنّ خیر وسیلة لإقراره فی منصبه أن یجتمع بیزید فیحبّذ له الخلافة حتی یتوسّط فی شأنه إلی أبیه، والتقی بیزید وقال له: قد ذهب أعیان محمد وکبراء قریش وذوو أسنانهم، وإنّما بقی أبناؤهم وأنت من أفضلهم وأحسنهم رأیاً وأعلمهم بالسنة والسیاسة ولا أدری ما یمنع أمیر المؤمنین أن یعقد لک البیعة؟!

وغزت هذه الکلمات قلب یزید، فشکره وأثنی علی عواطفه، وقال له: أتری ذلک یتمّ؟ قال: نعم.

وانطلق یزید مسرعاً إلی أبیه فأخبره بمقالة المغیرة، فسرّ معاویة بذلک وأرسل خلفه، فلمّا مثل عنده أخذ یحفّزه علی المبادرة فی أخذ البیعة لیزید قائلاً: یا أمیر المؤمنین، قد رأیت ما کان من سفک الدماء، والاختلاف بعد عثمان، وفی یزید منک خلف فاعقد له، فإن حدث بک حدث کان کهفاً للناس، وخلفاً منک ولا تُسفک دماء ولا تکون فتنة.

وأصابت هذه الکلمات الوتر الحساس فی قلب معاویة فراح یخادعه مستشیراً فی الأمر، قائلاً: مَن لی بهذا؟

قال: أکفیک أهل الکوفة ویکفیک زیاد أهل البصرة، ولیس بعد هذین المصرین أحد یخالفک.

واستحسن معاویة رأیه، فشکره علیه، وأقرّه علی منصبه، وأمره بالمبادرة إلی الکوفة لتحقیق غایته، ولمّا خرج من عند معاویة قال لحاشیته: لقد وضعت رجل معاویة فی غرز

ص: 81

بعید الغایة علی أُمّة محمد صلی الله علیه و آله ، وفتقت علیه فتقاً لا یُرتق ثمّ تمثّل بقول الشاعر:

بمثلی شاهدی

النجوی وغالی

بی الأعداء

والخصم الغضابا»((1)).

معاویة وسیاسته المزدوجة

اشارة

عزم معاویة وبشهادة ماضیه السیاسی وفکره الجاهلی علی تحقیق ما یصبو إلیه، من أخذ البیعة لیزید امتثالاً لفکرة المغیرة بن شعبة ورغبة یزید، وفی هذا السبیل اتّبع سیاستین:

1- الترهیب والاغتیال

انتهج معاویة سیاسة تصفیة کلّ مَن تعذّر ترغیبه وإغراءه وکسب رضاه، وکان أهمّ مانع یقف أمام دسائسه وبدعه هو الإمام الحسن بن علی سلام الله علیها الذی کان خلیفة المسلمین بعد استشهاد والده علیه السلام ، والذی اشترط علی معاویة فی وثیقة الصلح أنّه حاکم ولیس خلیفة، ومن أهمّ بنود تلک الوثیقة التی وافق علیها الطرفان أنّه «لیس لمعاویة بن أبی سفیان أن یعهد إلی أحد من بعده عهداً، بل یکون الأمر من بعده شوری بین المسلمین»((2)).

وراح معاویة یفکّر بتصفیة الإمام علیه السلام الذی کان یحول دون وصوله إلی مآربه السیاسیة، وأخیراً تمکّن من ذلک، وتُوفّی الإمام علیه السلام مسموماً علی ید زوجه جعدة بنت الأشعث بن قیس الکندی، بعد أن أغراها معاویة مقابل مائة ألف درهم، وقد لازم

ص: 82


1- ([1]) اُنظر: الطبری، محمد جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج3، ص247. ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج3، ص349 - 350. السیوطی، جلال الدین، تاریخ الخلفاء: ج1، ص205. الذهبی، محمد بن أحمد، تاریخ الإسلام: ج5، ص272.
2- ([2]) ابن الصباغ المالکی، علی بن محمد، الفصول المهمّة فی معرفة أحوال الأئمّة علیهم السلام : ص154 - 156. ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج3، ص315.

الإمام علیه السلام فراش المرض حتی تُوفّی بعد أربعین یوماً((1)).

وقد أکّد المؤرِّخون علی أنّ الإمام علیه السلام قد دُسّ له السم مرات عدیدة من قبل معاویة، وفی المرّة الأخیرة دسّ له جرعات کبیرة من السمّ أدّت إلی وفاته((2)).

ودأب معاویة علی انتهاج سیاسة التهدید والترهیب، ففی أحد مجالسه التی شارک فیها وفدٌ من أهل العراق هدّد صراحةً بالسیف کلّ مَن خالف رأیه فی استخلاف ابنه یزید، وفی الواقع فإنّه بهذه السیاسة سلب قدرة الناس علی الاختیار وأنّه لا حیلة لهم سوی الانصیاع لإرادته وخیّرهم بین أمرین لا ثالث لهما، إمّا السیف أو قبول ولایة یزید، وقد کتب ابن الأثیر عمّا قام به معاویة فی هذا الصدد:

«کان معاویة قد کتب إلی عمّاله بتقریظ یزید ووصفه، وأن یوفدوا إلیه الوفود من الأمصار، فکان فیمَن أتاه محمد بن عمرو بن حزم من المدینة، والأحنف بن قیس فی وفد أهل البصرة، فقال محمد بن عمرو لمعاویة: إنّ کلّ راعٍ مسؤول عن رعیته، فاُنظر مَن تُولّی أمر أُمّة محمد، فأخذ معاویة بهر حتی جعل یتنفس فی یوم شات، ثمّ وصله وصرفه، وأمر الأحنف أن یدخل علی یزید فدخل علیه، فلمّا خرج من عنده، قال له: کیف رأیت ابن أخیک؟ قال: رأیت شباباً ونشاطاً وجلداً ومزاحاً.

ثمّ إنّ معاویة قال للضحاک بن قیس الفهری لمّا اجتمع الوفود عنده: إنّی متکلّم فإذا سکتُّ فکن أنت الذی تدعو إلی بیعة یزید وتحثّنی علیها.

فلمّا جلس معاویة للناس تکلّم فعظّم أمر الإسلام وحرمة الخلافة وحقّها، وما أمر الله به من طاعة ولاة الأمر، ثمّ ذکر یزید وفضله وعلمه بالسیاسة، وعرض ببیعته فعارضه الضحاک، فحمد الله وأثنی علیه، ثمّ قال: یا أمیر المؤمنین، إنّه لا بدّ للناس من والٍ بعدک،

ص: 83


1- ([1]) اُنظر: ابن الصباغ المالکی، علی بن محمد، الفصول المهمّة: ص154 - 156.
2- ([2]) اُنظر: ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج3، ص315.

وقد بلونا الجماعة والأُلفة فوجدناهما أحقن للدماء، وأصلح للدهماء، وآمن للسبل، وخیراً فی العاقبة، والأیام عوج رواجع، والله کلّ یوم هو فی شأن، ویزید ابن أمیر المؤمنین فی حسن هدیه، وقصد سیرته علی ما علمت، وهو من أفضلنا علماً وحلماً، وأبعدنا رأیاً.. وتکلّم عمرو بن سعید الأشدق بنحوٍ من ذلک، ثمّ قام یزید بن المقنع فقال: هذا أمیر المؤمنین وأشار إلی معاویة، فإن هلک فهذا، وأشار إلی یزید، ومَن أبی فهذا، وأشار إلی سیفه، فقال معاویة: اجلس فأنت سیّد الخطباء.. فقال معاویة للأحنف: ما تقول یا أبا بحر؟ فقال: نخافکم إن صدقنا ونخاف الله إن کذبنا، وأنت یا أمیر المؤمنین أعلم بیزید فی لیله ونهاره وسرّه وعلانیته ومدخله ومخرجه، فإن کنت تعلمه لله تعالی وللأُمّة رضا فلا تشاور فیه، وإن کنت تعلم فیه غیر ذلک فلا تزوده الدنیا وأنت صائر إلی الآخرة، وإنّما علینا أن نقول: سمعنا وأطعنا، وقام رجلٌ من أهل الشام فقال: ما ندری ما تقول هذه المعدیة العراقیة، وإنّما عندنا سمعٌ وطاعة، وضربٌ وازدلاف»((1)).

2- الترغیب والخداع

اتّبع معاویة سیاسة الترغیب والخداع إلی جانب سیاسة الترهیب والتهدید، وقد خصّص لذلک أموالاً طائلة، واشتری ذمم أُسر وقبائل ذات نفوذ وشوکة فی الأمصار الإسلامیة، لا سیما شبه الجزیرة العربیة، کما أمر عمّاله باتّباع السیاسة ذاتها، فقد أرسل مبلغ مائة ألف درهم إلی عبد الله بن عمر فقبلها، فلما ذکر البیعة لیزید قال ابن عمر: «هذا أراد؟! إنّ دینی عندی إذن لرخیص، وامتنع»((2)).

«وکان المغیرة بن شعبة والی معاویة قد سار حتی قدم الکوفة، وذاکر مَن یثق إلیه ومن

ص: 84


1- ([1]) ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج3، ص352 - 353.
2- ([2]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج3، ص247. ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج3، ص352 - 353.

یعلم أنّه شیعة لبنی أُمیّة أمرَ یزید، فأجابوا إلی بیعته، فأوفد منهم عشرة، ویُقال: أکثر من عشرة، وأعطاهم ثلاثین ألف درهم، وجعل علیهم ابنه موسی بن المغیرة، وقدموا علی معاویة فزّینوا له بیعة یزید، ودعوه إلی عقدها، فقال معاویة: لا تعجلوا بإظهار هذا، وکونوا علی رأیکم، ثمّ قال لموسی: بکم اشتری أبوک من هؤلاء دینهم؟ قال: بثلاثین ألفاً، قال: لقد هان علیهم دینهم. وقِیل: أرسل أربعین رجلاً، وجعل علیهم ابنه عروة، فلمّا دخلوا علی معاویة قاموا خطباء، فقالوا: إنّما أشخصهم إلیه النظر لأُمّة محمد صلی الله علیه و آله ، وقالوا: یا أمیر المؤمنین، کبرت سنّاً وخفنا انتشار الحبل، فانصب لنا علماً وحدّ لنا حدّاً ننتهی إلیه، فقال: أشیروا علیّ، فقالوا: نشیر بیزید بن أمیر المؤمنین، فقال: أوَقد رضیتموه؟ قالوا: نعم، قال: وذلک رأیکم؟ قالوا: نعم، ورأیُ مَن وراءنا، فقال معاویة لعروة سرّاً عنهم: بکم اشتری أبوک من هؤلاء دینهم؟ قال: بأربعمائة دینار، قال: لقد وجد دینهم عندهم رخیصاً»((1)).

«حج معاویة فی سنة (50ه-) حتی قدم المدینة فلمّا استقرّ فی منزله أرسل إلی عبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر بن أبی طالب، وإلی عبد الله بن عمر، وإلی عبد الله بن الزبیر، وأمر حاجبه أن لا یأذن لأحد من الناس حتی یخرج هؤلاء النفر، فلمّا جلسوا تکلّم معاویة وبعد أن حمد الله وأثنی علیه، قال: أمّا بعد، فإنّی قد کبر سنّی، ووهن عظمی، وقرب أجلی، وأوشکتُ أن أُدعی فأجیب، وقد رأیت أن أستخلف علیکم بعدی یزید، ورأیته لکم رضا، وأنتم عبادلة قریش وخیارها وأبناء خیارها، ولم یمنعنی أن أُحضر حسناً وحسیناً إلا أنّهما أولاد أبیهما علی علی حسن رأیی فیهما وشدید محبّتی لهما»((2)).

ص: 85


1- ([1])الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج3، ص247. ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج3، ص352 - 353.
2- ([2]) ابن قتیبة الدینوری، عبد الله بن مسلم، الإمامة والسیاسة: ج1، ص148. ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج4، ص434. الإربلی، علی بن أبی الفتح، کشف الغمّة فی معرفة الأئمّة علیهم السلام : ج2، ص240.

وتمّ هذا السفر فی حیاة الإمام الحسن علیه السلام ، وکان معدّاً له سلفاً بنحوٍ دقیق ومدروس، ومن الواضح أنّ من أسالیب هزیمة الخصوم وتحقیق النصر هو رفع مستوی القوی الذاتیة وحالة الانسجام بینها، والعمل علی إیجاد الفرقة بین الخصوم وتوسیعها.

هذه السیاسة قد اتّبعها معاویة لمّا دعا أبناء العباس وجعفر بن أبی طالب وسائر أعیان المدینة لبیعة یزید دون الحسن والحسین سلام الله علیها ، وأراد بذلک فصلهم عن أبناء علی علیه السلام بسبب مواقفهم المبدئیة الرافضة لتلک البیعة، وإحداث شرخ فی صفوفهم.

فقد تکلّم عبد الله بن العباس وقال بعد حمد الله والثناء علیه والصلاة علی نبیه: «إنّک قد تکلّمت فأنصتنا، وقلت فسمعنا، وإنّ الله اختار محمداً صلی الله علیه و آله لرسالته، واختاره لوحیه، وشرّفه علی خلقه، فأشرف الناس مَن تشرّف به، وأولاهم بالأمر أخصّهم به، وإنّما علی الأُمّة التسلیم لنبیّها؛ إذ اختاره الله لها، فإنّه إنّما اختار محمداً بعلمه، وهو العلیم الخبیر، وأستغفر الله لی ولکم». وهو بهذا الخطاب تجاهل مسألة ولایة العهد لیزید.

ثمّ قام عبد الله بن جعفر فقال بعد الحمد والثناء والصلاة علی نبیه: «إنّ هذه الخلافة إن أخذ فیها بالقرآن فأُولوا الأرحام بعضهم أولی ببعض فی کتاب الله، وإن أخذ فیها بسنة رسول الله فأُولوا رسول الله، وإن أخذ بسنّة الشیخین فأیّ الناس أفضل وأکمل وأحقّ بهذا الأمر من آل الرسول؟ وأیم الله، لو ولّوه بعد نبیهم لوضعوا الأمر موضعه، لحقّه وصدقه، ولأُطیع الرحمن وعصی الشیطان.. فاُنظر لرعیتک، فإنّک مسؤول عنها غداً، وأمّا ما ذکرت من ابنی عمّی، وترکک أن تُحضرهما، فوالله ما أصبت الحق، ولا یجوز لک ذلک إلّا بهما، وإنّک لتعلم أنّهما معدن العلم والکرم، فقل أو دَع، وأستغفرلی الله ولکم».

وتکلّم عبد الله بن الزبیر بعد الحمد والثناء والصلاة علی نبیه وقال: «إنّ هذه الخلافة لقریش خاصّة، تتناولها بمآثرها السنیة، وأفعالها المرضیة، مع شرف الآباء وکرم

ص: 86

الأبناء، فاتّقِ الله یا معاویة، وأنصف من نفسک، فإنّ هذا عبد الله بن عباس ابن عمّ رسول الله صلی الله علیه و آله ، وهذا عبد الله بن جعفر ذو الجناحین ابن عمّ رسول الله صلی الله علیه و آله ، وأنا عبد الله بن الزبیر ابن عمّة رسول الله صلی الله علیه و آله ، وعلیٌّ خلف حسناً وحسیناً، وأنت تعلم مَن هما، وما هما، فاتّقِ الله یا معاویة، وأنت الحاکم بیننا وبین نفسک».

وحدیث معاویة مع عبدالله بن عباس بعد شهادة الإمام الحسن علیه السلام یؤکّد هذا الأمر، وهو وقوفه علی مکانة الإمام الحسن علیه السلام وخشیته منه تجاه خلافة یزید.

«قال معاویة: یابن عباس، هلک الحسن بن علی؟ فقال ابن عباس: نعم هلک، إنّا لله وإنّا إلیه راجعون - ترجیعاً مکرراً - وقد بلغنی الذی أظهرت من الفرح والسرور لوفاته، أما والله، ما سدّ جسده حفرتک، ولا زاد نقصان أجله فی عمرک، وقد مات وهو خیرٌ منک، ولئن أُصبنا به لقد أصبنا بمَن کان خیراً منه، جدُّه رسول الله صلی الله علیه و آله ، فجبر الله مصیبته وخلف علینا من بعده أحسن الخلافة، ثمّ شهق ابن عباس وبکی.. فقال معاویة: بلغنی أنّه ترک بنین صغاراً، فقال ابن عباس: کلّنا کان صغیراً فکبر، قال معاویة: کم أتی له من العمر؟ فقال ابن عباس: أمر الحسن أعظم من أن یجهل أحدٌ مولده، قال: فسکت معاویة یسیراً، ثمّ قال: یابن عباس، أصبحت سیّد قومک من بعده، فقال ابن عباس: أما ما أبقی الله أبا عبد الله الحسین فلا، قال معاویة: لله أبوک یابن عباس، ما استنبأتُک إلا وجدتک معدّاً»((1)).

الجهود الأخیرة التی بذلها معاویة

خصّص معاویة بعد استشهاد الإمام الحسن علیه السلام مساحة واسعة من نشاطه لتثبیت خلافة یزید فی المدینة، وکان واقفاً علی المکانة الرفیعة للمدینة فی العالم الإسلامی؛ ذلک

ص: 87


1- ([1]) اُنظر: ابن قتیبة الدینوری، عبد الله بن مسلم، الإمامة والسیاسة: ج1، ص149 - 151.

لأنّ رضوخ أعیان المدینة للخلفاء السابقین قد أکسبهم المشروعیة اللازمة للحکم، وبذلک مهّدوا السبیل إلی طاعة سائر المسلمین، وکان لکبار الصحابة والتابعین کالحسین بن علی سلام الله علیها مکانةٌ دینیة وسیاسیة مرموقة بین المسلمین، وفی هذا السیاق قام معاویة بعزل مروان بن الحکم عامله علی المدینة بعد الجهود العقیمة التی بذلها لأخذ بیعة زعماء المدینة لیزید، وتعیین سعید بن العاص محلّه.

ومع أنّه أوکل لعامله الجدید متابعة هذه المهمّة، إلّا أنّه لم یقطع اتصالاته بالحسین بن علی سلام الله علیها ، وعبد الله بن العباس، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبیر، وکان معاویة یُرسل إلیهم کتبه بعبارات وأسالیب متنوّعة، وکان سعید بن العاص مکلّفاً بإرسال هذه الکتب إلی أصحابها، وکان ینتهج مع کلّ واحدٍ منهم سیاسةً خاصّة.

إضافةً إلی أنّ سعیداً هذا کان یسعی من خلال سیاسة البطش والقمع إلی أخذ البیعة لیزید عنوةً، ولکن أغلب الناس لا سیما بنی هاشم قاوموا هذه السیاسة، وهکذا عبد الله بن الزبیر، ممّا دفع سعید بن العاص إلی إرسال کتاب إلی معاویة یقول فیه: «أمّا بعدُ، فإنّک أمرتنی أن أدعو الناس لبیعة یزید ابن أمیر المؤمنین، وأن أکتب إلیک بمَن سارع ممَّن أبطأ، وإنّی أُخبرک أنّ الناس عن ذلک بطاء، لا سیما أهل البیت من بنی هاشم، فإنّه لم یُجِبنی منهم أحد، وبلغنی عنهم ما أکره، وأمّا الذی جاهر بعداوته وإبائه لهذا الأمر فعبد الله بن الزبیر، ولست أقوی علیهم إلّا بالخیل والرجال، أو تقدم بنفسک فتری رأیک فی ذلک، والسلام».

فکتب معاویة إلی عبد الله بن العباس، وإلی عبد الله بن الزبیر، وإلی عبد الله بن جعفر، والحسین بن علی کتباً، وأمر سعید بن العاص أن یوصلها إلیهم، ویبعث بجواباتها، وکتب إلی سعید بن العاص جاء فی مقطع منه «واُنظر حسیناً خاصّةً، فلا یناله

ص: 88

منک مکروه، فإنّ له قرابةً وحقاً عظیماً، لا یُنکره مسلمٌ ولا مسلمة، وهو لیث عرین، ولست آمنک إن شاورته أن لا تقوی علیه، فأمّا مَن یرد مع السباع إذا وردت، ویکنس إذا کنست، فذلک عبد الله بن الزبیر، فاحذره أشدّ الحذر».

وکتب إلی ابن عباس: «أمّا بعد، فقد بلغنی إبطاؤک عن البیعة لیزید ابن أمیر المؤمنین، وإنّی لو قتلتک بعثمان لکان ذلک إلیّ؛ لأنّک ممَّن ألّب علیه وأجلب، وما معک من أمان فتطمئنّ به، ولا عهد فتسکن إلیه، فإذا أتاک کتابی هذا، فاخرج إلی المسجد والعن قتلة عثمان وبایع عاملی، فقد أُعذر من أنذر، وأنت بنفسک أبصر، والسلام».

وکتب معاویة إلی عبد الله بن جعفر: «أمّا بعدُ، فقد عرفت أثرتی إیّاک علی مَن سواک، وحسن رأیی فیک وفی أهل بیتک، وقد أتانی عنک ما أکره، فإن بایعت تُشکر، وإن تأبَ تُجبر، والسلام».

وکتب إلی عبد الله بن الزبیر:

رأیت کرام

الناس إن کفّ عنهم

بحلم رأوا

فضلاً لَمن قد تحلّما

ولا سیما إن

کان عفواً بقدرةٍ

فذلک أحری أن

یُجلَ ویعظّما

ولست بذی لؤم

فتعذر بالذی

أتاه من

الأخلاق من کان ألوما

ولکن غشا لست

تعرف غیره

وقد غشّ قبل

الیوم إبلیس آدما

فما غشّ إلّا

نفسه فی فعاله

فأصبح ملعوناً

وقد کان مکرما

وإنّی لأخشی

أن أنالک بالذی

أردت فیجزی

الله مَن کان أظلما((1)).

ص: 89


1- ([1]) اُنظر: ابن قتیبة الدینوری، عبد الله بن مسلم، الإمامة والسیاسة: ج1، ص 153-155.

الإمام الحسین علیه السلام أبرز أقطاب المعارضة

کان معاویة قبل غیره یعلم بأنّ للحسین علیه السلام مکانةً وخصوصیات فریدة، تجعله یقف فی صدارة المعارضة، من هنا تتمیّز رسالته إلیه علیه السلام بالاحترام، فقد کتب إلی الحسین علیه السلام : «أمّا بعدُ، فقد انتهت إلیَّ منک أُمور، لم أکن أظنّک بها رغبةً عنها، وإنّ أحقّ الناس بالوفاء لمَن أعطی بیعة مَن کان مثلک فی خطرک وشرفک ومنزلتک التی أنزلک الله بها، فلا تنازع إلی قطیعتک، واتّقِ الله، ولا تردنَّ هذه الأُمّة فی فتنة، واُنظر لنفسک ودینک وأُمّة محمد، ولا یستخفنّک الذین لایوقنون»((1)).

وکان الإمام علیه السلام یتحیّن هذه الفرصة، لکشف انحرافات حکومة معاویة من جهة، وبیان الحقائق الساطعة للدین وأهل بیت النبوة علیهم السلام من جهةٍ أُخری، وکذلک فضح جرائم بنی أُمیّة لا أمام الحاکم وأعوانه فحسب بل أمام التاریخ والمجتمع الإسلامی فی تلک البرهة الحساسة، وبادر إلی الإفصاح عن نهجه المستقبلی، وبذلک أوصد الباب بوجه معاویة وأعوانه من التعاون معهم، وأفشل کافّة المحاولات والمخطّطات التی بذلها معاویة من أجل کسب ودّ العلویین إلی جانبه.

فکتب الحسین بن علی سلام الله علیها إلی معاویة: «أمّا بعدُ، فقد جاءنی کتابک تذکر فیه أنّه انتهت إلیک عنّی أُمور لم تکن تظنّنی بها، رغبة بی عنها، وإنّ الحسنات لا یهدی لها ولا یسدّد إلیها إلّا الله تعالی، وأمّا ما ذکرت أنّه رقی إلیک عنّی، فإنّما رقاه الملّاقون المشّاؤون بالنمیمة المفرّقون بین الجمع، وکذب الغاوون المارقون، ما أردت حرباً ولا خلافاً، وإنّی لأخشی الله فی ترک ذلک منک، ومن حزبک القاسطین المحلّین، حزب الظالم وأعوان الشیطان الرجیم، ألست قاتل حجر وأصحابه العابدین المخبتین، الذین کانوا یستفظعون

ص: 90


1- ([1]) ابن قتیبة الدینوری، عبد الله بن مسلم، الإمامة والسیاسة: ج1، ص154.

البدع ویأمرون بالمعروف وینهون عن المنکر؟! فقتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما أعطیتهم المواثیق الغلیظة، والعهود المؤکَّدة، جراءةً علی الله، واستخفافاً بعهده، أو لست بقاتل عمرو بن الحمق الذی أخلَقتْ وأبلَتْ وجهه العبادة؟! فقتلته من بعد ما أعطیته من العهود ما لو فهمَتْه العصم نزلت من شعف الجبال، أو لست المدّعی زیاداً فی الإسلام، فزعمت أنّه ابن أبی سفیان، وقد قضی رسول الله صلی الله علیه و آله أنّ الولد للفراش وللعاهر الحجر، ثمّ سلّطته علی أهل الإسلام یقتلهم ویقطع أیدیهم وأرجلهم من خلاف، ویصلّبهم علی جذوع النخل؟!

سبحان الله یا معاویة! لکأنّک لست من هذه الأُمّة، ولیسوا منک، أو لست قاتل الحضرمی الذی کتب إلیک فیه زیاد أنّه علی دین علی علیه السلام ، ودین علی هو دین ابن عمِّه صلی الله علیه و آله الذی أجلسک مجلسک الذی أنت فیه، ولولا ذلک کان أفضل شرفک وشرف آبائک تجشّم الرحلتین: رحلة الشتاء والصیف، فوضعها الله عنکم بنا، منّةً علیکم؟! وقلتَ فیما قلتَ: لا ترد هذه الأُمّة فی فتنة. وإنّی لا أعلم لها فتنةً أعظم من إمارتک علیها. وقلتَ فیما قلتَ: اُنظر لنفسک ولدینک ولأُمّة محمد. وإنّی والله، ما أعرف أفضل من جهادک، فإن أفعل فإنّه قربةٌ إلی ربّی، وإن لم أفعله فأستغفر الله لدینی، وأسأله التوفیق لما یحبّ ویرضی. وقلتَ فیما قلتَ: متی تکدنی أکِدک. فکدنی یا معاویة فیما بدا لک، فلعمری، لقدیماً یُکاد الصالحون، وإنّی لأرجو أن لاتضرّ إلّا نفسک، ولا تمحق إلّا عملک، فکِدنی ما بدا لک، واتّقِ الله یا معاویة، واعلم أنّ لله کتاباً لا یغادر صغیرةً ولا کبیرةً إلّا أحصاها، واعلم أنّ الله لیس بناسٍ لک قتلک بالظنّة، وأخذک بالتُّهمة، وإمارتک صبیاً یشرب الشراب ویلعب بالکلاب، ما أراک إلّا وقد أوبقت نفسک، وأهلکت دینک، وأضعت الرعیة، والسلام»((1)).

وقد کان الإمام الحسین علیه السلام یفضح علی الدوام بِدَع معاویة، وإقدامه علی جعل

ص: 91


1- ([1]) ابن قتیبة الدینوری، عبد الله بن مسلم، الإمامة والسیاسة: ج1، ص155.

الحکم وراثیّاً فی بنی أُمیّة، وأخذ البیعة لیزید عنوةً، ویصرّح بمخالفته لتولّی یزید الخلافة حتی أمام معاویة نفسه حینما أرسل إلیه وإلی ابن عباس، فأجاب الإمام الحسین علیه السلام ردّاً علی ما قاله معاویة حول یزید وإطرائه وجدارته بالخلافة، قائلاً: «وفهمت ما ذکرته عن یزید من اکتماله وسیاسته لأُمّة محمد، ترید أن توهم الناس فی یزید، کأنّک تصف محجوباً، أو تنعت غائباً، أو تُخبر عمّا کان ممَّا احتویته بعلمٍ خاصٍّ، وقد دلّ یزید علی نفسه علی موقع رأیه، فخذ لیزید فیما أخذ فیه، من استقرائه الکلاب المهارشة عند التهارش، والحمام السبق لأترابهن، والقیان ذوات المعازف، وضرب الملاهی، تجده باصراً، ودع عنک ما تحاول، فما أغناک أن تلقی الله من وِزر هذا الخلق بأکثر ممّا أنت لاقیه، فوالله، ما برحت تقدح باطلاً فی جور، وحنقاً فی ظلم، حتی ملأت الأسقیة، وما بینک وبین الموت إلّا غمضة، فتُقدم علی عملٍ محفوظ فی یومٍ مشهود، ولات حین مناص»((1)).

وقد ظلّ الحسین علیه السلام ثابتاً علی هذا الموقف المعارض لخلافة یزید وحکومته، وکان علیه السلام یتحیّن الفرص فی المناسبات المختلفة من أجل الإصحار بهذا الموقف، وتوعیة الناس استمراراً لخطّه الجهادی الثوری، حتی أنّه علیه السلام قام بشرح موقفه الدینی والظروف السیاسیة والثقافیة والاجتماعیة، وضرورة الثورة علی نحو التفصیل لما واجه عسکر الحر بن یزید الریاحی.

کما أنّ الإمام علیه السلام أجاب الفرزدق، وعبد الله بن المطیع، وعبد الله بن جعفر، وآخرین لمّا حذّروه من مغبّة الوقوف بوجه یزید نظراً لعدم تکافؤ میزان القوی، معلناً بعزمٍ راسخ عن موقفه المبدئی تجاه یزید، وضرورة الإطاحة به؛ بهدف إصلاح المجتمع.

ص: 92


1- ([1]) ابن قتیبة الدینوری، عبد الله بن مسلم، الإمامة والسیاسة: ج1، ص160.

ص: 93

ص: 94

الفصل الثانی:ثورة کربلاء ومقولة الاجتهاد

ثورة کربلاء ومقولة الاجتهاد

تمّ الحدیث فی الفصل السابق عن شروط الخلافة والإمامة عند أهل السنة، ومن أهمّها الفقاهة التی تبدو الحاجة إلیها ماسّة فی هذا المنصب الحسّاس، کما تطرّقنا إلی وجهات نظر علماء أهل السنة حول ضرورة وأهمّیة هذا العلم، وتوفّره لدی بعض الخلفاء، وغیابه عند البعض الآخر کیزید بن معاویة، وسنبحث فی هذا الفصل مقولة الاجتهاد واستنباط الأحکام الشرعیة، ومن خلالها نتبیّن موقف المعسکرین، ولا سیما أصحاب القرار فیهما، کما سوف نبذل الوسع فی أن یکون البتّ بالأحکام والتقاریر والنظریات فی إطار علماء أهل السنة فقط، دون أن یتعدّاها إلی سائر المذاهب الأُخری.

ونلجأ فی البدایة وبهدف تعمیق البحث إلی المعنی اللغوی والاصطلاحی للاجتهاد، ومن ثمّ نشیر إلی خلفیاته وأنواعه وتطبیقاته عند الفقهاء، ثمّ نعرج علی یزید وجلاوزة حکومته وقادته الذین کان لهم الدور الأکبر فی الوقوف بوجه الإمام الحسین علیه السلام وقتاله، لنری:

أوّلاً: هل تُعدُّ واقعة کربلاء وقتال الحسین علیه السلام عند المجتهدین وذوی الخبرة والاختصاص من مواضع العمل بالاجتهاد وإعماله؟

ثانیاً: استناداً إلی بعض الأخبار التاریخیة المعتبرة لدی أهل السنّة، هل کان لیزید وعمّاله مؤهّلات علمیة وکفاءة دینیة وروحیة، تمکّنهم من الاجتهاد والعمل به وتدرجهم فی عداد المجتهدین؟

ثالثاً: هل استعان یزید ومَن سار فی رکبه بآلیة الاجتهاد فی کربلاء حین مواجهة الحسین علیه السلام ؛ کی یستنبطوا حکما ً شرعیاً بجواز محاربة الحسین علیه السلام وأصحابه وقتلهم؟

ص: 95

رابعاً: هل تعامل یزید وأعوانه مع حادثة کربلاء وفق معاییر إسلامیة، أو أنّهم تخطّوا ذلک وتجاوزوه إلی ارتکابهم أعمالاً شنیعة لا یقرّها الدین، ولا تندرج تحت أُصول ومقرّرات إسلامیة، ولا یمکن أن تنبثق عن أُسس دینیة ودعائم إسلامیة؟

الاجتهاد لغةً واصطلاحاً

اشتُقّت مفردة الاجتهاد من مادّة (جهد) بمعنی بذل الجهد والسعی فی عملٍ ما، وقد اتّفق علی هذا المعنی أغلب علماء اللغة.

قال ابن الأثیر: «الاجتهاد: بذل الوسع فی طلب الأمر.. قد تکرّر لفظ الجَهد (بالفتح) والجُهد (بالضمّ) فی الحدیث کثیراً، وهو بالضمّ الوِسع والطاقة، وبالفتح المشقة»((1)).

قال ابن منظور: «الجَهد المشقة، والجُهد الطاقة. اللیث: الجَهد ما جَهد الإنسان من مرض أو أمر شاق فهو مجهود.. والجُهد الشیء القلیل یعیش به المقل علی جهة العیش، وفی التنزیل العزیز «الَّذِینَ یَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِینَ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ فِی الصَّدَقَاتِ وَالَّذِینَ لَا یَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَیَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِیمٌ »((2))، علی هذا المعنی.

وقال الفراء: الجُهد فی هذه الآیة الطاقة، تقول: هذا جُهدی، أی: طاقتی.. والجُهد (بالضمّ): الطاقة، والجَهد (بالفتح): من قولک اجهد جَهدک فی هذا الأمر، أی: أبلغ غایتک، ولا یُقال: اجهد جُهدک..

والاجتهاد والتجاهد: بذل الوسع والمجهود، وفی حدیث معاذ: اجتهد رأی الاجتهاد؛ بذل الوسع فی طلب الأمر، وهو افتعال من الجهد الطاقة»((3)).

وقال الراغب الأصفهانی: «الاجتهاد أخذ النفس ببذل الطاقة وتحمّل المشقة، یُقال

ص: 96


1- ([1]) ابن الأثیر، المبارک بن محمد، النهایة فی غریب الحدیث والأثر: ج1، ص308.
2- ([2]) التوبة: آیة79.
3- ([3]) ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج3، ص133.

جهدت رأیی وأجهدته: أتعبته بالفکر»((1)).

وقد ذکرت المصادر اللغویة المفهوم ذاته للاجتهاد مع اختلاف طفیف، ومع کلّ ذلک فإنّ الجهد قد أخذ فی تعاریف الاجتهاد الذی یعنی بذل الجهد والوسع.

أمّا الاجتهاد اصطلاحاً فقد عرّفه الآمدی بقوله: «استفراغ الوسع فی طلب الظنّ بشئ من الأحکام الشرعیة علی وجهٍ یحسّ من النفس العجز عن المزید فیه»((2)).

وقال ابن الحاجب: «بذل الطاقة من الفقیه فی تحصیل حکم شرعی ظنّی»((3)).

وقد کتب الغزالی یقول: «بذل المجتهد وسعه فی طلب العلم بأحکام الشریعة»((4)).

وبالطبع فإنّ ثمّة معانی أُخری ذُکرت للاجتهاد لا یمکن عدّها من المعانی الرائجة له، بل قد تختصّ بمذاهب خاصّة، فقد قیل: إنّ الاجتهاد هو القیاس عند الشافعی، وادّعی فی بعضٍ آثاره أنّ للاجتهاد معنی واحداً، وقام بتفسیره بنحوٍ یختلف عن الاستحسان((5))، کما قام أحد الباحثین بدراسة العلاقة بین الاجتهاد والقیاس ومعانی الرأی المختلفة، وخرج بحصیلة مفادها أنّ القیاس الذی یُطلق علی الاجتهاد بالرأی بالمعنی الأخص هو «بیان حکم موضوع جدید عن طریق أدلّةٍ شرعیة معتبرة»((6)).

کما ذهب آخر إلی أنّ إطلاق الاجتهاد علی القیاس ینمّ عن تفسیرٍ خاصٍّ للاجتهاد، ویعود ذلک إلی العهود الأولی للاجتهاد السنّی، وقال حول وجوه الاختلاف بینهما: «القیاس هو إثبات حکم فی المقیس بعلّة لثبوته فی المقیس علیه بتلک العلّة، وفی الحقیقة أنّ

ص: 97


1- ([1]) الراغب الأصفهانی، الحسین بن محمد، المفردات فی غریب القرآن: ص101.
2- ([2]) الآمدی، علی بن أبی علی، الإحکام فی أُصول الأحکام: ج4، ص 218.
3- ([3]) ابن حاجب الأسنوی المالکی، مختصر الأُصول: ص17.
4- ([4]) الغزالی، محمد بن محمد، المستصفی فی علم الأُصول: ج2، ص262.
5- ([5]) اُنظر: الشافعی، محمد بن إدریس، کتاب الرسالة: ص477.
6- ([6]) جناتی، محمد إبراهیم، أدوار الاجتهاد عند المذاهب الإسلامیة: ص28 - 30.

القیاس عملیة من المستدلّ لغرض استنتاج حکم شرعی لمحلّ لم یرد فیه نصٌّ بحکمه الشرعی»((1))، وعلی هذا الأساس ذهب معظم علماء الشافعیة إلی أنّ الاجتهاد أعم من القیاس.

وقد عرّف ابن حزم الرأی بقوله: «ما یراه الحاکم من مصلحة لحاضر الرعیة ومستقبلها» وهو الاستحسان الذی لا یستند إلی نصٍّ أو إجماع((2)).

قال ابن قیّم: «خصّ الرأی بما یراه القلب بعد فکرٍ وتأمّل وطلب لمعرفة وجه الصواب ممّا تتعارض فیه الأمارات، فلا یُقال لمَن رأی بقلبه أمراً غائباً عنه ممّا یحس به: إنّه رأیه، ولا یُقال أیضاً للأمر المعقول الذی لا تختلف فیه العقول ولا تتعارض فیه الأمارات: إنّه رأی، وإن احتاج إلی فکرٍ وتأمّل کدقائق الحساب ونحوها»((3)).

ویری بعض محقِّقی أهل السنة إن کان المراد من الأمارات فی التعریف هو مطلق القرینة فعندها سیکون تعریف ابن قیّم شاملاً لوجوه الاجتهاد کافّةً.

شروط الاجتهاد

اشارة

إنّ الاجتهاد واستنباط الحکم الشرعی من مصادره، من الأُمور التی هی بحاجةٍ ماسّةٍ إلی توفّر شروط علی ضوئها یصبح هذا الأمر ممکناً، فمَن ظفر بتلک الشروط امتلک ناصیة الاجتهاد، وتنقسم تلک الشروط بلحاظ حقیقتها إلی شروط ذاتیة وأُخری اکتسابیة.

أ - الشروط الذاتیة

ص: 98


1- ([1]) آغا بزرگ الطهرانی، محمد محسن، اجتهاد ومذاهب إسلامی (الاجتهاد والمذاهب الإسلامیة): ص37. المظفر، محمد رضا، أُصول الفقه: ج3، ص184.
2- ([2]) ابن حزم الأندلسی، علی بن حزم، الأحکام: ج6، ص16.
3- ([3]) ابن قیّم الجوزیة، محمد بن أبی بکر، إعلام الموقعین عن ربّ العالمین: ج1، ص76.

هذه الشروط وکما هو واضحٌ من العنوان قد أودعها الخالق لدی کلّ البشر، ولا یمکن الحصول علیها أو کسبها من خلال النشاط الإنسانی، هذه الشروط أصبحت مثاراً للجدل، فقد ذهب أهل السنة إلی أنّها عبارة عن: البلوغ والعقل والفطنة.

أمّا الشرط الأوّل فقد بیّنه ابن السبکی بقوله: «من شروط الاجتهاد: البلوغ؛ لذلک لا یصحّ رأی واجتهاد غیر البالغ، ولا یُعتمد علیه»((1)).

وأمّا العقل فقد عرّفه أحد علماء أهل السنة کالتالی: «العقل: وهو الملکة، أی: الهیئة الراسخة فی النفس التی یُدرک بها صاحبها ما من شأنه أن یُعلم، وقیل: العقل نفس العلم، أی: الإدراک النظری والضروری، وقیل: هو الإدراک الضروری فقط، إلّا أنّ العاقل بسبب اتّصافه بالعلم الضروری الذی لا ینفک عنه، یصدُق علی ذی العلم النظری أیضاً، کما أنّه یصدُق علی مَن لا یتأتّی منه النظر کالأبله، وعلی کلّ حال فإنّ المراد باشتراط العقل فی المجتهد هو أن یکون سلیم الإدراک خالیاً عمّا یُعتبر عیباً فیه، کالجنون والعته والسفه»((2)).

وأهمّ من کلّ ذلک الإیمان، حیث یمکن اکتسابه رغم أنّه أمرٌ فطری.

ولاخلاف حول ضرورة أن یکون المجتهد مسلماً وموحّداً، إنّما الغرض من طرحه فی الاجتهاد هو الوقوف التفصیلی أو الإجمالی علی علم الکلام، وامتلاک العلم اللازم بضروریات الدین، وقد ذهب بعضٌ إلی لزوم الوقوف علی دقائق علم الکلام لتحقّق الاجتهاد وقدرة الاستنباط، وذهب بعضٌ آخر إلی عدم لزوم ذلک.

ب - الشروط الاکتسابیة

عدّ أهل السنة شروطاً عدیدة للظفر بالأحکام الشرعیة من خلال الاجتهاد، ومع توفّرها یصبح بإمکان المجتهد الرجوع إلی مصادر التشریع والإفتاء، هذه الشروط هی

ص: 99


1- ([1]) ابن السبکی: جمع الجوامع مع حاشیة البنانی: ج 2، ص 382.
2- ([2]) توانا، محمد موسی، الاجتهاد ومدی حاجتنا إلیه فی هذا العصر: ص162.

کالتالی:

- الوقوف علی اللغة العربیة وآدابها.

- معرفة القرآن الکریم.

- معرفة السنة النبویة.

- معرفة مقاصد الشریعة.

- الإلمام بعلم الأُصول.

- معرفة القواعد الفقهیة.

- الاستعداد اللازم للاستنباط.

کما طرح علماء أهل السنة شروطاً أُخری للاجتهاد، وأهمّها: العدالة، والورع، والتقوی، وموافقة العمل للعلم والقول، وأدلوا بمزیدٍ من التفصیل حول تلک الشروط، أحجمنا عن ذکرها مخافة الإطناب.

أقسام الاجتهاد

اشارة

أوّل مطلب لا بدّ من الوقوف عنده فی بحث الاجتهاد هو سعة الاجتهاد ومجالاته، فلا بدّ من النظر فی أی المواضع والحالات یکون للاجتهاد معنی، وأیّها یکون بلا مفهوم ولا معنی، أی: متی یجری؟ وکما هو معلوم لایجوز إجراء الاجتهاد فی الأحکام المعلومة والضروریة، کما هو الحال فی الأحکام القطعیة الثبوت والدلالة، مثل: وجوب الصلوات الخمس، وحرمة الزنا والسرقة والخمر والقتل، وإقامة الحدود علیها الثابتة بواسطة آیات القرآن الکریم والسنة القولیة والعملیة للنبی صلی الله علیه و آله ، بحیث لا تدَع مجالاً لممارسة الاجتهاد، والنوع الثانی من الأحکام التی لا یجری فیها الاجتهاد یشمل الأحکام الصادرة عن النصوص الظنّیة عند غیاب النصّ أو الإجماع.

ومن هذا المنطلق قسّم العلماء الاجتهاد إلی (واجب، وحرام، ومستحبّ، ومکروه،

ص: 100

ومباح)، وأبرز أنواع الاجتهاد الحرام، هو الاجتهاد فی مقابل النصّ کما سیأتی.

اجتهاد یزید بن معاویة وأعوانه

بعد استیعاب مفهوم الاجتهاد وشروطه وأقسامه یتّضح بطلان ما ذهبت إلیه ثلّة من أهل السنة، وخلافاً لأغلب جمهور السنة، وسائر الفرق الإسلامیة إلی تبریر جرائم یزید وزمرته دفاعاً عنهم، من هذه التبریرات هی إسناد الجرائم الشنیعة التی ارتکبها أعوان یزید وجهازه إلی اجتهادهم، وفی الواقع فإنّ هؤلاء بعد أن ثبت لدیهم عدم إمکانیة الدفاع عن خلافة یزید؛ نظراً لغیاب مشروعیتها وفاعلیتها، وعدم صمودها أمام الشبهات الکثیرة، قامت بالدفاع عن یزید من خلال التشبّث باجتهاده.

وممّا یجدر ذکره أنّ أتباع هذا الرأی لم یذکروا هذا الأمر صراحةً، بل إنّ عباراتهم فی هذا الصدد شتّی، فقد کتب أبو بکر بن العربی المالکی یقول: »وما خرج إلیه أحدٌ إلّا بتأویل، ولا قاتلوه إلّا بما سمعوا من جدّه المهیمن علی الرسل، المخبر بفساد الحال، المحذر عن الدخول فی الفتن، وأقواله فی ذلک کثیرة، منها.. قوله صلی الله علیه و آله : إنّه ستکون هنات وهنات فمَن أراد أن یفرّق أمر هذه الأُمّة وهی جمیع، فاضربوه بالسیف کائناً مَن کان، فما خرج الناس إلّا بهذا وأمثاله»((1)).

وکتب أحد الدارسین عن سبب قتال الناس لابن بنت رسول الله صلی الله علیه و آله یقول:

«وهکذا انتشر بین جماهیر المسلمین الذین لیس لهم هوی ولا مصلحة أنّ الخروج علی الإمام تفریق صفوف الأُمّة وصرع لبنیانها.. وتردّد علی أفواه الناس حدیث رسول الله أنّه

ص: 101


1- ([1]) ابن العربی، محمد بن عبد الله، العواصم من القواصم: ص244 - 245.

ستکون هنات»((1)).

ومع هذا الادّعاء فمن المناسب البحث بنحوٍ دقیق وشمولی حول تحقّق شروط الاجتهاد ومعاییره فی یزید وأعوانه، لا سیما مَن شارک منهم فی واقعة کربلاء، فهل کانوا مجتهدین بحسب رأی علماء ومؤرِّخی أهل السنة، وبإمکانهم إصدار فتوی علی ضوء الموازین والشروط المسلَّمة والمعتبرة شرعاً؟ وهل نُقل عنهم هکذا ادّعاء؟

ثمّ یجب التأمّل فی قابلیة المقام للاجتهاد والتأویل، وهل أنّ للاجتهاد معنی فی حادثة عاشوراء وقتال الحسین علیه السلام وأصحابه، وتعتبر من المواضع التی یلجأ فیها إلی الاجتهاد؟ وأخیراً إلی أیّة جهة تقودنا الوثائق التاریخیة؟ وهل حدث شئ کهذا، أو أنّ الواقع التاریخی یُثبت خلاف ذلک؟

تأمّلات فی صلاحیة یزید بن معاویة

شهد معظم علماء أهل السنة علی یزید بن معاویة بالفسق قبل وقوع حادثة کربلاء، ویرشدک إلی ذلک خطّه الفکری والتربوی.

من هنا فمَن ادّعی اصطفاف نوعین من الاجتهاد فی کربلاء، وانبعاث یزید وأعوانه مستندین علی الأحادیث النبویة لقتال الحسین علیه السلام ، فعلیه تقدیم أدلّةٍ تثبت قدرة الاجتهاد لدی یزید وأعوانه.

التهافت الواضح

إنّ أوّل ما یلوح عند بیان ادّعاء تلک الثلّة هو التهافت الواضح فی الدفاع عن یزید؛ ذلک أنّها ذهبت إلی تجلّی نوعین من الاجتهاد والتأویل فی کربلاء من جهة، وادّعاء براءة یزید من قتل الحسین بن علی سلام الله علیها بل وحزنه لوقوع تلک الحادثة من جهةٍ أُخری، وقد

ص: 102


1- ([1]) شعوط، إبراهیم علی، أباطیل یجب أن تُمحی من التاریخ: ص248.

صُنّف فی هذا الصدد کتاب تحت عنوان: (براءة یزید بن معاویة من قتل الحسین) أسهب المؤلِّف فیه فی الحدیث عن حزن یزید لاستشهاد الحسین علیه السلام ومعاملته لأهل بیته.

من الواضح أنّ ادّعاء براءة یزید ممّا اقترفه قبل أن یکون وجهة نظر أشبه مایکون بمزحة تاریخیة، فقد حاول إلقاء مبادئ عقائدیة وفکریة عاریة عن الانسجام والوضوح علی المخاطبین، وسوف نتناولها بمزید من التفصیل فی الفصل الرابع، أمّا التهافت الذی یلوح من هذا الکلام هو أنّ المدافعین عن یزید والمعتقدین باجتهاده فی حادثة کربلاء وأنّ ماجری کان عبارة عن نوعین من الاجتهاد الشرعی قد تعارضا، ما بالهم لا یلتزمون بلوازمه، وهو إلقاء تبعات تلک الجریمة بشکل رسمی علی عاتق یزید؟ وهل یمکن قبول اجتهاده وتقدیمه علی اجتهاد الإمام الحسین علیه السلام ، مع عدم الالتزام بلوازمه، ومنها قتل الحسین علیه السلام وأصحابه، ونسبة ذلک إلی عبید الله بن زیاد تارةً، وإلی عسکره تارةً أُخری؟

وهذا تهافتٌ بل تخبّطٌ واضح، ممّا ینم عن عدم اعتقاد بهذا القول لما فیه من تکلّف وخلوه من أیّة قیمة.

العقل والفطنة

إنّ العقل والفطنة - کما تقدّم فی مبحث شروط الاجتهاد - من الشروط الذاتیة للاجتهاد عند علماء أهل السنة، ومن الواضح أنّ یزید کان یفتقدهما أوکان عاجزاً عن إعمالهما.

کان یزید - وکما مرّ فی الفصل الأوّل - قد ترعرع فی أحضان قبیلة بنی کلب النصرانیة، والتی اعتنقت الإسلام فیما بعد، وکان منغمساً بالشهوات الجنسیة، والطرب والغناء، ومعاقرة الخمر، وکلّ ذلک لا یدَع مجالاً للشک فی أنّ ممارسة تلک

ص: 103

المحرّمات تتنافی والعقل، وتحول دون اتّخاذ إجراءات سلیمة صادرة عن عقلٍ أو فطنة.

ویلوح من سجل یزید الأسود أنّه کان فاقداً للعقل والفطنة اللازمة، ولم یستنر بهما طیلة حیاته، ویرشدک إلی ذلک أنّه بدأ خلافته بقتل الحسین علیه السلام ریحانة رسول الله صلی الله علیه و آله ، وأنهاها بهدم الکعبة وإحراقها.

وعلیه فجهود معاویة - الذی لم یعتقد یوماً ما بأنّ الخلافة تمثّل استمراراً لخطّ النبوة - التی کرسها للاستیلاء والغلبة، والحکم علی رقاب العباد، قد ذهبت أدراج الریاح علی ید یزید، من خلال مواقفه الطائشة والمتهوّرة، البعیدة کل البعد عن العقل والحکمة، والتی علی ضوئها ضاعت السلطة وإلی الأبد عن السلالة السفیانیة.

الشروط الاکتسابیة

دافع أعوان یزید بن معاویة بصورة غیر مباشرة عن مهارته الأدبیة، وأثنوا بالخصوص علی شعره((1)).

أمّا سائر الشروط کمعرفة القرآن، والسنة النبویة، وفهم مقاصد الشریعة، والإلمام بالفقه والأُصول، فلا نکاد نعثر لها علی أثر فی المصادر، إلّا ما نُسب إلی ابن عباس: «روی المدائنی أنّ ابن عباس وفد إلی معاویة بعد وفاة الحسن بن علی، فدخل یزید علی ابن عباس وجلس منه مجلس المُعزّی، فلما نهض یزید من عنده، قال ابن عباس: إذا ذهب بنو حرب ذهب علماء الناس»((2)).

ویبدو أنّ هذا الخبر بعید عن الصواب من جهات؛ ذلک أنّه مع قطع النظر عن ضعف السند، فإنّ ابن عباس لیس معصوماً، ولعلّه خضع لسیاسة الترهیب

ص: 104


1- ([1]) محمود إبراهیم، براءة یزید بن معاوِیة من قتل الحسین: ص6.
2- ([2]) ابن العربی، محمد بن عبد الله، العواصم من القواصم: هامش ص229.

والترغیب التی اتّبعها معاویة، ومع صرف النظر عن ذلک، فإنّ الخبر لا یُثبت أی شرط من شروط أهل السنة، کالفقاهة والاجتهاد، فهل یثبت علم یزید بالقرآن الکریم وآیات أحکامه، وعمومه وخصوصه، وناسخه ومنسوخه، ومطلقه ومقیّده؟ وهل أنّ ما ذُکر فی الخبر یُثبت علم یزید بالسنة ومقاصد الشریعة والفقه، ولو فی رأی شخص واحدٍ کابن عباس؟

ولعلّ تلک الإشکالات وغیرها حالت دون استحواذ هذا الخبر علی اهتمام ابن العربی، الذی کتب عن علم یزید وعدالته دون أن یستند إلی هذا الخبر، وقال:

«فإن قِیل: لمَن فیه شروط الإمامة، قلنا: لیس السن فی شروطها ولم یثبت أنّه یقصر یزید عنها، فإن قِیل: کان منها العدالة والعلم، ولم یکن یزید عدلاً ولا عالماً، قلنا: وبأیّ شیء نعلم عدم علمه أو عدم عدالته، ولو کان مسلوبهما لذکر ذلک الثلاثة الفضلاء (عبد الرحمن بن أبی بکر، وعبد الله بن عمر، وعبدالله بن الزبیر) الذین أشاروا علیه بأن لا یفعل، وإنّما رموا إلی الأمر بعیب التحکّم، وأرادوا أن تکون شوری»((1)).

یدلّ هذا الکلام علی غیاب أیّ دلیل یدل علی اجتهاد یزید وعلمه بالدین ومعارفه، وهو قبل أن یکون دلیلاً للإثبات هو دلیلٌ علی عجز یزید والاعتراف بضعفه فی هذا المجال؛ ذلک لأنّ المخالفین - کما تقدّم فی الفصل السابق - ومن جملتهم الفضلاء الذین تقدّم اسمهم قد أنکروا ولایة عهد یزید، وذهبوا إلی عدم شرعیتها، لما یترتّب علیها من مفاسد، فلا تصل النوبة إلی شروط ولایة العهد، وأهمّ من کلّ ذلک فإنّ فسق یزید وولعه بارتکاب المحرّمات وابتعاده عن الدین أوضح من الشمس فی رابعة النهار، الأمر الذی أدّی بجمیع الواعین إلی عدم الشعور بالحاجة إلی الإشارة إلی ذلک، وإلی

ص: 105


1- ([1]) ابن العربی، محمد بن عبد الله، العواصم من القواصم: ص229.

جانب ذلک، فهل کان سائر أقوال المخالفین تلقی أذناً صاغیة لدی معاویة حتی یزعزع بیان جهل یزید من قبلهم ثقة معاویة وطغمته بیزید وولایة عهده؟ والملفت للنظر هو التهافت الروائی الواضح فی نفس الروایة التی نُقلت علی لسان ابن عباس، والتی یُراد من خلالها إثبات اجتهاد یزید وعلمه؛ لأنّه فی صدر هذا القسم نقل عن محمد بن علی بن أبی طالب: «فرأیته مواظباً علی الصلاة، متحرّیاً للخیر، یسأل عن الفقه، ملازماً للسنة»((1))، والذی یشیر إلی عزم یزید علی تعلّم الفقه لا إلی فقهه وتصدّیه للإفتاء.

فقهاء الصحابة والتابعین

مع أنّ الشروط التی ذکرها أهل السنة للاجتهاد الحقیقی لا تتوفّر فی یزید البتة، و لایمکن إثباتها له کی نتشبّث باجتهاده لتبریر ما قام به، إلّا أنّ مراجعة التاریخ المصطنع عبر بوابة أهل السنة لا تخلو من فائدة، من هذا الباب وبغضّ النظر عن الاستدلالات السابقة، فهل أدرج التاریخ یزید فی عداد فقهاء عصره، وعلی فرض وقوع ذلک، ففی أیّة طبقةٍ من طبقات الفقهاء یندرج؟

ص: 106


1- ([1]) هذه الروایة لا یمکن الاعتماد علیها؛ وذلک لأنّه: أوّلاً: مرسلة. ثانیاً: إنّها تتعارض مع الأخبار المتواترة عن الإمام الحسین علیه السلام وشهداء واقعة الحرّة وبعض الصحابة ومؤرخی أهل السنة حول فساد یزید وتربیته غیر الإسلامیة، ونصبه العداء لأهل البیت علیهم السلام ، فهی عندئذٍ ساقطة عن الاعتبار. ثالثاً: ومع غضّ الطرف عن الأخبار المتواترة، فإنّ ما قام به یزید من قتل الإمام الحسین علیه السلام ، والقتل العام لأهل المدینة فی واقعة الحرّة، وهدم الکعبة، کیف یمکن تبریره؟! وکیف ینسجم مع زهد یزید وتدیّنه؟! رابعاً: ومع کلّ ذلک فإنّ الخبر المزبور علی فرض صحّته، فإنّه یدلّ علی مکر یزید بمرأی محمد ابن الحنفیة، ولایمکن أن یعکس شخصیته الواقعیة، کما أنّ الراوی نقل ما شاهده لا أنّه مدح شخصه وتدیّنه وزهده. وعلیه فإنّ الروایة مثل سائر الموضوعات التی وضعها الجهاز الأُموی بهدف تبرئة یزید من فاجعة کربلاء، وساقطة عن أیّ اعتبار. وسیأتی فی فصل لعن یزید وفلسفة ثورة کربلاء أنّ علماء أهل السنّة لم یُعیروا أهمّیة لتلک الموضوعات.

جدیرٌ بالذکر أنّ المؤرِّخین المسلمین قد قسّموا فقهاء العصر الإسلامی الأوّل إلی طبقتین: طبقة فقهاء الصحابة، وطبقة فقهاء التابعین، وکما مرّ فإنّ الخلفاء الأربعة مع اختلاف درجاتهم یُعدّون من طبقة فقهاء الصحابة، ومن الواضح أنّ یزید لا یندرج تحت عنوان أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله ؛ لأنّه ولد عام (32) من الهجرة((1)).

من هنا یجب اقتفاء أثره بین التابعین، وکان علی بن الحسین زین العابدین علیه السلام - رابع أئمّة أهل البیت علیهم السلام لدی الشیعة - أفقه التابعین باعتراف أهل السنة أنفسهم، ومن أهل الفتوی، کما اعترف بذلک فقیههم المعروف محمد بن مسلم بن شهاب الزهری وقال: «ما رأیت أحداً کان أفقه من علی بن الحسین»((2)).

أمّا یزید الذی ارتکب فاجعة کربلاء فإنّه لم یُذکر فی أیّ مصدرٍ تاریخی کفقیهٍ من فقهاء التابعین، بل یدلّ تصدّی علی بن الحسین علیه السلام أیام خلافة یزید والسفیانیین والمروانیین علی عدم وجود أساس فقهی یستند إلیه الحکم الأُموی، الذی کان یکنّ العداء للفقهاء ومواقفهم، لا سیما الإمام زین العابدین علیه السلام .

وحینما تذکر النصوص التاریخیة سلسلة خلفاء بنی أُمیّة وتصل إلی یزید الذی استلم الحکم عام (60ه-) اکتفت بتعریف موجز لسیرته وأبنائه، وأظهرت أسفها عمّا قام به من جرائم تقشعرّ لها الأبدان، وقد تلعنه أو تشیر إلی ذلک بخجلٍ واستحیاء.

من هنا فقد فتح باب تحت عنوان فضائل ومناقب الخلفاء الراشدین أو أمثال عمر بن عبد العزیز، واجتنبت الإطراء علی یزید بعناوین وألقاب مثل: رضی الله عنه.

اجتهاد أعوان یزید

اشارة

من الطبیعی أن یکون لیزید الدور الرئیس فی خلق فاجعة کربلاء، وقد دعمه فی

ص: 107


1- ([1]) ابن حجر العسقلانی، أحمد بن علی، لسان المیزان: ج6، ص293.
2- ([2]) ابن سعد، محمد، الطبقات الکبری: ج5، ص165.

ذلک العدید من زعماء القبائل والسیاسیین والمحاربین والقادة، وتمکّنوا بالتعاون فیما بینهم من إجهاض ثورة کربلاء علی الظاهر، هذا الإجهاض الذی سرعان ما تحوّل إلی نجاح خالد، وأصبح منشأ لتجدید حیاة الدین ومدّ المجتمعات البشریة لا سیما الإسلامیة بالهدایة والحماسة والإصلاح.

ویتیسّر لنا عبر تصفّح التاریخ معرفة الأیادی التی تلطّخت بدماء الأبرار، والتی استعان بها یزید، وکان لها دورٌ مباشر فی التخطیط والتنفیذ وقتال الإمام الحسین علیه السلام وأصحابه، نظیر: مروان بن الحکم، وعبید الله بن زیاد، وعمر بن سعد بن أبی وقاص، وشمر بن ذی الجوشن، وشریح بن الحارث المعروف بشریح القاضی، حرملة بن کاهل الأسدی، وخولی بن یزید الأصبحی، وسنان بن أنس النخعی، والحصین بن نمیر، وشبث بن ربعی، الذین کانوا یشکّلون العمود الفقری لتلک الواقعة.

لا شکّ أنّ العرض الموجز لسیرتهم کفیل بالإجابة عن استفسارات، نظیر: هل أنّهم حازوا الشروط المعتبرة للاجتهاد من منظار أهل السنة؟ وهل حازوا الشروط الذاتیة والاکتسابیة للمجتهد الجامع للشرائط؟ وهل ثمّة قیمة لاجتهادهم مع شذوذهم خلقیاً وسلوکیاً؟ وهل یمکن اعتبار جرائمهم فی کربلاء صادرة عن اجتهاد وتأویل، وامتثال أمر النبی صلی الله علیه و آله الذی أصبح ذریعة للمدافعین عنهم؟

وخلاصة الکلام: هل أنّ الحسین بن علی سلام الله علیها قُتل بسیف جدّه صلی الله علیه و آله ، وبأمرٍ من رسول الله صلی الله علیه و آله ؟!

1 - مروان بن الحکم

اشارة

علی الرغم من غیاب مروان بن الحکم عن ساحة کربلاء، إلّا أنّه أوّل مَن اقترح قتل الحسین علیه السلام علی الولید بن عتبة عامل یزید علی المدینة لما قال: احبس الرجل فلا یخرج من عندک حتی یبایع أو تضرب عنقه، ولمّا رفض الولید ذلک، قال مروان للولید:

ص: 108

لتندمن علی ترکک إیّاه، فقال الولید: یا مروان، ما أُحبّ أن أملک الدنیا بحذافیرها علی أن أقتل حسیناً، إنّ الذی یُحاسب بدم الحسین لخفیف المیزان عند الله یوم القیامة((1)).

وتدلّ سیرته علی أنّه لم یملک اعتقاداً راسخاً بالإسلام، وعلی فرض إسلامه یُطرح هذا السؤال: هل کانت له جدارة علمیة وعملیة تؤهّله للاجتهاد وإبداء حکم الإسلام؟ وأخیراً هل أنّ رأیه بقتل الحسین علیه السلام صادرٌ عن رؤیة دینیة، ونظرةٍ إسلامیة، أو صادر عن أغراض ومقاصد سیاسیة؟

وُلد مروان بن الحکم عام (2ه-)، أبوه الحکم بن أبی العاص، الذی أسلم علی الظاهر، واعتُبر من المسلمین، إلّا أنّه کان یُلحق الأذی برسول الله صلی الله علیه و آله ، ویُکنّ له حقداً عمیقاً، وکان یحکی رسول الله صلی الله علیه و آله فی مشیته وبعض حرکاته، وکان یسترق السمع من خلف أبواب حجرات النبی صلی الله علیه و آله عسی أن یظفر بشیء من أسرار النبی الشخصیة والعائلیة؛ لنشرها علی الملأ بعد ذلک، الأمر الذی أدّی إلی أن یلعنه رسول الله صلی الله علیه و آله وینفیه وابنه مروان من المدینة إلی الطائف((2)).

یقول ابن الأثیر فی هذا الصدد:

«إنّ الأمر المقطوع به أنّ النبی صلی الله علیه و آله علی حلمه وإغضائه عمّا یکره، ما فعل به ذلک إلّا لأمر عظیم، ولم یزل منفیاً حیاة النبی’، فلمّا ولی أبو بکر الخلافة قِیل له فی الحکم لیردّه إلی المدینة، فقال: ما کنت لأحلّ عقدةً عقدها رسول الله صلی الله علیه و آله ، وکذلک عمر، فلمّا ولی عثمان الخلافة ردّه»((3)).

وقد اشتهر الحکم بن أبی العاص بأنّه طرید رسول الله صلی الله علیه و آله ، ولم یکتفِ النبی صلی الله علیه و آله

ص: 109


1- ([1]) اُنظر: البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج5، ص317.
2- ([2]) اُنظر: ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، أُسد الغابة: ج2، ص37.
3- ([3]) المصدر السابق: ص37 - 38.

بنفیه، بل إنّه حذّر الأُمّة وخوّفها منه ومن نسله، فعن نافع بن جبیر بن مطعم عن أبیه، قال: کنّا مع النبی صلی الله علیه و آله فمرّ الحکم بن أبی العاص، فقال النبی صلی الله علیه و آله : «ویلٌ لأُمّتی ممّا فی صلب هذا»((1)).

وینقل ابن الأثیر فی أُسد الغابة عن بنت الحکم بن أبی العاص أنّها قالت للحکم: «ما رأیت قوماً کانوا أسوأ رأیاً وأعجز فی أمر رسول الله صلی الله علیه و آله منکم یا بنی أُمیّة»((2)).

مات الحکم بن أبی العاص فی خلافة عثمان، أمّا أبناؤه وفی مقدّمتهم مروان بن الحکم طرید رسول الله صلی الله علیه و آله لم یردّه عثمان - فی ظلّ السیاسات الأُمویة والطائفیة التی اتّبعها - من منفاه فحسب، بل ترکه یشقّ طریقه بالتدریج إلی جهاز الخلافة، وأصبح کاتبه ومن مستشاریه الخاصّین.

نظر إلیه الإمام علی علیه السلام یوماً فقال: «ویلک وویلُ أُمّة محمد منک ومن بنیک»((3)).

وکان لمروان بسبب مشوراته دورٌ مؤثّر فی إذکاء شعلة الثورة وتأجیجها علی عثمان وانحطاط دولته، لمّا اتّبع عثمان سیاسة أُمویة تتلخّص فی هدر بیت المال وتبذیره، وإطلاق ید بنی أُمیّة فی ظلم الناس، واتّساع هوّة الفواصل الطبقیة، وتجاهل ما أوصی به رسول الله صلی الله علیه و آله علی الصعید الحکومی والسیاسی والاقتصادی والأخلاقی، وبذلک مهّد لهلاک نفسه وسقوط حکومته.

وبعد انتهاء التوتّر بین الناس - لا سیما أهل مصر - وبین الخلیفة الثالث بعد کتابة عثمان بعزل عامله علی مصر، کتب مروان کتاباً فی إبطال ماسبق وأمر فیه بقتل المعارضین، وأرسله علی وجه السرعة، ولما وقع الکتاب بید الثوار فی مصر عادوا إلی

ص: 110


1- ([1]) ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، أُسد الغابة: ج2، ص37.
2- ([2]) المصدر السابق.
3- ([3]) المصدر السابق: ج5، ص145.

المدینة، وقاموا بتصعید الاحتجاجات ضدّ عثمان التی انتهت بقتله وسقوط حکومته، وعلی هذا الأساس یعتقد الکثیر من المؤرِّخین أنّ لمروان الید الطولی فی قتل عثمان((1)).

وبعد مقتل عثمان أرسل مروان قمیصه الذی کان بید أُمّ حبیبة إلی معاویة فی الشام، وقد شارک فی حرب صفّین إلی جانبه ضدّ علی بن أبی طالب علیه السلام الخلیفة الشرعی للمسلمین، وکان قبل ذلک قد شارک فی حرب الجمل إلی جانب عائشة.

وبعد صلح الإمام الحسن علیه السلام وتثبیت دعائم حکومة معاویة أصبح عامله علی المدینة، حیث أمر بسبّ علی علیه السلام فیها وروّج لذلک، کما کان عامله علی مکة والطائف.

مروان ومأساة کربلاء

کان مروان فی المدینة لمّا وصل یزید بن معاویة عام (60ه-) إلی سدّة الحکم، وحینما دعا والی المدینة الحسین علیه السلام وأبلغه بموت معاویة، عارضاً علیه بیعة یزید، إلّا أنّ الإمام علیه السلام رفض، وکان مروان حاضراً فی المجلس، فاقترح علی والی المدینة قتله علیه السلام ، إلّا أنّ الوالی امتنع عن ذلک.

ولمّا بُویع مروان بالخلافة فی الشام قال أخوه عبد الرحمن بن الحکم - وکان حسن الشعر لایری رأی مروان -:

فوالله ما

أدری وإنّی لسائل

حلیلة مضروب

القفا کیف تصنع

لحا الله قوماً

أمّروا خیط باطل

علی الناس یُعطی

ما یشاء ویمنع

وقال أیضاً:

یقیم بدار

مضیعة إذا لم

یکن حیران أو

خفق الجنان

فلا تقذف بی

الرجوین إنّی

أقلّ القوم من

یغنی مکانی

ص: 111


1- ([1]) اُنظر: العسقلانی، ابن حجر، الإصابة فی تمییز الصحابة : ج6، ص 204.

سأکفیک الذی

استکفیت منی

بأمر لا

تخالجه الیدان

ولولا أن أُمّ

أبیک أُمّی

وأنّ مَن قد

هجاک فقد هجانی

لقد جاهرت

بالبغضاء أنّی

إلی أمر

الجهارة والعلان((1)).

کلّ هذا یرشدنا إلی افتقار مروان للشروط التی ذکرها أهل السنة فی العدالة والتفقّه فی الدین، من هنا لم تثبت صلاحیته من الناحیة العلمیة والعملیة، بل کان عاریاً منها علی وجه القطع والجزم.

کما أنّ ما أفشاه بعد فاجعة عاشوراء یعکس لنا جانباً آخر من جوانب شخصیته وموقفه حیال أهل بیت النبی’ والحسین علیه السلام .

وعلی کلّ حال، مثله مثل سائر مَن حضر کربلاء لقتال الإمام علیه السلام لم یکن دافعه فی کلّ ذلک الدین وإطاعة أمر رسول الله صلی الله علیه و آله - کما یدّعی ذلک أتباع یزید - بل حبّ الجاه والمال وکراهیته للإسلام وآل النبی علیهم السلام الذی کان یحمل لهم حقداً دفیناً، وکان یتحیّن الفرص للانقضاض علیهم وقتلهم، ولم یخش من الإفصاح عن تلک الأمانی القدیمة أبداً.

2 - عبید اللّه بن زیاد

اشارة

اسمه عبید الله، وکنیته أبو حفص أو أبو الأحمر، أبوه زیاد الذی وُلِد من سمیة زوجة عبید، وکانت صاحبة رایة، ولم یُعرف أبوه، الأمر الذی دعا بمعاویة إلی استلحاقه بنسبه فی بدایة خلافته؛ وذلک أنّ أبا سفیان صار إلی الطائف، فنزل علی خمّارٍ یُقال له: أبو مریم السلولی، وکانت لأبی مریم معه صحبة، فقال أبو سفیان لأبی مریم بعد أن شرب عنده: قد اشتدّت بی العزوبة، فالتمس لی بغیّاً، فقال: هل لک فی جاریة

ص: 112


1- ([1]) العسقلانی، ابن حجر، الإصابة فی تمییز الصحابة: ص146.

الحارث بن کلدة سمیّة امرأة عبید؟ فقال: هاتها علی طول ثدیها وریح إبطیها. فجاء بها إلیه فوقع بها فولدت زیاداً((1)).

وقد استلحقه معاویة بأبیه رغم صریح ما ورد عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه قال: «الولد للفراش وللعاهر الحجر»، وقد ولد عبید الله من صُلب ذاک الرجل عام (33ه-)((2))، أُمّه مرجانة وهی أَمة وقعت فی أسر المسلمین من بلاد الفرس، اشتهرت بالفسق والفجور، من هنا فقد یُنسب إلی أُمّه مرجانة خاصة حینما یُراد بیان عدم طهر ولادته، فقد ورد فی مقطع من کلام الحسین علیه السلام یوم عاشوراء: «ألا إنّ الدعی((3)) ابن الدعی قد رکز بین اثنتین، بین السلّة والذلّة، هیهات منّا الذلة»((4)).

کان عبید الله بن زیاد فاجراً فی خصومته، جاهلاً فی تجبّره وقسوته حتی بلغ به الإسفاف أنّه أصرّ علی رضوخ الحسین لأمره، وحضوره بین یدیه، وإلّا فلیُقتل ولیوطّأ جسده الشریف سنابک الخیل.

ولا عجب فی أن یقف ابن زیاد ذلک الموقف من ابن بنت رسول الله، فإنّه لا یعرف الفضل لأهل الفضل إلّا أهل الفضل، وهیهات أن یکون مثل عبید الله منهم، فقد دلّ بتجاهله لمقام الحسین من الله ورسوله علی تأصّل جاهلیته وفساد سریرته... ومع ما اشتهر به عبید الله بن زیاد من تجبّرٍ وطغیان، فقد کان جباناً رعدیداً، حریصاً علی السلامة((5)).

ص: 113


1- ([1]) اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص29. ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج3، ص223.
2- ([2]) اُنظر: ابن منظور، محمد بن مکرم، مختصر تاریخ دمشق: ج15، ص312.
3- ([3]) الدعی: علی وزن فعیل بمعنی المفعول، مثل: جریح بمعنی مجروح، وهذه المفردة تشیر إلی مرجانة أُمّ عبید الله، وحالها کحال سمیّة أُم زیاد بن أبیه الذی استلحقه معاویة بأبی سفیان.
4- ([4]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص425. الخوارزمی، محمد بن أحمد، مقتل الحسین علیه السلام : ج1، ص336.
5- ([5]) اُنظر: یوسف، حسین محمد، سیّد شباب أهل الجنة: ص346.
خصوصیاته العلمیة

لقد اعتُبر من الرواة فی بعض مصادر أهل السنة، وقِیل: إنّه نقل عن سعد بن أبی الوقاص ومعاویة بن أبی سفیان ومعقل بن یسار وابن معاویة (أخو بنی جعدة)، أمّا سجّله فی أوساط أصحاب الحدیث فهو أسود، فیکفیک أنّ ابن حجر العسقلانی وآخرین لم یدرجوه فی عداد الرواة والمحدّثین، لذا عند مراجعة المصادر من الدرجة الأُولی، لا یأتی ذکره إلّا کأحد الرواة المجهولین ممَّن روی روایات قلیلة جدّاً وعن أشخاص محسوبین علی التیار الأُموی، وهذا الأمر لا یثبت کونه ثقة فی نقل هذا العدد الضئیل من الروایات، کما لا یُثبت له مقام الفقاهة والفُتیا((1)).

هذا فی الوقت الذی لا تعتبره الروایات التاریخیة من الرواة والمحدّثین فحسب، بل تشکّک فی تعلّمه القراءة والکتابة؛ ذلک لأنّ عبید الله بن زیاد وفقاً لبعض المصادر وبسبب عجمة لسان أُمّه لا حظّ له من التسلّط علی العربیة، من هنا فلم یشبه القادة السیاسیین، فلا یُجید الشعر ویفتقر إلی الذوق الأدبی، بل قد تتلمذ عند أبی الأسود الدؤلی لتعلّم اللغة العربیة ورَفْع مشاکله فیها((2)).

سجلّه السیاسی

لقد ولّاه معاویة خراسان بعد موت أبیه زیاد فی الأعوام (53 - 54ه-)((3))، وترافقت سیاسته مع سفک الدماء وقسوةٍ لا حدّ لها، ثمّ ولاه البصرة عام (55ه-)، حیث قام فیها بقتل الخوارج وبناء القصر المعروف بقصر البیضاء((4)).

ص: 114


1- ([1]) اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص 299 - 307.
2- ([2]) اُنظر: ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج2، ص505 - 506.
3- ([3]) اُنظر: الذهبی، محمد بن أحمد، سیر أعلام النبلاء: ج3، ص545.
4- ([4]) اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص8 - 365، وص365 - 368، وص301 - 308، وص402 - 408. ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج4، ص849 - 856.

ثمّ انتقل إلی الکوفة عام (60ه-) واتّبع سیاسة صارمة قاسیة قلّما مارسها أحدٌ قبله، کقتله مسلم بن عقیل بلا رحمة بعد تعذیبه، وإعدام الصحابة والتابعین أمثال: هانی بن عروة، ومیثم التمّار، ورشید الهجری، وعبد الأعلی الکلبی، وقیس بن مسهّر الصیداوی، وعبد الله بن یقطر، وعمارة بن صلخب الأزدی، وآخرین، وإقحام جمعٍ غفیر من أتباع الحسین علیه السلام فی الکوفة والبصرة وخراسان فی الزنزانات، ممّا یدلّ علی ظلمه وقسوته، وقتله بالظنّة ناهیک عن بعده عن العدل والدین((1)).

وقد بلغ عبید الله من خبث السریرة والطینة بمکانٍ دفع أتباع یزید بن معاویة أن یتبرؤوا ممّا قام به ونسبوا إلیه ما جری فی کربلاء من قتل الحسین بن علی علیه السلام وظلم أهل البیت وأتباعهم.

وبهذا النحو لم یثبت المدافعون عن یزید مقام الاجتهاد والفقاهة لعبید الله فحسب، بل لم یتمکّنوا من الدفاع عن تاریخه الملیء بالعار، ونسبوا إلیه مباشرةً فاجعة کربلاء وقتل الحسین علیه السلام .

3 - عمر بن سعد بن أبی وقاص

اشارة

وُلِد وطبقاً للمشهور عام (23ه-) وهو العام الذی مات فیه عمر بن الخطاب، وکان أبوه سعد بن أبی وقاص أحد أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله ، ویعتقد أهل السنة أنّه أحد العشرة المبشّرة بالجنة، وقد توارد اسمه علی الألسنة للخلافة، وقد جعله عمر أحد أعضاء الشوری الستّة لتعیین الخلیفة بعده.

وعلی الرغم من ورود عمر بن سعد فی بعض أسانید الروایات التی أکثرها عن أبیه عن رسول الله صلی الله علیه و آله ، إلّا أنّ علماء السنة ورجالییهم أحجموا عن النقل عنه؛ لمشارکته فی

ص: 115


1- ([1]) اُنظر: ابن حجر العسقلانی، أحمد بن علی، تهذیب التهذیب: ج7، ص451.

قتل الحسین علیه السلام ، التی تُعتبر نقطةً سوداء ووصمةُ عارٍ باقیة علی جبینه مدی الدهر.

قال ابن أبی خیثمة عن ابن معین: کیف یکون مَن قتل الحسین ثقة؟! قال عمرو بن علی: سمعت یحیی بن سعید یقول: حدّثنا إسماعیل، حدّثنا العیزار، عن عمر بن سعد، فقال له موسی (رجلٌ من بنی ضبیعة): یا أبا سعید، هذا قاتل الحسین؟! فسکت، فقال له: عن قاتل الحسین تُحدّثنا؟! فسکت.

وروی ابن خراش عن عمرو بن علی نحو ذلک، وقال: فقال له رجل: أما تخاف الله، تروی عن عمر بن سعد؟! فبکی، وقال: لا أعود((1)).

کان من المسلّم عنده قبل فاجعة کربلاء وبالخصوص یوم عاشوراء أنّه لن یفتی بقتل الإمام علیه السلام فضلاً عن المباشرة بقتله، ویُعتبر ذلک من المستحیل الذی لا یمکن تصدیقه أبداً، وقد نقل العسقلانی أنّ عمر بن سعد قال للإمام الحسین علیه السلام : إنّ قوماً من السفهاء یزعمون أنّی أقتلک، فقال الحسین: لیسوا سفهاء، ثمّ قال: والله، إنّک لا تأکل برّ العراق بعدی إلّا قلیلاً((2)).

ومن الملفت للنظر أنّ عمر بن سعد روی عن أبیه، قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله : «قتال المسلم کفر، وسبابه فسوق، ولا یحلّ لمسلم أن یهجر أخاه فوق ثلاثة أیّام»((3)).

خصوصیتان لعمر بن سعد

کان لعمر بن سعد خصوصیتان حازتا علی اهتمام المؤرِّخین وأهل السیر، الأُولی: حبّه المفرط للسلطة مذ کان غلاماً حدث السن، حُکی أنّ عمر بن سعد قد اتخذ جعبة

ص: 116


1- ([1]) اُنظر: ابن قتیبة الدینوری، عبد الله بن مسلم، الإمامة والسیاسة: ج2، ص19. المزی، یوسف، تهذیب الکمال: ص21، ص357. ابن أبی حاتم الرازی، عبد الرحمن بن محمد، الجرح والتعدیل: ج6، ص111 - 112.
2- ([2]) اُنظر: ابن حجر العسقلانی، أحمد بن علی، تهذیب التهذیب: ج7، ص451.
3- ([3]) ابن منظور، محمد بن مکرم، مختصر تاریخ دمشق: ج19، ص61.

وجعل فیها سیاطاً نحواً من خمسین سوطاً، فکتب علی السوط عشرة وعشرین وثلاثین إلی خمسمائة علی هذا العمل، وکان لأبیه سعد غلام ربیب مثل ولده، فأمره عمر بشیء فعصاه فضرب بیده علی الجعبة فرفع بیده سوط مائة، فجلده مائة جلدة، فأقبل الغلام إلی سعد ودمه یسیل علی عینیه فقال: ما لک؟ فأخبره، فقال سعد: اللهم اقتل عمر وأسِل دمه علی عینیه، قال: فمات الغلام((1)).

وقد خرج عمر بن سعد بعد معرکة صفین حتی أتی أباه سعد بن أبی وقاص علی ماءٍ لبنی سلیم بالبادیة، حیث اختار الابتعاد عن الأضواء، فقال: یا أبة، أنت صاحب رسول الله صلی الله علیه و آله ، وأحد الشوری، ولم تدخل فی شئ کرهَته هذه الأُمّة، فاحضر فإنّک أحقّ الناس بالخلافة، فقال: لا أفعل، إنّی سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله یقول: إنّه یکون فتنة خیر الناس فیها الخفی التقی، والله، لا أشهد شیئاً من هذا الأمر أبداً.

وعن عامر بن سعد أنّ أخاه عمر بن سعد انطلق إلی سعد فی غنم له خارجاً من المدینة، فلمّا رآه سعد قال: أعوذ بالله من شرّ هذا الراکب، فلما أتاه قال: یا أبة، أرضیت أن تکون أعرابیاً فی غنمک والناس یتنازعون فی الملک بالمدینة؟ فضرب سعد صدر عمر، وقال: اسکت((2)).

وعلی الرغم من عدم رضوخ سعد بن أبی وقاص لإصرار ابنه إلّا أنّه یدلّ علی حبّ عمر بن سعد المفرط للملک، فقد کتب ابن کثیر بعد نقله لهذه الروایة قائلاً:

«وکان عمر بن سعد هذا یحبّ الإمارة، فلم یزل ذلک دأبه حتی کان هو أمیر السریة التی قتلت الحسین بن علی»((3)).

ص: 117


1- ([1]) اُنظر: منظور، محمد بن مکرم، مختصر تاریخ دمشق: ص62.
2- ([2]) اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص66 - 67.
3- ([3]) ابن کثیر، إسماعیل بن عمر، البدایة والنهایة: ج7، ص313.

والخصوصیة الثانیة له: هی قربه من بنی أُمیّة خاصّةً معاویة بن أبی سفیان، فکان یلجأ إلیه عند نوائب الدهر، ویستقبله ابن أبی سفیان بوجهٍ بشوش، ویدٍ مبسوطة لیؤمّن کلّ احتیاجاته، حتی قال یوماً ما فی حقّه: «لیس هناک قرشی لم تلده أمی وأُحبّه غیر عمر بن سعد».

ونقلت عن ابن مسعود روایة بنفس هذا المضمون، حیث قال: «ما أحببت أحداً من قریش لم تلده أُمّی هند غیر عمر بن سعد وعبدالله بن جعفر».

ومن الطبیعی أنّ کلام معاویة هذا لیس المراد به بیان میله القلبی بل لیجرّهما إلیه، وقد نجح معاویة بمَکْره أن یخدع عمر الذی کانت له وجاهة بین القبائل وطبقات المجتمع، ویستفید منه ویعینه فی مخططاته وصار عمر بن سعد یسیر وفق أهواء معاویة والخط الأُموی، کما أدّت شهادته وتلفیقه اتّهامات مزیفة لا أساس لها من الصحّة بحقّ حجر بن عدی وأصحابه إلی أن یأمر معاویة بقتلهم، ولم یکتفِ عمر بن سعد بهذا، بل حینما دخل مسلم بن عقیل الکوفة، کان من جملة مَن أرسل إلی یزید کتاباً یحذّره من مغبّة مبایعة أهل الکوفة لمسلم بن عقیل سفیر الحسین علیه السلام ، ومن زوال حکم بنی أُمیّة، فکتب یزید إلی عبید الله بن زیاد، عامله علی العراق یأمره بمحاربة الحسین علیه السلام وحمله إلیه إن ظفر به.

وکان سبب خروج عمر بن سعد إلی الحسین علیه السلام ، أنّ عبید الله بن زیاد بعثه علی أربعة الآف من أهل الکوفة یسیر بهم إلی دستبی، وکانت الدیلم قد خرجوا إلیها وغلبوا علیها، فکتب ابن زیاد عهده علی الری، وأمره بالخروج، فخرج معسکراً بالناس بحمام أعین، فلمّا کان من أمر الحسین علیه السلام ما کان وأقبل إلی الکوفة، دعا ابن زیاد عمر بن سعد، فقال له: سِر إلی الحسین، فإذا فرغنا ممَّا بیننا وبینه سرت إلی عملک، فقال

ص: 118

له: إن رأیت أن تعفینی فافعل، فقال عبید الله: نعم، علی أن تردّ علینا عهدنا((1)).

إنکار وتخاذل وتسلیم وتبریر

دلّت التحوّلات التی طرأت علی عمر بن سعد أثناء توجهه إلی کربلاء وارتکابه ما ارتکب، أنّه لم یکن یخطر بخلده قط أنّه سوف یقع فی شراک عداوة أهل بیت النبی صلی الله علیه و آله والحسین علیه السلام ، وقد بالغ فی إنکار ما اقترحه عبید الله بن زیاد فی هذا الأمر، ولم یرتض أبداً قتال الحسین علیه السلام ؛ لما قال لابن زیاد: «إن رأیت - رحمک الله - أن تعفینی فافعل، فقال له عبید الله بن زیاد: نعم، علی أن تردّ لنا عهدنا. فلمّا قال له ذلک، قال عمر بن سعد: فأمهلنی الیوم حتی أنظر.

فانصرف عمر یستشیر نصحاءه، فلم یکن یستشیر أحداً إلّا نهاه، وجاء حمزة بن المغیرة بن شعبة وهو ابن أُخته، فقال: أُنشدک الله یا خال، أن تسیر إلی الحسین فتأثم بربّک وتقطع رحمک، فوالله، لأن تخرج من دنیاک ومالک وسلطان الأرض کلّها لو کان، خیرٌ لک من أن تلقی الله بدم الحسین.

وبعد أن فکّر فی الأمر ملیاً واستشار وصل إلی هذه النتیجة، وهی أن یطلب من عبید الله إعفاءه هذا الأمر؛ لأنّ قتال الحسین علیه السلام أمرٌ محرّم إلی جانب ما یعقب ذلک من تبعات أُخرویة، من هنا أقبل علی عبید الله بن زیاد، فقال: أصلحک الله، إنّک ولّیتنی هذا العمل وکتبت لی العهد، وسمع به الناس، فإن رأیت أن تنفذ لی ذلک فافعل، وابعث إلی الحسین فی هذا الجیش من أشراف الکوفة مَن لستُ بأغنی ولا أجزأ عنک فی الحرب منه. فسمّی له أُناساً، فقال له ابن زیاد: لا تعلّمنی بأشراف أهل الکوفة، ولستُ أستأمرک فیمَن أُرید أن

ص: 119


1- ([1]) اُنظر: ابن منظور، محمد بن مکرم، مختصر تاریخ دمشق: ج19، ص63 - 64. الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج3، ص310 - 312. البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج3، ص176 - 177.

أبعث، إن سرت بجندنا وإلّا فابعث إلینا بعهدنا»((1)).

وبعد هذه الإجابة لم یجد عمر بن سعد بُداً من التوجّه صوب قتال الحسین علیه السلام لئلّا تخرج إمارة الری من یدیه، وقد دلّت الأحداث علی أنّ عمر بن سعد کان یأمل - رغم قبوله قیادة العسکر - فی نزول الحسین علیه السلام عند رغبة عبید الله بن زیاد أو یزید بن معاویة دون حرب وإراقة دماء حتی یظفر بإمارة الری.

وبهذا الاضطراب النفسی الذی کان یعانیه ابن سعد توجّه فی الثالث من المحرم عام (61ه-) إلی صحراء کربلاء، وأقام معسکره أمام خیام الحسین علیه السلام ، وأرسل قرّة بن قیس الحنظلی رسولاً عنه إلی الحسین علیه السلام للتباحث معه، ظنّاً منه أنّه سیرتشف کأس النصر عبر تحقیق ما یصبوا إلیه ابن زیاد دون إراقة قطرة دم.

ولأجل هذا توقّف ابن سعد ستّة أیّام (من الیوم الثالث من المحرم حتی التاسع منه) دون إشهار السلاح، وفی هذه المدّة لاقی الإمام علیه السلام ثلاث أو أربع مرات، وقد سکت التاریخ عن الخوض فی تفاصیل ما جری والحوار الذی دار بینهما، إلّا أنّه یتّضح من الکتب التی أرسلها ابن سعد إلی ابن زیاد، أنّ الحسین علیه السلام قد أتمّ الحجّة علی ابن سعد وسلب عنه أیّ عذر أو ذریعة أو خطأ أو تبریر فیما لو احتدمت الحرب.

و فی لقاءٍ لهما تمّ بحضور جماعة من الطرفین خاطب الحسین علیه السلام ابن سعد قائلاً:

«ویلک یا بن سعد، أما تتّقی الله الذی إلیه معادک، أتقاتلنی وأنا ابن مَن علمت؟! ذر هؤلاء القوم وکن معی، فإنّه أقرب لک إلی الله»((2)).

قال عمر: إذن تهدم داری، قال علیه السلام : أنا ابنیها لک، قال: إذن تُؤخذ ضیاعی، قال: إذن أُعطیک خیراً منها من مالی بالحجاز. فکره ذلک عمر.

ص: 120


1- ([1]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص410.
2- ([2]) البحرانی، هاشم، مدینة المعاجز: ج3، ص482.

فانصرف عنه الحسین علیه السلام وهو یقول: «مالک! ذبحک الله علی فراشک عاجلاً، ولا غفر لک یوم حشرک، فوالله، إنّی لأرجو أن لا تأکل من برّ العراق إلّا یسیراً»((1)).

وقد کتب ابن سعد إلی ابن زیاد:

«أمّا بعدُ، فإنّ الله قد أطفأ النائرة وجمع الکلمة وأصلح أمر الأُمّة، هذا حسین قد أعطانی أن یرجع إلی المکان الذی منه أتی، أو أن نسیره إلی أیّ ثغرٍ من ثغور المسلمین شئنا، أو أن یأتی فیضع یده فی یده، فیری فیما بینه وبینه رأیه، وفی هذا لکم رضی وللأُمّة صلاح»((2)).

والاقتراح الثالث لم یصدر عن الحسین علیه السلام قط، وقد کذّبه عقبة بن سمعان مولی الرباب الذی رافق الإمام علیه السلام أینما حلّ، فلو کان الإمام علیه السلام حاضراً لوضع یده بید یزید لما وصل الأمر إلی ما وصل إلیه.

وقد ظلّ عمر بن سعد یأمل بالصلح حتی بلغه کتاب ابن زیاد علی ید شمر بن ذی الجوشن، فتبدّلت کلّ آماله فی الصلح والاحتراز عن الحرب یأساً، وأخیراً أُرغم علی وضع شکوکه جانباً وتوجّه إلی قتال الحسین علیه السلام ، کتب ابن زیاد إلی ابن سعد:

«أمّا

بعدُ، فإنّی لم أبعثک إلی حسین لتکفّ عنه، ولا لتطاوله، ولا لتمنّیه السلامة والبقاء، ولا لتقعد له عندی شافعاً، فاُنظر إن نزل حسین وأصحابه علی الحکم واستسلموا فابعث بهم إلیّ سلماً، وإن أبوا فازحف إلیهم حتی تقتلهم وتمثّل بهم»((3)).

وأمام کتاب التهدید هذا أیقن عمر بن سعد أنّ الجمع بین حکومة الری والکفّ عن قتال الحسین علیه السلام بات ضرباً من المستحیل، من هنا أقدم علی وضع عقائده الدینیة

ص: 121


1- ([1]) البحرانی، هاشم، مدینة المعاجز: ج3، ص482.
2- ([2]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص414.
3- ([3]) المصدر السابق.

والأخلاقیة والوجدانیة تحت قدمه، وحال بین شط الفرات والحسین علیه السلام وأصحابه، وحاصره وضیّق الخناق علیه، وأخیراً توجّه بعسکره إلی محاربة الحسین علیه السلام فی الیوم التاسع من المحرم، إلّا أنّ الحسین علیه السلام استمهله تلک اللیلة طلباً للصلاة والدعاء والاستغفار، وفی عاشوراء أطلق ابن اسعد شارة الهجوم بقوله: یا خیل الله ارکبی، وبالجنة أبشری، ثمّ رمی معسکر الحسین بأوّل سهم کدلیل علی وفائه لابن زیاد((1)).

التردّد فی اجتهاده، والقطع بعدم الاستفادة منه فی واقعة عاشوراء

إنّ استعراضاً موجزاً لشخصیة عمر بن سعد ومکانته وخلفیاته - لا سیما التقریر الإجمالی للوضع النفسی الذی کان یعانیه قبل المضی إلی کربلاء، وبعد مواجهة الحسین علیه السلام وقتاله - یدلّ علی معرفته بالإسلام، فقد ورد اسمه فی أسانید بعض الروایات، إلّا أنّه ثمّة شکوک تراود محدّثی وعلماء عصره حول مکانته الفقهیة وتصدّیه لمقام الإفتاء.

وفی صورة الإذعان بفقهه واجتهاده وحیازته لشروط الإفتاء، إلّا أنّ هذا لا ینفی خلوه من العدالة؛ ذلک أنّ حبّه للجاه، وشهادة الباطل، ونقض المواثیق والعهود، وانتهازیته من جهة، وحضوره مجلس معاویة وآل أُمیّة من جهةٍ أُخری کلّها أمارات تدلّ علی فسقه وسلب عدالته اللازمة للمفتین والفقهاء، قبل أن یقدم علی جریمته النکراء فی کربلاء.

والنکتة الأُخری هی أنّه لم یطلق فتوی بجواز قتل الحسین علیه السلام ومحبّة یزید بن معاویة؛ ذلک لأنّه لو کان یعتقد بجواز مواجهة الحسین علیه السلام وأنّه قد شقّ عصا الوحدة بخروجه علی الخلافة الشرعیة والدینیة لیزید، لما رفض تسلّم قیادة العسکر المتّجه نحو

ص: 122


1- ([1]) اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص414. ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج3، ص112.

قتال الحسین علیه السلام ، فهل أنّ امتثال التکلیف الشرعی والدینی والدفاع عن وحدة المسلمین یقتضی المخالفة، أو أنّ الإقدام علی مثل هذه الخطوة یبرّر له التذرّع بحجج وأعذار؟ وهل أنّ امتثال الفتوی الشرعیة یضاد ملک الری؟ ولماذا لم یتردّد حین تسلّمه قیادة العسکر المتّجه نحو أطراف قزوین، ولم یکن عهد الری قد صدر عندها، بینما نجده کذلک حینما اتّجه إلی کربلاء؟

قتال الإمام خروجٌ عن الشرع

کان عمر بن سعد یعتقد - وعلی فرض حیازته لشروط الاجتهاد وعدالته - أنّ قتال الحسین علیه السلام خلاف الشریعة والدین والوجدان، وکان کثیراً ما یعقد مقارنة بین قتال الحسین علیه السلام وملک الری، الأمر الذی دعاه إلی أن یعیش صراعاً خفیّاً مع وجدانه وفطرته، وهل یقبل ملک الری مهما کان الثمن، ولو کلّفه ذلک جعل الدین والشریعة والوجدان وراء ظهره؟ وهل حکومة الری تستوجب مثل هذه القیمة الباهظة؟!

وقد ورد فی التاریخ أنّه کان متردّداً فی اللحظات الحاسمة حیال قبول قیادة العسکر المتّجه إلی کربلاء لقتال الحسین علیه السلام ، أو رَفْض ذلک وإعادة حکم الری، وقد اعترف صراحةً أمام یزید بن الحسین الهمدانی قائلاً: «والله، یا أخا همدان، إنّی لأعلم حرمة أذاهم.. »، وقد أباح بمکنونات صدره لمّا قال:

أأترک ملک

الری والری رغبةٌ

أم أرجِع

مذموماً بقتل حسین

وفی قتله

النار التی لیس دونها

حجابٌ وملک

الری قرة عین((1)).

والنکتة الأُخری هی أنّ عمر بن سعد لم یکن یملک خلفیات فکریة ونظریة حین مواجهته للإمام الحسین علیه السلام ، بل کان یملک قناعة بحرمة قتاله ومخالفة ذلک للدین،

ص: 123


1- ([1]) الحموی، یاقوت، معجم البلدان: ج3، ص124. الشافعی، محمد بن طلحة، مطالب السؤول فی مناقب آل الرسول: ص77 - 78.

وقد دلّل حواره المتقدّم مع الإمام علیه السلام علی أنّه لم یکن یساوره أدنی شکّ إزاء شرعیة حرکة الإمام علیه السلام ، بل کان یخشی بطش ابن زیاد وهدم داره ومصادرة أمواله، هذا إلی جانب حبّه المفرط للجاه وملک الری.

وکما تقدّمت الإشارة، فإنّ أصحاب عمر بن سعد ومَن حوله لم یُزیلوا قلقه تجاه موقفه المناوئ للإمام علیه السلام ، بل حذّروه من مغبّة ارتکاب هذه الجریمة، وهذا إن دلّ علی شیء فإنّما یدلّ علی غیاب أیّ دورٍ للفتوی والاجتهاد فی ثورة کربلاء، وبطلان هذا المدّعی، وقد صرّح ابن سعد بذلک عند ردّه نصیحة بریر بن خضیر الهمدانی أحد أصحاب الحسین علیه السلام ، لمّا قال له: أتترک أهل بیت النبوة یموتون عطشاً، وتزعم أنّک تعرف الله ورسوله.

فقال عمر بن سعد: إنّی والله، أعلمه یا بریر علماً یقیناً، أنّ کلّ مَن قاتلهم وغصبهم علی حقوقهم فی النار لا محالة، ولکن ویحک یا بریر، أتشیر علی أن أترک ولایة الری فتصیر لغیری؟! ما أجد نفسی تجیبنی إلی ذلک أبداً، ثمّ أنشأ یقول:

دعانی عبید

الله من دون قومه

إلی خطة فیها

خرجت لحینی

فوالله لا

أدری وإنّی لواقفٌ

علی خطرٍ بعظم

علی وسینی

فرجع بریر بن خضیر إلی الحسین علیه السلام ، فقال: یا بن بنت رسول الله صلی الله علیه و آله ، إنّ عمر بن سعد قد رضی أن یقتلک بملک الری((1)).

4 - شمر بن ذی الجوشن

هو أبو السابغة شرحبیل العامری الکلابی، المعروف والملقّب بشمر بن ذی الجوشن، من أعوان یزید بن معاویة فی حادثة کربلاء، ومن قیادات عسکر الکوفة

ص: 124


1- ([1]) اُنظر: ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج5، ص171 - 172.

الذی حارب الحسین علیه السلام ، وثمّة تضارب فی الآراء حول ولادته، وهل أنّه أدرک النبی صلی الله علیه و آله لیُطلق علیه عنوان الصحابی، أو أنّه وُلد بعد رسول الله صلی الله علیه و آله لیکون من التابعین((1)).

وکان شمر مغمور الذکر فی زمن الخلفاء الثلاثة، ولم یُذکر له موقف فی التحوّلات التاریخیة آنذاک، وفی عام (37ه-) شارک فی حرب صفّین فی رکاب علی علیه السلام ، ضدّ القاسطین بقیادة معاویة، وأظهر شجاعةً فی تلک الحرب، وهو ممَّن دعا إلی الصلح وضرورة قبول التحکیم، ولم یکن حینها من القادة، وذلک أرغم الإمام علیه السلام علی ترک الحرب التی کان علی وشک الخروج منها ظافراً.

لقد ظلّ التاریخ ساکتاً عن دور شمر فی إثارة الخوارج ضدّ علی علیه السلام فی حرب النهروان، وعن انشقاقه عن علی علیه السلام والتحاقه بمعاویة فی الشام، وقد التحق بصفوف أصحاب الحسن علیه السلام بعد استشهاد علی علیه السلام ، ویُحتمل أنّه کان من الطابور الخامس وقد لعب دوراً خطیراً فی تفکّک قوات الإمام علیه السلام وانهیارها((2)).

وکان شمر أبان ثورة کربلاء فی رکاب ابن زیاد، وطبقاً لبعض التقاریر أنّ عبید الله بن زیاد لما تسلّم کتاب عمر بن سعد یخبره بالصلح مع الحسین علیه السلام ، کان شمر حاضراً هناک، فحثّه علی الحرب وضرورة حسم الموقف عسکریاً، وأخیراً نال ما کان یصبو إلیه وأخذ کتاب ابن زیاد لعمر بن سعد یأمره فیه بضرورة امتثال الحسین علیه السلام أمر یزید أو قتاله، وبهذا النحو هدم شمر کلّ الجسور وراءه، وأنهی المذاکرات التی کانت جاریة بین الإمام علیه السلام وابن سعد.

ص: 125


1- ([1]) اُنظر: ابن عبد البر، یوسف، الاستیعاب فی معرفة الأصحاب: ج2، ص467. الصفدی، خلیل بن أیبک، الوافی بالوفیات: ص16، ص180.
2- ([2]) اُنظر: المفید، محمد بن محمد، الاختصاص: ص139.

وقد توجّه إلی کربلاء مع أربعة الآف مقاتل، فأقبل بکتاب عبید الله بن زیاد إلی عمر بن سعد، فلمّا قدم به علیه فقرأه، قال له عمر: ما لک؟! ویلک! لا قرّب الله دارک، وقبّح الله ما قدمت به علی، والله، إنّی لأظنّک أنت ثنیته أن یقبل ما کتبت به إلیه، أفسدت علینا أمراً کنّا رجونا أن یصلح، لا یستسلم - والله - حسین، إنّ نفساً أبیة لبین جنبیه، فقال له شمر: أخبرنی ما أنت صانع، أتمضی لأمر أمیرک وتقتل عدوّه؟ وإلّا فخلِّ بینی وبین الجند والعسکر، قال: لا، ولا کرامة لک وأنا أتولّی ذلک.

وجاء شمر حتی وقف علی أصحاب الحسین، فقال: أین بنو أُختنا؟ فخرج إلیه العباس وجعفر وعثمان بنو علی، فقالوا له: ما لک؟ وما ترید؟ قال: أنتم یا بنی أُختی آمنون، قال له الفتیة: لعنک الله ولعن أمانک، لئن کنت خالنا أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له((1))؟!

وکان شمر بن ذی الجوشن یُکنّ حقداً عمیقاً لأهل البیت علیهم السلام ، وکان سفّاکاً قاسیاً لا یرحم، وقد بلغ من إسرافه فی سفک الدماء مَبلغاً أنّ أعوان یزید لم یدافعوا عنه، حتی أنّ یزید وابن زیاد قد تبرءا منه، ویُعدّ من أبرز الوجوه الضالعة فی مجزرة کربلاء((2)).

وباعتراف أعوان یزید لم یکن مجتهداً یعمل بفتواه، بل کان سفّاکاً فظ القلب، ولا همّ له سوی تحقیق مصالحه ومنافعه الشخصیة، من هنا لم یکن حائزاً للشروط العلمیة والعملیة المعتبرة عند أهل السنة، ولم یکن یلتزم بأحکام الشریعة، وکان الغالب علی حواره ومنطقه أدبیات الحرب والخشونة القبلیة، واستناداً إلی هذه الخلفیات لم یدَّعِ أحدٌ أنّه قام بما قام به فی کربلاء انطلاقاً من نظره واجتهاده واعتقاده الدینی.

ص: 126


1- ([1]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص414.
2- ([2]) اُنظر: ابن کثیر، إسماعیل بن عمر، البدایة والنهایة: ج8، ص211. ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ص916.

وقد دامت جرائمه بعد استشهاد الحسین علیه السلام وسنشیر إلیها فیما بعد، وتدلّ تلک الأحداث علی فسقه وانتهازیته وجرائمه البشعة، وکان علی استعدادٍ للإقدام علی أیّة جریمة، وارتکاب أیّ منکر بهدف الظفر بالثروة والمناصب الکبری متحدّیاً أمر الله تعالی.

وکان شمر سبّاقاً إلی ارتکاب أبشع الجرائم فی عاشوراء، حیث حال بین ماء الفرات وبین الإمام علیه السلام وأصحابه، وقطع رأس سیّد الشهداء علیه السلام ، وقام بالإغارة علی الخیام، ومرّ بالسبایا علی جثث الشهداء لزیادة الضغط النفسی والعاطفی علیهم، کما أنّه رفض طلب أهل البیت علیهم السلام بتقدیم رؤوس الشهداء علی رکب السبایا((1)).

وبعد قیام المختار الثقفی وطلبه الثأر من قتلة الحسین علیه السلام ، أبدی شمر مقاومةً وقاتل المختار، إلّا أنّه اندحر وفرّ إلی البصرة، وفی الطریق صادف جماعةً من أصحاب المختار بقیادة عبد الرحمن بن عبید أبی الکنود ونشب قتالٌ بینهم انتهت بمقتله((2)).

وقِیل: إنّ عبد الرحمن قد ألقی القبض علیه وبعث به إلی الکوفة، فقتله المختار مع سائر قتلة الإمام الحسین علیه السلام ((3)).

5 - شبث بن ربعی

من کبار أُمراء قوات ابن زیاد وکان کوفیاً، وُلِد قبل بعثة النبی صلی الله علیه و آله بعام، وقد أکّدت المصادر الإسلامیة علی انتهازیته ووصِفته بأنّه جاهلیٌّ إسلامی((4)).

ص: 127


1- ([1]) اُنظر: الأمین، محسن، أعیان الشیعة: ج3، ص485.
2- ([2]) اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص54.
3- ([3]) اُنظر: الدینوری، أحمد بن داوُد، الأخبار الطوال: ص301 - 305.
4- ([4]) اُنظر: المنقری، نصر بن مزاحم، وقعة صفین: ص138. الهاشمی الخوئی، حبیب الله، منهاج البراعة فی شرح نهج البلاغة: ج5، ص382.

وبعد ارتحال النبی صلی الله علیه و آله وفی أحداث الردّة التحق بمدعیة النبوة سجاح بنت الحارث التمیمیة وأصبح مؤذّناً لها((1))، ثمّ اعتنق الإسلام، وکان له یدٌ فی قتل عثمان، وکان فی رکاب علی بن أبی طالب علیه السلام فی بدایة خلافته، حیث شارک فی حرب صفین، وکان من جملة مَن بعثه الإمام علیه السلام بقیادة أبی عمرة إلی معاویة للحوار معه وتحذیره من مغبّة مخالفته للإمام علیه السلام ، الخلیفة الشرعی للمسلمین، قائلاً له:

«یا معاویة، قد فهمت ما رددت علی ابن محصن، إنّه لایخفی علینا ما تقرّ وما تطلب، إنّک لا تجد شیئاً تستغوی به الناس، ولا شیئاً تستمیل به أهواءهم، وتستخلص به طاعتهم إلّا أن قلت لهم: قُتل إمامکم مظلوماً، فهلموا نطلب بدمه، فاستجاب لک سفهاءٌ طغامٌ رذّال، وقد علمنا أنّک أبطأت عنه بالنصر، وأحببت له القتل لهذه المنزلة التی تطلب، وربّ مبتغٍ أمراً وطالبٍ له یحول الله دونه، وربّما أُوتی المتمنّی أُمنیته وربّما لم یؤتها، ووالله، ما لک فی واحدة منهما خیر، والله، لئن أخطأک ما ترجو إنّک لشرّ العرب حالاً، ولئن أصبت ما تتمنّاه لا تصیبه حتی تستحق صلی النار، فاتّقِ الله یا معاویة، ودع ما أنت علیه، ولا تنازع الأمر أهله»((2)).

ولم یدم الأمر طویلاً حتی التحق بصفوف الخوارج، وأصبح أحد زعمائها، وبعد استشهاد علی علیه السلام انشقّ عنهم والتحق بالحسن علیه السلام ، وهمّ باغتیاله إلاّ أنّه أخفق، وبعد وفاة الحسن علیه السلام ، أصبح من خصوم بنی أُمیّة وهو الذی کتب إلی الحسین علیه السلام یستحثّه علی القدوم إلی الکوفة؛ لإنقاذ الناس من جور یزید بن معاویة قائلاً: «قد أینعت الثمار،

ص: 128


1- ([1]) اُنظر: الیعقوبی، أحمد بن أبی یعقوب، تاریخ الیعقوبی: ج2، ص191. الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج3، ص274.
2- ([2]) ابن أبی الحدید، عبد الحمید، شرح نهج البلاغة: ج4، ص12 - 13. الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص6.

واخضرّ الجناب، وطمت الجمام، وأنت تقدم علی جندٍ لک مجندة، فأقبل»((1)).

ورغم أنّ شبث کان انتهازیاً عاریاً عن الإیمان، إلّا أنّ إرساله کتاباً إلی الحسین علیه السلام یدلّ علی تأییده للإطاحة بیزید وحکومته، وبالطبع فإنّ احتمال رکوب الموجة والتناغم مع الجو السائد فی الکوفة کان قائماً، وعلیه فإنّ نسبة الاجتهاد إلیه فی حادثة کربلاء نسبة غیر مفهومة وغیر مسموعة بالمرّة؛ ذلک أنّه لو کان من أهل النظر والاجتهاد، وأنّه عمل وفقاً لما تملیه علیه أُصوله الفکریة والاجتهادیة لنهض بوجه یزید وجهازه.

و بعد بسط عبید الله بن زیاد نفوذه علی الکوفة، ووصول الإمام علیه السلام إلی کربلاء، أرسل إلی شبث بن ربعی أن أقبل إلینا، وإنّا نرید أن نتوجّه بک إلی حرب الحسین علیه السلام ، فتمارض وأراد أن یعفیه، وکان ابن زیاد واقفاً علی سبب احترازه عن المشارکة فی الحرب، فأرسل له کتاباً، قال فیه: «أمّا بعدُ، فإنّ رسولی أخبرنی بتمارضک، وأخاف أن تکون من الذین «وَإِذَا لَقُوا الَّذِینَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَی شَیَاطِینِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَکُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ »((2))، إن کنت فی طاعتنا فأقبل إلینا مسرعاً»((3)).

فأقبل إلیه شبث بعد العشاء؛ لئلّا ینظر إلی وجهه فلا یری علیه أثر العلة، فلمّا دخل رحّب به وقرّب مجلسه، وقال: أحب أن تشخص إلی قتال هذا الرجل عوناً لابن سعد علیه، فقال: أفعل أیّها الأمیر.

وقد دلّت الشواهد التاریخیة علی أنّه ظلّ مخالفاً لقتال الحسین علیه السلام ، وکان یراه عملاً منکراً وشائناً لا یمکن تبریره بوجهٍ من الوجوه، فهو فی قبال کلام الحسین علیه السلام لمّا قال:

ص: 129


1- ([1]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص353. ابن الجوزی، عبد الرحمن بن علی، المنتظم فی تاریخ الملوک والأُمم: ج5، ص339.
2- ([2]) البقرة: آیة14.
3- ([3]) اُنظر: الدینوری، أحمد بن داوُد، الأخبار الطوال: ص254. المجلسی، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص386.

«یا شبث بن ربعی، ویا حجّار بن أبجر، ویا قیس بن الأشعث، ویا یزید بن الحارث، ألم تکتبوا إلی: أن قد أینعت الثمار واخضرّ الجناب..؟!»((1))، لم یجد بداً من الإنکار، إلّا أنّه بعد استشهاد مسلم بن عوسجة أحد أصحاب الحسین علیه السلام المخلصین والزاهدین تنادی أصحاب عمر بن سعد فرحین: قتلنا مسلم بن عوسجة، فلم یستطع کتم ما فی نفسه، فخاطبهم بقوله:

«ثکلتکم أُمّهاتکم، إنّما تقتلون أنفسکم بأیدیکم، وتذلّلون أنفسکم لغیرکم، تفرحون أن یُقتل مثل مسلم بن عوسجة، أما والذی أسلمتُ له، لربَّ موقف له قد رأیته فی المسلمین کریم، لقد رأیته یوم سلق أذربیجان قتل ستة من المشرکین قبل تتام خیول المسلمین، أفیُقتل منکم مثله وتفرحون؟!»((2)).

ولمّا هجم شمر علی خیام الحسین علیه السلام وهمّ بإضرام النار فیها منعه شبث، ولمّا شاهد عمر بن سعد مقاومة أصحاب الحسین علیه السلام قال لشبث: ألا تقدم إلیهم؟ فقال: سبحان الله، أتعمد إلی شیخ مصر وأهل مصر عامّة تبعثه فی الرماة، لم تجد من تندب لهذا ویجزی عنک غیری؟! قال: وما زالوا یرون من شبث الکراهة لقتاله((3)).

ولم یجد فی نفسه القوة علی التصریح بذلک وإعلان شجبه للحرب أو التخلّی عنها، وقد عبّر عن ذلک بکلمات متألمّة لمّا دالت دولة یزید وقُتل ابن زیاد «لا یعطی الله أهل هذا المصر خیراً أبداً، ولا یسددهم لرشدٍ، ألا تعجبون أنّا قاتلنا مع علی بن أبی طالب، ومع

ص: 130


1- ([1]) ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج2، ص566 - 567. الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص436 - 438.
2- ([2]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص425.البلاذری، أحمد بن یحیی، فتوح البلدان: ص891.
3- ([3]) ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج2، ص566 - 567. الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص436 - 438.

ابنه من بعده آل سفیان خمس سنین، ثمّ عدونا علی ابنه وهو خیر أهل الأرض نقاتله مع آل معاویة وابن سمیة الزانیة؟! ضلالٌ یا لک من ضلال»((1)).

أیّة کلمات أبلغ من هذه یمکن أن تُعبّر عن ندمه علی موقفه من الحسین، إذ لم یکتف بالتخلی عنه وعدم نصرته، وذهب إلی حدّ المشارکة بقتله، مع علمه أنّه خیر أهل الأرض، وأنّ عدوّه من نسل زانیة یعرفها کلّ العرب.

6 - الحصین بن نمیر التمیمی

لقد ورد ذکره علی الألسن فی حادثة کربلاء العظیمة، وکان له دورٌ کبیر فی بسط سلطة عبید الله بن زیاد علی الکوفة من جهة، وإلقاء القبض وتعذیب وإعدام شیعة الحسین علیه السلام من جهةٍ أُخری((2))، ولم یرد له ذکر فی التاریخ قبل عام (60ه-)، إلّا أنّ تعیینه من قبل عبید الله علی رأس جهاز أمن الکوفة فی ظروف حسّاسة تزامنت مع حضور مسلم بن عقیل فی الکوفة وتوجّه الحسین علیه السلام إلی العراق، یدلّ علی اعتماد الجهاز الأُموی - لا سیما عبید الله بن زیاد - علیه.

إضافةً إلی تولّی الحصین مهمّة استتباب أمن الکوفة کان قد وضع عیوناً ونقاط تفتیش علی أفواه السکک المنتهیة إلیها، وفی نقاط حسّاسة من الکوفة بهدف السیطرة علیها، کما أرسل الحر بن یزید الریاحی مع ألف فارس إلی الحسین علیه السلام لصدّه وأصحابه عن الدخول إلی الکوفة، وقد تمکّن من إلقاء القبض علی قیس بن مسهّر الصیداوی وعبد الله بن یقطر رسل الحسین علیه السلام ، الذین استشهدوا بعد أسرهم وتعذیبهم، کما

ص: 131


1- ([1]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج3، ص325.
2- ([2]) اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص394، وص401. ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج5، ص59، وص92، وص99.

تمکّن من إلقاء القبض علی رهط من أهل الکوفة خرجوا لنصرة الحسین علیه السلام أو للهرب من الانخراط فی صفوف المعسکر الأُموی، وبعد أن انقادت الکوفة لعبید الله بن زیاد، قاد أربعة آلاف فارس لدعم عمر بن سعد فی کربلاء، وهناک تسلّم قیادة شرطة المجفّفة((1)).

وکان الحصین ناصبیاً یُکنّ العداء لأهل البیت علیهم السلام ، حیث ارتکب جرائم لا تُحصی فی عاشوراء، منها: حال دون شرب الحسین علیه السلام للماء لما اشتدّ عطشه، إذ رماه الحصین بسهمٍ فوقع فی فمه، فجعل یتلقّی الدم من فمه ویرمی به، ثمّ جعل یقول: «اللهم أحصِهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تذر علی الأرض منهم أحداً»((2))، وقتل من أصحاب الحسین علیه السلام الأوفیاء النجباء حبیب بن مظاهر ولم یکتفِ بذلک، بل قطع رأسه وعلّقه علی فرسه ودار به فی المعسکر، ثمّ أرسله مع بدیل بن صریم التمیمی إلی عبید الله بن زیاد لینال العطاء((3)).

ویظهر من هذا السجل الأسود للحصین بن نمیر أنّه لم یدَّعِ هو ولا غیره قطّ بأنّ له مکانةً علمیة وفقهیة، بل کان مجرد قائد غیر معروف حاز علی اعتماد عبید الله بن زیاد وآل أُمیّة فکان له دورٌ مهم فی کربلاء خصوصاً فی قتل العترة الطاهرة یومئذٍ، وکان مجرماً غادراً قاتلاً متمادیاً فی غیّه، وقد ورد ذکره فی کربلاء، لمّا قال أبو ثمامة الصائدی للحسین علیه السلام وقد حضر وقت صلاة الظهر: «یا أبا عبد الله، نفسی لنفسک الفداء، هؤلاء

ص: 132


1- ([1]) اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص437. ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج5، ص99.
2- ([2]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص449. البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج3، ص407.
3- ([3]) اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص440. ابن شهر آشوب، محمد بن علی، مناقب آل أبی طالب: ج4، ص103.

اقتربوا منک، ولا والله لا تقتل حتی أُقتل دونک، وأحبّ أن ألقی الله ربّی وقد صلّیت هذه الصلاة، فرفع الحسین علیه السلام رأسه إلی السماء، وقال: ذکرت الصلاة، جعلک الله من المصلِّین الذاکرین، نعم هذا أوّل وقتها، ثمّ قال: سلوهم أن یکفوا عنّا حتی نصلّی، ففعلوا، فقال لهم الحصین بن نمیر: إنّها لا تقبل، فقال له حبیب بن مظاهر: زعمت لا تقبل الصلاة من آل رسول الله صلی الله علیه و آله وأنصارهم وتقبل منک یا حمار»((1)).

وقد ظلّ وفیاً لیزید بعد حادثة عاشوراء، وشارک فی فاجعة الحرّة وقتل أهل المدینة، وقاد حملة یزید إلی مکة بعد هلاک مسلم بن عقبة((2)).

کما أنّه حاصر عبد الله بن الزبیر (64یوماً)، وفی الثالث من ربیع الأوّل عام (64ه-)، أحرق أستار الکعبة وهتک حرمتها((3))، ولمّا بلغه نبأ هلاک یزید، عرض علی ابن الزبیر المصالحة وأن یبایعه، وقال له - بعد أن انفردا عن أصحابهما -: «أنا سیّد أهل الشام لا أدافع، وأری أهل الحجاز قد رضوا بک، فتعال أبایعک الساعة، ویهدر کلّ شیء أصبناه یوم الحرة، وتخرج معی إلی الشام فإنّی لا أُحبّ أن یکون الملک بالحجاز، فقال: لا والله، لا أفعل ولا آمن من أخاف الناس وأحرق بیت الله وانتهک حرمته، قال: بل فافعل علی أن لا یختلف علیک اثنان، فأبی ابن الزبیر، فقال له الحصین: لعنک الله، ولعن مَن زعم أنّک سیّد»((4))، أراد التصالح مع ابن الزبیر ومدّ ید البیعة له، إلّا أنّ محاولته باءت بالفشل لسوء ظنّ ابن الزبیر به.

ص: 133


1- ([1]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص440. ابن شهر آشوب، محمد بن علی، مناقب آل أبی طالب: ج4، ص103.
2- ([2]) اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص496.
3- ([3]) اُنظر: المصدر السابق: ص298.
4- ([4]) ابن عبد ربه الأندلسی، أحمد بن محمد، العقد الفرید: ج5، ص142. الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج3، ص263.

ولمّا قصد ابن النمیر الشام ذکر تفاصیل ما جری بینه وبین ابن الزبیر إلی مروان بن الحکم، فقرّر الذهاب إلی مکة لمبایعته، إلّا أنّ ابن زیاد رفض ذلک مقترحاً عقد الخلافة لمروان، وأوّل مَن بایع هو ابن النمیر، وشرط علیه إعطاء ناحیة البلقاء فی الشام لبنی کندة، فوافق مروان((1)).

وقد أمره ابن زیاد بإخماد حرکة التوابین، وجعله علی رأس جیش قوامه (12ألف) مقاتل، خلال المعرکة قتل ابن الحصین سلیمان بن صرد، وبعد انتهاء المعرکة مع التوابین، لم یترک الوقوف مع بنی أُمیّة ومشارکتهم، فشارک مع ابن زیاد فی قتال المختار، حیث جعله علی میمنة جیشه، وقتل علی ید فرسان الکوفة((2)).

7- شریح القاضی

اشارة

شریح القاضی أحد القضاة المعروفین فی القرن الأوّل من تاریخ الإسلام، وقد وُلِد نحو عام (17قبل البعثة) فی الیمن وعُدّ من کبار التابعین ولیس له صحبة((3))، ممّا یدلّ علی أنّه لم یعتنق الإسلام فی حیاة النبی صلی الله علیه و آله ولم یلتقِ به، رغم أنّ بعض الروایات أشارت إلی صحبته((4)).

اشتغل بالحدیث والسیرة فی عهد أبی بکر، عیّنه عمر قاضیاً علی الکوفة، ومنذ ذاک الوقت مارس القضاء واحتفظ بمقامه فی عهد عثمان حتی حکومة علی علیه السلام ، فقد عیّن مکانه سعید بن نمران الهمدانی ثمّ عبیدة السلمانی، وسرعان ما لبث أن عاد إلی

ص: 134


1- ([1]) اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص501، وص534، وص544.
2- ([2]) اُنظر: المصدر السابق: ج6، ص89.
3- ([3]) اُنظر: ابن عبد البر، یوسف، الاستیعاب فی معرفة الأصحاب: ج2، ص701. ابن خلکان، أحمد بن محمد، وفیات الأعیان: ج2، ص460 - 463.
4- ([4]) اُنظر: ابن حجر العسقلانی، أحمد بن علی، الإصابة فی تمییز الصحابة: ج3، ص334 - 336.

منصبه((1))، وقد ورد أنّ شریحاً استُقضی بعد أبی قرّة الکندی فقضی سبعاً وخمسین سنة((2)).

وظلّ فی هذا المنصب حتی أخرجه زیاد بن أبیه من الکوفة إلی البصرة ومکث فیها قاضیاً مدّة وجیزة حتی عاد إلی الکوفة، وکان شریح یفتی بین الناس، فقد ورد فی بعض المصادر: «رأیت شریحاً یقضی ویفتی»((3)). وکان حائزاً علی الشروط العلمیة اللازمة للإفتاء والاستنباط فی الظاهر؛ ذلک لأنّ تضلعه فی أمر القضاء وتجربته الطویلة کانت کفیلة بتجاوز أیّة معضلة علمیة أو قضائیة أو فقهیة.

ولمّا توجّه علی علیه السلام إلی قتال معاویة افتقد درعاً له، فلمّا رجع وجدها فی ید یهودی یبیعها بسوق الکوفة، فقال: یا یهودی، الدرع درعی لم أهب ولم أبِع، فقال الیهودی: درعی وفی یدی، فقال علیه السلام : بینی وبینک القاضی، قال: فأتیانی، فقعد علی إلی جنب شریح والیهودی بین یدی شریح، ثمّ قال علیه السلام : هذه الدرع درعی لم أبع ولم أهب، فقال للیهودی: ما تقول؟ قال: درعی وفی یدی، قال شریح: یا أمیر المؤمنین، هل من بینة؟ قال: نعم، الحسن ابنی وقنبر یشهدان أنّ الدرع درعی، قال شریح: یا أمیر المؤمنین، شهادة الابن للأب لا تجوز، وشهادة العبد لا تجوز لسیّده، وأنّهما یجرّان إلیک، فقال علی: سبحان الله! أرجلٌ من أهل الجنة لا تجوز شهادته؟! سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله یقول: الحسن والحسین سیّدا شباب أهل الجنة.

فقال أمیر المؤمنین علیه السلام : ویلک یا شریح أخطأت من وجوه:

أمّا واحدة: فأنا إمامک تُدین الله بطاعتی وتعلم أنّی لا أقول باطلاً، فرددت قولی وأبطلت دعوای، ثمّ سألتنی البینة فشهد عبدٌ وأحد سیّدی شباب أهل الجنة فرددت

ص: 135


1- ([1]) اُنظر: ابن أبی الحدید، عبد الحمید، شرح نهج البلاغة: ج14، ص15 - 16.
2- ([2]) اُنظر: وکیع، محمد بن خلف، أخبار القضاة: ج2، ص397.
3- ([3]) المصدر السابق: ص293.

شهادتهما، ثمّ ادّعیت علیهما أنّهما یجرّان إلی أنفسهما، أما إنّی لا أری عقوبتک إلّا أن تقضی بین الیهود ثلاثة أیّام، أخرجوه. فأخرجه إلی قبا، فقضی بین الیهود ثلاثاً، ثمّ انصرف. فلمّا سمع الیهودی ذلک، قال: هذا أمیر المؤمنین جاء إلی الحاکم والحاکم حکم علیه، فأسلم، ثمّ قال: الدرع درعک، سقطت یوم صفین من جمل أورق فأخذتها((1)).

شریح وفتوی قتل الحسین علیه السلام

إنّ من الخصوصیات التی امتاز بها شریح، هی شائعة فتواه بجواز قتل الحسین علیه السلام ، فقد قِیل: إنّه أصدر فتوی بجواز قتله علیه السلام ، وأنّ الإمام علیه السلام استشهد بهذه الفتوی المشؤومة، بینما نجد أنّ منفّذی تلک الجریمة لم یصدر عنهم هکذا إشاعات.

إشاعات لا أصل لها

قبل التطرّق إلی البحث نجد من الضروری بیان هذه النقطة، وهی أنّه من السهل - بناءً علی التقاریر التاریخیة - قبول اجتهاد شریح فی القضایا الإسلامیة، إلّا أنّه لا یمکن تبریر افتقاده لملکة العدالة وحبّه المفرط للمال والجاه، وذلک من خلال خضوعه لخلفاء الجور، وممارسته الطویلة للقضاء فی ظلّهم، کلّ ذلک یدلّ علی انتهازیته وتحفّظه، فهو منذ أن استعمله عمر الخلیفة الثانی علی القضاء بالکوفة لم یزل قاضیاً لم یتعطّل فیها إلّا ثلاث سنین فی عهد ابن الزبیر((2))، فموقفه الخائن تجاه حجر بن عدی وکذبه وزیفه فی عدم کشف حقیقة ما یمرّ به هانی بن عروة فی سجن ابن زیاد((3))، الذی أدّی إلی مقتله،

ص: 136


1- ([1]) ابن عساکر، علی بن الحسن، تاریخ مدینة دمشق: ج42، ص487.
2- ([2]) اُنظر: ابن عبد البر، یوسف، الاستیعاب فی معرفة الأصحاب: ج2، ص701. الصفدی، خلیل بن أیبک، الوافی بالوفیات: ج16، ص140 - 142.
3- ([3]) اُنظر: ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج6، ص855. المسعودی، علی بن الحسین، مروج الذهب ومعادن الجوهر: ج2، ص61.

وموارد أُخری کلّها تثیر تساؤلات حول عدالته((1)).

إنّ فتوی جواز قتل الإمام علیه السلام وإن اشتهرت بین عامّة الناس، إلّا أنّه من خلال مراجعة التقاریر التاریخیة والمصادر الرجالیة نصل إلی هذه النتیجة، وهی أنّ هذا الأمر من الأخطاء المشهورة التی لا یعضدها دلیل تاریخی أو روائی، ولم تُشِر إلیه المصادر التاریخیة التی بین أیدینا، بل إنّ القرائن والشواهد تحکی عن إنکار صدور أیّ فتوی من طرف شریح حول جواز قتل الحسین علیه السلام أو دعم یزید فی هذه الجریمة المروعة:

1- إنّ المختار الثقفی قام عام (65ه-) للأخذ بثأر الحسین علیه السلام وتمکّن من الاستیلاء علی الکوفة بدعم الشیعة والمطالبین بدم الحسین علیه السلام ، وقد تصدّی لمنصب القضاء بدایة((2))، ولکن سرعان ما أوکل هذه المهمّة لأتباعه نظراً لکثرة مهامّه السیاسیة والعسکریة، حیث أشار إلیهم باختیار رجلٍ کفوء لهذا المقام فاقترحوا علیه شریحاً((3)).

هذا الاقتراح أثار سخط شیعة الکوفة المندفعین، ولکن علی أیّة حال یدلّ بوضوح علی عدم صدور فتوی منه، وإلّا کیف یجیز لشریح التصدّی لمنصب القضاء فی الکوفة وهو الذی قام من أجل الثأر للحسین علیه السلام ، ولخّص أهدافه ومشروعیة حکومته فی الکوفة بأخذ القصاص من قتلة الحسین علیه السلام ؟! وکیف اقترح أتباعه علیه ذلک؟!

إنّ موقف المختار تجاه عبید الله بن زیاد وعمر بن سعد وشمر بن ذی الجوشن وسائر عمّال یزید فی حادثة کربلاء کلّها تؤیّد هذا الأمر، فقد کان موقف المختار مبدئیاً صلباً ومتشدّداً، وقد قتل کلّ مَن شارک فی هذه الجریمة، حتی رُوی أنّ شمر بن ذی الجوشن

ص: 137


1- ([1]) اُنظر: ابن خلکان، أحمد بن محمد، وفیات الأعیان: ج2، ص460 - 463. ابن أبی الحدید، عبد الحمید، شرح نهج البلاغة: ج4، ص98.
2- ([2]) اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص947.
3- ([3]) اُنظر: ابن أبی الحدید، عبد الحمید، شرح نهج البلاغة: ج4، ص98. الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص34. المنقری، نصر بن مزاحم، الغارات: ج2، ص947.

عندما نهب الإبل التی کانت مع الحسین علیه السلام وقدم الکوفة نحرها وقسّم لحمها علی قومٍ من أهل الکوفة، فأمر المختار فأحصوا کلّ دارٍ دخلها ذلک اللحم فقتل أهلها وهدمها، وهذا دلیلٌ آخر علی تصمیم المختار الراسخ علی عدم مهادنة قتلة الحسین علیه السلام ((1)).

2- لمّا أقام المختار شریحاً للقضاء اعترض علیه شیعة الکوفة، وکانوا یقولون: إنّه عثمانی، وأنّه ممَّن شهد علی حجر بن عدی، وأنّه لم یبلغ عن هانی بن عروة ما أرسله به، وأنّ علیاً علیه السلام عزله عن القضاء، ولم یصدر منهم أیّ إشارة إلی أنّه أفتی بجواز قتل الإمام علیه السلام ، ولمّا أراد المختار عزله تمارض، فعزله وجعل مکانه غیره((2)).

3- بعد هذا الاعتراض عزل المختار شریحاً عن القضاء، وعیّن محلّه عبد الله بن مالک الطائی، ثمّ أصرّ علی کشف حقیقة نفی الإمام علی علیه السلام له، وبعد التحقیق علِم أنّ شریحاً ارتکب خطأً فی قضائه ممّا أثار حفیظة الإمام علی علیه السلام ، وأقسم علی نفیه من الکوفة، إلّا أنّه سرعان ما عاد بعد استشهاد الإمام علیه السلام ولم یُکمل مدّة نفیه، فدعاه المختار، وقال: ما قال لک أمیر المؤمنین علیه السلام یوم کذا؟ قال: إنّه قال لی کذا، قال: فلا والله، لا تقعد حتی تخرج إلی بانقیا تقضی بین الیهود، فسیّره إلیها فقضی بین الیهود شهرین((3)).

وممّا یجدر ذکره أنّ شریحاً ضُیّق علیه من قبل خلفاء زمانه وخضع لهم بشدّة، ولو أخذنا بعین الاعتبار حالة الناس ووضع عمّال یزید وشخصیة یزید نفسه، تجد أنّ صدور فتوی من شریح لن تُضفی غطاء شرعیاً لقتل الحسین علیه السلام .

ص: 138


1- ([1]) اُنظر: ابن أبی الحدید، عبد الحمید، شرح نهج البلاغة: ج4، ص 98. الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج6، ص34.
2- ([2]) ابن عساکر، علی بن الحسن، تاریخ مدینة دمشق: ج33، ص354. الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص510.
3- ([3]) المصدر السابق.

وبالتالی فلیس هناک مواجهة بین تیارین فی ساحة کربلاء؛ نظراً لغیاب العدالة والاستقامة اللازم توفرها لدی المفتی وعدم نفوذ کلمته وتأثیره.

الاستعفاء من القضاء وموته

بعد أن تقدّم به العمر طلب من الحجاج بن یوسف الثقفی الذی کان والیاً لعبد الملک بن مروان علی الکوفة، إعفاءه من العمل، فأعفاه ولزم داره إلی أن مات بعد ذلک بسنة فی مدینة الکوفة، وعمّر عمراً طویلاً، قیل: إنّه عمّر بین (100سنة إلی 121) وتُوفّی فی سنة (99)((1)).

8- حرملة بن کاهل الأسدی

حرملة بن کاهل الأسدی، صاحب السجل الأسود فی تاریخ کربلاء، حیث کان له دورٌ مباشر فی قتل أبناء النبی صلی الله علیه و آله واضطهادهم((2))، وما ذکر اسمه وأمثاله هنا إلّا لما اقترفه من جرائم لا حصر لها فی کربلاء، لا أنّه شخصیة ذات مکانة علمیة ومعنویة وأخلاقیة، وبالتأکید فإنّ ادّعاء وجود نوعین من الاجتهاد فی کربلاء یلزم عقد بحث لبیان قدرته العلمیة واجتهاده؛ لأنّه أحد أُمراء جند یزید.

لم یرد له ذکر فی التاریخ قبل حادثة کربلاء، من هنا لم یُعلم متی أسلم وکیف؟ وعلی هذا الأساس، لا یمکن أن یُتصور له دافع سوی حبّ المال والجاه والتزّلف لأصحاب السلطة، إلی جانب أنّه لا یمکن التغاضی عن نزعته القبلیة فی الإغارة والسلب والنهب.

ص: 139


1- ([1]) اُنظر: ابن خلکان، أحمد بن محمد، وفیات الأعیان: ج2، ص436.
2- ([2]) اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج3، ص343. ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج2، ص581.

وقد اشتهر بالقسوة والشدّة، حیث ولج فی وادی الجریمة بنحوٍ لم یدَع فیه مجالاً للدفاع عنه أو تبریر ما اقترفه، وهذا بحدِّ ذاته یُعتبر من الأدلّة الساطعة والقاطعة علی أنّ ساحة کربلاء کانت جدالاً بین الحقّ والباطل، والإسلام والکفر، والدین والإلحاد، کیف یمکن توجیه جرائمه لمَن ادّعی أنّ ثورة کربلاء هی مواجهة بین تیارین إسلامیین واجتهادین، وأنّ الحسین علیه السلام قُتل بسیف جدّه؟!

وکما أسلفنا، فإنّه أطلّ علی التاریخ عبر بوابة عاشوراء، وتناقلت الألسن ذکره لما اقترف من جرائم بشعة، حتی أنّ الإمام السجاد علیه السلام دعا علیه غیر مرّة، قائلاً: «اللّهم أذِقه حرّ الحدید، اللّهم أذِقه حرّ الحدید، اللّهم أذِقه حرّ الحدید، اللّهم أذِقه حرّ النار»، ولعلّ أوّل مرّة یُذکر فیها اسمه فی کربلاء تعود إلی قتله أبی بکر بن الحسن بن علی بن أبی طالب علیه السلام .

قال ابن الجوزی فی تذکرة الخواص: «قُتل أبو بکر بن الحسن فی کربلاء، وأُمّه أُمّ ولد، قتله حرملة بن کاهل الأسدی لمّا رماه بسهم»((1)).

کما ذهب إلی ذلک القاضی نعمان المغربی، رغم اعتقاده أنّ أبا بکر نجل الحسین علیه السلام ((2)).

وثمّة غلامٌ آخر قُتل علی ید حرملة کما أشارت إلیه بعض الروایات، وهو عبد الله بن الحسن علیه السلام ، فعندما أحاط الأعداء بالحسین علیه السلام خرج عبد الله بن الحسن بن علی

- وهو غلامٌ لم یُراهق - من عند النساء، فلحقته زینب بنت علی علیه السلام لتحبسه، فأبی فامتنع امتناعاً شدیداً، فقال: لا والله، لا أُفارق عمی، فأهوی بحر بن کعب، وقیل: حرملة بن کاهل إلی الحسین بالسیف، فقال له الغلام: ویلک یا بن الخبیثة، أتقتل

ص: 140


1- ([1]) سبط ابن الجوزی، یوسف بن فرغلی، تذکرة الخواص: ص178.
2- ([2]) اُنظر: القاضی المغربی، النعمان بن محمد، شرح الأخبار: ج3، ص178.

عمی؟! فضربه بالسیف، فاتقی الغلام الضربة بیده، فأطنّها إلی الجلدة فإذا هی معلّقة، فنادی الغلام: یا أُمّاه، فأخذه الحسین علیه السلام وضمّه إلیه، وقال: یا بن أخی، اصبر علی ما نزل بک، واحتسب فی ذلک الخیر، فإنّ الله یُلحقک بآبائک الصالحین، برسول الله صلی الله علیه و آله ، وعلی بن أبی طالب، وحمزة، وجعفر، والحسن بن علی أجمعین. قال: فرماه حرملة بن کاهل بسهم، فذبحه وهو فی حجر عمّه الحسین علیه السلام ((1)).

إنّ من الجنایات المروعة لحرملة هو قتل علی الأصغر الطفل الرضیع للحسین علیه السلام ، إذ لمّا فُجع الحسین علیه السلام بأهل بیته وولده ولم یبقَ غیره وغیر النساء والذراری، نادی: هل من ذابٍّ یذبّ عن حرم رسول الله؟ هل من موحّد یخاف الله فینا؟ هل من مغیثٍ یرجو الله فی إغاثتنا؟ وارتفعت أصوات النساء بالعویل، فتقدّم علیه السلام إلی باب الخیمة، فقال: ناولونی علیاً ابنی الطفل حتی أودّعه فناولوه الصبی، فجعل یقبّله، وهو یقول: ویلٌ لهؤلاء القوم إذا کان جدّک محمد المصطفی خصمهم، والصبی فی حجره، إذ رماه حرملة بن کاهل الأسدی بسهمٍ فذبحه فی حجر الحسین، فتلقی الحسین دمه حتی امتلأت کفّه، ثمّ رمی به إلی السماء، ثمّ قال: هوّن علی ما نزل بی أنّه بعین الله، فلم یسقط من ذلک الدم قطرةٌ إلی الأرض((2)).

ومن جنایاته فی کربلاء بحسب بعض المصادر أنّه شارک مع مجموعة من الجیش فی قتل العباس بن علی بن أبی طالب علیه السلام ، وإن کان أکثر المؤرِّخین یرون أنّ قاتل أبی الفضل العباس حکیم بن نخیل ومرافقوه، ولعلّ حرملة کان واحداً منهم، وله نصیبٌ فی هذه الجریمة، وفی النهایة کان هلاکه علی ید المختار سنة (65ه-) ((3)).

ص: 141


1- ([1]) اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص344.
2- ([2]) اُنظر: المجلسی، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص46.
3- ([3]) اُنظر: البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج3، ص201.

9- خولی بن یزید الأصبحی

اشارة

علی غرار سائر زعماء الکوفة کان له سهمٌ فی فجائع کربلاء، ولم یرِد له ذکرٌ قبل حادثة عاشوراء کما لم یضبط اسمه فی المصادر الرجالیة، لذا فیمکن القول بضرسٍ قاطع أنّه لم یکن من أصحاب الفتیا، ولم یمتلک أدنی معرفة بنقل الحدیث والسیرة، بل والمسائل العسکریة والسیاسیة.

وقد ارتکب عدّة جرائم فی کربلاء، منها قتل عثمان بن علی بن أبی طالب علیه السلام لما خرج وأُمّه أُمّ البنین بنت حزام بن خالد، وهو یقول:

«إنّی أنا عثمان ذو المفاخر

شیخی علی ذو

الفعال الظاهر

وابن عمّ

للنبی الطاهر

أخی حسین خیرة

الأخایر

وسیّد الکبار

والأصاغر

بعد الرسول

والوصی الناصر

فرماه خولی بن یزید علی جبینه فسقط عن فرسه، وحزّ رأسه رجلٌ من بنی أبان بن حازم»((1)).

ثمّ برز بعده جعفر بن علی وأُمّه أُمّ البنین، وهویقول:

«إنّی أنا جعفر ذو المعالی

ابن علی الخیر

ذو النوال

حسبی بعمّی

شرفاً وخالی

أحمی حسیناً ذی

الندی المفضال

ثمّ قاتل فرماه خولی فأصاب شقیقته أو عینه»((2)).

حمل رأس سیّد الشهداء علیه السلام إلی الکوفة

کان خولی ممَّن حمل علی خیام الإمام الحسین علیه السلام قبل استشهاده، وقد دعا علیه

ص: 142


1- ([1]) المجلسی، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص37.
2- ([2]) المصدر السابق: ص38.

الإمام علیه السلام ((1))، وقد نسبت إلیه بعض الروایات حزّ الرأس المبارک للإمام علیه السلام ((2))، إلّا أنّ القول المعتبر هو نسبة ذلک إلی شمر بن ذی الجوشن أو سنان((3)).

ورفع خولی الرأس المبارک علی الرمح، وتوجّه إلی الکوفة عصر عاشوراء حتی یصل إلی عبید الله بن زیاد قبل الآخرین، ویحصل علی جائزته، فأقبل به لیلاً فوجد باب القصر مغلقاً، فأتی به منزله فوضعه تحت إجانةٍ فی منزله، وکان فی منزله امرأةٌ یُقال لها: النوار بنت مالک الحضرمی، فقالت له: ما الخبر؟ قال: جئت بغنی الدهر، هذا رأس الحسین معک فی الدار، فقالت: ویلک! جاء الناس بالذهب والفضة وجئت برأس ابن بنت رسول الله؟! والله، لایجمع رأسی ورأسک شیءٌ أبداً، قالت: فقمت من فراشی فخرجت إلی الدار، فدعا الأسدیة فأدخلها إلیه، وجلست أنظر، فوالله، مازلت أنظر إلی نورٍ یسطع مثل العمود من السماء إلی الإجانة، ورأیت طیراً بیضاء ترفرف حولها((4)).

وفی الیوم الحادی عشر من محرم سلّم خولی الرأس المقدّس إلی عبید الله، وأخیراً أُلقی القبض علی خولی عام (64 ه-) من قبل المختار، وقُتل شرّ قتلة.

خلاصة ما تقدّم

إنّ استعراض سیرة وخصوصیات قتلة الإمام الحسین علیه السلام ابتداءً من یزید وانتهاءً بعبید الله بن زیاد وعمر بن سعد وآخرین، تدلّ علی عدم تأهّلهم للاجتهاد والفتیا.

وعلی فرض تأهّل البعض منهم، فإنّ ذلک لا یدلّ علی حصول قناعةٍ لدیهم بقتال

ص: 143


1- ([1]) اُنظر: ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج2، ص571.
2- ([2]) اُنظر: الإربلی، علی بن أبی الفتح، کشف الغمّة فی معرفة الأئمّة: ج2، ص262.
3- ([3]) اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج3، ص333 - 335. ابن کثیر، إسماعیل بن عمر، البدایة والنهایة: ج8، ص300. ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج2، ص572، وج3، ص628.
4- ([4]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج3، ص335 - 336.

الإمام الحسین علیه السلام ، ویرشدک إلی ذلک سیر الأحداث السیاسیة، ومواقف عمر بن سعد وشبث بن ربعی وشمر بن ذی الجوشن وآخرین قبل واقعة کربلاء، فکان هدفهم من وراء ذلک الظفر بالمال والجاه، حتی أنّ البعض ذهب إلی أنّ مجرّد تصوّر قتال الإمام علیه السلام أمرٌ محال، إلّا أنّهم انجرّوا وراء ذلک، ولم یلتفتوا إلی عمق الجریمة إلّا بعد فوات الأوان، ولات حین مناص.

وبصورةٍ عامّة، انقسم أتباع یزید فی کربلاء إلی حزبین:

فالحزب الأوّل: یتشکّل من عمر بن سعد، وشبث بن ربعی، ومروان بن الحکم، وشریح القاضی، وآخرین، ورغم أنّهم لم یتمتّعوا بمکانة علمیة ودینیة رفیعة بشهادة التاریخ، کانت لدی بعضهم خلفیات دینیة واجتماعیة قبل أن تکون لدیهم خلفیات عسکریة، کداعیة للدین وقائد اجتماعی و..

هذا الحزب علی فرض إحرازه شروط الاجتهاد فی المسائل الدینیة العلمیة والعملیة، إلّا أنّه کان یرفض قتال الإمام الحسین علیه السلام ، ومع ذلک وبسبب الضغوط النفسیة والاجتماعیة والسیاسیة والاقتصادیة وأهمّ من کلّ ذلک حبّه للدنیا والمقام دفعه إلی جعل عقائده الدینیة وراء ظهره، وباع دینه بدنیاه.

أمّا الحزب الآخر: فیتشکّل من شمر بن ذی الجوشن، وخولی بن یزید، وحرملة بن کاهل، والحصین بن نمیر، وأمثالهم، حیث لم یحرزوا الشروط العلمیة والعملیة للاجتهاد، ولم یمتلکوا إیماناً راسخاً، ومواقف مبدئیة، بل کانوا شذاذ آفاق، همجٌ رعاع، متمرّسون علی القتل والتنکیل والغدر، ینعقون مع کلّ ناعق، ویتحینون الفرص لصید شهیٍّ یملأ جیوبهم، وبالفعل وجدوا تلک الفرصة سانحة فی کربلاء، فأفرطوا فی القتل، حتی لامهم وتبرّأ منهم یزید وبعض أفراد حکومته.

وبناءً علی ذلک، فادّعاء تصادم نمطین من الاجتهاد فی مجال الخلافة الإسلامیة

ص: 144

استناداً إلی حدیث النبی صلی الله علیه و آله فی ضرورة الحفاظ علی الوحدة الإسلامیة والخلافة الدینیة والاحتراز عن الخروج علیها، مجرد وهمٍ لا أساس له من الصحّة، لا تاریخیاً ولا علمیاً.

إنّ استعراض سیرة مناوئی ثورة کربلاء دلّ علی أنّهم لم یحرزوا الشروط اللازمة للاجتهاد والفتوی للتأهل لإبداء الرأی والفتوی بشأن قتل الحسین علیه السلام ، بل علی العکس ذهبوا إلی الاعتقاد بخروج من قاتل الحسین علیه السلام عن الدین والدخول فی نار جهنم.

شاهدان آخران
اشارة

رغم أنّ التأمّل فی سیرة وتقلّبات منفّذی فاجعة کربلاء یرشدنا إلی بطلان ادّعاء أتباع یزید فی اعتماد قتلة الحسین علیه السلام علی التأویل، ومن أجل إلقاء المزید من الأضواء علی ذلک، واستکمال المعطیات التاریخیة نستعرض شاهدین آخرین:

1 - الأحداث والاعترافات بعد عاشوراء
اشارة

لا شکّ أنّ امتثال التکلیف الشرعی لا یستتبع الندم فحسب، بل یستحقّ الشکر ویُرضی الوجدان، وفی الواقع فإنّ معرفة التکلیف من خلال الاستنباط والاجتهاد یعدّ خطوةً للقرب الإلهی والوجدانی ونیل السعادة.

شبهة بناء المسجد

لعلّ إقدام بعض قتلة الحسین علیه السلام علی بناء مسجد فی الکوفة کشبث بن ربعی، أو إعادة بنائه تبرّکاً لقتل الحسین علیه السلام یمکن أن یُتّخذ شاهداً للمدافعین عن یزید؛ ذلک لأنّ شبث قد بنی مسجداً فی الکوفة فی عهد أمیر المؤمنین علی علیه السلام ، وبعد قتل الحسین علیه السلام أعاد بناءه.

ولعلّ عمله هذا یفسّر بأنّ شبث ممَّن یهتمّ بالأُمور المعنویة والالتزام الدینی، وأنّ مشارکته فی کربلاء کانت من هذا المنطلق، ونتیجةً لاعتقاده وقناعاته هذه فقد جدّد بناء مسجده کتعبیر عن شکره لقتل الحسین علیه السلام ، والقیام بالواجب الإلهی ودفع أخطار

ص: 145

جسیمة کانت تهدّد خلافة یزید.

الإجابة

لا بدّ من القول عند الإجابة عن هذه الشبهة أنّ المزاج الروحی والنفسی لشبث علی أعتاب حادثة کربلاء یُوحی إلی عدم امتلاکه یقیناً بخطّ یزید وابن زیاد، بل لم یمتلک أدنی شک فی بطلانهما وأحقّیة نهضة الحسین علیه السلام ، من هنا ومع کلّ الإکراه والترغیب الذی مُورس فی حقّه لإرساله إلی کربلاء لم یکن متّزناً، ولم یکن یعتقد بقتال الحسین علیه السلام ، هذه الخصوصیة قد تجلّت للعیان فی مواطن مختلفة، وأدرکها جنود عمر بن سعد.

والمسجد الذی أعاد شبث بناءه بعد حادثة کربلاء - علی فرض صحّة الخبر - قد یدلّ علی تأنیب ضمیره وعذاب وجدانه من جهة، وخداع الناس ونفاقه الباطنی من جهةٍ أُخری، هذا المسجد قد تمّ بناؤه أثناء انتقال مرکز الخلافة من المدینة إلی الکوفة فی عهد خلافة أمیر المؤمنین علی علیه السلام ، الذی منع المسلمین من الصلاة فیه، وقد ورد عن الصادق علیه السلام أنّه قال: «إنّ أمیر المؤمنین علی علیه السلام نهی بالکوفة عن الصلاة فی خمسة مساجد: مسجد الأشعث بن قیس، ومسجد جریر بن عبد الله البجلی، ومسجد سماک بن مخرمة، ومسجد شبث بن ربعی، ومسجد التیم»((1)) ((2)).

ص: 146


1- ([1]) الکلینی، محمد بن یعقوب، الکافی: ج3، ص490.
2- (2) لا یُقال: هذه المساجد قد أُحدثت بعد أمیر المؤمنین علیه السلام ، کما یُشعر به خبر عبیس عن سالم عن أبی جعفر علیه السلام أنّه قال: «جُدّدت أربعة مساجد بالکوفة فرحاً لقتل الحسین علیه السلام : مسجد الأشعث، ومسجد جریر، ومسجد سماک، ومسجد شبث بن ربعی»، من أنّ بناءها إنّما یکون فرحاً بقتل الحسین علیه السلام ، فکیف یستقیم نهیه عن الصلاة فیها؟ لأنّا نقول: تجدیدها وترمیمها إنّما کان فرحاً بقتله، کما یدلّ علیه قوله فی الخبر المتقدّم؛ فتکون قدیمة موجودة فی عصر أمیر المؤمنین علیه السلام ، ویُمکن أن یُقال: إنّه نهی عن الصلاة فیها بعد ما أُحدثت، فیکون هذا من جملة إخباره علیه السلام بالأُمور الغیبیة، وأمثال هذا قد صدرت عنه کثیراً. (المترجم)

یدلّ استعراض سیرة أصحاب تلک المساجد الخمسة علی تبنّیهم النفاق، وأنّ أهدافهم من وراء بنائها هو القضاء علی الإسلام، وطمس قیمه العالیة بسلاح الدین وآلیاته، کالمساجد وغیرها، وإذا اعتبرنا بناء المساجد علامة فارقة علی الاختلاف الفکری والاجتهادی، فهذا یعود إلی الثنائیة العقدیة التی کانت سائدة قبل حادثة عاشوراء، فقد ذهب تیار إلی الإیمان بالإسلام کدین إلهی منقذ فی مقابل تیارٍ آخر دعا إلی استغلاله للوصول إلی مآربه الشخصیة، والدنیویة، والقومیة، والطائفیة.

ندم رموز الجریمة فی کربلاء

إنّ ندم منفّذی جریمة کربلاء من الأُمور الجدیرة بالمطالعة، فقد ورد ندم یزید وأتباعه علی ما ارتکبوه من جرائم فی کربلاء صریحاً فی التاریخ، ولم ینکر ذلک أحد وقد اعترف بذلک أتباع یزید، ولکن النکتة الجدیرة بالاهتمام هی أنّ الذین عجزوا عن تبریر جرائم حزب یزید حاولوا إلقاء هذه الفکرة، وهی أنّ یزید وبعض عمّاله لا سهم لهم فی تلک الجرائم، ولم یکونوا راضین بها، وإنّما أقدم علیها مجموعة من الجناة العتاة الذین لاینصاعون لأحد، ولا یأتمرون بأمر.

ومَن له أدنی إلمام بالتاریخ، یعلم بوضوح أنّ أُسلوب التنصّل من تهمة قتل الحسین علیه السلام ، وإلقاء تبعاته علی الآخرین هو أُسلوب متّبع معروف بین أصحاب السیاسة، وقد اتّبع یزید هذا الأُسلوب وکیف لا، وهو ابن معاویة وحفید أبی سفیان اللذان اشتهرا بالمکر والخداع، فقد أظهر أسفه وندمه خشیةً من الرأی العام، وعلی فرض صدق هذا الندم، فإنّ هذا شاهد صدق لما ندّعیه، وهو أنّ ما قام به لو کان بداعی أداء التکلیف لما استتبع ذلک الندم.

ومهما یکن من أمر، فسوف نستعرض فی الفصل الرابع سهم یزید فی تلک الحادثة المروّعة، استناداً إلی الوثائق والشواهد التاریخیة المعتبرة لدی أهل السنة، وهنا سوف

ص: 147

نسرد بنحوٍ موجز کلمات تدلّ علی ندم أعوان یزید ممّا اقترفوه، لکی یتّضح أنّ أعداء الإمام الحسین علیه السلام لم ینطلقوا من خلفیة إسلامیة وأُسس دینیة، بل انطلقوا من مآرب دنیویة مع انکشاف أحقّیة الحسین علیه السلام لدیهم کانکشاف الشمس فی رابعة النهار.

ندم یزید

بعد شهادة الإمام الحسین علیه السلام وأصحابه، ولمّا دخل أهل بیت الإمام علیه السلام ومعهم تلک الرؤوس الزاهرة إلی مجلس یزید - استناداً إلی نقل أهل السنة - الذی سرّ بقتلهم أوّلاً وحسنت بذلک منزلة عبید الله عنده، وأساء إلی رأس الإمام علیه السلام ، وصار ینکته بعصا، ولمّا بدأت الحقائق المتعلّقة بالشهداء والسبایا تتکشّف لأهل الشام وغیرهم، وصارت سیاسة یزید وعمّاله علی المحک، ندم یزید علی قتل الحسین علیه السلام ، وأظهر ذلک قائلاً: «أقسمت بالله، لو أنّ بین ابن زیاد وبین حسین قرابة ما أقدم علیه، ولکن فرّقت بینه وبینه سمیة»((1)).

وکان یقول: «ما کان علی لو احتملت الأذی وأنزلته معی فی داری، وحکّمته فیما یرید، وإن کان علی فی ذلک وکف ووهن فی سلطانی، حفظاً لرسول الله ( صلّی الله علیه وسلّم) ورعایة لحقه وقرابته، لعن الله ابن مرجانة فإنّه أخرجه واضطره، وقد کان سأله أن یخلی سبیله ویرجع فلم یفعل، أو یضع یده فی یدی أو یلحق بثغر من ثغور المسلمین حتی یتوفاه الله عز وجل فلم یفعل، فأبی ذلک ورده علیه وقتله، فبغّضنی بقتله إلی المسلمین، وزرع لی فی قلوبهم العداوة، فبغّضنی البر والفاجر بما استعظم الناس من قتلی حسیناً، ما لی ولابن مرجانة لعنه الله وغضب علیه»((2)).

ص: 148


1- ([1]) ابن سعد، محمد، ترجمة الإمام الحسین علیه السلام : ص 83.
2- ([2]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج3، ص365.

وعندما أُحضرت الرؤوس برفقة الإمام علی بن الحسین علیه السلام والسبایا أمام یزید توجّه بخطابه إلی زین العابدین علیه السلام قائلاً: «لعن الله ابن مرجانة، أما والله، لو أنّی صاحبه ما سألنی خصلةً إلّا أعطیتها إیّاه، ولدفعت الحتف عنه بکلّ ما استطعت، ولو بهلاک بعض وِلْدی، ولکن الله قضی ما رأیت»((1)).

وهنا یحاول ردّ الأمر إلی الله، وکأنّ یزید کان مسیّراً بإرادة إلهیة مباشرة، وهذا مذهب استحدثه معاویة وشجّع علیه، طالما أنّ من شأنه تثبیت حکمه ودولته، وإخضاع الناس لما زعم أنّ الله قرّره وقدّره.

یروی أنّ یزید دمعت عیناه لمّا حمل إلیه رأس الحسین، وقال لحامله: لقد کنت أرضی من طاعتکم بدون قتل الحسین، لعن الله ابن مرجانة، أما والله، لو أنّی صاحبه لعفوت عنه، فرحم الله الحسین، أما والله یا حسین، لو أنا صاحبک ما قتلتک. ثمّ دعا بعلی بن الحسین ونسائه، فأدخلوه علیه وعنده أشراف الشام، فقال لعلی: أبوک الذی قطع رحمی وجهل حقّی ونازعنی سلطانی فصنع الله به ما قد رأیت.

ثمّ أمر بإنزالهم فی داره، وأمر لهم بما یصلحهم، وکان لا یتغدّی ولا یتعشّی إلّا علیّ معه، ثمّ أمر النعمان بن بشیر أن یجهّزهم بما یصلحهم، ویسیّرهم إلی المدینة مع أُناس صالحین، ولمّا أرادوا الخروج دعا علیاً فودّعه وقال له: لعن الله ابن مرجانة، أما والله لو أنّی صاحبه ما سألنی خصلةً إلّا أعطیتها إیّاه، ولدفعت عنه الحتف بکلّ ما استطعت، ولکنّ الله قضی ما رأیت، فکاتِبْنی وأنه إلی کلّ حاجةٍ تکون لک((2)).

ویروی ابن قتیبة أنّه لمّا أدخلوا علیه رأس الحسین وأهله، بکی حتی کادت نفسه تفیض، وبکی معه أهل الشام حتی عَلَت أصواتهم((3)).

ص: 149


1- ([1]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ص339.
2- ([2]) اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأمم والملوک: ج4، ص352 - 354.
3- ([3]) ابن قتیبة الدینوری، عبد الله بن مسلم، الإمامة والسیاسة: ج2، ص13.
عذاب وجدان أُسرة زیاد

ابن زیاد وبعدما أدرک فداحة جرمه، فإنّه حاول تلافی أوامر مماثلة بغزو مکة صدرت إلیه من یزید والتملص منها، وقد قال لبعض مقرّبیه: لا أجمعهما للفاسق أبداً، أقتل ابن بنت رسول الله صلی الله علیه و آله وأغزو البیت((1)).

کما حاول أن یستعید الرسالة التی أصدر أوامره فیها لابن سعد بقتل الحسین علیه السلام أو أن ینزل علی حکمه، قال عبید الله بن زیاد لعمر بن سعد بعد قتله الحسین: «یا عمر، أین الکتاب الذی کتبت به إلیک فی قتل الحسین؟ قال: مضیت لأمرک وضاع الکتاب، قال: لتجیئنّ به، قال: ضاع، قال: والله لتجیئنّ به، قال: تُرک والله، یُقرأ علی عجائز قریش اعتذاراً إلیهن بالمدینة، أما والله، لقد نصحتک فی حسین نصیحةً لو نصحتها أبی سعد بن أبی وقاص کنت قد أدّیت حقّه.

قال عثمان بن زیاد أخو عبید الله: صدق والله، لوددت أنّه لیس من بنی زیاد رجلٌ إلّا وفی أنفه خزامة إلی یوم القیامة، وأنّ حسیناً لم یُقتل، فوالله ما أنکر ذلک علیه عبید الله»((2)).

وقد کانت مرجانة تقول لابنها عبید الله: «قتلت ابن بنت رسول الله صلی الله علیه و آله لا تری الجنة»((3)).

وروی الطبری أنّها قالت لعبید الله حین قتل الحسین علیه السلام : «ویلک ماذا صنعت، وماذا رکبت»((4)).

وذکر ابن سعد فی الطبقات: «قالت مرجانة لابنها عبید الله بن زیاد: یا خبیث، قتلت

ص: 150


1- ([1]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأمم والملوک: ج4، ص371.
2- ([2]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج3، ص342.
3- ([3]) ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج3، ص8. الذهبی، محمد بن أحمد، سیر أعلام النبلاء: ج3، ص568.
4- ([4]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج3، ص353.

ابن رسول الله، لا تری الجنة أبداً»((1)).

وما نحسب أنّ أُمّاً تواجه ابنها بما واجهت به مرجانة عبید الله لو لم تکن جریمته بتلک الخطورة التی ألحقت أضراراً بالأُمّة، لا الحسین علیه السلام وصحبه فقط.

من الواضح أنّ عبید الله لم ینبس ببنت شفة، لهول ما قام به وأعوانه فی کربلاء من جرائم یندی لها جبین الإنسانیة؛ ذلک لأنّه لو انطلق من تأویل شرعی لما کان لتلک التقریعات والإهانات من مبرّر، ولوکان لعبیدالله وعمر بن سعد تأویل لتبریر ما قاما به لکسرا حاجز السکوت بهدف تلمیع صورتهما أمام جمهور المسلمین.

لا شکّ أنّ تصریح یزید ینمّ عن بغض الناس وعداوتهم له بما استعظموه من قتله الحسین علیه السلام ، هو الذی دعاه للتبرؤ من ابن زیاد، واستنزال اللعنات علیه، ولم یکن لیفعل ذلک بدافع الکیاسة أو الشعور بالذنب، وقد دلّت أعماله اللاحقة أنّ تلک المشاعر ما کانت لتساوره فی أیّ وقت من الأوقات.

ولا شکّ أنّ دوافع سائر القتلة للتبرؤ من الجریمة لم تکن تختلف عن دوافع یزید، فقد علموا أنّهم سیواجهون نقمة جماهیریة واسعة، قد تنال منهم شخصیاً، وقد تقف عائقاً أمام طموحاتهم، کما حدث ذلک بالفعل، إذ رفضت الکوفة والبصرة ولایة ابن زیاد علیها، بعد أن استحضر أهلها موقفه وما فعله بالحسین علیه السلام وأصحابه فی کربلاء((2)).

عمر بن سعد واعترافه ببیع دینه

نقلت الوثائق التاریخیة المعتمدة لدی أهل السنة اعترافات عمر بن سعد قبل وقوع

ص: 151


1- ([1]) ابن سعد، محمد، ترجمة الإمام الحسین علیه السلام : ص88.
2- ([2]) اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج3، ص364 - 375.

جریمته، لمّا أرسل الحسین علیه السلام إلیه فی کربلاء بُریراً، فقال بریر: «یا عمر بن سعد، أتترک أهل بیت النبوة یموتون عطشاً وحِلت بینهم وبین الفرات أن یشربوه، وتزعم أنّک تعرف الله ورسوله؟

قال: فأطرق عمر بن سعد ساعةً إلی الأرض ثمّ رفع رأسه، وقال: إنّی والله، أعلمه یا بُریر... أتشیر علیَّ أن أترک ولایة الری فتصیر لغیری؟ ما أجد نفسی تجیبنی إلی ذلک أبداً، ثمّ أنشأ یقول:

دعانی

عبیدالله من دون قومه

إلی خطّةٍ

فیها خرجت لحینی

فوالله لا

أدری وإنّی لواقفٌ

علی خطر بعظم

علی وسینی

أأترک ملک

الری والری رغبةٌ

أم أرجع

مذموماً بقتل حسین

وفی قتله

النار التی لیس دونها

حجابٌ وملک

الری قرة عین

فرجع بریر بن خضیر إلی الحسین فقال: یا بن بنت رسول الله، إنّ عمر بن سعد قد رضی أن یقتلک بملک الری»((1)).

سنان بن أنس وجزاء قتله الحسین علیه السلام

إنّ من الاعترافات المروّعة هی ما ذکرها سنان بن أنس، حینما قدم خیمة ابن سعد بعد أن حرّضه جماعة علی ذلک قائلین: «قتلت حسین بن علی وابن فاطمة ابنة رسول الله (صلّی الله علیه وسلّم)، قتلت أعظم العرب خطراً، جاء إلی هؤلاء یرید أن یزیلهم عن ملکهم، فأت أُمراءک فاطلب ثوابک منهم، وإنّهم لو أعطوک بیوت أموالهم فی قتل الحسین کان قلیلاً.

ص: 152


1- ([1]) ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج5، ص172.

فأقبل علی فرسه وکانت به لوثة، فأقبل حتی وقف علی باب فسطاط عمر بن سعد، ثمّ نادی بأعلی صوته:

أوقر رکابی

فضةً وذهباً

إنّی قتلت

الفارس المحجّبا

قتلت خیر

الناس أُمّاً وأبا

وخیرهم إذ

ینسبون نسباً

فقال عمر بن سعد: أشهد أنّک لمجنون ما صححت قط، أدخلوه علی، فلمّا أُدخل حذفه بالقضیب، ثمّ قال: یا مجنون، أتتکلم بهذا الکلام؟! أما والله، لو سمعک ابن زیاد لضرب عنقک»((1)).

وقد رُوی أنّ ابن زیاد قد حرم ابن سعد الجائزة التی وعده بها، وهی ولایة الری، فکان یردّد بعد ذلک «ما رجع أحدٌ إلی أهله بشرٍ ممّا رجعت به، أطعت الظالم الفاجر ابن زیاد، وعصیت الحکم العدل، وقطعت القرابة الشریفة»((2)).

وقِیل: إنّ سنان دخل علی عبیدالله بن زیاد بعد یوم عاشوراء بیومین، وهو یرتجز بقوله، فقال له ابن زیاد: فإن کان خیر الناس أُمّاً وأباً فلمَ قتلته؟ وأمر فضُربت عنقه((3)).

ابن خلدون ومخالفته لابن العربی

ذهب ابن العربی واستناداً إلی روایةٍ عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه قال: «مَن أراد أن یفرّق أمر هذه الأُمّة وهی جمیع فاضربوه بالسیف کائناً مَن کان»((4))، إلی أنّ الحسین علیه السلام جاء لیفرّق کلمة المسلمین بعد اجتماعها، ولیخلع مَن بایعه الناس واجتمعوا علیه، وأنّ یزید -

ص: 153


1- ([1]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج3، ص335.
2- ([2]) البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج3، ص211.
3- ([3]) اُنظر: النویری، أحمد بن عبد الوهاب، نهایة الأرب فی فنون الأدب: ص20 - 461. ابن عبد ربه الأندلسی، أحمد بن محمد، العقد الفرید: ج5، ص127. المسعودی، علی بن الحسین، مروج الذهب: ج3، ص141.
4- ([4]) ابن حنبل، أحمد، أحمدأحمد مسند أحمد: ج4، ص341. ابن العربی، محمد بن عبد الله، العواصم من القواصم: ص232.

بزعمه - قد عمل بمفاد تلک الروایة، وبهذا النحو فهو معذور بقتله الحسین علیه السلام وما قام به جاء مطابقاً للشریعة والدین، کما أضاف أنّ الحسین علیه السلام فی الواقع قُتل بسیف جدّه((1)).

ولعمری فإنّ هذا الرأی أسخف رأی صدر عن عالمٍ کبیر، ممّا حدا بابن خلدون رغم کونه من علماء البلاط ومفکّری الدولة إلی تفنیده واعتباره مجانباً للحقیقة لاتعضده الوقائع التاریخیة، قائلاً: «وقد غلط القاضی أبو بکر بن العربی المالکی فی هذا، فقال فی کتابه الذی سمّاه بالعواصم من القواصم ما معناه: إنّ الحسین قُتل بشرع جدّه. وهو غلطٌ حملته علیه الغفلة عن اشتراط الإمام العادل، ومَن أعدل من الحسین فی زمانه فی إمامته وعدالته فی قتال أهل الآراء»((2)).

ومن الواضح أنّ العدالة شرطٌ أساسیٌّ للإمامة، ومن ثمّ العلم والفقه وسائر الشروط اللازمة لتولّی خلافة المسلمین، وبدونها تفقد سائر الشروط اعتبارها.

ولشناعة رأی ابن العربی((3))، لم یکن ابن خلدون الوحید الذی تعرّض إلی نقده، بل ثمّة عالمٌ آخر هو حسین محمد یوسف فی کتابه (سیّد شباب أهل الجنة الحسین بن علی) قائلاً: «ولقد ذهب القاضی أبو بکر إلی أبعد من ذلک فی تبریره لموقف المحاربین لابن بنت رسول الله صلی الله علیه و آله ، فقال: ولا قاتلوه إلّا بما سمعوا من جدّه المهیمن علی الرسل. ذلک لأنّ لجدّ الحسین صلی الله علیه و آله من الأحادیث الصریحة ما یکفی لبیان أنّ معاداة الحسین علیه السلام معاداة لله

ص: 154


1- ([1]) المناوی، محمد عبد الرؤوف، فیض القدیر شرح الجامع الصغیر: ج1، ص 265.
2- ([2]) ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، مقدّمة ابن خلدون: ج1، ص417.
3- ([3]) إنّ الدوافع التی تقف وراء رأی ابن العربی وأضرابه لیست دینیة بحتة، فمعظمهم من أهل الشام کابن تیمیة، أو من الأندلس الأُمویة کابن حزم وابن العربی، ولا یخلو رأیهم من باعث العصبیة الإقلیمیة، أو مشایعة الحکام الأُمویین، ولقد صِیغت آراء هذه الفرقة أساساً کردّ فعل لمذهب الشیعة، فمعارضة عقائد الشیعة هی وحدها تحدوهم إلی اتّخاذ موقفهم، حتی أسرفوا علی أنفسهم فی هذه المعارضة التی لم یکن یحدوها البحث عن الحقیقة، أو تحرّی رأی الدین فیما یعتقدون من آراء بقدر ما کانوا یقصدون من تخطئة الشیعة فی کلّ عقائدهم، وتکفیرهم فی کلّ ما ذهبوا إلیه. اُنظر: صبحی، أحمد محمود، نظریة الإمامة لدی الشیعة الاثنی عشریة: ص338. (المترجم).

ولرسوله، ومحاربته محاربة لله ورسوله، وکفی بذلک إثماً فی الدنیا وخزیاً فی الآخرة.

من ذلک قوله (صلوات الله علیه): لا یحبّ أهل البیت إلّا مؤمن ولا یبغضهم إلّا منافق.

وفیه حکمٌ صریحٌ بالنفاق علی کلّ مَن اشترک فی قتال الحسین علیه السلام ، وأیّ بغضٍ له أشدّ من حصاره ومنعه من الانصراف فی أی جهةٍ، حرصاً منهم علی قتاله وقتله، ومن ذلک قوله صلی الله علیه و آله : أنا حربٌ لمَن حاربکم، وسلمٌ لمَن سالمکم.

وقد کانت نهایة المعتدین علی سیّد شباب أهل الجنة أقطع دلیل علی شدّة غضب الله ورسوله علیهم، ومحاربتهما لهم، حتی لم یبقَ أحدٌ إلّا وأصابه من نکال الله تعالی ونقمته ما أصابه»((1)).

وقال فی معرض ردّه علی ابن العربی لمّا قال: «وما خرج إلیه أحدٌ إلّا بتأویل، هذا القول یوهم أنّ الذین قاتلوا سیّد شباب أهل الجنة وقتلوه وداسوا جسده الشریف بسنابک الخیل کانوا من أهل العلم الذین بلغوا مرتبة الاجتهاد، حتی استطاعوا أن یتأوّلوا أحادیث سیّد المرسلین التأویل الصحیح، وأن یجدوا فیها ما یبیح لهم مقاتلة ابن بنته وقتله، والثابت أنّ الجیش الذی أعدّه لمقاتلة الحسین علیه السلام کان أکثر أفراده من الرعاع الأجلاف، لیس فیهم صحابیٌّ جلیل، ولا تابعیٌّ فقیه فی دینه، وقد کان کبیر القوم - عبید الله بن زیاد - أبعد من أن یُوصف بأنّه من أهل العلم والدین، وإنّما کان جباراً جهولاً، لا دین له ولا أخلاق.

فإذا کان هذا هو شأن أمیر القوم فکیف بمَن دونه من قادة الجیش وأفراده؟! وهم الذین ما خرجوا لقتال الحسین علیه السلام عن تأویل أو فقه، وإنّما خرجوا رهبةً من طغیان ابن زیاد، أو رغبةً فیما عنده من أُمور الدنیا، وعلی رأس هؤلاء عمر بن سعد قائد الجیش الذی خرج خوفاً من بطش ابن زیاد، وطمعاً فی ولایة الری التی وعده بها، ویلیه شمر بن ذی

ص: 155


1- ([1]) یوسف، حسین محمد، سیّد شباب أهل الجنة: ص425.

الجوشن، الذی کان أشدّ القوم تحمّساً فی التحریض علی قتل الحسین علیه السلام ، والذی أخبر النبی صلی الله علیه و آله أنّه الکلب الأبقع الذی یلغ فی دماء أهل البیت، ثمّ سنان بن أنس الذی احتزّ رأس الحسین علیه السلام وذهب به إلی ابن زیاد یطالب بالأجر.

وهکذا نجد أنّ البارزین من قتلة الحسین علیه السلام کانوا جمیعاً من الرعاع الأجلاف، فکیف بمَن دونهم! والکثیر منهم کانوا ممَّن کاتبوه یدعونه بالخروج ثمّ انقلبوا علیه وحاربوه، ومثل هؤلاء أبعد الناس عن رسول الله صلی الله علیه و آله ، وأشدّهم جهلاً بحدیثه، ومع ذلک فإنّ القاضی ابن العربی ذهب بعیداً فی حسن ظنّه بهم، فاعتبرهم جمیعاً من أهل التأویل الراسخین فی العلم»((1)).

ورغم ذلک فما زال یتبنّی هذا الرأی فی العصر الراهن زمرة من الکتّاب منهم محمد عزة دروزة، لمّا قال: «إنّه لیس هناک ما یبرّر نسبة قتل الحسین إلی یزید، فهو لم یأمر بقتاله فضلاً عن قتله، وکلّ ما أمر به أن یُحاط به ولا یُقاتل إلّا إذا قاتل... فإذا کان الحسین أبی أن یستسلم لیدخل فیما دخل فیه المسلمون، وقاوم بالقوة، فمقابلته وقتاله صار من الوجهة الشرعیة والوجهة السیاسیة سائغاً»((2)).

2- غیاب التأویل

اتّضح ممّا سبق غیاب شروط التأویل لدی منفّذی جریمة قتل الحسین علیه السلام ، وهو دلیلٌ آخر علی ردّ الرأی القائل بوجود نمطین من التفکیر فی ساحة کربلاء، بعد استعراض مفهوم الاجتهاد والتأویل والشروط العلمیة والعملیة لأهل الاجتهاد والفتیا لدی أهل السنّة، والاطلاع علی سیرة مرتکبی تلک الجریمة الذین لم یمتلکوا أدنی مقوّمات الاجتهاد.

ص: 156


1- ([1]) یوسف، حسین محمد، سیّد شباب أهل الجنة: ص424.
2- ([2]) دروزة، محمد عزة، تاریخ الجنس العربی: ج8، ص383 - 384.

وسوف نتطرّق هنا إلی موضوع فی غایة الأهمّیة وهو هل أنّ استشهاد الحسین علیه السلام موضوعٌ قابلٌ للتأویل، ذلک لأنّ الاجتهاد وفق رؤیة علماء أهل السنة یجری فی مقام لم یرد فیه نصٌّ صریح، أمّا فی صورة وجود نصٍّ صریح فلا اجتهاد، وبتعبیر أهل المنطق سالبة بانتفاء الموضوع، بل هو حرام؛ لأنّه اجتهاد فی مقابل النصّ.

وقد بادر أحد محقِّقی أهل السنة إلی طرح سؤال وهو: فی أیّ موطن یکون فیه الاجتهاد حراماً؟ ثمّ تصدّی للإجابة عنه، وذکر موطنین له، وهما:

الأوّل: الاجتهاد فی مقابل النصّ، وهذا النوع من الاجتهاد هو إقدام المجتهد علی إجراء الاجتهاد فی واقعةٍ ورد فیها نصٌّ صریح، وبالتالی فالحکم المستنبط خلاف مؤدّی النص.

الثانی: اجتهاد مَن کان فاقداً لأهلیة الاجتهاد والتأویل، وهنا قد یقوده اجتهاده إلی الضلال والانحراف، وهذا النوع من الاجتهاد ینطوی تحت القاعدة الشرعیة: کلّ ما دعا إلی الحرام فهو حرام.

الإمام الحسین علیه السلام من وجهة نظر النبی الأکرم صلی الله علیه و آله

مع أنّ مکانة الحسین علیه السلام عند رسول الله صلی الله علیه و آله کالشمس فی رابعة النهار لا تخفی علی أحد، خاصّةً مَن له أدنی إلمام بتاریخ الإسلام وسیرة رسول الله صلی الله علیه و آله ، إلّا أنّ هناک من أذناب یزید مَن شکّک فی علاقة رسول الله’ بالحسین علیه السلام دفاعاً عن یزید، منهم ابن تیمیة، حیث لم یتوانَ فی الدفاع عن یزید وتبریر ما قام به فی کربلاء، وأنّه صادرٌ عن مجوّزٍ شرعی، ویأتی بالأدلّة علی أنّ ما قام به الحسین علیه السلام کان خلافاً لما أمر به النبی صلی الله علیه و آله ، حیث قال: «وممّا یناسب هذا ما ثبت فی الصحیح من حدیث سلیمان التیمی عن أبی عثمان النهدی عن أُسامة بن زید عن النبی صلی الله علیه و آله : أنّه کان یأخذه والحسن، ویقول: اللّهم إنّی أُحبّهما فأَحبّهما.

ص: 157

ففی هذا الحدیث جمعه بین الحسن وأُسامة، وإخباره بأنّه یحبّهما، ودعاؤه الله أن یحبّهما وحبّه صلی الله علیه و آله لهذین مستفیض عنه فی أحادیثَ صحیحة، کما فی الصحیحین من حدیث شعبة عن عدی بن ثابت، قال: سمعت البراء بن عازب، قال: رأیت النبی صلی الله علیه و آله والحسن بن علی علی عاتقه، وهو یقول: اللّهم إنّی أُحبّه فأحبّه... وهذان اللذان جمع بینهما فی محبّته ودعا الله لهما بالمحبّة، وکان یعرف حبّه لکلّ واحدٍ منهما منفرداً لم یکن رأیهما القتال فی تلک الحروب، بل أُسامة قعد عن القتال یوم صفّین لم یقاتل مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، وکذلک الحسن کان دائماً یشیر علی أبیه وأخیه بترک القتال، ولما صار الأمر إلیه ترک القتال، وأصلح الله به بین الطائفتین المقتتلتین»((1)).

وعلی هذا وأمثاله من التوجیهات استقام عماد محبّی یزید القدماء والجدد، مع إجراء بعض التعدیلات الجزئیة علی العبارات والألفاظ، وإن لم یصرّحوا بالنتیجة بهذا الشکل، ولسنا هنا بصدد نقل جزئیات کلامهم، وبغضّ النظر عن عدم استفاضة هذه الروایات وبُعدها عن الصحّة والوثاقة، فإنّه یتبادر إلی الذهن - حول ما نقلناه عن ابن تیمیة - أسئلةٌ ثلاثة:

1- أیّ مقطع من الحدیث استفاد منه ابن تیمیة فی جواز قتل الحسین علیه السلام وأصحابه فی کربلاء وشرعیة مواقف یزید؟

2- هل یلتزم ابن تیمیة وأعوانه بجمیع لوازم استدلالهم بهذا الحدیث علی جواز قتل الحسین علیه السلام وصحبه؟ التی منها:

أ - إنّ محبة النبی صلی الله علیه و آله لا تعمّ مَن لم یفصح عنه الحدیث من أهل البیت، وبالتالی یعتبر هذا مجوّزاً لیزید وأمثاله لقتلهم والتنکیل بهم.

ص: 158


1- ([1]) ابن تیمیة، أحمد بن عبد الحلیم، منهاج السنة: ج4، ص535.

ب - إذا ورد حدیث عن النبی صلی الله علیه و آله فی محبّة الحسین علیه السلام ، وأیّده علماء السنة بلحاظ السند، فهل فیه دلالة علی سخطه صلی الله علیه و آله علی الحسن علیه السلام وصلحه؟ وعلیه فإنّ قتل معاویة للحسن علیه السلام جاء وِفقاً لما ورد عن رسول الله صلی الله علیه و آله المروی فی الصحاح الستّ موثقاً.

ج - الحدیث المذکور لا یمکن الجمع بینه وبین آیات الذکر الحکیم والأحادیث النبویة، فکیف یرجّح الحدیث المذکور حین وقوع التعارض؟ وقد ورد فی أُمّهات المصادر التفسیریة والروائیة والتاریخیة لأهل السنة أنّ آیة التطهیر والمباهلة وسائر الآیات المتعلِّقة بأهل البیت علیهم السلام تشمل الحسین علیه السلام أیضاً، کما وردت أحادیث لاحصر لها علی لسان النبی صلی الله علیه و آله فی مقام الحسین علیه السلام وفضله، مثلما وردت فی حقّ الحسن علیه السلام ، ونعته بأوصاف متنوّعة نظیر: سیّد شباب أهل الجنة، وریحانة النبی صلی الله علیه و آله ، ومن الأسباط، وفضلاً عن ذلک فقد وردت روایات تتنبّأ باستشهاده وتذمّ قتلته، فقد أوصی النبی صلی الله علیه و آله صراحةً بالوقوف فی صف الحسین علیه السلام والعمل علی نصرته.

روی أنس بن الحارث عن أبیه الحارث بن نبیه، قال: «سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله - والحسین فی حجره - یقول: «إنّ ابنی هذا یُقتل فی أرضٍ یُقال لها: العراق، فمَن شهد ذلک منکم فلینصره»، قال: فخرج أنس بن الحارث إلی کربلاء، فقُتل بها مع الحسین»((1)).

ومع کثرة الأحادیث الدالّة علی حبّ الحسین علیه السلام والتحذیر من بغضه وأذاه، هل بمقدور ابن تیمیة وأتباعه تأویل جواز قتل الحسین علیه السلام وأصحابه، وقطع الماء علیهم، وأسر أهل بیته، وقطع رؤوسهم، والطواف بها فی الأمصار، ورضِّ أجسادهم الطاهرة بسنابک الخیول، وترک الجثث فی العراء دون دفن؟

د - یُوحی منطق ابن تیمیة بانحصار سخط النبی صلی الله علیه و آله علی شخص الحسین علیه السلام ، أو

ص: 159


1- ([1]) ابن حجر العسقلانی، أحمد بن علی، الإصابة فی تمییز الصحابة: ج1، ص68.

فکره وسیرته، وسکوت النبی صلی الله علیه و آله عمّا اقترفه الآخرون، وبالخصوص بنو أُمیّة ومعاویة ویزید من جرائم.

3 - ینبغی الاستفسار من ابن تیمیة، هل ورد عن النبی صلی الله علیه و آله حدیثٌ أو روایة معتبرة فی حقّ الحسین علیه السلام یُشمّ منها عدم الرضا المضمر فی الحدیث المتقدم کی یقوم النبی صلی الله علیه و آله علی ضوء ذلک بترک ذکر الحسین علیه السلام والإتیان بأُسامة والحسن علیه السلام وشمولهما بالعنایة والمحبّة دون الحسین علیه السلام أو الإتیان بالحسن علیه السلام وحده؟

لا شکّ أنّ مفاد ما ذکره ابن تیمیة وأتباعه من جهة، وابن العربی وآخرون من جهة أُخری أشبه بإخفاء الشمس بإصبعین، ومع أدنی تأمّل فی المصادر المختلفة لأهل السنة نصل إلی هذه النتیجة، وهی: أنّ مؤیّدی یزید غیر مقتنعین ولا معتقدین بأی مذهب من المذاهب الإسلامیة، ولیس لدیهم أدنی اطّلاع عن تاریخ الإسلام والحدیث، والنظریات الموجودة فیها، وأُرجّح الاحتمال الأخیر، وهو عدم اطّلاعهم، وأقول: علی فرض عدم ورود حدیث عن النبی صلی الله علیه و آله فی مدح الحسین علیه السلام وبیان مقامه ومکانته الرفیعة، وعدم ورود حدیث فی ذم بنی أُمیّة أعداء الله والدین وأهل بیت النبی صلی الله علیه و آله ، إلّا أنّ ملامح الشخصیة العظیمة للحسین علیه السلام الواردة فی مصادر أهل السنة کفیلة بکشف النقاب عن وجه الحقیقة، فقد سار الإمام الحسین علیه السلام کزعیم مسؤول وملتزم لینقذ الأُمّة من جور یزید وطغمته، ولیسحب بذلک بساط الشرعیة عن دولة الظلم الأُمویة.

لقد آثر الحسین علیه السلام أن یقوم بما لم یقم به أحدٌ غیره؛ لأنّه لم یکن مثل الآخرین، وکان وعیه وشعوره بالمسؤولیة استثنائیاً، لم یکن یقل عن وعی وشعور مَن سبقوه ممَّن حملوا لواء الإمامة، مکملین دور الرسول القائد صلی الله علیه و آله بین أبناء الأُمّة، وکانت معرفته بالإسلام ویقینه به أکبر من أیّ شیء آخر یمکن أن یجعله یستجیب لدعوة یزید لمبایعته، ووضع یده فی یده.

ص: 160

فضائل الإمام الحسین علیه السلام فی الصحاح الست

هناک أحادیث کثیرة وردت فی الصحاح الست بشأن فضائل الحسین علیه السلام وأخیه الحسن علیه السلام علی لسان النبی صلی الله علیه و آله ، والتی تدلّ علی مکانتهما الرفیعة لدی النبی صلی الله علیه و آله ، ومن جملة الأبواب الواردة فی تلک الأحادیث هو باب تسمیتهما من قبل النبی صلی الله علیه و آله باسم أبناء هارون شبر وشبیر، وباب قراءة النبی صلی الله علیه و آله الأذان فی آذانهما، وعقّ عن کلٍّ منهما بکبش، وأمر بحلق شعرهما والتصدق بوزنه فضة، وختنهما لسبعة أیّام من مولدهما.

وقد عنی النبی صلی الله علیه و آله ببیان فضلهما، وأوصی بحبّهما وإعزازهما، حتی أنّه اعتبر حبّهما من حبّه، وبغضهما من بغضه:

1- رُویَ عن أبی هریرة أنّه قال: «خرج علینا رسول الله صلی الله علیه و آله ومعه حسن وحسین، هذا علی عاتقه، وهذا علی عاتقه، وهو یلثم هذا مرّة وهذا مرّة، حتی انتهی إلینا، فقال له رجل: یا رسول الله، وإنّک تحبّهما؟ فقال: مَن أحبّهما فقد أحبّنی، ومَن أبغضهما فقد أبغضنی»((1)).

2 - عن یعلی بن مرّة قال: قال رسول الله: «حسین منی وأنا من حسین، أحبّ الله مَن أحبّ حسیناً، حسینٌ سبطٌ من الأسباط»((2)).

3 - عن أبی أیوب الأنصاری، قال: «دخلت

علی رسول الله صلی الله علیه و آله والحسن والحسین یلعبان بین یدیه وفی حجره، فقلت: أتحبّهما؟ قال: وکیف لا أُحبّهما وهما ریحانتای من الدنیا أشمّهما»((3)).

ص: 161


1- ([1]) ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج2، ص440.
2- ([2]) التر مذی، محمد بن عیسی، سنن الترمذی: ج5، ص658.
3- ([3]) الطبرانی، سلیمان بن أحمد، المعجم الکبیر: ج4، ص155. ابن عساکر، علی بن الحسن، تاریخ مدینة دمشق: ج14، ص130.

4- أخرج أحمد بن حنبل بسنده: أنّ النبی أخذ بید الحسن والحسین وقال: «مَن أحبّنی وأحبّ هذین وأباهما وأُمّهما کان معی فی درجتی یوم القیامة»((1)).

5- عن أبی سعید الخدری، قال: سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله یقول: «الحسن والحسین سیّدا شباب أهل الجنة»((2)).

ولا شکّ أنّ النبی صلی الله علیه و آله فی کلّ هذه الصور الکریمة من المحبّة والحنان والإعزاز والتکریم لحفیدیه الصغیرین لم یکن مدفوعاً بعاطفة خاصّة فحسب، وإنّما کان مأموراً بوحی من ربّه کی یُعلِم المسلمین ما یجب علیهم نحو أبنائهم عامّة، ونحو أهل البیت والحسنین خاصّة، من صدق المحبّة، وخفض الجناح، ومعرفة حقِّهم، واستشعار کل الإجلال والتوقیر لهم.

وإذا کان هذا هو مقام الحسن والحسین من الله ورسوله ومکانتهما، فلا عجب إذا حرص صلی الله علیه و آله علی التحذیر من مغبّة معاداتهما أو مشاقّتهما؛ لأنّ معاداتهما معاداة لله ورسوله، ومشاقّتهما مشاقّة لله ورسوله.

ومهما یکن من أمر فلم تفلح التبریرات الواهیة لابن تیمیة وأتباعه فی إثبات براءة یزید فحسب، بل إنّها أثارت الشکوک حول عقائد السنة والجماعة، حین قام بتوجیه جرائم یزید بأیّ ثمن ولو علی حساب المسلَّمات التاریخیة والرجالیة.

ومع وجود تلک الروایات، فهل یبقی إبهام بشأن موقف رسول الله صلی الله علیه و آله الداعم للحسین علیه السلام وحرکته؟ ألیس تحذیر النبی صلی الله علیه و آله من بنی أُمیّة ولعنهم دلیلاً علی کفرهم وفجورهم وانحرافهم عن الإسلام؟ فلیس هناک جهلٌ حتی یأتی الدور للاجتهاد، ولا

ص: 162


1- ([1]) ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج1، ص77.
2- ([2]) المصدر السابق: ج3، ص62. ابن ماجة، محمد بن یزید، سنن ابن ماجة: ج1، ص44، ح118. الترمذی، محمد بن عیسی، سنن الترمذی: ج5، ص321، ح3856.

شکّ حتی نسعی لتحصیل العلم والاجتهاد، بل واقعة کربلاء خارجة عن میدان الاجتهاد، والاجتهاد فیها سیکون فی مقابل النص، وهو إن صدر ممَّن تتوفّر فیهم شروط الاجتهاد والقدرة علیه کان خلاف الشرع ومن المحرّمات.

وعلیه یصبح الصراع بین نمطین من التفکیر فی ساحة کربلاء مجرد وهم، ویصبح تأویل واجتهاد أُمراء جند یزید أشبه بالهزل منه بادّعاء تاریخی وعلمی.

ص: 163

ص: 164

ص: 165

ص: 166

الفصل الثَّالث: فلسفة ثورة کربلاء فی المنظور السنی

اشاره

إنّ من المباحث المطروحة فی أوساط أهل السنة حول النهضة الحسینیة هی فلسفة هذه الثورة التاریخیة الکبری، وقد استعرض علماء أهل السنة الأبعاد المختلفة لثورة أبی الأحرار، والهدف الرئیس لقیامها، ومدی مشروعیتها من جهة، والعقلانیة التی تمتّعت بها من جهةٍ أُخری، وعبّروا عن مواقفهم حیالها.

ومع أخذ الأبعاد المختلفة المطروحة حول دوافع ثورة کربلاء وأهدافها والمسائل المتعلّقة بها، تطفو هناک موضوعات عدیدة جدیرة بالبحث ومعرفة نظریات العلماء السنة فیها، ویتأتّی ذلک من خلال الإجابة عن الأسئلة التالیة:

- هل سارت ثورة کربلاء وفق فلسفة واضحة أو اکتنفها الغموض؟

- إن کان لها فلسفة واضحة ومعیّنة، فهل هذه الفلسفة الواضحة تختصّ بالحسین علیه السلام ، أو یمکن تعمیمها إلی الآخرین، ویمکنهم فهمها وتلزمهم بالتکلیف؟

- هل لتلک الثورة فلسفة تعبّدیة بحتة، أو تجاوزتها إلی أبعاد عقلائیة؟

- ما مدی مستوی نجاح هذه الثورة فی الظفر بأهدافها وفلسفة وجودها؟

إنّ تتبّع المواقف المختلفة لأهل السنة حول فلسفة ثورة کربلاء له أهمّیة قصوی للإجابة عن تلک الاستفسارات، ویمکن علی ضوء ذلک فهم وجهات نظرهم فی هذا الصدد، وکشف مجموعة المعارف والاعتقادات التی یمتلکونها حول تلک الحادثة، وإیصاد الطریق بوجه الانحرافات، وهذا لا یتیسّر إلّا فی ظلّ نقد الآراء غیر الصائبة لبلورة الصحیح منها.

ص: 167

1 - النظرة المصلحیة

اشارة

لقد بُذل النصح للإمام علیه السلام بالعدول عن حرکته منذ خروجه من المدینة، وبلغت أوجها عند حضور الإمام علیه السلام فی مکة، واستمرّ طوال سیره إلی کربلاء، فبعد اطّلاع النصحاء علی مخالفة الإمام علیه السلام لمبایعة یزید وخروجه من المدینة، أصرّوا علیه بأنّ الظروف لیست سانحة للإطاحة بحکم بنی أُمیّة الجائر وإقامة نظامٍ إسلامی، وأنّ أهل الکوفة لا یعوّل علیهم؛ لأنّهم أهل غدرٍ وخیانة.

ومن الذین بذلوا النصح للإمام علیه السلام هو عبد الله بن مطیع، فهو بعد أن علم بقصده، قال: «جُعلت فداک، أین ترید؟ قال: أمّا الآن فإنّی أُرید مکة، وأمّا بعدها فإنّی أستخیر الله، قال: خار الله لک، وجعلنا فداک، فإذا أنت أتیت مکة فإیّاک أن تقرب الکوفة، فإنّها بلدةٌ مشؤومة، بها قُتل أبوک، وخُذل أخوک، واغتیل بطعنةٍ کادت تأتی علی نفسه، ألزم الحرم، فإنّک سیّد العرب لا یعدل بک - والله - أهل الحجاز أحداً، ویتداعی إلیک الناس من کلّ جانب، لا تفارق الحرم فداک عمّی وخالی، فوالله، لئن هلکت لنسترقنّ بعدک»((1)).

روی الطبری أنّ عبد الله بن جعفر لمّا علم بخروج الحسین علیه السلام من مکة أرسل إلیه کتاباً مع ابنیه عون ومحمد، یقول فیه: «إنّی أسألک بالله لما انصرفت حین تنظر فی کتابی، فإنّی مشفقٌ علیک من الوجه الذی توجّه له أن یکون فیه هلاکک، واستئصال أهل بیتک، إن هلکت الیوم طفئ نور الأرض، فإنّک علم المهتدین ورجاء المؤمنین، فلا تعجل بالسیر فإنّی فی أثر الکتاب»((2)).

ص: 168


1- ([1]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص351.
2- ([2]) المصدر السابق: ج4، ص291.

رُوی أنّ أبا سعید الخدری جاء إلی الحسین علیه السلام وقال له: «یا أبا عبد الله، إنّی لکم ناصح، وإنّی علیکم مشفق، وقد بلغنی أنّه قد کاتبک قوم من شیعتکم بالکوفة یدعونک إلی الخروج إلیهم، فلا تخرج، فإنّی سمعت أباک یقول بالکوفة: والله، لقد مللتهم وأبغضتهم، وملّونی وأبغضونی، وما یکون منهم وفاءٌ قط، ومَن فاز منهم فاز بالسهم الأخیب، والله، ما لهم نیات، ولا عزم علی أمر، ولا صبر علی السیف»((1)).

هذه الکلمات تؤکّد بوضوح علی نقطتین:

الأُولی: تدلّ الأوضاع العامّة خاصّةً أوضاع الکوفة وأهلها وما آل إلیه أمیر المؤمنین علیه السلام والإمام الحسن علیه السلام أنّ أرضیة الثورة غیر متوفّرة فیها، وهذا ما یدعو إلی عدم الرکون إلی وعود أهل الکوفة ونصرتهم.

الثانیة: إنّ ظروف الحجاز کانت أفضل من الکوفة، حیث کان اللجوء إلی مکة یوفّر الغطاء اللازم للحفاظ علی النفس، فإذا کان الإمام علیه السلام یفتّش عن مکانٍ آمن، فالکعبة کانت أفضل تلک الأماکن علی الإطلاق.

وقد ظنّ مَن بذل النصح للإمام علیه السلام أنّه بصدد الظفر بالحکم والإطاحة بیزید، من هذا الباب تطرّقوا إلی عدد وعدید أهل الکوفة ومعاناة الإمام علی علیه السلام والحسن علیه السلام منهم، ومقدار ثبات وقدرة أهل الکوفة أمام أهل الشام وشوکة یزید، کما حذروا الإمام علیه السلام من مغبّة أی إقدام؛ لأنّه سیؤدّی إلی الفشل لا محالة؛ هذا الانطباع نقله ابن العربی حینما استعرض نصائح ابن عمر وابن عباس للإمام علیه السلام قائلاً: «ولو أنّ عظیمها وابن عظیمها وشریفها وابن شریفها الحسین یسعه بیته أو ضیعته أو إبله، ولو جاء الخلق یطلبونه لیقوم بالحقّ، وفی جملتهم ابن عباس وابن عمر لم یلتفت إلیهم، وحضره ما أنذر به النبی صلی الله علیه و آله وما قال فی أخیه، ورأی أنّها قد خرجت عن أخیه ومعه جیوش الأرض وکبار

ص: 169


1- ([1]) ابن کثیر، إسماعیل بن عمر، البدایة والنهایة: ج8، ص174.

الخلق یطلبونه، فکیف ترجع إلیه بأوباش الکوفة، وکبار الصحابة ینهونه وینأون عنه؟! وما أدری فی هذا إلّا التسلیم لقضاء الله والحزن علی ابن بنت رسول الله صلی الله علیه و آله بقیة الدهر، ولولا معرفة أشیاخ الصحابة وأعیان الأُمّة بأنّه أمر صرفه الله عن أهل البیت وحال من الفتنة لا ینبغی لأحد أن یدخلها ما أسلموه أبداً»((1)).

وقد أثار الشکوک حول شرعیة هذه الثورة، واستشهد علی ذلک بعدم تعاون الصحابة عندما سرد وجهات نظرهم المخالفة للثورة، وذهب إلی أنّ منشأ ثورة کربلاء هو طلب الحکم وبسط النفوذ، وساد عنده هذا الاعتقاد بأنّ الظروف الاجتماعیة والثقافیة والسیاسیة والقبلیة لا تساعد، وقد أدرک ذلک کبار الصحابة ووصفوها للإمام علیه السلام .

ومع أنّ عبد الرحمن بن خلدون قد ارتضی شرعیة ثورة کربلاء، وانتقد موقف ابن العربی بشأن الثورة الحسینیة وأنّه مقتول بسیف جدّه، إلّا أنّه اتّخذ موقفاً مشابهاً، مصرّحاً بأنّ الشوکة کانت لبنی أُمیّة خاصّةً یزید دون الحسین علیه السلام ، لمّا قال: «وأمّا الحسین، فإنّه لمّا ظهر فسق یزید عند الکافة من أهل عصره بعثت شیعة أهل البیت بالکوفة للحسین أن یأتیهم فیقوموا بأمره، فرأی الحسین أنّ الخروج علی یزید متعیّن من أجل فسقه لا سیما مَن له القدرة علی ذلک، وظنّها من نفسه بأهلیته وشوکته، فأمّا الأهلیة فکانت کما ظن وزیادة، وأمّا الشوکة فغلط - یرحمه الله - فیها؛ لأنّ عصبیة مضر کانت فی قریش، وعصبیة عبد مناف إنّما کانت فی بنی أُمیّة تعرف ذلک لهم قریش وسائر الناس ولا ینکرونه»((2)).

ص: 170


1- ([1]) ابن العربی، محمد بن عبد الله، العواصم من القواصم: ص245.
2- ([2]) ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، مقدّمة ابن خلدون: ج1، ص415.

ورغم تأکید ابن خلدون علی شرعیة ثورة کربلاء وفضائل الحسین علیه السلام من جهة، وإتیان یزید المنکرات من جهةٍ أُخری، إلّا أنّه کان یری أنّ الظروف السائدة آنذاک لا تساعد، وأنّ هذه الثورة محکومٌ علیها بالفشل، وهو بتحلیله هذا وإن خالف رأی ابن تیمیة وابن العربی فی أنّ ثورة الحسین علیه السلام لم تکن للظفر بالسلطة والحکم، بل إنّ غیاب الوعی لدی عامّة الناس، ورواج العصبیة القبلیة من قبل جهاز یزید کان العامل الأساس لإخفاق هذه الثورة، وعلی هذا الأساس فإنّ لثورة الحسین علیه السلام - حسب رأی ابن خلدون - فلسفة واحدة هی الإطاحة بیزید اعتماداً علی شیعة الکوفة، والظفر بالخلافة، وقد آل أمرها إلی ما آل نتیجة عدم توفّر الإمکانات اللازمة والظروف المناسبة، إلی جانب شیوع العصبیة القبلیة.

ویعتقد جلال الدین السیوطی (المتوفی 911ه-) أنّ خروج الحسین علیه السلام لنیل الخلافة هو عماد فلسفة ثورة کربلاء التی ما کان لها أن تنطلق إلّا اعتماداً علی وفاء أهل الکوفة وإطاعتهم ولکنها انتهت إلی فاجعة قلما شهدها التاریخ، قائلاً: «وأمّا الحسین، فکان أهل الکوفة یکتبون إلیه یدعونه إلی الخروج إلیهم زمن معاویة وهو یأبی، فلمّا بُویع یزید أقام علی ما هو علیه مهموماً، یزمع الإقامة مرّة ویرید المسیر إلیهم أُخری، فأشار علیه ابن الزبیر بالخروج، وکان ابن عباس یقول له: لا تفعل، وقال له ابن عمر: لا تخرج، فإنّ رسول الله صلی الله علیه و آله خیّره الله بین الدنیا والآخرة فاختار الآخرة، وإنّک بضعة منه ولا تنالها - یعنی الدنیا - واعتنقه وبکی وودعه، فکان ابن عمر یقول: غلبنا حسین بالخروج، ولعمری لقد رأی فی أبیه وأخیه عِبرة.

وکلّمه فی ذلک أیضاً جابر بن عبد الله وأبو سعید وأبو واقد اللیثی وغیرهم، فلم یطِع أحداً منهم، وصمم علی المسیر إلی العراق، فقال له ابن عباس: والله، إنّی لأظنّک ستقتل بین نسائک وبناتک کما قتل عثمان، فلم یقبل منه، فبکی ابن عباس.

ص: 171

وبعث أهل العراق إلی الحسین الرسل والکتب یدعونه إلیهم، فخرج من مکة إلی العراق فی عشر ذی الحجة ومعه طائفة من آل بیته رجالاً ونساء وصبیاناً، فکتب یزید إلی والیه بالعراق عبید الله بن زیاد یأمره بقتاله، فوجّه إلیه جیشاً أربعة الآف، علیهم عمر بن سعد بن أبی وقاص، فخذله أهل الکوفة کما هو شأنهم مع أبیه من قبله، فلمّا أرهقه السلاح عرض علیهم الاستسلام أو الرجوع أو المضی إلی یزید فیضَع یده فی یده فأبوا إلّا قتله، فقُتل وجیء برأسه فی طست حتی وُضِع بین یدی ابن زیاد، لعن الله قاتله وابن زیاد معه ویزید أیضاً، وکان قتله بکربلاء یوم عاشوراء، وفی قتله قصّة فیها طول لا یحتمل القلب ذکرها، فإنّا لله وإنّا إلیه راجعون»((1)).

ومما سبق یتضح أنّ السیوطی أبرز دور النصائح التی أسداها الصحابة کابن عمر وابن عباس بلزوم رجوعه، کما أبرز اعتماد الحسین علیه السلام علی أهل الکوفة، وکان یری أنّ فلسفة ثورة کربلاء هی الاستیلاء علی مقالید الحکم.

وسار علی هذا النهج محبّ الدین الخطیب المصری، الذی کانت له حاشیة علی کتاب (العواصم من القواصم)، فهو بعد نقله ضراعات کبار الصحابة للحسین علیه السلام بلزوم رجوعه قال: «فلم یفد شئ من هذه الجهود فی تحویل الحسین عن هذا السفر الذی کان مشؤوماً علیه وعلی الإسلام وعلی الأُمّة الإسلامیة إلی هذا الیوم وإلی قیام الساعة، وکل هذا بجنایة شیعته الذین حرّضوه بجهل وغرور ورغبة فی الفتنة والفرقة والشر ثمّ خذلوه بجبن ونذالة وخیانة وغدر»((2)).

أمّا الشیخ الخضری فإنّه عقّب علی حادث قتل الحسین علیه السلام ، قائلاً: «وعلی الجملة أنّ الحسین أخطأ خطأً عظیماً فی خروجه هذا الذی جرّ علی الأُمّة وبال الفرقة والاختلاف،

ص: 172


1- ([1]) السیوطی، جلال الدین، تاریخ الخلفاء: ص246 - 247.
2- ([2]) ابن العربی، محمد بن عبد الله، العواصم من القواصم: هامش ص237.

وزعزع عماد أُلفَتِها إلی یومنا هذا، وقد أکثر الناس من الکتابة فی هذه الحادثة لا یریدون بذلک إلّا أن تشتعل النیران فی القلوب، فیشتدّ تباعدها، وغایة ما فی الأمر أنّ الرجل طلب أمراً لم یتهیّأ له، ولم یعدّ له عدّته، فحِیل بینه وبین ما یشتهی، وقُتل دونه، وقبل ذلک قُتل أبوه، فلم یجد من أقلام الکاتبین مَن یبشع أمر قتله، ویزیدون نار العداوة تأجیجاً، والحسین قد خالف یزید وقد بایعه الناس، ولم یظهر عنه ذلک الجور ولا العسف عند إظهار الخلاف حتی یکون فی الخروج مصلحة للأُمّة»((1)).

مناقشة وتحلیل

تراوحت هذه النظرة بین ادّعاء طلب الخلافة اتّباعاً للدین والسنة النبویة، وبین الاستیلاء علی مقالید الحکم بأیّ ثمن ولو علی خلاف السنة، وقد ذهب ابن خلدون والسیوطی إلی أنّ المهمّة الشرعیة للإمام علیه السلام هی نفخ روح الثورة ضدّ بنی أُمیّة، وإعادة الخلافة إلی جادّة الصواب، وأنّ قرار الإمام علیه السلام لم یکن محبّذاً شرعاً فحسب، بل لا یرد علیه أیّة خدشة، وعلی خلاف ذلک ذهب ابن العربی وأتباعه إلی أنّ الهدف من ثورة کربلاء هو الاستیلاء علی مقالید الحکم، حیث أبرز دور النصائح التی قدّمت له من قبل ابن عمر وآخرین، ووجد فی عدم الإصغاء لها دلیلاً علی حبّ السلطة والجاه، وبذلک أثار شکوکاً حول شرعیة تلک الحادثة العظیمة فی التاریخ، وعن هذا الطریق أبدی أسفه للإمام الحسین علیه السلام .

دوافع هذه النظرة

تتضّح أبعاد هذه النظرة من خلال دراسة الجوانب المختلفة والمتعدّدة لأتباع هذه النظرة بدقّة، ومواقفهم وآرائهم بخصوص نهضة کربلاء، وإجراءات الإمام

ص: 173


1- ([1]) الخضری، محمد، تاریخ الأُمم الإسلامیة: ج2، ص235.

الحسین علیه السلام من جهة، ونظرتهم لمسألة الخلافة ویزید والأُمویین من جهةٍ أُخری، وعلی الرغم من أنّ هذه الأبعاد قد تقدّم الحدیث عنها ونقدها بنحوٍ تفصیلی، إلّا أنّه تلزم الإشارة إلیها ولو بنحوٍ موجز فی المقام لما یقتضیه الموضوع:

1- إنّ یزید بن معاویة هو خلیفة المسلمین، ولا یجوز مخالفته شرعاً، ومقام الخلافة تسمح له بالوقوف بوجه کلّ مَن أراد الخروج علیه، وأنّ ما قام به یزید فی کربلاء جائزٌ شرعاً.

2- اعتمدت ثورة الحسین علیه السلام علی أهل الکوفة المعروفین بالغدر والخدیعة، وقد بذل کبار الصحابة النصیحة للإمام علیه السلام ، إلّا أنّه رفض حتی وقع ما تنبّأ به الصحابة، عندئذٍ أدرک الإمام علیه السلام مغزی النصائح التی قُدّمت له.

3- لم یلتفت الإمام الحسین علیه السلام إلی تجربة أمیر المؤمنین علیه السلام مع أهل الکوفة وما لاقاه الإمام الحسن علیه السلام منهم حینما قبل دعوة أهل الکوفة عبر رسلهم وکتبهم، ولم یَعتَبر من الماضی.

مناقشة هذه النظرة

إنّ النقطة الأُولی تشکک بشرعیة قیام الإمام علیه السلام ونهضته، وقد تقدّم نقدها فی مبحث تحت عنوان: (شرعیة خلافة یزید) وتمّ من خلال الاعتماد علی الوثائق التاریخیة إثبات النقاط التالیة:

1- لم یکن یزید حائزاً علی الشروط الأساسیة للخلافة، کالعدالة والفقاهة المعتبرة وأقرّ أهل السنة بهذا المعنی، وطبقاً للوثائق التاریخیة والحدیثیة والفقهیة فإنّ یزید لم یکن فاسقاً فحسب، بل کان کافراً، ولم یملک أدنی معرفة بالتعالیم الإسلامیة اللازمة وغیر اللازمة للخلافة، من هنا فأغلب علماء أهل السنة أفتوا بجواز لعنه وکفره، واقترافه موبقات عظیمة، فلا یجوز نقل الحدیث عنه.

ص: 174

2 - انتقال الحکم من معاویة إلی یزید خلافاً للسیرة الرائجة عند أهل السنة، فی وقت أبدی معظم الناس کراهتهم له، ذلک أنّ بیعة یزید تمّت بتهدید وخداع، وقد ذهب معظم أئمّة المذاهب الإسلامیة إلی أنّ البیعة المأخوذه عن مکر وخداع لا قیمة قانونیة لها، کما لا تترتّب علیها آثارٌ شرعیة، هذا إلی جانب أنّ تنبّؤات النبی صلی الله علیه و آله بشأن بنی أُمیّة بوجهٍ عام، ویزید وأعوانه بوجهٍ خاص، ومکانة الحسین بن علی سلام الله علیها ومنزلته لدی رسول الله صلی الله علیه و آله وضرورة نصرته، لا یبقی معها أی شک فی سلب شرعیة خلافة یزید وضرورة الإطاحة به من منظار الشارع.

3- کما تقدّم فی ثورة کربلاء ومقولة الاجتهاد، فإنّه لم یکن بین أُمراء یزید وجنده مَن یُعتبر من أصحاب الاجتهاد، وعلی فرض وجود القابلیة لدی بعضهم، فلمَ اعتبروا - بشهادة التاریخ - مواقف الحسین علیه السلام علی حقّ، وأظهروا الندم جراء قتل الإمام علیه السلام ؟

وممّا یجدر ذکره أنّ مَن بذل النصح للإمام علیه السلام لم یشکّک بمشروعیة کربلاء قط، إلّا عبد الله بن عمر، فإنّه تلقّی حرکة الإمام علیه السلام فی سبیل الدنیا ونیل الجاه وفقاً لبعض التقاریر المجعولة، وبالطبع فإنّ هذا الموقف منه ینسجم مع موقفه من یزید وردّ فعله السلبی حیال بیعته له، وأخیراً بایع یزید بفعل سیاسة الترهیب والترغیب التی مُورست فی حقّه، وهو القائل عندما طُلب منه مبایعة یزید: «نبایع مَن یلعب بالقرود والکلاب، ویشرب الخمر، ویُظهر الفسوق، ما حجّتنا عند الله؟!»((1)).

و«لمّا مات زیاد عزم معاویة علی البیعة لابنه یزید، فأرسل إلی عبد الله بن عمر مائة ألف درهم فقبلها، فلمّا ذکر البیعة لیزید، قال ابن عمر: هذا أراد، إنّ دینی - إذن - علی لرخیص. وامتنع»((2)).

ص: 175


1- ([1]) الیعقوبی، أحمد بن أبی یعقوب، تاریخ الیعقوبی: ج2، ص241. الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج3، ص269.
2- ([2]) ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج3، ص351 - 352.

هذه الکلمات تدلّ بوضوح علی نقطتین:

الأُولی: موقف ابن عمر من الناحیة الشرعیة المناوئ لیزید، حیث یعتبر یزید طاغوتاً ومواجهته مشروعة.

الثانیة: مخالفته لخروج الحسین علیه السلام وموافقته لیزید فیما بعد، فإنّ هذا الموقف منه یدلّ علی تسویات تمّت وراء الکوالیس بفضل الهدایا والصِّلات، وافتقاره لأیّة قیمة دینیة واجتهادیة.

4- إنّ اتّهام الحسین علیه السلام بطلب الجاه والسلطة لا یتّفق والصورة التی عکسها أهل السنة عنه علیه السلام ، فقد ذکروا فی مرویاتهم أنّه علیه السلام کان یصلّی ألف رکعة فی الیوم((1)).

وقد وصفه ابن الزبیر بقوله: «أما والله، لقد قتلوه، طویلاً باللیل قیامه، کثیراً فی النهار صیامه، أما والله، ما کان یستبدل بالقرآن الغناء والملاهی، ولا بالبکاء من خشیة الله اللغو والحداء، ولا بالصیام شرب المدام وأکل الحرام، ولا بالجلوس فی حلق الذکر طلب الصید»((2)).

وفضلاً عن ذلک، فإنّ ما توهّمه الخضری ینقضه ما ثبت من أنّ الحسین علیه السلام خرج من مکة برفقة رجالٍ لا یتجاوز عددهم الثمانین، ومثل هذا العدد لا یکفی للخروج علی مدینة، فکیف بدولةٍ مترامیة الأطراف، کما أنّه لم یحاول أن یستکثر من الأعوان، فحینما بلغه مقتل مسلم بن عقیل أعلن صراحةً لمَن معه، قال لهم: خذلتنا شیعتنا، فمَن أحبّ منکم الانصراف فلینصرف من غیر حرج، ولیس علیه منّا ذمام. فتفرّق عنه الناس یمیناً وشمالاً حتی بقی فیمَن معه من مکة.

ص: 176


1- ([1]) الیعقوبی، أحمد بن أبی یعقوب، تاریخ الیعقوبی: ج2، ص247.
2- ([2]) ابن کثیر، إسماعیل بن عمر، البدایة والنهایة: ج8، ص231. سبط ابن الجوزی، یوسف بن فرغلی، تذکرة الخواص: ص241.

إنّ الحسین بن علی علیه السلام منزّه عن تلک التُّهم، لا لمکانته القریبة من رسول الله صلی الله علیه و آله فحسب، بل لتنبّؤات النبی صلی الله علیه و آله بشأن حادثة عاشوراء ودعوة المسلمین إلی نصرته((1)).

نظرة عقلائیة لفلسفة عاشوراء

من جملة متبنّیات تلک النظرة هی افتقار ثورة کربلاء للعقلانیة اللازمة، وعدم إدراک الظروف الاجتماعیة والسیاسیة والقبلیة للمسلمین، لا سیما أهل الکوفة، وغیاب الإخلاص فی صفوفهم تجاه مبادئ الثورة.

إنّ أتباع هذه النظرة أشاروا إلی أنّ الإمام علیه السلام لم یولِ اهتماماً لنصائح الصحابة، ولم یأخذ العِبَر ممّا آل إلیه أمیر المؤمنین علیه السلام والإمام الحسن علیه السلام .

لا شکّ أنّ المنازعة علی الخلافة أمرٌ بعید عن الصواب؛ ذلک لأنّ التأمّل فی کلمات الحسین علیه السلام وردود فعله تجاه تلک النصائح، وخطبه التی ألقاها منذ ابتداء سیره من مکة إلی کربلاء، تدلّ علی أنّ قائد ثورة عاشوراء قد نظر إلی القضایا بوعیٍ أشمل، ومعرفةٍ أعمق من معرفة الناصحین له، وعلی هذا الأساس شرع بحرکته التاریخیة الخالدة، من هنا فهذه النظرة مجانبة للواقع((2)).

ص: 177


1- ([1]) الطبری، أحمد بن عبد الله، ذخائر العقبی عن مناقب ذوی القربی: ص146. ابن کثیر، إسماعیل بن عمر، البدایة والنهایة: ج8، ص217.
2- ([2]) وفی هذا الصدد قال حسین محمد یوسف فی کتابه سیّد شباب أهل الجنة: ص 418: «إنّ القول بخروج الحسین کان بقصد المنازعة علی الخلافة بعید عن الحقیقة الواقعة، ومع أنّ أهمّ کتب السیر والتاریخ قد تضمّنت من الأنباء الصادقة والروایات الصحیحة ما ینفیه تماماً ویهدمه من أساسه، فقد تناقله کثیر من الکتّاب والمؤرِّخین، ولعلّ الدافع إلی انتشار هذه الأُسطورة مع عدم واقعیتها هو أنّه لیس فیها ما یستدعی الغرابة والإنکار، أو ما یغضّ من کرامة الحسین ومقامه، فهو بلا شک کان جدیراً بالخلافة، ولا مجال للمقارنة بینه وبین الصحابة فی ذلک الحین، فکیف بمقارنته بمَن لم یحظَ بشرف صحبة سیّد الخلق صلی الله علیه و آله ، بل کیف بمقارنته بیزید نفسه؟ ومن ثمّ فلو أنّ سیّد شباب أهل الجنة کان حقّاً یسعی إلی الخلافة، فهو بذلک إنّما کان یسعی إلی مصلحةٍ عامّة ولا شکّ فیها، کما أنّ خروجه علی یزید إنّما کان خروجاً فی سبیل الله تعالی، له ما یبرّره من الأسباب، وما یدعمه من الدوافع. (المترجم).

1- «لم یغتَر الحسین بأهل الکوفة، وذلک:

أوّلاً: کان علی علمٍ تامٍّ بطبیعتهم، وسبق أن حذّر أخاه محمد بن الحنفیة من الانخداع بهم، فلم یکن خروجه إلیهم لثقته فیهم أو اعتماده علیهم فی إخراج الأمر من یزید، وإنّما کان اضطراراً تفادیاً للخطر الذی یتهدّده، وحرصاً علی حرمة البیت الحرام أن تُهدر قدسیتها.

ثانیاً: إنّ الحسین لم یُفاجأ بعد وصوله کربلاء بنقض أهل الکوفة لعهدهم وانحیازهم إلی ابن زیاد، فقد بلغه کلّ ذلک وهو فی منتصف الطریق، وکان علی علمٍ به قبل وصوله بأیّام، فقد أخبر به مَن معه وأذن لهم بالانصراف عنه دون حرج، واستمرّ بعد ذلک فی طریقه، ولیس معه سوی الحفنة التی صحبته من مکة، فدلّ ذلک أنّه لم یخرج اعتماداً علی أهل الکوفة، أو اغتراراً بوعودهم»((1)). وکان علیه السلام یقول لناصحیه: «یا عبد الله، إنّه لیس یخفی علیّ ما رأیتَ، ولکن الله لا یُغلب علی أمره»((2)).

ولهذا السبب لم ینبس علیه السلام ببنت شفة عن انتصار حرکته، وعن توزیع المناصب، وتجهیز جیش، ولم یتجاهل سطوة یزید، ولم یخطو خطوات نحو بذل الوعود للناس، بل کان یقول: «أما والله، إنّی لأرجو أن یکون خیراً ما أراد الله بنا، قُتلنا أم ظفرنا»((3)).

فلو کان هدفه الانتصار العسکری من خلال الاعتماد علی أهل الکوفة والاستیلاء علی زمام الأمور، لکان بمجرد سماعه نبأ استشهاد مسلم بن عقیل والتغیر المفاجئ لمواقف أهل الکوفة والذی یصبّ فی صالح یزید وعبید الله بن زیاد، لکان کلّ ذلک یضعف إرادة الإمام علیه السلام وعزیمته علی المضی فی نهضته الإصلاحیة، بینما نجد أنّ هذا

ص: 178


1- ([1]) یوسف، حسین محمد، سیّد شباب أهل الجنة: ص432.
2- ([2]) ابن العربی، محمد بن عبد الله، العواصم من القواصم: ص239.
3- ([3]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص306.

الخبر لم یُوهن عزمه علی التصدّی للظلم الیزیدی فحسب، بل مضی بإرادة صلبة، وواصل مسیره نحو العراق. وعلیه؛ إنّ الزعم بأنّ الحسین علیه السلام استهدف من خروجه تقویض دعائم حکم یزید هو زعمٌ فاسد، مصدره الجهل بمجریات الأُمور أو غشاوة حالت دون رؤیة الحقیقة والنور.

2- إلی جانب کلّ ذلک، کان للحسین علیه السلام نظرةٌ ثاقبة وفهم عمیق للأوضاع السیاسیة والاجتماعیة السائدة فی المجتمع، وأدلّ علی ذلک هو أنّ الولید بن عقبة والی المدینة بعث إلی الحسین علیه السلام وعبد الله بن الزبیر بعد هلاک معاویة، «فقال عبد الله بن الزبیر للحسین: ظنّ فیما تراه بعث إلینا فی هذه الساعة التی لم یکن یجلس فیها، فقال حسین: قد ظننت أری طاغیتهم قد هلک، فبعث إلینا لیأخذنا بالبیعة قبل أن یفشو فی الناس الخبر»((1)).

3 - إنّ تکهّنات الإمام علیه السلام بعزم بنی أُمیّة علی قتله - وخلافاً لوجهات النظر الأُخری - تدلّ علی وعیه العمیق بالمستقبل، ونظرته الفاحصة لقضایا المجتمع ومسائله السیاسیة، کما دلّت وقائع التاریخ علی أنّ قضیة قتل الحسین علیه السلام لم تکن متوقّعة حتی لدی بعض أُمراء جند یزید حتی آخر اللحظات، ولکنّ الإمام علیه السلام قد توقّع ذلک منذ البدایة، من خلال التأمّل فی أهداف وبرامج بنی أُمیّة، وهذا الأمر وخلافاً لتوقّعات الآخرین جاء وفقاً لتکهّنات الإمام الحسین علیه السلام .

2 - المهمّة الشخصیة والخاصّة

اشارة

ذهب بعض علماء السنة والجماعة إلی أنّ الظروف لیست سانحة لمثل هذه الحرکة بعد نقلهم لمواقف الصحابة - مثل: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن العباس - الداعیة إلی

ص: 179


1- ([1]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ص251.

ثنی الإمام علیه السلام عن سیره نحو العراق وتحذیره من مغبة القیام بوجه یزید، ثمّ وصلوا إلی قناعةٍ هی أنّ السبط الشهید علیه السلام کان قد أُسندت إلیه مهمّةٌ خاصّة مع الأخذ بنظر الاعتبار شخصیته العلمیة والاجتماعیة والدینیة المرموقة، واطّلاعه الواسع بمجریات الأُمور، لا سیما وضع أهل الکوفة، وقد أُلهم ذلک من رؤیا رآها عن النبی صلی الله علیه و آله یأمره فیها بالخروج إلی العراق، فقد کتب إلی عبد الله بن جعفر یقول:

«أمّا بعدُ، فإنّ کتابک ورد علیَّ فقرأته وفهمت ما ذکرت، وأُعلمک أنّی رأیت جدّی رسول الله صلی الله علیه و آله فی منامی، فخبّرنی بأمرٍ وأنا ماضٍ له، لی کان أو علیّ، والله، یا بن عمّی، لو کنتُ فی جحر هامّةٍ من هوام الأرض لاستخرجونی ویقتلونی، والله یا بن عمی، لیعتدنّ علیّ کما اعتدت الیهود علی السبت»((1)).

ویذهب أصحاب هذه النظرة إلی أنّ لثورة الحسین بن علی علیه السلام منطقها الخاصّ، ومن هذا الباب قام بها، رغم افتقارها إلی التبریر أو المنطق الذی یمکن علی ضوئه الدفاع عنها، وممَّن ذهب إلی ذلک محمد عزة دروزة((2))، وإبراهیم علی شعوط((3)).

دوافع هذه النظرة

انطلقت هذه النظرة من حدیث ورد فیه أنّ الحسین علیه السلام قال: «إنّی رأیت جدّی رسول الله صلی الله علیه و آله فی منامی فخبّرنی بأمرٍ وأنا ماضٍ له، لی کان أو علیّ»((4))، ومثله أنّ الحسین علیه السلام قال لأخیه محمد بن الحنفیة: «أتانی رسول الله صلی الله علیه و آله بعد ما فارقتک، فقال: یا حسین، اخرج فإنّ الله قد شاء أن یراک قتیلاً، فقال محمد بن الحنفیة: إنّا لله وإنّا إلیه

ص: 180


1- ([1]) ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج5، ص74.
2- ([2]) اُنظر: ابن العربی، محمد بن عبد الله، العواصم من القواصم: هامش ص226.
3- ([3]) اُنظر: شعوط، إبراهیم علی، أباطیل یجب أن تُمحی من التاریخ: ص248.
4- ([4]) ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج5، ص74.

راجعون، فما معنی حملک هؤلاء النساء معک وأنت تخرج علی مثل هذا الحال؟ قال: فقال لی: إنّ الله قد شاء أن یراهنّ سبایا»((1)).

مناقشة هذه النظرة

لا تخلو هذه النظرة من إشکالات، ولا یمکن أن تکشف عن فلسفة ثورة کربلاء، ولا أن تکون معیاراً لتقییم تلک الثورة ومعرفة أبعادها؛ وذلک:

أوّلاً: ثمّة استفسارات عدیدة تحوم حول ثورة کربلاء والنهضة التاریخیة لأبی الأحرار الحسین بن علی علیه السلام دون إجابة، ویمکن الإشارة إلی الاستفسارات التالیة، وهی إذا کانت فلسفة الثورة الحسینیة ورؤیا الإمام الحسین علیه السلام هی ما أشارت إلیه تلک النظرة:

- فلماذا لم یمکث الإمام علیه السلام فی المدینة ولم یرتضِ قتله وأسر عیاله فیها؟

- لماذا لم یقم فی مکة مدّة أطول ویرضی بقتله وأسر عیاله فیها؟

- لماذا سار إلی الکوفة؟ وکیف یمکن تبریر سیره نحوها بدعوة من أهلها؟

ثانیاً: إنّ الروایات المذکورة لم ترد فی المصادر المتقدّمة والمعتبرة لدی أهل السنة، ولا أثر لها فی روایات الطبری عن أبی مخنف الأزدی، ولم ترد فی مصادر مثل الفتوح لابن أعثم الکوفی، وتذکرة الخواص لسبط ابن الجوزی، والإرشاد، ومقتل الخوارزمی، ولهذا السبب لا یمکن الرکون إلی اعتبارها، وفی صورة وجود مثل هذه الأخبار فی المصادر التاریخیة والحدیثیة، فإنّها لا تصمد أمام کلمات الحسین علیه السلام وخطبه وکتبه التی أوضح فیها معالم ثورته وأسباب حرکته التاریخیة الکبری.

ثالثاً: إضافةً إلی خطب الحسین علیه السلام وکتبه التی وردت فی مصادر أهل السنة، والتی

ص: 181


1- ([1]) القندوزی، سلیمان بن إبراهیم، ینابیع المودة: ج3، ص60.

أوضح فیها فلسفة ثورته، فإنّ ثمّة کلمات أُخری وردت علی لسانه، تلخّص فلسفة حرکته نحو الشهادة، وأنّه تکلیفٌ خاصّ موجّه له لا تنسجم مع تلک الکلمات، ألیس الخضوع للجبر واختصاص هذه المهمّة به یسلب نموذجیتها وکونها أُسوة یُحتذی بها؟!

رابعاً: إنّ قبول تعلّق إرادة الله باستشهاد الحسین علیه السلام وأسر عیاله لا یخالف الفلسفة السیاسیة والدینیة والاجتماعیة لثورة کربلاء، ویمکن عرض تلک الإرادة کجزء من الفلسفة المذکورة فی إطار الظروف الدینیة والسیاسیة والاجتماعیة، وفی الواقع فإنّ الأبعاد المختلفة لفلسفة تلک النهضة یمکن لها وضع تفسیر منطقی وهادف للتقدیر الإلهی، ومن خلال ضمّ سائر الوثائق التاریخیة والمأثورة عن الإمام علیه السلام إلیها تتّضح بشکلٍ أفضل أبعاد الفلسفة الشمولیة لنهضة عاشوراء.

3- رفض مبایعة یزید وابن زیاد

اشارة

لم یتحرّ بعض علماء أهل السنة الدقّة حین الحدیث عن فلسفة ثورة کربلاء لمّا حصروا نطاقها فی ردود الفعل حیال رفض مبایعة یزید والنزول علی حکم عبید الله، علی الرغم من عدم ابتعادهم عن جادّة الصواب حینما تحدّثوا عن شخصیة الإمام الحسین علیه السلام ، وخصوصیات یزید وسجلّه الأسود وعدم أهلیته للخلافة، ولا یخلو کلامهم فی هذا السیاق من إبهام.

إنّ النکتة التی ینبغی أن لا تبتعد عن الأذهان أنّ هؤلاء عقدوا اختزال فلسفة ثورة کربلاء فی رفض المبایعة لیزید بصورة مباشرة أو غیر مباشرة بندم یزید وحزنه وإحسانه لأُساری کربلاء، مستهدفین من وراء ذلک الإشارة إلی عدم رضی یزید بما جری فی کربلاء، وأنّ العداوة للحسین علیه السلام لم تبلغ الحدّ الذی جری علیه فی کربلاء، وبالطبع فقد کرّسوا طلب الحسین علیه السلام بالأمان والصلح دعماً لوجهة نظرهم.

کما ذهبوا إلی الاعتقاد بأنّ الحسین علیه السلام حمل دعوة أهل الکوفة محمل الجد، ورکن

ص: 182

إلیها لما سار إلی الکوفة، بید أنّه بعد استشهاد مسلم بن عقیل سفیره وابن عمِّه فی الکوفة طرأ تغییر فی موقفه من خلال:

- العودة إلی المدینة.

- اللجوء إلی ثغرٍ من ثغور المسلمین.

- مبایعة یزید لا النزول علی حکم ابن زیاد.

وقد فرض ابن زیاد علی الإمام علیه السلام الحرب التی لا مفرّ منها إلّا بالتسلیم، إلّا أنّ الإمام علیه السلام لم یرضخ لهذا الذلّ، ورفض مدّ ید البیعة والتسلیم لابن زیاد.

هذا إلی جانب أنّ حفنةً من أهل السنة نوّهت بالقرابة التی أشار إلیها یزید بین بنی هاشم وبنی أُمیّة، عبر نقل تقاریر لا أصل لها من بعض المصادر، ورد فیها حسن معاملة یزید للأسری، وحزنه علی الحسین علیه السلام ، واعتبرت ذلک دلیلاً آخر علی ذلک الزعم، وهو أنّ فلسفة عاشوراء تلخّصت فی رفض الإمام علیه السلام مبایعة ابن زیاد، وتشدّد موقف ابن زیاد.

من هنا فقد دعا یزید علی ابن زیاد، وفی الواقع فإنّ الحسین علیه السلام إذا کان قد بایع ابن زیاد أو اکتفی ابن زیاد ببیعة الإمام علیه السلام لیزید دونه لما حدثت فاجعة کربلاء، ولما شهد یوم عاشوراء عام (61ه-) تلک الحماسة الخالدة((1)).

مناقشة وتحلیل

تبتنی هذه النظرة علی ثلاثة عناصر، هی:

الاعتماد علی أهل الکوفة، مبایعة الحسین علیه السلام لیزید، وعدم رضی یزید بقتل

ص: 183


1- ([1]) اُنظر: ابن العربی، محمد بن عبد الله، العواصم من القواصم: ص241. ابن الجوزی، عبد الرحمن بن علی، المنتظم فی تاریخ الملوک والأُمم: ج5، ص242. سبط ابن الجوزی، یوسف بن فرغلی، تذکرة الخواص: ص260.

الحسین علیه السلام وإبداء حزنه فی هذا الصدد وحسن معاملته مع أسری فاجعة کربلاء.

ویُستخلص من التأمّل فی المصادر التاریخیة زیف تلک العناصر الثلاثة، وبالتالی تقویض دعائم هذه النظرة وتعریتها من أیّة قیمةٍ علمیة.

الأوّل: کما تقدّم فإنّ الإمام علیه السلام أدری من غیره بأهل الکوفة وغدرهم، کیف وقد بلغ نقضهم للعهود من الشهرة بمکان لم یکن خفیاً، وعلیه فمن البعید أن تبتنی فلسفة ثورة کربلاء علی أکتاف أهل الکوفة ودعوتهم.

الثانی: إنّ الاقتراح المزعوم بقبول الإمام الحسین علیه السلام مبایعة یزید قد أبطله معظم المؤرِّخین، فقد نقل الطبری عن عبد الرحمن بن جندب عن عقبة بن سمعان، قال: «صحبت حسیناً، فخرجت معه من المدینة إلی مکة ومن مکة إلی العراق، ولم أُفارقه حتی قُتل، ولیس من مخاطبته الناس کلمة بالمدینة ولا بمکة ولا فی الطریق ولا بالعراق ولا فی عسکره إلی یوم مقتله إلّا وقد سمعتها، ألا والله، ما أعطاهم ما یتذاکر الناس وما یزعمون من أن یضع یده فی ید یزید بن معاویة، ولا أن یسیّروه إلی ثغرٍ من ثغور المسلمین، ولکنّه قال: دعونی فلأذهب فی هذه الأرض العریضة حتی ننظر ما یصیر أمر الناس»((1)).

وهذا الأمر أدّی بأبی بکر بن العربی ومحمد عزة دروزة إلی الاعتراف بهذه الحقیقة، وهی أنّه من الثابت أنّ الحسین علیه السلام رفض مبایعة یزید ولم یساوم علی هذا الموقف البتة.

الثالث: إنّ حزن یزید وندمه لم یکن سوی تظاهر وخداع، وقد صرّح مؤرِّخو أهل السنة أنّ یزید أخذ ینکت الرأس الشریف بقضیبٍ فی یده، وکاد أن یبیع بنات الإمام علیه السلام ویهدیهنّ، إلّا أنّه فی ظلّ ما قام به الأسری خاصّةً الإمام السجاد علیه السلام وعمّته السیدة زینب‘ انتبه أهل الشام من غفلتهم، وتبدّل المشهد إلی غضب عارم ضدّ یزید

ص: 184


1- ([1]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص314.

وطغمته، وأرغم علی التظاهر بالحزن والألم والندم ((1)).

4 - الثأر لدم مسلم بن عقیل

اشارة

من الانحرافات التی وجدت طریقها إلی بعض المصادر التاریخیة لأهل السنة، هی طلب بنی عقیل الثأر لمسلم بن عقیل بموافقة الحسین بن علی علیه السلام ، فقد أورد الطبری فی بعض ممّا نقله من الحوادث والأخبار المتعلِّقة بسفر الإمام علیه السلام إلی العراق: «قال بکیر بن المثعبة: لم أخرج من الکوفة حتی قُتل مسلم بن عقیل وهانی بن عروة، فرأیتهما یجرّان بأرجلهما فی السوق... فقال الحسین: إنّا لله وإنّا إلیه راجعون، رحمة الله علیهما، فردّد ذلک مراراً... فوثب عند ذلک بنو عقیل بن أبی طالب وقالوا: لا والله، لا نبرح حتی ندرک ثأرنا أو نذوق ما ذاق أخونا. فنظر الحسین وقال: لا خیر فی العیش بعد هؤلاء. قال الراوی: فعلمنا أنّه قد عزم له رأیه علی المسیر»((2)).

دراسة ومناقشة هذه النظرة

هذه النظرة وبحسب معتقدات علماء السنة أوهن من أن تجذب نحوها الأنظار، وأن یرکن إلی أخبارها؛ ذلک لأنّها تبتنی علی أخذ الثأر والحقد الشخصی، وأنّ الإمام علیه السلام نزل عند رغبة بنی عقیل مُطلِقاً نداء الانتقام، فی الوقت الذی لم تتوفّر فیه الظروف المناسبة لأخذ الثأر؛ وذلک:

أوّلاً: ورد فی المصادر الأُولی لأهل السنة - وکما تقدّم - أنّ الحسین علیه السلام من

ص: 185


1- ([1]) اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص457، وص462، وص464. السیوطی، جلال الدین، تاریخ الخلفاء: ص185.
2- ([2]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم و الملوک: ج5، ص397 - 398.

أهل بیت النبوة الذی قال عنهم ربُّ العزّة والجلالة: «وَقَرْنَ فِی بُیُوتِکُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِیَّةِ الْأُولَی وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِینَ الزَّکَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرًا »((1))، کما وردت أحادیث نبویة فی أنّ الحسین علیه السلام سبط من الأسباط، وسیّد شباب أهل الجنة، وأنّه بضعةٌ منّی، ومَن أحبّ حسیناً فقد أحبّنی، لذلک فهل من المعقول أن تکون ثورته واستشهاده وأسر ذویه بداعی الانتقام وأخذ الثأر؟!

ثانیاً: لم تصرّح المصادر التی بین أیدینا بتردّد الحسین علیه السلام أو وهنه أبان سیره نحو الکوفة، کی یکون استشهاد مسلم بن عقیل سبباً للمضی بعزم واستئناف المسیر، بل کانت له أهداف واضحة وعزیمة راسخة منذ بدایة مسیره إلی الکوفة، ولم یبدِ أی شک أو تردّد أبداً لا فی مکة ولا عند وصوله کربلاء وحتی عاشوراء، بل کان راسخ العزیمة ثابت الشکیمة.

ثالثاً: إنّ نسبة أخذ الثأر للحسین بن علی علیه السلام إضافةً إلی ما یعتریها من شبهة عقدیة ودینیة فإنّها تتضمّن شبهة عقلیة، وهی غیاب الشروط المناسبة لأخذ الثأر والانتقام؛ ذلک لأنّ وصول نبأ استشهاد مسلم بن عقیل قد کشف النقاب عن عدم وفاء أهل الکوفة وغدرهم وخیانتهم، ممّا أدّی إلی حصول اطمئنان لدی عامّة الناس بتراجع نسبة النجاح فی هذه الثورة، ومع وجود هذا الاطمئنان حول الظروف غیر السانحة والتنبؤ بفشلها، فکیف یمکن فی ظلِّ تلک الظروف القاهرة الحدیث عن أخذ الثأر؟ وهل لأخذ الثأر فی تلک الظروف مفهوماً سوی الانتحار؟ وهل یمکن تصور صدور مثل هذا الموقف من جانب قائد خبیر وبصیر کالحسین علیه السلام ، مع ما یتمتّع به من مکانة مرموقة؟

رابعاً: إنّ هذه النظرة لا تتّفق مع مواقف الإمام علیه السلام وأقواله وخطبه فی مواطن

ص: 186


1- ([1]) الأحزاب: آیة33.

عدیدة؛ ذلک لأنّه کشف فی تلک الخطب والأقوال أهداف وفلسفة نهضة عاشوراء للجمیع وللتاریخ، ولم یشِر فیها قط إلی الثأر لدم مسلم بن عقیل.

وإذا کان الانتقام لدم مسلم بن عقیل عاملاً أساسیاً أو أحد عوامل ثورة کربلاء، فلا بدّ من جعله فی أولویات أهداف الثورة التی نادی بها الإمام علیه السلام ، وإعلان ذلک علی لسانه أو لسان أحد أصحابه فی یوم عاشوراء وضبطه فی التاریخ.

5 - الإبهام وغموض الفلسفة

اشارة

علی الرغم من أنّ بعض علماء أهل السنة قد صرّحوا باکتناف فلسفة ثورة عاشوراء الغموض، أو خلوها من أیة مصلحة دینیة ودنیویة، إلّا أنّهم عادوا وطرحوا - مباشرة أو إیماءً - فلسفتها، وأنّها انطلقت تلبیةً لدعوة أهل الکوفة بهدف استنهاض هممهم للإطاحة بأرکان الجور والتعسّف المتمثّلة بیزید وطغمته، والاستیلاء علی مقالید الحکم.

وفی النتیجة، تنکشف فلسفة ثورته علیه السلام من معظم الکلمات والخطب التی ألقاها الإمام علیه السلام وأصحابه، التی ذکرتها أُمّهات مصادر أهل السنة کتاریخ الطبری، وتاریخ الیعقوبی، وآثار المسعودی، وابن أعثم الکوفی، وأبی فرج الأصبهانی، وابن الجوزی، والخوارزمی، وسائر المصادر، ومَن ادّعی الإبهام والغموض فیها فهذا ینمّ عن عدم وعیه أو جهله المطبق بتلک الحادثة.

6- تحقیق العدالة الاجتماعیة

من الآراء المطروحة حول فلسفة ثورة کربلاء فی أوساط أهل السنة لا سیما المثقفین منهم، هو أنّ ثورة عاشوراء قامت ضدّ طبقة ثریة وظالمة، بهدف تحقیق العدالة الاجتماعیة وتحقیق مصالح الطبقة المعدومة.

وقد أبدی المجدّدون من أهل السنة - خاصّةً فی القرن الأخیر - تحلیلاً لهذه الواقعة

ص: 187

المهمّة، انطلاقاً من تأثّرهم بالأفکار الشیوعیة والاشتراکیة، حیث قاموا بتحلیلها إلی مواجهة بین طبقة حاکمة وأُخری محکومة، وطبقة متموّلة وأُخری معدومة، وطبقة ظالمة وأُخری مظلومة، قبل أن ینظروا إلیها نظرةً دینیة، استناداً إلی المبانی الإسلامیة، وأنّها حرکة ناضلت من أجل تحقیق العدالة الاجتماعیة، وقد کتب أحد المحقّقین فی هذا الصدد، یقول: «وجد فی أوساط أهل السنة من الکُتّاب الجدد، الذین وضعوا صورة مقبولة قابلة للتأمّل عن نهضة أبی الأحرار، والاعتقاد السائد بینهم أنّ حرکة الحسین علیه السلام لیست حادثة مقطعیة صغیرة، بل إنّ عاشوراء هی مواجهة الطبقات المحرومة والمظلومة ضد الطبقات الثریة والظالمة، فتلک الثورة هی فی الواقع نضال طبقی تدعو إلی تحریر المحرومین من جور طبقة مستثمرة رأسمالیة»((1)).

وقد مال إلی هذا الاتجاه محمود العقاد، وإبراهیم عبد القادر المازنی، وطه حسین، ومحمد کامل البنا، وخالد محمد خالد، وسید علی جلال الحسینی، ومحمد الغزالی، وآخرون، ونظروا إلی هذه الثورة من البوابة الاقتصادیة والعدالة الاجتماعیة، واعتبار ثورة کربلاء حرکة الفقراء ضدّ الأثریاء، أو حرکة الطبقة السفلی ضدّ الطبقة العلیا.

مناقشة وتحلیل

من الطبیعی أنّ التفسیر المادّی والاقتصادی البحت للنهضة الحسینیة بعیدٌ عن الإنصاف، ولا ینسجم مع أهداف النهضة والواقع التاریخی والاجتماعی السائد آنذاک؛ ذلک لأنّ:

أ - قیادة هذه الثورة تأبی أن تُلطّخ أهدافها النبیلة بقضایا مادّیة واقتصادیة، بل کان الحسین علیه السلام مثالاً أعلی فی الزهد والطهارة والتقوی، علی الرغم من أنّ العدالة

ص: 188


1- ([1]) الإمام الخمینی رحمه الله علیه وثقافة عاشوراء: ص149.

الاجتماعیة والاقتصادیة کانت تشکّل أحد أهدافه الرئیسة، لکن لیس بمقدورها أن تکون حافزاً لثورته، ولم تکن الکوفة أکثر فقراً واستضعافاً من سائر المدن، کالبصرة ومکة وخراسان وسیستان ومصر، من هنا فهذه النظرة تفتقر إلی سندٍ تاریخی.

ب - إنّ الموافقین لهذا الرأی لم یأخذوا فی الحسبان رسائل الإمام علیه السلام وأصحابه وخطبهم وکتبهم، حیث لم ترد فیها أیّة إشارة إلی موضوع النضال الطبقی والاقتصادی، وعلیه فلا تعضد هذا الرأی الوثائق والأسانید التاریخیة، ممّا یحطّ من قیمته العلمیة.

ج - ومع کلّ ذلک، لایمکن إبعاد مسألة العدالة عن فلسفة نهضة کربلاء، وربّما تکون من جملة القیم التی نادی الإمام علیه السلام بإحیائها فیما لو تحقّقت الأهداف العلیا والمنشودة لتلک النهضة، بما فی ذلک سیادة العدالة الاجتماعیة، والتخلّص من براثن نظام قطبیة الظالم.

فلسفة ثورة کربلاء من منظار الإمام الحسین علیه السلام

اشارة

یمکن استخلاص أهداف عدیدة، وفلسفة شمولیة لهذه الثورة التاریخیة الکبری، کفیلةٌ بتجاوز الشبهات والاستفسارات المتعلّقة بها، من خلال دراسة کلمات الحسین علیه السلام فی مصادر أهل السنة.

تعدّ ثورة کربلاء من أهمّ الظواهر الاجتماعیة، ولها أبعاد مختلفة کسائر الظواهر الاجتماعیة؛ إذ تنطوی علی فلسفة شمولیة، وبالتأکید فإنّ تجاهل هذه الشمولیة والترکیز علی بعدٍ واحد، یعدّ أکبر عائق یحول دون فهم فلسفة تلک الثورة، هذا إلی جانب أنّ الاقتصار علی الشمولیة وملاحظة مختلف جوانبها لا یکشف تمام الحقیقة، بل الأهمّ من ذلک هو إعطاء السهم المناسب لکلٍّ حسب استحقاقه.

وعلی أیّة حال، فقد کشف الحسین علیه السلام النقاب عن فلسفة خروجه فی کلماته،

ص: 189

والبعد الذی أکّد علیه من بین سائر الأبعاد هو أداء التکلیف الإلهی والواجب الدینی، وقد صرّح بذلک عند جوابه لعبد الله بن جعفر، حیث قال: «وأمرت بأمرٍ وأنا ماضٍ له»((1))، وعندما صادف عسکر الحر بن یزید فی مسیره من مکة إلی الکوفة وحمله علی تغییر وجهة سیره، خاطب أصحابه وأصحاب الحر بالبیضة فحمد الله وأثنی علیه، ثمّ قال: «أیّها الناس، إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قال: مَن رأی سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناکثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله صلی الله علیه و آله ، یعمل فی عباد الله بالإثم والعدوان، فلم یغیّر علیه بفعلٍ ولا قول، کان حقّاً علی الله أن یدخله مدخله، ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشیطان، وترکوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفیء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غیری»((2)).

ثمّ إنّه علیه السلام فی أثناء سیره قام بذی حسم، فحمد الله وأثنی علیه، ثمّ قال: «إنّه قد نزل من الأمر ما قد ترون، وإنّ الدنیا قد تغیّرت وتنکّرت وأدبر معروفها، واستمرت جدّاً، فلم یبقَ منها إلّا صبابةٌ کصبابة الإناء، وخسیس عیش کالمرعی الوبیل، ألا ترون أنّ الحق لا یُعمل به، وأنّ الباطل لا یُتناهی عنه، لیرغب المؤمن فی لقاء الله محقّاً، فإنّی لا أری الموت إلّا سعادة، ولا الحیاة مع الظالمین إلّا برماً»((3)).

وقد بیّن الحسین علیه السلام فی الخطبة الأُولی أسباب مختلفة لثورته، کما عدّ مشکلات مجتمعه المتعاظمة ومعضلاتها المتفاقمة، وفی الواقع فقد فرض علیه الواجب الإلهی والتکلیف الدینی مجابهة:

- الحاکم الظالم.

ص: 190


1- ([1]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص292.
2- ([2]) المصدر السابق: ص304.
3- ([3]) المصدر السابق: ص305.

- تفشّی الحرام والبدعة.

- نقض العهود والمواثیق الإلهیة.

- الجور والتعسّف ضدّ الناس.

- إماتة السنّة.

وتطرق فی خطبته الأُخری إلی:

- ترک العمل بالحقّ.

- ترک التناهی عن الباطل.

والواجب یحتّم علی کلّ مؤمن الجهاد والاستعداد للتضحیة؛ ذلک لأنّ الحیاة مع الظالمین لیست إلّا ذلّاً، والموت فی سبیل مکافحة الباطل لیس إلّا سعادة.

وقد صرّح الإمام علیه السلام - کما تقدّم - بأهداف نهضته فی کلماته، ولم ترد فیها إشارة إلی دعوة أهل الکوفة، إنّما ذکرت حین خطاب عسکر یزید، وبعد أن شاهد نقض العهد قال: «قد أتتنی کتبکم، وقدمت علیّ رسلکم ببیعتکم أنّکم لا تسلمونی ولا تخذلونی، فإن تممتم علی بیعتکم تصیبوا رشدکم، فأنا الحسین بن علی وابن فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه و آله ، نفسی مع أنفسکم، وأهلی مع أهلیکم، فلکم فی أُسوة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدکم وخلعتم بیعتی من أعناقکم، فلعمری ما هی لکم بنکر، لقد فعلتموها بأبی وأخی وابن عمّی مسلم، والمغرور مَن اغترّ بکم، فحظّکم أخطأتم، ونصیبکم ضیّعتم، ومَن نکث فإنّما ینکث علی نفسه، وسیغنی الله عنکم»((1)).

والحاصل یمکن من خلال دراسة کلمات وخطب الحسین علیه السلام قائد هذه الثورة التاریخیة العظیمة تشطیر فلسفتها إلی شطرین:

ص: 191


1- ([1]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ص304.

أسباب رئیسة متمثّلة فی عنوان الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، وأسباب تعجیل.

أ - الأسباب الرئیسة (الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر)
اشارة

کان أهمّ أهداف وفلسفة عاشوراء هو إجراء فریضة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، فالمنکر المتمثّل فی النظام السیاسی الفاسد لا بدّ من تقویضه، باعتباره من أهمّ أولویات وأهداف تلک النهضة، وبالتأکید لم یکن تحقیق ذلک بمستبعد، خاصّةً فیما لو تکاتف أهل الکوفة علی هذا الهدف، بید أنّ نقضهم العهود لم یغیّر من سلّم الأولویات شیئاً، فقد استهدف الإمام علیه السلام الواجهة الدینیة لذلک النظام الفاسد وشعار خلافته لرسول الله صلی الله علیه و آله ، من خلال تضحیته وأصحابه، وتیسّر له إیصال رسالته إلی المسلمین عامّة، وهی عدم جدارة یزید لتولّی مسند الخلافة، وأنّ التبعیة له تبعیة للشیطان، والاجتناب عن طاعته طاعة للرحمن، وقد خطی الإمام علیه السلام الخطوة الأُولی نحو الإطاحة بالنظام الیزیدی والخلافة الأُمویة، وتحدّی من خلال نهضته الحماسیة الواعیة الخلفیات العقائدیة والشرعیة لیزید والخوف والجهل والانهزام المتفشّی بین الناس.

1 - إقامة نظام الحقّ

من الطبیعی أنّ الإمام علیه السلام کان یملک برنامجاً بعد الإطاحة بالنظام الأُموی، وکان قد طرح إقامة خلافة أهل البیت علیهم السلام علی أنقاض الحکم الأُموی، حیث کان یقول: «ونحن أهل البیت أولی بولایة هذا الأمر علیکم من هؤلاء، المدّعین ما لیس لهم والسائرین فیکم بالجور والعدوان»((1)).

فکان برنامجه الحکومی المقترح المتجسّد بخصوصیات أهل البیت علیهم السلام بدیلاً للنظام

ص: 192


1- ([1]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ص303.

الأُموی التعسّفی، أی أنّ وضع الولی العادل بدل السلطان الجائر کان علی رأس الأولویات والبرامج والسیاسات.

2 - إحیاء الدین وقِیمِه

کان الحسین علیه السلام بصدد إحیاء الدین عبر إجراء الأحکام الإلهیة، ودحر خط الشیطان والسیاسات المنبثقة منه، وحاول إرساء دعائم ثورته علی تلک الأهداف فی مقابل نظام بنی أُمیّة، والمیل نحو الشیطان والإعراض عن الرحمن.

3 - تحقیق الإصلاح

لقد تفشّی الفساد فی النظام الأُموی، والدائرین فی فلکه مظهرین له، ممّا جعل الإمام علیه السلام ینادی أثر ذلک بالإصلاح الذی یعدّ رکیزة أساسیة فی فلسفة ثورته، کی یسود النظام شؤون المجتمع، ویبتعد عن الفساد الاقتصادی والسیاسی والثقافی.

4 - الالتزام بالمواثیق الإلهیة

إنّ الله سبحانه بعث الأنبیاء - خاصّةً رسول الله صلی الله علیه و آله - لیأخذ علی البشر المواثیق والعهود، والعمل بعهود الله والالتزام بالتوحید الإلهی، ونفی الشرک، وإجراء العدالة، والاجتناب عن الظلم والجور والتعسّف والتمییز.

5 - إحیاء السنة النبویة

کان للنبی صلی الله علیه و آله سیرة وسنة واضحة فی قیادة الأُمّة الإسلامیة وتبلیغ الدین، لکن للأسف اعتراها النسیان تدریجاً بعد وفاته، حتی بلغ الأمر فی عهد یزید أنّه لا نشاهد أی أثر لتلک السنة فی الحاکم الإسلامی أو ولاته، والمسلمون آنذاک أیضاً قد ابتعدوا عنها وعن قیمها، وفی هذا الخضم بذل الإمام علیه السلام الجهد لإحیاء تلک السنة، وتطبیق سیرة رسول الله’ کعنصر من عناصر فلسفة ثورته، کیف لا وهو ابن رسول الله صلی الله علیه و آله ،

ص: 193

وخلیفته فی الدین والعلم.

6 - إجراء الحدود

عُطّلت الحدود الإلهیة أبان حکم یزید، ممّا حدا بالإمام علیه السلام إلی جعل إجراء الحدود الإلهیة من أهداف ثورته، وفقاً للنصّ القرآنی الصریح «وَلَکُمْ فِی الْقِصَاصِ حَیَاةٌ یَا أُولِی الْأَلْبَابِ لَعَلَّکُمْ تَتَّقُونَ »((1))، إذ لا یستقرّ الأمن إلّا فی ظلّه.

7 - العدالة الاجتماعیة

کان الحسین علیه السلام یعتقد أنّ التفضیل فی الفیء، والتمییز فی بیت المال من النقاط السوداء والمنکرة فی الحکم الأُموی ویزید، من هنا فقد نادت نهضة عاشوراء بتحقیق العدالة، ورفض النظام الاستعماری الطبقی الفاسد، ومقت العبودیة والتمییز العنصری، وعلی ضوء هذه المسؤولیة الکبری ناهض الحسین علیه السلام جور الأُمویین، وناجز مخطّطاتهم الهادفة إلی استعباد الأُمّة وإذلالها ونهب ثرواتها.

8 - نشر ثقافة الشهادة

کان من خصوصیات حکم یزید تحلیل الحرام وتحریم الحلال من جهة، وبث روح الانهزام بین الناس فی ظلّ نظام ظالم قمعی وسلطان جائر من جهةٍ أُخری، وقد أصرّ الإمام علیه السلام حتی آخر لحظة من حیاته علی ردّ المفاسد والمنکرات، ونشر ثقافة الشهادة بهدف مکافحتها، وقام أسری آل محمد’ بمواصلة نشر وتبلیغ تلک الثقافة وتکریسها علی أحسن ما یرام، ولم تکن مبایعة یزید تنسجم مع تلک الأهداف؛ لذا کانت الإطاحة به أو الاستشهاد فی هذا السبیل من جملة أهمّ أهداف الإمام علیه السلام .

ص: 194


1- ([1]) البقرة: آیة179.
ب - أسباب التعجیل

1 - کان طلب یزید من عامله الولید بن عقبة أخذ البیعة من الحسین علیه السلام عنوةً من أسباب تعجیل الثورة واختزال زمن وقوعها.

2 - کانت دعوة أهل الکوفة للحسین علیه السلام من الأسباب التی عجّلت فی تلک الثورة، ولم تکن هذه الدعوة الأُولی من نوعها، فقد دعوه إلی الخروج إلیهم زمن معاویة، وکان علیه السلام یأبی، ولو کانت تلک الدعوة من الأسباب المصیریة لأُعلنت الثورة منذ ذاک الحین، ولمّا بویع یزید عزم الإمام علیه السلام علی المسیر إلیهم، وجعل الکوفة مسرحاً لثورته، وقد لعبت تلک الدعوة دوراً مؤثّراً فی تعجیل وقائع الثورة.

ص: 195

ص: 196

ص: 197

ص: 198

الفصل الرابع: یزید بن معاویة وفاجعة کربلاء: إدانة أو براءة

إدانة أو براءة

اشارة

من الموضوعات المطروحة فی أوساط أهل السنة هی إدانة أو براءة یزید بن معاویة فی مسألة شهادة الحسین علیه السلام وفاجعة کربلاء، وقد بذلت ثلّة من أهل السنة الجهد وبأسالیب مختلفة من أجل تنصیع صورة یزید وإثبات فقاهته وعدالته ودیانته، وقد دعاها هذا الأمر إلی إنکار أی دور لیزید فی شهادة الحسین علیه السلام وأصحابه.

أوّل تشکیک

لعلّ أوّل مَن تردّد من أهل السنة إزاء دور یزید فی شهادة الإمام الحسین علیه السلام وأصحابه هو أبو حامد محمد الغزالی، حیث اتخذ موقفاً صریحاً إزاء لعن یزید، قائلاً: «فإن قیل: هل یجوز لعن یزید لأنّه قاتل الحسین أو آمر به؟ قلنا: هذا لم یثبت أصلاً، فلا یجوز أن یقال: إنّه قتله أو أمر به ما لم یثبت فضلاً عن اللعنة»((1)).

وقد وردت کلمات تصرّح ببراءة یزید من دم الحسین علیه السلام : «یُروی أنّ یزید دمعت عیناه لمّا حمل إلیه رأس الحسین، وقال لحامله: أما والله، لو أنّی صاحبه لعفوت عنه، فرحم

ص: 199


1- ([1]) الغزالی، محمد بن محمد، إحیاء علوم الدین: ج3، ص135.

الله الحسین، أما والله، یا حسین، لو أنا صاحبک ما قتلتک... وذکر الطبری أنّه لمّا دخل علی ابن زیاد عشاءً آل الحسین أمر لهم بمنزل، وأجری علیهم رزقاً، وأمر لهم بنفقة وکسوة، ثمّ سیّرهم إلی یزید»((1)).

کما التزم محمد عزة دروزة ببراءة یزید حینما قال: «إنّه لیس هناک ما یبرّر نسبة قتل الحسین إلی یزید، فهو لم یأمر بقتاله فضلاً عن قتله، وکلّ ما أمر به أن یُحاط به ولا یُقاتل إلّا إذا قاتل، ومثل هذا القول یصحّ بالنسبة لعبید الله بن زیاد، فکلّ ما أمر به أن یُحاط به ولا یُقاتل إلّا إذا قاتل، وأن یُؤتی به إلیه لیضع یده فی یده، أو یبایع یزید صاحب البیعة الشرعیة، بل إنّ هذا لیصحّ قوله بالنسبة لأُمراء القوات التی جری بینها وبین الحسین وجماعته قتال، فإنّهم ظلّوا ملتزمین ما أمروا به، بل کانوا یرغبون أشدّ الرغبة فی أن یعاقبهم الله من الابتلاء بقتاله فضلاً عن قتله، ویبذلون جهدهم فی إقناعه بالنزول علی حکم ابن زیاد ومبایعة یزید، فإذا کان الحسین أبی أن یستسلم لیدخل فیما دخل فیه المسلمون، وقاوم بالقوة، فمقابلته وقتاله صار من الوجهة الشرعیة والوجهة السیاسیة سائغاً»((2)).

الإجابة عن هذه الشبهة

یمکن الإجابة عن شبهة براءة یزید وعبید الله بن زیاد من جریمة کربلاء من زاویتین:

الزاویة الأُولی: هل لیزید الید الطولی فی قتل الإمام الحسین علیه السلام ؟

الزاویة الثانیة: کیفیة معاملة یزید وأُمراء جنده مع عیال الحسین علیه السلام فی الکوفة والشام، وإلیک التفصیل:

ص: 200


1- ([1]) ابن العربی، محمد بن عبد الله، العواصم من القواصم: هامش ص241.
2- ([2]) دروزة، محمد عزة، تاریخ الجنس العربی: ج8، ص383 - 384.

الأُولی: یتّضح من خلال مراجعة التاریخ وکلمات علماء أهل السنة، أنّ إدانة یزید بفاجعة کربلاء ممّا لا غبار علیه، وقد بلغت تفاصیل حوادث کربلاء من التواتر بمکان لا یجاریه قبول الغزالی بتواتر قتل ابن ملجم الإمام علی علیه السلام وقتل أبی لؤلؤة عمر((1)).

إنّ المصادر التاریخیة - وکما تقدّم - لایساورها أی تردّد حیال ارتکاب یزید جریمة قتل الحسین علیه السلام وأصحابه، وقد کتب الیعقوبی عن هلاک معاویة واعتلاء یزید العرش، یقول: «کتب یزید إلی الولید بن عتبة بن أبی سفیان - وهو عامل المدینة -: إذا أتاک کتابی هذا فأحضر الحسین بن علی، وعبد الله بن الزبیر، فخذهما بالبیعة لی، فإن امتنعا فاضرب أعناقهما، وابعث لی برؤوسهما، وخذ الناس بالبیعة، فمَن امتنع فأنفذ فیه الحکم، وفی الحسین بن علی، وعبد الله بن الزبیر، والسلام»((2)).

وقد نقل حوار الحسین علیه السلام مع الولید والی یزید علی المدینة، وردّ فعل مروان بن الحکم الذی یمکن أن نستوحی منه نصّ کتاب یزید، وهو أمره الصریح بقتل الحسین علیه السلام فیما إذا امتنع عن البیعة، لمّا قال مروان للولید: «احبس الرجل فلا یخرج من عندک، حتی یبایع أو تضرب عنقه»((3)).

أبو جعفر محمد بن جریر الطبری (224 - 310ه-)

اشارة

وقد نقل الطبری حوادث استشهاد الحسین علیه السلام ومجیء یزید للحکم بنحوٍ لا یبقی معه شکٌّ فی ارتکاب یزید لتلک الجریمة، وإلیک مقاطع من کلماته، والتی تعبّر عن وجهات نظره فی هذا الشأن:

ص: 201


1- ([1]) اُنظر: الغزالی، محمد بن محمد، إحیاء علوم الدین: ج3، ص135.
2- ([2]) الیعقوبی، أحمد بن أبی یعقوب، تاریخ الیعقوبی: ج2، ص241.
3- ([3]) البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج5، ص317.

1- ما فهمه مروان والولید من کتاب یزید

نقل الطبری أنّه لمّا مات معاویة واعتلی یزید الحکم، أعلن یزید إلی الولاة موت معاویة وبدایة حکمه، وأمرهم بأخذ البیعة، وفی هذا الخضم کتب إلی والیه علی المدینة الولید بن عتبة کتاباً جاء فیه: «فخذ حسیناً وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبیر بالبیعة أخذاً شدیداً لیست فیه رخصة حتی یبایعوا، والسلام»((1)).

هذا الکتاب رغم أنّه لم یذکر صراحة قتل الإمام الحسین علیه السلام ، إلّا أنّه یدلّ علی جواز قتل کلّ مَن خالف بیعة یزید، وهذا ما فهمه مروان بن الحکم أحد المقرّبین من یزید، من هنا بعد أن رفض الإمام علیه السلام مبایعة یزید قال مروان للولید: «والله، لئن فارقک الساعة ولم یبایع لا قدرت منه علی مثلها أبداً حتی تکثر القتلی بینکم وبینه، احبس الرجل فلا یخرج من عندک حتی یبایع أو تضرب عنقه. فوثب عند ذلک الحسین، فقال: یا بن الزرقاء، أنت تقتلنی أم هو؟! کذبت والله وأثمت... فقال مروان للولید: عصیتنی، لا والله لا یمکّنک من مثلها من نفسه أبداً، قال الولید: وبخ غیرک یا مروان، إنّک اخترت لی التی فیها هلاک دینی، والله، ما أُحبّ أنّ لی ما طلعت الشمس وغربت عنه من مال الدنیا وملکها، وأنّی قتلت حسیناً، سبحان الله! أقتل حسیناً إن قال: لا أُبایع؟! والله، إنّی لا أظنّ امرأً یُحاسب بدم الحسین لخفیف المیزان عند الله یوم القیامة»((2)).

2- عزل الولید بن عتبة

بعد أن وصل إلی مسامع یزید أنّ الولید لم یمتثل ما أشار علیه مروان بن الحکم من أخذالبیعة من الحسین علیه السلام عنوةً أو قتله، عزله ونصب محلّه عمر بن سعید، وهذا دلیلٌ

ص: 202


1- ([1]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص338.
2- ([2]) المصدر السابق: ج4، ص251 - 252.

آخر علی إرادة یزید قتل الحسین بن علی علیه السلام ((1)).

3- الطبری ونقله تصریح الحسین علیه السلام

و لقد نقل الطبری فی موضع آخر ما صرّح به الحسین علیه السلام عندما سأله بعض المسلمین، حیث أشار إلی أنّ یزید لا یرضی إلّا بقتله، وإنّ الخطر بات یهدّده حتی إذا مدّ ید البیعة لیزید، مثلما فعل أبوه معاویة عندما أبرم معاهدة الصلح مع الإمام الحسن علیه السلام ، إلّا أنّ هذا لم یُثنِ معاویة عن کید الدسائس له حتی دسّ له السم وقتله((2)).

4- موارد أُخری

وقد نقل الطبری موارد أُخری تدلّ علی أنّ یزید استهدف من وراء التصدّی للخلافة تصفیة الحسین علیه السلام ، ویمکن أن نشیر فی هذا الصدد إلی کتاب المدح والإطراء الذی بعثه إلی ابن زیاد بمناسبة قتله مسلم بن عقیل، کما أنّه حذّره من الحسین علیه السلام ، وأمره باتّباع سیاسة صارمة تجاهه، مخوّلاً إیّاه صلاحیات واسعة((3)).

وقد أشارت معظم النصائح - التی أسداها الصحابة إلیه أمثال عبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر - إلی تعرّضه للقتل هو وأبناؤه فیما لو أصرّ علی رفض مبایعة یزید، ومن هذا الباب حاولوا ثنیه عن المضی فی مسیره((4)).

5- قتلة الحسین علیه السلام وتنفیذ أوامر یزید

نقل الطبری أنّ جند الکوفة والشام کانوا رهن إشارة یزید، ولا هدف لهم سوی

ص: 203


1- ([1]) اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص301
2- ([2]) اُنظر: المصدر السابق: ج5، ص343.
3- ([3]) اُنظر: المصدرالسابق: ج5، ص380 - 381.
4- ([4]) اُنظر: المصدر السابق: ج5، ص383.

المضی وفق إرادته، وأنّ أُمراء جنده بذلوا الطاعة له بهدف الوصول إلی مآربهم الدنیویة.

فإذا لم یکن یزید قد أصدر أوامره بقتل الحسین علیه السلام ، لما ملک عمر بن سعد وشمر بن ذی الجوشن وخولی وآخرین الجرأة علی تنفیذ تلک الجریمة، وقد تردّد البعض فی تنفیذ أوامر یزید رغم أوامره الصریحة، ذلک أنّهم وجدوا أنفسهم فی مقابل الحقّ وإرادة الله سبحانه، وغلبتهم الحیرة فی اختیار الحقّ أو الباطل والدنیا أو الآخرة، فاختاروا الدنیا ویزید علی الآخرة والحسین علیه السلام ، وبعد دخول أُسراء کربلاء علی ابن زیاد فی دار الإمارة فی الکوفة، قام بالإطراء علی جنده لما قاموا به من نصرة یزید، ثمّ وعدهم بالمزید من الهبات والعطایا عند الحضور فی مجلس یزید((1)).

6- فرح یزید وسروره بقتل الحسین علیه السلام

لقد وقع الطبری فی تهافت واضح لمّا نقل تظاهر یزید بالندم أمام الرأی العام من جهة، ولمّا نقل فرح یزید بقتله الحسین علیه السلام من جهةٍ أُخری((2)). وکان ردّ فعله عنیفاً علی أبیاتٍ أنشدها یحیی بن الحکم، والتی نسب فیها جریمة کربلاء إلی ابن زیاد، وأصبح بصدد تبریر قتله للحسین علیه السلام وأصحابه فی مجلس ضمّ أشراف الشام، وإلیک نصّ ما

ص: 204


1- ([1]) اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص458.
2- ([2]) قال سبط ابن الجوزی فی تذکرة الخواص: ص260: «فرح یزید فرحاً عظیماً لمّا قتل الحسین علیه السلام ، واستدعی ابن زیاد، وأعطاه أموالاً کثیرة وتحفاً عظیمة، وقرّب مجلسه ورفع منزلته، وأدخله علی نسائه وجعله ندیمه، وسکر لیلةً، وقال للمغنی: غنّ، ثمّ قال یزید بدیهیاً: اسقِنی شربةً تروی فؤادی ثمّ مِل فاسقِ مثلها ابن زیاد صاحب الس-رِّ والأمانة عندی ولتسدید مغنمی وجهادی قاتل الخارجی أعنی حسیناً ومبید الأعداء والحساد». (المترجم).

ذکره الطبری: «لمّا وضعت الرؤوس بین یدی یزید وفیها رأس الحسین، قال یزید:

یفلّقن هاماً

من رجالٍ أعزّةٍ

علینا وهم

کانوا أعقّ وأظلما

فقال یحیی بن الحکم أخو مروان بن الحکم - وکان جالساً مع یزید -:

لهامٌ بجنب

الطف أدنی قرابة

من ابن زیاد

العبد ذی الحسب الوغل

سمیة أمسی

نسلها عدد الحص-ی

ولیس

لآل المصطفی الیوم من نسل

فضرب یزید فی صدر یحیی بن الحکم وقال: اسکت، ثمّ دعا أشراف أهل الشام فأجلسهم حوله، ثمّ دعا بعلی بن الحسین وصبیان الحسین ونسائه، فأدخلوا علیه والناس ینظرون، فقال یزید لعلی بن الحسین: أبوک الذی قطع رحمی وجهل حقّی ونازعنی سلطانی، فصنع الله به ما قد رأیت»((1)).

علی بن الحسین المسعودی (المتوفی345ه-)

نقل المسعودی الذی یعدّ من کبار المؤرِّخین، والذی ظلّت بصماته واضحة علی مَن جاء بعده من المؤرِّخین أمثال عبد الرحمن بن خلدون فی مقدّمته المعروفة، فقد نقل أنواع المنکرات التی اقترفها یزید واختیاره ابن زیاد لأداء مهام خاصّة، من جملتها قتل الحسین علیه السلام ، کما أورد فرح یزید بقتل الحسین علیه السلام قائلاً: «بعث ابن زیاد إلی یزید رأس الحسین، فوضع الرأس بین یدیه فأقبل ینکت القضیب فی فیه، ویقول:

نفلّق هاماً

من رجال أحبّةٍ

علینا وهم

کانوا أعقّ وأظلما

فقاله له أبو برزة: ارفع قضیبک، فطالما - والله - رأیت رسول الله صلی الله علیه و آله یضع فمه علی فمه یلثمه»((2)).

ص: 205


1- ([1]) سبط ابن الجوزی فی تذکرة الخواص: ج4، ص352.
2- ([2]) المسعودی، علی بن الحسین، مروج الذهب: ج3، ص61.

أحمد بن أعثم الکوفی(المتوفی314ه-)

نقل هذا المؤرِّخ کتاب یزید إلی الولید بن عتبة: «أمّا بعدُ، فإذا ورد علیک کتابی هذا فخُذ البیعة ثانیاً علی أهل المدینة بتوکید منک علیهم، وذر عبد الله بن الزبیر، فإنّه لن یفوتنا ولن ینجو منّا أبداً ما دام حیاً، ولیکن مع جوابک إلیّ رأس الحسین بن علی، فإن فعلت ذلک فقد جعلت لک أعنّة الخیل، ولک عندی الجائزة والحظّ الأوفر والنعمة واحدة، والسلام.

فلمّا ورد الکتاب علی الولید بن عتبة وقرأه تعاظم ذلک، وقال: لا والله، لا یرانی الله قاتل الحسین بن علی، وأنا لا أقتل ابن بنت رسول الله صلی الله علیه و آله ولو أعطانی یزید الدنیا بحذافیرها»((1)).

کما نقل ابن أعثم دخول سبایا أهل البیت إلی مجلس یزید بمزید من التفصیل، قائلاً: «ثمّ أُتی بالرأس حتی وُضع بین یدی یزید بن معاویة فی طشتٍ من ذهب، فجعل ینظر إلیه... ثمّ دعا بقضیب خیزران، فجعل ینکت به ثنایا الحسین وهو یقول: لقد کان أبو عبد الله حسن المنطق. فأقبل إلیه أبو برزة الأسلمی، فقال له: یا یزید، ویحک! أتنکت بقضیبک ثنایا الحسین وثغره؟! أشهد لقد رأیت رسول الله صلی الله علیه و آله یرشف ثنایاه وثنایا أخیه، ویقول: أنتما سیّدا شباب أهل الجنة، فقتل الله قاتلکما ولعنه وأعدّ له نار جهنم وساءت مصیراً، أما إنّک یا یزید، لتجیء یوم القیامة وعبید الله بن زیاد شفیعک، ویجیء هذا ومحمد صلی الله علیه و آله شفیعه. قال: فغضب یزید وأمر بإخراجه، فأخرج سحباً. وجعل یزید یتمثّل بأبیات عبد الله بن الزبعری، وهو یقول:

لیت أشیاخی

ببدر شهدوا

وقعة الخزرج

من وقع الأسل

ص: 206


1- ([1]) ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج5، ص18.

لأهلوا واستهلّوا

فرحاً

ثمّ قالوا یا

یزید لا تسل

حین ألقت

بقناة برکها

واستحر القتل

فی عبد الأشل

فجزیناهم ببدر

مثلها

وأقمنا مثل

بدر فاعتدل((1)).

ثمّ زاد فیه هذا البیت من نفسه، فقال:

لست من عتبة إن

لم أنتقم

من بنی أحمد

ما کان فعل»((2)).

عز الدین بن الأثیر (555 - 630ه-)

أشار فی موارد متعدّدة إلی إدانة یزید فی فاجعة کربلاء، وصرّح مثل سائر المؤرِّخین بقتل الحسین علیه السلام علی ید یزید، کما صرّح فی موارد عدیدة أنّ معاویة کان قد هدّد الحسین علیه السلام بالقتل إذا لم یبایع یزید، وأخیراً نفّذ یزید ذلک فی کربلاء عام (61ه-)، وقد أورد ابن الأثیر: «أنّ معاویة دخل علی عائشة، وقد بلغها أنّه ذکر الحسین وأصحابه، فقال: لأقتلنّهم إن لم یبایعوا. فشکاهم إلیها فوعظته، وقالت له: بلغنی أنّک تتهدّدهم

ص: 207


1- ([1]) وقد نقل الآلوسی فی تفسیره: أنّه لما ورد نساء الحسین وأطفاله والرؤوس علی الرماح، وقد أشرفوا علی ثنیة جیرون، فلمّا رآهم یزید نعب غراب، قال یزید: لما بدت تلک الحمول وأشرفت تلک الرؤوس علی شفا جیرون نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل فلقد قضیت من النبی دیونی بمعنی أنّه قتل بمَن قتله رسول الله’ یوم بدر کجدّه عتبة وخاله ولد عتبة، وهذا کفرٌ صریح، وإلی هذا أشار ابن عباس فی کتابٍ بعثه إلی یزید حیث قال: یا یزید، إنّ من أعظم الشماتة حملک بنات رسول الله’ وأطفاله وحرمه من العراق إلی الشام أُساری مجلوبین مسلوبین، تری الناس قدرتک علینا، وأنّک قد قهرتنا واستولیت علی آل رسول الله’، وفی ظنک أنّک أخذت بثأر أهلک الکفرة الفجرة یوم بدر، وأظهرت الانتقام الذی کنت تخفیه، والأضغان التی تکمن فی قلبک کمون النار فی الزناد.. فالویل لک من دیّان یوم الدین. اُنظر: الآلوسی، محمود بن عبد الله، تفسیر روح المعانی: ج26، ص72. سبط ابن الجوزی، یوسف بن فرغلی، تذکرة الخواص: ص261. (المترجم).
2- ([2]) ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج5، ص130.

بالقتل، فقال معاویة: هم أعزّ من ذلک، ولکنّی بایعت لیزید وبایعه غیرهم، أفَترینَ أن أنقض بیعةً قد تمّت»((1)).

وقد نقل کتابی یزید إلی الولید بن عتبة والی المدینة، أخبره فی الکتاب الأوّل بموت معاویة، ودعاه فی الثانی إلی أخذ البیعة له من الحسین بن علی علیه السلام ، وعبدالله بن عمر، وعبد الله بن الزبیر بکلّ حزمٍ وشدّة، ثمّ نقل استشارة الولید لمروان بن الحکم، بعد أن أعرض عنه وصرمه بسبب عزله وتعیین الولید محلّه حیث قال له مروان: «لئن فارقک الساعة ولم یبایع لا قدرت منه علی مثلها أبداً حتی تکثر القتلی بینکم وبینه، احبسه فإن بایع وإلّا ضربت عنقه»((2))، ثمّ أورد رأی الولید الذی نقله الطبری وآخرون، کما نقل لقاء الإمام علیه السلام بالفرزدق حیث قال: «لمّا انتهی الحسین إلی الصفاح لقیه الفرزدق الشاعر، فقال له: أعطاک الله سؤلک وأملک فیما تحبّ، فقال له الحسین: بیّن لی خبر الناس خلفک، قال: الخبیر سألت، قلوب الناس معک وسیوفهم مع بنی أُمیّة، والقضاء ینزل من السماء، والله یفعل ما یشاء.

فقال الحسین: صدقت، لله الأمر یفعل ما یشاء وکلّ یوم ربّنا فی شأن، إن نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله علی نعمائه وهو المستعان علی أداء الشکر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم یعتدِ مَن کان الحقّ نیّته، والتقوی سریرته»((3)).

کما أورد فی موضعٍ آخر فرح یزید بقتل الحسین علیه السلام ، ونکته بقضیبٍ ثنایا أبی عبد الله الحسین علیه السلام وثغره، وقد أدان بهذا التقریر یزید لقتله الحسین علیه السلام ((4))، وأورد جواب

ص: 208


1- ([1]) ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج3، ص102.
2- ([2]) المصدر السابق: ص128.
3- ([3]) المصدر السابق: ص150.
4- ([4]) ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج3، ص576 - 577.

الولید لمروان لمّا قال: «لا والله، لا یرانی الله قاتل الحسین بن علی، وأنا لا أقتل ابن بنت رسول الله صلی الله علیه و آله ولو أعطانی یزید الدنیا بحذافیرها»((1)).

شمس الدین الذهبی (المتوفی 748ه-)

قام شمس الدین الذهبی ببیان حادثة قتل الحسین علیه السلام علی ید یزید، ثمّ أورد أخباراً عن رسول الله صلی الله علیه و آله تنبّأ فیها باستشهاده، وکان منها ما روی: «عن أنس قال: استأذن ملکٌ علی النبی صلی الله علیه و آله ، فقال النبی صلی الله علیه و آله : یا أُمّ سلمة، احفظی علینا الباب، فجاء الحسین فاقتحم وجعل یتوثّب علی النبی صلی الله علیه و آله ورسول الله یقبّله، فقال الملک: أتحبّه؟ قال: نعم، قال: إنّ أُمّتک ستقتله، إن شئت أریتک المکان الذی یُقتل فیه، قال: نعم، فجاءه بسهلةٍ أو ترابٍ أحمر. قال ثابت: کنّا نقول: إنّها کربلاء»((2)).

وقد وصف الذهبی یزید بقوله: «کان ناصبیاً، فظاً، غلیظاً، جلفاً، یتناول المسکر ویفعل المنکر، افتتح دولته بمقتل الشهید الحسین، واختتمها بواقعة الحرة، فمقته الناس، ولم یُبارک فی عمره»((3)).

هذه النصوص التاریخیة التی نقلناها عن مؤرِّخین معروفین لا تدَع مجالاً للشک بإدانة یزید فی جریمة کربلاء، وأنّ شذّاذ الآفاق من أهل الکوفة قد أقدموا علی تلک الجریمة عن کرهٍ وجبر؛ لأنّهم کانوا بیادق بید بنی أُمیّة لتنفیذ إرادة یزید، وعلیه، فإنّ ما ذکره مروان بن الحکم لوالی المدینة جاء وفق رغبات یزید فی کتابه الذی بعثه إلیه، إلّا أنّ الوالی تذرّع بحجج أُخری لعدم قتله الحسین علیه السلام .

ص: 209


1- ([1]) المصدر السابق: ج3، ص532.
2- ([2]) الذهبی، محمد بن أحمد، سیر أعلام النبلاء: ج3، ص289.
3- ([3]) المصدر السابق: ج4، ص38.

وقد تبع ابن خلدون - وکما تقدّم - الغزالی وابن العربی((1)) فی بعض الموارد، إلّا أنّه لم یکن یری رأیهما فی براءة یزید، بل ذهب إلی إدانته بهذه الجریمة، وعدّ ذلک من المسلّمات التاریخیة، التی لا یتسرّب إلیها الشک قائلاً: «ولا تقولنَِّ إنّ یزید وإن کان فاسقاً ولم یجز هؤلاء الخروج علیه فأفعاله عندهم صحیحة، واعلم أنّه إنّما ینفذ من أعمال الفاسق ما کان مشروعاً، وقتال البغاة من شرطه أن یکون مع الإمام العادل، وهو مفقود فی مسألتنا، فلا یجوز قتال الحسین مع یزید ولا لیزید، بل هی من فعلاته المؤکّدة لفسقه، والحسین فیها شهیدٌ مثاب، وهو علی حقّ واجتهاد»((2)).

وقد أشار جلال الدین السیوطی وهو من علماء ومؤرِّخی أهل السنة إلی کتاب یزید إلی والیه فی العراق، وقال: «کتب یزید إلی والیه بالعراق عبید الله بن زیاد بقتاله، فوجّه إلیه جیشاً أربعة الآف، علیهم عمر بن سعد بن أبی وقاص، فخذله أهل الکوفة کما هو شأنهم مع أبیه من قبله.. فقُتل وجیء برأسه فی طست حتی وضع بین یدی ابن زیاد، لعن الله قاتله وابن زیاد معه ویزید أیضاً، وکان قتله بکربلاء، وفی قتله قصّة فیها طول لا یحتمل القلب ذکرها، فإنّا لله وإنّا إلیه راجعون»((3)).

والحاصل: إنّ إلقاء نظرةٍ خاطفةٍ علی النصوص التاریخیة وکلمات علماء أهل السنة حول حادثة کربلاء تکشف لنا أنّ أغلب علماء أهل السنة لم یلعنوا یزید فحسب وکفروه، بل اعتبروه قاتلاً للحسین علیه السلام وأصحابه فی یوم عاشوراء عام (61ه-)، کما ذهب معظم الباحثین المعاصرین وحتی المخالفین للعن یزید، إلی أنّ قتل الحسین علیه السلام

ص: 210


1- ([1]) حکی الشبراوی الشافعی عن ابن حجر المکی فی شرح الهمزیة: «إنّ کلاهما - الغزالی وابن العربی - قد بالغ فی تحریم سبّه ولعنه، لکنّ کلاهما مردود؛ لأنّه مبنیٌّ علی صحّة بیعة یزید لسبقها، والذی علیه المحقّقون خلاف ما قالاه». الشبراوی، عبد الله بن محمد، الإتحاف بحبّ الأشراف: ص177. (المترجم).
2- ([2]) ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، مقدّمة ابن خلدون: ص218.
3- ([3]) السیوطی، جلال الدین، تاریخ الخلفاء:ص247.

صدر بأوامر مباشرة من یزید نفسه، إلّا أنّهم قاموا بتبریر هذه الجریمة النکراء من جهات مختلفة بهدف إبعاد تهمة الکفر عنه.

الثانیة: إنّ معاملة یزید وعبیدالله فی الکوفة مع سبایا أهل البیت علیهم السلام یعدّ شاهداً آخر علی ضلوعهما فی قتل الحسین علیه السلام وفرحهما بذلک، وقد أوردت مصادر أهل السنة دخول السبایا إلی مجلس ابن زیاد فی الکوفة:

«لمّا وُضع رأس الحسین بین یدی ابن زیاد جعل طست، وجعل یضرب ثنایاه بالقضیب، وکان عنده زید بن أرقم، فقال له: ارفع قضیبک، فوالله، لطالما رأیت رسول الله صلی الله علیه و آله یقبّل ما بین هاتین الشفتین، ثمّ جعل زید یبکی، فقال له ابن زیاد: أبکی الله عینیک، لولا أنّک شیخٌ قد خرفت لضربت عنقک، فنهض زید، وهو یقول: أیّها الناس، أنتم العبید بعد الیوم، قتلتم ابن فاطمة وأمّرتم ابن مرجانة، والله، لیقتلنّ أخیارکم، ولیستعبدنّ شرارکم، فبعداً لمن رضی بالذل والعار»((1)).

وقد تکرر ذلک فی مجلس یزید، وقد أثارت مواقف یزید المشینة تجاه رأس الحسین علیه السلام وعیاله تعجّب ابن الجوزی من منکری لعن یزید، وقال: «لیس العجب من قتال ابن زیاد الحسین، وتسلیطه عمر بن سعد علی قتله والشمر، وحمل الرؤوس إلیه، إنّما العجب من خذلان یزید وضربه بالقضیب ثنایاه، وحمل آل الرسول سبایا علی أقتاب الجمال، وعزمه علی أن یدفع فاطمة بنت الحسین إلی الرجل الذی طلبها، وإنشاده أبیات ابن الزبعری: (لیت أشیاخی ببدرٍ شهدوا...) وردّه الرأس إلی المدینة، وقد ظنّ أنّه تغیّرت ریحه وما کان مقصوده إلّا الفضیحة وإظهار رائحة الرأس، أفیجوز أن یفعل هذا بالخوارج؟! ألیس بإجماع المسلمین أنّ الخوارج والبغاة یُکفنون ویُصلّی علیهم ویدفنون؟! وکذا قول

ص: 211


1- ([1]) سبط ابن الجوزی، یوسف بن فرغلی، تذکرة الخواص: ص231.

یزید: لی أن أسبیکم، لمّا طلب الرجل فاطمة بنت الحسین قولاً یقنع لقائله وفاعله باللعنة، ولو لم یکن فی قلبه أحقاد جاهلیة وأضغان بدریة لاحترم الرأس لمّا وصل إلیه ولم یضربه بالقضیب، وکفّنه ودفنه وأحسن إلی آل رسول الله»((1)).

کما أدان التفتازانی فی شرح العقائد النسفیة یزید علی قتله الحسین علیه السلام وقال: «اتّفقوا علی جواز اللعن علی مَن قتل الحسین أو أمر به أو أجازه أو رضی به، قال: والحقّ أنّ رضا یزید بقتل الحسین واستبشاره بذلک وإهانته أهل بیت رسول الله صلی الله علیه و آله ممّا تواتر معناه، وإن کان تفصیله آحاداً، وقال أیضاً: نحن لا نتوقّف فی شأنه، بل فی کفره وإیمانه (لعنة الله علیه وعلی أنصاره وأعوانه)»((2)).

وقال فی موضعٍ آخر: «إنّ ما وقع بین الصحابة من المحاربات والمشاجرات علی الوجه المسطور فی کتب التواریخ، والمذکور علی ألسنة الثقات، یدلّ بظاهره علی أنّ بعضهم قد حاد عن الطریق الحقّ، وبلغ حدّ الظلم والفسق، وکان الباعث له الحقد والعناد، والحَسد واللداد، وطلب الملک والرئاسة، والمیل إلی اللذات والشهوات، إذ لیس کلّ صحابی معصوماً، ولا کلّ مَن لقی النبی صلی الله علیه و آله بالخیر موسوماً، إلّا أنّ العلماء لحسن ظنّهم بأصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله ذکروا لها محامل وتأویلات بها تلیق، وذهبوا إلی أنّهم محفوظون عمّا یوجب التضلیل والتفسیق، صوناً لعقائد المسلمین عن الزیغ والضلالة فی حقّ کبار الصحابة، سیما المهاجرین منهم والأنصار، والمبشرین بالثواب فی دار القرار، وأمّا ما جری بعدهم من الظلم علی أهل بیت النبی صلی الله علیه و آله فمن الظهور بحیث لا مجال للإخفاء، ومن الشناعة بحیث لا اشتباه علی الآراء، إذ تکاد تشهد به الجماد والعجماء، ویبکی له مَن

ص: 212


1- ([1]) سبط ابن الجوزی، یوسف بن فرغلی، تذکرة الخواص: ص260.
2- ([2]) ابن العماد الحنبلی، عبد الحی بن أحمد، شذرات الذهب: ج1، ص68.

فی الأرض والسماء، وتنهدّ منه الجبال وتنشق الصخور، ویبقی سوء عمله علی کرّ الشهور ومرّ الدهور، فلعنة الله علی مَن باشر أو رضی أو سعی، ولعذاب الآخرة أشدّ وأبقی، فإن قِیل: فمن علماء المذهب مَن لم یُجوّز اللعن علی یزید مع علمهم بأنّه یستحقّ ما یربوا علی ذلک ویزید، قلنا: تحامیاً عن أن یرتقی إلی الأعلی فالأعلی کما هو شعار الروافض علی ما یروی فی أدعیتهم ویجری فی أندیتهم، فرأی المعتنون بأمر الدین إلجام العوام بالکلیة طریقاً إلی الاقتصاد فی الاعتقاد، وبحیث لا تزلّ الأقدام علی السواء، ولا تضلّ الأفهام بالأهواء، وإلّا فمَن یخفی علیه الجواز والاستحقاق، وکیف لایقع علیهما الاتّفاق»((1)).

یزید وحسن معاملته للسبایا

وردت فی بعض المصادر التاریخیة أخبار دالّة علی حسن معاملة یزید للسبایا، وغضبه علی عبیدالله، وإن کانت هذه الأخبار غیر مشهورة ومشکوکة، إلّا أنّها استقبلت من قبل عدّة، حتی تُساء الاستفادة منها لتبرئة یزید، ومنها ما نقله أبوبکر ابن العربی: «ثمّ أمر بإنزالهم فی داره، وأمر لهم بما یصلحهم، وکان لا یتغدّی ولا یتعشّی إلّا علیّ معه، ثمّ أمر النعمان بن بشیر أن یجهّزهم بما یصلحهم، ویسیّرهم إلی المدینة مع أُناسٍ صالحین»((2)).

وقال عزة دروزة فی هذا الصدد: «هذا یجعل الروایات الواردة فی حسن معاملة عبید الله بن زیاد، ثمّ یزید لابن الحسین الصغیر وبناته ونسائه، واستیاء یزید لقتله وبکائه علیه، ومشارکة أهله نساءً ورجالاً فی ذلک، أصحّ من تلک التی تذکر قسوتها وجفاءها إزاءهم، ولا سیما أنّه لم یکن هناک قتالٌ شدید یثیر نقمةً وانفعالاً یمتدّ أثرهما إلی النساء والأطفال،

ص: 213


1- ([1]) التفتازانی، سعد الدین، شرح المقاصد: ج2، ص306 - 307.
2- ([2]) ابن العربی، محمد بن عبد الله، العواصم من القواصم: هامش ص240.

وکلّ ما وقع علی غیر إرادتهم بل وعلی مضض منهم»((1)).

الإجابة عن الشبهة

أ - أوّل إجابة لهذه الشبهة هی أنّ أخبار حسن معاملة یزید لم ترد فی جمیع المصادر التاریخیة، ولا یستبعد جعلها من قبل مؤرِّخی البلاط الأُموی مع الأخذ بنظر الاعتبار الحجم الهائل للأخبار الموضوعة والمجعولة التی تسرّبت إلی التراث الحدیثی.

ب - هذه الأخبار لا تنسجم مع الأوامر الصریحة لیزید بقتل الحسین علیه السلام وأصحابه، وقد ذهب بعض علماء أهل السنة کسبط ابن الجوزی والتفتازانی إلی أنّ الروایات الواردة فی قتل یزید للحسین علیه السلام ، وإظهاره الفرح والسرور بلغت حدّ التواتر المعنوی فلا تصمد أمامها تلک الأخبار الضئیلة.

ج - مع صرف النظر عن الإشکالات السابقة، فإنّ الأخبار الدالّة علی حسن معاملة یزید للسبایا تستبطن تهافتاً واضحاً یُسقطها عن الاعتبار.

ویتلخّص هذا التهافت فی أنّها تدلّ علی حسن معاملة یزید للسبایا من جهة، ولعنه واستیائه من ابن زیاد من جهةٍ أُخری، بینما استفاد منها محمد عزّة دروزة لإثبات العلاقات الوطیدة التی تجمع بین یزید وابن زیاد وأُمراء جنده، حتی بلغ الأمر أنّه أصدر لهم صکوک البراءة من تلک الجریمة، لمّا قال: «إنّه لیس هناک ما یبرّر نسبة قتل الحسین إلی یزید، فهو لم یأمر بقتاله فضلاً عن قتله، وکلّ ما أمر به أن یُحاط به ولا یُقاتل إلّا إذا قاتل، ومثل هذا القول یصحّ بالنسبة لعبید الله بن زیاد، فکلّ ما أُمر به أن یُحاط به ولا یُقاتل إلّا إذا قاتل، وأن یُؤتی به إلیه لیضع یده فی یده أو یبایع یزید صاحب البیعة الشرعیة، بل إنّ هذا لیصحّ قوله بالنسبة لأُمراء القوات التی جری بینها وبین الحسین وجماعته قتال،

ص: 214


1- ([1]) دروزة، محمد عزة، تاریخ الجنس العربی: ج8، ص384.

فإنّهم ظلّوا ملتزمین ما أُمروا به، بل کانوا یرغبوه أشدّ الرغبة فی أن یعاقبهم الله من الابتلاء بقتاله فضلاً عن قتله، ویبذلون جهدهم فی إقناعه بالنزول علی حکم ابن زیاد ومبایعة یزید، فإذا کان الحسین أبی أن یستسلم لیدخل فیما دخل فیه المسلمون، وقاوم بالقوة، فمقابلته وقتاله صار من الوجهة الشرعیة والوجهة السیاسیة سائغاً»((1)).

د - وأهمّ إجابة لتلک الشبهة هی أنّ الروایات المتواترة التی أشارت إلی سوء معاملة یزید للسبایا تتعلّق بردود فعله الأوّلیة التی صدرت بملء إرادته وبعیداً عن الضغوط الخارجیة، إلّا أنّه لمّا استفاق أهل الشام من غفلتهم وخداعهم من قبل الإعلام الأُموی المضلّل بسبب أنشطة أهل البیت علیهم السلام وبیان حقیقة کربلاء، انقلب الوضع علی یزید وجهازه الأُموی، وازداد التذمّر والکراهیة له فی أوساط الرأی العام، وتمکّن أهل البیت علیهم السلام فی ظل الصبر والتبلیغ الصادق من الإصحار بالحقیقة، وکشف النقاب عن مؤامرات بنی أُمیّة وأکاذیبهم، ممّا أثار فزع یزید فتظاهر بالندم أمام أهل الشام للحیلولة دون غضبهم وثورتهم، منوهاً بقرابته للحسین علیه السلام من خلال العلاقات القبلیة التی کانت تجمعهم فی الجاهلیة، وبدأ یذرف دموع التماسیح ملقیاً مسؤولیة تلک الجریمة علی ابن زیاد، الأمر الذی أدّی إلی تسرّعه فی إرسال أهل البیت علیهم السلام من الشام إلی المدینة، للحدّ من تلک الفضیحة والکراهیة.

وفی هذا الصدد یقول ابن الأثیر: «ولمّا وصل رأس الحسین إلی یزید حسنت حال ابن زیاد عنده، وزاده ووصله وسرّه ما فعل، ثمّ لم یلبث إلّا یسیراً حتی بلغه بغض الناس له، ولعنهم وسبّهم، فندم علی قتل الحسین، وکان یقول: وما علیّ لو احتملت الأذی وأنزلت الحسین معی فی داری، وحکّمته فیما یرید وإن کان علی فی ذلک وهنٌ فی سلطانی، حفظاً

ص: 215


1- ([1]) دروزة، محمد عزة، تاریخ الجنس العربی: ص383 - 384.

لرسول الله صلی الله علیه و آله ، ورعایةً لحقِّه وقرابته، لعن الله ابن مرجانة، فإنّه اضطرّه، وقد سأله أن یضع یده فی یدی أو یلحق بثغر حتی یتوفّاه الله فلم یجِبه إلی ذلک فقتله، فبغضّنی بقتله إلی المسلمین، وزرع فی قلوبهم العداوة، فأبغضنی البرّ والفاجر بما استعظموه من قتلی الحسین، ما لی ولابن مرجانة؟! لعنه الله وغضب علیه»((1)).

والنقطة الأخیرة هی أنّ ادّعاء ابن العربی وأتباعه ببراءة یزید من قتل الحسین علیه السلام وحزّ رأسه لا یجلب لهم نفعاً؛ حیث إنّ السبب الرئیس والدور المحوری لوقوع حادثة کربلاء وأمثالها یعود إلی أوّل مَن أصدر الأوامر مباشرةً بذلک.

ص: 216


1- ([1]) ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج3، ص190.

ص: 217

ص: 218

الفصل الخامس: کرامات ومعطیات ثورة کربلاء من المنظور السنی

کرامات ومعطیات ثورة کربلاء من المنظور السنی

من المباحث المهمّة المطروحة فی المصادر التاریخیة لأهل السنة حول ثورة کربلاء، لا سیما استشهاد الحسین علیه السلام وأنصاره هی تداعیاتها وکراماتها، وقد بلغ حجم تلک المصادر التی نقلت تلک التداعیات والکرامات بمکان أنّه أصبح من الضروری إلقاء نظرة علیها ولو عابرة؛ ذلک أنّها تکشف لنا عن أحقّیة الإمام الحسین علیه السلام ، وموقفه تجاه یزید وطغمته، وعن عظمة الثورة وأهمّیتها من منظار أهل السنة، وورقة أُخری علی إدانة یزید بما اقترفه من جریمة لا تُغتفر فی کربلاء.

من الواضح أنّ المراد من هذه التداعیات هنا هی الآثار السیاسیة والاجتماعیة والثقافیة، والمراد من الکرامات الأُمور العجیبة التی نقلها أهل السنة فی مصادرهم، والتی ظهرت متزامنة مع حادثة عاشوراء أو بعدها، وترتبط باستشهاد الحسین علیه السلام وأصحابه.

أ - الکرامات

العقوبة السریعة لبعض المجرمین

من الطبیعی أنّ قتلة الإمام الحسین علیه السلام - استناداً للأحادیث النبویة، وجمیع الفرق الإسلامیة - مصیرهم النار، وقد ذهب معظم المسلمین إلی أنّ هؤلاء القتلة لا یُغفر لهم، وإلی جانب ذلک فقد رُوی فی مصادر أهل السنّة تعرّض البعض منهم إلی عقوبة دنیویة، وقد نقل الطبری الذی یعتبر أقدم وأوّل مصدر تاریخی لحادثة کربلاء عن أبی

ص: 219

مخنف قوله: إنّ إسحاق بن حیاة الحضرمی وهو الذی سلب قمیص الحسین أُصیب بالبرص، وأحبش بن مرثد بن سلامة الحضرمی أحد العشرة الذین داسوا الحسین بخیولهم حتی رضّوا ظهره وصدره بعد مدّة قصیرة قد أتاه سهم غرب وهو واقف فی قتال ففلق قلبه فمات((1)).

وعبد الله بن حوزة التمیمی وقف أمام الحسین علیه السلام فقال: یاحسین أبشر بالنار، فدعا علیه الحسین علیه السلام قائلاً: اللّهم حزه إلی النار. فاضطرب به فرسه فی جدول فوقع فیه، وتعلّقت رجله بالرکاب ووقع رأسه فی الأرض، ونفر الفرس فأخذه یمرّ به فیضرب برأسه کلّ حجر وکلّ شجرة حتی مات((2)).

سطوع النور ورفرفة الطیر

بعد أن سقط الحسین علیه السلام من رکابه علی أرض کربلاء مثخناً بالجراح، تولّی خولی بن یزید مهمّة حزّ الرأس المبارک للحسین علیه السلام بما یمتلکه من جرأة، إلّا أنّه ضعف وأرعد ولم یتمکّن، فنزل محلّه شمر أو سنان بن أنس، وقام بتلک الجریمة النکراء.

«وبعث عمر برأس الحسین من یومه مع خولی بن یزید إلی ابن زیاد، فأقبل به لیلاً فوجد باب القصر مغلقاً، فأتی به منزله فوضعه تحت إجانة فی منزله، وکان فی منزله امرأة یُقال لها: النوار بنت مالک الحضرمی، فقالت له: ما الخبر؟ قال: جئت بغنی الدهر، هذا رأس الحسین معک فی الدار، فقالت: ویلک! جاء الناس بالذهب والفضة وجئت برأس ابن بنت رسول الله؟! والله لا یجمع رأسی ورأسک شیءٌ أبداً. فقمت من فراشی فخرجت إلی الدار، فدعا الأسدیة فأدخلها إلیه، وجلست أنظر، فوالله، مازلت أنظر إلی نورٍ یسطع

ص: 220


1- ([1]) اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم و الملوک: ج4، ص347 - 348، وج5، ص454 - 455. ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج5، ص136.
2- ([2]) اُنظر:المصدر السابق: ج4، ص 327 - 328. المصدر السابق: ج5، ص96- 97.

مثل العمود من السماء إلی الإجانة، ورأیت طیراً بیضاء ترفرف حولها»((1))((2)).

صیرورة التراب دماً

رُوی أنّ النبی صلی الله علیه و آله أعطی أُمّ سلمة تراباً من تربة الحسین علیه السلام حمله إلیه جبرائیل، فقال النبی صلی الله علیه و آله لأُمّ سلمة: إذا صار هذا التراب دماً فقد قُتل الحسین. فحفظت أُمّ سلمة ذلک التراب فی قارورة عندها، فلمّا قتل الحسین علیه السلام صار التراب دماً، فأعلمت الناس بقتله أیضاً((3)).

وأخرج الترمذی عن سلمی قالت: دخلتُ علی أُمّ سلمة وهی تبکی، فقلت: ما یبکیک؟ قالت: رأیت رسول الله صلی الله علیه و آله - تعنی فی المنام - وعلی رأسه ولحیته التراب، فقلت: مالک یا رسول الله؟ قال: شهدت قتل الحسین آنفاً((4)).

وأخرج أحمد فی مسنده عن ابن عباس، قال: رأیت رسول الله صلی الله علیه و آله فی المنام بنصف

ص: 221


1- ([1]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص348. ابن کثیر، إسماعیل بن عمر، البدایة والنهایة: ج8، ص206.
2- (2) قال سبط ابن الجوزی فی تذکرة الخواص: ص237: «ولمّا أنفذ ابن زیاد رأس الحسین إلی یزید بن معاویة مع الأُساری موثّقین فی الحبال.. وکلمّا نزلوا منزلاً أخرجوا الرأس من صندوق أعدّوه له فوضعوه علی رمح، وحرسوه طول اللیل إلی وقت الرحیل ثمّ یعیدوه إلی الصندوق ویرحلوا، فنزلوا بعض المنازل وفی ذلک المنزل دیر فیه راهب، فأخرجوا الرأس علی عادتهم ووضعوه علی الرمح، وحرسه الحرس علی عادته، وأسندوا الرمح إلی الدیر، فلمّا کان فی نصف اللیل رأی الراهب نوراً من مکان الرأس إلی عنان السماء، فأشرف علی القوم، وقال: مَن أنتم؟ قالوا: نحن أصحاب ابن زیاد، قال: وهذا رأس مَن؟ قالوا: رأس الحسین بن علی بن أبی طالب بن فاطمة بنت رسول الله، قال: نبیکم؟ قالوا: نعم، قال: بئس القوم أنتم، لو کان للمسیح ولد لأسکنّاه أحداقنا، ثمّ قال: هل لکم فی شیء؟ قالوا: وما هو؟ قال: عندی عشرة الآف دینار تأخذونها وتعطونی الرأس یکون عندی تمام اللیلة، وإذا رحلتم تأخذونه، قالوا: وما یضرّنا، فناولوه الرأس وناولهم الدنانیر، فأخذه الراهب فغسله وطیّبه وترکه علی فخذه وقعد یبکی اللیل کلّه، فلما أسفر الصبح، قال: یا رأس، لا أملک إلّا نفسی وأنا أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ جدّک محمداً رسول الله وأشهد الله أنّنی مولاک وعبدک». (المترجم).
3- ([3]) اُنظر: ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج2، ص582.
4- ([4]) الترمذی، محمد بن عیسی، سنن الترمذی: ج5، ص323.

النهار أشعث أغبر معه قارورة فیها دم، فقلت: بأبی وأُمّی یا رسول الله، ما هذا؟ قال: هذا دم الحسین وأصحابه لم أزل ألتقطه منذ الیوم، فأحصینا ذلک الیوم فوجدوه قُتل فی ذلک الیوم ((1)).

نیاحة الجن

أخرج أبو نعیم فی الدلائل عن أُمّ سلمة قالت: سمعت الجن تبکی علی حسین وتنوح علیه.

و أخرج ثعلب فی أمالیه عن أبی خباب الکلبی، قال: أتیت کربلاء، فقلت لرجل من أشراف العرب: أخبرنی بما بلغنی أنّکم تسمعون نوح الجن، فقال: ما تلقی أحداً إلّا أخبرک أنّه سمع ذلک، قلت: فأخبرنی بما سمعت أنت، قال: سمعتهم یقولون:

مسح الرسول

جبینه

فله بریقٌ فی

الخدود

أبواه من علیا

قریش

وجدّه خیر

الجدود((2)).

حکی الزهری عن أُم سلمة قالت: ما سمعت نواح الجن إلّا فی اللیلة التی قتل فیها الحسین، سمعت قائلاً یقول:

ألا یا عین

فاختلفی بجهد

ومَن یبکی

علی الشهداء بعدی

علی رهط

تقودهم المنایا

إلی متجبّرٍ

فی ثوب عبد

قالت: فعلمت أنّه قد قُتل الحسین ((3)).

ص: 222


1- ([1]) ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج1، ص242، وص283. الحاکم النیسابوری، محمد بن عبد الله، المستدرک: ج4، ص398. الذهبی، محمد بن أحمد، سیر أعلام النبلاء: ج3، ص323.
2- ([2]) السیوطی، جلال الدین، تاریخ الخلفاء: ص166.
3- ([3]) اُنظر: سبط ابن الجوزی، یوسف بن فرغلی، تذکرة الخواص: ص242.

الآیات فی السماء

قال السیوطی: ولمّا قتل الحسین مکثت الدنیا سبعة أیّام، والشمس علی الحیطان کالملاحف المعصفرة، والکواکب یضرب بعضها بعضاً، وکان قتله یوم عاشوراء، وکسفت الشمس ذلک الیوم، واحمرّت آفاق السماء ستة أشهر بعد قتله، ثمّ لا زالت الحمرة تُری فیها بعد ذلک ولم تکن تری فیها قبله((1)).

وعن نضرة الأزدیة قالت: لمّا قُتل الحسین بن علی مطرت السماء دماً((2)).

الآیات فی الأرض

قال السیوطی: «إنّه لم یُقلب حجر بیت المقدس یومئذٍ إلّا وُجد تحته دمٌ عبیط، وصار الورس الذی فی عسکرهم رماداً، ونحروا ناقة فی عسکرهم، فکانوا یرون فی لحمها مثل النیران وطبخوها فصارت مثل العلقم، وتکلّم رجل فی الحسین فرماه الله بکوکبین من السماء فطمس بصره»((3)).

الرثاء الغیبی

من الموضوعات المهمّة فی مصادر أهل السنة هی حوادث ما بعد عاشوراء، فقد نقلت روایات نیاحة ورثاء من الغیب وفیها الأشعار کذلک، ولم یقع بین مصادرها ولا رواتها اختلاف واضح، ومنها: ذکر هشام بن محمد قال: لمّا قتل الحسین سمع قاتلوه قائلاً یقول من السماء:

ص: 223


1- ([1]) السیوطی، جلال الدین، تاریخ الخلفاء: ص166. الإربلی، علی بن أبی الفتح، کشف الغمّة فی معرفة الأئمّة: ص268.
2- ([2]) ابن عساکر، علی بن الحسن، تاریخ مدینة دمشق: ج14، ص227. المزی، یوسف، تهذیب الکمال: ج6، ص433.
3- ([3]) السیوطی، جلال الدین، تاریخ الخلفاء: ص166.

أیّها

القاتلون جهلاً حسیناً

أبشروا

بالعذاب والتنکیل

کلّ أهل

السماء یدعو علیکم

من نبیٍّ

ومرسلٍ وقبیل

قد لعنتم علی

لسان ابن داود

وموسی وصاحب

الإنجیل((1)).

کما نقل ابن عساکر نحو (32) روایة عن الحوادث الکونیة التی رافقت قتل الحسین علیه السلام والتی تدلّ علی کراماته، منها:

o کسفت الشمس کسفة بدت الکواکب نصف النهار((2)).

o تسایل حیطان دار الإمارة دماً((3)).

o لم یقلب حجر ببیت المقدس إلّا أصبح تحته دم عبیط((4)).

o احمرّت آفاق السماء ستة أشهر ((5)).

o الکواکب یضرب بعضها بعضاً((6)).

o مطرت السماء دماً((7)).

o اسودّت السماء وظهرت الکواکب نهاراً وسقط التراب الأحمر((8)).

o مکثت السماء سبعة أیّام بلیالیها کأنّها علقة((9)).

ص: 224


1- ([1]) سبط ابن الجوزی، یوسف بن فرغلی، تذکرة الخواص: ص242.
2- ([2]) اُنظر: ابن عساکر، علی بن الحسن، تاریخ مدینة دمشق: ج14، ص228.
3- ([3]) اُنظر: المصدر السابق: ص229.
4- ([4]) اُنظر: المصدر السابق: ص230.
5- ([5]) اُنظر: المصدر السابق: ص227.
6- ([6]) اُنظر: المصدر السابق: ص227. الشبراوی، عبد الله بن محمد، الإتحاف بحبّ الأشراف: ص183.
7- ([7]) اُنظر: المصدران السابقان.
8- ([8]) اُنظر: ابن عساکر، علی بن الحسن، تاریخ مدینة دمشق: ص226. الشبراوی، عبد الله بن محمد، الإتحاف بحبّ الأشراف: ص182.
9- ([9]) اُنظر: ابن عساکر، علی بن الحسن، تاریخ مدینة دمشق: ج14، ص226.

الرأس المقطوع وتلاوة القرآن

إنّ من النتائج العجیبة لشهادة الإمام الحسین علیه السلام هی تلاوة الرأس المرفوع علی القناة القرآن((1))، وعن المنهال بن عمرو قال: «أنا - والله - رأیت رأس الحسین بن علی حین حُمل وأنا بدمشق وبین یدی الرأس رجل یقرأ سورة الکهف حتی بلغ قوله تعالی:«أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْکَهْفِ وَالرَّقِیمِ کَانُوا مِنْ آیَاتِنَا عَجَبًا » . قال: فأنطق الله الرأس بلسانٍ ذرب، فقال: أعجب من أصحاب الکهف قتلی وحملی»((2)).

وعن الأعمش عن سلمة بن کهیل قال: «رأیت رأس الحسین بن علی علی القناة وهو یقول:« فَسَیَکْفِیکَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِیعُ الْعَلِیمُ »((3))» ((4)).

ب - الآثار السیاسیة والاجتماعیة

اشارة

إنّ من الشبهات التی أثارها حفنة من أهل السنة التی کتبت دفاعاً عن یزید ونظرت إلی ثورة کربلاء من منظار السلطة، هی الشک فی جدواها وغیاب النتائج المنشودة منها، وممَّن مال إلی ذلک ابن تیمیة، حیث قال: «إنّه لم یکن فی الخروج مصلحة، لا فی دین ولا فی دنیا، وکان فی خروجه وقتله من الفساد ما لم یحصل لو قَعَد فی بلده، فإنّ ما قصده من تحصیل الخیر ودفع الشرّ لم یحصل منه شیء، بل زاد الشرّ بخروجه وقتله، ونقص الخیر بذلک، وصار سبباً لشرٍّ عظیم، وکان قتل الحسین ممّا أوجب الفتن»((5)).

ص: 225


1- ([1]) قال الدمیری تحت عنوان: (مَن تکلّم بعد الموت) من کتابه (حیاة الحیوان): ج1، ص80، ما نصّه: «وتکلّم بعد الموت أربعة: یحیی بن زکریا حین ذُبح، وحبیب النجار حیث قال:« یَا لَیْتَ قَوْمِی یَعْلَمُونَ »، وجعفر الطیار حیث قال:«وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِینَ قُتِلُوا فِی سَبِیلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا »، والحسین بن علی حیث قال:«وَسَیَعْلَمُ الَّذِینَ ظَلَمُوا أَیَّ مُنْقَلَبٍ یَنْقَلِبُونَ ». (المترجم).
2- ([2]) ابن عساکر، علی بن الحسن، تاریخ مدینة دمشق: ج60، ص369.
3- ([3]) البقرة: آیة137.
4- ([4]) ابن عساکر، علی بن الحسن، تاریخ مدینة دمشق: ج22، ص117.
5- ([5]) ابن تیمیة، أحمد بن عبد الحلیم، منهاج السنة: ج2، ص241 - 242.

أمّا الشیخ الخضری فإنّه عقب علی حادثة کربلاء قائلاً: «وعلی الجملة، إنّ الحسین أخطأ خطأً عظیماً فی خروجه هذا، الذی جرّ علی الأُمّة وبال الفرقة والاختلاف، وزعزع عماد أُلفَتِها إلی یومنا هذا... وقد أکثر الناس من الکتابة فی هذه الحادثة... وغایة ما فی الأمر أنّ الرجل طلب أمراً لم یتهیّأ له، ولم یعدّ له عدّته، فحِیل بینه وبین ما یشتهی وقُتل دونه.. والحسین قد خالف یزید وقد بایعه الناس، ولم یظهر عنه ذلک الجور ولا العسف عند إظهار الخلاف حتی یکون فی الخروج مصلحة للأُمّة»((1)).

وحول هذه الشبهة لا بدّ من القول إنّه فیما یتعلّق برصیدها الشرعی وأُصولها العقلانیة فقد تمّت الإجابة عنه فیما سبق، وقد صرّح الکثیر من علماء أهل السنة أنّ یزید فاجرٌ وفاسقٌ وکافرٌ، والجهاد ضدّه لازمٌ بل واجب، ومضی الحسین علیه السلام فی ثورته امتثالاً لتکلیف الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر واستجابة للمهمّة التی أوکلها إلیه الله ورسوله’، أمّا رصیدها العقلائی والقیادی فإنّ الإمام علیه السلام أخذ بنظر الاعتبار جمیع الجهات، وکان علی اطّلاع تامّ بالأوضاع والظروف السائدة، وجاءت حساباته دقیقة بعیدة عن أدنی خطأ أو غفلة، وبالتالی وکما تقدّمت الإشارة إلیه، فإنّ فلسفة هذه الثورة التی وردت علی لسانه فی مختلف المصادر التاریخیة لأهل السنة کفیلة بالإجابة عن هذه الشبهة إجابةً لا غبار علیها، ویمکن إیجاز منجزاتها فی النقاط التالیة:

1- إحیاء الدین وتحدّی حکومة یزید

تولّی یزید الخلافة الدینیة بعد معاویة التی أرادها أن تکون خلافة وحکومة إسلامیة امتداداً لخلافة النبی’ والخلفاء الراشدین، إلاّ أنّ الإمام علیه السلام لماّ رفض مبایعة یزید وقام بنشر الوعی خلال مسیره من المدینة إلی مکة ومنها إلی کربلاء ویوم عاشوراء

ص: 226


1- ([1]) الخضری، محمد، تاریخ الأُمم الإسلامیة: ج2، ص235.

سحب بساط الشرعیة عن حکمه، وبیّن أنّ الدین بعید کلّ البعد عن بِدع یزید ومنکراته، کما حذّر المسلمین من مغبّة الخلط بین الإسلام الأصیل والإسلام الأُموی المتمثّل بیزید وسلوکه وانحرافاته، لئلّا یبتعدوا عن جادّة الحق.

ومع استشهاد الحسین علیه السلام وأنصاره علی ید یزید وعمّاله انکشف صواب موقف الحسین علیه السلام أمام المسلمین، الذین صحوا من سبات الغفلة التی اعترتهم بفضل تضحیاته علیه السلام الجسام، وأدرکوا أنّ الدین لا تعکسه السیاسة الأُمویة، بل ثمّة تنافر بین هذین القطبین.

ممّا دعا بعض إلی الثورة علی الأُمویین لأجل إضفاء الطابع الشرعی علی السیاسة، کثورة التوابین وقیام المختار وثورة زید بن علی بن الحسین ویحیی بن زید وآخرین، واستغلّ بعض الظروف السانحة لبیان معارف الإسلام الأصیلة، وممارسة أنشطة ثقافیة تستهدف نشر الحقائق فی صفوف الناس، کأنشطة أبناء الإمام الحسین علیه السلام مثل الإمام زین العابدین علیه السلام ، والإمام الباقر علیه السلام ، والإمام الصادق علیه السلام ، وسائر أئمّة أهل البیت علیهم السلام ، حیث بسطوا معارف الإسلام الأصیلة والسنة النبویة التی نادت بها ثورة کربلاء، وقد واجه یزید نقمة شعبیة عارمة مهّدت الأرضیة للإطاحة بالحکم الأُموی عام (132ه-) بعد أن سوّد هذا الحکم صفحات التاریخ بجرائمه التی یندی لها جبین الإنسانیة.

2- إحیاء ثقافة الشهادة

إنّ النصائح التی بذلت للإمام الحسین علیه السلام بهدف ثنیه عن المضی فی مسیره، تدلّ بوضوح علی أجواء الرعب والخوف والاستبداد الأُموی الذی کان سائداً فی المجتمع آنذاک، وقد أدّی هذا الأمر إلی تراکم غبار النسیان علی الشهادة فی سبیل الله، لإحیاء الدین والقیم الدینیة، ومکافحة الفساد والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، وإذا

ص: 227

مازالت الشهادة عالقة فی أذهان المسلمین فإنّها ظلّت حکراً علی جهاد الکفار دون جهاد الخلیفة والسلطان الجائر، والحد من فساده المستفحل.

وفی تلک الأجواء قام الإمام الحسین علیه السلام بکسر حاجز الرعب والخوف وروح الانهزامیة، وأثبت أنّ الدفاع عن الدین لا یستلزم المجازفة بالنفس فحسب، بل الاستعداد للشهادة ولقاء الله، إذ لا یتصور ممارسة الجهاد دون التعرّض للخطر، وعلیه لا بدّ من التضحیة بالغالی والنفیس والسبی، وبذلک أحیی الحسین علیه السلام سبیل الشهادة وثقافته.

وبالطبع، فإنّ تضحیة الإمام الحسین علیه السلام أعطت قیمة لفریضة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، وبیّنت مکانتها للملأ، وقد أثبت صواب خطّه عبر التضحیة بنفسه وأصحابه وسبی عیاله، من هنا فقد شهدنا بعد عاشوراء فتح باب الشهادة، وشیوع ثقافة التضحیة والإیثار فی صفوف المسلمین.

3 - التمهید للإطاحة بالنظام الأُموی

اشارة

کان لثورة کربلاء مکسبان من الناحیة السیاسیة، فی غایة الأهمّیة، لا غبار علیهما، وقد ضبطا فی المصادر التاریخیة، ودلّت علیهما الأحداث والوقائع اللاحقة، بل اعترف بهما قادة الجهاز الأُموی منذ بدایة أحداث ثورة کربلاء، وهما: کراهیة الناس لیزید وحکومته الأُمویة، ومحبّة أهل البیت علیهم السلام المتزایدة واتّضاح مظلومیتهم عند الناس.

أ - کراهیة یزید والأُمویین

إنّ ندم یزید من جریمته النکراء فی کربلاء، أو التظاهر بذلک کما ورد فی المصادر التاریخیة، إنّما یدلّ علی خوفه من نقمة المسلمین وغضبهم، وقد اعترف بذلک یزید لما قال: «لعن الله ابن مرجانة، فإنّه اضطرّه.. فبغّضنی بقتله إلی المسلمین، وزرع فی قلوبهم العداوة، فأبغضنی البرّ والفاجر بما استعظموه من قتلی الحسین، ما لی ولابن مرجانة، لعنه

ص: 228

الله وغضب علیه»((1)).

وما وقوع ثورات عدیدة بعد ثورة عاشوراء (61ه-) إلّا شاهدٌ آخر علی شیوع الکراهیة ضد السلطة الأُمویة، ومن جملة تلک الثورات: ثورة الحرّة، وثورة التوابین، وثورة المختار، وحرکة عبد الله بن الزبیر الذی بسط نفوذه علی أصقاع واسعة ودامت إمارته لسنوات، وثورة زید بن علی، وثورة یحیی بن زید، هذه الثورات ما کانت لتقوم لولا رفض المسلمین للأُمویین وتسلّطهم.

ب - انتشار نفوذ أهل البیت علیهم السلام

مع استشهاد الإمام الحسین علیه السلام وأصحابه فی کربلاء التفت المسلمون إلی مظلومیة أهل البیت علیهم السلام أکثر من أیّ وقت مضی، ممّا زاد من حبّ المسلمین لأهل البیت علیهم السلام ، وقد استغلّ العباسیون هذا النفوذ الواسع بغیة الوصول إلی مآربهم، وتمکّنوا بعد الإطاحة بالأُمویین من اعتلاء سدّة الحکم کقوّة بدیلة.

4- تهیئة الأرضیة العلمیة والثقافیة

لقد طرحت ثورة کربلاء واستشهاد قائدها ومقاتلیه، والإعلام الواسع من قبل الرکب الحسینی - لا سیما علی بن الحسین علیه السلام وزینب الکبری‘ فی الکوفة والشام - موضوعات مختلفة فی صفوف الناس، وأدّت إلی ظهور ثورات عدیدة بعد عاشوراء وغیاب الشرعیة عن الحکم الأُموی ممّا سهل فی بلورة جهود علمیة وثقافیة علی نطاق واسع علی ید الإمام زین العابدین والباقر والصادق علیهم السلام ، حیث قاموا بنشر علوم آل محمد’ علی مختلف الصُّعد فی ظلّ أجواء سادها الإقبال الواسع للمسلمین علی أهل

ص: 229


1- ([1]) ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج3، ص190.

البیت علیهم السلام ، واضطراب الأوضاع السیاسیة نظراً لانشغال الأمویین بإخماد الثورات والحرکات المسلحة.

إنّ المکانة العلمیة المرموقة للإمام السجاد علیه السلام - باعتباره أفقه التابعین - جعلته مرجعاً علمیاً لا بدیل له بین المسلمین، وقد ترک تأثیراً بالغاً لا علی مستوی الثقافة العامّة للمجتمع، من خلال الأسالیب العلمیة والثقافیة، وتحکیم أُصول مذهب أهل البیت علیهم السلام ، وإغنائه والتعریف به فحسب، بل علی المستوی السیاسی أیضاً، ویتجلّی ذلک فی منع عمر بن عبد العزیز من بدعة سبّ الإمام علی بن أبی طالب علیه السلام علی المنابر التی ابتدعها معاویة، وسحب عنوان أمیر المؤمنین عن یزید.

لقد عانی المسلمون فصل الدین عن السیاسة فی ظل النظام الأُموی، فالتجأوا إلی أهل البیت علیهم السلام بهدف التزوّد من نمیر علومهم ومعرفة أحکام الشرع، وبذلک استعاد أئمّة أهل البیت علیهم السلام دورهم الریادی ومکانتهم العلمیة والدینیة الرفیعة فی المجتمع.

ویؤیّد ذلک اعتراف کبار علماء أهل السنة أنفسهم بشأن المقام العلمی والدینی للأئمّة: السجاد والباقر والصادق علیهم السلام ، والتأثیر المباشر أو غیر المباشر فی أئمّة سائر المذاهب الفقهیة.

من هنا فالإنسانیة تفتخر بالحسین علیه السلام وثورته، وتعتبره زعیماً لها بغض النظر عن جنسیته وقومیته ولغته ومذهبه، والیوم نشاهد من هذا المنطلق إقبال المجتمعات بمختلف الانتماءات نحو الحسین علیه السلام وملحمته، ابتداءً من غاندی زعیم الهند وقادئها، والمفکرین المسیح من لبنان وأوروبا وأمیرکا اللاتینیة، وانتهاءً بالإمام الخمینی، وقادة الثورة الإسلامیة، وقوات التعبئة الذین ضحّوا دفاعاً عن تراب وطنهم ولتحریر العراق من النظام البعثی الجائر، وهکذا ظلّ الإمام الحسین علیه السلام وثورته أُسوة ومصدر إلهام للجمیع.

ص: 230

لا شکّ أنّ أنواع المِحَن والمصائب التی حلّت بالإمام الحسین علیه السلام وأُخته زینب‘ هی فی الواقع أُسوة لا للمجاهدین فحسب، بل للمسلمین فی حاضرهم وللإنسان المعاصر فی واقعه.

وکان لإقامة مآتم أهل البیت علیهم السلام وشهداء کربلاء دورٌ مهم فی إحیاء الدین والقیم الإسلامیة الأصیلة بین المسلمین، وکما قال الإمام الخمینی: «إنّ محرم وصفر قد أحییا الإسلام».

هذه الجملة تحکی عن واقع تاریخی عمیق، وحقیقة ثابتة، وهی أنّه یتعذّر تجاهل دور الحسین علیه السلام وعاشوراء فی الحفاظ علی الدین وقیمه والتأسّی به، ویتّضح - مع أخذ تلک الآثار والتداعیات - زیف ادّعاء ابن تیمیة وأتباعه من خلو هذه الملحمة العظیمة من أیّة آثار إیجابیة، وبالطبع فإنّ جهود ابن تیمیة وازدواجیته فی التحلیل لدلیلٌ علی أهمّیة عاشوراء ونتائجه، فإذا لم تکن لعاشوراء تلک الثمرة لما کنّا نشهد هذا الاهتمام بتاریخ عاشوراء وتبریر جرائم یزید، وجعل الأخبار ووضع الروایات.

5- تقدیم القدوة لهدایة المجتمعات

اشارة

إنّ أهمّ دور لثورة کربلاء هی کونها أُسوة لشخصیات دینیة واجتماعیة وسیاسیة کبیرة، وهی دلیلٌ لثورات وحرکات تحرّریة وإصلاحیة تنشد العدالة، ذلک أنّ هذه الثورة تمتلک مقومات تاریخیة نادرة لجهادٍ طویلٍ وشاق وشمولی، وسوف نشیر إلی بعض تلک المقومات:

أ - زعیمٌ واعٍ وصامد

کانت هذه الثورة تمتلک زعیماً واعیاً مثل جدّه رسول الله صلی الله علیه و آله وأبیه أمیر المؤمنین علیه السلام ، ولم یکن الإمام علیه السلام یتحمّل شدائد الجهاد وحده، بل شارکه فیها أصغر جندی فی رکبه، ونسائه وأبنائه وأقربائه الذین کانوا فی الطلیعة، وتعرّضوا لأنواع المِحَن

ص: 231

والسبی فی سبیل ثورة کُتب لها الفشل علی الظاهر، لقد ضرب الحسین علیه السلام مثلاً رائعاً فی الصمود والإباء والثبات قلّ نظیره؛ إذ رغم المصائب والکوارث التی ألّمت به، من نزوح عن الوطن، وعطش، ومصائب، ونقضٍ للوعود، والوحدة، وقلّة الناصر، وکثرة العدو، وعطش أبنائه ونسائه، لم یظهر منه أی ضعف، ولم یصدر عنه أی یأس أو جزع أو تعجّل فی الموقف، ولم یغیّر موقفه أو یتنازل عن أهدافه وشعاراته.

وقد طرح فی آخر رمق من حیاته شعار الحریة والعبودیة والإیمان عندما قال: «ویلکم یا شیعة آل أبی سفیان، إن لم یکن لکم دین وکنتم لا تخافون المعاد فکونوا أحراراً فی دنیاکم هذه، وارجعوا إلی أحسابکم إن کنتم عرباً کما تزعمون»((1)).

لک الله یا أبا عبد الله الحسین، أردت أن تبنی دولة الإسلام علی الکرامة والحریة والمساواة، وأرادوها دولة الکفر والجور والطغیان.

ب - أصحابٌ أوفیاء

لقد صرّح الإمام علیه السلام أنّ أصحابه خیر الأصحاب، بل أفضل من صحابة رسول الله صلی الله علیه و آله وأمیر المؤمنین علیه السلام ، وکانوا مثالاً فی العبادة والزهد، والشجاعة والثبات، والوفاء والرجولة، وهم خلافاً لأصحاب بدر وأُحد وصفین والنهروان لم یخطر علی مخیلتهم الانتصار أو البقاء علی قید الحیاة، بل تسابقوا إلی المنیة بقلوب مفعمة بحبّ الحسین علیه السلام ، وازدادوا صلابةً وثباتاً لأهدافهم المتمثّلة فی إحیاء الدین والسنة النبویة، والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، وبذلک انتشلوا الإسلام والإنسانیة والحریة من براثن الشرک والظلم والانحراف، وکلّما اقتربوا من الشهادة ازداد إیمانهم وشجاعتهم دون خوف أو وَجَل أو ندم أو تردّد، رغم أنّ الحسین علیه السلام قد رفع عنهم البیعة لمّا قال:

ص: 232


1- ([1]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم و الملوک: ج4، ص344.

«إنّی قد أذنت لکم فانطلقوا جمیعاً فی حلّ لیس علیکم منی ذمام، هذا اللیل قد غشیکم فاتخذوه جملاً، ولیأخذ کلّ رجل منکم بید رجل من أهل بیتی وتفرّقوا فی سوادکم ومدائنکم، فإنّ القوم إنّما یطلبوننی»((1)).

وأبی أصحابه الأوفیاء وأهل بیته البررة أن یفارقوه أو یبخلوا بأرواحهم علیه مع أنّه قد تجسّد لهم المصیر، وأصبحوا واثقین به، والجود بالنفس أقصی غایة الجود، وقالوا بلسان واحد: والله، لا نفارقک ولا نرضی بالعیش بعدک ولا بالدنیا بکلّ ما فیها بدلاً من الشهادة بین یدیک، فی ظلّ هذه الروحیة العالیة والصلابة والوفاء التحق الحر بن یزید الریاحی وآخرون بمعسکر الحسین علیه السلام فی آخر لحظة من یوم عاشوراء.

ج - أهل البیت علیهم السلام وشموخهم الرسالی

عادة ما تکون أُسرة الشهید أکثر صلابة وتحمّلاً للمعاناة، وقد أدّی سبایا أهل البیت علیهم السلام هذه المهمّة علی أفضل وجه، بل قد سجّلوا حضوراً منذ البدایة فی الساحات، وشاهدوا عن کثب بحرقة وعذاب قتل رجالهم والمثلة بهم، هذا إلی جانب معاناة السبی، والسفر الطویل، والخوف، ونقض عهد أهل الکوفة، وسوء المعاملة، والعطش، وقتل الأحبّة والأبناء والإخوة وسائر الأقرباء، والأسر المذلّ.

وفی الواقع فإنّ السبی أکثر مرارة من الشهادة؛ ذلک أنّ الرکب الحسینی لم یتحمّل ذلک فی سبیل أهداف الثورة فحسب، بل إنّه لم یرفع الید عن أهداف وآمال شهداء کربلاء، حتی تمکّن من تبدیل أزمة السبی فی ظلّ الثبات والاستقامة إلی فرصة ذهبیة، واستفاد منها فی تبلیغ أهداف شهداء کربلاء، وکشف النقاب عن منکرات ومفاسد وجرائم یزید وآل زیاد، ونقل الثورة الحسینیة ورسالتها من الصحراء الجرداء والنائیة

ص: 233


1- ([1]) ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج4، ص57.

لکربلاء إلی القبائل والمدن والقری، وأخیراً إلی قصور الجور لابن زیاد ویزید، فی مجلسٍ ضمّ جموعاً غفیرة من الناس وزعماء النظام الأُموی کدعایة سیاسیة علی قدرة الأُمویین وانتصارهم، والتأکید علی استتباب الأمن والثبات الذی یتمتّع به النظام الأُموی لا سیما یزید، وعلی ضوء ما قام به سبایا کربلاء من تبدیل نشوة یزید بالانتصار إلی هزیمة وخیبة، تحول ذلک المجلس إلی مأتم لأهل البیت علیهم السلام وإدانة لیزید وابن زیاد، ممّا اضطرّه إلی إظهار الندم ولعن ابن زیاد وعمر بن سعد وشمر، بهدف التنصّل من تلک الجریمة.

د - الأهداف والشعارات الخالدة

إنّ من جملة خصوصیات هذه الثورة أهدافها المثالیة والإنسانیة التی قوّضت صرح الحدود المادیة الضیقة، وذهبت إلی أبعد من الشعارات الروحیة المرفوعة فی إطار مذهبٍ خاصّ، وحتی دینٍ خاصّ والتحمت بالإنسان والإنسانیة، شعارات نظیر الحریة والتحرّر، ومکافحة الفساد والجور، ذمّ الحیاة المشوبة بالذل، ومناهضة التمییز الاقتصادی والعنصری والسیاسی، وعدم الالتزام بالعهود والمواثیق، وتحمّل المشاق بل الاستعداد للتضحیة بالغالی والنفیس فی سبیل تحقّق الأهداف الإنسانیة والإلهیة، وشعارات أُخری تختصّ بفلسفة وأهداف تلک النهضة العظیمة.

تقویض الوحدة أو تعزیزها

لم تبثّ ثورة الحسین علیه السلام بذور الفرقة - وخلافاً لابن العربی ومَن نسج علی منواله کابن تیمیة - فی المجتمع الإسلامی فحسب، بل وهبت حیاةً جدیدة للمسلمین، وأعادت إلیهم سابق عزّهم، وحال دون تعرّض الإسلام للانحرافات، والولوج فی جادّة التحریفات، وضرب لهم درساً فی الحیاة الدینیة الحافلة بالعزّة والحرّیة.

1- إذا کانت إشکالات ابن تیمیة ومَن لفّ لفّه معیاراً للبتّ فی الحکم، فهذا یستلزم التشکیک ببعثة رسول الله صلی الله علیه و آله ، بل بعثة سائر الأنبیاء علیهم السلام ؛ ذلک أنّهم قوّضوا

ص: 234

عماد الوحدة والاتحاد فی المجتمعات الخاضعة للنُّظم الفرعونیة، والنُّظم الملحدة، وشیّدوا علی أنقاضها نظاماً جدیداً وثقافةً جدیدة.

2- رفض الحسین علیه السلام مبایعة یزید معلناً الخروج علیه منذ البدایة، بینما نجد زعماء المذاهب الإسلامیة، کأبی حنیفة، وعبد الحمید بن جعفر، وابن عجلان، وممَّن أفتی بجواز الخروج مع محمد علی المنصور مالک بن أنس، لمّا قِیل له: إنّ فی أعناقنا بیعة للمنصور، فقال: إنّما بایعتم مکرهین ولیس علی مکره یمین ((1)).

ومن الواضح أنّ فساد المنصور لا یُقاس بفساد یزید، کما أنّ نقض البیعة بعد انعقادها لا یُقاس برفض البیعة، وأهمّ من کلّ ذلک أنّ مکانة المنصور لا تُجاری مکانة الحسین علیه السلام ، فأین الثری من الثریا.

ومع کلّ هذا فقد أصرّ ابن تیمیة علی اتّهام ثورة الحسین علیه السلام بأنّها أحدثت شرخاً فی جدار الوحدة، هذه التهمة الرخیصة یمکن إلصاقها ببعثة الأنبیاء علیهم السلام أیضاً، بل بزعماء المذاهب التی ینتمی إلیها، وهذا الإشکال سوف یفتح الباب علی مصراعیه بوجه إشکالات لا حصر لها.

3- لا بدّ من التنویه بأنّ الإسلام لا یمضی کلّ وحدة واتّفاق، وإنّما تُکتسب الوحدة قیمتها إذا دارت حول حبل الله المتین، المتمثّل فی القرآن والعترة، والحال أنّنا نجد أنّ القرآن والعترة المتمثّلة آنذاک بالحسین علیه السلام قد تعرّضا للتهمیش، ونالا سهماً عظیماً من الظلم فی المجتمع الإسلامی، وقام الحسین علیه السلام لإحیاء الدین وقیمه الذی هو عماد الوحدة والتکاتف ورصّ الصفوف، وبذل التضحیات تلو التضحیات فی هذا السبیل، وعلی ذلک یُتاح لنا القول وبضرسٍ قاطع أنّه علیه السلام ذهب ضحیة لوحدة المسلمین، تلک الوحدة الحقیقیة التی لا یُکتب لها البقاء إلّا فی ظلّ سیادة القیم الدینیة

ص: 235


1- ([1]) السیوطی، جلال الدین، تاریخ الخلفاء: ص261.

ومحوریة أهل البیت علیهم السلام .

وإذا کانت الوحدة سائدة فی عهد معاویة ویزید، فما معنی استشهاد صحابة کبار، کحجر بن عدی وأصحابه والإمام الحسن علیه السلام ، وفرض ولایة یزید بالقوة بفضل سیاسة التهدید والترغیب التی مارسها معاویة؟ ألم یکن معاویة قد قوّض دعائم الوحدة حینما شنّ حرب صفین الضروس، وحمل السیف بوجه الخلیفة الشرعی علیّ بن أبی طالب علیه السلام أسفرت عن قتل جمع غفیر من المسلمین؟ ألم یکن معاویة قد شتّتَ وحدة الکلمة حینما جهّز جیشاً لمقاتلة الإمام الحسن علیه السلام أحد الخلفاء الراشدین، استناداً إلی الحدیث النبوی، واعتماداً علی کلمات کبار علماء أهل السنة؟ ألم یخلق فی صفوفهم نفاقاً إلی یوم الدین((1)).

4- سبق الحدیث فی الفصل الأوّل عن آلیات الخلافة، وذکرنا أنّ معاویة أوجد نفاقاً أبدیاً بین المسلمین من خلال جعل الخلافة میراثاً للأبناء، وأوّل مَن عرض هذه الفکرة هو المغیرة بن شعبة لمّا طرح ولایة العهد لیزید، فاستحسنها معاویة، ولمّا خرج من عنده قال: «لقد وضعت رجل معاویة فی غرز بعید الغایة علی أُمّة محمد صلی الله علیه و آله ، وفتقت علیه فتقاً لا یُرتق»((2)).

وقد ذکرنا أنّ الحسن البصری وهو من کبار علماء أهل السنة قال فی معاویة:

«قد کانت فی معاویة هنات لو لقی أهل الأرض ببعضها لکفاهم: وثوبه علی هذا الأمر واقتطاعه من غیر مشورة من المسلمین، وادّعاؤه زیاداً، وقتله حجر بن عدی

ص: 236


1- ([1]) ومن سخریات القدر أنّ العام الذی ولی فیه معاویة الحکم سُمّی بعام الجماعة، وأیُّ جماعةٍ تلک التی طالما دقّ فیها معاویة أسفین التشتت، ولعمری، إنّ مغزی التکتّم علی هذه الحقائق الساطعة هو أنّ معاویة بمنزلة حلقة الباب - علی حدّ نقل ابن عساکر - من حرکه اتّهمناه علی مَن فوقه. اُنظر: ابن عساکر، علی بن الحسن، تاریخ دمشق: ج59، ص210. (المترجم).
2- ([2]) ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج3، ص349 - 350.

وأصحابه، وبتولیته مثل یزید علی الناس»((1)).

وعلیه کان معاویة ویزید - باعتراف التاریخ وشهادة کبار علماء أهل السنة - قد صدعا وحدة المسلمین، وبثّا بذور الفتنة والنفاق والاختلاف فیهم.

5- کانت المعنویات من جملة الخصائص الفریدة لثورة کربلاء، وهی التی أبرزتها من بین سائر الثورات والحرکات الدینیة والإصلاحیة، ولم ینسَ الحسین علیه السلام وأصحابه الأخلاق الدینیة الرفیعة والصبر والتحمّل فی أحلک الظروف والمِحَن، بل إنّهم أصرّوا علی التحلّی بها مهما کلّف، ولا تکاد تعثر فی کلماتهم علی أثر للحرب النفسیة أو الشعارات الجوفاء أو خداع الرعیة أو وعود زائفة، ولم یبدأ الإمام علیه السلام الحرب، وحتی أنّه لم یبخل بالماء والمتاع الذی کان هو وأصحابه فی أمسّ الحاجة إلیه، لفرسان الأعداء وخیولهم فی تلک الصحراء الجرداء القاحلة، هذه صفحة مشرقة فی تاریخ هذه الثورة لیس إلی نکرانها من سبیل.

ورغم کلّ التقلّبات والأحداث فإنّه لم یُشاهد ارتکاب مکروه قط من طرف الإمام علیه السلام وأصحابه أبان أحداث الثورة التی ظلّت وفیّة للدین والمفاهیم الإسلامیة والقیم الأخلاقیة الأصیلة، ولا تجد مبالغة أو خلاف الواقع فی الشعارات المطروحة، بل رُفعت عن صدق وإخلاص، ولم یتشبّث بالمبالغة والإغراق، فما بالک بالکذب أو الحیلة من أجل التعریف بأنفسهم، وکان الحسین علیه السلام یعرّف نفسه بأنّه ابن بنت رسول الله صلی الله علیه و آله ، ولم یجهل الأعداء مکانته من رسول الله’، ولا ضیر فی ذلک عند العرب.

ص: 237


1- ([1]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج3، ص249. ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج3، ص337.

ص: 238

ص: 239

ص: 240

الفصل السادس: علماء أهل السنة ولعن یزید

علماء أهل السنة ولعن یزید

من المسائل المطروحة قدیماً لدی أهل السنة هی مسألة جواز لعن یزید، وقد یتّخذ هذا الأمر طابعاً عاطفیاً احتراماً لرسول الله صلی الله علیه و آله ، وحزناً علی استشهاد نجله الحسین بن علی علیه السلام ، وأصلاً عقائدیاً یدلّ علی طاعة الله سبحانه: «فَهَلْ عَسَیْتُمْ إِنْ تَوَلَّیْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِی الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَکُمْ »«أُولَئِکَ الَّذِینَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَی أَبْصَارَهُمْ »((1)).

قِیل: إنّ الإمام أحمد لمّا سأله ولده عبد الله عن لعن یزید، قال: کیف لا یُلعن مَن لعنه الله تعالی فی کتابه، فقال عبد الله: قد قرأت کتاب الله (عزّ وجلّ) فلم أجد فیه لعن یزید، فقال الإمام: إنّ الله تعالی یقول: «فَهَلْ عَسَیْتُمْ إِنْ تَوَلَّیْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِی الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَکُمْ »وأیّ فساد وقطیعة أشد ممّا فعله یزید ((2)).

والرأی المشهور بین أهل السنة هو جواز بل ضرورة لعن یزید، إلّا أنّ ثمّة مَن یخالف لعنه انطلاقاً من الحدیث النبوی: «لاینبغی للمؤمن أن یکون لعّاناً»((3))، بینما نجد بأنّ رسول الله صلی الله علیه و آله نفسه قد لعن قاتلی الحسین علیه السلام وأعدائه فی حال حیاته، وحفّز

ص: 241


1- ([1]) محمد: آیة22 - 23.
2- ([2]) اُنظر: الآلوسی، محمود بن عبد الله، تفسیر روح المعانی: ج26، ص72.
3- ([3]) الترمذی، محمد بن عیسی، سنن الترمذی: ج3، ص250، ح2088.

المسلمین علی نصرته، وحذّر من مغبّة طاعة بنی أُمیّة لا سیما یزید.

ویتّضح من أدلّة الموافقین والمخالفین أنّ جواز لعن یزید یبتنی علی کفره، وإلّا فکونه فاسقاً ثابتٌ لدی الجمیع، وهذا یعنی أنّ جواز لعن یزید عند الموافقین دلیلٌ علی کفره، أمّا المخالفین فإنّهم لم یحکموا بکفره، وبالتالی لم یجوّزوا لعنه؛ ذلک أنّ الجریمة التی ارتکبها یزید فی کربلاء، وتصفیة أبناء رسول الله صلی الله علیه و آله ، واستشهاد الإمام الحسین علیه السلام یمکن أن تغتفر، ومرتکبیها لیسوا بملحدین ولا کافرین، بل یستحقّون العذاب الإلهی، ومن هنا فلا یجوز لعنهم.

اتّجاهان متعارضان

اشارة

یمکن فی سیاق استعراض وجهات نظر أهل السنة منذ البدایة حتی الآن، استخلاص اتّجاهین متعارضین من حادثة کربلاء، ودور یزید فی هذه الفاجعة: أحدهما عاطفی والآخر تحلیلی.

وقد أُطلق علی هذین الاتّجاهین تعبیر آخر هو التولّی والتبری، والمراد من الأوّل هو إبداء الحزن والغم علی استشهاد الحسین علیه السلام وأصحابه، ومدح شخصیة الإمام علیه السلام العظیمة وتمجیده، والمراد من الثانی هو التبرّی من أعداء الإمام علیه السلام وذمّ القتلة الذین ارتکبوا هذه الفاجعة وعلی رأسهم یزید.

ولمّا کانت هذه الحادثة الکبری علی غرار سائر الحوادث الاجتماعیة لا یمکن أن تنشأ عن فراغ، وأنّ الحسین علیه السلام لم یستشهد فی المدینة لیلاً أو فی مسیره إلی العراق أو فی الحج، وبهذا اللحاظ فالتأثّر العاطفی بهذا الموضوع لا یکون مؤشّراً ومعرّفاً لوجهة نظر ما، کما أنّ إظهار الحزن العمیق لهذه الفاجعة لا تعکس الفکر الواقعی لأهل البحث والتحقیق، وفی الواقع فإنّ التأمّل فی أسباب فاجعة کربلاء یمکن أن یشکّل الحجر الأساس لنظریات أهل السنة فی هذا الشأن، ویعکس الموقف الحقیقی لهم بصورة

ص: 242

دقیقة وشفّافة.

لقد احتلّ البحث التحلیلی لمقتل الحسین علیه السلام حیّزاً کبیراً لدی أهل السنة، تعلّق منذ البدایة ببحث لعن یزید أو عدم جواز لعنه، ذلک أنّ البعض قد ذهب إلی کون یزید مجرماً وکافراً وملعوناً، نظراً لقتله الحسین علیه السلام ، والبعض الآخر إلی عدم استحقاقه اللعن، حتی أنّه أثار تساؤلات بشأن هذه الحادثة، علی الصعید الدینی والسیاسی والاجتماعی.

ویستحصل من مطالعة آرائهم فی هذا الشأن أنّ المخالفین والموافقین للعن یزید جعلوا استشهاد الحسین علیه السلام محوراً أصلیاً ومعیاراً أوحد للموافقة والمخالفة، فمَن رأی استحقاق یزید للعن نظر إلی ما اقترفه من جریمة قتل الحسین علیه السلام ، التی بلغت من القبح بمکان أنّها تدلّ علی کفره واستهتاره بقیم الدین وعدم اغتفار جریمته، ومَن لا یری أنّ محور القبح هو شهادة الحسین علیه السلام المؤدّیة إلی کفر یزید، بل یعدّ توبته والصفح عنه أمراً ممکناً، أو أنّ یزید لم تتلطّخ یدیه بدم الحسین علیه السلام ، ومن هنا لا یجوز لعنه.

وعلی أیّة حال، إنّ إبراز الحزن العمیق علی شهادة الحسین علیه السلام أو تعیین قتلته والآمر بهذه الجریمة توضّح اتّجاه بوصلة الآراء المختلفة لأهل السنة، هذه الواقعة الکبری هی فی الواقع ساحة صراع بین الحق والباطل، وبین التضحیة والأنانیة، وبین الحماسة والفاجعة، وبین الحب والبغض، وبین الأبیض والأسود، وبالتالی بین صعود الإنسان وسقوطه. وکما تقدّم فإنّ التعاطف ضروری لمعرفة بعض آراء أهل السنة فی هذا الشأن، إلّا أنّها لا بدّ أن تستکمل بإظهار لعن الآمر بقتله ومنفذیه. وهذا هو بیت القصید لمعرفة موقف أهل السنة تجاه تلک الحادثة.

الاتّجاه العاطفی

لیس هناک اختلاف جذری بین أهل السنة حول هذا الاتّجاه؛ إذ إنّ معظم علمائهم قد غلب علیهم الحزن حیال تلک الجریمة المروعة، وعدّوا منفّذیها والآمرین بها فی

ص: 243

النار((1))، کتب عبد القاهر البغدادی:

«وقد عصم الله أهل السنة من أن یقولوا فی أسلاف هذه الأُمّة منکراً، أو یطعنوا فیهم طعناً، فلا یقولون.. فی أزواج النبی وأصحابه وأولاده وأحفاده مثل الحسن والحسین والمشاهیر من ذرّیاتهم.. ومَن جری منهم علی السداد من غیر تبدیل ولا تغییر، إلّا أحسن المقال»((2)).

وقد أکّد علی هذه النقطة طاهر الأسفرائینی الشافعی، وهو من أعلام القرن الخامس الهجری، حیث عدّ موالاة آل النبی صلی الله علیه و آله واجبٌ، ومن جملتهم الحسین بن علی، وأیّ أذی أو سوء معاملة یلحق بهم فهو حرام.

کما صرّح ابن تیمیة الذی اشتهر بمعاداته للتشیع وأهل البیت علیهم السلام عند جوابه لقائد مغولی دخل الشام بلعن مَن قتل الحسین علیه السلام نافیاً وجود النواصب فی الشام، قائلاً: «وأمّا مَن قتل الحسین أو أعان علی قتله أو رضی بذلک، فعلیه لعنة الله والملائکة والناس أجمعین، لا یقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً»((3))، وتحدّث فی مقطعٍ آخر عن محبّة أهل البیت علیهم السلام ، وقال: «محبّتهم عندنا فرضٌ واجبٌ یُؤجر علیه»((4)).

و کتب ابن العربی ورغم اعتباره ثورة الحسین علیه السلام تحدّیاً لنظام یزید الجائر، وأنّه قُتل بسیف جدّه، یقول:

ص: 244


1- ([1]) قیِل لابن الجوزی وهو علی کرسی الوعظ: کیف یُقال: یزید قتل الحسین وهو بدمشق والحسین بالعراق؟ فقال: سهمٌ أصاب ورامیه بذی سلم من بالعراق لقد أبعدت مرماکا اُنظر: المناوی، محمد بن علی، فیض القدیر: ج1، ص204. (المترجم).
2- ([2]) البغدادی، عبد القاهر، الفرق بین الفِرَق: ص321.
3- ([3]) ابن تیمیة، أحمد بن عبد الحلیم، مجموع الفتاوی: ج4، ص487.
4- ([4]) المصدر السابق.

«یا أسفا علی المصائب مرّة، ویا أسفا علی مصیبة الحسین ألف مرّة، بوله یجری علی صدر النبی صلی الله علیه و آله ، ودمه یُراق علی البوغاء ولا یُحقن، یا الله! ویا للمسلمین!»((1)).

وللغزالی رأی فی تحلیل شهادة الحسین علیه السلام وحادثة کربلاء، غریبٌ من نوعه((2))، یجانب الصواب کثیراً، فقد صرّح وقال:

«فإن قیل: هل یجوز لعن یزید لأنّه قاتل الحسین أو آمر به؟ قلنا: هذا لم یثبت أصلاً، فلا یجوز أن یُقال: إنّه قتله أو أمر به ما لم یثبت فضلا ً عن اللعنة؛ لأنّه لا تجوز نسبة مسلم إلی کبیرة من غیر تحقیق.. فإن قِیل: فهل یجوز أن یُقال: قاتل الحسین (لعنه الله) أو الآمر بقتله (لعنه الله)؟ قلنا: الصواب أن یُقال: قاتل الحسین إن مات قبل التوبة (لعنه الله)؛ لأنّه یُحتمل أن یموت قبل التوبة»((3)).

أمّا ابن کثیر الذی کان ینظر إلی تلک الحادثة من منظار أعداء الشیعة، ویتحامل علیهم فی مواطن عدیدة، فقد کتب: «وأمّا بقیة أهل الحسین ونسائه، فقد أرکبوهم علی الرواحل من الهوادج، فلمّا مرّوا بمکان المعرکة، ورأوا الحسین وأصحابه مطرحین هناک، بکته النساء وصرخن، وندبت زینب أخاها الحسین وأهلها وقالت وهی تبکی: یا محمداه،

ص: 245


1- ([1]) ابن العربی، محمد بن عبد الله، العواصم من القواصم: ص235.
2- ([2]) ولسنا بحاجة إلی التدلیل علی وهن هذا الرأی، فقد کفانا الآلوسی صاحب تفسیر روح المعانی مؤونة ذلک؛ إذ قال: «مَن یقول: إنّ یزید لم یعصِ بذلک ولا یجوز لعنه، وقائل هذا ینبغی أن ینظم فی سلسلة أنصار یزید، وأنا أقول: الذی یغلب علی ظنی أنّ الخبیث لم یکن مصدّقاً بالرسالة للنبی صلی الله علیه و آله ، وأنّ مجموع ما فعله مع أهل حرم الله تعالی، وأهل حرم نبیه صلی الله علیه و آله ، وعترته الطیبین الطاهرین، فی الحیاة وبعد الممات، وما صدر منه من المخازی لیس بأضعف دلالة علی عدم تصدیقه من إلقاء ورقة من المصحف الشریف فی قذر، ولا أظنّ أنّ أمره کان خافیاً علی أجلّة المسلمین إذ ذاک، ولکن کانوا مغلوبین مقهورین.. ولو سُلّم أنّ الخبیث کان مسلماً فهو مسلمٌ جَمَع من الکبائر ما لا یحیط به نطاق البیان، وأنا أذهب إلی جواز لعن مثله علی التعیین، ولو لم یُتصوّر أن یکون له مثل من الفاسقین، والظاهر أنّه لم یتُب، واحتمال توبته أضعف من إیمانه». الآلوسی، محمود بن عبد الله، تفسیر روح المعانی: ج26، ص72. (المترجم).
3- ([3]) الغزالی، محمد بن محمد، إحیاء علوم الدین: ج3، ص135.

یا محمداه، صلّی علیک الله وملک السماه، هذا حسین بالعراه، مرمل بالدماه، مقطّع الأعضاء، یا محمداه، وبناتک سبایا وذریتک مقتلة تسفی علیها الصبا، قال: فأبکت والله کلّ عدوٍّ وصدیق»((1)).

هذا غیضٌ من فیض من الأحادیث الواردة فی الصحاح والمسانید، وکلمات علماء أهل السنة التی توحی بضرورة حبّ آل الله.

الاتّجاه التحلیلی

من الواضح أنّ لشهادة الحسین علیه السلام إضافةً إلی بُعدها العاطفی أبعاداً أُخری تتلخّص فی البعد الإصلاحی، ومناهضة کلّ وجوه المنکر، بما فیه سلطة یزید بن معاویة، ومن أهمّ التحدّیات الفکریة التی تواجه أهل السنة هی أسباب وأهداف وتداعیات هذه الحادثة من جهة، ودور یزید وأذنابه فی تلک الفاجعة من جهةٍ أُخری، وقد انقسموا إزاء تعیین قتلة الحسین علیه السلام وإمکانیة الصفح عنهم ولعنهم إلی طوائف.

وقد ألقی معظم علماء أهل السنة وزر هذه الجریمة علی یزید وعمّاله، وجوّزوا لعنه حتی أنّ البعض تجاوز ذلک إلی التصریح بکفر یزید وخروجه عن ربقة الإسلام.

وفی المقابل فإنّ ثلّة منهم ساورتهم الشکوک حیال جواز لعن یزید بزعم براءته من تلک الجریمة واجتهاده وتأویله، کما أثارت فی الوقت نفسه عجاج الشک حول فلسفة ثورة کربلاء ورسالتها ومبادئها الفکریة والدینیة.

أهل السنة والنظریات الثلاث المعروفة

إنّ القیام التاریخی للإمام الحسین بن علی علیه السلام أثار منذ البدایة ردود فعل المسلمین بما فیهم أهل السنة، وقد سلّط مؤرّخوهم وفقهاؤهم ومحدّثوهم عدسات البحث

ص: 246


1- ([1]) ابن کثیر، إسماعیل بن عمر، البدایة والنهایة: ج8، ص210.

صوبها، وکتبوا حولها تقاریر مباشرة أو غیر مباشرة، وقد أدّی ذلک وعلی مرّ العصور إلی بلورة وجهات نظر مختلفة، تراوحت بین الإقبال والإدبار.

ولعلّ أوّل مَن اهتمّ بنقل وجهات النظر تلک أحمد بن تیمیة الحرانی الدمشقی (661 - 728ه-)، حیث قام بتحلیل وجهات النظر المذکورة حول ثورة کربلاء، وتصنیفها إلی ثلاث فرق، إذ قال:

افترق الناس فی یزید بن معاویة بن أبی سفیان ثلاث فرق، طرفان ووسط، فأحد الطرفین قالوا: إنّه کان کافراً منافقاً، وأنّه سعی فی قتل سبط رسول الله تشفّیاً من رسول الله’ وانتقاماً منه، وأخذاً بثأر جدّه عتبة وأخی جدّه شیبة وخاله الولید بن عتبة، وغیرهم ممَّن قتلهم أصحاب النبی صلی الله علیه و آله بید علی بن أبی طالب وغیره یوم بدر وغیرها، وقالوا: تلک أحقادٌ بدریة وآثار جاهلیة، وهذا القول سهلٌ علی الرافضة الذین یکفّرون أبا بکر وعمر وعثمان، فتکفیر یزید أسهل بکثیر.

والطرف الثانی یظنّون أنّه کان رجلاً صالحاً وإماماً عدلاً، وأنّه کان من الصحابة الذین ولدوا علی عهد النبی’، وحمله علی یدیه وبرّک علیه، وربّما فضّله بعضهم علی أبی بکر وعمر، وربّما جعله بعضهم نبیاً، وهذا قول غالیة العدویة والأکراد ونحوهم من الضُلّال.

والقول الثالث: إنّه کان ملکاً من ملوک المسلمین له حسنات وسیئات، ولم یُولد إلّا فی خلافة عثمان، ولم یکن کافراً ولکن جری بسببه ما جری من مصرع الحسین، وفعل ما فعل بأهل الحرّة ولم یکن صحابیاً ولا من أولیاء الله الصالحین، وهذا قول عامّة أهل العقل والعلم والسنة والجماعة، ثمّ افترقوا ثلاث فرق: فرقة لعنته، وفرقة أحبّته، وفرقة لا تسبّه ولا تحبّه، وهذا هو المنصوص عن الإمام أحمد، وعلیه المقتصدون من أصحابه

ص: 247

وغیرهم من جمیع المسلمین((1)).

وقد عدّ ابن الجوزی الذی ینتمی إلی الموالین للعن یزید، الغزالی فی طلیعة أنصار یزید. وعلی أیّة حال، فقد ارتضی علماء القرون اللاحقة هذا التقسیم، منهم عبد الحی العکبری الدمشقی، وهو من علماء القرن الحادی عشر فی کتابه (شذرات الذهب فی أخبار مَن ذهب) حیث قال:

«والناس فی یزید ثلاث فرق: فرقة تحبّه وتتولّاه، وفرقة تسبّه وتلعنه، وفرقة متوسطة فی ذلک، لا تتولّاه ولا تلعنه، وقال: هذه الفرقة هی المصیبة، ومذهبها هو اللائق لمَن یعرف سیر الماضین، ویعلم قواعد الشریعة الطاهرة»((2)).

تأمّل فی هذا التصنیف

تدلّ القرائن التاریخیة علی أنّ ابن تیمیة قد حاد عن جادة الصواب فی هذا الموضوع، علی غرار سائر أفکاره حول الإسلام، عندما قسّم لعن یزید بین أهل السنة إلی ثلاث فرق، وهذا التصنیف هو أقرب إلی میوله وعقائده منه إلی الواقع الفکری القائم بین أهل السنة.

النظرة السائدة لدی أهل السنة

تصدّی معظم أهل السنة ومن زوایا متعدّدة وبتعابیر مختلفة إلی الدفاع عن نهضة کربلاء وأحقّیة الحسین بن علی علیه السلام ، وذم یزید بن معاویة ولعنه من جهات مختلفة، وفی الواقع فإنّهم ذهبوا إلی أنّ جریمة یزید لا تُغتفر، ومن هذا الباب فکُفره مُحرز، وهذا ما یجعل سبّه ولعنه مباحاً، ولا یُقبل أیّ عذرٍ فی هذا الصدد.

ص: 248


1- ([1]) ابن تیمیة، أحمد بن عبد الحلیم، مجموع الفتاوی: ج4، ص487.
2- ([2]) ابن العماد الحنبلی، عبد الحی بن أحمد، شذرات الذهب فی أخبار مَن ذهب: ص69 - 70.

وقد قام بعضهم بلعن یزید صراحةً ودون توریة، کما قام البعض الآخر بذکر الصفات الإنسانیة والإسلامیة البارزة للإمام الحسین علیه السلام ، وبیان شهادته وأصحابه، وبذلک قد أمضوا لعن یزید مواراة.

موافقون من أُمراء بنی أُمیّة

تشهد المصادر التاریخیة أنّ یزید لم یطرد من قبل فقهاء أهل السنة الذین أنکروا حیازته للشروط اللازمة لتصدّی مقام الخلافة الإسلامیة فحسب، بل إنّ بعض أبرز أُمراء بنی أُمیّة تعاطوا مع هذه المسألة بإیجابیة، ورفضوا شرعیة خلافته وأحقّیة موقفه أمام الحسین بن علی علیه السلام ، وبهذا النحو أُزیلت عقبةٌ کأْداء بوجه لعنه وسبّه من منظار أتباعه، وهو خلافته الشرعیة.

ولعلّ أشهرهم هو معاویة بن یزید، الذی تمّ ترشیحه من قبل البلاط الأُموی لتصدّی الخلافة بعد هلاک یزید، صعد المنبر لمّا ولی العهد وخاطب الأُمویین وأهل الشام بقوله:

«إنّ هذه الخلافة حبل الله، وإنّ جدّی معاویة نازع الأمر أهله، ومَن هو أحقّ به منه علی بن أبی طالب، ورکب بکم ما تعلمون حتی أتته منیته، فصار فی قبره رهیناً بذنوبه، ثمّ قلّد أبی الأمر، وکان غیر أهله، ونازع ابن بنت رسول الله صلی الله علیه و آله ، فقصف عمره وانبتر عقبه وصار فی قبره رهیناً بذنوبه، ثمّ بکی وقال:

«إنّ من أعظم الأُمور علینا علمنا بسوء مصرعه وبؤس منقلبه، وقد قتل عترة رسول الله، وأباح الخمر، وخرب الکعبة، ولم أذق حلاوة الخلافة فلا أذوق مرارتها، ولا أتقلّدها، فشأنکم فی أمرکم، والله، لئن کانت الدنیا خیراً فقد نلنا منها حظاً وإن کانت شراً فکفی

ص: 249

ذریة أبی سفیان ما أصابوا منها»((1)).

ولم یقتصر الأمر علیه بل إنّ عمر بن عبد العزیز أحد خلفاء بنی أُمیّة الذی حظی بتأیید واسع من قبل فقهاء أهل السنة، أبرز امتعاضه لدی سماعه إطلاق عنوان أمیر المؤمنین علی یزید بن معاویة، وهذا یدلّ علی الانحلال الخلقی لیزید، وعدم إمکان التکتّم علیه، وبالتالی جواز لعنه.

قال نوفل بن أبی الفرات: «کنت عند عمر بن عبد العزیز، فذکر رجل یزید، فقال: أمیر المؤمنین یزید بن معاویة، فقال له عمر: تقول یزید أمیر المؤمنین؟! وأمر به فضُرب عشرین سوطاً»((2)).

ولم تساور الحسن البصری (21 - 110ه-) وهو من جملة علماء أهل السنة المعروفین، الشکوک حیال فساد یزید وجرائمه، بل إنّه تجاوز ذلک إلی فساد معاویة بن أبی سفیان، وأنّه ارتکب أربع موبقات.

قد کانت فی معاویة هنات لو لقی أهل الأرض ببعضها لکفاهم: وثوبه علی هذا الأمر واقتطاعه من غیر مشورة من المسلمین، وادّعاؤه زیاداً، وقتله حجر بن عدی وأصحابه، وبتولیته مثل یزید علی الناس((3)).

وکذلک تعرّض لمسألة البیعة لیزید التی طرحها معاویة، والتی تعتبر من أهمّ أسباب شیوع الفساد فی أوساط المسلمین، شارکه فیها المغیرة بن شعبة باعتباره أوّل مَن طرح الفکرة علی معاویة، قال السیوطی:

ص: 250


1- ([1]) ابن حجر الهیتمی، أحمد بن محمد، الصواعق المحرقة: ج2، ص642.القندوزی، سلیمان بن إبراهیم، ینابیع المودة لذوی القربی: ج3، ص36.
2- ([2]) السیوطی، جلال الدین، تاریخ الخلفاء: ص245.
3- ([3]) اُنظر: سبط ابن الجوزی، یوسف بن فرغلی، تذکرة الخواص: ص286.

قال الحسن البصری: «أفسد أمر الناس اثنان: عمرو بن العاص یوم أشار علی معاویة برفع المصاحف فحملت، ونال من القراء فحکم الخوارج، فلایزال هذا التحکیم إلی یوم القیامة، والمغیرة بن شعبة فإنّه کان عامل معاویة علی الکوفة، فکتب إلیه معاویة: إذا قرأت کتابی فأقبل معزولاً، فأبطأ عنه، فلمّا ورد علیه قال: ما أبطأ بک؟ قال: أمرٌ کنت أُوطّئه وأُهیّئه، قال: وما هو؟ قال: البیعة لیزید من بعدک، قال: أو قد فعلت؟ قال: نعم، قال: ارجع إلی عملک، فلمّا خرج قال له أصحابه: ما وراءک؟ قال: وضعت رجل معاویة فی غرز غیّ لایزال فیه إلی یوم القیامة.

قال الحسن: فمن أجل ذلک بایع هؤلاء لأبنائهم، ولولا ذلک لکانت شوری إلی یوم القیامة»((1)).

تدلّ هذه الکلمات علی أنّ الحسن البصری یعتقد أنّ فساد حکومة معاویة وولایة العهد لیزید یعود إلی مخطّطات أُبرمت خارج البیت الأُموی من قبل عمرو بن العاص والمغیرة بن شعبة، فلولاهما لما حالف الأُمویون النجاح فی بلوغ مآربهم الفاسدة ورغباتهم الجانحة؛ إذ فی ظل التحکیم نجا معاویة من ورطة الهلاک، وتمکّن من اعتلاء العرش عام (40ه-) وفی عام (61ه-) وقعت فاجعة کربلاء، کما یعتقد أنّ الفساد سری فی أروقة الحکم الأُموی، ممّا حدا بالإمام علیه السلام إلی مواجهة هذا الحکم الفاسد ومکافحة الفساد المستشری.

«عن صالح بن أحمد بن حنبل قال: قلت لأبی: إنّ قوماً ینسبوننا إلی تولّی یزید، فقال: یا بنی وهل یتولی یزید أحد یؤمن بالله؟! ولم لا یلعن من لعنه الله فی کتابه؟! فقلت: وأین لعن الله یزید فی کتابه؟ فقال فی قوله تعالی:«فَهَلْ عَسَیْتُمْ إِنْ تَوَلَّیْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِی الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوافساد

ص: 251


1- ([1]) السیوطی، جلال الدین، تاریخ الخلفاء: ص164.

أَرْحَامَکُمْ »«أُولَئِکَ الَّذِینَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَی أَبْصَارَهُمْ » فهل یکون أعظم من القتل؟!»((1)).

فقهاء أهل السنة المتقدّمین

من المعروف بین قدماء الفقهاء وزعماء المذاهب أنّ أحمد بن حنبل قد لعن یزید بن معاویة نظراً لارتکابه جریمة کربلاء، تلک الجریمة التی لا تُغتفر، ولکن الواقع أنّ سائر زعماء أهل السنة یتّفقون معه فی ذلک، فهذا هو النعمان بن ثابت الکابلی المعروف بأبی حنیفة (80 - 150ه-) وإمام المذهب الحنفی، کان من المناوئین لحکومة بنی أُمیّة، فقد عاش فی زمن بنی أُمیّة وبنی العباس، وکان علوی الهوی، ولم یکن یکتم سخطه علی بنی أُمیّة، وهو وإن لم یرفع لواء العصیان ضدّهم إلّا أنّه جوّز ذلک، حیث قام بدعم وتأیید ثورة زید بن علی زین العابدین عام (121ه-) ضدّ هشام بن عبد الملک معتبراً إیّاها ثورة شرعیة((2)).

وأوضح دلیلٍ علی هذا الموضوع تقریر السیوطی عن مخالفة أبی حنیفة والفقهاء المعروفین، کعبد الحمید بن جعفر وابن عجلان وآخرین لمنصور الدوانیقی، مع أنّهم قد عقدوا البیعة له.

لا شکّ أنّ معظم فقهاء أهل السنة قد ذهبوا إلی ضرورة اتّباع الخلیفة شرعاً وإطاعته، فیما إذا عُقدت البیعة له عن رضا ورغبة واختیار، وعلی هذا الأساس فقد رفع کلّ من أبی حنیفة، وعبد الحمید بن جعفر، وابن عجلان، وسائر فقهاء أهل السنة المعروفین آنذاک لواء العصیان علی المنصور العباسی، رغم أخذ البیعة منهم عنوةً، وحینما قِیل: «إنّ فی أعناقنا بیعة للمنصور»، قال مالک بن أنس: «لیس علی مکره

ص: 252


1- ([1]) ابن حجر الهیتمی، أحمد بن محمد، الصواعق المحرقة: ص222.
2- ([2]) اُنظر: توکلی، محمد رئوف، چهار إمام أهل سنت وجماعت (أئمّة أهل السنة والجماعة الأربع): ص34.

یمین»((1)).

وأمّا أبوعثمان عمرو بن الجاحظ (150 - 255ه-) الذی صنّف آثاراً إسلامیة وأدبیة لا حصر لها ذاع علی أثرها صیته فی الآفاق، فقد انهال علی یزید باللعن رغم میوله الشدیدة لحکومات عصره، حیث کتب فی رسالة بنی أُمیّة، یقول: «المنکرات التی اقترفها یزید من قتل الحسین، وحمله بنات رسول الله صلی الله علیه و آله سبایا، وقرعه ثنایا الحسین بالعود، وإخافته أهل المدینة، وهدم الکعبة، تدلّ علی القسوة والغلظة والنصب، وسوء الرأی والحقد والبغضاء، والنفاق والخروج من الإیمان، فالفاسق ملعون، ومَن نهی عن شتم الملعون ملعون»((2)).

وقد أورد الطبرانی (260 - 360ه-) عن النبی صلی الله علیه و آله حدیثاً صحیحاً ذکر فیه وجوب حرمة الحسین علیه السلام وأهل بیته، ثمّ تطرّق إلی سجل یزید وابن زیاد الأسود فی کربلاء والکوفة والشام، ونکتْ یزید بقضیبٍ ثنایا الحسین علیه السلام ، وصنّف فی هذا الصدد کتاب (مقتل الحسین بن علی علیه السلام )، حیث أورد فیه أحادیث لا حصر لها عن مکانة الحسین علیه السلام وشهادته، ممّا ینم عن موافقته علی لعن یزید وکفره، ذلک أنّ المخالفین کذّبوا وقوع تلک الأحداث فی کربلاء والکوفة والشام.

و صنّف القاضی أبو یعلی الحنبلی (380 - 458ه-) کتاباً ذکر فیه بیان مَن یستحقّ اللعن وذکر منهم یزید، وقال فی الکتاب المذکور:

«الممتنع من جواز لعن یزید، إمّا أن یکون غیر عالم بذلک، أو منافقاً یرید أن یوهم

ص: 253


1- ([1]) السیوطی، جلال الدین، تاریخ الخلفاء: ص261.
2- ([2]) الجاحظ، عمرو بن بحر، رسائل الجاحظ (الرسالة الحادیة عشرة فی بنی أُمیّة): ص298.

بذلک، وربما استفزّ الجهال، بقوله: المؤمن لا یکون لعّاناً»((1)).

کما کتب الأجهوری ینقل عن أُستاذه یقول:

«وقد اختار الإمام محمد بن عرفة والمحقّقون من أتباعه کفر الحجّاج، ولا شک أنّ جریمته کجریمة یزید بل دونها»((2)).

ولم یقتصر الموافقون علی کفر یزید وجواز لعنه علی مَن ذکرنا، بل هناک مَن جوّز اللعن کابن حزم الأندلسی وجلال الدین السیوطی، اللذین ذهبا إلی انتهاء أمَد الخلافة الإسلامیة بعد صلح الحسن علیه السلام وانتهاء حکومته، وقد نقل السیوطی: «أخرج ابن أبی شیبة فی المصنّف عن سعید بن جمهان، قال: قلت لسفینة: إنّ بنی أُمیّة یزعمون أنّ الخلافة فیهم، قال: کذب بنو الزرقاء، بل هم ملوک من أشدّ الملوک، وأوّل الملوک معاویة»((3)).

وأورد حدیثاً عن الإمام أحمد عن سعید بن جمهان عن سفینة، قال: سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله یقول: الخلافة ثلاثون عاماً، ثم یکون من بعد ذلک الملک.

قال العلماء: ولم یکن فی الثلاثین بعده صلی الله علیه و آله إلّا الخلفاء الأربعة وأیّام الحسن بن علی((4)).

وقال أیضاً: وقُتل الحسین وجیء برأسه فی طست حتی وضع بین یدی ابن زیاد، لعن الله قاتله وابن زیاد معه ویزید أیضاً، وکان قتله بکربلاء، وفی قتله قصّة فیها طول لا یحتمل القلب ذکرها، فإنّا لله وإنّا إلیه راجعون((5)).

قال الشوکانی: «ولقد أفرط بعض أهل العلم.. فحکموا بأنّ الحسین السبط (رضی

ص: 254


1- ([1]) سبط ابن الجوزی، یوسف بن فرغلی، تذکرة الخواص: ص258.
2- ([2]) الشبراوی، عبد الله بن محمد، الإتحاف بحبّ الأشراف: ص175.
3- ([3]) السیوطی، جلال الدین، تاریخ الخلفاء: ص235.
4- ([4]) اُنظر: المصدر السابق: ص24.
5- ([5]) المصدر السابق: ص247.

الله عنه وأرضاه) باغٍ علی الخمِّیر السکیر، الهاتک لحرمة الشریعة المطهّرة یزید بن معاویة (لعنهم الله)، فیاللعجب من مقالات تقشعرّ منها الجلود، ویتصدّع من سماعها کلّ جلمود»((1)).

وقد أفرد ابن عساکر (المتوفی571ه-) المؤرِّخ والرجالی المعروف، وصاحب کتاب تاریخ مدینة دمشق، بحثاً خاصاً بالحسین علیه السلام فی کتاب ریحانة رسول الله صلی الله علیه و آله الإمام الحسین علیه السلام ، تطرّق فیه إلی یزید وأشعاره التی أنشدها فی المجلس:

لَعبت هاشم

بالملک

فلا خبرٌ جاء

ولا وحیٌ نزل

وأضاف: فإن صحّت عنه فهو کافرٌ بلا ریب((2)).

وقد أورد حدیثاً: «أنّ قتلة الحسین بن علی فی النار، وإن کاد الله أن یسحت أهل الأرض منه بعذاب ألیم»((3)).

ویری الفیلسوف المعروف ابن رشد المالکی (520 - 595ه-) أنّ بیعة معاویة لیزید قد غیّرت مجری الحیاة الإسلامیة، وهدمت الحکم الصالح فی الإسلام، قال:

«إنّ أحوال العرب فی عهد الخلفاء الراشدین کانت علی غایة من الصلاح، فکأنّما وصف أفلاطون حکومتهم فی جمهوریته الحکومة الجمهوریة الصحیحة، التی یجب أن تکون مثالاً لجمیع الحکومات، ولکن معاویة هدم ذلک البناء الجلیل القدیم، وأقام مکانه دولة بنی أُمیّة وسلطانها الشدید، ففتح بذلک باباً للفتن التی لا تزال إلی الآن قائمة حتی فی

ص: 255


1- ([1]) الشوکانی، محمد بن علی، نیل الأوطار: ج7، ص147.
2- ([2]) اُنظر: ابن العماد الحنبلی، عبد الحی بن أحمد، شذرات الذهب فی أخبار مَن ذهب: ج1، ص69.
3- ([3]) ابن عساکر، علی بن الحسن، تاریخ مدینة دمشق: ج14، ص258، ومع هذا فإنّه اعتمد علی طبقات ابن سعد ومقتله حینما تناول أحداث عاشوراء ویزید بن معاویة، بدل الاعتماد علی المصادر الموثوق بها، کمقتل أبی مخنف، فوقع فی تخرّصات وتأویلات ظنّیة بعیدة عن الواقع.

بلادنا هذه، یعنی الأندلس»((1)).

وبهذا النحو لا یری أنّ جریمة کربلاء تنحصر بیزید، بل إنّ منشأ الانحراف وتلک الجریمة یعود إلی معاویة وما قام به، بعد أن اعتبر کفر یزید ولعنه أمراً مسلّماً به.

وقد صنّف أبو الفرج بن الجوزی (511 - 597ه-) کتاباً فی لزوم لعن یزید تحت عنوان (الرد علی المتعصب العنید المانع من ذمّ یزید) قال فیه: «أجاز العلماء الورعون لعنه.. وحکی عن الإمام قوام الدین الصفاری: لا بأس بلعن یزید»((2)).

وقال أیضاً: «واعلم أنّه ما رضی ببیعة یزید أحد ممَّن یُعوّل علیه، حتی العوام أنکروا ذلک، غیر أنّهم سکتوا خوفاً علی أنفسهم... وأجمع العلماء علی أنّه لا یجوز التنصیص علی إمام بالتشهی، وأنّه لا بدّ له من صفات، وصفات الإمام وشروط الإمامة جمعها الحسین علیه السلام ، لا یقاربه فیها أحد من زمانه... وإذا ثبت أنّ الصحابة کانوا یطلبون الأفضل وما یرونه إلّا حقّ، أفیشک أحد أنّ الحسین کان أحقّ بالخلافة من یزید؟... ولو قیل لأجهل الناس: أیّهما أصلح الحسین أو یزید؟ لقال: الحسین، فبان ما ذکرناه أنّ ولایة یزید کانت قهراً، وإنّما سکت الناس خوفاً»((3)).

وقد خصّص محمد بن طلحة النصیبی الشافعی (المتوفی652ه-) الباب الثالث من کتابه (مطالب السؤول فی مناقب آل الرسول) بالحسین علیه السلام حیث ذکر فیه ولادته ونسبه وتسمیته وکنیته ولقبه، وما ورد فی حقّه، وفی شجاعته وشرف نفسه وکرمه وکلامه، ثمّ ذکر أولاده وعمره وخروجه من المدینة إلی مکة ثمّ إلی العراق، ولمّا وصل إلی مصرعه ومقتله راح یطلق العنان لقلمه لیبوح عن مکنون قلبه تجاه السبط الشهید،

ص: 256


1- ([1]) أنطون، فرج، ابن رشد وفلسفته: ص60.
2- ([2]) المناوی، محمد بن علی، فیض القدیر: ج1، ص265.
3- ([3]) ابن الجوزی، عبد الرحمن بن علی، الرد علی المتعصّب العنید: ص68 - 71.

حیث نلمس فیه آیات الحزن العمیق، قائلاً:

«وهو فصلٌ مضمونه یسکب المدامع من الأجفان، ویجلب الفجائع لإثارة الأحزان، ویلهب نیران الموجدة علی أکباد ذوی الإیمان، بما أجرته الأقدار للفجرة من الاجتراء وفتکها واعتدائها علی الذریة النبویة بسفح دمائها وسفکها، واستبائها مصونات نسائها وهتکها، حتی ترکوا لمم رجالها بنجیعها مخضوبة، وأشلاء جثثها علی الثری مسلوبة، ومخدّرات حرائرها سبایا منهوبة، فکم کبیرة من جریمة ارتکبوها واجترموها!

وکم من نفس معصومة أزهقوها واخترموها!

وکم من کبد حری منعوها ورود الماء المباح وحرموها!

ثمّ احتزوا رأس سبط رسول الله صلی الله علیه و آله وجثة الحسین علیه السلام بشبا الحداد، ورفعوه کما یرفع رأس ذوی الإلحاد علی رؤوس الصعاد، واخترقوا به أرجاء البلاد بین العباد، واستاقوا حرمه وأطفاله أذلّاء من الاضطهاد، وأرکبوهم علی أخشاب الأقتاب بغیر وطاء ولا مهاد.

هذا مع علمهم بأنّها الذریة النبویة المسؤول لها المودّة بصریح القرآن وصحیح الاعتقاد، فلو نطقت السماء والأرض لرثت لها ورثتها، ولو اطّلعت علیها مردة الکفر لبکتها وندبتها، ولو حضرت مصرعها عتاة الجاهلیة لأبکتها ونعتها، ولو شهدت وقعتها بغاة الجبابرة لأغاثتها ونصرتها.

فیا لها من مصیبة أنزلت الرزیة بقلوب الموحدین فأورثتها! وبلیة أحلت الکآبة بنفوس المؤمنین سلفاً وخلفاً فأحزنتها! فوا لهفتاه لذریة نبویّة ظلّ دمها! وعترة محمدیة فل مخذمها! وعصبة علویة خُذلت فقتل مقدمها! وزمرة هاشمیة استبیح حرمها واستحل محرمها!»((1)).

وکان یذکر ابن زیاد بقوله: (زاده الله عذاباً)((2)).

ص: 257


1- ([1]) الشافعی، محمد بن طلحة، مطالب السؤول فی مناقب آل الرسول: ص261 - 262.
2- ([2]) اُنظر: المصدر السابق: ص251.

ثمّ أنشد فی الحسین علیه السلام قائلاً:

ألا أیّها

العادون إنّ أمامکم

مقام سؤال

والرسول سؤول

وموقف حکم

والخصوم محمد

وفاطمة

الزهراء وهی ثکول

وإنّ علیاً فی

الخصام مؤید

له الحقّ

فیما یدّعی ویقول

فماذا تردون

الجواب علیهم

ولیس إلی ترک

الجواب سبیل

وقد سؤتموهم

فی بنیهم بقتلهم

ووزر الذی أحدثتموه

ثقیل

ولا یرتجی فی

ذلک الیوم شافع

سوی خصمکم

والشرح فیه یطول

ومَن کان فی

الحشر الرسول خصیمه

فإنّ له نار

الجحیم مقیل

وکان علیکم

واجباً فی اعتمادکم

رعایتهم أن

تحسنوا وتنیلوا

فإنّهم آل

النبی وأهله

ونهج هداهم

بالنجاة کفیل

مناقبهم بین

الوری مستنیرة

لها غرر مجلوة

وحجول

مناقب جلّت أن

تحاط بحصرها

نمتها فروع

قد زکت وأصول

مناقب من خلق

النبی وخلقه

ظهرن فما

یغتالهن أُفول((1)).

وصرّح سعد الدین التفتازانی (722 - 792ه-) فی کتابه المعروف ب-(شرح العقائد النسفیة) بلزوم لعن یزید، وقال: «اتّفقوا علی جواز اللعن علی مَن قتل الحسین أو أمر به أو أجازه أو رضی به، قال: والحق أنّ رضا یزید بقتل الحسین واستبشاره بذلک وإهانته

ص: 258


1- ([1]) الشافعی، محمد بن طلحة، مطالب السؤول فی مناقب آل الرسول: ص266.

أهل بیت رسول الله صلی الله علیه و آله ممّا تواتر معناه، وإن کان تفصیله آحاداً، وقال أیضاً: نحن لا نتوقّف فی شأنه، بل فی کفره وإیمانه (لعنة الله علیه وعلی أنصاره وأعوانه)»((1)).

ولم یتردّد ابن العماد الحنبلی فی لعن معاویة أو یزید، وقال: «ولا یرد علی ذلک ما ذکره العلماء من الإجماع علی عدالة الصحابة، وأنّ المراد به الغالب وعدم الاعتداد بالنادر، والذین ساءت أحوالهم ولابسوا الفتن بغیر تأویل ولا شبهة، وقال الیافعی: وأمّا حکم من قتل الحسین أو أمر بقتله ممَّن استحلّ ذلک فهو کافر، وإن لم یستحلّ ففاسقٌ فاجر»((2)).

وقد کتب شمس الدین الذهبی (المتوفی 747ه-) صاحب التصانیف المهمّة مثل: (تاریخ الإسلام) و(سیر أعلام النبلاء) حول یزید بن معاویة یقول:

«کان ناصبیاً، فظاً، غلیظاً، جلفاً، یتناول المسکر ویفعل المنکر، افتتح دولته بمقتل الشهید الحسین ، واختتمها بواقعة الحرة، فمقته الناس، ولم یُبارک فی عمره»((3)).

أمّا إبراهیم بن محمد الجوینی (644 - 730ه-) فقد کتب فی کتابه النفیس (فرائد السمطین): «لمّا قُتل الحسین بن علی‘، بُعث برأسه إلی یزید بن معاویة - علیه اللعنة والسخط - »((4)).

وأنشد جلال الدین محمد البلخی المعروف بمولوی (604 - 672ه-) أشعاراً حول واقعة کربلاء واستشهاد الحسین علیه السلام ، معروفةً لدی أرباب العلم والمعرفة والعرفان، أطلق عنوان (شهداء الله) علی الحسین علیه السلام وأصحابه، ممّا ینمّ عن کفر یزید وطغمته، قائلاً((5)):

ص: 259


1- ([1]) ابن العماد الحنبلی، عبد الحی بن أحمد، شذرات الذهب: ج1، ص68.
2- ([2]) المصدر السابق: ج1، ص69.
3- ([3]) الذهبی، محمد بن أحمد، سیر أعلام النبلاء: ج4، ص38.
4- ([4]) الجوینی، إبراهیم بن محمد، فرائد السمطین: ج2، ص166.
5- ([5]) کجایی-د ای ش--هیدان خ--دایی بلاجویان دشت کربلایی کجایید ای سبک روحان عاشق پرنده تر زمرغ--ان هوایی

شهداء الله إلی

أین رحلتم

نحو أرض الطف

للبلوی قدمتم

یا خفاف الروح

یا رمز الهوی

دونکم فی الأُفق

أطیار السما

وقد اعتبر المؤرِّخ المعروف حمد الله المستوفی (المتوفی750ه-) فی کتابه (التاریخ المنتخب) الإمام الحسن علیه السلام آخر الخلفاء الراشدین، واصفاً إیّاه بأمیر المؤمنین، ورأی أنّ الحسین علیه السلام وأبناءه جدیرون بالخلافة، وأنّ الحکم الأُموی المتمثّل بیزید غیر شرعی((1)).

هذا وأدلی عبد الرحمن بن خلدون (730 - 808ه-) بدلوه عندما تعرّض لشروط الخلافة، وتحلیل الأوضاع السیاسیة للمسلمین عام (61ه-)، دون أن تراوده الشکوک إزاء فسق یزید وعدم أهلیته لتصدّی منصب الخلافة، ودعا إلی الابتعاد عن أی سوء فهم، أو التشکیک بأحقّیة المواقف الإصلاحیة للإمام الحسین علیه السلام وقداسة أهداف ثورة کربلاء، وکان یعتقد أنّ معاویة کان یجهل فسق یزید وفجوره، ولو کان یعلم بذلک لما عهد إلیه بالولایة، ویقول: «عهد معاویة إلی یزید خوفاً من افتراق الکلمة بما کانت بنو أُمیة لم یرضوا تسلیم الأمر إلی مَن سواهم، فلو قد عهد إلی غیره اختلفوا علیه، مع أنّ ظنّهم کان به صالحاً ولا یرتاب أحد فی ذلک، ولا یظنّ بمعاویة غیره، فلم یکن لیعهد إلیه وهو یعتقد ما کان علیه من الفسق»((2)).

کما صرّح أنّ العدالة شرطٌ لازم للخلافة، وکان یزید عاریاً منها، لذلک فبیعته تفتقر إلی الطابع الشرعی، وهذا یقتضی (أنّ الخروج علیه متعیّن من أجل فسقه)((3)).

وعقد ابن الصباغ المالکی (784 - 855ه-) - وهو من أکابر علماء أهل السنة

ص: 260


1- ([1]) حمد الله المستوفی، تاریخ گزیده (التاریخ المنتخب): ص198-201.
2- ([2]) ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، مقدّمة ابن خلدون: ص206.
3- ([3]) اُنظر: المصدر السابق: ص210.

وأشهر علماء المذهب المالکی - فی الفصل الثالث من کتابه (الفصول المهمّة فی معرفة الأئمّة) بحثاً ذکر فیه الحسین بن علی علیه السلام ومولده ونسبه وکنیته ولقبه، وفیما ورد فی حقّه من جهة النبی صلی الله علیه و آله ، وفی علمه وشجاعته وشرف نفسه وسیادته، وذکر کرمه وجوده، وذکر شیء من محاسن کلامه وبدیع نظامه، وذکر مخرجه إلی العراق، کما ذکر مصرعه ومدّة عمره

وإمامته، ثمّ ختمه بذکر أولاده الکرام((1)).

وکان کلّما ذکر أسماء قتلة الإمام الحسین علیه السلام یردفه ب- (لعنه الله)((2))، وقد ذکر یزید بن معاویة وعبید الله بن زیاد، وأردفه ب- (لعنهما الله)((3)).

وکان عبد الرحمن جامی الهروی (817 - 889ه-) وهو من أبرز علماء السنة فی العهد التیموری، یطعن بالشیعة وینال منهم وینقد أفکارهم، ورغم ذلک کان یعتقد أنّ مواقف علی علیه السلام ضدّ معاویة علی حق وأنّ شنّ الحرب علی الإمام علیه السلام خطأٌ ومنکر، ویقول:

حق در آنجا به

دست حیدر بود

جنگ با او خطا

ومنکر بود

وکانت له مواقف متشدّدة حیال اللعن، ویستنکر لعن أهل القبلة، إلّا أنّه عندما یذکر یزید بن معاویة لا یتوقّف عن لعنه فقط بل ویلعن مَن أنکر لعنه((4)).

وأمّا فضل الله بن روزبهان الخنجی (المتوفی927ه-) الذی اتّهم فی کتابه (إبطال نهج الباطل وإهمال کشف العاطل) بالتعصّب المذهبی وانحرافه عن أهل البیت علیهم السلام ، وأدّی ذلک إلی تصنیف کتاب (إحقاق الحق) ردّاً علیه، فإنّه حینما تناول شخصیة ومکانة

ص: 261


1- ([1]) ابن الصباغ المالکی، علی بن محمد، الفصول المهمّة فی معرفة الأئمّة: ص170 - 200.
2- ([2]) المصدر السابق: ص192 - 193.
3- ([3]) المصدر السابق: ص171.
4- ([4]) عبد الرحمن جامی، مثنوی هفت اورنگ (مثنویات سبعة عروش): ص178.

الحسین بن علی علیه السلام أسهب فی الحدیث عنه، وقال: «اللّهم صلّی وسلّم علی الإمام الثالث الملقّب بالشهید، والشهید هو الذی قُتل فی ساحات الوغی ضدّ الکفار.. فقد شهر الإمام علیه السلام سیف الدفاع عن الدین بوجه جبّار عنید متکبّر، وفی هذا دلالة علی رفضه لخلافة یزید (علیه اللعنة والعذاب)»((1)).

وقد کتب فی موضعٍ آخر عن عظمة حادثة کربلاء یقول: «فی الجملة لم تقع فی الإسلام حادثة عظیمة کحادثة کربلاء، فلعنة الله بعدد علم الله علی مَن حضر لقتال الإمام علیه السلام وشارک فیه وأمر بذلک ورضی به، وعلی مَن مارس الجور علیه وعلی جدّه وأبیه وأُمّه الزهراء (علیهم الصلوات والسلام) إلی یوم القیامة»((2)).

وأنشد شمس الدین محمد بن طولون (المتوفی935ه-) فی کتابه (الشذرات الذهبیة فی تراجم الأئمّة الاثنی عشریة عند الإمامیة) أبیاتاً فی بیان أسماء أئمّة أهل البیت علیهم السلام ، وقال:

علیک بالأئمّة

الاثنی عش-ر

من آل البیت

المصطفی خیر البش-ر

أبو تراب حسن

وحسین

وبغض زین

العابدین شین

محمد الباقر

کم علم دری

والصادق ادعُ

جعفراً بین الوری

موسی هو

الکاظم وابنه علی

لقّبه بالرضا

وقدره علی

محمد التقی

قلبه معمور

علی التقی دره

منثور

والعسکری

الحسن المطهر

محمد المهدی

سوف یظهر

ص: 262


1- (2) الخنجی الأصفهانی، فضل الله: وسیلة الخادم إلی المخدوم در شرح صلوات چهارده معصوم (وسیلة الخادم إلی المخدوم فی شرح صلوات الأربع عشرة معصوم): ص42، وص161، وص164، وص170، وص171.
2- ([2]) المصدر السابق.

وذکر أنّ الحسین علیه السلام استُشهد یوم عاشوراء عام (61ه-) فی کربلاء، وله هناک مرقد معروف یُزار، ویقصده الناس للزیارة والتبرّک، ویقیمون له مآتم کلّ عام حزناً علیه، وقد أفرد کتاباً فی هذا الصدد تحت عنوان: (هطل العین فی مصرع الحسین)، ومن المؤسف أنّ هذا الأثر لعبت به أیدی الزمان.

وعلی أیّة حال، نستخلص من المصادر التاریخیة أنّ الحسین علیه السلام وثورته الکبری نالت إقبالاً واسعاً فی أوساط أهل السنة فی القرنین التاسع والعاشر، وراجت لدی کلا الفریقین إقامة المآتم ومجالس العزاء لإحیاء ذکری استشهاده، ویعدّ الکتاب المعروف ب-(روضة الشهداء) لملا حسین الکاشفی السبزواری (المتوفی910ه-)، أوّل کتاب صُنّف باللغة الفارسیة فی بیان مصائب العترة الطاهرة علیهم السلام ، وقد اتّهم مؤلّفه بالتسنن فی سبزوار وبالتشیع فی هرات، وذکر زین الدین محمود واصفی صاحب کتاب (بدائع الوقائع)، وهو من عرفاء أهل السنة المعروفین فی العهد التیموری إقامة مجالس العزاء علی الحسین علیه السلام من قبل أهل السنة فی هرات ونیشابور وسائر بقاع العالم الإسلامی، کما أنّه هو نفسه کان یقیم المآتم لبیان مصائب السبط الشهید.

وتطرّق سلیمان بن إبراهیم القندوزی الحنفی البلخی (1220 - 1294ه-)، الذی یعدّ من أبرز علماء المذهب الحنفی فی القرن الثالث عشر الهجری، تطرّق فی کتابه القیم (ینابیع المودة) إلی مناقب الأئمّة علیهم السلام وفضائلهم، وکان یتحدّث عن الحسین علیه السلام وقضیة استشهاده بحزن وأسی ولوعة، وبعدما نقل حضور السبایا فی مجلس یزید یرسل اللعنات علیه ویقول: «ثمّ أمر یزید الملعون أن یحضروا عنده حرم الحسین وأهل بیته»((1)).

ص: 263


1- ([1]) القندوزی، سلیمان بن إبراهیم، ینابیع المودة: ج3، ص7.

إنّ حبّ الحسین علیه السلام والولاء له ولعن مَن قتله ومَن أمر بذلک قد دام قروناً مدیدة، وأقدم العدید من أهل السنة والجماعة علی تصنیف کتب حول أهل البیت علیهم السلام ، واستشهاد الحسین علیه السلام ، أو علی تخصیص فصل ببیان ذلک دون تحریفٍ أو تردید، وأثنوا علیه بأبلغ کلمات المدح والثناء، ویمکن أن نشیر فی هذا الصدد إلی کتاب (نور الأبصار) للشبلنجی، و(الإتحاف بحبّ الأشراف) للشبراوی، و(المناقب فی مقالات وصفات المعصومین) لمحیی الدین بن عربی((1)).

نقاط للتأمّل حول هذه النظرة

هذه النظرة التی تتلخّص فی الثناء علی الحسین علیه السلام علی مختلف الصعد ولعن یزید وتکفیره، یمکن تحلیلها وتقییمها من أبعاد مختلفة:

أ - هذه النظرة تستند إلی آیات الذکر الحکیم والأحادیث النبویة، حتی اعتبرها بعض المختصّین محلّ اتّفاق بین علماء الإسلام.

ب - یمکن القول: إنّ مَن تبنّاها من أهل السنة لا ینحصر بعصرٍ خاصّ، أو مذهبٍ خاصّ، فقد انتشر الموافقون لها من دمشق مرکز الحکم الأُموی، وحتی مصر وإیران وخراسان والهند وما وراء النهر، ومن مختلف المذاهب.

وبهذا النحو یبدو أنّه لا یلوح فی الأُفق عوامل تعیق الأبحاث العلمیة والمنهجیة لکشف حقائق التاریخ، وقد تمکّن العلماء علی ضوء هذه الواقعیة والدقّة من الظفر

ص: 264


1- ([1]) وقال عبد الکریم بن ولی الدین مؤلّف کتاب (مجمع الفوائد ومعدن الفرائد): «معلومٌ أنّ یزید اللعین وأتباعه کانوا من الذین أهانوا أهل بیت الرسول صلی الله علیه و آله ، فکانوا مستحقّین للغضب والخذلان واللعنة من الملک الجبار المنتقم یوم القیامة، فعلیه وعلی مَن اتّبعه وأحبّه وأعانه ورضا به لعنة الله والملائکة والناس أجمعین.. ثمّ قال: وأمّا منع بعضهم منه فلیس من أجل عدم جوازه؛ لأنّه جائزٌ بالاتفاق، بل من خوف السرایة إلی أبیه معاویة». ابن الجوزی، عبد الرحمن بن علی، الردّ علی المتعصب العنید: هامش ص6. (المترجم).

بالحقائق بعیداً عن التعصّب الدینی والقومی واللسانی والحضاری والسیاسی، وانتهوا إلی أنّ مواقف الحسین علیه السلام جاءت صورة طبق الأصل للدین والأُصول الإسلامیة، وأنّ مواقف یزید علی الجانب الآخر وتصبّ فی صالح الشیطان.

وفی هذا السیاق فإنّ الموضوعیة من جملة الأُصول التی تشبّث بها المخالفون أیضاً، وأصرّوا علی ضرورة مناقشة الأحداث التاریخیة بعیداً عن العواطف والتعصّبات، حتی یتمکّن من نیل الحقائق دون مواربة أو تحریف.

ج - یستخلص من جملة أقوال الموافقین للعن یزید وتکفیره، أنّ هذه النظرة قبل أن تکون نظرة مرحلیة أو مذهبیة أو سیاسیة فهی أصلٌ عقائدی، ومن هذا الجانب فقد کان أهل السنة منذ القدم یحیون ذکری عاشوراء کإخوتهم الشیعة، ویقیمون مآتم علی السبط الشهید، ویتبرّعون بالنذور والأطعمة علی صعیدٍ واسع، وفی الواقع استشری هذا الوضع منذ العهد الصفوی فی إیران أواخر القرن التاسع، وجاء تدوین کتاب (روضة الشهداء) تلبیةً لمتطلّبات أهل السنة فی هرات فی العهد التیموری.

لم یدُم الوضع کما هو، فقد أخذت إقامة المآتم بین أهل السنة بالانحسار والأُفول بعد العهد الصفوی؛ بسبب اتّخاذ مواقف مناوئة للسیاسات الصفویة، وما بقاء مراسم العزاء فی نقاط نائیة لم تجتاحها السیاسات المغرضة فی مناطق سنیة کالهند وباکستان وجنوب شرق آسیا وأفغانستان إلّا شاهد علی هذا المُدّعی.

علماء السنة المعاصرون وثورة کربلاء

بمضی الزمن اتخذت وجهات نظر مفکری أهل السنة حول ثورة کربلاء أبعاداً

ص: 265

أکثر وضوحاً((1))، هذا الأمر انبثق من الضرورات الاجتماعیة والسیاسیة، مثل ضرورة التأسّی بالقائد والثورة باعتباره مصباحاً للهدی عند مواجهة مختلف الأزمات الثقافیة والسیاسیة والاجتماعیة الناشئة من الاستبداد والاستعمار من جهة، ومبعث أمل بانتهاء التعصّب الناشئ من النظرة السیاسیة الضیقة للخلافة العباسیة والعثمانیة من جهةٍ أُخری، وهذا الوضع فسح المجال أمام المثقّفین وعلماء السنة للاقتراب من الواقع أکثر.

وقد لعب السید جمال الدین الأفغانی (1254 - 1314ه-) - أحد المفکّرین المعروفین فی العالم الإسلامی - دوراً تاریخیاً فی الصحوة الإسلامیة وإصلاح الفکر الدینی، وله حول ثورة کربلاء جملة معروفة تکشف عن نظرته حول ضرورة وقیمة هذه الثورة وأهمّیتها فی إحیاء الدین وبقاء البعثة، هذه الجملة هی: «الإسلام محمدی الحدوث وحسینیّ البقاء»، فثورة کربلاء امتداد لبعثة الأنبیاء لا سیما خاتمهم محمد صلی الله علیه و آله ، وهی لیست شرعیة من الناحیة الدینیة فحسب، بل تعدّ ضرورة ملحّة.

وکان تلمیذه الإمام محمد عبده، الذی لازمه وحمل أفکاره فی مکافحة الاستبداد

ص: 266


1- ([1]) وممّا یدلّ علی ذلک قول الآلوسی: «ویلحق بیزید ابن زیاد وابن سعد وجماعة وأمثالهم، فلعنة الله (عزّ وجلّ) علیهم أجمعین وعلی أنصارهم وأعوانهم وشیعتهم ومَن مال إلیهم إلی یوم الدین، ما دمعت عینٌ علی أبی عبد الله الحسین. ویعجبنی قول شاعر العصر ذی الفضل الجلی عبد الباقی أفندی العمری الموصلی، وقد سُئل عن لعن یزید اللعین: یزید علی لعنی عریض جنابه فأغدو به طول المدی ألعن اللعنا یزید علی لعنی عریض جنابه فأغدو به طول المدی ألعن اللعنا ومَن کان یخشی القال والقیل من التصریح بلعن ذلک الضلیل، فلیقل: لعن الله (عزّ وجلّ) مَن رضی بقتل الحسین ومَن آذی عترة النبی صلی الله علیه و آله بغیر حقّ، ومَن غصبهم حقّهم، فإنّه یکون لاعناً له لدخوله تحت العموم دخولاً أوّلیاً فی نفس الأمر، ولا یخالف أحد فی جواز اللعن بهذه الألفاظ ونحوها، سوی ابن العربی وموافقیه، فإنّهم علی ظاهر ما نقل عنهم لا یجوّزون لعن مَن رضی بقتل الحسین (رضی الله تعالی عنه)، وذلک لعمری هو الضلال البعید الذی یکاد یزید علی ضلال یزید». الآلوسی، محمود بن عبد الله، تفسیر روح المعانی: ج26، ص72. (المترجم).

والاستعمار، کان یرأی عدم شرعیة حکومة یزید قبل فاجعة کربلاء، وکان یعتقد أنّ یزید لم یکن خلیفة للمسلمین، بل إنّ جهاده واجبٌ شرعیٌّ، وتکلیفٌ دینیٌّ یقع علی عاتق المسلمین کافّةً، وقال: «إنّ الخروج علی الحاکم المسلم إذا ارتدّ عن الإسلام واجبٌ، وأنّ إباحة المُجمَع علی تحریمه کالزنا والسکر، واستباحة إبطال الحدود وشرع ما لم یأذن به الله کفر وردّة، وأنّه إذا وُجد فی الدنیا حکومة عادلة تقیم الشرع وحکومة جائرة تعطّله وجب علی کلّ مسلم نصر الأُولی ما استطاع.. ومن هذا الباب خروج الإمام الحسین سبط الرسول علی إمام الجور والبغی الذی ولی أمر المسلمین بالقوة والمکر، یزید بن معاویة خذله الله وخذل مَن انتصر له من الکرامیة والنواصب»((1)).

وقد اعترض الدکتور طه حسین علی بدعة معاویة فی تنصیب یزید لولایة العهد، والتی اعتبرها فاتحةً لانحرافات دینیة وسیاسیة واسعة فی عالم الإسلام قائلاً:

«وأمرٌ آخر استحدثه معاویة فی الإسلام فغیّر به السنة الموروثة تغییراً خطیراً، وهو استخلاف ابنه یزید بعده علی سلطان المسلمین، ولم یکره المسلمون شیئاً فی الصدر الأول من أیّامهم کما کرهوا وراثة الخلافة، فقد عهد أبو بکر إلی عمر ولم یخطر له أن یعهد إلی أحدٍ من بنیه، وزجر عمر مَن طلب إلیه أن یعهد لعبد الله ابنه، ولم یخطر لعثمان أن یعهد إلی أحد»((2)).

وقال أیضاً:

«لقد

قاتل معاویة علیاً علی دم عثمان من جهة، وعلی أن یردّ الخلافة شوری بین المسلمین من جهةٍ أُخری، فلمّا استقام له السلطان نسی ما قاتل علیه أو أعرض عمّا قاتل علیه، ولمّا أراد مصالحة الحسن عرض علیه أن یجعل له ولایة الأمر من بعده فأبی الحسن

ص: 267


1- ([1]) رضا، محمد رشید، تفسیر المنار: ج6، ص367.
2- ([2]) طه حسین، الفتنة الکبری: ج2، ص225.

ذلک، واشترط فیما اشترط أن یعود الأمر بعد معاویة شوری بین المسلمین، یختارون لخلافتهم مَن أحبّوا... فهو إذن کان یری الشوری فی أمر الخلافة قبل أن یستقیم له أمر الناس، وقبل أصل الشوری أثناء الصلح حین همّ أمر الناس أن یستقیم له، ثمّ نسی هذا کلّه بأخرة.

ویُقال: إنّ المغیرة بن شعبة هو الذی ألقی فی قلبه هذا الخاطر، فمال إلیه وشاور فیه زیاداً، فأشار علیه بالأناة وبأن یصلح من سیرة یزید.

وکان یزید فتی من فتیان قریش صاحب لهو وعبث، محباً للصید مسرفاً علی نفسه فی لذّاته، مستهتراً لا یتحفّظ، وکان ربّما أضاع الصلاة، فأخذه أبوه بالحزم، وأغزاه الروم، وأمّره علی الحج؛ یمهّد بهذا کلّه لتولیته العهد...

وکذلک استقرّ فی الإسلام لأوّل مرة هذا الملک، الذی یقوم علی البأس والبطش والخوف، والذی یرثه الأبناء عن الآباء، وأصبحت الأُمّة کأنّها ملک لصاحب السلطان، ینقله إلی مَن أحبّ من أبنائه کما یُنقل إلیه ما یملک من سائل المال وجامده»((1)).

وقد عکس المفکر المعاصر والمصلح الکبیر محمد إقبال اللاهوری أفکاره فی أشعار یُثنی فیها علی الحسین علیه السلام ، ویعتبره جدیراً بالخلافة والثورة، ویصفه بأنّه مولی أبرار العالم، وقوة عضد لأحرار العالم((2))، وعلیه فالحسین علیه السلام لا یختص بالمسلمین، بل لأهل الحقّ قاطبةً الذین تعلموا منه درس الحریة، ویصف ثورته بأنّها أعظم رمز لإنارة الحقّ والحریة الذی ینشده البشر، وأنّها استمرار لخطّ الأنبیاء الإلهیین ضدّ الطواغیت

ص: 268


1- ([1]) طه حسین، الفتنة الکبری: ص225 - 226.
2- ([2]) قال إقبال: وان دگر مولای أبرار جهان قوّت بازوی أحرار جهان در نوای زندگی سوز از حسین أهل حقّ حرّیت آموز از حسین

والجبابرة فی طول التاریخ، کما اعتبر یزید مظهراً من مظاهر الکفر والشرک والظلام، ووارث الکفار والجبابرة، کشداد ونمرود وفرعون وأبی جهل، وفی الواقع فإنّ إقبال قد سلب عنوان المسلم عن یزید رغم ظاهره الإسلامی الخداع، فما بالک أن یتصدی الخلافة الدینیة ومقام أُولی الأمر.

وقد توصّل الأُستاذ محمد عبد الباقی الخبیر بالعلوم الإسلامیة والمتضلّع بتفسیر القرآن والتاریخ والحدیث، بعد دراسة واسعة إلی عدم شرعیة خلافة یزید وولایة عهده، وحتمیة المضی فی سبیل الثورة من قبل الحسین علیه السلام لأداء التکلیف الإلهی، بهدف التعریف بالإسلام الأصیل وإفشاء الوجه القبیح لیزید بن معاویة، حیث قال:

«لو بایع الحسین یزید الفاسق المستهتر، الذی أباح الخمر والزنا، وحطّ بکرامة الخلافة إلی مجالسة الغانیات، وعقد حلقات الشراب فی مجلس الحکم، والذی ألبس الکلاب والقرود خلاخل من ذهب ومئات الأُلوف من المسلمین صرعی الجوع والحرمان، لو بایع الحسین یزید أن یکون خلیفة لرسول الله صلی الله علیه و آله علی هذا الوضع لکانت فُتیا من الحسین بإباحة هذا للمسلمین وکان سکوته هذا أیضاً رضیً، والرضی من ارتکاب المنکرات ولو بالسکوت إثم وجریمة فی حکم الشریعة الإسلامیة، والحسین بوضعه الراهن فی عهد یزید هو الشخصیة المسؤولة فی الجزیرة العربیة، بل فی البلاد الإسلامیة کافّة عن حمایة التراث الإسلامی؛ لمکانته فی المسلمین، ولقرابته من رسول ربّ العالمین؛ ولکونه بعد موت کبار المسلمین کان أعظم المسلمین فی ذلک الوقت علماً وزهداً وحسباً ومکانة، فعلی هذا الوضع أحسّ بالمسؤولیة تنادیه وتطلبه لإیقاف المنکرات عند حدّها، ولا سیما أنّ الذی یضع هذه المنکرات ویشجع علیها هو الجالس فی مقعد رسول الله صلی الله علیه و آله »((1)).

ص: 269


1- (1) محمد عبد الباقی، الثائر الأوّل فی الإسلام: ص79.

وقال الأُستاذ عبد الحفیظ أبو السعود:

«ورأی الحسین أنّه مطالب الآن - یعنی بعد هلاک معاویة - أن یعلن رفضه لهذه البیعة، وأن یأخذ البیعة لنفسه من المسلمین، وهذا أقلّ ما یجب، حفاظاً لأمر الله، ورفعاً للظلم، وإبعاداً لهذا العابث - یعنی یزید - عن ذلک المنصب الجلیل»((1)).

وتشکّل ولایة عهد یزید وخلافته عند الدکتور أحمد محمود صبحی انحرافاً خطیراً عند أهل السنة، وقد أدّی الحسین علیه السلام بحرکته تلک مهامه الدینیة، وقال:

«إنّه فی ظلّ دولة یقوم نظامها السیاسی علی أُسس دینیة لا تُعدّ البیعة أو انتخاب الحاکم مجرّد عمل سیاسی، ففی إقدام الحسین علی بیعة یزید انحراف عن أصل من أُصول الدین، من حیث إنّ السیاسة الدینیة للمسلمین لا تری فی ولایة العهد ووراثة الملک إلّا بدعة هرقلیة دخیلة علی الإسلام، ومن حیث إنّ اختیار شخص یزید مع ما عرف عنه من سوء السیرة ومیله إلی اللهو وشرب الخمر ومنادمة القرود، لیتولّی منصب الخلافة عن رسول الله، أکبر رزء یحلّ بالنظام السیاسی للإسلام، یتحمّل وزره کلّ مَن شارک فیه ورضی عنه، فما بالک إذا کان المقدم علی ذلک هو ابن بنت رسول الله.

کان خروج الحسین إذاً أمر یتّصل بالدعوة والعقیدة أکثر ممّا یتصّل بالسیاسة والحرب، ولقد أراد الحسین أن یصلح کثیراً من مسائل العقیدة بعد أن اختلّت الموازین أثناء خلافة معاویة، ذلک أنّ معاویة لم یکن یدعم ملکه بالقوّة فحسب، ولکن بأیدیولوجیة تمسّ العقیدة فی الصمیم، فلقد کان یعلن فی الناس أنّ الخلافة بینه وبین علیّ قد احتکما فیها إلی الله، وقضی الله له علی علیّ، وکذلک حین أراد أن یطلب البیعة لابنه یزید من أهل الحجاز أعلن أنّ اختیار یزید للخلافة کان قضاء من القضاء، ولیس للعباد خیرة فی أمرهم، وهکذا کاد یستقرّ فی أذهان المسلمین أنّ کلّ ما یأمر به الخلیفة حتی لو کانت طاعة الله فی خلافه

ص: 270


1- ([1]) أبو السعود، عبد الحفیظ، سبط الرسول: ص133.

قضاء من الله قد قُدّر علی العباد»((1)).

لذلک لم یکن یزید أهلاً لتولّی الخلافة الدینیة ولم یکن یتمتّع بالمعاییر الإسلامیة والدینیة، لذلک کان الواجب یحتّم علیه علیه السلام القیام بوجه الحکم الأُموی الذی استحلّ حرمات الله، ونکث عهوده، وخالف سنّة رسول الله صلی الله علیه و آله ((2))، وهو علیه السلام القائل:

«إنّ هؤلاء قومٌ لزموا طاعة الشیطان، وترکوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد فی الأرض، وأبطلوا الحدود، وشربوا الخمور، واستأثروا فی أموال الفقراء والمساکین، وأنا أولی مَن قام بنصرة دین الله، وإعزاز شرعه، والجهاد فی سبیله؛ لتکون کلمة الله هی العلیا»((3)).

وقد کتب عبد الله العلایلی أنّ خلافة یزید غیر شرعیة ولا یصحّ للمسلم السکوت معه أبداً، وقال:

«ثبت لمفکّری المسلمین عامّةً فی ذلک الحین أنّ یزید بالنظر إلی خلقه الخاص وتربیته ذات اللون المتمیز سیکون أداة هدّامة فی بناء الحکومة والدین معاً، وعدّوا ولایته منکَراً کبیراً، لا یصحّ للمسلم السکوت معه أبداً، ومن واجبه الجهر بالإنکار، إذاً فحرکة

ص: 271


1- ([1]) صبحی، أحمد محمود، نظریة الإمامة لدی الشیعة الاثنی عشریة: ص334.
2- ([2]) وممّا یحسن هنا أن نشیر إلی کلام قیّم للعقاد قال فیه: «وأعجب شیء أن یُطلب إلی الحسین بن علی أن یبایع مثل هذا الرجل ویزکّیه أمام المسلمین، ویشهد له عندهم أنّه نعم الخلیفة المأمول، صاحب الحقّ فی الخلافة، وصاحب القدرة علیها، ولا مناص للحسین من خصلتین: هذه أو الخروج؛ لأنّهم لن یترکوه بمعزل عن الأمر لا له ولا علیه. إنّ بعض المؤرِّخین من المستشرقین وضعاف الفهم من الشرقیین ینسون هذه الحقیقة، ولا یولونها نصیباً من الرجحان فی کفّ المیزان، وکان خلیقاً بهؤلاء أن یذکروا أنّ مسألة العقیدة الدینیة فی نفس الحسین لم تکن مسألة مزاج أو مساومة، وأنّه کان رجلاً یؤمن أقوی الإیمان بأحکام الإسلام، ویعتقد أشدّ الاعتقاد أنّ تعطیل حدود الدین هو أکبر بلاء یحیق به وبأهله، وبالأُمّة قاطبةً، فی حاضرها ومصیرها، لأنّه مسلم، ولأنّه سبط محمد، فمَن کان إسلامه هدایة نفس، فالإسلام عند الحسین هدایة نفس وشرف بیت». العقاد، عباس محمود، أبو الشهداء الحسین: ص114- 115. (المترجم).
3- ([3]) سبط ابن الجوزی، یوسف بن فرغلی، تذکرة الخواص: ص218.

الحسین علیه السلام لم تکن فی حقیقتها ترشیحاً لنفسه، بل للإنکار علی ولایة یزید أوّلاً وبالذات، بدلیل قول الحسین للولید لمّا طلبه للبیعة: إنّ یزید فاسق مجاهر لله بالفسوق، وکما قلنا، کان هذا الشعور والاستیاء عامّاً فی المسلمین»((1)).

لقد بلغ عدد علماء السنة الذین صرحوا بعدم شرعیة خلافة یزید وولایة عهده حداً لا یُحصی.

وهنا نجد من المناسب أن نعرّج علی کلام للشلبی من أساتذة جامعة الأزهر، فقد أشار عند استعراضه لبحث أدوار الفقه الإسلامی وسیر الاجتهاد فی الإسلام إلی عوامل اختلاف الاجتهاد، وکتب یقول: «انصراف الخلفاء الأُمویین إلی السیاسة وابتعادهم عن سیرة السلف من الخلفاء فأحدثوا أُموراً لم تکن مشروعة فی الإسلام، ممّا جعل العلماء ینظرون إلیهم نظرةً أُخری غیر نظرتهم للخلفاء الراشدین، فاجتنبوهم وحصلت الجفوة بینهم، ولم یعُد للشوری مکانها الأوّل، فلقد أحدثوا ولایة العهد، فکان الخلیفة یجمع الناس فی حیاته لیعقد البیعة لابنه أو لأخیه - إن لم یکن له ابن - ینتزع منهم بیعة صوریة یکره الناس علیها بقوّته وسلطانه، ولا یترک الأمر شوری للمسلمین.

ولما فی هذا الأمر من مخالفة لأُصول الشریعة أباه الخلیفة العادل عمر بن عبد العزیز، وأعلن فی الناس أنّه متنازل عن الخلافة لما آلت إلیه، فلقد دخل المسجد بعد أن تولّی الخلافة مباشرةً ومعه المسلمون فصعد المنبر، ثمّ قال: أیّها الناس، إنّی قد ابتلیت بهذا الأمر عن غیر رأی منّی فیه، ولا طلبةً له ولا مشورة من المسلمین، وإنّی قد خلعت ما فی أعناقکم من بیعتی فاختاروا لأنفسکم.

فتصارع مَن فی المسجد وقالوا بصوتٍ واحد: قد اخترناک یا أمیر المؤمنین، ولما حضرته الوفاة طلب منه الناس أن یعهد بالخلافة إلی مَن یحبّ، أبی وحذّر المسلمین أن یقعوا فیما

ص: 272


1- ([1]) العلایلی، عبد الله، سمو المعنی فی سمو الذات: ص84.

وقع فیه بنو أُمیّة من الخروج علی الإ سلام فی أصلٍ من أُصوله»((1)).

کما أکّد فی موضع آخر علی أنّ ولایة العهد تخالف عقائد أهل السنة، قائلاً: «کان رأیهم (أهل السنة والجماعة) فی الخلافة أنّها لیست وصیةً لأحد، بل الخلیفة یُنتخب من أکفاء قریش، عملاً بالحدیث (الأئمّة من قریش)، فما کان رأیهم فی الصحابة أنّهم سواء، وأنّ ما صدر عنهم من الخلاف کان اجتهاداً أو تأویلاً»((2)).

وفی الختام تجدر الإشارة إلی علماء آخرین من أهل السنة، کأبی الأعلی المودودی، ومحمود العقاد، ومحمد کامل البنا، وخالد محمد خالد، والسید علی جلال الحسینی، ومحمد الغزالی، وحسن إبراهیم حسن، وإبراهیم عبد القادر المازنی، وآخرین ممَّن ذهبوا إلی أنّ ثورة الحسین علیه السلام هی ثورة نبیلة دینیة قامت بوجه الجهاز الطاغوتی الحاکم، الذی شیّد أرکانه معاویة ودام علی ید یزید، وکان یزید جرثومة للحکم الأُموی الارستقراطی غیر الدینی، والذی ارتکب مجزرة کربلاء عن وعی وکانت له أهداف وبرامج للإطاحة بالدین وقیمه.

ونقل إبراهیم حسن وقائع خلافة یزید، وأنّ أُمّه بجدل الکلبیة البدویة التی کانت تفضّل العیش فی البادیة علی دمشق، وقد ترعرع یزید فی تلک الأجواء((3)).

وقد وجد إبراهیم عبد القادر المازنی فی شخصیة الحسین علیه السلام شخصیة مضحّیة مؤمنة برسالتها، وأنّ تصوّرات بعض أهل السنة والتی تبتنی علی أنّ الحسین علیه السلام شاهد رؤیا عن النبی’ یأمره بالثورة ضدّ الحکم الأُموی عاریة عن الصحّة، بل إنّ نظام بنی أُمیّة وبسبب واقعه الفاسد دفع بالإمام علیه السلام إلی إعلان ثورته، مع أنّه کان علی اطّلاعٍ تامّ

ص: 273


1- ([1]) شلبی، محمد مصطفی، المدخل فی التعریف بالفقه الإسلامی: ص123.
2- ([2]) المصدر السابق: ص122.
3- ([3]) اُنظر: حسن إبراهیم حسن، تاریخ الإسلام السیاسی والدینی والثقافی والاجتماعی: ج1، ص285.

بالأوضاع والظروف السائدة آنذاک، وهو بهذه الثورة وجّه الحقد العمیق فی قلوب المسلمین صوب الجهاز الأُموی، وبعد استشهاده أصبحت کلّ قطرة من دمه وکلّ کلمة له وحتی اسمه وذکراه تقضّ مضاجع بنی أُمیّة وتهدّد بنیانهم((1)).

وکتب عبد الرحمن الشرقاوی وهو کاتب مسرحی مصری، کتب عن القضایا التاریخیة والتی من جملتها ثورة کربلاء الکبری، وکان یقول: «حبّ الحسین هو ذلک الحبّ الحزین الذی یخالطه الإعجاب والإکبار والشجن، ویثیر فی النفس أسیً غامضاً، وحنیناً خارقاً إلی العدل والحریة، والإخاء وأحلام الخلاص»((2))، فقد أبرز جانب العدالة((3))

ص: 274


1- ([1]) اُنظر: المازنی، إبراهیم عبد القادر ، الرسالة: ص613 - 615.
2- ([2]) الشرقاوی، عبد الرحمن، الحسین ثائراً وشهیداً: ص7.
3- ([3]) یقول الشرقاوی علی لسان الحسین علیه السلام : إذا الرذائل أصبحت هی وحدها الفضلی الحبیبة وإذا حکمتم من قصور الغانیات وإذا تحکّم فاسقوکم فی مصیر المؤمنین وإذا طغی قرع الکؤوس علی النواح وإذا اختفی نغم الإخاء وإذا شکا الفقراء واکتظّت جیوب الأغنیاء وإذا خشیتم أن یقول الحقّ منکم واحد فی صحبه أو بین أهله فلتذکرونی عند هذا کلّه ولتنهضوا باسم الحیاة کی ترفعوا علم الحقیقة والعدالة فلتذکروا ثأری العظیم لتأخذوه من الطغاة وبذاک تنتصر الحیاة فإذا سکتّم بعد ذاک علی الخدیعة وارتضی الإنسان ذلّه فأنا سأُذبح من جدید وأظل أُقتل من جدید سأظلّ أُقتل کلما رغمت أُنوف فی المذلّة ویظلّ یحکمکم یزید ما ویفعل ما یرید الشرقاوی، عبد الرحمن، الحسین ثائراً وشهیداً: ص438 - 439. (المترجم).

فی هذه الثورة والتی أُهدرت فی عهد معاویة ویزید، وتفاقم الظلم والتمییز والجور تحت عناوین ومسمّیات مختلفة، وبهذه النظرة اعتبر ثورة کربلاء ملهمة للثورات والنهضات الإسلامیة لدی الفریقین علی حدٍّ سواء نحو العدالة والخلاص((1)).

وقد صنّف أحد کتّاب أهل السنة - وهو خالد محمد خالد - کتاباً تحت عنوان (أبناء الرسول فی کربلاء) مؤکِّداً فیه أنّ کربلاء درس ونموذج خالد وحیّ للمسلمین کافّة، ومبعث للسرور؛ لأنّ الحسین علیه السلام وأصحابه خرجوا مرفوعی الرأس من هذا الامتحان العظیم مثلما خرج إبراهیم علیه السلام ، وبذلک یصبح عاشوراء کعید الأضحی السعید((2)).

الفئة المخالفة من أهل السنة

ذکرنا فیما سبق أسماء الموافقین للعن یزید فی مقابل فئة قلیلة ندّدت بمواقف یزید وذمّتها، خاصّةً فی فاجعة کربلاء، إلّا أنّها احترزت عن لعنه، بل قامت بتبریر جرائمه فی کربلاء للحیلولة دون سلب الشرعیة عن خلافته.

ویبدو أنّ الجانب المهم لشهادة الحسین علیه السلام هو الجانب الجنائی لا الجانب العاطفی أو الحماسی؛ ذلک أنّ تلک الفئة قد أبرزت تعاطفها حیال ما جری، إلّا أنّها أنکرت الجانب الجنائی لهذه الحادثة، ویزید وأتباعه مع ما ارتکبوه من جرائم لم تلعنهم فحسب، بل أعلنت براءتهم من تلک الجریمة المروعة باعتباره خلیفة للمسلمین.

ومن الواضح أنّ تلک الفئة لم تتّفق فیما بینها من الناحیة الفکریة والعقائدیة فکلّ واحد منها قد رکّز علی جانب من جوانب استشهاد الحسین علیه السلام ، وأثار تساؤلات بشأنه.

ص: 275


1- ([1]) اُنظر: الشرقاوی، عبد الرحمن، الحسین ثائراً وشهیداً: ص60.
2- ([2]) اُنظر: خالد محمد خالد، أبناء الرسول فی کربلاء: ص35.

فهذا هو أبو حامد الغزالی لعلّه أوّل مَن أثار تساؤل حول شهادة الحسین علیه السلام صراحةً((1))، ولم یجوّز لعن یزید قائلاً:

«فإن قِیل: هل یجوز لعن یزید لأنّه قاتل الحسین أو آمره به؟ قلنا: هذا لم یثبت أصلاً، فلا یجوز أن یُقال: إنّه قتله أو أمر به ما لم یثبت فضلاً عن اللعنة؛ لأنّه لا تجوز نسبة مسلم إلی کبیرة من غیر تحقیق» ((2)).

بینما تراه فی بدایة بحث اللعن والسبّ یعلن صراحة لعن الشیعة دون استثناء ودون التمییز بین فرقها، ولعلّ هذا الموقف المتطرّف منه من جهة، وموقفه المتحفّظ حیال جرائم یزید وعدم جواز لعنه من جهةٍ أُخری، أدّی إلی إدراج الغزالی فی عداد المحبّین لیزید، کما صرّح ابن تیمیة بأنّ ممَّن جوّز محبّته أو کان من محبّیه الغزالی ومجموعةٌ لدیهم مصادرهم الخاصّة((3)).

وهذا الأمر دعا ببعض المعاصرین((4)) إلی القول:

ص: 276


1- ([1]) قال الشبراوی: «لا یشکّ عاقل أنّ یزید بن معاویة هو القاتل للحسین؛ لأنّه الذی ندب عبید الله بن زیاد لقتل الحسین». الشبراوی، عبدالله بن محمد، الإتحاف بحبّ الأشراف: ص174. (المترجم).
2- ([2]) الغزالی، محمد بن محمد، إحیاء علوم الدین: 3/ 135.
3- ([3]) ابن تیمیة، أحمد بن عبد الحلیم، المنتخب من مدونات التراث: ص71.
4- ([4]) وأنشد الحکیمُ السَّنائی الغزنوی، وهو شاعر فارسی شهیر من أهل السنة حینما سمع فتوی الغزالی - الذی کان یعاصره - فی المنع عن لعن یزید وآل أبی سفیان؛ أنشد بالفارسیة: داستان پسر هند مگر نشنیدی؟! که زِ او وسه کس او بپَیَمبر چه رسید!! پدر او دُر ِ دندان پیَمبَر بشکست!! مادر او جگر عمّ پیَمبَر بدرید!! خود بناحق، حق ِ داماد پیمبر بستاند!! پسر او سر فرزند پیمبر ببرید !! بر چنین قوم چو "لعنت" نکنی؟! شرمت باد!! ل-َعَنَ اللهُ یزیدَ وکذا آلَ یزید!! المهدوی، إبراهیم، دائرة المعارف للعلم والمذهب، تحت عنوان: السَّنائی الغزنوی. (المترجم).

«ومن المؤسف أنّ الغزالی قد هام حبّاً بیزید، وغالی فی الإخلاص له والدفاع عنه... وسفّ الغزالی فی کلامه علی غیر هدی، فقد تنکّر للبدیهیات کما تنکّر لها زمیله ابن تیمیة»((1)).

وردّ الدکتور طه حسین علی مزاعم الموافقین لبراءة یزید من قتل الحسین علیه السلام ، قائلاً:

«والرواة یزعمون أنّ یزید تبرّأ من قتل الحسین، وألقی عبء هذا الإثم علی ابن مرجانة عبید الله بن زیاد، ولکنّا لانراه لام ابن زیاد ولا عاقبه ولا عزله عن عمله کلّه أو بعضه، ومن قبله قتل معاویة حجر بن عدی وأصحابه، ثمّ ألقی عبء قتلهم علی زیاد، وقال: حمّلنی ابن سمیة فاحتملت»((2)).

وقام أبو بکر بن العربی (468 - 543ه-) بتحلیل شهادة الحسین علیه السلام وحکومة یزید والدفاع عنه، وصنّف کتاب (العواصم من القواصم فی تحقیق مواقف الصحابة بعد وفاة النبی صلی الله علیه و آله )، ونقد مواقف أهل البیت علیهم السلام والشیعة من جوانب مختلفة، وأبرز تعاطفه تجاه حادثة کربلاء واستشهاد الحسین علیه السلام ، ثمّ راح یکیل له اللوم بسبب عدم امتثال نصائح الصحابة، أمثال ابن عباس أعلم أهل زمانه، والعدول عن رأی شیخ الصحابة ابن عمر.

ثمّ أشار إلی اجتهاد یزید وابن زیاد وتأویلهما، ونقل حدیثاً عن النبی صلی الله علیه و آله فی قتل کلّ مَن سوّلت له نفسه النیل من وحدة المسلمین، ونوّه بصورة غیر مباشرة باعتبار تلک الثورة فتنة تستهدف الإطاحة بیزید والاستیلاء علی کرسی الحکم، ثمّ راح یطلق العنان

ص: 277


1- ([1]) القرشی، باقر شریف، حیاة الإمام الحسین بن علی علیه السلام : ج3، ص426.
2- ([2]) طه حسین، الفتنة الکبری: ج2، ص242.

لقلمه للحدیث عن زهد یزید وبراءته من دم الحسین علیه السلام ، واستخلص أنّه قُتل بسیف جدّه((1)).

وقام اثنان من محبّیه المعاصرین - وهما: محمد مهدی الاسطنبولی، ومحب الدین الخطیب - بشرح هذا الکتاب والتعلیق علیه، فمرّة یتمسّکون بروایات ضعیفة بحسب رأی علماء السنة لإثارة الشکوک حول ثورة الإمام الحسین علیه السلام ، ومرّة أُخری یتشبثون بآراء ابن تیمیة وأحد أتباعه المتعصبین المدعو محمد عزة دروزه فی سبیل تبرئة یزید من جنایته.

أمّا ابن خلدون (730 - 808ه-) فإنّه علی الرغم من اعتقاده بفسق یزید ولزوم قیام الحسین علیه السلام بثورة ضدّه فی سبیل إحیاء الدین وإقامة العدل، إلّا أنّها تفتقر إلی مبرّر عقلائی نظراً لغیاب الظروف المناسبة وتفاقم الأوضاع الاجتماعیة، وکان یعتقد بأنّ العدالة شرط ضروری للخلیفة الإسلامی، ویعدّ البیعة الناشئة من اختیار ورضا ووعی من أرکان شرعیة الخلافة، کما کان یرفض ما تفوّه به ابن العربی من أنّ الحسین علیه السلام قُتل بسیف جدّه، وکان یعتقد أنّ خصوصیة القوة والشوکة لازمة لإحراز الخلافة، وهذه الخصوصیة توفّرت لدی یزید فقط، ومن هنا یشکّک بصواب رأی الحسین علیه السلام ((2)).

کما أبرز تقی الدین أحمد بن تیمیة (611 - 728ه-) فی أوائل القرن الثامن آراء عجیبة وغریبة من نوعها فی المسائل الإسلامیة والتاریخیة أثارت حفیظة معظم علماء السنة، ومن بین تلک الآراء هی عدم جواز لعن یزید وبراءته من دم الحسین علیه السلام ،

ص: 278


1- ([1]) اُنظر: ابن العربی، محمد بن عبد الله، العواصم من القواصم: ص237 - 238.
2- ([2]) اُنظر: ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، مقدّمة ابن خلدون: ج1، ص415.

وقال:

«إنّ یزید بن معاویة وُلد فی خلافة عثمان بن عفان ولم یدرک النبی صلی الله علیه و آله ، ولا کان من الصحابة باتّفاق العلماء، ولا کان من المشهورین بالدین والصلاح، وکان من شبّان المسلمین، ولا کان کافراً ولا زندیقاً، وتولّی بعد أبیه علی کراهة من بعض المسلمین ورضا من بعضهم، وکان فیه شجاعة وکرم، ولم یکن مظهراً للفواحش کما یحکی عنه خصومه، وجرت فی إمارته أُمور عظیمة: أحدها مقتل الحسین (رضی الله عنه) وهو لم یأمر بقتل الحسین ولا أظهر الفرح بقتله، ولا نکت بالقضیب علی ثنایاه، ولاحمل رأس الحسین إلی الشام، لکن أمر بمنع الحسین (رضی الله عنه) وبدفعه عن الأمر... والصواب هو ما علیه الأئمّة من أنّه لا یُخصّ بمحبة ولا یُلعن، ومع هذا فإن کان فاسقاً أو ظالماً فالله یغفر للفاسق والظالم، لا سیما إذا أتی بحسنات عظیمة»((1)).

هذا وقد نقل أحد الباحثین فی سیرة ابن تیمیة وعقائده أنّ ابن تیمیة قرأ کتاب أبی الفرج ابن الجوزی، فقال: «أمّا أبو الفرج ابن الجوزی فله کتاب فی إباحة لعنه، ثمّ بعد ذلک صنّف ابن تیمیة فی المنع من سبّ یزید فی کتابه (فضائل معاویة و یزید وأنّه لا یُسبّ»((2)).

وقد نهج ابن تیمیة منهج ابن العربی من خلال إثارة تساؤل حول شرعیة تلک الثورة، والإصرار علی أنّ خروج الإمام علیه السلام کان ممّا أوجب الفتن؛ لأنّه خلاف ما أمر به النبی صلی الله علیه و آله ونهاه عنه عقلاء القوم، کابن عباس وابن عمر، قائلاً:

«ولم یکن فی الخروج لامصلحة دین ولا مصلحة دنیا، بل تمکّن أُولئک الظلمة الطغاة

ص: 279


1- ([1]) ابن تیمیة، أحمد بن عبد الحلیم، مجموع الفتاوی: ج3، ص410.
2- ([2]) صائب عبد الحمید، ابن تیمیة (حیاته وعقائده): ص382.

من سبط رسول الله صلی الله علیه و آله حتی قتلوه مظلوماً شهیداً، وکان فی خروجه وقتله من الفساد ما لم یکن حصل لو قعد فی بلده، فإنّ ما قصده من تحصیل الخیر ودفع الشر لم یحصل منه شیء، بل زاد الشرّ بخروجه وقتله، ونقص الخیر بذلک، وصار ذلک سبباً لشرٍّ عظیم، وکان قتل الحسین ممّا أوجب الفتن کما کان قتل عثمان ممّا أوجب الفتن، وهذا کلّه ممّا یبیّن أنّ ما أمر به النبی صلی الله علیه و آله من الصبر علی جور الأئمّة، وترک قتالهم والخروج علیهم هو أصلح الأُمور للعباد فی المعاش والمعاد، وأنّ مَن خالف ذلک متعمّداً أو مخطئاً لم یحصل بفعله صلاح، بل فساد»((1)).

المعاصرون والوهابیة

کان التیار الفکری لابن تیمیة یلفظ أنفاسه الأخیرة ویتّجه نحو الزوال والاضمحلال قبل ظهور الوهابیة علی ید محمد بن عبد الوهاب (1111 - 1207ه-)، وقبل ذلک کان یُطرح کبدعة سیاسیة تظهر بین حینٍ وآخر فی نقاط من العالم الإسلامی، وتبرز من خلال تدوین کتاب أو رسالة فی فضائل معاویة ویزید، وبعد ظهور الوهابیة شقّت أفکار ابن تیمیة طریقها إلی العلن، وهناک من انساق وراءها فی عصرنا الحاضر، أمثال: الشیخ محمد الخضری من مصر حیث یقول:

«إنّ الحسین أخطأ خطأً عظیماً فی خروجه هذا الذی جرّ علی الأُمّة وبال الفرقة والاختلاف، وزعزع عماد أُلفَتِها إلی یومنا هذا، وقد أکثر الناس من الکتابة فی هذه الحادثة لا یریدون بذلک إلّا أن تشتعل النیران فی القلوب، فیشتدّ تباعدها، وغایة ما فی الأمر أنّ الرجل طلب أمراً لم یتهیّأ له، ولم یعدّ له عدّته، فحِیل بینه وبین ما یشتهی، وقُتل دونه، وقبل ذلک قُتل أبوه، فلم یجد من أقلام الکاتبین من یبشع أمر قتله، ویزیدون نار العداوة

ص: 280


1- ([1]) ابن تیمیة، أحمد بن عبد الحلیم، منهاج السنة: ج4، ص530.

تأجیجاً، والحسین قد خالف یزید وقد بایعه الناس، ولم یظهر عنه ذلک الجور ولا العسف عند إظهار الخلاف حتی یکون فی الخروج مصلحة للأُمّة» ((1)).

وأمثال محمد بن إبراهیم من الکویت، فقد صنّف کتاباً یحمل عنوان (براءة یزید بن معاویة من دم الحسین)، بذل جهوداً عقیمة ومستمیتة فی سبیل إبراز صلاحیات یزید العلمیة والعملیة، وبراءته من جریمة کربلاء، کما اتّجه الاتجاه نفسه إبراهیم بن شعوط فی کتابه (أباطیل یجب أن تُمحی من التاریخ)، حیث اعتبر یزید خلیفةً شرعیاً للمسلمین، ونزّهه عن شرب الخمر وارتکاب المحارم، وأنّ الخروج علیه فتنةٌ تخلو من أیّة مصلحة، ویُستخلص من کلامه النقاط التالیة:

1 - یزید خلیفة شرعی للمسلمین.

2 - لزوم البیعة لیزید وعدم جواز نقضها.

3 - غیاب العقلانیة حین قبول دعوة أهل الکوفة، وقد کُتب لهذه الحرکة الفشل.

4 - لم تتعلّق إرادة یزید بقتل الحسین علیه السلام ؛ وعلیه فلا یتحمّل وزر هذه الجریمة ولا یصدق علیه عنوان القاتل.

وعلی أیّة حال فإنّ المعاصرین الذین انساقوا للتیار الوهابی من القلّة بمکان بحیث یعدّون بالأصابع.

خلاصة آراء المخالفین

یکشف البحث والتنقیب فی المواضیع المطروحة من قبل مخالفی لعن یزید بن معاویة، والذین ساورهم الشک حیال نهضة السبط الشهید، یکشف عن ترکیزهم علی عدّة محاور:

ص: 281


1- ([1]) الخضری، محمد، تاریخ الأُمم الإسلامیة: ج2، ص235.

1 - یزید خلیفة المسلمین، وکان یملک الحق فی إخماد ثورة کربلاء، وکان علیه دفع هذا الخطر الداهم بأی نحوٍ ممکن، مستعیناً فی هذا السبیل باجتهاده.

2 - یزید لم یقتل سبط رسول الله’، وإثبات إصدار أوامر بقتله أمرٌ بعید المنال.

3 - حدیثٌ عن النبی صلی الله علیه و آله فی القضاء علی کلّ مَن استهدف وحدة المسلمین، وشقّ عصا الطاعة، وبذلک یکون الإمام علیه السلام قد قُتل بسیف جدّه.

4 - ثورة کربلاء ثورة دنیویة رفعت لواء الاستیلاء علی الحکم.

5 - قدَر نهضة کربلاء الإخفاق، وهذه النتیجة لم تکن خافیة عن عقلاء القوم کابن عباس وابن عمر وآخرین.

6 - خلو هذه النهضة من أیّة آثار إیجابیة ومکتسبات، وفی الواقع کانت المصلحة تقضی بعدم الخروج.

7 - الشیعة هی التی دعت الإمام علیه السلام إلی القدوم وعلی یدها استُشهد، وإذا بها الیوم تُقیم المآتم علیه.

مناقشة وتحلیل

اشارة

تشیر الشواهد التاریخیة المصحوبة بدراسة الأسباب والعلل والخلفیات إلی تدنّی مستوی مخالفی لعن یزید إلی حدّ لا یُعتبرون فیه من أهل البحث والتحقیق، وممَّن ینشدون الحقیقة ویجدون فیها ضالّتهم، بل هم لیسوا سوی أداة طیّعة للسلطة توظّف لإنکار ما تواتر عن التاریخ من حجج ساطعة.

وکما تقدّم فإنّ تیار ابن تیمیة کان منذ البدایة بدعة واضحة وانحرافاً مکشوفاً لدی أهل السنة أنفسهم، إلّا أنّ التحالف المشؤوم الذی قام بین محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود أحیی هذا التیار من جدید، وفی ظلّ التقاء مصالح الآراء الإفراطیة بالسلطة والقهر، أخذت تلک الآراء تجتاح الجزیرة العربیة، وتبدّلت إلی مذهب إلی

ص: 282

جانب بقیة المذاهب الإسلامیة.

ولا شکّ أنّ البحث عن کیفیة التقاء المصالح بینهما، وردود أفعال سکان الجزیرة العربیة، بحاجة إلی مجال آخر لا یسعه هذا المختصر، ولکن ما نرمی إلیه هنا هو استعراض مضاعفات ما ترکته العوامل والأسباب علی مخالفی لعن یزید، وتأثّرهم بالانحراف الناشیء من تلک العوامل.

أ - تقدیم الخبر المجعول علی المتواتر

ثمّة مواضیع مطروحة من تیار ابن تیمیة تدلّ علی استناده إلی خبر مجعول، والاحتجاج به فی مقابل ما تواتر من الأخبار، منها براءة یزید من دم الحسین علیه السلام والسلوک الحسن مع السبایا حیث نطالع: «أنّ یزید أمر بإنزال السبایا فی داره، وأمر لهم بما یصلحهم، وکان لا یتغدّی ولا یتعشّی إلّا علیّ معه، ثمّ أمر النعمان بن بشیر أن یجهّزهم بما یصلحهم، ویسیّرهم إلی المدینة مع أُناس صالحین، ولمّا أرادوا الخروج دعا علیاً فودّعه»((1)).

هذا فی الوقت الذی لم تتردّد فیه التقاریر التاریخیة عن ضلوع یزید وابن زیاد فی فاجعة کربلاء وقتل السبط الشهید، وخیر شاهدٍ علی ذلک الکتاب الذی بعثه یزید إلی والیه علی المدینة یخبره بموت معاویة وأخذ البیعة من الحسین علیه السلام :

«فأحضر الحسین بن علی، وعبد الله بن الزبیر، فخذهما بالبیعة لی، وإن امتنعا فاضرب أعناقهما، وابعث لی برؤوسهما»((2)).

من هنا فقد اتّخذ صاحب تذکرة الخواص موقفاً إزاء الإجابة عن هذه الشبهة، وراح یشاطر جدّه الرأی ویروی عنه مشارکة یزید وابن زیاد فی قتل الحسین علیه السلام ، وهو

ص: 283


1- ([1]) ابن العربی، محمد بن عبد الله، العواصم من القواصم: هامش ص240.
2- ([2]) الیعقوبی، أحمد بن أبی یعقوب، تاریخ الیعقوبی: ج2، ص241.

لا یتعجّب من قتل ابن زیاد الحسین علیه السلام بقدر ما تعجّب ممّا فعله یزید من أعمال تفوق القتل: «لیس العجب من قتال ابن زیاد الحسین، وتسلیطه عمر بن سعد علی قتله والشمر، وحمل الرؤوس إلیه، وإنّما العجب من خذلان یزید وضربه بالقضیب ثنایاه، وحمل آل الرسول سبایا علی أقتاب الجمال، وعزمه علی أن یدفع فاطمة بنت الحسین إلی الرجل الذی طلبها، وإنشاده أبیات ابن الزبعری (لیت أشیاخی ببدر شهدوا)!» ((1)).

أوَلیس أعجب من فعل یزید فعلُ مَن فعلَ المستحیل من أجل تبرئته من کلّ ما تلطّخت به یداه؟!

ب - التهافت

إنّ موقف تیار ابن تیمیة حیال حوادث تاریخیة کنهضة کربلاء، والدفاع عن یزید ملؤه التناقض والتهافت؛ ذلک أنّه أصدر براءة یزید من جریمة قتل الحسین علیه السلام من جهة، وطرح بحث اجتهاد یزید من جهةٍ أُخری.

وعلی ضوء ذلک، فقتل الحسین علیه السلام علی ید یزید لا یزعزع مکانته الدینیة والسیاسیة؛ نظراً لتمسّکه بالاجتهاد، وهو مأجورٌ فی صورة الخطأ.

وبهذا النحو یحاول هذا التیار إبراز موقف یزید کمجتهد أحیاناً، وکخلیفة شرعی أحیاناً أُخری، مع إلقاء وِزر تلک الجریمة علی عاتق ابن زیاد.

ج - إطلاق التُّهم بدل الاستدلال والمنطق

أطلق تیار ابن تیمیة عنوان الأباطیل علی کلمات مؤرِّخی السنة، وذهب إلی أنّ صدور فاجعة کربلاء بأمر یزید أمرٌ ضروری وطبیعی، حذا بذلک حذو ابن العربی لمّا قال: «وقد روی الناس أحادیث فیهم لا أصل لها».

ص: 284


1- ([1]) سبط ابن الجوزی، یوسف بن فرغلی، تذکرة الخواص: ص260.

من هنا ردّ الأحادیث التی تخالف الاتجاه الأُموی دون دلیل، وفی موضعٍ آخر یصرّح بحدیث مجعول، أو بتبریر غیر معقول خلافاً للنص النبوی: «الولد للفراش وللعاهر الحجر»، کما کان یصدر حکمه تجاه الروایات التی تخالف الاتجاه الأُموی دون أن یعضده بدلیل، ویقول: «کلّ ما ذکرتم لا ننفیه ولا نثبته؛ لأنّه لا یحتاج إلیه، والذی ندریه حقّاً ونقطع علیه علماً أنّ زیاداً من الصحابة بالمولد والرؤیة».

وفی کثیرٍ من الموارد یردّ المسلَّمات والمتواترات التاریخیة المعتمدة لدی أهل السنة استناداً إلی الظنون، ویتّهم المؤرِّخین بالکذب والإطناب والجهل قائلاً: «إنّما ذکرت لکم هذا لتحترزوا من الخلق، وخاصّةً من المفسِّرین والمؤرِّخین وأهل الآداب، فإنّهم أهل جهالة»((1)).

وبهذه الصورة نال هذا التیار من المفسِّرین والمؤرِّخین وأهل الأدب؛ بهدف سلب الاعتماد عنهم؛ ذلک لأنّهم نقلوا مناقب أهل البیت علیهم السلام خاصّةً الحسین علیه السلام من جهة، ومثالب الأُمویین وخاصةً یزید من جهةٍ أُخری، علی نطاق التفسیر والتاریخ والأدب، بصورة شفّافة ومتواترة قابلة للاستدلال.

د - تضخیم دور المؤرِّخین المتعصِّبین

رغم أنّ هذا التیار کان یطعن بالمؤرِّخین، ولکن لم یکن أمامه بدّ إلّا اللجوء إلی المتطرِّفین والمتعصِّبین من المؤرِّخین، أمثال ابن کثیر الدمشقی، الذی کان یُطلق علیه شیخ المؤرِّخین، وینطلق من کلماته وآرائه لإثبات مدّعاه.

ویعلم علماء التاریخ خاصّةً تاریخ الإسلام، أنّ ابن کثیر أحد تلامذة ابن تیمیة وأتباعه الذی یبدی انحیازاً واضحاً له، ومن أکثر المؤرِّخین تطرّفاً فی الشام، ولم یکن

ص: 285


1- ([1]) ابن العربی، محمد بن عبد الله، العواصم من القواصم: ص235 - 247.

یُخفی میوله السلفیة فی أخباره التاریخیة، خاصّةً عندما کان یتعرّض إلی موت ابن تیمیة والعلّامة الحلّی((1)).

وقد أبرز هذا التعصّب حیال یزید بن معاویة، وتملّص من الرضوخ للشواهد والأخبار التاریخیة، التی تدلّ علی ارتکاب یزید للموبقات قائلاً: «وقد أورد ابن عساکر أحادیث فی ذمّ یزید کلّها موضوعة لا یصحّ شیء منها»((2)).

مناقشة وتحلیل

اشارة

نری من الضروری قبل الحدیث عن وجهات نظر هذا التیار بشأن لعن یزید وتحلیلها ونقدها، أن یکون البحث عن شهادة الحسین علیه السلام وضلوع یزید فی القتل بحثاً منهجیاً موضوعیاً، مع الرجوع إلی المصادر التاریخیة المعتبرة المتوفّرة بین أیدینا دون تحیّز.

من هنا فأیّ تعصّب مذهبی أو قومی أو لسانی أو سیاسی أو اقتصادی فی هذا المجال یحول دون الوصول إلی تحقیق هادف وواقعی وموضوعی؛ ذلک أنّه یعیق الظفر بالواقع وکشف الحقائق التاریخیة، وفی هذا السیاق أشار أحد أتباع هذا التیار إلی ضرورة تناول الموضوعات التاریخیة کشهادة الحسین علیه السلام ، وحادثة کربلاء، دون انفعال وحبّ وبغض وتعصّب، وإلّا فدفاع أنصار عاشوراء لا یمکن قبوله تحت أی مبرّر، والتاریخ لا یُبحث عبر بوابة العواطف والتعصّبات، والحقائق لا تُستکشف کذلک((3)).

ومع الإذعان بهذا الکلام، لا بدّ أن نتناول سیرة أتباع هذا التیار لنستکشف مشاربهم الفکریة واتّجاهاتهم السیاسیة والقومیة وتعصباتهم؛ کی تتّضح نظرتهم تجاه

ص: 286


1- ([1]) اُنظر: ابن کثیر، إسماعیل بن عمر، البدایة والنهایة: ج14، ص144.
2- ([2]) المصدر السابق: ج8، ص254.
3- ([3]) اُنظر: شعوط، إبراهیم علی، أباطیل یجب أن تُمحی من التاریخ: ص236.

التاریخ، وهل نظروا إلیه نظرة موضوعیة بعیدة عن أیّ تعصّب، أو وقعوا تحت قبضة تلک العوامل، وأقدموا علی التحریف والجعل فی التاریخ؟ فإلی أیّ جهةٍ تتّجه بوصلة تاریخهم الفکری والسیاسی والمذهبی؟

ممّا لا شکّ فیه أنّ أتباع هذا التیار واجهوا عقبات کثیرة فی مطالعة وکشف الحقائق، وتعرّضوا لعوامل انحراف لا حصر لها، زاغت بهم عن جادّة الصواب.

ونستخلص من سِیر أتباع هذا التیار أنّ ثمّة تشابه کبیر فی کثیر من المواقف، وقد تبلور هذا التشابه أثر عوامل وظروف مختلفة، ترکت بصماتها علیهم خلافاً لادّعاء بعض المعاصرین من أتباعهم، ولم یکن الباب مفتوحاً أمامهم للبحث العلمی النزیه، ممّا یجعل الحصول علی الحقائق فی غایة الصعوبة، وکلّ واحد من تلک العوامل والظروف کفیل بإعاقة التنقیب فی الحقائق الماضیة، والظفر بالحقیقة التی هی ضالّة الباحث، بل قد تسوقه نحو طرح آماله ورغباته وعقائده فی قالب حقائق التاریخ، وإلیک بعض تلک العوامل:

1- حبّ التسلّط والاستیلاء

إنّ تقصّی سیرة أتباع هذا التیار بشکلٍ إجمالی یدلّ بوضوح علی اشتراکهم حول مجموعة من المصالح، من أهمّ رکائزها دعم السلطة الحاکمة والحضور فی البلاط، ومع غضّ الطرف عن ابن تیمیة الذی ابتدع کثیراً من الأُمور، وامتلک أفکاراً شاذّة بعیدة عن الاستدلال، فإنّ سائر مخالفی اللعن الذی ینتمی إلی هذا التیار یشترکون فی تلک الأُمور، وکان شمس الدین الذهبی - الذی کان معاصراً لابن تیمیة، وفی طلیعة علماء

ص: 287

السنة((1)) - ممَّن کتب لابن تیمیة کتاباً صرّح فیه بأفکاره المنحرفة، قائلاً:

«یا خیبة مَن اتّبعک! فإنّه معرض للزندقة والانحلال، لا سیما إذا کان قلیل العلم والدین، باطولیاً شهوانیاً، لکنّه ینفعک ویجاهد عنک بیده ولسانه، وفی الباطن عدوٌّ لک بماله وقلبه... أما حان لک أن تتوب وتنیب؟ أمّا أنت فی عشر السبعین وقد قرب الرحیل؟ بلی والله، ما أذکر أنّک تذکر الموت، بل تزدری بمَن یذکر الموت، فما أظنّک تقبل علی قولی، ولا تصغی إلی وعظی»((2)).

ولم یکن الذهبی الوحید الذی أجاب علی بدع ابن تیمیة وانحرافاته، فقد سبقه تقی الدین السبکی الذی صنّف کتابین فی الردّ علیه، أحدهما: (شفاء السقام فی زیارة خیر الأنام)، والآخر: (الدرّة المضیئة فی الردّ علی ابن تیمیة)، ویکرّر فی تلک الآثار بأنّ ابن تیمیة صاحب بدعة وانحراف.

وکان یقول فی خطبة کتابه (الدرّة المضیئة فی الردّ علی ابن تیمیة) ما هذا لفظه: «أمّا بعدُ، فإنّه لمّا أحدث ابن تیمیة ما أحدث فی أُصول العقائد، ونقض من دعائم الإسلام الأرکان والمعاقد، بعد أن کان مستتراً بتبعیة الکتاب والسنّة، مظهراً أنّه داعٍ إلی الحق، هاد إلی الجنة، فخرج عن الاتّباع إلی الابتداع، وشذّ عن جماعة المسلمین بمخالفة الإجماع، وقال بما یقتضی الجسمیة والترکیب فی الذات المقدّسة، وأنّ الافتقار إلی الجزء لیس بمحال، وقال

ص: 288


1- ([1]) ردّ الکثیر من علماء السنة علی ابن تیمیة فی تصانیفهم، منهم: ابن حجر الهیتمی (المتوفی 974ه-)، إذ قال عنه: «ابن تیمیة عبدٌ خذله الله وأضلّه وأعماه وأصمّه وأذلّه، بذلک صرّح الأئمّة الذین بیّنوا فساد أحواله وکذب أقواله... والحاصل: أنّه لا یُقام لکلامه وزن، بل یُرمی فی کلّ وعرٍ وحَزن، ویعتقد فیه أنّه مبتدع، ضالٌّ مضلّ، غال، عامله الله بعدله، وأجارنا من مثل طریقته وعقیدته وفعله، آمین». ابن حجر الهیتمی، أحمد بن محمد، الفتاوی الحدیثیة: ص86. ولله درّ الشیخ صفی الدین الأرموی لمّا وصف ابن تیمیة وصفاً دقیقاً حینما قال: لا أراک یا بن تیمیة إلّا کالعصفور، حیث أردتُ أن أقبضه من مکان فرّ إلی مکانٍ آخر. (المترجم).
2- ([2]) الکوثری، محمد زاهد، تکملة السیف الصقیل: ص190 - 192.

بحلول الحوادث بذات الله تعالی، وأنّ القرآن محدث تکلم الله به بعد أن لم یکن، وأنّه یتکلّم ویسکت، ویحدث فی ذاته الإرادات بحسب المخلوقات، وتعدّی فی ذلک إلی استلزام قدم العالم، والتزم بالقول بأنّه لا أوّل للمخلوقات، فقال بحوادث لا أوّل لها، فأثبت الصفة القدیمة حادثة، والمخلوق الحادث قدیماً، ولم یجمع أحدٌ هذین القولین فی ملّةٍ من الملل، ولا نحلة من النحل، فلم یدخل فی فرقة من الفرق الثلاث والسبعین الّتی افترقت علیها الأُمّة، ولا وقفت به مع أُمّة من الأُمم همّة، وکلّ ذلک وإن کان کفراً شنیعاً، مما تقلّ جملته بالنسبة إلی ما أحدث فی الفروع»((1)).

هذا وقد تناول علماء السنة من مختلف المذاهب عقائد ابن تیمیة، خاصّةً فیما یمتّ إلی حادثة کربلاء واستشهاد الحسین علیه السلام ولعن یزید بحثاً وتمحیصاً، وتوصّلوا إلی أنّها خلاف الأُصول والمسلّمات الإسلامیة.

و قام مخالفو لعن یزید بتحریف وقائع قتل الحسین بن علی علیه السلام ، وأثاروا عجاج الشک والغموض، أمثال الغزالی وابن خلدون، اللذان خضعا لإملاءات السلطة، فکانت مواقفهما تصبّ فی صالحها، وفی المقابل کانت الصلات والألقاب تنهال علیهما.

وکان الغزالی یرتبط بعلاقات حسنة مع الوزیر السلجوقی المتعصّب نظام الملک الطوسی، وبفضل هذه العلاقات تمکّن الغزالی من الانخراط فی البلاط السلجوقی ثمّ العباسی، ثمّ قام الوزیر بتعیینه علی رئاسة المدرسة النظامیة فی بغداد، وبعد اغتیال نظام الملک ارتفع شأنه وتولّی أرفع مقام دینی فی بغداد، وأصبح مرجعاً دینیاً للحکومة، وصنّف آثاراً یمجّد فیها خلفاء بنی العباس.

ص: 289


1- ([1]) السبکی، علی بن عبد الکافی، الدرّة المضیئة فی الردّ علی ابن تیمیة: ص 5.

ثمّ وصل الأمر أن أصبح المرجع الوحید الذی یرجع إلیه السلاجقة والبلاط فی بغداد، بعد أن أخذت فتاویه بالانتشار فی العالم السنی وذاع صیته، لذا قصده ابن العربی وحصل منه علی فتوی بشرعیة حکومة تاشفین حاکم المغرب، بهدف تحکیم دعائم حکومته والقضاء علی خصومه، ومنذ ذاک الحین توطّدت العلاقات السیاسیة والدینیة بینهما.

وهکذا الحال عند ابن خلدون، حیث ارتبط سیاسیاً وثقافیاً ومالیاً بالبلاط العباسی، ممّا حال دون النظر إلی انحرافات وضعف رجال السیاسة والولاة، بل أرغم علی تبییض السجل الأسود للخلفاء الماضین أمثال یزید؛ لئلّا یحرم من عطایا أصحاب النعمة والجاه.

2 - التعصّب المذهبی والطائفی

بالتأمّل قلیلاً یتّضح لنا أنّ انتماء مخالفی اللعن یعود إلی المذهب السنی والفکر الأشعری الذی راج فی العهد السلجوقی، وصار المذهب الرسمی فی البلاط والخلافة، وأصبحت المدارس النظامیة مرکزاً لنشره وکان یرأسها الغزالی، کما أقدم خلفاء بنی العباس علی التمسّک بالفکر الأشعری لتوجیه سلطتهم السیاسیة، ولمواجهة أهل البیت علیهم السلام ، وکان لعلماء الغرب الإسلامی الذین کانوا یقتاتون علی موائد الأُمویین دورٌ مهم فی نشر المذهب المالکی والفکر الأشعری، عبر تجاهلهم العدید من الحقائق التاریخیة، وتحریف وإنکار الأحداث التی تجلب الضرر للسلطة والنفع للحقیقة والتاریخ، ومن الخصوصیات المذهبیة المهمّة للمخالفین هی عدائهم لأهل البیت علیهم السلام والشیعة، ورغم تحفّظهم علی لعن یزید إلّا أنّهم یبیحون لأنفسهم لعن الشیعة دون تحرّج ودون أن یکلّفوا أنفسهم عناء البحث.

وعلی أیّة حال، فهذا التیار لا یطیق قبول أدنی الوقائع التاریخیة ولو کانت مسلَّمة،

ص: 290

إن کان فیها ما یؤیّد الحقائق، والتی تؤیّد الحد الأدنی التی نادی بها الشیعة، وقد اختطّ ابن تیمیة ذات المنهج الذی سلکه الغزالی وابن العربی وابن خلدون، إذ تفوح من مصنّفاته رائحة التعصّبات المذهبیة التی استشرت فی عامّة أبحاثه ودراساته، ولم یکن علی استعداد تحت أیّة ظروف التنازل عنها أو إظهار المرونة والانعطاف تجاهها.

3 - الاصطفاف الثقافی والتاریخی فی مقابل العدو المشترک

من العوامل المهمّة فی المواقف المتناقضة والمؤسفة لتیار ابن تیمیة هی أخذه بنظر الاعتبار الصراع القائم بین المسلمین والنصاری خاصّةً فی الغرب الإسلامی، فإنّ حدّة الصراع کانت بینهما حامیة الوطیس علی الصعید الفکری والثقافی والعسکری والإعلامی، حیث بذل هذا التیار جهوداً لعرض جانب ساطع وغیر معیب ومشوه لتاریخ المسلمین وخلفائهم من جانب، وسلب الحجج والذرائع التی یتمسّک بها النصاری ضدّهم من جانبٍ آخر، ولبیان أنّ المسلم هو الأفضل وله الید العلیا، فاضطرّ إلی إعادة کتابة السجل الأسود لتاریخ المسلمین السیاسی، ومن جملتها فاجعة کربلاء، وفاته أنّ جریمة الأُمویین خاصّةً یزید أکبر من التکتّم علیها أو إخفائها((1)).

وتعتبر ثورة کربلاء صفحة مشرقة فی تاریخ الإسلام، خاصّةً فیما لو تمّ إظهارها علی حقیقتها؛ لأنّها ستُضفی المزید من الجذابیة والحرکیة والطاقة، والقابلیات المعنویة لهذا الدین.

4 - الانتماء المحلّی وخلفیاته التاریخیة

لقد بلغ تنافس الکوفیین والشامیین ذروته مع فرض سیاسة بنی أُمیّة خاصةً معاویة؛ لتحکیم دعائم الحکم الأُموی وإبعاد الشامیین عن الإسلام الأصیل وأهل

ص: 291


1- ([1]) اُنظر: محمود إبراهیم، براءة یزید من دم الحسین: ص1.

البیت علیهم السلام ، هذه السیاسة قد ترکت أثرها علی مخالفی لعن یزید.

لذا تجد أنّ سائر أتباع هذا المنهج - مع صرف النظر عن الغزالی الذی عبّر عن هیامه بیزید فی إطار جواز أو عدم جواز لعنه - قد تعذّر علیهم نقد بنی أُمیّة؛ نظراً لانتمائهم إلی الشام أو الأندلس، وعنهم أخذوا دینهم وعقائدهم، وجلبوا الإسلام إلی الشام والأندلس، وساهموا فی ازدهارهما سیاسیاً واقتصادیاً.

وإذا تجاوزنا ذلک فإنّه من الصعب علی هؤلاء الأتباع أن ینصفوا فی دراساتهم عن الحکم الأُموی، الذی شغل حیزاً من تاریخ الشام والأندلس، وساهم - حسب زعمهم - علی نشر الإسلام والحضارة الإسلامیة، ویتّهموه بقتل الحسین علیه السلام سبط رسول ربّ العالمین صلی الله علیه و آله .

ص: 292

ص: 293

ص: 294

الفصل السابع: سیرة مخالفی لعن یزید

سیرة مخالفی لعن یزید

سبق أن ذکرنا فی الفصول السابقة من هذا الکتاب أنّ الذین أنکروا علی الإمام الحسین علیه السلام ثورته الخالدة، وانتقدوها من جوانب مختلفة، کانوا - لأسباب عدیدة - مصابین بفهم خاطئ للقضیة، وقد تقدّم أنّ أکثر علماء أهل السنة لم یشکّکوا فی جواز اللعن بل أثبتوه بأدلّة مختلفة، ووقفوا بوجه الفئة المعارضة وردّوا علیهم من جهات عدیدة، وفی نهایة المطاف بیّنا أسباب انحرافهم.

ومع کلّ هذه الأدلّة نری أنّ البحث الأوسع والأعمق حول مخالفی لعن یزید یقتضی دراسة مفصّلة ومستقلّة لسیرتهم، وأسباب انحرافهم، فقد آثرنا أن نترجم هنا لأقطاب هذه الفئة، الذین لم یتعاطوا بشکل سلبی مع واقعة کربلاء وحسب، وإنّما قاموا بتبریر أعمال یزید، والدفاع عنه وعن طغمته بحجج وأدلّة مختلفة، منهم:

الإمام محمد الغزالی(450 - 505ه-)

ولادته ونشأته

ولد أبو حامد محمد بن محمد الغزالی سنة (450 ه-)، فی أُسرة خراسانیة فقیرة، بمدینة طابران (من توابع طوس)، وبدأ دراسته حینما کانت بلاد خراسان وضواحیها تضطرم فیها نار الحروب القبلیة، وکان ملوک السلاجقة یعملون علی نشر المذهب الشافعی، وتعزیز الأفکار والمعتقدات الأشعریة عن طریق مدارسهم التی أسّسوها فی

ص: 295

هرات وبلخ وأصفهان وبغداد، واشتهرت باسم (المدارس النظامیة)، وذلک فی أیّام العالم الشهیر والمتعصّب للمذهب الشافعی نظام الملک الطوسی، الذی کان وزیراً للسلاجقة، وکان لهذه المدارس وأساتذتها التی یدیرها مالیاً الوزیر المذکور، هدفان أساسیان:

1- ترویج المذهب الشافعی وتعزیز مبتنیات الأشعریة، ومعاداة المذاهب الأُخری لا سیما مذاهب المعتزلة والشیعة.

2- تضعیف الجامع الأزهر بمصر والحطّ من شأنه، والطعن علی الفاطمیین الذین کانوا ینشطون فی تثبیت دعائم التشیع.

یضاف إلی ذلک أنّ قوّة الإسماعیلیین والاشتباکات الکثیرة التی کانت تجری بینهم وبین أنصار السلاجقة ونظام الملک قد رسمت لنا صورة واضحة لأجواء المدارس النظامیة وأساتذتها، وکشفت عن طبیعة الظروف التربویة والفکریة التی نشأ فیها الغزالی.

ففی مثل تلک الظروف بدأ الغزالی دراساته عند علماء بلاده، وعلی الخصوص عند علی بن أحمد بن محمد الرزاکانیز، ثمّ ذهب إلی جرجان فتتلمذ علی ید أبی نصر الإسماعیلی، وبعد ذلک قصد نیسابور ولازم دروس أبی المعالی الجوینی المعروف بإمام الحرمین الذی عیّنه نظام الملک مدیراً ومدرّساً فی نیسابور.

ومکث هناک سنوات طویلة واظب خلالها علی دراسة العلوم الإسلامیة المختلفة، وقد لفت الغزالی انتباه أساتذته - کإمام الحرمین - بمثابرته ومواهبه ونشاطاته العلمیة، حیث کان ینوه باسمه ویمدحه فی جلسات دروسه، وهکذا اتّسعت شهرته إلی أن وصلت سمعته إلی رجال الحکم ومن جملتهم نظام الملک، الذی حضر الغزالی مجلسه فی نیسابور بعد أن أنهی دراسته، وحصل منه علی هدایا ثمینة.

ص: 296

تدریسه فی نظامیة بغداد

ثمّة عوامل دفعت بنظام الملک إلی تعیین الغزالی مدرِّساً فی المدرسة النظامیة ببغداد، ومن ثمّ ازدیاد شهرته وارتباطه بالسلطة یوماً بعد آخر، هذه العوامل هی: الانسجام الفکری بین الرجلین، ونزعة نظام الملک العقائدیة ضدّ الشیعة، وکفاءة الغزالی ومؤهّلاته العلمیة.

مدح الخلیفة العباسی

أثار اغتیال نظام الملک فی سنة (485ه-) عواطف الغزالی وزاده حقداً علی الإسماعیلیین، فألّف کتاباً باسم (المستظهریة) فی مدح المستظهر بالله العباسی (487 - 512ه-)، ویُسمّی أیضاً ب-(فضائح الباطنیة وفضائل المستظهریة)، وهذا الکتاب یعتبر نموذجاً لتعصّبه الشدید ومیوله السیاسیة.

وفی سنة (486ه-) استقبل أبابکر ابن العربی أبرز علماء النهج الأُموی فی الأندلس، وقاضی مدینة أشبیلیة ومؤلّف (کتاب العواصم من القواصم)، وبناءً علی طلبه بتوحید البلاد تحت سیطرة یوسف بن تاشفین الحاکم الأُموی للأندلس والمغرب، أصدر الغزالی فتوی بقتل کلّ الأُمراء المعارضین له.

وفی سنة (487ه-) حضر الغزالی مراسم بیعة للمستظهر بالله العباسی، ثمّ سافر إلی سوریة فی سنة (489ه-)، ومنها إلی مکة وبیت المقدس ومصر، ثمّ ذهب إلی نیسابور سنة (499ه-) لیدرس فی نظامیتها، وکانت هذه المدرسة برئاسة الوزیر فخر الملک علی بن نظام الملک، ثمّ استقال بعد اغتیال فخر الملک، وعاد إلی طوس، فأقام بها إلی أن توفّی سنة (505ه-).

وللغزالی مؤلّفات کثیرة شملت مختلف العلوم والفنون لا سیما الإسلامیة، فی التفسیر والعرفان والفقه والأُصول والفلسفة، ویغلب علی کتاباته التعصّب فی عرض

ص: 297

آرائه ودفاعه عن المذهب الشافعی (فی الفروع) والمذهب الأشعری (فی الأُصول)، وفی ردوده علی المخالفین.

أبو بکر بن العربی (468 - 543ه-)

ولادته ونشأته

القاضی أبوبکر محمد بن عبدالله بن محمد المعافری الأشبیلی، المالکی، المعروف بابن العربی، وُلد بإشبیلیة سنة (468ه-) فی أُسرة متدیّنة تتعاطی السیاسة، کان أبوه من الفقهاء ومن رؤساء مدینة أشبیلیة، ومن تلامذة عبد الله بن منظور وأبی محمد بن خزرج وآخرین فی مدینة قرطبة، وکان له مقامٌ اجتماعیٌ رفیعٌ بین مختلف الحکام، خصوصاً بین حکام أشبیلیة.

وبعد أن انقضی حکم سلسلة العبادیة التی کانت تحکم أشبیلیة، قصد والد أبی بکر (عبدالله) الحج، وکان أبوبکر ابنه معه فی السفر وهو فی السابعة عشرة من عمره، وفی هذه الرحلة أخذ أبوبکر العلم عن أبی الحسین الخلقی، وأبی نصر المقدسی، وأبی سعید الزنجانی، وأبی حامد الغزالی، وأبی الحسن المبارک المعروف بابن الطیوری، وأبی الحسن علی بن أیوب النیزاری، وأبی علی حسین بن علی الطبری، وآخرین بمصر وبغداد ودمشق ومکة والمدینة وغیرها.

ثمّ ذهب إلی الإسکندریة، ودرس هناک لمدّة قصیرة، لکنّه رجع إلی الأندلس بعد وفاة أبیه فی سنة (493ه-)، وسرعان ما اشتهر هناک بسبب اطّلاعه الواسع علی مختلف العلوم ومنزلته الاجتماعیة الرفیعة، حتی عُیّن قاضیاً لمدینة أشبیلیة.

مناصبه ومکانته

اشتهر ابن العربی علمیاً وقضائیاً وسیاسیاً، حتی أصبح القاضی الشهیر فی أشبیلیة، وبعدما أصبح یوسف بن تاشفین حاکماً مقتدراً فی المغرب الإسلامی، قام بتصفیة

ص: 298

منافسیه الذین کانوا یحکمون مدناً ومناطق شتّی من المغرب والأندلس وباقی نواحی المسلمین المجاورة، فذهب القاضی ابن العربی إلی بغداد، لأجل تسهیل أمر تاشفین وبسط سلطنته المطلقة، وأتی بحکم رسمی من خلفاء بغداد وعلمائها یتضمّن حکماً شرعیاً بقتل کلّ منافس ومعارض لتاشفین.

وفی بغداد زار أبا حامد الغزالی الذی کان أشهر علماء البلاط العباسی ومدرّسی المدرسة النظامیة، فأخذ فتوی شرعیة منه تُبیح قتل المعارضین لتاشفین، وبعد رجوعه من بغداد أعطی لفتوی الغزالی صبغة دینیة وشرعیة، وهکذا صار له مقام شامخ فی المغرب الإسلامی والأندلس((1)).

نشاطاته الأُخری

بالإضافة إلی قضائه وتدریسه ومساندته لأُمراء الأندلس، کان لابن العربی مؤلّفات کثیرة علی المذهب الشافعی ومسلک الأشعری، فی مختلف حقول العلوم الإسلامیة، القرآنیة والحدیثیة والتاریخیة والفقهیة والأُصولیة والرجالیة وغیر ذلک من العلوم، ومن السمات البارزة لآثاره التعصّب المذهبی والمیل المفرط نحو السیاسة، وفی سنة (543ه-) مات ابن العربی فی منطقة مغیلة قرب مدینة فاس.

من آثاره کتاب (العواصم من القواصم)، الذی کتب فیه عن مواقف الصحابة بعد الرسول صلی الله علیه و آله ، وهو فی کلّ هذه المواقف التی جرت فی عصر الصحابة والتابعین یصطفّ إلی جانب الحکومة الأُمویة والخلفاء الأُمویین ویدافع عن مواقفهم، فیستهین بثورة الإمام الحسین علیه السلام بسبب تعصّبه الشدید للأُمویین، وعلی الخصوص یزید وأعوانه، ولا یلتزم بأیّة أُصول علمیّة للتحقیق ولا شروطه اللازمة، فیبرّر جنایات یزید ویسمّیه

ص: 299


1- ([1]) محمد عنان، تاریخ الدولة الإسلامیة فی الأندلس: ج2، ص30 - 36.

مجتهداً - بعد أن یُقسّم المجتهد إلی مصیب ومخطئ - ویری أنّ یزید خلیفة عادل، وأنّ مواقفه کانت علی حقّ، ویعتبر مخالفته حراماً وغیر مشروع، ولو کان من قِبَل الإمام الحسین علیه السلام .

عبد الرحمن بن خلدون (730 - 808ه-)

ولادته ونشأته

أبو زید عبد الرحمن بن محمد، ابن خلدون الحضرمی الأشبیلی التونسی، وُلد فی تونس سنة (732ه-)، فی أُسرة مارست - منذ القدم - الشؤون السیاسیة والثقافیة، وکانوا علی المذهب الشافعی، درس ابن خلدون المقدّمات والأدب والفقه والحدیث والأُصول عند أبیه، ثمّ عند غیره من علماء تونس، وکانت له رغبة فی حفظ الشعر ونظمه.

فی الفترة التی سبقت ولادة ابن خلدون بقرنٍ واحد، حکم المغرب باقتدار سلسلة سلاطین الموحدین، إلّا أنّه فی فترة ولادة ابن خلدون وتعلّمه قد انقسمت الدولة إلی ثلاث دویلات: المغرب الأقصی ومرکزه فاس، والمغرب الأوسط ومرکزه تلمسان، والمغرب الأدنی(أی تونس) وکان بنو حفص یحکمونه، وکان التنافس بین أُمراء هذه الدویلات علی أشدّه، والحروب بینهم حامیة الوطیس.

خدماته الحکومیة والسیاسیة

بعد إتمام دراساته تعلّق ابن خلدون - کباقی أفراد أُسرته - بخدمة الحاکم فی سنة (753ه-)، وسرعان ما أصبح کاتباً لابن إسحاق الحفصی أمیر تونس، ولمّا صار ابن تافراغین هو الحاکم وتغلّب علیه أمیر القسطنطینیة فرّ ابن خلدون إلی مدینة (آبه)،

ص: 300

وظلّ متخفّیاً بین المدن والقری لمدة (26سنة) ولم یستطع العودة لتونس((1))، وفی النهایة صار کاتباً لأبی عنان المرینی سلطان فاس، ثمّ تولّی مناصب مختلفة، من أهمّها: کاتب سرّ السلاطین فی غرناطة، وظلّ یتنقل فی بلاد المغرب والأندلس ومصر.

وکان ابن خلدون یستغلّ الفرص لارتقاء مستواه العلمی، من خلال إقامة علاقات واسعة بالعلماء والاستفادة من مکتبات المدارس فی فاس، اشتغل فی الأُمور السیاسیة وانغمس فیها حتی أساء السلطان الظن به، فحبسه لمدّة سنتین متهماً إیّاه بعلاقته مع الحاکم السابق لفاس، لکن بعد موت السلطان وتخلُّص ابن خلدون من السجن، استمرّت نار الحروب مضطرمة فکان یشترک فی النزاعات بشکلٍ جاد ومؤثّر، وهکذا انشغل بالأُمور السیاسیة أکثر من الأُمور العلمیة والثقافیة.

نشاطاته وآثاره العلمیة

ترک ابن خلدون نشاطاته السیاسیة فی الخامسة والأربعین من عمره، وبدأ بالکتابة والتألیف فی قلعة ابن سلامة أو قلعة تاوغزوت فی ولایة وهران فی الجزائر، فألّف کتابه التاریخی (العبر)، ومقدّمته التی اشتهرت ب- (مقدّمة ابن خلدون)، بعد عدّة سنوات من الابتعاد عن السیاسة عاد إلی تونس، وبعد مرور أربع سنوات غادرها متوجّهاً إلی مصر عام (784ه-)، فولّاه سلطانها برقوق قضاء المالکیة، ودرّس بالجامع الأزهر.

خلّف ابن خلدون آثاراً کثیرة فی حقول مختلفة من العلوم الإسلامیة، شملت المنطق والفلسفة والکلام والتاریخ وعلم العمران والرجال والمباحث السیاسیة، ومن أهمّها مقدّمته حول فهم حقیقة التاریخ وأسباب وعوامل ازدهار سقوط الدُّول والحکومات، والتی تعتبر أوّل کتاب فی علم الاجتماع، فصارت سبب شهرته فی شرق

ص: 301


1- ([1]) اُنظر: ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، مقدّمة ابن خلدون: ص39.

العالم وغربه، ومن تألیفاته المهمة الأخری کتاب (العبر) والذی کان فی تاریخ مغرب العالم الإسلامی وبالخصوص تلک الفترات التی عاصرها ابن خلدون ممّا رفع من القیمة العلمیة لهذا الکتاب بالإضافة إلی بعض الموضوعات والحوادث النادرة والفریدة.

وإلیک بعض آثاره الأُخری

1 - کتاب لباب المحصّل (تلخیص لکتاب المحصّل للرازی).

2 - شرح قصیدة البردة المشهورة (لمحمد بن سعید البوصیری المتوفّی 694 ه-).

3 - تلخیص لتألیفات ابن رشد.

4 - رسالة فی المنطق، کتبها للسلطان محمد الخامس.

5 - کتاب فی الریاضیات.

6 - شرح علی کتاب ابن الخطیب (المتوفّی 776ه-) فی علم الأُصول.

7 - شفاء السائل لتهذیب المسائل (فی العرفان).

ذهب ابن خلدون فی سنة (784ه-) إلی مصر، ونتیجةً لقدراته العلمیة وإمکانیاته الثقافیة والإداریة حظی بمکانة عند ملک مصر (برقوق)، وقد دعاه علماء تلک الدیار للتدریس فی الأزهر، ونال منصب قاضی القضاة، ولکنّه أُسر فی زمان فرج ابن الملک برقوق من قبل تیمور لنک، وظلّ سجیناً لمدة (35) یوماً، وکما ذکرنا آنفاً أنّ المقدّمة هی التی حقّقت لابن خلدون شهرته الواسعة، وقد تحدّث فی هذه المقدّمة عن فلسفة التاریخ وقوانین العمران، والمؤسّسات السیاسیة والإداریة التی تنشأ مع کلّ حضارة، وهو أوّل من تطرّق إلی علم الاجتماع، حیث انتقد فیه المؤرِّخین القدماء لعدم اطّلاعهم علی أسباب قیام وسقوط الحضارات والدول، ویؤکّد فی کتابه علی أنّ العصبیة هی السبب الرئیس لسقوط الحضارات والحکومات، ویرید بهذه الفکرة أن یطرح لأوّل

ص: 302

مرّة فی العالم الإسلامی أنّ تاریخ الاجتماعات البشریة یتبع قوانین ثابتة وواضحة، وبإمکاننا أن نتعرّف ونفهم هذه القوانین بسهولة، وبهذا الفکر نصل إلی محوریة هذا القانون.

نقد بعض آثار ابن خلدون

لا تخلو أفکار وآراء ابن خلدون من الضعف والإشکال، کما أنّ بعض عقائده لیست بمنأی عن الأخطاء والتناقضات، وها نحن نذکر هنا بعض الإشکالات:

1- إنّه لم یهتمّ فی کتابه التاریخ بالأُصول والقوانین المکتشفة الواردة فی مقدّمته، ولم یستطِع أن یطبّق نظریته فی التاریخ ویعمل بها، ولذا جاء منهجه فی الکتابة امتداداً لمنهج القدماء، وربّما بدا ضعفه فی الکتاب أکثر منهم.

2- خلافاً لرأی البعض، ما کان لابن خلدون آراء علمیة مبتکرة فی تألیفاته وحتی فی مقدّمته، وکان متأثّراً بالمؤرِّخین المسلمین من قبله کالمسعودی وغیره.

3- نری فی کتابه التاریخ إشکالات کثیرة وتناقضات بعیدة عن الموضوعیة، بل طغی علی أُسلوبه التعصّب، والدفاع عن السلطة الحاکمة، والبحث فی إشکالاته من جوانب مختلفة یحتاج إلی مجال أوسع.

مات ابن خلدون فی سنة (808ه-)، لکن بقیت هناک ردود فعل کثیرة علی آرائه وأفکاره من جانب العلماء المسلمین وغیرهم من معاصریه إلی یومنا هذا.

تقی الدین أحمد بن تیمیة (661 - 728ه-)

ولادته ونشأته

هو أحمد بن عبدالحلیم بن عبد السلام الحرانی، الدمشقی، تقی الدین ابن تیمیة.

وُلد سنة (661ه-) ببلدة حران فی سوریة، عاش أبوه حیاة بسیطة من دون شهرة، لما کان ابن تیمیة یدرس فی دمشق کان غرب العالم الإسلامی، وعلی الخصوص الشام

ص: 303

وأطرافه، یشهد عدم استقرار بسبب غزو التتار للبلاد الإسلامیة، وکانت بغداد - مرکز الخلافة الإسلامیة - قد سقطت بأیدی المغول، وانتهت بذلک حکومة العباسیین بعد نحو خمسین سنة من حکم المغول علی العالم الإسلامی، والتی امتدّت أکثر من خمسة قرون، والمسلمون الذین کانوا یألفون ثقافة السلطة والعلاقات العمیقة بین السیاسة والثقافة، فجأةً خرجوا من هذه الأجواء، وابتعدوا عن الخلافة الإسلامیة وعلاقتها معهم، فاعتزلوا عن الحکام المحلیین فی العالم الإسلامی.

رحلته الدراسیة وآراؤه المبتدعة

أُرغم ابن تیمیة علی السفر مع أُسرته من حران إلی دمشق، وهو فی نحو السابعة عشرة من عمره وأقام فیها سنة (678ه-)، فتلقّی أنواعاً من العلوم الإسلامیة عند أساتذته واستفاد منهم کثیراً، حتی صار من کبار علماء دمشق، وبدأ بتبلیغ الدین وتعلیم أحکامه بین الناس.

یقول ابن کثیر - مؤلِّف کتاب البدایة والنهایة -: إنّ لابن تیمیة مواهب کثیرة، وله ذاکرة قویة، ونشأ فی أُسرة فاضلة ومتدیّنة، بید أنّه بدأ یطرح أفکاراً وآراءً غریبة، حیث جعلنا نشکّ بصحّة عقله وسلامته، کما یقول ابن بطوطة.

وکان علماء السنة یردّون علی آرائه ونظریاته فی الفقه والأُصول والتفسیر والکلام والحدیث، هذا بالإضافة إلی آرائه عن الحوادث فی صدر الإسلام، وحتی علماء مذهبه الحنبلی قد ردّوا علیه، وأکّدوا علی انحرافه.

وفی آراء ابن تیمیة انحرافات وبِدَع کثیرة، شملت أبواباً مختلفة من الدین، حیث حرّف تاریخ الإسلام، وقام بتبریر جنایات یزید بن معاویة، إلی غیر ذلک من انحرافاته، وفیها علی سبیل المثال ما ورد فی أحد المصادر من أنّ فقهاء الحنابلة ثاروا ضدّ أفکاره، وردّوا علی آرائه، وذلک بعد نشرها فی (الرسالة الحمویة) أی (الفتوی

ص: 304

الحمویة) التی یذکر فیها أنّ لله (عزّ وجلّ) صفات حقیقیة، کالید والقدم والساق والوجه، ویعتقد بأنّ الله تعالی جالس علی عرشه حیث له جسمٌ مادیٌّ ومحسوس!

وفی ردّه علی منتقدیه الذین قالوا: إنّ إشغال المکان وإمکان تقسیم الذات أمرٌ لازم لإثبات ادّعائک، قال: إنّی لا أعتقد بأنّ إشغال المکان والانقسام من خصائص الجسم! وقد سمع منه ابن بطوطة بعقیدته أثناء رحلته إلی دمشق فکتب:

«کان بدمشق من کبار الفقهاء الحنابلة تقی الدین ابن تیمیة، کبیر الشام، یتکلّم فی الفنون.. [قال:] وکنت إذ ذاک بدمشق، فحضرته یوم الجمعة وهو یعِظ الناس علی منبر الجامع ویذکرهم، فکان من جملة کلامه أن قال: إنّ الله ینزل إلی سماء الدنیا کنزولی هذا. ونزل درجة من المنبر، فعارضه فقیهٌ مالکیّ یعرف بابن الزهراء، وأنکر ما تکلّم به، فقامت العامّة إلی هذا الفقیه وضربوه بالأیدی والنعال ضرباً کثیراً حتی سقطت عمامته..»((1)).

ازدادت انحرافات أفکار ابن تیمیة فی شتّی الحقول، خاصّةً انحرافاته العقائدیة، وأخذ ینشر آراءه الشاذّة تحت ستار الدفاع عن الإسلام والتوحید، وقد قامت حکومة دمشق ضدّه وأمرت بإلقاء القبض علیه، ومنعته من الخطابة، حفظاً للدین من البدع، وصیانةً لعقائد المسلمین من الاختلاف، ونشرت إعلان منعه.

وکان ابن تیمیة فی هذه المدّة قد بسط لسان قلمه، ومدّ بجهله عنان کَلِمه، وتحدّث فی مسائل الذات والصفات، ونصّ فی کلامه الفاسد علی أُمورٍ منکرات، وتکلّم فیما سکت عنه الصحابة والتابعون، وفاه بما اجتنبه الأئمّة الأعلام الصالحون، وأتی فی ذلک بما أنکره أئمّة الإسلام، وانعقد علی خلافه إجماع العلماء والحکام، وشهر من فتاویه فی البلاد ما استخفّ به عقول العوام، وخالف فی ذلک فقهاء عصره وأعلام علماء شامه ومصره، وبث به رسائله إلی کلّ مکان، وسمّی فتاویه بأسماء ما أنزل الله بها

ص: 305


1- ([1]) ابن بطوطة، محمد بن عبد الله، رحلة ابن بطوطة: ص95.

من سلطان.

ولمّا اتصل بنا ذلک وما سلک به هو ومریدوه من هذه المسالک الخبیثة، وأظهروه من هذه الأحوال وأشاعوه، وعلمنا أنّه استخفّ قومه فأطاعوه، حتی قیل: إّنهم صرّحوا فی حقّ الله سبحانه بالحرف، والصوت، والتشبیه، والتجسیم، فقمنا فی نصرة الله تعالی مشفقین من هذا النبأ العظیم، وأنکرنا هذه البدعة، وعزّ علینا أن تشیع عمّن تضمّنه ممالکه هذه السمعة((1)).

قام ابن تیمیة بنشر أفکاره بجدٍّ ومثابرة، فأصبح فی فترةٍ قصیرة من مشاهیر العلماء فی دمشق وکذلک فی العالم العربی، وله بحوثٌ کثیرة فی أبواب مختلفة من العلوم الإسلامیة، کالمنطق والفلسفة والتاریخ والحدیث والفقه والتفسیر والکلام.

آراء علماء السنة حول ابن تیمیة

یعدّ شمس الدین الذهبی أحد زعماء الحنابلة، وقد اشتهر بمعرفته بعلوم الحدیث والرجال والدرایة، له رسالة یُخاطب بها ابن تیمیة: «أما آن لک أن تَرعَوی؟ أما حانَ لک أن تتوب وتُنیب؟ أمّا أنت فی عشر السبعین وقد قرب الرحیل؟ بلی والله، ما أذکر أنّک تذکر الموت، بل تزدری بمَن یذکر الموتَ، فما أظنّک تُقبل علی قولی، ولا تُصغی إلی وعظی، بل لک همَّة کبیرة فی نقض هذه الورقة بمجلدات... فإذا کان هذا حالُک عندی وأنا الشفوق المحبُّ الوادُّ، فکیفَ حالُک عند أعدائک، وأعداؤَک والله فیهم صلحاء وعقلاء وفضلاء، کما أنّ أولیاءَک فیهم فَجَرَةٌ کذَبةٌ جَهَلَة»((2)).

کان تقی الدین السبکی معاصراً لابن تیمیة، وهو یری أنّ أفکار وآراء ابن تیمیة

ص: 306


1- ([1]) الحصنی، أبو بکر بن محمد، دفع الشبه عن الرسول والرسالة: ص85.
2- ([2]) الکوثری، محمد زاهد، تکملة السیف الصقیل: ص190 - 192.

منحرفة ومضلّة، وما اکتفی بذلک، بل ردّ علیه فی کتابین أحدهما: (شفاء السقام فی زیارة خیر الأنام)، والثانی: (الدرة المضیئة فی الردّ علی ابن تیمیة)، ویصرّح فیه بأنّ أفکار ابن تیمیة منحرفة ومبتدعة، ویرید بها أن یزعزع الأُصول العقائدیة فی الإسلام: «أمّا بعدُ، فإنّه لما أحدث ابن تیمیة ما أحدث فی أُصول العقائد، ونقص من دعائم الإسلام الأرکان والمعاقد، بعد أن کان مستتراً بتبعیة الکتاب والسنّة، مظهراً أنّه داعٍ إلی الحق، هادٍ إلی الجنة، فخرج عن الاتّباع إلی الابتداع، وشذّ عن جماعة المسلمین بمخالفة الإجماع، وقال بما یقتضی الجسمیة والترکیب فی الذات المقدّسة. [إلی أن قال]: فأثبت الصفة القدیمة حادثة، والمخلوق الحادث قدیماً، ولم یجمع أحد هذین القولین فی ملّة من الملل، ولا نحلة من النحل، فلم یدخل فی فرقة من الفرق الثلاث والسبعین التی افترقت علیها الأُمّة((1)).

وکذلک ابن حجر الهیتمی یری أنّ ابن تیمیة ضالّ وأفکاره مضلّة، وقال فی کتابه (الجوهر المنظّم فی زیارة القبر الشریف النبوی المکرّم): «مَن هو ابن تیمیة حتی یُنظر إلیه أو یُعوّل فی شیء من أُمور الدین علیه؟! وهل هو إلّا کما قال جماعة من الأئمّة الذین تعقّبوا کلماته الفاسدة، وحججه الکاسدة..: عبدٌ أضلّه الله تعالی وأغواه، وألبسه رداء الخزی وأرداه، وبوّأه من قوة الافتراء والکذب مَن أعقبه الهوان، وأوجب له الحرمان»((2)).

إنّ الردود والانتقادات المذکورة تدلّ بوضوح علی أنّ علماء السنة لیس فقط یعتقدون بأنّ عقائده وأفکاره مبتدعة وزائفة، بل یؤکّدون علی أنّ من الممکن إرشاد الناس وهدایة الذین انحرفوا بسبب عقائده، ولکن نفس ابن تیمیة غیر قابلة للإصلاح والهدایة؛ وذلک لأنّه یتعمد الانحراف.

سافر ابن تیمیة بعدما أُطلق سراحه إلی سوریة ولبنان ومصر وفلسطین، ونشر

ص: 307


1- ([1]) السبکی، علی بن عبد الکافی، الدرّة المضیئة فی الردّ علی ابن تیمیة: ص 5.
2- ([2]) الکتبی، محمد بن شاکر، الفتاوی الحدیثة: ص86.

أفکاره وبدعه فی مختلف أبواب العلوم الإسلامیة یوماً بعد یوم، حتی ثار العلماء وخشوا من آرائه الزائفة ونظریاته الملتویة بالشرک والإلحاد، فقاموا بردّ فعل شدید ضدّه، وبدأوا بنقد أفکاره، وکتبوا رسالاتٍ وکتباً متعدّدة فی الردّ علی آثاره، ومن جملتهم:

أبرز مخالفی ابن تیمیة ومنتقدیه

1- الشیخ صفی الدین الهندی الأرموی (644 - 715ه-).

2- الشیخ شهاب الدین بن جهبل الکلابی الحلبی (المتوفّی733ه-).

3- قاضی القضاة کمال الدین بن الزملکانی (667 - 727ه-).

4- شمس الدین محمد بن أحمد الذهبی (673 - 748ه-).

5- صدر الدین ابن المرحل(665 - 716ه-).

6- علی بن عبد الکافی السبکی (683 - 756ه-).

7- محمد بن شاکر الکتبی (المتوفّی 764ه-).

8- عفیف الدین عبدالله بن أسعد الیافعی (698 - 768ه-).

9- أبو بکر الحصنی الدمشقی (المتوفّی729ه-).

10- شهاب الدین أحمد بن علی بن حجر العسقلانی (773 - 852ه-).

11- جمال الدین یوسف بن تغری بردی الأتابکی (813 - 874 ه-).

12- شهاب الدین بن حجر الهیتمی (909 - 973ه-).

13- ملا علی القاری الخفی (المتوفّی1014ه-).

14- أبو العباس أحمد بن محمد المکناسی، المعروف بابن القاضی (960 - 1025ه-).

15- یوسف بن إسماعیل بن یوسف النبهانی (1265 - 1350ه-).

16- الشیخ محمد زاهد الکوثری المصری (1296 - 1371ه-).

17- الشیخ سلامة القضاعی العزامی (المتوفی1379ه-).

ص: 308

18- الشیخ محمد أبو زهرة (1316 - 1397ه-).

لقد أدّت کلّ المواجهات والردود من العلماء والفقهاء من مختلف المذاهب إلی انزواء أفکاره، حیث یُقال: «إنّ أثر المکافحات ضدّ ابن تیمیة لم تبق أثراً من أفکاره إلّا القلیل فی کتاب تلمیذه ابن قیم الجوزی (691 - 751ه-)، وکذلک ابن القیم کان یعارض أستاذه فی کتاب الروح».

إنّ کلّ هذه الکتابات والردود العلمیة والواقعیة لعلماء الإسلام، التی أوضحت جوانب مختلفة من بدع وأخطاء ابن تیمیة، بدأت بتأثیرها الإیجابی علی الناس الذین کانوا فی البدایة ینتمون إلی آراء ابن تیمیة وأفکاره، لکن بعد مضی خمسة قرون علی موته ظهر محمد بن عبد الوهاب فی نجد، واستغلّ الظروف الراهنة فی المنطقة، والثقافة البدویة والأوضاع السیاسیة، فقام بتبنّی الشعارات والنظریات التی أدّت إلی إحیاء أفکار ابن تیمیة.

أبو الفداء ابن کثیر الدمشقی

اشارة

وُلد أبوالفداء فی الشام ونشأ فیها، ودرس هناک حتی صار مؤرِّخاً وأخباریاً، وهو من المؤرِّخین والعلماء الذین تطرّقوا إلی ثورة کربلاء وخلافة یزید، فی کتابه (البدایة والنهایة)، هذا الکتاب الذی حاز علی عنایة لدی الموالین لیزید فی العصر الحاضر، حیث یوصون بمطالعته بهدف الاطّلاع - بزعمهم - علی الحقائق التاریخیة المتعلِّقة بوقائع کربلاء وحوادثها ودور یزید فی ارتکاب الجرائم.

اعتماده علی مصادر غیر موثوقة

ذهب الذین برّروا جنایات یزید، لا سیما حادثة کربلاء، إلی أنّه کان عادلاً وله قدرات علمیة وعملیة تؤهّله للخلافة، استناداً إلی أحادیث ضعیفة من کتاب البدایة والنهایة کما تقدّم فی الفصل الأوّل والخامس.

ص: 309

إنّ استعراض سیرة وأفکار ابن کثیر بحاجة إلی مجال أوسع، لکن ممّا ینبغی ذکره أنّه لم یکن محایداً فی نقل الروایات التاریخیة، بل کان متحیّزاً ویأخذ بجانب مذهبه وفکره عند سرده الحوادث التاریخیة والفرق والقضایا الفکریة، الأمر الذی یقلّل من قیمة الروایات والأخبار المذکورة فی کتابه (البدایة والنهایة) وباقی کتبه التاریخیة والرجالیة، ومن ثمّ یسقط اعتبارها العلمی والتاریخی.

کتمان الحقائق التاریخیة

الدراسة المفصّلة عن الآراء غیر العلمیة والحزبیة لابن کثیر، وکذلک فهم آثاره المختلفة یحتاج إلی بحث مستقل.

وبالرغم من أنّ المحقّقین - الذین یریدون کشف الحقیقة وینظرون إلی القضیة بنظرة محایدة بعیدة عن التعصّب - یعرفون ابن کثیر وآراءه المنحرفة، لکن سنشیر إلی وجهات نظره المفعمة بالروح الحزبیة والمجانبة لحقائق التاریخ:

أخرج ابن کثیر عن الطبری حدیثاً عن النبی صلی الله علیه و آله یتعلق بمنزلة الإمام علی علیه السلام ، جاء فیه: «فأیّکم یؤازرنی علی هذا الأمر علی أن یکون أخی وکذا وکذا»((1))؛ وبدل أن یکتب الحدیث بنصّه: «خلیفتی ووصیی» قال: «کذا وکذا»؛ تهرّباً من ذکر الحقیقة.

وفی ذیل الحدیث عندما یقول رسول الله صلی الله علیه و آله : «هذا أخی ووصیی وخلیفتی» یورده بهذه الصورة: «إنّ هذا أخی وکذا وکذا».

ولم یکتفِ بهذا، بل هناک موارد أُخری فی کتابه (البدایة والنهایة) حرّف فیها الأخبار الصحیحة ولخّصها متعمّداً، وعلی سبیل المثال نقله لواقعة حجة الوداع، حیث یذکر الحوادث کلّها من الصحاح الست، إلّا أنّه لا ینقل حدیث الثقلین بصورة کاملة،

ص: 310


1- ([1]) اُنظر: ابن کثیر، إسماعیل بن عمر، البدایة والنهایة: ج3، ص53.

فیذکره إلی کتاب الله، وکأنّ قوله: «أهل بیتی وعترتی» غیر موجود فی الحدیث.

الحزبیة والتحیّز إلی یزید

یُظهر ابن کثیر - فی بعض الموارد - تحیّزه الصریح إلی حزبٍ خاص، فیُدخل الأُمور الحزبیة فی روایة التاریخ، ومن جملتها أنّه یروی الأخبار التی تتحدّث عن التعامل السیء لیزید مع الإمام الحسین علیه السلام وأهل بیته، وینقلها عن لسان کبار المؤرِّخین، کالطبری، والخطیب البغدادی، لکنّه فی النهایة، یشکّ فی صحّة تلک الروایات، ویقول: إنّها غیر ثابتة، دون أن یأتی بأیّ دلیل علمی.

وفی هذا الإطار یعرض رأیه غیر المُنصف حول شخصیة ابن تیمیة وموته من جانبٍ، ورحلة العلّامة الحلی وبیان شخصیته من جانبٍٍ آخر((1)).

ص: 311


1- ([1]) اُنظر: ابن کثیر، إسماعیل بن عمر، البدایة والنهایة: ج14، ص142 - 144.

ص: 312

ص: 313

ص: 314

الفصل الثامن: العزاء علی الإمام الحسین علیه السلام بین أهل السنة

العزاء علی الإمام الحسین علیه السلام بین أهل السنة

اشارة

أشرنا فیما سبق أنّ التفجّع والتأثّر لواقعة عاشوراء وقتل الإمام الحسین علیه السلام وأصحابه لا یختص بالشیعة فقط، کما أنّه لا یختصّ بمذهب خاص من السنة، بل یعمّ الجمیع، ومن هنا فإنّ معظم أهل السنة یتألمّون ویحزنون لواقعة کربلاء وشهادة الإمام الحسین علیه السلام .

وهنا نقطة جدیرة بالذکر، وهی کما أنّ واقعة عاشوراء کانت ثورة سیاسیة وعقائدیة ضدّ حکم بنی أُمیّة، فإنّ إحیاء ذکر الثورة وشعائرها یعتبر أیضاً ظاهرة سیاسیة تثیر قلقاً کبیراً لدی بنی أُمیّة؛ لأنّها تشکّل تهدیداً سیاسیاً لهم، فسعوا إلی إطفاء هذه الشعلة الإلهیة فی قلوب المسلمین، لکن مع ذلک فهناک موارد کثیرة تدلّ علی أنّ إقامة الشعائر الدینیة والسیاسیة قد طوت مراحل مختلفة.

العزاء علی الحسین علیه السلام یعود إلی عصر النبی صلی الله علیه و آله

قبل أن نطرح موضوع خلفیات العزاء علی الإمام الحسین علیه السلام ، نودّ أن نطرح أمراً مهماً، وهو أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله یمثّل أُسوة حسنة للمسلمین، وکلامه فصل الخطاب وحجّة تامّة، وهذا الأمر یعتقد به أهل السنة أیضاً.

وتذکر المصادر السنّیة أنّ النبی هو أوّل مَن بکی علی سبطه الإمام الحسین علیه السلام بعد أن أُخبر بقتله.

روی أنس بن مالک أنّ ملک المطر استأذن ربّه أن یأتی النبی صلی الله علیه و آله فأذن له، فقال لأُمّ

ص: 315

سلمة: املکی علینا الباب ولا یدخل علینا أحد. قالت: وجاء الحسین لیدخل فمنعته، فوثب فدخل، فجعل یقعد علی ظهر النبی صلی الله علیه و آله وعلی منکبه وعاتقه، فقال الملک للنبی صلی الله علیه و آله : أتحبّه؟ قال: نعم، فقال: أما أنّ أُمّتک ستقتله، وإن شئت أریتک المکان الذی یُقتل فیه، فضرب بیده فجاء بطینةٍ حمراء فأخذتها أُمّ سلمة وجعلتها فی ثیابها. وبلغنا أنّها تربة کربلاء((1)).

وعن ابن سعد، وهو من کبار مؤرِّخی السنة: لما مرّ علی بکربلاء فی مسیره إلی صفین وحاذی نینوی - قریة علی الفرات - وقف ونادی أصحابه: ما یُقال لهذه الأرض؟ فقالوا: کربلاء. فبکی حتی بلّ الأرض من دموعه، ثمّ قال: دخلت علی رسول الله صلی الله علیه و آله وهو یبکی فقلت له: ما یُبکیک؟ فقال: کان عندی جبرئیل فأخبرنی أنّ ولدی الحسین یُقتل بشطّ الفرات بموضعٍ یُقال له: کربلاء، ثمّ قبض جبرئیل قبضةً من تراب فشمّنی إیّاها، فلم أملک عینیّ أن فاضتا((2)).

وروی عبدالله بن وهب بن زمعة عن أٌمّ سلمة، قالت: إنّ رسول الله اضطجع ذات یوم فاستیقظ، فرجع فرقد ثمّ استیقظ وهو خاثر دون ما رأیت منه، ثمّ رجع فاستیقظ وفی یده تربةٌ حمراء فقلت: ما هذه یا رسول الله؟ فقال: أخبرنی جبرئیل أنّ ابنی هذا (یعنی الحسین علیه السلام ) یُقتل بأرض العراق، فقلت لجبرئیل: أرِنی من تربة الأرض التی یُقتل بها، قال: فهذه تربتها((3)).

ص: 316


1- ([1]) اُنظر: سبط ابن الجوزی، یوسف بن فرغلی، تذکرة الخواص: ص250. ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج3، ص242. الطبری، أحمد بن عبد الله، ذخائر العقبی: ص146. ابن عساکر، علی بن الحسن، تاریخ مدینة دمشق: ج14، ص190.
2- ([2]) اُنظر: سبط ابن الجوزی، یوسف بن فرغلی، تذکرة الخواص: ص250. ابن حجر العسقلانی، أحمد بن علی، تهذیب التهذیب: ج2، ص300. الهیثمی، علی بن أبی بکر، مجمع الزوائد: ج9، ص187.
3- ([3]) الحاکم النیسابوری، محمد بن عبد الله، المستدرک علی الصحیحین: ج4، ص440. الطبری، أحمد بن عبد الله، ذخائر العقبی: ص147.

وعن سلمی قالت: دخلت علی أُمّ سلمة وهی تبکی فقلت: ما یبکیک؟ قالت: رأیت رسول الله’ فی المنام وعلی رأسه ولحیته التراب، فقلت: ما لک یا رسول الله؟ فقال: شهدت قتل الحسین آنفاً ((1)).

وینقل مضمون هذه الروایة کثیرٌ من علماء السنة، منهم الحاکم النیسابوری، وابن الأثیر، والبیهقی، وابن حجر العسقلانی، وآخرون.

وقال ابن عباس: رأیت النبی صلی الله علیه و آله فیما یری النائم بنصف النهار وهو قائم أشعث أغبر، بیده قارورة فیها دم، فقلت: بأبی أنت وأُمّی یا رسول الله ما هذا؟ قال: هذا دم الحسین، فلم أزل ألتقطه منذ الیوم. فوجد قد قُتل الحسین فی ذلک الیوم((2)).

کلّ هذه الروایات والأخبار تبیّن لنا اعتقاد أهل السنة بأنّ رسول الله صلی الله علیه و آله کان یعلم بقتل الحسین علیه السلام ، وکان هو وبعض أزواجه وأیضاً الإمام علی علیه السلام یبکون علی الحسین علیه السلام ، وکان رسول الله صلی الله علیه و آله یذکر مظلومیة سبطه الحسین علیه السلام ، وهو الذی جعل العزاء علیه سنةً تُتّبع وعملاً یُتقرّب به إلی الله (عزّ وجلّ).

وجاء فی بعض روایات أهل السنة أنّه لمّا أتی جبرئیل إلی النبی صلی الله علیه و آله ، جاء بتربة من کربلاء وأخبره بقتل سبطه الحسین علیه السلام ، فبکی رسول الله’ وقبّل التربة((3)).

أوّل المآتم علی الحسین علیه السلام بعد واقعة عاشوراء

بدأ عزاء الفریقین علی الحسین علیه السلام أبان عاشوراء، حیث أورد الطبری فی تاریخه: فلمّا رأت زینب‘ مشهد جسد أخیها المضرّج بالدماء والمقطوع الرأس نادت:

ص: 317


1- ([1]) الترمذی، محمد بن عیسی، سنن الترمذی: ج5، ص323، ح3860.
2- ([2]) الحاکم النیسابوری، محمد بن عبد الله، المستدرک علی الصحیحین: ج4، ص49. الخطیب البغدادی، أحمد بن علی، تاریخ بغداد: ج1، ص152. الطبرانی، سلیمان بن أحمد، المعجم الکبیر: ج3، ص110.
3- ([3]) اُنظر: الموصلی، عمر بن شجاع الدین، النعیم المقیم لعترة النباء العظیم: ص103.

«یا محمّداه یا محمّداه، صلّت علیک ملائکة السّماء، هذا حسینٌ قتیلک بالعراء، مضرّج بالدماء، محزوز الرأس من القفا، یا محمّداه، بناتک أسری وأولادک مقتولون فی العراء». ثمّ یقول: «فأبکت والله کلّ عدوٍ وصدیق بکلامها»((1)).

کما أورد أنّ العزاء أُقیم فی دار أحد خصوم الحسین علیه السلام ، ویقول: «لمّا أخذ خولیّ الرأس الشریف من عمر بن سعد قصد الکوفة؛ لکی یحظی بجائزة عبید الله بن زیاد، ولکن رأی دار الإمارة مغلقاً، فذهب بالرأس الشریف إلی البیت ووضعه فی صندوقٍ، فعلمت بذلک امرأته الحضرمیة، وبدأت بالبکاء والعویل علی مظلومیة الحسین وترکت بیته»((2)).

انتقل العزاء علی الحسین علیه السلام وباقی شهداء کربلاء إلی الشام بعد انتقال السبایا إلیه، فتبدّل مجلس یزید من سرور ونشوة إلی حزنٍ وعزاء:

«لمّا جاؤوا بسبایا آل محمد أدخلوهن إلی قصر یزید، وکان رأس الحسین معلّقاً علی رمحٍ، فأخذ یزید الرأس الشریف ووضعه فی طست، ثمّ تناول الرأس بیده وأخذ ینکته بقضیبٍ فی یده وینشد:

لَعبت هاشم

بالملک

فلا خبرٌ جاء

ولا وحیٌ نزل

إلی آخر الأبیات التی تدلّ علی کفره بالإسلام، ورضاه وفرحه بقتل آل الرسول انتقاماً للمقتولین ببدر وأُحد من المشرکین، فرآه رجلٌ من أصحاب النبی صلی الله علیه و آله فقال: ویحک، ارفع قضیبک عن فم الحسین، ارفع قضیبک، لقد والله رأیت رسول الله صلی الله علیه و آله یقبّل هاتین الشفتین، أما إنّک یا یزید تجیء یوم القیامة وابن زیاد شفیعک، ویجیء هذا ومحمد شفیعه»((3)).

ص: 318


1- ([1]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص456.
2- ([2]) اُنظر: المصدر السابق.
3- ([3]) اُنظر: ابن عبد ربه الأندلسی، أحمد بن محمد، العقد الفرید: ج4، ص358. ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم، الکامل فی التاریخ: ج4، ص85.

عزاء آل یزید علی الحسین علیه السلام

أصرّ یزید علی سلوکه الجاهلی من ممارسة الظلم، والتعامل بقسوة وعنف مع السبایا، إلّا أنّ النشاطات التبلیغیة للإمام السجاد علیه السلام وزینب‘ أتت بمردود عکسی علی یزید وجعلته یتظاهر بالندم، وأذن للناس أن یُبرزوا حزنهم علی الحسین علیه السلام ومنهم أهل بیته: «ثم أدخل نساء الحسین علی یزید فصاح نساء آل یزید وبنات معاویة وأهله ووَلْوَلَن»((1)).

نماذج العزاء فی القرون الأُولی للإسلام

اشارة

کان العزاء علی الإمام الحسین علیه السلام فی القرون الأُولی یُقام بصورة جماعیة إلی جوار مرقده الشریف، فکانوا یذکرون مصائبه الجلیلة فی إطار الشعر ولسان الحال، وکانوا یقیمون المآتم فی دورهم أیضاً، ویتواسون ویتعزّون بذکر المصیبة((2)).

الشعراء ومراثی عاشوراء

فضلاً عن إقامة العزاء إلی جوار قبر الحسین علیه السلام ومشهد رأسه الشریف، فإنّ إقامة المآتم علی آل رسول الله’ قد استمرّت بصورة إنشاد المراثی من قِبَل الشعراء، المشهورین منهم والمغمورین، وذلک لأنّهم کانوا یمرّون بظروف قاهرة فی ظل الحکم الأُموی المناوئ للعلویین، والساعی إلی محو آثار النهضة الحسینیة((3))، فمن الأشعار التی أنشدها شاعر سنی بُعَید واقعة عاشوراء:

ص: 319


1- ([1]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص456.
2- ([2]) اُنظر: ابن قولویه، جعفر بن محمد، کامل الزیارات: ص93، وص340.
3- ([3]) وفی هذا الصدد قال أبو الفرج الأصفهانی: «وکانت الشعراء لا تقدم علی رثاء الحسین مخافةً من بنی أُمیّة وخشیةً منهم». أبو الفرج الأصفهانی، علی بن الحسین، مقاتل الطالبیین: ص81. (المترجم).

أیّها

القاتلون جهلاً حسیناً

أبشروا

بالعذاب والتنکیلِ

کلّ أهل

السماء یدعو علیکم

م-ن ن-بی

ومرسل وقبیلٍ

قد لُعنتم علی

لسان ابن داود

وموسی وحامل

الإنجیلِ((1)).

ویعتبر خالد بن غفران من کبار التابعین السنة، وقد تأثر کثیراً لمرأی قافلة السبایا والأُساری، ومشهد الرؤوس المقطوعة تدخل أرض الشام، فأخفی شخصه عن أصحابه، فطلبوه شهراً حتی وجدوه فسألوه عن عزلته، فقال: أما ترون ما نزل بنا؟! ثمّ أنشد، یقول:

جاؤوا برأسک

یابن بنت محمد

متزمّلاً

بدمائه تزمیلا

وکأنّما بک

یابن بنت محمد

قتلوا جهاراً

عامدین رسولا

قتلوک عطشاناً

ولم یترقبوا

فی قتلک التنزیل

والتأویلا

ویکبِّرون بأن قُتلت وإنّما

قتلوا بک التکبیر والتهلیلا((2)).

ولمّا رأی سلیمان بن قتة، الذی تشیّع علی أثر واقعة کربلاء، وقصد أرض الطف ثلاث مرات، لمّا رأی مشهد قتل الحسین علیه السلام وأنصاره وتضحیاتهم الجسام فی سبیل الحق، أنشد یقول:

مررت علی

أبیات آل محمد

فلم أرَها

أمثالها یوم حلّتِ

ألم ترَ أنّ الشمس أضحت مریضةً

لفقد حسینٍ

والبلاد اقشعرّتِ

وکانوا رجاءً

ثمّ صاروا رزیةً

لقد عظمت تلک

الرزایا وجلّتِ

ص: 320


1- ([1]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص467.
2- ([2]) ابن عساکر، علی بن الحسن، تاریخ مدینة دمشق: ج16، ص180 - 181.

أتسألنا قیسٌ

فنعطی فقیرها

وتقتلنا قیس إذا

النعل زلّتِ

وعند غنی قطرة

من دمائنا

سنطلبها یوماً

بها حیث حلّتِ

فلا یبعد الله

الدیار وأهلها

وإن أصبحت

منهم برغمی تخلّتِ

فإن قتیل الطف

من آل هاشمٍ

أذلّ رقاب

المسلمین فذلّتِ((1)).

و لمّا تظاهر یزید بالندم علی عمله الشنیع، اضطرّ إلی إرجاع السبایا الذین أقاموا مجالس عزاء فی أرض الشام وفی مسیرهم إلی کربلاء، وکذلک عند عودتهم إلی المدینة.

انتشار مجالس العزاء علی مظلومیة الحسین علیه السلام

إنّ عزاء آل یزید علی شهداء کربلاء یدلّ علی حزنهم بشهادة الحسین علیه السلام وأصحابه، ولم یزل اهتمام الناس بمظلومیة أهل بیت النبی’ یزداد، حتی انتشرت مجالس العزاء، وکثر الندب فیها.

وقد کتب شرف الدین الموصلی یقول: «انتشرت هذه المصیبة بالبلاد، فکثر فیها النوح.. ورُوی أنّ الحسن البصری لمّا بلغه قتل الحسین بکی حتی اختلج صدغاه ثمّ قال: وا ذُلّاه لأُمّةٍ قتل ابنُ دعیها ابنَ نبیها»((2))، ثمّ قام بسرد أحداث کربلاء وختمها بالقول: «فلأبکینّ علی الحسین بعولة وعلی الحسن»((3)).

خراسان والعزاء علی الحسین وأهل بیته علیهم السلام

ما کان العزاء علی الحسین علیه السلام یُقام فی بلاد العراق والشام فقط، بل کان یعمّ

ص: 321


1- ([1]) ابو العباس المبرد، محمد بن یزید، الکامل فی اللغة والأدب: ص21 - 22.
2- ([2]) شرف الدین الموصلی، عمر بن شجاع، مناقب آل محمد: ص104 - 105. سبط ابن الجوزی، یوسف بن فرغلی، تذکرة الخواص: ص267.
3- ([3]) المصدر السابق.

خراسان أیضاً، التی کانت تقیم العزاء علی فاجعة کربلاء، ومع وجود کلّ وسائل الضغط والکبت الأُموی والعباسی، فإنّ ذلک لم یؤدِ إلی محو ذکر تلک الرزیة العظیمة، بل جعل الناس یدرکون مصائب آل رسول الله’ فی کنه وجودهم، وخصوصاً تلک التی بدأت بواقعة عاشوراء، واستمرّت حتی شهادة زید بن علی بن الحسین علیه السلام فی سنة (122ه-) وابنه یحیی ببلاد خراسان عام (126ه-).

یقول الیعقوبی فی تاریخه:

«لما قُتل زید، وکان من أمره ما کان، تحرّکت الشیعة بخراسان، وظهر أمرهم، وکثر مَن یأتیهم ویمیل معهم، وجعلوا یذکرون للناس أفعال بنی أُمیّة، وما نالوا من آل رسول الله، ولم یبقَ بلدٌ إلّا فشا فیه هذا الخبر»((1)).

فمن الطبیعی أنّه لم یکن للعزاء فی تلک البرهة أُسلوب أو آداب خاصّة، بل کان یقتصر فقط علی بیان مظلومیتهم ومصیبتهم الجلیلة.

فهذا الظلم الفظیع بحقّ أهل البیت علیهم السلام أثار عواطف الناس وأحاسیسهم، فتبلور فی حبّ أهل البیت علیهم السلام وموالاتهم، والبراءة من خصومهم، فضلاً عن أنّ انغماس المسلمین وذوبانهم فی حبّ الحسین علیه السلام ، أدّی إلی تحرّکهم ضدّ الأُمویین، حیث لما أخرجوا یحیی بن زید من السجن، وفتحوا الغُلّ منه کان الناس یتنافسون فی شراء ذلک الغلّ.

وبعد شهادته، ولمّا انحسر ظلم الحکم الأُموی، أُقیمت المآتم فی مختلف أنحاء خراسان، وصاروا یسمّون کلّ ولد یُولد لهم (یحیی) أو (زید)؛ إحیاء وتجدیداً لحزنهم علی فقد زید بن علی وابنه یحیی((2)).

ص: 322


1- ([1]) الیعقوبی، أحمد بن أبی یعقوب، تاریخ الیعقوبی: ج2، ص326.
2- ([2]) اُنظر: المسعودی، علی بن الحسین، مروج الذهب ومعادن الجوهر: ج3، ص213. أبو الفرج الأصفهانی، علی بن الحسین، مقاتل الطالبیین: ص 108.

وبعد شهادتهما، قام الخراسانیون بارتداء الثیاب السوداء، وجعلوها سُنةً وشعاراً لهم، «وکلّ الخراسانیین کانوا یلبسون الثیاب السوداء حزناً لقتل زید بن علی وابنه یحیی، فیبکون ویتلهّفون ویذکرون مصیبتهما»، ولا شکّ فی أنّهم کانوا فی هذا العزاء یذکرون واقعة کربلاء ومصیبة الإمام الحسین علیه السلام ، لمنزلته الرفیعة کما بیّنا فی هذا البحث، وذلک:

أوّلاً: إنّ مصائب آل رسول الله’ وخصوصاً ظلم بنی أُمیّة فی حقّهم کانت تُذکر وتُبیّن للناس، فکان المسلمون یبکون ویحزنون، ومن الواضح أنّ واقعة کربلاء وقَتْل الحسین علیه السلام وأصحابه تُعتبر من أعظم الجرائم فی حقّ أهل البیت علیهم السلام .

ثانیاً: إنّ زید بن علی وابنه یحیی قاما للطلب بثأر الحسین علیه السلام وإحیاء نهجه، فکان لهما أثرٌ کبیر فی إیقاظ الناس وتوعیتهم، مع بیان مظلومیة الحسین علیه السلام وجنایات بنی أُمیّة فی واقعة الطف؛ ممّا جعل الناس یعظّمون الحسین علیه السلام ویبکون لمصیبته الجلیلة.

کلّ هذا أدّی إلی نشوب ثورات دامیة ضد الأُمویین، أسفرت عن إسقاط نظام حکمهم فی سنة (132ه-) وإن لم تعِد الحقّ لأهل البیت علیهم السلام ، وبعد الحکم الأُموی جاء الدور للحکم العباسی الذی خلق أجواءً خانقة ضد النهضة الحسینیة؛ وذلک لأنّه کان یعتقد أنّ إحیاء ذکر الحسین علیه السلام وثورة کربلاء یعدّ تهدیداً أمنیاً خطیراً لحکمهم، ورغم وجود هذه الأجواء، فإنّ هناک من کبار أهل السنة ممَّن لم ینسَ واقعة کربلاء، بل ذکروا مصائب الإمام الحسین علیه السلام بصور مختلفة، کالشعر وغیره، واستمرّ حزنهم وندبهم بهذه الشاکلة.

ومثال ذلک الإمام محمد بن إدریس الشافعی (150 - 204ه-)، الذی رثی الإمام الحسین علیه السلام وذکر مصیبته فی القصیدة التالیة:

تأوّه قلبی

والفؤاد کئیبُ

وأرّق نومی

فالسهاد غریبُ

وممّا نفی

نومی وشیّب لُم-ّتی

تصاریف أیّام

لهنّ خطوبُ

ص: 323

فمن مُبلغ عنی

الحسین رسالةً

وإن کرهتها

أنفسٌ وقلوبُ

ذبیحٌ بلا جرم

کأنّ قمیصه

صبیغ بماء الأُرجوان

خضیبُ

فللسیف إعوالٌ

وللرمح رنةٌ

وللخیل من بعد

الصهیل نحیبُ

تزلزلت

الدنیا لآل محمد

وکادت لهم

صُمّ الجبال تذوبُ

وغارت نجومٌ

واقشعرّت کواکب

کواکب

وهُتّک أستارٌ

وشُقّ جیوبُ

یُصلّی علی

المبعوث من آل هاشمٍ

ویُغزی بنوه

أن ذا لعجیبُ

لئن کان ذنبی

حبُّ آل محمد

فذلک ذنب لست

عنه أتوبُ

همُ شفعائی

یوم حشری وموقفی

وموقفی

إذا ما بدت

للناظرین خطوبُ((1)).

وقد أنشد قصیدة أُخری فی رثاء الحسین علیه السلام ، لکن ما بقی لنا شیء منها إلّا هذا البیت:

أَبْکی

الحُسَیْنَ وَأَرْثی مِنْهُ جَحْجاحا

کواکب

مِن أَهْلِ

بَیْتِ رَسولِ اللهِ مِصباحا((2)).

مؤرِّخو السنة وواقعة عاشوراء

تفاقم اضطهاد وکبت الحکم العباسی ضد الشعائر الدینیة منذ القرن الثالث للهجرة، وخصوصاً ضدّ إحیاء ذکر الحسین علیه السلام وإقامة مجالس العزاء علیه، فقام المتوکّل العباسی بتخریب مرقد الحسین علیه السلام وحرثه، وأجری الماء علیه، ثمّ قام بتعذیب زوّار الحسین علیه السلام بأسوء أنواع التعذیب، وقد نقل مؤرِّخو السنّة واقعة کربلاء بصورة شفویة، ثمّ انتقلت الروایة من صدور الناس إلی الکتب حتی خلدت إلی یومنا هذا.

ص: 324


1- ([1]) الخوارزمی، محمد بن أحمد، مقتل الحسین: ص126. القندوزی، سلیمان بن إبراهیم، ینابیع المودة: ص356.
2- ([2]) اُنظر: الرازی القزوینی، عبدالجلیل، النقض: ج3، ص370.

ویعتبر الطبری من کبار علماء السنة الذین دوّنوا أحداث کربلاء، حیث رواها عن لوط بن یحیی المُکنّی بأبی مخنف (المتوفی157ه-)، فکان إلی حدٍّ ما صادقاً فی سرد وقائع یوم عاشوراء وما بعده، وما اکتفی الطبری بنقل واقعة کربلاء عن لسان أبی محنف فحسب، بل تطرّق فیه إلی سرد الأحداث التی جرت بعد عاشوراء، ولا سیما أسر أهل البیت علیهم السلام وأحداث الکوفة، وإقامة العزاء فی مجلس عبید الله بن زیاد، ثمّ انتقل إلی ذکر أخبار مسیرهم إلی الشام، وذکر ظلم بنی أُمیّة واستمرار جنایاتهم، وانتهاک حرمة رأس الحسین علیه السلام علی ید یزید بن معاویة، واشمئزاز بعض أصحابه وبکائهم علی مظلومیة آل رسول الله’.

ومن هنا یمکن أن نطلق اصطلاح (المقتل) علی مجموعة الروایات التی أوردها الطبری((1))، ولقد تابعه کثیرٌ من المؤرِّخین السنة الذین أشرنا إلیهم فی الفصول السابقة.

فکان القصّاصون یأتون أحیاناً إلی مرقد الإمام الحسین علیه السلام ویذکرون مصائبه الجلیلة بلسان القصة((2)).

إقامة العزاء فی العصر البویهی (334 - 447 ه-)

بدأت فی القرن الرابع للهجرة مرحلة جدیدة من خلافة العباسیین، إذ انتقلت السلطة فی ذلک العصر إلی البویهیین، بعد أن کانت فی ید الأتراک المتعصِّبین سنوات مدیدة، وقد حدث هذا بعد وقوع بغداد تحت تصرف أحمد بن بویه المعروف ب-(معز الدولة)، فصار قسم کبیر من السلطة السیاسیة والتنفیذیة للعالم الإسلامی تحت قبضة البویهیین، الذین قاموا بإصلاحات عدیدة، ومن جملتها رفع الموانع عن أداء مجالس

ص: 325


1- ([1]) اُنظر: الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج5، ص465.
2- ([2]) اُنظر: الجاحظ، عمرو بن بحر، البیان والتبیین: ج1، ص179- 196.

العزاء علی رزایا سیّد الشهداء وأهل بیته الطاهرین.

فبدأت تتّسع إثر هذه الحرکة المعارضة للسیاسة المتشدّدة، مجالس العزاء والمآتم یوماً بعد یوم اتساعاً مذهلاً فی المجالات المختلفة أدبیاً وشعبیاً، ففضلاً عن الشعراء العرب انضمّ الشعراء الفرس فی هذا العصر لطوائف المعزّین للإمام الحسین علیه السلام وأصحابه، وهکذا استطاع العجم أن یقیموا مجالس العزاء فی شتّی البلاد، کالعراق وخراسان وفارس وماوراء النهر وشبه القارّة.

بغداد أیّام الحکم البویهی والتی تُعتبر مرکزاً، کانت تشهد تعایشاً بین السنة والشیعة وغیرهم من المذاهب، وبعد العقد الخامس من القرن الرابع أخذت الأعمال والنشاطات فی یوم عاشوراء تتوقّف فی المدینة، ویُغلق کلّ ما فیها من الأسواق وغیرها، یرتدی البعض الثیاب السوداء أحیاناً ویجتمعون ویخرجون إلی الشوارع، وکان أهل السنة یرافقون الشیعة فیبکون ویلطمون علی صدورهم((1))، وإن نقل حدوث بعض الخلافات بین حینٍ وآخر بین الفریقین وتنتهی فی بعض الأحیان إلی اشتباکات، ولنا هنا بعض الوقفات:

الأُولی: کانت تلک النزاعات تُثار من قبل بعض أهل السنة بالخصوص بعض الحنابلة مع بعض الشیعة، ولیس کلّ أهل السنة أو کلّ الحنابلة.

الثانیة: إنّ الاشتباکات کانت تقع فی بعض السنوات لا دائماً، إذ یقوم بعض المتعصّبین من أهل السنة أحیاناً بتمثیل أحداث مقتل مصعب بن الزبیر، وإحیاء ذکر عائشة برکوب امرأة علی جمل، وتمثیل خروجها فی معرکة الجمل.

الثالثة: إنّ معظم المسلمین فی بلدان مختلفة کمصر کانوا یجتمعون حول قبر أُمّ

ص: 326


1- ([1]) اُنظر: ابن کثیر، إسماعیل بن عمر، البدایة والنهایة: ج11، ص279، 286، 296، 302، 359، 381.

کلثوم ونفیسة، ویقیمون المجالس والمآتم، وینفقون أموالاً طائلة فی سبیل إطعام المشارکین فی المجالس، وکما یقول المقریزی:

تعمّقت هذه السُنّة بین المسلمین تعمّقاً جذریاً، فاستمرّت حتی بعد سقوط الفاطمیین، وما استطاع الأیوبیون أن یمنعوا الناس من هذه السُنّة رغم حقدهم علی الشیعة والفاطمیین((1)).

الرابعة: لمّا تولّی السلاجقة المتعصِّبون الحکم بعد سقوط البویهیین عام (442 ه-)، کان المسلمون من الفریقین یقصدون کربلاء والنجف من شرق الدولة العباسیة لزیارة أمیر المؤمنین والحسین الشهید سلام الله علیها ، وتجدید بیعتهم للإمام الحسین علیه السلام ونهضته العظیمة((2))، وقد نقل عبد الجلیل الرازی القزوینی فی کتابه (النقض) عزاء أهل السنة فی أصفهان، فیقول:

کان أبو منصور ماشادة الأصفهانی - من علماء المذهب الشافعی الذی کان قدوة للناس فی أصفهان - کان یقیم العزاء یوم عاشوراء من کلّ سنة، فیدیم فیه البکاء والنیاح وکلّ مَن جاء إلی أصفهان علم بذلک وشاهده عیاناً((3)).

وفی عام (458ه-) تعطّلت أسواق بغداد یوم عاشوراء عزاء علی الإمام الحسین علیه السلام ، فکان الرجال یبکون ویضجّون، والنساء یخمشنَ وجوههنَ، وینحبنَ بالبکاء والعویل، وقد رضی الخلیفة بإقامة مجالس العزاء لکن دون التعریض ببعض الصحابة((4)).

ص: 327


1- ([1]) اُنظر: تقی الدین المقریزی، أحمد بن علی، الوعظ والاعتبار فی ذکر الخطط والآثار: ص314 - 318.
2- ([2]) اُنظر: ابن کثیر، إسماعیل بن عمر، البدایة والنهایة: ج12، ص77.
3- ([3]) اُنظر: الرازی القزوینی، عبدالجلیل، النقض: ص371.
4- ([4]) المصدر السابق: ص114.

إقامة العزاء فی العصر الغزنوی (351 - 598ه-)

حکمت السلسلة الغزنویة مدّة طویلة من الزمن علی شرق العالم الإسلامی، وکانوا أعداء للشیعة، فقد شنّ السلطان محمود الغزنوی بالإضافة إلی حملاته العدیدة علی الهند هجوماً کاسحاً علی مناطق شیعیة ومنها الغور، وکرجستان، والری، فکان یغزو المدن، ویحارب عقائد أهلها، ویمنعهم من ممارسة طقوسهم الدینیة، خاصّةً إقامة العزاء علی أهل البیت علیهم السلام ؛ بحجّة أنّها بدعة فی الدین، لکن بعد موته عام (421ه-) انحسرت القیود المفروضة علی الناس، فأقاموا المآتم فی غزنین نفسها.

إقامة العزاء فی نظامیة بغداد

اشارة

علی الرغم من تعصّب السلاجقة (427 - 558ه-)، وإصرار وزرائهم المتشدّدین علی لعن الروافض علی المنابر، لا سیما الإسماعیلیین منهم، بیدَ أنّ السنّة وغیر السیاسیین منهم کانوا یکرمون أهل بیت النبی صلی الله علیه و آله ، وهناک شواهد تاریخیة تدلّ علی اهتمامهم بالعزاء علی مصائب سبط النبی صلی الله علیه و آله ، الذی اجتاح أروقة المدرسة النظامیة آنذاک.

وقد کان أکثر علماء أهل السنّة فی بغداد - خلال القرن السادس الهجری - یتحدّثون عن مظلومیّة الإمام الحسین علیه السلام ، ولا یکترثون برواسب النزعات العصبیّة التی خلّفها زمن بنی أُمیّة، إلّا فی موارد نادرة بطبیعة الحال، فقد کتب شخص یُدعی عبدالمغیث بن زُهَیر الحنبلی کتاباً فی فضائل یزید، فردّ علیه ابن الجوزی العالم السنّی المشهور فی کتابه الذی کتبه فی الردّ علی فتوی الغزالی سمّاه (الردّ علی المتعصّب العنید المانع من لعن یزید).

وقد ذکر ابن الأثیر فی کتابه (الکامل) هذا الشخص بقوله: صنّف کتاباً فی فضائل یزید بن معاویة أتی فیه بالعجائب؛ أمّا الذهَبی فقد ذکره فی (سِیَر أعلام الن-ّ-ُبَلاء) وقال

ص: 328

عنه ویاللعجب -: وکان ثقةً سنّیّاً.

بَیْد أنّ هذه النزعات کانت أشبه بالزَّبَد الذی یَذهب جُفاءً ولا یمکث فی الأرض، فلا تستحقّ أن نولیها اهتماماً.

ویبدو أنّ مراسم العزاء یوم عاشوراء کانت تُقام فی بغداد من قِبل الشیعة وأهل السنّة، ولم یَحدُث أن أُلغِیَت فی فترة من فترات التاریخ.

وکان محمد بن عبد الله البلخی (المتوفی596ه-) وهو من أشهر علماء السنّة فی ذلک العصر، حیث طاف بلداناً کثیرة، کالعراق وخراسان ومصر وخوارزم ومکة وغیرها، وکانت له مکانة رفیعة فی العلوم الإسلامیة والخطابة والزهد، کان یخطب ویعِظ فی نظامیة بغداد، فیحضر مجلس وعظه العلماء وطلاب المدرسة، وفی نهایة مجلسه کان یرثی الإمام الحسین علیه السلام ویذکر مصیبته ومصائب آله وأصحابه، فکان الحضّار یبکون ویتفجّعون، وکان یتطرّق إلی ذکر مصائب أهل البیت علیهم السلام ویقول: «رأی یوماً علی علیه السلام زوجته فاطمة (س) تبکی، فقال لها: ما یُبکیک یا فاطمة؟ أغُصب مالکِ؟ أهُضم حقکِ؟ أفعلوا کذا وکذا بک؟ وهکذا کان یذکر ما فعله الشیخان بحقّ بنت رسول الله صلی الله علیه و آله ، فکان الناس یتأثّرون بکلامه ویبکون»((1)).

ولم یقتصر الأمر علیه، بل هناک کثیر أمثاله: منهم علی بن الحسین الغزنوی المسمّی ب-الواعظ، وکان من کبار الخطباء فی بغداد، وله مقام شامخ بین السنّة، وکانت الحکومة السلجوقیة ووزراؤها تحترمه احتراماً خاصّاً بسبب من-زلته الرفیعة، فکان الواعظ یرثی أهل البیت علیهم السلام بقصائده، فیحضر مجلسه السلاطین وأُمراء السلاجقة، وقد وصفته مصادر أهل السنة بأنّه ملیح الإیراد ولطیف الحرکات؛ وذلک بسبب قوّة خطابته

ص: 329


1- ([1]) نقلاً عن: الطباطبائی، عبد العزیز، معجم أعلام الشیعة: ص296.

وبیانه((1)).

ومن الوعّاظ الذین کان لهم مجالسهم فی مراسم العزاء: علیّ بن حسین الغَزنوی الحنفی، وکان واعظاً مقتدراً، وکان السلاطین یحضرون فی مجلسه، ومنهم: الأمیر عبادی، وکان یقرأ المقتل یوم عاشوراء، ومنهم ابن الجوزی المذکور الذی نُقل عنه بعض خُطبه وکلماته التی قالها علی منبر خطابته.

نقل القزوینی: «کان الخواجه علی الغزنوی الحنفی [من کبار وعّاظ بغداد، وکان السلطان مسعود السلجوقی یحضر فی مجلسه] کان یُقیم العزاء فی بغداد مدینة السّلام ومقرّ دار الخلافة، حتّی أنّه بالَغَ یوم عاشوراء فی لعن آل أبی سفیان، فنهض رجل وسأله: ما تقول فی معاویة؟ فصاح بصوتٍ رفیع: أیّها المسلمون، إنّ هذا یسأل علیّاً [وعلیّ هو اسم الواعظ] ویقول: ما تقول فی معاویة؟ أفلا تعلم ماذا یقول علیٌّ فی معاویة؟!

وسُئل أمیر عبّادی [قطب الدین مظفّر، أحد وعّاظ بغداد المعروفین] وکان علّامة عصره وأمیراً فی الکلام والخطابة - وکان فی مجلس المقتفی لأمر الله - فی الیوم التاسع من المحرّم: ما تقول فی معاویة؟ فلم یُجِب، حتّی کرّر السائل سؤاله ثلاث مرّات، ثمّ قال: أیّها الرجل، سألتَ سؤالاً مُبهماً، ولستُ أعلم أیّ معاویة تقصد، أمعاویة الذی کسر أبوه ثنایا المصطفی صلی الله علیه و آله ، ولفظت أُمّه کبد حمزة، وسلّ سیفه فی وجه علیّ بضعاً وعشرین مرّة، وحزّ ابنُه رأسَ الحسین؟! فیا أیّها المسلمون، ما تقولون فی معاویة هذا؟ فارتفعت أصوات الناس بلعن معاویة فی حضور الخلیفة، وکان منهم الحنفی والشافعی وأتباع المذاهب السنّیّة الأُخری»((2)).

ص: 330


1- ([1]) ابن حجر العسقلانی، أحمد بن علی، لسان المیزان: ج5، ص217. الذهبی، محمد بن أحمد، میزان الاعتدال: ج6، ص215.
2- ([2]) الرازی القزوینی، عبد الجلیل، النقض: ص373 - 370.

وهذا هو قاضی السلامیّة (المتوفی 610ه-) أحد طلاب المدرسة النظامیة، کان قد رثی الإمام الحسین علیه السلام فی قصیدة، قال فیها:

یا شهر

عاشوراء أذکرتنی

مصارع الأشراف

من هاشمِ

أبکی ولا لوم

علی مَن بکی

وإنّما اللّوم

علی اللائ-م

ما من بکی فیک

أشدّ البکا

وناحَ، بالعاصی

ولا الآثم

رزیّةً ما

قام فی مثلها

نائحةٌ تندب

فی مأتمِ

آل رسول الله

خیر الوری

صفوة الله

علی العالمِ

مثل مصابیح

الدُجی عُفّرت

وجوههم فی

الرَّهَج القاتمِ

رؤوسهم تُحمل

فوق القنا

مظلومة شُلّت

ید الظالمِ

ساروا بها یا

قبحها فعلة

مثل مسیر

الظافر الغانمِ

کأنّما

الزهراء لیست لهم

أُمّاً ولا

الجدّ أبا القاسمِ

قل لابن

مرجانة لا بدّ أن

تعضّ کفّ

الخاسر النادمِ

محمد خیر

بنی آدم

خصمک یا شرّ

بنی آدمِ

یطلب منک

الثأر فی موقفٍ

ما فی-ه

للظالم من عاصمِ

وفیه یقتصّ من

المعتدی

بالنار لا

بالسیف والصارمِ((1)).

ورغم انحسار إقامة المآتم فی العصر السلجوقی، إلّا أنّه ظهر فی أوساط الفرس السنة شعراء کبار نلمس فی أشعارهم آیات الحزن والأسی علی شهداء آل الله، وإلیک أسماؤهم مع نماذج من أشعارهم باللغة الفارسیة:

ص: 331


1- (1) شبر، جواد، أدب الطف: ج4، ص23.
- عمعق البخارائی (المتوفی 543ه-)

سواد ساحت فرغانه بهشت آیین

چ-و ک-ربلا همه آثار مشهد شهداست ((1)).

- الخاقانی الشیروانی (المتوفی 595ه-) والذی اشتهر بحسّان العجم

زصد هزاران خلف یک خلف بود چو حسین

ک-ه نف-س أحمد بختی رام او زیبد((2)).

- ظهیر الدین الفاریابی (المتوفی 598ه-)

ای ظهیر از گور نقبی می زنی تا کربلا

می روم گریان به پابوس حسین تشنه لب

بس که چشم غم سرشکم با بلا آمیخته است

خاک من دارد شرف مانند خاک کربلا((3)).

- شمس الدین الطبسی (المتوفی 642ه-)

بلای دور فلک چون غم از دو دیده ریخت

مگر حدیث شهیدان کربلا برداشت

ز اشک مردم چشمم به رسم عاشورا

زخاک پای خداوند توتیا برداشت((4)).

ص: 332


1- ([1])البخارائی، عمعق، دیوان عمعق البخارائی (تصحیح سعید النفیسی): ص81.
2- ([2]) الخاقانی الشیروانی، دیوان الخاقانی الشیروانی (تصحیح ضیاء الدین سجادی): ص2.
3- ([3]) الفاریابی، ظهیر الدین، دیوان ظهیر الدین الفاریابی (تصحیح هاشم رضا): ص188، وص280.
4- ([4]) الطبسی، شمس الدین، دیوان شمس الدین الطبسی (تصحیح تقی بینش): ص134.

- کمال الدین إسماعیل الذی عاش فی القرن السابع فی أصفهان:

چون محرم رسید وعاشورا

خنده بر لب حرام باید کرد

در پی مأتم حسین بن علی

گریه از ابر وام باید کرد((1)).

- مصلح الدین سعدی الشیرازی الشافعی (المتوفی 659ه-)

یا رب به نسل

طاهر أولاد فاطمه

یا رب به خون

پاک شهیدان کربلا

یا رب به نسل

طاهر أولاد فاطمه

یا رب به آب

دیده مردان آشنا

- جلال الدین محمد المولوی البلخی (المتوفی 672ه-)

کجایید ای

شهیدان خدایی

بلاجویان دشت

کربلایی

کجایید ای سبک

روحان عاشق

پرنده تر ز

مرغان هوایی((2)).

- سیف الدین الفرغانی (المتوفی 705ه-)

ای قوم در این عزا بگریید

بر کشته کربلا بگریید

فرزند رسول را بکشتند

از بهر خدای را بگریید((3)).

- علاء الدولة السمنانی (المتوفی736ه-)

کمال حسن خلق اندر حسن دادن

وفا اندر شهید کربلا بین((4)).

ص: 333


1- ([1]) إسماعیل، کمال الدین، دیوان کمال الدین إسماعیل (تصحیح بحر العلومی): ص628، وص639.
2- ([2]) البلخی، جلال الدین محمد، کلیات دیوان شمس (تصحیح محمد العباسی): ص1017.
3- ([3]) الفرغانی، سیف الدین، دیوان سیف الدین الفرغانی (تصحیح ذبیح الله صفا): ص176 - 177.
4- ([4]) السمنانی، علاء الدولة، دیوان علاء الدولة السمنانی (تصحیح عبد الرفیع حقیقت): ص27، وص281.
- أوحدی مراغئی أصفهانی (المتوفی 738ه-)

به شهیدان کربلا ز فسوس

به ستم کشتگان مشهد طوس((1)).

- کمال الدین محمود المعروف بخواجوی کرمانی (المتوفی 753 ه-)

خون شفق در کنار چرخ به سوگ حسین

دود غسق در جگر دهر به داغ حسن((2)).

- سلمان ساوجی (المتوفی 778ه-)

خاک وخون آغشته لب تشنگان کربلاست

آخر ای جوی بلا بین خون پایت کجاست((3)).

- محمد بن حسام الخوسفی (المتوفی 875ه-)

یا رسول الله گذر کن سوی دشت کربلا

خود تو می دانی که خاک کربلا کرب وبلاست

در باغ ارغون چون شهیدان کربلا

از پای تا به فرق به خون گشته لاله زار((4)).

مواصلة العزاء فی خراسان وماوراء النهر

بعد أن تأسّس الحکم الخوارزمشاهی(521 - 682ه-) ضعفت سلطة السلاجقة، الأمر الذی مهّد الأرضیة لانتشار التشیّع وأتباع مذهب أهل بیت رسول الله صلی الله علیه و آله ،

ص: 334


1- ([1]) الشوشتری، نور الله، مجالس المؤمنین: ج2، ص70.
2- ([2])الکرمانی، خواجوی، دیوان خواجوی الکرمانی (تصحیح أحمد سهیلی خوانساری): ص571 - 572
3- ([3]) نقلاً عن مجلة الحوزة، العدد 113 - 114.
4- ([4]) الخوسفی، محمد، دیوان محمد الخوسفی (تصحیح أحمد أحمدی بیرجندی، ومحمد تقی سالک): ص46، وص177، وص178.

وتحسّنت الظروف لإقامة العزاء آنذاک، بالرغم من استمرار وجود بعض العوائق، وأخذ بعض الشعراء الفرس السنة یندبون الحسین علیه السلام فی أشعارهم، منهم: العطار النیشابوری (537 - 627ه-)، وسلطان ولد (المتوفی712 ه-) نجل جلال الدین محمد البلخی.

وقد ذکرنا أنّ للإمام الشافعی قصائد کثیرة فی مدح أهل البیت علیهم السلام ورثائهم، وهذا یکشف عن المنزلة الرفیعة لأهل البیت علیهم السلام فی نظر السنّة، تلک المنزلة التی جعلتهم یتأثّرون کثیراً بمصاب أهل البیت علیهم السلام ، فیقومون بالعزاء علیهم ورثائهم، وقد نقل عبدالجلیل الرازی القزوینی فی کتابه (النقض) الذی ألّفه عام (560ه-) معلومات تاریخیة قیّمة عن تاریخ إقامة أهل السنّة مراسم العزاء علی الإمام الحسین علیه السلام ، فقد کتب فی ردّه علی کاتب سنّی انتقد الشیعة بأنّهم: «یُظهرون الجزعَ یوم عاشوراء، ویقیمون العزاء، ویُجدّدون مصاب شهداء کربلاء علی المنابر، فیخلع علماؤهم عمائمهم، ویشقّ العوامُّ جُیوبَهم، وتَخمِش نساؤهم وجوههنّ وینتحبن بالبکاء»، کتب یقول: «من الجلیّ البیّن أنّ أئمّة الفریقین من أصحاب الإمام أبی حنیفة، والإمام الشافعی، وعلماء وفقهاء الطوائف قد رَعَوا هذه السنّة خَلَفاً عن سَلَف، وحافظوا علیها، فالشافعی الذی هو مؤسّس المذهب المنسوب إلیه قد أنشد - فضلاً عن المناقب التی نقلها - أشعاراً فی رثاء الحسین علیه السلام وشهداء کربلاء، یقول فی إحداها:

أَبْکی

الحُسَیْنَ وَأَرْثی مِنْهُ جَحْجاحا

کواکب

مِن أَهْلِ

بَیْتِ رَسولِ اللهِ مِصباحا((1)).

ویقول فی قصیدة ثانیة:

تأوّبَ هَمّی

فالفؤادُ کئیبُ

وأرّقَ نومی فالرّ ُقادُ عجیبُ

ومراثی شهداء کربلاء التی أنشدها أتباع أبی حنیفة والشافعی لا یمکن حصرها، فإن

ص: 335


1- ([1]) اُنظر: الرازی القزوینی، عبدالجلیل، النقض: ج3، ص370.

کان فی ذلک قَدح، فهو أوّلاً قدح فی أبی حنیفة والشافعی ثمّ فینا، فلو کان هذا بدعة کما یقول هذا المجبِّر المتحوّل - یعنی الکاتب السنّی - لما أفتی القاضی به، ولما أقرّه هؤلاء الأئمّة والأعلام، وإذا کان هذا الکاتب لم یحضر مجلس الحنفیّة ولا مجلس الشیعة، فإنّه لا بدّ أن یکون حضر مجلس شهاب المشّاط، الذی کان یُقیم مجلس العزاء کلّ سنة مع حلول شهر المحرّم، ویذکر فی یوم عاشوراء مقتل الحسین بن علی علیه السلام .. فما کان من الحاضرین إلّا أن شقُّوا ثیابهم ونثروا التراب علی رؤوسهم وألقی الرجال بعمائمهم وناحوا وضجّوا بالبکاء والعویل.

ولو فُرض أنّ هؤلاء العلماء والقضاة کانوا یقیمون مراسم العزاء ویشترکون فیها تقیّةً منهم ومداهنةً للسلطان، فإنّهم سیکونون عندئذٍ قد وافقوا الشیعة فی العمل بالتقیّة، وإذا فعلوا ذلک عن اعتقاد، فهو دلیل علی کذب ادّعاء الکاتب وعلی نقصان إیمانه، ونحن نعلم أنّ الخوارج والمشبّهة لا یقرّون إقامة العزاء علی سیّد الشهداء علیه السلام ، أمّا أتباع المذهبَین الحنفی والشافعی مع الشیعة فیتّبعون هذه السنّة، فإقامة العزاء علی الحسین بن علیّ علیه السلام هو اتّباع لقول المصطفی صلی الله علیه و آله : (مَن بَکی علی الحُسین أو أبکی أو ت-َباک-َی، وَجَبتْ له الجنّة)، من أجل أن یکون المتکلّم والسامع فی ظلّ رحمة الله، ولا یُنکر ذلک إلاّ منافق ومُبتدع وضالّ وخارجی ومُبغض لفاطمة وعلیّ وآلهما، والحمد لله بل أکثرهم لا یعقلون»((1)).

کانت المدن الشیعیة - کخراسان وقم وکاشان فی إیران، والنجف وکربلاء والحلة فی العراق، وکذلک جنوب لبنان، وبعض المناطق الإسماعیلیة فی مصر وشمال أفریقیا - مراکز لإقامة مجالس العزاء، لکن تلک المجالس لا تقتصر إقامتها علی هذه المناطق فحسب، بل هناک شواهد تدلّ علی وجودها فی ضواحی خراسان، کنیشابور وغیرها

ص: 336


1- ([1]) الرازی القزوینی، عبد الجلیل، النقض: ص370.

من المناطق التی یقطنها السنة.

وکان مجد الدین مذکر الهَمَدانی (المتوفی555ه-) یُقیم فی هَمَدان التی غلب علی أهلها رأی المشبِّهة، العزاء فی موسم عاشوراء فی کیفیّة عجب منها القمّیّون الشیعة أنفسهم. وکان الخواجة الإمام نجم أبو المعالی بن أبی القاسم البُزاری فی نیسابور - وهو من علماء المذهب الحنفی - یواظب علی إقامة هذا العزاء، وکان یمسک فی یده مندیلاً، فینوح وینثر التراب علی رأسه ویَئِنّ أنیناً عالیاً.

وکان الشیخ أبو الفتوح النصرآبادی، والخواجه محمود الحدادی الحنفی، وغیرهما من الحنفیین، یقیمون مراسم العزاء یوم عاشوراء فی مدینة الری، وهی من أُمّهات المدن الإسلامیة فی مرکز توقف القوافل فی (کوشک)، وفی المساجد الکبیرة، فیقضون یوم عاشوراء فی ذکر التعزیة ولعن الظالمین.

کما کان الخواجة الإمام شرف الأئمّة أبو نصر الهسنجانی یقیم العزاء فی کلّ یوم عاشوراء فی حضور الأُمراء وعلماء الحنفیّة، وکانوا یقرّون ذلک منه ویشترکون معه فیه.

أمّا الخواجة الإمام أبو منصور حفید محمد بن أسعد الطوسی، الملقّب بعمدة الدین، الفقیه الشافعی النیسابوری، الذی کان مقدّماً لدی أصحاب الشافعی، فکان إذا حضر فی مدینة الریّ أقام مراسم العزاء یوم عاشوراء فی جامع (سرهنک) علی هذا النحو الذی وصفناه، وکان یفضّل الحسین علیه السلام علی عثمان، ویلقّب معاویة بالمارق، وناهیک عن القاضی الکبیر الحنفی فی ساوة، الذی کان یذکر قصّة عاشوراء فی حضور ما یقرب من (20 ألف) شخص، فکانوا یشقّون الجیوب ویُلقون عمائمهم من علی

ص: 337

رؤوسهم بما لم یسبق له مثیل((1)).

وقد رثی القاضی السمعانی المروزی الحنفی (المتوّفی 450ه-) - وهو والد جدّ عبد الکریم السمعانی صاحب (الأنساب) - الحسین علیه السلام فی شعره:

سلّوا سیوف

محمد لمحمد

فَفَرَوا بها

هامات آل محمدِ

فکأنّ عترة

أحمد أعداؤه

وکأنّما

الأعداء عترة أحمدِ((2)).

کما نظم أبوالحسن الباخرزی الشافعی (المتوفی467ه-) مصنّف کتاب (دمیة القصر) - وهو ذیل علی یتیمة الثعالبی - قصیدة فی رثاء الحسین علیه السلام ، منها هذه الأبیات:

صنو الرسول

وزوج فاطمة التی

ملئت ملاءتها

من العلیاء

وأبو الذین

تجرّدوا ما بین مسمو

مٍ ومذبوح، عن

الحوباء

وأراک تنقص یا

یزید إذا علت

یوم القیامة

رنةُ الزهراء

تغشی التظلّم

من مریق دم ابنها

سحّابة

للخرقة الحمراء

مابال أولاد

النبی ترکتهم

نهباً لقتل

شائع وسباء

لوکنت ترعی

جانب الأب لم تکن

لتضیّع

الحرمات فی الأبناء

ظمئوا وما أرودتهم،

ودماؤهم

عمّت ظماء السُّهر

بالإرواء

وأخسّ من سؤر

الإناء عصابة

حجروا علی

الظمآن سؤر إناء

بمجنّحات

شُرّد یسلکن من

لهواتهم

طرقاً إلی الأقفاء

والله أملاهم

لیزدادوا به

إثماً فقل فی

حکمة الإملاء

خجلاً لهم من

قوم صالحٍ الأُولی

لم یفت-کوا

إلّا بذات رغاء

ص: 338


1- ([1]) الرازی القزوینی، عبد الجلیل، النقض: ص370.
2- ([2]) الزرکلی، خیر الدین، الأعلام: ج6، ص185. شبر، جواد، أدب الطف: ج4، ص333.

فتعاورتها

رجفة جثمت بها

فکأنّها لم

تغنَ فی الإحیاء((1)).

بکاء أهل الشام علی الحسین قُبَیل حملة المغول

ینقل ابن کثیر فی کتابه أنّه بعد سقوط بغداد عام (656ه-) بید المغول - وذلک بعد إنهاء خلافة العباسیین الذین حکموا نحو (554 عاماً) - قام شعراء الشام برثاء الإمام الحسین علیه السلام ، منهم شهاب الدین أبوشامة (599 - 665ه-)، الذی سمع بحملة المغول علی میافارقین وقتل قائدها الکامل بن شهاب، الذی قُطع رأسه ورُفع علی باب الفرادیس فی دمشق، فنظم أبو شامة فی ذلک قصیدة یذکر فیها فضله وجهاده، وشبّهه بالحسین علیه السلام فی قتله مظلوماً((2)).

وإضافةً إلی دمشق، هناک مدن أُخری من الشام کحلب وغیرها کان أهلها یقیمون المآتم یوم عاشوراء من کلّ عام، ویذکرون فیها مصائب الحسین علیه السلام الجلیلة.

ولابن الوردی الحلبی الشافعی(المتوفی 749ه-) شعر فی الإمام الحسین علیه السلام ، قال:

أرأس السبط یُنقَل والسبایا

لم یفتکوا إلّا بذات رغاء

خجلاً لهم من قوم صالحٍ الأُولی

یطاف بها وفوق الأرض رأسُ

وما لی غیر هذا السبّی ذخرٌ

وما لی غیر هذا الرأس رأسُ

وقال:

جدّی هو الصدّیق واسمی عُمرُ

وابنی أبوبکر وبنتی عائشة

لکن یزید ناقص عندی ففی

ظلم الحسین ألف ألف فاحشة((3)).

ص: 339


1- ([1]) ابن خلکان، أحمد بن محمد، وفیات الأعیان: ج1، ص360. الزرکلی، خیر الدین، الأعلام: ج4، ص272 - 273. شبر، جواد، أدب الطف: ج3، ص277.
2- ([2]) اُنظر: ابن کثیر، إسماعیل بن عمر، البدایة والنهایة: ج13، ص249.
3- ([3]) السبکی، عبد الوهاب بن علی، طبقات الشافعیة: ج10، ص373، رقم1402. الزرکلی، خیر الدین، الأعلام: ج5، ص67. شبر، جواد، أدب الطف: ج4، ص197.

وقال:

دنیا تضام

کرامها بلئامها

ودلیل ذاک

حسینها ویزیدها

یا خاطب

الدنیا الدنیّة إنّها

طُبعَت علی

کدرٍ وأنت تریدها((1)).

انتشار العزاء فی العهد التیموری (771 - 911ه-)

إنّ التیموریین کانوا من أتباع مذاهب السنة بشکل رئیسی، ولکنّهم بعدما استلموا الحکم وخصوصاً بعد قتل تیمور الملک، برزت عندهم نشاطات أدبیة وحضاریة واسعة ومهمّة فی العالم الإسلامی ولا سیما فی خراسان، حیث کانوا یحترمون علماء الشیعة وعقائدهم، ویظهرون المحبّة لأهل بیت النبی صلی الله علیه و آله ، ممّا ساعد إلی حدٍّ بعید علی نشر ثقافة أهل البیت علیهم السلام وشعائرهم، وهکذا أصبحت مجالس العزاء علی الحسین علیه السلام تتّسع یوماً بعد آخر، حتی وصلت إلی بلاط الحکم التیموری((2)).

وتشیر الآثار الفارسیة المؤلّفة خلال الفترة الواقعة بین القرنین السابع والعاشر للهجرة إلی رسوخ وتعمّق محبّة أهل البیت علیهم السلام فی أوساط أهل السنة، حیث تناقل أکثر مؤلّفی السنة فی کتبهم التی تناولت تاریخ الإسلام واقعة کربلاء، نقلاً عن کتاب الفتوح لابن أعثم، وعلّقوا علیها تعلیقات تبیّن انحیازهم الکامل إلی صفّ الإمام الحسین علیه السلام .

وقد انتشر العزاء علی مصاب أهل بیت النبی’ فی هذا العصر وبأبعاد مختلفة، بحیث لا یقاس بالعصور السابقة، وهذه الأجواء التی کانت مفعمة بالمحبّة لأهل بیت

ص: 340


1- ([1]) إشارة إلی بیت أبی الحسن التهامی (المتوفی 416ه-): طُبعت علی کدرٍ وأنت تریدها * صفواً من الأقذاء والأکدارِ
2- ([2]) اُنظر: السمرقندی، عبدالرزاق، مطلع السعدین ومجمع البحرین: ج2، ص148. البلخی، خواندمیر، حبیب السیر: ج3، ص618.

النبی صلی الله علیه و آله ، والمعادیة للأُمویین والعباسیین جعلت المجتمع یسیر نحو قبول معارف أهل البیت علیهم السلام ومبانیهم الصحیحة، یقول کامل مصطفی الشیبی فی کتابه (الصلة بین التشیع والتصوف): «استبدل مجالس ذکر الصوفیین فی هرات بمجالس البکاء علی الحسین علیه السلام فی العهد التیموری».

ویذکر صاحب کتاب (روضة الشهداء) فی المقدّمة هدفه من تألیف الکتاب، فیقول: «إنّ الأوضاع الاجتماعیة والأرضیة الممهّدة للظروف الدینیة والثقافیة، وکذلک انتشار العزاء فی شتّی الأنحاء لا سیما خراسان، دفعته إلی تألیف الکتاب».

ویضیف قائلاً: «کان محبّو أهل البیت علیهم السلام یجتمعون فی شهر المحرم من کلّ عام، ویجددون مصاب سید الشهداء بالعزاء علیه وعلی أولاده الطاهرین، فتحترق أفئدتهم من الحزن ویضجّون بالبکاء والعویل».

لقد ألّف صاحب (روضة الشهداء) کتابه بناءً علی طلب مرشد الدولة أحد علماء هرات، والمعروف بسید میرزا، ویذکر ثمّة عوامل دفعته لتألیف الکتاب، ومن أهمّها أنّه یقول: «رغم أنّ هناک کتباً کثیرة عن واقعة کربلاء وروایة أحداثها، لکن لم تُذکر فیها مناقب الإمامین الحسن والحسین‘ وأحوالهما بصورة کاملة، فهذا النقص فی التألیف جعلنی أُصنّف کتاباً جامعاً بأمر سید میرزا، یشتمل علی روایات کثیرة عن الأنبیاء والأصفیاء والشهداء، لا سیما الخمسة أصحاب الکساء، بصورة مفصّلة ومشروحة»((1)).

وفی هذا الإطار یذکر فی قسم آخر من کتابه شیئاً عن فلسفة تألیفه، وفضل کتابه (روضة الشهداء) علی سائر الکتب المشابهة ویقول: «لیس فی کتب المقاتل الموجودة شرحٌ لأخبار القتال وکیفیته، بل هناک اختصار فقط لذکر أسماء المقاتلین، لکن الحقیر

ص: 341


1- ([1]) الکاشفی، حسین، روضة الشهداء: ص12 -13.

(یقصد بذلک نفسه) فی هذا الکتاب بدأ بالتحقیق والبحث الکثیر، حتی عثر علی تفاصیل المقاتل، فکتبه بأحسن أُسلوب، وبما أنّه لیس للعجم معرفة باللغة العربیة فلهذا لم أذکر أراجیز المقاتلین إلّا فی وقت الضرورة»((1)).

یبدو من خلال هذا النص أنّه کانت هناک أرضیة ممهّدة للعزاء علی الإمام الحسین علیه السلام فی خراسان وماوراء النهر، حتی قبل تألیف کتاب روضة الشهداء، فکان الناس یجتمعون فی یوم عاشوراء من کلّ عام ویذکرون مصائب الإمام الحسین علیه السلام وأهل بیته فی کربلاء، وکان العلماء والشعراء والفقهاء یُبیّنون لهم الجرائم التی جرت فی حقّ آل رسول الله صلی الله علیه و آله ، وهکذا کانوا یقیمون العزاء.

کمال الدین ملا حسین الواعظ الکاشفی (المتوفی 910ه-)

کان فی قمّة الخطباء الکبار وحاز علی مکانة رفیعة عند الفریقین، فالشیعة فی مدینة بیهق (فی سبزوار) کانوا یظنون أنّه سنیٌ، والسنّة فی هرات کانوا یظنون أنّه شیعیٌ، لکن بعض الباحثین یقول: «یبدو أنّه کان من نوادر عصره، لیس له تعصّب بمذهب أو فرقة خاصّة، وکانت له شخصیة غریبة مثل شخصیة الشیخ بهاء الدین العاملی، فقد کانت له نظرات عالیة وتساهل فی الأُمور»((2)).

رغم أنّ کتاب (روضة الشهداء) لیس أوّل کتاب أُلّف فی ذکر شهداء کربلاء((3))، لکن ثمّة أسباب جعلت الکتاب یعتبر أوّل مقتل فارسی وأشهره وأکثره تأثیراً بین کتب المقاتل الموجودة، وهنا نذکر بعض هذه الأسباب:

الأُسلوب الجمیل فی الکتابة، وقوة الکاتب فی تحریر الکتاب بطریقة سلسة، وأیضاً

ص: 342


1- ([1])الکاشفی، حسین، روضة الشهداء: ص12 -13.
2- ([2]) الشیبی، مصطفی، الصلة بین التشیّع والتصوّف: ص325 - 327.
3- ([3]) اُنظر: آغا بزرک الطهرانی، محمد محسن، الذریعة إلی تصانیف الشیعة: ج11، ص295.

تجاربه الکثیرة فی ذکر الروایات دون التعرّض إلی عقائد أهل السنة.

فهذه الأسباب جعلت الوعّاظ والخطباء یستمدّون من هذا الکتاب القیم فی خطبهم حول مصائب أهل البیت علیهم السلام ، حتی أُطلق اصطلاح الروضة فی اللغة الفارسیة علی کلّ مجلس عزاء یقام لمصائب الإمام الحسین علیه السلام وأصحابه؛ إشارةًً إلی کتاب (روضة الشهداء) للواعظ الکاشفی((1)).

لقد کانت للکاشفی مجالس وعظ وخطابة فی شتی المدن، لا سیما هرات وسبزوار، وکان یذکر فیها مناقب أهل بیت رسول الله صلی الله علیه و آله ویبین مصائبهم بأُسلوب قصصی، مزدان بالأحادیث والأشعار.

وکان یقیم مجالسه فی المدارس وحتی فی بلاط الحکام التیموریین، وکان الحضّار - وأکثرهم من أهل السنة والجماعة - یستمعون له ویتأثّرون برثائه ویبکون حزناً لمصائب أهل البیت علیهم السلام .

خلّف الکاشفی تلامذة کثیرین من السنّة الذین تتلمذوا عنده، وتعلّموا منه فنون الخطابة، واتّبعوا منهجه، حیث جعلوا أُسلوبه معیاراً لهم فی خطبهم، وکانوا یعتقدون أنّ أُسلوبهم فی الخطابة کلمّا کان أشبه بأُسلوب الکاشفی کلّما کانوا أکثر نجاحاً فی الخطابة.

نقل محمود الواصفی - أحد تلامذة ملاحسین الکاشفی - أنّه سافر یوماً إلی نیسابور بعد وفاة أُستاذه، فلمّا علم أهل نیسابور أنّه من تلامذة الکاشفی أعربوا عن أسفهم وحزنهم لفقدان هذا الخطیب الجلیل، وطلبوا من الواصفی أن یقرأ لهم تعزیة یذکر فیها مصائب أهل البیت علیهم السلام ، إحیاء لذکری ملا حسین الکاشفی، فاختار إحدی خطب

ص: 343


1- ([1]) اُنظر: آغا بزرک الطهرانی، محمد محسن، الذریعة إلی تصانیف الشیعة: ج11، ص295.

أُستاذه الکاشفی، وقرأ لهم بنفس طریقته، فرغبوا فی ذلک وتأثّروا به کثیراً((1)).

ویروی أیضاً أنّه کان فی بیت الأمیر زین العابدین أحد علماء نیسابور، فقال الأمیر: نحن محرومون من مواعظ مولانا الکاشفی منذ سنین طویلة، لکن سمعنا أنّه کان یمدح تلمیذه الواصفی، فالیوم التقینا بتلمیذه ونأمل أن یفیدنا بذکر مصائب أهل البیت علیهم السلام .

تُوفّی ملاحسین الکاشفی سنة (910ه-)، لکنه ترک أثراً عمیقاً فی نفوس الناس، وأصبح لکتابه دورٌ مهمٌّ فی بیان معارف أهل البیت علیهم السلام ، وانتشار مجالس ذکر مناقب أهل البیت علیهم السلام ومصائبهم، حیث حاز الکتاب أهمیةً کبیرة لدی الوعّاظ والخطباء((2)).

فخر الدین الکاشفی (المتوفی939ه-)

فخر الدین علی صفی بن ملاحسین الکاشفی السبزواری، کان أُسلوبه فی الخطابة أکثر شبهاً بأُسلوب أبیه وأُستاذه ملا حسین الکاشفی من سائر تلامیذه، لذلک یعتبر أکبر مروج لمنهج أبیه فی الخطابة والوعظ، کان یُنسب - کأبیه - إلی التشیّع عند السنة، وإلی التسنّن عند الشیعة.

یعتبر کتاب (لطائف الطوائف) أهمّ آثاره فی بیان عظمة أهل البیت علیهم السلام ومنزلتهم الرفیعة، وحینما یقرأ القارئ کتابه یری فی أُسلوبه شبهاً کبیراً بأُسلوب أبیه وأفکاره، وکان یعِظ الناس ویذکر لهم مصائب أهل بیت رسول الله صلی الله علیه و آله .

غادر فخر الدین الکاشفی هرات بعد سقوط الحکومة التیموریة، متوجّهاً إلی کرجستان، وظلَّ هناک یدرّس ویقیم مجالس العزاء لأهل البیت علیهم السلام ، وألّف کتابه القیم وأهداه لحاکم کرجستان((3)).

ص: 344


1- ([1]) اُنظر: الواصفی محمود، بدائع الوقائع: ج3، ص267.
2- ([2]) اُنظر: الداودی، عبد المجید الناصری، تشیّع وتصوّف (التشیّع والتصوّف): ص325 - 327. رسول جعفریان، مقالات تاریخی (مقالات تاریخیة) (دفتر نخست): ص204.
3- ([3]) اُنظر: الصفوی، سام میرزا، تحفه سامی (التحفة السامیة): ص68.

یُشار إلی أنّ هناک کثیراً من الوعّاظ والعلماء فی عصرهم قاموا بنشر عقائد أهل البیت علیهم السلام وذکر مصائبهم، ومن جملتهم: السید أبو الحسن الکربلائی، وحیدر علی المداح، والسید علی (واحد العین)، وغیرهم من الخطباء الذین کانوا یرشدون الناس ویمارسون الخطابة فی المساجد والمدارس العلمیة، وحتی فی الشوارع والأسواق، وکانوا أحیاناً یذکرون أسماء أهل البیت علیهم السلام المبارکة فی مستهلّ خطبة الجمعة، بدلاً من ذکر أسماء الخلفاء، وکانوا یطلبون من سلاطین السلسلة التیموریة أن یُقرّوهم علی هذه السنّة الحسنة((1)).

ذکر مناقب أهل البیت علیهم السلام ومدحهم

اشارة

راجت فی العصر التیموری حرکة علمیة واسعة للاطّلاع علی منزلة أهل البیت علیهم السلام ، والتوسّل والتقرّب إلیهم بأسالیب مختلفة، ومن مظاهر تلک الحرکة أنّ العلماء قاموا بذکر مناقب أهل البیت علیهم السلام وفضائلهم، وتبیین أبعاد مختلفة من شخصیتهم العظیمة، فتارة کانوا یذکرون مناقبهم فی صورة الشعر، وتارةً أُخری فی صورة النثر أو القصة، وهذا الأُسلوب کان قد تأسّس فی القرن الثامن، لکنّه اتّسع وازدهر فی القرن التاسع.

خلافاً لمجالس العزاء التی کانت تذکر فیها مصائب الإمام الحسین علیه السلام ، وتختصّ فقط بشهر محرم الحرام، وتقام فی أماکن خاصّة، فإنّ مجالس مدح أهل البیت علیهم السلام ما کانت بحاجة إلی زمان أو مکان محدّد، بل کان الوعّاظ یشیدون بمناقبهم فی مختلف الأماکن، کالمیادین والمساجد والمزارات والأسواق والمدارس وغیرها.. ونری أنّ هذه السنّة دخلت فی حیاة الناس الدینیة والاجتماعیة قبل العصر التیموری، لکنّها تطورت

ص: 345


1- ([1]) اُنظر: الأسفزاری، معین الدین زمجی، روضات الجنات فی أوصاف مدینة هرات: ج2، ص328 - 330.

بشکل مذهل فی هذا العصر، حیث کانت تقام هذه المجالس یومیاً فی هرات، وکان یرتادها الناس من الفریقین، بل حظیت أیضاً بمشارکة بعض رجال الحکم فیها.

رغم أنّ الوعّاظ والخطباء کان أکثرهم من الشیعة، لکن المستمعین کانوا من أتباع المذاهب المختلفة من السنة وغیرهم، فکان الخطیب تارةً یذکر مناقب أهل البیت علیهم السلام وتارةً أُخری یذمّ الخلفاء بعد النبی صلی الله علیه و آله ، الأمر الذی أدّی إلی غضب أهل السنة واعتراضهم.

یقول أحد علماء السنة: «دخلنا یوماً إلی مدرسة جوهرشاد، فرأینا فیها مجلساً أقامه حسن علی المداح، یذکر فیه مناقب أهل البیت علیهم السلام ، و(یسبّ) أحد الخلفاء بعد رسول الله صلی الله علیه و آله ، فوصل الخبر إلی میرزا بیرم، فغضب وقال: سأقتل هذا الکافر أو أسعی فی قتله، فقال له فقیر: یاصاح، إنّ أمثال هذا الرجل کثیرون وجماعة السنة کثیرون أیضاً فی هذه المدینة، فلا مبرّر لقتله مادام شاه إسماعیل یحکم العراق، فقتله یسبّب مشاکل کثیرة لجماعتنا»((1)).

طلب إیراد الخطبة باسم أهل البیت علیهم السلام

أثر النشاطات الکثیرة فی شتّی الأبعاد، مثل إقامة مجالس العزاء وذکر فضائل أهل البیت علیهم السلام ونظم الشعر فی مدحهم والخطابة وغیرها، ارتأی آخر الملوک التیموریین أن یُطلق علی نفسه لقب الحسینی؛ تیمّناً باسم الحسین علیه السلام وسلالته الطاهرة، ولهذا الملک نشاطات أُخری فی هذا المجال من قبیل عنایته بالمراقد الشریفة للأئمّة وغیر ذلک، فاستغلّ الخطباء هذا الوضع وطلبوا منه أن یأمر بتغییر مواضیع خطب الجمعة من ذکر مناقب الخلفاء الثلاثة إلی مدح أهل البیت علیهم السلام وبیان فضائلهم، وإلیک فقرات ممّا کتبه

ص: 346


1- ([1]) الواصفی، محمود، بدائع الوقائع: ج2، ص247.

بعض السنّة فی هذا المجال: «لما ترأس السلطان حسین میرزا الحکومة فی خراسان، ذهب جماعة من وعّاظ الشیعة إلیه، وطلبوا منه أن یستبدل خطب مدح الخلفاء الراشدین بمدح الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام ، وأرادوا منه الطعن فی أُصول السنّة، ومن جملة هؤلاء الوعّاظ: السید حسن الکربلائی، والسید علی واحد العین الأعمی البصر والبصیرة، الذی کان (یسبّ) خلفاءنا، وکان بارعاً فی الخطابة والبلاغة، حیث أغوی عدداً کثیراً من السنّة بسحر کلامه، وکان متعصِّباً لمذهبه، ویعتقد أنّ الإمام علی علیه السلام یحمیه فی بیان عقائده والسیر علی طریقه»((1)).

إنّ هذا التقریر یبیّن لنا بوضوح نشاطات الواعظین وقدراتهم السیاسیة والاجتماعیة فی الخطابة والوعظ، فهذه الجماعة التی ما کانت تستطیع أن تقیم مجالس العزاء حتی فی دورهم، نری أنّهم فی هذا العصر قد جعلوا منابر المساجد منطلقاً لنشر عقائدهم وأفکارهم.

نور الدین عبدالرحمن الجامی (817 - 889ه-)

علی الرغم من أنّ عبد الرحمن الجامی بذل وسعه، وکان له الدور الرئیس فی منع السلطان حسین بایقرا (873 - 911ه-) من التشیع، وذکر أسماء الأئمّة الاثنی عشر علیهم السلام فی خطبته، مع وزیره العالم علی شیرنوایی، وکان له الدور الرئیس فی ذلک، ورغم ما کان یظهره من الظغائن والأحقاد والتنفیس بخصوص الشیعة فی زمانه، والتی یمکن ملاحظتها فی الکثیر من مؤلّفاته، إلّا أنّه لم یتوان عن زیارة الإمام الحسین علیه السلام وذکر مناقبه فی عزائه، ویعتقد أنّ هذا الأمر لا یتعارض مع قناعته واتّباعه للمذاهب السنیة، وکان یسارع فی سنینه الأخیرة لزیارة العتبات المقدّسة، وینقل قصة

ص: 347


1- ([1]) الأسفزاری، معین الدین زمجی، روضات الجنات فی أوصاف مدینة هرات: ج2، ص328 - 329.

زیارته مرقد الإمام الحسین علیه السلام بنظمٍ من الشعر.

إقامة العزاء فی البلاط التیموری

لقد جاء فی عدّة مصادر معتبرة أنّ بدء مراسم العزاء علی الحسین علیه السلام کان قد حدث أوائل الحکم التیموری، لکنّها اتّسعت اتساعاً عظیماً أبان حکم الملک شاهرخ میرزا (810 - 850ه-)، حیث أصبحت مراسم العزاء تُقام حتی فی البلاط التیموری السنّی، فکان شاهرخ میرزا وأتباعه یحضرون مجالس الوعّاظ الکبار، ومنهم: شاه نعمة الله ولی الکرمانی (730 - 827ه-)، وقاسم أنوار التبریزی (835ه-)، والسید محمد نوربخش (795 - 869ه-)، وابنه السید قاسم فیض بخش (981ه-)، وکانوا بالإضافة إلی ذلک یقیمون المآتم بشکل خصوصی فی قصورهم.

وجرّاء هذه الثقافة الحسینیة التی کانت شائعة فی هرات، طلب شاهرخ میرزا من الوعّاظ والخطباء أن یرثوا الحسین علیه السلام ، فی حفلة تأبینیة أُقیمت لفقدان ابنه بایسنقر میرزا.

أمر شاهرخ میرزا بأن تُقام مجالس العزاء أربعین یوماً، حیث کان یجلس علی کرسی الخلافة ویجتمع إلیه مشاهیر إیران وتوران، وأعاظم المعمورة ورؤساء خراسان، یتقدّم للرثاء کلّ یوم شاعران ماهران لیسمعوا ما نظموه للحاضرین.

وحتی قبل شاهرخ میرزا، لما ولی الأمیر تیمور الخلافة، دعا آلافاً من السادة العلویین من مختلف البلاد فی حفلة رئاسته، فی هذا الإطار یقول کامل مصطفی الشیبی: «حضر أربعة آلاف من السادة فی حفلة رئاسة الملک فی بلخ سنة (771ه-)..»((1)).

وبعدما استولی علی العراق قصد کربلاء فی بدء الأمر لزیارة الإمام الحسین علیه السلام ،

ص: 348


1- ([1]) الشیبی، مصطفی کامل، الصلة بین التشیّع والتصوّف: ص325.

اتّباعاً لحدیث الثقلین والآیة الشریفة التی جاءت فی القرآن حول ذوی القربی((1)).

وبعد غزو حلب جمع العلماء والقضاة وسائر الناس فی مجلسه وسألهم سؤاله الذی طالما کان یسأله، وهو سؤاله حول فضل الإمام علی بن أبی طالب علی معاویة بن أبی سفیان، ولمّا سمع منهم أنّ هذا أمرٌ اجتهادی ولکلّ شخص رأی، غضب وقال: إلّا أنّ علیاً مع الحق ومعاویة ظالم وابنه فاسق، أنتم یا جماعة حلب قد اتّبعتم سبیل أهل دمشق الموالین لیزید وقاتلی الإمام الحسین علیه السلام ((2)).

کان یدور فی خلد ابن تیمور أسئلة کثیرة عمّا جری لآل رسول الله’ بعد فجائع کربلاء، وکان دائماً یظهر حزنه وأسفه لقتل الإمام الحسین علیه السلام ، وکان یقول ابن خلدون - بعدما زاره فی دمشق عام (803 ه-) -: بعض الناس یعتقدون أنّ تیمور رافضی.

وفی هذا الصدد قال عنه أحد الباحثین: یظنّ البعض أنّ ابن تیمور ملک من الملوک، وبعض آخر أنّه عالمٌ من العلماء، لکن بعض آخر یعتقد بأنّه رافضی؛ وذلک لأنّه یؤثر أهل بیت رسول الله’ علی غیرهم((3)).

لقد ازداد هذا الانتماء إلی الإمام الحسین علیه السلام وثورته الخالدة فی العصر التیموری، حیث قام العلماء من بلدان مختلفة - لا سیما ماوراء النهر - ضدّ السلاطین الظلمة، وأعربوا عن استیائهم من یزید وعصابته وقاموا بلعنهم فی العلن((4)).

ونری فی ذاک العصر إقبالاً واسعاً علی أهل البیت علیهم السلام والسادات من ذریتهم الشریفة، وصارت لزیارة الإمام الرضا علیه السلام صبغة دینیة وسیاسیة فی حیاة الناس، وکان

ص: 349


1- ([1]) البلخی، میرخواند، روضة الصفا: ج6، ص79.
2- ([2]) اُنظر: ابن عرب شاه، أحمد بن محمد، عجائب المقدور فی نوائب تیمور: ص133 - 137.
3- ([3]) اُنظر: میشل المزاوی، پیدایش دولت صفوی (ظهورالدولة الصفویة): ص142.
4- ([4]) اُنظر: صفا، ذبیح الله، تاریخ أدبیات در إیران (تاریخ الأدب فی إیران): ج4، ص57.

الملوک التیموریون یشجّعون الشعراء علی مدح أهل البیت علیهم السلام ورثائهم، ومن هنا وُجد هذا الکمّ الهائل من الآثار الشعریة والنثریة التی کتبت فی رثاء أهل البیت علیهم السلام وذکر مناقبهم.

کان التیموریون یؤکّدون علی إکرام أهل البیت علیهم السلام واحترام سلالتهم الطاهرة، ویعتقدون أنّ هذا الإجلال لا یتعلّق بمذهب خاصّ، بل یشمل جمیع المذاهب والفرق، فلا بدّ للجمیع أن یلبسوا جلباب الحزن لمصائب أهل البیت علیهم السلام والفرح لفرحهم.

وعلی سبیل المثال نری أنّ أبا القاسم البابر (852 - 861ه-) الحاکم التیموری قام بضرب السکة باسم الأئمّة المعصومین علیهم السلام ، وکان یقول: إنّ هذا لا ینافی عقائد المذهب الحنفی.

کان میرزا أبوالقاسم جالساً یوماً مع أصحابه وبیده إناء فیه سکک ذهبیة، وأخذ یقرأ أسماء أئمّة الشیعة الاثنی عشر المنقوشة علی السکک، فسأله أحد الحضّار عن تاریخ ضرب السکک، فأجابه: ضُربت هذه السکک فی عهد حکومتی، فقال له: ألا تخشی أن تُتّهم باتّباع مذهبٍ آخر؟ فأجابه السلطان: کلّ شخص حرٌّ فیما یقول، لکن أنا سنّیٌ وثابتٌ علی مذهبی الحنفی((1)).

إقامة العزاء عند أهل السنة مابعد العصر التیموری (911ه- حتی الآن)

اشارة

بعد سقوط الحکم التیموری سنة (911ه-) أخذت الأقالیم الخاضعة له بالانفصال، وصار لکلّ إقلیم حکم مستقل، فتولّی الأتراک قسماً کبیراً منه، وسیطر شاه إسماعیل الصفوی علی غرب المملکة التیموریة وأسّس السلسلة الصفویة، وسیطر

ص: 350


1- ([1]) اُنظر: السمرقندی، عبد الرزاق، مطلع السعدین ومجمع البحرین: ج2، ص182 - 183.

العثمانیون علی البلدان العربیة والإفریقیة، وامتدّ نفوذ آل أزبک الشیبانیین إلی ماوراء النهر وشمال أفغانستان، وصارت مناطق من أفغانستان وکذلک شبه القارّة الهندیة فی ید فرع خاص من التیموریین، یعرفون باسم بابریین أو الکورکانیین.

ورغم عداء بعض أهل السنة للشیعة فی العصور التی خلت، نری أنّ هذا العداء قد تراجع فی عصر التیموریین، ولکنّه ازداد بشکلٍ خطیر بعد تأسیس الحکم الصفوی فی إیران، واجتاح الصراع مناطق مختلفة، لا سیما شمال شرق إیران، بنحوٍ لم یسبق له مثیل.

ومع کلّ هذا، استمرّ عزاء أهل السنة علی مظلومیة الإمام الحسین علیه السلام ، حیث نری کثیراً من الشعراء السنة وعرفائهم قد ذکروا ثورة الإمام الحسین علیه السلام ونهضته الخالدة فی آثارهم الأدبیة والعرفانیة والاجتماعیة، ولا یقف الأمر عند هذا الحد، وإنّما ترسّخت هناک العقیدة الشیعیة والحسینیة فی أفکار العلماء من غیر المسلمین فی شتی أرجاء العالم.

العزاء فی آسیا الوسطی

لقد وقعت بلاد ماوراء النهر (آسیا الوسطی) فی القرن العاشر بید الشیبانیین، ولمّا کانت نظرة هذه السلسلة الأُزبکیة تجاه مذهب التشیع سلبیة، لهذا سعت إلی إبعاد الناس عن انتمائهم المتزاید إلی أهل البیت علیهم السلام ، ولم تأذن لهم بإقامة مجالس العزاء.

کان شیبک خان أزبک - مؤسّس هذه السلسلة - فی قمة التعصّب المذهبی، ویشهد علی ذلک أنّه لمّا غزا جنده مدینة هرات، ووصل إلی باب المدینة استقبله أعیان المدینة، ومنهم الأمیر جمال الدین المحدّث، والأمیر غیاث الدین محمد بن أمیر یوسف، وشیخ الإسلام الهراتی وغیرهم، وکانوا یقولون له: «هنیئاً لک هذا الانتصار، إنّ الله ومحمداً

ص: 351

وعلیاً معک»، فکان جند شیبک خان یتقدّم ویرد علیهم: «لا تقولوا: إنّ الله ومحمداً وعلیاً معک، بل قولوا: إنّ الله ومحمداً والخلفاء الأربعة معک»((1)).

هذه الأمثلة والشواهد وغیرها، تدلّ بلا شک علی مدی الغیظ الذی کان یجیش به صدر الغزاة تجاه مذهب التشیع وشعائره الدینیة، لکن رغم هذا العداء والأجواء الخانقة نری أنّ بعض العرفاء من أهل السنة کانوا یمدحون الإمام الحسین علیه السلام ، ویعتبرونه رمز بقاء الحیاة الإسلامیة.

من الأُمور التی تدلّ علی رغبة الناس فی إقامة العزاء علی مصائب الحسین علیه السلام ، انتشار کتاب (روضة الشهداء) وبصورة واسعة فی مختلف البلدان، حیث تُرجم إلی اللغات الأُزبکیة، والترکیة لذوی الأُصول الترکیة من الشیعة فی إیران وآسیا الوسطی والمناطق الأُخری، وقد تُرجم هذا الکتاب الذی صُنّف عام (908ه-) فی القرون التالیة بعناوین مختلفة ک-(سعادت نامه) أو (کتاب السعادة) فی القرن العاشر، وترجمه أیضاً الشاعر فضولی البغدادی تحت عنوان (حدیقة السعداء)، وقد طُبع مراراً، وقد أعاد أحد الشعراء هذا الکتاب نظماً وسمّاه (شهدا نامه)، کما قام أیضاً الشاعر الترکی المتخلّص ب-الصابر بترجمته إلی اللغة الترکیة لساکنی آسیا الوسطی، وله نسخ کثیرة فی طاشکند ومدن أُخری((2)).

إضافةً إلی کتاب (روضة الشهداء) وتراجمه المتعدّدة، فقد صدر فی هذا الحقل دیوان شعر للشاعر الصیقلی الحصاری، الذی اشتهر أیضاً ب-(روضة الشعراء)، وانتشر فی

ص: 352


1- ([1]) روملو، حسن بیک، أحسن التواریخ: ص146.
2- (2) آغا بزرک الطهرانی، محمد محسن، الذریعة: ج11، ص295. استوری، أدبیات فارسی (الأدب الفارسی): ص903 - 911. ورسول جعفریان، مقالات تاریخی (مقالات تاریخیة) دفتر نخست (الکتاب الأوّل): ص187.

طاجیکستان وأُزبکستان والمدن الأُخری من آسیا الوسطی، وکان له أثرٌ تاریخی ودینی عمیق فی تلک المناطق، ودلیل ذلک أنّ الناس کانوا یسمّون أنفسهم بأسماء ذات صلة بواقعة عاشوراء والثقافة الحسینیة، فمن جملة هذه الأسماء: عشور، عشور علی، عشور محمد، عشور بای، عشور بیک، بابا عشور، عشوره، عشور ماه، بی بی عشور، وغیرها من الأسماء التی تدلّ بوضوح علی تأثّر الناس بواقعة عاشوراء.

نظم الصیقلی (من شعراء القرن الثالث عشر) قصائد حول واقعة الطف معتمداً علی کتاب روضة الشهداء، ففی القسم الأوّل من دیوانه قصیدة فی نحو خمسة آلاف بیت، استوعبت تاریخ الأنبیاء من آدم علیه السلام إلی رسولنا الخاتم صلی الله علیه و آله ، والقسم الثانی یحتوی علی قصیدة فی نحو أربعة آلاف بیت تبدأ من اغتصاب معاویة الملک، وأحداث ما قبل واقعة کربلاء، ومنها امتناع الإمام الحسین علیه السلام عن البیعة لیزید الظالم، ثمّ تصل إلی ختام فاجعة کربلاء واستشهاد الإمام الحسین علیه السلام وأصحابه.

یقول البروفسور أعلا خان أفصحی زاده (من علماء السنة فی طاجیکستان) حول عزاء أهل السنة فی آسیا الوسطی:

إنّ إقامة العزاء وقراءة مراثی الإمام الحسین علیه السلام أمرٌ سائد بین أهل السنة فی طاجیکستان، بید أنّه لا یشبه عزاء الشیعة فی یوم عاشوراء، بل إنّهم کانوا یجتمعون فی کلّ أیام السنة ویقرؤون ویستمعون لروایات من کتاب روضة الشهداء لواعظ الکاشفی السبزواری، وأحیاناً یأتی الشعراء ویلقون قصائدهم عن شهداء الطف((1)).

وبعد ذلک یتحدّث أفصحی زاده عن أثر التشیع علی أهل السنة فی آسیا الوسطی،

ص: 353


1- ([1]) اُنظر: أعلا خان أفصح زاده، لقاء خاص مع مجلة آشنا، السنة الخامسة، العدد (13) لسنة (1375ش): ص61 - 73.

ویشیر إلی دیوان الصیقلی الذی ذکر أحداث کربلاء فی دیوانه بلسان الشعر، ثمّ أخذ یتحدّث عن مراسم عزاء أهل السنة فی ذلک العصر ویقول:

إنّ صاحب دیوان الصیقلی الحصاری - الذی حلّ محل کتاب روضة الشهداء للکاشفی - کان من أهل السنة، ثمّ تناول بالبحث سمات الکتاب ومضمونه ومصادره، وختمه بالقول: لا شکّ أنّ إقامة مجالس العزاء علی الإمام الحسین علیه السلام وقراءة کتاب (روضة الشهداء) فیها طابع فارسی، ولعلّ الصیقلی الشاعر کان أوّل أدیب أسّس سُنّة قراءة روضة الشهداء والاستماع إلیها بین الناطقین بالترکیة من السنة فی آسیا الوسطی((1)).

إقامة العزاء فی شبه القارة الهندیة وجنوب شرق آسیا

هناک عدّة شواهد تاریخیة تدلّ علی استمرار حرکة العزاء فی شبه القارة الهندیة بعد القرن العاشر، وبما أنّ لکتاب (روضة الشهداء) صبغة أدبیة منتمیة للثقافة السنیة، فإنّ أهل السنة اعتنوا بهذا الأثر الأدبی، فانتشر انتشاراً واسعاً بین المسلمین فی شبه القارة الهندیة.

وبالرغم من الدور الکبیر لشیعة الهند فی نشر فضائل أهل البیت علیهم السلام ، بید أنّ السنة کانوا یشارکون أیضاً فی مجالس الشیعة الذین کانت لهم تقالید خاصّة فی إقامة العزاء، ففی مدینة السند کانوا یقیمون مجالس العزاء، ویلطمون فیها، ویمشون حفاةً فی النار وعلی الجمر، وفی مدینة کویته مرکز بلوشستان، کان للشیعة مراسم خاصّة، کاللطم علی الصدور، وضرب الرؤوس بالسیوف، وکانوا یجتمعون کلّ سنة فی الطرق الرئیسة

ص: 354


1- ([1]) اُنظر: اُنظر: أعلا خان أفصح زاده، لقاء خاص مع مجلة آشنا، السنة الخامسة، العدد (13) لسنة (1375ش): ص61 - 73.

ویتّجهون نحو حرم بزرک (أحد مراکز تجمّع الشیعة)، وقیل: إنّ هذه المآتم کانت تُقام أیضاً فی مدن أُخری، کالبنجاب، وباراجنار، وکشمیر، ولکنهو، ودهلی، وغیرها.

واذا أخذنا فی الاعتبار هیام الشیعة فی الهند بحبّ أهل البیت علیهم السلام ، وبغضهم لأعدائهم، ولعنهم الدائم لیزید، فمن المُتوقّع أن نجد إقبالاً واسعاً من قبل أهل السنة علی کتاب (روضة الشهداء)، وازدیاد الرغبة فیه.

لقد تُرجم کتاب روضة الشهداء باللغات الأُردیة والسندیة وغیرهما لسکان شبه القارة الهندیة، وفی سنة (1130ه-) تُرجم باللغة الدکنیة، وقد طُبع باللغة الأُردیة تحت عنوان (کنج شهیدان) أو (کنز الشهداء)((1)).

وکلّ هذا یدلّ علی الاستعداد الروحی للمجتمع هناک، وحاجته لمثل هذا النص، ووجود سنّة العزاء الحسینی.

لقد عکف علماء السنة علی نشر التراث الحسینی، ولم یکتفوا بترجمة کتب المقاتل الفارسیة ونشرها، وإنّما قاموا بتألیف الکتب فی هذا المجال، مثل کتاب (مقتل سید الشهداء) لأحد علماء الحنفیة، الذی أراد أن یؤکّد علی أنّ العزاء علی الإمام الحسین علیه السلام لیس خاصّاً بالشیعة، بل یشارکهم فیه أهل السنة، وینالون علیه الأجر والثواب.

لقد اتّسعت مجالس العزاء فی شتّی أرجاء شبه القارة الهندیة، وکان المسلمون فی الهند من الفریقین، فی کویته ولاهور وکراتشی وباراجنار وحیدر آباد ولکنهو ودهلی ودکن، وباقی المدن والأریاف التی یقطنها المسلمون، یقیمون المآتم، وینفقون أموالهم، ویعدون الطعام للمشارکین فی العزاء، حیث إنّ المهاجرین من شعراء العجم من آسیا الوسطی وأفغانستان وإیران فی الفترة التیموریة، کانوا یحیون ذکری تلک الفاجعة

ص: 355


1- ([1]) اُنظر: استوری، أدبیات فارسی (الأدب الفارسی): ص912.

الألیمة بأشعارهم ومراثیهم.

أضِف إلی ذلک أنّ بعض الهنود من غیر المسلمین کانوا یحضرون مجالس العزاء، ویرتدون الثیاب السوداء فی أیّام المحرم الأُولی من کلّ عام، ویجتنبون الملذّات ومجالس الفرح فی تلک الأیام، ویُطعمون الفقراء، وینشئون المراقد والمزارات الرمزیة، کحرم الإمام الحسین علیه السلام وأبی الفضل وغیرهما، ویقرؤون الأدعیة والزیارة إلی جوارها إحیاء لذکری شهداء کربلاء.

وکان الخطباء یندبون الإمام الحسین علیه السلام بمختلف اللغات: الفارسیة، والأُردیة، والبنجابیة، والسندیة، والبشتویة، والبلوشیة، فتذوب قلوب المستمعین حزناً، وتنهمر دموعهم أسیً، ویلطمون صدورهم.

وکانت مجالس المآتم تُقام غالباً فی التکایا وأمام الأضرحة، وکانوا یُخصّصون کلّ یوم من المحرم بذکر إحدی رزایا واقعة عاشوراء.

استمرّت مجالس العزاء فی شبه القارة الهندیة حتی بعد أن تجزّأت إلی ثلاث دول: الهند وباکستان وبنغلادش، واستمرّ إحیاء التراث الحسینی فیها بصور مختلفة، مثل الإطعام، ورثاء أهل البیت علیهم السلام .

ورغم أنّ المسلمین - لا سیما الشیعة - یُعدّون من الأقلّیات الدینیة فی الهند، وأنّ نظام الحکم فیها نظام علمانی، بید أنّهم کانوا یعظّمون یوم عاشوراء، وقد أقروا هذا الیوم من کلّ عام عطلة رسمیة إجلالاً لعظمته((1)).

وتدلّ آراء کبار رجال السیاسة فی شبه القارة الهندیة علی أنّ رسالة الحسین علیه السلام

ص: 356


1- ([1]) اُنظر: حکمت، علی أصغر ، سرزمین هند (أرض الهند): ص252. مکرمی، مجتبی، نگاهی به تاریخ حیدر آباد (نظرة إلی تاریخ حیدر آباد): ص85. الشهرستانی، صالح، تاریخ النیاحة (تحقیق نبیل رضا علوان): ج2، ص72 - 84.

وفلسفة شهادته قد وصلت إلی آذانهم، وأثّرت علیهم فی حرکتهم ونهضتهم ضدّ الحکومات الجائرة.

یقول مهاتما غاندی زعیم الهند: أنا ما أتیت بشیء جدید لشعب الهند، بل کلّ هذا کان من ثمرات بحوثی ومطالعاتی عن تاریخ حیاة الإمام الحسین علیه السلام التی أهدیتها لشعب الهند، وإذا أردنا أن نُنقذ الهند من خطر السقوط، فعلینا أن نسلک طریق الإمام الحسین علیه السلام ((1)).

یعتقد جواهر لعل نهرو - أوّل زعیم للهند بعد الاستقلال - أنّ شهادة الإمام الحسین علیه السلام وأصحابه فاجعة کبیرة للمسلمین ولا سیما للشیعة، وکلّ المسلمین فی شهر المحرم من کلّ عام یحیون هذه الذکری الألیمة بإقامة المآتم والنیاحة علی مظلومیته((2)).

یقول بورش تاملاس أحد زعماء الهند ورئیس برلمان الهند السابق: أنا أعرف مدی أهمّیة إحیاء هذه الواقعة التاریخیة العظیمة، فبشهادة الإمام الحسین علیه السلام وتلک التضحیات الجسام، ارتقی مستوی الفکر البشری، وهذا ما یحتّم بقاء ذکری الواقعة خالدة((3)).

وعلی الرغم من ظهور المذهب الوهابی فی باکستان وسعیه فی التمدّد، فإنّه مازالت لأهل البیت علیهم السلام منزلة رفیعة لدی مسلمی باکستان.

وقد قامت الوهابیة بعدّة محاولات لمحو آثار أهل البیت علیهم السلام ، فتارة تکون نشاطاتهم بصورة مباشرة ومنظّمة تحت عنوان (جند الصحابة)، وتارة أُخری عن طریق نشر الکتب والرسائل المختلفة، وبناء المدارس والمساجد والمستشفیات والجامعات والمنظمات الخیریة، وکذلک الدعم المادی للمدارس والمؤسّسات العلمیة،

ص: 357


1- ([1]) اُنظر: آزادگان، حسین رهبر (الحسین قائد الأحرار): ص59.
2- ([2]) اُنظر: نهرو، جواهر لعل ، نگاهی به تاریخ جهان (نظره إلی تاریخ العالم): ج1، ص298.
3- ([3]) اُنظر: مظلومی، رجب علی، حسین رهبر آزادگان (الحسین قائد الأحرار): ص60.

یهدفون من وراء ذلک التقلیل من شأن أهل البیت علیهم السلام ، ولکنّ محاولاتهم تلک قد باءت بالفشل، فمجالس العزاء لا زالت قائمة علی قدمٍ وساق فی باکستان.

ویعدّ المصلح الإسلامی الکبیر العلّامة محمد إقبال اللاهوری (1289 - 1353ه-) من أبرز زعماء أهل السنة، الذین کان لهم دورٌ کبیر فی إحیاء التراث الحسینی بقلمهم وشعرهم، فهو یؤکّد فی کلّ دیوانه علی حبّه للإمام الحسین علیه السلام ، ولزوم اتّباع منهجه، وأن نأخذ نهضته الشریفة بعین العبرة ویقول: کان دم الحسین علیه السلام تفسیراً للأسرار، وإیقاظاً للشعوب النائمة، وقد کتب علی رمضاء کربلاء لا إله إلّا الله، وکتب عنوان نجاتنا، ومن الحسین علیه السلام تعلمنا رمز القرآن، ومن نوره ادّخرنا الضیاء.

خون او تفسیر این

أسرار کرد

ملّت خوابیده

را بیدار کرد

نقش إلا الله

بر صحرا نوشت

سطر عنوان

نجات ما نوشت

رمز قرآن از

حسین آموختیم

زآتش او شعله

ها اندوختیم((1)).

ویعتقد أهل السنة فی باکستان بضرورة إحیاء ذکری واقعة کربلاء، یقول أحد العلماء المعاصرین فی باکستان: إنّ مصائب العالم الإسلامی بدأت بعدما صار الحکم بید معاویة، وکان نتیجة ذلک تغییر نظام الحکم من الخلافة إلی النظام الملکی.

وبقطع النظر عن المحاولات الیائسة للوهابیین فی العقود الأخیرة بمحاربة مجالس العزاء والمآتم، وتشویه سمعة واقعة کربلاء، فما زال أهل السنة فی شتّی أنحاء باکستان یعربون عن حزنهم لقتل الإمام الحسین علیه السلام یوم عاشوراء، وأحیاناً یرتدون الثیاب السوداء حداداً علیه.

وعلی أیّة حال یمکن تقسیم موقف السنة فی باکستان إزاء مراسم العزاء إلی قسمین:

ص: 358


1- ([1]) اُنظر: اللاهوری، محمد إقبال، الأعمال الکاملة لمحمد إقبال اللاهوری: ص74 - 75.

القسم الأول: یُطلق علی السواد الأعظم من أهل السنة فی باکستان ب- (البرلویة)، وهم أتباع أحمد رضا البرلوی الحنفی، وهم منتشرون فی مناطق باکستان المتعدّدة، وکان لهم اهتمام واسع بتکریم آل رسول الله صلی الله علیه و آله ، حیث یقیمون مراسیم مختلفة فی شهر المحرم من کلّ عام، ومن جملة نشاطاتهم یوم عاشوراء:

1- یقوم بعضهم بزیارة القبور فی یوم عاشوراء، باعتبار أنّ هذا الیوم هو یوم مقدّس ومناسب للدعاء وذکر الأموات.

2- الصیام فی یوم عاشوراء طبقاً لوصایا وروایات متعدّدة فی کتبهم الفقهیة، فیصومون إحیاء لذکری الحسین علیه السلام .

3- یُنصب بعض المحطات لتوزیع الماء والطعام، ویقومون بإطعام المشارکین فی مجالس العزاء فی هذا الیوم وسقایتهم.

4- الحضور فی مجالس عزاء الشیعة، وإن کان بنسبة ضیقة، والبکاء علی مصاب سید الشهداء علیه السلام .

5- کما أنّ بعضهم ینذر للعزاء لقضاء حوائجه، أو یتبرّع بالنقود حتی یکون شریکاً فی تلک المجالس، أو یُهدوا أشیاء قیّمة للعزاء من قبیل الرایات أو المهد ونحوها((1)).

6- یقیم بعض العلماء والمراکز العلمیة قُبیل عاشوراء المؤتمرات حول الثورة الحسینیة، یتناولون خلالها أبحاثاً تتعلّق بالقضیة الحسینیة، ومن الطبیعی نجدهم یعترضون علی بعض أعمال الشیعة، من قبیل التطبیر والسلاسل وغیرها، ویقوم خطباء السنة فی الجمعة السابقة لعاشوراء بذکر واقعة عاشوراء، وأحیاناً یتطلّب ذلک دعوة الناس للمشارکة فی مجالس العزاء التی یقیمها الشیعة، وأحیاناً یحضرون بأنفسهم.

ص: 359


1- ([1]) اُنظر: زیدی، أظهر حسن، عاشورا از نگاه أهل سنّت پاکستان: ص6.

القسم الثانی: یُطلق علی بعض أهل السنة فی باکستان وشبه القارة الهندیة من أهل الحدیث ب-(الدیوبندیة)، وهم فی الفترة الأخیرة مالوا بشکل کبیر للنزعة الوهابیة، الذین کانوا یضعون العراقیل للحیلولة دون إقامة مراسم عاشوراء، نظیر: تکفیر الشیعة، والتفخیخ، واغتیال الشخصیات البارزة، وإطلاق النار علی المصلین الشیعة، والقیام بالعملیات الانتحاریة، وهدم المساجد.

یُذکر أنّ الحکومة المرکزیة والحکومات المحلیة فی باکستان تعلن عادةً یومی تاسوعاء وعاشوراء عطلة رسمیة، حیث تتّشح البلاد بالسواد، وتُغلق المتاجر والمحلّات والأسواق((1)).

هذا إلی جانب أنّ الکثیر من السادة والأشراف یعیشون فی باکستان فی المناطق التی یقطنها البشتون فی ولایة سرحد أو إقلیم خیبر پشتونخواه، ومنهم من یقطن فی ولایة سرحد، وکانوا یقیمون المآتم والأحزان فی محرم بلغة الأُردو والپشتو((2)).

إقامة العزاء فی أفغانستان

انقسمت خراسان بعد سقوط نظام الحکم التیموری إلی ثلاثة أقسام: القسم الشمالی ووقع بید الشیبانیین، والقسم الشرقی الذی سیطر علیه ظهیر الدین بابرمیرزا من أحفاد تیمور لنک، والقسم الغربی وتولّی الحکم فیه الصفویون.

وبالاستناد إلی تاریخ خراسان، فإنّ معظم أهل السنة فی خراسان کانوا یعظّمون الشعائر الدینیة بإقامة مجالس العزاء فی شهری محرم وصفر، ومجالس الفرح فی شهر شعبان، لا سیما فی ذکری مولد الإمام المهدی، وذلک علی الرَّغم من الضغوط

ص: 360


1- ([1]) زیدی، أظهر حسن، عاشورا از نگاه أهل سنّت پاکستان: ص6.
2- ([2]) اُنظر: الشهرستانی، صالح، تاریخ النیاحة: ج2، ص76 - 86.

الشدیدة التی کانت تمارسها الحکومات السنیة المتعصّبة (الشیبانیین)((1)).

وهناک ضرائح کثیرة لکبار العلماء السادة فی جنوب أفغانستان یقصدها المسلمون من الفریقین للزیارة من شتی مدن أفغانستان مثل: قندهار، وهلمند، ونیمروز، وینفقون أموالاً طائلةً فی سبیل إطعام الزوار، ویجرون برامج خاصّة، یذکرون فیها مناقب ومآثر أهل البیت علیهم السلام ، کما تشترک جماعات من أهل السنة القاطنین فی مدینة هزارة فی مراسیم العزاء ومجالس النیاحة التی یقیمها الشیعة.

وإذا استثنینا أمیر عبد الرحمن الحاکم الأفغانی الذی قام بإبادة جماعیة للشیعة فی مدینة هزارة لمدّة ثلاثة سنوات (1880 - 1883ه-) وهَدَم الحسینیات، ومَنَع العزاء علی الإمام الحسین علیه السلام ، إذا استثنینا ذلک، فإنّ حکام أفغانستان ما کانوا یمنعون الشیعة علناً عن إقامة العزاء وإنشاد المراثی الحسینیة.

لقد جاء فی المصادر التاریخیة أنّ الحکام والسلاطین فی عصر حکومة أمیر أمان الله ومابعده کانوا یحضرون فی مراسم العزاء الحسینی، التی کانت تقیمها الشیعة فی مدینة کابل یوم عاشوراء من کلّ عام((2)).

ویُقال: إنّ محمد ظاهر شاه - الملک الأفغانی - ابتلی بداءٍ فی عینه، وذلک فی العقد الأوّل من حکومته، فقصد زیارة الإمام الحسین علیه السلام لطلب الشفاء، ولمّا رجع من تلک الزیارة کان یرفل فی أثواب الصحّة والسلامة، فأهدی میزاباً ذهبیاً لمرقد الإمام الحسین علیه السلام .

ومنذ تلک الفترة وماتلاها، کان محمد ظاهر شاه وأولاده یشارکون فی مراسیم العزاء علی سیّد الشهداء فی یومی تاسوعاء وعاشوراء من کلّ عام، وینفقون من

ص: 361


1- ([1]) اُنظر: الشهرستانی، صالح، تاریخ النیاحة: ج2، ص68 - 69.
2- ([2]) اُنظر: رجا، محمد سرور، إحیاگر شیعة در أفغانستان (إحیاء الشیعة فی أفغانستان): ص158. المظفر، محمد حسین، تاریخ الشیعة: ص352.

أموالهم فی سبیل إقامة العزاء((1)).

وابن عمّ الملک محمد، والذی عُرف بتعصّبه القومی ومخالفته للشیعة (هزارة)، بادر إلی ضریح الإمام الحسین علیه السلام بعد سنتین من انقلابه الأبیض علی ظاهر شاه، وصار ینذر ویقدّم الطعام للعزاء أیام عاشوراء.

وعلی الرغم من أنّ الحکام والولاة من قبلهم کانوا یضایقون الشیعة فی أفغانستان ویعاملونهم بالشدّة، بید أنّه کان لعلماء السنة وعرفائهم نشاطات إیجابیة فی نشر علوم أهل البیت علیهم السلام ومعارفهم، کما أنّ هناک نفراً من العلماء والمدرسین السنة قاموا بإعداد بعض طلبة الشیعة فی أفغانستان، مثل آیة الله عزیز الله الغزنوی، وفیض محمد الکاتب (المتوفی1929م)، وغیرهما من العلماء الذین کان لهم دور بارز فی تبیین شخصیة الإمام الحسین علیه السلام وثورته الخالدة وتوضیحها لعامّة الناس، وکان بعض علماء السنة یتتلمذون أیضاً عند علماء الشیعة ویحضرون دروسهم.

إنّ دراسة تاریخ أفغانستان تکشف عن أنّه کلّما قصرت أیدی الأجانب الطامعین فی أفغانستان، وقلّ تدخلهم فی الشؤون الدینیة والاجتماعیة للشعب، ازداد تمسّک أهل السنة والشیعة فیها بعقائدهم، وغمر حیاتهم جمیعاً الوئام والسلام.

هذا وقد کان بعض علماء السنة یتبرّعون بأراض أو بنایات للشیعة؛ لکی یقیموا مراسیم العزاء فیها.

یعتبر شرق أفغانستان من المراکز المهمّة للسنة وکلّما تهیّأت ظروف مناسبة لهم أقاموا المآتم والتعازی علی الإمام الحسین علیه السلام ، ومن جملة تلک المجالس والمراثی التی کانت تقام لإحیاء ذکری شهداء کربلاء، مجلس کان یقام فی مدینة جلال آباد.

ص: 362


1- ([1]) اُنظر: زمیزم، سعید رشید، زوار الإمام الحسین علیه السلام : ج1، ص63.

یُشار إلی أنّ مدینة جلال آباد التی تقع فی شرق أفغانستان تعتبر من المراکز المهمّة للناطقین باللغة البشتویة، وکان أهلها الذین یغلب علیهم الطابع السنی یقیمون مجالس العزاء علی فجائع کربلاء فی یوم عاشوراء من کلّ عام، واستمرّ عقد تلک المجالس منذ سنة (1347م) حتی نهایة عام (1978م)، أی قبیل هجوم الشیوعیین علی أفغانستان، وکان یحضر تلک المجالس التی تغصّ بالحاضرین، العلماء والشخصیات السیاسیة والدینیة من شتّی أرجاء أفغانستان((1)).

واستناداً إلی تاریخ أفغانستان هناک مراسیم کانت ولا تزال تقام لبیان مناقب الرسول الأکرم’ وآله الأطهار علیهم السلام ، یحضرها الشیعة والسنة، وقد اتّسع نطاقها فی العقدین الماضیین.

إقامة العزاء فی العصر العثمانی (714ه- - 1342 ه-)

بدأ العثمانیون بإنشاء دولتهم فی ترکیا قبل أن یظهر تیمورلنک (782 - 806ه-)، ثمّ بسطوا سیطرتهم علی أصقاع واسعة، وتمکّنوا من إخضاع أغلب البلدان العربیة، وامتدّ نفوذهم من شبه جزیرة البلقان والنمسا إلی شمال أفریقیا، وأقاموا حکم السلاجقة تحت عنوان الخلافة الإسلامیة.

وهناک أخبار عدیدة نقلت عن إقامة مجالس العزاء لأهل السنة فی العراق منذ زمن قدیم، ففی مدینة الناصریة کان أهلها یشارکون فی المآتم التی تقیمها الشیعة، کما کانت لهم مواکب حسینیة تخرج یوم عاشوراء من کلّ عام للعزاء((2)).

لم یکتف الحکام العثمانیون بقمع الشیعة مذهبیاً، وإنّما یعتبرونهم سیاسیاً أعداء

ص: 363


1- (1) اُنظر: رجا، محمد سرور، إحیاگر شیعه در أفغانستان (إحیاء الشیعة فی أفغانستان): ص169 - 170. شریعت، جواد، سیمای فرزانکان (سیرة الحکماء): ص31. الشهرستانی، صالح، تاریخ النیاحة: ج2، ص66.
2- ([2]) اُنظر: الشهرستانی، صالح، تاریخ النیاحة: ج2، ص47.

بالقوّة وموالین للمنافس القوی لهم المتمثّل بالدولة الصفویة، وکانت التحرّکات الحادّة الأُولی التی قام بها شاه إسماعیل کافیة لإساءة معاملتهم وظلمهم من قبل العثمانیین.

لکن مع کلّ هذا الظلم والعداء، فإنّ الشیعة کانوا یجتمعون فی أحد مزارات مدینة حلب بسوریة، ویعرف باسم (مشهد الحسین)، ویقیمون مجالس العزاء فی عاشوراء، وینفقون أموالهم فی سبیل إطعام الزوار.

وفی المناطق السنیة فی دول الخلیج والدول العربیة الأُخری، لا سیما فلسطین والأردن، وإن لم یقیموا مجالس العزاء فی محرم وعاشوراء بالطریقة ذاتها التی علیها الشیعة فی العراق ولبنان والبحرین، إلّا أنّهم فی یوم عاشوراء یطبخون الأطعمة ویقدّمونها، ویتجنّبون إقامة مجالس الفرح والسرور.

وممّا یجدر ذکره أنّ أشهر المذاهب الصوفیة فی العهد العثمانی التی کانت تبجّل آل رسول الله’ هی الفرقة البکتاشیة فی آسیا الصغری والبلقان، فإنّهم علی الرغم من الحملات الشرسة التی قادها کمال مصطفی أتاتورک (الأب الجدید لترکیا) لوأد الدین ومحاولاته الکثیرة لجعل المجتمع الترکی مجتمعاً علمانیاً، کانوا یقیمون مجالس العزاء کلّما سنحت الفرصة فی دورهم سرّاً وخفاءً، للتعبیر عن محبّتهم وولائهم لأهل البیت علیهم السلام .

وأتباع هذه الفرقة لا زالوا متمسّکین بتقالیدهم، ومنها زیارة العتبات المقدسة فی العراق وإیران، وکلّما أُتیحت لهم فرصة، قصدوا تلک المراقد الشریفة.

وقد نظم شعراء الفرقة البکتاشیة فی ألبانیا التی تقع فی البلقان قصائد فی رثاء الإمام الحسین علیه السلام وفجائع عاشوراء وبعضها لا یزال موجوداً حتی الآن((1)).

ص: 364


1- ([1]) اُنظر: المرزجی، زهرا کدخدایی، إمام حسین ودیدگاه ها (الإمام الحسین والرؤی): ص138 - 150.

إضافة إلی الفرقة البکتاشیة هناک فرقةٌ أُخری کانت موالیة لأهل البیت علیهم السلام ، تدعی الفرقة الخکویة، وهم ینتشرون فی ترکیة والبلقان، وکانت لهم حسینیات یقیمون فیها مجالس العزاء، ویذکرون فیها مناقب النبی صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام ، ویبینون ملامح من شخصیتهم العظیمة لأبنائهم((1)).

وعلی أیّة حال، فقد رثی العدید من شعراء السنة فی العهد العثمانی الحسین علیه السلام ، منهم السید محمد الأدهمی الحنفی (المتوفی1249ه-)، حیث قام برثاء ریحانة سید الکونین الإمام الشهید الحسین علیه السلام :

عجباً لقوم یدّع-ون ولاءه

عاشوا وفی الأیام عاشوراءُ

مَن لم یمُت بعد الحسین تأسّفاً

عندی وأعداء الحسین سواءُ((2)).

ومنهم عبد الباقی العمری الفاروقی (المتوفی1279ه-)، وله دیوان شعر یُسمّی (التریاق الفاروقی)، و(نزهة الدهر فی تراجم فضلاء العصر)، و(الباقیات الصالحات)، وهی قصائد فی مدح أهل البیت علیهم السلام .

کما أنشد قصیدة فی رثاء الإمام الحسین علیه السلام :

قضی نحبه فی یوم عاشور مَن غدت

علیه العقول العشر تلطم بالعشرِ

قضی نحبه فی نینوی وبها ثوی

فعطّرَ منها الکائنات ثری القبرِ

قضی نحبه فی الطفّ مَن فوقَه طفا

نجیعٌ کسا الآفاق بالحلل الحُمرِ

قضی نحبه مَن

راح للحرب خائضاً

ببحر دمٍ فانصبّ بحرٌ علی بحرِ

قضی نحبه والبیض تکتب أحرفاً

بها نطقت فی الطعن ألسنة السحرِ

ص: 365


1- ([1]) المصدر السابق.
2- ([2]) شبر، جواد، أدب الطف: ج6، ص298 - 299.

قضی نحبه والشمس فوق جبینه

تحرّر بالأنوار سورة والفجرِ

قضی نحبه والدین أصبح بعده

إلی الله یشکو ما عراه من الضُّرِّ

قضی نحبه طودٌ به طار نعشُهُ

إلی الملأ الأعلی بأجنحة النّسر

قضی نحبه مَن یتبع الضیم بالظما

ویجرع فی الهیجاء مراً علی مرِّ

قضی نحبه روح الوجود وسرّه

ومرقده فی کربلا موضع السرِّ

قض-ی نحبه ریحانة المصطفی التی

تفوح لیوم النشر طیّبة النشر

قضی نحبه ابن الأنزع البطل الذی

أذاق الردی عَمراً وأعرض عن عمروِ

وقال:

نحن أناس إذا ما

قد حلّ شهر المحرّم

فکلّ شیء علینا

سوی البکاء محرّم((1)).

ومنهم السید عبد الرحمن الآلوسی (المتوفی 1284ه-)، وله قصیدة فی رثاء جدّه سید الشهداء، منها:

هو الطّف

فاجعل فضة الدمع عسجدا

وضع لک فولاذ

الغرام مهنّدا

ورد منهل

الأحزان صرفاً وکررن

حدیثاً

لجیران الطفوف مجدّدا

وما القلب إلّا

مضغة جد بقطعها

ودعها فداء

السبط، روحی له الفدا

أترضی حیاة

بعد ما مات سید غدا

جدّه المختار

للناس سیدا

أترضی اکتحال

الجفن بعد مصابه

وجفن التقی

والدین قد بات أرمدا

خذ النوح فی

ذاک المصاب عزیمة

إلی الفوز

واجعل صهوة الحزن مقعدا

ص: 366


1- ([1]) شبر، جواد، أدب الطف: ج7، ص125. الزرکلی، خیر الدین، الأعلام: ج3، ص271 - 272.

بکت رزءه

الأملاک والأُفق شاهد

ألم تره من

دمعه قد تورّدا

فیا فرقداً

ضاء الوجود بنوره

فما بعده نلقی

ضیاءً وفرقدا

وریحانة طاب

الوجود بنشرها

بها عبثت

أیدی الطغاة تعمُّدا

لئن أفسدوا

دنیاک یابن محمد

سیعلم أهل

الظلم منزلهم غدا

وحقّک ما هذا

المصاب بضائرٍ

لأنّ الوری

والخلق لم یُخلقوا سُدی

فألبسک

الرحمان ثوب شهادة

وألبسهم خزیاً

یدوم مدی المدی

لبستم کساء

المجد وهو إشارة

بأنّ لکم

مجداً طویلاً مخلّدا

وطهّرکم ربّ

العلی فی کتابه

وقرّر کلّ

المسلمین وأشهدا

أتُنکر هذا یا

یزید ولیس ذا

بأوّل قبحٍ

منک یا غادرٌ بدا((1)).

ومنهم الدکتور زکی المحاسنی (1911 - 1972م):

عاطنی دمعاً وخذ منی عیناً

واحسیناً واحسیناً واحسینا

إنّما فی الشام وتیار حنانی

ینتحی من ذکرک المحزون حینا

یسأل الریح إذا هبت رخاء

فی البوادی عن هوی قد کان دینا

یا مهاداً فی العراقین أجیبنی

أین مثوی ذلک المحبوب أینا((2)).

وأنشد أنور العطار (1908 - 1972):

أنت فی العین دمعة الکبریاء

یا علاء أزری بکلّ علاء

لا أُناجیک بالمدامع تهمی

أنت أسمی من الأسی والبکاء

ص: 367


1- ([1]) شبر، جواد، أدب الطف: ج7، ص182.
2- ([2]) شبر، جواد، أدب الطف: ج10، ص270.

ما غناء الدموع فی موقف جلّ

عن النوح والشجی والرثاء

لست فی مأتم تغصّ به الأرض

فتبکی له عیون السماء

إنّما أنت فکرة ومثال

للعلی والمروءة السمحاء

نسجت حولک البطولة رمزاً

وارتوت منک دوحة الشهداء

أی معنیً سکبت فی أُذن

الخلد فظلّت تعجّ بالأصداء

مطمح أنت فی العلاء بعید

وإباء أعظِم به من إباء

تمتطی الهول مرکباً غیر هیاب

صروف الدجنة السوداء

یا مثال الجهاد یا صورة البأس

ویا غایة الندی والسخاء

لذ فی ذکرک السنی قریضی

وحلا باسمک الحبیب ندائی

أیّها الموقظ النفوس من الظلم

ومردی جحافل البغضاء

أنفخ الکون بالعظائم تتری

فالعظیمات نفحة العظماء

یا رفاتاً تضوع المسک منه

فسری الطیب فی مدی الأرجاء

عبقت منه جنّة الخلد حتی

فغم العطر عالم السعداء

صورة أنت للعلی وکتاب

لیس یبلی وعالم من ثناء

بأبی أنت یاحسین وأُمّی

یا نشیدی علی المدی وغنائی

منک صغت الشعور کناً جدیداً

وتفرّدت فی بدیع أدائی((1)).

ص: 368


1- ([1]) شبر، جواد، أدب الطف: ج10، ص280.

کما أنشد نزار قبانی فی الحسین علیه السلام وقال:

سأل المخالف ُ حین أنهکه العجب

هل للحسین مع الرّوافض من نسب

لاینقضی ذکرُ الحسین بثغرهم

وعلی امتداد الدّهر یوقد کالّلهب

وکأنّ لا أکل الزّمان ُ علی دمٍ

کدمِ الحسین بکربلاء ولا شرب

أوَ لم یحِن کفُّ البکاء فما عسی

یبدی ویجدی والحسینُ قد احتُسب

فأجبتُه ما للحسین وما لکم

یا رائدی ندوات آلیة الطّرب

إن لم یکن بین الحسین وبیننا

نسبٌ فیکفینا الرّثاء له نسب

والحُرّ لا ینسی الجمیلَ وردَّه

ولَئن نسی فلقد أساء إلی الأدب

یا لائمی حبُّ الحسین أجنّنا

واجتاح أودیة الضّمائر واشرأب

فلقد تشرّب فی النّخاع ولم یزل

سَرَیانه حتّی تسلّط فی الرّکب

من مثلُه أحیا الکرامة حینما

ماتت علی أیدی جبابرة العرب

أفاق دنیاً طأطأت لِوِلاتِها

فرقَی لذاک ونال عالیة َ الرُّتب

وغدی الصُّمودُ بإثره متحفّزاً

والذّل عن وهج الحیاة قد احتجب

أمّا البُکاء فذاک مصدرُ عِزِّنا

وبه نواسیهم لیوم المُنقلب

نبکی علی الرّأس المرتّل آیةً

والرّمحُ منبره وذاک هو العَجب

نبکی علی الثّغر المکسر سِنّه

نبکی علی الجسد السّلیب المنتهب

نبکی علی خِدر الفواطم حسرةً

وعلی الشَبیبةِ قُطِّعوا إرَباً إرب

دَع عنک ذکرَ الخالدین وغِبطَهم

کَی لا تکونَ لنار بارئهم حطب

ص: 369

إقامة العزاء فی شمال أفریقیا

إنّ إقامة العزاء فی مصر وباقی البلدان فی شمال أفریقیا ظلّت مستمرّة، عند السنة فضلاً عن الشیعة حتی بعد سقوط الدولة الفاطمیة رغم الضغوط التی مارسها الحکم الأیوبی والمنع من إقامة شعائر الحزن، وإحیاء هذه الشعائر فی مقام رأس الحسین علیه السلام والسیدة زینب‘، وصارا مرکزاً لإحیاء ذکری فضائل أهل البیت علیهم السلام ومصائبهم.

ومن آثار أهل السنة فی مصر فی القرن العاشر التی تدلّ علی تأثّرهم بواقعة کربلاء، ما ورد فی کتاب (تاریخ الخلفاء)، حیث عبّر مؤلِّفه السیوطی عن مصرع الحسین الشهید علیه السلام فی واقعة عاشوراء بهذا التعبیر: «وفی قتله قصّة فیها طول لا یحتمل القلب ذکرها»((1)).

وبیّن فی کتابه الآثار العظیمة لشهادة الإمام الحسین علیه السلام ، وعدّد بعد ذلک جرائم یزید فی حقّ آل رسول الله’، ثمّ ذکر بعض کرامات الإمام الحسین علیه السلام ، والأحادیث التی تدلّ علی مقامه الرفیع عند رسول الله صلی الله علیه و آله .

ویذکر السیوطی فی کتابه المذکور أبیاتاً فی رثاء الإمام الحسین علیه السلام کانت قد اشتهرت بین عامّة الناس دون أن یعرفوا قائلها ولهذا نُسبت إلی الجن:

مسح الرسول جبینه

فله بریقٌ فی الخدودِ

أبواه من عَلیا قریش

جدّه خیر الجدود

ثمّ ینقل أحداث مابعد یوم عاشوراء، وانتقال السبایا من کربلاء إلی الکوفة ثمّ الشام، وانتهاک حرمة السبایا علی ید ابن زیاد ویزید وأعوانهم، ویعتقد أنّ کلّ ما فعله یزید من حسن تعامله مع السبایا، وإکرامهم کان خوفاً من الرأی العام فی الشام.

ص: 370


1- ([1]) السیوطی، جلال الدین، تاریخ الخلفاء: ص247.

یقول أحد کتّاب المغرب حول عظمة شهر محرم ویوم عاشوراء فی بلاده:

«بحلول شهر محرّم من کلّ عام یتغیّر وجه الحیاة فی المغرب، حیث یدع الناس أیّام الدعة والاستکانة إلی الأهواء، ویتبدّلون بها عودة إلی محاسبة النفس، فیستیقظ الضمیر فیهم.. ویهیمن فیه الأسی والحزن العمیق علی القلوب، فلا یُباح مطلقاً التجمّل حتی ولا غسل بیوت أو ثیاب، ولا تزفّ عروس.. بل إنّ الناس یلبسون فی هذه المناسبة لباس العزاء»((1)).

ویقول العلّامة السید محسن الأمین بعد زیارته مصر (سنة1321ه-): «وزرنا مشهد رأس الحسین علیه السلام (بالقاهرة) فخلنا أنفسنا فی کربلاء؛ لأنّ ما یفعله المصریون فی ذلک المشهد لا ینقص عمّا یفعله العراقیون الشیعة فی کربلاء»((2)).

وقد أنشد الشیخ عبد الله العلایلی المصری قصیدة تحت عنوان (دمعة سنی علی الحسین علیه السلام )، یقول فیها:

وقفت علی زمرة ثائرین

یکاد الحفاظ یرامی الحمم

یقولون ثأر لنا نائم

نرید انتقاماً یروی الضرم

یروی الضلوع یعید النخا

یروی النفوس یعید الشمم

فقلت إلیکم وأین الترات

قالوا جمیعاً طواها الرمم

فقلت إلیکم لماذا الحفاظ

هل فی القبور هوی ینتقم

فقالوا وألووا إلی الرؤوس

ریت الأُمور بعین أُمم

ص: 371


1- ([1]) مجلة الهادی، العدد 2، سنة 1391ه-، نقلاً عن إمام حسین ودیدگاه ها (الإمام الحسین والرؤی): ص88.
2- ([2]) الأمین، محسن، أعیان الشیعة: ج10، ص363.

نحیی الکرامة فی شخصها

نحیی البطولة فی ذا العلم

نحیی الحقیقة فی نبلها

نحیی الفداء نحیی الحطم

نحیی ضمیراً سما طهره

نحیی ضحیة حق غرم

نحیی الطهارة فی بیتها

إطار الطهارة قدس ودم

نحیی نبیلاً أبی نبله

قراراً وتلک تطل الحرم

نحیی فؤاداً تأبّی العفا

تأبّی الفضیلة أن تنحطم

نحیی مثالاً أجاب الندا

فکان فداء کرمز الحرم

طربت لما فهمت الرموز

وأرسلت دمعی فوق الرمم((1)).

إقامة العزاء فی القوقاز

یمکن تقسیم القوقاز من الجانب المذهبی إلی قسمین: الشمالی والجنوبی، ففی القسم الجنوبی (آذربیجان) هناک عدد کبیر من الشیعة کانوا یقیمون مجالس العزاء فی یومی تاسوعاء وعاشوراء، ولکن بعد إنهاء سیطرة الشیوعیة علیهم واستقلالهم وانفصالهم عن روسیا، أخذوا یقیمون مجالس العزاء فی مختلف أنحاء آذربیجان، مثل: باکو ونخجوان وغیرها.

وأمّا القسم الشمالی الذی یُسمّی بجمهوریة داغستان فلازالت تخضع لسیطرة روسیا، وعلی الرغم من أنّ معظم سکّانها من أتباع المذاهب السنیة، لکنّ إقامة العزاء بینهم أمرٌ رائج فی کلّ محرّم، لا سیما فی یومی تاسوعاء وعاشوراء، ویعبّرون عن حزنهم

ص: 372


1- ([1]) العلایلی، عبد الله، سمو المعنی فی سمو الذات: ص145.

وأساهم لشهادة الإمام الحسین علیه السلام ، ویجتنبون مجالس الفرح وإقامة حفلات الزواج، وبالإضافة إلی أنّ سکان منطقة (مسکنجاه) فی جمهوریة داغستان یرجعون إلی أُصول إیرانیة ومذهبهم التشیع، ومازالوا متمسّکین بإحیاء الشعائر الحسینیة.

وهناک جمعٌ غفیر من المسلمین الناطقین باللغة الترکیة یعیشون حالیاً فی جورجیا، حیث یتجاوز عددهم الملیونین، وأکثرهم من الشیعة، ویقومون بذبح الأبقار والأغنام وإطعام الفقراء فی أیّام عاشوراء، ویرتدون ملابس العزاء، وهذا لا یختصّ بالشیعة، بل السنة کذلک، وإن کان من المؤسف أنّ الشیعة هناک لایمتلکون معلومات عن واقعة الطف کالشیعة فی المناطق الإسلامیة الأُخری؛ وذلک لأنّ النظام المارکسی کان قد بذل نشاطاً واسعاً فی تضلیلهم، وإبعادهم عن نهضة الحسین علیه السلام .

ونجد مثل هذا الاهتمام بشعائر الحزن علی الإمام الحسین علیه السلام عند السنة فی نقاط أُخری فی روسیا، کالشیشان وأنغوشیا وجمهوریة التتار، لکن البحث فی هذا یحتاج إلی مجال أوسع.

ص: 373

ص: 374

ص: 375

ص: 376

الفصل التاسع: تأثیر نهضة الحسین علیه السلام علی النهضات والمصلحین غیر الشیعة

تأثیر نهضة الحسین علیه السلام علی النهضات والمصلحین غیر الشیعة

أ - مبادئ حبّ المصلحین للثورة الحسینیة

اشارة

لقد تأثّر المصلحون والمفکّرون بما تتملّکه الثورة الحسینیة من خصائص ومبادئ اعتمدتها، وکانت تشکل أُسساً وأُصولاً لهم أشاروا لها فی آثارهم، منها:

1- نهضة الحسین صراع الحق مع الباطل
اشارة

إنّ طریق عاشوراء یمثّل الحقّ والحقیقة.. حقاً یقابل باطلاً ینضوی تحت رایته یزید وأعوانه، ومن هنا امتدّ تأثیر عاشوراء إلی کثیر من الکُتّاب والمصلحین من غیر الشیعة، ومنهم:

- العلّامة محمد إقبال اللاهوری (1289 - 1358ه-)

کان من المصلحین المشهورین والبارزین من أهل السنة، وکان من قادة حرکة تحریر شبه القارة الهندیة من الاستعمار البریطانی، وکان له دور مهمّ فی تأسیس جمهوریة باکستان الإسلامیة.

وصف محمد إقبال الثورة الحسینیة بأنّها ذراع الحق الممتدّ دائماً لمواجهة الباطل علی مرّ التاریخ، وهی لا تُحَدُّ بمکان أو زمان خاصّ، وإنّما هی رمزٌ للنزاع بین (العشق الإلهی)، (والعقل المفتون) والشیطانی، وهی استمرار لصراع هابیل وقابیل، وإبراهیم علیه السلام ونمرود، وموسی علیه السلام وفرعون، والنبی صلی الله علیه و آله وأبی سفیان.

ص: 377

وعلی أساس تلک الرؤیة تعدُّ ثورة کربلاء استمراراً لکفاح الحقّ ضد الباطل من الأزل إلی یوم القیامة.

- ملک الکلام مجدی سقزی(المتوفی1268ه-) الکاتب والشاعر الإیرانی المشهور

عرّف نهضة الحسین علیه السلام بأنّها کانت استجابةً للمیثاق الذی أُخذ فی عالم الذّر، وأنّ الحسین علیه السلام إنّما رفع رایة الحق والتوحید، رفضاً للاستسلام والإذعان للباطل وجنود إبلیس.

کردی به راه دوست

تن وجان خود فدا

بادا هزار جان

گرامی فدای تو

عهد ألست آمد

وتسلیم عرضه کرد

تا جان نثار دوست

نماید وفای تو((1)).

- العلامة غلام محمد طرزی (1245 - 1318ه-)

کان من المصلحین البارزین فی أفغانستان، فقد وصف الإمام الحسین علیه السلام بأنّه (قائد الدین الإسلامی)، الذی کان یحمل بیده رایات جمیع أنبیاء الله تعالی، وقال: إنّ دفاعه التاریخی والأُسطوری عن الحق ضد الباطل لا تدین له المجتمعات البشریة إلی یوم القیامة وحسب، بل ألجأ حتی الوحوش والطیور والدوابّ للعزاء، قال:

خمید از غم این

بار پشت طاقت چرخ

دوید مه ز

سراسیمگی ز غره به مسلخ

به کام عیش جهان

گشت شهد عشرت تلخ

کشید نعره وحوش

وطیور ومور وملخ

حسین کشته چو از تیغ ظلم شمر لعین شد((2)).

2- الالتزام بالشرع والذبّ عنه

نظر المصلحون من غیر الشیعة إلی نهضة الحسین علیه السلام من زوایا مختلفة، وعکسوا فی

ص: 378


1- ([1]) اُنظر: صفی زاده، فاروق، إمام حسین ودیدگاه ها (الإمام الحسین والرؤی): ص87.
2- ([2]) الطرزی، غلام محمد، کلّیات أشعار(عمومات الأشعار): ص632.

آدابهم نظرتهم إلی بعض جوانبها ووعیهم لبعد من أبعادها.

إنّ تناول جانبٍ خاصّ منها لا یعنی أبداً إهمال سائر الجوانب أو الأبعاد، وإنّما قدّموا ذلک الجانب من الملحمة، تأکیداً منهم علیه.

إنّ أبرز ما لفت أنظارهم من خصائص نهضة الحسین علیه السلام ، هو الرصید الشرعی لتلک الثورة من جهة، وحقیقتها وهدفها الدینی من جهةٍ أُخری.

وفی الواقع أنّهم حکموا علی أساس تعالیم القرآن المجید والسنّة المطهّرة واعتقاد الصحابة، حکموا بشرعیة الثورة الحسینیة((1))، وفی إطار ذلک رأوا أنّ تکلیف کلّ مسلم هو أن یؤیّد تلک الثورة ویسیر فی رکبها، کما بیّن ذلک محمد عبده حیث قال:

إنّ خروج الإمام الحسین السبط علیه السلام علی یزید الظالم الفاسق کان حقاً موافقاً للشرع، وأضاف: فی کلّ عصر فی هذا العالم، إذا ظهرت حکومة عادلة تقیم أحکام الشرع، وظهرت أیضاً حکومة ظالمة جائرة تعمل علی تعطیل أحکام دین، فالواجب علی کلّ مسلم أن یعین الأُولی، ویضعف الثانیة، ومن هذا الباب نهض الإمام الحسین علیه السلام سبط نبی الإسلام العظیم ضدّ إمام الجور والطغیان، المتغلّب علی أُمور المسلمین بالقوة والمنکر، یعنی یزید بن معاویة الذی أهلکه الله وفضح کلّ مَن دافع عنه من الکرامیة والنواصب((2)).

ص: 379


1- ([1]) وفی هذا الصدد یقول عبد الله العلایلی: «هناک واجبٌ علی الخلیفة إذا تجاوزه وجب علی الأُمّة إسقاطه، ووجبت علی الناس الثورة علیه، وهو المبالغة باحترام القانون الذی یخضع له الناس عامّةً، وإلّا فأیّ تظاهر بخلافه یکون تلاعباً وعبثاً، ومن ثمّ وجب علی رجل القانون أن یکون أکثر تظاهراً باحترام القانون من أی شخصٍ آخر، وأکبر مسؤولیة من هذه الناحیة، فإذا فسق الملک ثمّ جاهر بفسقه وتحدّی الله ورسوله والمؤمنین لم یکن الخضوع له إلّا خضوعاً للفسق، وخضوعاً للفحشاء والمنکر، ولم یکن الاطمئنان إلیه إلّا اطمئناناً للتلاعب والعبث والمعالنة الفاسقة، هذا هو المعنی التحلیلی لقوله علیه السلام : ویزید رجلٌ فاسق شارب الخمر وقاتل النفس المحرمة معلن بالفسق». العلایلی، عبد الله، سمو المعنی فی سمو الذات: ص125. (المترجم).
2- ([2]) اُنظر: رضا، محمد رشید، تفسیر المنار: ج1، ص367، وج12، ص183، وص185.

أمّا خالد محمد خالد (المتوفی1416ه-)، وهو أحد الکُتّاب المعروفین بمصر، فیقول:

«إنّ القضیة فی ضمیر (الحسین) لم تکن قضیة حقٍّ شخصیّ فی الخلافة یبتغی استرداده.. ولا هی من القضایا التی یکون للإنسان الرشید حقّ التخلّی عنها.. القضیة فی ضمیر التقیّ الشجاع کانت قضیّة دین.. ویستوی عنده تخلّیه عن هذه القضیة، وتخلّیه عن هذا الدین»((1)).

وعلی غرار ذلک هتف غلام محمد طرزی الذی وصف الحسین علیه السلام بأنّه (صاحب الدین)، ومجسّد شریعة سید المرسلین، وأنّ الإساءة إلیه تُوجب سخط الله تعالی وأذی النّبی صلی الله علیه و آله .

ویعتقد طه حسین (المتوفی1393ه-) بأنّ حکم یزید کان حکماً غیر شرعی، ومناقضاً للدین((2))، ویقول: استقرّ فی الإسلام هذا الملک الذی یقوم علی البأس والبطش والخوف، والذی یرثه الأبناء عن الآباء، ثم تناول نهضة الحسین علیه السلام وأبعادها بالبحث والتحلیل، وقال: «وأبلی الحسین وبنو أبیه وبنو عمومته ومن کان معه من أنصاره القلیلین أعظم البلاء وأقساه»، ثم وصف محنة قتلهم بقوله: «فکانت محنة أیّ محنة للطالبیین عامة وأبناء فاطمة خاصة، ثم کانت محنة أیّ محنة للإسلام نفسه»((3)).

3- ثورة العدل فی مواجهة الظلم

إنّ أحد أبعاد نهضة الحسین علیه السلام التی حظیت باهتمام المصلحین من غیر الشیعة، هو توخّی العدل ومواجهة فنون الظلم والاستبداد، ولا شکّ فی أنّ إقامة العدل ومناهضة

ص: 380


1- ([1]) خالد محمد خالد، أبناء الرسول فی کربلاء: ص34.
2- ([2]) اُنظر: طه حسین، الفتنة الکبری: ص236.
3- ([3]) المصدر السابق: ص226، وص241، وص245.

الظلم، وکما صرّح القرآن الکریم، یعدّ أحد الأهداف الأساسیة للأنبیاء الإلهیین.

إنّ مضی الثورة الحسینیة فی طریق الحق والعدل، هو الذی جذب إلیها المصلحین ومنهم المصلحون من غیر الشیعة، وکان مدعاة لأن یفتتنوا ویتعلّقوا بها.

فقد رأی عبد الحفیظ أبو سعید مناهضة الظلم وبسط العدل من أهمّ معطیات الثورة الحسینیة، وأکّد أنّ المسؤولیة الدینیة فرضت علی الإمام الحسین علیه السلام الإعلان عن ردّ بیعة یزید بعد موت معاویة، وهذا أیسر شیء یمکن أن یفعله تجاه رفع الظلم وتنحیة ولی العهد عن هذا المنصب الجلیل((1)).

4- الإمام الحسین علیه السلام خلیفة رسول اللّه صلی الله علیه و آله

إنّ أکثر المصلحین من غیر الشیعة یصفون الإمام الحسین علیه السلام بأنّه المثل الأعلی للإسلام الأصیل، ویرون فیه شخص جدّه صلی الله علیه و آله ، والبقیة من ذکراه العبقة، ونائبه فی أرض کربلاء، وأنّ مواقفه هی ذاتها مواقف النبی صلی الله علیه و آله ، وبیّنوا أنّ استشهاده کان استشهاداً لرسول الله صلی الله علیه و آله ، وإلی هذه المضامین أشار الشاعر الشهید عبد القهار عاصی بتعابیر رائعة، حیث یقول:

تا ریخت خون مرد به

دامان کربلا

سجاده شد

زمین وبیابان کربلا

خون پیمبر است که گلگونه کرده است

خاک سیاه

وخار مغیلان((2)) کربلا((3)).

ما أن سُفک دم الإمام علیه السلام فی أحضان کربلاء، حتی أصبحت أرضها القاحلة سجادة، دم النبی’ خضّب التراب الأسود وأشواک کربلاء.

ص: 381


1- ([1]) أبو سعید، عبد الحفیظ، سبط الرسول: ص133.
2- ([2]) مغیلان: نوع من الشوک.
3- ([3]) عبد القهار عاصی، مشرق گل های فروزان (مشرق أزهار الحکم): ص9.
5- طریق البطولة والحریة

لقد عرف المصلحون من غیر الشیعة الإمام الحسین علیه السلام بأنّه قائد الأحرار، ووصفوا طریقه الذی ضاء فی ثورته الخالدة، طریق البطولة والحریة اللتین دُفنتا فی العالم الإسلامی، بعدما نأت الخلافة الإسلامیة عن القرآن الکریم ومفاهیمه الحیة، وکان ذلک إیذاناً ببدء عبودیة المسلمین، ودفن الحریة، وإلی ذلک یشیر العلّامة إقبال اللاهوری:

چون خلافت رشته از قران گسیخت

حریت را

زهر اندر کام ریخت((1)).

حینما انفصمت الخلافة عن حبل القرآن أُهریق السم فی فم الحریة.

إنّ من خصائص کلّ مسلم هو شعوره بالحریة وامتلاکه روح التحرّر، ومن هنا توالی الثناء والتمجید لنهضة الإمام الحسین علیه السلام التی استهدفت تحریر المسلمین من استبداد فرعون زمانهم.

ما سو الله را مسلمان بنده نیست

پیش

فرعونی سرش افکنده نیست

خون او تفسیر این أسرار کرد

ملّت

خوابیده را بیدار کرد((2)).

المسلم لایعبد ما سوی الله ولا یحنی قامته أمام أیّ فرعون

دم الحسین علیه السلام قام بتفسیر هذه الأسرار وأیقظ الشعب النائم

وقد بین العلّامة إقبال اللاهوری أنّ الإمام الحسین علیه السلام فی موقفه إزاء الخلفاء الذین ابتعدوا عن القرآن المجید وتعالیمه کان عاملاً وحاملاً ومعلماً للقرآن الکریم، وأنّه کان مثالاً للإنسان القرآنی الکامل، وأنّ فهم الإسلام الأصیل مرهون باتّباعه، وأنشد

ص: 382


1- ([1]) اللاهوری، محمد إقبال، کلّیات أشعار (عمومات الأشعار): ص74 - 75.
2- ([2]) المصدر السابق.

یقول:

رمز قرآن از حسین آموختیم

زآتش او

شعله ها اندوختیم((1)).

من الحسین علیه السلام تعلمنا رمز القرآن ومن نوره ادّخرنا الضیاء

و ثمّة نکات أُخری وردت فی آثار المصلحین حول الاهتمام بنهضة الحسین علیه السلام یمکن إدراجها فی تلک الأُصول والمفاهیم، وعلی أیّة حال، فإنّ حبّ الحسین علیه السلام وحماسته الخالدة ترک تأثیراً بالغاً علی حیاة المصلحین ونشاطاتهم الإصلاحیة.

ب - معطیات عاشوراء لدی الثورات والمصلحین

اشارة

إذا أخذنا بنظر الاعتبار الأبعاد المتعدّدة للملحمة الحسینیة من جهة، واستنتاجات المصلحین وظروفهم المختلفة وأرضیة الحرکات الإصلاحیة من جهةٍ أُخری، فمن المتوقّع جداً أن تکون ذات مشترکات کثیرة فی المحتوی، وأن تشیر کلّها إلی حقیقة واحدة، ولکنّها تتفاوت فی البیان والأدب، وتظهر فی طریقة العرض بصور مختلفة ومتنوعة.

فواحدة من أبرز مواهب ثورة کربلاء العظیمة علی المصلحین هی جعلتهم نافذی البصیرة بها، وهذا المعنی یمکن تلمّسه بوضوح من خلال أقوالهم وآثارهم العلمیة، فنهضة الحسین علیه السلام لو لم تقع فی صحراء کربلاء عام (61ه-) لکان الانحراف قد أنشب مخالبه فی الدین الإسلامی.

والحقّ أنّ التقلّبات المختلفة التی حصلت بعد وفاة الرسول صلی الله علیه و آله عام (11ه-)، والانحراف التدریجی الذی ابتُلیَ به الإسلام قد طغی علی عقیدة الناس، حتی بلغ الضلال والانحراف ذروته فی عهد یزید بن معاویة عام (60ه-)، دون أن یُدرک

ص: 383


1- ([1]) اللاهوری، محمد إقبال، کلّیات أشعار (عمومات الأشعار): ص74 - 75.

المسلمون عمق الفاجعة.

وکانت الشخصیات البارزة فی المجتمع الإسلامی باستثناء الحسین علیه السلام وأنصاره، یعلمون جیّداً أنّ حکم یزید کان حکماً استبدادیاً، وقد تنفث ألسنتهم بالشکوی، ولکنّهم لم یستوعبوا حجم الأخطار التی تهدّد الإسلام المحمدی الأصیل من جراء ذلک أبداً.

فی مثل تلک الظروف لو سکت الإمام الحسین علیه السلام ولم یقم بثورته لتعمّقت فجوات الانحراف وتوسّعت، ولحلّ الإسلام الأُموی وإلی الأبد محلّ الإسلام المحمدی، ولانتفی أیّ شک فی أصالة وإسلامیة أقوال وأفعال الحکام الأُمویین، ولبقی الناس ینظرون إلی الأُمویین - وخصوصاً یزید - بأنّه المرآة التی تعکس القیم الإسلامیة والأحکام الدینیة، وأنّ مَن یحتجّ علیهم مخالف للشرع.

إذاً یعترف المصلحون من غیر الشیعة بصورة وبأُخری بأنّ فهم الإسلام فهماً واعیاً وتشخیص معارفه الصحیحة، إنّما کان بفضل جهاد الحسین علیه السلام ، ومن هؤلاء: العلّامة محمد إقبال اللاهوری، الذی کان یعتقد بأنّ الخلافة والسیاسة قبل نهضة الإمام الحسین علیه السلام قد ابتعدتا عن القرآن المجید، الذی هو کتاب هدایة ونجاة للبشریة، وأنّه بملحمته العاشورائیة قد أعاد القرآن إلی مسرح الحیاة، وعالج أمراض المجتمع الإسلامی المزمنة بدمه الزکی ودماء أنصاره((1)).

کما تحدّث فی هذا المجال العالم المفسِّر محمد عبد الباقی حیث قال: «إذا أعطی الإمام الحسین علیه السلام بیعته لیزید، یزید الفاسق المتجاهر بشرب الخمر المرتکب للفواحش، یزید الذی هوی بالخلافة الدینیة من مقامها السامی بمجالسة القینات المغنیات والفاجرات،

ص: 384


1- ([1]) اللاهوری، محمد إقبال، کلّیات أشعار (عمومات الأشعار): ص74 - 75.

وحوّل مجالس الحکم إلی حلقات للشراب وکؤوس الخمر، وألبس الکلاب والقردة الخلاخیل الذهبیة، إذا أعطی الإمام الحسین علیه السلام بیعته لیزید باعتباره خلیفةً ونائباً للنبی’، فإنّ هذه البیعة فی الواقع تتلقی فتوی من الإمام الحسین علیه السلام ، ومن ثمّ تکتسب تلک الأُمور المتقدّمة صفة الشرعیة لدی سائر المسلمین، ولو لَزَم السکوت لعدّوا سکوته علامةً علی رضاه»((1)).

وکتب المحقّق الدکتور أحمد محمود صبحی عن الآثار المهمّة لمواجهة الانحراف، یقول: «فی إقدام الحسین علی بیعة یزید انحرافٌ عن أصلٍ من أُصول الدین، من حیث إنّ السیاسة الدینیة للمسلمین لا تری فی ولایة العهد ووراثة المُلک إلّا بدعة هرقلیة دخیلة علی الإسلام، ومن حیث إنّ اختیار شخص یزید مع ما عُرف عنه من سوء السیرة ومیله إلی اللهو وشرب الخمر ومنادمة القرود، لیتولّی منصب الخلافة عن رسول الله، أکبر رزء یحلّ بالنظام السیاسی للإسلام، یتحمّل وزره کلّ مَن شارک فیه ورضی عنه، فما بالک إذا کان المقدّم علی ذلک هو ابن بنت رسول الله، کان خروج الحسین إذاً أمراً یتّصل بالدعوة والعقیدة أکثر ممّا یتّصل بالسیاسة والحرب»((2)).

إنّ تسلّط یزید علی الملک کان أساس الانحراف فی مسیر تاریخ الإسلام، الانحراف عن القیم الدینیة، والانحراف عن القیم الثقافیة للمجتمع، والانحراف عن خطّ النبی الأکرم صلی الله علیه و آله ، ولم یکن هذا الانحراف، انحراف شخصٍ أو جماعة أو حزب، إنّما کان انحرافاً فی مستقبل الأُمّة الإسلامیة، انحرافاً هوی بجمیع القیم الدینیة إلی الحضیض، ولو لم تکن مواجهة ذلک الانحراف بصورة صحیحة، لکان وضع الأُمّة

ص: 385


1- ([1]) محمد عبد الباقی، الثائر الأوّل فی الإسلام: ص79.
2- ([2]) صبحی، أحمد محمود، نظریة الإمامة لدی الشیعة الاثنی عشریة: ص334.

الإسلامیة والمجتمع الإسلامی مختلفاً.

إنّ الانحرافات الجمّة لبنی أُمیّة من تبدیل الخلافة الدینیة إلی ملک ارستقراطی، والبیعة الاختیاریة إلی إجباریة، وإیثار النظام القبلی، ووراثة الملک علی نظام اختیار الأصلح، وإحلال الظلم بکلّ أبعاده محلّ العدل والرفق، فکان عاشوراء الحسین علیه السلام جلاء لتلک الانحرافات عن وجه الإسلام، وتنویراً للمسلمین باتجاه وعی الإسلام النبوی الأصیل، ولو لم تکن النهضة الحسینیة لطغت بدعة یزید علی الشریعة، ولعمل بها الناس علی أنّها عقیدة إسلامیة.

وعلی هذا الأساس یعدّ دور نهضة الحسین علیه السلام فی إحیاء الشریعة النبویة، والأیدیولوجیة الإسلامیة حیویاً جداً ولابدیل عنه؛ لأنّ سرّ تحریف الأدیان السابقة وکتبها السماویة، مثل الیهودیة والمسیحیة، هو افتقادها للمضحّین والمخلصین من أمثال الإمام الحسین علیه السلام وأنصاره، وابتلائها بمستقبل مشؤوم وضلالة لا یمکن تدارکها.

والخلاصة: إنّ نهضة الحسین علیه السلام لم تساهم فی تنویر المسلمین وتمکینهم من التمییز بین الإسلام النبوی والإسلام الأُموی فحسب، وإنّما حالت إلی الأبد بین یزید وحزبه وبین تحریف الإسلام وانحراف المسلمین، وفتحت بصائرهم فی کلّ عصر علی الإسلام الأصیل والمعارف النبویة الصافیة.

ضرورة الإصلاح ودعم الجهود الخیرة

بعد قبول نتائج نهضة الإمام الحسین علیه السلام وما قدّمته من عطاء زاخر استضاءت به البصائر واستنارت، نصل الآن إلی بیان دور المجتمع الإسلامی، وما هو تکلیفه؟ خصوصاً مفکّریه وعلمائه المتقدّمین والمصلحین من غیر الشیعة، وما هو موقفهم فی هذا الشأن؟

اختلف المصلحون عند تناولهم لهذا الموضوع، ولکن یمکن القول إنّ ثورة کربلاء

ص: 386

دعت المسلمین إلی الإصلاح الاجتماعی الشامل، وأن یظلّوا متأهّبین فی کلّ زمن لصد الأخطار المحدقة بهم دینیاً واجتماعیاً وسیاسیاً، وأن یسعوا بکلّ وجودهم من أجل إصلاح شؤونهم ودفع الأخطار المحتملة من جهة، ومعالجة الاضطرابات السیاسیة القائمة من جهةٍ أُخری.

ومثلما أشرنا سابقاً فقد أکّد الشیخ محمد عبده علی قیم عاشوراء الحسین علیه السلام ، حتی ارتقی به الأمر إلی القول بأنّ النهضة الحسینیة التزمت جانب الحق والدین، وأیقظت کلّ مسلم لمواجهة النظام الفاسد والظالم، ولأجل ذلک أکّد أنّها فریضة إسلامیة وتکلیف دینی.

وقد أوضح العلّامة إقبال اللاهوری، وعلی الرَّغم من الظروف الحرجة والأوضاع المضطربة للمسلمین فی عصره، أوضح أنّ نهضته الإصلاحیة، وخصوصاً فی شبه القارة الهندیة کانت ببرکة الثورة الحسینیة((1)).

کما أقرّ سائر روّاد الإصلاح وبتعابیر مختلفة، کمکافحة الظلم والاستبداد، وإحقاق الحقّ، وطلب الإصلاح والوحدة الإسلامیة، أقرّوا ببصمات عاشوراء فی نشاطاتهم.

إنّ تضحیة سبط رسول الله’ لم تُنقذ الإسلام والسیرة المحمدیة فحسب، وإنّما أخذت تُموّر من دمائه العطرة - وعلی مدی القرون والأجیال وإلی یومنا هذا - أمواج المقاومة والإیثار والفتوة ودعوات الإصلاح، وتُعلّم الأجیال القادمة طریق الحیاة بالعزّة والتضحیة، وطلب الحق والوقوف بوجه الظلم.

وقد تحدّث الشاعر الشهید عبد القهار عاصی عن تلک المفاهیم فی شعره قائلاً: عاشوراء الحسین علیه السلام نافذة جدیدة للمسلمین وللبشریة من أجل إصلاح ظروفهم

ص: 387


1- ([1]) اُنظر: اللاهوری، محمد إقبال، کلّیات أشعار (عمومات الأشعار): ص74 - 75.

وأوضاعهم وأحوالهم، وأکّد علی ضرورة اقتباس المُثل منها؛ بغیة إصلاح الأوضاع.

الگوی زندگیست وراه مقاومت

طرح قیام آل مسلمان کربلا

دست یزیدیان چه تواند کند به خلق

خون امام ماست نگهبان کربلا

پا در رکاب باد چه می بندی ای رفیق

پر باز کن به دولت إیمان کربلا

آزادگیت آنچه که تسجیل می شود

بر برگ برگ دفتر ودیوان کربلا ((1)).

کربلاء أُسوة للحیاة ومنهج للمقاومة وللثورة.

ماذا یمکن أن یفعل آل یزید بنا مادام دم الحسین علیه السلام یحرس کربلاء.

لا تمتطی صهوة الریح أیّها العزیز، وافتح جناحیک لدولة الإیمان فی کربلاء.

حرّیتک قد دوّنت علی ورقة ورقة من کتاب کربلاء.

وقد تلقّی هذا الشاعر أیضاً درساً عملیاً من الإمام الحسین علیه السلام وملحمته التاریخیة، فلم یقتصر علی وصف الثبات والمقاومة فی شعره، الذی استحال إلی أناشید حماسیة جمیلة، وإنّما صمد وثبت هو أیضاً ولم یغادر مدینته کابول، بالرغم من انهمار الصواریخ علیها فی عقد السبعینیات من القرن المنصرم، إلی أن خرّ شهیداً.

وأنشد معین الدین جشتی إمام الطریقة الجشتیة ((2)):

حسین سلطان والسلطان حسین

حسین دین وملجأ الدین حسین

ضحی ولم یمد یده بید یزید

وحقاً أنّ صرح لا إله إلّا الله حسین

ص: 388


1- ([1]) عبد القهار العاصی، مشرق گل های فروزان (مشرق أزهار الحکم): ص9.
2- ([2]) نقلاً عن: اللاهوری، محمد إقبال، کلّیات أشعار (عمومات الأشعار): ص75. شاه است حسین پادشاه است حسین دین است حسین، دین پناه است حسین سرداد، نداد دست در دست یزید حقا که بنای لا إله است حسین

حصیلة البحث

لا شکّ أنّ عاشوراء من أیّام الله، والتی لا تُنسی فی أوساط أهل القبلة، لا سیما أهل السنة الذین یعتقدون أنّ الحسین علیه السلام وارث الأنبیاء خاصّةً رسول الله صلی الله علیه و آله ، وأنّ ثورته الإصلاحیة ضدّ یزید وطغمته هی فی الواقع جدال الحقّ ضد الباطل، والعدل ضدّ الظلم، والإیمان ضدّ الکفر.

فهی إذاً ثورة مقدّسة بکافّة الأبعاد، وقائدها مقدّس بکافّة الأبعاد؛ لأنّ الحسین علیه السلام رجل ولکن فیه آیة الرجال، وعظیم ولکن فیه حقیقة العظمة، لقد قام علی اسم الله، ومضی علی اسم الله، ومات علی اسم الله، فسَمَت به الغایة وعلا به الهدف، هو هدف ولکن لیس من شهوات النفوس، وغایة ولکن لیست کمثلها الغایات، غایة لا تری سوی الملکوت الأعلی هدفاً، ودون السماء مستقراً؛ لأنّه مهدها، فلا بِدَع إن حنّت إلیه وطلبت اللحاق به، ولمثل هذه الشخصیة وطنها ولها حنینها، فهی تشقّ طریقها بین الجلامد والصخور، راضیةً مرضیة وماضیة مطمئنّة؛ لأنّها تناجی الأُمنیة السامیة، وتنشد المثل الأعلی، وهل وراء الله مطلب؟ وهل إلی غیر الله مصیر؟ وهل بعد الله حقیقة؟

هذه مبادیء الإمام علیه السلام ، فلا عجب إن راح یطلبها فی کلّ شیء، ولو حال الموت دونها، فهو یستعذبه لأنّه الطفرة التی تصل به إلی أعذب الأمانی((1)).

کما أعلنوا عن سلب الشرعیة عن سلطة یزید؛ لفسقه وخیانته واستحقاقه اللعن والعذاب الخالد، جرّاء ما اقترفه فی کربلاء، ولم یطیقوا التبریرات التی قدّمتها شرذمة

ص: 389


1- ([1]) اُنظر: العلایلی، عبد الله، سمو المعنی فی سمو الذات: ص119.

قلیلة من أهل السنة، بهدف التغطیة علی مفاسد یزید، وذهبوا إلی أنّ ثورة الحسین علیه السلام وأنصاره هی استمرار لخط الرسالة والخلفاء الراشدین.

من هنا فقد أقاموا المآتم ومراسم العزاء، وحتی الصوم والمشارکة فی تلک المراسم وإنشاء الحسینیات والتکایا؛ إحیاء لتلک الذکری المؤلمة، وأملاً بالحصول علی الأجر الروحی إلی جانب الأجر الدنیوی.

وقد طُرحت ثورة کربلاء لدی أغلب أهل السنة کنموذج للحیاة والهدایة فی الدنیا والآخرة، وفی الواقع إنّ الحیاة الکریمة والشهادة هی الوجه الآخر لتلک الثورة، وتجلّی کلّ ذلک بصور مختلفة فی أفکارهم وعقائدهم، کما تمثّلت علی الصعید العملی فی حرکات اجتماعیة.

إنّ التحلیل والتنقیب فی جزئیات هذه الواقعة بحاجة ماسّة إلی مجال أوسع، لنقل وجهات نظر علماء ومفکّری المذاهب والنحل، علی أمل أن یسعفنی الحظ لإجراء المزید من البحث والتنقیب وتدوین النتائج فی الطبعات اللاحقة.

وفی الختام أرجو من الباحثین الکرام فی العالم الإسلامی - خاصّةً علماء الدین - أن یبذلوا قصاری جهدهم لضبط وتحلیل هذا الموضوع؛ بهدف کشف الزوایا التی ظلّت خافیة، والتی قلَّما تناولتها أقلام الباحثین.

تمّ والحمد لله ربّ العالمین

ص: 390

المصادر والمراجع

المصادر والمراجع

1. القرآن الکریم.

2. إبراهیم، محمود، براءة یزید بن معاویة من دم الحسین، کلیة الادب، کویت.

3. آقا بزرگ الطهرانی، اجتهاد ومذاهب إسلامی، طهران، 1360ه-.

4. آقا بزرگ الطهرانی ، الذریعة الی تصانیف الشیعة، دارالاضواء، بیروت، 1415ه-.

5. ابن أبی الحدید، شرح نهج البلاغة، تحقیق محمد ابوالفضل إبراهیم، دارإحیاء التراث، قاهره، 1378ه-.

6. ابن اثیر، عزالدین، اُسد الغابة فی معرفة الصحابة، تحقیق محمد إبراهیم البنا، دارإحیاء التراث العربی، بیروت، 1970م.

7. ابن اعثم الکوفی، احمد، الفتوح، دارالاضواء، بیروت، 1405ه-.

8. ابن الجوزی، ابوالفرج، المنتظم فی تاریخ الملوک والامم، دارالتراث العربی، بیروت.

9. ابن الجوزی، المنتظم فی تاریخ الملوک والامم، تحقیق محمد عبدالقادر عطا، دارالکتب العلمیة، بیروت، 1412ه-.

10. ابن الجوزی ، صفوة الصفوة، دارالمعرفة، بیروت، 1406ه-.

11. ابن العربی، ابوبکر، العواصم من القواصم، دارالثقافة، دبی،1404ه-.

ابن العماد الحنبلی، عبدالحی، شذرات الذهب فی أخبار من ذهب، دار

ص: 391

1. الکتب العلمیة، بیروت، 1399.

2. ابن بطوطة، رحلة ابن بطوطة، دارصادر، بیروت، 1384.

3. ابن تیمیة، ابو العباس، القرآن والسیف، ریاض الریس، بیروت، 1403ه-.

4. منهاج السنة النبویة، الأهرام، القاهرة، 1903م.

5. ابن خلدون، عبدالرحمان، المقدمة، انتشارات علمی فرهنگی، طهران، 1362ش.

6. ابن خلکان، وفیات الاعیان، تحقیق احسان عباس، دارالفکر، بیروت.

7. ابن سعد، محمد، الطبقات الکبری، بیروت، دارصادر، 1405ه-.

8. ابن شهر آشوب، ابوجعفر محمدبن علی، مناقب آل أبی طالب، دارالاضواء، بیروت، 1401ه-.

9. ابن الصباغ المالکی، محمد، الفصول المهمَة فی معرفة الأئمة، مکتبة العدل، النجف، 1375.

10. ابن طلحة الشافعی، کمال الدین، مطالب السؤول فی مناقب آل الرسول، تحقیق ماجد بن احمد العطیة، أم القری، بیروت، 1420ه-.

11. ابن طولون، شمس الدین محمد، الأئمة اثنی عشر، تحقیق صلاح الدین منجد، دار صادر، بیروت، 1404ه-.

12. ابن طولون، شمس الدین محمد، الأئمة اثنی عشر، منشورات الرضی، قم، 1405ه-.

ابن عبد ربه الاندلسی، احمد، العقد الفرید، دار إحیاء التراث، بیروت،

ص: 392

1. 1409ه-.

2. ابن عبد البر، یوسف، الاستیعاب فی معرفة الأصحاب، تحقیق محمد البجاوی، دارالجیل، بیروت، 1412ه-.

3. ابن عربشاه، عجائب المقدور فی نوائب تیمور، ترجمه محمدعلی نجاتی، طهران، 1365ش.

4. ابن عساکر، ابوالقاسم علی بن حسن، تاریخ مدینة دمشق، مجمع اللغة العربیة، دمشق، 1398ه-.

5. ابن کثیر الدمشقی، إسماعیل، البدایة والنهایة، التاریخ العربی، بیروت، 1413ه-.

6. ابن مزاحم، نصر، وقعة صفین، تحقیق عبد السلام هارون، مکتبة آیة الله النجفی، قم، 1362ش.

7. ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب، مؤسسة التاریخ الإسلامی، بیروت، 1409ه-.

8. ابن منظور ، مختصر تاریخ دمشق ابن عساکر، دار إحیاء التراث، بیروت، 1409ه-.

9. منتجب الدین، بن بابویه، فهرست اسماء علماء الشیعة ومصنفیهم، منشورات المکتبة مرتضویه، طهران.

10. ابن وکیع، محمدبن خلف، أخبار القضاة، عالم الکتب، بیروت.

11. ابوزهره، محمد، الفقه علی المذاهب الأربعة، دارالکتب العلمیة، بیروت، 1402ه-.

ص: 393

1. الأربلی، ابوالحسن، کشف الغمة فی معرفة الأئمة، دارالاضواء، بیروت، 1409ه-.

2. استوری، ادبیات فارسی، ترجمه یو آبرگلی، ترجمه آرین یورو، تحریر احمد منزوی، جامعة طهران، طهران، 1360ش.

3. إسماعیل، کمال الدین، دیوان اشعار، تحقیق بحرالعلومی، طهران، 1360ش.

4. الاصفهانی، ابوالفرج، مقاتل الطالبیین، تحقیق سید احمد صقر، دارالمعرفة، بیروت، 1402ه-.

5. البخاری، ابوعبدالله إسماعیل، کتاب التاریخ الکبیر، دارالکتب العلمیة، بیروت.

6. براقی النجفی، سیدحسین، تاریخ الکوفه، تحقیق سید صادق بحرالعلوم، دارالاضواء، بیروت، 1407ه-.

7. البغدادی، الخطیب، تاریخ بغداد، دارالفکر، بیروت، 1402ه-.

8. الأمین، سیدمحسن، اعیان الشیعة، وزارة الثقافةوالارشاد الإسلامی، طهران، 1368ش.

9. امینی، عبدالحسین، الغدیر فی الکتاب والسنة والادب، دارالکتب الإسلامیة، طهران، 1366ش.

10. التستری، محمدتقی، قاموس الرجال، جامعة المدرسین، قم، 1368ش.

11. الجاحظ، ابوعثمان عمرو، البیان والتبین، دارالکتب العلمیة، بیروت، 1410ه-.

ص: 394

1. الجاحظ، کتاب الحیوان، تحقیق عبدالسلام هارون، التاریخ العربی، بیروت، 1949م.

2. الجوهری، إسماعیل: صحاح اللغة، مؤسسة التاریخ الإسلامی، بیروت، 1403ه-.

3. الجوینی، إبراهیم محمد، فرائد السمطین، تحقیق محمدباقر المحمودی، مؤسسة المحمودی، بیروت، 1400ه-.

4. حاجی خلیفة مصطفی، کشف الظنون عن اسامی الکتب والفنون، دارالفکر، بیروت، 1410ه-.

5. الحاکم النیشابوری، محمدبن عبدالله، المستدرک علی الصحیحین، دارالکتاب العلمیة، بیروت، 1411ه-.

6. حسن، حسن إبراهیم، تاریخ الإسلام، مکتبة النهضة المصریه، قاهرة.

7. حسین، طه، الفتنة الکبری، دارالمعارف، مصر، 1953م.

8. الحسینی الفیروزآبادی، السید مرتضی، الفضائل الخمسة من الصحاح الستة، دارالکتب العلمیة، طهران، 1392ه-.

9. الخضری، محمد، تاریخ الامم الإسلامیة، التجاربة الکبری، قاهره.

10. الخضری، محمد، تاریخ الدولة الأمویة، دارالفکر، بیروت، 1400ه-.

11. الخنجی الاصفهانی، فضل الله، وسیلة الخادم الی المخدوم، در شرح صلوات چهارده معصوم، به کوشش رسول جعفریان، مکتبة ایة الله المرعشی، قم، 1372ش.

الخوارزمی، ابوالمؤید موفق، مقتل الحسین، تحقیق مهدی سماوی، دار انوار

ص: 395

1. المهدی، قم، 1418ه-.

2. دروزة، محمد عزة، تاریخ الجنس العربی، مکتبة العصریة، بیروت، 1964 م.

3. العظمة، عزیز، المنتخب من التراث، ابن تیمیة، ریاض الریس، بیروت، 1407 ه-.

4. الدمیری، کمال الدین محمد بن موسی، حیاة الحیوان الکبری، الشریف الرضی، قم، 1371 ش.

5. المسعودی، أبی الحسن بن علی، مروج الذهب ومعادن الجوهر.

6. المسعودی، علی بن الحسین، انساب الاشراف، دار الکتب العلمیة، بیروت، 1401 ه-

7. الدینوری، عبد الله بن مسلم قتیبة، الإمامة والسیاسة (تاریخ الخلفاء)، مصر، 1338.

8. الموصلی، محمد بن عبد الواحد، النعیم المقیم لعترة النباء العظیم، مناقب آل محمد، تحقیق السید علی عاشوری، مؤسسة الأعلمی للمطبوعات، بیروت، 1424 ه-.

9. الحموی، أبو عبد الله یاقوت، معجم البلدان، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، 1399 ه-.

10. الیعقوبی، ابن واضح، تاریخ الیعقوبی، دار صادر، بیروت، 1402 ه-.

11. ابن فرحون، إبراهیم بن علی، الدیباج المذهب فی معرفة اعیان المذهب، تحقیق عبد المعید خان، دار الکتب العلمیة، بیروت، 1972م.

ص: 396

1. الذهبی، أبی عبدالله محمد بن احمد بن عثمان، تهذیب سیر اعلام النبلاء، تحقیق شعیب ارنووط، مؤسسة الرسالة، بیروت، 1413ه-.

2. الذهبی، أبی عبدالله محمد بن احمد بن عثمان، تاریخ الإسلام ووفیات المشاهیر والأعلام، تحقیق عمر عبد السلام تدمری، بیروت، 1424ه-.

3. الذهبی، أبی عبدالله محمد بن احمد بن عثمان، العبر فی خبر من غبر، حکومت الکویت، الکویت، 1948م.

4. الزرکلی، خیرالدین، الاعلام، دارالملایین، بیروت، 1997م.

5. سبط بن الجوزی، أبو مظفر، تذکرة الخواص، مقدمة محمد صادق بحر العلوم، نینوی الحدیثة، طهران، 1376ش.

6. السبکی، تقی الدین، الدرّة المضیة فی الرد علی ابن تیمیة، النهضة، مصر، 1405ه-.

7. السمرقندی، عبدالرزاق، مطلع السعدین ومجمع البحرین، بلا تا، لاهور، 1360ه-.

8. السبحانی، جعفر، بحوث فی الملل والنحل، نشر الإسلامی، قم، 1416ه-.

9. السیوطی، عبدالرحمان، تاریخ الخلفاء، تحقیق محی الدین عبدالحمید، منشورات الشریف الرضی، قم، 1401ه-.

10. الشافعی، محمدبن ادریس، الفقه الاکبر، دارالکتب العلمیة، بیروت، 1405ه-.

الشبراوی، عبدالله، الاتحاف بحب الاشراف، دارالکتاب الإسلامی،

ص: 397

1. بیروت.

2. الدارقطنی، احمد، ذکرأسماء التابعین، مؤسسة الکتب الثقافیة، بیروت، 1406ه-.

3. شعوط، إبراهیم علی، اباطیل یجب أن تمحی من التاریخ، المکتب الإسلامی، بیروت، 1408ه-.

4. الشلبی، محمد مصطفی، المدخل فی الفقه الإسلامی، بیروت.

5. الشوشتری، نور الله، مجالس المؤمنین، مکتب إسلامیه، طهران، 1365ش.

6. زمیزم، سعید رشید، زوار الإمام الحسین (لمحات تاریخیة عن کربلا)، مکتبة النظری، بغداد، 1990م.

7. الصفدی، صلاح الدین خلیل بن ایبک، الوافی بالوفیات، دار الکتاب، بیروت، 1404 ه-.

8. الصدوق، محمد، معانی الأخبار، تصحیح وتعلیق علی اکبر غفاری، مقدمة عبدالرحیم ربانی الشیرازی، مکتب الإعلام الإسلامی، قم، 1400ه-.

9. الطباطبائی، سید عبد العزیز، معجم أعلام الشیعة، مؤسسة آل البیت علیهم السلام ، قم، 1417 ه-..

10. الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأمم والملوک، تحقیق محمد أبو الفضل إبراهیم، دار التراث، بیروت، 1404 ه-.

11. عبد الحمید، صائب، ابن تیمیة حیاته وعقائده، الغدیر، بیروت، 1414 ه-.

ص: 398

1. العسقلانی، أحمد بن علی بن حجر، لسان المیزان، الأعلمی، بیروت، 1390 ه-..

2. العسقلانی، أحمد بن علی بن حجر، الإصابة فی تمییز الصحابة، بیت الأفکار الدولیة، عمان، 2002م.

3. العسقلانی، أحمد بن علی بن حجر، تهذیب التهذیب، دار صادر، بیروت، 1404 ه-.

4. العصفری، خلیفة بن خیاط، تاریخ خلیفة بن خیاط، تحقیق سهیل زکار، دار الفکر، بیروت، 1414 ه-.

5. العصفری، خلیفة بن خیاط، تاریخ الحسین، نقد وتحلیل، دار الجدید، بیروت، 1994م.

6. علوی الحضرمی، محمد بن عقیل، النصائح الکافیة، طهران، 1373ش.

7. عنان، محمد، تاریخ الدولة الإسلامیة فی الاندلس، کیهان، طهران، 1369ش.

8. الغزالی، ابو حامد، إحیاء علوم الدین، دار الجلیل، بیروت، 1408 ه-.

9. الغزالی، ابو حامد، الأدب فی الدین، صححه وقدم له مصطفی العبد الله، دار الحکمة، بیروت، 1416 ه-.

10. الغزالی، ابو حامد، المستصفی، دار الحکمة، بیروت، 1405 ه-.

11. القرشی، باقر شریف، حیاة الإمام الحسین بن علی، دار البلاغة، بیروت، 1413ه-.

12. القرمانی، احمد بن یوسف، أخبار الدول، عالم الکتب، بیروت، 1992م.

ص: 399

1. القندوزی البلخی، سلیمان، ینابیع المودة، دار الأسوة، طهران، 1370.

2. الکلینی، محمد بن یعقوب، الکافی، تحقیق علی أکبر غفاری، دار الکتب الإسلامیة، طهران، 1319ش.

3. المالکی، إبراهیم بن علی، دیباج الذهب فی معرفة أعیان علماء المذهب، دار الکتاب العلمیة، بیروت، 1972م.

4. الماوردی، ابو یعلی، الأحکام السلطانیة فی الولایات الدینیة، مرکز المطالعات الإسلامیة، قم، 1365.

5. المبرد، ابو العباس، الکامل فی اللغة والادب، دار التعارف، بیروت، 1379 ه-.

6. الفیروزآبادی، السید مرتضی، فضائل الخمسة من الصحاح الستة، دار الکتب الإسلامیة، طهران، 1392 ه-.

7. المقدسی، احمد بن طاهر، البدء والتاریخ، تحقیق علی محمد البجاوی، بیروت.

8. المقرم، عبد الرزاق، مقتل الحسین، دار الکتاب الإسلامیة، طهران، 1376ش.

9. المقریزی، أحمد، النزاع والتخاصم فیما بین بنی أُمیة وبنی هاشم، مطبعة الاهرام، القاهرة.

10. المقریزی، أحمد، الوعظ والاعتبار فی ذکر الخطط والآثار، دار الکتب العلمیة، بیروت، 1418 ه-.

العظمة، عزیز، المنتخب من التراث، ابن تیمیة، ریاض الریس، بیروت،

ص: 400

1. 1407 ه-.

المصادر الفارسیة:

2. الآصفی، مهدی، پژوهش وحوزه، السنة الثانیة، العدد7، لقاء خاص، خریف 1380ش.

3. آقا بزرگ الطهرانی، محسن، اجتهاد ومذاهب إسلامی، ترجمه محمود افتخار زاده، طهران، 1360ش.

4. اقبال اللاهوری، محمد، کلیات اشعار، با مقدمه احمد سروش، مکتبة السنائی، طهران، 1360ش.

5. البخارایی، عمعق، دیوان اشعار، تصحیح سعید النفیسی، جامعة طهران، 1339ش.

6. البلخی، میرخواند، روضة الصفا، المکتبة المرکزیة لبیع الکتب، طهران، 1339ش.

7. بیگ روملو، حسن، أحسن التواریخ، تصحیح عبدالحسین نوایی، بابک، طهران، 1359ش.

8. پیشوایی، مهدی، تأملی در آثار واندیشه های ابن خلدون، تاریخ در آینه پژوهش، عدد3، قم، خریف 1382ش.

9. الجامی، عبد الرحمان، مثنوی هفت اورنگ، تحقیق مرتضی جیلان، سعدی، طهران، 1368ش.

10. جعفریان، رسول، تاریخ تشیع در ایران، سازمان تبلیغات إسلامی، طهران، 1371ش.

ص: 401

1. جعفریان، رسول، مقالات تاریخی، قم، دلیل، 1375ش.

2. جعفریان، رسول، منابع تاریخ إسلام، انصاریان، قم، 1368ش.

3. عدد من الباحثین، دایرة المعارف الإسلامیة الکبری، باشراف: کاظم الموسوی البجنوردی، مرکز دایرة المعارف الإسلامیة الکبری، طهران، 1374ش.

4. عدد من الباحثین، راهکار های عملی اخوت إسلامی در افغانستان، مجمع التقریب بین المذاهب الإسلامیة، طهران، 1388ش.

5. عدد من الکتاّب، الامام الخمینی وفرهنگ عاشورا، مؤسسه تنظیم ونشر آثارالامام الخمینی، طهران، 1374ش.

6. عدد من الکتاّب، دایرة المعارف الإسلامیة الکبری، مؤسسة دائرة المعارف السلامیة الکبری، طهران، 1361-1367ش.

7. عدد من الکتاّب، مجموعه مقالات امام حسین، مجمع العالمی لاهل البیت علیهم السلام ، طهران، 1381ش.

8. حبیبی، عبدالحی، تاریخ افغانستان بعداز إسلام، دنیا الکتاب، طهران، 1360ش.

9. الحجازی، سیدعلی، حسین بن علی در آئینه شعر، قم، فارس الحجاز، 1382ش.

10. الحجازی، سیدعلی، علی وفرزندانش، ترجمه محمدعلی الشیرازی، گنجینه، طهران، 1367ش.

11. حکمت، علی اصغر، سرزمین هند، جامعة طهران، طهران، 1337ش.

ص: 402

1. حیرت سجادی، سیدعبدالحمید، گلزار شاعران کردستان، انتشارات کردی، سنندج، 1354ش.

2. خواندمیر، محمد حبیب السیر، خیام، طهران، 1362ش.

3. الخوسقی، محمد، دیوان اشعار، تصحیح احمد الاحمدی البیرجندی، منظمة الحج والزیارة، مشهد، 1366ش.

4. الرازی القزوینی، عبدالجلیل، النقض، تصحیح میرجلال الدین المحدث الارموی، اتحاد الآثار الوطنیة، طهران، 1358ش.

5. زرین کوب، عبدالحسین، تاریخ در ترازو، أمیرکبیر، طهران، 1362ش.

6. زمچی اسفزاری، معین الدین محمد، روضات الجنات فی أوصاف مدینة هرات، جامعة طهران، 1338ش.

7. السبحانی، جعفر، پیشوایی از نظر إسلام، مکتب اسلام، قم، ش.

8. السبحانی، جعفر، وهابیت، مبانی فکری وکارنامه عملی، مؤسسة الإمام الصادق، قم، 1380ش.

9. السمنانی، علاء الدولة، دیوان اشعار، بمعونة عبد الرفیع حقیقت، طهران، 1362ش.

10. السنائی الغزنوی، ابوالمجد مجدود، دیوان اشعار، بمعونة مدرس الرضوی، اقبال، طهران.

11. الشروانی، خاقانی، دیوان أشعار، بمعونة ضیاءالدین السجادی، الجامعة، جامعة دانشسرای عالی، طهران، 1346ش.

الشیبی، مصطفی، تشیع وتصوف، ترجمه علیرضا ذکاوتی قراگزلو، أمیر

ص: 403

1. کبیر، طهران، 1374ش.

2. الصاحبی، محمد جواد، اندیشه اصلاحی در نهضت های إسلامی، مکتب الاعلام الإسلامی، قم، 1370ش.

3. صفا، ذبیح الله، تاریخ ادبیات در ایران، فردوس، طهران، 1373ش.

4. الصفری، سام میرزا، تحفه سامی، تحقیق وحید الدستجردی، سینا، طهران.

5. صفی زاده، صدیق، پارسی گویان کرد، عطایی، طهران، 1366ش.

6. الطبسی، شمس الدین، دیوان اشعار، تحقیق تقی بینش، مکتبة ابرار ، مشهد، 1361 ش.

7. الطرزی، غلام محمد، دیوان اشعار، جامعة طهران، طهران، 1375ش.

8. النیسابوری، فرید الدین عطار، مصیبت نامه، تصحیح محمد نورانی الوصالی، زوار، طهران، 1364 ش.

9. العلائلی، عبد الله، برترین هدف در برترین نهاد، ترجمه محمد مهدی الجعفری، وزارة الثقافة والارشاد الإسلامی، طهران، 1371 ش.

10. الفاریابی، ظهیر الدین، دیوان اشعار، جامعة طهران.

11. فرخ، مهدی، تاریخ سیاسی افغانستان، الصحاف احسانی، قم، 1371ش.

12. الفرغانی، سیف، دیوان اشعار، جامعة طهران، 1341ش.

13. فرهنگ، میر محمد صدیق، افغانستان در پنج قرن أخیر، مطبعةاحسانی، قم، 1371 ش.

ص: 404

1. القبادیانی، ناصر خسرو، دیوان اشعار، مرکز الأبحاث والعلوم الإنسانیة، طهران، 1357 ش.

2. الکرمانی، خواجو، دیوان اشعار، پاژنگ، طهران، 1369 ش.

3. السقزی، ملک الکلام، مجدی، سفرنامه حج، مطبعة عطایی، طهران، 1360 ش.

4. مجلة الهادی، العدد 2، ذی القعدة، 1319 ه-.

5. مجلة الحوزة، قم، مکتب الإعلام الإسلامی، عدد 113- 114، سنة 19، 1382ش.

6. مجلة آشنا، السنة الخامسة، العدد 11، صیف 1375ش.

7. مجلة شفا، السنة الثانیة، العدد 5، شتاء 1387ش.

8. مجمع جهانی أهل بیت علیهم السلام ، امام حسین علیه السلام ودیدگاه ها، المجمع العالمی لأهل البیت علیهم السلام ، طهران، 1381 ش.

9. المروزی، کسایی، دیوان اشعار، جامعة طهران، 1364ش.

10. المروی، محمد هادی، سمینار الإمام الحسین علیه السلام ، جامعة الإمام الحسین، طهران، 1364ش.

11. المزاوی، میشل، پیدایش دولت صفوی، ترجمه یعقوب آژند، بنگاه کتاب (مرکز الکتاب)، طهران، 1358ش.

12. المستوفی، حمد الله، تاریخ گزیدة، تحقیق عبدالحسین النوایی، شرق، طهران، 1385ش.

المطهری، مرتضی، نهضت های إسلامی در صد سال اخیر، صدرا، قم،

ص: 405

1. 1359ش.

2. المظلومی، رجبعلی، حسین رهبر آزادگان، بنیاد بعثت (مرکز البعثة)، طهران، 1362ش.

3. المکرمی، مجتبی، نگاهی به تاریخ حیدر اباد، دفتر مطالعات سیاسی وبین المللی( مکتب الدراسات السیاسیة الدولیة)، طهران، 1372ش.

4. البلخی، جلال الدین مولوی، کلیات دیوان شمس، اقبال، طهران، بلا تا.

5. البلخی، جلال الدین مولوی، مثنوی معنوی، گنجینه، تهران، 1380ش.

6. المهدی، محسن، فلسفة تاریخ ابن خلدون، مؤسسة الترجمة والنشر، طهران، 1385ش.

7. الداودی، عبد المجید، ناصری، تشیع در خراسان عهد تیموریان، بنیاد پژوهش های إسلامی (مرکز البحوث الإسلامیة)، مشهد، 1378ش.

8. الباخرزی، عبد الواسع نظامی، مقامات جامی، تحقیق نجیب مایل الهروی، نی، طهران، 1376ش.

9. نعمتی، أحمد، اجتهاد وسیر تاریخی أن از دیدگاه أهل سنت، احسان، طهران، 1376ش.

10. النفیسی، سعید، تاریخ نظم ونثر فارسی در ایران ودر زبان فارسی، مکتبة فروغی، طهران، 1363ش.

11. نهرو، جواهر لعل، نگاهی به تاریخ جهان، ترجمه محمود تفضلی، أمیر کبیر، طهران، 1358ش.

الواصفی، محمود، بدایع الوقایع، تصحیح الکساندر بلدرف، بنیاد فرهنگ

ص: 406

1. (مرکز الثقافة)، طهران، 1356ش.

2. الهاشمی، محمد طاهر، مناقب أهل بیت علیهم السلام ازدیدگاه أهل سنت، بنیاد پژوهش های إسلامی (مرکز البحوث الإسلامیة)، مشهد، 1381ش.

3. اسبوعیة پرتو سخن، السنة الثانیة عشرة، العدد: 558، 1389ش.

ص: 407

ص: 408

المحتویات

المحتویات

مقدّمة المؤسّسة 9

نظرة إلی مصادر عاشوراء عند أهل السنة 15

تصنیف المصادر. 16

المصادر التاریخیة 17

مقتل أبی مخنف.. 17

1 - خصوصیات مقتل أبی مخنف... 19

1 - أدبیات بعیدة عن الانحیاز. 20

2 - حفظ الأمانة. 20

3 - اتّخاذ منهج تخصّصی... 21

4 - التتبع الوافی.. 21

5 - حفظ منهج التدوین التاریخی. 22

6 - قربه من زمن الحادثة. 23

7 - إحاطته العلمیة ومکانة أُسرته. 23

المؤرِّخون ومقتل أبی مخنف.. 23

تیار تاریخی آخر یواف-ق أبا مخنف.. 24

الحصیلة. 26

تأمل فی روایة عمار الدهنی الموضوعة 27

التیار المخالف لأبی مخنف.. 29

أُسلوب ابن سعد. 30

مرور علی أخبار ابن سعد وإشکالاتها 30

1 - الاعتماد علی رواة لم یشهدوا حادثة عاشوراء. 30

2 - التناقض الذاتی.. 31

أ - جرأة یزید أو مداراته. 31

ب - حکایة مروان بن الحکم. 31

3 - مخالفة المسلمات تاریخیاً 32

أ - حضور ابن عمر فی مکة. 32

ب - دفن جسد الحسین علیه السلام بید غلام زهیر.. 32

ج - الاستناد إلی خبر عمار الدهنی وکعب الأحبار. 33

أخبار تشاطر ابن سعد الرأی.. 34

الفصل الأوَّل

خلافة یزید بن معاویة

خلافة یزید بن معاویة 45

مفهوم الخلافة 47

شروط الخلافة 49

أ - العدالة. 50

ب - الفقاهة. 51

ج - الشروط الأُخری.. 52

آلیة انتقال الخلافة 52

أ - عهد الإمام والخلیفة السابق. 53

ب - اختیار أهل الحل والعقد. 53

شروط استخلاف الخلفاء الراشدین. 55

یزید بن معاویة وشروط الخلافة 56

عدالة یزید. 56

البیئة والتربیة. 56

یزید والتراث الفکری لأبی سفیان. 58

توعیة النبی صلی الله علیه و آله ولعنه أبا سفیان ومعاویة 62

المصیر الأسود. 63

أمرٌ صریح. 64

نماذج أُخری.. 64

الإمام علی علیه السلام ووقوفه علی حقیقة معاویة 65

معاویة من منظار الإمام الحسن علیه السلام ... 66

معاویة واستمرار الخط السفیانی. 66

فترة شباب یزید. 68

زواج یزید من بنی کلب.. 68

فسق یزید وفجوره العلنی. 69

تقریر ممثلی المدینة. 71

إذعان مخالفی ثورة عاشوراء بفسق یزید. 73

یزید وخصوصیات الخلافة الأُخری. 76

الفقاهة اللازمة. 77

آلیة انتقال الخلافة 78

أخذ البیعة لیزید. 79

معاویة وسیاسته المزدوجة 82

1- الترهیب والاغتیال. 82

2- الترغیب والخداع. 84

الجهود الأخیرة التی بذلها معاویة. 87

الإمام الحسین علیه السلام أبرز أقطاب المعارضة. 90

الفصل الثانی

ثورة کربلاء ومقولة الاجتهاد

ثورة کربلاء ومقولة الاجتهاد. 95

الاجتهاد لغةً واصطلاحاً 96

شروط الاجتهاد. 98

أ - الشروط الذاتیة. 99

ب - الشروط الاکتسابیة 99

أقسام الاجتهاد. 100

اجتهاد یزید بن معاویة وأعوانه. 101

تأمّلات فی صلاحیة یزید بن معاویة. 102

التهافت الواضح. 102

العقل والفطنة 103

الشروط الاکتسابیة 104

فقهاء الصحابة والتابعین.. 106

اجتهاد أعوان یزید. 107

1 - مروان بن الحکم. 108

مروان ومأساة کربلاء. 111

2 - عبید اللّه بن زیاد. 112

خصوصیاته العلمیة. 114

سجلّه السیاسی... 114

3 - عمر بن سعد بن أبی وقاص... 115

خصوصیتان لعمر بن سعد. 116

إنکار وتخاذل وتسلیم وتبریر. 119

التردّد فی اجتهاده، والقطع بعدم الاستفادة منه فی واقعة عاشوراء. 122

قتال الإمام خروجٌ عن الشرع. 123

4 - شمر بن ذی الجوشن. 124

5 - شبث بن ربعی. 127

6 - الحصین بن نمیر التمیمی. 131

7- شریح القاضی... 134

شریح وفتوی قتل الحسین علیه السلام ... 136

إشاعات لا أصل لها 136

الاستعفاء من القضاء وموته. 139

8- حرملة بن کاهل الأسدی.. 139

9- خولی بن یزید الأصبحی. 142

حمل رأس سیّد الشهداء علیه السلام إلی الکوفة. 142

خلاصة ما تقدّم. 143

شاهدان آخران. 145

1 - الأحداث والاعترافات بعد عاشوراء. 145

شبهة بناء المسجد. 145

الإجابة. 146

ندم رموز الجریمة فی کربلاء. 147

ندم یزید. 148

عذاب وجدان أُسرة زیاد. 150

عمر بن سعد واعترافه ببیع دینه 151

سنان بن أنس وجزاء قتله الحسین علیه السلام ... 152

ابن خلدون ومخالفته لابن العربی. 153

2- غیاب التأویل. 156

الإمام الحسین علیه السلام من وجهة نظر النبی الأکرم صلی الله علیه و آله ... 157

فضائل الإمام الحسین علیه السلام فی الصحاح الست.. 161

الفصل الثَّالث

فلسفة ثورة کربلاء فی المنظور السنی

1 - النظرة المصلحیة. 168

مناقشة وتحلیل.. 173

دوافع هذه النظرة. 173

مناقشة هذه النظرة. 174

نظرة عقلائیة لفلسفة عاشوراء. 177

2 - المهمّة الشخصیة والخاصّة. 179

دوافع هذه النظرة. 180

مناقشة هذه النظرة. 181

3- رفض مبایعة یزید وابن زیاد. 182

مناقشة وتحلیل.. 183

4 - الثأر لدم مسلم بن عقیل. 185

دراسة ومناقشة هذه النظرة. 185

5 - الإبهام وغموض الفلسفة 187

6- تحقیق العدالة الاجتماعیة 187

مناقشة وتحلیل.. 188

فلسفة ثورة کربلاء من منظار الإمام الحسین علیه السلام ... 189

أ - الأسباب الرئیسة (الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر). 192

1 - إقامة نظام الحقّ. 192

2 - إحیاء الدین وقِیمِه. 193

3 - تحقیق الإصلاح.. 193

4 - الالتزام بالمواثیق الإلهیة. 193

5 - إحیاء السنة النبویة. 193

6 - إجراء الحدود. 194

7 - العدالة الاجتماعیة. 194

8 - نشر ثقافة الشهادة 194

ب - أسباب التعجیل. 195

الفصل الرابع

یزید بن معاویة وفاجعة کربلاء إدانة أو براءة

یزید بن معاویة وفاجعة کربلاء. 199

إدانة أو براءة 199

أوّل تشکیک.. 199

الإجابة عن هذه الشبهة. 200

أبو جعفر محمد بن جریر الطبری (224 - 310ه-). 201

1- ما فهمه مروان والولید من کتاب یزید. 202

2- عزل الولید بن عتبة. 202

3- الطبری ونقله تصریح الحسین علیه السلام ... 202

4- موارد أُخری.. 203

5- قتلة الحسین علیه السلام وتنفیذ أوامر یزید. 203

6- فرح یزید وسروره بقتل الحسین علیه السلام ... 204

علی بن الحسین المسعودی (المتوفی345ه-) 205

أحمد بن أعثم الکوفی(المتوفی314ه-). 206

عز الدین بن الأثیر (555 - 630ه-). 207

شمس الدین الذهبی (المتوفی 748ه-) 209

یزید وحسن معاملته للسبایا 213

الإجابة عن الشبهة. 214

الفصل الخامس

کرامات ومعطیات ثورة کربلاء

من المنظور السنی

کرامات ومعطیات ثورة کربلاء من المنظور السنی. 219

أ - الکرامات.. 219

العقوبة السریعة لبعض المجرمین.. 219

سطوع النور ورفرفة الطیر. 220

صیرورة التراب دماً 221

نیاحة الجن. 222

الآیات فی السماء. 223

الآیات فی الأرض... 223

الرثاء الغیبی. 223

الرأس المقطوع وتلاوة القرآن. 225

ب - الآثار السیاسیة والاجتماعیة 225

1- إحیاء الدین وتحدّی حکومة یزید. 226

2- إحیاء ثقافة الشهادة. 227

3 - التمهید للإطاحة بالنظام الأُموی.. 228

أ - کراهیة یزید والأُمویین.. 228

ب - انتشار نفوذ أهل البیت علیهم السلام .... 229

4- تهیئة الأرضیة العلمیة والثقافیة. 229

5- تقدیم القدوة لهدایة المجتمعات.. 231

أ - زعیمٌ واعٍ وصامد. 231

ب - أصحابٌ أوفیاء. 232

ج - أهل البیت علیهم السلام وشموخهم الرسالی.. 233

د - الأهداف والشعارات الخالدة 234

تقویض الوحدة أو تعزیزها 234

الفصل السادس

علماء أهل السنة ولعن یزید

علماء أهل السنة ولعن یزید. 241

اتّجاهان متعارضان. 242

الاتّجاه العاطفی. 243

الاتّجاه التحلیلی. 246

أهل السنة والنظریات الثلاث المعروفة 246

تأمّل فی هذا التصنیف.. 248

النظرة السائدة لدی أهل السنة 248

موافقون من أُمراء بنی أُمیّة. 249

فقهاء أهل السنة المتقدّمین.. 252

نقاط للتأمّل حول هذه النظرة 264

علماء السنة المعاصرون وثورة کربلاء 265

الفئة المخالفة من أهل السنة. 275

المعاصرون والوهابیة 280

خلاصة آراء المخالفین.. 281

مناقشة وتحلیل. 282

أ - تقدیم الخبر المجعول علی المتواتر. 283

ب - التهافت.. 284

ج - إطلاق التُّهم بدل الاستدلال والمنطق. 284

د - تضخیم دور المؤرِّخین المتعصِّبین.. 285

مناقشة وتحلیل. 286

1- حبّ التسلّط والاستیلاء 287

2 - التعصّب المذهبی والطائفی. 290

3 - الاصطفاف الثقافی والتاریخی فی مقابل العدو المشترک. 291

4 - الانتماء المحلّی وخلفیاته التاریخیة. 291

الفصل السابع

سیرة مخالفی لعن یزید

سیرة مخالفی لعن یزید. 295

الإمام محمد الغزالی(450 - 505ه-). 295

ولادته ونشأته 295

تدریسه فی نظامیة بغداد. 297

مدح الخلیفة العباسی... 297

أبو بکر بن العربی (468 - 543ه-). 298

ولادته ونشأته 298

مناصبه ومکانته. 298

نشاطاته الأُخری. 299

عبد الرحمن بن خلدون (730 - 808ه-). 300

ولادته ونشأته 300

خدماته الحکومیة والسیاسیة 300

نشاطاته وآثاره العلمیة 301

وإلیک بعض آثاره الأُخری.. 302

نقد بعض آثار ابن خلدون. 303

تقی الدین أحمد بن تیمیة (661 - 728ه-). 303

رحلته الدراسیة وآراؤه المبتدعة. 304

آراء علماء السنة حول ابن تیمیة 306

أبو الفداء ابن کثیر الدمشقی. 309

اعتماده علی مصادر غیر موثوقة 309

کتمان الحقائق التاریخیة 310

الحزبیة والتحیّز إلی یزید. 311

الفصل الثامن

العزاء علی الإمام الحسین علیه السلام

بین أهل السنة

العزاء علی الإمام الحسین علیه السلام بین أهل السنة 315

العزاء علی الحسین علیه السلام یعود إلی عصر النبی صلی الله علیه و آله ... 315

أوّل المآتم علی الحسین علیه السلام بعد واقعة عاشوراء 317

عزاء آل یزید علی الحسین علیه السلام ... 319

نماذج العزاء فی القرون الأُولی للإسلام. 319

الشعراء ومراثی عاشوراء 319

انتشار مجالس العزاء علی مظلومیة الحسین علیه السلام ... 321

خراسان والعزاء علی الحسین وأهل بیته علیهم السلام .... 321

مؤرِّخو السنة وواقعة عاشوراء 324

إقامة العزاء فی العصر البویهی (334 - 447 ه-). 325

إقامة العزاء فی العصر الغزنوی (351 - 598ه-) 328

إقامة الع-زاء فی نظامیة بغداد. 328

- عمعق البخارائی (المتوفی 543ه-). 332

- الخاقانی الشیروانی (المتوفی 595ه-) والذی اشتهر بحسّان العجم. 332

- ظهیر الدین الفاریابی (المتوفی 598ه-) 332

- شمس الدین الطبسی (المتوفی 642ه-). 332

- کمال الدین إسماعیل الذی عاش فی القرن السابع فی أصفهان. 333

- مصلح الدین سعدی الشیرازی الشافعی (المتوفی 659ه-) 333

- جلال الدین محمد المولوی البلخی (المتوفی 672ه-). 333

- سیف الدین الفرغانی (المتوفی 705ه-). 333

- علاء الدولة السمنانی (المتوفی736ه-). 333

- أوحدی مراغئی أصفهانی (المتوفی 738ه-). 334

- کمال الدین محمود المعروف بخواجوی کرمانی (المتوفی 753 ه-). 334

- سلمان ساوجی (المتوفی 778ه-). 334

مواصلة العزاء فی خراسان وماوراء النهر. 334

بکاء أهل الشام علی الحسین قُبَیل حملة المغول. 339

انتشار العزاء فی العهد التیموری (771 - 911ه-) 340

کمال الدین ملا حسین الواعظ الکاشفی (المتوفی 910ه-) 342

فخر الدین الکاشفی (المتوفی939ه-) 344

ذکر مناقب أهل البیت علیهم السلام ومدحهم. 345

طلب إیراد الخطبة باسم أهل البیت علیهم السلام .... 346

نور الدین عبدالرحمن الجامی (817 - 889ه-) 347

إقامة العزاء فی البلاط التیموری.. 348

إقامة العزاء عند أهل السنة مابعد العصر التیموری (911ه- حتی الآن) 350

العزاء فی آسیا الوسطی. 351

إقامة العزاء فی شبه القارة الهندیة وجنوب شرق آسیا 354

إقامة العزاء فی أفغانستان. 360

إقامة العزاء فی العصر العثمانی (714ه- - 1342 ه-) 363

إقامة العزاء فی شمال أفریقیا 370

إقامة العزاء فی القوقاز. 372

الفصل التاسع

تأثیر نهضة الحسین علیه السلام

علی النهضات والمصلحین غیر الشیعة

تأثیر نهضة الحسین علیه السلام علی النهضات والمصلحین غیر الشیعة 377

أ - مبادئ حبّ المصلحین للثورة الحسینیة 377

1- نهضة الحسین صراع الحق مع الباطل. 377

- العلّامة محمد إقبال اللاهوری (1289 - 1358ه-). 377

- ملک الکلام مجدی سقزی(المتوفی1268ه-) الکاتب والشاعر الإیرانی المشهور. 378

- العلامة غلام محمد طرزی (1245 - 1318ه-). 378

2- الالتزام بالشرع والذبّ عنه 378

3- ثورة العدل فی مواجهة الظلم. 380

4- الإمام الحسین علیه السلام خلیفة رسول الله صلی الله علیه و آله ... 381

5- طریق البطولة والحریة 382

ب - معطیات عاشوراء لدی الثورات والمصلحین.. 383

ضرورة الإصلاح ودعم الجهود الخیرة 386

حصیلة البحث.. 389

المصادر والمراجع. 391

المحتویات.. 409

ص: 409

أُسلوب ابن سعد. 30

مرور علی أخبار ابن سعد وإشکالاتها 30

1 - الاعتماد علی رواة لم یشهدوا حادثة عاشوراء. 30

2 - التناقض الذاتی.. 31

أ - جرأة یزید أو مداراته. 31

ب - حکایة مروان بن الحکم. 31

3 - مخالفة المسلمات تاریخیاً 32

أ - حضور ابن عمر فی مکة. 32

ب - دفن جسد الحسین علیه السلام بید غلام زهیر.. 32

ج - الاستناد إلی خبر عمار الدهنی وکعب الأحبار. 33

أخبار تشاطر ابن سعد الرأی.. 34

الفصل الأوَّل

خلافة یزید بن معاویة

خلافة یزید بن معاویة 45

مفهوم الخلافة 47

شروط الخلافة 49

أ - العدالة. 50

ب - الفقاهة. 51

ج - الشروط الأُخری.. 52

ص: 410

آلیة انتقال الخلافة 52

أ - عهد الإمام والخلیفة السابق. 53

ب - اختیار أهل الحل والعقد. 53

شروط استخلاف الخلفاء الراشدین. 55

یزید بن معاویة وشروط الخلافة 56

عدالة یزید. 56

البیئة والتربیة. 56

یزید والتراث الفکری لأبی سفیان. 58

توعیة النبی صلی الله علیه و آله ولعنه أبا سفیان ومعاویة 62

المصیر الأسود. 63

أمرٌ صریح. 64

نماذج أُخری.. 64

الإمام علی علیه السلام ووقوفه علی حقیقة معاویة 65

معاویة من منظار الإمام الحسن علیه السلام ... 66

معاویة واستمرار الخط السفیانی. 66

فترة شباب یزید. 68

زواج یزید من بنی کلب.. 68

فسق یزید وفجوره العلنی. 69

تقریر ممثلی المدینة. 71

إذعان مخالفی ثورة عاشوراء بفسق یزید. 73

ص: 411

یزید وخصوصیات الخلافة الأُخری. 76

الفقاهة اللازمة. 77

آلیة انتقال الخلافة 78

أخذ البیعة لیزید. 79

معاویة وسیاسته المزدوجة 82

1- الترهیب والاغتیال. 82

2- الترغیب والخداع. 84

الجهود الأخیرة التی بذلها معاویة. 87

الإمام الحسین علیه السلام أبرز أقطاب المعارضة. 90

الفصل الثانی

ثورة کربلاء ومقولة الاجتهاد

ثورة کربلاء ومقولة الاجتهاد. 95

الاجتهاد لغةً واصطلاحاً 96

شروط الاجتهاد. 98

أ - الشروط الذاتیة. 99

ب - الشروط الاکتسابیة 99

أقسام الاجتهاد. 100

اجتهاد یزید بن معاویة وأعوانه. 101

تأمّلات فی صلاحیة یزید بن معاویة. 102

ص: 412

التهافت الواضح. 102

العقل والفطنة 103

الشروط الاکتسابیة 104

فقهاء الصحابة والتابعین.. 106

اجتهاد أعوان یزید. 107

1 - مروان بن الحکم. 108

مروان ومأساة کربلاء. 111

2 - عبید اللّه بن زیاد. 112

خصوصیاته العلمیة. 114

سجلّه السیاسی... 114

3 - عمر بن سعد بن أبی وقاص... 115

خصوصیتان لعمر بن سعد. 116

إنکار وتخاذل وتسلیم وتبریر. 119

التردّد فی اجتهاده، والقطع بعدم الاستفادة منه فی واقعة عاشوراء. 122

قتال الإمام خروجٌ عن الشرع. 123

4 - شمر بن ذی الجوشن. 124

5 - شبث بن ربعی. 127

6 - الحصین بن نمیر التمیمی. 131

7- شریح القاضی... 134

شریح وفتوی قتل الحسین علیه السلام ... 136

ص: 413

إشاعات لا أصل لها 136

الاستعفاء من القضاء وموته. 139

8- حرملة بن کاهل الأسدی.. 139

9- خولی بن یزید الأصبحی. 142

حمل رأس سیّد الشهداء علیه السلام إلی الکوفة. 142

خلاصة ما تقدّم. 143

شاهدان آخران. 145

1 - الأحداث والاعترافات بعد عاشوراء. 145

شبهة بناء المسجد. 145

الإجابة. 146

ندم رموز الجریمة فی کربلاء. 147

ندم یزید. 148

عذاب وجدان أُسرة زیاد. 150

عمر بن سعد واعترافه ببیع دینه 151

سنان بن أنس وجزاء قتله الحسین علیه السلام ... 152

ابن خلدون ومخالفته لابن العربی. 153

2- غیاب التأویل. 156

الإمام الحسین علیه السلام من وجهة نظر النبی الأکرم صلی الله علیه و آله ... 157

فضائل الإمام الحسین علیه السلام فی الصحاح الست.. 161

ص: 414

الفصل الثَّالث

فلسفة ثورة کربلاء فی المنظور السنی

1 - النظرة المصلحیة. 168

مناقشة وتحلیل.. 173

دوافع هذه النظرة. 173

مناقشة هذه النظرة. 174

نظرة عقلائیة لفلسفة عاشوراء. 177

2 - المهمّة الشخصیة والخاصّة. 179

دوافع هذه النظرة. 180

مناقشة هذه النظرة. 181

3- رفض مبایعة یزید وابن زیاد. 182

مناقشة وتحلیل.. 183

4 - الثأر لدم مسلم بن عقیل. 185

دراسة ومناقشة هذه النظرة. 185

5 - الإبهام وغموض الفلسفة 187

6- تحقیق العدالة الاجتماعیة 187

مناقشة وتحلیل.. 188

فلسفة ثورة کربلاء من منظار الإمام الحسین علیه السلام ... 189

أ - الأسباب الرئیسة (الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر). 192

1 - إقامة نظام الحقّ. 192

ص: 415

2 - إحیاء الدین وقِیمِه. 193

3 - تحقیق الإصلاح.. 193

4 - الالتزام بالمواثیق الإلهیة. 193

5 - إحیاء السنة النبویة. 193

6 - إجراء الحدود. 194

7 - العدالة الاجتماعیة. 194

8 - نشر ثقافة الشهادة 194

ب - أسباب التعجیل. 195

الفصل الرابع

یزید بن معاویة وفاجعة کربلاء إدانة أو براءة

یزید بن معاویة وفاجعة کربلاء. 199

إدانة أو براءة 199

أوّل تشکیک.. 199

الإجابة عن هذه الشبهة. 200

أبو جعفر محمد بن جریر الطبری (224 - 310ه-). 201

1- ما فهمه مروان والولید من کتاب یزید. 202

2- عزل الولید بن عتبة. 202

3- الطبری ونقله تصریح الحسین علیه السلام ... 202

4- موارد أُخری.. 203

ص: 416

5- قتلة الحسین علیه السلام وتنفیذ أوامر یزید. 203

6- فرح یزید وسروره بقتل الحسین علیه السلام ... 204

علی بن الحسین المسعودی (المتوفی345ه-) 205

أحمد بن أعثم الکوفی(المتوفی314ه-). 206

عز الدین بن الأثیر (555 - 630ه-). 207

شمس الدین الذهبی (المتوفی 748ه-) 209

یزید وحسن معاملته للسبایا 213

الإجابة عن الشبهة. 214

الفصل الخامس

کرامات ومعطیات ثورة کربلاء

من المنظور السنی

کرامات ومعطیات ثورة کربلاء من المنظور السنی. 219

أ - الکرامات.. 219

العقوبة السریعة لبعض المجرمین.. 219

سطوع النور ورفرفة الطیر. 220

صیرورة التراب دماً 221

نیاحة الجن. 222

الآیات فی السماء. 223

الآیات فی الأرض... 223

ص: 417

الرثاء الغیبی. 223

الرأس المقطوع وتلاوة القرآن. 225

ب - الآثار السیاسیة والاجتماعیة 225

1- إحیاء الدین وتحدّی حکومة یزید. 226

2- إحیاء ثقافة الشهادة. 227

3 - التمهید للإطاحة بالنظام الأُموی.. 228

أ - کراهیة یزید والأُمویین.. 228

ب - انتشار نفوذ أهل البیت علیهم السلام .... 229

4- تهیئة الأرضیة العلمیة والثقافیة. 229

5- تقدیم القدوة لهدایة المجتمعات.. 231

أ - زعیمٌ واعٍ وصامد. 231

ب - أصحابٌ أوفیاء. 232

ج - أهل البیت علیهم السلام وشموخهم الرسالی.. 233

د - الأهداف والشعارات الخالدة 234

تقویض الوحدة أو تعزیزها 234

الفصل السادس

علماء أهل السنة ولعن یزید

علماء أهل السنة ولعن یزید. 241

اتّجاهان متعارضان. 242

ص: 418

الاتّجاه العاطفی. 243

الاتّجاه التحلیلی. 246

أهل السنة والنظریات الثلاث المعروفة 246

تأمّل فی هذا التصنیف.. 248

النظرة السائدة لدی أهل السنة 248

موافقون من أُمراء بنی أُمیّة. 249

فقهاء أهل السنة المتقدّمین.. 252

نقاط للتأمّل حول هذه النظرة 264

علماء السنة المعاصرون وثورة کربلاء 265

الفئة المخالفة من أهل السنة. 275

المعاصرون والوهابیة 280

خلاصة آراء المخالفین.. 281

مناقشة وتحلیل. 282

أ - تقدیم الخبر المجعول علی المتواتر. 283

ب - التهافت.. 284

ج - إطلاق التُّهم بدل الاستدلال والمنطق. 284

د - تضخیم دور المؤرِّخین المتعصِّبین.. 285

مناقشة وتحلیل. 286

1- حبّ التسلّط والاستیلاء 287

2 - التعصّب المذهبی والطائفی. 290

ص: 419

3 - الاصطفاف الثقافی والتاریخی فی مقابل العدو المشترک. 291

4 - الانتماء المحلّی وخلفیاته التاریخیة. 291

الفصل السابع

سیرة مخالفی لعن یزید

سیرة مخالفی لعن یزید. 295

الإمام محمد الغزالی(450 - 505ه-). 295

ولادته ونشأته 295

تدریسه فی نظامیة بغداد. 297

مدح الخلیفة العباسی... 297

أبو بکر بن العربی (468 - 543ه-). 298

ولادته ونشأته 298

مناصبه ومکانته. 298

نشاطاته الأُخری. 299

عبد الرحمن بن خلدون (730 - 808ه-). 300

ولادته ونشأته 300

خدماته الحکومیة والسیاسیة 300

نشاطاته وآثاره العلمیة 301

وإلیک بعض آثاره الأُخری.. 302

نقد بعض آثار ابن خلدون. 303

ص: 420

تقی الدین أحمد بن تیمیة (661 - 728ه-). 303

رحلته الدراسیة وآراؤه المبتدعة. 304

آراء علماء السنة حول ابن تیمیة 306

أبو الفداء ابن کثیر الدمشقی. 309

اعتماده علی مصادر غیر موثوقة 309

کتمان الحقائق التاریخیة 310

الحزبیة والتحیّز إلی یزید. 311

الفصل الثامن

العزاء علی الإمام الحسین علیه السلام

بین أهل السنة

العزاء علی الإمام الحسین علیه السلام بین أهل السنة 315

العزاء علی الحسین علیه السلام یعود إلی عصر النبی صلی الله علیه و آله ... 315

أوّل المآتم علی الحسین علیه السلام بعد واقعة عاشوراء 317

عزاء آل یزید علی الحسین علیه السلام ... 319

نماذج العزاء فی القرون الأُولی للإسلام. 319

الشعراء ومراثی عاشوراء 319

انتشار مجالس العزاء علی مظلومیة الحسین علیه السلام ... 321

خراسان والعزاء علی الحسین وأهل بیته علیهم السلام .... 321

مؤرِّخو السنة وواقعة عاشوراء 324

ص: 421

إقامة العزاء فی العصر البویهی (334 - 447 ه-). 325

إقامة العزاء فی العصر الغزنوی (351 - 598ه-) 328

إقامة الع-زاء فی نظامیة بغداد. 328

- عمعق البخارائی (المتوفی 543ه-). 332

- الخاقانی الشیروانی (المتوفی 595ه-) والذی اشتهر بحسّان العجم. 332

- ظهیر الدین الفاریابی (المتوفی 598ه-) 332

- شمس الدین الطبسی (المتوفی 642ه-). 332

- کمال الدین إسماعیل الذی عاش فی القرن السابع فی أصفهان. 333

- مصلح الدین سعدی الشیرازی الشافعی (المتوفی 659ه-) 333

- جلال الدین محمد المولوی البلخی (المتوفی 672ه-). 333

- سیف الدین الفرغانی (المتوفی 705ه-). 333

- علاء الدولة السمنانی (المتوفی736ه-). 333

- أوحدی مراغئی أصفهانی (المتوفی 738ه-). 334

- کمال الدین محمود المعروف بخواجوی کرمانی (المتوفی 753 ه-). 334

- سلمان ساوجی (المتوفی 778ه-). 334

مواصلة العزاء فی خراسان وماوراء النهر. 334

بکاء أهل الشام علی الحسین قُبَیل حملة المغول. 339

انتشار العزاء فی العهد التیموری (771 - 911ه-) 340

کمال الدین ملا حسین الواعظ الکاشفی (المتوفی 910ه-) 342

فخر الدین الکاشفی (المتوفی939ه-) 344

ص: 422

ذکر مناقب أهل البیت علیهم السلام ومدحهم. 345

طلب إیراد الخطبة باسم أهل البیت علیهم السلام .... 346

نور الدین عبدالرحمن الجامی (817 - 889ه-) 347

إقامة العزاء فی البلاط التیموری.. 348

إقامة العزاء عند أهل السنة مابعد العصر التیموری (911ه- حتی الآن) 350

العزاء فی آسیا الوسطی. 351

إقامة العزاء فی شبه القارة الهندیة وجنوب شرق آسیا 354

إقامة العزاء فی أفغانستان. 360

إقامة العزاء فی العصر العثمانی (714ه- - 1342 ه-) 363

إقامة العزاء فی شمال أفریقیا 370

إقامة العزاء فی القوقاز. 372

الفصل التاسع

تأثیر نهضة الحسین علیه السلام

علی النهضات والمصلحین غیر الشیعة

تأثیر نهضة الحسین علیه السلام علی النهضات والمصلحین غیر الشیعة 377

أ - مبادئ حبّ المصلحین للثورة الحسینیة 377

1- نهضة الحسین صراع الحق مع الباطل. 377

- العلّامة محمد إقبال اللاهوری (1289 - 1358ه-). 377

- ملک الکلام مجدی سقزی(المتوفی1268ه-) الکاتب والشاعر الإیرانی المشهور. 378

ص: 423

مقدّمة المؤسّسة 9

نظرة إلی مصادر عاشوراء عند أهل السنة 15

تصنیف المصادر. 16

المصادر التاریخیة 17

مقتل أبی مخنف.. 17

1 - خصوصیات مقتل أبی مخنف... 19

1 - أدبیات بعیدة عن الانحیاز. 20

2 - حفظ الأمانة. 20

3 - اتّخاذ منهج تخصّصی... 21

4 - التتبع الوافی.. 21

5 - حفظ منهج التدوین التاریخی. 22

6 - قربه من زمن الحادثة. 23

7 - إحاطته العلمیة ومکانة أُسرته. 23

المؤرِّخون ومقتل أبی مخنف.. 23

تیار تاریخی آخر یواف-ق أبا مخنف.. 24

الحصیلة. 26

تأمل فی روایة عمار الدهنی الموضوعة 27

التیار المخالف لأبی مخنف.. 29

أُسلوب ابن سعد. 30

مرور علی أخبار ابن سعد وإشکالاتها 30

1 - الاعتماد علی رواة لم یشهدوا حادثة عاشوراء. 30

2 - التناقض الذاتی.. 31

أ - جرأة یزید أو مداراته. 31

ب - حکایة مروان بن الحکم. 31

3 - مخالفة المسلمات تاریخیاً 32

أ - حضور ابن عمر فی مکة. 32

ب - دفن جسد الحسین علیه السلام بید غلام زهیر.. 32

ج - الاستناد إلی خبر عمار الدهنی وکعب الأحبار. 33

أخبار تشاطر ابن سعد الرأی.. 34

الفصل الأوَّل

خلافة یزید بن معاویة

خلافة یزید بن معاویة 45

مفهوم الخلافة 47

شروط الخلافة 49

أ - العدالة. 50

ب - الفقاهة. 51

ج - الشروط الأُخری.. 52

آلیة انتقال الخلافة 52

أ - عهد الإمام والخلیفة السابق. 53

ب - اختیار أهل الحل والعقد. 53

شروط استخلاف الخلفاء الراشدین. 55

یزید بن معاویة وشروط الخلافة 56

عدالة یزید. 56

البیئة والتربیة. 56

یزید والتراث الفکری لأبی سفیان. 58

توعیة النبی صلی الله علیه و آله ولعنه أبا سفیان ومعاویة 62

المصیر الأسود. 63

أمرٌ صریح. 64

نماذج أُخری.. 64

الإمام علی علیه السلام ووقوفه علی حقیقة معاویة 65

معاویة من منظار الإمام الحسن علیه السلام ... 66

معاویة واستمرار الخط السفیانی. 66

فترة شباب یزید. 68

زواج یزید من بنی کلب.. 68

فسق یزید وفجوره العلنی. 69

تقریر ممثلی المدینة. 71

إذعان مخالفی ثورة عاشوراء بفسق یزید. 73

یزید وخصوصیات الخلافة الأُخری. 76

الفقاهة اللازمة. 77

آلیة انتقال الخلافة 78

أخذ البیعة لیزید. 79

معاویة وسیاسته المزدوجة 82

1- الترهیب والاغتیال. 82

2- الترغیب والخداع. 84

الجهود الأخیرة التی بذلها معاویة. 87

الإمام الحسین علیه السلام أبرز أقطاب المعارضة. 90

الفصل الثانی

ثورة کربلاء ومقولة الاجتهاد

ثورة کربلاء ومقولة الاجتهاد. 95

الاجتهاد لغةً واصطلاحاً 96

شروط الاجتهاد. 98

أ - الشروط الذاتیة. 99

ب - الشروط الاکتسابیة 99

أقسام الاجتهاد. 100

اجتهاد یزید بن معاویة وأعوانه. 101

تأمّلات فی صلاحیة یزید بن معاویة. 102

التهافت الواضح. 102

العقل والفطنة 103

الشروط الاکتسابیة 104

فقهاء الصحابة والتابعین.. 106

اجتهاد أعوان یزید. 107

1 - مروان بن الحکم. 108

مروان ومأساة کربلاء. 111

2 - عبید اللّه بن زیاد. 112

خصوصیاته العلمیة. 114

سجلّه السیاسی... 114

3 - عمر بن سعد بن أبی وقاص... 115

خصوصیتان لعمر بن سعد. 116

إنکار وتخاذل وتسلیم وتبریر. 119

التردّد فی اجتهاده، والقطع بعدم الاستفادة منه فی واقعة عاشوراء. 122

قتال الإمام خروجٌ عن الشرع. 123

4 - شمر بن ذی الجوشن. 124

5 - شبث بن ربعی. 127

6 - الحصین بن نمیر التمیمی. 131

7- شریح القاضی... 134

شریح وفتوی قتل الحسین علیه السلام ... 136

إشاعات لا أصل لها 136

الاستعفاء من القضاء وموته. 139

8- حرملة بن کاهل الأسدی.. 139

9- خولی بن یزید الأصبحی. 142

حمل رأس سیّد الشهداء علیه السلام إلی الکوفة. 142

خلاصة ما تقدّم. 143

شاهدان آخران. 145

1 - الأحداث والاعترافات بعد عاشوراء. 145

شبهة بناء المسجد. 145

الإجابة. 146

ندم رموز الجریمة فی کربلاء. 147

ندم یزید. 148

عذاب وجدان أُسرة زیاد. 150

عمر بن سعد واعترافه ببیع دینه 151

سنان بن أنس وجزاء قتله الحسین علیه السلام ... 152

ابن خلدون ومخالفته لابن العربی. 153

2- غیاب التأویل. 156

الإمام الحسین علیه السلام من وجهة نظر النبی الأکرم صلی الله علیه و آله ... 157

فضائل الإمام الحسین علیه السلام فی الصحاح الست.. 161

الفصل الثَّالث

فلسفة ثورة کربلاء فی المنظور السنی

1 - النظرة المصلحیة. 168

مناقشة وتحلیل.. 173

دوافع هذه النظرة. 173

مناقشة هذه النظرة. 174

نظرة عقلائیة لفلسفة عاشوراء. 177

2 - المهمّة الشخصیة والخاصّة. 179

دوافع هذه النظرة. 180

مناقشة هذه النظرة. 181

3- رفض مبایعة یزید وابن زیاد. 182

مناقشة وتحلیل.. 183

4 - الثأر لدم مسلم بن عقیل. 185

دراسة ومناقشة هذه النظرة. 185

5 - الإبهام وغموض الفلسفة 187

6- تحقیق العدالة الاجتماعیة 187

مناقشة وتحلیل.. 188

فلسفة ثورة کربلاء من منظار الإمام الحسین علیه السلام ... 189

أ - الأسباب الرئیسة (الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر). 192

1 - إقامة نظام الحقّ. 192

2 - إحیاء الدین وقِیمِه. 193

3 - تحقیق الإصلاح.. 193

4 - الالتزام بالمواثیق الإلهیة. 193

5 - إحیاء السنة النبویة. 193

6 - إجراء الحدود. 194

7 - العدالة الاجتماعیة. 194

8 - نشر ثقافة الشهادة 194

ب - أسباب التعجیل. 195

الفصل الرابع

یزید بن معاویة وفاجعة کربلاء إدانة أو براءة

یزید بن معاویة وفاجعة کربلاء. 199

إدانة أو براءة 199

أوّل تشکیک.. 199

الإجابة عن هذه الشبهة. 200

أبو جعفر محمد بن جریر الطبری (224 - 310ه-). 201

1- ما فهمه مروان والولید من کتاب یزید. 202

2- عزل الولید بن عتبة. 202

3- الطبری ونقله تصریح الحسین علیه السلام ... 202

4- موارد أُخری.. 203

5- قتلة الحسین علیه السلام وتنفیذ أوامر یزید. 203

6- فرح یزید وسروره بقتل الحسین علیه السلام ... 204

علی بن الحسین المسعودی (المتوفی345ه-) 205

أحمد بن أعثم الکوفی(المتوفی314ه-). 206

عز الدین بن الأثیر (555 - 630ه-). 207

شمس الدین الذهبی (المتوفی 748ه-) 209

یزید وحسن معاملته للسبایا 213

الإجابة عن الشبهة. 214

الفصل الخامس

کرامات ومعطیات ثورة کربلاء

من المنظور السنی

کرامات ومعطیات ثورة کربلاء من المنظور السنی. 219

أ - الکرامات.. 219

العقوبة السریعة لبعض المجرمین.. 219

سطوع النور ورفرفة الطیر. 220

صیرورة التراب دماً 221

نیاحة الجن. 222

الآیات فی السماء. 223

الآیات فی الأرض... 223

الرثاء الغیبی. 223

الرأس المقطوع وتلاوة القرآن. 225

ب - الآثار السیاسیة والاجتماعیة 225

1- إحیاء الدین وتحدّی حکومة یزید. 226

2- إحیاء ثقافة الشهادة. 227

3 - التمهید للإطاحة بالنظام الأُموی.. 228

أ - کراهیة یزید والأُمویین.. 228

ب - انتشار نفوذ أهل البیت علیهم السلام .... 229

4- تهیئة الأرضیة العلمیة والثقافیة. 229

5- تقدیم القدوة لهدایة المجتمعات.. 231

أ - زعیمٌ واعٍ وصامد. 231

ب - أصحابٌ أوفیاء. 232

ج - أهل البیت علیهم السلام وشموخهم الرسالی.. 233

د - الأهداف والشعارات الخالدة 234

تقویض الوحدة أو تعزیزها 234

الفصل السادس

علماء أهل السنة ولعن یزید

علماء أهل السنة ولعن یزید. 241

اتّجاهان متعارضان. 242

الاتّجاه العاطفی. 243

الاتّجاه التحلیلی. 246

أهل السنة والنظریات الثلاث المعروفة 246

تأمّل فی هذا التصنیف.. 248

النظرة السائدة لدی أهل السنة 248

موافقون من أُمراء بنی أُمیّة. 249

فقهاء أهل السنة المتقدّمین.. 252

نقاط للتأمّل حول هذه النظرة 264

علماء السنة المعاصرون وثورة کربلاء 265

الفئة المخالفة من أهل السنة. 275

المعاصرون والوهابیة 280

خلاصة آراء المخالفین.. 281

مناقشة وتحلیل. 282

أ - تقدیم الخبر المجعول علی المتواتر. 283

ب - التهافت.. 284

ج - إطلاق التُّهم بدل الاستدلال والمنطق. 284

د - تضخیم دور المؤرِّخین المتعصِّبین.. 285

مناقشة وتحلیل. 286

1- حبّ التسلّط والاستیلاء 287

2 - التعصّب المذهبی والطائفی. 290

3 - الاصطفاف الثقافی والتاریخی فی مقابل العدو المشترک. 291

4 - الانتماء المحلّی وخلفیاته التاریخیة. 291

الفصل السابع

سیرة مخالفی لعن یزید

سیرة مخالفی لعن یزید. 295

الإمام محمد الغزالی(450 - 505ه-). 295

ولادته ونشأته 295

تدریسه فی نظامیة بغداد. 297

مدح الخلیفة العباسی... 297

أبو بکر بن العربی (468 - 543ه-). 298

ولادته ونشأته 298

مناصبه ومکانته. 298

نشاطاته الأُخری. 299

عبد الرحمن بن خلدون (730 - 808ه-). 300

ولادته ونشأته 300

خدماته الحکومیة والسیاسیة 300

نشاطاته وآثاره العلمیة 301

وإلیک بعض آثاره الأُخری.. 302

نقد بعض آثار ابن خلدون. 303

تقی الدین أحمد بن تیمیة (661 - 728ه-). 303

رحلته الدراسیة وآراؤه المبتدعة. 304

آراء علماء السنة حول ابن تیمیة 306

أبو الفداء ابن کثیر الدمشقی. 309

اعتماده علی مصادر غیر موثوقة 309

کتمان الحقائق التاریخیة 310

الحزبیة والتحیّز إلی یزید. 311

الفصل الثامن

العزاء علی الإمام الحسین علیه السلام

بین أهل السنة

العزاء علی الإمام الحسین علیه السلام بین أهل السنة 315

العزاء علی الحسین علیه السلام یعود إلی عصر النبی صلی الله علیه و آله ... 315

أوّل المآتم علی الحسین علیه السلام بعد واقعة عاشوراء 317

عزاء آل یزید علی الحسین علیه السلام ... 319

نماذج العزاء فی القرون الأُولی للإسلام. 319

الشعراء ومراثی عاشوراء 319

انتشار مجالس العزاء علی مظلومیة الحسین علیه السلام ... 321

خراسان والعزاء علی الحسین وأهل بیته علیهم السلام .... 321

مؤرِّخو السنة وواقعة عاشوراء 324

إقامة العزاء فی العصر البویهی (334 - 447 ه-). 325

إقامة العزاء فی العصر الغزنوی (351 - 598ه-) 328

إقامة الع-زاء فی نظامیة بغداد. 328

- عمعق البخارائی (المتوفی 543ه-). 332

- الخاقانی الشیروانی (المتوفی 595ه-) والذی اشتهر بحسّان العجم. 332

- ظهیر الدین الفاریابی (المتوفی 598ه-) 332

- شمس الدین الطبسی (المتوفی 642ه-). 332

- کمال الدین إسماعیل الذی عاش فی القرن السابع فی أصفهان. 333

- مصلح الدین سعدی الشیرازی الشافعی (المتوفی 659ه-) 333

- جلال الدین محمد المولوی البلخی (المتوفی 672ه-). 333

- سیف الدین الفرغانی (المتوفی 705ه-). 333

- علاء الدولة السمنانی (المتوفی736ه-). 333

- أوحدی مراغئی أصفهانی (المتوفی 738ه-). 334

- کمال الدین محمود المعروف بخواجوی کرمانی (المتوفی 753 ه-). 334

- سلمان ساوجی (المتوفی 778ه-). 334

مواصلة العزاء فی خراسان وماوراء النهر. 334

بکاء أهل الشام علی الحسین قُبَیل حملة المغول. 339

انتشار العزاء فی العهد التیموری (771 - 911ه-) 340

کمال الدین ملا حسین الواعظ الکاشفی (المتوفی 910ه-) 342

فخر الدین الکاشفی (المتوفی939ه-) 344

ذکر مناقب أهل البیت علیهم السلام ومدحهم. 345

طلب إیراد الخطبة باسم أهل البیت علیهم السلام .... 346

نور الدین عبدالرحمن الجامی (817 - 889ه-) 347

إقامة العزاء فی البلاط التیموری.. 348

إقامة العزاء عند أهل السنة مابعد العصر التیموری (911ه- حتی الآن) 350

العزاء فی آسیا الوسطی. 351

إقامة العزاء فی شبه القارة الهندیة وجنوب شرق آسیا 354

إقامة العزاء فی أفغانستان. 360

إقامة العزاء فی العصر العثمانی (714ه- - 1342 ه-) 363

إقامة العزاء فی شمال أفریقیا 370

إقامة العزاء فی القوقاز. 372

الفصل التاسع

تأثیر نهضة الحسین علیه السلام

علی النهضات والمصلحین غیر الشیعة

تأثیر نهضة الحسین علیه السلام علی النهضات والمصلحین غیر الشیعة 377

أ - مبادئ حبّ المصلحین للثورة الحسینیة 377

1- نهضة الحسین صراع الحق مع الباطل. 377

- العلّامة محمد إقبال اللاهوری (1289 - 1358ه-). 377

- ملک الکلام مجدی سقزی(المتوفی1268ه-) الکاتب والشاعر الإیرانی المشهور. 378

- العلامة غلام محمد طرزی (1245 - 1318ه-). 378

2- الالتزام بالشرع والذبّ عنه 378

3- ثورة العدل فی مواجهة الظلم. 380

4- الإمام الحسین علیه السلام خلیفة رسول الله صلی الله علیه و آله ... 381

5- طریق البطولة والحریة 382

ب - معطیات عاشوراء لدی الثورات والمصلحین.. 383

ضرورة الإصلاح ودعم الجهود الخیرة 386

حصیلة البحث.. 389

المصادر والمراجع. 391

المحتویات.. 409

ص: 424

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.